فوقها ظلمات؛ أولئك جماعة من المستضعفين قد تقطعت بهم الوسائل، فلم يهاجروا فيمن هاجر من المسلمين إلى المدينة، وضرب عليهم وأهلهم ومواليهم بسور ليس له باب، يجرعونهم الذل ويسومونهم سوء العذاب ليفتنوهم عن دينهم؛ ولكنهم صبر على الضراء، مؤمنين بأن يوما قريبا يوشك أن ينطلقوا فيه من إسارهم إلى حيث يعبدون الله جهرة، ويتملون وجه محمد وأصحاب محمد. . .
متى الميعاد. . .؟
كذلك راح كل واحد من هؤلاء الأسارى يسأل نفسه؛ فما هو إلا أن جاءهم النبأ بأن محمدا وأصحابه قد بلغوا ثنية المرار من أرض الحديبية، حتى راح كل منهم يأمل أملاً ويتمنى أمنية، ومضى بعد عدته لأمر؛ أليس جيش محمد يوشك أن يدخل مكة فاتحاً منصوراً لا يقف له شيء؛ فما بقاؤهم في الذل والإسار بعد!
وانتهى العسكران إلى شروط الهدنة الموقوتة، وراح محمد يملي على كاتبه:
(هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يامن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير أذن وليه رده عليهم، ومن جاءه قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه. . .!)
ووثب عمر بن الخطاب كالملسوع يقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟
قال محمد: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني. . .!
ومضى الكاتب يكتب. . . ولاح شبح من بعيد يتقارب، تجاذبه أثقال الحديد في رجليه؛ وطلع فتى أشعث أغبر على وجهه قترة وفي عينيه ذبول، فما هو إلا أن لاح له مجلس محمد وأصحابه حتى ترامى عليه وهو يهتف: الحمد لله الذي آمنني بك يا رسول الله من ذل الإسار وعسف الكفرة!
ذلك (أبو جندل) بن سهيل بن عمرو، قد فر من أسر المشركين إلى رسول الله يستعينه على الخلاص. . .
وصمت محمد، وغمغم أصحابه بكلام؛ ونظر إليه أبوه سهيل أبن عمرو وقال وفي لهجته شماتة وسخر: هيهات أن يؤمنك محمد بعد!. . .
وعاد الفتى إلى محبسه وبين جنبيه هم يضيق به!(400/61)
وكان ثمة رجل آخر يتربص، ذلك (أبو بصير) بن أسيد ابن جارية؛ إن الحديد ليعض على رجليه في محبس بني زهرة بمكة منذ سنوات؛ فمتى يحين له الخلاص بنفسه ودينه؟
وجاءه ما كان من أمر (أبى جندل) وما حكم فيه رسول الله، ولكنه لم يجزع
وآب النبي في صحابته إلى المدينة وإن قلوبهم لتفور بالحقد والحفيظة، فلولا أن رسول الله نهاهم لما انتهوا عما أرادوا؛ وتوزعتهم خواطر وهموم، وثقل عليهم ما يلقى إخوانهم هناك، ولكنهم طائعون لأمر الله ورسوله!
. . . ووجد أبو بصيرة سهوة من حراسه فحطم أغلاله ومضى، وتقاذفته الفلوات وحيداً بلا زاد ولا راحلة، حتى بلغ يثرب، وإنه ليعلم ما هناك. . .
وجد الطلب في أثره، فما أدركه قومه إلا وهو في أمان محمد، وما كان محمد ليغني عنه وذلك العهد بين محمد وقريش قائم، ولكن أبا بصير قد أعد عدته لأمر. . .
وجاء رسولا بني زهرة يذكران محمداً العهد القائم ويطلبان إليه أن يرد أبا بصير إلى قومه؛ وما كان لمحمد أن يغدر بما عاهد عليه القوم. . .
. . . وطأطأ أبو بصير رأسه وعاد مع الرسولين أدراجه وعيون المسلمين تشيعه بالدمع، وإن قلوبهم لتفيض بالألم والحسرة؛ ولكن أبا بصير لم يلبث أن عاد إلى المدينة وحيداً وعلى ظبة سيفه دم يسيل!. . .
وماذا على محمد بعد وقد وفى بما عاهد عليه القوم فرد إليهم رجلهم ثم أختار الرجل لنفسه؟
حر أنتصر فلا جناح عليه!
وافتر ثغر النبي عن ابتسامة وهو يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)
وسمعها أبو بصير فوعاها، ثم ودع صحابته ومضى لأمره وما تزال يده على قائم السيف. . .
وعلى سيف البحر من ذي المرؤة، كمن أبو بصير كمون القدر يتربص لكل رائحة وغادية
(ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال!)
كلمة تجاوبت بها نسائم القفر بيمن مكة ويثرب، فإذا صداها يتردد بين جدران المعاقل والسجون حيث يرسف المستضعفون من المسلمين تحت حكم قريش، فتلقفتها آذان ووعتها قلوب. . . (بلى، إن معه لرجالاً لا يريدون شيئاً إلا كان!)(400/62)
ذلك كان رجع الصدى!
وفي ظلال صخور الحرة من ذي المروة على سيف البحر، كانت جموع تتجمع، وكما تجتمع الظلال ثم تفترق فتراها العيون ولا تلمسها الأيدي، كان أبو بصير وصحابته؛ وانطلق السجناء من محابسهم يدرعون الظلماء من كل حدب ليجتمعوا بذي المروة؛ وركز أبو بصير رايته في الوادي الأفيح يستظل بها بضع عشرات مرابطين على طريق قريش لكل غادية ورائحة؛ وانثال عليه المدد، فإذا العشرات بضع مئين؛ وعسكرت (كتيبة الإيمان) على الطريق تحمي الحمى وتمنع الجار، وكان على الميمنة (أبو جندل) وعلى الميسرة (أبو بصير)؛ وكانت قريش الكافرة تزودها وتميرها بكل قافلة تغدو وتروح!. . . وانقطع طريق الرائح والنادي على مكة من أرتد أن يطل دمه!
وتسامع الناس بما هنالك ففزعوا وراحوا يداولون الرأي. . .
وسعى ساعي قريش إلى محمد في المدينة: يا محمد، نسألك بالرحم إلا ما آويتهم، فلا حاجة لنا بهم بعد!
وابتسم محمد، ثم دعا كاتبه ليكتب إلى أبى بصير يدعوه إلى الأمن والدعة. . .
ومضى الرسول بكتاب محمد يغذ السير إلى ذى المروة ليدفع كتاب محمد إلى أبى بصير إلى الأمن والدعة، بعد جهاد العمر ومشقة الحياة؛ فما بلغ الرسول حتى كان أبو بصير سطيحاً بين أثنين من صحابته وهو ينشد في صوت يختلج:
الحمدُ للهِ العليَّ الأكبرْ ... من ينصر الله فسوفُ ينصراْ!
ودفع الرسول إليه الكتاب، فتناوله ونظر فيه نظرة ثم أغفى، وكانت إغفاءة الأبد!
وسكنت الريح، وخفت الصوت، وتجاوب بين الصخور صدى الصم هاتف:
(اللهم قد بلغت! اللهم إلى أمنك ودعتك!)
محمد سعيد العريان(400/63)
درس في التصوف
للأستاذ زكي نجيب محمود
- مالي أراك يا بني مزوراً عن الدرس نافراً؟
- أخشى، يا أبتاه، أن يثقل على سمعي فيثقل ذلك على نفسك، فما لشبابي الغض وهو في شرخه وعنفوانه ولهذه النظرة البائسة العابسة، وهي نظرة المدبرين العاجزين
- انظر يا بني إلى هذا الفضاء الطليق، وأرسل بصرك في أرجاء الكون الفسيح. . . أو ينقص من عنفوان شبابك يا بني أن تكون هذا السيل الدافق وذلك الطود السامق؟ هل يحد من شبابك يا بني أن تكون هذا البركان الفوار وذلك الخضم العنيف الجبار؟ هل يضيرك يا بني أن تكون هذه الزهرة في رقتها وجمالها وهذا الليث الكاسر في جده وصرامته؟
- ومالي ولهؤلاء يا أبتاه، وأنا إنسان، وهي من الجماد والنبات والحيوان؟
- أنت يا بني كل هؤلاء؛ وهؤلاء كلها أنت. . . أنت الكون العظيم بكل ما فبه من قوة وفتوة وجلال وجمال. . .
ولكني يا أبت أراني فرداً واحداً محدوداً، فها هي ذي حدودي أراها بعيني وأحسها بأصابعي
- ذلك يا بني عند النظر الضيق السقيم، أو إن شئت فقل هذه لغة العيون والأيدي، ثم هي كذلك لغة العقل وحده، وهذه كلها أدوات لم يخلقها الله إلا لتفهم المادة المحدودة بالموازين والمكاييل. . .
- فأن لم أركن يا أبت إلى حواسي وعقلي، فإلى أي شيء أركن في فهم الوجود؟
- إلى فطرة عليا يا بني، هي فوق العقل والحواس. . . اركن يا بني إلى البصيرة لا البصر، فالبصر خادع خادع خادع، فهو تارة لا يربك الموجود، وهو طوراً يربك غير الموجود. . .
أن الوجود يا ولدي كائن واحد ضخم. وهذه الأشياء منه جذوع وفروع وأطراف، وهذا الوجود الواحد هو أنت، وأنت هو هذا الوجود. . .
- كيف لي أن أفهم هذا القول يا أبت؟
- إيتني بثمرة من تلك الشجرة، فسأحدثك بلغة تفهمها(400/64)
- هاهي ذي
- ماذا ترى في جوفها؟
- أرى في جوفها بذوراً صغيرة
- اقطع بذرة منها إلى نصفين
- هاأنذا، يا أبت، قد فعلت
- ماذا ترى فيها؟
- لا أرى شيئاً
- أن الجوهر الدقيق الذي عجزت عيناك أن تراه قد نبتت منه هذه الشجرة الباسقة. فصدقني إن زعمت لك أن من مثل هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود، وهذا الجوهر الذي لا تراه هو الحق الموجود، هو الروح الشامل لأطراف الوجود، هو أنت!
-. . . . . . . . .
- تعال يا بني فضع هذه القطعة من الملح في الماء، ثم أذبه
- لقد فعلت
- إيت لي بالملح الذي وضعته في الماء
- لست أراه يا أبت. . .
- ولكن ذلك الماء كيف مذاقه
- إنه ملح!
- دع الماء جانباً واقترب مني. . . إن الملح الذي لا تراه موجود؛ وهكذا نعجز أن نرى الموجود الحق في دخيلة أجسامنا، ولكنه موجود، ومن وجود هذا الجوهر الدقيق جاء الوجود. إنه الحق، إنه الروح، إنه أنت
فهذا الرباط الخفي الذي يصلنا بأجزاء الوجود فيجعل منا كائناً واحداً، قد لا تبصره العيون، ولا تحسه الأيدي، ولكنه مع ذلك كوجود. وذلك يا بني أول ما أريد أن أعلمك إياه: الوجود كله حقيقة واحدة لا فرق بين إنسان عارف وكون معروف؛ فإن زعمت أنك شيء والوجود شيء آخر، فأنت في نغمة العالم (نشاز) بغيض. . . والتطبيق العملي على هذه الخطوة الأولى هو أن تحطم من ذهنك كل ما يميز إنساناً من إنسان، حطم هذه الفواصل التي تباعد(400/65)
بين الغني والفقير، حطم هذه الفواصل التي تفرق بين القرشي والحبشي، حطم هذه الفواصل التي تفاضل بين سامي وآري. . . فالإنسانية كلها عند الصوفي رجل واحد
أستغفر الله، بل حطم هذه الحواجز بين الإنسان وأبناء عمومته وخؤولته من بني الحيوان، فليس عبثاً أن حرم الله قتل الحيوان آناً من الزمان، فالحياة كلها عند الصوفي آية واحدة. . .
أستغفر الله، بل حطم هذه الحدود التي تجعل من النبات كائناً ومن الحيوان كائناً؛ ثم ماذا؟ ثم أمح يا بني ما أقامه العقل المتكلف بين الحي والجامد من سدود. . . فأن الوجود بأسره عند الصوفي كائن واحد
إن أس البلاء يا بني هي هذه الحواس التي تجزيء لنا الوجود قطعاً قطعاً فتحسب الوجود أشتاتاً وما هو بأشتات. . .
- وكيف السبيل إلى النجاة يا أبت؟
- عليك بثلاثة أمور: أولها الصلاة وثانيها الصلاة وثالثها الصلاة. . . عليك بالصلاة يا بني، فهي فترات أراد لنا الله فيها أن نخلص من جزئيات الوجود، لنتصل بالواحد القيوم خمس مرات كل يوم. ألست ترى كيف يحاول الماثل بين يدي ربه أن يغلق حواسه فلا يبصر مما حوله شيئاً ولا يسمع شيئاً؟ ذلك لئلا تعطل حواسه الفكر عن الوصل المنشود. . . ألا ترى إلى المساجد كيف تزداد روعة على روعة، ورهبة على رهبة، حين يخفت ضوءها ويهمس صوتها، وحين لا تكون فيها الحركة إلا في بطء وتثاقل. . .؟ ولم ذاك؟ ليساعد الفكر على التركز في الغرض المقصود، والحد من عوائق الحواس ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً: فلا نور يبهر البصر، ولا صوت يملأ السمع، ولا حركة تثير الأعصاب. . . عندئذ يتحقق ما أجراه أفلاطون في محاورة فيدون على لسان سقراط:
(. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر العقل في حدود نفسه، فلا يعكر صفوه أصوات في السمع ولا رؤية في البصر، ثم لا يعكره شعور بألم وشعور بلذة. . . يكون الفكر على أتمه حين ينحصر روابطه بالجسم في أضيق دائرة ممكنة، فلا إحساس في الجسم ولا وعي في الشعور. . . عندئذ يطمح الفكر في أن يصل إلى الكائن الأسمى)
وتلك هي الفكرة الثانية التي أريد أن أعلمك إياها يا بني هذا المساء: فارتفع عن صغائر(400/66)
الأشياء ما استطعت إلى الترفع عنها سبيلاً. . . إن هذه الأجزاء أشباح زوائل، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. . .
- يا لهول ما تريد من يا أبتاه! إن لحمة الحياة وسداها هي هذه الأجزاء التي تدركها الحواس، فإن حكمت لي على الحواس بالطمس، وعلى هذه الأجزاء بالبطلان، ففيم عسى أن أجاهد في حياتي، ولطالما علمتني أن الحياة جهاد!؟
- لقد أخطأت يا ولدي، فإنما أردت لك أن تهمل أحداث الحياة الصغرى لتتعلق نفسك بمعانيها الكبرى، وفي هذا فليجاهد المجاهدون. . . إنما أردت لك أن تهمل القشور لتعب من اللباب. . . فاهجر ما تغريك به الحواس، ليتسنى لك أن تقبل على الحياة إقبال الجريء الباسل الذي لم تعد تهزمه المخاوف الصغرى والأخطار التوافه!
إن النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. . . إنه حين قال ذلك كان المتصوف الأكبر الذي أهمل صغائر الحياة ولذائذ الحس لينصرف إلى أداء الرسالة الكبرى مهما لقى في سبيل أدائها من عناء
وتلك هي الفكرة الثالثة التي أردت أن أهديك بها اليوم: اترك جانباً من الحياة لتمعن في جانب. انفض عن كاهلك غبار الدنيا من ناحية لتقبل عليها تقياً نقياً من ناحية أخرى. . .
إن التصوف يريدك أن تقف من دنياك موقفا وسطاً بين الإهمال والإقبال، فإن أنت أهملت كأنك لست منها، فلست بالمتصوف الحق، وإن أنت أقبلت على الدنيا كأنها عندك كل شيء فلست بالمتصوف الحق. . . إن شغلت منصباً من مناصب الدولة الملحوظة، فأهملته ولم تأبه لشيء مما يتصل به، فلست بمنصبك جديراً، وإن شغلت المنصب بحيث تندك قوائم نفسك لو أفلت منك، فلست كذلك بالمنصب جديراً. فالرجل الحق هو الذي يبذل وسعه مجاهداً يريد النجاح ولا يخور للفشل. . . إن التصوف الصحيح ليريدك على أن تنغمس في العالم بقدر وتنسحب منه بقدر، بهذا تكون سيد نفسك، ولا تصبح ألعوبة لاعب في أيدي القدر. . .
ولتعلم يا بني أخيراً أن العالم الحق لا يكون كذلك إلا إن كان متصوفاً، فهل رأيت عالماً لا يفني نفسه إفناء في سبيل علمه؟ هل رأيت عالماً لا يضحي بشواغل الحياة الصغرى(400/67)
ليصل في بحثه إلى الحقيقة الكبرى؟ هل رأيت عالماً صحيحا يميل مع هواه فيثبت حقيقة تعجبه ويحذف حقيقة تؤذيه؟ ثم ماذا؟ ثم هل رأيت عالما لا يحب موضوعه إلى درجة الفتنة والجنون؟ وما موضوعه! هو الوجود أو ناحية من نواحيه!
- لو كان التصوف يا أبت هو أن أؤاخي بين أجزاء الوجود فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف يا أبتاه يدعو إلى إهمال الأجزاء الحسية الصغرى لينعقد الفكر على مهمة كبرى، فأنا أول المتصوفين، ولو كان التصوف معناه الجهاد المخلص في سبيل الحق فأنا أول المتصوفين
زكي نجيب محمود(400/68)
في الغار
للأستاذ محمود غنيم
(ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن. إن الله
معنا)
(قرآن كريم)
مَنْ ذلك الساري على وَجْنائِهِ ... يطوي الدُّجى وَيَخُب في أحشائهِ
في قِلَّةٍ من صحبه، لكنه ... في فيْلق من عزمه ومَضائه
ما ضرَّه حَلَكُ الظلام وقلبُه ... يَتألَق الأيمانُ في أرجائه
الصبر والتّسليم حَشْوُ إِهابه ... والهم والتصميمُُ مِلُء ردائه
ينسابُ في آثاره أعداؤُه ... وحمامةٌ تنجيه من أعدائه
لو يُحْسِنُ الترحيبَ طيرٌ أعجمٌ ... هشَّ الحمام مرحَّباً بلقائه
أخفاه نسْجُ العنكبوتِ ولم تكن ... أُسْد الشرَى تقوى على إخفائه
جاء النَّفيرُ بخيله وبِرَجْلهِ ... تتزلزلُ الصحراءُ من ضوضائه
نفرت وحوشُ الغاب خشية بأسه ... ومحمدٌ كالطَّود في إرسائه
ما طوَّفت أشباحُهم بخياله ... إلا طوافَ الحُلْم في إغفائه
ضاق الفضاء بهم وصدرُ محمدٍ ... ما ضاق في اللأواء رَحْبُ فضائه
كَهْفٌ كَكِفَّةِ حابل في طِّيه ... صدر يتيه الظنُّ في بيدائه
نزلت عليه سكينةٌ من رِّبه ... ففؤاده مستسلم لقضائه
ما هَمُّهُ نفسٌ يريد نجاتها ... بل مذهبٌ يسعى إلى إعلائه
غرماءه شدوا إليه رِحالهم ... واللهُ كان أشدَّ من غرمائه
ضلُّوا فلم تأخذه أعيُنهم ... ولم تمتدَّ أيديهم إِلى إِيذائه
وكذلك شاء الله نُصرَةَ عبده ... وارتدَّ شانِئُهُ بوجهٍ شائه
ما كان أوْفى صاحبين كلاهما ... يَفدِي أخاه مرحِّباً بفدائه
سَهْلٌ عليه أن تسيلَ دماؤُه ... ويفوزَ صاحبُه بحَقْن دمائه(400/69)
غار يضلّ النجمُ في دَيْجوره ... لا فرق بين صباحه ومسائه
لا يأمنان النابَ من ثعبانه ... أو يأمنان الذيلَ من رَقْطائه
لا أرضُه الجدباء مُثمرة ... ولا في صخره نَبْعٌ يجود بمائه
قضيا النهار على الطَّوى في جوفه ... وتقلَّبا ليلاً على حصبائه
قم سائل الصِّدِّيقَ ماذا صدَّه ... عن ماله وثناه عن أبنائه؟
وَعَلاَم يضربُ في المهامة هائماً ... في سيره كابن السبيل التائه؟
ما بين ليلٍ حالكِ الأسحار ... أو مُستقبَل كالليل في ظلمائه
ما بين شدة رُعبه ويقينه ... يَنْبَتُّ أو يمتدُّ حبلُ رجائه
لم يخش إلا أن يُصَابَ محمدٌ ... بأذى فيفنى دينُه بفنائه
عجبي على الصِّدِّيق، ماذا يتَّقي ... واللهُ رَبُّ العرش من رفقائه؟
ما أصدقَ ابن أبي قُحافةَ صحبةً ... لمحمد هند اشتداد بلائه
لِمَ لا يكونُ خليفةً من بعده ... أرأيت كالصِّدِّيق أو كوفائه؟
ما ضر غاراً باتُ يؤوى المصطفى ... إجدابُ واديه وضيقُ فِنائه
وَدَّت بُرُوجُ النجم لو آوَيْنه ... إذ ذاك أو شاركن في إيوائه
غارٌ على (الإيوان) جرَّ ذيوله ... عُجْباً وتاه عليه من غُلَوَائه
ما سدُّ ذي القرنينِ قيسَ به ولا ... هَرَمُ الكنانة في علوِّ بنائه
هل كان يدري الغارُ أن نزيلَه ... سيرجُّ ركنَ الأرض بعد نجائه؟
وَيُزلزل الدنيا بعزم رَفيقِه ... وثلاثةٍ كالشُّهْب من خُلفائه
فإذا رجالُ الروم بعضُ عبيده ... وإذا نساء الفرس بعضُ إِمائه
وَإِذا بدين محمد يغزو الورى ... غزو الكتائب تحت ظل لوائه
وإذا كتاب محمد مُتَغَلغلٌ ... في الكون والثَّقَلان من قُرَّائه
نجمٌ من الصحراء كان بُزوغُه ... فإِذا الحواضرُ تهتدي بضيائه
الله قدرَّ أن يُتِّممَ نورَه ... مَنْ ذا الذي يقوى على إِطفائه؟
(مدرسة فؤاد الأول)
محمود غنيم(400/70)
قبس من نور صاحب الهجرة
أدبني ربى فاحسن تأديبي
للأستاذ محمود الشبيشي
. . . وأخذت القوم الحيرة الممزوجة بالإعجاب من سحر ما أبان، وصدق ما اظهر. وزاد من حيرتهم وإعجابهم انه كان أميا؛ فتلطف أبو بكر رضى الله عنه وقد أصابه ما أصاب القوم وأخذه ما أخذهم، وهو العالم الخبير بأنساب العرب وأخبارهم، فقال يا رسول الله: لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم فما سمعت افصح منك؛ فمن أدبك؟
قال: (أدبني ربي فاحسن تأديبي)
إنها لكلمه جامعه، مركبه من كلمات قي منطق اللغة، كثيرة في منطق العقل، تملك القدرة التي تأسر بها كل الحواس. يخيل إلي أن الحروف فيها ليست كالحروف؛ فهي من مادة الروح، وهي من عنصر القلوب، ثم هي بعد ذلك كله من جوهر النور السماوي، ينزل هبه علوية لخير من يعرف أقدار الهبات.
(أدبني ربي فاحسن تأديبي)
جماع الحكمة في ألفاظ حكيمة، ومبعث النور في ألفاظ من نور، وروض الأخلاق الكريمة في حروف كريمة، نطق بها اكرم الخلق فزادت فوق سموها سموا، لان الرسول الكريم ترنم بها. . .
يكاد المرء يلمس في طياتها تتحرك، ويحس هداية الرحمن خلال كلماتها تتلألأ، وهي من سر الروحانية؛ يخيل إليه إن سالت فجرت سيلا من طبيعة الحياة لا التدمير، فهو ينهل من عذبها، ويرى في ثناياها ألوان الروحانية السماوية تتألق بمعاني الهداية، وتتلألأ بأنوار الحكمة، فهو بتأملها ويكاد البصر يتعلق بها فلا يبرحها
ثم هو يوشك أن يشعر بألفاظها تتحرك من سحر ما فيها، وتحيا فكأنما يلمسها ويراها، وهو لما يظهر فيها من نضج الحكمة واكتمال ثمارها يكاد يلتهم أطايبها التهاما، ثم هو لا يشبع من معانيها. ومن ذا الذي يشبع من أطايب الرسول؟ (أدبني ربي فاحسن تأديبي)
ياله من اعتراف نبيل من اكرم الخلق بفضل بارئ الخلق! اعتراف مسلك الهداية، وقول نهج للناس منهج للسعادة. نعم أدبه ربه فاحسن تأديبه، فكان المثل العالي في خلفه؛ فهو(400/72)
الأمين طفلا، وهو الأمين شيخا. ائتمنه قومه فكان له في الطيبات فضل سابغ وفي المكرمات مجد سامق. وأتمنه ربه فاختصه بأعباء الرسالة، فنهض بها على اكمل الوجوه، وما اختصه بها إلا وقد طهره من كل غرض ونزهه عن كل دنس. أدبه ربه فكان أميناً، ومن أمانته شعت أنوار أخلاقه. لقد أدب الرسول ربه فسمت أخلاقه، ونبلت صفاته، فكان أصدق الخلق حيث يقول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)؛ لا يقف صدق هذه الكلمة الروحانية على نبل صفات الرسول وأمانته، وصدقه، وسمو غايته؛ بل إنها لصادقة في كل تصرفاته كرجل اجتماعي. ومن ذا الذي جمع دقيق أمره وجليله مثلما جمع؟ ومن ذا الذي ربط بين أغراضه وأغراض الإنسانية مثلما ربط؟ ومن ذا الذي قبل الرأي قبل الفصل مثلما قلب؟
من ذا الذي جرى في أعماله وراء الضمير الطاهر مثلما جرى؟ أفلم يبعث للعرب ولم تكن تقيدهم غير تيهاء مترامية، فلم الشعث، وألف القلوب، وآخى بين النفوس، ورأب الصدع، ووحد الثقافة وناهيك بتوحيد الثقافة في إنهاض الأمم! لكم كان الرسول محقاً حين قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فهو مثال المصلح الاجتماعي الذي يعلم أن إدراك الداء هو سر الدواء، المصلح الذي يخاطب القلوب والعقول، المصلح الذي يلابس الحياة وما يضطرب في الحياة، فتسوقه هذه الملابسة إلى كل مناحي الإصلاح ولقد كان الرسول كل هذا، وكان فوق هذا المصلح القوي الكريم الذي لا يغويه السلطان فيبطش، وما كان إلا ما يدل على قوة اليقين، والترفع عن الأهواء، والعفو عند المقدرة، والنفور من الطمع. إلا إن هجرة الرسول الكريم لأعظم دليل على إدراكه لروح المجتمع، وحسن تصرفه كمصلح سماوي ذي رأي سديد، وفكر صائب. ما هاجر رجل وصاحبه، إنما هاجرت فكرة وعقيدة. وما اضطهدت فكرة وعقيدة. وما أنتصر رجل، وإنما انتصرت فكرة وعقيدة
ما هاجر الرسول إلا وقد عقد العزم على العودة، ولكن بعد أن يستشعر القدرة على رياضة تلك النفوس الجامحة. ما هاجر الرسول إلا بعد أن أدرك أن من العبث نقاش عقول جامحة غطى عليها الغضب، وران عليها الحقد، فلا سبيل لتقويم عوجها، وتثقيف منآدها إلا بعد أن تسكن فيها عوامل الثورة، وتبرد جمرات التحفز. وأدرك الرسول هذا فكان حكيما، وعلم أن امتداد الزمن بينه وبينهم وابتعاد الشقة - ولو إلى حين - سيفعل في النفوس الجامحة فعله فتتحرك الضمائر، وتحيا القلوب. ولقد كان كل هذا، ودارت السنون، واجتمع للرسول(400/73)
العدد والعدة، وفعلت العوامل النفسية في القوم فعلها، فرجع فاتحاً منتصراً؛ ولكنه كان كريم الخلق، جميل العفو. لقد ضرب للناس بآدابه مثلاً لو أدركوه وساروا في هديه لعم العالم السلام، ولصفق في جوه الإخاء، ولكن العالم قد فسد تأمله، ففسدت أغراضه، وسار أكثره وراء الطمع، فكان ما كان من جور وطغيان، واستسلم العالم لحروب تأتي على الأخضر واليابس
وكان الرسول كريم الخلق، وكان المصلح الاجتماعي البصير، وكان الخطيب الذي لا يصيبه في الملمات عي، ولا يدركه في المخوفات بهر، يزن كلامه بميزان الحكمة، وما كانت آياته السامية إلا صورة لنفسه السامية. كان خطيبا لا يبارى؛ وكان الشجاع الذي لا يبالي الهلكات
اجتمعت له النجدة والبسالة والشدة، وكان شهما فيه صرامة وفيه قوة لا يطمع في خداعه، ولا يغمز جانبه؛ وكان عظيم الثقة بنفسه، وتلك صفة الرجل الذي يعلم أن الله معه وأن الثقة بالنفس من لوازم الرسالات، حسنت معاشرته واستقامت أغراضه؛ وكانت له هيبة الروح وسعة الحلم، وكرم العفو، ورعاية الرحمن
انظر إليه وقد لقيه عل ى غرة أحد أعدائه، وشهر السيف على رأسه قائلا: يا محمد، من يمنعك مني؟ فقال: (الله) ما أروعها كلمة! نعم يمنعه الله، ولقد منعه حقاً، فسقط السيف من الرجل وأخذه الرسول وقال: من يمنعك مني؟ فقال الرجل وقد أسقط في يده: كن خير آخذ. فقال الرسول: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فقال: لا، غير أني لا أقاتلك، ولا أكون معك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى الرسول سبيله
فهل رأيت أعظم نفسا من هذه النفس الروحانية؟ وهل رأيت رجلا يقدر الرجولة ولو في عدوه هذا التقدير؟ الرسول الكريم يطلب منه الأيمان فيأبى، ولكنه يعاهده على السلام فيكون له العفو الجميل. إن في ذلك لآية رائعة للقدرة حين ترحم. إن في ذلك لفلسفة عالية لو أدركها العالم لتجمعت أطرافه، ولرفرفت عليه أجنحة السلام
إنها لحكمة من الرسول الكريم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه
(المنصورة)
محمود الشبيشي(400/74)
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
عوامله الصحيحة وموقف الإسلام منه
للدكتور علي عبد الواحد وافي
لم يكن نظام وأد البنات متبعا عند جميع العرب في الجاهلية، بل كان مقصورا على بعض عشائر من ربيعه، وكنده، وطي، وتميم. وكانت الطريقة السائدة في الوأد أن تحفر بجانب الموضع الذي اختير لولادة الأم حفرة عميقة، فإذا ظهر أن المولود أنثى، قذف بها حية عقب ولادتها مباشرة في هذه الحفرة، وهيل على جسمها التراب، وبعضهم كان يلجأ إلى وأد بناته في أمكنة خاصة بعيدة عن المنازل حتى لا يدنسها بجثثهن ورفاتهن. وأشهر مكان كان يجرى فيه الوأد على هذه الطريقة هو جبل أبى دلامة
وقد ظل هذا النظام متبعا عن العشائر السابق ذكرها حتى قبيل الإسلام، ثم ألقيت في نفوس كثير من العرب كراهته، وانكشفت لهم شروره، وظهر لهم تنافره مع سنن الطبيعة ونواميس العمران، فنهض كثير من سادتهم إلى محاربته إذ كانت النفوس مهيأة لما يدعون إليه، فلم يجيء الإسلام حتى كان هذا النظام على وشك الانقراض، وقد شن الإسلام على البقية الباقية منه حرباً شعواء انتهت بمحوه محواً تاماً، فلم نسمع بعد وفاة الرسول عليه السلام بأي حادث من هذا النوع، حتى بين العشائر التي بقيت على دينها القديم
وقد اختلف الباحثون في العوامل التي حملت العشائر السابق ذكرها على اتباع هذا النظام الوحشي؛ وانقسموا بهذا الصدد إلى فريقين: فريق يعلله بالفقر، وآخر يتلمس أسبابه فيما جبل عليه العربي من شدة الحرص على صيانة عرضه، واتقاء ما عسى أن يصيبه بمكروه
فأما الفريق الأول فيرى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى الإملاق وعدم القدرة على تربية الأولاد؛ وان التبعة في هذا تقع على بيئة بلاد العرب وحالتهم الاقتصادية: فإجداب أرضهم وضالة دخلهم من مهنة الرعي التي كان يزاولها كثير منهم، واحتكار التجارة في يد أفراد من سراتهم، وحيات الشظف التي كانت تعانيها الدهماء، والمجاعات المتوالية التي كانت تنتابهم، وكثرة تنقلهم في طلب الكلأ لإنعامهم. . . كل أولئك وما إليه جعل من الصعب على كثير منهم تربية أولادهم، واضطر القبائل السابق ذكرها على طريقة الوأد للتخلص من هذا العبء الثقيل ويرى هذا الفريق في قوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق. .(400/76)
ما يزيد مذهبه تأييدا
وهذا المذهب لا يتفق في شيء مع حقائق التأريخ ولا مع المنطق السليم. فمن الثابت إن هذا النظام لم يكن معمولا به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاما عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به. وقد حدثنا التأريخ عن بعض من وأدوا بناتهم في العصر الجاهلي، وذكر من بينهم عددا كبيرا من سراة القوم وأغنيائهم، ومنهم عمر بن الخطاب نفسه. . .
هذا إلى أن في قصر الوأد في العشائر السابق ذكرها على البنات دون البنين، لدليلا على أن الدافع إليه شئ آخر غير الفقر؛ إذ لو كان الفقر هو الدافع إليه، للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث. . . ويزيدنا إقناعا بفساد هذا المذهب أنه لم يرد مطلقا ذكر الفقر في أي آية من الآيات التي نزلت في وأد البنات. أما الآيات التي ورد فيها قتل الأولاد مقرونا بخشية الإملاق، والتي يزعم أصحاب هذا المذهب أنها تؤيد وجهة نظرهم فهي لا تتحدث عن النظام الذي نحن بصدده، بل تتحدث عن نظام آخر كان متبعا عند بعض عشائر العرب، وهو قتل الأولاد على الإطلاق بدون تمييز بين ذكورهم وإناثهم، تحت تأثير الفقر وعدم القدرة على تربيتهم
ويذهب الفريق الأخر من الباحثين إلى أن أسباب هذا النظام ترجع إلى مبالغة بعض العشائر العربية في الحرص على صيانة أعراضها واتقاء ما يحتمل أن يصيبها بمكروه. فكان الواحد منهم يخشى، أن هو أبقى على بنته، أن تجر عليه وعلى عشيرته عاراً في المستقبل، إذا وقعت سبيه في يد الأعداء واستباحوا عرضها أو زلت في حياتها وقدر لها السقوط. ويروى أنصار هذا المذهب قصة يدعون أن حوادثها كانت السبب الأول في توجته العشائر السابقة هذا الاتجاه. وخلاصة هذه القصة أن عظيماً من عظماء العرب يدعى قيس بن عاصم قد سبيت بنته في غارة شنتها عشيرة معادية على عشيرته، ثم عقد بين العشيرتين صلح كان من شروطه أن ترد السبايا مقابل فدية مالية. غير أن ابنة قيس هذا كانت قد شغفت حباً بمن وقعت في يده، فآثرت البقاء عنده، ولم تقبل الرجوع إلى أبيه وعشيرتها. فآلى أبوها على نفسه ليئدن كل بنت تولد له، وسارت عشيرته على سنته، واقتدى بها بعض العشائر الأخرى(400/77)
وهذا الرأي لا يقل فسادا عن الرأي الأول. فالقصة التي يستند إليها تبدو عليها علامات الاختلاق وإمارات الأساطير. هذا، إلى أن ما تقرره يتعارض مع النواميس التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها. فعهدنا بهذه الظواهر أنها لا تنشأ من حادث فردي، بل تنبعث من العقل الجمعي، وترتكز إلى اتجاهات المجتمع وعقائده ونظمه العامة. على أن قيساً هذا شهد الإسلام ومات حوالي السنة العاشرة بعد الهجرة. فلا يعقل أن يكون هو الذي قد سن نظام الوأد عقب حادث حدث لبنت كبيرة له. إذ يترتب على ذلك أن نظام الوأد لم يظهر إلا قبيل الإسلام ببضع سنين؛ مع أنه من الثابت أنه سابق لبعثة الرسول بعهد طويل، وأنه كان على وشك الانقراض قبيل الإسلام؛ وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يرد في أي آية من الآيات الخاصة بالوأد إشارة ما لسبب من هذا القبيل. ولو كان هذا السبب هو الباعث الحقيقي على الوأد، لعني القرآن بإظهاره وتقبيحه وبيان ما ينطوي عليه من سخف وانحراف عن التفكير السليم. . .
وقد رأيت، بعد أن تبين لي فساد هذين المذهبين، أن خير طريق للوقوف على أسباب هذا النظام هو الرجوع إلى الآيات القرآنية التي نزلت بصدده، وربطها بما يتصل بها، والتأمل فيما عسى أن تتضمنه من إشارة ظاهرة أو خفية إلى العوامل التي دفعت إليه. وقد هداني ذلك إلى النظرية التي أعرضها فيما يلي:
كانت طائفة من عشائر العرب تلجأ إلى قتل أولادها تحت تأثير الفقر ورغبة في التخلص من تكاليف تربيتهم. وهذه الطائفة ما كانت تفرق بين ذكور الأولاد وإناثهم. وهذا هو ما تشير إليه الآية الواحدة والثلاثون من سورة الإسراء: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا)، والآية الواحدة والخمسون بعد المائة من سورة الأنعام: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. . . الآية)
وغني عن البيان أن هذا نظام آخر غير النظام الذي نحن بصدد الكلام عنه
وكانت طائفة أخرى من العشائر العربية تئد البنات من أولادها على النحو الذي شرحناه في صدد هذا المقال. ولم تكن تفعل ذلك خشية الفقر أو العار كما يزعم أصحاب المذهبين السابقين، بل كانت تفعله بدافع ديني بحت. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن البنات رجس من(400/78)
خلق الشيطان أو من خلق إله غير آلهتهم؛ وأن مخلوقا هذا شأنه ينبغي التخلص منه. وأصل عقائدهم هذه أنهم كانوا يقسمون ما تخرجه الأرض وما تنتجه الأنعام قسمين: قسم ينسبونه لآلهتهم (اللات، العزى، مناة. . . الخ) ويعدونه من خلقها، وهو قسم طاهر زكي؛ وقسم ينسبونه لله تعالى يعدونه من خلقه، وهو قسم كانوا يعتقدون أنه مدنس بالرجس، فكانوا يحرمونه على أنفسهم، أو يرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه أو تقديمه قرباناً لآلهتهم، وما زين لهم اعتقاده بصدد نتاج الحرث والأنعام زين لهم اعتقاد مثله بصدد نتاج الإنسان، فقسموا ما يولد للإنسان قسمين: قسم طاهر زكي من خلق آلهتهم وهو جنس الذكور، وقسم من الله وهو نوع الإناث، وهو قسم مدنس بالرجس كانوا يحرمون بقاءه ويرون أن واجبهم الديني يقتضيهم التخلص منه ومن أجل ذلك كانوا يتقون ذبحهن ويؤثرون وأدهن عقب ولادتهن مباشرة حتى لا تنتشر دماؤهن فتنتشر معها ما تحمله من نجس ورجس.
بل كان بعضهن يبالغ في هذا التحرج فيئدهن بعيداً عن المنازل كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولم يقف أمر اعتقادهم هذا عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزوه إلى عالم السماء. فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث، ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع
وإليك جميع الآيات التي عرضت لوأد البنات، وسيتبين لك من التأمل فيها وربطها بعضها ببعض صحة ما ذهبنا إليه
1 - (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. اهـ بيضاوي) نصيباً مما رزقناهم (من الزروع والأنعام اهـ البيضاوي) تالله لتسألن عما كنتم تفترون. ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم (أي لآلهتهم) ما يشتهون (يعني البنين) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به. أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون) (النحل 56 - 59)
فالآية الأولى تقرر عقائدهم في نتاج الحرث والأنعام ونسبة بعضه لآلهتهم. والآية الثانية تقرر عقائدهم في نتاج الإنسان ونسبة الذكور لآلهتهم وجنس الإناث لله. والآية الثالثة تصف ما كان يفعله أحدهم إذ بشر بالأنثى. وغني عن البيان أن في مجيء الآية الثالثة(400/79)
عقب الثانية مباشرة لدليلا على أن ما كانوا يسلكونه حيال البنات من وأدهن وإمساكهن على هون كان مترتبا على نسبتهم الإناث إلى الله تعالى، فبدون هذا التفسير يكون المعنى الذي تقرره الآية الثالثة مجرد استطراد لا تربطه بالحقائق التي تقررها الآيات السابقة أية رابطة منطقية وهذا ينبغي أن ننزه كلام الله عنه
2 - (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا (أي لآلهتهم) فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو لا يصل إلى شركائهم (عن طريق تقديمه قرباناً مثلاً)، ساء ما يحكمون. وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون. قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين) (سورة الأنعام 136 - 140)
فالآية الأولى تقرر ما كانوا يعتقدونه بصدد ما ينتج من الحرث والأنعام وقسمتهم هذا النتاج بين آلهتهم وبين الله تعالى على النحو الذي شرحناه. والآية الثانية تقرر أن قتلهم أولادهم كان مبنيا على نفس الأساس الديني الذي بني عليه تقسيمهم السابق، كما يستفاد ذلك من عطف هذه الآية على ما قبلها، ومن تصديرها بقوله (وكذلك) ومن نسبة تزيين هذا الفعل إلى الشركاء (وكذل زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)، ومن قوله (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم).
ويستفاد من الآية الثالثة أن الذين كانوا يقتلون أولادهم على هذه الطريقة هم الذين كانوا يحرمون بعض منتجات الحرث والأنعام، وأن الباعث لهم على الأمرين عقيدة واحدة، والمقصود من الأولاد في هذه الآيات البنات وحدهن، كما أشار إلى ذلك كثير من المفسرين وكما يدل عليه السياق
3 - (وجعلوا له من عباده جزءا (وهو الإناث) إن الإنسان لكفور مبين. أم أتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين. وإذا بشر أحدهم بما ضرب الرحمن مثلاً (أي بالجنس الذي نسبه لله) ظل وجهه مسودا وهو كظيم. وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، أشهدوا خلقهم؟! ستكتب شهادتهم ويسألون) (الزخرف 15 - 19)
ولست في حاجة إلى أي تعليق على هذه الآيات، فهي صريحة في المعنى الذي قررناه،(400/80)
وخاصة إذا ربطت بالآيات السابقة
4 - (أفرأيتم اللات والعزى ومنآة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذن قسمة ضيزى. . . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى، ومالهم به من علم إن يتبعون إلا الظن. . . الآية) (النجم 19 - 27)
5 - ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً محصوراً. أفأصفاكم ربكم البنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً) (الإسراء 39 - 40)
6 - (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟! أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟! ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله، وإنهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين؟! مالكم كيف تحكمون؟!. . .) (الصافات 149 - 154)
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون(400/81)
الرنوك في عصر المماليك
للدكتور محمد مصطفى
للرنوك شان عظيم عند الغربيين، لها سجلات رسمية خاصة بها، يسجلون فيها شكل الرنك (الشعار) وألوانه والرسوم التي فيها، مع لقب العائلة التي يحق لها حمله، وأسماء أفرادها، وكل ما يتعلق بهم من البيانات عن تواريخ ميلادهم ونشأتهم وحالتهم المدنية مع إضافة علامة جديدة لبعض أفراد العائلة الجدد. وللرنوك عندهم علماء تخصصوا في البحث فيها، وفي تتبع رنك كل عائلة واستقصاء أصله وتاريخ نشأة العائلة. وهنالك رنوك أخرى للمدن والبلاد في أوربا لتمييز جماعات كل بلد أو صناعاته أو مناخها عن غيرها. وقد حاول بعض هؤلاء العلماء إرجاع أصل الرنوك عند الغربيين إلى الشرق، وقالوا إنهم اقتبسوا فكرتها أيام اتصالهم بالسلاجقة والأيوبيين والمماليك إبان الحروب الصليبية، بدلي وجود رنوك سلجوقية وأيوبية ومملوكية مشابهة لرنوكهم على بعض الآثار في مصر وسوريا وفلسطين
وبينما نرى أن للرنوك في أوربا صفة عائلية محضة يتوارثها الابن عن أبيه وجده، نجد أنها كانت تدل في عصر المماليك على الوظيفة التي كان يتقلدها حامل الرنك في البلاط السلطاني. وكان للمماليك في جيشهم نظام عسكري لا يحيدون عنه، فكانوا يعتمدون فيه على الجند من المماليك فقط، يجددون دائماً بشراء مماليك صغار، يتولى جلبهم إلى مصر موظف معين لذلك يلقب بتاجر المماليك. وهؤلاء المماليك الجدد كالهم حديثو السن، يلحقون بمدرسة المماليك بالقلعة حيث يقيدون كمماليك كتابية، ويتعلمون القراءة والكتابة، ويدربون على الأعمال والنظم الحربية. فإذا ما تم تعليمهم وتدريبهم، أعتقهم السلطان، ووهبهم ما يبدءون به حياتهم الحرة، وما يتناسب مع تدريبهم الحربي، أي ملابساً تميزهم عن إخوانهم الأرقاء وأسلحة وخيلاً. وتطلق كلمة مملوك عليهم بعد عتقهم أيضاً، فكان مؤرخو العرب يستعملون أسم (مملوك) لمن يؤدي أعمالاً داخلة في النظام العسكري، وكلمة (عبد) لمن يستخدم في أعمال منزلية مثلاً وهو في الرق
ثم يعين السلطان المماليك (الأحرار) الجدد للخدمة في الجيش أو في المقاطعات والبلاد، بعد أن ينتخب منهم عدداً لحراسته وخدمته الخاصة، ولذلك يسمون بالخاصكية. وهؤلاء هم(400/82)
نخبة الجند، يقلدهم السلطان درجات ضباط الجيش ووظائفهم، فيبدؤها الخاصكي برتبة أمير عشرة، فأمير طبلخاناه، فأمير مائة، فمقدم ألف، وهذه أرقاها. وكان لكل من هؤلاء الضباط أو الأمراء شعار خاص به يسمى (رنكا) يرسمه على كل ما يمكن أن يتصوره العقل من الأدوات التي يستعملها في حياته اليومية كالأسلحة والمشكاوات والأقمشة والمخطوطات وأدوات الزينة وأواني الطعام والشراب، وعلى واجهات المباني والشبابيك والأبواب والأعمدة وتيجانها وغير ذلك.
والرنوك في مصر والشام كانت موضوع بحث عند كثيرين من العلماء الأوربيين اذكر منهم ويعقوب أرتين باشا. وكان آخر من بحث هذا الموضوع الأستاذ الدكتور الذي ألف كتاباً فيه. ولا يزال يتابع البحث، وينشر ما أستجد من الأبحاث في المجلات العلمية.
ومما يؤسف له ألا نجد شيئاً وافيا عن هذا الموضوع في كتب مؤرخي العرب الذين عاصروا المماليك: كأبي الفداء والمقريزي والقلقشندي وأبي المحاسن وابن إياس سوى ما ذكروه من الرنوك عرضا - وفي حالات قليلة - في سياق كلامهم عن الحوادث أو وفيات بعض الأمراء. ومن هذه الحالات القليلة ما ذكره أبو الفداء في تاريخه من علامات وظائف الدوادار والسلاحدار والطشتدار والجمدار والأمير آخور والجاويش. وإننا نعتقد أن مؤرخي العرب اعتادوا رؤية الرنوك، فلم يجدوا فيها ما يستلفت النظر ولذلك لم يبحثوا فيها، ويؤيد هذا الرأي الأستاذ جاستون فيبت في نقده لكتاب الدكتور ماير، ويقول إن الذهبي وصف مرة رنك السلطان كتبنا مع رسم توضيحي له. ولهذا فنحن مضطرون في دراستنا للرنوك إلى الاعتماد فقط على الكتابات التاريخية التي ترافقها في بعض الأحيان، ودراسة تراجم الأمراء المذكورة أسماؤهم في هذه الكتابات لكي نصل إلى معرفة الوظائف التي كانوا يشغلونها، ونستخلص من ذلك ما نفسر به رنوكهم
وقد دلت هذه الدراسات على أن الوظائف الممثلة في الرنوك هي وظائف صغيرة في البلاط السلطاني يشغلها الخاصكية؛ واستنتج الدكتور ماير أن المماليك كانوا يحتفظون مدى حياتهم برنوك وظائف الخاصكية التي شغلوها في خدمة السلطان قبل ترقيتهم إلى درجات الأمراء، بل إن كبار الأمراء كانوا يفخرون بما تولوه في أول عهدهم بهذه الوظائف الصغيرة(400/83)
وأثبتت هذه الدراسات أيضاً أن سبع علامات من التي ترى على الرنوك يمكن الاستدلال بها بوجه قاطع على الوظائف التي تمثلها، وهذه العلامات هي: الكأس للساقي أو الشراب دار وهو من يتولى سقاية السلطان، والخانجة أو المائدة المستديرة للجاشنكير الذي يتذوق الطعام للسلطان، وعصاتا لعبة البولو للجوكندار وهو المشرف على هذه اللعبة. والدواة للدوادار أي كاتب السر - وكان المرحوم عبد الحميد مصطفى باشا أول من أثبت أن الدواة علامة كاتب السر - والبقجة المربعة للجمدار أي حامل الملابس، والسيف أو الخنجر للسلاحدار وهو الذي يحمل أسلحة السلطان، والقوس للبندقدار أي رامي النشاب. وجل هذه الوظائف لها صبغة عسكرية يتقلدها - على حد قول مؤرخي العرب - (أرباب السيوف) من المماليك. وهنالك علامات أخرى نراها على الرنوك، منها: السبع والنسر وزهرة الزنبق والوردة والهلال وغيرها. وهذه العلامات إما شخصية كالسبع الذي يرى على نقود السلطان بيبرس البندقداري ومبانيه، أو علامات لم يمكن معرفة ما تدل عليه، لأن تراجم الأمراء المذكورين في الكتابات المرافقة لها غير مستوفاة، أو لا تشير إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها قبيل ترقيتهم إلى درجات الأمراء.
وقد استطاع أخيراً الدكتور ماير أن يفسر إحدى هذه العلامات تفسيرا قريبا من المنطق، وهي على شكل قرن، وقال إنها تدل على القرن الذي كان يحفظ فيه البارود، وذلك لأن أول ظهورها كان في رنوك الثلث الأخير من القرن الخامس عشر الميلادي، أي عندما عم استعمال البارود في الأسلحة.
وللرنك أشكال مختلفة منها المربع والمدبب والذي يتألف محيطه من تقاطع عدة دوائر، ولكن أكثر هذه الأشكال انتشارا هو الذي يتكون من دائرة يقسمها خطان متوازيان إلى ثلاثة أقسام يسمى القسم الأوسط منها (الشطب). وتلون الرنوك بألوان مختلفة حسب ما يختاره صاحبها؛ وتظهر هذه الألوان في رونقها في الرنوك المرسومة على الزجاج والخزف والفسيفساء والرسوم الحائطية
ويقسم الدكتور ماير الرنوك إلى نوعين: رنوك بسيطة، ورنوك مركبة. فالرنوك البسيطة هي التي تحوي علامة أو أكثر على الشطب، أو على الرنك إذا لم يكن بوسطه شطب، وهي رنوك شخصية تدل على الوظيفة التي كان يشغلها حاملها قبل ترقيته إلى درجات(400/84)
الأمراء. أما الرنوك المركبة فيرى عليها علامات متعددة على أقسام الرنك الثلاثة، وهي ليست شخصية، كما هي الحال في الرنوك البسيطة، بل هي رنوك جماعات من المماليك تنتسب كل جماعة منهم إلى أحد السلاطين أو أحد كبار الأمراء كالمماليك المؤيدية والأشرفية والظاهرية مثلا
وكانت الرنوك البسيطة هي الشائعة في عصر المماليك البحرية. ولم تظهر الرنوك المركبة إلا في عصر المماليك الشراكسة، فبدأت بعلامتين فقط على الرنك أيام السلطان برقوق، وتدرجت إلى أن وصلت إلى سبع علامات على الرنك الواحد في عهد السلطان قايتباي والسلطان قانصوه الغوري
ويوجد نوع آخر من الرنوك خاص بسلاطين المماليك فقط ويسمى في الاصطلاح العرفي - نقلا عن الغربيين - (خرطوشاً).
وهذا النوع على شكل دائرة مقسمة إلى شطب في الوسط وقسمين آخرين أحدهما أعلاه والآخر أسفله ولا توجد عليه علامات كما في الرنوك الأخرى، بل عليه كتابات باسم السلطان، مثال ذلك كتابة باسم السلطان قايتباي (انظر الشكل) تقرأ: على الشطب: عز لمولانا السلطان الملك الأشرف، وفي أعلاه: أبو النصر قايتباي، وفي أسفله: عز نصره. ويرجع أقدم هذه (الخراطيش) إلى أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الميلادي فظهرت أولاً على الأواني كالمشكاوات الزجاج، وأقدم ما نعرفه منها على المباني خرطوش باسم السلطان الناصر بن محمد قلاون على حائط في حوش بردق بجوار مسجد السلطان حسن
وتوجد بدار الآثار العربية مجموعة قيمة من الرنوك على الأواني والأدوات المختلفة الأشكال والأنواع من الزجاج والخشب والأقمشة والرخام والأحجار والقاشاني والخزف والفخار المطلي والنحاس إلى غير ذلك. وكذلك في المتاحف الأخرى والمجموعات الخاصة، ولكن عدد الرنوك المصحوبة بكتابات تاريخية قليل بالنسبة إلى العدد الهائل الذي وجد منها في حفائر الفسطاط.
محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(400/85)
صفحة لامعة من تراث العرب العلمي
ثابت بن قرة
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يدهش المؤرخون من حياة بعض العلماء ومن نتاجهم المليء بالمبتكرات والنظريات والآراء، ويحيط هذه الدهشة إعجاب إذ يرون هؤلاء المنتجين يدرسون العلم للعلم وقد عكفوا عليه رغبة منهم في الاستزادة وفي كشف الحقيقة والوقوف عليها. ومما لا شك فيه أن هذا النفر كان يرى في البحث والاستقصاء والمتابعة لذة هي أسمى أنواع اللذات، ومتاعا للعقل هو أفضل أنواع المتاع، فنتج عن ذلك تقدم في فروع العلوم المختلفة أدى إلى ارتقاء المدنية وازدهارها.
ولقد كان في العرب نفر غير قليل رغبوا في العلم ودرسوه حبا في العلم وعرفوا حقيقة اللذة العقلية فراحوا يطلبونها عن طريق الاستقصاء والبحث والإخلاص للحق والحقيقة والكشف عن القوانين التي تسود الكون والأنظمة التي يسير العالم بموجبها.
ومن هؤلاء ثابت بن قرة فقد كان من الذين تعددت نواحي عبقريتهم، فنبغ في العلم والطب والرياضيات والفلك والفلسفة ووضع في هذه كلها مؤلفات جليلة، ودرس العلم للعلم، وشعر باللذة العقلية فراح يطلبها في الرياضيات والفلك فقط فيها شوطاً بعيداً وأضاف إليها ومهد إلى إيجاد أهم فرع من فروع الرياضيات - التكامل
كان ثابت يكنى بأبي الحسن، ويعجب كثيرون من هذه الكنية لأن (ثابتاً) لم يكن له ولد أسمه حسن، ولكن الثابت أنه كان له ولدان أحدهما اسمه سنان والآخر إبراهيم. وكنية (أبى الحسن) هي لسنان بن ثابت. أما سبب تكنية ثابت بأبي الحسن فلأن الخليفة المعتضد كان يكنيه بها تحببا.
ولد ثابت في حران سنة 221هـ، وتوفى في بغداد سنة 288هـ (وكان في مبدأ أمره صيرفيا بحران ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل فمهر فيها وبرع) ويقال إنه حدث بينه وبين أهل مذهبه (الصابئة) أشياء أنكروها عليه في المذهب، فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل، فخرج من حران وذهب إلى كفر توثا حيث اتفق أن التقى لمحمد بن موسى الخوارزمي ولدى رجوعه من بلاد الروم فأعجب هذا بفصاحة ثابت وذكائه فاستصحبه معه(400/87)
إلى بغداد ووصله بالخليفة المعتضد فأدخله في جملة المنجمين، ويقول إبن النديم: (. . . قيل قرأ على محمد بن موسى فتعلم في داره فوجب حقه فوصله بالمعتضد وأدخله في جملة المنجمين. . .) وعلى ذكر المعتضد نقول إنه كان يحترم العلماء وأصحاب المواهب والكفاءات ويجلبهم ويغدق عليهم العطايا، فقد روى أنه لما تقلد الخلافة أقطع ثابتا وغيره (الضياع الجليلة)، ومما يدل على تقديره لمواهب ثابت وفضله أنه بينما كان يمشي (ثابت) مع المعتضد في الفردوس وهو بستان في دار الخليفة، وقد اتكأ على يد ثابت إذ نزع الخليفة يده من يد ثابت بشدة (. . . ففزع ثابت فإن الخليفة كان مهيبا جدا، فلما نزع يده من يد ثابت قال له: يا أبا الحسن سهوت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها، وليس هكذا يجب أن يكون، فإن العلماء يعلون ولا يعلون. . .)
كان ثابت من ألمع علماء عصره ومن الذين تركوا مآثر جمة في بعض العلوم، وكان يحسن السريانية واليونانية والعبرية جيد النقل إلى العربية، ويعده سارطون من أعظم المترجمين وأعظم من عرف في مدرسة حران في العالم العربي. وقد ترجم كتباً كثيرة من علوم الأقدمين في الرياضيات والمنطق والتنجيم والطب. وثابت أصلح الترجمة العربية لمجسطي بطليموس وجعل متنها سهل التناول. ولبطليموس كتاب آخر اسمه - كتاب جغرافيا في المعمور ووصفة الأرض - نقله ثابت إلى العربية، وأصلح أيضاً كتاب الكرة والأسطوانة لأرشميدس المصري، والمقالة الأولى من كتاب نسبة الجذور. وكذلك أصلح كتاب المعطيات في الهندسة لأقليدس - وقد عربه إسحق وهو خمسة وتسعون شكلا. واختصر المجسطي اختصارا لم يوفق اختصاراً لم يوفق إليه غيره. ويقول ابن الفقطي: (. . . إنه لم يختصر المقالة الثالثة عشرة. . .) وقد قصد من هذا المختصر تعمي المجسطي وتسهيل قراءته. ولا يخفى ما أحدث تعميمه من أثر في نشر المعرفة وترغيب العلماء في الرياضيات والفلك
وفي بداية القرن الثالث للهجرة استعملت الجيوب بدل الأوتار، ومن الصعب تعيين الشخص الذي خطا هذه الخطوة، ولكن ثبت أن ثابتاً هو الذي وضع دعوى (منالاوس) في شكلها الحاضر. وفوق ذلك فقد حل بعض المعادلات التكعيبية بطرق هنسية استعان بها بعض علماء الغرب في بحوثهم الرياضية في القرن السادس عشر للميلاد ككاردان وغير(400/88)
ذلك من كبار الرياضيين، وقد لا يصدق بعض الذين يعنون بالعلوم الرياضية أن ثابتاً من الذين مهدوا لإيجاد التكامل والتفاضل ولا يخفى ما لهذا العلم من أهمية على الاختراع والاكتشاف فلولا هذا العلم ولولا التسهيلات التي أوجدها في حلول كثير من المسائل العويصة والعمليات الملتوية لما كان في الإمكان الاستفادة من بعض القوانين الطبيعية واستغلالها لخير الإنسان. جاء في كتاب تاريخ الرياضيات للعلامة سمث الأميركي ما يلي: (. . . كما هي العادة في أحوال كهذه يتعسر أن نحدد - بتأكيد - لمن يرجع الفضل في العصور الحديثة في عمل أول شيء جدير بالاعتبار في حساب التكامل والتفاضل، ولكن باستطاعتنا أن نقول إن ستيفن يستحق أن يحل محلاً هاماً من الاعتبار. أما مآثره فتظهر خصوصاً في تناول موضوع إيجاد مركز الثقل لأشكال هندسية مختلفة اهتدى بنورها عدة كتاب أتوا بعده. ويوجد آخرون حتى في القرون المتوسطة قد حلوا مسائل في إيجاد المساحات والحجوم بطرق يتبين منها تأثير نظرية إفناء الفرق اليونانية. وهذه الطرق تنم نوعاً ما على طريقة التكامل المتبعة الآن. من هؤلاء يجدر بنا أن نذكر ثابت بن قرة الذي وجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره. . .)
وأظن إن أساتذة الرياضيات يوافقونني على أن العقل الذي استطاع أن يجد حجم الجسم المتولد من دوران القطع المكافئ حول محوره لهو عقل جبار مبدع، يحق لنا أن نباهي به أمم الاختراع والاكتشاف في هذا العصر، وهو دليل ساطع على خصب العقلية العربية، وعلى أنها منتجة إلى أبعد حدود الإنتاج
ولثابت أرصاد حسان تولاها ببغداد وجمعها في كتاب بين فيه مذاهبه في سنة الشمس، وما أدركه بالرصد في مواضع أوجهها ومقدار سنيها وكمية حركاتها وصورة تعديلها. . . فقد استخرج حركة الشمس وحسب طول السنة النجمية، فكانت أكثر من الحقيقة بنصف ثانية، وحسب ميل دائرة البروج وقال: بحركتين مستقيمة ومتقهقرة لنقطتي الاعتدال
وهو أيضاً من الذين اشتغلوا في الهندسة التحليلية وقد أجاد فيها إجادة عظيمة وله فيها ابتكارات لم يسبق إليها. وقد وضع كتابا في الجبر بين فيه علاقة الجبر بالهندسة وكيفية الجمع بينهما. وله أيضاً مقالة في الأعداد المتحابة، وهو استنباط عربي يدل على قوة الابتكار التي امتاز بها ثابت. ومن هذه المقالة يتبين أن ثابتاً كان مطلعا على نظرية(400/89)
(فيثاغورس) في الأعداد، وأنه استطاع أن يجد قاعدة عامة لإيجاد الأعداد المتحابة. وقد أوضحناها في كتابنا (تراث العرب العلمي)، الذي انتهينا منه، ومنعتنا ظروف الحرب من طبعه في هذه الأوقات
وثابت أول شرقي بعد الصينين بحث في المربعات السحرية وخصائصها؛ ويقال إنه قسم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تغاير الطرق التي كانت معروفة عند اليونان
واشتهر ثابت بالطب وبمؤلفاته القيمة فيه، ولم يكن في زمنه من يماثله في هذه الصناعة. ولا أظن أني بحاجة إلى القول أني لست من فرسان هذا الميدان، لذا أترك البحث في مآثره الطبية إلى من يعنون بناحية الطب عند العرب، ولكن لا بأس من إيراد هذه القصة الآتية التي تدل على ثاقب نظر ثابت وسرعة خاطره وحدة ذكائه. جاء في كتاب (أخبار العلماء بأخبار الحكماء) ما يلي: (. . . وحكى أبو الحسن بن سنان قال: يحكى أحد أجدادي عن جدنا ثابت أنه أجتاز يوما ماضيا إلى دار الخلافة. فسمع صياحا وعويلا؛ فقال: مات القصاب الذي كان في هذا الدكان؟ فقالوا له: إي والله يا سيدنا البارجة فجأة؛ فقال: ما مات، خذوا بنا إليه. فعدل الناس معه وحملوه إلى دار القصاب، فتقدم إلى النساء بالإمساك عن اللطم والصياح، وأمرهن بأن يعملن مزورة (وهي أكلة معروفة في ذلك العصر)؛ وأومأ إلى بعض غلمانه بأن يضرب القصاب على كعبه، وجعل يده في يده في مجسه، وما زال ذلك يضرب كعبه إلى أن قال: حسبك. واستدعى قدحا وأخرج دواء ووضعه في القدح مع قليل من الماء، وفتح فم القصاب وسقاه إياه فأساغه، ووقعت الصيحة والزعقة في الدار والشارع بأن الطبيب قد أحيا الميت، فتقدم ثابت يغلق الباب، وفتح القصاب عينه وأطعمه (مزورة) وأجلسه وقعد عنده ساعة؛ فإذا بأصحاب الخليفة قد جاءوه يدعونه فخرج معهم والدنيا قد انقلبت، والعامة حوله يتعادون إلى أن دخل دار الخلافة. ولما مثل بين يدي الخليفة قال له: يا ثابت، ما هذه المسيحية التي بلغتنا عنك؟ قال: يا مولاي كنت أجتاز على هذا القصاب وألحظه يشرح الكبد ويطرح عليها الملح ويأكلها، فكنت أستقذر فعله أولا، ثم قدرت أن سكتة قلبية ستلحقه، فصرت أراقبه، وإذ علمت عاقبته انصرفت وركبت للسكتة دواء أستصحبه معي كل يوم. . . فلما اجتزت اليوم الدار وسمعت الصياح قلت: مات القصاب؟ قالوا: نعم مات فجأة البارحة. فعلمت أن السكتة قد لحقته، فدخلت إليه ولم أجد له نبضاً،(400/90)
فضربت كعبه إلى أن عادت حركة نبضه، وسقيته الدواء ففتح عينه وأطعمته (مزورة) والليلة يأكل رغيفا، وفي غد يخرج من بيته. . .)
والآن نأتي إلى مؤلفات ثابت فنقول إن المجال لا يتسع لذكر كل مؤلفاته لكثرتها. ويمكن لمن يرغب في الاطلاع عليها أن يرجع إلى كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة حيث يتجلى له فضل ثابت على العلم وأثره الكبير في تقدمه. لقد ألف كتبا عديدة ورسائل كثيرة في الطب والرياضيات والفلك نأتي على بعضها:
كتاب في العمل بالكرة، كتاب في قطع الاسطوانة، كتاب في الشكل الملقب بالقطاع. كتاب في المخروط المكافئ. كتاب في مساحة الأشكال وسائر البسط والأشكال المجسمة. كتاب في قطوع الاسطوانة وبسيطها. كتاب في أن الخطين المستقيمين إذا خرجا على أقل من زاويتين قائمتين التقيا في جهة خروجهما. كتاب في المسائل الهندسية. كتاب في المربع وقطره. كتاب في الأعداد المتحابة. كتاب في إبطاء الحركة في فلك البروج. كتاب في أشكال إقليدس. كتاب في النسبة المؤلفة. مقالة في حساب خسوف القمر والشمس. كتاب في صفة استواء الوزن واختلافه وشرائط ذلك. كتاب في مساحة الأشكال المتكافئة. كتاب في عمل شكل مجسم ذي أربع وعشرين قاعدة تحيط به كرة معلومة. كتاب في إيضاح الوجه الذي ذكر بطليموس به استخراج من تقدمه مسيرات القمر وهي المستوية. كتاب في الهيئة. كتاب في تركيب الأخلاق. كتاب في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية. رسالة في عدد الوفق. كتاب الفروضات، وهو ستة وثلاثون شكلا. . . وترجم ثابت أيضاً بعضا من كتاب المخروطات في أحوال الخطوط المنحنية. ويقول صاحب كشف الظنون: (وهو (أي الكتاب المذكور) سبع مقالات لأبولونيوس النجار الحكيم الرياضي؛ ولما أخرجت الكتب من الروم إلى المأمون أخرج منه الجزء الأول فوجده يشتمل على سبع مقالات. ولما ترجم دلت مقدمته على أنه ثماني مقالات، وأن الثامنة تشتمل على معاني المقالات السبع وزيادة، واشترط فيها شرطا مفيدة، فمن عصره إلى يومنا هذا يبحث أهل الفن عن هذه المقالة فلا يطلعون لها على خبر. لأنها كانت في ذخائر المأمون لعزتها عند ملوك يونان. وقال أبو موسى شاكر: الموجود من هذا الكتاب سبع مقالات وبعض الثامنة وهو أربعة أشكال، وترجم الأربع الأول منه أحمد بن موسى الحمصي، والثلاث الأواخر ثابت بن قرة. . .) -(400/91)
كتاب المختصر في علم الهندسة. ولمنالاوس كتاب في أصول الهندسة عمله ثابت في ثلاث مقالات. كتاب في أشكال طرق الخطوط التي يمر عليها ظل المقياس. . . الخ
ولثابت عدا هذه كتب أخرى في الطب منها: كتاب في مسائلة الطبيب العليل. كتاب في صفة كون الجنين. كتاب في المولودين لسبعة أشهر. كتاب في أوجاع الكلى والمثاني. كتاب في أجناس ما توزن به الأدوية
أما مؤلفاته في الموضوعات الأخرى فهي كثيرة منها: كتاب في حل رموز كتاب السياسة لأفلاطون - مختصر في الأصول من علم الأخلاق - رسالة في اعتقاد الصابئين - رسالة في الطهارة والنجاسة - رسالة في الرسوم والفروض والعبادات - رسالة في ترتيب القراءة في الصلوات، وصلوات الابتهال إلى الله عز وجل كتاب في الموسيقى ويشتمل على خمسة عشر فصلاً
ومن المؤسف حقا إلا يصادف المرء إلا القليل من هذه الآثار التي تركها ثابت إذ القسم الأعظم منها ضاع في أثناء الحروب والانقلابات، ومنها ما هو غاية في الخطورة من الوجهتين الرياضية والطبية ولو عثرنا على بعض كتبه لانجلت النقط الغامضة في تاريخ الرياضيات فلقد ظهر من رسالة في النسبة المؤلفة أنه استعمل (الجيب) وأيضاً الخاصة الموجودة في المثلثات والمسماة (شكل المغنى) أو دعوى الجيوب، وكذلك لولا بعض القطع التي وصلت إلينا من كتاب له في الجبر لما عرفنا أنه بحث في المعادلات التكعيبية
هذا مجمل عن مآثر ثابت في الفلك والرياضيات يتبين منها الأثر الكبير الذي خلفه في ميدان العلم كما تتجلى العبقرية المنتجة التي تقدمت بكثير من العلوم خطوات واسعة، وقد اعترف معاصروه وبفضله وقدروا نبوغه ونتاجه فسجل بعضهم ذلك في قصائد رائعة قيلت في رثائه
جاء في قصيدة أبى أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم النديم ما يلي:
ألا كل شيء ما خلا الله مائت ... ومن يغترب يُؤمل ومن مات فائت
أرى من مضى عنا وخيم عندنا ... كسَفر ثوى أرضاً فسارٍ وبائت
نعينا العلوم الفلسفيات كلها ... خبا نورها إذ قيل قد مات ثابت
وأصبح أهلوها حيارى لفقده ... وزال به ركن من العلم ثابت(400/92)
ولما أتاه الموت لم يغنه طبه ... ولا ناطق مما حواه وصامت
فلو أنه يسطاع للموت مدفع لدافعه عنا حماة مصالت
ثفات من الأخوان يصفون وده ... وليس بما يقضي به الله لافت
أبا حسن لا تبعدون وكلنا ... لهلكك مفجوع له الحزن كابت
إلى أن يقول:
وكم من محب قد أفدت وإنه ... لغيرك ممن رام شأوك هافت
عجبت لأرض غيبتك ولم يكن ... ليثبت فيها ملك الدهر ثابت
تهذبت حى لم يكن لك مبغض ... ولا لك لما اغتالك الموت شامت
وبرزت حتى لم يكن لط دافع ... عن الفضل إلاّ كاذب القول باهت
مضى على العلم الذي كان مقنعاً ... فلم يبق إّلا مخطئ متهافت
ولقد توارث آل قرة العلم عن ثابت، فكان منهم ابنه أبو سعيد ابن سنان، وكان منهم أحفاده: إبراهيم ثابت وأبو الحسن ثابت وإسحق أبو الفرج. وهؤلاء نبغوا في الرياضيات والفلك والطب فقد كان منهم الطبيب والعالم والفيلسوف والمهندس، فأبو الحسن ابن سنان بن ثابت مثلا كان طبيبا عالما نبيلا قرأ كتب أبقراط وجالينوس، وكان فكاكا للمعاني، سلك مسلك جده في الطب والفلسفة والهندسة وجمع الصناعات الرياضية للقدماء وله تصنيف في التاريخ
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(400/93)
هو النبي المنتظر
مسرحية شعرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
تقدمة
أبطال هذه المسرحية جماعة من شعراء العصر الجاهلي، هم: زهير بن أبي سلمى، وحسان بن ثابت، وأعشى قيس، وقس بن ساعدة. قد جعلناهم في المسرحية يلتقون ويتحادثون؛ وقد لا يكونون من الناحية التاريخية الزمنية التقوا، أو جمعتهم دار واحدة، أو ضمهم مجلس يدور فيه الكلام، أو تقع فيه الأحاديث
وأولهم (زهير) مات قبل البعثة، وثانيهم (حسان) عاش في الجاهلية وعمر في الإسلام، وثالثهم أعد للنبي قصيدة يمدحه بها ويعرض إسلامه، إلا أن الله لم يشرح صدره ولم يوفق له، ورابعهم عاش في الجاهلية
ولقد حاولت أن أعرض هنا ألوانا من تفكير كل واحد منهم، وطرفا من معيشته يبدو من خلال حديثه، كما تدلنا على ذلك كتب التاريخ والأدب.
(فزهير) حكيم مفكر يؤمن بالبعث والحساب، ويعتقد بالثواب والعقاب، وقيس يشعر ويخطب، وينظر في الكون وما فيه من ليل داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج فيؤمن بأن له موجدا أوجده، ومنشئا دبره، و (حسان) يحس في قرارة نفسه بأنه سيكون له في الغد شأن، وأن الأقدار تعده ليكون لسانا صارما، ويكاد يلمح من خلال الغيب ومن وراءه السحب مكانه في الإسلام وشهادة النبي له بالجنة
أما (الأعشى) فهو عابث خليع. . . يلهو ويلعب، ويشرب ويطرب، ويرى الحياة لذة ومتاعا
المشهد
يجلس هؤلاء الشعراء الأربعة في ناحية من نواحي مكة، بعد أن جمعهم موسم الحج، وعلى (زهير) وقار وهدوء، وهو مطرق إلى الأرض، بينما يرفع (قس) بصره، ويقلب وجهه في السماء، و (الأعشى) يبدو في المجلس وقد عاودته خفة الطرب، وظهرت عليه مسحة من(400/94)
روح عابثة ماجنة، وبجانبه (حسان) تتحرك شفتاه ويكاد يبدو من بينهما لسانه كأنه يريد أن يقول شيئا. . . ثم يبدأ الحوار هكذا:
الأعشى:
حَلَفْتُ بها وبأَرْبابها ... وَبالنَّعَمِ الْحُمْرِ في بابها
وبالمْعَبِد الطُّهْر في أرضها ... وباركْن منها وَمحرَابها
وَكُومِ المطَايا وقد أقبلتْ ... تُساقُ إلى يَدِ حُجَّابها
لأَتّخذنَّ بها طَوْفَتي ... وَأَقِضي الحقوقَ لأصحابها
وَأَرْجعُ بْعدُ إلى دارتي ... وفي النَّفْس من حُبَّهَا ما بها
فأَنْشقُ من طِيب ريْحَانهَا ... وَأَشربُ من خَمْرِ أَعْنَابها
وَألوِي بهَا غُصْنَ فتَّانةٍ ... يُلَفُّ الشبابُ بأثوابها
فأُسمِعها الشِّعْر مُسْتعَذَبا ... وَتُسْمِعني لحْن أقصابها
زهير:
ظننتَ حياةَ المرءِ يا شيخُ غادةً ... تُلَفُّ وأكواباً تُراقُ وتُسْكَبُ
دَع القَصَبات اليومَ واسمع لحكمةٍ ... يؤلفِّها شِعْراً حكيم مجرِّب
أَمَالك في الشِّعر المهذّبِ غايةٌ ... ومالك في صدق التجارب مَطلَب
وَحَتَّامَ تلهو والزمانُ كما ترى ... يجيءُ بأَحْداث جِسام ويذهب
عجبتُ لمن يَقضِي الحياةَ مُلاعباً ... وأيامُهُ من جِدهَّا ليس تلعب!
الأعشى
ما العيشُ إلاّ صَباباتٌ موزْعَةٌ ... وَمُتعةٌ وَلذَاذاتٌ وأوْطَارُ
كم مجلسٍ كان لي فيه مُعَابثَةٌ ... وأرْبُعٌ كان لي فيها أسمَارُ
تَظَلَّ فيها العَذارَى يَرْتمين على ... بُسْطٍ وشَاهدُنَا جلُّ وأزهارُ
وكم وقفتُ عَلَى الأطلالِ أسألهُا
قس: وهل تجيبُك في الأطلال أَحْجَارُ؟
الأعشى:
بالله هلْ نَفَعْتكَ اليومَ فلسفةٌ ... وحكمةٌ نَظَمَتْها منك أشعارُ؟(400/95)
وهلْ تجاريُبك الغرّاءُ نَافعةٌ ... إذا نأَتْ بكَ بعد الموْتَةِ الدارُ
وهل أَتَتْنَا من الماضين تَذْكِرةٌ ... أو طالعَتْنَا من الفِانين أخبارُ
قيس:
عَجِبْتُ لأَعشى قَيْس وَهَو يداورُ ... ويُمْعنُ في أهوائه ويُكابر
فما صَرَفَتْهُ عن هَواهُ شريعةٌ ... ولا ردَّه عن لهوهِ اليومَ زاجرُ
تجَاذِبُه تلكَ القِيانُ فؤادَهُ ... وَتَفْتِنَهُ تِلك المها وَالجآذِر
فهلْ فَتنَتْهُ في السماء نجومُها ... وَهُنَّ بآفاق السماءِ زَوَاهر؟
وهل ليلُها الداجي يُفتِّقُ ذِهنَه ... وهل صُبحُها اللمَّاحُ والضوء باهر
وهل فَتَنتْه الريحُ والريحَ عاصِفُ ... وَأَثَّر فيه البحرُ والبحر هادِر
بَدائِعُ شادَتها يَدُ القادرِ الذي ... تَدين لهُ الدنيا وَتَعْنو الجبابر.
هُوَ الموتُ ما في الموتِ شكٌّ على امرئ ... وللهِ منْ بعد الحياةِ المصائرُ
وَما نحن إِلا الواردون على الوَّرى ... وَلَوْ كَثُرَتْ بالواردين المصادِر
زهير:
يا قُسُّ إِنك قد رُزقتَ لقانةً ... ووُهِبْتَ من فَصْل الخطاب نصيبَا
وأرى عليك من الحكيم مَلاحظاً ... تَرْمى الغُيوبَ فلا يَعُدْنَ غيوبا
عَينُ البصيرة فيك وَهْيَ قويةٌ ... نَظَرَتْ تَرُودُ العَاَلمَ المحجوبا
أنَا ما عرفتُك قبلَ ذلك شاعرا ... لكِن عرفتُك في النَّدِىَّ خطيبا
سبحان من لَقَّاكَ من آياته ... وَحَباك من صدق اليقين ضُروبا
قيس:
إني وجدتُ في السماءِ خبرَا ... كما وجدتُ في دُجاها عِبَرا
أَمْعَنْتُ فيهَا وأَطَلْتُ النَّظرا ... وَرُحْتَ أَطوي في مَدَاها الفِكَرا
أَسْتَقِرئُّ الشمس بها والقَمرا ... وأَقْطَعُ الفِكْرَ إِليها سَفَرا
كأنَّ لي عِنْد السماء وَطَرا ... فأَلهْمتْني من ذَراها سُوَرَا
رَأَيْتُ فيها الخالِقَ المصوَّرا ... وقد تجلَّى وجهُهُ وأَسْفَرا
يَا لَيْتَ مَنْ أَضاَء لي ونوَّرا ... أضاَء للأَعشى الظلامَ الأكدرا(400/96)
وفي هذه اللحظة تمر على الشعراء الأربعة فتاة في برد يماني مخطط. وقد اعتدل قوامها واسرعت خطواتها. . . فتغض عنها عيون ثلاثة من الشعراء. . . أما الأعشى فيتابعها بنظراته الطامعة المتلهفة. . . ولا ينصرف عن النظر اليها حتى تواريها بعض الجدران فيوجه الكلام إلى (قيس):
الأعشى:
يَا نَاظِراً في السماء اليومَ نَظرَته ... هلاّ أطلت لتلكَ الْقَيْنَةِ النَّظَرا
مَرَّتْ بنا كَوميض البرقِ مُعْجلةً ... كأنها الحُلْمُ بعد النَّوْم قد عَبَرا
تفوح أرْدانُها مِسكاً وأَصْوِرَةً ... وَينفَح الْغُصْنُ منها زَنبقاً عَطِرا
ما البدرُ أَجْمَل إِشراقاً ولألأةً ... منها إِذا مَا بدا في الأَفْقِِ أو ظهرا
انظرْ إلى الشمس في أحضانِ غانيةٍ ... ونَاج بينِ ذِراعيْ حِبِّكَ القمرا
لا تقطع الْعُمْر تفكيراً وفلسفةً ... تجني بها الشّوكَ لا تجني بها الزهَرَا
زهير:
صاحبُنا الأعشْى نَطَقْ ... بِسِقْهِ وما صَدَقْ
ما الشِّعرُ يا أَعْشى جنُوُ ... نٌ ومُجُونٌ يُسْتَبَقْ
الشعرُ حِكمة تُصا ... دُ من جوانب الأُفُقْ
في الأرضِ! في السماء! في ... ضَوْءِ الصَّباحِ! في الْغَسَقْ
حسان:
صَدَقتَ يا زُهَيرُ فالشِّ ... عْرُ هِدَايَةُ الْبَشَرْ
مَنْ لي بميْدانٍ أَصُو ... لُ وأَجولُ بالْغُرَرْ
أَنُشرُ عَضْباً قاطِعاً ... كَأَنْهُ وَخْزُ الإبَرْ. . .
وهنا يمسك حسان لسانه ويضرب به أرنبة أنفه في زهو وخيلاء. . . من زهو الجاهلية! ثم يتابع قائلا:
لسانُ حَسَّانَ الذي ... يَفْرى به صَلْدَ الَحجَرْ
يَقذفُ بالحقِّ عَلَىال ... باطل مَهْزومَ الزُّمَرْ
إنيّ أُحس أنَّ لِي ... غداً مِكاناً يُدَّخَرْ(400/97)
وأنني يَكونُ لِي ... فيه المقَامُ والخَطَرْ!
الأعشى:
لعلّها أضغّاثُ أَحْلاَ ... مٍ فَدَعْ عنك الهذَرْ
فأَيّ شأنٍ تَرْتجي؟ ... وأيُّ أمْرٍ تَنْتَظِرْ؟
حسان:
لعَلَّ هَادياً بدَا ... لعلَّ مُصْلحاً ظهرْ
فَفي بطاحِ مِكةٍ ... شواهدٌ مِن الخَبرْ
زهير:
حَسَّانُ! أنتَ مُلهمٌ ... وأنتَ صَادِقُ النَّظِرْ
بَشَّرَ عيسى بِنَبِيٍّ ... مَنْ عَصَاه قد كَفَرْ
يَا ليتني يَطُولُ بي ... إلى لِقائهِ العُمُرْ!
حسان:
إِني أُحِسُّ أنني ... مُدْرِكهُ على الكِبَرْ
إِنَّ دَليلي صادقٌ ... ما خانني ولا غَدَرْ
زهير:
والحكماءُ عِنْدَهم ... على ظهوره أَثَرْ
تَرَامَتِ البُشرَى به ... عند النَّصارَى في السُّوَرْ
حسان:
هُوَ الرَّسولُ المرْتَجَى ... هٌوَ النَّبيُّ المُنْتَظَرْ
وهنا يخفض قس طرفه من السماء قائلا:
هو النبي المنتظر. . .
محمد عبد الغني حسن(400/98)
يبغي رباً
للأديب لبيب السعيد
كان كغيره في القبيل يعكف على (نهم): يرجو رحمته ويخشى عذابه، ويتقرب إليه زلفى. . . وكان على سنة آله يسعى إلى معبوده بالقربان ويؤدي إليه بعض حقه، يدرأ بها غضبه، ويبتغي بها مرضاته!
كان في هذا على آثار آبائه مقتديا، ولكن شيئا من القلق كان يغمز على قلبه، ولكن جمرات من الشك كانت تلسع ضميره، ولكن أقباساً كانت تبدو لعقله حيناً بعد حين فتشعره أنه يخبط في ظلمات. . .
أهو الهدى يبدو له، أم هو الضلال توسوس به نفسه؟
وصبر أو تصبر. . .
وأتى يوماً إلى (نهم) يصب له لبناً، وإن فيه لإيماناً يمتزج بالشك، ونوراً وظلمة يتصارعان. . . على أنه قدم قربته المتواضعة خاشعاً، ثم أنصرف. . .
كانت نفسه تبتغي طمأنينة وهداية، فإما أن تعالج إيمانها بنهم، وإما أن تطرح هذا الإيمان طرحاً، لتؤمن إيماناً حقاً بإله لا ترتاب في أنه حق. . .
وحانت منه التفاتة عارضة لمعبوده، فما كان أبلغ دهشه! لقد رأى - ويا عجباً - كلباً يشرب اللبن المقدس، والمعبود مغلوب على أمره: أصم. . . أبكم. . . أعمى. . .
وتريث قليلا. . . فرأى الكلب وقد فرغ من اختلاس قربة المعبود العاجز يرفع رجله فيبول عليه!
أذلك مبلغ (نهم) من الحول والقدرة والعز؟ أهذه جلالته وذاك سلطانه:
ألا يا نهم إني قد بدا لي ... مدى شرف ببعد منك قربا
رأيت الكلب سامك حظ عسف ... فلم يمنع قفاك اليوم كلبنا
لقد تمرد فؤاده على الأيمان بالتمثال المهين، وقد بدا له ما كان يخوض هو وقومه من ضلال. . .
وسمعته أمه يسخر بإلهها وإله ذويها فهالها الأمر وأقبلت عليه غضبى تنبهه إلى فداحة جرمه وضلالة حكمه وهول زعمه مشفقة عليه من عذاب (نهم)!(400/99)
بيد أن إنكارها ما لبث أن استحال إقراراً، وإخلاصها لنهم ما لبث أن عاد ازوراراً، ذلك أنها سمعت حكاية الإله التعس، والحق أبلج لا يستعصي على البصائر إدراكه، مادام القلب سليما والنية الخالصة
وأنشأت تقول:
فديتك فابغنا ربَّاً كريما ... جواداً في الفضائل يا بن وهب
فما من سامه كلب حقير ... فلم تمنع يداه لنا بربَّ
فما عبد الحجارة غير غاو ... ركيك العقل ليس بأهل لبَ
وظل النجل المشوق إلى الحق يتحرى ما تريد الأم المشوقة إلى الحق. . . يتحرى ربا كريما جواداً في الفضائل. . .
وصرم نهماً، ولبث يصلي حيث يستريح جنانه، وحيث توجهه القوة العظيمة التي بيدها مقاليد كل شيء. . .
الكون يريد الله به الخير والرحمة؛ والقلوب التي عذبها القلق وأضنتها الحيرة يريد الله لها السكينة والاستقرار والمعرفة، والدجنة الغالبة يريدها الله على أن تنقشع، والنور الذي أكن الله للمهديين من عباده آن انبثاقه. . . فالإنسان الكريم الذي اصطفاه الله لهذا وبلغ أبا ذر مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فخفقت الأماني في صدره، وود لو صح الأمل، وقال لأخيه: (اركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني.)
وتلبث أبو ذر يرقب أخيه بصبر فارغ، وعاد أخوه يقول: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً ما هو بالشعر)
لم يبل هذا القول من أبي ذر أُواما، فهم يتزود لرحلة يقوم بها هو نفسه، وحمل شنة له فيها ماء، حتى قدم مكة بلد الرجل الذي يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلاماً تذهب فيه العقول مذاهب. . . وأتى المسجد يلتمس هذا الرجل، ولكنه لم يكن يعرفه، وقد كره أن يسأل عنه. . .
وفي اليوم الثالث لمقدمه أقبل عليه علي بن أبي طالب، وقد أدرك أنه غريب، فقال: (ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟) قال أبو ذر: (إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت) فلما أخذ(400/100)
موثقه، أخبره بطلبته
إذن لقد هدى الجد الموفق أبا ذر إلى أحد أصفياء الرسول السابقين إلى الانتهال من معينه، الراغبين في نشر دينه
ولكن الظلم يومئذ كان للمؤمنين بالمرصاد، وكانت متابعة محمد يومئذ تكلف فاعلها ما لا صبر معه إلا أن تكون الحسنى قد سبقت له من الله هذا، وقد كان من دون لقاء الرسول أذى كثير
على أن عليا ذلل الصعب، فبلغ القريب غايته، وحظي بلقاء الرسول، وسمع الحكمة منه وفصل الخطاب
ووضحت المحجة لأبى ذر، واستضاء الحق أمامه، كأنه النهار إذا تجلى، وعرف الرب الذي طالما حن إلى معرفته. . . فأسلم مكانه ليكون من السعداء بالكرامة قبل أن تكون كرامة، وبالهداية قبل أن تكون هداية، وليكون من المؤمنين القليل قبل أن يكون مؤمنون كثير!
وقال له الرسول رءوفا به رحيما: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) ولكن أبا ذر كان من إيمانه كالنهر الطافح الفياض لا بد أن يهدر بما فيه وبتدفق على ما يلاقيه، فهو يجيب الرسول في لغة الواثق بربه، المعتز بعقيدته، المتفاني في حبها والدعوة إليها (والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم)
ألا فليصرخ أبو ذر بها، فما أعذب وما أحلى!! وما الظلم، وما البطش، وما الناس، وما الدنيا تلقاء إيمان أقمر في الصدر فأضاء جنباته؟ ما الآلام توجع الضعيف، وما الإهانة تلحق الأبي، وما الموت نفسه يلحق بالحي ما دام يحرز إيماناً بنيله رضوان الله وإعزازه، وبنيله الآخرة التي هي الحيوان؟!
أتحسبها كلمة كان أبو ذر قائلها طواعية لعاطفة ملتهبة تنثني بعد حين هامدة؟ كلا! لقد خرج حتى أتى المسجد - وأهل المسجد يومئذ هم ما هم كراهية مجنونة لمحمد وأتباعه، ورغبة متسعرة في حسم شأفتهم جميعا - خرج حتى أتاهم فصاح بها ما وسعه الصياح، صاح بالشهادة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله!
وكان ما كان مرتقبا. كان أن ضربوه حتى أضجعوه، ولم ينقذه منهم إلا العباس الذي أكب(400/101)
عليه منذراً إياهم انتقام غفار الضاربة في طريق تجارتهم إلى الشام
ولكن أتحسب ثانية أن ذلك كان ليصد أبا ذر عن العودة إلى الجهر بشعار الإسلام الذي تشربه قلبه؟ أتحسب خشية العدو المتجبر دلفت إلى قلبه الكبير فمنعته الهتاف بكلمة الأيمان؟ أتحسب ضعفه وكونه وقتئذ خامس خمسة هم كل مسلمي الأرض. . .
أتحسب ذاك ليوهن منه ويقهره على كتمان قولة الحق؟ هيهات! فلقد عاد من الغد لمثل ما كان أمس، وقد عادوا فضربوه، وثاروا إليه، لولا أن عاد العباس فأكب عليه. . .
وقدم أبو ذر على أخيه فأخبره بإسلامه فأسلم؛ وانطلقا إلى أمهما وقد وجدا مبتغاها. . . وجدا (الرب الكريم الجواد في الفضائل)، فلم يكن إلا أن تؤمن! ودخلت بعدهم (غفار) جلها في دين الله، فكانت من كتائبه المجاهدة، وكانت أهلاً لقول الرسول الكريم فيها: (غفار غفر الله لها!)
(المنصورة)
لبيب السعيد(400/102)
العدد 401 - بتاريخ: 10 - 03 - 1941(/)
الفكر و (السلطة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءتني هذه الرسالة من الأديب صاحب الإمضاء أجتزئ منها بما يأتي للتعقيب عليه. قال حضرته:
(. . . ما قصدت بهذه الرسالة إلا إلى استجلاء نقطة دقيقة في حياة الإنسان المفكر. وهي الصلة في شخص الكاتب بين العقل الكبير مصدر الآراء النافعة التي يرسمها القلم البليغ وبين الطموح إلى السلطة التي هي وسيلة تنفيذ تلك الآراء الداعية إلى الهداية والإصلاح. ولا أعرف مدى طموحك وما تريد. غير أني أعلم أنك تحمل عقلاً كبيراً وشخصية قوية، ومن اجتمعت له الشخصية المؤثرة والعقل النفاذ، لابد أن يكون عنصر حب السلطة والقيادة من أقوى عناصر طبعه. . . لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب، ثم بلغت مرتبة نائب، فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!
(قد تقول إنك لم تسع إلى منصب القيادة الإدارية مكتفياً بالقيادة الفكرية والأدبية، وقد تقول إن الرجل ذا الفكر الحر لا يمكن أن يطمع في السيطرة والسيادة؛ ولكن هذه بالذات هي النقطة التي أريد أن أبحثها معك. فهل يستطيع الكاتب النابغة أن يعمل كما يكتب، أم إن مهنة الكتابة والأدب تقتل فيه القدرة على العمل والتنفيذ؟ يبدو لي أن الكتابة تقضي تدريجياً على قوة البناء والتنفيذ في نفس الرجل، وتنمي بدلاً منها قوة سلبية - إن جاز التعبير - حتى إذا اختمر في رأسه مشروع أو فكرة عجز عن إبرازه إلا على الورق. وقد يعزي الكاتب نفسه بأنه يعمل عملاً إيجابياً من حيث تنوير عقول الغير، ولكن هذه غير العمل المباشر الذي يسعد المرء به عند تطبيق فكرة أو تنفيذ مشروع
(وقد كان ديزرائيلي كما تعلم أديباً وكاتباً، وكان يقرض الشعر قبل أن يخوض ميدان السياسة؛ ولكنه كان يقول: إن الشعر هو صمام الأمان لنفسي، غير أني أريد أن أفعل ما أقول. وكان ديزرائيلي من أقدر وأبرع رجال الحكم الذين عرفتهم إنجلترا في تاريخها الطويل
(إني أعتقد أن مصر بحاجة إلى رئيس حكومة من هذا النوع الرجال من الأدباء بطبعهم ذوي العقول النابغة. فما رأيك؟ أرجو أن أسمع رأيك، ولو كبدك ذلك كتابة رسالة إليَّ، أو(401/1)
مقال (للرسالة) فإني من قرائها المدمنين، ولك مني ألف تحية. . .
(الإسكندرية)
المخلص
الياس إبراهيم بدوي
والمسوغ الوحيد عندي للتعقيب على هذه الرسالة هو أن أتخذ منها موضوعاً لدراسة نفسية، وإن تناول هذا الموضوع شخصي فيما يتناوله من أطرافه وشعابه
فمكان الخطأ في رأي الكاتب - على ما أرى هو اعتقاده أن (السلطة) نهاية كل قدرة، وأن السلطة والقدرة شيئان من معدن واحد، أو شيئان لا ينفصلان
ولبيان هذا الخطأ نسأل: لماذا يطلب الإنسان السلطة؟ وجواب هذا السؤال أنه يطلب السلطة لسبب من هذه الأسباب الأربعة: أولها أن تسخير الناس طبيعة فيه كالطبيعة التي تشاهد في رأس القطيع بين الحيوانات الاجتماعية، وفي هذه الحالة تكون السلطة عنده بمثابة الوظيفة الحيوية أو التركيب البدني الذي لا علاقة له بقوى الفكر والروح. إنسان يسود لأنه لابد أن يسود، كالقوة المادية الدافعة التي لابد أن تدفع غيرها، فلا شأن لها بالتفكير ولا بالضمير
وثاني هذه الأسباب أن الإنسان يطلب السلطة ليشعر بالامتياز، وفي هذه الحالة يكون هذا الإنسان ناقصاً بين النقص إن لم يشعر بالامتياز من غير سلطة، ويكون ناقصاً بيّن النقص إن كان سبيله الوحيد إلى الشعور بامتيازه أن يرى إنساناً يقصده في حاجة، ويرى إنساناً آخر يقف مكتوفاً بين يديه، ويرى إنساناً ثالثاً يطيعه وإنساناً رابعاً يخشاه. فإن امتياز الفكر والروح يتحقق لصاحبه ولو ير بعينيه مظهراً من هذه المظاهر، كما أن هذه المظاهر تسقط عن صاحبها متى زالت عنه السلطة وزال عنه الأمل في العودة إليها، فلا يقصده بالحاجة من كان يقصده بها، ولا يقف مكتوفاً بين يديه من كان يقف بين يديه هذه الوقفة، ولا يطيعه أو يخشاه من كان يريه الطاعة والخشية، ولا يحس يومئذ شيئاً من الامتياز الذي أضافته السلطة إليه ثم زال عنه بزواله
أما صاحب الامتياز الحق فهو يشعر به ولو لم يشعر به غيره، كصاحب الجسم القوي يأكل(401/2)
أكل ذوي المعدات القوية ويعدو عدو أصحاب السيقان القوية، ويقاوم عوارض الجو كما يقاومها أصحاب البنية القوية، ولو لم يعلم أحد أنه بهذه المنزلة من قوة البدن. بل إنه ليأكل ذلك الأكل ويعدو ذلك العدو ويقاوم تلك المقاومة ولو اعتقد أناس أنه ضعيف ممعود
وإن صاحب الامتياز الحق ليشعر بامتيازه ويزداد شعوراً به حين ينظر إلى الممتازين الذين يقوم امتيازهم على مظاهر الخشية والرجاء والركوع والانحناء، فلا يحب أن يبادلهم ما هم فيه، ولا يهون عليه أن يفقد من حريته ورقته ومتعة عقله ما يفقده هؤلاء للوصول إلى (السلطة) التي تناط بها تلك المظاهر
أيظن الأديب كاتب الرسالة أن الدينار الذهب يتضاءل بين يدي الورقة الزائفة ذات العشرة الدنانير؟ أيظن أن رواج هذه الورقة التي لا تساوي نصف درهم يغض من قدر المعدن الأصيل الذي لا زيف فيه؟ إن الطريق السهل لأحرى بالاتباع، وأسهل الطريقين هنا هو احتقار الذين تروج بينهم الورقة الزائفة ويعمون عن الذهب الصحيح. فذلك أسهل من الإعجاب بالورقة الزائفة، ومن مجاراة الغافلين في غفلتهم والجاهلين في جهالتهم، ومن نسيان القيم الصحيحة ذهاباً مع قيم الطلاء الذي يتراءى على وجوه الأشياء، ومن فقدان الوقت والأمانة والمتعة الفكرية والنفسية التي لابد من فقدها في كل سعي إلى لبانة من هذا القبيل
والسبب الثالث الذي يحفز الإنسان إلى طلب السلطة هو اتقاء شرور السلطة والأمان من سيطرة الغالبين، فهو يتقلد سلاحهم ليدفعهم به لا لأنه يحب ذلك السلاح وينزع إلى الضرب به لغير اضطرار
والسبب الرابع الذي تطلب السلطة من أجله هو الانقلاب الاجتماعي الذي لا يتم بغير قوة مشروعة أو غير مشروعة؛ فيطلبها صاحب المذهب الاجتماعي ليستخدم سلطان الحكومة في إصلاح ما يحتاج عنده إلى الإصلاح
تلك هي الأسباب الأربعة التي تغري المرء بطلب السلطة فيما أراه
فإذا شاء بعض القراء أن نمد المشرحة قليلاً لنضع عليها حالة نفسية محققة في مواجهة كل سبب من هذه الأسباب فإليهم خلاصة هذه الحالة النفسية مع الإيجاز
فالرجل الذي يطلب السلطة لأنها وظيفة حيوية أو تركيب بدني هو رجل محسود في رأي(401/3)
كثير من الناس، ولكني أنا لا أحسده ولا أشعر بإكباره، لأن قوته من قبيل القوى التي تحسب بعدّاد، وتقاس بمقاييس العضل والأوصال، وتخرج من نطاق الفكر والضمير
والرجل الذي يطلب السلطة ليشعر بامتيازه حين يخشاه من يخشى ويطيعه من يطيع، هو كذلك رجل محسود في رأي كثير من الناس، ولكني أنا أرثي له واستصغر همومه، وأرى أنه يشغل عقله ونفسه بالحواشي والظواهر التي تزول بزوال السلطة وتنتقل إلى غيره بانتقالها، فليست هي من أصالة الخلق ولا من حقائق الطباعة والملكات
والرجل الذي يطلب السلطة ليتقي بها السلطة هو رجل معقول مفهوم، ولكني أراه مسرفاً في طلبه إذا ترك ما خلق له وشغل حياته بالبحث عن سلاح قد يحتاج إليه وقد يستغني عنه كل الاستغناء، لأن طلب السلطة شغل شاغل لا يجتمع مع التفرغ للمتعة الفكرية والذوقية، وسبيلي الذي أوثره في هذا الصدد أن أرسم لحياتي الخاصة وحياتي الروحية حقوقاً لا أقبل المساس بها أقل مساس، فإن تركت لي تلك الحقوق فذاك، وإن اعتدى عليها معتد فيومئذ أرجع إلى سلاحي فلا أدعه حتى أدع ذلك المعتدي نادماً على ما جناه
أما طلب السلطة للإصلاح فله موضعان: موضع الهدم في المجتمع الذي لم يبق فيه ما يقيمه على أساس؛ ولا اختيار في هذا الموضع لأحد من الناس، لأنه إنما يفرض نفسه فرضاً على المصلحين، إما برسالة دينية أو بانقلاب يأتي في أوانه، وهو لا يأتي ولم يأت قط إلا في أعقاب الحروب والهزائم الكبار
والموضع الثاني موضع الإصلاح الحكومي وهو عمل نافع لا شك فيه، ولكنه يقتضي التفرغ له من البداية، ولا يعالج في فترة بعد فترة، ولا مناوبةً منتظمة بين الأدب والإدارة. وأكبر ما يأتي به المصلح في هذا الباب ليس بأكبر من فكرة أدبية أو ثمرة فنية يتفرغ لها الأديب جهد ما يتاح له التفرغ في بلادنا الشرقية، فإن إصلاح سنة أو سنتين لن يكون في نهايته غير إصلاح مرحلة قصيرة من مراحل الحياة البشرية في أمة واحدة، ولكن الثمرة الفنية حقيقة خالدة لذاتها ولو لم يكتب لها البقاء
وقد ذكر كاتب الرسالة اسم ديزرائيلي نموذجاً للأدباء والكتاب الذين يريدون أن يعملوا ما يقولون؛ فهل لكاتب الرسالة أن يذكر لنا ما هي الفكرة الأدبية التي عملها ديزرائيلي في أيام حكمه؟ وهل له أن يذكر لنا مثلاً آخر من الأدباء والكتاب الذين يعملون أدبهم في مناصب(401/4)
الحكومة؟
فما طلب ديزرائيلي الحكم ليعمل فيه ما يفكر فيه الأديب أو الشاعر أو القاص أو الفنان، ولكنه طلبه ليدفع به الهوان الذي كان يلقاه بين البيئات الأوربية، وليكره من يزدرونه على أن يحسبوا حسابه ويرجعوا إليه. ولو ازدراني أحد لرجعت إلى نفسي أسألها: لماذا يزدريني هذا الأحد؟ فإن كان لسبب حق فالحكم لا يدفعه عني، وإن كان لسبب من هذه الأسباب العارضة، فأنا إذن أولى بأن أزدري ذلك الأحد، وهو على خطأ وأنا على صواب
وقال كاتب الرسالة: (لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب ثم بلغت مرتبة نائب. فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!)
فالذي يقرأ هذا الكلام يخيل إليه أن كرسي النيابة نهاية طريق لي أو مرحلة على الأقل في تلك الطريق
على أن الحقيقة فيما أرى أن كرسي النيابة تعريجه في منعطف الطريق الذي أسير فيه، وأعني به طريق الأدب والكتابة. وكل ما ألتزم به على هذا الكرسي أن أخدم الدائرة التي أنوب عنها، وقد فعلت؛ ولي أن أقول إن نائباً آخر لم يفعل لدائرته الانتخابية خيراً مما أفعل. وإلى جانب ذلك أؤدي عملي في النيابة على الوجه الذي أراه، ولا أستبيح لنفسي أن أتخلف عن جلسات المجلس إلا لعذر قاهر سواء كان لي كلام في الجلسة أو لم يكن لي فيها كلام
تلك هي الصورة الصحيحة لمكان النيابة من حياتي العامة، وسأعود من تلك التعريجة راضياً مغتبطاً في اليوم الذي تأذن لي فيه حالة الأدب بيننا نحن الشرقيين أن أفرغ للكتابة و (العمل) الأدبي الذي أرتضيه
وصفوة القول أنني أعز الأدب هذا الإعزاز لأنه منحة لا يعطينها إنسان، فلن أعلق حياتي ولا قيمتي بمنحة يعطينها أحد من الناس ولو كانت الشهرة الأدبية التي قد يخيل إلى قوم أنها بغية المتمني وغاية الغايات، فإن جاءت الشهرة غير ممنونة ولا مبخوسة فقد سعت إلي وما سعيت أليها، وإن أبت أن تجئ على ما أختار فلست أخطو إليها خطوة. . . فكيف بالوظيفة والمنصب وما إلى هذه الأشياء؟
عباس محمود العقاد(401/5)
ليحكم رجال الأدب العربي
السباعي بيومي
يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
ما الذي يوجب أن تشعر يا سيد سباعي بمثل لسع العقرب كلما لوّحتُ لك باسم الشيخ المرصفي؟
ما الموجب لهذا الفزع وقد مات المرصفي ومات ثم مات؟
السبب أوضح من أن يحتاج إلى من ينبّه إليه القراء، وهو عرفانك بأني سأقهرك على الاعتراف بأن كتابك (تهذيب الكامل) لن يظهر سليماً من الأغلاط يوم تطبعه للمرة الثانية إلا وأنت مدينٌ أثقل الديَّن لكتاب (رغبة الأمل في شرح الكامل) وهو الكتاب الذي دعوتَ الناس إلى الصدوف عنه ليخفي عليهم فضل مؤلفه عليك
وشبح الشيخ المرصفي سيلاحقك في يقظتك ومنامك، لأن كتابك لن يطبع بعد اليوم قبل أن تشهد كل صفحة من صفحاته بأنك استعنت بتحقيقات الشيخ المرصفي، وقبل أن تعترف علانيةً بأنك خضعت لجبروت الحق، بعد أن طال جدالك فيه
ولو كان الله منحك نعمة الذوق لقدرت قيمة التعصب لرجل ميت لا أنصار له ولا أشياع، ولا ينتظر أن يكون للتعصب له بارقة من بوارق الثواب، وقد عاش ما عاش وهو معدوم السناد من العصبيات، فما استهانتك بالوفاء وهو معنى لا يقيم له الميزان غير أحرار الرجال
ثم ماذا؟ ثم وجدتَ الفرصة للتخلص من تهمة السرقة من كتاب النثر الفني فيما يتصل بنشأة فن المقامات في الأدب العربي، لأن كتاب النثر الفني ظهر في سنة 1934 وأنت فيما تزعم أعلنت هذا الرأي في سنة 1933 فهل تصدق في سريرة نفسك أنك نجوت من صولة الحق؟
وهل تضن أن الأسانيد المدونة في مقالاتي ومؤلفاتي غير قديرة على إلقاء تهمة السرقة(401/7)
فوق منكبيك بصورة لا تُبقي لك فرصة من فرص المكابرة والروغان؟
إليك أسوق البراهين التي تقطع بأن الشيخ الإسكندري نقل عني، والتي تجزم بأنك سرقت من كتابي
والحمد لله الذي أتاح هذه الفرصة، ليعرف تلاميذك بدار العلوم أنك تقدم إليهم معارف أدبية لم تشقَ في تحصيلها لحظة أو لحظتين، وإنما نهبتها في الخلفاء، ولم تكن تعلم لسوء حظك أن الحقوق تردّ إلى أصحابها، ولو بعد حين
أنت قلت في كلمتك الثانية إني التفتّ إلى نص زهر الآداب مصادفة حين قمت بتصحيحه في سنة 1925، وهذا حق، فالمصادفة هي التي هدتني إلى النص الذي يجعل بديع الزمان متأثراً بابن دريد في إنشاء المقامات، ولكن كيف رأيتُ لهذا النص قيمة تستحق التسجيل؟ إنما كان ذلك لأن الدكتور (أحمد ضيف) كان حدثنا في محاضراته بالجامعة المصرية أن فن بديع الزمان في المقامات مستوحى من الآداب الفارسية، ولولا ذلك لكان من الجائز أن يمرّ نص زهر الآداب بدون أن التفت إلى قيمته في تاريخ الفنون الأدبية
وقد حدثت الدكتور أحمد ضيف عن هذا النص فأجاب بأنه لا يزال عند رأيه الأول، ثم حدثت الدكتور طه حسين عن هذا النص فجادلني فيه وانتهينا إلى رأي سجلته فيما بعد بالتفصيل
وفي سنة 1927 شرعت في تأليف كتاب النثر الفني باللغة الفرنسية وأثبتّ فيه النص الذي اهتديتُ إلى قيمته في زهر الآداب، ومعنى ذلك أني حررت هذه المسألة قبل أن يلتفت إليها الشيخ الإسكندري في سنة 1930
ولكن كتاب النثر الفني لم يظهر في مكاتب باريس إلا في سنة 1931 فكيف يصح القول بأن الشيخ الإسكندري نقل عني؟
لم ينقل الشيخ الإسكندري في سنة 1930 عن كتاب ظهر بالفرنسية في سنة 1931 فذلك غير معقول، وإنما نقل الشيخ الإسكندري عن كتاب نشره زكي مبارك في سنة 1929 وهو الطبعة الثانية من زهر الآداب، ففي هامش الصفحة 307 قال زكي مبارك في التعليق على عبارة الحصري ما نصه بالحرف: (مؤدَّي هذا الكلام أن بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامات، وأنه حاكى ابن دريد في أحاديثه، وقد استغللتُ هذا النص في كتابي الذي وضعته(401/8)
بالفرنسية عن النثر الفني في القرن الرابع، وقد دهش المسيو (مرسيه) لهذه الفكرة وعجب كيف اتفق الناس على إن البديع هو منشئ فن المقامات، ولكني من جانب آخر أذكر أني لم أر مثل هذا الكلام في غير زهر الآداب، ولا أزال أتلمس له مصدراً آخر، ولم أعثر على شيء إلى اليوم، ويزيد في الدهشة أن صاحب زهر الآداب يروي المسألة على أنها مقبولة معروفة لم تُمسَّ بنقض ولا تكذيب، وقد نقلها عنه ياقوت في معجم الأدباء).
ذلك ما جاء في هامش الجزء الأول من كتاب زهر الآداب وقد ظهرتْ طبعتُه الثانية سنة 1929 وكان الشيخ الإسكندري يقتني جميع الطبعات كما حدثني غير مرة، رحمه الله
ومع ذلك لم تقف المسألة عند كلام أحدِّث به أساتذة الأدب العربي ثم أثبته في هامش كتاب يظهر في سنة 1929 فقد نشرتُ مقالاً رنّاناً في مجلة المقتطف (عدد أبريل سنة 1930) نشرته وأنا مزهوٌّ زهو الطاووس تحت عنوان: (إصلاح خطأ قديم مرَّت عليه قرون في نشأة فن المقامات)
وكان من أثر ذلك المقال الرنّان أن تثور بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي معركة قلميه على صفحات المقتطف
فهل من المعقول أن تثور معركة قلميه بين زكي مبارك ومصطفى الرافعي ولا يصل صداها إلى الشيخ الإسكندري (وكان من المشتركين في المقتطف) وهي في موضوع يتصل بدروسه في دار العلوم؟!
من الكلام الذي نشرته في سنة 1929 بهامش الطبعة الثانية من زهر الآداب، والمقال الذي نشرته في المقتطف سنة 1930 أخذ الشيخ الإسكندري فكرة القول بأن بديع الزمان نقل فن المقامات عن ابن دريد، وإلا فكيف سكت الشيخ الإسكندري عن هذه المسألة في كتابه: (تاريخ الأدب العربي في العصر العباسي) الذي ظهر سنة 1913 وكتابه الموسوم بالوسيط الذي شاركه في تأليفه الشيخ مصطفى عناني وقد ظهر قبل سنة 1925؟
لماذا أجّل الشيخ الإسكندري هذه المسألة إلى المذكرات التي ظهرت في سنة 1930 وهي المذكرات التي حدثتَنا أنها (طبعة أخيرة)؟!
إنما اهتدى الشيخ الإسكندري في (الطبعة الأخيرة) بما قرأ لزكي مبارك في هامش زهر الآداب سنة 1929 وبما نشر زكي مبارك في لمقتطف سنة 1930(401/9)
ولك أن تغيَّر هذه الوقائع، إن استطعت، ولن تستطيع
ثم أذكر أن الأستاذ أحمد الزين أرسل إليّ خطاب ثناء بعد قراءة مقالي في المقتطف، وأحمد الزين كان يسمُر كل ليلة مع الشيخ محمد عبد المطلب، فلو كان من الصحيح أن أبناء دار العلوم كانوا يعرفون جلية هذا الأمر منذ بداية القرن العشرين لكان من الواضح أن يفهم الأستاذ الزين أن مقالي في المقتطف لم يأت بجديد حتى يستوجب خطاب ثناء
وأنا أتحداك أن تثبت أن شخصاً واحداً من أبناء دار العلوم تحدث عن هذه المسألة في كتاب مطبوع أو مخطوط قبل أن أتحدث عنها في هامش زهر الآداب سنة 1929
انتهت قصة الشيخ الإسكندري، فما قصتك أنت؟
لا تقل إنك قرأت مذكرات الشيخ الإسكندري في طبعتها الأخيرة سنة 1930، ولكن قل إنك كنت ناضراً لإحدى مدارس المعلمين الأولية، وهي مدرسة يدخلها في كل شهر ثلاث نسخ من أعداد المقتطف، فهل يكون من الممكن أن تثور معركة قلميه بين زكي مبارك ومصطفى الرافعي على صفحات تلك المجلة ولا يلفتك إليها أحد من الأساتذة أو الطلاب؟
اسمع أيها الأستاذ المفضال:
أنت لم تقدم نصاً يشهد بأنك سجلت كلمتك في عبارة زهر الآداب قبل ظهور الطبعة العربية من كتاب النثر الفني سنة 1934 فلم يبق إلا النص المسجّل عليك في مجلة السراج سنة 1937 وهو قاطع بأنك سرقت من كتاب النثر الفني وإليك القرائن:
أولاً - من المفهوم عند جميع الباحثين أن الباحث يشير إلى الطبعة الأخيرة من الكتاب الذي ينقل فقرة من فقراته، فكيف تشير أنت إلى طبعة زهر الآداب القائمة على هامش العقد الفريد وقد انقرضتْ من الأسواق، ولا تشير إلى طبعة زكي مبارك التي ظهرت في سنة 1929؟ أليس ذلك شاهداً على أنك تخشى أن يفطن القراء إلى أنك انتهبت عبارة زكي مبارك؟
ثانياً - أنا لم أعيِّن النظرية التي انتهبتها من كتاب النثر الفني حين هددتك بكشفها أمام قراء الرسالة، فكيف عرفتَ أن هذه النظرية هي المقصودة بالذات؟ ومن أدراك أيها الأستاذ، إنها سِكين؟!
ثالثاً - أشقيت نفسك في التهوين من هذه النظرية، فما الموجب لذلك التهوين لو كانت من(401/10)
مبتكراتك أو مبتكرات أحد أساتذتك بدار العلوم؟
إنك تهوّن من شأن هذه النظرية لأنها من مبتكرات زكي مبارك، فهي عندك شيء عديم القيمة لا يستوجب أن يُزَهى به الرجل زهو الطاووس!!
هذه القرائن هي حجتي عليك، وهي البرهان القاطع على صحة العبارة التي تقول:
(يكاد المريب يقول خذوني)
ما الموجب لأن تقول إن كشف هذه النظرية لا يساوي كشف مقبرة توت عنخ آمون؟
إنما مَثَلُكَ مَثَل اللص الذي يهوَّن شأن ما سَرَقَ لينجو من العقاب وأنت تدرك الخطر الملفوف في هذا الملحظ الدقيق!!
وهناك نظرية أخرى متصلة بالمقامات، وهي نظرية فاتني النص عليها في النسخة الفرنسية التي ظهرت سنة 1931 ولم تفتني في النسخة العربية التي ظهرت سنة 1934 فهل ترى لها (خبراً) في (الطبعة الأخيرة) من مذكرات الشيخ الإسكندري؟ وهل تراك حدثت بها قراء مجلة السراج في سنة 1937؟
وهناك نظرية ثالثة متصلة بالمقامات وفيها ردٌّ على المرحوم الشيخ محمد عبدة وهي مثبتة في كتاب (ليلى المريضة في العراق) فهل تعرف هذه النظرية؟
وهنالك تحقيق متصل بالمقامات، وهو موضوع مقال حدثت به صاحب (الرسالة) منذ أكثر من عامين ولم أقدمه لمجلة الرسالة إلى اليوم، لأنه يفرض الرجوع إلى عادات بعضها في النجف، وبعضها في بغداد، فهل تعرف موضوع ذلك التحقيق؟ وهل تعرف ما بقي مطويّاً من أسرار المقامات؟
أترك هذا الجدال لأوجه الكلام إلى الدكتور عبد الوهاب عزام وكان ألقى محاضرتين عن بديع الزمان في سنة 1934 فقد حدثني أمام جماعة من أساتذة الجامعة المصرية أنه اعتمد على كتاب النثر الفني في النظرية التي تقول بأن بديع الزمان نقل فن المقامات عن ابن دريد، فكيف غاب عن الدكتور عزام أن أبناء دار العلوم نشروا هذه النظرية قبل عشرات السنين؟
أما بعد فقد ظهر أن الأستاذ السباعي بيومي سَرَق من كتاب النثر الفني ما سرق، وتبيَّن للجمهور أنه يقدم لتلاميذه زاداً نهبه من كتابي بدون استئذان، ولست من الملائكة حتى(401/11)
أسكت عمن يسرق مني أكثر من أربع سنين
والأستاذ السباعي يبالغ في شتمي عامداً متعمداً ليقهر أصدقائنا على وقف هذه الخصومة الأدبية، عساه ينجو من بطش قلمي
وأقول إني لم أكن أعرف أن اللغة العربية غنيّة بألفاظ الهجاء قبل أن أقرأ كلمته الثانية، وأنا من الذين يدينون بوجوب طلب العلم من المهد إلى اللحد، فمن واجبي أن أرحب بمن يعلمني طرائق السباب، ومن أجل هذا أرفض كل الرفض أن ينتهي ما بيني وبينه بالصلح، ولو صدر عن الرجل الكريم الذي أسرَّ في أذني عبارات ونحن بوزارة المعارف
لقد شتمني هذا الرجل ليصرفني عن تسجيل ما سَرَق مني، فهل نجا من تطويقه بتلك السرقة البلقاء؟
لو كان يعقل لعرف أن السرقة من كتاب النثر الفني لا تغض من أقدار الرجال، لأن كتاب النثر الفني كالشمس يعيش في ضيائها أرباب الوفاء، كما يعيش أصحاب العقوق
السباعي يهدد ويهدد بنقد مؤلفاتي، وهو من فضلها يعيش، فهل رأيتم أقبح وأشنع من هذا الكفران؟
والسباعي يكاثرني بأبناء دار العلوم، فأين كان يوم دفعت عنها طغيان كلية الآداب وأنا مدرِّس بكلية الآداب؟
وكيف يُنكَر جميلي في حماية تلك الدار من البغي والعدوان؟ وفي الأسبوع المقبل يسمع الأستاذ السباعي كلاماً لم يخطر له في بال!
زكي مبارك(401/12)
خصومة أدبية رضيت فيها الأدباء حكماً
زكي مبارك
يكتب كثيراً ولا يقول شيئاً
للأستاذ السباعي بيومي
- 3 -
ما كنت أحب لك يا دكتور أن تكتب شيئاً مما سودت به مقال العدد 398، ومعظم مقال العدد 399 - بل كله كما ستعلم - لأنه ليس من الخصومة ولا الخصومة منه وليس بذي فائدة للقارئين. وما كنت أحب أن أجول معك في هذا الخروج لضيق الصفحات الأربع - المحدودة في الرسالة - عن أن تتسع له ولما أوعدت به من الهجوم عليك في زهر الآداب، لولا ما تعتقده من أنه في صميم الخصومة، وما أخشاه من أن تزين لك نفسك أنك به قد انتصرت
ولقد كان واجباً عليك وخيراً لك أن تنتظر كلمتي السابقتين ثم تكتب في الموضوع، ولكنك تعجلت ولم تستطع معي صبراً. والآن فالق جزاء تسرعك في الرد على ما ذكرت بمقاليك مما لم تتناوله كلمتاي، مشفوعاً بطلبي منك ألا تعود إلى هذا الخروج، حتى نفرغ للخصومة الأدبية بالمعنى الذي تحمل ويريده الجمهور
تدعي أن صديقاً عزيزاً قال لك: (لم يرضني تحديك للأستاذ السباعي فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن يجعل مقالاتك من موضوعات الدروس بدار العلوم وذلك من شواهد الإعجاب).
وأنك حفظت لي هذا الفضل وآثرت الصمت لولا أن أديباً أثارك بما كتب إليك. ويظهر يا دكتور أن هذا الصديق من الخبثاء الظرفاء الذين عرفوا فيك ما قرره ابن المقفع من أن عجب المرء بنفسه أرحب باب يدخل عليه منه الضاحك عليه والمظلل له. فهو قد أضللت وضحك عليك بما تخيل فتحققت، وما كان لشيء من مقالاتك أن يكون من موضوعات الدروس في دار العلوم، ولو حدث لما سميت دار العلوم
وتدعي أنك مع هذا كنت على نية السكوت لصداقتي ولأن هجومي لن يقلقل مركز الشيخ(401/13)
المرصفي، ثم لأني من زملاء الأستاذين هاشم وصفوت ولهما عليك حقوق؛ فأما الصداقة فما ينبغي أن تحول دون محاورة الصديقين فيما يفيدهما ويفيد الناس، وأما أن هجومي لن يقلقل من مركز الشيخ المرصفي فعما قريب ستعلم أثره
وتذكر أنك في سبيل دفع الشر عن الشيخ المرصفي ستقدم لي خدمة أدبية بجذبي إلى الجدل على صَفحات الرسالة، وأنا مرحب بدفع هذا الشر عن الشيخ، ولكن فيما صوبت أنا إليه؛ ثم إني لشاكر لك جذبي إلى التحرير وغير طامع في رفق أسلوبك، بل راغب ملِّح في أن تريني ما تزعمه لقلمك من أنه تطير عن أسلاته شظايا الشدة والعنف، حتى أعلمك - إن لم تكن علمت - أن مثل قلمك أمامي مثل بنادق الأطفال تسمع لطلقاتها دوياً ولا ترى لها كلماً.
أما القلم الذي ستواجه مني فهو مسدس ذو طلقات تميت في غير جلبة ولا ضوضاء، وهاأنت ذا قدحت زنده فاصّلَ شرره
وتقول إن المرصفي قضى شبابه في خدمة الكامل، وأنني قضيت شبابي في خدمته كذلك، وإني لأكاد أكذبك في الأولى لأنك غير صادق في الثانية قطعاً. فما قضيت في تهذيب الكامل إلا ثلاث سنوات لا تستغرق شباباً ولا بعض شباب، ثم تتظرف وتحكم بأن الفرق بين الرغبة والتهذيب كالفرق بين المرصفي والسباعي. وإنه لحكم أعاد إلى ذاكرتي هذا البيت:
كأننا والماء من حولنا ... قومٌ جلوسٌ حولهم ماء
ثم تكذّب ما قاله الطالب أيوب من أن كتاب المرصفي ظهر سنة 1930 وتقول إنه ظهر سنة 1927، فتكون سطحياً أمام طالب، لأنك أخذت تاريخك من غلاف أول جزء في الكتاب والطالب أخذه من غلاف آخر جزء منه، فارجع إلى هذا الجزء رجوع الغافل الذي دل على أنه لم ير الكتاب، تجد عليه سنة1930 وهو التاريخ الحق الذي لا يعتبر في مجال الاحتجاج سواه. على انك شعرت بتفاهة ما لحظت لأن كتابي ظهر سنة 1923 فقلت: (وليس لهذا التاريخ أهمية) ولكنك عدت فوقعت إذ زعمت أن شرح المرصفي يرجع إلى أكثر من أربعين سنة، وأنه كان كاملاً من جميع الجوانب حتى الفهارس قبل سنة 1915 وأنك رأيته بعيني رأسك ورآه معك الشيخ الزنكلوني. وما رأيك يا دكتور أن المرصفي(401/14)
نفسه يكذبك في ذلك بعبارته المدونة في آخر جزء من أجزاء الرغبة عن إتمامه الشرح فما بالك بالفهارس، وهي بنصها: (وقد انتهى شرح كتاب الكامل والحمد لله ليلة 11 رجب سنة 1340 من الهجرة) وهذه توافق سنة 1923، أي أن الشرح وحده دون الفهارس لم ينته إلا سنة 1923 لا قبل سنة 1915. أليست هذه العبارة تفهم بصريح العبارة أنك كذبت على عيني رأسك، وإذا كان لنا أن نتركك حراً تكذب على نفسك، أفلا نؤاخذك أن تكذب على غيرك. ولكنك يا دكتور كنت لبقاً إذ تخيرت هذا الغير ممن انتقلوا إلى جوار ربهم، وأنا جد واثق أن الشيخ الزنكلوني لو أمتد به الأجل إلى حيث كتبت ما كتبت لأشهدت غيره من الأموات سامحك الله
ثم لك هذه النقطة حشوة لا علاقة لها بالتواريخ، ولا هي من العبارات الشعرية كما تقول: تلك هي قولتك (ولن أنسى ما حييت تلك العبارة الشعرية التي صرخ بها الشيخ المرصفي وهو يقدم إلينا شرحه على كتاب المبرد - لن أنساها أبداً - فقد قال شيخنا العظيم وهو يخاطب المبرد (الله على أيامك يا بطل)) وبعد ذلك تقول: (والكتاب الذي كمل من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 هو الكتاب الذي سرقت بعض فهارسه من كتاب ظهر في أواخر سنة 1923) فلتسمح لي يا دكتور أن أتركك وأخاطب الناس. أيها الناس يعجب الدكتور من أن الطالب أيوب لا يستبعد على المرصفي أن يكون قد استعان في كتابه الذي ظهر سنة 1930 بكتابي الذي ظهر سنة 1923 زاعماً أن كتاب المرصفي كان كاملاً من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 بالرغم من تكذيب المرصفي له كما سبق ومؤيداً هذا الزعم بآخر حاط من قدر المرصفي إن كان حقاً، هو أن المرصفي لم يكن يطلع على شيء من مؤلفات المعاصرين فكيف اختص الأستاذ السباعي بتلك العناية. هذا ما يقوله الدكتور أيها الناس، وليس لي من تعليق عليه إلا الجملة التي ختم بها ما قال وهي (تلك والله إحدى الأعاجيب)
ويقول الدكتور عني بعد جعله المرصفي أوحد عصره بلا جدال (إنني الرابع أو الخامس بين أساتذة دار العلوم مع التسامح الشديد) ونحن أساتذة اللغة العربية بهذا العدد تقريباً في الدار فكأنه جعلني الأخير. والحقيقة يا دكتور أنك في تدخلك هذا غريب؛ فما أنت فينا والفاضل والمفضول والأول والأخير أولئك إخوان فضلهم فضلي ومكانهم مكاني وكلنا(401/15)
أعرف بحق صاحبه منه بحق نفسه.
وتقول إن الشيخ المرصفي أثر في عصره وتعدد له ذخائر كثيرة، وليس لي رد على الشيء تعرفه أنت ويجهله غيرك. إني لا أعرف للمرصفي إلا ما عرف الناس ولا أدعي لنفسي من آثار إلا ما لمسوه. فسلهم لتعلم منهم أن عمري لم يكن موقوفاً على التهذيب، ثم سل تلاميذي الذين تتحدث عنهم يخبروك بما يفحمك مخلصين صادقين وفخورين بتلمذتهم لي فخري بأستاذيتي لهم في غير زهو ولا إعجاب
ذاك ما جعلته طلائع غزوة وبه تباهى. فهل لازلت على هذه المباهاة بعد تفسيقي لما ذكرت وردي على ما سودت ومع هذا فإليك رأي في تلك المباهاة نفسها
تقول إنك لن تصفح عني أو أشتغل محرراً متطوعاً بالرسالة ثلاث سنين، وما هذا لي بالتهديد فما أنا ممن يضيرهم التحرير ولا ممن تعودوا أخذ أجر على ما يكتبون، لأني أكتب للكتابة لا طمعاً في مال، ولذلك يصدر ما أكتب في غير كلفة ولا إكراه.
وتقول إن خصومتك لي محنة صبت على من شاهق وتطلب مني أن أتحملها صابراً، وإنها لا تنتهي قبل بداية مايو، وليس مثلك معي في هذا التهديد إلا مثل القبرة التي وقعت على رأس فيل؛ فلما أرادت أن تطير قالت له إني مخففة عنك وطائرة فقال والله ما علمت بك نازلة حتى أشعر بتخفيفك طائرة. أما الموعد الذي ضربته فهو أمنية تتمناها وتشفق ألا تكون، ولست أدري أؤوافقك عليها مطمئناً أم أتجاوزها إلى ما بعدها مزعجاً، لن أبين لك حتى أتركك حيناً تتعزى بالأجل إشفاقاً عليك وآخر تجزع لطول الأمد تهديداً لك. وسأعلمك في حاضري ومستقبلي أن ماضي لم يكن قائماً على خدمة الكامل وحده وأن تهذيبي له لم يكن عملاً يقوم به أحد النساخين بدراهم معدودات وذلك بما أقفك عليه من أنه كان خدمة يعرفها العارفون
وتزعم أنك قضيت دهرك ممتحناً بعداوات الرجال. ورجائي أن تكون رجلاً فيما أصبت به من عدائي وأن تغالي في عدم العطف على، ذلك الذي أزمعت تركه لأني ترديت لك ثوب العقوق، والحقيقة يا دكتور أنه لا عطف منك على ولا عقوق مني إليك وإنما هو نقاش وحساب يتطلب منك أن تكون الجلد الصبور.
ثم تقول إنك حكمت على بترك دروسي في دار العلوم لأشغل نفسي بمخاطرتك. ويلوح لي(401/16)
يا دكتور أنك ما قلت ذلك إلا لعقيدتك أن مخاطرتي لك تشغلني كما تشغلك مخاطرتك لي، ولكن عقيدتك هذه وهم باطل وظن خاطئ، فإن هجومي عليك وصدى لك لا يشغل مني كل أسبوع إلا الوقت يجري فيه القلم غير متوقف إلى حيث ينتهي المقال وهو وقت يسير في زمن اليوم لا الأسبوع، ثم هو لذيذ الوقع ترتاح لصريره النفوس.
وبعد فهاأنذا مرقل نحو مقالك الأخير فماذا أرى؟ رأيتك قد سودت أكثر من نصفه بأشياء خرجت فيها عن الجادة وجمعت بينها على الإكراه والقسوة، فبينا تبدؤه بالرد على كلمتي الثانية قبل ظهورها بهذه الجملة التي لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع فتقول عني في تبرئة نفسك من السرقة التي ألبستك طوقها: (فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بعد فصاح: مين اللي ماشي هناك)، ثم تعقب هذه بقولك: (إني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يتطلع إليها الناهبون من الفضلاء) سبحان المنان الوهاب! وعلى هذا الغرار من قرع طبلك تقول عني (فليواجهني إن استطاع وأنا ماض إليه بقلم أمضى من السيف وأعنف من القضاء)، وستعرف أينا الذي يستطيع، وأينا الذي سيكون قلمه أمضى من السيف. أما أن قلمك أعنف من القضاء فمعاذ الله أن أشاركك هذا الكفران وقد علمت عن ابن دريد الذي تحدثت عنه في نظريتك المزعومة، أن تلميذه أبا علي القالي قال: (لما أصيب بالفالج كنت أدخل عليه فيتألم من دخولي فأقول: إن الله تعالى لم يبتله بذلك إلا عقاباً على قوله يخاطب الدهر وليس الدهر إلا الله:
مارست من لو هَوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا
إذا بك تنتقل إلى أن كامل المبرد على ما به من فضل قد حرف وصحف وصار في حاجة إلى إصلاح، وإني لن أكون المصلح المنشود لأني لم أوهب نعمة الذوق الأدبي التي لا يظفر بها من كل جيل إلا آحاد، وأنت طبعاً من هؤلاء الآحاد إن لم تكن أوحدهم. ثم تقول كان المصلح المنشود له شيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي وهو طبعاً من الآحاد الذين رزقوا نعمة الذوق الأدبي
والآن أقدم للجمهور شيئاً من أشياء أعرفها للشيخ المرصفي برهاناً واضحاً على أن الذوق الأدبي كثيراً ما خانه في أبسط مظاهره، ذلك الشيء هو أبيات جاء بها المبرد في الهجاء الموجع فجعلها المرصفي في شرحه من المدح البالغ. ولو كان المبرد يعلم أن ذوقه إلى هذا(401/17)
الحد لأنقذه وصرح بأنها هجاء. وهاهي الأبيات وتحتها شرح الشيخ من غير تعليق (صفحة 132 ج 4)
قال أبو العباس المبرد: ومما يستحسن من شعر إسحاق هذا - يريد ابن خلف - قوله في الحسن بن سهل:
باب الأمير عراء ما به أحد ... إلا امرؤُ واضع كفاً على ذقن
قالت وقد أملت ما كنت آمله ... هذا الأمير ابن سهل حاتم اليمن
كفيتك الناس لا تلقي أخا طلب ... بفيء دارك يستعدي على الزمن
إن الرجاء الذي قد كنت آمله ... وضعته ورجاء الناس في كفن
في الله منه وجدوى كفه خلف ... ليس السدى والندى في راحة الحسن
وإلى القارئين كل ما قال الشيخ المرصفي في شرحها بنصه وصورته، قال - وقاه الله شر تلميذه الدكتور زكي مبارك -: (في الحسن بن سهل) بن عبد الله السرخسي وزير المأمون بعد أخيه الفضل بن سهل (باب الأمير) كأنه يريد أميراً غير الحسن (لا تلقي أخا طلب الخ. . .). تريد إن استجديته أغناك، فلا تجد غريماً يطلبك (ليس السدى) يريد إلا رجاء السدى، وهو ندى الليل، (والندى): ندى النهار ضربهما مثلاً لجوده، وقد أخر هذا الاستثناء عن موضعه فثقل. . . انتهى شرح الشيخ، فما رأيك فيه يا دكتور، إن كنت ممن وهبوا نعمة الذوق الأدبي؟ وهل لا تزال مصرَّا على أن المرصفي قضى حياته يراوح المبرد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق؟ أما أني أتقوّل على المرصفي لأنه مات وشبع من الموت وهذا لا ينبغي، فهي دعوى لو عمل بها في الأدب، لمات الأدب وشبع من الموت كما تقول؟
وإذا بك تقحم الدكتور طه حسين في الموضوع بأنه أتعب نفسه في النيل من دار العلوم، ولم أغضب، مع أني أستاذ بها، وهذا غير ما كان يا دكتور، فقد كتبت في الصحف والمجلات،
ولكنك لم تقرأ، كما لم تعرف ما ضحيته ومازلت مستعداً لتضحيته في سبيل الدفاع عن دار العلوم؛ ثم توغل في الإقحام فتدعى أن علة سكوتي هي أن الدكتور طه يضر وينفع، ويملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان، وردي على هذه الأكذوبة عني وعن الدكتور أني(401/18)
لم أسكت، ومع هذا كنت عضواً في اللجان، وما ذنبي إذا كنت أُدعى وتترك، وأعرف وتنكر؟
فإذا بك تغادر الدكتور طه إلى الأزهريين، تحبط من قدرهم إذا لم ينصروك، وتسلبهم - كاذباً في الاثنتين - أبسط ما يعرف العلماء من أقدار الرجال فتقول: (لم يوجد في الأزهريين من يدرك قيمة الشيخ المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت الأستاذ الإمام أصبح المرصفي من الغرباء)؛ ثم تعود إلىَّ تتهمني بأني أريد الإعلان عن نفسي بالقدح في المرصفي، وتطالبني بدفع ثمن هذا الإعلان بلا إمهال، وما كان هذا القدح ولا ذاك الإعلان لي بمراد؛ أما الثمن، فأنا على نقده لك عاجلاً - كما تقول - ولكن فيما يبصر الناس بقدرك
ثم تشرد يا دكتور فتقول: (أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية، لا يزورها أحد من المفتشين إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل)؛ وتخرج منه إلى أن محاسبتي لذلك من العسير، والحق أني لست فاهماً ما تعني بهذا الشرود. أتريد أن يغير نظام التعليم، فيدخل التفتيش إلى التعليم العالي قلباً لأبسط مبادئ التعليم؟ أم تأمل إذا انقلبت الأوضاع أن تكون المفتش لدار العلوم؟ وإذا كورت الشمس وكان ما تريد، فهل تحملك رجلاك لتقوم بهذا الحساب؟ أضنك على علم في كل هذه الأسئلة بالجواب، كما أنك على جهل بأن الدرس الذي أعطيه في الجامعة الأمريكية، إنما هو في قسم من أقسامها العالية - ولولا ذلك لم أعطه - هو قسم الصحافة والأدب، وشأنه في ذلك شأن دار العلوم وسائر المعاهد العالية التي يشرف على الدراسة فيها: ضمير الأساتذة ورقابة الطلاب، وهما أدق تفتيش
وأخيراً تكثر من هذه الجملة (لا تشتمني يا سيد سباعي) معقباً إياها بتعاليل هي الأباطيل. فالشتائم أنت وأنا عن الشتم بعيد، وإذا كنت تلحن لي في ذلك بأنك (شتيم)، فأنا ألحن لك (بأني بشر ابن عوانة). وهاك تعليلاً منها ليس من الشتم، ولكن الشتم منه هو قولك لي: (فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولست بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب)؛ وأنا أقول إن لك في هذا أن تجاب:
فأما الشعر، فلو رضيت لنفسي ما قلته كما رضيت أنت ما قلت، لسويته ديواناً كما سويت، ولوقعت في الشرك كما وقعت، فقد اغتررت في طبع ديوانك بضحك من غرّروا بك،(401/19)
وخالفت قول من نصحوا لك، وما ديوانك بشعر شاعر، ولكنّه تجميع ناظم
وأما الكتابة، فها نحن في ميدانها على صفحات (الرسالة) نجول، وسيصدر الجمهور - إن لم يكن أصدر - حكمه فيها عما قريب
وأما التأليف، فقد عرفت من عملي فيه تهذيب الكامل، وستعرف غيره من مؤلفاتي متى انتهيت منه، وناقشنا فيه الآن، فاثبت ولا تفر من الميدان
أما الخطابة، فرأيي لك فيها يا دكتور أن نتلاقى في حلبتها أمام جمع من الأدباء وجمهرة من السامعين ويقترح على كلينا التكلم بداهة وارتجالاً في موضوع عام من أدب أو اجتماع، فهنالك وهنالك فقط - ولست مزكياً نفسي ولكني مدافع عنها - تجد بحراً يغمرك، وأمواجاً تقطعك وتبهرك، فتندم طالباً النجاة ولات حين مناص
إلى هنا أقف، وقد طال الكلام، مرجئاً الرد على ما وازنت فيه بين (الرغبة والتهذيب) وكل ما يتعلق بهما في المقال، وذلك لأن دفعه - كما ستعرف - لابد أن يسبق بكلمة مني عن الكتابين، تريك سوء ما زينت، وهنيئاً لك الآن نفاد الصفحات دون بقية الرد والهجوم.
السباعي بيومي(401/20)
2 - في العقد
لأستاذ جليل
5 - (ص 335، 336) ولحاتم بن عبد الله:
أماويَّ قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتنا عنِ طلابكم العُذرُ
أماويَّ إني لا أقول لسائل ... إذا جاء يوماً حل في ماليَ النزْرُ
وجاء في الشرح: العذر (بضمتين وسكن للشعر): جمع عذار وهو ما سال على خد الفرس من اللجام. و (عذرتنا. الخ) أي منعتنا الموانع. وأصله من عذرت الفرس بالعذار، أي شددته به. فالكلام هنا على سبيل الاستعارة
قلت: الشطر الثاني في البيت الأول هو هذا: (وقد عذرتني في طلابكم العذر) وفي الصحاح (عذر). والشطر الثاني في البيت الثاني هو هذا: (إذا جاء يوماً حل في مالنا نذر)
وعذُر جمع عذير - وقد جاء في الشعر مخففاً - والعذير الحال التي يحاولها المرء يعذر عليها، والبيت من شواهد الصحاح واللسان والتاج. والنذر معروف، نذرت أنذِر وأنذُر نذراً إذا أوجبت على نفسك شيئاً تبرعاً من عبادة أو صدقة أو غير ذلك، كما في النهاية
6 - (ص 22) لما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان. قال له: بثلاثة: حاجبك. . . وصاحب شرطتك. . . وعمال القَدْر. قال: وما عمال القدر؟ قال: أن تختار من كل كوره رجالاً لعملك، فإن أصابوا فهو الذي أردت، وإن أخطئوا فهم المخطئون وأنت المصيب
وجاء في الشرح: يريد (بعمال القدر) ذوي الشرف والحسب. والذي في 1: (الغدر)، والذي في سائر الأصول: (القرى)، ولا يخفي ما في كلتا الروايتين من التحريف، وما أثبتناه عن محاضرات الأدباء (ج 1 ص 102) في خبر روى عن عمر عبد العزيز. . .
قلت: ذوو الشرف والحسب لا يُعذَر الإمام أو الوالي إذا وسد إليهم الأعمال فاخطئوا أو أساؤا، ورب وَحد خير من ألف حسيب نسيب، وقد نقلت في أحد دفاتري من كتاب لا أتذكره اليوم هذا الخبر: (استشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم، فقال بعض أصحابه: عليك بأهل العذر، قال: ومن هم؟ قال: الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم، وإن قصروا قال الناس: قد أجتهد عمر). وهو يشبه ما رواه محققو (العقد) عن (محاضرات(401/21)
الأدباء) في الشرح. فأهل العذر هم فضلاء كبار كرام بأنفسهم قد اطمأن إليهم الجمهور، وقد يكونون من المحسوبين من الحسباء والمنسوبين وقد لا يكونون، فإذا وليت طائفة منهم فأخطأت عذر الناس من عمّلها أو ولاها
وينصر ما ذهبت إليه قولٌ في (مشاورة المهدي لأهل بيته) ص 248: (. . . واجعلْ عمال العذر وولاة الحجج مقدمّة بين يدي عملك، ونصفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم، فإن أحسن حُمدت، وإن أساء عُذرت، هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج)
والحجج تثبت العذر. . .
7 - (ص 176) فرَّ أبو خِراش الهذلي من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات فقال:
وفوني وقالوا يا خويلد لا تُرَع ... فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم
قلت: رفوني. والبيت من شواهد الصحاح والأساس واللسان والتاج. قالوا: فزع فلان فرفوته إذا أزلت فزعه وسكنته، اعتبر بمشاهدة الوجوه، وجعلها دليلاً على ما في النفوس
8 - (ص 252) قال عبد الله بن الزبير لمعاوية - ويقال بل معاوية قالها لعبد الله -: مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول الشجر
قلت: في الحديث: إنما هو (في أصول السخبر) وهو شجر تألفه الحيات فتسكن في أصوله، الواحدة سخبرة
9 - (ص 2). . . فعند ذلك يعلم أنها شجرة باسقة الفرع، طيبة المنبت، ذكية التربة، يانعة الثمرة. . .
قلت: زكيه التربة
في الأساس: زرعٌ زاك ومال زاك: نام بيّن الزكاء، وقد زكا الزرع وزكت الأرض وأزكت، ومن المجاز: رجل زكي: زائد الخير والفضل
وفي اللسان: أرض زكيه: طيبة سمينة
10 - (ص 149). . . فسلك به سبيل مَهلكةُ معطشة
قلت: مَعطشة
في التاج: المعاطش: الأراضي التي لا ماء فيها، الواحدة معَطَشة. المهلكة (ويثلث): المفازة(401/22)
لأنها تهلك الأرواح فيها
11 - . . . وفرسي هذا حُبِس في سبيل الله
قلت: حبيس
في الجمهرة: حبست الشيء أحبسه حبساً إذا منعته عن الحركة، وأحبست الدابة إحباساً، إذا جعلته حبيساً فهو محبس وحبيس، وهذا أحد ما جاء على فعيل من أفعل
في التلويح في شرح الفصيح لمحمد الهروي: (وحبست الرجل عن حاجته وفي الحبس فهو محبوس) إذا منعته من التصرف في أموره أو أحبست فرساً في سبيل الله فهو محبس وحبيس) إذا جعلته وقفاً على الغزاة يجاهدون عليه، ومنعت من بيعه وهبته
في التاج: وفي شرح الفصيح لأبن درستويه: أما قوله: أحبست فرساً في سبيل الله بمعنى جعلته محبوساً فدخلت الألف لهذا المعنى لأنه من مواضعها، ولا يمتنع أن يقال حبست فرسي في سبيل الله كما تقول العامة لأنه إذا أحبس فقد حبس ولكن قد استعمل هذا في الوقف من الخيل وسائر الأموال التي منعت من البيع والهبة
12 - (ص 19). . . قال (زياد) لا ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين، فقال له ابن عباس: ما ترك الناس التحية بينهم وبين يدي أمرائهم، فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس، فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غَلَبْت
قلت: غُلِبت، فمعاوية لم يخاطب ابن عباس - وقد سره أدب أخيه - مصوباً بل مخطئاً
13 - (ص 15). . . ثم دخل (معاوية) على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا فرفعهم سبقهم، وقصر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعاً وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم؛ فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه
وجاء في الشرح: لتنفست فيه كناية عن الاستراحة بعد بلوغ الغاية
قلت: لنوفست فيه أي غولبت وقوهرت، غالبك أقرانك وقاهروك أو نافسوك فيه كنفِسوه عليك، ونفس عليه بالشيء ضن به ولم يره يستأهله
14 - (ص 12). . . في جنب صلاح العامة وتلافي الخاصة
قلت: وتألف الخاصة(401/23)
في حديث حنين: إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر، أتألفهم ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما يصل إليهم من المال
وقد جاء في حاشية (تلافي الخاصة): في عيون الأخبار: وتلافي الحادث قبل تفاقمه
قلت: هنا يجئ التلافي في محله
15 - (ص 359). . . فأرْونِي تتألف لي نوافرها، ويسكن رُوعي. قال: قد فعلت. . .
قلت: فأردوني، والإرواد الإمهال؛ وفي غير العقد هذه الرواية في هذا الخبر: (فليمهلني أمير المؤمنين ريثما يتألف نافر القول والروع بالضم القلب، وبالفتح الفزع)
16 - (ص 368). . . قال: فمن كان أبا النجم مثواك؟
قال: رجلين أتغذى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر
قلت: أبا مثواك. أتغدى
في الأساس: وهو أبو مثواي، وهي أم مثواي: لمن أنت نازل به. قال:
أفي كل يوم أم مثوى تسوسني ... تُنّفَض أثوابي وتسألني ما اسمي؟
في التاج: الغداء طعام الغدوة، أغدية وتغدي أكل أول النهار، وغديته تغدية في ذلك الوقت
وفي الغداء والعشاء غذاء. . .
17 - (ص 334، 335). . . وجعل ينادي: أبا عدي أَقرِ أضيافك. . .
. . . فقال: إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك
قلت: أبا عدي، أقر أضيافك، وإنه قراك
قرى يقري (كرمى يرمي) قِرى وقَراء. وأقراه طلب منه القرى(401/24)
من وحي الهجرة
شكاة ونجوى. . .
(مهداة إلى الرجل الكبير الذي أخذ بيدي في الحياة. . . إلى
خالي)
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
. . . متى يا رسول الله متى. . . تكتحل عيناي بالتطلع إلى مقامك الكريم في أرض النبوة الطاهرة. . . ويقدر لي أن أقف بين يديك: أقرؤك السلام، وأبثك الحنين، وأَفني في لثمات أعتابك؟. . .
لقد طال بي الشوق، يا رسول الله، إلى التراب الذي لامس قدميك، والأرض التي وطأت ركائبك، والجو الذي نثرت فيه النعيم والسلام. . . فمتى يا رسول الله. . . متى؟. . .
إن الحنين ليحدوني، وإن الحب ليهزني، وأني لأجد في قلبي النور، وفي عيني الضياء، وعلى شفتي النغمات الحلوة. . . حين أراني في مقامك يا رسول الله: هادئ النفس، مطمئن الخاطر، كما يطمئن الإنسان إلى خيالات الأمل، ويهدأ إلى صور الخير، ويهيم في أودية من الجمال. . .
. . . متى يا رسول الله: ينسم عبق مكة، فأنتشي بهذا النسيم. . . وأعب منه ملء رئتي، وأذكر معه هذه البلاد التي كانت مثوى الضلالات، ففاضت بالنور. . . وكانت مثابة العصبيات، فتدفقت بالتسامح. . . وعاشت أبداً في ظلام الجهل وحماقة الهوى وسلطان الغرض. . . ولكنها بدلتها أنوار المعرفة ونعمة العقل وزينة العلم. . .
. . . إني لتستثيرني الذكرى يا رسول الله. . . يا أسمى من كل إنسان، وأرفع من كل بشر، وأكرم من كل مخلوق. . . فأصمت لنجواها العذب، وأنصت لحديثها الرطب، وأهيم في دنياها الرفافة التي تموج بالأمان، وتزدهر بالسلام، وتتسم بالحب. . . فمتى يا رسول الله. . . متى أمرّغ خدي بأعتابك الطهور وأقبل بشفتي أرضك الحلوة، وأغيّب وجهي في أطراف الستائر التي ترف حواليك رفيف الأمل في القلوب الآيسة. . . كأنما تنعش فيها(401/25)
الموات، وتبعث فيها الحياة، وترد عليها التحية. . .
- 2 -
. . . متى يا رسول الله. . . يظلني المسجد النضر، لأحدثك حديث هؤلاء الذين تركتهم على بيضاء نقية لا يضل فيها السالك ولا يحار فيها الساري؛ فإذا هم قد ضلوا الطريق، وتنكبوا السبيل وتاهوا في بيد مظلمة. . . لا يجدون المخرج، ولا يلقون المنفذ، ولا تتراءى لهم إمارات الهداية. . .
هؤلاء، يا رسول الله، الذين خلفت فيهم القرآن، وأوضحت لهم الغاية؛ وحلقت بهم في أجواء السمّو، وآفاق المجد، ودنيا السيادة؛ قد ذّلوا. . . فضعفوا عن الحق، وسكتوا عن الواجب، واستخذوا لإرادة الناس الحقيرة. واطمأنوا إلى هذه الاستخذاء وهذا الضعف. . . فإذا قلوبهم غلف، وإذا آذانهم صم، وإذا الدعوات التي تستمد منك قوتها، وتستلهم من وحيك نورها. . . لا تفعل فيهم إلا ما تفعل النسمات المطلقة في الصخور القاسية!
. . . إن الألم ليغمر النفوس العامرة يا رسول الله فتقعد عن العمل، وإن اليأس ليملأ القلوب النقية ليفسد عليها الأمل؛ وأن الهجمات لتتري. . . فمن يذكرنا مواطن العظمة في حياتك وسر الخلود في دعوتك، وجمال الصبر في جهادك؟ من يبث ذلك في قلوبنا يا رسول الله؟. . . من ينثره في أذهاننا كما تنثر السماء سحب الرحمة؟. . . من يقول لنا هذا هو الطريق. . . بعد أن باعدت بيننا وبينك ضلالات فيها السحر، وصرفتا عنك فتن فيها الإغراء
. . . أين أنت يا رسول الله، لتشهد المسلمين اليوم وقد نكبوا بالفرقة، وابتلوا بالنزاع فإذا هم لا يد في حكم، ولا شأن في سيطرة، ولا رأي في مشورة، يعيشون في هامش الحياة كما تعيش النبتة الصغيرة في ظل الشجرة الضخمة في جو معتم من الولاء، لا يمتد لها غصن يقبّل النور، ولا يشتد لها ساعد يحي السماء!
أين من يقول لهؤلاء المسلمين يا رسول الله إنك كنت تجاهد للحياة التي تحل الضعف، وتستهجن الصمت، وتكره الهدوء؟
أين من يقول لهم إن هذا الهدوء الذي يطمئنون إليه أول نذر الموت، وأدلة الفناء
لشد ما نحتاج إلى هديك يا رسول الله. . . لندرك أن الدنيا ليست دنيا الشهوات التي نقبل(401/26)
عليها، والغايات التي نسعى إليها، والمنافع التي نتكالب في سبيلها. . . ولكنها دنيا الحياة الحرة التي لا تستعبد فيها نفوس، ولا تحني رؤوس، ولا تبذل كرامات.
. . . لقد ضل القوم يا رسول الله. . . وزين ذلك في قلوبهم. . . فمن يكشف لهم عن وضح الحق؟. . . من يرفع علمهم حجب الضلالات؟ ومن يصرف هذه السحب القاتمة من فوق رءوسهم، ومن بين أيديهم تشوه فيهم العقيدة، وتفسد عليهم الإيمان
- 4 -
يا رسول الله إلى الناس. . . لقد عمى الناس عن الخير، لا يفقهون معناه ولا يحسون جماله، وإنما يتخبطون في ظلمات الشر وفي دياجير الخصومات. في أيديهم حراب، وفي أيمانهم قذائف، وعلى وجوههم أقنعة. . . يتراشقون السهام ويتبادلون القذائف، ويصطرعون في هذه الكهوف المعتمة من المادة، وهذه الأجواء الضيقة من الطيش. . . فهلا انتبه أنصارك يا رسول الله في هذه الفترة من الزمن، فانتهزوا الفرصة البارقة، ينشرون أردية السلام، ويبعثون دعوة الحق، ويهتفون بالصيحة الكبرى!. . .
. . . حبذا يا رسول الله. . . حبذا الساعة التي ينشدون فيها نشيد اليقظة ويرددون صرخة الحق، ويحققون أروع ما جئت به من مبادئ السلام، وتتموج على حاشية الأفق راياتهم التي تذكر الناس أكرم ما دعوت إليه وما جاهدت من أجله. . . وتتلألأ في صفحة السماء آياتك الغر، تهدي السالكين، وتأخذ بيد الحيارى، وتزرع في النفس معاني الحب والطمأنينة والغبطة
- 5 -
ألا هل في قوانا طاقة، وفي وسعنا جهد. . . فنحمل هذا العبء يا رسول الله؛ وننهض بهذه الصرخة، ونوقد المصباح: زيته من دمائنا، وذبالته من نفوسنا؛ ونجعل من أجسامنا مغرز الراية ومغرس العلم؟. . . وهل في أعمارنا آجال فنرى هديك فوق كل هدى، وكلمتك فوق كل كلمة، وتنعم أعيننا بالإنسانية المطمئنة إلى الحياة الآمنة التي تختطها، والسبيل السوي الذي ترسمه؟. . .
. . . إن العالم يا رسول الله ليموج في حالك من الظلمة، وإنه ليسبح في جاهلية من(401/27)
الهوى. . . كهذه الجاهلية التي بددت ظلماتها، وكشفت غياهبها، ونشرت في جنباتها الهداية. . . فهلا أهبت بأنصارك ليتأسوا بك. . . وليهاجروا إليك. . . وليبدءوا دعوتهم بمثل ما بدأتها من قوة وعزيمة وجلد؟!
. . . ركب الإنسانية يستغيث بك يا رسول الله إلى الناس. . . فاسأل الله له السلامة في مهمة الغرائز، والخلاص من ربقة الأهواء، والنجاة من حرب الغل والضغائن. . . وخذ بزمامه إلى ساحل النجاة، فقد سئم صراع الموج، وزمجرة الغضب. . . وضاق بفوضى المذاهب، وخداع المظاهر، وتناحر الآراء. وأسلم وجهه إلى الله. إلى الله وحده يؤمن به، ويعمل له، ويتكل عليه. . . هذه حالنا يا رسول الله. . . فمتى ينبثق الفجر من خلال الضباب الكثيف، ومتى تبصر العين وجه الحياة: لا تغطيها الدموع، ولا تخدعها المظاهر. . . ومتى يجد المدلجون في سفين الزمن شعاعات الرحمة وأنوار الهداية؟
- 6 -
إن الحديث يا رسول الله ليفجر ينابيع الألم، وإنه لينشر صفحات كابية: في إطار سواد، وفي جنباتها حزن، وفي رحابها تاريخ يشهد بالضعف والخور. فما أحوجنا أن نهاجر إليك فنملأ صدورنا من روحك الندي ونطهر عزائمنا بعبقك العطري، وندفع هذا الصدأ الذي يأتكل نفوسنا بالتمرغ في أعتابك الطاهرات
إني لأرنو يا رسول الله إلى هذه الساعات؛ وإني لأهيل عليها الصور، وأريق عليها الزخارف. . . فلا أبلغ بها معشار ما يكتنفها من روعة، وما يحوطها من جلال. . . فمتى أشهد هذا الجلال، في مسجدك المتألق، وروضتك الطاهرة، وضريحك الحي؟!
آه يا رسول الله. . . ما أشد حنيني إلى نسمات الصحراء، ولفحات الشمس، وجرعات زمزم
والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله
شكري فيصل(401/28)
من سماحة الإسلام
الله الله!
للأستاذ كامل محمود حبيب
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب
يردوكم بعد إيمانكم كافرين؛ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم
آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط
مستقيم؛ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا
وأنتم مسلمون؛ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم
فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
(قرآن كريم)
ما لهذا الشيخ يقضي يومه مقبلاً مدبراً يختلس النظر إلى جماعات الأنصار وهم جلوس يتحدثون في هدوء، وعلى وجوههم نور الهداية يتألق؟ ماله ينفضهم بنظراته وإن عينيه لتقدحان شرراً، وإن قلبه ليضطرم حسداً وإنه ليحدث نفسه - في مغداه ومراحه - يقول يا ويلي! لقد اجتمع ملأ بني قَيْلة بهذه البلاد لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار؟ لعله يهيئ أمراً أو يصنع حادثة
إنه شيخ من يهود قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، يحزّ في نفسه ما يرى بين الأوس والخزرج من ألفة وإخاء، ويغيظه أن تجمعهم آصرة أو تربطهم وشيجة، إنه هو شاس بن قيس
لا جرم، فلقد كان شاس بعض الفئة الباغية من يهود ممن عتوا عن أمر ربهم ونصبوا(401/29)
الرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوَة والبغضاء بغياً بغير حق ولا علم، يتعنتونه، ويأتونه باللَّبس ليلبسوا الحق بالباطل، ويحاولون جهدهم أن يفتنوه؛ ممن انحدر في دمائهم حب العنت، وأشربوا في قلوبهم روح المكابرة من لدن مَن قال من أجدادهم: (أرنا الله جهرة) حتى مشرق الإسلام على جزيرة العرب؛ ممن عموا وتاهوا وارتدغوا في حمأة الضلالة على يدي علمهم
أفكان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يلم شعث هذا الناس ويجمع شتاتهم على كلمة الدين. . . كلمة الأمان والسلام بعد ما كان بينهم من تنافر وتنابذ في يوم بعاث ومن قبله يوم مفلَّس ومضرس، ثم لا يتلمس هذا الفاسق حيلة يريد أن يطفئ بها نور الله وأن يؤرث بها ضغائن مسحت عليها يد الإسلام الرقيقة؟ أفكان الدين الجديد أن ينفث سحره في قلوب الأعداء فيصبحوا بنعمة الله إخواناً. ثم لا يجد هذا الفاجر مَسَّ الغيظ في قرارة نفسه يوشك أن يعصف به؟
لعمري إنه ليعلم أن هذا هو الدين الذي كان ينتظر، يجده مكتوباً عنده في التوراة؛ وهذا هو النبي الذي كانوا يستفتحون به على أهل الشرك من قبل أن يأتيهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وأعرضوا عنه، وحملوا عليه، حسداً من عند أنفسهم
وانطلق شاس يفتش عن دواء لداء الغل الذي يحز في نفسه فيثور به فيمنعه القرار، وينفث في حياته قلقاً ما يطمئن. . . انطلق والشيطان يدفعه ويوسوس له، فاستنام إلى رأي الشيطان
ولا ريب، فللشيطان قدرة على أن يحل كل مشكلة بطريقة شيطانية تبذر - دائماً - غراس الخراب والدمار، وتلد - أبداً - الشقاق والبغضاء
وجلس الشيخ إلى فتى غرّ أهوج من فتيان يهود يتملقه حيناً وينشر على عينيه ضعفه حيناً؛ وراح الشيخ يمكر بالفتى يقول: (. . . واتخذوني يا بني سخرية إن أنا أقبلت أو أدبرتُ؛ وأنا رجل كبّار، قد دقّ عظمي وتقبّض جلدي على مثل ما ترى، لا حول لي ولا طول، وهم ما ينفكون يهزؤون بكتابنا ويحتقرون ديننا ويتندرون على أحبارنا، فنستشعر الهوان والذلة ونحن كنا في العز والمنعة. ومَن لنا وللدين إن لم نجد في شبابنا وهم كُثر، مَن يرد عنا كيد هؤلاء ويدفع أذاهم. يا بني. . . يا بني. . .)(401/30)
وأطرق الفتى يتسمَّع دويّ صوت الشيخ، وإن الكلمات ليتردد صداها في مسمعيه فيخترق شغاف قلبه فيلقى السَّلم إلى أستاذه رويداً رويداً. ولا ضير فهو يحس مسكنة الرجل وانكساره
ورأى شاس الخديعة تنطلي على الشاب حين أسلس وانقاد فاندفع يحكم العقدة، فأقبل على الفتى يقول: (ياعجباً، لقد عرفتك أيّداً جلداً إذا حزب الأمر أو أعضلت المسألة، فما بالك الآن حيران لا تتماسك؟ لعل خشية القوم قد تسربت إلى قلبك فأنخلع فؤادك رهبة وجزعاً!). فأجاب الفتى في سرعة: (كلا، كلا يا سيدي، ولكني لا أجد الرأي)
فقال الشيخ في هدوء: (الرأي عندي أن تسعى فنفرق كلمتهم ونصدع ألفتهم فتنكسر شوكتهم وتنهد قوتهم، ونظهر نحن عليهم) قال الفتى: (وكيف؟) فأجابه الشيخ: (تعمد أنت إلى القوم وهم في مجلسهم يتسامرون فتذكرهم بأيام الجاهلية وتبعث في نفوسهم ذكرى ضغائن شغلتهم عنها أعباء الدين الجديد، وتنشر على أعينهم حديث يوم بعاث وما كان قبله، وتنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من أشعار. . . هذه، يا بني، هي الشرارة الأولى؛ ولا عجب إن هي سعرّت بينهم نار الحرب التي انطفأت منذ حين
وراح الفتى يندس بين جماعة من الأنصار يصحبه الشيطان، وأخذ يحمل القوم رويداً رويداً على ذكر أيام خلت، ويقص حادثات تبعث ميت الحقد، وتثير دفائن الغيظ، ثم هو يتلوى في حديثه ليذكر غلبة الأوس واستخذاء الخزرج. . .
ونفذ الفتى من ثغرات ضيقة إلى قرار القلوب، فتغلغل الحديث في نفوس القوم، وتشعب الكلام فنوناً، واندفع كل حزب يفاخر صاحبه ويباهيه، ويتطاول عليه ويكاثره. . . ثم شرى الأمر بين أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتواثبا على الرُّكَب يريد واحد أن يبطش بصاحبه، وتناثرت بينهما ألفاظ طمست على صفاء كان بينهما منذ ساعة؛ وانحازت طائفة من الأوس إلى صاحبهم، وأعان الخزرج محاميهم، وانفرط العقد، ودبّ دبيب الشحناء، وبدت البغضاء على وجوه القوم، وطغت عليهم طبائع الجاهلية التي تنشئوا عليها وعاشت في دمائهم سنوات وسنوات؛ فقال واحد لصاحبه: (إن شئتم رددناها الآن جَذَعةً). فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: (قد فعلنا، موعدكم الظاهرة). ونفر القوم وهم ينادون: السلاح السلاح!(401/31)
وأقبل شاس بن قيس في جماعة من ضلاّل يهود يرقبون ويبسمون، وفي رأيهم أن كيد الكافر يفلح، على حين أخذ الفريقان من الأوس والخزرج ينسلون في السلاح إلى موعدهم، إلى الظاهرة. وكادت الفتنة أن تقع فينهار صرح مشيد على يدي فاسق زنديق، لولا أن منَّ الله على أوليائه، فأنقذهم وهم على شفا جرف
وانطلق رسول السلام إلى رسول الله (ص) يخبره الخبر، (. . . وطارت الهيعة تجمع شتاتهم على باطل، فهم هناك في الظاهرة، تكاد نقمة الله أن تنحط عليهم فيرتدوا كافرين)
فخرج إليهم رسول الله (ص) قبل أن يبلغ الشيطان غايته. . . خرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم وإن سيفاً يوشك أن يقرع سيفاً، فناداهم: (يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بين قلوبكم)
وأفاق الأنصار من ذهول حين هبطت كلمات الرسول (ص) على القلوب برداً وسلاماً، فبدت لهم سيئات ما عملوا وتخاذلت أيدٍ كانت تحمل السلاح، وأقبل بعض على بعض يتعانقون ويبكون؛ وانسل الشيطان من بين الفريقين وقد كبته الله، وارتد عدو الله شاس يستشعر ألذلة والهوان. وتصافت قلوب كانت توشك أن تتهاوى على أسنة الرماح لأنها أصغت إلى حديث الشيطان ساعة من الزمان. . . تصافت، لأن قوة الإيمان سماوية تترفع - أبداً - عن الحزازات الأرضية
(المحلة الكبرى الثانوية)
كامل محمود حبيب(401/32)
من خلال التاريخ
بَّناءون مَنْسيُّون في تاريخ الإمبراطورية البريطانية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
تقابل الإمبراطورية البريطانية اليوم محنة قاسية، هي شر ما ابتليت به في تاريخها. ولا نستطيع أن نسبق الحوادث، أو نحكم على المستقبل، فإن في ذلك رجماً بالغيب ورمياً بالمجهول، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه الإمبراطورية الواسعة الأطراف تتماسك على المحن وتزداد صلابة على الحوادث؛ وإذا كان في الماضي والحاضر دلالة على الآتي وعنوانٌ على المستقبل، فإن ماضي الإمبراطورية وحاضرها يبشران بمستقبل تعود فيه الأمور إلى قرارها، وترجع الأحوال إلى نصابها
ولم يسبق في تاريخ البشرية الحافل ومعرضها المملوء بالحوادث الجسام والأحداث العظام أن تجمع الملمات والظروف القاسية قرابة خمسمائة ألف ألف (500مليون) من أناس يختلفون في العقيدة، ويختلفون في لغاتهم وألسنتهم، ويختلفون في ألوانهم، فتراهم جميعاً صفاً واحداً وبناء متماسكاً: تؤلف المصالح المشتركة والعواطف المتحدة بينهم
ولقد قامت في التاريخ إمبراطوريات عظيمة: كالإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية المصرية القديمة، والإمبراطورية الإسلامية؛ ولكنها جميعاً انتابها ما ينتاب الكائنات: فطويت أخبارها وضاعت مقومات وجودها، ولم يبق إلا ذكر يتردد في أسفار التاريخ
ولكل إمبراطورية بناءون اشتركوا في بنائها ووضعوا فيها اللبنة فوق اللبنة، والحجر فوق الحجر، حتى ارتفع البناء واستطال في الجو؛ وبعض هؤلاء البناءين مشهورون معروفون تردد الألسنة ذكرهم، وتقترن أعلامهم دائماً باسم الإمبراطورية التي أقاموا بناءها ورفعوا لواءها؛ وبعض هؤلاء البناءين منسيون مغمورون لا يهتف باسمهم لسان ولا يتردد ذكرهم على فم، على حين تبقى أعمالهم خالدة دائمة، لا تنتسب إلى صانع ولا تنتمي إلى مؤسس وهؤلاء المنسيون في كل أمة، وفي كل واد، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. ففي بنائي الأمم منسيون، وفي العلماء مغمورون وفي الشعراء والأدباء مطويون مقبورون
وليس من الحق أن يطول الأمد على نسيان هؤلاء الناس، وليس من العدل أن تظل أسماؤهم مكتوبة وحياتهم غامضة؛ وليس مما يشرف الإنسانية أن الجور يجري على(401/33)
أحكامها، وأن المحاباة تدخل في تقديرها وحسابها، فهي اعدل من تُطلب عنده النصفة ويلتمس منه التقدير
وفي تاريخ الأمة الإسلامية كثير من أمثال هذا النسيان، كما في تاريخ غيرها من الأمم. فليس من العدل أن يذكر اسم (الحجاج بن يوسف الثقفي) في توطيد الملك لبني أمية وينسى عشرات غيره ممن لا يقلون عنه يداً في دعائم التثبيت. وليس من الحق أن يذكر أبو مسلم الخرساني في الدعوة للدولة العباسية وينسى غيره ممن ساعدوا في بناء هذا الملك الذي يقول فيه الشاعر العباسي:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
نعم إن في بناء الممالك وقيام الإمبراطوريات عوامل أخرى تقوم بجانب العوامل الشخصية؛ وإذا كانت هذه العوامل الأخرى تذكر في معرض البحث ومجال الدرس ويلقى عليها ضوء يكشف عن دجاها، فإن العوامل الشخصية أحق بأن تذكر جميعاً، وألا يطوي النسيان واحداً أو اثنين أو جماعة منها
والذي يتتبع تاريخ الإمبراطورية البريطانية يجد فيها أسماء كثيرة يعرفها كل شخص، ويرددها كل لسان، يلقنها الطفل في مهده، ويقرأ عنها في دراسته الأولى، ويستزيد البحث عنها كلما كبرت سنه، وكثر ميله إلى المعرفة، وزاد شوقه إلى الاطلاع
فهناك (رودس) وأعماله الخالدة في جنوب أفريقية، وهناك (كوك) الملاح المستكشف الرحالة الذي راح ضحية مغامراته العظيمة فقتل بأيدي جماعة من سكان جزائر ساندويتش الوطنيين، وهناك (وولف) القائد العظيم الذي وطد للإمبراطورية في كندا وظهر في حصار (لويسبرج) واحتلال (كوبيك) في مفتتح القرن الثامن عشر؛ وهناك (نلسون) أمير البحر العظيم الذي جرح جرحاً بليغاً في معركة الطرف الأغر ضد الفرنسيين فلم يمنعه ذلك أن يقوم بواجبه وهو في ساعة النزع الأخير، وقد حشرجة نفسه وضاق بها الصدر
وهناك (دريك) (وكلايف) الذي مكّن لإنجلترا في بلاد الهند الواسعة وجعلها ملكاً للتاج البريطاني. وهناك عشرات غير هؤلاء يعرف الناس من أنبائهم الكثير
ولكن من سمع في تاريخ الإمبراطورية البريطانية عن (كلسي)؟ ومن حفظ اسم السير (جون ريتشاردز)؟ ومن خطر على باله أن يذكر في معرض الحديث عن القارة المجهولة(401/34)
الأفريقية اسم (موفات)؟
هذه أسماء ثلاثة لا أظن أن قارئاً سمع بها أو عرف نبأ عنها. فهي مطوية في تاريخ الإمبراطورية مسدول عليها ستار كثيف من النسيان؛ إلى أن تناولها الكاتب الإنجليزي الكبير (آدام بوزويل) في إحدى المجلات الإنجليزية من شهور قريبة، وعرف كيف يقدمها إلى قرائه في إنصاف بعيد عن التهويل والتهليل، وتجنب أن يضفي عليها ثوباً فياضاً من المبالغة والخيال. أما (كلسي فقد نشأ وضيع المنشأ، فقير الأهل صرعه الجوع يوماً فسقط مغشياً عليه، فالتقطه أحد الموظفين بشركة (هادسون باي) وحمله معه على إحدى البواخر حتى بلغا (فورت نلسون)، وهو بناء خرب متصدع الأركان يحيط به فضاء موحش، وهناك قام عمل الفراء على يد هذه الشركة
وكان (كلسي) غلاماً شقياً لا يطيع أمراً، ولا يحترم إرادة، فحمل إلى الحاكم فأمر بجلده. وتقلبت عليه سنون سود اختلط فيها بالهنود في كندا وعاش عيشتهم، وأخذ أخذهم، إلى أن حان له وقت البناء لمجد بلاده فألّب الهنود على الفرنسيين في كندا، وكان الهنود يحبونه ولا يعصون له أمراً؛ فانهالوا على الفرنسيين من كل جانب وأخرجوهم، ومكنوا للإنجليز في السلطان
وكانت القبائل تدخل في طاعته، وتنقاد إلى زمرته بدافع من المحبة له، وهو أول إنجليزي كشف شمال كندا الغربي وأضافه برمته إلى أملاك الإمبراطورية
أما (جون ريتشاردز) فكان ابن فلاح من غمار الناس لا من خواصهم. دخل في الجيش جندياً صغيراً جداً لا يؤبه له ولا يعتد به، ثم أصبح في زمن يسير قائداً عاماً
وفي أوائل القرن الثامن عشر كان مؤمراً على كتيبة من الجند في مدينة (أليكانت) ببلاد أسبانيا. وقد كان حظ إنجلترا أن تقاتل ضد فرنسا في ذلك الحين. ولكن شجاعة (ريتشاردز) وروحه المعنوية القوية سرت إلى ضباطه الصغار وجنوده، فقابلوا خطراً محققاً من لغم وضعه الفرنسيين لهم، ولم يحيدوا عن أماكنهم؛ أو يتزحزحوا عن مواقفهم؛ إطاعة لأمر قائدهم. وانفجر اللغم فمات منهم عدد كثير. ومات القائد في طليعة ذلك العدد
ولكن موتهم كانت حياة لمن بقى بعدهم. فقد ثبت الباقون منهم أمام أعدائهم، ولم يلقوا سلاحاً أو يرموا عدة من عدد الحرب حتى جاءهم عدد كبير تحت قيادة أمير البحر الإنجليزي(401/35)
(بنجز) الذي اضطر الفرنسيين إلى الفرار وتولية الأدبار
وبهذه الشجاعة الأدبية الفائقة، والتضحية الحق التي بذلها (ريتشاردز) استطاع عشرات من الجنود الإنجليز أن يعوّقوا عشرة آلاف جندي من الفرنسيين عن القتال، وأن يؤخروهم حتى يجئ المدد ويتم النصر، ويقضي على محاولة فرنسا لتستولي على أملاك الإمبراطورية البريطانية
أما (موفات) فلم يسمع به أحد إلا القليل ممن يقرءون تاريخ الكشف الأفريقي، وأين منه مثلاً الاسم الواسع العريض الذي يتمتع به ليفنجستون؟ والحق أن هذا الأخير قد قرر فيما قرره أن أعماله في أفريقية كادت تكون عملاً مستحيلاً لولا أن (موفات) ذلل له السبيل، ومهد له الطريق
كان (موفات) من أسرة وضيعة الحال، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يكون أحد البناءين المنسيين في الإمبراطورية البريطانية. والحق أن بناء الأمم لا يحتاج إلى شخصيات من ذوي الحسب وأصحاب النسب؛ بل كثيراً ما تكون الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، والتضحية الفائقة هي العوامل الفعالة في رفع البناء.
وإذا تجردنا من الهوى نجد أن أعظم الدكتاتورين المعاصرين هم من أسر رقيقة الحال، ومن طبقات لم تبلغ مكان السيادة، ولا محل القيادة.
وكذلك كان (موفات). فقد ظل يعمل في أفريقية مدة خمسين عاماً بين زنوج أفريقية. وكان أمة وحده في نشر الدعوة للإمبراطورية في وقت لم تشهد القارة السوداء فيه وجهاً واحداً من ذوي البشرة البيضاء، والعيون الزرق.
ولقد أحبه الرحالة العظيم لفنجستون، ووثق به واطمأن إليه وتزوج ابنته. وكان (موفات) في البعثة التي ذهبت إلى أفريقيا بعد عيشة خمسين عاماً فيها ليبحث عن حميه التائه في مجاهل القارة المظلمة
(مترجمة عن انجلش ديجست)
محمد عبد الغني حسن(401/36)
كلمة أخيرة
التقليد في الفنون أو نسخ (الكربون)
للأستاذ سيد قطب
التعبير الفني في كل صورة من صوره - أدباً كان أم تصويراً أم نحتاً أم غناء أم موسيقى - هو انبعاث ذاتي، وفيض نفسي، وانفعال شخصي، يتميز فيه كل فنان عن كل فنان
والله الذي جعل بصمات الأصابع مختلفة في كل إنسان - وهي خاصة جسمية - جعل الشعور الإنساني والطبائع البشرية أشد اختلافاً وأكثر تفاوتاً، لأن الملامح النفسية أجدر بالتفاوت والاختلاف من الملامح الجسمية في بني الإنسان
وتفاوت الطبائع الفنية هو المبرر لظهور الفنان بعد الفنان، حتى يكون للحياة من هذه الطبائع معرض حافل بصورها المختلفة، ذلك أن الفن صورة الحياة في نفس فنان، وحين تختلف الصور وتتعدد، يحفل المعرض الخالد بالصور العجيبة
وحين ينعدم هذا التفاوت والتميز المطلوبان في الفنان، ينعدم المبرر الأول لظهوره على مسرح الفنون، ويفقد حجته في تمثيل دوره في الحياة التي لا تحفل بالنسخ المكرورة المعادة، ولا تبالي سوى الجديد المتميز تكثّر به نتاجها الممتاز، وتزيد في معرضها العجيب
تلك بديهيات مقررة، ولكننا هنا في مصر تحتاج أن نبدأ فيها ونعيد وأن نشرحها ونضرب الأمثلة لها، ولو نقلت هذه الشروح والأمثلة إلى أية لغة لكانت عجباً هناك بين القارئين، ودليلاً أي دليل على مبلغ تأخرنا في فهم وظيفة الفنون، بينما نحن في مصر لا نزال في حاجة إلى المزيد!
وقد كان معيباً أن يقلد شاعر شاعراً، وموسيقى موسيقياً، ومطرب مطرباً، في طريقة إحساسه أو طريقة أدائه، ولو كان هذا التقليد غير مقصود، لأنه يعارض غرض الحياة الأول من إظهار فنان بعد فنان، ويعطل وظيفة الفن الأولى من إبراز النماذج والأنماط
وظل هذا التقليد المستتر العارض معيباً، حتى فوجئنا أخيراً ببدعة فاقت كل ما يخطر على البال من جراء المسخ الذي أصاب الغناء المصري، تلك هي ظهور مطرب أو أكثر يقول علماً: إنه يغني على طريقة مطرب آخر، ويذيع فعلاً، فإذا هو صورة أخرى من أستاذه أو نسخة من نسخ (الكربون)!(401/37)
كنا ننتظر كل مسخ أو تشويه للطبيعة البشرية - ودعك من الطبيعة الفنية الممتازة - إلا أن يصل هذا المسخ إلى رضاء إنسان أن يكون نسخة أخرى من إنسان، ونسخة مشوهة بطبيعة الحال كنسخة (الكربون) بالقياس إلى النسخة الأصلية
ولست أدري ما يبرر وجود النسخة الثانية متى كان في الإمكان الاطلاع على النسخة الأولى. ولست ادري لماذا يكلف إنسان نفسه مشقة الاطلاع على نسختين مكرورتين أو أكثر وفي واحدة غناء عن الأخريات؟
وما أدري أسأل المطرب المقلد أو المطربون المقلدون والمطربات المقلدات أنفسهم هذا السؤال؟ وهل علموا أنهم يلغون وجودهم ويفقدون المبرر الأول لهذا الوجود، أم لم يدر في إخلادهم مثل هذه الأسئلة وهم يندفعون إلى التقليد؟
وبعد فلو عزت الدلائل على المسخ والتشويه الذي بلى به عالم الموسيقى والغناء، ففي هذا التقليد الواضح المكشوف دليل لا ينقض على هذا البلاء، دليل على هؤلاء الذين يتصدون لأرفع وظيفة إنسانية وهم مجردون من المؤهلات البشرية الأولية التي ترتفع بالإنسانية عن التماثل أو التشابه الملحوظين بين حجر وحجر أو زاحفة وزاحفة، قبل أن تتميز الأشكال وتتنوع الأنماط في عالم الطبيعة وعالم الحياة. . .
وهو دليل على أننا لم نكن مبالغين حين نفضنا أيدينا من هؤلاء الناس، ويئسنا من استطاعتهم تغيير أنفسهم وتبديل طبائعهم؛ وحين التفتنا إلى هذه الأمة وحدها نفحص عن نبع مطمور في طبيعتها نرجو أن يتفجر فيكتسح هذه المخلفات
وفي ارتقاب هذه المعجزة نقضي الوقت في تأملات وملاحظات علها تمهد الطريق للنبع المرموق!
يتشقشق العصفور حين تمتلئ حويصلته بالحب والماء، ويحس بالدفْ والراحة، ويأمن المخاوف والأخطار، ويستشعر في قواه فضلة دافقة يناجي بها الأليف، ويطلب لها كفئاً من الأنيس
ويغني الإنسان - على مثال ما تشقشق الطير - حين يجد في نفسه فيضاً من شعور، وفضلة من طاقة، ويحس براحة التعبير، ولذة في التنفيس. يستوي أن تكون هذه الطاقة من لذة أو ألم(401/38)
وأن يكون ذلك الشعور من نعمة أو بلاء، والألم في هذه الحالة دليل قوة كاللذة سواء، ومبعثه امتلاء النفس بعاطفة ملحة، لإفراغها من الطاقة الدافعة
ولن يكون الغناء في أية حالة من الحالات دليل ضعف وانحسار في الوجدان، ولن ينبعث حين ينطوي المرء على نفسه وتفرغ الطاقة الدافعة في شعوره، فهذه الحالة حين توجد تبعث على الصمت لا على التعبير، وتنزع إلى الانزواء لا إلى الظهور
فالذين يغنون فينضح الضعف في أغانيهم، ويسيل التخاذل في نبراتهم، والتهالك في ألحانهم، هم جماعة من الممثلين الزائفين لا يليق بأمة أن تطمئن إلى قيامهم بأرفع وظائفها وهو التعبير الفني والقيادة الروحية والتطلع إلى الكمال
والحب المظلوم مع المؤلفين والملحنين والمطربين، هو الآخر دليل فيض في القوة لا دليل انحسار. فلن يحب المحب وهو مضعوف هزيل، ولن يبحث عن الحب إلا حين تفيض قواه، ويطلب لهذا الفيض إنساناً آخر يعاطفه ويكافئه؛ حتى الحيوان - لا يحب! - إلا حين تصح بنيته وتفيض غريزته فيطلب الأنثى، ويجهر بالحب على طريقة الحيوان!
وقد يبعث الحب الألم في بعض الأحيان، ولكنه لن يبعث الضعف في حالة من حالاته، ولا التميع في صورة من صوره؛ إلا أن يكون هذا الحب (السوقي) المصطنع الذي يفيض به الغناء في هذه الأيام
إن حرقات الحب في حرمانه غريزة قوية كلذائذه في متاعه، وما كل هذه التكسرات و (المياعات) إلا دنس يلطخ وجه هذا الحب العزيز الكريم، ويشوه جبينه الطاهر النبيل، وما هو إلا مسخ للطبائع وتحريف للغرائز، أوقح ما فيه أنه يتزيا بزي الفنون
ومن المؤلم ألا يكون الغناء وحده هو الذي يقارف هذه الجريمة، بل يشاركه الشعر فيها؛ فإذا الحب بكاء ودموع ولا شيء غير البكاء والدموع. ولن يصاب الحب بالمسخ فوق هذا المصاب، ولن يبلي هذا البلاء إلا حين تشيخ الأمم ويصيبها الانحلال. ومن هنا نحن نشتد في مقاومته خيفة أن يصدق نذيرة في شعب يهم بالنهوض!
