الأسلوب
للدكتور طه أسلوبان، أسلوب حين يُملي، وأسلوب حين ينظم؛ أما أسلوبه حين يُملي فلا يخلو من ركاكة واضطراب لأنه رهين بما في الإملاء من سرعة وإبطاء، كالذي يكتب لمجلة الثقافة من أسبوع إلى أسبوع.
أما أسلوبه حين ينظم - وله أبحاث ينظمها نظماً - فهو آية في السلاسة والعُذوبة والصفاء، ومن هذا الفن أسلوبه في كتاب الأيام، وهو بهذا الأسلوب من أقدر الناس على التصوير والتلوين، وله ألفاظ وتعابير هي العَجب العُجاب.
أما بعد فهذا طه حسين، كما صور نفسه، وكما صوره قلمي، فإن كان أساء إلى نفسه بعض الإساءة فقد أحسنت إليه كل الإحسان، بلا منّ عليه، لأنه من كتَّابنا ومفكرينا، ولأنه عانى من الصراحة بعض ما أعاني.
والمهم هو أن ينظر الطلبة إلى كتابه كما نظرت إليه، فما كان كتاب الأيام ألفاظاً ضُمَّ بعضها إلى بعض، وإنما هو جروح أضيفت إلى جروح، هو دماء تفجر بها قلبٌ حزين، هو لوعةٌ دامية لرجل طال شقاؤه بالوجود، منذ اليوم الأول لشهوده الوجود.
لقد أبكاني طه حسين وهو يقص بعض مآسي طفولته وصباه، أبكاني وأنا خَصمٌ لدود، فكيف يصنع إذا نفض هموم صدره إلى رجل يحمل بين جنبيه قلب الصديق الشفيق.
زكي مبارك(389/13)
مختار الصحاح
وقيمة العناية به
للأستاذ حسن السندوبي
يحلو لمشيخة في وزارة المعارف، بلغوا فيها بمضي الزمن المراتب ذات الألقاب الملحوظة، أن يشيروا على الوزارة بطبع بعض كتب المتقدمين ليضعوا عليها أسمائهم بعد أن ينظروا فيها ويقوموا أودها ويصححوا أغاليطها، وأن يكون من ذوي الشأن في الوزارة المبادرة إلى إجابة طلبهم مع منحهم الأجر الحسن، وإخراج تلك الكتب في معرض من الطبع الجميل.
وقد قام بعضهم بمراجعة طائفة من هاتيك الكتب وتصحيحها ونالوا أمنيتهم في وضع أسمائهم عليها بعد أن استولوا على المكافأة المرضية والثناء الحسن. غير أن الكثير من هذه الكتب قد صدر دون أن يكون حظها بالقائمين عليها مقارناً للتوفيق، ودون أن يكون القائمون عليها قد أدوا الأمانة العلمية، فلم يحسبوا أن إبلاغ الإخلاف تراث الأسلاف خالياً من الشوائب بريئاً من المعايب، من أفضل الخلائق الكريمة.
وحسب القارئ أن يعلم أن من هذه الكتب كتاب (مختار الصحاح) فقد أصدرته وزارة المعارف بعناية بعض رجالها فجاء عيبة الأغاليط وجعبة الأباطيل. لم يعن فيه العناية الكافية في قيد الكثير من كلماته حتى تصحف منها ما تصحف، وتحرف من عباراته ما تحرف. وإذا علمت أنه كتاب لا يستغني عنه طالب، وكثيراً ما يفتقر إليه الدارس، علمت أي جناية تجنى على اللغة العربية تحت سمع وزارة المعارف وبصرها. وما ظنك بكتاب هو عدة المعلم وعمدة المتعلم في تحرير الكلمات، وضبط الألفاظ اللغوية، يخرج إلى الناس في هذا التشويه والإهمال! ولا يكون همّ القائمين عليه إلا الإسراع في عرضه بالطبع لينساب المال إلى جيوبهم دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة المراجعة والمعارضة، أو يتمثلوا بشيء من مثل التقوى في العمل والإخلاص في حسن القصد!
تفضل صديقي العلامة الأستاذ أحمد العوامري بك بإهدائي نسخة من هذا الكتاب في طبعته الرابعة لسنة 1938، وقد كتب عليها بالطبع أنه عنى بتصحيحها وتنقيحها وإكمال ضبطها وتعليق بعض حواشيها سنة 1916، أي منذ أربع وعشرين سنة، وهو إذ ذاك في سن القوة(389/14)
وعهد الفتوة. والظاهر أنه لم يراجع طبعات الكتاب منذ ذلك التاريخ، ولذلك شاع فيه التحريف، وعمه التصحيف. وأعجب من هذا ما علمته من أن وزارة المعارف، لكي تيسر إعادة طبعه المرة بعد المرة، قد كلفت بعض الصناع بحفر صفحاته في رواشم (كليشيهات) زنك!!
وقبل عرض أمثلة من أغاليط هذه الطبعة من الكتاب، يحسن أن أعرض كلمة ألخص فيها التعريف بمؤلفه عن كتاب لي أضعه الآن في تاريخ المعجمات العربية ومؤلفيها، وهذه الترجمة لا أعلم أنها نشرت بمصر إلى الآن:
قال صدر الدين القونوي المتوفى سنة 673 هـ - 1874م: الشيخ العالم العامل الفاضل سيد العلماء، قدوة الفضلاء، محيي السنة، ناصر الشرعية، زين الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي بكر بن عبد القادر الرازي. جاء إلى مصر وأقام بها زمناً، وجال في ربوعها وأخذ عن بعض مشايخها، وأخذ عنه بعض طلبتها. وذكر المقريزي أنه وصف بركة الحبش التي بالقاهرة بهذين البيتين من الشعر:
إذا زين الحسناء قرط فهذه ... يزينها من كل ناحية قرط
ترقرق فيها أدمع الطل غدوة ... فقلت لآل قد تضمنها قرط
وهو من شعر العلماء الذي لا يعرج عليه الأدباء. ومن الغريب أن السيوطي لم يذكره فيمن وفد على مصر من العلماء أو من الأدباء أو من الحنفية. ثم ذهب إلى الشام وطوف في أنحائها، ومنها دخل بلاد الأناضول وأقام في قونية وبها صحب الشيخ العالم المحقق صدر الدين القونوي وعليه سمع كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري الموصلي إلى سنة 666 والظاهر أنه توفي أواخر القرن السابع.
وقد ترك من المؤلفات: شرح مقامات الحريري، والذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز، وتحفة الملوك والسلاطين في الفروع، وحدائق الحقائق في الأخلاق والمواعظ، وأنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، والأبيات التي يتمثل بها في الأدب، وروضة الفصاحة في علم البيان، وضعه باسم السلطان المؤيد المنصور نجم الدين أبي الفتح غازي بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين المتولي سنة 691 والمتوفى 712. ومختار الصحاح الذي نحن بصدد من شأنه، اختصر فيه صحاح الجوهري ووضعه على(389/15)
ترتيبه وضم إليه الكثير من الفوائد أخذها عن التهذيب للأزهري، وديوان الأدب للفارابي، والمجمل لابن فارس، والمصادر للبيهقي، والمفصل للزمخشري، والفصيح لثعلب، والمغرب للمطرزي، والغريب لأبي عبيد، والغربيين وشرحهما للهروي وقد كتب بخطه في نسخته من المختار، بعد استشهاده بهذا البيت:
ألا يا أسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
يقول: تم الكتاب المسمى مختار الصحاح بعون الله وحسن توفيقه على يد مؤلفه وكاتبه بيده محمد بن أبي بكر الرازي عفا الله عنه وغفر له ولجميع المسلمين، ووافق فراغه عشية يوم الخميس غرة شهر رمضان المبارك ليلة الجمعة الغراء سنة 660 الخ.
هذا، وفي المقال التالي نعرض إن شاء الله لذكر أمثلة من الأغاليط التي أشرنا إليها فيما سبق.
حسن السندوبي(389/16)
كتاب تحرير المرأة
للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم
من بين ما قررته وزارة المعارف على طلبة السنة التوجيهية المتسابقين في امتحان اللغة العربية في خلال يناير المقبل كتاب (تحرير المرأة) للمرحوم قاسم بك أمين. وقد يكون من الخير أن نبين - في إيجاز - بعضاً من المناحي والأغراض التي عنى المؤلف بعرضها في كتابه، لعلّ في هذا توجيهاً للطلاب، واستحثاثاً لهم على الاستزادة والاستفادة.
(أ) شخصية المؤلف
ولد المرحوم قاسم بك أمين في أسرة مصرية تنسب إلى أصل كردي، وتربى منذ نشأته تربية أمثاله، ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وعاد في سنة 1885 ميلادية. وظل منذ ذلك الحين إلى أن عاجلته المنية في سنة 1908 قاضياً ممتازاً، ثم مستشاراً بارعاً بمحكمة الاستئناف.
وكان من خلقه: الصراحة، وحب العدالة، وحرية الرأي. ولم يكن من القضاة الذين قال عنهم (أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل) بل كان يحب الحق لأنه حقُّ وفضيلة، ويمقت الظلم لأنه ظلم ورذيلة.
ولم يكن يتقيد في قضائه بآراء الفقهاء، وأحكام المحاكم، بل لم يتقيد بنص القانون إذا لم يصادف هذا النص مكان الاقتناع منه.
وكان مولعاً بالبحث والتنقيب عن كثير من شؤون الإصلاح والاجتماع؛ فدعا إلى تحرير المرأة من رق الجهل، ورق الحجاب. وكانت هذه الدعوة من الأمور الشاقة الشائكة لأنها خالفت العرف المألوف، والتقاليد الموروثة، وأدت إلى ثورة فكرية انقسمت بها الأمة قسمين: معه وعليه. وقد أوضحها في هذا الكتاب، ودعمها بالحجج والبراهين.
(ب) تصوير فكرته التي أودعها كتابه
حمل المؤلف - رحمه الله - حملة صادقة على الرجعيين الذين رضوا للمرأة أن تعيش في الإسار كما يعيش الذليل المستعبد، وأن تحبس في الدار كما يحبس الطائر المعذب، وأن تقضي أيامها في هذا الوجود كما يقضي السجين أيامه في غياهب السجون؛ فاستنّوا لها أن(389/17)
يتصرف في شؤونها الخاصة والعامة قيّمٌ قهار يملك عليها إرادتها، ويقبض على ناصيتها، ويسيطر على عملها وحريتها؛ فلا تتحرك في ظلامها الحالك إلا بعلمه، ولا تتصرف في حياتها الضيقة الأفق إلا بمشيئته.
توهم هؤلاء القدامى أنها قليلة العقل، ضعيفة الإرادة؛ ومن ثم لا بد أن تحاط بسياج منيع يحول بينها وبين مشتهياتها، وإلا اندفعت إلى الشر وارتكبت ما يجلب لها الإثم والعار؛ فعطلوا فيها حرية الفكر والرأي، وحجبوها عن الوجود بحجاب كثيف لا تستشف ما وراءه من نور وضياء، وأقاموا بينها وبين حقوقها سداً لا تستطيع أن تظهره، ولا تستطيع له نقباً.
ظن هؤلاء أنها لا تصلح إلا للمعيشة في داخل منزلها فعزلوها عن البيئة الخارجية كما يعزل المريض عن الأصحاء، وفصلوها عن المجتمع كما يفصل العضو من الكائن الحي، وأخمدوا جذوتها، وأطفئوا شعلتها، حتى صارت لا حول لها ولا طول، ولا قوة لها ولا ناصر. فبقيت رهينة المحبسين، وثالثة الأذلَّين أمداً طويلا.
وتحكم بداهة العقل أن في هذا التصرف جَوراً عن الاعتدال وإسرافاً في العسف والإذلال، وأن فيه كَبْتاً لغرائز المرأة وميولها وطبيعتها وسائر قواها، وأن نتائج هذا الكبت ضارَّة بها إلى حد كبير.
ومن أجل ذلك نادى المصلحون في عصور مختلفة بوجوب إعطائها حريتها المشروعة، وهي الحرية الصحيحة المقيدة بالنظم الدينية والقوانين الخلقية، ومن بينهم المرحوم قاسم بك أمين زعيم القائلين بإصلاح المرأة في مختتم القرن التاسع عشر ومفتتح القرن العشرين؛ إذ نادى بوجوب إنهاضها والأخذ بناصرها لتستمتع بما لها من الحقوق الطبعية والأدبية والدينية والاجتماعية ولتؤدي رسالتها التي خلقت من أجلها.
وإنه لم يجهر بهذه الفكرة إلا بعد أن محصها وقلبها على مختلف وجوهها، حتى اقتنع بصحتها، واستوثق من صدقها، وحلت منه محل العقيدة والإيمان، ثم أبرزها في كتابه (تحرير المرأة) وهذا ما عبر عنه في مقدمة هذا الكتاب حين قال: (هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت من كل ما كان يختلط بها من الخطأ، استولت على مكان عظيم من موضع الفكر مني، وزاحمت غيرها، وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها،(389/18)
وتذكرني بالحاجة إليها. فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر).
(ج) موضوعات الكتاب
اشتمل كتاب تحرير المرأة على مقدمة تمهيدية تصف حال المرأة في الأيام القديمة، وتصوِّر اضطهادها وإذلالها واستحواذ الرجل عليها بقوته وجبروته، ومعاملته لها معاملة فيها قسوة وامتهان وبطش: بسجنها في المنزل، وعدم الثقة بها، والحيلولة بينها وبين الحياة، وتعطيل حقوقها وما وهبها الله من قوى التفكير والإرادة والشعور. وجاء الإسلام فسوّى بين الرجل والمرأة في الحقوق، وهذه الأحكام مقتبسة من تاريخ الأمم، والتاريخ أكبر شاهد عليها.
وعالج الباب الأول من الكتاب موضوع تربية المرأة وأثر هذه التربية في تثقيف عقلها، وتهذيب خلقها، وتنشئتها تنشئة صالحة، وإعدادها إعداداً تاماً للحياة الكاملة، حتى تنهض بنجاح وجدارة في الحياة العملية؛ فتدبّر أمرها وأمر منزلها، وأولادها، وتقوم بوظيفتها في المجتمع قياماً حسناً، وتطرح الخرافات والأباطيل، وتتمسك بالعقائد الدينية والآداب الاجتماعية وتتمتع بما في الكون من علوم ومعارف وآثار.
وقد حرمت فيما مضى - من التربية الصحيحة - فضعفت قواها الجسمية والعقلية والخلقية، وصارت مصدر شقاء لنفسها وبعلها وذريتها وأسرتها. لأن التربية الحقة تحيي في نفوس النساء معاني الشرف والكرامة والعفة، وتصونهن عن الفساد.
وأفاض الباب الثاني في شرح حجاب النساء واعتباره أصلاً من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها متى كان منطبقاً على ما جاء في الشريعة الإسلامية. وقد أنحى فيه المؤلف باللائمة على الغربيين لغلوهم في إباحة السفور والتكشف، وعلى الشرقيين لمغالاتهم في التحجب، وأبان أن الفضيلة وسط بين هذين الطرفين، ولا تتحقق إلا بالحجاب الشرعي. واستدل على ما يقول بما ورد في الشرع الشريف، وناقش موضوع الحجاب والسفور نقاشاً دل على درجة تمكنه من هذه المسألة الاجتماعية الخطيرة.
واختتم كلامه في هذا الباب بوجوب التدرج في السفور وإلا حدث انقلاب فجائي ينجم عنه ضرر جسيم، ويؤدي إلى عكس المقصود.(389/19)
والباب الثالث من الكتاب يبين علاقة المرأة بالأمة، فهي النواة للأسرة، إن صلحت صلحت الأسرة، وإن فسدت هي فسدت الأسرة تبعاً لها، فهي المحور والمرتكز. ومن ثم كانت تربيتها أوجب من تربية الرجل. ومعلوم أن الأسرة هي الأمة مصغرة، ومن مجموع الأسر تتكون الأمة. فالمرأة المتمدينة تخدم بلادها أجل خدمة بما تؤديه من أعمال جليلة في مواقف عدة.
ولما كان ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل شتى من أهمها ارتقاء المرأة، وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة من أهمها انحطاط المرأة، لزم العمل على إنهاض المرأة بتهذيبها وتطهيرها وتجميلها بالتربية الكاملة؛ فهي الدعامة لبناء مجتمعها، إن قويت قوي المجتمع، وإن ضعفت ضعف المجتمع وساء مصيره.
والباب الرابع خاص بنظام الأسرة وما يمس حياة العائلة من حقوق وواجبات وأحكام وعادات مما يتصل بمسائل الزواج، وتعدد الزوجات والطلاق. واستند المؤلف في هذا على ما ورد بكتب الفقه والمعاملات، والشرائع والاجتماع.
وقد أساء الناس فهم ما قصد إليه المرحوم قاسم بك أمين فظنوا أنه يدعو إلى الإباحة والمنكر؛ وهو إنما دعا إلى الخير والإصلاح بما يتمشى مع الشرائع ولا يتنافى مع روح الدين.
(د) الأسلوب
في أسلوب هذا الكتاب سهولة واسترسال. فلم يكن المؤلف متأنقاً في اختيار الألفاظ، ولا متحذلقاً في صوغ العبارات، ولم يعمد إلى زخرفة كتابته، ولم يولع بالصنعة التي أغرم بها معاصروه من الكتاب ومن كانوا قبله.
فجاءت كتابته خالية من التكلف والسجع. ولو أن قارئاً اطلع على كتاب (تحرير المرأة) ولم يكن يعرف أنه لقاسم أمين لعدّه من المؤلفات الحديثة في الوقت الحاضر؛ لأن أسلوبه يقارب الأسلوب الذي يتوخاه الأدباء والصحفيون في هذه الأيام من حيث السهولة والسلاسة.
أما المعاني والأفكار والبحوث فهي مرتبة ترتيباً منطقياً سليماً لأنه كان يأتي بالقضايا والأحكام بعد أن يمهد لها بمقدمات موصلة إليها، ثم يدلل عليها بأدلة عقلية ونقلية، ويعززها(389/20)
بشواهد كثيرة يسوقها من التاريخ ومن الواقع، ليمنع عنها كل لبس، وينفي كل شبهة، ويسد على المعارضين طريقهم بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة. ولم تسلم ألفاظه وتراكيبه من أخطاء لغوية وصرفية؛ ولم تخل تعابيره من التواء في بنائها. والسبب في هذا النقص يرجع إلى أمور من بينها أن اهتمامه كان متجهاً إلى ناحية الفكرة الإصلاحية التي يرمي إليها أكثر من اتجاهه إلى الناحية اللغوية، وأنه لم يكن متضلعاً من فقه اللغة ولا من الدراسة الأدبية العربية في الكتب القديمة التي هي المنبع الفياض للأساليب القوية الجزلة السليمة؛ ونذكر على سبيل الاستشهاد بعضاً من هذه الأخطاء: فقد أكثر من استعمال كلمة (العائلة) وصوابها (الأسرة)، وجمع كلمة (الأهل) على (الأهالي) وصوابها (الأهلون)، وعدي الفعل (أعطى) باللام وهو يتعدى إلى المفعولين إذ قال: (وكثير من الرجال قد أعطوا لنسائهم مقاماً في الحياة العائلية)، كما عدى الفعل (أمكن) باللام إذ قال: (أمكن للأمة أن تنتفع بجميع أفرادها)، وجمع (عادة) على (عوائد) والصواب (عادات).
ومن أمثلة الالتواء في التعبير قوله: (وأذكر ملاحظة واحدة تؤيد ما قدمته - وهو أن نساء الإفرنج على العموم مهما كان حالهن في الباطن يحافظن على الظواهر فيعيش الواحد بين رجل وامرأة يحب بعضهما بعضاً أياماً وأشهراً ولا يكاد تقع منهما هفوة تظهر ما كان خافياً بينهما الخ) إلى غير ذلك من الهفوات اليسيرة التي لا تخفى على الأديب.
ومهما يكن من شيء فالكتاب له قيمته الاجتماعية، ويعتبر أثراً من الآثار الخالدة.
محمد أبو بكر إبراهيم
المفتش بوزارة المعارف(389/21)
من الأدب الإنجليزي
إذا. . .
للشاعر الإنجليزي كبلنج
إذا كان في إمكانك أن تحتفظ بوقارك في مجتمع فقده ثم عابه عليك، وكان في إمكانك أن تثق بنفسك حينما يشك فيك، بعد أن تفهم رأيهم ووجهتهم التي يعيبونك فيها
إذا كان في إمكانك أن تصبر دون أن تمل من الصبر، وتصدق ولو كذب عليك، وتمتنع عن الحقد ولو حُقد عليك، دون أن تفتخر بحكمتك وحسن شمائلك
إذا كان في إمكانك أن تتصرف في أحلامك دون أن تمكنها من نفسك، وأن تفكر دون أن تجعل التفكير هدفاً لك
إذا كان في إمكانك أن تثبت عند الهزيمة كما تثبت عند النصر
إذا كان في إمكانك أن تكبح جماح نفسك فتصبر على أولئك الأوغاد الذين ينقلون كلامك بغير ما أمانة فيحرفونه ويبدلون فيه لغاية يقصدون بها نصب الشراك لأمثالهم الحمقى المجانين
إذا كان في إمكانك أن تصبر على نوائب الدهر فتحاول اليوم بناء ما تهدم معك بالأمس؛
إذا كان في إمكانك أن تجازف بكل مالك في مشروع نافع دون أن تظهر يأساً أو تذمراً إذا كانت عاقبتك الخسران؛
إذا كان في إمكانك أن تسخر قواك لخدمتك في زمن شيخوختك، وتثبت في وقت لم يبق لك فيه إلا إرادتك التي هي مصدر قوتك
إذا كان في إمكانك أن تخالط من هم أقل منك قدراً دون أن تخسر شيئاً من قدرك ومقامك، وأن تماشي الملوك دون أن تفقد شيئاً من تواضعك ولين جانبك
إذا كان في إمكانك أن تتجنب شر أعدائك وأصدقائك ثم تضع ثقتك في الجميع دون أن تسرف فيها مع أحد
وإذا كان في إمكانك أن تملأ فراغ دقيقة يملأك فيها الحقد على أحد بركض مسافة لا بأس بها، لك الدنيا وما فيها، وفوق هذا فستصبح رجلاً بكل معنى الكلمة يا بني. . .
(حيفا. فلسطين)(389/22)
عبد الواحد الخطيب
المدرس بالمدرسة الإسلامية(389/23)
من وَراء المِنظَارُ
بين (دغف) وصعلوك ومغفل. . .!
أبداً يظل الترام لمنظاري موضع فرجة لا تنعد، وذلك أنه من ناحية، ملتقى ضيق يحشر فيه كل ساعة أنماط من الناس في هذا المضطرب الواسع الذي ندعوه المجتمع، ثم هو من ناحية أخرى المركب الوحيد الذي أتخذه في ذهابي إلى مقر عملي وفي أوبتي من هناك، فما كان لي وقد ضممت الفخر من أطرافه كما يقول مهيار وجمعت بين الحسنيين: وظيفة التدريس وحرفة الأدب، أن يكون لي سيارة، وبحسبي أن أركب كل شهر أو شهرين مع صديق في سيارته أو أن أزحم الناس لأتخذ لي موضعاً بشق النفس في سيارة عامة هي والترام شيء واحد!
كان الترام الجاهد بما يحمل من الخلق يجري جري من تقطعت أنفاسه ذات صباح، وكان بيني وبين موعد الدرس الأول دقائق معدودات، وكنت لا أفتأ أنظر إلى ساعتي وإني لضائق بسرعة عقربها بقدر ما أنا ضائق ببطء الترام أخشى أن أتأخر فلا أدري بماذا أعتذر لتلاميذي ولا كيف أخفي عنهم خجلي. دع عنك (البك الناظر) ونظراته على رأس السلم وغيظه المكظوم الذي لا آمن أن يظل مكظوماً. . .
وظللت أدعو الله ألا تفسد الزمارة أو تخرج (السنجة) عن خيوط الكهرباء، أو تتدلى عجوز لتنزل فتزل قدمها، أو يمر رتل من سيارات الجيش فيقف المرور، أو يدفع القدر أحد الناس إلى حيث يلتهمه الترام. وقضيت لحظة أليمة على هذه الحال أسأل الله وأستعجل الكمساري وأرهف أذني إلى زمارته وأتلفت نحوه كلما أبطأ في النفخ فيها.
وأبطأ الكمساري، والتفتت فإذا شاب (أفندي) يقف على سلم المركبة والكمساري يرجوه ويتوسل إليه أن ينزل، فلا يجود عليه ولو بنظرة؛ ويغلظ له الكمساري شيئاً فشيئاً، ولكنه يظل ثبت الجنان منتصب القامة مرفوع الهامة؛ وأنظر وقد كاد يخنقني الغيظ، وينظر الراكبون جميعاً نحو ذلك الأفندي عسى أن يستحي، فلا يشاء أن يرد أو يلتفت إلى أحد، ويعود الكمساري فيلين ويستعطف مبتسماً ابتسامة فيها معنى ذلك الصفاء الذي يسبق العاصفة ويذِّكر الأفندي بأن منع الوقوف على السلم قد بات أمراً معلوماً لكل الناس، ولا حيلة له في ذلك فهي مشيئة المصلحة والحكومة وعليه وحده الغرم إن تهاون. . . ثم إنه(389/24)
ييأس أخيراً فيقابل العناد بالعناد، ويقسم أن لن يسير الترام إلا إذا نزل ذلك الأفندي (المتشعبط). . . كل ذلك وصاحبنا لا يزداد إلا إصراراً واستكباراً!. . .
ويضج الراكبون، ويتقدم أحدهم بالرجاء في رفق إلى ذلك الظريف المتعلق بالترام فيرد عليه بقوله: (موش شغلك يا أفندي) وتجري على الألسن عبارات الاستنكار والتقريع والتوبيخ. . . وهو برغم ذلك مصر كأنه يجاهد في قضية من قضايا الأوطان فلا يعرف فيها معنى الهوان أو الخذلان!
ويأتي صعلوك حافي القدمين، حاسر الرأس، في يده عود ضخم من قصب السكر، كأنه مدفع لمطاردة طائرات العدو، وفي جلبابه آثار تمزيق، كأنه قادم لساعته من معركة، ويتعلق هو أيضاً بالترام، فلا يتمالك الناس أنفسهم أن يضحكوا، على الرغم ما كانوا يعانون من ضيق وغيظ!
ويحار الكمساري بين الصعلوك والأفندي، فقد أعلن أولهما أنه لن ينزل حتى ينزل الأفندي، وهو لا يدري أنه بذلك قد علق الأمر على المستحيل وأصبحت المصيبة مصيبتين؛ وراح يتساءل ذلك الصعلوك في حدة: لم يطلب إليه وحده النزول؟ أذلك لأنه (غلبان)؟ ويصرخ الكمساري في وجه الأفندي ضجراً، فيرد عليه أخيراً بقوله (أما مغفل صحيح) ويوقن الكمساري أن الحرب واقعة لا محالة فيرد عليه بقوله (إذا كنت أنا مغفل تبقى حضرتك دغف). . . ويكتفي الصعلوك بذلك فينزل معتذراً وقد كان كفيلاً أن يحطم رأس الكمساري بذلك (المترليوز) في يده لو دعت الحال إلى ذلك.
وينفد صبر المغفل فيجذب (الدغف) من كتفيه ويطول النزال ويعظم هول القتال ويتزاحم المتفرجون من السابلة ويتعطل الطريق ويضيع نصف الدرس وتنجلي المعركة أخيراً عن هزيمة (الدغف). . . ويمضي الترام وأنا أسأل نفسي أيهما المغفل حقاً وأيهما (الدغف) حقاً وأيهما الاثنان معا؟ ولكنى لا أحتاج إلى طويل فكر لأقول إن المغفل لم يفعل ما يستحق من أجله أن ينعت بهذا اللقب، وإن نعته به من جانب ذلك الأفندي المهذب لهو الغفلة بعينها؛ ثم أسأل نفسي كذلك أي الرجلين كان أفضل وأكبر في أعين الناس الصعلوك أم الأفندي؟ وأيهما إذا هو الصعلوك حقاً؟
أولى بنا والله أن نتساءل متى نتعلم النظام قبل أن نتساءل متى نظفر (بالاستقلال التام).(389/25)
الخفيف(389/26)
وزارة المعارف العمومية
عدوان لطيف
للأستاذ محمود محمد شاكر
حضرة المحترم ناظر مدرسة. . . الثانوية
قررت الوزارة (أي وزارة المعارف) كتاب المكافأة لأحمد بن
يوسف للسنة التوجيهية في العام الدراسي الحالي 4041،
والوزارة تطبع هذا الكتاب الآن بالمطبعة الأميرية، بعد أن
عهدت في تهذيبه وتصحيحه وشرحه إلى حضرتي الأستاذين
أحمد أمين عميد كلية الآداب، وعلي الجارم بك وكيل دار
العلوم.
(وقد ظهرت أخيراً لهذا الكتاب طبعة أخرى قامت بنشرها المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وهي طبعة فيها فحش وتحريف ونقص في الشرح والتعريف بأعلام الرجال، وغير ذلك من العيوب).
فنلفت نظر حضرتكم إلى أن الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها بالمدارس الأميرية والحرة هي طبعة الوزارة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
11111940
السكرتير العام
حسن فائق
وكان من قصة هذه النشرة الظريفة التي أذاعتها وزارة(389/27)
المعارف على المدارس الأميرية والحرة، أني نشرت كتاب
المكافأة لأحمد بن يوسف من المكتبة التجارية الكبرى في
14101940، بعد أن حققت أصله وراجعتُه على الأصول،
وشرحت ما يعرض للقارئ من غامضه، وكتبتُ لأحمد بن
يوسف ترجمة وافية جمعتها من بين سطور كتب التاريخ
والتراجم، إذ أن ترجمة أحمد بن يوسف لا تبلغ عشرة أسطر
في الكتاب الفرد الذي ترجم له، وهو معجم الأدباء لياقوت
الحموي.
وكان حقاً على وزارة المعارف، أو على الأصح، كان من الأدب المتبع أن تشكرني على الجهد الذي بذلته في تصحيح هذا الكتاب. ولكن الوزارة أبت أن تكافئ الجميل من العمل بالجميل من القول، وقذفت الكتاب وناشره وطابعه قذفاً جارحاً لا مسوغ له، وإذ كنت أعلم علم اليقين أن ليس بيني وبينها عداوة مستحدثة، أو حقد متوارث، فقد أذهلني اجتراء هذه الوزارة على الطعن في الكتاب طعن المنتقم المتضرم المغيظ الذي يفقده الغيظ سلطان الإرادة الحكيمة.
والقارئ يعلَم - ووزارة المعارف تعلَم أيضاً - أن القانون يقدعُها ويردها عن الطغيان كما يقدعني ويردني، وأن هذه الجملة التي وضعناها بين الأقواس في نشرة الوزارة، إن هي إلا حشو لا معنى له، وأن قد كان لوزارة المعارف مندوحة عنها، وأن الكلام يستقيم بإسقاطها، وأن أمرها لنظَّار مدارسها وأساتذتها وطلبتها واجب الاتباع. فإذا قالت الوزارة لهؤلاء إن الطبعة التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً!! هي الطبعة التي ينبغي استعمالها والاقتصار عليها، فهذا كفاية وفوق الكفاية في منع الأساتذة والطلاب!! من اعتماد طبعتي في الدراسة.(389/28)
ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن السنة الدراسية الحالية، قد انقضى من عمرها أكثر من الثلث ولم تصدر طبعة وزارة المعارف. أفيكون ثمة بأس على الأساتذة والطلبة أن يوفروا من الوقت المضاع أشهراً أخرى بالنظر في نسختي، حتى إذا ظهرت نسخة وزارة المعارف اتبعوها وألقوا نسختي ومضوا في دراستهم في كتاب الوزارة؟ إنه مهما يكن في نسختي من العيوب، فلا يمكن أن يكون الأصل الذي طبعتُه من الكتاب غير الأصل التي تطبع عنه وزارة المعارف، وما دام الأصل واحداً، والنصُّ واحداً، فليس على الأساتذة والطلبة بأس. فهل تستطيع الوزارة أن تدَّعي أن نص الكتاب الذي طبعتُه - مهما يكن فيه الخطأ والتحريف - غير النص الذي يطبعونه؟ وبالطبع نقول: لا، وكلا، وليس معقولاً!!
وإذن، فالجميل الذي أوليته وزارة المعارف، وإخواننا من الأساتذة والطلبة، جميل يوجب الشكر على من قدِّم له. هذا، وأنت تعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن الأساتذة والطلبة مكلفون بشراء كتاب الوزارة كما اشتروا كتابي. فأمرُها للأساتذة والطلبة بالاقتصار على طبعة الوزارة التي ستصدُر من المطبعة الأميرية قريباً!! إيجاب عليهم بشراء كتابها وطبعتها، فليس يضير الوزارة على ذلك شيء، ما دامت ستنتهي إلى النهاية الطبيعية وهي بيع كتابها ورواجه بين المكلفين بدراسته.
ونحن نعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن المفروض في أمر هذه الكتب، أن الوزارة لا تتجر بها للربح، فإذا فرض - وهذا مستحيل بعد أمر الوزارة للمدارس بالاقتصار على طبعتها التي ستصدر من المطبعة الأميرية قريباً!! - أن بقيت جميع نسخ الوزارة معطلة موقوفة لا تباع ولا تشترى ولا ترهن!! كالأوقاف والحبوس، لما كان في ذلك شيء، ما دام الغرض من طبع هذا الكتاب قد حقق للطلبة والأساتذة على ما قد يكون في طبعتي من العيوب.
وبعد الاقتصار على هذا، أظن وزارة المعارف قد استطاعت أن تفهم الآن مقدار ما أساءت به، مع صرف النظر عن المسؤولية الأدبية والقانونية التي وقعتْ في نشرتها التي أذاعتها على المدارس الأميرية والحرة.
وسأدع المسؤولية القانونية التي يكفلها القانون لي ولصاحب المكتبة التجارية الكبرى - إلى أن يحين حينها وتأخذ طريقها الذي تقتضيه، وأنصرف الآن إلى المسؤولية الأدبية التي(389/29)
أغمضت فيها هذه الوزارة بغير رفق ولا حكمة ولا حرص.
إن عمل وزارة المعارف ليس إلا الإشراف على التعليم، وكل أمر أو نهي يصدر منها يجب اتباعه على المدارس الأميرية والحرة ونظارها وأساتذتها وطلبتها، هذا ما نعلمه - وأظن وزارة المعارف تعلمه أيضاً -، وليس من عمل وزارة المعارف فيما نعلمه - وأظن هذه الوزارة تعلمه أيضاً - أن تكون حكما قاضياً على ما يصدر من الكتب غير مرسوم برسمها واسمها، وإن كانت هذه الكتب مما قررته الوزارة لمدارسها. وما دمتُ لم أُشر بحرفٍ واحدٍ في كتابي إلى أني قد نشرته لطلبة السنة التوجيهية بالمدارس الأميرية والحرة، فليس من حق وزارة المعارف أن تتعرض للحكم عليه أو الطعن فيه على الأصح.
ومع ذلك فأنا وأنت نعلم - ووزارة المعارف تعلم أيضاً - أن حكمها على الكتاب قد صدر، وأن هذا الحكم ليس نقداً ولا شبيهاً بالنقد، وإنما هو طعنٌ وتجريحٌ وطغيانٌ كلاميُّ مُؤذٍ كان يجب على هذه الوزارة أن تترفع عنه.
ومع ذلك كله، فالوزارة تقول إن هذه الطبعة التي نشرتها المكتبة التجارية الكبرى فيها (فُحْشٌ)، هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدّى هذه الوزارة في هذا المكان وأطالبُها باستخراج (الفحش) الذي وقع في طبعتي، أين هو؟ فإذا فعلتْ، فسنرى أيُّ الفُحشين أفحش، أهذا الذي تدعيه وزارة المعارف على كتابي ادّعاءً، أم الذي هو قائمٌ مقررٌ مثبت في الكتب التي قررتها وزارة المعارف وطبعتها وأذاعتها، وأمرت مدارسها بدراستها أعواماً طِوالاً؟
وتقول وزارة المعارف إن في طبعتي (تحريف)؛ هذا الحرف، بهذا النص، على هذه الصورة، في هذا الوضع! فأنا أتحدَّى هذه الوزارة أيضاً في هذا المكان، وأطالبها باستخراج هذا (التحريف)، ليعلم من لم يكن يعلم أيُّ التحريفين أقبح، ما أقع أنا فيه، أم ما وقعتْ فيه هي في الكتب التي صححتها وشرحتها وأذاعتها وقررت دراستها أعواماً طوالاً؟
ومع ذلك كله، فأنا أقرر في هذا المكان أن (الفحش)! هذه واحدة، وأن (التحريف)! وهذه أخرى، ليسا سوى دعوى من الوزارة لا برهان لها عليها البتة، وأن الجرأة والطغيان قد بلغا مبلغاً في هذه النشرة الرسمية، وأن كتب وزارة المعارف قد عرضت لي صفحتها، فإن شئت قضيت وإن شئت أمسكت.(389/30)
أما ثالث أقوال الوزارة من أن الكتاب فيه (نقص في الشرح)، فليس صحيحاً بوجه من الوجوه، إذ كان شرحي مختصراً مبيناً عن وجه العبارة والمعنى؛ وقاعدتي في الشرح أن أدع نص أصحاب اللغة في شرح اللفظ اللغوي، إلى عبارة أعبر بها معنى الجملة على الوضوح والبيان. وبذلك أسقط من الكلام ما تحشو به وزارة المعارف كتبها من الشروح التي لا معنى لها. وسأضرب في كلمة أخرى أمثلة كثيرة أزعم أنها هي التي بغضت إلى الطلبة أكثر كتب الأدب التي وزعت عليهم، وصرفتهم عن الاستفادة منها.
هذا، ومن قرأ كتاب أحمد بن يوسف يعلم - ولعل وزارة المعارف تعلم أيضاً - أن الكتاب مجموعة من القصص القصيرة، في عبارة قريبة واضحة ليس فيها من غريب اللغة إلا القليل، ورب غريب فيها يبين عنه سياق الحكاية، فلا معنى لإرهاق نظر الطالب والتهويل عليه بالشروح المستفيضة التي تخوفه أو تثقل عليه. ورب شرح قصير موجز واضح يكون أعظم بركة على القارئ من تعالم غليظ ثقيل وتقعر.
وعندنا أن الأسلوب الذي جرت عليه وزارة المعارف في شرح كتبها أسلوب غير منتج إلا أسوأ النتائج، لأنه يصرف الطالب عن الاستمتاع بالنص، وعن التقليب له والنظر فيه، وعن الترديد لطلب المعنى بالجهد القليل، وتجعله حائراً بين الكلام الذي يقرأ وبين الشرح الطويل الممل الذي تتدلى حواشيه على كل كلمة أو حرف من عبارة قصيرة قريبة المعنى دانية البيان، وأن هذه الطريقة المضحكة هي التي تجعل الطالب لا يهتم كثيراً بالإصغاء إلى أستاذه اعتماداً على ما يتوهمه في الشرح الطويل العريض من الإبانة الصحيحة عن المعنى، فإذا فعل ذلك، ثم رجع إلى كتابه وقرأ شرح الشراح وأصحاب الحواشي لم يفهم، وربما أضله هذا الشرح عن بعض الصحيح من الفهم الذي فهمه قبل قراءة الشرح. وأنا لا أقول هذا عن رجم وتظنٍّ، بل أقوله وقد وقفت عليه من ملاحظتي لأكثر من عشرين طالباً من أبنائنا الذين كتب عليهم أن يتعلموا العربية في وزارة المعارف. ولست أشك أن أكثر أساتذة العربية في المدارس الأميرية، لو أتيح لهم أن يتكلموا لأظهروا هذه العيوب كلها لما يقاسونه مع الطلبة في دراسة النصوص العربية التي شرحتها وزارة المعارف.
ومع كل ذلك، فأنا أوافق وزارة المعارف، على أن كتابي فيه نقص في الشرح! فهل يعيبه هذا؟ إنما العيب أن يطول الشرح ويكثر، وتلج لجاجته، ثم يكون هذا الشرح تضرباً في(389/31)
خطأ بعد خطأ، وفي سوء فهم للعبارة، وفي إبهام آت من قلة المعرفة بأساليب العرب في كلامها. وأنا أتحدى وزارة المعارف أن تخرج من كل ما صححت من الكتب، بل من كل ما أكتب، شيئاً يدل على ذلك. وما دامت الوزارة تأبى إلا أن تعتدي عليَّ فسأضع يدها على ضرب مدهش من الشروح التي وقعت فيها فيما طبعت من الكتب، يدل كل الدلالة على أن الشراح لم يفهموا حرفاً واحداً مما قرأوا، وأنهم ينقلون من الكتب ما يصادفون من المعاني، لا ما توجبه الجمل من معاني اللغة، وأنهم لا يتذوقون الأدب إلا بالوظيفة وعن طريقها!!
أما النقص في التعريف بأعلام الرجال - كما تقول وزارة المعارف - فلا أظن أحداً قرأ كتاب أحمد بن يوسف ورأى ما فيه وعلم غرض مؤلفه منه، إلا وجد من عيب وزارة المعارف لكتابي بهذا النقص - كما تسميه - أسلوباً مضحكاً في النقد. أتظن الوزارة أنها تستطيع أن تعرف بفلان وفلان وفلان ممن ذكر في هذا الكتاب في سطرين أو ثلاثة، ثم يكون هذا تعريفاً؟ كيف تستطيع هذه الوزارة أن تعرّف قارئ كتابها في سطرين أو ثلاثة: بإبراهيم بن المهدي، وابن طولون، وابن بسطام، والمأمون، وابن مدبر، وخاله العشريّ، وابن أبي الساج، وخمارويه، وفلان وفلان ممن لا نحصي كثرة؟؟ وهل تعتقد أن التعريف بأحد هؤلاء إن هو إلا ذكر سنة مولده أو سنة وفاته أو وظيفته في الدولة؟ وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان! هذه طريقة في التعريف بالرجال مضحكة، لا نلجأ نحن إليها ولا نقرها، ونعلم أن لا فائدة فيها للطالب أو غير الطالب بتة. وستخرج طبعة وزارة المعارف التي تطبع بالمطبعة الأميرية قريباً وسنعلم كيف فعلت! وندلها على الصواب في كل ذلك إن شاء الله.
وأخيراً. . . وأخيراً، أيها القارئ، تقول وزارة المعارف بعد أن أنهكها تعداد عيوب كتابي، وبلغ منها، وكدها، وأوهى منتها، واستصفى نشاطها، وحيرتها الكثرة التي لا تحصى من بلادتي وغفلتي وأخطائي. . . أخيراً تقول: وفي هذا الكتاب الذي نشرته: (غير ذلك من العيوب): (فقطعَ دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).
وأخيراً أيضاً، أشكر وزارة المعارف على حسن جزائها لي في كتاب لم أتقدم به إليها، ولكني تقدمت به إلى قراء العربية، ثم أشكرها على توصيمها لاسمي واسم هذا الكتاب بالنشرة التي أذاعتها على مدارسها. وإذا كانت وزارة المعارف تجهل من أنا، وما عملي،(389/32)
وكيف هو - ووزارة المعارف تجهل أشياء كثيرة - فكل ذلك لا يبيح لها أن تتهجم على الناس بالسيئ من القول.
إني أعلم كيف كتبت هذه النشرة، ومن الذي أملاها، ولأي غرض أمليت على من كتبها، ومن المضحك أن يجرؤ إنسان كل درجته في هذا الأمر تأتي من قبل وظيفة أو أن يجرؤ إنسان كل علمه يأتيه من قبل شهادة نالها، ثم من وظيفة قدر له أن يحرزها أو تحرزه، ثم من ثالثة الأثافي التي هي الحظ. . أقول: من المضحك أن يجرؤ أحد هذين أن يدعي لنفسه حق الحكم على عمل أعمله مستتراً وراء نشرة تصدرها وزارة المعارف، وهو لو وضعته بين ثلاثتي التي أمسك بها هذا القلم لمزَّقت عنه كل الوشي المصنوع الذي يكتسيه ويتجمل به. . . ومع ذلك فسوف نرى.
محمود محمد شاكر(389/33)
كلمات. . .
الإصلاح الاجتماعي
قرأنا في الصحف أن وزير الشؤون الاجتماعية يقدم إلى مجلس الوزراء مشروع قانون بإنشاء مجلس أعلى للشؤون الاجتماعية.
وما نظن حكومة من حكومات العالم، ولا أمة من أمم هذه البسيطة، هي أكثر لجاناً ولا أطول لساناً في الكلام عن الإصلاح من حكوماتنا ولا من أمتنا المصرية.
وهذه (لجنة) أخرى جديدة للشؤون الاجتماعية، أي للإصلاح الاجتماعي.
والإصلاح الاجتماعي هو تمدين الأمة ونقلها مما هي عليه - والمثقفون منا يعرفون وتضيق صدورهم مما هي عليه - ويكاد يكون من العجيب أن تؤلف لجنة لهذا الغرض قبل أن يتحدد بيننا هذا الغرض نفسه.
فهل نحن نريد أن نكون أمة أوربية، أم نريد أن نكون أمة شرقية. . . أم نريد أن نكون - كما يقول كثيرون من المترددين - بين هذه الحضارة الشرقية التي ورثناها وبين هذه الحضارة الأوربية التي تغزونا؟
ونحن ليس من همنا في هذه الكلمة أن نقول رأينا فيما يجب أن تكون حضارتنا وثقافتنا بين الحضارات، بل همنا أن نقول: إنه عجيب أمر هذه اللجنة التي يؤلفها وزير الشؤون الاجتماعية للإصلاح الاجتماعي.
وقبل أن تؤلف لجنة لهذا الغرض يجب أن نحدد موقفنا قبل كل شيء، ويجب أن نعرف في أي مكان نريد أن نضع أنفسنا بين أمم الأرض، لا أن نسير فنخبط ونخلط كما نفعل الآن، وكما فعلنا منذ لابسنا الحياة الأوربية وذقنا ثقافة الغرب وتفكيره وحضارة عصره.
ويجب قبل ذلك أيضاً أن نهيئ الرأي العامل لقبول ما نريد أن نسوقه إليه وأن نقوم حياة شعبنا عليه من إصلاح جديد.
وسأضرب مثلين مفردين لتوضيح ما أريد:
فهذا تعليم الأمة وتنوير الجيل الجديد منها تسيطر عليه وزارة خاصة هي وزارة المعارف، وتهيمن على ثقافة الخلاصة منه جامعتان: جامعة فؤاد الأول، وجامعة الأزهر. ولكن هذه الوزارة وهاتان الجامعتان ليس لها ولا لهما سياسة ثابتة ولا منهج مستقر ولا غرض(389/34)
مقصود من تعليم هذا الجيل الجديد ولا تثقيف الخلاصة منه. فهي تخبط وتخلط، ولها في كل يوم جديد ينسخ ما كان بالأمس جديداً وسينسخه بعد حين جديد.
وما يقال عن وزارة المعارف وعن جامعتينا يمكن أن يقال عن هذا الإصلاح الاجتماعي الذي تؤلف له وزارة الشؤون (لجنة) قبل أن تتحدد غاياته وأغراضه ومراميه. والمثل الثاني هو قانون أصدرته هيئة إصلاحية وصدر به قانون ألزم جميع المحاكم والناس أن يعملوا به: وهو قانون الطلاق الثلاثي يقع واحدة.
فلا يزال كثير من سواد الناس ومن الفقهاء لا يرضى فيه بما رضى الأزهر ورضيت المحاكم الشرعية العليا ولا بما أمرت وزارة العدل وقوانين الدولة، لا يزال هؤلاء الكثيرون من السواد ومن الفقهاء يوقعون الطلاق الثلاث ثلاثاً برغم هذا كله وقد مضت على هذا القانون عشر سنين أو تزيد، فهذا مثل للإصلاح الذي لم نهيئ له الرأي العام ولم نمهد له نفوس الناس حتى يمكِّن لذيوعه ورسوخه رضاهم واطمئنانهم إليه قبل أن تمكِّن له قوة القانون.
فقبل أن تؤلف وزارة الشؤون الاجتماعية لجنة للإصلاح الاجتماعي يجب أن يكون الغرض من هذا الإصلاح وأن تكون الغاية فيه واضحة بيِّنة معلومة الحدود والمراسم والتفاصيل، وأن تُهيأ له قبل ذلك نفوس الناس.
(محمود)(389/35)
رسَالة الشِّعر
من وحي الحرب
أوراق الخريف. . .
(مهداة إلى الأستاذ (العقاد))
للأستاذ محمود الخفيف
يَا هَوْلَ مَا تُوحِيهِ مِن خَاطِرِ ... جُمُوعُهَا المَاثِلَهْ
الْمَوتُ في بَطْشٍ لَهُ قاهِرِ ... أَلْقَى بِهاَ ذَابِلَهْ
مَضْعُوفَةً بَعَد الصِّبا النَّاضِرِ ... مُصْفَرَّةً آلافُهاَ الرَاحِلَهْ
مَطْعُونَةَ الأوَّلِ وَالآخِرِ ... مَذعُورَةً مُعْجَلَةً ذَاهِلَهْ!
تَسَابَقَتْ في وَثْبِهاَ للِفْنَاَءْ ... صُفُوفُهاَ الوَاهِيهْ
كَأَنَّماَ يَدْفَعُهَا فِي الْخَفَاءْ ... لِحَتْفِهاَ طَاغِيَهْ!
أَوْ قَادَهَا للِمَوْتِ كُرْهُ الْبَقَاءْ ... في عِيشَةٍ تُفْضِي إِلى الهاوِيَهْ
الذُّلُّ في نَاحِيَةٍ وَالشَّقَاءْ ... وَالبَطْشُ وَالطُّغْيَانُ في نَاحِيَهْ
يَا سُوَء مَا تُوحِيهِ لي مِنْ خَيَالْ ... أَوْرَاقُ هَذَا الْخَرِيفْ
في حَشْدِها كَمْ ذَا أَرَى مِنْ مِثَالْ ... لِكُلِّ عَان لَهِيفْ
كَمْ مُوجَعٍ فِيهَا وَكَمْ ذِي كَلاَلْ ... مُهَدَّمٍ أَضنَاهُ كَسْبُ الرَّغِيفْ!
ياَ قُبْحَهَا! توُحِيِ لنَفْسِي المَآلْ ... لِكُلِّ فَيْناَنٍ بَهِيجٍ رَفيفْ
كَمْ صَوَّرَتْ رِيحُ الشَّماَلِ الطُّغاَهْ ... لَمْ تَلْوِهِمْ عَاطِفَهْ
مِنْ كلِّ عَاتٍ شَرُّ مَا في الْحَيَاهْ ... حَيَاتُهُ الْعَاصِفَهْ
أَصَمُّ كَمْ تُزْجِى المَناَياَ يَدَاهْ ... والأَرضُ مِنْ هَوْلِ الرَّدَى رَاجِفَهْ
مَا وَطِئَتْ أُذْنَيْهِ يَوْماً شَكَاهْ ... أَوْ عَطَفَتْهُ الرَّحْمَةُ اللاَّهِفَهْ!
جِنْكِيزُ أوْ تَيْمُورُ هَذا الزَّمَنْ ... في عَصْفِهاَ مَاثِلُ
يُتْرِعُ لِلْعَصْرِ كُؤُوسَ الْمِحَنْ ... زُعَافُهاَ عَاجِلُ
وَذَلِكَ المِسْكِينُ مَهْماَ افْتَتنْ ... في غَدِهِ مِنْ سمِّهاَ ناَهِلُ(389/36)
مَهْماَ يَكُنْ مِنْ هَوْلِ هَذِى الْفِتنْ ... عَمَّا قَرِيبٍ يَزْهَقُ الْبَاطِلُ
هَذِى الْجُمُوعُ الصُّفْرُ كَمْ نَبَّهَتْ ... شَجْوِىَ أَوْصَافُهاَ
لَشَدَّ عِنْدَ الَموْتِ مَا أَشْبَهَتْ ... بَنِيهِ آلاَفُهاَ
في غَمْرَةٍ مِنْ خَلْفِهِمْ مَا وَهَتْ ... أَيْدٍ بُرُوقُ الوَهْمِ أَهْدَافُهاَ
فَخَارُهَا في الْعَيْشِ مَا شَوَّهَتْ ... وَمُنْتَهَى الْعُمْرَانِ إتْلاَفُهاَ!
تَكْرُبُنِي أَشْلاَءُ تِلْكَ الْغُصُونْ ... تُذْرَي بِكُلِّ النَّوَاحْ
للرِّيحِ فِيهاَ مِنْ نَوَازِي الْجُنُونْ ... عَصْفٌ بِهاَ وَاجْتِيَاحْ
طَيْفٌ لِرُوحي مِنْ طُيُوفِ المَنُونْ ... الْوَيْلُ فِيِهِ وَالأَسَى وَالنُّوَاحْ
فِيِهِ الضَّحَاياَ سَاقَهاَ المُبْطِلُونْ ... أَشْلاَؤُهَا مِلْءُ الرُّبَى وَالْبِطَاحْ!
انْتَثَرَتْ أَوْرَاقُ هَذِى الشَّجَرْ ... وَأَوْحَشَتْ عَارِيَهْ
كَأَنَّهاَ في الأرْضِ بَعْضُ الأَثَرْ ... لِهَذِهِ الْغَاشِيَهْ!
لكِنَّهَا خَضْرَاَء لَمْ تُهْتَصَرْ ... تُكْسَى حُلاَهَا فِي غَدٍ ثاَنيَهْ
إِنْ أَوْحَشَتْ في الْعَيْن عِنْدَ النَّظَر ... فَفِي حَشَاهاَ تَكْمُنُ الْعَافِيَهْ
يَا وَيْحَ لِلإْنْسَانِ مَا إنْ لَهُ ... في غَيِّهِ مِنْ قَرِيعْ
تَنْثُرُ كَفُّ الدَّهْرِ آمَالَهُ ... وَمَا لَهُ مِنْ رَبِيعْ
وَالْبَغيُ كَمْ يُنْقِصُ آجَالَهُ ... وَالْعَيْش عَجْلاَن اللَّيَالِي سَرِيعْ
صَرِيعُ هَذا الْبَغْيِ ياَ وَيْلَهُ ... يَرْثِي جَنَانِي للِشَّقِيِّ الصَّرِيْع!
الخفيف(389/37)
رِسَالة الفَنّ
شيء موجود
الانجذاب
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يصف عامتنا الرجل الطويل اللسان الذي لا يكتم الحق، والذي يلقيه على عواهنه يخز به الصغير ويخدش به كبرياء المتكبر، ويجر به الخير ويسبب به الكارثة. . . بأنه (مسحوب من لسانه) وهذا الوصف يفهم فهمين: الفهم الأول هو ما تؤدي إليه هذه الصورة المادية التي يقعد عند إدراكها القانعون بالصور المادية، والفهم الثاني هو ما يدركه الطماحون الذين يسعون إلى المعاني، والموهوبون الذين تسعى المعاني إليهم، وهو أن يُعتبر الرجل المسحوب من لسانه إنساناً إذا رأى الحق انشدَّ إليه فلم يتثاقل عليه، ولم يفكر في الامتناع عنه، ولم يتريث في الذهاب إليه، وإنما هو يندفع قاصداً إياه ليسكن فيه، ولينعم بلذة هي السكنى، ولينتشي بما تبعثه في نفسه من الاطمئنان الذي لا يرتاح إلا إذا حصله والذي يقلق إذا فوّته، وهو في اندفاعه نحو الحق لا يمشي على رجليه، ولا يطير بجناحيه، وإنما يحرك لسانه بالقول يقرر به الحق الذي لمحه من غير جهد يبذله في تحريك لسانه، ولا عناء يتجشمه في تقريره للحق. بل إن الجهد يبذله إذا أمسك لسانه، والعناء يتجشمه إذا قاوم الحق وتعنت معه والتوى عليه. . .
وهذه الصورة المعنوية للرجل المسحوب من لسانه هي نفسها صورة المجذوب الذي يبيع الدنيا بكلمة حق يقولها فيفتقر ويخسر الناس، ويطيح إلى خارج أنظمتهم وقواعدهم، ويعدم النصراء منهم والأنصار ويتلقى على أم ناصيته التهم تكال له جزافاً أشرفها وأنظفها أنه مجنون لا عقل له ولا تمييز، والسخرية تنهال عليه من كل جانب لأنه الإنسان الشاذ الذي يقول ما لا يصح أن يقال والذي يفعل ما تواطأ الناس على ألا يفعلوه. . . وهذه الصورة هي أيضاً نفسها صورة الأديب الفنان الصادق الحس السليم المنطق الصادق التعبير الواضح القصد، فهو نفسه المجذوب وهو نفسه المسحوب من لسانه الذي يقول للمجتمع مهما اغتر المجتمع: إنك يا أيها المجتمع مغرور ومخطئ، والذي يقول للسلطان مهما قوي(389/38)
السلطان ومهما اشتد: أيها السلطان إنك حائد عن الحق ومنزلق إلى الباطل، والذي يقول للعقيدة مهما تغلغلت في النفوس وتأصلت في القلوب: أيتها العقيدة إنك فاسدة ترتكزين على مغالطة، فانهاري لأقيم مكانك في نفوس للناس عقيدة أخرى تقوم على أساس من الحق الصافي.
وهذا الأديب لا يصل إلى هذه الدرجة من قوة النفس إلا عن واحد من سبيلين. فإما أن يكون قد ولد من أبوين صادقين غربلا نفسيهما قبل أن ينتجاه، ونفيا عن روحيهما كل خدعة وكل أكذوبة، وركنا إلى الحق في إحساسهما وتفكيرهما ونزعاتهما، ولم يعودا يتأثرا بالهوى، ولم يعودا يظنان بأنه كان يصح أن يكون لهما أكثر مما لهما، وهذان أبوان لم يلتقيا. . . وإما أن يكون كبقية الناس قد ولد وقد ورث نواة الخطيئة الحادثة من تفاعل الغرور عند أبيه والطمع عند أمه، وأن يكون قد انتبه إلى هذا على أثر حادثة من الحوادث، فبدأ بأخذ نفسه بمراقبة الحق وتحريه والقصد إليه حتى تنفتح نفسه للحق انفتاحاً فيحبها الحق كما تحبه وينزل فيها كما تنزع إليه، وليست نفس الإنسان إلا حقاً من الحق إذا صفت وانغلقت دون الغرور والطمع نمت خالصة واستدعت من الحق حقاً وحقاً، وكلما أحاطت بحق مثلته فصار منها، وكلما كبر ما فيها من الحق وزاد، اشتدت قوتها على استدعاء الحق الذي غاب عنها، ولا تزال هكذا حتى يكون لها إذا أرادت أي حق أن يلبيها مهما كان نزاعاً إلى التستر.
والإنسان الذي يحاول هذه المحاولة ويعاني فيها هذا العناء، ليس له قصد إلا هذا الحق المجرد، فهو إذا وصل إليه مجذوباً، حدث بينه وبين الحق تصادم هو عناق اللقيا، وكان لهذا التصادم صوت هو قبلة الشوق، وهي من الأديب كلام، ومن سواه فنون أخرى. . .
وقد تعجز أي قوة في الأرض عن أن تحول بين الأديب المجذوب المسحوب من لسانه وبين كلمة الحق يفرقعها رنانة مدوية كما يفرقع العاشق المجنون قبلة التحرق إذا التقى بحبيبه.
وكما أن العاشق المجنون يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل حتى يلتقي بحبيبه بعد أن يكون قد داخ في البحث عنه، وفي الصبر عنه، وفي الشوق إليه، فإن الأديب المجذوب هو أيضاً يظل يسعى، ويظل يصبر الزمن الطويل وهو مملوء شوقاً إلى حق يعلل به حقاً،(389/39)
أو يقيم عليه حقاً، فكيف يمكنه إذا لمحه وتبينه أن يعود إلى الصبر عنه والصبر مر؟! إنه لا يعود إلى الصبر، وإنه ليتهافت على معشوقه الذي كان غائباً عنه ثم تجلى. . . سبحانه من معشوق وتعالى!
هي دوخة يدوخها المجذوب قبل أن يصل، فلا يلومنه إنسان إذا هتف كذلك الذي هتف وهو عريان في الحمام، وقال: (وجدتها)! وانطلق من الحمام وهو عريان ليعلن أمام مخلوقات الحق أنه قد وجدها، وهي أنه إذا غطس جسم في الماء انزاح من الماء ما يساوي حجمه حجم ذلك الجسم الغاطس. . .
وفي أثناء هذه الدوخة تظهر على الأديب المجذوب المسحوب من لسانه إمارات لا تظهر إلا على الدائخين فعلاً وحقاً فهو إذا انفرد بنفسه أو إذ لم ينفرد بنفسه فهو لا يفتأ يفكر مع نفسه ويتناقش مع نفسه، ويتحدث مع نفسه بالإسرار أحياناً، وبالجهر أحياناً، وإن عقله ليهديه في بعض الأحيان إلى ما يحسبه حقاً ثم يهديه بعد ذلك إلى ما يهدم هذا الذي حسبه حقاً فإذا به يضحك فجأة وهو منفرد أو بين الناس ساخراً من نفسه لأنه حسب باطلاً من الأباطيل حقاً في زمن من الأزمان، وقد لا تقف به الحال عند الضحك. بل إنه قد يلطم نفسه لطمة، وقد لا يقف به الحال عند هذا بل إنه قد يضرب رأسه في جدار إذا كان قد رتب على هذا الباطل الزور قولاً فأعلنه أو فعلاً فأداه.
إنه يعامل نفسه كما يعامل غيره. بل إنه ليشتد مع نفسه ويصارحها بعيوبها أكثر مما يشتد مع الناس وأكثر مما يصارحهم بعيوبهم، فليس هناك ما يدعوه إلى أن يترفق مع نفسه كما يترفق مع الناس مجاملة أو تهيباً أو توقيراً أو عطفاً أو شفقة، وهو مع شدته هذه أشد الناس رحمة لنفسه، فهذا الذي يصنعه ليس إلا تخليصاً لها من أدران البهتان وظلمات الأراجيف.
وإذا كنا قد رأينا أديباً كهذا الأديب قد انشطرت نفسه شطرين وتسلط كل شطر منهما على الآخر يحاسبه ويناقشه ويناضله كمن بينهما عداوة تهدي إلى الحق، فإننا قد رأينا أيضاً مغنين مجذوبين ورسامين مجذوبين وممثلين مجذوبين ومجذوبين آخرين من غير هؤلاء وهؤلاء.
والفرق بين كل واحد من هؤلاء وبين الأديب المجذوب، أن الأديب المجذوب مسحوب من لسانه إلى الحق فهو يعلنه بالكلام الملفوظ أو بالكلام المقيد كتابة، وأن الواحد من هؤلاء(389/40)
مندفع إلى الحق ومتجه إليه بناحية أخرى من نواحي نفسه المنشقة هي أيضاً شقين، والمشطورة هي أيضاً شطرين.
فالمغني المجذوب تراه وهو في حالة الانجذاب وقبيل أن يستقر على صوت روحه يهتز ويترنح - كما يفعل الشيخ علي محمود - يريد ألا يمر من حنجرته إلى الخارج إلا صوت مبعوث من قرارة نفسه فيه التعبير الصادق عن المعنى الذي يقصد إلى التغني به. وهو لا يزال في هذا الاهتزاز وهذا الترنح المتعبين حتى ينطبق كل شطر من شطري نفسه على صاحبه فإذا تم له هذا التوحد الروحي انطلق الغناء من صدره. . . ومن أعماق صدره. . . وجاز حنجرته منساباً مختاراً لا يتحسس أوتارها، ولا يضغط على مقاماتها، ولا يرعى ما يراه المغنون من وزن النغمات وربط الضرب وتقييد الواحدة، وإنما أرسل الغناء إرسالاً تعبيراً ساذجاً صادراً من نفس تغني. . . وعندئذ يكون المغني كما يكون الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي وهو يقرأ غائباً عن الناس أو في شبه غيبوبته عنهم. . . وكما يكون أيضاً الشيخ علي محمود عندما يتجلى الله عليه فلا يجاريه إنسان.
وقد ينجذب المغني إلى حق التعبير عن نفسه بالغناء فلا يعبأ بالناس أن يستمعوه أو أن ينفضوا من حوله فهو يغني لغير مستمع أو لأي مستمع، وهو يغني منفرداً كما يغني في الجماعة، وهو يغني في مقام الغناء وفي غير مقامه، وهو يحترف الغناء أحياناً ويكف عن احترافه أحياناً كما يفعل الأستاذ مصطفى أمين الذي كانت له (شنة ورنة) منذ سنوات والذي لا يكاد أحد يدري أين هو الآن، والذي قيل لي منذ عام أن نفراً من أصحابه يشتبهون في متسول مغن أن يكون هو الأستاذ مصطفى أمين أرسل نفسه في الدنيا ينشد تسبيحاً لله وصلاة وتسليما على رسوله. . .
والرسام إذا انجذب. . . فيا ويل الأوراق والأقلام والألوان منه. . . إنه يخبط بعضها في بعض، ويخرج من هذا الخبط بأشكال يرضيه بعضها وينفره بعضها، ويرى هو فيها جميعاً ما لا يراه غيره من العيب والنقص، وقد يكون رسمه مؤدياً لما لا تبلغ إليه أيدي الرسامين من معاصريه، ومع هذا فهو الذي يعلم أن عمله ناقص، لأنه هو الذي يحس أنه لا يزال في الطريق مدفوعاً نحو تلك الصورة التي تتخايل أمام عينيه غامضة وراء أحجبة الزور وسحابات الباطل. . . فإذا ما اقترب. . . أو إذا ما وصل فعندئذ ينفجر بالصورة الواضحة(389/41)
البسيطة التي لا تعقيد فيها، ولا اضطراب، والتي لا أثر فيها لانشقاق النفس وانشطارها، والتي هي أثر من آثار توحد النفس: إحساسها، مع إدراكها، مع خلقها، مع تعبيرها. . .
والممثل إذا انجذب إلى دور كان كالأستاذ عزيز عيد وهو مجذوب إلى دور مجنون ليلى. . .
كل الممثلين، وكل النقاد، وكل الناس كانوا يسخرون منه، وعلى الخصوص بعد أن شاهدوا المجنون من الأستاذ أحمد علام الممثل المتعشق المتأنق اللبق، فلم يجدوا مطلقاً ما يبرر ظهور عزيز عيد في هذا الدور الذي قال الناس جميعاً إنه لا يصلح له لا بجسمه ولا بنفسه. . . وليس الأستاذ عزيز عيد بالرجل الذاهب العقل، ولكن عقله ذهب إلى هذا الدور، واستهان بعلام فيه، كما استهان بحسين رياض فيه، وهو لم يستهن بهما على تمكنهما المعترف به إلا لأنه كان يرى للمجنون صورة أبعد نحو الحق من الصورة التي رأياها هما. . . هي صورة لما رأيتها منه أبصرت فيها من المسيح ملامح. وقد ظل عزيز عيد يخاصم أهل الفن جميعاً في سبيل هذا الدور حتى تعب هو نفسه منه لأنه اقتنع في آخر الأمر بأن مادة بدنه تقعد عن تحقيق الصورة الخيالية اللطيفة التي يتصورها، وأنه لن يستطيع أن ينقل من هذه الصورة إلى أذهان الناس حتى ولا التظليل الباهت الغامض، وأنه محتاج إلى جمهور من الملائكة أو الجن يستشفون روحه من وراء مادة بدنه. . .
عافاه الله من ممثل عاشق لفنه، صادق في عشقه، مجذوب.
عزيز أحمد فهمي(389/42)
البَريدُ الأدبيّ
تشابه الفكرة عند الكتاب
إلى الدكتور زكي مبارك
لاحظت أثناء مطالعتي كثيراً من التقارب بين أفكار المؤلفين مما يثير
حب استطلاعي في معرفة سبب ذلك وهل هو تأثر بعضهم ببعض، أو
تشابههم في وجهة النظر والتفكير، أو نقل أحدهم عن الآخر، أو تشبع
أحدهم بآراء مشابهة لآراء الآخر. فمن ذلك أني لاحظت مثلاً في أثناء
قراءتي مقالاً للأستاذ أحمد أمين منشوراً بمجلة الثقافة تحت عنوان (في
المدنية الحديثة) بتاريخ 19111940 في عددها رقم 99 - أن بعض
أفكاره خصوصاً عن الحقيقة العقلية في آخر الصفحة الثامنة وأول
الصفحة التاسعة من المجلة - تشابه أفكار الأستاذ توفيق الحكيم السابق
نشرها في كتابه (تحت شمس الفكر) في صفحة 10 و11 وما جاء
بكتابه (عصفور من الشرق) في صفحة (111). كما أني قد لاحظت
من قبل في مقال سابق للأستاذ أحمد أمين في مجلة الثقافة عدد 2
بتاريخ 10 يناير سنة 1939 تحت عنوان (بين الشرق والغرب) نفس
التشابه في الروح والأفكار لما جاء في بعض صفحات (عصفور من
الشرق) خصوصاً في صفحاته 90 إلى 94 وصفحة 203 و204.
فالرجاء إذا كان لديكم متسع من الوقت لمراجعة مثل هذه المسائل أن تفيدونا في مقال من مقالاتكم الطريفة الممتعة في الرسالة عن رأيكم في مدى ملاحظتي هذه، وفي مدى العلاقات الفكرية التي تربط الكتاب من حيث الاتحاد في وجوه النظر وطرائق التفكير.
محمد الرفاعي(389/43)
المحامي
جرائم أدبية!
هذا التعبير الفظيع هو الذي يصور ما أريد، وتلك الجرائم هي جناياتي على أدبي، الأدب الذي رجوت أن يكون صورة صحيحة لما يثور في القلب والعقل والوجدان، ثم لم يكن مع الأسف إلا شاهداً على أني أساير الناس وأصانع الزمان.
أقول هذا وقد مزقت بالأمس صفحتين أنشأتهما في لحظة صفاء، وقد عرفت أن أصحاب (الحب الغاضب) لا يزالون أحياء، وأنهم لم يكونوا غائبين، وإنما كانوا غاضبين ألم أقل لكم إن القطيعة المقصودة من فنون الوصال؟
ولا أعرف كيف مزقت هاتين الصفحتين وهما عُصارة قلبي وروحي؟
هل كنت أخشى أن تكونا وثيقة جديدة على أني رجلٌ مفطور الفؤاد؟
وما العيب في ذلك وما ظهر في الدنيا أديب بلا قلب؟
هل كنت أخشى أن يقول السفهاء إن أصحاب القلوب لا يصلحون لكبار الأعمال؟
وكيف أخاف أقوال السفهاء ومنهم عرفت أن التجريح لا يصوب إلا إلى الأديم الصحيح؟
أمثلي يخاف الناس وهو يعبد الله كأنه يراه؟
لقد فكرت في أمري مرات فوجدتني أصدق من توكل على الله، ورأيته عز شأنه يرعاني رعاية رفيقة هي البرهان الساطع على حمايته لأرباب القلوب.
فما خوفي من زماني، وأنا بفضل الله في أمان من مكاره الزمان؟
النفاق عمل ضائع، والمنافقون ضائعون، ولن يبقى في صحيفة الخلود غير القول الصادق الصريح، ولو كان في ظاهره رجساً من عمل الشيطان.
كنت أقسم ثم يسوقني الهوى إلى الحنْث، فلما أقسمت بالله الذي أقسم بالقلم لم يعرف الهوى كيف يسوقني إلى الخُلف في اليمين.
فهل أُقسم بالذي أقسم بالقلم لأفينَّ لوحي القلب أصدق الوفاء؟
أخشى أن تكون في صدري بقية من الشِّرك، وللشِّرك دلائل منها تهيب الناس، وأنا أكتم بعض آرائي عن الناس.(389/44)
فمتى يرحمني الله من هذا الشِّرك الموبِق؟ ومتى أنظر فلا أرى غير ما لذاته العالية من عظمة وجلال؟ ومتى أعرف أن جُموح القلم من أشرف الأرزاق، لأنه من شواهد الاعتماد على صاحب العزة والجبروت؟
زكي مبارك
سؤال إلى علماء الآثار عن المحيا النبوي بالأزهر
جاء في كتاب الخطط الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة للعالم الجليل علي مبارك باشا وهو الكتاب المعروف باسم الخطط التوفيقية - كلام عن أثر بالجامع الأزهر يسمى - المحيا النبوي - في أثناء ترجمة الشيخ أحمد شهاب الدين الكلبي المالكي (جـ15 ص101) وقد نقلت الخطط هذه الترجمة وما جاء فيها من ذلك الأثر عن كتاب خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، فذكرت أنه ممن ولد بمنفلوط الشيخ أحمد بن عيسى بن غلاب بن جميل المنعوت بشهاب الدين الكلبي المالكي شيخ المحيا النبوي بالجامع الأزهر نشأ بمنفلوط ثم تحول مع أبيه إلى مصر فحفظ القرآن وعدة متون وأخذ عن والده وأعيان العلماء. إلى أن قالت: وجلس بالمحيا بعد والده، ووالده بعد البلقيني، والبلقيني بعد الشيخ صالح، والشيخ صالح بعد الشوني المدفون بزاوية الشيخ عبد الوهاب الشعراني. ثم ذكرت أنه توفي سنة سبع وعشرين وألف ودفن بالقرافة الكبرى بمصر.
وهكذا عنيت الخطط كما عني كتاب خلاصة الأثر (جـ3 ص382) بسرد شيوخ هذا المحيا من الشيخ شهاب الدين الكلبي إلى الشيخ الشوني، ولم يرد فيهما شيء يبين هذا المحيا نفسه، فلم يعرفانا أمره، ولم يهتما ببيان مكانه بالجامع الأزهر، ولم يشرحا الغرض المقصود منه فيه، وقد أردت أن أعرف الآن شيئاً عن هذا المحيا النبوي من بعض شيوخنا بالأزهر، فلم أجد عندهم شيئاً من خبره، إذ نسي الآن أمره، ولم يعد له شيوخ يجلسون فيه كالشيوخ الذين جلسوا فيه سابقاً.
ولعلي بعد هذا أجد من قراء مجلة الرسالة الغراء - ولا سيما علماء الآثار - من يكون عنده علم بهذا المحيا النبوي، فيبين لنا مكانه بالجامع الأزهر، ويشرح لنا أمره فيه.
عبد المتعال الصعيدي(389/45)
تصويب وتعليق
ترجم الأستاذ النشار في العدد الماضي من الرسالة أبياتاً نظمها (لورد دنساني) أثناء مروره بمصر جاء في مطلعها:
(أيها الملوك الأربعة الجالسون في ساحة أبي سنبل متجهين نحو مشرق الشمس، لقد رأيتم الإنسان يطير).
ولقد قرأت هذه الترجمة فسحرني خيال الشاعر المحلق وتعبيره الجميل، واستمتعت بلحظات نشوى حوم فيها خيالي على تلك الربوع الجميلة الساحرة من بلاد النوبة التي قضيت خلالها أربعة أعوام كانت ربيع العمر وفجر أحلامه. ثم حلق خيالي في أطباق الزمن إذ تمر مواكب القرون مطأطئة الرءوس أمام ذلك الأثر الخالد في أعماق الجنوب. . .
ولكني أفقت من هذه السبحات الجميلة على هتاف ينبعث من ثنايا الذاكرة أفسد عليّ ما أنا فيه من متعة بجلال الفكرة وجمال الأسلوب! فليس ثمة أربعة ملوك يجلسون في ساحة أبي سنبل، ولكنها أربعة تماثيل لملك واحد هو رمسيس الأكبر استقرت على واجهة معبده العظيم الذي أقامه هنالك تخليداً لذكرى انتصاره على الحثيين. . .
يا لله! لأحببت والله أن تتغير معالم التاريخ فتصير هذه التماثيل الأربعة لملوك أربعة لا لملك واحد، ليظل هذا التعبير الجميل الرائع في قصيدة لورد دنساني خالداً خلود هذه الآثار!
فإن في مخاطبة هؤلاء الملوك الأربعة وإشهادهم على ما وصل إليه الإنسان من عظمة مادية ومدنية شامخة، وفي جواب هؤلاء الملوك من معاني الخلود والروحانية والسمو، ما يفتح أمام الفكر عوالم من التأمل العميق والافتتان البالغ، لا يكشف عنها التعبير التاريخي عن حقيقة هذه التماثيل فلنسجل هذا التصويب للحقيقة والتاريخ، ولنستمتع بما في أبيات لورد دنساني من أدب رفيع.
(حلوان)
محمد كامل حتة(389/46)
قصر اللابرنت
قرأت في عدد الرسالة رقم (387) تحت عنوان: (بين كاتب وشاعر وخطيب) البيت الآتي:
من كل بيت مشرق ... يزري بقصر اللابرنت
ووجدت في هامش التفسير ما يبين أن اللابرنت كان قصراً من قصور الفراعنة لا يزال بالفيوم إلى يومنا هذا.
ولكن الحقيقة أن اللابرنت هذا كان معبداً لهرم الملك (أمنمحيت الثالث) سادس ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية التي اتخذت إقليم الفيوم قاعدة لحكمها.
إذ كان المتبع أن يشيد كل فرعون معبداً جنازياً شرقي هرمه تقام فيه الطقوس الدينية والصلوات.
وكان ينقسم إلى قسمين: الرئيسي المتصل بالهرم وهو خاص بالكهنة وأقارب الملك المتوفى.
ثم القسم الثاني وهو ما نسميه بمعبد الوادي وكان خاصاً بالشعب لإقامة الشعائر الدينية على روح الملك المتوفى حتى يهنأ بالراحة الأبدية في الدار الآخرة. وكان يصل المعبدين عادة طريق طويل مسقوف ينحدر بميل من معبد الهرم إلى معبد الوادي.
ولكن تسمية معبد هرم الملك (أمنمحيت الثالث) بقصر اللابرنت أخذت عن كتاب اليونان الذين رأوا كِبر المعبد واتساعه وتعدد حجراته أثناء زيارتهم لمصر فظنوه قصراً.
ومع كل ما أظهره الكشف الحديث من تصحيحات فنية فإننا لا زلنا مع الأسف نجد المعبد منعوتاً باسمه القديم حتى في الكثير من كتبنا المدرسية. وغير ذلك من الأعلام الأثرية الكثيرة.
محمد صابر
أخصائي في الآثار المصرية القديمة
ومؤلف كتب الفراعنة.(389/47)
اقتراح
سيدي الأستاذ رئيس التحرير. . .