إن للحب ألواناً وأنماطاً، وإن له صعوداً وهبوطاً، وإقبالاً وأدباراً، ولذة وألماً، وفيه رجاء وقنوط، ويقين وشكوك، وجموح وانحسار، وقلق واطمئنان؛ وهو في كل حالة من حالاته يثير أحاسيس ويلهم تعبيرات؛ فأين هذا الغنى كله من ذلك الفقر المدقع في عواطف الشعر(401/39)
والغناء، ومن ذلك الثوب الواحد الذي يرتديانه في كل حال؟
ووراء الحب عوالم أخرى من مباهج الحياة، ومجالي الأطياف والظلال، ومعارض الصور والأشكال، في الطبيعة والكون؛ فأين هذا كله في الموسيقى والغناء؟
أيتها الأمة: إن هؤلاء الذين يهتفون لك بأحط غرائزك، ويتملقون فيك أردأ أحاسيسكن ويخاطبون عندك أسوأ وجداناتك، هم جماعة من التجار المهرجين، يختلسون إعجابك، وينهبون نقودك، ويجزونك على هذا بنشر أسباب الانحلال، وبث عوامل التفكك. وغريزة الدفاع عن النفس في أبسط صورها كفيلة أن تنبهك أيتها الأمة إلى الذود عن نفسك، وإلى نبذ كل من يخاطبك بغير ما تخاطب به الأمم الناهضة والشعوب الكريمة
وإلى اللقاء - أيتها الأمة - حين تقع المعجزة فينهض فيك فنان في عالم الموسيقى والغناء
سيد قطب(401/40)
من وراء المنظار
المتعاظم الصغير أيضا
أحب من أعرف من القراء هذا المتعاظم الصغير وما منهم إلا من يراه فيما قرأ عذب الروح خفيف الظل، يرق كثافة ويلطف روحاً، حتى لتكاد ألا تراه إذا وقعت عليه العيون
جلست ذات يوم مع كبير من أصحاب الديوان، جئته زائراً فحسب، فراح - ولعله ظن أني جئته لأمر - يشكو إليَّ من كثرة من يجيئونه من طالبي الوظائف لأٌقاربهم والمحسوبين عليهم من الناس، وقال وهو يبتسم ابتسامة ساخرة: والعجب أنه كثيراً ما يطلب إليَّ ذلك من لا أكاد أعرف أشخاصهم، فمن هؤلاء من يرى أن مجرد رؤيته إياي مرة في أية مناسبة، كفيل بأن يجعل له حق الوساطة لدي!
وما كاد يتم صاحب الديوان عبارته، حتى ناوله حاجبه بطاقة فنظر فيها نظرة المتسائل وقطب، ثم ابتسم مثل ابتسامته السالفة وقال لحاجبه في شيء من الضجر: أدخله. . .
وفتح الباب، ونظرت، فإذا المتعاظم الصغير يقبل متهللاً فيسلم على صاحب الديوان سلام الصديق على صديقه، وبعد أن سأله كيف حاله وكيف حال أنجاله، وأعاد ذلك مرة ومرة، دنا منه وكلمه كلاماً لم أسمعه، وإنما رأيت في معارف وجهه التوسل والاستعطاف الشديدين؛ وأنصت صاحب الديوان وعلى وجهه إمارات من يكظم غيظه ومن يعاني من ذلك ضيقاً شديداً، ثم نفس عن نفسه بقوله: (يا سيدي الأستاذ هذا ضد القانون) ولكن الأستاذ راح يتوسل من جديد في ابتسامات قردية السمت، وحركات من لَيَّ العنق وإدارة الوجه: مرة إلى اليمين ومرة إلى الشمال، أشبه بما يفعل معك أحد الشحاذين إذا ابتليت به فقطع عليك طريقك
وما فرغ الأستاذ من مسكنته هذه إلا بعد أن راح صاحب الديوان يكرر - وكأنه يصرخ - قوله: (آسف يا سيدي. . . يا سيدي قلت لك آسف. . . لا تؤاخذني. . . آسف. . . آسف)
وبلغ المتعاظم الصغير منتهى عذوبة روحه وخفة ظله، فراح يلقي في روع صاحب الديوان أنه يعرف فلاناً وفلاناً، وأنه له عند (سعادة الوكيل) مكانة خاصة، وأن من أصدقائه كيت وكيت من العظماء والكبراء، وأنه ما جاء يرجو (سعادة البك) إلا لما عرف من كرمه وبره، ثم سأله ليغطي خجله أو ليحفظ على نفسه تعاظمها وقد يئس من التوسل، أيجيب(401/41)
طلبه إذا ظفر بموافقة سعادة الوكيل عليه؟
وإذ ذاك نهض صاحب الديوان فمد إليه يده يسلم عليه أو يصرفه على الأصح وهو يقول مبتسماً: (يا أخي إن من يعرف هؤلاء لا حاجة به إلى أمثالنا). . . ولم يجد التعاظم بداً من الخروج؛ ونظرت إليه وهو يهز اليد التي امتدت متراخية إليه هزاً قويَّاً حماسياً، فلم أر في وجهه شيئاً من خجل أو اضطراب!. . .
ونظر إلى صاحب الديوان وهو يتنفس الصعداء الطويلة قائلاً وقد رأى في وجهي الاستفهام: (تا لله يا أخي ما أذكر أني رأيته من قبل ولم أعرف اسمه ولا وظيفته إلا من بطاقته)!
وانصرفت من لدن صاحب الديوان فمررت بذلك المتعاظم وقد وقف في ردهة من ردهات الديوان يحيط به بعض الريفيين وسمعته يقول لأحدهم: (خلاص يا مصطفى مسألتك انتهت وستعين قريباً. . . أما أنت يا حسن فأنا ذاهب إلى سعادة الوكيل من أجلك الآن. . . وأنت يا عليّ فكرني بكرة. . . فين عبد السميع؟ موضوعك ينتهي قريباً إن شاء الله، اطمئن. . .)
ومضى المتعاظم الصغير مرفوع الرأس شامخ الأنف يسراه في جيب سرواله ويمناه يلوح بها مسلما على من يعرف ومن لا يعرف ممن يمر بهم من صغار أصحاب الديوان وكثيراً ما كان يكتفي بإيماءة من رأسه العالي أو ابتسامة من ابتساماته العذبة وإن لم يفطن إليه بعض من كان يجود عليهم بهذه التحيات أو كان يحسبها بعضهم موجهة إلى غيرهم لأنهم يجهلون صاحبها، وفي نفسه أنه علم يشار إليه أينما سار؛ وكان كما زعم متجهاً للقاء سعادة الوكيل وإن كنت لأعلم حق العلم أنه لا يعرف عن سعادة الوكيل إلا اسمه وموضع حجرته من حجرات الديوان
الخفيف(401/42)
البريد الأدبي
خصومة لا عداوة
رأى جماعة من كبار المفتشين وهم الأساتذة جاد المولى بك ومحمد علي مصطفى ومحمود محمد حمزة ومصطفى أمين وأحمد علي عباس، رأى هؤلاء الأكابر بأخلاقهم وآدابهم أن أقف الجدال الذي أثَرتُه في وجه الأستاذ السباعي بيومي، وحجتهم أنه وصل إلى درجات من العنف تؤذي كرامة المشتغلين بخدمة اللغة العربية
وأنا أجيب هذه الدعوة، لأنها أول دعوة كريمة صدرتْ لكفّ الشر بيني وبين من أخاصمهم بقلمي لا بقلبي، فلم أسمع مثل هذا الصوت يوم خاصمتُ رجالاً أعزّاء لم يكن يسرني أن يفصم القلم ما بيني وبينهم من عهود
وإنصافاً لنفسي أقول: إني كتبت ما كتبت وأنا أبتسم. فأنا قد أُخاصم، ولكني لا أعادي. فما استطاعت الدنيا بأحداثها الفواتك أن تضيفني إلى أرباب الضغائن والحقود، وإلا فما هي البواعث التي تفرض أن أخص الأستاذ السباعي بالعداء وهو صديق قديم؟
أنا أُتهم بالقسوة والعنف بغير حق، فما كان من همي في كل ما أثرت من المجادلات إلا إيقاظ الروح الأدبي واللغوي. أما إيذاء الأدباء والباحثين فهو معنى لا يمر بخاطري، لأني أرجو دائماً أن يكون الهدم على عنفه من صور البناء
كان سبب الخلاف هو تبرئة الشيخ المرصفي من تهمة الغرور فما يكون الرجل مغروراً إلا حين يدعي ما لا يملك، والمرصفي من أقران المبرد، وجهد المرصفي في شرح الكامل قد يكون أعظم من جهد المبرد في تأليف الكامل، وستُعرف هذه الحقيقة يوم يقام في هذه البلاد موازين صحيحة لأقدار المفكرين في القديم والحديث. . .
أنا أديت واجبي في صيانة سمعة الشيخ المرصفي، فماذا صنع تلاميذ هذا الإمام الجليل، وفيهم أحمد حسن الزيات، ومحمود حسن زناتي، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين؟
ولكن كيف يصنع أولئك الأساتذة في البر بذلك الإمام الجليل. . .؟
أنا أدعوهم إلى تأليف لجنة أدبية يكون عملها إنقاذ مؤلفات الشيخ المرصفي من الضياع. وأخص بالعناية شرح المرصفي على (أمالي القالي) فقد أخذ من وقت شيخنا العظيم سبع سنين، وهو لا يقل عظمة عن شرح الكامل، وقد يفوقه في أشياء(401/43)
منذ نحو ثلاث وعشرين سنة وقف الخطباء والشعراء في المدرَّج الذي أنشأه الوزير علي مبارك باشا في ديوان المعارف بدرب الجماميز، وقفوا يرثون الشيخ حمزة فتح الله، وكان فيهم محمد الهراوي وعلي الجارم ومحمد الخضري، ثم وقف خطيب خُتمت خطبته بالدمع، فمن هو ذلك الخطيب؟
هو الأستاذ الشيخ محمد المهدي بك، أول أستاذ تلقيت عليه دروس الأدب بالجامعة المصرية؛ فقد كان في خطبته أن جماعة من المستشرقين أرادوا أن يشتروا مخطوطات الشيخ حمزة فتح الله وأنه أجاب: هذه المخطوطات ملكٌ لوطني!
وقد بكى الشيخ المهدي فأبكاني حين فاه بهذا التصريح النبيل
وأنا من جانبي أذكر أن الشيخ المرصفي كان يصلي العصر بالأزهر منذ نحو عشرين سنة وبجانبه رجل يترصدّه من جماعة الناشرين؛ فلما انتهى الشيخ من صلاته أقبل الناشر يقول: أرجو فضيلة الشيخ أن يبيعنا حق النشر لشرحه على الأمالي. فصرخ الشيخ: هذا شرح لا يشتريه إلا ملك!
وكان ذلك آخر العهد بشرح المرصفي على الأمالي، ومصرُ لا تخلو من عقوق إلا أن يتفضل أستاذنا الشيخ محمد مصطفى المراغي فيشتري هذا الشرح من الورثة قبل أن يضيع كما ضاعتْ مئات وألوف من آثار أصحاب الفضل بهذه البلاد
إن نفعتْ هذه الفرصة بعض النفع في إنقاذ بعض مؤلفات الشيخ المرصفي فسيكون من حقي نحو ضميري أن أتناسى الإيذاء الذي صوَّبته إلى الأستاذ السباعي بيومي، وإلا فسأذكر أني أهنت رجلاً وادعاً بلا نفع ولا غناء، فما آثرت ميدان النقد الأدبي إلا لغرض نبيل هو إيقاظ الغوافي من العواطف والقلوب
المهم هو الظفرٍ محقق لخدمة اللغة العربية، فأين من يستمعون هذا الصوت فينقذون مؤلفات الشيخ المرصفي من الضياع؟ وأين من يذكرون أن الشيخ المرصفي كان أول رجل أقام دولة للأدب واللغة في مطلع العصر الحديث؟
أما العبارات التي آذيتُ بها الأستاذ السباعي بيومي والتي استوجبتْ أن يتوسط بيني وبينه أولئك الأكابر من المفتشين، وهم لي وله إخوان، فأنا أراها عبارات هينة رقيقة، على شرط أن تنبه الغافلين من تلاميذ المرصفي العظيم، وإلا فهي إثمٌ اجترحتُه في بلاد لا تعرف(401/44)
حقوق الرجال.
زكي مبارك
تصويبات
حضرة الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة)
1 - قرأت في العدد 397 من الرسالة الغراء كلمة للدكتور زكي مبارك، توجيهاً لغلطة في ضم الظاء من كلمة (الظرف). فقد قال: (أنا أقول إن الظرف قد أخذ حكم اللطف من طريق الإتباع، ثم بقى له الحكم مع الانفراد. . . والمصريون عرب، وهم لا يخطئون في لغتهم عن جهل، وإنما (يخطئون) لأسرار قد تخفي على بعض القراء، فنتوهمهم مخطئين وهم على صواب) الخ ما قال
ومعنى هذا كله أن الدكتور قد أخطأ، فشقّ عليه أن يعترف بالخطأ، فراح يتلمس أمثال هذه العلل. نحن لا ننكر أن جمهرة المصريين من أصل عربي، وأن لغتهم تتكون من لهجات القبائل العربية التي نزحت إلى مصر، وأنها تشتمل على كثير جداً من الفصيح، وعلى كثير جداً مما يحتاج إلى يسير من التهذيب والصقل حتى يعود صحيحاً. ولكنا ننكر أشد الإنكار أنهم لا يخطئون في لغتهم، بل الخطأ والتشويه فاشيان في صميمها. وما ظنك بأمة خالطت الأعجام من كل جنس قروناً وأحقاباً طوالاً. ولخطر المخالطة والامتزاج جَدّ السلف من اللغويين في ضبط اللغة ووضع قواعدها وجمع مفرداتها من أفواه العرب الخلّص، حفاظاً عليها من أن تتسرب إليها العجمة والتشويه. أفبعد كل هذه المخالطة والامتزاج نجرُؤ أن نحتج بكلام المصريين وضبط للألفاظ؟
ألا إن هذا المذهب إغراء صريح للشباب بالاستهانة بالبحث وأخذ اللغة من مصادرها الصحيحة
وقد اذكرني هذا أني رأيت في الرسالة منذ قريب كلمة لفاضل نبّه فيها الدكتور على أنه من غير الصواب أن يقول: (أمكن له) لأن الفعل متعد بذاته، ولكن الدكتور لم يجبه. وبينما كنت أتصفح للدكتور من بعد ذلك مقالاً في (الرسالة)، وجدته يُؤْثر الخطأ نفسه، حتى لا يقال - فيما أظن - إنه اعترف بأنه أخطأ. وقد يجيب الدكتور عن هذا بأن المصريين(401/45)
يقولون: (أمكن له) فهو صحيح!
2 - نشب حوار في (الرسالة) بين الدكتور زكي مبارك والأستاذ إسماعيل مظهر حول معنى (الجيل). فأنكر إسماعيل مظهر المعنى المُتعالَم للجيل، وهو أهل الزمن الواحد. وقال إن الكلمة التي تؤدي هذا المعنى هي (الأهل)، وساق نصاً من الأغاني يؤيد رأيه وقال - مستنداً إلى ما اطلع عليه من المعجمات - إن الجيل هو الصنف من الناس، فالمصريون جيل، والترك جيل. . . الخ، وأصر الدكتور زكي مبارك على أن المعنى المتعالم يُقصد أيضاً من (الجيل)، ووعد بمواصلة البحث حتى يأتي بالدليل. ولكنه لم يأت به بعد
وإني أدله على دليل: ففي (المصباح المنير) في مادة (ق ر ن) ما يأتي: (والقرن الجيل من الناس. قيل ثمانون سنة. وقيل سبعون) فأنت ترى أن للجيل معنيين قد نُص عليهما
أما (الأهل) التي بها الأستاذ مظهر من الأغاني فيظهر أنها قد تنوسيت لذلك المعنى. فأهمل استعمالها
3 - قرأت في مجلة (الثقافة) كلمة تحت عنوان: (مفاتح جمع مفتح لا مفتاح) قال فيها الكاتب بعد كلام: (والواقع أنه (أي مفتاح) جمع مفتح بالكسر. وهو الآلة التي يفتح بها. أو جمع مفتح بفتح الميم. وهو المكان لا جمع مفتاح. . . الخ. ولو كلف الكاتب نفسه المراجعة لما قال هذا القول. ففي المختار: (والمفتاح مفتاح الباب. وكل مستغلق. والجمع مفاتيح ومفاتح أيضاً). وفي هذا كفاية. ولا ضرورة لهذه الفلسفة الصرفية التي لجأ إليها الأستاذ الكاتب
ا. ع
صواب بيت
في عدد مضى من الرسالة، كتب الأستاذ الباحث (عبد المتعال الصعيدي) كلمة قصيرة، بعنوان خطأ بيت في النحو، اتهم فيها علماء النحو - جميعاً - من يوم أن كان هذا الفن بالبصرة والكوفة إلى أن باض وأفرخ في صحن الأزهر الشريف، ونسب إليهم من السهو والغفلة الكثير الجم، إذ أجمعت مؤلفاتهم وأفكارهم على أن (أو) في البيت:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر(401/46)
بمعنى (حتى) التي هي للتعليل أو الغاية وقد هداه بحثه إلى أن هذا المعنى الذي جاءت له (أو) لم يكن واحداً مما استقصاه ابن مالك في قوله:
خيْر أبح (يأو) وأبْهِم ... واشك وإضراب بها - أيضاً - نمى
وربما عاقبت الواو إذا ... لم يلف ذو النطق للبس منفذا
والذي يقرأ الكلمة لأول وهلة، يخيل إليه أن الأستاذ هدم ما بنى البانون، وقوض ما شيد المشيدون في حين أن المسألة - كما يقولون - ليست مما يقال في أمثالها (قضية ولا أبا حسن لها) فإن هذا الذي يقوله ابن مالك، خاص (بأو) التي تتمخض للعطف. . . أما هذه فإنها تكون بمعنى (إلى) إذا كان ما قبلها مما ينقضي شيئاً فشيئاً كالبيت المذكور. . . وتكون بمعنى (إلا) إذا كان مما ينقضي دفعة واحدة. . . كقول زياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
وتكون بمعنى (لام التعليل) كما يقول القائل: لأعطين الفقير أو يرق لي قلبه. . . على أننا لو رحنا نتلمس (لأو) في كل هذه الأمثلة معنى حرف من الحروف التي جمعها صاحب (الألفية) في بيته - خير أبح إلخ - لما ضاقت علينا السبيل
وهل المعنى في البيت (لأستسهلن الصعب) سوى (ليكونن مني استسهال الصعب وإدراك المنى). . . وهكذا دواليك. . . وقد كان مما يؤثر عن علمائنا، أن نكت النحو - كالورد - تشم ولا تدعك.
إبراهيم علي أبو الخشب(401/47)
القصص
مازبا. . .
للأستاذ محمد محمد مصطفى
(ليست قصة الصبي البولوني (مازبا) من نسج الخيال. فلا
تزال حوادثها مصورة على جدران كنيسة (سانت ماري) في
مدينة (جالاتز) برومانيا).
قالت الأميرة (أوجستا) لخادمها وهي تحاوره:
- إني لأعجب من أمر الصبي القائم بباب قصري لا يبرح مكانه منه إلا ليطوف طرفه بنوافذ غرفتي، فإن عرضت لي حاجة خارج القصر علق بي نظره ما يرتد إلا إذا غبت في حشد الطريق.
فقال الخادم: إنه مازبا يا مولاتي
- ومن يكون مازبا؟
- هو شريد غريب الأطوار طالما رقت له قلوب الناس ولكنه يمتنع عن أن يناله أحد بعطف أو إحسان إلا أجراً لخدمة يؤديها
- وما مقامه ببابي؟
وأرتج على الخادم ولوى شدقيه بكلمات لم تدرك منها الأميرة شيئاً. وكانت لحظة هائلة على الخادم المسكين، أيكذب على سيدته وما كذب في حياته قط. . . أم يقول الحق. . . وياله من حق. . .
أيقول لها إن هذا الشريد هائم بك قد تناهى كل جمال في دنياه إلى صورتك لا يقوم إلا بها، ولا يغمض عينيه إلا عليها؟ أيقول لها: إن قلبه لا يفتر عن الوجيب كلما خطرت أمامه خارجة من القصر أو عائده إليه؟ أيقول لها إنها سافرت إلى الريف أياماً قضاها البائس بين سعير وجده ولهيب حبه؟ أيقول لها إن المدينة كلها تتندر بغرامه وشغفه؟
وقال الخادم أخيراً:
- سليه يا مولاتي فهو أقدر مني على الجواب الصحيح(401/48)
وخيل لمازبا أن الدهر قد مالأه وأن كل شيء في الوجود يبسم له حين دعاه الخادم للمثول بين يدي الأميرة، وكان يذرع الأبهاء لا تأخذ عينه تحفة، ولا يستوقف نظره أثاث. . . كان كل شيء يبدو في عينيه طبيعياً كأن له به عهداً. ولما أشار الخادم إلى غرفة الأميرة شحب لون الصبي قليلاً ولكنه واصل السير، وقالت له الأميرة: أخلت رقعة الأرض من مكان يأويك فجئت تصوِّب إليَّ في كل حين نظرة المتحين للشر؟
- شر. . . إني لا أحب الشر ومع ذاك فأنا. . . ومن أنا حتى أملك للأميرة شراً؟
وسمعت الأميرة ضجة خارج غرفتها فسألت الخادم عنها فقال:
- إنهن أتراب مولاتي أتين للسمر. فقالت: دعهن يدخلن
وحينما دخلن على الأميرة شدهن وفغرن أفواهن وصاحت إحداهن: يا لمعجزة الحب. . . لقد وصل العاشق الشريد إلى مخدع الأميرة. وقالت أخرى:
- بالله لنتركهما يتناجيان فنسمع نجواهما. . . يا للمنظر الفريد والحدث الفذ
وعلت قهقهتن والأميرة تنظر ولا تدرك شيئاً من حديثهن ثم قالت: إنه مازبا يا رفيقات. يبدو أنكن تعرفنه فصحن جميعاً:
- وهل في المدينة من لا يعرفه؟
فقالت الأميرة: لقد كان يرسل إليَّ كلما مررت به نظرة أفاق فأوجست منه شراً. فقلن:
- كيف! ألا تفرقين بين النظرات؟
وأمرت الأميرة خادمها أن يطعمه ويكسوه وأضافت:
- ولكنك يا مازبا ستقيم بعيداً عن القصر فلا تعد إلى مكانك منه مرة أخرى
فقال الصبي بالله يا مولاتي. . . دعيني. . . لا أريد طعاماً ولا رداء، ولا تحولي بيني وبين مكاني فما في الأرض مكان إليّ منه، وما وجودي به بضارك شيئاً
فرقت له نفس الأميرة وقالت: لك ذلك يا مازبا
وحينما هم بالسير قالت إحدى رفيقاتها:
- مسكين! لقد شفه الهوى وأضناه الحب.
- ودهشت الأميرة ونادته ثانية وقالت:
- أسمعت يا مازبا. . . إنهن يقلن إنك عاشق مدنف. . . فمن ترى تلك السعيدة التي سلبتك(401/49)
قلبك؟
وأخذت أذنا لا مسكين تتجاوب صدى ضحك الفتيات وقد سمر في مكانه لا ينبس ولا يطرف، وطال صمته والفتيات ينظرن إليه ويضحكن. فقالت الأميرة:
- تكلم يا مازبا. . . من هي تلك السعيدة. . . أتكون بائعة الزهور أم بنت بوابة المنزل المواجه لقصرنا؟
فقال الصبي: لا هذه ولا تلك
- فمن تكون إذاً؟
- إنها فتاة كبدر السماء أنظر إليها ولا أطمع في قربها. يغمرها الترف الذي نأت فيه، وتغمرني الأحزان التي ولدت في أحضانها. على أنه إذا كان ذلك بلاء بليت به فما أسعدني بهذا البلاء، وما أكثر جذلي حين أرقب وجهها في الليالي القمراء كأنها ملك هابط، أو كأنما قد فرت من الجنان حوراء
وأدركت الأميرة من كلام الصبي وضحك أترابها وتدله عيناه وخفق قلبه المتدارك أنها معشوقة ذلك الهزأة الشريد فانتفضت كمن مسها الخبل وصفعته صفعة طار لها صوابه، وأمرت الخادم أن يربطه عارياً على ظهر فرس يطلقها إلى غير وجهه في براري الدانوب
وكان وجه مازبا إلى السماء، والفرس تنهب به أرضاً عذراء لم تطأها قدما إنسان، وطوت في الفلاة أياماً، ثم ظهر لعينيها العمران فاتجهت إليه مسرعة كأنما كانت تحس أن حملها لاغب وهنان. ولما اقتربت الفرس من مضرب قبيلة (ساشا) القوقازية اشتد عليها نباح الكلاب. وسرعان ما رفع الخبر إلى زعيم القبيلة (دروفسكي) الذي انطلق يسائل مازبا عن قصته، ولكن الصبي كان لاه عن لغطهم وأسئلتهم بما قدم إليه من حساء وشواء، وكان لا يفتأ يسأل بين الحين عن فرسه وما قدم إليها من علف وماء.
وقال مازبا بعد ما طعم وروى: أشكر لكم أيها السادة هذا الطعام وهذا الكساء وأستودعكم الله. . . إلى اللقاء
فقال زعيم القبيلة: إلى أين يا مازبا؟
- إلى أين؟ حقاً إلى أين؟ عفواً أيها الزعيم فإني لا أعرف إلى أين أذهب. فقال دروفسكي:
- يا بني. إن امرأتي عاقر ولم أعقب ولداً وقد أرسلك الله لي فلا تخفر ظني فيك(401/50)
- لك ذلك أيها الزعيم على ألا تسألني عن ماضي لأنه قد تصرم وطواه الظلام
وبدت طلائع الفجر ولما يرقأ لعين الأميرة دمع، وطفقت تحدث نفسها: أي ذنب جناه الصبي لأميته على الصورة التي أوحاها لي غضبي ونزقي. الحديث حبه السامي وتدلهه بي. لقد أتيت أمراً إدَّاً. وعاشت الأميرة ساهمة واجمة يروعها طيف الصبي يلاحقها في الغدو والرواح
ولا تقول أن مازبا قد سلاها، ولكنه طرحها في زاوية معتمة من زوايا قلبه، وراح ينسج عليها الزمن خيوط النسيان
وتحجرت عاطفته، فوجه كل حبه إلى وطنه الجديد، وتعلم الفروسية على فرسه وعلمها لشباب قبيلته، وأكسبته فطنته ودرايته ومكانته من زعيم القبيلة مهابة كان يزيدها عزوفه عن النساء وبغضه لهن، وكان الزعيم الكهل يفرك يديه سروراً كلما رأى مازبا جالساً على محفته يحكم بين الناس بالعدل ويصرف الأمور بعزم الشباب وحكمة الشيوخ. وحل موعد جباية الضرائب في عام كان الناس فيه يمترون، فجأرت القبائل بالشكوى قائلين: يا مازبا، كن شفيعاً لدى بطرس الأكبر ليرفعها عنا. إنك بمواردنا عليم
ويأسى مازبا لبني وطنه الجديد ولا يدرك فيم تنفق الأموال التي تأخذ منهم قسراً لتحشر في خزائن بطرسبرج فيتصل بزعماء القبائل يحضهم على العصيان والإبقاء على أموالهم قائلاً في حماسة:
- فليأت هذا البطرس هنا ليأخذ منا ضرائبه عنوة إن شاء. يا شباب القوقاز: أفيقوا من سورة الخمر وسحر النساء، وهبوا لنشعل أوار المعركة لتظفروا بالحرية والمجد
وهكذا نفث مازبا في روح القبائل جمراً من الوطنية يستعر ورغبة جامحة إلى خوض ميدان القتال. وكان بطرس الأكبر داهية أريب، فأقام ليلة عيد الميلاد حفلاً هائلاً دعا إليها الملوك والأمراء من كل قطر ومصر، واستدعى إليه مازبا وأمنه على نفسه ووطنه ووعده بالنظر في رفع ضريبة الدولة على أن يظلل القوقاز تحت حكم الروس
وكان القصر الإمبراطوري شعلة تتوهج بين الدوح السامق والرياض المزهرة؛ وقد نشرت الصحاف مثقلة باللدّ الشهي من ألوان الطعام، وقام وزير الخارجية بتقديم المدعوين إلى بعضهم، فهؤلاء مندوبو فنلندا واستونيا والقابعون على الشراب في البهو الخشبي حكام(401/51)
سيبيريا والقادمون علينا يا مازبا أمراء وأميرات بولونيا
بولونيا. . . وقبض مازبا على صدره كأن طعنة أصابته: فذعر وزير الخارجية وقال: أبك يا مازبا؟
- لا. . . لا. . . إنه جرح قديم. . . قديم جداً ولا أدري كيف آلمني الساعة
واقتربت أميرات بولونيا، وكأن أبرز ما فيهن جمالاً أوجستا وشخص مازبا إلى وجهها المتلألئ، فانبعث غرام عشرون عاماً من قلبه كبركان ثار بعد طول رقاد. . .
وعرفته أوجستا، فجاءته على استحياء، ومدت إليه يدها، وقد تضرج وجهها وخشع طرفها ونتحت به ناحية، وأخذت تخالسه النظر، وازدحمت الكلمات على شفتيها ثم قالت: كأني بك طفل الأمس يا مازبا، لم تغير معارفك الحدثان
- طفل الأمس. . . إنه مات في براري الدانوب
- وقلبه وحبه؟
- كلاهما معاً. . .
- ولكني أرى بريق عيناك والتمعاهما بتلك المعاني الغامضة
- تلك أوهام. . .
- إنك تجاهد غرامك يا مازبا، ولقد لقيت قصاصي بما سهرته من ليال أذرف الدمع على ما قدمت يداي. فهل أنت مقيل لعثرتي؟
- ما كان لي أن أصفح عنك ولا أرى لك ذنباً
- ألا زلت تحمل لي موجدة؟
- لا. . . ولكني أوصدت قلبي دون النساء، ثم إني على موعد مع القيصر، فأستودعك الله. . .
- مهلاً يا مازبا. . .
ولكنه انسل بين الأضياف، وحينما بعد عنها حدث نفسه:
كادت المرأة تصرعك يا مازبا. . . أيها القلب الخائن، لن أصغي لحديثك المعسول مرة أخرى. . .
لقد عاهدت نفسي على خدمة وطني الذي أطعمني حين حرمتني هذه المرأة، وكساني حين(401/52)
جردتني، وآواني حين أطلقت بي فرساً تنهب بي البراري. فليكن جل تفكيري فيك ولك أيها الوطن أما أنت يا أوجستا، فسأحاربك في قلبي حتى تموتي فيه
وانطلق في طريقه حتى مثل بين القيصر
وقال القيصر لمازبا: لقد رفع إلينا قرار المالية فلم نجد بداً من استمرار الضرائب، فهل تعدني بشرفك أن تقوم على جبايتها؟
- لقد أقسمت لمواطني أنكم سترفعونها
فقال القيصر لمن حوله: اقبضوا على هذا السيد
وألقى مازبا في حجرة ببرج القصر تحوطه الأحراس، واندلعت الثورة في القوقاز من أقصاها إلى أقصاها، وأرسل بطرس الأكبر حملة لإخمادها فزادت النار اشتعالاً
وكان الليل قد لف الكون بغلالة سوداء، والقصر ساكن حينما اعترض الأميرة أوجستا حارس البرج، فأبرزت له أمر القيصر فتخلى الحارس عن لباب. وكان مازبا يقف هادئاً إلى نافذة البرج كأنما ينتظر أحداً أو كأنه واثق من نجدة القوقاز، وقالت أوجستا:
- تبعث القيصر في كل مكان ولم أبرح مقصورته في الأوبرا حتى وقع على صك العفو عنك، وقد وعدته أن تقسم لي على طاعته فيما آمرك به. فقال:
- لقد سمع القيصر أني لا أقسم على ذلك
- إن وطنك الجديد في حاجة إليك يا مازبا، فقم الساعة وأخمد فتنته، وانج بنفسك فإنك لا تدرك أي حتف ستلقاه إن بقيت هنا ليلة أخرى
- واستقبل مازبا استقبال الفاتحين، وكانت الفتيات ينثرن في طريقه الورود والرياحين، وكان ألمه بادياً لما حل بقومه على يد جنود القيصر. وقابل قائد الحملة وطلب منه أن يرحل فوراً عن أراضي القوقاز، وقال قائد الحملة إنه موفد من قبل القيصر وليس لأحد أن يأمره سواه. فقال مازبا: إذا هي الحرب
وطلب القائد من بطرس الأكبر مدداً سريعاً فأرسل إليه جيوشاً جرارة لم تصمد لها جموع مازبا التي دافعت عن وطنها دفاع الأبطال وأحرقت عاصمة القوزاق وانتقم منهم جنود القيصر أبشع انتقام. وفر مازبا إلى سلطان تركيا عدو القيصر ليجيره ويمده بعتاد يستطيع بها مواصلة القتال ولكن السلطان اعتذر له ونصحه بإلقاء السلاح. وهكذا تخلى الحظ(401/53)
الباسم عن الزعيم الشريد فصوحت به الأيام من بلد إلى بلد يفلح في الأرض لهذا ويحتطب لذاك
وكنت تراه بوجهه الكابد قابعاً في أسماله ومزقه يصطلي النار التي يضرمها في إحدى الخرائب فلا تصدق إنه ذاك الذي كان يغشي الولائم في أبهة الأمراء
وفي قرية (كييف) عثر حطاب في الغابة على جثته فأمر قسيس القرية بإلقائها في مقبرة المجهولين الغرباء
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس(401/54)
العدد 402 - بتاريخ: 17 - 03 - 1941(/)
العصبية داؤنا الموروث
كنا ستة في أحد مجالس القطار السريع الصاعد إلى القاهرة. وكانت غريبةُ الغرائب أن يجتمع في هذا المجلس الطائر القلق ثلاثة ينتسبون إلى ثلاثة أحزاب سياسية، واثنان ينتمي كل منهما إلى فرقة دينية؛ وكنت أنا وحدي المستقل فيما بيني وبين الله والناس. وكان مما ليس بُد منه أن يترامى بهم الحديث إلى ذكر ما يشغل الخواطر من شؤون الدين والسياسة والحرب؛ فكان لكل منهم هوى لا يتابعه هوى، ورأي لا يشايعه رأي، حتى انقلب الحديث اللطيف جدلاً صخاباً لا حيلة فيه إلا للإشارة العنيفة والحنجرة الصُّلبة
حينئذ ابتلعت لساني ودخلت في نفسي وتركت هذه الأفواه يقذف بعضها في وجه بعض؛ ثم أخذت أفكر في هذه الصدَعات التي مزقت الكلمة وفرقت الدين، وجعلت بعضنا يبني وبعضنا يهدم، وأحدنا يسوق والآخر يعوق، فلم أجد لها مصدراً تشتق منه إلا العصبية!
تصورت في هذا المجتمع الصغير، صورة ذلك المجتمع الكبير، فعجبت كيف يتسنى في هذا الجمع الشتيت أن يتفاهم لسان ولسان، ويتآلف قلب وقلب، وتتعاون يد ويد، حتى يجوز أن تنتج من اتحاده قوة، وأن تنشأ من آحاده أمة!
الفرد في نفسه هو كل الناس، وشيئه في عينه هو كل شيء، ورأيه في عقله هو كل رأي؛ وذلك داء موروث من أدواء العصبية التي أفسدت كيان العرب وأوهنت بناء الإسلام بما يلازمها من حب الاستئثار وشهوة الرياسة
لم تمتْ العصبية من حياة العرب إلا فترة موقوتة بحياة الرسول. فلما استعز الله برسوله انبعثت في (السقيفة) بين المهاجرين والأنصار تقول: منا أمير ومنكم أمير. ثم سلطها الشيطان على الخلافة فانقسم العرب إلى هاشمية وأموية، ثم إلى قيسية ويمنية، ثم إلى علوية وعباسية، ثم إلى عربية وشعوبية. وأغراها بالدين فانشعب المسلمون إلى اثنتين وسبعين فرقة، تتقاطع بالظلال، وتتعادى في الباطل، وتزعم كل فرقة أنها هي وحدها الناجية! ولو كان تحزب العرب وتشعب المسلمين لمبادئ تصلحُ الدنيا وتعز الدين، لكان ذلك أخلق بمن جعلهم الله أمة وسطاً، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات؛ ولكنهم اختلفوا تعصباً للنفس أو الجنس أو الرأي، وتوسلاً لبلوغ الحكم أو خضوع الخصم أو فتون العامة
وحب الرياسة وشهوة الحكم هما شر أدواء العصبية وبالاً وأشدها استفحالاً في الشرق القديم(402/1)
والحديث. ولو ذهبتَ تستقري عوامل الشقاق والانشقاق بين العرب في جميع الأطوار والأقطار لما عدوت ما رُكب في طباعنا من حب الظهور، ورغبة التفرد، ورذيلة الحسد
إذا جاء الأمة خير لا نصيب لي منه ولا سلطان لي عليه، جعلته شراً يستعان على درئه ببدع تتسم بسمة الدين، وخدع تتستر بستار الوطن. وإذا نهضت في الأمة جماعة للإصلاح ولم يكن لي موضع الرياسة فيها ولا مرجع الفائدة منها، أشعتُ حولها الرَيب، وأطرْت فوقها الظنون، حتى يستوحش من ناحيتها الناس فتفشل
تنازع زعيمان عظيمان من زعمائنا على الرياسة أو ما يشبه الرياسة، فقسما الأمة بنزاعهما قسمين متعارضين لكل منهما آراؤه وحججه ومبرراته؛ وكاد يدخل على الناس أن هناك مذهبين في سياسة البلد: أحدهما يصل والآخر ينقطع! وكان مبعث الأمر كله عصبية الرأي وشهوة الرياسة.
واجتمع أعضاء مجلس الإدارة لجمعية المعلمين في بغداد يوم أُنشئت لينتخبوا من بينهم رئيساً فلم يفز أحد من الثلاثة عشر عضواً إلا بصوت واحد! ذلك لأن كل عضو منهم أراد أن يكون الرئيس فانتخب نفسه!
أحزابنا السياسية وجماعاتنا الدينية أسماء وأزياء لا تجد وراءها مسمى يتميز من مسمى، ولا جسماً يختلف عن جسم. وإن طالب الثقافة ليستطيع أن يذكر لك في يسر ووضوح جملة الفروق في الوسائل والغايات بين اليسوعية والماسونية والشيوعية والنازية والفاشية، أو بين حزب وحزب من الأحزاب البرلمانية في جميع البلاد الدستورية؛ ولكني أتحدى أستاذ الجامعة أن يذكر لي فرقاً أو شبه فرق بين الوفديين والسعديين والدستوريين والمستقلين والوطنيين والشعبيين والاتحاديين، أو بين الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، والأخوة الإسلامية، والهداية الإسلامية، وشباب الإسلام، ومجد الإسلام، ومن لا علم لي به من هذه الجماعات. ولئن سألتهم ماذا يمنعهم أن يضموا الشتات ويوحدوا الكلمة ويحددوا الغاية ما داموا اخوة في الوطن أو في الله، ليقولنَّ كل حزب منهم: ما يمنعنا إلا أن يكون لغيرنا زعامة الأمة ورياسة الحكومة. ولو سمحت العصبية الآثمة أن يكون للمتحزبين غاية غير هاتين لأمكن الوفاق وسلمت الوحدة؛ ولكن العصبية هي داؤنا الموروث لا يحسمه عنا إلا طِبابُة الذي عالجه به الله ورسوله: محو الفروق بالحرية(402/2)
والشورى، وشفاء الصدور بالأخوَّة والمساواة، ورفع النفوس بالإيثار والتضحية!
ويومئذ يحيا فينا الضمير الاجتماعي فنعمل مرؤوسين ومجهولين، أصدق مما كنا نعمل رؤساء ونابهين، فنخلص للأمة كما نخلص للأسرة، ونحب لعامة الناس ما نحب لخاصة النفس، ونخرج من حدود العصبية إلى آفاق الوطنية سالكين سبيل القانون إلى غاية الحق، كما يسلك هذا القطار صراطه المستقيم إلى غايته المعلومة!
احمد حسن الزيات(402/3)
الأدب العربي الحديث في مصر الجنوبية
للدكتور زكي مبارك
كان من توفيق الله - تباركتْ أسماؤه! - أن ألتفت إلى الأدب العربي في السودان، فقد تلقيت وتلقّى الأستاذ الزيات رسائل كثيرة تشهد بأن ذلك الالتفات صادفَ هوىّ في أفئدة أهل الغيرة على الأدب في ذلك القُطر الشقيق
ومن الحديث المعاد أن أقول: إن المصريين والسودانيين إخوة، ولكن يجب أن نعترف صراحةً بأننا فرّطنا في حق تلك الأخوَّة، فلم نؤدّ لها كل ما يجب من التعهد والرعاية، ولم نبذل في سبيل إعزازها جهداً يستحق التسجيل
ويزيد في الأسف على ما وقع من التفريط أن البرّ بأشقائنا في مصر الجنوبية لم يكن يكلفنا عَنتاً لو أردناه، فالسودان قريب وجوّه مقبول في أكثر الفصول، والاتصال بأهله يفتح أمام قلوبنا آفاقاً جديدة من المعاني الأدبية والروحية، لأنهم يغارون على العروبة غيرةً لا يعرف صدقها إلا من عرف بعض رجالهم الأمجاد، ولأنهم حفظوا عهد الإسلام في أوقات قلّ فيها المؤمن الصادق والمرشد الأمين
ومن المؤكد أن السودان قادرٌ على المشاركة الجدية في إحياء الأدب العربي، فلأهله الأماجد ماضٍ مجيد في خدمة اللغة العربية وإن جهله الأكثرون، ولشبانه في هذا العهد مطامح وآمال، وقد يقدرون بعد قليل على الظفر بمنازل أدبية يصل صداها إلى جميع الأسماع بالبلاد العربية
في السودان تطلُّع شديد إلى الاستفادة من تقدُّم العلوم والآداب في العصر الحديث، ولهذا التطلع سنادٌ مما ورث أهله من معارف العرب القدماء. وإن دام هذا الحال وسيدوم، فلن يمضي إلا زمن قليل حتى يصبح للخرطوم وأم درمان مكان بين العواصم التي تحمل مشاعل الثقافة العربية من أمثال: القاهرة والقدس ودمشق وبيروت وبغداد. . .
أغلب أهل السودان من أرومة عربية، فغيرتهم على العروبة غير طبيعية. يضاف إلى ذلك مُقامهم في بقاع توصف عند القصد في الوصف بأنها الشؤون الذي تذرف ماء النيل، وهو أكواب من التِّبر المذاب
كان من الخطأ البيّن أن نترك أمر التفكير في السودان لرجال السياسة، وهم قومٌ لا يلتفتون(402/4)
- حين يلتفتون! - لغير الاتفاقات والمعاهدات، ولا يذكرون إلا أن السودان جزءٌ من مصر تعرض لمصاعب قد تزول بعد زمن قصير أو طويل.
والأمة التي تعتمد على ساستها في (جميع) الشؤون، غير جديرة بشرف الاستقلال
يجب على رجال الأدب أن يعرفوا واجبهم نحو السودان، السودان العربي، بغض النظر عن صفته المصرية، فمن التقصير الذميم أن ننسى أن السودان من موائل العروبة، حين نتحدث عن: المغرب واليمن والحجاز وفلسطين وسورية ولبنان والعراق
والعتْب الذي أوجهه إلى أدباء مصر، أوجهه إلى إخوانهم بسائر الأقطار العربية، فقد كان يجب على إخواننا في الشرق العربي أن يذكروا إخوانهم في السودان، فما خلا رأس أديب بمصر الجنوبية من شواغل نبيلة تصل عقله وروحه بأقباس العروبة في هذا الزمان، وإن لمعتْ من أفق سحيق كالأفق الذي تشعْ منه بوارق العروبة بين المهاجرين في أمريكا الجنوبية
أليس من العقوق أن يجهل بعض أبناء العرب أخبار السودان، مع أن السودان يعرف من أخبارهم كل شئ؟
لمصر فرصة من فرص الجاذبية، وهي مكانتها العلمية، وللحجاز فرصة أعظم، لأنه وطن الحرمين الشريفين، والشام معهد ملك بني أمية، والعراق معهد ملك بني العباس، فماذا بقى للسودان حتى يهتم به العرب والمسلمون؟
بقى للسودان حق شريف نبيل: هو تفرده بالصدق الأصيل؛ فما تعب العرب ولا تعب المسلمون في توطيد سلطانهم الأدبي والروحي في البلاد التي ينبع فيها النيل، وإنما صدق السودان للعروبة والإسلام بلا دعوة ولا دعاة كأنه أبى أن يتلقى وحي الهداية عن أحد من الوسطاء
السودان العربي حصن حصين، والسودان المسلم كنز ثمين، ولو صدق جميع العرب والمسلمين كما صدق السودان لخفَّت بليتنا بالخوارج على العروبة والإسلام في بلاد لم يحفظ فيها مجد الآباء غير أفراد لا يزيدون عن مائة مليون، مع أن هَدي العروبة والإسلام كان وصل إلى مئات الملايين
قيل إن أهل السودان وصل عددهم إلى ثمانية ملايين من النفوس، وأقول إنه ثبت عندي(402/5)
أن أهل السودان وصل عددهم إلى ثمانية ملايين من القلوب، فما في عرب السودان رجل بدون قلب، ولا جاز عند أهل السودان أن يكون الصديق ملكاً في المحضر وشيطاناً في المغيب، وإنما السوداني عدو أو صديق، لأنه يكره الختل والخداع، إلا أن يكون دخيلاً في الانتساب إلى تلك البلاد!
نصحني أحد الأصدقاء بأن أحافظ على الصلوات حين أزور السودان، لأن أهله لا يحترمون غير من يحافظ على الصلوات
فمتى أزور السودان لأعرف المدلول لكلمة الفجر وكلمة الشفق؟
كان أبي رحمه الله يوقظني من النوم لأؤدي صلاة الصبح قبل الشروق، وقد مات أبي، مع الأسف الموجع، ولم يبق لي صديق يذكرني بأوقات الصلوات
فما أسعد المصري المقيم بالسودان، لأن الجو هناك يقهره على مراعاة النوافل قبل أن يقهره على مراعاة الفرائض!
السودان السودان، السودان المسلم، السودان العربي، السودان المصري، وتلك أواصر لا ينكرها إلا جحودٌ أو جهولٌ
إن الذين غلبونا باسم السياسة لا يستطيعون أن يغلبونا باسم الوجدان، فمتى نعرف قيمة ما خصِصنا به من القدرة على الظفر بثقة الأرواح والقلوب؟
مصر غنية بالعواطف، ولكنها لا تعرف كيف تنتفع بذلك الغنى الجميل
مصر التي عذبت زعماءها وهي تذكرهم بواجبهم نحو السودان لم تقهر واحداً منهم على زيارة السودان
أليس من العيب أن يشهد التاريخ أن السودان لم يزره مصطفى كامل ولا سعد زغلول؟
إن الشيخ محمد عبده زار السودان وهو موقوذٌ بمرض السرطان، فكانت تلك الزيارة آية على أنه يعرف معنى الاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، ومحمد عبده هو محمد عبده، فمتى يجود بمثله الزمان؟!
أنا أرجو أدباء مصر أن ينسوا الجدل السياسي حول مركز مصر في السودان بعد أن انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه، وبعد أن صح أن الهجرة إلى السودان لا تستهوي ألباب المصريين لأن مصر تشدهم إلى ثراها الخصيب بقيود مجدولة من وشائج الخيرات(402/6)
والثمرات، وهم لهذا السبب أزهد الأمم في الانتقال من مكان إلى مكان
كل ما أرجوه من الأدباء والفنانين أن يذكروا أن بلادنا تنقسم إلى شطرين: مصر الشمالية ومصر الجنوبية، فإن فهموا هذا فقد يصبح من واجبهم أن يصطافوا في الخرطوم كما يصطافون في الإسكندرية. ولم يخبرني الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد بجديد حين تلطّف فكتب إليَّ يقول: إن جوّ السودان في يوليه وأغسطس وسبتمبر لا يعرف ما سميتُه (وقدة الصيف): لم يخبرني هذا الصديق بجديد فقد كنت أتابع ما ينشر المذياع من درجات الحرارة في الصيف وكان يسرني أن أعرف أن الحرارة في الخرطوم أقل من الحرارة في الإسكندرية بنحو عشر درجات
فما تفسير ذلك؟
تفسيره سهل، فالصيف في السودان هو موسم الأمطار، الأمطار التي تعيش بفضلها مصر الشمالية منذ الأبد الأبيد، فأين الشاعر الذي تهزه هذه المعاني فيعيش موسماً أو موسمين في ضيافة الأمطار بالسودان ليعرف أن المصريين القدماء لم يسموا النيل (حابي) إلا وهم يدركون أنه حباهم الخيرات والبركات، بفضل ما ينقل إليهم من أمطار السودان. والحابي هو الوهاب، وذلك حرف نقله المصريون عن العرب، أو نقله العرب عن المصريين.
أين الشاعر الذي تهزه هذه المعاني فيزهد مرة واحدة في تعقّب أسراب الملاح في الشواطئ المصرية أيام الصيف ليرى بعينيه كيف تقتتل الأمطار في أعالي مصر الجنوبية ليكون من حظنا أن نجد الفرص لملاعبة الأمواج في أسوان والأقصر وأسيوط والقاهرة والمنصورة ودمياط؟
إن مصر الشمالية فتنت أبناءها أعظم الفنون، فلم يعرفوا أن الرواضع مدينة للروافد، وقد يكون فيهم من يجهل الفرق بين الروافد والرواضع
فمتى نصبر على هذه البلادة الدميمة، البلادة التي قضت بأن نجهل كل شئ من الجوانب الروحية والأدبية في السودان، وبحياضه وأرباضه قبائل صحيحة النسب إلى يَعرُب وقحطان؟
كتب الأستاذ الهادي إلى مجلة الرسالة كلمة تحدث فيها عن زعماء السودان، فمن أولئك الزعماء؟ لم أعرف منهم غير اسمين اثنين، مع أني أعرف مئات الأسماء من أهل الفضل(402/7)
في مختلف البلاد العربية والإسلامية، فكيف جاز أن أُطوق بهذا الغُل، وأنا أعرف أن أقبح الأغلال هو غُل الجهل؟
وهل تفردتُ بالجهل حتى أسوق إلى نفسي هذا الملام العنيف؟
لقد شاركني في هذا الجهل جماعة من الفنانين الفضلاء، ألم تشهدوا بأعينكم أفلاماً مصرية أُخذت مناظرها من البلاد السورية واللبنانية والعراقية ولم يؤخذ منها منظر واحد من مناظر مصر الجنوبية؟
إن أردتَ التعرف إلى مناظر السودان عن طريق السينما - أو اَلخَيالة كما يسميها بعض أساتذة اللغة العربية -
فاطلب مشاهدة بعض الأفلام الإنجليزية أو الأمريكية، ولا تنتظر الأفلام المصرية، لأن الفنانين في مصر لم يعرفوا أن في الدنيا بلاداً غنية بالمناظر الطبيعية مثل السودان وهو الجزء الجنوبي من الوطن الغالي
ومع هذا يقال: إن المصريين يقدمّون دروس الوطنية إلى شعوب الشرق!
قد يجيب بعض الفنانين بأن مناظر السودان ممزوجة بسكان السودان وفيهم أقوام لهم أشكال وأزياء ينكرها الذوق الحديث (؟!)
وأقول إن الجمال الحق هو جمال النفوس والقلوب، لا جمال الأشكال والأزياء، فالبدويّ الممزَّق الثياب قد يكون أكرم نفساً وأطهر سريرة من الحضري الأنيق
ولسنا أطفالاً حتى ننخدع بالظواهر الكواذب، وإنما نحن طلاب حقائق، وطالب الحقيقة يعلم كل العلم أنها غانية عن التزيين والتلوين، فمن ظن أنه يؤذينا أو يؤذي تلك البلاد بنقل ما فيها من صور تمثل بعض من يعيشون هنالك على الأساليب الطبيعية فهو جاهل بالقيم الصحيحة لحيوات الشعوب، وهي حيوات تتأثر بظروف المكان إلى أبعد الحدود
وبأي حق نطالب أهل السودان بأن يُستعبدوا كما استعبدنا للأزياء الأوربية؟ وبأي حق يجوز لبعض الموظفين في السودان أن يدخلوا مكاتبهم في ملابس لا ترى الصيف والشتاء إلا بعيون الأوربيين؟
وهل ظفر الأوربيون بالسلامة من سواد قلوبهم حتى نحاكيهم في جميع الشؤون؟
أوربا هلكتْ بسبب التصنع، فلنرحم أنفسنا من مهالك التصنع، ولتذكر أن نجاحنا في(402/8)
ماضينا يرجع إلى فضيلة الاحتكام إلى العقل في جميع الأمور، وهي فضيلة حفظت وجودنا سليما على اختلاف الأجيال
أما بعد فأين أنا مما أريد؟
أنا ماضٍ في نظم سلسلة من الأبحاث عن الأدب الحديث في السودان، ولكن السودان يصدّني عما أريد؟ فكيف وقع ذلك؟
هنا يظهر نضج العقل في تلك البلاد، فما كاد يصل مقالي بالرسالة إلى مدينة الخرطوم حتى سارعت إحدى الجماعات الأدبية هنالك فأرسلتْ إلىّ برقية ترجوني فيها إرجاء الحكم على أدب أهل السودان إلى أن أزور السودان. وكذلك صنع الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد، فقد كتب إليّ خطاباً قال فيه: إن أدباء أهل السودان مع ارتياحهم للحديث عنهم يرجون أن أؤجل هذا الحديث إلى أن أزور السودان
فهل تعرفون السرّ في هذين الاقتراحين؟
يظهر السرّ جلياً حين تعرفون أني لم أتأهب لإنشاء بضع مقالات للتعريف بالأدب الحديث في العراق تيسيراً لمهمة المدرسين الذين سيتقدمون لمسابقة الترقية للتعليم الثانوي إلا بعد أن كتبت لسعادة مدير التربية والتدريس في بغداد خطاباً أرجوه فيه أن يتفضل فيحدد المعالم الواضحة لأدب العراق، خوفاً من أن يشط قلمي فيخوض في أحاديث ينكرها أهل العراق
فإذا جاز أن أتحفظ في الحكم على الأدب العراقي بعد أن زرت جميع الحواضر العراقية، وبعد أن تعرفت إلى جمهرة أهل الأدب هنالك، فكيف لا أتحفظ في الحديث عن أدب أهل السودان وأنا لم أزر تلك البلاد؟
الحق أن هذين الاقتراحين على جانب عظيم من السداد، وبهما يظهر أنه لا بدَّ من تأجيل الحديث عن أدب أهل السودان إلى أن أتشرف بزيارة ذلك القطر الشقيق؟ ولكن متى! سيكون ّذلك بإذن الله في شهر أيلول، وهو موسم طغيان النيل، فعندئذ أزور السودان بصحبة صديق يحبه السودانيون وهو الأستاذ الزيات؛ ثم أكتب عن الجوانب الأدبية، ويكتب هو عن الجوانب الاجتماعية، وبهذا يمكن تسجيل صور صحيحة عن السودان ينتفع بها المتشوقون لأخباره من أبناء الأمم العربية(402/9)
ثم ماذا؟ ثم أقول: إني علمت أن جريدة (صوت السودان) أخذت تُصدِر أعداداً خاصة في التعريف بأدباء مصر الجنوبية تمهيداً لتحقيق المشروع الذي فكرتُ فيه، فأرجو أن يتفضل الإخوان هناك بإرسال تلك الأعداد باسم: (زكي مبارك بمصر الجديدة) لأستطيع متابعة هذه الدراسات الأدبية، ثم أقول أيضاً: إني أرجو أن يتفضل أحد أدباء (السودان) فيرشدني إلى ما صدر عندهم من المطبوعات الحديثة مع النص على المكاتب التي تبيعها لأقتني منها ما يساعد على فهم هذا الموضوع الجليل.
والمهمّ هو أن نكون رجال أعمال، لا رجال أقوال، فلن يكون الوعد بزيارة (السودان) زُخرُفاً من القول نلاطف به إخواننا في ذلك القطر الشقيق، وإنما يجب أن يكون من نياتنا الصوادق أن نعاون معاونة صحيحة على تأريث الأدب العربي في السودان، وأن نسجل تطوّر الخواطر والأفكار في ذلك الشطر من وادي النيل، النيل الذي فتن (إميل لودفيج) فزاره في منابعه، ثم أنشأ فيه كتاباً خلق للسودان ملايين من الأصدقاء
كان أسلافنا أصدق منا يوم عَبدوا النيل، وكنا عاقين حين اتهمناهم بالوثنية، فما كان التعلق بمصادر الخيرات إلا فنا من الثناء على واهب الخيرات
لما هبطت أسعار الفرنك في فرنسا منذ بضع سنين هتف صوتٌ يقول: أيها الفرنسيون، انتهزوا فرصة هبوط الفرنك وزوروا أقاليم وطنكم الجميل!
وأقول: إن الحرب قضت بأن تقفَل أبواب أوربا في وجوه المتشوقين إلى ما في أوربا من ملاعب الصيف ومراتع الشتاء، فانتهزوا هذه الفرصة يا أبناء العرب وزوروا أقاليم وطنكم الجميل، على شرط أن تذكروا السودان، فهو اليوم أكبر قارئ للمؤلفات والجرائد والمجلات، مع تفرده بالاغتراب ظلماً عن قافلة الوحدة العربية
وفي ختام هذه الكلمة أذكر بالثناء العاطر ما صنع طلبة كلية الآداب، فقد تألفت منهم بعثة سنة 1938 لزيارة السودان كما تألفت منهم قبل ذلك بعثات لزيارة العواصم العربية، فصنيع كلية الآداب يشهد بأن فيها عقولاً تدرك أن وصل الأمم العربية بعضها ببعض غرضٌ يوجبه الصدق في إحياء الأدب العربي والتراث الإسلامي. وسيكون لكلية الآداب في توكيد هذه المعاني مقامٌ يسجله التاريخ بأحرف مسطورة فوق جبين الوفاء.
زكي مبارك(402/10)
3 - في العقد
لأستاذ جليل
18 - (ص50) قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في شئ من السياسة إلا مرة واحدة: استعملت رجلاً فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففر إليه واستجار به فأمنه، فكتبت إليه: إن هذا أدب سوأ من قبلي. . .
قلت: إن هذا أدب سوْء لمن قِبَلي
في (تاريخ الأمم والملوك) لأبن جرير الطبري:. . . فبلغ الخبر المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه في أيامه تلك وأنهم قد اجتمعوا على رجل منهم، فقام المغيرة بن شعبة في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد فقد علمتم (أيها الناس) أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف الأذى. وإني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوْء لسفهائكم، وأما الحلماء الأتقياء فلا. وأيم الله لقد خشيت ألا أجد بداً من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل. فكفوا (أيها الناس) سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم. وقد ذكر لي أن رجالاً منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف؛ وأيم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا العصر إلا أبدتهم، وجعلتهم نكالاً لمن بعدهم. فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والأعذار
19 - (ص 361). . . دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسي أوله، وقل فيَّ بيتين يعقلان أفواه الرواة
قلت: يعلقان أفواه الرواة. يقال علق به وعلقه. ومن التفريط أن يغفل القاموس هذا حتى يستدركه التاج. قال: (وما يستدرك عليه علق بالشيء علقاً وعلقه نشب فيه). وفي الأساس والتاج: قال أبو زبيد يصف أسداً:
إذا علقت قرنا خطاطيف كفه ... رأى الموت في عينيه أسود أحمرا!
ومخاطب الشاعر إنما مرغبه سيرورة بيتيه، انتشارهما
20 - (ص346). . . أخبرني عن مالك فقد نُبئت أنك تتحرّى فيه. قال: يا أمير المؤمنين، لنا مال يخرج لنا منه فضل؛ فإذا كان ما خرج قليلاً أنفقناه على قلته، وإن كان(402/12)
كثيراً فكذلك
قلت: فقد نبئت أنك تتجر فيه
21 - (ص140) قال أبو سعيد المخزومي وكان شجاعاً:
وما يريد بنو الأغبار من رجل ... بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل
وجاء في الشرح: الأغبار إما جمع غبر (بالضم) وهو بقية الحيض، أو جمع غبر (بالكسر) وهو الحقد، والذي في الأصول (أغيار) ولم نجد من معانيه ما يناسب السياق
قلت: في البيت تبديل وتصحيف قديمان، وهو في قصيدة صالحة رواها أبو علي في أماليه، وهذه أبيات منها، وفيها ذاك البيت كما بناه صاحبه:
في الخيل والخافقات السود لي شُغُل ... ليس الصبابة والصهباء من شغُلي
ما كان لي أمل في غير مكرمة ... والنفس مقرونة بالحرص والأمل
ذنبي إلى الخيل كَرّى في جوانبها ... إذا مشى الليث فيها مشي مختَبل
ولي من الفيلق الجأواء غمرتها ... إذا تقحمها الأبطال بالحيل
سل الجرادة عني يوم تحملني ... هل فاتني بطل أو خِمت عن بطل
وهل شآني إلى الغايات سابقها ... وهل فزعت إلى غير القنا الذبل
مالي أرى ذمتي يستمطرون دمي ... الست أولاهم بالقول والعمل؟!
كيف السبيل إلى وَرد خُبَعْثِنة ... طلائع الموت في أنيابه المُصُل؟!
وما يريدون لولا الحين من أسد ... بالليل مشتمل بالجمر مكتحل؟!
لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل
لولا الإمام ولولا حق طاعته ... لقد شربت دماً أحلى من العسل!
ومن طرف أمثاله السائرة - كما يقول الثعالبي في الإيجاز والإعجاز - قوله:
ليس لبس الطيالسْ ... من لباس الفوارسْ
لا ولا حومة الوغى ... كصدور المجالسْ
وظهور الجياد غي ... رظهور الطنافسْ
ليس من مارس الحرو ... ب كمن لم يمارسْ
22 - (ص59) لما منع أهل مرو أبا غسان الماء، وزجّته إلى الصحاري، كتب إليهم أبو(402/13)
غسان: إلى بني الإساءة من أهل مرو، ليمسّينّي الماء أو لتصبحنّكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد
قلت: الإساءة أو الاستناءة في الطبعات القديمة يصلحها ابن أوس الطائي:
وأغر يلهو بالمكارم والعلا ... إن المكارم للكريم ملاهِ
يمسي ويصبح عرضه في صخرة ... شدخت شواة العائب العضاة
قل للعداة الحاسدية على العلا: ... رغماً لأنفكم بني الأستاه
هو للوفي العهد ظل أراكة ... ولمضمر الشنآن شوك عضاه
23 - (ص 177)
فلولا إدراك الشر قامت حليلتي ... تخير من خطابها وهي أيّم
ولولا إدراك الشر أتلفت مهجتي ... وكاد خراش يوم ذلك يُيتم
قلت: هو الشد في البيتين (أي العدوْ) وشد واشتد: عدا، قال:
هذا أوان الشد فاشتدي زِيمُ
ويُيتم هي يَيتم بفتح أوله، وعين الفعل تفتح وتكسر.
والبيتان في حماسة البحتري في قصيدة لأبي خراش في أول الباب (25) (فيما قيل في الفرار على الأرجل) وهذه روايتهما هناك:
فلولا دِراك الشد قاظت حليلتي ... تخير في خطابها وهي أيم
فتسخط أو ترضى مكاني خليفة ... وكاد خراش يوم ذلك يَيتم
24 - (ص254) ثم جعل يتشدد عليهم ويقول:
احمل على هذي الجموع حوثره
قلت: يشد عليهم
شد على القوم في الحرب يشِد ويشُد: حمل، وفي الحديث: ثم شد عليه فكان كأمس الذاهب: أي حمل عليه فقتله، وشدوا عليهم شدة صادقة
وروى محققو الكتاب في الشرح عن الكامل: (ثم حمل (أي حوثرة) على القوم وهو يقول) وحمل عليهم مثل شد عليهم. وجاء في ص255 من هذه الطبعة: (فشدوا عليه شدة رجل واحد فهزموه)(402/14)
25 - (ص75) قال القَطامي:
ومعصية الشفيق عليك مما ... يزيدك مرة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعْه اتباعا
كذاك وما رأيت الناس إلا ... إلى ما جر غاويهم سراعا!
تراهم يغمزون من استركوا ... ويجتنبون من صدق المصاعا!
قلت: استجدت القول فرويته، والقصد هو البحث في (القطامي) في فتحة قافه وضمها، فقد شغل هذا الاسم فضلاء في القديم وفي هذا الزمان. وسأورد طائفة من أقوالهم لتزول الشبهة، ويستبين الحق:
قال العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي في نقده طبعة (لسان العرب): ضُبط القطامي بفتح القاف، وصوابه بضمها كما صرح به المؤلف في موضعه
وهذا قول اللسان: والقطامي بالضم من شعرائهم من تغلب واسمه عمير بن شُيبم. وقد تبع اللسان الصحاح، قال الجوهري: والقطامي بالضم لقب شاعر من تغلب. . .
ولما وقف العلامة الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري على قول العلامة الشيخ إبراهيم كتب في شرحه (بلوغ الأرب) لفخر العراق الإمام الشيخ محمود شكري الألوسي:
القطامي بفتح القاف وضمها كما نص عليه ابن الشجري في أماليه، والمجد في قاموسه، وعبد الرحيم العباسي في معاهده. وقول إبراهيم اليازجي في مجلة الضياء: إن الصواب الضم، وهم من أوهامه الناشئة من غروره وهوسه، وقلة تتبعه ودرسه. والقطامي لقب غلب عليه، واسمه عمير بن شييم، وهو شاعر إسلامي مقل، رقيق الحواشي، كثير الأمثال، حسن التشبيب وهو صاحب هذا البيت:
إنّا محيوك فاسلم أيها الطللُ ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل
الذي انتحل صدره جميل الزهاوي المتفلسف فقال في مدح أمير عربي:
إنا محيوك فاسلم أيها الملك ... ومصطفوك لعرش شاءه الفلك!!
وينصر قول العلامة الأثري شيخ العربية الإمام بن جني قال في (المبهج) كتابه الذي فسر فيه أسماء الشعراء في ديوان الحماسة: القطامي بضم القاف وفتحها هو الصقر سمي الشاعر (يعني قطاميّنا هذا) به لقوله. . .(402/15)
وضبط العلامة محمد محمود الشنقيطي هذا (القطامي) بالفتح في (المخصص) وضبطه العلامة الشيخ سيد بن علي المرصفي في (الرغبة) بالضم، وقال الإمام ابن سيدة في المخصص: أبو عبيد: القَطامي والقُطامي الصقر لأنه يقَطم إلى اللحم.
وفي التاج: القَطامي ويضم، الفتح وسائر العرب يضمون
فمن المستحسن في طبعة (العقد) هذه أن يضبط القطامي - وتلك قصته. . . - بالضم والفتح في المتن أوفى الشرح(402/16)
كلمة حق
الدافع إلى كتابتها
للأب أنستاس ماري الكرملي
كنت اشتريت في 13 فبراير (شباط) من سنة 1934 (كتاب الذخيرة في علم الطب) المنسوب وهماً إلى ثابت بن قرة، والذي نشره حضرة الدكتور جورجي بك صبحي، فطالعته مراراً لأستفيد من الوقوف على مصطلحاته، فخاب أملي، ثم كتبت إلى حضرة ناشره، بعد مضي نحو من سنة ونصف، أي في 29 يونيو من سنة 1936:
(بعد إهدائي إليك أعطر السلام وأطيبه، أقول: اقتنيتُ (كتاب الذخيرة في علم الطب)، فألفيت نسبتهُ إلى ثابت بن قرة غير صحيحة، وإني أوافق وِدمن على أنه ليس لهذا الرجل الشهير كما ذكرت أنت ذلك، ناقلاً كلام ودمن في ص من مقدمتك الإنكليزية. وأضنه لواحد من الأقباط من المائة السادسة أو السابعة للهجرة، وكان يجهل كل الجهل أحكام اللغة العربية، إذ فيه شئ كُثار من الأغلاط، وشئ لا يحصى من أوهام المصطلحات الطبية المشوهة أقبح تشويه. ُثم جئت أنت، فزدت الطين بلة، والطنبور نغمة، فصحفت المتن تصحيفاً فظيعاً، وتحريفاً شنيعاً. ولم تجتزئ بذلك، فأتيت بتصحيفات هي بالحقيقة تقبيحات، وأوردت تفاسير هي من أبعد التأويلات عن حقائق العلم، ودقائق العرفان.
فقد ذكر المؤلف مثلاً صفةً لداء الثعلب وداء الحية في ص11 عدة أدوية، ومن جملتها هذه الصفة: (وكذلك ذباب محرق. وكذلك قشور القنفذ وأصل القصب المجفف يدق ويطلي به). - فقلت في الحاشية تعليقاً على قشور القنفذ: (البندق. (خط جديد). ومعنى ذلك أن أحد الأدباء الذين اقتنوا الكتاب وضع في مكان (قشور القنفذ): (قشور البندق). - قلنا: وكان يحسن بك أن تقول: (ما في المتن هو الصحيح وما جاء بخط جديد أي البندق هو الخطأ؛ لأن المراد بقشور القنفذ هنا، قشور القسطل أي الشاهبلوط المعروف عند بعضهم بأبو فروة. وسبب تسميته بالقنفذ أن على قشره شوكاً يشبه بعض الشبه ظَهْر أو قشر القنفذ الشائك
وقلت في الصفحة المذكورة (أو بجلد السمكة الخشنة الجلد وهو السضن) - قلنا: وليس في لغة من لغات العالم قشر سمكة اسمه السضن (بالضاد) إنما هو السَفَن، وهو جلد سمكة(402/17)
تعرف بالأطوم وهي بسين وفاء ونون كما ترى
وقلت في تلك الصفحة: (وتين يابس محرق مذيف) ولم أعثر على فعل (ذاف) بالذال المعجمة. ولا على اسم المفعول منه (مذيف). والذي أعهده أنه (مدوف)، وزان مخوف بدال مهملة
وقلت - ونحن لا نزال في تلك الصفحة -: (ويجب أن يمنع أصحاب هذه العلة جميع الأنبذة والتملي من الطعام) - والصواب: (والتملؤ من الطعام - ولا أريد أن أمعن في تنبيهي إياك على كل ما ورد في هذا المصنّف من المشوهات، فإنها لا تحصى. ويحتاج القارئ إلى وقت طويل لتحريرها وتحويرها لإعادة النص إلى نصابه. ومع ذلك، يبقى أنه ليس لثابت بن قرة، لأنه كان صحيح العبارة، بديع الكلام، عارفاً بالمصطلحات الطبية كل المعرفة، وواقفاً عليها وقوفاً تاماً. ولما كان الوقت غير متيسر لي في هذه الأيام، لا يمكنني تصحيح هذا الكتاب
ووفقك الله وسلمك من كل ضر وشر)
الأب أنستاس ماري الكرملي
فأجابني حضرته بتاريخ 5 يوليو من السنة المذكورة 1936 بكتاب أحفظه عندي وأنشره مصوراً إن يُنكر على أنه كتبه إليّ لتسود وجوه وتبيض وجوه. فكتبت إليه بتاريخ 19 يوليه من السنة المذكورة ما هذا نصه:
أشكر لكم جوابكم بتاريخ 5 الجاري، ولقد طالعت المقدمة الإنكليزية، وعلمت أن السرعة التي أظهرتم بها هذا الكتاب شفيعة لكم لوقوع الأغلاط فيه؛ لكن هذه الأغلاط جمة، لا تكاد تسلم منها صفحة واحدة. على أن الأغلاط المتعلقة بالكلام المنثور لا أهمية لها، إنما الأهمية في المصطلحات العلمية. وحالما وصل إلى هذا الكنز، كتبت على أول صفحة منه (إنه ليس لثابت بن قرة؛ ومن المحال أن يكون له، لأن عبارته سقيمة ركيكة، مشوهة، كثيرة الأغلاط؛ ومن البعيد كل البعد أن ينسب إلى ثابت. ولا أريد أن أذكر هذه الأغلاط لكثرتها وأنا أنسب هذا الكتاب إلى رجل صنفه في المائة السادسة للهجرة (لا للثالثة)، لأن عبارته عبارة ذلك العصر. ثم إنه استعمل (القنفذ) بمعنى (الشاهبلوط)، بخلاف ما تقول حضرتك، ولا سيما أنك ادعمت رأيي هذا بأن قلت: إن الأصل لجالينوس هو بمعنى(402/18)
الفندق؛ إذن ثبت أن القنفذ هو في عبارة الذخيرة (ص11) حين قوله: (قشور القنفذ)؛ هو هذا النبت لا الحيوان؛ إذ لا يقال للحيوان قشور القنفذ، وهيهات أن يقال ذلك!
ووجدت ابن العوام يقول: إن القنفذ هو الشاهبلوط، وفسره كذلك من نقله إلى الأسبانية والفرنسية - راجع معجم دوزي العربي الفرنسي - فإنه يشرحه هكذا شرحاً صحيحاً مما يؤيد كلام العراقيين، وهذه التسمية لا تعدو المائة السادسة للهجرة.
وهناك شواهد أُخر على أن الكتاب ليس لثابت، وذلك من الألفاظ اليونانية والسريانية شوهت أقبح تشويه، وأنا أُجل ثابتاً من ركوب متن هذه الفظائع؛ فالألفاظ انتقلت من مصحَّف إلى مصحف، ومن ناسخ إلى ناسخ، حتى جاءت بتلك الصور الشنيعة، وهي كلها للمؤلف الجاهل لا للنسّاخ - على ما أظن -. والبراهين التي ذكرتموها في النص الإنكليزي، لتبينوا بها صحة نسْبة هذا الكتاب إلى ثابت لا قوام لها، وليست منطقية، بل في نهاية الضعف. وما ذهب إليه هو الحق بعينه، وإن لم يبين لنا الأسباب والأدلة التي دفعته إلى ذلك القول. وإنما نسب الكاتب، أو الواضع، أو المزوَّر هذا الكتاب إلى ثابت بن قرة، ليروجه على الناس، كما فعل كثير من الأقدمين مثل هذه الأفاعيل، وقد اشتهروا بها
أما أن الواضع استعمل مرة شاهبلوطاً ومرة قنفذاً لمسمى واحدة فهذا ناشئ من اعتماده على عدة مؤلفات، وهذا أيضاً لكثير الوقوع في كتب القوم، وعندي شواهد لا تحصى تأييداً لهذا الرأي، ويحتاج هذا التفنيد إلى وضع مقالة طويلة تشرح فيها ملاحظاتي ولولا كثرة أشغالي لفعلت
وعلى كل حال إني شاكر لفضلكم وحرسكم الله
الأب أنستاس ماري الكرملي
هذا ما كتبته بيدي الفانية. وأما أن أحدهم (رأى عند الدكتور صبحي بك كتاباً بخط يدي أسأله فيه أجراً على تصحيح الكتاب، وأن طبيباً بالقاهرة اتصل بالدكتور صبحي بك يغريه على أن يجيب حضرة الأب إلى طلبه، فرفض صبحي بك معتذراً)
فالكذب ظاهر من كل كلمة من هذه الكلم. فإن كان بيد صبحي بك هذا الكتاب فليظهره للملأ حالاً بلا أدنى تأجيل، ويصوره وينشره ليصدقه الناس، ولا يزيد على ما عرف به من الكذب على الأموات الكذب على الأحياء، وهذا من الجرأة في مكان ظاهر ظهور النار(402/19)
على العلم
وإن كان أحد الأطباء قد اتصل به ليغريه على أن يجيب طلبي، فلا بد لهذا الطبيب من اسم يعرف به، فلماذا لم يذكره لنا؟ وكيف يكون لهذه الأكاذيب المنمقة المزوَّرة المزوقة مسحة صدق، والذخيرة طبعت سنة 1928، وأنا كتبت إليه أولى رسالتيَّ في سنة 1936، أي بعد مضي ثماني سنوات على طبعه؟ وأي فائدة من تصحيحي لهذا المصنف بعد تلك المدة الطويلة، وقد انتشر بين الناس، وعرفت أغلاطه، إذ شرقت وغربت، ونسفت هضاب العربية وجبالها ودكتها دكاً لا يرجى بعده بناية في مكانه؟
وأي طبيب فاقد الحظ يعرض مثل هذا العرض، وقد اشتهر غلط ما طبع وذاع بين الخلائق كلها؟ فكل هذه خزعبلات وترهات لا يصدقها أعظم الناس بلاهة فكيف تجوز على الأدباء؟
ولهذا سكتُّ طول هذه المدة ولم أنطق بكلمة، لأن هذه الأباطيل جبال، لكنها من ثلج، تذوب عند إشراق شمس الحقيقة عليها، ولا يبقى منها أثر. إلا أن بعض إخواني في مصر وفلسطين وسورية والعراق ألحوا على أن أقول كلمة الحق، فجئت بها، وإن كنت في غنى عنها.
ومهما يكن من أمر، فأنا أنذر اليوم الدكتور جورجي بك صبحي، وشريكه المدافع عنه الأستاذ الفاضل والكاتب النزيه إسماعيل أفندي مظهر، بأن يثبتا ما تقوَّلا علىّ بإبراز الكتاب الذي كتبته أنا واطلع عليه الفاضل الأديب مظهر أفندي. وأن يذكرا لي صريحاً اسم الطبيب الذي اتصل في القاهرة بالدكتور صبحي بك ليغريه على أن يجيب إلى طلبي، وإن لم يفعلا، فإني أقيم الدعوى عليهما في المحاكم المصرية لاتهامهما إياي بشيء أنا براء منه، ولمعاقبتهما على ما لفَّقا علي بهتاناً وافتئاتا. وسوف تظهر المحاكمة من الجاني ومن المجني عليه، ومن الظالم ومن المظلوم
وأنا أمهلهما ثلاثة أشهر من نشر هذا الإنذار، ليتسع لهما الوقت وليثبتا مدعاهما المختلق من أوله إلى آخره
أما قول الأستاذ إسماعيل أفندي: (فإن الكتاب الذي أرسله (كذا) حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك يسأله فيه ذلك (أي أجر التصحيح)، قد مُزق وألقى به في سلة المهملات مع الأسف الشديد) فهذا عذر أقبح من ذنب. وكيف يكون هذا الكلام صدقاً، وهما يزعمان أني(402/20)
طلبت به أجراً؟ فلو كان صحيحاً لاحتفظ به الدكتور، أو لنشره بنصه وفصه، إذ هو أمضى سلاح بيده، ليصرعني به ويقتلني شر قتلة؟ - لكنه مزقه (؟!) - قلنا: (إذا كان التمزيق قد وقع حقيقة، ولعله صادق، فهو لكي لا يبقى أثراً في ربيدته، يطلع من يأتي بعده على جهله لمبادئ اللغة المَضريّة ذلك الجهل الذي لا جهل بعده. وحينئذ نطلب من الدكتور النصراني أن يحلف على الإنجيل بين أيدي الشهود في المحكمة أنه تلقى مني كتاباً أطلب به أجراً على تصحيحي لكتابه الذي نشره ممسوخاً باسم. . . ثابت. . . بن. . . قرة!. وأطلب مثل هذا الطلب من الأستاذ المسلم إسماعيل أفندي مظهر فيحلف على القرآن بين أيدي أولئك الشهود، ويؤكد أنه. . . قرأ. . . هذا الكتاب)
فإن فعلا - ولا شك في أنهما فاعلان بعد أن بينَّا أكاذيبهما - فإني أتخلى عن دعواي، وأكل أمري إلى الله (والله يعلم إنهم لكاذبون).
الأدلة التي جاء بها الأستاذ مظهر لإبانة أوهامي
أما الأدلة التي جاء بها الأستاذ الجليل إسماعيل أفندي مظهر لتبرير صديقه العزيز الدكتور صبحي بك من الأغلاط التي ركب منها، فكلها موسومة بسمة المنطق المسكت المفحم ودونك أعجمها عوداً، وأشدها هولا ورعوداً:
1 - ليس الأب في حاجة إلى دراهم لأنه راهب. وكأنه لا يحل للراهب أن يسند المدارس، ودور الأيتام، ومعاهد الشيوخ والعجائز، ولا مساعدة الأرامل بأي وجه كان.
2 - إن أصل الكتاب مشوه كل التشويه وهذا وحده يجيز نشر الكتب بأغلاطها من غير تحرير ولا تحوير
3 - إن الأب تعرض لنقد كثيرين من علماء مصر المشهورين، وكان عليه أن يسكت ولا يتعرض لهم ويقدس أغلاطهم.
4 - إن الأب سقط وكبا في دورة المجمع اللغوي السادسة، فمن اللازم إذن أن يكبو ويسقط إلى آخر نسمة من حياته!
5 - ومن آيات منطقه ومقنعات كلامه، هذه الكلمة التي نوردها بحروفها للقارئ: أيليق بنا يا حضرة الأب المهذب أن نسأل: كيف حصلت على لقب لغوي ما دمت تسقط في مباحث اللغة هذه السقطات الشنيعات. . . - قلنا: وهذه الأقوال من أكاذيبه أيضاً، إذ لم أحصل(402/21)
على لقب لغوي من مدرسة أو كلية أو جامعة، أو حكومة، أو دولة ما، ولم ادع هذا المدعى في ما كتبته. ثم لو فرضنا جدلاً أني حصلت على هذا اللقب، فهل لكوني سقطت مرة واحدة في المجمع يدل على تمادي سقوطي؟
فما هذه البراهين النخرة، الواهية الباردة، الخالية من أثر المنطق؟ - إذ كم وكم من الأحفياء الذين سقطوا؟ وهل ما تقوله الدكتور فيشر ومن ما شاء هو الصواب؟ - وقديماً سقط الخليل ابن أحمد وخريجهُ الليث، وكبا أيضاً الفراء والأصمعي وابن مكرم والفيروزابادي والزمخشري وكثيرون آخرون. فهل هذا يدل على أنه لا يؤخذ بما قالوا، لأنهم سقطوا مرة بل مرات؟
6 - وقال أيضاً الأستاذ المفوَّه إسماعيل أفندي: (ولقد يدعي حضرة الأب أنه لا يخطئ، لأنه لو كان يسلم بأن الخطأ واقع من أبناء آدم لما انزلق في نقده إلى حيث انزلق (كذا) 1 هجريه
قلنا: ولماذا لم يذكر لنا غلطاً واحداً من أغلاطنا في تصحيح عبارة صديقه الدكتور صبحي بك؟
7 - وقال أيضاً في ص 1798: (وكلمة أخيرة أتوجه بها (كذا) إلى الأستاذ الفاضل أحمد أمين عميد كلية الآداب، ومحرر الثقافة فأسأله: هل من اللائق أن يوجه على صفحات الثقافة ألفاظ وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها؟
قلنا: جاء في أمثال الفلاسفة العلماء الرومانيين ; ومعناه: أفلاطون عزيز علي، وأعز منه عليَّ الحق: وجاء في النهاية لابن الأثير في مادة (ع ط ا) ما هذا نصه بحروفه: (هـ. في صفته صلى الله عليه وسلم فإذا تُعُوطِيَ الحق، لم يعرفه أحد. أي أنه كان من أحسن الناس خلقاً مع أصحابه، ما لم ير حقاً يتعرض له بإهمال، أو إبطال، أو إفساد. فإذا رأى ذلك تنمر وتغيَّر، حتى أنكره من عرفه. كل ذلك لنصرة الحق
هذا هو الأستاذ العلامة الكبير ذو الفضائل العلية الممتازة فهو ذا يشار إليه بالبنان، دَيّن، تقيّ، ورع؛ فإذا جاء الحق انتصر له ولم يُحابِ، إذ كل ما يعرفه هو الأمانة والصدق ومكارم الأخلاق، وينسى كل ما لم يكن من هذا القبيل، وهدفه الحق، لأن الحق صورة الله،(402/22)
ومن أحبَّ الحق فقد أحب الله، وتعالى فوق كل شئ على الأرض. وهذا هو المطلوب من كل إنسان على الأرض؛ والسلام على من اتبع الحق واهتدى، ولم يمارِ ولم يُداجِ ولم يلتفت إلى من سواه عز وجل!
3 - شكري لمتوخ للحق ثان
لا أمسح قلمي هذا إلا بعد أداء آي الشكر إلى كاتب كبير النفس، محب للحق حيثما وجده وكل من احتضنه، مقدر للعلم والأدب، ومتوخٍّ للصدق، اعني به الأديب احمد الشرباصي؛ فإنه نشر في (منبر الشرق) الصادر في القاهرة في 17 يناير من هذه السنة مقالة محجّلةً عنوانها: (من هنا وهناك) انتصر فيها للحق المبين وعدل عن محجة الكاذبين، إذ لم يستحسن ما نشره الأستاذ إسماعيل أفندي مظهر، وختم تلك الكلمة البديعة قاصمة الظهور، وفاتكة ما في مفاسد الصدور، فبدَّدت الأكاذيب والشرور، بهذه الخاتمة:
(أما تفسير الأستاذ مظهر وكشفه للدافع الذي دفع بالأب إلى نقد الدكتور صبحي فهو - إن صح - حقيق بأن يحدثَ في الأدباء ثورة، وأن يورث بين الكتاب حرباً تقوِّم المعوج وتهدي الضال إلى سواء السبيل)
لقد صدق - وايم الله - الأستاذ الشرباصي في قوله: (إن صح) إذ هذا الأمر ما صح ولن يصح، إلا إذا غلب الباطل الحق، وهذا لا يدوم إلا ريثما تنجلي الحقيقة بوجهها السافر الوُضَّاء. ولا يقع هذا الوهم إلا في من يخدع بالظواهر، على حد ما يخدع المسافر بالآل أو بالسراب، ذلكم السراب الذي يحسبه الظمآن ماء. وأما العلماء الحكماء البصراء فهم أبعد الناس عن هذه الخوادع الكواذب. وقانا الله شرها
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(402/23)
الفكر والسلطة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أود أن أعجل بالدخول في هذا الموضوع الذي أثاره الأستاذ الياس إبراهيم بدوي وأثار به قلم الأستاذ الكبير العقاد؛ فإنه موضوع يشغلني كثيراً في هذه الأيام وكنت على أن أفرد له مقالاً من مقالات (أومن بالإنسان) بعد ما أشرت إليه في إحداها فإنه جدير بالعناية؛ إذ التناقض بين السلطة والفكر هو السبب الأكبر في شقوة الإنسان وكفره بنفسه وبالعدالة وبالخير والحياة. فليكن هذا الحديث ملحقاً بتلك الأحاديث وإن لم يكن له عنوانها.
قلت في المقال الرابع من تلك المقالات: إن الإيمان بالعلم وتنظيم الحياة الإنسانية بطرقه وإطلاق الأفكار فيه هو الدين الواحد الذي يدين الإنسانية جميعها وتلتقي عليه بأفكارها وأيديها. . . وقد جعلها تلمس عرشها المرموق وتعرف دولتها المأمولة في مستقبل الحياة
ولكن أين العصا السحرية التي ستفعل في تعديل شهوات الأمم وغرائزها وتعصباتها الذميمة بحيث تجتمع على خدمة العلم والحياة بأفكارها وأيديها؟
ذلك ما يسأل عنه رجال التربية والمفكرون في الدين والاجتماع، رجال التربية فلاحو حقول الطفولة منطقة النمو الدائم وعُلب أسرار المستقبل، ورجال الفكر رسامو المثل العليا القادرون على استدراج الناس إليها وسجنهم فيها
ولكن هؤلاء وأولئك لا يزالون بعيدين عن مقاليد الحكم وتسلم مقاود القطيع بينما مكانهم هناك لو صحت الأوضاع. . . ولا يزال محترفو السياسة والدجاجلة بها المتخلفون عن بلوغ القمة في الفكر والخلق هم الغالبين المتسلطين. . . وهؤلاء هم سر البلاء النازل الآن بالناس كما كانوا في القديم
فأنا أتمنى بذلك أن يكون رجال الحكم في كل أمة هم رجال القمة في الفكر والخلق والقدرة على تربية الشعوب؛ فإن هذا هو الوضع الصحيح للحياة الاجتماعية التي يستقيم فيها كل شئ، ويؤمن المرء فيها بنفسه وبأمته وبالإنسانية جميعاً؛ إذ لا يجد في الحياة تناقضاً بين المثل العليا والقوانين المرسومة في الكتب والواضحة في نظام الطبيعة، وبين الوقائع العملية التي يسير بها الناس. وحيث لا تناقض بين ما في النفس وما في خارج النفس فهناك السعادة وهناك الإيمان وهناك الأمل والعمل المطرد(402/24)
إن الذي يؤهل الأب لأن يكون قيما في الأسرة، هو بذاته الذي يخول الحاكم والسلطان أن يكون قيما في مجموع الأسر. وأول صفات الأب الفكر والرشد الممتاز والعدالة بين أبنائه والحب لهم جميعاً
والحكم كالأبوة وصاية وخدمة وقيام على الناس بالرعاية والإصلاح والعدل لا سيادة وسلطان أو مكاثرة أو حب تسخير للناس أو طلب للامتياز عليهم أو اتقاء لشرور سلطة أخرى إلى آخر أسباب الحكم التي ذكرها الأستاذ العقاد وبين تفاوتها في القرب من الصواب
وكما أن الأب في الغالب هو أكبر أهل البيت عقلاً وأقدرهم على الكسب والإنتاج والإصلاح. . . كذلك يجب أن يكون (الأب الشعبي) أي الحاكم الراعي
وقد أغفل الناس هذه البديهية في الحكم ووسدوا الأمر إلى غير أهله الطبيعيين، وصار مالكو رقاب الناس وموجهو الأمم غير رجال القمة في الفكر والخلق ومعرفة اتجاهات الحياة، وإنما هم المحترفون للسياسة والجائعون للشهرة والعاشقون للجاه والمناصب والبطش والخيلاء، والجاهلون بعلوم النفس والتربية وأرصاد القدر وسير قافلة الحياة بالأحياء. . . الذين صعدوا إلى المناصب بالمكر والخديعة والدجل السياسي، لا بالطبع الكريم والفكر الناضج والمجهود الصالح والخدمة النافعة. . . الذين نفوسهم نفوس عوام، أو هم جعلوا همهم تمليق العوام والنزول إليهم بدل أن يرفعوهم بالتربية وقسوة الآباء التي لابد منها في بعض الأحيان. . .
ومن رأي أن الأرستقراطية في الفكر ضرورية للاجتماع، وليست مقبوحة كالأرستقراطية في المال. إذ لو اتبع الحكماء أكثر الدهماء ما خطوا بالإنسانية خطواتها في الترقي، وما وصلوا بها إلى شئ من أسباب سموها وهداها
والمحترفون للسياسة وعشاق المناصب يجعلون همهم تمليق العامة ليركبوها إلى المناصب. أما العلماء والمجاهدون في سبيل الفكر فهم الذين يحملون الناس على أكتافهم إلى واحات السلام والصلاح والانتفاع، وقد يضربهم الناس ويهينونهم كما يهينون الدواب التي تحمل متاعهم، ومع ذلك لا يتخلفون عن أداء رسالاتهم في نقل الناس من سيئ إلى حسن ومن حسن إلى أحسن(402/25)
إن رجال الفكر المخلصين للحقيقة الباحثين عنها الحالمين بصور الكمال هم وحدهم الذين لا تبطرهم المناصب والرياسات ولا يسعون لها إلا لأنها تمكنهم من تحقيق ما يحلمون به من وسائل الإصلاح وإسعاد الناس. وهم الذين يقيمون السياسة على قوانين الفضيلة لا على الختل والخداع وتصيد المال والخيلاء بالجاه
واعتقادي أن شقاء الإنسان السياسي ناتج من أن رجال السياسة الآن صاروا بعيدين عن الأفكار العليا الحرة، وصاروا تابعين لرجال المال الذين يبعدون عنهم كل ذي فكر وأحلام ومثل عليا في الروح
وعالم المال بؤرة للشهوات العنيفة والغرائز الحادة، والمنافسة الذميمة، وحب التملك، وتبرير الواسطة، والخوف من التغيير والتحول
وقد نشأ من اللقاح بين هذين الصنفين: محبي تملك الرقاب ومحبي تملك المال، ذلك الإنسان السياسي الفضيع الذي يخدع القطيع ويلعب به ويحلبه ويسوقه ويذبحه حين الضرورة الشخصية على مذابح الهوان والظلم. ولن تتخلص الأمم من شقائها وفوضى حياتها إلا إذا اختارت رجال حكمها من بين مفكريها الذين لهم روح تحلم بالكمال، ولهم قدرة عملية على التنظيم والإخراج والتنفيذ، ولهم مع هاتين الهبتين شخصية قوية تصون المنصب وتخلع عليه هيبتها وسيادتها الذاتية. فعلى الأمم أن تبحث عن هذا الطراز المفكر الحالم العامل القوى الشخصية بين رجالها وشبابها الناشئين، وأن تربيه في مدارس خاصة بتخريج الحكام يكون لها برامج تكفل إنضاج الفكر الحاكم السائس المربي
وحين يوجد الفيلسوف الحاكم يكون التناسق والتربية النفسية والحقيقة والرضا عن الوطن و (المواطنين)
وقد كان عهد الرئيس الدكتور (مازاريك) في (تشيكوسلوفاكيا) مثالاً صالحاً للحكم تحت وصاية أرباب الفكر الذين لا يخضعون (للروتين) ولا يتحجرون في قوالب الواقع السيئ
فقد فاق (التشك) تحت حكمه جيرانهم جميعاً حتى الألمان، فاقوهم في التنظيم الداخلي والاقتصادي والرياضي والعسكري والاجتماعي. إذ أنهم كانوا تحت وصاية رجل بصير بآفاق الحياة مدرك اتجاهاتها، برئ السيرة والسريرة من آفات محترفي السياسة الطالبين للمناصب ولو لم يكونوا أهلاً للوصاية للعامة، الحاذقين (للمناورات) والمقالب والدسائس مع(402/26)
الجهل بالإصلاح
إذاً فمن الخير للأمم أن يتولى سياستها رجال الفكر وعشاق المثل العليا وأن يطبقوا حياتها العملية على أفكارهم النظرية السليمة
ولكن هل من الخير لرجال الفكر أنفسهم أن يوسد إليهم أمر الناس وتدبير سياستهم ومعايشتهم؟ إن لذة الفكر المجرد والهدوء الذي يغمر عالمه والأنس به والأحلام فيه والانقطاع إليه شئ عظيم قد يفضله كثير من المفكرين على الاشتغال بصغائر الحياة العملية ومضايقات سياسة الناس وتدبير أمورهم، ولو كان مع هذا جاه ومال وسلطان وقوة وشهرة
بل إن أكثر الذين أخلصوا للفكر والفن يضيقون ذرعاً بحياة الناس العملية ويخلقون لهم جواً خاصاً بهم يعيشون فيه وحدهم ولا يعدلون به سواه. ولذلك قال الجاحظ ما معناه: (ما لذة الأسد بلطع الدم بأعظم من لذة العالم بعلمه). وقال أحد الصوفية: (لو علم الملوك ما عندنا من اللذات لقاتلونا عليها)
وقد صور (جبران خليل جبران) وجدانيْ رجل الأدب ورجل النشب ونَظْريتَيهما للحياة حين قال: (تبادل غني وأديب النشب والأدب، فرأى الأديب ما بيده حفنة من تراب، ورأي الغنى ما برأسه نفخة من ضباب. . .)
فهل يلذ المفكرين أن ينزلوا عن أبراجهم العاجية المليئة بصور الكمال والجمال والهدوء إلى دنيا الواقع المليئة بالصخب والتشويش والمتاعب؟
وهل من الخير للحياة أن يظل رجال الفكر في نظرياتهم وأحلامهم يتصيدونها من آفاق بعيدة ويؤلفون صورها ويدمنون ذلك وينقطعون إليه، حتى يكثروا أمام الناس صور الكمال، وأن يتركوا للملوك والساسة العمليين أن يأخذوا منها الجانب الذي يروقهم ويحلو لهم تطبيقه في أساليب حكمهم؟ أم أن من الخير للحياة أن يتولى رجال الفكر بأنفسهم تنفيذ ما فكروا فيه ووفقوا إليه ولو قطعهم ذلك عن إنتاج الأفكار الكثيرة الرائعة؟
وهل من الخير للرجل أن يخلد ويذكره التاريخ على أنه مفكر أو فنان أو أن يذكره على أنه حاكم سديد مصلح؟
إن النتاج العلمي والفني قد يبقى كما هو دائماً في الكتب والدواوين والآثار. . . يراه الناس(402/27)
كما كان في عهد صاحبه. . . ولكن نتاج الحكم والإصلاح مؤقت بحياة صاحبه فلا تدركه الأجيال التالية، إلا بالحكاية عنه والسماع. وليس فيه خلود ذاتي كالأثر الفكري والفني، وإنما خلوده بتطبيقه على الحياة العملية. وهذا طبعاً ليس مطرداً ولا كثير الوجود في جميع العصور. . .
فحياة الإصلاح والقوة في زمن عمر بن الخطاب وعمر ابن عبد العزيز مثلاً انقضت بانقضائهما، وصار الحديث عنها حديث حكاية مضى أشخاصها. وقليل أن يقتدي بهما حاكم آخر، ولكن حياة أي كتاب ديني أو علمي أو فني تبقي تمثل نفس صاحبها ومنتجها دائماً. . .
ومع هذا يجدر بنا أن نعلم أن حياة الفكر وحده لا فائدة منها إلا لفترات (الترف العقلي) والترف العقلي كالترف المالي ما هو إلا شهوة. . . شهوة رفيعة
نعم إن للعقل شهوات كشهوات الغرائز! فالمفكر أو الشاعر الذي يتفرغ لعالمه الخاص ويترك العمل على إصلاح ما يحيط به ما هو إلا كالمدمن المستهتر على الخمر أو القمار؛ إذ يغيب عن حياة المجموع ولا يجعل بين عقله النظري والعقل العملي صلة
والسؤال الذي يجب أن يقدم قبل البحث في هذا هو: أمن الخير للفرد الفقير المريض المحتاج في الأمة أن تقدم له غذاء ودواء وحياة عادلة أم أن تقدم له لحناً جميلاً أو شعراً رائعاً أو نظرية بارعة؟
إن الحياة العملية هي الحكم في هذا. . . وقد مضى العلم والفكر القديمان اللذان كانا يدوران على الذاتية واللذة الشخصية وأتى عصر الفكر العملي الذي ينتج محصولاً ينفع الناس في مرافقهم المعاشية
فصاحب الفكر التجريبي الآن قد صار صاحب الخطوة والخالد الأثر عند الناس. لأنه يشتغل فيما يعود عليهم جميعاً. . .
وقد لفظت الحياة الحالية كل من يفكر على الأسلوب التجريدي القديم الذي لا ينتج شيئاً يصح انتفاع الناس جميعاً به واحتضنت كل من يقدم لها أعمالاً وأغدقت عليه الثروة والجاه والسمعة. . .
وينبغي أن ينصرف حديثنا هذا إلى غير المفكرين من العلماء الطبيعيين الذين يكشفون عن(402/28)
أسرار الطبيعة. فهؤلاء يجب أن يتفرغوا ويعيشوا في عالمهم وحده إلا إذا كانت لهم قدرة على الجمع بين حياة الحكم وحياة هذا اللون من العلم
أما الذين يفكرون في النظريات الأدبية ويدرسون الاجتماع ويضعون فلسفته فيجب أن يختار منهم من يستطيع الاضطلاع بأعباء الحكم وتطبيق النظريات على الواقع
ويجب أن يعلموا أنه لا فائدة من أن يضعوا كثيراً من النظريات والأفكار ويتركوها دفينة بين دفات الكتب من غير تطبيق؛ وإن المفكر الناجح هو من يصنع فكرة ثم يصنع بها أمة أو جماعة
ويخيل أليّ أن كل المجهودات الفكرية التي ليست داخلة في منطقة العمل هي هوى ذاتي وترف عقلي وأقرب إلى الوجدانيات كالموسيقى والألحان
إننا لا نمسك ديوان شعر أو نسمع ألحان الموسيقى أو نقرأ قصص التاريخ إلا إذا فرغنا من أعمالنا المعاشية وأقبلنا على أوقات الفراغ نستمتع بها، ولن يقبل على هذه الألوان في كل وقته إلا هاو مستغرق أو محترف مرتزق
وقد يكون من العجيب عند بعض الناس أن يعلموا أنني أعتقد أنه يجب للإصلاح السريع في مصر أن نضحي بعيشة الترف العقلي مدة موقوتة تغلق فيها جميع المعاهد العالية مدة سنة أو سنتين نحشد جميع أساتذتها وطلابها للخدمة العامة والاشتراك في حركات الإصلاح البدائي ونترك التفرغ للبحوث الفكرية والهوايات الفنية ونتفرغ لتدبير أمور الجمهرة الجاهلة من هذه الأمة حتى يعلو مستواها ويتقارب مع مستويات الأمم التي سبقتنا في التعليم والإصلاح
قد يبدو هذا غريباً عجيباً، ولكن هو ما أعتقده. لأني أرى وجود المريض جداً بجانب الصحيح جداً يفقد بهجة الحياة لدي الصحيح، ويؤلم المريض بالحسد والنظر المحروم؛ وأرى أن الأولى للعالم والمفكر ألا يوغل في علمه وفكره، ويترك غيره جهلاء لا يفهمونه ولا يقدرونه
ووجود عدد من جهابذة العلماء عندنا بجانب ملايين الجهلة التعساء المرضى هو بذاته كوجود الميادين والشوارع الجميلة في المدن المعدودة في مصر بجانب آلاف القرى التي تقام من الطين والسرجين والأحطاب والمستنقعات. . .(402/29)
فعلى هذا ينبغي أن يقدر أدباؤنا ومفكرونا أن عملاً صالحاً يقدمونه في حكم صالح يسعون إلى أن يقوموا عليه، أولى ألف مرة من تقديم قصيدة رائعة أو مقالة بارعة أو فكرة عبقرية غير عملية. . . إذ أن هذا العمل الصالح المثمر أهنأ لدي آلاف من القلوب المحكومة، وأسرع إلى إسعادها، وأدنى إلى أسلوب الله في نفع عباده، إذ أنه يعمل لهم كثيراً في تدبير الطبيعة ولا يتكلم. . . وإن قانوناً عادلاً يضعه لأمته حاكم رشيد لأنفع ألف مرة من جملة كتب تعرض أفكاراً طلية للترف العقلي. لأن القانون العادل يضمن ضرورات الحياة للناس جميعاً. أما كتب الأفكار، فتضمن بعض ترف الحياة لبعض الناس. . .
ولو ترك محمد عليه الصلاة والسلام القرآن من غير أن يترك أمة قد قام عليها بالتربية والحكم والتوجيه والتعليم لظل القرآن ككتاب من الكتب لمؤلف من المؤلفين. . . ولكنه صنع أمة تجسدت في أشخاصها معاني هذا الكتاب ومشت تسعى بهم وصاروا هم كلمات حية تشرح آياته. . .
وأظن أن سعادة الرجل الذي ينجح في تطبيق مشروع يسعد الناس تربو كثيراً على سعادته بإخراج أثر فكري أو فني حبيس في الورق
فليحمل أدباؤنا ومفكرونا نصيباً من الخدمة العملية، وليرضوا أنفسهم على إسعاد القلوب بالأعمال كما يسعدون الآذان بالأقوال، وليجتهدوا أن يحققوا معاني مقالاتهم في أشخاص وأعمال مجسمة، وليسعوا دائماً إلى أن يكون حكامنا وزعماؤنا هم رجال القمة في الفكر والخلق حتى نلائم بين ما في النفس وما في خارج النفس.
عبد المنعم خلاف(402/30)
الغناء والموسيقى
وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 1 -
هذه أولى أربع كليمات في الغناء والموسيقى، وحالهما في مصر والغرب؛ وهي ملاحظات عامة لم يُقصد بها إنسان معيَّن، وليس فيها محازبة لمذهب خاص، وعُرضها قد لا يخلو من فائدة
ذانك الفنان يجوز اعتبارهما من وجهين: القواعد الفنية؛ وبواعث الطرب الراجعة إلى ماهية الموسيقى والغناء الأصلية، أي الدلالة الصوتية على الأحاسيس والخواطر
فالغناء تطريب في الصوت في كلام المغني. والكلام العادي كلمات تدل بذواتها وبنسقها على خواطر وأحاسيس تتلوَّن فيه تلون الحال الفكرية النفسية في المتكلم؛ فيتلون صوته بالطبع والتبعية إذ يحدث فيه نبرات متفاوتات، ويجري في سرعة وبطء وخطف ووقف، وذلك كله يقوي دلالات الكلمات والسياق على الخواطر والأحاسيس، لأنه يزيدها وضوحاً وتأكيداً من حيث لا يشعر المتكلم. فهذا الذي يَحدث في صوته دلالةٌ صوتية تصاحب الدلالة الكلامية؛ وهي ماهية الإلقاء، وقد تكون أصدق من دلالة الكلام الذي تصاحبه: في مثل عبارة معناها ثناء تلقى بصوت يدل على أن المراد بها مُزاح ساخر؛ وفي مثل قول غاضب لمغضوب عليه: تفضَّل، بصوت يعني الطرد مع أن الكلمة مستعملة في التكريم
وما الغناء، على الإجمال، إلا تطريب يُعلى تلك الدلالات الصوتية في اللحن المطابق لمعاني كلام الأغنية، ولمقتضى المقام المعين بهذه المعاني؛ فتعلو الدَّلالات درجات متفاوتات على مستوياتها في الكلام المغَنَّى به لو أن صاحبه الفرضي تفوَّه به، من غير تطريب، في ذلك المقام. يؤيد هذه الحقيقة أن الأغنية إذا جاد لحنها، وأجاد غناءها صوت حسن موافق، كانت معانيها أعظم وقعاً عند السامع منها إذا هو قرأها هادئ النفس، أو سمعها مقروءة بلا ترنيم ولا ترتيل. فمن أين تعلو عنده منزلة هذه المعاني والأغنية واحدة على كل حال؟ أفلا نرى أنها تشرف بتقوية الدلالة الصوتية المبينة عن معاني الكلام وعن(402/31)
حقيقة المراد به؟ ليس شك في أن السر والسبب المهم هو تقوية هذه الدلالة، والأمر صحيح واضح لا في الغناء وحده بل في الخطابة والتمثيل أيضاً
تلك الدلالات الصوتية تصاغ في نغمات متوائمات محكمات على ضوابط فنية، لتنسجم بالإيقاع في لحن يبرز معاني الكلام المغنى به، وعلى قدر المطابقة الواقعة بين نص الدلالات، أي معاني الملحن، وبين معاني هذا الكلام يطيب الغناء ولو لم يكن صوت المغني من أجود الأصوات
بديهي أن الملحن لا ينطق بالكلام المراد تلحينه، ولا يستعين أحداً ينطق به أمامه، كي يلاحظ ما يقع في مثل هذا النطق من دلالات صوتية ليرفعها في نغمات يصوغها لحناً، لكنه إذا كان حقاً فناناً فقهاً فإنه يتفهم ما في ذلك الكلام من مقاصد وأغراض، ناظراً في دقائق ما يكسوها من معارض وأثواب؛ ويتأمل ما يصور من صور حتى يتوهمها أمام ناظريه، وحتى تستقر في بصيرته وعقله الباطن، وما تصف من أحوال نفسية حتى يجدها كأنها في نفسه هو؛ ثم يأخذ في التلحين متى تهيأت له ملكاته، فيأتي اللحن بطبيعة الحال حاملاً تلك الدلالات، مطابقاً بها معاني الكلام على قدر حساسات الملحن وحسته، ومواهبه ومحصوله الثقافي؛ وإذا كان الكلام أغنية من إنشائه، فقد يكون أقرب إلى السداد في إنشائه لحناً لها
وشأن المغني في التمكن من اللحن وتجويد غنائه شأن الملحن في تلحينه، وذلك هو الأساس والصراط المستقيم إلى الإجادة يهديهما إليه الطبع ونصيبهما من تحصيل أصول الفن ومن فهم معناه، ومن لم يهتد إليه ويوطد صنيعه على هذا الأساس المتين جاء بشيء غير طائل
أما الموسيقى، ففيها الدلالات الصوتية المصوغة في اللحن الذي يخرجه العازفون من المعازف؛ وهذه الدلالات أملتها نفس ملحنه، إما أخذاً عن أحاسيس وخواطر تضمنها الكلام الذي انشأ له اللحن، وإما تعبيراً عن حستها الذاتية حين تيقظت فيها ملكة التلحين، وهي حالة استكنت في أعماق تلك النفس بواعثها من خوالج صاحبها في مدى حياته، ومن أخيلته وخواطره إزاء ما شاهد في دنياه وما أدرك من الكون بشعوره وعقله أو بفضل غيره
تلك الدلالات تؤديها معازف تختص بها، معازف يَحدث من تناسق أنغامها السياق الأساسي في اللحن بينا ترسل معازف أخرى أنغاماً مساعدة، تتلبَّس به متنوعة فيه، متفاوتة ارتفاعاً(402/32)
وانخفاضاً؛ فهذه تصاحب السياق الصوتي الأصلي وتزينه بتلونها الملائم، إذ تجري معه مؤتلفة، كصورة الظل مع صاحبه، فتزيده جمالاً وروعة، فهي مصاحبة أو تصوير. فما اللحن في الحقيقة إلا تعبير بدلالات صوتية مدلولاتها خوالج وخواطر وأخيلة جالت في نفس ملحنه، أو استعارتها نفسه من كلام لغيره، من فحواه ودقائق معانيه وما تصف. ومن هنا نظروا إلى اللحن الذي يعبَّر هذا التعبير، ويصور هذا التصوير، نظرهم إلى الكتابة فقالوا: الإنشاء الموسيقي، وميزوا بين إنشاء موسيقار وإنشاء موسيقار آخر، وعرفوا لكل طابعه الخاص
الفهيم المستمع إلى موسيقى جيدة، لا يصاحبها غناء، تصل ألحانها إلى سمعه غير مقيدة دلالاتها الصوتية، أي معانيها، بدلالات لفظية. ولذا تجد نفسه بعض الحرية في فهم هذه الألحان الموسيقية التي تحرك في وجدانه خوالج وأحاسيس، وتثير تداعي الصور في مخيلته والخواطر في ذهنه، فتذهب روحه مذاهبها في تأويل الدلالات الصوتية؛ فإذا سكنت إليها طرب ووجد الأريحية، وإذا هو آنس منها ما يعيب اللحن أو العزف أو لم يفهمها، أو لم توافق طبعه، فإنه لا تأنس إليها روحه. وعلى قدر موافقتها وسلامتها أو عيوبها يكون الاكتراث لها، أو الاستكراه والنفور منها
أما الغناء الذي تصاحبه الموسيقى ففيه الدلالة اللفظية تَفرض تأدية معان معينة، هي معاني الكلام المغنَّى، على الدلالتين الصوتيتين: دلالة الغناء ودلالة العزف الموسيقي معاً؛ فلا بد من المطابقة والائتلاف التام بين هذه الدلالات الثلاث حتى لا يُعكر نبوُّ إحداها ونشاز الأخرى صفاء اللحن ونقاء الغناء والموسيقى جميعاً
والكلام الذي يغنِّيه المغنِّي بمصاحبة الموسيقى يصل مع صوتيهما إلى آذان المصغين البصيرين، ويتعيّن معناه اللفظي بيّناً في أذهانهم فيقيد حرية نفوسهم كل التقييد، في فهم تينك الدلالتين الصوتيتين فهماً يغايره، وبذلك يمنعهم من تأويلهما تأويلاً يجعل لهما وقعاً عندهم؛ فإذا لم يكن الائتلاف تاماً بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائها ومعاني موسيقاها حال هذا العيب الشنيع دون الطرب، وربما سبب الاستكراه والنفور ولو جاد العزف لآلي وصوت المغني
والمستمع السليم الذوق قد لا يحلل بعقله ما يسمع من الغناء والموسيقى مثل هذا التحليل،(402/33)
ولكنه لا يطرب من غناء وموسيقى تتنافر فيها تلك المدلولات اللفظية والصوتية؛ لأن عقله الباطن يدرك تنافرها، أو لأنها لا توافق مزاجه الروحي، وإن لم يكن بينها تنافر، أو لعدم وضوح معانيها له، ومدار ذلك كله هو الإدراك والذوق
ولكن الحقائق المتقدم بيانها ما مبلغ علمنا بها يا ترى؟ وهل يُلتفت إليها في بلادنا؟ الجواب في الكليمات الآتية في الأعداد التالية، وحسبنا الآن إشارة
لما دال الدهر القلَّب، وظعت أسباب الانحطاط على الشرق، وتفشَّاه الجهل، وذهبت الأخلاق، وضاعت فيه الآداب والفنون، لم يبق بعدها من الغناء والموسيقى، في الفترة المديدة التي سبقت بدء النهضة المصرية، سوى بقايا ضئيلة ههنا وثَمَّ، مستها الأسواء ولمّا نمعن في البحث عنها وعن أصولها وضوابطها، ولم نحسن الاعتناء بما بين أيدينا منها، ولم ندرك ماهيتها ونبني عليها؛ وليس لنا بد من طور آخر نقضيه متلمسين الفن الحق، متعثرين في سبله
نعم، فإن كثيراً من الملحنين والمغنين والموسيقيين والمستمعين - بقطع النظر عن الأقليات التي تدخل في باب الاستثناء - لا يزالون عندنا من بيئات دون الوسطى، ضئيل محصولهم، أولية عقولهم، ساذجة نفوسهم، سقيمة أذواقهم. وقصارى البارع من هؤلاء الفنانين أن يتقن تقليد ما ترك الجيل السابق، أو أن يعبث بشيء من بعض آثار القدماء، أو أن يمسخ الفن بما يزعم أنه تجديد وابتكار. وكثير من النقاد مثلهم ولم يفطنوا؛ لمواطن الأدواء، فليس في مقدورهم أن يصفوا الدواء، ونقدهم مغترض يساير الشُّهى ويتحرى مظان المنفعة، وخيره أقل من شره، ولو تنزه وصح لكان في مصلحتهم ومصلحة الجميع على السواء.
محمد توحيد السلحدار
-(402/34)
ذكرى محمد محمود باشا
في ليلة الأربعاء الماضي وعلى منبر الجامعة المصرية أعلنت مصر ممثلة في زعمائها ووزرائها وأدبائها صادق رثائها وخالص وفائها لفقيدها الجليل النبيل محمد محمود باشا. وكان من خير ما قيل في حفلة التأبين هاتان الكلمتان للشاعرين الكبيرين عباس محمود العقاد وخليل بك مطران؛ والرسالة تساهم بنشرهما في هذه الذكرى الجليلة
قال الأستاذ العقاد:
أكبرتُ في غيب الزعيم محمد ... من كان يكبر حاضراً في المشهد
حجب الردى عنا بشاشته ولم ... يحجب بشاشة ذكره المتجدد
هيهات ينتقص الزمان مجادة ... للسيد بن السيد بن السيد
فخر الصعيد، وفخر مصر جميعها ... بالرأي والخلق القويم الأيّد
من يرسل المثنى عليه ثناءه ... مسترسلا في القول غير مقيد
جمع القلوب على المديح وإن مضت ... نهجين بين مصوب ومصعد
لم نقض في هذي الديار قضية ... ومحمد مما قضوه بمبعد
ملء الندىَّ وإن تطامن دقة ... كم دقة شحذت مضاء مهند
في دارة (الفلكي) قبلة كوكب ... يعلو على رصد المنايا الرَّصد
تطوي المغارب جرمه وشعاعه ... متألق في أوجِه لم يخمد
أكبرت مطلعه ولم يك طالعي ... في كل حين عنده بالأسعد
ورأيته أقصى وأقرب رؤية ... فإذا البروج لكوكب متوحد
مهما اختلفت حياله لم يختلف ... سمت السماء ولا علو المقصد
متحرر مما يعاب كأنه ... متقيد المسعى، ولم يتقيد
شفت سرائره فكل سريرة ... فيه تضيئك من سراج موقد
فإذا عهدت المحض من عاداته ... لم تلق يوماً منه ما لم تعهد
عز الكنانة فيه فهي فجيعةّ ... تبلو الكنانة في الضمير وفي اليد
ما في مروءات الشعوب مروءة ... إلا رعته بنظرة المتفقد
البر، والمشهود من آلائه ... بين المحافل دون ما لم يشهد
ومعاهد التعليم بين مشجع ... للعاملين بها وبين مزود(402/35)
وإغاثة الأدب اللهيف وإن تشأ ... سرداً فعدد ما بدا لك واسرد
ونزاهة اليد واللسان هداية ... للمهتدين، وقدوة للمقتدي
وصراحة الأخلاق ما اشتملت على ... مستغلق فيها، ولا متأود
والعزة الشماء، إلا أنها ... كالشاهق المخضر لا كالجلمد
وسياسة الوادي ولم يك رابحا ... منها سوى الشجن المقيم المقعد
وعزيمة لا تكره الشورى وإن ... كانت لتكره حيرة المتردد
شيم وآلاء إذا ما استفردت ... كالقطب عزّت في ازدواج الفرقد
عز الكنانة والعزاء ليعرب ... ما بين مُتْهم قومه والمنجد
كم ذاد عنهم والخطوب بمرصد ... والشمل بين مشرد ومبدد
للحق، لا لخبيئة مطوية ... تلقى العداة الرابضين بموعد
ولنصرة الإسلام لا لعصابة ... تسعى إلى الإسلام سعي المفسد
سمح على ما فيه من عصبية ... سهل، وإن أعيا قُوَى المتشدد
لا يستطاع على الخصام عناده ... وعليه تعويل الأخ المتودد
من أكسفورد ولو نماه معشر ... للأزهر المعمور لم تَستعبد
فيه محافظة، وفيه طرافة، ... وأراه في الحالين غير مقلد
ورث الحمية كابراً عن كابر ... والأريحيةَ منجداً عن منجد
غيث الفلاة ونيل مصر كلاهما ... سقياه من أصليه أعذب مورد
فإذا بكت مصر فغير ملومة ... وإذا الحجاز بكى فغير مفند
رحم الإله محمداً وأثابه ... في خلده الباقي ثواب مخلد
كأن السبيل السرمدي سبيله ... فعليه رضوان الإله السرمد
عباس محمود العقاد
وقال الأستاذ مطران:
هل يعالي الذرى مكان اعتصام ... بعد مهواك يا رفيع المقام
ما انتفاع النسر المحلق في الأ ... وج ويرمي به من الأوج رام(402/36)
أي رزء ألم بالعَلَم الفر ... د فألقى الخشوع في الأعلام
أي خطب أصاب أوحد قوم ... فأشاع الأحزان في أقوام
ما جناه الردى بحجبك عنهم ... سبقته جناية الأسقام
فتحملت في ليال طوال ... ما تحملته من الآلام
كان عمرٌ قضيته في اضطلاع ... بالمعالي وفي مساع جسام
فيه أسرفت بالعزائم حتى ... لكأن المبذول بعض الحطام
جدت في حبك البلاد بأغلى ... ما به جادها شهيد غرام
همم بَلغتك أسمى الأماني ... من ثراء ورتبة ووسام
وأعزَّت بك البلاد وإن لم ... نقض أقصى ما رمته من مرام
فلأمر عاق المهيمن حقاً ... عن قضاء ومطلباً عن تمام
مصر تبكي محمداً بفؤاد ... أثخنته السهام بعد السهام
كلما لاح كوكب في ذراها ... كوَّرته حوادث الأيام
ينقضي الدهر وابن محمود باق ... خالد الذكر في بنيها العظام
الزعيم الخليق منها ولا مَ ... نٌّ عليه بالحب والإكرام
الرئيس النزيه في كل معنى ... من معاني ولاية الأحكام
الوزير النهاض ما حَزَبَ الأم ... ر بأعبائه الثقال الضخام
الخطيب الذي لمنبره الع ... الي جلال كمهبط الإلهام
الأديب الذي إذا جالت الأقلا ... م جَلّى في حَلبة الأقلام
الرصين الرزين إلا إذا ما ... عجل الرأي خطة الإقدام
العدو المبين للمتجني ... والنصير الأمين للمستضام
الولي الأوفى لكل موال ... والمذم الأكفى لراعي الزمام
رجل كامل الرجولة لا ير ... مي بعزم إلا بعيد المرامي
ليس يُعنى بالترهات ولا ين ... ظر إلا من المكان السامي
طبعته شمس الصعيد ولكن ... لم يطل منه محمل الصمصام
والنفوس الكبار ليس عليها ... حرج من تضاؤل الأجسام(402/37)
أسمر اللون يعتريه شحوب ... قد ترى فيه صُهبة الضرغام
يتلقى الأحداث عسراً ويسراً ... وعلى الثغر منه وشْك ابتسام
ليس بالأصْيَدِِ العَيوف ولا بال ... لبق المجتدي تحايا الأنام
شيعته البلاد والحزن غلا ... ب على الصبر في الدموع السجام
جيشها ناكس السلاح تماش ... يه وئيداً شجية الأنغام
وعلى جانبيه مشترفات ... جزعات مخفوضة الأعلام
ووراء السرير تَطَّرد الأف ... واج والهام تلتقي بالهام
أمة أزْجت الجنازة في أس ... نى مجال الإكبار والإعظام
يا محييِّ محمد وهمُ صف ... وة مصر التقت بهذا المقام
عظم الله أجركم إن وعد ... الله حق للصابرين الكرام
يا شقيقيه إن بيت سليما ... ن بأن تبقيا متين الدَّعام
يا بنيه بسنة الله لوذوا ... فبها برء كل جرح دام
قاسمتكم مصر الرزيئةَ فيه ... وعلى قدرها مدى الاقتسام
فاخلفوه بالحق واتخذوا من ... هـ لكم خير مرشد وإمام
إن تلك الحياة إن تصلوها ... لحياةٌ جديرة بالدوام
خليل مطران(402/38)
نشيد اللغة العربية القومي
للأستاذ محمد سعيد العريان
تلمين شتر بن ظاهر
(لمناسبة مهرجان النشاط المدرسي الذي تقيمه وزارة المعارف
في هذا الأسبوع نقدم هذا النشيد لقراء العربية في مختلف
أقطارها).
لغتي: ديني وطني
لُغةُ الأمجادِ مُنْذُ يُعْرُبِ: لغتي
ولِسانُ الحقَّ من عهد النبِي: لغتي
مجدُها مجدي وتاريخ أبي: لغتي
لغتي: ديني وطني
لُغةُ الرحمنِ في قُرآنِهِ: لغتي
ولسانُ الوحيِ في تِبيانِه: لغتي
وبيانُ الحرِّ عن وِجدانه: لغتي
لغتي: ديني وطني
يُغْفُلُ التاريخُ في تُسطيرِهِ ... عِزَّةَ الماضي ولا تُغْفِلُنيِ: لُغتي
يَعْجِزُ الفنَّان في تعبيرِه ... عن معانيه ولا تُعْجِزني: لُغتي
ويَضيقُ الفنُ في تَصويرِهِ ... عن معانيه ولا تَخْذُلُنيِ: لُغتي
لغتي: ديني وطني
وَسِعَتْ كُلَّ طريفٍ وتُليدِ: لُغتي
وَوَعَتْ لي عِزَّةَ الماضي المجيد: لغتي
ضَمِنَتْ لي في فَمِ الدنيا خُلودي: لغتي
لغتي: ديني وطني(402/39)
البريد الأدبي
في مقالة الأستاذ السباعي بيومي
في القسم الثالث من مقالة الأستاذ المبجل جمع فخور على فخورين في قوله: (ثم سل تلاميذي الذين تتحدث عنهم يخبرونك بما يفحمك مخلصين صادقين وفخورين بتلمذتهم لي. . .) والعربية إنما تجمعه على فُخُر، قال طرفة:
ثم زادوا أنهم في قومهم ... غُفُر ذنبهم غير فُخُرْ
ودخلت (هل) في قوله: (فهل لا زلت على هذه المباهاة) على ناف، وهي لا تدخل على ناف أصلاً كما قال الرضي. ودخلت (لا) على ماض غير مستقبل في المعنى، ولم يكرر، وقد بين (المغنى) في الحرف (لا) ما بين. وجاءت (إليك) في قوله: (ومع هذا فإليك رأي في تلك المباهاة). وفي (الكتاب): (وإليك إذا قلت تَنَح) قال:
إليكم يا بني بكر إليكم ... ألماَّ تعرفوا منا اليقينا
وإليك من أسماء الأفعال غير المتعدية إلى المأمور كما ذكر (المفصل). قال التبريزي: (لا يجوز أن يتعدى إليكم عند البصريين، لا يقال إليك زيدا لأنه معناه تباعد)
من النفع والخير أن يخطئ الكبار في حين من الأحايين حتى ينقدوا فتغنى اللغة ويستفيد الناس. . .
(ناقد)
مراجعات لغوية
نشرت الرسالة كلمة للباحث المفضال (ا. ع) في التعقيب على ما قلت به في توجيه ضم الظاء من كلمة (الظرف) بمعنى اللطف: ومن رأي حضرة الباحث أنني أخطأت فشق عليَّ أن أعترف بالخطأ، فرحت أتلَّمس العلل، إلى آخر ما قال
وأحدد وجه الخلاف فأقول: جاء في مقالي عن كتاب المطالعات للأستاذ عباس محمود العقاد أنه ليس من الخير لمصر أن يكثر فيها أهل اللطف والظرف، وقد رسمت الظرف بضم الظاء عامداً، لأنها بالضم تؤدي معنى لا تؤديه وهي بالفتح، فبين اللفظين ما يسميه العرب بالفرق اللطيف وما يسميه الفرنسيون(402/40)
ثم انتهزت الفرصة فقدمت لقرائي توجيهاً لضم الظاء من الظرف في لغة المصريين فقلت إنه نوع من الإتباع لكثرة اقتران الظرف باللطف، والإتباع معروف في اللغة العربية، وله شواهد كثيرة سجلت بعضها في كتاب النثر الفني
ثم وقع بعد ذلك أن انتقد بعض أدباء فلسطين ذلك التوجيه وعدَّه دفاعاً عن أخطاء المصريين. وقد أجيب بأن هناك سبباً يضاف إلى الإتباع وهو التمييز بين المحسوس والمعقول، فالمصريون يفتحون ظاء الظرف إذا أرادوا (الوعاء) ويضمونها إذا أرادوا (اللطف) وأنا أسمي هذا (غريزة لغوية) وأراه من الصواب
وأنا أسأل الباحث المفضال (ا. ع) عما يُعرَف في لغة العرب بالمثلثات، وهي الألفاظ التي تنطق فاؤها بالفتح والضم والكسر أسأله عن السر في هذا التثليث، فهل يراه لغة واحدة ينطق بها من شاء كيف شاء في جميع البلاد؟ أم يراه باباً من اختلاف اللهجات يَفْصُح بعضها في مصر ويَفْصُح الآخر في الشام أو في العراق؟
وإليه هذا المثال: كلمة (جزاف) مثلثة الفاء فهي جَزَاف وجُزاف وجِزاف، ولكن المصريين ينطقونها (جُزاف)، بالضم، فهل ترى من الفصاحة أن ينطقها المصري في خطبته بالفتح أو الكسر بحجة أن المعاجم تبيحه ذلك؟
الحق كل الحق أن اللهجات المختلفة شرقت وغربت، وهي جميعاً صحيحة النسب إلى العرب، ولكن اللهجة لا تفصح إلا في المكان الذي استوطنت فيه، فإن تجاوزنا بها ذلك كان صنيعنا ضرباً من الإغراب. وعلى هذا يكون ضم الظاء في الظرف على ألسنة المصريين له ثلاثة توجيهات:
الأول: أن يكون اكتسب حكم الإتباع من اللطف؛ والثاني: أن يكون للتمييز بين المحسوس والمعقول؛ والثالث: أن يكون لهجة عربية تفردت بها بعض القبائل التي استوطنت وادي النيل
وبهذه المناسبة، أذكر أن الأستاذ أحمد العوامري بك كان كتب كلمة في مجلة المجمع اللغوي عن (نادي التجديف) بالدال المهملة، فكان من رأيه أنه (التجذيف) بالذال المعجمة؛ وقد ناقشته يومئذ في جريدة (البلاغ)؛ فقلت: إن الشعراني في مؤلفاته يرسمها بالقاف فيقول (التقذيف)؛ وعند مراجعة القاموس المحيط رأيته يثبت ثلاثة حروف هي: المجداف(402/41)
والمجذاف والمقذاف. . . فما معنى ذلك؟ معناه أن العرب لهم في هذا المعنى ثلاثة ألفاظ تنقل بها الحظ من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل،
فمن الواجب إذاً أن ندرك أن المصريين لم يقولوا (التجديف) إلا وهم يريدون (التقذيف)، فهم قلبوا القاف جيما كما يصنع بعض اليمنيين والعراقيين، وكما يصنع سكان مصر من أهل الصعيد بدليل أن سكان مصر من أهل المنوفية يقولون (التأديف)، على عادتهم في وضع الهمزة مكان القاف
وتلك فائدة لا ينكرها باحث مفضال مثل العوامري بك. . . ألم يسمع بالمثل المصري الذي يقول: (على قد فوله قدِّفوا له)
فهذا المثل يرى التجديف هو التقذيف، وقلبت الذال دالاً على طريقة بعض القبائل العربية في تحويل المعجمات إلى مهملات
ولهذا البحث تفاصيل سأقدمها لحضرة الأستاذ (ا. ع) إذا بدا له أن يُعقب على هذا البحث من جديد، فهو فيما أرى من أكابر الباحثين
أما القول بأني أعدّي فعل (أمكن) بالحرف وهو يتعدى بنفسه، فله توجيه سجلته في مجلة أبوللو منذ أعوام حين اعترض أحد أدباء العراق على تعدية فعل (حرَم) بالحرف في بعض قصائدي، وهو يتعدى بنفسه؛ وخلاصة ذلك التوجيه أني قد أرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبرت عنه بتلك الصورة، وكان الأستاذ محمد عبد الغني حسن يعرف عني ذلك الرأي، فلم أر موجباً لمناقشته فيه. . . ولم يكن إيثاري لذلك التعبير ضرباً من العناد، كما أراد حضرة الباحث أن يقول، وإنما كان إيثاراً لحرية القلم في شرح دقائق المعاني، وهي حرية تفرض الثورة على المعاجم في بعض الأحايين
زكي مبارك
خصومة لا عداوة
قرأت في العدد الماضي من (الرسالة) كلمة للدكتور زكي مبارك عن الجدل بينه وبين الأستاذ السباعي بيومي. جاء فيها:
(رأى جماعة من كبار المفتشين وهم الأساتذة جاد المولى بك ومحمد علي مصطفى ومحمود(402/42)
محمد حمزة ومصطفى أمين وأحمد علي عباس.
رأى هؤلاء الأكابر بأخلاقهم وآدابهم أن أقف الجدال الذي أثرته في وجه الأستاذ السباعي بيومي، وحجتهم أنه وصل إلى درجات من العنف تؤذي كرامة المشتغلين بخدمة اللغة العربية.
(وأنا أجيب هذه الدعوة. . . الخ)
وقد رأيت في الصورة التي عرض بها الدكتور زكي مبارك هذه الوساطة ما دعاني إلى الاستفسار من حضرات من ذكرهم عن الصورة الدقيقة لتدخلهم؛ فعلمت منهم أن وساطتهم بين الأستاذ الدكتور كانت منصبة على أسلوب الجدل لا على موضوعه؛ وفي نظرهم أن مستوى المناقشة بين أديبين ورجلين من رجال التعليم يجب أن يرتفع عن هذه اللهجة. أما الفحص عن الحقيقة وتصاول الأقلام في الموضوعات العلمية والأدبية فليس لهم عليها اعتراض بل يسرهم أن يشجعوا عليهما ويستزيدوا منهما
هذا هو رأي حضرات الأفاضل الذين احتج الدكتور بتدخلهم في الانسحاب من المعركة التي أثارها. فإذا كان لدى الدكتور ما يقوله بالأسلوب اللائق فليستمر فيه غير ملوم من أحد ولا مرجو في الانسحاب
وما أبغي بهذه الملاحظة تدخلاً في المعركة؛ فليس من خلقي أن أتدخل في نزاع فرعي. ولو شئت معركة لاخترت ميدانها الأصيل.
سيد قطب
(الرسالة):
أرسل إلينا الأستاذ السباعي بيومي مقاله الرابع يهجم فيه على الدكتور زكي مبارك فهيأناه للنشر، ولكن بعض ذوي الرأي والفضل رغب إلينا أن نقف هذه المناظرة العنيفة عند هذا الحد بعد أن ألقى أحد المناظرين الفاضلين القلم إجابة لدعوة زملائه الكريمة
بستان النشاشيبي
أهدى أديب العربية الأستاذ إسعاف النشاشيبي كتابه (البستان) إلى صديقه الأستاذ محمد بهجة الأثري مفتش اللغة العربية ببغداد فأرسل إليه هذه الأبيات الرقيقة(402/43)
سيدي (إسعافُ) يا أم ... ثل خُلصان وَخِلِّ
أنا من بستانك الزا ... هر في طيب وظل
بين ورد باسم الثغ ... ر وريحان وفُل
زمر نسقها الذو ... ق على أجمل شكل
أتملاها بعينيّ ... وأرعاها بفعلي
أتلقاها بلثم ... وَتَلقَّاني بِدَل
جل ما أهديت من را ... ح وريحان ونقل
أسكر المشموم نفسي ... وغذا المطعوم عقلي
محمد بهجة الأثري
شبابيك القلل
كان للكلمة التي كتبتها بهذا العنوان في العدد 399 من (الرسالة) أثر حسن فيما كتبه الدكتور زكي محمد حسن في العدد 115 من (مجلة الثقافة) تعقيباً على مقاله الأول في هذا الموضوع، فقد تدارك الدكتور زكي - إلى حد ما - ما فاته في مقالة الأول
وإذا قلت - إلى حد ما - فذلك لأنه حاول في مقاله الأخير أن يفسر قوله: (إن من العجب أن يعنى بزخرفة شبابيك القلل إلى هذا الحد بينما تبقى القلل نفسها بغير طلاء أو رسوم زخرفية) فبعد أن نقل ما كتبته في (الرسالة) عن القلل الصيفية وهي من الفخار غير المطلي، والقلل الشتوية وهي المكسوة بطلاء زجاجي، أراد أن يجد لنفسه عذراً فقال: أما أن هناك قللا عليها طلاء فأمر لم ننكره أبداً، وحسب القارئ الذي بادر بالتعليق على مقالنا أن يرجع إلى كتابنا كنوز الفاطميين ولا نخاله بجهله، ثم استشهد بالعبارة الآتية نقلاً عن الصفحة 172 من هذا الكتاب
(فالفخار غير المدهون كانت تصنع منه أبسط الأواني اللازمة لطبقات الشعب، ولا سيما القلل التي كانت من الفخار غير المطلي، إلا في النادر جداً، لأن المقصود منها تبريد الماء، ولابد من المسام للوصول إلى هذا الغرض، ومن ثم فإن الذي وصل إلينا منها يكاد يكون خالياً من أي دهان زجاجي)(402/44)
وإني أود أن أوجه نظر الدكتور إلى أن شبابيك القلل الشتوية ذات الطلاء الزجاجي، توجد في دار الآثار العربية وحدها بالمئات - كما كان يجب أن يعلم ذلك - ومن ثم فإني لا أرى ما يبرر قوله إن هذا النوع منها لا يوجد (إلا في النادر جداً) و (أن الذي وصل إلينا منها يكاد يكون خالياً من أي دهان زجاجي)، ولست أرى هنا أي مجال للتفسير اللغوي
وإذا كنت لم أشر إلى كتاب (كنوز الفاطميين) في كلمتي السابقة فقد كان ذلك لسبب واحد، وهو أنني اكتفيت بتصحيح ما جاء في مقال الدكتور زكي، ولم أجد ما يثير الرغبة في نفسي لنقد ما أورده في كتابه
وكيف أجهل هذا الكتاب وقد كان لي - إبان اشتغالي بالتدريس في جامعة بون - شرف مساعدة الأستاذ باول كالا في كتابة بحث واف عنوانه (كنوز الفاطميين) وقد نشر هذا البحث - كما يعلم حضرة الدكتور الفاضل - في مجلد المستشرقين الألمانية في المجلد 14 سنة 1935 (ص339 - 362) ولا ينسى الدكتور زكي محمد حسن ما لهذا البحث، ولما فيه من حواش قيمة، من فضل في وضع كتابه - الذي طبع في سنة 1937 - باللغة العربية في نفس هذا الموضوع وبنفس هذا العنوان! وما كنت أود أن أذكره بهذه الحقيقة، لولا أنه في تنويهه عن كتابه، بدلاً من الاعتراف بالفضل، وجدت - للأسف - ما هو دون ذلك، وهذا ما كنت أنزه الدكتور عنه.
دكتور محمد مصطفى
تحريف معنى بيت بالنحو
فهم صديقي الأستاذ الفاضل إبراهيم علي أبو الخشب أن ما ذكرته في تحريف معنى بيت بالنحو يدخل فيما يؤثر عن علمائنا - إن نكت النحو كالورد تشم ولا تدعك - والحقيقة أن ما ذكرته في ذلك من صميم النحو وليس من نكتة
وأما الذي ذكره من أن أو المتمحضة للعطف وأو الناصبة، فلم يأت فيه بجديد في المسألة. ونحن حين نجري قول الشاعر: (لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى) على معنى: ليكونن مني استسهال للصعب أو إدراك للمنى، نكون قد خرجنا بأو الناصبة إلى أو المتمحضة للعطف. وقد اعترفت أيها الأستاذ الفاضل بأن أو المتمحضة للعطف لها معاني غير معاني(402/45)
أو الناصبة، فكيف تحمل إحداهما معنى الأخرى؟
وليس بحق ما ذكرته من أن المعنى في البيت على محض العطف، وأن معناه ليكونن مني استسهال للصعب وإدراك للمعنى، لأن هذا يجعل ما بعد أو داخلاً في حكم ما قبلها من إثبات ونفي وقسم ونحو ذلك، مع أن المضارع المنصوب بعد أو، لا يدخل في حكم ما قبله بذلك الشكل، ويظهر أثر ذلك صريحاً في نحو قولك - لا أكلمك أو أرضى عنك - فأوفيه بمعنى إلى، ولا يصح تقدير العطف فيه، لأنه لا يصح تقديره على العطف - لا يكون مني كلام أو رضاً عنك - لئلا يدخل الرضا في حكم النفي مع أنه ليس بداخل فيه
وكذلك الأمر في نحو - لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى، ولأجتهدن أو أنجح - لأنه على تقدير العطف يكون كاذباً إذا استسهل الصعب ولم ينل المنى، وإذا اجتهد ولم ينجح مع أنه إذا قال - لأجتهدن أو أنجح - فاجتهد ولم ينجح، لا يكون كاذباً. على أنه ليس بعد هذا كله ما يدعو إلى جعل أو الناصبة عاطفة، وإنما ذلك تكلف يلزم البصريين وحدهم
عبد المتعال الصعيدي(402/46)
القصص
مرض طبيب. . .
للأستاذ نجيب محفوظ
قبل عامين تفشى وباء التيفود في مديرية الغربية تفشياً مخيفاً فتك بنفوس الكثيرين، وصادف ذلك انقضاء بضعة أشهر على تعيين الدكتور زكي أنيس طبيباً بمستشفى طنطا وفتحه عيادته الخاصة، وكان في تلك الأيام يلاقي الشدائد المقضي على كل مبتدئ في فنه أن يلقاها أول عهده بالحياة العملية. فكان ينتظر طويلاً وعبثاً توارد الزوار والمرضى مستوصياً بالصبر والتجلد حتى كاد يلحقه الجزع. فلما تفشى ذاك الوباء الخبيث تضاعف عمله بالمستشفى وشحذ نشاطه ومضى يراقب حركة السيارات التي تطوف بالبيوت وتعود محملة بالضحايا بعينين كئيبتين وعزيمة متوثبة، وأحس بالرغم من كل شئ بسرور خفي، وأحيا قلبه الأمل في أن يدعى يوماً لعلاج مصاب من الذين تثقل بهم جيوبهم عن الانتقال إلى المستشفيات العامة، ولم ييئسه تقاطر الناس على كبير الأطباء وبعض الأطباء القدماء بالمدينة وأصغى إلى هاتف تفاؤل ما انفك يهمس لقلبه بأن دوره لا محالة آت.
وصدق أمله، وإنه ليجلس إلى مكتبه يوماً يقلب صفحات كتاب وتجري عيناه على أسطره جريان الشرود والملل إذ طرق بابه كهل يدل منظره الوجيه وزيه الريفي الثمين على أنه من الأعيان؛ ولعله قصده بعد أن يئس من العثور على سواه، فطلب إليه بلهجة تنم على القلق أن يصحبه إلى العامرية على مسير ربع ساعة بالسيارة. وكان الشاب يعد العدة لمثل هذا اللقاء فلم يبد على وجهه أثر مما اضطرب في صدره من الفرح والظفر، فألقى على القادم نظرة رزينة وقام من فوره فخلع معطفه الأبيض وارتدى الجاكتة والطربوش وأخذ حقيبته وتقدمه إلى الطريق. والتقى أمام الباب بسيارة فخمة فخفق قلبه مرة أخرى وتريث حتى فتح الرجل الباب وقال له (تفضل) وجلسا جنباً إلى جنب وانطلقت بهما السيارة، وحافظ على هدوئه ورزانته وصر بأسنانه ليطرد ابتسامة خفيفة تحاول أن تعتلي شفتيه؛ وكأنه أراد أن يداري عواطفه فسأل الرجل عن مريضه، وتكلم الرجل في إسهاب فقال إن المريض ابنه وأنه لم يجاوز العشرين من عمره، وأنه أحس منذ أيام بتوعك وخور ورغبة عن تناول الطعام، ثم ارتفعت حرارته واستسلم للرقاد فسأله: (هل حقن بالمصل الواقي؟)(402/47)
فأجاب الرجل بالنفي، وأعلن عن رجائه الحار ألا يكون الشاب أصيب بالحمى الخبيثة، فصمت الطبيب ملياً يفكر في هذه الأعراض ويزنها بميزان اختباراته وعلمه، وكانت السيارة في أثناء ذلك تخترق الطريق الزراعي بسرعة البرق حتى بلغت العامرية وانعطفت إلى حاراتها الضيقة ثم وقفت أمام دار كبيرة، فدخلا معاً واستقبلتهما أوجه كثيرة بأعين يقتتل بها الخوف والأمل، فساوره القلق وتلبسه شعوره حين تعرض لأول مريض بدأ به حياته التمرينية في قصر العيني منذ ثلاثة أعوام، فاستصرخ قوة إرادته ليضبط بها وجدانه ويجتاز هذه التجربة الجديدة بالنجاح، وأغضي عمن حوله وسدد انتباهه إلى الشاب الراقد بين يديه، وكشف عليه بعناية فائقة وفحصه فحصاً دقيقاً فترجح لديه أنه مصاب بالتيفود، وأبدى رأيه في تحفظ وقال إنه ينبغي أن يفحص المريض في اليوم التالي ليستوثق من رأيه، فلا آمنهم من خوف ولا أفقدهم الأمل، وظن أنه ضمن لنفسه أن يتردد على المريض حتى يبلغ به الشفاء بفنه أو يودعه القبر بأمر الله. ثم أخذ حقيبته واتجه نحو الباب بخطى وئيدة كأنه يريد شيئاً، فلحق به والد المريض وهمس في أذنه قائلاً: (تفضل) فخفق قلبه لثالث مرة ذاك اليوم ومد يده وهو يقول: (شكراً) فأحس بثلاث قطع من ذات العشرة قروش توضع بها، ثم جلس في السيارة منفرداً هذه المرة، وانطلقت به في طريق العودة؛ وكانت هذه أول مرة يدعى فيها إلى زيارة مريض في بيته، فاغتبط ورضى وأشعل غليونه وراح يدخن بحالة من السرور لم تخل من اضطراب عصبي فأخذ (أنفاساً) سريعة فتوهج التبغ وسخن الغليون، ولم يستمر في التدخين طويلاً فوضعه في جيب الجاكتة الأعلى وأرسل بناظريه خلل زجاج النافذة يشاهد الحقول الممتدة على جانب الطريق الغارقة في الأفق البعيد، وكانت تنتهي عند الطريق الزراعي بجدول من الماء ينساب صافياً تستحم فيه أشعة الشمس المائلة للغروب وتغشاه بنور لألاء بهيج يخطف الأبصار؛ فاستسلم لسحر الرؤية، وشعر بتخدير لذيذ، حتى انتبه إلى تغير غريب يسري في صدره وجسمه فتحولت أفكاره من الخارج إلى الداخل فأحس بسخونة تنتشر في أعضائه جميعاً كأن حرارته ارتفعت بغتة، فتململ في جلسته وحرك رقبته بعنف، ثم لم يحتمل شدتها فخلع طربوشه وفك أزرار الجاكتة وأخرج منديلاً يروح به على وجهه وهو يعجب أشد العجب لأن الجو كان معتدلاً لطيفاً، واشتدت وطأة السخونة والتهب جسمه بالحرارة، فجس خديه(402/48)
وجبينه وشعر بثقل في جفنيه ورأسه وضيق في التنفس، وتساءل في حيرة عما أصابه، وخطر له خاطر مخيف: هل يكون مريضاً؟!. . . وذكر لتوه الحمى الشيطانية التي تفتك بأهل المديرية فتكاً جهنمياً
وكان قد حقن نفسه بالمصل الواقي فكيف انتقلت إليه العدوى؟!. . . هل سبقت الميكروبات المصل إلى دمه؟!. . . ولفه الذعر وكان في الحقيقة جباناً رعديداً شديد الهواجس سرعان ما يستسلم للتشاؤم ويقع فريسة سهلة للمخاوف، فعاد يجس خديه وجبينه فوجدها ساخنة وأحس بجسمه يكاد يلتهب التهاباً فاستولى عليه الفزع وارتعدت فرائصه وقال بذهول (يا للويل. . . لقد أصبت وانتهيت. . .)
وقطعت السيارة مرحلتها وانتهت إلى عيادة الطبيب الشاب - وكانت عيادته ومقامه في شقة واحدة - فتركها على عجل وصعد إلى حجرة نومه واستدعى التمرجي وقال له: (ناد الدكتور سامي بهجة بسرعة وقل له إني أصبت بالتيفود) فجرى الرجل مرتعباً وأخذ الدكتور يخلع ثيابه بيدين مضطربتين وارتدى البيجامة وارتمى على الفراش في حالة يأس ورعب وغم شديد وقد خيل إليه أن شرايينه ستنفجر من الحرارة. وكان يستحضر في ذاكرته أعراض المرض فلم يعد لديه ثمة شك في أنه مريض؛ وثبت في وهمه بقوة أن هذا المرض سيختم حياته. كان شديد الجبن متهافتْ الأعصاب فلم يستطع أن يأمل قط في النجاة وبات في يأس عظيم، وظل بعد الدقائق الثقيلة المرهقة ويصيح غاضباً (هيهات أن يجد الدكتور في عيادته، وسأجن هنا وحدي. . .)
وفي أثناء الانتظار فزعت أفكاره المجنونة إلى القاهرة، إلى أمه، ووجد حاجة شديدة إليها، وإلى وجودها إلى جانبه لتسهر عليه؛ وفكر فعلاً في أن يبعث إليها ببرقية، ولكنه لم يقبل هذه الفكرة بسهولة، وأشفق من إرهاقها وإزعاج حياة والده واخوته الصغار وربما عرضها للخطر أيضاً - وكان هذا أول شعور طيب يخالط قلبه منذ قدم طنطا - فصدقت نيته على أن يطلب إلى الدكتور بهجة نقله إلى المستشفى، وربما تمكن من رؤيتها هناك ليودعها إذا اشتد عليه الحال. وقد حن إليها في تلك الساعة حنيناً موجعاً. . . وأغمض جفنيه هنيهة يلتمس الجمام ويطرد عن قلبه الوساوس والهواجس، ولكن وجدانه الثائر أبى أن يدعه في راحة أو طمأنينة، أو أن يصرفه عن الانشغال الأليم بمرضه. ولم يكن دار له بخلد أن(402/49)
الطبيب بمأمن من الأمراض، ومع ذلك أحس بمرارة وسخط وحنق وساءه أن يفتضح مرضه الغادر في أثناء عودته من زورة مريض. أما كان الأجمل أن يجزي غير هذا الجزاء. . . وقر في نفسه أن العدوى انتقلت إليه في أثناء قيامه بواجبه في المستشفى بالرغم من حذره ويقظته فتضاعف سخطه وحنقه، وأسى على حياته التي لم يتح له التمتع بها؛ وكان يدفع إلى فكرة الموت دفعاً عنيفاً، ويقسر على الاستغراق فيها بقوة شيطانية. . . وحدثه قلبه الرعديد بأن نهايته حمت، فعطف رأسه إلى المرآة وأدام النظر إلى وجهه، فخيل إليه أنه محتقن بالدم الفاسد؛ ولكن كان ما يزال محتفظاً بنضارة الحياة وأثر الصحة الآخذة في الانحلال، فألقى عليه نظرة آسيفة حزينة، كأنما يودع آخر صورة للحياة والصحة عالقة به. . . ثم أدار رأسه قانطاً، وأسلمه القنوط إلى الاستسلام، وأسلمه الاستسلام إلى الاستهانة، ولاذ بها من مخاوفه، وقال لنفسه علام الخوف والذعر؟ الموت آت لا ريب فيه، إن لم يكن اليوم فغداً. . . هو النهاية المحتومة على أية حال لمهزلة الحياة. . . وماذا يضيره أن يقصر دوره في هذه المهزلة؟ فلعل في قصره اختزالاً لآلام مروعة. على أن تعزيه لم يدم طويلاً. . . وألحت على قلبه الآلام مرة أخرى. . . فذكر آماله وأطماعه في المجد والثروة، وارتسمت على شفتيه لهذه الذكرى ابتسامة مريرة ساخرة. . . وشعر بامتعاض يفوق الوصف. . . وذكر الثلاثين قرشاً التي طرب لها فرحاً قبل حين قصير: فأزداد امتعاضه، ولعن رزقه الذي يناله من أيد شحيحة، لا تفرط فيه حتى يهزلها المرض، فتراخى عن الضن به، ولعن النظام الذي يجعل سعادة القوم منوطة ببأساء آخرين. . . يالها من مهنة مخيفة، يستمد رجالها حياتهم من النفوس المريضة كالجراثيم سواء بسواء. . . وسخر في ذعره وتشاؤمه من الإنسانية والتضحية والرحمة، تلك الألفاظ الصماء التي حفظها عن ظهر قلب ولم تختلج له في شعور قط. . . فهو لم يشمَر أبداً لغير المجد والثروة، ولم يتصور ساعة أنه يبلغهما بغير معونة المرض. . . فعبده وهو لا يدري، ونصبه آلهاً يقدم له القرابين البشرية كبعل القديم، حتى سقط هو أخيراً قرباناً له، فأي حياة هذه؟. . . وذكر أيضاً في هذيانه وتشاؤمه قروياً بسيطاً عرض له في العيادة الخارجية لقصر العيني، وكان يريد أن يكشف على حلقه، فأمره أن يفتح فمه. . . وكان كلما أدنى منه المجهر يرتجف الرجل الساذج ويغلق فمه. . . وتكرر ذلك منه حتى اشتد به(402/50)
الحنق، وكان مرهق الأعصاب من كثرة العمل، فضرب جبين القروي بالمجهر، فشجه وأسال دمه. . . وقد أسف لذلك حقاً ولكن أسفه لم يخفف عن الرجل شيئاً. . . وذكرته هذه الحادثة بما يقع خلف جدران قصر العيني من أعمال القسوة التي تفزع من هولها النفوس البشرية، فذكر أنه تكاسل مرة عن إجراء عملية لمريض، لأنه كان أجرى هذه العملية مرات عديدة بنجاح، فلم يشعر بحاجة إلى تمرين جديد. واسودت الدنيا في عينيه، وعافت نفسه كل شئ في تلك الساعة الخبيثة
ثم سمع وقع أقدام في الردهة وصوت التمرجي يحادث الدكتور، فتمشت في أعصابه موجة نشاط ونسى وساوسه، وفزع إلى القادم بأمل جديد، ودعا ربه بصوت متهدج قائلاً: (آه يا رب، خذ بيدي! هبني حياتي مرة ثانية، أهب الناس أشرف ما في نفسي حتى الموت)
وما انتهى من دعائه حتى برز الدكتور بهجة من باب الحجرة وهو يقول بصوت مرتفع: مساء الخير يا دكتور. مالك؟
فقال الشاب بهدوء وإن كان في الحق يستغيث: أُصبت!
ففحصه الدكتور بعينين نافذتين وأصابعه تفتح الحقيبة، ثم قال: لعلها أنفلونزا
فقال بيأس: كلا. . . لا أشكو زكاماً ولا صداعاً. . .
- ولكنك لم تشك تعباً أو فقدان شهية في هذه الأيام. . . أليس كذلك؟
وتفكر الشاب قليلاً متحيراً ثم تمتم قائلاً: حرارتي فظيعة. . . إني أشعر بالمرض شعوراً مخيفاً. . .
- هل قست الحرارة؟
فعجب كيف فاته ذلك، وهز رأسه نفياً ولاذ بالصمت؛ فابتسم الدكتور بهجة ابتسامة ساخرة، ودنا منه والترمومتر في يده، ثم وضعه في فمه وانتظر هنيهة، ثم أخذه ثانية ورفعه إلى مستوى عينيه، ونظر إلى وجه الشاب رافعاً حاجبيه وقال ببساطة: حرارتك طبيعية. . . أنظر!
وقرأ الشاب الترمومتر وهو لا يصدق عينيه، وجس خده ثم قال: هذا عجيب! خدي ما يزال ملتهباً. كيف هبطت الحرارة؟
وأتى الدكتور بسماعة وطلب إليه أن يفك أزرار الجاكتة ففعل؛ ووقع بصر الرجل على(402/51)
الفانلا فبدت على وجهه الدهشة وصاح بسرعة وهو يشير إليها قائلاً: (انظر!)
فأحنى الشاب رأسه ناظراً إلى الفانلا فرأى فوق القلب دائرة مسودة من أثر احتراق خفيف. فاستولت عليه الدهشة وجلس في فراشه وهو يتساءل: (ما الذي صنع بي هذا!)
فضحك الدكتور بصوت عال وقال: (هاأنت ذا تكشف حمى جديدة يا دكتور!). وخطرت للشاب فكرة فالتفت إلى المشجب وقفز من الفراش واتجه نحوها ووضع يده في جيب الجاكتة الأعلى متناولاً غليونه، وفحص الجيب بعينيه فرأى آثار التبغ الذي أكل البطانة وحرق القميص وأثر هذا التأثير في الفانلا، ووقف مرتبكاً ينظر إلى الدكتور بعينين تسألان الصفح، وقد أحس بحرارة جديدة هي حرارة الخجل والارتباك
وبعد دقائق وجد الشاب نفسه وحيداً مرة أخرى، وكان ما تزال تعلو شفتيه ابتسامة الارتباك والخجل ولكنه كان يحس بغبطة وسلام، وكان قلبه يشكر الله الذي وهبه حياته مرة أخرى
وبر الشاب بوعده واعتزم أن يكون إنساناً قبل كل شئ، وعاد إلى عمله تنبض في قلبه أشرف العواطف وأنبلها، وكان يظن أنه سيصمد للتجارب لا ينكص على عقبيه مهما امتد به الزمن، ولكن وا أسفاه إن انقضاء الليل والنهار ينسى، ومن ينغمر في الدنيا يذهل عن نفسه، وللحياة جلبة تبتلع همسات الضمير، فقد أخذ يتناسى محنته ودعاءه ووعده حتى نسى ولم يعد يذكر إلا عمله ومستقبله وآماله وأطماعه، ثم ارتد إلى ما كان عليه، وكانت تلك الأيام القلائل في حياته كهدوء البحر الذي يصفو ويرق حتى يشف عن باطنه ثم لا يلبث أن تهيجه الرياح والعواصف فيرغي ويزبد وتعلو أمواجه كالجبال. ولعله لا يذكر هذه الحادثة الآن إلا كدعابة يتندر بها ويقصها على صحبه إذا دعا داعي الحديث أو السمر!
نجيب محفوظ(402/52)
العدد 403 - بتاريخ: 24 - 03 - 1941(/)
دوائر معارفنا الإسلامية
للأستاذ عباس محمود العقاد
أقتُرح على المجمع اللغوي تأليف معجم للألفاظ القرآن الكريم، فذهبت أنظر في المعاجم والموسوعات التي عندنا وعند غيرنا من هذا القبيل، فلم ألبث أن رأيت بعد مقابلة يسيرة أننا في هذا الباب جد فقراء
عند الأوربيين موسوعات مختلفة الأحجام والأغراض لأسفارهم الدينية ومأثوراتهم المقدسة
فللتوراة والإنجيل موسوعات صغيرة تفسر الأسماء والأعلام والوقائع والألفاظ، فلا تذكر في الكتابين اسم رجل أو بلد أو قبيل إلا استطعت أن ترجع إليه في موضعه، فتعرف شيئا عن تاريخه وموقعة ومناسبة ذكره؛ فإذا بك أمام كتاب يكاد أن يفيدك في كل شئ، ولا تنحصر فائدته في فهم التوراة والإنجيل
ولهذين الكتابين موسوعات صغيرة أيضا تتناول الآيات والأجزاء على الترتيب، فتقرن بين بعضها وبعض، وتقابل بين الفرائض المختلفة من قديم وحديث، وتفسر مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة مدلولاتها على حسب العصور والمصادر اللغوية، فتجمع بين معرفة الشريعتين الموسوية والمسيحية، وكل معرفة لها بهاتين الشريعتين اتصال
وعندهم موسوعة للطيور التي ورد ذكرها في التوراة، أو للأشجار والأزهار التي تكلم عنها الأنبياء، فيستفيد منها الباحث في علمي الحيوان والنبات، كما يستفيد منها الباحث في الدين
أما الموسوعات المطولة الشاملة فهي ذخائر من المعلومات لا تند عنها دانية ولا قاسية من موضوعات المسيحية أو الموسوية، وقد يلتبس على القارئ الأمر بين دوائر المعارف العامة التي تتناول كل شئ وكل مادة، وبين دوائر المعارف الدينية التي يظن من عنوانها إنها مخصصة ولو بعض التخصيص لناحية من نواحي الحياة الإنسانية
بل عندهم معاجم صغيرة للإسلام ليس لها نظير في اللغة العربية ولا في لغة من اللغات التي يتكلم بها المسلمون
من ذلك قاموس الإسلام الذي وضعة توماس باترك قبل نيف وخمسين سنة ثم أعيد(403/1)
طبعة قبل بضع سنوات
فهذا القس قضى في التبشير بين المسلمين والبرهميين والبوذيين ببلاد الهند اكثر من عشرين سنة، ودرس خلال ذاك ما استطاع أن يدرسه من التواريخ والمباحث الإسلامية، ثم جمعها في هذا القاموس أو هذا المعجم كما قال هداية للموظفين الذين يتولون الحكم بين المسلمين، ومساعدة للمبشرين الذين يجادلون علماء الإسلام، وللسائحين الذين يطوفون بلاد المشرق، وللباحثين الذين ينظرون في المقارنة بين الديان، ولكل من يشغله عمله أو نزعة فكره بشأن من شئون المائة والخمسة والسبعين مليونا (هكذا) من الأناسي الذين يتبعون محمدا عليه السلام.
ولكني أقول معترفاً إنني أرجع إلى هذا القاموس حين يستعصي علي الرجوع إلى المطولات الدينية للوقوف العاجل على مسالة من المسائل الإسلامية، سواء تناولت الفقه أو التاريخ أو تقويم البلدان، ولا أرى مناصاً من مراجعة هذا القاموس وأمثاله على عامي بما فيها من الزيغ المقصود ومن التعصب الذي لا تخلو منه كتب المبشرين
ويتفق كثيرا أن يخوض بعض الجلساء في مسألة من مسائل الفقه الإسلامي لا يحضرنا الفقيه الحجة الذي نستفتيه فيها، أو نستدل منه على مراجعها، فما هي إلا لحظات حتى أوافيهم بالفتوى المجملة، أو بالدلالة على مظانها ومواقع استقصائها. ويعجبون فيزداد عجبهم حين أطلعهم على قاموس من هذه القواميس التي ليس اسهل من البحث فيها: كتاب إنكليزي يدلنا أسرع دلاله على مراجعنا نحن المسلمين أبناء العربية. . . فلم لا نعجب ويعجبون؟!
إننا فقراء.
وقد نعلل الفقر في علوم الدنيا بخروجها في الزمن الحديث من أيدينا، فهل خرجت من أيدينا كذلك علوم ديننا؟ وهل البواعث الدينية التي عندنا أقل من أن تحقق لنا ما يحققه الغربيون ببواعث الشوق إلى المعرفة أو بواعث الشوق إلى السيادة؟
الحق أن الشوق إلى معرفة الدين نفسه تحتاج قبل ذلك إلى شوق المعرفة في أعم معانيها، وأن العجز عن العلم والسيادة يورث العجز عن الإيمان والعقيدة، حتى بين المتدينين المعتقدين(403/2)
وأني لأجيل الفكر في هذا وأشباهه إذا بالمجلد الرابع من (دائرة المعارف الإسلامية) يصل إلى يدي، وهي الدائرة التي ألفها نخبة من المستشرقين بالغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وثابر على نقلها إلى اللغة العربية الأدباء الأساتذة: (أحمد الشنتناوي، حافظ جلال، عبد الحميد يونس، إبراهيم خورشيد) من متعلمي الأدب والقانون
قلت: وهذا عمل ضخم كنا نحن أبناء العربية أولى بابتدائه وسبق الأمم كافة إليه
وأستضخمت مع ذلك نجاح هؤلاء الأدباء الشبان في الوصول بالترجمة إلى هذه المراحل البعيدة، لأن عملهم في ترجمتها أصعب بين المشارقة من عمل المستشرقين في تأليفها وتحضيرها بين البيئات الأوربية
هناك تمهيد ملايين يعين على هذه الأعباء، وهنا تمهيد أفراد معدودين قلما يعاونهم أحد، وقد يثني عزائمهم ملايين!!
ففي بضع سنوات أتم مترجمو الدائرة الإسلامية ترجمة آلاف ثلاثة من الصفحات المزدوجة: كلها مصطلحات وإشارات مختزلة: وإحالة إلى مراجع مختلفة، وفيها من شعاب المعرفة ما ليس مقتصرا على الدين ولا على التأريخ ولا على السياسة ولا على المواقع الأرضية، بل يشمل هؤلاء جميعا ويزد عليها ما ليس يحصى
ولابد أن يدخل في حساب هذه السنوات حساب التبويب والتقسيم وإعادة الحروف الإفرنجية إلى الأبجدية العربية
فقبل أن يتناول القلم بالترجمة صفحة من ألوف الصفحات التي اكتظت بها المجلدات الإفرنجية ينبغي أن تترجم المواد واحدة واحدة ثم تدون في أجذاذها وتنتظم في ترتيبها الجديد: فلا تأنى الكلمات المبدوءة بحرف العين في المجلد الأول، بل تؤخر إلى موضعها من ترتيب الأبجدية العربية، ولا تبقى (أشبيلية) مثلا في حرف السين كما تكتب في الإفرنجية بل تقدم إلى حرف الهمزة، ولا تتأخر أسماء إسماعيل وإبراهيم وإدفو إلى الحرف التاسع أو الخامس بل يؤتى بها مع الحرف الأول والأجزاء الأولى. وليس هذا العناء بأقل من عناء الابتداء بتحضير المواد والكلمات. ولعل النقل وإعادة الترتيب عرضة لأخطاء لا يتعرض لها البادئون بتدوين الأسماء كما تكتب في لغات الأوربيين
فالوقت الذي يقضي في هذا التبويب الجديد ليس بالوقت القصير، واستدراك الخطأ فيه من(403/3)
أصعب الأمور، ووراء مشكلة الوقت مشكلة الإقبال على هذه الأعمال، ومشكلة المثابرة وهي أعضل ما نعانيه في كل عمل مديد الأجل متشعب الفروع، ومشكلة الأزمات الدولية والأزمات الداخلية التي تثقل على كاهل التجارة الرائجة والسلع الضرورية للمعيشة اليومية، فكيف بتجارة العلم وسلع القراءة!
قال الأدباء المترجمون في الجزء الأول من أجزاء الترجمة العربية: (. . . اختمرت فكرة ترجمة تلك الدائرة في رءوسنا منذ أعوام ثلاثة فعكفنا على دراسة المشروع من جميع نواحيه وألممنا بكل الصعوبات المادية والمعوية التي كثيرا ما تعترض الأعمال العلمية والأدبية في مصر، وظلت هذه الصعوبات حائلاً بيننا وبين تحقيق أمنيتنا، ولعلها كانت عين الصعوبات التي وقفت في سبيل غيرنا ممن حاولوا تحقيق تلك الأمنية، حتى لاح لنا أننا كنا مخطئين حين حاولنا أن نحل الصعاب كلها دفعة واحدة، فرأينا أخيرا أن نقسم العمل إلى أقسام ثم نشرع في التطبيق خطوة خطوة، وشعارنا أن كل شيء متيسر مستطاع)
وعندنا أن هذا الخاطر هو العلامة الأولى للعزيمة العاملة، لأن القدرة على تقسيم الصعوبات ضرب من القدرة على تذليلها، وليس أدل على النصر من قدرة القائد على تفرقة الخصوم وهزيمتهم فرقة بعد فرقة. فلو لم يكن الأدباء مترجمو الدائرة أهلا لفضيلة المثابرة لما كانوا منذ البداية أهلا لتصغير الصعوبات بتفريقها والتغلب على أجزائها، أو على رهبة الأحجام التي تلازم من يجمع الصعوبات ويستضخمها ويزيد عليها من الوهم ما ليس فيها
لقد شرع بعض الكبراء كما شرع بعض الدواوين الحكومية في طبع موسوعات دون هذه الموسوعة في حجمها وتعقيدها، وكان منها ما ليس يحتاج إلى ترجمة قبل طبعه، ومنها ما يحتاج إلى ترجمة ولا يحتاج إلى إعادة تبويب. ثم وقفوا عند البداية أو بعد خطوة قصيرة من البداية، فانفراد الأدباء مترجمي الدائرة بالمثابرة على هذا العمل الكبير مزية جديرة بالتسجيل في حياتنا الفكرية، ولهم حق في التهنئة بما جاهدوا وثابروا على قدر هذه الفضيلة النادرة، وعلى قدر الحاجة إلى تلك الدائرة، وهي حاجة توجبها الرغبة القومية كما توجبها الرغبة في العلم والثقافة
لكننا لا نكتفي بالتهنئة، بل نضيف إليها اقتراحاً في صدد ما أسلفناه من شكوى الافتقار إلى(403/4)
الموسوعات الموجزة في أمثال هذه الموضوعات. فمن اليسير على من ينهضون بعبء الدائرة الكبرى أن يتابعوا اختصارها وهم يترجمونها وينشرونها لتخلص لهم من ذلك في سياق العمل موسوعة صغيرة ينتفع بها عدد من القراء أكبر ممن ينتفعون بالموسوعة الكبيرة؛ بل ينتفع بها من لا يقدرون على التوسع في العربية ولا في اللغات الإفرنجية، وهم أحوج إلى النفع وأولى بالعناية، وليس النقص الذي نتمه بتفهيم هؤلاء دون النقص الذي يتم باستيفاء مراجع الإفاضة والاستقصاء.
عباس محمود العقاد(403/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
هذا عيب، ولكنه جميل - الظلم البغيض - عتاب موجه إلى
الأستاذ الزيات - الدين الإسلامي في المدارس الأجنبية -
تجربة جديدة للتعاون بين المصريين والأجانب - دفع
اعتراض - هل انتهزت وزارة المعارف فرصة الإضرابات
الدولية لتصفي ما بينها وبين المدارس الأجنبية؟ - للحق
والتأريخ.
هذا عيب، ولكنه جميل
أشار أديب غاب عني أسمه في مقال نشره بمجلة (الرسالة) إلى أني أتقاضى أجرا على ما أنشر من المقالات والبحوث في الجرائد والمجلات، وهي إشارة جرت مجرى التعريض، فكان معناها أن قبول الأجر على المقالات والبحوث عيب، وهو حقيقة عيب، ولكنه عيب جميل، إن كان الكسب الشريف من العيوب
ويظهر أن جمهور القراء في مصر لا يعرفون ما صارت إليه الصحافة المصرية، فهي اليوم أعمال اقتصادية يراد منها الربح كما يراد التثقيف. ورجال الاقتصاد لا ينفقون إلا بحساب، ولا يخرج الدرهم من أيديهم إلا بعد أن يطول حوله الجدال، وتلك أكبر مزية من مزايا رجال الأعمال، فهم الصالحون صلاحية حقيقية لتصريف الأمور بعقل وتدبير وسداد، والكرم رذيلة شنيعة حين يصدر عن رجال الأعمال، لأنه يشهد بأنهم حُرِموا مزية الضبط والتدقيق. فان سمعتم أن كاتبا يتقاضى أجراً على مقالاته في إحدى الجرائد فاعرفوا أن ذلك لم يقع إلا في سبيل الحرص على منفعة تلك الجريدة، فهو ليس إعانة تقدم إلى الكاتب وإنما هو ربح حلال يناله الكاتب تعويضاً على ما بذل من إجهاد الفكر في التحرير والإنشاء. وان سمعتم في مصر جريدة لا تنشر آلا ما يقدم إليها بالمجان فاعرفوا إن تلك الجريدة(403/6)
صائرة إلى البوار ثم الزوال، لان القراء لا ينتظرون الكتاب المجهولين، وإنما ينتظرون الكتاب المعروفين، والكاتب لا يعرف في وطنه إلا بعد أن يشيب فؤاده في مساورة الأبكار من الحقائق والمعاني
وما أريد بهذه الكلمة أن أقول أني جدير بالانتفاع بما أنشر في الجرائد والمجلات، فهذا القول قد يعد من الزهو في موطن لا أريد فيه غير توجيه النصح إلى من يسألونني من وقت إلى وقت عن إمكان الاستفادة المادية من الصحف المصرية وفي توجيه النصح إلى هؤلاء أقول:
لا تصدقوا أن في مصر جريدة تدفع قرشا واحدا لكاتب على سبيل المعونة والتشجيع، ولا تصدقوا إن الصحفيين اليوم يجوز عليهم التلطف، كما كان يجوز على أسلافهم الكرماء من أمثال علي يوسف وعبد العزيز شاويش وأمين الرافعي، فتلك أيام خلت، وأصبحت الصحافة قوة أدبية واقتصادية لا ينتفع بخيرها إلا أقطاب البيان، ومن اجل هذا صح القول بأن الصحافة المصرية تحتل المكان الثالث في العالم بعد الصحافة الإنجليزية والصحافة الأمريكية، وستظل كذلك ما دام فيها رجال يعرفون انه لا عيب في أن تقوم الأفكار بالأموال، إن جاز الوهم بان الأفكار توزن بموازين الأموال
الظلم البغيض
للظلم أشكال وألوان، فهناك ظلمٌ حُلوٌ عَذْب هو ظلم من يستملح منهم الدلائل، وهناك ظلم تافه هو ظلم من لا يقدمون ولا يؤخرون، وهناك ظلم بغيض هو ظلم من تحسن إليهم فيسيئون إليك. فالذين يعيبون علينا أن نتقاضى أجراً على ما ننشر في الجرائد والمجلات فيهم أناس يظنون فينا القدرة على كل شئ، فهم يدعوننا في كل وقت إلى تزكيتهم عند أصحاب الجرائد والمجلات، ليجولوا ويصولوا، كما يجول ويصول من وهبوا القدرة على التصرف بالخواطر والقلوب
ولو عرف هؤلاء أن حرفة الأدب الغانم قد تحكم على صاحبها بأن يموت قبل الأوان بعشرين عاما أو ثلاثين لزهدوا في الظفر المكسوب بثقة القراء، وهل يثق القراء بكاتب إلا بعد أن يطمئنوا إلى أنه يسود القرطاس بالدم لا بالمداد؟ ثقة القارئ عروس غالية يقدم إليها الكاتب خاتماً قد أتخذ حديده من الدم الذي سفحه على سنان القلم في الليالي الطوال(403/7)
آه، ثم آه!!
من يصدق أن الكاتب الموثوق بكفايته البيانية لا ينقل عواطفه إلى قرائه إلا بعد أن تنفعل خواطره انفعالاً يحولها إلى نسيم تنتعش به أرواح الوجود؟
من يصدق أن الكاتب الذي يؤثر في عصره وزمانه لا يجود بكلمة من كلماته إلا وهو يجود بأكواب جِرار من دم الكبد والقلب
ومع هذا يقال أنه أجير لأصحاب الجرائد والمجلات!!
ولو قَدَرت مصر الكاتب حق قدرة لعرفتْ أنه عنوانها الصحيح في الشرق والغرب؛ فبفضل الكاتب قيل أن مصر زعيمة الأمم العربية، وبفضل الكاتب قيل أن صحافة مصر تزاحم الصحافة الإنكليزية والصحافة. الأمريكية. وهل من القليل أن نكون في الصحافة أعظم من أمم كثيرة تفوقنا في النفس والأموال؟
عتاب موجه إلى الزيات
إذا صح هذا - وهو صحيح - فكيف يجوز للأستاذ الزيات أن ينشر في مجلته تعريضاً بأجر يتقاضاه كاتبٌ صاحب (الرسالة) بصدق وإخلاص أكثر من أربع سنين؟
ومن الزيات الصديق؟
هو الرجل الذي يؤذيني بين قرائي وأصدقائي، فما ينشر لهم كلمة أقدمها إليه إلا بعد اختبار دقيق
أريد أن أعرف كيف يجوز للزيات أن يسمح بنشر كلمة فيها تعريض بمن ينتفعون بجهاد الأقلام، وهم أعظم من الذين ينتفعون بجهاد السيوف؟
وكيف يكون من العيب أن ننتفع بجهودنا الأدبية وهي جهود نخدم بها المجتمع كما يخدمه المشتغلون بالمحاماة والتدريس؟
وإذا جاز أن ينشر في الرسالة تعريض بمن ينتفعون بثمرات أقلامهم، ففي أي مكان ينتظر أرباب الأقلام كلمة الحق في الثناء على ما يقدِّمون من تضحيات، وهم أقل المجاهدين حظا من الثواب على الجهاد؟
ومتى نجد روح الوفاء إذا عز وجوده عند من قضوا أعمارهم في الأنس بمعاني الأدب الرفيع؟(403/8)
وما هو الأجر الذي يقدم إلى الكتّاب في مصر حتى تصوب إليهم سهام التجريح؟
مازلنا نشكو الغبن الذي يلاحق الصحافة الأدبية في هذه البلاد، فليس أمام الكاتب الأدبي فرصة واحدة من الفرص التي يتمتع بها الكاتب السياسي، لأن مصر التي برعت في خلق العصبيات السياسية، لم تفكر في خلق العصبيات الأدبية، والكاتب السياسي قد يستطيع التمتع بإجازة يتذوق فيها طعم الراحة شهراً أو شهرين مع حفظ حقه في المرتب؛ أما الكاتب الأدبي، فهو مقهور على معاقرة الكدح الموصول، إلا أن يغنيه الله عن ذلك الأجر الممنون
من المزعج أن تُنسى حقوق الكاتب الأدبي، وهو يعاون معاونة جدية على ترقية الصحافة الأدبية، وهي صحافة لم تكن ولن تكن إلا لونا من ترف العقول، وهي الشاهد على إن الأمة لها في عالم الفكر مطامح وآمال، ولكن أين المنصفون؟
ونحن قد زهدنا في خدمة الصحافة السياسية، وهي الصحافة التي يخطب ودها أقطاب السياسة ورجال الأعمال، والتي تمكن أصحابها من نواصي المناصب العالية، فهل كنا من الموفقين في إيثار ذلك الزهد؟ هيهات. . . فما كان زهدنا في الصحافة السياسية إلا ضرباً من الخذلان!
قد نعزّي أنفسنا فنقول: إن الجهاد في الميدان الأدبي أبقى على الزمان، وتلك والله علالة المهزومين؛ وإلا فكيف يُحسد الكاتب الأدبي على الانتفاع بجهوده الأدبية، وهي لن تصل به إلى منازل المجد إلا يوم يتولى أمور الناس رجل في حصافة ابن العميد، أو عقل سعد زغلول؟
وما هي تلك المنافع التي نعير بها في مجلتك، يا صديقي الزيات؟
وما الذي استفدت أنت من خدمة الأدب، وبيدك مجلة أدبية تضر بها وتنفع؟
كل ما غنمته هو السلامة من مزالق الشبهات، وذلك مغنم عظيم جداً، ولكنه قليل الوزن في العصور الممسوخة، عصور الزهد في معالي الأُمور. ولو اعتدل الميزان - كما رجونا ألف مرة - لكان للصحافة الأدبية مكان مرموق في هذه البلاد، ولكنه لن يعتدل إلا بعد أحيان طوال، ويومئذ ينسى الناس أن مصر عاش فيها أقوام حفروا أساس الصحافة الأدبية بأسنة الأقلام، وهم محرومون من عطف الصديق المواسي، والناصر الرقيق(403/9)
ومهما تكن العواقب، فذلك حظي وحظك، وحظ إخوان كرام رضوا بالشقاء في خدمة الصحافة الأدبية ليرضوا شهوة العقل، وللعقول شهوات أقوى وأعنف من شهوات العيون والقلوب
وهل أقبلنا على الصحافة الأدبية طائعين؟
لا، والله، فما أقبلنا على هذا المورد إلا مسوقين بسوَّاقٍ حُطَم، هو القلم المفتون بافتراع المعاني
وجملة القول أن ما يعاب عليَّ يعاب عليك، فمتى تكثر العيوب؟ ومتى يكثر القادرون على الانتفاع بثمرات الأقلام؟
العيب الحق هو أن تشهد الوقائع بأن الذين ينتفعون من الصحافة الأدبية لا يزيدون عن آحاد، لأن أدباء مصر لم يستطيعوا إلى اليوم أن يصيّروا الأدب غاية وجودية، يحيا بها الناس كما يحيون بالطعام والشراب
فهل يستطيع من عابوا عليَّ الانتفاع بقلمي أن ينتفعوا بأقلامهم؟
وهل فيهم من جُعِل رزقه في سنان قلمه، كما جُعل رزقي في سنان قلمي؟
ليت الله يكثر من المنتفعين بأقلامهم، لنؤمن ونصدق بان القلم صارت له دولة في هذه البلاد!
ليت، ثم ليت!!
الدين الإسلامي في المدارس الأجنبية
قرأت في الجرائد خلاصة ما انتهى إليه البحث بين وزارة المعارف ونظار المدارس الأجنبية فيما يتصل بتعليم الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين بتلك المدارس، وقد فهمت مما قرأت إن البحث وصل إلى غايتين:
الأولى انه لا يجوز أن يعلم تلميذ ديناً غير دينه ولو رضى أهله بذلك
الثانية أنه يجب تعليم الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين بالمدارس الأجنبية
وقد حدثني بعض من شهدوا تلك المحادثات إن نظار المدارس الأجنبية لم يعترضوا على النص الذي يوجب ألا يتعلم التلميذ ديناً غير دينه، لأنهم لا يريدون فتح باب الفُرقة والخلاف بين أبناء هذه البلاد، ولأنهم يعرفون انهم مؤتمنون على ضمائر من يدخل(403/10)
مدارسهم من أبناء المسلمين
أما النص الذي يوجب أن يتعلم التلاميذ المسلمون مبادئ الدين الإسلامي فقد وافق عليه نظار المدارس الأجنبية بعد جدال بسيط، وكانت حجة المجادلين إن بعض المدارس قد تتعدد فيها الديانات والمذاهب، فمن الإرهاق لجدول الدروس أن تخصّص فيه ساعات لتدريس ديانات التلاميذ على ما بينها من تباعد واختلاف، وهنا وجدت وزارة المعارف الحل فرضيت بأن تكون دروس الدين الإسلامي في أيام الآحاد
ذلك ما حدثني به الصديق الذي شهد تلك المباحثات فما الذي أملك في التعقيب على هذا الموضوع الدقيق؟
أواجه الموضوع بصراحة تنفعنا وتنفع ضيوفنا الأجانب فأقول: تنقسم المدارس الأجنبية إلى قسمين: مدارس مدنية ومدارس دينية
أما المدارس المدنية فهي على أتم استعداد لتدريس الدين الإسلامي في دورها، لأن نظامها يقوم على احترام جميع الديانات وإن كانت غير ملزمة بتدريس الديانات، وما دام الرأي العام في مصر يرى أن الدين الإسلامي مادة أساسية في تثقيف التلاميذ المسلمين فهي لا تمانع في أن يكون في دورها مكان لتعليم أولئك التلاميذ مبادئ ذلك الدين
بقيت المدارس الدينية، وهي مدارس لا يُطلب منها غير الحياد، فكيف نفرض عليها أن تعلم الدين الإسلامي في دورها؟ إنما يجب أن نسهل عليها هذه المهمة فنتولى تعليم من بها من التلاميذ المسلمين في دور المدارس المصرية وفي أيام الآحاد
ذلك ما رأته وزارة المعارف، وهو رأي أرادت به مجاملة المدارس الدينية، حتى لا يقال إن وزارة المعارف تجرح إحساس الأجانب من رجال الدين
كل هذا جميل، وجميل جدا، وجدا جميل، كما يعبر الدكتور طه حسين
ولكنه إن وقع فسيشهد بأننا جميعا نعيش في عصور الظلمات؛ فنظار المدارس الأجنبية لا ينكرون أن الإسلام دين يتقرب به إلى الله مئات الملايين. فكيف تضيق به مدرسة يديرها أوربيون أو أمريكيون، وقد نشأوا في بلاد لا ترى من العيب أن تدرس الأوهام والأضاليل حتى تشعر بالحرج في السماح بتدريس الدين الإسلامي (وهو إن لم يكن وحيا من السماء كما يزعم من خاصموه فهو بلا جدال أقوى صورة من صور الضمير الإنساني، وأعظم(403/11)
شاهد على سيطرة الفكر والعقل والوجدان)
لو جاز لي أن أتهم وزارة المعارف لقلت إنها تريد اختبار بعض رجال الدين من الأجانب، فهي تريد أن تجرب مبلغ استعدادهم لتقبل التعاون السليم من شوائب الأغراض، فما الذي سيصنع أولئك الرجال في الرد على وزارة المعارف!
أنا أرجح أنهم سيفكرون في منافع تلاميذهم من المسلمين فينظمون لهم دروس الدين الإسلامي بطريقة تعفيهم من التردد على المدارس المصرية وفي أيام الآحاد
فما هي تلك الطريقة؟
في المدارس الأجنبية نظام مدرسي يسمى نظام آل وهو النظام الذي يسمح بأن يقسم التلاميذ إلى فرق مختلفة في وقت واحد. فمن السهل أن يُتَّبع هذا النظام في تدريس الديانات في المدارس التي تختلف فيها الديانات، وعندئذ يذهب الخطر المتوقع من إرهاق جدول الدروس
دفع اعتراض
قد يقال إن في تدريس الدين الإسلامي بالمدارس الأجنبية فتحا لأبواب الشقاق بين التلاميذ المختلفين في الدين
وأجيب بأن إغفال الدين الإسلامي هو الذي يخلق ذلك الشقاق، لأنه يفرض على التلاميذ المسلمين أن يتصوروا أنهم مضطهدون، ويوحي إليهم فكرة الوهم بأنهم يتعلمون في مدارس تضمر لدينهم معاني العداء المكشوف أو الملفوف
فما مصلحة تلك المدارس في إغفال الدين الإسلامي؟
وما الموجب لأن يتعبونا بتجديد خصومات نحب أن تموت؟
الواقع أن بعض نظار المدارس الأجنبية لم يجدوا من يدلهم على اتجاهات الأفكار والعقول في هذه البلاد. ولو وجدوا من يرشدهم لأعفونا وأعفوا أنفسهم من الدخول في محرجات تؤذينا وتؤذيهم أعنف الإيذاء
للمدارس الأجنبية ماض جميل في نشر اللغات الحية بالديار المصرية، وذلك الماضي الجميل يحتاج إلى حارس أمين من
الحاضر الجميل. . .(403/12)
فمن يبلغ بعض نظار المدارس الأجنبية أن الصديق الحق هو الذي يرشدهم بصدق وإخلاص إلى جلية الأمر في مواطن قد اشتبكت فيها الأوهام والظنون؟
إن صدقت النيات في تحقيق ما تم عليه الاتفاق بين وزارة المعارف ونظار المدارس الأجنبية فسيكون لتلك المدارس مستقبل أروع وأجمل من ماضيها الرائع الجميل
ثم دفع اعتراض
قيل وقيل إن وزارة المعارف قد انتهزت فرصة الاضطرابات الدولية لتصفي ما بينها وبين المدارس الأجنبية، وذلك القِيل كذب وافتراء، فوزارة المعارف تفكر في هذه الشؤون منذ أعوام طوال، وهي بالفعل قد قررت التفتيش على جميع المدارس الأجنبية منذ سنة 1938 يوم كان الحديث عن وقوع حرب عالمية رجماً بالغيب، فمن التجني على وزارة المعارف أن يقال إنها تنتهز فرصة الاضطرابات الدولية لتحقق أغراضا سليمة لا يطعن في سلامتها إلا أهل الأغراض والأهواء
أما بعد فقد علمت أن قانون التعليم الحر سيعدل بعد تلك المباحثات تعديلاً يضمن السلامة من أخطار الخلاف بين المصريين والأجانب، ويؤكد الثقة والصفاء بين أولئك وهؤلاء
للحق والتاريخ
حدثني صديق شهد تلك المباحثات أن أعضاء اللجان الفرعية من الأجانب عز عليهم أن تنتهي في أسابيع، فقد راعهم أن يعرفوا أن في وزارة المعارف رجالاً موسومين بالرفق واللطف في معالجة الدقائق من المعضلات، وكانوا يتوهمون أنهم لن يلقوا إلا رجالاً يغنيهم الاعتصام بالحق عن مراعاة الرفق واللطف
وكذلك حثني ذلك الصديق أنه لم يكن ينتظر أن تتم تلك المباحثات في أسابيع، فقد كانت الأراجيف شاءت أن تصور بعض رجال التعليم من الأجانب بصورة من يعادون العروبة والإسلام في هذه البلاد. ثم شاء الله أن تشهد الظروف بأنهم أبرياء من تُرًّهات تلك الأراجيف
ذلك ما حدثني به الصديق الذي شهد تلك المباحثات، وهو لم يخبرني بجديد، فقد اتصلت بنظار المدارس الأجنبية عدداً من السنين فلم أجد منهم غير الأدب واللطف والذوق، ولم(403/13)
أشهد عليهم غير الاهتمام بمراعاة العواطف المصرية، كتب الله لنا ولهم التوفيق في خدمة العلوم والآداب والفنون.
زكي مبارك(403/14)
4 - في العقد
لأستاذ جليل
25 - (145) كان بعض أهل التمرس (يعني التمرس) بالحرب يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولي الحزم، فأن الجبان لا يألو برأيه ما يبقى مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشد لنصرتكم، ثم خلصوا من بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معدة الجبان وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم الزالج والحسام الوالج
وجاء في تعليقه (ما يشد نصرتكم): كذا في ا. والذي في بقية الأصول: (بصائركم) وهو تحريف
قلت: النصرة تصحيف البصيرة أو تحريف البصائر، والشد يناسب البصيرة أو البصائر، فالبصيرة الحجة والاستبصار في الشيء، والبصيرة ما اعتقد في القلب من الدين وتحقيق الأمر. وليس أصل القول - كما أرى - (يشد نصرتكم أو يشد بصائركم) وإنما هو (يشيد ذكركم أو يشيد بذكركم) (كما جاء في هذه الوصية في زهر الآداب وثمر الألباب) وفي (غرر الخصائص الواضحة) و (الغرر) يروى عن (الزهر)
أصل الجملة كما ذكرنا ثم نسى ناسخ نقط الياء فصارت (يشد ذكركم) فاستركت واستبدلت بالذكر البصيرة أو البصائر أو النصرة حتى يجئ معنى مقبول
وقد يكون أصل (السهم الزالج والحسام الوالج) ما سطر في الزهر والغرر: (السهم الصائب والحسام الغاضب) والسهم الصائب أقعد في هذا المقام من السهم الزالج
في التاج: زلج السهم يزلج زلوجاً وزليجاً وقع على وجه الأرض ولم يقصد الرمية. وفي المخصص، وفي المثل: (لا خير في سهم زلج) وإذا وقع السهم بالأرض ولم يقصد الرمية قلت: أزلجت السهم
وقد يصوب (السهم الزالج) في قول القائل بعض التصويب ما ورد في اللسان: قال أبو الهيثم: الزالج من السهام إذا رماه الرامي فقصر عن الهدف، وأصاب صخرة إصابة صلبة، فاستقل من إصابة الصخرة إياه، فقوى وأرتفع إلى القرطاس فهو لا يعد مقرطساً
26 - (ص145). . . وانفسدت نياتهم
قلت: من يجد هذا الفعل في مثل هذا الكتاب دون تنبيه عليه يثق بصحته وما هو بالصحيح(403/15)
في الصحاح: لا يقال انفسد. ومثل ذلك في اللسان. وفي القاموس: لم يسمع عنهم انفسد. قال شارحه: في مطاوع فسد وإلا فالقياس لا يأباه
قلت: لم يحرك الفعل (فسد) في التاج، فأن قصد الثلاثي غير المضاعف فهي هفوة عالم
في ضياء اليازجي: رجل مفسود السيرة وقد انفسد، وكلاهما خطأ، لأن فسد لازم فلا يصاغ للمجهول ولا يبنى منه مطاوع
27 - (ص169). . . فدخلت في غمار الناس. . .
قلت: في غمار الناس أو غمار الناس بالضم أو الفتح كما قيد ذلك بصريح الكلام لا بتوشيح القلام - كما يقول المجد - في تهذيب الألفاظ، والصحاح واللسان، والمصباح، وحرك بالضم والفتح في الجمهرة والمخصص وغيرهما
والأصمعي يقول: دخل في خمار الناس. وغمار الناس خطأ ليس من كلام العرب. وقد نسب صاحب المخصص هذه التخطئة إلى ابن السكيت، وهذا وهم من ابن سيدة. وإنما ابن السكيت ناقل وقد قال بعد كلام الأصمعي: الكسائي: دخلت في غُمار الناس وغَمار الناس وخُمار الناس وخَمار الناس.
وأثبت الجوهري في الصحاح هذا القول إثبات الموافق عليه
والغِمار - بالكسر - جمع الغمر وجمع الغمرة ليس بحجة لمن كسر الغمار في (دخلت في غمار الناس أو خمارهم) في كلام القدماء. . .
28 - (ص35)
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاحَ مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب عشيرةٍ ... ونجا المقارف صاحب الذنب
قلت: عشيرة. وقد روى الشريشي في الشرح الكبير هذين البيتين و (قرينة) فيهما مكان (عشيرة)
29 - (ص71). . . قال (الوليد بن عبد الملك للزهري): يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له حسنات ولم يكتب له السيآت، قال: باطل يا أمير المؤمنين. . . قال: إن الناس ليغووننا عن ديننا
وجاء في الشرح: في الأصول (ليغروننا) بالراء، وهو تحريف(403/16)
قلت: إغواء: أظله، أو دعاه إلى شيء غوى به أي ضل؛ وغره يغره: خدعه وأطعمه بالباطل؛ والقوم قصدوا خدع الخليفة وإطماعه بالباطل؛ والغر أو الغرور مثل الإغواء، وربما فضل الأول الثاني في هذا المقام
30 - (ص234). . . وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحقاً والخير محضاً لمن يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينة ولا بشر يحيشهم إلى خيره، فقد ملكهم الخلع لعذرهم
وجاء في الشرح: كذا في 1؛ ويحيشهم أي يجعلهم يفزعون يقال: حاشه يحيشه إذا أفزعه؛ والذي في سائر الأصول: (يحبسهم)
قلت: الحيش: الفزع، والفزع هنا الخوف والذعر، لا الفزع إلى الشيء، أي اللجوء إليه؛ وفي حديث عمر إنه قال لأخيه زيد حين ندب لقتال أهل الردة فتثاقل: ما هذا الحيش والقل؟! أي ما هذا الفزع والرعدة؟ فاللفظة في (العقد) هي يحوشهم أو يحيشهم أي يسوقهم؛ ففي حديث عمر أن الرجلين أصابا صيدا قتلة أحدهما وأحاشه الأخر عليه؛ يقال: حشت عليه الصيد وأحشته إذا نفرته نحوه، وسقته إليه، وجمعته عليه كما في النهاية؛ وفي الصحاح: حشت الإبل: جمعتهما وسقتها، وحشت الصيد أحوشه إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة
31 - (ص178) قال كعب بن زهير:
بخلاً علينا وجبنا من عدوكم ... لبئست الخلتان البخل والجبن
قلت:. . . وجبنا عن عدوكم. وقد نسبه أبو تمام إلى قعنب بن ضمرة. وفي المبهج: قعنب بن أم صاحب وهي أمه، وهو أحد بني عبد الله بن عطفان، وكان في أيام الوليد ابن عبد الملك، والبيت ثالث ثلاثة في (الحماسة) شقيقاه هما:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
وقد تمثل أبو جعفر المنصور بذلك البيت في مقامين في خطبتين ذكرهما الطبري في تاريخه في (الخبر فن بعض سيرة المنصور) والبيت فيهما كما روى ديوان الحماسة
احتلت هذه الضئيلة البئيلة (من) ذلك المكان من البيت - غير متحللة عنه - الدهر الأطول(403/17)
في طبعات (العقد) وقد لمحتها في ثلاث منها، ثم لم نتئب (لم تستح) الملعونة من ظهورها في طبعة اللجنة المبجلة. واليقين أنها من ميراث الناسخين، لكن لكل كتاب أجل ولكل كاتب ولكل كتابة ولكل شئ، فلن تكون (من) في البيت في العقد - إن شاء الله - بعد اليوم. . .
32 - (ص334) ورؤى حاتم يوماً يضرب ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه وهو يقول:
أقول لابني وقد سُطْتُ يديه ... بكلبة لا يزال يجلدها
أوصيك خيراً بها فان لها ... عندي يداً لا أزال أحمدها
تدل ضيفي علي في غلس ال ... ليل إذا النار نام موقدها
قلت: أقول لابني وقد سطَتْ يدُهُ. . .
33 - (ص170) وقال بعض العراقيين فيه (أي في أكول جبان):
ضعيف القلب رعديدُ ... عظيم الخُلق والمنظرْ!
رأى في النوم عصفوراً ... فوارى نفسه أشهر!
قلت: رعديدٌ، إذ لا تصريع في البيت، ولا احتياج إلى كف، واللفظة مصروفه وهذا ظاهر
34 - (ص123) كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول:
أي يوميَّ من الموت أفرّ ... يوم لا يُقدر أو يوم قدرْ
يوم لا أقدره لا أرهبه ... ومن المقدور لا ينجي الحذر
قلت: أفرْ بالسكون بلا شدة حتى لا يختل الوزن
ذكرتني (صفين) في خبر (العقد) بيتين كانا يقالان في لياليها وهما هذان:
الليل داج والكباش تنتطح ... نطاح أسد ما أراها تصطلح!
فمن يقاتل في وغاها ما نجا ... ومن نجا برأسه فقد ربح!
وإن الدنيا لتتمثل في هذا الوقت بهذا القول. والمأمول - وقد استجبت الدعوة في الرسالة (259) ص (932) فعادت جذعة - أن يكون نفع الناس منها جسيماً عظيماً مثلها
فيحيى فياح. . .!(403/18)
* * *(403/19)
الغناء والموسيقى
وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 2 -
نسمع اليوم ضجة في مصر بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ فما هو ذلك الذي توهموه القديم وثبتوا عليه؟ وما هو ذلك الذي أحدثوه واعتزوا به!
لمجلس الموسيقى والغناء الجدي عندهم نظام لا يمس ولا يتغير: مقدمة موسيقية، تقطعها تقاسيم بكل معزف لابد منها في نظرهم وإن تشابهت وتكررت منذ دهور؛ ثم ليال ناداها المغنون حتى سوأها فرط التكرار، فموال عامي، فدور أو طقطوقة، أو قصيدة مسيخة في ترتيب ما يختارون من أبياتها، معذبة على ألسنتهم اللحانة، وما أشنع لحانة المغني منتحل الفن والفن الجميل برئ من تشويه الجمال وإن تعمد تصوير الدمامة أحيانا! وجملة ذلك (وصلة) تجمع بين العامي والفصيح حين تضم الموال إلى القصيدة وتجمع بن المتنافرات والأضداد. أما التواشيح العربية القديمة التي أقحموا فيها (أمان) و (يا لا لِّلي) لموازنة ألحانها الحاضرة، فهي في حكم المهمل، إذ قلما يغنون بعضها أو جزءا منها، وقلما يغنيها أجود الأصوات. وأما الغناء في السنما وفي التمثيل، أو فيما يسمونه أوبرا، فهو أغاني مفردة، مبعثرة يصدق في أكثرها ما يقال في غيرها
والأغاني، على الإجمال، موضوعها ثابت ثبات الرواسي، يصور رزيئة عاشق ذليل يومه ناحس، ومهانة داله عليل ناكس، وأنين خائر، وحنين طريد شريد حائر، وسائل حزين بكى، مستغيث ولا مغيث؛ فهو موضوع يصف تحيته مخلوق مجرد من كل حمية، شاذ عن سجية الرجل السليم، كأن العشق مرض مهلك لا تكون فيه هنيهة هناء، أو لحظة بشاشة، أو فينة صفاء؛ وكأن العشق الكئيب لا يغني سواه، وكأن الإنسان لا يطرب إلا من العويل والنحيب مذ عمى هذا الفن الأنكد عما يفعم فؤاده من شتى العواطف والأحاسيس البشرية، وهو موضوع مستهجن مملول زاد سماجته الإمعان في تكراره
وعبارة هذه الأغاني عامية على الأغلب، ونحن نزعم أننا نحارب الأمية والعامية؛ فكأن(403/20)
المصريين قاطبة عوام، وكأن الفصحى ليست في شئ مما يصلح للغناء ولم تغن بها مدنيات قبلنا، وكأن الأمم الحية لا تغني الآن في لغاتها إلا بعبارات الأوباش من أبنائها. والأغنية محدودة في قليل من الجمل، ولولا تكرار المغني لكلماتها - وأي تكرار - لما أستغرق غناءه دقائق معدودات
تبدأ الموسيقى بمقدمة هي جزئ من بشرف، أو بشرف في الأندر، أو تقليد أين هو من البشارف؟ وهي حين تعزف واحدة منها تقطعه بما تقحم فيه من تقاسيم بالمعازف تنبو لهجتها الطافحة شجوا عن لهجة البشرف الناطقة عن أحاسيس الرجولية، ولو اتفقتا في النغمة، فتكدر صفاء لحنه وتعرقل تسلسله وتسربه في الآذان، وتضعف قوة أخذه في الأنفس الواعية وشدة أسره فلا تجد منه كل الطرب وهو عند تتابع روائعه واتصالها مطرب جد مطرب
وهذه المقدمة الموسيقية تباين ما بليها من غناء وإن كان لحنها ولحنه من نغمة واحدة، كنغمة الصبا أو البياتي، إذ أننا لم نفطن بعد للدلالة الصوتية ولم نزكن معنى الإنشاء الموسيقي، أو لم نسمع عنه شيئا
ثم أن الموسيقى تصاحب الغناء أو تتخلله، أي تعزف وتسكت، وتارة تخافت بلحنها مع بعض جمل الأغنية أو بعض كلماتها، وطورا يأتلف لحنها مع الغناء والأغنية، ويختلف أطوارا بمتباينة دلالاته الصوتية المتضاربة لدلالاتهما: إذ يثب اللحن الموسيقي بمدلولاته من البكاء إلى المرح مثلا، أو من الضعضعة إلى الثورة أو الرقص بينما يقيم المغني بغنائه مناحة حاميه، يشغف بها أذان المستمعين. ذلك بأن ملحن الموسيقى ليس يعرف اللحن إنشاء يتوخى فيه صاحبه أن يجعله معبراً للمستمع عن ذات ما يصل إلى سمعه من الموسيقى من معاني الأغنية والغناء بها؛ ولا يدرك أنه لا ينجح في صنيعه إلا بإحكام الدلالات، وإتقان المطابقة بينها، وتحسين الأسلوب بمحسنات صوتية توائم سياق اللحن الأساسي. وإنما هم الملحن أن يتلقط عبارات صوتية يظنها مؤتلفة لمجرد نظمه إياها في نغمة الأغنية، وقد تكون الواحدة من هذه العبارات مطربة في ذاتها، لو سمعت على حدة، وإن باينت أخواتها في لحنه وهو لا يدري؛ لأنه لا يقصد سوى التجعيد في اللحن والتوشيع بما يأخذ أو يسرق من هنا وهناك، ولا يلاحظ إلا ضبط الأقيسة وإحكام الوقف أو (المحط)(403/21)
لتمكين المغني من استئناف الغناء ولإظهار أنة لم يخرج عن النغمة
الأقيسة والمحطات! ذلك وحدة ما يعني به الملحنون والعازفون وما فيه يتبارون! ولذلك يبرزون القياس أي (الوحدة) بالدف أو الطبلة في عزفهم الألحان؛ وليس هذا موضع فخر لمنتحل الفن، إذ هو شئ أولي، دون مستوى الفن الرفيع؛ بل إن في إظهار القياس والوحدة إظهارا لتكرار يمل النفس اطراده وملازمته للحن والغناء، إلا أن يقع في مواطنه من الموسيقى المحركة كالتي تصاحب الرقص. والفن الحق يتفادى هذا العيب بإخفاء مساند البناء الموسيقي من قياس وغيره، كما يخفي المهندس دعائم البناء الجميل، وبعض نواتئه وزواياه، بحيله الفنية وبالطلاء والزخرفة
وما اكثر الجاهلين من ملحني الأغاني إن اللحن إنشاء صوتي يوجب عليهم المطابقة التامة بين مدلولاته والمدلولات الكلامية. وليس ينفي هذه الحقيقة ائتلاف الحزن الذليل الفائض من الأغاني والحزن الأذل المتدفق من ألحانها: لأنه ائتلاف لم يأت عن دقة في حساسية المؤلف ويقظة في مشاعره وملكاته ولا عن فطنة فنية، بل هو الشاهد باستقرار عادة التذلل والبكاء واستحالتهما شِنشِنةً بالإدمان. يثبت ذلك أن مدلولات لحن الأغنية الحزينة تأتلف مع مدلولات كلامها، لكن كثيرا ما تختلف معها في مصاحبتها لألفاظ العاشق المتضعضع الباكي، بمعان صوتية مرقصة مرة، أو ساخرة ومتغنجة أخرى، أو متميعة؛ ولو كانت نفس الملحن حساسة لما جاءت بأمثال هذا الاختلاف في لحنه. ولو كان مدركاً معنى الإنشاء الصوتي والغناء، لأصلح أخطاء لحنه بالتهذيب بعد تأليفه؛ أو لو كان فنانا حقا لما تعمد مثل هذا السخف لإرضاء أحد
أما المغني، فقد اصبح مثله الأعلى هو التفوق في حكاية الذل والحزن، الحزن والذل وحدهما! كل الحزن والذل! وفي وصف بنات الصدر، حتى تشبع قلبه من الكآبة تشبعاً ينفضها على صوته، شاء أو لم يشأ، وحتى قد يكون جيد الصوت، لكن غناءه على رغم هذه الجودة بكاء حقيقي وعويل، لا صوت مغن. والفرق عظيم بين الحقيقة والفن الذي يمثلها، فإن صار تمثيله حقيقة، فلا يكون فناً
وأكثر المغنين إنما صنعتهم مسخ لألحان مسيخة، مسخ يزيدها بشاعة بعيوب ليست من الفن ولا الغناء في شئ كما يتوهمون. وهؤلاء عيوب غنائهم عديدة وبيان بعضها فيما يلي:(403/22)
فمنها أن المغني قد يغني للجماهير بصوت أدركته أعراض الشيخوخة، ويغني ولو كان من ذوي الخنخنة أو كان مزكوماً، ولا يفكر في سلامة صوته، ولا يعني بنقاء حنجرته وصحة صدره، وهو يزعم أنه مطرب.
ومنها إن يقدم على رفع صوته إلى أعلى الطبقات وهو غير قادر، فيظهر ما يعاني من مشقة. وليس هذا الجهد الجاهد بغناء الصوت الكرواني المخلخل الذي يحلق بسهولة عظيمة، ورفاعته أنه غناء لا عناء.
ومنها أنه يقطع الأغنية كلمة كلمة، ويكرر الواحدة عشرين مرة زاعماً أن كل مرة تأتي بلون من الإيقاع غير ألوان الأخريات؛ وهذه وتيرة مملة وان صدق في زعمه، لان معنى الكلمة لا يتغير جوهره في هذا التلوين الصوتي الذي يؤكده؛ وهو زعم لا يصدق في كل المرات، وان صدق أحيانا في بعضها. على أن التكرار مرة أو مرتين، بشرط ظهور مزيته، معقول مقبول مواضعه؛ وحسب المستمعين والمغني، بعد ذلك أن يعرض ألوان صوته في سياق اللحن ويترك ما يسئم.
ومنها أنه يطيل الوقف بعد الكلمة بلا داع ولا معنى، وقد يطول الوقف بين كلمتين، أو كلمة وجملة، أو جملتين، لما يقحم بينها من عبارات موسيقية معانيها لا تلائم معاني الغناء: كأن تدل تلك على غضب ففرح، فثورة فمداعبة، بينا تدل هذه على شجن صاعق كالعادة، فتنفصم سلسلة الغناء وتختلط الدلالات الصوتية المتضاربة، ويذهب التقطيع والاختلاط بلذة اللحن والصوت المغنى أن كان فيهما لذة
ومنها أنه قد يقف على نصف كلمة، أو ثلث أو حرف منها، ولو كان همزة؛ وقد يستأنف من هذه الهمزة ويجأر بها مراراً فيحدث بذلك نواتئ ومنكسرات صوتية، مع أن المنحنيات آنق والطف وأحب إلى الأذن وتلك النواتئ مؤلمة
ومنها انه قد يترك السكوت بإطلاق صوته بغتة كالمدفع لقصور ذوقه عن حفظ التناسب، وقد يتنبه لهذه الفجاءة ويحاول تخفيفها متعجلا في الغض من صوته فيزيد وضوحاً.
ومنها أنه يمد كل حرف من كلمة مدا يطول حتى لا يستطيع المستمع أن يجمع حروفها، فيضيع معناها؛ وأنه قد يمسخ اللفظة بتأنق على ذوقه السقيم، كأن ينطق بكلمة الحرية مثلا: لو حوورييية، فلا يفهم أحد هذه الأناقة الشنيعة(403/23)
ومنها أنه يتأوه ويتوجع كأنه بين يدي سفاح يعذبه أو جراح يجرحه قبل اكتشاف وسائل التخدير الطبي، وتارة يتميع ويتغنج إثارة للشبق بين بكائه في غنائه بكاء الثكلى
كل أولئك عيوب تشوه حتى احسن الأصوات وهي غريبة عن الصوت الغنائي، وكثيرا ما يجتمع منها وحدها ما يمض المستمع البصير، ويوهم أن مجلس الغناء مأتم مجانين، ويكفي لإخراج هذا الغناء عن الفن
تلك العيوب البينة في غنائنا وموسيقانا قد يلاحظها العامة وأشباه العامة، لكن لا على إنها عيوب بل على أنها محاسن من صميم الفن، ومن شواهد النبوغ والعبقرية؛ ويتبعهم في الإعجاب بها كل إمعَّة، خصوصاً في الحفلات حيث تسود روح الجمهرة، ثم يتأثر من إعجابها السواد الأكبر الذي لا يجرؤ على مخالفة رأيه الأكثرون من الأفراد، وهذا هو السر في كل صيت كاذب مفسد للأذواق.
محمد توحيد السلحدار(403/24)
من الأدب الرمزي
الزمن الساحر. . .!
للأستاذ سيد قطب
أيها الزمن!
ما أعجبك! ما أقدرك!
إنني أراك اللحظة - أو يخيل إلي إنني أراك، أو تخيل إلي أنه يخيل إلي إنني أراك! - هنالك قابعاً منزوياً وراء منسجك الأبدي، تطل بعينيك العميقتين النافذتين من خلف المنسج القائم منذ الأزل، تنسل خيوط الكون وتنسجها، في دأب لا يمل ولا يفتر، ونظام لا يتقدم ولا يتأخر
أنك هناك في كل ذرة سابحة في الفضاء، أو غائصة في الأعماق؛ وفي كل خطرة نابضة في الفكر أو كامنة في الضمير؛ وفي كل ومضة مشعة في الأفق أو مستكنة في الذريرات. . .
وأنت هناك في البرعم النامي، والجرح المندمل؛ وفي الأمنية السائحة والذكرى المتوارية؛ وفي الأمس والغد؛ وفي الليل والنهار؛ وفي الغدو والأسحار؛ وفي الأرض والسماء؛ وفي كل مكان. . . ولكن أحداً - أيها الساحر القادر - لا يحس أنك هناك!
إنك لتلأم الجرح في اللحظة التي تثغره؛ وأنت هناك في أعماقه تنسج الأنسجة وتنشئ الذرات، وترتفع بغوره شيئاً فشيئاً، وإذا الطعنة الغائرة قشرة عالقة، وربما خيل إلى الرائي أن وراءها ثغرة؛ وإذا القشرة نفسها تسقط بعد لحظات، وكأن لم يكن جرح ولا ثغرة ولا قشرة!
وكذلك تصنع بالجروح الغائرة في حنايا القلب وشعاب الضمير. . .!
وأنك لكامن هناك وراء البرعم المستكن في البذرة الساكنة تدفعه في رفق، وتمده في هدوء؛ ثم تنبثق به إلى الضياء نبتة ناحلة كابتسامة الوليد؛ ثم إذا هو فنن صغير، ففرع كبير، فدوحة باسقة، ذات أوراق وأزهار وثمار. . . ثم ماذا - أيها الساحر القادر - ثم إذا هي خشبه خشنة اللحاء يابسة اللباب؛ ثم إذا هي وقود النار؛ ثم إذا هي شعاع ذاهب، وهباب راسب. وأنت هناك من خلفها دائب في الإبلاء والإنشاء!. . .(403/25)
وكذلك تصنع بالأمل البازغ، والحب الوليد. . .!
إنك لا تضيع لحظة واحدة! ويحي! وما اللحظات لديك؟
ليخيل إلي أنك تسخر منا ونحن نقسم الوقت لحظات! وكيف تعرف حدودها فنقول: من هنا تنتهي اللحظة الغابرة وتبدأ اللحظة الحاضرة! والوقت خيط طويل يلفه لولب الزمن فيمر بنا أو نمر به بلا توقف ولا فواصل ولا حدود؟. . . ما اللحظات والثواني والدقائق والساعات؟ ما أولها وما آخرها؟. . . ما من أول لها ولا آخر إلا في أوهامنا نحن أبناء الفناء!
إنك هناك وراء منسجك الأبدي تبلى وتجدد في آن، بعيداً عن الحس والوعي، بعيداً عن التأمل والملاحظة، بعيدا عن الشك والريبة. وربما خيل لبعض السذج أن يرقبوك في عملك الدائب، فإذا أنت تبدو لهم ساكنا صامتا كلما أمعنوا في الوعي والرقابة، بينما أنت تعمل عملك، تنسل وتنسج في كل شئ، حتى في وعيهم ورقابتهم وهم لا يشعرون!
أيها الساحر القادر. . . إنك لتحتفظ دائماً بسر اللحظة الحاضرة، فلا تدع عيناً تقربها ولاحساً يدركها، ولا فكراً يؤولها، ولا نفساً تلهمها. . . إنها لك وحدك. تنسل خيوطها وتنسج سواها، ويدك التي تنسل الخيط القديم هي التي تنسج الخيط الجديد، موصولا هذا بذاك، فلا مبدأ ولا نهاية ولا فاصل بين الخيطين تدركه العين أو الضمير. . . فإذا خرجت من منسجك أبحتها لحظة عابرة للأبصار والأفكار، ريثما تنسل وتنسج نفس هذه الأبصار والأفكار
وقد يحاول بعض السذج أن يقفوا دورتك، استبقاء للحظة يحبونها أو تفاديا من لحظة يرهبونها؛ وقد يتشبثون بالأوهام، ويثبتون أقدامهم بالوقت والمكان؛ وإذا أنت في غفلة عنهم تمر بهم، وتنقل أقدامهم وأوهامهم؛ وأنت تنسل وتنسج خيوط الإقدام والأوهام!
وكم مرة خيل إليهم أن هناك مفاجأة وطفرة. وما كان من ذلك شئ، إنما كنت أنت هناك، وراء المنسج، في صومعتك الأزلية، تبلى وتجدد، وتفني وتخلق، وتنسل وتنسج؛ وهم عنك في غفلة. ثم استيقظوا أو خيل إليهم انهم استيقظوا! فهالهم ما أبليت وما جددت؛ وصاحوا مشدوهين كالأطفال، وقذفوا في وجهك بعلامات التعجب والاستفهام بينما أنت دائب على منسجك تبلي وتجدد، حتى في ذلك التعجب وهذا الاستفهام!(403/26)
أيها الزمن!
ما أرحمك! ما أقساك!
إنك لتلأم الجرح وتفتح البرعم؛ ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة. وإنك لتمسح على الألم وتزوي الوجه الرعيب، ولكنك تطوي اللذة وتحجب الوجه الحبيب
إنك لتمنحنا الجديد وتهبنا الطريف؛ ولكنك تسلبنا القديم وتحرمنا التليد؛ لا بل أنت تسرق منا هياكلنا ونفوسنا، وتخطف ذراتنا وخواطرنا، وأيا كان ما تعوضنا فان تعويضك محدود بالعمر صائر إلى نفاذ، وفقداننا إلى غير رجعة ولا يستعاد من ذا الذي يستطيع أن يقول في لحظة ما: أنا. . . أنا. . . أنا الذي كنت منذ لحظة. . . إن كل شئ قد تغير منذ اللحظة الفائتة، فليس هو من كان هناك. . . إنك في هذه اللحظة الخاطفة نسلت منه خيوطاً، ونسجت فيه خيوطاً!
أين الشموس الغابرة وراء الآباد؟ أين الليالي الساربة في مجاهل الأبد؟ أين النجوم مندمجة من السديم؟ أين مولد الأرض بجانب منابع الزمن؟ أين أول فجر وأين أول حي على هذه الكرة السابحة في الفضاء؟ أين إنسان الغاب في الكهوف والآجام؟ أين الزلازل والأعاصير؟ أين النسائم والنفحات؟ أين الوسوسة والخرير؟ أين الرفرفة والصدحات؟ أين البسمات التي رفت على الشفاه؟ أين العبسات التي غضنت الجباه؟ أين الهواجس والأفكار؟ أين الرغائب والاوطار؟ أين الحب والبغض؟ أين الهيام والسلوان؟؟. . .
أين. . . أين. . .؟ بل أين كلمة (أين) هذه التي لفظتها منذ لحظة؟ بل أين المقطع الأخير من (أين) الأخيرة؟. . .
لقد نسلت خيوطها ونسجت سواها. . . وهأنت ذا دائب على المنسج الأبدي الجبار!
هأنذا أعيد تلاوة هذه السطور التي خطتها يدي؛ ولكنها ليست هي كما خطتها، ولست أنا كما كنت لحظة تسطيرها. . . إنك نسلت ونسجت في خيوط يدي ونفسي، وفي حركاتي وخواطري؛ وفي خيوط الصحيفة التي حوتها، وفي خيوط المداد الذي أثبتها. . . وهأنت ذا لا تزال تنسل وتنسج في هؤلاء جميعا ولن يكون شئ منها كما كان مرة أخرى!
أيها الزمان!
ما أعجبك! ما أقدرك! ما أرحمك! ما أقساك!. . .(403/27)
(حلوان)
سيد قطب(403/28)
على هامش الحرب
الديمقراطية البريطانية
وأثرها في الحرب الحاضرة
تسربت الديمقراطية - كنظام سياسي - إلى العالم، من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تضمن هذا النظام الاعتراف بما نسميه الآن (حقوق الإنسان) وهي حقه في أن يعيش حراً ويتكلم حراً، ويعمل حراً، دون أن يتعرض للتعذيب أو السجن. وكان (أبراهام لنكولن) أول من أعطى الولايات المتحدة حكومة تقوم على المبادئ الأساسية لهذا النظام وقد أثر عنه أنه عرف الديمقراطية بقوله: (هي حكم الشعب، للشعب، بواسطة الشعب)، أو بعبارة أخرى: (هي حكومة ممثلين للشعب من الشعب ينتخبهم الشعب انتخاباً حراً)
أما في إنجلترا فقد كانت أولى الحركات الديمقراطية الكبيرة تلك التي قام بها (الشارتستس) وقد استمدت فلسفتها من أمريكا، ولكنها منيت بالفشل لأسباب عديدة، وما لبثت أن أعقبتها - بعد فترة من الزمن - حركة أخرى رمت إلى تحقيق (التمثيل العام)، وكان أول وأهم الداعين إليها (برايت) صديق (جوبدن) ومن بعده جاء (جلادستون) الذي تسنى له أن يدرس - خلال برلمان 1841 - 46 - كثيراً من مبادئ (جوبدن)
استمدت هذه الحركة وحيها من أقوال الفلاسفة الراديكاليين الذين يرجع إليهم - أكثر من غيرهم - تحديد (النظرية الديمقراطية) وتوضيحها. إلا أن نظام الحكومة في إنجلترا كان قد تضمن - من قبل - بعض المبادئ الديمقراطية. ومن أشهر الوثائق التي أصارت تلك المبادئ قانونا: الوثيقة الشهيرة المعروفة باسم (هاجنا كارتا)، وثيقة الحرية الكبرى لدى الإنكليز: استخلص البارونات هذه الوثيقة من الملك (جون)، وختمت في (رنيهبير) في الخامس عشر من شهر يونيو سنة 1215؛ ومن المبادئ التي تضمنتها:
1 - لا يبقى أحد في السجن دون محاكمة
2 - العدالة يجب ألا تباع، أو تؤخر، أو يرفض تحقيقها
3 - لا يدفع أحد غرامة، ولا يسجن، ولا ينفى إلا بعد محاكمة عادلة، وبموافقة محكمة اللوردات
4 - اكتسبت الحرية لمدينة (لندن) وعدة مدن أخرى(403/29)
ثم تأيدت هذه الوثيقة بضع مرات، بواسطة الحكومات التي تولت حكم إنكلترا. وفي سنة 1215 كان السبب الأكبر الذي دعا إلى عقدها، هو الحيلولة بين الملك وبين أن يصبح دكتاتوراً، ويغتصب الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها البارونات، أي أنها كانت في الأكثر لفائدة (الأرستقراطية) ولكن الحقوق التي تضمنتها هذه الوثيقة ما لبثت أن أخذت على التدريج تشمل أفراد الشعب، ثم ما لبثت حكومة البلاد بعد ذلك أن أصبحت في متناول يد كل فرد. وفي النظام الحاضر ما يؤيد ذلك. فمجلس اللوردات يمثل (الأرستقراطية) ومجلس العموم يمثل (الشعب)؛ والمجلس الأخير هو الأشد قوة، والأشمل سلطاناً، ومن حقه على الدوام أن يتأكد من أن مصالح (الشعب) لم تطغ عليها مصالح (الأرستقراطية)
والفرق المهم بين الديمقراطية في إنجلترا، وبينها في غيرها من البلاد، هو أن الديمقراطية في إنجلترا تقوم - أكثر ما تقوم - على التأريخ والتقاليد. وحسبنا أن نعلم أن المجالس النيابية التي هي أهم مظاهر الديمقراطية الحديثة قامت في إنجلترا منذ القرن الثالث عشر!
وثمة فارق آخر بين (الديمقراطية الإنكليزية) وبين زميلتها الأمريكية، هو أن العاطفة الديمقراطية كانت حتى أوائل القرن الحاضر، زراعية في أمريكا، بينما كانت وما تزال في إنجلترا، مدنية صناعية؛ ولا يخفى أن الحال تغيرت في أمريكا في هذا الزمن، فقد أصبحت العاطفة المدنية الصناعية لا تقل، وربما كانت أزيد، من العاطفة الزراعية
ومن الفوارق الأخرى أن الديمقراطية كانت في أمريكا وفي القارة الأوربية قرينة للحركة الوطنية وللحركات العسكرية، بينما كانت الحال عكس ذلك في إنجلترا. أنظر إلى الثورة الفرنسية وإلى حرب الاستقلال الأمريكية، تجد انهما قرنتا الديمقراطية بالقوة العسكرية للدولة، بينما كانت القوة العسكرية في بريطانيا قرينة (نقص في الحرية) ورد الفعل الناجم عن ذلك النقص. واستخدمت إنجلترا قواتها العسكرية في تنظيم الأمم الخاضعة لها أكثر مما استخدمتها في الدفاع عن نفسها، من أجل هذا السبب كانت الديمقراطية الإنكليزية أقل حكومات العالم ميلا إلى الحرب
وقد اصبح (عدم الميل إلى الحرب) هذا فيما بعد خاصية من أهم خواص الأمة البريطانية. ومع أن المعروف هو أن الشعب الذي كان لا يحب شيئا ما، فأنه عادة لا يتقنه، فأن هذه القاعدة تشذ، عندما يكون ذلك الشعب هو الشعب البريطاني، ويكون ذلك الشيء هو(403/30)
الحرب. عرف ذلك نابليون سنة 1815 وقد بدأ (هتلر) يعرفه الآن
عندما يكون (ذلك الشيء) هو (الحرب)، تبدأ إنجلترا بطيئة؛ ولكن متى بدأت، كان من الصعب إيقاف تلك الآلة الحربية البريطانية الهائلة، بل قل إنها لا تقف حتى ينتهي عملها النهاية الناجحة المرجوة منه. والبدء البطيء والتقدم المتئد يرجعان إلى (الديمقراطية البريطانية)
في بعض الممالك يستطيع الديكتاتور أن يشن حربا متى أراد ذلك، ولكن - في إنجلترا - لا يستطيع أحد أن يقرر شيئا ذا أهمية قومية - بل الحرب - دون موافقة الشعب وتأييده الاختياري له. والإنكليز يكرهون الحرب لأنهم يعلمون أنها مضيعة ومناقضة للصالح العام. وهم يعلمون ذلك لأن حكومتهم تبيح لهم أن يطالعوا الحقائق في جرائدهم، وتشجعهم على أن يفكروا، ويتحدثوا، ويعملوا، بحرية، ومن أجل أنفسهم وهي هذه المعرفة التي تجعلهم يبطئون في إبداء موافقتهم وتأييدهم لحرب يعلمون عنها أنها تقتضيهم التضحية وتحمل الآلام. وهي الحرية التي يتمتعون بها عندما يفكرون لأنفسهم، التي تقنعهم بوجاهة السبب الذي من أجله يحاربون، وهذا كله هو الذي يصح من أجله القول بأنهم متى وافقوا على أن يحاربوا من أجل الحرية، فأنهم يوالون الحرب بشجاعة وقوة، حتى يفوزوا
إنها الديمقراطية التي علمت الإنكليز أن يكرهوا الحرب. وهي هي نفسها التي تعلمهم كيف يقاتلون، وذاك لأنهم يعلمون السبب الذي من أجله يحاربون. أما الدول الدكتاتورية، فالناس لا يدرون: لم يقاتلون؟ وهم هناك يغذون بالأكاذيب والتأريخ الزائف، فلا يجدون مناصاً من الاعتقاد به. وليس ثمة في وقت السلم ما يؤدي إلى ثلم هذه العقائد؛ أما في أوقات الحروب فإنهم يرون أن زعماءهم غذوهم بالأكاذيب والوعود الزائفة؛ وهذا يؤدي بهم إلى فقدان الثقة بالحكومة التي أخطأت قيادتهم، وينتهي بهم الأمر بأن يصيروا عاجزين عن معرفة ما يجب أن يعتقدوه، وهذا يؤثر في روحهم المعنوية كمحاربين، لأنهم متى فقدوا الثقة والعقيدة فقدوا معها الشجاعة والقدرة على تحمل الآلام.
ألا أن من واجب بريطانيا أن تشكر (الديمقراطية) شكرا جزيلا، فهي التي أكسبتها حروبها السابقة، وهي التي سوف تكسبها حربها الحاضرة، التي هي أكبر من كل حرب مضت
م. ح(403/31)
على هامش حادث أليم
للأستاذ عبد الله حسين
روعت البلاد بالحادث الأليم الذي ذهب ضحيته القائمقام محمد شكيب بك؛ إذ أن الناس لا يزالون حين يعرضون لتفصيلات الحادث، تتجاذبهم النواحي المختلفة، وتجيش في صدورهم المعاني والعبر التي انطوت عليه. ولا شك أن كل قارئ قد نظر إلى الحادث النظرة التي تتفق وما شهده من أمثاله وما انتهى إليه من الدراسات والعلوم، وقابل بينه وبين ما وصل إلى مسامعه من أشباهه
ولا مراء في أن من الصور التي يعرض لها الخاطر معاني الانتقام والريبة والوسوسة وضعف السيطرة على الأعصاب، والصلات القائمة بين الرجل والمرأة، وبين القريب وقريبه، وبين الصديق وصديقه، وبين الرجل وعدوه، والوسائل التي تعالج بها المشكلات الإجماعية، حتى يسع المجتمع القضاء على ما يخالف القانون والآداب، وذلك بإزالة البواعث التي تؤدي إلى ارتكاب الجرائم واقتراف الآثام
ومن واجب المصلحين أن يتناولوا بالتفكير والدراسة علل المجتمع، وخاصة إذا ما نزلت كارثة، أو راع الناس خطب عظيم
ولما كان المقام لا يتسع للإفاضة في كل ما انطوى عليه ذلك الحادث الذي ذهب ضحيته ضابط كبير وشاب في مطلع الشباب، بل ذهبت ضحيته فتاة كانت لها آمال في حياة زوجية، وفزع من أجله صديق برئ لا ناقة له في الحادث ولا جمل، اللهم إلا رفقة تبرع بها كرهاً؛ فإننا نحاول في هذه الكلمة أن نعالج معنى من هذه المعاني التي قدمنا الإشارة إليها. ذلك أنني عرفت منذ بضع سنوات أحد الموظفين الذين لم يوفقوا في حياتهم الزوجية لأسباب تتعلق بما كان يملأ رأسه من بواعث الوسوسة والإسراف في سوء الظن، وأن بعض الظن إثم
كان صاحبي هذا يستريب من كل شيء، ويشك في كل حركة، لأنه مصاب بآفة سوء الظن في خلق الله جميعا وفي مقدمتهم المرأة. فكان يعود فجأة إلى داره لكي يقف على ما تفعله زوجه: أظلت قابعة في الدار، أم خرجت على غير انتظار؟ وهل بقيت في ثيابها المنزلية، أم ارتدت ثوبا نظيفا؟ فإذا رآها فعلت ذلك، أطلق لسانه فيها متسائلا عن سر النظافة(403/33)
ودواعيها، ذاكرا أن هذا لابد قد دعا إليه رغبة في نفسها لكي تلفت أنظار الرجال إليها
فإذا أجابته أنها داخل الدار حيث لن ترى من الرجال غيره، مضى إلى النافذة المحكمة الإغلاق ونظر إلى الشارع، حتى إذا لمح الشرطي يقف هنيهة أمام الدار ويلتفت صعداً قال الزوج لزوجته: هاهو الشرطي يقف أمام دارنا ويحدق نظره في النافذة! إنه عشيقك، ولا شك، وهو ينتظرك ويريد منك أن تتحدثي إليه. . . هاهو يبتسم. إنه يبتسم لك. يا فاجرة. . .
فإذا حدث أن كانت أن تصحب هذه الزوجة زوجها إلى زيارة أقاربها، أطلق لسانه، كلما مر برجل ينظر أليهما نظرة عارضة، مشيراً إلى أن الناظر رجل يعرفها وتعرفه، وأنه يومئ إليها لحاجه في نفس الشيطان!
وهكذا كان أسلوب حياة الزوجين يجري يومياً على هذا المثال، حتى وقع ما ليس منه بد، وهو الطلاق والفراق إلى حيث لا تلاق، حتى آثرت الزوجة المطلقة أن تفر من مطلقها إلى واق الواق. . .!
تلك صورة من صور بعض الأزواج، وتلك حال زوجاتهم معهم، ومن العسير أن يقف الناس على حقيقة، فأن الناس مطبوعون على إساءة الظن بالمرأة ظالمة كانت أو مظلومة
ومن أجل ذلك وجب على الذين يتتبعون عورات المجتمع، ألا تفوتهم دراسة النواحي المختلفة، ألا يتعجلوا بتصديق كل ما يروى، فأن الحياة مليئة بالغرائب والمدهشات والشذوذ. ومن الإساءة إلى الحق وإلى الإصلاح المنشود، أن يستقر الرأي على عقيدة لم تهد إليها دراسة صادقة، ولم ينته إليها تفكير صحيح وإنما بعث عليها وهم قديم أو ظلم مقيم.
عبد الله حسين(403/34)
مرثية محمد محمود باشا
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
دَفَنَتْ وَرَاءكَ فَجْرَهَا الأَيَّامُ ... سِيَّانِ بَعْدَكَ ضَحْوَةُ وَظَلاَمُ!
نَفَضَ الردَى مَعْنَى الحَيَاةِ بِخَاطِرِي ... حَزَناً، وَمَاتَتْ في دَمِي الأنْغَامُ
لاَ اللَّيْلُ مَسْحُورُ السُكونِ، وَلاَ الضُّحىَ ... كَجَبِينِ مَجْدِكَ آلِقُ بَسَّامُ
أَنَا ذَلِكَ الطَّيْرُ الّذِي خَلَّفْتَهُ ... وَلَظَى الْهَجِيرِ لِنَوْحِهِ إِلْهامُ
تَرِدُ الأَسَى شَبَّابَتِي فَكأَنَّهَا ... حطَبُ يُجَاذِبُ صَفْحَتَيْهِ ضِرَامُ
وَكَأَنَّ عُمْرِيَ زَهْرَةُ بَرَّيَّةُ ... لاَ الظِّلُّ يُنْعِشُهَا وَلاَ الأَنْسَامُ
وَكَأَنَّ رُوحِي في الدُّجى صَبَّارَةُ ... بَيْنَ الْقُبُورِ حَدِيثُهَا إِعجَامُ
سُقِيَتْ بدَمْعِ الثاكِلينَ فَأَطْرقَتْ ... ثَكْلَى تفَزِّعُ صَمْتَهَا الأَحْلاَمُ
ماذا دَهَى وَتَرى وكانَ مُجَلْجِلاً ... بِعُلاَكَ تَنْقُلُ شَدْوَهُ الأجْرام؟
شَلَّتْ عَلَيْهِ أنَامِليِ وَتَمَلْمَلَتْ ... كَبَدِي وَغَشّتْ حَيْرَتِي الآلام
فَوَجِمْتُ كالمَأخُوذِ أيُّ بَقِيَّةٍ ... لِلْوَعْيِ تَنْشُدُهَا بهِ الأوْهَام!
أرْثِيكَ، يَا لِخَطِيئَة الدُّنْيَا وَهَلْ ... يَرثِي المَعَانِي الشُّمَّ فِيكَ كَلاَم
ضَجَّ الأثِيرُ وَقَدْ رَمَى النِّاعي بهِ ... خَبَراً لَدَيْهِ انْشَقَّتِ الأفْهَامُ
وَالنيَّلُ كادَ جَوَى تَمِيدُ ضِفَافُهُ ... وَتُصَوَّحُ الرَّبَوَاتُ وَالآجَامُ
وَالشْرقُ جَلَّلَهُ السَّوَادُ، فَقُدْسُهُ ... دَامِي الحَشَا، وَعِرَاقُهُ، والشامُ
وَالأرْزُ مُرْتَعِشُ الضَّفَائرِ ذَاهِلُ ... بَثَّتْهُ نَارَ جِرَاحِهَا الأهرامُ!
أمُحَمَّدٌ كَذَبَ النُّعاةُ فَلَمْ يَمُتْ ... مَنْ رِيعَ يَوْمَ فِرَاقِهِ الإسْلامُ
وَمَن التَقَتْ مِصْرٌ وَرَاَء رِكابهِ ... شِيَعاً يُؤَلَّفُهَا أسىً وَوئَامُ
وَمَن اصْطَفاهُ المجْدُ حَتِّى لَم يْكُنْ ... إلاّ لهُ صَرْحُ النُّجومِ مَقَامُ
وَمَن انتَضَى الأخْلاَقَ سَيْفاً شَرْعُهُ ... أنَّ الغُمُودَ عَلَى السُّيُوفِ حَرَامُ
وَمَن اسْتَعارَ النُّورُ حُجَّتَهُ فَلاَ ... زَيْفُ وَلا رَهَبْ وَلاَ إبْهَامُ
وَمَن اسْتَجارَ القَيْدُ حِينَ أذَاقَهُ ... لَهَباَ يَؤُزُّ جَحِيمَه الإقْدَامُ
وَمَن النّزَاهَةُ كالضُّحَى لاَ رَأيُهُ ... يَزْوَرُّ عَنْ فَمِها ولا الأحكامُ(403/35)
وَمَن الحَدِيدُ يُفَلُّ دُونَ عِنَادِهِ ... إنْ رِامَ كَيْدَ بِلادِهِ ظَلاّمُ
فَلَكٌ يَهابُ الدَّهْرُ بَأسَ مَدَارِهِ ... دَارَتْ عَلَيْه بِضَعْفِها الأسْقَامُ
وَطَواهُ مَنْ حَصَد السِّنِينَ بِمِنْجَل ... ضَافِي الجَلالِ يُقالُ عَنْهُ: حِمَامُ!
قَدَرٌ رَمَي قدَراً عَلَى رَاحَاتِهِ ... يَبْيَضُّ مِنْ لَيلِ الخُطوبِ قَتَامُ
وَأتَاهُ وَالأيامُ حَوْلَ سَرِيرِهِ ... أيْدٍ يُرَقرِقُ طُهْرَهَا الإحْرَامُ
تَدْعُو السَّماَء لعَلَّ كَفَّ طبِيِبهِ ... رَغْمَ القَضَاءِ يَعُودُهَا الإلْهامُ!
وَالّليلُ تَجْأرُ بِالدُّعاءِ نُجُومُهُ ... وَيَئِنُّ تَحتَ قِبابهِ الإظْلامُ
واَلعائدُونَ الجَازِعونَ حَدِيثُهُم ... كَدُمُوعِهِم بَاكِي الصَّدَى هَمْهامُ
وَالقَصْرُ مَخْنُوقُ السَّكِينَة شَارِدٌ ... سَجَّاهُ فِي لَهَبِ الذُّهولِ مَنَامُ
هَتَكَ الرَّدَى أستارَهُ، فإذا به ... قَلْبٌ يُمَزَّقُ صَفْحَتَيِهِ حُسَامُ
وِإذا (مُحَمَّدُ) أُمَّةٌ مَحْمُولَةٌ ... فَوقَ الرِّقَابِ تَلُفْها الأعْلاَمُ
وَقَصِيدَةٌ دَهْرِيَّةٌ يَبْلَى البِلَى ... وَنَشِيدُهَا تَجثُو لهُ الأيَّامُ
مَنْ كانَتِ الدُّنيَا تَهَابُ جِوَارَهُ ... أمْسَى يُجَاورُهُ حَصىً وَرِجَامُ
يَا زَيفَ هاتِيكَ الحَيَاةُ! وَيَالَها ... دُنيا حَقَائِقَ سِرَّها أوْهَامُ!
لَمَحَتهُ صَحْرَاءُ الإمامِ فَأوْشَكَتْ ... يَخْضَرُّ في يَدِها بِلَى وَرِمَامُ
وَتَنَفَّسَتْ نَفَسَ الرَّبِيعِ كأنما ... فَضَّتْ فَوَاغِمَ عِطرِهَا الأكمامُ
وَكأنها ظَمأى إلى نَبْعِ الْهُدَى ... وَالطُّهْرِ يُقْلِقُهَا صَدىً وأوَامُ
لَمَحَتْهُ فارْتَجَزَتْ مَسَابحُ رَمْلِهَا ... لَحْنَ الجَلاَلِ وَكَبَّرَ النُّوَّام!
وَتَوَاكَبَ الشُّهَدَاءُ أيَّ مُوَدَّعٍ ... هَذا الّذِي خَفُّوا إلَيْهِ وَقَامُوا؟
وَقَفُوا مَع التَّأرِيخِ صَوبَ رِكابِهِ ... يَحْدُوُهمُ التَّقْدِيسِ وَالإعْظام
والشَّمسُ شَلاءُ الشُّعَاعِ بَكى لها ... لَمَّا بَكَتْكَ إلي المَغيب غَمام
غَرْبِيَّةٌ وَدَّتْ لَوْ انْشَقَّ الدُّجى ... وَأضَاَء لَيْلَكَ طَرْفُهَا السَّجَّام
لِمَ لاَ وَمَجْدَُكَ سَارَ في أبْرَاجِهَا ... وَعُلاَكَ مِنْهَا يُرْتُجَي وَيُرَام!
يَا مُرسِل النَّظَرِ البَعِيدِ بِخاطِرٍ ... في غَيبِهِ تَتَعَثّرُ الأحْلام
قالوا السِّياسَةُ قُلْتُ كانَ بهَوْلِها ... الفَارِسُ المُتَجَبِّرُ الِمقدَام!(403/36)
قالوا الأمَانَة قلتُ تِلكَ صَحِيفةٌ ... سَيَظَلُّ يَقْرَأهُ بها الأقْوام!
قالوا الصَّراحَةُ قلتُ رِيحٌ عاصِفٌ ... بِيَدَيْهِ لا رَيْثٌ ولا إحْجام!
قالوا النَّزَاهَةُ قلتُ تَلكَ شِهادَةٌ ... سِيَّانِ فيها الصَّحْبُ والأخْصَام
قالوا النَّبالةَ قلتُ أرْوَعُ آيةٍ ... فِيهِ يُسَاجِل نُبْلها الحُكام!
قالوا البيانُ فَقِلتُ عِفةُ مَنطِقٍ ... لَمْ تَقتَرِبْ من طُهرِهَا الآثَام!
قالوا النَّدَى فأجَبْتُ واهِبُ عُمْرِهِ ... للنِّيل تَعْرِفُ جُودَهُ الأيَّام!
قالوا عُهودُ الشرق قلت شَأتْ بها ... لِلخافَقْينِ عَلَى يَدَيْهِ ذِمَامُ
في الدِّينُ في الأخلاق في الحُرَمُ التي ... نَادَى بها لِلعَالَم الإسْلاَمُ
قالوا. . فقال المَوْتُ أصْبَحَ سِيرَة ... سَتَظَلُّ تَرْوِى سِحْرَهَا الأهْرَام
وَأظَلُّ أقْبَسُ مِنْ ظِلالِ خُلودِهَا ... مَجداً تُرَقْرِقُ خَمْرَهُ الأنْغامُ
وَتَذُوبُ رُوحيَ كُلّمَا نَادَتْ بهِ ... مَن ذَلِك السَّارِي عَلَيْه سَلامُ
محمود حسن إسماعيل(403/37)
مجد بغداد
للأستاذ محمود رمزي نظيم
في سنة 1936 زار مصر وفد عراقي كان بين رجاله شاعر
العراق الكبير الأستاذ معروف الرصافي وألقى قصيدة حيا بها
مصر، ودعا الأستاذ محمود بسيوني رئيس مجلس الشيوخ
يومئذ ورئيس الرابطة العربية الوفد العراقي إلى داره بحدائق
القبة، ونظم صاحب الإمضاء هذه القصيدة يحي بها العراقيين
وشاعرهم، ولم تسمح الظروف بإلقائها ولا بنشرها. وقد رأى
تسجيلها اليوم في الرسالة لتخلد بخلود هذه الصحائف
أهلا بسادة بغداد وشاعرها ... من شاد بالشعر ركناً في مفاخرها
تهز أعطافها تيهاً قصائده ... لما يصور فيها من خواطرها
في نهضة بعثت بغداد ثانية ... دار السلام لباديها وحاضرها
وآمنت برسول المجد أمتها ... والمجد ما زال يجري في مشاعرها
الهاشمي دعاها يوم صافحها ... بدعوة هي نور في بصائرها
هيهات تذهب بغداد وما صنعت ... والله خلد غراً من مآثرها
تلك الرصافة قد عادت مباهجها ... والحسن في الجسر مجد في سرائرها
ونهر دجلة فياض كعادته ... في المجد يربط ماضيها بحاضرها
فكم ليالٍ تغنت في شواطئه ... أصغى الزمان إلى تطريب زامرها
وكم حديث كأزهار الربيع بها ... يفيض في الحي من الهام سامرها
وكم مجالس علم حوله عقدت ... تجلو القرائح فيها عن جواهرها
واهاً لأيام إخوان الصفاء بها ... وللرسائل تتري في محابرها
قد خلد المجد والتاريخ شاعرها ... والعلم والنور من تخليد ناثرها(403/38)
بالدين والعلم قد سادت أوائلها ... وهكذا الحال يجري في أواخرها
واليوم عادت لبغداد مظاهرها ... بالجيش أو طائرات في حظائرها
قامت لتحمي من الدنيا كرامتها ... كرامةُ الناس أمست في عساكرها
يا من نزلتم ضفاف النيل تشبهها ... حول الفرات ضفاف من نظائرها
أرض تآخت بغرس في منابتها ... كما تآخت شعوب في حواضرها
وفد العراق بلاد النيل ترفقه ... كأنما هو نور في نواظرها
إن القلوب التي سُرَّت بمقدمه ... تترجم اليوم من أعلى منابرها
بني العروبة حييتم برابطة ... تهدي تحيتها في دار كإبرها
دار إذا حلت الأضياف ساحتها ... قامت تهلل ترحيبا بزائرها
أهدي التحية تقديراً لشاعركم ... إن العروبة في زهو بشاعرها
بالأمس قد عطرت مصراً بتحيته ... واليوم يسمع منا مثل عاطرها
(الجيزة)
أبو الوفاء
محمود رمزي نظيم(403/39)
رسالة النقد
الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي
تأليف الدكتور زكي محمد حسن
للدكتور محمد مصطفى
لهذا النقد قصة أطرف بها قراء الرسالة قبل أن أمضي فيه.
وذلك أن المؤلف قد طلب مني أن أكتب عن هذا الكتاب
تقريظاً بالإنكليزية في مجلة الآثار القبطية. فلما قرأته رأيت
فيه مآخذ لا يسمح لي الضمير العلمي أن أسكت عنها، ورأيت
من اللياقة أن أطلعه عليها، فتظاهر باغتباطه لتمحيص الحق،
ولكنه لم يكد يعلم أن النقد أوشك أن ينشر في المجلة حتى
نسى أخلاق العلماء، فحاول أن يمنع المجلة من نشره، وسعى
إلي بالصداقة مرة وبالعداوة أخرى أن أكف عن نشر النقد أو
أعدل فيه، فنزلت بعد لأي على حكم بعض الأصدقاء وحذفت
من النص الإنجليزي بعض الفقرات ولكني رأيت واجب
الأمانة العلمية يقضي بإيثار الحقيقة على الصداقة فعزمت على
نشره كاملا في الرسالة
بدأ المؤلف كتابه ببيان عن الأسرات التي حكمت إيران، ثم أعقبه بالكتابة عن مقام إيران في تأريخ الفنون، وتلا ذلك بتقسيم الطرز الإيرانية في الفن الإسلامي إلى الطراز العباسي، والطراز السلجوقي، والطراز الإيراني المغولي أو التتري، والطراز الصفوي، متناولا(403/40)
العمارة والخط والتهذيب والتصوير والتجليد والسجاد والخزف والمنسوجات والتحف المعدنية والزجاج والخشب في كل من الطرز السالفة الذكر؛ وخرج من ذلك إلى الكلام عن العناصر الزخرفية الإيرانية في العصر الإسلامي، وتأثير الفن الإيراني الإسلامي على الفنون الأخرى، واختتم ذلك بذكر بعض ميزات الفن الإيراني. وألحق بكتابه بابًا ذكر فيه المراجع، وتلاه بكشاف عام، وفهرس للوحات، ثم أورد اللوحات وخريطة لإيران
وقد كانت إيران كما يقول المؤلف في كلامه عن مقام إيران في تأريخ الفنون (ص11): (ملتقى الفنون القديمة في الشرق الأدنى، ونمت فيها أساليب فنية، تأثرت بفنون بابل وأشور ومصر والهند وبلاد اليونان، وانتشرت في العصور القديمة والعصور الوسطى، وأثرت في فنون الأمم الأخرى)
وكان لفتح الإسكندر الأكبر لإيران، ولأمراء الإغريق الذين آلت إليهم إمبراطورية الإسكندر، أثر كبير في نشر الثقافة الإغريقية في الشرق الأدنى. ثم استولت دولة بني ساسان على مقاليد الحكم في إيران منذ سنة 224 ميلادية، وقضى ملوكها السنين الطويلة في حروب ومناوشات مع الدولة البيزنطية في الغرب إلى أن جاء الفتح الإسلامي ووضع حدا لذلك
ويقول المؤلف (ص12): (ولم تكن تلك الحروب الطويلة في العصر الساساني تمنع الشعب من العناية بالفنون الجميلة بل كانت من أهم عوامل الاتصال بين الشعبين العظيمين في ذلك الحين: الإيرانيون (كذا) والإغريق، فزاد التبادل الفني رغم أنف الفريقين، وتسرب إلى فنون بيزنطة كثير من الموضوعات الزخرفية الإيرانية، ولم تلبث هذه الموضوعات أن اندمجت في الفنون البيزنطية اندماجاً تاماً. ثم نقلتها أقاليم البحر الأبيض المتوسط التي كانت تابعة لبيزنطة في ذلك الحين. ويبدو ذلك واضحا في زخارف كثير من المنسوجات التي عثر عليها المنقبون عن الآثار في مصر العليا، كما يظهر أيضا في كثير من الزخارف التي استخدمت في العصر القبطي، ولا سيما الرسوم المحفورة في الحجر والخشب)
ولكن المؤلف لم يذكر في هذا الفصل شيئا عن مدى هذا (التبادل الفني) بين دولة بني ساسان من جهة وبيزنطة ومصر من جهة أخرى، ولا عن نوع هذه (الأساليب الفنية) و(403/41)
(الموضوعات الزخرفية الإيرانية)، بل لم يذكر شيئا عن ذلك في أبواب كتابه الأخرى إلا ما كتبه في بابي المنسوجات والتحف المعدنية عن بعض أنواع الزخارف وأشكال التحف الفنية. وقد كنا نود أن نعرف مبلغ هذا التبادل في الأساليب الفنية ومقدار تأثيرها في الفن الإسلامي، إذ أن الإسلام أخذ الشيء الكثير من هذه الأساليب مجتمعة أو متفرقة عن حضارات البلاد التي كانت قائمة قبيل الفتوح الإسلامية، ألا وهي إيران وبيزنطة ومصر، وكون لنفسه منها فنا ذا شخصية خاصة به
أما عن تقسيم الطرز الإيرانية في الفن الإسلامي إلى أربعة طرز مبتدئاً بالطراز العباسي فالسلجوقي فالإيراني المغولي أو التتري ثم الطراز الصفوي، فأن المؤلف لم يذكر لنا الأسباب التي جعلته يفضل هذا التقسيم. وإني لا أتفق مع المؤلف فيما يخص بالطراز العباسي، إذ أن هذه التسمية لا تطابق التقاليد الفنية التي ورثتها إيران عن الساسانيين، لأن حالة سائر الفنون الإيرانية فيما قبل العصر السلجوقي ظلت - كما قال المؤلف في ص214 - (مدة طويلة لا تعرف من التجديد ما يخرجها تماما من دائرة الأساليب الفنية الساسانية). ففي العمارة (ص44) (تطورت الأساليب الساسانية تطورا بطيئا)، وفي التصوير (ص84) أولى مدارس التصوير هي مدرسة العراق أو المدرسة السلجوقية، وفي السجاد (ص148): (أن أقدم السجاجيد الإيرانية المعروفة ترجع إلى العصر السلجوقي) وفي الخزف (ص161) (كانت صناعة الخزف من أهم الميادين التي حاز فيها الإيرانيين المكانة الأولى بين الأمم الإسلامية)، وإذا استثنينا الخزف ذا البريق المعدني الذي اختلف مؤرخو الفن في موطن صناعته - إيران أو مصر أو العراق - فإن أنواع الخزف الأخرى حافظت كلها على الأساليب الفنية الإيرانية، وفي المنسوجات (ص214): (إن صناعة النسيج في إيران ظلت في القرون الأولى بعد الإسلام متأثرة بالطراز الساساني)، وفي التحف المعدنية (ص238) (أن ما صنع منها في العصر الإسلامي ظل محتفظا بالأساليب الفنية الساسانية إلى حد كبير)
ومن العبارات السابقة المنقولة من كتاب المؤلف نجد أن الأستاذ زكي محمد حسين نفسه يعترف باستمرار أثر الفن الساساني في إيران في القرون الأولى من العصر الإسلامي
وإذا استعرضنا تاريخ إيران في العصر الإسلامي نجد أنها ظلت تحت الحكم المباشر للدولة(403/42)
العباسية في بغداد إلى سنة 205هـ (820م) أي سبعين سنة فقط. فقد قامت في إيران بعد ذلك عدة دول كان بعض أمرائها يدعون أنهم من نسل الساسانيين، وكانوا يشجعون الشعراء والفنانين على إحياء التقاليد الفنية الساسانية وقرض الشعر باللغة الفارسية، فظهر بينهم (رودكي) عميد شعراء الفرس، وكتب الفردوسي ملحمته (الشاهنامة) وهذه الدول هي: الطاهرية والصفارية والسامانية ودولة بني بويه
ويقول المؤلف (ص17): أن الطراز العباسي في إيران يمتاز في الفنون التطبيقية أو الفرعية باستخدام الموضوعات الزخرفية الساسانية مع تهذيب بسيط يجردها في بعض الأحيان من العنف والقوة
وهذا يقارب في مجمله - وإن كان يتناقض في الموضوع - مع ما قاله الأستاذ بوب من أن الطرز الإيرانية أيام حكم الخلفاء العباسيين، استمرت تظهر في صفات الحماسة والبطولة الساسانية، فكل شيء كان بسيطاً وجريئاً وقوياً. . . وفي جهات معينة من إيران تحكم خلق البساطة والقوة هذا في الفنون خمسة قرون أخرى بعد الفتح الإسلامي
وإذا بحثنا في إيران عن تأثير الطراز الإسلامي - أو بعبارة أخرى طراز سامرا (838 - 883م)، وهو أول الطرز الإسلامية الحقة - نجد أن هذا الطراز الجديد في الإسلام يظهر في إيران بعد هجر سامرا بمدة طويلة، أي في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وذلك في جامع نايين، وقد قال الأستاذ بوب في ذلك:
(حوالي سنة 1000 للميلاد نجد الطراز الجديد مجسماً تجسيماً بديعاً في الزخارف الجصية في نايين، وأخذت هوامش نسخ القرآن الشريف تغنى بالرسوم الدقيقة؛ وفي هذا الوقت بدأت تختفي التقاليد الساسانية في الحيوانات الخرافية، ولكن قوة الفن الساساني لم تنهك بعد، بل استمرت في التعبير عن نفسها في الأشكال القوية النبيلة من الأواني النحاسية التي كانت تنادي بما ورثته من شعب الأبطال الساساني بالرغم من التكفيت (التطعيم في النحاس) الذي كانت غنية به، ولا تزال الموضوعات والزخارف الساسانية ترسم إلى يومنا هذا)
ومما تقدم يتبين أن اصطلاح (الطراز العباسي) لا يمكن إطلاقه على الفن الإيراني فيما بين الفتح الإسلامي لإيران والعصر السلجوقي، وكذلك لا يمكن إطلاق اصطلاح (عصر(403/43)
الانتقال) على هذه الفترة لأن التأثيرات الساسانية الفنية - كما رأينا - استمرت حتى بعد ذلك العصر. وإني اقترح لهذه الفترة استعمال (العصر الإسلامي الأول) وهو نفس التعبير الذي يستعمله مؤرخو الفنون الإسلامية الذين اشتركوا في كتابة كتاب عند تقسيم كلامهم في الموضوعات المختلفة عن الفن الإيراني في العصر الإسلامي
وإذا رجعنا إلى كلام المؤلف نجد أنه لم يستعمل اصطلاح (الطراز العباسي) في كتابه إلا في موضعين اثنين: أحدهما (ص17) عند تقسيم الطرز الإيرانية، والثاني (ص290) حين تكلم عن (أثر إيران في الطراز الإسلامي العباسي). أما في باقي أبواب كتابه فلم يحافظ على هذه التسمية، بل استعمل اصطلاح (فجر الإسلام) متأثرا في ذلك - كما يبدو لي - بطريقة
وفي كلام المؤلف عن الطراز السلجوقي قال في (ص24) (أجل، وفق الخزفيون بمدينة الري في القرن السادس (منتصف القرن الثاني عشر الميلادي) إلى صناعة الخزف ذي البريق المعدني ويسمونه مينائي)
وأظن أن هذا غير ما يقصده المؤلف، لأن الخزف ذا البريق المعدني نوع أخر يختلف عن الخزف المسمى مينائي كما ذكر ذلك فيما بعد (ص168، 189). وأظن كذلك أن المؤلف يقصد هنا النوع الثاني فقط، لأن الخزف ذا البريق المعدني معروف منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) (ص172)، ولأن نسبته إلى إيران لا تزال موضع خلاف بين مؤرخي الفنون (ص169)، وفضلا عن ذلك يقول الأستاذ بوب إن نوع الخزف في البريق المعدني في مدينة الري (أخذ في الانحطاط المستمر منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، وبما يرجع ذلك لسببين: ازدياد ضغط مزاحمة الخزف ذي البريق المعدني المصنوع في مدينة قاشان، وارتقاء صناعة جديدة في نوع معين من الزخارف على الخزف، قدر لها أن ترفع الفن إلى منتهى درجات الكمال) إلا وهي صناعة الخزف المسمى (مينائي)
والآن إذا حذفنا كلمات (الخزف ذي البريق المعدني) من جملة الدكتور زكي السالفة الذكر، فأن العبارة التي تتلوها في كتابه لا تتناسب تماما في معناها مع وصف الخزف من نوع (مينائي)(403/44)
وفي كلام المؤلف عن العمارة يقول (ص50) تحت عنوان (العقد المدبب الإيراني)، (وفي القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ذاع استخدام العقد المدبب، والذي أصبح من ميزات العمارة الإسلامية. وسرعان ما عم استخدام العقد المدبب في كل العمائر الإيرانية وصار ينسب إلى إيران)، وكذلك في (ص290) يقول المؤلف: (ويمكننا أن نتبين الأساليب الفنية التي انتقلت منها (بغداد) إلى سائر الأقطار الإسلامية، والتي لاشك في أنها إيرانية الأصل، ومن ذلك العقد المدبب)
ولم يذكر لنا المؤلف هنا المراجع التي اقتبس منها والتي جعلته يقطع بأن العقد المدبب إيراني الأصل، مع أنه ذكر بين المراجع التي جمعها في آخر الكتاب عدة كتب عن العمارة. يقول الأستاذ كريسويل في أحدهما ما يأتي: (وهكذا يتبين أن السبعة نماذج الأولى من هذا الشكل (العقد المدبب) توجد كلها في سوريا، وبناء على هذه الحقيقة يجب أن لا نأخذ بآراء الأساتذة رودوكانا كيس وديسو وديل وهرتزفلد الذين يقولون أن العقد المدبب إيراني الأصل)
وهذا رأي جدير بالاعتبار في أن العقد المدبب ليس إيراني الأصل. وقد كنا نود لو أن المؤلف ناقش هذا الرأي لنعلم الأسباب التي جعلته يقطع بأن العقد المدبب إيراني الأصل. وكذلك في كلامه عن الأقباء والقباب والمآذن والمقرنصات لم يذكر من المراجع سوى (دائرة المعارف الإسلامية)
وعلى ذكر المراجع أقول: إنني عندما لاحظت قلة عدد المراجع التي ذكرها المؤلف في حواشي كتابه بالنسبة للعدد الكبير من المراجع التي جمعها في آخر الكتاب، رأيت أن أعدها بنفسي على سبيل العلم بالشيء، فوجدت أنه ذكر في حواشي الكتاب واحدا وستين مرجعاً فقط من المئتين والثلاثة والعشرين مرجعاً المذكورة في آخر الكتاب. وقد كان بودي لو أن المؤلف أكثر من كتابة الحواشي وذكر المراجع التي أخذ منها لتعم الفائدة العلمية. وبهذه المناسبة أقول أن عدد المراجع 221 لا 223 لأن المرجع رقم 4 تكرر في رقم 19، والمرجع رقم 126 تكرر في رقم 130. وإذا أضفنا إلى هذه المراجع 64 مرجعا أخر ذكرها المؤلف في حواشي الكتاب ولم يذكرها مع المراجع في آخره، وكان عدد المراجع التي جاء ذكرها في هذا الكتاب 285 مرجعاً.(403/45)
(له بقية)
محمد مصطفى(403/46)
البريد الأدبي
حول العصبية في الجماعات الدينية
يا أخي الأستاذ الزيات
السلام عليكم
قرأت الآن مقالك (العصبية داؤنا الموروث) فرأيته نفثة من عربي مصري مسلم يأسى لما جره الخلاف على قومه في ماضيهم وحاضرهم، وبطب لهذا الداء بالحكمة والموعظة الحسنة، فدعوت لك ولكل داع إلى الخير فينا، وسألت الله أن يجمع عقولنا وقلوبنا وأيدينا على الحق والخير. ولكني أخذت على الأخ أنه عدد الجماعات الإسلامية في مصر، بعد أن عدد الأحزاب السياسية، يرى أن هؤلاء وهؤلاء أنشأتهم العصبيات وفرقت بينهم. ولست أرى رأيك في الجماعات الإسلامية التي ذكرت؛ فما أحسب أن تعددها لعصبية أو تنافس، ولكن أراه تعاوناً على مقصد عظيم، تتوسل كل جماعة بإحدى وسائله. وحسبك حجة على ما أقول أن هذه الجماعات لا تختلف فيما بينها ولا تتحاسد ولا يفتري بعضها على بعض؛ وكثيرا ما تتعاون في أعمالها، وأن هذه الجماعات لا ينال القائمين بها إلا إنفاق أوقاتهم وأموالهم ابتغاء الخير ولا يطمع أحدهم في جر مغنم نفسه أو نيل سلطان من وراء عمله.
وقد دعا داع إلى توحيد هذه الجماعات فلم ينفر أحد من هذه الدعوة بل تلقتها الجماعات بالتفكير فيها والنظر إلى ما يرجى منها. وإذا رأوا أن توحيد الجماعات أجدى عليهم، وأقرب إلى غايتهم، فعلوا غير مفكرين في عصبية أو هوى أو رياسة أو جاه.
فإن استثنى الأستاذ الفاضل هذه الجماعات من داء العصبيات كان أقرب إلى الصواب، وحسن الظن، والسلام.
عبد الوهاب عزام
يا أخي الدكتور عزام
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء، لأني أعلم أن إخوان (قبة الغوري) لم يتآخوا إلا لجمع شتات المسلمين وأجناسهم على كلمة التوحيد، وهم بطبيعة مبدئهم لا ينفرون من دعوة الاتحاد. أما الجماعات الأخر فأن عندي من أخبارهم ما يدل على أن ما(403/47)
بينهم من التنافس والتحاسد مثل ما بين الأحزاب السياسية من ذلك. ولنا عودة إلى هذا الموضوع
الزيات
شعر ذو وجهين
في أواخر سنة 1940 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك برتبة (باشا) على الوزير العالم الفيلسوف الشيخ مصطفى عبد الرزاق باشا، وغداة ذلك اليوم أسمعني صديقي الشاعر الشيخ أحمد الزين أبياتاً في تهنئة الوزير على مسمع من زملائنا بدار الكتب وحملني أمانة روايتها إلى معالي الوزير - ولعلي فعلت
وفي فبراير سنة 1941 تفضل حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك برتبة (البكوية) على الأديب الكبير الأستاذ أحمد بك أمين، وإذا بمجلة الثقافة تنشر الأبيات نفسها موجهة إلى الأستاذ أحمد أمين بك في عددها الأخير
أما الأبيات فهي:
حبوه بها أم حبوها به ... لقد حرت: أيهما يزدهي؟
وما فخر من ليس بالمنتهى ... على أن تَقلَّد ما ينتهي!!
لقد نلت ما تشتهي من فخار ... ونال بك الفخر ما يشتهي
وليس الشاعر هو الذي (حار) وإنما الحائر
(أنا)
إلى ناقدي لغة في مقالي الثالث
قلت أيها الناقد المشكور: (من النفع والخير أن يخطئ الكبار في حين من الأحايين حتى ينقدوا فتغنى اللغة ويستفيد الناس). وأنا معك فيما تقول، ولكني أزيد: (ومن السهل أن يقال لكاتب عربي قد أصبت، ولكن من الصعب أن يقال له إنك أخطأت). وإنما زدت ذلك لأن لغتنا كثيرة مناحي الصواب، ومن هذه الناحية خذ فيما سألت الجواب:
1 - أخذت على جمع فخور على فخورين بالتصحيح حاتماً أن يكون جمعه على فخر بالتكسير، تريد أن فخوراً وصف مشترك بين الذكور والإناث وما كان كذلك لا يجمع جمع(403/48)
تصحيح، ولكنك نسيت أن هذا الشرط محل خلاف بين النحويين، ولم يكن النابذون له آحادا، إنما كانوا الكوفيين جميعا، وبرأيهم أخذت مؤثراً على رأي البصريين لما في تصحيحه من إزالة اللبس، ولأن في سياق عبارتي من التناظر ما يقتضيه، فهو مسبوق فيها بجمعين صحيحين كما نقلت وهي: (ثم سل تلاميذي الذين تتحدث عنهم يخبرونك بما يفحمك مخلصين صادقين وفخورين بتلمذتهم لي). ألست ترى أني لو قلت: (مخلصين وصادقين وفخراً) لضاع جرس الكلام؟
2 - وأخذت علي إدخال هل في قولي: (فهل لازلت على هذه المباهاة) على ناف وهي لا تدخل على ناف أصلاً محتجاً بقول الرضي، كما أخذت علي في تلك العبارة نفسها إدخال لا على ماض غير مستقبل في المعنى ولم يكرر هو (زال) محتجاً بما بينه المغني. وأنا أسلم بقول الرضي، ولكني لا أسلم بأنها دخلت هنا على ناف، فإن الفعل زال ليس فعلا تاما وإنما هو فعل ناقص يستلزم كسائر أخوته نافياً قبله، ولو حذف لقدرناه، وذلك ليفيد مع هذا النافي الاستمرار ثم هو يكون للمستقبل لا للماضي. ألا ترى أن معنى قولي: (فهل لا زلت على هذه المباهاة) هو: (فهل تستمر على هذه المباهاة). أما إدخال (لا) على ماض غير مستقبل في المعنى إلا مع التكرار ففضلا عن أن المعنى هنا للمستقبل كما تقدم هو محل خلاف، وقد دخلت (لا) في الفصيح على الماضي الصرف من غير تكرار، وقد قال الله تعالى: (فلا أقتحم العقبة)
3 - ثم أخذت على قولي: (ومع هذا فإليك رأيي في تلك المباهاة) فأهما أن (إليك) معناه تباعد وتنح، ولكن له معنى آخر هو خذ وإياه أردت. قال صاحب القاموس وهو يذكر معاني (إلي) ما نصه: (وإليك عني أي أمسك وكف؛ وإليك كذا أي خذه). على أن عبارتي لا تحتم أن يكون (إليك) فيها أسم فعل بل تسعه على أنه جار ومجرور محذوف المتعلق المفهوم هو (أسوق) مثلا والمعنى صالح على التخريجين
هذا ما به أجيب في إيجاز وهو محقق لما تريد من غنى اللغة واستفادة الناس، وإليك سلامي.
السباعي بيومي
المجمع اللغوي وتشجيع الإنتاج الأدبي(403/49)
قررت لجنة الأدب - في المجمع اللغوي - وضع القواعد الآتية لتشجيع الإنتاج الأدبي
أولاً: تؤلف اللجنة العامة للأدب ثلاث لجان فرعية: لجنة للشعر، ولجنة للقصة والرواية، ولجنة للمقالات والبحوث الأدبية من نقد وتأريخ ونحوهما
ثانياً: على كل لجنة من هذه اللجان أن تتقصى الإنتاج الأدبي في الفرع الذي أسند إليها؛ وأن تقدم تقريرا في شهر ديسمبر من كل سنة بملاحظاتها للجنة العامة، يشتمل على سير الحركة الأدبية في مصر والعالم العربي طول العام، وعلى ما يمكن أن يمتاز من الإنتاج في هذا الموضوع امتيازا يقتضي تشجيع صاحبه تشجيعا معنوياً أو مادياً
وعلى اللجنة العامة أن تدرس هذه التقارير في شهري ديسمبر ويناير وتعرض تقريرها على مجلس المجمع في شهر فبراير
ثالثاً: يعقد المجمع جلسة علنية في شهر مارس، تعلن فيها قراراته في ذلك وأسبابها، وينوه فيها بما استحق التنويه به من الآثار الأدبية
رابعاً: ينشئ المجمع بنصف المبلغ المحدد ميزانيته لتشجيع الإنتاج الأدبي جائزتين يمنحان كل عام بعد مسابقة في فرع من الفروع الأدبية يتغير من عام إلى عام
وينشئ المجمع بالنصف الآخر جوائز تمنح لخير ما يكشف من الآثار الأدبية
خامساً: الآثار الأدبية التي تجتاز هي التي تتحقق فيها الشروط الآتية:
(أ) أن يكون الأثر مظهراً للإنتاج المستقل
(ب) أن يأتي في بابه بفائدة محققة
(ج) ألا يكون قد سبق نشره قبل السنة التي تتناولها تقارير اللجان التي سبقت الإشارة إليها
سادساً: لا يجوز لأعضاء المجمع أن يشتركوا في المسابقات ولا يجيزهم المجمع، ولا ينوه بأثر من آثارهم الأدبية
حول مبدع فن المقامات
كثر الكلام في هذه الأيام على نص الآداب الذي يجعل ابن دُرَيد أبا عُذْر المقامات ومبدعها، وقد وقف على هذا النص في هذا العصر الدكتور زكي مبارك أو غيره، وإني وقفت على كلام للشريشي شارح المقامات الحريرية يذكر فيه هذا النص وأرى أن أسوقه هنا وهو(403/50)
هذا: (وذكر الحصري رحمه الله في كتاب الزهر أن الذي سبب للبديع رحمه الله تأليف مقاماته هو أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن دريد قد أغرب بأربعين حديثا ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وأنتخبها من معادن فكره، على طبع العرب الجاهلية، بألفاظ بديعة حوِشَّية. فعارضة البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر والموارد). أنظر ج1 ص12 من هذا الكتاب
محمد علي النجار
من أدب آل عبد الرازق
منذ أيام توفى خادم من خدم بيت آل عبد الرازق، فخرج أهل الفقيد ومعارفه يشيعونه، وخرج فيهم، وسار في مقدمتهم، صاحب المعالي مصطفى عبد الرازق باشا يشيع الفقيد إلى مقره الأخير.
رأى الشاعر ذلك المنظر ففاض إعجابه بهذا المظهر النبيل بهذه الأبيات:
يا مصطفى، إن المكارم لم تزل ... فيكم، ومنكم تستمد جمالها
نشأت ببيتكم، فكانت منكمو ... نسبا، وكنتم في الحقيقة آلها
إن المعالي عند قوم رتبةٌ ... وأراك تشرح للورى أعمالها
أنشر مناهجها على طلابها ... واضرب لنا يا مصطفى أمثالها
علم، فإنك كنت خير معلم ... إن المكارم أصبحت يرثى لها!
تمشى تشيع خادماً مستعبراً ... مستشعرا عند المنون جلالها
وتسير حولك زمرة من جنسه ... ألفوا المذلة واكتسوا أسمالها
أنا ما عجبت فإنني أدرى بكم ... لكن رأيت الناس قالوا: يا لها!
إن قلت: ما أديت إلا واجباً ... قلنا: فمن في مثل فضلك قالها!
عش للمروءة راعيا من بعدما ... يَتِمَتْ وأفنى ذا الزمان رجالها
محمد جاد الرب
ولم يسعه إلا أن يرسل إلى معاليه هذه الأبيات، فتلقى من معاليه الرد البليغ الآتي:
حضرة الفاضل الأديب الأستاذ محمد جاد الرب(403/51)
السلام عليك ورحمة الله وبركاته - أما بعد، فقد تلقيت كتابك البليغ في شعره ونثره، والبليغ في إعرابه عن عواطف نفس فاضلة تسارع إلى التشجيع على مكارم الأخلاق، وتلمح أدنى مظاهر الوفاء فتجعل منها فضلاً كبيراً
ولقد وقع في نفسي أبلغ وقع ما وجهه إلي الأستاذ من كلمات عطف وود، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه، وأن ينفعني ببركة دعائه، ولا يفتنني بعظيم ثنائه. وحيا الله الأستاذ وبياه
مصطفى عبد الرازق
رحلة الشتاء والصيف
كتب الأستاذ أحمد أمين في العدد الهجري الممتاز من مجلة الثقافة (سيرة الرسول في كلمة) وقد جاء في مقالته ما يلي: (وجده هاشم - والضمير يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم - صاحب إيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. سن لهم رحلة اليمن والحبشة في الصيف، ورحلة الشام في الشتاء الخ. . .) وكان مستنداً في هذا إلى قوله تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)
وقد لحظت الخطأ الظاهر في ذلك القول منذ أول قراءتي المقال، ولكنني كنت أظن أن الأستاذ الفاضل سينتبه إليه، ويعود إلى تصحيحه، وقد مرت بضعة أسابيع دون أن يفعل، فرأيت من الخير أن أعود إلى الموضوع منوهاً عنه بكلمتين. بإذن الأستاذ الزيات عجل الله في شفائه
فمن المعروف أن رحلة الشتاء لم تكن إلى الشام، ولا رحلة الصيف إلى اليمن والحبشة، وإنما الأمر بعكس ذلك تماما؛ وليس من المعقول أن يرحلوا إلى الحبشة واليمن في وقد الصيف وحره، أو يقصدوا الشام في برد الشتاء وزمهريره. وقد جاء في الجزء الثاني من (الكشاف) للزمخشري (الطبعة الأولى المطبعة البهية المصرية سنة 1925) صحيفة 561 سطر 30 - 32 في تفسير الآيتين الكريمتين المذكورتين آنفاً ما يلي: (وكانت لقريش رحلتان، يرحلون (في الشتاء إلى اليمن)، (وفي الصيف إلى الشام)، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يُتَعرضْ لهم، والناس غيرهم(403/52)
يُتخَطفون ويغار عليهم) وكذلك في البيضاوي وسائر التفاسير
والمسألة قد تكون من باب السهو أو الهفو، وأغلب الظن أنها كذلك؛ إلا أن الخطأ في مثل هذه الأحوال لا يجوز، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على عدم التدقيق. لذا رأيت المبادرة بتصحيح ذلك واجبا لأنه يتعلق بما جاء في القرآن الحكيم، ويمت إلى تأريخ قريش بأسباب، وسبحان من تفرد بالعصمة
نجدة فتحي صفوة
شرح شافية ابن الحاجب للاسترابادي
جمعت شافية ابن الحاجب زبدة فن التصريف في أوراق قليلة، وشرح الاسترابادي عليها شرح جليل المباحث، جزيل الفوائد؛ جمع بين تدقيق ابن جنى، وتعليل الأنباري، وترتيب المنازني، وتمثيل سيبويه. وقد وفق الله السيد محمود توفيق الكتبي فطبع هذا الشرح الجليل مع شرح فوائده للعلامة البغدادي صاحب خزانة الأدب، بعد أن وكل مراجعة أصوله، وضبط مبهماته، وشرح مفرداته، والتعليق على مسائله، لثلاثة أساتذة من خيرة المدرسين في كلية اللغة العربية فجاء الكتاب على خير ما يحب طلاب العربية من دقة التصحيح، وشدة التمحيص، وجودة الطبع
تصويب
جاء في كلمتي في العدد 401 من (الرسالة) - ص304 ما يأتي: والواقع أنه (أي مفتاح) والصواب: (أي مفاتح)
(أ. ع)
تصويب
وقع نظري في عدد الرسالة الممتاز 400 على تحريف لبعض آي الذكر الحكيم، فرأيت أن أنبه عليه، خصوصاً وقد صدرت الأعداد التي تلته خالية من تصحيح ذلك التحريف
ورد في مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف (ص253) استشهاد بقول الله تعالى: (والأرض جميعا قبضته والسموات مطويات بيمينه) والصواب (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة(403/53)
والسموات مطويات بيمينه)
وفي مقال الأستاذ الدكتور عبد الواحد وافي (ص267) استشهاد بقول الله تعالى: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوماً محصوراً) والصواب (مدحوراً)
أحمد محمد شكم(403/54)
القصص
سكون العاصفة
للأستاذ محمود البدوي
كان خالد أفندي يتردد على مقهى (الحرية) في مدينة المنصورة أصيل كل يوم. ومع أن المقهى يشرف على النيل، ويقع في أجمل بقعة في هذا البلد؛ فإنه لم يحاول مطلقاً أن يملأ عينيه مما حوله من جمال وسحر. . . فهو لم يشاهد منظر غروب الشمس في النيل، ولا طلوع القمر من وراء السحاب، ولا الزوارق الشراعية وهي تسبح في ظل الغسق. . . كما أنه لم يعبر جسر طلخا قط، ويرى من وراء الجسر من مناظر خلابة في مدى السنين التسع التي قضاها في المنصورة منذ أن نقل إليها كاتباً في تفتيش الري!
وكان يجلس على ناصية الطريق زمن الصيف، فإذا جاء الشتاء انتقل مع الجالسين إلى الجزء الشتوي من المقهى على الرصيف الآخر من الطريق، وألقى بنفسه في مكان ضيق يعج بالخلق ويزهق الأنفاس. هذه المقاهي الغريبة المنتشرة في طول البلاد وعرضها تضم خلقاً عجيباً من صعاليك الأرض، ومحترفي النرد، وأصحاب العقول الذهبية الذين يدخلون أنوفهم في كل شيء على ظهر البسيطة، وينتقدون أنظمة الاجتماع الإنساني قاطبة! ويشعرون بأنهم ضحية نظم فاسدة لا سبيل إلى إصلاحها! فما يعوزهم هو شيء خارج عن نطاق البشرية وحدودها! على أن خالد أفندي كان يختلف عن هؤلاء جميعا، فهو رجل قد جاوز بسنه عمر الشباب، وحاد بتفكيره عن تفكير المخبولين!. . . بيد أنه كان يتفق معهم في الحيرة والقلق، والشعور المطلق بالنقص أبدا، ولهذا ظلت حياته تسير على منوال واحد ممل معذب. . . وكان قد أدرك الجيل الذي يتزوج فيه الشبان قبل الأوان، فتزوج معهم وأنجب، وكان زواجه من فتاة طيبة من أسرة كريمة، والأسر الكريمة كثيرة الود، فالزوجة عند عماتها وخالاتها، وخالات عماتها وعمات خالاتها! كما أنهم محط الرحل في المدينة لكل من يشرف المدينة من الأهل والصحب. ولهذا فر خالد أفندي من المنزل إلى المقهى، وقعد على حافة الطريق يرقب الرائحات والغاديات بعين عطشى. . .
ولما امتد لهب الحرب، وكثر عدد المهاجرين إلى الشرق، اكتظت المنصورة بالخلق، وازدحم منزل خالد أفندي بأفراد أسرته من المدن المعرضة لشر الغارات. فلما مضت الأيام(403/55)
على غير حادث، وقفت حركة الهجرة، وسئم المهاجرون تكاليف العيش الجديدة ورجعوا إلى بلادهم بالتدريج، ورحل ضيوف خالد أفندي ورحلت معهم زوجته، فقد رافقت أختها إلى القاهرة. وهكذا أصبح خالد أفندي وحيدا في المنصورة، أو أعزب إلى أجل! وتنفس الصعداء، وشعر بالحرية المطلقة في غدوه ورواحه، وراح يحن إلى أيام شبابه ولهوه
وكانت تمر أمامه، بعد غروب كل شمس، فتاة رائعة الحسن جذابة الملامح، من هؤلاء اللواتي تدفعهن الفاقة إلى العمل. كانت تبيع الحلوى، وتمر على الجالسين في المقهى ضاحكة مازحة. وكانت تخص خالد أفندي ببعض وقتها ومزاحها، لأنه رجل وقور حسن السمعة! وكان يمازحها ويتلطف معها في الحديث. ثم يشيعها بنظراته النهمة. وكان جسمها أكبر من سنها بارز المفاتن رائع التكوين. وفي عينيها بريق وإغراء قل أن يجتمعا في عيني امرأة. وكان خالد أفندي يدرك هذه المحاسن كلها ولكنه كان يرد نفسه عنها تورعا. على أنها لما مرت أمامه في ذلك اليوم تتثنى وتميل بجسمها وعلى شفتيها الرقيقتين ابتسامة، وفي عينيها ذلك البريق الأخاذ استوقفها وابتاع منها بعض الحلوى، وهو يضاحكها ويداعبها. ثم همس في أذنها كلاما فتورد وجه الفتاة، وغضت رأسها. ثم مضت عنه، وهي تهز رأسها ضاحكة وغابت في جوف الظلام
وظل ساكنا في مقعده لحظات. وهو ينفض المكان بعينيه ويرقب! ثم اندفع في الطريق الذي سارت فيه، وقد زاده تمنع الفتاة حماسة وثورة. وأوسع المجال لخطاه لما اجتاز المقاهي المتناثرة على حافة النهر حتى بدأ يلهث ونفض جسمه العرق. يا لله. . . إنه يسير الآن في الطريق الذي كان يتنزه فيه مع زوجه وأولاده مساء كل خميس حتى يبلغوا شجرة الدر! لقد مات الآن في نظره كل شيء وانمحت الذكريات وأسدلت الستر على الماضي كله بخيره وشره. وأصبح لا يرى الآن تحت تأثير العاصفة التي ألهبت جسمه وأشعلت النار في كيانه، غير نساء عاريات سابحات في النهر يتضاحكن ويهتفن به!
وبصر بها وهي تجتاز ميداناً صغيراً على رأس الطريق ينعطف إلى المدينة، فجمع حواسه في باصرته، وانطلق في أثرها
ومضى معها تحت ستار الظلام إلى البيت، ودارت ببصرها في جوانب القاعة في تهيب وخجل. ثم جلسا للعشاء، فأرغمها على الشراب، فزال عنها حياؤها بالتدريج، وتفتحت(403/56)
نفسها، فانطلقت تغني وتتبختر في أرض الغرفة كالطاووس الجميل
ولعباً بعد ذلك الورق وتكدست أمامها أكداس القروش! فرمقته بعينيها وسألته وهي سكرى: (هل تعطيني كل هذه النقود حقا؟) فضحك وطمأنها
وظهر عليها التعب وبدأت تتثاءب. ورف لون وجهها من فعل الخمر، وانفرجت شفتاها، واحمرت عيناها، وثقلت أهدابها وتفككت أوصال جسمها. فارتمت على أريكة بالقرب من المائدة وظلت تحادثه من حين إلى حين، وتنظر إليه بعينيها الناعستين، حتى أحست بلين الفراش فنامت. . .
وبقى في مكانه يحتسي الجمر ويدخن، وعيناه سابحتان في قرار الكأس. ثم رفع بصره إليها وهي نائمة حالمة، وقد تهدل شعرها، وتوردت وجناتها، وظهرت على وجهها كله آيات الطفولة البريئة، وانمحت تكاليف العيش ومظاهر الصنعة من جسمها ونفسها. . . فأشرق روحها وبدت على فطرتها. . . وبان لون جسمها في بياض العاج ونعومة الحرير، وكانت إحدى ذراعيها تحت رأسها والأخرى عند خصرها. . . فتحرك الجسم قليلا وارتفعت الذراع حتى جاوزت العنق، وغاصت الأنامل الرقيقة في الخد المورد، وانحسر الثوب عن الساق، وانزاح الشعر عن الجبين، واهتزت الشفتان قليلا، وتحرك الجسم حركة من يود الصحو؛ على أن الأهداب بقيت مطبقة، والأجفان مسبلة، والنفس هادئاً حالما
ونظر إلى هذه الصورة الرائعة وهو سادر ساهم، فنهض عن مقعده ووقف أمام النافذة المغلقة، وفتح مصراعها، ومر هواء الصيف المنعش على وجهه وأشرف على الليل، وأطل على الوادي الصامت. ورأى لأول مرة في حياته محاسن الطبيعة، وبدائع ما أبدع الله وصور، واعتمد بجسمه على النافذة وبصره يخترق حجب الليل ويعبر النيل والجسر وما وراء الجسر، حيث تتجلى الطبيعة في أروع صورها، وسبحت عيناه في الظلام، واستغرق في تأملاته ومرت في ذهنه صور كثيرة واضحة وغامضة. . . الحرب. . . والغارات. . . والريف. . . والقرية. . . وزوجه. . . وأولاده. . . وشعر بطراوة الهواء ولينه وهو يصافح وجهه، وبجسمه يعود إلى حالته الطبيعية، ورأسه يصفو من فعل الخمر، فانثنى من النافذة، وانطلق يتمشى في أرض الغرفة، وعينيه على الفتاة النائمة ووقف أمامها لحظة. . . ثم انحنى عليها، وحملها على ذراعيه كطفل صغير، ومشى بها إلى مضجعه،(403/57)
وأضجعها على السرير بحنان ورفق، وأسدل على جسمها ملاءة خفيفة، وأبقى وجهها الناضر عاريا، وأنسحب من الغرفة سائرا على أطراف أصابعه!!
ونام على أريكة في الردهة نوماً عميقاً هادئاً تشوبه ألذ الأحلام
محمود البدوي(403/58)
العدد 404 - بتاريخ: 31 - 03 - 1941(/)
يوم الفقير
تفضل صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا فدعاني أمس إلى زيارته في داره بالزمالك؛ ومن طبعي أن أتهيب الزيارة الأولى لأولئك الذين رفعتهم مواهبهم أو مناصبهم عن مستوى العرف؛ لأن اعتيادهم إمضاء الرأي وإنفاذ الأمر بالصوت الرفيع والسلطان القوي أرهف في نفوسهم الحس بما يجب لهم على الناس من أدب الجلوس ومصطلح الحديث. والرجل الذي يلف رأسه الحياء، ويعقل لسانه التزايل، لا يسهل عليه وهو يستمع إليهم أن يعرف متى يصح أن يسأل، ومتى يجوز أن يعارض، ومتى ينبغي أن ينصرف
على أنني كثيراً ما جلست إلى بعض هؤلاء، جلسة التحفظ والاستحياء، فكنت أشعر بعد قليل أن المهابة تنجلي عني، وأن الجلالة تنسري عنه، حتى أزعم لنفسي أني أفهم للموضوع وأجدر بالحديث. ولكن علي ماهر باشا ليس كأحد من أولئك الطبول! إنما هو رجل - كما توسمته من وراء لفظه - ألمعي الذهن يكتفي منك باللمحة الدالة، رصين اللب لا يحرك لسانه إلا بالكلمة المرادة، رفيع النفس لا يسر في مطاوي حديثه عصبية ولا ضغينة. وأخص ما يميز ماهر باشا رسوخ الطبع الاجتماعي فيه. ولعل نبوغه في القانون الدولي العام على الأخص سر من أسرار هذا الطبع. وأصحاب الفكرة الاجتماعية ينفرون من السياسة الحزبية لأنها فردية مجتمعة، ولا يميلون إلى الأعمال المالية لأنها أثرة محتالة. وإذا طُلبوا إلى الحكم نهجوا فيه منهاج الدين من تنظيم أمر الجماعة، وإصلاح حال العامة، على قدر ما يسعه طوق الإنسان الضعيف من توخي الإحسان وإيثار العدل. فإذا خرجوا منه لم يسعوا للدخول فيه؛ لأن السعي للحكم لا يخلو من خطوات في سبيل الشهوة الذاتية والمنفعة الخاصة. لذلك كان أظهر العزائم وأصدقها في وزارتي علي ماهر باشا سلسلة من الإصلاح الجماعي تتحقق على وجوهها الصحيحة في وزارة الشؤون الاجتماعية والجيش المرابط. وكانت حياة الفلاح والعامل موضوع هذا الإصلاح وموضوعه فلو أن طوارق الحدثان نامت عن مصر حيناً آخر من الدهر لكان من الممكن أن يشعر الفقير بأن له حقاً في خير الله، وحظاً من نصيب الوطن. ولكن الحرب التي تتنمَّر أخطارها على الرمال والمياه من حدود (الوادي) لا تتيح لأولي الأمر أن يرصدوا الأهبة كلها لمعالجة الفقر؛ فلم يكن بد من قيام المعنيين بإصلاح الجماعة ليحلوا هذه المعضلة الأزلية بما حلها به الله، فيجمعوا المبرات، ويجبوا الصدقات، وينظموا الإحسان، ويسهلوا العمل، ويوفروا القدرة(404/1)
عليه بمكافحة الجهل والمرض؛ وذلك هو مشروع الزعيم الاجتماعي علي ماهر باشا، سماه (يوم الفقير) وجعله يتجدد في تاريخ بعد تاريخ، ويتحدد في إقليم بعد إقليم، ليكون مظهراً جميلاً لأريحية النفوس المؤمنة المحسنة، تتعاون فيه على الخير، وتتنافس في المعروف، وتقيم ركن الإسلام الخامس
حدثني صاب المقام الرفيع عن سياسته الاجتماعية وما يتذرع لها باليوم الثامن والعشرين من هذا الشهر وما يتلوه من أيام أُخر؛ فسمعت لأول مرة كلاماً له معناه، ومنهاجاً له غايته. وكان الأخلق بمن سمع كثيراً من القول، ورأى قليلاً من الفعل، ألا ببالغ في الثقة ولا يسرف في الأمل، لولا أن صاحب الفكرة وممضيها علي ماهر باشا، وهو رجل لم يجرب عليه الناس لغواً في كلام ولا عبثاً في فعل. والحق أن الفقير يستطيع منذ اليوم أن يأوي إلى ركن شديد من عطف المليك ورعاية الحكومة ومعونة الشعب. ولعل مقاومة الحفاء ويوم الفقير هما المحاولتان الجديتان لمحاربة البؤس ومعاونة البائس؛ لأن المشروع الأول يعتمد على إرادة كريمة، والمشروع الآخر يستند إلى إدارة حكيمة. وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية عسية أن تكفي المصلحين هذا الأمر لو أنها انتفعت بما توخاه لها الكتاب من مناهج الرشد؛ ولكنها حصرت معونتها للفلاح في إقامة الموالد لتفريج الهم عنه، وتحرير (المجلة) لمعالجة الأمية فيه! وعسى أن تكون قد بلغت من ذينك مبلغاً يعوض عليها ما تبذل من مال وما تنفق من جهد!
لقد قطعنا سنة من عمر الرسالة في تذكير المترفين بأن لهم أخوة من خلق الله يأكلون ما تعلف الكلاب من المآكل، وينامون مع الحيوان في المزابل، ويقاسون من الأدواء ما لا يقاسيه حي في غير مصر؛ فلم يؤثر فيهم ما كتبناه إلا كما تؤثر النسمات اللينة في الصخر الأصم. ذلك لأن حق الله في أموالهم قد وكل أداؤه إلى ضمائرهم؛ والضمائر قد نامت على هدهدة الشهوات، والعواطف قد قست على جفاف المادة؛ وبين غفوة الضمائر وقسوة العواطف ذهب وازع الدين ولم يبق إلا وازع السلطان؛ لذلك لا ينتظر ليوم الفقير ما ينتظر لمقاومة الحفاء من الفوز، لأن الدافع هناك رهبة الحكومة أو رغبة (الرتبة)؛ أما الدافع هنا فعاطفة البر وهي في أكثر النفوس رسم دارس بين الجشع والأثرة!
يا أغنياءنا، لقد جربتم بذل المال في اللهو، وقتل العمر في العبث، وفقد الصحة في(404/2)
المجون؛ فهل كسبتم من وراء ذلك مجداً، أو وجدتم في عواقبه سعادة؟ جربوا ولو مرة واحدة أن تمسحوا دمعة على خد حزين، أو تنفسوا كربة عن قلب بائس، أو تسهلوا طلب العلم لفقير، أو تمهدوا سبيل العمل لمتعطل، أو تشاركوا أبناء الشعب في منفعة عامة؛ ثم انظروا بعد ذلك كيف يشيع في صدوركم الرخاء، ويرتفع بقلوبكم الإخاء، وتنعم نفوسكم في الحياتين بين عاجل المجد وآجل الخلود!
احمد حسن الزيات(404/3)
نظرة عامة في شؤون الصحافة
لصاحب العزة أنطون الجميل بك
كل شئ كان يغريني بالإقبال على التحدث إليكم هذه الأمسية في كثير من الارتياح، بل من الاشتياق.
فموضوع الحديث (الصحافة) موضوع شائق طريف، يتصل بعملي اليومي، فلا هو غريب عني ولا أنا غريب عنه.
والمحدثون صفوة من الشباب المثقف المتطلع إلى العلم والعرفان، المتوثب إلى الخوض في ميادين البحث والتفكير: طلبة معهد الصحافة، وغيرهم من الذين شرفوني بالحضور من أساتذة الجامعة ورجال الأدب والسياسة والجيش، وصاحبة الجلالة (الصحافة) حرية بمثل هذه البطانة الكريمة.
ومكان الحديث هذا، هيكل من الهياكل المقدسة التي أقامتها الأمم الراقية للحريات: حرية التفكير، وحرية البحث، وحرية الرأي والقول. في جوه تتقابل الأفكار، وتتصادم الآراء، فتشرق من اصطدامها أنوار الحقيقة واليقين ساطعة زاهية، لا تحجبها سحب الشك والرياء، ولا تشوبها شوائب المصانعة والمداراة. وما أشوق الصحفي الذي يكتب في ظل الرقابة والأحكام العرفية إلى مثل هذا الجو النقي الطليق يتنفس فيه ملء رئتيه! فالظروف إذن كلها مواتية للحديث: موضوعاً، ومكاناً، ومستمعين!
لقد وجدتَ مجال القول ذا سعة ... فإن وجدتَ لساناً قائلاً فقلِ
ومع كل ذلك ترددت في تلبية الدعوة التي وجهها إلى الزميل الصديق الأستاذ محمود عزمي لإلقاء هذه المحاضرة حتى كنت أحجم. لا لأني لم أجد اللسان القائل أو القلم الكاتب أمام جميع هذه الظروف المواتية والمغرية، بل لأن حصر الحديث عن الصحافة في محاضرة هي بطبيعتها ضيقة النطاق، محدودة المجال، ليس من الأمور السهلة في (معهد الصحافة) أمام طلبة يتلقون دروساً مستفيضة على أيدي أساتذة أعلام في أصول هذه الصناعة وفروعها وتاريخها، حتى حذقوا قواعدها وألموا بأسرارها وبكل ما يمت إليها عن قريب أو بعيد. لذلك كان اختيار موضوع هذا الحديث، على سعة المجال، صعباً. ولم يكن أمامي مفر من جعله يدور حول العموميات فأفرغته في لمحة عامة ونظرة إجمالية ألقيتها(404/4)
إلى الصحافة وشئونها.
تاريخ الصحافة المصرية من بدء عهد الاحتلال هو تاريخ هذه البلاد في ستين سنة. فمن حاول كتابة تاريخ هذه كتب تاريخ تلك في هذه الحقبة الحافلة بالحوادث التي وصلت بنا تطوراتها إلى ما وصلت إليه البلاد من رقي أدبي ومادي، ومن مركز سياسي واجتماعي.
فما من نهضة قومية سياسية إلا وكانت الصحافة قائدها، وما من حركة اجتماعية أو إصلاحية إلا وكانت الصحف رائدها، عليها اعتمد وبها استعان رجال الفكر والعمل: من الشيخ محمد عبده، إلى جمال الدين الأفغاني، إلى قاسم أمين، إلى مصطفى كامل، إلى سعد زغلول، إلى سائر زعماء السياسة والاجتماع. فكانت الصحافة في أيدي هؤلاء القادة - وفي أيدي أنصارهم ودعاتهم - السلاح الماضي للذود عن آرائهم، والبوق النافخ الذي يذيع صيحاتهم في جميع أرجاء البلاد وفيما وراء حدودها.
أي حادث وقع في مصر، وأي إصلاح تم في مصر، ولم يكن الدور الأول فيه لصحف مصر؟ وأي اعتداء وقع على الدستور أو على الحرية ولم تصب شظيته الأولى صحف مصر؟ وإذا عاد كل منا إلى تذكر أول نبضة وطنية نبض بها قلبه، أو أول اختلاجه قومية اختلج بها فؤاده، أو أول ثورة فكرية تأثر بها عقله، وجد أن مصدرها كان مقالاً في صحيفة قرأها أو سمع والده يقرؤها
وهذا الذي نذكره عن مصر يجوز أن نذكره عن كل بلد آخر؛ ولذلك قالوا إن صحافة كل بلاد هي مرآة صادقة لأخلاقها وميولها ومثلها العليا
ومادام هذا مقام الصحافة، فما أكثر الصفات الواجب توافرها في من يتجندون لخدمتها. . . إذا وجبت الأمانة والصدق والإخلاص في كل عمل، فإنها في الصحافة أوجب منها في غيرها؛ لأن ضرر الرجل الذي يخون هذه الواجبات في عمله محصور في نطاق محدود؛ ولكن ضرر الصحفي الذي يخونها يتعدى إلى الألوف، بل عشرات الألوف، بل مئات الألوف الذين يتناولون غذاءهم الأدبي والفكري في كل صباح وكل مساء من الصحيفة التي يقرءون، فيكون لهم فيها الغذاء النافع أو السم الناقع لذلك نرى الصحافة تتدرج وتترقى من الوجهة المادية، فتزاد صفحاتها، وتكثر أبوابها، وتتنوع أنباؤها، ويتفنن في بحوثها ومقالاتها(404/5)
ولكنها من الوجهة الأدبية، لا تزال شروطها وواجباتها كما كانت بالأمس وكما ستكون في الغد، واحدة لا تتبدل ولا تتغير (صدق في رواية الحوادث والأنباء، وإخلاص في بسط الأفكار والآراء، ونقد حيث ينبغي النقد، وثناء حيث يجب الثناء. ومن وراء كل هذا، العمل على تنوير الأذهان، وتثقيف العقول، وتقويم الميول، ومقاومة الأهواء لإرشاد الرأي العام، وتوجيهه إلى الغرض الأسمى والمثل الأعلى)
نعم ما أكثر واجبات الصحفي! وما أتبعها وأشقها في التنفيذ! ولكن ما أنبلها وأسعدها في النتائج!
قلت في محاضرة ألقيتها منذ أربع سنوات على أسلاف لكم أيها الطلبة النجباء في معرض الكلام عن واجبات الصحافة:
كم لدينا من المشاكل الاجتماعية والعمرانية والمسائل المالية والاقتصادية والشؤون الاشتراعية والإدارية، ينبغي للصحافة أن تعالجها وتقتلها بحثاً وتمحيصاً، لتحييها نشراً وتنفيذاً
إن أمامنا أمة أضر بها النظام الماضي، يجب أن تتعلم، فتعرف أن لها عقلاً يجب تثقيفه، وصحة يجب تدبيرها، وثروة دفينة يجب استغلالها، وأدباً عالياً يجب إحياؤه، وتراثاً مجيداً يجب إنماؤه، حتى تدرك الأمة في نهاية الأمر أنها هي (الأمة مصدر السلطات) حقا. فمن لهذه الواجبات المقدسة غير الصحافة الوطنية، وهي بعد السلطة الاشتراعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية رابعة السلطات؟
إن لنا وطناً كان قد هيض جناحه وشتت قواه، واستبيحت حياضه واعتدى على حماه، فيجب الذود عن حقوقه، والدفاع عن مصالحه وشئونه، وإعلاء كلمته بين الأوطان، ليظل زعيم جيرانه، ويصبح قرناً محترماً بين أقرانه. فمن لهذا الواجب غير الصحف، والصحف كما تعرفون قلاع منيعة من الورق لا تؤثر فيها قنابل المدافع، والأقلام التي تكتب بها مصنوعة من الفولاذ الذي تصنع منه السيوف؟
إن لنا دستوراً، وقد حلفنا يمين الأمانة له، وعلى أساسه قام الحكم النيابي بيننا، فلابد من الدفاع عنه لتصان حرياتنا الدستورية. وكيف تصان هذه الحريات إذا فقدت صحافتنا حريتها؟ إن كلمة (شاتوبريان) أشد انطباقاً على تاريخنا الدستوري منها على تاريخ سوانا(404/6)
قال: (إذا فقدت البلاد دستورها فإن الصحافة كفيلة بأن تجده وترده إلى البلاد). فلقد ضاع دستورنا أولاً وثانياً، فكانت صحافتنا في طليعة من جد وراءه ورده إلى مصر سليماً. فواجب الصحافة إلا تتخلى عن هذا الواجب
إن على رأس الأمة حكومة يجب أن تعاون في مشروعاتها الإصلاحية، مادية كانت أم أدبية. أما معاونة الصحف للحكومة فتقوم على مناصرتها وتأييدها، كما تقوم كذلك على نقدها ومؤاخذتها في مواطن النقد والمؤاخذة. فكلتا الصحافتين: المؤيدة والمعارضة تقوم بواجبها الصحفي الحق، مادام الإخلاص رائدها والصدق نبراسها، فلا تميل مع الهوى، ولا تذهب مذهب الأغراض الملتوية. ومن المسلم به أن لكل كاتب أسلوبه ولكل صحيفة خطتها: فهذه تأخذ باللين والهوادة، وهذه تعمد إلى الشد والعنف. وأمراضنا الاجتماعية كأمراضنا الجسمية: هذه تحتاج إلى الكمادات والمراهم، وهذه لابد لها من المبضع بعمل فيها عمله. والحكومة الرشيدة ترحب بالنقد العادل ترحيبها بالثناء الحق. وإذا كانت الحكومات تجزع أحياناً مما تقوله الصحف، فإنها أحياناً قد تستهدف للتهلكة من جراء ما لا تقوله الصحف
أعني بذلك أن حرية الكتابة يجب أن تكون مكفولة، وذلك لمصلحة الحكومة نفسها؛ فإن حرية القول هي الوسيلة الوحيدة لوضع حد لاستباحة التمادي في حرية الفعل. ولا أعني بذلك حرية الافتراء والتضليل، كما لا أعني أن تنشر الصحف كل ما تعلم، فللقول ساعات يضر فيها الخطأ ولا ينفع الصواب
هذه واجبات الصحافة. وأكرر القول أنها واجبات كثيرة متشعبة وشاقة. وهيهات أن تستطيع الصحافة النهوض بها وحدها على الوجه المروم، إذا لم تقم الحكومة والأمة بواجبهما نحو الصحف
ولقد سبق لي في موقف آخر أن أفضت في تبيان هذا الواجب، واكتفى اليوم بالقول أن الأمل بحصول الصحافة على ما لها من حقوق بات معلقاً على تأليف (نقابة الصحفيين) ويخجلني أن أذكر أن ليس للصحف نقابة حتى الآن، في حين كاد يصبح عندنا لكل صناعة ولكل مهنة نقابة. وتاريخ المحاولات لتأليف نقابة الصحافة طويل مؤلم. ورد ذكرها لأول مرة منذ نصف قرن. فقد كتب منشئ (الأهرام) - طيب الله ثراء - فصلاً في مثل هذه(404/7)
الأيام منذ 50 سنة جاء فيه:
(لم نقصد فيما كتبناه مراراً عن الجرائد واتفاقها على (سنديك) ينظر في مصلحتها، إلا لأننا رأينا هذه المبادئ قاعدة جرائد أوربا المتمدنة وأمريكا الحرة
(وشتان بين أهمية جرائدنا وأهمية تلك، وبين الرأي العام هنا وهناك، وبين حكامنا وحكامهم. فأصحاب الجرائد الأوربية أقل احتياجاً منا إلى الاتفاق تحت شروط تضمن نجاح المصلحة، ولنا من أعمال سانيدك الجرائد في باريز ولندره وغيرهما شاهد عدل
(ومهما تتباين مبادئ جرائدنا سياسة. فهي أقل تبايناً من أخواتها في باريز. . . وعند الاتفاق يمكن أن يكون لجرائدنا شأن معهم في خدمة المصلحة العامة بتهذيبها الظالم والمرتشي والمستبد، فضلاً عن الخدمات الجليلة التي تترتب على اتفاقها من نشر المبادئ الصحيحة، والاهتمام بالأعمال العامة. . . فنرجو من زملائنا الذين يعرفون واجبات الجرائد ويعترفون معنا بفضل المشروع أن يهتموا بتحقيقه، ويسعوا إلى الوصول اليه، وكلما أسرعوا في الأمر حققوا للجرائد أغراضها. والله ولي التوفيق)
ومنذ ذلك العهد قام الصحفيين بمحاولات كثيرة لتأليف جمعية أو نقابة لهم، فكانت هذه الهيئات تعمر سنة أو بعض سنة، ثم يجر عليها العفاء ذيوله، إلى أن استصدرت وزارة علي ماهر باشا الأولى مرسوماً في 20 أبريل سنة 1936 باعتماد (نظام جمعية للصحافة)، ولكنه لم يوضع موضع التنفيذ. فوجهت بعد مرور سنة - 18 أبريل سنة 1937 - سؤالاً برلمانياً إلى وزير الداخلية في هذا الموضوع، فردت الحكومة واعدة بالعمل على تأليف هذه الجمعية. ثم مرت الأيام إلى أن انتهى الأمر بتقديم مشروع بقانون إلى البرلمان بإنشاء نقابة للصحفيين
عرض هذا المشروع على مجلس النواب فأقره في العام الماضي. وجاء إلى مجلس الشيوخ فعد له وأعاده إلى النواب، ولكن النواب لم يقروا تعديل الشيوخ. فتألفت لجنة مشتركة من بعض أعضاء المجلسين، وانتهى بها البحث في أوائل هذا الشهر إلى صيغة ارتضتها، وعرضت على النواب فأقروها يوم الأربعاء الماضي (12مارس) وسيؤخذ الرأي عليها مناداة بالاسم في جلسة غد. ثم ترسل إلى مجلس الشيوخ حيث شرفني زملائي بأن أكون مقرراً لهذا القانون. والأمل وطيد بأن يقره المجلس في الأسبوع القادم فيصبح قانوناً نافذاً(404/8)
ويضمن للصحافة شيئاً من حقوقها الأدبية والمادية لقاء ما عددته مما عليها من الواجبات.
وهذا القانون ينص في مادته الثانية على أغراض النقابة وهي:
1 - العمل على صيانة حقوق الصحفيين وتحديد واجباتهم
2 - تنظيم علاقات الصحافة مع الحكومة والجمهور
3 - سن القواعد المنظمة لمزاولة المهنة الصحفية وبيان العادات المرعية فيها
4 - تسوية المنازعات ذات الصلة بالمهنة التي قد تنشأ بين أعضاء النقابة أو بينهم وبين غيرهم
5 - العمل على تحقيق كل مشروع أو عمل من شأنه رفع مستوى الصحافة وإعلاء كرامتها. يحظر على النقابة الاشتغال بأي عمل خارج عن هذه الأغراض)
كما أن المشروع ينص في مادته الرابعة على الشروط التي يجب أن تتوافر في من يرغب في الالتحاق بهيئة الصحافة. وهذا النص ذو أهمية كبرى للعمل على رفع مستوى المهنة فلا يلتحق بها كل من هب ودب، ولا يدعى كل من لا عمل له أنه صحفي. أما هذه للشروط المفروضة على طلب القيد في جدول الصحفيين فهي:
1 - أن يكون مصرياً
2 - ألا يقل سنه عن 21 سنة
3 - أن يكون متمتعاً بالأهلية المدنية
4 - أن يكون حائزاً لما يؤهله للاحترام الواجب للمهنة
5 - أن يكون حاصلاً على شهادة دراسية عالية من مصر أو من الخارج، أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي
6 - أن يكون مالكاً لصحيفة أو ممثلاً له أو مديراً لصحيفة أو لوكالة استعلامات أو رئيس تحرير صحيفة أو محرراً فيها مدة سنتين على الأقل. وفي تطبيق هذه المادة لا تشمل كلمة صحيفة الصحف ذات الموضوعات الخاصة كالجرائد المالية والرياضية والفنية وغيرها، ولا المجلات التي لا تظهر مرة واحدة في الشهر على الأقل
7 - أن تكون الصحافة مهنته الرئيسية، وألا يحترف التجارة فيما ليست له صلة بمهنته.
وقد فرض المشروع عقوبات على أدعياء الصحافة. فقد نصت المادة 22 على ما يأتي:(404/9)
(لأعضاء النقابة وحدهم الحق في حمل لقب صحفي. ويعاقب بغرامة لا تتجاوز عشرين جنيهاً مصرياً كل من وصف نفسه علناً بهذا الوصف أو أستعمله مخالفة لأحكام هذا القانون. فإن عاد تكون العقوبة الغرامة التي لا تتجاوز عشرين جنيهاً والحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو إحدى هاتين العقوبتين)
رأيتم أن مشروع القانون الذي تلوت على حضراتكم بعض أحكامه قد عرفنا من هو الصحفي أو الذي يجوز بعد الآن أن يحمل هذا اللقب. فقد اشترط فيما اشترط عليه أن يكون حاصلاً على شهادة عالية أو أن يكون على درجة الثقافة التي تقتضيها مهنة الصحفي.
ذلك أن الصحفي مدعو بطبيعة عمله إلى الكتابة في شتى الموضوعات، وهذا الشرط غير مقصور على الذين يدبجون المقالات ويكتبون ما يسمونه (الافتتاحية) أو بل يمتد إلى الذين يكتبون الأخبار ويترجمون التلغرافات الخارجية. إذ كيف يكتب الصحفي عن الأنباء البرلمانية والوزارية، وعن أخبار القطن والأوراق المالية، وعن أعمال اللجان وسائر الهيئات؟ أم كيف يترجم التلغرافات عن الحوادث العالمية وتطورات السياسة الدولية، إذا لم يكن ذلك المخبر وهذا المترجم كلاهما ملماً بنظام البلد ودستوره ونظمه، ويعلم الاقتصاد والقانون والجغرافيا والتاريخ العام؟ لذلك كان البرنامج الذي يسير عليه أساتذة هذا المعهد (معهد الصحافة) حافلاً بأنواع الدراسات القانونية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية ليخرجوا لنا صحفيين مثقفين يشرفون لقب (الصحفي) عندما يلقبون به ويتشرفون هم بالخدمة في بلاط صاحبة الجلالة
ولعل أحوج ما يحتاج إليه الصحفي إلى جانب ثقافته العامة شيئان: قوة الملاحظة، فترى عينه في مشاهداته ما لا تراه عيون الآخرين، ويلمح خاطره في الحوادث والأنباء ما لا تلمحه خواطر الناس. فإذا قرءوا ما دونه من ملاحظات قالوا: (حقاً. . . إن الأمر لكذلك)
ويحتاج بعد هذا إلى قلم رشيق يترجم عن آرائه وأفكاره، ويدون الملاحظات والمشاهدات في أسلوب لبق بعيد عن الركاكة بعده عن التقعر، وأنتم تقرءون كل يوم الخبر الواحد مصوغاً في أساليب مختلفة: هذا يروقكم ويستوقفكم، وهذا لا تأبهون له فتمرون به مر الكرام. والصحفي أكثر من كل كاتب مفروض عليه الإسراع في الكتابة، فليس أمامه من(404/10)
الوقت ما أمام الباحث والأديب والمحاضر ليبحث وينقب ويراجع، بل هو مضطر إلى تدوين الأنباء تدويناً خاطفاً، أو إلى التعليق على الحوادث تعليقاً يكون ابن ساعته. فسر الصحافة الحديثة السرعة: السرعة في تلقي الأخبار، والسرعة في إيصالها إلى القراء. وقد جاء انتشار التليفون والتلغراف السلكي واللاسلكي خير معوان لخدمة الصحافة من هذا القبيل؛ وإذا كان (الراديو) قد نهض ينافس الصحافة في سرعة نشر الأخبار، فإن منافسته ستظل محصورة، لأن العبارة المكتوبة لا تزال أحب إلى العقل من العبارة المقولة.
ومادمنا في معرض الكلام عن الأساليب الصحفية وتنوعها فلابد من القول أن صحافتنا في مجموعها قد أصبحت شاملة لكل هذه الأنواع فتوافق جميع الأذواق. فصحافتنا منوعة في مواعيدها: فمنها الصباحية والمسائية، ومنها الأسبوعية والشهرية منوعة في موضوعاتها: فمنها السياسية الأخبارية، ومنها الأدبية العلمية، منها المصورة الفكاهية
منوعة في أسلوبها: فمنها الرزينة المعتدلة، ومنها المتحمسة المندفعة، ومنها المنتقدة اللاذعة
ولا سبيل إلى المفاضلة بين هذه الأساليب، فالأمر راجع إلى ذوق الكاتب ومزاج القارئ. والمهم، أياً كان الأسلوب، أن يكون قائماً على الصدق والإخلاص كما ذكرناه
هذه صفات عامة تتناول جميع كتاب الصحف. وهناك صفات خاصة تتناول كل طائفة من كتاب الصحيفة الواحدة: فللكتاب والمحررين صفات، وللمخبرين والمندوبين صفات، وللمكاتبين والمصححين صفات، وللمترجمين صفات، وللموضبين والذين يتولون عمل (تواليت) الصحيفة صفات، يطول بنا المقام لو شرحناها وفصلنا كل واحدة منها. ولا يقل عمل طائفة من هذه الطوائف التي تحضر الجريدة أهمية عن عمل الأخرى، وإن كان الغرباء عن الصحافة يتصورون خطأ أن الذي يكتب مقالة هو كل شئ في الجريدة
وقبل أن نختم هذا الحديث، فلنفتح صحيفة من صحفنا اليومية لنرى تطبيق ما قدمت. ماذا نجد فيها عادة؟
نجد المقالة أو التعليق على أهم حوادث اليوم
ونجد الأخبار والأنباء التي تتصل بحياة البلد
ونجد الأنباء التلغرافية، وقد طغت في هذه الأيام على سائر أبواب الجرائد نظراً إلى خطورة حوادث الحرب واشتباك جميع المصالح بها(404/11)
ونجد أيضاً الإعلانات، وقد أصبح الإعلان فناً قائماً بنفسه من حيث الشكل والأسلوب، وهو ركن أساسي في إيراد الجريدة لا غنى لها عنه لتكفل حياتها، أو على الأقل لتكفل استقلالها
قال لي مدير إحدى كبريات الصحف الأمريكية: (كل مشترك جديد في جريدتنا يخسرنا سبعة دولارات، ولكننا نرحب به، لأن (تعريفه) الإعلانات عندنا ترتفع بنسبة زيادة عدد النسخ المطبوعة فتعوض أجرة الإعلانات هذه الخسارة وتعود علينا بربح)
ولا أريد أن أطوي حديثي معكم على هذه البيانات المادية، بل أستميحكم بضع دقائق أخيرة نتحدث فيها عن أسلافنا البعيدين، وهم الصحفيون عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام وقد عنيت بهم (الشعراء) فانهم كانوا يدونون حوادث القبيلة أو الربع في قصائدهم، فيتناقلها الرواة. وكم من قصيدة سجلت حوادث القوم ووقائعهم الحربية أو في تسجيل، حتى لكأنها الصحيفة العصرية تسرد الأنباء والأخبار سرداً. . . ودواوين الشعراء زاخرة بهذا النوع من الشعر الإخباري، فنجد فيها الشيء الكثير منه
اسمعوا على سبيل المثال هذين البيتين لبشار بن برد، وقد تكلم في البيت الأول عن الحرب الخاطفة - وضمن البيت الثاني وصفاً لواقعة حربية جاء أشبه شئ ببلاغ من البلاغات الحربية التي نقرأها كل يوم، قال:
بعثنا لهم موت الفجاَءة، إنما ... بنو الموت خفاق علينا سبائبه
فراحوا: فريق في الإسار، ومثلهُ ... قتيلٌ، ومثلُ لاذَ بالبحر هاربه
وهكذا كان الشعراء يدونون الحوادث في أشعارهم كما يفعل الصحفيين اليوم في جرائدهم. وكانوا كذلك يقومون بمهمة الإعلان، ولا نعرف (التعريفة) التي كانوا يتقاضونها عن الإعلان في شعرهم
ولعل ألطف إعلان بالشعر ما ذكره كتاب الأغاني، وخلاصته: أن تاجراً من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر - والخمار ما تغطى به المرأة رأسها، وقد عادت (مودته) الآن - فباعها كلها، وبقيت السود منها فلم تتفق، وكان صديقاً للدارمي فشكا ذلك إليه. وكان الدارمي قد نسك وترك الغناء وقول الشعر؛ فقال له: (لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع)، ثم وضع شعراً للغناء:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبدِ(404/12)
قد كان شمّر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد
فشاع غناؤه في الناس، ولم نبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود، حتى نفذ ما كان مع العراق منها
أقف عند هذا الجد، معتذراً عن تقصيري، بأني ما ادعيت قط حصر جميع شؤون الصحافة في محاضرة، بل هي نظرة إجمالية تناولت بعض شؤون الصحافة، ولكم أيها الإخوان، في محاضرات أساتذتكم في هذا المعهد ما يسد الفراغ ويكمل النقص
ولم يبق لي إلا أن أتمنى لكم التوفيق في الصناعة التي اخترتموها لأنفسكم، وهي صناعة شريفة إذا عرفنا أن نحتفظ لها بمكانتها. وكل ما أرجو ألا تخرجوا إلى ميدان العمل إلا وتكون جميع القيود التي قضت الأحوال الحاضرة بفرضها على الصحافة قد سقطت: القيود المادية التي تحدد عدد الصفحات، والقيود الأدبية التي تقيد جولات الأقلام، فتجدوا المجال أمامكم حراً واسعاً، فالصحافة لا تزدهر إلا في جو الحرية والاستقلال
أنطون الجميل(404/13)
الأدب العربي الحديث في العراق
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - الصلات الأدبية بين مصر والعراق - كيف صارت
العروبة في ديار الرافدين بعد سقوط بغداد؟ - الجدال بين
السنة والشيعة هو الذي حفظ اللغة العربية في عهود الاحتلال
الفارسي والاحتلال التركي - بواكير النهضة الأدبية في
العراق - إحياء الأمجاد العربية - الأدب المجهول - روافد
الأدب العراقي - لمحات من الفروق بين الاتجاهات الأدبية في
مصر والعراق.
تمهيد:
صار من المقرر في وزارة المعارف المصرية أن تكون الترقية من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي مقصورة على من يفوزون في امتحان المسابقة لذلك الترفيع، وهذا نظام يسوق المدرسين سوقاً إلى تزويد عقولهم بما يجد في ميادين الدراسات العلمية والأدبية والاجتماعية
وفي هذا العام يجب على المتسابقين في اللغة العربية أن يؤدوا امتحاناً في الأدب الحديث بمصر وسائر البلاد العربية، وهي مفاجأة لم يستعد لها مدرسو اللغة العربية، لأن الأدب الحديث في غير مصر، لا يعرفه من بين المصريين إلا أفراد سمحت لهم الظروف بأن ينتقلوا في بعض أقطار الشرق من أمثال: المازني والزيات وعزام. فكيف السبيل إلى تعرف اتجاهات الأدب الحديث في بلاد مثل: المغرب واليمن والحجاز وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق؟
وقد دعاني جماعة من المدرسين إلى إنشاء طائفة من البحوث في التعريف بالأدب الحديث في غير مصر من البلاد العربية، فأجبت بعد تردد، لأني أعرف أن ذلك عبء لا ينهض(404/14)
به رجل واحد، فقد تعددت المذاهب الأدبية في تلك البلاد، وصار من الواجب أن يلتفت إليها عدد كبير من الباحثين ليسجلوا ما فيها من خصائص ذوقية وأدبية واجتماعية
ولو لم تفاجأ (الرسالة) بغلاء الورق، لكان في تنفيذ الاقتراح الذي قدمته إليها في صيف سنة 1939 ما يغني المدرسين المصريين من التعب في تعرف الاتجاهات الأدبية بالأقطار العربية؛ فقد كنت اقترحت أن تصدر (الرسالة) أعداداً خاصة تصور ما بتلك الأقطار من المذاهب الفكرية والأدبية، وتعرف المصريين بأحوال إخوانهم في بلاد لا يعرفون من أخبارها العقلية غير بوارق تنقلها الجرائد والمجلات من حين إلى حين بأسلوب قد يصل في الإيجاز إلى الإخلال
وأنا لم أبتكر الاقتراح الذي قدمته إلى (الرسالة) في صيف سنة 1939، فقد استوحيته من العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (العرفان) عن مصر، والعدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (المكشوف)؛ وهما عددان يفصلان الأحوال الأدبية والاجتماعية في مصر أجمل تفصيل، فإلى هاتين المجلتين أقدم أطيب الشكر وأصدق الثناء
ثم رأيت أن أبدأ بالكلام عن الأدب الحديث في العراق، إلى أن أستعد للكلام عن الأدب الحديث في سائر البلاد العربية، فماذا وجدت؟ وجدت المهمة أصعب مما تصورت، لأن العراق الذي عشت فيه وتعرفت إلى ما عند أهله من آراء وأهواء ونوازع وميول، يحتاج إلى دراسة دقيقة تستنفذ أوقاتاً لا أملك منها غير سويعات قصار أسترقها استراقاً من العمر الموزع بين أعباء ثقال أخفها الجهد إلى أواجه به قرائي من يوم إلى يوم أو من أسبوع إلى أسبوع
فهل أحجم عن مواجهة هذا الموضوع الجليل إلى أن أجد الوقت المنشود؟
سأتوكل على الله وأتحدث عن الأدب العراقي في الحدود التي يسمح بها جهد المقل، وجهد المقل غير قليل. وسيكون الغرض تصوير أدب العراق في أشخاص شعرائه وكتابه بأسلوب يجمع ما تفرق من مذاهب الأدباء بتلك البلاد، إلى أن تسمح الظروف بإعداد كتاب شامل عن العقلية العراقية في العصر الحديث، والله سبحانه هو الموفق
الأدب العراقي:
بسم الله الرحمن الرحيم(404/15)
وبالبسملة أبتدئ حين أقدم على موضوع تعترضه عقاب وصعاب
وموضوع اليوم هو تحديد المرحلة التي يبتدئ بها الأدب الحديث في العراق، فما هي بداية النهضة الأدبية الحديثة في تلك البلاد؟
كان العراق يحمل مشاعل الثقافة العربية إلى أن أجتاحه المغول في منتصف القرن السابع، فبعدئذ نهضت مصر بما كان ينهض به العراق، وقامت القاهرة بما كانت تقوم به بغداد، ورحبت المدائن المصرية بمئات من العائلات الراقية، ولعل هذا هو السر في التشابه الشديد بين المصريين والعراقيين في النطق ومخارج الحروف، وفي كثير من العادات والتقاليد، بحيث يمكن الحكم بأن المصريين والعراقيين لم يكونوا على بعد الدار إلا أخوة أشقاء نقلتهم الحوادث من بلد إلى بلاد
فكيف صارت العروبة في العراق بعد سقوط بغداد وبعد انتهاء ما تلا عهد المغول من خطوب؟
ظل العراق العربي محتلاً بالقوى الفارسية نحو ثلاثة قرون، وهو أمد يقدر بثلاثة أرقام، ولكنه أمد طويل جداً، وكان يكفي لمحو اللغة العربية لو صادف أمة لا تمت إلى العروبة بعرقٍ أصيل. ثم جاء عهد الترك فأيد عهد الفرس من حيث الاستهانة بمقام اللغة العربية، فماذا صنعت تلك اللغة لتحفظ حيويتها إلى أن يجيء يوم البعث، وهو يوم استقلال العراق؟
ظفرت اللغة العربية في العراق بأسلحة تضر من جانب وتنفع من جوانب، وتلك الأسلحة هي مصادر النزاع والشقاق بين المذاهب السنية والمذاهب الشيعية. فقد تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي، وظلوا يتجادلون ويتناقشون بلغة القرآن، وهي اللغة التي حملت إليهم بذور ذلك الخلاف (السعيد)
ومن المؤكد أن المناقشات بين السنة والشيعية فتقت الأذهان وألانت الألسنة في العراق. ومن المؤكد أيضاً أن المساجد هي صاحبة الفضل الأول في تأريث الخصومات العقلية، وهي خصومات عادت بالنفع الجزيل على الأدب والبيان، فمن كان يهمه أن يعرف كيف عاشت اللغة العربية في العراق برغم الاحتلال الفارسي والاحتلال التركي فليسأل أساطين المساجد في البصرة والحلة والموصل وبغداد والنجف وكربلاء
تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي وأقبلوا على الجدال في(404/16)
المفاضلة بين الأمويين والهاشميين، فعاشوا في دنيا من الفكر والعقل والوجدان كانت أجدى عليهم من دنيا السيطرة المالية والسياسية، وبذلك حفظوا لغتهم من التضعضع والفناء. ولله حكمة عالية في خلق أسباب الشقاق بين الرجال.
اللغة العربية في العراق مدينة أثقل الدين للخلافات المذهبية، فتلك الخلافات هي التي أوجبت أن يحرص أقوام على رواية أخبار بني أمية وبني العباس، وإن يحرص قوم على رواة أخبار الحسن والحسين، وكانت جميع تلك الأخبار مصبوبة في قوالب هي الغاية في الفصاحة والبلاغة والبيان
ولو جاز لي أن أستعين هذا الأسلوب من المنطق لقلت أن اللغة العربية لم تنهزم في البلاد الفارسية والتركية إلا بسبب انعدام الخلافات المذهبية في تلك البلاد، فالفرس انحازوا إلى جانب، والترك انحازوا إلى جانب، وبهذا السلام خلوا إلى أنفسهم هنا وهناك فحلت النزاعات القومية محل النزاعات المذهبية، واستغنى أولئك وهؤلاء عن الاستنصار بلغة القرآن
فمن كان غلب عنه أن الخلاف نعمة من نعم الله فليذكر هذه الحقيقة ليعرف أن الله قد يبتلي بالخلاف عباده الأصفياء
عاشت لغة العرب في العراق أجيالاً طوالاً بإسناد مذهبية، فمتى فكر العراق في أن يجعل لغة العرب لغة رسمية بعد انقضاء عهود الخلفاء؟
العراق الحديث
هنا يتسع المجال لبيان الأسباب التي أنهضت العراق العربي في عهده الحديث، فمتى انبثقت شرارة العروبة في العراق؟
ثبت عندي بعد مطالعات كثيرة أن الأدب العراقي كان انطوى على نفسه في عهود الظلمات فلم يكن إلا مطارحات شعرية أو مراسلات نثرية لا تصور صراع العواطف ولا صيال العقول، بغض النظر عن الشجار الذي لم ينقطع بين المذاهب والآراء
فمتى خرج الأدباء العراقيون من صوامعهم ليحدثوا الجمهور عن المطامح السياسية والقومية؟
كان ذلك يوم صار العراق مبعوثون في استنبول، فهنالك وجدوا أخواناً ثائرين على (الدولة(404/17)
العلية) من رجال مصر واليمن والحجاز والشام ولبنان، ومن أولئك وهؤلاء تكونت جماعات أدبية وسياسية تنتصف للعرب من الأتراك، وتطالب بأن يكون للعرب وجود أدبي وسياسي يسترد الحقوق التي أضاعها الزمان
ولهذه النزعة جذور دخيلة سجلتها بصراحة في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ونشرت من أخبارها أشياء فيما تحدثت به إلى قرائي في مجلة الرسالة، ولكن المصير الواحد وإن اختلفت الأسباب، وذلك المصير هو الإيمان الراسخ بأن العروبة فكرة سليمة قد تؤتى أطيب الثمرات إذا تعهدها الوطنيون المخلصون بالرعاية والتشجيع
إذا عرفنا هذا صح لنا القول بأن النهضة الأدبية الحديثة في العراق نشأت مع ثورة الأمم العربية على الدولة التركية، وهي ثورة كانت لها بواعث كثيرة أهمها تطلع تلك الأمم إلى التمتع بنعمة الاستقلال
ومن الواضح أن اللغة العربية كانت أداة التعبير عن تلك الثورة بالتصريح أو التلميح فظهرت مقالات وقصائد ومطبوعات أثارت ما أثارت من نوازع الحمية العربية، وانطلقت الألسنة والأقلام بأدب جديد هو الأدب السياسي، وأريد به الأدب الذي لا يقف عند شرح العواطف الذاتية، ونما يتسامى إلى شرح ما يعاني المجتمع من أزمات قومية كما يصنع الأدب الاجتماعي
تلك الفترة من حياة العراق الثائر على حكم الأتراك هي التي فتحت عيون أدبائه على فنون الأدب الحديث في الديار المصرية والسورية، وهي التي أوحت إليه أن يجعل العروبة عماد سياسته القومية في أكثر الشئون.
ثم ماذا؟ ثم نجا العراق من الاحتلال التركي ليواجه مصاعب خلقها مصاعب الاحتلال الإنجليزي، فماذا صنع وقد استبدل احتلالاً باحتلال؟
كانت شخصيته قد استَحْصَدتْ وقويت، ومازالت تستحصد وتقوى حتى صارت أعز من أن يطمع فيها طامع يعتمد على القوة أو يتوسل باللين، وما هي إلا أعوام قصار حتى شرع العراق ينشر العلوم والمعارف باللغة العربية بعد أن ظلت الفارسية ثم التركية لغة التعليم بتلك البلاد في آماد لا تعد بالأعوام وإنما تعد بالقرون، وبفضل هذه الفتوة رجعت السيادة للغة العرب في بلاد كان لها في خدمة هذه اللغة تاريخ مجيد(404/18)
وبجانب هذا الفضل في جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع العلوم كان فضل آخر هو الحرص على إحياء الأمجاد العربية والإسلامية، فأكثر الشوارع وأكثر المنشآت لها أسماء عربية وإسلامية، وأغرم الناس هنالك بمقاومة الألفاظ الأجنبية، لتصبح لغتهم جديرة بالمطمح الذي يتسامون إليه وهو إحياء عهد الرشيد
يضاف إلى هذا وذاك حرص العراق على الاتصال بجميع الأمم العربية، أو الأمة لعربية - كما يعبر الأستاذ أبو خلدون - ولذلك الاتصال ألوان مختلفات، فهو يتابع جميع الحركات السياسية في البلاد العربية، ويتابع ما يجد فيها من تطور الآداب والفنون، ويسره أن يقال إن له فاعلية في إحياء التمدن العربي الحديث
وخلاصة القول أن بداية النهضة الأدبية في العراق تؤرخ بثورة العراقيين على الحكم التركي، ثم تؤرخ بجعل اللغة العربية لغة التدريس في عهد الاستقلال
الأدب المجهول
وهنا نقف وقفة قصيرة نشير بها إلى لون من الأدب العراقي تصح تسميته بالأدب المجهول، وهو الأدب الشعبي، الأدب الذي لم يدون، ولن يدون بعد أن صارت اللغة الفصيحة هي الغاية التي يسعى لتأييدها جميع أدباء العراق
فذلك الأدب الذي يتناقله الناس هناك من بلد إلى بلد قد صور طوائف كثيرة من أحلام القلوب، وأوهام العقول، وهو الشاهد على أن العقل العراقي لم يذق طعم الغفوة برغم ما مر بالعراق من أحداث وخطوب تعصف بمنابت الأهواء والآراء
روافد الأدب العراقي
يقال أن الأدب المصري الحديث قد انتفع من اتصال أدباء مصر بالآداب الأوربية، وهو قول حق، فمصر قد نقلت عن أوربا أكثر ما صدر عن أدبائها ومفكريها من المذاهب العقلية والاجتماعية، وقد تكون مصر أول أمة عربية عنيت عناية جدية بنقل آراء أهل الغرب إلى أهل الشرق، ولعلها أول أمة زودت الغرب بعلوم الشرق في أزمان الحروب الصليبية
فما هي الروافد التي أمدت الأدب العراقي الحديث؟(404/19)
أنا أرجح أن الأدب الحديث في العراق قد انتفع بثلاثة ينابيع: أولها الأدب الفارسي وثانيها الأدب التركي وثالثها الأدب المصري (مع الاحتفاظ بفضل الأدب العربي القديم)
ولكن كيف وصلت إليه بتلك الينابيع؟
الجواب حاضر، فاتصال العراقيين بالأدب الفارسي معروف، ولا يزال بين أدبائهم رجال يسايرون الآداب الفارسية ويتأثرون ما بها من أخيلة وتعابير، وقد يكون فيهم من ينظم الشعر باللغة الفارسية كما صنع الزهاوي يوم ذهب إلى إيران للاشتراك في إحياء ذكرى الفردوسي، وقد يكون فيهم من يؤلف بالفارسية كما يصنع السيد هبة الدين الشهرستاني
واتصال العراقيين بالأدب التركي لا يحتاج إلى بيان، فقد كان جمهور أدبائهم على صلة وثيقة بالتيارات الأدبية في البلاد التركية، وأكثر رجالهم الكبار تلقوا دروسهم العالية في استامبول
أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصريين بالأدب المصري، وهذا كلام يستغربه من تغيب عنه الموازنة بين القراء في مصر والقراء في العراق، فالقراء في مصر لا يعنون بالصحافة الأدبية كما يعنون بالصحافة السياسية، ومن أجل ذلك تفوتهم أشياء وأشياء من النتاج الأدبي. ولا كذلك القراء في العراق فهم يسايرون الصحافة الأدبية في مصر مسايرة جدية، ويعرفون من أخبار الأدب في مصر أضعاف ما يعرف القراء المصريون
فما السبب؟ أيكون شبان مصر أقل ذكاء من شبان العراق؟
لا، وإنما يرجع السبب إلى قوة الصحافة السياسية في بلادنا وضعف الصحافة السياسية في بلادهم، فشبابنا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف ويحولهم إلى جنود سياسيين، وشبان العراق لا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف، ولهذا يقبلون على الصحافة الأدبية إقبالاً يستوجب الثناء
ونصل بهذه المحاولة إلى النص على أن أدباء العراق لهذا العهد ينقسمون إلى جيلين مختلفين بعض الاختلاف: الجيل الوثيق الاتصال بالآداب الفارسية والتركية، والجيل الذي يأخذ أكبر مادة لغذائه العقلي والروحي من الآداب العربية المصرية، والتفريق أو التمييز بين آثار هذين الجيلين لا يحوج الباحث إلى عناء(404/20)
ولن يمضي زمن قليل حتى يكون من الصعب أن نجد اختلافاً جوهرياً بين أساليب الكتاب والشعراء في مصر والعراق، ويومئذ نضمن اتحاد المشاعر والعواطف والقلوب بصورة لا يبقى معها مجال لدسائس الطامعين في تمزيق الوحدة العربية، وهم أقوام يدخلون من أبواب لا تهتدي إليها الشياطين!
خصائص الأدب العراقي
لكل بلد خصائص ذاتية ترجع إلى طبائع الحياة المحلية. واختلاف الخصائص هو المميز الأعظم لثروة الأدب العربي، وقد تختلف الخصائص في القطر الواحد، كالذي نجد من الفرق بين اتجاهات الأدباء في القاهرة والإسكندرية، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في دمشق وبيروت، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في النجف وبغداد، فمن السهل إذاً أن نعرف أن للأدب العراقي خصائص لا توجد في الأدب المصري، أو توجد فيهما ولكن لا على السواء، وهل انفق الجوهر الذوقي في الرائيات الثلاث: رائية أبي نؤاس ورائية ابن دراج ورائية البارودي؛ وهي قصائد موزعة الذوق الفني بين مصر والأندلس والعراق؟
لا جدال في أن لكل بلد خصائص، فما خصائص الأدب العراقي؟
نقيد (أولاً) أن العراق يميل إلى التحرر من التزام القافية والتزام الوزن في القصيد الواحد، وتلك رجعة إلى نظام الموشحات، ولكنها من حيث الصورة تخالف نظام الموشحات، وأشهر شعراء العراق في الميل إلى هذا التحرر هو الزهاوي. وقد يكون فيهم من انساق مع تيار الموشحات في أغلب ما نظم من القصائد، وأشهر هؤلاء هو الحبوبي
وهذه النزعة وجدت في مصر، ولكن بأخف مما وجدت في العراق، وقد ظهرت ظهوراً قوياً بين الشعراء السوريين واللبنانيين الذين أقاموا دولة للأدب العربي في أمريكا الجنوبية
ونقيد (ثانياً) أن الأدب العراقي يمتاز بالإكثار من الحديث عن الأمم العربية، فلمصر وفلسطين والشام ولبنان صور كثيرة جداً في أشعار العراقيين، ويرجع ذلك إلى هيامهم بزيارة البلاد العربية والى تعرف أكثرهم بمصر عن طريق القراءة أو طريق الدرس، فكثير من أدباء العراق عاشوا في مصر وتزودوا من معاهدها العلمية. وكثير منهم زاروا مصر وعرفوا من أخبارها الصحيحة ما زادهم بها فتوناً إلى فتون، وقد يصفها أحدهم من قبل أن يراها كما صنع الأستاذ شاكر الجودي(404/21)
وقد اهتم الأدب المصري بوصف البلاد العربية ولكن بأقل مما اهتم الأدب العراقي، وإن كانت قصائد شوقي في وصف مرابع سورية ولبنان سارت مسير الأمثال
ونقيد (ثالثاً) أن الإخوانيات لا تزال مرموقة المكان عند أدباء العراق؛ فهم يتراسلون بالرسائل والقصائد على نحو ما كان يتراسل أسلافهم القدماء
وقد انقرض هذا النوع من الأدب المصري أو كاد، فما عدنا نسمع برسالة كرسالة حفني ناصف إلى توفيق البكري، أو قصيدة كقصيدة المازني في مداعبة العقاد
ونقيد (رابعاً) أن الهجاء لا يزال من الفنون الأدبية في العراق، وإن كان لا ينشر في الجرائد ولا يسجل في المطبوعات؛ وهذا الفن لم يبق له في مصر مجال، وإن كان تهاجى الصحف الحزبية في مصر قد وصل إلى أبعد الآفاق في الغمز والتجريح!
ونقيد (خامساً) أن أشعار المجون لها بقايا في العراق، وهي أشعار تغلب عليها لطافة الدعابة وخفة الروح، وهذا الفن قد انعدم في مصر بموت (الحاج) محمود الهراوي؛ وإنما قلت (الحاج) لأمطر قبره بفكاهة ينتعش بها ثراه، فقد نظم الهراوي قصائد مجونية تفوق مجونيات أبي نؤاس، إن جاز القول بأن الدنيا عرفت ماجناً يفوق أبا نؤاس، إلا أن يكون الماجن هو الهراوي، وكان رحمة الله غاية في التقى والعفاف، ولم ينظم أشعار المجون إلا حباً في تزويد الأدب بمختلف الألوان
ثم نقيد أن للأدب العراقي خصيصة تفوق تلك الخصائص وهي إمعانه في الصدق، فهو صورة لما يعاني العراق من خطوب وما يطمح إليه من آمال، ولو عصر الروح العراقي كما يعصر الورد لكان عصيره دموعاً تشتهيها الحمامة الموصلية يوم فراق الأليف
أما بعد، فهذا تمهيد للكلام عن الأدب العراقي، وهو تمهيد أردنا به تحديد المرحلة التي قطعها العراق ليصل إلى ما وصل إليه من إعزاز اللغة العربية، وأردنا به النص على روافد الأدب وخصائص الأدب في ذلك القطر الشقيق
ومن المحتمل أن يكون في الأحكام التي سقناها في هذا التمهيد ظل من الخطأ الطفيف، ولكنها في الجملة تستند إلى قواعد سليمة من آفات الميل والانحراف. فما الذي سنصنع بعد هذا التمهيد؟
سنتحدث عن الأدب الحديث في العراق بالتفصيل، وبأسلوب يقربه إلى أذهان القراء كل(404/22)
التقريب، وسنرى ويرى معنا قراء الرسالة في مختلف البلاد العربية أن البلاد التي أنجبت المتنبي والرضي خليقة بأن تؤيد ماضيها الجميل بحاضر جميل
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، واليه أنيب
زكي مبارك(404/23)
5 - في العقد
لأستاذ جليل
35 - (ص 221). . . وأنا أنظر متى يرميني بسهم يَقصِد به قلبي. . .
قلت: ضبطت يقصد بفتح الياء وكسر الصاد وإنما هي يُقصد
في الأساس: رماه فأقصد وتقصده: قتله مكانه. قال أبو حية النميري:
رمين فأقصدنَ القلوب ولم تجد ... دماً مائراً إلا جوى في الحيازم!
وروت النهاية لحميد بن ثور:
أصبح قلبي من سليمى مُقصدا ... إن خطأ منها وإن تعمُّدا!
36 - (ص 309) إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر ابن يحيى يوماً إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن أخلو وأفر من أشغال الناس وأتروح، فهل أنت مساعدي؟ قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك، وآنس بمخالاتك. . .
قلت: إن قصد بـ (أتروح) التروح بنفسه بالمروحة - وما أظن ذلك - فاللفظة في مكانها وإلا فهي (أتوحد) كما جاء في الشرح في (العقد) أو أستوحد، أي أنفرد، أو أستريح
وقوله (بمخالاتك) فيه تحريف، قد يكون أصله بمخالتك أو مخادنتك (أي صحبتك) أو خلوتك أو إخلائك، يعني خلوته وإخلاءه به أو إليه أو معه. و (آنس) هي آنسهم
ومن معاني (المخالاة) في اللغة: الترك. المتاركة. المخالفة. المبارزة. المصارعة. قال: (ولا يدري الشقي بمن يخالي). قال الأزهري: كأنه إذا صارعه خلا به فلم يستعن واحد منهما بأحد. وكل منهما يخلو بصاحبه. وهذا التفسير المتوهم لا ينعش اللفظة المحرفة
37 - (ص 123) ونظير هذا قول قطري بن الفجاءة:
وقولي كلما جشأت لنفسي ... من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
قلت: رواية البيت الأول هي هذه:
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لن تراعي
وهو مطلع مقطوعة رواها أبو تمام في حماسته وابن خلكان في الوفيات. وجاء فيهما بعد ذينك البيتين:(404/24)
فصبراً في مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كل حي ... فداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لا يعتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عد من سقط المتاع
قال ابن خلكان: هذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله، وما أعرف في هذا الباب مثلها، وما صدرت إلا عن نفس أبية، وشهامة عربية!
ومن قول قطري:
ألا أيها الباغي البراز تقرين ... أساقك بالموت الذعاف المقشَّبا
فما في تساقي الموت في الحرب سبة ... على شاربيه فاسقني منه واشربا
38 - (ص 190)
أو أبلق ملأ العيون إذا بدا ... من كل لون معجب - بنَموذج
قلت: البيت للبحتري في قصيدة في الخيل: والرواية في الديوان وشفاء الغليل والتاج هي: أو أبلق (يلقي) العيون. . . ويلقى في هذا المقام أدق من (ملأ) وأكثر بحترية. . .
39 - (ص 187)
إمليسة إمليدة لو علقت ... في صهوتيه العين لم تتعلق
وجاء في الشرح: إمليسة إمليدة: أملس أملد، أي لين ناعم. والذي وجدناه في كتب اللغة أن الأمليسة: الصحراء التي لا شئ فيها من نبات ونحوه، فاستعاره الشاعر هنا للفرس
قلت: روى البيت في العقد في قصيدة لحبيب يصف فرساً. وأغلب الظن أن القول هو أمليسه أمليده. والهاء في اللفظتين ضمير يعود إلى (الأديم) في بيت جاء في الديوان المطبوع بعد هذا البيت:
صافى الأديم كأنما ألبسته ... من سندس برداً ومن إستبرق
والأمليد والأملود الناعم، وإمليس أفعيل من الملامسة، النعومة
40 - (ص 177) وقيل لرجل جبان في بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدم قلت لست بفاعل ... أخاف على فخارتي أن تَحطَّما(404/25)
فلو كان ليَ رأسان أتلفت واحداً ... ولكنه رأس إذا راح أعقما
قلت: زاد الناسخون الواو في أول البيت وصاحبه لم يجلبه وفي البيت خرم، وهو في شعرهم كثير، والحركة في (لي) تطبيع
41 - (ص 42) وقال ابن قتيبة: لم يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قول الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:
يغِضي حياء ويغَضي من مهابته ... فما يُكلم إلا حين يبتسم
وجاء في الشرح: الشاعر هو الفرزدق
قلت: الذي قاله ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) هو هذا: (تدبرت الشعر فوجدته أربعة أضرب: ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه كقول القائل:
في كفه خيزران ريحها عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي. . . البيت. لم يقل أحد في االهيبة أحسن منه)
والبيت للحزين الليثي (عمرو بن عبد وهيب) في أبيات قالها في عبد الله بن عبد الملك (ووفد إلى مصر وهو واليها) كما جاء في معجم الشعراء للمرزباني، وقد نسب البيت في كتب كثيرة إلى الفرزدق خطأ، وربه أولى به، وفي الرسالة 316 ص1450 بحث في هذه النسبة وأبيات الحزين
42 - (ص 144). . . أي المكائد فيها أحزم. قلت: هي المكائد مثل المخايل؛ وهمز قراء معايش على التشبيه بصحائف مخطأ. وقد وردت اللفظة في الشرح وفي الصفحة 243 مضبوطة
43 - (ص 80)
لو عُدّ وقوم كنت أقربهم ... قربى وأبعدهم من منزل الذام
قلت: البيت في مقطوعة منسوبة إلى هشام الرقاشي، وقد ذكرت في الشرح روايات مختلفة لها، ورواية الحماسة والخزانة التي لم يشر إليها قد تكون أصحها، وهي هذه
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
أدخلت قبليَ قوماً لم يكن لهم ... في الحق أن يدخلوا الأبواب قدامى
لو عُد قبر وقبر كنت أكرمهم ... ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام(404/26)
فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ... بباب دارك أدلوها بأقوام
44 - (ص 354) ومنهم (أي من الأجواد) يزيد بن حاتم. كتب إليه رجل من العلماء يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم. وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناَ، ولا أقللها تجبراً، ولا أستثيبك عليها ثناء، ولا أقطع لم بها رجاء. والسلام
قلت: فبعث إليه بثلاثين ألف درهم، كما جاء بعد ذلك، والتعدية بالباء هنا أسلم، ولقولهم بعثة وبعث به قصة طويلة أنقل بعض ما قيل فيها:
في اللسان: بعثه أرسله وحده، وبعث به أرسله مع غيره. . .
في دره الغواص في أوهام الخواص: ويقولون بعثت إليه بغلام وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا)، وتقول فيما يحمل بعثت به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخباراً عن بلقيس: (وإني مرسلة إليهم بهدية)
في شرح الدرة للخفاجي: قال ابن بري: بعثت يقتضي مبعوثاً متصرفاً كان أو لا، تقول: بعثت زيداً بغلام وبكتاب، فلهذا لزمته الباء، وكذا أرسلت يقتضي مرسلاً ومرسلاً به منصرفاً كان أو غير متصرف. . .
في المصباح: كل شئ ينبعث بنفسه، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، وكل شئ لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء فيقال بعثت به. وأوجز الفارابي فقال: بعثه أي أهبه، وبعث به: وجهه. . .
وروى خبر (العقد) في (الأمالي) وفيه (روح بن حاتم) مكان (يزيد بن حاتم) و (لا أقللها تكبراً) مكان (لا أقللها تجبراً) و (تمنناً) مكان (امتنانا)
ونقل البغدادي في (الخزانة) هذا الخبر من بن عبد ربه، أي من (العقد)، وفيها (لا أقللها تحقيراً)
وقد حوت خزانة كتب البغدادي نسخة من (العقد)؛ وقد تكون هي الصحيحة المضبوطة. فأين هذه النسخة وأين سائر كتب الرجل التي سماها في مقدمة مصنفه وهي - كما قال -:
(المواد التي اعتمدنا عليها، وانتقينا منها، وهي ضروب وأجناس)؛ وقد (اجتمع عنده بفضل الله من الأسفار، ما لم يجتمع عند أحد في هذه الإعصار)(404/27)
وقد كان البغدادي في القاهرة، وفيها خزانة كتبه العجيبة المدهشة، والعهد قريب. قال آخر مؤلفه: (وكان ابتداء التأليف بمصر المحروسة في غرة شعبان من سنة ثلاث وسبعين وألف. وانتهاؤه في ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من جمادي الآخرة من سنة تسع وسبعين. فتكون مدة التأليف ست سنين مع ما تخلل في أثنائها من العطلة بالرحلة. فإني لما وصلت إلى شرح الشاهد (69) بعد (600) سافرت إلى قسطنطينية في الثامن عشر من ذي القعدة من سنة سبع وسبعين، ولم يتفق لي أشرح شيئاً إلى أن دخلت مصر المحروسة في اليوم السابع من ربيع الأول ثم شرعت في ربيع الآخر وقد يسر الله التمام وحسن الختام. . .)
ومن الكنوز التي ذكرها في المقدمة: (الكامل للمبرد وشرحه لابن السيد البطليوسي، ولأبي الوليد الوقشي، ولغيرهما. . .)
فأين هذه الشروح؟! أين هذه الشروح؟! هل عثر عليها أحد؟! هل اطلع على أحدها أحد. . .؟!(404/28)
هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند
الشرقيين؟
للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك
التراث الشرقي في العلوم والآداب والفنون هو ولا شك تراث مجيد، ولكنه مع ذلك لا يكفي لنضج الحياة العقلية الحديثة عند الشرقيين؛ بل يجب لكي يصل هذا النضج إلى مداه من التقدم أن يجمع إلى التراث الشرقي خير ما أنتجته وتنتجه القرائح والعقل البشري في الغرب. ولا غضاضة علينا في ذلك، فإن الأمم الأوربية نفسها وهي التي تم نضج الحياة العقلية فيها، لا تفتأ كل منها تقتبس عن آية أمة أخرى في الغرب أو الشرق ما يظهر فيها من مستحدثات التجارب والاكتشافات والمذاهب العلمية. ولذلك قالوا: إن العلم لا وطن له، وإن كان العالم له وطنه كما قال (باستور)
إن التراث الشرقي في ذاته لم يقف عند مستوى واحد، ولم يقتصر على طابع واحد، بل كان ينمو ويتطور على مدى العصور. وفي خلال هذا التطور قد اقتبس عن التراث الغربي القديم، وكان ذلك من عناصر نموه وارتقائه
فالآداب والعلوم والحياة العقلية في عصر الجاهلية تختلف طبعاً عما صارت إليه في الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عصر الأمويين والعباسيين؛ وإنتاج القرائح العقول في هاتيك العصور قد نما وتطور تبعاً لسنة التقدم الإنساني، بحيث أن التراث الشرقي يحتوي على أدوار متعاقبة، لكل دور طابعه وخصائصه. ولست أريد التوسع في بيان ذلك لكي لا تخرج عن جوهر الموضوع، واكتفى بالإشارة إلى أن الحياة العقلية والأدبية في عصر العباسيين قد نمت وازدهرت واتسعت آفاقها عما كانت عليه في عهد الأمويين، وكان من مظاهر هذا الازدهار ظهور العلوم الدخيلة أي المقتبسة عما وضعه رجال العلم والفلسفة والأدب في الحضارات القديمة: كالمصريين والفرس واليونانيين والرومان. فإذا قلنا: إن علوم المصريين القدماء والفرس تعد من التراث الشرقي، فإن علوم الإغريق والرومان وآدابهم هي من التراث الغربي القديم
نقل إذن علماء العصر العباسي علوم اليونانيين إلى اللغة العربية، فترجموا الفلسفة والأدب والمنطق عن أفلاطون وأرسطو، والطب عن أبقراط وجالنيوس، والرياضيات والفلك عن(404/29)
أقليدس وأرخميدس، وغير ذلك كثير، فكان لهذا الاقتباس أثره في نضج العلوم والأفكار واتساع محيط الحياة العقلية عند الشرقيين. ولاشك أن العصر العباسي في التراث الشرقي يعد العصر الذهبي من الناحية العلمية والأدبية والفلسفية. وقد ظهر طابع هذا العصر في الشعر والأدب والعلم والفلسفة، وفي تعدد العلوم وظهور علوم جديدة، كالطب والكيمياء والصيدلة والجغرافيا والموسيقى والفنون الجميلة. فهذا الطابع يدلنا على أن ازدهار الحياة العقلية في التراث الشرقي في ذاته كان مقترناً بالاقتباس عن الحضارات الأخرى
انتهى هذا العصر الذهبي بسقوط الدولة العباسية، أو بعبارة أخرى بسقوط بغداد في يد التتار سنة 656 للهجرة (1258م) وجاء العصر المغولي، ثم العصر العثماني، وفيهما أصاب التراث الشرقي الركود ثم الجمود، وتبع ذلك وقوف حركة التقدم. نعم إن قرائح العلماء والأدباء في الشرق قد استمرت في الإنتاج إلى ابتداء العهد العثماني، ولكن مما لا شك فيه أنه منذ الفتح العثماني لمصر سنة 1517 قد وقفت حركة التقدم تماماً، فكسدت العلوم، وانحط الأدب، وجمدت القرائح، وتراجعت العقول، وانقضت نحو ثلاثة قرون والشرق في تأخر من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بينما الغرب قد أخذ بأسباب الحياة والنهوض فسبق الشرق عدة قرون في النضج العقلي. فبديهي أنه عندما ابتدأ الشرق يستفيق من سباته العميق في نهاية القرن الثامن عشر كان لابد أن يقتبس من الغرب ما سبقه إليه في خلال القرون المتعاقبة؛ لأن العلوم والآداب والاكتشافات والاختراعات قد ضاعفت تراث الغرب بحيث لا يستطيع الشرق أن يأخذ قسطه من الحياة العقلية إلا إذا اقتبس عنه خير ما أنتجته قرائح علمائه وفلاسفته وأدبائه في خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن. فمثل الشرق في ذلك كمثل التلميذ الذي يقعده المرض أو الكسل عن متابعة الدرس والتحصيل زمناً ما، فإذا عاد إلى الدرس كان مضطراً إلى أن يأخذ عن أساتذته أو عن مؤلفاتهم ومذكراتهم ما فاته في مدة المرض أو الكسل لكي يصل إلى مستوى أقرانه في المدرسة
ولم يتردد الغرب حين بدأ عهده بالبعث والنهوض في أن يقتبس عن التراث الشرقي حضارته وعلومه؛ فقد نقل علماؤه فلسفة ابن رشد ودرسوها واقتبسوا منها، وكانت ينبوعاً لليقظة العلمية في الغرب(404/30)
واقتبسوا أيضاً في عهد الحروب الصليبية العلوم والحضارة الشرقية وحملوها إلى بلادهم وأفادوا منها، وكانت من العوامل الجوهرية في نهضة أوربا
فمن الواجب إذن على الأمم الشرقية إلى جانب إحياء التراث الشرقي القديم أن تقتبس عن الغرب تراثه الجديد، وتأخذ عنه محاسنه ومزاياه. ولو أن حركة التقدم قد تابعت سيرها في الشرق ولم يقفها ذلك التأخر الذي أصابه خلال قرون عديدة لزاد من غير شك تراثه في العلوم والآداب، ولما سبقه الغرب في هذا المضمار. أما وقد بعد عهده بازدهار الحياة العقلية فعليه إذا أراد بعث هذه الحياة أن يقتبس عن الغرب علومه الحديثة. وهذا على وجه التحقيق ما اتجهت إليه حركة النهضة العلمية والعقلية في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما ولى أمرها محمد علي الكبير. فهو إذ أراد أن يبعث الحياة العلمية والعقلية في مصر لم يقتصر على إحياء التراث الشرقي القديم بل نقلها إليها إلى جانب ذلك علوم الغرب وآدابه. وأوفد لذلك البعثات العلمية إلى أوربا فتلقى أعضاؤها العلوم والفنون والآداب في جامعات فرنسا وغيرها وعادوا إلى مصر وقد اكتملت ثقافتهم فنقلوا إلى اللغة العربية كتب الطب والطبيعيات والرياضيات والفنون الحربية والآداب والحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. فهؤلاء العلماء الذين استوفوا قسطهم من التراث الغربي هم الذين على يدهم بعث التراث الشرقي القديم في ثوب قشيب، فعادت إليه الحياة. ولو انهم اقتصروا على هذا التراث وحده لما كان في استطاعتهم بعثه واستظهار مفاخره ومزاياه. فعلى ضوء العلوم الأوربية والثقافة الأوربية قد تكشفت لهم حقائق التراث الشرقي وفهموها حق الفهم، وربطوا بينها وبين عوامل التقدم الحديث بحيث تابعوا هذه العوامل فنهضوا بهذا التراث وجعلوه ملائماً لمقتضيات العصر الحاضر
هناك وجهات نظر ثلاث لا تزال النهضة العلمية والعقلية في الشق مترددة حائرة بينها: إحداها ترمي إلى الاقتصار على التراث الشرقي القديم وإحيائه، وقصر الحياة العقلية على حدوده، ومقتضياته؛ وهذه الوجهة لا تكفي فيما أعتقد لاستكمال أسباب النهضة والحياة في العصر الحديث. والثانية إطراح التراث الشرقي جانباً وقطع صلاتنا بالماضي واقتباس الحضارة الأوربية والعقلية الأوربية كما هي بما لها وما عليها، بمزاياها وعيوبها. وهذه أيضاً وجهة نظر خاطئة تنتهي بنا إلى اقتباس العيوب دون المزايا، وتؤدي إلى نوع من(404/31)
التبعية العقلية والثقافية لأوربا تتطور مع الزمن إلى تبعية سياسية وقومية. والوجهة الثالثة هي إحياء التراث الشرقي مع اقتباس خير ما أنتجه وينتجه التراث الغربي من الناحية العلمية والأدبية؛ وهي في اعتقادي الطريقة الوسط التي تكفل لنا نهضة صحيحة في الحياة العقلية والفكرية
إني أجد في تاريخ الأستاذ الإمام لشيخ محمد عبده ما يؤيد وجهة نظري؛ فهو الإمام الديني العظيم، ومع ذلك قد اقتبس في علمه وتفكيره عن العلوم والفلسفة الأوربية، وطالع الكثير من كتب العلماء والمستشرقين والفلاسفة الأوربيين. وكان يتابع دائماً حركة التقدم العلمي في أوربا ويخالط العلماء الغربيين ويحادثهم ويأخذ عنهم خير ما أنتجوا. ولقد كان لذلك أثر كبير في اتساع مداركه وتفكيره، بل في قدرته على الدفاع عن الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به في عصور الركود والجمود، وتفهم المسلمين وغير المسلمين حقائقه السليمة. ولا اعتقد أنه كان يصل إلى هذه المنزلة لو اقتصر في علمه وإدراكه على مدارك التراث الشرقي. ولا اعتقد أن معاصريه من العلماء الذين اقصروا على التراث الشرقي قد وصلوا إلى مثل هذه المنزلة أو خدموا الإسلام مثلما خدمه الأستاذ الإمام
فحينما حمل (هانوتو) حملاته المشهورة على الإسلام لم تجد من يرد هذه الحملات ويفندها تفنيداً علمياً سديداً مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكذلك لا تجدون كتاباً دحض حجيج الطاعنين في الإسلام مثل كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ومن يطالع هذا الكتاب أو يطالع رده على هانوتو يجد مبلغ ما اقتبسه عن الفلسفة الأوربية والعلم الأوربي والشواهد الأوربية
قد يكون لنبوغ الشيخ محمد عبده دخل فيما بلغه من ألمكانه ألعلميه، ولكن هذا النبوغ ذاته قد وجهه إلى الاقتباس من التراث الأوربي إذ وجده ضرورياً لاكتمال نضجه وثقافته وعلمه وفي الحديث الشريف: (اطلبوا العلم ولو في الصين)
وصفوة القول أن التراث الشرقي يحتوي ولا شك على كنوز من العلم والحكمة والأدب، ولكننا في حاجة أيضاً إلى كنوز التراث الغربي الحديث لكي يتم لنا النضج والكمال في حياتنا العقلية
عبد الرحمن الرافعي(404/32)
الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 3 -
أشتد الاتصال بين مصر والغرب منذ أوائل القرن الماضي بتعدد ضروبه، مع الزمن، وتشعِّب دروبه؛ فنمت نزعة المصريين إلى تقليد الغربيين، شأن الَّمتخلف المُستضعَف مع التقدم صاحب الشوكة والغلبة السياسية
وخرج العالم من الحرب الكبيرة الماضية ظمآن إلى التشييد والتجديد والتفوق، مبتلى بأنواع من الفساد وصنوف من الادعاء، وأدرك عندنا جيل نبت في أثنائها أو بُعيدها، واتسع أمامه ميدان التقليد في الضلالة والهدى؛ وكثر بيننا سالكو مناهجه ومدعو العلم والفن، والابتكار والعبقرية؛ فُوجد بطبيعة الحال مَن دعا إلى التجديد في الغناء والموسيقى، والى تقليد الغربيين فيهما، وأقبل عليه فريق من المشتغلين بهما
قام بعضهم بتقليد طائش وهم يحسبون انهم يحتذون مثال الغرب في فنه؛ وكان الأصوب والأجدى ألا يقلدهم إلاَّ من كان على قدر من المعرفة بفنهم، بماهيته الأصلية وأصوله وأنواعه، مع صحة الفهم لتعابيره، كي يكون في مأمن من تشويه ما في يده بأخلاط لا هي من هذا ولا هي من ذاك، كما صنع أناس لا يعرفون من الغناء والموسيقى جملة، إن عرفوا، سوى المقام وربع المقام وبعض النغمات ومواقعها على المعازف، وسوى أقيسة ما يغنون أو يعزفون من الألحان الشرقية والغربية
تورط هؤلاء في تخليط قديمهم المسيخ بما يسرقون ويحرفون من الألحان والموسيقى الغربية القديمة والحديثة، ومن أصوات (الجاز) وهم يسمون هذا الخليط الغريب من ألحانهم وغنائهم وموسيقاهم فناً وتجديداً، مع أن هذا الجديد موصوم بالعيوب المبينة في هذه الكليمات، ومع ركوده في قرار سحيق يبعد به كل البعد عن مستوى الفن الحقيقي الذي أوضحنا ماهيته الأصلية
فكل لحن من أكثر جديدهم ألف صنف (أو سلطة روسية - على استعارة في العامية الفرنسية للمجموع المشوَّش من الأشياء المختلفة) فقد تجد في هذه السلطة العجيبة عبارة صوتية ممسوخة من أوبرا، تتصل بأخرى من شارلستون، تعانق ثالثة من لحن دور عربي(404/34)
تنتهي إلى نغم من تنجو أو رُمْبا، يتعليق بذنبه شئ من موسيقى (عشرة بلدي) وما ذلك إلا تنافر صارخ بين دلالات موسيقية على مدلولات تجمع غضبة مستفحلة - مثلاً - إلى خلاعة إلى بكاء إلى إيحاء شهوي، إلى ما لسنا نفهم في الغناء الجديد أو المبتكر، من أصوات يمطُّ ويمدُ فيها حرف أو أحرف مداً قلقاً في مواقعه، شاطاً خالياً من التناسب مضحكا في شذوذه؛ وتسمع منها جلجلات مستنكرة ينبو عنها الطبع، وخلخلات مستغربة غالباً، لوقوعها في مواضع ليست لها بين عويل ونواح طويل
واللحن البدِع في الغناء على ذوق الآن (الموضة: مركب أيضاً، بعضه شرقي وبعضه غربي، يولد مسخاً على سنة هذا المذهب الحديث حتى الأغنية العربية التي يلفقونها على أوزان لحن بأكمله من رمبا مشهورة أو تنجو معروف؛ إذ يدخلون فيه عبارات صوتية من ألحان غربية مباينة له وإذ تتنافر مدلولاته الصوتية ومعاني كلام الأغنية في أذن من يدرك اختلاف المقام المعَّين بالنص العربي، والمقام المعين باللحن خصوصاً إذا كان يعرف كلام الأغنية الغربية التي سُرق منها اللحن، فأبشع بهذا الفن الزائف!
الحق أننا لم نفهم غرض القائلين بأن الموسيقى الغربية أقدر من الشرقية الحاضرة، وبأنه يجب من أجل ذلك أن نحتذي على مثل منشئيها في موسيقانا؛ فلم نفطن لما يجمل بنا أن نقّلد فيه الغربيين، بل اعتززنا بفننا الضالّ، محدود الإحساس والمدى توهما منا أن موسيقانا أوسع مجالاً وأقدر بربع المقام الذي به نفاخر ونكابر، ومن قلت عرفته زاد اعتقاده المعرفة
كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما إجهار بالدلالات الصوتية في الكلام، أي لغة نغمية تعبر تعبيره عن خواطر القلب وأحاسيس النفس وجلاجلها، لأن تلك الدلالات مصداق القائل:
(إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا)
نعم، كان الأحرى أن نقلد غناء الغرب وموسيقاه من حيث هما يصفان ما يصف الكلام، ويتناولان مثله شتى الموضوعات من نواحي الحياة الإنسانية وظواهر الطبيعة ومظاهرها التي يتأثر منها الإنسان الحي في أحضانها، لأنهما يسايران دلالة اللفظ الصوتية، مفخمين لها بالإنشاء الغنائي وبالإنشاء الموسيقي، ويصفان مواقف المسرحيات التي تمثل الحياة من(404/35)
الأوجه المختلفة وكان يحسن أن نقلد الغرب فيما ارتقت إليه موسيقاه من التصوير الذي عظم شأنه بالتحسين والابتكار في المعازف
ولقد رأى زوار معرض الموسيقى بمدينة فرانك فور الألمانية سنة 1928 أن معازف الغربيين كانت تشبه معازف الشرقيين، وانهم ظلوا يحسنونها ويستحدثون غيرها حتى أصبحت آلاتهم الموسيقية متقنة، ميسرة للمنشئ الموسيقى أن يزوق سياق اللحن الأصلي بألوان من أصواتها تصاحبه وتنمقه وتؤنقه في تواؤم بينها وموافقة له، فتحجب بهذا التصوير كل وحدة مملة وكل اطراد مسئم. وقد يبلغ عدد العازفين في النوبة الكبرى زهاء مائة
ذلك كله هو الشيء الجوهري الذي يجب أن نعالج تقليد الغربيين فيه عسى أن يشبه فننا فن الأحياء في العبارة عن الشعور السليم والمدارك السامية، وإلا فما فضل ربع المقام الزائد؟ وماذا يفيدنا ونحن نقف جامدين به وبالمقامات والنغمات جميعاً عند موضوع واحد محدود ليس فيه غير المذلة البشعة، والحزن القتال، والشهوة الوضيعة؟ ولماذا نرضى بالجمود وليس في فطرتنا الشرقية شئ يمنعنا من التعبير الفني عن حركات ما أودعنا الخالق وأودع الغربيين على السواء من نفس بشرية واحدة وغرائز وملكات متماثلة؟
يعتذر بعض المغنين والموسيقيين عن عيوب فنهم بذوق الجمهور الذي يرتاح إليه ولا يقبل منه بديلاً. وهم على حق من حيث أنهم من هذا الجمهور وأنه يحتملهم، ومن حيث أن الذوق كالمثل الأعلى: ثمرة تنتجها عناصر عديدة منها الوراثة، والبيئة والتطور.
لكن حق كذلك أن من عوامل التطور تأثير البيئة في الأفراد وتأثيرها منهم، خصوصاً من الشخصيات القوية بينهم؛ فالفنان يؤثر في بيئته وجمهوره وإن تأثر منهما، ومن هنا نصيبه في تهذيب ذوق الجمهور وأعلاه مثله الأعلى بقدر مواهبه وسحر فنه، ومن هنا تبعة الفنون الضالة ومسؤولية أصحابها الخلقية في إفساد الأذواق
وحق أيضاً أن أولئك طلاب منفعة وليسوا بفنانين إلا مجازاً، لأن محب فنه لا يضحيه تملقاً للعامة وللجماهير، بل يقدسه قانعاً من الكسب بما يمسك الرمق. وإن شئت مثلاً لتقديس الفن فانظر كيف أن الموسيقار الفرنسي (بيزيه - منشئ موسيقي كرمن، الرواية المشهورة عند فنانينا منذ ألف الخلعي ألحان أغانيها العربية - لم يستسلم لذوق مواطنيه الفرنسيين، حين(404/36)
استهجنوا هذه الموسيقى الوصفية التي أبدع فيما صور بها من حياة الإسبانيين، ولم يهمل أسلوبه الفني؛ فلما علا قدره بكرمن في عاصمة النمسويين وطار صيته رجعوا عن خطئهم، وعرفوا فضل نابغتهم.
نحن إن كففنا عن العيش في الظلام، وفتحنا بصائرنا لنور الحق، وسلك الموهوبون منا سبيل الإصلاح، ظهر فينا المغنى الأحوزي والموسيقار العبقري
فإذا أتيح للموسيقى والغناء المصريين أن يظهر من محبيهما فنانون لا تعبأ شخصياتهم القوية بغير فنهم، ويعرفون ما عندنا وعند غيرنا، فانهم يئنون بالجديد السليم الذي يسري في النفوس، ويسوق طوائف المحترفين والهواة والمستمعين إلى الطريق القويم فينصلح الذوق العام شيئا فشيئاً؛ ثم يتصعد مستوى الفن مع انتشار التعليم والثقافة، وارتقاء البيئة والحياة الاجتماعية، فنبلغ الشأو بعد حين. ووجود نقاد يدعون إلى سلوك سبل الإصلاح هو علامة أوانه بل آية أبانه.