في العدد (357) من الرسالة الغراء عقب الأديب حسن أحمد باكثير مقالة الأستاذ عبد العزيز الدوري في تفسيره للهند الصينية (بإندونيسيا) بما نصه:
لا شك أن الأستاذ يقصد بذلك جزائر الهند الشرقية الهولندية لا الهند الصينية الخ. نعم لا شك في ذلك ولكن الواقع - مع الأسف الشديد - أن أكثر كتاب العرب ليس لهم أقل معرفة عن (إندونيسيا) بما فيها من نهضات مباركة. إن إندونيسيا التي لا ينقص عدد سكانها - حسب الإحصاء الأخير - عن خمسة وستين مليوناً ليتكون مسلموها من نحو ثمانين في المائة أي لا ينقص عن خمسين مليوناً، وإن فيها جمعية - وهي الجمعية المحمدية - هي أكبر جمعية دينية في العالم الإسلامي. . . فكيف إذن يجور لأديب من أدباء الإسلام أن يجهلها. . . لذا كم يكون نبيلاً من الرسالة - وهي على ما لها من نفوذ - لو ازَّيَّنت صفحة من صفحاتها بأبحاث عن العالم الإسلامي لسد هذا النقص. . .
(مكة المكرمة)
صلاح الدين سليمان هاشم
أخلاق القرآن
ذكر الدكتور عبد الوهاب عزام في مقاله (أخلاق القرآن) المنشور بعدد الرسالة 388 الآية الكريمة هكذا: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده). والصواب (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده).
سليم الحجري
امرؤ القيس
إلى الأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل
بعد التحية. . . قرأت مقدمة كتابك (أغاريد الزفاف) المنشورة بالعدد 384 من الرسالة إلى(389/48)
أن وصلت إلى:
ورثت الرباب بنت امرئ القيس زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:
إن الذي كان نوراً يستضاء به ... بكربلاء قتيل غير مدفون. . . الخ
فمن هو امرؤ القيس هذا؟ أرجو الإفادة على صفحات الرسالة الغراء
(سائل)(389/49)
القَصَصُ
(سانياسي) أو الزاهد
مسرحية رمزية رائعة لشاعر الهند طاغور
ترجمة الأستاذ فخري شهاب السعيدي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
(يدخل رجال حاملين شخصا في فراش)
الأول: إنه لا يزال نائماً
الثاني: ما أثقل هذا اللعين
مسافر (خارج عن الجماعة): من هذا الذي تحملون؟
الثالث: إنه (بندى) الحائك الذي ينام نوم الأموات، وهانحن أولاء قد حملناه لننأى به
الثاني: ولكني تَعب أيها الرفاق فدعونا نهزه هزاً عنيفاً لنوقظه
بندى: (مستيقظا): إيه؟. . . آ. . . أو. . .
الثالث: ما هذا الصوت؟
بندى: من أنتم يا هؤلاء؟ إلى أين تذهبون بي؟ (يضعون عن عواتقهم الفراش)
الثالث: ألا تستطيع المحافظة على السكينة مثل سائر الأموات المحتشمين؟
الثاني: تلك حماقته، توجب عليه الكلام وإن يكن ميتاً!
الثالث: لقد كان يخلق بك أن تلتزم جانب الصمت
بندى: إني لآسف إذ أخلف ظنكم يا سادة، لأنكم أخطأتم فما أنا بميت وما كان اعتراني غير سنة من النوم العميق
الثاني: إني لأتعشق سلاطة هذا الرجل تعشقاً! فهو لا يموت فحسب، وإنما يموت مجادلاً
الثالث: إنه لن يعترف بالحقيقة؛ فلنذهب لإعداد شعائر الميت وإتمامها.
بندى: أقسم لكم بكرامة لحاكم هذه إني حي مثلكم
سانياسي: لقد استغرقت الفتاة في نومها متوسدة ذراعها تحت رأسها الصغير، وما أرى إلا أن أدعها وأذهب الآن. ولكن هل يجب أن تلوذ بالفرار، أيها الجبان؟ هل تلوذ بالفرار من(389/50)
هذا الكائن الصغير؛ إنما هذه في الطبيعة أنسجة عناكبها وما ينال خطرها غير الفَراش ولا يتجاوزه ليبلغني أنا الزاهد سانياسي
(تتنبه (فاسنتي) مذعورة)
فاسنتي: هل تركتني يا سيدي؟ هل ذهبت عني؟
سانياسي: وما الذي يوجب ابتعادي عنك؟ مِمَّ أخاف؟ أو أرتاعَ من ظل؟!
فاسنتي: هل تسمع اللغط في الطريق؟
سانياسي: ولكن السكينة مخيمة على نفسي
(تدخل امرأة شابة ومن ورائها بعض الرجال)
المرأة: اذهبوا الآن، غادروني لا تتحدثوا إلي في الحب
الرجل الأول: وَلِمهْ؟ ما هو ذنبي؟
المرأة: إن قلوبكم - يا أيها الرجال - قد قُدّت من الصخر
الرجل الأول: كلام لا سبيل إلى تصديقه. إذا كانت قلوبنا مقدودة من الصخر فكيف تمكنت منها سهام (كيوبيد) إذاً؟
رجل آخر: أحسنت. صدقت
الرجل الثاني: والآن، فبماذا تجيبين على قوله يا عزيزتي؟
المرأة: أتريد جواباً؟ وهل حسبت أنك قلت شيئاً حسناً؟ إنما هذا هذر محض
الرجل الأول: إني أحتكم إليكم أنتم أيها السادة. لقد كان قولي: إنه لو كانت قلوب الرجال قد نحتت من الصخر، فكيف. . .
الرجل الثالث: نعم، نعم، ليس على هذا الكلام من جواب
الرجل الأول: والآن، فلأشرح لكم هذا: قالت إن قلوبنا نحن الرجال، مقدودة من الصخر، أليس كذلك! حسن؛ فأجبتها إن كانت قلوبنا من الصخر حقاً فكيف استطاعت سهام (كيوبيد) أن تنالها بالتخريب؟ أتفهم؟
الرجل الثاني: لقد كنت أبيع الديس منذ أربعة وعشرين عاماً في المدينة يا أخي، أفتظنني لا أفهم ما تقول؟ (ينصرفون)
سانياسي: ماذا تصنعين يا طفلتي؟(389/51)
فاسنتي: إني أحِّدق في راحتِكَ الواسعة يا أبتِ! وكأن يدي طير صغير قد وجد عشه فيها. إن راحتكَ فسيحة كهذه الأرض التي تتسع لكل شيء: هذه الخطوط أنهارها، وتلك فيها التلال. (تضع خدها على راحته)
سانياسي: إن مَلمسَكِ لناعم يا بنيتي كملمس النوم، وإنه ليخيل إلي أن في هذه اللمسة أثراً عظيماً من آثار الظلام الذي يجرح النفس جرح الأبد الخالد؛ ولكنك يا طفلتي لست سوى فراشة النهار: لك طيورك وأزاهير حقولك. فماذا تستطيعين أن تجدي فيّ أنا الذي حصرت مركزي في الوحدانية؟
فاسنتي: لا أريد شيئاً آخر غير حبَّك هذا فإنه يكفيني
سانياسي: تتوهم الفتاة أني أحبها، فيا لَذَات القلب الطائش! إنها سعيدة بهذه الفكرة فلتنمِّها وتشجّعها! دعها تتعلّل بي لأنهم قد نشئوا في أحضان الوهم فلا بد لهم منه لِتسليهم
فاسنتي: يا أبت، هذا العُصْبَةُ التي تمتد على العشب في التماس شجرة تلتف حولها إنما هي عُصبتي: لقد تعهدتها وأرويتها منذ أن نجمتْ منها ناجمتان من صغار الورق في الهواء كأنهما صرخة الطفل الصغير. إني أنا هي تلك العصبة: نشأتْ على جانب من الطريق، فمن السهل أن تقتلع. هل ترى هذه الأزهار الصغيرة الجميلة ذات اللون الأزرق الفاتح المنقّطة قلوبها بالنقاط البيض؟ ما هذه النقاط سوى أحلامها! دعني أمسحْ جبينك في لطف بهذه الأزهار، فعندي أن الأشياء الجميلة إنما هي مفاتيح كل ما لم أرَ وما لم أهتد إلى فهمه.
سانياسي: كلا، كلا، ما الجمال سوى ضرب من الخداع. وإن الزهرة والتراب في نظر الحكيم العارف لشيء واحد. ولكن ما هذا الضعف الذي يدب في عروقي ويسدل على بصري نقاباً خفيفاً من ألوان قوس قزح جميعها؟ هل هذه هي الطبيعة تحوك أحلامها من حولي لتضل حواسي؟ (ينهض فجأة ساحقا الأزهار) حسبي هذا، فإنما هو الموت. ما لعبك هذا، يا أيتها الفتاة، معي؟ إني أنا هو الزاهد (سانياسي) لقد قطعت عُقد نفسي كلها فأنا الآن حر طليق. كلا ثم كلا، لا تذرفي الدموع فإني لا أطيق احتمالها؛ ولكن أين كانت تختبئ هذه الحية في قلبي أين كان هذا الغضب الذي زحف خارجاً من ظلماته مرهف الناب؟ كلا. . . إذاً فهي لم تمتْ بل ظلت حية لإنشاء المجاعة: هذه المخلوقات الجهنمية قد جَمَّعتْ هياكلَها المقعقِعة وقامت تتراقص بينا أخذت أستاذتُها الساحرة الخطيرة، في إيقاع ألحان(389/52)
شبابتها السحرية في قلبي. لا تبكيْ يا طفلة، وتعالي إليَّ تعالي. إنك لتشبهين في نظري صرخة عالم ضائع، أو نشيد نجم جوال. إنك لتطيقين بذهني شيئاً أوسع من هذه الطبيعة سعة لا تحد. بل هو أوسع من الشمس والنجوم جميعاً. . . إنه لعظيم كالظلام، وإني لا أدرك كنهيه، ولم أدر ما هو، وذلك ما يبعث الرعب منه في نفسي، وعليَّ أن أفارقَك، فعودي من حيث أتيت يا رسالة المجهول
فاسنتي: لا تفارقني يا أبت، فإنه ليس لي في الدنيا من أحد سواك. . .
سانياسي: بل يجب علي أن أذهب. لقد حسبتُ أنني عرفت ولكني لما أعرف، ومع ذلك، فيجب أن أهتدي إلى العرفان؛ فأنا أغادرك لأعرف من عساك تكونين!
فاسنتي: أبت، إن غادرتني كنت في الهالكين.
سانياسي: أطلقي يدي ولا تمسكي بي، فإني يجب أن أتحرر
(يخرج راكضا)
- 3 -
(يشاهد (سانياسي) الزاهد جالسا على صخرة في شعب جبل. يمر صبي راع مغنيا)
الأغنية: (لا تشح، يا حبيبي، بوجهك عني؛
(فهذا الربيع قد فتح صدره،
(وهذه الأزهار تبوح بمكنون سرها في الظلام.
(وحفيف أوراق الغابة يرتفع في الفضاء
(مثل ارتفاع حسرات الليل؛
(فتعال يا حبيبي، تعال وأرني وجهك. . .)
سانياسي: إن ذهب الأصيل ليذوب في قلب البحر الأزرق وهذه الغابة التي تقوم على سفح الأكمة ترشف آخر أكؤس أنوار النهار. تلك أكواخ القرية ترى إلى اليسار من خلال الأشجار، وكأن مصابيح المساء المضاءة فيها أم مبرقعة وقفت ترقب طفلها المستغرق في النوم
يا أيتها الطبيعة إنما أنت أمتي، لقد نشرت بساطك المهول في القاعة الفسيحة التي أجلس فيها وحيداً جلسة ملك، أرقبك تتراقصين وعلى صدرك تلتمع ونيتك المنظومة من النجوم.(389/53)
(تمر صبايا الراعيات منشدات:)
(تجيء ألحان الموسيقى مما وراء النهر المشمول بالظلام فتناديني
(لقد كنت في الدار؛ وكنت فيها سعيدة؛
(ولكن لحن الشبابة تعالى في سكون الليل،
(فإذا بفؤادي تنتابه وخزة من الألم،
(ألا فلتدلني على الطريق يا من تعرفها،
(دلني على الطريق التي تقود إليه؛
(فسأذهب إليه بزهرتي الصغيرة الواحدة لأضعها عند قدميه
(وخبره بأن موسيقاه وحبي شيء واحد!)
(يبتعدن)
سانياسي: أحسب أن مثل هذا المساء قد طرأ علي مرة واحدة طوال حياتي؛ فأترع كأسه إلى حافته بالحب والموسيقى، وجلست مع شخص يعيد ذكرى وجهه إلى مرأى نجمة المساء. . .
ولكن أين هي فتاتي الصغيرة ذات العينين السوداوين الحزينتين اللتين تترقرق فيهما الدموع؟ أهي جالسة هناك خارج كوخها تحدق في نجمة المساء ذاتها من خلال وحدة المساء الجليلة؟
ولكن لا بد للنجمة من أفول، ولا بد للمساء من إغماض عينيها في الليل؛ فأما الدمع فسيرقأ حتماً، وأما الحسرات فسيهدئها النوم بغير شك. لا، لن أقفل راجعاً، ولتثبت لأحلام العالم أشكالها؛ لن أعترض سبيلها، ولن أختلق لها أوهاماً جديدة، فلسوف أبصر، ولسوف أتفكر وأعرف
(تدخل فتاة في أسمال بالية)
الفتاة: أنت هنا يا أبت؟
سانياسي: تعالي واجلسي بجانبي يا طفلتي. وبودي أن لو استطعت لملكت دعوتكم لنفسي. لقد دعاني بعضهم بـ (يا أبت) مرة، وكان الصوت يشبه صوتك بعض الشبه، وها إن الأب يجيب الآن، ولكن أين هو النداء؟(389/54)
الفتاة: من أنت؟
سانياسي: إني (سانياسي) الزاهد؛ فخبريني أيتها الطفلة ما مهنة أبيك؟
الفتاة: إنه يجمع الأحطاب من الغابة
سانياسي: وهل لك أم؟
الفتاة: كلا، لقد ماتت إذ كنت طفلة
سانياسي: وهل تحبين أباك؟
الفتاة: أحبه الحب الذي ما فوقه شيء في هذا الكون. إني ليس لي في الدنيا سواه
سانياسي: لقد فهمتك، أعطني يدك الصغيرة، دعيني أمسكها في راحتي، في راحتي الكبيرة هذه
الفتاة: وهل تحسن يا (سانياسي) قراءة الكف؟ هل تستطيع أن تقرأ كل ما في حاضري ومستقبلي من كفي؟!
سانياسي: أحسب أنني أستطيع، ولكن عسير علي إدراك معناه، ولسوف أعرف المعنى ذات يوم
الفتاة: يجب أن أبادر للقاء والدي
سانياسي: أين؟
الفتاة: في الطريق المؤدية إلى الغابة، فإنه سيفتقدني إن لم يجدني هناك
سانياسي: قرّبي رأسك مني يا طفلتي. تعالي أقبّلك قبلة التبريك قبل أن تذهبي
(تغادره الفتاة)
(تدخل امرأة وطفلتان)
الأم: ما أقواكما وما أثقلكما يا ابنتي (ميسيري)! أما إنهما لمتعة للنظر! وما أراكما، كلما أطعمتكما إلا قد زدتما هزالاً يوماً فيوماً!
الطفلة الأولى: ولم أراك تلوميننا على هذا يا أماه؟ هلا فهمنا هذا!
الأم: ألم آمركما بالإخلاد إلى الراحة؟ ولكنكما لا تفتآن تتراكضان من هنا وهناك
الطفلة الثانية: ولكنما نركض في خدمتك يا أم
الأم: كيف تتجرئين على هذا الكلام؟(389/55)
سانياسي: إلى أين تريدين يا ابنتي؟
الأم: لك تحيتي واحترامي يا أبت. إننا في طريقنا إلى الدار
سانياسي: وكم شخصاً أنتم؟
الأم: زوجي وأمه وطفلتان أخريان غير هاتين
سانياسي: وكيف تقضون أيامكم؟
الأم: صعب علي أن أعرف كيف تمضي الأيام. أما رَجلي فيخرج إلى الحقل، وأما أنا فأنصرف إلى منزلي أدبر شؤونه؛ فإذا أقبل المساء جلست مع كبريات بناتي للغزل (مخاطبة الطفلتين) اذهبا فحييا الزاهد. باركهما يا أبت
(يخرجن)
(يجيء رجلان)
الأول: أرجع من هنا يا صديقي ولا تعد أبداً
الثاني: نعم، أدري، فالأصدقاء إنما يجمعهم الاتفاق، والاتفاق هو الذي يحملنا إلى بعض الطريق معاً ثم تحين اللحظة التي يتحتم فيها الفراق
الصديق الآخر: ولكن لنحمل أمل الاجتماع بعد الفراق
الصديق الأول: إنما يعود اجتماع الشمل وتشتته إلى سير العالم كله، ولن ترعانا النجوم رعاية خاصة بنا!
الصديق الثاني: فلتحي النجوم التي جمعتنا إذا سواء، فإن ذلك لو كان للحظة واحدة فهو خير كبير
الصديق الأول: تريث للحظة قبل أن تذهب. هل تستطيع أن ترى لمعان الماء القليل في الظلماء، وأن ترى أشجار (الجزورين) على الضفة الرملية من النهر؟ لكأن قريتنا كومة من الظِّلال القاتمة السود. إنك لا تتبين منها غير الأنوار فهل تستطيع أن تقول أي هذه ضوؤنا؟
الصديق الثاني: نعم احسبني أستطيع
الصديق الأول: إن ذلك النور هو نظرة التوديع التي تلقي بها أيامنا الخالية على ضيوفها الراحلين، ثم إذا أوغلت قليلاً فهنالك تجثم الظلماء(389/56)
(يخرجان)
سانياسي: هذا الليل يشتد ظلمة ووحشة، وكأنه في جلسته هذه المرأة المهجورة. وهذه النجوم دموعها قد انقلبت ناراً. لقد ملأ حزن قلبك الصغير يا طفلتي جميع ليالي حياتي حتى الأبد. ويدك المشتاقة الصغيرة قد تركت أثر ملمسها في هواء هذا الليل! وكأني أحسها على جبيني مخضلة بدموعك. أي حبيبتي! إن حسراتك التي تابعتني يوم أن هربت قد تعلقت الآن بقلبي، وسأحملها إلى مماتي.
- 4 -
(سانياسي في مخرفة القرية)
لتذهب نذور زهدي هباء، فقد كسرت عكازي وحطمت كشكولي، وهذه السفينة العظيمة، هذا الكون الذي يشق عباب الزمان ليحملني على متنه تارة أخرى كيما أدرك الحجاج ثانية، واهاً للمجنون الذي يسبح في البحث عن السلامة وحيداً رافضاً أشعة النجوم ونور الشمس معتمداً في التماس سبيله على ضوء مصباحه الدوري. إن الطير ليحلق في الفضاء ليعود إلى هذه الأرض العظيمة، لا لكي يضل في الفراغ! إني طليق من أغلال الانتفاء غير المجسدة. إني متحرر من قيود الأشياء والأشكال والغايات والمحدود هو في الحقيقة غير المحدود! وإن الحب ليعرف حقيقته. يا فتاتي إنما أنت روح ذلك كله، فلن أستطيع إلى تركك سبيلاً
(يجيء رئيس القرية)
سانياسي: هل تعلم يا أخي أين تكون ابنة (رافو)؟
رئيس القرية: لقد غادرت قريتها وإنا بذلك لفرحون
سانياسي: وإلى أين ذهبت؟
الرئيس: وهل تتساءل إلى أين ذهبت؟ لا فرق عندها حيثما كانت
(يخرج)
سانياسي: لقد ذهبت عزيزتي لتبحث لنفسها عن مكان حيث لا مكان في الفراغ، فيجب أن تهدي إلى
(يدخل جمهور من القرويين)(389/57)
الرجل الأول: وإذا فسيتزوج ابن ملكنا الليلة
الرجل الثاني: وهل تستطيع أن تخبرني عن ساعة الزفاف متى تكون؟
الرجل الثالث: إنما ساعة الزفاف للعريس وعروسه فما لك ولها؟
امرأة: ولكن ألا تراهم سيعطوننا من أجل هذا اليوم السعيد بعض الكعك؟
الأول: بعض الكعك؟ ما أبلدك! لقد سمعت من عمي الذي يعيش في المدينة أنهم سيوزعون علينا اللبن والرز المشوي
الثاني: شيء عظيم
الرابع: ولكن ثقوا بأنا ستنالنا كمية من الماء أكبر من كمية اللبن
الأول: ما أبلدك يا (موتي) أفي حفلة زواج الأمير يشاب اللبن بالماء؟
الرابع: ولكنا لسنا بالأمراء يا (بانجو). إنما لنا - نحن الفقراء - حيلة المذق بالماء الوفير
الأول: اسمعوا، ذاك ابن الفحّام ما يزال منكباً على عمله فيجب أن نقفه عما هو فيه
سانياسي: هل علم أحد منكم أين تكون ابنة (رافو)؟
المرأة: لقد خرجت مهاجرة
سانياسي: إلى أين؟
المرأة: ذلك ما ليس يعلمه أحد
الرجل الأول: ولكنا واثقون بأنها ليست هي عروس الأمير!
(يتفرقون ضاحكين)
(تدخل امرأة ومعها طفلها)
المرأة: تحياتي أرفعها إليك أيها الأب. دع طفلي هذا يحني رأسه عند قدميك، إنه مريض فباركه يا أبت
سانياسي: غير أني لستُ كما كنتُ زاهداً يا بنيتي فلا تسخري مني باحتراماتك
المرأة: فمن عساك أن تكون إذاً! وماذا تصنع؟
سانياسي: إني أبحث. . .
المرأة: وعمن تبحث؟
سانياسي: إني أبحث عن عالمي الضائع - هل تعرفين ابنة (رافو)؟ أين تكون الآن؟(389/58)
المرأة: ابنة (رافو)؟ لقد ماتت!
سانياسي: لا. . . إنها لا تموت. . . كلا. . . كلا
المرأة: ولكن ما أنت وموتها أيها الزاهد؟
سانياسي: ليس أنا وحدي الذي يعنيني موتها؛ بل ذلك يعني موت الجميع
المرأة: إني لست أفهمك
سانياسي: إنه لا يمكن أن تموت قط!
(تمت المسرحية)
فخري شهاب السعيدي(389/59)
العدد 390 - بتاريخ: 23 - 12 - 1940(/)
إلى رجال الجامعة ورجال المعارف
كلمة صريحة
لكاتب كبير
لقد هدأت الفورة التي ثارت في صدور طلبة الجامعة المصرية بمناسبة تفكير الوزارة في رفع درجات النجاح في الامتحانات وهي فورة لم يكن لها موجب، لأن من واجب الطلبة أن يرتاضوا على المصاعب، وأن يظهروا بمظهر التحدي الجريء لمتاعب الدرس والتحصيل.
ولكن هناك فورة منتظَرة، فورة حميدة العواقب، لأنها ستصدُر عن الأساتذة لا عن الطلاب؛ وفورة الأساتذة لا تعرف مغاضبة الشرُّطة، ولا تفكر في تحطيم المصابيح، وإنما هي فورة يقع فيها التصادم بين الأفكار والعقول.
ولكن متى يقع ذلك التصادم فنسمع أن فريقاً من الناس رجعوا إلى ضمائرهم فأدركوا أن لهم (فضلاً) عن زعزعة التعليم الابتدائي والثانوي، وأنهم مسئولون عن المصير الذي لا نجاة من شره إلا برفع درجات النجاح في جميع الامتحانات؟
لو ملكتُ حرية الخروج على الذوق لطوّقت رجال الجامعة ورجال المعارف بأطواق من حديد، وكيف وأنا أخاطب أقواماً تؤذيهم خطرات النسيم، ويرون النصحَ - وإن لطُف - ضرباً من التمرُّد والثورة على مقاماتهم العالية؟
وأنا مع ذلك سأحاول تذكير تلك المقامات بما اجترحتْ في ميدان واحد هو ميدان اللغة العربية، فاسأل في ترفّق وتلطّف:
من المسئول عن قصّ حواشي منهج اللغة العربية، بحيث صار من المؤكد أن تلاميذ المدارس الابتدائية قبل عشر سنين كانوا يعرفون من القواعد أضعاف ما يعرف تلاميذ المدارس الثانوية في هذه الأيام؟
ولأي غرض كثُر التغيير والتبديل في ذلك المنهج؟ وبأي حق جاز أن يظفر الشاب بإجازة الدراسة الثانوية، وهو لا يملك القدرة على تشريح فقرة واحدة من الجهات النحوية والصرفية والبلاغية؟ ولأية غاية تدرس اللغة العربية في المدارس إذا كان من حق كل تلميذ أن يجهل من قواعد اللغة ما يشاء؟(390/1)
ثم قيل: إن كلية الآداب أطالت التأسف والتحسُّر على مصاير التعليم الثانوي، وإنها فرضت على وزارة المعارف أن تكف يدها عن ذلك التعليم لتطبّ له بالأساليب الجامعية المصرية فتصيّره غاية في القوة والعافية.
فماذا صنعت كلية الآداب وقد زعمت أنها تقدر على ما لا تقدر عليه وزارة المعارف من إحياء الموتى وهي رَميم؟
أشارت بالاستغناء عن الواجبات التحريرية في النحو والصرف والبلاغة لتنقلب الدروس إلى محاضرات (!) وأشارت أيضاً بأن يُترك المدرسون لضمائرهم فيما يأخذون وما يدعون (!) ولم يبق إلا أن تشير بحرية المواظبة لتتمَّ (النعمة الجامعية) على أولئك التلاميذ!
فإن قيل: وأين وزارة المعارف؟ فأنا أجيب بأن وزارة المعارف موجودة بالفعل، وإلا فمن الذي يوزع المنشورات التي تصدرُ عن كلية الآداب (وتوزيع المنشورات يحتاج على رجال!).
وهنا أذكر شيئاً من التناقض المزعج، أذكر أن كلية الآداب قد توفَّق إلى خاطر طريف يحبِّب التلاميذ في اللغة العربية، كالذي اتفق في (مسابقة الأدب العربي لطلبة السنة التوجيهية) ولكنها تترك تحقيق مثل هذا المشروع لمراقبة الامتحانات بوزارة المعارف. ومراقب الامتحانات لم يكلف نفسه دعوة نظار المدارس والمدرسين الأوائل للنظر في توجيه الطلبة إلى هذه المسابقة الطريفة؛ فكانت النتيجة أن اكتفت كل مدرسة باختيار بعض الطلبة للمسابقة في الأدب، كما تختار بعضهم للمباراة في الألعاب!
إن كان مشروع المسابقة من ابتكار وزارة المعارف فكيف تتركه لرجل بعيد من الحياة الأدبية؟ وإن كان مشروع المسابقة من ابتكار كلية الآداب فكيف تتركه لمراقب الامتحانات بوزارة المعارف؟
أين المسئولية في هذا الشأن الدقيق؟ ومن الذي يحتمل وِزْرها الثقيل؟
أشهد أن سيطرة كلية الآداب على السنة التوجيهية حقٌ في حق، فقد أرَّق كاتب جفونها في الأعوام الماضية لاختيارها كتاب (نقد النثر) وكانت حجته أنه لا يصلح للمطالعة بحال من الأحوال، وقد استجابتْ الكلية لندائه فسحبتْ ذلك الكتاب، ولكنها مع ذلك كلفت وزارة المعارف أن تذيع منشوراً يقول: إن كتاب (نقد النثر) مرجع لأكثر النصوص المقررة في(390/2)
السنة التوجيهية!!
فهل سمع أحدٌ قبل اليوم أن كتاب قُدامة في نقد النثر من مراجع النصوص الأدبية؟
ليتني أعرف إلى من أوجِّه القول! فوزارة المعارف مُدغمة في كلية الآداب، ولن يُفَكَّ هذا الإدغام إلا يوم يُعرَف أن المسئولية لا تتضح إلا بتحديد جهات الاختصاص.
أما بعد فهذا نَذيرٌ من النُّذر الأولى، فإن ظن قومٌ أن مصير اللغة العربية موكول إلى أذهانهم (الثواقب) فسيندمون بعد حين، لأنَّ النقد الأدبي لن يترك أهواءهم بلا تجريح، وإن اعتصموا بأمنع الحصون.
لن يكون مصير الجيل الجديد تحت رحمة الأهواء، أهواء الداعين إلى (تيسير النحو) والقائلين بأن اللغة العربية لغة عصر ذهب وباد.
مصير الجيل الجديد في اللغة العربية لن يصوغه غير أهل الغيرة الصحيحة على لغة القرآن.
(كاتب)(390/3)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
(في صحراء ليبيا)
لأحمد حسنين
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
بسم الله الرحمن الرحيم
كذلك هتفتُ وأنا أهمّ بكتابة مقال عن هذا الكتاب، لأنه صعب المنال، ولأن المقدمة التي حبَّرها لطفي باشا السيد لم ترشدني إلى طريق تقديمه إلى القراء، وأنا أرجو أن تنفعني بركة (البسملة) فأسجل بعض ما سنح من الخواطر عند قراءته السريعة، وهي جهد المقل في ثلاث سهرات
الرحلة
هي رحلةٌ قام بها حضرة صاحب المعالي أحمد محمد حسنين باشا سنة 1923 من السلوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى الأُبيَض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرُها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر قُطعتْ على ظهور الإبل، وفيها وُفِّق الرحالة إلى كشف واحتين مجهولتين هما (أركنو) و (العوينات)، وكانتا غير معروفتين قبل ذلك للجغرافيين.
وقد سُطِّر تاريخ هذه الرحلة في نحو أربعمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وهي مقسمة إلى جزأين، وفيها كثير من الرسوم العلمية والجغرافية.
شخصية المؤلف
هو رجل لم تلده ولاّدة، كما يعبِّر أهل مصر حين يصفون فتىً من النجباء. وقد حدثنا هذا الفتى عن أهله، فلم نعرف إلا أن أباه كان من علماء الأزهر الشريف، وقد تلطّف لطفي باشا السيد فحدثنا أن جد المؤلف كان من الباشوات، ولم يذكر بأية صفة نال ذلك الجد رتبة الباشوية، وأغلب الظن أنها الباشوية التي كانت تمنح لرجال الجيش، فإن لم تكن كذلك فهي(390/4)
باشوية لم تقض على وارثي جاهها الفخم بمنحة الترف واللين، وإنما أورثت حفيدها القدرة على أن يقول: إن أهله كانوا من ساكني البادية؛ وعلى أن يقول: نحن أهلَ الصحراء، لا يغنينا النوم عن العشاء.
وقد كان أحمد حسنين في كل أدوار ماضيه من نماذج الفتوَّة واللوذعية، عاش في إنجلترا حيناً فكان صورة للفتى الموسوم بالبراعة والشهامة والصدق والجاذبية، ولم يمنعه تحضّره من الاتصال بالبادية، فاعتُمد عليه أيام الحرب الماضية في السفر إلى الصحراء الغربية للاتفاق مع زعمائها على رعاية واجب الجِوار في احترام الحدود.
ثم طوحت به همته إلى اختراق تلك الصحراء ليكشف واحتين كان لهما في أذهان أهل البوادي خيال، ولم يكشفهما أحد من قبل، فكان التوفيق من حلفائه الأوفياء.
ثم أراد أن يكون طياراً، ولكن الحوادث أرادت غير ما يريد، فقد طار من إنجلترا إلى إيطاليا، ثم سقطت طيارته، فأصلحها وطار، ثم سقطت فأصلحها وطار، وقد صمم على أن يدخل مصر طائراً ولو سقط بطيارته في جوف المحيط، ولكن برقية كريمة صدرت إليه بوحي من الملك فؤاد، فقهرته الطاعة على أن يدخل مصر وقد امتطى الماء، لا الهواء، وتلك أعظم محنة عاناها ذلك العربي الصوال.
الإنسان الكامل
وما أريد الإنسان الكامل في اصطلاح الصوفية، وإنما أريد القول بأن أحمد حسنين كان رجلاً كامل الرجولة حين اخترق الصحراء في سنة 1923، والرجولة التي أعنيها هي الرجولة المبرأة من شوائب الضعف والغفلة والقنوط. كان أحمد حسنين في ذلك العهد رجلاً بكل معنى الكلمة: كان بدويِّا في مواطن البداوة، وحضريِّا في معاهد الحضارة. كان حليما في أوقات الحلم، وجاهلاً في أوقات الجهل؛ فكان له في كل حالة لَبوس، وكان في جميع أحواله صورة من الرجل الذي يرى الخلُق الصحيح في رياضة النفس على مسايرة ظرف المكان والزمان.
ومن المؤكد أن رحلة الصحراء نفعته في مركزه الحاضر، وهو رياسة الديوان بقصر جلالة الملك، فقد وصفته مجلة (آخر ساعة) وصفاً هو أعجب الأوصاف، حين قالت: إن أحمد حسنين يتمتع بأعظم المواهب السياسية، لأنه أقنع الجميع بأنه رجل غير سياسي.(390/5)
وأعود إلى تأثير الصحراء في عقل أحمد حسنين فأقول:
عاش هذا الرجل نحو ثمانية أشهر في ظلال المخاوف والحتوف، وكانت الرِّيب تحيط به من كل صوب، وكانت الثعابين تداعبه من حين إلى حين، وكان يُؤْثر سُرَى الليل ليتجه بصره إلى ناحية واحدة، ومن هنا عرف أن الظلمة قد تنفع (والسياسي يعيش في عوالم من الظلمات، ولو سطع النور حول أغراض السياسي لتخاذل وضاع).
الرحالة
لا يدلنا كتاب أحمد حسنين على أنه كان رجلاً من المُترفين حين قام بتلك الرحلة العاتية، وإنما يشهد كتابه بأنه كان رجلاً من صميم البادية. كان رجلاً يهمه أن يقيم البراهين على أنه لم يتعلم في جامعة أكسفورد غير حزم الأمتعة، والتعرف إلى مواطن الخوف والرجاء في مفاوز الصحراء.
هو فلاح متحضر، فهو لذلك أذكى الرجال وأعقل الرجال.
وقد عرف هذا الفلاح المتحضر ما في البادية من مكر ودهاء، فهو يلبس حُلة ذكائه في كل وقت، ويشتمل بثوب مكره في كل حين.
وما ظنكم برجل تحيط به الشكوك من جميع الجوانب وهو فريد وحيد ثم ينتصر بلا مشقة ولا عناء؟
ذلك هو أحمد حسنين الذي ائتمنه الملك فؤاد واصطفاه الملك فاروق، ومن الصعب جدَّا أن يكون الرجل أهلاً لثقة الملوك، فذلك مقام لا يظفر به إلا الأقلون من أعاظم الرجال.
وقد فَطِن أسلافنا إلى أن صحبة الملوك تحتاج إلى تثقيف خاص، فوضعوا المؤلفات الطوال في التعريف بما يجب أن يتحلى به أمناء الملوك من شمائل وآداب. وهذا الفن من التأليف لم يكثر إلا في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان ذلك لأن ازدهار الحضارة يزيد في مشكلات المجتمع من النواحي الذوقية والاجتماعية، وتلك حال تزيد فيها تبعات من يتصلون بالملوك، لأنهم عندئذ يكونون صلة الوصل بين الحاكمين والمحكومين، وعلى ذكائهم وبراعتهم وإخلاصهم يرجع الفض في حل أكثر المعضلات. . . فمن خَطَل الرأي أن يظن بعض المتعاقلين أن إكثار أسلافنا من التأليف في هذه الشؤون دليل على أنهم كانوا يعيشون في عصور الاستبداد.(390/6)
أغراض المؤلف
للمؤلف في ظاهر الأمر غرض واحد: هو تسجيل رحلته في الصحراء، ولكن من الذي يقف به القلم عند ما كان يريد؟ إن النفس تتفتح عند حمل القلم من وقت إلى وقت، وتتنادى خواطرها من فصل إلى فصل، فإذا بلغ القلم نهاية الشوط كانت النسبة بين ما ابتدأ به وما انتهى إليه كالنسبة بين النواة الضامرة والسَّرحة اللفَّاء.
يقع كتاب أحمد حسنين في عشرين فصلاً، وله في كل فصل مجالٌ خاص، وفقاً لاختلاف الأغراض.
فالفصل الأول عن الصحراء من نواحيها المادية والروحية، وفي هذا الفصل كلام يقوله كل الناس، إلا كلامه عن الشوق إلى ما في الصحراء من متاعب وصعاب، ولا تظهر قيمة هذه النزعة لمن يقرأها في الفصل الأول إلا حين يعاني قدها في الفصل الأخير، ذلك بأنها تواجهه أول مرة وهي أشبه بالفلسفة الروحية، والناس قد يقرءون الفلسفة هادئين، ولكن هذه النزعة لا تواجه القارئ في الفصل الأخير إلا بعد أن يكون شارك المؤلف في الأنس بالصحراء، وعندئذ يحق له أن يتوجع لبلواه حين يقول وقد وصل إلى دار الأمان:
(ودب في نفوسنا جميعاً دبيب الابتهاج بعودتنا إلى الاتصال بحياة الحركة، ولكني شعرت حين انقلبت إلى فراشي بوخزة حزن في قلبي، لأن ذلك اليوم كان آخر أيامي في الصحراء، ورأيتني أضيف إلى صلوات شكري دعاه خالصاً أسأل الله فيه أن يقدر لي العودة إليها يوماً من الأيام).
وفي الفصل الثاني يتكلم المؤلف عن وضع خطة الرحلة فيقول كلاماً يقوله سائر الناس، ولكنه يفاجئك بكلام نفيس عما صنع أبوه رحمه الله، وهو يزوِّده بالبخور والدعوات الصالحات ومن كلامه عرفت أشياء من عادات العرب في التأهب للرحيل.
وقد أطنب المؤلف في الثناء على أبيه، ثم أعرب عن فجيعته لوفاته بعبارات لا تصدرُ إلا عن نجباء الأبناء، وما مات من خلَّف مثل أحمد حسنين.
وفي الفصل الثالث يقف المؤلف موقف المعلم لمن يحاولون اختراق الصحراء، فيقدم من المعارف الضرورية للمغامرين أشياء يحتاجون إليها أشد الاحتياج.
وفي الفصل الرابع تظهر طلائع المخاوف، ونرى كيف يضطر الرحالة إلى تغيير خطة(390/7)
السير لينجو من مكايد الأعراب.
وفي الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن السنوسيين بكلام ينهض على قواعد علمية، فيذكر تاريخهم بإيجاز، ويشرح عقائدهم بالتفصيل، ومن الواجب أن يدرس الطلبة هذا الفصل، لأنه من عيون الكتاب، ولأن موضوعه يهم أعضاء لجنة الامتحان.
(وهنا أذكِّر الطلبة بأن الامتحان له قواعد، ومن أهمِّ قواعده أن تَرِد أسئلة في الموضوعات الرئيسية، فمن واجب كل طالب أن يُعنَى عناية شديدة بالموضوعات التي لا يجوز جهلها على الإطلاق، فإن التمكن في تلك الموضوعات يغفر الضعف في الموضوعات الفرعية بعض الغفران. . . وأذكِّرهم أيضاً بأن هناك شؤوناً تظهر كالتوافه، ولكنها رئيسية، كوجه التسمية لواحة أركنو، فهي مسألة هينة، ولكن الجهل بها يدل على عدم الاكتراث. . . ثم أذكرهم بأن الطالب الذي يُختَبر في كتاب أحمد حسنين سيسأل حتما عما قال المؤلف في وصف الواحتين الجديدتين. . . وأذكِّرهم كذلك بأن في المقدمة التي كتبها لطفي باشا السيد كلمة مهمة عن ارتياد تلك الصحراء في عهد الفراعين).
وفي الفصل السادس يتكلم المؤلف عن واحة جغبوب، وهي واحة مصرية نهبها الطليان منذ سنين، فليقرأ الطلبة أخبارها، وليذكروا أن لهم إليها عودة بعد حين.
وفي الفصل السابع يتحدث الرحالة عن الولائم والأدوية، فيذكر أشياء تنفع من يفكر في ارتياد تلك البقاع.
وفي الفصل الثامن يتكلم عن الزوابع في طريق جالو، ويصفها وصف العارف الخبير، والبدو هناك يرون الزوابع من عمل الجن، فليذكر الطلبة أن الزوبعة هي الجِنّية في لغة العرب، ولها اسم بهذا المعنى عند عوام المصريين، فهم يرون الزوبعة من الأنفاس الخلفية للعفريت.
وفي الفصل التاسع يفصل القول عن واحة جالو، ويذكر ما بينها وبين الطليان من نزاع وشقاق.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
لا أرى من الضروري أن أشير إلى بقية الفصول، لأن هذه الإشارات العوابر لا تغني عن المراجعة والاستقصاء.(390/8)
وإنما أرى من الحتم أن أوجه الطلبة إلى درس هذا الكتاب، ولا يتم ذلك إلا بدعوتهم إلى تعقب ملاحظات المؤلف، وتعرُّف ما كان يجول بنفسه من خواطر وشجون.
وأقول إن المؤلف مولع بوصف الأجسام فلا يرى شخصاً إلا حدثنا عن قوامه وعينيه، فما سر ذلك؟
يرجع السر إلى أن المؤلف عاش دهره موصول الأواصر بالأندية الرياضية، ومن هنا غُرست في نفسه بذور الثقافة الجسمية، فهو ينظر إلى الأجسام قبل أن ينظر إلى العقول، وهي نظرة تدل على أنه رجل هذا معنى غرام الرجل بالإبل والخيل، فهو جمّال إن أردت، وفارس إن شئت، وهو فوق هذا وذاك يحس مذاق الظل، وقد يتذوق طعم الغُبار في بعض الأحايين.
يمرّ أحمد حسنين بعظام رجل ميت فيستأنس، وكان الظن أن يستوحش، وإنما استأنس برؤية عظام الميت لأنها تشهد بأنه يسير في طريق سلكها الناس من قبل.
ويهتم أحمد حسنين بدرس عادات البدو دراسة مضمّخة بعَبير الشوق والحنين، وهو يرد تلك العادات إلى أصولها من العواطف الذاتية، فالفتاة التي يحرق حِذاءها البارود تُزهَي وتختال، لأن ذلك شاهد على أنها تَغُلّ الباب الرجال.
وفي هذه المرحلة يصرخ أحمد حسنين صرخات تنطق بأنه من أصحاب الأذواق.
وهذا الرجل المفتون بالبادية هو أيضاً مفتونٌ بالحاضرة أعنف الفتون، فلا يطيل المكث إلا في المواطن التي يكثُر فيها اشتباك العواطف والأهواء
وهنا أظفر بأحد مقاتله فأصرح بأنه لم يعش طويلاً في الواحتين الجديدتين - وهما محصوله الأصيل في تاريخ الاستكشاف - وإنما عَبَرهما عُبور الطيف، لأنهما خاليتان من مواسم العيون والقلوب.
وما عددت هذا من مقاتله إلا رياءً، فالجمال الحقيقي هو الجمال الإنساني، لأنه يفهم عنا ما نريد؛ أما جمال الطبيعة فهو جمالٌ غبيٌ بليد، ولا يكتفي بالأنس به إلا الممتحنون بالحرمان، وما كان أحمد حسنين من المحرومين.
أحمد حسنين يتفاءل في فرصتين: الأولى أن يَرمِىَ ظبياً فيصميه، والثانية أن يرى في صبيحة السفر وجهاً جذاب الملامح وضّاح الجبين.(390/9)
فمن يكون الرجل السليم إن لم يكن هذا الرجل نموذجاً للرجل السليم؟
ثم يجب النص على اهتمام أحمد حسنين بأداء الصلوات، والتبرك بالأذان، فتلك شواهد على ما صرح به غير مرة من أن الصحراء تزيد من قوة الإيمان، وهو التصريح الذي أتاح لمعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك أن يقترح إرسال علماء الأزهر إلى الصحراء!! والنكتة الدقيقة من أبرز عناصر الفن الرَّفِيع
الأسلوب
أحمد حسنين ليس من أصحاب الأساليب، فليس له في الإنشاء مذهبٌ خاص، وهو فيما نعلم لم يفكر في أن يكون له مكان بين الكتّاب، وإن كان من أكابر الأدباء
وقد أنشأ كتابه أول مرة بالإنجليزية، ثم ترجمه إلى العربية وهذا يفسِّر ما نشهد من تفاوت الأسلوب من حين إلى حين.
ولكن الكتاب مع هذا على أعظم جانب من الحيوية، فما سرّ ذلك؟
يرجع السر إلى قوة إحساس المؤلف، فكل سطر من كتابه ينطق بأنه يَعنِي ما يقول، وسياق الحديث يدل في كل صفحة على أن الرجل جابَ الصحراء وهو مرهف الحِسّ ذكيّ الجَنان، وملاحظاته فِطريَّة بعيدة من التكلف، فهو يُشعِرك بأنه بدويٌ لا يرى غير ما في البادية من مخاوف وآمال، وهو ينقلك إلى تلك المجاهيل بقوة سِحرية فتسايره بتلهف وتشوق، كأنك عانيت من صابها ما عانَى وذقت من رحيقها ما ذاق.
وإحساس أحمد حسنين يصل به إلى تذوق جميع الألوان، هو إحساس رجل سليم يرى ويسمع ويذوق بقوة وعنف، وكأنه طفلٌ يطَّلع أول مرة على غرائب الوجود
تقدَّم إليه المائدة وهو في البادية فيُقبل عليها إقبال البدوي الغرثان، وينص على أنه أكل بشهية، ثم يصف ألوان الطعام بإسهاب، وذلك لا يقع إلا من رجل مدَّرع بالعافية
ويدرس الوجوه باهتمام شديد، حتى جاز أن يحكم لفتاة بالجمال، ولم ترها عيناه، لأنه لاحظَ أن أخاها جميل
ويدرس عواطف أصحابه بمهارة وحذق فيعرف ما يطوون في صدورهم من لواعج وأشجان، ثم يمضي فيتعقب ما بينهم وبين نسائهم من كدر أو صفاء، وهذا التطلع لا يقع إلا من رجل متشوف إلى درس الغرائز والطباع(390/10)
وهل ننسى حديث (السبحة) في ساعة أُنْس؟
كان في القافلة فتىً رخيم الصوت، وكان أحمد حسنين يتشهى السماع، ولكن الفتى له عمّ كهل، ومن العيب في البادية أن يتغنى الشباب بحضرة الكهول
وتلطف أحمد حسنين فأستأذن للفتى من عمه الكهل، فانطلق الشاب يغنِّي، واندفع الشيخ يسبِّح، ليشغل نفسه بالتسبيح عن الغناء
فماذا صنع أحمد حسنين؟
أخذ يرصد السبحة ليرى كيف يتواتر خفق الحبات، فعرف أن حباتها تصاب بالبطيء من لحظة إلى لحظة ثم تعود إلى الإسراع، وكان ذلك شاهداً على أن الكهل الوقور كانت له صَبَوات، وأن رنين السبحة لم يُلهه عن تشوف المحبين إلى أوقات الوصال
وأحمد حسنين لا ينسى تسجيل ما مرّ به من عواطف، كأن ينص على أنه استيقظ في أعقاب حُلمٍ رائع على وجه فتاة حسناء، وكأن ينص على أنه كان يتلبّث في بعض المواطن ليزوّد قلبه وعينيه بأطايب الجمال
وجملة القول أن أحمد حسنين شاعرٌ وصَّاف: هو يحدِّق في كل شيء، وهو يصف كل ما يراه وصفاً يشهد بأنه مفطور على قوة الإحساس.
وقد أطال أحمد حسنين في وصف القمر والنجوم، كما أطال في وصف الشروق والغروب، فكيف صنع في هذه الأوصاف؟
نقل إلينا أحاسيس أهل البادية بقوة وحيوية، لأن الكواكب في البوادي لها سِحرٌ يجهله من يأنسون بأضواء المصابيح
ثم ماذا؟ ثم أقول إن أحمد حسنين صوَّر نفسه في كتابه بصورة الرجل الممتحَن بهوى الصحراء، ولو قال له الغادون: ما تشتهي؟ لقال: أعود!! كما عبر الشريف الرضي عند فراق بغداد
وهنالك صورة أبدع وأروع، هي صورة العالم الحصيف الذي أباحه العلم ما لا يباح من هتك أسرار الصحراء
هنالك أحمد حسنين الذي يتمارض ليخلو إلى أجهزته العلمية في غفوة الليل
هنالك الباحث المستقصي الذي يدوِّن كل ما يرى وما يسمع وما يذوق بلا تأجيل ولا(390/11)
تسويف. . .
هنالك الرجل الذي يرصد الشمس من وقت إلى وقت ليمُدّ العِلم بزادٍ جديد
هنالك الوطني الغيور الذي ينص على قيمة بعض الواحات من الوجهة الحربية
هنالك المفكر الذي يشرح ما في الصحراء الغربية من مذاهب وآراء
أما بعد فتلك هي الملامح الفكرية والعقلية والذوقية للرحالة أحمد حسنين، وهي (الدليل) الذي (يوجّه) الطلبة إلى سرائر كتابه النفيس
وكل ما أرجو أن تكون الفتوّة التي اتصف بها المؤلف من أعظم مطامح الشبان في هذا العهد، فقد رأوا بأعينهم كيف تكون الخشونة أقوى الدعائم في بناء الرجال.
زكي مبارك(390/12)
شخصية الأزهر العلمية
للدكتور محمد البهي
لا أودّ هنا أن أحدد الشخصية القانونية للأزهر فذلك محله عند ما يتعرض لعلاقة الأزهر بغيره لتسهيل الفصل في أموره الخاصة كمؤسسة عامة، وإنما أقصد بيان العناصر التي تتكون منها شخصيته (كجامعة علمية)، وفي الوقت نفسه هي عدته التي ينزل بها ميدان الحياة ليحافظ بها على وجوده الخاص بهذا الوصف
قد يكون عطف الوالي على رجاله ورعايته له من أسباب قوته في وقت من الأوقات، وقد تكون شخصية شيخه إذا علت مكانتها وكانت محببة لدى كثير من نفوس الخاصة من أسباب قوته أيضاً في وقت من الأوقات كذلك، وقد يكون لنفر من علمائه إذا منحه الشعب نوعاً خاصاً من الإجلال والاحترام أثر في قوة الأزهر أيضاً.
ولكن هذه الأسباب خارجة عن شخصيته كمعهد للبحث والدرس العلمي وإن كانت من مقومات شخصيته الدينية لأن عطف الوالي مثلاً على رجاله لما لهم من الصفة الدينية، والاحترام الذي يمنحه الشعب لبعض علمائه لا شك أن القسط الأكبر منه راجع إلى معنى ديني معه، وسيبقى عطف الوالي عليه ما دام معهداً للدين، وسيبقى احترام الشعب لبعض دائر بين علمائه ما داموا ينتسبون للدين، إذ الوالي في بسط سلطانه النفسي على الشعب في حاجة إلى رجال الدين، والشعب أيضاً ما دام يعتقد يمنح احترامه للمشرف على شئون العقيدة، واعتقاد الشعب باق ما دام هناك شعب، فالأزهر من هذه الناحية لا يضمن وجوده الذاتي فحسب، ولكنه وجود عنيف في قوته يتلاشى عند الاصطدام به أي شيء آخر
ولست أعني أيضاً هذه الشخصية، إذ أن للأزهر وصفاً آخر وهو كما أنه معهد ديني هو معهد علمي، فله بجانب الشخصية الدينية شخصية أخرى علمية، وهذه الشخصية الأخيرة بكونها أفراد ولكن لا بوصف كونهم دينيين، بل بوصف كونهم علماء باحثين وإن تناول بحثهم فيما تناول الدين نفسه، وبكونها كتاب ولكن لا بوصف أنه مصدر للأحكام الدينية ولكن بوصف أنه يتضمن إنتاجاً علمياً خاصاً، وعلى عدد من العلماء الباحثين، وعلى قيمة إنتاجهم العلمي تختلف الشخصية العلمية قوة وضعفاً، فإذا وجدنا من بين الأزهريين في عصر من عصور تاريخه عدداً يمتاز بالبحث ورأينا لبحثه قيمة علمية دل ذلك على أن(390/13)
الأزهر له بجانب قوة وجوده الديني قوة أخرى لوجوده العلمي؛ وإن لم نجد بين رجال من له ولعلمه هذه الميزة كان اعترافنا بوجوده فقط لقوته الروحية الدينية، وهي أبدية خالدة، وأبديتها لا تتوقف على قيمة جوهرها في نظر العقل الإنساني لأنها وجدت فقط لانتسابها إلى شيء خارج عن نطاق الإنسان نفسه
وليس معيار البحث في كثرة الجمع أو الاختصار، وليست قيمته العلمية في الحفظ والتحصيل، بل في الاستقلال في التفكير في النقد الإيجابي. فكثرة عدد (العلماء) ووفرة مواد الدراسة وكثرة الكتب المتداولة في الدرس ليست عنواناً على وجود الشخصية العلمية، بل لا بد من أن نلمس في (العلماء) بوصف عام الاستقلال في التفكير، وتعثر في هذه المواد وتلك الكتب على شخصياتهم
وبهذه الشخصية العلمية فقط يمكن للأزهر أن ينافس غيره من الجامعات الدينية، وعلى نوعها يتوقف (مجاله الحيوي المدني) في الضيق والاتساع ونفوذه على الخاصة في الضعف والقوة. والذي يتولى شؤون الأزهر ننعته بالمصلح العلمي، لا من حيث أنه يغيّر من مواد الدراسة بالزيادة أو بالنقص، أو يعدل في النظام العام مثلاً، ولكن من حيث أن إشرافه كان ذا أثر في الإنتاج العلمي وفي تكوين الشخصيات الباحثة. لا ننعته بالمصلح العلمي لأن في عهده مثلاً يستطيع نفر من الأزهريين أن يخالف فهماً مألوفاً شائعاً في بعض الأحكام الفقهية الفرعية دون أن يتعرض الباقون منهم له بالأذى مجاملة له أو خشية منه، وإنما يستحق وصف المصلح العلمي حقاً إذا كان مبعث عدم التعرض من الباقين الاقتناع الذاتي بحرية التفكير وبجواز الاستقلال في التفكير، ولكنه لا يعدم في كلتا الحالتين أن يلقب (بشيخ الدين) أو بالزعيم الديني إذا قاد مع ذلك مدرسة دينية مخصوصة لها ميزة إيجابية في حياة الإنسان العلمية. فالإمام المرحوم الشيخ محمد عبده زعيماً دينياً أكثر منه مصلحاً علمياً، وإن كانت له شخصية العالم الباحث، لأن بحثه قام على النقد، وإنتاجه يمثل استقلالاً في التفكير إلى حد ما، على الأقل أكثر مما كان مألوفاً في عهده
وفي العشرين سنة الأخيرة من قرننا العشرين، أي في المدة التي أخذ فيها الجامع الأزهر لقب جامعة علمية وأصبح الوصف العلمي جزءاً من شخصيته القانونية نجد نزاعاً متكرراً يأخذ ألواناً مختلفة بين جامعة فؤاد الأول المدنية والجامع الأزهر يدور من جانب رجال(390/14)
الجامعة على أن الجامعة دون سواها هي موطن البحث العلمي، ومن جانب الأزهر على أن الأزهر يشارك الجامعة في هذا العمل. وبينما يعلل (الجامعيون) دعواهم باستقلالهم في التفكير في البحث - عن التقليد وما ورد من الثقافة الموروثة - إذ بكثير من الأزهريين يلجأ في تعليل المشاركة إلى نظام الكليات والتخصصات في الأزهر، وهو نظام جامعي. وكما يؤخذ على الفريق الأول عدم الدقة في تحديد معنى الاستقلال في التفكير، يؤخذ على الفريق الثاني التعليل بالشكليات. ويجب على الفريقين أن يجاوزا هذا ويحتكما إلى عمل الأستاذ نفسه.
ولكن ليس من السهل علينا نحن الأزهريين أن نحتكم إلى الأستاذ. وبالأخص إلى عمل النخبة من أساتذتنا، إلى عمل جماعة كبار العلماء - وهم أساتذة الأساتذة - لأن من العسير أن يطلع أجنبي عنهم على ما لهم من (رسائل) ومن هنا يصعب تقدير عملهم من الوجهة الفنية
والحكم على عملهم من عناوين رسائلهم فحسب لا يخلو من نقص. فعناوين كثير من رسائلهم وإن احتملت أن مضمونها جمع لمنثور أو اختصار لمطول أو لمعالجة مفككة لمسائل تافهة أي لا تشتمل على عمل علمي بالمعنى الصحيح، إلا أنها في ذاتها قد تكون - مع احتمال آخر - أبحاثاً مؤسسة على استقلال في التفكير ونوع من النقد العلمي.
فإلى أن تنشر رسائل جماعة كبار العلماء فينا - لأن عملهم وحده أمام التاريخ وأمام الحكم العدل هو الأساس الذي يبنى عليه الآن التقدير والاعتراف أو عدم الاعتراف بشخصية الأزهر العلمية - يجب علينا نحن الذين لم يصبحوا بعد من جماعة كبار العلماء، إما أن نسعى في أن نطلع غيرنا على أبحاثنا الشخصية، وبذا نكون علماء، أو نعمد إلى تناول عمل الجامعيين بالنظر العلمي فنؤمن بما يدعونه أو ندلهم على موضع الدعاية فيه
ومتى تنشر هذه الرسائل؟. . . علمه عند الجماعة نفسها!
محمد البهي
مدرس علم النفس والفلسفة
بكلية أصول الدين(390/15)
أومنُ بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أومن به إيماناً عميقاً بصيراً. . . وأرصده رصداً مستوعباً يطيف به في جميع بقاعه ومختلف أوضاعه، واستوحى نظرة الله إليه ورحمته به تسديده إياه في طريقه إلى مستقبله المجهول. . .
أومن به حتى في هذه الأيام التي ساء الظن به فيها وقبح الرأي بقيمته وكفر هو بنفسه وسخط على حياته، وبدت فيها خبائثه ومكايده وقسوته، وذاق بعضه من بعضه البأس الشديد والشقاء المنكر! وتهددت حياته عوادي فناء صنعها هو على أسلوب الصواعق والزلازل والبراكين وسائر غضبات الطبيعة التي طالما جأر إلى الله بالدعاء والبكاء أن يحفظه منها ويحفظ الأرض بما حملت من مواريث صناعاته وابتكاراته وأمواله وأعماله وعياله من سوء عقباها في التدمير والإبادة. . .
أومن به لأومن بربه. . . فلو طاوعناه على مقتضى قساوته وشقاوته في حياته الراهنة لأنكرنا كل مثل كريم هبط من السماء أو صعد من الأرض. . . ولأخلدنا معه إلى عالم الجحيم الذي فتح أبوابه على نفسه في أكرم البقاع عليها في لندن وبرلين. . .!
وأوصي به الناظرين إلى حاضره في يأس وقنوط وإلى مستقبله في تشاؤم. . . فما ينبغي للذين آمنوا بالمثل العليا، وعرفوا أن الإنسانية كلها مخلوقة لإدراكها أن يزلزلوا عنها ويجحدوها إذا ما أصاب الأرض نكسة إلى جهالة قديمة، وارتداد إلى أعراض السفه الأول. . . بل عليهم أن يرفعوا شعلة تلك المثل وسط احتدام الظلام والظلم حتى يمسك بخيوط نورها من يريد ألا تجرف روحه أمواج الظلمات. . .
وإيماننا بالإنسان هو الذي يوحي إلينا أن نعمل له ونبسط عليه شعور حبنا ونقدم إليه ما نستطيع من خدمة. ولو أنكرناه وكفرنا بقيمته ما بقى لنا شيء في الأرض نلوذ به ونأنس إليه من وحشة الصمت المطلق والسكون المطلق، والبكم والصمم والعمى التي تلف غيره من كائنات لم تدع في الحياة حديثاً مفهوماً عن غايات الحياة. . .
وإنني ما أبصرت شيئاً غيره تَعمُقُ معه الحياة وتتسع وتتركب وبتنوع الإحساس بها. . . ولولاه لكنت صندوقاً أبكم فارغاً إلا من معاني غرائز معطلة وتجارب شهوات قليلاً ما(390/17)
تتحرك. . . ولا اضطربت بي مجهولات الكون كغريق طاف على أكف الأمواج. . . إن كل شيء في الطبيعة صامت جامد لا يعطي جواباً عن غايات الحياة إلا هذا النوع الذي أحمله في جسدي وأستوحيه في فكري وأبادله ما صح وما فسد!
لقد قلت في مقال سابق: إن الإيمان بالإنسان هو عندي أول المعاني الدينية، فلا يؤمن بالكون ولا خالقه من لم يؤمن بهذا النوع. . . وكان قولي هذا كضربة معول موفقة وقعت على باب كنز مرصود فانفتح! ولست أزعم أن ما رأيته وراء هذا الباب حقيقة ينشدها الناس ويجدون في ظلها راحة وطمأنينة فالله أعلم بموقع هذا القول من نفوس القارئين. . . وإنما وجدت وراء اهتدائي إليه راحة لنفسي وحلاً لكثير من المشكلات التي أجدها فيها وفي الإنسانية والطبيعة.
ولقد علمني الخروج من نفسي ونوعي بعض الأحيان ورصدهما بعين غريب عنهما أن أرى كثيراً مما خفي على الذين يلبثون رهناء سجناء في الشبكة التي تلفهم مع سائر أفراد القطيع
أجل، إني أرصد هذا النوع كغريب عنه فأرى منه ما لا يراه إلا الفارقون لنفوسهم الخارجون بالفكر عن حدود وجودهم الناظرون إلى حياتهم نظرات الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان، والملأ الأدنى مما هن دون الإنسان. . .
فماذا وجدت في الإنسان؟ من قلوبه وعقوله تنبثق المعاني المكتومة المسجونة في أطواء المادة. وفي بيانه أصوات ربطت الكون كله ولاءمت بين نسبه المختلفة ولخصته واختزلته ووضعته أمام الفكر ملموماً. . . وفيه نغمة مفهومة رقيقة وسط صخب الأمواج التي لا عدد لها في البحار، والهبوات التي لا عدد لها في الأجواء. . .
إنه مشبوب الحاجة دائمها، واسع الآمال والخيال في تعظيم المادة وتنويعها وتصريفها والاحتفاء بكل سر فيها، لا يخرج من الأرض إلا بعد أن يصوغ ترابها ومواتها عرائس ومباهج، ويبنيها أجساماً محبوكة ذات أوضاع وفنون. . .
لقد استمرت الأرض من قبله جامدة لا يتغير فيها شيء من موادها إلا الدورات الأبدية المتشابهة من الهواء والماء والفصول وتعاقب الليل والنهار والشهور. . . ولم نر يداً غير يده تضع في الأرض حجراً على حجر أو تحفر قناة مستقيمة تصرف فيها ماء أو تجلب(390/18)
ماء، أو ترسم صورة أو تقيم تمثالاً أو تمتهن حيواناً لخدمتها. . . وإنما يبدو من الطبيعة أن كل شيء فيها كان ينتظر وجود هذا النوع ليقول ليده وفكره: هاأنذا لكما!
وما زالت المرآة التي فيه وهي عقله تتطبع فيها صور الكائنات واحداً وراء آخر وهو يحولها وينقلها من عالم الجماد والصمت إلى عالم الأسماء والبيان والصور والتعبير حتى فرغ منها أو كاد. . .
وما زال يدور حول ظواهر المادة وصورها وأشكالها ويحللها وينبش فيها ويسبر أغوارها حتى وصل إلى عالم الكهارب والأثير وهو الآن يجري اختباراته وتحليلاته على هذه الأصول الأولى للمادة ليكثفها أو يرققها ويتحكم في إخراج أنواعها بعد أن وصلت يده إلى مفاتيح توجيهها.
إنه تعمق في عالم الأجسام والقوى حتى وصل إلى مصادر الحياة الآلية ومادة الوجود الأولية، وتعمق في عالم المعاني والأفكار حتى وصل إلى الخفقات الروحية العليا والرياضيات العليا التي قام عليها تخطيط الطبيعة وهندستها
وإنه ليركب ما في الكون من المعاني كما يركب ما فيه من مواد، فيقيم الكتب العامرة والمقالات الحكيمة والصلوات المطهرة والألحان الساحرة كما يقيم القصر الكامل الجميل والصرح المشيد والقاطرة والطائرة والباخرة. . . وإنه ليسافر بفكره في الآفاق العليا كما يسافر بصوته وصورته في صندوق الراديو. . . وهكذا هو يتوجه في عالم المادة والقوى العمياء كما يتوجه في عالم الروح الواعي والفكر المميز المبصر الحاكم. . . وهكذا هو رباط بين العالم الساكن الخفي وبين العالم المتحرك المرئي
إن تكن للشرق الإسلامي رسالة جديدة في هذا العصر تضاف إلى رسالاته السابقة في العصور الخوالي فهي رسالة الدعوة إلى الإيمان بالإنسان سيد الأرض، وحبه وخدمته ومعرفة قيمته. . . ثم الضرب على أيدي محترفي السياسة واللاعبين بالشعوب ومؤرثي العداوة بينها في سبيل الأمجاد الشخصية والأطماع والتسلط والاستبداد والإخلاد إلى منطق الغرائز السفلى التي ما وضعها الله في تركيب الإنسان إلا لتكون له كالعجلات ودواب الحمل وآلات الدفع للقافلة السائرة إلى غاية
تاريخه مصباحه(390/19)
ولنستعرض تاريخ الإنسان على هذه الأرض لندرك مدى مركزه فيها، ولنعطيه من تاريخه مصباحاً يرى به نفسه: إن الله أسلمه الأرض، وليس فيها شيء معقد التركيب غير الأجسام العضوية الحية، وهي أجسامه وأجسام الحيوان والنبات. أما المادة فأسلمها إليه بسيطة في صورها الأولى وخاماتها البكر، فما زال يدور حولها ويعبث فيها وينبش ويخرج أسرارها واحداً بعد آخر حتى حدثته أخبارها، وأخرجت له أثقالها، ووضعت بين يديه أجنتها وعيالها، واستفاد من تجاربه فيها عقله وحكمه - والعقل هو حفظ التجارب والحكم بمقتضاها - وعلمه ووثائق سيرته ومدونات فكره. وكلما أنماها وعقد نموها أنمت هي فكره وعقدته - والتجاوب بين المادة والفكر قانون - حتى ملأ الأرض بما ولد منها وأخرجه من كوامنها وركبه من بسائطها
وشاء الله أن تكون قوة الفكر في الإنسان لا حد لها، فصارت تخاريج المادة وفروقها وتمايزها لا حد لها. . . وتارة يكون كشفه عن أسرارها بطريق الصدفة، فيلقط ويدون، كما هو واضح من نمو علم الكيمياء، فإن كل أمورها تجريبية لا دخل للفروض والظنون والتجريدات فيها. . . وتارة يكون الفكر سابقاً قادراً على الفروض وقياس النسب الغائبة على الحاضرة.
أي تارة تكون الطبيعة سابقة في الوحي إليه، وزيادة علمه وفكره، وتارة يكون هو سابقاً في الوحي إليها وزيادة موجوداتها ومشاهدها
وإني لأستعرض أعماله في الطبيعة منذ أن كان هائماً لا سقف له يصنع من ورق الشجر ستاراً لسوأته، ويتخذ من الحجر خنجراً لسطوته، إلى أن صنع لباسه الأوربي المعقد المنوع المزين الملون، وصنع بيته من ناطحات السحاب، وآلات سطوته من الطوربيد وسلة مولوتوف. . . ومركبه من الحصون الطائرة، واستوعب جميع أجزاء الآلات المعقدة في رأسه قبل تركيبها بمساميرها وحذافيرها. . . وصنع له مجاهر ومقربات يقرب بها مشاهد السموات والسدم ويحلل عناصرها، ويكبر بها أحجام الجراثيم ويقيس بها الخلايا ويحكم بها على كل أولئك حكما صحيحاً خاضعاً لمقاييس الحس والفكر. . . أستعرض أعماله هذه فأراه بعد ذلك قانوناً نامياً لا حد لنموه في ذاته وقانوناً منمياً للطبيعة وصورها وأشكالها لا حد له كذلك.(390/20)
وجميع قوانين الطبيعة قوانين متحجرة صارمة إلا هذا الإنسان فإنه قانون مرن يذهب في كل اتجاه. أليس فيه نفخة من روح الله ليست في سواه؟! والله خالق هذه القوانين وواضعها؛ فلا عجب أن تدفعه هذه النفخة إلى الأمام في مجاهل الكون دائماً
إن الأطفال يقلدون الرجال بغريزة التقليد والمحاكاة التي فيهم للاستعداد لمستقبل الفرد، والرجال يقلدون صنع الله للاستعداد لمستقبل الإنسانية كلها. وجميع آلاتهم التي ركبوها وجدوا نماذجها أمامهم مما خلق الله. وجسم الحيوان هو نموذج الآلات الكبيرة السريعة التي ابتدأ بها الإنسان يتسلط على المكان والزمان والمسافات والأبعاد. وجميع أعمالهم في الكهرباء والقوى الخفية إنما وجدوا نماذجها من المجموعات العصبية في الحيوان والنبات، فأرسلوا الإشارات والصور والأصوات إلى عيون وآذان صناعية عبر المحيطات والصحارى والقارات والجبال الشاهقات كما يرسل الجسم الواحد خواطره وصوادره إلى كل خلية في أعضائه.
وعلى ذلك صارت الأرض كجسم ينبض ويترابط، وإنسانها فيها كالمراكز العصبية في الجسم الحي: تصدر وتتلقى الجواب
حياة الشرنقة
ولكن هل يجوز أن يقف الإنسان في ضجة ما صنع من الآلات والمفرقعات ضائعاً مغموراً غائباً فيها كما تغيب دودة القز في الشرنقة التي تنسجها، وكما تغيب النواة في النخلة السحوق والبذرة في الدوحة الفارعة؟
إنه يرسل في الطبيعة لمحات فكره وومضات خواطره، وصار الأثير والهواء والماء والتراب مليئاً بهمساته وأزيز محركاته وضربات معاوله إلى أعماق المناجم والركاز.
وهذا حسن لو أنه لا ينسى نفسه وسط الضجة والقوة والجبروت الآلي، والحديد البليد القاسي، حتى يختنق ما فيه من وداعة الروح وتأمل الفكر، والإحساس بالانفصال عما صنعته يداه
أجل يجب ألا يكون الإنسان قوة عمياء تعمل في المادة بدون فكر وروح وإحساس صوفي فيما تعمل ولذة به وإلا استحال إلى قوة متنقلة في عمليات التكوين والتركيب بدون وعي وفي ذهول وغفلات تشبه عمى القوى العمياء(390/21)
إن طاعة الحديد البليد القاسي للفكر الطليق البارد تركت في أعصاب الأمم الصناعية آثاراً عميقة ستطمر لا محالة جوانب من عواطف الرحمة والمروءة في قلوب أفرادها، وتمحو آثار العصور الصوفية التي أدرك الإنسان نفسه فيها حين كانت النبوات تتلاحق عليه.
وإني لأتخيل الآن ما جرى في ساحات (الفلاندر) فأرى الإنسان وهو يدفع الحديد الجبار فيندفع، ويطلق البارود الصاعق فينطلق، والقنابل الصارخة فتصيح في نكر وشدة، ويملأ الجو بالدخان الأسود والنار الحمراء فيمتلئ، ويسيل النار من (باصقات) النار فتسيل على الأجسام البيضاء الجميلة ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية والجماجم المستوية وتذيبها كالشمع، وتسحقها كالرفات، وتذروها كالرماد. . . ويرفع القلاع الطائرة إلى أجواز الفضاء فترتفع. . . أتخيله وسط هذا كله لا يسمع صوت نفسه إذا تحدث، ولا يعي خروج نفسه إذا تنفس، ولا يحس ألمه إذا تألم، ولا صعق جسمه إذا أصيب؛ فهو في جنون الحرب يضرب الأجسام الحية النامية من شجر أو ضرع أو زرع أو حيوان أو إنسان ويخرب العامر ويهدم القائم فأقول: لقد تحول إلى قوة عمياء، وصار عاتياً كالريح. . . جارفاً كالتيار. . . أعمى كالصاعقة. . . قاسياً كالحديد. . . صابراً كالفولاذ. . . فظيعاً كالنار. . .
ولست أدري متى يفيق لنفسه ويعني بوضعه وتحولات حياته كما يعني بمستقبل المواد والقوى، ويربط ما بينه وبين الله مفيض الفكر والحياة كما يربط ما بين نفسه وأجزاء الأرض؟!
إن الآلة لا تدركه وهو يعمل فيها ويقوم عليها، وهي لا ترحمه من السحق أو البتر أو الصعق إذا تعرض لها جاهل بقوانين سيرها، فلا قلب فيها ولا فكر ولا حياة دم وعصب وروح. ولكن ما باله هو لا يفكر في الاتصال بمن أنشأه وركبه ونسقه وصوره وهو ذو الفكر والروح والوجدان والنزوع والإرادة والاختيار والتطلع والحزْر والحذَر والقدرة على قياس ما غاب بما حضر؟!
إن الاستسلام لغيبوبة الحياة الآلية ضياع وتطبُّع بطبع الحديد البليد الأعمى الدائر في غير وعي وإحساس، وأخوف ما يخاف على الإنسان أن يترك هكذا فريسة وضحية للآلات يعيش معها ويقدم لها وقودها إلى أن يفني وقود حياته هو وينطفئ مصباحه ويذهب إلى ظلمة القبور بدون بصيرة منيرة يسعى نورها بين يديه في العالم الباقي غير المنظور.(390/22)
وعلى هذا ينبغي أن تقوم في الناس دعوة إلى الإحساس بالنفس واليقظة الدائمة لها وتزكيتها والرفع من قيمتها، وهذا لا يكون إلا بالدين والفن الرفيع: الدين العقلي الطبيعي المبني على إسلام النفس لله البارئ وللطبيعة الأستاذة! والفن الرفيع الذي يخلق جواً يحضر للقلب بعض المعاني الغائبة التي تري الإنسان وضعه الممتاز الفريد الطليق وسط ما في الكون من المواد والقوى والمخلوقات السجينة. . . تلك المعاني التي تتراءى وراء بيان ذوي البيان النظيف، وألحان ذوي الأصداء البعيدة، وعيون ذوي الصفاء والإدراك. .
عبد المنعم خلاف(390/23)
3 - جيل وجيل
للأستاذ محمود البشبيشي
. . . إذا كنت في فكرك مع الفن الطبعي، كانت كل آثارك من نثر وشعر، صوراً فنية، لا تكلف فيها ولا تعمل، والحيوية في الأثر الأدبي، ترجع إلى الحيوية الكامنة في نفس الأديب، وكلما كانت فطرية كان الأديب ينتزع من الطبيعة صوراً، ثم يخلع عليها من طبيعته ألواناً ضاحكة واضحة لا تنافر بينها. . . وكان موهوباً في كل ما يكتب ويقول. . . وأنت يا بني في كل ما حدثتني موهوب. . .
كنت قادراً على سرد أفكارك بوضوح. . . والحيوية في الكاتب هي قدرته على عرض أفكاره في غير ما تعقيد ولا ضعف.
وكانت لأفكارك القدرة على التأثير. . . والحيوية في الأفكار هي قدرتها على التغلغل في النفوس. . . وكانت ألفاظك لا تحمل غير معانيها. . . والحيوية في الألفاظ هي وجودها في المكان الذي إذا رفعت منه فقدت حيويتها، لا تستطيع أن تنقص منها أو تزيد عليها. . . لأنها وضعت كما توضع المقادير في سجل الوجود لا نقص فيها ولا زيادة!!
- جميل يا والدي أن جعلت للكاتب حيوية وللأفكار والألفاظ، ولكني أحب أن أعرف شأن هذه الحيوية في الكاتب
- شأنها عظيم يا بني. . . فقد يختلف الكتاب باختلاف الحيوية الفكرية فيهم. . . فهذا كاتب يملك ناصية الفكرة ولا يجد صعوبة في عرضها. . . فتخلص خلوص ماء السيل لا يقف ولا يتعثر، وتسطع كلماته أنواراً هي إشعاع نفسه وطبيعته، فتراه في أسلوبه، وتلمس في أسلوبه حيويته. . . وينسيك سحره كل شيء إلا ما أراد هو أن يخبرك به!!
وهذا كاتب يملك ناصية اللغة ولا يملك ناحية الفكرة والحيوية. . . مهما أوجز أو أطنب وملأ كتابته بكل لفظ شارد خرجت أفكاره عارية، لأن ألفاظها لا تكسوها، أو لأنها لا تلبس ألفاظها تماماً. . . مثل هذا الكاتب يا بني تستطيع أن تسميه صانع ألفاظ. . .
- وكذلك الشعراء يا والدي. . . فإنك لتجد شاعراً تسمو شاعريته، ويدق إحساسه، فينتزع من كل مرائي الطبيعة صوراً مهما صغر أصلها، يرتفع بها إلى القمة في تصوير عجيب، وتدفق غريب، لأن في نفسه طبيعة خلق معنوية شاعرية تكسو كل أفكاره حيوية ساحرة،(390/24)
فيخرج شعره صافياً كمضير الوليد، باسماً كثغر الغيد، راقصاً كالقلب في فرحة اللقاء. . . وهو في إحكام صياغته، وارتباط معانيه بعضها ببعض، وتسلسل أنغامه، كأنه شيء حي تكاد تلمسه وتسمعه، لأن نفس صاحبه وحيويته توزعت فيه نغما وصياغة وتسلسلاً وصفاء
- وأكثر من هذا يا بني، فالحيوية في الشاعر إذا سمت اجتمع لها من الإعجاز ما يفوق حيوية الكاتب، لأنها هنا تقوم بأعمال كثيرة منها الوزن، والقافية الرقيقة، واللفظ الموسيقي، والمعنى الشارد، والروح الشعري. على حين أنها هناك لا يطلب منها سوى صحة العبارة وسلامة المنطق. والحيوية في الشعر لا تكتسب بالاطلاع كما قد تكتسب أحياناً في النثر، لأن الشعراء قوم خلقوا وفي طبيعتهم روح الشعر، بل وفي منطقهم وفكرهم وحديثهم ونظرتهم. فمن قال الشعر من غير طبع وخلق شعري خرج شعره يتعثر في قيود الصنعة وفقد روح الشعر كما فقد تسلسل النثر! أيحسبون أن الشعر حين يكتسب بالاطلاع ويشترى بالحفظ يكون شعراً بمعناه الصحيح! ألا إن الحيوية الشعرية لا تكتسب أبداً ولا تباع. إنما هي تخلق مع الروح
- وكما توجد الحيوية يا والدي في الأديب وأدبه، توجد أيضاً في الرسام وفنه، وكما يختلف الأدباء باختلاف الحيوية فيهم يختلف الرسامون كذلك، فإنك لتقف أمام لوحة زيتية لفنان موهوب، امتزجت روحه بالفن وامتزج بها، وسبح في عوالم لا يصل إليها غير من رقت روحه، وكشفت عن كل خفي من المعاني، وخلع إحساسه الفني على صور الطبيعة ألواناً من نفسه، وخلعت صور الطبيعة على ألوانه ألواناً حية، لو وقفت أمام صورة لمثل هذا الفنان دبَّ في نفسك شعور غريب يملك حواسك، بل يخرج بحواسك عن حقيقتها، فتعتقد أن هذه الشجرة الزيتية شجرة حية تهتز وتتحرك، وهذا النهر الملون تكاد تسمع له خريراً حلواً. ولا غرابة في ذلك، فحيوية الفنان هي سر حيوية لوحته الفنية. وأقسم أني وقفت يوماً أمام لوحة لفنان موهوب، تشع لوحاته إشعاعاً كله حيوية تتحرك وتؤثر وتعجب إلا وانقلب منطق إحساس. فأصبحت أسمع للألوان أصواتاً، وألمس في سكونها حركة. . . واللون الساحر يا والدي إذا وضعه فنان ساحر في موضعه الفني لا يظهر لوناً فقط، بل يظهر لوناً وحقيقة حية!