ومن لم يصدق ما قرأ في هذه الكليمات فإني أوصيه بأن يطلع على بعض كتب الموسيقى الشرقية، وعلى شئ من تاريخ الموسيقى الغربية ومذاهب أصحابها ونقادها؛ وبان يصغي بانتباه إلى مختارات منها بإرشاد من يفهمها؛ ولعله يستيقن بعد ذلك أن سبيل الإصلاح والترقي في الغناء والموسيقى عندنا هو دراستهما دراسة فنية ثقافية جدية، وتقليد الغرب فيما تقدمت الإشارة إليه؛ وليس شك في أن المعارضين يسلمون بهذا في مستقبل قريب أو بعيد، تسليم أناس كانوا قبل سنين أدبرت ينعون على المستنيرين معالجتهم إنقاذ اللغة والأدب من جمود طالما أرادوهما عليه، ويرمون بما ليس دون الكفر كل من قال بوجوب الإصلاح من شئون الأزهر
محمد توحيد السلحدار(404/37)
من ليالي كليوبترا
للأستاذ علي محمود طه
(كتبت إلى الشاعر تقول: (قرأت لك عن ليلة النيل والموج،
وهو يروي حلم ليل من ليالي كليوبترة، فهلا وصفت لنا ليلة
من هذه الليالي؟ وهل لنا بصورة حلم أحلامها؟)
فإلى صاحبة تلك الإثارة الرائعة إهداء هذه القصيدة)
كِلْيُوُبُتْرَا! أيُّ حُلمٍ مِن لَيالِيكِ الحِسانِ
طَافَ بالموْجِ فَغَنَّى وَتَغَنَّى الشاطِئانِ
وَهَفا كلُّ فُؤَادٍ وَشَدَا كلُّ لِسانِ
هَذِهِ فَاتِنَةٌ الدُّنْيَا وَحَسْنَاء الزَّمانِ
بُعِثَتْ في زَوْرَقٍ مُسْتَلْهَمٍ مِنْ كلِّ فَنِّ
مَرِحِ المِجْدَافِ يَخْتَالُ بِحَوْرَاءَ تُغَنِّى
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي ... آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
نْبأةٌ كالكأْسِ دَارَتْ بَيْنَ عُشَّاقٍ سُكاَرَى
سَبَقَتْ كلَّ جَنَاحٍ في سماءِ النِّيلِ طَارَا
تَحْمِلُ الْفِتْنَةَ وَالْفَرْحَةَ وَالوَجْدَ المُثَارَا
حُلوَة صَافِيَةَ اللَّحْنِ كأَحْلاَمِ الْعَذَارَى
حُلْمُ عَذْرَاءَ دَعَاهَا حُبُّهَا ذَاتَ مَسَاءِ
فَتَغَنَّتْ بِشِرِاعٍ مِنْ خَيَالِ الشُّعَرَاءِ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي ... آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
وَتَجَلَّى الزَّوْرَقُ الصَّاعِدُ نَشْوَانَ يَمِيدُ
يَتَهَدَّاهُ عَلَى الَموْجِ نَوَاتِيُّ عَبِيدُ
المَجَادِيفُ بِأَيدِيهِمْ هُتَافٌ وَنَشيدُ
وَمُصَلُّونَ لَهُمْ في النَّهْرِ مِحْرَابٌ عَتِيدُ(404/38)
سَحَرَتْهُمْ رَوْعَةُ الَّليْلُ فَهُمْ خَلْقٌ جَدِيدُ
كلُّهُمْ رَبٌّ يُغنِىِّ وَإلهٌ يَسْتَعِيدُ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي ... آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
إِصْدَحِي أَيَّتُهَا الأرْوَاحُ باللَّحْنِ الْبَدِيعِ
وَامْرَحِي يَا رَاقِصَاتِ الضَّوْءِ بالَموْجِ الْخَلِيعِ
قَبِّلِي تَحْتَ شِرَاعِي حُلُمَ الْفَنِّ الرَّفيعِ
زَوْرَقاً بَيْنَ ضِفَافِ النِّيلِ في لَيْلِ الرَّبيعِ
رَنَّحَتْهُ مَوْجَةٌ تَلْعَبُ في ضَوْءِ النُّجُومِ
وَتُنَادِى بِشُعَاعٍ رَاقِصٍ فَوْقَ الْغُيُومِ
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي ... آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
لَيْلُنَا خَمْرٌ وَأشْوَاقٌ تُغَنِّى حَوْلَنَا
وَشِرَاعٌ سَابحٌ في النُّورِ يَرْعَى ظِلَّنَا
كانَ في الَّليْلِ سُكاَرَى وَأَفَاقُوا قَبْلَنَا
لَيْتَهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْحُبَّ فَبَاتُوا مِثْلَنَا
كلّمَا غَرَّدَ كأُسٌ شَرِبُوا الْخَمْرَةَ لَحْنَا
يَا حَبيبي كلُّ ما في اللَّيْلِ رُوحٌ يَتَغَنَّى
هَاتَ كأسِي إنَّهَا لَيْلَةُ حُبيِّ ... آه لوْ شاركتَني أفْراَحَ قلبي!
يَا ضِفَافَ النيِّلِ باللهِ وَيَا خُضْرَ الرَّوَابي
هَلْ رَأَيْتنَّ عَلَى النهرِ فَتىً غَضَّ الإهَابِ
أسمَرَ الْجَبهَةِ كالْخَمْرَةِ في النُّورِ المُذابِ
سَابحاً في زَوْرَقٍ مِنْ صُنْع أحْلامِ الشَّبَابْ؟
إنْ يَكنْ مَرَّ وَحَياً مِنْ بَعيدٍ أو قرِيبِ
فَصِفِيِهِ، وَأَعيدِي وَصْفَهُ فَهْوَ حبيبي!
يَا حَبيبي هَذِهِ لَيْلَةُ حُبِّي ... آهِ لوْ شَاركْتَنِي أَفْرَاحَ قلبي!
أَنْتِ يَا مَنْ عُدْتِ بالذِّكْرَى وَأَحْلاَمِ اللَّيَالِي(404/39)
يَا ابنَةَ النهرِ الذي غَنَّاهُ أرْبَابُ الْخَيَالْ
وَتَمَنَّتْ فِيهِ لْو تَسْبَحُ رَبَّاتُ الْجَمَالِ
مَوْجُهُ الشَّادِي عَشِيقُ النُّورِ مَعْبوُدُ الظِّلالِ
لم يَزَلْ يَزْوِي وَتُصْغِي للرِّوَايَاتِ الدُّهُورُ
والضِّفَافُ الْخُضْرُ سَكْرَى والسَّنَى كأسٌ تَدُورُ
حُلمٌ لمْ تَرْوهِ لَيْلةُ حُبِّ ... فَاذكُرِيه واسَمعِي أَفراحَ قلبي!
علي محمود طه(404/40)
رسالة النقد
الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي
تأليف الدكتور زكي محمد حسن
للدكتور محمد مصطفى
- 2 -
وفي كلام المؤلف في الفصل الذي كتبه عن (التذهيب) يقول في (ص 70) - بدون أن يذكر المرجع - ما يأتي:
(أما زخارف الصفحات المذهبة، فكانت في البداية خليطاً من العناصر الزخرفية الساسانية والبيزنطية والقبطية، فضلاً عن الرسوم المنقولة من كتب اليهود وكتب المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية)
وأجمل المؤلف في العبارة التالية لهذه كلامه عن بعض هذه الزخارف.
وقد كتب الدكتور ريشارد أتينجهاوزن بحثاً وافياً عن تذهيب المخطوطات في إيران ووصف هذه (العناصر الزخرفية) في صفحتي 1944 و1945 من هذا البحث
ومن الغريب أن نلاحظ أن الدكتور زكي محمد حسن في هذا الفصل الذي كتبه عن (التذهيب) (ص 68 - 73) لم يشر في أية ناحية منه إلى هذا البحث الذي كتبه الدكتور ريشارد أتنيجهاوزن في نفس هذا الموضوع، مع أن هذا البحث يعد أحدث بحث علمي واف عن تذهيب المخطوطات في إيران، فضلاً عن أن جميع البيانات التي كتبها الدكتور زكي عن التذهيب في إيران في عصوره المختلفة بما في ذلك الحواشي الأربع التي وردت في هذا الفصل من كتابه، قد جاءت كلها ضمن ما كتبه الدكتور أتنيجهاوزن في البحث المذكور وما أروده فيه من حواش
فإننا نرى أن ما كتبه الدكتور أتنيجهاوزن في ص1947 مفصلاً عن ميزات المخطوطات المذهبة في العصر السلجوقي، قد أورده الدكتور زكي مجملاً في الفقرة الأخيرة من ص 70، وفي ص 1951 - 1952 تفصيل ما جاء في الفقرة الأولى من ص 71 عن الطريقة الجديدة في الزخرفة والتذهيب في هذا العصر. وفي ص 1559 - 1956 ما جاء في(404/41)
الفقرة الثانية من ص 71 عن المصحف المحفوظ بدار الكتب المصرية. وفي ص 1960 بما في ذلك الحاشية رقم 1 ما جاء في الفقرة الأولى من ص 72 والحاشية رقم 1 في الصفحة نفسها عن مخطوط الشاهنامة المؤرخ سنة 831هـ. وأيضا في ص 1960 وفي الحاشية رقم 5 ما جاء في الفقرة الثانية من ص 72 والحاشية رقم 2 في هذه الصفحة عن أعلام المذهبين في العصر التيموري. وفي ص1960 - 1961 ما جاء في الفقرة الثالثة ص 72 عن رسوم النبات والزهور. وفي ص 1968 - 1969 ما جاء في الفقرة الرابعة من ص 72 عن أعلام المذهبين في العصر الصفوي. وفي ص 1969 ما جاء في الجملة الأولى من الفقرة الأولى في ص 73 عن بعض ميزات المخطوطات الصفوية. وفي ص 1970 - 1971 والحاشية رقم 9 ص 1970 ما جاء في العبارة الثالثة من الفقرة الأولى في ص 73 بما في ذلك الحاشية رقم 2 في هذه الصفحة عن مخطوط بستان سعدي المحفوظ في دار الكتب المصرية، وما فيه من (رسم بطة تطير بين سحب صينية). وفي ص 1972 والحاشية رقم 5 في هذه الصفحة ما جاء في الجملة الثانية من الفقرة الأولى في ص 73 والحاشية رقم 1 في هذه الصفحة عن مخطوط منظومات الشاعر نظامي
ومما تقدم يتبين أن الدكتور ريشارد أتنيجهاوزن قد سبق الدكتور زكي محمد حسن في سرد الحقائق العلمية عن التذهيب في إيران، وقد كان من الواجب على الدكتور زكي أن يشير، في الفصل الذي كتبه عن التذهيب، إلى هذا البحث، لاسيما وأن جميع البيانات والحواشي التي أوردها في هذا الفصل قد جاءت - كما رأينا - بنفس التسلسل الذي جاءت به ضمن البيانات والحواشي التي كتبها الدكتور أتنيجهاوزن
وفي كلامه عن مسألة كراهية التصوير في الإسلام (ص74 وما بعدها) لم يأت المؤلف برأي شخصي قاطع في هذا الموضوع، بل اكتفى بأن قال: (على أننا لا نميل إلى أن نصدق أن التصوير كان غير مكروه في عهد النبي عليه السلام وعصر الخلفاء الراشدين، بل أكبر الظن أن. . .) ثم بدأ الفقرة التالية لهذه العبارة بقوله: (ومهما يكن من الأمر فإن. . .) وقد أشار إلى آراء العلماء الأوربيين بدون أن يناقشها وبدون أن يذكر شيئاً مما جاء في أبحاثهم العلمية
ويقول في ص 76: (وقد قيل أن العرب ورثوا عن اليهود كراهية التصوير، وإن أقل(404/42)
الشعوب الإسلامية اكتراثاً بتحريم التصوير في الإسلام إنما هي الشعوب غير السامية الأصل وبنى على ذلك قوله في ص 79
رابعاً - إن الإيرانيين قوم من الجنس الآري، ولم يكونوا كالساميين يحسون شعوراً نفسانياً ببعدهم عن التصوير
ولكن نسبة العرب إلى الجنس السامي لا تزال موضع دراسة عند علماء الأجناس. والمسألة هنا مسألة أحاديث نسبت إلى النبي (ص) ويهم المسلمين جميعاً - سواء منهم العرب أو الإيرانيون والشيعة أو النسييون - أن يعرفوا مبلغ صحة نسبتها إليه. وهل تربت كراهية التصوير في الإسلام على هذه الأحاديث أو على عوامل أخرى دخيلة على الإسلام. وإذا تكلمنا عن نسبة العرب إلى الجنس السامي، وجب علينا أن نبحث فيما إذا كان مسيحيو الشرق الأدنى من الجنس السامي أو الآري، وهم كما نعلم من العرب أيضاً، وقد أخذت عنهم مدرسة العراق أو المدرسة السلجوقية (الأسلوب الفني) في التصوير، وكما يعترف المؤلف في ص 84 أن هذه المدرسة (كانت عربية أكثر منها إيرانية، فالأشخاص فيها عليهم مسحة سامية ظاهرة، والأسلوب الفني مأخوذ - إلى حد كبير - عن الصور في مخطوطات المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية)
وفي ص 80 أورد المؤلف حاشية طويلة عن تصوير مخطوطات كتاب كليلة ودمنة، وكذلك بعض العبارات التي قالها ابن المقفع الذي ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، عن فوائد الكتاب تستنتج منها أن التصوير يمكن إرجاعه إلى عصور مبكرة في الإسلام. ولكن المؤلف لم يذكر المرجع الذي أخذ عنه هذه الحاشية. وبالنسبة لما لهذه الحاشية من الأهمية الخاصة في تاريخ التصوير، أقول إنني قد عثرت على حاشية مماثلة لحاشية المؤلف كتبها الأستاذ بوب يعلق بها على ما جاء في كلام الأستاذ كينل عن مخطوط كليلة ودمنة
وقال المؤلف أيضاً في ص 80 (ونحن نذهب إلى أن المسؤول عن طبيعة التصوير الإيراني هي البيئة التي يعيش فيها الفنانون، والأساليب الفنية التي ورثوها عن أسلافهم من سكان الهضبة الإيرانية وبلاد العراق والجزيرة والشرق الأدنى عامة، فإن هؤلاء لم يكن لديهم، من الحفلات والألعاب الرياضية والمناظر الطبيعية والعناية بالتربية البدنية وتقوية الأجسام، ما يمكن أن يدفعهم - كالإغريق مثلاً - إلى دراسة الجسم الإنساني دراسة(404/43)
متقنة والعمل على تصويره أو صناعة التماثيل له بدقة يراعى فيها صدق تمثيل الطبيعة)
ولكن المؤلف يقول في ص 186: (وقد استعمل الخزفيون في الري عدداً وافراً من الزخارف الهندسية والنباتية، ورسموا معظم الحيوانات التي عرفوها في ذلك الوقت، ولاسيما الأرنب وكلب الصيد، كما اتخذوا بعض الزخارف من مناظر الرقص والطرب والموسيقى والصيد، ولعب الصوالجة (البولو) والحفلات الرسمية، بل لقد رسم أحدهم صورة طبيب يقصد سيدة أنيقة)
وعلاقة خزف مدينة الري بالتصوير يقول عنها المؤلف ص 85: (ولعل أكبر دليل على العلاقة الوثيقة بين هذه الصور السلجوقية وإيران أن رسومها تشبه الرسوم الموجودة على الخزف الإيراني المعروف باسم (مينائي) والذي كانت مدينة الري أعظم مراكز صناعته)
ومن عبارة المؤلف عن الخزف نرى أنه كانت لديهم من الحفلات والألعاب ما يمكن أن يدفعهم إلى مراعاة الدقة في صدق تمثيل الطبيعة. ولكني أظن أن السبب في ذلك هو كما قال الأستاذ لورنس بنيون: (إن الروح التي تسود التصوير الإيراني هي روح الخيال، فالإيرانيون يحبون ما هو عجيب ومدهش. والخيال بالنسبة لنا (للأوربيين) هو الهروب من عالم الحقيقة إلى عالم العجائب. أما بالنسبة لهم (للإيرانيين) فهو نسيم الحياة)
ويستشهد المؤلف في ص 129 بمثال ضربه الأستاذ لورنس بنيون ولكنه لم يذكر المرجع. وإني أظن أنه هذا المثال من مقال الأستاذ بنيون في
وفي ص 130 يقول المؤلف (أجل، إن تصوير المناظر الطبيعية لم يكن عندهم فرعاً مستقلاً من فروع التصوير، ولم تكن له المكانة التي وصل إليها عند الغربيين والصينيين، ولكنهم عرفوه. ولم ينصرفوا عنه لعجز، وإنما لأنه لم يوافق طبيعتهم الفنية. واعتقادهم أن الإنسان هو المحور الذي تدور حوله هذه الحياة. فالفنان الإيراني يأخذ من الطبيعة ما يريد، ولكنه لا يتقيد بها.
وقد جاءت هذه العبارة شديدة الاقتضاب بحيث يمكن أن يفهم منها عكس ما يريد المؤلف قوله، وإني أورد فيما يلي عبارة مماثلة من مقال الأستاذ لورنس بنيون لشرح ذلك: (لا تختلف التقاليد الصينية واليابانية في التصوير اختلافاً جوهرياً عن تقاليد الفنانين الإيرانيين فيما يختص بالصور المخصصة لرسم الأشخاص أو الصور التي يرى عليها أشخاص في(404/44)
وسط مناظر طبيعية. أما المناظر الطبيعية نفسها فإنها وإن كانت معروفة في الفن الإيراني، إلا أنها لم تصل إلى الدرجة التي تكون فيها كفرع مستقل من فروع التصوير، فلم تصبح أبداً مرآة تنعكس فيها أعمال الإنسان، بل كانت تمثل فقط صورة لأحد المناظر. وكانت للمناظر الطبيعية في الصين هذه الدلالة، بل وأكثر من ذلك، فإنها كانت محاولة للتعبير عن صلة الإنسان بالكون، وبما أن الكل أعظم من الجزء، وحياة الإنسان جزء من الطبيعة، لذلك نرى أن الصينيين ينزلون تصوير المناظر الطبيعية في أعلى منزلة بين فروع التصوير. وهذا الاختلاف في طبيعة الفن يأتي من الاختلاف في تكوين عقلية الشعوب. فعند الإيرانيين، كما هو الحال عند الأوربيين في أغلب الأحيان، نجد أن الإنسان وأعمال الإنسان هي الموضوع الرئيسي الذي تعطى له أهمية خاصة، أما الطبيعة فتبقى فيما بعد ذلك، ولا تدرس لنفسها)
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ بوب والدكتور أكرمان ما يلي: (الحديقة موضوع رئيسي في كثير من الفنون الإيرانية. . . وقد أدى استعمال لوحات القاشاني المباني إلى إمكان تحويل مبنى بأكمله إلى مجموعة ذات ألوان بهجة من الزهور، تكون كتلة واحدة مع الحديقة ذات الزهور الحقيقية التي يقوم المبنى في وسطها. . . وقد تركت الديانة الزردشتية الحياة في الآخرة غامضة ومبهمة؛ أما الإسلام فقد كان صريحاً في ذلك ووعد المتقين بحياة خالدة في جنات النعيم
ويقول الأستاذ بوب وقد كان معروفاً أن الإيرانيين لم يباشروا أبداً تصوير المناظر الطبيعية الخالصة، ولكن لا يكاد المرء يكون نظرية في أي فرع من فروع الفن الإيراني حتى يظهر اكتشاف جديد يقضي على هذه النظرية، وقد وجد الدكتور أجا أوغلو في استانبول اثنتي عشرة غاية في الإبداع والجمال، من المناظر الطبيعية الخالية من أية صورة آدمية
وقد نشر الدكتور محمد أجا أوغلو تسعاً من هذه الصور وهو يقول عن تصوير المناظر الطبيعية ما يأتي:
(وإذا حكمنا بما وصل إلينا من الصور إلى الآن، نجد أن تصوير المناظر الطبيعية لم يعالج كفرع قائم بذاته من فروع التصوير في إيران. . . . وليس هذا معناه أن تمثيل الطبيعة كان غريباً على الفنانين الإيرانيين، فقد كانت المناظر الطبيعية والمباني في أشكالها(404/45)
المختلفة موضوعاً محبوباً لديهم لتمثيل الفروسية والحماسة والمناظر الأخرى. ومنذ بدء ارتقاء فن التصوير يمكننا أن نلاحظ ابتهاجاً آخذاً في الازدياد في معالجة المناظر الطبيعية كموضوع زخرفي).
(له بقية)
محمد مصطفى(404/46)
البريد الأدبي
إعجاب وتقدير
أيها الأستاذ الجليل (* * *)
إني ليطربني يا سيدي أن أقرأ لكم هذه المقالات القديرة، الزاخرة بالفائدة، في نقد الطبعة الأخيرة من (العقد الفريد). وليست تلك النقدات وحدها هي التي سبتني من علمك الغزير، واطلاعك المنقطع النظير، وإحاطتك بما تكنه ضمائر أسفار السابقين الأولين من أئمة اللغة وحفاظها، بل قد تتبعت في الرسالة الغراء كل ما دبجته براعتك منذ أول عهدك بها، لم تفتني منه فائتة؛ بل لقد اتخذت منه دروساً أتوفر عليها وأعكف على الإفادة منها، والتضلع من مغنيها الفياض
وإني لأعجب يا سيدي كل العجب - في هذا العصر الذي يباهى فيه بالقشور وسخف القول - كيف تتستر وتحتجب، وتقف في تواريك هذا وعزلتك مرشداً وهادياً، لا تبغي غير خدمة وطنك ولغتك
وإن أسفت على هذا التستر والاحتجاب، فإنما أسفي على أن أمثالي من طالبي المعرفة يودون لو أتيحت لهم فرصة لقائك، ليستزيدوا منك، وليتحلوا بما يشهدون فيك من كمال الخلق، ولكنك زهدت في نباهة الذكر، وعفت الإعلان، وآثرت العمل في جو خلو من الصخب والضوضاء
ضربت يا سيدي المثل في التواضع وإنكار الذات، وضربته في طهر قلمك من لوثة الزهو والعجب والمباهاة، فليتعلم من هذا المثل الصالح من يتصاولون على صفحات الجرائد والمجلات، فيدعون ما يتصاولون من أجله، ويخرجون إلى ميادين العيب والتجريح. ليتعلم هؤلاء منك ومن أمثالك الأعفاء، أن يقصروا أقلامهم على ما يدافعون عنه من عقيدة: الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. ولينسوا أنفسهم وأهواءهم في سبيل الحق، وليدعوه شهوة الانتقام والتشفي، فإن أوقات القراء لأنفس من أن تبعثر في مثل هذا اللغو والزور من القول.
مزيداً أيها الباحث الجليل، فإنا إلى علمك وفضلك وخلقك لعطاشى
(أ. ج)(404/47)
مقالة الأستاذ السباعي بيومي
أثبتت مقالة الأستاذ الكريم ما قلته في غنى اللغة واستفادة الناس من خطأ الكبار في بعض الأوقات، فأعطى لسان العرب ما أعطاه إياه، وأفاد القوم بما أملاه وإن أحب أن يخالف الأئمة: سيبوبه والزمخشري والتبريزي والرضي وابن هشام. فهل بمن اليوم (أطال الله بقاءه ولا زال في حصن العربية: (دار العلوم) من أكبر حماته وحماتها) بعلاوات، بشواهد لجاهلين أو إسلاميين أو المولدين الأولين متفضلاً بمراجعة ما قال الأئمة في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) وحياه الله، وحيا ربعه!
ناقد
الفقر
الحرب قائمة في هذه الأيام بين الأديب الكبير الدكتور زكي مبارك وبين جماعة من أجل مقالة نعى فيها الدكتور على الفقراء (المساكين) كسلهم وتواكلهم وغير ذلك. وقد ذكرني البحث في الفقر والفقراء - والشيء بالشيء يذكر - بقول موجز للراغب في (الذريعة) فأحببت نشره في (الرسالة) الغراء وإن كان فقراء (الراغب) يخالفون فقراء (الدكتور زكي مبارك). فالراغبون بعثهم الفقر على الكد، والمباركيون دعاهم فقرهم إلى الكسل. . . قال الراغب
(حصول الفقر وخوفه المنتجان للحرص هما الباعثان على الجد واحتمال الكد ومنفعة الناس أما باختيار وأما باضطرار. وقد قيل: قيام العالم بالفقر أكبر من قيامه بالغنى، لأن الصناعات القائمة بالغنى ثلاث: المُلك والتجارة والكتابة، وسائرها قائمة بالفقر؛ فلو لم يكن الفقر وخوفه فمن كان يتولى الحياكة والحجامة والدباغة والكناسة، ومن كان ينقل المير والملابس من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال؟ وعلى منفعة الفقر نبه الله تعالى بقوله: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) ومن تدبر صنع الله تعالى في ذلك وتأمل ما أشار إليه في هذه الآيات التي ذكرها لم تعرض له الشبهة التي تعرض لمن يقول: (إذا كان الله جواداً واسعاً فلِمْ خص بعضهم بالغنى، وجعل أكثرهم فقراء؛ ومن حق الغنى الذي لا يفنى غناه، والجواد الذي لا يعرف لجوده منتهاه، إلا يخص بالعطية بعضاً(404/48)
دون بعض) وذاك أن الجواد هو الذي يعطي كل أحد بقدر استئهاله على وجه يعود بمصلحته ومصلحة غيره وقد فعل ذلك بالعباد.
ذلكم قول (الذريعة)، وتلكم شرعة الدنيا إلى أن تشاء المقادير، تبديل الدسانير.
(باحث)
في العقد
ورد في مقالة الأستاذ (الجليل) الذي يستدرك ما في طبعة العقد من الخطأ البيتان الآتيان:
جانيك من يجني عليك وقد ... تُعْدِي الصحاحَ مبارك الجرب
ولرب مأخوذٍ بذنب عشيرهِ ... ونجا المقارف صاحب الذنب
وقد اختلفت روايات البيت الثاني في الكتب، والرواية التي ذكرها الأستاذ تجعل صدر البيت (متفاعلن متفاعلن متفاعلن) مع أنها في صدر الأبيات الأخرى وفي عجزها أيضاً على وزن (متفاعلن متفاعلن فَعِلن أو فَعْلُن) فتجعل قول الشاعر (ولرب مأخوذٍ بذنب عشيرهِ) شاذاً زائداً عن كل صدر وعجز وإن كان وزنه كاملاً تاماً. وشذوذ هذا الصدر مما لا تسيغه الأذن وإن كان العرب قلما كان يكرثهم أن يشذ الشاعر منهم فيخرج من ضرب إلى ضرب ويرد التفعيلة إلى تمام مبناها في بعض أبيات قصيدته. لكن اختلاف الرواية إذا أضيف إلى الشذوذ والنبو في الأذن يجعلنا نأخذ برواية البيت التي هي على ضرب وزن الأبيات الأخرى والتي يتفق فيها الصدر والعجز وهذه الرواية هي:
ولرب مأخوذ بلا قرفٍ ... ونجا المقارف صاحب الذنب
وورد أيضاً (بلا تِرَةٍ) أي من غير وتر؛ وأورده صاحب مجموعة المعاني (ولم يقترف) ولكن روايته تغير فعلن إلى فاعلن. أما الزيادة في المعنى التي أوجبت الزيادة في ضرب الوزن في قوله (بذنب عشيره) فغير ضرورية لأن المأخوذ ظلماً قد يؤخذ ظلماً بذنب غير عشيره. ونرجو من أستاذنا الجليل أن يردنا إلى الصواب أن كان في قولنا خطأ.
عبد السميع صبري
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
ذكر الأستاذ علي عبد الواحد وافي في العدد الممتاز أنه لا يصح إرجاع وأد البنات عند(404/49)
العرب في الجاهلية إلى فقرهم، لأن ذلك كان يفعله أغنياؤهم وفقرائهم، ولا غيرتهم على أعراض البنات، لأن ذلك يرجع عند من يراه إلى قصة قيس بن عاصم. ووأد البنات أقدم منها عند العرب، وقد رأى أن يرجع ذلك إلى سبب استنبطه من الآيات القرآنية التي وردت في وأد البنات؛ وهو أن بعض العرب كانوا يعتقدون في البنات إنهن من خلق إله اليهود، وكانوا ينظرون إليه نظرة كنظرتنا الآن إلى الشيطان؛ أما الذكور فمن خلق آلهتهم، ولهذا كانوا يعتقدون في البنات أنهن رجس يجب التخلص منه بالقتل، ثم ساق الآيات التي استنبط ذلك منها، فساق أولاً قوله تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون. ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به؛ أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساءوا ما يحكمون) الآيات 56 - 59 من سورة النحل، وقد فسر البنات في ذلك بالإناث من البشر، وحمل قوله تعالى (ولهم ما يشتهون) على انهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون من البنين، وكل من التفسيرين غير صحيح، لأن المراد من البنات الملائكة الذين كانوا يقولون عنهم انهم بنات الله، والمراد من قوله تعالى (ولهم ما يشتهون) انهم يجعلون لأنفسهم لا لآلهتهم البنين الذين يشتهون، فينسبون لله من البنات ما يكرهونه لأنفسهم، وهذا هو الذي ينطق به ما ساقه من باقي الآيات، كقوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً أن الإنسان لكفور مبين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين، وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون) الآيات 15 - 19 من سورة الزخرف، فمن جعلوهم جزءاً هنا لله هم البنات في آيات النحل، وهم الملائكة الذين جعلوهم إناثاً هنا، والمراد انهم جعلوهم أولاد الله، فأين هذا من تفسير الأستاذ وافي لهم بالبنات من بني آدم، وإن العرب كانت تعتقد أنهن خلق الله لا خلق آلهتهم، وكذلك قوله تعالى (وأصفاكم بالبنين) وصريح في انهم كانوا يجعلون البنين لأنفسهم، وليس الأمر كما فهمه الأستاذ وافي من انهم كانوا يجعلونهم لآلهتهم، وأصرح من هذه الآيات في ذلك قوله تعالى (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً). فليس في شئ من الآيات التي ساقها الأستاذ وافي ما يفيد أن العرب كانوا يعتقدون أن بناتهم من خلق(404/50)
الله، وانهم كانوا يئدونهن كرهاً لهن لأنهن غير مخلوقات لآلهتهم. وليت شعري بعد هذا من أين أخذ الأستاذ وافي أن العرب الذين كانوا يئدون البنات كانوا يعتقدون في الله تعالى ذلك الاعتقاد، وينظرون إليه كما ننظر إلى الشيطان، وهم الذين قال الله في حقهم من سورة الزخرف أولاً (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العظيم) الآية - 9 - ثم ذكر بعد ذلك الآيات السابقة في نسبتهم البنات من الملائكة إليه تعالى
والحق عندي أن وأد البنات كان بعضه للفقر من الفقراء، وكان بعضه لخوف الفقر من الأغنياء، وكان بعضه لخوف العار والسبي، ولا مانع من أن يكون بعضه لعقيدة دينية غير التي يذكرها الأستاذ وافي، فقد كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب بن هاشم
عبد المتعال الصعيدي
حول سقط وكبا
جاء في مقال الأب الفاضل أنستاس ماري الكرملي المنشور بعدد الرسالة 402 تحت (كلمة حق) يستنكر فيه تعبير الأستاذ إسماعيل مظهر لكلمة (سقط وكبا)؛ ويقول في هامش صفحة 320 هذه العبارة: (كذا بتقديم السقوط على الكبو لا يعرفه إلا سكان جزيرة الوقواق)
فهذا التعبير، وقد أجازته لغة القرآن في كثير من آيها، والواو فيه للجمع المطلق، ولا تقتضي الترتيب بدليل قوله تعالى حكاية عن منكري البعث (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)، وإنما يريد نحيا ونموت، وفي آية ثانية (فكيف كان عذابي ونذر)، والنذارة قبل العذاب بدليل قوله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)؛ وفي آية ثالثة (إني متوفيك ورافعك إلى)، فإن وفاته عليه السلام لا تقع إلا بعد الرفع
حسين سلامة دياب(404/51)
القصص
ما ليس يفهمه الطفل
قصة روسية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
(نيقولاي أليتش) رجل من أغنياء بطرسبرج يبلغ الثانية والثلاثين من العمر، وهو ممتلئ الجسم، قوي البنية، محمر الوجه. وكان قد اتخذ من زوجة المسيو (أرنين) خليلة له، فقضى معها شطراً من الزمن في غرام حار متبادل، ثم خمدت جذوة حبه، فصار يتردد على منزلها بين حين وحين، وبينهما نوع من الحب الفاتر. . .
وزارها في يوم من الأيام، فلم يجدها، وجلس ينتظرها في غرفة الاستقبال، فدخل ابنها الصغير وحياه وقال: إن أمه ستعود سريعاً، وهي الآن عند الخياطة مع أخته (صونيا). . .
وكان عمر هذا الطفل ثمانية أعوام، واسمه (أليوشا)، وهو حسن البزة، قوي البنية، عليه ثوب نظيف من القطيفة، وفي قدميه جورب أسود طويل؛ وكان يلعب ألعاباً رياضية، مستمتعاً بما وهبه الله من صحة جيدة. . . وبدأ الرجل يحدثه ليمضي الوقت ولكي يداعبه، فقال: هل أمك في صحة جيدة؟
فأقبل الطفل نحوه وقال: (أنها لم تكن قط في صحة جيدة، وهي كل يوم تشكو من مرض)، وأخذ الرجل يتأمل في وجه الطفل ليرى فيه محاسن أمه في صباها يوم كان حبهما لا يزال في سورته وسأله عما يتلقاه في المدرسة؛ فقال أنه وأخته صونيا يحفظان قطعة من الشعر الفرنسي. وقال الرجل للطفل: (هل حلقت شعرك اليوم؟) فقال: (نعم. وأنت حلقت أيضا، لأن لحيتك أصغر من العادة. أتأذن لي أن أمسكها؟)
قال الرجل: (لا لا! لن آذن بذلك) فقال الطفل: (لماذا؟ هل يؤلمك أن أنزع شعرة أو شعرتين؟) ثم أمسك السلسلة الذهبية المعلقة في صدر إبلتش وقال: (إن أمي قد وعدتني أن تشتري لي ساعة إذا انتقلت من فرقتي. إن هذه السلسلة كالتي في صدر أبي)
قال إيلتش: (ومن أخبرك بذلك؟ هل رأيت أباك؟) فتلعثم واضطرب وقال: (أنا. . . كلا!)
ولكن الرجل نظر إليه نظرة حادة وقال: (هل رأيت أباك؟) فقال: (كلا. . . كلا!)(404/52)
فقال الرجل: كن شريفاً فإني أرى من ملامحك أنك تكذب. قل لي: هل رأيت أباك؟ فقال الطفل همساً: (وهل تعدني ألا تخبر أمي)
فقال: (أعدك)
قال الطفل: (وهل تقسم بشرفك؟)
فقال الرجل: (نعم أقسم)
فنظر الطفل حوله وقال بصوت منخفض: (أستحلفك ألا تخبرها فإنها لو علمت لضربتني أنا وصونيا والخادم. . . أنا وصونيا نقابل أبي كل يوم من أيام الاثنين، وذلك لأنه اتفق مع الخادم على أن يمر بنا على حانوت ينتظرنا فيه، وهناك يشتري لنا فواكه وحلوى وبيضاً ويحدثنا)
قال الرجل: (يحدثكم بماذا)
فقال: (بكل شئ، ويقبلنا ويقص علينا قصصاً جميلة، ويقول أنه سيأخذنا لنعيش معه متى كبرنا. وقد قالت له صونيا لا، ولكنني قلت نعم، وسأبتعد عن أمي ولكني سأرسلها وأزورها في أيام العطلة. ويقول أبي أنه سيشتري لي جواداً، وأنا لست أعرف لماذا لا تدعوه أمي للمعيشة معنا؟ ولماذا لا تقابله مع أنه يحبها ويسألنا عنها دائماً. ولما مرضت وأخبرناه بذلك بكى وأمرنا باحترامها وطاعتها. . . ألسنا بائسين!؟)
قال الرجل: كيف؟
فاستمر الطفل يقول: أبي قال ذلك، وقال أن أمي بائسة، وقال لي كلاماً غريباً لم أفهمه، لأنه أمرني بأن أصلي من أجلها
قال الرجل: إذاً فأنتم تتقابلون بغير أن تعلم أمك؟ فقال: لا نستطيع أن نخبرها، فقد أكد علينا الخادم بذلك. وبالأمس قابلت أبي واشترى لي كمثرى!
قال الرجل: ألم يتكلم أبوك عني؟
فأجابه الطفل: عنك!؟ لماذا؟ ثم هز كتفيه
فسأله الرجل: ألم يقل شيئاً؟
قال الطفل: ألا يغضبك ما يقول؟
فأجاب الرجل: لماذا؟ هل شتمني؟(404/53)
قال: كلا. . . ولكنه قال إن أمي بائسة بسببك، وأنك أفسدت سعادتها؛ وقد قلت له إنك لا تسبها ولا تهينها، فهز رأسه!
قال الرجل: هل أبوك يقول إنني أفسدت سعادتها؟
فقال الطفل: نعم، ولكن لا تغضب فأنت وعدتني عند ذلك مشى أليتش في الغرفة ذهاباً وجيئة وقال وهو يهز كتفيه ويبتسم ابتسامة المتهكم: (أنا أفسدت سعادتها! أنا؟ هل قال ذلك يا أليوشا؟)
فقال الطفل: (ألست وعدتني ألا تغضب؟) فقال: (أنا لم أغضب ولكن هذا شئ عجيب. . . أنا أقع في الفخ ولا أسلم من اللوم) وهنا دق الجرس، فجرى الطفل نحو الباب، ودخلت أولجا أم أليوشا وخليلة أليتش، وقال الأخير عندما رآها: (نعم نعم أنه مظلوم فهو الزوج المخدوع)
قالت أولجا: (ما الخبر؟)
فقال: (اسمعي ما يقوله زوجك. . . إنه يقول إنني أفسدت سعادتك وسعادة أولادك)
قالت أولجا: (لست أفهم ما تقول يا أليتش؟)
فقال: (سلي ابنك)
فنظرت الأم إلى ابنها في دهشة، ونظر الطفل إلى أليتش في انزعاج، وقال الأخير: (إن خادمك يأخذه ويأخذ صونيا إلى حانوت يقابلهما فيه زوجك الذي يحسب نفسه شهيداً، ويحسبني أفسدت حياته وحياتك)
عند ذلك صاح الطفل: (أنت حلفت لي بشرفك)
فأشار أليتش بيديه وقال: (إن هذا أمر أهم من يمين الشرف)
فقالت أولجا والدموع تملأ عينيها: (أخبرني يا أليوشا متى قابلت أباك؟)
فلم يصغ إليها الطفل لأنه كان ناظراً نظرة غيظ إلى أليتش وقالت الأم: (هذا محال! سأذهب وأسأل الخادم)
ثم خرجت وصاح الطفل وهو يرتعش: (ألم تقسم لي بشرفك؟)
فأشار الرجل بيديه مرة أخرى ثم لم يعد يلحظ وجود الطفل فهو رجل ضخم الجثة لا يعبأ بالأجسام الصغيرة، جلس أليوشا في ركن من الغرفة يخبر أخته كيف خدعه الرجل حتى(404/54)
عرف سره؛ وكان يرتعش ويبكي، وكانت هذه أول مرة وقف فيها وجهاً لوجه أمام أكذوبة. وكم في الدنيا من أشياء لا أسماء لها في لغة الأطفال!
عبد اللطيف النشار(404/55)
العدد 405 - بتاريخ: 07 - 04 - 1941(/)
عود إلى الفكر و (السلطة)
للأستاذ عباس محمود العقاد
راجعني الأديب أليس إبراهيم بدوي فيما كتبت بالرسالة منذ أسابيع عن (الفكر والسلطة)، وكتب إليّ يقول:
(اسمح لي بأن أضيف إلى الأسباب الأربعة التي ذكرتها في إيضاح الدافع إلى طلب السلطة سبباً خامساً، وإن لم يكن بسبب، فهناك أناس يطلبون السلطة كحق من حقوقهم الموروثة أو تقليد من تقاليد الأسرة التي لا يليق بهم التخلي عنها. ولعل هذا السبب أبرز الأسباب نتائج من حيث طلب السلطة، ليس في هذا البلد وحده، بل في جميع البلدان بوجه عام)
وأتبع ما تقدم بقوله: (وكان لابد أن ينشأ عن هذا السبب سبب سادس معاكس له: سبب يدفع بالرجل الموهوب ذي الشخصية العارمة والإرادة المدربة إلى النظر إلى مثل أولئك الأفراد المتهافتين على السلطة نظرة متعالية، نظرة من يعتقد مخلصاً أنه أحق منهم إذ كانت الغاية من الحصول على السلطة استخدامها في بناء مجد للوطن. وإن مثل هذا الرجل ليعتبر في رأيي خائناً لرسالة ممتازة خلق لها إذا لم يعمل على نيل الأداة التي يمكنه بها إبراز مواهبه وممكناته وقدرته على الخلق والإبداع. وما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته)
ثم يقول الأديب: (أما صاحبنا (ديزرائيلي)، فلم أذكر اسمه نموذجاً، بل ذكرته عرضاً كرجل كانت له نفسية الأديب ودقة إحساسه بالحياة، وفق إلى كسف عناصر القوة في نفسه فسخرها في سبيل بلوغ المنصب الأعلى للحكم. . . وربما كان في التاريخ الأمريكي والبريطاني والفرنسي كثير ممن يصح أن يتخذوا أمثالاً. وربما كان عندنا هنا من يصح أن يذكر في معرض التمثيل. غير أن عدم وجود أمثال لا يمنع من خلق أمثال وابتداع خطط جديدة في الحياة والعمل)
ثم يقول في ختام خطابه: (فإذا كنت تعتقد أنه لا يمكن الجمع بين الأدب والإدارة فهذا رأيك وأنت حر فيما ترى. ولئن كنت أشك في صحة هذا الاعتقاد فما يعزز شكي ما قرأته لك في رجعة أبي العلاء في معرض كلامك عما كان يساور أبا العلاء من طموح إلى السلطان(405/1)
لولا ظروفه الجسمية الخاصة التي حالت بين عقله الكبير وما أراد. وهو القائل:
ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسته)
ويلوح من خطاب الأديب أن صاحبه ممن يحبون الاستدراك لمحض الاستدراك، وهو طبع في غير قليل من الناس.
فنحن نقول إن أسباب طلب السلطة هي فطرة الرياسة، أو حب الامتياز، أو اتقاء شرور المسيطرين، أو الرغبة في تسخير الأداء الحكومية للإصلاح، فيأتي صاحب الخطاب بسبب خامس هو ميراث السلطة عن الآباء والحرص على بقائها في الأسرة! كأنما هذا السبب لا ينتهي إلى واحد من الأسباب الأربعة التي قدمناها! أو كأننا حين نقول إن الناس يرثون البيوت ننفي أن البيوت تبنى للسكنى، أو كأننا حين نعلم أن الناس يصنعون الطعام ليبيعوه ننفي أن نهاية الطعام هي الغذاء سواء صنع في الأسواق أو صنع في الدور.
فالناس لا يحبون أن يرثوا السلطة إلا لأنها تكفل لهم غرضاً من الأغراض التي قدمناها. وإلا فما بالهم لا يحرصون على وراثة المسكنة من آبائهم المساكين؟ وما بالهم لا يحتفظون في الأسرة بالديون والمغارم والوصمات؟
إنما يحرصون على بقاء السلطة في ميراثهم لأنها مطلب محبوب، وإنما هي مطلب محبوب للأسباب التي قدمناها لا لأنها تركة موروثة عن الآباء.
أما أن المفكر النابغ مفروض عليه طلب السلطان، فهذا خلاف للواقع، وخلاف للقياس المطرد في (تطور) الملكات.
ففي الواقع لم يوجد قط مفكر موهوب وعبقري مثمر في عالم الفنون تخلى عن الفكر والفن ليطمح إلى الحكم وإدارة الدواوين.
وقبل أن يوجه إلينا الأديب خطابه الأول كنا نكتب (هتلر في الميزان) فقلنا من فصل عن كفاءته الذهنية: (إن الحقيقة الراسخة من وراء كل جدل وكل مراء هي أن الفنان الموهوب لن يترك فنه ليعقد مصيره بالسياسة وغيرها من المطالب كائناً ما كان نصيبه منها، لأن الهبة الفنية كالوظيفة العضوية التي لا تقبل الإهمال، ولا تزال في إلحاحها على صاحبها كالهيام القلبي في إلحاحه على العاشق الممتلئ بالحياة، فلا هو يغفل عنها ولا هي تمهله إلى زمن طويل.(405/2)
(وهذه الحقيقة وحدها بنجوة عن جميع الأقاويل وجميع الأسانيد. هي الحكم الحاسم في كفاءة هتلر الفنية، أو فيما يدعيه من مواهب التصوير والبناء. فهي لن تعدو الطبقة الوسطى بحال، ولن تتجاوز نصاب التذوق الشائع بين مصطنعي النقد والموازنة في الفنون)
فهذا رأى قديم لنا نبنيه على الواقع كما نبنيه على المعقول، لأن التاريخ لم يذكر لنا قط اسماً واحداً من أسماء العباقرة الفنيين طلق الفن ليحكم الناس ويطلب السلطة. وليس بمعقول أن تمتعه السلطة كما يمتعه الخلق في عالمه الفني الذي يصرفه تكوينه إليه.
وهذا الرأي مطابق لسنة التطور التي تنتقل من الجمع إلى التوزيع، من حصر الملكات إلى انتشارها في عقول كثيرة.
فاتفق في زمن من أزمان الهمجية أن حاكم القبيلة كان حكيمها وساحرها وكاهنها وطبيبها وحافظ تاريخها. فهو فيها جامع لوظيفة السياسة ووظيفة الدين ووظيفة العلم ووظيفة الفن والثقافة، ثم انقضى هذا العهد وتوزعت الملكات وأصبحت كل وظيفة من هذه الوظائف شعباً لا تحصى ومقدرة يستعصي الجمع بينها وبين غيرها، ولا يؤدي هذا الجمع إلى مصلحة للنابغ ولا للمنتفعين بنبوغه.
وبعد هذه الدهور المتطاولة يأتي من يزعم أن إعراض المفكرين وعباقرة الفن عن طلب الحكم خيانة لأمانة النبوغ إذا كانوا يستخدمون السلطة في بناء مجد الوطن. . . ويسأل: ما قيمة المتعة الفكرية أو الذوقية إذا لم يستطع الرجل أن يستثمر قدرته البناءة بمطلق طاقته وحيويته؟
فما قيمة الحياة نفسها بغير متعة فكرية أو ذوقية؟ وما قيمة مجد الوطن إذا خلا من المفكرين والعباقرة الذين يعيشون ويموتون للفكر، ويعيشون ويموتون لمتاع الأذهان والأذواق؟ أكل مجد الوطن إذن في رفع الأيدي بالسلام، ودق الأرض بالأقدام، وخطوة إلى الوراء وخطوة إلى الأمام، وتفرج على السلطة ومواكب السلطة أيام الزحام؟
أهذا هو مجد الوطن الذي يخونه أمناء الفكر والذوق لأنهم لا يتطلعون إلى السلطة ولا يتحولون جميعاً إليها كلما وفر عندهم نصيب الفكر والذوق؟
أن كان الأديب يخال أن المفكر الصادق التفكير لن يشعر بالامتياز إلا وهو متسلط في(405/3)
الحكومة، ولن يقعد عن طلب التسلط في الحكومة إلا لأنه عاجز عنه، فهو بعيد كل البعد عن دخائل العظمة الفكرية التي هي عظمة لا شك فيها وإن لم يكن لها في الحكم سلطان.
لكن العجب في هذا أن الزهو بالعقول شائع بين جمهرة الناس، فكيف يفوت الأديب صاحب الخطاب أن يفطن إلى زهو العقول العالية التي تشعر بما لها من الرجحان؟
يقولون في أمثالنا الدارجة أن الخلق غضبوا عند قسمة الأرزاق فأرضاهم القدر بقسمة العقول، فما منهم إلا راض عن عقله وإن سخف وإن ضاق.
وتعليل ذلك قريب، فإن الأرزاق تنتقل من مالك إلى مالك، فللطمع فيها معنى مفهوم؛ أما العقول فلا تنتقل من أصحابها إلى غير أصحابها، فليس للطمع فيها معنى غير الإقرار بالقصور، والحرمان من لذة الغرور.
ومغزى المثل كما يقولون أن رضى الإنسان بعقله سهل مألوف في جميع الطبائع البشرية، فكيف بالعقل الذي يعلم ما عنده وما عند غيره علماً ليس بالدعوى ولا بالغرور؟ أليس خليقاً بامتيازه المرضى عنه أن يغنيه عن طلب الامتياز من طريق ولاية الأحكام؟
قلنا في كتابنا رجعة أبى العلاء: (إن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها. فلما الملك وأما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين. فلا يحسبن أحد أن فكرة الملك عارضة في ذهنه كما يعرض في الخاطر في خلد للشاعر، فإن للمجد الدنيوي لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور)
وقد ظن الأديب صاحب الخطاب أن ما قررناه هناك شذوذ مما نقرره في كلامنا عن الفكر والسلطة، وما به في الحقيقة من شذوذ؛ فالحنين إلى السيطرة في نفس أبى العلاء إنما هو تعبير عن جانب الحرمان من تلك النفس وليس بالتعبير عن جانب الامتياز والرجحان.
وليس الوجه كما فهم الأديب أن أبا العلاء كان يزداد طلباً للسلطان لو أبصر وملك القوة الجسدية، ولكن الوجه أنه كان يقلع عن هذا الطلب لو زال عنه شعور الحرمان الذي داخله من كبريائه مع فقد بصره ووهن جسده. فيغلب عليه جانب الثقة والامتياز.
وأي عجب في تداخل النزعات واشتباكها في جميع النفوس الآدمية؟ ألا يوجد بين ذوي السلطان من يحب أن يشتهر بالكتابة فينتحل ما يكتبه له الكاتبون وليس هو بأديب؟ أفمن(405/4)
أجل ذلك نقول إن الملكة الأدبية لاصقة بكل حاكم وكل أمير وكل طامع في الشهرة بالمنثور والمنظوم؟
ومن الخطأ أن نزعم أن أبا العلاء قد عكف على التفكير لأنه لم يظفر بالملك والإمارة؛ فإن التفكير ليس بالمنحة (الاحتياطية) التي تجود بها الطبيعة على من فاتته المنح الأُخرى، ولكنها منحة أصيلة من رزقها فكر ومن لم يرزقها لم يفكر وإن أراد. وغاية ما هنالك أن المفكر المتكبر المحروم يمثل حرمانه في آماله ودخائل وجدانه شوقاً إلى الغلبة والبأس والولاية، وهو شوق لا يعد من الملكات ولا من النزعات التي يقاس عليها في غير هذه الحال.
وجملة الرأي أن حاجة الحاكم إلى الفكر كحاجة كل عامل اليه، فلا يلزم من ذلك أن يشتغل المفكرون بجميع الأعمال لأن جميع الأعمال تحتاج إلى تفكير.
على أن الحكم إلزام والفكر إقناع، وإذا بلغ الإقناع مداه ألزم الحاكمين أن يستمعوا له فكان سلطة فوق السلطة في هذا المقام.
عباس محمود العقاد(405/5)
في المصادر والأصول
نساؤنا بين التقاليد والتجديد
لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك
مدير عام دار الكتب المصرية
مقدمة
من الدقة أن يرمى بحثنا إلى تناول أحوال المرأة المصرية المعاصرة، لأن فينا من مدله ي العمر فتيسر له أن يصف مسلك نسائنا في فترة محصورة من الزمن، لعلها البرزخ الفاصل بين ما كانت تجري عليه أحوال النساء عند السلف القديم، وبين ما أصبحن عليه الآن، وما قد يصرن إليه في مستقبل الأيام.
وإني، مع حرصي الشديد على تضييق مجال البحث وحصره، قد أتعرض للماضي أحياناً في نظرة خاطفة، لأجلي فيه بعض المعالم التي ترسمتها المرأة المصرية في مسيرها لكي تتبين: ألا يزال الدرب الذي تعدو الآن فيه موصولاً بالطريق الذي سلكته عدة قرون؛ أم أصبح مسيرها مقطوع الصلة بماضيها القريب والبعيد؟ ولعل المرأة حين اتخذت أسلوبها الجديد، أخذت تتعرض لمنحدر كثير الزلل والخطر. وإني حين أعني بالبحث في أحوال نسائنا، إنما أعني بحملة الرسالة الكبرى في تشييد أركان الهناء في الحياة، بل بحملة سر الرحمن وكلمته في بذل المحبة والرحمة والسلام.
وإني إذ أثير اليوم موضوع المرأة المصرية بين التقاليد والتجديد، إنما أثير موضوعاً حيوياً للزوجات والبنات والأمهات. وعلى الجملة موضوعاً يتصل بكيان الأسرة وكيان الأمة التي تنتمي إليها، ونرجو أن تحيا بنا عزيزة ونحيا بها كراماً.
لمحة تاريخية
فمن نيف وثلاثين عاماً كان (قاسم أمين) يحلق بخياله في متسع تاريخ مصر الاجتماعي، ويلقى بنظراته الناقدة في صحائف حياتها العمرانية، وكان يصيب نفسه وخز من الألم منشأه المظاهر الاجتماعية السيئة التي اتصلت بحياة الأسرة، دون أن يقرها العقل السليم، أو يرضاها الشرع الحكيم. ولقد حركت وخزات الألم لسانه وقلمه بما كان ينشده لأمته من(405/6)
ظهور امرأة جديدة تكون على حد قوله: (شقيقة الرجل، شريكة الزوج، مهذبة النوع، مربية الأولاد)
ولعل الصورة المثلى التي كان يتخيلها (قاسم أمين) ويريدها للمرأة المصرية تجعل للنساء كما كان يكتب ويقول:
- رأياً في الأعمال. فكراً في المشارب، ذوقاً في الفنون، قدماً في المنافع، مقاماً في الاعتقادات الدينية، فضيلة وشعوراً في الوطنية.
وكان يعتقد أن المرأة قد تسمو إلى ما ينشده لها من المكانة لو كملت تربية النساء على مقتضى الدين، وقواعد الأدب، ووقف بالحجاب عند الحد المعروف في أغلب المذاهب الإسلامية.
ومن حق المتأمل أن يجد فيما كان ينشده ذلك المصلح الكبير صورة للمرأة العاملة الجادة الشريفة الكريمة، وليست صورة المستهترة العابثة في مهازل العيش وترهات المجتمع، وأن الاختلاط الذي كان يدعو إليه بين المرأة والرجل إنما هو ذلك الاختلاط البريء من مثيرات المفاسد، وتدعو إليه مقتضيات الحياة النزيهة المثمرة، وأن ما كان ينادي به قاسم من الحرية إنما هي الحرية التي تعين على الخير، وليست تلك التي تركب للشرور ولآثام. على أن قاسماً كان شأنه في دعوته لمثله الأعلى شأن كل مصلح تلك فؤاده ولبه المثل الذي كان يدعو إليه، فكان اهتمامه لتحقيق دعوته أشغل لفكره، وأصرف لنفسه عن الاشتغال بالبحث في مختلف الوسائل التي تقي أغراضه الصالحة من الانحراف.
لقاء الدعوة
وجد قاسم أمين حين دعا دعوته للمرأة المصرية من أيدوه ومن عارضوه، ومن حذروه سوء العقبى إذا لم تتخذ الحكمة وأسباب الاحتياط.
فأما الذين أيدوه فكانوا ممن يعتقدون أن نهضات الأمم وعظمتها تفتقر إلى مسعى الرجال ومسعى النساء، ورقي الرجال ورقي النساء، ويكون ذلك بإشاعة التربية والتعليم ونشر الحرية بين أفراد الأمة جميعاً.
وأما من عارضوه فكانوا ممن يعز عليهم أن يتغير ما ألفوه في حياتهم من عادات راسخة ضيعت على المرأة الكثير من حقوقها في الحرية والتعليم، وكانوا من المستضعفين لضغط(405/7)
التقاليد التي أثقلت كواهلهم وكواهل عدة أجيال من آبائهم وأسلافهم.
وأما من حذروه، فكانوا يعتقدون أن للمرأة صفات نوعية تتميز بها عن الرجل، وأن مسلكها وتقدمها ينبغي أن يساير ما انتزع عن فطرتها من الصفات، وألا يتعدى دائرة ما اختصتها. به الأقدار، وألا يخرج عن الميدان الذي يتحقق فيه فوزها في كفاحها الحيوي، ويتجلى فيه إنتاجها في الوجود؛ وهؤلاء يقررون على نحو ما يقول الأستاذ فريد وجدي:
(أنهم ليسوا بدعاة إلى ظلمة القرون الأولى، ولا بمروجي خطة أسر المرأة، بل طلاب كمال يناسب كرامة الإنسانية، ورواد مدنية حقة يقوم عليها الإنسان غير خائن لأمانته، ولا غاش لنفسه)
على أن دعوة قاسم كان لها الفوز على دعوة معارضيه، ولم يكن تحذير المحذرين من بعض ما لا يرضون من نتائج هذه الدعوة بمعوق لها عن الانتشار المتواصل السريع، وذلك لأنه حركة النهوض المصري كانت تشتعل في شتى ظواهر الحياة الاجتماعية من نيف وخمسين سنة. وكان لابد لها أن تمتد إلى الأسرة وتتصل إلى المرأة التي هي دعامة البيت وركنه الركين.
وعلى ذلك سايرت دعوة قاسم مجرى الحياة الاجتماعية المندفعة للرقي، وفسح للمرأة طريق معبد في النهضة العامة، وفتحت لها أبواب التعليم، ونظمت القوانين لمصلحة النساء؛ وعلى الجملة سارت النهضة النسائية في بداية أمرها مؤيدة بالحق يشجعها كل ميال لرؤية المجتمع المصري يسير من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.
الانحراف
لكن بينما كانت تسير نهضتنا النسائية في مجراها الصافي إذ شابها ما يعكر شيئاً من صفائها برغم أنها صدرت عن نبعها الأول، ومن دعوة قاسم، نقية طاهرة، فتحول خروج النساء من عزلتهن عن أن يكون وسيلة يسوغها شرف الغاية ليكون غاية لذاته، أو وسيلة لغاية وضيعة. ولعل من أشد العوامل التي أضعفت قيمة الاختلاط بين المرأة والرجل وسوأت خروجها عن معزلها الذي ظلت فيه طويلاً هو انتشار بعض الآراء دون أن تفهم على وجهها الصحيح، ودون أن تنضج في فهم من تخطفوها وتلقفوها؛ ومن هذه الآراء ذهابهم إلى أن الاختلاط بين النساء والرجال وتوالي المجامع التي يتلاقون فيها من شأنه أن(405/8)
يهذب من المظاهر، ويعمل على ترفيع النظرات، وترقيق الآداب. وحقاً أن تلاقي النساء بالرجال في الحدود التي تقتضيها حياة التعاون والعمران من شأنه أن يجر إلى عالم النسيان كل الاعتبارات الجنسية.
فالفلاحون الذين يتلافون في الحقول مع الفلاحات لاستغلال خيرات الأرض، إنما يجتمعون اجتماعاً طبيعياً لمقتضيات نافعة قاهرة فيتلاقون بدافع هذه المقتضيات ويفترقون عند انعدامها. والمتبادلون من الناس في المتاجر، إنما يتلاقون لحاجة وينصرفون عند انقضائها، والمتلاقون في المعابد قد يجتمعون رجالاً ونساء لأداء حق من حقوق دياناتهم.
وعلى الجملة، فإن في دواعي الاختلاط الطبيعي الذي يتحقق لدوافعه الداعية ما يعين على ترويض النزعات الجنسية للاستقرار في مكامنها، والوقوف عند حدودها التي تحول دون كل مكروه.
التوسع في الاختلاط وأضرار ذلك
لكن الناس قد توسعوا في هذا الترخص واستباحوا لأنفسهم أن يحوزوا مجتمعات الجد الطبيعية إلى مجتمعات هازلة مصنوعة من شأنها أن تؤدي إلى تحريك الانفعالات التافهة والشهوات الوضيعة والمواقف المرذولة أكثر مما تؤدي إلى ما تزكو به العقول، أو تترفع به النفوس، أو تتحقق به فائدة من فوائد الحياة.
فقد يزدحم النساء والرجال في مجتمع من مجتمعات الشاي أو الخمر (الكوكتيل) فلا يلبث هذا المجتمع أن يتحول إلى معارض التزيين والأناقة، والى مضمار للتأنق بالأقوال الرخيصة، وبذل التظرف المصنوع، واتخاذ الابتسامات المنافقة. وإذا كان لبعض النساء من وسائل الزينة ما ينحدر في المرتبة عن زينة الأخريات، فسرعان ما تنبض القلوب بالغيرة والحسد، أو تدق دقات الزهو الأجوف. وإذا كان في هذه المجتمعات من يعوزه يقظة الفضيلة، وصلابة الخلق، فثم النظرات المسمومة، وثم الأحاديث المهيئة لنزعات السوء ونزعات الشيطان، ومن ثم فضائح لغواية، ومآسي الغيرة، وما قد يجره ذلك من الكوارث في هدم سعادة الأسر.
وإذا ذكرنا مجامع الشاي وحفلات الخمور، فلنضف إليها ما هو أسوأ منها أثراً من منتديات الميسر، والمراقص، والرحلات المشتركة، ومسارح التمثيل الخليع، وحمامات السباحة(405/9)
الجامعة. وعلى الجملة ضروب المجتمعات التي تخلط بين النساء والرجال، وإثمها أكبر من نفعها لو أن لها نفعاً مذكوراً عند من يحسنونها وينزلقون إليها.
وإذا صح أن بعض ما ذكرت من هذه المجتمعات يخلو مما أشرت إليه من المساوئ ويؤدي إلى فوائده المزعومة من جر الاعتبارات الجنسية إلى عالم النسيان، فإنها تضعف من المرأة عاطفة الحياء، وتوهن في الرجل عاطفة الغيرة، وفي إضعاف عاطفة الحياء خسارة كبرى في المرأة، فإن الحياء زينة لها؛ وفي إيهان غيرة الرجل خسارة كبرى على الرجولة وحماية الأسرة.
ولعل قاسم أمين يخشى أن يتجاوز الناس حدود المعقول فيما دعا إليه من الاختلاط حين دعا إليه بعد أن تجاوزوا حدود المعقول في العزلة فقال:
(والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياء)
وهكذا ظلت حركة اختلاط المرأة بالرجل تنمو سريعاً وتشيع إلى أن أصبحت الفتاة التي كانت أمها من نيف وثلاثين عاماً لا تستبيح نفسها الاتصال ببعض المحارم أصبحت هذه الفتاة ترى الاتصال بالرجل للسمر والتسلي حقاً من حقوقها، وليس في الحرص على ذلك من عار ولا تأثيم.
ومن المقرر أن الاختلاط بين النساء والرجال إذا قام على غير مقتضياته الضرورية الجادة، وكان مبعثه اللهو والترف، فإنه لا يلبث أن يقوض دعائم الأمم. وفي تاريخ الرومان شاهد على ذلك:
(فلما دعاهم داعي اللهو والترف إلى إخراج النساء من خدورهن ليحضرن مجالس الأنس والطرب، فخرجن خروج الفؤاد بين الأضالع، فتمكن ذلك العنصر المهاجم وهو الرجل لمحض حظ نفسه، من إتلاف أخلاقهن، وخدش طهارتهن، ورفع حيائهن حتى صرن يحضرن التياترات، ويغنين في المنتديات، وساد سلطانهن حتى صار لهن الصوت الأول في تنصيب رجال السياسة وخلعهم. فلم تلبث دولة الرومان على هذه الحالة حتى جاءها الخراب من حيث تدري ولا تدري).
الحرية وسوء فهمها(405/10)
ولقد أساء الناس فهم معاني الحرية كما أساءوا فهم الاختلاط والدعوة إليه، وجر ذلك إلى عدة شرور. وليس من شك أن الحرية من مطالب النفوس عندما يشكو الناس من نظم اجتماعية تحول بينهم وبين الحقوق الفطرية التي وهبت لهم لتأدية رسالتهم في العمران. وقد ينزع الطير المحبوس لحريته، ويحن للهواء الطلق والأجواء الواسعة، لأن في الحبس تعطيلاً لأجنحته التي سواها الله للطيران، وتتدرج بممارسته لكمال وظيفتها. وقد ينزع الشعب المقهور للحرية التي ضيقها عليه القاهرون لينعم بعزته القومية المسيطرة عليه، ويطمئن إلى عاداته وآماله المحببة إليه، ويستغل ثروة بلاده ونتائج كسبه ومسعاه. وقد يطلب المتبادلون المنافع في أسواق التجارة حرية البيع والشراء ليجد كل من الطالب والعارض ما تتحقق به حاجته ومصلحته وأجره. وقد يهيم المؤلف والكاتب والخطيب حين يصدقون بطلب الحرية لاعتقادهم أن في دعوتهم عوناً للخير والحق. وعلى الجملة قد تطلب الحرية كأداة صالحة يستعين بها المرء لأغراضه العليا من الخير والكمال. فما هي إذن تلك الأغراض العليا التي يقصد النساء إليها ويتخذن من الحرية لها أداة صالحة؟
أما إذا كان طلب الحرية ليصبن من العلم ما يصقل نفوسهن ويقوم أخلاقهن، فلا يمانع في ذلك أحد؛ فطلب العلم الذي تتكمل به النفس فريضة على الناس جميعاً. وإذا كان الباعث على طلب الحرية هو القيام بما ينتفع به المجتمع حين يحتاج لنشاط نسائه، فليس من ينكر عليهن تلك الحرية حين يقتضيها الحال وتدعو إليها الظروف. لكن إذا طلبت المرأة حريتها لغير ما ينفع، كما لو أرادت أن تلبى داعي النزق لتلهو بمخالطة اللاهين، وكما لو اتخذت من الحرية ما يستخدم لهجران بيتها لتأنس بالملاهي والمزارات والتسكع في الأسواق، وكما لو أرادت أن تتخذ من الحرية مطية للتبرج رغبة في الزهو بنفسها والغرور بزينتها، فليس من أحد رشيد يرضي عن حرية تركب للعبث والشطط.
لقد أبيح للكثرة من نساء الغرب تمشياً مع سوء فهم الحرية أن يتعرفن بمن شئن من الناس ويختلطن بالرجال بمحض اختيارهن حينما يشأن طوعاً لحقهن في الحرية، أو اعتماداً على ثقتهن الموهومة بأنفسهن؛ وقد يحاكيهن في ذلك بعض نسائنا في هذا العصر، وفي بعض الطبقات مطوحات بأنفسهن بعيداً عن مألوف العرف المصري والإسلامي، غير مكترثات بما قد يجر إليه هذا الإمعان في الاختلاط من مفاسد خلقية ومن أثر سيئ في بنية الأسر(405/11)
وفي تقدم المجتمع وكيان الدولة. وفي الحق أن هذا التجديد المروع في عادات نسائنا، هو أشد ما يخشى أثره في أمة كأمتنا ما زالت في طورها الحاضر تحبو في السبيل الموصلة لعظمة الأمم.
فإذا كان قد أصاب دولة الرومان ما أصابها من الضعف عند التوسع في الاختلاط المفسد بين الرجال والنساء، وعند التوسع في إطلاق حريتهن، فإن مثل هذا الاختلاط المنحرف كان له أكبر الأثر في إضعاف بعض الأمم الغربية المعروفة في العصر الحديث حين خبت ثقافتها، وهزل إنتاجها الأدبي المعاصر، وانحلت قوة المقاومة منها عند الجهاد والكفاح الحيوي.
(البقية في العدد القادم)
منصور فهمي(405/12)
الأندية العربية في العراق
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - حفلات القبول - السهرات الصحفية بين القاهرة
وبغداد - نادي المعارف - نادي المثنى - نادي الشبان
المسلمين - نادي الهداية الإسلامية - النادي العسكري - نادي
البصرة - نادي الجزيرة - الرابطة العلمية والأدبية بالنجف -
نادي القلم العراقي.
تمهيد
حين زرت بغداد للمرة الثانية سألت معالي الدكتور سامي شوكت عن منزل أخيه الدكتور صائب شوكت فقال: (إنه يقيم في شارع المرحوم أبي نؤاس) وقد فخم كلمة (المرحوم) ليبرز معنى الدعابة في تعبيره الطريف.
والمرحوم أبو نؤاس يحدثنا في خمرياته أنه كان يجد الحانات مغلقة الأبواب، وأنه كان ينادي أهلها من وراء الحجرات ليسعفوه بالشراب وأدوات الشراب، وللشراب أدوات مختلفات الألوان.
وقد سمعت أن حانات بغداد لا تزال على عهدها القديم: فهي تغلق بعد مضي ساعات قلائل من صدر الليل، وتحوج قاصديها إلى قرع الأبواب، برفق أو بعنف، وفقاً لظرف الزمان وظرف المكان، فلكل محلة في بغداد ظروف.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد القول بأن تقاليد العراقيين في القديم والحديث توجب أن تكون سهراتهم في البيوت، على نحو ما كانت الحال في مصر إلى عهد قريب، ويشهد بقوة تلك التقاليد إغلاق الحانات في صدر الليل، وسهرات البيوت في العراق القديم وجدت خلفاً سعيداً هو سهرات الأندية في العراق الحديث.
فكيف الحال هنالك؟ وهل بقى للمنازل حظ بجانب الأندية الأدبية؟(405/13)
حفلات القبول
في العراق ما يسعى (يوم القبول) وهو ما نسميه في مصر (يوم الاستقبال) وهو يوم من أيام الأسبوع ينتظر فيه الرجل زائريه في الصباح أو في المساء: فمعالي السيد محمود صبحي الدفتري يستقبل زائريه في صباح الجمعة، وهو صباحية جميلة يتلاقى فيها أعيان أهل الأدب في بغداد، ولها تأثير شديد في توجيه الحياة الأدبية والاجتماعية. ومعالي الشيخ محمد رضا الشبيبي يستقبل زائريه في مساء الخميس، وقد يتلطف باستقبال زائريه في كل مساء، لأنه يقيم بضاحية نائية تسمى (الزوية) وله على شط دجلة ناد جميل يشرح الصدور، ويؤنس العيون، وفي ذلك النادي تثار مشكلات متصلة بالعلوم والآداب والفنون، وتسمع فيه أغاريد (أبى كلثوم الوفدي) وهو الشاعر المفتون بأغاني أم كلثوم وأخبار الوفد المصري، هو السيد باقر الشبيبي الذي يحب مصر أكثر مما يحبها المصريون أعزه الله وأدام عليه نعمة الوفاء.
وخلاصة القول أن لأكثر أهل العراق أندية تقام في البيوت أيام القبول وهي أندية توجه الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية وتسير بالمجتمع العراقي إلى غايات فيها القريب والبعيد، وقد تكون لها صلة بما يظهر في الجو العراقي من شؤون وشجون، فالرجال هنالك لا يكفون عن مراقبة الاتجاهات المحلية إلا في أندر الأحايين.
السهرات الصحفية
وبجانب حفلات القبول تقام سهرات الصحفيين في دور الجرائد والمجلات، وهي سهرات فاتنة إلى أبعد الحدود. وهل أنسى سهراتي في إدارة جريدة (العراق) وجريدة (البلاد)؟ وهل أنسى أن إخواني في جريدة (الهدف) كانوا يمدون روحي بأكواب الصفاء؟ وهل أنسى أن كؤوس الشاي في جريدة (بغداد) كانت أطيب من كؤوس الصهباء؟
الصحفيون في العراق يذكرون بإخوانهم في مصر من حيث الجاذبية وخفة الروح، وأنديتهم في جرائدهم تذكر بأنديتنا في جرائدنا، فما ينسى أحد كيف كان النادي الأدبي في جريدة (الجهاد) وكيف يكون النادي الأدبي في جريدة (الأهرام) وجريدة (المصري) وجريدة (السياسة) وإن امتزج نادي (السياسة) بنادي الأحرار الدستوريين. وهل كانت (ندوة(405/14)
الدستور) إلا ندوة أدبية قليلة الأمثال؟
إن الأنس الذي يجده من يسمر بدار (الرسالة) أو دار (الأهرام) له نظائر فتانة في دار (العراق) أو دار (البلاد)
وكما نجد في سهرات الصحافة المصرية أقطاب الرجال في أكثر الميادين، نجد في سهرات الصحافة العراقية أقطاب الرجال في الأدب والسياسة والاجتماع.
وإذا صح للمنفلوطي أن يسجل أن النادي الأدبي في جريدة (المؤيد) خلق أكابر الباحثين فإنه يصح لنا أن نسجل أن الأندية الصحفية في مصر والشام والعراق سيكون لها فضل عظيم في تكوين الجيل الجديد.
نادي المعارف
وأنتقل إلى الحديث عن الأندية الأدبية فأقول:
أول ناد أدبي عرفته في بغداد هو نادي المعارف، والمعتمد لهذا النادي هو السيد رشيد العبيدي، وهو أديب عراقي تخرج في مصر بمدرسة دار العلوم، وهو زميل السيد حسين بستانة، إليه والى من تخرجوا في دار العلوم أقدم أطيب التحيات، فهم سفراء مصر في العراق.
ونادي المعارف هو نادي المعلمين، وفيه شربت أول كأس من ماء دجلة، وفيه كنت ألقى من يسألون عني في مساء كل خميس.
في نادي المعارف يلتقي المعلمون كل يوم، فيقرءون الجرائد والمجلات، ويتجاذبون أطراف الأحاديث، ويستعدون لاستقبال من يفد على بغداد من رجال العلوم والآداب والفنون.
فإن قلت إن (نادي المعارف) في بغداد له تأثير في توجيه الحياة الأدبية فأنت صادق كل الصدق، لأنه موصول الأواصر بأكثر البلاد العربية، ولأن رجاله من أكابر المدرسين، والمدرسون هم المصلحون الأوائل في جميع الشعوب.
نادي المثنى
ونادي المثنى هو نادي العروبة، ومعتمده هو الدكتور صائب شوكت، ولهذا النادي حفلات(405/15)
أسبوعية لاستماع المحاضرات ومجاذبة الأحاديث، ومن أعضائه السيد محمد مهدي كبة والدكتور عبد المجيد القصاب والسيد عبد المجيد محمود، وقد تفضل أعضاء هذا النادي فمنحوني (عضوية الشرف)، والذي وصلني بهم هو تلميذي القديم السيد جلال الأورفه لي، ذكره الله بكل صالحة، وأكرمني بدوام نعمته عليه، فهذا المحامي النابغ كان السبب في أن أقضي سهرات جميلة بقصر صاحب السمو الأمير عبد الإله قبل أن يصير وصياً على عرش العراق.
نادي الشبان المسلمين
هو ناد يقوم بالكرخ في دار جمعية الشبان المسلمين، وهو ناد خفيف الروح، وتقام به سهرات مصقولة الحواشي، وفيه سمعت محاضرة جيدة للأستاذ محمد بهجة الأثري، وهو شاعر مجيد يعرفه قراء الرسالة، وله صداقات متينة مع كثير من الأدباء الكبار في مختلف البلاد العربية. وكانت له مطارحة أدبية مع الأستاذ الزيات سجلها في كتيب لطيف. وقد عرفته أول مرة حين دعاني سعادة الأستاذ عبد القادر الكيلاني للتسليم عليه في دار المفوضية العراقية بالقاهرة، والسيد عبد القادر هو اليوم عراقي له دار مصرية في بغداد، وهو النموذج الحق للذاتية العربية والإسلامية، أدام الله نعمة التوفيق.
نادي الهداية الإسلامية
لم أزر هذا النادي، وإنما رأيت آثاره الجميلة في إحياء المواسم الإسلامية، وله مجلة باسمه يديرها الأستاذ الطائي، ومن أعاظم رجاله الأستاذ طه الراوي، وهو رجل عظيم لا أمل ولن أمل من الثناء عليه، بعد أن رأيت دموعه تنحدر يوم أطلق الرصاص على بعض الأساتذة المصريين في بغداد.
وطه الراوي أستاذ مخضرم تزود من الثقافة الدينية والثقافة المدنية، وهو من أقدر الناس على ضبط النفس، فما تسمع منه كلمة تشوك خصومه في محضر أو مغيب. ويوم تفكر مصر في مبادلة الأساتذة سيكون من واجبي أن أقترح استقدامه للتدريس في كلية اللغة العربية أو دار العلوم أو كلية الآداب.
فمتى تفكر مصر في هذا النظام ليتعارف المصريون والعراقيون بدون التعرض للتكاليف(405/16)
المالية؟
والمهم أن أسجل أن هذه الجمعية لها مجلة تنشر الثقافة الدينية والأدبية كالجمعية الشبان المسلمين مجلة تسمى (العالم الإسلامي) ولهاتين المجلتين تأثير في تكوين الأذواق وتهذيب النفوس، وإن كنت لا أدري ما صارتا إليه بعد أن حرمت الاستصباح بظلام الليل في بغداد.
النادي العسكري
هو نادي الضباط، وهو ناد له في ذهن الأستاذ الزيات تاريخ. فقد قال فيه كلمة لن ينساها البغداديون، فما هي تلك الكلمة؟ أظنه قال أنه كان يسمع فيه صوت السكون، فما استطعت الاتصال به عند كتابة هذا الحديث فأعرف بالضبط ماذا قال، لأني شرعت في كتابة هذا الحديث وأنا بغبار السفر بعد الرجوع من بغداد، بل أسوان.
وفي النادي العسكري سمعت نكتة عراقية: صحبني إليه رفيقان: هما السيد صادق الوكيل، والسيد جواد الشهر ستاني، وأراد السيد جواد أن يدلني على الطريق، فقال السيد صادق: لن يحتاج الدكتور مبارك إلى دليل عند الدخول، ولكن سيحتاج إلى دليل عند الخروج!
فهل كان يعرف هذا الشقي أن نشوة الأسمار والأحاديث ستحوجني بعد السهرة إلى السؤال عن الطريق؟
في النادي العسكري يسهر جماعات من ضباط الجيش العراقي وهم رجال على جانب من العلم والأدب والوطنية، وفيهم السيد مجيد الهاشمي، وهو رجل منوع المواهب، وله دراية بكثير من فنون المعارف والآداب، وهو من صلات الوصل بين مصر والعراق، لأنه موصول القلب والعقل بأكثر ما يصدر عن وادي النيل.
نادي البصرة
هو مجتمع أهل الفضل بوطن (الجاحظ) و (إخوان الصفاء)، ولو طالت إقامتي بالبصرة لاستطعت تسجيل ما به من خصائص تمثل ما عند أهل الجنوب من شمائل بيض، فأهل البصرة بشهادة جميع أهل العراق يمتازون باللطف والوداعة والكرم والجود، وقد سمعت عن السيد الشمخاني أحاديث تذكر بأخبار معن بن زائدة الشيباني، وآخر ما سمعت هو ما(405/17)
قرأت في جريدة الأستاذ عبود الكرخي عن أخبار السيد الشمخاني في مواسم الصيد.
نادي الجزيرة
هو منتدى أهل الفضل بالموصل، ومعتمد هذا النادي هو تلميذي القديم الأستاذ جيلمران، وهذا النادي يقع على شط دجلة وفي رحاب حديقة جميلة هي معترك العواطف بالموصل، وله تأثير شديد في وصل الأواصر الأدبية بين الأمم العربية.
الرابطة العلمية
هي أعظم جمعية أدبية بالنجف (الأشرف)، وإنما وصف النجف بالأشرف منافسة للأزهر (الشريف). ففي النجف معهد ديني يسير على أسلوب الأزهر في أكثر الشؤون، وإن لم يستطع مسايرة الأزهر في الانطباع بطابع الزمان.
والرابطة العلمية والأدبية بالنجف لها لون خاص، فأدباؤها في حكم المنعزلين عن أدباء الموصل والبصرة وبغداد، ولهم في إنشاء الشعر طريقة لا يعرفها من سكان العراق غير النجفيين، وهي طريقة تقوم على قواعد الترنيم، وعلى مثلها كان الشيخ سيد المرصفي ينشد الشعر في دروسه بالأزهر الشريف.
نادي القلم العراقي
هو تاج الأندية العراقية، أسس منذ سبع سنين أسوة بأندية القلم في كثير من أقطار العالم القديم والعالم الجديد، واختير الشاعر جميل صدقي الزهاوي رئيساً، والدكتور محمد فاضل الجمالي نائب رئيس، والدكتور متي عقراوي أميناً للصندوق، والأستاذ إبراهيم حلمي العمر كاتم أسرار.
والرئيس اليوم هو معالي الشيخ محمد رضا الشبيبي، ونائب الرئيس هو الدكتور محمد فاضل الجمالي، وأعضاؤه يزيدون على الثلاثين، وهم يختارون من بين الرجال الموسومين بالمواهب العلمية والأدبية.
ليس لهذا النادي دار، وإنما يجتمع الأعضاء من وقت إلى وقت في منازل يتوافون إليها على ميعاد، فهم اليوم في منزل الأستاذ عباس العزاوي، وهم غداً في منزل الأستاذ جعفر خياط، وهم بعد غد في منزل الأستاذ باقر الشبيبي. . . الخ. وعلى من يجتمعون في داره(405/18)
أن يقدم إليهم الشاي أو المرطبات، إن اجتمعوا في العصرية، فإن اجتمعوا في المساء كان من واجبه أن يتلطف بتقديم العشاء الخفيف. ولا يجتمعون في المساء إلا إن كانت دار الداعي في مكان بعيد.
وفي كل اجتماع يلقي أحد الأعضاء مسامرة علمية أو أدبية أو اجتماعية. ثم يدور النقاش بعد استئذان الرئيس، وقد يصل النقاش إلى درجات من العنف لا يخففها إلا ضحكات الدكتور الجمالي وفكاهات الأستاذ أبى إيناس.
وأعضاء هذا النادي في غاية من الحيوية، وهم يرسلون من يمثلهم في المؤتمرات التي يقيمها نادي القلم العالمي. وقد أصدر أخيرا مجموعة نفيسة ضمنوها طوائف من المحاضرات التي ألقيت في اجتماعاتهم الدورية، وتقع هذه المجموعة في أكثر من ثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط، وبها رسوم لجميع من حوى هذا السفر أبحاثهم الجياد.
نجد في صدر المجموعة مقالاً علمياً عن المجريطي إمام فلاسفة الأندلس في الرياضيات والطبيعيات، وهو مقال مفصل دبجه الأستاذ محمد رضا الشبيبي. ولهذا الأستاذ الجليل بحث آخر في هذه المجموعة سماه (قصة فتح بغداد)، وهو يصور ما كان عليه المغول من القوة الحربية والسياسية يوم استطاعوا اجتياح العراق؛ ويمكن بسهولة أن نعد هذا البحث من فلسفة التاريخ.
وهنالك بحث شائق للأستاذ أحمد حامد الصراف عن (الغلاة) وهي الفرقة التي تعبد عليا وتراه خالق الكون وسر الوجود
ولنا ملاحظات على هذا البحث يضيق عنها هذا الحديث، وقد نرجع إليها بعد حين.
وفي هذه المجموعة خلاصة وافية لأعمال المؤتمر الرابع عشر لأندية القلم وقد عقد في بونيس إيرس بالأرجنتين (5 - 15 أيلول سنة 1936)، وهذه الخلاصة هي تقرير قدمه الأستاذ مجيد خدوري مندوب نادي القلم العراقي، وفي هذا التقرير إشارات إلى شؤون أدبية وفلسفية تستحق الالتفات.
ويهمني أن أوصي قراء الرسالة باقتناء هذا السفر النفيس، فهو عصارة جهود محمودة في خدمة العلوم والآداب، وهو يصور جوانب من النشاط العلمي والأدبي في بغداد.
ثم ماذا؟ ثم أجمل الغرض من هذا الحديث فأقول:(405/19)
إن الآثار المدونة في الجرائد والمجلات والمطبوعات لا تمثل أعمال الأندية العراقية كل التمثيل، ففي تلك الأندية تدور مطارحات ومساجلات تفوق العد والإحصاء، وفيها تدرس أعمال الأدباء الذين يصل صرير أقلامهم إلى العراق. ولأدباء الرافدين موازين في النقد الأدبي لا تخلو من تحري الدقة والعدل، وهم يعرفون من أخبارنا الأدبية كل شيء، ولا تغيب عنهم مرامينا إلا في النادر من الأحيان، كأن يصدقوا أقوال المصريين بعضهم في بعض، وما دروا أن تهاجي الصحف المصرية باب من الرياضة على إجادة التعبير في مختلف الأغراض.
والظاهر أني مضطر إلى تذكير أدباء مصر بأنهم لا يكتبون لأنفسهم، وإنما يكتبون لأقطار كثيرة، وتلك الأقطار قد يغيب عنها غرام المصريين بالنكتة والمزاح، فما ترسله على سبيل الفكاهة قد يظن من الحقائق، ثم يؤول أسوأ التأويل.
أما بعد فهل يرى القراء أني دللتهم على مظاهر الحيوية الأدبية في أرجاء العراق؟
إنني أوجزت القول عن الأندية الأدبية لأدخر الفرص للحديث عن رجال الصحافة وقادة الفكر في تلك البلاد، فما أحوال الصحافة العراقية؟
سأرى ويرى معي القراء كيف تجول الأقلام وتصول في وطن دجلة والفرات، على شرط أن يرفع الحجاب بيني وبين زملائي هناك، فلا يقال إنني أخرج على آداب الصداقة والأخوة حين انتقل من الحمد إلى الملام. وهل أذكر أهل العراق بالسوء إلا مصانعة للكاشحين والحاقدين؟
كلانا مُظهِرٌ للناس بُغضاً ... وكلٌّ عند صاحبه مكينُ
تخبَرنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثَم هوَى دفين
زكي مبارك
عضو نادي القلم العراقي(405/20)
6 - في العقد
لأستاذ جليل
45 - (ص 372) هند بنة أسماء
(ص 99) بإبراهيم
(ص 35) لا ستر الله عليّ إذاً ذنبي
(ص 117): كان خالد بن الوليد يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يأهل الإسلام، إن الصبر عز، وإن الفشل عجز، وأن مع الصبر النصر.
قلت: أراد محققو (العقد) أن تظهر (ابنة، وإذن، ويا إبراهيم، ويا أهل) كما رأيت استناداً إلى بعض مؤلفات في (الإملاء) على انهم لم يعملوا في كثير من الألفاظ بما جاء فيها.
وللفظة (ابنة) بين علمين في (أدب الكتاب) لابن قتيبة قول يخالف غيره، وهو هذا: (وتكتب هذه هند ابنة فلان بالألف وبالهاء، فإذا أسقطت الألف كتبت هذه هند بنت فلان بالتاء)
وفي (الاقتضاب في شرح أدب الكتاب) لابن السيد البطليوسي بحث في إذن وغيرها جدير بالنشر وهو هذا: (قد اختلف الناس في إذن كيف ينبغي أن تكتب، فرأى بعضهم أن تكتب بالنون على كل حال، وهو رأى أبي العباس المبرد. ورأى قوم أن تكتب بالألف على كل حال، وهو رأى المازني ورأى القراء أن تكتب بالنون إذا كانت عاملة وبالألف إذا كانت ملغاة. وأحسن الأقوال فيها قول المبرد. لأن نون إذن ليست بمنزلة التنوين ولا بمنزلة الخفيفة فتجري مجراها في قلبها ألفا، إنما هي أصل من نفس الكلمة، ولأنها إذا كتبت بالألف أشبهت إذا التي هي ظرف، فوقع اللبس بينهما. ونحن نجد الكتاب قد زادوا في كلمات ما ليس فيها، وحذفوا من بعضها ما هو فيها للفرق بينها وبين ما يلتبس بها في الخط. فكيف يجوز أن تكتب إذن بالألف، وذلك مؤد إلى الالتباس بإذاً؟
وقد اضطربت آراء الكتاب والنحويين في الهجاء، ولم يلتزموا فيه القياس، فزادوا في مواضع حروفاً خشية اللبس نحو واو عمرو، وألف مائة، وحذفوا في مواضع ما هو في نفس الكلمة نحو خالد ومالك، فأوقعوا اللبس بما فعلوه، لأن الألف إذا حذفت من خالد صار خلداً، وإذا حذفت من مالك صار ملكا. وجعلوا كثيراً من الحروف على صورة واحدة كالدال(405/21)
والذال والجيم والحاء والخاء، وعولوا على التقط في الفرق بينها، فكان ذلك سبباً للتصحيف الواقع في الكلام. ولو جعلوا لكل حرف صورة لا تشبه صورة صاحبه كما فعل سائر الأمم، لكان أوضح للمعاني وأقل للالتباس والتصحيف. ولذلك صار التصحيف في اللسان العربي أكثر منه في سائر الألسنة. . .)
قلت: أصاب ابن السيد في بعض ما قال، وأشط في بعض و (ألقى الشيطان في أمنيته. . .). وإن الإعجام ولا سيما في التنقيط، والعمل بأقوال أئمة في الإملاء مسهلة، وعلامات الترقيم، وشيئاً من التيسير لا يضير. . . في كل ذلك مرغب البطليوسي وأمثاله في هذا العصر من مستصعبي الحروف العربية واكثر من مطلوبهم. والحروف العربية والحروف الفرنجية كلها من جنس واحد، كما ذكر ذلك في (الرسالة) رقم 226 ص 1781. وليست المشكلة ولا البلية في الحرف، ولكن في الانحراف. . .
46 - (ص 360):
الوحي بين بني البنات وبينكم ... قَطع الخصامَ فلات حين خصام
قلت: قطع الخصام، والجملة خبر الوحي، وهذا ما يعنيه الشاعر المستجدي، وإن كان لذاك الشكل وجه. والبيت في قصيدة من أشهر قصائد (التملق) وفحواها أن الله أعطى العباسيين لا العلويين الفاطميين (إمامة) المسلمين وسياسة دنياهم كيف؟ ولماذا؟
مروان بن أبي حفصة لا يسأل عن هذا (الإنطاء)، ولا يدري لماذا؟
لا يبحث عن كيفية ولا سببية، ولا يهمه عباسية ولا علوية، و (بيت القصيدة) عنده هو تلك المنقوشة المسجدية واللينية
(وعلى المنقوش داروا)
وفي (الإسلام الصحيح) القول الحق الصريح في الإمامة وفي أمور ذات بال.
47 - (ص 158): قال عيسى بن موسى: لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة بني عبد الله بن الحسن. . .
قلت في طبعات العقد السابقة: لمحاربة عبد الله بن الحسن، وفي هذا القول خطأ، فزاد محققو الكتاب محسنين الكلمة (بني) وزيادة (ابني) أوفق؛ فالثائرون هما: محمد (النفس الزكية) وأخوه إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن.(405/22)
48 - ص 66. . . قال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال: أشرار من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد - وكان عامله على المدينة - قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ (بالإحنة) ويقضي بالهوى. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر. قال: ما تقول في؟ قال: أعفني. قال: لابد أن تقول؛ قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية. قال: فتغير وجه أبي جعفر؛ فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين، قال: اقعد يا بني، فليس في دم رجل يشهد أن لا اله إلا الله طهور.
وجاء في الشرح في تعليقة (بالإحنة): كذا في 1. والذي في سائر الأصول: (بما لا يحققه)، والمعنى يستقيم على كلتا الروايتين.
قلت: الإحنة الحقد، والغضب الطارئ من الحقد. والظن أن (بالإحنة) هي (الرشا)، ولا يستبعد هذا في باب التبديل والتحريف والتصحيف، وما بذ (العقد) بسائر الكتب بكل ذلك من شيء قليل. . . والرجل يسجع، والرشا والهوى يتفقان. . . ووصفه العامل بأخذ الرشا أهون خطباً من ذلك (التقريظ) الذي لطم به وجه الخليفة. . . وهو الخليفة.
48 - (ص 250) قال سابق البلوى:
وداهن إذا ما خفت يوماً مسلطاً ... عليك، ولن يحتال من لا يداهن
قلت: أظن أنه سابق البربري كما في حماسة البحتري وشرح المقامات للشريشي. وفي التاج: (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري، روى عن أبى حنيفة رحمه الله وعن طبقته، مشهور عندهم) وروى البحتري له في حماسته هذا البيت الفذ:
وفي البحث قدماً والسؤال لذي العمى ... شفاء، وأشقى منهما ما تعاين
وقد يكون هو وبيت العقد من قصيدة واحدة، وروى الشريشي هذين البيتين لسابق البربري:
فحتى متى تلهو بمنزل باطل ... كأنك فيه ثابت الأصل قاطن
وتجمع ما لا تأكل الدهر دائباً ... كأنك في الدنيا لغيرك خازن
49 - (ص 252) قال ابن أخت تأبط شرا:(405/23)
مطرق يرشح موتاكما ... أطرق أفعى ينفث السم صلُّ
قلت:
مطرق يرشح موتاكما أطرق أفعى ينفث السم صلُّ
وقافية البيت مطلقة، والتشديد غير جائز ولو كانت مقيدة، والبيت من قصيدة تنسب إلى تأبط شراً والى ابن أخته وكلاهما من الأسرة الخلفية. . . وقد نقل (جوته) معانيها نظماً إلى الجرمانية وسماها نشيد الانتقام، وسأنشرها وكلمة موجزة في شاعر الجرمان الأعظم
50 - (ص 218). . . كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة له بواسط في مغرم لزمه للخليفة، فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير وقال له: اذهب إلى واسط
قلت: بواسط. . . إلى واسط
قال (الكتاب): وأما واسط فالتذكير والصرف أكثر، وإنما سمى واسطاً لأنه مكان وسط بين البصرة والكوفة؛ فلوا أرادوا التأنيث قالوا واسطة، ومن العرب من يجعلها اسم أرض فلا يصرف.
في معجم البلدان: قال أبو حاتم: واسط التي بنجد والجزيرة تصرف ولا تصرف، وأما واسط البلد المعروف فمذكر لأنهم أرادوا بلداً واسطاً أو مكاناً واسطاً فهو منصرف على كل حال.
قالوا: وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه. وأنشد سيبويه في ترك الصرف:
منهن أيام صدق قد عرفت بها ... أيام واسط والأيام من هجرا
ولقائل أن يقول: أنه لم يرد واسط هذه فيرجع إلى ما قاله أبو حاتم:
51 - (ص 370)
إذا ما أبى شيئاً مضى كالذي أبى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل
وجاء في الشرح: في الأصول والأمالي في الموضعين (أني) وهو تصحيف
قلت: في طبعة الكامل في التاريخ لابن الأثير مثل رواية الأمالي والأصول، ورواية (العقد) هنا أفضل. وفي تاريخ الطبري (ج 9ص 209)
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أبى ... وإن قال إني فاعل فهو فاعل(405/24)
وإن ثبتت هذه الرواية فالمعنى أنه إن قال فعل، وتصميمه على ما يأتيه ومضيه فيه كإبائه ما يأباه كما قال:
أبى لما آبى سريع مبانء ... في كل نفس تنتحي في مسرتي
52 - (ص 142)
أريد حياته ويريد قتى ... عذيرك من خليك من مراد
قلت: البيت في قصيدة لعمرو بن معد يكرب. وروايته في كتاب سيبويه والكاسر والطبري والخزانة وغيرها: (أريد حباءه)، وكان أحد الفضلاء خطأ في (الرسالة) أريد حياته. وهي رواية في البيت، ففي شرح شواهد الكتاب للشنتمري: (ويروى أريد حياته) وفي الخزانة للبغدادي: (ويروى أريد حياته بلفظ ضد الممات) فلا خطأ هناك.
في القول ذي الرقم 5 لسنة 401 ص 292) قلت:
وعذر جمع عذير وقد جاء في الشعر مخففاً. وقد استندت في أمر التخفيف إلى الصحاح وغيره ثم رجعت في المخصص (ج 13 ص 82): والعذير ما يخلو به لإنسان ويلزمه، والعذير أيضاً الحال منه، وكل ما يعذر عليه عذير والجمع عذر، وأنشد:
(وقد أعذرتني في صلالكم العذر)
احتاج إلى تخفيفه، هذا قول أبي عبده وهو خطأ، بل التخفيف جاء على اللغة التميمية
وقلت في (حل في مالي النزر: حل في مالنا النذر. وهي رواية الديوان وغيره، ثم وجدت في الخزانة (ج 2 ص 164) حل في مالنا النزر أي القلة
وفي القول ذي الرقم (25) الرسالة (402 ص 317) طارت قيس في (التاج) والجملة هي هذه: في التاج: القطامي ويضم، الفتح لقيس وسائر العرب يضمون.
ويضاف إلى ما ذكره العلامة الأستاذ الأثري وما ذكرته في شأن الفتح والضم في القطامي هذا القول في (تهذيب إصلاح المنطق) ج 1ص 186 في باب الفعل والفعال: (وقطامي وقطامي للصقر)، وهذا القول في خزانة البغدادي (ج 1 ص 392):. . . وله (أي عمير بن شييم) لقبان، أحدهما القطامي منقول من الصقر، يقال له قطامي بفتح القاف وضمها واللقب الآخر صريع الغواني، قال النطاح: أول من سمى صريع الغواني القطامي بقوله:
صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شبَّ حتى شاب سود الذوائب(405/25)
وصريع الغواني لقب مسلم بن الوليد أيضاً لقبه هارون الرشيد بقوله:
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
قلت: أنا أنشد:
هل العيش إلا أن تروح أخاعُلا ... وتغدو خدينَ النُّبلِ والعلمِ والفضلِ
(* * *)(405/26)
يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند
الشرقيين
للأستاذ عباس محمود العقاد
جرت في هذا المعنى وضده مناظرة في كلية الآداب بين
الأستاذ العقاد وفريق آخر من جهة، وبين الأستاذ الرافعي
وفريق آخر من جهة أُخرى. وقد نشرنا في العدد الماضي
رأى الأستاذ الرافعي، وفي هذا العدد ننشر رأى الأستاذ العقاد.
حضرات الإخوان والأبناء
كان من نصيبي في مناظرة هذه الليلة أن أؤيد الرأي القائل بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند الشرقيين.
وقيل أن أدخل في تفصيلات هذا الرأي أسال سؤالاً لا أنتظر عليه جواباً لأن جوابه معروف. وهذا السؤال هو: هل يستطيع أحد أن يقول بأن الشرق خلا من العقول الناضجة في العصور القديمة؟ هل خلا الشرق من الحياة العقلية الناضجة يوم أن كان التراث الشرقي هو التراث الذي لا تراث غيره؟
فإذا كنا لا نرى أحداً يستطيع أن يزعم ذلك فقد حكمنا بأن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، لأننا إذا أنكرنا هذه الحقيقة وجب أن نقول إن الشرق خلا من العقول الناضجة قديماً وحديثاً؛ وهذا ما لم يقل به أحد من الشرقيين ولا من الغربيين. وأحسب أن مناظري الفاضلين أول من يشتد في نفي هذا الزعم لو جرى به لسان في هذا المكان أو في غير هذا المكان.
وبعد فمن الواجب أولاً أن نعرف ما هو التراث الشرقي؟ ثم نعرف ما هو النضج العقلي؟ ثم نصل إلى النتيجة التي تؤدي إليها معرفتنا بهذا وذاك على وجه الدقة كما يقول الأدباء مقترحو المناظرة. . .
فإذا تكلمنا عن التراث الشرقي أو التراث الغربي خرجت من حسابنا العلوم الطبيعية(405/27)
التجريبية أو العلوم التي اصطلحنا على تسميتها بالعلوم الحديثة؛ لأن الحقيقة من حقائق الحرارة أو الضوء أو قوانين الحركة أو خصائص الأجسام - هي حقيقة ثابتة في جميع الجهات الأصلية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً بلا اختلاف. أو هي حقيقة إنسانية عالمية تتقرر في لندن كما تتقرر في القاهرة وبغداد، ولا يكشفها الإنسان حين يكشفها باعتباره شرقياً أو غربياً، أو باعتباره مولوداً في الشمال أو الجنوب، ولكنه يخترعها باعتباره إنساناً مدركاً لما حوله حيث كان. وإذا اتفق أن كثيراً من هذه الحقائق العالمية قد كشفها أناس من الغرب فليس معنى ذلك أنها خاصة بالغرب وأهله؛ إذ هي تتمة للحقائق الطبيعية التي سبقتها منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة، فهي جزء من التراث الإنساني لا مراء.
ويخلص لنا من ذلك أن التراث الشرقي هو التراث الذي عليه صبغة الشرق وينتمي إليه ولا يمكن أن ينتمي إلى غيره، وإن التراث الغربي هو التراث الذي عليه صبغة الغرب وينتمي إليه ولا يمكن كذلك أن ينتمي إلى غيره. أما العلوم الطبيعية فليست عليها صبغة شرقية ولا غربية، ولا مانع من أن يكون الإنسان شرقي التراث وإن يكون ملماً بالعلوم الطبيعية في وقت واحد. وعلى هذا كيف يتطرق إلينا الشك في أن التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية عند ذويه؟ بل إذا كان التراث الشرقي وحده قد أخرج عقولاً ناضجة في جميع العصور، فكيف لا يخرج هذه العقول إذا جاز أن يقترب بالعلم الطبيعي وما إليه من تراث الإنسان؟
شيء آخر يجب أن يخرج من حسابنا إذا تكلمنا عن تراث الشرقيين وتراث الغربيين، ونعني هنا المعارف الرياضية من هندسة وحساب وما هو من قبيل هندسة والحساب، فإن الحقيقة الرياضية لا تتغير بتغير الزمان والمكان ولا بتغير الأمم والأفراد. وليس من شأنها أن تصطبغ بالصبغة الشخصية أو بالصبغة القومية حيث كانت، بل هي لا تتوقف على المشاهدات والمحسوسات بمقدار ما تتوقف على قوانين العقل المجرد المعزول عن خصائص الأوطان والأزمان. . . وأين هي الحقيقة الرياضية التي يصح على أي وجه من الوجوه أن تسمى حقيقة يونانية أو مصرية أو صينية؟ وأين هي الرياضة الشرقية أو الرياضة الغربية؟ إذا قيل أن هذا قانون رياضي فقد قيل هذا قانون إنساني يمسكه الشرقيون والغربيون على السواء، وامتنع أن يتعارض هذا وما يسمى تراثاً للشرقيين أو(405/28)
للغربيين.
ومما تقدم يتبين لنا أن التراث الشرقي يجتمع مع العلم الطبيعي والعلم الرياضي في بيئة واحدة. ونعود فنقول مرة أُخرى: إن أحداً لم ينكر أن العقول نضجت في الشرق على تراثه دون غيره، فكيف ينكر أحد أنها قابلة للنضج إذا جاز أن تضم إليه العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية؟
ونصل بعد هذا إلى النضج العقلي لنقول في التعريف به كلمة وجيزة تؤكد معنى ما قدمناه.
فالعقل الناضج كجميع الملكات الناضجة والحواس الصحيحة إنما يتم له النضج بالمرانة والمزاولة أيا كان الشيء الذي تقع فيه المرانة والمزاولة.
فحاسة البصر مثلاً تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الأشجار كما تستوفي حظها من القوة بالنظر إلى الصخور.
وعضلات الجسم تقوى بحمل النحاس كما تقوى بحمل الحديد أو الفضة أو الذهب أو الجواهر الكريمة.
والعقل يستوفي نضجه بأن يعمل ويفكر ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه.
فالمهم في تصحيح الملكات والقوى العقلية أو الجسدية إنما هو في العمل والمرانة، لا في الموضوعات والمواد التي يتناولها عمل العامل ومرانة المتمرن؛ إذ هي في المنزلة الثانية من الأهمية. وقد يقوى النظر في الصحراء وهي خاوية أشد من قوته في المدن وهي آهلة حافلة، ما دام النظر في الصحراء عاملاً لا يكف عن الرؤية والانتباه.
ومؤدى ذلك أن المهم في إنضاج العقل الشرقي أن يعمل ولا يكف عن العمل، سواء كان موضوعه تراث الشرقيين أو تراث الغربيين.
فإذا عمل فهو ناضج، وإذا وجد مادة التفكير فهو مفكر، وإذا امتلأ بالإدراك فهو مدرك: أيا كان موضوع تفكيره وإدراكه
والمثل المحسوس هنا أحق بالتقرير من الآراء العامة والأحكام المطلقة، فلنضرب الأمثلة بالأسماء المعروفة ولا نقصر القول على رأي مقنع أو حكم مسلم البرهان.
فما القول في هارون الرشيد؟ وما القول في ابن خلدون؟ وما القول في جمال الدين(405/29)
الأفغاني؛ وما القول فيمن سبقهم أو لحق بهم من (الناضجين) الأفذاذ؟
أكان هارون الرشيد حاكماً ناضج العقل أو لم يكن كذلك؟ وابن خلدون - ألم يكن مفكراً تاريخياً للتفكير يقل نظيره في السابقين واللاحقين؟
وهكذا يقال في جمال الدين الأفغاني وكل دراسته شرقية، وكل ما استفاده من قليل الثقافة الإفرنجية لم يؤثر في تكوين عقله ولا في طبيعة التراث الشرقي الذي نشأ عليه. فهم جميعاً أنضج عقلاً من التلميذ الحديث الذي يعلم من العلوم العصرية ما لم يكونوا يعلمون.
هؤلاء ناضجون لا مراء، وكانت لهم ومن حولهم حياة عقلية ناضجة لا مراء، وكان التراث الشرقي هو التراث الذي عولوا عليه بغير التباس ولا مناقضة، إذا جاز الالتباس أو جازت المناقضة في شؤون الرجال النوابغ الذين يعيشون معنا الآن.
والواقع - أيها الإخوان والأبناء الأعزاء - أن الشرقيين لا يمكن أن تنضج لهم حياة عقلية في غير تراثهم الذي ينتمي إليهم ويصطبغ بصبغتهم.
فغير ممكن كما أسلفنا أن نجعل العلم الطبيعي تراثاً شرقياً أو غربياً بأية صفة من الصفات؛ وغير ممكن كذلك أن نجعل العلم الرياضي تراثاً ينسب إلى الشرقيين أو إلى الغربيين.
فلم يبق إذن إلا التراث الخاص بالشرقيين الذي لا يشاركهم في خصائصه مشارك من العالمين، وهو التراث المشتمل على ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد سلوك، وفي طليعته روح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين.
وقد يسأل السائل في هذا المعرض: وما الرأي في الأشعار والأمثال والحكايات التي تنقل من الغربيين، وهي تراث غربي لا نزاع فيه؟
فجوابنا على هذا السؤال أن التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرقيين ينقسم إلى قسمين: القسم الذي يمكن أن يمتزج بحياتهم وهو من نوع تلك الحياة فلا يلبث أن يدخل في الشرق حتى يصطبغ بصبغته ويجري على سنته، ومثله في هذه الخصلة مثل التفاحة الأمريكية التي تجري في دم آكلها من المصريين: هي تفاحة أمريكية ما في ذلك خلاف؛ لكن الدم الذي يتولد منها في عروق آكلها دم مصري وليس بالدم الأمريكي أو الذي ينمى صاحبه إلى الديار الأمريكية.(405/30)
وفرق بين هذه الحالة وحالة النسب الذي يخلط الدماء بالدماء ويخرج لنا سلالة لا هي إلى هنا ولا إلى هناك.
والقسم الآخر من التراث الغربي الذي ينتقل إلى الشرق هو القسم الذي لا يمتزج بحياة الشرقيين ولا يدخل لهم في عقل ولا روح. وهذا غريب عنهم وهم غريبون عنه. وحكمهم فيه حكم المتفرج العابر الذي يمر به وكلاهما باق حيث كان: هؤلاء شرقيون وذلك تراث غربي لا يدخل في عوامل النضج العقلي أو في عوامل التكوين، سواء رجعنا فيها إلى الأفراد أو إلى الشعوب.
ومعنى هذا أن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين فهي شرقية لاحقة بالتراث الشرقي، أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه، ولا يصح أن تنسب إلى غير الشرق إلا كما يصح أن تنسب دماؤنا إلى استراليا وأمريكا لأننا نأكل القمح الأسترالي والفاكهة الأمريكية في بعض الأوقات.
وعلى أية حال ليس لنا مناص من إحدى اثنتين: إما أن نقرر أن الشرق خلا من الحياة العقلية الناضجة في جميع العصور وهو مخالف للمعقول ومخالف لإجماع الآراء؛ وإما أن نقرر أن الشرق قد عرف الحياة العقلية الناضجة ولو في عصر واحد من عصوره، وهذا في لبابه مرادف لقولنا: إن التراث الشرقي كافٍ لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين.
عباس محمود العقاد(405/31)
الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 4 -
ثلاث الكليمات التي تقدم إيرادها هي بيان وجيز لملاحظات على الغناء والموسيقى في مصر والغرب، يلاحظها كثيرون منا، ولم يقصد بعرضها جميلة سوى لفت النظر إلى ضرورة الأخذ في إصلاح جدي يقوم من أود هذين الفنين وما يتعلق بهما عندنا. فإن استصوبها فنان محب لفنه، وأحس بقدرة على شيء من هذا الإصلاح وتهيأ له، فتوخاه ومهد سبيله، كان له فضل الابتداء والسبق في خدمة جليلة.
والذي يجمل بذوي الهمة من الفنانين هو قبل كل شيء، أن يحاولوا رفع ذلك الحب المريض من حضيض ذله الذليل، وإن يطبوه بأشعة البشاشة وروح الهشاشة لعلهم يزيلون عن قلبه تسعة وتسعين في المائة - على الأقل - من هذا الحزن الذي ران عليه، وينقذونه من طوفان دمعه السخين؛ والمجال، بعد هذا الإسعاف، واسع شاسع الأطراف: أفليس أمامهم حب الأصحاء، سعيده وشقيه؟ وسائر الأحاسيس والخوالج كنز لا يفنى. لهم أن يختاروا منه ما يسهل وصفه: كألوان العواطف الوطنية والعائلية، وكالحماسة والفرح وغيرهما؛ وفي الطبيعة جمال مشرق باسم يمرح الشباب أمامه في أحضانها ويلاعب ويداعب، ويتهكم ويغاضب، ويجالس ويؤانس، ويتراقص ويتعاشق، ويغني ويطرب في هناء وابتهاج. كل ذلك قد لا يتعذر على الفنان الحي تصويره بمنظوم شعره ومنثوره، أو بألحانه، أو غنائه، أو موسيقاه، إن هو أن اعتمد على بصيرته وبصره، واستهدى شعوره، وراد آفاق نفسه، وطلوع وحي قلبه محترساً من تقليد سواه.
وإذا حل أن يعبر للعامة عن أمثال هذه الموضوعات بالعامية فهل يحرم أن يعبر عنها بالفصحى للصفوة المثقفة، وبالفصيحة السهلة الواضحة للخاصة المتعلمة على أن يكون إلا تجاه بها إلى التعميم؟
والمأمول أن ترجح في الغناء كفة ما كان من النثر والنظم شعراً ما دام مجرد استعمال الكلمات التي ألفها الشعراء: كالقمر والزهر والفؤاد والوداد والنيل والنخيل، لا يرد غث الكلام وسفسافه شعراً. وإن بين الناثرين والناظمين شعراء بصراء، تشعر أغانيهم بقدرة(405/32)
تمكنهم من الإتيان بأغان تشرفها، لولا استقرار العادة على مراعاة التقاليد التي سلطها الجهل وضعف الطبع، ولولا طلبات الملحنين والمغنين الخاضعين لأذواق الجمهور الفسيدة.
أما الملحن، فالنصيحة الخالصة له أن يوطد العزم على نبذ العادة القديمة ومقاومة التقاليد السقيمة؛ وإن يتحاشى عن نية تقليد الشرقي والغربي على حد سوى، ولا سيما التقاليد الأعمى من اقتباس عبارة صوتية معينة - مثلاً - يعجبه أسلوبها فيقحمها في لحنه غافلاً عن مدلولها، أو من مد مخصوص، أو من تعمد التحزين الخارج عن الفن، ومما إلى هذه الأمثلة.
فإن كان صادق العزم، فسبيله أن يطب نفسه أولاً من الذلة والخور والخنوع، ويشفيها من داء الحزن العضال، ومن التفجيع المقيت والعويل الثقيل؛ وإن يحررها من بدعة التخنث والتكسر والتميع، ليخلص أولاً من كل هذه العلل الوبيلة التي مكنها منه استحسان العامة وأشباه العامة. ومما يعينه على النجاة النزهة الخلوبة، والرياضة البدنية، والمطالعات المنعشة، والصاحب المؤنس المفرح، وإجالة الخاطر في الموضوعات الملائمة للغرض، والإيحاء التلقائي.
والأجدى له في عمله هو أن يمعن في التفكير بادئ بدء في فحوى ما هو مقبل على تلحينه من الكلام، وإن ينظر ملياً في جمله وكلماته وحروفه، ليتبين الروح الذي أملاه، والموقف الذي يصف؛ ثم يتصور أنه هو في هذا الموقف، وأن ذلك الكلام كلامه؛ فإذا أرهف حسه، وأيقظ ملكاته، وهيأ نفسه وشعر بإيحائها وارتياحها إلى التلحين، أخذ في الترنم بالأغنية؛ ثم يكرر التغني حتى يجيء مدلول اللحن مطابقاً لمدلول الكلام المعبر عن الحال النفسية التي استعارها لنفسه هو من الموقف الموصوف بالأغنية؛ ثم يترك اللحن الذي وضعه أول وضع، ويرجع إليه مرة بعد مرة لتهذيبه وإحكامه على مقياس تلك المطابقة، لا ابتغاء جعله مشابهاً للحن آخر، أو مرضياً لذوق خاص؛ فيدع الصوت يعبر التعبير الطبيعي، ويطابق مقتضى المقام المدلول عليه بالكلام بما أنه قد تعمد اعتقاد وجوده هو في هذا المقام، واعتاد هذا الاعتقاد حتى استقر ما بفكره ونفسه في عقله الباطن.
وأما المغني، فسبيله أن يعمل في التدرب على غناء اللحن ما عمل صاحبه في إنشائه، بعد أن ينفي عن نفسه ما استطاع من ذلك الحزن المميت وتلك الذلة الساحقة، سواء أكانت(405/33)
تقليدية أم طبيعية؛ ولابد له من أمور منها:
أن يقضي مدة قبل مزاولة الغناء في تقوية صدره وتعميق نفسه ومده، وإلانة حباله الصوتية، والتمرن على التنفس في الغناء، حتى لا يقطع بقصر نفسه عبارة صوتية من لحن يغنيه، وحتى لا يظهر أنه يختمها ونفسه وشيك الانقطاع، لأن هذا يخدش أسلوب العبارة. ومن مقتضيات الإجادة أن يؤديها أحسن اداء، ويختمها قادراً بما في نفسه من بقية وافرة؛ ولذلك كله وأمثاله طرائق وتمرينات معروفة.
وإن يهجر الغناء إذا كان من ذوي الخنخنة، ولا يغني مزكوماً أو متخوماً، أو مخموراً
وأن يحرص في غنائه على نقاء صوته وصفائه، فلا يعرقل جريانه بمثل قلبه الياء من حرف النداء همزة لينطق آبدل يا، أو بما يشبه مأمأة، وتارة عواء، أو ما يشبه عند الوقف شهقة الحمال حين يلقي حمله، أو ما يماثل توجع المريض والجريح في تصويره ألم العاشق.
وألا يقطع صوته بالوقف إلا بالقدر الضروري لإحداث مزية، كتنبيه المستمع إلى معنى الكلمة التي يقع الوقف على آخرها
وألا يطيل غناءه مستعيناً بغناء الجوقة معه ولا يكرر ذلك كثيراً، وإذا غنى معها فلابد له من إظهار صوته على أصواتهم وأصوات معازفهم، لأن الناس إنما يريدون سماع صوته هو، وهذا غير الجوقة الغنائية؛ لكن لا ينبغي له أن يعلو بصوته إلى طبقة لا يبلغها بغير عناء، لأن أقله يعكر صفاء صوته ويزيل رواءه ويعيب غناءه وإن أطرب في الطبقة التي يقدر عليها. من أجل ذلك يجب عليه أن يتخير من الألحان والأغاني ما يلائم طبعه، وقوة صوته، ونوعه.
إن المتقدمين من أهل المدينة العربية ميزوا أصوات المغنين فقالوا مثلاً: أجش ومجلجل وكرواني؛ والغربيون يميزونها فيقولون مثلاً: باس وتينور وكونترالتو وسوبرانو؛ فلا يغني كل صوت إلا ما يلائمه من الألحان؛ وظننا أنه قد آن لنا أن نبدأ هذا التمييز مثل أصحاب الفن الصحيح.
يحسن بمن يزاول فن الإطراب أن يعتبر بهذه الملاحظات ويتحرز من الخطأ الفني ويتحاشى العيوب المشار إليها في هذه الكليمات وعن أمثالها، كعدم إخراج الحروف من(405/34)
مخارجها بالدقة، وعدم لفظ الكلمة واضحة. ومن الأصوات المسموعة في مصر ما يطرب ويمكن الافتنان فيه، وبين الملحنين والعازفين مهرة ليس يستحيل عليهم التفوق على أنفسهم، وإنما المعول كل المعول على فهم حقيقة الفن ومقاصده، بدل القناعة بوسائله.
ولسنا نقول إن المسلك الذي ننصح بسلوكه يغلب الوراثة وأثر البيئة واستقرار العادة، فيغير الحال في الساعة، لكنه مهما كان شأنه فهو مؤثر، وعامل من عوامل التطور؛ أو هو كالدواء الذي يوصف لذي علة لا برء منها، فقد لا يخلو من نفع للمعلول إذ الطبائع متفاوتة والشذوذ قد يوجد في بعضها، ولأسرار الطبيعة مفاجآت، ومحاولة الاهتداء خير من الاسترسال في الضلال، وكل ما يبلغ غاية، له بداية.
هذا وإن المقدمة الموسيقية تليها التقاسيم بالمعازف، فالليالي فالموال فالأدوار، نظام لا بأس به؛ على أن تقديسه والتزامه في كل حفلة لا يوجبها الفن كما يتوهمون، بل أن تحسينه واجب. ولم لا تقام حفلات كبيرة مخصوصة بالموسيقى وحدها وهي مطربة إذا جادت، وفي البلاد ألوف العازفين والمحبين لها؟ وفي الغرب قاعات مخصوصات بها مشهورات تكتظ من المستمعين. ولم يصغرون شأن البشرف والتوشيح في حفلاتهم فلا يغنون هذا كله ولا يعزفون ذاك بأجمعه؟ ولم لا يحاول أحد منهم أن ينشئ شيئاً يماثلهما، أو يبتكر أنواعاً أخر إن استطاع؟
إن موسيقانا لم تدرك شأو غيرها إذ عجزت حتى الآن عن التصوير وليس يعقل أن التصوير مستحيل في الموسيقى الشرقية؛ لأن الموسيقى الغربية مثلها، لها سلم ومقامات ونغمات، ولها الأقيسة الزمنية والإيقاع، ولها الأساليب الصوتية تعبر بها عن الأحاسيس تعبير الأساليب البيانية؛ والأحاسيس جميعاً موطنها النفس، وشأن النفس واحد في الإنسان أينما كان؛ والموسيقيان كاللغتين العربية والفرنسية، مثلاً، اللتين فيهما المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والمحسنات البديعية، وأوجه البلاغة، لوحدة المصادر البشرية من الفكر والمخيلة والمشاعر، بل بينهما أوجه شبه في النحو والصرف؛ وقد كانت موسيقى الغربيين ومعازفهم بسيطة، كموسيقانا ومعازفنا، فتناولوهما بالتحسين حتى ارتقيا إلى مرتبة التصوير الذي تفوقا به منذ عرفوا تركيب الأنغام في زمن معاً، أي في إيقاع واحد، وإخراج الصوت الآلي من طبقته الضيقة، أو من الجزء الضعيف في زمنه، وإنشاء الجملة الغنائية تسمع(405/35)
بعيد الجملة الأساسية في انسجام وئتلاف معها فأي شيء في الموسيقى الشرقية يمنع من تقليد هذا الفن؟ إذن لا يقول بأن التصوير مستحيل فيها إلا جهول كسول. والرأي للمشتغلين بالغناء والموسيقى عندنا أن يجدوا في ترقيتهما معتقدين أن الموسيقى ستبلغ، أو سوف تبلغ، مرتبة التصوير العالية؛ وإذا أتجه نظرهم إلى مظنة وسيلة للترقية فتعرفوها واستخدموها ارتقوا بفنهم درجة، وطمحت أبصارهم إلى ما فوقها.
ونحن، بحمد الله، عندنا الناي كالفلوت، والفانون كالبيانو (وقد استصنع بعضهم بيانو فيه ربع المقام (إياه) فصنع)، وطبلة كطبلة، والكمان، في وسع الموسيقيين أن يستعينوا الصناع على تحقيق أغراضهم بتحسين المعازف على الوجه الملائم لما يتفرسون من وسائل الإصلاح، أو باستحداث ما يعوزهم من الآلات بدل ادعاء الابتكار والتجديد والتفوق بلا حق.
فإذا نحن أردنا أن نخرج موسيقانا من حالها البدائية، أو طورها الأول الذي ما برحت عاربة فيه، فلابد من أن نأخذ في نسج ثوب موشى لها - ثوب التصوير، وهو غير التوافق بين الألحان وأصوات المغنين.
ومتى تيسر التصوير، وتميزت أصوات المغنين بحدود طبقاتها وألوانها، وتبينت نسبتها إلى المعازف، وبدأ التلحين بوحي النفس الحرة من التقليد، الطليقة من قيد القوالب، البريئة من السرقة، أمكن أن يرتقي الغناء المسرحي بمصاحبة الموسيقى، وأن يقدم أصحاب الفن وشعراء المسرحيات إلى الجمهور أوبريت قم أوبرا - كوميك، ثم أوبرا جيدة ليس شك في أنها تطربه وتعجبه وإن لم يستسغ ما قدم إليه حتى الآن بهذا العنوان من خليط مستغرب، ومسمى يتبرأ منه اسمه.
وليتهم على الأقل يزيدون المعازف إلى ثلاثة أضعاف العدد المعتاد لكل نوع منها في الجوقة، ريثما يهتدون إلى التصوير، فإن ذلك يقوى العزيف فيحسنه فيما نرى تحسيناً متواضعاً أفضل من لا شيء، لكنه لا يكون من الإصلاح المنشود.
ألا أن الجهل والاقتصار في الاشتغال بهذه الفنون على استرزاقها لا يوصلان إلى شيء مما ينبض بها؛ ونهضتها، يوم يتحقق، إنما يكون ثمرة التطور في ضوء العلم والثقافة؛ على أن الأمة تتقدم إذا قام كل جيل من أبنائها بما عليه من حمل أعبائها مسافة على طريق(405/36)
الفلاح؛ وكلما صح ذوقها، ورق ودق، يسمو مثلها الأعلى في الفن. فعلى محبي الغناء والموسيقى والتلحين، المشتغلين بالفن من شبابنا المعلم، أن يتعلموا ولو مبادئ ما في الغرب منه، وأن يكثروا من الإصغاء إلى تحف الموسيقى والغناء لأعاظم المغنين والموسيقيين الغربيين أينما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ هذا إلى قراء شيء من تاريخ الموسيقى وكلام نقادها في إحدى اللغات الأجنبية، وقراءة بعض المؤلفات العربية.
لكن ذلك وحده لا يسعف وليس يكفي الآن، بل العمل المنظم في هذا الزمن المستنير هو السبيل القصد إلى الغاية، وفي مصر معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا، والى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه، ويجعل بالوزارة المختصة أن تعنى بهذا الأمر.
يجب أن يحمل أرقى هذه المعاهد وأقدرها أعباء النهوض بفنونها، وإن ينشئ لذلك قسماً مخصوصاً يهتم بها من الجهة الفنية النظرية، والعلمية الثقافية؛ وأن يقوم بشؤون القسم نخبة من أصحاب الفن المولعين به لا يعينهم لوظائفهم فيه سوى مؤهلاتهم الطبيعية والفنية والثقافية وقدرتهم على ما يندبون له نخبة ممن يطمحون إلى المنزلة الرفيعة والفضل في إحياء فنونهم وإنهاضها في الشرق يرأسهم أحقهم بهذه الرئاسة، ويجب أن يقتنى القسم مكتبة ينظمها التنظيم العلمي الحديث، ويجمع فيها المطبوعات الغربية والمؤلفات الشرقية المطبوعة والخطية؛ ويبحث في كل مكان عن النصوص الشرقية الدفينة والضائعة ولو مترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية كاللاتينية واليونانية والفارسية، إذ قد يجد فيها ما يلقى ضوءاً على فنون المتقدمين فينير المنهج للمتأخرين؛ ويشترك في المجلات الفنية، ويسترشد عند الحاجة بعض المعاهد الغربية المختصة بهداية السائل إلى جميع الكتب أو الطبعات أو النصوص في أي موضوع يعينه. ويجعل القسم بعض رجاله صلة بين جهده النظري وجهد معهده في إنتاجه العملي. ويجب أن يقوم المعهد بنوع من الإرشاد والرقابة على سائر المعاهد، وبإرسال البعثات المختارة من الناجحين في الفنون الشرقية إلى المعاهد الغربية.
ولابد، أخيرا، من التنبيه إلى آفة الغلو في بذل الثناء لكل من هب ودب من المغنين(405/37)
والموسيقيين، وعلى ضرر نعته بأعظم النعوت، كأن الناعت يريد إظهار شاعريته هو وبراعته البيانية فلا ينجح ببعده عن الحقيقة. ذلك يضر حقاً ولو كان بحجة التشجيع أو تمجيد الأمة والوطن حتى لكأن البلاد تنبت النبغاء في كل فتر من أرضها والعباقرة في كل شبر؛ فإن مثل هذا الغلو في الثناء الكاذب يهزأ منه وليس من الحكمة ولا الوطنية في شيء، لأنه يغر فيعمى ويصم فيسبب الوقوف، بل التأخر بدل التقدم، وهو لا يصدر عن أهلية للتقدير، وإنما يكون في الغالب لأغراض بعيدة عن مصلحة الفن والأمة.
محمد توحيد السلحدار(405/38)
من وراء المنظار
قطط وكلاب وناس!
منظر كم تمنيت بعده أن لم تقع عليه عيناي! ومع ذلك فقد لبثت دقائق كثيرة أحملق فيه وأطيل النظر، كأنما وقعت منه على فرجة تبتهج لها النفس!
في شاعر كبير من شوارع هذه المدينة العظيمة: - القاهرة عين أفريقية وملتقى الحضارتين الشرقية والغربية - وقعت على مقربة من صندوق القمامة، فإذا بي أرى في ناحية قططاً ثلاثة، وفي ناحية أُخرى كلبين، وعلى قيد خطوة من هذه المخلوقات بنتين وصبيين وعجوز
وقفت أنظر. . . فيا لشناعة ما رأيت من منظر، ويا لهول ما جاشت به نفسي عن المعاني تلقاءه! وأني أعيذك أيها القارئ أن تستكثر على استشعار الهول فيما رأيت، وأن ترده إلى استغراق في العاطفة يلحق بالضعف؛ وإلا رميتك أنا بالقسوة، وعندي أن القسوة هنا - على أي حال - إنما هي شر مما تزعم من ضعف.
راحت هذه المخلوقات الآدمي منها وغير الآدمي تنبش القمامة فتمد الكلاب والقطط أرجلها الأمامية ويمد الآدميون أكفهم حتى لتكاد تلتقي تلك الأرجل وهاتيك الأيدي كأن لا فرق بينها في شيء.
وجعلت أنقل البصر من القطط إلى الكلاب ومن هذه إلى البنتين والغلامين والعجوز وأول ما برز لي من المعاني هو صورة من تنازع البقاء في هذه الدنيا لاحت بين أفراد كل فريق من جهة، ثم بين كل فريق وفريق من جهة أُخرى.
كانت القطط تقوس ظهورها وتنفش شعورها وتخطف العظام إحداها من الأُخرى، فإذا أرادت أن تخطف شيئاً من الكلبين دارت معركة قصيرة بين الفريقين، فإذا زجر الصبيان الكلبين والقطط في حذر وخوف، جرت القطط فتربصت على خطوتين لتعود بعد لحظة، واستعلن الشر في وجهي الكلبين، فتركهما الزاجرون من الآدميين ومضى كل إلى ما كان فيه من عمل. وكان يفرح هؤلاء التعساء من الآدميين إذا دارت المعركة بين الكلبين والقطط واستمرت لحظة طويلة، فيكبون إذ ذاك في عجلة ونشاط في التقاط ما تنكشف عنه القمامة من بقايا العظام ولقيمات الخبز وقشور الفاكهة وما إليها قبل أن يعود فيشاركهم في(405/39)
التقاطها أفراد الفريقين الآخرين.
وكان كل من الصبيين والبنتين والعجوز يزحم الآخر ويسابقه في نبش كومة جديدة من الكناسة فإذا عثر أحدهم على لقمة كبيرة نوعاً لاح في وجهه مثل ما يلوح في وجه الباحث عن الذهب في أرض الذهب إذا التمع في عينيه عرق من المعدن النفيس؛ ويقذف الصبي باللقمة في حجره وقد زادها قيمة عنده أنها خلصت له من قرنائه ومن القطط الثلاثة ومن الكلبين.
ومرت بي أثناء ذلك بعض السيارات الفخمة تحمل أنماطاً من سراة القوم، ومن هؤلاء من لاحظت أن عيونهم رأت ما رأت عيناي إلى جوار صندوق القمامة، ولكني لم أتبين في وجه من هاتيك الوجوه الناعمة الراضية أية اختلاجة من أسف أو من رثاء. أجل لم أتبين في هؤلاء السادة (عبيطاً) مثلي يرى في ذلك المنظر ما يستوقف بصره. وإذ ذاك ازداد رثائي ضعفين على أولئك التعساء الذين يشاركون الكلاب والقطط في نبش الكناسة وليس يملك مثلي لهؤلاء إلا العطف والرثاء.
ألا ليت أولئك السادة انتبهوا ففطنوا إلى أن هؤلاء الذين نزلوا إلى مستوى الكلاب ينتمون إليهم في (آدميتهم) وانهم في هذا الوضع يشينون الجنس كله. قم ألا ليت أولئك السادة تذكروا أن القليل مما ينعقون في شهواتهم كفيل بأن يقضي على أمثال هذه المناظر إن كان يهمهم القضاء على تلك المناظر. . .
آه. . . ليت أولئك السادة حين تقع أعينهم على بنيهم وبناتهم إذ يلقونهم فرحين بما يتقلبون فيه من نعمة، يذكرون انهم رأوا بنين وبنات من تعساء الإنسانية تلتقي أيديهم الهزيلة بأرجل الكلاب والقطط في نبش صندوق القمامة.
الخفيف(405/40)
لذكرى المولد النبوي
ميلاد نبي. . .
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
مَنْ ذلكَ المبعوثُ في الصَّحْراء ... كالصُّبح بْينَ جوانبِ الظَّلْمَاءِ؟
نُورٌ مِن الحقَّ المُبين ومطْلعٌ ... جَاَءتْ به البُشْرَى معَ الأنباءِ
قَبسٌ من اللهِ الكريم وشُعْلةٌ ... من رجمةٍ ومنارةٌ لضياءِ
يَجدُ السُّراةُ به دَليلَ سَبيِلهمْ ... وَمَنارَهُم في الظُّلمَةِ العَشْواء
كانوا حَيَارَى ما تألَّفَ جَمْعُهُمْ ... في عُصْبَةٍ أو ألفُوا بإخاءِ
يَتَخَبَّطُونَ على ظلامٍ حالكٍ ... جهمِ العواصِف مُظلمِ الأنواء
ما فيه من وَضَحِ الطَّريقِ معالمٌ ... أو فيه من هَدْىِ السَّبيل مَرائي
هذا طريقُ الجاهليةِ لم يكنْ ... إلا طريقَ الخُلفِ والشَّحناء
تَجدوهُمُ فيه نوازعُ فتنةٍ ... وتحثهُمْ فيه دَوَافعُ دَاء. . .
هذا طريقُ الجاهلية موحشٌ ... ما فيه من نَبْتٍ ولا خَضْراء
يتعثر السّارونَ فيه بخُطوةٍ ... مَحْبوسَةٍ وَمَوَاطئ عَمْيَاء
لا يَستِقرُ على المسيرِ قرارُهُمْ ... كيفَ القَرارُ على الطَّريقِ النَّائي
هذا طريقُ الشركِ مُختلط الصُّوى ... وَعْرُ المساِلك ضَيقُ الأنْحَاء
ما فيه من مَسْعى بَغيرِ تعثرٍ ... أو فيه من قدمٍ بلا إعْيَاء
يمشي الحَيَارَى فيه بين مَسَاربٍ ... مَطْمُوسةٍ ومًعالمٍ نَكْراء
متحيرين على السَّبيِل كأنهُمْ ... قَدْ مَسَّهم جِنُ مِنَ الصَّحْراءِ
شاءٌ بِلا رَاعٍ يؤلفُ بَينَها ... وَرَوَاحلٌ تمِشي بغَيِر حُدَاءِ
أيْنَ الدَّليلُ على السَّبيِل يَسُوقَها ... وَيردُّ عنها صَوَلَة الأعداء؟
هَذا ظَلامُ الجِاهليِة لم يكنْ ... إلا ظلامَ الفِكر والآراء
أدْجَى من الليل البهيم حُلوكةً ... وأشَدّ وَقْعاً منْ يدٍ سَوداء
كانوا خَفَافيشَ الدَّياجي لم تَعِشْ ... إلا بجوٍ حَالك الأرْجَاء
يَمْشُون في الجْهِل القَدِيم قبائلاً ... يَتَرسَّمُونَ به خُطى الآباءِ(405/41)
متفرقين هُناك. . . لم يتفَّيأوا ... لخميلةٍ. . . أو يُمْسِكوا ببناءِ
عَبَدُوا من الأوْثَانِ كلَّ حجارة ... مَنْحوتةٍ أو صَخْرَةٍ َصَّماء
وأدُوا وَلِيدَتَهْم بغيرِ جريرةٍ ... أرأيْتَ مَقْتُولاً بغيرِ جَزَاء
ما ذنُبها حتَّى يًعَقَّرَ لَحْدُها ... برمالِ تلكَ الُحْفرِة الصَّفْرَاء؟
لو أنها سُئِلتْ لكانَ جَوَابُها ... يُدْمِى القُلوبَ بأنفُسِ الرُّحَمَاء
إرثٌ من الجَهْلِ البغيضِ وفكرةٌ ... أدْلَى بها الآباءُ للأبْنَاء
الجهلُ رَقْطاءٌ يُسمم نَابُها ... كيْفَ الحياةُ على يَدِ الرقْطاء؟
وَبد الصَّباح على بَطائح مكةٍ ... ضَاحى المشارقِ سَاِطَع الأضواء
يمشي إلى النُّوامِ في غَفَلاتهم ... ويُفِيُقُهْم مِنْ هَجْعَةِ الإغفاء
يا أيها النوامُ. . .! أن مَساءكمُ ... قد غَيَّبَتْه جوانبُ البَيْداء
ومحنه كفُّ الله وهي كفيلةٌ ... بالصُّبحِ واللمَعَانِ واللألاَء
في نور (أحْمَدَ) منه نُورُ سَاطعٌ ... أكِرْم بتلكَ الآيةِ البَيْضَاء
يَمْشي على ظلَم الجزيرِة ماحياً ... ظُلماتِ تلك الشبهِة القَتْماء
الليل طُال على الهجودِ فابْشِروا ... بالفَجر بيْن سنَي وبين سَنَاء!
هذه عَمُوُد الصُّبح أبْلَج واضحاً ... يَمْشي بنور الحُجْةِ الغرَّاء
هذا هو الحقُّ المبينُ فلم يكنْ ... خُدَعَ السَّرب ولا مخَاَيلَ ماء
هو نعمة لله من قبائلٍ ... ما كان أحْوَجها إلى النَّعماء
فَضْل تمثلَ في ظهور (محمدٍ) ... والله جمُّ الفضل والآلاء
هذا الصباح على الجزيرِة مشرقٌ ... في كل رُكْنٍ منه لمْحُ رَجَاء
قد آذن الليلُ البهيمُ بجًلْوَةٍ ... وانشقَّ عن صُبْحٍ بَغْيِر خَفَاء
نُورٌ أضاَء الحقُّ في جَنباته ... مُتألق النَّسَمات والأنْداء
تَنْجابُ عن مَسْراه كل دُجُنَّةٍ ... ويغيبُ من مرآهُ كلُّ مَسَاء
تلك الأشعةُ من خِلالِ وميضه ... فيها لمرضَى النَّفِس كلُّ شِفَاء
بُشراكمُ مَرْضَى القلوبِ، فإنما ... جَاَء الطبيبُ لكُم بخْيِر دَوَاء
هذا نبي الله أشْرَقَ بينكم ... وأتى لكُم بالوحْي والإيحاء(405/42)
الله يُلهمهُ بكل كريمة ... ويُمدُّه بالنَّصر والنُّصراء
هذا المبَّرأ من عيوب زمانهِ ... والخالصُ الخالِي مِنَ الأقذاء
لم يَمشِ في الجهلِ القديم ولم يكنْ ... من يَومه في زُمرِة الجهلاء
الله صفَّاهُ لنُصرةِ دينه ... واختارهُ لتحُّمل الأعْباء
حَمَل الأذاةَ فكان أقوى عُدةً ... وأشدَّ مُصْطَبَرًا على الإيذاء
هذا الوفىُّ لربهِ ولدينِه ... هل يَنْجَحُ المسْعَى بغير وفاء؟
يا مَن تَغُرُّهُمُ الحياةُ رخيصةً ... الله في أخذٍ وفي إعْطاء!
هذا الفقيرُ أتى يقودُ جماعةً ... استعصتْ منهُ بخيرِ لِواء
قُلْ للمُدِلَّ بجاهِه وبمالهِ ... المالُ ليس مُكوَّن العُظماء
هذا رسولُ الله لم يَعْقُدْ به ... عن مجِده أن كان في الفُقراء
يا مُلْكَ قَيَصْرَ قد رُزِئتَ بحادثٍ ... ما شاهدتهُ الرومُ في الأرزاء
ميلادُ (أحمدَ) كان مولدَ أمةٍ ... عربيةٍ وشريعةٍ سمحاء
خرجتْ من الصَّحْراءِ أصْلبَ مكسراً ... كصلابةٍ الأحْجار في الصَّحْراء
الرُّمحُ في يدها عَسِيُر المُلْتَوَي ... والسيفُ في يدها صَقِيلُ الماء
كانَتْ أشدَّ علي السَّلامِ رعاية ... وأشد صبراً في رَحَى الهْيجاء
تَدْعُو إلى الإسلامِ كلَّ جماعةٍ ... ونُجيبُ في الإسْلام كلَّ نِدَاء
محمد عبد الغني حسن(405/43)
البريد الأدبي
دراسة اجتماعية لبعض قبائل السودان
في عصر يوم الخميس الماضي ألقى الأستاذ محمد جلال عبد الحميد في سراي الجمعية الزراعية الملكية محاضرة موضوعها (دراسة اجتماعية لبعض قبائل السودان)، وهي ملخص لمشاهداته ودراساته العلمية أثناء رحلة استغرقت نحو السنتين بين هذه القبائل في السودان وأوغندا، استهلها بنبذة قصيرة في تاريخ البعثات الإثنولوجية بالسودان وأواسط إفريقية فقال: إن البعثات في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر كانت جغرافية وعسكرية ودينية، ولم تبدأ البعثات الإثنولوجية في تلك المناطق إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وآخر هذه البعثات هي التي قام بها هو في حوض النيل ابتداء من أكتوبر سنة 1936 إلى ديسمبر سنة 1940؛ فبحث فيها أولاً عن الريف المصري، ومنطقة نيمولي، والمنطقة الجنوبية من مديرية الجزيرة، ومنطقة البحر الأحمر، ومنطقة بلاد النوبة؛ وثانياً عن الثروة العلمية لحوض النيل.
ثم انتقل إلى دراسة البيئة الجغرافية وأثرها في السكان. ثم تكلم عن الأجناس البشرية، ثم عن الحياة الاجتماعية، ثم عن الحياة الدينية، ثم عن الحياة الأدبية والفنية، ثم عن النشاط المادي؛ وختم المحاضرة بخلاصة لدراسة سكان حوض النيل من الوجهة العلمية، وإمكان وجود قانون اجتماعي للتطور البشري، وقد اكتفينا بسرد عناصر هذه المحاضرة القيمة اعتماداً على أن الأستاذ المحاضر سيرسل إلينا خلاصة وافية لها.
وقد قدم المحاضر إلى الجمهور الدكتور محمد محمود غالي بهذه الكلمة:
عندما سمح سعادة فؤاد أباظة باشا لجماعة تبسيط المعارف أن يقوموا بإلقاء محاضرات في السراي الصغرى، كان هذا كسباً لأعضاء هذه الجماعة، وهذه هي المحاضرة الثانية يلقيها صديقنا الأستاذ محمد جلال عبد الحميد، يحدثنا فيها عن شيء من بحوثه الاجتماعية عن قبائل تحيا في الحوض الطبيعي ذاته الذي نحيا فيه وعلى النهر العظيم الذي نعتمد عليه.
كان يربطني بصديقي المحاضر ذكريات تجعلني أثق بشخصه وأنظر بعين الاطمئنان لبحوثه، وإنني سعيد باهتمام حضرة صاحب السعادة أباظة باشا بشأن جلال ومعاونة سعادته له ودعوته إياه، هذه الدعوة التي جاءت تكريماً لصديقنا العالم.(405/44)
رأيت المحاضر لأول مرة في باريس منذ عشر سنوات، ولم تكن قد صقلته الأيام بعد، أو غيرت فيه ما تلقنه من المجتمع أو المنزل أو المدرسة. دخل (السوربون) يتخبط كغيره ليعلم ما لا يعلم، ويهضم ما يتعلم، ويوازن بين ما كان يعلم وما يجب أن يعلم؛ ولم يكن لجلال معين يكفيه مئونة العيش، فكافح للأمرين: كافح للكسب أولاً وللتعليم ثانياً. وظننت في وقت أنه سيخر صريع هذا الكفاح العنيف، ولكنه كسب عيشه في باريس شريفاً، وصرف ذلك من أجل ما هو أشرف: في الدرس والتحصيل. وعلمته الأيام يتكون، وكيف يكون رجلاً.
جمعتنا مصر بعد فرقة، وسعى إلى يحدثني عما فعل، وأي شرف ناله من هذا السعي، وأي غبطة شعرت بها عندما تتبعت الفروع التي نجح فيها، وأي فرح غمرني عندما علمت أنه أصبح مبعوثاً لمعهد الأجناس الفرنسي لدراسة المناطق الإفريقية التي لا يقبل الكثير منا على ارتيادها، ثم مبعوثاً لجامعة فؤاد الأول. عندئذ علمت أن الرجل قد تكون، وأنه نال تقدير العلماء. بعد ذلك رحل وحيداً إلى قبائل (المابان) وغيرها، وعاد بعد غيبة طويلة، ثم عرج إلى مناطق الحدود المصرية السودانية على ساحل البحر الأحمر. وها نحن أولاء نسترق من الصديق العالم ساعة قبيل رحلته التي سيقوم بها بعد يومين إلى بلاد النوبة.
محمد محمود غالي
تعقيب على مقال
في المقال الذي نشره الدكتور زكي مبارك في العدد 402 من الرسالة، رداً على، مسألتان جديرتان بالتعقيب، وهما:
1 - أن الدكتور قال: إنه قد عدى (حرم) بالحرف (أي من) في بعض قصائده، وهو يتعدى بنفسه، فاعترض عليه بعض أدباء الشرق، فدافع عن هذه التعدية بأنه قد يرى المعنى في بعض الأحايين لا يؤدي تأدية صحيحة إلا إذا عبر عنه بتلك الصورة - وهو نفس الدفاع الذي اعتضد به الدكتور في تعدية (أمكن) باللام.
وأقول لحضرة الدكتور أن الفعل (حرم) يتعدى بمن أيضاً. وعندي شاهد لذلك عثرت عليه في بعض مطالعاتي للأغاني.(405/45)
1 - أن الدكتور ذكر في هذا المقال استطراداً أن العوامري بك كان كتب في مجلة المجمع اللغوي عن (نادي التجديف) بالدال المهملة، فكان من رأيه أن (التجديف) بالذال المعجمة، قال الدكتور: وقد ناقشته يومئذ في جريدة البلاغ، فقلت أن الشعراني في مؤلفاته يرسمها بالقاف، فيقول: (التقذيف) الخ ما قال.
وأقول لحضرة الدكتور: إني رجعت إلى مجلة المجمع اللغوي، فوجدت أن العوامري بك لا يقول شيئاً من ذلك، بل رأيته قد خطأ التجديف والتجذيف والتقذيف. وقال إن الصواب هو: الجدف والجذف والقذف، مصادر جدف وجذف وقذف. وبرهن على ما قال في بحث مسهب.
أقول: وأما أن الشعراني في مؤلفاته يرسمها بالقاف فيقول: (التقذيف)، فالشعراني ليس بحجة. ولعله يحكي اللفظ الذي كان شائعاً في زمنه، كما يقول المصريون الآن: (التجديف). وليس بين معنى (الجدف) و (التجديف) صلة، إذ (التجديف) هو الكفر بالنعمة.
أ. ع
نصيب السودان من جهاد الديمقراطية
جميل من مكتب الصحافة أن يطالعنا بأسماء أبنائنا الألى جادوا بالأنفس العوالي والمهج الغوالي في تدعيم أركان السلام، سلام قوامه المبادئ الصحيحة والقوميات المعتدلة التي يهمها أن تبقى وإن تساعد الغير على البقاء، وإن تعين الإنسانية على الخير والنماء.
وجميل من مكتب الصحافة أن يسجل لنا والحرب دائرة رحاها أننا لم نكن في المؤخرة يوم أن حمى الوطيس بين الخير والشر. وجميل منه أن يبادر فيلبسنا تلك القلادة الفاخرة التي يشهد العالم أجمع أننا لم نرض أن يطغى الطغيان على هذا الكون فيعذب الإنسانية ويكبلها بأقسى القيود ونحن واقفون موقف المتفرج الذي لا يهمه الأمر؛ بل قمنا بنصيبنا في حفظ تراث الإنسانية الخالد الذي قام على الفضيلة والحق والمساواة.
أجل! فليشهد العالم أننا قمنا بنصيبنا في حفظ تراث الإنسانية نصيباً بذلناه في سبيل المال على ما نحن فيه من عسر، فبعثنا به إلى ما وراء البحار لنشعر أنفسنا هنالك أننا لم نكن ناسين ما هم فيه ولا جاحدين ما يعملون. وليشهد العالم أننا قد قمنا بنصيبنا فقدمنا إلى(405/46)
الموت أنفساً عزيزة علينا في ذاتها عزيزة علينا لأن بلادنا قلة منها، بل وتشكو أرضنا القافلة والبوار حيث لم تجد من يعمرها فيجيها ولا من يثتثمرها فيغنيها.
قدمناها إلى الموت أنفساً كان في حياتها للبلاد نماء وثراء، وقدمنا إلى الموت أنفسا كانت لأهلها أملاً ورجاء. وقدمنا إلى الموت أنفسا كانت للنزلاء عوناً وسخاء ولجاراتها ذخراً لدى البلوى وبهجة في الخير والسراء.
قدمناها لتحمي ذمار الإنسانية وليلقى عدوها من أيدي أصحابها بلاء ونكالاً ما داموا أحياء، ولينوء - إن ماتوا - ملطخاً بدمائهم وهي على وجهه عاراً ولأبنائه شناراً.
أما هم ففي موتهم خلود، وفي موتهم فخار، وفي موتهم حياة. خلود لأسمائهم وبلادهم وحياة للإنسانية الطاهرة التي لا ترضى أن تسود الفوضى ويتحكم الطغيان.
ففي ذمة الله من مات ولينم في خلده منعما بما حفظت له البلاد من يد هي سندها يوم أن تجلس الأمم لمطالعة الحساب وهي باقة عبقة نقدمها لأبناء الإمبراطورية يوم يزف لهم النصر الأخير.
وأنتم أيها الجرحى فلتهنئوا بما متعكم الله به من أوسمة لا تخلع وبما حمدته لكم البلاد من بلاء لا يجحد. إذ أنكم أقمتم الدليل على أنكم لم تهابوا الموت ولم ترحموا العدو حتى تقاكم بما عطلكم عنه أياماً نرجو ألا تطول لتتمكنوا من العودة إلى حيث تسهرون عينه وتطيرون لبه؛ فلا يقوى على حمل السلاح ليتقيكم به، بل يتقيكم بما يكف أيديكم عنه (وهو الاستسلام) لأنكم لم تقصدوا تعذيب بني البشر وإنما قصدتم أن تهزموا الشر الذي كان قد استحوذ على النفوس فأغواها وأضلها عن السبيل السوي والخير المشترك.
(الخرطوم)
عبد الله عبد الرحمن
جريدة (الإصلاح) في عامها الخامس
دخلت جريدة (الإصلاح) التي يصدرها بالسنبلاوين الأستاذ عبد الفتاح قنصوه في عامها الخامس، وهي أتم ما كانت استعداداً، وأصدق ما تكون اجتهاداً، وأبصر بالغاية التي تتوخاها منذ أنشئت، وهي علاج الأدواء الاجتماعية بالحكمة الهادية والموعظة الحسنة،(405/47)
حتى غدت في إقليمي الدقهلية والشرقية وحدة اجتماعية وأدبية لها أثرها الظاهر ومكانها المعروف. و (الرسالة) تقدم إلى زميلتها العاملة اخلص التهنئات بعامها الجديد، وتدعو الله أن يديم عليها التوفيق في خدمة الله والوطن.
(مكتوب على الجبين) للأستاذ محمود تيمور
بعث إلى الأستاذ محمود تيمور بسفره القيم (مكتوب على الجبين) فأنست إليه وقتاً غمرني فيه بألوان اللذة والمتاع فكان من أسعد الأوقات لنفسي، سعادة العقل بإحساس الجمال، وإرهاف الحس بتذوق الفن، وإمتاع النفس برائع التصوير، وهو إذ يطالع العربية بمكتوب على الجبين يضيف إلى القصة تحفة فنية من الأدب العالي، وصفحات خصبة من القصص السامي، وعالم جديد يطفر بالفكر إلى لحياة الرقيقة، ويشير إلى المثل العليا من العاطفة.
مكتوب على الجبين مجهر ينفذ إلى الأعماق فيظهر وراءه ما دق من خلجات النفوس، ودنيا زاخرة بألوان العواطف. ولم ينهج الفنان فيه نهجه في مؤلفاته الأولى وإنما تجلت في مؤلفه الأخير دقة تعبير، وسلامة نظر، وهدوء طبع، ساعد المؤلف على كشف نواحي مغمورة في أدب القصة. ومكتوب على الجبين مجموعة تنتظم من قصص صغيرة تتناول نواحي حيوية مختلفة بالبحث الدقيق والتحليل العميق، فهو يستلهم فنه من الأعماق كما يتصيد الغواص أثمن اللآلئ من أعماق البحر، وهو الآن لا يكتب عن حوادث واقعية وكلها من ابتكار الخيال المحض، فهو إذ يبتكر صورة تكون شخصاً أقرب إليك من أشخاص الحياة، يمتعك الفنان إذ تشهد حوادث القصة وهي تسير سيراً مألوفاً ينفذ إلى النفس حقيقة تتسم بمبسم الواقع ولا يخطر ببال أنها من عمل الخيال الفني البارع في تشبيهاته ومعانيه بالغاً غاية الطرافة والإبداع ما يستهوي النفس ويأخذ بمجامع القلوب قد تأمل أن أذكر لك ما هذه القصص، وفي ذلك عبث بجمالها وسحرها.
صدر الأستاذ كتابه بموضوع فريد عن كتابة القصة الفنية تتلوه أربع عشرة قصة منها: (كان في غابر الزمان - العيون الخضر - ذات مساء - ابتسامة - قلب كبير - و. . . كلها من روائع القصص، وشعاع الحس المرهف، والخيال البديع الذي يخلع على الفن آيات الجمال؛ وللأستاذ أسلوب سهل لين يحاكي النسيم رقة، وأنت إذ تطالع قصصه، سرعان ما تحلق بك إلى سماء الفن، إلى أعالي لبنان وجبالها الشامخة، وبين ربوعها(405/48)
الجميلة وأنسامها العاطرة، إلى الصحراء الواسعة وبين صخورها، إلى المجتمع الصاخب، إلى الموسيقى البديعة، إلى. . . إلى. . .
ومكتوب على الجبين هو عاشر مجلد أخرجه الأستاذ محمود تيمور في العربية، وله في الفرنسية، وله في الألمانية مجموعة ترجمها واختارها المستشرق السويسري الدكتور (ديودمار)؛ ولا غنى لمثقف عن مطالعة مؤلفات الأستاذ تيمور عامة، ومكتوب على الجبين خاصة: ففيها غذاء العقل والروح وتعتبر بحق أثمن وأجل ما ظهر في أدب القصة وذلك ما يشهد للأستاذ بالإبداع، ويكتب لآثاره الفنية الخلود.
فإلى الفنان أبعث آيات الإعجاب والتقدير. . . والى القصة تهنئتي بأميرها الأستاذ تيمور.
طه عبد الحميد الشميمي(405/49)
القصص
الهذيان
للأستاذ نجيب محفوظ
أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذاناً بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد فيجري الحنان في عينيه الذابلتين ويتمتم في رجاء صادق: (اللهم صن حياة الأم المسكينة. . . وطفلتنا البريئة). وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف. وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه رجل البيت، لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أفئدة أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب؛ فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام؛ فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته ومضيا معاً إلى السينما. ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيراً جدياً منذ اليوم الذي عين فيه مهندساً بمصلحة الأشغال العسكرية. وراح يقصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج من هر وشبكة وهدايا وفرح، كما كان يفعل شباب الجيل الماضي. فلم يكن يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج، ولم يدهش أحداً أن تنعطف هكذا سريعاً إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا، ولكنه كان سيئ الحظ، فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة. وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع، واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء حملة الباشوية والبيكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع المذياع وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداء إلى آخر قطرة. . . وبالغ في ذلك، فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة، وكان يرقب أعين الفاحصين من الأطباء(405/50)
ويسألهم، ويطالع وجه زوجه ساعة بعد ساعة، ويسأل العرافين، ويزور أضرحة الأولياء ويفسر الأحلام، ملتمساً الطمأنينة في مظانها جميعاً. . .
وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهداً قلقاً لا يغمض له جفن ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟. . . وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم القلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان!. . . إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كان يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة: (صابر) فهرع إليها متسائلاً: (نعيمة. . . هل تحتاجين إلى شيء؟) ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أُخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: (صابر. . . أنا متألمة خجلة) فهز رأسه المثقل المتعب وقال لنفسه: (أنت متألمة بغير شك. أعانك الله على ما أنت فيه، ولكن مم تخجلين! أن هذا الابتلاء لا يخجل أحداً وإن كان يحزننا جميعاً) وظن أنها تألم لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء؛ واستدركت المرأة تقول: (زوجي أحسن الأزواج؛ أما أنا فشقية. . . لست أهلا لوفائه) فتنهد الشاب حزناً وتمتم قائلاً بصوت غير مسموع: (أنت أهل لكل خير). وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق: (راشد. . . كفى وابتعد عني. . . أبتعد ودعني. . .) وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه، وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار وجلس في فراشه وهو يتساءل:
(راشد! من راشد هذا؟). وكان يشعر شعوراً باطنياً بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره. واسند جبينه إلى كفه وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام، فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله. . . راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن(405/51)
والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر؛ ورفع رأسه مرة أُخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان؛ ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام، ورأى شفتيها تتحركان في ضعف؛ فدنا من حافة سريرها وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعاً مجنوناً فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين: (من يقول هذا. . . أف. . . والخيانة. . . راشد. . . صابر. . . الخيانة شيء قذر. . .) فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وذهل بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوى صوتها في أذنيه، فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه. . . ما هذا الذي تتكلم عنه؟! ما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيئة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجة عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله له من الصفاء والإخلاص؟ فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلي به الضمائر والنفوس؟ رباه. . . أنها تقول أن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفزع في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه. . . لقد ظن أن ما ابتلى به من مرض زوجة أقسى ما ابتلى به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر، لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره، وأحس اليأس يحبس أنفاسه، وكان صابر دمث الأخلاق، لين الجانب رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان ولكنه يشل حركته، ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه، فيجعله كسيارة يدفعها محركها، وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا، تحولت رأسه بحركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا منه وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات وأدام إليه النظر والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتى التصق به وكانت مغمضة العينين بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف(405/52)
موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة، ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة فمال عليها حتى نسمت عليها أنفاسه وسألها: (نعيمة. . . نعيمة. . . ماذا فعل راشد؟) فلم تنتبه إليه ولم تصح، فرفع صوته وناداها وهو لا يدري: (نعيمة) فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة. وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون وهرعت إليه متسائلة: مالها. . . هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئاً، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد فكذب عليها قائلاً في استهانة وقسوة: (نعم وهي بخير والحمد لله) وعاد إلى فراشه وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص منها، ولبثت حماته قليلاً. وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق فبرحت المرأة الغرفة وكان يتشوق إلى إيقاظها ولكنه خشى التي في الخارج، فمضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.
وحين سفور الصباح عاودت اليقظة المريضة وبدا عليها أنها لا تحس شيئاً حتى اهتدت عيناها إليه فبدت فيها حياة ضعيفة وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير (ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟) فرد عليها بنظرة جامدة وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالاً وشحوباً، ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره، وكان يشعر نحوها ساعته بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام فقال بلهجة جافة: (تكلمت الليلة الماضية كثيراً، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاماً يحتاج إلى إيضاح) فلم تفهم شيئاً ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكن منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة فنكص على عقبيه مغضباً وهو يقول لنفسه: (الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!). وغادر البيت يهيم على وجهه ومضى يحدث نفسه: (كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة؟ أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف. . . ضعيف. . . دائماً يندى قلبي بالحنان وبالعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة. . . أما رجلاً فلا. . . لست رجلاً ولست زوجاَ. . . فأمثالي نساء(405/53)
كاملات، أو رجال مغفلون. . . ومع هذا هل أنا في حاجة إلى دليل جديد؟ دمرت حياتي وانتهى كل شيء)
وقضى النهار ضالاً لا يقر، بترد الألم في صدره مع أنفاسه، وعاد مع الأصيل إلى البيت فوجدها أسوأ حالاً وأشد هزلاً. وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان، وتقص عليه ما قال الطبيب، فلم ينفذ شيء من قولها إلى صدره وعاف الرد عليها بتاتاً، بل لذله أن تقول أن الحالة سيئة، فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟. . . واشتد به الحنق، فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعاً فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة؟ وملأ الفنجان ماء خالصاً ووضعه على فم المريضة فازدرته بامتعاض. . . وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ واشتد عليها الألم الموجع فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند منتصف الليل فعاينها ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة. . . وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.
وخلا إلى نفسه، وكان الذهول مطبقاً على حواسه جميعاً؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معاً في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة؛ على أن الحقيقة لم تغب عنه فقال: (لم تمت كما يظنون. . . أنا قتلتها. . . قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض. . . فأنا قتلتها. . .) وجعل يردد (أنا قتلتها).
فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح ثم قال مرة أُخرى: (وقتلتني هي حياً، وألصقت أسمي قسراً بطفلة إنسان سواي. . . ولكني قاتل فلست إذن مغفلاً). وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل وقد سرت في جسده قشعريرة البرد والخوف.
كيف انقضت الأيام التي أعقبت الوفاة؟. . . انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعاً للصحة والراحة، وكان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل السفينة، والظاهر(405/54)
أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعاً وألقى بنفسه في ليم خلاصاً من عذابه وآلامه، محتفظاً بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك. . .
وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: (ما رأينا إنساناً يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها فقضى على نفسه بعد موتها بأيام. . . رحمهما الله!)
نجيب محفوظ
1
1(405/55)
العدد 406 - بتاريخ: 14 - 04 - 1941(/)
مفتاح السر المجهول
(لكاتب كبير)
لكل موجود قوة حيوية تنفع كل النفع أو بعض النفع في إذكاء روح
الوجود، وما كان تفاوت الأوصاف بمانع أهل الضعف من القول بأن
لهم فضلاً في إكمال الصورة الملونة لخريطة الموجودات. وهل عرفت
قيمة الفاضل إلا بالقياس إلى المفضول؟
ولكني لا أريد لك أن تكون إشارة تكميلية في الصورة الوجودية، ولا يرضيني أن يقال أنك على ضعفك مظهر من مظاهر الوجود، فما أرضى لك هذا المصير إلا يوم يصح عندي أنك لا تملك تغيير ما بنفسك، وانك لم تخلق إلا لتكون شاهداً على أن الناس درجات. ومن أين عرفت يا جاهل أن الله لم يرد لك الصيرورة إلى منازل الأشراف من أحرار الرجال؟
أنك تستطيع أن تكون عظيما حين تشاء، والعظمة الحقيقية هي أن تكون رجلاً نافعاً إلى أبعد الحدود في الميدان الذي أرادت الطبيعة أن تقفك فيه وقفة الحارس الأمين، فتكون أعظم الأدباء والمفكرين أن شئت، وتكون أكبر رجال الأعمال أن أردت، وتكون إماما في الصناعة أو التجارة أو الزراعة، وفقا لما خصك به الله من المواهب الأساسية، على شرط أن تهتدي إلى مفتاح السر المجهول.
فما هذا السر؟ وما ذلك المفتاح؟
السر هو نفسك، والمفتاح هو عقلك. واليك أسوق الحديث:
في النفس قوى غافية تفوق العد والإحصاء، وهل عرف إنسان قيمة ما تنطوي عليه نفسه من أعاجيب البراعة وغرائب القدرة على خلق المستحيل؟! لو عرف بنو آدم أقدار أنفسهم لحولوا الصحارى إلى رياض وبساتين، وعاشوا من أرواحهم في جنات وفراديس. وكيف وبنو آدم بلا عقول، كما عبر أبو العلاء؟!
ادرس نفسك في كل وقت وحاول التعرف إلى ما في قرارها من القوى الغافية، وتذكر يا جاهل أن أكثر العظماء لم يكونوا في بداياتهم إلا نكرات لا تبشر بشيء، وتذكر أنك لم تصل إلى غاية بعيدة أو قريبة إلا بعد لاستصباح بالأقباس المكنونة في سرائر نفسك، فما(406/1)
الذي يمنع من أن تجعل التعرف إلى قواك النفسية والروحية فرضاً من فروضك في صباحك ومسائك؟
احترس من الغفلة عن نفسك، فللنفس ومضات تغير أرجاء الوجود. والتأهب للاستفادة من ومضات النفس يزيدها إشراقا إلى إشراق.
وهل كان ما ترى من الروائع والنوادر والغرائب في آثار الأذواق والقلوب والعقول إلا إثارة من التأهب لتلقي الوحي الصادر عن ومضات النفس؟
هي جوهر يشع في كل وقت، فارفع الحجاب عن عينيك لتنتفع بذلك النور الوهاج، فإن لم تفعل فأنت مجرم في حق نفسك، وفي حق وطنك، وفي حق الإنسانية.
وهل ترى من المستحيل أن توفق إلى كشف أفق جديد يزيد ثروة الناس في الفكر والمعاش؟
جرب حظك في محاولة التعرف إلى سرائر نفسك، فقد تصبح قوة كهربائية تغير ما بحيوات الناس من ألوان وأفانين؛ وقد تكون لمحة واحدة خليقة بأن تجعل لك مكانا بين أهل الخلود أن أحسنت التأهب لتلقي ذلك الوحي الجليل.
ولكن متى تحسن فهم أسرار نفسك، وأنت عنها في شغل بالظواهر الخوادع من توافه الشؤون؟
أن عقلك هو الذي يهديك إلى الانتفاع بالقوى المستورة في أطواء نفسك، فهل استهديت عقلك؟ وهل فكرت في أن أكابر الموهوبين قد لا يكون بينهم وبينك من الفروق ما يستوجب أن يتقدموا وتتخلف؟
فكر في مصيرك، يا جاهل، فقد يحطك الله في جهنم لأنك لم تحسن الانتفاع بهدى عقلك في معرفة قوى نفسك، والنفس هي اشرف الأرزاق.
وما النفس وما العقل؟؟
الذي يهمني هو الاطمئنان إلى أنك تعرف جيدا أنك خلقت لغاية غير الغاية التي خلق لها أخوتك وزملاؤك، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي تختلف فيه ملامح الوجوه، ومن الواجب أن تختلف فيه ملامح العقول، فمن أنت؟ وما صورة وجهك؟ وما سمة نفسك؟ وما صبغة عقلك؟(406/2)
تفرد وتوحد، يا خلقة الواحد المتفرد. كن أمة وحدك ليرضى عنك من سواك، فما خلقك إلا وهو يريد أن تكون فريداً في الصورة والمراد. فهل تراني دللتك على مفتاح السر المجهول، وأنا من البحث عنه في حيرة وضلال؟
أنا وأنت رفيقان هائمان في بيداء الوجود، وفي صدري من اللوعة إلى كشف المجهول بعض ما في صدرك، فخذ بيدي كما أخذت بيدك، لنصل إلى شاطئ المعرفة واليقين بسلام وأمان، والله يهديني ويهديك!!
(كاتب)(406/3)
في المصادر والأصول
نساؤنا بين التقاليد والتجديد
لصاحب العزة الدكتور منصور فهمي بك
مدير عام دار الكتب المصرية
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
التبذل
وإني لمناسبة ما ذكرته من الاختلاط لغير مقتضياته الاجتماعية ذكرني صديق بأن بعض فتياتنا قد يغشين المجامع لغرض شريف ذلك هو الرغبة في الزواج وبناء البيت، وإذا صح ما ذكره صديقي، فإن نبالة النية وشرف القصد لا يحولان دون فساد الأسلوب وتعثر الطريق المتبع، لأنه لا مأمن من نزوات النفوس ووساوس الشيطان، إذ يضيع على الرجولة شهامتها فيستخدم الخلطة للعبث والتسلي دون تقدير لما يترتب على ذلك من تردي الفتيات والنساء في سبيل الغواية، ودون نظر إلى فداحة الآثم حين يصيب كل من جنس الرجل والمرآة من الآخر آنسا لا يحلله إلا صدق المواثيق والعقود وإخلاص النفوس. وزيادة على ذلك فإن الفتاة إذا غشيت هذه المجامع المصنوعة دون حذر شديد، أو حامت حول حماها، فقد تقع في مخاطرها، لأن حظ الفتاة من طيبة القلب وليونة العاطفة وروح الإيثار وسذاجة الوجدان يربو كثيرا عن حظ الرجل الذي راضته أحداث الزمن على مرانة في التفكير وقلة في الحساسية وتغلغل في الأنانية، مما قد يساعده على أن تكون المرأة هدفاً لخديعة الرجل وتغريره. ولطالما يهفو الرجل فتدفعه هفواته لاستباحة المتعة من المبذول، لكنه طالما يكرم نفسه باختيار زوجته ممن يكرمن أنفسهن في حمى العزلة وقداسة الصيانة. وأزيد على ذلك أن ابتذال الفتيات لأنفسهن مضيع للعزة والكرامة. وينبغي أن تكون عزة المرأة وكرامتها فوق شرف الزواج، ولا عزة لمن يتقدمن من النساء في سوق العرض والطلب، ومن الخير لهن أن يكن معززات مصونات محببات يطلبن في شغف، لأن في الابتذال إضعافا للرغبة. ومن الخير للرجل أن يكون شهما كريماً، فيستخدم شهامته ومروءته لصيانة شريكة حياته وأم بنيه عن مواضع الذلة ومواطن الابتذال حين تنزل(406/4)
الفتاة في ميدان العرض والطلب فيصيبها ضعة العارض ومهانة المعروض.
فساد الذوق
وفيما سلف ذكره، قد أشرت إلى انحراف الاختلاط عن وجهه القويم، وأشرت إلى سوء فهم الحرية المعقولة والى مهانة الابتذال. أشرت إلى كل ذلك لعناصر مسيئة لنسائنا المجددات؛ ويجدر بي أن أشير إلى عنصر آخر لا يقل أثره سوءاً. ذلك هو اختلال الذوق في اللباس والتزين. لقد ذكر أحد العلماء الممتازين الحاليين الدكتور (كاربل) في كتاب له إلى ما أصاب العصر الحديث وأهله من ضعف في الإنتاج الصالح، وضمور في الجسوم، وضعف في الذوق الفني. وليس من شك في أن ملابس السيدات الغربيات قد أدركها ذلك الضعف، من حيث الذوق ومن حيث اللياقة. وإن مستحدثات الأزياء التي يتخذها نساؤنا عن الغربيات ويغيرها بين حين وحين مبدعو الأناقة من أهل التجارة، تدل أبين دلالة على ضعف هذا الذوق الفني وانحلاله. فالجلباب القصير والمحاسر والقبعات قد يؤلم الكثير من أشكالها نظر ذي الذوق السليم. فهبك رأيت امرأة طويلة نحيلة في جلبابها الذي لا يبلغ ساقيها، ويخرج عن كمية ساعداها الطويلان النحيلان العاريان وتمتد رقبتها الدقيقة من طوقها المفتوح، وتتخم شفتاها الظاهرتان في وجهها الضئيل بتلك الأصباغ الدامية. أفلا يخيل إليك أنها كالأفعى ولغت في الدماء؟ وليست هذه الصورة الدميمة البشعة إلا من نتائج اللباس القصير الحاسر الذي لا يرضه لهذا الجسم ذوق صحيح.
التغرير بالمرأة
وكما أساء الاختلاط المطلق الحرية السقيمة المعتلة وفساد الذوق الشائع إلى النساء والحديثات المعاصرات كذلك أساءت إليهن فلسفة التغرير. فقد يغرر العصر الحاضر بالنساء حين يدفعهن إلى ميادين من الأعمال الشاقة. كان من الخير أن يزاولها الرجال ويحتملوا أوصابها وتبعاتها دون النساء حرصا على أن تسلم وظيفة الأمومة التي هيئت لها المرأة، ووقاية من زجها في الجهود المضنية التي تعطل فيها صحة أنسجتها العضوية، وتفسد عليها رقة الطبع وسلامة الأعصاب.
كتب الأستاذ فريد وجدي (حين بحث في مشاركة النساء الرجال في أعمالهم) قال:(406/5)
(إن من أقبح مظاهر اسر المرأة في الأفراد والأمم ترك حبلها على غاربها، وقذفها بذلك الجسم اللين والعواطف الرقيقة والفؤاد المملوء رحمة، والمهجة المتشعبة الشفقة، أن تزاحم الرجال في معترك الحياة كتفاً لكتف لسد رمقها، فتقضي طول نهارها وجزءاً من ليلها بين لهيب المعامل ودخانها أو على قارعة الطرق بين هيجاء تلك المدينة المفزعة. ولو تسنى لك يوماً من الأيام أن تزور معامل أوربا وأمريكا مما جمع إلى فخامة المبنى وضخامته سعة لا يكاد يحيط بها البصر، رأيت في داخلها أمرا عجيباً: رأيت جماعات من ذلك الجنس الرقيق مكلفات بأشق الأعمال وأقسى المحاولات العضلية واقفات أمام التنانير المسجورة يعانين أوصاب الحياة ومرارة العيش، تقرأ على وجوههن التي لفحتها تلك النيران المستعرة هذه الجملة التي لا تذهب من مخيلتك أبدا:
(هذا منتهى أسر الرجل للمرأة)
ومحررو المرأة عندنا بدلا من أن يعدوا هذا مرضاً اجتماعياً كما يعده علماء العصر الحاضر ويضعوا كل همهم في حياطة بلادنا منه مثل ما يفعله حكماء أوربا وأمريكا تراهم يودون أن يفتحوا علينا ذلك الباب الهائل لظنهم أننا سائرون خلف أوربا قدما بقدم.)
ولقد صدق الأستاذ وجدي فيما كتب فمحاكاتنا للغرب تدفع نساؤنا الحديثات في كل ميادين العمل الاجتماعي ويغرر بهن ليسرن في هذا السبيل من غير قيد ولا حذر. وقد توقع الكثير من علماء الاجتماع سوء عاقبة هذا التمادي في التغرير بالمرأة وتوريط المجتمع في كوارث اقتصادية وخلقية، حتى أن (أوجست كومت) وهو رأس من رؤوس فلاسفة الغربيين كان يرى من واجب الهيئة الاجتماعية أن تضمن للنساء حياة ناعمة مريحة إذا أعوزهن من يكفلهن من الأقارب والأزواج. وذلك لكي تتجه النساء وجهتهن فيما خلقن له من إسعاد الأسرة ودعم أسسها، ومن إنعاش جو المحبة، ومن إشاعة نسمات السلام. وإن ما يذهب إليه هذا الفيلسوف يساير تعاليم الإسلام حين يوجب على بيت المال أن يقوم بنفقات من يفقدن كافلهن ولا يملكن ثروة تدرأ عنهن العوز، أو ليس لهن من يعولن عليه من ذوي القربى الواصلين للأرحام.
ولقد ذهب كذلك (جول سيمون) الاجتماعي الفرنسي إلى تأكيد ما يفصل بين واجبات المرأة وواجبات الرجل في الحياة الاجتماعية مما يدعو في جملته وتفصيله إلى الحد من التغرير(406/6)
بالنساء بزجهن في كل الأعمال التي تقتضيها الحياة العمرانية
الأسرة وقيودها
يتبين مما تقدم ذكره أن للمرأة كمالاً نوعياً خاصاً، ومضمار هذا الكمال الأمومة وتربية الأولاد وتنظيم البيت وإسعاد من فيه. وعلى حد ما يقول قاسم أمين في كتاب المرأة الجديدة:
(نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة للاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية أولادها، وأنها معرضة لعوارض طبيعية كالحمل والولادة والرضاعة لا تسمح لها بمباشرة الأعمال التي يقوى عليها الرجال؛ بل نصرح هنا أن أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تتزوج وتلد وتربي أولادها. هذه قضية بديهية لا تحتاج في تقريرها إلى بحث طويل)
ومن المعلوم أن تأسيس الأسرة وتكوين العائلات إنما دعم على انتقاد من حريات الأفراد وحد من استقلالهم حيال ما يعود من الفوائد الناتجة عن التكامل العائلي حين يشمل أفرادها الحدب والحنان والعودة والتراحم وما يترتب على ذلك من تبادل المنافع.
لقد كانت المرأة في حالة الهمجية الأولى واسعة الحرية، وكذلك كان الرجل. لكن تقدم النوع الإنساني وأطوار العمران قضت شيئاً فشيئاً على هذه الحرية الهمجية إلى أن وصل المجتمع إلى تكوين الأسرة المهذبة المتراحمة على أنقاض هذه الحريات.
ولقد حددت الشرائع وما تعارف عليه الناس لكل من أفراد الأسرة مختلف النظم والحدود، وعلى ذلك يجب أن يمارس كل من الزوج والزوجة والبنين حقه وواجبه في حدود الله والعرف الصالح.
ويسوءنا أن نلاحظ على مجتمعنا في العهد الأخير أن الناس نساء ورجالاً قد تعدوا حدود المعقول والمشروع في السلوك. وبخاصة فيما يتعلق ببنية الأسرة وجوهر آدابها.
ففي حين قضت حكمة الإسلام أن يكون للزوج درجة على زوجته في تسيير دفة الحياة العائلية اصبح الحال بعكس ذلك في الأسر التي طغى عليها التقاليد المنحرف الدخيل، وفي حين كانت تدعو التقاليد الإسلامية بأن تحتجز زينة النساء وتبرجهن للبيت والأزواج؛ اصبح الكثير من النساء لا يستسغن التزين والتبرج إلا للمجتمعات مع ضعف في الذوق(406/7)
جرت إليه المحاكاة الطائشة.
وفي حين كانت تقاليد الإسلام لا تبيح للنساء مخالطة الرجال ولا تبيح للرجال مخالطة النساء إلا بشروط وقيود. أصبحت حرية الاختلاط في بعض الطبقات الاجتماعية رهينة وحي اللهو والهوى والفتون، وفي حين كانت التقاليد الإسلامية تدفع بالناس إلى التبكير بالزواج والتناسل أصبحت أطوار الأخلاق، وفلسفة الزمان المستحدثة تغري بعكس ذلك من التقاليد التي قامت عليها عظمة الماضي وقوة السالفين.
وليس من شك أن هذه الحالة التي تواضع الناس على تسميتها بالحياة العصرية حيناً وبحالة التجديد حيناً آخر يتنافى مع التقاليد الأصيلة فينا، وإن هذه الحالة السيئة تسللت إلى مصر مع غفلة الزمن وضعف الشخصيات والولوع بالمحاكاة، ولقد شعر الكثيرون منا بخطر هذا الحال الاجتماعي واخذوا يثورون عليه سراً وفي استحياء في حين أن دعاة من صميم الغرب قد دعوا جهرة للحد من خروج المرأة عن نطاق عملها ودوائر نشاطها.
ورد في جريدة المقطم منذ أسبوع: أن سيدة سورية طلبت إلى الجهات المختصة في حكومتها الموافقة على انتظامها في سلك المحاماة، فردت تلك الجهات بامتناعها عن إجابة هذا الطلب لمخالفة ذلك لروح القرارات التي أصدرتها الحكومة الرئيسية في فيشي.
على أني لا أتعرض لإقرار ذلك أو رفضه، إنما أريد أن اتخذه دليلاً على ما يبديه الغرب من الروح الجديدة، والرجوع بالمرأة إلى الحدود الواجبة.
المعاول
ومما يزيد الأمر عندنا سوءا أن معاول الإتلاف في الحياة الاجتماعية متعددة وكثيرة، فإشاعة الروايات الغرامية، وعرض المسرحيات الرخيصة، وترديد النظر فيما يعرض في دور الخيالة السيئة، وما يوحيه ذلك للفتيات والفتيان والزوجات والأزواج والاختلاف إلى المتنزهات العامة دون رقابة واحتشام وعصمة، وقراءة ما يسمونه الأدب المكشوف، وكثرة الاطلاع على الصور في أوضاعها الخليعة، وما إلى هذه المغريات. كل ذلك شأنه شأن المعاول في هدم الحياة الاجتماعية المنتجة، وفي زعزعة أسس التربية الصالحة في كيان الأسر.
الدعوة والعمل(406/8)
وأصبح لزاماً على المفكرين دعوتهم للإنقاذ من هذا البلاء، ولعل هذه الدعوة تجد آذاناً صاغية لما آلت إليه حالة المجتمع من التدهور كما وجدت دعوة قاسم أمين آذاناً صاغية عندما اشتدت التقاليد القديمة وضيقت الخناق في حياة النساء، وعسى أن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية وللهيئة الحاكمة عمل في ذلك مذكور قد أتعرض لتفاصيله وبيانه في فرصة أخرى أن شاء الله.
على أنني أرجو من المرشدين الراشدين والكاتبين والكاتبات ورؤوس الأسر رجالاً ونساء أن يفطنوا للخطر الذي حقت كلمته في الغربيين وراء الاستهانة بروابط الأسرة ومقتضياتها ومقوماتها فاستيقظ الغرب يبتغي الوسيلة لوقايتها مما حاق بها وبرد المرأة إلى ما هيأته لها المقادير.
منصور فهمي(406/9)
الصحافة العراقية
للدكتور زكي مبارك
ما عناصر هذا الموضوع الدقيق؟ -
في صلب المقال جواب عن هذا السؤال
لا يجوز إغفال الصحافة عند التكلم عن الحياة الأدبية في بلد من البلاد العربية، فإلى الصحافة يرجع أكبر الفضل في نشر المذاهب والآراء، واليها يرجع الفضل كله في المرونة التي ظفرت بها الأساليب في هذه الأيام، لأن الكتاب لم يعودا يهتمون بالخواص، كما كانت الحال في العصور الخوالي، وإنما يوجه الكاتب كلامه إلى جماهير كثيرة فيه العالمون والجاهلون والأذكياء والأغبياء، وذلك يوجب أن يكون الوضوح هو الخصيصة الأولى من خصائص البيان.
والمحصول الأدبي في مصر وسائر البلاد العربية هو في أغلب أحواله مقالات وبحوث نشرت في الجرائد والمجلات، والحال كذلك في الأمم الأوربية والأمريكية، فجانب كبير جدا من الأدب الفرنسي لم يكن إلا صحائف مختارة من بين ما نشر في الجرائد والمجلات. وكان من تقاليد جريدة (الطان) أن تنشر كتباً جيدة تختار موادها من بين ما نشرت لأكابر الكتاب والباحثين. وكانت جريدة (المؤيد) في مصر صنعت مثل هذا الصنيع فنشرت ما كانت تسميه (منتخبات المؤيد) ولو فكرت الجرائد المصرية في إحياء هذه البدعة الطريفة لظهرت مجموعات علمية وأدبية وفنية تزيد محصولنا الفكري قوة إلى قوة، وتحفظ ما يعرض للنسيان من آثار الأذواق والقلوب والعقول.
وكانت دار الكتب المصرية شرعت في طبع فهارس لأهم ما ينشر في الجرائد والمجلات، وهي فهارس لا يلتفت إليها جمهور الباحثين، وأخشى أن تكون عطلت بعد غلاء الورق، فتلك الفهارس تؤدي خدمات عظيمة لمن يهمهم الرجوع إلى محصول الفكر والعقل في هذه البلاد، وتشهد بحرصنا على تقييد الأوابد من معالم الأدب والتاريخ.
ويدور الجدل من وقت إلى وقت حول المفاضلة بين المعاهد التي خدمت اللغة العربية كالأزهر ودار العلوم وكلية الآداب، وعند التأمل نرى أن هذه المعاهد لم تخدم إلا علوم(406/10)
اللغة العربية، أما نشر الأفكار والمذاهب والآراء، ورياضة الأقلام على وصف ما جل ودق من شؤون الحياة بأسلوب واضح مقبول يفهمه العوام ولا ينكره الخواص، وخلق الروح الوطني والديني في نفوس الجماهير، وتقريب ما بين الشرق والغرب من المسافات العقلية، فذلك كله من ثمرات الجهاد المحمود، جهاد الصحافة الأدبية والسياسية، فهي التي رفعت اسم مصر بين أقطار الشرق، وهي التي أذكت مواهب الرجال، وهي التي أمدت اللغة العربية بروافد لم تر مثلها في أيامها الزواهر لعهد بني أمية وعصر بني العباس فما حال الصحافة العراقية؟
لم يصح عندي أن في العراق صحافة تساير ما فيه من النهضات العلمية والقومية، وإن كثرت فيه الجرائد والمجلات، فكيف تخلف العراق في هذا الميدان مع أنه تقدم في أكثر الميادين؟
قد يجاب بأن الصحافة هناك ترزح تحت أثقال من القيود بسبب العواصف السياسية، وهو كذلك، ولكن ما سبب تلك القيود؟
يرجع السبب إلى أن الصحافة العراقية ترى أن الحرية لا تكون إلا في الحدود التي تتمتع بها الصحافة المصرية، وذلك خطأ فظيع: فالمصريون والعراقيون يختلفون اشد الاختلاف في الميول والأهواء، ولو شئت لقلت أن في الطبع المصري هدوءاً لا يعرفه الطبع العراقي؛ فالمقالة القاسية في جريدة مصرية لا تغير إحساس الجمهور إلا بمقدار ضئيل، ولا كذلك المقالة القاسية في جريدة عراقية، فهي تزلزل إحساس الجمهور اعنف الزلزال، وقد تقبح سمعة من كتبت فيه ابشع التقبيح.
سمعت أن جريدة عراقية أغلقت لأنها كتبت مقالا عنوانه (الفرات الهائج)، فكيف أغلقت من أجل هذا العنوان؟ أغلقت لأنها تناست الفرق بين الهياج والطغيان، فالهياج يضاف إلى السكان، أما الطغيان فيضاف إلى الماء.
والسبب مضحك لمن ينظر فيه وهو يجهل المدلول السياسي لهياج الفرات، أما الذي ينظر فيه وهو يعرف محرر الجريدة ومذهب الحزب الذي ينتمي إليه فقد يعده باباً من التحريض، وقد يراه بوادر لمصاعب لا تطاق، وما احب أن أزيد!!
ومعنى ذلك أن الصحفيين العراقيين يخربون بيوتهم بايديهم، فهم لا يعرفون سياسية القول،(406/11)
وهم يجنون على أنفسهم حين يفكرون في محاكاة الصحافة المصرية، وهي صحافة باغية لم تدع أديماً صحيحاً إلا مزقته بلا ترفق ولا استبقاء.
قضيت ليلة من ليالي الطوال في بغداد وأنا حزين بسبب ما كان ينشر في جريدة (الرأي العام) طعنا في مصر والمصريين؛ ولكن كيف؟ هل كانت تلك الجريدة تشتم مصر والمصريين؟ لا، وإنما كانت تنشر أقوال المصريين بعضهم في بعض، فتذيع ما كان يقع من التهاجي بين جرائد الدستوريين والسعديين والوفديين. . . فماذا صنعت؟
رأيت أن اذهب لمقابلة مدير الدعاية بوزارة الداخلية هناك لأفهمه أن الجمهور العراقي سيحقد على الحكومة العراقية حين يرى نفسه محروما من الطعن في وزرائه على نحو ما يتمتع به الجمهور المصري، وهو حال أن دام فستكون له عواقب سود. فكانت النتيجة أن تكف جريدة (الرأي العام) عن تقديم ذلك الطعام (المسموم) لقرائها (الأصحاء)
الصحافة الحزبية في مصر صحافة مؤذية، وهي كريهة المذاق، ولن ينجو العراق من شر هذه الصحافة إلا يوم تنجو منها مصر، وهيهات ثم هيهات!