- والحيوية في الرجال يا بني هي سر الرجولة الكاملة في كل عمل يُعمل، والرجل(390/25)
صاحب الحيوية هو الذي أحكم دقيق أمره وجليله، وامتنعت صفاته السامية كثيرها وقليلها، واحتوى من قوة الروح وهيبتها ما يغمر الجو الذي هو فيه هيبة غير مصطنعة وكانت فيه قوة ذات رحمة إذا قدرت، وذات بطش إذا ظُلمت! وارتفع بكل هذا عن كل مغمز وكل مقالة. . .
- وحيوية الحقيقة يا والدي هي قدرتها على الذهاب بالباطل، وإن الحقيقة لا تسمى حقيقة حتى تستطيع أن تقول للكذب أنت كذب فيقتنع ويخر ساجداً، لأنه يعلم أنها تخاطبه بلسان الواقع والمنطق. . . وقد تسكن الحقيقة أحياناً وتحتجب إذا كان في نفس صاحبها ميل إلى الاستكانة إلى الواقع ولو كان ظلماً! فتظل مقنعة تحاول الظهور كلما تمردت في طبيعتها نزعة الحق، فإن أفلحت في ذلك خرجت تحمل قوتين: قوة الحق، وقوة الإقناع. وكانت مدفوعة بدافعين: دافع استحقاق الوجود، ودافع حب الانتقام من كل معارضة كاذبة. . .
- وهذا ما كان من أمر حقيقتك وحقيقة إخوانك شباب الأدب، فقد ظلت ساكنة مقنَّعة، راضية بالواقع، حتى تحركت طبيعة استحقاق الوجود فيها فقامت ثائرة تناقش، وكان لها من ثورتها قوة تمطر مطرة من الأفكار والحجج، كلها حق وكلها واقع في المقالين السابقين. . . ولكني أرى أن قوتها ترجع إلى سر الحيوية الكامنة في نفسك وفكرك ومنطقك. وإذا وجدت الحيوية في شيء كان وجوده في الحياة وجوداً للحياة نفسها
- أجل يا والدي كان لا بد أن يشعر الشباب بحقه في الحياة الأدبية، وبأن الواجب تشجيع الموهوبين منا، فليس معنى الحياة أنك تحيا وتتحرك وتسكن، وليس معنى الحياة أنك موجود فيها. . . إنما الحياة الحقة أن تشعر هي بك. . . فتكون في الوجود وجوداً، وفي الحياة حياة!!. . . وفرق بين أن تكون خبراً من الأخبار وأن تكون الحياة خبراً من أخبارك!!. . . إن الرجل من امتلأ حيوية، وظهرت حيويته في أقواله صدقاً، وفي أفعاله فلاحاً، وفي نظراته صواباً، وفي منطقه استقامة، وكانت أقواله وأفعاله ونظراته ومنطقه هي حقيقته التي تقول إن صاحبي خلق في الحياة حياة أخرى. . . وجعلها خبراً من أخباره!!
- هذا قول رائع يا بني ولكن كيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة السامية؟ وكيف يستطيع أن يكون نفسه هذا التكوين؟(390/26)
- إن الأمر على شيء من الخطر والصعوبة يا والدي، فهو يحتاج إلى خلق شخصية خاصة به فلا يكون صورة لغيره، وعليه أن يتعود الصدق، وإن صعب اليوم تعوده، فلا يدخل في كل خبر كلامه، وأن يجعل ألفاظه من نور ضميره، لا من سواد رغباته وأطماعه!! لأن الرغبات إذا اسودت بسطت سلطانها وسوادها على كل عمل يعمله الإنسان. . . وأن يعرف كيف يكيف صور الحياة التكييف الذي يجعلها باسمة. . . وأن يخلق لنفسه مثلاً أعلى. . . وأخيراً أن يبعث في شخصيته وصدقه وضميره وتكييفه للحياة ومثله الأعلى حيوية تكفل له النجاح في كل سبيل ينهجه، وعمل يعمله، وفكر يتأمله. . . فتشعر الحياة بأنه موجود فيها!!
ولكن ليس من السهل يا بني أن تشعر الحياة بك، وإن هذه الصفات التي بينتها لا تجتمع لكل إنسان، ثم إن الوصول إليها من الصعوبة بمكان. . . وليس في مقدور كل فرد أن يكون رجلاً. . . يحسن مغالبة الحياة ومدافعتها ويجعل فكره وشعوره في الناحية التي لا تقيم للخطوب وزناً. . . وليس الرجل من يبكي لأن الطبيعة وهبته عيناً تدمع! ويصرخ لأنها أعطته لساناً يصرخ! وييأس لأنه عجز، ولأن الحر من طبيعته اليأس إذا لم يقدر! إنما الرجل من يخرج من عينه إشعاع كله حياة وابتسام لأن الطبيعة وضعت السحر في البصر، ويضحك لأنها وهبت فمه معنى الضحك، ولا ييأس لأن الحياة لا يأس معها. . . ولِمَ اليأس. . . وليس في الحياة ما تنقطع عنده حيلة من الخطوب؟ فإذا نظر الإنسان في أحوال حياته، وصدق تأمله، ولم يمنعه إحجام، ولم يقيده تردد، ولم يذهب بجلده رهبة، استطاع أن يجعل كل أمر قريب المتناول، هين المحاولة. . .
- أجل يا والدي. . . كم مرت علي أيام، علم الله لم يك فيها ألم ولا يأس. . . ولكنني استقبلتها وفي نفسي ألم ويأس فغمر إحساس نفسي الحزين كل صور الحياة فرأيتها عابسة قاتمة فشكوت منها قائلاً:
ظلام ببطن الأم ليس له سر ... وليل ببطن القبر ليس له سر
لعمري كأن العيش متصل الدجى ... فأوله قبر وأخره قبر!!
إذا كان في موت الحياة مرارة ... فموت شعور المرء حياً هو المر!
وقلت:(390/27)
إيه يا قلب كم تعذبت بالدا ... ء ودارت عليك شر الدوائر
ومشت فوقك الحياة بشوكٍ ... بعد ما بعثرت عليك الأزاهر
وظلال من الفناء ترامتْ ... فوق جبينك يا طريد المقادر!
وإن أسعد أيامي تلك التي نظرت فيها إلى الحياة بعين السرور فرأيتها فناً من السرور وجعلت لها روحي قيثارة تغني:
ليتني بسمة على شفة الور ... د بفجرٍ مُعطَّر الأنداءِ
وطيور تطير في لهفة الشو ... ق إلى دوحها الحبيب النائي
وابتسام يلوح كالأمل الحلوِ ... على ثغر كاعب عذراء
ليتني أرغن يُغرِّدُ بالبشْر ... ويكسو القلوب ثوب الهناء
ليتني لم أكن من الطين كالنا ... س فأشقى بفكرةٍ قتماء
- عرفتَ يا بني كيف تستقبل الحياة، كما عرفت أن الحيوية هي سر وجود كل شيء، وشعور الحياة بأنه حي فيها، وعلمنا أن الكاتب من غير حيوية فيه، يكون صانع ألفاظ، وفهمنا أن الرسام تخرج لوحاته صامتة ميتة إذا حرم الحيوية الفنية. . . وأدركنا أن الرجل من غير حيوية لا يكون رجلاً. . . لأن أعماله تكون وليدة نقص في الخلق والرأي والتأمل. . . وقلنا إن حيوية الشاعر هي كل شيء في شعره. . . أما بعد فهل تتقيد الحيوية بسن؟ وهل هي وليدة اطلاع ومثابرة؟ وهل ظهرت في جيل وانعدمت في جيل. . .؟
- أظنها يا والدي لا تتقيد بطول سراية، وليست وليدة اطلاع. . . كما أنها تكون في كل الأجيال.
فكما تحسها في قول الزهاوي:
هناك نواميس بها أنا عالم ... وأخرى على جهدي بها لست أعلم
وما أنا شيء مثلما أنت فاهمي ... ولا أنت شيء مثلما أنا أفهم
وكما نلمحها في قول الدكتور أبي شادي:
تتلاقى الشفاه وهي ظماء ... ثم تظمى على ارتواء وتنفس
وتتطيل اللقاء وهي سواه ... عن حياة بوجدها تتنفس!
وكما تتلألأ في قول العقاد:(390/28)
ليس بين الجنون والعقل إلا ... خطوتا سائر، فحاذر وأمسك
أول الخطوتين نسيانك النا ... س وأما الأخرى فنسيان نفسك
وتظهر أيضاً في شعر كثير منا. أفلست تحسها في قول صالح جودت:
جريان الغدير يُجري دموعي ... ومسيلُ الدموع يُدمي المحاجر
ملأ الصبّ من جمالك سحراً ... شفق الخد تحت ليل الغدائر
وفي قول مختار الوكيل:
حبذا أنت تطفرين مع الحلم ... يكون من الخيالات نائي
ترسلين الأنفاس وسني كعينيك ... عَلى وجْنَتَيَّ كالأنداءِ
وفي قول القائل:
يودعني القلب لو ودَّعك ... ويرجع لو قدرٌ أرجعكْ
لقد مزق الهجر زهر الغرام ... وضيعني البعدُ إذ ضيعكْ
ولكن تعود لروحي الحياةُ ... إذا عاد للقلب عهدي معكْ
أما بعد: فتلك أحاديث لا يسعني إلا أن أقول إنها كشفت لعيني أبعاداً جديدة، وعلمتني أن الحقيقة لا تختفي وراء الظلام، وأن الأجيال تتأثر بحيوية فكرتها، ويؤثر في حيويتها صدق التأمل فتفسد بفساده وتصلح بصلاحه، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة سامية، ما دام الضعف يولد قوة، والفناء يجدد حياة. . .
ورأيت فيها فلسفة تعارض فلسفة، فآمنت بأن الحيوية في كل شيء هي سر وجوده، وليست الحياة ومعناها في كونك خبراً من أخبارها. . . إنما معنى الحياة أن تكون هي خبراً من أخبارك. . . آمنت يا بني بكل ما تقول. . . لأنك قيدت حقيقتي بكل ما تقول
محمود البشبيشي(390/29)
كتب لم أقرأها
بريد الفراعنة
للأستاذ عبد اللطيف النشار
وهذا كتاب إلاَّ أكن قد قرأته فإن قليلين من أدبائنا هم الذين قرءوه. وفي اعتقادي أنه لا عذر لأحد في مصر ألاَّ يكون ذا نصيب منه إما مترجماً أو ناقداً أو قارئاً أو حاثاً على ترجمته أو قراءته.
وهو كتاب يقع في جزأين ويشتمل على الترجمة الإنكليزية لوثائق فرعونية عددها أربعمائة يوجد من أصولها المنقوشة بالخط المسماري على لوحات من الصلصال 194 وثيقة في متحف برلين و82 في المتحف البريطاني و50 في متحف القاهرة، وبقية الأربعمائة مبعثرة في متاحف خاصة وعامة في حواضر مختلفة ومن بينها وثيقتان في نيويورك
هذه المجموعة تعرف باسم وثائق تل العمارنة. وأول عهد اللغات الأوربية بها في برلين حيث نشر العالم النرويجي البروفسور كنودتسون طائفة منها - هي كل ما كان معروفاً منها إلى عهده. وقد استغرق مجهوده في ترجمتها الفترة ما بين عامي 1907 و1914 وترجم هذه المجموعة إلى الإنكليزية العالم الإنكليزي البروفسور كلاي من جامعة ييل، وأفرد لها جزءاً من كتابه (نقوش اللغة السامية القديمة) وأضاف إليها شروحاً وحواشي وقدمها بمقدمة طويلة
وفي المدة بين عامي 1919 و1929 اشتغل الدكتور مرسيه أستاذ اللغات السامية وعلم المصورلوجيا بجامعة ترنتي - بترجمة ما استكشف من الوثائق بعد نشر مجموعة كلاي وأضافها إليها ونشرها وهو يظنها كاملة. ولكن ظهرت بعد ذلك ثماني عشرة وثيقة أخرى فاشتغل بترجمتها أيضاً بين عامي 1936 و1937، وأعاد نشرها فكانت هي المجموعة موضوع هذا الحديث
وقد تحدث عنها المستر ألبرت فيلد جليمور في عدد 21 نوفمبر سنة 1940 من جريدة الإجبشيان غازيت فقال:
(إن أهمية هذه الوثائق إنما تتضح لك إن تخيلت ما يمكن أن يحدث بعد أربعة آلاف عام(390/30)
من استكشاف مجموعة في مثل عدد هذه المجموعة من رسائل متبادلة بين رئيس جمهورية الولايات المتحدة وبين ملك إنكلترا)
قال: إنه إن حدث ذلك فسيوضح هذا الأثر شطراً كبيراً من تاريخنا ومن أساليبنا السياسية وعلاقاتنا الثقافية وعاداتنا وصناعاتنا وحياتنا الاجتماعية
وأول العهد باستكشاف وثائق تل العمارنة هذه كان في سنة 1887 إذ كانت فلاحة مصرية من سكان قرية قرب هذا التل تجمع سماداً فوجدت قطعاً من الصلصال يختلف طول إحداها بين بوصتين ونصف البوصة وبين تسع بوصات. ويختلف عرضها بين ثلاث بوصات وأربع وعليها نقوش غريبة
وسرعان ما انتشر الخبر بين العلماء في القاهرة وفي باريس وبرلين ولوندرا واكسفورد وغيرها. وتبين أن هذه النقوش كتابة مسمارية، وأن هذه المجموعة ليست إلا رسائل متبادلة بين الملك امنوفيس الثالث وابنه اخناتون، وبين رجال مختلفين من حكام آسيا الغربية، ومعظمهم من حكام بابل وأشور وسوريا وفلسطين، وغيرها من بلدان آسيا الغربية
ويرجع تاريخ هذه الرسائل إلى المدة بين عامي 1411 و1358 قبل المسيح
ويقول هذا الكاتب وهو أستاذ في علوم الدين المسيحي: إن لهذه المجموعة أهمية خاصة لدى الذين يدرسون الكتاب المقدس لعلاقتها بسفر الخروج، وأخبار بني إسرائيل في رحلتهم إلى أرض كنعان، ولأنها تحدد التواريخ الدقيقة لبعض الأخبار التي تضمنها العهد القديم
لما اعتلى اخناتون عرش مصر خلفاً لأبيه امنوفيس الثالث نقل العاصمة من طيبة، ولعل ذلك كان اضطراراً بسبب ما ترتب على تغييره عقيدة مصر من الوثنية إلى التوحيد من خلاف مع رجال الدين. وكان المكان الذي اختاره لعاصمته الجديدة هو المعروف الآن بتل العمارنة. ولقد عاد مقر الملك إلى طيبة بعد أخناتون وأصبحت عاصمته الجديدة أطلالاً وعرفه الوثنيون من المصريين من بعده باسم (الكافر) لمخالفته عقائدهم
ولقد كان أخناتون شاعراً وفيلسوفاً ولم يكن ملكا فحسب.
ومن بين هذه الوثائق خمس تتضمن الحديث عن هدايا تبادلها الملك المصري وبعض الحكام والولاة. وتدل المصارحات التي تضمنتها هذه الرسائل الخمس على أن الحكام القدماء كانوا يحفلون بالقيمة المادية للهدايا(390/31)
ومن أمثلة ذلك كتاب من أمنوفيس الثالث يشكو فيه اختيار الرسل الذين حملوا إليه الكتاب والهدايا من بين ذوي المراتب الثانوية في المجتمع، وكان هذا الكتاب وتلك الهدايا من ملك بابل. وقد تضمن الكتاب كذلك شكوى من ضآلة قيمة الهدايا ولكنه مع ذلك بعث مع الرد بهدايا قيمة ووعد بأن يرسل أكبر قيمة منها متى قبل الملك البابلي تزويجه من بنته
وبدأت المنافسات بين الملكين المصري والبابلي في عهد أمنوفيس الثالث، ولكن مداها اتسع في عهد أخناتون إذ تفوقت بابل على مصر. وتدل بعض هذه الرسائل على ما كان ملك أشور يعلقه على نفسه من الأهمية فقد كان يلقب نفسه (الملك الكبير الذي يصر على المساواة مع فرعون مصر الذي يخاطبه بلفظ أخي) وهو ينوه في خطابه لأخناتون بقدر الهدايا التي تلقاها جده من فرعون سابق فقد كانت عشرين وزنة من الذهب، وهو يذكر في الخطاب أنه لا يعدو جانب التواضع حين يطالب أخناتون بالا تقل قيمة هديته عن هذا القدر حفظاً لكرامته
وتدل الرسائل أيضاً على أن مصر رفضت التدخل في المنازعات التي كانت بين بابل وبين أشور، عدا أنه لما اقتصر الخلاف على أمر الحدود بين الدولتين قبل أخناتون أن يتوسط لمصلحة الآشوريين لدى البابليين سادتهم القدماء. وهذه السياسة بين الملوك الأقدمين تطرد مع ما يجري في زماننا كأنما التاريخ يعيد نفسه
وأكثر هذه الرسائل مبعوث به إلى ملك مصر، وأقلها مبعوث به من مصر. ومن بين ما بعثت به مصر أربعة كتب للملوك منها ثلاثة لملك بابل والرابع إلى ملك ارزاوا. أما الرسائل التي وردت إلى مصر فمنها ما هو من بابل ومنها ما هو من أشور أو من مملكة الحيثيين أو سوريا، وأحدها إلى أمنوفيس الثالث والد أخناتون. ورسالتان أخريان إلى سيدتين مصريتين
ولهجات هذه الرسائل مختلفة اختلافاً بيناً، حتى لقد وجد المترجمون مشقة شديدة في ترجمتها، فلها من هذه الناحية أهمية لغوية عند علماء اللغات السامية
وفي الرسائل وصف دقيق لبعض عادات القدماء ومراسيم الدين وتقاليد الزواج، كما أن لها أهمية جغرافية، وتدل هذه الوثائق في جملتها على سيادة مصر على آسيا الغربية وعلى هيبتها منذ طردت الهكسوس إلى عهد أمنوفيس الرابع(390/32)
ولقد كان ملوك مصر في عهد مجدها محاربين، أما أمنوفيس الثالث فبدت فيه ميول أدبية، وأما ابنه أخناتون فقد بدأ به عهد الضعف، وقد كان شديد الكراهية للحرب
(انتهى ملخصاً)
عبد اللطيف النشار(390/33)
القدر والقصص
(بمناسبة شقاء أشخاص روائيين)
للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل
في عام 1850 قدمت شارلوت برونتي الطبعة الثانية من قصة أختها إميلي برونتي المسماة مرتفعات وُذَرِنج بمقدمة جاء فيها:
(لا أدري أكان صواباً أو ملائماً أن تخلق كائنات مثل هيثكليف، ويصعب أن أظن ذلك، لكنني أدري أن الكاتب الذي يملك الموهبة الخالقة يملك شيئاً لا يسيطر دائماً عليه - شيئاً يريد ويعمل لنفسه بغرابة أحياناً، فقد يضع (الموهوب) قواعد ويبتكر مبادئ، ثم ترقد (موهبة الخلْق) أعواماً في خضوع لهذه القواعد والمبادئ؛ وعندئذ، ومصادفة وبغير إنذار بالثورة، يحين وقت لا تعود تقبل فيه أن (تَسْلفَ الأودية، أو تربط برباط في خط المحراث) - حين (تضحك من زحام المدينة، ولا تهتم بصياح الحوذي) - حين ترفض كل الرفض أن تصنع من رمل البحر حبالاً لحظة أخرى، وتشرع تنحت التماثيل فتجد (أنت) صورة من بلوتو أو جوف وتيسيفون حورية ماء أو مريم كما يوجِّه القدر أو الإلهام. وليكن العمل عنيداً أو مجيداً، مفزعاً أو سماوياً، فإن لك اختياراً ضئيلاً متروكا، غير أنه اختيار هادئ ساكت. أما أنت أيها الفنان الاسمي (الصوري) فإن نصيبك منه كان أن تعمل مستكيناً بإرشاد لم تفهمه، ولا استطعت أن تستوضحه - إنه لا يلفظ في صلاتك، ولا يُلغى أو يغير على هواك. فإن كانت النتيجة خلابة، فسيمدحك العالم أنت الذي تستحق من المدح قليلاً؛ أما إن كانت تشمئز النفس منها، فإن العالم نفسه يلومك، أنت الذي تستحق من اللوم قليلاً كذلك)
وفي عام 1930 قدم هـ. و. جَرُد لطبعة هذا العام من هذه القصة، بمقدمة أيد فيها شارلوت في تفسير قسوة القصة بالقضاء والقدر أو الإلهام، وقال:
(إذا لم يمكن وصف قصة مرتفعات وذرنج بأنها أعظم قصة (غير مسرحية) في لغتنا، فإن لها على الأقل أن تدعونا بعدل إلى اعتبارها أصفى قصصنا إلهاماً؛ وقد أحسنت شارلوت برونتي كشف قوتها العجيبة إذ تكلمت على (القدر أو الإلهام) (إلى أن قال): ليست الطبيعة، بل القدر، يبدو أنه أخذ القلم من الكاتبة، وكتب لها. (حتى قال): لو كان مدبر(390/34)
القصة شيئاً أقل من (القدر أو الإلهام) لكانت سفينتها غرقت وسط متاعب الأنانية)
هكذا قال مقدماً القصة الغريبة الرفيعة. ولم يكن يسع شارت الموهوبة الملهمة إلا أن تتأمل غرائب القصة وسببها الدافع وإلا أن تجد أنه القدر. أما الإلهام فمن القدر. ولم يكن يسع (جَرُد) إلا أن يُعجب بهذا التوفيق إلى تفسير سبب هذا العمل الأدبي الطافح بالقسوة والغرابة، وإلا أن يؤيده ويكرره في راحة وسرور
ولو لم تتكلم (شارلوت) و (جرد) عن عمل القدر في هذه الرواية لكان جديراً بنصف قراء هذه القصة أن يتساءلوا مستنكرين: لماذا قسمت حظوظ شخصيات هذه القصة كما قسمت؟! ولماذا نجح الشر فيها كل ذاك النجاح؟! ولماذا شقيت شخوصها الطيبة ما شقيت؟!
طالعت كثيراً من المآسي فلا أذكر أني عجبت من المؤلف عجبي من إميلي برونتي وإن تكن قصتها المحشودة بالمآسي ليست في قالب المأساة
الناس يشقون بمكتوب القدر، ويسألون الله اللطف والرحمة؛ وقد يتعجبون في تسليم من الحكمة الخفية كيف تكون. وقد يستغربون وجود غاية مجهولة معقولة لأن عقولهم لا تغني في هذه القضية بغير إيمان ثابت. فقد يسأل القارئ بعد تلاوة هذه المأساة وأمثالها: أما كفى المؤلف شقاء الناس في الحياة فيشقي شخوصه في الورق والخيال وهي من صنع يده لولا أن قَدَر الحياة يتدخل في قَدَر الخيال! إنه لا يجوز أن تشقى هكذا تلك الأحياء الخيالية الطيبة. فإن جاز شقاء شخوص روائية فحين يصف مؤلف أشخاصاً حقيقيين في قصة وصفية غير وضعية إلا أن يكون المؤلف قاسياً وحشياً
ويظهر أن مخرج هذه الرواية للسينما راعى شيئاً من ذلك، فرأيناها خلواً من شر ما فيها من شذوذ وقسوة. وإن يكن قد شوهها بالبتر والاقتضاب والتعديل
هذا، وقد كان كلام شارلوت على القدر والإنسان والاختيار المتروك له، وهو مناط الكسب، كلاماً صائباً يوافق في عمومه رأي السيد جمال الدين الأفغاني في مقالة (القضاء والقدر)
وفي (عهد الشيطان) للأستاذ توفيق الحكيم أقصوصة عنوانها (الأميرة الغضبى). وهي (ريسكا) بطلة قصته (أهل الكهف). والمؤلف يحاور بطلة قصته بهذا الحوار الذي طرق به موضوع القدر:
- قل لي أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟. . . لو أن قلمك تمهل(390/35)
لحظة قصيرة ولم يقصف تلك الحياة لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم!
- لست قاسياً يا سيدتي ولا ظلوماً. ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته لك عن طيب خاطر
- لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟
- لا تحمليني يا سيدتي هذه التبعة!
- جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل!
- آه، ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا الوجود
- نحن الظالمون وهم المظلومون. . . شيء بديع!
- إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم، وهم براء من كل صفة من هذه الصفات. فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون بها. ولو أصغى إله لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة، ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص وتلقي عناصر الفوضى في العمل كله. كلا يا سيدتي. إني لم أرد موت مشلينيا ولم أرد بقاءه، ولم أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل، إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون واحد: (التناسق)
فكيف لا يعرف الخالق الذي يحدثنا عنه الأستاذ الحكيم الظلم والعدل والقسوة والحنان والغضب والرضى وهو الذي خلقها؟! وكيف لا يشعر بها وهو يتصف بأكثرها؟ أو أن هذا الذي يصفه الأستاذ طراز من الخالقين طريف: اختصاصه الأبدان وليس من اختصاصه العواطف!
وكيف يجهل هذا الخالق المفاجآت ولا يحسب حساب الظروف وطارئ الطلبات، والمخلوقات يعرفونها ويعدون لها ما استطاعوا من عدة؟! أفينحل الكون العظيم لو أجاب الخالق دعاء إنسان يطلب شيئاً معقولاً هيناً على القدرة الإلهية؟!
وما عزاء المتدين عن مصائبه إذا لم يكن له أمل في رحمة الخالق وفي نعمة الجنة؟ إذن ما أضيع المخلوق!(390/36)
وما هذا التناسق الغريب الذي لا يكون إلا مركباً من نسبة من الشر لا تنقص؟! فكيف إذن يكون الحال في الجنة التي لا شر فيها، ألا يكون فيها تناسق؟! كذلك القصص التي ليست مآسي، هل انعدم التناسق فيها؟! فإن يكن المراد (التناسق الذي يقتضيه الحال) فأين إرادة الخالق واختياره؟! وكيف يكون خالقاً من ليست له إرادة ولا اختيار ولا تدبير فيسيطر عليه المقام والسياق والاتفاق! فقد يسوقه التناسق فينساق فيكتب في لوح القدر تراجيدية أو درامة أو كوميدية. . . ثم هو بعد ذلك خالق وله قدر!
وقد انتهى دور أفلاطون في مسرح الدنيا، لكن ديكنسون استطاع أن يهيئ له مرة أخرى دوراً في محاورته (بعد ألفي عام) وهي حوار بين أفلاطون وبين شاب عصري كذلك أسدل الستار على حياة فولتير وواشنطون ونابليون، لكن مادارياجا أنطقهم وبعثهم في الخيال المسطور في (ساحات الفردوس). وقد رقد المعري بعد سهاد دنياه ولكن الأستاذ العقاد أيقظه ليسجل في صفحات (رجعة أبي العلاء) أنباء رحلته في هذا العصر في الدنيا الحديثة. هذا وإن كان الأستاذ العقاد قي استصوب كلام الأستاذ الحكيم في (كناشة الأسبوع) بقوله:
(وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها ولا مشكلة الفن وحده، بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسراراً كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار الوجود)
لقد أراد الأستاذ الحكيم أن يفسر القدر في القصص فنظر إلى القدر في الوجود فلم يوفق إلى حقيقتهما معاً حيث وفقت شارلوت برونتي إلى تفسير أقدار القصص برأي معقول. وللحكيم العذر في إخفاقه لأنه سلك سبيل القدر الإلهي، وهو عصي على الإفهام
شجعني على إبداء هذه الملاحظات على (سُنَّة) الأستاذ الحكيم في (مخلوقاته) الروائية، أنه (خالق) لا يعرف الغضب ولا يشعر به، وأني لست مخلوقاً روائياً فأدخل في اختصاصه. . .
عبد المجيد مصطفى خليل.(390/37)
من وحي الريف
ريف وروح. . .
للأستاذ حبيب الزحلاوي
السرعة إحدى خصائص العصر، وهي على رغم أخذها الناس بالسوط تستحثهم على المضي، تتهيب الأديب، لا تجرؤ على الدنو منه ساعة سبحه في الفراغ الطويل، أو تأمله بدائع الكون العظيم، أو انجذابه بسحر الطبيعة ومفاتنها
للأديب الذي يركب القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، أو منها إلى الصعيد بعض العذر في رمي الريف بالصورة الواحدة ذات الوجه واللون الواحد، وله أن يدعي الملال من الرؤى الرتيبة، لا لأن طبيعة الريف هي كذلك، بل لأن أثر السرعة في نفسه أبلغ من أثر تهيئها لتقبل الجمال ولمح قسمات الروعة والبهاء المطوية والمنشورة، البادية والخافية والتشبع منها على مهل
والريف كالمرأة في مجموع تكوينها سحر يدرك بالغريزة، وفي تفصيل قسماتها فتنة تعيها لطافة الحس بالاشتراك مع الشعور والذوق وتفتق البصيرة
الريف للأديب المتسرع جمال موقوت وبهجة زائلة، ولقرينه المتأمل هيكل في مباءة الأرواح. . .
ما سمعت من أديب ثناء على ريفنا الصامت، بل رأيت ملامح الضجر تضج من الصمت فقلت هو ذا مظهر من مظاهر السطحية لا يقوى صاحبها إلا على مسايرة العصر في سرعته وتسرعه، ويعجز عن مجاراة الروح في سبحه وتأمله وانجذابه
لم ترني (الدقهلية) نخيلاً تبدى لي في الصعيد بقامته الممشوقة، وأغصانه المعروشة، وعناقيده المدلاة، وبلحه النحاسي القاتم والذهبي الصافي اللون، بل أرتني منابت الأرز تلبس عشرات ألوان متناسقة متساوقة من خضرة السندسي المفرح، تسبح في أمواه رقراقة لا تفيض حتى يدرك النبت النضج فيتناوله المنجل، وكأني سمعتها تقول: (نعوم في أمواهنا نستكمل حياتنا فيها كما يستكملها الأديب الموهوب في حب متقطع متواصل يحيا به حياة دائمة التوقد والالتهاب حتى قطعه المنجل!)
رأيت فصول العام مستوفاة في أرض الريف في ساعة واحدة هنا وهناك ربيع وخريف(390/38)
للقطن والقمح والأذرة والبرسيم، وهنالك صيف وشتاء لأرض تتأهب لغرس جديد
إن تعجب يا صاحبي فاعجب لقطان هذا الريف السمح السخي إذ لا شيء أدعى للعجب بله الدهشة من تلقيك عكس ما كنت تتوقع وتتأمل
في طباع قطان الريف جود وبخل، حلم وسفه، ظَرف وسماجة، ذكاء وبلادة؛ ولعلي لم أتلمس وألتفت إلى الاستكانة وضدها الأنفة، والتواضع وضده الكبرياء، والشجاعة يقابلها الجبن، وسهولة الخلق وتوعره، لأنها وإن كانت من الصفات التي تسم روح الفلاح بميسم الانطلاق والحرية والاعتماد على النفس ولكنها مكبوتة فيه، مخنوقة من الجور الذي لا تبلى جدته، ولا يصدأ معدنه، الجور الناعم الباسم وقد توارثته الأجيال الحاضرة عن الظالمين والمظلومين من أقدم العصور
والريف وضيء الطلعة، واضح السنة، كفتاة في مستهل الصبا، عفيفة الطوية، إن تصدت تتصدى لأليفها، أو للقريب من روحها، وليس للمحة الخاطفة عندها مهما بان سناها سوى أثر البرق. . .
اقتربت من فتيات ريفيات يجنين القطن، وكنت إذ ذاك متيقظ النفس، متشوقاً إلى رؤية جنى محصول مصر العزيز، ولكني ما كدت ألقي بالنظرة الخاطفة حتى غامت الرؤى في عيني. . .
لقد تذكرت الأديب فخري أبا السعود، هذا الرجل الذي صدمته الحياة فتغلب عليها بالموت. . . تذكرته للفصل الممتع من الكتاب القيم الذي نقله إلى العربية لمؤلفه توماس هاردي في وصف فتيات ريفيات يجمعن القمح في الحقل، وإني لأنقل شذرة من الفصل للدلالة على أدب السرعة الذي نأخذ ذواتنا به لسهولته وخفته وعلى الأديب الموهوب الذي يندمج في موضوعه فيمتزج به، فيشيع فيهما روح واحد، فتسمع تجاوب الروح الواحد. . .
(تركت الآلة الحاصدة المحصول وراءها في أكوام صغيرة، كل كومة منها تصلح لأن تكون حزمة، وعليها أكب الحاصدون بأيديهم، وكان معظمهم من النساء، وكان الرجال يرتدون قمصاناً وسراويلات تجمعها حول أوساطهم أحزمة من الجلد) (أما بنات الجنس الآخر فكن أهم شأناً وأمتع منظراً، شأن المرأة حين تندمج في مظاهر الطبيعة يدل أن تظهر بينها مجرد ظهور، كما هي الحال غالباً، فالرجل في الحقل يبدو شخصية قائمة فيه،(390/39)
أما المرأة فتبدو جزءاً منه، قد فقدت استقلال شخصيتها وتشربت روح المنظر المحيط بها ومزجت نفسها به)
وفي هذا الصباح كانت العين ترتد عفواً إلى الفتاة ذات السترة القرنفلية الشاحبة، إذ كنت أعدل الجميع قداً، وألينهن غصناً، ولكنها كانت قد شدت قلنسوتها على جبينها حتى لم يعد يرى شيء ومن وجهها حين تنحني، وإن كان من الممكن التنبؤ بلون وجهها بالنظر إلى خصلات شعرها الأسود الرمادي الممتد من تحت حافة قلنسوتها، ولعل من أسباب طموح العين إليها أنها لا تحاول اجتذابها، وأن تلتفت الأخريات حولها من حين إلى حين
وظلت تنحني وتقوم في حركة رتيبة كسير الساعة، تستخرج من آخر كومة هيئت ملء يمناها من السنابل، وتضرب قممها براحتها لتسوي رؤوسها، ثم تنحني ملياً، وتتقدم ضامة العيدان بكلتا يديها إلى ركبتيها، وتدفع يسراها ذات القفاز تحت الحزمة لتقابل اليمنى على الجانب الآخر، معانقة القمح معانقة المحب، وتجمع أطراف الحزمة وتجلس عليها وهي تربط، وتدفع أذيالها إلى أسفل كلما عبث بها النسيم، وكان جزء من ذراعها يبدو عارياً بين جلد القفاز الخشن وبين كمها ناعماً رقيقاً، وكلما تقدم النهار ابتسمت عليه الخدوش وبض منه الدم، وكانت تعتدل قائمة من حين إلى آخر لتستريح وتصلح من ميدعها وقلنسوتها، وعندها يرى الناظر وجه فتاة مليحة بيضاوياً ذا عينين سوداوين تحف به خصلات من الشعر الأسود سبطة تعلق بكل شيء تقع عليه، وكان خداها أشد شحوباً، وشفتاها الحمراوان أرق، وأسنانها أكثر تناسقاً مما يشاهد في بنات الريف)
سلام على ريفنا الملهم، وعلى أديب ليستلهم فيصور، ورحمة لفخري أبي السعود فقد عاش وكتب بدمه، ومات وهو يعلم أن الدم روح مسفوكة
حبيب الزحلاوي(390/40)
من وَراء المِنظَار
1 - صاحب السلطان الحقيقي
وهذا صاحب سلطان آخر لم أدر بادئ الرأي ماذا أسميه، وترددت بين أن أنعته بصاحب السلطان الثعبان وأن أسميه صاحب السلطان المهرج أو المشعوذ أو النصاب، حتى رأيتني أدعوه آخر الأمر على رغمي صاحب السلطان الحقيقي، ولعلها بعد كرامة من كراماته! والحق أني لم أر حتى اليوم من أصحاب السلطان من بلغ من الجاه نصف ما بلغه منه ذلك الألعبان الثعلبان
دخل الحجرة في نفر من حاشيته فسلم مسبل العينين خافض الجناح مطأطئ الرأس يكاد يتهدم من الضعف ويبدو كأنما ينوء بعمامته الحمراء الضخمة التي تعلو جبينه العريض، والتي زاد من حمرتها شدة بياض لحيته وشعر عارضيه وفوديه؛ وجلس وهو يلملم هلاهيله ويضعها بحيث لا تخفى مسبحته العظيمة التي تدور بعنقه وتتدلى إلى منتصف بطنه، وما برح يتمتم ويحرك شفتيه وهو يخلع نعليه حتى تربع على الكنبة وأسند عصاه إلى جانبه
وأحسست وقد استوى على الأريكة جواً من الهيبة يشيع المكان كله، فقد سكت الجلوس سكوتاً لم تتخلله إلا عبارات الترحيب والتحيات تزجى إلى الشيخ من كل ناحية، وهو لا يرد إلا همساً كأنما يحدث نفسه؛ وما دخل إنسان من أهل القرية تلك (المنظرة) التي جلس فيها الشيخ، والتي اتخذها العمدة مكان سهره وموضعاً للفصل بين المتخاصمين، حتى أقبل على الشيخ فتناول يده من فوق المتكأ فلثمها وردها إلى مكانها في خشوع ورهبة وفي نفسه من الغبطة من لثم يد الشيخ ما ينسيه قضيته إن كان صاحب قضية، أو يذهب كربته إن كان ذا كربة. . . وما رأيت قط صاحب قضية جرؤ على الإفضاء بما جاء من أجله في حضرة الشيخ، فليس من اللائق أن ينشغل المجلس عن الشيخ بقضية من القضايا مهما بلغ من خطرها، وإن كان الشيخ ليبدو وكأنه في شغل عمن حوله بما هو فيه من تمتمته وإطراقه
ولبث الشيخ على تلك الحال إلى أن رأيته ورآه من في الحجرة يهز رأسه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال ثم يدق كفاً بكف قائلاً في صوت مرتفع وعيناه مغمضتان: (الله! الله لطيف بعباده. . حي يا قيوم اصرف عنا الأذى. . . اصرف عنا الأذى يا الله!)(390/41)
ونهض الشيخ فراح يمشي في الحجرة جيئة وذهاباً وفي وجهه عبوس وضجر وخوف وقد فتح عينيه ولكنه لم يرفعهما عن الأرض كما أنه لم يفتر عن هز رأسه تلك الهزة السريعة العجيبة. . . ودخل الحجرة فتى يلبس جلباباً أبيض فضفاضاً واسع الردنين والطوق إلى درجة غير مألوفة، وتبينت أنه من حاشية الشيخ فقد جلس بين أصحابه دون أن يسلم على أحد حتى على أهل المنزل وهذه أمور يتقنها هؤلاء (المجاذيب) وينفردن بها من دون الناس إلا من المجانين
ورأيت الشيخ يلمحه عند دخوله لمحة خاطفة ما أحسب أحداً لاحظها لفرط سرعتها؛ وبعد أن قطع الشيخ الحجرة في ذهابه ومجيئه بضع مرات عاد إلى مكانه وجلس فأطرق قليلاً ثم هب واقفاً في حركة (بهلوانية) عجيبة كأنما أطلقه لولب خفي وصاح قائلاً: (يا خفي الألطاف) وعاد فجلس والعيون ترمقه في دهشة وحيرة. ودخل الخادم يقدم القهوة فبدأ بالشيخ ولكن الشيخ أشار إليه بيده إشارة عصبية، ونهض اثنان من دراويشه فصرفا الخادم عنه لأنهما يعلمان من حال شيخهما ما لا يعلمه ذلك الخادم الذي التقت الدهشة في وجهه بالرهبة والاحتشام. ثم إن الشيخ عاد فوثب من موضعه وثبة من لدغته عقرب لدغة أطارت صوابه وصاح في صوت مزعج: (يا لطيف! يا لطيف. . . حوش يا رب حوش بحق جاه سيد المرسلين. . . الطف يا لطيف سقت عليك النبي. . . سليمة إن شاء الله، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً. . .)
ولم يكد يتم كلامه حتى سمع الجالسون صفير الخفراء من أطراف القرية البعيدة، وحضر العمدة ومعه بعض الرجال، ثم عادوا بعد حين يعلنون أن الحرائق الثلاث أخمدت سريعاً والحمد لله. ونهض الشيخ يريد الخروج فقد رأى في وجه العمدة ما لا يخفى معناه عليه، وخرج الناس وراءه وما منهم إلا من يتمسح به ويزحم غيره ليحظى بلثم يديه فإن لم يستطع قنع بلثم ردائه، وقد ازداد الشيخ عظمة في نفوسهم بما أظهر من كرامة لا تنكر، ولما كانوا عند الباب الخارجي سمع لغط شديد وجلبة تتخللها الإيمان بالله والطلاق، وتبينا أن كلاً من هؤلاء يتمسك بأن ينال شرف مبيت الشيخ عنده؛ وفصل الشيخ في الأمر بإشارة منه أذعن لها الجميع فقد اختار من بينهم من يضيفه وأنعم عليه بهذا الشرف العظيم.
ودارت الأيام ورأيت الشيخ في مواطن كثيرة، أرجو أن أسوق إلى قارئي العزيز بعض ما(390/42)
التقطه منظاري منها ليؤمن معي إن لم يكن قد آمن بعد بأن الشيخ هو على رغم الناشين المنكرين من أمثالي صاحب السلطان الحقيقي.
الخفيف(390/43)
رسَالة الشِعر
ميعاد ليلة الأحد
للأستاذ صالح جودت
والضُّحَى، والغدائرِ الذَّهَبِ ... والعيونِ الشهباءِ كالسُّحُبِ
وبخديكِ كأْسَيْ العنبِ ... وبنهديكِ حُلْوَيْ اللعِبِ
قَسَم صنتُهُ عن الكذِبِ
ذكريات اللقاء لم تَنَمِ ... يَقِظَاتٍ في مهجتي ودمي
غَرِداتٍ في نظرتي وفمي ... فبحقي، وحَقِّ ذا القَسَمِ
هل تُعيدين ليلة الهَرَمِ؟
ليلة كابتسامة القَدَر ... كنتِ فيها أحلى من القمرِ
جمعتْنا بجانبٍ حَذِرِ ... من أبي الهول ساخر النظر
ليت لي مثل قلبه الحَجَري!
قد رآنا بطرْفِ مُقلتِهِ ... ننقش العهد فوق رَمْلِتِه
يا لجهل الصِّبا وضلَّته ... وغرورِ الهوى وغفلته
درس العهدُ منذ ليلِتِه
أين ميعادُ ليلة الأحَدِ؟ ... أين ميثاقنا إلى الأبدِ؟
أتصونينه؟ بل اقتصدي ... وتعاَليْ هنيهةً تَجِدِي
إنني في الثرى دفنتُ غَدِي
نصف عامٍ مضى ولم أَرَكِ ... أيُّ أمرٍ جرى فأَخَّرَكِ؟
أحبيبٌ عَلَيَّ غَيَّرَكِ؟ ... أم طبيبٌ رأى فأخْبَرَكِ
أنني قد وقعتُ في الشَّرَكِ؟
علمي الرفْقَ قَلْبكِ القاسي ... ذكِّرِي بي فؤادكِ الناسي
ملأ الحب بالضَّنَى كاسي ... فارفقي ساعةً بإِحساسي
أنا ما عُدْتُ غيرَ أنفاسٍ!(390/44)
بعد عام
ثورة. . .
(مهداة إلى أخي الأستاذ محمود الخفيف)
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
أَسْبِلْ جُفُونَ الْعَيْنِ يَا سَاهِرُ ... وَخَفِّضْ الثَّوْرَةَ يَا ثَائِرُ
اللَّيْلُ حَوْلَيْكَ بَعِيدُ المَدَى ... لاَ أول يُرْجى وَلاَ آخِرُ
والنَّجْمُ رَجَّافُ السَّنَا واهِنٌ ... يَنْفُخُ فِيهِ الْعَاصِفَ المَاطِرُ
والكأْسُ في كَفَّيْكَ قَدْ أَوشَكَتْ ... تَنْطِقُ: دَعْ جَنْبَيَّ يَا سَاكِرُ
خَوَاطِرٌ زَارَتْكَ مَا تَنْتَهِي ... فَزَائِرٌ مِنْ بَعْدِهِ زَائِرُ
أَثَابَكَ اللهُ. . . أَمَا لَحْظَةٌ ... يَثُوبُ فِيهَا رَأْسُكَ الحَائِرُ
يَا نَفْسُ قَدْ أَوْهَيْتِ جِسْماً وَهَى ... وَهَدَّ مِنْهُ وَحْيُكَ الآمِرُ
مَا الخُلْدُ؟ مَا يُغْرِيكِ؟ مَا لَفْظْةٌ ... جَوْفَاءُ قَدْ أَرْسَلَهَا سَاخِرُ
فالنَّجْمُ إِنْ غَابَ عَلَى أُفْقِهِ ... لاَ يَحْفِلَنْ بالْغَيْبَةِ الْنَّاظِرُ
رفِيقَةَ (الدَّانُوبِ) طَالَ المَدَى ... وَنَالَ مِنَّا الزَّمَنُ الْجَائِرُ
وَاسْتَأْنَتْ الأيام في سَيْرِهَا ... وَعَادَ يَحْبُو الْفَلَكُ الدَّاْئُر
وَبَيْنَنَا دُنْيَا عَلَى رَحْبِهَا ... يَزْحَمُهَا الْقَاتِلُ وَالآسِرُ
يَجُولُ فِيهَا السَّابِحُ المُتَّقَي ... في سَبْحِه وَالصَّاعِقُ الطَّائِرُ
تَسَاقَطَ الضَّعْفَى بِأَرْجَائِهَا ... وَسَارَ فِيهَا الْغَالِبُ الظَّافِرُ
لوْ تَعْلَمِينَ اليَوْمَ مَا سَطَرتْ ... كَفِّي وَمَا فَاضَ بِه الْخِاطرُ
لفَاضَ مِنْ عَيْنَيْكِ - أفْدِيهمَا ... بالرُّوح - يَجْرِي دَمَعُكِ الطاهِرُ
أَتَذُكرِينَ اللَّيْلَ إذ لفنَا ... وَضَمَّنَا زَوْرَقُنَا ألعابرُ
مُدَلَلُ الْخُطْوَةِ فِي عَبْرِهِ ... يبدُو ويَخفىَ صَدْرُهُ الماخِرُ
وَيَنْثُرُ الأَمْوَاهَ فِي هَيْنَةْ ... مِنْ حَوْلِه مجْدَافُهُ النَّاثِرُ
وَزُرْقَةُ (الدَّانوبِ) تمضْي بنا ... وَيَسْتبَينَا لَوْنُها الزّاهِرُ(390/45)
تَلَصُ مِنْ عَيْنَيكِ لوْنَيِهِمَا ... وَأَيْنَ منها سِحْرُكِ السَاحِرُ
وَالكأسُ فِيّ كفيْكِ قد أشْرقَتْ ... وَضَاَء مَنْهَا وَجْهُكِ النَاضِرُ
وَقُلْتِ و (الدَّانوبُ) فِي لَغْوهِ ... مَاذَا يَقُولُ الأزرق الهادِرُ
فَقُلْتُ وَالقبْلَةُ فِي خَاطِرِي ... يقولُ هيَّا. بادِرُوا: بادرُوا
وَاقْتَربَتَ أعْطافُنا وَاحْتَوَى ... صَدْرَكِ صَدْرِي النَّاحِلُ الضَّامِرُ
وَاتَحَدَ النَّبْضَانِ فِي لحظةٍ ... فِدَى لها مَاضِيَّ وَالحَاضِرُ
لوْ قُلِبَ الزَوْرَقُ مِنْ تَحْتِنَا ... لمْ يَشْعُرَنْ مِنَّا به شاعِرُ
أوْ لفّنَا الزَّاخِرُ فِي مَوْجِهِ ... لمْ نَدْرِ مَاذَا فَعَلَ الزاخِرُ
وَأَيُّنَا المبْتَلُّ فِي مَائِهِ ... وَأَيُّنَا المرضُوضُ وَالْخَائْرُ
يا قلبُ ما الذِّكْرَى لنا، خَلِّهَا ... لاَ يَنْتَهِيَ ما يْذكُرُ الذَّاكرُ
يا طَاوِيَ الْصَّحْراَء، فِي ظُلْمَةٍ ... ضَللْتَها، ما أنتَ وَالآخِرُ
وَسَائِلٍ أَيْنَ أَغَانٍ مَضَتْ ... وَأَيْنَ أَلْحَانُك يَا شَاعِرُ
وَمُسْكِراتُ اللفظْ أَيْنَ انْطَوَتْ ... وَأَينَ وَلَّي وَحْيُكَ النَّافِرُ
وَأَيْنَ مِنْ وَجْهِكَ إِشْرَاقَةٌ ... وَضاَءةٌ، أَيْنَ الصِّبَا البَاكِرُ
مًرَّتْ بِكَ الْبَسْمَةُ فِي جَفْوَةِ ... كما يَمُرُّ العَاجِلُ السَّائِرُ
فقلتُ ما ضَرَّكَ صَمْتُ امرِئٍ ... طَوَاهُ جَدُّ مُظْلِمٌ عَاثِرُ
الصَّمت أَحْرَى بِيَ فِي أَمةٍ ... أُمِّيُهَا كاتِبُهَا القَادِرُ
يَسُودُهَا العِيُّ وَيَسْمُو بها ... وَلاَ يَسُودُ النَّاطِقُ الجَاْهِرُ
أَشِرْعَةُ الإنْصَافِ فِي الدَّهْرِ أَنْ ... يَسْتَوِيَ الْمَقْهُورُ وَالْقَاهِرُ
وكلُّ ما أَعْجَزَ فِي فَهْمِهِ ... بها بَيَانٌ سَائِغٌ بَاهِرُ
لله صَوْتٌ رَنَّ في أُفْقِهَا ... أَخْفَتَهُ دَهْرٌ بِهِ غَادِرٌ
وَأَنْكَرَتْ دُنْيَايَ سَعْيِي بِهَا ... وَالضوْءُ لاَ يُنْكِرهُ النَّاكِرُ
حَتَّى يَكَادَ الصَّبْرُ مِنْ ضِيقِها ... يَهْتِفُ لاَ كَانَ الفَتَى الصَّابِرُ
إِنْ نَالَ قَلْبِي الْيَأْسُ في سَاحِها ... فَغفْرَك اللَّهُمَّ يَا غَافِرُ
كَأنَنِي في يَدِهَا مُصْحَفٌ ... ضَافِي السَّنِا يَحْمْلُهُ كَافِرُ(390/46)
شِعْرِي وَأنْتَ القلب قد صاغَهُ ... لفظاً بَنَانٌ صَنَعٌ مَاهِرُ
أَنْتَ مَلاَذِي إِنْ أَلَمَّ الأَسَى ... وَسَامِرِي إِنْ أَعْوَزَ السَّامِرُ
كنْ نَاصِرِي في عاَلَمٍ خَادِعٍ ... إِنْ عَزَّ فِيهِ الخِلُّ وَالنَّاصِرُ(390/47)
البَريدُ الأدبيّ
تشابه الفكرة عند الأدباء
دعاني الأستاذ محمد الرفاعي إلى الفصل فيما نقل الأستاذ أحمد أمين عن الأستاذ توفيق الحكيم، وأجيبُ بأن هذه القضية لا تحتاج إلى تحقيق، فقد رأى في البحوث التي نشرتها الرسالة عن (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) أن هذا الرجل الفاضل لا يهمه أن يرد الحقوق إلى أربابها إلا في موطن واحد، هو الموطن الذي يقول فيه إنه استأنس بآراء المستشرقين، ليقال: إنه يطلع على أقوال المستشرقين!
وهنا أذكر الغضبة المصرية، غضبة الأستاذ الدمرداش، حين حدثته في بغداد عن تهافت الأستاذ أحمد أمين في مقدمة الجزء الثالث من (ضحى الإسلام)، فقد حدَّث قراءه بأنه كان ينوي تأليف جزء رابع عن الأندلس، ثم نهاه أحد المستشرقين فانتهى، ونصحه فانتصح، ومعنى ذلك أنه لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي يصدُر عن أمثال أولئك الناس!
والأستاذ الدمرداش معذور، لأنه لا يساير حركة الترجمة والتأليف، ولأنه يؤمن بأن أحمد أمين فوق الشُّبَه والظنون، وتلك خصلة تستحق الثناء، لأنها تشهد بأن الأستاذ الدمرداش رجلٌ حكيم، والرجل الحكيم يرى المشكلات الأدبية من وجع الدماغ!
ولو أن الأستاذ محمد الرفاعي رجع إلى أحد أعداد الرسالة في سنة 1934، لرأى أن الأستاذ أحمد أمين لم يعب على صاحب (النثر الفني) غير آفة واحدة، هي النص على ما سرَق منه الدكتور طه حسين، ومعنى هذا أن السرقة لا تعاب، وإنما هي من الرزق الحلال!
والحق أني أخطأت نحو نفسي في التنبيه على ما سرق مني طه حسين، وما سرق مني أحمد أمين. فهذان رجلان فاضلان جدَّا، وفي مقدورهما أن يشهدا صادقَين بأنني الرجل المهذَّب، إذا تواضعتُ فصرحتُ بأنني المعتدي الأثيم على ما لهما من أفكار وآراء
أخطأت، وأخطأت، ثم أخطأت، وإن غضب الأستاذ إسعاف النشاشيبي على هذا التعبير، فقد أنكر وروده في كتاب (ليلى المريضة في العراق)
ولكن الشبهة باقية، شبهة السرقة الأدبية، السرقة التي يستبيحها أحمد أمين وطه حسين، وهما رجلان شهد لهما قلمي بالسبق في بعض الميادين(390/48)
آه، ثم آه!!
يراد منا أن نخدم الأدب بأمانة وصدق، ثم يراد منا في الوقت نفسه أن نكون متجمَّلين متلطفين، فأين من يدلنا على أساليب التجمل والتلطف في الأخذ بنواصي الناهبين لأفكار الكتاب، وآراء الشعراء؟
النقد الأدبي محنةٌ عاتية، فلنحتمل بلاياها صابرين
زكي مبارك
حول كتاب (المنتخبات)
أخي محرر الرسالة الغراء
سلاماً وتحية وبعد فقد قرأت الكلمة الطيبة التي خَصَّني بها الأستاذ الدكتور زكي مبارك في الرسالة عند ما عرض للكلام في كتاب المنتخبات لأستاذنا الكبير أحمد لطفي السيد باشا والله يعلم أني لموقن بأني لم أنتج شيئاً له من القيمة ما يستحق ذلك الثناء. ولكن الدكتور أبى إلاَّ أن يكون أسبق بالفضل.
أما مأخذه على كلمة (أهل) بمعنى: والتي يستعمل الكتاب كلمة (جيل) لتقابلها فأظن أني على حق في استعمالها في هذا المعنى. فإن (الجيل) في العربية هو: الصِّنف من الناس؟ فالمصريون جيل والإنجليز جيل والفرنسيون جيل؛ أما الأهل فيقصد به الطبقة الواحدة المتعاصرة من الناس. وشاهدنا على ذلك شعر النابغة الجعدي قال:
لَبِسْت أُناساً فأفنيتهم ... وأَفنيت بَعد أُناسٍ أُناساً
ثَلاثة أهْلِين أفنيتُهمْ ... وكان الإله هو المُسْتآسا
(أنظر الأغاني ص6 ج5 طبعة دار الكتب)
وأنشد (أي النابغة الجعدي) عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أبياته التي يقول فيها: ثلاثة أهلين أفنيتهم؛ فقال له عمر: كم لَبِثتَ مع كل أهْلٍ: قال سِتِّين سنة. (أنظر الأغاني ص7 ج5)
فالأهل إذن هو المعنى الحرفي لكلمة: وكفى بما نقلت شاهداً - ومن العجيب أن هذا المعنى لم يثبت لكلمة (أهل) في القاموس واللسان، فعسى أن يُلتفت إليه في المعجم الوسيط(390/49)
الذي يضعه المجمع اللغوي.
إسماعيل مظهر
موسى
رداً على كلمة الأستاذ محمود أبو السعود بالعدد 388 من مجلة الرسالة الغراء أقول إني مصر على أن كلمة (موسى) ليست مصرية، وذلك بعد أن بحثت عنها بحثاً هيروغليفياً دقيقاً، وإنها ليست بمعنى عبد كما قال فرويد وغيره ولكني لم أتعرض لأصلها وكانت كل كتابتي أن أبين حقيقتها من الناحية المصرية فقط
وكل ما كتبه حضرات الكتاب الأفاضل عن أنها مشتقة من كلمة (موشا) القبطية التي صحتها موشي (مو) بمعنى (ماء) وشي بمعنى (شجر) على اعتبار أن اللغة القبطية هي الدور الأخير للغة المصرية القديمة، وأولت على أنه وجد بين الماء والشجر فهذا كله من الحدس والتخمين لا أكثر ولا أقل
وأنا أميل إلى أن هذا الاسم عبري لعدم ورود ما يشابهه علينا أثناء دراستنا المصرية القديمة
وهو مشتق من كلمة (موشي تيو) العبرية أي الذي وجد سابحاً على وجه ماء النيل وانتشلته باتيا ابنة فرعون. وتقول القائمة الرسمية للإسرائيليين أن (موسى) ولد بالجيزة قرب منطقة الأهرام 3333
ومن كل ما ذكر لا نشك قط في أن موسى كان عبرياً اسماً وأصلاً
محمد صابر
أخصائي في الآثار المصرية القديمة
التماثيل الملوك
حضرة الأستاذ محمد كامل حتة. . .
قرأت تصويبكم وتعليقكم على أبيات اللورد دنساني وأحسب الشبه قريباً جداً بين موقف البحتري أمام تماثيل ملوك الفرس، وبين موقف اللورد أمام التماثيل المصرية. وقد قال(390/50)
البحتري:
يغتلي فيهمو ارتيابي حتى ... تتقراهمو يداي بلمس
تصف العين أنهم جد أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس
فتحدث عن التماثيل بضمير العاقل وعناها هي لا الذين تمثلهم. وأحسب اللورد دنساني حين خاطب التماثيل وأثبت جوابها إنما عناها هي فهي التي شاهدت تطور الزمن، وهي هي عنده الملوك الأربعة فهي التماثيل الملوك لا تماثيل الملوك. وعندئذ لا أحسب من التصويب أن يقال إنها أربعة تماثيل لملك واحد. بل أحسب أن رمسيس إنما عنى بإقامة أربعة تماثيل أن يجعل منها أربعة ملوك، والمجال في الفن كله من إقامة التماثيل أو من مناجاتها مجال خيال
وللتحقيق التاريخي قيمته على كل حال، ولكن التصويب إنما يكون في موضع الخطأ، ولا خطأ في قول يقول:
وتوهمت أن كسرى أبرويز معاطى. . .
ولا في قول من يقول: فتخيلت ما أجابني به الملوك الثلاثة لأن رابعهم كان قد كسر عند منتصفه فانشطر إلى شطرين، ولم ينكسر ملك وإنما انكسر تمثال. . .
ولكم خالص الشكر. . .
عبد اللطيف النشار
تأنيث الشمس وتذكير القمر!
يستنكر الأستاذ العقاد على العرب أن يذكِّروا القمر (وهو مقرون بالحنين والحياء، موصوف بالاتباع والاقتفاء، قليل فيه ساطي المضاء، وساطع الضياء، عارض له من المحاق ما يعرض للنساء)، ويؤنثوا الشمس وهي مصدر الحياة والحيوية؛ وذلك على عكس أكثر اللغات. ثم تساءل: (أهي زلة من زلات البداهة عند الشرقيين، أم هم المستضعفون للأنوثة لا يفطنون لهذا المعنى الذي فطن له الغربيون؟ أم هو إمعان في البداهة أدركوا به من سطوة المرأة ما لم يدركه مذكرو الشمس ومؤنثو القمر، وأقاموا به ما عكسه أولئك الخاطئون؟)(390/51)
والحقيقة أنها ليس بزلة من زلات البداهة عند الشرقيين أو الغربيين، وليست إمعاناً في البداهة من أي الفريقين، ولكنها اختلاف نظر وملاحظة
فالغربيون لاحظوا في التأنيث الرقة والوداعة، والاستسلام والليونة فكان (القمر) مؤنثاً، ولاحظوا في التذكير القوة والفتوة، والقسوة والغلظة فكانت (الشمس) مذكرة عندهم.
أما الشرقيون فلاحظوا في الأنوثة الخصب، والإنتاج، والإخراج والولادة فكانت (الشمس) مؤنثة. والشمس هي التي ترسل بأذرعتها إلى معانقة الأكمام فتنفتح، وتبعث بها إلى الثمار فتنضج، وتبخر المياه في البحار، وتحرك السحاب في السماء فهي منتجة أي إنتاج، مخصبة أعظم إخصاب. ولاحظوا في الذكورة العقم، وعدم الإنتاج والإخراج، فكان (القمر) مذكراً والقمر لا أشعته تذيب جلمداً، ولا تهيج ساكناً
ومنشأ ذلك - كما يقول المازني، عافاه الله - (لأن آباءنا الأولين كانوا يقيسون حياة الطبيعة على حياتهم، ويتصورونها قائمة على ما تقوم عليه حياتهم من التناسل وغيره. ومن هنا أنثوا الشمس في لغتنا والريح وغيرها) من أرض ونخلة وروضة.
فالريح - مثلاً - أنثت دون الهواء، لما بينهما من فرق في الخصب والإنتاج؛ فالهواء الهادئ لا يحمل الديم، ولا ينقل اللقاح، وعلى العكس من ذلك (الريح) فهي تفعل ذلك وأكثر منه.
(الزقازيق)
السعيد جمعة
أسرة الشعر بدار العلوم العليا
كون لفيف من أساتذة الأدب العربي بدار العلوم العليا أسرة للشعر تنتظم الطلبة الشعراء بالدار، وقد أسندت رياستها للشاعر الكبير صاحب العزة الأستاذ علي الجارم بك. وعقد الاجتماع الأول بمكتب الرئيس لرسم الخطوات البدائية للاحتفال بموسم الشعر بدار العلوم. وقد اختير (أحمد عبد المجيد الغزالي) للقيام بأعمال سكرتارية الأسرة
وفيما يلي أسماء الأعضاء من مختلف سني الدراسة:
توفيق محمد جبر، عبد الحليم داود، عبد الرءوف عون، عبد الستار فراج، عباس العماوي،(390/52)
محمود شافع، تمام حسان عمر، عبد الرحمن أيوب، أحمد شلبي، عبد العزيز المندوري، عبد العظيم دسوقي، سيد أحمد باشا، مصطفى زيد(390/53)
القَصَصُ
عبء السلطة
للروائي اليوغسلافي ميلان بوجلج
ولد (ميلان بوجلج) سنة 1883 في مدينة ستيريا على الحدود
بين سويسرا وبين الجانب الجنوبي الغربي من النمسا، وكان
أبوه مدرساً في قرية. وبدأ (ميلان) ينظم الشعر وهو طالب.
ثم اشتهرت كتاباته النثرية حتى أصبح من كتاب لغته
المعدودين. وهو من أنصار المذهب الواقعي وفيه فكاهة قوية،
وله مجموعات قصصية كثيرة. وقد تولى إدارة المسرح
الملكي في يوغسلافيا في وقت ما.
كان كاتب العمدة جالساً إلى مكتبه وهو شاب طويل القامة نحيل، وكان على أذنه قلم وفي يده قلم آخر يكتب به في سكون على ورقة أميرية
وكان يجلس في ركن الحجرة رجل من السوقة تبدو عليه علائم التشرد والشر وهو غريب عن القرية، وكان قد دخلها بغير مبرر ظاهر منكراً اسمه ومسقط رأسه
دخل العمدة وظل واقفاً عند الباب حتى تنبه الكاتب إلى وجوده فحياه، فاقترب العمدة من المكتب ونظر إلى الورقة وقال ويداه في جيبه: ما الذي تكتبه في هذا الصباح؟
قال الكاتب: لقد استدعيت هذا المتشرد وأجلسته بجانب الموقد وبدأت أكتب تقريراً عن صفاته الجثمانية لأرسله إلى المركز
ثم لمس الكاتب جبينه واستأنف الكتابة، ومشى العمدة نحو المتشرد البائس فتأمل ثيابه الخلقة وقدميه الحافيتين وعينيه الرماديتين الدائمتي الاختلاج وصاح به: (ما الذي جاء بك إلى هنا أيها المتشرد؟ هل سقطت علينا من السماء؟ قل الحق من أين جئت وإلى أين تريد الذهاب؟)(390/54)
فهز الرجل كتفيه وقال: (لا أعرف! لا أعرف)
واستمر العمدة يسأل واستمر المتشرد يجيبه نفس الجواب ولما كاد صبر العمدة أن ينفذ طرق الباب طارق، ودخل طحان القرية وهو قصير هزيل ورفع قبعته في احترام وتنحنح قليلاً، ثم قال: (على شاطئ النهر بقرب الطاحون وجدت غريقين أظنهما انتحرا. . . إن شكلهما غريب وقد وجدت كلاً منهما مستلقياً على ظهره فوق الحشائش، ويد كل منهما في يد الآخر - يده اليمنى مشتبكة في يدها اليسرى. إنني لم أشهد بغير الحق).
بدت علائم الدهشة على العمدة ومد ذراعيه ونظر إلى كاتبه الذي نهض سريعاً، ورفع القلم الذي في أذنه واستعد لكتابة ما شهد به الطحان
وهنا صاح المتشرد بشكل يدل على الاهتمام: (هل هما ميتان؟) فضرب الطحان بيديه على ركبتيه وهو يضحك: (نعم ميتان بالطبع)
وأمر المعمدة المتشرد بلزوم مكانه ولزوم الصمت، وقال الطحان للعمدة: (لقد جئت لأخبرك لكي تأمر بنقل الجثتين من مزرعتي)
فقال العمدة وهو يلمس بأصابع يديه جانبي رأسه: (حسن! حسن! اذهب وسأتبعك لأعاين الجثتين)
ومشى الطحان وظل يعبث بأظافره في شعر رأسه ثم التفت إلى المتشرد وقال: (أنظر أيها الوغد الذي لا يصلح لشيء. هذه هي أعمال أصحابك المتشردين، إنهم يذهبون مع الشيطان في كل طريق ونحن الذين لا ذنب لنا نعاني نتائج شروركم)
ثم التفت إلى الكاتب وقال: (ما الذي تفعل؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فما الذي نفعله بهم؟ لعنة الله على هؤلاء المتشردين)
فهز الكاتب رأسه وقال: (إن حياتهم معصية لله وخزي للناس، وهم حتى بعد الموت يضايقون خلق الله)
قال العمدة: (ولكن علينا عملا نعمله قبل كل شيء).
فقال الكاتب: (نعم يجب علينا أن نبلغ السلطات ثم ندفن الميتين على نفقة البلدية)
قال العمدة بلهجة التوكيد مناقضاً كاتبه ومستشاره: (كلا فإن أموال القرية لا تنفق على هؤلاء المتشردين الأفاقين. يجب أن نعرف من أين أتوا، ثم. . . ثم. . .)(390/55)
فقال الكاتب وهر أكثر تجربة من العمدة: (إن هذا لا يصلح، وإن النهر يحمل الجثث من أماكن بعيدة، وأنا أتذكر أنه حمل إلينا مرة جثة من مدينة تبعد أربعة عشر ميلاً، وقد بقيت تلك الجثة أربعة أيام قبل الدفن، فكتبنا إلى جهات متعددة، فلم نهتد إلا بعد ثلاثة أعوام إلى المكان الذي غرقت فيه)
قال العمدة: (إذن فلماذا نكتب إلى السلطات؟ - ثلاثة أعوام!) فقال الكاتب: (نحن في هذه الأيام مضطرون إلى إبلاغ السلطات ولو كان القتيل هرة)
قال العمدة: إذن فاكتب إلى السلطات في الحال. فقال الكاتب وهو يحاول صياغة جملته في الصيغة الرسمية: ولكن يا حضرة العمدة أنا الآن مشغول جداً بكتابة التقرير عن هذا المتشرد وذهني مركز في هذه القضية فقط ولا أستطيع تركها للاشتغال بقضية أخرى. . . أسمع يا حضرة العمدة. . . ثم رفع عن المكتب ورقة وأخذ يقرأ:
حضرة صاحب العزة مأمور المركز. . .
بالنظر إلى مرور أحد المتشردين في زمام هذه القرية، وبالنظر إلى أن هذا المتشرد ينكر اسمه واسم بلده فقد حررنا هذا التقرير بتشبيهه:
(متشرد غير معلوم موطنه، مجهول الاسم، حافي القدمين، نحيل، إصبع قدمه الكبرى معوجة، في ذقنه شعر قليل مثل شعر الثعلب، أنفه محدودب رفيع مائل قليلاً إلى الجانب الأيسر وعندما يتكلم تهتز لحيته مثل الأرنب، ومشيته كمشية الثور. أي أن خطوته قصيرة، وركبته بطيئة الحركة، وإذا شده إنسان من أذنه اليمنى تهدلت شفته السفلى وأغمض عينه اليسرى)
وكف الكاتب عن القراءة وبدا عليه الزهو وشعور الثقة بالنفس وقال: (من المحال أن أقف عند هذا الحد من التقرير، فإن أفكاري مركزة وقد حرصت على الدقة)
ظن العمدة أنه قد فهم وقال: (هذا حسن فاقتصر أنت على نظر قضية المتشرد وسأنظر القضية الجديدة. هات ورقاً وقلماً جديداً وسأفكر وأكتب تقريراً للمركز)
وبعد دقيقة كان العمدة يبدأ في كتابة الخطاب. وبعد ساعة فرغ منه
استدعى العمدة كاتبه القدير وقال: (اسمع وقل لي رأيك؟
حضرة صاحب العزة مأمور مركز. . .(390/56)
إن النهر ألقى على زمام القرية غريقين وجدا عند الطاحون. . . وجاء الطاحون وقال لي: يا عمدة أبعدهما عن أرضي. . . فأنا العمدة أرجو من عزتكم بإخباري بما أفعل. . . إن الناس يشيرون بدفنهما، ومن رأيي ذلك، فأرجو صدور التعليمات اللازمة)
هز الكاتب رأسه وقال: (من المستحيل إرسال هذا الخطاب فإن لهجته غير رسمية)
قال العمدة في نفسه: (غير رسمية؟ وماذا يكون الخطاب الرسمي إذن؟)
تناول الكاتب الخطاب وقال: إن في المركز موظفين محترمين ولن يعجبهم خط هذا الخطاب
قال العمدة: ولماذا لا تكتبه أنت؟ أليس وجودك هنا من أجل هذا الغرض؟
فقال الكاتب: نعم، عفواً يا حضرة العمدة، الأفضل ترك هذا التقرير مؤقتاً
ثم قام الكاتب فجلس أمام العمدة ووضع القلم في سنَّا جديداً وبدأ يكتب. ووقف العمدة في وسط الغرفة يتأمل في خط كاتبه والمتشرد متبلد في مكانه يراقب هذين الموظفين، وكان وجه الكاتب مخضباً بالاحمرار لزهوه وتحمسه وثقته بأهمية نفسه
وانتهى من كتابة الخطاب فوقف وأخذ يتلو خطابه مرتلاً كما لو كان يقرأ قصيدة من الشعر، وكان العمدة يصغي وهو معجب بهذا الأثر الرسمي البديع، ثم قال وهو يعبث بأظافره في شعر رأسه: يجب أن تذهب الآن إلى الطحان
وأدخلا المتشرد في سجن (الدوار) وذهبا فقادهما الطحان إلى مكان الغريقين عند حافة الماء، فلم يريا على وجهي الجثتين ما يدل على أثر جريمة، بل كانا يظهران كما يظهر وجها نائمين يحلمان ببعض أحلام الحب، وبدأ الكاتب يهز رأسه الضيق الجبين وقال: يظهر لي أنها جريمته هو
فقال العمدة: بل هي جريمة الشيطان
وقال الطحان: اسمح لي يا حضرة العمدة أن أقول إنه لا يمكن أن نعرف جريمة من هذه
وانتهت المحادثة والتحقيق عند هذا الحد، وعاد العمدة والكاتب إلى القرية، وقال الأول: ألا يستطيع الإنسان أن ينعم بيوم راحة؟ عندنا الآن متشرد حي ومتشردان ميتان، فكيف ننتهي من أمرهم؟
فقال الكاتب: لقد كانت الأمور كلها تسير سيراً حسناً لولا اضطرارنا إلى مخابرة السلطات،(390/57)
فإن الصعوبة كلها ناشئة من تحرير المكاتبات
وأعقب هاتين الملاحظتين مسير نصف ميل في صمت. ثم ضحك العمدة فجأة ضحكة عالية وقال وقد بدا له أنه سيدهش الكاتب بفكرة موفقة: لقد عرفت الحل فلا تكتب شيئاً إلى السلطات
كاد الكاتب أن يغمى عليه، واستمر العمدة يضحك وكانت ضحكاته تزداد ارتفاعاً وقال: (لقد عرفت الحل وسأختصر الطريق؛ لكن عليك أن تسكت، وأن تخبر الطحان بلزوم الصمت).
وفي المساء ذهب العمدة إلى المتشرد وقال: (أخبرني ألم تعمل في حياتك أي عمل نافع؟)
فحملق المجرم في وجهه ولم يجب
قال العمدة: (ألا تعرف الطريق إلى الطاحون؟ إنها بجانب النهر) فقال المتشرد: (نعم قد عرفتها)
قال العمدة: (بجانب الطاحون عند المزرعة ستجد جثتي رجل وامرأة. هل سمعت؟ اذهب وألق الجثتين في النهر حتى يحملهما الماء. هل سمعت؟)
هز المتشرد رأسه علامة على الموافقة وافترقا، وبعد قليل كانت جثتا العاشقين طافيتين على الماء
وفي الصباح التالي كان الكاتب ماراً بجوار الطاحون وكان وراءه على مسافة قريبة حفار القرية يجر عربتيه الصغيرة وكان عليها إذ ذاك غطاء أسود، فلما وصلا إلى شاطئ النهر نظر الكاتب إلى الماء فلم ير فيه أثراً لميت أو لحي، وقال الكاتب: (بالأمس وصل بلاغ إلى (الدوار) بأن غريقين وجدا هنا على الشاطئ). وقال الحفار: (هكذا سمعت ولكن يظهر أن البلاغ كاذب)
فقال الكاتب: لعله (كذلك)
وقال الحفار: (ربما عاد الماء فحملهما كما أتى بهما)
فهز الكاتب رأسه وقال: (ربما كان ذلك)
ثم مشى كل منهما في طريقه.
(ع. ا)(390/58)
العدد 391 - بتاريخ: 30 - 12 - 1940(/)
الحرب وكتاب الإنجليز
للأستاذ عباس محمود العقاد
في إنجلترا كتاب عالميون لا يقع فيها حادث كبير إلا كان له شأن معهم أو كان لهم شأن معه، لأنهم أكبر من أن تعبرهم الحوادث منسيين في بلادهم، أو في البلاد الغربية عامة. ومن هؤلاء - إن لم نقل في طليعتهم - الرياضي الفيلسوف الناقد الاجتماعي برتراند رسل
هذا الرجل مؤلف كتاب في الرياضة العليا. سئل القراء العلميون في أنحاء الغرب عن مائة كتاب هي الأولى فيما ألف بنو الإنسان، فكان كتابه هذا واحداً منها وعلى رأسها
وهذا الرجل هو ثالث النبلاء من آل رسل المشهورين، ولكنه نزل باختياره عن لقبه لأنه يقول بإلغاء الألقاب
وهذا الرجل حكم عليه بالحبس وبالغرامة في الحرب الماضية لأنه عارض الحرب اعتقاداً منه بإمكان اجتنابها. ودعته جامعة في الولايات المتحدة لإلقاء محاضراته الرياضية والفلسفية على طلابها فحيل بينه وبين السفر مخافة الرأي الذي قد ينشره هناك، ولم يبال قبل ذلك أن ينشره في صميم بلاده
وهذا الرجل أجرأ من كتب في الأخلاق من الإنجليز، غير مكترث لما يصيبه من جراء ذلك في حياته الخاصة وأعماله العامة، وقد أصابه من الأذى كثير
فلما نشبت الحرب الحاضرة كان قراؤه في أنحاء العالم يسألون: أين برتراند رسل؟ أين برتراند رسل؟. . . لأنهم قدروا له موقفاً لا يتخلى عنه، ثم عجبوا من سكوته كما عجبوا من السكوت عن ذكره، حتى جاء البريد الأمريكي يوماً فإذا بالرجل في الولايات المتحدة، وإذا بهم يحملون عليه هناك وقد كان مظنوناً في إبان الحرب الماضية أن الولايات المتحدة ملاذه الأمين الذي يتقي فيه الحملات!
لكنه تلقى حملة بعد حملة من رجال الدين وهو مترفع عن ردها، على كونه أجرأ الكتاب على المصاولة، ولم تمنع هذه الحملات أن يختاره العارفون به لتدريس الرياضة والفلسفة تارة في كاليفورنيا وتارة في نيويورك. ورأينا له صورة بين الطلبة الفتيان وهم حافون به كأنه واحد منهم وهو في الثامنة والستين مجلل الرأس بالشيب، وهم دون العشرين أو يتجاوزونها بقليل(391/1)
وقد فتن هؤلاء الطلبة بآرائه فيما يحفلون بحملات رجال الدين عليه. وسئل عن نية الإقامة فقال: نعم، سأقيم في هذه البلاد وأنشئ فيها أبنائي على النشأة الحرة التي أرتضيها!
ورحل إلى الولايات المتحدة خلال هذه الحرب كاتب آخر من كتاب الإنجليز وأصحاب المذاهب الإصلاحية في العصر الحديث هو: هـ. ج. ولز الذي يعارض أفلاطون باختراع المدن الفاضلة على النمط العصري، ويغتنم فرصة الحرب الحاضرة للتبشير بالمستقبل المأمول، وهو على شك في إمكان الوصول إليه، لأنه يريد أن يخلع جذور التفكير الإنساني التي لا تزال متأصلة في العقول من بقايا العقائد الأولى، والتي تغري بالحرب، لأن أشرفها وأعظمها يلاقي أضعفها وأخبثها في تقديس الموت وتفضيله على الحياة.
وكان ولز في الحرب الماضية (دماغ) الدعوة البريطانية التي كتب لها النجاح على يديه. وظن أناس من عارفيه أنه سيعود في الحرب الحاضرة إلى مثل ذلك العمل الجليل؛ ولكنه فضل السفر إلى الولايات المتحدة لخدمة أمته ومذهبه الإصلاحي هناك، وكانت له حملة عنيفة على بعض القواد الإنجليز وعلى الأسلوب الذي اتبعوه في ميادين الغرب والشمال، وربما كان لهذه الحملة أثرها في تنظيم القيادة على نحو جديد. فلما سمح له بالسفر إلى الولايات المتحدة خشي بعض الساسة أن ينطلق بالنقد العنيف بين الأمريكيين فلاموا الحكومة الإنجليزية على الترخيص له في مغادرة البلاد. وقال وكيل الشؤون الداخلية يومئذ بمجلس النواب إنهم قصدوا بالسماح له ألا يحسب الأمريكيون أنهم يكتمون عنهم بعض الآراء ويقصرون الدعوة بينهم على ناحية واحدة دون سائر الأنحاء.
وأبطل الكاتب الكبير مخاوف المتخوفين بمسلكه الذي توخاه في نشر دعوته بين الأمريكيين، فكان أول ما قاله بينهم أنه لم يلجأ إلى مخبأ قط، وأن الذي تخيلوا الإنجليز فزعين ليل نهار لا يريمون المخابئ مخطئون. ولم يطلب إلى الأمريكيين أن يشتركوا في الحرب، ولكنه نادى بكبح الطغيان تمهيداً لكل إصلاح، ونادى إلى جانب ذلك بضرورة إدخال الروسيين في جملة النظام العالمي الذي تسفر عنه الحرب الحاضرة أيا كان هذا النظام.
ولا بد أن يسأل السائلون: وما شأن برنارد شو؟ وماذا يصنع الآن وماذا يقول؟
والجواب أنه لا يريح ولا يراح(391/2)
فما مضت على إعلان الحرب أيام حتى راح المذيعون وكتاب الصحف في ألمانيا وإيطاليا يزعمون أن برناردشو يائس من مصير الحرب متنبئ منذ الآن بهزيمة الإنجليز
فلما سئل في ذلك قال: إن القوم يتملقونه إذ يشجعون قلوبهم بكلامه، ولعلها في حاجة إلى تشجيع!
وحاول بعض خبثاء الصحفيين أن يصوروه وهو في خوذة الوقاية فأبى أشد إباء
وأحبوا أن يلذعوه بالتسوية بينه وبين ملاكم مشهور، فقالوا له: إنك وذلك الملاكم لثروة وطنية، ومن واجب كل منكما أن يحمي رأسه بخوذة!
فقال: بل عليه - إذا شاء - أن يحمي يديه بقفاز. . . وسألوه: أين تنام إذا سمعت نذير الغارة؟ فقال: حيث ينبغي أن ينام كل إنسان في الفراش!
وقيل له مرة: أليس من رأيه أن تقصر الغارات على الأهداف العسكرية؟ فقال: إن مراكز الحكومة محسوبة من الأهداف العسكرية، ولكنها قصدت مرة فأصابه هو تحطيم نافذتين وطارت الغارة بإفريز من باب ردهته
وليس من الضروري أن يظفر محدثو برنارد شو بجواب، ولكنهم يظفرون لا محالة بجواب لاذع أو جواب ساخر أو جواب يجمع بين الصراحة والروغان، والمقصود هو جواب من شو كيفما كان السؤال أو الجواب!
وفي إنجلترا كتاب عالميون غير هؤلاء مثل موام وبريستلي وهكسلي وجود وطائفة من هذه الطبقة المقدمة بين الكتاب الأوربيين
فأما موام فقد كان في باريس منذ نشبت الحرب الحاضرة وهو في خدمة وزارة الاستطلاع كما كانت في الحرب الماضية. ثم صدر إليه الأمر بالعودة إلى وطنه عندما خيف سقوطها فعاد مع ألف وثلاثمائة من اللاجئين الإنجليز في سفينة فحم قذرة طافت بهم عشرين يوماً بين فرنسا والجزائر وجبل طارق حتى وصلت إلى الجزر البريطانية، ولم ينس وهو يتجاوز السادسة والستين ويعاني متاعب السفر وقلة الزاد وخطر القبض عليه في تلك السفينة الهائمة أن يحصي ما تعوده من إحصاء النقائص الإنسانية ويحدثنا عن السيدات كيف حرصن على صبغة الشفاه والأظافر وهن بين الفحم والشحم ولا ناظر إليهن غير الجائعين الخائفين من أولئك اللاجئين الذين كانوا لا يفرغون من تهديد غواصة حتى(391/3)
يهددهم حكام هذا الميناء أو ذاك بالاستيلاء على السفينة أو يضنوا عليهم بالزاد القليل!
وحب هذا الرجل للاستطلاع والقراءة لا يقل عن حبه لتتبع النقائص والعيوب، فهو هارب مهدد وفي حقيبته شيء عن ثاكري وشيء عن سقراط، وعقله مشغول بالحكمة السقراطية التي تعرف الجلد على الموت كما تعرف الجلد على الحياة.
أما بريستلي - وقد مثلت له رواية بدار الأوبرا في القاهرة - فهو يوشك أن يتجرد اليوم للدعوة في طريق الإذاعة
وجوليان هكسلي يود لو أنه ولد في سنة 1925 ليفقه شيئاً عن هذه الحرب القائمة ويعيش فتياً في الفترة التي بعدها مشتركاً بعمله فيما يراه حقبة من أمتع حقب التاريخ
وجود الفيلسوف المخلص للفلسفات يعلن أنه طلق الفلسفة السلمية وآمن بأن الحرب واجبة للخلاص من الطغيان
وكنت أود أن أسمع شيئاً عن فئة من الكتاب العالميين غير الإنجليز، وأولهم الكاتب الفرنسي رومان رولان الذي كان له في الحرب الماضية شأن بين الفرنسيين كشأن برتراند رسل بين الإنجليز، ولكني لم أسمع عنه خبراً من الأخبار، ولعله قابع في سويسرا كدأبه حين يسأم النصح وينجو بنفسه من الكيد والضغينة
ومنهم موريس مترلنك البلجيكي وقد لاذ بالولايات المتحدة (خالي الوفاض بادي الأنفاض). . . كان له مال بمصرف بركسل فسقطت بركسل في قبضة الألمان؛ وكانت له دار وعقار في نيس فسقطت نيس في قبضة الألمان والطليان. . . وهو اليوم يستأنف العيش من جديد وقد بلغ الثامنة والسبعين!
أما راوية الألمان الكبير في الجيل الحاضر (ليون فيختوانير) صاحب القصص التي عرض كثير منها على اللوحة البيضاء بالقاهرة فنجاته من ألمانيا ثم من فرنسا رواية كأغرب ما كتب الرواة: فر إلى فرنسا ثم اعتقل فيها، ثم جاءه رجل لا يعرفه فاحتال على إخراجه من المعتقل في ثياب النساء، ثم إخراجه من ميناء طولوز بجواز منحول، ثم عبر به إسبانيا والبرتغال، ولم يكشف عن حقيقته إلا وهو في سفينة أمريكية يلجأ إلى الولايات المتحدة مع غيره من اللاجئين!
لكن العجيبة الكبرى من عجائب الأدب والحرب هي تلك العجيبة التي قرأناها عن إقليم من(391/4)
أقاليم رومانيا التي احتلها المجريون والألمان
فقد سمعنا أن مائتي شاعر وكاتب هجروا ذلك الإقليم الواحد ولا ندري ماذا كانوا يصنعون فيه!
والحرب والله رحمة إلى جانب مائتي شاعر وكاتب في إقليم، بين أميين وأشباه أميين، ولعلها رحمة بالشعراء والكتاب أنفسهم قبل الرحمة بالقراء ومن لا يقرءون!!
عباس محمود العقاد(391/5)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
(أهل الكهف)
لتوفيق الحكيم
للدكتور زكي مبارك
- 8 -
تمهيد
الأستاذ توفيق الحكيم مَدِينٌ في وجوده الأدبيّ لرواية (أهل الكهف) فهي الحجَر الأول في بناء شهرته الأدبية. وقد ظهرت أول مرة سنة 1933 فظهر معها المؤلف أول مرة سنة 1933 ولم يكن له قبل ذلك في حياة الأدب تاريخ
وكلمة اليوم تشريحٌ لتلك الرواية بلطف ورفق، فما أحسبها شُرَّحتْ قبل اليوم، لأنها استُقبِلتْ بإعجاب، ولأن المؤلف أسرع فشغل عنها النقاد بمحصول وفير من الرسائل والأقاصيص، فإن انتهى التشريح إلى أنها رواية ضعيفة فلا بأس، فتلك باكورة المؤلف، والبواكير لا تسلم من العطب في جميع الأحايين، وإن ظهر أن المؤلف لم يستعد لموضوع الرواية كل الاستعداد فلا استغراب، لأنه رجلٌ قليل الجَلَد على مصابرة المراجع والأسانيد، وإن وصل بنا الدرس إلى أنها رواية جيدة على ما بها من مآخذ وعيوب فذلك هو المصير المنتظر لأثر يصدر عن أديب موهوب مثل توفيق الحكيم
أهل الكهف
هي مسرحية شائقة، مُثِّلت أول مرة في القاهرة سنة 1935 وبها افتُتِحتْ أعمال (الفرقة القومية المصرية) ثم نُقلت إلى الفرنسية سنة 1940 بتمهيد تاريخي للأستاذ جاستون فِيتْ مدير دار الآثار العربية
ولم يتسع الوقت للبحث عن النسخة الفرنسية، للاستفادة بما في ذلك (التمهيد) من معارف تاريخية، فلم يبق إلا النظر في هذه المسرحية بدون التفات إلى ما كتب ذلك المستشرق المفضال(391/6)
ومن المؤكد أن المتسابقين لن يُسألوا عن ذلك التمهيد، لأن المقرر هو النسخة العربية، ولأنه بعيدٌ عن بعض أعضاء لجنة الامتحان، فلن يكونوا جميعاً من قراء لغة هوجو ولامرتين
أصحاب الرقيم
خصَّص الأستاذ توفيق الحكيم صفحة من كتابه لآية قرآنية شريفة منتزعة من سورة الكهف، فكان معنى ذلك أنه اعتمد على تلك السورة في زَخرفة ذلك التاريخ، والتاريخ المزخرف هو ما يسميه الفرنسيون وكان معنى ذلك أيضاً أنه يجب على توفيق الحكيم أن ينظر في القرآن وتفاسير القرآن قبل أن يزخرِف ذلك التاريخ، فماذا صنع؟
قال الله تعالى في أصحاب الكهف والرقيم:
(سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم، رجماً بالغيب، ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم)
وبمراجعة التفاسير نعرف أن أصحاب القول الأول هم اليهود، وأصحاب القول الثاني هم النصارى، وأصحاب القول الثالث هم المسلمون
وبمراجعة المسرحية (التوفيقية) نرى المؤلف اختار قول اليهود فجعل أصحاب الكهف ثلاثة رابعهم كلبهم؛ وبمراجعة (حمار الحكيم) نرى المؤلف يتخاذل ويتهافت حين يسمع الحفيف (المعبود) لأوراق (البنكنوت) فهل يمكن القول بأن هذا المؤلف (المسلم) له أجداد تنسَّموا أرواح الأصائل والأسحار في أرض الميعاد؟
ما يهمني أن أحقق نسب توفيق الحكيم في هذا الحديث، وهو إن سمحت الدعابة نسبٌ مدخول، وإنما يهمني النص على إساءته لفنه حين اختار قول اليهود
أصحاب الكهف في الرواية اليهودية ثلاثة، وهم في الرواية الإسلامية ثمانية، فأيُّ الروايتين أنفع للفنان؟
لو فكَّر توفيق لأدرك أن المجتمع الذي يكوَّن من ثلاثة أضيق من المجتمع الذي يكوَّن من ثمانية، لأن المجتمع الأول لم يصور غير ثلاث أواصر: آصرة الأسرة، وآصرة الحب، وآصرة المال البسيط الذي يحرص عليه راعي الغنم في حاله الرقيق
ولو أن أصحاب الكهف كانوا ثمانية - كما تريد الرواية الإسلامية - لاتسع المجال أمام(391/7)
المؤلف، فخلق من مشكلات المجتمع في نواحيه الاقتصادية والسياسية والذوقية آفاقاً رحيبة يجول فيها قلم الباحث ويصول
ثم ماذا؟ ثم وقعت غلطة في اسم الراعي، فهو (يمليخا) عند صاحبنا توفيق، ولكن يمليخا في التفسير (الكشاف) وفي حاشية الجمل على (تفسير الجلالين) لم يكن راعياً، وإنما كان من رجال (البَلاط)، بلاط الملك الوثني (دقيانوس)، أما الراعي فاسمه (فلسطيونيس)
ثم؟؟ ثم سكت توفيق الحكيم عن اسم الملك الذي بُعث في عهده أصحاب الكهف، فلم يعرف إلا أنه (الملك)، ولكن أي ملك؟ لو رجع إلى التفاسير لعرف أن ذلك الملك كان يسمَّى (بيدروس) والنصُّ على اسمه أوجب، لأنه ورد في القصة مقروناً بالتعظيم والتبجيل
العقدة المنسية
وهنالك (عُقدة منسية) في رواية توفيق الحكيم هي عُقدة البعث، وتلك العقدة تنقل القصة من وضع إلى وضع، فنشرُ أهل الكهف كان مصادفة عند توفيق، ولكنه في الرواية الإسلامية وقع في أعقاب أزمة عقلية بين رجال (بيدروس) هي الخلاف حول بعث الأرواح والأجساد؛ وهو خلاف كان كثير الغليان في تلك العهود
ولكن ما قيمة هذه العُقدة المنسية؟
لهذا العقدة قيمةٌ عظيمة جدّاً، فغاية القصة عند توفيق هي انتصار الحب، أما غاية القصة إذا روعيتْ تلك العُقدة فهي انتصار الإيمان، وتلك هي الغاية الأساسية إذا أردنا الوفاء لمكان القصة من العقيدة ومكانها من التاريخ
بطلة القصة عند توفيق هي (امرأةٌ أحبتْ) وكان الواجب أن تكون (امرأة آمنتْ) لو كان توفيق من أصحاب الفكر العميق
استجواب
تحت أي تأثير كتب توفيق الحكيم هذه القصة؟
عندنا ثلاثة فروض:
الفرض الأول هو قوة الشهوة، والفرض الثاني هو قوة الحب، والفرض الثالث هو قوة الإيمان(391/8)
أما الشهوة فلم يصورها توفيق الحكيم، الشهوة العارمة التي تزلزل أعصاب الرجال
وأما الحب فقد عرض له توفيق بأدب ولطف، كما يصنع العذريون الضعفاء
بقي الإيمان، فماذا صنع توفيق في وصف الإيمان؟ وماذا صنع في تشريح أوصال الارتياب؟ وأين المعركة التي أثارها بين نسائم الهدى وزوابع الضلال؟
(أيها القديس! أيها القديس!)
تلك أنشودته في التذكير بالنشوة الروحية، فأين أنشودته في التذكير بالغيِّ والرِّجس والإثم والفتون؟
المحصول الفني لصاحبنا توفيق الحكيم يرجع إلى صنف واحد هو البهرجة الروائية، أما التعمق في الفكرة، فهو غرضٌ لا يصل إليه إلا بمجهود شاق
لو كان التوفيق من حلفاء توفيق لأدرك أن من المستحيل أن تكون بريسكا لم تحسَّ الحب إلا أول مرة عند لقاء ميشلينا، وقد نشأت في أحد القصور الرومية، وهي قصور أقيمت على قواعد من طغيان الأهواء والأحاسيس، وكان من الخير لفنه أن يخضعها لذلك الطغيان
ولو كان التوفيق من حلفاء توفيق لجعل موت ميشلينا في القصر لا في الكهف، فالقصور هي ديار العطب، أما الكهوف فهي ديار الأمان
وكان من همّ توفيق أن يجرّد الراعي من جميع العواطف، فما سبب ذلك؟
هنا عُقدة إنسانية لم يَفطِن إليها توفيق، وهي احتباس العواطف في النفوس الفطرية، فما الذي كان يمنع من تشريح أهواء العوامّ لذلك العهد، وهم صورة مكررة في التاريخ؟
منع من ذلك أن الأستاذ توفيق الحكيم لم يحدد الغاية من تلك المسرحية، وإنما حصر همه في الرقش والتزيين والتهويل، فكان ما أراد!
والمعروف عند مؤلفي المسرحيات في أكثر الشعوب أن اللون المحليّ يُنتصب له ميزان، فأين اللون المحليّ في مسرحية أهل الكهف؟ هل شعرنا بأن عهد دقيانوس يخالف عهد بيدروس - الذي جهله توفيق - إلا في توافه الشئون؟
الخلاف بين العهدين يرجع إلى اختلاف الملابس والنقود، فأين الخلاف بين العادات والتقاليد وبينهما ثلاثمائة سنة وتسع؟
وأين الخلاف بين ألوان الحقائق وألوان الأباطيل، بعد اعتراك الأهواء والآراء في تلك(391/9)
العهود؟
كانت المسيحية لعهد دقيانوس تعاني اضطهاد الوثنية، وقد فصّل ذلك توفيق، وهو معنى سجله القرآن من قبل، فكيف كانت المسيحية في عهد بيدروس؟ لقد سكت عن ذلك توفيق سكوت أهل الكهف بعد الرقاد الأخير، مع أن الكلام في هذا الموطن أنفس من السكوت، فقد كانت المسيحية تحولت إلى معضلة عقلية، بعد أن كانت نفحة روحية، ولكن توفيق نسى أن ميدان هذه القصة مَصال فكر قبل أن يكون مجال خيال
الظاهر أن الأستاذ الحكيم لم ينظر إلى عصر الرواية من الوجهة العقلية والدينية، وأريد العصر الذي وقع فيه البعث، وهو الفيْصل في مكان تلك القصة من معترَك الشك واليقين.
وقد اهتم توفيق بأن يجعل في أصحاب الكهف رجلاً مُقلقل الإيمان بالمسيحية - وهذا ينافي الاعتقاد الموروث - فماذا استفاد من هذا التشكيك؟
كنت أنتظر أن يستفيد من هذا التشكيك فيقدم لنا بعض ملامح الوثنية على لسان ذلك المؤمن المرتاب، ولكنه لم يصنع، فلأية غاية فنية أو عقلية أثار ذلك التشكيك؟
كان من واجب توفي أن يشرح تلك الوثنية في صفحة أو صفحتين، ولو على طريق الغمز والتجريح، لأن الوثنية لم تُخلَق من العدم، وإنما هي صورة من أهواء النفوس وأحلام القلوب
توفيق لم يصنع شيئاً ذا بال في هذه المسرحية. لم يصنع شيئاً يضيفه إلى أقطاب الفكر، وإن كان صنع شيئاً يضيفه إلى أرباب الخيال
وهنالك فجوة عميقة في صحة التخيل، فأصحاب الكهف بُعِثوا في مدينة اسمها طرسوس، وكان يجب أن يبلبلهم المؤلف فيذكّرهم بأن مدينتهم كانت تسمَّى أفسوس، وقد تغير ما في المدينة من ملابس ونقود، ولم يتغير قصر المُلك، فكيف وقع ذلك؟ وكيف جاز أن يجد ميشلينا غرفة الزينة على عهدها المألوف قبل يومين وقد مرت عليها ثلاثة قرون؟ وكيف جاز لميشلينا أن يحلق ذقنه بيديه كما يصنع توفيق الحكيم في هذه الأيام؟ ومتى كان حلق اللحية من مظاهر التزيُّن عند القدماء، ولاسيما المتطلعين منهم إلى منازل التكريم والتشريف؟
كان توفيق الحكيم يحتاج إلى هذا الدرس ليعرف أن المسرحيات لا تولد في أيام معدودات،(391/10)
وقد ترفقت به كل الترفق، لأنه من أعز أصدقائي، وللصداقة حقوق
توفيق الحكيم في أهل الكهف
يتعثر المؤلف في الفصل الأول، وهو تعثُّر توجبه وضعية الرواية، كما يعبِّر أهل العراق، فأصحاب الكهف يستيقظون من سبات عميق، يستيقظون على أهواء كان لها في حياتهم وجود قهّار، ولكنها أهواء مزعزعة الرسوم والحدود، بفضل ذلك السُّبات العميق
فإذا كان الفصل الثاني رأينا المؤلف يصحو مع أهل الكهف فيقرر أن (قلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله) وأن (القصة ضمير الشعب، وأنه لا يمكن للبشرية أن تخطئ حين تتلاقى في قصة واحدة على اختلاف الديانات والأجناس، فنعرف أنه انتفع بكتاب لامرتين في تشريح سِفر أيوب. ثم نراه يقرر أنْ ليس للمحب عُمْر فنعرف أنه انتفع بكلمة الفرنسي الذي سُئل عن عمره فأجاب: ' ' ثم نراه يقول: (أستودعكما الله هانئين بشباب قلبيكما) فنعرف أن هذا من ذاك!
فإذا كان الفصل الثالث رأينا توفيقاً كبير العقل حين يقرر أن الحياة المطلقة المجردة من كل ماض ومن كل صلة ومن كل سبب هي أقل من العدم، وهل هنالك عَدَم؟ العدم الحق هو الحياة المجردة من التاريخ
ثم رأيناه يقرر أن الحب أقوى من العقيدة ومن الدين، لأن عقيدة الملائكة لم تكن إلا فناً من الحب العَصوف
ثم نرى غيرة بريسكا من فتاة تقطَّع به الزمن إلى أبعد من ثلاثة قرون فنعرف شيئاً من خلائق النساء
فإذا كان الفصل الرابع عرفنا من توفيق أن (الحُلم أحياناً كالفن، لا ينقل الحقيقة كما هي، بل يسبغ عليها من عبقريته جمالاً لم يكن، أو بشاعة لم تكن) وعرفنا أن (القلب أقوى من الزمن) وأنه لا يهمّ المرأة أن تكون قِدِّيسة، وإنما يهمها أن تكون (امرأة أحبت) فنفهم أن الحب في قلب المرأة أعمق جذوراً من الدين، وإلا فكيف صح أن تخاطب الراهبة فاطر السماوات بمثل هذا التعبير: (زوجي العزيز!)
وصدق شوقي حين قال: (الحياة الحبّ، والحب الحياة) وحين قال:
سَيْطرَ الحبُّ على دنياكمُ ... كل شيء ما خلا الحبَّ عَبَثْ(391/11)
أما بعد فذلك توفيق الحكيم في أهل الكهف
هو أديب موهوب تناغيه الحياة من حين إلى حين. هو أمشاج من الوجد المقهور والحب الدفين. هو قيثارة رنانة لأحلام الشباب والكهول، وإن كانت قيثارة لا تعرف أصول الأنغام، لأنه كاتب بلا أسلوب، ولو كان توفيق من أصحاب الأساليب لأدّى للفكر والبيان خدمات تعزّ على من رامها وتطول
كم تمنيت وتمنيت أن يكون توفيق الحكيم من كتاب اللغة العربية!
لو كان هذا الرجل كاتباً لأتى بالأعاجيب، لأنه قوي الملاحظة وقوي الإحساس إلى أبعد الحدود، ولكن التعبير يعوزه في أدق الشؤون، والتعابير القوية لم تكون ولن تكون إلا شاهداً على عظمة الفكرة وقوة الروح
عيب توفيق الحكيم أنه نشأ مدلَّلاً بين كتاب هذا الجيل، فلم يتذوق صيال الأحقاد والأهواء والأباطيل
ألم يشهد على نفسه في مجلة الرسالة بأنه مَدين لكاتب لم يعرف قدره في جميع الأحايين؟ ومن ذلك الكاتب يا توفيق؟
حظك بيديك، يا ابن آدم، فاعرف نفسك بنفسك، ولا تعتمد على غير واجب الوجود
ثم أما بعد فقد قضى توفيق عشر دقائق وهو ينمِّق العبارة التي يهدي بها إلىَّ (أهل الكهف) فأتت: (إلى الدكتور زكي مبارك إعجاباً بدراساته الصريحة ونقده الحر للأدب الحديث)
فكيف ترى مقامي منك، يا توفيق؟
هل هديتك؟ هل أضللتُك؟
تلك كلمة الحق فيك، فغيِّر ما بنفسك لألقاك وأنت أديبٌ صوّال الفكر، جوَّال البيان
والله يحفظك ويرعاك للصديق الوفي الأمين
زكي مبارك(391/12)
من وحي الحرب
العلم والخلق
للأستاذ قدري حافظ طوقان
إن الخلق من النفحات الإلهية، به يكتب التوفيق وعليه تقام دعائم النجاح. والفرد يخلقه لا بعلمه، وكذلك الأمم ليست بعلومها وفنونها بل بأخلاقها وضمائرها لا تصلح إلا بهما ولا تشاد عظمتها إلا عليهما.
فالعلم إذا دخل دائرة الخلق اتجه نحو الخير والبناء والنمو والإثمار، وإذا خرق نطاقها ولم يتقيد بها أصبح أداة شر وهدم وتدمير، وعلى هذا فمن صالح البشرية والحضارة أن يحيط الخلق بالعلم وأن يسيطر عليه ويرعاه ليسير به نحو الخير والجمال والكمال
لقد تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير بعيد الأثر في الحياة والعمران، فقد قضى على المسافات ومحا آيتها، وأتى على معجزة الاتصال بين الأقطار، فجعلها طوع إشارته. كشف المجاهل، وجفف المستنقعات، وأروى الصحاري، ومهّد الأدغال، وأباد أكثر الأمراض، فإذا الأرض أكثر ترامياً وأرجاؤها أعظم اتساعاً. فتح أبواباً كانت مغلقة، ووصل إلى نتائج ما كانت لتخطر على بال إنسان، وتمكن من السيطرة على مصادر الطاقة في أشكالها المختلفة فنمت الثروة العامة نمواً لم يحلم به أحد من قبل، وطغت الاختراعات، وكثرت الاكتشافات، فالعائمات على الماء، والسابحات في السماء، والساريات والراسيات على الأرض وتحتها، والأسلاك الكهربائية تطوف هذه الكرة، والأمواج اللاسلكية تعج في الأجواء حاملة على أجنحتها الأخبار والأنباء والصور، وأصبح كثير من الناس في هذا العصر يتمتعون بأسباب من الرخاء والرفاهة والترف لم يرن إليها القياصرة في الأزمان الماضية
ولكن مهلاً. . . هل هذا التقدم كاف؟
هل هذا التقدم - وقد توافرت فيه كل الوسائل لتسهيل الحياة وتوفير العناء - قضى على المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المجتمع؟. . .
إن هذا التقدم قد زاد المشاكل الاجتماعية تعقداً، وسلب راحة البال وطمأنينة النفس، ويمكنني أن أقول إنه وضع الحضارة في مركز خطر.
ولماذا؟. . . لأن الإنسان في تقدمه لم يحسب حساباً للخلق ومعاني الحق والواجب والمثل(391/13)
العليا، وقد قصرت حكمته عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية.
والذي يخشاه كبار الفلاسفة والحكماء أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم وقواه العظيمة في أغراض الروح والخلق، اتجهت هذه القوى إلى التدمير والتخريب والتقتيل بدلاً من الاتجاه إلى البناء والإنتاج والإثمار والخير والجمال
لقد أصبح شعار هذا العصر (المادية فوق كل شيء) طغى هذا الشعار وتضاءلت أمامه قوة الناس المعنوية وتلاشت به الروابط الأدبية وانكمشت الرحمة والعطف والشفقة في صحف الأديان، وأشاحت الفضيلة بمزاياها عن النفس فإذا الإنسان في غمار من الزهو والغرور يهزأ من العفة والاستقامة والفضيلة والصلاح ولا ينظر إلى الحياة إلا من ناحية المتع والمسرات
لهذا لا عجب إذا قام المفكرون في أمريكا وإنجلترا يدعون الناس إلى حركة إصلاحية غايتها الاتجاه نحو المعنويات والروحيات، والاهتمامُ بتكوين الخلق، وجعلُ الحضارة قائمة عليها، لينقذوا الإنسانية من الشرور المحيطة بها ويضعوا حداً للمشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع. وهذا ما يجعلني أومن بأن العالم - على الرغم مما هو فيه من تخبط - سيتجه نحو الروحيات ونحو الاحتفاظ بمقام الروح فوق مقام المادة، ذلك أنه إن لم يفعل، وسمح للمادة أن تسيطر غير آبه للخلق ومعاني الخير والكمال، فلن تقوم لحضارة قائمة وسيبقى السلم مهدداً، والمثل العليا في خطر، والناس في قلق، والأفكار في اضطراب، والأعصاب في توتر، وتتضاعف مشاكل الإنسان ومتاعبه، وتزيد تعقداً والتواءً، فلا يخرج من فوضى إلا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا اطمئنان ولا أمان ولا راحة ولا سلام
وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حدٍّ لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من المتاعب والصعاب المحيطة به من كل جانب
يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلي من شأن المثل العليا والأخلاق السامية، كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين المادة والروحيات
وهل تكون حياة آمنة يسودها رحمة وسلام إذا كانت مادية؟
وكيف تكون الحياة ناميةً رائعةً إذا لم تسرْ على هدى الروحيات؟
لن يستطيع الإنسان أن يردّ عن الحياة آثامها وشرورها ومفاسدها إذا سار فيها على العلم(391/14)
وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال!
بل كيف تكون الحياة سامية ذات أثمار إذا سيطرت عليها المادية من كل جانب؟
وهل يصفو عيش في جو مادي؟
وهل تستقيم حضارة بالمادية؟
لا. لا. لن تستقيم حضارة بها ولن تتخلص الإنسانية من ويلات العلم إذا لم تنزع إلى الروحية وتسر على هدى الخلق وطريق الحق والعدل
بلاء هذا العالم في طغيان المادية، وخلاصه في الجمع بين الخلق والعلم، خلاصه في روحانية تذكى في الناس معاني الخير والكمال وتسمو بهم إلى ازدهار العواطف، إلى حيث نمو الخلق وتفتح المواهب وبروز المزايا النفسية. . . وإن في هذا كله لثماراً يانعات تجني منها الإنسانية الخير والطمأنينة والسلام
إن في رجوعنا إلى عناصر الخلق وإلى الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الأديان، ما يضع حداً للمتاعب التي تواجه الإنسان وتجعل من العلم أداة خير وإصلاح وما يقضي على الفوضى الخلقية التي نراها سائدة في مختلف نواحي الحياة
إن العلم قد وضع في أيدينا قوة، إذا لم نحطها بسياج من الخلق والفضائل، انقلب إلى قوة هدامة مخربة. وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظه ضمن هذا السياج، ليجني منه الإنسان قوى الخير والبناء والإثمار؛ وأن يسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا، حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالتهم بنفحات روحية وعلى أساس متين من الأخلاق
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(391/15)
حول كتاب تحرير المرأة
للأستاذ مصطفى محمد إبراهيم
درجت الرسالة الغراء منذ شرعت وزارة المعارف سنة المسابقة بين طلبة السنة التوجيهية في امتحان اللغة العربية - على نشر مباحث كريمة فيها توجيهات قيمة لأذهان الطلبة في الكتب التي سيمتحنون فيها، وكان المتولي أمر هذه المباحث النافعة الأستاذ زكي مبارك
وقد قرأت في عدد الرسالة الأخير (رقم 389) بحثاً قيماً نفيساً حول كتاب من هذه الكتب هو كتاب (تحرير المرأة) للمرحوم قاسم بك أمين بقلم الكاتب الفاضل الأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف. وقد عنت لي بعد قراءته ملاحظات لم أر بداً من تدوينها تعميما لفائدة أبنائنا الطلاب
تناول الأستاذ شخصية المؤلف بشيء من الإسهاب فأحسن وأفاد، إذ أن التعريف بالمؤلف والإبانة عن مقومات شخصيته ومدى ثقافته له أثر كبير في تفهم آرائه والحكم على أفكاره. ثم عرض الأستاذ مباحث الكتاب عرضاً لطيفاً، غير أني تمنيت لو أنه أسهب فيه قليلاً حتى تزداد هذه المباحث الخطيرة وضوحاً، خصوصاً وأن هذا الكاتب كان له من الأثر الاجتماعي العميق ما بزَّ به كل كتاب في هذا الباب في هذا العصر؛ فكان الطلبة خليقين أن يوجهوا في دراسته توجيهاً واسعاً مسهباً
هذا وقد كنت قرأت كتاب تحرير المرأة هذا فرأيت من المباحث النفيسة التي احتفل لها المرحوم قاسم بك أمين وأعد لها ما استطاع من قوة وعتاد اقتضاه مجهوداً غير يسير - مبحث (الطلاق) وهو بحث سيبدو لمن يقرأه أنه مقطوع النظير
فقد عرض المباحث الإسلامية في هذا الموضوع الخطير عرضاً قوياً مكيناً، وأورد أقوال الأئمة وأصحاب المذاهب والفقهاء من أمثال الزيلعي والشوكاني وابن عابدين، ثم استوعب كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة حول هذا الموضوع
درس ذلك كله دراسة الفقيه المتفهم لروح الدين، ثم هاجم أولئك العلماء الذين اشتغلوا بالتأليف في هذه الموضوعات الخطيرة وكان أكبر همهم تأويل الألفاظ وتخريج الحروف، حتى ملئوا كتبهم بنحو (طلقتك، وأنت طالق، وعلي الطلاق، وبالتسعين! وطلقت رجلك ورأسك) وما إلى هذا من الخيالات الغريبة؛ وغفلوا عن أن الشرع إنما يقوم أولاً وقبل كل(391/16)
شيء على النية التي هي أساس الدين الإسلامي، وكانت حملة موفقة كل التوفيق فقد ظهر عليهم، ولا غرو فسلاح المرء يقينه
هذا الفصل من الكتاب هو في ظني البحث العلمي الفريد المبني على الدراسة الدينية المستنيرة المدعمة بالحجج الدوامغ، فليت الطلبة يولونه أكبر همهم، ويدرسونه دراسة تثبت وتفهم، ففي دراسة مثل هذا الفصل تنوير لأذهانهم وتعويدهم الصبر على مكاره العلم والقدرة على تخريج الأحكام الصحيحة من الاتجاهات المختلفة
هذه ملاحظاتنا على مباحث الكتاب. ولنا ملاحظات أخرى لغوية تعرض لها الأستاذ أبو بكر بالنقد:
فقد أخذ على المرحوم قاسم بك في كتابه استعماله كلمة (الأهالي) بدل الأهلين جمعاً لكلمة (الأهل). وليس جمع الأهل على الأهالي خطأ. وقد ورد هذا الجمع في الجزء الأول من كتاب (أساس البلاغة) - وهو من مراجع اللغة المهمة - في مادة (أهل)
وخطأه الأستاذ في استعمال كلمة (عائلة) مكان (أسرة) وعندي أن الرفق خير من العنف وأننا نخدم اللغة وأهاليها بقبول الكلمات التي نجد لها وجهاً خصوصاً إذا كانت متواردة على الألسنة والأقلام منذ عهد طويل
ويخيل إليَّ أن الأستاذ الكبير حكم عليها بعدم الاعتبار لأنه لم يجدها في كتب اللغة مع أن المعاجم لا تذكر المشتقات.
وأذكر أن أستاذنا الجارم بك كان يلقي منذ سنتين محاضرات عن طريق المذياع في موضوع الأغلاط الشائعة في العربية فورد على لسانه ذكر هذه الكلمة (العائلة) فأظهر غيظه وتبرمه من محاربة المعلمين لهذه الكلمة الجميلة البليغة ومطاردتها من كراسات التلاميذ مع دورانها على الألسنة والأقلام أمداً طويلاً، فقد ذكر أنه وجد هذه الكلمة في شعر شعراء الدولة الأيوبية (وإن كان نسى أن يعطينا بيتاً نسكن به الثورة الدائرة حول هذه الكلمة)!. . .
ومما أذكره في تخريج الأستاذ الجارم بك لهذه الكلمة قوله:
إن عائلة وزن فاعلة مشتقة من عال يعيل إذا افتقر؛ فعائلة بمعنى مفتقرة، وزوج الرجل وصغاره مفتقرون إلى من يعولهم ويمونهم - عال الرجل أهله كفاهم ومانهم وأنفق عليهم،(391/17)
فعائلة فاعلة بمعنى مفعولة أي معولة، وإنما استعمل فاعلة هنا مكان مفعولة لغرض بلاغي لا يخفى، قال تعالى: فهو في عيشة راضية. أي مرضي عنها.
وأحسبه قال أيضاً ما معناه: والمعنى البليغ في أن العائلة بمعنى المعولة أنها تدفعه إلى الكد والسعي، ولولاها ما جاهد ولا ثابر، فكأنهم يعولونه. قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). فقدم الأبناء على الآباء، لأن الآباء بأبنائهم يرزقون، أو كما قال. . .
فعائلة إذاً صحيحة من حيث الاشتقاق اللغوي
ويحلو لي بهذه المناسبة أن أطلب إلى أستاذنا الجارم بك أن ينشر أمثال هذه المباحث القيمة مما تعرَّض له في الإذاعة وليس أولى بها من صحيفة (الرسالة) حتى لا تضيع مثل هذه الفرائد بدداً فوق أمواج الأثير، وأحسب الكثيرين من إخواني المدرسين يؤيدونني في هذا المطلب والله المستعان
مصطفى محمد إبراهيم(391/18)
الأزهر وبعثاته العلمية
للأستاذ محمود الشرقاوي
في عدد الرسالة الأخير (390) كتب الأستاذ الدكتور محمد البهي مدرس علم النفس والفلسفة بكلية أصول الدين مقالاً فيه صدق كثير، كان عنوانه (شخصية الأزهر العلمية)
وقد قلت إن هذا المقال فيه صدق كثير، وهذا أكبر ما يمكن أن يُمدح به كاتب في هذا الزمن، وفي هذا البلد الذي فيه قول الصدق من أكبر العيوب ومن أكبر المعوقات للذي يريد أن ينجح وأن يصل إلى ما يريد يسلك له كل طريق
وقد أثار هذا المقال الجيّد الصادق في نفسي طائفة من الخواطر أعتقد أن فيها - هي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة، وهذا حسبي
عندما عاد فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي إلى مشيخة الأزهر منذ سنوات خمس، كان من ضمن منهاجه الإصلاحي لتجديد الأزهر والتفكير الديني بعثُ البعوث من علمائه ومن أساتذته إلى أوربا، وكان ذلك في رأينا أجرأ ما أقدم عليه شيخ للأزهر وأعظم ما فكر فيه مصلح شرقي بعد الشاذلي باشا لتقويم الحياة العلمية في الأزهر وتوجيه التفكير الديني وجهة الحياة والنماء والإصلاح، وتقويم هذه الحياة العلمية وتوجيهه هذا التفكير الديني وجهة الخير، هما أمتن العُمد وأرسخ الأسس للإصلاح الشامل في مصر والشرق
وعلى هذا الأمل العريض قابلنا وقابل المخلصون من المصلحين اختيار البعثة الأولى من هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، وكانت بعثة فؤاد الأول إلى فرنسا وإنجلترا وألمانيا
وقام لوداعها فضيلة الشيخ الأكبر ومن خلفه العلماء والأزهريون، ثم خطبها وخطبهم أنه سيجعل الأزهر وتجديده ونماء غرسه الإصلاحي فيه وديعة بين يدي هذه الطائفة المختارة من رجاله ومن أساتذته؛ إذ يعودون من بعثاتهم وقد تلقحت ثقافتهم الأزهرية بلقاح جديد واستفادوا من جامعات أوربا طرائق تفكيرها ومناهج بحثها وخصائص إنتاجها العلمي
وكان جميلاً وكان حقاً ما تحدث به شيخنا الأكبر لو أن الأمور سارت إلى نهايتها كما بدأت
وقد سافرت بعوث الأزهر إلى أوربا واستقر أعضاؤها في باريس ولندن وفي برلين يدرسون في جامعاتها. ومضت سنوات خمس عاد بعدها فريق من أعضاء هذه البعوث وقد أتم دراساته فيها، وفاز بما قصد إليه من الألقاب العلمية والدرجات الدراسية(391/19)
ومن قبل هذه البعوث أرسلت ثم عادت بعثة المرحوم الشيخ (محمد عبده) التي أرسلها الشاذلي باشا سنة 1931 إلى ألمانيا فدرست وفازت بما قصدت إليه من الألقاب والدرجات. وعاد هؤلاء وهؤلاء أساتذة في الأزهر يشرفون على توجيه الفرق النهائية في كلياته وتخصصاته، حتى قام بعضهم يتساءل عن شخصية الأزهر العلمية، ويريد أن يضع في الميزان إنتاج كبار العلماء وأن يحكم على القيمة العلمية لما ألف جماعة كبار العلماء
الأزهر محتاج إلى لقاح علميّ جديد وإلى ثورة فكرية جديدة وإلى أسلوب من البحث العلمي قائم على الإخلاص للعلم وحده، وعلى الشجاعة في سبيل العلم وحده، وعلى حب الخير للعلم وحده وللأزهر وحده. ولا يزال في الأزهر روح قوي راسخ من الرجعية والردة والعود لعهود الظلم والظلام. وما من أحد يستطيع أن يرفع الشعلة ولا أن يديم اطراد السير لهذه الخطوات البطيئة من خطى التجديد والإصلاح، سوى أعضاء هذه البعوث التي أرسلها الأزهر من خلاصة رجاله، ولهذا وحده أرسلهم وانتظرهم حين غابوا ورجاهم حين عادوا
وأعضاء هذه البعوث العلمية التي فهمت الروح العلمي في جامعات أوربا واستقام تفكيرها على طرائق البحث العلمي فيها، هم الذين يعرفون ويقدرون ما هي الشخصية العلمية، وما هو الاستقلال في التفكير، وما هو النقد الإيجابي، وما هي حرية البحث؟ وهم الذين يعرفون ويقدرون مما شهدوا في جامعات أوربا وفي حياة أهلها ما هي قداسة الفكر
فهم بما عرفوا وما قدروا وما أحسوا هم النواة الطيبة والبذرة المباركة النامية لبعث هذه الطرائق وهذا الروح العلمي في الأزهر. وهم الذين تنبعث من أفكارهم ومن نشاطهم ومن إخلاصهم لهذه الطرائق العلمية الجذوة الأولى لهذا الثورة الفكرية التي يحتاجها الأزهر، والتي بها وحدها يأمن الأزهر وتأمن الحياة الدينية في مصر ما تخشاه من طغيان الرجعة وردة عهود الظلم والظلام.
ذلك ما فهمناه وارتقبناه حين اختيرت البعوث العلمية من رجال الأزهر، ثم عادت لتقود فيه الطليعة من الرواد في حياته الإصلاحية الجديدة
فهل يرى الأزهريون أن هذه البعوث تكوّن فيه الآن (البيئة العلمية) الجديدة؟. . . وهل يرى الأزهريون أن لهذه البعوث طابعاً علمياً خاصاً تتميز به عن أشياخها الذين ذهبت هذه(391/20)
البعوث لتكمل بما ليس عند هؤلاء الأشياخ من فهم ومن ثقافة ومن تفكير؟. . .
وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة لها (معسكر خاص يتميز بنشاط خاص وبأسلوب خاص، ويقصد في دراساته وفي إنتاجه وفي توجيهه التعليمي مقصداً خاصاً يقوم على حرية البحث وقداسة الفكر والشجاعة في مواجهة ما يلقون من عنت (المعسكر الآخر) القديم؟. . .
وهل يرى الأزهريون أن هذه البيئة العلمية الجديدة قد اجتذبت حولها مدرسة خاصة من تلاميذها ومن مشايعيها تكثّر بهم جيش الحرية والتجديد في الأزهر وتحصن به نفسها وقوتها من جيوش الرجعية فيه؟. . . وهي جيوش لها هجمات، ولها هبوب بعد كل سكون
نحن نسأل ولا نحكم. ولو أننا لا نرى دليلاً على أن البعوث الأزهرية (بعثة الشيخ محمد عبده ومن عاد من بعثة فؤاد الأول) قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفا خاصاً ولا لمَّت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر، ولم يبد من آثار رجالها وإنتاجهم ما يدل على تميزهم على أشياخهم، وقد ذهبوا ودرسوا في جامعات أوربا لتكمل ثقافتهم بما ليس عند هؤلاء الأشياخ
نحن لا نرى دليلاً ولا شبه دليل على وجود شيء مما ذكرناه نحن عند ذلك أمام واحد من فرضين: أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا
وهذا فرض بعيد يوشك أن يكون ممتنعاً لما رأينا ونرى من تبريز هذه البعوث في دراساتها الجامعية وفي درجاتها العلمية التي نالت بها في أوربا وفي البحوث التي نالت بها ما نالت من الدرجات. . .
أو أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من دراساتها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً جديداً حرَّا ومنهجاً في البحث جديداً حراً. وهذا ما نراه ونعتقد به
وعند ذلك لنا أن نسأل: لماذا إذن كانت هذه العقلية الجديدة الحرة عقيما، وكان هذا التفكير الجديد الحر متوارياً، وكان هذا المنهج الجديد الحر مهجوراً من هذه البعوث في دراساتها وإنتاجها وأثرها في نفوس طلابها. . .؟
لماذا لا يفيد أعضاء هذه البعوث بما أفادوا ولا يعلمون ما تعلَّموا. . .؟(391/21)
وهل يتوجّه اللوم في هذا لهم أم أين يتوجّه. . .؟
يقول صديقنا الدكتور البهي في مقاله الذي فيه صدق كثير:
(فإلى أن تنشر رسائل جماعة كبار العلماء فينا - لأن عملهم وحده أمام التاريخ وأمام الحكم العدل هو الأساس الذي يبنى عليه الآن التقدير والاعتراف أو عدم الاعتراف بشخصية الأزهر العلمية - يجب علينا نحن الذين لم يصبحوا بعد من جماعة كبار العلماء إما أن نسعى في أن نطلع غيرنا على أبحاثنا الشخصية، وبذا نكون علماء، أو نعمد إلى تناول عمل الجامعيين بالنظر العلمي فنؤمن بما يدعونه أو ندلهم على موضع الدعاية فيه)
ونحن نرد عليه ما سأل فنقول:
إلى أن نرى أثركم وإنتاجكم وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئاً مما تعلمتم ولا تميّز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا، أو أنكم لا تجدون من نفوسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مقيدين
وذلك قول أقوله لصديقي كاتب مقال (شخصية الأزهر العلمية) وإلى أنداده أعضاء البعوث الأزهرية من أوربا
وقد كانت بعوث النهضة المصرية في أيام محمد علي الكبير وخلفائه سعيد وعباس الأول تكاد تكون في مجموعها من طلبة الأزهر. تعلّم رجالها ثم عادوا فكانوا روَّاد الحياة الجديدة والحضارة الجديدة في مصر كلها ثم في الشرق كله
ولكن الأزهر يبعث البعوث من رجاله ثم يعودون إليه يرجوهم لنفسه حياة جديدة وحرية جديدة وتفكيراً جديداً
فهل نجد عند رجال البعوث الأزهرية الجديدة هذه الحياة وهذه الحرية وهذا التفكير يبثّونها بين رجاله وبين أهله؟
وهل نجد عند الأزهر نفسه ما يمكّن لهذا البعوث أن تعمل وأن تنتج وأن تفيد؟
ذلك سؤال ندع الجواب عليه لمن يجيب!
محمود الشرقاوي(391/22)
خطرات سريعة
قصة كتاب الديارات
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كتب إليَّ أخي من عمَّان يطرفني بما كتبه الأديب السيد كروكيس عواد تعليقاً على المقالة التي أثبتناها نحن عن الديارات
ولقد كنت بين إقبال على الرد وأدبار عنه، فقد عجبت من أمر من يدعي التحقيق والتدقيق (والعناية التي تفوق حد الوصف) ويسوق الدعاوى، ويغرق في الثناء على نفسه؛ ثم يعترف بأن الجهود كلها ليست جهوده، وأن الأساتيذ العلاَّمات أمدّوه بكثير من تلك المعلومات، وأرشدوه إلى تلك الملاحظات، وأن الكتاب بعد ذلك سيحمل اسمه
وقد سنحت لي خطرات أردت أن أثبتها هنا ليتضح للقرَّاء مبلغ صحة ما ذهب إليه الأستاذ
(أ) والحق أنه أتيح لنا نشر قصة كتاب الديارات أن نتمتع - ويتمتع معنا القراء - بأسلوب عربي مبين، وسبك رصين، وعرض لأسماء المستشرقين ثمين، أشباه فيشر وكيشر ولاهين، وأسلوب لا اعوجاج فيه ولا سقطات إلا ما يربو على الثلاثين!. . .
(ب) ولكن الأستاذ - مع الأسف - لم يجد في مقالنا شيئاً ولا أقل مما يريد. . . وما ندري ماذا كان ينتظر من لمح موجزات تنشر في مجلة أسبوعية للتعريف بكتاب سنصدره بعد حين!. . . ترى أكان ينتظر أن نصبّ له فيها كل ما هبّ ودبّ، وما اتصل إلى الكتاب بسبب، وما لم يتصل، وأن نصوغ له قصة كقصته، فيها دعاوى كدعاواه. . . فنرسم للقراء كل خطوة خطوناها إبان عملنا. . .؟ أم كان ينتظر أن يجد الكتاب كله في مقال واحد، مشروحاً مضبوطاً، مفهرساً مهمشاً، كما قدم له ذلك الأستاذ مصطفى والأب أنستاس؟
(ج) وعلى كل فقد كان اتفاقاً طريفاً - كما يقول كوركيس أفندي - أن يقوم باحثان بنشر كتاب واحد. ولا أدري لم ساق الأستاذ تلك المحاكمة التي دارت بينه وبين نفسه. . . فانتهت إلى عزمه على نشر الكتاب (خدمة للعلم بذاته)
مع أن الأمر جلل لا يستحق أن يستغرق ربع عامود في المجلة. . . لأن كتاباً يقوم عليه أستاذ يتقن اللغة الآرامية. . . وتدور فكرة نشره في رأسه منذ سبع سنوات، ويصححه أستاذان علامتان، يضعان له الملاحظات ويضيفان إليه الهوامش، ويحققان فيه ويدققان. . .(391/23)
إن كتاباً هذا شأنه وتلك قصته لحرى ألا يهمل نشره
ومهما يكن من أمر فإن تنفيذ ما عزم الأستاذ عليه سيكون حادثاً عظيماً وخطوة واسعة نحو التدقيق الصحيح. . . لأنه سيضم الفهارس المختلفة (وكلها في غاية الضبط) والملاحق الواسعة (وكلها على ما يرام)
(د) ومن يدري كيف يكون الكتاب كتاباً إذا هو لم يضم الفهارس التي يفخر الأستاذ بها وقد كنا نتمنى ألا يضيع الأستاذ وقته في الإشادة بها، لأنه عمل آليّ لا يُفخر به يستطيع المبتدئون أن يقوموا به
(هـ) بقيت هذه الإشارات الكثيرة إلى نسخة (فيشر) وإلى نسخة (الكرملي)، وإلى (العناية التي تفوق حدود الوصف) في استنساخ النسخة (الكرملية). وما ندري إن كان تعداد النسخ على هذا النمط يوهم القراء أن هناك طائفة من النسخ لهذا الكتاب
(و) ويصر الأستاذ على قراءة النسخة البرلينية، مع أننا ذكرنا في مقالنا الأول أن للكتاب نسخة قليلة الضبط كثيرة الأخطاء في دار الكتب المصرية، كما ذكر لنا ذلك صديقنا الأستاذ شكري فيصل، وأثبته - كما أظن - صاحبكم حبيب الزيات
(ط) أما الملاحظات التي أراد كوركيس أفندي أن نتغاضى عن ذكره لها فنقول فيها:
أولاً: لم نرتجل الرقم ارتجالاً - كما يفعل بعض من يعرفهم الأستاذ - فقد وجدنا الرقم هكذا على النسخة التي عندنا، ولقد أثبت الرقم نفسه، فيما أظن، السيد حبيب الزيات في كتابه (الديارات النصرانية في الإسلام) وكنا نود لو يهب الله لنا علم الغيب، إذن لاستطعنا معرفة الأرقام الصحاح. . . وقد أثبت ذلك أيضاً تيمور باشا على النسخة. . . ولعلكم تستطيعون أن تسألوه من أين أتى به. . . ولكن. . .
ثانياً: ولقد كان الأستاذ في غنى عن أن يسوق إلى القراء هذه القائمة الطويلة من أسماء المؤلفين. . . فنحن لم نقصد في قولنا إن أول من نقل عن الكتاب هو السيد حبيب الزيات. . . إلى التعميم الذي يشمل كتب المستشرقين في اللغات الأجنبية
ولو دقق الأستاذ لوجد أن السيد حبيب الزيات هو أول من نقل عن الكتاب كما قلنا. أما كتاب (الصليب والإسلام) فلم نتشرف بمعرفته، وأحسب أن الأستاذ كوركيس أفندي يقرنا أن هناك فرقاً كبيراً بين الإشارة إلى الكتاب في هامش مقال أو في ثنايا كتاب وبين النقل(391/24)
عنه والبحث فيه
وعلى كل فالأستاذ يشير في مقاله إلى كتاب الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري الذي ترجمه السيد أبو ريده، ويحتج بأصله الألماني الذي نشر في سنة 1917، وما من شك في أن الأستاذ لم يطلع على الأصل الألماني قبل الترجمة، ولكنه يوهم القراء أنه بعيد عهد بالكتاب وبمن نقل عنه وأشار إليه، ولو في هامش من الهوامش
ثالثاً: أما الملاحظة الثالثة فقد أجهد الأستاذ نفسه في تقسيم الأديار لينتهي إلى القول بأن ثمانية وثلاثين ديراً كانت في العراق وأنه امرؤ عراقي، وأنه موظف بدار الآثار، وأنه لم يستطع تعيين المواقع الحقيقية إلا لعشرة منها، ولو دقق الأستاذ فيما كتب عن الأديار وخصوصاً ما كتبه ياقوت والعمري والبكري والشابشتي، لوجد أنهم يحدون الدير، ويقولون إنه يقع في شرق كذا، وغرب كذا بجوار كذا على ضفة كذا، وتلك كلها حدود تقريبية يستطيع معها الباحث المدقق أن يعلم موضع الدير منها، ولا شك في أن الأستاذ كوركيس قد لاحظ أن (لوسترانج) قد حدد في مخططه الذي وضعه لبغداد بين سنة (150 - 300) للهجرة أماكن كثير من الديارات، كدير سمالو وغيره، (وإن كان الأستاذ مصطفى يخطئ لوسترانج) وبدهي أننا لم نسلك في تحديد الديارات والإشارة إلى محالها، ما يسلكه موظفو دار الآثار ومأمورو التسجيل، وإنما رأينا أن ذلك يقرب للأذهان محال تلك الديارات
ولعل الأستاذ كوركيس يدري بعد هذا كيف يمكننا أن نضع للأديار مخططاً
(ك) أما وفاة الشابشتي، فنحن لم نكن في معرض ترجمة المؤلف والتحقيق في سني حياته، وما قصدنا بمقالنا إلى الظهور وإيهام الناس أننا نحقق وندقق، وإنما ذلك شيء تركناه لغيرنا! وما كلمتنا عن الشباشتي إلا إشارة سريعة. . . خاطفة
(ل) على أنه مهما يكن من أمر قصة كتاب الديارات التي أطرفنا بها الأستاذ عواد، فإننا أفدنا منها أموراً كثيرة كنا نجهلها، فقد عرفنا أنه ذو اطلاع ومعرفة بأسماء المستشرقين، وأنه سيجمع في كتاب يضع عليه اسمه جهود عالمين، وأنه موظف بدار الآثار وعالم من علماء العراق، وملم باللغة الآرامية
هذا ما بدا لنا على تلك القصة ذكرناه وللأب أنستاس، وللأستاذ مصطفى تحياتي على جهودهما. . . أما كتابنا الذي بدأنا به منذ شهور، ولم نستعن في تحقيقه بأحد، فسيظهر(391/25)
غداً، وإن غداً لناظره قريب
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(391/26)
كلمات. . .
غرامك علمني النوح. . .!
في سيارة كبيرة من سيارات (الأتوبيس) جلست وجلس من خلفي وإلى جانبيَّ خلق من الناس رجال وسيدات
السيارة تسير في طريق زراعيّ، وكل من الركب مشغول بنفسه، بعضهم يتحدث إلى جاره، وبعضهم - وهو قليل - يطالع صحيفته، وليس في الصحف مكتوب ولا في كلام الناس متحدث في هذه الأيام غير هذه الحرب العاتية التي يتقدم فيها كل جندي في كل أمة، إما إلى النصر وإما إلى الموت. وبعض من في السيارة يتسلى بالأكل وإلقاء الفضلات على أرضها وبين المقاعد
وارتفع من المقاعد الخلفية صوت رقيق، صوت مغنٍّ. . . وكان غناؤه مرتفعاً حتى سمعناه من أماكن جلوسنا، وبينها وبين مجلسه سطور من الناس
وأبصرت خلفي أنظر هذا الذي يتطوّع لتطريب الناس، وهم لا يستطربوه، وهو لا يعرفهم ولا يعرف تهيؤ نفوسهم لقبول الغناء في ذلك الوقت، وعلى هذه الصورة، وفي (الأتوبيس)
وكان الصوت الرقيق يخرج من أشداق رجل عملاق ضخم الجثة، ضخم المنكبين، ضخم الرأس، ذي أكتاف عِراض، قد استدارت حول ذراعه القوية حلقة حمراء، ورصَّعت على صدره أزرار نحاسية صفراء براقة، وأمسك بيمناه عصا المارشالية. . .!
إنه جندي من رجال جيشنا الباسل الذي فتح السودان وأداخ الدراويش والوهابيين في الجزيرة، والذي أوشك إبراهيم بن محمد علي أن يقتحم به على الدولة العثمانية
كان الجندي من رجال جيشنا الباسل يغني ويدير في شدقيه بصوته الرقيق هذه الأغنية:
يا نور العين يا غالي ... يا شاغل مهجتي وبالي
تعال اعطف على حالي ... وهني القلب ليلة العيد
نظرت ونظر غيري من الركب إلى هذا الجندي يرفع عقيرته يصيح بهذه الأغنية، وكأنما ظن أننا نستزيده فزاد، ولا غرو، فمن خلائق الجندية الشهامة. . .!
ونظرتْ إليه سيدة من الركب نظرة فهمها الناس. . .! ولكن صاحبنا المغني فهمها فهماً آخر، فعلا صوته يعيد: تعال اعطف على حالي. . . وجعل يعلو بها ويفتن في تنغيمها(391/27)
كأنما قدر أن السيدة ستجيبه، وقد ناداها: تعال اعطف على حالي. . .
وانتهى الجندي الفخم الباسل من أغانيه، وانتهت بنا السيارة إلى حيث نقصد، وأتممت طريقي حتى صعدت إلى بيتي وما تزال صورة ذلك الجندي وما يزال صوته وما تزال أغنيته الذليلة في خيالي وفي صماخ أذني وفي ضميري
ولقيني من مسكني صوت الراديو بأنغام الموسيقى، ثم استفتحت وجلست أستريح وأستمع حتى انتهى العزف، وأعلن المذيع يقول:
سمعتم سيدات وسادتي فرقة موسيقى (الجيش المصري) تعزف لكم بعض القطع الموسيقية والأغاني المنتخبة وهي:
كذا. . . وكذا. . . وكذا. . . وأخيراً دور:
(غرامك علمني النوح. . .!)
ألا ترى - أيها القارئ - أنني وركب السيارة كنا ظالمين حين نظرنا إلى ذلك الجندي المغني تلك النظرات؟
(محمود)(391/28)
كيف تضاءل التاريخ في الأزهر بعد الجبرتي
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
كان عصر الشيخ عبد الرحمن الجَبَرْتِيْ في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وأوائل القرن الثالث عشر فاصلاً بين عصرين من عصور الجامع الأزهر؛ فإلى عصر الشيخ الجبرتي كان الجامع الأزهر يستأثر وحده بالتعليم العالي في مصر؛ وكان لرجاله نفوذ كبير في البلاد يضارع نفوذ حكامها من الترك الجراكسة والعثمانيين؛ أما بعد عصره فإن المدارس المدنية التي أنشأها محمد علي باشا أخذت تنافسه في وظيفته، وتضعف من شأنه، فصار يذوى وينكمش، وأخذ يرضى بالقليل من العلوم الدينية والعربية، ويترك لتلك المدارس كثيراً من العلوم التي كان يعنى بها قبل إنشائها: كالتاريخ والأدب وتقويم البلدان وغير ذلك من العلوم التي كان يعنى بها؛ وكانت تزيد في ثقافة رجاله، وتعلي من شأنهم، وتقوي من عزائمهم. فلما رضى بالقليل من تلك العلوم الدينية والعربية ضاقت ثقافة رجاله، وضعفت فيه الهمم، وفترت العزائم، حتى صرنا نرى من رجاله من يذكر في تعليقه على بيت المتنبي الوارد في كتاب التلخيص للخطيب القزويني:
مُبارَكُ الاسم أغَرُّ اللقبْ ... كريم الجرّشي شريف النسبْ
أن سيف الدولة الممدوح بهذا البيت من بني العباس، لقول المتنبي فيه (شريف النسب) مع أن سيف الدولة كان من قبيلة تَغلب، وهي من قبائل ربيعة، فأين هو إذن من بني العباس وهم من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، وقريش من مضر.
وكذلك يزعم بعضهم في تعليقه على قول الفرزدق الوارد في ذلك الكتاب أيضاً:
إن الذي سَمَك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
أن المراد بالبيت فيه الكعبة لأن الفرزدق كان من قريش، مع أن الفرزدق كان من تميم، وهو يفتخر في ذلك على جرير ببيته فيهم، وقد صرح به بعد ذلك في قوله:
بيتاً زُرَارَةُ مُحْتبٍ بفنائه ... ومُجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ
ولا غرو بعد هذا في أن يؤلف الجبرتي كتابه الجامع في التاريخ المسمى (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) فيلمّ فيه بأخبار عصره كبيرها وصغيرها، ويترجم لرجاله تراجم وافية شاملة، وفيهم الفقيه والنحوي والأديب والشاعر والفلكي والطبيب والحاكم والقاضي(391/29)
وغيرهم
فإذا جاء بعده الشيخ أحمد مصلح في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، يحاول أن يترجم لعلماء عصره كما ترجم الجبرتيُّ قبله، أتى بشيء تافه يدل على مقدار ما وصل إليه الأزهر من ضعف في الثقافة قبل نهضته الأخيرة، فيقول بعد حمد الله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: وبعد فهذه صورة قائمة أذكر فيها العلماء المستعدين الذين هم موجودون بمصر في القرن الثالث عشر في عام تسع وخمسين سنة، وذلك لما شاع أن مصر لم تزل من قديم الزمان مشهورة بالعلماء والفضلاء الذين هم ذو فطنة وعرفان
ثم يذكر أن الذي دعاه إلى ذلك أن بعضهم قد قال بمقتضى وفور عقله: إن هذا الوقت لا يوجد فيه علماء مثل الذين أدركتهم من المتقدمين، وإنه لا يرى إلا الصم البكم من الجاهلين الجامدين، إلى أن قال: فحملتني حَمِيَّة الحرية على أن أذكر أسماء العلماء المعتبرين، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين، وتذكره للمتذكرين، ولربما بصرف عنايته إليهم تكثر أفراد هذا النوع، وتشتعل العقول الفاترة بنار الفكرة، وينشب فيهم هذا الوصف الذي يتبعه علو الهمة، التي يتبعها عمار المملكة، وقوتها على من عداها من الممالك.
وتقع رسالة الشيخ أحمد مصلح التي قدم لها هذه المقدمة في تسع صفحات من القطع الصغير، وهي رسالة مخطوطة بخط نسخي لا بأس به، وتوجد بمكتبة الجامع الأزهر بين كتب سليمان أباظة باشا رحمه الله، ورقمها الخاص 396 والعام 6688
وهذا مثال مما كتبه الشيخ أحمد مصلح عن أولئك العلماء ليرد على ذلك الطاعن فيهم، وهو عبارة عن القائمة الأولى من علماء الشافعية:
1 - الشيخ إبراهيم الباجوري عالم فاضل وله تأليف
2 - الشيخ مصطفى البلقاني عالم فاضل وله تأليف
3 - الشيخ عبد الله النبراوي كذلك وله تأليف
4 - الشيخ أحمد المرصفي عالم فاضل
5 - الشيخ مصطفى الذهبي عالم فاضل
6 - الشيخ مصطفى المبلط عالم فاضل
7 - الشيخ حسن البلتاني عالم فاضل(391/30)
8 - الشيخ أحمد أبو مصلح كذلك وله تأليف
9 - الشيخ إبراهيم السقا كذلك وله بعض تأليف
10 - الشيخ سليم الشرقاوي كذلك عالم فاضل
11 - الشيخ محمد الطوخي عالم فاضل أيضاً
12 - الشيخ صقر الأشموني عالم فاضل
13 - الشيخ محمد الخضري عالم فاضل
14 - الشيخ دسوقي المحلاوي عالم كذلك
15 - الشيخ محمد عبد القدوس عالم فاضل
16 - الشيخ نور الدين كذلك عالم فاضل
17 - الشيخ خليفة الفشني كذلك عالم فاضل
18 - الشيخ محمد الخناني عالم فاضل
19 - الشيخ سيد الأنصاري عالم فاضل
فهؤلاء تسعة عشر عالماً لا يذكر الشيخ أحمد مصلح في ترجمة كل واحد منهم إلا أنه عالم فاضل مرة، وعالم فاضل وله تأليف مرة ثانية، وعالم فاضل أيضاً أو كذلك مرة ثالثة، وهكذا هان فن الترجمة في عصر الشيخ أحمد مصلح إلى هذا الحد، وصار الذي يعنَى به لا يعرف في كل من يترجم له إلا أنه عالم فاضل، أو عالم فاضل وله تأليف، أو عالم فاضل كذلك. ومن الغريب أن الشيخ أحمد مصلح ذكر اسمه في هذه القائمة من علماء الشافعية، وتبرع لنفسه بذلك الوصف الذي كرره فيهم، ولعله تواضع فلم يزدنا تعريفاً بنفسه، لئلا يمتاز بذلك على هؤلاء العلماء ويعنَى بنفسه أكثر منهم. وقد ذكر بعد ذلك ترجمة ستة من علماء الحنفية، ولم يزد فيها على ذلك الوصف السابق، اللهم إلا في الشيخ السادس، وهو الشيخ محمد الكتبي، فقد ذكر أنه عالم فاضل إلا أن ذكره وصلاحه كادا أن يميلا به إلى الجهل. ولست أدري والله الجهل الذي يريده، ولعله يريد جهل الناس به فيكون مصدر المبني للمفعول، لا مصدر المبني للفاعل
ثم ذكر أسماء أحد عشر عالماً من المالكية على ذلك النحو الذي ذكره فيمن قبلهم من الشافعية والحنفية. وقال بعد الفراغ منهم: (هؤلاء هم العلماء الأذكياء الذين هم حقيقون(391/31)
بالاعتناء،
ومن عداهم فهو إما طالب علم لم يبلغ هذه الدرجة، وإما متشبه بهم في المقال والأفعال، وإما مكتف بشهرة علم آبائه، البعض من هذا القسم قد ظن أنه وارثه، فتصور وتطور بما ليس فيه، وإما صاحب دعوى عمداً أو مع غفلته عن ذلك وإن جل في أعين العوام، وعلامة عدم صحة ذلك له الامتحان، وإما مكتف بتصوره بصورة العلماء، وتلبسه بزيهم، وكونه يركب بغلة على سجادة، وإما بشهرته بذلك بين بعض العوامِّ الذين هم كالهوامِّ، وإما بدعوى الديانة والصلاح، وإما بشقشقة اللسان بما تعورف بين العلماء، فيظنُّ أنه على شيء في صنعة العلوم، وإما بزخرفة الكلام والتنكيتات، والدعابة والهزليات، وعنده في ذلك لكل مقام مقال، وإما بنحو ذلك)
وهذه الخاتمة أهم ما في هذه الرسالة، لأنها ترينا كيف وصل حال الأزهر في عصر صاحبها إلى ذلك الاختلاط والاضطراب والتلبيس، حتى صار كل من يركب بغلة على سجادة عالماً، وحتى صار العلم فيه ينتسب إليه بالوراثة، لا بالجد في الطلب، والاجتهاد في الدرس والتعليم، بل نزل قدر العلم إلى أن صار يحشر في زمرة العلماء من يجيد زخرفة الكلام والتنكيتات والدعابة والهزليات، ولا يعلم إلا الله كيف كان مصير الأزهر في هذه الوهدة التي تردى إليها لو لم يتداركه المخلصون من أبنائه بهذه النهضة الأخيرة، فيقيلوه من عثرته، ويقضوا على ذلك اللبس والاضطراب فيه.
ولا شك أن هذه الرسالة بضعف أسلوبها، وبعجزها عن القيام بما حاولته من الترجمة لرجال عصرها، تمثل الأزهر في ذلك العصر أكثر مما تمثل تلك الشروح المنسوخة، والحواشي المنقولة في العلوم الدينية والعربية التي ألفت فيها، فالنقل عمل سهل لا يكلف شيئاً، وليس كالعمل المخترع في دلالته على القدرة وحسن الاستعداد
ولم يكن لي بعد هذا بد من تسجيل كلمة عن هذه الرسالة الصغيرة في مجلة الرسالة الغراء، ليكون لنا فيها عظة وعبرة، ونعلم فضل حاضرنا على ماضينا، فلا نسمع لمن يحاول النيل منه، ويحن إلى ذلك الماضي مفضلاً له. ومن جهل ماضيه لم ينتفع به في حاضره ومن علمه أيا كان أمره كان له منه العظة النافعة، أو القدوة الحسنة.
عبد المتعال الصعيدي(391/32)
يا ساعة الصفو. . .
للأستاذ العقاد
قطعة من قصة شعرية سينمائية ألفها الأستاذ للفنانة (نادرة)
وستغنيها من محطة الإذاعة مساء 30121940 وهي من
تلحين الأستاذ (السنباطي) من مقام (الحجاز). . .
المويلحي
يا ساعة الصفو غبتِ عني ... وحيرتْ لوعتي خطاكِ
غريبة أنت في طريقي ... هداك نور الهوى هداك!
أبطأتِ يا ساعة التمني ... وموعد الملتقى قريب!
هل يبطئ الحزن لو سعى لي ... كما سعى الموعد الحبيب؟
أصبحت من لهفتي عليه ... أنتظر الليل بالنهار
طال انتظاري له فماذا ... في الغيب يا ليل بانتظاري؟(391/34)
من وحي الحرب
أبناء نيرون
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أبناءُ برلين لهم عذرهم ... خيالُهم طاغٍ على الواقع
إلاّ تكن حقا أمانيُّهم ... فإِنهم في حُلمٍ رائع
أهل حروب صادفوا أهلها ... فدافعوا عن حسب رافع
إن يخفقوا في الحرب، وليخفقوا، ... فقد أتوا بالعجب الرائع
وأنت يا روما بلا عَاذر ... شربتِ من سم الوغى الناقع
(وإنما الفتك لذي خسة ... شبعان أو ذي كرم جائع)
حسبك يا روما رضى القانع ... أو فارقبي عاقبة الطامع
كرامة الدافع والوازع ... هما عماد الفاعل المانع
وأنت لا حقٌ ولا قوةٌ ... ولست أهلاً للسنا اللامع
وأنت لا شيء سوى نعرة ... أبلغ ما فيها أذى السامع
دعتك برلين فسايرتها ... هيهات ما المتبوع كالتابع
أبناَء نيرون بكم ما به ... من قدرة، لكن على الوادع
أبناء نيرون بكم ما به ... من جزع في الموقف الفاجع
أحرق روما طالباً لذة ... لذته في موقف الضارع
منتحراً يبكي على نفسه ... بين وميض اللهب الساطع
في كفه الموسى وألحاظه ... حائرة في المحجر الدامع
أبناءه لم تتركوا نهجه ... كلكمو من ذلك الطابع
وكلكم أجرم إجرامه ... وما له في الغد من شافع
وكلكم موساه في كفه ... فلتثأروا للأمل الضائع
أو هادنوا الإغريق من قبل أن ... يتسع الخرق على الراقع
أو أحرقوا روما كنيرونكم ... تنجو من المخدوع والخادع(391/35)
القلوب المرضى
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أَرَى العالَم المجنَون تُبْرِمُ أَمْرَه ... عُقولٌ صحيحاتٌ وأفئدةٌ مَرضى
إذا الْعِلْمُ أَسْدَى مِن عَوارفه يداً ... تَبَدَّلها هَدماً وَأَتْبعها نَقْضا
لقد سَوَّد الناسُ السَّماَء وقائعا ... كما زَلزلوا بالخيلِ والغارة الأرْضا
يَنامون إلا عن تِراتٍ دَفينةٍ ... تُؤَجِّجُ نيرانَ العداوةِ والبغضا
نَبَتْ بهمُ اليومَ المضاجِعُ واغتَدوْا ... حِذارَ الرَّدَىَ لم يطْعَموا في الدُّجى غَمْضا
تَغَنَّوا بألحانِ السَّلامِ جميلةً ... ولم يُمْهلونا نَجْتَنِي زَهرَها الغضَّا
إذا صاحَ فيهم صائح الشَّرِّ أَرْقَلوا ... كما يَنْفُدُ السَّهمُ المُنازِعُ أو أَمْضى
عَجِبْتُ لهم قَدْ حَرَّموا القتلَ مُفْردا ... ويقتلُ في الهيجاءِ بعْضُهُمو بَعْضا(391/36)
معضلة وجدت حلها
(مهداة إلى كل من وخط الشيب رأسه قبل الأوان)
للأستاذ علي الجندي
شعَرَاتٌ فِي مَفْرِقِ الرأس لاحتْ ... كنجومٍ تُضِيءُ فِي الدَّيْجُورِ
غَادَرَتْنِي فِي نَضْرَة العُمْر أبْكي ... ذِكرَياتِ الصِّبَا بدَمْعٍ غزِير
وَكَسَتْنِي ثوبَ الوقار، وهل أَسْـ ... مَجُ في العين من وقار الصَّغير؟!
يَا لَظُلْم الأيامِ إِذْ وَقَفَتْنِي ... بين رأس شَيْخ، وَقَلْب غَرِير
ذاك يدعو إلى الرشاد، وهذا ... مُسْتَهَامٌ بِكلِّ وَجْهٍ نَضِيرِ
تَرَكاني في حَيْرَةِ الدَّمْعَة الْحَرَّى ... بجفن المتَيَّم المهْجُور
إِنْ دَعَاني الشبابُ قَال ليَ الشَّيْبُ ... تَصَابى الشُّيوخُ رَأْسُ الفُجُور
أَنُزُوعاً إلى الصِّبا تحتَ سيفٍ ... للمنايا، فوق الشَّوَى، مشهور
هَبْ بياضَ القَذَال لم يَزَع الشَّيْخ ... أَلمَّا يَزَعْهُ صَوْتُ الضمير
أَوْ أَطعتُ المشيب صاح بيَ القلبُ ... رُوَيْداً فلستُ بعضَ الصّخور
أَتُراني أَرْضَى بجَنْبَيكَ أَنْ أَحْيَا ... - بلا صَبْوَةٍ - حياةَ الأمير
وَيَمرّ الشبابُ كالْحُلُمِ السَّا ... رِى، وعُمْرُ الشباب جِدُّ قصير
لستَ مِنِّي وَلستُ مِنْكَ فدعْني ... سَادِراً فِي غَوَايتي وَغُروري
وَتَخيَّرُ سِوَايَ قلباً يُجَارِيك ... غليظَ الإحساس صُلْب الشّعور
لاَ أُطِيق الْمُقَامَ بَين حَنَايَا ... كَ، كأني أُقيم بين القبور
وَيْكَ رَأْسِي تَركتَنِي أَصْحَبُ الدّنيا ... بقلبٍ دامٍ، وطَرْفٍ حَسِيرِ
بَكَّرَ الشّيبُ فِي النّزول بفَوْدَيك ... وَيَا شُؤْمَ ذَلِكَ التَّبْكيرِ
قد خضبْنا مَا ابْيَضَّ منه فما جَا ... زَ عَلَى فِطْنة العليم الخبيرِ
وَبَرَزْنَا لِلنَّاظِرِين فقالوا: ... ذَاك رأْسٌ يُدْلِى بِحقٍّ وَزُور
يا رسولَ الْمَنون يا وافد الأَسْقَا ... م يا طيفَ منكر ونكيرِ
أَنتَ شَوَّهْتَ لِي الحياةَ وَأَفْسَدْ ... تَ صِلاَتي بمُرْهَفَات الْخُصور
كلُّ غيداَء حين أَبْدُو تُرَاعِيني ... بألحاظ كاشِحٍ مَوْتور(391/37)
ثم تَزْوَرُّ كالْجَواد - عَلَى الطّعْن - ... وتَعْدُو كالشّادن المذعور
ليتَ شعْرِي وَمَا نضَوْتُ شَبْابي ... كيفَ صَبْرِي على جَفاء الحُور!
عَجباً للحسان يَزْهَدْنَ فِي الشّيْب ... وَمَا الشَيبُ غيرُ هالةِ نورِ
قلتُ: يا (نُعْمُ) لاَ يرُعْك مَشيبي ... إِنّه حِلْيةُ الزُّمِيت الوَقور
هُوَ كالدّر في نُحور الرَّعَابيب ... وكالنَّوْر في حِفَافِ الْغَديرِ
نَاسَبَ الأَوْجُهَ الرِّقَاقَ بياضاً ... وَحَكى وَمْضُه رفيفَ الثغور
وَهَبِيه قذَى العيون فَمَنْ يَسْطيع ... دَفْعاً لِعَادِيَات الدهور
كلُّ طِفْلٍ - مَا أَخْطَأَتْه الْمَنَايا - ... سوفَ يلقَى عَلَى الزمان مَصيري
وَإِذَا مَا اجْتَوَيْتِ شَعْرِي فَشِعْرِي ... حَلَبُ الكَرْم بالزُّلال النَّمير
لَكِ مِنْهُ وَشْيُ الرُّبَا وَجَنَى الرَّو ... ض وَأكْمَامُ وَرْدِهِ المَنْضُور
وَنَسِيبٌ يَسْتَلُّ (قَيْساً) و (لَيْلاَ ... هُ) من الرَّمْس قبل يوم النُّشور
وَغِنَاءٌ ينْساب في مِسْمَع الكوْ ... ن ويَسْرِي على جناح الأثِير
فأجابتْ والزَّهْوُ يَعْطِفُ منها ... خُوطَ بانٍ تحت الصَّباح المنير
لا تُحَاوِلْ خَدْعي فشيْبُكَ أَزْري ... بنظيمٍ - تُزْهَي بهِ - وَنَثِير
َقسَماً بالصَّفا وزمْزمَ والمَشْعَرِ ... والبَيْت حَالِياً بالسُّتُور
لو نظمتَ النّجومَ والشمسَ والبد ... ر، وفصَّلْتَها بدرّ البحور
وحَوَيْت البيانَ شَطْرَيْه حتى ... فُقْتَ فيه ابْنَ هَانِئِ والْحَريري
لستُ أرضاكَ للغرام فدعْني ... أنشُد العيْش في ظِلال السّرور
أَبِرَأْسٍ مِثْلِ الثَّغَامَة عاثَ الشَّيْبُ ... فِيهِ عَيْثَ الْجَراد المُغير
وَبِجَيْبٍ كَجُحْرِ ضَبٍّ خَرَابٍ ... تَعْمُرُ الرِّيحُ جوْفَه بالصَّفير
تبتغي خُلّتِي وترجُو وِصالي ... شَدَّ ما سُمْتَني عذابَ السعير!