ولكن الصحافة الحزبية عندنا تستر شرها بالتحدث عن أشياء من العلوم والآداب والفنون؛ أما الصحافة الحزبية في العراق فهي سياسة في سياسة في سياسة، ولا يظفر منها القارئ بزاد على أو أدبي إلا في أندر الأحايين.
تذكرت صحافة العراق حين نظرت في كتاب (السلوك، لمعرفة دول الملوك) وهو كتاب ألفه المقريزي ونشره الدكتور (محمد مصطفى زيادة) بعناية تضيفه إلى أقطاب المحققين، فرأيت المؤلف لا يرى الدنيا إلا في أخبار الملوك والوزراء، أما الشعب فليس له من جهد المؤلف خلاف وكذلك تكون صحافة العراق.
لو أن الصحافة العراقية جعلت أحوال المجتمع العراقي همها الأصيل لظفرت بجاذبية روحية وأدبية تغنيها عن الاهتمام بأخبار الوزراء، والجريدة الموفقة هي الجريدة التي تحدث الشعب عن ذات نفسه وتنقله إلى أفاق من الفكر والقلب والوجدان.
أما الجريدة التي لا تعرف غير الأخبار الرسمية، ولا توجه جهودها لغير الجانب السياسي فهي جريدة قليلة النفع في تربية العواطف وإحياء الآمال.
والصحافة الحزبية في مصر خليقة بأن تسمع هذا القول قبل أن تسمعه الصحافة الحزبية(406/12)
في العراق.
ومن صحافتنا الحزبية استعيذ بالله، فهي معول يهدم ما بيننا من أواصر وصلات
ولكن لابد من النص على أن مصر تتمتع بمزية عظيمة هي (التماسك) فما يهدم الرجل العظيم في مصر ولو صوبت إليه ألوف الأكاذيب والأراجيف، أما الرجل العظيم في العراق فتهدم قوته المعنوية حين تشتغل الصحافة بتجريحه أسبوعا أو أسبوعين، وتلك حال طيبة من جانب وخبيثة من جوانب، فهي طيبة لأنها تجعل الحاكمين في حذر من تغير المحكومين، وهي خبيثة لأنها تجعل سوء الظن أساسا لأكثر الأعمال.
والصدق في حب العراق هو الذي يسوقني إلى النص على هذا الملحظ الدقيق، ولكن هل قلت كل ما يوجبه الصدق؟
يجب النص على أن الصحافة العراقية مشلولة بسبب انعدام التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية، فمن واجب الحكومة أن تعين الصحافة على نشر ما لا خطر في نشره من أخبار السياسة الداخلية والخارجية، ومن واجب الصحافة أن تراعي جميع الظروف، فلا تعمل على تهوين أقدار الحاكمين في انفس المحكومين في بلد يتأثر بالقيل والقال.
وانعدام التعاون بين هاتين السلطتين في العراق له نتائج تلمحها من حين إلى حين!!
أليس من العجب أن نقرأ في جميع الصحف العراقية أن الحال على ما يرام وفوق ما يرام، ثم يكون الواقع أن العراق يعاني أزمة وزارية أو دستورية؟
وأقارن بين الحالة في مصر والعراق فأقول:
الحرية الصحفية في مصر تصرف المصريين عن خلق الإشاعات والأراجيف، لأن الصحافة المصرية تقوم بهذه المهمة (خير قيام) فهي تزود أهل الفضول بما يكفي لإزجاء أوقات البطالة والفراغ، وتغنيهم عن الافتنان في اختراع الأقاصيص حول مسالك الكبراء والوزراء.
ومن هنا يكون في مقدور الحكومة المصرية أن تعرف ما يتحدث به الناس فتطب له قبل استفحال الداء.
أما صمت الصحافة العراقية عما يدور في أروقة الدوائر والدواوين فيروض العراقيين على الظن بأن الصحافة تطوى عنهم اشياء، فيتولون بأنفسهم خلق صحافة جديدة اسميها(406/13)
(الصحافة الشفوية) وهي صحافة لا يشرف عليها حسيب أو رقيب، فتجول في الأندية والمجالس بلسان مسموم لا يكبحه عنان ولا يصده وثاق.
ومن هنا تعجز الحكومة العراقية عن الطب لوساوس الجمهور قبل استفحال الداء.
وهل احتاج إلى النص على أن الصحافة التحريرية أخف وقعا من الصحافة الشفوية؟
إن الصحافة التحريرية يديرها رجال ينهاهم العقل والمنطق والذوق عم الإمعان في الإرجاف، أما الصحافة الشفوية فيخب فيها كل مخلوق على حسب هواه، وقد يحترفها أقوام لا يعرفون أخطار (الغيبة الاجتماعية) وهي افظع من الغيبة الفردية، فأنت حين تغتاب شخصا لا تؤذي غير رجل واحد، ولكنك حين تغتاب حكومة قد تعرض أمة برمتها إلى التصدع والانحلال.
ولكن ما نتيجة انعدام التعاون بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية في العراق؟
النتيجة هي ضعف الأدب السياسي هناك، وكيف يقوى الأدب السياسي وما تستطيع جريدة أن تقول إنها أسندت هذه الوزارة أو قوضت تلك؟؟
وكيف ينبغ الكتاب السياسيون وقد حرموا القدرة على تشريح المذاهب والآراء؟
وارجع مرة ثانية إلى الخطر المخوف على الصحافة العراقية وهو محاكاة الصحف المصرية، فتلك المحاكاة هي سبب البلاء، ويجب أن يكون للصحافة العراقية مسالك جديدة تراعي فيها ظرف المكان، وتطب لأدواء المجتمع العراقي بلا استطالة ولا بغي ولا عدوان.
والى أن يجيء اليوم الذي يتم فيه التفاهم بين السلطة التنفيذية والسلطة الأدبية. . . ما الذي يجب أن تصنع صحافة العراق إلى أن يجيء ذلك اليوم؟
أرى أن يفكر الصحفيون العراقيون في تزويد جرائدهم بأطيب الزاد من العلوم والآداب والفنون لتصبح الجريدة وهي جارحة من الجوارح الروحية لا يستغني عنها رجل يتنسم هواء العراق.
إن كان للصحافة العراقية عذر في العجز عن خلق الكاتب السياسي، فما عذرها في العجز عن خلق الكاتب الأدبي والكاتب الاجتماعي؟
ما عذرها وليس للحكومة سلطان على كتاب الأدب والاجتماع؟ وما عذر أدباء العراق في(406/14)
التخلف عن السبق في ميدان التأليف؟
لن أنسى واجبي في دعوة أدباء العراق إلى التفكير في الانتفاع بذخائر الثروة الروحية والعقلية في تلك الأرجاء.
كان الكبح السياسي في القرن الرابع أعنف من الكبح السياسي في القرن الرابع عشر، فأين العراقيون اليوم من جهود أسلافهم بالأمس؟ لقد تمخض الكبح السياسي والديني في القرن الرابع عن ذخائر فلسفية هي (رسائل إخوان الصفاء) فأين ثمرات الكبح السياسي في هذا العهد؟ وأين محصول العقول في تدبير الرسائل لشر أحلام القلوب وأهواء النفوس؟
كنت كتبت كلمة في الرسالة اصد بها الأديب (الدسوقي) عن الاغترار بما يصدر عن وحي القلب في سن العشرين، فثار جماعة من أدباء الشباب وعدوا كلمتي تعطيلاً لمواهبهم الأدبية. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفحموني، وأفحمني شاب عراقي حين سألني وهو في بغداد عما كنت اصنع بأحلامي وأفكاري يوم كنت في سن العشرين!
ومن هذا الكلام فهمت أن الخميرة الفلسفية لها بقايا في العراق. وقد عرفت في بغداد شاباً كان ينفق على أهله وهو تلميذ بالمدارس الثانوية من دراهم معدودات كان يجنيها بعرق الجبين في خدمات أدبية شريفة لا تصرفه عن استذكار الدروس؛ ولا أدري ما صار إليه أمر ذلك الشاب، وإن كنت أعرف أن مجلة الرسالة قومت أدبه فنشرت له قصة من أدب طاغور بعناية والتفات. وإن صحت فراستي في هذا الشاب فسيكون له بين أكابر الأدباء في العراق مكان.
العراق روحياً بخير وعافية، ولكن كيف نخلق الفاعلية الأدبية في العراق؟ وكيف تخلق المنافسة الجدية بين القاهرة وبغداد؟
أما بعد فأين أنا مما أريد
حديث اليوم عن الصحافة العراقية، وقد تكلمت عنها بالتفصيل في كتاب (وحي بغداد) فما هو الجديد في هذا الحديث؟
الجديد هو أن الصحافة العراقية لا تزدهر إلا حين تبتعد عن المشكلات السياسية، ولكن كيف وكل امرئ في العراق يشغل نفسه بالسياسة ولو عاش في الدربونة الواقعة خلف شارع صريع الغواني؟(406/15)
في العراق صحافة أدبية لا تعرف تصريف الفعل من ساس يسوس، وهي صحافة مبثوثة في أرجاء العراق، فنرى لها ملامح في البصرة والحلة والنجف والموصل وبغداد، وقد نراها في الكوفة المسكينة التي عاشت مساجدها الجوامع طول العهد بالخراب، وقد نراها في (العمارة) ممثلة في صحيفة تسمى (الفرزدق)، قد نرى ملامح الصحافة الأدبية في كل مكان بالعراق، وإن لم تكن في قوة الصحافة الأدبية في وطن الأزهر والجامعة المصرية.
ولكن. . . ولكن هل ننسى قيمة الاستقرار في بلد الرشيد؟
لم يسم العراقيون عاصمتهم (مدينة السلام) أو (دار السلام) إلا استجابة لرغبة مقهورة هي الشوق إلى أن تكون عاصمتهم دار الأمان، وهي في جميع عهودها دار الخوف، أو دار الحرب، فما فيها موضع قدم إلا وهو معهد صيال لعزائم الأبطال.
والعراق حين يسألك عن حالك يقول: هل أنت مستريح؟ ومعنى ذلك أن التعب هو الحال الغالب في تلك البلاد!
وأقول إن الاستقرار الصحفي تظهر قيمته في (مجلة المعلم الجديد) فما هي تلك المجلة؟ هي مجلة تصدرها وزارة المعارف العراقية لشرح شؤون التربية والتعليم، وقد ظهرت في سنة 1935، ولا تزال تصدر بقوة وحيوية تشهدان بقيمة النظام في العمل الذي يستريح مزاولوه من أعباء التكاليف الثقال: تكاليف المال.
مجلة المعلم الجديد هي السجل الصادق لآثار العقول العراقية في مختلف الشؤون، وقد عجب الشاعر على محمود طه صاحب (الجندول) من أن ينال من رعاية تلك مكانا لم يظفر بمثله بين مجلات وادي النيل، فكان ذلك شاهدا على أن مجلة المعلم الجديد تتسامى إلى الرعاية الأدبية لجميع آثار العقول في سائر الأقطار العربية.
ما شاء الله كان، فما نظرت في محصول مجلة المعلم الجديد إلا أيقنت بأن زملائي في بغداد قد وصلوا إلى أشياء، ولكن كيف وصلوا وهم بأعمالهم التعليمية مشاغيل!
السر كل السر في أن مجلة (المعلم الجديد) لا ينشر فيها حرف بالمجان، فهي تتخير من محصول العقول ما تشاء، ومن أخصب تخير - كما كان يعبر الأسلاف - وكيف تضيع مجلة تنفق عليها الدولة بسخاء؟!
لو أردنا اختبار المواهب العراقية في الصحافة والتأليف، لدعونا مجلة (المعلم الجديد) إلى(406/16)
التحرر من (كرم) وزارة المعارف هنا، ولكننا نطلب المستحيل، فالشرق هو الشرق، ولا يدوم عمل في هذا الشرق إلا بسناد متين من أسندة الحكومات! واه ثم آه من بلاء الاتكال على الحكومات في جميع الشؤون!
ثم أما بعد، فهذا مقال تحررت فيه من مراعاة الظروف والملابسات في مصر والعراق، فهل جنيت على نفسي بالهجوم على الصحافة هنا وهناك؟
أنا الغريق، فما خوفي من البلل - كما يقول المتنبي - أنا الرجل الذي عاتى مكاره الاغتراب في كل أرض، فكانت غربته في القاهرة أقسى وأعنف من غربته في باريس وبغداد!
وهل كانت الصراحة من اظهر صفاتي؟ وكيف وقد قضيت العمر في جمع المال لاشتري مثقالاً من الرياء، وسأموت قبل أن اجمع الثمن لغالي لذلك المثقال!!
إليك، يا فاطر الأرض والسموات، أوجه الرجاء، فما تقدمت ولا تأخرت إلا بحكمة عالية من كرمك البالغ وحصنك الحصين.
زكي مبارك(406/17)
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية
الدين والفلسفة
للدكتور محمد البهي
هل للفلسفة قيمة العلم واعتبار اليقين في بحث الله وبحث ما وراء الطبيعة كقيمتها واعتبارها في بحث العقل الإنساني وفي بحث القيم الأخلاقية؟ هل للدين اعتبار فحسب فيما يحكيه عن الله وعن عالم ما وراء الطبيعة أم يتجاوز اعتباره في نظر العلم إلى دائرة الإنسان؟
أطال فيلسوف المذهب الألماني (كانت) في الإجابة عن هذين السؤالين، ولم يرتض مكس شلر من الفلاسفة العصريين ما ذهب إليه فيلسوف كونس برج بشأن الدين.
هل الدين يعادي العلم أو يؤاخيه؟ وهل في طبيعة الدين ما يساعد أو يمنع الاستمرار في البحث والاسترسال في التفكير الحر؟. . .
تناول كثير من الكتاب علاقة الدين بالفلسفة على هذا النحو، وهي علاقة الدين بالعلم في نظرهم. ولم تخل الإجابة من تحيز لطرف منهما، أو من سوء تحديد لميدان كل منهما، أو عن سوء فهم لطبيعة الدين أو لحرية الفكر والبحث العلمي.
لا عن هذا ولا عن ذاك أريد الآن الكلام. بل أريد فحسب أن أضع أمام القارئ مادة للإجابة عن سؤال يتصل بعلاقة الدين بالفلسفة كذلك على نحو آخر وهو: هل من مصلحة الدين أن يجذب نحو الفلسفة؟ وهل من مصلحته أن يفلسف بأن تشرح حقائقه بآراء الفلاسفة؟
في العصر الحاضر يميل بعض العلماء الشرح القرآن بما عرف - وتستجد معرفته - لعلماء الطبيعة والكيمياء، وعلماء الهندسة الميكانيكية والكهربائية، وعلماء المعادن والأحياء؛ وبالجملة يميل إلى شرحه في ضوء العلم والفلسفة. ويذهب إلى أبعد من هذا في وضع منطق ديني لمعرفة الصحيح والفاسد من الدين؛ وقوام هذا المنطق الديني الأقوال التي تذكر في استحضار الأرواح، وما يدور حول التنويم المغناطيسي، ونظرية الأثير و (التجارب الحسية) على إثبات الروح.
وقديماً مال فلاسفة المسلمين وبعض علماء الكلام إلى شرح العقيدة الإسلامية في الله وفي صفائه، وفي صدور العالم عن الله ونشأته عنه، وفي ملائكته ورسله، وفي الجنة والنار،(406/18)
وفي الإنسان: في روحه ونفسه، وفي صلة جسمه بروحه، وفي مستقرها ومستودعها، بما نقل عن فلاسفة الإغريق خاصاً بالمبدأ الأول للكون وبنشأة الكون عنه، وخاصا بالأفلاك وبالنفس الكلية التي هي نفس العالم وبفيضها على النفوس الجزئية، كما مال فريق آخر من هؤلاء القدماء إلى شرح الآيات الكونية بما عرف لبطليموس وأقليدس من فلاسفة اليونان الطبيعيين والرياضيين.
وكما ادعى فلاسفة المسلمين الأولون ممن فلسفوا العقيدة أن تفلسف العقيدة وشرح حقائقها بالآراء الفلسفية وسيلة من وسائل تقويتها وعنوان على تطابقها مع الفلسفة اليونانية، وفي ذلك إبراز لكمال العقيدة، لأن الحكمة اليونانية - هكذا ظن أو اعتقد هؤلاء الفلاسفة من المسلمين - تمثل أعلى درجة من المعرفة وارفع مرتبة من الفضائل. يدعي كذلك بعض العلماء المعاصرين المفلسفين للعقيدة أن تفلسف الدين إبراز له في ثوب ملائم للعصر وموافق لأهم مظاهره - وهو مظهر العلم - وبذا يقرب من نفوس الخاصة المثقفة من المسلمين، ويقرب كذلك من إفهام بعض العلماء الغربيين الذين أساءوا إليه عن (جهل بحقيقته)، وفي الوقت نفسه يبرهن على (صلاحيته لكل جيل وزمان).
والإنسان الحديث ربما يسر لهذا اللون من الشرح، بل ربما يتحيز له ويدعو إليه لما فيه من جدة لن تؤلف، ولأنه يدل على أن (الكتاب لا يفرط في شيء)، كما هلل إنسان القرون الوسطى قبله، وبالأخص إنسان القرن الثالث والرابع الهجري، لخلط الدين بالفلسفة الإغريقية، وذهب في هذا الخلط إلى حد بعيد.
ولكن وراء سرور الفرد ووراء انفعاله وإكباره لهذا العمل حقيقة لا تتغير بمظاهر انفعاله وإكباره، وهي: أمثل ذلك الصنيع يلائم طبيعة الدين ويلائم غايته؟ ولاشك أن يسر الدين وكونه قريباً من إفهام أكبر عدد ممكن من الجماعة البشرية من أهم خصائص طبيعته. ولاشك أن اقتناع الكثرة به واجتماعها حوله غير متفرقة ولا متحزبة لتأويل معين لحقيقة من حقائقه غاية رئيسية له.
فإذا كان تفلسف الدين إذا يساعد على نمو طبيعة الدين ويساعد على تحقيق غايته، كان من مصلحة الدين جذبه نحو الفلسفة، وكان من مصلحة شرح عقيدته بآراء الفلاسفة.
دخلت الفلسفة الإغريقية بشرح رجال مدرسة الإسكندرية منذ عصر المأمون في ثقافة(406/19)
المسلمين، وأحدثت على إثر دخولها تحولاً في نشاط المسلمين الديني والعقلي أساسه الميل إلى الفلسفة في إنتاجهم في هاتين الناحيتين. وكانت العقيدة الإسلامية اشد تأثراً بالفلسفة في نطاق الإنتاج الديني؛ إذ من أهم ما تناولته الفلسفة بالبحث المبدأ الأول للكون، وصفات هذا المبدأ، ونشأة العالم المشاهد عنه، والإنسان أمام العقل الإسلامي المشتغل بالعقيدة الإسلامية نظرية الواجب والممكن، ونظرية وساطة العقل الفعال بين الله والعالم، ونظرية الصورة والهيولي، ونظرية العقول المجردة، ونظرية فيض النفس الكلية على النفوس الجزئية. . .
ولم يشأ العقل الإسلامي أن يعالج هذه النظريات في عزلة عن الدين، ولا أن ينقدها - إذا نقدها - من غير رعاية للدين بل حاول جهد طاقته، وبالأخص بدء اشتغاله بها، أن يشرح بعض حقائق العقيدة بما ورد في الفلسفة من آراء لأنه جعل شعاره: (إذا انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال). إذ أنه يقول: (وهل الحكمة إلا مولدة الديانة؟ وهل الديانة إلا متممة للحكمة؟ وهل الفلسفة إلا صورة النفس؟ وهل الديانة إلا سيرة النفس؟). وإذ أنه يقول: (لا خلاف بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا بين أحد من العلماء بالشريعة بأن غرض الشريعة هو غرض الفلسفة على الحقيقة)
وقد كان للعلماء المسلمين بعض العذر في تحديد الصلة بين الدين والفلسفة الإغريقية بعد ترجمتها على هذا النحو لأن الفلسفة الإغريقية نقلت إليهم من ثوب ديني صوفي في كثير من نقطها، نتيجة عمل رجال الإسكندرية، ولأن منطق أرسطو الذي ترجم أولاً، في عهد المنصور، أحدث في نفوس المسلمين شبه يقين برجاحة العلم اليوناني وعصمة الحكمة اليونانية)
وتبعاً لذلك الشعار وهذا التحديد في الصلة بين الدين والفلسفة من العقل الإسلامي، أصبحنا نرى علماء العقيدة يستدلون على مغايرة الله للعالم بنظرية الواجب والممكن التي أسسها أرسطو على نظامه الفلسفي في الصورة المحضة والمادة المحضة، والتي استتبعت مما استتبعت من صفات، وحدة الوجود الواجب بمعنى عدم تعدد ذاته وعدم تركب ذاته الواحدة من أجزاء. وقد بنى فريق من المسلمين على مبالغته في إثبات الوحدة ففي صفات الباري، كلها أو الكثير منها، لأن إثباتها - في نظره - يقتضي التعدد. وسلك فريق آخر من الراغبين في إثبات الصفات، تمشياً مع ظاهر القران، وفي الوقت نفسه من الحريصين(406/20)
على نفي ما يوهم عدم الوحدة طريقاً هو أقرب إلى التلاعب بالألفاظ منه إلى الإتيان بنصيب إيجابي جوهري في حل هذا الإشكال. فقال: (الله له صفة كذا. . . وهي عين ذاته)
كل هذا بعد أن كان المسلم، وبعد أن كان في استطاعة كل مسلم كذلك أن يفهم، أن المعبود غير متعدد لا شريك له، وأنه غير ما في الكون من مخلوقات إذا تليت عليه آيات ربه الداعية إلى التوحيد وعبادة الخالق مثل قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم). وبعد أن كان يكفيه في إثبات هذه الدعوى مثل قوله تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)
تبعاً لذلك الشعار أصبحنا نسمع لأبى الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة رأيا في أن كلمة التكوين (قول الله للشيء: كن) التي تعبر عن الإرادة الإلهية حادثة لا في محل، وإن الإرادة تغاير المريد والمراد. وعلى هذا فكلمة التكوين في المكان الوسط بين الخالق الأزلي وبين العالم المخلوق الحادث. وهذه الكلمات المعبرة عن الإرادة الإلهية هي بمثابة جواهر بسيطة تشبه المثل وعقول الأفلاك.
يقرأ الكثير من المسلمين لأبى الهذيل العلاف هذا الرأي ولكن الذي يفهم المراد منه قليل، وهو الذي يعرف المثل، ويعرف لأي غرض وضع أفلاطون نظرية المثل، ولماذا كان القول بالوساطة بين المبدأ الأول (الله) والعالم؟ بينما المسلم إلى عهد الترجمة كانت نفسه مطمئنة إلى الإيمان بخلق الله للعالم على أية كيفية، وكانت حرارة هذا الإيمان تعمر قلبه فانتج وساد، وبينما كان لا ميزة لأحد على غيره في تصور تأثير الله في العالم، ولا مختصاً بسر من أسرار هذا التصور.
تبعاً لذلك الشعار أصبحنا نرى الملائكة تحدد بأنها (جواهر بسيطة، عقلية، علامة، فعالة، وبأنها صور مجردة عن الهيولي مستعملة للأجسام، مدبرة لها، ومنها أفعالها. كما وجدنا هذا التحديد يتخذ أساساً من أسس الإيمان (والثاني من الأمور التي يضعها واضع الشريعة - في نظر إخوان الصفا - ثم يبني عليها سائر ما يعمل أن يرى ويتصور موجودات عقلية،(406/21)
مجردة من الهيولي، كل واحد منها قائم بنفسه، متوجه نحو ما نصب له من أمره وهم ملائكة الله تعالى وخالص عباده.)
فما معنى الجوهر؟ وما معنى بساطته؟ وما معنى كونه علامة؟ وما معنى كونه فعالاً؟ وما معنى الصورة؟ وما معنى تجريدها عن الهيولي؟ وعلى أي كيفية يكون تدبيرها الأشياء؟
لاشك أنها معان لا تفهمها إلا قلة من الخواص فضلا عن أن تفهمها عامة المسلمين. ومع هذا طولبوا بالإيمان بها في نظر فريق من علماء المسلمين في نظر إخوان الصفاء.
تبعا لذلك الشعار رأينا الشريعة الإلهية تحدد (بأنها جبلة روحانية، تبدو من نفس جزئية في جسد بشري، بقوة عقلية، تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى، في دور من الأدوار لتجذب النفوس الجزئية، وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة)
لماذا وجدت النفس الكلية؟ ولماذا كانت المصدر المباشر للفيض، أو كانت القوة التي تتولى نقل الأثر - وهو الإيجاد - من الله إلى هذا العالم؟ وما معنى جذب النفوس الجزئية إليها؟ لاشك أنه لا سبيل إلى فهم ذلك إلا لمن اطلع على فكرة النفس الكلية في الأفلاطونية وفي الرواقية وفي الأفلاطونية الحديثة؟ وعلى فكرة جذب (الصورة المحضة - للهيولي) في رأي أرسطو.
تبعاً لذلك الشعار، رأينا الجنة تفسر بأنها عالم الأفلاك والعقول المجردة، والنار تفسر بأنها عالم ما تحت فلك القمر، وهو العالم الأرضي عالم الكون والفساد. ورأينا الشهداء الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) تعلل تسميتهم بالشهداء لمشاهدتهم تلك الأمور الروحانية المفارقة للهيولي.
هذا مثال من صنيع العلماء المسلمين بالعقيدة الإسلامية بعد دخول الفلسفة الإغريقية، وبعد رغبتهم في شرحها بالفلسفة، وفي تفلسفها.
والعلماء الحديثون المفلسفون ينهجون نهجهم في تفلسف العقيدة، ولكن فقط يستمدون شرحهم الفلسفي من نظريات العلم التجريبي التي تطبع العصر الحاضر بطابعها الخاص! وقد يستمدونها أيضاً مما بقي لدى أصحاب العلم والحضارة اليوم، وهم الأوربيون، من(406/22)
الآراء الميتافيزيكية والأقوال الروحية، واثر صنيعهم في العقيدة لا يقل عن أثر ذلكم من قبل.
فنرى بعضهم يحاول تحديد الروح، وهي التي اختص بها علم الله (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) بما يسميه أدلة حسية (تجريبية طبقاً لطابع العصر العلمي) فيقول: (إن الروح وإن كانت أمراً إلهياً لا يدرك لها كنه، إلا أن لها جسدا أتيزياً على صورة صاحبها، غاية في اللطافة، لا يتعريه البلى ولا التحلل، في قدرتها أن تستبدل مادة من الخارج وإن تظهر بصورة صاحبه في أحوال خاصة، ويكون صاحبها إذ ذاك واقعاً في غيبوبة)
ونرى تعليقاً من أحد هؤلاء المعاصرين على رأي (لأحد أقطاب الفلاسفة العصريين) يذكره على هذا النحو: (هذه محاولة فلسفية تعتبر أبدع ما أنتجت الفلسفة العالية إلى تأييد الكتاب المجيد. أليس كل ما في هذا البحث الجليل - وهو رأي أحد هؤلاء الأقطاب - محصورا في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون))
وصنيع كل من السابقين والحديثين هذا، وهو جذب الدين نحو الأفكار الفلسفية وشرح العقيدة وحقائقها بآراء الفلاسفة، شيء آخر يختلف اختلافاً جوهرياً عن محاولة تعليل مبادئ دين من الأديان مما يسمى (حكمة التشريع)، ويختلف كذلك عن تعليل العاطفة الدينية في الإنسان وضرورة وجود الدين في الجماعة البشرية تبعاً لذلك مما يسمى (سيكولوجية الدين)
فتعليل مبدأ الزكاة في الإسلام مثلاً، وجعل حظ الذكر في الميراث مثل حظ الأنثيين، ومبدأ صلاة الجماعة والحج. . . وتعليل: لماذا كانت طبيعة الدين تحتم وجود أمور تعبدية في العقيدة؟ أو لماذا كان الدين ضرورة اجتماعية وعنصراً أساسياً في التنشئة والتهذيب؟ أو لماذا كان القانون المستمد من الدين اشد أثرا على النفوس من القانون الوضعي به؟ تعليل مثل هذه الأشياء غير شرح الحقائق الدينية التي ترد في أصل العقيدة وفي كتاب العقيدة غير محددة وغير معرفة تعريفاً منطقياً - ويجب أن تبقى غير معرفة، لأن في عدم تعريفها أساس أبديتها وأساس عمومها - بشروح مستمدة من محيط الفلسفة كما تقدم.
وما عنيته للآن بالكلام تحت عنوان (الدين والفلسفة) هو جذب الدين نحو الفلسفة، ومحاولة(406/23)
شرح حقائق العقيدة بالآراء الفلسفية.
والآن نلقى السؤال مرة أخرى: هل مثل هذا الصنيع يساعد على نمو طبيعة الدين، ومن خصائصها أن يكون وإن يبقى ميسراً سهلاً؟ وهل مثل هذا الصنيع يساعد على تحقيق غاية الدين وهي تتجلى في التفاف الجماعة حوله من غير تحزب ولا تعصب لتأويل معين في حقيقة وردت مجملة من حقائقه؟ أم أن مثل هذا الصنيع سبب من أسباب تعقيد العقيدة وإبهامها على كثير من الناس؟
واعتقد أن في المحاضرة التي أذاعها الأستاذ الكبير الشيخ شلتوت وكيل كلية الشريعة منذ أسبوعين من محطة الإذاعة للحكومة المصرية عن (موقف المسلمين من القرآن وموقف القرآن من المسلمين) ما يلقى كثيراً من الضوء على فهم طبيعة الدين وفهم غاية الدين. ولو تفضل بنشرها على صفحات (الرسالة) لاتضح - أكثر من الآن - قيمة تفلسف العقيدة، وتحدد - بشيء أكثر من الدقة - أثره في تفلسف العقيدة نفسها، إيجاباً أو سلباً.
وهو لما له من شخصية علمية دينية ناضجة، أن فعل لاشك أنه يؤدي خدمة جليلة للبحث العلمي في تراثنا الإسلامي، والبحث العلمي في هذا التراث غايتنا وغايته وغاية شباب الأزهر الحديث.
محمد البهي
مدرس علم النفس والفلسفة بكلية أصول الدين(406/24)
محمد عبده ومحاولته إصلاح الأزهر
للأستاذ عثمان أمين
المدرس بكلية الآداب
للأزهر منذ إنشائه قصة طويلة، وله مهمة معلومة نيط به أداؤها. فلم يكن المقصود منه أن يكون مسجدا للعبادة، ولا أن يكون مدرسة للتعليم فحسب، وإنما أثر الأزهر في العالم الإسلامي وفي تكوين العقلية الإسلامية أثراً عميقاً يفوق أثر المساجد والمدارس والجامعات. من أجل ذلك كان إصلاح ذلك المعهد في نظر الشيخ محمد عبده من الأهمية بمكان عظيم، لأنه بمثابة إصلاح للأمة الإسلامية كلها.
توجه الشيخ محمد عبده إلى إصلاح الأزهر منذ كان مجاوراً فيه يتلقى على أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني. وشرع في العمل لذلك أيام الخديو توفيق. ولكنه لم يستطع في ذلك الحين أن يدخل إلا بعض الإصلاحات الثانوية. ووجد محمد عبده، من البداية، في أكثر شيوخ الأزهر خصوصاً ناصبوه العداء. وأدرك حينئذ أنه لن يستطيع السير في حركة الإصلاح دون أن يظفر بتأييد الخديو والحكومة. ولكن الخديو توفيق لم يكن لديه استعداد لفهم التجديد المنشود، فلم ينظر إلى جهود الشيخ محمد عبده بعين العطف والرعاية. ولما جاء الخديو عباس الثاني - وكان قد تربى في أوربا - استبشر الناس بولايته ورأوا فيها فاتحة عهد جديد. وتقدم الشيخ محمد عبده إلى الخديو عباس وكاشفه بجملة رأيه في الأزهر، ورغبة في إصلاحه وتحويله من الحال التي كان عليها، وكان في ذلك الحين أشبه بتكية من التكايا أو ملجأ من الملاجئ، يأوي إليه العجزة والفقر، وأهل الكسل والبطالة.
ويمكن أن نلخص رسالة الأزهر كما تراءت حينئذ للشيخ محمد عبده في الأمور الآتية: أن يكون مدرسة جامعة بالمعنى الصحيح يتلقى فيها الطلاب العلم الصحيح الذي يعدهم لأن يكونوا رجالاً عاملين، فيكون منهم لمصر وللإسلام قضاة ذوو نزاهة، وأساتذة باحثون، وعلماء متخصصون، ومرشدون مخلصون يعملون على بث الآراء الدينية الصحيحة، والمعاني الأخلاقية السليمة، ومكافحة الخرافات، والقضاء على البدع والأباطيل.
وكلف الخديو الشيخ محمد عبده أن يضع مشروعاً للإصلاح فشكل الشيخ لذلك (مجلس إدارة) من أكابر علماء المذاهب في الأزهر وجعل هو وصديقه الشيخ عبد الكريم سلمان(406/25)
من أعضائه. وكانت مهمة ذلك المجلس الإشراف على التعليم والتربية في الجامعة الأزهرية.
وسار الشيخ في إصلاحاته أول الأمر بسرعة اغتناماً للفرصة، ولم يلق معارضة من أحد مباشرة، وإن كان قد أشير عليه من وقت إلى آخر بتأجيل بعض المشروعات بحجة التدريج والسير بهوادة!
وكان أول أبواب الإصلاح التي وجه الشيخ عنايته إليها هو تحديد مدة الدراسة بالأزهر: فقد جرى العرف منذ زمان طويل أن ينفق المجاورون من أعمارهم الأعوام الطوال في الأزهر، دون أن يجدوا من أولى الأمر أية رقابة على أعمالهم. وحدد القانون بدء السنة الدراسية ونهايتها، كما حددت أيام العطلة والمسامحات. وقد كانت الحال قبل ذلك بلا ضابط: فكان المشايخ والطلاب يمكنهم التغيب متى شاءوا فضلاً عن تغيبهم أيام المسامحات الرسمية.
ووجه الشيخ بعد ذلك عنايته إلى نظام التدريس والامتحان: فاقترح أن تعقد للطلبة امتحانات سنوية. ولم يكن ذلك النظام معروفاً قبل ذلك في الأزهر، بل لم يكن عدد من يمتحنون كل عام يزيد على ستة، وهؤلاء كانوا يتقدمون إلى الامتحان لا بحسب دورهم أو ذكائهم أو علمهم، بل بشفاعة الشفعاء وإلحاح الملحين، والغرض من ذلك طبعاً هو بث روح التسابق فيهم وترغيبهم في التحصيل.
وثالث الإصلاحات التي اقترحها الشيخ محمد عبده: إصلاح لا يقل عن سابقيه أهمية وأثراً، وهو يقضي بإلغاء دراسة بعض الكتب العقيمة - كالشروح والحواشي والتقارير - التي اعتاد المشايخ تلقينها الطلبة من غير فهم، وكان من شأنها أن تشوش عليهم موضوعات العلوم التي يدرسونها؛ واستعيض عن ذلك كله بكتب أنفع وأقرب إلى مدارك الطلاب.
ورابع الإصلاحات يرمي إلى تقسيم العلوم التي تدرس بالأزهر إلى مقاصد ووسائل؛ فأطيلت مدة الدراسة في (علوم المقاصد): كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والأخلاق. أما (علوم الوسائل): كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث والحساب والجبر، فهي التي يلزم طلاب شهادة العالمية بأداء امتحان فيها.(406/26)
والإصلاح الخامس يقرر إدخال دروس ومحاضرات جديدة في علوم: التاريخ والتاريخ الطبيعي والرياضيات والجغرافيا والفلسفة والاجتماع وما إلى ذلك من العلوم التي كان قد أهمل تدريسها بالأزهر إلى ذلك الحين.
ويلاحظ أن تلك الإصلاحات المتواضعة لم يستطع الشيخ محمد عبده أن ينفذها جميعها لمقاومة الشيوخ إياها، إما عن سوء قصد أو سوء فهم، فضلاً عن وقوف الخديو نفسه حجر عثرة في وجه المشروع انتقاماً من الشيخ محمد عبده - كما سنرى - ولكن ما نفذ من الإصلاحات المقترحة لم يخل من أن يحمل ثمراً طيباً: فقد شوهدت في طلبة الأزهر إذ ذاك حماسة جديدة، ودبت فيهم روح فتية، وشاعت عندهم رغبة في التوسع في التحصيل واستيعاب البرنامج التعليمي. وربما كان من الميسور اطراد ذلك التقدم لولا قيام مصاعب جديدة لم تكن في الحسبان.
والواقع أن الشيخ محمد عبده إذا كان قد استطاع أن يضع مشروعاً كاملاً للإصلاح، فذلك لأنه كان يحس بأن من ورائه سلطة الخديو تؤيده. هذا إلى أن شيخ الأزهر الشيخ حسونة النواوي كان يشاطر الشيخ محمد عبده كثيراً من آرائه. ولكن سرعان ما تبدل موقف الشيخ حسونة عندما ظهر له أن الشيخ محمد عبده لم يكن من أهل الحظوة لدى الخديو عباس. ولما عزل الشيخ النواوي، حل محله الشيخ سليم البشري، وكان رجلاً محافظاً مناوئاً لكل فكرة عن التجديد. ومع ذلك، فقد حظي هذا الرجل برعاية الخديو، وصدر قرار بإلغاء الإعانات التي كانت تعطى للطلبة المتفوقين. وكان معنى هذا العدول عن عقد الامتحانات السنوية. ولكن الشيخ سليم البشري اخذ يعود شيئاً فشيئاً إلى آراء الشيخ محمد عبده. وفترت علاقات البشري بالخديو فعزله دون أن تذكر أسباب العزل في المرسوم الصادر بذلك.
ومنذ ذلك الحين اصبح منصب شيخ الأزهر شاغراً. وكان لابد من اتفاق الحكومة المصرية مع ممثل الاحتلال الإنجليزي على تعيين من يشغل ذلك المنصب؛ فعرضت المعية السنية على الحكومة - بواسطة اللورد كرومر - أسماء طائفة من مرشحيها ومن بينهم الشيخ حسونة النواوي - وكان قد عاد إلى الحظوة لدى الخديو - والشيخ محمد بخيت الذي كان معروفاً بعداوته الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد راشد الإمام الخاص للخديو، والشيخ أحمد(406/27)
الرفاعي الذي كان معروفاً بصلته بالبلاط الخديوي. ولم تقبل الحكومة أحداً ممن رشحتهم المعية السنية، ورشحت المعية أخيرا الشيخ علي الببلاوي، فوافقت الحكومة عليه، وصدر قرار بتعيينه شيخاً للأزهر.
وكان الوفاق تاماً بين الشيخ محمد عبده والشيخ الببلاوي، فعاد الهدوء إلى الأزهر، واقبل الطلاب على دروسهم وامتحاناتهم، وانصرف مجلس الإدارة إلى الاشتغال بإنجاز الأعمال العديدة التي كانت أهملت في عهد الشيخ سليم البشري: فقرر المجلس عقد امتحان لشهادة العالمية التي تمنح الحاصلين عليها حق التدريس في الأزهر أو القضاء أو الإفتاء. . .
وراجت في تلك الفترة إشاعة مؤداها أن حديثاً دار بين الخديو عباس وبين (الشيخ الببلاوي) على موضوع الإصلاحات الأزهرية التي أنجزها (الشيخ محمد عبده). وذكروا أن الخديو قال ضمن حديثه للشيخ الببلاوي: (سمعت أنك تعمل في الأزهر كل ما يريد المفتي (الشيخ محمد عبده)، مع أنك حر في أن تعمل برأيك. . .). وذكروا أيضاً أن الشيخ الببلاوي أجاب الخديو: (إني أوافق المفتي كلما رأيت أن الحق معه، ولو اخطأ لقلت له، ولكن لم تعرض بعد فرصة لذلك، فالحمد لله على تلك الحال)
وتالف في الأزهر خلال تلك الفترة حزب لمعارضة الإصلاح؛ وكان على رأس ذلك الحزب (الشيخ محمد الرفاعي) الذي ذكر اسمه بين مرشحي (المعية السنية) لمنصب مشيخة الأزهر. وكان من أعضاء الحزب (الشيخ المنصوري) الذي كان قد عينه (الشيخ البشري) شيخاً لرواق الصعايدة. وشرع الحزب يقدم عرائض ينتقد فيها أعمال مجلس إدارة الأزهر. وفي ذلك الحين كان بعض المسلمين قد طلبوا إلى الشيخ محمد عبده - وكان مفتياً للديار المصرية - أن يدلي بفتوى في جواز أكل المسلم من ذبائح أهل الكتاب، وفي جواز لبس (البرنيطة) والتزيي بزي الأوربيين. وأفتى الشيخ محمد عبده مصرحاً بأن القرآن لم يحرم طعام غير المسلمين ولا لباسهم، لاسيما إذا كان المسلم مضطراً إلى أن يعيش مع الأوربيين. فضج حزب المعارضة وأرجف في تلك الفتوى، واخذ يطعن عليها وعلى شخص المفتي. وكان له مأجورون أخذوا يذيعون أن المفتي إنما يعمل على التقريب بين المسلمين وغير المسلمين. وأسس حزب المعارضة جريدة يومية اسمها (الظاهر)، كان غرضها محاربة الفتوى. وقيل حينئذ أن مدير تلك الجريدة كان مؤيدا من الخديو. . .(406/28)
وراجت الأكاذيب والإشاعات، وتفاقم الأمر حتى اخذ الناس يهمسون باحتمال عزل المفتي. وقالت جريدة (المقطم) حينئذ أن اللورد (كرومر) هو الذي حال دون ذلك العزل، إذ تدخل في الأمر وصرح بأن الشيخ محمد عبده أصلح من في مصر للإفتاء، وأنه لذلك ينبغي أن يبقى في منصبه.
ولاحظ (الشيخ الببلاوي) أن حزب المعارضة اخذ يشتد ويعظم نفوذه بتأييد الخديو إياه، حتى أصبح وكأنه الحزب الرسمي، ووجد هو نفسه معطلاً عن العمل. ثم حدثت حادثة (رواق المغاربة) الذين احتموا بالقنصلية الفرنسية، واحتلوا بعض غرف خالية في الرواق العباسي، وانتهى الأمر بإخراجهم منها؛ ولكن شيخهم كان أكثر الوقت يتردد على (سراي القبة). وكبرت هذه الأمور على (الشيخ الببلاوي) ويئس من صلاح الحال فاستقال.
ولما وجد الشيخ محمد عبده نفسه وحيداً محروماً من معاونة شيخ مجرب كالببلاوي، آثر أن يستقيل من مجلس إدارة الأزهر. وتبعه في تلك الاستقالة عضوان آخران من أعضاء المجلس هما الشيخ عبد الكريم سليمان والشيخ أحمد الحنبلي
تلك خلاصة لما حدث بالأزهر في السنوات الأولى لهذا القرن، ومنها يتبين مقدار ما لقي الشيخ محمد عبده من الأذى في سبيل إصلاح مناهج التعليم والتربية في الأزهر، ومبلغ ما بذل من جهود لتقويم ما فسد من نظم الإدارة فيه.
ولكن رغم ما عاناه المصلح من عنت الشيوخ الجامدين، وما حيك حول مساعيه من دسائس الخديو وحزبه، فإن شيئاً لابد أن يبقى ولا تستطيع قوة أن تقضي عليه: ذلك البذر الصالح الذي ألقاه الأستاذ الإمام في ذلك المعهد يوم ألقى فيه دروسه فبث فيها من حر الآراء وسليم الأفكار ما نرجو أن يحسن الخلف القيام عليه.
عثمان أمين(406/29)
في جنة الدنيا دمشق
غماغم الربيع
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
تعالي يا عروسي الخلوب
تعالي. . . يا سيدة بردى المعطر وابنة قاسيون الجميل. . .
اسمعي أيتها الغوطة المفتان. . .
لقد جئتك مسرعاً ولهان، وباسماً فرحان. . .
خرجت من الغيوم البيض كالعذارى، فخفقت في الفضاء، ورتعت في الهواء، وطوفت في الأرض، ثم أويت إلى أحضانك الريا. . . يا غوطة الشآم. . .!
لقد حملتُ إليك كل ما تشتهين. . .
لك الزهر. . . لتحليك بسماته
ولك النحل. . . لتطربك همساته
ولك العطر. . . لتسكر نفحاته
فتعالي. . . جعلك لك الخلود، وحملت إليك الجمال، وأوتيت إلى أحضانك من بين الغيوم. . .!
- 2 -
اسمعي. . . اسمعي. . .
سأجعلك فتنة النظر. . .
سأحييك بالنور والجمال، وأجعلك مغنى الحب ومرتع الخيال، وأوشي جنباتك الزهر بالأفياء والظلال، وأحلى أعطافك الخضر بلآلئ الغمام. . . الغمام الذي أذيته لك لؤلؤاً يبسم ويرف. . .!
فانظري إلي. . .
أنا الربيع الجميل. . .(406/30)
إليك أويت يا غوطة الشآم. . .!
- 3 -
ما لربوعك صامتة لا تبين. . .؟
أأحزنها خفوق المجد، وزوال النعيم. . .؟ أم شجاها تولى الصحب وفقد الحبيب. . .؟
اسمعي همسي. . . ولا تحزني. . .
لقد شهدت مواكب الملوك العظام. . . وفتحت أحضانك للمحبين والهيام. . . وسمعت أحاديث المجد يرويها آل غسان. . . ثم استقبلت الفاتحين والغزاة، وبسمت للطارئين والبداة. . . فرتعوا في المغاني، وهوموا في الرباع، ثم. . . ثم غبيتهم على حفافي نهرك، وكفنتهم بوردك وزهرك، بين العشب والنعناع. . .
إلا تحسين. . . إلا تحسين. . .
وتحتك عظام تئن، وأطلال تنام! عظام أو الملوك الغطاريف الرافلين بالحرير، الغارقين في النعيم، اللاهين في الحنايا والقصور.
وأين القصور يا غوطة الشام؟ أين أغاني الوليد وأهازيجه. . . أين سكرات يزيد وصبواته. . . أين ترانيم المجد وأغاريده؟. . .
أين. . . أين. . .؟
اقدر لتلك الدماء التي شربتها أن تصبح زهرات حمراء، ولتلك الرفات التي طويتها أن تنقلب أعاشيب خضراء؟. . .
فاضحكي يا عروسي. . .
لقد مضوا كلهم وبقيت أنت. . . وسيمضي غيرهم وتبقين:
اضحكي لعيني الحلوتين. . . أنا الربيع. . . فلقد حملت إليك النور. . . وأتيت من أجلاك من بين الغيوم. . .!
- 4 -
أيامي قصيرة في الأرض يا عروسي. . .
تمر كومضة البرق، وبسمة الأمل، وقبلة الحبيب الراحل. . .(406/31)
فافتحي لي أحضانك. . . وسأنثر قلبي في جنباتك. . . وأروي من دمي أكنافك. . .
يا من في أحضانك نثرت قلوب. . . وبين ذراعيك جادت نفوس، وعلى شفتيك أهرقت دماء. . .
وكان للمجد في صدرك تاريخ، وللنور في فضائك عيد، وللحب في محانيك تغريد، وللأغاني في سمائك ترديد. . .
فابسمي لعيني الحلوتين. . . يا عروس الشآم فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى. . . فجئت أحمل لك الحياة والنور!
- 5 -
واسمعوا أيضاً. . . اسمعوا. . .!
أنتم أيها الفنانون
يا من تبعدون الجمال وتقدسون النور. . .
تعالوا إلى غوطة الشآم. . .
انظروا لجمال الفينان؛ والدلال النشوان، والتبرج والفتون!
واسمعوا غماغم الهوى المعسول، وتأوهات الزهر المسحور وتمتعوا بالربيع النديان غافياً على ركبتي العروس. . . ينفث الرحيق، وينشر الأريج، ويداعيها بالقبل، ويسكب بين يديها الدموع. . . فنبت عند كل قبلة زهرة. . . ويتفجر عند كل دمعة ينبوع. . .
تعالوا. . . وانظروا ميلاد الشعر والحب. . .
أقبلوا. . . وارنوا إلى هداياي. . .
زهور سمت نجوم السماء
وعطور فاقت أفاويه الهنود. . .
ومياه رقيقة كنجوى المحبين
ولكن. . . لا. . . ما العطور، وما الزهور. . .
لقد وهت لها الحياة، الحياة، والجمال والنور
- 6 -(406/32)
بشرك يا غوطة الشآم. . .
إلى أحضانك جئت من الغمام. . .
أنا الربيع الجميل
أنا الذي أدغدغ النهود فتثب، وأشعل الخدود فتلتهب، وأغرق الألحاظ بالسحر والفتون. . . وأهز القدود بسكر الشباب، وأغمر القلوب بالحب والحنان. . .
أنا الربيع. . .
أنا ضحكات الشفاه، وخفقان القلوب، وغمز العيون. . .
أنا رنين القبلات، واختلاج القسمات، وأحلام العذارى، وهمس الأحباب. . .
أنا. . . أنا نصوع الزهر، وسطوع العطر. . .
أنا الحب، أنا الجمال. . .
مررت على الجنان. . . واصطفيت أبدع الألوان، وجئت إلى أحضانك مسرعاً عجلان. . .
فابسمي. . . واضحكي. . .
فلقد ولدتني الغيوم البيض كالعذارى،
فجئتك أحمل لك الحياة الحياة، والنور. . . والجمال. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(406/33)
رد على رد
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
لدكتور علي عبد الواحد وافي
عقب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي على مقال لي في وأد البنات عند العرب في الجاهلية بكلمة ترجع خلاصتها إلى النقط الآتية:
1 - يسألني من أين أتيت بالرأي الذي ذكرته في هذا المقال بصدد عقائد القبائل التي كانت تئد بناتها، والعوامل التي كانت تحملها على ذلك.
2 - يرى أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد أن الله خالق كل شيء، بدليل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم). فكيف يصح مع هذا ما ذكرته من أنهم كانوا ينسبون خلق الذكر لآلهتهم وخلق الإناث لله.
3 - يرى أن ليس المراد بالبنات في الآيات التي استشهدت بها الإناث من بني الإنسان، وإنما المراد بهن الملائكة.
4 - يرى أن آية النحل التي ذكرتها: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، لا تدل على انهم كانوا ينسبون الذكور لآلهتهم، وإنما تدل على انهم كانوا ينسبونهم لأنفسهم.
5 - يرى أن وأد البنات لم يكن للسبب الذي ذكرته، بل كان بعضه للفقر، وبعضه لخوف الفقر، وبعضه لخوف السبي والعار، وإن لا مانع من أن يكون بعضه تنفيذاً لنذور كانوا ينذرونها. فقد كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب.
وردي على هذه المسائل يتلخص كذلك في النقط الخمس الآتية:
1 - لم آت بالرأي الذي ذكرته من كتاب، ولم أنقله عن أحد، بل هي نظرية لي استنبطتها استنباطاً من آيات الذكر الحكيم؛ وصرحت في مقالي أنه لم يسبقني بها أحد. فلا محل إذن لمطالبتي بالمرجع الذي رجعت إليه بصددها.
2 - لم يكن العرب في الجاهلية على دين واحد، بل كانوا فرقاً كثيرة يختلف بعضها عن بعض اختلافاُ كبيراً في العقائد والعبادات، فكان منهم من يعبد الله على مل إبراهيم، وكان من هؤلاء الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بعثته وكثير من السابقين الأولين إلى الإسلام،(406/34)
وكان منهم اليهود، وهؤلاء كانوا ينتمون إلى عدة قبائل يسكن معظمها المدينة وضواحيها وشمال الحجاز (بنو قريظة، بنو النضير. . . الخ) وكان منهم المسيحيون، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تنتمي إلى مختلف مذاهب المسيحية المنتشرة في ذلك العصر، وكان منهم عبدة الكواكب، فكنانة كانت تدين للقمر وللدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يسجدون للمشتري، وبنو طبئ ألهوا سهيلا، وبنو قيس بن عبلان توجهوا للشعري اليمانية (وهم الذين قد سفه الله عقائدهم إذ يقول عز وجل: (وأنه هو رب الشعري). . . وهلم جراً، وكان منهم الدهريون الذين لا يؤمنون بإله وينسبون كل شيء للطبيعة: (أن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وكان منهم الوثنيون عباد الأصنام، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تختلف كل فرقة منها عن غيرها اختلافاً كبيراً في نوع الأوثان، ونظرتها إليها، ومبلغ تقديسها لها، وعقيدتها في الله تعالى. ففريق من هؤلاء كان يعتقد بوجود الله وينسب إليه الخلق والأمر، وما كان يعبد الأصنام إلا لتشفع له عند الله وتقربه إليه. وفي هذا الفريق جاءت الآية التي أوردها الأستاذ وآيات أخرى كثيرة (ألا الله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)؛ (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله. . . الخ). وفريق من الوثنيين كان ينسب الخير لأصنامه والشر لله تعالى. فكان الله في نظرهم إليه الشر أو ما يشبه الشيطان في نظرنا، (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً). ولذلك كانوا ينسبون إليه ما يكرهون. وفي هؤلاء يقول الله تعالى: (ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) (النحل 62). والقبائل التي كانت تئد بناتها كانت من هذا الفريق، لأن الآية السابقة جاءت في سياق الحديث عمن كانوا يئدون البنات. وغنى عن البيان أن من ينسب لله ما يكرهه والدنيء من الأشياء لا يمكن أن يكون ممن يعتقدون أنه تعالى خالق كل شيء. فالآية التي أوردها الأستاذ عبد المتعال والآيات الأخرى التي من نوعها تتحدث عن فريق من العرب غير الفريق الذي نحن بصدد الكلام عنه.
3 - تفسير البنات بالملائكة لا يستقيم في معظم الآيات التي أوردتها في مقالي السابق. ففي قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)؛ وقوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى)؛ وقوله: (فاستفتهم(406/35)
ألربك البنات ولهم البنين). في هذه الآيات وما إليها لا يستقيم في نظري تفسير البنات بالملائكة، لأن الملائكة لا تقابل الذكور من بني آدم. فلا يصح أن يقال فيمن يقتصر على نسبة الملائكة لله معتقداً أنهم إناث: أنه يختص نفسه بالبنين من الآدميين دون بناتهم، كما تصرح هذه الآيات، وإنما يقال فيه أنه ينسب لنفسه النوعين من الآدميين - أي الذكور والإناث - وينسب لله الملائكة ويجعلهم من نوع الإناث لا غير.
على أن كثيراً من الآيات التي ذكرتها في المقال لسابق، قد جعلت وأدهم للبنات مترتباً على عقيدتهم هذه (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى الخ) ولا يستقيم هذا إلا إذا كان الغرض من البنات الإناث من بني آدم لا الملائكة.
حقاً انهم كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم كانوا ينسبونهم لله ويعتقدون أنهم أولاده، كما يصرح بذلك كثير من الآيات؛ ولكن هذا لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه من أنهم كانوا ينسبون البنات من بني آدم لله تعالى، بل يزيده تأييداً كما أشرت إلى ذلك في مقالي السابق. وذلك أن القسمة الضيزى التي أجروها في عالم الأرض ونسبوا فيها لله تعالى الإناث ولآلهتهم الذكور، قد أجروا مثلها في عالم السماء، فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم انهم من هذا النوع. ولذلك جاءت عقيدتهم بصدد الملائكة في معظم الآيات التي أوردناها في المقال السابق مصاحبة لعقيدتهم بصدد الأولاد من الآدميين. وذلك يدل على انهما عقيدتان مرتبطة كلتاهما بالأخرى ومترتبة عليها: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟ (أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى. . . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). فالقرآن في هذه الآيات يحدثنا عن حقيقتين لا عن حقيقة واحدة: إحداهما ما يعتقدونه بصدد الذكور والإناث من الآدميين؛ وثانيتهما ما يعتقدونه بصدد الملائكة.
4 - وأما نسبة الذكور لآلهتهم أو لأنفسهم فهذا لا يهم كثيراً في موضوعنا، ولا يؤثر شيئاً في النظرية التي أوردتها؛ لأن المهم أنهم كانوا ينسبون الإناث لله وانهم لذلك كانوا يئدونهن؛ وسواء لدينا بعد ذلك أن كانوا ينسبون الذكور لأنفسهم أو لألهتهم. على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية(406/36)
التي قبلها يرجع إلى الشركاء: (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. آه البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون). فرجع الضمير في لهم إلى الشركاء المذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعه إلى المشركين. لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام: (وجعلوا لله مما ذراً من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . .). (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .)
ويزاد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا انهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم.
5 - لا يمكن أن يكون سبب الوأد هو الفقر أو خوف الفقر؛ لأن هذا النظام لم يكون معمولاً به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاماً عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به، ولو كان الفقر هو الدافع إليه للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث. ولا يمكن أن يكون سببه خوف العار والسبي للأسباب التي ذكرتها بتفصيل في مقالي السابق. ولا يمكن أن يكون سببه نذوراً من نوع نذور عبد المطلب بن هاشم لأننا بصدد قبائل كانت تئد كل بنت تولدها لا بصدد حالات فردية كانت تنحر فيها بعض البنات وفاء لنذور سابقة.
علي عبد الواحد وافي(406/37)
حول السنوسيين
للأستاذ محمد الأخضر العيساوي
جاء في الرسالة الغراء عدد 385 مقال عنوانه (السنوسيون) للأستاذ حسين جعفر بعضه صحيح وبعضه مبالغ فيه وبعضه الآخر خطأ.
وإلى القارئ ما جاء من أخطاء في مقاله الأول، قال: (خلف السيد السنوسي الكبير المولود بالجزائر ببلد مستغانم سنة 1202هـ والمتوفى بالجغبوب سنة 1276هـ ولدين الأكبر محمد الشريف والثاني محمد المهدي) والصواب العكس لأن السيد محمد المهدي هو الكبير حيث ولد بماسة بالجبل الأخضر سنة 1260هـ والسيد محمد الشريف هو الصغير لأنه ولد بمدينة درنة سنة 1262هـ
وقد استمر الكاتب في الكلام إلى أن قال: (ويقال إن الولد الأصغر أظهر ذكاء وكفاءة أكثر من أخيه ولذلك قرر الوالد أن يختبرهما أمام جميع الأخوان في الجغبوب فأمر ولديه أن يتسلقا نخلتين عظيمتي الارتفاع وسألهما باسم الله ورسوله أن يقفزا إلى الأرض، فقفز المهدي في الحال ولم يصب بسوء في حين رفض الأكبر): والحقيقة أهذه القصة كلها لا أصل لها، وقد جاء فيه أيضاً: (ويجب إلا يخفى أن الثورة التي كانت حدثت في سنة 1888 سنة 1889 في (دارفور) من الخليفة عبد الله التعايشي كانت باسم السنوسي) وحقيقة الحال انهم لم تكن باسمه ولا كان له دخل فيها. والدليل على ذلك ما جاء في جريدة (الجزيرة) التي تصدر بشرق الأردن بتاريخ 23 ذي القعدة سنة 1359 الموافق كانون الأول سنة 1940 بقلم المجاهد الكبير علي باشا العابدية المهاجر بتلك الديار وهو من أتباع السنوسيين المطلعين على بواطن الأمور حيث قال فيها (تنبؤ السنوسيين بمستقبل الإنكليز) عند قيام مهدي السودان على المصريين والإنكليز سنة 1888 أرسل إلى السيد المهدي السنوسي رسولاً في إعلان الجهاد وإن يكون خليفة من بعده، ولكن السيد المهدي رفض ذلك لسببين (الأول) أن الحكومة المصرية حكومة إسلامية (والثاني) أنه كان يعتقد أن الطليان سيستولون على طرابلس وبرقة وأنه سيأتي يوم يقوم فيه الإنكليز بمحاربة الطليان في طرابلس وبرقة وسيمدون إلى الأمة الطرابلسية البرقية يد المساعدة لتخليصها من محنتها. . . الخ). وكتاب السيد المهدي لعبد الله التعايشي في هذا الموضوع مذكور في(406/38)
تاريخ مصر، فمن أراد الوقوف عليه فليراجعه. نعود إلى المقال الأول، قال فيه أيضاً: (وفي (واداي) كان خلف السلطان يوسف وهو السلطان إبراهيم الذي تولى سنة 1898، كان يهمل نصائح الشيخ متشجعاً في ذلك بهزيمة الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان. وكان رد السنوسي على هذا أن حرم على أهل واداي تدخين التبغ وشرب المريسة (البيرة الوطنية)، فأرسل السلطان إبراهيم إلى السنوسي بأن شعبه يحارب ويموت في سبيل المريسة، وأنهم ينبذون تعاليم السنوسية ليشربوها. وكان السنوسي المهدي حكيماً في تنازله عن رأيه، معلناً أن الله أجاب على صلاته بأنه جل شأنه قبل أن يستثنى أهل واداي من هذا التحريم)؛ فكان حقاً على الأستاذ إلا يذكر هذه الأسطورة التي يمجها السمع ويأباها العقل السليم والنقل، لأن مثلها يتحاشاها أجهل الجهلاء، فكيف بأعلم العلماء وأتقى الأتقياء وهو السيد المهدي السنوسي الذي أشتهر بالتقوى والصلاح أن يحلل ويحرم من عند نفسه، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وجاء في الرسالة أيضاً عدد 386 مقال آخر، وإلى القارئ ما جاء فيه: (وقد عرفت شروط للاتفاق بين الإيطاليين وسيدي أحمد في النصف الأخير من سنة 1915، وكاد يتم الاتفاق لولا أن سيدي أحمد رفض أن يقبل مركز (باي) تحت الحماية)
والحقيقة أن الإيطاليين خطبوا وده كثيراً ومنوه بأماني معسولة، ولكنه لشرفه وأمانته وعلو همته أبى أن يصالحهم على شبر واحد من أراضي المسلمين ولو أعطوه ملء الأرض ذهباً.
وجاء فيه أيضاً: (ولذلك أرسلوا (أي الإنكليز) في نوفمبر سنة 1915 ابن عمه السيد محمد إدريس من الإسكندرية ليتفق معه (أبى سيدي أحمد) على أن يتخلص من مستشاريه الأتراك في مقابلة مبلغ من المال). فهذا أيضاً مخالف للواقع، وكان على الكاتب إلا يذكر شيئاً منه حتى يتصل بالسيد إدريس ليكون على بصيرة.
وجاء فيه أيضاً: (وأقر شيوخ الطريقة السنوسية سيدي محمد إدريس السنوسي على أن يكون السنوسي الأكبر إلى أن قال: وجد سيدي أحمد المقهور والمخلوع أن من الأفضل له أن يغادر طرابلس، فغادرها في غواصة ألمانية من مصراته إلى تركيا مع استمرار ادعائه أنه رأس الطريقة السنوسية)(406/39)
وهذا أيضاً بينه وبين الحقيقة مراحل، لأن رئاسة الطريقة السنوسية موكولة للأكبر الأرشد بنص وصية من مؤسس الطريقة السيد محمد بن علي السنوسي الكبير، والسيد أحمد وقتئذ هو أكبر العائلة وأرشدها، فهو أول بالرئاسة، وبأن يطلق عليه اسم السنوسي الكبير. وليس لأحد كائناً من كان أن يخلعه أو يقهره، لا من مشائخ الطريقة ولا غيرهم.
نعم ذهب إلى تركيا في غواصة كما قال الكاتب. لكن بدعوة منها وقد استفادت منه كثيراً، حيث فض لها مشاكل كثيرة وثورات في الأناضول كادت تقضي على حركة مصطفى كمال وهي في مهدها، ولولاء ما جنح الأكراد إلى الهدوء والسكينة بعد ثورتهم المشهورة.
وجاء أيضاً في آخر مقاله الثاني ما نصه: (في حين أنهم أبى السنوسيين يعترفون بأنهم على المذهب المالكي، فإن علماء القاهرة كثيراً ما كتبوا عن انحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، ومعظم الاتهامات تنحصر في انهم فسروا القرآن الكريم والسنة بدون الاعتماد على مصادر معترف بها)
فأقول: إن هذا أيضاً مما لا ينبغي للكاتب أن يذكره، لأنه مخالف للواقع، فالسنوسيون سنيون مالكيون، وهاهي كتبهم بين أيدينا شاهد عدل على ذلك، فليراجعها من أراد الوقوف على الحقيقة. وهي (بغية المقاصد) و (إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن) و (شفاء الصدر بأرى المسائل العشر)، وكلها للسيد السنوسي الكبير، توجد في المكاتب الشهيرة بمصر وغيرها.
وإني أتحدى حضرة الكاتب أن يأتينا ولو بآية واحدة أو بحديث واحد مما زعم أن السنوسيين قرءوهما بدون أن يعتمدوا على مصادر معترف بها، كما أني أتحداه أيضاً أن يثبت لنا من هم أولئكم العلماء الذين كثيراً ما أفتوا بانحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، وفي أي زمان ومكان حصل منهم ذلك؟ أظن الأستاذ يمكنه أن يثبت ذلك، ولو أجهد نفسه مدة حياته. هدانا الله وإياه للصواب.
محمد الأخضر العيساوي
عالم بالأزهر(406/40)
أطياف الربيع. . .
(مهداة إلى جماعة الشعر من شباب كلية الآداب)
للأستاذ محمود الخفيف
هَات يا زَامِرُ ألَحْانَ الرَّبيعِ ... رَاقَ مِزْمَارُكَ ياَ رَاعي القَطيعِ
غَنَّ ما هَزْكَ في هَذا الضُّحى ... مِنْ رُوي شَتَّى وَمِنْ سِحْرٍ جَميعِ
عَنَّ يَا هَيْمَانُ ألَحْانَ الهَوى ... والصَبا الجَذْلانَ يَلْهُو بالمُنَى
لَحْنَ أُرغو لكَ نَشْوانُ الصَّدَى
في الضفافِ الخُضْرِ والَحْقْل المَريعِ
الفَرَاشاتُ بهَاتِيكَ الضفافِ ... دَائبَاتٌ بَيْنَ وثْبٍ وَطَوافِ
فَرَحاتٌ بالزَّمانِ المُونِقِِ ... بَعْدَ أيَّامٍ كَئِيباتٍ عِجَافِ
هَائماتٌ في ضُحَاهُ المُشْرقِ ... لاِئمَاتٌ كُلَّ غُصْنٍ مُوِرقِ
فَرْحَة أَعْيَا بَيَانِي وَصْفهاً
وَأَنَا النَّاسِجُ مَوْشِىَّ القَوَافي!
قَضَّ سَاعاِتكَ رَفافَ الَجْنَاحِ ... دَائِبَ التَّطْوافِ في كل النَّواحي
عَانِقِ الزَّهْرَ هُنَا أوْ هَاهُنَا ... أَيُهَا العَاشِقُ أفْوَافَ الصَّباح
لَكَ مَاءٌ سَلْسَبِيلٌ وَجَنَى ... أَيْنَمَا مِلْتَ وَظِلُّ وَسَنَى
لَيْتَ يَا جَذلانُ لي بَعْضَ الذي
يَتَوَافى لكَ من هَذا المِراحِ!
الرَّبيعُ الغَضُّ نَشْوانُ الشَّبابِ ... مَرِحٌ يَظْفُرُ في كل الرَّحابِ
أَيْنَمَا دُرْتُ بعَيْنَيَّ أَرَى ... لَمَحَاتٍ مِنْ سَجَاياَهُ العِذابِ
كُلماَ يَمَّمْتُ رُكْناً مُزْهِواً ... لاحَ لي تَاِليِه أحْلَى مَنْظَرا!
كلَّ حُسْنٍ ملْء سَمْعِي هَاتِفٌ
خُلِقَ الحُسْنُ لقَنْصٍ وانِتهاَبِ
أيُّ سرٍ شاعَ في هَذا النماء ... فانْجَلىَ لْلعَيْنِ مَرْمُوقَ الرُّواءِ
فاضَ واسْتَعْلَنَ في آثَارِهِ ... وَهْو صِنْوُ الرُّوحِ في مَعْنَى الخَفاءِ(406/41)
كم أَجَلْتُ الطرْفَ في أَزْهَارِهِ ... والَجْديِد الغَضَّ مِنْ نُوَّارهِ
في زَمانٍ زَيَّنَتْ أَفْوَاقُهُ
كلَّ رَوْضٍ وَكَسَى كلَّ فَضَاء
رَفَّ قلبي لِمَجَاليِه الِحْسَانِ ... وَلأَطْيَافٍ بهِ زِدْنَ افْتِتَانِي
لَمَحَتْ في كلَّ شيْء نَشْوَةٌ ... مَلَكَتْ حِسيَّ وَفَرَّتْ في جَنَاتي
وَمشَتْ مِلْء كِياني هِزةٌ ... أَنِسَتْ رُوحي بها صُوِفيةٌ
لمْ تَكُنْ لِلطينِ يَوْماً تَنْتَمي
حَرَّكتْ قلبي وإنْ عَىَّ لسَاني!
كم أَرَى البُرْعُمِ الْغَضَّ الوَليدِ ... مِنْ طُيُوف ضَاقَ عَنْهُنَّ قَصِيدي
كم تَرَى رُوِحَي في مَوْلِدهِ ... مِنْ مَعَاني البَعْثِ والخَلْقِ الجَدِيدِ
مَوْلِدٌ ما شَذَّ عنْ مَوْعِدهِ ... حَدَّثَ المْبِصَر عَنْ مُوجِدهِ
مَوْلِدٌ ما مَرَّ عَجْلانَ بهِ
غَيْرُ لاهٍ مُظْلِم الحِس بَلِيِد!
غِبْطَةٌ تَزْهَدُ نَفْسِي في سِواها ... فَطَنَ الَقَلْبُ إلَيْهَا فاحْتَوَاها
لَيْتَ مَنْ يَقضِي غُرُوراً عُمْرَه ... نَسِىَ الأوْهامَ يَوْماً فاجْتَلاهَا
لَيْتَهُ في العَيْشِ ينْسَى زُورَه ... فَيَرَى الحُسْنَ وَيَهْوِى سِحْرَهُ
لَيْتَ هَذا الحَيْ يَنْسَى جَشَعاً
يُوبقُ الرُّوحَ وَيُنْسِيَها هُداها!
يَا جَمالاً هاجَ في الكْونِ هُيَامِي ... أَجْتَلى دُنياهُ عاماً بَعْدَ عامِ
نَشْوَةٌ كم ألْهَمْتني الفَرَحَا ... يَوْمَ أَتْرَعْتُ بها كأُسَ غَرامي
أَتُرَى يَعْلَمُ ألفٌ نَزَحَا ... أنني اليَوْم حَطَمْتُ القَدَحَا؟
وَيْكَ يَا قلبي! أَتَبْكي كُلَّمَا
جَدَّدَ الْعَيْشُ دَوَاِعي الابِتَسامِ؟
إِغْنَمِ المُتْعَةَ مِنْ هَذا الَجْمالِ ... وَانْسَ آلاَمَكَ في هَذِى المَجَالى
أَيُّهَا الْقَلْبُ إِلاَمَ المُشْتَكى ... إِبْتهَجْ فالْعَيْشُ عَجْلاَنُ الليالي(406/42)
إخْتَلِسْ عُمْرَ زَمَانٍ ضحكاً ... وَانْهَبِ الحُسْنَ إذا الحُسْن زَكا
هَذِه الزَّهْرَة تَزْكُو في الضُّحى
والدَّجى يَمْشِي عَليها بالزَّوالِ!
الخفيف(406/43)
رسالة النقد
الفنون الإيرانية في العصر الإسلامي
تأليف الدكتور زكي محمد حسن
للدكتور محمد مصطفى
- 3 -
وفي كلام المؤلف عن امتداد (نفوذ الأساليب القبطية الإسلامية في التجليد إلى إيران) بقول في (ص 133): (بل أن ذلك النفوذ امتد أيضاً إلى بلاد منغوليا في أواسط آسيا حيث عثر في أطلال مدينة كانت عامرة في العصور الوسطى على جلد كتاب ينسب إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، وعليه زخارف من إطار ذي فروع نباتية عربية، وفي وسطه جامة أو صرة من جرابل، وفي كل من الأركان الأربعة ربع جامة)
ولم يذكر المؤلف المرجع الذي اقتبس منه عبارته هذه، وقد كان يهمنا أن نعرف اسم هذه المدينة التي - كانت عامرة في العصور الوسطى - وكذلك المكان الحالي المحفوظ فيه جلد الكتاب المشار إليه بما عليه من (فروع نباتية عربية)
وفي (ص 134) يقول المؤلف: (وقد عرف المسلمون التجليد في إيران وغيرها من الأقاليم الإسلامية في القرون الأولى بعد الهجرة. وذكر ابن النديم في كتابه الفهرست أسماء بعض المجلدين، كان الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون)
ولم يذكر المؤلف هنا أيضاً المرجع الذي اقتبس منه في كتاب الفهرست لابن النديم، وبالنسبة لطرافة الموضوع رأيت أن أنقل هنا عبارة مماثلة لعبارة المؤلف كتبها الأستاذ (بوب في حاشية يعلق بها على ما كتبه الدكتور (جراتزل) عن التجليد، وأورد ابن النديم أسماء المجلدين في ترتيب تاريخي حتى وقته (القرن العاشر الميلادي) وذكر منهم ابن أبى الحريش الذي كان يجلد في خزانة الحكمة (مكتبة المأمون) والمجراز العييبي، وأبي عيسى وابن شيران ودميانة الأعسر والحسين بن الصفار.
وقد أعطى الأستاذ بوب كمرجع لعبارته هذه، كتاب الفهرست لابن النديم طبعة فليجل ص 10(406/44)
وإني أستغرب كيف أن الدكتور زكي لم يشر في أية ناحية من الفصل الذي كتبه عن التجليد (ص 132 - 138) إلى البحث الذي كتبه الدكتور أميل جراتزل في نفس هذا الموضوع مع أن هذا البحث بعد أحدث بحث علمي واف عن تجليد الكتب في إيران. هذا فضلاً عن أن الدكتور جراتزل - وإن كان قد توسع في كتابة بحثه عن المؤلف - قد أورد نفس الحقائق بنفس تسلل الأفكار الذي سار عليه للدكتور زكي محمد حسن في هذا الفصل من كتابه.
فإننا نرى أن ما كتبه الدكتور جراتزل في الفقرة الأولى (ص 1975) مفصلاً عن ميزات جلود الكتب الإسلامية، قد أورده الدكتور زكي محمد حسن، مجملاً في العبارة الأولى من الفقرة الثانية (ص132)، وفي الفقرة الثانية (ص1975) ما جاء في العبارة الثانية من الفقرة الثانية (ص132) عن استعمال الخشب والجلد والورق المضغوط في التجليد. وفي الفقرة الثالثة (ص1975) والفقرة الأولى (ص1976) تفصيل ما جاء في الفقرة الثالثة (ص132) وبداية (ص133) عن أساليب التجليد القبطية. وبين مراجع الحاشية رقم 1 (ص1975) نجد المرجع المذكور في الحاشية رقم 1 (ص133)؛ وفي الحاشية رقم 1 (ص1976) ما جاء في العبارة الأولى من الفقرة الأولى (ص134) عن أسماء بعض المجلدين؛ وفي الفقرة الثانية (ص1976) ما جاء في العبارة الثالثة من الفقرة الأولى (ص134) عن جلد كتاب عثر عليه الأستاذ بوب؛ وفي الفقرة الثالثة (ص1976) ما جاء بالعبارة الرابعة من الفقرة الأولى (ص134) عن الجلود المحفوظة بمتحف الفنون الإسلامية والتركية في استامبول، بما في ذلك (جلد مصحف لسلطان الجابتو) (هكذا أيضاً في جراتزل)، وهو كما نعلم السلطان محمد خدا بنده. وبين مراجع الحاشية رقم 3 ص1976 نجد المرجع المذكور في الحاشية رقم 1 ص134. وفي الفقرة الأولى ص1977 ما جاء في الفقرة الثانية ص134 من أن تيمورلنك استقدم إلى بلاطه مهرة المجلدين في مصر والشام. وفي الحاشية رقم 1 ص1977 نجد المرجعين المذكورين في الحاشية رقم 2 ص134. وفي الفقرة الأولى ص1977 أيضاً ما جاء في الفقرة الأخيرة ص134. وبداية ص135 عن المجامع التي أنشأها شاء رخ لفنون الكتاب. وفي الحاشية رقم 2 ص1977 نجد المرجعين المذكورين في الحاشية رقم 1 ص135. وهكذا. . .(406/45)
ومما تقدم نرى أن الدكتور اميل جراتزل قد سبق الدكتور زكي محمد حسن في سرد الحقائق العلمية عن تجليد الكتب في إيران ولقد كان من الواجب على الدكتور زكي أن يشير في الفصل الذي كتبه عن التجليد إلى هذا البحث لاسيما وإن البيانات والحواشي التي أوردها في هذا الفصل، قد جاءت - كما رأينا - بنفس التسلسل الذي جاءت به ضمن البيانات والحواشي التي كتبها الدكتور جراتزل.
وإني أود أن أكتفي بهذا القدر من ملاحظاتي على هذا القسم من متن كتاب الدكتور زكي محمد حسن وطريقة تأليفه، ولو شئت أن استرسل في استعراض باقي فصول الكتاب لتبين لنا أن طريقته في هذا القسم لا تختلف عنها في القسم الأول
والآن ألقى نظرة سريعة على لوحات الكتاب. فأذكر للمؤلف بالثناء، أنه أورد صوراً لبعض التحف الإسلامية الأثرية التي لم يسبق نشرها - أو نشرت، ولكن ليس في كتاب شامل عن الفنون الإيرانية مثل كتاب بعضها من مجموعة معالي الدكتور إبراهيم باشا، وهي الأشكال 55 و56 و57 وتمثل ثلاث صور لتزيين الجدران، والأشكال 69 و71 و73 لثلاث سجاجيد، والأشكال 85 و89 و91 و99 و100 و101 و106 و107 و109 لتحف مصنوعة من الخزف. والبعض الآخر من مقتنيات دار الآثار العربية وهي شكل 111 لطائر من الخزف، وشكل 132 لحزام من الحرير، وشكل 136 لإبريق من البرونز مع رسمين توضيحين له في شكلي 137 و138 وشكل 172 لحشوة من الخشب.
ولكن المؤلف لم يشر في متن الكتاب إلا إلى سبعة وثمانين شكلاً من المائة والسبعة وسبعين شكلاً التي تتضمنها اللوحات ولم يصف التحف المصورة في اللوحات ويوضحها توضيحاً كافياً يوفر على القارئ البحث عن وصفها في متن الكتاب، بل ولم يذكر المؤلف مقاسات التحف المختلفة - لا في المتن ولا في اللوحات - لكي يتمكن القارئ من تصوير هذه التحف في مخيلته بهيئتها وحجمها الطبيعي.
فمثلاً يقول في وصف شكل 97 في اللوحة 87: (صحن من الخزف، مؤرخ سنة 607 هجرية - 1210 ميلادية، في مجموعة يومور فوبولوس).
وإني أعطي هنا وصف هذا الصحن نفسه في للمقارنة،
صحن من الخزف ذي البريق المعدني، عليه رسم خسرو(406/46)
يكتشف شيرين مؤرخ سنة 1210 (جمادي الآخرة سنة
607هـ) مكتوب عليه: صنعه السيد شمس الدين الحسني، في
مجموعة يومور فوبولوس، مقاس القطر 13 و83 بوصة (34
سم)
هذا الوصف غير الوصف الذي أعطاه الأستاذ بوب في متن الكتاب في أثناء كلامه عن الخزف من صناعة مدينة قاشان، كما فعل الدكتور زكي، ذلك في ص196.
وقد وصف المؤلف شكل 75 من اللوحة 71 بقوله: (صحن خزفي القرن (3هـ - 9م)، في المتحف الأهلي بطهران) بدون ذكر نوع الصناعة، وتكلم المؤلف في متن الكتاب (ص167) عن هذا (الصحن) ونسبه إلى نوع (خزف بلاد ما وراء النهر)، ثم تكلم عنه ثانية في ص168 وسماه (سلطانية) ونسبه هنا إلى نوع آخر من الخزف وهو (الخزف الأبيض ذو النقوش الزرقاء والخضراء، بينما يسميه الأستاذ بوب (صحن) وينسبه إلى هذا النوع الأخير فقط.
ويظهر لي أيضاً أن المؤلف لم يدقق في ترتيب بعض لوحات الكتاب، فمثلاً رسم الصحن في شكل 81 كان يجب أن يوضع إلى جانب الصحن في شكل 76 لأنهما - كما يقول بنفسه - من نوع خزف بلاد ما وراء النهر. لكي يستطيع القارئ أن يقارنهما معاً، وإن يوضع شكل 75 فيما يليهما حسب تقسيم كلام المؤلف عن الخزف.
محمد مصطفى(406/47)
البريد الأدبي
المجمع العلمي العربي يبعث
كان (المجمع العلمي) قد توقف عمله منذ سنوات سبع، وقد أصدرت مديرية المعارف العامة مرءماً ببعثه وإحيائه، واجمع الأساتيذ أعضاؤه على انتخاب العلامة الكبير الأستاذ كرد علي بك رئيساً له، فصدر مرسوم جمهوري بذلك.
ولا شك في أن المجمع العلمي الذي استطاع بسعي رئيسه وجهود أعضائه - في مدة قصيرة من الزمن - أن يؤدي إلى اللغة العربية ما لم يؤده إليها كثير من الرجالات والمجامع في مدة طويلة، والذي رفع اسم الشرق في ندوات المستشرقين في الغرب سيعود إلى سيرته الأولى: فيحيى ما اندثر من آثار السلف، ويسعى للقضاء على الدجاجلة المتجرين باللغة، ويعنى بانتخاب أعضاء له ممن كانت لهم في اللغة جهود، وفي إصلاحها طرائق، وكان لهم على آدابها وفرائدها وأسرارها ودقائقها اطلاع، دون غيرهم من المتطفلين، ولو كانوا من أرباب الألقاب الجوفاء.
وقد وضع له برنامج واسع ونظام دقيق، وسننوه بهما مرة ثانية.
(دمشق)
(المنجد)
مناصرات كلية الآداب
مناظرات كلية الآداب شائقة ولكنها في دعوتها إلى التفكير أكثر منها في ختامها للتمحيص وهذا شأن المناظرات في كلية الآداب وفي غير كلية الآداب، لأن المناظر شأنه غير شأن المحاضر، ولابد أن يتقيد بجانب الرأي الذي يدافع عنه أكثر من تقيد المحاضر بجانب خاص من جوانب الرأي وليس تمحيص الحقيقة ووضوحها في المقارنة بين أقوال المناظرين وحدها بل هي في التوفيق بين أقوالهما وفيما يظهره هذا التوفيق من آراء قد تسقط في المناظرة للدفاع كل مناظر عما يدافع عنه من الرأي وتمحيص الحقيقة أيضاً في مناقشة الجملة التي هي موضوع المناظرة وهذا ليس من شأنه المناظر وفي بيان أوجه صلاحها للمناقشة واوجه فسادها ويتضح لنا صواب ذلك إذا رجعنا إلى المناظرة التي كان(406/48)
موضوعها (هل يزدهر الفكر في عهد الفوضى أم في عهد الأمان) كما يتضح في المناظرة التي كان موضوعها (هل يكفي التراث الشرقي - أو العربي - لتمام نضوج الذهن). ففي المحاضرة الأولى لم يتضح من الجملة نوع الفوضى ونوع الأمان كما لم يتضح من الجملة الثانية معنى التراث ومعنى تمام النضوج فإن من الفوضى فوضى قد تكون ناشئة من التقاء الثقافات واجتماع الحضارات، وفوضى قد تكون ناشئة عن المحركات النفسية التي تبعث إلى التفكير، وكلاهما قد تكون فوضى نسبية تساعد على التفكير وازدهار الثقافة. كما أن من الفوضى فوضى ناشئة عن اختلال النظام واضطراب الدولة، والفتن والحرب التي تعم وتجعل الحياة غير موثوق من بقائها وتعطل الأرزاق وتشغل المفكر عن الفكر بالتماس طرق تأمين الحياة وطلب الرزق أولاً حتى يستطيع أن يفكر بعد أن يتهيأ له ما أراد، ومثل هذه الفوضى تعطل أمور التفكير وتمنع من ازدهاره. ومن الفوضى فوضى قد تكون بسبب شدة العصبية للرأي؛ فكل طائفة تريد أن تغلب رأيها، فإذا تعدت العصبية للرأي وسيلة الإقناع إلى وسائل القهر والإلزام، وصار النصر في تلك الوسائل سجالاً ومداولة وتبع هذه المداولة الفتك والقتل والنهب. منعت كل هذه الأمور من ازدهار الفكر إلى أن تستقر الأمور. ومن الفوضى فوضى نسبية هي أيضاً نتيجة شدة العصبية للرأي، ولكنها لا تلجأ إلى وسائل الفتك أو لا تدوم على تلك الحال أو لا يكون الفتك سجالا إلى أمد طويل. وهذه قد يزدهر معها الفكر ومن الفوضى فوضى تتخللها مواطن الأمان، أو كما يقولون جزائر الأمان ولا يراد بمعنى جزائر الجغرافي وإنما المراد مواطن أمان يطمئن فيها ويستقر إليها المفكرون إذ لا أمان في بقاع أخرى في الوقت نفسه فيكون ازدهار الفكر في مواطن الأمان لا في أماكن الفوضى ومن الفوضى فوضى لا توجد فيها جزائر الأمان فلا تساعد ازدهار الفكر والأولى مثل دويلات العهد الأخير من الدول العباسية ودويلات مدن الإغريق ودول ملوك الطوائف في الأندلس وغيرها، ومن الفوضى فوضى ناشئة عن عبث النفوس وقلة اكتراثها للجد والحق وهذه لا تعين على التفكير. ومن الفوضى فوضى يعقبها تعمير، وفوضى لا يعقبها إلا الخراب والاضمحلال، وفوضى تكون في أول نشأة الأمم والحضارات، وفوضى في أواخر عهدها. والأمان أيضاً أنواع، فمنه أمان يكون في عهد مجد الدولة وبأسها، واستقرار أمورها، واتساع نطاق تجارتها ونمو ثروتها، وهو أمان(406/49)
يساعد على ازدهار الفكر، وقد تتخلله حروب أو لا تتخلله، وهذا الأمان النسبي هو كالذي كان في عهد الأسرة الرابعة والثانية عشرة والثامنة عشرة في تاريخ مصر القديم، وكالذي كان في العهد الأوجستي في تاريخ روما، وعهد أسرة تيودور والملكة إليصابات في إنجلترا، وعهد لويس الرابع عشر في فرنسا، وعهد هارون الرشيد في الدولة العباسية، وعهد بركليس في الدولة الأثينية، وعهد عبد الرحمن الثالث في الأندلس، وعهد الديمقراطيات والنظم الحديثة بعد الثورة الفرنسية وبعد حروب نابليون. ومن الأمان أن يكون معه الخمود والركود وقهر الفكر والفقر وهذا لا يعين على ازدهار الفكر. فنرى أن موضوع المناظرة الأولى لم يحدد معنى الفوضى والأمان ونوعهما. وإغفاله هذا التحديد لم يكن داعياً إلى تمحيص الحقيقة وإن كان داعياً إلى الفكر. ثم أن موضوع تلك المحاضرة قصر عوامل ازدهار الفكر أو ركوده على الفوضى والأمان ولم ينظر إلى العوامل الأخرى مثل التجارة وأنواعها، وطرق المواصلات وأثرها، والصنائع وأنواعها، مثل مصالح الحكومة، ومثل مقدار الثروة والتعليم الخ. وإذا نظرنا إلى المناظرة الثانية وجدنا أيضاً أن معنى تمام النضوج لم يحدد، ولم يحدد معنى التراث كما اتضح من أقوال الأستاذين الكبيرين اللذين تكلما في المناظرة. ولكنهما كانا متفقين في لباب الحقيقة وإن اختلفا في الظاهر.
إسماعيل فهمي
ليبيا وبرقة
تكتب الصحف فيما تنشره من أخبار عن طرابلس الغرب كلمتي: ليبيا - برقة. والكثير لا يعرف مدلولهما الصحيح ويذهب به الظن إلى أن ليبيا يسمى بها طرابلس الغرب، فلا ظهار الصواب نورد ما ذكره ابن خلدون في تاريخه. قال المؤرخ عن ليبيا: (وهي اسم قبيلة من البربر دخلت تلك الصحراء وعمرتها وهي لا تزال آثارها باقية، وهي تعرف الآن بالتوارق). وعن برقة: (أطلق العرب هذا الاسم على ولاية رومانية كانت تعرف عند قدماء اليونان بالقيروان نسبة إلى قوربنة إحدى مدنها وهي غير مدينة القيروان التي مصرها العرب في أفريقيا بعد الفتح. وقد كان الجزء الشمالي منها يعرف عند اليونان(406/50)
ببنطابلس أي المدن الخمس، لأنه كان فيه خمس مدن كبيرة، الأولى هسبريدرس، وقد سماها بطليموس الثالث (هسبربدرس برنيقة) نسبة إلى زوجه برنيقه وسماها العرب برنيق وتعرف الآن بيني غازي. والثانية برقة وتعرف الآن بالمرج وبها سميت البلاد عند العرب. والثالثة قورينه وبها سميت البلاد عند اليونان، ولا تزال آثارها باقية ويسميها الأعراب قورينه. والرابعة البولونيه وتعرف الآن بمرسى سوسه. والخامسة توخيره أراسينوي وتعرف الآن بتوكره ونشأ فيها في زمن البطالسة مدينتان أخريان وهما بطلمايس وتسعى الآن طولميطة ودونيس دورينا وتعرف الآن بدرنة. وكل هذه المدن على الساحل ما عدا برقة وقورينه فإنهما على بضعة أميال منه. هذا ما أثبته ابن خلدون ومنه يعرف أن ليبيا ليست اسماً لطرابلس الغرب.
أبو القاسم سعيد الباروني الطرابلسي
تأبين الأستاذ فؤاد بليبل
لا تزال أندية الأدب ومجالس الشعر تردد عبارات الأسف على فقد الشاعر الشاب فؤاد بليبل، وتجدد في كل مناسبة أساها على فجيعة الشعر فيه، فقد كان المتصلون به والقارئون له يعتقدون أن سيكون له في الشعر الوجداني اثر مذكور بفضل ما وهبه الله من صدق الشعور وصفاء النفس وعذوبة الروح واستكمال الأداة. والحق أن الحياة القصيرة المضطربة التي حييها فؤاد كانت أشبه بأغرودة البلبل الجريح أدركه الإعياء قبل أن يسكن إلى عشه.
وقد فكر لفيف من أصدقائه أن يقيموا له حفلة تأبين يوم الأحد 4 مايو سنة 1941 بنادي لبنان في شارع توفيق رقم 12 ولا شك في أن هذه الحفلة ستكون مظهراً صادقاً لما يكنه إخوان الأدب والروح من الفجيعة واللوعة لهذا الفقيد الكريم
أخطاء في كتاب
للأستاذ محمود مصطفى أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية كتب في الأدب يفرض تدريسها على الطلاب. من هذه الكتب كتابه في (الأدب العربي وتاريخه، في عصري صدر الإسلام والدولة الأموية)، وقد تصفحنا هذا الكتاب فعثرنا فيه على أخطاء نحب أن(406/51)
نلفت إليها أستاذنا الجليل ليتلافاها في الطبعة المقبلة، كما نحب أن نلفت إليها زملائنا الطلاب وجلهم بحمد الله من المشتركين بمجلة الرسالة الغراء.
يقول المؤلف في ص35 (وقوله - يريد النبي صلى الله عليه وسلم - لأبي تميمة الجهيمي: (إياك والمخيلة) فقال يا رسول الله نحن قوم عرب فما المخيلة؟ فقال عليه السلام: سبل الإزار)
والصحيح أن النبي قال هذا لجابر بن سليم الجهيمي، لأن تميمة تابعي وليس بصاحبي حتى يخاطب.
ويقول المؤلف في ص127 مفسراً بيت حسان:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمِفصَل
(كلتاهما: كلا الماء والخمر. والمعنى في البيت أن الماء والخمر ناتجان عن عصر شيء؛ فالماء عن عصر السحاب، والخمر عن عصر العنب). . . وهذا التفسير خطأ (أولاً) لآن (كلتاهما) للمثنى المؤنث والماء مذكر والمعروف تغليب المذكر على المؤنث (ثانياً) لأنه قال (أرخاهما) للمفصل وأرخى أفعل تفضيل يقتضي المشاركة مع أن الماء لا إرخاء فيه أصلاً. (ثالثاً) لأنه قال كلتاهما حلب العصير والعصير إذا أطلق انصرف إلى عصير العنب. . . والصحيح: كلتاهما التي قتلت والتي لم تقتل في البيت الذي قبله وهو:
إن التي ناولتني فردتها ... فُتِلَت قتلْتَ فهاتها لم تقتل
وهكذا روى الأغاني وخزانة الأدب وشرح ابن هشام لبانت سعاد
ويقول المؤلف في ص175: (. . . فقد قيل: أن عمرو ابن العاص لما رأي مكتبة الإسكندرية أرسل بخبرها إلى عمر. فقال له: إن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى وإن كان فيها يخالفه فلا حاجة اليه، فتقدم بإعدامها: فأحرقها عمر)، وهذا كلام يكذبه المؤرخون. . . ويعتمدون على أن إحراقها كان قبل الفتح. . .
ويقول المؤلف في ص178: (فقد ذكروا أن عبد الله بن المقفع اعترف بأنه دس على المسلمين أربعة آلاف حديث). . . والصحيح أنه لم يكن محدثاً، ولم يقل أحد عنه ذلك، ولم يرو حديثاً واحداً لا صادقاً ولا كاذباً.
ويقول المؤلف في ص182: (عمران ابن حطان السدوسي شاعر فصيح من الشراة، وكان(406/52)
في آخر أيامه من القعدة. . . لأن عمره طال فضعف عن القتال، فكان يدعو بلسانه)
وهذا التعليل نقله المؤلف عن جورج زيدان وهو خطأ. . . ولم يكن عمران في آخر أيامه من القعدة كما ذكر. القعدة فرقة من الخوارج كانوا يرون التحكيم بين علي ومعاوية، ولكنهم قعدوا فلم يقاتلوا. . .
ويقول المؤلف في ص308 مترجماً لجرير: (ولد باليمامة سنة 42هـ في خلافة عثمان)، وهذا خطأ، لأن عثمان توفي سنة 35هـ
ويقول المؤلف في ص309: (وما زال جرير بالبادية حتى قال الشعر. ثم قدم الشام على يزيد بن معاوية وهو ولي العهد، ومدحه بقصيدة منها:
وإني لعفُّ الفقر مشترَكُ الغنى ... سريع إذا لم أرض داري انتقاليا. . . الخ
والصواب أن هذه القصيدة قالها جرير يرد بها على الفرزدق قصيدة على وزنها ورويها وهما معاً في النقائض، وليس فيها بيت واحد في مدح يزيد. . . والصواب أيضاً أن جريراً لم يقدم على يزيد بالشام إلا وهو خليقة. . .)
وبعد، فنحن نقدر الأستاذ محمود مصطفى ونجله، ونعتقد أنه من الأساتذة العاملين في كلية اللغة العربية، وما قصدنا بهذه التصحيحات إلا خدمة الأدب، وخدمة الكتاب، وخدمة الطلاب الذين سيمتحنون فيه آخر العام.
عبد العليم عيسى
1
1(406/53)
العدد 407 - بتاريخ: 21 - 04 - 1941(/)
المبالاة
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب إليَّ الأديب صاحب الإمضاء من خطاب يقول فيه بعد تمهيد:
(إن الإنسان يفيد دائماً من التجارب المادية. فالأطباء مثلاً يهتدون بالتجارب الماضية ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب. فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول أن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية. فمثلاً حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر. . . وعندنا مثلاً أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيراً مصوراً ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولاً أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثاً لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك. . . فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء ويعج في الألم واليأس؟. . . وأريد أن أقول أيضاً: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقياً وازدهاراً، أم عندئذ تنتفي الحياة؟)
وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف، وأن يكون ذلك على صفحات (الرسالة)، فإني من قرائها المدمنين
(دمنهور)
صلاح المسيري
ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنكليزي الحديث ستيفنسن إننا حين نقول للشاب: هكذا أيضاً كنا نفهم في شبابنا فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة!(407/1)
وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها ولا استثناء فيها. فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!
وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة!
والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين
وخيراً تصنع الحياة إذ تجعل كل حي مستقلاً بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه. فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون
وفرقي شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه؛ ولكني أستطيع أن اجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!
لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر (بالنيابة) عني وإلغائي لشعوري أنا معتمداً على ما جربه واهتدى إليه. أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعاً على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل
وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم ولكنها مسألة رياضة
فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلى السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق؛ ولكنه (ريض) على حالة لا يستطيع غيرها ولو فهم أن غيرها هو الصواب
ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا إن (الصبر مفتاح الفرج) تفهم لفظاً ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس؛ وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة على(407/2)
تلك الكلمات الثلاث!
إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا. فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع من الحوادث والتجارب دون أن (نأكلها) كما أكلها الذين من قبلنا
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء؛ وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام؛ وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك؛ وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين
والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء؛ فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها لأنها مختلفة المنحى والنتيجة. ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات. ويسافر إلى القطر الواحد مرات ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها ولا تنسخها التي تليها
وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة
والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات، لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه. فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلقٍّ ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال
وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية؛ أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة ما يراد منها وما لا يراد
قيل أن السعيد من وعظ بغيره. ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه (شعوراً) غير أصيل فيه! أما إن اتعظ أصيلاً في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه. فليس هو بعالة على تجربة(407/3)
غيره، وليست تجربة غيره إلا تذكيراً لناسٍ أو تنبيهاً لغافل
ولنتخيل عالماً يستريح الناس فيه من (المبالاة) فماذا يبقى لهم من الحياة؟
ماذا يبقى من الحياة لمن لا يبالون الخوف والرجاء ولا يحنون إلى ماض ولا يتوقون إلى غد ولا يحفلون بحاضر؟
العريان في القافلة مرتاح
وهذا عري في قافلة الحياة!
ولاشك أن التجارب تعلمنا كثيراً أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟
إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء لا على حسب ما يستفيده من العناء
ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون، لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها
إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة. ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال. ألانها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا. . . بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط. . . فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة (المجربة) فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختيارها ما ضاع (بالتجربة) على غير اختيار؟
ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب وقد راضتك الحوادث على اجتنابه!! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وإن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك. بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي مادامت لك طاقة بالطلوع والنزول
فقلة المبالاة لا قيمة لها أن لم تأت بعد مبالاة، لأنها تكون يومئذ مرضاً أو قصوراً لا يغبط عليه. ولابد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية. وليس شرطاً مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان(407/4)
وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر وعلى ثقة أوضح وأبصر. . . ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه
فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلاً واحداً يعالج مشكلات الحياة ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها. وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.
عباس محمود العقاد(407/5)
القرآن والمسلمون
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
إن خير حديث يتحدث به المسلمون بعضهم إلى بعض في هذا
الشهر الذي يذكرون فيه ميلاد نبيهم محمد صلى الله عليه
وسلم، هو ما يتصل بهذه المعجزة الخالدة التي أظهرها الله
على يد هذا النبي الكريم، وبها حول العالم من سبل الشر
والشقاء، إلى سبل الخير والسعادة
وإن الحديث فيما يتصل بالقرآن الكريم لكثير النواحي. متشعب الأطراف. وقد رأينا أن يكون حديثنا في ناحية من هذه النواحي هي علاقة المسلمين بالقرآن في عصورهم المختلفة، وذلك ينتظم:
(1) القرآن والمسلمون في العهد الأول
(2) القرآن والمسلمون في العصور التالية
(3) القرآن والمسلمون في العهد الأخير
وقد رأينا تمهيداً لعرض الموضوع الذي نحاوله أن نقدم بين يديه ما يجلي لنا الغاية التي من أجلها نزل القرآن، والفكرة التي يعمل لإقرارها في هذا العالم
مقدمة
أ - كان الناس قبل القرآن في عقائدهم وأعمالهم على طرفين متناقضين: إما الإفراط أو التفريط؛ وكلا الفريقين بعيد عن جادة الاعتدال. فبينما كنت ترى فريقاً عكف على المادية البحتة، وشغف بها حتى جرت منه مجرى الدم في العروق، وحرص على تنمية عواملها، وتوطيد وسائلها، وحرم نفسه تذوق اللذة الروحية، إذا بك ترى فريقاً آخر قد نزع إلى الطرف المقابل، ونسي حظه المقدر له في المادة بمقتضى خلقه وتكوينه، فتحكمت فيه تقاليد(407/6)
الروح المحضة، وأعرض عن الدنيا وما فيها، وحرم نفسه متاعها ومباهجها
هذان هما الفريقان المتقابلان يستظل أولهما بظل اليهودية أو الوثنية، ويستظل الآخر بظل المسيحية أو الصابئية أو نحو ذلك
ب - إن اقتسام هاتين الفكرتين للعالم على هذا النحو، أو طغيان إحداهما على الأخرى، من شأنه أن يحول بين الناس وبين القيام بواجبهم الذي من اجله خلقوا، وجعلهم الله خلفاءه في أرضه: ذلك الواجب هو عمارة الكون والانتفاع بما خلق الله فيه من شيء، والسمو بالعقل الإنساني على وجه يسعد به الناس في معاشهم ومعادهم؛ ذلك الواجب هو الذي تضمنته الآية الكريمة في بيان حكمة هذا الخلق
(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً. ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني أعلم ما لا تعلمون!)
ج - جاء الإسلام وهاتان الفكرتان تقتسمان العالم وتسيطران عليه. فحدد غاية الإنسان في الحياة وأرشده إلى مقوماتها الصحيحة، وأهاب به إلى الفكرتين جميعاً، وحثه على قصد الجادة والاعتدال، وطلب إليه أن يأخذ في كل ناحية بقسط ملائم حتى تتحقق له السعادة على أكمل وجوهها. . .
أوسع له في ضروب القول مستدلاً على عقم المادية البحتة بأنواع الاستدلال، وأخذ يصورها أمامه بأبشع الصور، واتجه به إلى كثير من مواطن الحياة، وحثه على استكمال حاجته منها؛ ونعى على الروحية المحضة، وجعلها من الأساليب التي تنافر الغاية من خلقه لعمارة الكون وخلافته عن رب العالمين
اقرءوا - إن شئتم - قوله تعالى في التنفير من المادية البحتة:
(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، ولدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟)
واقرءوا قوله تعالى في الحث على ترك الروحية المحضة:
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في(407/7)
الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)
واقرءوا قوله تعالى في الحث على الأخذ بالنصيبين:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض)
(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)
جاء القرآن لهذا الغرض: مهمته أن يبلغ العقل البشري رشده، وإن ينتفع الناس بالصالح من المادة والمفيد من الروح
وقد اتخذ هذا الاعتدال نهجاً له في إصلاح العقائد وتهذيب الأخلاق وترسيخ قواعد التنظيم الاجتماعي، وصرح في كثير من آياته بأنه يعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الطريق الأقوم، وينذرهم سوء العاقبة، ويبشرهم بالحياة الطيبة إذا هم تمسكوا بمبادئه وعملوا بإرشاداته، وحرصوا على تنفيذ أحكامه
واقتضت حكمة العليم الخبير أن يكون بعضه مفصلاً وبعضه مجملاً: يفصل ما لا تختلف فيه أغراض الإصلاح، ولا تتغير فيه وجوهه بتغير الأزمان والأمكنة، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ويجمل ما تختلف أحكامه بحسب ما تقتضيه أحوال الزمن وتطورات الحياة واختلاف الأمكنة، تاركا للعلماء تطبيق ذلك على الحوادث والواقعات الجزئية التي يجود بها الزمن
وذلك كله عملاً على سعادة البشر، وإطلاقاً لسراح العقل، وحثاً لأهل البصيرة على التمتع بلذات النظر والتنافس في مجال الاجتهاد
عالج القرآن بذلك العلل النفسية والأمراض الخلقية، وحل المشاكل الاجتماعية، ورسم طريق الحياة الطيبة الصالحة فكان كما وصف نفسه:
(إن هذا القرآن يهدي التي هي أقوم)
(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)(407/8)
(تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)
القرآن والمسلمون في العهد الأول:
على هذا الأساس آمن الأوائل من المسلمين بالقران، فوضعوه بالمحل الأول من مكانة التقديس والعناية، وسلموا إليه نفوسهم، وتركوه يتصرف فيها بالتزكية والتطهير والتعليم والحكم والسياسة وسائر شئونهم، العامة والخاصة، الداخلية والخارجية، حتى اتسعت أمامهم مسالك الحياة وانفسحت رقعة المملكة الإسلامية طولاً وعرضاً، فما احتاجوا وهم يقبلون القرآن بين أيديهم، ويفهمون آياته الواضحة، وإشاراته الواردة على سنن اللغة العربية القويم، إلى قانون سياسي أو مدني، ولا إلى نظريات الآداب والأخلاق، بل كانوا كلما تقدمت بهم الحياة ونظروا في القرآن، رأوا فيه حاجتهم، واستفادوا منه أكبر ما تطمح إليه النفوس الوثابة المتطلعة إلى عز الدنيا ومجد الحياة!
حصروا نظرهم إلى القرآن في الفهم والاتعاظ وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي، وأخذوا ينشرون ما يفيضه عليهم من أصول التشريع وقوانين الأخلاق والاجتماع على سائر المسلمين في جميع بقاع الأرض شرقا وغرباً، فوحد القرآن بينهم حول الغاية التي لأجلها نزل. وما كانوا ليتجهوا أو ليحاولوا أن يخرجوا بشيء من آي القرآن كلا أو بعضاً عن هذا النهج: نهج العمل، وتهذيب الخلق، وإصلاح العقيدة
ما فكروا يوماً في أن القرآن يبرئ لهم مريضاً، أو يرد عنهم غائلة عدو، أو يكشف لهم عن معضلة كونية إلا عن طريق ما أمر به من اتخاذ الأسباب، وقدح زناد العقل، والسلوك في الحياة على ما تقتضيه سنة الحياة.
بهذا سار المسلمون الأولون، وعظم سلطانهم، وتربت مهابتهم في قلوب الأمم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وبهذا حافظوا على وحدتهم فلم يتفرقوا في العقائد، ولم تشتتهم الأهواء والمذاهب، وسلم لهم دين الله وكتابه خالصين متينين لم تلعب بهما الشهوات، ولم يتطرق إليهما عوامل الأحداث والابتداع
القرآن والمسلمون في العهود التالية(407/9)
مضى ذلك العهد، وقد اتسعت بفضل القرآن وتأثيره في النفوس رقعة الإسلام، وامتد سلطانه، ودخلته حضارات وثقافات وعناصر مختلفة وأمم متباينة، فبدأت عوامل التفكك تتسرب إلى الوحدة الإسلامية
حدثت بدعة الفِرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه إلى وجهات تتفق وما يريدون وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التي تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بياناً لمجمل القرآن وتفصيلاً لآياته، ولم يروا بأساً من أن يضيفوا إليه خصائص موهومة في شفاء الأمراض وقضاء الحاجات وتفريج الكربات
ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له لكي لا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا اصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكما
كانت هذه ثورة، وثورة غير منظمة، عقدت حول القرآن غباراً كثيفاً حجب عن العقول ما فيه من نور الإرشاد والهداية. وكان من سوء الحظ أن صادفت هذه الثورة عهد التدوين، فحفظت ودونت كثير من الآراء الباطلة في بطون الكتب، وأخذت بحكم الأقدمية ومرور الزمن نوعاً من القداسة التي يخضع لها الناس، فتلقاها المسلمون في عصور الضعف الفكري والانحلال السياسي كقضايا مسلمة وعقائد موروثة لا يسوغ لهم التحلل منها ولا الاعتداء عليها ولا التشكيك فيها
قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفهم القرآن، والانتفاع بهداية القرآن، فجمد الناس على تقليد هذه الكتب، واتخذوها حكما بينهم، واعتقدوا كل ما فيها من غير تمييز بين حق وباطل ونافع وضار، واعتقدوا أنه لا يصح لمؤمن أن(407/10)
ينكر شيئاً منها، وقالوا: هذا شيء درج عليه السابقون المتقدمون، ودونوه في كتبهم، وشرحوا به كتاب الله، وتلقته الأمة بالقبول؛ وما كان لنا، ولسنا بأعلم منهم بالدين، ولا بأبعد نظراً في فهم أساليب القرآن وتخريج الأحكام، أن نحيد عما تلقيناه منهم قيد شعرة، ولا أن نخالفه في قليل ولا كثير
وبذلك اسلموا عقولهم إلى غيرهم، وجنوا على أنفسهم بحرمانها لذة التفكير، وجنوا على دينهم باعتقاد أن هذه الأوهام من الدين
وكما أفسدت عليهم هذه النزعة حياتهم الفكرية، وصورت لهم دينهم بهذه الصورة المشوهة، جنت كذلك على حياتهم العملية فتركتهم يزهدون في الدنيا، ويكبلون الناس بما يفهمونه من معنى القضاء والقدر، ويكلونهم إلى التوكل الجاف الذي لا يعتمد الأسباب: وبذلك افتقر المسلمون والناس من حولهم أغنياء، وضعفوا والناس من دونهم أقوياء، وحيل بينهم وبين الأخذ بالأسباب على حين سخر الناس السماء والأرض والجو والماء!
(البقية في العدد القادم)
محمود شلتوت(407/11)
المسألة الاجتماعية في مصر والشرق
بيني وبين الأستاذين
فكري أباظة وتوفيق الحكيم
للدكتور زكي مبارك
كنت توهمت أن طول عهدي بالصحافة السياسية والأدبية جعلني أعرف الناس بأساليب الجدال، وأقدرهم على الفهم لمذاهب الصحفيين في إقرار الحقائق وإزهاق الأباطيل
وكنت توهمت أيضاً أن الصحافة تهدي الجمهور، وإن كان الظاهر يلوح بأنها تستهديه، فقد كان مفهوماً عندي وعند أكثر الناس أن الصحافة قوة نورانية تبدد الظلمات، وتأخذ بيد المجتمع إلى درجات التقدم والارتقاء
كنت وكنت، إلى أن تلقيت عن الأستاذ فكري أباظة درساً لن أنساه، فما هو ذلك الدرس؟
كان الأستاذ توفيق الحكيم نشر مقالاً في مجلة المصور عن الإصلاح الاجتماعي، وقد صرح في ذلك المقال بأن المجتمع المصري سيظل في انحطاط مادام في مصر جماعة من الأغنياء يستأثرون بمصادر الخيرات؛ ثم قرر أنه لا نجاة لمصر إلا يوم تصبح (المسألة الاجتماعية) في قوة (المسألة السياسة): فتسبب إسقاط الوزارات، وتقدم وتؤخر في مراكز الأحزاب
وقد رأيت مقال الأستاذ توفيق الحكيم ضرباً من الحديث المعاد؛ فقد مضت أجيال والناس يتحدثون عن (اليوم الموعود): اليوم الذي توزع فيه أموال الأغنياء على الفقراء. وانتظارنا لذلك اليوم سيطول، فمن الخير أن نفكر في إسعاد الفقراء بطريقة عملية، فندرس أسباب الفقر لنقتلع جذوره من الأساس. ثم رأيت أيضاً أن الكلام عن (المسألة الاجتماعية) ليس إلا (بضاعة أجنبية) فهو منقول عن جماعة من الكتاب الأوربيين والأمريكان، وما يقال في الغرب لا يصلح دائماً لأهل الشرق
وسارعت فأرسلت مقالاً إلى المصور في تقرير هذه المعاني. وفي العدد الذي تلا ظهور المقال رأيت الأستاذ فكري أباظة يتبرأ مني، ويعلن أنه تلقى مئات الرسائل في تفنيد ما رأيت، وأنه سيتولى الرد علي في العدد المقبل؛ فكان رده تحريضاً للجمهور على الكاتب(407/12)
الذي توهم أن الأستاذ فكري أباظه رجل يحترم حرية الرأي؛ فرددت عليه بمقال أعلنت فيه أن (الفقر مرض، ولكل مرض أسباب)، فعاد فقرر أن الرسائل التي وردت في الرد علي بلغت الألف عداً. ثم وجه إلي كلمات لا يليق صدورها عن زميل كنت أراه غاية الغايات في رعاية أقدار الزملاء
واليوم، ماذا أريد أن أصنع؟؟
أريد أن أحرر الأستاذ فكري أباظة من الاستعباد للرسائل التي تعد بالمئات أو بالألوف، فقد يخاف على (المصور) من غضبات القراء، وأنا أحب أن تدوم عليه وعلى مجلة (المصور) نعمة العافية، فهو صديقي وهي صديق، وإن لقيت منه ومنها ما لقيت!!
أريد أن أختبر قدرة الأستاذ فكري أباظة على الأبحاث التي تحتاج إلى تعمق واستقصاء؛ فقد رأيته ينتقل تنقل الطير من فنن إلى أفنان، ورأيته لا يصبر على (الطعام الواحد) غير أوقات تعد بالآحاد، وهو يدرك مرد هذه الإشارة في الأدب والتاريخ
أما الأستاذ توفيق الحكيم فقد خرج بالصمت عن لا ونعم، ولكني سأعرف كيف أسوقه برفق أو بعنف إلى شرح مذهبه في الإصلاح الاجتماعي، إن كان في اعتناق ذلك المذهب من المؤمنين؛ فأنا أخشى عليه عواقب التودد إلى القراء بأساليب يغلب عليها الترفق المصنوع
وأنا لا أخاف على (الرسالة) كما خاف الأستاذ فكري أباظة على (المصور)، فالقراء لن ينصرفوا أبداً عن مجلة تواجههم بالصدق في تشريح الآراء والأهواء. ولو كنت أعرف أن مجلة المصور ستخذلني لطويت عنها رأيي، وتركتها تتودد إلى القراء، كما تشاء!
أخذ الأستاذ فكري أباظة يبدئ ويعيد في التوجع لمصاير الصناع والعمال والفلاحين، كأنه يتوهم أن التوجع شفاء من كل داء!
نحن لا نريد أن نقيم الملاطم والمناحات على ما صرنا إليه، وإنما نريد أن ندرس جميع الظواهر الاجتماعية بصدق وإخلاص، وإن غضب علينا بعض من لا يفقهون
فهل يخرج الأستاذ فكري أباظة على مذهبه المألوف في تقييد الخواطر اليومية ليلقاني على صفحات الرسالة وقد استعد لنضال شريف سيعود على المجتمع بالنفع الجزيل؟
لقد نهاني الناصحون عن هذا الموضوع الشائك، وقالوا إن في مصر تياراً من الحقد على الأغنياء، وإن من العقل أن أساير ذلك التيار، كما يصنع الأستاذ فكري أباظة والأستاذ(407/13)
توفيق الحكيم
وأقول إني أقاوم ذلك التيار لمنفعة وطني، فالوطن الغالي يناشد أبناءه جميعاً أن يعيشوا في تعاون وتساند، وهو يدعو الفقراء إلى الفرح بسعادة الأغنياء، كما يدعو الأغنياء إلى البر بالفقراء. ولن يعطف الله على الفقير إلا يوم يفرح بحلول النعمة على جاره المسعود، والفقير الذي يفرح جاره الغني هو الصورة الصحيحة للأدب الذي دعانا إليه الأنبياء
أما بعد فما هو أصل الخلاف؟ يقول الأستاذ فكري أباظة: إني حملت على الفلاحين والفقراء. لا، يا صديقي، وإنما كان رأيي أن الفقر الذي يعانيه بعض الفلاحين والعمال والصناع له أسباب، لأن الفقر في الجيب كالعلة في الجسم، ولكل نتيجة مقدمات
فما وجه الخطأ في هذا القول؟ وهل من الصحيح أن جميع الفلاحين والعمال والصناع منزهون عن الأغلاط؟
إن كان ذلك فكيف يصيبهم الفقر وهو لا يصيب غير من حرموا قوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية؟
وكيف اتفق لجميع المصلحين أن يضعوا آداباً لطلب الرزق، وهي آداب موجهة إلى الفقراء؟
وكيف يحرم علينا أن ندعو فقراءنا إلى التخلق بالأخلاق الاجتماعية والمعاشية، وهي دعوة تلقيناها عن أسلافنا الأمجاد؟
وأهجم على الأستاذ فكري أباظه فأوجه إليه هذا السؤال:
إذا صح أم جميع الفلاحين والعمال والصناع على جانب عظيم من الأخلاق الاجتماعية والمعاشية فكيف جاز أن يعيشوا فقراء ونحن نعرف أن السلامة من الآفات الأخلاقية تضمن السلامة من آفات البؤس؟
ثم أوجه إليه سؤالاً آخر فأقول:
إذا صح أن جميع الفقراء في غاية من الأمانة والصدق فكيف جاز أن يقوم بينهم وبين الأغنياء حجاز سميك لا تنفذ منه بوارق التعاون إلا في أندر الأحايين؟
ثم اوجه إليه سؤالاً ثالثاً فأقول:
إذا صح أن الناس جميعاً بخير من الوجهة الأخلاقية فلأي غرض تنشأ الجرائد والمجلات؟(407/14)
ولأية غاية تقام حدود الشرائع والقوانين؟
إن كان الأستاذ فكري أباظة راضياً عن أحوال الصناع والعمال والفلاحين ففي الدنيا أقوام يرون غير الذي يراه، ومن حق أولئك الأقوام أن يعلنوا آراءهم بلا تخوف ولا تهيب، لينقلوا المجتمع من حال إلى أحوال، وليخطوا في كتاب الإصلاح الاجتماعي صفحة جديدة يحفظها التاريخ
ثم ماذا؟ ثم يسألني الأستاذ فكري أباظة عن أهلي في الريف، وهو يؤكد أن أقدامهم الممزقة وأياديهم الخشنة وصدورهم المحروقة ووجوههم الملوحة تشهد بأنهم أشقى سكان العالم وأعنفهم عملاً وكداً وكدحاً
وأقول إن أهلي ليسوا كذلك، مع الأسف الموجع؛ فلو كنت أعرف أن لأهلي في الريف أقداماً ممزقة، ووجوهاً ملوحة، لطابت نفسي، وأيقنت أن الريف لا يزال بخير، وإنما أعرف أن أهلي وأهلك تسامعوا بأن القاهرة نشأ فيها رجال يبكون أو يتباكون لشقاء الفلاح، ويزعمون أن الفلاح الأوربي أو الأمريكي يعيش عيش السعداء، فلا يعاني صحبة الفأس والمحراث إلا وفي يده جريدة يطالع فيها أخبار الصباح أو أخبار المساء!!
ليت أهلي في الريف حفظوا عهد جدي، فقد كان جدي رحمه الله يحدث أبناءه بأن الحقل يفرح بصاحبه حين يراه، وهم اليوم لا يرون حقولهم إلا في الحين بعد الحين، وأكثرهم يخجل من أن يسحب بقرة أو يركب جملاً! وكيف يسبحون البقرات أو يركبون الجمال وهم من أبناء الجيل الجديد، الجيل الذي ينشئ في سنتريس أكثر من سبع قهوات مع أن أهلها لا يجازون عشرة آلاف، ومع أن الآباء والأجداد في سنتريس لم يكونوا يشربون غير الماء القراح
أريد أن أرى بين أهلي رجلاً ممزق القدمين من آثار الكدح الموصول لأتقرب إلى الله بالثناء عليه، ولأنشر عنه مقالاً في مجلة مصرية أو شامية أو عراقية
أنا لم أفكر في (إحداث ضجة) تقع كارثتها فوق رأسي، كما يهددني الأستاذ فكري أباظة، وإنما أفكر في مصاير قومي، وأنا بشهادة خصومي أصدق الناس في الوطنية، ولله الحمد على هذا الميراث النفيس
وأهجم على الأستاذ فكري أباظة مرة رابعة فأوجه إليه هذا السؤال:(407/15)
هل تعرف، أيها السيد، كيف حرم أبناء الريف نعمة الشاعرية؟
ولكن ما هذه الشاعرية؟
إليك أسوق الجواب:
كان جميع أبناء الريف يتعلقون بمزارعهم إلى حد الفتون، فكان الرجل منهم يراعي مزروعاته بشغف وشوق، ويكاد يعرف كيف تطول الورقة الخضراء من ساعة إلى ساعة، بل من دقيقة إلى دقيقة، بل من لمحة إلى لمحة؛ وكان الرجل منهم يعطف على مواشيه كما يعطف على أبنائه الأعزاء؛ وكان الفلاح يعرف ملامح كل شجرة، ويأنس بكل نبتة، ويكاد ينظم قصيدة رثاء حين يرى سنبلة قصمتها الرياح
فأين أهلونا في الريف من هذه المعاني بعد أن سمعوا بقصة التمدن الحديث؟
أين أهل الريف من هذه المعاني، وما نشأ منهم ناشئ إلا وهو يرجو الرحيل إلى القاهرة، ليجد وظيفة تغنيه عن الأنس بمزارع القطن والقمح والفول؟
إن أسلافنا القدماء عبدوا مصادر الخيرات في بلادهم إلى الحد الذي سمح بأن يروا معنى الألوهية في البقرة الحلوب، والى الحد الذي سمح بأن يعتقدوا أن النيل اله معبود
فأين نحن من أولئك الأسلاف؟ وأين فينا من يتشرف بأنه فلاح وابن فلاح؟
لقد توهم الأستاذ فكري أباظة أنني من (سادة الصالونات الأرستقراطية التي تعيش في دنيا الجاتو والجيلاتين والجامبون والمارون جلاسيه). فليعرف أن هذه الألفاظ تحتاج إلى شرح يقربها إلى ذهني بعض التقريب، لأن بيتي لا يعرف هذه الأصناف، ولان من يتفضلون بدعوتي إلى بعض الولائم يطوونها عني، ولأني نسيتها نسياناً تاماً بعد فراق باريس، أن كنت ذقت في باريس غير أقذاء العينين تحت ضوء السراج
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد القول بأن دنيا الناس في مصر قد أصيبت بالانحراف وإلا فكيف جاز أن تكون دعوتي إلى إصلاح أخلاق الفقراء كارثة لا تقع إلا فوق رأسي؟!
وكيف يجوز أن يكون الأستاذ فكري أباظة من خصومي، وقد اكتوت يداه بالانحراف الاجتماعي كما اكتوت يداي؟
بلادنا مهددة بالشقاء، بسبب سوء الفهم لعناصر النظام الاجتماعي، فما الذي يمنع من أن(407/16)
نتعاون على الإصلاح المنشود؟ ومتى ندرك أن تمزيق أقدام الفلاحين هو شارة من شارات التشريف، وليس باباً من أبواب الرثاء؟
من حق الأستاذ فكري أباظة أن يتوجع لمصاير الفقراء من العمال والصناع والفلاحين، أما أنا فلن أتوجع لمصاير أولئك ولا هؤلاء، لأني أومن بأن الله خلق منافع الوجود لجميع الناس ثم دعاهم إلى التسابق بقوة العزيمة والأمانة والصدق والإخلاص فربح من ربح وخسر من خسر، كما كان يعبر أستاذنا الشيخ مصطفى الطماوي
الله وحده هو الذي يعلم سريرتي في إثارة هذه المشكلة الاجتماعية، ومنه وحده استمد العون على من يعادونني ظالمين آثمين. والى اللقاء بعد أن اسمع حجج المناظر المفضال
زكي مبارك(407/17)
في العقد
لأستاذ جليل
صاحب البيت الثاني: (ولرب مأخوذ بذنب عشيره) هو غير صاحب البيت الأول: (جانيك من يجني عليك. . .) وإذا كان قد قاله كما روى صاحب (العقد) والشريشي شارح (المقامات) فقد سار مع العروض التامة. ويظهر أن أديباً استطال الصدر فاستبدل به: (ولرب مأخوذ بلا قرف) - واقترف في هذا المعنى أكثر - فخرج بذلك من (العروض التامة والضرب الأحذ المضمر) إلى (العروض الحذاء المضمرة والضرب الأحذ المضمر) ولم يذكروا هذه العروض، ولم ترد في أشعارهم، وإذا جاءت فإنما تجيء في مطالع القصائد مصرَّعة كما قال صاحب (العقد) في مقطوعة (عروضية):
عينيّ، كيف غررتما قلبي ... وأبحتماه لوعة الحب؟!
يا نظرة، أذكت على كبدي ... ناراً قضيت بحرها نحبي!
خلوا جوى قلبي أكابده ... حسبي مكابدة الجوى حسبي!
عيني جنت من شؤم نظرتها ... ما لا دواء له على قلبي!
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاح مبارك الجرب
ولا تصريع في بيتينا
وقد يقال: إن أديباً آخر فطن لذلك الخروج في (بلا قرف) فبدل به (بلا ترة) فأقبلت النغمات متوائمة وإن لم يبن البيت هنا إبانته في تينك الروايتين
وبعد فإن رواة البيت: (جانيك. . .) في كتب اللغة والأدب قد غلطوا في روايته فالبيت مرفوع لا مخفوض، ولا إقواء فيه، وقد قصد صاحب اللسان (وتبعه صاحب التاج) جبره بهذه الرواية:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاح فتجرب الجرب
فما انجبر، و (مُبارك) في البيت ليست مرفوعة وإنما هي منصوبة
وقد شاء الله أن يكون الفضل في إعلان الرواية الصحيحة المحققة لهذا البيت لمجلة (الرسالة) في هذا الزمان؛ والإفضال على الأدب العربي في كل جزء، في كل أسبوع، هو هجيراها، هو دأبها، وحسبها وحسبنا تلك (الأولى) لربها فيه(407/18)
البيت لذؤيب بن كعب في مقطوعة (ستة أبيات) قالها في يوم تياس، وهو من أيام العرب، وقد ذكره صاحب (العقد) مختصراً، وأورد ثلاثة أبيات من المقطوعة. وروى الخبر أتم والمقطوعة كاملة أبو عبيدة في تعاليق (النقائض)، وستظهر تعليقة البيت حقيقة الرواية. وقد رأيت أن انقل الخبر والأبيات والتعليقة لندور تلك الطبعة الغربية في الشرق. ومحقق (النقائض) وناشرها هو العرباني الأستاذ (ا. ا. بيفن)
قال أبو عبيدة: (كانت قبائل بني سعد بن زيد بن مناة، وقبائل بني عمرو بن تميم التقت بتياس، فقطع غيلان بن مالك ابن عمر بن تميم رجل الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة، فسمي الأعرج، فطلبوا القصاص، فأقسم غيلان ألا يعقلها ولا يقصها حتى تحشى عيناه تراباً وقال:
لا نعقل الرجل ولا نديها ... حتى ترى داهية تنسيها
فالتقوا فاقتتلوا، فجرحوا غيلان حتى ظنوا انهم قتلوه، ورئيس عمرو كعب بن عمرو، ولواؤه مع ابنه ذؤيب، فجعل غيلان يدخل البوغاء في عينيه ويقول: تحلل غيل، حتى مات. فقال ذؤيب بن كعب لأبيه كعب:
يا كعب، إن أخاك منحمق ... إن لم تكن بك مرة كعب
أتجود بالدم ذي المضنة في ال ... جليّ، وتلوي الناب والسقب
فالآن إذ أخذت مآخذها ... وتباعد الأنساب والقرْب
أنشأت تطلب خَطة غبناً ... وتركتها ومسدُّها رأب
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدى الصحاحَ مباركَ الجرب
والحرب قد تضطر جانيها ... إلى المضيق ودونها الرحب
قال أبو عبيدة: أنشدني داءود أحد بني ذؤيب: (الصحاحَ مباركُ الجرب) فرفعوا مبارك، وجروا الجرب، وذلك أقواه
قال أبو الخطاب: إن عامة أهل البدو ليس تفهم ما يريد الشاعر، ولا يحسنون تفسيره، وإنما أتى إقواء هذا من قلة فهم الذين رووه، وإنما عنى الشاعر (وقد يعدي الأجربُ الصحيحَ مبركا) فلما وجدوه مقدماً ومؤخراً لم يحسنوا تلخيصه، ووجدوا مبارك لا ينصرف، فأظلم عليهم المعنى، وإنما أراد: وقد تعدى الصحاحَ مباركَ الجربُ)(407/19)
قلت: (الصحاح مبارك) التي لم يفهمها البدو في ذلك الوقت. . . هي مثل الحسن وجهها في قصة (الصفة المشبهة) ذات الستة والثلاثين وجهاً. . .!
ومن أبيات الكتاب:
فما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشُّعري رقابا
قال الشنتمري: (نصب الرقاب بالشعرى على حد قولك الحسن وجهاً، ويجوز فيه (الشُّعرِ الرقابا) على ما أنشده بعده وهو كقولك: الحسن الوجه بالنصب على الشبه بالمفعول به. وصف فزارة بالغمم وهو كثرة شعر القفا ومقدم الرأس، لأنه عندهم مما يتشاءم به ويذم، والمحمود عندهم النزع، وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس، والشعري مؤنث الأشعر، وهو منه كالكبرى من الأكبر، وأنثه لتأنيث القبيلة، والشعر جمع أشعر، فجمع لأنه جعل كل واحد منها أشعر، فجمع على المعنى)
وأختم هذه الأسطر بالشكر للأستاذ المفضال عبد السميع صبري
* * *(407/20)
على ذكر المولد النبوي
للدكتور عبد الوهاب عزام
الذكر العظيمة في تاريخ الأمم نجوم يهتدي بها في ظلمات الأيام، وأعلام يستبين بها الطريق في ضلالات الزمان، ودعوات إلى الحق والخير تدوي على مر السنين. والزمان بالناس دائر لا يفتر، تعتورهم أحداثه، وتتداولهم غيره، فمن لم يعتصم بسبب من الحق، ويستمسك بعروة من العمل الصالح، ضل وانبهمت عليه السبل، والتبس عليه الحق والباطل، والهدى والضلال. ومن لم يجعل له قدوة من سير العظماء تردد وتحير، والزمان لا ينتظر المترددين الحيارى، أو ضل وهلك، والدهر لا يشفق على الضلال والهلكى.
وإن لنا معشر المسلمين من سيرة رسولنا خاتم النبيين نجوماً نيرات، وأعلاماً واضحات، وأسى تهدي إلى الخير والبر، والتي هي أقوم من أعمال الدين والدنيا. إن لنا من سيرة الرسول الكريم هدي في كل صغيرة وكبيرة من أعمال الفرد والجماعة.
فقط حفظ لنا التاريخ سيرته في بيته ومسجده، وفي سياسة الجماعات، وتربية الأمم، وقيادة الجيوش، وفي الإصلاح بين المتعادين، والقضاء بين المتخاصمين، وفي السفر والحضر، والشدة والرخاء، والحرب والسلم، والغضب والرضا، فما تلقانا حادثة من حوادث الزمان، أو عمل من أعمال الحياة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، إلا وجدنا في سيرة سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلوات الله عليه وسلامه مثلاً عالياً، وأسوة حسنة، ورأياً هادياً، وقضاء فصلاً، يهدينا إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. كل فرد منا يجد في سيرة محمد وهديه شفاء دائه، والتحرر من أهوائه، وإصلاح خلقه؛ وكل فرد منا يجد في سيرة نبيه الجهاد في الحياة والصبر على لأوائها، والطموح إلى معاليها، والاستكبار عن دناياها، والإباء على كل ضيم والنفور من كل مذلة
وكل أمة من أمم المسلمين تدوي فيها ليل نهار الدعوة المحمدية تدعوها إلى أن تقوم في أرض الله على عباد الله بقانون الله (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)
وكل أمة على هذه الأرض تجد في هُدى محمد ما يطب ادائها، ويقيم من عوجها. وهل أودى بالجماعات إلا عصبيات باطلة، وأهواء جامحة، وشهوات مسلطة، واستكبار على(407/21)
الحق، ونفور من العدل؟ هل كب الناس في جهنم إلا ما استعر في قلوبهم من الضغينة، وثار في رؤوسهم من الهوى؟ وهل يعرف التاريخ كمحمد رسولاً جاء بالشرع الجامع، والأخوة العامة، والعدل الشامل؟ هل يعرف التاريخ كمحمد هادياً ألف بين منازع النفس على قانون من العفة والعدل، وألف بين الإنسان والإنسان على شريعة من المودة والأخوة، وألف بين الأمة والأمة على منهاج من الحق والبر والعمل الصالح لخير الناس أجمعين؟ من رفع للناس لواء الأخوة لا يفرق بين الأبيض والأسود، ولا يميز بين المشرق والمغرب؟: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم). من دعا الناس جميعاً إلى التنافس في الخير على اختلاف أديانهم ونحلهم وأنزل عليه: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شيء قدير). (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعلمون)
أين أنتم من هذه الأخوة الجامعة يا ضلال البشر؟ أين أنتم من دعوة الخير العامة يا دعاة الشر؟ أين أنتم من هذه الرحمة يا قساة القلوب؟ أين أنتم من هذا الصلاح يا فساد الشعوب؟
المسلمون أحق باللوم وأجدر بالتعنيف. فهم أهل هذا الدين وأولى الناس بهديه، وهم هم خذلوه وهجروه، وحفظوا ظاهره وضيعوه. (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) فإن ترهم اليوم في فرقة وشقاق فبما ضيعوا أخوة الإسلام، وإن ترهم في مذلة وهوان فبما فرطوا في عزة الإسلام، وإن ترهم أتباعاً فقد علمهم الإسلام مشرعة السيادة فنبذوها، وأعطاهم أزمة القيادة فأضاعوها
أيها المسلمون، هذه ذكرى نبيكم، وميلاد تاريخكم، ومبدأ مجدكم، ومنشأ سعادتكم؛ فإن شئتم لأنفسكم السيادة والسعادة فكونوا أهلاً لهذا الشرف. كونوا بأخلاقكم وأعمالكم جديرين بأن تسموا أمة محمد. ولا تتخذوا الانتساب إلى محمد هزواً ولعباً، وتحسبوا الإسلام أسماء وأقوالاً، فإنما هو الأخلاق والأفعال والجهاد الذي لا يفتر، فمن شاء أن ينتسب إلى محمد فهذه سنته، ومن شاء مجد محمد فهذه طريقته
(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا).(407/22)
عبد الوهاب عزام(407/23)
نظرة في مناظرة
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
قال بعض أصحاب الفكر والذوق للمعاني: إن الثقافة وعي أطراف صالحة من أثمار العقول، العلمية والفنية والأدبية، بها يلتفت المثقف إلى المبادئ والأسباب والقوانين والحقائق، ويرشد قومه إلى الأصلح لحالهم، والأنفع لترقيتهم، والأخلق بالإنسانية. . .
ومناظرة الأستاذ العقاد بكلية الآداب - في أن (التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية بين الشرقيين) - هي مشاركة في بحث يمت إلى هذه الثقافة، إذ يرمي إلى إنارة الأذهان بالكشف عن الحقيقة في الخلاف بين الذاهبين إلى الأخذ عن الغرب وبين القائلين بالاقتصار على تراث الشرق، في سبيل نهضتنا؛ والحقيقة تتبين من مقابلة الشيء بضده، والموازنة بين الرأيين
ألقى علي الأستاذ الفاضل عبء الدفاع عن الرأي الذي يصعب تأييده، وهو ابن بجدته، فجاء من الحجج بما يعسر الخروج منه. وكان كلامه، مع إيجازه المطابق لمقتضى المقام، أحسن ما يستطيع مثقف أن يقول في الموضوع. وفي الأدب العربي فصول في مثل إيثار الدمامة على الجمال، ونحو ذلك من الموضوعات التي لا يجيد متناولها إلا بأوفر دراية ولباقة. لكن ذلك الكلام أذكرنا مناقضات نوردو للآراء المألوفة في الاجتماعيات والنفسيات، ورسالة روسو في حمد الجهل وتفضيله على العلم، وقد أجازه عليها مجمع ديجون وكدنا نصدقها يوم قرأناها
استخدم المناظر منطقاً وبياناً في طريقة حصيفة هدته إليها ثقافته؛ وصاحب المنطق يستطيع أن يهدي به ويضل، وصاحب البيان ساحر، والثقافة قدرة إن شاء حائزها أحالت الهدى ضلالا والضلال هدى، وهو لم يشأ، بل أراد فتق الأفكار والآراء بالمناقضة، وتعليم النظر الأدبي وذلاقة اللسان بالمثال البارع؛ وافتتح كلامه بقوله (كان من نصيبي) أن أؤيد هذا الرأي، فكأنه أراد أن ينبه في لطف على قبوله القيام بهذا التأييد كي تقوم المناظرة المفيدة؛ ولم يقل أن رأيه الشخصي هو الاكتفاء بالتراث الشرقي، وإن ساق الحجج الحاذقة في كفايته لنضج الحياة العقلية (عند الشرقيين)
قال: إن تراث الشرقيين هو (ما لهم من أشعار ومواعظ وأمثال وحكايات وآداب وقواعد(407/24)
سلوك، وروح العقائد الدينية والحكمة النفسية والفكرية، وما يصاحب ذلك من فقه شريعة ودين).
أما العلوم الطبيعية التجريبية - يعني العلوم الحديثة - والمعارف الرياضية، فإنها خارجه عن التراث الشرقي والتراث الغربي معاً، لأن (الحقيقة الطبيعية ثابتة في جميع الجهات)، يكتشفها (الإنسان باعتباره إنساناً مدركا حيث كان) و (ما كشف منها في الغرب تتمة لما سبقها منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة، فهي جزء من التراث الإنساني)؛ ولأن المعارف الرياضية (لا تتوقف على المشاهدات والمحسوسات بمقدار ما تتوقف على قوانين العقل المجرد، المعزول عن خصائص الأوطان والأزمان).
لكن تحقيق النظر في التراث الشرقي محصوراً في هذه الحدود يظهر أن لبابه من ثمر أحوال النفس الواحدة في البشر، ومن أحكام العقل البشري ونتائج تجارب الإنسان أينما كان، ومن مقتضيات حاجاته في الحياة الإنسانية: فالحب - مثلاً - في الشرق هو الحب في الغرب، وكذلك البغض أو الشجاعة أو الجبن، أو الفرح أو الحزن وسائر الوجدانيات، وكل أولئك معزول في ماهيته عن خصائص الأوطان والأزمان؛ والإنسان (باعتباره إنساناً مدركا حيث كان)، قد عرف حاجته إلى الحث على الخير والنهي عن الشر، والى إقامة النظام يتقي به آفات الفوضى؛ وهذه المعرفة ونتائجها من التراث الإنساني. ومن الحكم والمواعظ العربية ما له نظائر في تعاليم (كونفوشيوس) مثلاً، أو في أخلاقيات (فوفنارج)؛ وفي الشرائع الرومانية ما يقارب بعض الشرع الإسلامي؛ وفي الأدب اليوناني ما يماثل بعض الشعر العربي، وفي الأدب العربي ما يشبه أمثالاً وحكايات هندية أو فارسية أو غيرها؛ وذلك كله بأن الإنسانية دارجة في تطور عام واحد مطرد، على نحو ما بينه (ريكلو) و (ويلز) وإن لم تخل قبائلها وشعوبها من أنواع التفاوت في المدنية
فمهما كان على هذا التراث من مسحة وطنية ومن أثواب اللغة العربية، فهو في جوهره حلقة من سلسلة الأثمار العقلية والنفسية، وهي سلسلة لا يقف تمددها (منذ بداية عهد الإنسان بالمعرفة).
وتلك أمور إنسانية في صميمها مهما كانت من قبيل ما يمتزج بحياة الشرقيين، و (مصطبغ بصبغة الشرق ويجري على سنته)(407/25)
وليس هذا بمانع من أن يقال: (إن الحياة العقلية إذا نضجت بين الشرقيين، فهي لاحقة بالتراث الشرقي أيا كان المصدر الذي جاءت منه أو حملت عنوانه)، مثل الفلسفة اليونانية كما نقلتها الحياة الشرقية إلى الشرق العربي؛ أو يقال: إن الحقيقة الطبيعية أو الرياضية منسوبة إلى العقل الناضج الذي كشفها - كنسبة قوانين الجذب العام إلى نيوتن - وإن كانت من (التراث الإنساني)
أما العقل فإننا إذا اعتبرناه عضواً في الإنسان، كعينه وأذنه وسائر أعضائه الظاهرة والباطنة، فهو ينضج كما تنضج بالبلوغ وتستحصف إلى الأربعين، وهو يؤدي وظيفته كما تؤدي وظائفها، وذلك منذ تميز الإنسان عن الحيوان في ظلمات الماضي الأقصى، بالنسبة إلى علمنا، من اللانهاية الزمنية، وإنما تميز بقدرة عقله على التصور والقياس والحكم. وعقل الإنسان (يعمل ويفكر، ويبحث فيما يراه ويحيط به، أيا كانت المسائل التي يتناولها بتفكيره وبحثه) منذ لم يكن له أي تراث في أي مكان؛ ولولا ذلك لما سما إلى مستوى هذه المدنية. فالسلامة البدنية والصحة النفسية تكفيان وحدهما أبداً لتصحيح العقل الذي يصيب ويخطئ، كما تخطئ العين وتصيب؛ وبين الأفراد تفاوت في حصافته الفطرية كتفاوت حدتها فيهم، ولكنه عقل ناضج بهذا الاعتبار على كل حال.
كان العقل الناضج هذا النضج في الإنسان (يعمل ويفكر فيما يراه ويحيط به) يوم كان صاحبه يعيش عيشه الوحوش المفترسة، ويخشى ظواهر الطبيعة التي يجهل كل شيء من أسرارها؛ ويوم أدرك ضرورة الحد من حريته الفردية الفوضوية، ويوم وضع نظماً للعائلة فالقبيلة، إلى آخر ما هنالك. وهذه مستويات تدرج الإنسان في الرقي إليها مع تدرج عقله الناضج في نضجه التطوري بما غذاه، في كل وقت، من تجاربه وتجارب سلفه وعمل عقولهم الإنسانية
ويتضح مما تقدم بيانه أن العقل باعتباره عضواً من الإنسان له نضجان: نضج أول هو قدرته على تأدية وظيفته الفطرية، وهو عام بين الأصحاء لا يحسن تأديتها إلا به: ونضج ثان هو إدراكه محصول أعمال العقول الإنسانية في زمان معين من حياة البشر مع قدرته على المشاركة في زيادة هذا المحصول أو تحسينه؛ فللعقل البشري في كل مستوى أعلى من مستويات العرفان العام نضج أتم.(407/26)
والجدير بالنظر إنما هو النضج الذي غذته أثمار العقول الإنسانية في هذا الوقت، والذي يتيسر للمثقف أن يشارك في إنماء هذه الأثمار أو تحسينها، في آية ناحية يميل إليها، فيكون لعمله شأن يذكر له ويشكر، والأستاذ نفسه أدرى الناس بالفرق بين نضج عقله القوي قبل أن يعي كل ما استوعب من الثقافة الغربية، أو العصرية، وبين نضجه بعد ذلك؛ لكن كان عليه أن يعارض رأي مناظريه، فعارضه بطريقة حاذقة شفت عن هذا النضج الأخير، أي عن ثقافة سامية
والخلاصة أن العقل يعد ناضجاً، أو غير ناضج، لا من حيث تأديته وظيفته فحسب، بل من حيث قيمة ما وعى وما ينتج، فهي قيمة مناسبة لدرجة علمه وثقافته، والمهم إذن في النضج إنما هو مستوى (الموضوعات والمواد التي يتناولها) عمل العقل؛ ولذا ليس يمكن أن تنضج للشرقيين حياة عقلية إذا هم لم يأخذوا عن الغرب في هذا العصر. أما إن هم اقتصروا على تراث الشرق بحاله المحدودة في ثقافته عصر غابر كانوا كأنهم عائشون فيه، ولمن أراد بنضج العقل ذلك النضج الأول، أو أراد نضجاً عتيقاً، أن يقول إن (التراث الشرقي كاف لنضج الحياة العقلية، ولم يخل الشرق من العقول الناضجة قديماً وحديثاً)
فهارون الرشيد وابن خلدون كان كل منهما ناضج العقل في مستوى الثقافة العربية في زمانه ومكانه، بعدئذ مضى على خروج العرب من شبه جزيرتهم قرنان إلى ثمانية قرون بنوا دولهم فيها على ما طوعوا للدين والشريعة من نظم ومدنيات وفلسفات لأمم كاليونان والرومان والفرس وسواهم. أما جمال الدين الأفغاني فقد يكون فيما نعتوه به مواضع نظر لعلها تستدعي التحقيق العلمي المتحرر من المؤثرات الوجدانية والسياسية؛ ولولا تفاهة ما أفاد من الثقافة الفرنجية لاختلف شأنه. . .
وليس يصح إن نوازن بين عقول أمثال هؤلاء الرجال وبين عقول تلاميذنا لتفاوت الأسنان والتجارب والمشاغل، ولقلة المحصول في التلمذة فضلاً عن أننا ما نزال في سبيل التحصيل من الثقافة الحديثة؛ ولسنا نشك في أن بين تلاميذنا النجباء من لا يقل في نضج العقل، ذلك النضج الأول، عن أولئك الرجال حين كانوا في سن التلمذة
ألا أن البحار والجبال لم تحل دون التنقل والاتصال بين بني الإنسان من قديم الأزمان حتى عصر الطيران. والناس إلى الآن يفرقون بين الشرقي والغربي، وبين الأسود(407/27)
والأبيض، والأسمر والأصفر؛ ولكن ما تحت الجلود لون واحد، والأجسام جميعاً مكونة من عناصر وخلايا متماثلة، لا يتميز بها جسم عن جسم إن حلل لم يبق منه سوى أملاح ومواد قليلة، لا تختلف في واحد من هذه الأجسام. وليس يستحيل عقلاً وقياساً أن يتكامل ما بدأ في الدهارير من تطور، وإن يأتي على الإنسان حين من الدهر وطور يصل فيهما بالتجارب أيضاً والتقارب، كلما صغرت عقبة المسافات بسرعة المواصلات، إلى ثقافة واحدة شاملة، تكبح من شر الغرائز، وتهدي العقول والنفوس إلى تفاهم أتم، وسلام أدوم وأعم، في إنسانية أصفى وأسمى نحول المثل الأعلى
لكن ما لنا وللفكر هنا في مثل هذا المستقبل الخيالي الأبعد؟ وحسبنا أن نلاحظ أننا منقادون لسنن التطور، يسوقنا توافر عوامله في وجهته الطبيعية، ولا يمنعه اختلاف آرائنا في موضوع المناظرة إذ نحن في الواقع آخذون عن الغرب كما أخذ عنا؛ وقد نفعل ما فعل السلف الصالح حين صبغوا الفلسفة اليونانية في زمانهم صبغة عربية، وكما فعل اليابان في عصرنا هذا
فلا يفهن أحد من الرجعيين أو من الشباب مضللاً بشهوة جاهلة، أو بعاطفة غالبة، أن المناظر الفاضل أراد في تأييده القوي لذلك الرأي القائل أن يقتصر الشرق العربي على تراثه، ويهمل كل ما فيه ذرة حديثة أو غربية، ثم يعمل بهذا التراث وحده إلى أن يبلغ مستوى يسابق فيه الغرب في الرقي؛ لأن ذلك مستحيل عملياً وإن جاز فرضه نظرياً؛ وإذا نحن جارينا هذا الفرض الخيالي انتهى بنا التخيل إلى أن الشرق، يوم يبلغ ذلك المستوى، قد يجد أن الغرب رحل إلى السيارات يستعمرها أو ما شاكل هذا من الأعاجيب التي لا يعرفها العلم. وليس من المعقول أن يهمل الشرق كسب الإنسانية في قرون ليكد هو قروناً مثلها في تحصيله.
محمد توحيد السلحدار(407/28)
من آثام الربيع!
(إلى صلاة جريحة ترتعش في زمني بعد الغروب. . .)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
مَضَى رَبيع وتَهادَى رَبيعْ ... ولم يَزَلْ حَوْلي هُمودُ الشِّتاءْ
لاَ عِطْرَ في الفَجْرِ لِقَلِبي يَذِيع ... وَلاَ شَذىً للرُّوحِ عِنْدَ المَسَاءْ
يَمُرُّ في صَمْتِي النَّسِيمُ الوَدِيعْ ... إِعْصَارَ لَيْلٍ في مَغَانِي فَناءْ
وَمَا بِكَأسِي غَيْرُ هَذا الأَنِينْ ... وَلاَ بِجُرْحِي غَيْرُ هَذا النَّغَمْ
غَدَا زَمَاني جَذْوَةً مِنْ حَنِينْ ... وَعُمْرِيَ المَشْبُوبُ رُؤْيَا عَدَمْ!
نَزَعْتُ نَفْسِي مِنْ ضَجِيج الحَيَاهْ ... وَطِرْتُ كالنَّسْرِ لأِعْلَى الْقِمَمْ
الْغَيْبُ حَوْلي سَابحٌ في أَسَاهْ ... والصَّمْتُ مَشْبُوبُ الْهَوى مُضْطَرِمْ
وَإِذْ عَلَى سَفْحِ الَّليَالي (فَتَاهْ) ... مَذعُورَةُ الرُّوحِ كَشَجْوِ الحُلمْ
سَأَلْتُهَا: عُمْرِي طَوَاهُ الْجُنُونْ ... فَهَلْ بِكَفَّيْكِ لِجُرْحِي شفاءْ؟
قالتْ: رَبِيِعي أَزْهَقَتْهُ السِّنُونْ ... وَمَا بِكَفِّي غَيْرُ هَذا الشِّتَاءْ!!(407/29)
7 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(أكره أن أضايق القراء ببحث مطول في مجلة، ولكن رغبة
الأستاذ الكبير الزيات، وفيض الخاطر في هذا الموضوع
الخطير، حببا إلي أن أعود إليه)
إنسان غير مفهوم - أوربا المعمرة المدمرة - نكسة - خديعة
ذهبت إلى جهنم! - نغمات وترتيلات جديدة - تناقض بين
حياة الأرواح وحياة الأجسام - من الطبيب؟ - قانون طبيعي
ينتقم لنفسه
الغربي إنسان غير مفهوم! فقد كفر الأوربيون بالحياة في هذه الحرب بعد أن جنوا بها جنوناً في وقت السلم. وهم لا يذكرون السلم في هذه الحرب كما لم يذكروا الحرب في فترة السلم
لم يتخذوا من قانوني الحياة والموت حداً وسطاً يقيمون عليه حياتهم وما استخلفوا عليه من حياة الآخرين، فيعيشوا على كفتي ميزان معتدلين آخذين حظاً صالحاً يعدل السلام ويعدل الحرب
هم فجروا في فترة السلم: فتشهوا وكفروا وعبدوا الهوى واحتقروا الضعيف وشرهوا للمال وغصبوه من أفواه الآخرين بالحديد والنار، وخانوا أمانة الاستخلاف على الأرض، وتنازعوا على الطعام الكثير كما يتنازع الأطفال!
وهم فجروا في هذه الحرب، فلم يرعوا حرمات الحياة الإنسانية التي قدستها الأجيال: فصبوا العذاب على الأطفال والنساء والمستضعفين والمرضى وسكان المعاهد والمعابد المسالمين، وحرقوا الأقوات والأرزاق والمأوى. . . فحياتهم لا تحتمل ولا تستحق العمل بعد هذه الحرب إذا أصروا على أن يلجئوا لحرب أخرى بهذه الكيفية النكراء التي تدمر ما(407/30)
عمروا وعمر الناس. . .
من يصدق أن أوربا البانية العالمة المعمرة المخترعة العابدة للحياة، الساعية الجاهدة في سبيل الكشف والمال والاختراع، الباحثة المنقبة عن خبايا الأرض وركازها، الرائدة الكاشفة عن مجاهلها، المبشرة بالمثل العليا بين الأجناس المتخلفة، القاضية على تجارة الرقيق، الحاملة للتجارات والمعلومات، الواصلة بين أقطاب الأرض صلة اللاسلكي والراديو والتلفزيون، المرسلة (المبشرين) لتحرير الناس من الوثنية، الدارسة للأنواع والأجناس. . . هي هذه المخربة المدمرة الباطشة بطش النمور والأسود، القاسية على النساء والأطفال والضعفاء، المفتنة في رسائل الآلام، الهدامة للدور، المحيلة عمار المدن إلى خراب القبور؟!
الأجسام العاجية الجميلة تذوب وتصهر وتسحق عظامها وجماجمها تحت أثقال الحديد والجلاميد. . .!
الوجوه المشرقة البيضاء ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية ذهبت قرابين تأكلها النار باختيارها
مسكينة! طافت في جميع بقاع الأرض تجمع الذهب الأصفر والذهب الأسود والحديد، ثم أوقدت على الجميع في النار واحترقت معه!
جمعت في أنانية وجشع واعتزاز واعتزام. . . لا لتملأ البطون الفارغة، وتكسو الأجسام العارية، وتعين أبناء الحياة على نوائب الحياة، ولكن لتملأ أفواه المدافع وبطون المقابر. . .!
خلاصة الإنسانية العاملة المجاهدة المتاجرة المخربة العالمة. تحترق الآن على مشهد من الزنوج والإسكيمو!
الحياة تتحطم بأيدي بنائها ومقيمي صروحها العالية وجامعي مواد بنائها من لحومهم وعظامهم ودمائهم وذهبهم وحديدُهم ونور عيونهم في المعامل والمعاهد!
الغادة اللعوب الفاتنة ذات المساحيق والأصباغ والعطور والأزهار واللؤلؤ والديباج (والمونوكير) تتكشف عن العجوز الشوهاء الدرداء المريضة الرسحاء العجفاء ساكنة الكهوف والمغارات، الضاربة على الدف لشن الغارات!(407/31)
الأم العاقلة العالمة تصيبها جنة وجهالة فتأكل بناتها وبنيها!
لندن وبرلين عليهما الخراب والدمار صباً فيباد ما فيهما من مراكز نمو الحياة وعلب أسرارها (وقماقم) أجنتها وولائدها. . .!
والإنسانية الجاهلة الغافلة المقيمة بالأكواخ في القارة السوداء وأواسط التبت ترى هذه الإنسانية العالمة المدبرة الجميلة تشن الغارة على الحياة بالزلازل والبراكين والصواعق الصناعية. . . فتحمد الله على الحياة في الغابات مع الأسود والقرود التي لا تلتقم منها إلا أفراداً!
الحياة تصاب بنكسة حادة يا أطباء الحياة. . . فهل من دواء لها فيما صنعتم من العقاقير والأقرباذين؟!
كنا أوشكنا أن نعبد الدنيا ممثلة في لندن وباريس وبرلين، وننسى نهاية رحلتنا في هذه الدنيا غرباء عابري سبيل، لا تملك المكث ولا البقاء، ونخضع لقوانين الزوال والفناء، ويدور الفلك بنا دورات حتمية تشب الطفل وتشيب الصغير وتفني الكبير وتلقي بنا إلى العالم المجهول. . .
وكنا أوشكنا أن نظن تلك الأجسام الأوربية القوية الجميلة الرقيقة الرشيقة الذكية هي الإنسان المقصود بالحياة. وأما من عداها (فحيوانات بشرية) - كما تعبر الهتلرية - ومخلوقات تكميلية خادمة لها تعيش على هامشها وتسير في خدمتها، وقبح اعتقادنا في أنفسنا تبعاً لذلك حتى تركنا لها الأرض طوعاً وكرهاً وخلينا لها مكاننا من الدنيا. . .
وكنا اعتقدنا أن عناوين النظم الأوربية ثابتة لا تتزلزل، ونظمها البارعة عزيزة على أصحابها، وأن الإنسان الأوربي مقدس لدى نفسه وأممه، فلا تحطيم لدنياه ولا نسف لنظم حياته ولا تمثيل به ولا سحق ولا نثر لأشلائه. . .
وكنا أوشكنا أن نرى العالم المادي الدقيق الذي صار التنويع فيه والتشكيل والتلوين والدقة والتركيب كأنه دنيا أخرى من مخلوقات الحديد والصلب والخشب وسائر المواد الجامدة منفصلة عن روح الحياة في الإنسان فأخذنا نعيش بها عيشة آلية صخابة بدون وعي ووداعة وإحساس من الروح ويقظة للمصير المحتوم!
ولكن هذه الحرب أخلفت تلك الظنون الخاطئة، وصححت أفهامنا الفاسدة، وكشفت عن(407/32)
أبصارنا غطاء التمويه وسحر التخييل، فإذا بنا نعود وإذا بالأوربيين أنفسهم يعودون معنا إلى المعاني الأزلية الخالدة التي بزغت من قلوب أنبيائنا واستنزلوها من السماء بالإخلاص والبكاء لرب الحياة الذي وضع الإنسان فيها موضعه بين الأهوال والألغاز والأسرار. . .
وإذا المثل العليا تعود ذكراها إلى الألسنة والأقلام يرددها الساسة وسماسرة المال! ويخطبون فيها خطابة الأنبياء والمرسلين بين عباد الأوثان بالبيان الساحر والحجج الأخاذة، والإذاعة العريضة الواسعة
وإذا الترتيلات بالحق والسلام والعدالة تنبعث من جميع بقاع الأرض وتنطلق بها حناجر الناس جميعاً، وتزيد كل أمة في طنبورها نغمة
وإذا بالنظم الأوربية الظالمة الجائرة المتحجرة تذوب وتنماع تحت حرارة أنفاس الدعاة إلى السلام والحق والعدالة، وتحت نيران هذه الحرب التي انتقمت شر نقمة من طغيان السياسة والرأسمالية والدعوات الهدامة
وإذا بالروح الإنسانية الوديعة الرحيمة المؤمنة بالله وبالإنسانية تعود في جو مخضب بالدماء، مندي بالدموع، مطرز بالآلام، إلى القلوب المهجورة القاسية الكافرة، كما يعود طير شارد تائه إلى عشه المهجور، ومكان حنينه وأشواقه، فيراه خرباً منثور الأعواد، عبثت به الرياح، وعششت فيه العناكب. . . فما يزال يضم عوداً إلى عود، وورقة إلى ورقة، ويرفرف عليه بجناحيه حتى يطرد عنه أنفاس السوء وأوساخ الحشرات، ثم يعمره بالرحمة والحب والحنين. . .
لقد بنى الغربيون حياتهم على مناعة الأجسام وحدها من أمراضها، ولم يبحثوا عن وسائل مناعة الأرواح من آفاتها. فأخذوا الحياة من جانبها الضعيف وتركوا الجانب الآخر، وقوانين الطبيعة لا ترحم من يخالفها ولا تحابيه، بل تدافع عن وجودها وتهدم من يحاول هدمها
فمن يدع ثغرة في بناء الحياة من غير سدها أوشك أن يدخل منها إلى البناء ما يأتي عليه من القواعد، ويجعله خاوياً على عروشه
وكان جديراً بالإنسان الأوربي الذي يعرف حجم الميكروب الصغير وخطورة آثاره، فيحترس منه ويقيم الأرصاد والجواسيس خشية اقتحامه عليه ثغرة من ثغرات جسمه. . .(407/33)
أن يعرف أن للحياة الروحية جراثيمها الفتاكة فيجاهد لكفاحها وقتلها كما يفعل بأخواتها جراثيم الأجسام، حتى تسلم جميع قواعد بناء الحياة من أسباب الانهيار
ولكنه لم يعرف بعد الجراثيم الروحية، ولا يزال روحه يعيش في عصر التطبيب بالخرافات، كما كان يعيش في عصر الخرافات في طب الأجسام. . .
ولا يزال يسخر بأطباء الأرواح وعلاجاتهم كما كان يسخر بأطباء الأجسام حين يفاجئونه بكشف جديد لمرض قديم
فإلى أن يؤمن بما يصنع له طب الأرواح ويعمل به سيظل شقياً بتلك الأمراض التي هي اشد فتكا من الطاعون والسل والجدري وغيرها من الأمراض التي تهدم الإنسان وحده، ولا تهدم معه تاريخه ومبادئه ومبانيه وأمواله. . . فمن أعراض أمراض الروح تلك القنابل والصواعق والحرائق التي تترك المدن التي صبت فيها جداول المدنية والعلوم والتقت فيها الحضارات وثمار الجهود المشتركة خراباً ودماراً كأن لم تغن بالأمس
ولكن ينبغي له قبل ذلك أن يخرج من بين أطباء الأرواح أولئك الدجالين المشعوذين والأغبياء المحدودين الذين قد يقتلون النفوس بالعلاج الخاطئ، أو يغلقونها دون رحمة الله أو يصيبونها بعاهات، أو يعالجونها بالخرافات والشعوذة وأسباب الضلال، كما فعل بأشياعهم الذين كانوا يندسون بين أطباء الأجسام من قبل. . . حتى يستقيم علاجه على أيدي الأخصائيين الذين خلقهم الله لقيادة النفوس بالسلوك والمعاملة والبيان الواضح والفكر المضيء المنير. . .
أولئك الأوصياء لا يلزم أن تكون منهم في الأمم كثرة. بل ينبغي أن يكونوا قلة؛ حتى لا تصيبهم مصائب الزحام على الأرزاق والوظائف. . .
ويجب إلا يرتفعوا إلى المناصب بالوساطات والشفاعات و (الشهادات) بل بأنفسهم وما فيهم من خلق الوصاية الرشيدة والسياسة الحكيمة، والقدرة على إدراك الداء في كل نفس، ووصف العلاج
وينبغي أن يدقق في اختيارهم غاية التدقيق. وينبغي أن تكون وسائل العلاج هي ما صلح من مواريث القديم، وأصلح الآراء في علم النفس الحديث. . . أي ينبغي أن يكون علم النفس هو أساس التربية الروحية والدعوة إليها كما صار علم وظائف الأعضاء وعلم(407/34)
الأغذية أساس الطب الجسدي الحديث
وعلم النفس أوشك أن يكون من الدقة والصحة بحيث يستطيع أن يضع الإنسان في المخابير والمسابير ويقيس كل ما فيه بأرقام لا تخطئ!
إن قوانين الروح قد غضبت وانتقمت لنفسها شر نقمة من الإنسان الذي لم يقم لها بعد وزناً. وأنه لجهل وصفه إلا يفطن الإنسان الأوربي بعد إلى أن يحمي نفسه من غضبها ونقمتها كما يحتمي من غضب قوانين صحة الأجسام
أنه يحشى أن يمد يده في النار لئلا تحرق، أو يلقي نفسه في الماء لئلا يغرق، أو يقف في طريق قاطرة لئلا يسحق. . . ولكنه يرضى لنفسه أن يبخل فيسرق، وإن يطمع فيكره، وإن يستبد فيحارب؛ وإن يخل موازين العدل فتفسد حياته بفساد حياة الآخرين، وإن يترك الناس إخوانه جاهلين مرضى الأجسام والنفوس فيحرضوه ويشقوا حياته بشقائهم. . .
كلمة يجب أن تعلم وتكرر دائماً أمام الدولة وأمام الفرد وهي:
إن الدولة كائن عضوي واحد كالجسم الواحد ذي الروح الواحد. . . فإذا سمحت لشيء منه ولو كان ظفراً أو منبت شعرة أو خطرة نفس أن يدخله الفساد، فسيلحق الجسم كله - وأنت خلية فيه - آثار ذلك الفساد وآلامه
فأحذر أن يمرض أخوك أو خادمك حتى لا تنتقل عدواه إليك. . . واشترك في إطفاء الحريق في بيت جارك قبل أن تمتد النار إلى دارك!
عبد المنعم خلاف(407/35)
الكتب
وحي المطبعة
كتب جديدة
للأستاذ سيد قطب
دائرة المعارف الإسلامية - علم اللغة - ضحكات إبليس -
أسبوعان مع علي ماهر في السودان
لست أدري لم يغمرني شعور بالنشوة كلما أخرجت المطبعة العربية كتاباً جديداً، وبخاصة في هذه الأيام التي يرتفع فيها ثمن الورق وتكاليف الطباعة بينما تنصرف الأذهان عن الكتب وعن الدراسة إلى الأخبار اليومية والى ضجيج الحرب وويلاتها
بل أنا أدري سبب هذه النشوة وهو الشعور بأن الأمة العربية حية نامية لأنها تقرأ، والقراءة هي الدليل الذي لا يخطئ على الحيوية والتطلع إلى آفاق جديدة ومستقبل خير من الحاضر. فإذا كانت لا تزال تقرأ، أي لا تزال تحيا وتتطلع في هذا الجو الخانق الذي يشغل الذهن والقلب عن كل شيء، والذي يبث اليأس والقنوط من الإنسانية ومن المعرفة والثقافة جميعاً، فهذا دليل لا ينقض على أن في هذه الأمة ذخيرة وإن فيها أملاً
وسبب آخر وهو شعوري ببطولة المؤلفين الذين يؤلفون ويطبعون وينشرون فيضطلعون بمهمات ثلاث لا يضطلع أمثالهم في أوربا وأمريكا إلا بواحدة منها مع عظم الفرق بين البيئة والظروف التي تحيط بهؤلاء وهؤلاء
ولعل هذه البطولة تتجلى حين نعلم أن عدد الناطقين باللغة العربية في جميع أنحاء العالم يبلغون حوالي الأربعين مليوناً، نسبة المتعلمين فيهم لا تزيد على خمسة في المائة (2. 000. 000)، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تزيد على عشرين في المائة (400. 000) ونسبة القارئين في هؤلاء المثقفين لا تزيد على 25 في المائة (100. 000) مقسمين بحسب ميولهم وثقافتهم على أنواع التأليف المختلفة، فأقصى ما يطمع فيه مؤلف أن يقرأ كتابه عشرة آلاف في جميع أقطار العالم، وهو رقم نظري يهبط عند التطبيق العملي إلى النصف(407/36)
بينما عدد الناطقين باللغة الإنكليزية مثلاً يبلغ نحو مائة وثمانين مليوناً نسبة المتعلمين منهم تبلغ نحو 80 في المائة، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تنقص عن 50 في المائة، ونسبة القارئين من هؤلاء المثقفين لا تنقص عن 50 في المائة. فعدد من يطمع المؤلفون في قراءتهم للكتب لا يقل عن 36 مليوناً من القراء موزعين بطبيعة الحال على حسب مذاهب التأليف ورغبة كل فريق في نوع معين منه بحيث يخص كل مؤلف نحو مليون قد يهبط عند التطبيق العملي إلى نصف مليون
وهذه الموازنة تبين مقدار بطولة المؤلفين بلغة العرب وضآلة الجزاء الذي ينتظرونه على مجهودهم بالقياس إلى زملائهم الإنجليز أو الفرنسيين. ومع هذا فالمشهورون منهم محسودون
جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أتلقى المؤلفات الأربعة التي وردت في عنوان هذا المقال، فرددت قول القائل: (فليسعد النطق إن لم تسعد الحال!)
دائرة المعارف الإسلامية:
منذ سنوات خلت ران اليأس على كثير من نفوس الشبان المتخرجين في الجامعة وسواها، لأن أبواب العمل قد سدت في وجوههم، وارتفعت الأصوات بالشكوى، لأن المثقفين لا يجدون ما ينفقون فيه ثقافتهم ونشاطهم
وفي ظلام ذلك اليأس وضجة هذه الشكوى كان جماعة من لشبان يأوون إلى حجرة مفردة في عمارة كبيرة وضعت عليها (لافتة صغيرة) باسم (لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية)، ومن حولهم غرف كثيرة لأعمال كثيرة ليس بينها وبينهم صلة في سمت ولا اتجاه!
وفي هذه الحجرة المنعزلة لم يأذنوا لظلام اليأس الذي يغشى حياة الشبان، ولا لضجة الشكوى التي يتعزون بها في هذا الظلام، أن يطرقا بابهم، ولا أن يعكرا عليهم لذة العمل الذي اتجهوا إليه في عزيمة وصبر وسكون
عرفت في ذلك الحين بعض أعضاء اللجنة، وشاهدت خطواتهم الأولى في عملهم المرتقب؛ ثم مرت السنون وانقضت الأيام، وتعاقبت أحوال وظروف على هؤلاء الشبان وعلى مصر والعالم، ولكنهم لم يقفوا يوماً ما عن عملهم المختار؛ وإذا بي أجد لدي في هذا العام المجلد(407/37)
الرابع من مجهودهم الضخم وعددين من المجلد الخامس، وإذا مصر والعالم الغربي كله ينتفع بمجهود هذه الجماعة الصغيرة العاملة في صمت العلماء وتواضعهم، وإذا المسلمون يعرفون من (دائرة المعارف الإسلامية) أكثر مما عرفوه من الكتب الإسلامية العربية، لأن الدائرة تركز ما حوته تلك الكتب وتشير إلى مراجعه، ثم تناقشه وتدلي بالآراء المختلفة فيه، وتزيد عليه ما كتبه كثير من المستشرقين عن الشؤون الإسلامية، وتعليقات من كبار المسلمين الأحياء على كتابة المستشرقين؛ وإذا الدائرة بعد هذا كله مرجع ثمين من مراجع الإسلام وبلاد الإسلام، ودليل مرشد إلى المراجع الكثيرة في مؤلفات المسلمين وغير المسلمين
ولست أدري كم قارئاً عربياً أقبل حتى اليوم على قراءة (دائرة المعارف الإسلامية)، ولكنني أدري أن كل مثقف عربي في حاجة لأن يقرأها ليجد فيها كثيراً جداً مما لا يعثر عليه إلا متفرقاً في مؤلفات عربية ضخمة، ومما لا يعثر عليه في الكتب العربية على الإطلاق، وليس هذا بالمغنم اليسير
علم اللغة
الدكتور علي عبد الواحد وافي مؤلف هذا الكتاب شاب تخرج في (دار العلوم)، ثم درس في فرنسا حتى حصل على الليسانس والدكتوراه في الآداب من جامعة باريس، والآن هو أستاذ بكلية الآداب
وليس هذا كل ما يذكر للمؤلف، فكثيرون تخرجوا في (دار العلوم)، وكثيرون درسوا في أوربا، ولكن قليلين هم الذين انتفعوا بدراستهم وثقافتهم كما انتفع الدكتور علي عبد الواحد وكتاب (علم اللغة) مثل لهذا الانتفاع الناضج المكين
قرأت هذا الكتاب، فإذا هو الأول من نوعه في اللغة العربية، وإذا الجهد العلمي والدراسة والاطلاع على الكتب العربية والإفرنجية في موضوعه واضحة أشد الوضوح، وإذا الرغبة في الكمال متجلية فيه كل التجلي، فلم يكن هناك جهد يجب بذله في الإتقان لم يبذله المؤلف بوفرة وسخاء
والكتاب مقسم إلى ثمانية فصول بعد المقدمة والتمهيد هي: نشأة اللغة الإنسانية وتطورها، لغة الطفل ومراحلها ومبلغ تمثيلها لنشأة اللغة الإنسانية وتطورها، فصائل اللغات وخواص(407/38)
كل فصيلة منها وما بينها من صلات، صراع اللغات، تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، تطور اللغة وارتقاؤها، أصوات اللغة، حياتها وتطورها، الدلالة وتطورها
وبعض هذه الفصول نشر في (الرسالة)، ولعل الذين اطلعوا على ما نشر ثار في نفوسهم ما ثار في نفسي من الشوق لأن يقرءوا المؤلف كاملاً متسلسلاً متناسقاً. فلقد كان كثير من الأفكار عن اللغة متقطعاً مشوشاً، حتى جاء هذا البحث فنظمه ورتبه وكساه الثوب العلمي، وصور اللغة كائناً حيا حياة حقيقية واضحة الملامح، تخضع لقوانين ثابتة، لا للمصادفات والأهواء.
وفي هذا الكتاب درست خصائص اللغة التي تدل عليها عنوانات الفصول، ودرست خصائص المؤلف في آن واحد!
فالوضوح والدقة والعناية بالشواهد والأمثلة ودراسة كل ما يتعلق بالموضوع وغربلته ومناقشة الآراء المختلفة والاستقلال في الرأي بعد هذه المناقشة، واستخدام كل شوارد المعلومات المتعلقة بالفكرة. . . كل هذه الخصائص تلمحها في الكتاب وتلمحها في صاحبه على السواء.
وقد طالعت بلذة وشغف الأمثلة التي أوردها المؤلف من دراسته لتطور اللغة عند (ابنته عفاف) وأعجبت بانتباهه وصبره على ملاحظتها فتلك بعض سمات العلماء، وأخشى أن يكون تطور اللغة عند هذه الطفلة متأثراً بمصاحبتها لأبيها أكثر من مصاحبتها لأمها، وإن يكون في هذا التطور شيء من البعد عن الطريق المألوف للأطفال الذين يتأثرون بأمهاتهم أكثر من آبائهم؛ فإن طريقة المرأة في الحديث وقاموسها اللفظي ونوع معاملتها وتدريبها لطفلها غير طريقة الرجل في هذا جميعه.
وشيء وددت لو خلا منه الكتاب، فقد عني الدكتور بإثبات المصطلحات الإفرنجية مرة بالحروف اللاتينية ومرة بالحروف العربية مع ذكر ترجمتها. وتلك دقة مشكورة، ولكنها تشوش ذهن القارئ العربي الذي لا يعرف لغة أجنبية، والذي يعرف على السواء. وكان يكفي كتابة المصطلحات بالحروف اللاتينية مع إثبات ترجمتها العربية فالقارئ العربي الذي يعرف لغة أجنبية لا يحتاج لكتابة الاصطلاح الإفرنجي بحروف عربية ولا ينتفع به والذي لا يعرف لغة لا تجديه صورة الاصطلاح بالحروف العربية شيئاً وحسبه ترجمة(407/39)
وذلك مأخذ شكلي صغير. أما الكتاب كله فتحفة للمكتبة العربية جدير بأن يفتح للنقد اللغوي والأدبي مجالاً جديداً في مطالعات القراء.
ضحكات إبليس
هي قصص قصيرة كل منها ضحكة خفية أو غمزة متوارية تبدو فيها (العفرتة) التي تهيئ للعنوان العام!
وقد أصدر مؤلف هذه المجموعة الأستاذ صلاح الدين ذهني مجموعة قبلها باسم (رئيس التحرير) وقصة طويلة اسمها الدرجة الثامنة، وهذه هي محاولته الثالثة
تضم هذه المجموعة أربع عشرة قصة قصيرة؛ والقصة القصيرة أصعب وأدق من القصة الطويلة التي تتسع للترسل والعرض والتحليل، كما أن القصة أصعب على العموم من الرواية، لأنها تستغني عن الوقائع الروائية، فلابد أن تستعيض عنها بعناصر أساسية في صلبها تعوض هذا النقص، وتلذ للقارئ لذاذة العنصر الروائي الجذاب
ومؤلف هذه المجموعة قد خطا خطوات تستحق الالتفات في مجموعته الجديدة، ففيها خمس قصص على الأقل تعد ناضجة كاملة وهي نسبة كبيرة جداً في فن ناشئ في اللغة العربية لم يتعد حتى اليوم حدود المحاولات، وهذه القصص هي: مانكان، وقريتنا النموذجية، وكلاب وناس، والعفريت، والتوبة
والقصص الثلاث الأولى اجتماعية تلمس ثلاث جوانب في حياتنا الاجتماعية المصرية تصور أولاها (كاريكتيرا) صادقاً لكثيرين من المشتغلين بالمسائل السياسية، الذين لا تتعدى وسائل نجاحهم في هذه المسائل أن يكون كل منهم (مانكان) دمية لا رأي لها ولا عقيدة إلا شرح آراء الآخرين ومناصرتها والتقلب على أشكالها، وتصور الثانية (كاريكتيرا) حقيقياً لتفكيرنا في إصلاح الريف ذلك التفكير الذي يجنح للترف والرفاهية والظواهر ويغفل المشاكل الحقيقية ولا يحاول الاتصال بعقلية الريف الصميمة. وتصور الثالثة (كاريكتيرا) مؤلماً لتفاوت الحياة بين قوم وقوم في مصر، حيث يموت الناس في سبيل الكلاب المدللة المحبوبة عند الأسياد المترفين!
والقصتان الأخيرتان إنسانيتان ملونتان باللون المصري، اختار لأولاهما شخصية (وكيل المحامي) في الحي البلدي، فأبدع في تصويرهما معاً إبداعاً ذكرني بالقصص الروسي(407/40)
البسيط العميق. واختار للثانية شخصية (الزوج المقامر)، الهاجر للبيت والزوجة حين يستيقظ ضميره؛ وقد استوحى فيها قصة (مفلسة نيم) للكاتب الفرنسي (أندريه ديماس)، وبالفعل جاء أفقها أوسع من آفاق القصص الأخرى.
وفي القصص الباقية محاولات تنبئ عن تبلور وشيك، وتركز مرقوب
أسبوعان مع علي ماهر في السودان
مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) شاب اشتغل بالصحافة حيناً من الزمن فانطبع تفكيره بالطابع الصحفي. وفي كتابه يبدو هذا الطابع واضحاً: العناية بالأخبار والدراسة السريعة المختصرة المفيدة للحوادث والمظاهر، والسرد الممتع الجذاب. . .
وتبدو في هذا الكتاب (روح الدعاية)، ولكن هذا لا يؤثر في شخصية الكتاب، ولا يحجب ما فيه من لذة موضوعية وفائدة محققة، فلست أنكر أن السودان كان قبل قراءتي لهذا الكتاب شيئاً غامضاً مجرداً من التعاطف الحي بينه وبين نفسي. كان فكرة سياسية في خاطري كل ما يجمعني به هو أنه شطر وادي النيل الذي يحتم علي الإخلاص الوطني والكبرياء القومي أن أستمسك به، وأدعو للاستمساك به. . .
ولكن السودان قد استحال في نفسي بعد قراءة هذا الكتاب كائناً حياً يعاطفني وأعاطفه، وقد شعرت بحقيقة الأواصر الدموية والعاطفية والعقلية والاقتصادية والسياسية التي تربط شطري الوادي، وتعيد وقائع التاريخ الجامدة قصة حياة نابضة
وكل مصري في حاجة إلى الاطلاع على هذا الكتاب؛ وإن وزارة المعارف لتحسن صنعاً لو جعلته في متناول أيدي مدرسيها وطلابها، إذا شاءت أن يحس الجميع إحساساً حياً قوياً بحقيقة العلاقة بين مصر والسودان، وشاءت أن تمد القومية المصرية بجرعات منبهة، وإن تحيل مصر والسودان فكرة واضحة في هن الناشئة. وهذا ما يجب أن يكون.
(حلوان)
سيد قطب(407/41)
البريد الأدبي
مساجلات
1 - عرفتُ من كلمة الأستاذ (ا. ع) كيف كان وجه الخلاف بيني وبين حضرة صاحب العزة العوامري بك يوم تعقبته في جريدة (البلاغ) بمناسبة الكلمة التي نشرها في مجلة المجمع اللغوي عن (التجديف) وكنت ظننت أن تعقيبي كان يرمي إلى إقرار كلمة (التقذيف) لأن ورودها في مؤلفات الشعراني بهذا الضبط يشهد بأن المصريين لا يقولون (تجديف) إلا كما يقولون جال في مكان قال، وأهل اليمن ينطقون القاف جاف، وعلى سنتهم يسير بعض أهل الصعيد وبعض أهل الشرقية
وأختصر الطريق فأقول: يرى العوامري بك أن التجديف والتجذيف والتقذيف كلها خطأ، والصواب: الجدف والجذف والقذف.
فهل أرجو من الأستاذ (ا. ع) أن يحكم بيني وبين العوامري بك؟
إليه أقدم البرهان فأقول:
الجدف أو الجذف أو القذف لا يصور الحركة التي يثيرها المجداف أو المجذاف أو المقذاف. والعرب لا يضعفون الفعل إلا وفقاً لغريزة لغوية تجعل الفعل المضعف أصرح دلالة في تعيين المعنى المراد، ومصدر المجرد لا يؤدي الصورة التي يؤديها مصدر المضعف، فقطع الحبل غير تقطيع الحبل، والمقذاف لا يَقِذف وإنما يُقذِّف، كما تشهد عملية التقذيف
أما القول بأن كلام الشعراني لا يغني في الاستشهاد فمردود بأني لم أقصد الاستشهاد وإنما قصدت الاستئناس، والشعراني يحكي كلاماً صحيحاً لا غبار عليه، إلا في نظر المتكلفين، وحوشي العوامري بك من التكلف، فهو من أعضاء المجمع اللغوي، وهم رجال يبيحون الاستئناس بكلام العوام في مختلف اللهجات!
وسكت الأستاذ (ا. ع) عما قلت به من استيطان الألفاظ، والاستيطان هو الاستوطان، ولعنة الله على الإعلال فهو إعلال!
فهل يكون سكوته دليل القبول؟
2 - لما جمع الأستاذ السباعي بيومي فخوراً على فخورين تعقبه (ناقد جليل) بكلام يأخذ(407/42)
قوته من السماع والقياس، فما رأي الناقد الجليل إذا رجوته أن يتسامح في جمع فخور على فخورين وجمع غيور على غيورين؟ وما رأيه إذا صارحته بأن التصحيح في أمثال هاتين الكلمتين أقوى في الإبانة من التكسير؟ وهل تكون كلمة غُير في مثل قوة كلمة غيورين؟ في التكسير نفسه شواهد تؤيد القول بحرص العرب على زيادة المبنى: فأسد يجمع على أسد يجمع على أُسْد وأُسود، فهل تجري أُسد على ألسنة الناس بقدر ما تجري أسود؟
يضاف إلى هذا أن البلاغة قد توجب الخروج على القياس في بعض الأحيان، وهل كان القياس في أغلب مناحيه إلا ضرباً من الشذوذ؟ وإلا فبأي حق يكون (فَعِيل) بصورة واحدة في التذكير والتأنيث إذا كان بمعنى مفعول؟ وما الذي يمنع من الاستئناس بقول صاحب اللسان (امرأة دفينة) وقد جرى كلامه على الأصل في التفرقة بين المذكر والمؤنث؟ والقِدْر بدون تاء في كلام الشعراء، وهي قِدرة على ألسنة العوام في مصر، فأي اللفظتين أفصح؟ الأفصح هو قِدرة، لأن التاء تؤكد التأنيث، ولو كره العوامري والنشاشيبي
وخلاصة القول أني أدعو إلى التخفف من أثقال التصريف حين تطغى العلة الصرفية على المعنى اللغوي، ولو كانت مراعاة التصريف نافعة في جميع الأحايين لراعاه العوام وهم أصدق إحساساً بمدلولات الكلمات، لأن محصولهم اللغوي يتكون من ألفاظ تنبض بالحياة في كل وقت، فالعوام يقولون: إوعَ، والصرفيون يقولون: عِ. وهل تكون عِ أفصح من إوعَ إلا في نظر من يستخفون بحكم العقل؟ والعوام يقولون في أغانيهم: إوْفِ بوعدك، والصرفيون يقولون: ف بوعدك. فأي الكلمتين أفصح؟
وخادم يذكر ويؤنث، ولكن عوام مصر لا يقولون إلا خادمة في التأنيث، فمن ينكر أنهم على صواب؟ وأنا أسمي الزوجة زوجة في جميع ما أكتب، ولا أرى رجلاً يقول: (سأستشير زوجي) إلا عرفت أنها عليه من القوامين
3 - يتوهم كثير من الشبان أن لي مكتباً في دار الرسالة وأني أشارك الأستاذ الزيات في فحص ما يرد على الرسالة من أقوال الكتاب والشعراء، ومن أجل هذا يوجهون إلي العتب عما يتأخر نشره من آثارهم الجياد!
وكنت أرجو أن يصح هذا التوهم الجميل، لأشارك الزيات في توجيه الجيل الجديد، ولأنشر كلمة الأستاذ محمد كامل سليم بك، فما هي كلمة هذا الأستاذ الجليل؟(407/43)
رجاه الأديب الأريب عبد الرحمن أبو العينين أن يوصي الأستاذ الزيات برعاية ما يقدم إلى (الرسالة) من كلمات أو مقالات فرد عليه بهذا الجواب النفيس:
(لست أرى من مصلحة الأدب أن أقحمك بنفوذي في ميدانه، ولا أرى من مصلحتك أنت أن أظهرك بسلطاني بين فرسانه، وإنما أرى من مصلحة الأدب ومصلحتك معاً أن تبرز مستقلاً بأسلوبك وبيانك، وتشغل الناس بأفكارك وبرهانك، وفي ذلك مصلحة ظاهرة للأدب وكرامة واضحة للأديب)
ويخطئ أشنع من يتوهم أن التشجيع ينفع بشيء، فالقوة الذاتية تقتحم الحواجز والحصون حين تستكمل عناصر الجبروت. والأديب الموهوب سيجد مكانه وإن تخلف عن نصرته ساسة الفكر وقادة البيان
4 - لم أجب الأستاذ صلاح الدين المنجد في سؤاله عن أسلوب الأستاذ أحمد امين، وقد أجاب عني أحد الفضلاء في جريدة (صوت السودان) فليرجع إلى ذلك الجواب أن شاء.