يُمْلَكُ الْحُسْنُ بالشَّباب وبالما ... ل فما الظنُّ بالكبير الفقير
قد رَضِينا مَشِيئَة الله فينا ... وامْتثَلْنَا لِحِكمَةِ المَقْدُور
وَلبِسْنَا عَلَى الصِبا حُلَّةَ الشيب ... فأهلاً وَمرحباً (بالنَّذير)
وَلَزِمْنا المحرابَ نَجْأَرُ بالتَّهليل ... في صَدْره، وبالتَّكبير(391/38)
وعكفْنَا على تِلاوة آيِ الذِّكر ... زُلْفَى ذلك العزيز الغفور
وَثَنَيْنَا العِنان عن منهل الرَّا ... ح إلى منهل القَراح الطّهور
وَأَعَرْنَا الْقِيَانَ سَمْعَ أَصَمٍّ ... وَمنحْنا الحِسان طَرْف ضرير
وَغَنِينا بالشمس َمطْلَعٌها الأُفْقُ ... عن الشمس تَزدْهي في الْخُدور
وَاسْتَعَضْنَا بالْغُصْنِ يكسُوه آذّا ... رُ من الغصن رافلاً في الحرير
وَلَهِينَا عن وَجْنة الطَّفْلَةِ الكا ... عِبِ بالوَرد نَافِحاً بالعبير
وَسَلَوْنَا بِأَعْيُنِ النّرجس الغَضِّ ... عُيوناً يَقْتُلْنَ بالتَّفْتير
وَوَجَدْنَا الرُّمانَ أَمْلأَ لِلعين ... وللقلْبِ مِن ثِمَار الصّدور
وَرَأَيْنَا أَقاحِيَ الروض أَشْفَى ... لِصَدَى الروح مِن أَقَاحي الثغور
إِنّ فيِ الشّيب واعظاً لِلّذِي رَا ... نَ عَلَى قلبه ضَبَابُ الشُّرور
غَرَّنا الفاحِمُ البَهيمُ فَنمْنَا ... وصحوْنا عَلَىَ ضياء القَتيِر
بلِّغوا عَنِّيَ الغوانيَ: أَنيّ ... لستُ زِيراً لَهُنَّ أَوْ خِدْنَ زِير
لاَ سُعَادٌ أغدُو لها غُرّةَ الشهر ... وَلاَ هِنْد في سِرَار البدور
رَقأتْ عبْرتي، وعادْ رُقَادِي ... وَخبَتْ لوْعَتِي، وَقَرَّ زَفِيِرِي
علي الجندي(391/39)
البريد الأدبي
الأهل والجيل
كنت قلت وأنا أعرض كتاب (المنتخبات) لسعادة الأستاذ الكبير لطفي باشا السيد إن الأستاذ إسماعيل مظهر وضع كلمة (أهل) في مكان كلمة (جيل)، وهي خفية المراد، ثم قلت: (وللعبارة وجه، ولكنه لا يخرجه عن الإغراب في غير موجب للإغراب)
والآن ظهر أن ما فاتني كان فات صاحب (لسان العرب) وصاحب (القاموس المحيط) فهو إذاً إغراب في إغراب
كلمة أهل بمعنى وردت في شعر النابغة الجعدي ثم هُجِرت فماتت منذ قرون حتى فاتت صاحب اللسان وصاحب القاموس، فأين نضع الأستاذ إسماعيل مظهر هذه المرة فقط إن لم نضعه بين المغربين؟
والجيل هو الصنف من الناس، هذا حق بشهادة المعاجم، وهو كذلك دائماً في كتابات ابن خلدون، كما نص بعض المستشرقين، وهو أستاذنا ديمومبين، حين كان يحاضرنا عنه في السوربون
ولكني أنظر فأرى الجيل بمعنى الطبقة المتعاصرة من الناس قد شاع في تعابير المصريين منذ أزمان حتى قيل في الأمثال: (من عاش في غير جيله عاش غريباً)، وحتى صح للأستاذ البشبيشي أن يصف الخلاف بينه وبين ابنه حسين بأنه خلاف بين (جيل وجيل) وحتى جاء لشوقي أن يصف سلامة حجازي بأنه (كان دنيا وكان فرحة جيل)
الجيل في تعابير أهل مصر هو الطبقة من أعمار الناس، وليس الأمة من الناس، فهل نشأ ذلك الفهم من العَدَم، وللمصريين عرق أصيل في اللغة العربية؟
المنطق يوجب أن يكون تصور المصريين لمعنى الجيل قام على أساس، وهذا ما يجب النص عليه في المعجم الوسيط الذي يضعه المجمع اللغوي، قبل النص على المفهوم البائد لكلمة أهل، لأن العجم المنتظر سيكون معجما حيَّا، لا معجما تاريخيَّا، أعني أنه سينص على مدلول الكلمة في استعمالها الحيّ، قبل أن ينص على مدلولهما المطمور في مهاوي التاريخ
وخلاصة القول أن كلمة جيل أدل على ما نريد من كلمة أهل، وليس من المنفعة ولا من(391/40)
الفصاحة أن تقهر اللغة على تحمّل ما لا تطيق، فاللغة أداء وبيان (من أقرب طرق الكلام) كما قال عبد الحميد، وليس من الإفصاح أن تعبر بكلمة لم تجدها إلا في حوار النابغة الجعدي مع عمر بن الخطاب
وأنا بعد ذلك أذكر أني قرأت في مواطن كثيرة كلمة تنص على (تعاقب الأجيال) وهي تؤيد ما أقول، فإن لم يقتنع الأستاذ مظهر بهذه البينات، فسألقاه بشواهد جديدة ينحسم بها الجدل حول كلمة جيل
وكنت اعترضت على قول الأستاذ مظهر إنه عُنيَ بأن يخرج كتاب لطفي باشا مبرأً من الأوهام فقلت: إنه تعبير مريب، ثم لقيني أحد المتخرجين في كلية الآداب، فحدثني أن الأستاذ لم يُرد من (الأوهام) غير الأغلاط المطبعية، وأنه أظهر عجبه من أن يجهل زكي مبارك أن الأوهام هي الأغلاط!
أنا لا أجهل أن الأوهام هي الأغلاط، ولكني أُصر على القول بأن بين الكلمتين فرقاً دقيقاً، وهو مع دقته صار من البديهيات - وإن كان الغلط والوهم قريبين جدّاً في المدلول، إذا راعينا مصطلحات القدماء - فإذا قال ناشر (المنتخبات): إنه عُنيَ بأن تخرج سليمة من الأغلاط؛ فهمنا أنه يريد الأغلاط المطبعية أما إذا قال إنه عُنيَ بأن تخرج (مبرَّأة) من (الأوهام) فلن نفهم إلا أنه جردها من أخطاء الفكر والإدراك، وهو المسئول عن هذا التعبير المريب
أما قول الأستاذ مظهر بأن لطفي باشا أجل من أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الجيل، فقد قوبل بالدهشة والاستغرب، لأن لطفي باشا نفسه وضع مقدمة لكتاب أرسطاطاليس في الأخلاق، ولم يقل أحد بأن ذلك غض من منزلة أرسطاطاليس. . . والوثنية في نظر الفكر لا تقل بشاعة عن الوثنية في نظر الدين. . . وإلى الأستاذ تحيتي وثنائي
زكي مبارك
تصحيح خطأ مطبعي في القاموس وشرحه
لدى مراجعة (يَفتنُّون) في كتب اللغة ظهر لي غلطة مطبعية في القاموس وشرحه تاج العروس أحببت التنبيه عليها ليصلحها في الكتابين من ظهر له غلطها مثلي فأقول:(391/41)
قال في القاموس في نسخة خطية منه في مادة (ف ن ن) (أَفننَ: أخذ في فنون من القول) وشكلت أفنن بوزن أفعل، وفي طبعات متعددة منه قديمة وحديثة: (أفننَّ: أخذ في فنون من القول) بنونين الأولى مفتوحة، والثانية مشددة
وفي تاج العروس: (أفنن الرجل: أخذ في فنون من القول ويقال أفنن في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين، وأفنن في خصومته إذا توسع وتصرف) مورداً جميع الألفاظ بالنون
فأما شكل النسخة الخطية (أفننَ) بوزن أفعل فظاهر الغلط لأنه لا يقال: (أفنن) بفك الإدغام، لأن هذا من باب الإدغام الواجب، وكان الصواب - لو صح ورود هذا الوزن - أن يقال (أفنّ)
وأما (أفْنَنَّ) بالنونات الثلاثة فلا توجد في كتب اللغة، والموجود فيها (افْتَنَّ) بالتاء والنون المشددة بوزن افْتَعلَ
ففي صحاح الجوهري ولسان العرب: أفتَنَّ الرجل في حديثه وفي خطبته إذا جاء بالأفانين، وهو مثل اشْتَقَّ. قال أبو ذؤيب: فافتَنَّ بعد تمام الورد ناجِيَة=مثل الهِراوَة ثِنياً بِكرُها أَبدُ
وذكر في اللسان تفسير هذا البيت، ثم قال بعده: افتَنّ أخذ في فنون من القول إلى أن قال: والأفانين الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه
وفي أساس البلاغة: أخذ في أفانين الكلام، وافتن في الحديث وتفنّن فيه
وفي مختار الصحاح: الأفانين الأساليب، وهي أجناس الكلام وطرقه، ثم قال: وافتَنَّ الرجل في حديثه وفي خطبته بوزن اشتقَّ جاء بالأفانين
ولا ذكر لهذه الكلمة في جمهرة ابن دريد، وفائق الزمخشري، ومغرب المطرزي، ولا في نهاية ابن الأثير، والمصباح المنير، ولم يذكرها المرحوم أحمد تيمور باشا في كتابه تصحيح القاموس المحيط، ولا الشدقاق في كتابه الجاسوس على القاموس
(دمشق)
محمد الكامل القصار
تأنيث الشمس وتذكير القمر
هذه الفكرة على قدمها حديثة عند الشرقيين، فقد كانوا قديماً يذكرون الشمس ويؤنثون القمر،(391/42)
فقد كان الساميون في سوريا والعراق يعبدون الإله بعل إله الشمس ورب السماء، كما كان الإغريق يعبدون الإله فيباس أبولو إله الشمس، وكان المصريون في أون أو عين شمس أو هليوبولس يعبدون الإله رع إله الشمس، وكلمة هليوبوليس كلمة إغريقية معناها مدينة هليوس، وهي كلمة من مترادفات أسماء إله الشمس، وقد جاء في كتب التاريخ أن عبادة إله الشمس رع جاءت إلى مصر السفلى من آسيا، أما المصريون في مصر العليا، فكانوا يعبدون آمون ثم حاولوا توحيد الإلهين عندما اتحدت مصر العليا ومصر السفلى، وكل هذا يدل على أن الشرقيين كالإغريق كانوا يذكرون الشمس، وكان القدماء يجعلون الأرض زوجة للشمس ويعبدونها بأسماء 87
مختلفة مثل جيا أو بوناديا عند الإغريق والرومان كما كانوا يعبدونها أيضاً باسم ما أو مايا أو ماما، وأحياناً يعدون الأرض أم الآلهة، وكلمة أم في العربية مقاربة لكلمة ما التي كانت تطلق على ربة الأرض كما أن ربة القمر عند الإغريق كانت تسمى ديانا وهي مقاربة لكلمة الديّانة العربية مؤنثة الدّيّان أي المعبودة والمعبود، وكان الساميون في غرب آسيا يعبدون الإلهة أشتورث أو أرستارت ويسمونها الديانة، وينسبون إليها الصفات التي كان الإغريق ينسبونها لإلهة القمر ديانا، واتصال الإغريق بمدن سواحل آسيا الصغرى والشام أدى إلى تأثرهم بالثقافة الدينية الشرقية، كما أن الرومان في غربهم تأثروا بثقافة الإغريق الدينية حتى إنهم كانوا يوفقون بين كل إله من آلهتهم وكل إله من آلهة الإغريق، ثم جاءت أمم غرب أوربا وتأثرت بالثقافة الإغريقية الرومانية. ولا يزال الشعراء في غرب أوربا يطلقون على الشمس اسم إله الشمس عند الإغريق وهو فيباس أبولو كما أنهم يطلقون على القمر اسم ربة القمر ديانا. ويستنتج من كل ذلك أن الشمس كانت قديماً مذكرة عند الشرقيين والقمر مؤنثاً، وليس من البعيد أن يكون الأوربيون قد أخذوا هذه الفكرة عن الشرقيين.
عبد الله شاكر
الفياس
قرأت مقالكم المعجب (الأخلاق وهذه الحرب) في عدد الرسالة 388 فوقع من نفسي موقع(391/43)
غيره من مقالاتكم الافتتاحية الممتعة. وأود - لو يسمح لي الأستاذ - أن أبدي الملحوظة التالية:
لقد ورد في المقال المذكور العبارة التالية: (فإن نزوَّ النازية وفياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم) وجاء في أسفل الصفحة: (الفياش: كثرة الوعيد في القتال من غير فعل). والفياش في اللغة، على ما أذكر، هو المفاخرة فقد ورد في قصيدة لأبي الطيب المتنبي في مدحه لأبي العشائر العدوى عند إيقاعه بأصحاب باقيس ومسيره في دمشق البيت التالي:
تزيل مخافة المصبور عنه ... وتلهي ذا الفياش عن الفياش
والضمير راجع إلى مواقف الممدوح في الحرب، والمعنى الذي يقصده الشاعر في هذا البيت دقيق معسر، وقد جاء في تفسيره: إذا سمع المصبور بمواقفه المذكورة شجعته وأزللت عنه خوف القتل لما يسمع من ذكر إقدامه واقتحامه للمهالك، وإذا سمع بها المفاخر ألهته عن مفاخرته، لأنه يتواضع لديها فلا يفتخر بنفسه
وأعتقد أن هذا التفسير هو أقرب ما يرمي إليه الشاعر وهو ما يقصده الشارح. وللأستاذ الأكبر تحية المعجب المخلص
(بيرزيت - فلسطين)
سعيد العبسي
تلميذ يجرح أستاذه
ألقى الأستاذ السباعي بيومي بدار العلوم محاضرة عن (أسلوب المبرد في كامله) في مساء الثلاثاء السابع عشر من هذا الشهر
ولقد عقب على هذه المحاضرة أحد المستمعين بملاحظات تخالف ما ذهب إليه الأستاذ السباعي. ويبدو أن المعقب استقى آراءه مما كتب العلامة المرحوم سيد بن علي المرصفي فتملكت الأستاذ المحاضر عاصفة من الغضب الساخط لا على المعقب ولكن على المرصفي؛ فقد وصفه بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد وسطحية البحث والتطاول الذميم؛ ثم تعداه إلى تجريح طوائف العلماء على اختلاف مهنهم، والحكم بأن(391/44)
طبائع الحسد والحقد والغيرة لا تجد لها مراحاً خصيباً كالذي تجد من قلوب العلماء
ولست أدري ما الدافع إلى كل هذا وكان يكفي الأستاذ أن يدفع الرأي بالرأي في هدوء لا أن يتعرض لمثل ذلك الرجل الجليل بمثل ما تعرض به له، حتى لقد حكم بأن أخلاقه ذهبت بفضله كما تذهب الريح العصوف بسحيق التراب
وإنه ليحزنني جد الحزن أن أرى مثل الأستاذ في علمه وفضله ومكانته يتناول السلف الصالح من الباحثين بمثل هذا الأسلوب العنيف من غير سبب ولا بينة، فإن في هذا نكراناً للجميل وجحوداً للفضل
محمد فهيم عبيد
امرؤ القيس الكلبي
كتب (سائل) فاضل في العدد 389 من الرسالة الغراء يسألني من هو امرؤ القيس الذي جاء في مقدمة كتابي (أغاريد زفاف) أنه أبو الرباب زوجة الحسين عليه السلام، فأجيب بأنه (امرؤ القيس بن عدي الكلبي، كان نصرانياً وأسلم على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فولاه عمر على من أسلم بالشام من قضاعة، وخطب إليه عليّ عليه السلام ابنته الرباب على ابنه الحسين فزوجه إياها فولدت له عبد الله وسكينة عليهما السلام)
هذا، وكان يُسمى امرأ القيس صحابيون وشعراء غير الملك الشاعر الجاهلي صاحب (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)
عبد المجيد مصطفى خليل(391/45)
العدد 392 - بتاريخ: 06 - 01 - 1941(/)
الرسالة في عامها التاسع
تدخل (الرسالة) في عامها التاسع والموكب البشري لا يزال منقطع السبيل، ترجف جموعه الجرارة على هوة من هُوى العدم لا يدرك نهايتها الطرف، ولا ينير غَيابتها الأمل، ولا يهتف في جنباتها الموحشة إلا زبانية الردى وأبالسة الشعر! وكان الظن بالعقل الذي عَّبد الجبال وذلل الرياح وسخر الأبحر أن يمهد للناس طريق الحياة فلا يضلوا هذا الضلال، ولا يهلكوا هذا الهُلك؛ ولكن الله الذي خلق العقل كان يعلم انه مهما تقدم وتعلم لابد مفتقر الى وحيه وهديه. وماذا يصنع العقل المحدود المدى والطاقة إذا شغبت به الأهواء وتمردت عليه الغرائز؟
لم يدخل العالم مع الزمن في مرحلة جديدة من عمره الطويل، ولكنما
سار الزمان ووقف الإنسان؛ وقف أمام عقبة كأداء من الكفر بالدين كله
وبالحق كله، تقاطرت على صخورها الصم دماؤه، وتناثرت على
ثناياها الحداد أشلاؤه، والفلك السائر يرقب على مدار العام بني آدم وقد
هاج بهم الضلال فتراشقوا بما في أيديهم وخزائنهم من طيبات الرزق
وثمرات الحضارة وبُلَغ الحياة؛ ولا يعلم غير الله متى تجتاز الهوة
الغامضة وتُذلل العقبة الكؤود، فإن منطق الناس لا تغنى أقيسته مادامت
الأمور تجري على الهوى، وتقوم على الباطل، وتعتمد على القوة!
أجل تدخل (الرسالة) في عامها الصحفي التاسع، ولكنها في عمرها الطبيعي ظلت كما ظل العالم كله واقفة على حدود العام الماضي لاتجد قسطها من النمو والبدانة، لأن الحرب التي ضربت بكل شر وأضرت بكل شيء، كانت أقسى ما تكون على الصحافة: قطعت عنها الوارد من الورق حتى بلغ ثمنه أثنى عشر ضعفاً، فنقصت في الكيف والكم، بقدر ما زادت في النفقة والهم؛ وقطعت عليها السبيل إلى الأقطار الأخرى بصعوبة النقل وشدة المراقبة وعسر المعاملة، فتعذر وصولها إلى البلاد المحاربة، وقل انتشارها في الأقطار البعيدة؛ وشُغل الناس بأخبار الحرب وأفكارها وأوزارها وأطوارها عن النظر في الأدب اللباب والفن الخالص، فلم يقرءوا إلا ما يتصل من قريب أو بعيد بهذه القيامة القائمة. ولم يكن(392/1)
للرسالة مناص من أن تتأثر بما تأثرت به الصحف الكبرى في الأمم العظمى، فنقصت حجمها بعض النقص، واقتصدت في زينتها بعض الاقتصاد؛ ولكنها واءمت بين الأدب والواقع فجعلت من الأقلام المرهفة أسلحة مشروعة في هذه الحرب، تهاجم الطغيان، وتدافع الخور، وتؤيد الحق، وترسم الطريق، وتهتف بالبطولة، وتذود عن الخلق، وتمِّهد للسلام، وتبحث في المستقبل؛ حتى تهيأ لمجموعتها الثامنة من أدب الحرب في أبواب المقالة والشعر والقصص ما لم يتهيأ مثله للأدب العربي كله في سابق عصوره
على أننا والحمد لله لا نخشى على (الرسالة) شر الحرب، فإن هذه الحرب الغشوم أبطلت كل قوة وعطلت كل عدة ما عدا قوة الإيمان وعدة الصبر. وفي إنجلترا الصابرة واليونان المؤمنة المثل والقدوة. ومادامت (الرسالة) مؤمنة بآرائها، مطمئنة إلى قرائها، فستلوذ بالصبر حتى تنسلى هذه الهموم وتنجل تلك الكرب. والشجرة كلما مكن الزمن لأصولها في بطن الأرض ضمنت لنفسها الغذاء والري، فهي في الظاهر تخضع لقوانين الطبيعة: تزوى في الصيف، وتعرى في الخريف، وتقشعر في الشتاء، ثم تورق في الربيع؛ ولكنها في الباطن تزخر بالحياة المكنونة في غصونها القائمة وجذورها النائمة
لقد كانت لنا في مفتتح كل عام من أعوام الرسالة شكوى من ركود الأدب وكساد الصحافة وسطوة الأمية؛ ولكن هذه الشكوى أصبحت اليوم في جانب ما يشكو منه الناس ضرباً من الدلال والعبث. ليس في العالم شعب ولا مذهب ولا خُلق ولانظام ولاعمل إلا وهو الآن في موضع الشكوى من انقلاب الوضع فيه واستشراء الفساد به. وماشبوب هذه الحرب إلا نُفْضِة هذه الحمى الاجتماعية التي غيرت معاني الخير في فهم الإنسان وذوقه وعقله وضميره؛ فهو يلتمس السلامة والسلم من وراء هذه الحرب في دين يكمل نقصه في الإدراك، وبقيد طموحه للشهوة، وينظم علائقه بالجماعة، وينطوي على قوة ذاتية تضمن له البقاء والنماء والتجدد، فلا يهن على الأحداث ولا يبلى على الزمن. والرسالة تعرف هذا الدين بالعقل وتدعو إليه بالحكمة؛ نهى في جهادها الأدبي على ضوء هذه العقيدة منار للطريق القاصد ومنهج للإصلاح الحكيم إنا نعتقد مخلصين أن العروبة إذا اتحدت كانت بقوميتها أساساً لنهضة الشرق، وأن الشرق إذا نهض كان بطبيعته أضمن للسلام من الغرب، وأن الإسلام إذا تجدد كان بسياسته أصلح لإقرار العدل من كل نظام، وأن الأزهر(392/2)
إذا أُصِلحَ كان بثقافته أهدى إلى تربيتنا من أية جامعة
تلك عقيدتنا جعلناها دعوة الرسالة من يوم أصدرنا الرسالة. والحمد لله قد أبلغناها على الحق وأمضيناها على الصدق فلم نزَّين المحال ولم نموه الباطل. وسيرى قراء الرسالة أنها، من غير أن تقطع وعداً أو تجدد عهداً، تسير في سبيلها الواضحة بقدم ثابتة وخطى متزنة، فلا تعسف لتضل ولا تسرع لتكلَّ ولا تجازف لتنقطع. وإذا كان للرسالة ما تشكره وتُزهى به فتلك معونة الله التي وقَتها تمليق الشهوات الحاكمة، وتحقيق الرغبات المريبة. ولَيزيدَنَّ الله من يشكره، ولينصرنَّ الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز!
احمد حسن الزيات(392/3)
هو عيد الميلاد ولكن أي ميلاد؟!
للدكتور زكي مبارك
كان من حظ المسيحية أن يُبعد مكانها في التاريخ، لتكثر فرص الشعر والخيال حول ميلاد المسيح، عليه السلام، حتى جاز لفريق من المؤرخين أن يرتابوا في شخصية المسيح، كما ارتابو في شخصية سقراط (؟!)
والارتياب في وجود تلك الشخصية النبوية لا يضر ذلك النبي في كثير أو قليل، ولكنه يؤدي إلى غاية لم يفطن لها أولئك المرتابون، وتلك الغاية هي التحقق من ظمأ الإنسانية إلى نور يُطلّ من علياء السماء. نور جميل جذاب يبدد ما في الضمائر من ظلمات الجحود
ولنفرض جدلًا أن الرأي ما رأى أولئك المؤرخون، وأن الإنسانية هي التي ابتدعت ذلك الميلاد، فكيف اختارت هذا الوقت من السنة وهو طليعة الشتاء؟ إن الذي اشتغل بالفلاحة يدرك ان الأرض في هذا الوقت تعتلج بقوة وعنف، وتتهيأ لثمرات العام المقبل بلذه وشوق، وهي في (الظاهر) غافية، ولكنها فيالباطن جذوة من اليقظة العارمة والإحساس الفوار في هذا الوقت تنظر الأرض إلى البذور وهي تقول: هل من مزيد؟ في هذا الوقت تستيقظ الأشجار التي جردها الخريف من الأوراق، ولو شرحت تلك الأشجار لظهرت عناصر (البزور) وهي الأثداء التي يرضع من رحيقها الورق الجديد في هذا الوقت تلقى بذرة فتنجح وتلقى بذرة فتخيب، لأن الأرض في هذا الوقت تحيا حياة عصبية، والحياة العصبية لاتعرف التدليل، فهي لاتقبل من البذور إلا ما يقوي على دفع عوادي البرد والجليد، ولن يكون الأمر كذلك بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ الميلاد، فحينئذ ترق الأرض وتلطف فتحضن البذور الضعيفة بترفق واستبقاء فهل فهمنا الآن كيف اختارت الإنسانية هذا الوقت لتاريخ الميلاد، على فرض أنه تاريخ مصنوع، وعلى فرض أن البحث من حيث هو بحث يسمح بالنظر في الفروض، بدون اعتداء على مقام المسيح، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات؟! أما بعد فقد كان لي مع هذا التاريخ تواريخ كنت أحمل باقات الأزهار وطرائف الهدايا إلى مآلف القلوب والأرواح يوم كان لي قلب وروح، قبل أن تدور الدنيا من حولي بإفكها المرجف وبغيها الأثيم، وقبل أن أعرف أن شجرة الحب كشجرة الميلاد فيها أوراق صناعية لا تحس ما يحيط بها من أضواء وألوان، ولا تقدر على نقل(392/4)
القلب من مكان إلى مكان وما أقسى الصحوة من غفوة العقل! وماأشقى العقلاء! لو كانت أرادت ما أريد فأطالت في غوايتي لعرفتها أكثر مما عرفت، لأن المحب المفتون يتغلغل إلى السرائر، وإن اتهم بالغفلة والجمق، ولأن العاشق الجاهل قد يرى المحاسن قبل أن يرى العيوب، والتثقيف الصحيح هو الذي يروضك على النظر في المحاسن قبل النظر في العيوب، ولو قويت جوارحنا حق القوة لأنسنا بجميع الوجوه وجميع الأشياء، ولكننا مع الأسف نتلقى دروس الحياة عن المعلولين والضعفاء، والتلميذ صورة الأستاذ في أكثر الأحايين كانت لي غاية من الهتاف بالحب، والهيام بالجمال، فما هي تلك الغاية؟ كنت أرجو الطب للنفوس العليلة التي لا تستريح إلا إلى شكوى الزمان كنت أسمو إلى خلق البشاشة والأريحية في صدور هذا الجيل كنت أحارب النزعة الأثيمة التي تقتل الأرواح والقلوب باسم الوقار والعقل هل سمعتم بقصة الشيخ خليل؟ هو رجل من علماء المالكية كان يفتخر بأنه لم يخرج من الأزهر مرة واحدة ليرى النيل، ولهذا الشيخ أحفاد وأسباط في العقلية، وأولئك الأحفاد والأسباط هم السوس الذي ينهش عظام الأخلاق - إن صحت هذه العبارة المجازية - فأخطر الآفات أن تصدر النصيحة عن رجل خمد فعقل، لأن الناس يسمونه بالعقل ولا يسمونه بالخمود، وكذلك يتلقون عنه درس الموت وهم يتوهمون أنه يدعوهم إلى مزاحمة الأحياء إلى متى الصبر على هذا الفهم السقيم لمعنى الأخلاق؟ ومتى ندرك أن الخلق من صور الحركة، وليس من صور الركود؟ الخلق جارحة من الجوارح، وما سميت الجوارح جوارح إلا لقدرتها على السيطرة والامتلاك، فالعين التي لا تجرح ليست عينا طبيعية، وإنما هي عين صناعية، إلى آخر القول في وظائف الأعضاء، أو منافع الأعضاء، كما كان يعبر الأقدمون ولكن من الذي يسمح بعد هذا الكلام دعوة إلى الخلق الصحيح؟ وكيف يعيش المتوقرون والمتزمتون إذا استمع الناس لمن يقول بأن الابتسام للحياة من شواهدالعافية الأخلاقية؟ إن الشرق مبتلى بالانحراف في فهم الأخلاق، فهي عنده سلب لا إيجاب، وهو يفكر فيما يترك قبل أن يفكر فيما يصنع، والنواهي والزواجر هي عنده الهدف الأول حين يتسامى إلى الاتسام بكرائم الحلال فما أصل هذا الإنحراف في فهم الأخلاق؟ لعل هذا الإنحراف يرجع إلى المعلمين، وكان التعليم مهنة مقصورة على الرهبان وأمثال الرهبان. فالخلق في أذهانهم هو انحسار واحتجاز وانقباض،(392/5)
ومن هنا يؤخذ المعلم بقيود لا يؤخذ بها غيره من طبقات المجتمع، لأن الرهبانية مفروضة عليه وأن لم يخطر في باله أنه مشدود إلى حظيرة الرهبانية. هو يحمل أعباء ميراث ثقيل من التبعات والتكاليف، ميراث يرجع إلى العهد السحيق يوم كان الناس يتوهمون أن كلمة الخير لاتجيء إلا من مصدر مجهول، ويوم كانسدنة الهياكل ينتفعون بهذه الغفلة العقلية فيتحدثون من وراء حجاب باسم السماء، وما تكلمت السماء، وإنما تكلم ناس مبرقعون خلقوا من الوحل لا من الطين! وبفضل تلك العقلية أنكر قوم أن تكون النبوة من حظ رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهي عقلية باقية إلى اليوم، وإن زعمناس أنهم سلموا من دائها الوبيل لقد كثر المؤلفون في الأخلاق، فماذا صنعوا؟ هل غيروا ما بنفس الأمة من الفهم المنحرف لمعنى الحياة؟ هل راضوها على التخلق بأخلاق العصر، ولكل عصر أخلاق؟ هل استجابوا لدعوة العزةالروحية والعقلية فخلقوا الشوق إلى مسايرة ما في الآفاق العالمية من الصيال بين الأرواح، والصراع بين العقول؟ علم الأخلاق يدرس منذ أعوام طوال في معاهدنا العالية، فأين محصول تلك الدروس؟ كل ما وقع هو التلخيص لمشكلات أحسها بعض الأخلاقيين في الغرب، والأخلاق إحساس لا تلخيص، وفي الشرق مشكلات غير تلك المشكلات، لأن له أمراضا غير تلك الأمراض؛ ومن أمراض الشرق أن تجوز فيه الأستاذية الأخلاقية لناس لم يتمرسوا بمعضلات الوجود تلك خواطر ساقها ما وقعت فيه ليلة عيد الميلاد، فقد أخلفت موعدا لايخلفه الرجل إلا وهو مكروب، وهو موعد يذكر بإخوة له من قبل، يوم كنت مشبوب الصبوة في منادح باريس، عليها أطيب التحية وأجزل الثناء! وبماذا اعتذرت؟ قلت إني أحبر مقالا لإحدى المجلات، وهل يصعب الاختراع على من يعايش أبناء هذا الزمان؟! ومضيت وحدي أجوب الظلمات بعد إخلاف ذلك الميعاد، فراعني أن أجد في قلبي فراغا عميقا مخيفا يذكر بالفراغ المنصوص عليه في بعض الأحاديث، ففي الآثار أن الجاني قد يهوي في قاع جهنم سبعين خريفا، وكان قلبي كذلك، فلو هويت في أعماقه سبعين سنة لما وصلت إلى قرار مكين. وكيف وقد أعفيته من ثورة الوجد في ليلة عيد الميلاد، فلم يمس إلا وهو فضاء في فضاء، وتلك حال القلبالخالي من الأهل، والوجد أهل، ولكن أكثر الناس لايفقهون! ورجعت إلى داري بعد لحظات، وكان في نيتي أن أطوف بأرجاء القاهرة إلى نصف الليل، رجعت سليم القلب من الأسواء ولا يسلم(392/6)
القلب من الأسواء إلا وهو عليل، فالقلب كالطفل، لا يقبل على اللعب إلا في أوقات العافية، وإن جهل ذلك علماء الأخلاق وأردت أن أطب لقلبي فذكرته بما مر في العام الماضي من مكاره وعقابيل، ودعوته إلى النظر في قصة الصديق الذي كنت أشرب على ذكراه أكواب الدمع، وهو اليوم لا يذكرني حين يعاقر أكواب الصفاء. وذكرت قلبي بإحساني إليه حين جعلت له ماضيا في الصداقة والحب، فذلك الماضي وهو الأحجار التي بنينا بها وجودنا الصحيح، وجود القلب الخافق والروح العطوف، وهو الشاهد على أن حياتنا لم تخل من نوازع وأهواء، وأن لنا تاريخا في معاقرة الحقائق ومقارعة الأباطيل فهل وقع هذا المنطق من قلبي موقع القبول؟ إنه لم ينكر أنس الرجل بماضيه في الصداقة والحب، وإن زلزلت الأرض زلزالها فغيرت جميع المعالم من ذلك التاريخ ولكنه أنكر الاكتفاء بثروة الماضي، وإن امتلأبنمير الذكريات العذاب، فما كانت الذكريات إلا ومضة البرق لعين الساري الحيران، وهي ومضة تزيغ عينيه ولا تهديه، وهي ايضا تزيد حقده على ظلم الوجود وعمدت إلى القلم أثير به معركة أدبية، فقد كنت أعرف أن قلبي يكتحل بغبار المعارك التي يثيرها قلمي، فما نفع ذلك بشيء، وصاح القلب: هذه ليلة الميلاد، فأين الميلاد؛ أين الميلاد؟ وكيف؟ هل يجب أن أولد في هذه الليلة كما ولد المسيح؟ وهل أولد في كل سنة مرة، وما ولد المسيح إلا مرة؟! فأجاب القلب في حزم عنيف: يجب أن تولد من جديد في كل لحظة، لأن المقام على حال واحد يفسد مياه الأنهار، فكيف تراه يصنع بأفكار الرجال! _ولكن ليلة الميلاد قد ضاعت علي وعليك، ياقلبي! _إن ضاعت ليلة الميلاد فقد بقي يوم الميلاد وفي الصباح هتف الهاتف_وهو التليفون كما كان يسميه أهل لبنان_والهاتف روح لطيفة كانت بيني وبينها أشياء، وقد قدمت من بلد بعيد لتراني يوم الميلاد، فهتفت: ياقلبي يومي ويومك عيد!! وخرجنا معا، أنا وقلب، لاستقبال تلك الروح، وقد ولد الهوى من جديد، الهوى الذي ظلمناه باسم الوقار والعقل، وطال الحديث وطاب حول ما كنا عليه، وما صرنا إليه، ومن شرب من عيون تلك الظبية ما شربت لا يقول إنه رآها في يوم الميلاد، وإنما يقول إنه رآها في أبد الخلود! وعادت تلك الظبية إلى ضلالها القديم فأمرتني أن أكتب ما يجيش في صدري وأنا في حضرتها السامية، وهو امتحان أؤديه كلما التقينا، وحياتي كلها امتحانات! فامتشقت القلم وكتبت: باسم الله الذي أقسم بالقلم وما(392/7)
يسطرون أسجل هذه الكلمات: عنيت الحكومة المصرية كما عنيت سائر الحكومات بتدبير معاشات الموظفين، بحيث يجد الموظف ما يقتات به بعد بلوغ الستين، ولكن الحكومة نسيت أو تناست أن في الأمة رجالا لهم خدمات صوادق وليسواموظفين فليس لهم معاش، وهم الرجال الذين انقطعوا للصحافة والتأليف؛ فالأستاذ فلان خدم الصحافة نحو عشرين سنة ثم هده التعب، فهو اليوم يعاني البطالة والمرض بلا عائل ولا معين. والأستاذ فلان أخرج طائفة من المؤلفات الجياد، وكان يعيش عيش الفقراء من تلك المؤلفات، وهو اليوم لا يقدر على التأليف، فهو في فقر مدقع ولا يسأل عنه أحد من أصحابه القدماء. وفلان كانت له سابقة في الابتكارات الأدبية، وهو اليوم معوز لا يجد القوت الطفيف. وفلان قضى شبابه وكهولته في التدريس بالمدارس الحرة ثم قصمه المرض فخرج بلا معاش وله أطفال يصرخون من الجوع في كل صباح وفي كل مساء وعند هذه الكلمة شرقت بدموعي، وكاد صوتي يرتفع بالنحيب، فصاحت الظبية:_تبكي وأنا معك؟ هل تقص ما كان بيني وبينك؟ ويلي عليك وويلي منك!! _نعم، يا شقية، هي قصة حبي، فدعيني أدون كل شيء! ثم مضيت فكتبت والدولة التي تنفق ما تنفق على مختلف الشؤون لا تذكر أن في مصر كتابا وشعراء وباحثين أعجزهم المرض عن السعي في سبيل القوت، ولهؤلاء آثار ظاهرة أو خفية في نهضة الأمة وقد يكون لهم تلاميذ_ولو بالفكر_من بين كبار الوزراء فما الذي يمنع من أن تفكرالدولة في حماية هؤلاء من قسوة الاحتياج ثم سكت، فقالت الروح: هل وصلت في مكايدتي إلى ما تريد؟ فقلت: ستعلمين بعد لحظات! ثم كتبت: قد يقال إن الدولة لا تستطيع معاونة أهل الأدب بصفة رسمية، لأن الأدب ليس له رسوم ولا حدود، وهو مباح الحرمات يدعيه من يشاء! وأجيب بأن الدولة تستطيع أن تجعل الفصل في هذه القضية من اختصاص مدير الجامعة أو وزير المعارف ومن المفهوم أن هاتين الجهتين لهما دراية صحيحة بأقدار الأدباء والباحثين، وأنا أرضى بأن ترصد الدولة مئتي جنيه فقط في كل شهر لعشرين رجلا من هؤلاء، فإن استجابت الدولة لدعائي فقد ترفع عن كاهلي عبئا ثقيلا جدا، هو عبء التفكير في أديب كانت له جولات موفقة في ميدان البيان، وإن كان من ألد خصومي وغلبني الحزن فبكيت، فقالت الروح: يظهر أنني دللتك أكثر مما يجب، فعدت أسرع من الأطفال إلى البكاء! فاستمهلتها لحظة وكتبت: والدولة مع ذلك. . . ثم(392/8)
فكرت قليلا وكتبت. والدولة التي تترك بعض الأدباء يموتون من الجوع هي الدولة التي تمن علينا بأنها أنشأت وزارة للشؤون الاجتماعية! ثم؟؟ ثم أحسست يدا تصدني عما أكتب بقسوة وعنف، فعرفت، أني في حضرة تلك الروح، وأن المقام لا يسمح بمثل هذا الكلام الحزين_ماذا قلت في؟ _قلت إنك غبية وحمقاء! _أنت وحدك الغبي، وأنت وحدك الأحمق! _هذه كلمة حق، لأني قضيت عشرين سنة في خدمة أمة لا تعرف أن القلم له حقوقه_وما شأن القلم فيما بيني وبينك؟ _القلم هو الذي يجرني أحيانا إلى نحاورة الحمقى لأدرس الغرائز والطباع ليكن ما تريد، أيتها الروح، فإشارتك أمريطاع أما بعد، وسيطول شقائي بأما بعد! أما بعد فقد حدثني الشاعر حافظ ابراهيم مرات كثيرة أنه كان يتمنى الاتصال بقصر جلالة الملك ليكون سفيرا بين القصر الرفيع والأدب الرفيع وقد مات حافظ قبل أن يظفر بتحقيق تلك الغاية، ولم نسمع أن رجلا فكر فيما فكر فيه حافظ، ولم يصل إلينا من قرب أو من بعد أن ناسا يسرهم أن يكون للأدب حظ من الرعاية والتشريف بقصر الملك، مع أننا في عصر فاروق بن فؤاد بن اسماعيل لقد شقى قلمي في الدعوة إلى أن يكون للأدباء مكان في الحياة الرسمية، لأنهم عنوان الحياة وزينة الوجود، ولأن آثارهم هي الباقيات لصالحات فوق جبين التاريخ. ثم انتهى الحلم، حلم اليقظة في يوم الميلاد، ورجعت تلك الروح إلى بلدها البعيد، وبقيت حيث كنت أعاني بلاء الهجر وعناء الصدور أيها البلد الذي لا أسميه تخوفا من الرقباء! فيك أيها البلد الجميل روح لطيفة يصلني برها من وقت إلى وقت، فيك روح لا تحتفل بعيد الهجرة ولا عيد الميلاد، ولكنها تذكرني في عيد الهجرة وعيد الميلاد، لأنها تشعر باحتياجي إلى البر في مواسم الأرواح والقلوب أيتها الروح، أنا مشتاق إلى مصدر الوحي، فمتى تعودين؟ أنا في دنياي غريب، أيتها الروح، وأنت البلسم الشافي لوحشة الغريب هو عيد الميلاد، ولكن أي ميلاد؟ هو ميلاد الحب الصادق، فتلك أول مرة مسحت فيها دموعي بأناملك اللطاف، يا حجتي الباقية على أن الهوى إله معبود
زكي مبارك
2 - أومن بالانسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف(392/9)
الطبيعة تنتظر - عالم جديد من الفكر والحديد_حيوانات ووحوش حديثة_قدرة الفكر_الثقة بالانسان_كنوز مدخرة_حياة مريضة كل شيء في الطبيعة يبدو عليه أنه ينتظر غاية الحياة الإنسانية. . . ويبدوعلى الإنسان كذلك أنه ينتظر غاية مجهولة في حياته على الارض. . . كل شيء ينتظر بلوغ الإنسان إلى غايته، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز. . . وكل شيء في البيت مسخر للطفل: يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم، وتعرض أمامه دواب البيت وحيوانه ودواجنه ولعبه وهكذا الطبيعة أراها تنتظر صابرة غير متململة أن يسير هذا الطفل الإلهي ويهتدي إلى الطريق المقصودة المرصودة. . . وهو لا يزال يتعثر ويذهب ذات اليمين وذات الشمال ويرتد وينتكس ويعترك ويحترب ويخلد إلى تراب الطريق يعبثفيه في ذهول وغفلة، لا يعرف كيف يمد بصره إلى حدود الأفق البعيد الذي يناديه: أنظر إلي دائما، واضرب بيديك ورجليك في العقبات والسدود حتى تصل وكان لعبثه عذر فيما مضى أيام كان يدور على نفسه وسط المبهمات والألغاز، وأيام كانت طريق حياته بهماء معتمة تلفها جهالات وتحيط بها أهوال. . . كل ما فيها غامض مغلق، سواء أكان جامدا أم صائتا أم ناطقا أم ساكتا. . . فهو لا يرحم سئلا ولا يجيبه. . . كهوف وأغوار ورياح مجهولة المهاب، وأمطار غير مدفوعة بتدبير، وصرخات وحش وطير وبهائم، ونجوم تطلع وتغور، وشمس تشرق وتغرب، وجبال واقفة لا تريم ولا تزول، ومالا عدد له من الأهوال والأحوال. ولكنه الآن راكب الريح والماء والأثير وطاوي الأرض في خطفات، ورائد السماء بالمقربات، وكاشف الجن المستور بالمكبرات، وقايس أبعاد النجوم وأضواءها بدقيق المقايسات، وصانع الحيوان والوحوش الحديدية من السيارات والدبابات والمدافع والطائرات والباخرات والغائصات، فلا يليق به أن يصر على العبث والزحام على التراب بعد رأى الكنوز في كل أفق تتفتح لعينيه وكان قدرا مقدورا أن تبقى العناصر والحيوانات خادمة له حتى يبلغ أن يستغنى عنها بما يصنعه تقليدا لها ومحاكاة لنماذجها. . . فحين عجز الحصان وضاقت طاقته عن إشباع شهوة السرعة عنده ركب آلات سرعتها كذا ألف من الأحصنة. . . وحين عجز الزيت والشمع عن إشباع شهوته للضوء صنع مصباح الكهرباء فأضاء له بقوة كذا ألفا من الشموع. . . وحين هدد بفناء أقواته ولباسه ابتدأ يركب أقواته من العناصر التي يتركب منها النبات واللحم. . . وصار يصنع الصوف(392/10)
والحرير من اللبن والخشب. . . وصار يأخذ الزبد والدهن من ال. . . بعد أن يحلل ويعزل ويطهر بالترشيح والتبخير والتكثيف كما ترفع الشمس والهواء الغازات والأمواه المقطرة من الأبوال والأقذار وتعيدها إلى الأرض صالحة في دوراتها الأبدية. . . وقد رصد لكل قوة في الطبيعة مقياسا يقيس قوتها ويبين اتجاهها حتى يحترس منها ويتقي وينتفع. . . فللأمطار مقياس، وللضغط الجوي مقياس، ولاتجاه الرياح مقياس، وللزمان مقياس، وللمكان مقياس، وللحرارة والرطوبة وغيرهما مقاييس وأظنه بهذا قد وضع عينه وفكره على حركة كل شيء واتجاه كل شيء في المادة. وذلك كله بمثابة خيوط الشبكة الحديدية التي ابتدأ يطرحها على قوى الطبيعة التي تنفعه أو تضره في مرافق حياته. . . وهذه الأرصاد التي أرصدها لابد ستنتج له عالما فكريا جديدا يسلم روحه إلى عالم خلقي جديد وأعتقد أن هذه الحرب ابتداء دورة زمنية بالإنسان وبعوالم فكره وروحه وجسمه. فليرصد الراصدون ذلك في يقظة وانتباه أجل، إنه عالم جديد من الفكر والحديد. . . الفكر المطلق البارد القانص لأسرار المادة والقوة. . . والحديد الطائع البليد القاسيالمتمم لإرادات الرجال. . . الذي وجد فيه القلب الإنساني أعظم معبر عن بأسه وتصميمه في اختراق السدود فصهره وشكله بنار عزمه قبل أن يصهره بنار كيره ويشكله بمطرقته ولقد ضمرت أظفار الإنسان منذ أن اعتمد عليه. وكان كشفه مبدأ انقلاب في حياته، والآن يبتدىء به انقلابا أعظم بعد أن سلط عليه خياله وعلمه وصار يطير به ويزحف ويدفع ويجر وهل تظنون أن هذه الأهوال التي يشهدها الإنسان الآن لا تترك في نفسيته آثارها المحتومة فتخلقه خلقا آخر؟ أتظنون أن قلبه وفكره لا تغيرهما رؤية هذه الطكرق الحديثة في البناء والإفناء والهدم والسرعة والانقضاض والحشد والتعبئة ومعاشرة هذه الوحوش والحيوانات الحديدية؟ إن من شهد تغير العالم بعد الحرب العظمى التي أظهرت قوة الآلة واختفى وراءها الإنسان يوقن أنه ستختفي بعد هذه الحرب أشياء وتظهر أخرى. . . وأخشى ألا يقام للحياة الفردية بعد هذه الحرب وزن بعد أن رأى الفكر أن ملايين من الجماجم والقلوب البشرية تسحق وتحرق بمصهور النار. . . وملايين من المعابد والمعاهد والمنازل المقدسة العامرة بالتحف ومخلفات العلم والفن والجمال تنسف وتذرى في الريح هشيما وهباء ودخانا لقد احترق الإنسان الأوربي مع جميع ما جمعه من الذهب وأقامه من البيوت والمحاريب(392/11)
والتماثيل. . . ولقد اختفت روح الحياة الرفيقة الوديعة الماثلة في اللحم والدم والأعصاب الإحساس وابتدأ عالم جديد من فكر مجرد غير مصحوب بإحساس وقد لبس الفكر أجساما من المادة العمياء، وكأنه قد انفصل عن الأجسام الإنسانية، واختبأ واستسر في السيارة المصفحة والدبابة والطائرة. وصار يدب ويطير بهذه الأجسام الحديدية كأنه هو والحديد الذي يختفي فيه جسم واحد. فهو للآله كالروح والعقل في الجسم الحي. وقد صنع للآلات أحشاء فيها حرارة ونبض، ولكن ينقصها السر الإلهي فيالأميبة ذات الخلية الواحدة، ويخيل إلى أن الإنسان هو ذلك الإلهي لتلك الحيوانات الحديدية وحين قصرت دواب الأرض التي سخرها في خدمته عن سرعة عقله صار يبحث عن القوى المجردة كالكهرباء ويلبسها أجساما من الجماد، ويسيرها بها بطاقة عظيمة مصحوبة بفكره وتسديده. فترى السيارة الآن تحيد عن العقبات بأسرع مما يحيد الحصان عنها. فهي أطوع للانسان من الحصان، لأنها ترى بعينه وتتحرك بسرعة فكره والفكر المجرد طليق في غير حدود. والوجدان والإحساس مقيدان في حدود الأذواق والمشاعر. فإذا لم يصحب الفكر بالوجدان والإحساس اختراق الإنسان به الآفاق في سرعة فائقة كأنه شعاع ثاقب، بل أسرع من الشعاع. بل ليس شيء أسرع من الفكر ولقد يخيل لفكر الإنسان أنه يستطيع أن يضع يده في النار فلا تحترق، ويمشي برجليه على الماء فلا يغرق، ويسلم جسمه للريح فيطير، وينظر بعينه وراء السدود فيرى ما وراء الآفاق. فالفكر لا يرى كل أولئك مستحيلا. . . ولكن الوجدان والإحساس يقيدانه بالحدود الموضوعة للمادة، ويهددان الجسم بالألم إذا لم يعترف بهذه الحدود والقوانين وقد خيل الفكر لبعض السفسطائيين اليونانيين قديما أن كثافة الأجسام وهم من الأوهام، وأقام الدليل النظري لمعارضيه على ذلك، فتحدوه أن يخترق بجسمه الجدار الذي أمامه، فقام واندفع إليه بقوة، وكانت النتيجة المحتومة: تحطم جسده وفدخ رأسه. . . إن فكر السفسطائي لم يخطيء في توهمه استطاعة اختراق لبجدار، ولكنه أخطأ حساب الوجدان والإحساس. والحقيقة أن الفكر لا حدود له ما دام يسير وراء القوانين الطبيعية. . . فلقد استطاع أن يخترق الجدران والجبال بالصوت والصورة والحركة حين خضع للنواميس الطبيعية فخضعت هي له كذلك. ولست أدري أقريب أم بعيد ذلك اليوم الذي يستطيع الإنسان فيه أن يخترق الأجسام بالأجسام مع وجود الالتئام وعدم الصدام، وأن ينقل(392/12)
الأجسام من مكان إلى مكان كما ينقل الصور والحركات والأصوات، وبالسرعة ذاتها التي يجري بها هذه المعجزات. . . إن الثقة بالعقل الإنساني بعد أن فعل ما فعل في تغيير الأرض ينبغي أن تكون من البدائه للانتفاع بها في بناء الحياة الجديدة. . . وكما آمنا بعلم الطب لتنظيم حياة الأجسام ينبغي أن نؤمن بعلم النفس لتنظيم حياة الأرواح وقد كان الإنسان في الحقب السابقة منزوع الثقة بنفسه لكثرة ضغط عوامل الطبيعة عليه وكثرة العقبات التي تعترض سبله وتجعله يشعر بحقارته وضعفه وسط عظمة الأسباب والقوى الطبيعية. . . ولكنه بعد أن تمكن من صنع كل شيء لنفسه والانتفاع بأكثر القوى، والمناعة ضد الأوباء والطوفان والقحط والصواعق يجب أن يكون إيمانه بعقله إيمانا أصيلا ليصنع به مستقبله صنعا يريحه ويرقيه ويجعله يتفرغ للفكر فيمن خلقه قادرا هكذا. . . إن الإنسان يأتي بأعمال عظيمة في صميم غايات الحياة وهو عنها غافل لا يدرك ماذا تكون نتائج عمله في مستقبله ومركزه. وإن مصانعفورد مثلا تخرج في كل ثانية واحدة سيارة كاملة! هذا جبروت وملكوت إنساني واسع يتفتح أمام عيون الراصدين لحركات الابن البكر للأرض! فهذه السيارات حيوانات حديدية تولد كاملة من أصلاب المصانع وأرحامها ولا تحبو ولا تدرج ببطء الطفولة وإنما تسير بسرعة الفكر الإنساني كما قدمنا في هذا المقال. . . وهي وأشباهها مما نتج من اللقاح بين الفكر والحديد قد ملأت الأرض وأدللت دولة الخيل والبغال والإبل، وصيرتها أشياء أثرية يوشك الناس أن يحتفظوا بها في المتاحف أو حدائق الحيوان. . . في كل ذرة رمل، وقطرة ماء، ولمعة شعاع، وخفقة نسيم. . . كنز مدخر لمستقبل الإنسان على الأرض. . . فليعرف ذلك الذين يشكون الفقر وشح المواد الطبيعية. أولئك الذين يثيرون الحروب من أجل الطمع والاغتصابأن تكون أمة هي أربى من أمة وليسلموا قياد الإنسانية لعلماء الطبيعة الذين يضربون معاولهم على كل منجم في الأرض والماء والهواء والشعاع ولنأخذ الحياة عريضة؛ بالانتفاع بكل ما في الأرض، وباستعمال جميع قوي الإنسان والجماد والحيوان، وباستخراج كل كامن من النبات والركاز، وباستنزال كل معلق من الشعاع والماء والهواء وبتوليد كل ما يمكن أن يولد من العناصر والقوى، وبوضع كل شيء أمام كل شيء لينشأ من الأوضاع المختلفة التي لا عدد لها حيوات جديدة معقدة لا عدد لها، يترقى بها الفكر والحياة ويغرز فيضهما وترحب بها(392/13)
آفاق النفس، ويظهر لنا بعدها أن الكون مليء بالأسرار وكلمات الله التي لا تنفد.
عبد المنعم خلاف(392/14)
الأزهر وبعثاته العلمية
للدكتور محمد البهي
حقا - كما يقول صديقي الفاضل الأستاذ محمود الشرقاوي في عدد الرسالة الأخيرة (391) تحت عنوان (الأزهر وبعثاته العلمية) _أن الأستاذ الأكبر المراغي كان جريئا يوم أرسل بعثةفؤاد الأول إلى أوربا عام 1935، وأن سعادة عبد السلام الشاذلي باشا كان جريئا ايضا أو أشد جرأة يوم أرسل من قبل بعثة الإمام محمد عبده سنة 1931 لأنه أرسلها في وقت كان الأزهر ممثلا في شخص شيخه السابق ضد فكرة إرسال البعوث من الأزهر إلى أوربا. ولولا لباقة الشاذلي باشا في أن أتاح لعضوي بعثة الأمام محمد عبده التشرف بمقابلة جلالة الملك الراحل، الملك فؤاد، والاستماع إلى رغباته السامية فيما يجب أن يكون عليه الأزهر لخلد ذكرى الإمام بشيء آخر غير بعثة أزهرية توفد إلى جامعات أوربا لتربط ثقافة الشرق الماضي بثقافة العصر الحاضر. وكان الشاذلي باشا جريئا، وكان الأستاذ الأكبر المراغي كذلك في إرسال هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، لأن ذلك منهما اعتراف بحاجة الأزهر إلى توجيه في البحث والتفكير، وفي الوقت نفسه اعتراف بجمود الثقافة الأزهرية ووقوفها عند حد معين لا تتجاوزه وهو ما وصل إليه المسلمون إلى القرن الخامس عشر تقريبا. والاعتراف بهاتين الحقيقتين في وقت يسيطر فيه على العقلية الأزهرية مبدألم يترك الأول للآخر شيئا، وتسيطر فيه كذلك فكرالكتاب في الدرس والبحث لا شك أنه يحتاج إلى جرأة وإلى جرأة كبيرة. وكان حقا أيضا أن يسأل صديقي الفاضل الشرقاوي عن إنتاجنا العلمي وأن يحاول شرحعدم إنتاجنا_إن وصل إلى ذلك_بما ذكره: إلى نرى أثركم وإنتاجنا وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئا مما تعلمتم ولا تميز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا أو أنكم لا تجدون من أنفسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مفيدينوهذا الذي يسأل عنه الصديق عنه كثير من إخواني ومعارفي في غير البيئات العلمية، في وزارة الخارجية؛ ولكنهم فقط لم يواجهوني بما حاول أن يجيب به الأستاذ الشرقاوي. وبالرغم من ذلك كنت أشعر أنه يتردد في نفوسهم
صحيح أننا لم ننتج بعد إنتاجا جامعيا يتمثل في تأليف يقوم البحث فيه على الأستقلال في(392/15)
التفكير وعلى إبداء رأى خاص في مشكلة من مشاكل العلم الذي تخصصنا فيه، حتى يدمج هذا البحث ضمن البحوث العلمية فيكمل ناحية نقص فيهاوذلك طبعا غير التأليف المدرسي، فقد أخرجت من هذا النوع ثلاث مذكرات: في الفلسفة الشرقية، وفي الفلسفة الإسلامية، وثالثة في علم النفس العام (بالاشتراك مع الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد في هذه الأخيرة) _. ولكن ليس عدم انتاجنا الجامعي راجعاـ كما يقول الأستاذ الشرقاوىـ إلى أننا لم نفد شيئا مما تعلمنا في أوروبا، ولا إلى اننا لم نجد من أنفسنا شجاعة ولا قوة لكي نكون منتجين ولا مفيدين، بل يرجع إلى حالة أخرى خارجة عن معرفتنا وشجاعتنا؛ يرجعإلى بيئة الأزهر العلمية
الأزهر يغاير الجامعة في أن بيئته العلمية لم تتهيأ بعد (تمام التهيؤ) للأبحاث العلمية الحديثة، للأبحاث الجامعية. لأن هذه تقوم أولا على حرية النقد، وهذا معناه عدم منح القداسة لبعض المواد دون بعض. وثانيا على عدم التقيد (بالكتاب) كمصدر للبحث ومقياس للحقيقة. والأزهر - في الواقع - يسير في أبحاثه على منح القداسة لبعض المواد دون بعض ـ وإن كان بينها شديد الشبه من وجهة البحث - وعلى التعلق بمبدأ الكتاب. نعم مناهج التعليم لا تنص على كليهما ولكنهما من الأمور المتوارثة التي اصبح لها حرمة المبادىء العامة. وليست العبرة في ملاحظة الظواهر بما يقوله المنهاج، ولكن بما تتبعه النفوس
فمثلا يفرض نظام التعليم في الأزهر تدريس الفلسفة، وأزيد من هذا بجعلها مادة أساسية في كلية أصول الدين؛ ولكن الفلسفة في نظر كثير من الأزهريين مازال منها (الفاسد)، وهو أكثرها، و (الصحيح)، وهو أقلها. ومازال كثير منهم يخفى في نفسه الضغينة للفلسفة والفلاسفة ويضعها في مرتبة دنيا عن عالم الكلام، مع أن هذا الأخير يشارك الفلسفة الإلهية في الموضوع وفي الغاية، وهي محاولة تحديد الإله أو مبدإ الوجود وعلاقته بالكون وبخاصة بالإنسان. ومع أن الفلسفة الإغريقية التي نقلت إلى المسلمين كانت سبب ثرائه ونمائه. هذه الفرقة أثر متوارث عن الغزالي؛ فكتابه (إحياء علوم الدين) قد أصبح منذ القرن الثاني عشر إلى الآن صاحب الكلمة في التوجيه الديني وفي تحديد علاقة البحث العقلي بالدين. والغزالي هو صاحب (تهافت الفلاسفة)؛ وهو صاحب الرأي: بثلاثة كف(392/16)
الفلاسفة العدا. . . . . . . . . . . . وهجومه ضد الفلسفة كان السبب غير المباشر في اختلاف الرأي في جواز الاشتغال بالمنطق ـ وهو فرع من الفلسفة ـ أو عدم جواز الاشتغال به أو الترديد بين الحرمة والجواز:
فاين الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازه لكامل القريحة
فمنهاج التعليم العالي في الأزهر وإن فرض تدريس الفلسفة إلا أنها لا تتمتعبقداسة ولا احترام كما يتمتع علم آخر كعلم الكلام مثلاً
وكما أن مبدأ (قداسة) بعض المواد دون بعض يسود التعليم في الأزهر، كذلك مبدأ (الكتاب) إذ أن (مدرس الموضوع) لم يخلق بعد في الأزهر وإن كان في طريق الخلق والتكوين. فالحقائق العلمية في مادة من المواد مصدرها كتاب معين بالذات، والتمكين في الخلافات العلمية ومشاكل البحث لم يزل إلى كتاب مخصوص. ولعل مبدأ الكتاب فرع من مبدأ القداسة لأنها إذا منحت لمادة من المواد قد تتعداها لأمر ما، إلى مؤلف بالذات فيها
وبيئة مثل هذه البيئة التقليدية لا تقبل طبعا بسهولة نتائج البحث العلمي الحديث لأنها قد ترى فيها مايجرح عاطفة عندها تحرص على صيانتها. وعلى صاحب البحث الجامعي قبل أن يبرزه إلى الوجود أن يهيىء النفوس له بالتوجيه تارة، وبالنقاش فيما ألفته وصانته حتى الآن عن النقاش تارة أخرى، وإلا كانت نتيجة بحثه الجامعي سلبية محضة، وكان شأن هذا الباحث شأن القانون الذي فرض مادة في منهاج الدراسة لم تهيأ لقبولها النفوس بعد في الإهمال وعدم الاعتبار
وهذه التهيئة كانت ـ وما تزال ـ من مهمتنا؛ وهي مهمة ليست يسيرة. كم كان شاقا ما صادفني من صعاب في العام الماضي عند عرض فلاسفة المسلمين! فكانت نفوس الطلاب متشوقة أولا وبالذات إلى سماع الحكم عليهم بالإسلام أو بالكفر. ولم أفلح إلا بعد جهد مضن في إقناعهم بالفصل بين القيم المختلفة، وفي أن مهمة مؤرخ الفلسفة الحكم على الفيلسوف من ناحية إنتاجه العقلي فحسب
على أن الإنتاج العلمي الجامعي كما هو وليد القدرة على الإنتاج وكثرة الاطلاع وهضم المقروء وليد الزمن أيضا. وبذا يفترق عن الإنتاج الصحفي أو الإنتاج المدرسي. ونحن(392/17)
نطمئنك أيها الصديق برغم عدم هذه التهيئة الكافية في بيئة الأزهر العلمية لقبول الأبحاث الجامعية، وبرغم هذه الصعاب التي نلقاها في التوجيه، على أن (بيئتنا العلمية) في نمو، وعلى أن لنا في جمهرة الطلاب وفي كثير من الشبان المدرسين أعوانا مخلصين، وعلى (أن لنا أسلوبا خاصا ونقصد في دراستنا وفي إنتاجنا وفي توجيهنا التعليمي مقصدا خاصا يقوم على حرية البحث، وقداسة الفكر، والشجاعة في مواجهة مانلقى من عنت) ونطمئنكأكثر من هذا على أننا قطعنا في إنتاجنا الجامعي خطوات عديدة. وكل ما نرجوه، حتى يبرز هذا الإنتاج إلى الوجود، هو توفيق الله.
محمد البهي
مدرس علم النفس والفلسفة
بكلية أصول الدين
من ذكريات أوروبا
باريس الصغيرة
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
لم يكن من بد أن نكتب عن باريس الصغيرة بعد أن لحق بشقيقتها الكبرى ما لحق من نكد الحياة، وعنت الزمان، ما جعلها تشيع زمان اللهو والغفلة، وتستقبل زمان الجد والحذر والحرص، وبعد أن نالها هي الأخرى أو كاد أن ينالها ما نال أختا لها من قبل فتكاتفت عليها أزمات السياسة، وضائقات الحرب، ونكبات الطبيعة؛ وآن لهذه الوجوه التي لم تتقبض أسرتها إلا من الضحك أن تتقبض يوما من الجد والحزن والتفكير. . . وإذا كانت باريس قد لقيت من أقلام المحبين والمعجبين والمحتفين بها الكثير من كلمات الرثاء والعزاء والذكر، فلا أقل من أن نشيع الشقيقة الصغرى بكلمة أو كلمتين
وباريس الصغيرة، أو باريس شرق أوروبا كما أصطلح على تسميتها عارفو الباريسيين هي مدينة بوخارست حاضرة رومانيا، وليس في هذا الاسم إغراق أو مغالاة، فبين المدينتين تشابه كثير، فأحياء بوخارست الجديدة تشبه أحياء باريس، وحياة اللهو والمجون في بوخارست تعدل حياة اللهو والمجون في باريس أو هي تزيد عليه، ونساء بوخارست(392/18)
متحررات عابثات كنساء باريس مولعات بتقليد الباريسيات في التأنق والتجمل إلى حد بعيد، وإن كن أجمل منهن وآنق. وكما أن باريس هي مدينة المرح والحياة ومحظ آمال الشباب في غرب أوروبا، فبوخارست هي مدينة المرح والحياة ومحط آمال الشباب في شرقها. وإذا كان شباب أوروبا يستقبل الموت اليوم في محور (روما برلين) فقد استقبل الحياة من قبل في محور باريس بوخارست. . . حتى نهاية المدينتين ـ يشاء القدر أن تكون متشابهة ـ فكما تعتز المرأة الجميلة بشبابها وجمالها وتحرص على صيانته، وتحذر أن يمسه سوء، كان ما فعلت الباريسيات، فسلمتا طائعتين مختارتين حذر أن يمس جمالها من الحرب سوء، أو يناله في الدفاع أذى.
هبطت مدينة بوخارست من عام وبعض عام، وكنت قبل سفري تتناثر حولي عن عبثها ومجونها أقوال أصدقاء لي زاروها من قبل، فلم أكن ألقى إليهم أذنا صاغية، وأحسب أن بكلامهم الكثير من مبالغات الشباب وخياله. ثم حدثتني عنها أديبة بولندية قابلتها في أثينا، فكنت أيضا كثير الشك في كلامها، وكان يعزز هذا الشك في رأسي أن بوخارست ـ وإن كانت مدينة أوروبيةـ إلا أنها أقرب إلى الشرق منها إلى الغرب، فليس ثمة مايجعلها تختلف عن نظيراتها من مدن شرق أوروبا كاستنبول وأثينا وصوفيا. فلما ركبت القطار من ميناء كونسنتزا ـ وهي مرفأ روماني ـ في طريقي إلى بوخارست، حدث ماجعلني أصدق ثم أصدق ما قيل، بل حدث ما جعلني أرى أن فيما سمعته عن هذه البلاد الكثير من القصد والإيجاز، لا المبالغة والإغراق
كان القطار مزدحما فوقفت في الممشى أتلهى بالنظر من النافذة، ثم أخذت أذني في أقصى الممشى ضجة، فتلفت فإذا شاب بدا لي من وجهة أنه تركي ـ مقبل علىً وقد تحلقت به خمس فتيات ـ أستغفر الله ـ بل خمس فاتنات، إي والله خمس
ـ وهو يسير بينهن في هيئة العروس أحاطت بها وصيفات الشرف، يجذب هذه، ويقبًل تلك، ويعانق الثالثة، وهن يتضاحكن من حوله، ويتجاذبنه من سترته! فلما بلغني هذا الموكب المرح، حيًاني الشاب ضاحكا، وجعلت الفتيات يحدقن في وجهي طويلا ثم قالت إحداهن: ـ هذا تركي آخر فقالت أخرى: - بل هو مصري وقالت ثالثة ضاحكة: ـأما تجيب أيها التمثال؟ ثم تضاحكن وانصرفن عني ضاحكات بمثل هذا العبث والمرح تقابلك(392/19)
الفتاة الرومانية، فهي دائما باسمة مرحة، تغازلك إذا لم تغازلها، وترميك بالجمود إذا لم تسايرها في مرحها. وحسبك أن تعلم أن أول ما يتعلًمه الأجنبي في بوخارست من اللغة الرومانية ـ وهي لغة تشبه الإيطالية إلى حد ـ هي كلمات ميلة. إلى أين يا فتاة. ما هذا الجمال النادر) وما شاكل ذلك من كلمات المعابثة والمغازلة. وكثيرا ما كنت أخطيء في نطق هذه الكلمات فكانت تصحح لي النطق بها من أعابثها من الفتيات فتقول لي مثلا: (فورمواسا (أي جميلة) وليس فورموزا. انطقها هكذا فورمواسا بحرف إنك لا تحسن النطق. اصحبني لأعلمك)
فإذا بدا لك أن تكون رجل جدً واتزان، أخذن يثرنك ويغازلنك، ويتشبثن بأذيالك أينما رحت، بل يمسكن بك في الطريق، فإذا ألطفت بإحداهن ودعوتها إلى نزهة أو طعام لبتك طائعة دون روًية أو ترًيث أو تفكير، وسايرتك في كل ما ترغب، فهي سهلة القيادة لا تعرف المعارضة!
وفتاة بوخارست اجتماعية بكل ما تحتمل الكلمة من معنى. قلما تراها تسير وحيدة، فإذا لم تجد من تنازله زاملت من تصادفه في الطريق. وهي في ذلك تتخير أتفه الأسباب للتعرف، ثم تضع يدها في يدك، وتطرح التكلف والملاينة جانبا، وكأنها تعرفك من سنين. . . حدث مرة أن كنت جالسا في مقهى في شارع اليزابيتا، فدنت مني فتاة جميلة، ثم سألتني إن كنت مصريا، فلما أجبتها بالإيجاب أخرجت ورقة وقلما وسألتني أن أكتب لها اسمها باللغة الهيرغليفية. فقلت لها: (إنها لغة قدماء المصريين وقد اندثرت، ولغتنا الآن هي العربية) فقالت: (إذن فلتكتب اسمي بالعربية) فكتبته لها، ولكنها بدل أن تنصرف جعلت تتعجب من الخط، فلم أجد بدا من دعوتها للجلوس فأسرعت بالقبول ولم تقم حتى دعوتها للعشاء في اليوم التالي. . . ومثل ذلك يحدث للمرء مرات عدة في بوخارست
ومن الفتيات من لا تتحرى هذه المقدمات، فتراها تقابلك وتبدؤك بالسلام، والسؤال عنك وأني أنت يا أخي، أو هي تجذبك بيدها، أو تخطف قبعتك، أو تقبلك، أو تعانقك. كل ذلك دون أن يكون لك بها سلبق عهد! والعجب في هذا أنها تفعل كل ذلك في بساطة ودون استحياء. وأعجب منه أن هذا العمل لا يلفت أنظار المارة، على الرغم مما لا حظته من فضول الرومانيين العجيب. . . فقلما تخرج من جيبك صورة أو خطابا في الطريق دون(392/20)
أن يشاركك في النظر إليها أو قراءته من حولك، ومن ليسوا حولك. بل أكثر من ذلك فإنهم يبدون لك ملاحظاتهم، فيقول أحدهم مثلا: (لو وسًدت رأسك كفك في الصورة لكان أفضل) أو: (لو كانت الصورة على مسافة أبعد لكانت أوضح من ذلك) أو: (هذا الخطاب مكتوب بخط عجيب). . . إلى غير ذلك من الملاحظات التي لا تنتهي إلا بإخفاء ما في يدك عن نواظرهم.
وعلى الرغم من هذا الفضول العجيب فقلما يلتفت إليك ماًر وأنت تعانق فتاة أو تغازلها ولو كنت في جمع من الناس لكثرة ما أخذت عيونهم مثل هذا المنظر. وقد حدث لي في أول لياليً ببوخارست أن كنت أتناول العشاء في مطعم مع صديق مصري وصديقة رومانية؛ وكانت معي بعض صور لأهرام الجيزة فرغبت الفتاة في واحدة منها، فقال صديقي معابثا: (وكم تدفعين ثمنا لهذه الصورة؟) فقالت: (ما يطلب) فقال ضاحكا: (إنه يقنع بقبلة أو قبلتين، وإن كانت الصورة ثمينة جداّ) فقالت: (إذن فليفعل) فقال: (ليس أمام كل هؤلاء الناس) فقالت: (وما شأنهم في ذلك؟). ثم قامت فقبلته وقبلتني، فأخذني الخجل، وجعلت لا أتلفت حولي خشية أن تأخذني الأنظار من كل جانب فتزيد في خجلي، ولكن لشد ما كانت دهشتي حين تلفتً فلم أجد أحداّ أعار ما حدث أي اهتمام، بل وجدت كل من حولي يفعل ما نفعل!
ومثل هذه الحال من المجون والاستهتار كان لها أثر بالغ في حياة أطفالهم، وصغار الفتيات، ما كنً يترامين علينا في أوقات من الليل
والظاهر أن هذا الانحلال الأخلاقي في رومانيا، مرجعه الحروب المتلاحقة التي تقلًبت عليها فأفنت رجالها، ثم خلفتها وعدد نسائها أكبر من عدد الرجال، وهؤلاء الرجال ـ على قلتهم ـ منصرفون عن النساء لكثرة عددهن، وسهولة منالهن، لذلك نرى رجال رومانيا وشبانها مدللين متراخين قليلي الغيرة على جانب غير قليل من الطراوة والضعف والتهاون مع نسائهم: فالفتاة في بوخارست. قد تسهر معك إلى الثانية عشرة، أو الواحدة صباحا، ويستأذن أخوها أو قريبها لينصرف، وهو يقول لكما مبتسما: أرجو لكما وقتاّ طيباّ، أو سهرة موفقة، أو شيئاّ من ذلك. ثم ينصرف لشأنه
وفتاة بوخارست فوق ذلك من أجمل نساء العالم وجهاّ وجسماّ ومن أكثرهن تحرراّ، فهي(392/21)
تساير نزواتها وأهوائها إلى أبعد الحدود، لا تخشى في ذلك لومة لائم، أو كلمة رجل؛ ثم هي ساذجة مطواع طيبة القلب، تصارحك بكل شئونها ولو لم تقابلها إلا مرة واحدة، وهي بعد ذلك وفية كل الوفاء
والحدائق في بوخارست، هي مستراد الشباب، وميدان الغزل، وملاذ الهوى، يقصدها القوم جميعا قبيل الغروب. والمدينة غنية بحدائقها فقد وهبها الله موقعا طبيعيا غنيا بالبحيرات الطبيعية، فأنشأوا حولها الحدائق، ونموا الخمائل والأشجار والخضرة؛ ففي وسط المدينة تقع وبأطرافها تقع حدائق كارول الثاني على شواطىء بحيرة هيراستراو وحديقة تي شواطىء بحيرة وحديقة البوتانيك وحديقة كارول الأول وتتوسطها بحيرة طبيعية جميلة. . . وغيرها. . .
وكل هذه الحدائق آية في الجمال والتنسيق والموقع. ولن أنسى أمسية قضيتها في مطعم أنيق في حديقة كارول الثاني يطل على البحيرة، وقد انعكست أضواؤه على صفحتها الهادئة، وانتثرت بها الزوارق البخارية ذات الأضواء الملونة، وهي تتخطر في هينة ورفق على أنغام الموسيقى. . . منظر جعل يجذبني إلى هذا المكان كل مساء
وفي حديقة كارول الأول بحيرة طبيعية، يقع على شاطئها مسجد شرقي آية في الجمال والفن؛ فإذا أقبل المساء انسابت الزوارق إلى عرض البحيرة، وعلى كل زورق عاشقان، جمعهما الهوى، وأظلهما الظلام، وأغرتهما هدأة الليل الجميل، فذهبا يتناقلان الحديث، ويتشاكيان الهوى، ويتبادلان العناق؛ فأنت لا تسمع أينما أدرت أذنيك إلا همسات الغزل، وأصوات القبل، وخفقات المجاذيف قد اختلطت بضحكات النساء
وعلى مقربة من المدينة تقع غابة (بانيسا) وهي غابة صغيرة جميلة كانت لنا فيها جولات نذكرها بالخير، وعلى أميال منها بحيرة في موقعها الطبيعي الساحر، وهي أروع ما وقع عليه نظري في هذه البلاد
ولا أود أن أختم القول قبل أن أشير إلى رخص تكاليف المعيشة في بوخارست إلى حد لا يتصوره العقل، ولا يصدقه إلا من زارها، ويرجع ذلك إلى فقر البلاد، وانخفاض سعر (اللي) العملة الرومانية_انخفاضاّ كبيراّ. وحسبك أن تعلم أن ما ينفقه الإنسان في القاهرة في يوم، يكفيه في بوخارست ثلاثة أو اربعة أيام على الرغم من كونها بلاداّ أجنبية غريبة(392/22)
عليه. وأرخص ما في المدينة الطعام ولا سيما اللحم - فالبلاد بلاد سهول ومراعي_وهم في طعامهم أقرب إلى الشرقيين منهم إلى الغربيين. ولعل ذلك يرجع إلى عهد الأستعمار التركي. وأظهر مشروبهم البيرة والنبيذ والسويكا_وهو الشراب الوطني للبلاد_وقلما تخلو مائدة من إحداها
هذه هي بوخارست أو باريس الصغيرة كما يسمونها، مدينة المرح والحياة والجمال. وهذا بعض حقها عليً، وإنه ليعزًعليً وعلى عارفيها ما نالها من محنة، ولنا فيها ذكريات وأصدقاء وأحباب، خفف الله عنها وعنهم، وأجمل لهم العزاء
(فتحي)
(القاهرة)
وحي العلم الجديد
إنسان وحيد في العيد
في ليلة من ليالي هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء، وداع عام مضى ورجاء عام جديد، جلس إنسان وحده في حجرة باردة، طقسها بارد ولكنها حارةً الذكريات
إنسان وحيد جلس يكتب فلم يستطع، ما يحسه في قلبه لا يستطيع أن يكتبه، وما يكتبه يجده بعيدا غريبا عما في قلبه وصدره. ما يكتبه يجده بارداّ كصورة الصورة الحريق واللهب والبركان على قطعة من الشمع الملون، وفي شعر هندي يقال: (مات المعنى الحيً حين احتواه اللفظ. ينطق اللسان فضلة ما في القلب)
إنه يجلس إلى الراديو يدير مفتاحه، ينتقل به من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يسمع إلا الرقص والغناء والموسيقى. الأحاديث لا يسمعها، يمر عليها في مفتاح الراديو، كما يمر الشهاب في السحاب
الدنيا كلها تغني وسط هذهالمذبحة البشرية، والناس كلهم يرقصون على دقات الجاز الصاخب وعلى أنغام الفاس الهادىء الناعم كأحلام الصفاء في آخر الليل، وبعض الناس في هدوئهم وسمت وقارهم وصفاء قلوبهم ينشدون ويرتلون. أولئك هم المتوجهون إلى الله في السماء(392/23)
أيها الصاخبون الراقصون على الجاز والفاس، خذوني معكم أنا إنسان وحيد غريب في هذه الدنيت. إنسان يريد أن يعيش وأن يعرف الحياة وأن ينطلق بعد حبس طويل. يريد أن يفرح ويقفز ويبتهج كما تفعلون. ثم يلقي جسمه المنهوك في الفراش بعد المرح الطويل فينام وقد حل في قلبه السلام
أيها المؤمنون الخاشعون المرتلون المتوجهون إلى الله في السماء , خذوني معكم.
أنا إنسان يريد أن يهدأ وأن يعيش وأن يهب قلبه الصفاء والنقاء بعد سواد طويل، يريد أن يتوجه إلى أن يتأمل ويصلي، قد انصرفت عنه دنياه ويئس منها، يحبها ويريدها ولكنها لا تريده. قد أشقاه إدبارها ولم تقبل عليه مرة، فهو يريد أن يعلو عليها يأساً منها، وأن يتوجه إلى ربه مثلكم يرتًل ويتأمل ويصلي ويتبتل حتى ينهك جسمه كما أنهك الرقص جسوم الراقصين فينام وقد حل في قلبه السلام
إنه يسير في الطرقات ويركب ما يركب الناس، فيجد الشاب والفتاة والعجوز والصبي كلً قدأمسك لمن يحب قربان حبه، الورود والأزاهير يحملونها يضمونها إلى صدورهم ضمة العشق
ويرى الناس قد أذهلهم الشقاء واستولى عليهم جهد العيش فلا يتحدثون ولا يفكرون إلا فيما
يأكلون ويكتسون، ليس لهم حبيب ولا يريدونه، وليست لهم زهور ولا قرابين ولا يريدونها
أيها العاشقون السعداء يحملون الهدايا، خذوني معكم أنا إنسان وحيد يريد أن يهدي إلى من أحب شيئاّ، يهدي إليه قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله
بلى. لقد أهدى إلى من أحب هذا كله وفوق هذا كله، ولكن من أحب لم يقبل منه ما أهدى، وطرد الرسول والمرسل وانصرف عنه كما انصرفت عنه دنياه ويئس منه. . . من حبيبه. إنه يحبه ويريده ولكنه لا يريده
قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله، لا يريده. وفوق هذا كله لا يريده
أيها الحاملون الهدايا والأزاهير إلى عشاقكم ومحبيكم وأزواجكم، خذوني معكم
إني أريد أن أكون واحداّ منكم فأقدم إلى حبيبي خيراّ مما تقدمون. . . مع قلبي وحناني وحبي، فإذا رضي عن هديتي وتقبًل قرباني ملأ قلبي الفرح وشمخ رأسي فوق كل رأس، وأتعبني حمل السعادة فأنام وقد حل في قلبي السلام(392/24)
أيها الأشقياء الناعسون خذوني معكم
أنا إنسان وحيد أريد أن ابتئس وأن أشقى حتى أذهل، وحتى يموت في قلبي الرجاء من كل شيء والأمل في كل شيء، وأن يستولي علًي جهد العيش والفكر فيما آكل وما أكتسي حتى يرهق جسمي الفكر والجهد فأنام وقد حل في قلبي السلام
رأيتكم من قبل في كثير من مثل هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء
رأيتكم من قبل أيها الراقصون والمرتًلون والعاشقون والذاهلون بالشقاء فلم أطلب أن أكون منكم. لأني كنت أوقن أني سأكون خيراً منكم عندما تقبل عليً دنياي
دنياي كانت أخي الغائب حتى يعود، والقلب الذي رجوتًه واصطفيته وأحببته وارتقبه، وصبرت على ما لم يصبر له الصابرون حتى يكون معي، حتى يكون لي وحدي
وكنت في سنوات كثيرة أجلس في هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر أسمع مواكب حياتكم أيها السعداء فأبتسم، ستقبل دنياي وأغدو خيراّ منكم يوم يعود لي أخي البعيد، ويوم يكون القلب الحبيب لي وحدي
ثم جاءت الأيام الأخيرة من ختام هذا العام، فإذا الأخ البعيد لم يعد، ولن يعود، وإذا القلب الحبيب قد ردً عليً_مطروداّ_قلبي وحناني وحبي، واختار أن يكون لغيري، له وحده، وإني أحبه وما كرهته
في هذا العام أجلس وحدي في غرفة باردة، طقسها بارد لكنها حارة الذكريات، أسمع وأرى مواكبكم أيها السعداء، ولكني لا أبتسم. لن أكون في يوم ما خيراً منكم إن أخي لن يعود، والقلب الحبيب لن يعود، فلن تعود لي دنياي، وما كانت دنياي لي حتى تعود
إنسان وحيد في العيد
كان يسير في ركب الحياة معه أخوه وحبيبه. . . زوجه. . . لا يريد غيرهما ولا يرجو، فسقط أخوه والركب يسير. فتخلف يقضي حقه يواريه ويبكيه، وقلبه يتوجه إلى حبيبه الذي بقى يرجوه لا سواه
يتوجه إليه بالرجاء والعزاء، يريده وحده لا يريد غيره ولا يرجو وماذا يهمني من الركب وليس لي فيه. . .؟
إنه_القلب الذي أحببته_معي. وأنا به مع الركب وأمامه أسبقه وأعلو عليه. ونحن وحدنا(392/25)
القافلة والركب والحياة والدنيا لنا
أنا_معه_غني عن جميع الناس
إنني به غني عن العالمين
فلما أفاق وقضى لأخيه بعض حقه تلفت فإذا الحبيب الذي كان بقي. ما بقي. . .! سلك بنفسه في زحمة الحياة وخلًف القلب الوحيد لا رجاء ولا عزاء. وشق الطريق لذاته لم يلتفت.
الركب بعيد، وهو منه منفرد وحيد. ما بقيت به قوة. ليس حوله سوى الظلام والوحشة والأحزان وذئاب الطريق. وفي قلبه الحسرات الباقيات ولا أحد معه
أيها السعداء الذين أرى مواكبهم وأسمع رقصهم على الجاز الصاخب والفالس الهادىء الناعم كأحلام آخر الليل، والذين يقضون هذه الأيام الأخيرة من العام. أيام الوداع والرجاء، ثم ينامون وفي قلوبهم السلام.
خذوني معكم. . .
2 - صاحب السلطان الحقيقي
قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعا ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلسا من مجالسه ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه
حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصا أنساني كل متعة وحقر في نفسي كل فرجة فأعددت منظاري وظللت أنظر بصبر فارغ وشوق نازع حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور وهو يفضي إلى بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة
وتفضل الرجل فدعا شاباّ من ذوي قرباى كان معي فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ. وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلىء رأسه بفلسفة الفلاسفة. ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظاراّ مثل منظاري، أو(392/26)
لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس
وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكىء على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعا أسهل عليً من أن ألم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناّ في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنشتريح في جلستنا في ملابسنا الأفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيافته، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معاّ، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي(392/27)
وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال: (هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداّ. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفا ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراّ بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن يدعى عمر كرة أخرى. فهب الشيخ واقفا من فوره، ففطنت أنه لن يطيق أن يسمع اسماّ من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الظن من صحة فاتسق لي القياس كل مرة
وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئاّ فشيئاّ على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!. . .
ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام مستريحا، وتناول الشيخ ورقّا وقلماّ وخط له حجاباّ وصرفه فخرج الرجل فرحاّ مطمئناّ. ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين وأنه يتحرق شوقا إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئاّ، وطلب الشيخ منه منديلا فلم يجد معه شيئاّ فأخذ طاقيته ووضعها في حجره وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام , , ,
ودخلت امرأة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد(392/28)
عليه الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة؛ ودخلت بعدها غيرها تستجير ببركة الشيخ، فإنابنتها يرتعد جسدها الملتهب وتمسكها (الملعونة) حتى ما تفارقها؛ وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشاّ، وبصق فيه الشيخ بصقة على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل، وكم تمنيت لو قفزت من مكاني فحطمت ذلك الوعاء وأرسلت بركته على رأس الشيخ!
ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني. وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطردوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما فعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم يضربه. فاستجار الفتى بالنبي، فألقى الشيخ العصا وهم واقفاّ، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم مصدر علمه اللدني العجيب
وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معاّأنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أشك أن الشيخ قد أفسد عليً بكراماته سحره، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو أوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم. وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعاّ أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذخا الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل المصاغ المسروق!
وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلى صاحبي وقال في لهجة عجيبة:(392/29)
(وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟) ونهض الشيخ واقفاّ فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى (حلفة ذكر) وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسى الناس أنفسهم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!
وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة (بهلوان)؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين وأكل العيش سهل. يا سيدنا الأفندي البيضة كانت موجودة في جيب صاحبنا غير الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة. . . دا شغل احنا عارفينه، وبكرة يا ما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد. وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه
الخفيف
العقد الفريد
للأستاذ محمد سعيد العريان
بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان
(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراّ من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)
يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبنين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ(392/30)
على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاّ إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاّ بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراّ من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لايغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك فيه أن يجزم بأنه لم يغادرشيئاّ مما يهم الباث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني ب (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباّ من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاّ من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عبد ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد
وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاّ اليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظرإلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به مايقع في أشعارهم منها. وكذلك(392/31)
ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب_توفي سنة 808هـ، كان معروفا لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراّ مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاّ منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء
على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاّ، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف(392/32)
وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع , ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق
ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة
يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء
وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟ انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟
لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه_للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضا ّنظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روي من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية
على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان(392/33)
لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراّ أو قليلاّ بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشرقة ,
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان
الشروق. . .
(مهداة إلى (الرسالة) عروس المشرق في صباح عيدها التاسع)
للأستاذ محمود الخفيف
شدً ما ذكر قلبي الفرحا ... مولد النور على الأفق البعيد
كم هفا القلب إليه وصحا ... واجتلى في الشرق هذا الوضحا
ورأى في كل ركن بسمة
حلوةً تهدي إلى الصبح الوليد
في شعاب النفس ألقى الابتساما ... فلق همت بمسراه المديد
زدت ما درت بعينيً هياما ... بسنا يا حسنه إذ يترامي!
لمحات كابتسامات المنى
ورؤى مثل رؤى الحلم السًعيد
السًنا الورديً الأفق ... ذاب في فيض من النًور جديد
ملء نفسي سحر هذا الشفق ... ألق أجمل به من ألق
أمس كم كان لروحي منهلا
قبل هذا الثكل في قلبي الشًهيد
رفً قلبي للسنا المنسكب ... في جناب أخضر الزرع رغيد
رمت الشمس خيوط الذهب ... فجرت فوق رفيف العشب
نهلت عيناي من بهجتها
آه! كم طفت بها غير وحيد
ونسيم عبهري خفق ... سرق العطر من الزهر النضيد
عبقت أنفاسه في الغسق ... وسرت في صبحه المؤتلق(392/34)
راح يستاف فؤادي عطره
هاتفا في خفقه هل من مزيد؟
لألأ النور رؤوس الشجر ... في انهلال بالغ الحسن فريد
ووميض الطًل فوق الزهر ... زاد حولي عبقري الصور
مجتلى صليت في محرابه
حلم النظرة صوفيً السًجود
ساجعات الأيك في الحانها ... فرحة مرت على قلبي العميد
المراح الحق في تحنانها ... وهنيء العيش في أفنانها
سجعات لم تشبها كدرة
بدأت في مولد الدهر الأبيد
أيقظ الغافين نور المشرق ... حبًذا يقظتهم بعد همود
أنا ما بين خيال مونق ... ملء نفسي ونهار مشرق
لمع في الشرق يوحي نورها
لفؤادي من أحاديث الخلود
مطلع النور شجاني نوره ... وجلى للنفس موموق العهود
أجمل البشر لنفسي ذكره ... أبدا يبهج روحي سحره
كم بعثت النفس في آفاقه
كلما ضاقت على نفسي قيودي
في فجاج الشرق أطوي الأعصرا ... من زمان شامخ العزً وطيد
إبتني المجد به عالي الذرى ... سادة كانوا كآساد الشًرى
شدً ما يملأ نفسي كبرة
أن أغنًي بالميامين الأسود
دولة الفاروق هزت خافقي ... وازدهاني الملك في دار الرشيد
أتأسى بجلال صادق ... كلما ضقت بشك طارق
في غد يوقظ فتيان الحمى(392/35)
ومضات الوحي من مجد تليد
آذن المشرق بعد الغلس ... بصباح دافق النور جديد
لاح لي من فجره المنبجس ... لمح نور ليس بالمحتبس
إيه كم أبهجني من نوره
مولد هلً على الأفق البعيد!
صغت هذا الشعر من غرته ... وتغنيت به حلو النًشيد
من سنا الشرق ومن روعته ... ومعاني السحر من فتنته
والوضاء الغًر من أيًامه
وحي (إليادي) وألحان قصيد
الى (الرسالة) الغراء
في عامها التاسع
للأديب إبراهيم محمد نجا
أقبلي كالربيع يخطر في الكو ... ن، فتهتز زهرة الأيام
أقبلي كالشباب يشرق في النف ... س فتشدوا عرائس الأحلام
أقبلي كالسرور، كالنشوة البي ... ضاء أو كالشفاء بعد السقام
أقبلي كالنسيم رقرقه الفج ... ر، فغنىً بأعذب الأنغام
أقبلي كالنمير يسكبه النًب ... ع فتروي به القلوب الظوامي
كأغاني الطيور، كالأمل البا - سم، أو كالضياء بعد الظلام
كالأصيل الجميل كالشفق الحا ... لم كالفجر كالضحى البسام
كالندى في الزهور كالعطر في الأنفاس كالبدر في ليالي الغرام
أقبلي كالسلام بعد حروب ... طال فيها تناحر الأقوام
يا ابنة النيل إن في مصر نوًا ... ما، فهزًي مضاجع النًوام
وامسحي عنهم الفتور، يهبوا ... هبًة الأسد روًعت في الموامي
واسكبي في النفوس بلسمك الشا ... في، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام(392/36)
إنما أنت قبسه من ضياء الله ... يهدي بها قلوب الأنام
إنما أنت يقظة بعد نوم ... وبلوغ المنى، ونيل المرام
ونعيم في العيش بعد شقاء ... وصفاء في الأفق بعد قتام
ووثوب إلى الأمام إلى الغا ... ية بعد النكوص والإحجام
وصمود إلى السماء إلى الذر ... وة بعد الحياة تحت الرغام
إنما أنت صرخة الحق في الشر ... ق، وبعث لعزة الإسلام
إنما أنت رجعة البطل الظا ... فر من ساحة الوغى والصدام
إنما أنت عودة النور والآ ... مال، بعد الظلام والآلام
لك في الشرق يا ابنة النيل ذكر ... ومقام أعظم به من مقام
في فلسطين كم أسوت جراحا ... ت وكفكفت من دموع سجام
ذدت عنهم أذى المغير بقول ... يتلظى لهيبه المترامي
ولو اسطعت غيره ذدت عنهم ... بشبا الرمح، أو بحد الحسام
في فلسطين! أين ما كان في مص ... ر، وأرض العراق أو في الشًام؟
قد ربطت القلوب بعد انفصام ... وجمعت الصفوف بعد انقسام
وزرعت الآداب في شاطيء الني ... ل، ورؤيتها بماء الغمام
فزكا أصلها، وطابت فروعاّ ... وتباهت بزهرها البسام
واستوت تحت ظلها لغة الدًي ... ن، وقامت على أعز دعام
وحميت الأخلاق من سطوة الشر ... ر، وبغى الهوي، وجهل الطغًام
وجمعت الشباب في ظل نبع ... عبقري الرؤى، طهور، سام
رفرفت فوقه الأماني، وغنت ... في رباه عرائس الإهام
وهفت نحوه المواكب شتى ... تتشكى مما بها من أوام
فاسلكي في النفوس من نبعك العذ ... ب، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير، وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام
واهزئي بالفناء يا زهرة الني ... ل، وعيشي على مدى الأعوام
وابسمي للخطوب إن عبس الدًه ... ر، ولا تعبئي بكيد الخصام(392/37)
ولك الحق غاية وطريق ... وإمام. . . أنعم به من إمام
ولك الله ناصر ومعين ... وهو نعم النصير، نعم الحامي
(طنطا)
إبراهيم محمد نجا(392/38)
البريد الأدبي
1 - متى ينضج الأديب؟
من قراء (الرسالة) شاب يقيم بإحدى قرى المنوفية، وهو شاب يشتعل حماسةّ لأدبه، ويؤمن بأنه مظلوم أقبح الظلم، لأن (الرسالة) لا تلتفت إلى ما يرسل إليها من القصائد الجياد
كتب إليً هذا الشاب منذ شهرين خطابا يشرح فيه الأستاذ الزيات عن فنه الجميل، وكان خطابه قطعة نثرية مقبولة، فرجوت أن يكون شعره مثل نثره، ودعوته إلى إرسال إحدى قصائده (لأتوسط) في نشرها بالرسالة، فجاءت منه قصيدة طويلة تشهد بأنه بعيد من الصياغة الشعرية، وإن كان على شيء من قوة الإحساس. . . وكانت النتيجة أن أشارك هذا الشاب في حقده على الأستاذ الزيات لتغافله عن القيمة (الصحيحة) لأشعار المبتدئين!!
وفي هذا اليوم تلقيت خطابين من هذا الشاب يفيضان بالتوجع والتفجع، وينذران بخاتمة أليمة، إن قصًرت في تشجيعه على نشر ما يريد. والخواتم الأليمة معروفة، وأخفها أن يحبس الشاب نفسه في قرار النيل إلى يوم البعث، بعث الأشعار والأجساد!
وقد تفضل هذا الشاب بإرسال صورته إليً، فقد تبخل الأقدار بأن أراه، وعندئذ تكون هذه الصورة مبعث ندم مقيم على ما ضيعت عليه من فرص التشجيع!
وأجيب بأن لهذا الشاب أن يقتل نفسه حين يشاء، ما دام يتوهم أن الحياة كل الحياة أن ينشر قصيدة في إحدى المجلات، وإن لم يصل إلى النضج الصحيح
لقد قلت ألف مرة ومرة: إن التسامح مع المبتدئين جرم فظيع، لأنه يهوًن عليهم الحياة الأدبية، ويوهمهم أن الأدب لا يفرض على أصحابه تكاليف من الدراية والخبرة والاطلاع على أسرار الوجود
اسمع. يا بني
تنقسم الأخشاب إلى أنواع: خشب للوقود، وخشب للسقوف، وخشب للنوافذ والأبواب، وخشب لدقائق الأثاث، والنوع الأخير هو أثمن الأخشاب فهل تعرف أعمار هذه الأصناف؟
تتفاوت أعمارها بحسب القيمة، فمن الأخشاب ما ينضج في خمسة أعوام، ومنها ما ينضج في خمسين عاماّ، لأن الطبيعة لا تقدر على إنضاج الصنف الجيد إلا في الأزمان الطوال
فكم سنك، يا بني؟ كم سنك، فلن تكون قيمتك إلا بقدر ما أنفقت الطبيعة من الزمن في(392/39)
تكوين عقلك؟
صورتك تحدثني بأنك لم تجاوز العشرين؟ فهل تصدًق أن الأديب الجيد يتمً لأحد في سن العشرين، تلك أيام خلت، حين كان جمهور الشاعر والخطيب من عوامً الناس، أما اليوم فجمهور الشاعر والكاتب والخطيب، جمهور مزوًد بثقافات لا تخطر لمن كان في مثل سنك على بال، وهو جمهور لا يتصدق على أحد بالمنازلة الأدبية، وإنما يخضع راغماّ لسيطرة العبقريين، أو شهرة النوابغ، فانتظر حظك إن استمعت قولي وأجلت توديع الحياة إلى أجل بعيد
وتقول إنك تحب، وإن لك عواطف تستحق التسجيل فما أنت والحب، وهو من مثلك أشبه الأشياء بعبث الوليد؟ الحب من مثلك فورة سطحية لا تصل إلى أعماق الروح، لأن الحب أيضاّ يفرض ألواناّ من التثقيف، وهي عزيزة عليك، لأنك في سن العشرين، سن الأطفال، فإن لم يكن بد من أن تعبر عن عواطفك فعبًر عنها بأسلوب من يكون في سنك، وذلك بعض الأنامل، أو نطح الجدران، أو الامتناع من تناول الغذاء!!
اسمع، يا بنيً
لعلك خدعت بما كان يقال من بخل الكهول بتشجيع الشباب، فجئت تتهم صاحب (الرسالة) بالتجني عليك، فاعرف الآن أن ذلك اتهام مردود، وإنما الحق كل الحق أنك لم تقدم شيئاّ يحسن عرضه على القراء، فأنت ما زلت في دور التكوين، إلا أن تريد أن يكون عمر مواهبك قريباّ من عمر خشب الوقود، وهذا أيضاّ أنواع، فخشب السنط يحتاج إلى عمر أطول من عمر الصفصاف، ليكون أقوى وأنفع، والقوة والنفع لا يوهبان في الزمن القليل
يجب أن يعرف شبان اليوم أن الصحافة الأدبية ليست ميداناً للتمرين، فالقارىء لا يدفع (القرش) إلا إذا اطمأن إلى أنه سيجد زاداً للعقل والقلب والذوق. والصحافة الأدبية هي عنواننا في الشرق، فيجب أن تكون حروفها من عصارة العقول والقلوب، وتلك هي المزية الأصيلة للصحافة الأدبية في هذا الجيل
أنا هذا، وأنا، فقد كنت أحب أن يكون في الصحافة ميدان للتمرين، ولكن ما الذي يصنع الصحفيون وقد صارت الصحافة من الميادين الاقتصادية، والنضال في عالم الاقتصاد لا يفوز فيه إلا من يقدمون أجود الأصناف؟(392/40)
قلت لكم من قبل إن الكاتب الذي يعتمد على ماضيه كاتب مخذول، لأن القارىءيحكم على الكاتب بآخر مقال. ولمجلة الرسالة ماض جميل، ولكنها لا تعتمد عليه، وإنما تعتمد على ثروتها الجديدة في كل أسبوع، فاعرف ذلك أيها الأديب المنتظر. أعد نفسك لجهاد الأيام المقبلات. كتب الله لك العافية، ونجاك من جميع الأسواء؛ إنه قريب مجيب.
1 - الى الأستاذ سباعي بيومي
نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبيد عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن المبرد بمدرسة دار العلوم، فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء
وإلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف أن الشيخ سيد المرصفي لم تلاميذه يحفظون عهده الوثيق
وسنرى كيف تجيب، إن كنت في العدوان عللا ذلك الرجل العظيم من الأبرياء
زكي مبارك
بحث لا تجريح
عزيزي الأستاذ الزيات
بعد التحية. أرجو أن يتسع عدد الرسالة القادم لرد أطلعني عليه اليوم عبد الرحمن أفندي أيوب الطالب بدار العلوم على التعليق الذي نشر في عدد الرسالة الماضي على محاضرتي (أسلوب المبرد في كامله) ولك الشكر
السباعي بيومي
. . . مسألة المرحوم المرصفي لم تبلغ من الأمر ما وصف، وبفرض ذلك فمنذ متى كان المرصفي من المقدسين الذين لا تجوز تخطئتهم ولا نقدهم؟ وإذا كان لتقدمه في الزمن سلفاّ صالحاّ_كما يعبر الكاتب_مبرأ من العيوب، أفليس من باب أولى أن يكون المبرد تبعاّ لهذا القياس أصلح منه وأقوى لغة وأدباّ وعلماّكما هو الواقع، يزين كل هذا تواضع واعتراف(392/41)
بأن هذا أمر لا يعرفه إذا لم تكن له به سابقة علم، بينما يعبر المرصفي بقوله: (كذب المبرد في هذا)، و (المبرد في هذا كاذب) دون تورع عن هذا التعبير الجاف الجافي
إن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور؛ والمرصفي ذاته يسجل على نفسه هذا في كل ما كتب خاصة في مقدمة (رغبة الآمل وأسرار الحماسة)، وكأنه لا يعترف لأحد سواه بعلم من المتقدمين أو المتأخرين
والأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد؛ فهو قد كتب (تهذيب الكامل) من أكثر من عشرين سنة؛ ثم كانت طبعته الأولى سنة 1923. فهل يستطيع الزميل أن يريني مظاهر الأستاذية بعد أن يعلم أن الطبعة الأولى من رغبة الآمل كانت سنة 1930، وأن فهارس الكتاب وعناوينه تتفق إلى حد كبير مع تلك التي كان أستاذنا السباعي أول من نظمها في كتابه الذي سبق كتاب المرصفي بنحو سبع سنين. أم أن الأمر لا يعدو أسبقية الزمن فيحكم الزميل بهذه الأستاذية في سذاجة سطحية
إن الكمال العلمي لا يهتم كثيراّ بالتوافه، وإن السماحة الفكرية في دار العلوم تسمح بكل شيء إلا التهجم والنيل المستور بستار من الغيرة أو الحماسة للعلماء
عبد الرحمن أيوب
القصص
من أيام الصبا
للأستاذ محمود البدوي
كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .
وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداّ وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون(392/42)
حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .
كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .
كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياّ، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطىء دائماّ. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعا خصبا لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجها فاتناّ صبوحاّ من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .
فاذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم الشجية. . . حتى نبلغ الأجران، فتناخ الإبل، وتفك عنها أحمالها، وهي تهدر هديراّ قوياّكان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة. . .
فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد اتخذنا من ظلالها
جائزة بابا نويل
ذكرتني مقالة (ذوي السلطان) في بعض أعداد الرسالة الأخيرة بعظيم آخر من المتعاقلين المتعالين كنت مرؤوساّ له يوم نشرت ترجمتي لأقاصيص طاغور، وقد أهديت نسخة منها إليه بمحضر من بعض أصدقائه
قال وهو يتعالم: (طاغور هذا رجل عظيم)
قلت: (هو ممن حازوا جائزة نوبل)
وما كدت ألفظ بكلمة نوبل حتى بدت عليه علائم خيبة الأمل فيً وقال في صوت شديد الدلالة على الأسف: (أو أنت أيضاّ تنطقها بالباء)(392/43)
قلت فما صحتها أفادنا الله بعلمك؟ فقال هي جائزة بابا نويل وقد حذفت كلمة بابا على سبيل التخفيف، ثم شاعت كلمة نوبل من باب التحريف
قلت أفادكما الله! وما أحسب الحائزين لجائزة نوبل إلا فرحين مبتهجين لو ردت إليهم الطفولة فاستبدلوا بالجائزة هدية من هدايا بابا نوبل
وانصرفت مع أحد الذين حضروا الحديث، فقلت له ما رأيك فيما سمعت؟
قال: العلم واسع
قلت: والجهل أوسع
عبد اللطيف النشار
وأوكارها أعشاشاّ لغرامنا. كان كل شيء في تلك الساعات النزقة اغتصاباّ وقسوة. كانت لنا الساعة التي نحن فيها، لم نكن نفكر في المستقبل، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضي. كنا نطوي الشهور في المزارع بين الرياض والغياض، ولا نرى منازلنا إلا نادراّ. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة وحيويتنا العظيمة بين الجدران. كنا كالأعشاب البرية وهي تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ونستقبل بصدورنا ندى الفجر، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضي تلك الغريزة الفطرية في الإنسان
كنا مسلحين دائماّ حول أجسامنا أنطقة البارود، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين في سواده، صوبنا بنادقنا في كبد الفضاء، وأطلقنا النار وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهي تخترق حجب الظلام الكثيف، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود. . .
كانت تلك الليالي من أمتع ليالي حياتنا، وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة. . . كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى
رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ونحن جالسون في هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة، والظلام من حولنا شديد، والمكان موحش رهيب. . .
وكان جرن كبير من الأجران قد ذرىً وأعد قمحه للمخازن. وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوي فحمة الليل، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل. . .(392/44)
أوقدنا النار، وشربنا الشاي، ولمعنا البنادق وملأنا خزاناتنا بالرصاص
وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة، فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية. . .
ونهض أحدنا، وكنا مستغرقين في الحديث فلم نشعر بغيابه. . .، وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة. . . ثم ومض البارود، وأز الرصاص، وملأ الدخان عنان الجو، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التي سمعنا منها صوت الطلقات. . . ثم خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية. . .
وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب، وأخذ نباحها يقترب منا. . . ثم برز شبح في الظلام، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم. . . فرد علينا اسماعيل (أحد رفاقنا) بصوت أجش. . . واقترب منا وهو يلهث، ووجهه يتصبب عرقاّ، وغدارته تفوح منها رائحة البارود. . .
فصحنا في صوت واحد
- وهل أصبت. . .؟
- لا ولله الحمد. . . وإنما كدت أن أقتل. . . وكل ذلك بسبب هذين الملعونين. . .
واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين
_ لن ترافقني مرة أخرى يا مسعود!
فسأله رفيق له:
_ هل مررت على القرية؟
فأجاب في إيجاز متعمد:
_ أجل. . .
_ وهل كان من الضروري ذلك في هذه الساعة من الليل. . .؟
_ أجل. . . كنت في حاجة إلى تبغ. . .
_ أكنت في حاجة إلى تبغ أم كنت في حاجة إلى شيء آخر. . .؟
فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقاّ بفعلته. . .
وسأله أحدنا مازحا:(392/45)
_ أكنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس؟. . . هكذا والله هي الحراسة. . .
وضحكنا جميعاّ، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل، وجلس اسماعيل ناحية، وأخذ يمسح بندقيته، وعلى وجهه سمات من ارتد خائبا بعد جهاد طويل
وسأله أحدنا:
_ ولكن لماذا أطلقت النار. . .؟
_ أنا لم أبدأ بإطلاق النار، وإنما هم الذين بدأوا. . .
_ هم. . .! من هم. . .؟ من الذي أطلق عليك النار. . .؟
_ بصر بي بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنوني لصاّ. . . وكنت على قيد أذرع من خبائها. . . فأطلقوا النار في الهواء. فغبت في جوف الظلام وأطلقت طلقتين معاّ. . وجريت. . . وحلت لي هذه المطاردة وتصورت نفسي لصاّ يبغي السرقة لا مخلوقاّ دنيئاّ يسطو على خباء امرأة في غلس الليل وتحت ستاره! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة. فظنوني عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هارباّ
_ ما كان أحلاها قتلة. . .!
_ أجل والله ما كان أحلاها قتلة. . . وما كان أطيب وقع النعي على نفسها. . .!
وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة وكان أشد رفاقنا بطشاّ وأعظمهم قوة:
_ أي مشقة يلقاها الرجل دائماّ وهو في طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزجر. . .!
وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ. . . والابتسامة لا تبارح وجهه القوي التعابير الدقيق الملامح. . . ثم أجاب على سؤاله بنفسه:
_ لماذا؟ أجل لماذا؟ ألأن ركوب الصعب من الأمور دائماّ شائق، أم لأن الاستيلاء على ما في حوزة الناس فيه إمتاع ولذة؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها. . . أي موقف حرج. . . دفعت نفسك فيه. . . وأي مصيدة؟ أنا أعرف أن المرأة هي علة الشقاء الإنساني. . . كما أنها قد تكون علة هنائه أيضاّ. . . ذكرتني أيها الأخ الشهم. . . بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان؛ بيد أني أشعر برغبة قوية تدفعني إلى أن أقصه عليكم. . .(392/46)
فسررنا وتوقعنا في حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى انبلاج الصبح
ونظرنا إليه في شوق ولهفة، وكان قد أطرق، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاّ، ثم لانت ملامح وجهه. وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات:
_ كنت في التاسعة عشرة من عمري وفي أول دراستي العالية، وكان قد مضى عليً سبعة أعوام في القاهرة قضيت جانباّ منها مع بعض أقربائي، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التي تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهاليهم. . . وكنت دائماّ أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق وأقمت مرة مع سيدة أجنبية، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة. وكان زوجها يعمل سحابة النهار وجزءاّ كبيراّ من الليل، وكنت أرجع من المدرسة في الساعة التي يكون فيها الرجل قد عاد من عمله. . . ولهذا ما كنت أراه إلا نادراّ. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع، طيبة الأخلاق؛ فأخذت تعني بي عناية فائقة: ترتب غرفتي، وتنظم كتبي، وترتق ملابسي الممزقة وتعمل لي أكثر مما تعمل لزوجها. وكانت تحب أن ترى ما في القاهرة من حسن، فزرنا معاّ أجمل الضواحي وأنضر البساتين، وهي تزداد بي كل يوم تعلقاّ وألفة، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتي من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله، وأصبحت ألج عليها غرفتها في أي وقت، وأراها على أي حال تكون عليه. . .
ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا في منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا في حلم جميل. . .
رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر فلم أجد السيدة في ردهة البيت كعادتها، وكنا في قلب الصيف، والحر شديد فتمددت عل فراشي ونمت. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب. . . فنهضت من فراشي ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها موارباّ فأدركت أنها نائمة
وحركت بابها برفق. . . ودخلت وعيني على السرير. . . فوجدت جسماّ ممدداّ ملتفاّ في ملاءة بيضاء. . . وحلى لي أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك. . . فتحولت إلى خصرها ودغدغتها. . . ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم. . . وتحرك الجسم أخيراّ وانزاحت(392/47)
الملاءة. وظهرت مقدمة رأس. . . رأس صلعاء. . .!
فذهلت وسمرت في مكاني مبهوتاّ
_ كان وجه زوجها. . .؟
_ أجل. . .
فانفجرنا ضاحكين. . . ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه
_ كان موقفاّ حرجاّ. . . فشدهت. . . ووقفت ذاهب النفس وجسمي يتصبب عرقاّ. ثم رأيت نفسي أقول في غضب بصوت المحموم:
_ سأغادر الغرفة يا سيدي. . .!
فنظر إلى الرجل دهشاّ. . . وقال وهو يصعد في بصره:
_ ستغادر الغرفة! ما السبب يا سيدي! ما الذي جرى؟
_ أثاث الغرفة رث. . . ثم هي بعد ذلك متناهية في القذارة
_ كيف ذلك يا سيدي وقد جئنا لك بكل شيء جديد؟
_ أبداّ إنها غاية في القذارة
وتدفق من فمي كلام لا أعرف له مرمى وكان لا بد من ذلك لأنجو بأعصابي
وعدت إلى غرفتي وأنا لا أكاد أتصور شيئاّ مما حدث، ولازمتني حالة من الهدوء غريبة. . . ثم لبست ملابسي وخرجت إلى الطريق. . . وهنا عادت إليً الخواطر وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ويدرك أني كنت متهجما على مخدع زوجه. . . وواضعاّ يدي على سريرها. . . وجسمها. . .!
وظللت جزءاّ كبيراّ من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل أو إيفاد صديق ليجيء لي بمتاعي وكتبي. . . ثم رأيت الرأي الأول واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث. . وكان الزوجان قد ناما. . . وبقيت أساهر النجم حتى الصباح. . .
ورأت الزوجة في اليوم التالي جالسة تقرأ في كتاب على أريكة في الردهة. . . فمررت بها وأنا أذوب خجلاّ. . . وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بيني وبين زوجها، فقد كانت تبتسم في مرح. . . فغاظني هذا وبلغ مني الألم مبلغه
وقضيت بعد ذلك أياماّ في البيت ونظري لا يقوى على مجابهة الرجل، وكان يغيظني منه(392/48)
بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاّ هائلاّ من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاّ لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوإ الفروض
وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداّ. . . تركتها فخلفاّ فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية
ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاّ بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعا!
وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراّ. . .
وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراّ شديداّ يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناّ كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامنا رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراّ أسود فاحماّ. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .
وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاّ في عنقه مزماراّ طويلاّ. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاّ، ثم كمنا(392/49)
في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتيء طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت المزمار سكن أيضاّ واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكاننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك
ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى
وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماّ، أما الآخر فكان يحمل شيئا ّآخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا
وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاّ سعيداّ طروباّ، فيعصر الهم أفئدتنا
ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاّ عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاّ. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر
محمود البدوي(392/50)
من وراء المنظار
2 - صاحب السلطان الحقيقي
قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعاً ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلساً من مجالسه ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصاً إنساني كل متعة وحقر في نفسي كل فرجة فأعددت منظاري وظللت أنتظر بصبر فارغ وشوق نازع حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور وهو يفضي إلي بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة
وتفضل الرجل فدعا شاباً من ذوي قرباي كان معي فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ. وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلئ رأسه بفلسفة الفلاسفة. ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظاراً مثل منظاري، أو لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الإغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس
وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعاً متهللة مستبشرة(392/51)
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعاً وقوفاً لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكئ على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعاً أسهل عليً من أن ألثم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناً في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنستريح في جلستنا في ملابسنا الإفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيفانه، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعاً وفي وجهه الراحة والضيق معاً، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال: (هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . إيه نصف ريال ولا نصف جنيه ولا حاجه فارغة زي دي. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداً. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفاً ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراً بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن(392/52)
يدعى عمر كرة أخرى. فهب الشيخ واقفاً من فوره، ففطنت أنه لن يطيق أن يسمع اسماً من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الظن من صحة فاتسق لي القياس كل مرة
وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئاً فشيئاً على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!. . .
ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام ليله مستريحاً، وتناول الشيخ ورقاً وقلماً وخط له حجاباً وصرفه فخرج الرجل فرحاً مطمئناً. ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين وأنه يتحرق شوقاً إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئاً، وطلب الشيخ منه منديلاً فلم يجد معه شيئاً فأخذ طاقيته ووضعها في حجره وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام. . .
ودخلت امرأة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد عليه الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة؛ ودخلت بعدها غيرها تستجير ببركة الشيخ، فإن ابنتها يرتعد جسدها الملتهب وتمسكها (الملعونة) حتى ما تفارقها؛ وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشاً، وبصق فيه الشيخ بصقه على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل، وكم تمنيت لو قفزت من مكاني فحطمت ذلك الوعاء وأسلت بركته على رأس الشيخ!
ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني. وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطرحوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما فعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم يضربه. فاستجار الفتى بالنبي، فألقى الشيخ العصا وهم واقفاً، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم(392/53)
مصدر علمه اللدني العجيب
وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معاً أنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أشك أن الشيخ قد أفسد عليّ بكراماته سحره، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو إوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم. وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعاً أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذها الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل المصاغ المسروق!
وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلي صاحبي وقال في لهجة عجيبة: (وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟) ونهض الشيخ واقفاً فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى (حلقة ذكر) وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسى الناس أنفسهم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!
وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة (بهلوان)؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين وأكل العيش سهل. يا سيدنا الأفندي البيضة كانت موجودة في جيب صاحبنا غير الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة. . . دا شغل إحنا عارفينه، وبكرة يا ما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد. وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه(392/54)
الخفيف(392/55)
العقد الفريد
للأستاذ محمد سعيد العريان
بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان
(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراً من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)
يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبيين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ
على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاً إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاً بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراً من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لا يغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك من ينظر فيه أن يجزم بأنه لم يغادر شيئاً مما يهم الباحث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني بـ (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد مؤلف هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباً من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاً من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عبد(392/56)
ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد
وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاً إليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظر إلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفي على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب - توفي سنة 808 هـ، كان معروفاً لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب مناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه
ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراً مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره(392/57)
الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاً منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء
على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجتمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز عليه ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع. ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق
ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة
يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء(392/58)
وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟
انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟
لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه - للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضاً نظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روى من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية
على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراً أو قليلاً بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشارقة.
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان(392/59)
الشروق. . .
(مهدأة إلى (الرسالة) عروس المشرق في صباح عيدها
التاسع)
للأستاذ محمود الخفيف
شدَّ مَا ذَكَّرَ قَلْبِي الْفَرَحَا ... مَوْلِدُ النُّورِ عَلَى الأُفْقِ الْبِعيدِ
كَمْ هَفاَ الْقلْبُ إليه وَصَحَا ... وَاجْتَلَى في الشَّرْقِ هَذا الوَضحَا
وَرَأَى في كلَّ رُكْنٍ بَسْمَةً
حُلْوَةً تُهْدَي إلي الصُّبْحِ الوَليد
في شِعَابِ النَّفْسِ أَلْقَي الاْبِتسَامَا ... فَلَقٌ هِمْتُ بِمَسرَاهُ الَمدِيدِ
زِدْت مَا دُرْتُ بِعَيْنيَّ هُيَامَا ... بِسناً يَا حُسْنَهُ إذ يَتَرَامَى!
لَمَحَاتٌ كابْتِسَامَاتِ الْمُنَى
وَرُؤًى مِثْلُ رُؤَى الُحْلمِ السَّعِيد
السَّنَا الوَرْدِيَّ حَوْلَ الأُفُقِ ... ذَابَ في فَيْضٍ من النُّورِ جَدِيدِ
ملْءُ نَفْسِي سْحرُ هَذا الشَّفَقِ ... أَلَقٍ أَجْمِلْ بِهِ مِنْ أَلَقِ
أَمْسِ كَمْ كَانَ لِرُوحي مَنْهَلاً
قَبْلَ هَذا الثُكْلِ في قَلْبِي الشَّهِيدِ
رَفَّ قلبِي للسَّنَا الُمنْسَكِبِ ... في جَنَاب أخضر الزَّرْعِ رَغِيدِ
رَمَتْ الشمْسُ خُيُوطَ الذَّهَبِ ... فَجَرَتْ فَوْقَ رَفِيفِ العُشُبِ
نَهَلَتْ عَيْنَايَ مِنْ بَهْجَتِهَا
آه! كَمْ طُفْتُ بهَا غَيْرَ وَحِيدِ
وَنَسِيمٍ عَبْهرِيٍ خَفِقِ ... سَرَقَ الْعِطْرَ مِنَ الزَّهْرِ النَّضِيدِ
عَبِقَتْ أَنفْاَسُهُ فِي الْغَسَقِ ... وَسَرَتْ فِي صُبْحِهِ الْمُؤْتَلِقِ
رَاحَ يَسْتَافُ فُؤَادِي عِطْرَهُ
هَاتفِاً فِي خَفْقِهِ هَلْ مِنْ مَزِيدِ؟(392/60)
لألأ النورُ رُؤُوسَ الشَّجَرِ ... فِي انْهِلاَلٍ بَالِغ الْحُسْنِ فَرِيدِ
وَوَمِيضُ الطَّلَّ فَوْقَ الزَّهَرِ ... زَادَ حَوْلِي عَبْقَرِيَّ الصُّوَرِ
مُجْتَلّى صَلَّيْتُ فِي مِحْرَابِهِ
حَالِمَ النَّظْرَة صُوفِيَّ السُّجُودِ
سَاجِعَاتُ الأَيْكِ فِي أَلْحَانِهَا ... فَرْحَةٌ مَرَّتْ عَلَى قَلْبِي العَمِيدِ
المِرَاحُ الْحَقُّ فِي تَحْنَانِهَا ... وَهَنِيٌء الْعَيْشِ فِي أَفْنَانِهَا
سَجَعَاتُ لَمْ تَشُبْهَا كُدْرَةٌ
بَدَأَتْ فِي مَوْلِدِ الدَّهْرِ الأَبِيدِ
أَيْقَظَ الْغَافِينَ نُورُ المشْرِقِ ... حَبَّذَا يَقْظَتُهُمْ بَعْدَ هُمُودِ
أَنَا مَا بَيْنَ خَيَالٍ مُونِقِِ ... مِلَْء نَفْسِي وَنَهَارٍ مُشْرِقِ
لُمَعٌ فِي الشَّرْقِ يُوحِي نُورُهَا
لِفُؤَادِي مِن أَحَادِيثِ الْخُلُودِ
مَطْلَعُ النُّورِ شَجَانِي نُورُهُ ... وَجَلاَ لِلنَّفْسِ مَوْمُوقٌ العُهُودِ
أَجَمَلُ البِشْرِ لِنَفْسِي ذِكرُهُ ... أَبَداً يُبْهِجُ رُوحِي سِحْرُهُ
كَمْ بَعَثْتُ النَّفْسَ فِي آفَاقِهِ
كلَّما ضَاقَتْ عَلَى نَفْسِي قُيُودِي
فِي فِجَاج الشَّرْقِ أَطْوي الأَعْصُرا ... مِنْ زَمَانٍ شَامِخِ العِزِّ وَطِيدِ
إِبْتَنَي الْمَجْدَ بِهِ عَالِي الذُّرَى ... سَادَةٌ كَانُوا كآسَاد الشَّرَى
شَدَّ مَا يَمْلأُ نَفْسِيَ كبْرَةً
أَنْ أُغَنِّي بِالمَيَامِين الأُسُودِ
دَوْلَة الفَارُوقِ هَزَّتْ خَافِقِي ... وَازْدَهَانِي الْمُلْكُ فِي دَارِ الرَّشِيِدِ
أَتَأَسَّى بِجِلاَلٍ صَادِقِ ... كلَّمَا ضِقْتُ بِشَكٍ طَارِقِ
فِي غَدٍ يُوقِظ فِتْيَانَ الْحِمَى
وَمَضَاتُ الوَحْيِ مِنْ مَجْدٍ تَلِيدِ
آذَنَ الْمَشْرِقُ بَعْدَ الْغَلْسِ ... بِصَبَاحٍ دَافِقِ النورِ جَدِيدِ(392/61)
لاَحَ لِي مِنْ فَجْرِهِ المنْبَجِسِ ... لَمْحُ نُورٍ لَيْسَ بالمُحْتَبسِ
إِيهِ كَمْ أَبْهَجَنِي مِنْ نُورِهِ
مَوْلِدٌ هَلَّ عَلَى الأُفْقِ الْبَعِيدِ!
صُغْتُ هَذا الشِّعْرَ مِنْ غُرَّتِهِ ... وَتَغَنَّيَتُ بِهِ حُلْوَ النَّشِيدِ
مِنْ سَنَا الشَّرْقِ وَمِنْ رَوْعَتِهِ ... وَمَعَانِي السِّحْرِ مِنْ فِتْنَتِهِ
وَالوِضَاءِ الْغُرِّ مِنْ أيامهِ
وَحْيُ (إِلْيَادِي) وَأَلْحانُ قَصِيدِي(392/62)
إلى (الرسالة) الغراء
في عامها التاسع
للأديب إبراهيم محمد نجا
أقبلي كالربيع يخطر في الكو ... ن، فتهتز زهرة الأيام
أقبلي كالشباب يشرق في النف ... س فتشدوا عرائس الأحلام
أقبلي كالسرور، كالنشوة البي ... ضاء أو كالشفاء بعد السقام
أقبلي كالنسيم رقرقه الفج ... رُ، فغنَّى بأعذب الأنغام
أقبلي كالنمير يسكبه النَّبْ ... عُ فتروى به القلوب الظوامي
كأغاني الطيور، كالأمل البا - سم، أو كالضياء بعد الظلام
كالأصيل الجميل كالشفق الحا ... لم كالفجر كالضحى البسام
كالندى في الزهور كالعطر في الأن ... فاس كالبدر في ليالي الغرام
أقبلي كالسلام بعد حروب ... طال فيها تناحر الأقوام
يا ابنة النيل إن في مصر نوَّا ... ما، فهزِّي مضاجع النوَّام
وامسحي عنهم الفتور، يهبوا ... هبَّة الأسْد روِّعت في الموامي
واسكبي في النفوس بلسمك الشا ... في، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام
إنما أنت قَبْسة من ضياء الل ... هـ يهدي بها قلوب الأنام
إنما أنت يقظة بعد نوم ... وبلوغ المنى، ونيل المرام
ونعيم في العيش بعد شقاء ... وصفاء في الأفق بعد قتام
ووثوب إلى الأمام إلى الغا ... ية بعد النكوص والإحجام
وصعود إلى السماء إلى الذر ... وة بعد الحياة تحت الرغام
إنما أنت صرخة الحق في الشر ... ق، وبعث لعزة الإسلام
إنما أنت رجعة البطل الظا ... فر من ساحة الوغى والصدام
إنما أنت عودة النور والآ ... مال، بعد الظلام والآلام
لك في الشرق يا ابنة النيل ذكرٌ ... ومقام أَعْظِمْ به من مقام(392/63)
في فلسطين كم أسوت جراحا ... ت وكفكفت من دموع سجام
ذدت عنهم أذى المغير بقول ... يتلظى لهيبه المترامي
ولو اسطعت غيره ذدت عنهم ... بشبا الرمح، أو بحد الحسام
في فلسطين! أين ما كان في مص ... رَ، وأرض العراق أو في الشَّام؟
قد ربطت القلوب بعد انفصامٍ ... وجمعت الصفوف بعد انقسام
وزرعت الآداب في شاطئ الني ... ل، ورؤيتها بماء الغمام
فزكا أصلها، وطابت فروعاً ... وتباهت بزهرها البسام
واستوت تحت ظلها لغة الدِّي ... ن، وقامت على أعز دعام
وحميت الأخلاق من سطوة الشرْ ... رِ، وَبغْى الهوي، وجهل الطَغام
وجمعت الشباب في ظل نبع ... عبقري الرؤى، طهور، سام
رفرفت فوقه الأماني، وغنت ... في رباه عرائس الإلهام
وهفت نحوه المواكب شتى ... تتشكَى مما بها من أُوَام
فاسكبي في النفوس من نبعك العذ ... ب، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير، وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام
واهزئي بالفناء يا زهرة الني ... ل، وعيشي على مدى الأعوام
وَابسمي للخطوب إن عبس الدَّهْ ... رُ، ولا تعبئي بكيد الخصام
ولك الحق غاية وطريق ... وإمامٌ. . . أنعم به من إمام
ولك الله ناصر ومعين ... وهْو نعم النصير، نعم الحامي
(طنطا)
إبراهيم محمد نجا(392/64)
البريد الأدبي
1 - متى ينضج الأديب؟
من قراء (الرسالة) شاب يقيم بإحدى قرى المنوفية، وهو شاب يشتعل حماسةً لأدبه، ويؤمن بأنه مظلوم أقبح الظلم، لأن (الرسالة) لا تلتفت إلى ما يرسل إليها من القصائد الجياد
كتب إليً هذا الشاب منذ شهرين خطاباً يشرح فيه تغافل الأستاذ الزيات عن فنه الجميل، وكان خطابه قطعة نثرية مقبولة، فرجوت أن يكون شعره مثل نثره، ودعوته إلى إرسال إحدى قصائده (لأتوسط) في نشرها بالرسالة، فجاءت منه قصيدة طويلة تشهد بأنه بعيد من الصياغة الشعرية، وإن كان على شيء من قوة الإحساس. . . وكانت النتيجة أن أشارك هذا الشاب في حقده على الأستاذ الزيات لتغافله عن القيمة (الصحيحة) لأشعار المبتدئين!!
وفي هذا اليوم تلقيت خطابين من هذا الشاب يفيضان بالتوجع والتفجع، وينذران بخاتمة أليمة، إن قصًرت في تشجيعه على نشر ما يريد. والخواتم الأليمة معروفة، وأخفها أن يحبس الشاب نفسه في قرار النيل إلى يوم البعث، بعث الأشعار والأجساد!
وقد تفضل هذا الشاب بإرسال صورته إليً، فقد تبخل الأقدار بأن أراه، وعندئذ تكون هذه الصورة مبعث ندم مقيم على ما ضيعت عليه من فرص التشجيع!
وأجيب بأن لهذا الشاب أن يقتل نفسه حين يشاء، ما دام يتوهم أن الحياة كل الحياة أن ينشر قصيدة في إحدى المجلات، وإن لم يصل إلى النضج الصحيح
لقد قلت ألف مرة ومرة: إن التسامح مع المبتدئين جرم فظيع، لأنه يهوًن عليهم الحياة الأدبية، ويوهمهم أن الأدب لا يفرض على أصحابه تكاليف من الدراية والخبرة والاطلاع على أسرار الوجود
اسمع. يا بني
تنقسم الأخشاب إلى أنواع: خشب للوقود، وخشب للسقوف، وخشب للنوافذ والأبواب، وخشب لدقائق الأثاث، والنوع الأخير هو أثمن الأخشاب فهل تعرف أعمار هذه الأصناف؟
تتفاوت أعمارها بحسب القيمة، فمن الأخشاب ما ينضج في خمسة أعوام، ومنها ما ينضج في خمسين عاماً، لأن الطبيعة لا تقدر على إنضاج الصنف الجيد إلا في الأزمان الطوال
فكم سنك، يا بني؟ كم سنك، فلن تكون قيمتك إلا بقدر ما أنفقت الطبيعة من الزمن في(392/65)
تكوين عقلك؟
صورتك تحدثني بأنك لم تجاوز العشرين؟ فهل تصدًق أن الأدب الجيد يتمً لأحد في سن العشرين، تلك أيام خلت، حين كان جمهور الشاعر والخطيب من عوامً الناس، أما اليوم فجمهور الشاعر والكاتب والخطيب، جمهور مزوًد بثقافات لا تخطر لمن كان في مثل سنك على بال، وهو جمهور لا يتصدق على أحد بالمنازلة الأدبية، وإنما يخضع راغماً لسيطرة العبقريين، أو شهرة النوابغ، فانتظر حظك إن استمعت قولي وأجلت توديع الحياة إلى أجل بعيد
وتقول إنك تحب، وإن لك عواطف تستحق التسجيل
فما أنت والحب، وهو من مثلك أشبه الأشياء بعبث الوليد؟
الحب من مثلك فوره سطحية لا تصل إلى أعماق الروح، لأن الحب أيضاً يفرض ألواناً من التثقيف، وهي عزيزة عليك، لأنك في سن العشرين، سن الأطفال، فإن لم يكن بد من أن تعبر عن عواطفك فعبًر عنها بأسلوب من يكون في سنك، وذلك بعض الأنامل، أو نطح الجدران، أو الامتناع من تناول الغداء!!
اسمع، يا بنيً
لعلك خدعت بما كان يقال من بخل الكهول بتشجيع الشباب، فجئت تتهم صاحب (الرسالة) بالتجني عليك، فاعرف الآن أن ذلك اتهام مردود، وإنما الحق كل الحق أنك لم تقدم شيئاّ يحسن عرضه على القراء، فأنت ما زلت في دور التكوين، إلا أن تريد أن يكون عمر مواهبك قريباً من عمر خشب الوقود، وهذا أيضاً أنواع، فخشب السنط يحتاج إلى عمر أطول من عمر الصفصاف، ليكون أقوى وأنفع، والقوة والنفع لا يوهبان في الزمن القليل
يجب أن يعرف شبان اليوم أن الصحافة الأدبية ليست ميداناً للتمرين، فالقارئ لا يدفع (القرش) إلا إذا اطمأن إلى أنه سيجد زاداً للعقل والقلب والذوق. والصحافة الأدبية هي عنواننا في الشرق، فيجب أن تكون حروفها من عصارة العقول والقلوب، وتلك هي المزية الأصيلة للصحافة الأدبية في هذا الجيل
أقول هذا، وأنا آسف، فقد كنت أحب أن يكون في الصحافة ميدان للتمرين، ولكن ما الذي يصنع الصحفيون وقد صارت الصحافة من الميادين الاقتصادية، والنضال في عالم(392/66)
الاقتصاد لا يفوز فيه إلا من يقدمون أجود الأصناف؟
قلت لكم من قبل إن الكاتب الذي يعتمد على ماضيه كاتب مخذول، لأن القارئ يحكم على الكاتب بآخر مقال. ولمجلة الرسالة ماض جميل، ولكنها لا تعتمد عليه، وإنما تعتمد على ثروتها الجديدة في كل أسبوع، فاعرف ذلك أيها الأديب المنتظر. أعد نفسك لجهاد الأيام المقبلات. كتب الله لك العافية، ونجاك من جميع الأسواء؛ إنه قريب مجيب.
2 - إلى الأستاذ سباعي بيومي
نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبيد عن كلام وقع منك وأنت تحاضر عن المبرد بمدرسة دار العلوم، فقد تحدثت عن أخلاق الشيخ سيد المرصفي بما لا يليق، فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاء على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يتعرض لأخلاق الشيخ سيد المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء
وإلى أن يثبت أن الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك، فقد كنت أظن أنك تعرف أن الشيخ سيد المرصفي له تلاميذه يحفظون عهده الوثيق
وسنرى كيف تجيب، إن كنت في العدوان على ذلك الرجل العظيم من الأبرياء
زكي مبارك
بحث لا تجريح
عزيزي الأستاذ الزيات
بعد التحية. أرجو أن يتسع عدد الرسالة القادم لرد أطلعني عليه اليوم عبد الرحمن أفندي أيوب الطالب بدار العلوم على التعليق الذي نشر في عدد الرسالة الماضي على محاضرتي (أسلوب المبرد في كامله) ولك الشكر
السباعي بيومي
. . . مسألة المرحوم المرصفي لم تبلغ من الأمر ما وصف، وبفرض ذلك فمنذ متى كان المرصفي من المقدسين الذين لا تجوز تخطئتهم ولا نقدهم؟ وإذا كان لتقدمه في الزمن سلفاً صالحاً - كما يعبر الكاتب - مبرأ من العيوب، أفليس من باب أولى أن يكون المبرد تبعاً(392/67)
لهذا القياس أصلح منه وأقوى لغة وأدباً وعلماً كما هو الواقع، يزين كل هذا تواضع واعتراف بأن هذا أمر لا يعرفه إذا لم تكن له به سابقة علم، بينما يعبر المرصفي بقوله: (كذب المبرد في هذا)، و (المبرد في هذا كاذب) دون تورع عن هذا التعبير الجاف الجافي
إن الأستاذ السباعي لم يقل عن المرصفي إلا أنه كان يملكه الغرور؛ والمرصفي ذاته يسجل على نفسه هذا في كل ما كتب خاصة في مقدمة (رغبة الأمل وأسرار الحماسة)، وكأنه لا يعترف لأحد سواه بعلم من المتقدمين أو المتأخرين
والأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد؛ فهو قد كتب (تهذيب الكامل) من أكثر من عشرين سنة؛ ثم كانت طبعته الأولى سنة 1923. فهل يستطيع الزميل أن يريني مظاهر الأستاذية بعد أن يعلم أن الطبعة الأولى من رغبة الأمل كانت سنة 1930، وأن فهارس الكتاب وعناوينه تتفق إلى حد كبير مع تلك التي كان أستاذنا السباعي أول من نظمها في كتابه الذي سبق كتاب المرصفي بنحو سبع سنين. أم أن الأمر لا يعدو أسبقية الزمن فيحكم الزميل بهذه الأستاذية في سذاجة سطحية
إن الكمال العلمي لا يهتم كثيراّ بالتوافه، وإن السماحة الفكرية في دار العلوم تسمح بكل شيء إلا التهجم والنيل المستور بستار من الغيرة أو الحماسة للعلماء
عبد الرحمن أيوب
جائزة بابا نويل
ذكرتني مقالة (ذوي السلطان) في بعض أعداد الرسالة الأخيرة بعظيم آخر من المتعاقلين المتعالين كنت مرؤوساً له يوم نشرت ترجمتي لأقاصيص طاغور، وقد أهديت نسخة منها إليه بمحضر من بعض أصدقائه
قال وهو يتعالم: (طاغور هذا رجل عظيم)
قلت: (هو ممن حازوا جائزة نوبل)
وما كدت ألفظ بكلمة نوبل حتى بدت عليه علائم خيبة الأمل فيّ وقال في صوت شديد الدلالة على الأسف: (أو أنت أيضاً تنطقها بالباء)
قلت فما صحتها أفادنا الله بعلمك؟ فقال هي جائزة بابا نويل وقد حذفت كلمة بابا على سبيل(392/68)
التخفيف، ثم شاعت كلمة نوبل من باب التحريف
قلت أفادكما الله! وما أحسب الحائزين لجائزة نوبل إلا فرحين مبتهجين لو ردت إليهم الطفولة فاستبدلوا بالجائزة هدية من هدايا بابا نويل
وانصرفت مع أحد الذين حضروا الحديث، فقلت له ما رأيك فيما سمعت؟
قال: العلم واسع
قلت: والجهل أوسع
عبد اللطيف النشار(392/69)
القصص
من أيام الصبا
للأستاذ محمود البدوي
كنا خمسة. . . خمسة من الشبان المتمردين على الجماعة والخارجين على حدود الناس، والذاهبين مع مرح الشباب ولهوه. . . كنا قد انقطعنا عن المدرسة، وتخلفنا عن الرفاق، وسرنا مع نزق الشباب وطيشه، فطردنا من الأهل وحرمنا من الصحب، وتقطعت بنا الأسباب. . . وذهبنا على وجوهنا نبغي العيش من التصعلك والتشرد وركوب متن الأهواء. . . ثم ارتددنا على أعقابنا، وضمتنا القرية الحبيبة بعد طول شتات. . . فانطلقنا نعمل في الحقول ونشرف على حراسة المزارع. . .
وكانت الأيام المشردة قد مسحت ما على أجسامنا من غضارة المدينة ولينها، فالتفت سواعدنا واشتد عودنا، وأصبحنا أقوى ساعداً وأعظم قوة من هؤلاء الريفيين الذين يقضون حياتهم بين أحضان الطبيعة، ناعمين بالحياة الحرة، في الهواء الطلق، والجو المشمس. . .
كنا جالسين في حقل من حقول المزرعة وحولنا الأجران، والليل ضارب بجرانه والصمت رهيب. . . وكنا قد تأخرنا عن زمن الحصاد، فحرمنا بذلك من أمتع (أيام الصبا) ولهوه. . .
كنا نقف وراء صفوف الحاصدين ونرقب هذه السواعد القوية وهي تطوي سنابل القمح طياً، وخلفنا الفتيان الأشداء يكومون الأحمال وينيخون الإبل، ونساء الفلاحين يلتقطن السنبل الساقط، ويجمعن قوت الأيام السود. . . وكنا نزجر العجائز الدميمات منهن، وندع الصبايا الجميلات يتوغلن حتى الحقول. . . كانت أسواطنا تخطئ دائماً. . . ومع ذلك، فما قطعنا القلوب حسرات، ولا ندمنا على ما فرط منا من إثم. . . كنا ذاهبين مع الصبا بقلوب نزقة، لا نحسب لأوضاع الناس حسابا. نتخذ من عطلة الصيف وأيام الحصاد مرتعاً خصباً لشبابنا الجامح وعواطفنا الجائشة. . . ونظل النهار بطوله واقفين في قلب المزرعة تحت لفح الشمس، لا نكل ولا نمل، لأننا نرى في كل ساعة وجهاً فاتناً صبوحاً من تلك الوجوه القروية النضرة التي تستغرق الطرف، وإن كانت تعيش في ظلام الفقر وبؤسه. . .
فإذا أقبل العشى انطلقنا وراء الإبل المحملة بالقمح، وخلفها الجمالون يحدونها بأصواتهم(392/70)
الشجية. . . حتى نبلغ الأجران، فتناخ الإبل، وتفك عنها أحمالها، وهي تهدر هديراً قوياً كان يبعث فينا النشاط والحماسة والقوة. . .
فإذا تمت الأجران وعلت كالأطواد اتخذنا من ظلالها وأوكارها أعشاشاً لغرامنا. كان كل شيء في تلك الساعات النزقة اغتصاباً وقسوة. كانت لنا الساعة التي نحن فيها، لم نكن نفكر في المستقبل، ولا كانت عيوننا ترتد إلى الماضي. كنا نطوي الشهور في المزارع بين الرياض والغياض، ولا نرى منازلنا إلا نادراّ. كان من الصعب علينا أن نحبس قوتنا الدافقة وحيويتنا العظيمة بين الجدران. كنا كالأعشاب البرية وهي تنمو تحت أشعة الشمس على أتم غراس وأنضجه، نفتح سواعدنا عندما يشعشع النور ونستقبل بصدورنا ندى الفجر، ونود من قوة عضلاتنا لو نقاتل ونرضي تلك الغريزة الفطرية في الإنسان
كنا مسلحين دائماّ حول أجسامنا أنطقة البارود، فإذا أقبل الليل وضل إنسان العين في سواده، صوبنا بنادقنا في كبد الفضاء، وأطلقنا النار وأرسلنا عيوننا وراء سهام البارود النارية وهي تخترق حجب الظلام الكثيف، وملأنا خياشيمنا برائحة البارود. . .
كانت تلك الليالي من أمتع ليالي حياتنا، وكانت ذكراها تبعث فينا الحماسة والنخوة. . . كنا نذكرها وكأننا ننظر إلى حلم جميل ولى
رحنا نسترجع تلك الذكريات الحلوة ونحن جالسون في هذه الليلة الصيفية المظلمة على جرن عال يشرف على أجران المزرعة، والظلام من حولنا شديد، والمكان موحش رهيب. . .
وكان جرن كبير من الأجران قد ذُرِيّ وأعد قمحه للمخازن. وكان علينا أن نسهر عليه حتى تنطوي فحمة الليل، فأخذنا نتبادل الأحاديث الممتعة ونطرد النوم بكل الوسائل. . . أوقدنا النار، وشربنا الشاي، ولمعنا البنادق وملأنا خزاناتها بالرصاص
وكان ينهض واحد منا كل ساعة ومعه كلبان من كلاب الحراسة، فيدور حول المزرعة ويتفقد مرابط الخيل وحظائر الماشية. . .
ونهض أحدنا، وكنا مستغرقين في الحديث فلم نشعر بغيابه. . .، وسمعنا على غرة نباح كلاب شديد قادم من شرق المزرعة. . . ثم ومض البارود، واز الرصاص، وملأ الدخان عنان الجو، فنهضنا مسرعين واتجهنا إلى الناحية التي سمعنا منها صوت الطلقات. . . ثم(392/71)
خفنا أن تكون هذه حيلة بارعة لتبعدنا عن المزرعة، فعدنا إلى مكاننا وأعيننا لا تتحول عن سهام النيران الحامية. . .
وانقطع صوت النار وبقى صوت الكلاب، وأخذ نباحها يقترب منا. . . ثم برز شبح في الظلام، فصوبنا بنادقنا وهتفنا بالقادم. . . فرد علينا إسماعيل (أحد رفاقنا) بصوت أجش. . . واقترب منا وهو يلهث، ووجهه يتصبب عرقاً، وغدارته تفوح منها رائحة البارود. . .
فصحنا في صوت واحد
- هل أصبت. . .؟
- لا ولله الحمد. . . وإنما كدت أن أقتل. . . وكل ذلك بسبب هذين الملعونين. . .
واستطرد وهو يشير إلى واحد من الكلبين
- لن ترافقني مرة أخرى يا مسعود!
فسأله رفيق له:
- هل مررت على القرية؟
فأجاب في إيجاز متعمد:
- أجل. . .
- وهل كان من الضروري ذلك في هذه الساعة من الليل. . .؟
- أجل. . . كنت في حاجة إلى تبغ. . .
- أكنت في حاجة إلى تبغ أم كنت في حاجة إلى شيء آخر. . .؟
فصمت ولم يجب على أن وجهه كان ناطقاً بفعلته. . .
وسأله أحدنا مازحاً:
- أكنت تعس حول المزرعة أم كنت تسطو على بيوت الناس؟. . . هكذا والله هي الحراسة. . .
وضحكنا جميعاً، وعدنا إلى مكاننا الأول من الحقل، وجلس إسماعيل ناحية، وأخذ يمسح بندقيته، وعلى وجهه سمات من ارتد خائباً بعد جهاد طويل
وسأله أحدنا:
- ولكن لماذا أطلقت النار. . .؟(392/72)
- أنا لم أبدأ بإطلاق النار، وإنما هم الذين بدءوا. . .
- هم. . .! من هم. . .؟ من الذي أطلق عليك النار. . .؟
- بصر بي بعض الفلاحين عندما نبح هذا الكلب الملعون وظنوني لصاً. . . وكنت على قيد أذرع من خبائها. . . فأطلقوا النار في الهواء. فغبت في جوف الظلام وأطلقت طلقتين معاً. . وجريت. . . وحلت لي هذه المطاردة وتصورت نفسي لصاً يبغي السرقة لا مخلوقاً دنيئاً يسطو على خباء امرأة في غلس الليل وتحت ستاره! وبادلت الفلاحين الطلقات السريعة. فظنوني عصابة كاملة من الأشقياء ثم راوغت تحت جناح الليل ووليت هارباً
- ما كان أحلاها قتلة. . .!
- أجل والله ما كان أحلاها قتلة. . . وما كان أطيب وقع النعي على نفسها. . .!
وقال عثمان وهو يبتسم ابتسامة عريضة وكان أشد رفاقنا بطشاً وأعظمهم قوة:
- أي مشقة يلقاها الرجل دائماً وهو في طريقه إلى الرذيلة ومع ذلك لا يزدجر. . .!
وصمت برهة ليشعل لفافة تبغ. . . والابتسامة لا تبارح وجهه القوي التعابير الدقيق الملامح. . . ثم أجاب على سؤاله بنفسه:
- لماذا؟ أجل لماذا؟ ألان ركوب الصعب من الأمور دائماً شائق، أم لأن الاستيلاء على ما في حوزة الناس فيه إمتاع ولذة؟ ماذا كان يحدث يا صاح لو رآك زوجها. . . أي موقف حرج. . . دفعت نفسك فيه. . . وأي مصيدة؟ أنا أعرف أن المرأة هي علة الشقاء الإنساني. . . كما أنها قد تكون علة هنائه أيضاً. . . ذكرتني أيها الأخ الشهم. . . بحادث كدت أن أنساه فما تحدثت به لإنسان؛ بيد أني أشعر برغبة قوية تدفعني إلى أن أقصه عليكم. . .
فسررنا وتوقعنا في حديث صاحبنا مغامرة ممتعة نتسلى بها حتى انبلاج الصبح
ونظرنا إليه في شوق ولهفة، وكان قد أطرق، ثم رفع وجهه وقد غامت عيناه قليلاً، ثم لانت ملامح وجهه. وأنشأ يقول بصوت واضح النبرات:
- كنت في التاسعة عشرة من عمري وفي أول دراستي العالية، وكان قد مضى عليً سبعة أعوام في القاهرة قضيت جانباّ منها مع بعض أقربائي، ومضيت الجانب الآخر مع بعض الأسر الفرنجية التي تنزل عن غرفة من سكنها للطلاب البعيدين عن أهليهم. . . وكنت(392/73)
دائماً أتخير الأسر الهادئة الكريمة الخلق وأقمت مرة مع سيدة أجنبية، وكانت صبية جميلة وحديثة العهد بالقاهرة. وكان زوجها يعمل سحابة النهار وجزءاً كبيراً من الليل، وكنت أرجع من المدرسة في الساعة التي يكون فيها الرجل قد عاد من عمله. . . ولهذا ما كنت أراه إلا نادراً. وكانت الزوجة مع جمالها دمثة الطبع، طيبة الأخلاق؛ فأخذت تعني بي عناية فائقة: ترتب غرفتي، وتنظم كتب، وترتق ملابسي الممزقة وتعمل لي أكثر مما تعمل لزوجها وكانت تحب أن ترى ما في القاهرة من حسن، فزرنا معاً أجمل الضواحي وأنضر البساتين، وهي تزداد بي كل يوم تعلقاً وألفة، حتى توثقت بيننا عرى المودة وأصبحت تترقب عودتي من الجامعة أكثر مما تترقب عودة زوجها من عمله، وأصبحت ألج عليها غرفتها في أي وقت، وأراها على أي حال تكون عليه. . .
ومرت أيام وأنا لا أحس بوجود الزوج معنا في منزل واحد وأصبحنا من وفرة السعادة كأننا في حلم جميل. . .
رجعت مرة إلى المنزل ساعة الظهر فلم أجد السيدة في ردهة البيت كعادتها، وكنا في قلب الصيف، والحر شديد فتمددت على فراشي ونمت. واستيقظت قبل مغرب الشمس وهتفت باسمها فلم تجب. . . فنهضت من فراشي ومشيت نحو فسحة البيت فرأيت باب غرفتها موارباً فأدركت أنها نائمة
وحركت بابها برفق. . . ودخلت وعيني على السرير. . . فوجدت جسماً ممدداً ملتفاً في ملاءة بيضاء. . . وحلى لي أن أداعبها قبل إيقاظها فتقدمت من السرير حتى قربت منها وجذبت رجلها فلم تتحرك. . . فتحولت إلى خصرها ودغدغتها. . . ووقفت أرقب حركة جسمها وأنا لا أكاد أتماسك من مغالبة الضحك المكتوم. . . وتحرك الجسم أخيراً وانزاحت الملاءة. وظهرت مقدمة رأس. . . رأس صلعاء. . .!
فذهلت وسمرت في مكاني مبهوتاً
- كان وجه زوجها. . .؟
- أجل. . .
فانفجرنا ضاحكين. . . ولما هدأت عاصفة الضحك عاد الصديق إلى حديثه
- كان موقفاً حرجاً. . . فشدهت. . . ووقفت ذاهب النفس وجسمي يتصبب عرقاً. ثم(392/74)
رأيت نفسي أقول في غضب بصوت المحموم:
- سأغادر الغرفة يا سيدي. . .!
فنظر إلي الرجل دهشاً. . . وقال وهو يصعد في بصره:
- ستغادر الغرفة! ما السبب يا سيدي! ما الذي جرى؟
- أثاث الغرفة رث. . . ثم هي بعد ذلك متناهية في القذارة
- كيف ذلك يا سيدي وقد جئنا لك بكل شيء جديد؟
- أبداً إنها غاية في القذارة
وتدفق من فمي كلام لا أعرف له مرمى وكان لا بد من ذلك لأنجو بأعصابي
وعدت إلى غرفتي وأنا لا أكاد أتصور شيئاً مما حدث، ولازمتني حالة من الهدوء غريبة. . . ثم لبست ملابسي وخرجت إلى الطريق. . . وهنا عادت إليً الخواطر وأخذت أتصور الموقف على شناعته وحال الزوج بعد أن يرجع إلى نفسه ويدرك أني كنت متهجما على مخدع زوجه. . . وواضعاً يدي على سريرها. . . وجسمها. . .!
وظللت جزءاً كبيراً من الليل وأنا متردد بين العودة إلى المنزل أو إيفاد صديق ليجيء لي بمتاعي وكتبي. . . ثم رأيت الرأي الأول واتجهت صوب البيت وأنا مقدر كل الأحداث. . وكان الزوجان قد ناما. . . وبقيت أساهر النجم حتى الصباح. . .
ورأيت الزوجة في اليوم التالي جالسة تقرأ في كتاب على أريكة في الردهة. . . فمررت بها وأنا أذوب خجلاً. . . وتطلعت إلى وجهها فرأيته لا ينم على شيء مما حدث بيني وبين زوجها، فقد كانت تبتسم في مرح. . . فغاظني هذا وبلغ مني الألم مبلغه
وقضيت بعد ذلك أياماً في البيت ونظري لا يقوى على مجابهة الرجل، وكان يغيظني منه بروده وهدوءه وامتلاكه زمام أعصابه وكنت أتخيل أنه بلغ مبلغاً هائلاً من خبث الطوية وبراعة الحيلة وأرى في صمته تبييتاً لأمر في نفسه، وكنت أود لو يثور ويضاربني وتنتهي المعركة بيننا مع أسوأ الفروض
وجاءت عطلة العيد فبارحت الغرفة إلى الريف ولم أعد إليها بعد ذلك أبداً. . . تركتها مخلفاً فيها أمتعتي وكتبي. . . وهي تذكار دائم على أيام هنية
ولا زلت أرى المرأة وزوجها كلما ذهبت إلى القاهرة. . . وأغلب الظن أنهما لم يغيرا(392/75)
المنزل. . . كما أن الرجل لا يزال على حاله هادئاً بارد الطبع لا تعبر ملامح وجهه عن حزن أو فرح أو أي انفعال نفساني. . . أو عاطفة من عواطف الجنس البشري
أما المرأة فقد أصيبت بأزمة نوعاً!
وفرغ صاحبنا من قصته وانطلق يدخن، وعدنا نشرب الشاي، وكان الفجر قد قرب وبدت خيوط النور في الشفق، فدرنا حول المزرعة لآخر مرة، وكنا قد تعشينا في أول الليل، فلما دنا الفجر أحسسنا بجوع شديد وكان الطعام سيجيء إلينا عند الشروق ولا طاقة لنا على انتظاره فقد اشتدت علينا وطأة الجوع وأخذت بطوننا تعصرنا عصراً. . .
وبعثنا اثنين منا إلى حديقة كروم قريبة ليحملا لنا منها ما يمسك بطوننا. وجلسنا في انتظارهما بصبر فارغ وقد انقطعنا عن الحديث. وإذا بنا نسمع نباح كلاب المزرعة فجأة. فصوبنا أبصارنا تجاه الصوت فرأينا غباراً شديداً يسد عرض الأفق. ومددنا أعناقنا فأبصرنا قطعاناً كبيرة من الضأن قادمة من الطريق الزراعي الكبير ومتجهة إلى بعض القرى القريبة. . . وظهر أمامها رجلان ضخمان يلوحان بعصوين طويلتين. . . وحول القطيع كلاب كاسرة تطوقه من كل جانب وخلف القطيع امرأة ترتدي دثاراً أسود فاحماً. . . وتهش بعصا رقيقة على الغنم وتزجر في صوت رنان كلاب المزرعة عن كلابها. . .
وقربت القطعان منا. . . وكان أحد الرجلين معلقاً في عنقه مزماراً طويلاً. . . أما الآخر فكان يحمل على ظهره قربة ضخمة فيها متاعهم. . . وأخذنا نرقب القطيع بعيني الصقر حتى بعد عنا فشيعناه بأبصارنا وبطوننا الخاوية تمزق أحشاءنا. وحدجنا الأحمال الصغيرة التي تتوثب حول القطيع الماضي في طريقه بعيون جائعة ومر في ذهننا خاطر سريع ودون أن ننبس بكلمة انسللنا في أثر القطيع متجنبين طريقه. . . وجرينا شوطاً، ثم كمنا في جرن كبير من أجران القمح الهش في أقصى المزرعة ومرت قطعان الضأن وملأ خياشيمنا الغبار المتطاير من أرجلها. وكانت المرأة لا تفتأ تتلفت يمنة ويسرة وتضرب الصغار بعصاها. . . وجاوزوا حدود المزرعة وابتدأ الرجل حامل المزمار يزمر، ومدت القطعان أعناقها ثم تقدمت في صمت وسكون عجيبين. وانقطعت المرأة بعد صوت المزمار عن الكلام، وسكنت حركة الكلاب وانقطع نباحها. وكان في القطيع حمل صغير ما فتئ طول الطريق يتوثب ويركض في كل اتجاه، ويضرب برجليه الأرض. فلما سمع صوت(392/76)
المزمار سكن أيضاً واستقام بأعجوبة كسائر رؤوس القطيع. . . وكنا قد تهيأنا له لنقتنصه. . . فما سمعنا صوت المزمار حتى شلت أيدينا وعجزنا عن الحركة، وبقينا ممددين على الأرض وعيوننا تتطلع إلى السماء وتتأمل النجوم. . . ورجع المزمار الحلو يتردد. كان كأنه مزمار داود يبعث من وراء الأجيال ويدوي وحده في هذا الليل وهذا السكون. ظللنا في مكمننا حابسين أنفاسنا، وصوت المزمار يهفو، والقطيع يسير، ونحن نرقبه عن بعد ولا نستطيع أن نتحرك
ورجعنا إلى مكاننا من الحقل ونحن لا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة الغريبة التي اعترتنا في تلك الساعة. أكان ذلك من تأثير الموسيقى، أم شعور آخر أيقظته الموسيقى
وعاد الرفيقان الذاهبان في طلب الكروم. . . وكان أحدهما يحمل كروماً، أما الآخر فكان يحمل شيئا آخر. . . كان يحمل حمل الضأن الذي أفلتناه من أيدينا
وأشعلنا النار وشويناه. . . وكنا ننظر إلى اللهب الأحمر وهو يشوي لحمه. . . ونتصوره منذ لحظات وهو يجري ويتوثب بين رفاقه مرحاً سعيداً طروباً، فيعصر الهم أفئدتنا
ولما جلسنا نأكل انقطعنا جميعاً عن الكلام كأن على رؤوسنا الطير. وكانت كل قطعة من اللحم تستقر في جوفنا تمزق أحشائنا تمزيقاً. . . كنا نتصور أن الحمل لا يزال يجري ويتوثب والقطيع يسير والمزمار يزمر.