5 - لبعض القراء مزاج غليظ، وهو إرسال خطابات مغرمة وبدون إمضاء
وأقول إني سأرفض جميع الخطابات المغرمة ولو صدرت عن (الصدرية) في بغداد، فمن طاب له أن يداعبني بهذا الأسلوب (المقبول) فليعرف أن دِعابه مردود
6 - يظهر أن مقالاتي في مجلة الرسالة تضايق فريقاً من الناس فيتصدون للرد عليها في بعض الجرائد والمجلات. فأرجو من أولئك الغاضبين أن يرسلوا إلي ما يكتبون لأجيبهم إذا اقتضى الحال
7 - تصل إلي من وقت إلى وقت بعض الكتب عن طريق الإهداء، وأنا أرجو في باله من المؤلفين أن يرسل ما يرسل بثمن محول على البريد، لأستطيع القول باني أشارك مشاركة جدية في إنهاض التأليف، ودفع ثمن الكتاب لا يمنعني من الإعلان عنه في مجلة الرسالة بالمجان حين أراه جديراً بالثناء
وبهذه المناسبة أذكر أني تلقيت مؤلفات في غاية من الجودة، منها (حكايات من الهند) وقد ترجمها الوطني الصادق عبده حسن الزيات أحد نوابغ المحاماة والاقتصاد، ومنها (مصر القديمة) للمؤرخ الكبير الدكتور سليم حسن بك، و (علم اللغة) للباحث المحقق الدكتور علي عبد الواحد وافي، و (تاريخ الدروز) الذي ترجمه الكاتب المبدع أحمد تقي الدين، و(407/44)
(الأشواق) للشاعر محمود أبو الوفا، و (الأغاريد) للشاعر محمد فهمي، و (المكتوب على الجبين) للرجل الكامل محمود تيمور، وسأتحدث عن هذه المؤلفات بعد قليل
أما دائرة المعارف الإسلامية - وقد ظهر منها المجلد الرابع - فلا تحتاج إلى تنويه، لأنها أظهر عمل قام به المتخرجون في كليات الجامعة المصرية، ولأن الأستاذ العقاد لم يترك في الثناء على مترجميها مزيداً لمستزيد
زكي مبارك
في اللغة
قرأت في العدد 405 من الرسالة الغراء قصيدة بليغة عنوانها (ميلاد نبي)، للشاعر الكبير الأستاذ محمد عبد الغني حسن. فعنت لي ملحوظتان لغويتان أود أن اعرضهما على الأستاذ وهما:
1 - قال في وصف الجاهلية:
متفرقين هناك. . . لم يتفيئوا ... لخميلة. . . أو يمسكوا ببناء
فعدى الأستاذ (يتفيئوا) باللام وهذا ما لا أعرفه
قال الجوهري: (وفيّأتِ الشجرة تفيئة، وتفيَّأت أنا فيها). وفي الأساس: (وتفيَّأتُ بالشجرة). وفي التاج: (وعداه أبو تمام بنفسه في قوله: فتفيأت ظله ممدوداً)
فهل اطلع الأستاذ على نص يتعدى فيه (تفيأ) باللام؟
2 - وقال:
ميلاد (أحمد) كان مولد أمة ... عربية وشريعة سَمْحاء
والذي أعرفه أن يقال: (سمحة) لا (سمحاء)، فإن من معاني السماحة السهولة واليسر. فيقال: (عود سمح: بين السماحة مستولا أُبن فيه) كما في الأساس
وفي التاج: (وقولهم الحنيفية السمحة: هي الملة التي ما فيها ضيق ولا شدة) هذا مبلغ اطلاعي. والله اعلم
(ا. ع)
حول الدين والفلسفة(407/45)
قرأت كلمة الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور محمد البهي بعدد الرسالة رقم 406، وفيه أراد كما يقول أن يضع أمام القارئ مادة للإجابة عما إذا كان من مصلحة الدين (أن يُفلسف بأن تشرح حقائقه بآراء الفلاسفة؟) وهذا موضوع للرأي فيه مجال كبير ليس من همي الآن الأخذ بنصيب فيه، ولكن وقفني عند قراءته ما ذهب إليه السيد الأستاذ من أن العقل الإسلامي جعل شعاره وهو يعالج ما أثارته الفلسفة الإغريقية من مسائل أنه (إذ انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال) لأن الحكمة ليست إلا مولدة الديانة وإن هذه ليست إلا متممة لتلك كما جاء في مقابسات التوحيدي، رأيت في هذا الرأي وما تقدم به حضرة الأخ الكاتب لتأييده من سند ما يستوجب هذا التعليق القصير
1 - القارئ لهذين النقلين قد يظن انهما جميعاً لأبي حيان التوحيدي نفسه، والواقع غير هذا؛ فالأول الخاص بانتظام الفلسفة اليونانية والشريعة ساقه التوحيدي في أثناء عرضه لرأي أخوان الصفاء، وطريقتهم في الفلسفة، والثاني الخاص بأن الحكمة مولدة الديانة الخ من كلام أبي سليمان السجستاني محمد بن بهرام شيخ أبي حيان، وليس من كلام التوحيدي نفسه، وكل هذا يظهر بالرجوع لصفحة 46 وصفحتي 199، 200 من المقايسات
2 - من الحق أن فلاسفة الإسلام عنوا فيما عنوا به بفلسفة الدين والتوفيق بينه وبين الفلسفة لعوامل عدة، منها أن الحكمة - كما يقول ابن رشد في فصل المقال - هي صاحية الشريعة والأخت الرضيعة، وهم في هذا مسبوقون بمحاولات اليهود والمسيحيين في هذه السبيل. ولكن لا أرى من الحق أن هذا كان شعار مفكري الإسلام جميعاً. هناك كثيرون من مفكري الإسلام لم يكونوا يرون هذا الرأي، ولم يكونوا يذهبون إلى فلسفة الدين بشرح حقائقه بالفلسفة، وأعني بهم المفكرين غير الفلاسفة من متكلمين وغير متكلمين. ولعل من أقوى الأدلة لهذا ما ساقه التوحيدي ذاته في أثناء كلامه عن إخوان الصفاء من أن شيخه أبا سليمان السجستاني صرح في كلام له كثير بعد أن قرأ جملة من رسائل إخوان الصفاء ووقف على قصدهم، ومنه التوفيق بين الدين والفلسفة، من أنهم (تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا. . . لأنه أين الآن الدين من الفلسفة؟ وأين الشيء المأخوذ من الوحي النازل من الشيء المأخوذ بالرأي الزائل)؟
بعد هذا أظن أن الأمر أوضح من أن نطيل فيه الكلام ويكفي هذه الكلمة التي لم اقصد بها(407/46)
إلا بيان الحق، ولعلي أصبت، وبالله التوفيق.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين
إلى الأستاذ عبد المنعم خلاف
سيدي الأستاذ الزيات
اسمح لي بنشر هذه الكلمات التي تخطر لي اثر قراءة مقالات الأستاذ خلاف:
إن هذا هو الطراز من الكتاب الذي كنا نتشوق إليه في العربية:
منطق قويم، وفطرة سليمة، وحرارة وحماسة وإخلاص، وإدراك للمدنية الغربية، وعدم تعصب عليها لمجرد التعصب، وفهم لمحاسنها، وإدراك لروح الإسلام والدين، وعدم تعصب له لمجرد التعصب، وفهم لمحاسنه، وإدراك للمثل العليا الأخلاقية الصحيحة، وأفكار سديدة بارعة، وبيان رائع
هل تدري يا سيدي خلاف أننا نقرأ مقالاتك المرة تلو المرة تلو المرة، ثم لا نكتفي، ونحس بدافع يدفعنا إلى الإعادة. . .
إننا نود لو نتلوها كل يوم، ولكن يعوقنا عن ذلك أنها غير مجموعة كتاب
أن كل ما تكتبه جميل ورائع وحبيب إلى نفوسنا لصيق بها
هذه كلمات صوادق. أنها ليست لك؛ إنما هي للفكرة التي تدعو إليها وتدافع عنها، أنها لنا (المقالات). . . لأنك تخدمنا بها وتفيدنا.
(دمشق)
بشير صادق(407/47)
القصص
عطر المنصور
للأستاذ رفعت فتح الله
في إحدى قباب بغداد قرأ المنصور ورقة تشكو، ثم قبضها في يده تتلوى، وقد ظل يردد كلماتها، يكاد يتمزع من الغضب، كأنه سحاب راعد: في عينيه برقه، وعلى جبينه قطره، وفوق سمرته غيمه، ولم يكد يخفف عن الورقة قبضته حتى انتفضت، كأنها منخنقة فك خناقها، فبدت آثاره على صفحاتها اثناء، وعلى كتابتها شحوباً!
ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟
واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه
ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:
ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت!(407/48)
صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!
فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين
قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!
قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: أسعيد أنت؟
قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!
قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟
فتأوه سعيد، وقال:
- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!
فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟
قال سعيد:
- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه(407/49)
أهداب الديباج، حتى استرد الليل بردته السوداء، وطوى فيها حلمي ألهني، فصحوت أمد يدي. . . قالت المرأة: مالك؟ قلت أين المال؟ قالت: المال أخذ. . . أحسست أن عقلي أخذ معه، وقمت أتفحص عن الجدار فما وجدت نقباً، وطفت أتوسم في الأثاث فما رأيت أثراً، فأي لص هجم على بيت كأنه حصن؟ وكيف تسور أو تدخل؟ تخيل لي أن عقلي قد اختنق، وأن صدري قد اشتعل، فسرت تيهان هائماً كمحترق يفر من نار شبت فيه!!. . . وهكذا رأيت قرة عيني تسيل في دموع كأنها ينبوع!. . . وأحسست بهجة قلبي تطير في خفقان، كأنها غربان!. . .
قال المنصور: لعل المال مأخوذ غير مسروق
فنظر إليه سعيد نظرة سائلة وهو يردد قوله: مأخوذ! مسروق!. . . مأخوذ! مسروق!. . .
فأطرق المنصور عنه قليلاً، ثم قال: منذ كم تزوجت امرأتك؟
قال سعيد: منذ سنة
قال المنصور: شابة أم مسنة؟
قال سعيد: شابة
قال المنصور: ألها ولد؟
قال سعيد: لا!
قال المنصور: أبرْزة إلى الرجال، أم مقصورة في الحجال؟
قال سعيد: برزة
قال المنصور: جميلة؟
قال سعيد: أن وجهها كالدينار: أخذت بريقه واستدارته
فهمس المنصور: وتركت لك رنينه وصفرته
ثم قال: يروقك جمالها إذن!
قال سعيد: أنها كالبدر يا أمير المؤمنين
قال المنصور: ذكية؟
قال سعيد: أن ذكاءها هو السماء التي تطلع بدرها
قال المنصور: تلك امرأة حبيبة(407/50)
قال سعيد: وذاك اسمها يا أمير المؤمنين
قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!
قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!
فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب
دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟
قال المنصور: ما الذي أقدمك؟
فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: ما اسمك؟
قال الرجل: حبيب!
قال المنصور: ما احب اسمك!(407/51)
ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .
قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين
فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه
قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟
فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً
فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!
قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .
قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .
قال حبيب: أنا. . .
قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.
قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه
قال المنصور: ومن أهداها إليك؟
فاعتقل لسان حبيب في فمه!
قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر
كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت(407/52)
سحابة من كسبه حتى تقاطرت في صرفه! كأن المال زائر عابر: ما سلم حتى ودع! ولكن هذه الهدية عريت عنده من معنى المال ولبست معنى القلب، فما يحسب رنين ذهبها إلا صدى الخفوق! ووثب خياله إلى رجل هنالك قد جمد قلبه جمود الذهب حتى عد خفوقه رنيناً!. . . رجل هنالك!. . . وأزعجه الخيال بوثيته، فصحا من غفوته، فإذا الخليفة يجسه بعينه وبجانبه صاحب الشرطة!
قال المنصور لصاحب الشرطة: خذ هذا الرجل، فخيره في ما خيرته، وأمهله، فعسى أن ينجده وقته، فإن أبى فصب عليه من العذاب ألف سوط!
(البقية في العدد القادم)
رفعت فتح الله(407/53)
العدد 408 - بتاريخ: 28 - 04 - 1941(/)
هل انبعث الأزهر؟
يغلب في ظني أن الأزهر انبعث فسمع فرأى ففكر! انبعث كما ينبعث الربيع في أوائل مارس، تراه الشجر سليب جديب الأرض مقرور النسيم، ولكن أسرار الحياة تكون - من وراء بصرك - قد انبثت في الثرى، وجرت في الأصول، وسرت في الجو، فلا تلبث أن تستعلن فتسعد الأرواح بجميل الزهر، وتمتع الأجسام بطيب الثمر
هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أساتذة وطلابا، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فاشرق عليها أشعة النبوة ساطعة بعدما حجبها الغمام والقتام حقبا بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس؛ وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمت باسم الدين؛ ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على اصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولي العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما اعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكتشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغي الجفاف على هذه الأفنان النواشئ فتذوي في زهرة العمر وبكرة الربيع
دفعني إلى تعجيل هذه البشرى وتسجيل هذه الظاهرة في هذا الوقت الذي شغل الأذهان بوحوش النازية الهاجمة ما قرأته للأستاذ شلتوت اليوم، وللأساتذة المدني والبهي والشرقاوي من قبل، وما سمعته من صفوة من أولئك الأساتذة الأزهريين الشباب ضمهم مجلس من مجالس الرسالة؛ فلقد كنت - علم الله - أدعو إلى إصلاح الأزهر وفي نفسي خلجات من اليأس؛ لأن أهله الذين وقفوا عقولهم عند حد النقل، وقصروا جهودهم على درس القديم: يشرحونه، أو يحشونه، أو يقررونه، أو يختصرونه، أو ينظمونه، حتى قر في نفوسهم أن القديم افضل من الجديد، والماضي خير من الحاضر؛ فالقرن الأول خير من الثاني، والثاني خير من الثالث، وهلم جرا حتى يجعلوا القرن العشرين شر القرون، وعلماءه أجهل الناس، فلا يجوز لفهم أن يبتكر، ولا لعقل أن يعترض، ولا للسان أن يقول: أن في الإمكان أبدع مما كان؛ أولئك لا يستجيبون لدعوة الإصلاح لأن الإصلاح تتغير أو ابداع؛ وقبول التغيير محال ما لم يتغير ما بالنفس، وإجازة الإبداع باطلة ما لم يتضح معنى(408/1)
البدعة. ومن أجل ذلك كان لكل مهدي (عليش)، ولكل محمد عبده (رفاعي)، ولكل مراغي (. . .)
أجل، كان يخالجني اليأس من نهوض الإصلاح قبل أن اتصل عن طريق الرسالة بهذه الطبقة الممتازة من الأساتذة الشباب وتلاميذهم الإنجاب في كليات الأزهر الثلاث. فلما عرفتهم وفهمتهم انبثق في صدري الأمل في أن الأزهر سيعود ويقود، وإن الإسلام سيحكم ويسود؛ والأمر رهن بدفن الرميم وكسح الهشيم وانفساح المجال وتحرر العقلية العامة
أعجبني من الأستاذ شلتوت وأصحابه خلوص الدين في قلوبهم، ونصوع فكرته في عقولهم، وفهمهم إياه على أنه دين هذا العصر وشريعة هذا الناس، فنحن ابصر بموقع الحكمة فيه، واجدر باستنباط الرأي منه. والدين كالشمس، لا هي تراث ولا هي اثر. وإنما الشمس للحاضر لا للماضي، وللحي لا للميت، يستفيد منها الفرد بعد الفرد، والجيل بعد الجيل؛ ثم يقتضي اختلاف النظر وتقدم العلم أن يختلف فيها العلماء، وتتعارض في نظامها الآراء؛ ولكن رأي فيثاغورس أو بطليموس، لا يجوز أن يوازن برأي نيوتن أو هرشل
هذه هي المرونة البصيرة التي توجبها سنة الحياة ولا يكون بدونها إصلاح ولا تطور. ولم يصب الأزهر بهذا الجمود إلا لأنه فقد هذه المرونة، فلم يبال فعل الزمن في الدنيا وفي الناس. لذلك لم يعلم التاريخ جامعة من جامعات الأرض بقيت في القرن العشرين على ما كانت عليه في القرون الوسطى غير الأزهر!
كان الأزهر اسبق الجامعات الباقية في الدنيا إلى الوجود. أنشئ عام 972م وأنشئت جامعة بولونيا عام 1100م وجامعة باريس سنة 1150م؛ ثم تتابعت بعدهن الجامعات في أوربا وأمريكا وكانت كلها تنحو منحى الأزهر في النظام والمنهاج والطريقة؛ إلا أنها سايرت الزمان وأطاعت التطور واستجابت لداعي الحاجة، حتى أصبحت موردا ومرادا لأسمى ما بلغه العقل الإنساني من الثقافة والمعرفة. ولبث الأزهر وحده حيث كان يمضغ كلام السلف، ويردد لغو الالسن، ويعلل ضلال الأقلام، ويصم أذنيه عن أصوات العالم وحركات الفلك، حتى أصبحت المدارس الأولية آدني منه إلى طبيعة العصر، وافهم منه لمعنى الحياة!
لسنا اليوم بسبيل البحث في علل هذا الجمود المزمن المحزن، فذلك شيء تتصل أسبابه بما(408/2)
انتاب المسلمين من ضلال العقيدة وشيوع الجهالة وفساد الحكم. وبحسبنا أن نسجل نهاية هذا الجمود بما بدا على بعض الأساتذة واكثر الطلاب من الطموح إلى السبق والنفور من التخلف والزراية على نهج المعلم وطريقة الكتاب. ومن تفاعل في نفسه القلق والاشمئزاز والسخط لسوء حال أو فساد أمر، شق عليه الاطمئنان إليه والاحتفاظ به. وتغير النفس إيذان بتغير الحال، والشعور بالنقص أول مراتب الكمال!
أحمد حسن الزيات(408/3)
القرآن والمسلمون
للأستاذ الشيخ محمود شلتوت
وكيل كلية الشريعة
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
القرآن والمسلمون في العهد الأخير
وصلت إلينا هذه الثورة التي دونت في بطون الكتب ووضعت موضع التدقيس؛ وهي من الخلط والخبط وتشويه معالم الدين على ما وصفنا
فأقعدت الناس عن النظر في القرآن، وملأت أذهان الناس بألوان من الأوهام الفاسدة عن التشريع والعقيدة، وما يحل وما يحرم؛ وصار كثير من المسلمين يعتقدون أن الحلال ما أحله فلان في كتاب كذا، وإن الحرام ما حرمه في كتاب كذا؛ وأن فلانا ذكر في معنى الآية الفلانية كذا وكذا. بل وصل الأمر ببعض أهل العلم إلى أن يقول: أن هذا الشيء ثابت في القرآن، لأن فلاناً وفلاناً حملوا عليه بعض آيات الكتاب الحكيم!
لم يستطع الجمهور أن يستخلص خطة عملية واضحة من القرآن بطريق مباشر، ولم يستطع أن يعتمد على هذه التفاسير الموروثة في استخلاص هذه الخطة التي هو في أشد الحاجة إليها
أما أنه لم يجد غرضه وحاجته في هذه التفاسير فذلك يرجع إلى ما في كثير منها من الحشو والتخليط والاعتماد على الروايات التي لا تصح
وأما أنه لم يستطع الوصول إلى هذا الغرض من القرآن مباشرة، فلأن هؤلاء القائمين على أمر القرآن من أهل العلم أوهموا الناس - لغرض ما - أن فهم القرآن ومحاولة النظر في آياته، بدون استعانة بكتب السابقين وآرائهم التي دونوها غرض بعيد لا يصل إليه إلا الأفذاذ من أهل العلم وأصحاب العقول الراجحة، وإن من يطمع في ذلك أو تحدثه به نفسه من غير أن يستكمل شروطه، فقد عرض نفسه لغضب الله!
يومئذ تصور الناس القرآن كتابا عزيز المنال، بعيداً عن الأفهام، فهابوه ويئسوا من الوصول إلى معانيه، وتقبلوا فيه وساطة هؤلاء المحتكرين، وتلقفوا من أفواههم ما جادوا به(408/4)
عليهم، واقتنعوا به من القرآن كوسيلة من الوسائل يداوون بها ضعفهم النفسي والاجتماعي
انفتح لهم بهذا باب من الانتفاع بالقران لا عن طريق النظر في آياته أو التدبر في معانيه أو معرفة هدايته وإرشاده، ولكن على أساس ما تلقفوا من هؤلاء، فصاروا لا يعرفون القرآن إلا على نحو من الأنحاء آلاتية:
1 - التعبد بتلاوته مجردة عن التدبر والاعتبار لا تعدو أن تكون حركات لفظية تضطرب بها الشفاه، وتغمغم بها الخياشيم ومن وراء ذلك قلوب عليها أقفالها
2 - التبرك به، فاتخذوا منه التمائم والاحجبة والرقي والتعاويذ!
3 - استنزال الرحمة به على موتاهم فجعلوا يستأجرون لذلك القراء المحترفين ليقرأوه في البيوت أحياناً وعلى القبور أحياناً لقاء اجر معلوم، ومال مقسوم
4 - التماسه دواء للأمراض والعلل الجسمية عن طريق تلاوته أو كتابته أو التبخير به أو محوه بالماء ثم شربه
5 - اتخاذه وسيلة لاستدرار عطف الغادين والرائحين، فتسولوا به في الطرقات وأمام المساجد وعلى أبواب البيوت في صور تنافي الكرامة ولا تتفق مع التقديس
وهكذا اخذوا ينتفعون بالقرآن، أو بعبارة أدق يستغلون القرآن على هذه الأوضاع المزرية التي لا تليق بكتاب أنزله الحكيم العليم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور
قد يجد الناظر في كتب السنة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في رقيته شيئا من القرآن كالفاتحة وغيرها، كما أنه قد يجد في كتب الفقه ما يدل على مشروعية القراءة وهبة ثوابها لأرواح الموتى
وسواء أصح هذا أم لم يصح، وسواء أكانت الرقية ونفعها لخصوصية في نفس الراقي، أم لأسرار ذاتية تحملها آيات القرآن وحروفه، فإن الذي ننكره على المسلمين اليوم ونلقي التبعة فيه على علمائهم أن ينبذوا كتاب الله وراءهم ظهرياً في كل شيء، ويتخذوا هذا القرآن مهجوراً إلا في هذه النواحي التافهة التي لا تقاس بجانب عظمة القرآن
إلا إن في ذلك لتصويراً للقران بصورة تنبو عنها الأذواق ودعاية سيئة عنه أمام العقول المفكرة لو كانوا يعلمون
استطار شرر هذه النزعة، وتفشى وباؤها، حتى تأثرت بها أذهان المفكرين من أهل العلم(408/5)
والسلطان؛ تأثر هؤلاء جميعاً إلا قليلاً منهم بهذه النزعة الشعبية الجمهورية؛ وكان منهم من مالأ العامة وسايرهم في اتجاهه خوفا منهم، وكان منهم من تسمم عقله فعلاً، وفسد تصوره لحقائق القرآن الصحيحة، واعتقد ما اعتقده العامة فيها
نزل هؤلاء وهؤلاء على حكم الشعب، فلم يقاوموا هذه النزعة فيه، بل سايروه فيها وزينوها له، وأخذوا يدافعون عنها كأنما يدافعون عن حق يتوقف عليه بناء الدين ويرتفع به شأن الإسلام والمسلمين. وإذا ما دعا داع إلى استقبال القرآن ككتاب هداية وإرشاد وتشريع، تناولوه بالألسنة والأقلام، واتهموه بالزيغ والالحاد، والتضليل والإفساد؛ والله يعلم المفسد من المصلح، والمضل من المرشد، أنه عليم بذات الصدور!
أما الحكام الذين طغت عليهم هذه النزعة وبيدهم مقاليد الأمور والتشريع للبلاد، فقد توهم بعضهم أن الكتاب بعيد عن مجاراة الحضارة والتشريع الحديث، وأنه لا يفي بحاجات العقول المفكرة والأمم المتحضرة!
نعم يوجد من بين هؤلاء من يفهم حقيقة القرآن، وأنه لا يضيق صدره عما يقتضيه التطور الحديث من تشريع وتنظيم، ولكنه يخشى سلطان هؤلاء العامة من جهة، ويؤثر أن يجاري هؤلاء العلماء من جهة أخرى، لئلا يتهموه بالمروق ومعاداة القرآن، فلذلك تراه لا يحب أن يعقد بينه وبين هذه الموضوعات الشائكة صلة، ولا يشاء أن يمد يده ليضعها في أيدي المصلحين ليطالبوا بالرجوع إلى شريعة القرآن والنزول على حكم القرآن.
وأنه لما يحز في قلوب المؤمنين الصادقين أن هذه الفكرة قد طغت على أذهان كثير من أهل الحكم والنيابة عن الأمة، حتى صاروا يعتقدون عدم كفاية التشريع القرآني لتنظيم شؤون الأمة ومعالجة أمراضها الاجتماعية!
ويبيحون لأنفسهم أن يلجأوا إلى التشريعات الأجنبية، فيستمدوا منها ما ينظمون به شئون المسلمين: في المدنيات والجنائيات والآداب العامة
وهكذا هانت على المسلمين أحكام القرآن، بل هانت على المشتغلين بها أنفسهم، ولم يقدروا قيمتها العلمية والعملية حق قدرها، فضعفت هممهم عن دراستها وموالاة النظر فيها والانتفاع بها، وصاروا يكتفون منها بالقليل، واستساغوا لكرامتهم أن يفروا من التحصيل والعكوف على العلم بكل ما يستطيعون، وأصبحوا يؤدون ما يؤدون من ذلك في الحدود(408/6)
التي تروقهم، وفي الأزمان التي يحددونها؛ ذلك بأنهم مسوقون إلى العلم بعوامل شخصية لا تمت إلى إرادة العلم والتثقف وخدمة الدين والقرآن بأدهى الأسباب
يحسن بعد هذا أن نتحدث عن موقف طائفة أخرى من القرآن - زعمت لنفسها ثقافة خاصة وأخذت تستند إليها في فهم القرآن وتفسير آياته؛ تلكم هي طائفة المثقفين الذين أخذوا بطرف من العلم الحديث وتلقنوا أو تلقفوا شيئا من النظريات العلمية والفلسفية والصحية وغيرها ثم نظروا في القرآن فوجدوا الله سبحانه وتعالى يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) فتأولوها على نحو زين لهم أن يفتحوا في القرآن فتحاً جديداً. فسروه على أساس من النظريات العلمية المستحدثة، وطبقوا آياته على ما وقعوا عليه من قواعد العلوم الكونية، وظنوا انهم بذلك يحترمون القرآن، ويرفعون من شأن الإسلام، ويدعون له أبلغ دعاية في الأوساط العلمية والثقافية
نظروا في القرآن على هذا الأساس فافسد ذلك عليهم أمر علاقتهم بالقرآن وأفضى بهم إلى صور من التفكير لا يريدها القرآن ولا تتفق مع الغرض الذي من أجله أنزله الله
فإذا مرت بهم آية فيها ذكر للمطر، أو وصف للحساب، أو حديث عن الرعد أو البرق، تهللوا واستبشروا وقالوا هذا هو القرآن يتحدث إلى العلماء الكونيين ويصف لهم أحدث النظريات العلمية عن المطر والسحاب وكيف ينشأ وكيف تسوقه الرياح.
وإذا رأوا القرآن يذكر الجبال أو يتحدث عن النبات والحيوان وما خلق الله من شيء قالوا: هذا حديث القرآن عن علوم الطبيعة وأسرار الطبيعة
وإذا رأوه يتحدث عن الشمس والقمر والكواكب والنجوم قالوا هذا حديث يثبت لعلماء الهيئة والفلكيين أن القرآن كتاب علمي دقيق!
ومن عجيب ما رأينا من هذا النوع أن يفسر بعض الناظرين في القرآن قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين، يغشى الناس هذا عذاب أليم)، بما ظهر في هذا العصر من الغازات السامة والغازات الخانقة التي أنتجها العقل البشري فيما أنتج من وسائل التخريب والتدمير في هذا الزمان!
يفسرون الآية بهذا ويغفلون عن قوله تعالى بعدها: (ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون، أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين، ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون)، مما يدل على(408/7)
أن هذه الظاهرة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أصيب بها الذين عارضوه وكذبوه وقالوا معلم مجنون
روى أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود قال له: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه: يفسر قوله الله سبحانه: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) بأن الناس يوم القيامة يأتيهم دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام. فقال أبن مسعود: (من علم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم)! إنما كان هذا لأن قريشاً استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام؛ فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد!
وأغرب من هذا وأعجب أن يفسر بعض هؤلاء المفسرين الحديثين شأناً غيبياً من شئون الله الخاصة لم ينزل بتفصيله وحي، ولم يطلع الله على حقيقته أحدا من خلقه، ببعض الظواهر الحاضرة التي اكتشفها العلم واهتدى إليها بنو الإنسان:
يفسر الكتاب المبين والإمام المبين الذي تحصى فيه الحسنات والسيئات وتعرض على أصحابها يوم القيامة، بالتسجيل الهوائي للأصوات، ويقول: أظهر العلم ذلك بالمخترعات البشرية واستخدمه الإنسان فيما يختص بالاصوات، ولا تبعد أن يستخدمه فيما يختص بحفظ الحركات والسكنات والخواطر النفسية، والله القادر خلق الكون على هذه السنن لغاية أسمى من ذلك هي محاسبة الناس يوم القيامة، وعرض أعمالهم عليهم كشريط مسجل يضم جميع حركات الناس وسكناتهم وخواطرهم وأقوالهم، وما قدموا من عمل
يقولون هذا ويفسرون به قوله تعالى: (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى). وقوله تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشوراً). ويهجمون على الغيب بما لم يأذن به الله، ويجدون من العلماء من يؤيدهم ويشجعهم ويزكيهم ويتمنى أن يكثر الله من أمثالهم!
إن هؤلاء في عصرنا الحديث لمن بقايا قوم سالفين فكروا مثل هذا التفكير، ولكن على حسب ما كانت توحي به إليهم أحوال زمانهم، فحاولوا أن يخضعوا القرآن لما كان عندهم من نظريات علمية أو فلسفية أو سياسية
ولسنا نستبعد إذا راجت عند الناس في يوم ما نظرية داروين مثلا أن يأتي إلينا مفسر من(408/8)
هؤلاء المفسرين الحديثين فيقول: أن نظرية داروين قد قال بها القرآن منذ مئات السنين!
هذه النظرة إلى القرآن خاطئة من غير شك، لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم ودقائق الفنون وأنواع المعارف
وهي خاطئة من غير شك لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز، ولا يسيغه الذوق السليم
وهي خاطئة لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان. والعلوم لا تعرف الثبات ولا القرار ولا الرأي الأخير، فقد يصح اليوم في نظر العلم ما يصبح غداً خرافة من الخرافات
فلو طبقنا القرآن على هذه المسائل العلمية المتقلبة لعرضناه للتقلب معها، وتحمل تبعات الخطأ فيها، ولأوقفنا أنفسنا بذلك موقفاً حرجاً في الدفاع عنه وإقناع الناس به
فلندع للقرآن عظمته وجلالته، ولنحفظ عليه قدسيته ومهابته، ولتعلم أن ما تضمنه من الإشارة إلى أسرار الخلق وظواهر الطبيعة إنما هو لقصد الحث على التأمل والبحث والنظر ليزداد الناس أيماناً مع أيمانهم
وحسبنا أن القرآن لم يصدام ولن يصادم حقيقة من حقائق العلوم تطمئن إليها العقول. قيل: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حالة واحدة؟ فنزل قوله تعالى: (يسألنك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى، وآتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون)
وانك لتجد هذا في سؤالهم عن الروح حيث يقول عز وجل:
(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)
أليس في هذا دلالة واضحة على أن القرآن ليس كتاباً يريد الله به شرح حقائق الكون؛ وإنما هو كتاب هداية وإصلاح وتشريع؟؟
قد عرفنا مهمة القرآن التي لأجلها نزل، وعرفنا موقف المسلمين الأولين من هذه المهمة، وما كان لهم بفضل موقفهم هذا من عز وجاه وسلطان
ثم عرفنا موقف المسلمين في العصور التالية، وكيف عقدوا على الناس طرق الانتفاع(408/9)
بالقرآن والاهتداء بهديه
وعرفنا كيف تلقى المسلمون في عهودهم الأخيرة كتاب لله في وسط هذا المزدحم فاشتبهت عليهم معالمه واختلطت بغيرها، فانصرفوا عن القرآن وهدايته وتدبر آياته إلى أشياء لا تنفعهم في دينهم ولا دنياهم، أو خرجوا به عن مهمته الكبرى، وحملوه مالا يحتمل مما يروج عندهم أحياناً وتزيفه العقول أحيانا
وعرفنا كيف تقلص عن المسلمين خير القرآن، وحرموا الانتفاع به في الهداية والإرشاد والتشريع وقد آن لنا أن نتساءل هل للمسلمين أن يفكروا فيما يعود بهم إلى سالف غيرهم ورفيع مجدهم عن طريق القرآن وتشريع القرآن؟
هذا سؤال لابد أن يدور في خلد كل مؤمن يعتقد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين
هذا سؤال لابد أن يتوجه إلى كل من يهمه أمر الإسلام والمسلمين ويكون صادقاً في غيرته على الإسلام والمسلمين
هذا سؤال لابد أن نوجهه إلى طائفتين من الأمة، عن آرائهم تصدر وفي خطتهم تسير: هما طائفة العلماء وطائفة الحكام
بل هذا سؤال لابد أن نوجهه إلى كل فرد في هذه الأمة من عالم ومتعلم، من حاكم ومحكوم، من شيخ وشاب
فعلى كل من هؤلاء قسط من المسؤولية لا مناص له من تحمله: على العلماء البيان والنصح والإرشاد وتيسير سبل الدين وهداية القرآن للناس؛ وعلى الحكام الرجوع إلى هذا المصدر الإلهي في التشريع والتنظيم؛ وعلى الأمة أن تشعر ولاة أمورها بتلك الرغبة، وإن تنادي بتنفيذها، وتؤازر من آزرها وتحارب من حاربها.
أيها العلماء: اسمعوا ما يقول الله في كتابه العزيز:
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم؛ وأنا التواب الرحيم)
أيها الحكام: اسمعوا ما يخاطبكم الله به في شخص الحاكم الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم:(408/10)
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. وإن كثيرا من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟)
أيها المسلمون: اسمعوا ما يناشدكم به الله في كتابه:
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون. أعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها. قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون)
محمود شلتوت(408/11)
الفرد هو الحجر الأول
في بناء المجتمع
(ما رأي الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد في موضوع هذا
الحديث؟)
للدكتور زكي مبارك
منذ ليال وقفت في جمعية الشبان المسيحية ألقي محاضرة في تشريح آراء الدكتور طه حسين، وألقى السامعون طوائف من الأسئلة فأجبت عنها بحذر واحتراس، لأن أغلبها انصب على نقطة دقيقة متصلة بالرأي الذي أعلنته في معالجة أمراض الفقراء من صناع وعمال وفلاحين، ولكن الاحتياط الذي التزمته في الإجابة عن تلك الأسئلة لم يمنع من أن يصرخ جماعة من الحاضرين: يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!
ولم يؤذني هذا الصراخ؛ لأنه صدق في صدق، فأنا عدو الفلاح الكسلان، وسأمضي في معاداته إلى أن ينظر في نفسه فيعرف نعمة الله عليه، ويدرك أن من الخطر أن يسمع أقوال المرائين الذين يتقربون إليه بأساليب دميمة ستشقيه وترديه، لأنها تصوب إلى هدف واحد: هو إقناعه بأنه يعيش عيش الأشقياء، مع أنه في حقيقة الأمر أسعد السعداء. وكيف يحرم السعادة وهو أول منتفع بثمرات الأرض، وأخر من يحمل هموم الكساد عند اختلال الأسواق؟
الفلاح سعيد، سعيد، سعيد، على شرط أن يسد أذنيه عن أقوال من يرون في التوجع لشقائه المزعوم وسيلة للظهور بمظهر الغيرة الوطنية، والوطن برئ ممن يزعزعون ثقة الفقراء بالأغنياء. الوطن برئ من جميع الذين يحاولون زعزعة يقين الفلاح بأن لجماله الحق صورة واحدة: هي تلويح وجهه وتشقق قدميه بسبب الجهاد في استخراج ثمرات الأرض: الأرض الجميلة التي لا ترضي من عشاقها بغير الكفاح الدائم والكدح الموصول؛ ولن يكون الفلاح سيد هذه الأرض إلا يوم يتخلق بما تخلق به أجداده الشرفاء. وقد كان أجدادنا يبغضون التأنق ويتفاخرون بالتقشف ويتبارون في الاخشيشان، ليصح انتسابهم إلى الأرض التي لا يسود فيها غير من يملكون القدرة على التصرف بالفؤوس والمحاريث(408/12)
وأرجع إلى موضوع البحث فأقول:
لما شاهد الأستاذ سلامة موسى جماعة يصرخون في وجهي هاتفين: (يسقط عدو الفلاح! يسقط عدو الفلاح!) حدثته النفس بأن وقت الانتصار على خصمه القديم قد حان، فانتضى قلمه ومضى يجرحني في مجلة اللطائف المصورة بعبارات لا تصدر إلا عن كاتب فقد القدرة على ضبط النفس، وأنا لن أجزيه عن تلك العبارات بما يباريها في القسوة والعنف، فما أحب أن يتحول الجدل إلى ملاحاة تصرف القراء عن فهم دقائق الموضوع الذي ثار من أجله الخلاف
وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع؛ وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصوادق إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من أفراد. ولا يمكن القول بسلامة بناء من الأبنية إلا عند التأكد من سلامة المواد التي كونت ذلك البناء
ويجب حتماً أن يكون لكل فرد (شخصية خلقية) لتكون له (كرامة ذاتية)
ولكن ما هو الخلق الذي يتحلى به الفرد، لتكون له شخصية خلقية؟
تنقسم الأخلاق إلى قسمين: أخلاق سلبية وأخلاق إيجابية؛ فالأخلاق السلبية يصورها ترك المحظورات، وهي الأخلاق التي تخطر في بال الناس عندما يسمعون كلمة أخلاق
أما الأخلاق الإيجابية فهي التي تفرض على أصحابها مشاق ومتاعب في تحصيل المزايا النفسية؛ المزايا التي تنقل الرجل من حال إلى أحوال، فيحلق بعد الإسفاف، وينبه بعد الخمول، ويخلق لنفسه مكاناً بين المياسير والأغنياء
ولا تكون للرجل شخصية خلقية إلا حين يتحلى بالأخلاق الإيجابية، أما الاكتفاء بحلية الأخلاق السلبية فقليل الغناء، لأن ترك المحظورات لا يشهد بقوة الخلق إلا حين يكون الرجل على جانب من القدرة على اقتراف السيئات، وهو لا يكون كذلك إلا يوم يملك من أسباب الغنى والعافية ما يجعل انصرافه عن المهلكات شاهداً على أنه يجاهد في سبيل التصون جهاد الأبرار
وحين يتضح هذا المعنى في نفس كل فرد، أو في أنفس أكثر الأفراد، يمكن الاطمئنان إلى أن بناء المجتمع يتكون من أحجار صحاح؛ فالبناء المتين لا يعيبه أن يكون فيه حجر منخوب في أحد الجوانب، وإنما يعيبه أن تكثر الأحجار المناخيب فيخشى عليه التصدع(408/13)
والسقوط
فما الفرد وما المجتمع في بناء الأمة؟
المجتمع هو صورة البناء؛ والأفراد هم الأحجار التي يتكون منها البناء
فمن حدثكم أن العناية بالفرد علامة الأنانية فاعرفوا أنه رجل سطحي التفكير، لا يصل ذهنه إلى لباب الحقائق، ولا يهتدي عقله إلى دقائق الشئون
يرى الأستاذ سلامة موسى أن من الخطر أن يقول الفرد: (أنا وحدي) وأقول أن من عظمة الأمة أن يكون لأفرادها من القوة ما يسمح لأحدهم بأن يقول (أنا وحدي). . . وما ضعفت بعض أمم الشرق فيما غبر وفيما حضر إلا بسبب عجز أفرادها عن الشعور بتلك الوحدانية، فكان أكثرهم شبيهاً بالنباتات الضعيفة التي لا تفارق ذلة اللصوص بالأرض إلا حين تعتمد على جذع منصوب
واعتماد الفرد على المجتمع في أكثر الشؤون من علائم الانحطاط، وأعظم كلمة قبلت في وصف الشخصية الخلقية هي كلمة الشاعر الذي يقول:
يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك
والمنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة جميع المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، و (إصلاح جميع الأحوال)
المنحطون هم الذين يفاضلون بين المرشحين للمجالس النيابية على أساس البراعة في التزيين والتهويل، فأقدر الرجال وأصلحهم للنيابة هو من يزعم أنه سيفرض على الحكومة أن تحول الدائرة التي ينوب عنها إلى فردوس لا يقتات ساكنوه بغير أقراص الشهد وأكواب الرحيق!
وما كان ذلك إلا بسبب الضعف في شخصية الفرد، ومن الأفراد الضعاف يتكون المجتمع الضعيف
ومن أجل هذا ادعوا إلى أن يكن لكل فرد وجود خاص، بحيث يشعر بالمسؤولية الخلقية في جميع ما يباشر من الشؤون: فالفلاح في المزرعة يشعر بسعادة عظيمة لوقوفه تحت الشمس حافي القدمين طاعة للواجب، والعامل في المطبعة يجد من الأنس في صف الحروف ما لا يجده اللاعب الظافر بالصيال فوق رقعة الشطرنج؛ لأن لصف الحروف(408/14)
وترتيبها جاذبية يخلقها شعور العامل المخلص بأنه لا يؤلف بين حرف وحرف، وإنما يؤلف بين معنى ومعنى ويصل روحاً بروح. والمدرس الموفق يشعر بأنه مسئول أمام الله عن كل تلميذ، فتزيده تلك المسئولية قوة إلى قوة، وتسكب في ضميره رحيق الاطمئنان. والكاتب الصادق في كل ما يكتب يتلقى أحسن الجزاء من الشعور بأنه يصدر عن عقيدة منزهة عن الرياء
تلك قطوف من ثمرات الشخصية الخلقية، ومنها ندرك أن ليس في الدنيا سيد ومسود، ومستأجر وأجير، فكل امرئ في الدنيا يعمل لنفسه قبل أن يعمل لمن وثقوا بكفايته لما يسند إليه من أعمال
الشخصية الخلقية هي مصدر السعادة في حياة الفرد ومظهر السلامة في بناء المجتمع
ولا تكمل الشخصية الخلقية إلا لمن يملك القدرة على أن يقول (أنا)، ولا تصدر (أنا) صادقة إلا عن رجل له وجود خاص، وأنا أتمنى أن يكون لكل فرد في مصر (أنا) لأستطيع الاطمئنان إلى أن المصريين ليسوا أصفاراً تضاف إلى اصفار، وإنما هم أرقام تضاف إلى أرقام، والصفر في ذاته عدم يلبس ثوب الموجود، ولكنه يصبح وجودا ذاتيا حين يقف على يمين الرقم الصحيح
والـ (أنا) لا يراد بها التكبر والاستعلاء، وإنما يراد بها الشعور بقوة الذاتية؛ فالرجل الذي يطيع القانون (أدباً) رجل من أهل الأخلاق. أما الذي يطيع القانون (خوفاً) فهو من أهل الانحطاط. والذي يباشر الأعمال البسيطة طلباً للرزق رجل شريف، لأن طلب الرزق عن نية صادقة مطلب من أعظم المطالب، ولا يعاب على طالب الرزق إلا أن يقترف في سبيله ما يعاب
زعم عدو نفسه - وهو الأستاذ سلامة موسى - أني حكمت على خمسة عشر مليوناً من المصريين بضعف الأخلاق، لأني قلت أن الفقر يشهد على صاحبه بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، فليعرف عدو نفسه وعدو الحق أن الفقير في نظري هو الشخص الذي يقاسي الحرمان بسبب الكسل وقلة الأمانة والرضا بالدون من مطالب الوجود، وليس في مصر من هذا الطراز غير مئات أو ألوف، وهم أهل للشقاء الذي يعانون
الصانع الذي يرجع إلى بيته في كل مساء وفي جيبه خمسة قروش ليس فقيراً(408/15)
والفلاح الذي يدبر قوت أهله في كل يوم بعرق الجبين ليس فقيراً
والكناس الذي كحل عينيه بالغبار ليظفر بالقوت الجلال ليس فقيراً
وإنما الفقراء هم أولئك الكسالى المقاطيع الذين يطلبون ما لم يكونوا له بأهل، كأن ينتظروا الوظائف الحكومية وهم جهلاء؛ وكأن يخجلوا من ازدراع الأرض وترابها أشرف من نفوسهم التي ترى حمل الفأس أصعب من التعرض للسؤال؛ وكأن يتوهموا أن سلامة موسى، وفكري أباظة، وتوفيق الحكيم سيخلقون المستحيل فيوزعون أموال الأغنياء على الفقراء، وذلك وهم أعرض من البادية التي تفصل بين دمشق وبغداد
إن عدو نفسه وعدو الحق - وهو الأستاذ سلامة موسى - يقارن بين الوزير والكناس في المرتب، ويقترح إلا يزيد مرتب الوزير على مرتب الكناس بأكثر من خمسة أمثال
وذلك كلام لا يصدر إلا عمن سخروا أنفسهم لخدمة الرياء الاجتماعي
وهل اختلفت الأصابع في القصر والطول إلا لحكمة عالية هو تضامها بصورة متساوية عند تناول الأشياء؟
وكذلك اختلف الحظ بين الوزير والكناس لحكمة عالية، وما كان هذا الاختلاف أثراً من آثار انعدام العدالة الاجتماعية إلا في نظر من يسخر نفسه لخدمة الرياء الاجتماعي
ألم أقل لكم: أن الدنيا فسدت بحيث أصبح الرياء سيد الأخلاق؟
وإلا فعلى أي سناد اعتمد الأستاذ سلامة موسى حين جرؤ على القول بأن الدكتور زكي مبارك يعيش في ظلال عقائد بالية، لأنه يقول بأن انحطاط المجتمع فرع من انحطاط الفرد؟
لقد اعتمد على مراءاة المجتمع، وهو مجتمع يخدع فينخدع، وهو أيضاً مجتمع جبان، فقد عسر عليه أن يدفع قاله السوء عن الأغنياء، مع أن أغنياء مصر أقاموا أصدق الشواهد على أنهم عماد الوطن الغالي، فهم الذين ثبتوا قواعد الأزهر الشريف بما وقفوا عليه من الأملاك الثوابت، وهم الذين أنشأوا الجامعة المصرية، وهم الذين أقاموا الجمعية الخيرية الإسلامية، وهم الذين أسسوا المستشفى القبطي والمستشفى الإسرائيلي، وهم الذين أقاموا لعبادة الله وخدمة العلم مساجد ومدارس تعد بالألوف
فهل من العيب أن أقول بأن المغنى يشهد لأهله بقوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية؟(408/16)
وكيف وأغنياء مصر كانوا أسبق الناس إلى داعي الوطن والدين؟
وما الموجب لأن نضطهد أغنياءنا بغير حق، وكان يجب أن نفرح بنعمة الله عليهم، وإن نسأله حمايتهم من التعرض للآفات التي تقضي على النعم بالزوال؟
ما رأيت رجلاً غنياً إلا فرحت وطلبت له المزيد، ولا رأيت رجلاً فقيراً إلا حزنت وسألت الله أن يجعل له من بعد عسر يسراً
فما ذنبي إذا كان الله فطرني على هذه السجية؟
ما ذنبي وأنا ادعوا قومي إلى التعاون الصادق بين الفقراء والأغنياء، ليظل الوطن في أمان من النزعات المجلوبة على أيدي جماعات من الأجانب لا يسرهم إلا أن يرونا جميعاً في تأخر وتقاتل وانصداع؟
وأرجع إلى جوهر الموضوع فأقول:
حين يصبح لكل فرد شخصية خلقية تضمن منفعتين صحيحتين: الأولى شعور الفرد بقوة الذاتية فتصبح كلمة (الرعاع) بلا مدلول، وينعدم التعادي بين الأفراد، التعادي المسبب عن انعدام الإيمان بتنويع المزايا والمواهب؛ ولو آمن الناس بأنهم خلقوا مختلفين في الوجوه والغرائز والطباع لغرض صحيح هو تجميل صورة الوجود لأقلعوا عن مساوئ كثيرة مردها الثورة الآثمة على اختلاف المصاير والحظوظ، فلا يوجد منهم من يوازن بين الوزير والكناس، كأن الكناسة عمل حقير، وكأن مزاوليها حقراء، مع انهم يؤدون خدمة نافعة لا يغض من شأنها إلا غافل أو جهول
أما المنفعة الثانية من منافع الشخصية الخلقية فهي الإقبال على أعداد النفس لجلائل الأعمال، بدون اعتماد على الحكومة أو المجتمع
وأخاطر بالمشي فوق الشوك فأقول:
صح عندي أن أضعف الناس إرادة وعزيمة هم المحميون بالحكومة أو المجتمع؛ فالأقليات في جميع البلاد يفزعون إلى أنفسهم فيعيشون أقوياء وسعداء، لأن شعورهم بالعزلة يوحي إليهم فكرة التسلح ضد الفقر والضعف، وما اعتمد إنسان على غيره إلا باء بالخذلان
عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين، فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أن له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو(408/17)
إلى اعتصام الفرد بنفسه قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع، فقد يمضي به التواكل إلى غاية حقيرة هي صيرورته عالة على الحكومة وعلى المجتمع. وإذا أصبح كل فرد عالة على سواه فعلى الأخلاق ألف عفاء
ليست الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين أهلك وأحبابك، وإنما الغربة في أن ينقطع ما بينك وبين نفسك، وهي الأهل والصديق، وهي معوانك على الظفر بحقك من شرف الوجود
جاهد ليلك ونهارك في التعرف إلى سريرة نفسك، ففيها عجائب وغرائب من القوى الكامنة كمون النار في السرحة الزهراء، واعلم أن المجتمع لا ينصرك حين تستنصره إلا أن وثق بأن قوته من قوتك، وشداه من شداك
يجب أن يكون موقفك من المجتمع موقف الشريك من الشريك، لا موقف التابع من المتبوع؛ وليس معنى هذا أني أدعوك إلى مجاوزة قدر نفسك فتدعي ما ليس لك، ولكن معناه أن يصح شعورك بالمسئولية في جميع أحوالك ولو كان عملك في ظاهره من أصغر الأعمال
وأنت لا تنال السعادة بالحقد على المسعودين، فلن يزيدك الحقد إلا شقاء إلى شقاء، وإنما تنال السعادة بالجهاد الشريف في سبيل الرزق وإن قضت عليك الأقدار بالعجز عن تحقيق ما تريد، فما كانت السعادة بكمية ما نملك، ولو كانت كذلك لامتنع أن يكون في الفقراء سعداء، وفي الأغنياء أشقياء، ونحن نرى أن الغني والسعادة لا يجتمعان إلا في أندر الأحايين
تنبع السعادة من معين واحد: هو الشعور بأنك تخدم نفسك وتخدم المجتمع بأمانة وصدق، ولا عيب في أن تقول أنك تخدم نفسك بخدمة المجتمع، فالمجتمع فرد مكرر، والذين يدعون الناس إلى التجرد من طلب المنافع ليسوا لا جهلاء، فلا عليك أن اتهموك بحب نفسك حين تطلب الجزاء على ما تقدم من خير ونفع؛ فمن حقك على أمتك أن تدعوها إلى مجازاتك على جهادك، وليس من حقك أن ترجو ما عندها بالسؤال والاستجداء وإن برعت في الحيلة فسميت هذا المسلك باسم مصقول، كالأسماء التي اخترعها المتسولون من صنائع الحذلقة الاجتماعية.
وقد تكلم الأستاذ العقاد في العدد الماضي من (الرسالة) عن (المبالاة) كلاماً في غاية من(408/18)
الجودة، وهو يرى المبالاة أقوى الشواهد على الشعور بالحياة
وأقول: أن عدم المبالاة قد يصبح وجوداً حيوياً إذا صدر عن عمد، وهو عندئذ من مقومات الشخصية الخلقية. والحق أن لا وجود لعدم المبالاة ما بقي الشعور بالترك والانصراف، والذين اشتهروا بعدم المبالاة من أقطاب الفكر والعقل كانوا أصحاب مبادئ من هذه الناحية، ولم تكن استهانتهم بالمبالاة إلا مبالاة من نوع جديد
وخلاصة القول أن الفرد مسئول أمام نفسه قبل مسئوليته أمام المجتمع، ولا قيمة لمسئولية الفرد أمام المجتمع إلا أن صدرت عن نية، كأن يشعر بأن النظام هو الذي يفرض عليه تلك المسئولية، والصدقة وهي خير لا تزيد قوة الخلق إلا إذا صدرت عن نية، وإلا فهي تبديد وإتلاف، وإن انتفع بها من تقدم إليه
وهل أخطأ علماء الشافعية حين أوجبوا تقديم النيات على الأعمال؟ أن لذلك معاني لا يدركها إلا أولو الألباب
أما بعد فأنا مقتنع بهذا الرأي كل الاقتناع، ولكني حين أسير في شوارع القاهرة أرى أو شاباً من الناس لا يعنيهم خطأ ولا صواب، ولا يهمهم - أن كان يهمهم شيء - إلا أن ترفع عنهم جميع التكاليف، وإن يرزقوا بغير حساب. وما رأيت تلك الأوشاب المبعثرة ذات اليمين وذات الشمال إلا سألت نفسي عن قيمة الإحصاء الذي تشقى به الدولة من حين إلى حين، فما يجوز أن نباهي الأمم بالعدد إلا حين نثق بأن كل شخص في مصر له وجود خاص
الرأي عندي أن نكون جبهة جديدة تحارب الغفلة الفردية والاجتماعية، جبهة لا يكون فيها كتاب مراءون يخدعون الأفراد والجماعات ليتسموا بوسم الإصلاح الاجتماعي
وأعضاء الجبهة المرجوة لن يكونوا من الباكين لشقاء العمال والصناع والفلاحين بدموع التماسيح، ولكنهم سيكونون رجالاً صادقين يؤمنون بأن الشهرة كالرزق فيها حلال وحرام، ويتقربون إلى الله بالصدق، ولو عرضهم الصدق لغضب الجاهلية وكيد المتجاهلين
وبالله أستعيذ من جهل أولئك وسفه هؤلاء!
وأنا بعد هذا أنتظر آراء المفكرين الصادقين فيما تقدمت من بينات
زكي مبارك(408/19)
8 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
النقص والتكامل - الإنسانية الواحدة - من وحي الحرب
العصرية - مقدمات الوحدة - عصر القبيلة الأممي - الأقدار
تفصل الجسم الواحد - دفع وهم - الخميرة في أمريكا - أم
مجنونة وبنت عاقلة - من توحيد الأرباب إلى توحيد الإنسان
- لا حياة مع هذه الحرب - قيامة صناعية - سلم طويلة من
حرب خاطفة - المبضع من السيف - دم الحرب دم مخاض -
معان تبقى من أمم تفنى
ألمس في نفسي وفي كل فرد عرفته من الناس مهما كان عظيماً نقصاً أجد تكميله عند غيري وغيره. وهذا مما يؤكد في فكري أن الدولة أولاً جسم واحد يكمل بعضه بعضا ولا يستقل عضو منه بحياته إلا ظهر مبتوراً ناقصاً فيه تشويه. . . وكماله وجماله في أن يتضام إلى غيره ويتعاون ويصبر على مضايقة ذلك الغير حتى يستطيع إدراك الكمال المنشود. . .
وكذلك ألمس في كل أمة وحدها نقصاً أجد تكميله لدى غيرها. وهذا مما يؤكد في فكري ثانيا أن الأمم في المجموعة البشرية كالأفراد في مجموعة الأمة الواحدة، كل منها لها ميزة تكمل غيرها، وفيها نقص يكمله غيرها. . .
فالفرد الكامل الذي يستطيع أن يحيا وحده لم يخلق بعد ولن يخلق
والأمة الكاملة التي تستطيع أن تحي وحدها لم تخلق كذلك ولن تخلق
تلك حقيقة توحي إلينا الإيمان بالإنسانية الواحدة، وتحتم علينا أن نتناسى مواريث الوحشية القديمة والجهالات الأولى، وإن نفكر للحياة الواحدة المستقبلة التي يصح أن تنتظم الإنسانية جميعها بعد أن ذهب عنها دور الطفولة التي كانت فيها حدود الأرض ومعارفها مجهولة،(408/21)
ومواردها وأرزاقها محدودة
ويعظم في نفسي يوماً بعد يوم وجه الشبه بين سير الحياة بالفرد الواحد من طفولته إلى رشده إلى شبابه إلى كهولته، وبين سير الحياة بالإنسانية جميعها من طفولتها إلى شبابها إلى كهولتها
وإني أكاد أجزم أن خطوات سير الحياة بالإنسانية كلها هي خطوات سيرها بالإنسان الواحد. . . وكل من يتفرس في الحياة الاجتماعية يجدها كحياة الفرد سواء بسواء في تدرجها من الغرائز والعواطف إلى الرشد والعقل
وكما يحصل للطفل والشاب أن يغضب كثيرا ويكون أنانيا فرديا في حاجاته، ويحطم ما أمامه ولا يبالي النتائج؛ كذلك الإنسانية في دور طفولتها: أنانية غضوب تحطم كل شيء في سبيل منفعتها الضيقة
ولكن كما تمنع التربية وضبط الأعصاب وفعل الزمن الرجولة من أن تلجأ إلى أساليب الأطفال وغرائزهم وتحبسها عن الغضب والتحطيم، إلا إذا امتدت فيها حياة الطفولة لضعف التربية، أو للشذوذ أو عدم تقدير النتائج كذلك الإنسانية لابد أن تصل إلى هذه المرحلة في يوم ما قريب أو بعيد. . .
يوحي إلي ذلك ما أراه في الحرب الحالية من عنف التحطيم وشدة البأس وجنون الإنسان وقسوة الآلة، بحيث لا يمكن مطلقاً أن تحتمل الحياة بعد هذه الحرب إذا لم تقمع الغرائز والحماقات التي أثارتها، وإذا لم يوضع أساس حياة مشتركة للإنسانية الواحدة التي ابتدأت وحدتها تبدو وتستعلن في هذه المجموعات الكبيرة من الأمم، وهذه الرباطات الوثيقة بينها ومن اختزال المسافات والأبعاد واشتباك المصالح، واشتراك مناهج الدراسة والثقافة العامة، ومن معرفة كل جنس بخصائص كل جنس، ومن الدراسات المنظمة والمؤتمرات الجامعة والجمعيات العالمية، ومن كثرة الأسفار وامتزاج الطبائع، واختلاط الأجناس وتفكير أرباب الأعمال في الأسواق العالمية، ومن تبادل تعلم اللغات والأغاني والرقصات وأدوات الزينة. ومن (الصندوق السحري): الراديو الذي سيصوغ حواس الطفولة وقلوبها غير صياغة قلوب الأباء الذين نشأوا محجوزين محجوبين بعضهم عن بعض بالسدود والحدود والتخوم، ومن (السبورة السحرية) السينما التي تنقل الدنيا وناس الدنيا وتعرض الجميع في حجرة(408/22)
ضيقة
يصح أن نسمي عصرنا الحاضر (عصر القبيلة الأممي) والإنسانية كلها الآن تمر به كما مرت كل أمة بعصر القبيلة. واشتداد التناحر بين مجموعات الأمم المختلفة في هذا العصر هو صورة مما كان يحدث بين القبائل في الأمة الواحدة
ولم يحمل القبائل المتعادية في القديم على الصلح الدائم والاندماج والوحدة الشعبية إلا عنف ما كان بينها من حروب وتخريب وتعطيل للحياة. فلما رأت أنه لا حياة مع الحرية الكاملة والوحشية المطلقة تنازلت كل قبيلة عن بعض حقوقها وحرياتها ورضوا ذلك إما بضغط الأقوى وإما بالإدراك الصحيح للموقف ومراعاة مقتضيات الحياة
وكذلك كان الأمر في تكوين الإمبراطوريات المختلفة: حروب ونزاع مستمر وتخريب للممالك والمملوك ثم اتفاق أخير ونزول من الجانبين عن بعض المصالح في سبيل المصلحة التي لا غنى عنها للجميع
وكذلك تكونت الولايات المتحدة الأمريكية من جنسيات ومذاهب مختلفة بعد حروب ونزاع دمر حياتهم في بعض مراحل تاريخهم. . .
وكذلك وجدت البذرة التي لابد أن تنمو بعد هذه الحرب: وهي بذرة (عصبة الأمم) التي سيحافظ الغالب والمغلوب في هذه الحرب على إيجادها وجوداً فعالاً مسلحاً، لا وجوداً صورياً كالذي كان عقب الحرب الماضية
وعندي يقين ثابت أن الأقدار تفصل الآن بالحديد والنار جسم الإنسانية الواحدة ذات الحكومة الواحدة كما فصلت جسم كل إمبراطورية على حدة كما فصلت جسم كل أمة على حدة كما فصلت جسم كل قبيلة على حدة كما فصلت جسم كل أسرة على حدة كما فصلت كل جسم على حدة كما فصلت كل عضو على حدة كما فصلت كل خلية على حدة. . .!
هو قانون واحد يلف الكون كله! قانون الجزيء والذرة هو قانون المجاميع. . . واللقاح السياسي واللغوي والعلمي والاقتصادي في المجموعات الكبرى والإمبراطوريات واتحاد الولايات، هو الوسيلة إلى ذلك الأمل المنشود
ولا يتوهمن واهم أنني أزعم أن الخلاف سيذهب من الأرض كلا. . . وإنما سيبقى كما هو في حدود الدولة بين الأحزاب والآراء والمذاهب الاجتماعية. . . وكما يبقى بين الأسرة(408/23)
الواحدة، وكما يبقى بين القوى المتنازعة في الفرد الواحد: بين العقل والعاطفة والغريزة لأن الدفع قانون طبيعي كقانون الجذب. . . ولكنه دفع لا يفلت من قانون القوة والقهر، كما هو الحال في الدولة الواحدة القوية التي لا يفلت منها من يريد الخروج عليها
أن نفوس الأجناس وطبائعها تتغير تغيراً سريعا من التمايز إلا الاندماج والاتحاد. فلم يبق في الولايات المتحدة أجناس، وإنما صارت كتلة واحدة بمرور جيل أو جيلين وبتوحيد اللغة. . .
والولايات المتحدة خميرة للحياة الإنسانية المقصودة، هي نموذج ناقص ولكنه أقرب إلى الكمال؛ وكان من الواجب أن يحذو العالم القديم حذو هذا العالم الجديد السعيد، ويترك مواريث التاريخ السيئة وعصبيات الأجناس ونعراتها، ويتفق على الحد الوسيط الذي يرضي الجميع مع التضحية ببعض الاعتبارات والحريات
أوربا ولدت أمريكا. . . والبنت هنا أعقل من أمها وأسعد. فلا تزال القارة العجوز تحتفظ بأحقادها القديمة ومواريث تاريخها السيئ في عالم الحسد والبغض والخديعة والبطش والتنازع. . . ولا تزال تشقى الأرض كلها معها. . . بينما أمريكا تسعدها وتجدد الحياة يوماً بعد يوم، وتنثر الأفراح والمباهج في كل مكان. . .
لقد برئت أمريكا من حب الاستعمار والتنازع عليه، فبرئت من السعار المادي الذي يصاحبه، وبرئت من الصفات الذميمة التي تصاحب خلق الافتراس. . . وصارت حبيبة إلى جميع أمم الأرض. . .
اتخذت الطريق المشروع إلى الغنى والثروة، وهو طريق التجارة والمنافسة المحمودة واستغلال الموارد الطبيعية، لا طريق الغصب والغلاب. . . فعاشت تجمع وتعيش بما تجمع وتوزع منه على مؤسسات البر والعلم في بقاع الأرض، ثم لا تفجع فيما تجمع ولا تحترق وتدمر معه كما جرى لأمم أوربا الآن. . .!
لقد خطا الإنسان بإدراكه عقيدة توحيد الله خطوته العظمى إلى الكمال العقلي والقلبي، حين رأى أن العالم كله يساق بيد واحدة، وتوزن أموره بميزان رب واحد. . .
وسيخطو خطوته العملية والعلمية العظمى، حين يدرك (الإنسانية الواحدة) ويؤمن بها؛ وكما حلت عقيدة توحيد الإله مشاكل العقيدة ووجهت الحياة وجهة واحدة بعد أن كانت موزعة(408/24)
على أرباب متفرقين. . . كذلك سيحل الإيمان بوحدة الإنسان مشاكل وعقداً مستعصية، وتوجه به لأمم وجهة واحدة هي وجهة الخير المشترك، بدل الخير المتفرق الضيق الأناني، ووجهة العلم الباني المعمر، بدل العلم المخرب المدمر. . .
لقد كان منطق الفرقة والتنازع العنيف بين الناس معقولا في الأزمنة الماضية التي كان بين الأمم فيها حواجز سميكة من الجهالة والأسفار الطويلة، واللغات المجهولة، والثقافات المختلفة إلى حد التناقض. . . وكان دور تحكيم الغرائز لا بد منه لحمل ذلك الإنسان الجاهل على التسابق العنيف إلى كشف بقاع الأرض المجهولة، وتلقى منافعها الضائعة إذ لم يكن له علم وعقل يغنيانه عن الغريزة. وكان الاختلاف الحاد بين الناس معقولا لأنه لم يكن هناك أفق عقلي أو علمي أو عملي مشترك بين أمة وأمة متجاورتين بله المتباعدتين، ولم تكن الظروف لتسمح بوجود ذلك الأفق المشترك إلا عن طريق الحرب التي كانت وحدها هي الوسيلة الوحيدة للاختلاط بين المتفرقين، والتعارف بين المتجاهلين. . .
أما الآن فقد صار هذا التفرق والتنازع ضارا بالجميع قاطعاً للعلاقات التي تنمو في وقت السلم نموا عظيما غزيراً لم يكن له مثيل في العصور الأولى. . . وصارت العودة إلى تحكيم الغرائز ارتداداً وانتكاساً في الحياة كانتكاس الرجل الحليم إلى غضب الطفولة الذميم، إذ قد صار في يد الإنسان من أدوات الهلاك والدمار أشياء فظيعة تهدم الحياة من أساسها وتسحق براعم نموها وتجعل العمل للحياة، والسعي لها بعد الحرب عبثاً لا طائل تحته ما دامت الحرب تأتى بعد ذلك لتأكل الأخضر واليابس ولا تبقى ولا تذر
وقد ثبت الآن أن كل ما يصل إليه العلم من أدوات السيطرة والتغلب على قوى الطبيعة وأدوات ترف الحياة ومباهجها يتحول إلى أدوات دمار وإبادة إذا ما ثارت بالأمم ثورة الحرب وبراكين الحقد الدفين. . . فلا أمان على الحياة من شيء مع غضب الإنسان. وقد عاد شعار الجاهلية القديم الذي كان يهتف به المحاربون القدماء؛ وهو تلك الصيحة: يا منصور أمت!
وقد كانت الأديان والأخلاق قد جعلت للحرب في العصور المتوسطة قوانين فيها بقيا غلى مناطق نمو الحياة؛ وفيها ذكرى للود القديم والدم والنسب وصلة العلم والفن والعمران، وكانت الحرب تجد لها في وقت احتدامها ما يخفف آلامها من نبل الفروسية، ورحمة(408/25)
القادرين، ووصايا القواد بالضعفاء والمرضى والشيوخ والأطفال والنساء والحرث والنسل:
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها!
أما الآن فإذا بطشوا بطشوا جبارين! لا يذكرون طفولة ولا شيخوخة ولا مخلفات الفنون والعلوم والآثار الثمينة التي هي ملك الإنسانية جميعها. . .
ومن كان يظن أن الإنسان الأوربي العالم الفنان الذي فتنته أحاسيس الحياة وجن بها جنونا فعبدها في الزهور والرياحين والحب والألحان والعناية بالطفولة، واقتنى التحف والمخلفات الأثرية من الجماجم والعظام والأحجار والخرزات، ولم يدخر في سبيلها مالاً، وجميع مجموعات النبات والحيوان، وحرص على استخراج كنوز الأرض، والتقى على صفاء في المجاميع العلمية والأدبية والملاعب الرياضية والمؤتمرات العالمية وتبادل تعلم اللغات، وسكن جميع بقاع الأرض، وعرف آلام الأجسام والأرواح، وأنفق الأموال الطائلة على نبش الأرض ليستخرج منها حلقة مفقودة تنير له تاريخ الإنسانية التي يعتز بها. . . من كان يظن أن من فعل كل أولئك يجرؤ على أن يهدم حاضر الإنسانية بكل ما حمل في طياته من الماضي، ولا يبالي أن يزهق الإنسان ومدنه وكل ما حمله عقله وقلبه!!
فأين عالم الدفاتر والمحابر والمنابر والمؤتمرات والمجامع والمعاهد والمعابد؟ أين عالم العقول والقلوب؟
أين الشعر والفن والرحمة والحب والجمال والخير؟
أين المعاني التي سجلها الدين والأدب عن الآلام، ودارت عليها فلسفات وقصص ومسرحيات؟
أين مؤسسات الرفق بالحيوان؟
أين كل (الدراما) و (الترجيديا) التي كانوا بها يبكون في المسارح؟
أكانت ملاهي وملاعب لا أكثر؟ يا لها إذا من خديعة عبقرية!
ولكن هذه هي الحرب العصرية. . . صورة مصغرة من أهوال القيامة. . . بل القيامة ساعة ثم تنقضي الحياة ويستريح الناس بالموت إلى حين. . . ولكن الحرب العصرية (قيامات) لا عدد لها. . . بها يموت الناس ويبعثون ثم يموتون ويبعثون كلما شنت عليهم غارة جوية إلى أن تضع الحرب أوزارها. . .(408/26)
فيا بني الحياة! أي حياة هذه!؟
أن الله أرحم بالناس من أن يجعلهم لمثل هذه الحياة. . . الناس أرفع بأنفسهم من أن يعبدوا مثلها. . . أنها مرحلة لابد منها في طريق الإنسانية الشقية إلى الاستقرار والراحة واللقاء الذي لابد منه بعد الافتراق والتقلقل
ومن بين ظلمات هذه الحرب الخاطفة السريعة يلمع نور السلام البطيء الطويل. . .
ومن بين نيرانها وزلازلها وبراكينها يبدو برد الحياة وثباتها واستقرارها. . .
ومن بين قسوة القلوب فيها بقسوة الآلات والمدمرات تلوح عواطف الرحمة والحب. . .
لقد كان من نتائج الحروب الكبرى دائما ابتداء دورة زمنية بالإنسان وانقلاب في أوضاع الحياة. . . والذين عاشوا قبل الحرب العظمى الماضية وبعدها يدركون الفرق الشاسع بين الحياتين. . .
هذه السرعة التي في الحرب ستكون في السلم. . . وكما استحال سيف الحرب إلى مبضع الطب ستستحيل جميع آلات الدمار إلى آلات إنتاج وتعمير ورفاهية
ولاشك أن تشبيه الحرب بحادث المخاض والولادة تشبيه صحيح من كل وجه. . . فكل حرب تلد مولودا من الطباع والأوضاع والأفكار والآلات والمرافق. . . مولودا يجدد الحياة ويقذف في شعلتها حطبا ويسقيها زيتاً. . . ولا ضير فيما يصحب ذلك من الألم والدم والهزة والخوف؛ فكل هذه أعراض تصحب حادث الولادة في حياة الإنسان. . .
ولن تضيع سدى تلك الأرواح لتي ذهبت قرابين للمعاني السامية التي في قلوب الأمم المتحاربة. وإنما هي لبنات في البناء الخفي للوجود الإنساني. . . وأنها كلها حية تنظر إلى عراك الجماعات في عالم الظواهر كعراك ذرات تحملها الريح أو حصى يحمله ماء السيل حتى تبلغ مكانها المرصود في بناء الوجود. . .
وسواء أوضع حجر في خفاء الأساس أم رفع في علانية القمة، فالكل بناء واحد. . . وتبلغنا الآن أنباء انكسار أمة وانتصار أخرى فلا نلتفت إلى الأفراد فيها. وإنما يعلو عنوانها أو ينخفض وهي صورة موحدة ليس فيها توزيع. فتفرح كلها بالانتصار ولو باد في سبيله كثيرون، وتستاء كلها بالانهزام، ولو انتصر فيها كل فرد نصرا فرديا وأتى بأعمال البطولة المعجزة(408/27)
فهل لأصحابنا الفرديين الأنانيين أن ينظروا موضع الفرد من الأمة على ضوء نار هذه الحرب، وموضع الأمة من مجموعة الأمم التي تنتسب إليها حتى يتبينوا أنه لا وجود إلا للمعاني العامة التي هي ملك الإنسانية جميعها؟
أن هذه النظرة تجعلهم يحملون السلم بقلب عارف بها، ويحاربون إذا كتبت عليهم الحرب بسيوف كمباضع الأطباء: تقطع لتشفي، وتقتل فتحسن القتلة بدون مثلة ولا نية أثم أو جريمة. وتجعلهم خصوماً شرفاء رحماء يحاربون بروح رياضية كأنهم يلعبون. وتجعل من السيوف ظلالا للضعفاء والمسالمين.
أولئك هم الربانيون المؤمنون بالله وبالإنسان أثمن ودائع الله في الأرض!
عبد المنعم خلاف
أشكر للأستاذ بشير صادق تقديره الكريم، وأرجو الله التوفيق
في طلب الحق والإبانة عنه.(408/28)
صورة وصفية دمشقية من القرن الماضي
العجوزان!
للأستاذ علي الطنطاوي
. . . أغلق الشيخ الباب فتنفس أهل الدار الصعداء، وأفاقوا إفاقة من يودع الحلم المرعب، أو الكابوس الثقيل، ثم انفجروا يصيحون، يفرغون ما اجتمع في حلوقهم من الكلمات التي حبسها وجود الشيخ فلم ينسبوا بها. وانطلقوا في أرجاء الدار الواسعة - والأولاد (صغار أولاد الشيخ وأحفاده) يتراكضون ويتراشقون بما تقع عليه أيديهم من أثاث الدار، ويتراشون بالماء، أو يدفع بعضهم بعضا في البركة الكبيرة التي تتوسط صحن الدار، فيغوص الولد في أمواهها، فتعدو إليه أمه أو من تكون على مقربة منه فتخرجه بين قهقهة الصغار وهتافهم وتقبل عليه لتنضو عنه ثيابه وتجفف خشية المرض جسده، فإذا هو يتفلت من بين يديها، ثم يركض وراء أخوته وأبناء عمه ليأخذ منهم الثأر، والماء ينقط من ثيابه على أرض الدار المفروشة بالرخام الأبيض والمرمر الصافي، التي أنفقت الأسرة ساعات الصباح كلها في غسل رخامها ومسحه بالإسفنج، حتى أضحى كالمرايا المجلوة أو هو أسنى. . . وعلى السجاد الثمين الذي يفرش القاعات الكثيرة والمخادع، وهم يتنقلون من غرفة إلى غرفة، ومن درج إلى درج، ويفسدون ما يمرون به من الأغراس التي لم تكن تخلو من مثلها دار في دمشق، من البرتقال والليمون والكباد والفراسكين والنارنج والأترج (الطرنج) وقباب الشمشير (زينة الدور) والياسمين والورد والفل؛ تتوسط ذلك كله الكرمة (الدالية) التي تتمدد على (سقالة) تظلل البركة تحمل العنب (البلدي) الذي يشبه في بياضه وصفائه اللؤلؤ، لولا أن الحبة الواحدة منه تزن أربع حبات مما يسمى في مصر والعراق عنباً. . . والجدة تعدو وراءهم ما وسعها العدو تصرخ فيهم صراخا يكاد من الألم يقطر منه الدم:
(ولك يا ولد أنت وياه. . . يقصف عمري منكم. . . وسختم البيت. . . يا ضيعة التعب والهلاك. . . الله يعجل علي بالموت حتى اخلص منكم!)
فيختلط صراخها بصياح الأولاد، وضحك الضاحكين منهم وبكاء الباكين، وهم يتضاربون، ويسقطون ما يعثرون به من الأواني والكئوس. . . لا يصغي لنداء الجدة أحد منهم. . .(408/29)
ويلبثون على ذلك حتى ينادي المؤذن بالظهر، فتنطفئ عند ذلك شعلة حماستهم، وتتخافت أصواتهم ويحسون بدنو ساعة الخطر، فينزوي كل واحد منهم في ركن من أركان الدار ينظر في ثيابه يحاول أن يزيل ما علق بها من الأوساخ، أو أن يصلح ما أفسد منها، كيلا يبقى عليه أثر يعلن فعلته، ويتذكرون ما هشموا من آثار المنزل حين عاثوا فيه مخربين، فيجمع كل واحد منهم ما يقدر عليه من حطام الأواني فيلقيه في زاوية الزقاق في غير الطريق الذي يمر منه الشيخ، ويرجع النسوة إلى أنفسهن فيسرعن في إعداد الطعام وإصلاح المنزل. وتدور العجوز لتطمئن على أن قبقاب الشيخ في مكانه لم يزح عنه شعرة، لا تكل هذه (المهمة) لكنتيها ولا لبناتها، لأنها لم تنس طعم العصي التي ذاقتها من أربعين سنة. . . في ذلك اليوم المشؤوم الذي وقعت فيه الكارثة ولم يكن قبقاب الشيخ في مكانه، وضم إليها القدر مصيبة أخرى أشد هولا وأعظم خطرا، فتأخر صب الطعام عن موعده المقدس (في الساعة الثامنة الغروبية) عشر دقائق كاملات. . .
وللشيخ حذاء (كندرة) للعمل، وخف (صرماية) للمسجد، و (بابوج) أصفر يصعد به الدرج ويمشي به في الدار، و (قبقاب) للوضوء، وقد تخالف الشمس مجراها فتطلع من حيث تغيب، ولا يخالف الشيخ في عادته فيذهب إلى المسجد بحذاء السوق، أو يتوضأ بباجوج الدرج. . .
وتعد العجوز قميص الشيخ ومنديله، وتهيئ (البقجة) التي تضع فيها ثياب السوق بعد أن تساعده على نزعها وتطويها على الطريقة التي ألفتها وسارت عليها منذ ستين سنة، من يوم تزوج بها الشيخ وكان في العشرين وكانت هي بنت ست عشرة، وهي لا تزال تذكر إلى الآن. كيف وضح لها أسلوبه في الحياة وبين لها ما يحب وما يكره، وعلمها كيف تطوي الثياب وكيف تعد القبقاب، كما علمها ما هو أكبر من ذلك وما هو أصغر وحذرها نفسه وخوفها غضبه إذا هي أتت شيئا مما نهاها عنه، فأطاعت ولبثت هذا العمر كله وهي سعيدة مسعدة طائعة مسرورة لم تخالف إلا في ذلك اليوم المشؤوم وقد لقيت فيه جزاءها، ونظرت العجوز الساعة فإذا هي في منتصف الثامنة. لقد بقي نصف ساعة. . . ففرقت أهل الدار ووزعت عليهم الأعمال، كما يفرق القائد ضباطه وجنده ويلزمهم مواقفهم استعدادا للمعركة، فأمرت بنتها الكبرى بإعداد الخوان للطعام، وبعثت بالأخرى لتمسح(408/30)
أرض الدار التي وسخها الأولاد، وأمرت كنتيها بتنظيف وجوه الصغار وإبدال ثيابهم حتى لا يراهم الشيخ إلا نظافاً. . . ثم ذهبت ترد كل شيء إلى مكانه؛ ولكل شيء في هذه الدار الواسعة موضع لا يريمه ولا يتزحزح عنه، سنة سنها الشيخ لا تنال منها الغير ولا تبدلها الأيام، فهو يحب أن يوضع يده على الشيء في ظلمة أو نور، في ليل أو نهار، فيلقاها في مكانه. ولما اطمأنت العجوز إلى أن كل شيء قد تم، نظرت في الساعة فإذا هي دون الموعد بخمس دقائق. . . فاستعدت وغسلت يديها ووجهها ولبست ثوبا نظيفا كعهدها ليالي عرسها لم تبدله، واستعد أهل الدار بكبارهم وصغارهم. فلما استوى عقرب الساعة الثامنة أرهفوا أسماعهم فإذا المفتاح يدور في الباب. أنه الموعد ولم يتأخر الشيخ عن موعده هذا منذ ستين سنة إلا مرات معدودة عرض له فيها شاغل لم يكن إلى دفعه من سبيل. فلما دخل أسرعوا إليه يقبلون يده وأخذت ابنته العصا فعلقتها في مكانها، وأعانته على خلع الحذاء وانتعال البابوج الأصفر، وسبقته زوجته إلى غرفته لتقدم إليه ثياب المنزل التي يتفضل بها
غاضت الأصوات، وهدأت الحركة، وعادت هذه الدار الواسعة إلى صمتها العميق، فلم يكن يسمع فيها إلا صوت الشيخ الحازم المتزن، وأصوات أخرى تهمس بالكلمة أو الكلمتين ثم تنقطع، وخطى خفيفة متلصصة تنتقل على أرض الدار بحذر وخوف. . . وكانت غرفة الشيخ التي يؤثرها على يمين الإيوان العظيم ذي القوس العالي والسقف المنقوش الذي لا تخلو من مثله دار في دمشق، والذي يتوجه أبداً إلى القبلة ليكون لأهل الدار مصيفاً يغنيهم عن ارتياد الجبال في الصيف، ورؤية ما فيها من ألوان الفسوق، يشرفون من على الصحن المرمي وأغراسه اليانعة وبركته ذات النوافير. . . وكانت غرفة الشيخ رحبة ذات عتبة مستطيلة تمتد على عرض الغرفة التي تعلو عن الأرض أكثر من ذراع كسائر الغرف الدور الشامية، تغطيها (تخشيبة) مد عليها السجاد وفرشت في جوانبها (الطراريح): الوسائد والمساند، وقامت في صدرها دكة أعلى ترتفع عن (التخشيبة) مقدار ما تهبط عنها العتبة، وكان مجلس الشيخ في يمين الغرفة يستند إلى الشباك المطل على رحبة الدار، وقد صف إلى جانبه علبة وأدواته، وهن حق النشوق الذي يأخذ منه بيده ما ينشقه من التبغ المدقوق الذي ألفه المشايخ فاستحلوه بلا دليل حتى صاروا يشتمونه في المسجد كما حرموا الدخان بلا دليل. . . والى جنب هذا الحق علبة نظارات الشيخ ومنديله الكبير والكتابان اللذان لا(408/31)
ينتهي من قراءتهما: الكشكول والمخلاة، وفي زاوية الشباك أكياس بيضاء نظيفة مطوية يأخذها معه كل يوم حينما يغدو لشراء الطعام من السوق، فيضع الفاكهة في كيس واللحم في آخر، وكل شيء في كيسه الذي خصصه به، وهذه الأكياس تغسل كل يوم وتعاد إلى مكانها. وعن يساره خزانة صغيرة من خشب السنديان المتين أشبه الأشياء بصندوق الحديد، لا يدري أحد حقيقة ما فيها من التحف والعجائب، فهي مستودع ثروة الشيخ وتحفه. ومما علم أهل الدار عنها أن فيها علباً صغاراً في كل علبة نوع من أنواع النقد: من النحاسات وأنصاف المتاليك والمتاليك وأمات الخمسين وأمات المائة والبشالك والزهراويات إلى المجيديات وأجزائها والليرات العثمانية والإنكليزية ووالفرنسية، كل نوع منها في علبة من هذه العلب، فإذا أصبح أخذ منها مصروف يومه الذي قدره له يوم وضع (ميزانية) الشهر، ثم إذا عاد نظر إلى ما فضل معه، فضم كل جنس إلى جنسه. وفي هذه الخزانة (وهي تدعى في دمشق الخرستان)، الفنار العجيب الذي كان يخرجه إذا ذهب ليلا (وقلما كان يفعل) يستضيء به في طرق دمشق التي لم يكن فيها أنوار إلا أنوار النجوم ومصابيح الأولياء وسرجهم، واكثر هذه السرج يضاء ببركة الشيخ عثمان نهارا ويطفأ ليلاً. . . وفيها الكأس التي تطوى. . . والمكبرة التي توضع في شعاع الشمس فتحرق الورقة من غير نار. . . وفيها خواتم العقيق التي حملها الشيخ من مكة، فأهدى إلى أصحابه قسما منها وأودع الباقي خزانته. . . وفيها الليرات الذهبية التي كان يعطيها الأطفال فيأكلونها لأنه حشوها (شكولاته). . . وكانت هذه هي عجائب الدار السبع!
وأمام الشيخ (الرحلاية) وفوقها (السكمجاية)، وهي صندوق صغير فيه أدراج دقيقة ومخابئ وشقوق للأوراق، وبيوت للأقلام في صنعة لطيفة، وهيئة غريبة، كانت شائعة يومئذ في دمشق، موجودة في أكثر البيوت المحترمة. . . . . .
والويل لمن يمس شيئاً من أدوات الشيخ أو يجلس في مكانه. ولقد جنى الجناية أحد الأطفال مرة فعبث بعلبة النشوق فأسرعت أمه فزعة وأخذتها منه وأبعدته وأعادتها إلى مكانها، فانزاحت لشؤم الطالع عن موضعها مقدار أنملة وعرف ذلك الشيخ - فكأنها أهل المنزل اسود - وحرموا بعده الدنو من هذا الحمى!
كان الشيخ في الثمانين ولكنه كان متين البناء شديد الأسر، أحاط شبابه بالعفاف والتقى،(408/32)
فأحط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة، وكان فارع الطول عريض الأكتاف، لم يشك في حياته ضعفاً، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة. ولم يجد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك. فهو يفيق سحراً والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخاشعة - والخشوع الفاتن - والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يمجد الله في السحر، يتحدر من أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها، يمازجه خرير الماء المتصل يصعد من نافورة الدار يمجد (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان، ثم ينطلق لسانه ب (لا اله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طول حياته، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل. وكثيراً ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده ويغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوماً واحداً، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معداً والأسرة منتظرة، فيأكل معهم اللين الحليب والشاي والجبن أو الزبدة ولزيتون والمكدوس، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحها ورتبها
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي، وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصفت أثواب البز أما الجدران، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره، ويدفعون إليه الثمن، فإذا ركد السوق قليلا تلا الشيخ ما تيسر من القرآن أو قرأ في (دلائل الخيرات) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل والعقد، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها. . .) وكان الشيخ مهيباً في السوق كهيبته في المنزل، تتحاشى النسوة المستهترات الوقوف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة، كما تكشف كل مستهترة، صاح بها فأرعبها وأمرها أن تستتر وإن تلزم أبداً حدود الدين والشرف، وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهاناً، أيهم يقرع عليه بابه، ويجعلوا(408/33)
الرهان ريالا مجيدياً أبيض، فلا يفوز به أحد منهم.
وكان الشيخ قائماً بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا؟ وما لهم ولها كل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم، وما اشتهوا منه يأتيهم؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها، ثم أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفاً على البيع والشراء حتى يقول الظهر: (الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما في العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دق وجل من شؤونه. . . أختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تؤلف جمعية لحل الخلاف. . . والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له. . . وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وأذى السابلة فلينصح وليجير على رفع الأذى عن الناس. . .!
أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريبا عن الحي يحوم حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلا يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا اخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأته في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها على نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده، وإن فتح امرؤ شباكاً على الجادة سدوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من الداخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقياً من الفواحش صيناً؛ أهله كأهل الدار الواحدة لا يظن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا(408/34)
بماله؛ وإذا أقام أحدهم وليمة، أو كان عنده عرس أو ختان، فكل ما في الحي من طباق وصوان وكؤوس تحت يده وملك يمينه
مر دهر والحياة في هذه الدار سائرة في طريقها لا تتغير ولا تتبدل ولا تقف. مطردة اطراد القوانين الكونية، حتى جاء ذلك اليوم. . . ودقت الساعة دقاتها الثمان، وتهيأ أهل الدار على عادتهم لاستقبال الشيخ؛ ولكن العجوز الطيبة والزوجة المخلصة لم تكن بينهم، وإنما لبثت مضطجعة على الأريكة تشكو ألما شديدا لم يفارقها منذ الصباح. وأدار الشيخ مفتاحه ودخل فلم يرها وهي التي عودته الانتظار عند الباب، ولم تحد عن هذه العادة مدة ستين سنة إلا أيام الوضع ويوم ذهبت لتودع أباها قبل وفاته؛ فسأل الشيخ عنها بكلمة واحدة أكملها بإشارة من يده، فخبرته ابنته وهي تتعثر بالكلمات هيبة له وشفقة على أمها، أنها مريضة. فهز رأسه ودخل، فلما وقع بصره لم تتمالك نفسها فنهضت على غير شعور منها تقبل يده، فلما مست أصابعه أحس كأنما لمسته جمرة ملتهبة؛ وكان الشيخ على ما بيده من شدته وحزمه وحبه النظام، قوي العاطفة، محبا لزوجته مخلصاً لها، فرجع من فوره ولم يأكل، ولم يدر أحد في المنزل لماذا رجع ولم يجرؤ على سؤاله واكتفوا بتبادل الآراء في تعليل هذه الحادث الغريب، الذي يشبه في أنظارهم خروج القمر من مداره. ومضت على ذلك ساعة أو نحوها، ثم سمع المفتاح يتحرك في الباب فسكتوا وحبسوا الأنفاس وترقبوا هذه المفاجأة. فدخل الشيخ وصاح: (روحوا من الطريق)؛ فاختبأ النسوة ليدخل الضيف، غير أنهن نظرن من شق الباب - على عادة نساء البلد - فأبصرن الطبيب وكن يعرفنه لتردده على المنزل كلما تردد عليه المرض. . . وكان الطبيب شيخاً وكانت بينه وبين العجوز قرابة، ومع ذلك فقد أمر الشيخ العجوز بلبس ملاءتها وإلا تظهر منها إلا ما لابد من إظهاره؛ ثم أدخله عليها، فجس نبضها، وقاس حرارتها، ورأى لسانها. وكان ذلك منتهى الدقة في الفحص في تلك الأيام، ثم خرج مع الشيخ يساره حتى بلغا الباب، فودعه الشيخ وعاد، فأمر بأن تبقى العجوز في غرفتها وإن تلزم الحمية وتتناول العلاج الذي يأتيها به. . .
مرت أيام طويلة والعجوز لم تفارق الفراش، وكان المرض يشتد عليها حتى تذهل عن نفسها، وتغلبها الحمى فتهذي. . . (صارت الساعة الثامنة. . . يلا يا بنت، حضري(408/35)
الخوان. . . والقبقاب؟ هل هو في مكانه. . .)! وتهم أحيانا بالنهوض لتستقبل زوجها؛ وكانت بنتاها وكنتاها بمرضنها ويقمن في خدمتها فإذا أفاقت حدثتهن وسألتهن عن الشيخ هل هو مستريح؟ ألم يزعجه شيء؟ والدار؟ هل هي كما تعهدها أم قد اضطربت أحوالها؟ ذلك همها في مرضها وفي صحتها، لا هم لها سواه
وحل موسم المعقود وهي مريضة فلم تطق على البقاء صبرا، وكيف تتركه وهي التي لم تتركه سنة واحدة من هذه السنين الستين التي عاشتها في كنف زوجها، بل كانت تعقد المشمش والجانرك والباذنجان والسفرجل، منه ما تعقده بالسكر ومنه ما تعقده بالدبس، وكانت تعمل مربى الكباد واليقطين، فيجتمع لها من أنواع المعقودات والمربيات والمخللات (الطرشي) ومن أنواع الزيتون الأسود والأخضر والمفقش والجلط وأشكال المكدوس معمل امقار (كونسروة) صغير تقوم به هذه الزوجة المخلصة وحدها صامتة، ولا يعيقها ذلك عن تربية أولادها ولا عن إدارة منزلها وتنظيفه ولا عن خياطة أثوابها وأثواب زوجها وبنيها، بل تصنع مع هذا كله البرغل، وتغسل القمح وتعجن العجين، وكذلك كانت الزوجات في القرن الماضي
حل الموسم فكيف تصنع العجوز المريضة. . .؟ لقد آلمها الأمر وحز في كبدها، وبلغ منها أكثر مما بلغ المرض بشدته وهوله، فلم يكن من ابنتها المخلصة وكنتها الوفية إلا أن جاءتا بالمشمش فوضعتاه أمام فراشها وطفقتا تعقدانه أمامها، وتعملان برأيها فكان ذلك أجمل ما تتمنى العجوز
واشتدت العلة بالمرأة وانطلقت تصيح حتى اجتمع حولها أهل الدار جميعاً، ووقفوا ووقف الأطفال صامتين وحبهم لهذه العجوز الطيبة التي عاشت عمرها كلها لزوجها وبنيها يطفر من عيونهم دمعا حاراً مدراراً، وهم لا يدرون ماذا يعملون، يودون لو تفتدى بنفوسهم ليفدوها. ثم هدا صياحها، وجعل صوتها يتخافت حتى انقطع، فتسلل بعض النسوة من الغرفة، ووقف من وقف حائرا يبكي
ولكن العجوز عادت تنطق بعدما ظنوها قضت، فاستبشروا وفرحوا؛ وسمعوها تتكلم عن راحة الشيخ وعن المائدة والساعة الثامنة والبابوج والقبقاب. . . بيد أنها كانت يقظة الموت، ثم أعقبها الصمت الأبدي. وذهبت هذه المرأة الطيبة، وكان آخر ما فكرت فيه عند(408/36)
موتها، وأول ما كانت تفكر فيه في حياتها: زوجها ودارها. . .
ارتفع الكابوس عن صدور الأطفال حين اختل نظام الفلك ولم يبق لهذا الموعد المقدس في الساعة الثامنة روعته ولا جلاله، ولم يعد يحفل أحد بالشيخ لأنه لم يعد هو يحفل بشيء. لقد فقد قرينه ووليفه وصديق ستين سنة، فخلت حياته من الحياة، وعادت كلمته لا معنى لها، وانصرف عن الطعام وأهمل النظام، فعبثت الأيدي بعلبه وأكياسه، وامتدت إلى (الخرستان) السرية التي أصبح بابها مفتوحا، فلم تبق فيها تحفة ولا مالا، وهو لا يأسى على شيء ضاع منه بعدما أضاع شقيقه نفسه. وتهافت هذا البناء الشامخ، وعاد ابن الثمانين إلى الثمانين، فانحنى ظهره وارتجفت يداه ووهنت ركبتاه، ولم يكن إلا قليل حتى طويت هذه الصفحة، فختم بها سفر من أسفار الحياة الاجتماعية في دمشق كله طهر وتضحية ونبل!
علي الطنطاوي
المحامي(408/37)
نظرات في الشعر
للأستاذ محمود البشبيشي
من الشعر ما يلعب بالنفوس لعباً، بل يقلب جوهره قلباً، فيبعث في الرجل الصخري المزاج روحاً ارق من نسيم الفجر، والطف من شفاء الورد، وأنقى من دموع الفرح؛ ومن الشعر ما ينفذ إلى القلوب بغير إذن، لأن كل لفظ فيه لفظ من القلب، وكل مقطع من مقاطعه قطعة من الفؤاد، تتفتح له القلوب لأنه منها، وتتلقاه خافقة لأن كل نغم فيه من خفقاتها. في الشعر قيود لا انفكاك لها، ولكنها قيود محبوبة، يحس بضرورتها من كان من ذوي النفوس الحية، والقلوب الندية، ويحس بضرورتها من يضيقون بحرية الحياة الجائرة وقد فسدت، وحرية الشهوات والنزعات الداجية وقد تمادت، فيميلون إلى قيد من قيود الشعر يسعدون به، ويشعرون فيه بمعنى حرية الطهر والنقاء. إنهم يشعرون بالحرية في قيده، لأن الشعر حين يقيدهم إنما يقيد صوراً حية من الحياة الجائرة، ويمنعها من الوصول إليهم، أو يطهرهم منها لحظة، ويتيح لهم أن يتصلوا بعالم منغم حلو نقي هو عالم الشعر
بحث الكتاب في الشعر، وسيبحثون لأنه موضوع الشعور الحي، موضوع الروح: موضوع الحياة، سار مع الزمن، يضعف في عهد فتذبل أناشيده على الشفاء، ويشتد في عهد فتغنى به القلوب، وما ضعف ولا أشتد لعجزه عن مسايرة الزمن وأطواره، ولكنه ضعف حين ضعف المشاعر النبيلة في النفوس، وغشيت القلوب الأطماع، وأشتد حين تلألأت في النفوس أنوار الشعور، وأحس الناس أن في صدورهم قلوبا تخفق، فمالوا إلى ترجيع الكلام، حتى يجانسوا بين أنغام القلوب وبينه. . . ولعل هذه الصلة هي أصل الشعر! ومن هنا كان الشعر محبباً إلى النفوس لأنه منظم لمشاعرها، ولأن الطبيعة وهي مصدره منظمة منقمة. ولا عجب، فكل ما في الشعر من وزن وقافية وموسيقى أساسه النظام. من روعة الشعر أنه خلق نفسه خلقاً في حياة الإنسان، لينظم ويرتب وينسق كل ما يتصل فيها بالشعور. . .
قاله الشاعر حين اضطربت مشاعره في نفسه وغلبته الآلام والآمال، وتراكمت ففقدت النظام؛ وشعر هو بذلك فضاق واضطرب، وضج وثار، وفكر وتأمل، ولما صدق تأمله أدرك أن في نفسه تعبيرا عجز عن بيانه، وإن حديثه وخطابته لم يجدياه نفعاً ولم يخففا(408/38)
ألمه؛ فهو لا يزال مضطرباً، عاجزاً عن بيان ما يشعر به في قرارة نفسه. . . وهو لا يزال يشكو ولا يعقل أن يكون سبب شكواه ضعفاً في رجولته وهو ابن البادية. . . إذن لعل في أسلوب شكواه والعبير عن آماله نقصاً. . . أنه لكذلك فراح يبحث عن لغة جديدة ينفث بها آلامه وأماله فتهدأ نفسه، فكان الشعر لغته الجديدة، وكان شفاء علته، وكان لسان الروح ولسان القلب.
ما أروع الشعر! لقد خلق نفسه خلقاً، بل لقد خلقته حاجة النفس البشرية إلى تنظيم مشاعرها، ومنذ عرف الشعر أصبح ترجمان القلوب، ولغة النفوس، ينتقل بك من عالم القيد إلى عالم الخيال، وتجد أنت في ذلك لذة لا تدري كنهها، ولا تعلم مصدرها، ولكنك برغم ذلك تحبها وتود السبح في سمائها الحالمة، والشعر يغمر نفس الشاعر وجدانا موزوناً نغماً
يولد الشاعر والشعر في روحه سر من اسرارها، لا يظهر إلا إذا انتظمت مشاعره، ولكنه لا يتقيد بسن ولا بزمن، وقد تفاوت مواعيد ظهوره بتفاوت نفوس الشعراء واستعدادها لتنظيم حياتها بطبيعة النظام الشعري الكامن فيها، فمن الشعراء المفطورين من يتمادى به العمر قبل أن يقول الشعر، ومنهم من تشع نفسه إشعاع الشعر، وهي في أيام الصبا الندية. . . ليس معنى هذا أن ملكة الشعر تقبر طيلة هذه الفترة الخامدة في نفس الشاعر، بل أنها لتظهر ولكن في صور أخرى كأن يميل صاحب النفس الشاعرة في طفولته إلى اللعب المنظم وجمع الصور الملونة والى سماع الموسيقى، وفي شبابه إلى الرسم الجميل وابتكار الصور البديعة. ذلك بأن ملكة الشعر موجودة فيه، تنظم اتجاهات نفسه، وتعمل على السمو بها حتى تتهيأ لرسالة الشعر. ومن عظمة الشعر أن يكون للشاعر المكفوف عيناً يغمر قلبه بالنور فيبدد غياهب الظلمة، وينثر الشعر أمامه نجوماً وشموساً تبهر عيون المبصرين. إلا أن الشعر وحي يرتفع بالشاعر إلى مرتبة الروحانية، ففي استطاعة الشاعر أن يعرض لك الصور الحسية الجافة الصامتة عرضاً كله حيوية ناطقة؛ يصور لك الشيء الذي لم تره، فتشعر كأنك رأيته ولمسته وخبرته. وما رأيته ولا لمسته، ولكنه سحر الشعر وفنه وأعجازه، يجعل من المعنويات محسات، ومن الأخيلة حقائق، فما أبدعه وما أروعه! انتهينا إذن إلى أن الشعر لغة روحية، هب نسيمها على النفوس عندما انتظمت المشاعر، وحينما(408/39)
تهيأت لتلقي الرسالة الشعرية؛ وأنه أسلوب خلق نفسه في الإنسان خلقاً، عندما ضاقت النفس بمعان لا تصورها خطابة، ولا يعبر عنها حديث، وقد ارتاحت النفوس إلى الشعر لأن طبيعته الوزن والنغم والنظام والأناقة؛ وأحبته حين نظم مشاعرها، ونظم أحاسيسها فأراحها
وإن الشاعر المفطور يخلق وفي طبعه روح الشعر، أن روح الشعر لا تخمد بخمود روح الشاعر، بل أنها لتظهر في صور فنية أخرى. ولما كان الشعر وليد العاطفة المنظمة لابست أغراضه أغراض النفس أصدق ملابسه، وتساوقت معاني القلوب وأحاسيسها في معانيه وأحاسيسه، وصار أمرا طبيعيا أن يكون الشعر صورة لنفسية الشاعر، وعبيرا لأزاهير حبه، ولهيباً لما يشتغل بين جوانحه من عاطفة، وشعاعاً لما يتألق في وجدانه من آمال. وكان بكل هذا حقيقاً أن يكون مجتلى لسائر العواطف الإنسانية السامية
وإن الباحث البصير ليستطيع أن يحدد زمن الشعر الذي يقرؤه إذا أوتي حظاً من دراسة النفس في مختلف العصور، بل أنه ليستطيع أن يهتدي بالشعر إلى كثير من أخلاق الشعوب، فيعرف ما شاع في كل عصر من الأخلاق، وما اضطرب فيه من العادات والتقاليد، وما كان يعتبر فيه مناط الفخر والمفاضلة، وأنه في كل ذلك لسائر على هدى ما يتأرج به الشعر، وما تشبه أرواح الشعراء؛ هبك قرأت الأبيات آلاتية:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تفلق هاماً من رجال أعزةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ألا تشعر بعد طول التامل، بل بقليل منه أنها من إنتاج الأدب القديم، أدب التضحية والفداء، عصر الشهامة والإقدام؟ وهبك قرأت قول الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
ألا تحكم لأول نظرة بأن هذا كلام متمعن في الحضارة، ممعن في الرفاهية، فياض بالرقة، تلوح على محياه نضرة النعيم، فلا يحلق بنفسك أقل عجب إذا علمت أنه من كلام (جرير). وهبك قرأت قول الشاعر:(408/40)
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... املك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ثم قرأت بعده قول الشاعر:
أصبحت لا أستطيع الثوب أحمله ... وقد أكون وضافي الدرع سربالى
ولا تكاد يدي تجري شبا قلمي ... وكان طوع بناني كل عسال!
ألا تشعر بأن الشاعر الأول بدوي النشأة، صحراوي البيئة، تتراءى في كلامه مظاهر العربي الصميم، الذي كل عتاده السلاح والبعير، ومن طبيعته جوب الفلاة والتعرض للذئاب والرياح والأمطار؟ أو لا تشعر أيضاً بأن روح الحضارة تهب من عبارة الشاعر الثاني؟ أفليس أدق فكرا نظاما من الشاعر البدوي؟ أو ليس له من مفاخر الحضري القلم يجريه كيف شاء؟ وإذا أمعنت في التأمل استطعت أن تدرك أن الشاعر الثاني فارس في حلبتي البيان والحرب. إلا تراه يقرن بين القلم والرمح؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا علمت أنه رب السيف والقلم (محمود باشا سامي البارودي)؟!
وهكذا يستطيع الفنان البصير أن يلمح صور الزمان والحضارات في مرآة الشعر؛ ويستطيع أن ينتقل من عهد إلى عهد على هدى من الشعر ومن نور البصيرة.
وإنك لتستطيع أن تزن أخلاق الشاعر بشعره، وتدرك ما كان عليه من مختلف الصفات، وتعلم من خلال شعره أكان قوي الروح أم ضعيفة، جياش العاطفة أم فاترها، بعيد مدى الآمال أم رهن محابس القنوط، واسع الرغبة في الغلبة وذيوع الصيت أم قانعا بما فرضه عليه الزمان، وتقيده به المقادير
الشعر أصدق في الإفصاح عن نفسية الشاعر من المخالطة، لأن الشاعر قد يكون في وقت المخالطة متكلفاً مسوقاً إلى ملابسة الأحوال التي تضطرب حوله. أما إذا قرض الشعر، فإن عواطفه تتراءى بين سطوره، وإن حاول الاختفاء واجتهد في التنكر؛ ومن هنا كان الإنتاج الشعري صورة لمختلف الوجدانات؛ وطبيعي أننا نريد من كل ما تقدم شعر العاطفة، لا الشعر البالي المأجور، ولا عجب بعد ذلك أن توفر الناس على الشعر الحي النابض بالشعور الإنساني دراسة واستيعاباً وشرحاً ونقداً، أو معارضة واقتباساً، وكما دل الشعر على أن أبا نواس كان صاحب مجون، وإن البحتري كان صاحب موسيقى، كشف لنا عن(408/41)
سر طموح المتنبي وتحليقه في مساء عالية، وغلوه في الفخر والاعتزاز بقدره، فقد كان الرجل يحمل قلب ملك، ولسان شاعر؛ فلطالما رأيناه يبوح برغم محاربة الدهر له بما يضطرب في صدره من آمال جسام، وقد كان لا يصنع بما دون النجوم، وكان يريد من الزمان ما لا يبلغه الزمان من نفسه، أليس هو الذي يقول:
وما رغبتي في عسجد أستفيده ... ولكنها في مفخر أستجده
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وهكذا كان الشعر وليد العواطف إذا احتدمت، ومنظمها إذا اضطربت، ومرآة الحياة العامة والخاصة؛ تنطبع عليها خبايا النفوس؛ فما أروع الشعر وما أجمله!!
(المنصورة)
محمود البشبيشي(408/42)
البعث. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
عَلَى يَدَيْكِ زَمَاني ... طَيْرٌ شَقِيُّ الأغَانِي
بَكَى إليكِ حَناني ... مُرَوِّعاً مُسْتَطارا. . .
اللَّيْلُ مِنْهُ اسْتَجَارَا
وَالفَجْرُ ضَجَّ وَثَارَا
وَالعُمْرُ كالطَّيْفِ. . . صَارَا
بَقِيَّةً مِنْ أمانٍ ... عَلَى قلُوبِ الحَيَارَى!!
أشْعَلْتِ نَارَ الحَنِينِ ... عَلَى رَمَادِ السِّنِينِ!
عَلَى لَظَاهَا دَعِيني ... أُصَارِعُ الأقْدَارَا. . .
يَا مَنْ لِجُرْحٍ تَوَارَى؟
وَعَادَ للرُّوحِ نَارَا
هَاجَتْ زَمَانِي فَصَارَا
بَقِيَّةً مِنْ جُنُونِِ ... عَلَى شِفاه السُّكارَى. . .
مَاذَا وَرَاَء السِّتارِ؟ ... يَا غَيْبُ أوقِفْ مَدَارِي!
لَيْلِي أضَلَّ نَهَارِي ... فَلَمْ يَعدْ لي نَهَارَا. . .
بَلْ عَادَ جُرْحاَ مُثَارَا
أدْمَى الّليَالي وَدَارَا
عَلَى كِيانِي. . . فَصَارَا
بَقِيَّةً مِنْ غبَارَ ... عَلَى سُكونِ الصَّحَارَى
هَاتِي لِيَ البَعْثَ هَاتِي ... المَوْتُ مَلَّ رُفَاتي!
فَإنْ أرَدْتِ حَيَاتِي ... قُومِي اسْكُبِي الأنْوَارَ
وَأرْعِشِي الأوْتارَا
أحِسُّ عِطْرَكِ طَارَا
إلى خَرِيفِي. . . فَصَارَا(408/43)
بَقِيَّة مِنْ شَكاةٍ ... عَلَى رَبِيعِ العَذْارَى. . .
يَا كَوْكَباً هَزَّ دَهْرِي ... يَا فَجْرِ خُلْدٍ لِشِعْرِي
خَمْرِي لدَيْكِ وَسِحْرِي ... فَأيْقِظِي الأسْحَارَا
َونَاغِمِي الأطْيارَا
وَألهِمِي الأشعَارَا
بَارَكْتِ عُمْرِي. . . فَصَارَا
بَقِيَّةً. . . لَسْتُ أدْرِي! ... هَيَّا نُزِيحُ السِّتارَا. . .
محمود حسن إسماعيل(408/44)
البريد الأدبي
الفرس والعراق
إلى الأخ الدكتور زكي مبارك
السلام عليكم
أطلعت على مقالك الأول (في الأدب العراقي الحديث)؛ فإذا أنت تقول:
(فكيف صارت العروبة في العراق بعد سقوط بغداد وبعد انتهاء ما تلا عهد المغول من خطوب؟ ظل العراق العربي محتلاً بالقوى الفارسية نحو ثلاثة قرون، وهو أمد يقدر بثلاثة أرقام، ولكنه أمد طويل جداً)
وقد وقفت أيها الأخ الفاضل عند هذه الجملة، وسيرت فكري في تاريخ العراق بين غارات التتار وهذا العصر، فلم أعرف أن الفرس ملكوا العراق ثلاثة قرون. ولكن كان تسلطهم على العراق في عهد الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية (907 - 930هـ)، ثم تداولوه هم والأتراك العثمانيون حتى سنة 1048، حينما استولى عليه السلطان مراد الرابع العثماني. وكان العراق في هذه الحقبة دولة بينهم وبين الترك العثمانيين، وكان سلطان هؤلاء أغلب عليه؛ ثم استولى الفرس على العراق زمنا قصيرا في عهد نادر شاه بعد زوال الدولة الصفوية
فليس حقا أن الفرس ملكوا العراق بعد غارات التتار ثلاثة قرون ولا قرنين ولا قرناً، وإنما كانت مدداً غير متصلة بين عهد إسماعيل الصفوي وعهد مراد الرابع العثماني كما بينت
والأخ مشكور على اجتهاده واحتماله المشقة لتاريخ الأدب العربي في العراق، وله تحيتي وسلامي
عبد الوهاب عزام
عود إلى (التجديف)
عاد العلامة الدكتور زكي مبارك، في العدد 407 من الرسالة الغراء، يطرق باب (التجديف)، وكنت ظننت أنه أوصد لا إلى رجعة. وقد لخص ما كان قرره من قبل في هذا الموضوع، ببيان أوفى، وزيادات متممة. وتلطف في أثناء بحثه هذا فطلب إلي أن أكون(408/45)
حكماً بينه وبين العوامري بك.
وقد رأيت، نزولاً على إرادة الدكتور، أن ارجع كرة أخرى إلى مقال العوامري بك في مجلة المجمع اللغوي، حتى أضبط الرأي وأحكمه، فوجدت أنه في هذا المقال، كما هو في غيره من مباحثه اللغوية، من أولئك (المحافظين) المتشددين الذين يقفون عند النصوص وأقوال الثقات فيما هو قياسي وما هو سماعي.
فهو لذلك لا يبيح أن يقال: التجديف أو التجذيف أو التقذيف؛ لأنه لم يعثر على أفعال هذه المصادر فيما رجع إليه من الكتب والمعجمات. وليس معنى هذا - كما هو بدهي - أنه يجزم بأن العرب لم تنطق بهذه الأفعال؛ كما أنه ليس معناه أنه لم يروها راو، أو أنها لم تدون في كتاب؛ وإنما هو يقول - كما يقول دائما في بحوثه الغوية -: أن هذا مبلغ جهدي، وقصارى اطلاعي. فمن عثر بعد ذلك على شيء مما أنكره فليدل به
ثم هو بعد ذلك يحظر تضعيف جدَفَ وجذَفَ وقذَفَ، لأن التضعيف للكثرة والمبالغة سماعي، يحفظ ما ورد منه ولا يقاس عليه، ولو أن (الجدف أو الجذف أو القذف لا يصور الحركة التي يثرها المجداف أو المجذاف أو المقذاف) كم قال حضرة الدكتور. فليس يصار إلى التضعيف إذا لمحنا في الفعل الذي لم يسمع تضعيفه معنى الكثرة أو المبالغة، كما أنه لا يصار إليه إذا أردنا منه (أي من ذلك الفعل) الكثرة أو المبالغة، فلا يقال مثلا في نَصَرَ (نّصر)، ولا في كِرهَ (كرَّه)، ولا في فهم (فهَّم) وهكذا
هذا شأن العوامري بك. وأعتقد أنه شأن الجمهرة من المشتغلين باللغة.
أما العلامة الدكتور زكي مبارك فالذي أستخلصه من نقاشه في هذا الموضوع وغيره (أن كنت قد وعيته حقا) أنه ربما يترخص ويتوسع، فيعدل عن المقطوع بصحته إلى غيره، لعلل وأسباب (رأينا بعضها في مناقشاته في الأعداد الأخيرة من الرسالة) هو مقتنع بكفايتها.
هذا يا سيدي الدكتور ملخص فهمي للرأيين أو المذهبين. فالواقع أن الخلاف بينكما ليس على الأمثلة، وإنما هو على المبادئ والأصول.
(أ. ع)
مسابقة وزارة المعارف لتشجيع التأليف في القصة المصرية(408/46)
تتجه وزارة المعارف إلى تشجيع الأدب والتأليف في صورة مسابقات تعلن عن جوائزها وتدعو الكتاب لها، وستعلن قريبا عن مسابقة في القصة المصرية الطويلة
وسيختار قريباً أعضاء التحكيم من بين كبار الأدباء الموظفين في الوزارة
وقد علمنا أن الوزارة ستشرط أن تكون مادة القصة رامية إلى واحد من هذين الغرضين:
1 - إحياء صورة من صور التاريخ المصري الإسلامي، أو التاريخ المصري القديم
2 - تصوير الحياة الاجتماعية الحاضرة مع اقتران التصوير بإيحاء وسائل العلاج والإصلاح التي يتطلبها المجتمع المصري
وستكون الجوائز كما يلي:
الجائزة الأولى 100 جنيه، والجائزة الثانية 80 جنيهاً، والجائزة الثالثة 60 جنيها
وأخر موعد لتقديم قصص المتبارين إلى اللجنة هو منتصف أكتوبر القادم
تعقيب على نقد المناظرات
قرأت كلمة الأستاذ إسماعيل فهمي، وأود أن أعقب عليها بما يأتي:
أولاً: أن عصر بطليموس الأول والثاني والثالث هو عصر أمان نسبي ازدهر فيه الفكر، فهو مصداق آخر يدل على أن ازدهار الفكر في عصور أمان كالتي ذكرها
ثانيا: عصر إحياء العلوم في مدن إيطاليا هو عصر من عصور جزائر الأمان، وهو يثبت أيضاً أن ازدهار الفكر في أماكن الأمان لا في أماكن الفوضى
ثالثا: أن الفكر يزدهر حقيقة عند ملتقى الثقافات والحضارات المختلفة، ولكن ازدهاره عند ذلك الملتقى بسبب الأمان الذي يكون عند تبادل الشعوب لسلع التجارة والأفكار وليس بسبب ما قد ينشأ من الفوضى الفكرية.
رابعا: أن اختلاف الآراء ليس دليلاً على الفوضى الفكرية، وإذا نظرنا إلى عصور الحضارة والأمان وجدنا شيئا كثيرا من ذلك الاختلاف، إما لتسامح فيه أو تغاض عنه أو عجز عن منعه، أما إذا لم يتحقق أمر من هذه الأمور الثلاثة بطل ازدهار الفكر وبطلت الحضارة
خامسا: أن مواطن الأمان الذي يصحبه الركود والخمود والجهل والفقر وقهر الفكر، توجد(408/47)
مع الأمان السياسي فيها الفوضى الفكرية الناشئة من ارتباك الجهل وخطله وارتباك الغباء، وكثيرا ما يكون تحت الأمان السياسي الظاهر فوضى في أداة الحكم، فهو إذا أمان مزيف
سادسا: إن اشتراط الحذر النفسي والفكري لنمو الفكر في الحياة أمر يختلف كل الاختلاف عن اشتراط الفوضى، وكذلك اشتراط المحركات النفسية أمر يختلف عن اشتراط الفوضى في قول من يشترطها
سابعا: إذا كانت الإنسانية قد كسبت من تقاتل الأجناس فقد خسرت كثيرا، وطالما اضطرت إلى أن تعيد بناء الحضارة من جديد بعد فوضى ذلك التقاتل؛ فاشتراط فوضى تقاتل الأجناس لازدهار الفكر شرط غير وجيه في قول من يشترطها
ثامنا: أن الركود والخمود الاجتماعي في الأمة إذا منعا من ازدهار الفكر لم يكن جالبهما الأمان وانقطاع الحروب والتدهور بسبب السكون والهدوء، بل لهما أسباب عديدة تختلف باختلاف الأمم، فمن تلك الأسباب ما هو حيوي (بيولوجي) ومنها ما هو (باثولوجي) طبي، كالأمراض التي تجتاح أو تتوطن فتهلك أو تضعف الجسم والعقل، وهذه الأسباب لم تذع دراستها كما ينبغي أن تذيع - ومنها ما هو سياسي لفساد نوع الحكومة. . . الخ
تاسعا: أن ازدهار الفكر في جزائر الأمان كثيرا ما يكون لأنه من بعض غراس عهد أمان شامل سابق أو قديم ووجدت بذوره وبقاياه من تعهدها برعايته في جزائر الأمان.
محمد عبد الله
الفكر والفوضى
أن رأيي في مناظرة ازدهار الفكر أن الوضع الصحيح قد عكس، فأني أستطيع أن أفهم أن الفكرة إذا أريد تطبيقها إلى أبعد غاية من غير نظر إلى ما يخالفها ويلطفها من الأفكار الأخرى التي تعين حدودها قد تسبب الفوضى أي أن الفكر قد يسبب الفوضى - ولكني أجد صعوبة في أن أفهم كيف أن الفوضى تسبب ازدهار الفكر ما دامت الفوضى فوضى، ولا أفهم كيف تكون معه حتى من غير الصلة السببية، فإن الفكر خطواته نظام، والنظام ضد الفوضى، والفوضى عمياء والفكر بصير، وكل فكرة - حتى الفكرة التي تقول أن الفوضى تسبب ازدهار الفكر - قد تضيء عليها فوضى المقاطعة والمعارضة وفوضى الاضطهاد(408/48)
والأحقاد، إلا إذا ناصرتها الفوضى حباً لذاتها. ويا حبذا لو قرأنا في الرسالة مناظرة في الموضوع آلاتي: (هل يؤدي الفكر إلى الفوضى أم يؤدي إلى الأمان والنظام؟) وهو عكس موضوع مناظرة كلية الآداب
وتكون الفائدة عظيمة إذا تتبع كل مناظر حياة الأمم ومظاهر الفكر قديماً وحديثاً، ولكل مناظر مجال واسع في الجانبين من الموضوع، وهو موضوع قد يستلزم النظر في موضوع ثان، وهو: هل الفكر والفلسفة نتيجة النزعات النفسية والعواطف والأهواء أم هما سبب لإثارة تلك النزعات والأهواء؟
ولا داعي لأن أقول: أن الصواب في الجانبين معا: ولكن الفائدة في بيان شواهد الصواب في الجانبين؛ ونضرب مثلا من التاريخ القديم فنقول: أن الفكر الإغريقي هو أنفس ما يعتز به الأوربيون، وهم يعدونه أساس حضارتهم ومخترعاتهم ونظامهم، ولكنه مع ذلك أدى قديماً إلى مذهب السوفسطائية الذي كان له ضرر محقق. إلا أننا نعود فنقول: هل أدى مذهب السوفسطائية إلى فساد النفوس وفساد ميولها، أم أن فساد ميول النفس أدى بالفكر إلى السوفسطائية؟ وهذا الموضوع الثاني قد يستدعي موضوعاً آخر للمناظرة، وهو هل ينبغي أن يكون الفكر حراً طليقا، أم ينبغي أن يقيد؟ وإذا وجب قيده فكيف يقيد؟ والى أي حد؟ ومن الذي يقيده؟ وإذا جلب قيده فائدة فهل يجلب ضرراً مع الفائدة؟ وأيهما أشد وأبقى: الفائدة أم الضرر؟ وهل كان الفكر الإغريقي أو العربي يثمر كل ثمراته لو كان مقيداً قيداً حقيقياً؟ هذه مشكلة أخرى من مشكلات الفكر العديدة
السيد خليل
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
قرأت ما كتبه الأستاذ علي عبد الواحد وافي رداً علي في هذا الموضوع، وقد ختم رده بأنه بصدد قبائل كانت تئد كل بنت تولد لها، لا بصدد حالات فردية كانت تنحر فيها بعض البنات. وإني أقول في ذلك كلمة لا أحب أن أقول بعدها كلمة أخرى، لأن مثل هذا الذي يقوله الأستاذ علي عبد الواحد وافي لم تذهب إليه قبيلة عربية أصلاً، ولا يمكن أن تذهب إليه قبيلة في أمة من الأمم، اللهم إلا إذا أرادت أن تقضي على نفسها وتقطع نسلها من(408/49)
بنات وبنين معاً، وإذا كان هذا شأن ما هو بصدده، فهو غير صحيح في نفسه، ومثله لا يصح أن نحمل آيات القرآن عليه، ولا سيما إذا كانت لا تحتمله
وقد رأى الأستاذ أن حمل قوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، على معنى أنهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون، لا يستقيم مع الآيات الأخرى - كما ذكرت - لأنها صريحة في أنهم كانوا يجعلون ذلك لأنفسهم لا لآلهتهم، فذكر أن نسبة الذكور لأنفسهم أو لآلهتهم لا يهم كثيراً في موضوعه، مع أن موضوعه قائم على نسبة خلق البنين لآلهتهم والبنات لله تعالى
وكذلك رأى الأستاذ أن النصوص القرآنية صريحة في أن العرب كانوا يجعلون الملائكة بنات لله كما ذكرت، فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا، ولكنه ذكر أنه لا يتعارض مع ما ذكره، من أنهم كانوا ينسبون إليه البنات من البشر، وإن المقابلة بين البنين والبنات في نحو قوله تعالى: (أم أتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) تقتضي أن تكون البنات من البشر كالبنين، وقد نسى الأستاذ في هذا آية الإسراء: (أفأصفاكم ربكم بالبنين وأتخذ من الملائكة إناثا أنكم لتقولون قولاً عظيماً). فالمقابلة فيها صريحة بين البنين من البشر والبنات من الملائكة، وهي مقابلة سائغة مقبولة، ووجه ذلك لا يخفى على مثل الأستاذ وافي
ولا أحب أن أطيل بعد هذا فيما أطال به الأستاذ، ويكفي أن مذهبه يؤدي إلى أنه كانت هناك قبائل تئد كل بناتها لأنها من خلق الله أو الشيطان، مع أن ذلك لم يكن إلا حالات فردية في تلك القبائل، وكان يدعو إليها الفقر من الفقراء، أو خوفه من الأغنياء، كما صرح بذلك القرآن الكريم؛ وخصوا البنات بذلك لأنهن لا يكتسبن
عبد المتعال الصعيدي(408/50)
القصص
عطر المنصور
للأستاذ رفعت فتح الله
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وأمر المنصور حاجبه أن يستقدم سعيداً، ثم يستقدم زوجه، فلما قدم سعيد رأى في الفناء حبيباً مع صاحب الشرطة، فتعجب، وقال: أنت أمامي هنا وهناك!! ثم جد في السير كأنه يفر، حتى دخل على المنصور، فسلم وحيا، وبدت في عينيه نظرة الاهتمام.
قال المنصور: أتعرف الرجل الذي مررت به في فنائنا؟
قال سعيد: أعرفه
قال المنصور: أبينكما صداقة؟
قال سعيد: بيننا شيء
قال المنصور: كيف وجدته؟
قال سعيد: وجدته رجلا لا يعرف قيمة المال
قال المنصور: وكيف وجدت عقله؟
قال سعيد: هو رجل يروي أدباً ويقرض شعراً
قال المنصور: هل تتزاوران؟
قال سعيد: قد يزورنا
قال المنصور: ولكنك لست فارغاً للشعر والأدب!
قال سعيد: أن زوجي تحب الشعر والأدب، فإذا حضر تناشدا الشعر وتقارضا الأدب، حتى إذا أفلس أدبه قام عنا
فهمس المنصور: وهل يفلس الأدب كما يفلس المال؟! ثم قال: لعلك ترغب عن حديثه؟
قال سعيد: أن أكثر كلامه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف أرغب فيه؟
قال المنصور: أولست ترى له خيراً ترتجيه؟
قال سعيد: أنه ليس غنيا أرتجيه. . . غير أني. . .(408/51)
فبادر المنصور قوله: غير أنك قد استفدت منه!
فاضطرب سعيد وقال: قد كان له جاه وجهه في عرض تجارتي، وله رأى رآني به في بعض أمري، وإني لأعجب من جاه لا مال معه! ومن لسان لا يد له!
قال المنصور: أتنكر مروءته؟
قال سعيد: لا، ولكني وددت لو كان غنياً لم تدركه حرفة الأدب
قال المنصور: وطهارته؟
قال سعيد: لم يذكر الناس فيه رجساً
وأسكتا!
ولما قدمت حبيبة أبصرت في طريقها حبيباً وهو على حيرته، يستحثه صاحب الشرطة، فأنكرت بصرها، ورنت إليه، وأطال العجب رنوها، وألهم حبيب النظر نحوها. فالتقت العين بالعين، ووجب القلب للقلب، ثم أخضع الأسى عينيه، وأسجد جفنيه؛ فسارت نحوه مضطربة السير، قد مد الاستفهام ذراعيها، وابتدر سؤاله فمها. قالت: ما لك؟ فقص عليها قصته. فهزت رأسها وقالت: فهمت. . . فهمت. . . لقد فاح ذكاء المنصور عطراً، فنصبه شركاً؛ أنه صراع الملك في قصة يوسف! (وغمزت بعينها وضحكت)؛ ثم قالت بصوت حزين: يا حبيب. . . أعط الخليفة الهدية!
قال حبيب: لقد كانت صلة تحمل طابع الحب؟
قالت: أن حبنا معنا، وأما هذا الطابع فنحن الذين طبعناه، ونحن إذا شئنا محوناه، ليعود خاتمها الأول. . . خاتم البخل؛ فلقد يغلط البخيل فتكون غلطته جوداً، ثم ينقلب معنى الجود في نفسه ندما. ولقد علمت سعيداً بخيلاً، يكاد يسترجع قيئه إذا ذكر أنه كان طعاما!!
فاشمأز حبيب شمأزيزة المال، واطمأن طمأنينة الحب، ونادى صاحب الشرطة حيث وقف جنبه، فقال له: قد رضيت حكم الخليفة، وإني ذاهب لأحمل المال إليه. فقال صاحب الشرطة: أرحت واسترحت! وأمر شرطياً أن يذهب معه فيحمل عنه؛ ثم ذهب إلى الخليفة في سكاته، فأسر إليه رضى حبيب بحكمه، فتبسم ضاحكاً!
والتفت المنصور إلى سعيد وقال: إيه!
فنظر إليه سعيد نظرة تتألق بطلب الحديث!(408/52)
قال المنصور: إلا يزال حديث المال يتردد في نفسك!
قال سعيد: أنه يتردد مع أنفاسي، ولقد بت الليلة ضجيع خياله!
قال المنصور: كأنه امرأة ثانية!
وضحك ثم قال: أرايتك أن رددت عليك مالك بعينه أتحكمني في امرأتك؟
فأشرق وجه سعيد كثيراً، وأغيم قليلاً؛ ثم قال: نعم
قال المنصور: دعني إذن أستخلصه لك، واجلس عند الأُذن قليلاً حتى يأذن لك بالحضور مرة أخرى
فخرج سعيد متفائلاً، وهو يجمجم: نعم العطر!
فاهتز المنصور ضاحكاً، وهو يزمزم: نعم ذكاؤه!
ودخلت حبيبة تتهادى، وقد ربط التجلد على قلبها، فبدا وقارها. . .
قالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين والمؤمنات
قال المنصور: وعليك السلام أيتها المؤمنة
قالت: أحب أن أشكر أمير المؤمنين على عطره الذكي؛ فقد كان بشير يمن لزوجي، وأرجو أن يمسني يمنه كذلك
قال: ولكني أظنكما فرطتما فيه
قالت: ما وضعناه إلا حيث تخيرنا، عسى أن ينتشر طيبه على الطيبين
قال: (والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) وابتسم!
فانتفضت وقالت: (أولئك مبرؤون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم)!
قال: أوليس زوجك طيبا؟!
فارتجفت وقالت: أنه طيب المال، يجري حبه في دمه، كأنه ابن الدوانيق. . .
فأربد وجه المنصور غضباً وقال:
أتغمزينني بكنية (أبي الدوانيق) التي كناني بها بعض المرجفين في المدينة، إذ رأوني - حين بنيت بغداد - أباشرها بنفسي وأحاسب الصناع وأجازي المهملين، فظنوا أني فتنت بالدرهم والدانق، وإنما راقبت ربي فراقبت عملي، وقومت أمري فأرضيت نفسي، وما أنا بمفتون أو بخيل، ولكني رأيت كثيرا من الناس عبيد المال، فأمسكته لهم، ليكونوا عبيد الله(408/53)
وخليفته!
قالت: أني أجل أمير المؤمنين أن أغمزه بتلك الكنية، فلقد رعيت المال: كثيره وقليله، وديناره ودانقه، فكنت أباه! وأما سعيد، فقد حكمه المال وتولاه، حتى صار خادمه ومتبناه!
فتساير الغضب عن وجه المنصور وقال:
- أني أكبر عقلك!
قالت: وهل أكبرت عقل سعيد؟
فنظر إليها المنصور وسكت ثم قال:
- أراك برزة!!
قالت: ما رأى مني أحب الناس إلي إلا ما رآه الخليفة من وجهي ويدي، فما ضرني أن أكون برزة؟! إنما خلق الله المرأة رجلة ولم يخلقها جنة! وجعل اللسان حجة ولم يجعله عورة! وإن المرأة التي تخشى الرجال هي التي أخشى عليها الرجال. . .! أليس الله أحق أن تخشاه؟!
ولقد حجبت نفسي بالعفاف، فبلغت غاية الحجاب؟
- أظن سعيداً معجبا بعفافك؟
- يعجب بعفافي بعد أن يعجب بماله!
- هو سعيد بك
- لو وجد هواه مع غيري لكان أسعد!
- وأنت سعيدة؟
- أسمي (حبيبة)
- ليست الأسماء حقائق
- قد تكون الأسماء آمالاً، ألم يسم أمير المؤمنين قصره (الخلد)؟
فنظر إليها المنصور نظرة رائعة ثم قال:
- وكيف تزوجت إذن سعيداً؟!
- تعارفنا بالأسماء وتقاربنا بالأنساب، فتزوجنا، وقد كان قلبي على فطرته ينبض كما كان ينبض منذ ميلادي، وكان زوجي يرعاني كما يرعى إحدى قريباته، ويحبني كما تحبني(408/54)
إحدى قريباتي. . . وقد رأيته يتاجر فساعدته، وساعده الحظ معي، حتى أثرى، فكشف ثراؤه عن نفسه، وتجسد أمامي حبه للمال، يستكثر ولا يستكفي ويبخل ولا يستمتع، والمال تجاهه سلسلة لا تنتهي حلقاتها، كلما جذب حلقة بانت له أطراف أخرى فجرى إليها. . . فكرت وقدرت، فإذا موضع المال من قلبه في الأعماق، وإذا موضعي من ذلك القلب على الشط: أحمل دلوي لأغرف له، كأن عقد الزواج من عقود المال، وكأني شريكته في متجره لا في بيته. غير أني شريكة لا تشارك في ربح ولا تطالب بأجر!! وكيف يراني أو يسمعني وقد طرفت الدنيا عينيه، وسدت أذنيه؟! وهكذا حفر في قلبي أسفاً! وتتالت الأيام على حفر ذلك الأسف، فكان غضباً! وبالغت الشهور في حفر ذلك الغضب، فكان كرها!. . .
هناك سمعت من حفيرة قلبي دقاته الجديدة، فخلت خفقاته وقع المعاول!. . . أنا لم أولد على دكان ربوي شحيح، ولم أنشأ في رحل بدوي غليظ، فقد كان أبى أدبياً طبعني على أدبه، حناناً أرقني بحنانه، فكيف أعيش في كنز أسمع رنينه ولا يسمع أنيني؟ طار قلبي عن بيتي، فلم أدر: كيف يقع؟ وأين يقع؟ ولكني أحسست صدري فارغاً، قد طلاه الآسي بسواد، يعلن الحداد! ثم رأيت - في من رأيت - فلاناً
فابتسم المنصور ابتسامة المعرفة، واستكملت قولها:
تعرفته فتبينت فيه العفافة، وتأملته فتأولت فيه المروءة، رأيته شاعر النفس واللسان، رقيق القلب والبيان، فأحسست أن قلبي قد هبط معه، فما قابلته حتى تحادثت حمرة في الوجهين ودف عرس في القلبين!
قال المنصور: حسبك! فإني أخاف عليك الغرق والإغراق
قالت: قد بلغنا الساحل! (وأشارت إليه)
قال: وأين واجب الزوج؟
قالت: قد عرفت الواجب فرعيته، وقدرت الأمانة فأديتها؛ وما أثقل الواجب والأمانة إذا وغلت فيهما الكراهة! وأمير المؤمنين يعلم أن الله قد شرع الزواج آلفة لا نفرة، وشرع الطلاق ضرورة يلجأ إليها المضطر لا المغتر؛ ولكن كثيراً من الناس تعاموا عن حكمة الله، فاتخذوا الزواج مواجهة وجهين، لا معاقدة قلبين! وارتكبوا الطلاق مطية غرور لا قضية(408/55)
نفور، وما أحكم قول الله: (فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه!)
وأستأذن حبيب فأذن له، ودخل مع المال يحيي الخليفة، وابتسم لحبيبة ابتسامة ردتها بأحسن منها، ثم قالت: أن هذا المال لحبيب. إذ أهديته اليه، وقد كان مالي من قبل. إذ أهداه لي زوجي، فما أبعد زوجي عنه!
قال المنصور: إلا تفتديان به قلبيكما؟!
قال حبيب وحبيبة معا: نعم الحكم أمير المؤمنين!
ثم ابتسما في خجل من تطابق الصوتين على الجواب، فابتسم المنصور. . . وأخذت العيون تسارق النظر: فالمنصور يرخي طرفه ثم يلمح الحبيبين، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه والخليفة نظرة مقسمة بينهما، كأنها نظرة الأحول، وما أروع نظرات الحول المستعار! وإذن المنصور لسعيد بالحضور فحضر يدير عينيه!
قال المنصور: أهذا مالك يا سعيد؟
فرنا سعيد فرحاً؛ ثم قال: هو يا أمير المؤمنين
قال المنصور: خذه كما أشرت، وقد طلقت امرأتك كما شرطت فرفع سعيد رأسه ينظر إليه، ويقول: ولكنني رأيت عندها حبا وإخلاصاً!
قال المنصور: لقد أدت واجب الزواج فظننته حباً، ورعت أمانة العفاف فحسبته إخلاصاً، وما ربط قلبيكما حب، ولا جمع كبديكما ولد. . . على أنني قد تخيرت لك امرأة على هواك أسمها (سعدى) يا سعيد!
قال سعيد: الخيرة ما أختار أمير المؤمنين، وأنا درج يديه
وألتفت المنصور فجأة إلى حبيبة وحبيب؛ فإذا هي قد سدلت جفنها، وحدرت من تحتها إلى حبيب نظرة قد رويت من قلبها، بحبها! وإذا هو معقود النظر بها، كأنما نفثت فيه من سحرها!. . .
فهمس المنصور: خلقت هواك كما خلقت هوى لها!
ثم قال لهما: جمع الله بينكما بشرعه
ثم إذن لهم جميعاً، فخرجوا راضين، وهو يقول:(408/56)
الحمد لك، الآن تلاءمت الأسماء، والتأمت الأهواء
وبعد أيام زفت سعدى إلى سعيد، وزف مالها إلى ماله، فتواصيا بالاكتناز، وتباعثا على الاكتساب؛ فما أصبحت ليلة الزفاف حتى امسكا دفتر الحساب!
وبعد أشهر زفت حبيبة إلى حبيب، وزف حبها إلى حبه، فورى القلبان بنار الشوق، كأنهما زنداه! وتلاقى الفمان على قبلة ال (حب) كأنهما حرفاه! واستبدت بهما القبلة، فتطاعم المتلاثمان، كأنهما حمامتان!
رفعت فتح الله(408/57)
العدد 409 - بتاريخ: 05 - 05 - 1941(/)
وتقديم الساعة مرة أخرى
للأستاذ عباس محمود العقاد
يقول الراوي: سمعت فيما سمعت من فكاهات الناس أن غريباً نزل ببلد من البلدان يتفرج بالسياحة ويحتال للرزق، فلم ينفرج ضيقه، ولم يتسع في طلب الرزق طريقه؛ فخرج يوماً إلى مدافن البلد يتعظ ويستعبر، ومال على القبور يقرأ ما كتب عليها، فأذهله ما قرأ وعى بتفسيره وتأويله
هنا قبر كتبوا عليه أنه قبر الوزير العظيم فلان: حكم وعدل وأصلح وبلغ من العمر عشرة أيام
وهنا قبر كتبوا عليه أنه للقاضي الجليل فلان: كانت له أحكام يؤتم بها في مجالس القضاء، وأثرت عنه مؤلفات يتداولها الطلاب والأدباء، ومات ولم يجاوز من العمر أسبوعين
وهناك قبر لطبيب، وإلى جانبه قبر لأديب، ووراءهما قبر لسرى حسيب، وعلى مقربة منه قبر لناشئ نجيب، وما منهم معمر ولا مغتضر يجاوز الساعات والأيام، إلى الشهور والأعوام، ولا منهم إلا من تذكر له المآثر ويرتفع به المقام
فأستغرب الغريب، وسعى إلى الحارس يسأله في هذا الكلام المريب: ما خطبكم يا هذا؟. . . أحياؤكم في المدينة يشيبون ويعمرون، وأمواتكم في المقابر لا تعدّ لهم شهور ولا سنون. فهل يجاء بالأموات من بلد غير هذا البلد، أو تعدون العمر عندكم بغير ما ألف الناس من عدد؟
قال الحارس: بل هي مدافن القوم، وهي أعمار أبناء آدم، ولكنهم يسقطون منها مالا يسر ولا يؤثر، ويثبتون منها ما قضى في سرور وعمل مشكور. فمن ثم تنحسر السنوات بعد السنوات، فلا يبقى غير لحظات ولمحات، وهي التي تراها، وتحار في معناها!
قال الغريب: إن كان هذا فوصيتي لك أن تكتب على قبري حين يتوفاني الله في بلدكم: من بطن أمه إلى القبر!
ويقول الراوي مرة أخرى: ثم أدركتني سنة من النوم وأنا أعيد حكاية هذا الغريب اليائس وأسل نفسي: كم من الناس يحق له أن يزيد على ما أوصى؟ وكم من الأعمار يبلغ الساعات على هذا الحساب؟(409/1)
وإني لكذلك إذ ارتفع بصري إلى دائرة هائلة الأقطار كأنها صفحة الساعة التي نقيس بها الزمن، ولولا أنها شيء لا يدرك له آخر ولا تظهر لعقربيه حركة، ولولا أن العقربين لا ينتهيان ولا يزالان ذاهبين ذاهبين إلى وجهة بخيل إليك أنها حافة وما هي بحافة، ولكنها أشبه شيء بخط الأفق المخلوق من وهم الناظر إليه الأبد كله يقاس بهذه الصفحة!! أو هي الساعة السرمدية التي ترصد بها حركات الأكوان، إن صح أن تسمى هذه الساعة وهي تشمل كل حين!
يقول الراوي: وألمح على الصفحة علامات مختلفة الشيات، لا أهم بأن استوضحها حتى يتضح لي جواب ما هممت بالسؤال عنه كأنه خطرة من خطوات الضمير لا أسمعها ولا أرى قائلها. . . هذه علامات السعود والنحوس، وهذه مفاتيح الإسراع والإبطاء، وهذه لوالب الأفلاك ومنها فلك الأرض الصغير، وهذه وهذه إلى آخر ما في الصفحة السرمدية من مجهول ومعلوم
وتتحرك يدي إلى مفتاح من المفاتيح، ويهجس في ضميري المجيب الذي لا أسمعه ولا أراه: مكانك! إلى أين؟
قلت: إلى المفتاح الذي يعبر أوقات النحوس في لمحة عين
قال: ويحك. وما أنت وعلم هذا؟ وأي نحوس تريد؟ نحوسك أنت، أو نحوس العالم أجمع، أو نحوس فريق من الناس دون فريق؟ هذه أسرار لا تهديك فيها العلامة ولا يطيعك فيها المفتاح. وإنما قصاراك أن تنظر في الساعة التي تخص حياتك إن اهتديت إليها. فهنالك ترى من ساعاتك وأيامك ما يقتضب أو يستطال، على شروط يدلك عليها الدليل الموكل بتلك الآجال
قلت: وأين أجد هذه الساعة أصلحك الله؟
قال: في خلف هذه الصفحة. . . فهنا صفحة الكون الخالد وهناك صفحات الأحياء من أبناء الفناء
واستدرنا أو خيل إلينا أننا نستدير فإذا الدوائر أمامنا متشابكات متداخلات لا يحدها الطرف ولا يحصيها الحساب، وإذا بالمجيب الذي لا أراه ولا أسمعه يشير إلى إحداهن ويقرئني عليها أسمي وعلامات السعد والنحس في عمري، ويقول لي: دونك ساعتك فاصنع بها ما(409/2)
أنت صانع. فهي إن عمرت أو خربت لك أو عليك قلما يضار من جرائها أحد سواك
ثم يعود صاحبنا فيقول: وأعلم أنك لا تأخذ السعادة ولا تتقي الشقاوة في هذا المكان، فإنما هو للحصر والتسجيل ثم تحال إلى الخزانة التي فيها ما تشتهيه وتتقيه، فعلى حسب ما في يدك من سجل أوقاتك وسعادتك وشقاواتك يكون التسليم من يد الخازن الموكل بهذه الأمور
ودارت المفاتيح، وذهبت إلى الخازن، وأريته السجل والتعداد، وانتظرت ما يقول، فإذا هو يراجعني مراجعة البائع المتحرج الذي تأبى له ذمته أن يستر بخساً أو يبالغ في مزية، ولا يثنيه عن ذلك غضب ولا استعجال
قال: هذه سويعات بل لحظات لك في سجل السعادة، أفأنت نازل عن عمرك كله من أجل هذه اللحظات؟
قلت: أو ليست هي سعادة خالصة؟
قال: بلى، ولكن مأمور بأن أبصرك بالحقيقة قبل أن آخذ منك أو أعطيك
فهذه اللمحات لا يدخل فيها الوقت الذي تشتاق فيه إلى السعادة، ولا الوقت الذي تحن فيه إلى ذكراها، ولا الوقت الذي تعرف فيه قدرها بفقدانها والشعور بالفارق بينها وبين نقيضها.
وهذه اللمحات تتصل بسعادات أناس آخرين لولا هم لما ظفرت بحصتك التي كتبت بعنوانك، فإما أن تتسلموها جميعاً أو تتركوها جميعاً ولا انفراد لك بالرأي فيما تختار
وهذه اللمحات إنما هي كالري للظامئ فلا إرواء لها إلا بعد إظماء، ولا محل للإيجاز في أوقات الشقاء إلا أن تصاب لمحات السعادة بمثل هذا الإيجاز
قلت: أني أغليت الثمن وبذلت عمراً كاملاً في سبيل هذه اللمحات القصار
قال: أنك لم تبذل شيئاً بل استرحت مما أنت باذل من شقاء، ولهذه الراحة ثمنها، فمن عسى أن يبذل الثمن غير المستفيد؟
قلت: أننا في عالم الدنيا نشتري الحلو والحامض ونلقي بالحامض جانباً إذا كرهناه، وغاية ما يسومنا البائع أن يبيعنا الفاكهة المنتقات بأغلى من سعر الفاكهة التي ليس فيها انتقاء. فلم لا تتبعون في بيعكم وشرائكم ما نتبعه فيما بيننا من بيع وشراء؟
قال: ذلك لأن حلاوة الحلو عندنا من حموضة الحامض، فليس بينهما انفصال!(409/3)
وسألته: وما النتيجة؟
فأجابني: والنتيجة أننا ننقصك من السعادة بمقدار ما ننقصك من الشفاء، وليس الأمر كما ظننت زيادة على هذه يقابلها نقصان من ذاك
يقول الراوي: فتدبرت كلام الخازن الناصح فوجدته على صواب، وتبين لي أن الصفقة لا تنعقد إذا هي انعقدت إلا على ما أشترط ووفق ما رسم. فهذه الساعة التي نعمت بها لأنني قضيتها مع من أحب، كيف أنتزعها وحدي وأعزل حسابها من حساب عمره؟ وهذه الواحة التي ابتهجت بها لأنني عبرت إليها الصحراء كيف أبتهج بها ولا أبتئس بصحرائها؟ وهذه المرارة في كأس الفتنة، كيف أتركها ولا أترك معها نشوتها وأحلامها؟ وهذه الخلاصة كيف أستخلصها ولا أتعب في استخلاصها
أيها الخازن الناصح: شكراً لك، فقد نصحت وأبلغت فهل يضيع تعبي في تقديم الساعة بغير جزاء؟
أيها الباحث عما ليس يوجد: هذا هو الجزاء، وهكذا يتعب من يختصر العمر ليختصر الشقاء!
وبعد فقد كتبت في السنة الماضية عن تقديم الزمن وتأخير الزمن، فحق لهذه السنة أن نحفل بتقديم ساعاتها وإن كنا لا نقدم ولا نؤخر بهذا الاحتفال
وأراني عشت عشرين سنة ولم أتبين جديداً يقال منذ قلت:
تبغي السعادة لا سعادة مثلها ... والعدم قسمة طالب الإكسير
ومنذ تبين لي أن الفقر نصيب من يطلب الإكسير الذي يعطي المعادن الخسيسة قيمة الذهب الإبريز، وأن الشقاء نصيب من يطلب الإكسير الذي تتساوى به معادن الأيام فكلها نفيس وكلها محمود وكلها سعيد؛ فلا ذاك يبلغ الغنى ويسلم من الفقر، ولا هذا يبلغ السعادة ويسلم من الشقاء، وحسبنا نصيب أهل، الفناء فهم في أخر الأمر تراب، وكل ما أصابوه أنفس من التراب
عباس محمود العقاد(409/4)
صورة. . . وصورة. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
هذه كلمة من نوع ما كنت أكتب عن الأزهر من قبل، جاشت
النفس بها ثم احتبستها، ولكن كلمة الأستاذ الزيات:
(هل أنبعث الأزهر) قد أثارت كامن الشوق القديم:
وذو الشوق القديم وإن تعزى ... مشوق حين يلقي العاشقينا!
الصورتان متقابلتان كأتم ما يكون من التقابل، متنافرتان كأعنف ما يتصور من التنافر، وهما مع ذلك مجتمعتان في مكان واحد، وبينهما صلة جوار قريبة ورابطة قوية يبدو أنه لا سبيل إلى التخلص منها قبل زمن بعيد!
ليس الموضوع خيالاً يا عشاق الخيال، وإنما هو الواقع الذي لم تفسده التصاوير، والحقيقة المبرأة من المبالغة والتهويل!
الصورتان في الأزهر، والأزهر يحتفظ بهما معاً، ويصانعهما معاً، ويود لو يبقى الناس غافلين عنهما، منصرفين عن النظر إليهما
الصورة الأولى
صورة باسمة مشرقة متميزة الملامح والقسمات، يشع منها نور الإيمان، وتبدو على محياها سمات العقل والتفكير: لمن هذه الصورة؟؟ إنها صورة أزهري صحيح الفكر، رشيد العقل، واسع الأفق، لا يضيق صدراً بما يأخذ به الناس من أسباب حياتهم، وألوان ثقافاتهم، وطريقة تفكيرهم مادام ذلك في حدود العقل الصحيح والعلم الصحيح!
يشعر بأن الأزهر في عهده الحديث مطالب بأن يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، لأن هذا الفهم ضروري له، وضروري للدين الذي يحمل لواءه، وضروري للأمة التي تجعله منها في مكان القيادة!
فهو ضروري له، لأنه إذا لم يفهم ما حوله فهماً صحيحاً، ظل يخبط في ظلمات، ويضرب في مجاهل، فتكون النتيجة - ويالهول! - أن يفقد اعتباره أمام الأمة، وأن يكره بعد حين قريب أو بعيد، على التخلي عن مركزه التاريخي العظيم فيها!(409/5)
وهو ضروري للدين، لأن الدين عدو الجهالة والجمود، ولو كان الإسلام يرضى بالجهل أو يسكت عنه، أو يحب الجمود أو يصبر عليه، لما عاش هذا العمر المبارك الممتد إلى آخر الزمان إن شاء الله، بل لما وصل إلينا اليوم إلا طعيناً جريحاً، أو هرماً عملت الليالي والأيام فيه، ولكنه وصل إلينا شاباً تجري في شرايينه دماء الحياة نقية متدفقة، وصل إلينا قوياً غلاباً مرَّ بحضارات وحضارات فلم يضق بشيء منها صدراً ولم يقف أمام واحدة منها حائراً متردداً، ولا مأخوذاً مشدوهاً؛ وصل إلينا سليما منتصراً، قد تكسرت من حوله النصال، وتحطمت السهام؛ ذلك بأنه دين الفطرة والعقل والعلم الإصلاح!
وهذا الفهم الصحيح ضروري للأمة نفسها، لأن الأمة تنشد لأبنائها ثقافة قومية إسلامية خالصة، ولا ترضى بأن تفنى في غيرها، أو تؤخذ بثقافة غربية عنها عاجزة عن أن تمدها بوسائل الحياة التي تصلح لها، قاصرة عن أن تثير في نفسها شعور العزة والكرامة والتطلع إلى تاريخها ومفاخرها. تنشد الأمة لأبنائها هذه الثقافة وتتجه إلى الأزهر طالبة منه أن يمدها بها، لأن الأزهر قد زامل تاريخها الذي به تعتز، ولأنه هو الذي حفظ لها هذه الكنوز في الدين والفقه واللغة والأدب، ولأن الأزهر هو مدرسة الشعب العليا التي تجمع ابن الفلاح وابن الصانع وابن التاجر من سواد الأمة الذين يفهمون حاجاتها، ويدركون ما يصلح به شئونها!
فإذا ما تخلف الأزهر عن تلبية هذه الرغبة، ولم يقابل ثقة الأمة به، وتعويلها عليه، بالنشاط والعمل والتقدم نحو الكمال، ولم ينتفع بهذا المركز الفريد الذي ميزه به تاريخه وعلومه وطبيعة رسالته - أذاق الأمة لباس الحرمان والفجيعة، ودفعها إلى أعداء الإسلام كرهاً من حيث لا يحتسب
تقول الأمة الإسلامية للأزهر: إن من أعز آمالي أن أحمل عليك عبء تزويدي بما أحتاج إليه من قانون وتشريع، وفقه وقضاء، وأن أعمل برأيك الناضج في جميع نواحي الحياة: في الاجتماع، في الاقتصاد، في السياسة، في العلم، في الأدب، ولكن ينبغي أن يكون منك تقدم وخطوات عملية في جميع هذه النواحي، تشعرني بأنك عرفتها ودرستها عن خبرة وفهم وتحقيق ومقارنة، ولا أكتفي منك بهذه الدراسات اللفظية الأثرية، ولا بهذه الأفكار التقليدية التي لو كان أصحابها الآن بيننا لتخلو عن كثير منها(409/6)
لقد كان الفقيه المجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة مراراً، لاطلاعه على ما لم يكن قد اطلع عليه، أو لانكشاف حالة لم تكن قد انكشفت له، أو لمناقشة عالم أقنعته بما لم يكن مقتنعاً به؛ وقد مر على هؤلاء الرجال المفكرين قرون وقرون، وحدثت أحداث، وجدّت نظم، وتغيرت دول، وانكشف للناس من أسرار الله في الحياة ما لم يكن قد أنكشف، وظهرت مشكلات ومسائل وقضايا من طراز جديد، فكيف يلتوي عنق الأمة إلى الماضي من غير نظر إلى الحاضر، وكيف نقف والفلك المحرك دائر؟ في البلد شركات مالية تقوم على أساس من الاقتصاد خاص، وفي البلد مصارف أصبحت جزءاً مقوماً من نظام المال في الدنيا، وفي البلد ألوان من النظم والمعاملات لم تكن معروفة فيما مضى، فهل درستم نظام هذه الشركات والمصارف؟ وهل تفهمتم أصول هذه المعاملات والنظم؟ وهل تبينتم من ذلك كله ما يتفق مع التشريع الصحيح ومالا يتفق؟
في البلد مشكلات اجتماعية، وعلل تحتاج إلى الإصلاح، فهل فكرتم في أن تجدوا حلاً لهذه المشكلات ودواء لهذه العلل، ثم عرضتم ذلك عرضاً منظماً جاداً حازماً على ولاة الأمور، وأقنعتموهم بالصلاح فيما تعرضون؟
إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يقول: إن التشريع الإسلامي ليس كفيلاً بإسعاد المجتمع، وإنهاض الأمة؛ ولو قال ذلك أحد من الناس لكان ممعناً في الخطأ، جاهلاً بالحقائق، أو عدواً للإسلام جاحداً بفضله
ولكن قبل أن تنادوا بذلك، تحللوا أنتم أولاً من هذه القيود التي أثقلتكم. تحللوا من هذه الدراسات اللفظية الأثرية التي شغلتكم. برئوا أنفسكم وكرموا وجه العلم من أن تخلعوا على كل رأي قديم، مهما كان أمره، هذه القدسية التي لا يعرفها الإسلام إلا لله ورسوله!
إن هؤلاء الذين سبقوكم قد قاموا بما يجب عليهم، وأدوا إلى الله أماناتهم، ولبوا حاجات عصورهم وكانوا يصدرون فيما يرون أو يقولون عن نظر وتأمل واقتناع، فمن البر بهم أن تسيروا على سنتهم، وأن تهتدوا بهديهم: فتلبوا حاجات عصركم - في حدود الشريعة - كما لبوا حاجات عصرهم، وتصدروا عن فهم ووزن صحيح لحاجات أمتكم، كما أصدروا عن مثل ذلك
ذلك هو النداء الروحي الذي يشعر الأزهري الناضج بأن الأمة تنادي به الأزهر؛ وذلك هو(409/7)
الصوت المدوي الذي ينادي به الدين أبناء الدين؛ وذلك هو الروح الكريم الذي يوحي به الإخلاص للأزهر ورسالة الأزهر؟
هذه إحدى الصورتين المتقابلتين في الأزهر!
الصورة الثانية
أما الصورة الثانية فيا الله! كيف أصورها؟ إنها صورة مظلمة قاتمة تنبو عنها العين، وينقبض لمرآها الصدر: شيخ يعيش في عصر النور والعلم ويأبى إلا أن يكون بروحه وعقله في عصر الجهالة والتعصب والغموض والإبهام
تقول له: قال الله، فيقول لك: قال فلان في شرح كذا أو حاشية كذا. وتقول له: تأمل هداية الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، واعتبر بتطبيقه لآيات الله، وفهمه وفقهه في أحكام التشريع. فيقول لك: هذه مهمة المجتهدين وقد انقضى عهدهم، وأصبح الزمان لا يجود بمثلهم. أما أنا فمقلد وسأبقى مقلداً، لأن فلاناً يقول في منظومته:
(وواجب تقليد حبر منهمُ. . .)
وهكذا يجعل التقليد واجباً له مرتبة العقيدة!
وتقول له: أنظر ماذا كان يفعل الأصحاب الأولون، وكيف كانوا يفهمون العقائد والأحكام كما نزلت في كتاب الله، لم تشبها الشوائب، ولم تفسدها المذاهب الباطلة، ولم تؤثر فيها النحل الغريبة؛ فيخالطه الشك في أمرك، ويجري لسانه بألفاظ يرددها ولا يفهم لها معنى: أهل السنة، المعتزلة، الباطنية، الإجماع، الإلحاد، الزندقة، إنكار الحقائق الشرعية. . . إلى غير ذلك. ولو سألته ماذا يقصد بهذه الألفاظ؟ ومتى حدثت في تاريخ الإسلام؟ ومتى جعلت معايير للكفر والإيمان لما وجدت جواباً!
وآفة الآفات في ذلك كله افتراض الثقة المطلقة في نظريات بعينها وأشخاص بخصوصهم، مع الشك المطلق أو الرفض المطلق لنظريات أخرى وأشخاص آخرين؛ ومثل هذه الطريقة لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها لأهله، ويأباها القرآن الكريم الذي عظم شأن البرهان، ونعى على الذين يجمدون بدون تفكير على تقليد الآباء
هاتان هما الصورتان المتقابلتان في الأزهر. وقد أبدع الأستاذ الكبير صاحب الرسالة في تصوريهما إذ يقول في العدد الماضي من الرسالة:(409/8)
1 - (هؤلاء هم شباب الأزهر الجديد أستاذة وطلاباً، قد جلت نفوسهم ثقافة العصر، وصقلتها مدنية الحاضر، فأشرقت عليها أشعة النبوة ساطعة بعد ما حجبها الغمام والفناء حقباً بعد حقب. فهم وحدهم الذين يدركون مسافة البعد بين روح الأزهر وحياة الناس، وهم وحدهم الذين يملكون تزييف الأباطيل المقدسة التي اتسمت بسمة الحق، وتسمًّت باسم الدين)
2 - (ولكنهم حول هذا الهيكل البالي أشبه بالأغصان الخلفة التي تنبت نضيرة على أصل الدوحة العتيقة، ثم لا يتسنى لها الغلظ والسموق لأن الجذور الشيخة لا تمدها بالغذاء كله، والفروع الميتة لا تمكنها من الهواء كله. فإذا لم يرسل الله رسول الإصلاح ويؤته ما آتى أولى العزم من الرسل، فيقطع من أعالي هذه الدوحة ما أعوج، ويجتث من أسافلها ما ذبل، ويكشف عن جذعها الواهن ما التف عليه من طفيلي النبت، بغى الجفاف على هذه الأفنان النواشيء فتذوى في زهرة العمر وبكرة الربيع)
فمتى يرسل الله هذا الرسول، يا فضيلة الأستاذ الأكبر؟
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(409/9)
عندما حيرها الصمت!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
قَالَتْ: أرَاكَ كَأَنَّمَا إنْ ... فَجَرَتْ حَيَاتُكْ مِنْ شِهَابْ
وتَدَفَّقَتْ بِكَ مَوْجَةٌ ... سَوْدَاءِ مِنْ حُلُمِ الضَّبَابْ
فَكَأنًّ عُمْرَكَ في بَدِ الأ ... (م) قْدَارِ إعْصَارٌ مُذَابْ
وَكَأنَّ. رُوحَكَ كَوْكَبٌ ... مُتَمَرِّدٌ فَوْقَ السَّحَابْ
لا النَّجْمُ يَعْرَفُهُ، وَلاَ ... يَدْرِي مَنَابِعَهُ التُرَابْ. . .
أفْصِحْ عَنِ السِّرِّ الدَّفِينْ
يَأبُّهَا لقَلقُ الحَزِينْ!!
إنِّي أرَاكَ كَعابِدٍ ... نَشْوَانَ يَحْضُنُهُ الإلهْ
سَكَبَتْكَ رَاحَاتُ لغُيُو ... بِ رَحِيقَ خَمْرٍ في صَلاَهْ!
وَكَشَاعِر ذُبحَتْ عَلَى ... قَيْثَارِهِ الدَّامِي رُؤَاهْ!
نَفَضَتْكَ أجْنِحَةُ السُّكو ... نِ ظلاَلَ مَوْتٍ في حَيَاهْ!
أشْعَلْتَ في قَلْبِي الهْوَى ... وَتَرَكْتَنِي في النَّار! ِ آهْ. . .
. . . لَوْ كُنْتَ تُفْصِحُ أوْ تُبْينْ!
أهَوىً أذَابَكَ أمْ جُنُونْ؟!
قُلْتُ: اصْخَبِي بِهَوَاكِ حَوْ ... لِيَ يا حبيبة وَاعْصِفِي بِي!
أنَا عَاشِقٌ قَذَفَتْ بهِ ... بَلْوَاهُ في عَدَمٍ رَهِيبِ
أنَا قِصَّةٌ بَكْلَمة تَرْ ... وِى سِحْرَهَا شَفَةُ الغُيُوبِ
أنَا جَدْوَلٌ تَجْرِي بهِ الأ ... (م) حْزَانُ في وَادٍ غَرِيبِ
مَلَّتْ جِرَاحُ الحُبِّ صَمْتِ ... يَ فَارْتَمَيْتُ عَلَى اللَّهيبِ
رُحْمَاكِ بي. . . وَدَعِي الحَنِينْ
يُلْقِي سُؤالَكِ لِلسِّنِينْ
وَغَدً. . . تَرَيْنَ وَتَعْرِفينْ!
(مراقبة الثقافة العامة)(409/10)
محمود حسن إسماعيل(409/11)
في الأدب العراقي
ديوان الحبوبي
للدكتور زكى مبارك
حق الأدب على الأديب - خطبة لمبسون وخطبة تشرشل -
انتقام الغزاالي - الحبوبي بين الشعر والتدريس - لمحات من
شاعرية الحبوبي - مراجع - شهيد الدفاع - الشاعر المصري
المجهول احمد زناتى
حق الأدب على الأديب
بعد أن فرغت من مقالي عن (الصحافة العراقية) وقدمته لمطبعة الرسالة جاءت الأخبار بانقلاب جديد في العراق وهي أخبار آذتني اشد الإيذاء لأني أتمنى في كل وقت أن يعيش العراق في هدوء واطمئنان ليفرغ لتحقيق ما يسمو إليه من التفوق في ميادين العلم والأدب والاقتصاد
وكان من أثر ذلك الانقلاب وأثر اشتداد الأزمة الدولية أن أسكت عن حديث الأدب إلى أن تنكشف الغمة هنا وهناك فنجد ويجدون مساغاً للكلام عن الأدب والبيان
ولكنى رجعت فنظرت في حق الأدب على الأديب ومن حق الأدب الذي نتشرف بخدمته أن نجعل الهيام بتقييد أو أبده فرضاً من أوجب الفروض فلا نسكت عنه ولو آذنت أشراط القيامة بسقوط السماء على الأرض، والله الحفيظ من مكاره هذه الأيام. . .!
فمن طاب له أن يعجب من اشتغالنا بالأدب في أوقات لا يشغل فيها الناس بغير أخبار الحروب فليعرف أن للأدب ميداناً لا يقل خطرا عن ميدان القتال وقت شاءت المقادير أن نكون جنودا في الميدان الأدبي فمن واجبنا أن نقف صادقين في ذلك الميدان وان نتناسى ما سواه من الميادين وان كان تناسى ما يهدد مصر والشرق من المستحيلات
ولو شئت لقلت إن روح الغزالي ينتقم منى. ففي كتاب الأخلاق عند الغزالي تنديد بالرجل الذي غرق في خلوته وانقطع لأوراده، والدنيا من حوله تضج بغارة الإفرنج على بيت(409/12)
المقدس، وتذكره بالواجب في الدعوة إلى الجهاد
الآن عرفت أن العلماء والأدباء لا يصورون عصرهم أصدق التصوير من النواحي السياسية، وإنما يصورونها من النواحي العقلية والروحية، فأنا لا ألتفت التفاتاً جدياً إلى أخبار الحرب ولا يهمني أن أدون ملاحظاتي على ما أقرا من أقوال الزعماء، وإنما اوجه جهودي إلى متابعة الحياة الأدبية والفلسفية عساني أصل إلى أشياء يستنير بها روحي وعقلي
أليس من العجب أن تستهويني خطبة السير لمبسون عن القديس جورج أكثر مما استهوتني خطبة المستر تشرشل عن مراحل الحرب في لوبيا والبلقان، مع أن الظروف توجب أن يكون اهتمامي بالخطبة الأولى أقل من اهتمامي بالخطبة الثانية؟
كان في خطبة لمبسون فكرة فلسفية آذنتني بأنه يسايرنا في آفاق الأرواح والعقول؛ أما خطبة تشرشل فتسير في الطريق لست منه وليس مني، لأني بعيد كل البعد عن آفاق السياسة والحرب، ومن الخير ألا يعي خطبة تشرشل غير من يشتركون في توجيه دفة السياسة والاستعداد لدفع أخطار الحرب، فهم المسئولون عن وعي الدقائق من هذه الشؤون
وليس معنى هذا أني أفاضل بين ميدان وميدان، فجميع الميادين أمام الواجب سواء، وإنما أقول بأن الاشتغال بالأدب الصرف لا يعد انسحاباً من المعترك السياسي، ولا هرباً من الإصاخة لدعوة الواجب عند احتدام الخطوب، فقد أعدنا الوطن لفروض لا تقل أهمية عن السياسة والحرب، وهو لن يطالبنا بغير الوفاء لتلك الفروض، وسيرى كيف نكون عند ظنه الجميل إن أشار بإغماد الأقلام وإشهار السيوف، فلنا سواعد وعزائم وقلوب، ولن تضام مصر وهي موصولة الفتوة برجال أقوياء يعدون بالألوف وألوف الألوف
أما بعد، فإن الأخبار السود التي أطالعها في الصباح والمساء لن تصدني عن الواجب الذي أعدني له وطني، وهو خدمة الأدب في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وأنا ماض في أداء ذلك الواجب مهما اعتكرت الظروف
فما حديث اليوم؟
ومن الأديب الذي نلوذ بماضيه الهادئ فننسى أو نتناسى ما يحيط بنا من متاعب لا يتجاهل وقعها الأليم إلا من قد قلبه من الصخر الجلمود؟(409/13)
الحبوبي
نحن أمام ديوان طبع في بيروت سنة 1331هـ 1913 م على نفقة الحاج عبد المحسن شلاش، والشاعر هو السيد محمد سعيد حبوبي (أشعر شعراء الشرق أمس وأكبر علمائه اليوم) كما كتب في صدر الديوان، فمن هو بين الشعراء والعلماء؟ إن العبارة التي رقمت على صدر الديوان تشهد بأن الرجل واجه لونين من ألوان الحياة الفكرية، فعاش أولا للشعر، ثم أنقطع للعلم، وبذلك طغت شخصيته العلمية على شخصيته الشعرية؛ فإن انتهى بنا البحث إلى القول بأنه كان من الطبقة الثانية أو الثالثة بين الشعراء فسيصدق أقوام حين يقولون بأنه كان في صدر الطبقة الأولى من العلماء، وهل من القليل أن يسمو العلم بالحبوبي فيحفظ له ضريحاً في رحاب الحرم الحيدري بالنجف؟
ولكن كيف هجر الحبوبي حياة الشعر وانقطع العلم والتعليم مع ذلك الحظ من الفطرة الشعرية؟
يرجع السبب فيما أفترض إلى الرغبة في التفوق، وكان الحبوبي يعرف في سريرة نفسه أن طاقته العلمية أقوى من طاقته الأدبية. وفي المقدمة التي كتبها الشيخ عبد العزيز الجواهري لديوان الحبوبي عبارة تشهد بأنه كان مفهوما أن الحبوبي لا يقدر على مسايرة شوقي وحافظ وزناتي وصبري، وهم شعراء وصلت قصائدهم إلى العراق في ديباجة مصقولة لم يسبق لها نظير في الشعر الحديث، ولا تسهل محاكاتها على رجل يعيش في بيئة تأخذ زادها الأعظم من أقوال النحاة وقضايا الفقه والأصول
على أنه لا موجب للتكلف في البحث عن الأسباب التي قضت بانتقال الحبوبي من ميدان الشعر إلى ميدان التدريس. فالرجل فيما يظهر كان يميل إلى إيثار الحياة العلمية، وكان الناس من حوله يطيب لهم أن يروه من أعاظم العلماء، إن صح أن البيئة التي سكن إليها وسكنت إليه كانت تملك صرفه عن الانخراط في سلك أكابر الشعراء، لو أرادت به شياطين الشعر غير ما يريدون!
والواقع أن البيئة التي أحاطت بالحبوبي كانت ترجو أن يظفر بأعظم الحظوظ من الشاعرية، ولكن الرجل عرف ما يملك من الطبع، فلم يجاوز ما يطبق إلى ما لا يطبق، وإن أثقله محبوه بأضخم الألقاب(409/14)
والواقع أيضاً أن الحبوبي الشاعر أضاعته الحياة الفقهية، وهي حياة لا يرتفع معها شعر ولا خيال، وإن كانت في ذاتها من أجمل الحيوات، وهل تعز الشاعرية على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف
إسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك ... فاسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرة من ناظريك ... أذهبت نسكي وأضحت منسكا
وانهب الوقت ودع ما سلفا ... واغتنم صفوك قبل الرَّنق
إن صفا العيش فما كان صفا ... أو تلاقينا فقد لا نلتقي
وقد فتن الشاعر بهذا المعنى فأعاده بأسلوب آخر حين قال:
يا غزال الكرخ وأوجدي عليك ... كاد سرى فيك أن ينهتكا
هذه الصهباء والكأس من لديك ... وغرامي في هواك احتنكا
فاسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا
أترع الأقداح راحاً قُرْقفا ... واسقني واشرب أو اشرب واسقني
فلماك العذاب أحلى مرشفاً ... من دم الكرم وماء المُزن
إن الشاعرية لا تعز على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف ولا تعظم على من يزور داراً في بغداد فيروعه ما عند أهلها من صباحة الوجوه وطهارة القلوب فيقول:
فلست أدري أَأُملي فيهم غزلاً ... لما رأيتهُم أو أُنشئ المِدَحا
إن الفقه هو الذي وأد الشاعرية في صدر من كان يجيد مثل هذا النشيد:
رويداً سائق النوق ... فما ودعتُ معشوقي
فبالأحداج لي رشأٌ ... رمى سهماً بلا فُوق
يسهم اللحظ يرشقني ... وقلبي جِدَّ مرشوق
كأن القلب يوم سرى ... هوى من فوق عيِّوق
فليت العيس ما رحلت ... ولا قامت على سوق
فقد خفَّت بمنبلجٍ ... من اللألاء مخلوق
والبيت الأخير من وثبات الخيال(409/15)
الفقه هو الذي أضاع صاحب هذا الهتاف:
يا حامل الوردة ما ألطفك! ... فهل ترى لي اليوم أن أرشفك؟
يا وردة الناظر بالله قل ... بهذه الوردة من أنحفك؟
لا أقطف الوردة، ولكنني ... قد كدت من روضك أن أقطفك
وخلاصة القول أن الحبوبي كان آية في قوة الطبع، ودقة الذوق، ولكن الفقه جني عليه فلم يحفظ له مكان بين أكابر الشعراء
مراجع
رأى القارئ في صدر هذا المقال أني ضيق الصدر بسبب ما يثور من الأزمات الدولية، وقد حاولت أن أنتفع بفرصة الكلام عن الحبوبي فأسوق طوائف من البحوث المتصلة بتاريخ الشعر العراقي في العصر الحديث، ولكن الحوادث صدتني عما أريد، فلم يبق إلا أن أوجه نظر القارئ إلى المراجع التي تساعد على فهم شاعرية الحبوبي، وأهمها بعد الديوان كتاب (العقد المفصل) ففيه أخبار كثيرة عن الحبوبي، وفيه إشارات تشرح بعض الغوامض من ذلك الديوان
شهيد الدفاع
هذا عنوان قصيدة نظمها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي في رثاء الحبوبي ومن هذه القصيدة نعرف أن الحبوبي كان نهض إلى الدفاع في المحرم سنة 1333 (1915) فأجابه خلق من أهل الفرات والأقاليم الجنوبية وسار بهم إلى (الشعيبة) ولكنهم أصيبوا بالخذلان فعاد إلى الناصرية ورابط فيها إلى أن مات في عشية الأربعاء ثاني شعبان سنة 1333
ومعنى ذلك أن الحبوبي لم يكتف بالمنزلة الأدبية والعلمية فتسامت نفسه إلى الاتسام بوسم الجهاد
وقصيدة الشبيبي في رثاء الحبوبي تضمنت إشارات إلى أغراض سياسية يضيق عنهما هذا الحديث، وفيها نفحة من قصيدة شوقي في (الأندلس الجديدة)
زناتي
مرت إشارة إلى الشاعر زناتي عند الحديث عن الشعراء الذين عجز عن مجاراتهم(409/16)
الحبوبي، فمن هذا الشاعر المصري المجهول؟ هو الشيخ أحمد زناتي، أحد أساتذة اللغة العربية، وكان الشاعر الثاني بعد شوقي في نظر أستاذنا الشيخ محمد المهدي، وكنا نحفظ له في عهد الحداثة قصيداً نخاله مبتدأ بهذين البيتين
أرِقتُ وأصحابي خليّونُ نوَّمُ ... وما أنا ذو شوقٍ ولا أنا مُغرَمُ
ولكنَّ هَّما بين جنبيِّ شبَّهُ ... علىَّ ذوو القربَى عفا الله عنهمُ
وقد أرجع إلى البحث عن آثار هذا الشاعر بعد حين، الشاعر الذي جهله المصريون وعرفه العراقيون.
زكي مبارك(409/17)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
عوامل تطورها وصفاتها المشتركة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الأدب بجامعة فؤاد الأول
- 1 -
تقتضي نواميس اللغات أنه متى انتشرت اللغة في مناطق واسعة من الأرض، وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، بل لا تلبث أن تنعشب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه اللهجات في سبيل تطويرها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينها حتى تصبح كل منها لهجة متميزة غير مفهومة إلا لأهلها. وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللهجات يختلف بعضها عن بعض في كثير من الوجوه. ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثار تنطق بما بينها من صلات القرابة ولحمة النسب اللغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول مدة كبيرة لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللهجات المتفرعة منه
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر الحاضر. فاللغة اللاتينية مثلاً - وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي من الفصيلة الهندية - الأوربية، قد أخذت في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى تنشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، حتى أصبحت كل منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة كبيرة لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللهجات المتفرعة منها (الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية، البرتغالية، لغة رومانيا. . .). ولكنها تنحت عن هذه الوظيفة بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات. . .
ولم تفلت اللغة العربية - وما كان يمكن أن تفلت - من هذا المصير؛ فمنذ أن اتسع(409/18)
انتشارها، أخذت تنشعب إلى لهجات يختلف بعضها عن بعض وتختلف عن الأصل الأول الذي انشعبت عنه في كثير من مظاهر الصوت والقواعد والدلالة والمفردات؛ وسلكت كل لهجة منها في تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، تحت تأثير ظروفها الخاصة، وأخذت مسافة الخلف تتسع بين هذه اللهجات، حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض: فلهجة العراق أو لهجة المغرب مثلاً في العصر الحاضر، لا يفهمها المصري إلا بصعوبة وفي صورة تقريبية. غير أنه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين
ويرجع السبب في أنشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى وفي تطورها المطرد في نواحي: الأصوات والقواعد والدلالة والمفردات، إلى عوامل كثيرة من أهمها ما يلي:
1 - انتشار اللغة العربية في مناطق لم تكن عربية اللسان فقد تغلبت اللغة العربية على اللغات اليمنية القديمة في معظم بلاد اليمن، وعلى اللهجات الآرامية في العراق والشام، وعلى الألسنة القبطية والبربرية والكوشية في مصر وشمال أفريقيا وشرقها. ومن المقرر أن اللغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً) تحت تأثير لهجاتهم القديمة وأصواتهم ومفرداتها وما درجوا عليه من عادات في النطق وهلم جراً. . .
وقد كان لهذا العامل أثر واضح في اختلاف لهجات هذه المناطق الجديدة بعضها عن بعض، واختلافها عن اللسان العربي الأول. فقد تأثرت اللغة العربية في كل منطقة من هذه المناطق بلهجاتها القديمة، وانحرفت في ألسنة أهلها انحرافاً خاصاً اقتضته عاداتهم الصوتية المتأصلة ومناهج ألسنتهم الأولى؛ وتأثرت ألسنة الجاليات العربية نفسها في كل منطقة من هذه المناطق بألسنة أهلها، فنشأ من جراء ذلك في كل بلد من هذه البلاد لهجة عربية تختلف عن لهجة غيرها، وتختلف عن اللغة العربية الأولى فالعربية في الشام مثلاً متأثرة بالألسنة الآرامية القديمة، وفي المغرب باللهجات البربرية التي صرعتها العربية في هذه البلاد. . . وهلم جراً. . .
2 - عوامل اجتماعية سياسية: كاستقلال البلاد العربية بعضها عن بعض، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات. فمن الواضح أن انفصام(409/19)
الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام في الوحدة الفكرية واللغوية
3 - عوامل اجتماعية نفسية تتمثل فيما بين سكان هذه المناطق من فروق في النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان. . . وما إلى ذلك، فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير
4 - عوامل جغرافية تتمثل فيها بين سكان هذه المناطق من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها. . . وما إلى ذلك؛ وفيما يفصل كل منطقة منها عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات. . . وهلم جرا. فلا يخفي أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي - عاجلاً أو آجلاً - إلى فروق وفواصل في اللغات
5 - عوامل شعبية جنسية تتمثل فيها بين سكان هذه المناطق من فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها والأصول التي انحدروا منها. فمن الواضح أن لهذه الفروق آثار بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
6 - اختلاف أعضاء النطق باختلاف الشعوب. فمن المقرر أن هذه الأعضاء تختلف في تكوينها واستعدادها ومنهج تطورها تبعاً لاختلاف الشعوب وتنوع الخواص الطبيعية المزود بها كل شعب والتي تنتقل بطريق الوراثة من السلف إلى الخلف. فلم يكن مناص إذن أن تختلف أصوات اللهجات العربية بعضها عن بعض باختلاف الشعوب التي انتشرت فيها، وأن تتجه كل لهجة منها في تطورها من هذه الناحية إلى منهج يختلف عن منهج غيرها
7 - التطور الطبيعي المطرد لأعضاء النطق. فمن المقرر أن أعضاء النطق في الإنسان في تطور طبيعي مطرد في تكوينها واستعدادها ومنهج أدائها لوظائفها. فحناجرنا وحبالنا الصوتية وألسنتنا وحلوقنا وسائر أعضاء نطقنا تختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأولين، إن لم تكن في تكوينها الطبيعي، فعلى الأقل في استعداداتها؛ بل إنها لتختلف عما كانت عليه عند آبائنا الأقربين
وغنى عن البيان أن كل تطور يحدث في أعضاء النطق أو في استعداها يتبعه تطور في أصوات الكلمات، فتحرف هذه الأصوات عن الصورة التي كانت عليها إلى صورة أخرى أكثر منها ملاءمة مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. فكان من المستحيل أن تجمد ألفاظ اللغة العربية على حالتها الأولى في الأمم الناطقة بها؛ ولم يكن مفر من أن ينالها كثير(409/20)
من التطور باختلاف العصور. ومن آثار هذا ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات الجيم والثاء والذال والظاء والقاف. فقد أصبحت هذه الأصوات ثقيلة على اللسان في كثير من البلاد العربية، وأصبح لفظها على الوجه الصحيح يتطلب تلقينا خاصاً ومجهوداً إرادياً وقيادة مقصودة لحركات المخارج. ولعدم ملاءمتها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق في هذه البلاد أخذت تتحول منذ أمد بعيد إلى أصوات أخرى قريبة منها، فصوت الجيم الذي كان ينطق به معطشاً بعض التعطيش في العربية الفصحى قد تحول في معظم المناطق المصرية إلى جاف (جيم غير معطشة)، وفي معظم المناطق السورية والغربية إلى جيم معطشة كل التعطيش والثاء قد تحولت إلى تاء في معظم المناطق المصرية وفي بلاد أخرى فيقال: (توب. تلج. تخين. تعلب. تعبان. تفل. تئيل. تلت. تلاتة. تمن. تمانية. تور. أتنين. نتر. جتة. عتة. عتر. . . الخ. بدلاً من ثوب. ثلج. ثخين. ثعلب. ثعبان. ثفل. ثقيل. ثلث. ثلاثة. ثمن. ثمانية. ثور. أثنان. نثر. جثة. عثة. عثر. . . الخ). والذال قد تحولت في كثير من المناطق العربية إلى دال في معظم الكلمات، فيقال: (داب. دراع. ديب. ده. دي. دبل. دبح. دبان. دأن. أدان. ودن. دهب. دبل. . . إلخ بدلاً من: ذاب. ذراع. ذئب. ذا. ذي. ذبل. ذبح. ذبان. ذقن. أذان. أذن ذهب. ذيل. . . الخ)؛ وإلى زاي في بعض الكلمات، فيقال مثلا: (زنب. زهن. زكي. بزر. رزالة. . . الخ؛ بدلاً من: ذنب. ذهن. ذكي. بذر. رذالة. . . الخ). والظاء قد تحولت إلى ضاد في معظم الكلمات؛ فيقال: (ضلام. ضفر. ضل. ضهر. الخ. بدلاً من ظلام. ظفر. ظل. ظهر. . . الخ) وإلى زاي مفخًّمة في بعض الكلمات (كما ينطق في عامية المصريين بكلمات: ظالم. ظريف. أظن. حظ. . . الخ). والقاف قد تحولت إلى همزة في بعض الكلمات المصرية، فيقال: (أط. ألت. أبل. عأد. نطأ. . . الخ؛ بدلاً من: قط. قلت. قبل. عقد. نطق. الخ)؛ وإلى جاف (جيم غير معطشة) في معظم اللهجات العامية في مصر وغيرها من البلاد العربية، فيقال: (جط. جلت. جبل. عجد. نطج. الخ)؛ بدلاً من: قط. قلت. قبل. عقد. نطق. الخ)
8 - الأخطاء السمعية وسقوط الأصوات الضعيفة. قد يحيط بالصوت بعض مؤثرات تعمل على ضعفه بالتدريج، كوقوعه في آخر الكلمة، وزيادتها عن بنيتها، وعدم توقف المعنى المقصود عليه؛ فيتضاءل جرسه شيئاً فشيئاً حتى يصل في عصر ما إلى درجة لا يكاد(409/21)
يتبينه فيها السمع؛ فحينئذ يكون عرضة للسقوط. وذلك أن معظم الصغار في هذا العصر لا يكادون يتبينونه في نطق الكبار؛ فينطقون بالكلمات مجردة منه.