محمود البدوي(392/77)
العدد 393 - بتاريخ: 13 - 01 - 1941(/)
الضحية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة لها تاريخ، ولتاريخها اتصال بالعادات والعقائد وأطوار اللغات والألفاظ، ولا سيما في انتقالها من المحسوسات إلى المجردات، ومن البساطة إلى التركيب
كم من الذين يتحدثون بالتضحية في معرض الحب أو الحماسة الوطنية أو المعاني الروحية يذكرون أن أصلها الأول أكلة في الضحى؟
فالتغذية تقديم الطعام في وقت الغداة، والتعشية تقديم الطعام في وقت العشاء، والتسحير تقديم الطعام في وقت السحر، والتضحية بالشاة أن تذبح الشاة أو تؤكل ضحى على هذا السياق.
وهذا هو المعنى الذي صعد به الإسلام من أكلة إلى قربان إلى فداء، إلى هذه المعاني التي نرددها اليوم كل صباح ومساء وتاريخ الكلمات في الانتقال من المادية إلى الروحية هو تاريخ العقل الإنساني في فهم الحقائق والنظر إلى الحياة.
فما العقل؟ وما الكتابة؟ وما الفن؟ وما الجمال؟ وما العلم؟ وما الرسم والتمثيل؟ وما الجوهر واللباب؟
كلها لها أصول لا تزال تلمس باليد وتدرك بالحس، وكلها قد صعدت من هذه الأصول المحسوسة إلى تجريد لا تدركه العقول إلا بعد شغوف وإمعان
وإذا كانت متابعة الكلمات في اللغة الواحدة متعة للفكر ومعواناً على فهم الأصول والحقائق، فأمتع من ذلك واعون على الفهم أن تضاهي بين الكلمات في لغات مختلفات. فإن لهذه المضاهاة فائدة صحيحة لا يستغني عنها باحث في علم ولا مستقص لتاريخ ولا متعمق في دين
انتقلت التضحية من أكل في الضحى إلى أسمى معاني المفاداة التي يهون فيها بذل الأرواح
ولكن الفداء نفسه قد انتقل في معانيه مثل هذا الانتقال بل أبعد من هذا الانتقال
فقد كان الفداء في بدايته الأولى أشبه شيء (بالزيارة) التي يحملها اليوم أهل الميت إلى قبره من فاكهة يفرقونها، أو ريحان ينثرونه، أو ذبائح ينحرونها ويفرقونها على المساكين في جدة الوفاة.(393/1)
وكان اعتقاد الهمج الأولين أن الأموات يطلبون الغذاء كما يطلبه الأحياء، ومن هؤلاء الأموات أقوياء بطاشون ينتقمون أشد النقمة ممن يحرمهم نصيبهم في الطعام والشراب، ومنهم أعزاء محبوبون يشق على أحبابهم أن يتخيلوهم بعد الموت جياعاً عطشى محرومين هائمين يبتغون الري والشبع ولا يرتوون ولا يشبعون، ومنهم شفعاء مقبولون يأخذون ويعطون: يأخذون (الزيادة) ويعطون بديلاً منها في ضمير الزائرين والمتشفعين.
وترقى معنى الفداء الذي نشأ هذه النشأة قليلاً حتى هذبته وصقلته الحضارة، فاقترب من معنى الإحسان وابتعد من معنى الخوف على الأحياء وإشباع من في القبور.
ٍفالذين يتصدقون بالطعام اليوم لا يقصدون به أن يأكله الموتى ولا أن يدفعوا به ونقمتهم إذا جاعوا وظمئوا وصنعوا بالشاربين الطاعمين ما يصنع الجياع الظماء
ولكنهم يقصدون أن يحسن الله إلى موتاهم كما يحسنون هم إلى المعوزين، ويودون أن يبلغوا الموتى أنهم لا يزالون من العزة عندهم بحيث كانوا في أيام الحياة، فهم يبذلون لهم ولا يضنون عليهم. ويتعمد بعض الزائرين أن يختاروا من صنوف الطعام ما كان شهياً مفضلاً عند الميت في أيام حياته، تعزياً بالفكرة لا تصديقاً بحاجة الميت إلى غذاء الأحياء.
وبعض الأحياء يعكس الأمر فيحرم على نفسه الصنوف التي كانت شهية مفضلة عند موتاه، كأنما يأبى أن يستمتع بما حرموه ويريد أن يساويهم في الحرمان، وكلاهما شعبة من معنى واحد هو الوفاء والادكار، والضن على النفس في سبيل من ضنت عليهم الحياة باللذات والطيبات.
ذلك أصل من أصول الفداء، وهو رعاية الأموات
وله أصل آخر أعرق من هذا في الهمجية وأبعد منه عن تهذيب الدين والحضارة
وذلك الأصل يقابل الجزية التي يفرضها السيد على العبد، والأدب الذي يستوجبه الغالب من المغلوب
فمن الأدب الذي كان يستوجبه الفاتح المنتصر من المنكسرين أمامه أن تظهر عليهم ذلة الانكسار والتسليم، وأن يسومهم كل ما يريد ولم تكن له فائدة فيه، وأن يسلبهم فيعطوه صاغرين، ويقمعهم فيمتثلوا خاشعين، وأن يطالبهم بالإتاوات والرهائن من الرجال والنساء والأنعام، ومن الأزواد الخيرات والحطام.(393/2)
وكان المنهزمون يستنقذون أنفسهم بتسليم فريق منهم للقتل، ويستنقذون أموالهم بإهداء نفيسها ومختارها واستبقاء ما يزهد فيه الفاتح أولا يهتدي إليه
فلما عبد الهمج أربابهم وأوثانهم واعتقدوا فيهم القوة والغلب جعلوا لهم حقاً في الضحايا والهدايا كحق المنتصر على المهزومين، وافتن الكهان في تنظيم هذه الجزية (المقدسة) التي تؤول إليهم في الحقيقة سرَّا وجهرة في كثير من الأحيان؛ فانتظمت من ثم شعائر التضحية والفداء؛ وبالغ بعضها في القسوة حتى تقاضت للأرباب والأوثان بواكير كل شيء من حيوان ونبات، وفي طليعتها الأبناء وهم رضعاء أو دارجون.
وقصة إبراهيم هي حد فاصل في نظرة الأديان إلى الفداء كما كان قديماً وكما هو مفروض الآن. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال يا أبتِ افعل ما تؤتمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما وتّله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدَّقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم)
وهكذا ترقى لفظ الفداء ومعناه. فأما لفظه فحسبك انتقاله من الضحية التي هي شاة تذبح في الضحى إلى الضحية التي هي قربان وإحسان.
وأما معناه فالانتقال فيه أعظم، لأنه انتقال من أكلة إلى ذروة الأخلاق العليا. إذ كانت خلاصة كل خلق وكل عقيدة وكل تكليف أن يجود الإنسان بما يعز عليه، وأن يفضل بعض الحرمان على بعض المتعة، وأن يعصي داعي الغريزة إذا حسنت له كل سلامة وكل كسب، وبغضت إليه كل إقدام وكل إعطاء.
وهنا يفوق الإنسان الغريزة فيرتفع من حضيض البهيمية إلى شرف الآدمية
وحيثما وجد دين وخلق فهنالك عصيان لغريزة من الغرائز لا مراء، فإن الدين والأدب لازمان لهذا ونافعان لهذا، لا لأنهما مطاوعان للغريزة في كل ما تمليه وترتضيه.
الغريزة تقول لك إن اللذة خير من الألم، وأن الحياة خير من الموت، وأن الأثرة خير من الإيثار، وأن حبس المال خير من بذله، وأن الراحة خير من المشقة.
ولو كان هذا هو الخير حقاً لما ظهرت الأديان والأخلاق، ولكانت الغريزة وحدها كافية كل الكفاية وفوق الكفاية، ولأصاب الإنسان الخير كما يصيبه الحيوان بغير عناء.(393/3)
ولكن الخير الإنساني شيء نفيس، والشيء النفيس له ثمن عزيز، وما الثمن العزيز إلا الجود بما نضن به ونفليه
ولهذا كانت الضحية عنوان الدين كله وقوام الخلق كله، فحيث لا ضحية فلا دين ولا خلق، بل غريزة حيوانية يتساوى فيها الناطق والأعجم، ويتلاقى فيها المريد وغير المريد.
وفرائض الأديان تكليف
والتكليف لا يخلو من الكلفة بحال، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها معناها أن تعمل ما تطيق وليس معناها ترك العمل لأنك تطيق تركه ويسعك أن تتناساه
وفي الشعر العربي بيتان لشاعرين حكيمين هما خلاصة الأدب وصفوة الخلق ومعيار التفاضل بين الفضائل، وهما بيت أبى الطيب إذ يقول:
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ... الجود يفقر والإقدام قتال
وبيت أبى تمام إذ يقول:
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب
ومعنى البيتين البليغين البالغين في الحكمة كلمة واحدة وهي: (التضحية) أو (الفداء)
فقولك أن الراحة خير من التعب، وأن الأخذ خير من العطاء، وأن السلامة خير من الإقدام، قول مفهوم قبل أن يكون خلق وقبل أن يكون دين.
فلما وجب على الإنسان أن يفهم أن بعض العطاء خير من بعض الأخذ، وأن بعض الراحة شر من بعض التعب، وأن بعض الموت أكرم من بعض الحياة، وأنه إنسان مكلف وليس بسائمة مهملة، كان له خلق، وكان له دين، وكانت الضحية التي يرمز إليها المسلم في عيده الكبير هي قوام ذلك الخلق وأساس ذلك الدين.
عباس محمود العقاد(393/4)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
مطالعات في الكتب والحياة
لعباس العقاد
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
موضوع الدرس في هذه المرة هو كتاب المطالعات في الأدب والحياة للأستاذ عباس محمود العقاد عضو المجمع اللغوي، وهو كتاب يقع في أربع وعشرين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وقد نشرته المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وثمنه خمسة عشر قرشاً. والنسخة التي أنقدها هي الطبعة الثانية، ولهذه الإشارة معنىً، فهي تشهد بأن هذه الكتاب نال بعض ما يستحق من النباهة والذيوع.
شخصية المؤلف
العقاد أديب منوَّع المواهب: فهو كاتب وشاعر وناقد وخطيب، على تفاوت في هذه الأوصاف لا يوجبه التقصير أو نقص الأدوات، وإنما يوجبه التفات هذا الأديب إلى بعض الفنون أكثر من التفاته إلى البعض، فهو كاتباً أقوى منه شاعراً، لأن ذهنه ارتاض على التعبير بالترسل، أكثر مما ارتاض على التعبير بالقريض.
ودرس اليوم لا يتصل بمواهبه الشعرية والخطابية، وإنما يتصل بمواهبه النثرية والنقدية، فمن هو بين الكتاب والنقاد؟
للعقاد في الكتابة والنقد شخصيتان مختلفتان كل الاختلاف: فالعقاد الكاتب السياسي يَرِمي ويرمَى، ويَظِلم ويظلَم، في كل وقت، فهو من أبناء السماء عند قوم، ومن أبناء الأرض عند آخرين. أما العقاد الكاتب الأدبي فهو من الطبقة الأولى بشهادة الجميع.
والعقاد الناقد لا ينحرف عن القصد إلا في حال واحد، حال الحكم على من يعاديه من المعاصرين، أما حكمه على المفكرين الذين بَعُد عهدهم في التاريخ فهو في غاية من العدل والسداد، وقد يصل به الرفق إلى المبالغة في إظهار المحاسن وإخفاء العيوب.
وانحراف العقاد في كتاباته السياسية والنقدية يشهد بأنه سليم الشخصية، وللسلامة هنا(393/5)
مدلولُ خاصّ، هو اكتمال الحيوية والإحساس، فالعقاد يصادق بعنف، ويعادي بعنف، فأصدقاؤه ملائكة ولو كانوا شياطين، وأعداؤه أبالسة ولو كانوا ملائكة مقربين. وهو مستعد لخوض النار مع أصدقائه إن أوجب الوفاء أن يشاطرهم عذاب الحريق، أما أعداؤه فهو لهم بلاءُ وعناء، وهو يلقاهم في السر والعلانية بأقبح ما يكرهون.
وقد شاع وذاع أن العقاد رجلُ حقود، وهو كذلك، فالحقد من كبريات الفضائل في بعض الأحايين، وقد نُجزَي عليه خير الجزاء يوم الحساب، فالله أحكم وأعدل من أن يعاقبنا على تأديب من يحاولون الغض من أقدارنا الأدبية وهم جهلاء!
ما نظرت في شراسة العقاد مع خصومه إلا قلت: هذا رجل، والرجال قليل
وما نظرت في سماحة العقاد مع أصدقائه إلا راعني ما في طبعه من بشاشة وأريحية، فهو لهم عماد في جميع الظروف، وهم من أُخوَّته الوفيَّة في أُنسٍ أنيس
والواقع أن الرجولة لها تكاليف، وهي تجشّمنا مصاعب لا تخطر لأحد من الضعفاء في بال، فالرجل الحق هو الذي يقدر على الضر كما يقدر على النفع، أما المخلوقات (الرقيقة) التي تحاكمنا إلى شريعة (الأخلاق) في كل ما نكتبُ وفي كل ما نقول فهي شخوصُ بوائد خلَّفها التاريخ، كما يخلّف النهر العارم أو شاب العشب المعطوب.
الرجولة الحق تَفرض الشجاعة الحق، ولا تتم الشجاعة لرجل إلا إذا جاز أن تصل به أحياناً إلى التهور والجنون، لأن ضبط النفس لا يتيسر في كل وقت، كما يتيسر لبعض من يفهمون أن الرجل (الصالح) للانتفاع بالمجتمع هو المخلوق (المصقول)!
وما قيمة القلم إن لم نَخِزْ بسنانه عيون المتعالمين والمتعاقلين من حين إلى حين؟
وما حظ الأمة في أن يتخلق جميع أبنائها باللُّطف والظُّرف؟
أعاذنا الله من زيغ البصائر في هذا الزمن المخبول!
مطالعات العقاد في الكتب والحياة
العقاد في هذا الكتاب ناقد وكاتب، وقد خلص من الشوائب التي تعرِض له في بعض كتاباته النقدية أو السياسية، خلص خلوصاً مبيناً، فهو لا يلتفت إلى ما يحيط به من أحقاد الساسة أو ضغائن الأدباء، وإنما يخاطب العقل وجهاً إلى وجهه، ويسمو بنفسه إلى طلب المنزلة بين أهل الخلود.(393/6)
والعقاد من هذه الناحية أقدر من طه حسين على ضبط النفس. نجد العقاد يقول في هامش بعض الفصول (من مقال نشِر في البلاغ) فما المراد من عبارة (من مقال)؟
كان المقال في الأصل يحوي فكرة باقية أضيف إليها التحامل على أحد المعاصرين، وهو حين يجعل مثل هذا المقال فصلاً من كتاب يحذف الجزء المشوب بالتحامل ويكتفي بالجزء الذي يصور فكرة باقية، ومن أمثلة ذلك ما صنع العقاد في كتاب (الفصول) ففي ذلك الكتاب فصل عن (المتأنقين)، وهذا الفصل أنشأه العقاد للسخرية من سعادة الأستاذ (أحمد لطفي السيد باشا)، ثم رأى أن يحذف تلك السخرية من جانبها الخاص، وأن يكتفي بجانبها الأصيل، وهو احتقار التأنق في تناول عظائم الشؤون.
أما الدكتور طه حسين بك فقد أساء إلى نفسه وإلى تاريخه حين عجز عن تهذيب مقاله عن (عنترة بن شداد) في الجزء الأول من الطبعة الثانية لكتاب (حديث الأربعاء) ففي ذلك المقال تعريضُ قبيح بمعالي الأستاذ عيسى باشا، وسيسأل الناس في المستقبل عن الموجب لذلك التعريض القبيح، لأنه لا يصدر عن رجل يتسامى إلى الأستاذية في الأدب والأخلاق.
وما أعيبه على الدكتور طه أعيبه على نفسي، فقد أثبتُّ في الطبعة الثانية من كتاب البدائع فصلاً دميماً عن (طه حسين بين البغَّي والعقوق) وهو فصل عانيتُ من شؤمه ضروباً من العقابيل، وعرَّضني لمكاره ومتاعب لم أدفع شرها إلا بنضال عنيف.
ومن أعجب العجب أن يكون عباس العقاد أقدر على ضبط النفس من زكي مبارك وطه حسين!
الشجاعة الأدبية
يمتاز كتاب المطالعات بالشجاعة الأدبية، فما المراد من ذلك؟ أيكون المراد أن العقاد يبطش ذات اليمين وذات الشمال بلا تدبُّر للعواقب؟
أيكون المراد أن العقاد لا يبالي ما عليه الناس من عقائد وتقاليد؟
لا هذا ولا ذاك، فالعقاد في هذا الكتاب يساير الناس يساير العُرف إلى أبعد الحدود، وإنما المراد أن العقاد يثور على العوامّ بقوة وعنف، والعوامّ في هذا المقام ليسوا هم الطبقة العديمة العلم والمعرفة من التجار والزُّراع والصناع، وإنما هم طبقة المثقفين من أبناء الجيل الجديد، والعقاد لمُ يضف هذه الطبقة إلى العوام بصريح المقال، وإنما أضافهم إليها(393/7)
بلسان الحال.
وتظهر هذه الشجاعة فيما كتب العقاد عن (المرأة) فكلامه في هذا الموضوع الدقيق لا يصُدر إلا عن الملهَمين، ولو شئت لقلت إنه فَصَل في هذه المشكلة بما لاُ يبقى مجالاً لأحد من بعد، فقد استوفى الموضوع من أطرافه بكلام مُحكم سديد، وهو من أقدر الكاتبين على الغوص في أعماق المعضلات.
(خيانة المرأة لا تعاب على المرأة)
هذا كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً، فتلك الخيانة المرذولة لها وجه جميل هو الوفاء للحياة.
(غرام المرأة بالمال فرع من غرامها بالشباب)
هذا أيضاً كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً فقد كانت القدرة على اكتساب المال من أقوى الشواهد على الرجولة في جميع الأزمان.
(المرأة دون الرجل في جميع الأوصاف وهي لا تقدر أبداً على القيام بما يقوم به الرجال)
وهذا كلام أغرب من سابقَيْه، ولكن العقاد يقف موقف النمر الشرس ويقول:
(إننا في عصر يميل إلى محاباة المرأة فيما يكتب عنها من آراء فلسفية كانت أو اجتماعية، لأن آداب الأندية توشك أن تبغي على آداب الكتابة ومباحث الفكر، فيحبس الكاتب قلمه عن كل ما يغضب المرأة ولا يوافق دعواها، كما يحبس لسانه عن ذلك في أندية الأنس ومجالس السَّمر، ويكتب حين يبحث في مسائل الاجتماع بقلم السمير الظريف لا بقلم الناقد الأمين)
ثم يجعل السذاجة والبلاهة والغفلة من نصيب المتظرفين الذين يحكمون بأن المرأةُ ظلمتْ فيما سلف من عهود التاريخ.
والحق أن أنصار المرأة لم يكونوا إلا رجالاً ضعفاء، فهي لم تخلَق إلا لغاية واحدة، هي بقاء النسل، وهي لم تقدر ولن تقدر على مباراة الرجال في جلائل الأعمال.
وكيف تستطيع ذلك وهي قد أشركت بوظيفتها الأنثوية؟ الرجل هو الذي يخلق المرأة، يخلقها على هواه، ويتمثلها كائناً حياً له مآرب وأغراض، وهي أمام العقل دُمية مصنوعة لاُ تفصِح ولاُ تبين بعد ذلك الشّرك الدميم(393/8)
المرأة الصحيحة هي المرأة التي عرفها الآباء والأجداد، المرأة الطبيعية التي أوحت ما أوحت إلى الفنانين والشعراء، يوم كانت مخلوقاً له قلب خفاق، وروحُ حنّان.
أما المرأة اليوم فهي مخلوق سخيف، لأنها تطلب ما لا ينبغي لها من الحقوق، وهي لذلك تافهة القيمة، سقيمة الإدراك.
وتعرَّض العقاد للمرأة من جميع نواحيها فأسمعها ما لا تحب أن تسمع. ومن المؤكد أن العقاد كتب عن المرأة ما كتب وهو في عافية، لأن الرجل لا يغايظ المرأة إلا وهو فحل، لأنه حينئذِ يثق بأنها ستُجذَب إليه ولو ضربها بأعنف السياط.
وقاسم أمين لم يكن في أول من أنصار المرأة، وإنما كان عدوَّ المرأة، فلما ضَعُف تظرَّف وصاغ لها عقود الثناء!
ورُوَّاد (الصالونات) في البلاد الغربية لم يكونوا من الفحول، وإنما كانوا من الظرفاء، ولو كانوا فحولاً لتغيًّر مركز (المتحذلقات) في التاريخ
وخلاصة القول أن التلطف مع المرأة يجب أن يكون فَّنا من فنون الغَزَل الخدّاع، فالدمع في عين العاشق هو السم في ناب الثعبان، والثعبان يخدّر فريسته بالسم كما يخدّر العاشق فريسته بالدمع. والاغتيال من ضروب القتال!
لحظات الصفاء
وللعقاد في كتابه هذا لحظات صفاء، وأظهر تلك اللحظات هي اللحظة التي كتب فيها مقالة (بين الله والطبيعة) أو (بين التاريخ الغابر والحاضر المشهود). فالعقاد في هذه المقالة قد ارتفع إلى آفاق السماء، ولو لم يكتب غير هذه المقالة لكانت سلّمة الأمين إلى معارج الخلود.
كتبها وهو في أُسوان، وقد نشأ هذا الأديب في أُسوان، ولعل نشأته في تلك المدينة تفسّر ما فطِر عليه من الهيام بالفنون
هي مقالة عجيبة في المعنى والأسلوب، مقالة كاتب راعته زُرقة السماء في أسوان، ومن لم ير زُرقة السماء في أسوان فلن يغنيه الزعم بأنه رأى جمال الطبيعة في سائر بقاع الأرض.
ولو جُمع ما أوحت أسوان إلى العقول والأحلام في مختلف اللغات لكانت منه ثروة تَرُوع(393/9)
وتَهُول.
وقوة العقاد في هذه المقالة تستر ضعفه وهو يصور إحساسه حين وقف (على معبد إيزيس) فالفرق بين المقالتين بعيد، لأن الكاتب كان انتزف قوته في المقال الأول فهمد في المقال الثاني، والُقوي الإنسانية لها حدود.
المتنبي في كتاب المطالعات
انساق العقاد إلى الكلام عن المتنبي وهو يدرس رسالة الغفران للمعري، فكانت فرصة لتشريح بعض الجوانب من ذلك الشاعر الصوَّل.
وتظهر دقة النظر عند العقاد في أكثر ما كتب عن المتنبي، فالأدباء يرون تَسامي المتنبي إلى المُلك من شواهد العظمة النفسية، أما العقاد فيرى ذلك التسامي ضرباً من الخذلان، لأن المتنبي أخطأ حين (ظن أن السموْ لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان).
ثم انتهى العقاد إلى أن المتنبي المخذول في طلب المُلك صار على الزمن (أظفر ما يكون خائباً وأخيب ما يكون ظافراً). فهو (ليس بملِك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات)
وهذا كلامٌ نفيس جداً، ولكنه يحتاج إلى تعقيب، فانحراف المتنبي في فهم العظمة الذاتية هو السبب في ما صار إليه من العظمة الباقية على الزمان.
المتنبي قضي دهره في طلب المُلك، ولو عَقَل لأدرك أن الشاعرية الحق أبقى على الزمن من المُلك.
ذلك ما يريد العقاد أن يقول، ولكن ما رأيه إذا حدثناه أن ذلك الانحراف هو الذي أوجب أن يولع المتنبي بدرس أوهام العوامّ والخواصّ؟ ما رأيه إذا حدثناه أن تلك النزعة المنحرفة هي التي فرضت على المتنبي أن يدرس الموارد والمصادر من أخلاق الناس وأن يوغل في التعرف إلى ما هم عليه من هدى وضلال؟
لو أعفى المتنبي نفسه من طلب المُلك لوقف عند الخالص الصريح من أوطار النفس وأهواء الوجدان، فكان صورة ثانية من البحتري شاعر الروح الصداح والقلب الطروب.(393/10)
طلبُ الملك غَّير ما بنفس المتنبي فنقله من أفق إلى آفاق، وحوله إلى رجل طُلَعة لا يهمه غير درس المستور من أصول الوشايات والأراجيف، وحوّله أيضاً إلى رجلِ طاغية باغية لا يتذوق معاني العطف والإشفاق.
وهل عرف الناس قلباً أقسى من قلب المتنبي، المتنبي الثائر على الناس والزمان؟
يجب أن يُفصل نهائياً في هذه القضية، فأدب المتنبي من صور اليأس العصوف، وليس من صور الأمل العطوف، وهو لذلك خليق بأن ننظر إليه بحذر واحتراس.
حظ المتنبي من الشعر الوجداني حظ ضعيف، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن الدنيا في عين المتنبي لم تكن إلا منادح انتهاب واصطياد، والنهب والصيد يوجبان أن يبكر الرجل إلى المفاوز والآجام وهو في درع من المكر، ولثام من الدهاء.
زار المتنبي مصر وأقام فيها سنوات، فماذا رأى في مصر، وكانت لذلك العهد ما تزال عامرة بما ترك الفراعين من غرائب الفنون؟ أين بشاشة الحقول المصرية في شعر المتنبي؟
لم ير المتنبي في مصر غير وجهين اثنين: وجه الفقيه المرائي، ثم وجه النديم الخَتُول، لأن ما كان يطلبه المتنبي كانت المقادير حصرته في أيدي الفقهاء والندماء.
وقد حقد المتنبي على مصر أبشع الحقد، لأنه لم يرها إلا في وجه كافور ومن يحيط بكافور. ولو كانت الشاعرية هي التي تسيطر على أهواء المتنبي لوجد لمصر مذاقاً غير ذلك المذاق، ولكان من المأمول أن تنسيه مرابعها الأواهل وحشة الغربة والانفراد، ولكن المتنبي كان طالب ملك، أستغفر الحق، بل كان يطلب (ضَيْعة) فلم يظفر بغير الضَّياع!
ورحيل المتنبي عن مصر رحيل بغيض، فقد ثار على مصر في البادية لا في الحاضرة، وذلك يشهد بأنه لم يفكر جديَّا في تأليب الجمهور المصري على ذلك (الأستاذ)!
ماذا أريد أن أقول؟
ما يهمني النص على ما وقع فيه المتنبي من خطأ وصواب، وإنما يهمني القول بأن حرص المتنبي على طلب الملك هو الذي خلق تلك الشاعرية الطريفة، الشاعرية التي لا تعرف الهيام بالأزهار والرياحين، وإنما تعرف الغرام بالصوالج والتيجان، فتقضي الدهر في(393/11)
درس أسرار القصور، وفحص أخلاق الحاكمين والمحكومين.
ومن المؤكد أنه كان يجب أن يكون في تاريخ العرب شاعر من هذا الطراز الفريد، فالمتنبي إذا من الحجج البواقي على أن الشاعرية العربية موفورة الحظ من تنوع الطعوم والألوان.
ملاحظات
لا يتسع المجال لعرض ما أجاد العقاد وهو يدرس المتنبي، ولكن لا مندوحة من تقييد بعض الملاحظات، لأن لذلك فائدة في تشويق الطلاب إلى النقد الأدبي.
1 - قال العقاد: (مما لوحظ على المتنبي ولعه بالتصغير في شعره إلى حد لم يُروَ عن شاعر غيره) فأرجو أن يذكر العقاد أن أعظم الشعراء ولعاً بالتصغير هو ابن الفارض، وقد فصلت ذلك في كتاب (التصوف الإسلامي) فلا أعود إليه في هذا الحديث.
2 - حكم العقاد بأن عنصر المتنبي كان (بدعاً في العصور العربية) وقد قال مثل هذا القول في عصر ابن الرومي، فأي قولَيْه نصدَّق؟
3 - حكم العقاد بأن المتنبي (لم يفارق كافوراً إلا باختياره) فما حيثيات هذا الحكم، وفي أي كتاب قرأ أن الرجل يرحل عن بلد يحبه في ليلة عيد؟ وكيف غاب عن العقاد أن المتنبي لم يفارق كافوراً إلا بعد أن أصبحت حياته تحت رحمة العيون والأرصاد؟
4 - قضى العقاد بأن المتنبي صفح عن أبى العشائر، وقد كلف أحد الخدم باغتياله وهو سار في ظلام الليل. فعلى أي سند قضى العقاد هذا القضاء وهو يعرف أن الضغينة أقوى خلائق المتنبي؟ أيكون أستند إلى أقوال من ترجموا للمتنبي؟ وكيف وهو يعرف أن تلك الأقوال يغلب عليها الإفك والتهويل؟
5 - يرى العقاد أن التبحر في العلوم آفة يبغضها المتنبي، وحجته أن المتنبي يقول:
أبلغُ ماُ يطلَب النجاح به الطبع ... وعند التعمق الزلل
فهل كان المتنبي من الغفلة بحيث يقوهم أن التبحر في العلوم آفة إنسانية؟
هنا دقيقة لم يفطن لها العقاد، وهي ثورة المتنبي على (فيران المكاتب) كما يعبر الفرنسيون، و (فيران المكاتب) هم الذين يقولون ولا يفعلون، فإذا اقترن بالفعل، فتلك ظاهرة يرحب بها المتنبي كل الترحيب.(393/12)
6 - غض العقاد من عمر بن أبى ربيعة، لأنه وقف شعره على فن واحد هو النسيب، ولو تأمل العقاد لعرف أن ابن أبى ربيعة من كبار المبتكرين، ومن عظام المغامرين، وهو عندنا أول شاعر رأى قضاء العمر في الهيام بالجمال عملاً تُنصب له الموازين.
7 - وحكم العقاد على ابن مناذر وابن الضحاك بمثل ما حكم به على عمر، فأين علمه الصحيح بمواهب هذين الشاعرين ولم يبق لواحد منهما ديوان يشهد بما له أو عليه؟ وكيف فاته التنبه إلى ما كان لهما من التأثير العميق في الحياة الذوقية والاجتماعية بالعراق؟
الظاهر أن العقاد لا ترضيه إلا أن يكون الشاعر مغرماً بتشريح الـ كما أجابني حين قلت له إن الشريف الرضي كان أولى بعنايته من ابن الرومي، فليعرف إن شاء أن الشاعر لا يفكر في إرضاء الناقدين، وإنما يفكر في تأدية الرسالة الموحاة إليه من عالم الغيب، أو عالم الطبع، ولا يهمه بعد ذلك أن يقال إنه عرف شيئاً وغابت عنه أشياء.
موقف محرج!
لم أصل إلى ما أريد في تشريح كتاب (المطالعات) للأستاذ عباس العقاد، لأن منهج هذه الدروس الاكتفاء يوجب الاكتفاء بمقال واحد عن كل كتاب، ولأن امتحان المسابقة سيكون بعد أسبوعين اثنين، فماذا أوصى به طلبة السنة التوجيهية وهم يراجعون هذا الكتاب الدقيق؟
أوصيهم بأن يذكروا أن العقاد له في كل فصل منهج خاص وأنه قد يناقض نفسه من حيث لا يشعر، لأن يومه قد ينفصل عن أمه كل الانفصال.
وأوصيهم بأن يذكروا أن العقاد مولع بالرنين في الأسلوب لأنه شاعر، والشاعر حين يكتب لا يستطيع التخلص من الغريزة الموسيقية، وهل يطيب النثر الفني ويجود إلا من الكتاب الذين كانوا في مطالع حياتهم شعراء؟
وأوصيهم بأن يذكروا أن عيب العقاد وعيب المازني في الغرام بالسجع والازدواج عيب مغفور، لأن هذين الكاتبين لم يكونا إلا شاعرين ضاق عنهما نظام القريض.
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد لم يغتصبا تلك المنزلة الأدبية بجهادٍ موصول جاوز الثلاثين من الأعوام السّمان والعجاف.
وأوصيهم بأن يذكروا أن غرام المازني والعقاد بالشرح والتفصيل فيما يعرضان له من(393/13)
دقائق الشؤون يرجع إلى أنهما ابتدءا حياتهما الأولى باحتراف التدريس، والتدريس يوجب التفكير في تفهم الأغبياء قبل التفكير في مسامرة الأذكياء، ولعل هذا هو السبب في اهتمام طه حسين وأحمد أمين بالطواف حول هوامش المشكلات!
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد كانت إليهما زعامة النقد الأدبي في أعوام الحرب الماضية، وأن الكتابة السياسية لم تستطع أن تصرف هذين الرجلين عن العناية بالأسلوب.
أما بعد فأنا أشعر بأني لم أقل شيئاً في العقاد، مع أني قلت فيه كل شيء، فان كنت أنصفته فقد أنصفته بحق، وإن كنت ظلمته فقد ظلمته بحق، ولكني قبل كل شيء وبعد كل شيء قد انتصرت على نفسي فتناسيتُ ما كان بيني وبينه من القتال في سنة 1935 على صفحات جريدة الجهاد يوم سمحت له نفسه بأن ينضم إلى غريمي طه حسين.
والله المسئول أن يطيل حياة هذين الرجلين، فهما من ذخائر مصر على وجه الزمان. وهل سيطرت مصر على الحياة الأدبية في الشرق إلا بفضل ما في أبنائها من شراسة وعرامة واستطالة واستعلاء؟
زكي مبارك(393/14)
الذوق الفني في مصر
وأسطورة نهر الجنون
للأستاذ سيد قطب
أسطورة (نهر الجنون) معروفة، ولكن لا ضرر من التذكير بها في هذا المقام؛ فهي تتلخص في أن ملكاً رأى في نومه أن النهر الجاري بجواره قصره يصاب كل من شرب منه بالجنون. وأصبح فوجد أفراد الشعب كله - والملكة معهم - قد شربوا من النهر وجنوا، فحزن وقلق على شعبه وعلى رفيقة حياته، ولم يكن هناك أحد لم يشرب إلا الملك والوزير.
وبينما كان الملك ووزيره في شغل شاغل بالطب لهذه الكارثة كانت الملكة حزينة قلقة على الملك الذي جن - في رأيها ورأى الشعب - لأنه لم يشرب هو ولا وزيره. . .
وأخيراً، شرب الملك وشرب الوزير!!!
هذه الأسطورة تتكرر كل يوم في مصر - في عالم الفنون - بين العقلاء المجانين، وهو قلة قليلة، والمجانين العقلاء وهم كثرة كثيرة!!
ففي مصر مدرسة فنية عرفت باسم (المدرسة الحديثة)، وهي تجاهد منذ ثلاثين سنة لرفع الذوق الفني، بل لخلق الذوق الفني. ولكن الذين اتبعوها لا يزالون فئة قليلة، والذين فهموها فئة أقل، والذين تجاوبوا معها بعد فهمها فئة أندر. وهؤلاء هم الذين لم يشربوا من النهر، ولا تزال آراؤهم في الحياة والفن تثير العجب العاجب بين الشاربين!
وهذه المدرسة يبدو أن كل همها موجه لتصحيح مقاييس الأدب، ولكنها تجاهد في تصحيح مقاييس الإحساس بالحياة جملتها وتفصيلها، وتقويم الأذواق في أصولها وفروعها، فكل ما هو مادة حياة ومادة شعور ينال عناية هذه المدرسة. ومن ثم كان للموسيقى وللغناء نصيب وافر من جهادها.
ولقد أغضب زعماء هذه المدرسة وأملأ قلوبهم ظلاماً وبأساً إذا قلت لهم: إنهم فشلوا أشنع الفشل في رسالتهم، وأن أتباعهم - على قلتهم - ليسوا جميعاً بفاهمين حقيقة دعوتهم لأن طباعهم لا تتسع لها، وإحساسهم لا يستوعبها.
وإني لأخشى أن أقذف بها كلمة مزعجة مؤذية فأقول لهم: إن الظواهر حتى الآن تكاد تجزم(393/15)
بأن طبيعة هذا الشعب ليست على استعداد للتجاوب معهم، وأن الشذوذ وحده هو الذي أطلعهم بين ظهرانيه، وأن المشكلة ليست مشكلة الفهم والتفهيم، ولكنها مشكلة الطبيعة التي لا تتسع لمثل ما في نفوسهم من أحاسيس. وعليهم إذن أن يشربوا من النهر، أو أن ينزووا عن المجانين العقلاء!
وإنها لصيحة مزعجة، ودعوى يتمنى مدعيها من صميم نفسه ألا يكون محقاً فيها، ولكن الدلائل جميعها - مع الأسف - تدل على صدقها الأليم.
والخطب في هذه المسألة متفاوت الدرجات، فقد يكون في الأدب أخف - إلى حد ما - لظهور طبقة قليلة من الشبان تبشر بالخير الضئيل. ولكنه فادح فادح في الموسيقى والغناء. وهذه الموسيقى التي لا نسمع غيرها، وذلك الغناء الذي ليس لدينا سواه.
فقد مضت القرون تلو القرون، وليس لنا موسيقي واحد، ولا مغن واحد. وكان (سيد درويش) فلتة شاذة، وهو مع هذا لم يرتفع إلى المستوى العالمي، ولكنه كان (إنساناً) في فنه، يحمل طابع الآدميين، وكان هذه كسباً، لأن (الآدمية) وحدها، لا الآدمية الممتازة هي التي نفتقدها في موسيقانا وغنائنا، فلا نعثر على ظل لها في الجميع، وما نزال نسمع ألحاناً وأنغاماً، هي رجع التأوهات الحيوانية المريضة وصدى الميوعة المسترخية المئوفة، دون أن يخطئ ملحن أو مغن مرة واحدة فيسمعنا صوت الإنسان السليم!
والقارئ يرى من هذه الكلمات، أن قائلها (لم يشرب من النهر) ولا شك. وإلا فهل يصدق أحد والأغاني ترن في الآذان ليل نهار، وتحملها أجنحة الأثير بالعشي والأبكار، أن ليس في مصر مغن واحد ولا مغنية منذ أجيال، وليس فيها ملحن واحد منذ قرون، وليس فيها موسيقي واحد في تاريخها الطويل؟.
أهذا كلام؟! أليس هو الجنون بعينه، أو العقل الذي هو عين الجنون؟
في مصر مطربون ومطربات، وفي مصر مُلحنون وموسيقيون، والشعب كله يردد أغانيهم وألحانهم، ويتهافت على حفلاتهم ورواياتهم، ويدمي أكفه من التصفيق إعجاباً بهم، فها يصدق أحد أن مصر - فيما عدا أغاني سيد درويش لم تطعم الموسيقى، ولم تتذوق الغناء، ولم يتردد في جوها صدى واحد فيه مسحة الآدمية؟
هذه قولة غليظة - لم تشرب من النهر - ولكنها كانت خليقة أن تنبض بها كل فطرة، وأن(393/16)
يرددها كل لسان، لولا أن الجميع قد شرَبوا مع الأسف شربوا حتى فقدوا وعيهم فهم مخمورون لا يفيقون من هذه الألحان المريضة ولن يصدقوا من يقول لهم: إنهم مخمورون، لأن الأغلبية لا بد أن تكون هي الواعية في جميع العصور!
وبعد فما جدوى هذه الكلمات؟
لقد كان يرجى لها بعض الفائدة، لو سرت مع الشاربين المخمورين إلى منتصف الطريق، وكتمت عنهم نصف الحقيقة، وارتضيت أنصاف الحلول. لو قلت لهم: إن هناك أغنيات وألحاناً سليمة وأخرى غيرها مريضة، وأنك تعجب من فلان أو فلانة بكذا وكذا، وتنكر عليهما كيت وكيت. . .
أما وأنت تجبه هذه الملايين - على اختلاف ذوقها الفني - بأن ما يستحسنونه سواء من حيث أنه لا ينتسب إلى فن الموسيقى وفن الغناء، وأن ما يسمعون إنما يتفاضل في دائرة بعيدة عن دائرة الفنون الآدمية، فيرتفع أو ينحط، ولكنه لا يعير في ارتفاعه أو انخفاضه عن نفس إنسانية على الإطلاق. . .
أما وأنت تدعي هذه الدعوى غير المعقولة، فلا سمع ولا تصديق وعليك أن تشرب من النهر الذي شرب منه الجميع. . .
هذه كارثة. كارثة أن نعيش أمة كاملة بلا موسيقى ولا غناء وأن يكون غذاؤها الروحي هو هذا الترنيم المريض الزائف. وأشد من هذه الكارثة هو لا أن تستسيغ هي هذا الغذاء.
ولست أدري كيف يكون العلاج، والذين يتولون العلاج في غالب الأحيان هم أنفسهم مخمورون، شاربون من النهر، وإن نعوا على الشاربين!
موسيقى جديدة وتلحين جديد ومطربون ومطربات جدد، وأذواق للسامعين غير هذه الأذواق. أذواق لا تستسيغ أية قطعة أو لحن مما تتردد في مصر منذ مئات السنين. كل هذا وفي آن واحد هو ما تحتاج إليه لتحسب في عداد الآدميين.
والمعجزة وحدها هي التي تستطيع أن تفعل ذلك لا الجهد البشري ولا المدرسة الحديثة، ولا عشرات الكتب، ولا ألوف المقالات في الصحف.
وتسألني: وفيم إذن تكتب هذه الكلمة، وتشغل بها فراغاً من صفحات هذه المجلة، وفراغاً من وقت القراء؟ فأجيبك: إنها صيحة من لم يشرب من النهر، أو هي صيحة الجنون في(393/17)
عرف المجانين!
(حلوان)
سيد قطب(393/18)
تقويم هذا العام
للأستاذ عباس محمود العقاد
تقويمُ هذا العام من ... لحظاته الأولى لديك
قومي ارفعيه وارفعي ... عنه الغطاء براحتيك
من يوم مطلعه إلى ... رُجْعاه، موقوفٌ عليك
وإذا انتهت أيامه ... ولكل عام منتهاه
فعليك أنت وداعه ... وترحِّبين بما تلاه
ويْحيِى إذا دار المدى ... ورعيتُ وحدي ملتقاه!
هي قبلةٌ ضمت عُرَى ... عامين فاتصلا اتصالا
ومُنى الخواطر في غدٍ ... عام كسابقه مآلا
لا نعجلن به فما ... أقسى الحياة على العَجَالى
لا. لا. فهذا يومنا ... وغد، وبعد غد، خفاء
أنا مغمضُ العينين ومست ... مع إلي حادي الرجاء
فإذا سمعت حداءه ... فدعيه يمضي حيث شاء
عباس محمود العقاد(393/19)
خواطر في رأس السنة
للأستاذ صديق شيبوب
النظام أساس العالم، والتوقيت من الأسس التي يقوم عليها النظام. عرفه الإنسان منذ عصوره الأولى، أي منذ لاحظ أن اليوم ليل ونهار، وأن الأيام يتلو البعض الآخر متشابهة في شكلها البارز، متباينة طولاً وقصراً، وبرداً وحراً. فإذا الأيام مجموعة في فصول، والفصول مقسمة إلى شهور، والشهور مضمومة في السنة. ولم يلبث التوقيت بالسنة أن استولى على الإنسان في كل مرافقه.
لكل إنسان على اختلاف عمله سنته الخاصة به. فللمزارع سنة، وللتاجر سنة، وللعامل سنة، حتى الحكومة عندنا لها سنتها المالية الخاصة بها؛ وللشمس سنة، وللقمر سنة، وللنجوم سنة. وكل واحدة من هذه السنين تختلف في بدايتها ونهايتها عن السنين الأخرى؛ فسِنو الأجرام السماوية موقتة بدورانها، وسنو طبقات الناس موقتة باختلاف الفصول وتأثيرها عليها.
على أن الناس إذا اختلفت سنتهم الخاصة وفقاً لأعمالهم وأغراضهم فقد اعتنقوا كذلك سنة بعض الأجرام السماوية، وخاصة الشمس والقمر. فجعل بعضهم السنة الشمسية، كما جعل البعض الآخر من السنة القمرية، عامة لكل الطوائف.
هذا دليل من الأدلة على أن الإنسان يتطلع أبداً إلى السماء كأنها مهبط وحيه ومصدر هديه في حياته. فعيناه أبداً مرفوعتان إليها يتأمل في قبتها الزرقاء الجميلة، ويسر بانعكاس أضوائها، وغرابة غيومها، واختلاف ظلالها، وتنوع ألوانها، من فجر طالع، إلى صبوح براق، إلى غبوق داكن، إلى شفق أحمر لامع إلى غسق أسود، إلى ليل حالك، ويعجب بخطوطها الزرقاء التي لا نهاية لها، وأجرامها المتقدة كأنها أنوار تتلألأ في بحر لا شاطئ له، ومجوهراتها الساطعة التي لا توزن حجارتها بالمثقال. إنها ثروة عظيمة بعيدة المنال، لا ينضب معينها، ولا تزول بهجتها، ولا تنحط قيمتها، لا أول لها ولا آخر؛ لا يستطيع الإنسان جمعها، أو تناولها، أو فقدها، أو ثورتها، ولا يحول بينه وبينها غير الموت.
ولكن الموت إذا نزل بالإنسان فإنه أضعف من أن ينزل بها وأن يزيل بهجتها ورواءها. إنه مثل النسر المحلق في كبد السماء العاجز عن أن يحول دون تغريد البلابل.(393/20)
فالسماء رمز الأشياء التي لا تموت. هذه شمسها تعتلي قبتها العميقة كأنها هاوية لا قرار تنتهي إليه ولا جبال ولا أرض تضمها؛ هذه الشمس تشرق وتغرب على مناظر الطبيعة في شتى الفصول تثبت حرارتها في الأرض وما عليها. وهذا القمر حالم في تنقله وتطوره، وهذه النجوم تشع بريقاً كأنه خفق فؤاد مضطرم. . .
لله أحلام الإنسان وآماله التي تلتقي عند هذه النجوم! إنها محط أنظاره يسائلها عن ماضيه وحاضره، ويرى في بعضها مصدر تفاؤله وفي البعض الآخر مبعث تشاؤمه، بينما هي في أبراجها ساهمة تتابع سفرها الطويل اللانهائي لا تحير ولا تبدي، ولعلها لا تراه ولا يخطر لها ببال، ولا علاقة تربط بينها وبينه.
على أنها مصدر راحة وطمأنينة في سكونها الغريب. والسماء تتحدث إلى الإنسان بلغة عجيبة لا يستطيع التعبير بها أبلغ الألسنة. إن في سكوتها الرائع أعظم بلسم لشفاء القلوب. إنها قد تروع فكره حيناً، ولكنها - مهما اختلفت اعتقادات الناس بها - تظل غذاء للنفوس ببريق ألوانها وسطوع شموسها وأقمارها، وفكرة الاستقرار والسمو التي توحيهما إليهما
ما أجمل الحياة لو قضيناها محدقين في السماء!
يثير التحديق في السماء في نفس الإنسان فكرة أصله ومصيره. من أين أتى وإلى أين يذهب؟ هل الوجود والعدم سيان! وإذا كان مصدره لا يثير اهتمامه لأن الماضي قد فات، وهو في ذمة التاريخ، فما المستقبل؟ كيف يمهد له أسباب الطمأنينة والسعادة، وهما غايته التي ينشدها في وجوده، وهما قصده من مصيره، والمصير من عالم الغيب، ولكنه الرجاء يحدو الإنسان والآمال تبعث الشجاعة لقلبه ونفسه. والإنسان يقارن دائماً بين الماضي والمستقبل، متبرماً بالماضي منتظراً من المستقبل ما يعوض عليه ما فات. فكم سمعناه يقول: (لو كنت أدري. . .) و (إذا أتيح لي أن أعيش من جديد. . .)
أما الرجل الحكيم فهو الذي يعرف كيف يوفق بين الماضي والمستقبل، فكأنه يقضي حياته محاولاً استخلاص الحكمة مما يمر به من الحوادث، والحكمة كلمة كبيرة تدل على صفاء العقل والقلب. وما أحوج اليوم إلى مثل هذا الصفاء!
إذا نظر الإنسان إلى الحقائق الواقعية وجد أن الصبر من أدق مظاهر الحكمة، وله فوائد جمة تعود على صاحبه بالرضا. ومن فقده فقد خيرات وفيرة، لأن الزمان لا يحترم غير(393/21)
الأعمال التي كان الصبر من أكبر العوامل التي ساهمت فيها.
كان الكردينال مازارين، الوزير الفرنسي الكبير، يقول: (أنا والزمان)، وهو قول ينطبق على أفعال أعظم أمة في هذا العصر. وقد وصل الوزير الفرنسي بالمبدأ الذي سار عليه إلى أعلى قمم المجد، كما وصلت إليه الأمة البريطانية لأن الصبر معناه الرزانة والتعقل. لذلك نجد الصبر من المزايا التي يتحلى بها الإنسان سني نضوجه وشيخوخته، لأن في الشباب حماساً يدفعه إلى تعجل الأمور، وهو يتولى في وقت واحد حل شتى المسائل في أقصر مدة من الزمان.
ومن غرائب الاضداد عجلة الشباب وصبر الشيوخ. يستعجل الشباب الأمور وهو يعرف أن أمامه متسعاً من الحياة يتيح له التريث فيها ويعالجها الشيخ في أناة وصبر بينما يشعر أن ما بقى له من العمر قصير الأجل وأن الحياة تفلت من بين يديه وأن الموت قريب منه واقف له بالمرصاد.
وهذه ظاهرة تصدم المنطق صدمة قوية ولكنه ينتقم لنفسه إذ يدلل على أن الأعمال المرتجلة هباء تذروها رياح الحياة، وأن الزمان أداة قوية تطلب قسطها من الاحترام له، وأنه سيد يجب إعطاءه ماله من حق.
والطبيعة خير أستاذ للناس في احترام الزمان لأنها ترضى بأحكامه وتخضع لقوانينه، فلكل ظاهرة من ظواهرها مدتها المقررة وفصولها المعروفة. لأن الطبيعة قوية تصمد لتقلبات الزمان ولا تتأثر بها.
حقاً إن الصبر من أبرز الدلائل على القوة، وهو من أكثر مزاياها أناقة وطرافة
كم في الحياة من أضداد تباعد بين المظهر والحقيقة!
يعيش الإنسان موزعاً بين المنافع التي يصبو إليها والغرائز التي تتنازع نفسه، وهو يحاول أن يوفق بين هذه وتلك وأن يضفي عليها ثوباً تظهر فيه للناس من غير أن تقذى عيونهم.
هناك عصور يستولي فيها الكذب على الإنسان فرداً ومجموعاً يعرف المجموع مواضع ضعفه فيخفيها ويظهر بمظهر القوة والغطرفة. ويعلم الفرد أنه حفنة من تراب في مصدره ومصيره بينما تمتلئ نفسه كبرياء وخيلاء. وتقبل كل طبقة من طبقات المجتمع على التعالي للوصول إلى ما فوقها: وطبقة العمال أقصى همها التركز لتوازي الطبقة الوسطى(393/22)
(البرجوازية) بينما هي تحتقر مبادئها وتقاليدها. وتحاول الطبقة الوسطى التسامي إلى الأرستقراطية بينما تتناول وسائلها وترفها ومظاهرها بنقد شديد.
تنعت المرأة الرجل بالقوة وهي تعرف مكامن ضعفه، ويصف الرجل المرأة بالجمال وهو يرف أن في الرجولة جمالاً لا تقاربه الأنوثة. وهكذا أضفى كل واحد من نوعي البشر على صاحبه نعوتاً لا يعتقد بصحتها. وقد خلق كل واحد لصاحبه مزايا ثم اطمأن إليها. ولعل أبرع هذا الخلق وأجمله خلق الرجل للمرأة، فقد بنى لها عرشاً وأجلسها عليه إلهة يطالع في عينيها سعادته وغبطته. ويستنزل من جناتها نعمته ولذته. والغريب في هذا أنه صادق في عقيدته التي اختلقها، مغرور بكذبه الذي أجراه، وأن غبطته في أن يغتر بهما.
ولا غرو في ذلك فكثيراً ما يضحي الإنسان بسعادته في سبيل لذته، وتسهل عليه هذه التضحية إذا تعودها. إن طريق اللذة مفروش بالدمقس والحرير بحيث يستطيع السير عليه من وُلِد حافي القدمين كما يسير على العشب الناعم. أما السعادة فقد خلقت للصالحين من البشر، إما لأنهم يعتقدون بأنهم سعداء، أو لأنهم ينتظرون السعادة مطمئنين إلى نوالها.
فالسعادة مطمح النفوس الكبيرة، وكل نفس شريفة إذا كانت طموحة، لأن الطموح يتطلب قوة وتضحية، وهو في مجموعه دليل على كبرياء النفس، والكبرياء فضيلة إذا كانت سلاحاً من أسلحة النضال.
إن مظاهر الكذب التي ألممنا بها تجعلنا نستنتج أن كل الناس يمثلون دور المنفعة على مسرح الزمان، وأنهم في اطمئنانهم إلى ما يلعبونه يصبح الدور الذي يمثلونه أقرب إلى حقيقتهم من الأصل. لقد أصاب شكسبير كبد الحقيقة عندما تلهى بهؤلاء الأشباح وجعلهم يمثلون دور المجانين حتى صاروا في حقيقتهم مجانين.
إن الأشياء والبشر كافة يغالطون في هذا القمار العظيم الذي ندعوه الحياة.
القلب يغالط العقل، والعقل يغالط القلب. . .
يولد الطفل ممسكاً بيديه أوراق لعب كبيرة ثم يرميها في الحياة مغامراً بها فإما أن تنطلي حيلته فينعم بما ربح، وإما أن تنفضح فيشقى بما فقد.
وبعد، فقد تعودت كل طائفة من الناس النظر في شئونها عند نهاية السنة المقررة لها. فالزارع يجيل رأيه فيما زرع وحصد، والتاجر يوازي بين ما أشترى وما باع، والحكومة(393/23)
توازن بين ما جمعت وما أنفقت؛ وهكذا فإن من فضائل الموقف بين عامين أنه يثير في النفس شتى الأفكار والتأملات.
وقد تنازعت نفسي هذه الأفكار وأنا أصغي إلى صراخ الإنسانية وأنينها، وإلى دوي المدافع وترجيع صداها، وإلى خصومات الأمم ودعاياتهم، وإلى صرير أقلام الكتاب ودوي آلات الإذاعة والطباعة؛ فرأيت أن أدون ما جال بخاطري، ولعلي أصبت المرمى ولم أخطئ السبيل.
صديق شيبوب(393/24)
السياسة التوجيهية في الأزهر
للأستاذ محمد محمد المدني
في العدد (391) من (الرسالة) مقال كتبه الأستاذ محمود الشرقاوي، بمناسبة مقال في العدد الذي قبله للدكتور محمد البهي عن (شخصية الأزهر العلمية)
والأستاذ الشرقاوي يصف مقال الدكتور البهي بأنه مقال جيد، وفيه صدق كثير، وقد أثار في نفسه طائفة من الخواطر يعتقد أن فيها - وهي أيضاً - صدقاً كثيراً وفيها صراحة
ومع أن الأستاذ يبدو معارضاً لفكرة الدكتور، بل مهاجماً له فإن من يتأمل فيما قاله يجده قد وافقه في كل ما قاله، ثم نقل البحث إلى شيء آخر.
ولست فيما أكتب اليوم بالمدافع عن أعضاء البعوث الأزهرية إلى أوربا، فذلك شأن يخصهم، وهم أولى بأن يردوا على أسئلة الأستاذ التي وجهها إليهم؛ ولست كذلك مهاجماً لأحد من الناس أو لطائفة من الطوائف، ولكني أريد أن أقول إن الأستاذ الشرقاوي لم يكن صريحاً على الرغم مما ادعاه لنفسه من الصراحة في أول مقاله؛ فهو يقول للدكتور البهي: لا تحدثنا عن إنتاج جماعة كبار العلماء، ولا عن قيمة هذا الإنتاج في نظر العلم، ولكن حدثنا عن إنتاج هذه البعوث الأزهرية التي أنت واحد من أعضائها، والتي وضع الأزهر فيها آماله، وظل يرقبها في لهف وشوق، معللاً نفسه بعهد جديد يمتاز بالحرية في الرأي، والاستقلال في التفكير: أين هو هذا الإنتاج؟ وأين طابع هذه البعوث الخاص الذي تتميز عن أشياخها؟ وأين التجديد الذي أفاده الأزهر من بعثة الإمام محمد عبده أو بعثة فؤاد الأول؟
هكذا يتساءل الأستاذ، ثم يصرح بأنه لم ير دليلاً يدل على أن هذه البعثات قد جددت، أو سارت على نهج غير النهج الذي سار عليه الأشياخ من قبل (فلا هي قد أقامت في الأزهر مدرسة للتجديد خاصة، ولا نهجت فيه منهجاً دراسياً ولا تأليفياً خاصاً، ولا لمت حولها معسكراً جديداً يرفع معها وبعدها شعلة النور في الأزهر. . . الخ)
ثم يحاول الأستاذ تعليل ذلك، فيجد نفسه (أمام واحد من فرضين: إما أن تكون هذه البعوث لم تفد شيئاً مما درست في جامعات أوربا، ولم ترتفع بتفكيرها عن أشياخها وعن زملاء أعضائها الذين لم يبعثوا ولم يدرسوا. . . وإما أن تكون هذه البعوث العلمية قد أفادت من(393/25)
دراستها الأوربية عقلية جديدة حرة وتفكيراً حراً. . . الخ)
ردد الأستاذ بين هذين الأمرين، ولكنه نفى الأول منهما مستدلاً بأن أعضاء هذه البعوث جميعاً مبرزون في دراساتهم الجامعية، وفي درجاتهم العلمية التي نالوها، وفي البحوث التي فازت بالتقدير، فهو إذا يستبعد الغرض الأول ويستبقي الغرض الثاني، وهنا ينتهي عهده مع الصراحة، فيفر من مواجهة الحقيقة التي يراها، ويعود إلى الترديد فيقول: هل يتوجه اللوم في عدم إنتاج هذه البعثات إليهم أم أين يتوجه؟
كأني الأستاذ الشرقاوي يريد أن يكون صريحاً في نفس الموضوع كما كان صريحاً فيما وجهه إلى الدكتور البهي، فهو يهم بأن يطلق لنفسه العنان ثم يعود فيؤثر الإبهام، وكأني به متفقاً مع صاحبه في كل ما ذكره غير مخالف له في شيء منه، ولكنه يؤثر أن يظهر في ثوب المعارض له.
ولا علينا من ذلك، لكننا نسأل الأستاذ الشرقاوي: ما هي الناحية الثانية التي يحتمل أن يتوجه إليها اللوم؟ ما هو هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون قد صرف أعضاء البعوث عن الإنتاج مع قدرتهم عليه؟ أتقصد به أن البيئة الأزهرية غير صالحة لتلغي الفكر الجديدة، وتقبل الإنتاج الحر المبني على التفكير المستقل لأنها ما زالت تعد التجديد خروجاً على ما ينبغي من تقديس القديم والفناء فيه، والدوران من حوله؟ أم تقصد أن التجديد والإنتاج العلمي مرتبطان بالسياسة التوجيهية، فكلما كانت هذه السياسة ماضية في طريقها القويم، حريصة على تشجيع العاملين، وإنارة الجهود، والانتفاع بالمواهب، نما الإنتاج، وكثر المنتجون، وتشجع العاملون. وكلما انحرفت هذه السياسة عن طريقها القويم وأدخلت في تقدير الأعمال اعتبارات غريبة عنها، فترت الهمم، وكلت العزائم، وضعف التفكير، وقل الإنتاج؟
نحن نعرف أن كثيراً من الاعتبارات قد يعوق سير الإصلاح، ويصرف الساسة الموجهين عن الطريق، ويلويهم من حيث يريدون أو لا يريدون عما رسوه من الإصلاح وأخذوا به أنفسهم من التوجيه.
فقد يكون في بيئة من البيئات رجل حر الضمير، مستقيم الفكرة، له في الإصلاح برنامج شريف، وله غيرة محمودة على هذا البرنامج، ولكنه مع ذلك لا يرى بأساً من أن يجامل(393/26)
شخصاً ما فيسند إليه عملاً ممتازاً من الأعمال الإصلاحية، لا لأنه ممتاز في نفسه، ولا لأنه ناجح في عمله، ولا لأنه لا يوجد في أقرانه من هو خير منه، ولكن لاعتبار آخر، كأن يكون صديقاً مثلاً، أو أن يكون قد تطلع في يوم ما إلى منصب ما فلم ينله، فمن الرأي أن يترضى، ومن الرأي أن يعوض!
وقد يحيط بالمصلح الشريف المخلص أعوان شرفاء مخلصون لا يدفعهم إلا الإخلاص للفكرة الإصلاحية، ولكنه مع ذلك ربما أهمل آراءهم، لا لأنه بحثها فتبين وجه الخطأ فيها، ولا لأنه اقتنع بأن غيرها أولى بالقبول منها، ولا لأن أصحابها مشكوك في إخلاصهم أو في حسن تقديرهم، ولكن لاعتبار آخر لا ينبغي أن ينظر إليه، ولا أن يغلب جانبه، كالميل إلى تمثيل عنصر معين في ناحية من النواحي.
وقد يخضع المصلح لاعتبارات أخرى غير هذه وتلك، يدفعه إليها على الرغم منه قانون تقليدي، أو عرف قائم، فتراه مثلاً لا يسند أعمالاً خاصة إلا إلى طائفة خاصة، لا لأن هذه الطائفة أجدر من غيرها بتولي هذه الأعمال، ولا لأنها أقدر من غيرها على السير بها في طريق النجاح، ولكن لاعتبار آخر قد لا يكون له صلة بهذا الموضوع أصلاً، كاعتبار شرط التوغل في السن مثلاً في حق الأعضاء الذين ينتخبون لعضوية جماعة ما، أو يرشحون لتولي منصب ما وهكذا.
نعرف هذا كله، ونعرف أنه شر ما تصاب به بيئة من البيئات، وأنه داء خطير يصيب الإنتاج العام بالشلل، ويؤدي إلى الخمول والركود، ثم إلى الانحلال والموت!
ونعرف أيضاً أن العامل الذي يجد أن المقاييس التي من حوله ليس أساسها التفكير والعمل والدأب والإنتاج، وإنما أساسها شيء آخر غريب عن هذا كله، وبعيد عن هذا كله، هذا العامل لا يلبث أن يفتر، وأن يضعف، لأن القدرة على الإنتاج وحدها غير كافية، ولكن ينبغي أن يصاحبها التشجيع والإغراء.
فهل يريد الأستاذ الشرقاوي شيئاً من ذلك ويمنعه شيء ما أن يقوله، وأن يكون صريحاً فيه؟
ألا إنه لو علل ما يقوم به من عقم البعوث العلمية بالسياسة التوجيهية لما كان منصفاً، ولما قال صواباً، فإن على رأس الأزهر شيخاً ممتازاً في تفكيره، ممتازاً في شخصيته، بعيد(393/27)
النظر فيما يقدم عليه أو يحجم عنه من عمل، وهذا الشيخ العظيم فوق أنه يشرف على الأزهريين من أسمى مكان في الأزهر، يتمتع من حبهم وطاعتهم وحسن انقيادهم بما لم يتمتع به أحد من شيوخ الأزهر، فلا يستقيم مع هذا أن تكون السياسة التوجيهية في عهده ملتوية عن الطريق، غير مؤدية إلى الغرض المنشود. ولن يرضى الأستاذ الأكبر بأن يضع بالأمس أسس الإصلاح، ويرسم منهاج النهوض، ويضيء شعلة التجديد، حتى إذا اجتذب بها القلوب ووجه إليها النفوس، وضعها في طريق العواصف الجامحة من رغبات أو شهوات
فلنستبعد هذا الغرض، فلا يبقى معنا إلا أن الأزهر لم يصبح بعد بيئة صالحة لتلقي الإنتاج العلمي الذي أساسه التفكير الحر، والاستقلال في النظر، وعدم افتراض الثقة المطلقة إلا فيما ورد عن المعصوم.
فهل هذا هو ما أراده الأستاذ الشرقاوي؟ إن يكنه فلا ينبغي أن يعد العقم في الإنتاج قصوراً في البعثات الأزهرية، ولا عيباً في السياسة التوجيهية؟
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(393/28)
العقد الفريد
للأستاذ محمد سعيد العريان
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
قد قَّدمنا القولَ في صدر هذا البحث أنه لم يسبق ابنَ عبد ربه إلى التأليف في باب الأخبار والنوادر على هذا النحو إلا ثلاثةُ نفر: الجاحظ، وابن قتيبة، والمبرّد.
أما الجاحظ والمبرّد فقد كان لهما نهج في التأليف يخالف نهج العقد، على اتفاقهما ما في الموضوع والغرض؛ فكان انتفاعه بما اطلع عليه من مؤلفاتهما في المادة لا في الطريقة. وأما ابن قتيبة، فإن بينه وبين عبد ربه مَشابهَ من وجوه، حَمَلتْ بعض الباحثين على الزعم بأن صاحب العقد كان في نهجه وفي تبويبه لاحقاً مقلّداً، بل قد غَلاَ بعضهم في الاستنساخ فزعم أن ابن عبد ربه قد سطا على كثير من كتب ابن قتيبة، فنقلها نقلاً إلى عقده بحالها من غير تغيير كبير. وإنه مما يقوّي هذا الزعم، تلك الشهرة العظيمة التي كان يحظى بها ابن قتيبة عند أهل الأندلس، حتى كانوا يتهمون من خلت مكتبته من مؤلفاته. ولكن العقد الفريد على الرغم من ذلك غير عيون الأخبار، وابن عبد ربه غير ابن قتيبة، ولكل من الرجلين شخصيته المتميّزة بوضوح من خلال مختاراته، ولكل منهما مزاجُه وروحه ومذهبه وجوُه الذي يعيش فيه ويصدر عنه؛ فسواء كان هذا الزعم صحيحاً أو مبالغة في الاستنتاج، فلن يضيرَ صاحبَ العقد شيئاً، ولن ينقص شيئاً من قدر كتابه، إذ كانت المادة التي اجتمع منها الكتابان ليست ملكاً لأحد الرجلين، ولا هي أثراً من إنشائه الأدبي الخالص؛ ولكنها تراثُ مشترك يتوزَّعه أبناء العربية مما خلَّف آباؤهم.
. . . وليس معنى أنه لم يسبق ابن عبد ربه في بابه إلا هؤلاء النفرُ الثلاثة أنه لم يأخذ عن غيرهم، ولكن الذي نعنيه أن انتفاعه بكتب هؤلاء النفر كانت أظهر دلالة على نفسها، وإلا فقد كانت مكتبة قرطبة لهذا العهد حافلة بطائفة من الكتب لم يجتمع مثلها في زمان في مكان، فلا بد أن يكون ابن عبد ربه قد استعان منها بالكثير إلى جانب ما أخذ من أفواه العلماء المغاربة الذين كانت لهم رحلة إلى المشرق أذاعوا بها علم العربية بين الشرق والغرب.
ويقول الأستاذ أحمد أمين عميد كلية الآداب في جامعة القاهرة، في بحث نشره للتعريف(393/29)
بصاحب العقد (مجلة الثقافة، العدد 94 - 15 أكتوبر سنة 1940): (إن أمالي أبى علي القالي كانت هي النواة الأولى التي بذرها أبو علي في الأندلس من علوم المشرق، وعليها تخرج مشهورو الأدباء في الأندلس، ومنهم ابن عبد ربه. . .)
وظاهر الكلام الأستاذ العميد صريح في أن ابن عبد ربه كان لاحقاً لأبى علي القالي، وأنه من تلاميذه، وأن كتاب (الأمالي) أسبق من (العقد الفريد)، وأنه أول ما نقل إلى المغاربة من علم المشرق. . .
وأرى هذا كله خطأ لا يستند إلى دليل من التاريخ، فقد كان مَقْدَم أبى علي القالي إلى الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه بسنتين وأشهر (توفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة 328، وكان مقدم أبى علي القالي في إمارة عبد الرحمن الناصر سنة 330)، وكان تأليف كتابه الأمالي بعد مقدمه بسنين؛ إذ كان هذا الكتاب هو مجموع محاضراته في جامع قرطبة.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن ابن عبد ربه قد فرغ من تأليف كتابه (العقد) في سنه 322 على ما نرجحه، وقدرنا المدة التي أملى فيها أبو علي محاضراته في جامع الزهراء قبل أن يجمعها في كتاب ببضع سنين، كان لنا من ذلك برهان لا يدفع بأن العقد الفريد كان أسبق من الأمالي ببضع عشرة سنة؛ فلا وجه هناك للقول بأن ابن عبد ربه كان من تلاميذ أبى علي، وبأن كتابه على منهاجه.
وأما قوله إن كتاب الأمالي كان النواة الأولى من علم المشارقة في الأندلس، فينقضه ما كان معروفاً قبل ذلك في الأندلس من كتب القوم، حتى روى ابن كثير في تاريخه: أن أهل المغرب كانوا يتهمون من لم يكن في بيته من مؤلفات ابن قتيبة شيء؛ (توفي ابن قتيبة سنه 276، وكان مولد أبى علي سنه 288)، وكان للمغاربة من العناية بتحصيل علم المشرق والتكبير إليه ما دعا المستنصر إلى أن يرسل وراء النسخة الأولى من كتاب الأغاني لأبي الفرج فيشريها بألف دينار. . .
أضف إلى ذلك أن رحلة المغاربة إلى الشرق كانت متصلة لطلب العلم منذ أوائل القرن الثالث؛ فلا يمكن مع هذا أن يكون علم أبى عليَّ جديداً على أهل الأندلس في أواسط القرن الرابع، وأن يكون نواة وقدوة، ومنشئ مدرسة يتخرج عليها مثل ابن عبد ربه مؤلف العقد. . . . . .(393/30)
ويتحدث ابن عبد ربه في مقدمته عن (تأليف الاختيار وحسن الاختصار)؛ فأي معنى لما يذكر من حسن الاختصار في هذا المقام؟ أتراه يعني حسن الاختصار في المجموع، أو في كل خبر على حدته؟ أعني: هل كان ابن عبد ربه يروي الخبر بحروفه كما سمعه أو قرأه من غير اختصار فيه، وإنما كان يختصر في كل جملة ما يروي من الأخبار بحيث لا يثبت منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، أو كان يختصر الخبر نفسه فيحذف من حروفه ما يحذف وينقص ما ينقص ذهاباً إلى الاقتصاد في التعبير عن المعنى الذي ينقله؟. . .
أقول: هذا كتاب العقد بين أيدينا، وقد نظرت فيه طويلاً، وعاودت النظر مرات؛ فبدا لي من طول المراجعة أمر لا بد من التنبيه إليه: ذلك أن بعض دواعي ابن عبد ربه في تبويب كتابه، كانت تقتضيه أن يثبت الخبر مرات في أبواب متفرقة، لصلاحيته للدلالة في أكثر من موضوع واحد؛ فإذا أنت حققت النظر في هذه الأخبار المكررة فقلَّ أن تجد منها خبراً مروياً في موضعين بحروفه على وجه واحد؛ فثمة الحذف والزيادة والإبدال؛ وليس هناك من سبب - فيما نرى - لهذا الاختلاف في رواية خبر واحد في كتاب واحد لمؤلف واحد إلا أن يكون المؤلف يملك من حرية التصرف في رواية هذه الأخبار ما يسمح له أن يرويها بلغته، ويؤديها على الوجه البياني الذي يراه؛ فهو يرويها بالحذف والاختصار حيناً، وبالبسط والزيادة حيناً آخر؛. . . فهل كان ذلك بعض ما يعنيه ابن عبد ربه بـ (حسن الاختصار)؟. . .
. . . ولقد يكون هذا الخلاف في رواية خبر واحد نتيجة لازمة لاختلاف الرواة الذين ينقل عنهم، أو نتيجة لازمة لاختلاف الكتب التي ينظر فيها ويقتبس منها؛ ولكن كيف يكون التعليل حين يكون راوي الخبر في الموضعين واحداً، والكتاب المنقول عنه واحداً كذلك؟. . .
أظن أنه يحق لي بإزاء مثل ذلك أن أزعم بأن ابن عبد ربه لم يكن ينظر إلى شروط الرواية تلك النظرة المتحرجة التي تفرض على مثله في هذا المقام أن يلزم جانب الحرص في المحافظة على نص ما يرويه بحروفه، وأنه كان يجيز لنفسه أن يتصرف في رواية بعض الأخبار تصرفاً يؤدي بها معناها دون حروفها؛ وأحسب ذلك يصلح تعليلاً لانفراد ابن عبد ربه في بعض ما ورد في كتابه من نصوص تخالف ما أجمع عليه رواتها في مختلف(393/31)
كتب الأخبار والنوادر؛ وأحسبه كذلك سبباً فيما ألتزمه صاحب العقد ونبه إليه في مقدمته، وهو حذف الأسانيد فيما روى من أخباره
فإذا صح ذلك، كان العقد إلى جانب ما قدمنا من التعريف بمزاياه، مرجعاً لغوياً يمكن الاستناد إليه في بحث شيء من التطورات اللغوية لبعض معاني العربية بين الشرق والغرب.
صحيح أن بعض هذا الاختلاف في رواية بعض الأخبار قد يكون مرجعه رواة الكتاب نفسه وكتبَته ونساخه، ولكن ذلك إذا صح في قليلها لا يصح في سائرها؛ وقد نبهنا في هامش هذه الطبعة إلى كثير من أنواع هذا الاختلاف، فليرجع إليها من شاء للنظر والاستدلال.
بقى أن نسأل: لماذا قصر ابن عبد ربه كتابه على أخبار المشارقة وهو من هو علماً وتحصيلاً ومعرفة بآداب قومه، وقرطبة هي ما هي في ذلك العصر الزاهر في الأدب والعلم والفن والسياسة؟
تعليل ذلك سهل ميسور لمن يعرف تاريخ ذلك العصر في قرطبة وبغداد حاضرتي البلاد العربية في الغرب والشرق.
لقد كان فرار عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق، محاولة جريئة لإقامة حكومة أموية في المغرب بإزاء الحكومة العباسية في بغداد؛ ولقد حالف التوفيق عبد الرحمن الداخل فتم له كثير مما أراد، وأقام عرشاً لبني أمية في الأندلس يتوارثه بنوه سيداً عن سيد، كلهم يحرص على النهوض بدولته إلى المنزلة التي يجعلها تناظر بغداد؛ فمن ذلك كانت المنافسة بين الدولتين في الشرق والغرب دائبة لا تني، وكانت الوفود لا تفتأ ساعية بين الحاضرتين، فلا يظهر جديد في بغداد حتى يكون نبؤه في قرطبة، ولا ينجم نجم في قرطبة حتى يذيع خبره في بغداد؛ واتخذت المنافسة بين الدولتين مظهراً علمياً يبدو أثره فيما كان من اهتمام المغاربة بالرحلة إلى الشرق للتزود من معارفه، وفيما كان من تطلع المشارقة إلى الأندلس ليعرفوا كل جديد من خبره وما أحدث علماؤه وأدباؤه في مختلف فروع المعرفة.
على أن المغاربة مع ما كان فيهم من اعتداد بأنفسهم وعصبية لبلادهم لم يكن منكوراً لديهم(393/32)
أن علم العربية في المشرق كله، منه نشأ وفيه نما وربا، فكانت إليه أنظارهم، وإليه حجتهم وقبلتهم، ولا يتم تمام العالم منهم - عند الرؤساء وعند العامة - إلا أن يكون علمه مشرقياً.
وكما نشاهد في مصر لعهدنا من يتزيد في الفضل بكثرة ما يروى من علم الأوربيين وما يقص من مشاهداته لديهم وما يروى من أخبارهم - كان هنالك في ذلك العهد. . . . . .
. . . وفي ذلك العهد كان ابن عبد ربه، وكأني به وقد رأى المنزلة التي ينزلها علماء المشارقة من نفوس قومه، والمكان المرموق الذي تحتله مؤلفاتهم وكتبهم؛ حتى كان شأن ابن قتيبة وكتبه عندهم ما قدمنا - كأني به وقد رأى ذلك، فدبر أمراً، وأحكم خطة، واتخذ طريقاً؛ ثم خرج على الناس بكتابه يقول: هاأنذا، وهاهم أولاء!
وكان علماء الأندلس يرحلون إلى المشرق، فرحل المشرق إلى الأندلس في كتاب ابنِ عبد ربه. . .!
ذلك وجه الرأي فيما أحسب لاقتصار كتاب ابن عبد ربه على أخبار المشارقة إلا قليلاً منه، لا أرى ذلك وجهاً سواه.
ورحل كتاب ابن عبد ربه إلى المشرق تسبقه شهرته، ووقع في يد الصاحب بن عباد، فأقبل عليه مَشُوقاً ملهوفاً يلتمس فيه عْلَم ما لم يعلم، فما هو إلا أن نظر فيه حتى طواه وهو يقول أسِفاً: (هذه بضاعتُنا رُدَّت إلينا!). . . ثم دار الزمان وجدَّت الحوادثُ في آثار العرب، فأخذتْهم بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وتبعثرت المكتبة العربية فخلتْ بعد امتلاء؛ ولكن علم المشارقة ظلَّ محفوظاً بين دفتي كتاب ابن عبد ربه المغربي الأندلسيَّ القرطبي. . .!
هذا، وقد كان كتاب العقد من بعدُ، مرجعاً له خطره ومقداره عند كثير من علماء المشارقة؛ فنقل عنه القلقشندي في صبح الأعشى، والنويري في نهاية الأرب، والأبشيهي في المستطرف، والبغدادي في خزانة الأدب، وابن خلدون في المقدمة، وغير هؤلاء كثير؛ حتى قل أن يخلو كتاب من كتب النوادر بعدُ إلا كان العقد مرجعه وخزانة علمه. ولو أنني ذهبت أستقصي أسامي الكتب التي سطا أصحابها على العقد فاحتملوا من خزائنه ما أغناهم وذهب بشهرتهم كل مذهب لأعياني البحث وانقطع بي دون الاستقصاء.
محمد سعيد العريان(393/33)
من أساطير الهند
شاد لها الحب لؤلؤة
(بتصرف عن اج. جي.
للأستاذ إبراهيم العريض
إني لا أستطيع أن أحكم لنفسي في الخلاف الناشئ منذ العصور حول هذه القصة. أهي أشد القصص مرارة في الحب، أم إنها مثل رائع لخلود الحسن؟ فالقصة وما دار حولها من نقاش بات في علم أولئك الذين يدرسون الأدب الفارسي في العصور الوسطى.