وقد كان لهذا العامل، مع عوامل أخرى سيأتي ذكرها، أثر كبير في سقوط علامات الإعراب بالحركات من جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية؛ على حين أن الإعراب بالحروف، لعدم تأثره بهذا العامل، قد بقيت آثاره في اللهجات العامية (أخوك، أبوك، المؤمنين، الطيبين. . . الخ)
9 - موقع الصوت في الكلمة. وموقع الصوت في الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف
(ا) وأكثر ما يكون ذلك في الأصوات الواقعة في أواخر الكلمات سواء أكانت الأصوات أصوات مد أم أصواتاً ساكنة
أما أصوات المد، فقد لوحظ أن وقوعها في آخر الكلمة يجعلها في الغالب عرضة للسقوط، ويؤدي أحياناً إلى تحولها إلى أصوات أخرى. وقد كان لهذا العامل أثر كبير في سقوط أصوات المد القصيرة المسماة بالحركات (التي يرمز إليها في الرسم العربي بالفتحة والكسرة والضمة) التي تلحق أواخر الكلمات العربية. ففي جميع اللهجات العامية المنشعبة عن العربية (عاميات مصر والعراق والشام وفلسطين والحجاز واليمن والمغرب. . . الخ) قد انقرضت هذه الأصوات جميعها، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان منها حركة بناء. فينطق الآن في هذه اللهجات بجميع الكلمات مسكنة الأواخر (فيقال مثلاً: (رجعْ عمرْ للمدرسة بعد ما خفْ من عياه) بدلاً من (رجع عمرُ إلى المدرسة بعد ما خفَّ من إعيائه). - ولعل هذا هو أكبر انقلاب حدث في اللغة العربية؛ فقد أتى جميع الكلمات فانتقصها من أطرافها، وجردها من العلامات الدالة على وظائفها في الجملة، وقلب قواعدها القديمة رأسا على عقب.
ومن هذا القبيل كذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد أصوات المد الطويلة: (الألف والياء والواو) الواقعة في آخر الكلمات، فقد تضاءلت هذه الأصوات في عامية المصريين وغيرهم حتى كادت تنقرض تمام الانقراض، سواء في ذلك ما كان منها داخلاً في بنية الكلمة (رمى، يرمى. . . الخ وما كان خارجاً عنها (ضربوا، ناموا. . . الخ)، فيقال مثلاً(409/22)
في عامية المصريين (رام وعيسَ ومصطفَ أبُ حسين سافَر يوم الخميس لجرجَ) بدلاً من: (رامي وعيسى ومصطفى أبو حسين سافروا يوم الخميس إلى جرجا)
وما حدث في اللغة العربية تحت تأثير هذا العامل، حدث مثله في الكثير من اللغات الأخرى. فمعظم أصوات اللين المتطرفة في اللغة اللاتينية قد انقرض في اللغات المنشعبة عنها.
ووقوع الصوت الساكن (ونعني به ما يقابل صوت المد في آخر الكلمة يجعله كذلك عرضة للتحول أو السقوط، فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد التنوين ونون الأفعال الخمسة والهمزة والهاء المتطرفتين. فقد انقرضت هذه الأصوات في معظم اللهجات العامية المنشعبة عن العربية، كما يظهر ذلك بالموازنة بين العبارات العربية المدونة في السطر الأول ونظائرها في عامية المصريين المدونة في السطر الثاني:
محمدٌ ولدٌ مطيعٌ؛ الأولاد يلعبون، الهواءُ شديدٌ؛ انتظرته ساعةً كاملةً
محمدْ ولدْ مطيعْ؛ الأولاد بِيِلعَبُ؛ الهَوَ شديدْ، انتظرتُ سَاعَ كامْلَ
ومن هذا القبيل كذلك حذف آخر الكلمة التي يوقف عليها في عامية كثير من المناطق المصرية، كبعض مناطق بني سويف والشرقية ورشيد، فيقال مثلاً (إنت يَا وَلَ)؛ بدلاً من (أنت يا ولد)؛ (فين أخوك محمو) بدلاً من (أين أخوك محمود)؛ (إدِّيلُ خَمْسَأرو) بدلاً من (أدِّ له خمسة قروش)
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في كثير من اللغات الأخرى. فمعظم الأصوات الساكنة المختتمة بها الكلمات اللاتينية قد انقرضت في النطق الفرنسي أو تحولت إلى أصوات ساكنة أخرى أضعف منها أو إلى أصوات لين
(ب) ووقوع الصوت في وسط الكلمة يعرضه كذلك لكثير من صنوف التطور والانحراف. فمن ذلك ما حدث في اللغة العربية بصدد الهمزة الساكنة الواقعة في وسط الثلاثي، فقد تحولت إلى ألف لينة في عامية المصريين وغيرهم، (فيقال: راس، فاس، فال، ضاني. . . الخ بدلاً من: رأس، فأس، فأل، ضأن. . . الخ)
ومن هذا القبيل كذلك ما حدث بصدد الياء والواو الساكنتين في وسط الكلمة في مثل (عين) و (يوم). فقد تحولتا في بعض المناطق المصرية وغيرها إلى صوتين من أصوات المد،(409/23)
فأولهما تحول إلى صوت يشبه صوت () في اللغة الفرنسية (عين، خيل، بين، زنيب. . . الخ)، وثانيهما تحول إلى صوت يشبه صوت () الفرنسي (يوم، نوم، فوز، لوم. . . الخ)
ومن ذلك تحريك الحرف الساكن إذا وقع في وسط كلمة ثلاثية في كثير من لهجات البلاد العربية (عامية الشرقية، وبعض عاميات الصعيد، ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر، ولهجة العراق. . . الخ؛ فيقال مثلاً: إسِم، رَسِم، مَصِر، جُرُن، بَدِر، فِجِلْ، فَحِل. . . الخ، بدلا من اسْم، رسْم، مصْر، جرْن، فجْل، فحْل. . . الخ)
وقد سجل الباحثون ظواهر كثيرة من هذا القبيل في اللغات الهندية الأوربية
(ج) ووقوع الصوت في أول الكلمة يجعله كذلك عرضة للانحراف. فمن ذلك ما حدث في بعض المفردات العربية المفتتحة بالهمزة؛ إذا تحولت همزتها في بعض اللهجات العامية إلى فاء أو واو ((أُذُن) تحولت في عامية المصريين إلى (وِدْن) و (أين) تحولت إلى (فين) أو إلى (وين) في عامية القبائل العربية النازحة إلى مصر، وفي عامية العراق والحجاز؛ و (أدَّى) تحولت في بعض المواضع في عامية المصريين إلى (ودَّى) فيقال مثلاً: (ودَّاه المدرسة) بمعنى (أدى به إلى المدرسة) أي أوصله إليها)
وسنعرض لبقية هذه العوامل في المقالات التالية إن شاء الله
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(409/24)
هل لليهود فن؟
رد على رد
للدكتور أحمد موسى
(جاء بالعدد رقم 93 من مجلة الثقافة مقال بعنوان (هل لليهود
فن) قرر فيه الدكتور زكي محمد حسن مبدأين خطرين كانا
سبباً في اهتمامي، وهما (أولاً) أن اليهود لم يعرضوا للفنون
الجميلة أبداً. و (ثانياً) أن اليهود تركوا أدباً وديناً أثروا بهما
أثراً لا يقل عن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية. وقد نفينا
الزعم الأول في استفهام أرسلناه إلى مجلة الثقافة ونشر بالعدد
رقم 99 مزوداً بمصادر علمية، وطلبنا إلى الدكتور زكي أن
يدعم الزعم الثاني بالأدلة؛ لأننا اعتبرناه فتحاً جديداً في العلم
يحتاج إلى البحث والفحص وذكر المصادر
وقد زد الدكتور على استفهامنا رداً نشرته مجلة الثقافة بالعدد 100 لم يكن مقنعاً - والقارئ يستطيع أن يكون لنفسه فكرة عامة عن المقال الأول وعن الحوار العلمي الذي دار حول هذا الموضوع الخطير، بقراءة هذا الرد).
(أ. م)
نشرت لي مجلة (الثقافة) استفهاماً بالعدد 99 ونشرت للدكتور زكي محمد حسن رده على استفهامي بالعدد 100 وهاهي مجلة (الرسالة) تفسح الصدر لنشر ردي على رده
والدكتور زكي مؤلف وكاتب معروف، ولا ينتظر من قراء مقالاته أن يهملوا ما يكتب، فنشكره ونعتذر إليه عن العودة إلى الكتابة لأن رده لم يكن مقنعاً(409/25)
فمن رده على استفهامنا تؤخذ المسائل الآتية حسب ما ورد في مقاله بالعدد 100 في مجلة (الثقافة):
1 - أن الأركيولوجيا أو علم الآثار تعني بدراسة المخلفات كلها وتدرس حياة الشعوب وطرق معيشتها، وهي مرجعنا الوحيد في دراسة مدنيات الأمم التي اندثرت بدون أن تصل إلينا وثائق مكتوبة عنها (ص 25 العمود الأيمن)
2 - إن تاريخ الفن هو دراسة التحف التي صنعها الإنسان مراعيا فيها إلى حد ما شيئا من مبادئ الجمال، وهو لا يعني إلا بالتحف والآثار ذات القيمة الفنية (ص 25 العمود الأيمن)
3 - أنه إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب من الشعوب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فإن هذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم (ص 25 العامود الأيمن)
4 - أن الدكتور زكي يرجح أننا لسنا على حق في حسبان بنسنجر من بني إسرائيل، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن (ص 25 العمود الأيسر)
5 - إن المراجع والكتب في تاريخ الفن تتحدث عن الطرز الفنية طرازاً طرازاً، ولكن (مستفهم) لن يجد بين صفحاتها فصلاً أو بعض فصل عقد للكلام عن فن ينتسب لليهود (ص 26 العمود الأيمن)
6 - يأبى (مستفهم) أن يصدق أن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثر لا يقل عن أثر الإغريق، ويقول إن هذا فتح جديد في العلم يحتاج لتصديقه والإيمان به إلى البحث والفحص وذكر المصادر، ويدعو (مستفهم) إلى دراسة العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وقراءة سير كبار العلماء والمفكرين اليهود واستعراض صلة اليهودية بحركة الإصلاح الديني في أوربا، وتبين أثر اليهود في القوانين الغربية؛ حتى أرى بذلك أن أثر اليهود في الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق (ص 26 العامود الأيسر)
7 - إن أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية وأثر اليهود فيها مسألة اعتبارية ونسبية (ص 26 العمود الأيسر)
وردنا على هذه المسائل ما يأتي:
1 - لم تعن الأركيولوجيا بدراسة المخلفات كلها وحياة الشعوب وطرق معيشتها إلا في(409/26)
عصر ديونيزيوس الهاليكرناسي (31 ق. م). الذي ذهب إلى روما وألف كتاباً في عشرين جزءاً لم يبق منها إلا نصفها تقريباً عن أركيولوجية روما تناول فيه حياة الشعب وطرق معيشته وعاداته وفنونه، وعصر يوسيفوس اليهودي المولود في أورشليم عام 37 بعد الميلاد الذي ألف كتاب الأركيولوجيا اليهودية في عشرين جزءاً ذكر فيها كل ما يتعلق ببني جنسه وأحوالهم وعاداتهم وفنونهم من أقدم العصور إلى آخر أيام نيرون
وقصد بالأركيولوجيا في عصر إحياء العلوم والأدب والفنون:
(ا) تفسير المخلفات الأثرية القديمة وتقدير الدرجة الفنية التي بلغتها ليدرك الناس ماهية الآثار والفنون، كما كان الحال عند (الإنسانيين) عندما تناولوا التراث الأدبي القديم لتحويله إلى دراسات عامة بعد أن كان من شأن الخاصة.
(ب) وتأريخ المخلفات التي يرجع عهدها إلى المرحلة الزمنية المحصورة بين عامي 1500 و1750 من مبان وتماثيل ونقوش
واتخذت الأركيولوجيا اتجاهاً جديداً بعد ظهور كتاب أوتفريد مولر (1717 - 1768) عن أركيولوجية الفن. وكتب غيره من العلماء والأدباء والباحثين في الفنون في بلاد الإغريق وآسيا الصغرى والشرق، وبذا تم تأسيس معهد الدراسات الأركيولوجية في برلين سنة 1828، فاستقلت الأركيولوجيا علماً قائماً بذاته بفضل فنكلمان
وفي فجر القرن الثامن عشر عنى بنجهام الإنجليزي بوضع كتاب (أركيولوجية الكنائس في عشرة أجزاء، طبع لندن سنة 1710 - 1722، كما عني أوجستي الألماني بوضع كتاب آخر في أثني عشر جزءاً، طبع ليبتسج في نفس الفترة الزمنية
وظاهر مما تقدم أن الأركيولوجيا تطورت تخصيصاً؛ فأصبحت لا تعني بالمخلفات كلها، أو حياة الشعوب وطرق معيشتها، ولم تعد المرجع الوحيد في درس الحضارات البائدة، إذ لا بد من الاستعانة بعلوم أخرى لإكمال هذا الدرس، كعلم تطور القشرة الأرضية وعلم الجماجم والعظام البشرية وعلم الأجناس وسلالاتها وعلم المسكوكات والدراهم
2 - أما قصر تاريخ الفن على دراسة التحف التي صنعها الإنسان (مراعياً إلى حد ما شيئاً من مبادئ الجمال)؛ فقد يبدو براقاً وإن يكن غير صحيح؛ والصحيح أن درس كل إنتاج فني من اختصاص تاريخ الفن بغير حساب للجمال، لأن مجرد نسبة هذا الإنتاج للجمال،(409/27)
تقلل من قيمته الفنية لاختلاف الآراء في الجمال في كل زمان ومكان
يعني تاريخ الفن الفكرة واتصالها بالطبيعة صلة إلهام (البرشت دورر) وتتلوها وسيلة الإنتاج الفني (المسلك) وبها تقدر كفايته، وعلى هذا الرأي في الفن الأديب الأشهر جوتهولد ليسنج
وجعل العلامة فكلمان (3) التناسب أساس الفن ووصف الجمال بأنه بالمثل الأعلى، متتبعاً في رأيه خطوات أوجستين (354 - 430) ,
3 - (إذا كان في كتب الآثار الموضوعة عن شعب ما يدل على أن الفنون كانت زاهرة بين أفراده؛ فهذا لا يستلزم أن هذه الفنون كانت فنونهم ومطبوعة بطابعهم)؛ فهذا مردود عليه باستحالة جمود شعب عن ممارسة فن يُنتحَ ويُخرَجَ ويُبرز في وطنه! على أن الجائز هو أنه لا يشترط حتماً أن يكون الفن المزدهر في بلد ما خالصاَ لأبنائه دون أثر أجنبي فيه
4 - وترجيح صديقي الأستاذ الدكتور زكي حسن أن بنسنجر ليس من اليهود، لأنه كان مدرساً في كلية اللاهوت البروتستانتية بتوبنجن مخالف للواقع؛ فأنه ولد في شتوتجارت وتخرج في جامعتها وجامعة توبنجن ودرس لاهوت التوراة ببرلين إلى سنة 1901، ثم صار نائباً لقنصل هولاندا في أورشليم إلى سنة 1912، ثم ندب للتدريس اللغات السامية في جامعة تورنتو إلى سنة 1914، فأستاذاً لآداب التوراة في مدفيل إلى نهاية الحرب الماضية. أما مؤلفاته فكتاب الآثار العبرانية وشرح أسفار الملوك، وتاريخ بني إسرائيل، وفضل اليهود في ابتداء التشريع، ويافت، وإلوه ودليل (بيدكر) عن فلسطين وسوريا سنة1912 كل ذلك مما يؤيد أن بنتسنجر يهوي
5 - لم تخل كتب تاريخ الفن من صفحات وفصول عقدت للكلام على فن ينسب لليهود، وإليك يا صديقي ثلاثة منها:
(ا) طرز الزخرفة، تأليف شبلتس، صفحات 39 - 41 ولوح رقم 14
(ب) الفن القديم تأليف لوبكه - برنيس، الجزء الأول، صفحة 105
(ج) أسس تاريخ الفن، تأليف لوبكة، الجزء الأول من صفحة 58 إلى 67
وهذه الكتب الثلاثة قليلة بالنسبة إلى كتب أخرى عالجت تاريخ الفنون عامة وألمت بتاريخ الفن اليهودي(409/28)
6 - أما قول الدكتور الفاضل بأن اليهود أثروا بدينهم وأدبهم أثراً لا يقل عن أثر الإغريق فلا يوافقه عليه أحد، على حين توافقني على نقيضه الكثرة الغالبة من العلماء والمؤرخين حتى من اليهود أنفسهم. وأقرر بأن اليهود تأثروا بالعرب في مصر وشمال أفريقيا وأسبانيا وغيرها، ونقلوا عنهم. وكان الفضل فيما وصلوا إليه راجعًا إلى علوم الإغريق التي أشتغل العرب بترجمتها
قال أبن ميمون (1185 - 1204) في كتابه (مرشد الحائرين) أن ما أقتبسه اليهود من العلم والفلسفة كبصيص من النور وصل إليهم عن طريق العرب الذين استفادوا من حكمة الإغريق
أما ما كتبه العالم اليهودي الألماني (مونك) في كتابه (مزيج من الفلسفة العربية واليهودية)؛ فهو يؤيد فضل العرب على اليهود، كما يقرر بأنه لم يكن لبني إسرائيل فليسوف سوى ابن ميمون
ولا نحب في هذا المجال أن ننقص من فضل، (باروخ شبينوزا) الفيلسوف الهولاندي المتوفي سنة 1677 المنسوب إلى اليهود، وأن كان التنويه بذكره لا يكسب بني جنسه شيئاً فيما نحن بصدده، لأنه كان مغضوباً عليه ومحروماً من دخول المعبد لإلحاده ولمذهبه في وحدة الوجود
هاتان شهادتان ليهوديين من كبار رجالهم لم يزعما قط أن أدب اليهود أو حكمتهم دنت من حكمة الإغريق أو أدبهم، ولم يدعيا أنه كان لأدب اليهود ودينهم أثر في تاريخ الحضارة لا يقل عن أثر الإغريق
أما ما أستند إليه الأستاذ وهو درس العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلامية فهذا ما لا دخل له في موضوع الحضارة من حيث هي إنتاج إنساني قائم بذاته؛ إذ أن العقائد في جوهرها تمس الباطن، كما تمس الحضارة من حيث الحالة النفسية للمتعبد، ودرس الحالة النفسية من اختصاص علم النفس، وهو فرع من البحوث الإنسانية التي لا دخل لليهود فيها. وإن اتفاق الإسلام واليهودية في بعض التعاليم والآداب كالختان والصوم والطهارة من الجناية. . . الخ؛ فهذه أمور كان التشابه فيها لتشابه ولتسلسل الشعبين من الجنس السامي، مع اختلافهما الجوهري في العقلية والنظر إلى الحياة والمثل العليا، ولا إخال صديقي يرمي(409/29)
إلى إثبات محاولة انتحال الإسلام عن اليهودية
والإصلاح الديني عند المسيحيين وهو أبرز ما في تاريخهم الكنسي قام به رجل ألماني أسمه مارتن لوتر، وآخر سويسري أسمه كلفن، وثالث من أهل سانت جال بسويسرا أسمه تسوينجلي وليس واحد من هؤلاء من اليهود.
وحتى حركة حرية الفكر التي ظهرت في أوربا قبل الثورة الفرنسية فهي لرجال أمثال فولتير وروسو وديدرو ومونتسكيو، وفي إنجلترا أمثال دودويل وتيندل وكوليتر وكلهم كما يعرف الأستاذ مسيحيون لا علاقة لهم باليهود
وإن كان لليهود أثر ملحوظ في الدنيا الجديدة فهذا الأثر محصور في الأعمال المالية والتجارية، وهي مع قيمتها الاقتصادية لا تمت بصلة إلى الأدب أو الفلسفة أو الفن كما يمت أدب الإغريق وفلسفة الإغريق وفن الإغريق
ولعلي لم أدرك تماماً قصد الدكتور من علاقة القوانين الغربية باليهود؛ فغير خاف أن القوانين في إنجلترا مأخوذة في أول أمرها من العرف الذي تواضع عليه الناس هناك، وفي الدول اللاتينية أُخذ في لبه عن القانون الروماني. أما في العصر الحديث فهو عن الثورة الفرنسية والقانون الألماني. وقانون روسيا لا يخرج عن التشريع الشيوعي. وفي البلاد الإسلامية عن الشريعة المحمدية وعن بعض الدول الأوربية كقانون بونابرت.
على أن هذا لا يمنع أن نذكر أن لليهود أثراً في التشريع الخاص بهم حيثما وجدوا، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والنسب. . الخ وطهارة المأكل وصحة الذبح، غير ما جاء في التوراة بسفر الخروج وأخبار الملوك.
وكتاب (تراث بني إسرائيل) مكتوب في عصرنا هذا لتمجيد اليهود، فلم يكن إلا نوعاً من الدعاية لقضية معينة؛ فكانت المبالغة فيه ظاهرة واضحة لمن يتعمق في درسه.
7 - أما أن أثر الإغريق وأثر اليهود مسألة اعتبارية ونسبية فهذا يخرج بنا عن حدود المقارنة العلمية التي يقوم الحكم فيها على الحالة الذاتية للشيء وليس على الحالة النفسية للباحث.
وخلاصة ما تقدم:
1 - أن الأركيولوجيا لا تفسر وحدها الماضي بما خلفه، وليست مرجعنا الوحيد في دراسة(409/30)
مدنيات الأمم التي اندثرت
2 - أن تاريخ الفن لا يعني بتوافر شيء من مبادئ الجمال في الخلق الفني
3 - أن من المستحيل جمود شعب يزدهر الفن بين أفراده دون اشتراكه، كما أنه من المستحيل أن يوجد شعب له أثر ملحوظ في الأدب والفلسفة والعلم ولا يعرض للفنون الجميلة أبداً
4 - أن بنتسنجر كان من اليهود حقاً وصدقاً
5 - أن مراجع كتب تاريخ الفن لا تخلو من فصل أو فصول عقدت لتاريخ الفن عند اليهود
6 - أن أثر اليهود بدينهم وأدبهم لا يدنو من أثر الإغريق في الحضارة الإنسانية
7 - عند المقارنة والموازنة - بين حضارتين - لا يكون للاعتبارية والنسبية المقام الأول في البحث العلمي
ولما كان الاتجاه الذي رغب الأستاذ زكي محمد حسن إلباسه ثوب الحقيقة العلمية، وهو الإقرار لليهود بفضل التأثير في الحضارة الإنسانية بما لا يقل عن فضل الإغريق بأدبهم وحكمتهم وعلومهم وفنونهم يعد من أشد الاتجاهات العلمية خطورة، ولا يجوز لباحث مثلي ومثله إبقاءه على هذه الحالة من الإيجاز والغموض؛ فقد صحت عزيمة كاتب هذه السطور خدمة للعلم، على أفراد فصل قائم بذاته لتصفية هذه المسألة عندما يحين الوقت أن شاء الله.
أحمد موسى(409/31)
ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 - توطئة
ضَرِيَ السوريون منذ برهة، باستعمال ألفاظ جديدة، للتعظيم والتبجيل، واستهجان كل كلمة دخيلة تدل على نظائر تلك المعاني. ولذا تجدهم اليوم، لا يتخذون لقباً أو جلاء يدل على أدب، أو تكريم، أو علم، أو إدارة، أو سياسية، أو نبالة، أو كل لفظ عليه طابع دخيل، فليس فيهم كاتب يتخذ في كلامه كلمة آغا، ولا أفندي، ولا بك. وأما مسيو. ومستر، وسنيور، وهر وضون، فقد أصبحت في خبر كان. وكذلك لا تجد أثراً لماجستير وليسانسية ودكتور وبروفسور. وقد نفوا من عبارتهم الكبتن والماجور والكولونل والجنرال هذا في الرجال. وكذلك نقوا كلامهم من ألقاب الإناث مثل: هانم، خانم، خاتون، ومدموازيل، ومدام، ومس، ومسز، وليدي. والكلام هنا على ما يقال في الأجانب على اختلاف قومياتهم. وليس هناك خلاف في أنه إذا جرى الكلام على أبناء العرب من ذكور وإناث فيتخذ لقب السيد، والسيدة، والآنسة، والكريمة، والعقيلة، إلى ما ضارع هذه المفردات
أما أنهم يحاولون إطلاق هذه القاعدة على الأجانب، وعلى ما وضعه هؤلاء من الألقاب العلمية والسياسية والأدبية بشروط وامتحانات وأحكام، فأنهم يحاولون القبض على حبال القمر، أو على قبض الماء بأيديهم؛ إذ لا حق لهم فيها، ولا يوافقهم على تحكمهم هذا إلا كل أهوج، خال من الوقوف على تقدم علوم العصر ومصطلحاته وأدبه، وأنفاق جميع الأقوام على اتخاذه، لأنها أصبحت من أوضاع الأقوام جميعها، ومن مشتركاتهم فيها ومن حق الجميع وممتلكاتهم لها
ومن مضحكات أوضاعهم أنهم أخذوا يستعملون (العليم) و (الحكيم) في مكان (الدكتور). وجهلوا أن هذا اللقب وأمثاله بمنزلة الأعلام، أي أعلام الألقاب. والأعلام تروي، أو ينطق بها على علامتها، ولا يحق لأحد أن يبدلها بغيرها، أو يصلحها، أو يحرر فيها أي تحرير، كبيرا كان أم صغيراً. فكما أن أحمد غير حامد، وهذا غير محمود، محمود غير محمد، وهذا غير حماج، وحماد غير حميد، وإن كان الأصل واحد كذلك ألقاب الآداب لا يبدل بعضها ببعض، ولا يقوم اللفظ الواحد مقام اللفظ الآخر؛ فـ (المسيو) مثلا يدل على أن المتكلم(409/32)
عليه رجل فرنسي، و (المستر) على أنه إنكليزي، و (السنيور) على أنه إيطالي، و (الهر) على أنه ألماني، و (الضون) على أنه أسباني. وفي كل ذلك من تسهيل معرفة قومية الرجل عند ذكر لقبه مالا تجده في قولك: السيد فلان. إذ هذه الكلمة تدل على أن المدلول عليه هو من أبناء الناطقين بالضاد؛ بل يدل عند بعضهم على أن من نسب النبي العربي. فأين هذا الحرف من الحروف التي سردنا لك منها أمثلة؟ إن السورين يجورون على الأمم، ولا يجارون السلف في أعمالهم منذ القدم
2 - ألقاب رؤساء الممالك:
اتصل السلف مع تمادي لزمن بأقوام مختلفة وبدول شتى، وعرفوا ألقابهم مع ما فيها من الغرابة، ولم ينقلوا إلى معانيها في العربية، بل حافظوا عليها أعظم المحافظة. ونحن ننقلها لكمن كتاب الآثار الباقية لأبي الريحان، وهي هذه (عن النسخة المطبوعة في أوربا):
أنواع الملوك الألقاب الواقعة على أشخاص تلك الأنواع
1 - ملوك الفرس الساسانيةشاهنشاه وكسرى
2 - ملوك الرومباسلي وهو قيصر
3 - ملوك الإسكندريةبطليموس
4 - ملوك اليمن تبَّع
5 - ملوك الترك الخزر والتغزغز خاقان
6 - ملوك التُرك الغُزية حنوته
7 - ملوك الصين بغبور (أو فغفور)
8 - ملوك الهند بلهرا
9 - ملوك قنًّوجرابي
10 - ملوك الحبشةالنجاشي
11 - ملوك النوبة كابيل
12 - ملوك ملوك جزائر البحر الشرقيمهراج
13 - ملوك جبال طبرستانإسَفْهبد
14 - ملوك دنباوندمصْمغان(409/33)
15 - ملوك غرجستان شار
16 - ملوك سرخسزاذويه
17 - ملوك نساوابيورد بهمنه
18 - ملوك كش نيدون
19 - ملوك فرغانةإخشيد
20 - ملوك أشروسفة افشين
21 - ملوك الشاشثدن
22 - ملوك مرو ماهويه
23 - ملوك نيسابوركفبار
24 - ملوك سمرقندطرخوت
25 - ملوك السريرالحجاج
26 - ملوك دهستان صول
27 - ملوك جرجانأناهبذ
28 - ملوك الصقالبة قبًّار
29 - ملوك السريانيين نِمرُوذ
30 - ملوك القبطفرعون
31 - ملوك باميان شيرباميان
32 - ملوك مصر العزيز
33 - ملوك كابلكابل شاه
34 - ملوك الترمذترمذ شاه
35 - ملوك خوارزمخوارزم شاه
36 - ملوك شروان شروان شاه
37 - ملوك بُخارابخار خداه
38 - ملوك كوزكانانكوز كان خذاه
وكل ما جاء هنا يتعلق بالشرق الأدنى أو الشرق الأوسط، ولم يتعرض المؤلف لألقاب أهل(409/34)
الغرب، مع أنها وردت في كتب التاريخ، لا سيما حين اتصل العرب بأهل الغرب في أيام الحروب الصليبية وبالتجارات والمراجعات التي جرت في عهد العباسيين والفاطميين والأندلسيين من ذلك:
3 - الباب
4 - الأنبراذور أو الأنبراظور أو الأنبرور
5 - البطرك
جاء في مقدمة ابن خلدون في آخر الفصل الثالث والثلاثين ما هذا نقله بحروفه:
واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد، ولا تسمى اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم. وضبط هذه اللفظة بباءَين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة. ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة، أنه يحُّضهم على الانقياد لملك واحد، يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم، تحرجاً من افتراق الكلمة، ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم، لتكون يده عالية على جميعهم، ويسمونه الأنبرذور، وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين. ومباشرة يضع رأسه للتبرك، فيسمى المتّوج، ولعله معنى لفظة الأنبرذور. وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين الذين هما البابا (كذا) والكوهن)
ونحن نورد هنا أيضاً الحاشية التي جاءت على كلمة الأمبرذور. قال الناشر: (المشهور قديماً إيمبراطور، بالطاء المهملة، والفرنسيس تقول: إيمبرور وعناها عندهم ملك الملوك) اهـ. ولنا هنا عدة ملاحظات، منها: 1 - أن المؤلف كتب الباب ولم يكتب البابا. ولما لم يكن عنده يومئذٍ الباء المنقطة بثلاث، ضبطها بالكلام لا بالقلم.
2 - إن صريح كلامه لتقييد الكلمة أنها بباء مفخمة والثانية مشددة ولم يذكر أنها تختم بباء وألف بل بباء مشددة، فكان يجب أن تكتب هكذا (البابّ) لا (البابا) ونحن نظن أن رسم الكلمة البابا من الناسخ لا من المؤلف بما أن نص المؤلف واضح هو بباء مفخمة مشددة. وأول من نقلها بهذه الصورة ابن رُسته، وقد وضع كتابه في آخر المائة الثالثة للهجرة، أي في نحو سنة 908 للميلاد كما سترى
3 - أما كتابة الانبرذور فتكاد تكون صحيحة، لأنها في لغة اللاتين ومعناها: الآمر. وكان(409/35)
أصل وضعه لرئيس الجيش، أي القائد العام له، ثم في أيام كيكيرون جعل لقباً للقائد الظافر، ثم للقنصل وفي الآخر للملك الأكبر؛ فانتقل بعد ذلك إلى كل ملك كبير؛ فهو كقولك ملك الملوك، أو كشاهنشاهان عند الفرس. إذن ليس معناه المتَّوج ولا معناه ملك الملوك
4 - إن كتابة الإمبراطور بهذا الرسم كما يرسمه المعاصرون لا يوافق القواعد العربية، لأنه لا يُرى في الكلم الضادية من عربية ومعربة، فيها الميم ساكنة، ويليها باء متحركة، فإذا وقع مثل ذلك رُسمتْ الميم نوناً. ولهذا يجب أن تكتب (الانبراطور) بنون
5 - جرى العرب على كتابة الكلمة (أنبرور) بهذا الرسم. عند اتصالهم بالألمان والفرنسيين في نحو أواخر المائة الثانية عشرة وأوائل المائة الثالثة عشرة من تاريخ الميلاد، أو بعبارة أخرى في أواخر المائة السادسة وأوائل المائة السابعة للهجرة. فقد قال ابن خلكان في ترجمة أبي العباس أحمد عبد السيد الملقب صلاح الدين: (وعند وصول الأنبرور، صاحب صقيلة إلى ساحل الشام في سنة 626 هـ (1228م) بعث الملك الكامل الصلاح إليه رسولاً).
وقال في ترجمة أبي طاهر يحي بن تميم: (ولما هلك غنيمة (بن زُجَار. كذا. والصواب بن رُجَار براء مهملة). ملكت أبنته، وهي أم الأنبرور ملك ألمانيا في زماننا. ثم هلكت أم الأنبرور) اهـ
وجاء في تقويم البلدان لأبي الفداء: (وسلطانها (سلطان ألمانية) هو المعروف بالأنبرطور ومعناه ملك الملوك والعامة تقول الأنبرُوز) اهـ. وفي كتاب العبادين في كتاب ألفُنْس بن سانشس إلى الخليفة المعتمد الإنبيطور
فهذه عشر لغات في تعريب كلمة واحدة، أصلها اللاتيني فقيل فيها: إنبيطور، إنبرذور، إنبرظور، إنبراطور، إنبرادور، إنبرطور، إنبرور. وقال فيها البعض المعاصرين خطأ: إمبراطور، إبمبراطور، إيمبرور. ومن اللازم على المعاصرين أن يلاحظوا كيف أن الأقدمين باختلاف بلدانهم وعصورهم كتبوا بألف ونون، وليس أبداً بألف والميم، لأنهم عرب صميم والعرب لا تخالف قواعد سلفهم أبداً، وذلك سلبقة لا تطبُّعاً!
(له صلة)
الأب ألستاس ماري الكرمل(409/36)
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(409/37)
صفحة من كتاب
من جوف الليل
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
أرقت في هذه الساعة فما استطعت أن أنام. . . لقد حاولت أن أغمض عيني، وأن أستسلم لهذه الرؤى البارعة، وتلك الأحلام الرائعة، وذاك الجمال الذي أهواه، لعلي أنام على ذكراه وأغني على هدهدته، وأجد اللذة في مداعبة خياله، والأنس بحثاً له، ولكني لم أفد شيئاً من هذه المحاولة. إن النوم ليعصيني كأن بيني وبينه عداء؛ وما كنت لأعادي إنساناً أو أغضب رجلاً، أو أسئ إلى مخلوق، لأن قسوة الحياة علمتني منذ كنت طفلاً منكمشاً في زاوية المدرسة، وحيداً في أطراف الطريق، معتزلاً في ركن البيت، ألا أقسو على أحد، وأن أنشد الخير لهؤلاء الناس جميعاً؛ فليس أحلى من الخير، ولا أحسن منه استثارة العاطفة، وإرضاء للشعور الغاضب المضطرب
- 2 -
لِمَ يجفوني النوم؟ ولِمَ يباعد بيني وبين أحلامي الهانئة وقصوري الناعمة في جنات الخيال؟ ولِمَ يريدني على أن أساهر النجم وأراقب الكواكب وأشهد صفحة السماء بعيني، بينا، تتطلع إلى السماء بألف عين فأخافها وأخشاها، وأرتعد منها، وأفر إلى أعماق السرير، وأستر وجهي بهذا الغطاء الكثيف؛ فلا أنجو من الرعب ولا أخلص من الارتعاد، وتظل هذه الأعين تطل علي، وتلحق بي، وتتعثر في ناظري، وترمقني بشعاعاتها النافذات؟!
أي شيء أصبت من إثم حتى يجردني الله من لباس الليل، فلا أرتع فيه، ولا أغيب في آفاقه السعيدة أنسى هموم اليوم ومتاعب النهار، وأخبار السوء؛ ولم تتوافد علي الذكريات أليمة محزنة، وتطوف في خاطري كئيبة سوداء، وتنشر في نفسي ليلاً آخر بكل سواده القاتم، وجلاله القائم، ونجومه المنطفئات؟!
- 3 -
لم تعد لي قوة أحتمل بها هذه الوحشة. . . لقد كنت ألقي أهوال النهار فأفر منها إلى الليل،(409/38)
ولكن الليل يطردني عنه، وينفيني منه، ويريد أن يحول بيني وبينه. لقد وسع كل شئ؛ كل الخيرين والأبرار، والآثمين والأشرار، والغاصبين والأخيار؛ ولكنه ضاق عني، وقذف بي إلى مغارة هائلة لا أدري أين أستقر فيها. . .
رحمة بالضعفاء يا ليل! إن الذين تزدريهم أعينك الليلة، ويتجافى عنهم مداك الواسع، وسلطانك الممتد. . . ليس لهم ما يستريحون إليه إلا هذه الساعات يقتطعونها من عمر الزمن، ويختلسونها من حياة الدهر، ويسرقونها سرقة الجائع المتهالك للكسرة الجافة واللقمة الشاردة لينعموا بها ساعة في نوم عميق ينسون فيه أنفسهم، وهذه الآفاق التي تحيط بهم، وتلك الذكريات التي تنتاشهم، وحادثات الألم التي تصك مسامعهم فلا يملكون بعدها الحركة والشعور، فهلا رفقت بهم أيها الليل هلا ضممتهم في نعيمك الممتع، ولففتهم بسكونك المتراخي، وتركتهم إلى هذا الهدوء الذي ينشدونه، وهذا الصفاء الذي يرمقونه، وتلك الفترات التي يتطلعون إليها ليجددوا بعد القوة على احتمال الأسى، ولقاء الشرور
- 4 -
إني لأخشى هذا الفضاء الهائل الذي أجدني فيه، ليس من حولي شئ، ولا إلى جانبي إنسان، لقد ذعرت حقا حين مددت يدي هنا وهنالك، وأجلت بصري أمام ووراء، فلم ألق هذه الإنسانية البرة الحنون التي رعت طفولتي بشقائها، وغذت يفاعتي بدموعها، ونشأت صباي من دم قلبها. . . لقد أدركت. . . إنها بعيدة عني، وأن بيني وبينها آماداً ومسافات يرعاها الله، ويكلؤها الرحمن، فمن لي باليد التي تطوق عنقي، من لي يفيض على الجرأة، ويبعث في القوة، ويطرد عني خوف الليل؟
إن فضاءً كبيراً حولي. . . وإن فضاء أكبر في نفسي. . . وليس في وسعي أن أملأه بما أرى في النهار، وأسمع في الطريق، وأحس في العمل، لأني لا أرى شيئاً، ولا أسمع صوتاً، ولا أحس حركة. لقد ابتلع الليل كل شئ، فطواه في ثناياه، وضمه إلى حشاه الواسع. . . إلا أنا. . . إلا أنا سهران لأنه يفيق عني، فأظل مشرداً في كهوف مرعبة من الشكوك والأحزان: شأن هؤلاء المشردين في أطراف الأحياء، وأرصفة الشوارع، وحافات المقاهي في النهار، ولكني أنا مشرد ليل، وليس لهذا الليل ندى آوى إليه، أو صديق أسلو معه، أو شارع أجوس خلاله. . .(409/39)
ليس فيه إلا الفراغ المرعب، وهذه السهام المسددة التي تبعثها النجوم في نفسي
- 5 -
أخذت أتقلب في أطراف السرير وألوذ بجوانبه، ولكن الحركة لم تكن لتنجو بي من هذا الذي أشقى به، وأطراف السرير وجوانبه قلقة حائرة. لقد نبا بي كل شئ: حتى هذا الغطاء الذي آلفه في الليل وفي طرفي النهار. . . إنه ليضطرب فوق جسمي كأنما أنا أرتعد، وما أدري سر هذه الرعدات الخانقة وما أعرف متى أخلص منها. . . إن القمر الدائر ليتراءى لي، وإني لأحاول أن أفزع إليه. . . ولكن المسكين لا يقوى على شئ. لقد أهزله الطواف حول الأرض مدى عشرين يوماً ونيفاً فلم يبق منه إلا الجسم الناحل والعظم المقوس، ولم يعد له ذلك البريق الذي كان يفيض منه، ولا ذاك لألق الذي ينساب من أطرافه، ولا تلك الأضواء التي كانت تغمر الأرض، وتنير حواشي السماء، وتطرد ظلمات النفوس. لقد أضحى كابي النظرات، خامد الحسن. متهاتف القوى، وأصبح جمرة هامدة بعد أن كان شعلة متقدة. إن طبقة من الرماد الأزرق تحاول أن تطغي عليه. لقد امتدت إليه فعملت فيه كما يعمل السل؛ ونفذت في طرف منه فتقبلها بضحكته الكاملة وبسمته المستديرة وغمرها بألقه الحنون، ولكنها كانت من طباع الناس: فبها لؤم وغدر، وفيها إثم وشر فلم تزعه، وإنما أخذت تنفث سمومها فيه، لقد بترت أوصاله، وإنها لتسرى الآن إلى أحشائه تلتهمها. لم يبق بينها وبين قلبه شيء. إنها لتكاد تلتهم هذا القلب الكبير الذي وسع الأرض وطاف حولها، لا تكبر شيخوخته، ولا تحترم مشيبه ولا تذكر إحسانه إليها. . . هاهي الماكرة تسرق قلبه وتأنى عليه. . . لقد أضحى القمر المسكين ذؤابة بيضاء منحنية لا تملك أن تتماسك، ولا تستطيع أن تشتد، وستلحق هذه الانحناءة النادية بالقلب الكبير: لتجدد معه في العالم الآخر عهود الصفاء والضياء والنور
- 6 -
لقد نهضت أمشي. . . ولكني لا أملك أين أضع قدمي مخافة أن أنزلق به. . . إني لأحبو كالطفل، أتلمس الطريق بكل أطرافي وحواسي. لقد عدت طفلاً لا يعرف كيف يسير، فهو محتاج إلى من يمسك بيده ويأخذ بساعده ويمضي به، فهلا أخذت بساعدي - أيها ليل -(409/40)
ومضيت بي كما تمضي بكل هؤلاء الناس إلى أحبتهم يناشدونهم الوصل، ويعتبون عليهم القطيعة، ويلومون منهم هذا الإهمال، وإلى أهلهم البعيدين منهم المتغربين عنهم: يبثونهم الحنين، ويهدونهم التحيات، ويطبعون على جبينهم قبلة الحب الذي يملأ كل جارحة ويغطي على كل شئ، وإلى معاهد الصبا يطوفون فيها ويسمعون في جنباتها ويرددون في آفاقها نشيد المرح والسعادة، وإلى أرض الوطن يسألونها ماذا حل بها وأي شيء أصابها، وماذا فيها من مكر الدهاة ومكارة الدنيا وعبث الزمان؟؟ وهل من بلاء - لا كان - يلقاه أبناؤها الغر: الذين يحملون فوق كل ما يحمل أبناء العالم من واجبات المدرسة والبيت، وحقوق المدن والريف، وأهداف الوطن والمستقبل، وغايات العرب والإسلام؟؟
- 7 -
لم يعد في وسعي شيء - أيها الليل - لقد سددت النافذة وأقفلت الباب ودفنت وجهي في الوسادة، ودسست كل أطرافي في أعماق السرير كمن يتحصن. . . ولكنك لم تشأ أن ترفق بي: إن الباب ليطرق طرقاً عنيفاً، وإن النافذة لتهتز هزة شديدة، وإن كل ما حولي ليتحرك. . . ولكني سأجمع كل قوتي، وستتركني أنت هنا في هذا الأسر الموحش. . . غير أن النهار سيضيء وسيحسن إلي مرة، لأنه يعرف أنه أساء إلى مرات، وسأنهض على قدمي وأفتح ناظري وأرى النور. . .
- 8 -
إنّ غبش الفجر ليلمع في جبين الليل، وإن همسات خافتة من أضوائه لتتراءى لي. . . هذا السواد يهزل ويهزل، إنه ليمضي في طرف الأفق مطرقاً مستحيياً، ولكني سأغفر له هذه الإساءة لأني أحب هدؤه وأعشق صفاءه وأعيش في أحلامه. . .
(القاهرة)
شكري فيصل(409/41)
المرحوم محمد مسعود بك
للأستاذ خليل مطران بك
مضَوا تَباعاً وهذا يوم مسعود ... هل في الكِنانة قلبُ غُير مكمود
نوابغٌ ملأوا بالفخر عصرهمُ ... وجددوا المجد فيه كلَّ تجديد
عادت به لِفحول الشعر دُولتُهم ... ودولةٌ للتحرير المجاويد
الكاتب الفذُّ قد ألقى يراعتَه ... بعد اصطحاب طويل العهد محمود
بحر من الأدب الزخَّارِ مُصْطَفِقٌ ... بِصَدرِ أرْوَعَ فيه حِشمة الرُّود
تراه في وجه مُسْتحىٍ وتَخبُرُه ... فلست تَخبرُ غيرَ النبل والجود
تبدي ظواهره ما في سرائره ... وقد تشعُّ نفوسٌ في التجاليد
يحيا وَدُوداً ومودوداً كأحسنِ ما ... يرجو وهل مِن ودوَدٍ غيرُ مودود
ولم يكن مع لين الطبع واهِيَهُ ... ولم يكن بمداجٍ أو بِرِ عدِيد
وربما صال ذَوْداً عن حقيقته ... فجال في الشوط جولاتِ الصناديد
جاري صِحافةَ مصر منذ نشأتها ... وِعبئُها مرهِقٌ في نضرة العود
بالعزم والحزم يستوفي مطالبها ... وهل بغيرهما إدراك منشود
حتى إذا آب من أقطاب نهضتها ... وسدًّد الرأيَ فيها كل تسديد
أجرى بما يخصب الألباب أنهرها ... كالنيل بالخصب يجري في الأخاديد
وعلم الطير في أفنان روضتها ... شتى الأفانين من شَدْوٍ وتغريد
إن الصحافة موسوعات معرفة ... يزود العقل منها خير تزويد
تزيد أخبارها بالناس خبرته ... حتى تُقَوَّمَ منه كل تأويد
مسعودُ مَهَّدَ في مِصر السبيلَ لها ... فحاز فضلين من سبق وتمهيد
ثم انتحى مُرْصِداً للعلم همته ... متابعاً كل مجهود بمجهود
يعي معارف ألواناً ويخرجها ... لفظاً ومعنى بإتقان وتجويد
فمن تأليف لا تُحصى فوائدها ... محدودة ومداها غير محدود
ومن رسائل في فن وفي لغة ... سيقت لإفرار رأي أو لتفنيد
ومن مباحث في التاريخ شائقة ... وفي البحار وفي الأمصار والبيد(409/42)
وفي صفات بني الدنيا وما اصطلحوا ... عليه في عهدهم من غير معهود
وفي عوالم أفلاك تحيط بنا ... ما بين محتجب منها ومرصود
هديةٌ وهُدى منه لأمته ... وموطنٍ بعد وجه الله معبود
مسعود يبكيك أبناء بررت بهم ... فنشئوا نشأة الغر الأماجيد
يبكيك قوم مشوا والحزن يشملهم ... في مشهد لك يوم البين مشهود
يبكيك إخوان صدق هاهنا احتشدوا ... ينوهون بفضل غير مجحود
يمضي الزمان وتبقى في ضمائرهم ... خليق ذكرى بتكريم وتخليد
خليل مطران(409/43)
غريب
للأديب محمد قطب
غريب أنا في ذلك الكون كله ... على سعة في الكون توحي بإيناس
غريب بنفسي عن نفوس كثيرة ... غريب بفكري عن دُنى ذلك الناس
وأحسب أنى تائه في غمارهم ... كما ضل ومض في غمار الدجى القاسي
وما نلتقي في خفقة أو وشيجة ... ولا فكرة عليا ولا طيف وسواس
وما بيننا من رابط غير أننا ... نجوب معاً دنيا من الحلك الكاسي
ترى أينا أصفى ضميراً وعنصراً ... ومن فيه صدق أو سلامة إحساس
لأحسب في دنياهُم كل ضلة ... وأحسبها دنيا شرور وأرجاس
لقد كنت قبل اليوم هيمان في الذرا ... أحلّق نشواناً إلى كل مرتاد
يفيض بنفسي الفن بشراً وغبطة ... ويهتف في أذنيّ كالطائر الشادي
ويخلق في نفسي مُنىً عبقرية ... ويلهمني الإحساس كالكوكب الهادي
ويمنحني صفو الحياة وذخرها ... وأجمل ما يهفو له الناهل الصادي
فأشبع حبي للحياة نقية ... ويسمو إلى خلد السماء فؤادي
فأرقب هذا الناس في ديوانه ... كما أرقب الأنعام تنساب في الوادي
فيأخذني رفق بهم في ضلاهم ... يهيمون في دنيا الظلام بلا حادي
ولكنني أقفرت يوماً من المنى ... وجئت إلى الظلماء غير مزود
فلفتني الظماء من كل جانب ... وبثت ليَ الأشواك في كل مقصد
وما أرتوي من مورد، أي مورد ... وما ألتقي إلا بدجوان أجرد
وطال هيامي في الظلام بلا هدى ... فأجهدت من سير ممل مشرد
وأخلد قلبي لسكون وللكرى ... بليداً من الإحساس أي تبلد
فلما أفقت اليوم من ذلك الكرى ... تلمست حولي الكون علِّيَ أهتدي
فألفيتني فيه غريباً مشرداً ... أهوِّم في واد من التيه سرمد
(معهد التربية)
محمد قطب(409/44)
البريد الأدبي
فقر الأنبياء
ليس الفقر عيباً، وإنما السكوت عن مقاومة الفقر هو العيب، فنحن
جميعاً مسؤولون عن محاربة ما يحيط بنا من متاعب معنوية وحسية،
ومن واجبنا جميعاً أن نطمع في الانتفاع بما في الوجود من ثمرات.
على شرط أن ننال ما ننال عن طريق الجهاد المحمود
وقد سأل الأديب (ح. ع. مطر) عن فقر الأنبياء وما يدل عليه من معانٍ على فرض ان الفقر يدل على ضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية.
وأجيب بأن الأنبياء رحبوا بالفقر طائعين، لتقل شواغلهم الدنيوية فيستطيعوا القيام عروض الهداية والتهذيب، وليكون في انصرافهم عما في الدنيا من منافع قطعٌ لألسنة من يروق لهم اتهام الأنبياء بحب المال، وهو اتهام يزعزع ثقة الجماهير ويروضها على التمرد والعصيان
والمعروف أن الناس في كل أرض يتزيدون على الزعماء والمصلحين ويجعلون طلب الدنيا من أكبر العيوب، فليس غريباً أن ينسلخ الأنبياء من المنافع الدنيوية ليصدوا من يعارضون باسم الغيرة على الأخلاق؛ كأن الأخلاق تكره أن يتزود المصلحون بثروة الرزق الحلال!
وفي طلب السلامة من أذى السفهاء قال الرسول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة) أو كما قال، فلست أملك الرجوع في هذه اللحظة إلى نص الحديث
والعدل يوجب أن يكون ما يترك الأنبياء ميراثاً حلالاً لأبنائهم، ولكن الحرص على قطع ألسنة المتزيدين هو الذي أوجب أن يحرم الأنبياء أبناءهم من ذلك الميراث، وذلك ظلم جميل
ومن نحن حتى نرحب بالفقر كما رحب به الأنبياء؟
أولئك رجال يأخذون زادهم من الإيمان واليقين قبل أن يأخذوه من الطعام والشراب، فمن أنس في نفسه القدرة على الظمأ والجوع لينقطع إلى مجاهدة النفس ومجاهدة الآثام(409/46)
الاجتماعية فهو أقرب منا جميعاً إلى التخلق بأخلاق الأنبياء
العصاميون
وقال قائل: كيف تهتم الفقراء بضعف الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، ومن بين الفقراء نبغ العصاميون؟ وأجيب بأن العصاميين هم حجتي على أن الفقر داء له دواء. فالرجل العصامي يقيم الدليل على أن القوة الخلقية قد تقتلع ما يعترض طريق الرزق والمجد من حواجز وأسداد. والتاريخ يشهد بأن أكثر العظماء كانوا في البداية فقراء، فما تفسير هذا الذي يشهد به التاريخ؟
إنما كان ذلك لأن الفقير الموهوب تقوى عزيمته بفضل الاعتماد على الله وعلى النفس، ومثله في ذلك مثل من يعيش بلا عصبية تحميه، فهو يستعد للمقاومة في كل وقت، ومن ذلك الاستعداد يفوز بمناعة جسمية وروحية تصد عنه عدوان المعتدين فالذين يمنون الفقراء بأموال الأغنياء يقتلعون بذور العصامية من النفوس، ويعدون الجيل المقبل لأمراض أخفها الاعتماد على الغير، وهو بداية الخذلان
الإحسان إلى من يعجزون عن الارتزاق هو أوجب الواجبات، وهو الشاهد على اتصافنا بالكرم والجود، أما الإحسان إلى من يقدرون على الارتزاق فجريمة اجتماعية، ولا يشجع على هذه الجريمة غير الكتاب الذين يعيشون بفضل الرياء الاجتماعي وهو رياء له عواقب سود، في الدنيا وفي الآخرة، والآخرة حق، ولو كره من يراءون الناس
الحب والبغض
أما الأديب الذي كتب من المنصورة خطاباً في صفحات طوال عراض فمن حقه أن يبغضني كيف شاء، فما أفكر في الحب ولا في البغض حين أحاور قرائي، وإنما أفكر في الصدق، لأستطيع القول - ولو بيني وبين نفسي - بأني لم أفكر أبداً في مخادعة قومي، فالدنيا أصغر وأحقر من أن تروضنا بمغرياتها الأواثم على جلب منفعة وقتية ببعضها الصدق
وفي مجلة الرسالة كتاب أعظم مني، فما الذي يمنع بعض الناس من غض النظر عما أكتب، وقد صح عند ذلك (البعض) أن مقالاتي في الإصلاح الاجتماعي لم تصب هوى من(409/47)
قلبه الرقيق؟
أفلح الدكتور طه وأخفقت: أفلح لأنه دعا الحكومة إلى إنقاذ الفقراء، وأخفقت لأني قلت باعتماد الفقراء على أنفسهم وعلى سواعدهم، فما تستطيع الحكومة أن تعين رجلاً لا يعين نفسه، ولا يستطيع المجتمع أن يحمي مخلوقاً يعجز عن حفظ مكانه بين طبقات المجتمع
أنا رجل فقير يحارب الفقر في كل وقت، وأنتظر من إخواني الفقراء أن يعينوني على محاربة ذلك العدو البغيض، لأصبح ويصبحوا من المياسير بفضل الكسب الشريف
لا يهمني أن يحبني قرائي، فما يبكي على الحب غير النساء، وإنما يهمني أن يكون ما أكتب صورة صادقة لما يعتلج في صدري عن آراء وأهواء
الصدق هو الذي يرفع أدب اللغة العربية. وهو الذي يزيد في ثقة الرجال بعضهم ببعض. أكرمنا الله جميعاً بنعمة الصدق وهدانا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، فهو وحده الحبيب الذي تتشرف بحبه القلوب
زكي مبارك
إلى الباحث الجليل (* * *)
السلام عليكم:
وبعد فقد جاء في بحثكم الممتع في العدد 404 من الرسالة الغراء ما يلي:
(في درة الغواص في أوهام الخواص: ويقولون: بعثت إليه بغلام، وأرسلت إليه هدية، فيخطئون فيهما؛ لأن العرب تقول فيما يتصرف بنفسه: بعثته وأرسلته، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا) وتقول فيما يُحمل: بعث به وأرسلت به، كما قال سبحانه إخباراً عن بلقيس: (وإني مرسلة إليهم بهدية) فعقبتم على ذلك في الحاشية بقولكم: (قلت: هل يرى الحريري الريح والصيحة والحاصب مما يتصرف بنفسه؟ ففي الكتاب: (إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً)، (إنا أرسلنا عليهم حاصباً)، (إنا أرسلنا عليهم صيحة). . .)
قلت: الإرسال في هذه الآيات الكريمة بمعنى التسليط، لا بمعنى التوجيه، فليس يقال في مفعوله: (إنه مما يتصرف بنفسه، أولا يتصرف)، حتى يتفرغ عليه دخول الباء عليه أو عدم دخولها؛ إذ يمتنع أن يقال: سَلَّط عليه بكذا(409/48)
ومن أمثلة الإرسال بمعنى التسليط قول الأساس: أرسل كلبه وصقره على الصيد، أرسل الله عليهم العذاب
وإكمالاً للبحث نورد ما جاء في (التاج) قال: (والإرسال التسليط، وبه فُسِّر قوله تعالى: (إنا أرسلنا للشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً)، أي سُلّطوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم. والإرسال أيضاً التوجيه، وبه فسر إرسال الله عز وجل أنبياءه عليهم السلام)
هذا ما عنَّ لي أعرضه على الأستاذ المحقق
(ا. ع)
وفاة الأستاذ محمود مصطفى
استأثر الله في الأسبوع الماضي بالأستاذ (محمود مصطفى) أستاذ الأدب العربي بكلية اللغة العربية؛ وقد كان رحمه الله من أصحاب الملكات القوية في الأدب واللغة. تخرج في دار العلوم ثم أشتغل في التعليم في المدارس الأهلية والأميرية بقية شبابه الأول، ثم فاختير للتدريس في كلية اللغة فقسم حياته العاملة بين التعليم والتأليف حتى زود المكتبة العربية بطائفة من الكتب النافعة في تاريخ الأدب والعروض. وقد قال الأديب البر محمد عبد المنعم خفاجي إن للفقيد سفرين جليلين في الأدب المصري منذ الفتح العربي إلى الآن يقعان في ألف صفحة، وقد عكف في آخر حياته على إعدادهما للطبع حتى انتهى منهما قبل وفاته بأسبوع. رحمة الله رحمة واسعة وعوض الأدب والعربية منه خير العوض.
تأبين المرحوم محمد مسعود بك
اجتمع في مسرح الحديقة في مساء الأربعاء الماضي جمهرة من أعيان الفضل وأقطاب الأدب ورجال الصحافة للاحتفال بتأبين العالم البحاثة المرحوم (محمد مسعود بك). فألقي كلمة الافتتاح معالي الأستاذ محمد علي علوبة باشا؛ ثم تتابع الخطباء والشعراء فجلوا مواهب الفقيد وآثاره في الصحافة والعلم والخلق والأدب والوطنية والترجمة. وكان الشعراء على الأخص قد احتفلوا لما قالوا فجاءت قصائدهم من محكم الشعر وجيده. وقد نشرنا منها في هذا العدد قصيدة الشاعر الكبير خليل مطران بك، وسنختار في العدد المقبل فرائد من قصيدتي الأستاذين محمد مصطفى الماحي ومحمد الأسمر لأنهما نشرتا بالأهرام.(409/49)
وقد كانت الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ يحيي مسعود نجل الفقيد شكراً جميلاً للمحتفلين وتحية بره لوالده. أجمل الله عزاءه وعزاء الوطن في الراحل الكريم
حول بشر بن عوانة
كانت (المكشوف) قد ذكرت في بعض أعدادها أن الأستاذ بطرس البستاني أول من نفى شخصية بشر بن عوانة في الجزء الثاني من كتابه (أدباء العرب) فرأت (الرسالة) من واجبها أن تنبه إلى أنها أشارت إلى هذه الأسطورة في يناير سنة 1935. ويظهر من العدد 296 من المكشوف أنها نشرت هذا التنبيه ولاحظت عليه أن الجزء الثاني من (أدباء العرب) طبع للمرة الأولى في شباط سنة 1934 فيكون أسبق
نقول يظهر لأننا لم نطلع على العدد الذي نشرت به هذه الملاحظة لاضطراب البريد بين البلدين في هذه الظروف. ولو كنا اطلعنا عليها لنشرناها فينتهي الأمر من جهة الزميلة، ويبقى الرأي من جهتنا موقوفاً إلى أن نطلع على الطبعة الأولى من هذا الكتاب
اكتشاف جديد لا طالة عمر الإنسان
جاء من هنتنجتون في ولاية فرجينيا أن الأستاذ ماليسوف أستاذ علم الكيمياء الحيوية في معهد الفنون والصناعات في بروكلين أعلن في اجتماع عقد في هنتنجتون أن الإنسان يستطيع أن يعيش 185 سنة بفضل المادة الجديدة المسماة (صوديوم ثيوسيانتت) وقد اكتشف تأثيرها بعد تجارب عديدة
وكان مما قاله أيضاً أنهم استطاعوا في التجارب التي أجروها في الأرنب أن يبطلوا فيها أعراض كبر السن. ثم قال إن مادة الكولستروك اللزجة التي تشبه الشمع ترسب كمية منها في الأوردة والشرايين، وأن ثمة علاقة بين العمر وهذه الراسبة، وأن هذه المادة الكيميائية الجديدة (الصوديوم ثيوسيانيت) توزع الكولسترول من غير أن تحدث ضرراً في الجسم.
حول وأد البنات عند العرب في الجاهلية
لجأ الأستاذ الصعيدي - وهو من علماء الأزهر الشريف - إلى المغالطة والتقول عليَّ بما لم أقله بعد أن سُدّت أمامه السبل في تأييد ما يذهب إليه. فقد أنقسم رده الأخير إلى نقطتين تمثل كلتاهما أقصى ما يمكن أن تصل إليه الجرأة في طمس الحقائق:(409/50)
1 - يقول في النقطة الأولى: (وقد رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن حمل قوله تعالى (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) على معنى أنهم يجعلون لآلهتهم ما يشتهون لا يستقيم مع الآيات الأخرى كما ذكرت (أي كما ذكر الأستاذ الصعيدي)، لأنها صريحة في أنهم كانوا يجعلون ذلك لأنفسهم لا لآلهتهم)
وأنا لم أر مطلقاً هذا الرأي، بل رأيت - عكسه تماماً - كما صرحت بذلك في كلمتي الأخيرة إذ قلت ما نصه: (على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور (أي نسبتهم لآلهتهم) تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية التي قبلها يرجع إلى الشركاء: (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. . . ا. هـ. البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم، تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون) فرجع الضمير في (لهم) إلى الشركاء الذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعة إلى المشركين، لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا: هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . . وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .) ويزداد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا أنهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم
2 - وذكر في النقطة الثانية ما نصه: (وكذلك رأى الأستاذ علي عبد الواحد وافي أن النصوص القرآنية صريحة في أن العرب كانوا يجعلون الملائكة بنات الله، فلم يسعه إلا أن يعترف بهذا)؛ ويقصد بذلك - كما يفهم من سياق كلامه - أنني كنت أنكر هذه الحقيقة، حتى كتب ما كتب، فلم يسعني حيال قوة حجته إلا أن أعدل عن إنكارها وأعترف بها
مع أنني لم أذكر أنكر مطلقاً هذه الحقيقة، بل اتخذت منها دليلاً على صحة ما ذهبت إليه، كما صرحت بذلك في أول كلمة لي في هذا الموضوع؛ إذ قلت ما نصه: (ولم يقف أمر اعتقادهم عند حدود العالم الطبيعي: عالم النبات والحيوان والإنسان، بل جاوزه إلى عالم السماء؛ فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم أنهم من هذا النوع)(409/51)
ثم أوردت الآيات التي تؤيد هذا ومنها قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً. . .). (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). (أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً. . .). (أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله. . .)
وأسأل الله أن يوفقنا إلى تحري الصدق في القول ويهيئ لنا من أمرنا رشداً
علي عبد الواحد وافي
في اللغة
من حق الأستاذ الكبير (ا. ع) عليّ، وقد سلفت عندي يده، وطوق رقبتي ثناؤه، ان أشكره على حسن ظنه وجميل رأيه في قصيدتي التي نشرتها بالرسالة وجعلتها ذكرى لمولد النبي عليه السلام.
ولقد تقبلت نقده المؤدب المهذب بقبول حسن، فقد والله لمحت من خلال سطوره أدب الناقد، ورقة الأديب، وتواضع العالم وأنا مع الأستاذ الكبير أن كلمة (سمحاء) التي استعملها في قصيدتي النبوية لم ترد في كتاب من اللغة مما بين أيدينا. ويظهر أنها دلفت ألينا فيما دلف من ألفاظ أخر. ومن الغريب أنها دائرة على شباة أقلام كثير من كتابنا المعتمد بهم ولقد وجدت المرحوم قاسم أمين يستعملها اكثر من مرة في كتابة تحرير المرأة (راجع الطبعة الثانية من الكتاب ص 128، 162)
على أن نفراً من محققي كتابنا الأعلام فطن إلى خطئها، واستعمل في مكانها كلمة (السمح والسمحة) للمذكر والمؤنث، وفقاً لما جاء في اللغة. وفي الحديث الشريف (بعثت بالحنيفية السمحة).
وللأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات فظل إشاعة هذا الاستعمال الصحيح ولا زلت أذكر له مقاله البليغ (أمة التوحيد تتحد) في العدد 384 من الرسالة، ويشير فيه إلى الديمقراطية (السمحة) وكيف كان في مكنة العرب والمسلمين أن يعيشوا في حماها بوجه من الوجوه.
أما قول الأستاذ الفاضل إن الفعل (تفيأ) يتعدى بالباء أو بنفسه كما صنع أبو تمام. ولا يتعدى باللام كما جاء في قصيدة (ميلاد نبي) فهو قول نقبله على العين والرأس، ولكني(409/52)
أضيف إليه أن تعدية هذا الفعل باللام ليست خطاء، فحروف الجر ينوب بعضها عن بعض. وقد عدى القرآن الكريم الفعل (يخيَّل) بالي في قوله تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى). ولكنه يَرِدُ كثيراً في الشعر العربي معدّى باللام كما لا يخفى على علم الأستاذ الكبير.
محمد عبد الغني حسن(409/53)
الكتب
مجالس الغوري
للأستاذ محمد لطفي جمعة
نشرت لجنة التأليف والترجمة والنشر منذ شهر للأستاذ النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام كتاباً جميلاً يمثل فترة من تاريخ مصر في آخر القرن التاسع الهجري، وطرفاً من القرن العاشر.
وقد شاء أدبه وفنه ووفاؤه وثقافته أن يجعل من علاقته بقبة الغورى أثراً أدبياً، لأنه رئيس جمعية الأخوة الإسلامية التي تعقد اجتماعها في القبة مرة في كل أسبوع؛ فبحث ونقب في مكاتب مصر والآستانة حتى اهتدى إلى ثلاثة آثار نفيسة للغوري: أولها ترجمة تركية للشاهنامة التي نشرها الدكتور منذ بضع سنين؛ وثانيها هذا الكتاب للمجالس؛ والثالث في المجالس أيضاً، ولكنه أصغر حجماً وأضيق نطاقاً، وفيه تكرار لبعض المجالس الواردة في الكتاب الكبير. ويحسن بي قبل أن أتكلم عن الكتاب أن أشكر الدكتور العالم الذي أثبت بنشر هذين الكتابين أن كانت لبعض سلاطين مصر ندوة أدبية هي أشبه الأشياء بمجمع العلوم والآداب يضبط فيها الوقت بالدرجات ويحضرها لفيف من العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء وتدور فيها الأحاديث حول المسائل العقلية والفقهية والتاريخية، ولا تخلو من سمر رقيق وفكاهة ودعابة. وكان السلطان نفسه يرأس الاجتماع ويتلقى الأسئلة ويجيب على بعضها عندما يثبت عجز الحاضرين.
وهذه الصورة الجميلة لسلطان صالح كريم شجاع من أجمل صور التاريخ وتجعل لآثار الغوري التي نشهدها ونراها أثراً حياً في النفوس. كان الملك من رجال قاتيباي، ولم يكن ينظر إلى السلطنة؛ ولكن تقواه وعلمه وإخلاصه أوصلته إليها فقابل ذلك بالشكر لله والإحسان إلى الفقراء. وكان زمنه زمناً رخواً فهناك قصة عن هجوم بعض السفن الحربية على شواطئ مصر وانصرافها بقراءة الفاتحة. وهناك صورة أخرى لأخلاق البدو والحضر في الحجاز ومؤامرة بعض أمراء مكة مع هولاكو على جيوش الظاهر بيبرس ومحمله، وتدبير مكيدة لقتل أمير المحمل المصري. فدلت على أن تلك البلاد المقدسة ما زالت على وتيرة واحدة إلى ان أنقذها الله بالعهد السعودي(409/54)
وكان السلطان إذا فقد ولده بالوفاة أو صديقاً عالماً أو وزيراً حكيماً كف عن الجلوس في ندوته يومين أو ثلاثة، وكان يجلس للناس ويسمع شكواهم، ويوزع الصدقات عليهم بيده، ويجد في ذلك لذة عظمى؛ وكان ينظم الشعر العربي والتركي ويضع الألغاز بهما، ويداعب جلساءه بمعضلات الفقه. ولم يكن مقصراً في الحرب فقد بنى قلاعاً في جدة وفي ينبع؛ ومن أسماء سلطان الحرمين ما يدل على أن كل حكومة شرقية طمعت في أن يكون لها سلطة في الحجاز
وقد اهتدى الدكتور الأستاذ عبد الوهاب عزام إلى نسخ مخطوطة فقارنها وصححها وطبعها ولقى في ذلك مشقة يستحق عليها كل إعجاب وثناء. ومن محاسنه أنه أبقى الأسلوب على حالته ليدل على حقيقة ما كان يكتب. وللسلطان الغورى هنة واحدة وهو أن كرمه أفقره فاحتاج إلى أخذ ضرائب فادحة من الشعب؛ ومن بين الذي وقع عليهم هذا الحيف سيدة مغنية معاصرة فرض عليها خمسة آلاف دينار فباعت حليها أو ما زعمت أنه كل ما تملك وحملت إليه ألف دينار وشفاعة القاضي فقبلها السلطان وأعفاها. وإذن كان في القرن التاسع الهجري في القاهرة قيان يغتنين من الغناء ويدخرن المال الكثير ولا يدفعن عنه زكاة حتى يأتي السلطان وينتزعه انتزاعاً. فما أشبه اليوم بالبارحة فيما عدا اغتصاب مال القيان. وأشكر اللجنة التي أعانت على نشر الكتاب والدكتور عزام على عمله الجليل
محمد لطفي جمعة(409/55)
العدد 410 - بتاريخ: 12 - 05 - 1941(/)
ما خلفته أثينا ورومة
أهل رومةَ الأولون قومٌ بناهم الله بنية وثيقة، فنشأوا عظامَ التجاليد أشداء العضل أقوياء العصب، يعطون البهيمية من نفوسهم، أكثر مما يعطون الإنسانية من قلوبهم. ووثاقة البنية وسورة الهوى تحركان في المرء شهوة الغلب وحب الأثرة؛ فبغى الرومان على الناس بحدة القلب وبأس الحديد، فملكوا أمم البحر المتوسط ملك الرقيق، واستعانوا على تدبير هذا الملك العظيم بالسيف واللسان والقانون، فتهيأت لهم بذلك مَلَكة أصيلة في الحرب والخطابة والتشريع، وحرمتهم جِبلتهم فنون النفس الرفيعة فكانوا في الأدب والفلسفة والفن حَميلةً على الإغريق. فلما أذن الله لدولتهم أن تدول سلّط عليهم الترف والفسوق فتدفقوا في اللهو و (الأرجي) حتى ترهل من لحومهم ما اكتنز، وهش من عظامهم ما صلب، وانسرق من قواهم ما اشتد، وذهب بذهاب سلطانهم ما شرعوا من قوانين وسنوا من نظم وألقوا من خطب؛ وأصبحوا لا يد تطول ولا لسان يقول، ولا فكرة تجول؛ ثم بادوا ولم يتركوا لأخلافهم على تعاقب القرون إلا ما يُعقبه السلطان الزائل من الغرور والتبجح والفيْش، وإلا ما يورثه اللهو الباطل من الغناء والموسيقى والرقص
وأهل أثينا الأقدمون قوم صاغهم الله صيغة حسنة، فكانوا مثلاً للكمال الممكن في الإنسان الأعلى. سمت فيهم ملكات العقل والقلب واللسان والجسم سمواً لا شبيه له في شعوب الأرض، فأبدعوا في نواحي الفكر والشعور والبيان ما ربأوا به أن يكون من صنع الإنس فنسبوه إلى أرباب من خلق أنفسهم. ثم تعاقبت على المدن الإغريقية أطوار الحياة العقلية للجنس البشري تامة غير مُخدَجة: فمن الغناء الفردي في المعابد إلى التمثيل الجماعي في المسارح، ومن الحياة الأبوية إلى الحياة النيابية، ومن شعبذة الكاهن إلى فلسفة أرسطو؛ ولم يبد في سائر الأمم إلا ظواهر لبعض هذه الأطوار تقل أو تكثر على قدر نصيبها من كمال الخلق، ثم تضعف أو تقوى على نسبة حظها من محاكاة الإغريق. فكأنما هذه البقعة وأهلها لِما جمعوا من شتيت المزايا صورة مصغرة لأمم العالم، ونسخة لتاريخ الإنسان
فلما أصابهم داء الأمم فني مُلكهم في ملكوت الرومان، ولكنهم انبثوا في عقول الناس وحضارات الأمم وثقافات الشعوب، فكراً لا يأفن، وفناً لا يبلى، وأدباً لا يقدُم، وفلسفة لا تبطل، ونظاماً لا يفسد، وعلماً لا يذهب؛ فكان الفكر اليوناني أساساً قائماً لكل حضارة، ولقاحاً مثمراً لكل ثقافة(410/1)
ذلك أثره في الناس عن طريق الاقتباس؛ أما أثره في أعقاب بركليس والإسكندر فمن طريق الوراثة المتحدرة في الدماء حاملة مجد السلطان والغلَب، وعظمة الفكر والروح، وعزة الملك والقيادة، ومزية الإبداع والخَلق، وفضيلة الجمال والحق، وسمو الإيمان والعقيدة؛ فكان يونان اليوم كيونان الأمس مثلاً مضروباً في شهامة النفس وشجاعة القلب وحمية الأنف وصدق الوطنية والضرب في الأرض من أفق إلى أفق
أولئك أعقاب رومة يتمثلون في الطاغية (موسو)؛ وهؤلاء أخلاف أثينا يتمثلون في الرئيس ماتكساس. هناك الرأس الخواء، والقلب الهواء، والصلف البغيض، والغرور العريض، واللسان الطائش. وهناك العمل الصامت، والقول الثابت، والدماء التي تفور بمزايا الجنس، والقلوب التي تنبض بحب الوطن. ويشاء الله عزت حكمته أن يخرج العبرة للناس في هذه الكوارث الموئسة من تراث وتراث وجيل وجيل، فسلط نُعَرةَ نيرون على أنف الدتشي فوقف على ماسورة مدفع ضخم، ثم رفع أنفه إلى السماء، وبسط يده في الفضاء، وأرسل أمره الأرعن إلى عديده وحديده أن يخترقا حدود اليونان وهم في إغفاءة الفجر ينعمون تحت الكلل بأواخر الأحلام السعيدة. فسالت من البانيا فِرق الجيش الإيطالي بسياراته المصفحة، ودباباته المسلحة، وطائراته الموقرة بالقذائف والرصاص؛ وعلى رأس الطليعة المزهوة قائد جهم الوجه، كثيف اللحية، غليظ الألواح، يحمل إلى الجيش اليوناني المضطرب الهالع شرط الهدنة وصك الأمان!
يا سخَر القدَر ممن زعم أنه يصرِّفه! ويا عار (سيزار) ممن ادعى أنه يخلفه! ما باله يرمي فترميه أبابيل من طيور العذاب، ويهجم فتصده حصون من سواعد الشباب، ويصيح بأبطال الألب فلا يجيبه إلا صناديد الأولمب بالهجوم الجارف والضرب الدِّراك والقصف المزلزل، فذوو القمصان السود كالأرانب يتوارون في أخاديد الأرض، ويلوذون بجلاميد الصخر؛ فإذا أعجلهم الفزع عن التماس النجاة ألقوا السلاح صاغرين واستأسروا!
حينئذ تصبب الزعيم الشحيم عرقاً لا ندري أمن الكلال هو أم من الخجل، فأقسم ليحشدن الإمبراطورية كلها أمام الجيش اليوناني الصغير الفقير الذي يقاتل الطائرات بالحجارة، وينازل الدبابات بالسلاح الأبيض، ويزوده بالميرة والذخيرة النساء والشيوخ والأيفاع في شعاف الجبال وبطون الأودية، فكانت أفواج الجيش تذوب أمامه ذوبان الشمع، وأمواج(410/2)
الحديد تنكسر دونه تكسر الهشيم، والأكياس الحازمون من قواد الفاشية وجنودها يتقهقرون حتى ارتدوا عن اليونان، وكادوا يجلون عن ألبانيا، لولا أن استغاث الدتشى بالفوهرر، فكانت الفاجعة التي لا ينصل عارها من تاريخ الألمان أبد الدهر!
أرأيت؟! هذه هي الفئة القليلة التي يصيح في دمائها وأعصابها تاريخ أثينا بأسره. وتاريخ أثينا ليس كتاريخ روما مسارحَ دراسة لصراع الثيران، وآثاراً عافية من مغامرات الفرسان، وأسفاراً ميتة من شرائع جوستنيان؛ وإنما هو ومضات الضمير التي لا تخبو، وآيات العقل التي لا تموت
وتلك هي الفئة الكثيرة التي تنتفخ بالهواء كالفقاقيع، وتعيش بغير مثل كالجراد، وتحارب بغير إيمان كالمرتزقة. لذلك تراهم يستأثرون بجانب الهزيمة في هذه الحرب، ويؤثرون وسائل الحقارة في هذه الجريمة. وإذا كان في انتصار اليونان وانكسار الطليان عبرة، فهي للعرب الذين يتميزون على الإغريق بوراثة القرآن الخالد الذي لا يتبدل، واكتساب الإيمان الصادق الذي لا يحول!
أحمد حسن الزيات(410/3)
الإسلام بين السلف والخلف
للأستاذ محمد محمد المدني
مقدمة
يرجع الإسلام في أصل دعوته وتفاصيل شريعته إلى قسمين:
1 - العقائد وما يلحق بها من أنواع العبادات
2 - الأحكام العملية التي ينظم بها شئون الحياة
وللعلماء في بحث هذين القسمين طريقتان:
1 - طريقة السلف من العلماء الأولين الذين تلقوا دعوة الإسلام من معينها الصافي، لم تشبها الشوائب، ولم تتحكم فيها الأهواء ولا المذاهب، ولم تفرقها الفرق ولا الطوائف
2 - طريقة المتأخرين الذين خلفوا من بعدهم بعد أن دخل في الإسلام ما ليس منه، وطغت على عقول المسلمين فلسفات أجنبية، وأفكار طارئة لا عهد لهم بها من قبل
ونريد أن ننظر في هاتين الطريقتين، لنعرف: أيتهما هي الطريقة القويمة التي يصلح بها شأن المسلمين في حاضرهم
(ا) طريقة السلف
تمتاز هذه الطريقة بالبساطة المطلقة في العقائد وما يتصل بها، فهي لا تعرف التعقيد، ولا تتكلف التأويل، ولا تنزل على أساليب الفلسفة الملتوية ولا المنطق المركب، ولا تتصيد الأخبار والروايات لتضخيم العقائد أو تركيب العبادات
إيمان بالله لا يعدله إيمان، مصدره الاقتناع النفسي، والاطمئنان القلبي الناشئان من النظر في ملكوت السموات والأرض، والتأمل في بدائع هذا الكون وأدراك أسراره، والإذعان لقدرة خالقه
وإيمان برسوله الذي أيده بوحيه، وأنزل عليه كتابه يتلى عليهم بكرة وعشياً، ويهديهم للتي هي أقوم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور
ورضا فيما وراء ذلك بما يخبرهم به الله أو الصادق الأمين عن عالم الغيب، لا يكلفون أنفسهم بحثه أو التعمق فيه، أو الوقوف على تفاصيله علماً منهم بأن الغيب لله لا يظهر(410/4)
على غيبه أحداً، وبأن للعقل حداً يجب أن ينتهي إليه، ويقف عنده
1 - كانوا يؤمنون - كما نؤمن - بأن لله ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: ولكنهم لا يكلفون أنفسهم بعد ذلك الوصول إلى حقيقة هؤلاء الملائكة ولا تعرف كنههم، وهل هم أجسام نورانية أو أرواح علوية أو نحو ذلك؟
2 - وكانوا يؤمنون بيوم الحساب - كما نؤمن - وبأن الله سيخرج للناس كتباً فيها أعمالهم، يلقونها منشورة، وبأنه سيضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، ولكنهم لم يكونوا يكلفون أنفسهم ما وراء ذلك من معرفة هذا الكتاب، ولا أين تكون ساحة هذا الحساب، ولا حقيقة هذه الموازين، وكيف تقام، وهل لها كفتان ولسان، أو هي على شكل ميزان القبان، وهل هي من حديد أو نحاس، وهل تجسد الأعمال ثم توزن بها، أو تكتب في صحف ثم توضع في كفتيها
3 - وكانوا يؤمنون - كما نؤمن - باللوح المحفوظ، ولكنهم لا يكلفون أنفسهم أن يثيروا نقاشاً أو جدالاً حول هذا اللوح: ليعلموا أنه فوق السموات السبع أو تحتهن، أو أن مساحته كذا وكذا، أو أن قلمه كيت وكيت!
4 - وكانوا يؤمنون - كما نؤمن - بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، لكنهم لا يتطلعون إلى معرفة كنه هذه الحياة، ولا نوع هذا الرزق
5 - وكانوا يؤمنون بأن الرحمن على العرش استوى: (وأينما تولوا فثم وجه الله) و (يد الله فوق أيديهم) و (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم)؛ ولكنهم لا يشغلون أنفسهم بالبحث في الاستواء وكيف كان، ولا بالسؤال عن اليد أو الوجه أو تأويل معناهما، ولا يتطلعون إلى معرفة حقيقة هذه المصاحبة وعلى أي حال تكون
سئل مالك - رضي الله عنه - عن معنى الاستواء المذكور في القرآن، فغضب وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة!
وسئل علي - رضي الله عنه -: كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟ وهل يكون ذلك دفعة واحدة؟ فأجاب: يحاسبون كما يرزقون!
وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب أمثال هؤلاء بالدرة ويعنفهم ويتعقبهم، وقد مر(410/5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم فسمعهم يخوضون في القدر، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال: أفبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال!
هذه طريقة السلف الصالح في الإيمان بالله وما أخبر به من الغيب: لم يكونوا يكلفون أنفسهم شيئاً من التفاصيل التي لم يذكرها الله في كتابه، ولم ترد عن الصادق الأمين من طريق يعول عليه في إثبات العقائد، لأن العقائد إيمان ويقين لا يغني فيهما الظن: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً!
وقد أدركوا بما لهم من العقول الصافية أن قياس الغائب على الشاهد لا يستقيم، وأن الله كلفهم بالإيمان بالغيب كما يريده غيباً يحتفظ به لنفسه ولا يطلع عليه أحداً من خلقه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) (وما كان الله ليطلعكم على الغيب)
وعلموا أن الاشتغال بما لم يأذن به الله من هذه التفاصيل هجوم على الغيب، وتعقيد للعقيدة، وتشتيت لأفكار المسلمين، وصرف لهم عما يجب من العمل بمقتضى إيمانهم إلى أنواع من الجدل، ليس فيها فائدة في العقيدة ولا في العمل!
وقد كان لهم في العبادات شأن كهذا الشأن: يعبدون الله كما يريد الله، لا ينظمون ذلك على ما يشاءون، ولا يبتدعون فيه أو يحدثون علماً بأن العبادة، أنواعها ورسومها وهيئاتها، شأن يرجع فيه إلى المعبود ويؤخذ فيه بما ارتضاه لنفسه، وإذا كان الملوك والحكام لا يستحبون لأنفسهم، ولا يرضون من رعاياهم أن يخرجوا على تقاليدهم أو يعدّلوا فيها، بل يوجبون في تشريفاتهم أوضاعاً خاصة، وملابس خاصة، وأوقاتاً خاصة، فهل يجوز للناس أن يبتدعوا أو يخترعوا في عباداتهم ما لم يأذن به مالك الملوك؟
لهذا كله سلم الدين في عهد الأولين من الابتداع والتفرق بالأهواء. ولم يدخل على العقائد والعبادات ما دخل من بعد، ولم يكثر الزيغ والإلحاد، ولم تتحير العقول، ولم يتقاذف الناس في الدين والعقيدة تهم الكفر والزندقة والفسوق تجري على ألسنتهم بغير حساب!
أما سنة الأولين في النظر إلى المعاملات وأحكام الحياة، واستنباط ذلك من شريعتهم: فقد فهموا أن هذه الشريعة إنما وضعت لإسعاد العباد وتحقيق مصالح الناس، وأنها تقوم على أساس العدل والرحمة، وأن السياسة الصالحة جزء من أجزائها وفرع من فروعها
فهموا ذلك، فلم يتعنتوا، ولم يتزمتوا، ولم يضيقوا واسعاً، ولم يحجروا على العقول(410/6)
والأفكار، ولم يصادموا حرية الرأي، ولم يفرضوا على الناس مذهباً بعينه، ولم يقفوا أمام أحداث الزمن جامدين، بل وضعوا لكل مشكلة حلها، ولكل قضية قضاءها، وفتحوا باب الاجتهاد والرأي والنظر ليجاروا سنة الله في الحياة التي لا تعرف الركود ولا الجمود، والتي لا تنتظر المتخلفين والمترددين، ورسموا لذلك حدوداً لا يقصد بها تقييد العقول ولا التضييق على الأفكار؛ ولكن يقصد بها تنظيم الفكر، وتقويم الرأي، وتجنب الزلل، وضمان الصواب!
استمدوا كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، ومن مقاصد الشريعة الكبرى التي هي رعاية المصلحة، وتحقيق معنى العدل والرحمة، وتطبيق ما تقضي به السياسة الرشيدة والقياس الصحيح!
وقد أوسعوا بذلك دائرة الشريعة علماً وعملاً، ولبوا بها مطالب عصورهم ونهضوا بحاجات قومهم وأوطانهم، واشتركوا مع رجال الحكم والرأي في تدبير شئون الأمة، والحفاظ عليها، وحياطة دينها وشريعتها؛ وكان لهم في ذلك مفاخر ترفع الرءوس وتكرم شأن العقول، وتحدث عنهم بأنهم عرفوا لأنفسهم حقها ومتعوا عقولهم بلذات النظر والفكر!
أخصبت في ظل هذه الحرية الفكرية عقول المسلمين، واتسع نطاق الرأي والنظر في جميع علوم الإسلام، وكثر المجتهدون والمستنبطون لأحكام الشريعة، وانبثوا في كل قطر من أقطار المسلمين، وصاروا يعدون بالمئات لا بالآحاد ولا بالعشرات؛ ووجد الخلفاء والأمراء والقضاة والحكام حاجتهم من المبادئ والأحكام والنظم والقوانين في الشريعة، فلم يحاولوا الخروج عليها، ولم تحدثهم نفوسهم بنبذ أحكامها أو استبدال غيرها بها، واحتفظت الشريعة بما ينبغي لها من الاحترام والمكانة والكلمة العليا في المراكز العملية وقصور الحكم والسلطان، ودور الإدارة؛ ولم تقصر على الدراسات في المدارس أو المساجد، ولم يتخذ أهلها وحملتها طابع الروحية والكهنوت، يحشرون لأيام الزينة، ويعرضون للاحتفالات!
هكذا كان شأن علمائنا السافين في فهم العقائد، وإدراك المقاصد، وتطبيق أحكام الله: تسليم فيما يتصل بالعقائد والعبادات أغناهم عن الجدل والتفرق بالأهواء والبدع، وحرية واجتهاد في فقه الحياة، فتحا أمام الناس أبواب الحياة!(410/7)
فماذا فعل الخلف من بعدهم؟
(ب) طريقة الخلف
لقد عكسوا طريقة السلف: ففصلوا ما كان مجملاً، وأجملوا ما كان مفصلاً، وضيقوا ما كان واسعاً، وظلموا أنفسهم بتجاوز حدودهم، وجنوا على شريعتهم بتفريطهم!
1 - جروا في العقائد على تفصيل أدخل على المسلمين الفرقة والانقسام، وفتح أمامهم أبواباً من الجدل المفضي إلى التشاحن والتدابر كانوا في غنى عنها وسلامة منها، وشوهوا أمام الناس علم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتجرأوا على الغيب يستطلعون خباياه ويستكشفون أسراره، وزحموا العقائد الصافية في زحمة الروايات الموضوعة، والأخبار الملفقة، والإسرائيليات المدسوسة!
وصفوا لنا عالم الأرواح، وما يدور فيه من أقوال وأفعال، وحدثونا عن حياة الأولياء في قبورهم، والشهداء عند ربهم، فذكروا أنها حياة حقيقية يأكلون فيها ويشربون؛ بل وتمتعون فيها ويتزاجون!
وصفوا لنا الملائكة وأصنافهم وأحوالهم وأجنحتهم ومقاييس أجسامهم، وما يقولونه في تسبيحهم حين غدوهم أو رواحهم، وما يكون من حوارهم بعضهم وبعض!
وصفوا لنا أرض المحشر وساحة الحساب، ومواقف الأولين منها والآخرين وحدثونا في تفصيل دقيق عن الصحف المنشورة والموازين المنصوبة، وعن الحوض ومياهه، وأكوابه وسقاته، وتدافع الناس من حوله، وازدحامهم بالمناكب عليه؛ كأنما كانوا شهوداً لكل ذلك إذ يفيضون فيه، أو كأنما أطلعهم الله على برنامج هذا اليوم المشهود فهم يقرأون منه على الناس كتاباً مفصلاً!
وحدثونا عن اللوح والقلم، والعرش والكرسي: أيها خلق قبل الآخر، وأيها يصدر إليه أمر الله أولاً، وكيف يكتب القلم وما عدد أسنانه، وما عدد ما سطر في اللوح من آيات الله وكلماته، ونسوا أن ذلك كله من عالم الغيب، وأنهم يتهجمون منه على ما احتفظ الله به، ويتعدون حدود بشريتهم، ودائرة عقولهم، ويركبون متن الشطط والغرور!
ثم صوروا للناس قضاء الله وقدره بصورة تدفعهم إلى التواكل، وتعلمهم الركود والإخلاد، وتوهمهم أنهم مكبلون من فوق هذا الكون بقيود أو أغلال لا سبيل إلى تحطيمها، ولا إلى(410/8)
التخلص منها!
2 - وأدخلوا على العبادات أنواعاً من البدع لم يأذن بها الله: يتصيدون لذلك من الأحاديث الضعيفة ما يؤيدون به شهواتهم، ويحاجون به ناصحيهم، حتى اختلط على الناس أمر الدين، ولم يعد أكثرهم يميز بين ما شرعه الله وما شرعته الأهواء: ففي الصلاة بدع، وفي الصيام بدع، وفي الحج بدع، وفي الذكر بدع، وفي الأذان بدع، وفي تشييع الجنائز وزيارة القبور بدع. بل استباحوا لأنفسهم أن يركبوا أنواعا ًمن العبادات أو الرسوم الدينية لم يكن يعرفهم المتقدمون: كفائدة الأربعاء، وإقامة الموالد، وإسقاط الصلاة عن الميت، وعدية يس، والعتاقة، ونحو ذلك من ألوان العبث الهازل الذي لا يليق بأمة دينها الإسلام، وكتابها القرآن!
ولقد أصبح المسلمون بذلك أشتاتاً: كل طائفة بإمام، وكل شيخ بطريقة، يكفر بعضهم بعضاً، ويفسق بعضهم بعضاً، وكل حزب بما لديهم فرحون!
3 - أما في الفقه والتشريع، وتطبيق أحكام الله على مشكلات الحياة، وأمراض المجتمع وأحداث الزمن، فهناك الجمود والخمول: جمود لواهم عن التفكير، وأغمض عليهم كلام الله، وباعد بينهم وبين إدراك روح التشريع، وتقدير المصالح ودراسة فقه الحياة، وخمول زواهم عن الناس، وأنساهم أنفسهم وصرف العقول عنهم، وأيأس المفكرين منهم، وأضعف ثقة أهل الحكم والسياسة بهم وبشريعتهم: فذهبوا يلتمسون أحكام الحياة والمعاملات، ونظم المال والاقتصاد والعقوبات من شرائع أوربا، ويحكمون في بلاد الإسلام بغير ما أنزل الله، وتركوا هؤلاء قابعين في مساجدهم ومعاهدهم يتناقشون في حملة العرش هل هم أوعال أو غير أوعال، ويتدارسون أحكام المياه المطلقة والمياه المختلطة، ويختلفون في سؤر البغل: أطاهر هو أم طَهور، ويكتبون في مجلاتهم عن الحسد والرقية منه، وعن الجذب والشطح وما يكون فيهما، وعن العباد المكلفين: أيخلقون أفعال أنفسهم أم يخلقها الله لهم، وعن تلقين الميت: أمشروع هو أم غير مشروع؛ ثم عن العمامة والفاروقية، وأيتهما (تحقق) الشخصية العلمية. . . الخ
تركوهم لذلك وأشباهه يدرسون منه ما يدرسون، ويتركون منه ما يتركون، وينقطعون عنه ما ينقطعون، ومراكز الفقه والتشريع والإدارة والقضاء في أيدي غيرهم، وكراسي الحكم(410/9)
والنيابة خالية منهم، وبيئات العلم والأدب جاهلة بهم معرضة عنهم، والأمة لا تراهم إلا حيث يكون الاحتفال بالمحمل، أو الاجتماع للموالد مع أرباب الطرق، أو الحشد للمواسم والأعياد!
وهكذا قضي عليهم بالموت البطيء ينساب إليهم في مثابرة واتصال كما ينساب إلى المصدور أو العليل!
في مثل هؤلاء يقول (ابن القيم) منذ ستة قرون:
(لقد جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من معرفة الحق والتنفيذ له، ظناً منهم أنها منافية لقواعد الشرع، ولعمري إنها لم تناف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نافت ما فهموه من شريعته. . . والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمور ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شراً طويلاً، وفساداً عريضاً، فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه. . .) (الطرق الحكمية ص13)
وفيهم يقول الأستاذ الأكبر الإمام المراغي في مذكراته الإصلاحية التي كتبها في سنة 1928 وجعلها برنامجه في إصلاح الأزهر:
(ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديثة، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنها، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين)
هذا، ولعل الرسالة توفق إلى نشر مذكرة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي بعد أن مضى عليها أكثر من اثني عشر عاماً، فأني أخشى أن يكون طول الزمان قد خلع عليها ثوب النسيان، ولستُ أعلم مذكرة عالجت شئون الأزهر والفقه والدين بمثل ما عالجتها به هذه المذكرة في العصر الحديث.(410/10)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(410/11)
مقال أوحاه قصف المدافع في ليلة قمراء
دنيا الشقي السعيد
في 172800 ثانية
للدكتور زكي مبارك
في الساعة العاشرة من مساء الجمعة وهو اليوم الثاني من شهر مايو، شهر الأزهار، كما يسميه أحد شعراء الفرنسيس، مضيت إلى دار المفوضية العراقية مع مترجم (آلام فرتر) لنشهد آلام الأصدقاء الأعزاء وقد آذتهم أخبار الحرب في يوم الاحتفال بميلاد (الملك الشبل) وهو ابن غازي وحفيد فيصل
وفي الساعة العاشرة من مساء الأحد، وهو اليوم الرابع من شهر مايو، حملت القلم لأحدث قراء (الرسالة) عن تفاصيل ما ثار بيني وبينهم من خصومات، ولكن المدافع ثارت فوق رأسي حتى كدت أتوهم أنني المقصود بعدوانها الأثيم، فالبيت الذي أقيم فيه يرتج ارتجاجاً عنيفاً جداً؛ وأنا أكتب هذه السطور بدون أن أعرف كيف تنتهي هذه الليلة السوداء، وإن كانت قمراء. وصاحب البيت يطرق باب غُرفتي بعنف ليحضني على النزول إلى السرداب، فأجيب: دعني، دعني، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي!!
ومعنى ذلك أنني في الإسكندرية وفي أخطر مكان وهو (الرمل)
الغرفة محجوبة النوافذ بحجاب سميك، وفيها نور ينفعني ولا يراه أحدٌ غيري، وأنا مع ذلك أكاد أشهد نيران المدافع وهي تخترق أحجبة النوافذ، فهل حان الوقت لأستريح من دنياي، ولأنجو من بغي الأعداء، وغدر الأصدقاء؟
طاخ! طاخ! طاخ!
تلك أصوات المدافع، وكأنها تقصدني بالذات، فهي تُزلزل الدنيا من حولي، وتنذرني بغاية كريهة دميمة هي الموت في مكان لا أودِّع فيه أهلي وأبنائي
طاخ! طاخ! طاخ!
اصنعوا ما شئتم، أيها العادون من بني الألمان، فأنا أشتهي أن أموت والقلم في يدي، ولن أنزل أبداً إلى السرداب، ولو لقيت الحتف بمدافعكم الباغيات(410/12)
طاخ! طاخ! طاخ!
لكم الويل ماذا تريدون مني، وقد قضيت شبابي في خدمة الآداب والفنون؟
طاخ! طاخ! طاح!
تلك إذن خاتمة المطاف لدنيا الشقي السعيد، وهو الرجل الذي شهد الاحتفال بعيد 14 يوليه في باريس ست مرات، ونعِم بالألعاب النارية في باريس أكثر من عشر مرات في مواسم مختلفات، ولعلها تزيد على العشرين، فلا ضَيْرَ عليه في أن يموت بالنار الحقيقية في إسكندرية وفي يده قلم أعنف من قنابل الألمان، وإن عشت بعد هذه الليلة الباغية، فسيرون كيف صدقتُ في الثناء على نفسي، فأنا بالرغم منهم فَتى مصريٌّ لم يعرف الخضوع لغير صاحب العزة والجبروت
طاخ! طاخ! طاخ!
الجيران يصرخون ويولولون، ونوافذ غرفتي تصرخ وتولول، وقلمي مع هذه المزعجات أكثر طمأنينة من التمساح الجاثم بأعالي النيل، فكيف أُغمِدُ قلمي في هذه اللحظة وأنا أشتهي أن أموت وقلمي في يدي؟
طاخ! طاخ! طاخ!
سأموت بعد لحظة أو لحظتين، فقد كادت نوافذ غرفتي تتصدع من هول الصيال بين مدافع الإنجليز وقنابل الألمان، فما أسعدني حين أموت والقلم في يدي، وإن كنت أرتاب في إنصاف التاريخ
توت! توت! توت!
انتهت الغارة بعد تسعين دقيقة، فواخجلتاه من العيش، وليس في يدي مدفع ولا سيف!
فما دنياي وأنا الشقيُّ السعيد في الثواني التي تعد بال172800؟
ما دنياي في تلك الثواني التي تفوق الأزمان الطوال؟
دخلت المفوضية العراقية في ليلة حرب وقد تهيأت أبهاؤها لتكون ميدان رقص، فقلت: إن اللهو لا يعاب على الأمم القوية والعراقيون أقوياء بالروح، وإن أُتهموا كذباً أو صدقاً بنقض العهود.
قال الحجاج: إن أهل العراق أهل شقاق ونفاق(410/13)
وأقول: إن أهل العراق أهل شقاق، ولكنهم ليسوا أهل نفاق
فأين من يسمع كلامي قبل أن ينجح من يسرهم إفساد ما بين إنجلترا والعراق؟
وأين من يسعى للصلح بين جيشين كانا بالأمس حليفين؟ ولن يستفيد من تأريث القتال بين هذين الجيشين غير من يتربصون لأولئك وهؤلاء؟
وهل ضاعت الفرصة لإصلاح ذات البين؟
ثم اشتركت في الحديث مع الرجلين الكريمين عبد الستار الباسل وعلي الشمسي، وكان الحديث حول ما تستطيع مصر أن تصنع في هذا الظرف الدقيق (؟!)
وقيل كلام وكلام وأنا ضيِّق الصدر بكل ما أسمع؛ فقد كان دخان المدافع في حدود الحبانية يصل إليَّ، على بُعد ما بيني وبين الحبانية. وهل يبعد عني شرٌّ يطير أُواره في أروقة بغداد؟
الله وحده هو الذي يعلم كيف كان حالي والرقص محتدم بأبهاء المفوضية العراقية، والرقص من فنون الحرب، لأنه صراع بين العواطف والأحاسيس
ورجعت إلى داري في سيارة رجل كريم من أشراف الحجاز وصدري يكاد ينشقُ من الألم والغيظ؛ فقد كنت أحب أن تعفيني الحوادث من صدمة الكرب في ليلة الاحتفال بميلاد ملك العراق!
ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟
سأمضي في الصباح لمقابلة رئيس الوزراء، وسأقول له كيت وكيت، وسيكون لي مقام محمود في التمهيد لشئون تقوى المركز الأدبي لمصر في الشرق
ثم جاء الصباح فتذكرت أني مسئول أمام وزير المعارف لا أمام وزير الخارجية؛ وخطة السير في هذا الأسبوع توجب أن يكون عملي في المدينة التي تواجه عدوان الحرب من يوم إلى يوم، فهل أغيِّر الخطة وقد عرفت أن عملي سيكون في مدينة مبتلاة بمخاوف الحرب؟
وكيف وأنا لا أرحم نفسي في أداء الواجب؛ لأني أؤدي الواجب بلا رقيب، فقد وثق بي رؤسائي وأسلموني إلى ضميري لأقتل نفسي بلا ترفق ولا استبقاء. ولو راقبني رؤسائي لرحمت نفسي، وانتفعت بحقي في تعديل خطة السير وفقاً للظروف، ومَن أسلمك إلى(410/14)
ضميرك فقد أسلمك إلى رقيب لا يعرف الغفلة ولا الهجود!
ثم امتطيت القطار إلى الإسكندرية وصدري معتكر بالمعاني التي ساورتني في الليل، وبعد الوصول بدقائق كنت أحاور الأدباء الإسكندريين، فهم سلوتي كلما حللت بمغاني ذلك الشاطئ الجميل
- ستطيل عندنا الثواء، يا دكتور؟
- خمس ليالٍ طوال!
- إذن فستمتع عينيك وأذنيك بقصف المدافع!
وفي صدر اليوم التالي كنت أؤدي واجباً بمدرسة الطائفة الإسرائيلية، وهي مدرسة لا تعطل في أيام الآحاد، أو هي المدرسة الإسرائيلية الوحيدة التي لا تعطل في الأحد الأول من كل شهر، وما يرضيني أن أقضي يوماً بلا عمل؛ وقد آذتني وزارة المعارف حين أسلمتني إلى ضميري
السنة الأولى الثانوية بهذه المدرسة مكانها في السطح. وعند الظهر صكت آذاننا المدافع بأصوات أعنف من قصف الرعد في لحظات الخوف والبأس
ومدير المدرسة يشير بأن ننزل إلى مكان أمين
وأقول: يجب أن نموت ونحن في الدرس
ثم يصلصل الجرَس مؤذناً بالانصراف فتضعف حجتي في العناد
وفي المساء يقع ما عرفه القراء في مطلع هذا الحديث
أما بعد فأين أنا مما كنت أريد؟
كنت أحب أن أتحدث عن الشاطئ الذي أوحشَ بعد إيناس
كنت أحب أن أدرس بعض الشؤون الأدبية أو الاجتماعية
كنت أشتهي أن أقول كلمة في (الإنسان) الذي رُفِعَ عنه بعض الحجاب فعرف من أسرار الوجود أشياء، ثم كان حاله حال الطفل الذي وُهِبَ مسدّساً محشواً بالرصاص فهو يصوبه إلى صدور الآمنين كيف شاء عقله الوليد! وإني لأخشى أن ينتقم الله من (الإنسان) فيسلبه القدرة على (استغلال) ما عرف من أسرار الوجود!
انتصف الليل أو كاد، وسكتت المدافع منذ لحظات، فهل هدأ البلبال الذي يساورني كلما(410/15)
فكرت في مصير الشرق؟
ما أشقى الرجل الذي يعيش وهو موكَّلٌ بتعقب ما في الدنيا من قُبح وحُسن، وجهل وعلم، وقنوط ورجاء، وإن استباح القول بأنه الشقيُّ السعيد
زكي مبارك(410/16)
ألقاب الشرف والتعظيم
عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 2 -
ونعود إلى الكلام على الباب فنقول: إن القلقشندي قال (صبح الأعشى 472: 5): (الباب بباءين موحدتين مفخمتين في اللفظ. وهو لقب على القائم بأمور دين النصارى الملكانية (أي الكاثوليك) بمدينة رومية. . . وأصله البابا بزيادة ألف في آخره، والكتاب يثبتونها في بعض المواضع ويحذفونها في بعض، وربما قيل فيه الباب ' بإبدال الألف هاء، وهي لفظة رومية (أي لاتينية) معناها أبو الآباء. . .) انتهى المطلوب من إيراده
وقال ابن رُستَه في كتابه الأعلاق النفيسة ص148 من طبعة الإفرنج: (مدينة الرومية وهي مدينة يدير أمرها ملك يقال له الباب)
وفي نزهة المشتاق للإدريسي ما هذا نصه (74): (وفي مدينة رومة قصر الملك المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه)
وجاء في تقويم البلدان لأبي الفداء في مادة رومية: (وهي مدينة مشهورة، ومقر خليفة النصارى المسمى الباب). وقال في أهل بيزة: (وليس لهم ملك؛ وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى)
وذكر ابن الوردي في كتابه خريدة العجائب طبعة مصر سنة 1300 في ص58: (وبها قصر الملك المسمى البابا وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض)
وورد في رحلة ابن بطوطة ذكر البابة فقال (في436: 2 من طبعة باريس): (ويأتي إليها البابة (وهو يريد هنا نائب البابة الذي سماه أبو شامة في كتاب الروضتين في ص183 من طبعة باريس) مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى لقائه، ويترجل له، وعند دخوله المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحاً ومساء للسلام عليه، طول مقامه في القسطنطينة حتى ينصرف). اهـ(410/17)
وابن خلدون تكلم مراراً على البابا، من ذلك ما ورد في مقدمته ونقلناه في صدر هذا البحث، ثم قال: (وأردوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر، على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه، ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم، وهو كرسي رومة، لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه، فلم يزل سمة عليه إلى الآن. . .)
وممن كرر أسم البابا مراراً المقريزي. فقد قال في كتابه المواعظ والاعتبار طبعة بولاق (في484: 2): (وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا. . . ومعناه أبو الآباء؛ ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية. من أجل أنه كرسي بطرس، رأس الحواريين، فصار بطرك رومية يقال له البابا، واستمر ذلك إلى زماننا الذي نحن فيه). انتهى
ونحن لا نريد أن نمعن أبعد من هذا في المدى لإيراد الشواهد على هذا الاسم، وأنه لاتيني، أي رومي أو روماني، ففيها مجزأة، لمن يتحرى الحق، ويرمي إليه.
فهذه سبع لغات في البابا، وهي: الباب، والباب. والبابة، والبابة، والبابَّ، والبابا، والبابا. وكل كاتب، حاول أن يؤدي اللفظ على ما ينطق به أصحابه، ولم يحاول واحد منهم أن ينقل معناها إلى العربية، بعكس ما يفعل اليوم بعض المتفصّحين والمتحذلقين من السوريين وأشباههم
وأما البطرك، فقد اختلفوا في تعريبهم إياه اختلافهم في الباب، والإنبراظور. قال في التاج في (ب ط ر ك): (البطرك، كِقمطر وجعفر، أهمله الجوهري. وقال الأصمعي: هو البطريق، وهو مقدم النصارى، وبه فسر قول الراعي يصف ثوراً وحشياً:
يعلو الظواهر فرداً لا أليف له ... مشى البطرك عليه ريط كتان
ويروى مشى النطول، وهو الذي يتنطّل في مشيتِهِ، أي يتبختر. قالهُ الأزهري، أو سيّد المجوس. قال الأزهري: وهو دخيل ليس بعرَبي) اهـ.
قلنا: البطرك: يوناني، وهو في هذا اللسان أو ومعناه الأب الأكبر أو الأب الديني
وقال في صبح الأعشى (473: 5): (البطرك: بباء موحدة مفتوحة، ثم طاء مهملة ساكنة، وبعدها راء مهملة مفتوحة، ثم كاف في الآخر. وهو لقب القائم بأمور دين النصرانية. . .(410/18)
وأصله البطريرك، بزيادة ياء مثناة تحت مفتوحة، بعدها راء ساكنة، وهو لفظ رومي. . . ورأيت في ترسل العلاء ابن موصلايا، كاتب القائم بأمر الله العباسي في تقليد أنشأه: الفطرك بإبدال الباء الموحدة فاءً. . .)
وفي التنبيه والإشراف، للمسعودي في ص159 من طبعة الإفرنج: (وأخبار أصحاب الكراسيّ الذين هم البطاركة أحدهم بطريرك)؛ قال ناشره في الحاشية: (وكل مرة وردت البطريرك ذكره الثعالبي صاحب اللطائف باسم بطريرك)
وقال المسعودي نفسه في كتابه الآخر (مروج الذهب) (406: 3 من طبعة باريس): (وذلك أن مدينة إنطاكية بها كرسي البطريق المعظم عندهم)
وورد في تاج العروس في مادة بطرق: (. . . وقيل البطريق هو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب، وقد يقدم عندهم. قلت: (أي الشارح وهو السيد مرتضى) هو بالرومية بترك، قاله الجواليقي وغيره). انتهى
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: وهذا وهم من السيد الشارح، لأن بترك هو تخفيف البطريرك، كما ذكره القلقشندي وأما البطريق فرومية أي لاتينية لا يونانية، وهي
معجم لاروس الوسيط: (أنشأ منصب البطريق قسطنطين وقلده خلفاؤه أشهر ضباطهم، ولما صارت دولة الغرب في أقصى دركاتها اتخذ بعض الرؤساء لقب البطريق وكان يقابل البرنس أو نائب الملك. ولما أعلن أُرستس بانبراطورية ابنه أوغسطس، كان لقبه يومئذ بطريقاً وآيتيوس الذي أذل أتّيلا وغلبه، كان لقبه بطريقاً يومئذ، وتلقب بلقب البطريق أيضاً كلوفيس ملك فرنسة، وكذلك ملوك برغونية. ولقب الملوك البرابرة بطارقة قواد جيوشهم. وكان قياصرة الروم يجودون به على لباب الوظائف العليا من مدنية وحربية، وبعد ذلك بكثير خلع البابوات هذا اللقب على ملوك الإفرنج لما استأنفوا التقاليد الانبراطورية، فكان ممن تلقب به: بيبن، وشرلمان، ودُعوا بطارقة رومة ا. هـ تعريباً
ويُرى من هذه النصوص المنقولة هنا، أن بعض الكتّاب لم يميزوا بين البطرك أو البطريرك، وبين البطريق. فصاحب الاسم الأول رجل ديني، وصاحب الاسم الثاني رجل مَدَني. واللفظ الأول يوناني الوضع، لاتينيُّهُ. على أن كِلاَ الاسمين مأخوذ من معنى الأب. فالأول يعني الأب الروحاني، والثاني الأب النبيل أو الشريف. لكن لابد من أن يُميَّز الواحد(410/19)
من الآخر حرصاً على المعنى، وتمسكاً بمدلولات الألفاظ الأصلية، لكي لا يقع التباس فيها
ويُرى من هذه النصوص أيضاً أن في البطريرك ثمانية أوجه معربة؛ وهي: البَطْرَك، والبِطَرْك، والبَتْرَك، والبطريك، والبطريرك، والفطرك، والفطريرك، والبطريق. فهل بعد هذا من ينكر هذه المفردات، ومعانيها ولغتها، وقد أيدناها بالشواهد والنقول الموثوق بها؟ وهل يستطيع المُتَبَلْتعُون السوريون، أن يضحكوا من كتّاب مصر، لأنهم يستعملون في مقالاتهم مثل سكرتير، بروفسور، ودكتور، وماجستير، وليسانسيه؛ وكلها ألقاب وضعها الغربيون كأنها أعلام ألقاب. ومن ثمّ لا حقّ للناطقين بالضاد أن يغيروها، ولا أن يترجموها بأي صورة كانت. وقد جمعنا من الألقاب الغربية التي عرَّبها العرب نحواً من مائتين وخمسين؛ ولم يفكروا يوماً بوضع مقابلات لها في لغتهم، لا بل أن بعضهم ظنها مُضَرِيَّة محضة، ولا صلة لها بغير لغتهم. وأنا أذكر هنا بعضاً منها مصداقاً لكلامي. من ذلك ما يتمم بَحْثي السابق:
6 - الدوفن
قال ابن مكرّم في تركيب (د ف ن) ما هذه عبارته بنصها: (ودَوْفَن: اسمٌ. قال ابن سيده: ولا أدري أرَجُلٌ أم موْضع. أنشد ابن الأعرابي:
وعلمت أني قد مُنيتُ بِنِئطِلٍ ... إذ قيل: كان من آل دَوْفَنُ قُمَّسُ
قال: فإن كان رجلاً، فعسى أن يكون أعجمياً فلم يصرفه، أو لعل الشاعر أحتاج إلى ترك صرفه، فلم يصرفه؛ فإنه رأيٌ لبعض النحويين. وإن كان عنَى قبيلة، أو امرأة، أو بقعة، فحكمه ألا ينصرف؛ وهذا بين واضح. اهـ
وقد نقل صاحب التاج عبارة اللسان من غير أن يشير إلى مأخذها مع أن النص واحد بلا أدنى تغيير، سوى أنه قال: قمَّسِ وهي قمس؛ وقال: إن كان عنى قبيلة والصواب وإن كان عنى قبيلة
وقال صاحب القاموس: ودوفن رجل وامرأة. وفي بعض النسخ: رجل أو امرأة
قلنا: فما معنى هذه اللفظة، ومن أي لغة هي؟ فعند الوقوف على الحقيقة، تضمحل الآراء المتضاربة، ويقبض على ناصية الحق فنتمسك بها
أما رأينا فهو أنها من الفرنسية على حد اللفظ العربي ومعناه. وكان أصل وضعه لقباً(410/20)
للثنيان الفرنسي أي للذي يكون دون السيد أو الملك في فرنسة؛ ثم غلب هذا اللقب على كثيرين من أولئك الأشراف، فصار بمنزلة العَلم لهم، وأول من لقب بذلك، كان في عهد كيك أحد قمامسة فينّة الفرنسية، المتوفى سنة 1142 للميلاد. وفي أوفرنية كان أحد القمامسة في عهد غليوم السابع. وكان لقب به لأول مرة سنة 1152؛ ثم أنقلب هذا اللقب فصار علماً لأولئك الرجالات، ومن أراد التفصيل فليراجع كتب التاريخ والمعاجم في مادة دَوْفن. وهناك دوفن أشتهر بدوفن أوفرنية وهو شاعر بروفنسي، من المائة أل 12 أو أل 13، واسمه الحقيقي روبر وكان دوفناً من سنة 1169 إلى سنة 1234
ودوفن أيضاً امرأة الدوفن، وبالفرنسية والأحسن أن يقال في العربية دَوْفَنة لكي لا تلتبس بالمذكر ودَوْفن أيضاً، والأحسن دَوْفِينَه عَلَم بقعة في فرنسة. فصحَّ بهذا التأويل أن (دوفن) كلمة أعجمية وإنها أتت بمعنى أسم رجل، وأسم امرأة، وأسم بقعة، ومما يؤيد أن الدوفن هو بالتأويل الذي ذكرناه أن الشاعر قال:
(كان من آل دوفن قمَّسُ)
والقُمَّس هو سابقاً، والذي نقل بعد ذلك إلى صورة كُنْت ومعلوم أن البيت الذي فيه دَوْفن، قد يكون فيه عدة قَمامِسة، إذا كان فيه عدة ذكور، غير البكر ونحن نذكر بعد هذا القمس ونبحث في مختلف لغاتِهِ
ومن الغريب أن المعاجم الإفرنجية، وبالعكس أي المعاجم العربية الإفرنجية. لم تذكر مقابلاً للفرنسية كما لم تذكر مقابلاً إفرنجياً للدَوْفَن. فمعجم بادجر الإنكليزي العربي، (وهو أساس جميع المعاجم الإنكليزية العربية ذكر مقابلاً لها في العربية (بكرُ ملك فرانسا) - وقال نجاري بك، في معجمه الفرنسي العربي: (بكري الأمير) وهو كلام لا معنى له. - ومعجم غسلين الفرنسي العربي ذكر المؤنث ولم يذكر المذكر فقال: (زوجة ولد سلطان فرنسة) وهذا غريب. - وقال الأب بلو في معجمه الفرنسي العربي: (ولي عهد ملوك فرنسا) - وأما صاحبنا الشهير إلياس بقطر فقد قابله بقوله: (ابن بكر سلطان فرنسا)
ولا تسألني عمن نقل (دوفن) إلى لغة أجنبية في المعاجم العربية الغربية، فإن أصحابها جميعهم أهملوها كأنها لم تكن، وفي كل ما ذكرناه من النقول، ما يبين لك قصور أرباب تلك الدواوين، وبذلك يظهر لك ما فيها من النقص والعجز، والحاجة إلى الإصلاح الأعظم(410/21)
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(410/22)
خواطر في الموسيقى والناس
في الإنسانية خير
ما دام فيها أمثال (شتروس)
للأستاذ سيد قطب
منذ لحظات كنت أستمع إلى أفراح الإنسانية العذبة في موسيقى (شتروس) في أحد الأفلام الشهيرة. لست أدري كم مرة شاهدت هذا الفيلم؛ ولكنني أدري أنني انسقت لمشاهدته كالمسحور، كلما قرأت عن عرضه في إحدى الدور.
وفي لحظة من لحظات الشك التي تساور النفس هذه الأيام في ضمير الإنسانية وطبيعتها؛ وفي غمرة من غمرات اليأس أن يكون في الفطرة البشرية خير أو تطلع؛ وفي فترة من فترات الخمود الروحي والجسمي، رانت على النفس فيها غشاوة، وحطت على الجسم فيها أثقال، ذهبت منساقاً إلى استماع هذه الألحان
وإن هي إلا لحظات، ونغمات، ورقصات، حتى أحسست بالخفة الناشطة في نفسي وجسمي؛ وبالرجاء المشعشع والاطمئنان المصفى، والأمل المحلق، والإنسانية الطليقة، والفرح السعيد.
قلت في نفسي: إن الإنسانية التي وسع ضميرها كل هذه الأفراح النقية وكل هذه الغبطة البريئة، والتي ذخرت طبيعتها هذا الفيض الإنساني المرح، وتلك الطلاقة الروحية المرفرفة في ألحان (شتروس) ورقصاته، لا يمكن أن تخلو من الخير، وأن تتهم بالإقفار من الحب، مهما نغل فيها اليوم من أحقاد وأضغان
هذا الفرح الملعلع في أجواز النفس وأجواز السماء؛ وتلك الطلاقة التي لا ظل فيها لقيد من قيود الأرض والغريزة؛ وذلك التحليق النابض بالحياة الحلوة البريئة؛ هذا كله لا يكون إلا أن يكون في البشرية خير مذخور، ورجاء منظور، وقبس من نور. وإلا أن يكون لها في السماء أمل، وفي الفراديس مكان، لا يتاح لغير الإنسان
وذكرت في هذه الساعة من يتحدثون عن (الفكر والسلطة) ومن يتحدثون عن (منفعة) الفنون المجردة. أولئك الذين يرفعون مرتبة التنفيذ فوق مرتبة التوجيه، وهؤلاء الذين لا(410/23)
يريدون أن يروا في (الإنسان) إلا معدته.
قلت: أين هي السلطة الكائنة على وجه هذه الأرض التي تستطيع أن تصنع من الخير ما تصنعه هذه الحان؟ بل أين هي النبوة التي تستطيع أن ترتفع بالفطرة إلى أعلى من هذا المكان! ثم أية (منفعة) في هذه الدنيا الفانية أنفس من هذه السعادة التي تقرب وتقرب، حتى لها نغمة في الآذان وحركة في الأبدان
لن يستطيع ذو سلطان يعتمد على السلطان، مهما سما فكره، وطابت نفسه، أن يصنع مثل هذا الخير، وأن يطلق النفوس من غرائزها وقيودها، فرحة سعيدة راضية، لا تخطر الخطيئة لها ببال، ولا يهجس الشر لها في الضمير؛ وهي محلقة في هذا الأوج، مرفرفة في هذه الآفاق، خالصة من وحي الفناء ولذع الشقاء.
ولن يستطيع أكبر المخترعين والمهندسين والعالمين أن يزجي إلى الإنسانية باختراعاته وآلاته ونظرياته هذه السعادة التي تحسها وهي تستمع لمثل هذه الأنغام. وإذا لم تكن غاية الجهاد في الحياة هذه السعادة العالية وتلك الغبطة الراضية، فما عساها تكون؟
جالت في نفسي هذه الخواطر ثم استعرضت لخيالي صورة المجزرة البشرية في هذه الأيام، وصورة الحقد الوخيم، والضغن الذميم الذي يؤرثها، وصورة الغرائز المتسفلة التي تهيجها الدكتاتورية وتملقها في طبائع الأفراد والشعب، وصورة الذلة المشتعلة التي تثير الإعجاب في بعض النفوس ببطش الباطشين وغدر الغادرين. . .
فقلت: كيف اضطغنت البشرية هذا الحقد الحيواني كله، ووسعت معه ذلك الفرح الإنساني كله؟ ثم ذكرت قول العقاد: ثقلة في الحياة لم ينج طبع من عراقيلها ولم يخل عرف
وذكرت أن الإنسانية - كما يقول تاريخ الحياة - لا تزال طفلة تحبو في مدارج الزمن والارتقاء، وأن الحياة كلها لم تتجاوز الفجر الأول؛ فهي ما تزال تعيش حتى اليوم على نبات الأرض وحيواته، كما يعيش الطفل الرضيع على لبن أمه؛ ولن تبلغ هذه الحياة طور الصبا حتى تتطلع إلى غذاء تصنعه وتخلقه غير الغذاء الذي تجمعه وتؤلفه، كما يصنع الطفل بعد الفطام سواء
فينبغي ألا نستعجل الزمن، وألا نخدع بأبناء الحياة السابقين أولئك الفنانين الذين نضجوا قبل الأوان، وسبقوا خطوات الإنسانية بمراحل وأزمان، فتلك بواكير الروض، وطلائع(410/24)
الثمار. والغد كفيل بالجني والقطاف!. . .
وما كنت أملك إلا توغل نفسي هكذا في الرجاء، وألا تتطلع إلى الأجواز والآفاق، وأنغام (شتروس) تتخلل دمي فترقرقه مزاجاً صافياً، وتلمس روحي فتطلقها ترفرف في السماء، وتخلصني من ثقلة الأرض ووكسة الغريزة، فأتطلع إلى هناك. . . إلى حيث الإنسان المرموق في آمال الوجود
وتشاء المصادفات الساخرة العجيبة أن أخرج من هذا العالم الوضئ الإشراق، فيطرق سمعي - على غير إرادة - صوت المذياع وينقل إلىَّ بعض الحشرجات البائسة التي يسمونها في مصر أغنيات جديدة!
يا للشيطان! بل أظلم الشيطان، فما تستطيع طبيعته أن تهبط إلى هذه المناقع والقيعان وأن تدبر لي تلك المفاجأة في هذا الأوان!
رباه!
أيمكن أن يكون واضعو هذه الهنبشات والحشرجات ومستمعوها من أبناء آدم الذي نعرفه، وأن يكون (شتروس) ومستمعوه من أبنائه كذلك في آن؟
محال. فما تلك إلا دويبات وجنادب وهوام، وأشياء أخرى مما يرتكس في المناقع والقيعان. وإلا فما كانوا يطيقون مجرد الصبر على هذا الغُثاء؛ وفي متناولهم تلك الموائد الربانية الشهية وذلك الغذاء السماوي المريء!
(حلوان)
سيد قطب(410/25)
بين الأدب والتاريخ
الرحلات العربية
كيف بدأت ومتى دونت؟
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
الرحلة هي النقلة من مكان إلى آخر. وقد تكون فردية لا يحتاج الإنسان فيها إلا إلى راحلته وهمامة نفسه ومشدود رحله. وقد تكون جماعية يخرج فيها الجم الغفير من الناس لغرض من الأغراض أو باعث من البواعث
وأكثر الرحلات يأتي طوع الإرادة ووليد المشيئة من غير اضطرار ولا قسر. وبعضها يكون وليد ظروف طارئة أو مناسبات قاهرة، تخرج المرء أو الجماعة عن الموطن الأول، أو ترمي به بعيداً عن مراتع صباه وملاعب شبابه، إلى وادٍ سحيق، أو مطرح بعيد. . .
ومن الرحلات ما يغير أوضاع التاريخ ويفرض على العالم نظاماً جديداً، فيقرب بعيداً، أو يبعد قريباً، أو يصل بين شعب وشعب، أو يربط بين جنس وجنس، فتظهر لغات جديدة، وثقافات جديدة. ومن هذا النوع رحلة القحطانيين من الجنوب إلى الشمال؛ أو إذا شئت التدقيق من اليمن إلى الحجاز. وهي رحلة جماعية كبيرة، وسَّمها إذا شئت هجرة، وسمِّها إذا أردت انتقالاً. ولكنها على كل حال أخرجت القحطانيين من ديارهم ونشرتهم في أنحاء الجزيرة العربية وأخرجت منهم بطوناً كثيرة وقبائل كثيرة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأدب
ولقد كانت هذه الرحلة بنت القهر ووليدة الاضطرار، وسببها أن سيل العرم فاض وبلغ الزبى فاكتسح السدود، ورمى بالحواجز، وغمر الأرض، وبُدِّل السبئيون حالاً بحال، فارتحلوا إلى الشمال - ولولا هذه الرحلة الجامعة ما قام المناذرة على حدود الفرس، ولا استقام ملك الغسانيين على حدود بلاد الروم
ومن سوء حظ التاريخ والأدب أنه لم يهتم بهذه الرحلة واحد من المهاجرين المشتركين فيها ولم يدون أبناءها ولم يصف مشاهدها وكل ما وصل إلينا منها أنباء قليلة بعضها من مصادر دينية، وبعضها يعتمد على الرواية والأخبار. ولو اهتم بها أحد ممن حثوا مطاياها أو شدوا رحالها لخرج لنا سفر عظيم من أسفار الرحلات الخالدة.(410/26)
وبعض الرحلات أو الهجرات يكون ضرورياً لإكمال دعوة في أرض بعيدة غريبة، واجتناب أذى في دار قريبة حبيبة، ومن ذلك هجرة النبي محمد عليه السلام إلى المدينة بعد ما أوذي في مكة بين أهله وعشيرته مما هو مدون بالتفصيل في كتب السيرة الزكية
ولقد هاجر بعض المسلمين الأولين إلى الحبشة فراراً من الأذية، واستجابة لدعوة الجهاد - والحبشة بلاد كانت معروفة عند العرب وكان الاتصال بينها وبين الجزيرة قائماً إلا أن الإسلام زاده ووسعه. وكان في استطاعت بعض الراحلين أليها من المسلمين أن يدونوا رحلتهم ومشاهدها، إلا أنهم لم يفعلوا. ولعل مشاغل الجهاد ومتاعب الكفاح صرفتهم
والرحالة الذكي الفطن يستفيد دائماً من رحلته علماً وتجربة، ويكتسب منها فوائد، ويفتح عينيه دائماً على ما أمامه من مشاهد وما يلاقيه من معالم. فلا يدع شيئاً يمر من غير أن يقف على حقيقته، أو يكشف عن ماهيته، كما صنع بعض الرحالين من العرب الذين سنشير إليهم فيما بعد
وتزداد الرحلات بالطبع تبعاً لسهولة الاتصال بين المكان والمكان؛ فإن الاتصال هو الأداة الوحيدة لاستكمال الرحلة ونجاحها. ومن هذا نفهم قلة الرحلات وندورتها في الزمن القديم
وقد كان لقريش قبل الإسلام رحلتان عظيمتان: إحداهما إلى اليمن والأخرى إلى الشام. أشار إليهما القرآن الكريم في سورة خاصة من القصار. وكانتا تتعاوران في كل عام. وكان فيهما بالطبع ما في كل رحلة من لذة ومتعة واستجمام وطرائف ومشاهد. . . إلا أن ذلك كله لم يدون لمكان العرب من الأمية ومنزلتهم من البداوة. . . واكتفى أعضاء هذه الرحلات - وسنسميهم رحالين تجاوزاً - بقص القصص وسرد الحديث وإطالة الأسمار كلما حطوا الرحال إلى مكان، أو أستقر بهم النوى في أي مستقر
ومن حكماء العرب وشعرائهم من جاب البلاد، وطاف كل مطاف، وأنهم وأنجد، وشرق وغرب؛ إلا أنه لم يسجل لرحلته تاريخاً ولم يضع لها ثبتاً، ولكنه مضى على السفر إلى غير غاية. . . اللهم إلا المتاع ورياضة النفس واستجمام الخاطر. وقليل منهم من سافر لحكمة يصطادها أو معرفة يقتنصها
ولقد طوف امرؤ القيس في الجزيرة فخرج من بني أسد، ومر على السموأل بن العاديا في حصنه، وذهب إلى اليمن؛ وشاهد الموج يصطخب في البحر ويتعالى لجة فوق لجة فشبه(410/27)
به الليل في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلى
وأبعد في الرحلات والأسفار حتى وصل إلى بلاد الروم، ودخل أنقرة. ويقال أنه لقي قيصر وأتيح له من أسباب الرحلة ما لم يتح لغيره لغناه وشرفه ومكانه من السيادة في قومه، إلا أنه لم يدون هذه الرحلة في شعر طويل أو في نثر عريض، ولكنه أشار إليها في بعض قصائده
ولقد طاف أبو بصير الأعشى كذلك وأكثر من الرحلة، وظهر لذلك بعض الأثر في شعره، فقال:
قد جبت ما بين بانيقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
وأدخل بعض ألفاظ أعجمية في شعره تظرفاً أو تعالماً كقوله:
وشاهدنا الجل والياسمي - ن والمسمعات بأقصابها
إلا أنه لم يصنع أكثر مما صنع أمرؤ القيس
وجاء الإسلام وفتح المسلمون بلاداً جديدة، ودخلوا أرضاً كثيرة لم يدخلوها، وصار إليهم ملك واسع يحتاج إلى سهر كثير لحفظه، ويحتاج إلى تعب كثير لضبطه. فعرفوا الكثير عن البلاد المفتوحة ودروبها وجوادها وجبالها وأنهارها وغلة أرضها ومتنوع ثمارها ليجمعوا الخراج على قدر ذلك وليفرضوا الأموال على نسبته. ولم تكن هذه المعرفة مبنية على علم دقيق أو بحث متين ولكنها كانت تميل إلى التقريب أكثر منها إلى التحديد
ثم كثرت الرحلات التجارية بين أجزاء المملكة الإسلامية - وهي تذكرنا برحلتي قريش في الشتاء والصيف - إلا أن هذه كانت بين أقطار بعيدة وكانت تحمل من عروض التجارة ألواناً عديدة
ولقد ساهم الشعراء في نوع جديد من الرحلات يلتمسون به المال ويطلبون العطاء من ممدوح يقصدونه، أو عظيم يندبونه، فيكون ذلك الاتصال سبباً في بروز الشعراء وتألق نجمهم. يخرج الواحد منهم من رمال البادية إلى معالم الحضر، أو يخرج من مدينة إلى مدينة، أو يرحل من قطر إلى قطر طلباً للجاه والشهرة؛ ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة، لأنه مشغول عن ذلك كله بالحاجة التي قام إليها وركب الأسفار(410/28)
من أجلها. . .
ولقد خرج (جرير) من بادية اليمامة إلى عاصمة الخلافة الأموية يقصد عبد الملك بن مروان ويقول لامرأته:
سأمتاح البحور فجنبيني ... أذاة اللوم وانتظري امتياحي
وخرج أبو نؤاس إلى مصر (راحلاً) يمدح الخصيب ويقول:
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وابن هانئ الأندلسي يخرج من الأندلس إلى شمالي أفريقية فيمدح الخليفة المعز ويرحل معه إلى مصر ويصف هذه الرحلة في بعض شعره
وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلى أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والأسفار. فهي عقيمة كل العقم من هذه الناحية
ولم يبتدئ الاهتمام بالرحلات لذاتها وتدوينها في أسفار خاصة، وتقييد كل ملاحظات الرحالة عليها إلى في القرن الرابع الهجري - المقابل للعاشر الميلادي -
ومن المقدمين في هذا الباب المسعودي صاحب (مروج الذهب) وقد أولع بالأسفار وهو صغير، وخرج للسياحة ولم يسلخ العشرين من عمره. ويمتاز ببعض الدقة العلمية، وعدم التصديق لكل خرافة تذاع أو ذائعة تشيع. وعبارته في الكتابة قوية لا تميل إلى ضعف ولا تجنح إلى ركاكة
أما البيروني - وكان من رحالي القرن الرابع أيضاً - فقد ترك لنا كتابيه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) و (تاريخ الهند). ويعد كتابه الثاني أوفى مرجع عن بلاد الهند وأملأ كتب الأسفار تعريفاً بها
ولقد ظهر في هذا القرن أيضاً رحالة عظيم اختصه الأستاذ أحمد أمين بمقال ممتع في الجزء الثاني من فيض الخاطر. وأسمه أبو عبد الله القدسي. وكتابه الذي وضع فيه قوانين الرحالين، وقواعد السفر، وشروط من يتصدى لشد الرحال اسمه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). وقد رأيته عند صديقي المستشرق الهولندي (مستر ستريكر)، وكان يعتمد عليه في دراساته الجغرافية التاريخية
ويمتاز هذا الرحالة باستجماع عدة الجوّاب، واستكمال أدواته. فقد عمل كل ما يستطاع(410/29)
عمله لدرس حالة البلد الذي ينزل فيه. واتصل بالملوك، وخالط السوقة وعمل في أشرف الأعمال، وزاول أحقرها. ولقي في تأليف الرحلة وتدوينها عنتاً كثيراً ليكون كلامه عن صدق، وروايته عن تجربة، أو كما قال هو عن نفسه: (وإنما ذكرت هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أننا لم نضعه جزافاً، ولا رتبناه مجازاً، فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع)
ومن الرحالين المشهورين ابن جبير الأندلسي وابن سعيد المغربي صاحب كتاب (المغرب)، وياقوت الرومي صاحب المعجمين المشهورين: (معجم الأدباء) في تراجم الرجال (ومعجم البلدان) في جغرافية البلاد
وفضل معجم البلدان على كتب الرحالين جميعاً أنه - كاسمه - معجم مرتب ترتيباً أبجدياً لكل بلد أو مكان أو قطر مشهور أو مغمور، أو أرض عامرة أو غامرة، أو مدينة صغيرة أو كبيرة. وطالما أسعف الأديب بطلبته في الكشف عن محلة، أو الاهتداء إلى موضع، أو تحقيق غوطة، أو معرفة واد، أو متابعة نهر في مجراه. ويتخلل ذلك كله شعر جميل، أو رواية واسعة، أو قصة طريفة، أو حادثة تاريخية، أو ذكر يوم من أيام العرب
ولقد أعتمد عليه من أتى بعده من الرحالين في تحقيق الأماكن، ومعرفة المواطن. ولابن بطوطة شهرة واسعة برحلته المعروفة. وتمتاز بما فيها من ذكر الكرامات واستطراد الحكايات، وتصديق الخرافات. . . ويظهر أن صاحبها كان حسن الاعتقاد سهل التصديق. والحق أنها ليست تَسْوي من الناحية الأدبية شيئاً بالقياس إلى الناحية الجغرافية؛ ومؤلفها من رحالي القرن الثامن الهجري، المقابل للرابع عشر الميلادي
ولقد سكنت ريح الرحلات حيناً في عصور الاستبداد المظلمة لقلة الأمن وصعوبة الرحلة. ويظهر أن سلسلة الرحلات العربية كانت باعثاً لرحلات الغربيين التي تمخضت عن كشف أستراليا وجزرها. وكشف العالم الجديد الذي يبلغ عمره الآن أربعة قرون ونصف القرن
وفي مفتتح القرن التاسع عشر عاد العرب إلى نشاطهم في الرحلات. وكان حظ مصر في هذا المضمار عظيماً؛ فظهر جماعة من الرحالين الذين أنتجوا كتباً قيمة في أدب الأسفار. منهم: رفاعة بك الطهطاوي، وعلي باشا مبارك، وأمين باشا فكري، والشيخ أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب (الواسطة في أخبار مالطة) وهو ممتع لذيذ. ومحمد لبيب البتانوني(410/30)
بك صاحب (الرحلة الحجازية) و (رحلة الأندلس) وغيرهما. وأمين الريحاني زعيم الرحالين في العصر الحديث، وقد ماتوا جميعاً إلى رحمة الله
أما الأحياء فنذكر منهم المكتشف الرحالة أحمد حسنين باشا صاحب (في صحراء ليبيا)، والأمير شكيب أرسلان صاحب (الحلل السندسية)، والأساتذة: محمد ثابت، وجميل خانكي المحامي، وتوفيق حبيب، ونزيه مسعد الصحافيين. أطال الله حياتهم
محمد عبد الغني حسن(410/31)
من مدهشات العلم الهندسي والصناعة الحربية
المدافع الثقيلة
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
لاشك في أن مدفع برتا الذي ظهر في أواخر سني حرب 14 - 18 من مدهشات العلم والصناعة. أراد الألمان به أن يعزّزوا هجومهم في جبهة باريس بعدما طال وقوفهم أمام استحكامات الحلفاء في الخط الأخير في الميدان الغربي. وهذا المدفع الضخم العظيم كان من تصميم ووضع البروفسور المهندس راوزنبرجر من حوالي عالم 1909 وأخرجته إلى حيز الوجود مصانع كروب في مدينة إيسن بإقليم الرور الصناعي
وأسطوانة هذا المدفع (الماسورة) من الصلب الكهربائي أي الصلب المصهور في أفران كهربائية ويضاف إلى المعدن المصهور السائل بعض عينات من معادن كالمنجنيز وغيره تزيد في صلابة السبيكة وشدة مراسها ومقاومتها للظروف العظيمة واحتمال الحرارات العالية الناجمة من انفجار وخروج المقذوفات. وتصنع كذلك بعض أجزاء المدافع الأخرى التي عليها ضغوط أو رضوض أو ارتكازات هائلة من نفس المعدن النفيس السابق ذكره؛ وأمر هذا المعدن من اختيار خاماته إلى صهره إلى حرارته إلى إضافات معدنية أخرى إلى صبه إلى تبريده من الأسرار الصناعية التي يُحرص على تكتمها
وكان لشدة انفجاره عند بدء تجربته في تهديد استحكامات الخلفاء دوي مفزع وقعقعة شديدة وصلصلة مصمة وصفير حاد نافذ صارخ، أخذ كل ذلك بألباب الجنود أول الأمر وأفزعهم وأزهق منهم الأنفاس، وأدخل الارتباك في صفوفهم والذعر بينهم، وتناقلته الألسن بالتهويل. أما آثار التخريب الحقيقية من وقوع القذائف على الأهداف فلم تكن مما يناسب هذه الأصوات المدويَّة، وإن كانت لبعد المرمى تصيب التحصينات الخلفية الأقل استعدادا. وأخذت قيادة الحلفاء بهذا الأمر على غرة فاستعدت له وأصلحت من آثار وقعه في نفوس الجنود
ونظراً لبعد المرمى الذي يبلغ عشرات الكيلو مترات لا يمكن ضبط وتحديد الهدف، وعدم سقوط كل قذيفة تالية على سابقتها. وتتعذر الرؤية، وقد تسوء وقد تخطئ، ولابد من ستر المدفع وإخفاء موقعه؛ وهو يشغل مساحة كبيرة ويعلو في الهواء، فأمر تعميته وتغطية(410/32)
العمليات العسكرية التي حوله ليست أمراً سهلاً؛ وهي اليوم من الفنون الحربية. وهو لا يشتغل دواماً برمي قذائفه بل لابد من راحة طويلة بعد كل سويعات، ولابد من راحة أطول بعد كل عملية، إذ الحرارة الشديدة لا يمكن تلطيفها بسرعة، وهي تقوِّس من استقامة الاسطوانة. وكذلك التآكل المعدني في سطح الاسطوانة الداخلي نتيجة احتكاك وانزلاق المقذوفات وخروجها حلزونية، وللترفيه كذلك والتخفيف النفساني عن الجنود القائمين بأمره
وسمي (برتا) باسم بنت أو أخت كروب الكبرى. وأنتظر الألمان من وراء استعماله مفاجأة للعدو وأثار تخريب وتمهيد نفساني؛ ولكن برغم سقوط بعض القذائف في باريس ودويّها في ضواحيها، فلم يتأت لهم جني ثمرة مغرية من غرسه. وكانوا يودون نصبه في كاليه ليضربوا منها الساحل الإنجليزي عند دوفر عبْر بحر المانش ولم يدركوا هذه الأمنية كذلك. وإذا ما علمنا أن الألمان عند أول استعمال هذا المدفع أعوزتهم بعض أمور نقص في البناء والتصميم والتركيب والحساب والخبرة وضيق الوقت والعجلة في الصنع وحرج الموقف الحربي، فيمكن القول أجمالاً بأن تجربته تمخضت عن فشل في الخارج والداخل. وإذا ما قدرنا ثمن أجزاء المدفع الباهظة ومعادنه النفيسة وثمن تشغيله وتضخم النقد وما علق الألمان عليه من آمال، أدركنا قيمة سقوط هذا المبتدع المخرب العظيم، وانتهت الحرب بانتهاء سنة 1918 على الوجه الذي نعلم جميعاً
غير أن الألمان أخذوا من الفشل درساً وعبرة، ولم تعجزهم تضييق شرائط الهدنة والصلح، حتى ولا سقوط النقد بعد الحرب والاضطراب السياسي، عن متابعة التحسين ومداومة الإبداع والاستحداث سراً، فأكملوا النقص وأصلحوا الأخطاء وصححوا المعايير الحسابية والأوزان الهندسية والنظريات العلمية والتراكيب المعدنية؛ وظهر مدفع برتا الثقيل من جديد في مخابئ كاليه على الساحل الفرنسي المحتل يطل بفوهته على البحر ويرنو إلى الشاطئ الإنجليزي، يقذف عليه الحمم ويصب النار والدمار تدله الطائرات بالاتصال اللاسلكي، وكذلك السفن الصغيرة السريعة على مواقع الأهداف وعلى سرعة واتجاه القافلات البحرية
إلا أن الإنجليز من جانبهم كالوا للألمان صاعاً بصاع وقذيفة بقذيفة وطلقة مدوية بطلقة داوية، فبهت الألمان وأدهشتهم المدفعية الإنجليزية الثقيلة. ولابد من الانتظار حتى تنتهي(410/33)
هذه الحرب لنقول أي المحاربين كان لسلاحه أحسن استعمالاً وأدق تصويباً، وأي مدفعية أحق بالذكر والخلود في سجل مخربات حرب 1939
ويعقب كل طلقة تمزق في الهواء وتخلخل فيه واضطراب، ويمتد أثر هذه الخلخلة المدمرة والضغوط الهوائية إلى وديان واسعة، وينتشر أثرها المخرب إلى أبعاد مترامية. وعند أول استعمال هذا المدفع قضى على رجاله وطوح بهم، فكانوا بعد ذلك يطلقونه بالاتصال الكهربائي بعد شحنه وهم محتمون بالخنادق الأرضية والغرف المحصنة. وحدث أن كان جنديان من جنود مراقبة الحلفاء واقفين على شجرة مرتفعة يرقبان حركات العدو، أن هويا على رأسيهما من حالق إثر طلقة تمزق بعدها الهواء وأندفع بقوة عاتية
ومع أن تكاليف هذا المدفع الثقيل باهظة وتشغيله يكلف الأموال الطائلة فإن أثره المخرب لا يوائم هذه المصاريف. إنما يقصد به زعزعة الروح المعنوية وانتشار الذعر والهلع والدهشة الانتفاض والإحراج والفوضى وبلبلة الأفكار والتهويل، وهذه كلها تتطلب ثمناً ولا يقل أثرها في الحرب عن أثر التخريب والتدمير. ويقصد كذلك دك الحصون القوية وأجزاء الجيش المحصنة داخل الأسوار وتحت الأقبية. وحدث في الحرب الماضية أن وقف المغيرون الألمان أمام بعض الحصون البلجيكية التاريخية كنامور وليبج عاجزين عن سحق مقاومتها وتركوا أمر ذلك أخيراً لأعمال هذه المدافع. وحدث مثل هذا في هذه الحرب. ولما تابع الألمان زحفهم لتطويق جيوش الحلفاء في سهول الفلاندر قامت المدفعية الثقيلة في البوارج بتغطية الانسحاب وتعجيز الألمان عن اللحاق بالمنسحبين. وكانت تقع القذيفة على الدبابة الهائلة فتنثر أشلاءها وتصبحها فتاتاً. ولما قاومت فارسوفيا ورفضت التسليم طوقها الألمان بالمدافع الثقيلة فدكوا ربوعها وروعوا أهليها
ويحتاج المدفع الثقيل الواحد إلى 12 عربة نقل من عربات السكة الحديد، وإلى 5 عربات ذات بناء خاص لنقل الاسطوانة وغيرها من الأدوات الهامة، وهو يزن 88. 750 كيلو جراماً (ثمانية وثمانون طناً وثلاثة أرباع الطن). وتزن اسطوانته وحدها التي يبلغ قطرها الداخلي 42 سنتيمتر أو 17 بوصة 7500 كيلوجرام (سبعة أطنان ونصف). ويزن الترباس 1250 كيلو جراماً (طناً وربع الطن). وتزن كمية الخرطوش المتفجرة ثمانين كيلو جراماً، وهى من المفرقعات ذات القيمة العالية والضغط الهائل؛ وتشغل غازاتها(410/34)
وأبخرتها إثر الاحتراق والتسامي من حالة الصلابة إلى الغازّية حيزاً كبيراً جداً. ويندفع لسان اللهب بعد الطلقة ويسير عشرين متراً، كما ترتد الاسطوانة عقب كل انفجار مائة وستين سنتيمتراً إلى الوراء رغم صدِّها وفرملتها بأسطوانة تحوطها مليئة بالجليسرين والهواء المضغوط. وترتفع القذيفة (الدَّانة بالوصف العسكري) في الهواء إلى ستة آلاف متر؛ ويحتاج المدفع الثقيل إلى 135 جندي لإدارته وتشغيله. والمدفع مصفّح من الأمام بدرع متينة لحماية جنود النيشان وضبط آلات الرصد. وتكلف الطلقة الواحدة ما يقرب من ألف جنيه. وتزن القذيفة تسعمائة كيلو جرام
وتتطلب هذه المدافع أسساً قوية تتحمل الضغوط والرضوض والأثقال. فالأرضية منها تُبنى لها حصيرة من الأسمنت المسلح أو ظهر الحديد المصبوب في قوالب. تربط هذه القوالب ببعضها ويحوطها سِياج من الحديد يضمها إلى بعضها، وهي بهذا الوضع يمكن نقل أساساتها. أما المدافع الثقيلة في البوارج البحرية فهي من الأعمال الهندسية الجبارة. وتحمل بعض وحدات الأسطول الإنجليزي من هذا المدفع ما سعة قطر فوهته 14 بوصة من الداخل. وهي مثبتة على ظهور السفن ذات السطوح المدرعة، وروعي فيها الإقلال من الوزن قدر المستطاع لضمان حرية في التوجيه والدوران أكبر، وزوايا الارتفاع والانخفاض
وما دمنا قد ذكرنا بعض ما قامت به المدافع الثقيل الأرضية من أعمال في هذه الحرب فلنعرض كذلك لبعض ما قامت به المدافع البحرية الثقيلة ولننوه بعملها الشاق ليل نهار في الانسحاب الناجح من أوربا بعد تسليم الجيش البلجيكي ولندلل على البسالة في بحار الشمال قبالة الساحل النرويجي. كما برهنت المدفعية البحرية الثقيلة في الأسطول الإنجليزي على تقاليد عظيمة وهندسة عالية وفن راق في مياه البلطيق والبِلت والاسكاجراك وفي البحر الأبيض مواجهة الساحل الليبي وفي البحر الأدرياتيكي مكنت لهندستها وصيتها ذيوعاً وإحقاقاً من ضرب العدو الإيطالي في عقر بحره وفي وهران ودكار. وبعض أعمال البطولة البحرية والرماية المدفعية أكدتها روالبندى وجارفس بي وكوزاك وأشيل وأجاكس وسدني. والمدفعية الساحلية الثقيلة في جبل طارق ودكار وكاليه ودوفر وهي كلها آيات ناطقة بالمكنة الهندسية والمقدرة الصناعية والعقل الإنساني وصفحات عظيمة في التاريخ(410/35)
الهندسي في الجزء الخاص بالحرب
عبد اللطيف حسن الشامي(410/36)
في مهرجان التاج
فاروق. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
فلَكٌ بِحُبِّكَ في الشَوَاطئ دَائِرُ ... أَمَلُ الحَيَاةِ بهِ عَتيٌّ هَادِرُ. . .
رَقَصَتْ لَهُ الأَيَّامُ وازدَحَمتْ عَلَى ... كَفَّيْه مِنْ سِحْرِ الخُلْوُدِ بَشَائِرُ
وَتَنَفَّسَ الوَادِي بهِ. فَكَأَنَّهُ ... نَغَمٌ مِنَ الفَجْرِ المُهَلَّلِ طَائرُ
فإِذَا رَأَيْتَ النِّيلَ قُلتَ مُتَوَّجٌ ... الدَّهْرُ صَوْلَجَهُ القُوِيُّ القَاهِرُ!
وَإِذَا رَأَيْتَ الحَقْلَ قُلْتَ قَصِيدَةٌ ... خَضْرَاء وَقَّعَها الرَّبِيعُ السَاحِرُ
وَإِذَا رَأَيْتَ الطَّيْرَ قُلْتَ مَلائكٌ ... لِلْحُبِ في فَمِهَا نَشِيدٌ طَاهِرُ!
وَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ خُلْتَ بِهِمْ هَوَى ... ممَّا يُحَمِّلُهُ المَشُوقُ السَاهِر
مُهَجٌ يَرِفُّ بها سَنَاكَ كَأَنَّهَا ... ظَمَأٌ يَدِفُّ إِلَيْهِ نَبْعٌ زَاخِرُ
وَدُعَاء أَلسِنَةٍ يَكادُ لِطُهْرِهِ ... تَرْفَضُّ مِنْهُ عَلَى الوُجُودِ مَجامِرُ
وَيَكاَدُ يَنْقُلُهُ إلى شفَةِ الرُّبَى ... وَيِعيدُ نَغْمَتَهُ الحَمْامُ الذَّاكِرُ
وَأَكادُ في مَوْجِ الضِّفَافِ أَرَى لَهُ ... رَجْعَاً يُرَدِّدُهُ الرَشَّاشُ الثَّائِرُ
وَأَكادُ أَسْمَعُهُ جَنِينَا لَمْ تُذِعْ ... أَصْدَاَء لِجَّتِهِ إِلَيْكَ سَرَائِرُ
أَنَا مُرْعِشُ الأسْرارِ في كَبِدِ الدَُجى ... واللَّيْلُ عَرَّافُ الظَّلاَمِ مُحاذِرُ
شِعْراً هُوَ الدَّمُ لوْ لَمَسْتُ خَيَالهُ ... فِي الروحِ أَحْرَقَني الهُدُوءُ السَّاعِرُ
أَرْسَلْتُ في فارُوقَ آيةَ حُبِّهِ ... إِعجْازَ فَنٍّ وَحْيُهُ يَتَوَاتَرُ
إِنْ لَمْ أُذِعْ لِلنَّجْم سِرَّ جَلالِهِ ... حَتّى يَهِيمَ بِهِ الشُّعَاعُ الطَّائِرُ
إِنْ لَمْ أُرِقْ لعُلاَهُ أَحْلامَ الضُّحَى ... حَتّى أَرَى الدُّنَيا بهِ تَتَسَامَرُ
إِنْ لَمْ يَطِرْ نَغَمي إِلَيْهِ عَلَى رُؤىً ... بَيْضَاَء يَحْمِلُها الصَّباحُ العَّاطِرُ
إِنْ لَمْ أَرَّ الأَفْلاكَ تُصْغِ لِمِزْهَرِي ... وَأَنَا أُغنِّي التَّاجَ مَا أَنا شَاعِرُ!
فاروقُ يا حَادِي العَظائِم فِي حِمّىً ... بِكَ نَجْمُهُ فَوْقَ العَوَالمِ سَائِرُ
في ضَجَّةِ الأيامِ وَالدنيا غَدَتْ ... بُرْكانَ هَوْلٍ نارُهُ تَتَطَايَرُ
وَالحَربُ عَاجَلَتِ القِيَامَةَ يَوْمَهَا ... فَمشَتْ بها بيْنَ العِبَادِ تُقامِرُ(410/37)
نَقَلتْ جَهَنَّمَ لِلشُّعُوبِ وَإِنما ... حَمَلَ الخَطِيئَةَ فِي لَظاها الطَّاهِرُ
إِنْ حَلَّ جَاحِمُهَا بأَرْضٍ أَصْبَحَتْ ... وَبها القُصُورُ الشاهِقَاتُ مَقَابرُ
نَشَرتْ خَرِيف الموتِ في سَاحَاتِها ... فَجَمَاجِمُ الْهَلكَى بِهِنَّ أَزَاهِرُ
ذَبَحَتْ أَمَانيَهَا عَلَى رَاحَاتِهَا ... فَغَدُ الْمُؤَمِلُ فِي هَواهَا خَاسِرُ
وَغَدا بها سِيَّيْنِ فِي لَهب الرَّدَى ... ذُو رَحْمَةٍ يَخْشَى السَّماَء وَجَائِرُ
لا تَرْوِ لِلزَّيْتُونِ ذِكرْاً عِنْدَها ... فَحدِيدُهَا بِالسِّلْمِ جَانٍ كافِرُ
دَفَنَتْ شَرَائِعَهَا فَضَلَّلَ دَهْرَها ... فِي غَيْهَبِ الطُّغْيَانِ شَرْعٌ حَائِرُ
فِي لَيْلِها الداجيِ وَدُونَ قَتَامِهِ ... خَطْوُ الرِّياحِ الْهُوجِ خَطْوٌ عَاثِرُ
سَطَعَتْ بِكَ الأَوطانُ شَرقِي السَّنَا ... فَجْرُ البَشاَئرِ مِنْ يَمِينِكَ سَافِرُ
نَشَرتْ خُطَاكَ بها سَكِينَة مُؤْمِنٍ ... يَحْدُوهُ بَطَشٌ لِلْعَزَيمَةِ قَادِرُ!
أَنَّى مَشَيْتَ بدَتْ برَكْبِكَ آيةٌ ... لَيْسَتْ لَها في المالِكينَ نَظَائِرُ
حُبٌّ مَدَاهُ إِلى القَدَاسَةِ يَنتهيَ ... لوْ كَانَ لِلْحُبِّ المُقَدَّسِ آخِرُ!
أَذكاهُ شَعْبٌ في ظِلالِكَ سَابحٌ ... يا طَالَمَا أَغفَى وَطرْفكَ سَاهِرُ!
أَوَلَسْتَ آسِىَ جُرْحِهِ مِن بَعْد ما ... شُقتْ بِنَارِ الخُلْفِ منْهُ مرَائِرُ؟
أَولَسْتَ جَامعَ شمْلِهِ مِن بَعْد ما ... أَرَدَاهُ فِي لَهب الشقِّاق تَنافُرُ؟
أَولَسْتَ بَاعِثَ جِيلِهِ مِن رَقْدَةٍ ... بُوقُ النشُورِ لَها أَنِينٌ عَابِرُ؟
أَولَسْتَ قَائِدَهُ لعصرٍ أَبيضٍ ... آياتُ مُلْكِكَ فِي سَمَاهُ مَنَائِرُ
أَولَسْتَ فَجْرَ البَائِسِينَ بِشِطِّهِ ... وَزَمَانُهُمْ كالليْلِ دَاجٍ عَاكِرُ
أَولَسْتَ مِنْ مَاضِيِهِ بَعْثاً أَوْشَكَتْ ... أَيَامُ (فِرعونٍ) بِهِ تَتَفاخَرُ
أَولَسْتَ لِلشرْقِ المُجَرَّح بَلْسَماً ... يَا طَالَمَا بِنَدَاهُ قَرَّ الثائِرُ؟
يَأَيُّهَا الأَمَلُ الفَتِيُّ لأُمَّةٍ ... كَادَتْ يُشَيِّبُهَا الشَبَابُ السَّادِرُ
قُدْهَا إِلى الجَوزَاءِ أَنْتَ شَبَابُهَا ... وَمَعِينُ حِكْمَتِهَا الدَّفِيقُ الزَّاخِرُ
وَاسْبَحْ بِها فَوْقَ النُّجُوم فَطَرْفُهَا ... أَبَدَاً لِحَيَاةِ بِنُورِ عَرْشِكُ نَاظِرُ
قَالوا: وَعِيدُ التَّاج! قُلْتُ: تميمَةٌ ... لِلنِّيلِ تُنْشِدُهَا رُبي وَمَخَاضِرُ
إِنْ هَزَّتِ الأَوْتَارُ فيهِ غِنَاَءهَا ... وَتَرَنَمَتْ لِلشَّعْبِ فِيهِ قَيَاثِرُ(410/38)
فأَنَا بِقَلبِيَ جَدْوَلٌ مُتَدَفِّقٌ ... بالشَّدْوِ مَشْبُوبُ الأَغَاني ثَائِرُ
اللهُ ظَلَّلَهُ، وَكَرَمَ شدْوهُ ... تَاجٌ رَعَتْهُ مِن السَّماءِ مَقادِرُ
محمود حسن إسماعيل(410/39)
من وراء المنظار
آدمي. . .!!
كان يوم رأيته آخر مرة في الحقل يبدو مصفاراً مضعوفاً لم تبق العلة في وجهه غير أثر ضَئيل مما كان يترقرق فيه من نضرة العافية، ولم يدع السقم في بدنه إلا بقية طفيفة مما كان يكمن فيه من فتوة الشباب؛ وكان يجيل الفأس في حركة أشبه بحركة الآلة البخارية نفد وقودها أو كاد فبدت كأنما أوهنها طول العمل
وألح عليه الداء فلم يبرح داره أياماً؛ وساورتني رغبة قوية أن أذهب لأعوده، ولم أكن أعرف موضع بيته من القرية فاستصحبت من يدلني عليه
مشيت دقيقتين أو ثلاثاً فيما يسمى القرية شارع (داير الناحية). ثم قادني صاحبي إلى حارة لا يزيد اتساعها على ثلاثة أمتار أخذت تلتوي، فأنعطف تارة نحو اليمين وطوراً صوب اليسار وأنا أمر على الجانبين بهاتيك المباني المتلاصقة التي تتشابه في كل شئ، في صغر منافذها وقلتها، وفي حجم أبوابها ووضاعة مظهرها، ثم في هذه الأقراص الجافة المتخذة من روث الماشية والمرصوص فوق هامتها كأنها الأكاليل!
ولم أكن دخلت من قبل داراً من هاتيك الدور البائسة، ولم أرى إحداها من الداخل إلا بالنظرة العابرة حين أمر بباب مفتوح من تلك الأبواب القبيحة التي تزين صدر كل منها ضبة أشد قبحاً منه
ووجدتني في فناء دار ذلك المريض الذي جئت لأودعه، وهو فناء لا يزيد اتساعه كثيراً على ثلاثة أمتار في مثلها، في ناحية منه مصطبة عليها جرة من تلك الجرار التي يحمل فيها الماء من الترعة؛ وإلى جانب المصطبة موقد من الطين أحسب أنه لم توقد فيه نار من زمن طويل فلا أثر للرماد فيه؛ وفي ناحية أخرى من الفناء وقفت جاموسة عجفاء هي أثمن ما في الدار من متاع، بل هي أصل ما في الدار من متاع، وعليها وحدها يتوقف ما فيها من معيشة. وكانت أرض الفناء إلا مساحة قليلة مبللة بالماء الذي ينساب إليها من فوق المصطبة حيناً ومن تحت الجاموسة أحياناً!
ودهشت زوجة المريض أن رأتنا وأخذتها ربكة حتى ما تجد كلاماً تقوله، وبدت الدهشة في عينيها وفي وجهها وفي ارتعاش أطرافها وتعثر خطواتها وهي تشير إلى القاعة التي يرقد(410/40)
فيها زوجها. . . وما كنا لنخطئ تلك القاعة لو لم تدلنا عليها، فلم يك أمامنا غير باب تحكم إغلاقه ضبة عتيقة، وآخر أنفرج قليلاً؛ وليس مما يجوز في العقل أن تلك الضبة العتيقة، تغلق الباب دون المريض، فليس إلى حبسه سبب ظاهر أو خفي فيما نعلم. . .
وأسرعت المرأة أمامنا فدخلت قاعة المريض تخبره بمجيئنا. وتألمت إذ أدركت أنه سيحاول القيام، فأسرعت في أثرها لأقسم عليه ألا يفعل؛ ودخلت ولكني لم أره أول الأمر، فالقاعة مظلمة لا يدخلها نور النهار إلا من كوة صغيرة قرب السقف
وسمعت صوتاً يئن ويقول في إعياء وهمود بالغين: (كتر خيرك يا سيدي. . . الحمد لله. . . الله يخليك يا رب ولا يريك اللي أنا فيه)
وحركت نبرات ذلك الصوت نفسي من أعماقها، وخيل إلي أني داخل قبر أستمع إلى صوت آدمي عادت إليه الحياة منذ لحظة، فهو لطول عهده بالصمت لا يستطيع إخراج الألفاظ إلا في عسر شديد. . . وكاد يغلب الخيال يقيني، فرحت أستمع إلى ذلك الأنين المؤلم، وفي وهمي أنه يخلص إلي من تحت الأرض
ولكني رأيت الرجل حينما اعتادت النظر في الظلمة عيناي فسألته عما به؛ فأشار إلى فخذه وأسترسل في أنينه. وقالت امرأته وهي تحبس دمعها: (بعيد عنك، طالع له طلوع في فخذه وجسمه سخن زي النار)
ونظرت فرأيت الرجل ممدداً على التراب، فليس تحت جسده فرش ما ولا تحت رأسه وسادة اللهم إلا خرقة قديمة كورتها له امرأته. وعاد الخيال يغريني أنه ميت بعث، وأنه برز من جوف الأرض، حتى لقد توهمت أني أرى خضرة الكفن فيما تهدل على جسده الهزيل من ثياب!
ونظرت حولي في القاعة، فلم أجد غير بعض الحبال ومنجل وفأس في زاوية، فوثبت إلى ذهني صورة أخرى من صور الموت فقد كان آباؤنا الأقدمون يضعون مع الميت في قبره متاع دنياه!
وخرجت أستدعي الطبيب وخلفي زوجة المريض تقول في نبرات حزينة: (حصلت البركة، مستعجل ليه يا سيدي، خليك نذبحلك خروف)
أيها التعساء البائسون! إن بهائم سادتكم الذين يسخرون مثلكم في فلاحة الأرض لأسعد حالاً(410/41)
منكم، ومع ذلك فأنتم آدميون كما أنهم آدميون!
الخفيف(410/42)
مختارات من مراثي مسعود
من قصيدة الأستاذ محمد مصطفى الماحي:
مسعودُ يا عَلم الفصحى ومنجدها ... ومرسل النور في أيامها الجُون
ويا مجل اليراع العفِّ في صحف ... برئن من غمزات المطمح الدون
وكم عكفت على بحث كشف به ... ما حير الناس من سر الدهاقين
إذا تغشت صحيح الرأي غاشيةٌ ... جليتها برهيف الحد مسنون
وإن تكشَّف عن رعناء جائرة ... خَصم تكشفت عن حق وعن لين
ما العلم مجداً إذا لم يحمه خلق ... ولا الإخاء على حقد بمضمون
فارقت دنيا تبدت في مفاتنها ... لكلِ غر هواءِ القلب مفتون
لا الخل فيها بموفٍ في مواثقه ... ولا الصديق على سر بمأمون
بغى القوي وكم للبغي من صور ... ذاق الضعيف بها شتى الأفانين
وأصبح الناس فوضى لا منارَ لهم ... ولا مدبر من عقل ومن دين
وأطبق الشر حتى عاد أحْزَمهم ... يمضي برأي من الأهواء مأفون
لا يؤمنون وإن لانت قناتهمُ ... وكيف تؤمن غرات الشياطين
فمن مداج رمى عن قوسه عجباً ... من النقيضين: تمكين وتوهين
ومستبد رمى الدنيا بآبدة ... كأنما هي أفواه البراكين
في لمحة الطرف أمسى أهلها سِيراً ... ما بين محترق منهم ومطعون
فبات ظاهر ما فوق التراب صدى ... لكل ناء من الماضين مدفون
وبات باطن ما تحت التراب حمى ... يأوي إلى غوره شم العرانين!
لم ينج في سبح الأفلاك معتصم ... من البلاء ولا في مسبح النون
ويل الحضارة باتت لا تطالعنا ... إلا بفن إلى الآثام مقرون
ومرحباً بالوحوش الضاريات ففي ... جوارهن أمان غير موهون
هل غاية العلم أن تشقى النفوس به ... وأن تسام عذابَ الخسف والهون
وأن يعيش ذووه عيشة نكدا ... طاوين ما بين محروم ومسجون
فأهنأ بتركك داراً لا قرار لها ... ما كان تاركها يوماً بمغبون(410/43)
ومن قصيدة الأستاذ محمد الأسمر:
أمسعود خانتنيَ القافيات ... وحبل القوافي لديَّ أضطرب
وماذا تقول بحورُ القصيد ... وطوفان قولك شئ عجب
يعب ففي الصحف من موجه ... على كل أرض وبحرٍ لجب
كتابة مطَّلع قادر ... دءوب وليس يمل الدأب
خبير بأبحاثه صادق ... تراه مع الحق أنى ذهب
وكم كاتب لا يعي ما يقول ... وآخر لا يتحاشى الكذب
وكم كاتب ليس همٌّ له ... سوى أن يقال فلان كتب
وكم كاتب همه كسبه ... ولو كسب العار فيما كسب
يُرَى أبداً مُسْرَجاً مُلْجماً ... رهين الإشارة، تحت الطلب
فيا ضيعة الحق بين العبيد: ... عبيد الهوى، وعبيد الذهب
ومن قصيدة الأستاذ حسين شفيق المصري:
أمسعود هات تحدث إلينا ... فإن لك السَّمَر المشتهى
تحدث إلينا عن العادلين ... من المالكين وعمن بغى
فعندك أخبارهم كيف كانوا ... ومن للضلال ومن للهدى
تحدث إلينا بهم في العصور ... وعد في الحديث بنا القهقرى
إلى عهد مِينَا الذي كان أو ... ل من عرف الناسُ ممن علا
أرى الناس من قبل مينا توالت ... عليهم دهور وطال المدى
وما جهلنا بِقُدَامَى الأناسيّ ... جاعلُهم يذهبون سدى
أما كان في الأرض مُلْكٌ كبير ... يدين لِمَلْكٍ شديد القوى
بلى كانت فيها ممالك بادت ... وباد الذي ملكت وانمحى
فزالت مساكنهم والقبور ... وآثارهم، كزوال الرؤى
وما الدهر إلا سحاب تمر ... فعهد يجئ وعهد مضى
ومن تلد الأرض تأكله إما ... شواَء وغى أو قديد ضنى(410/44)
أما في ظلال السلام الردى ... كما هو تحت قتام الوغى
رويد الجحافل فيما القتال ... وفي اللهو قتل لهذا الورى
وهذا الغرور إذا ران يوماً ... على مبصر فالنهار دجى
وليس بعينيه ما يُشْتَكى ... ولكن عمى القلب شر العمى
ومن يغترر يحسَب الناس عبدا ... نه وقديماً أتيلا طغى
وكان هلاكو ظلوماً جهولاً ... ونيرون كان يبيد القرى
وكانت جيوش تلاقي جيوشاً ... بضرب يذيب غلاظَا الكلى
فمات الكميُّ وملقي السلاح ... وجاء الفناء على ذا وذا
فلم يبق مستضعف مستكين ... يخال الحضيض له مرتقى
ولم يبق ذو مِرة مُسْتَبِدٌ ... يدوس بنعليه هام العلى
ولولا الردى في صروف الحروب ... لكان الردى في صنوف المنى(410/45)
رسالة العلم
علاقة الكهرب بالأثير
للأستاذ حسين عباس قائدبيه
ما هي علاقة الكهرب بالأثير؟
أهي مباشرة أم غير مباشرة؟ وهل يمكن وجود أحدهما بدون الآخر؟
وهل يوجد مصدر لحركة هذه الكهارب؟
هذه الأسئلة لا بد أن تعترض الباحث في هذا الموضوع الغامض؛ ويمكن الجواب عنها كما يلي:
نحن نعلم أن الكهرب يسير في فلكه حول النوات بانتظام، كما تسير الأرض حول الشمس لحفظ كيانها، وإذا غادر هذا الكهرب مركزه لسبب ما من الأسباب اختل توازن الذرة.
ونعلم أيضاً أن الأمواج الكهرطيسية لا تنتشر في الفضاء إن لم تقذفها الكهارب؛ وأشعة الراديوم الخارقة ليست سوى فيالق من الكهارب المنطلقة من ذراته
فإذا انطلقت الكهارب من أفلاكها، أحدثت ارتجاجاً أو تموجاً في الأثير. ومن الثابت أنه لا يمكن إحداث تموجات ضوئية في الأثير بدون انفعال الكهارب وانطلاقها من مراكزها
والارتجاج الذي يحدث في الأثير من انطلاق الكهارب من مراكزها، حالة من حالات الأثير غير الاعتيادية، كما أن انطلاق الكهارب من مراكزها، حركة من حركات الكهارب غير الاعتيادية؛ فعندما تكون الكهارب في حالتها الاعتيادية سائرة في أفلاكها بحركتها الدائمة المنتظمة حول النواة، يكون الأثير في حالته الاعتيادية المنتظمة
ومن الثابت أن الكهارب تدور حول النواة باستمرار وانتظام، وأن الفراغ الموجود بين الكهارب والنواة، يشبه الفراغ الموجود بين الأرض والشمس؛ كما أن الأرض تدور حول الشمس بقوة جاذبية الشمس، والفراغ الموجود بين الأرض والشمس ندل عليه بالأثير
إذن يمكن الاعتقاد بأن حركة الكهارب حول النواة ليس لها علاقة مباشرة بجاذبية الأرض والشمس؛ وإنما هي نظام خاص محصور بالمادة؛ ولكن الفراغ الموجود بين الكهارب والنواة يشبه إلى حد ما الفراغ الموجود بين الأرض والشمس
وعليه يمكن القول بأن الأثير الذي يشغل فراغ الكون، هو نفس الأثير الذي يشغل فراغ(410/46)
المادة، ونحن إذ نلمس المادة إنما نلمس الأثير، لأنه يملأ كل فراغ، وكل المسافات بين أجزاء المادة، إذن فالأثير هو شئ في كل شئ: أوليست السيارات والشموس والنجوم نقاطاً في بحار الأثير
وبعد كل هذا أرى أن للكهارب صلة بالأثير، وهذه الصلة أما مباشرة أو غير مباشرة، وهذا الاتصال لا ندركه لأننا نجهل خواص الأثير وفعله، ولكن نعلم أنه الرابط بين دقائق وأجزاء المادة. ومن صفات الأثير أنه لا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشم ولا يتحول ولا ينحل، لا تؤثر فيه الحرارة ولا البرودة، شديد الصلابة كثير الليونة، تتحرك فيه المادة بدون مقاومة وبسهولة مطلقة. هذا كل ما يعرف وما يظهر من صفات الأثير
فإذا كانت حواسنا لا تدرك الأثير، ألا يمكن أن ندركه بالواسطة؟ ولكن ما هي الواسطة التي تمكننا من الإطلاع على أسرار الأثير المحتجبة وراءها أسرار الكون بما فيها سر الحياة الغامض؟! ويمكنني الإجابة عن هذا السؤال ببساطة: ربما كان الكهرب!
أقول ربما كان الكهرب أو ما يتفرع من الكهرب، لأن العلم لم يجزم بأن الكهرب هو نهاية الصغر في تركيب المادة، ولا يحق له أن ينفي وجود دقيقة أخرى أصغر من الكهرب لها تأثير ما على حركته في كيانه أو خارجاً عنه، لأن النفي أصعب من الإثبات، وسواء أكان هناك دقيقة أصغر منه أم لم يكن، فلا بد من وجود صلة بين الكهرب والأثير
فالكهرب سبب كل حركة في الكون، واستمرار حركته يرجع إلى الأثير؛ وهو الذي سيكون المعتمد في الكشف عن أسرار الأثير
الكهرب لا علاقة له بالوقت (أنا أقصد الوقت الذي نعرفه نحن سكان الكرة الأرضية)، لأن بإمكانه الانطلاق بسرعة النور تقريباً: - سرعة دوران الكهارب تختلف باختلاف الذرة المرافقة لها، فذرة الإيدروجين مثلاً أصغر وأخف من جميع ذرات العناصر الاثنين والتسعين المعروفة، وسرعة الكهرب الذي يدور حول نواة الإيدروجين تبلغ 2100 كيلو متر في الثانية، بينما سرعة الكهرب الذي يدور حول نواة ذرة الأيرانيوم تبلغ 190 ألف كيلو متر في الثانية. ومهما كانت ظروف الكهارب مناسبة فقد لا تتجاوز سرعتها أل 200 ألف كيلو متر في الثانية أي ما يعادل ثلثي سرعة النور
وحسب النظرية النسبية العامة (لإينشتين) - التي أعتقد بصحتها - فأن كل جسم يسير(410/47)
بهذه السرعة - أي سرعة النور أو ما يقاربها - يعتبر الوقت لهذا الجسم صفراً
وعليه يمكن القول بأن القرون والدهور في عرفنا ليست إزاء الكهرب سوى لحظة. نحن نستعمل الأوقات والقياسات حسب المكان والزمان الذي يحيط بنا والذي تدركه حواسنا، وبالنسبة إلى السرعة التي نسير بها في الفضاء وهي 18 ميلاً في الثانية، فما هي نسبة الأوقات والقياسات المستعملة لمن يسير بسرعة النور؟
نحن لنا حواس خمس، أيمكن بهذه الحواس الخمس أن نصل إلى أعماق أسرار الكون؟ وهل يقتضي للمعرفة الشاملة خمس حواس فقط؟ وهل هناك ما لا يمكن إدراكه بهذه الحواس الخمس؟
في الأثير أسرار عظيمة محجوبة، وهو القابض على زمام الحركة في الكون، وفي عبابه سر الأسرار الذي يتطلع إليه الإنسان بلهفة وحسرة، وهو كمن عرف مقر الكنز الثمين، ولكنه يجهل كلمة السر التي يفتح بها الكنز؛ فمن يا ترى سيحمل إلى العالم كلمة السر هذه؟
إذا نفحنا الدهر برسول يحمل إلى العالم كلمة السر التي يفتح بها كنز الأسرار، فعند ذلك الرسول سيكون الجواب الفصل.
نحن نقول أن الأرض مضى على وجودها ملايين السنين، ولكن الكهرب ينكر علينا هذا القول. أليس من المدهش أن نثبت بالبرهان حسب التواريخ والآثار أنه مضى على وجودنا على الأرض ألوف ومئات الألوف من السنين، ثم يأتي الكهرب فينكر علينا هذه الحقيقة! أوليس من العجب العجاب أن نسمع الكهرب يقول - لو كان للكهرب لسان - بأننا خلقنا الآن!
لاشك بأنه شاهد سيارات غير هذه التي نعرفها وقد اندثرت وربما شيدت هذه السيارات التي نعرفها من بقايا تلك؛ والساعة التي تنتقل فيها هذه الكرة الأرضية من حالة إلى حالة يراها الكهرب كما نشاهد نحن الرؤيا
هو يسير منذ الأزل ويقطع فيافي الأزمان والدهور، وسيبقى إلى الأبد يتخطى رحاب الكون في حركته الدائمة وسرعته التي لا يحصرها الوقت، يقع على هذا النجم ويصطدم بذاك، ويعمر الآخر، ويدمر الذي بعده ليجعل منه مذنبات ونيازك يبعثها إلى العوالم الأخرى، ليدل على وجوده ودوام حركته السرمدية(410/48)
(عين عنوب - لبنان)
حسين عباس قائدبيه(410/49)
البَريدُ الأدَبي
الملاح التائه
وأخيراً عاد (الملاح التائه) إلى مرفأه الأول يتزود من روح خالقه ويزداد. عاد وهو ينشد دعاء سيده الشاعر لحبيبه الهاجر:
فاجعل البحر أماناً حوله ... واملأ السهل سلاماً واليفاعا
وقُد الفُلك إلى بر الرضى ... وانشر الحب على الفُلكِ شراعا
ولله ما لقي الملاح التائه تحت الشراع المضطرب على ثبج البحر الهائج من تصاوير الشر وتهاويل الموت! كان زورقه الفضي الراقص ينساب بين الغواصات والمدمرات والبوارج كما تنساب عروس الماء بين عمالقة التماسيح والتنانين في نهر العَدم. كان نشيده في وسط الزعازع كصوت السلام في وغى الحرب. وكلمة السلام لا تبيد ولا تخفت لأنها من الحق وإلى الأبد. وهي على كل حال وفي كل وقت حجة في فم الطاغية الفاتك يبرر بها الحرب الضروس، كما يحلل الذابح بذكر الله الدم المسفوح!
ليس (الملاح التائه) قصائد أجراها علي طه على بحور الخليل؛ وإنما هو نبضات قلب، وخلجات نفس، ولفتات ذهن، صاغها الفنان الموهوب أناشيد يرددها المجهودون والمعمودون ومن شق عليهم أن يبصروا ومضات المنار على خِضم الحياة
صاغها أناشيد يتسع الخيال فيها اتساع اللانهاية، ويعمق الفكر فيها عمق الأزل، ثم تعيها ألفاظ مونقة متخيرة كزهرات الطاقة المفوَّفة نسقتها يد عاشقة شاعرة
كان ديوان (الملاح التائه) يوم ظهر في طبعته الأولى حادثاً أدبياً استفاض حوله الحديث، واستطال به الشعر، وانتعش على حسابه النقد. ومن النادر أن نال شاعر ما نال علي طه من تقدير أعيان الأدب وتكريم أقطاب الصحافة. ذلك لأن علي طه شاعر بالمعنى الأخص الذي تريده السليقة والصنعة من لفظ الشعر. واليوم يظهر في طبعته الثانية على فترة يسيرة من ظهور شقيقه (ليالي الملاح التائه) فيضخُم ويعظُمُ بالديوانين ديوان الألحان في موسيقى الشعر الحديث.
الزيات
مسابقة القصة(410/50)
ذكرنا من قبل ما علمناه عن المسابقة القصصية التي تعتزمها وزارة المعارف. ونزيد اليوم أن معالي الوزير قد أصدر قراراً وزارياً بذلك؛ وهذا نصه:
تحتاج وزارة المعارف إلى قصة مصرية في نحو مائتين وخمسين أو ثلثمائة صفحة يكون موضوعها مصرياً من أحداث التاريخ الماضية أو وقائع الحياة العصرية، وأن تكون في مستوى المثقف المتوسط صالحة بذلك لأن يقرأها تلاميذ المدارس الثانوية وتلميذاتها داخل المدرسة وخارجها، وأن تكون خالية مما ينبغي أن يتصون عنه الشبان والشابات، وأن تكون في لغة سهلة بأسلوب عربي صحيح تستسيغه جمهرة المثقفين، وبألفاظ واضحة لا يحتاج قارئها إلى معجم. وتترك لغة الحوار فيها إلى ذوق الكاتب وحسن مسلكه
وستمنح الوزارة الفائز الأول جائزة قدرها مائة جنيه، والفائز الثاني 75 جنيهاً، والثالث خمسين جنيهاً. وإذا تبين للوزارة صلاحية القصة لأن تدرس في المدارس للمطالعة فهي مستعدة لشراء حق تأليفها وفق القواعد المرعية
في تأبين محمد مسعود بك
كان حفلاً أدبياً رائعاً حفلُ تأبين المغفور له الأستاذ محمد مسعود بحديقة الأزبكية مساء الأربعاء 30 أبريل، سمعنا فيه من غرر المنظوم والمنثور، ما الفقيد به جدير.
واسمحوا لي أن أسجل هنا ظاهرتين غريبتين لفتتا نظري في هذا الحفل.
الأولى أن أكثر ما سمعناه من شعر - على جودته - كان أميل إلى الصنعة والتقليد، فيه من التشبه بالقدماء والمحدثين الشيء الكثير. فقصيدة الأستاذ حسين شفيق المصري هي هي مقصورة ابن دُرَيْد المشهورة معانيً وألفاظاً وقوافيَ، وقصيدة الأستاذ الأسمر هي هي (وحقك أنت المنى والطلب) قافية وبحراً بل. . . ولفظاً. يحضرني منها:
وماذا تقول بحور القريض ... وطوفان بحرك شئٌ عَجَب
أو نحوٌ من ذلك.
أما قصيدة الأستاذ الماحي فلعلها القصيدة التي انفردت بالطبع وقلة الصنعة، ويلوح لي أنها وليدة نفس فجعها المصاب أكثر مما فجع غيرها
هذا وإن لدي ميزاناً قلما يخطئ في نقد الشعر كان عمدتي في هذا الحكم. أما الميزان فهو(410/51)
أني أقرأ الأبيات الثلاثة أو الأربعة بإمعان ثم أنكس الصحيفة وأمتحن ذاكرتي، فكل بيت يحضرني فهو - عندي - جيد وإلا فلا
ولقد انصرفت من هذا الحفل وفي خيالي صدى يتجاوب لأبيات من قصيدة الماحي منها:
لم أنس قولك في حفلٍ سمعتَ به ... شعري وقد كنت تطريه وتطربني
أَجدت صوغ المراثي في أحبتنا ... فهل تراك إذا ما مت ترثيني؟
لبيك مسعود. . . . . . الخ
ألا ترى الصدق والطبع في هذا الشعر على بساطته؟
أما الظاهرة الأخرى ففي كلمة الأستاذ كامل كيلاني؛ ولا أدري إن كان غيري تنبه لها
ذلك أنه وقف فقال أول ما قال: (لقد ألم الذين سبقوني من الخطباء بما كنت أريد أن أقول، ولم يبق إلا الذي لم أكن أريد أن أقول، وهو ما سأقوله الآن). ثم أن الأستاذ أخرج أوراقاً وأخذ يتلو منها رثاءه وذكرياته عن محمد مسعود؛ ومضى يتلو من هذه الأوراق فصولاً من (رسالة الغفران) لشيخ المعرة ليدلل على أن مسعود لن يفوته الاشتغال بالتأليف والتصنيف في قبره
فليت شعري. . . هل أوحى الله إلى كامل كيلاني بما لن يقوله الخطباء فأعده ليلقيه من أوراقه. . .؟ أطَّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً؟
(حدائق القبة)
محمد محمد رضوان
المدرس بالمدرسة النموذجية
زناتي:
في العدد (409) من (الرسالة) الغراء مقال للدكتور زكي مبارك ذكر فيه: (الشاعر المصري المجهول الشيخ أحمد زناتي)، (الشاعر الذي جهله المصريون وعرفه العراقيون)
فليأذن لي حضرة الدكتور أن أنبهه على أن الشاعر الذي يعنيه هو الشيخ عثمان زناتي الذي درس في الأزهر، وسلخ وقتاً غير قصير من حياته مدرساً للغة العربية بالمدرسة الحربية، ولا يزال كثير من أصفيائه يتحدثون بمناقبه، ويروُون شعره، ويتمثلون به(410/52)
وكان رحمه الله بين الفئة الممتازة من شعرائنا الذين ازدانت بهم أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن
ولم يبالغ الشيخ محمد المهدي في أن عدَّه (الشاعر الثاني بعد شوقي)؛ فقد روُيت لي منذ حقبة طويلة بعض قصائده ومقطوعاته، فأحسست من الرصانة والجزالة شيئاً كثير الشبه بشعر المتنبي والبحتري وأبي تمام. وليتني كنت قد دوُّنت إذ ذّاك ما سمعت؛ فإني والله لشديد الأسف على أن أفلتت مني هذه الفرصة. على أني عظيم الرجاء أن يُتاح لأنجاله (وهم - على ما بلغني - من صفوة المثقفين) أن ينشروا هذا التراث، حتى يضيفوا إلى ثروتنا الشعرية - في تلك الحقبة من تاريخ الأدب - فناً ممتازاً
أما الشيخ أحمد زناتي بك فأخو شاعرنا؛ وكان (أحد أساتذة اللغة العربية)، كما قال الدكتور، وتخرج في دار العلوم لنحو خمس وأربعين سنة خلت. فالتحق بخدمة سمو الخديو عباس حلمي، فعينه ناظراً لمدرسة (القبة) التي أنشأها على غرار المدارس الأولية الآن، ليتعلم بها بعض أطفال الطبقة الراقية في ذلك الحي. وكأني أذكر أن سمو الأمير محمد عبد المنعم تعلم بها فترة غير طويلة
وكان أحمد زناتي بك - إلى هذا - من ذوي المكانة والحظوة عند سمو الخديو، يشاوره ويجالسه، ويصحبه في رحلاته الصيفية إلى الآستانة وأوربا
ثم ألقى عصا التسيار في المرحلة الأخيرة من حياته العلمية بوزارة المعارف، فعمل في التفتيش، وتوفي سنة 1929 قبل أن يحال إلى المعاش، وتوفي الشيخ عثمان بعده بنحو خمس سنوات، على ما أخبرت
وكان الشيخ أحمد زناتي بك من دماثة الأخلاق وحميد الخلال بالمنزلة السامية؛ كما كان مضرب المثل في جمال البزة وطلاقة المحيا. ولقد خالطته طويلاً، فما رأيته مرة عابساً ولا مكتئباً ولا مضطرباً. وهذا نادر في الرجال
رحم الله الأخوين الكريمين وأجزل ثوابهما.
(ا. ع)
توجيه وأمل(410/53)
سيدي الأستاذ الزيات
تطالعنا في رسالتك الغراء ببحوث ممتعة ناضجة، تحلق فيها بفكرة سابحة جوالة، وتصقلها بعقلك المتزن الحصيف، ثم تُنمقها بقلم في يدك برته لك المواهب الممتازة التي خصك به وبها حكيم عليم
وتحمل إلينا في رسائلك فصولاً رائعة فاتنة يبثها إلينا من طريقك أولئك العباقرة الأفذاذ، والكتاب النابغون العلماء: تقتطفون الزهرات الفياحة من مختلف الرياض، وتلتمسون لنا في رحاب أفكاركم الفسيحة ما تنفسون به روح الحياة العلمية، وتبردون غلة النفس الصادية
لك يا أستاذنا العظيم، ولهؤلاء الصفوة الأخيار، من: الدكتور منصور فهمي بك، والدكتور زكي مبارك اللبق، والأستاذ الكبير العقاد، ومن هم أصحاب فضل علينا وعلى الناس في إبلاغ صوت (الرسالة) ندياً إلى الآذان من أسبوع إلى أسبوع. . . لكم الإحساس المرهف والتقدير الصادق والصوت المسموع؛ وفي أيديكم الأقلام، وعندكم الغيرة، وفيكم الأقدام
وقد عالجتم ولا تزالون تعالجون الكثير من نقائض المجتمع، وبحثتم ولا تزالون تبحثون عن مواضع الداء لتطبوها بما توفر لكم من قدرة وما وهبكم الله من حكمة
غير أن شيئاً واحداً هاماً لا أذكر للرسالة نظرة فيه، ولا عناية به، وهو عندي وثيق الصلة بأغراض (الرسالة)، وهدف كان ولا يزال مما يسر النفوس أن تأخذوا بالأسباب في إصلاحه، ذلك هو شأن الحياة الزوجية في مصر وما أحاط بها من سوء تأصلت جذوره وتشعبت فروعه، حتى باتت مهددة بالزهاد فيها من شباب الجيل الحاضر
أضنكم في غير حاجة إلى ما دب في نفوس الكثرة المتعلمة من كراهية للبناء العائلي، حتى سرت عدوى ذلك إلى الكبار، أو هي منهم بادئة، وسرت إلى الصغار أخيراً
يقول الناس: إن التفكير في هذا إنما يعنى ويتصل برجال الدين وعليهم الدعاوة له؛ فإن يكن هذا حقاً: أفتكون الرسالة في معزل عن الإدلاء بصوتها في شأن يتصل أكثر الصلة بالدين؟ ما أظن.
على أن المسألة فيما أعتقد مسألة اجتماعية، وما تكون للدين عناية بها إلا لأنها أساس الاجتماع؛ وأنتم في غنى عن هذا، بل في تعرض له الآن تطاول عليكم، وإنما يكون التعرض لقوم يجهلون(410/54)
شجعني على كتابة هذا إليكم وفي هذا الشأن بخصوصه أمور ثلاثة:
1 - ما نراه يتفشى من مرض العزوبة مع ما يلحق من تلاعب في الحياة بين الأزواج
2 - أنني بالذات تحدثت عن هذا في نبذة قصيرة بالإذاعة منذ أسبوعين، فتلقيت رسائل جمة تستحثني على الكلام كثيراً في هذا مما يدل على أن الأسرة المصرية في مضض وبحاجة إلى من يتلطف عليها بنظرة إصلاح
3 - أننا قرأنا للدكتور منصور بك فهمي كلاماً غاية في الجودة والصدق عن حالة المرأة في مصر، فهل له ولك أن تمدا الحديث إلى هذه الناحية قياماً بحق (الرسالة) عليكما للناس؟ إنا لمنتظرون، والسلام
(ع ف)
مدرس في كلية الشريعة
أسبوع الفنون الجميلة
كان الأسبوع الأخير من شهر إبريل الفائت أسبوع الفنون الجميلة حقاً، فلقد تفضل مولانا الملك حفظه الله فأفتتح معرض محبي الفنون الجميلة الحادي والعشرين الذي أقيم بسراي الفنون الجميلة، وذلك في صباح السبت 26 إبريل الماضي، ولقد دل ذلك على حب جلالة الملك للفن وعطفه على المشتغلين به، وإن أسرة الفنون الجميلة العليا لتتقدم إلى جلالته بأسمى آيات الشكر والولاء
كما كان الأسبوع الأخير من شهر أبريل هو أيضاً أسبوع مختار الفنان المثال، فقد أقيمت مسابقة للتصوير والنحت، وقد تفضلت السيدة هدى هانم شعراوي فتبرعت بجوائز مسابقة النحت كما تفضل صاحب العزة محمد بك ذو الفقار فتبرع بجوائز التصوير. وقد تكرم صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا فأفتتح المعرض الذي أقيم في بهو المعرض بفندق الكونتننتال وذلك في يوم الخميس 24 من إبريل الماضي. . .
مسابقة مختار وقيس
أعلن منذ أكثر من شهر عن هذه المسابقة للنحت والتصوير وكان موضوعها (عروس النيل) فتقدم الكثير من المصورين الشبان بلوحات ذات موضوعات جميلة، كما تقدم الكثير(410/55)
من المثالين بتماثيل فنية تبشر بنهضة في فن النحت. وقد فاز بالجائزة الأولى في التصوير الأستاذ عبد العزيز خالد درويش وقدرها عشرة جنيهات، وفاز بالجائزة الثانية وقدرها خمسة جنيهات الأستاذ علي كامل الديب. وفاز بالجائزة الأولى في فن النحت الأستاذ فتحي محمود علي وقدرها 20 جنيهاً، وفازت بالجائزة الثانية السيدة فريدة كساب وقدرها 15 جنيهاً
ولقد أعجبتني كثيراً فكرة الأستاذ عبد العزيز خالد درويش فقد رسم منظر النيل ورسم العروس في مركب وحولها أشخاص يزفونها، بينما تخيل النيل في هيئة رجل وقف على الشاطئ في انتظار عروسه، فوفق إلى حد كبير في إظهار فكرته، فنهنئ الأستاذ درويش على توفيقه
معرض محبي الفنون الجميلة
أقيم هذا المعرض كالمعتاد بسراي الفنون الجميلة بشارع مجلس النواب وقد تبين من هذا المعرض تقدم محسوس للفنون في هذا العام، فقد أشتمل على أكثر من خمسمائة لوحة، ويسرني أن أسجل هنا الهمة المشكورة التي بذلها مدير وأساتذة وطلاب مدرسة الفنون الجميلة العليا. فقد قام بتنظيم المعرض وزخرفته الأستاذ حسين يوسف فوزي، وزين طلبة المدرسة السلم بمشاريع زخرفية جميلة. ولقد أعجبت بصور كثيرة أخص بالذكر منها صورة (المسيو جورج ريمون) مراقب الفنون الجميلة التي صورها وقدمها الأستاذ محمد بك حسن مدير مدرسة الفنون الجميلة العليا. كذلك أعجبتني صورة (الصديقان) للأستاذ الكبير يوسف كامل رئيس قسم التصوير بمدرسة الفنون الجميلة. وكذلك صورة (الدلالة) التي عرضها الأستاذ حسين محمود فوزي، و (اللبانة) من تصويره أيضاً وقد اشترتها وزارة المعارف العمومية، و (حياة القرية) للأستاذ صلاح الدين طاهر، و (فناء جامع) للأستاذ حسن البناني الرسام بدار الأبرا الملكية، وكذلك قدمت الآنسة كوكب يوسف صورة طريفة أسمتها (سعاد). ولقد أبدع الأستاذ محمود بك سعيد في لوحاته التي قدمها، وكذلك الأستاذ عبد العزيز خالد درويش في صورته (الرسام). هذا وقد زين الأستاذ صالح الشيتي بالفرقة القومية الصالة الخارجية للمعرض بمشاريع مسرحية مثالية كانت غاية في الإتقان والإبداع وقد اشترت معظمها وزارة المعارف(410/56)
وقد أعجبني من التماثيل المعروضة تمثال المرحوم عبد الحميد بك سعيد من عمل النحات المشهور الأستاذ مصطفى متولي، وكذلك تماثيل الأستاذ السجيني. وعلى الجملة كان معرض هذا العام موفقاً إلى حد كبير؛ إذ ظهر منه النشاط الذي ساد شبابنا في هذه الأيام؛ ولكن يؤلمني حقاً أن أذكر هنا أن فتياتنا المصريات لم يقمن بما كنا ننتظره منهن؛ فإن مجهودهن لا يكاد يظهر في هذا المعرض
أحمد كمال خواسك(410/57)
العدد 411 - بتاريخ: 19 - 05 - 1941(/)
مسألة الفقر
للأستاذ عباس محمود العقاد
سألني الأستاذ زكي مبارك عن رأيي في الخلاف القائم على مسألة الفقر بينه وبين الأساتذة: توفيق الحكيم، وسلامة موسى، وفكري أباضة، وبعض حضرات القراء
وخلاصة هذا الخلاف أن الدكتور زكي مبارك يرجح أن الفقر عقوبة مستحقة على شيء من القصور، وان مخالفيه يرجحون ان الفقر غلطة اجتماعية تصيب الناس من خلل في (المجتمع) أكثر من إصابتها أيام من تقصير في الجهود. وعندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء: يصيب المريض به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه مع الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشرعدواه، كما يصيبه مع ترك الحيطة في هذا الحال وفي غيرها من الأحوال
وليس في وسع أحد أن يزعم أن ميزان المجتمع سليم من الخلل في توزيع الأرزاق أو تقدير المكافآت على حسب الجهود. ففي كل أمة أغنياء لا يستحقون الغنى وفقراء لا يستحقون الفقر وإن تفاوت الخلل وتفاوت الجور وتفاوت السعي في الإصلاح.
ولست أنا ممن ينكرون فضل البراعة المالية، لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية وتنظيم العلاقات، واستشارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران
وقد قلت منذ نحو عشرين سنة حين عرضت للبحث فيما يعاب من أخلاق المرأة خطأ وجهلاً بالبواعث النفسية:
(. . . أننا قد نرى للمرأة سبباً غير الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه: نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار، واجتلاب الإعجاب والإكبار. فقد كان أغنى الرجال في القرون أقدرهم على الاستلاب وأجرئهم على الغارات وأحماهم أنفاً وأعزهم جاراً، فكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنواناً على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجثم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على(411/1)
ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضاً وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظراً وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلفاً وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر: قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور؛ وهكذا تجد اكتساب المال الكثير في كل عصر دليلاً على فضل الرجل، وعلاقة توحي إلى نفس المرأة ما يعين غريزتها على اختيار أجدر الرجال بحبها وأصلح الآباء لأبنائها. فلا تثريب عليها أن تختبر مزايا الرجل بهذا المسبار السهل القريب، ولا لوم عليها أن تريد ثراء المال ولا تعدل به الفقر والفاقة. . .)
فنحن لا نبخس البراعة المالية حقها ولا نغض من نفعها في باب الخدمة الاجتماعية، ولا من دلالتها على الخلق والكفاءة العقلية، ولكننا مطالبون في هذا العصر الحديث بإنقاذ المجتمع من الخلل الشديد الذي ألم بموازين الاقتصاد ومعايير الأرزاق حتى اصبح اقتناء الثروات ميسراً للمحتال والدجال الذي لا يعطي الناس بديلاً نافعاً يساوي الربح الغزير الذي يتدفق عليه. ولعلنا نتلطف في الأمر حين نقول إنه لا يعطي الناس بديلاً نافعاً وهو في الواقع يضرهم بمقدار ما يستفيد منهم، ويحرمهم بمقدار ما يغدقون الرزق عليه طائعين أو كارهين
ومثل من هذه الأمثال أولئك السماسرة الآثمون الذين يتواطئون على إشاعة الأراجيف، وإقلاق الاسواق، واللعب بأثمان الإسناد والأوراق ليسرقوا في ساعات ما تنقضي الأعمار دون الوصول إليه بالسعي الحلال أو بالسرقة على طريقة اللصوص الأقدمين
ومثل آخر من هذه الأمثال تلك الصفقات التي تنعقد في الهواء بغير مبادلة صحيحة في البيع والشراء، وإنما هي استغلال لثقة الناس التي كسبها أولئك المستغلون بحكم مراكزهم الاجتماعية أو المالية لا بحكم الكفاءة والجهد وتثمير المال الحلال
وإذا ارتفعنا شيئاً فشيئاً من هذه الهوة الغائرة في قرارة الإجرام فقد نصل إلى الكفاءات القيمة التي تعطى الناس ما ينفعهم ويسرهم، ولكنها تتقاضاهم جزاءً لهم أضعاف حقهن وأضعاف ما يحتاجون إليه لموالاة النفع والسرور
فإخراج رواية على اللوحة البيضاء عمل قد ينفع العقول ويدخل السرور على القلوب،(411/2)
ولكن الدنيا تسرف جد الإسراف حين تشتري نفع الرواية وسرورها بمئات الألوف من الجنيهات وهي تضن بعشر معاشر هذا على المآثر الإنسانية التي يتصل بها نفع أقوام وبمرور أجيال
واقبح من هذا أن تكون الألوف المؤلفة نصيب الرواية الماجنة العقيمة ولا تحضي ببعض هذا النصيب أجود الروايات وأحفلها بالمعارف والمتع والعظات، أو يكون الجزاء الوافر حظ الممثل الذي لا يستحي ان يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات، ولا يكتب هذا الحظ لنوابغ الفن وأفذاذ الرجال
هناك خلل في الميزات لا نكران له ولا مناص من إصلاحه، لأن الغبن فيه غبن الأمم، والبلاء فيه بلاء الهمم، وليس غبن فقير يشكو الفاقة، أو بلاء ضعيف يطلب الرحمة والإنصاف
ولا نطمع أن يجيء اليوم الذي يتساوى فيه العمل والجزاء كل المساواة، ويبطل فيه الخلل بطلاناً يمنع الحيف ويحقق العدل في كل تقدير؛ فهذا مستحيل، ولعله غير محمود في عقباه، لأن الدوافع الحيوية إذا استقامت هذه الاستقامة خيف عليها أن تفقد الاندفاع الذميم على السواء
لكننا إذا استبعدنا الكمال المطلق فالنقص المطبق أولى منه بالإبعاد، وبين المثل الأعلى والمثل الأدنى خطوات لا تعيا بها قدرة الإنسان ولا يجمل به أن يقعد عنها مكتوف اليدين مقيد الرجلين، وحاجة مصر إلى الجهد في هذا الباب اعظم من حاجة بلاد كثيرات يعلو فيها صراخ لا يسمع له صدى في هذه البلاد
وقوام الإصلاح في مسألة الفقر على أن ما نرى أن نذكر الحقائق كلها ولا نكتفي بجانب واحد منها دون سائر جوانبها
أو الخير في هذه المسألة أن نقرن كل حقيقة جامحة بحقيقة كابحة تساويها وتكف من غربها
فأول الحقائق في مسألة الفقر أن حياة الإنسان كائناً ما كان أنفس من القوت والكساء ومطالب المعيشة، وأنه ما من مخلوق آدمي يعجز عن تقديم خدمة تكافئ ثمن قوته وكسائه ومطالب عيشه. فإذا هلك إنسان جوعاً أو عرياً ففي تقسيم الأعمال نقص يستدركه المصلحون والمتكلفون بسياسة الاجتماع(411/3)
وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهوراً وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان. فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق
وهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحياناً فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحياناً بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان
أما الحقيقة التي بازائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحياناً في الأرواح فضلاً عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير وبين الإقدام العظيم على خيبة قامة للظهور، وأن خسارة العنصر المسالم الوديع
وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل أن الأغنياء، وأن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وأن جاز أن يقال أن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان
أما الحقيقة التي بازائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه. فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه وفوق نصيبه من العمل والجدوى؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام
وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الامة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين؛ وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطاً بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد(411/4)
رأي القائلين إن الفقر المدقع الذي يلازم أصحابه عقباً بعد عقب إنما هو قصور في الذهن والخلق يحلهم حيث يحل القاصرون المتخلفون أيا كان المجتمع الذي يعيشون فيه
وبعد هذه الحقائق جميعها تبقى لنا حقيقة لا يطول فيها جدل المنصفين، وهي أن الفقر آفة يجب أن تزول إذا استطعنا ان نزيلها، ويجب إلا يمنعنا عن أزالتها إلا مانع واحد لا نحفل بغيره: وهو عدم الاستطاعة، ولو كان الفقراء مستحقين لما هم فيه. فلن يبحث منصف عن المريض هل جلب المرض لنفسه بيده، أو سيق إلى المرض مكرهاً عليه، إذا كانت المسالة مسألة طب وشفاء مستطاع
عباس محمود العقاد(411/5)
من أوهام العقل وأحلام القلب
برج بابل؟!
للدكتور زكي مبارك
لما زرت بابل في سنة 1937 بحثت عن البرج المشهور في التاريخ، ولكني لم أهتد إليه، برغم ما بذلت من العناء في التعرف إلى ما هناك من رسوم وأطلال
فكيف بخلت الأقدار بحرماني من الاهتداء إلى معالم ذلك الأثر النفيس، وكان أول رمز لما فطرت عليه الإنسانية من تنافر الآراء وتناحر الأهواء؟
كان برج بابل خليقاً بالخلود، لو عرف بنو آدم مغزاه الدقيق، فصانوه من عوادي الزمان. وهل كانت بلبلة الألسنة حول ذلك البرج إلا إيذاناً بأن الإنسانية شبت عن الطوق، ولم يبق إلا أن تنتفع بمزايا الشقاق والنزاع والخلاف، وهي معان ظاهرها قبيح، وباطنها جميل؟
لو عاش برج بابل لكان مزاراً من أقدس المزارات، فحول رحابه طارت أول شرارة من ضريم الصراع بين الأجناس والألوان، وبين حناياه ذاق الإنسان الأول مرارة الحيرة، وهي مرارة جزيلة النفع، وأن كانت كريهة المذاق
ولو عرفنا تاريخ برج بابل لعرفنا في أي عهد بدأ الصيال بين الألسنة والعقول؛ فما نطمئن إلى ما قالت الأساطير في تحديد ذلك التاريخ، وهي لا تبعد به غير عشرات من القرون، وأنا أكره أن تصدق تلك الأساطير، لأني أحب أن يكون عهد أسلافنا بالخلاف أبعد من تلك القرون بآماد طوال طوال طوال
لو عثرت على برج بابل، أو اهتديت إلى شيء من رسومه الهوامد، لأضيف أسمي إلى أسماء من خدموا الإنسانية بكشف بعض المجاهيل من حسبها العريق
ولكن الحظ أراد غير ما أريد، فلم أعرف من بابل غير ما يعرف سواد الناس، ولم أشهد غير بقايا الحدائق المرفوعة فوق قواعد من الجدران، وهي جدران لم يفكر في هدمها الزمان، فبقيت شاهداً على مطامح أهل بابل في السمو العلاء
لابد من برج بابل، لابد، لابد، ولن استريح أو أهتدي إلى مكان ذلك البرج، فهو المهد الأول، المهد الذي نشأت فيه شياطين الخلاف، والخلاف هو صاحب الفضل في تأريث جمرات العقول، ونزوات القلوب، وشهوات الأرواح، وبدوات الأحاسيس(411/6)
الحمد لله! الحمد لله! لقد وجدت البرج المنشود، ولكن أين؟ لم أجده في بابل، وإنما وجدته في قلبي، وأين بابل من قلبي؟ القلب الذي أجهله أشد الجهل، وإن كنت سمعت أنه يقيم بين ضلوعي؛ والجيران قد يجهل بعضهم أسرارا بعض. وسنعرف يوماً أن العين ليست ترجمان القلب في جميع الأحيان؛ فلكل من القلب والعين وجود مستقل تمام الاستقلال، وإلا فكيف يقع في كل يوم أن تعد العيون بنعيم لا تسمح به القلوب؟
الجاهل هو الذي يتوهم أن العين ترجمان القلب
وقد جهلت يوماً فتوهمت أني اعرف سرائر قلبي، ثم عرفت أني واهم فيما توهمت، فما كان قلبي إلا غابة تعيش فيها ألوف الألوف من أنواع الشجر والنبات والطير والحيوان والأفاعي والصلال
وآية ذلك أني أعرف أسباب أفراحي وأتراحي إلا في أندر الأحايين؛ ثم يغم على الأمر فلا ادري مصدر سعادتي أو منبع شقائي، فافزع إلى ما يفزع إليه الصوفية عند البسط والقبض بلا وعي ولا أدراك. ولو وعيت وأدركت لنفذ سهمي في جذب السعادة أو دفع الشقاء
وأنا مع ذلك اهتديت إلى ما لم يهتد إليه ديكارت؛ فديكارت فطن إلى أنه يفكر فعرف أنه يفكر فعرف أنه موجود، وأنا فطنت إلى أن برج بابل أقيمت صروحه فوق سواد قلبي، فاستشعرت الخوف من ظلمات قلبي، وهي ظلمات يعجز عن تبديدها نور القمر وضياء الشمس، لأنها ألفاف من الشر المدفون في أصول تلك الغابة الشجراء
وما أشد خوفي من قلبي، وهو قلبي!
وآه ثم آه من الجبن عن مكاشفة العدو الذي يلبس ثوب الصديق!؟
كان يطيب للشعراء أن يقولوا إنهم يعيشون بلا قلوب ليبرروا عجزهم عن استبدال حبيب بحبيب.
وأقول: إني يئست من الأمل في العيش بلا قلب، وأين المفر من قلبي وهو قطار من أحابيل وعقابيل شد بعضها إلى بعض بسلاسل مصنوعة من أوهامي وظنوني وأنا رجل مخلوق من أوهام وظنون، وإن شهد خوفي من القلب بأني على شيء من العقل، والعقل أضعف حلية يتحلى بها الآدميون، فلو عاش بنو آدم بعقولهم في جميع الشؤون لكان مصيرهم مصير الأنعام، فلم يزينوا الوجود بروائع الآداب وغرائب الفنون(411/7)
لم أستطع التخلص من أوزار القلب، ولن أستطيع التخلص من اثقال العقل، فما عيشي في صحبة هذين العدوين؟ وما قيمة وجودي وأنا محروم من نعمة الاستقلال؟
وهل أنسى بلائي بعدوان القلب والعقل وقد عانيت منهما في الليلة الماضية ما عانيت؟
وما الليلة الماضية؟ هي ليلة من ليال، فما رحمتني الأقدار من معاناة الصراع بين القلب والعقل منذ اليوم الذي عرفت فيه أن العيون لا يكون لها سحر حرام أو حلال إلا في نور القمر أو ظلال الرياض
إن واجهت العيون ضياء الشمس فعلى سحرها العفاء، لأن الشمس تحيل العيون إلى جوارح تعجز عن الحقل والفتك. وهل تصنع الغلالة المنسوجة من نور القمر أو ظل الروض حين تواجه الطرف الكحيل إلا كما تصنع الغلالة المنسوجة من الحرير حين تطوق الجسم اللطيف؟
الحرير يزيد الأجسام النورانية صفاء إلى صفاء، وهي تتخايل من تحته كما تخايل الكواكب من فوق السحاب الرقيق
وأنا لم أصاول سهام العيون ألا في نور القمر أو ظلال الرياض، فأين كنت في الليلة الماضية وقد كان (برج بابل) بعض ما تشقى يحمله ضلوعي؟
كنت في ضيافة قمرين: قمر الروض وقمر السماء، ويا ويل من يعيش في مصر الجديدة وهو يعاني مكاره الصراع بين القلب والعقل!
وفي لحظات أقصر من عمر الطيف تحولت دنيانا من صفاء إلى كدر ومن كدر إلى صفاء؛ ثم انتهينا إلى قطيعة قد تقصر وقد تطول، فما استطاع الدهر ولن يستطيع أن يفرق بيننا أكثر من أيام أو أسابيع
سمعت صوت العقل فأقسمت لأهجرن ذلك البدر إلى آخر الزمان وما هي إلا لحظة حتى تحركت الحيات والثعابين في برج بابل
فأصخت إلى ما تجود به أفواهها الفيح من فحيح، فكنت والله كمن يسمع نشيداً ترتله ملائكة السماء
أنا مشدودٌ مشدود إلى قطار الوجود، فأين من يرحمني من مصارعة العيون في نور القمر أو ضياء الرياض؟(411/8)
الليلة الماضية، وما أدراك ما الليلة الماضية؟
هي ليلة من ليال، ومن لم يعش كما عشت فليس من حقه أن يقول بأنه اكتوى بنار الصيال بين الهدى والضلال
وما ليلتي الحاضرة بين الليالي؟
مصباح وقلم ومداد وقرطاس، وآمال بيض، وآلام سود، وقرار في دار تواجه الصحراء في ليلة قمراء، والقمر يشجع أفاعي الفيافي على الدبيب والوثوب
ليلتي الحاضرة ليلة كرب وبلاء، فبرج بابل تعتلج فيه خواطر اشد سواداً من قلب الغانية التي لطمت وجهها منذ سويعات في أعقاب موجة من موجات العتاب، وبرج بابل يقول بأن الحوادث تنذر بالشر الوبيل في مدائن منها الإسكندرية وبور سعيد والسويس وبغداد، وتلك أول مرة صرح فيها برج بابل بأشياء وأشياء، فمتى أرجع إلى جهل ما في ذلك البرج من أحابيل وعقابيل؟!
أنا أملك أمري في الليلة الحاضرة، فليس بيني وبين دار هوى غير خطوات، ولكن بلائي صيغ من الليالي المواضي، فمن الليالي المواضي نسجت عواطفي وأحلامي وأوهامي وظنوني، وهل أنا إلا مجموعة آراء وأهواء كتبت صحائفها الأولى في القاهرة ودمشق والقدس وبغداد وقرطبة وتونس وباريس؟
لو فكرت في إحصاء المدائن التي تعلمت في مدارسها المعروفة والمجهولة، ولو فكرت في إحصاء من استفدت بمعارفهم من أهل الشرق وأهل الغرب، لوصلت إلى القول بأني شخصية دولية لا يستقل بها بلد عن بلد ولا جيل عن جيل، فكيف أملك الفرار من الجزع لآلام المكتويين بنيران الحرب ولو كانوا - رسمياً - من أعدائي؟
ولو فكرت في أن الغانية التي لطمت وجهها الجميل في أعقاب العتاب لم تخرج على الأدب في خطابي إلا وهي مثقلة بأوهام نشأ بعضها في الشرق وأخذ بعضها عن الغرب لنظرت إليها كما أنظر إلى الطفل الذي يجرم وهو غير مسئول
وهل تسأل صحراء مصر الجديدة عن الإمحال وقد هجرها الغيث؟
أن كان ذلك فستسال القلوب التي أذويتها بجفائي، وما كنت من الجافين، لولا الشواغل التي صيرتني أقسى من الجلمود في محاجر أسوان(411/9)
القمر في ليلتي الحاضرة جميل جميل، ولكن ما قيمة جماله وأنا مصدود عن الاستصباح بنوره الوهاج؟
وما طيب النوم الأحلام لمن حرموا طيب نجواي؟
ألم أقل لهم: إن الذي ينام بمصر في المقمرات من ليالي الصيف ليس إلا قطعة ثلوج الشمال نقلت ظلماً إلى هذه البلاد؟
النوم ضرب من الموت، وهو الموت الأعظم لمن يجهل فضل الليالي المقمرة بمصر في أوقات الصيف
لو كنا معاً في هذه اللحظة لعرف البدر أن السعادة ليست مقصورة على أهل السماء؟ إن صح أن أهل السماء سعداء، وكيف يسعدون وما عرفوا ظلم العواطف ولا طغيان الأحباب، وإلا فكيف استطاع القمر أن يحتفظ بصباه على مر الدهور وكأنه فلان في البلادة والغباء؟
وسيصنع الدهر ما يصنع بالغصن الذي آذته نسائم الحب، وأن عاش وعشنا فسنقيم المناحات في حضرته العالية على الظل الذي زال عند (الزوال)
القطيعة باقية، ولن نسأل عن تلك السرحة ألا يوم تمسى وهي مهددة بأرواح الخريف، فلتصنع بمصيرها ما تشاء، فلن تكون أكرم على الدهر من تخلى حلوان في أشعار القدماء
ومن يرعى تلك النخلة وقد تخلى عنها الحارس الأمين؟
ترعاها الفواقر والقوارع والخطوب!
يرعاها الجهل بالسر المكنون في ضمائر الشعراء!
وإن استطال الجمال على الشاعر فبشره بالمحاق والأفول لغير وجهك الجميل يوجه هذا النذير، يا صاحبة الجيد الأغيد والمعصم الريان
وما الدنيا وما الوجود إذا أمسى جمالك الفتان وهو طل من الأطلال؟
سيصنع بك الدهر ما يصنع، لأنه موكل بإذلال الأقوياء، ولكنه سيعجز عن محو ما دار بيننا من أكواب العتاب في تلك الليلة القمراء
هي ليلة من ليال، وسأعرف كيف أنتقم لنفسي، إن طاب لك الاعتصام بالهجر والصدود
أما بعد فقد رجعت إلى قلبي لأشهد بعض العجائب من برج بابل، فماذا رأيت؟
رأيت وجودي مقدوداً من أحجار ذلك البرج، ورأيت عواطفي وأحلامي مشبوبة أو مقبوسة(411/10)
من اللهب الذي يتأجج في أركان ذلك البرج، ورأيتني جديراً بما أتصف به أهله من الحيرة والقلق والانزعاج
رأيت ورأيت، وكأنني إنسان وقف يتلهى بصراع الأسود، وهو يجهل أن فيها أسداً قريب العهد بالاستئناس، فهو يرجع إلى الشراسة حين تسمح الظروف
رأيتني واقفاً على حافة الهاوية بلا رفيق ولامعين
رأيتني أحمل القلم لأمزق به ما بيني وبين الناس من أواصر وصلات
رأيتني أساهر النجوم وهي لا تدرك من همي غير أطياف
رأيتني انفصلت عن (برج بابل) فلا أدري ما يثور فيه من مصاعب وأهوال
رأيت ورأيت
رأيت أني سأسأل بعد أيام عن مصاير أحباب كان لهم في حياتي تاريخ، فمن أولئك الأحباب؟
الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطني هي الدنيا التي ضنت بأن أحمل السيف في الدفاع عن وطن أحبابي
لله الأمر من قبل ومن بعد
وسيعرف أقوام مغازي هذا الزمن الدقيق
أنا أذن أعبر بالرموز؟؟
هو ذلك، لأني أكتب مقالي هذا في أيام السرار من شهر الوجود
اللهم عونك ولطفك وغفرانك، فما استعنت إلا بك، ولا توكلت إلا عليك، فأنت وحدك أمل اللائذ بحصنك الحصين
زكي مبارك(411/11)
مؤتمر
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
تسري الآن في نواحي الحياة المصرية حركة مباركة تبشرنا بعهد زاهر من عهود الإسلام التي يذكرها التاريخ بالفخار
هذه الحركة هي مطالبة بأن يكون التشريع الإسلامي أساساً لما نضع من قوانين وأحكام. وقد كان من بواكير ذلك مؤتمر رابطة الإصلاح الاجتماعي الذي هيأته للناس في الشهر الماضي، ودعتهم إلى شهود جلساته دعوة عامة ليسمعوا ما أعده خطباؤه من أبحاث قيمة تبين كيف وضع ديننا القواعد التي تنير سبيل الحياة وتوصل إلى الخير
وقد عرف الناس من هؤلاء الباحثين على أي نحو يحارب الإسلام آفات المجتمع التي تشكو الأمم منها، ويعالجها بأدوية ناجعة في القضاء عليها. وكيف يدعو إلى الأخلاق الفاضلة حين يقررها ويجعلها غاية من غاياته. وعلى أي وجه يبني نظام الآسرة ويحوطه برعاية تجعله ثابتاً أمام الأعاصير، صالحاً لحياة دائمة مفيدة. وكيف يعامل الناس على أساس من الحرية والإخاء، وينظم علاقة الدولة بغيرها في السلم والحرب، على قاعدة العدالة والمساواة. . . الخ. واطمأن السامعون إلى أن الإسلام معين صالح للتشريع في العصر الحديث، وأن تشريعات البشر في أسمى صورة قد عجزت ن معالجة أدواء المجتمعات واضطربت. ولذا اعترف العقلاء من غير المسلمين بصلاحية الدين الإسلامي للنهوض بعبء التشريع وموافقته لأرقى النظم وتلبيته لحاجات المدينة والعمران
لست أكتب الآن لأجلي نظريات المؤتمر أمام القارئين وأبين لهم فائدة ما دعا إليه، ولا لأنظر في النتيجة التي وصل إليها المؤتمرون أسلبية هي أم إيجابية، ولا لأستحث لجانه التي يقال إنها تبحث لتصل إلى قرارات عملية حتى نسرع في ذلك؛ ولكنني وقد شهدت جلساته جميعاً أردت أن أسجل ملاحظات كانت حديث جمهور المستمعين وغيرهم، وحديث كثير من المثقفين في مجالسهم العامة والخاصة
1 - أن الظاهرة الواضحة استعداد الناس لقبول النظم الإسلامية في مظاهر حياتهم ومعاملاتهم، لأنهم رأوا العنت من النظم الوضعية وعجزت هذه النظم من تحقيق ما يبتغون. ومن ثم نادى كثير منهم بذلك ونشرت الصحف رغباتهم في وضوح وجلاء. وإن(411/12)
نواب الأمة وشيوخها لينادون بذلك الذي ينادي به الناس ويجهرون به على مسمع من رجال الحكم وتسجل آراؤهم في هذه الناحية بين التصفيق والإعجاب
ورجال الحكم أنفسهم لا يقفون في هذه الطريق ولا يعوقون عنها، فقد رأينا كثيراً من كبارهم يشتركون في المؤتمر ويحرصون على نجاح دعوته. وهذا وزير من وزراء الدولة يأتي بنفسه فيفتح جلساته وينوه فيه بتعاليم الإسلام السامية ونواحي إصلاحه التي لم يصل أحد إلى مثلها، ثم يقول: (أن هذه الثورة الاجتماعية العظيمة قد مكن لها الإسلام في جميع العصور بما وضع من المبادئ العامة التي يجب أن تكون سنن الاجتماع في كل أمة وفي كل عصر. وبما ترك من التفاصيل والجزئيات التي يجب أن تكون موضع الاجتهاد لمن يتقيدون بأمر الله ونهيه، ويستمدون بحثهم من روح الإسلام ويلائمون بينه وبين الزمن والبيئة)
بل إن جلالة الملك حفظه الله ليحب ذلك ويرجو أن يكون، وقد تواتر الحديث عن جلالته بهذه الرغبة الكريمة. وكان آخر ما سمعناه من ذلك ما رواه عن جلالته شيخ الإسلام ليلة الاحتفال بعيد الجلوس الملكي في هذا الشهر حين قال فضيلته: (إن من أعز أماني جلالته أن يرى البلاد تسير على نظام اجتماعي يستند إلى دينها وتقاليدها)
فالدواعي أذن متضافرة للعمل على هذا النوع من الإصلاح الاجتماعي ورسم الطريق المثلى أمام الناس بعدما أعدوا أنفسهم لتلقي هذه التعاليم المباركة. ولا نحسب بعد ذلك كله أن عقبة مهما كانت تقف في سبيل هذا الإصلاح الذي يتطلع إليه الشعب ويحرص عليه مليك البلاد
2 - مما يدعو إلى الأسف أن الأزهر الرسمي لم يشترك في هذا الفعل الجليل الذي يفرضه عليه واجبه وتحتمه طبيعة رسالته. وليس من شك أن الأزهر لم يوجد لتخريج العلماء وتدريس هذا اللون من الكتب المعقدة فحسب؛ ولكن عليه إلى جانب ذلك واجباً أسمى: هو إطلاع الناس عامة على مزايا الإسلام وصلاحيته للنهوض بأعباء الحياة الاجتماعية في شتى صورها، وتنقية الأذهان من هذه الشبه الباطلة التي ألصقت به زوراً وبهتاناً، وتأثر بها كثير ممن يلون مناصب الحكم والتشريع في البلاد؛ لأن الأزهر خصص لرعاية الدين ونشر تعاليمه وتوصيل قبسه إلى الناس. فإذا لم يقم بما خصص له ولم يؤد(411/13)
هذا الواجب كان جسما لا روح فيه. وأكثر الأشياء عندنا، كما يقول فضيلة الأستاذ الأكبر: أجسام لا أرواح فيها. وما نحب للأزهر أن ينزل إلى ذلك
وإذا كان الناس فيما مضى يعللون ابتعاد العلماء الأزهريين عن مثل هذه المواطن بكبر السن وحب العزلة عن الناس وعدم المعرفة بطرق الاتصال وأساليبه، فأن هذا العذر لا يقبل الآن وعلى رأس الأزهر رجل مفكر يحمد له الناس نشاطه في نواحي المجتمع، وحسن صلاته بكثير من البيئات العلمية وغيرها، ويعقدون عليه آمالاً جساماً في إصلاح جرئ لا يعرف المجاملة ولا المداراة
3 - إذا كان التقصير عيباً، فان من أقبح ذلك وأفظعه التمادي في القصير. ولذلك يرى من لاحظوا على المؤتمر أن من واجب رجال الأزهر أن يتداركوا هذا التقصير، ويقبلوا على عمل يبين الناس وجودهم ومجهودهم وينصرفوا إلى ذلك مخلصين ليرضوا ضمائرهم أمام الله والتاريخ، وأمام الأبناء والأحفاد
وإن أشد ما يخشاه المخلصون أن تتجاوب الأصداء من حول الأزهر بالدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي على أساس النظم الإسلامية ويقف رجال الأزهر موقف المتفرج أو المتحرج
ليس ذلك لأن هذه الدعوة ستموت كما ماتت دعوات، أو لأن الناس سيتركون التشريع الإسلامي في هذه المرة إلى غيره وتتكرر مأساة الفقهاء في عهد إسماعيل، فإن شيئاً من ذلك لن يكون إن شاء الله؛ ولكن لأن الناس حين يترك الأزهر معالجة هذه الشؤون، سيرونه شيئاً لا فائدة فيه، حتى في تنفيذ ما هو من رسالته. وهذا يؤدي بهم إلى محاولة التخلص منه والقضاء عليه. فان لم يستطيعوا ذلك لأمر ما نحوه عن الطريق وأغمضوا عنه العيون وتركوا أهله في عزلتهم يهيمون
لذلك يجب أن ينتبه الأزهر إلى مثل هذه الدعوات في المستقبل ويحرص على الاشتراك في هذه الأمور اشتراكاً عملياً نافعاً، ويغزيها برجاله وأفكاره وخبرته، ويعمل على إنجاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
ولا ينبغي أن تقوم دعوة إلى مثل هذا العمل مرة أخرى ثم لا يكون الأزهر في مقدمة الدعاة إليها والمنفذين لها
وإذا كان لنا - بعد تسجيل هذه الملاحظات - أن ندلي برأي عملي في هذا المقام، فها هو(411/14)
ذا اقتراحنا عسى أن ينظر إليه رجال الأزهر بما يستحق من عناية تليق بموضوعه، لينصرفواٍ بعد تعديله أو إقراره إلى ناحية العمل المنتج المثمر
نرى من أهم واجبات الأزهر الآن أن يؤلف هيئتين علميتين من نابهي رجاله لا ينظر في تكوينهما إلى ما يحب بعض شيوخه أن ينظر إليه من الشكليات. على أن تعنى واحدة منهما بمخلفات المسلمين في الناحية التشريعية فتخرجه إخراجاً جديداً وتلبسه ثوباً جديدا، وتعرضه على الناس في أساليب يألفونها ويجدون طريق الوصول إليها معبداً ميسوراً. ويقوم الأزهر بنشر هذا التراث في زيه الجديد على نحو ما تفعل الهيئات العلمية
وتعنى الثانية بدراسة القوانين الوضعية المعمول بها الآن في القضاء أو في الإدارة أو في نظام الشركات أو ما إلى ذلك، وتستخرج من الشريعة الإسلامية السمحة قوانين مسايرة لروح العصر تحل محل هذه القوانين وتؤدي مطالبها وترسم الخطة المحكمة التي ينبغي السير عليها في نواحي الإصلاح عامة
وعلى الأزهر بعد ذلك بمعونة أولئك الذين اعترفوا جميعاً بوجوب السير على مقتضى النظم الإسلامية وصلاحيتها دون سواها أن يعمل على تطبيق هذه القوانين الجديدة على الناس شيئاً فشيئاً حتى يكون الحكم بينهم بما أنزل الله
وإذا قيل كيف ينفق الأزهر على هاتين الهيئتين الآن والموارد قليلة، ذكرنا على سبيل المثال - وإن كان شرف المقصود كفيلا بتدبير المال الوافر - أن الأزهر يحبس من ميزانيته كل عام خمسة آلاف من الجنيهات باسم نشر الثقافة، ونحو هذا المبلغ الضخم لشيء لا يعرفه أحد من المثقفين يسمونه مجلة الأزهر، فأولى له أن يوجه هذه الآلاف الكثيرة ونحوها إلى هذه الناحية من الإصلاح منتهزاً هذه الفرص المواتية حتى تغزو التعاليم الإسلامية نظم الإدارة والسياسة ونظم التعليم والتشريع والقضاء
وبذلك يحقق الأزهر رسالته الكريمة، ويؤدي واجبه المقدس، ويحمل الناس على الاعتراف بوجوده ونفعه والاتجاه إليه، ويفهم فن فتنتهم المدينة الغربية بزخرفها وزينتها أن الإسلام هو الدستور الصحيح للحياة، وأن تعاليمه السامية هي الكفيلة بإسعاد الناس والترفيه عنهم
عبد العزيز محمد عيسى
المدرس بمعهد القاهرة(411/15)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات العامية الحديثة
عوامل تطورها وصفاتها المشتركة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 2 -
درسنا في المقال السابق تسع طوائف من العوامل التي أدت إلى انشعاب هذه اللهجات عن العربية الفصحى وإلى تطورها المطرد في نواحي الأصوات والقواعد والدلالة والمفردات. وسنعالج في مقال اليوم بقية هذه العوامل. وتختمه بنظرة في الصفات التي تشترك فيها هذه اللهجات.
10 - تناوب الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، وحلول بعضها محل بعض. يتبين من ملاحظة ظواهر التطور في مختلف اللغات الإنسانية أن الأصوات المتحدة النوع، القريبة المخرج، تميل بطبعها إلى التناوب وحلول بعضها محل بعض. فكل صوت لين عرضه بطبعه لأن ينحرف إلى صوت لين أخر، وكل صوت ساكن عرضة بطبعة لأن ينحرف إلى صوت ساكن متحد معه في مخرجه أو قريب منه. وقد كان لهذا القانون آثار ذات بال في انشعاب اللهجات العامية عن العربية وفي تطورها من ناحية الأصوات وقواعد الصرف ووزن الكلمات.
(أ) فقد حدث في هذه اللهجات تناوب واسع النطاق بين أصوات المد القصيرة التي يرمز إليها في الرسم العربي بالفتحة والكسرة والضمة. ويمثل هذا التناوب انقلاباً من أهم الانقلابات التي اعتورت اللغة العربية، فقد كان من آثاره أن انحرفت أوزان الكلمات. وانقلبت أشكالها رأساً على عقب، حتى لا نكاد نجد في اللهجات العامية كلمة واحدة بانية على وزنها العربي القديم. فالفتحة قد استبدل بها الضمة أحياناً والكسرة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يَعوم، يَسجد، يَسمع، عَثَر، خَلَص، سَكَت، عنِد، كَبير، أَلكتاب. . . الخ)؛ يقال في عامية المصريين: يُعُوم، يُسجد، يِسمع، عِتِر أو عُتُر، خِلِص أو خُلص،(411/17)
سِكت أو سُكت، عَند، كِبير، إِلكتاب. . . الخ).
- والكسرة فد استبدل بها الضمة أحياناً والفتحة في كثير من الأحوال (فبدلاً من: يلطم، يضرب، يسرق. . . الخ؛ يقال في العامية المصريين: يلطُم، يضرَب، يسرأ. . . الخ). والضمة قد أستبدل بها الفتحة أحياناً والكسرة في معظم الحالات (فبدلاً من: محمد، ثُعبان، أُنثى، عُثّة، يقتُل، يذُم، ظُفْر. . . الخ؛ يقال في عامية المصريين: محمد، تِعبان، إِنتابة عِتة، يئتِل، يزِم، ضِفر. . . الخ)
وحدث كذلك تناسخ في أصوات المد الطويلة نفسها، وخاصة في الآلف اللينة إذا أحيلت في لغات بعض القبائل العربية القديمة، وتحال الآن في كثير من لهجات المغرب ولهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وفي بعض اللهجات في بلاد الشرقية
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية، الأوربية
(ب) وكثير من الأصوات الساكنة المتحدة النوع أو القريبة المخرج قد تناسخت كذلك في اللهجات العامية وحل بعضها محل بعض. فالسين مثلاً قد تحولت إلى صاد في بعض المواطن ((ساخن) تحول إلى (صاخن) في عامية الشرقية وغيرها)؛ والصاد إلى سين في كثير من الألفاظ في عامية القاهرة وغيرها (فبدلاً من: يصدق، مصير،. . . الخ؛ يقال: يسدَّأ، مِسير. . . الخ)؛ والضاد إلى ضاء في عامية المغرب وخاصة طرابلس وفي لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر (فبدلاً من: وضوء، يضيع، يضرب، يضم. . . الخ)، يقال: وظوء، يظيع، يضرب، يظم. . . الخ) والعين إلى نون في بعض الكلمات في لهجة العراقيين (فيقال مثلاً (ينطي) بدلاً من (يعطي))؛ واللام إلى ميم في بعض الكلمات في عامية القاهرة ((امبارح) بدلاً من (البارحة))؛ والميم إلى نون أحياناً في عامية المصريين (فيقال (فاطنة) بدلاً من (فاطمة)) وهلم جراً. . .
وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد حدث مثله في اللغات الهندية الأوربية
11 - يتغير مدلول الكلمات تبعاً للحالات التي يكثر فيها استخدامها. فكثرة استخدام العام مثلاً في بلد ما أو في عصر ما في بعض ما يدل عليه تزيل مع تقادم العهد عموم معناه وتقصر مدلوله على الحالات التي شاع فيها استعماله؛ وكثرة استخدام الخاص في معان عامة عن طريق التوسع تزيل مع تقادم العهد خصوص معناه وتكسبه العموم. وكثرة(411/18)
استخدام الكلمة في المعنى المجازي تؤدي غالباً إلى انقراض معناها الحقيقي وحلول هذا المعنى المجازي محله. واستخدام الكلمة في فن أو صناعة بمعنى خاص يجردها في هذا الفن أو في هذه الصناعة من معناها اللغوي ويقصرها على مدلولها الاصطلاحي. والتطورات التي حدثت في اللهجات العامية تحت تأثير هذا العامل تناولت آلافاً من المفردات العربية؛ حتى أنه ليندر أن يجد مفرداً عامياً مطابقاً في مدلوله كل المطابقة للمفرد العربي الذي انحدر منه
12 - يتغير مدلول الكلمة أحياناً تحت تأثير القواعد. فقد تذلل قواعد اللغة نفسها السبيل إلى انحراف معنى الكلمة وتساعد على توجيه وجهة خاصة. فتذكير كلمة (ولد) مثلاً في اللغة العربية (ولد صغير)، قد جعل معناها يرتبط في الذهن بالمذكر؛ ولذلك أخذ مدلولها يدنو شيئاً فشيئاً من هذا النوع، حتى أصبحت لا تطلق في كثير من اللهجات العامية إلا على الولد من نوع الذكور
13 - قد يتغير مدلول الكلمة في انتقالها من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تطور في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع والمجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة في جيل ما في بعض ما تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار، ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد
14 - وقد تغيرت في اللغات العامية مدلولات كثير من الكلمات، لأن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور. ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتغير المادة المتخذة منها آلة الكتابة؛ فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. (القطار) كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات، فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها(411/19)
قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر
15 - انتقال كلمات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فقد انتقل إلى كل بلد عربي اللسان كثير من كلمات اللغات التي أتيح له الاتصال بأهلها اتصالاً ثقافياً أو سياسياً أو اقتصاديا. فأنتقل إلى لهجة العراق كثير من الكلمات التركية والفارسية والكردية والإنجليزية. وإلى لهجات الشام كثير من الكلمات التركية والفرنسية. والى لهجة مصر كثير من الكلمات التركية واليونانية والفرنسية والإيطالية. . . وهلم جراً
16 - انتقال أصوات جديدة إلى بعض اللهجات العامية من اللغات الأجنبية التي احتكت بها. فمن ذلك مثلاً صوت بين الشين والجيم المعطشة ينطق به في عامية العراق في مثل كلمة (عربنجي) (سائق العربة). فمن المحتمل أن يكون هذا الصوت قد انتقل إليها من التركية
17 - دخول قواعد جديدة في بعض اللهجات العامية للحاجة إليها في الكلام أو عن طريق احتكاكها باللغات الأخرى. فقد انتقل مثلاً إلى المصرية والعراقية طريقة النسب التركية (بزيادة جيم وياء) في بعض الكلمات وخاصة ما يدل منها على الحرفة: (عربجي. طرشجي. جزمجي. . .)، وطريقة الإضافة في بعض الكلمات بتقديم المضاف إليه على المضاف (كتبخانة، أنتيكخانة. . .). وانتقل إلى اللهجة العراقية طريقة النعت الفارسية التي يقدم فيها أحياناً النعت على المنعوت (. . . (خوش ولد) خوش كلمة فارسية معناها حسن. ومعنى الجملة ولد حسن أو ما أحسنه من ولد). وطريقة تنكير الاسم المفرد بذكر الاسم المفرد بذكر كلمة قبله تدل على الوحدة ((فرد رجل)؛ (فرد مخالفة). . . الخ) وانتقل إلى معظم اللهجات العامية المتشعبة عن العربية طريقة الإضافة بتوسط كلمة تدل على الملك بين المضاف والمضاف إليه: ففي مصر تتوسط غالباً كلمة بتاع المحرفة عن متاع؛ وفي تونس والجزائر كلمة (إنتاع) أو (تاع)؛ المحرفة كذلك عن متاع؛ وفي المغرب الأقصى كلمة (ديال)؛ وفي العراق كلمة (مال) للمذكر و (مالة) للمؤنث؛ (. . . (الكتاب مالي)؛ (الكراسة مالتي)، أي كتابي وكراستي). ودخل في معظم هذه اللهجات كذلك زمن جديد(411/20)
للمضارع للدلالة على الاستمرار. وقد اختلفت هذه اللهجات في الإشارة إلى هذا الزمن، فبعضها يشير إليه بباء في أول الفعل (بيكتب) في بعض اللهجات المصرية؛ وبعضها يشير إليه بميم في أول الفعل كذلك ((منكتب) في بعض اللهجات المصرية والسورية)؛ وبعضها يشير إليه بكاف قبل الفعل ((كيكتب) في لهجة المغرب)؛ وبعضها يشير إليه بكلمة (عم) قبل الفعل ((عم يكتب) في كثير من اللهجات المصرية والعراقية)؛ أو بكلمة (راه) ((راه يكتب) في لهجة المغرب. وتستخدم هذه الأداة كذلك في مصر ولكن للدلالة على الاستقبال وتقلب هاؤها حاء، فيقال (راح يكتب))
18 - انقراض بعض الكلمات لانقراض مدلولها أو قلة استخدامه. فقد انقرض في اللهجات العامية كثير من الأسماء العربية الدالة على أمور بطل استعمالها؛ ويصدق هذا على أسماء الملابس والأثاث وعدد الحرب ووسائل النقل وآلات الصناعة والمقاييس والنقود ومظاهر النشاط والنظم الاجتماعية. . . التي كانت سائدة عند العرب في عصورهم الأولى، ولكنها انقرضت أو لم يعد لها شأن في عصورنا الحديثة، فانقرضت معها الكلمات الدالة عليها
19 - انقراض بعض الكلمات لثقلها على اللسان أو عدم تلاؤمها مع الحالة التي انتهت إليها أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض كثير من الكلمات العربية من لغات التخاطب العامية في العصر الحاضر
20 - انقراض الكلمة لدقة مدلولها، أو لعدم الاحتياج إليه في لهجات المحادثة العادية، أو قلة دورانة فيها، أو وجود لفظ آخر مرادف له. فلهجات المحادثة تقتصر في العادة على الضروري وتنفر من الكمالي وتنأى عن مظاهر الترف؛ وإلى هذا العامل يرجع السبب في انقراض آلاف من الكلمات العربية من لهجات المحادثة الحاضرة، وفي تجرد هذه اللهجات من أهم خاصة تمتاز بها العربية، وهي سعة الثروة في المفردات وكثرة المترادفات
هذا، وعلى الرغم من اختلاف هذه اللهجات في ظروفها، فقد تأثرت في بعض النواحي بعوامل متحدة، فاتفقت في طائفة من مظاهر التطور. وتبدو وجوه اتفاقها هذا في أمور كثيرة من أهمهما يلي:
1 - تجردها من جميع الحركات التي تلحق آخر الكلمات في العربية الفصحى، سواء في ذلك ما كان منها علامة إعراب وما كان حركة بناء. فينطق في هذه اللهجات بجميع(411/21)
الكلمات مسكنة الأواخر، وتلتزم حالة واحدة في الكلمات المعربة بالحروف ويعتمد في فهم الأمور التي ترشد إليها في العربية الفصحى علامات الإعراب (وظيفة الكلمة، علاقة عناصر العبارة بعضها ببعض. . . الخ) على سياق الحديث أو على كلمات مستقلة تذكر في الجملة.
2 - استبدل في هذه اللهجات بالطرق المعقدة الدقيقة التي تسير عليها العربية الفصحى في تركيب الجملة وترتيب عناصرها، طرق بسيطة ساذجة وأساليب حرة طليقة
3 - لم تحتفظ هذه اللهجات إلا بجزء يسير من تراث أمها العربية وثروتها العظيمة في المفردات، ويتمثل هذا الجزء في الكلمات الضرورية للحديث العادي.
ومن هذه الخواص الثلاث يتبين أن أهم ما تمتاز به العربية الفصحى عن أخواتها السامية قد تجردت منه اللهجات العامية الحديثة، فمسافة الخلف بين لهجاتنا الحاضرة واللغات السامية الأخرى أضيق إذن من مسافة الخلف بين هذه اللغات والعربية الفصحى.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(411/22)
الليبيون. . .
للأديب مصطفى بعيو الطرابلسي
من المتفق عليه بين علماء الجيولوجيا أن شمال أفريقيا لم يكن صحراوياً في العصور الغابرة، بل بالعكس كانت أمطاره غزيرة مما ساعد على جريان الأنهار فيه واخضرار أراضيه ونمو الغابات، وبالتالي على تكوين البحيرات الشاسعة التي كانت ملجأ للتماسيح والجاموس البحري، وعاملاً على وجود المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور؛ وكانت هذه المستنقعات تشغل الأماكن المنخفضة وما زالت آثارها باقية إلى الآن تشهد بما كانت عليه الصحراء الكبرى في العصور القديمة؛ وكانت ترتع حول هذه البحيرات وبين أشجار الغابات أنواع من الحيوانات، بعضها من آكلة اللحوم وبعضها من آكلة العشب، ولكنها انقرضت بعض أجناسها واختفت نهائياً بمرور الزمن نتيجة لحدوث تحول في الأمطار أدى إلى نقصانها شيئاً فشيئاً في الصحراء وازديادها في أواسط أفريقيا مما نتج عنه جريان نهر النيل الحالي، فأضطر سكان شمال أفريقيا، ومنها (الليبيون) أن يهجروا أقاليمهم ويتجمعوا حول الأماكن الخصبة الجديدة التي كان من بينها نهر النيل وواديه، وإلى الآن لم يعرف بالضبط تاريخ صحيح لبدء هذا التجمع، وقيل أنه يرجع إلى ستة عشر ألف سنة مضت، ومن هنا نرى أن الليبيين كانوا عنصرا أساسيا في تكوين الشعب المصري القديم الذي ازدهرت المدنية على يديه، والذي سبق الشعوب الأخرى في مضمار الحضارة. أما من بقي من الليبيين في مكانه، فقد كان على اتصال بمصر أهلها
وبالأسف أن معلوماتنا عن الليبيين في تلك العصور القديمة قليلة جداً، وكل الذي نعرفه أنهم كانوا يعيشون على هيئة قبائل متفرقة مثل الآن، والقبائل الملاصقة لحدود مصر كانت تمتاز بشعرها الأسود وعيونها العسلية وهي قبائل التحنو، أما قبائل المشواش فهي إلى غرب القبائل الأولى، وقد سكنت الصحراء المجهولة الحد وقتئذ، وأهلها ذوو شعور شقراء وعيون زرقاء، وهناك أسماء أخرى كانت تطلق عليهم منها رابو وقد ذكر هيرودوت أبو التاريخ هؤلاء القوم تحت أسم ماكسيز وهم بلا جدال أصل البربر الذين استعمروا شمال أفريقيا فيما بعد، والمشواش قوم متمدينون نوعاً ماهرون في الفنون الحربية مسلحون جيداً
وكان الليبيون ينظرون إلى مصر الممثلة في واديها الخصيب بعين الطمع خصوصاً وأنهم(411/23)
قد أصبحوا في صحراء جرداء مما دفعهم إلى محاولة الاستيلاء على مصر للحصول على خيراتها العظيمة كلما حانت الفرص، فليس بغريب بعد ذلك أن يصفهم أحد ملوك مصر وهو منفتاح (بأنهم يمضون أوقاتهم محاربين ليملئوا بطونهم كل يوم، وقد أتوا إلى مصر ليحصلوا على ما تحتاج إليه أفواههم) وكان الوجه البحري دائماً عرضة لهجوم الليبيين القاطنين غربية وأنه لكثرة هجرة هؤلاء القوم إليه انصبغ الجزء الغربي منه بالصبغة الليبية التي بقيت ظاهرة فيه حتى زمن هيرودوت المؤرخ اليوناني. وتشير اقدم أخبار الوجه البحري إلى منازعات ومشاحنات مستمرة مع الليبيين. على أنه عندما تمكن الملك مينا من توحيد الوجهين وتثبيت عرشه وجه همه لتأمين البلاد من هجمات الليبيين فشن عليهم الغارات وأسر منهم حوالي مائة وعشرين ألف نسمة عدا مليون وأربعمائة وعشرين ألفاً من الأغنام، وأربعمائة ألف من البهائم كما جاء ذكره في الآثار المصرية. وكانت هذه الغارة بمثابة طرد عام لهم. على أن هذه الضربة القاسية التي حلت بهم لم تمنعهم من الإغارة على مصر بل كانوا ينتهزون فرصة حكم الملوك الضعاف للهجوم على الوادي وسلب ما يحتاجون إليه مما أقلق بال فراعنة مصر؛ ولهذا نراهم يتخذون سياسة حازمة نحو الليبيين ويقومون بالحملات عليهم تارة، وأحياناً يلجأون إلى سياسة سلمية لإيقاف هذه الغارات بأن يتزوجوا من الليبيات لعقد أواصر الألفة والسلام. ومن أنصار السياسة الأولى مينا كما تقدم، وسمورع أحد ملوك الأسرة الخامسة الذي ترك لنا نقشاً غائراً يمثل انتصاره على اللوبييون وفيه نرى جماعة المهزومين من قبيلتي (يافت) و (باش) ومعهم قطعانهم من البقر والماعز والحمير وهي تعد بالآلاف. أما أمنحعت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة فقد أرسل نجله سيزوستريس الأول على رأس جيش ليعاقب الليبيين على أثر غارة شنوها على الدلتا فثأر منهم. وأهم عمل قام به أنصار هذه السياسة هو ما فعلته الملكة حتشبسوت حيث أجبرتهم على دفع الجزية. وأما الذين اتبعوا سياسة المصاهرة فهم قليلون وعلى رأسهم الملك خوفو العظيم باني الهرم الأكبر الذي تزوج من سيدة ليبية
وحدث حوالي القرن الثاني قبل الميلاد أن استوطن بعض الليبيين الواحتين اللتين هما جنوبي وغربي الفيوم، وتقدم بعضهم حتى بلغوا الشاطئ الغربي لفرع النيل الكانوبي المعروف وقتئذ بالنهر الكبير. ولما زاد عدد الليبيين بالدلتا تجاسروا وتطاولوا على فرعون(411/24)
مصر فجمعوا شملهم وكونوا قوة نظامية للاستيلاء على أرض مصر، وكانوا وقتئذ تحت قيادة ملكهم المدعو مريي وهذا أجبر بدوره التحنو أن ينظموا إليه، ثم استعان بقرصان البحر الأبيض المتوسط وأخذوا يزحفون على مصر للاستيلاء عليها والاستيطان بها. أما حلفاؤه من قرصان البحر المتوسط فكانوا مكونين من سردينيين وصقليين ومن باقي أهالي جزر البحر الأبيض المتوسط، وكان هؤلاء القوم قد عبروا البحر كثيراً فيما مضى وإليهم يعزى أصل الليبيين البيض البشرة (يرى هذا المرحوم جيمس والأستاذ هنري برستدت)، وبذلك أصبح الليبيون يهددون كيان الدولة المصرية. وكان على عرشها في ذلك الوقت منفتاح فرعون موسى عليه السلام - على ما يقال - فأستعد هذا الفرعون لخطرهم وأمر موظفيه بحشد الجيوش وتجهيزها. وكان الليبيون في ذلك الوقت قد أخذوا يتقدمون نحو مصر فلما أبصروا خيراتها العظيمة ازدادت همتهم واشرأبت أعناقهم إليها، فاخترقوا الحصون المصرية الغربية، وهناك عند مدينة بريرع التي نجهل موقعها الآن اشتبكت الجنود المصرية مع الأعداء وتمكنت من طردهم بعد أن كبدتهم خسائر فادحة وأجبر ملكهم مريي على الفرار إلى وطنه تاركاً جميع أسرته يائساً من النصر بعد أن قتل أولاده الستة؛ ثم خلعه قومه وملكوه عليهم غيره. ويستدل من القتلى والغنائم أن جيش الليبيين وحلفائهم كان لا يقل عن عشرين ألف مقاتل وهكذا نجت مصر من الغزو الليبي
توفي الملك ورمر خليفة الملك السابق المعزول فورث العرش ابنه تيمر وهذا صمم على الانتقام لشرف الليبيين من فرعون مصر، وكان في ذلك الوقت رمسيس الثالث، ولتنفيذ غرضه نراه يتحالف مع قرصان البحر الأبيض المتوسط ثانياً ولكن سرعان ما هزمهم رمسيس الثالث بالقرب من مدينة (رمسيس الثالث معاقب أهل التمحو (لببا))
أمام هذا الفشل المتكرر لم ير الليبيون فائدة من القيام بحملات ضد مصر لكي يستوطنوها ولكنهم مع ذلك قاموا بهجرة عظيمة ثانية إلى غربي الدلتا على أثر غزو قبائل المشواش لبلادهم التي أتلفوها ثم أجبروهم أن يتحدوا معهم لمحاربة مصر، وتولي قيادة هذه الحملة الجديدة مششر بن ملك المشواشيين المدعو كبر ولكن الفشل في هذه المرة أيضاً كان حليفهم إذ هزمهم فرعون مصر فولوا هاربين بعد أن قتل قائدهم وأسر والده مع عدد عظيم منهم واعتبر رمسيس الثالث هذا النصر العظيم عيداً يحتفل به سنوياً وسماه (عيد قتل(411/25)
المشواشيين) ولقب جلالته نفسه بعد ذلك بالألقاب الآتية: (حامي مصر والمدافع عن الأقطار وغازي المشواشيين ومتلف أرض التمحو)
هذه هي المرة الثالثة التي صدت فيها القبائل الغربية عن الدلتا ونيلها. ولم يعد بعد ذلك عند رمسيس الثالث مجال للخوف من تلك الجهة بالرغم من أن قوة الاستعمار عند الليبيين لم تنعدم بالمرة. والمعروف أن هؤلاء القوم لم تتحد لهم كلمة بعد ذلك، لكنهم أخذوا يهاجرون مسالمين إلى القطر المصري كما فعلوا قبل حكم الأسر، وكان ذلك على فترات متقطعة وبنفر قليل لم يقاومهم فرعون مصر ولم يهتم بهم كثيراً لعلمه بضعفهم وعجزهم، ولكن بفضل هذه المهاجرة السلمية استطاعوا ان يبسطوا بعض نفوذهم على الوجه البحري. ومما ساعدهم على ذلك زيادة الجنود الليبية المأجورة بالجيش المصري باطراد. وكان فراعنة مصر قد لجئوا إلى استخدام الجنود المرتزقة في أواخر الدولة الحديثة من التاريخ المصري القديم، وأصبح الجيش المعسكر بالدلتا لحفظ النظام هناك تحت قيادة ضباط مشواشيين حتى إنه حدث في عهد الأسرة الحادية والعشرين أن قصرت بعض الوظائف الهامة عليهم
ثم ظهر من بينهم رجل قوي ثري يدعى شيشنق لقب نفسه (برئيس المشماس العظيم) استطاع أحد أحفاده أن يعلي من نفوذ آسرته الليبية ثم انتهز فرصة ضعف آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين أو انقراض ملوكها واستولى على عرش مصر وأتخذ له مدينة تل بسطة عاصمة لملكه وكان ذلك في عام 945 ق م وقد اعتبر مانيتون المؤرخ المصري القديم شيشنق هذا مؤسساً للأسرة الثانية والعشرين وبذلك استطاع الليبيون التربع على عرش مصر بلا تعب ولا حاجة إلى امتشاق الحسام بعد مضي مائتي سنة تقريباً من وفاة رمسيس الثالث الذي سحقهم سحقاً لما علم بنياتهم الخبيثة نحوه ولكي يوطد شيشنق عرش أسرته زوج ابنه بكريمة آخر الملوك الأسرة الحادية والعشرين لكي يمنح ابنه حقاً شرعياً لتولي عرش مصر بعد وفاته وذلك عن طريق زوجته
حاول شيشنق هذا إصلاح حال مصر وإرجاع أملاكها القديمة فنراه يبسط نفوذه على فلسطين تاركاً ولايتها لسليمان الحكيم كما استرجع النوبة. والخلاصة أن مصر تمتعت برخاء نسبي في أول عهد الحكم الليبي بعد أن ساء حالها. وقد كشفت آثار بعض ملوكهم في العام الماضي فوجد معظمها من الفضة وهي كما نعلم كانت في عهد الفراعنة أغلى من(411/26)
الذهب مما يدل على حياتهم المترفة. ويجب علينا آلا ننسى أن الحكام الليبيين تطبعوا بالطباع المصرية وحاكموا أهلها في العادات وعبدوا المعبودات المصرية وقدموا إليها القرابين كأهل البلاد تماماً، ولكن كل هذا لم يمنع سقوط عرشهم في عام سنة 745ق م على أثر ازدياد نفوذ قواد الجيش المأجورين فقووا مركزهم في مدن الوجه البحري وعملوا على تقسيم القطر المصري إلى عدة إمارات حربية صغيرة وبذلك يكون طول مدة الحكم الليبي في مصر حوالي 200 سنة 945 ق م تقريباً
ويجب ألا ننسى أنه لولا المشاغبات التي كان يقوم بها الليبيون لما فكر فراعنة مصر في غزوا تلك البلاد لفقرها، اللهم إذا استثنينا الواحات حيث تزرع الكروم التي كانت لها شهرة خاصة وزيتها الذي يطلق عليه الزيت اللوبي، وكان يستعمل حسب التقاليد المصرية لذلك الأجسام.
مصطفى بعيو الطرابلسي
كلية الآداب - إسكندرية(411/27)
ألقاب الشرف والتعظيم عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 3 -
7 - القمس
تقدم لنا ذكر القمس، وقد ذكره غير واحد من فقهاء اللغة وجاء في بيت شعر، لأحد شعراء حلب في سنة 544 للهجرة (في 1149 و1150 للميلاد)، ما هذا نصه (في كتاب الروضتين ص 64 من طبعة باريس):
(واستقودوا الخيل عُربْاً واستقدتَ لنا، ... قوامِصَ الكْفر في ذلٍّ وفي صَغَرِ)
فيكون مفردها هنا: (قوْمَص)، ولاتينيتها بمعنى الفرنسية. وجاءت أنثاها (قوْمَصِيَّة). قال في الكتاب المذكور، (ص 199): (وأخو صاحب جُبَيل، وابن القومصية) - وفي ص 200: (وأما ابن القومصية فأنه استفكته أمهً)
وقال في ص 191: (ووصل في هذه السنة (573 هجرية 1177 و1178 م)، إلى الساحل من البحر، كند كبير يقال له اقلندس، (صوابه إفِلبُّس أكبر طواغيت الكفر) وفي ص 257و 258، ذكر القومص خمس مرات، والقومصية مرة واحدة، ثم تكرر ذكر القومس مراراً عدة وفي ص 271 ذكر (الملك وكفود) وهو جمع كند ثم تكررت هذه الألفاظ باختلاف وجوهها، لكنها لم تختلف عما ذكرناه هنا فلا حاجة لنا إلى الإكثار منها
ولم يذكر أرباب المعاجم هذه المفردات جميعها وبلغاتها في دواوينهم. فقد قيدوا أشياء منها وأهملوا شيئاً آخر. فأما ما قيدوه فالقموس. قال السيد مرتضى: القومس كجوهر الأمير بالنبطية. نقله الصاغاني عن ابن عباد؛ وقال الأزهري: الملك الشريف. . . وقيل: هو الأمير بالرومية
قلنا: وهذا هو الصحيح، لا من اللغة النبطية، وإن كانت هي السبب إلى نقلها إلى العربية، ومعناها الأصلي في الرومية الرفيق، لأنه كان في بادئ الأمر يرافق الملك في حروبه وتنقلاته ثم أطلق على الأمير؛ ثم قال الشارح: والقمَّس كسكَّر: الرجل الشريف. كذا نقله الصاغاني وهو قول ابن الأعرابي وأنشد:(411/28)
وعلمت. . . (البيت)
فسره بالسيد والجمع قممامس وقمامسة. أدخلوا الهاء لتأنيث الجمع؛ والقمامسة: البطارقة نقله الصاغاني عن ابن عباد ولم يذكر واحدة وكأنه جمع قمس كسكر
قلنا أن البطارقة هنا بمعنى الأشراف من أكابر القوم. وكذلك قولهم القومس: الأمير؛ والقمس: الرجل الشريف. فكل هذه المعاني مرجعها واحد، وإنما الفروق هي من بعض الشراح. أما من جهة التحقيق، فالقومس أو القمس غير البطريق وهذا غير الرجل الشريف؛ والرجل الشريف غير كبير القوم أو أميرهم. أما التوسع في المعاني فأشهر من أن يذكر
والأقباط يسمون كبير قسوسهم بالقمص كالقُفل، أو القمُّص بضم الأول وتشديد الثاني المضموم، والجمع القمامصة. وسمي النويري القمامسة: قماصة بالصاد بمعنى الأشراف؛ وهذا يشعر بأنه اعتبر المفرد قمصا، وزان سكر، بصاد في الآخر. وهذا من لغات مضر، أي قلب السين صاداً للتفخيم. وكذا عل ابن الأثير المؤرخ؛ فأن الذي سماه بعض المؤرخين قومساً، سماه هو قومصاً: وسمي الأنثى قومصة - قومصية. قال في الكامل (247: 11 من طبعة الإفرنج): (وكان القمص (وفي بعض الروايات القومص) صاحب طرابلس، واسمه ديمند ابن ديمند الصنجيلي، قد تزوج بالقومصة، صاحبة طبرية)
وقد جرى على هذه التسمية كثير من المؤرخين الذين جاؤوا بعده. وقال في وقائع سنة 583: (فر القومص إليها (إلى صور) يوم كسرتهم (كسرة الصليبيين))
والذين جاءوا بعد هذه الطبقة من المؤرخين الكتاب قالوا: الكند بدال في الآخر، أو القند بقاف ونون ودال. فمن الأول قول أبي شامة (راجع كلامه الذي أوردناه في الدوفن)
ومنه أيضاً الكنداسطبل. وقد تحذف الهمزة. ومعناها أمير الإسطبل. وهو تعريب اللاتينية قال صاحب مختصر الدول (ص 448 من طبعة بيروت):
(ومن الأرمن الكندسطبل، أخو التكفور حاتم). - وفي الكامل لابن الأثير (10: 211): (وأسر مقدمهم المعروف بكنداصطبل، فاقتدى نفسه.)
وقد غلط المعلم بطرس البستاني غلطاً فظيعاً في معجمه، محيط المحيط، إذ قال في ترجمة (ك ن د): (الكند: الشرس الشديد. فارسي) اهـ. - وقد نقل الكلمة عن فريتغ وهو مأخذه(411/29)
الأكبر ولم يصرح به. وفريتغ حاطب ليل لا يميز الحطب والجزل، وقد أولج في الضادية مفردات جمة لا حقيقة لها، سوى سوء فهمه لكلام بني عدنان، أو لسوء قراءة كلمهم. هذا فضلاً عن البستاني لم يفهم معنى كلمة فريتغ اللاتينية وهي فهي لا تفيد أبدا معنى (الشرس) كما نقلها إلى لغتنا، بل النشيط، الثقف، العامل، الفعال. فهذه أغلاط فوق أغلاط فوق أغلاط، فهي ظلمات من فوقها ظلمات ومن تحتها ظلمات. ومن الغريب أنه نقل هذه الكلمة اللاتينية نفسها في مادة (كُنْداكِر) بالمعنى غير المعنى المذكور. فقد قال: (الكنداكر: الشجاع الجسور) اهـ.
قلنا: وهذا يجوز لأنه من معاني الرومية المذكورة أي لكن كنداكر منقولة عن فريتغ أيضاً، وقد قال فيها أنها فارسية، وهي لا فارسية ولا عربية ولا هندية ولا صينية، بل ولا وقواقية، لأنها مركبة من كند أي أمير وأكر أي عكاء، ومحصل معناها: كند عكاء أو أمير عكاء، ويراد به هنا الكنت هنري دي شنباي وبالحروف الفرنسية: ' ,
وسعيد الشرتوني صاحب أقرب الموارد، نقل هذين الغلطين عن البستاني، ونسبتهما تواً إلى فريتغ كذباً وزوراً. مع أن الحقيقة أنه نقلهما رأساً عن محيط المحيط، فنكرانه لمجهود المعلم بطرس البستاني لا يشرفه ولا يبرر وهمه. فقد قال في مادة (ك ن د): (الكند بالضم الشرس الشديد (فارسي)، نقله فريتغ عن بعض كتب العرب) اهـ. فلو نقل الشرتوني الكلمة تواً عن فريتغ، لنقل منى لاتينية نقلاً صحيحاً غير ما نقله البستاني، لكن أراد الله أن يكشف سوء عمله، فقال ما قال كذباً وزوراً، فكان عليه أن يعترف بالصدق ويقول: (نقلته عن محيط المحيط وهو نقله عن فريتغ)؛ وهذا لم يحسن القراءة ولا فهم معنى اللفظة
وكذلك قال في كنداكر: الكنداكر (وضبطها ضبط قلم بضم الكاف وإسكان النون وفتح الدال يليها ألف فكاف مكسورة فراء في الآخر): الشجاع الجسور، فارسية، نقلها فريتغ عن بعض كتب العرب؛ وكان حقه أن يقول ما ذكرناه في كلمة الكند
أما صاحب البستاني فذكر الكند إذ قال: الكند بالضم الشديد الشرس (معرب). فأراد أن يبين أنه لا ينقل عبارته عن محيط المحيط ولا عن أقرب الموارد فقدم وأخر فقال: (الشديد الشرس معرب) عوض أن يقول: الشديد الشرس فارسي.
فيا للأسف! كيف أن أنباء العرب ينقلون لغتهم عن الدخلاء ولا يشعرون بالضرر الذي(411/30)
يلحقونه بلسانهم الفصيح، البديع، البليغ بعملهم هذا المليم! وكيف أنهم يسرقون أتعاب غيرهم ولا يقرون بفضلهم، وكيف أن الله يهتك أسرارهم وسرائرهم بصورة لا تعلى شرفهم
وخلاصة البحث في القند، أنه يقال: القُنْد، والكْند، والقُمْس، والقُمَّس، والقُمس، والقُمْص، والقُمَّص، والقُمَص، والقُمُّص، والقَوْمَسْ، والقوْمَص. وإذا زدنا عليها ما يقوله صحفيون في هذا العهد، أي الكنت والكونت، وما ذكرناه بادجر في معجمه الإنكليزي العربي، الذي صححه الشيخ أحمد فارس الشدياق، أي القونت، مَثُلَ بين يديك رجل عربي ينطق بأربع عشرة لغة، فلله دره من لغوي بارع!
8 - الهنباط
قال في تاج العروس: (الهنباط، بالفتح، صاحب الجيش بالرومية. وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة: إذ نزل الهنباط ثم قال: هنا (أي في مادة هـ ن ب ط) ذكره ابن الأثير (صاحب النهاية)، وذكره الصاغاني في مادة (هـ ب ط) وقلده المصنف أي (الفيروزابادي) والصواب أنه بالنون. وقال في تركيب هـ ب ط: (الهيباط، بالفتح: ملك الروم. نقله الصاغاني هنا. والصواب أنه الهنباط بالنون). اهـ. وفي النهاية لابن الأثير المطبوع في مصر، ضبط الهنباط بالضم، وهو خطأ، لأنه مخالف لنصوص جمهرة اللغويين
وكان فكرنا في أول الأمر أن الهنباط مقطوعة من الرومية (إنبراطور)، لكن نبهنا الأستاذ الأجل إلياس قدسي إلى أن الكلمة من اليونانية (هُبَاطُس)، وأول معناها: الأعلى والأرفع، ثم أطلق عندهم على الرئيس الأعلى؛ أي ما يسميه الرومان (قنصلاً). وكان يرد بالهنباط يومئذ لقب أحد الحاكمين الأعظمين اللذين كانا بديوان رومه. وجاء الهيباط بعض الأحيان بمعنى قنصل الإقليم، وهذا كان يسمى باللاتينية برو قنصلاً. وكان الهيباط يلفظ في أول الأمر (هُبَاط) وزان غراب، ثم (هِباط) بكسر الأول ككتاب، ثم صحفه بعضهم فقال (هَيباط) بياء مثناة بعد الهاء. وآخرون قالوا (هنباط) بنون بعد الهاء. فالمادة الأصلية هي (هبط) وكان يجب على اللغويين أن يذكروها في هذا التركيب الثلاثي لا في سواه
وأصل اليونانية (هفاطس) (هُفامس)، أي أن اللفظة في أصل وضعها القديم كانت بالميم،(411/31)
ثم قلبت تاء أو طاء. قلنا: فإذا جردنا الكلمة من زوائدها، يكون لنا (هفا) أو (عفا)، لأنه ليس في لغة اليونان حرف حلقي فخم، فعندهم الهاء والعين شئ واحد، والعرب تقول: عفا فلان على فلان في العلم وغيره زاد. واسم الفاعل عاف والجمع عُفاة. فالهباط أو العفاط هو العافي لا غير في أصل معناه، المشرف على غيره بالعلم أو بالرئاسة
وقلب الميم تاء أو طاء في العربية واقع وقوعه في اليونانية. فقد قال بنو عدنان: حات يحوت بمعنى حام يحوم، وقالوا: الغطس كالغمس، ورجل أطرط الحاجبين كأمرطهما، وجعل الهاء عيناً، وبالعكس أمر مشهور أيضاً لا يحتاج إلى تأييد، من ذلك قولهم: تربع السراب وترية، وعاث فيه وهاث، والهنشنش كالعنشنش، والهكوك كالعكوك والهجفة من النساء كالعجفة. فاتضح من هذه المقابلة أن اللفظين هما واحد في الأصل، وهذا عجيب غريب!
(له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية(411/32)
من الأدب النسائي
من مذكرات مطلقة
للسيدة الفاضلة (ليلى)
(إذا قسا قلب الرجل ومات ضميره فلن تجد الرحمة سبيلاً إلى
قلبه، وهيهات أن يرد إليه الشعور أنه سارق، وفي بعض
الحالات قاتل. يعطي باليمنى ويسلب باليسرى، ويغتصب
الروح الهانئة لتحل الشقوة ويدب التلف إلى القلب النابض
فيخفت. أيها الإنسان العابث! أما عرفت أن هناك إلهاً
بالمرصاد؟)
أذلك حلم أتخيله، أم هي الذكريات تطوف برأسي كما يطوف النحل بخلاياه لها أزيزه وطنينه، ولكنها لا تنتج العسل ولا فيها شفاء للنفس ولا للناس؟ لقد كادت صرخة الجوع تفلت من بين شفتي، ولكنها في سجن من الإباء وقيد من الكبرياء! لقد سمحت للدموع أن تطفئ أشجاني وتبرد نار أحزاني، ولقد هتفت بوحدتي أن أسبلي على ستارك، ولا تمتعي بآلامي مهجة الشامت، حتى تستقر نفسي، ويعاودني كسابق الأمر أنسى، وهيهات. . . فالقلب قبر صامت يحمل رفات الذكريات! لقد نسى الغادر كؤوس الهناءة التي سكبتها له بيدي، وألوان السعادة نعم بها في جواري، وجنة البيت تضفي عليه النعيم. . . نسى الصدر الرحب الذي وسع أنانيته، والروح التي خلقت فيه عبقريته. . . نسى الحنان يرتع في جنباته، والحب الخالص يرعاه في غداوته وروحته. . . كانت حياتنا معاً مثلاً عالياً للوفاء، فبرهنت الأيام على أن ليس لحال بقاء. . . نسى كل شئ، وبرم بعشرة السنين الطويلة: لم يرحم الإحساس المرهف يجرح بسكين الصد والهجران؛ ولا الآلام تخترم الجسم الرقيق كالنبال، ولا النفس العالية يسهمها الخسف والهوان؛ وطغى كالسيل الجارف يهد من جسر الآمال، ويذيب الأماني ويفرقها في صميم الأوحال! أستبدل بالمرحلة السعيدة التي قطعناها،(411/33)
أخرى شيقة ما ألفناها، تبدل وتغير من ربيع زاهر ضاحك إلى خريف مجدب ماحل، ثارت النفس لهذا الاختلاف، ثم جاء وقت الحساب، فما أجدي تفاهم ولا عتاب. افترقنا، هو سادر في غلوائه، وأنا قلبي تائه في بيدائه، وحملت نفسي أشلاء ممزقة وهي حائرة مبعثرة، وصرخت في وجه القدر: أنا صابرة صابرة، وعلى تحدي غدره قادرة! أشحت بوجهي حين تقدم إلى بالمساعدة، حتى حقوق رفضتها معاندة، وخرجت من بيته مرفوعة الرأس. وهناك في غرفة حقيرة الأثاث انطويت على نفسي بعيدة عن الناس، أبيع الحلية أسد بها الرمق، أغالب حالات الضيق والقلق، وأطارد شبح الذكرى حتى حقرت في نظري الحياة. وما هي ذي نفسي تستمرئ هذا العيش الجديد، بالرغم من بعده عن كل تغيير وتجديد. بقى فضول الناس، فهم بمعرفة حقيقتي مولعون؛ يعجبون لوحدتي وانفرادي، ويتساءلون عمن أحب وعمن أعادي. لم يبق غير الجبل أسارع إليه لأدفع عني شر الإنسان، ولا بد انه ملاحقي في كل زمان ومكان. إني أحسن جوارهم، ولكن لا أحب حوارهم. آنس بالوحدة وأرى فيها عالم من نور، وأوقن أن ما يصيبنا في كتاب مسطور. درأت عن نفسي فتنة الدنيا بهذا الاحتجاب، وكأني سائحة طال عليها الاغتراب. رأيت السلوان في مصحفي وكتابي، وناشدت الله أن يجزل ثوابي؛ حتى إذا اجتزت المحنة في ثبات. أخذت أفيق من غمرة ذهولي وأقول: حياة كالعدم، شئ غير معقول. . . لم لا آخذ من دهري بنصيب، وأستبدل حبيباً بحبيب؟
صحت وقد نفضت عني حياة العدم، فليس في صفحتي ما يوجب اليأس والندم: أشرقي يا نفسي في جوانب صدري. هأنذى لا زلت شابة فتية. . . لم تكونين يا نفس ضحية الأحزان ونعيم الوجود يبدو أمامك؟ انشطي وأفسحي المجال لروحك، وضمدي بالسرور شتى جروحك. . . ما ضرك لو تعرفت بهذا وذاك. . .؟ أليس لأسير الأسى من فكاك؟ أيقضي علي بالقسوة والحرمان، وسواي يلهو مع الصحب والخلان. . . إن ظهري لا يحتمل وقر السنين، ولا يرضى بشقاء العيش غير المجانين! لقد لقيت جزاء الإخلاص، وأفلست من حبه أيما إفلاس، ولكني سأتناول بيدي كؤوس النعيم، وأطرح همي الدائم المقيم. نحن بني آدم كالأعاصير نثور ونهدأ، وما نحن ألا قصة أو حديث في أساطير، ومهما طال بنا الأمد فسيجرفنا الفناء. وسنجد أن الحياة لم تكن تستحق العناء، فلنشرب من(411/34)
وردها الصافي. إني احبها وعلى رأسي تاج من الشرف يلمسه من جهلني ومن عرفني. أحبها في أحضان السمعة الطيبة والكرامة، ولا ينقصها وخزة ضمير ولا ندامة. فاللهم اهدني السبيل، واكفني شر القال والقيل. كيف أناضل للعيش وحيدة، وأنا بمعرفة أساليب الناس بعيدة؟ وا خيبتاه أن وقعت في الحبالة، ولم يبقى في مصباح عقلي زبالة. اللهم خذ بيدي فلست أريد إلا أن أخرج عن جمودي وأشعر بكياني ووجودي. هأنذى أفتح النافذة وأتلقى نظرات جاري متحفزة. قال: عمي مساء! قلت: عم مساء! قال: يظهر أننا في الوحدة سواء. لم تنفرين من المجتمع، أما من أقارب أو أصدقاء لك في هذا البلد؟ قلت وجدت الخير في صحبة الكتاب، بعد أن تقطعت بيني وبين صاحبي الأسباب. أما البنون فالحمد لله الذي رفع عني عبئهم، ولم يشأ أن أتحمل ذنبهم. قال يا لك من مسكينة! لا بد أن تكون حياتك موحشة قاسية، وماذا يملأ فراغك؟ ما ضرك لو نكون صديقين؟ فكانت إجابتي بسمة ساخرة، وكنت في تحويل دفة الحديث ماهرة. ثم أقفلت النافذة بغير تحية، وأنا أقول: خاب فألك! لن أكون مرة أخرى ضحية
دخلت على جارتي ودعتني للزيارة، فلم أشأ أن أعارض، وجلست إليها أستمع هراء في هراء، ولا أدري أن كان حديثاً أو مواء. لقد حاولت الإفصاح، وأخذت تستدرجني لأقص عليها واقعة حالي، وأنبئها بآلامي وآمالي. فقصت عليها أمري باختصار، فأضهرت لي أنها من خيرة الأنصار، وأخذت تلين ملمسها كالحية الرقطاء، على صورة لم يخف ما بها من دهاء. وبرغم تظاهرها بالبذخ واليسار شعرت باحتقارها. ثم خرجت من لدنها وبيني وبينها هوة سحيقة. لقد تجرعت الساعة التي قضيتها معها ككأس مرة المذاق، وقد عزمت وأكدت العزم ألا يكون بعدها تلاق
خرجت اليوم في الطريق، من غير ما صاحب ولا رفيق، فآخذتني النظرات السافلة، ورحت أتعثر بين السابلة. أخذت سمتي إلى ملهى من الملاهي، وأنا أقول أسألك العصمة يا ألهي. رأيت نساء يرقصن شبه عرايا، ونفوسهن تشف كالمرايا، ليس لهن هدف غير الرجال، وسلب ما يقدرن عليه من مال. أما الحب الذي يتظاهرن به فما هو إلا خداع وإغراء، قد جاز على عقول هؤلاء التعساء. كانوا يلتهموهن بأنظارهم التهاما، ويظهرون جوعاً وهياماً. والنساء يتدللن والرجال يتعللون، وكل بدوره يحيك الشباك، ويبحث عن(411/35)
ضالته هنا وهناك. وبدلاً من أن أسر بالأنوار الساطعة والموسيقى الصاخبة، شعرت كأني أريق ماء وجهي، وأن الشيطان واقف وراء ظهري وأمامي ينفث من روحه في تلكم الأنغام؛ فأسرعت بالفرار من هذا المكان، أنشد في وحدتي الطمأنينة والأمان.
(ليلى)(411/36)
سليمان فوزي
دمعة مكبوتة على فقيد عزيز
للأستاذ صالح علي عيسى السوداني
أي أستاذي وصديقي سليمان فوزي!
لقد كنت في حياتك بي مرحبا حفيا، وهاأنا قد أصبحت اليوم بموتك شقيا. . . لجأت إلى الدموع فلم تسعفني من شدة الحزن. . . وشر الدمع ما كان عصيا. . . واقتل الحزن ما كان مكتوبا دفينا
وما قَّصرت في جزع ولكن إذا غلب الأسى ذهب البكاء
أي سليمان! فما اعظم مصابي بك! وما اشد حزني عليك!
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
أخَلاي لو غير الحِمام أصابكم ... عتبت، ولكن ما على الموت معتب
اتصلت بالمغفور له سليمان فوزي منذ نيف وعشرين سنة فألفيته على جوانب عظيمة من المروءة والشهامة والنجدة والإخلاص لإخوانه، والاستخفاف بالشدائد والاعتداد بالرأي والاعتماد على النفس والاستهانة بالمال ينفقه في سبيل أداء الواجب نحو وطنه وأبناء وطنه وإخوانه وزملائه، إذ كان يؤثرهم على نفسه، ويا طالما كان يضيق على نفسه ليوسع على العافي المعوز من أصدقائه الذين اتصلوا به
ولقد لازمت الفقيد - رحمة الله - في كثير من أوقات الشدة والمحنة داخل السجن وخارجه، فكان القدوة ومضرب المثل في الشدائد مع الرضاء. . . كان يقابل النكبات بابتسامته الساخرة والتهكم المحبب إلى ذوي النفوس القوية، فإذا حاولت أن تسري عنه أو تهون عليه سرعان ما كان يقف منك موقف المسري المخفف لما حاولت أن تهونه عليه! مزدرداً البلوى النازلة مهما عظمت، والنكبة الطارئة مهما كبرت، بتلك الكلمة التي يتخذها شعاره وهي: (ربنا يستر). كان يقولها في المواقف الحرجة التي ترتعد فيها الفرائض، والمواطن الخطرة التي تنخلع لها القلوب وتذهب شعاعا. ولا عجب، فقد كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي جميع صفات الشجاعة بأجلى ما في كلمة الشجاعة من المعاني، إذ كان يمضى قدماً إلى الغاية التي كان يتوخاها بنقده، والهدف الذي كان يرمي إليه بحملته(411/37)
الصحفية، لأنه كان يقدس عمله الصحفي، وكيف لا، وهو الذي كان يضحي في سبيل أداء الواجب الصحفي براحته ومكسبه وصحته! ولا جدال في أنه لم يستطع حاكم بسطوته وجبروته أن يرهبه أو يخفيه أو يحمله على العدول عما كان يعتقد محاربته لزاماً. ولم يستطع زعيم أو متزعم مهما بلغ من قوة نفوذه أن يثنيه عن المضي في عمله الصحفي ناقداً أو داعياً إلى الفكرة
وكان الأستاذ سليمان فوزي (أنموذجاً) ومثالاً وصورة ناطقة لجيل من رجالة الصحافة في مصر الذين احتواهم أعنف عهد من سني الحركة القومية والنهضة الفكرية. ولا مريه في أن فقيد الصحافة كان ن ابرز الشخصيات الذين قام على أكتافهم إعلاء شأن الصحافة في مصر، كما في طليعة أولئك الذين خلقوا للصحافة نفوذاً يخشى تجاهله ويعمل حسابه. . . ولكن سليمان انفرد بذلك الطابع الخاص في النقد السياسي اللاذع والتهكم المرير على سياسة وأنانية كثيرين من المتزعمين الذين اتخذوا الاشتغال بالسياسة حرفة ووسيلة لإشباع بطونهم الجائعة، وملء جيوبهم الخاوية. وبعبارة أخرى، كان سليمان في مقدمة أولئك الذين كشفوا للأمة - في شجاعة - خبايا نفوس بعض المتزعمين، وأبانوا للناس حقيقة وطنية المتجرين بالسياسة وعواطف الأمة
وكان من صفات الأستاذ سليمان فوزي المبادرة إلى معاونة كل صحفي إذا ألمت به ملمة حتى لو كان هذا الصحفي من خصومه في الرأي الذين قاومهم وقاوموه - على أني لم أر للراحل الكريم ضريباً في بذل الجهود لمعاونة إخوانه في أوقات شدتهم. وأني لأكتفي بذكر القليل من المروءة التي كانت تتجلى في الأستاذ سليمان فوزي نحو خصومه من رجال الصحافة والسياسة
لما قبض على الأستاذ الكبير محمد توفيق دياب في قضية سياسية (كيدية) وكان قد أستشهد بي ضد الكاتب الكبير بعض الذين كانوا يأكلون لقمتهم مغمسة بدماء الناس. وبالرغم من أن الأستاذ سليمان فوزي كان يخاصم الأستاذ الكبير توفيق دياب ويقاوم السياسة التي كان يروج لها، فإذا به (أي الفقيد الكريم) يسرع في مقابلتي - بمجرد أن علم بإلقاء القبض - ليذكرني بواجب الرجولة نحو رجل من حملة الأقلام - ولم أك ناسياً - وقد طالبني أن أقف في صف الأستاذ الكبير توفيق دياب وأن أكون له لا عليه في وقت شدته، على أن(411/38)
نستأنف مقاومة رأيه السياسي بعد إطلاق سراحه. وقال: أما وهو رهين السجن فلنقم نحوه بما يفرضه الواجب على الرجال. قال ذلك، ثم أخذ يسعى لدى الدوائر الرسمية طالباً أن يعامل الأستاذ توفيق دياب في سجنه معاملة ليق بمكانته كأحد قادة الفكر في البلد
إذن لست مبالغاً إذا قلت أن المغفور له الأستاذ سليمان فوزي كان ينفرد في بيئته بالمروءة والشهامة والنجدة والشرف في الخصومة وتناسي الأحقاد وقت الشدائد. . . فهل قام إخوانه بالواجب نحو رجل كان يقوم بالواجب طوال حياته. . .! لعل الجواب لدى الأستاذ الهيهاوي والأستاذ محمود أبو الفتح وغيرهما
ولقد كان الأستاذ سليمان يقدم حيث يحجم غيره! كان قوياً في مواقفه الوطنية، كما كان يجامل أنداده ويلاطف من دونه، يشبع جائعهم ويكسو عاريهم. . . وقد كان رجلاً فوداعاً يا رجل!
صالح علي عيسى السوداني(411/39)
ليلة قمراء
للأستاذ العوضي الوكيل
جلستُ أنَاجِي ضِيَاَء القَمَرْ ... وأنْهَلُ أحلامَهُ بالنَّظَرْ
وألمحه بِشِغَافِ الفؤاد ... واشهده بعميق الفِكَرْ
سَرَى في المشاعِرِ سَيرَ الخَيَال ... رَضِيَّ الهدوء، جَمِيلَ الأثرْ
يطارحني خلجاتِ الشعور ... ويَشْدُو وإن لم يَكُنْ ذا وَتَرْ
فأسمعه ملءَّ هذا الوجودِ ... ما بَانَ أفقه واستَتَرْ
ندىَّ الجبين، لدى الشعاعِ ... حَيٌّ تلفُّته، ذو خَفَرْ
ضَحَا الكون يا ليلتي وابتدَرْ ... ورقْت عشياته والسَّحَرْ
ألا فاقبسي من سَنيَ ما انتَهَيْتِ ... وصونيه في كَنزِكِ المدّخَرْ
تَمَلّىْ مسارحَ مَن الجمالِ ... منتظراً سحرُها من نَظَرْ
رياضٌ من النورِ نسي العيون ... فَأينَ الغصون وأينَ الزّهَرْ
جلست وفي جانبي من أُحِبُّ ... يأمرني أن أجيلَ البَصَرْ
ويطلبُ مني رقيق النشيد ... يخَلّد حيناً علينا عَبَرْ
أما كان يعلمُ أن سناه ... مَعَانٍ لديوانِيَ المنتظَرْ
يدلَّ عَلَيّ وما ينثني ... ولكنه ما نأى أو هَجَرْ
قديمُ - لعمرك - دلَّ الحسان ... ألا ليته طاف مُبْتَكَرْ
ألا ما النشيد وما سحرُهُ ... لدى وجهكِ العبقريّ الأغَرّْ
معانيه أخلدُ ما في الوجود ... إذا ما انطوى غيرها وانْدَثَرْ
نَمَتْ واستطالت أقانينُهَا ... ولم تبْقِ من روعةٍ أو تَذَرْ
فرحتُ أصلّى لدى سحرها ... وأحبِسُ للصلواتِ العُمُرْ
وأفنى حياتي. . . فناء البقاء ... وأنفى عن الروح هذا الضّجَرْ؟
سرى البدرُ في غفوة من منىً ... ففي أيّ حلمٍ وضئ نَضِرْ؟
تعالي لنوقظه من سُبَاٍت ... ونترك آلامَنَا تُحْتَضَرْ
العوضي الوكيل(411/40)
مختارات من مراثي الشعراء
في المرحوم فؤاد بليبل
من قصيدة الأديب محمود السيد شعبان:
إلى الشاطِئ المجهولِ قد سارَ زوْرَقٌ ... يَشُقُّ عُبَابَ الغْيبِ سهْماً مُسَدَّدَاً
عَلَى مَتْنِهِ مَلاّحُهُ وَيْحَكَ اتَّئِدْ! ... فإنَّكَ مَا أدْرَكْتَ مِنْ عُمْرِكَ الَمَدَمي
تَعَوَّدْتُ أَنْ أَلْقَاكَ بِاْلبِشْرِ دَانِياً ... فهأنذَا أَلقَاكَ بِالدَّمْعِ مُبْعَدَا
وَما كلُّ مَيْتٍ خَاِلدٌ غَيْرَ أَنّني ... رَأَيْتُكَ فِي الأَمْوَاتِ حَيَّاً مُخَلَّداً
فُؤُادُ! لقَدْ آبَ الربِيعُ وَلَمْ تَعُدْ ... وَمَا ضَرَّ لوْ أَسْدَيْتَ بِاْلعَوْدِ لِي يَدَا؟
عَرَفتُكَ سَبَّاقاً إلى كلِّ غَايةٍ ... فَهَلْ كنْتَ تَهْوَى السَّبْقَ حَتَّى إلى الرَّدَى؟
مَشَوْا بِكَ فِي حَشْدٍ وَفِيٍّ مُوَدَّعٍ ... فأَبْكَمْتَ مَنْ غَنَّى وَأَبْكَيْتَ مَنْ شَدَا!
شَقِيتَ زَمَاناً فاَسْتَرِحْ، طِبْتَ مَرْجِعاً ... وَطَابَ لَكَ الفِرْدَوْسُ مَهدْاً وَمَرْقَدَاً!
رَجَعْتَ إلى الأرضِ اليَبَابِ فَقلْ لها: ... دَعِيِني أعِشْ لِلنّورِ وَالحُبِّ سَرْمَدَ
رَوُيْتُكِ مِنْ شِعِري فلم أبْقِ بَلْقَعاً ... عَلَى ظَمَأ يوماً وَلَمْ أبْقِ فَدْفَدَاً
وَنَضَّرْتُ بالأحْلاَم رَوْضَكِ مُنْشِئاً ... وَأطْرَبْتُ بِالأَلحانِ طَيْركَ مُنْشِداً
وَبَارَكْتُ فِيكِ الحُسْنَ وَالطُّهرَ وَالهوَى ... وَأبْدَعْتُ مِنكِ الحَقَّ والخَيْرَ وَالهُدَى!
وَصُغْتُ قَرِيِضي مِنْ شُعُوري وَمِنْ دَمِي ... وَمَا كُنتُ في يَومٍ لِغَيرِي مُقَلِّداً
فما لَكِ قَد غَيَّبْتِ في التُّربِ هَيْكَلِي ... وَلَم تَحْفَظي عَهْداً وَلم تَحْمَدِي يَداً؟
ومن قصيدة الأستاذ محمود غنيم:
استقبل الناس الربيع بموِكب ... ومضى أحبائي فرحت أشبِّع
الزهر ينفح فيه إلا زهرةً ... منثورة الأوراق لا تتضوع
والطير يسجع فيه إلا بلبلاً ... تحت التراب موسَّداً لا يسجع
كمَّ الرَّدى فَمَهُ وكان إذا شدا ... في الأيك راح فم الزمان يرجِّع
لم يبق من نغماته إلا صدى ... كالنزع في أذني يرن فأفزع
يا أيها المرح الطروب تحيةً ... أتُراك تلهو في الضريح وترفع؟(411/42)
قد كنتَ تبسِم للحياة: شقائها ... ونعيمها، بكليهما تتمتع
تتزلزل الدنيا وقلبُك فارغٌ ... مما يزلزلها وجامك مترع
ما كان يَنْقُصُك الشعور بوخزها ... بل كنت عن آلامها تترفع
أسرعت في قطع الحياة كأنما ... هي حَلْبَة فيها يفوز المسرع
يا ساكن الصحراء هلا خُطّ في ... ظل الخمائل والربا لك مضجع
أدمى فؤادي إن نجمك قد هوى ... إذ راح يأخذ في الظهور ويلمع
فاجأت أندية القريض بكوثر ... لم يعرفوا من أي عدن ينبع؟
ما كان لأسمك رنةٌ لكنهم ... وجدوا لشعرك رنةً فتتبعوا
شعر صريح في العروبة محكم ... لا معجم واهي النسيج مرقع(411/43)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ الكبير (1. ع)
السلام على سيدي العلامة الأستاذ الكبير الكريم ورحمة الله وبركاته. . . وبعد، فرأى الأستاذ - أدام الله نفع الناس بطول بقائه - في أمر (الإرسال) هو الأعلى؛ ولا ريب في أن إرسال الريح الصرصر والحاصب والصيحة والعذاب - تسليط وعقاب، وكذلك إرسال الكلب والصقر على الصيد (المسكين) عند أبي العلاء والبراهمة والمنصفين من الآدميين. . . غير أن هذا الضعيف لا يرى في الإرسال إلا معناه الظاهر أي ضد الإمساك (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له)؛ ويرى التوجيه مثل الإرسال (وجه إليه كذا أرسله)، كما في اللسان (وجهه في حاجته توجيهاً أرسله فتوجه جهة كذا) كما في التاج؛ وترسل النعم (يرسل السماء عليكم مدراراً) كما ترسل النقم (ويرسل عليها حساباً) قال الراغب في (المفردات): (الإرسال يقال في الإنسان وفي الأشياء المحبوبة والمكروهة)، فتختلف الإرسالات كما يختلف المرسلون والمرسلات. . . والإرسال حقيقة كما روى الأستاذ عن الأساس: (أرسل كلبه وصقره على الصيد) ومجاز كما روى - أيده الله - عن ذلك الكتاب (أرسل الله عليهم العذاب)
والآية الكريمة التي استشهد بها التاج - ناقلاً من اللسان؛ والتسليط قول الزجاج - وأوردها الأستاذ فيما روى من كلامه وهي: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً) وقد تشعبت في معنى الإرسال فيها أقوال لغويين ومفسرين - والأستاذ أعلم مني بذلك - والإمام ابن جرير يقول في تفسيره: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تريا محمد أنا أرسلنا الشياطين على أهل الكفر بالله تؤزهم، يقول: تحركهم بالإغواء والإضلال، فتزعجهم إلى معاصي الله وتغريهم بها حتى يواقعوها. أزا: إزعاجاً وإغواء)
ولو لم يوجه الله الشيطان إليهم أو يسلطهم عليهم أو يخل بينهم وبينهم لطاروا إليهم من تلقاء أنفسهم، لأن عملهم في هذا الدنيا - وهذا (قضاء من الله العزيز أراده) - إضلال الكافرين وغير الكافرين وإفساد جميع الأناسين (إلا عباد الله المخلصين)
وأرسل في ختام هذا الكلام إلى سيدي العلامة الأستاذ الكبير الكريم - مد الله في عمره - خير تحياتي(411/44)
* * *
عثمان زناتي
تفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) فصحح الخطأ الذي وقعت فيه حين تحدثت عن أحمد زناتي وأنا أريد عثمان زناتي
وأقول إن ذلك الخطأ كان نعمة عظيمة. فقد أوحي إلى هذا الأستاذ الكبير كلمة من أطيب الكلمات في التعريف بأخوين كان لهما في خدمة اللغة والأدب والتعليم مكان مرموق
ذلك خطأ وقعت فيه سهواً، فكان من آثاراه أن ينتفع القراء بتلك الكلمة الطيبة، وإلا فأنا أعرف أن الشاعر هو عثمان زناتي، وكذلك ورد اسمه في كتابي (الأسمار والأحاديث) ص 298 عند الكلام عما انتهب شوقي من معانيه الجياد
ولو ضمنت أن يصحح الأستاذ (ا. ع) جميع أخطائي لأخطأت عن عمد لأظفر بتلك النفثات التي تصدر عن باحث من أعاظم الباحثين
هذا، ولم أفهم من القول بان الشيخ عثمان زناتي كان من الشعراء الذين نبغوا في أواخر القرن التاسع عشر
فهل يكون معنى ذلك أننا انتقلنا من تاريخ الهجرة إلى تاريخ الميلاد؟
أرجو أن يتفضل الأستاذ الكبير (ا. ع) بالإجابة عن هذا السؤال، فأن لم يفعل فهو وحده الذي عاد يطرق باب (التجديف) وهي تورية أتحفني بها منذ أسابيع، فهي منه وإليه
أدام الله عليه نعمة العافية والتوفيق والسلام
زكي مبارك
في تأبين المرحوم فؤاد بليبل
. . . وكان أيضاً في تأبين فقيد الشعر المرحوم فؤاد بليبل ينادي لبنان مساء الأحد 11 مايو ظاهرتان تلفتان النظر، وتستوقفان الفكر
أما الأولى فكانت روح الشباب في إبانة، وثورة الصبا في عنفوانه، فالمرثي شاب والراثون شباب. فلا جرم أن يكون رثائهم من شباب الرثاء إن صح ان يكون للرثاء شباب
ومن ثم كانت القصائد التي سمعناها في هذا الحفل تفيض بالحرقة والأسى. . . والحياة. .(411/45)
وما عرفت الفقيد ولا رأيته إلا في شعره، ولكنني والله ما تمنيت أن أرى مرثياً لم يتح لي لقاؤه، كما تمنيت أن أرى فؤاد بعد أن شفني رثاؤه. وهيهات
ولقد يكون من حسن التقدير أن نشير إلى قصيدة كانت (بيت القصيد) فيما سمعنا من القصيد، وهي قصيدة الأديب محمود السيد شعبان الدالية. . . استمع إلى حسن المقابلة في قوله:
فيا لك من حلم جميل قد انتهى ... ويا لك من حزن طويل قد ابتدأ
أو إلى قوله:
عرفتك سباقاً إلى كل غاية ... فهل كنت تهوى السبق حتى إلى الردى
أما الأخرى - وإن أغضبت صراحتها الرسالة - فقد زادتني إيماناً بأن الناقد الحق ينبغي أن يسمع الشاعر أو الكاتب خطيباً فيستشف منه ما لم يستشفه من قلمه، ويستشرف من روحه وصوته ونبراته، وموقفه وإشاراته ونظراته، إلى ما ينير له الطريق فلا يزيغ حكمه، ولا يضل قلمه
أيقنت أن قلم التحرير والتصحيح في الرسالة يعاني الأمرين في ضبط ما يرد إليها من قصائد الشعراء، وإلا فكيف نعلل هذا اللحن الشائن الذي كان يغيم على ألسنتهم خطباء؟. . .
لقد أتيح لنا في هذا الحفل أن نسمع من يقول في شعره (عرفت ورجعت ووقفت) فلعلها لهجة عامية غلبت على الألسنة. . . وأتيح لنا أن نسمع من يقول (تهرب منا القوافي) و (أمسك القلم)، وأن نسمع من يقول (كان فؤاد عبقري النفس عبقري الروح) و (كان ابن الرومي ثائراً) ويكررها مرات. . .
ومن البلية أن خطيباً استشهد بقول الفقيد (المصلحون وليس فيهم مصلح) بالرفع وهو ضبط صحيح كما ترى، ولكنه حسب أنه أخطأ فأعادها (مصلح) بالجر. . .
أفبعد هذا نستبعد أن يكون لقلم التصحيح في الرسالة فضل كبير فيما نراه من ضبط صحيح؟. . .
فشكراً لمواقف الخطابة. . . إنها تبصرك بالأدباء فلتعرفنهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول.(411/46)
محمد محمد رضوان
ربيع وجمادى
شاع - خطأً - وصف هذا الشهرين بما لم يعرف في اللغة فأحببت أن أنقل عن كتب اللغة وصفهما تنبيهاً وتصويباً؛ ولفت نظر الكتاب والمؤرخين؛ والرسالة الغراء - ومكانها في اللغة والأدب عالي الذروة - أسبق المجلات إلى الصواب والهدى
قال صاحب القاموس وغيره: والربيع ربيعان: ربيع الشهور، وربيع الأزمنة؛ فربيع الشهور شهران بعد صفر، ولا يقال إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر (بوزن الفاعل). وإما ربيع الأزمنة فربيعان: الربيع الأول الذي يأتي فيه النَّوْس والكمأة؛ والربيع الثاني الذي تدرك فيه الثمار. . .
وجمادي من أسماء الشهور معرفة مؤنثة وجمعها جماديات، وجمادي خمسة الأولى وجمادي ستة الآخرة.
طه محمد الساكت
مدرس بمعهد القاهرة
مذهب الفرد ومذهب الجماعة
أثار الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك مناقشة في مقاله (الفرد أساس الجماعة). ولا ينكر أحد أن الفرد أساس الجماعة بمعنى أن الجماعة أفراد. لكن الأمة ليست أفراداً فحسب، بل هي أفراد اقتضى اشتراكهم في فوائد المجتمع أن يضحي كل فرد بشيء قل أو كثر. والمعضلة هي إلى أي حد ينبغي أن يضحي الفرد من اجل الجماعة. . . ففي بعض العصور راجت فكرة من يقول: إن الفرد ينبغي أن يضحي بكل شيء إذا اقتضت فائدة الجماعة ذلك، وفي عصور أخرى راجت فكرة من يقول: أن الدولة التي أنشأتها الجماعة ينبغي ألا يتعدى اختصاصها النظر في أمور الأمن العام، وأنها ينبغي أن تترك كل فرد حراً في آرائه وإحساسه وميوله وأفعاله، ما دام لا يتعدى على غيره اعتداء يحرمه القانون؛ أما فكرة من يقول: إن الفرد ينبغي أن يكون في كل أمر خاضعاً للجماعة، فإنها تضحي(411/47)
بحريات كثيرة، وقد تؤدي إلى تضاؤل الإنسان في فكره وإحساسه وعمله، وهذا التضاؤل مصيره تأخر الإنسانية؛ كما أن فكرة من يقول بمذهب صيانة أعظم قدر من الحرية للفرد قد تؤدي إلى كثير من الاختلال في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى التخاذل والتفرق والتباغض، وقد تؤدي إلى أن يضر الفرد نفسه بإساءة استعمال حريته الكبيرة. وهذا أيضاً مصيره تأخر الإنسانية لو دام هذا الأمر ودامت عواقبه. وقد كانت الفكرة السائدة بعد تأسيس الديمقراطيات الحديثة فكرة صون قداسة حرية الفرد لأن المفكرين وجدوا أن تدخل الحكومات قبلها لم يكن رشيداً ولا منتجاً نتاجاً حسناً. لكن تاريخ الديمقراطيات الحديثة قد أثبتت أن الأخذ بمبدأ الفرد أخذاً عاماً أدى إلى فساد كثير، وقد اضطرت الحكومات إلى رفضه في أمور كثيرة حتى في العهد الذي بلغ فيه غايته؛ فقد رفضته الحكومة الإنجليزية في القرن التاسع عشر بالرغم من إنها تقدس مبدأ الفرد، رفضته عندما تدخلت لحماية الأولاد والنساء والرجال في المصانع، وقد أدى الغلو في الأخذ بمبدأ الفرد إلى ضياعه وإلى قلة الثقة بالديمقراطية في بعض الأمم الأوربية، وإلى سقوط تلك الديمقراطية فيها، وإلى اضطرار الدول التي لا تزال تعتنقه إلى التفكير في أن تحده بتنظيم أمور الجماعة تنظيما لا بد أن يحد حرية الفرد وحقوقه، ولا شك أن هذه الحاجة إلى التنظيم ستزاد بعد الحرب القائمة الآن. فهذه المسألة التي أثارها الأستاذ لا تحل إلا بمحاولة التوفيق بين المذهبين وتجنب ما في كل منهما من أضرار لا شك فيها؛ والبحث في كل أمر يراد به إنقاص حرية الفرد وحقوقه وفحص نتائجه وألا يكون تدخل الحكومة في أمثال هذه الأمور نتيجة العاطفة وحدها أو الحيرة من وجود فساد لا تدري علاجه فتعالجه بالعاطفة أو القهر أو الوسائل التي لا تؤدي إلى إزالته وإن خيلت أنها تؤدي
رشيد العسقلاني
أصل الفقر
كتب الدكتور زكي مبارك في (المصور) وفي (الرسالة) كلاماً كثيراً عن الفقر والفقراء، خلاصته أن الفقر ظاهرة فردية ترجع إلى انحطاط أخلاق الفرد. فليسمح لي الدكتور الفاضل أن أقول له في صراحة نافعة له جداً، إنه لو كان قد درس شيئاً من الاجتماعيات(411/48)
والاقتصاديات قبل أن يكتب ما كتب، لعلم علم يقين أن العلماء الاجتماع والاقتصاد في العالم كله قد أجمعوا على أن الفقر ظاهرة اجتماعية وليست فردية. وأن علة الفقر هي النظام الاقتصادي لا الأخلاق. فنحن عندما نبحث مشكلة الفقر في مصر مثلاً، لا نقول إن فيها أفراداً أغنياء وأفراداً فقراء. ولكننا نقول إن في مصر طبقات غنية وطبقات فقيرة. وهذه الطبقات الفقيرة - وهي الأغلبية الساحقة - ليست فقيرة لأنها منحطة الأخلاق كما يتوهم الدكتور. ولكنها فقيرة لأن النظام الاقتصادي السائد قد فرض عليها الفقر فرضاً. أرجو أن يعلم الدكتور أن الأخلاق هي أيضاً ظاهرة اجتماعية. فأخلاق الطبقات تتكيف إلى حد كبير جداً بالمستوى الاقتصادي لتلك الطبقات، أي بالغنى والفقر. ولم تكن أخلاق الطبقات قط، ولن تكون أبداً، سبباً من أسباب فقر الطبقات أو غناها
وغنى عن البيان ان هذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل وإلى شرح طويل. ولكنى لا أنوي الآن أن أتولى هذا الشرح فليلتمسه الدكتور - إذا شاء - في مظانه، أي عند علماء الاجتماع والاقتصاد. فلو قد فعل لفهم المسألة على وجهها الصحيح.
ولأراح نفسه وأراح القراء من هذا الكلام الكثير عن مشكلة لم يدرسها ولم تتصل بحياته الأدبية المعروفة عن قرب أو عن بعد
عزمي الدويرى
الأرجي
سيدي الأستاذ الزيات:
ورد في مقالكم القيم (ما خلفته أثينا ورومة) العبارة الآتية: فتدفقوا في اللهو و (الأُرْجي)، فرجعت إلى القاموس فوجدته يقول: الأرج والأريج والأريجة توهج ريح الطيب، والتأريج الإغراء، كالأرج والأرَجَان المغري، والأراج الكذاب، والمؤرج كمحد الأسد، ولم أجد كلمة (الأرْجي). فهل لسيدي الأستاذ الكبير أن ينفحنا بنفثه من يراعه السيال في معنى هذه الكلمة، وله جزيل الشكر
حسن محمد عويس
روافد الأدب العراقي(411/49)
طلعت علينا أميرة المجلات للعربية - كما سماها الزهاوي - في عددها (رقم 404) بمقالة للدكتور الأستاذ زكي مبارك، حول (الأدب العربي الحديث في العراق)، وقد أكبرنا له جرأته وتجشمه الصعائب، وكتابته عن أدبنا الحديث الذي لم يكتب له تاريخاً يقرأ، وقد ذكر - حياه الله - ثلاثة روافد للأدب العربي العراقي هي: الأدب التركي والفارسي، والأدب المصري؛ وقال عن الأدب المصري: ((ص 375). . . أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصرين بالأدب المصري وقال أيضاً: (ولن يمضي زمن قليل حتى يكون من الصعب أن نجد اختلافاً جوهرياً بين أساليب الشعراء والكتاب في مصر والعراق. . .). ويخيل إلي أن الدكتور نسى رافداً رابعاً وهو الأدب السوري الأمريكي، وإن أراد الدكتور أن أذكر له كتابنا الكثيرين الذين اقتفوا أثر (جبران خليل جبران) و (أمين الريحاني) و (ميخائيل نعيمة)؛ فأنا على قدم الاستعداد؛ وهم في السنين الأخيرة اتصلوا بالأدب المصري، اتصال محكماً - كما يقول الدكتور - ولكنهم لا يزالون متصلين اتصالهم القديم بأدب سورية في المهجر
محمود العبطة
تصويب
وقع تحريف مطبعي في بيتين من قصيدة الأستاذ محمد مصطفى الماحي في رثاء المغفور له محمد مسعود بك، وصحة الأول:
ما العلم مجد إذا لم يحمه خلق ... ولا الإخاء على حقد بمضمون
وصحة الثاني:
لم ينج في مسبح الأفلاك معتصم ... من البلاء ولا في مسبح النون
نداء الصخرة
هذا الاسم لمجموعة قصصية مصرية، أصدرها الأديب القصصي الأستاذ شعبان فهمي، وهو من نوابغ شبابنا القصصيين؛ وقد تجلت مقدرته القصصية في روايته الطويلة (وجيدة) التي أخرجها في مثل هذه الأيام من العام الماضي
وهذه المجموعة التي نحن بصدد عنها، تحوي ستة أقاصيص مصرية، ومسرحية واحدة(411/50)
عنوانها (من السما)
وهذه الأقاصيص كتبت بأسلوب عربي جيد ممتع، غير أنك تقع في أثناء الكتاب على بعض الهنات اللغوية وهي قليلة جداً. وأرى أنها من المطبعة أكثر منها راجعة إلى قلم الكاتب. وتجد واحدة من قصصه كتبت بالعامية الدارجة، كذلك كتب مسرحية باللغة العامية
والكاتب شديد الولع بالشقراوات من النساء، فبطلات أقاصيصه كلهن شقراوات، وفي هذا تكرار للصورة الواحدة، في قصص مختلفة، في مجموعة واحدة. والحق أن هذه الصورة المتكررة بعثت في نفسي شيئاً من الضيق؟ كذلك نرى الكاتب يغرم بمشرب واحد من المشارب العامة في الإسكندرية كلها. فكلما أراد أن ينقل شخوص أقاصيصه إلى مشرب عام نقلهم إلى (كارلتون)، كأن الإسكندرية خلت إلا من (كارلتون)
والأستاذ كتب قصة الأميرة الراقصة في شكل يوميات، وقد وفق في ذلك. وهو يبث في قصصه فكرات اجتماعية عميقة ويحلل بعض نواحي مجتمعنا المصري في الطبقات الوسطى والمترفة، كما أن له قدرة في الحبكة القصصية، ولم أطراف الموضوع، والتسيطر على قلمه، وفي قصصه وحدة فنية، فالفكرة الأساسية واضحة بارزة
ومسرحية (من السما) لم أستطع أن أسكت على بعض حوادثها، فهي عندي مفتعلة، وليست صادرة عن منطق الحياة. فهو يظهر فيفي وهي التي بلغت السادسة عشرة من عمرها في مظهر ساذج. وأرى بعض الوقائع تبعد عن الواقع، ولا سيما إذا لاحظنا أنها تقع في مصر، بل وفي صميم الريف
ولا يسعني ألا أن أهنئ الأستاذ شعبان فهمي بهذا التوفيق
(القاهرة)
إبراهيم أحمد أدهم(411/51)
العدد 412 - بتاريخ: 26 - 05 - 1941(/)
مثل الغني الصالح
أنا لا آلف بني قارون بحكم مَرْباي ومَحْياي وطبعي. لا آلفهم لأن فيهم شموخاً على الناس لا يدري أحد ما سببهُ، لا هم آلهة فيرزقوا، ولا هم أناس فيحسنوا؛ إنما هم صِنف من خلق الله إلههم الذهب، ومعابدهم البنوك، ورسالتهم أن يظلموا أنفسهم بالشح، ويظلموا غيرهم بالأثرة.
حبسوا مُشاع الرزق في خزائن من الحديد ومخازن من الاسمنت؛ ثم جعلوا عليها أقفالاً من صنع الشيطان لا تنفتح إلا لتأخذ؛ واستغلوا ما ركب الله في طباع الناس من تقديس المال وتمجيد أهله؛ فجعل لهم نفوذاً في الحكم، ورأياً في التشريع، وسلطاناً على العامة. وكان من وراء جشعهم وشحهم وأثرتهم وسلطتهم ودالَّتهم أن اختلت موازين الخير، وتكدرت مجاري النعمة، واحتكرت منابت الرزق؛ ووجد الضعيف مجاله الحيوي ضيقاً فاضطرب فيه، وحظه المقسوم مغتصباً فسكت عنه؛ ومِن هنا نشأت مشكلة الفقر وما نجم عنها خلال القرون من نظم وأحكام وعظات ومقالات وثورات وحروب.
ما رأيت قارونياً إلا ملكني نوع من الشعور يحسه من يلقى سجَّان النعمة وحابس القوت وغاصب الحياة. وكان في مقدور كل غني أن يكون رسول سلام وملاك حب لو أنه فقه معنى الدين، وفهم حقيقة الإنسان. وإن اللذة التي يجدها الغني البَرُّ حين يرى صنائعه يرتعون في معروفه ويستظلون بجاهه، لأصدق وأعمق من اللذة التي يدركها الغني الفاجر حين يرى ضحاياه يغمسون خبزهم في الدماء والدموع والعرق.
على أن التعبير باللذة عن ذلك الشعور الآثم الذي يجده الغني اللئيم في بؤس الناس فيه تجوَّزٌ لجهلنا اللفظ الذي يطلق على هذا الوجدان في هذا الحيوان. وبحسبي أن أضرب لك مثلين: رجلين أحدهما فاجر والآخر بَرٌّ، لتدرك بنفسك الفرق بين أثر الغني في قلب دجا فيه الكفر، وبينه في قلب أشرق فيه الإيمان.
عرفت من لئام الأغنياء رجلاً وصفته منذ عامين لقراء الرسالة فلا أسميه؛ وكان مما أملاه لسانه على قلمي قوله:
أفرط عليَّ الغني حتى غطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية. وعشت لنفسي، بل لمالي: أقضي النهار له وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقَرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي. وأصبت بمرض(412/1)
عُقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطيع المشي ولا النهوض. واستولى ولدي البكر على مفاتيح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع، فأنا أشتهي كل شئ، وأبتغي كل شئ، ثم أنظر في يدي الجمَّاعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة الموحشة فأرى أطياف اللذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهلَّ مدامعي انهلال القَطر على خدي الغائر الشاحب، وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة. حتى الدواء لا أناله، وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي، وأبقى على نصفي الشاعر، لأدرك بعيني وفكري وخيالي مض الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصَب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.
ذلك مثل، والمثل الآخر رجل يسرني أن أكشف قليلاً عن اسمه: هو الأستاذ (م. محمود جلال). عرفني هذا الرجل قبل أن أعرفه، وسعى إليَّ دون أن أسعى إليه؛ وتلك مخالفة لرسوم الكبرياء لم تقع من غيره. ثم حدثني وكتب إليَّ، وزرته ثم كشفت عنه، فعلمت أنه رَجلُ وحدِه في هذه الطبقة. لا يعتبر الغني غاية كما يعتبره الاشحة، وإنما يعتقده سبيلاً غايته السعادة. والسعادة في رأيه معنى منتشر لا يجتمع لنفسه إلا بسعادة أسرته وأمته وملته. فهو لا يحتكر ولا يدخر ولا يطمع. إنما ينفق غلة أرضيه الواسعة على عامه الحاضر فلا يبقى شيئاً منها إلى قابل. وعلى هذا المبدأ يتسنى لإيمانه الكامل أن يعمر نواحي المعروف بفعله. والإيمان الكامل هو الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكل ما يدخل في مفهوم الحق والخير والجمال. يتجلى ذلك الإيمان في تدبيره لبيته، وتربيته لِبنيه، ومعاملته لفلاحيه، وإدارته لثروته، ونيابته عن أمته. فبيته المؤسس على الرضوان والتقوى متحف فن ومكان عبادة ودار ضيافة. وأولاده البنون والبنات قد أخذهم بأدب الإسلام، فهم يؤدون الصلوات، ويتنافسون في الخيرات، ويحفون من حول أبيهم(412/2)
كالملائكة لا يتكلمون إلا في العلم أو في الدين أو في الأدب. وهو في مزارعه بين أجرائه، كالأب الشفيق بين أبنائه: لا يجهد الضعيف ولا يرهق الفقير ولا ينهك المدين. أقام لهم المساجد واستقدم إليها الوعاظ والحفاظ وأهل العلم؛ وأنشأ المدارس واستخدم فيها أولى الكفاية في التعليم والتربية؛ وأسس المستشفيات ودعا إليها الأطباء المختلفين بالتناوب، وصرف فيها الأدوية بالمجان؛ وهيأ لفلاحيه ومستأجريه وسائل الصحة والراحة، وقطع من بينهم أسباب الحقد والخصومة، حتى أغناهم عن الحكومة فلم يتقدموا إليها في دفع مظلمة أو أداء معونة.
وهو في البرلمان يمثل الدفاع عن الحق الكامل والرأي الثابت، لا يبتغي من ورائه الوصول إلى الحكم لأنه لا يوصِّل إليه، ولا الحصولَ على الجاه لأنه من قبل ذلك حاصل عليه.
وهو في كل مكان يبذل من يده ومن قلبه ما يكفكف الدمع ويخفف المصاب ويساعد على حدثان الدهر؛ فأخلصت النفوس في خدمته وأجمعت القلوب على حبه.
ذلك يا أخي الفقير مثل الغني الصالح الذي استطاع أن ينشئ عالماً مستقلاً يسود فيه السلام والحب، ويرضى عنه الله والوطن. فلو أن جميع الأغنياء اتبعوا سبيله لمنحتَهم حبك وإكبارك، وشاركت في الدفاع عنهم صديقنا الدكتور مبارك.
أحمد حسن الزيات(412/3)
رأي الإمام المراغي
في إصلاح الأزهر
إذا كنت رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
في سنة 1928 وفي ولايته الأولى على الأزهر، قدم الأستاذ
الأكبر المراغي إلى أولي الأمر في الحكومة هذه (المذكرة)
الصريحة التي ضمنها زبدة رأيه في إصلاح الأزهر منهاجاً
وغاية. وهذه المذكرة - كما تراها - هي موقع الصواب في
هذا الباب؛ وما نضن أحداً ممن تحرى وجوه الصلاح لهذه
الجامعة الإسلامية العظمى قد بلغ من ذلك بعض ما بلغ الإمام
في هذه الكلمة. والأستاذ المراغي قد وضع هذه المذكرة لتكون
برنامجه في سياسة الأزهر، ثم أقرتها الحكومة وارتضتها
الأمة، فلم يبقى عليه إلا أن ينفذ ما وضع وطبق ما شرع.
ولكن أزهر (المراغي) لا يزال كأزهر (الظواهري) يغير في
الشكل ولا يغير في الموضوع، ويستعير هيكل (الجامعة)
الحديثة، ويحتفظ بروح (الجامع) القديم! فهل يستطيع كاتب من
الكتاب، أن يبين الحوائل ويشرح الأسباب؟
(الزيات)
المذكرة(412/4)
أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى الناس (فلولا نفرَ من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
وأوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الناس إلى السبيل الموصلة إليه (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشُبَه المضلين.
وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث النظر في الكون وعلى فهم ما فيه من جمال ودقة صنع. وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر، وصنع محكم؛ ولفت النظر إلى ما في الحيوانات من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق والأعمال التي لها غايات محدودة، وأشار إلى سِير الأولين، وحث على العلم وفاضل بين العلماء والجهال.
وأعمال السلف الصالح وسير العلماء لا تدع شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة.
وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأكمله فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول المذاهب في العالم، ودرسوا الديانات. ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفاً في زمنهم، وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته وله حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ إليه.
ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه، ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح للعلم، وابتعدوا عن الناس، فجهلوا الحياة وجهلهم للناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الحديث، وجهلوا ما جد في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء؛ فأعرض الناس عنهم ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة وبلا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين!
في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في المعاملات مثل(412/5)
البيع والرهن، وفقه في الجنايات.
وقد عرض الدين الإسلامي لغيره من الأديان، وعرض لعقائد لم تكن لأهل الأديان، وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من: جماد ونبات وحيوان.
وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة: هوجم من أتباع الأديان السابقة، وهوجم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون.
لهذا كانت مهمة العلماء شاقة جداً تتطلب معلومات كثيرة: تتطلب معرفة المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة، ومعرفة ما يجد في الحياة من معارف وآراء، ومعرفة طرق البحث النظري وطرق الاقناع، وتتطلب فهم الإسلام نفسه من ينابيعه الأولى فهماً صحيحاً، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها، وتتطلب معرفة التاريخ العام، وتاريخ الأديان والمذاهب، وتاريخ التشريع وأطواره، وتتطلب العلم بقواعد الاجتماع.
والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها وهي تجاهر بذلك أن ترقى تعليمه، ليرقى حملته ويكونوا حفاظاً ومرشدين يدعون الناس إليه.
ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير، فإن العامة تتلقى أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواضعه، ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديماً وحديثاً يلجئون إلى الأديان يتخذونها وسائل للإصلاح؛ بل إن كل دعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بداً من الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها، كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين لنوع من أنواع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان.
والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات، فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة الأمم ورضيت من المكانة بأصغر المنازل.
وقد أرى أن الأمة المصرية وهي تريد النهوض والمجد وتتطلع إلى حياة سياسية راقية؛(412/6)
يجب عليها أن تذكر دينها، وتلتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم، وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والسعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة الأمة، فلا أرى أنه يوصل إلى الغرض المنشود، فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا يمكنها أن تنهض بغيره، وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه وهذب دعاته.
وقد كان الأزهر مصدر أشعة نور العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد الإسلامية. وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة. فيجب على الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر) من الأكدار، وأن توجد له جهازاً قوياً يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما جد في العالم من أطوار في العلم وفي التفكير وفي الحوار والتخاطب وفي طرق الاستدلال والبحث. والدولة تنفق على الأزهر قدراً عظيماً من المال لا تستطيع أن تمنعه عنه، ولا تستطيع أيضاً أن تلغي الأزهر وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها معاهد أخرى؛ فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعاً ولا جدالاً.
وإني أقرر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم؛ وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه. وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر، أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي بما تحدثه من ضجة وصراخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة.
يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن يفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة؛ وأن يبتعد في تفسيرها عن كل ما أظهر العلم بطلانه وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية.
يجب أن تهذب العقائد والعبادات وتنقى مما جد فيها وابتدع، وتهذب العادات الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة.
يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة. وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام(412/7)
المنصوص عليها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها، والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف، وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء.
يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو موجود في الدين الإسلامي، ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن الاختلاف. ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها، وأسباب التفرق، وتاريخ الفرق الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها.
يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها وكل المسائل العلمية في النظام الشمسي، والمواليد الثلاثة، مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات التي أشارت إلى ذلك.
يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الاسلاف، وأن يضاف إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها.
يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة التأليف الحديثة، وأن تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصر الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية. وعلى الجملة يجب أن يحافظ على جوهر الدين وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة، وأن تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح من جهة الدليل وكل ما هو موافق لمصلحة العباد.
يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين، لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة، والأمكنة المختلفة، وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عرضة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها إذ تركت الفقه الإسلامي لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم. ولو أن الأمة المصرية وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمن وتبدل العرف والعادة، وراعى الضرورات والحرج، لما تركته إلى غيره لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز عليها.
ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود عظيم،(412/8)
وتحتاج إلى رجال قد لا نجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به العاملون؛ ولكن سمو المطلب يحملنا على تذليل كل عقبة تقف في طريقه، وتوجب علينا السخاء والبذل لأننا نريد إصلاح أعز شيء على نفوس الجماهير، ونريد بهذا الإصلاح تقويم هذه الأمة ونهوضها.
بعد أن ذكر الأستاذ الأكبر هذا البيان الشامل لما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، أتبعه بذكر الأسس الإجمالية للنظام الذي يبغي أن يكون عليه الأزهر والمعاهد الدينية؛ وهي أسس لا يكاد نظام الأزهر المعمول به الآن يخرج عنها. وقد جاء في أثناء ذلك فقرات هامة لابد من تسجيلها.
منها قوله:
(عندما فكرت الحكومة المصرية في إنشاء مدرسة دار العلوم لتخريج أساتذة اللغة العربية في المدارس الأميرية، كان العلماء في الأزهر لا يعنون إلا بدراسة القواعد وفلسفتها دراسة نظرية بعيدة عن التطبيق، وبدراسة الألفاظ وخدمة عبارات المؤلفين، ولا يعنون بالغاية من اللغة ولا بخدمة اللغة نفسها!
يشهد بذلك أن أسلوب الكتب المؤلفة في تلك الأيام بعيد كل البعد عن اللغة. ويشهد بذلك أن بعض كبار العلماء ممن شاهدناهم لم يكونوا يحسنون التعبير عن أغراضهم، ولا تزال منهم بقية إلى اليوم. وكان العلماء لا يدرسون شيئاً من العلوم العامة كالتاريخ والحساب والهندسة وتقويم البلدان. وكانوا يحافظون على ما هم عليه أشد المحافظة، ولا يرون الخير إلا فيما هم فيه؛ فلم تكن معلوماتهم العامة ولا طرائق تعليمهم مؤهلة لتوليهم تعليم النشء في المدارس الأميرية على النحو الحديث.
وعندما فكرت الحكومة في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي كان الأزهر على النحو الذي وصفته؛ وكان فيهم علماء يحرمون تقويم البلدان والتاريخ والحساب، ويكتبون مقالات في الجرائد ضد هذه العلوم. وكان ولاة الأمور يشكون من أن القضاة لا يعرفون الأرقام، ولا يعرفون طرق التوثيق، ولا يعرفون من العلوم العامة ما يجب أن يعرفه شخص يتولى الحكم بين الناس.
وقد بدل الله هذه الأحوال، وأصبح قانون الأزهر مشتملاً على ضعفي العلوم التي كانت(412/9)
تدرس من قبل، وأصبح يدرس فيه التاريخ الطبيعي، وتدرس فيه الطبيعة والكيمياء، ويدرس فيه الجبر والهندسة؛ وقبل الأزهر في قسم تخصص القضاء الشرعي دروساً في وظائف الأعضاء، ودروساً في التشريح قبل الأزهريون كل جديد، وأعدوا أنفسهم له، وزالت كل العقبات التي كانت من قبل، ولم يبق إلا إصلاح طرق التعليم وإيجاد المعلمين الأكفاء وتوزيع العلوم على الأقسام توزيعاً صحيحاً، وإذا كانت هناك بقية تعترض الجديد فلم يبق لها من الشأن ما تستطيع معه أن تكون عقبة في طريق الإصلاح.
في الدولة الآن مدارس متعددة بنوع واحد من التعليم: فيها دار العلوم لتعليم اللغة، وفيها الأزهر وكل المعاهد لعلوم اللغة، فيها مدرسة القضاء الشرعي للفقه ونظم القضاء، وفيها الأزهر للفقه ونظم القضاء، وفيها تجهيزية دار العلوم، وفي الأزهر أقسام تماثلها.
تنفق الدولة على هذه المدارس جميعها، ومن الممكن أن تقتصد في هذه النفقات، ومن الممكن أن تضم هذه النفقات بعضها إلى بعض وتوحد جهودها لتخرج أمثلة أحسن من هذه الأمثلة.
في الدولة أشكال مختلفة من العلماء تخرجوا في مدارس مختلفة، يحسد بعضهم بعضاً وينقم بعضهم على بعض، ولهذا أثره في إفساد الأخلاق.
لم لا يحملنا هذا كله على التفكير في توحيد الجهود وتوحيد النفقات؟)
ومنها في وصف الكتب القديمة قوله:
(هي كتب معقدة لها طريقة خاصة في التأليف لا يفهمها كل من يعرف اللغة العربية، وإنما يفهمها من مارسها ومرن على فهمها، وعرف اصطلاح مؤلفيها. . . وأرجو الله أن يمكننا من الاستغناء عنها بأحسن منها. فنحن في حاجة إلى رسل بين القديم والحديث. وأولئك الرسل يجب أن نعلمهم القديم والحديث ليخرجوا للناس حديثاً جيداً؛ فلابد لنا من علماء فيهم من القوة ما يستطيعون به فهم تلك الكتب القديمة ومعرفة تلك الطرائق القديمة، وفيهم من القوة ما يستطيعون معه تصوير ذلك في أسلوب حديث، ولذلك فإنه يجب أن يراعى في النظام الجديد للأزهر عدم إهمال طرقه الأصلية في البحث وفهم الكتب).
ومنها قوله:
(وهناك أمر لا يصح الإغضاء عنه: ذلك أن مدارس دار العلوم والقضاء وتجهيزية دار(412/10)
العلوم مؤثر في الأزهر والمعاهد من حيث الرغبة فيهما، لأن نتيجة الأزهر - إذا لم يخرج قضاة ومحامين وعلماء للغة العربية في مدارس الحكومة - تقتصر على إخراج علماء للمعاهد وخطباء للمساجد، وهي نتيجة غير مرغبة، ومن شأنها أن تجعل التعليم الديني في المعاهد مقصوراً على بعض الطبقات التي ليس لها في الحياة آمال سامية، وهذه الطبقات وحدها قد لا تؤمن على هذه الوديعة: وديعة الخلق الديني والثقافة الإسلامية. ومن الواجب ألا يغيب عنا ونحن نتقدم لتهذيب التعليم الديني وتقويم أخلاق الأمة، أن نشجع الطبقات الراقية على الدخول في هذه المعاهد لتقوم بما يطلب منها من العناية بالأخلاق.
(وأمر آخر، وهو أن سلب الامتيازات القديمة التي كانت للأزهر من تخريج القضاة والمحامين وعلماء اللغة العربية يؤثر أمام الرأي العام داخل الدولة المصرية وخارجها في الأقطار الأخرى في سمعة الأزهر والمعاهد، ومن واجب الدولة المصرية أن تحافظ على كرامة هذا المعهد القديم، وأن ترد إليه مجده).(412/11)
لوجه الله ولوجه الحق
معضلة المعضلات في مصر والشرق
للدكتور زكي مبارك
قبل أن أشرع في التعقيب على مقال الأستاذ عباس محمود العقاد ألتفت إلى بعض القراء فأقول: لا يستطيع الكاتب أن يظفر بثقة القارئ إلا إذا زهد في تلك الثقة كل الزهد، وليس معنى هذا أن يستهين الكاتب بعواطف القارئ، ولكن معناه أن يتحرر من رغبة الظفر بثقة القارئ، ليستوحي العقل والقلب والوجدان، وقد خلص من شوائب التودد إلى بعض الآراء والأهواء، فعندئذ يطمئن القارئ إلى أنه يقرأ كلاماً سلم منبعه من أقذاء التصنع والرياء.
أكتب هذا وقد تلقيت في الأسابيع الأخيرة رسائل يدعوني بها كاتبوها إلى الخروج من الميدان الأدبي، بحجة أني أبلبل أفكارهم وأدخلهم في محرجات من الحقد والبغضاء، وهم يعجبون من أن يصبر عليَّ قراء (الرسالة) على كثرة ما آذيتهم في تلك الأعوام الطوال (؟!).
وأجيب بأني أعجب مما يعجبون، وأشتهي الخروج من الميدان الأدبي، لأخلو إلى نفسي لا إلى قلمي، ولأتذوق الراحة من متاعب التفكير في نفع القراء.
ولكن خاطراً واحداً يصدني عما أريد ويريد بعض الثائرين: وهو الخوف من أن يخلو الميدان الأدبي من كاتب يثير في صدور القراء ثائرة الغيظ والحقد من حين إلى حين. فتلك الثائرة من أكرم الحظوظ الوجدانية، ولا تخلو الصدور من معاني البغض إلا حين تخلو من معاني الحب، ومن البغض والحب يقوم هيكل الوجود.
فالأديب الذي يثور ويهتاج كلما قرأ لي مقالاً لا يرضيه، هذا الأديب سيعض بنان الندم إن استجبت لرجائه فطويت عنه عدوان قلمي. وكيف يعيش هذا الأديب وهو لا يجد الكاتب الذي يبلبل أفكاره ويدخله في محرجات من الحقد والبغضاء؟
أخوف ما أخاف على اللغة العربية أن يصير جميع كتابها من المرضيِّ عنهم في جميع الشؤون، فالكاتب الذي يرضى عنه القراء في جميع الأحوال قد يتعرض للتفاهة والابتذال، وقد يمسي وهو حاك لا يجيد غير مضغ الحديث المعاد، إلا أن يرتفع جميع القراء فلا يرضيهم غير الذهن المبتكر والعقل الوثاب.(412/12)
وما الذي يوجب أن نجعل رضا القراء غاية من الغايات؟
وكيف نهون على أنفسنا فنقبل ذلك الضرب من الاستعباد؟
وبأي حق ندعو إلى الحرية إذا أصخنا لدعوات بعض القراء فحرمنا أقلامنا نعمة الحرية؟
وما الذي يغضبكم، يا قراء هذا الزمان، ونحن لا نصوب سنان القلم إلى عيوب المجتمع إلا بتلطف وترفق؟
ما الذي يغضبكم وقد (راعينا خواطركم) فلم نؤدِّ من رسالة القلم غير كلمات ملفوفة لا ينحدر بها باطل ولا ينتصر بها حق؟
ما الذي يغضبكم وقد أطعنا بعض القلوب الخوامد، فعققنا روح العصر أبشع العقوق؟
كانت العصور الخوالي تسمى عصور الظلمات، ومع ذلك استطاع الأسلاف أن يواجهوا الجماهير بأفكار وآراء نعجز عن روايتها في هذا الجيل، فأين عصركم من تلك العصور؟ وأين أنتم من أولئك الرجال؟
قضت ظروف الحرب بإعلان الأحكام العرفية، وقضت الأحكام العرفية بمراقبة ما يُنشر في الجرائد والمجلات، فما الذي وقع؟
لم تتعرض الرقابة لمقالات الكتاب بالمحو والإثبات إلا بلطف ورفق، أما الجمهور فيرى أنه على شيء رقيب، وهو يعطل حركة الفكر بلا تهيب ولا استبقاء، وهو يدعى ما لا يملك من السيطرة على القلوب والعقول، وهو يؤذي من يخدمونه صادقين، وهو يحاول إخماد الجذوة الأدبية لتصبح آثار الأقلام وهي رسوم وأطلال.
ما نظرت في الرسائل التي (يتحفني) بها بعض الناس إلا أشفقت على مصير اللغة العربية، فهذه اللغة لا تحيا إلا إذا صارت أداة لتسجيل الحقائق والأباطيل. لن تحيا لغة العرب إلا إذا وجد فيها القارئ كل ما تشتهي العقول والقلوب والاهواء، على نحو ما يجد القارئ في لغة الفرنسيس والإنجليز والألمان. لن تحيا إلا إذا أصبح أدبها وهو أشبه الأشياء بالحدائق التي تجمع الأطايب من شتى الافانين، وفيها مع ذلك أشواك وأدغال تؤوي الفواتك من الحشرات والثعابين.
وما نظرت في مصاير الكتاب الذين (أدبهم) قراؤهم إلا جزعتُ: فالدكتور فلان كان خليقاً بأن يقيم في مصر نهضة فلسفية؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم (رجل طيب) يرى الفلاسفة(412/13)
زنادقة وملحدين والأستاذ فلان كان جديراً بأن يبعث في مصر وثبة اجتماعية؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم أكبر نصير لمأثور العادات والتقاليد؛ والشيخ فلان كان أهلاً لحمل راية السلف الصالح؛ ثم (أدبه) قراؤه، فهو اليوم رجل متحذلق يسره أن يتسم بوسم التجديد ليضاف إلى أبناء العصر الحديث!!!
فماذا يريد أن يصنع معي قرائي؟
هل يتوهمون أن في مقدورهم أن (يؤدبوني) فلا أقول بغير ما يسرهم أن أقول، ولا أكتب إلا بحدود ما يشتهون؟
هيهات، ثم هيهات!!
سأحرص على الصدق في جميع الأحوال، ولن يقرءوا لي حرفاً إلا وهو من صور ضميري؛ ولهم أن يجرِّبوا قدرتهم على الانصراف عن أدبي: فأنا أتحدث عن آرائهم وأهوائهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وأنا أقرب إليهم من أنفسهم، وأعرف منهم بسرائرهم، وأقدر على التعبير عما يجول في ضمائرهم من نفثات الخوف وخطرات الأمان.
لو كنا نعيش في زمان سليم من الآفات لعرف قومٌ أن لا موجب لشتمي في خطابات مغرَّمة قد تزيد عن الآحاد في بعض الأسابيع.
وما الذي يوجب أن أُشتَم ولم أقترف غير إجادة التعبير عما في زماني من مشكلات ومعضلات؟؟
إن هذا البغي يزيدني حرصاً على الثبات في ميدان الجهاد، وستأتي إجازة الصيف بعد أيام فأفرُغ لمكافحة ما أراه من طغيان الأوهام وانحراف الآراء.
ومعاذ الحق أن يكون قرائي جميعاً من الجاحدين، فتحت يديَّ مئات من الرسائل تشهد بأن الرجل المخلص لا يضيع بين قومه الاكرمين. ولو نشرت رسالة الأديب (م. أ. ش)، والأديب (م. ع. ف)، والأديبة التي تكتب من الأُرمان، لعرف بعض الناس أن في الدنيا قلوباً يستهويها الصدق، وبالصدق وصلنا إلى كرائم الطيبات، فلله الحمد وعليه الثناء!
أما بعد فما الذي جاء في مقال الأستاذ العقاد؟
كان مقال هذا الباحث المفكر مؤيداً لما قلت كل التأييد، فأنا قلت: (الفقر مرض ولكل مرض(412/14)
أسباب، كما أن الغنى عافية ولكل عافية أسباب).
وهو قال: (عندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء، يصيب المريضَ به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه من الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشر عدواه، كما يصيبه مع ترك الحيطة في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال).
والطريف في هذه الكلمة هو النص على أن مرض الفقر قد يصيب أهل السعي في طلب الرزق إذا جرى الفقر مجرى الوباء، وليس هذا مما نحن فيه، ولكنه ينفع حين يجب العطف على من سُدَّت في وجوههم المسالك لأسباب يعجز عن دفعها أهل الأمانة والاجتهاد.
وأنا قلت: (إن الغنى يشهد لأهله بقوة الأخلاق الاجتماعية والمعاشية، وإن الأغنياء عِماد المجتمع، وبفضل قدرتهم على تدبير المال يرجع الفضل في تجميل الوجود).
وهو قال: (لست أنا ممن ينكر فضل البراعة المالية، لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية، وتنظيم العلاقات، واستثارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران).
وأنا قلت: (إن التغرير بالفقراء ودعوتهم إلى انتظار أنصبتهم في أموال الأغنياء قتلٌ للمواهب الإنسانية، وإن الحزم يوجب أن تذكرهم في كل وقت بأن الغنى لا يوهَب وإنما هو ثمرة الكدح الموصول في طلب الرزق الحلال).
أما الأستاذ العقاد فيقول: (إن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان، فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومُنِيَ العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق).
ومعنى هذه العبارة أن بعض منافع الدنيا مدين في وجوده إلى ما يستشعر الناس من الخوف، وأن انعدام الخوف قد يكون أخطر على العالم من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق.
وكذلك قلت، فقد صرحت بأن استنامة الفقراء إلى ما قد يوزَّع عليهم من أموال الأغنياء(412/15)
ستخلق فيهم ضروباً من الطمأنينة تصرفهم عن الكفاح في التسبب والارتزاق.
ثم مضى ذلك الكاتب البليغ فسرد من غرائب الحظوظ أشياء وأشياء.
وأقول بصراحة إني لن ألتفت إلى تلك الغرائب، لأنها فوق الطب والعلاج، فستمضي أجيال وأجيال قبل أن يصح ذوق المجتمع فلا يستوي عنده الطيب والخبيث، ولا يصبح المخلوق التافه وهو آثر عنده من الرجل الحصيف.
وما الموجب لانتظار تلك العافية الاجتماعية، وهي العدل المطلَق، والعقاد نفسه يرى أن ذلك العدل قد يقضي على الدوافع الحيوية فينعدم الاندفاع الصالح والاندفاع الذميم على السواء؟
لن ألتفت إلى ما يقع في المجتمع من غرائب الحظوظ، ولن أجيب من يسألني عن أقوام تلطف معهم الدهر المخبول، ولن أقول كلمة في الوارثين، بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعاً أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم. ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.
لن ألتفت إلا إلى ظاهرة واحدة: هي شيوع الفقر في البيئة المصرية، مع كثرة وجوه الارتزاق.
الفقر في مصر كثير وفظيع، ودميم وشنيع، وملعون وقبيح، إلى آخر ما في اللغة من ذميم الأوصاف والنعوت. ومصر مع ذلك أخصب بقاع الأرض، وهي جديرة بأن تضفي على جميع أبنائها أثواب النعيم، لو عرفوا كيف يجاهدون الفقر جهاد الرجال.
قلت: إن أسباب الفقر كثيرة، ولكنها ترجع إلى ثلاثة أسباب أساسية، هي الكسل، وقلة الأمانة، والرضا بالدون من مطالب الوجود.
وهنا صرخ المتحذلقون فقالوا: إنك تجعل الفقر علة فردية مع أنه علة اجتماعية.
وقد أجبت بأن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع، فالمجتمع أفراد أضيف بعضهم إلى بعض، وبذلك يشهد من زوده الله بزاد العقل.(412/16)
ثم صرخ جماعة آخرون فقالوا: أنت أديب، فما شأنك بالمعضلات الاجتماعية؟!
فمتى يفهم الغافلون أن الأدب صورة الحياة، وأن الأديب رجلٌ يعيش كما يعيش كما يعيش سائر الرجال، وأنه قد يحس بلايا الحياة بأقوى مما يحسها زعماء الاقتصاد؟
ألأني أديب يُحرَّم عليَّ أن أتعرض للمكاره التي يعانيها وطني في الميادين الاجتماعية والمعاشية؟
يقول فلان إنه قرأ ما لم أقرأ من الكتب التي تبحث في أسباب الفقر والغنى.
وأقول إني رأيت ما لم ير فلان من أخلاق الناس في ميدان المعاش، لأني رجل ممتحَن بطلب الرزق، وطلاب الرزق (يرون) أكثر مما (يقرأ) فلان وفلان.
أليس من العجب أن يتحدث جماعةٌ عن العمال والصناع والفلاحين في مصر بعد قراءة كتاب عن العمال والصناع والفلاحين في بلاد الإنجليز أو بلاد الألمان؟
أكثر هؤلاء المتحذلقين لا يعرفون شيئاً عن بلادهم، وأكثر المتوجعين لشقاء الفلاح المصري لا يرونه إلا بعيون من قرءوا لهم من الكتاب الأجانب.
ولست بحمد الله من أولئك ولا هؤلاء، فأنا لا أستوحي كتاباً قرأته، وإن كنت أحرص الناس على القراءة والاطلاع، وإنما أستوحي ما تراه عيناي، ولي مصالح معاشية تسوقني سوقاً إلى درس أحوال العمال والصناع والفلاحين: فلي معهم في كل يوم شأن وشؤون، وبفضل ما ساقتني إليه المقادير من الاهتمام بالحياة المعاشية، سأصل إلى قرارة الضمير المصري، وسأعرف ما هو عليه من تحليق وإسفاف.
كنت دعوت الأستاذين الكبيرين الزيات والعقاد إلى إبداء رأيهما فيما قلت به من أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع.
وقد أجاب الأستاذ العقاد بما رأى القراء، فما هو رأي الأستاذ الزيات؟
كتب هامشاً قال فيه: (إن رأي (الرسالة) في الفقر ولفقراء معروف).
وهو كذلك، ولكن ما رأيكم إذا سجلت على الأستاذ الزيات أنه صرح في إحدى افتتاحياته بأن (الرسالة) قضت عاماً كاملاً في استنهاض الأغنياء إلى البر بالفقراء، فلم يسمع سامع ولم يستجب مجيب؟
ألم أقل لكم: إن الاعتماد على الأغنياء يضر أكثر مما ينفع؟(412/17)
الأغنياء يخافون من معاملة الفقراء لأسباب لا يجوز النص عليها بغير التلميح، فمتى نرجع لمحاسبة أنفسنا بصدق وإخلاص؟
أنا أرجع إلى نفسي من وقت إلى وقت، لأرى كيف تقدَّم زملائي وتخلَّفت، فأرى أني المسؤول الأول والأخير، لأن في شمائلي جفوة تجعل التهور من صور الشجاعة الأدبية، مع أن بين الشراسة والشجاعة أبعاداً يعجز عن طيِّها البرق اللماح.
وأنا أنصح قرائي بما لا أنصح به نفسي، لأني أومن بأن للكاتب شخصيتين مختلفتين بعض الاختلاف: شخصية من يمثل عقله، وشخصية من يمثل هواه؛ فأنا أخاطب قرائي بعقلي، وأخاطب نفسي بهواي، إلى أن يلطف الله فلا أصدُر في جميع أحكامي إلا عن وحي العقل.
ثم أما بعد فأنا أدعو إلى بناء المجتمع المصري من جديد.
أدعو إلى خلق الجاذبية بين الأغنياء والفقراء، ليشعر الغني بأن الفقير هو الذي حمل على كاهله أحجار القصور الشوامخ، وهو الذي عانى عرق الجبين في استنبات البقول، وليشعر الفقير بأن الغني هو الذي دبر المال لتصير مصر إلى ما صارت إليه من وفرة المصانع والمتاجر والمزارع والخيرات.
أدعو الغني إلى التألم لألم الفقير والتوجع لبلواه؛ وأدعو الفقير إلى الدعاء للغني في أعقاب الصلوات.
أدعو أولئك وهؤلاء إلى التعاون الصادق بأمانة وعطف، ونزاهة وصدق.
وأكره أن يتدخل الكتاب المراءون في إفساد ما بين الأغنياء والفقراء.
أكره أن يحاول كاتب منافق أن يتسم بوسم المصلح الاجتماعي وهو مأجور للشيطان الرجيم، وإن خدع نفسه فتخيل ثم خال أنه رسول الاشتراكية في هذه البلاد.
لقد شبعت مصر من الكتاب المرائين في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فمتى تعلن مصر شوقها المتوقد إلى كتاب لا ينافقون ولا يخادعون؟
إن صراحتي في الكلام عن الفقراء والأغنياء صنعت ما صنعت في تبصيري بدقائق من أحوال الناس وخلائق لمجتمع، وأشنعُ ما دلتني عليه هو أن في مصر كتاباً كسالى، وهم الذين يرون ما أرى، ثم يصدهم الكسل عن الاصطلاء بما اكتوت به يداي، وفيهم الباحث(412/18)
الذي تحدث عن انقراض (الأجاج) فما الأجاج؟
أمِثْلي يُدْعى إلى الخروج من الميدان الأدبي ليتمتع الغافلون بنعمة الصفاء؟
لا، والله، فسأتعقب الغافلين في جميع الميادين، ولن أسكت عن كلمة الحق ولو آذيت بها أعز أصدقائي.
ارجعوا إلى أنفسكم، يا بني آدم من أهل هذه البلاد، ولا تحوجوني إلى ضرب الأمثال، فما أحب أن تشقوا بالحقائق المجردة من إفك التزيين والتهويل.
بداية البلاء هي الرضا عن النفس، والنفس أمارةٌ بالسوء، فكيف ترضون عن أنفسكم، مع دعوى التسامي إلى معرفة أسرار الوجود؟ من قرارة القلب أمتاح هذه المعاني، لأقتل فتنةً لا تزال في المهد، فمن اتهمني بسوء النية فإلى الله إيابه، وعلى الله حسابه، ومن الله وحده أنتظر حسن الجزاء.
زكي مبارك(412/19)
الحياة الزوجية في نظر الإسلام
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
ينظر الإسلام إلى الحياة الزوجية نظر اهتمام ورعاية، ويعتبرها بحق الوضع الأساسي لتكوين أسر طيبة تتألف منها أمة قوية تمثل روح الإسلام في أخلاقها وسمو آدابها، وفي عظمتها وسلطانها. ويعلمنا الإسلام أن الحياة الزوجية ليست فكاهة من متع الحياة فحسب، حتى يتعفف عنها بعض الناس، وليست مغنماً تجارياً، حتى يتخذها الرجل شبكة يصيد بها أموال النساء، أو تتخذها المرأة شركاً تصيد به أموال الرجال، وإنما هي وسيلة ضرورية يكمل الرجل بها نفسه، وتكمل المرأة بها نفسها؛ فكلاهما شطر ناقص لا يتم وجوده إلا بصاحبه، ولا تعمر الدنيا إلا بهما معاً. ومن أجل ذلك وضع لها الإسلام أسباباً قوية تقوم عليها، وحاطها بالكثير من تحفظاته، حتى تكون محببة إلى الزوجين، وليسد عنهما مداخل الشيطان بينهما.
فهو يدعو - أولاً - إلى الحياة الزوجية في تأكيد من النصح. . . وبعد أن تتركز الفكرة عند من يستجيب لدعوته يرسم لنا - ثانياً - طريق الخطبة، واختيار الزوجة والزوج، ليباعد بيننا وبين التورط في الوقوع وراء رغبة عارضة، أو طوعاً بمظهر خاطف. فإذا قامت الحياة الزوجية في وضعها الصحيح بين الناس - ثالثاً - أن لكل من الزوجين آداباً يجب أن يرعاها نحو صاحبه؛ ليتصل القلب بالقلب، وتركن النفس إلى النفس، فلا تتبدل الحال بينهما من خير إلى شر، ومن يسر إلى عسر، (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم).
1 - الدعوة إلى الحياة الزوجية
يقول الله تعالى في شأن الزوجات والأزواج: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن) فإذا كانت الزوجة في نظر القرآن كاللبس للرجل، وكان الرجل كالملبس للمرأة، فحاجة كل منهما إلى صاحبه كحاجته إلى الملبس، فإن يكن الملبس لستر معايب الجسم، ولحفظه من عاديات الأذى، وللتجمل والزينة، فكل من الزوجين لصاحبه كذلك. يحفظ عليه شرفه، ويصون عرضه من التهم، ويوفر له راحته وصحته. ومن يستغني عن هذا؟ إنما يستغني عنه من لا يبالي بشرف، ولا يعنيه أن يكون هدفاً للأنظار الساخرة، ولأقاويل السوء تنال من سيرته،(412/20)
ولا يتألم شعوره لتعطيل النمو في أسرته وفي أمته.
ويقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. . .) فهذه الآية تنبه الرجل والمرأة إلى أن من أعظم دلائل قدرته وآيات كرمه أن خلق للرجل زوجة من لحمه ودمه ليكون الإلف أتم، والجاذبية أقوى، ولتكون الزوجة مأوى له، يسكن إليها وقت فراغه، فيأتنس بحنوها، ويتفيأ بظل عطفها، ويستمد من جانبها هناءة العيش وروح التشجيع في حياته، فتهون عليه متاعب الاعمال، ويستهين بالكفاح في الدنيا، ويستقبل شأنه كل يوم بعزم قوي وأمل جديد؛ وهكذا دواليك؛ ليظل البناء في صعود، وعمارة الكون في ازدياد؛ وهذه سنة الله تعالى، فقد أقام دنيانا على البناء والتعمير ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
كذلك من دلائل كرمه التي حدثتنا بها الآية أنه جعل بين الزوجين مودة حب، ورحمة عطف، ثابتتين لا تبليان كما تبلى مودة غير الزوجين ممن جمعت بينهما الصدف، أو ألفت بينهما الشهوات.
فمن انقطع عن التزوج فقد فاتته سلوة الحياة وأسلم نفسه للوحشة البغيضة؛ وقد يصادفه يوم قريب أو بعيد يتمنى فيه لو تدارك ما فاته.
ويقول تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وفي اعتبار البنين زينة الدنيا ترغيب قوي في الزواج. فإن النفس مطبوعة على حب الدنيا وزينتها بأكمل ما يستطيع المرء تحصيله.
ويقول عز شأنه: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم). فهو يأمرنا بتزويج الأيامى: وهم أهل العزوبة ولو كانوا من العبيد المملوكين، ويطمئننا من جهة الرزق فيقول: (إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله، والله واسع عليم).
ويحدثنا المولى سبحانه عن الأنبياء وعن المؤمنين الصادقين بأنهم كانوا يتمنون الذرية الطيبة، والزوجة الموفقة الممتعة، فإبراهيم عليه السلام كان يقول: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعائي)؛ وزكريا عليه السلام كان يقول: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء).
فأنت ترى مقدار حرص النبيين على الذرية الطيبة، وليس للذرية سبيل غير الحياة الزوجية؛ وهذا ما كان يدعو به المؤمنون فيقولون: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة(412/21)
أعين، واجعلنا للمتقين إماماً). . فالأمل الذي تردد على ألسنة النبيين والمؤمنين في الزوجة والذرية، مظهر صادق لسلامة الطبع وصدق الايمان، حتى ليرويه عنهم القرآن ويمتدحهم به، ويشهد لهم بحسن المقصد وصواب التقدير لما في الحياة الزوجية من خير لهم وللناس. وهاهم المؤمنون يختتمون دعاءهم بإجمال الطلب في قولهم: (واجعلنا للمتقين إماماً)؛ وهذا هو القرآن يشيد بتلك الأماني، ويعدهم بالاستجابة: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا - الجنة - ويلقون فيها تحية وسلاماً. . .).
وفي هذا النبأ عن الأنبياء والمؤمنين توجيه للناس أن يأخذوا بأسباب التقليد لأولئك الصفوة، ومتابعة السير على هداهم: قضاء لحق الدين، وتلبية للطبيعة، ورعاية لحاجة الأمة في الإكثار من سوادها وتقوية جماعتها. . . وهذا هو ما أجمله النبي (ص) في قوله: (تناكحوا، تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
فهذه دعوة ملحة جهر بها النبي (ص) في صراحة أكيدة ويرددها في وجه الشباب بنوع خاص، إذ هم مطمح الأمل، وهم القوة التي يشتد بها ساعد الأمة، وعلى أيديهم نهضتها ممثلة في كل أعمالهم، فيقول النبي (ص): (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . .)، يعني من تيسرت له وسائل الحياة الزوجية، فعليه أن يفعل.
وإن النبي ليرثى لمن تخلف عن الحياة الزوجية، وينبه إلى أن شيئاً آخر لا يعدلها، وإن تهيأ لبعض الأذهان القاصرة، أو لبعض النفوس التي ألهتها مطامعها وشهواتها في غير هذه الناحية عن هذه الناحية.
فيقول (ص) في ذلك: (مسكين، مسكين رجل ليست له امرأة. قالوا: وإن كان كثير المال؟ قال: وإن كان كثير المال. مسكينة، مسكينة امرأة لا زوج لها. قالوا: وإن كانت كثيرة المال؟ قال: وإن كانت كثيرة المال). . . فأنت ترى من حِكم النبوة، بل من وحي الرسالة، أن متاع المال وأن كثر لا يعدل متاع الزوجة للرجل، ولا متاع الزوج للمرأة.
وإن يكن في الدنيا ضروب من المتاع وألوان أخرى للحياة فلعل الحياة الزوجية أول هذه الضروب وأصدق هذه الألوان. ولسنا نعني مطلق الزوجة ومجرد اقتناء الحليلة، بل الزوجة التي تكفل للزوج هناءة ووفاقاً، على ما يأتي - بعد - من أوصافها. وذلك ما أُوحى به إلى النبي (ص) وجرى على لسانه في إيجاز عذب وكلمات أخاذة هي قوله: (الدنيا(412/22)
متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).
لا نجد من القول للترغيب في الدنيا وامتداح ما فيها خيراً من هذا ولا قريباً من هذا. وإنه لإحباط وتزييف لما يحاوله نفر من الناس في الترغيب عن متع الحياة وصرف النفوس عما خلق الله من الطيبات. فلم تكن الدنيا وما اشتملته من مظاهر القدرة وأنواع الخير إلا متاعاً للإنسان: يناله، ويشكر، ويمن به المولى - بعد - على عباده، ويثيب من شكر. ثم يترقى كلام النبي (ص) في المدح لمتاع الدنيا فيقول: (وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة). أفرأيت ما يجذب الرجل نحو الزوجة خيراً من هذا وأبلغ؟ أو رأيت أن الزوجة تعتبر خير متاع في الدنيا ثم ينظر إليها فريق منا نظرتهم إلى شيء مشؤوم، ويفرون منها فرارهم من أمر بغيض؟؟ هذه غاية الغايات في امتداح الحياة الزوجية. أفلا يكون التغاضي عنها إلا من مكابر استعذب المر واستمرأ الخبيث؟؟ إنه لكذلك.
ولقد اعتزم ثلاثة من أصحاب النبي (ص) أن يجتهدوا في العبادة، فاختار أحدهم أن يصوم دائماً، واختار الثاني أن يصلي ليله دائماً، ورغب الثالث أن يترك الزواج دائماً، فجاء إليهم النبي (ص) وقال لهم: (أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكن أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنت فليس مني) فهو يأبى على أصحابه أن يهجروا الدنيا للدين، وأن ينقطعوا عن النساء ليتصلوا بالعبادة، ويعلمهم أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن ما يحسبونه متاعاً محضاً إن هو إلا دين محض، وهو على ما فيه من ترضية النفس أكرم وسيلة لترضية الله، وخير سنة نأخذ بها عن رسول الله، فمن زهد في متابعته فليس من دينه في شيء، ولا من الصلة بالنبي على طرف.
وإذاً كان الانقطاع للعبادة أمراً مستهجناً، والتعفف عن الزواج لذلك نبواً عن الدين، وجهلاً بمزاياه. فما بالك بمن يعتاض عن الزيجة الحلال بمن لا يحل؟ وما ظنك بمن يعاف الطيب الشهب ويتكالب على القذر الكريه؟ رب: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء. . .).
ورضي الله عن عمر فقد قال يوماً لرجل أعزب يراه قادراً على الزواج: لا يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور.
وكذلك قال بعض الأئمة من سلف المسلمين: ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن(412/23)
دعاك إلى ترك التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام. ولقد صدق الله ورسوله، وصدق الأئمة السابقون.
وبعد، فهذه طائفة من القول في دعوة الإسلام إلى التزوج ومفهوم طبعاً أن العاجز - لعذر قاهر - مطلوب إليه أن يتعفف عن الحرام حتى تتهيأ له الفرصة (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله).
فماذا لقيت دعوة الله ورسوله عند أهل الجيل الذي نعيش فيه؟ لقيت رواجاً غير منظم في الطبقات الصغيرة، ولقيت إعراضاً غير منظم في الطبقات المستنيرة، حتى أصبحت الفوضى في محيط الجماعة الأولى، وبين الجماعة الأخيرة مثلاً سيئاً تتهم به الحياة الإسلامية، وأصبحتَ ترى الفتيات الصالحات للزواج يَتطلعنَ إلى الزوج فلا يجدنه، وتلتمس الفتيات المهذبات أملهن في الرجل فلا يصادفنه.
ووراء ذلك ما وراءه مما يحزن كثيراً ولا يسر قليلاً. ووراءه ما وراءه من كساد يطفئ لمعة الشباب في وجوه الحسان، ومما يساور الآباء والأمهات على بناتهم من هموم وأحزان.
فكم من آهات حزينة، وتنهدات موجعات تلتهب بها قلوب الآباء والأمهات!
فمتى يكون في مصر قانون يردع، ما دامت القلوب لا تخشع، والآذان لا تسمع؟
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس في كلية الشريعة(412/24)
في (عين شمس)
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
لم أعرف (عين شمس) قبل هذا اليوم؛ ولم يقدر لي أن تصافح عيناي هذه الجنبات الفساح، وتلك الأرض المنطلقة. وما أدري أين كان مني هذا الهدوء السمح، وهذه الطبيعة الضاحكة، وذاك الجمال المنثور هنا وهناك. . . لقد قنعت بنفسي فانطويت عليها، وزهدت في الناس فانصرفت عنهم، وقضيت في القاهرة سنوات فإذا أنا أعيش في هياكل الوحدة، ومعابد العزلة، وكهوف لانقطاع البعيد. . . وإذا أنا أحيا بهذه الأجواء التي أنشرها، وهذه الدُّنى التي أنثرها، وتلك الرؤى التي أهيم بها. . . وإذا أنا أنتزع قبس الحياة من أعماقي، وأمد زيته من دمي، وأعيش في عالمي الرحب، أطوف فيه، وأسكن إلى ظلاله الوارفات.
- 2 -
وفي القطار إلى (عين شمس) كانت تمر بي كل هذه الضواحي الفينانة، القائمة على برزخ الحياة، المستلقية على قدمي الصحراء، السابحة في بحر النور. . . فأعجب كيف غبت عنها كل هذا الأمد الطويل، وهذا المدى المتباعد. ولكني أثيب إلى نفسي فأذكر أن لي قلباً وقفته على ملاعب الصبا، ومسارح الطفولة، وجنات الغوطة؛ وأن في أعماقي خلجات استأثر بها الحنين، واستبد بها الشوق؛ وأن في أضلعي روحاً تخفق للأسرة الناعمة والبيت النديِّ والوطن البعيد.
لشد ما ملكت عليَّ نفسي هذه الضاحية الضاحكة. . . لقد أحسست فيها الحياة، وشعرت معها بالانطلاق، وامتدت بي آفاق النظر هنا وهناك، لا تحدها عوائق، ولا تقف من دونها حواجز، ولا يمنع عنها النور جدران قائمة وأبنية متراصة.
- 3 -
إن الصحراء النائمة على ذراع الأفق، الممتدة على صفحة الدنيا لتبعث ألواناً من الأحاسيس، وتثير أنغاماً من العواطف، وتبث المعاني الرائعة من السلام والهدوء. . . لا يملك معها الإنسان إلا أن يستجيب لها، ويتحد معها، ويفنى فيها.(412/25)
لقد وقفت في ساعات الضحى أتأمل هذا الفضاء الواسع فاجتمع عليَّ الألق والشعاع والنسيم. . . كانت الأضواء الراقصة تداعب جفنيَّ، وتريدهما على الإغماضة الخفيفة في ظلال الرؤى والمباهج. . . وكانت النسمات الرخية تعبث بشعوري فتمر عليها باليد الناعمة واللمسة الخفيفة. . . وكان الألق الفضي ينسكب فوق كل شيء، فإذا الدنيا تموج في بريقه المتقد، وتتلألأ في سناه الوضاء.
- 4 -
لم يعد يشوقني إلا أن أنظر إلى بعيد. أشهد الصحراء العارية على شاطئ الأفق. لقد تجردت من كل شيء: من البناء المرتفع والعشب النامي، والشجر المخضل. . . وأوغلت في البعد. . . وذهبت تغتسل في خضم واسع من الزرقة الخفيفة. . . لقد غابت فيه فلم يعد يظهر منها إلا هذه الذيول التي ألقت بها على الشاطئ تتلقى الشعاعات المترهجة، وتكتسي السراب الخادع. . . ثم ظهرت من جديد. . . فإذا الشمس تفيض عليها حلة من نورها الخاطف وألقها الوضاء. . . وإذا هي تبدو صافية نقية ناعمة، طهرتها السماء، وكساها النور، وفاض منها الجلال.
يا لروعة الصحراء!. . . إن رمالها المتراصة لتغني على مسمع الزمن أنشودة رائعة من أناشيد القوة والمجد، وإنها لتوقع لحناً بارعاً من ألحان الكرامة والنبل، وإنها لتكتب صفحات بارزات (في كتاب) الصفاء والطهر. . . فمتى نخلص إلى هذه الصحراء لننجو من غدر المدنية؛ وأثقال الحضارة، وأوضار المجتمع. . .؟ ومتى نعيش على هذه الرمال نستمع إلى حدائها، ونصغي إلى غنائها، وننعم بصفائها الطهور؟؟
- 5 -
أخذت أطوف مع الظهيرة في أطراف الضاحية. . . لا أخشى لفحات الشمس، لأن النسائم اللطاف كانت تذهب بشدتها وتحيلها ضوءاً ناعماً، ولوناً زاهياً، ونوراً حلواً. . . ومضيت في جنباتها المتباعدة؛ ووقفت أمام هذه الدارات المنثورة على أكناف الطرق أشهد بساطتها المحببة. . . كان أروع ما فيها هذه الحدائق القائمة على كتف الصحراء، وهذا الياسمين المنتثر على الرمال الصفراء، وتلك الأزاهير الفواحة في الأرض الجدباء. . . لقد ضمت(412/26)
عالمين متباعدين فألفت بينهما، فإذا الخضرة الزاهية تتموج على حفافي الصحراء الصامتة؛ وإذا الزهر الندِي يقبل الرمل الحالم، وإذا دنيا الحضارة والترف تتآخى مع دنيا الجلال والخشونة، في عالم رائع أخاذ.
- 6 -
كان كل شيء في (عين شمس) يسلمني إلى سلسلة بعيدة من مفاتن الجمال. . . لقد أحسست النشوة في كل نظرة، ووجدت الهدوء في كل مشهد، وأحببت الصحراء فوق ما كنت أحبها، وفنيت في أجوائها المتسعة، وفي فضائها الرهيب. . . ولم ألق الخشوع بمثل ما لقيته في فناء مسجدها الجامع. . . لقد صليت على الرمل الممتد. . . فإذا أنا أحلق في عوالم مُثلى وسموات عليا، وإذا أنا أنسى كل شيء وأغيب عن كل شيء، وأن هدفي كل ما حولي، وإذا أنا أنشد الحقيقة الحقة، والخير المحض، والجمال المطلق. . . وأتلمس إلى ذلك الهداية والنور، وأحس اليقين والاطمئنان؛ وأجد من اللذاذات ما لم أجده من قبل في مكان.
- 7 -
حين جلست في المساء أنتظر أن ينشق هذا الهدوء الضافي عن القطار الصاخب، كان كل ما حولي يرتل نغمة السكون على هدهدة الليل الهابط. . . لقد انتشرت على صفحة السماء قطع متناثرة من الغيم الوردي الزاهي، واستعارت الدنيا لحظات هذا اللون الجميل، فصبغت به كل ما حولها. . . ثم لم يلبث أن اضطرب واهتز كما يهتز الطير الذبيح. . . لقد طمس عليه الليل، فغابت آخر شعاعاته من الأفق حين كان عامل المحطة يبعث أول ألسنة النار الحمراء في كومة من الخشب المشتعل.
. . . لشد ما تمنيت أن أكون في (عين شمس) هذا العاملَ السعيد. . .!
(القاهرة)
شكري فيصل(412/27)
من تسابيح القلق
نشيد المغرب الباكي. . .
(إلى فاتنتي بسحرها الشقي)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إذَا مَا الَّليلُ نَادَاكِ
وَغنَّى حَوْلَ دُنْيَاكِ
نَشِيدَ الْمَغرِبِ الْبَاكِي ... فَهُبِّي وَانْشُرِي فَجْرَا
عَلَى أَحْلامِهِ الْحَيرَى
لَعَلَّ جِرَاحها تَبْرَا. . .
وَكُوني في الدُّجى شِعْرَا
يَهُز الْغَيْبَ إِنْشَادَا ... وَيُسْعِدُ عُمْرِيَ الشَّاكي
أَنَا اللَّيْلُ الّذِي نَادَى ... وَمَا عَنَّيْتُ إِلاَّكِ!!
وَإنْ طَاَرتْ لَكِ الرِّيحُ
يُرَتِّلُ فَوْقَهَا رُوحُ
غَرِيبُ اللَّحْنِ مَجْرُوحُ ... رَآكِ فَقَالَ: لَبَّيكِ
هَبِيِنيَ سِحْرَ عَيْنَيْكِ
لأُلْقِيَ بَيْنَ كفَّيكِ
صَلاةَ الْعِطْرِ لِلأَيكِ. . .
فَزُفِّي الْحُبَّ أَنْوَارَا ... وَأنْغاماً لِمُضْنَاكِ
أنَا الرَّوحُ الذّي طَارَا ... لِيُبْعَثَ حِين يَلْقاكِ
أنَا اللَّيْلُ، أَنَا الرِّيحُ!
أنَا اللَّحْنُ، أنا الرُّوحُ!
فَهَاتي خَمرَ نَجْوَاكِ
محمود حسن إسماعيل(412/28)
رد على مقال:
الرحلات العربية
للأستاذ محمد محمود رضوان
قرأت المقال الممتع الذي كتبه الأستاذ الشاعر محمد عبد الغني حسن بالعدد 410 من الرسالة وأتى فيه على تاريخ الرحلات العربية. ولعل الأستاذ يفسح لنا صدره فنأخذ عليه بعض مآخذ لا تغض من مقاله القيم.
حاول الأستاذ أن يستقصي في مقاله جميع أنواع الرحلات التي نعرفها للعرب فوُفق حيث ذكر الرحلات الاضطرارية كرحلة القحطانيين، والتجارية كرحلة الشتاء والصيف لقريش، والدينية كهجرة المسلمين إلى الحبشة والى المدينة، والسياسية كرحلات المسلمين إلى المدن المفتوحة، ورحلات الاستجداء كرحلة جرير وأبي نواس، وأخيراً (الرحلات لذاتها ولم تبدأ إلا في القرن الرابع الهجري) كرحلة المسعودي والبيروني والقدسي وابن جبير والمغربي وياقوت الخ.
وعجبي للأستاذ محمد عبد الغني أن ينسى ضرباً من الرحلات هو في نظري أهم ضروبها، وأجدرها بالدراسة لأنه أجملها أثراً وأجلها خطراً في العلم والأدب، وأعني به (الرحلة في طلب العلم).
وأعجب من هذا أن ينسى الأستاذ الكاتب نفسه وهو قد رحل في طلب العلم. وليته قرأ ابن خلدون يقول: (إن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم).
ولقد عرف العرب لرحلات العلم قيمتها فكانوا ينتقلون في مشارق الأرض ومغاربها للقاء الشيوخ، ويرحلون إلى البادية لتَضْرَى مقاولهم بالفصاحة، ويتحملون في سبيل العلم من بعد الشقة وقلة الزاد ووحشة الطريق ورهق السفر ما الله به عليم.
ذكر ابن خلكان أن الخطيب أبا زكريا التبريزي شارح ديوان الحماسة، والقصائد العشر (421 - 502) وقعتْ له نسخةٌ من كتاب التهذيب للأزهري في عدة مجلدات يُعوزُ بعض مسائلها شيء من التحرير، فسأل عمن يقوم بذلك فدلوه على أبي العلاء. . . فماذا يصنع الرجل والشقة بعيدة وهو فقير لا يملك أجرة دابة تحمله؟ لقد وضع الكتاب في حقيبةٍ وحملها على ظهره وسافر من تبريز إلى المعرة مشياً على قدميه حتى بلغها وقد قطع نحو(412/30)
سبعمائة ميل ثم أخرج الكتاب فوجد العرق قد نفذ إليه فأفسد منه ما أفسد.
والأندلس العربية، لقد كانت كعبة القاصدين من أهل المشرق كما كان نجمة الرائدين من أهلها طالبين للعلم، والعلامة المقري صاحب كتاب (نفح الطيب) يسهب في كتابه إسهاباً، ويُطنب إطناباً، حين يتعرض لذكر الذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق يطلبون العلم وينافسون فيه المشارقة.
وكتب التراجم كوفيات الأعيان ومعجم الأدباء وطبقات الأطباء وتاريخ الحكماء تؤرخ لألوف من العرب رحلوا يطلبون العلم (ولو في الصين)، لا يعوقَّهم الإملاق عن شهود محافِلِه، ولا تحلِّئهم المشاق عن ورود مناهله.
ولقد كتبتُ فصلاً مسهباً عن (رحلات العرب في طلب العلم) من فصول كتاب أشتغلُ جاداً بوضعه عن (المسلمون والتربية) عسى أن يكون الفراغ منه قريباً.
وللأستاذ شرف الدين خطاب المفتش بوزارة المعارف فصل موجز في هذا الموضوع في كتابه (التربية في العصور الوسطى) الذي يدرس في دار العلوم، فراجعه إن شئت.
نعود لناحية أخرى نعتقد أن الأستاذ عبد الغني تجنى فيها على شعراء العربية، وذلك حيث قال عنهم: (ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة)، وحيث قال: (وإذا كانت هذه الرحلات الفردية وكثير غيرها قد أضافت بعض الثروة إلى الأدب إلا أنها لم تكن منتجة بالنسبة للرحلات والاسفار، فهي عقيمٌ كل العقم من هذه الناحية).
فلقد عرفنا لكثير من شعراء العربية الرحالين شعراً رائعاً يصفون فيه رحلاتهم ليس هذا موضع الإفاضة فيه، ولكني أمثل بالبحتري وقصيدته في وصف إيوان كسرى التي ضمنها وصف رحلته ومشاهداته، وأمثِّل بأبي الطيب المتنبي الذي تقلب ما بين دمشق وحلب ولبنان وفارس ومصر وشهد غزوات سيف الدولة فضمَّن شعره الكثير مما شاهده، فوصف بحيرة طبرية وشعب بوان وحِمص وتُفاح لبنان، ووصف نساء الروم في وقعة نهر (أَرْسَناس)، وليس في إغفاله وصف آثار مصر ونيلها دليل على قصوره أو تقصيره فإن لذلك أسباباً لا نتعرض لها في هذه العُجلة، بل لقد كان لرحلته إلى مصر آثار كثيرة في شعره. . . أقلها أنه هجا المصريين.
وابن هانئ الذي قال عنه الأستاذ (يخرج من الأندلس إلى شمال أفريقية فيمدح الخليفة(412/31)