إنها أقصوصة جد قصيرة. وإن كانت شروحها قد شغلت حيزاً كبيراً من أدب ذلك الجيل المنثور، فحسبها بعضهم خيالا شعرياً، وأعتبرها آخرون رمزية، فكثرت في مغزاها الأقاويل؛ وذهب رجال اللاهوت فيها مذاهب شتى، واهتموا منها في الأخص بالجانب المتعلق بالبعث بعد الموت؛ وضرب رجال الأخلاق بها الأمثال، واتخذوها موضوعا للعبرة. وهناك غيرهم من لا يرى فيها إلا الحقيقة عارية من كل لبوس.
اج. جي. ولز
جلَوْها له في نقابِ الجمالِ ... عروساً أتمَّ الصِّبا عامَها
وكانَ قريباً بعهدِ الطُّفول ... ةِ لمَّا تتوَّج إذ رامَها
فحلَّت على قلبِه كالشُّعاعِ ... ترى عينُه فيهِ أحلامها
سل الزهْرَ عنِ ضَحْكِها عندَما ... تُفتحُّ للطلِّ أكمامها
سل الطير عن نُطقِها عندما ... تبثُّ مع الفجرِ أنغامها
وما حكَتا من معاني الفُتو ... نِ ما يُلْهِمُ الشِّعْرَ إلهامها
وما شَرِقَتْ عينُها بالسُّرورِ ... فتنفُضَ من خمْرِه جامها
إذا خطرتْ شذَّ بينَ القلو ... بِ من لا يُباركُ أقدامها
وكانت يدُ الحكمِ عن أمْرِه ... تُنفذُّ في الخلْقِ أحكامها
فعاشَ لإِمتاعها بالوُجودِ ... ونَّور بالحبِّ أيامها
وعاشتْ وإيَّاهُ في روْضةٍ ... من الْحبِّ أفنانُها دانِيَهْ
إذا عادَ من هَمِّه بالنها ... رِ أَلْفَى لديْها المُنى غافيه(393/35)
فَمِجْمرةُ العودِ في جانبٍ ... ومِعْزفةُ العودِ في ناحيه
ومن حولِ هاتْين شفّت ستائِ ... رُ عن كلَّ نُمْرقَةٍ غاليه
وقد عقدَ الورْدُ حولَ السري ... رِ من مثْلِ ألوانِها حاشيه
فتُسرعُ باسمةً نحْوه ... وتأخذُ يُمناه كالشاكيه
وتهْويِ به بينَ تلكَ الظِّلالِ ... وتبْقَي الظِّلالُ على ما هِيه
فلا تسْمَعُ الأذنُ غيرَ الصَّدى ... صدى الرُّوحِ تهفو إلي ثانيه
وَلاَ تُبْصِرُ العينُ إلاّ يداً ... تمرُّ برِفْقٍ على ناصيه
إلى أن تذُوبَ الشِّفَاهُ التي ... تُنَاغِيهِ في هَمْسَةٍ خافيه
وكانت قِصاراً ليالي الهناءِ ... ولكنّها ازْدهرتْ كاملَهْ
فلمْ يشْعُرا بحُدَاءِ الربيعِ ... ولا كيفَ مرَّتْ بهِ القافلة
وحلَّ الخريفُ لتنْعَى الطيورُ ... إلى الروْضِ أوراقَه الهاطلة
تبدَّلَ في عيْنِها كلُّ لونٍ ... فيا لكِ مِنْ صُفْرَةٍ قَاتلَةْ
فهامتْ فرادَي علي وجْهِهَا ... وكانت تقِرُّ مَعاً نازِلة
وماذا تُؤمّلُ بَينَ الغُصُون ... وقد تركَتْهَا الصَّبَا عَاطِلة
على كلَّ صَاوٍ لها رَنّةٌ ... تُسَائله، لو وعَي سائلَه
وأمْسى أدِيمُ الثرَى صورةً ... لِما رَسَمَتْهْ الخُطْا العاجلة
ومن بينَ مِنْ شيَّعَتْها الطيورُ ... إلى عالَمٍ لا ترَى ساحلَه
على صِغَرِ السِّنِّ بين الحسا ... نِ زهْرَةُ آمالِه الذّابلة
وأدْمَى الْمصَابُ فؤادَ الأمير ... وأفقدَهُ رُشْدَهُ في أساهْ
فظلَّ ثلاثاً بلا بُلْغةٍ ... وقد برِمَتْ نفسُه بالحياة
يلوحُ لناظِره طيْفُها ... فيَجْزَعُ من دمْعِه إن محاه
ويضحكُ مِنْ قلْبِهِ سَاخِراً ... إذا لم يرِنَّ اسْمُهَا في صداه
وكم أطْرَقَ الرأسَ حتّى إذا ... أحَسَّ بذلكَ جُنَّتْ يداه
وكم لبِثتْ عينه في الظلام ... شاخِصَةً لا ترى ما يراه
وتلّى على صَوْمِهِ رَابعٌ ... وما زال جُثْمانُهَا في كراه(393/36)
فلم يجترئ أَحَدٌ بَعْدُ أَنْ ... يواريَ هَيْكلَها في ثراه
تمُدُّ النِّسَاءُ عليها الحريرَ ... فيحسَبْنَهُ قائماً في صلاة
إلى أن تمثّلَهَا فِكْرَةً ... فقرَّرَ تنْفيِذَها، في ضُحاه
فأصدَرَ أمراً إلى شعْبِه ... دعا فيه بادِيَهُمْ واَلْحضَرْ
فما خطَرتْ قبْلَه فِكرةٌ ... كتِلْكَ ببالِ جميعِ البشر
ووافاهُ مِنْ كلِّ فّجٍ عَمِيقٍ ... بُراةُ الدُّمَى الفنُونِ الأُخر
وتمَّ له من مُعِدّاتِهْم ... وأسبابهم ما اقْتَضَاهُ الأثر
فصبَّ لتابُوتِهَا فِضّةً ... وزخْرفَ أطرافَه بِالصُّوَر
وقوَّمَ بالعاجِ أركانه ... وزانَ قوائمَه بالدُّرر
وشادَ على قُدْسِهِ حَضْرةً ... بناها من المرمر الْمُحْتَفر
وقدَّرَ شُبَّاكَهَا صَنْدَلاً ... وجَمَّلَ كِسْوتَه بِالطُّرَر
وقامت له شُرْفَةٌ في البِنا ... ءِ مقْصورَةٌ غَلِفّت بالسُّتُر
فكان يُفارِقُهَا بالعِشاءِ ... ويأتي لزَوْرَتِهَا في السَّحر
ومرَّتْ سِنونَ على صرْحِه ... وما زالَ يعْملُ في شأنِهِ
يُحِسُّ إلى حُبِّها في الضُّلو ... عِ كالبحر يغْشَى بطُوفانه
فيَسْعَى ليُعْلِنَهُ للأنامِ ... ولا يستريحُ بإِعلانه
وتلكَ التي أجَّجَتْ قلْبَهُ ... فأغرتْ حَشاه بطُغْيانه
ففي طَرْفِهِ أبداً حيْرةٌ ... إذا جالَ في حُسْنِ بُنيانه
فكم عاودَتْ يدُه بالصلا ... حِ شَكْلاً يُدِلُّ بإِتقانه
وكم أعْجَب الناسَ ما شادَهُ ... وأنْكَره هُو في آنِه
فهدَّم من سقْفِه ما اسْتقرَّ ... وبدَّل هيْئَةَ أركانه
وفي البدْءِ كانتْ له نزْعةٌ ... إلى المُسْتقلِّ بألوانه
فخفّفَ حِدّتَها تَوْقُه ... حَدِيثاً لإظهار سُلْطانه
مضى في التطوُّرِ ذاكَ البِناء ... ومَّهدَ أَوَّلهُ آخِرَهُ
فيأخذ إيوانهُ في اتِّساعٍ ... تحيط السواري به دائِرة(393/37)
وتلكَ هيَ النارُ في صدْرِه ... ولكنها التهبَتْ زاهرة
ففي كلِّ رُكْنٍ لها آيَةٌ ... تُحَدِّثُ عن حُسْنِها شاعِرة
لقد كانَ يُرْضِيه منها البَهاء ... فأصبَحَ لا يرْتضِي الباهرة
وأكْسَبَهُ ضرْبُه في الفنُو ... نِ ذوْقاً هدَى فِطْرَةً طائِرَة
ليختارَ من وحْيِها ما يَجِلُّ ... ويُهْمِلَ عن عَمدٍ سائرة
فكم شُرْفةٍ أثْقلَتهْا النُّقو ... شُ ردَّ سُرادِقَها حاسرة
لِتَنْهَضَ من فوْقِها قُبَّةٌ ... تخالُ السماَء بها غائرة
يغيبُ عن الحسِّ مَنْ زارها ... ويَشْهَدُ في ظلَّها الآخرة
تهلَّل بالحُسْنِ وجهُ الضريحِ ... وقامتْ منائِرُه باتَّزان
تُطِلُّ على أَثَر للخُلو ... دِ قامَ على آخر وهْو فان
وكانت تجيءُ إليه الوفود ... تُبارِكُ سُمْعَتَهُ بالعِيان
فتَشدُو أدِلاَّوهُمْ بالتي ... على حُسْنِها عُقِدَ المهْرَجان
وكيفَ قضتْ في صِباها فشادَ ... لها الْحُبُّ لُؤلُؤةَ في الزمان
فَتَخْشَعُ أطْرَافُهم للمكينِ ... وتخْفِتُ أصواتُهم في المكان
وكم شاعرٍ هائمٍ في الخيالِ ... تمثَّلَها فبكَي من حنان
وحسناَء تحبْسُ أَنفاسَها ... لعاقبةٍ - مِثْلَهَا - في الحسان
وَعَاشَ الأمير على عَهْدِهِ ... يقومُ لها كلَّ يومٍ بشان
وَمِنْ حَوْلِه مُلْهِمَاتُ الْفُنُونِ ... تَرِفُّ على قلْبِهِ بالأمانِ
وَأَمْسَى بشَيْبَتِهِ ذَاتَ يومٍ ... تُنَادِمُه روحُها الساريَةْ
يرى الوافِدَاتِ إلى قبْرها ... وهُنَّ يزَغْرِدْنَ في عافية
فيُثمِلُه حُسْنُ ما قدْ أَتمَّ ... وَيَذْكرُ ما لم يَكُنْ نَاسيَة
لقد لبِسَ الصْرحُ هذا الجلالَ ... بأشرافِ قُبَّتِه الْعالية
ولم يبْقَ ركنٌ على حَجْمِه ... سِوَى موْضِعِ التُّربة الزاكية
ونظْرَتُه ترْتمي في البِنَاء ... فتسْبحُ في جَوِّ صافية
ولكِنهَا كلّما راجعَتْ ... سوارِيْهِ. . . ساريةٍ سارية(393/38)
أصابتْ عِثاراً على نُقْطَةٍ ... فكَرَّتْ على نفْسِها ثانية
فيشْعُر كالّشَوْكِ في صدْرهِ ... يُوخزّ من قلْبِهِ دَامِيَةْ
فيَنْهَضُ فِي قبْضَةٍ منْ ذُهُولٍ ... يَجرُّ خُطاهُ بلا واعِيَة
وعادَ غداةَ غَدٍ واجِماً ... وفي سِرّهِ الْخُطْةُ التالَيةْ
وسادَ الكونُ على الْمُلْهمينَ ... كأنّهُمُ الْجَمْرةُ الْخَابية
فشاعِرُهم قائمٌ بِالوَصِيدِ ... يُسَائِلُ عمّا جَرَى رَاوِيَة
ودارَ بنظْرَتِه في الْمَكانِ ... وأَلْقَى على صَحنِه ثانِية
ورَوَّى طويلاً وقال: ارْفَعُوهُ! ... وَأَوْمَأ َلِلتُّرْبةِ الزاكية
(البحرين)
إبراهيم العريض(393/39)
رسالة الفن
شيء نادر:
الوصول
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كن في مجتمع وانظر إلى الناس من حولك وتفرس فيهم، فإنك تستطيع بعد شيء من التدرب والتعلم أن تحدد، ولو بالتقريب، شخصيات الكثيرين منهم، فتقول إن هذا الأول شخص جاد مستقيم في عمله في لهوه، فهو يعمل ليعيش، ويلهو ليعمل، كأنما هو آلة حكم عليها أن تدور دورتين دورة ذات اليمين ودورة ذات الشمال. فإذا تركته ونظرت إلى الثاني قلت إن هذا الثاني شخص حائر لا يعرف لماذا نوجد في هذه الحياة ولا يعرف أي أعباء الحياة يحمل ولا أيها يدع، فهو يرمق كل شيُ باهتمام، ولا تعدو رمقته إلى الأشياء هذا الاهتمام، ولا تجوزه إلى الاختبار والمعرفة ثم الاستغلال. فإذا تركته ونظرت إلى الثالث قلت إن هذا الثالث مغالط اختلس في الدنيا ما كان غيره أحق به منه، وهو يعرف أنه مختلس، ويعرف أن المختلس مهدد بالانفضاح، ولذلك فإنه يعمد إلى تغطية مغالطته الأصلية المجرمة بمغالطات أخرى فرعية هي أيضاً مجرمة. فإذا تركته ونظرت إلى الرابع قلت إن هذا الرابع ضعيف هزيل ولكنه راغب في الحياة، وفي لون مريح من ألوان الحياة يرضاه، فهو يتوسل إليه بإهدار كل مواهبه وكل قواه لا يعبأ بأن يكون موضع النقد، ولا بأن يكون موضع السخرية، ولا بأن يكون موضع التحقير ما دام يصل إلى الذي يريد من الراحة الرخيصة التي استهوته والتي طمع فيها على غير جدارة منه لها. . . فإذا تركته ونظرت إلى الخامس قلت إن هذا الخامس حقود، فإذا تركته ونظرت إلى السادس قلت إن هذا السادس بخيل، فإذا تركته ونظرت إلى السابع قلت إن هذا السابع بحاثة، فإذا تركته ونظرت إلى الثامن قلت إن هذا الثامن فنان. . . وهكذا. . .
بل أن من الناس من تستطيع بالنظرة الأولى إليه أن تعرف الحرفة التي يحترفها، فهذا تعرفه معلماً من عنايته بالنظافة والنظام، ومن حركاته الميكانيكية التي اصطنعها لتكون نموذجاً للتلاميذ يتحركون على نمطها، ولتكون في الوقت نفسه ستاراً بينه وبين التلاميذ فلا(393/40)
يكشفون مع وجودها حركات نفسه الطبيعية التي فطره عليها الله، وأنت تعرفه كذلك من صوته وإشارته وحديثه الذي يتكلف به التفهم بحسب أصول البيداجوجيا. . . وذاك تعرفه محامياً من لباقته ورشاقة ضميره التي تبدو في اتساع آفاق أحاديثه، تلك الأحاديث التي يحرص المحامي البارع كل الحرص على أن تكون كلاماً لا معنى له حتى إذا اختلف مع موكله بعد الحكم الابتدائي استطاع أن يتفق مع خصم موكله ليترافع عنه لدى محكمة الاستئناف. . . وذلك تعرفه سمساراً من سهولة دخوله على الناس وسهولة خروجه من الناس، فهو يحدث من يشاء بما يشاء إلى أن يشاء قطع الحديث ليحدث آخر بما يشاء أيضاً حتى يرى أن يصل الاثنين وأن ينسحب هو ليصل غيرهما بالحلال أو الحرام. . . وأخر تعرفه عسكرياً من سماحة عقله وسماحة نفسه فهو لا يطمع من الدنيا في شيء أكثر من الذي يطمع الإنسان فيه إذا كان في (استراحة) إحدى المحطات: لقمة سائغة، وشربة هنية، بعدهما جرس القيام. . . ثم الصحافي تعرفه صحافياً بقدرته العجيبة على دس نفسه فيما يعرف وفيما لا يعرف، وبقدرته الأخرى على الاستخفاف بحكم الناس عليه؛ فهو يقبل عليهم في النكبة لا ليشاركهم الأسى ولا ليواسيهم ولا ليخفف عنهم وإنما ليراهم كيف يبكون، وكيف يذرفون الدمع، وليته مع ذلك يحاول أن يعرف هذا البكاء وهذا الدمع هل هما صادقان أو هما كاذبان وإنما الذي يعنيه هو تسجيل الوقت الذي بدأ فيه البكاء والوقت الذي انتهى فيه، وتقدير الدمع الذي كأنما ناس يريدون أن يشربوه أو أن يعوموا فيه. . . وهكذا
هذا شيء يحدث. . . وأنت تستطيع - كغيرك - أن تميز الناس بالنظرة الأولى أو بالنظرة الثانية، فما الذي يحدث للناس حتى يتشكلوا هذا التشكل الذي يحددهم ويحصر شخصياتهم؟ وهل تحدد الشخصية وانحصارها مما يدل على قوتها، أو مما يدل على ضعفها؟
أما الذي يحدث للناس، فيكون من أثره أن تتشكل شخصياتهم وأت تتحدد وأن تنحصر وأن تتميز، فهو أن الواحد منهم يقع تحت تأثير عاطفة من العواطف أو حرفة من الحرف، ويتركها تعمل في نفسه. والنفس كما نعلم تعمل في البدن، ولكل عاطفة لون من العمل تنصبغ به النفس ويتشكل به البدن. ومهما كان الخير في العاطفة الواحدة أو في الحرفة الواحدة، فإن تغلبها على الإنسان فيه اختلال لتوازنه النفسي وفيه تشويه لشكل بدنه، فالله لم(393/41)
يخلق بعاطفة إنساناً واحدة طاغية عليه، كما أنه لم يخلق إنساناً محترفاً حرفة واحدة تؤثر فيه هذا الأثر الشنيع.
وإنما الناس الذين خلقهم الله أطفال، أصفياء، عواطفهم موجودة لا حصر لها: فالسعيد منهم هو ذلك الذي إذا نما العقل فيه تمكن به من حفظ التوازن بين هذه العواطف الموجودة الكثيرة فلم يسمح لإحداها بأن تغلبه على أمره. . . فإذا استطاع هذا، فهو ينمو ويكبر ولا يزال وجهه كوجوه الأطفال، ولا تزال شخصيته كشخصيات الأطفال، فيها هذا الشيوع السمح الذي لا يستطيع الناظر إليه أو المحقق فيه أن يميزهم به فيقول: إن هذا الإنسان حقود، أو أنه غيور، أو أنه طماع، أو أنه محام أو أنه معلم، أو أنه مهندس، أو أنه شيء ما. . . وإنما يقول هذا إنسان، فإذا أراد أن يعرف أي إنسان هو كان عليه أن يعاشره وأن يختبره، فعندئذ تتبين له مواهبه واتجاهاته العقلية والنفسية. ولا بد في هذه الحال أن تنكشف له ميزات عجيبة، لأن الإنسان الذي يستطيع - وعلى الخصوص في هذا العصر - أن ينجو بنفسه من الخضوع لإحدى العواطف أو لمجموعة خاصة منها، وأن ينجو من آثار الحرفة والمهنة، لهو إنسان قوي النفس استطاع أن يصل أو أن يعود إلى الأصل الطبيعي لنفسه، وهو الأصل الذي فطره الله عليه، وهو أصل خصب صاف غني فيه كل العواطف، وكل المواهب، وكل القوى الخلقية، وإن تفاوتت مقاديرها عند الناس.
ومن الفنانين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الصفاء: شارلس لاتون، فأنت تنظر إلى وجهه فترى وجه طفل لا يستطيع اللحم المتراكم فيه أن يحجب صفاءه ولا نقاءه.
ونجيب الريحاني يقترب اليوم من الستين، ومع هذا فمهما تفرست في وجهه فإنك لا تستطيع - والصلاة على النبي - أن ترى فيه تجعيدة أو خطأً يستر عاطفة حادة أو يشير إلى أن هذا الرجل قد قهره الزمن على أن ينصبَّ في قالب ما. ولذلك فإنه قدير على أن يمثل كل شخصية من الناس، وعلى أن يعلم الممثلين كيف يمثلون ما اختلف من الشخصيات.
والأستاذ أحمد أمين - على ما أنا متحامل عليه - تراه فلا تعرف أهذا الرجل أديب، أم هو عالم، أم هو تاجر، أم هو من ذوي الأملاك، أم هو ممن يرزقهم الله يوماً بعد يوم. . . ولست أدري أأتاه ذلك لأنه من أولئك الذين تحدثنا عنهم، أم لأنه مجموعة من الرجال:(393/42)
فمنهم الأديب والعالم والتاجر وذو الأملاك، والذي يرزقه الله يوماً بعد يوم، وقد تعادل فيه هؤلاء جميعاً فلم يقو واحد منهم على أن يختص بالظهور فيه.
ويشبهه في ذلك الأستاذ الزيات. . . بل إنه يزيد عنه غموضاً في صوته، فهو لا يزال إلى اليوم يشبه أصوات الأطفال. . .
أما الرجل الجبار في هذا الوصول فهو الاقتصادي الفنان الكبير طلعت حرب. . . فهذا الرجل إذا لم تكن تعرفه ورأيته وأقسم لك جمهور من الناس بأنه طلعت حرب لما صدقت، فهو لا يبدو عليه أنه باشا، ولا أنه اقتصادي، ولا أنه صاحب مشروعات، ولا أنه صاحب جهاد، وإنما هو رجل منكسر ينثني رأسه وهو جالس إلى صدره ذلاً واستغفاراً، وتتطلع عيناه إلى السماء رجاء واستعطافاً، ويتهادى صوته في حديثه كأنما يخشى التعثر أو الخطأ، مع أنه اليوم في السبعين أو نحوها، ومع أنه الرجل الأول في مصر.
السنون مرت به ولكنها لم تفعل به شيئاً، والصعاب صدمته ولكنها لم تحفز في نفسه مجرى، وإنما كان يقبل في السنين الماضيات جميعاً على اليوم بعد اليوم، أو على الساعة بعد الساعة يبحث عن موضع الحق أين هو فيلصق به، والصعاب كانت تصدمه فكان يردها بدرع الحق أيضاً فلم تكن لتؤثر فيه، ولذلك استطاع أن يبقى إلى اليوم كأنه طفل كبر جسمه ولكن نفسه ما تزال صافية مرتاحة.
وإذا كان الوصول إلى هذا الصفاء لازماً للناس جميعاً، لأنه أهم أسباب الراحة والاطمئنان، فهو ألزم ما يكون لأهل الفن ما دام تعبيراً من حياة الروح عند صاحبه وعند غيره من الناس، فهذا الصفاء يمكن الفنان من الاطلاع على حقيقة نفسه كلما اعتراها طارئ من طوارئ الحياة، فيلحظ بهذا الاطلاع ما ينتاب النفس الطبيعية عند هذا الطارئ بالذات؛ فإذا ضمن صفاء نفسه واستقامتها فقد ضمن بها مقياساً لا يخطئ يمكنه من الحكم على سائر النفوس وهي تحت تأثير الطوارئ المختلفة، فإذا لحظ بعد ذلك كيف تعبر نفسه عما تفعله بها الطوارئ، وكيف تنزع إلى الاستغراق في هذا الطارئ أو التنصل من ذاك الطارئ، استطاع بعد ذلك أن يقيس نفوس الناس على نفسه الصافية فإذا وجد اختلافاً بحث عن علته وسببه عندهم. . .
وهذه موضوعات للأدب، وللموسيقى، وللتمثيل، وللغناء، وللرسم، وللرقص. . .(393/43)
إنها حياة النفس وما الفن إلا تصوير هذه الحياة، وما الوصول إلى الفن الصادق إلا من هذه الطريق. . .
كان الله في عون الفنان إذا أراد أن يكون صادقاً. . .
عزيز أحمد فهمي(393/44)
البريد الأدبي
الجيل
يعضد مقالة الدكتور زكي مبارك في (الجيل) مستدرك التاج (والجيل القرن) (والقرن - كما في النهاية - أهل كل زمان وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان، وكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. وقيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق الزمان)
والجيل في هذه اللزومية:
دين وكفر وأنباء تقص وفرقان (م) ... ينص وتوراة وإنجيل
في كل جيل أباطيل يدان بها ... فهل تفرد يوماً بالهدى جيل؟
وما تزال لأهل الفضل منقصة ... وللأصاغر تعظيم وتبجيل!
الجيل في قول الشيخ قد يراه الدكتور من حججه
حول مسابقة الأدب العربي
في هذا العدد من الرسالة يظهر المقال التاسع، وفي العدد المقبل إن شاء الله يظهر المقال العاشر في نقد كتاب (المختار) للأستاذ عبد العزيز البشري، ويرى طلبة السنة التوجيهية أن موعد المسابقة اقترب وأنه صار من المتعذر أن نكتب عن (تحرير المرأة) و (ديوان إسماعيل صبري)
أما كتاب المرأة فقد نشرت عنه (الرسالة) مقالين لباحثين فاضلين، فأنارت الطريق أمام الطلاب، وأما ديوان إسماعيل صبري فمعه أربع دراسات لحضرات الأساتذة الأفاضل طه حسين وأحمد أمين وأنطون الجميّل وأحمد الزين، وفي هذه الدراسات ما يوضّح ملامح هذه الشاعرية أحسن توضيح.
لكن بقي جانبٌ من هذه الشاعرية لم يلتفت إليه هؤلاء الباحثون، وذلك الجانب هو تأثير إسماعيل صبري في الشعر الحديث من الناحية الوصفية، وأريد بها وصف الآثار المصرية وكنت أحب أن أنشر في (الرسالة) مقالة في خصائص هذا الجانب من شاعرية صبري، ولكني لم أجد ما أقوله بعد البحثين اللذين أثبتهما في الطبعة الثانية من كتاب (الموازنة بين الشعراء) وهما يقعان في سبع وعشرين صفحة، فإن رأي الطلبة أن يرجعوا إلى هذين(393/45)
البحثين في كتاب الموازنة بين الشعراء فسيكون لذلك بعض النفع، لأنهم سيرون ملامح لم يروها في تلك الدراسات، وقد يكون فيما فصلنا من الموازنة بين صبري ومطران معان لم يلتفت إليها من قبل.
وأن أرجو أن يكتب الله التوفيق لجميع المتسابقين، وأنتظر بعون الله ورعايته أن يكون إجابات المتسابقين شاهداً على اهتمام الشبان في مصر بمسايرة الأدب الحديث والله عز شأنه هو الموفق.
زكي مبارك
الرواية الإسلامية في عدد أصحاب الكهف
ذكر الأستاذ الجليل زكي مبارك في العدد (391) من مجلة الرسالة الغراء أنه بمراجعة التفاسير في قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) يعرف أن أصحاب القول الأول هم اليهود، وأصحاب القول الثاني هم النصارى، وأصحاب القول الثالث هم المسلمون، وقد جعل الرواية الإسلامية أن عددهم ثمانية بإضافة كلبهم إليهم.
ولعل الصديق الأستاذ زكي مبارك يقصد الرواية الإسلامية المشهورة، فلا تكون هذه الرواية في الإسلام ضربة لازب وإن اشتهرت بين المسلمين، فكم من أمور اشتهرت بيننا معشر المسلمين وليست في شيء من ديننا. والحقيقة أن ظاهر القرآن الكريم على أن هذه الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب خاصة، فهم الذين قالوا مرة إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالوا مرة إنهم خمسة سادسهم كلبهم، وقالوا مرة إنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يرد عليهم أقوالهم المختلفة بقوله: (قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) ثم أمره بعد هذا ألا يماري فيهم إلا مراء ظاهراً، واختيار أحد هذه الأقوال وحمله على القرآن والإسلام ليس من المراء الظاهر في شيء، والحكمة ظاهرة في ترك ذلك المراء، لأن الإسلام لا يعني بعدد أصحاب الكهف ولا غيره من شأنهم، وليس من شأنه أن يدخل في جدال مع أهل الكتاب في تلك التفاصيل، وإنما يسوق قصة أهل الكهف للعبرة والعظة، شأنه في كل ما قصه علينا في القرآن الكريم، والعناية بتلك التفاصيل من شأن علم التاريخ(393/46)
لا من شأن الكتب السماوية.
وقد تمسك الذين رجحوا أن يكون عدد أصحاب الكهف ثمانية من علمائنا بهذه الواو التي وردت في قوله تعالى: (وثامنهم كلبهم إذ لم يقل قبلها ورابعهم وسادسهم، ولكن هذه الواو إذا دلت على مثل هذا فإنما تدل عليه في قول الذين حكى الله تعالى هذا القول عنهم، ولا تدل على ترجيح الله تعالى لهذا القول على القولين قبله.
وإذن يكون الراجح عندنا في عدد أصحاب الكهف أنه مما استأثر الله بعلمه مع القليل الذي ذكره في كتابه، وليكن بعد هذه عددهم أربعة أو ستة أو ثمانية، فكل هذا من الرجم بالغيب. ولا يهمنا في ديننا بشيء، ولو كان المسلمون كلهم يعرفون عددهم وأنه ثمانية ما قال الله تعالى في عددهم (ما يعلمهم إلا قليل)
عبد المتعال الصعيدي
في ديوان إسماعيل صبري باشا
قرأت ديوان إسماعيل صبري باشا الذي صححه وضبطه وشرحه ورتبه الصديق الشاعر الأستاذ أحمد الزين والذي قامت بنشره لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1938م فَلفتَ انتباهي خطأ وقع فيه الأستاذ الزين رأيت أن يصححه كل من اقتنى الديوان. ففي صفحة 186 قصيدة عنوانها (الحرب الإيطالية في طرابلس أيضاً) أولها:
يَا بِنتَ رُومَا لا تكوني كماَ ... كانَتْ أثِينا بَيْنَ قِيلٍ وقالِ
وهذه القصيدة مُشكلةٌ كل أبياتها بكسر اللام في القافية وهذا خطل تصويبه تسكين اللام يصير وزن القصيدة:
مُستفعلن مستفعِلُنْ فاعلنْ ... مُستفعلنْ مُستفعلن فاعلانْ
فليس من الجائز أن نقول:
مُستفعلنْ مُستفعلنْ فاعلنْ ... مُستفعلن مُستفعلن فاعلاَنِ
والخطأ في القول الثاني هو كسر النون في (فاعلانِ) وصحته تسكين اللام يقول (فاعلانْ)
عبد الرحمن الخميسي
قصيدة كبلنج(393/47)
قرأت في العدد (389) من الرسالة الغراء ترجمة الأستاذ عبد الواحد الخطيب لقصيدة كبلنج الخالدة (إذا. . .) فوقفت عند السطر الثاني والثلث منها عندما لاحظت اضطراباً في المعنى فقد جاء في ترجمة الأستاذ ما نصه (وكان في إمكانك أن تثق بنفسك حينما يشك فيك بعد أن تعرف رأيهم ووجهتهم التي يعيبونك فيها) فالضمير في رأيهم يعود على فاعل يشك التي بناها الأستاذ لصيغة المجهول، وكان الصواب أن يذكر فاعلها وهو (الناس) كما ورد في الأصل الإنجليزي.
هذا وإننا نشكر الرسالة الغراء فتحها المجال لأمناء العربية ممن قدِّر لهم الوقوف على الأدب الإنجليزي الزاخر ليطلعونا على عيونه وفرائده.
(عكا. فلسطين)
عرفات الطاهر
ميكرسكوب كهربائي يكبر 25 ألف مرة
من أخبار أمريكا الأخيرة أن أحد المصانع الكبرى بها وهو مصنع للراديو قد تمكن من إخراج ميكرسكوب يستعين بالقوة الكهربائية لإعطاء نظر قوته 25 ألف مرة. وهذا الميكرسكوب قد وضع تصميمه العالم الدكتور فلاديمير زوركين وتمكن المصنع من صنعه بمعونة نفر من أقطاب صناعة العدسات وعلى رأسهم الدكتور لادسلوس ماركون أشهر أخصائي في صنع الميكرسكوبات.
ولا شك أن هذا المجهر يفتح مجالاً كبيراً للعلماء في شتى الأبحاث التي ظلت خفية أو مجهولة، بل وفي شتى الصناعات الكيميائية التي تعتمد على الكيمياء الصناعية كما هو الحال في الراديو، وقد يفسر هذا إقدام هذه الشركة على تمويل المشروع.
ومن البديهي أن استخدام هذا المجهر في علم البيولوجيا سيعود بأعظم النفع على الإنسانية إذ سيكشف عن جزئيات الميكروبات، كما أنه سيكون ذا فائدة كبيرة في دراسة علم المعادن العضوية وغير العضوية التي لا يمكن رؤيتها بالمجاهر العادية.
ومن قوة هذا المجهر أنه يستطاع به رؤية الميكروبات الدقيقة التي لا يمكن رؤيتها بالضوء العادي، فلقد استعمل المصنع ضوءاً قوته من 30 ألف - 100 ألف فولت حتى استطاعوا(393/48)
أن يشاهدوا به الموجات الضوئية الدقيقة.
وهذا المجهر مزود بآلة فوتوغرافية غاية في الدقة تستطيع أن تصور التطورات المختلفة التي تمر تحت عدساته. وحسب القارئ في الدلالة على دقتها أن يعرف أن في استطاعتها تصوير جزء من مليون من السنتيمتر. وشريطها رقيق جداً بدرجة حساسة وهو مصنوع من مادة النتركيلولوس.
وعدسات هذا المجهر ثلاث: الأولى تجعل المشاهدة حوالي مائة مرة، والثانية تصلها إلى 250 مرة، والثالثة تضاعفها إلى 25 ألف مرة؛ وجميع هذه المكثفات واقعة تحت تأثير منبع كهربائي قوته كما قلنا أقلها 30 ألف فولت وآخرها 100 ألف فولت، وفي أسفل هذه العدسات الآلة الفوتوغرافية الدقيقة. . . أرجو أن أستطيع في فرصة أخرى توضيح هذا الشرح بصور لهذا المجهر العجيب.
مصطفى مشعل
سفساف لا سفاسف
جاء في كلمة عبد الوهاب عزام عدد (388) هذه الجملة:
(ويعلو عن (سفاسفه)). فقد ند قلم الدكتور السيال عن هذه اللفظة، فاستعملها بمعنى الرديء، والذي ورد في كتب اللغة (سَفْساف) ولم يرد إلا سُفاسِفْ بالضم بمعنى شديد.
جاء في القاموس مادة (سفف)، (وجوعٌ سُفاسِف بالضم شديد، والسفساف الرديء من كل شيء والأمر الحقير، وسفسف عمله لم يبالغ في إحكامه) وفي لسان العرب السفساف الأمر الحقير وأورد شاهداً ما جاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) وأنكر سفاسفه قال: (وفي حديث فاطمة بنت قيس إني أخاف عليك سفاسفه قال ابن الأثير هكذا أخرجه أبو موسى في السين والفاء ولم يفسره وقال: ذكره العكبري بالفاء والقاف ولم يورده أيضاً في السين والقاف قال: والمشهور المحفوظ في حديث فاطمة هو: إنما هو إني أخاف عليك قسقاسته وهي العصا قال: فأما سفاسفه وسقاسقه فلا أعرفه إلا أن يكون من قولهم لطرائق السيف سفاسقه وهي التي يقال لها (الفرند) فارسية معربة.
وأستفهم من حضرة الدكتور الأديب: هل هناك فرق بين الصبر الجميل والصبر. فقد جاء(393/49)
في القرآن الكريم حكاية عن سيدنا يعقوب (فصبر جميل) وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: فاصبر صبراً جميلاً، وبقوله: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فهذا الدليل على أن هناك أنواعاً للصبر بينها فروق. أرجو الإجابة على هذا مع جميل الثناء.
فخر الدين غزي
إلى الدكتور عبد الوهاب عزام
إنك وحدك - فيما أعلم - الذي تستطيع بلسانك الفارسي أن تسلك القلم العربي المبين في هذه الناحية التي عنت لي في دراسة الأدب العباسي. تلك الناحية هي تأثير اللغة العربية في اللغة الفارسية تأثيراً شاملاً لا ريب فيه، وتلك الثغرة أتقدم إلى فتحها في البحث الأدبي إذ المستفيض في كتابات الناس على كثرتها وتنوعها أنها لم تتعد الحديث عن تأثير الفارسية في العربية تأثيراً عاماً في الألفاظ والأساليب والأخيلة والمعاني وكل ما يضرب في هذه السبل، ويذهبون في العوامل التي أدت إلى ذلك كل مذهب، وليس يعنينا هنا أن نقول إن العربية اقتحمت على الفارسية معاقلها أو كادت تمحوها حيناً من الحين، أو أن نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو بالعربية، إذ كان شعر الشاعر منهم بالعربية كبشار، وأدب الأديب منهم بالعربية كابن المقفع، وتأليف المؤلف منهم بالعربية كابن قتيبة والطبري، نعم هذا حسن ولكني أعتقد أن هناك شيئاً وراء ذلك كله وهذا الشيء لم يعرض له أحد من الباحثين فيما قرأت من تواريخ اللغة والأدب. وهل رأينا أحداً ألف كتاباً أو بحث بحثاً في تأثير اللغة العربية في الفارسية وآدابها. لا نقول إن هذا لون في البحث لا يعرض له مؤرخ الفارسية وأدبها، فالباحث الحديث لا يقف قلمه عند النظرة البدائية أو نظرة الطائر كما يقولون. والمهم هنا هو أن أنص بقوة على أن اللغة الفارسية لا بد أنها تأثرت تأثيراً عميقاً باللغة العربية في الألفاظ والأساليب والأخيلة والمعاني والأفكار، إذ المعلوم أن سريان مثل هذه التأثيرات شيء معنوي لا يمكن أن تضع يدك عليه وتقول إنه وصل إلى هنا وابتدأ من هناك، أو تستطيع أن تقف تياره عند حد معين، فذلك بالماديات أليق، وإذا كان كذلك فإني أتقدم إلى الدكتور الفاضل عبد الوهاب عزام راجياً أن يسلك القلم(393/50)
في هذا الموضوع الخطير وله في العربية العرفان بالجميل، وهذه إشارة عجلان لعلها تحظى بالجواب من العالم الوقور.
أحمد عبد الرحمن عيسى(393/51)
القصص
الحب والسحر
للأستاذ نجيب محفوظ
انتهى من فرش شقته - أو حجرته إن أردت الدقة - لأنها كانت مكونة من حجرة متوسطة الحجم وردهة صغيرة، وكان الأثاث في غاية البساطة كذلك لا يعدو الفراش الخشبي الصغير وخواناً يستعمل مائدة للطعام ومكتباً للمذاكرة وكرسياً وصندوقاً لحفظ الملابس والكتب ومسطرة مدرسة الصنائع المعروفة بطولها. وهذه الشقة هي الطابق الأول لمنزل صغير مكون من طابقين متماثلين بحارة دعبس بالوايلية. هداه إليه أهل الخير، فوجده صالحاً لتلميذ مثله بمدرسة الصنائع ومن أسرة ريفية متوسطة الحال بقليوب، واكترى الشقة بخمسين قرشاً بعد أن فرضت صاحبة البيت تخفيض مليم من أجرتها. . .
واستقبل الحياة في البيت الجديد بنفس راضية، وعلم أن صاحبته تدعى (أم فردوس)، وأنها أرملة أسطى عربجي كارو ولكنها تعيش الآن من أجرة شقته وما تربحه من بيع مواد السمنة: كالمفتقة والمغات وبعض التركيبات الأخرى؛ ثم هدايا الأسر التي تعمل بها: (كبلانة) أو (خاطبة). وكانت امرأة قصيرة بدينة قوية البنية، تصبغ شعرها بالحناء، وتملأ ساعديها بالأساور الذهبية؛ وكانت قسماتها مقبولة، ولكن صوتها خشن جهوري، السب أهون ما يقذف به مما جعلها مرهوبة الجانب في الحي كله. وتساءل منذ اليوم الأول لإقامته في البيت: ترى هل لأم فردوس بنت تدعى فردوس حقاً؟. . . وأين هي؟ هل تقيم معها في البيت أم أنها في بيت زوجها؟. . . وربما كان الباعث على السؤال حب الاستطلاع ليس إلا، وعلى أية حال جاءه الجواب سريعاً، ففي صباح أحد الأيام، وكان يهم بمغادرة شقته إلى المدرسة سمع وقع أقدام خفيفة فصوب بصره إلى أعلى السلم فرأى فتاة في السادسة عشرة مرتدية مريلة المدرسة الزرقاء تهبط في تؤدة حاملة حقيبتها، فانتظر حيث هو موسعاً لها الطريق، وقد التقى بصره ببصرها وهي تعاينه بعين يعلوها الارتباك، ولما حاذته خال أنه سمعها تحييه خافت قائلة (صباح الخير) فقال لها بلهجته الريفية القحة (صباح الخير). . . ثم تبعها على مهل حتى خلصا إلى الطريق، ولم تلتفت الفتاة إلى الوراء، ووضعت حقيبتها على خاصرتها وأحاطتها بذراعها ومضت. . . ترى هل تكون(393/52)
الفتاة فردوس بنت أم فردوس؟. . . رجح ذلك مستدلاً بتحيتها له، وعلى أية حال كانت الفتاة خمرية اللون، سوداء العينين والشعر، ناهدة الثديين. . . فبدت لعينيه الريفيتين آية من الحسن، وكان يتمثل فردوس من قبل كأمها: غليظة، تسعى في الأسواق ملتفة بالملاءة اللف، فإذا به يجدها تلميذة لطيفة تسر الناظرين. . . فجرت ابتسامة على شفتيه الغليظتين، وولول قائلاً بلهجته الريفية: (وي وي يا بوي). . . ولذ له أن يعيش في بيت واحد مع هذه الفتاة الجميلة، ولكنه كان قليلاً ما يسد برؤيتها بخلاف أمها التي كانت تقوم بتنظيف شقته، وتجالسه في أوقات الفراغ، وتحدثه - بمناسبة وغير مناسبة - عن شئون مختلفة وعن أناس كثيرين من الجيران، وقد ساق الحديث يوماً إلى ناحيته فسألته عن أسرته ومستقبله وصارحها الشاب بأنه من أسرة سيدهم!. . . وأنه يملك فدانين وعدداً من القراريط وجاموسة، وانه التحق بمدرسة الصنايع بعد أن قضى ثلاث سنوات بالمدرسة الثانوية وقال لها في شيء من المباهاة أنه سيكون يوماً ما مهندساً وأصغت المرأة إليه باهتمام وانتباه وكانت تتمثل الفدانين والجاموسة والمهندس الشاب وتختلس منه نظرات عميقة تدل على الحذر والدهاء. . . ثم دعت له دعاء طيباً بصوتها الأجش. . .
وسارت الحياة على وتيرة واحدة ولم يكن يغير من رتابتها إلا سفره كل أول خميس من الشهر إلى قليوب حيث يبيت ليلته ويعود مساء الجمعة حاملاً معه بيضاً وفطيراً وزبدة يهدى إلى أم فردوس منها نصيباً معلوماً. . .
وفي من الأيام وكانت المرأة تجالسه خاطبته قائلة:
- والنبي ياسي حماد تفهم فردوس الحساب لأنها ضعيفة فيه وابتهج الشاب بالدعوة أيما ابتهاج. ولم يكن الأمر سهلاً كما يبدو لأنه كان نفسه ضعيفاً في الحساب وكان بينه وبينه ثأر قديم منذ اليوم الذي اضطره فيه إلى اليأس من الاستمرار في المدرسة الثانوية وإجباره على اختيار مدرسة الصنائع بدل المدرسة الحربية التي كان على استعداد لأن يجود في سبيل الالتحاق بها ببيع الفدانين والجاموسة. ولكنه قبل الدعوة دون تردد وصعد إلى شقة أم فردوس، ووجد الفتاة وكأنها في انتظاره وكانت ترتدي فستاناً أنيقاً، وترسل شعرها الأسود في ضفيرة طويلة جاوزت ردفيها. فقامت لتحيته وجلسا تفصل بينهما مائدة وضعت عليها كراسة الحساب، وقالت لها أمها: إن (حماد أفندي قبل أن يدرس لها الحساب) وجلست(393/53)
معهما برهة ثم خرجت إلى الردهة لأعمالها التي لا تنتهي، وكان الدرس شاقاً على المعلم والتلميذة على السواء، ولكنه لم يرض بالهزيمة وإفلات الفرصة السعيدة من بين يديه فشرح لها الدرس على قدر فهمه. وكان إذا غلبه الارتباك نظر إليها وسألها قائلاً: (فاهمة؟) فتهو رأسها بالإيجاب سواء أكانت فاهمة أم غير فاهمة. ووجد حامد في هذه الدروس فرصة جميلة للاجتماع بفردوس، وكان يجذبه إليها ما يجذب فتى مثله في فورةالشباب إلى فتاة في نضوجها وحسنها انطوى عليهما بيت واحد، وربما كانا معاً يكابدان هذا الشعور الطبيعي ولكنهما لم يتقدما قي علاقتهما عن أول يوم التقيا فيه لأن الشاب كان ريفياً (خاماً) وكان يقنع بأن يقول لها صباح الخير أو مساء الخير وهو يحدجها بنظرة ذات معنى كأنها تتوسل إليها أن تفهم، أو أن يضغط على يدها إذا مدتها إليه بالسلام. وكان كثير الحذر في التعبير عن شعوره خشية تتنبه إليهما أم فردوس لأنه كان يتوهم أنها لم تتنبه إليهما بعد. . .
واطردت الأيام وهو جد سعيد بحياته، حتى كان صباح جمعة، وكان من عادته أن يمضي صباح الجمعة خارج البيت إلى ما بعد الصلاة؛ وكان يقطع حارة دسوقي في طريقه إلى شارع الملك فألتقى بأم بخاطرها الغسالة وهي ملتفة في ملاءتها القذرة كغرارة الفحم، وكانت تغسل له ثيابه ثم انقطعت على أثر شجار قام بينها وبين أم فردوس تبودل فيه القذف والسب وشد الشعر والبصق وحركات أخرى غاية في الغرابة، فأقبلت المرأة عليه وحيته وقالت:
- ياسي حماد أنا أرغب في مقابلتك منذ زمن طويل فالحمد لله الذي أراد بك كل خير. . . تعال أحدثك حديثاً يهمك. . .
وانتبذت به مكاناً خالياً من الحارة ثم استدركت تقول:
- أنت شاب طيب القلب لا تدري من أمور الدنيا شيئاً فاحذر هذه المرأة. . . أم فردوس داهية شريرة تجد منذ زمن طويل في الإيقاع بك. . .
فبوغت الشاب بهذا القول وأخذه العجب وسألها في ارتباك ظاهر: (أي إيقاع بي تعنين!)
فقالت المرأة وهي تخافت من صوتها:
- ابنتها؟. . . ألا تفهم؟. . . ابنة العربجي. . . فردوس التي تسير في الطريق عارضة(393/54)
ردفيها وساقيها لكل من رأى، فلا هي من مقامك ولا مقام أسرتك وأنت الحسيب النسيب مالك الفدادين. . . فاحذر ثم أحذر، إنها تحتال عليك مستعينة بالشياطين. .
وسكتت المرأة ريثما تستريح وجعلت تلحظ الشاب وتقرأ الدهشة المرتسمة على وجهها بارتياح ثم أدنت رأسها من رأسه غير مشفقة عليه من رائحة رأسها ونكهة فمها واستطردت تقول:
- لقد أخذت منديلك خفية وأعطته للشيخة زهية وأعطت قميصك للشيخ لبيب وأنت لا تدري شيئاً والسحر في فعله، والبخور في عمله، وأرواح الشياطين تطوف ليل نهار.
فتبدى الخوف على وجه الشاب وعبس وجهه. . . ولم يكن خالي الذهن من هذه الأمور، ولا كان ممن يستهينون بها فساوره القلق وتساءل متجاهلاً عواطفه مظهراً عدم اكتراث.
- وما عسى أن يعني هذا؟
فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت:
- هذا يعني كل شيء يا مسكين؛ هذا الذي أوقع المرحوم الأسطى شلبي من قبل. واعلم أنها دخلت في العميق، وحصلت على حجاب رهيب تحت حشيّة سريرك، وحفظت ابنتها كلاماً سحرياً مخيفاً تتله صباح كل جمعة على فراشك وهي تثابر على ذلك أسبوعاً بعد أسبوع، فأفسد عليها عملها الشيطاني، وانج بنفسك. . . والآن وقد حذرتك، فإني تاركتك لحكمتك والله يلهمك الصواب. . .
وسارت المرأة في سبيلها، ولبث هو في مكانه لا يريم عنه متفكراً قلقاً يعجب لتلك الأمور الجليلة التي تدور من حوله وهو عنها غافل. . . رباه! أسحر وبخور وشياطين؟!. . . أكل هذا ليتزوج من فردوس؟ وكان بغير شك قلقاً خائفاً ولكنه أحس لذة خفية وفخاراً، ثم تساءل: هل يستمر في طريقه أم يعود إلى البيت ليرى بنفسه ما يحدث في غرفته؟ وولى وجهه شطر حارة دعبس دون تردد فبلغ البيت بعد زمن قصير وكانت النوافذ مغلقة والباب موارباً كعادته فدخل بهدوء لا يحدث صوتاً ورأى باب شقته مغلقاً، ترى هل هو مغلق بالمفتاح؟ وهل فردوس حقاً بالداخل؟ ثم صعد بصره إلى أعلى السلم وأدار الأكرة بخفة ودفع الباب في حذر فانفتح، فخفق قلبه وقال لنفسه إن أم فردوس لا تترك الباب هكذا إذا لم يكن أحد بالداخل، ثم دخل ورد الباب بهدوء، وهنا اقتحمت أنفه رائحة بخور جميلة(393/55)
مخدرة فانتفض رعباً وتمتم بصوت غير مسموع قائلاً: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم) ولكن شغفه تغلب على خوفه فتقدم بخفة كأنه يسير على حبل في ملعب ووضع أذنه على باب الحجرة فلم يسمع حركة ولا نامة فانحنى حتى استطاع أن ينظر إلى الداخل من خصاص الباب فرأى دخان البخور تتصاعد سحائبه في هدوء إلى سماء الغرفة، واستطاع أن يرى سريره بوضوح. . . رباه. . لم يكن خالياً. . . كانت فردوس تتربع عليه في ثوب أبيض ناصع البياض متلفعة بخمار أبيض كذلك كأنها على وشك صلاة، ورآها تضع على كفها رسالة مطوية تستغرق في النظر وتحرك شفتيها حركة منظمة كأنها تتلو آية؛ ولبث ينظر إليها في سكون ودهشة، وكان يجد قلقاً غريباً، ولكنه لم يشعر بغضب أو سخط بل جعل يراقبها أخيراً في شغف ثم رآها تثني حافة المرتبة وتضع ما بين يديها تحتها، ثم رآها تتمدد على ظهرها في هدوء وهي تظن أنها بمأمن من الرقباء وتسحب الوسادة وتضعها عليها بالطول، ثم احتضنتها بيديها وكأنما راحت في سبات عميق، وراقبها بعينين دهشتين وراح يتساءل أكل هذا من أجلي أنا؟!. . . أكل هذا لكي تتزوج مني أنا. . . واطمأن إلى المنظر الغريب ووجد في مراقبته لذة لا تعادلها لذة؛ وأحس تخديراً ود لو لم يصح منه أبداً. وتدفق الحنان من حناياه فتمنّى لو يحتويها في تلك اللحظة بين يديه. . .
ثم رآها تزيح الوسادة عنها وتعيدها إلى مكانها وتعتدل جالسة ثم تهبط إلى الأرض وتميل المبخرة لترفعها فتوقع أن تمضي بعد ذلك إلى الباب وانتبه إلى حاله، فسارع إلى الباب وفتحه وأغلقه بقوة متعمداً أن يحدث صوتاً مسموعاً واتجه نحو غرفته وهو يصفر صفيراً عالياً فانفتح باب غرفته وبرزت الفتاة وقد علا وجهها شحوب وارتباك وقالت باضطراب:
- عدت مبكراً. . . أنا كنت أنظم حجرتك وأبخر الشقة واتجهت نحو الباب مهرولة فاعترض سبيلها، وكانت عواطفه المضطربة تشجعه على الاستهانة فقال برقة:
- شكراً، لقد عدت لأني أحسست بتعب، وإني لآسف على إزعاجي لك. . . استريحي، ولكنها قالت بسرعة ولم تكن أفاقت بعد من ارتكابها.
- دعني أخرج وإلا استبطأنني أمي
فقال لها برجاء وهو يشير إلى الكرسي:(393/56)
- استريحي قليلاً. . . أرجو أن تمكثي معي هنيهة فإن لدي ما أقوله لك. . .
وكانت عواطفه ثائرة فدفعها برقة نحو الكرسي حتى جلست كارهة، ثم قال لها بصوت متهدج:
- فردوس! هذه فرصة سعيدة لأنفرد بك وأقول لك. . . وأعياه القول فسكت؛ ولكنه كان يشعر بأنه ينبغي أن يقول شيئاً وإلا لم يجد عذراً ينتحله لإبقائها. فقال بصوته المضطرب:
- أنت جميلة في الثوب الأبيض. . . أعني أنك فيه أجمل منك في أي ثوب آخر. . . الواقع أنك جميلة دائماً وفي أي ثوب كان. . .
فاشتد الارتباك بالفتاة وتضرج وجهها بالاحمرار فازدادت فتنة وازداد افتناناً. فلم يملك أن قال لها:
- فردوس. . . أنا. . . أنا أحبك. . . وقد أبقيتك هنا لأقول لك إني. . . أريد أن أتزوج منك
لم تستطع الفتاة البقاء فقامت واقفة واتجهت نحو الباب ولكنه اعترض سبيلها مرة أخرى وقال لها:
- هل أنت غاضبة؟. . . صدقيني يا فردوس سأتزوج منك ونظر إلى وجهها بعين فاحصة فلم ير غضباً ولكنه أحس ارتباكها وتعثرها بالخجل فأوسع لها، ولما حاذته هوى بفمه فقبل خدها، ولم تقل له شيئاً، وسارت حتى غيبها الباب، ودخل الشاب إلى حجرته، وجلس على حافة سريره كعادته؛ ثم دس يده تحت الحشية حتى عثرت بالحجاب، فوضعه على كفه يديم إليه النظر في سكون وتهيب، ولم يجسر على فك رباطه فأعاده إلى مكانه، وتفكر ملياً ثم قال وهو يبتسم: (من يستطيع أن يقول بعد اليوم أن السحر خرافة؟!)
أما فردوس فصعدت السلم مسرعة تقفز كل درجتين معاً، ولم تكن أمها في الشقة، فجرت إلى الغرفة يكاد يصرعها الفرح وجعلت تروح وتجيء وهي تقول باضطراب: (يا بركتك يا شيخة زهية. . . يا بركتك يا شيخة زهية. . .!)
نجيب محفوظ(393/57)
العدد 394 - بتاريخ: 20 - 01 - 1941(/)
خواطر مريض
عقدني (الروماتيزم) شهراً بالسرير لا أتورَّك ولا أتحرك. وكانت دنياي في هذه الفترة الفاترة قد انحصرت في غرفة المرض كما تنحصر دنيا الطائر السباح في القفص، أو حياة المخاطر الطماح في السجن. فالنشاط الحيوي الجياش بالعمل والأمل ينقلب في المريض والسجين نوعاً من الهدوء الفلسفي الصوفي يردُّ كل ثورة إلى السكون، ويروض كل رغبة على الرضى، ويزيل عن البصر والقلب غشَوات الباطل فيرى المرء كل شيء على طبيعته، ويدرك معنى على حقيقته
أين القفص الضيق الحاصر من جو السماء يسبح فيه الطائر ملء جناحيه، فيرى في كل دوحة عشاً لحبه، وفي كل روضة مسرحاً لغنائه؟ ولكن البلبل الأسير يعرف بعد قليل كيف يطوى جناحيه على الصبر، ويختصر سماءه وهواءه وأرضه وروضه في هذه الأسلاك المعدنية الباردة يغرد بينها ويثب فوقها ويستقبل الصباح بمرح النشوان، والمساء بهدوء الخليّ
وأين السجن الموحش المظلم من رقعة الأرض يضرب فيها المغامر طليق العنان حر الإرادة، يفترس مع القوة، ويختلس مع الضعف، ويجمع فيشح، ويطمع فيهتلك؛ ولكن أشعب السجين يعرف كيف يرد طماحه، فيرى في جدران السجن حدود مطامعه وغاية دنياه، فيسخر من كيد المنافسة وبغي الخصوم، ويخطو بأنفاسه الرخية إلى أجله وهو زهيد العين مطمئن الجوانح
كذلك أنا: وجدتُني بعد معركة رابحة على أمر من أمور الدنيا دارت ثلاثة أشهر بين العجز والفقر يقودهما الحق الهيوب في صف، وبين القدرة والغنى يؤيدهما الباطل الجريء في صف آخر. وجدتني بعد هذا الجهاد على سريري كما يكون الميت في نعشه! غير أن الميت فقد الحس والوعي فلا يتألم ولا يتكلم؛ أما أنا فكنت قوي الشعور بالألم، شديد الرغبة في الكلام، أبصر في كل صباح حواجب الشمس تنفذ إليَّ من خلال الزجاج رخية لينة، فتغمرني بالدفء، وتشِيع فيَّ سر الحياة، وتُسكت عني صوت المرض؛ ثم تتركني لتعطي الدنيا الكبيرة، ما أعطته دنياي الصغيرة، وأظل أنا محدود الآمال مردود المطامع لا يصلني بحياة الناس غير طنُفٍ تتمثل عليه طول النهار صباحة الشباب في أفواف الربيع؛ والشباب الجميل لا يعنيه إلا أن يُعجب ويجذب ويلذ(394/1)
تلك هي حياتنا الدنيا! أراها من وراء المرض على لونها الأصيل ووضعها الحق: ظاهرةٌ متغيرة من ظواهر الطبيعة المتجددة، مَثَلها في الإنسان كمثلها في الحيوان، تعيش بالغذاء إلى أمد مأمود، وتبقى بحفظ النوع إلى أبد محدود.
ولو لم يتدخل الإنسان بعقله وعلمه في نظم الطبيعة لجرى تيار الحياة دفاقاً مستقيماً في مجراه المرسوم المحتوم كما يجري في النبات الوحشي والحيوان الأبد. ولكن آدم جعله الله خليفة في الأرض فلا بد أن يكون كل ما فيها خاضعاً لتدبيره مسخراً بأمره. وكان أمره وتدبيره على الرغم من اعتماده فيهما على دين الله وفلسفة العقل لا يخلصان من سلطان الهوى وطغيان الغريزة؛ ومن أجل ذلك كانت حياة الإنسان وحدها عرضة للتعقيد والارتباك والتناقض
ومن أعجب أمور الإنسان أنه وحده الذي فطن عن طريق العيان والبرهان أن حياته على هذا الكوكب الفاني موقوتة؛ ومع ذلك كان وحده الذي استعمر هذه الأرض على أنه باق وهي خالدة؛ فهو يكدح حتى ما يعرف طعم الراحة، ويجمع حتى ما يدري معنى الإنفاق، ويسلب أخاه أو وديده حق الحياة ونعمة السلام ليزيد في ماله الضخم قطعة، أو يضم إلى أرضه العريضة رقعة. وقد سول له غروره أن يتبجح بأنه سخر الطبيعة لخدمته، وذلل قواها لمشيئته؛ والحق الذي طمسته الكبرياء في ذهنه أن نوعه هو الوحيد في أنواع الحيوان الذي استخدمته الطبيعة ليعمرها بعمله، وينظمها بعلمه، ويزخرفها بفنه، ويهيئ لها أسباب الازدهار والاستمرار والنمو بما يبتكر من وسائل، ويسن من نظم، ويؤثل من مال، ويدخر من رزق
والطبيعة كما تستخدم الإنسان في البناء لاطراد العمران، تستخدمه في الهدم لحفظ التوازن، فهي تستعين بحروبه الطاحنة كما تستعين بالبركان والفيضان والموئان على قطع الفاسد، وحذف الزائد وتجديد البالي، وتعديل القُوًّى، وكفكفة الباطل هؤلاء الذين يجمعون ما لا ينفقون، ويبنون ما لا يسكنون، ويدخرون ما لا يأكلون؛ وأولئك الذين زعموا لقومهم سيادة العالم، وأجازوا لأنفسهم قتل الشعوب، ووقفوا على شهواتهم طيبات الأرض، قد استقلتهم إرادة الطبيعة القهارة التي لا تعرف اليوم ولا المكان ولا الفرد، وإنما تعمل للأبد والكون والجنس(394/2)
الغذاء والماء والهواء والمأوى وصلات الجنس هي النعم المبذولة لكل حي بحكم وجوده، فلو كان مما ينفع الطبيعة ويصلح الأرض سلامُ الناس وهدوء العيش لألهمتهم القناعةَ وعودتهم الرضى وجنبتهم الأثرة؛ ولكن فوضى الطبيعة هي نظامها المطرد، وفسادها الظاهر هو صلاحها المضمر؛ والفرد هو الأضحية المحتومة لبقاء الجنس، والحاضر هو القنطرة المهدومة لعبور المستقبل!
في المرض يزداد يقين المرء بأن الدنيا زائلة، فهو يأسى على ما جنى ويندم على ما جمع؛ ولكنه حين يصح تمتد آماله وتتشعب مطامعه ويعود عبداً للطبيعة يعمل لأنها تريد، وينفذ لأنها تحكم، فليت شعري إذا عقل كل الناس فعمل كل امرئ ما يلزم، وقنع بما يقوت، وكيف عما لا يحل، فبماذا يشتغل قضاة المحاكم وقواد الجيوش وصناع الأسلحة ورؤساء الأحزاب؟
وأوشكت يدي من برح الألم أن تقف! فعسى الله أحكم الحاكمين أن يبتلي الدكتاتورين الكبير والصغير بروماتيزم العقل والقلب فتقف رحى الحرب وتغلق أبواب جهنم!
الشمس تجمع هلاهل نورها على المنازل العالية لتهرب من رؤية الأكداس المكدسة من جثث الإنسان على عُدَّوتي البحر الأبيض. وفتاة الطُّنف الحسناء تلم غسيلها المنشَّر لتغلق عليها الباب من البرد القارس. وليل (طوبة) الطويليقترب بأوصابه رويداً من المريض المسكين! فاللهم حنانيك ورحماك!
أحمد حسن الزيات(394/3)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
(المختار) لعبد العزيز البشري
للدكتور زكي مبارك
- 10 -
حديث اليوم عن (المختار) للأستاذ عبد العزيز البشري (عضو مكتب المجمع اللغوي) لا عضو المجمع اللغوي، كما ظن من أخطئوا فهم قرار وزير المعارف. ولسنا بهذا نستكثر عليه عضوية المجمع وقد ظفر بها الأستاذ أحمد أمين، وإنما أردنا تحديد مكانه بجوار (الخالدين)
فمن صاحب هذا الكتاب؟
كانت بيني وبين الأستاذ عبد العزيز البشري مصاولات سجلتُها في كتاب (الأسمار والأحاديث) ثم انتهت تلك المصاولات بالحقد من جانب، وبالصفح من جانب، فمن الذي حَقَد؟ ومن الذي صفح؟ لقد رجعتُ إلى قلبي أستفتيه فلم أجده يضمر لهذا الرجل غير الإعزاز والتبجيل، ولكني مع ذلك أنكر مذهبه في الإنشاء، ولا أرى رأى وزارة المعارف في إفهام الطلبة أن نثر البشري يصلح للاقتداء والاحتذاء، إن صح أن لوزارة المعارف رأياً في الكتب التي تفرضها على الطلاب، فسيأتي يومٌ نتبين فيه أنها قد تحكم على بعض الكتب بالسَّماع، وهو يومٌ غير بعيد، ما دامت وزارة المعارف إلى رجال لا تؤذيهم كلمة الحق من أمثال الدكاترة هيكل والسنهوري وغربال
عبد العزيز البشري كاتب مشهور، مشهور جداً، حتى جاز للأستاذ خليل مطران أن يحكم بأنه (أعرف من كل معرَّف بين الناطقين بالضاد) ومن كان كذلك فهو أقوى من أن يُهدَم، ولا خوف عليه من صيحة النقد الأدبي، وإذا فلا بأس من أسماعه قول الصدق بتلطف وترفق، عساه يغَّير ما بأسلوبه من تكلف وتصنّع وقعقعة وعجيج.
البشري كاتب (على الطريقة البشرية). كاتب يذكَرك في كل سطر بأنه أديب يتصيد الأوابد من مجاهيل القاموس واللسان والأساس، وتلك حال المنشئين المبتدئين، وهي حال يُنكرها أعلام البيان، لأنها تشهد على أصحابها بالبعد من الاتسام بوسم الفن الرَّفيع(394/4)
الكاتب الحق هو الذي يشغلك بنفسك، ويوجهك إلى مصيرك المنشود، ويفرض عليك درس غرائزك وأهوائك، بدون أن يفكر في حملك على الإعجاب بخصائصه الإنشائية. ولو شئت لقلت إن الكاتب الحق لا يخطر في باله حين يكتب أنه من أصحاب الأساليب، لأن الكاتب العظيم تصبح عنده الكتابة من وحي الفطرة والطبع، بحيث لا يشعر أن التأنق غرض مقصود، وإن إضافة الفن الجميل إلى طوائف المتأنقين
الكاتب الحق يقتنص قلبك وعقلك في مهارة الصائد الختول الذي يرى الصيد ولا يراه الصيد. الكاتب الحق يروضك على تغيير ما بنفسك بنفسك، فلا تتوهم أن له يداً في نقلك من حال إلى أحوال، وإنما تشعر أنه يعبِّر بالنيابة عنك، وأنك لو حملت القلم لكنت أقدر منه على الإبانة والإفصاح.
الكتابة من فنون التدريس، والمدرس الحق هو الذي يحاورك وكأنه تلميذ مثلك. هو الذي عناه لامرتين حين قال:
والأساس في الكتابة أن تكون فنَّا أخفى من نظرة العاشق بمحضر الرقباء. هي سياسة دقيقة جدَّا. هي سياسة تشبه سُرى العافية إلى الجسم العليل، وقد تشبه تسرُّب الداء إلى الجسم الصحيح، لأن الكتابة فن، والفنون تتجه إلى الهدم كما تتجه إلى البناء، على فرض أن الفن قد يسيء في زعزعة بعض المأثور من التقاليد
الكاتب الحق هو دائماً من أصحاب المبادئ والعقائد، في حدود ما يتصور من المبادئ والعقائد، لا في حدود ما يتصور الناس، ومن هنا يجوز للكاتب أن يلقاك بما تحب وبما لا تحب، وهو حين يستفحل قد يزلزل رأيك في جميع الشؤون ولو حدثك عن مواقع هواك
والوصول إلى هذه الغاية يحتاج إلى سياسة عالية، وتلك السياسة قد تستوجب أن يطوي عنك الكاتب ما يرمي إليه من مقاصد وأغراض، ليضمن غفوة عقلك عن مقاومة ما يدعو إليه. وقد تحار فيما يريد منك الكاتب، ثم تعرف بعد قليل أنه لم يُرد لك غير ما تريد لنفسك، وهو في الواقع أصاب مقاتلك من حيث لا تشعر، وكيف تشعر وقد استدرجك بأسلوب ألطف من اللطف وأخفى من الخفاء؟
فأين البشري كاتباً من هذه المعاني؟
هو رجلٌ صخَّاب ضجّاج يدقَّ الأجراس الضخام حين يدخل الغابة للصيد!!(394/5)
ألم يَعجب البشري من أن يصل على يوسف إلى قمة البلاغة وليس في كلامه نظمٌ متكلف؟ وما ذلك النظم؟ هو عنده نظم يتكلفه (صدور الكتَّاب)، كأن صدور الكتَّاب لا يكونون إلا متكلفين! وكان الأمر كذلك عند البشري، لأنه لم يفهم البلاغة على وجهها الصحيح، فكانت في ذهنه أجراس طنطنة وأصوات ضجيج
كل هم هذا الرجل أن يفتنك في كل حرف بأن الكتابة شيءٌ ضخمٌ فخمٌ يروعُك وَيهولُك، وإن لم يكن لذلك موجب توحيه الفكرة أو يفرضه البيان، فلأي غرض يصنع بنفسه هذا الصنيع؟ ومتى يعرف أن السحر من أوصاف البيان، والأصل في السحر أن يقدَّم الأباطيل وهي في مرأى العين حقائق لا أباطيل؟
هل سمعتم بالرحا التي تطحن القرون؟ هي البشري في بعض نثره القعقاع؟
يندُر أن تجد في نثر هذا الرجل صفحة خلت من التكلف. ويندر أن تشعر بأنه خلا لحظة إلى قلبه يستلهمه ويستوحيه، فهو مشدود في كل وقت بزمام التفصُّح الثقيل، إلا أن يثور على (حرفة) الكتابة فيرسل نفسه على سجيتها الأصيلة، وذلك لا يقع منه إلا في أندر الأحايين
عبد العزيز البشري من الأذكياء، ولكن ذكاءه انحرف بعض الانحراف، فلم يكن له في أدبه من أثر غير ما عرفنا وعرفتم من القرم إلى التندر والأغراب
كنت أتمنى أن يدرك البشري كنه الوشائج بين جذور الفن وجذور الذكاء، ولكن البشري مضى لطِيته فلم ينتفع بآراء الناقدين.
كان البشري يستطيع أن يكون كاتباً عظيماً، لأن لهذا الرجل ذخيرة منسية من الفطرة والطبع، ولو أنه استجاب لوحي روحه لأتى بالعجب العجاب، ولكنه تكلف ما لا يطيق، فأضيف إلى المتحذلقين
ولكن ما الموجب لمواجهة هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح؟
هو الموجب الذي فرض أن أُفسد ما بيني وبين المرحوم مصطفى صادق الرافعي وكان من كرام الكاتبين
فأنا بصريح العبارة أتهم أهل التكلف وأراهم أطفالاً في دولة البيان
وليس معنى هذا أني أنكر قيمة الصياغة الفنية، فالكتّاب الكبار قد يشقون في تحبير ما(394/6)
يكتبون أعنف الشقاء، ولكنهم ينتهون إلى عرض آرائهم بأساليب هي الغاية في الوضوح والجلاء، فلا يتوهمُ متوهمٌ أنهم عانوا عنَت الإنشاء وقد هاموا على وجوههم في تجاليد الليالي
هل سمعتم بالسمك الرَّعاد الذي لا يوجد في غير نهر النيل؟
هو سمك كسائر الأسماك، ولكن فيه قوة كهربائية، وكذلك الكلام البليغ: فهو كلام كسائر الكلام، ولكن فيه قوة كهربائية وصلت إليه من ثورة الروح أو فورة الوجدان
ليست القوة في اللفظة اللغوية، اللفظة التي يدلنا المجمع اللغوي على قبرها المجهول، وإنما القوة في اللفظة التي يَحُلها روح الشاعر أو الكاتب فتصبح وهي محمَّلة بالمعنى الفائق والخيال الطريف
فكيف جاز للشيخ البشري أن يمنّ علينا بأنه أحيا بعض الألفاظ من موت، وهو لم يسكب عليها قطرة واحدة من دم القلب؟
حدثنا الأستاذ خليل مطران في مقدمته لكتاب الشيخ البشري أنه وقف منه موقف الدليل من المتحف، وقد صدَق ثم صدق، فزائر المتحف يخرج كما يدخل، فلا يكون محصوله غير ذكريات، ولا كذلك زائر المعرض فهو يقتني ما يروقه من النفائس حين يشاء
فهل كان الأستاذ خليل مطران يعني ما يقول وهو يجعل كتاب الشيخ البشري متحفاً من المتاحف، لا معرضاً من المعارض؟
المتاحف نفائس، ولكنها لا تصلح للاقتناء، لأنه يعرَّضها للبوار الشنيع!
فالمتحف المصري هو أعظم ما في العالم كله من النفائس، وهو يقدَّر بألوف الملايين من الدنانير، ولو بيعت ذخائره لجعلت المصريين أغنى الناس أجمعين، ولكن هذا المتحف النفيس يمسي وهو من سَقَط المتاع إذا عُرِض للبيع، فحياته في الموت، ونباهته في الخمول
وكذلك تكون (آثار) الكتّاب المولعين بالزخرف والبريق، فألفاظهم نفائس، ولكنها رسومٌ هوامد، وهي لا تُنقل من المعاجم إلى (المختار) إلا كما ينقل الرفات إلى (الضريح)
والقول الفصل أن الكتابة قلبٌ يُفصح وعقلٌ يبين، وليست ألفاظاً تُضمَّ إلى ألفاظ. الكتابة قوة روحانية لا تتفق للكاتب إلا بموهبة سماوية، فمن أراد أن يكون كاتباً فليرحل من(394/7)
طبقات الأرض إلى أجواء السماء
الكتابة رزق من الأرزاق، فمن حدثكم أنه يملك منها ما يريد فهو جهول، فما كانت الكتابة إلا بوارق يمنّ بها الرزاق الوهاب، وهو قد يمنّ بها على من يجهلون أنه أهلٌ لأعظم الحمد وأجزل الثناء، لأن المنة لا تعظم إلا حين تساق إلى أهل الجحود!
محصول (المختار)
بعد هذا الشؤبوب ننتقل إلى الجزء الأول من (المختار) فنراه محصولاً من الجهد المحمود في عرض طوائف كثيرة من سور الدنيا والناس، وإن كان قُدِّم بروحٍ مكدود، ونفَسٍ مجهود، لأن الكاتب لا يفصح عما بنفسه إلا بعد أن يعاني من المشقات ما لا يطاق
هو تحفة فنية، وكيف لا يكون كذلك وهو عصارة ذهن البشري مدة الحياة، كما طاب له أن يقول في عبارة الإهداء، والبشري من كتابنا الكبار، وإن قيل في أسلوبه ما قيل
وهل من القليل أن يكون عندنا كاتب يقضي الليل والنهار في تعقب الألفاظ والتعابير ليؤلف منها قافلة حائرة لا تعرف أين السبيل في بيداء الوجود؟
هل من القليل أن يكون عندنا رجلٌ يستطيب الحبس بين جدران داره ليتسقَّط مرابع العشب اليابس من خيالٍ آبد، أو لفظ مجهول؟
هذا المعنى وحده مما يُطلب، فليكن عندنا ألف بِشريّ، لأن تنوع الأساليب من شواهد الحيوية في الشعوب، وبضدها تتميز الأشياء
عبد العزيز البشري كافَح في ميدان الكتابة كفاح المستميت، فلنعرف له هذا الفضل، ولنذكر أنه قضى ثلاثين سنة وهو معدودٌ من أبطال القلم في هذه البلاد. ولنذكر أيضاً أنه رجلٌ ذوَّاق إلى أبعد الحدود، فقد يندُر أن يكون له مثيل في الطرب لأطايب الدقائق الذوقية لعوامِّ الناس، أما فهمُ الشيخ عبد العزيز للشعر فهو أعجوبة الأعاجيب
ينقسم كتاب البشري إلى ثلاثة أبواب: الأدب والوصف والتراجم، وفي كل باب فصول منها الوسط والجيد والرائع، وهو يحتفل بالأسلوب في جميع الفصول على الطريقة البِشرية، ويكفي أنه صار كاتباً له أسلوبٌ خاص
مَطلع الكتاب محاضرة ألقاها البشري في أول اجتماع لنادي القلم المصري، وهو النادي الذي يجتمع أعضاؤه في كل سنة ليتناولوا معاً طعام العشاء!(394/8)
فما الذي قال في تلك المحاضرة الافتتاحية؟
كان الظن أن تكون محاضرة ينقلها روتر وهاناس إلى جميع بقاع الأرض، لأن مصر أول أمة في التاريخ أقيم فيها لحامل (القلم) تمثال، ولكنها كانت محاضرة سطحية لم يرسم فيها المحاضر غير خطوط يغلب عليها العِوَج والانحراف، في غير موجب للعِوج أو الانحراف
فمن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب جعل توليد الفنون الشعرية في الأندلس أثراً من آثار الانحطاط. ألم يقل إن الأندلسيين (وّلدوا في الشعر فنوناً لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر؟) ذلك ما قال بالحرف، وهو شاهدٌ على غفلته عن الغرض الذي استوجب أن يفكر الأندلسيون في توليد القوافي والأوزان
ومن أغلاط هذه المحاضرة أن الكاتب عاب التكلف على (أصحاب البديعيات) فهل يعرف مَن (أصحاب البديعيات) وقد عدَّهم من الشعراء المتكلفين؟
أصحاب البديعيات لا يعاب عليهم التكلف، يا فضيلة الأستاذ لأن التكلف عندهم غرض مقصود، فهو نظم تعليميٌّ يجري مجرى (المُتون)
ومن أغلاط هذه المحاضرة أن يظن الكاتب أنه كان من الطبيعي أن ينحط الأدب المصري في عهد الأتراك (ولو قد ظل مع هذا على شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدباً مصرياً، ولا كان مما يتسق لأذواق المصريين)
فما معنى ذلك؟ هل يتوهم أن مصر في العهد التركي كانت تحولت إلى بيئة تركية؟ هو إذاً يجهل أحوال مصر في تلك العهود، فقد كانت في مصر بيئات منفصلة عن المجتمع السياسي كل الانفصال، وبفضل تلك البيئات ظلت مصر موئل اللغة العربية في عصور الظلمات، إلا أن يجوز قياس المجتمع في العهود الماضية على المجتمع في هذه العهود!
محاضرة البشري في افتتاح نادي القلم المصري تشهد بأن اطلاعه على تاريخ الأدب في مصر مبتور الأطراف
ثم ماذا؟ ثم نقرأ بحثه عن (حيرة الأدب المصري) فنعرف أن الكاتب هو الحيران!
هو بحث نُشر في مجلة المعرفة سنة 1932 وإنما نصصتُ على التاريخ لأمسك بتلابيب الكاتب الذي يقول:
(وعلى الجملة فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم لرأيته موزعاً بين حياة في(394/9)
الجزيرة لمصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يصور عواطفه المصرية التي يُلهمها ما ينبغي أن يُلهم المصري من عواطف وإحساس)
ذلك هو فهم الشيخ البشري للأدب المصري في سنة 1932 فهل رأيتم أغرب من هذا الفهم؟
في سنة 1932 كان أدباء مصر فريقين، فريقاً لا يعرف غير الأدب العربي القديم، وفريقاً لا يعرف غير الأدب الأوربي الحديث كما يتصور الشيخ عبد العزيز، فأين كان أدباؤنا الكبار من أمثال حافظ وشوقي والزيات وهيكل والمازني والعقاد وتيمور وطه حسين؟ هل كان هؤلاء جميعا من المذبذبين بين القديم والحديث؟ وأين كان الصحفيون من أمثال حافظ عوض وعبد القادر حمزة وتوفيق دياب؟
أشهد أن عبد العزيز البشري لم يصدر في حكمه إلا عن وَهمٍ هو أشبه الأشياء بالإفك المدخول!
أما بعد فما جملة القول في هذا الكاتب؟
هو من أمهر الوصافين للمرئيات، حتى لتحسب أن قلمه ريشة رسام تنتقل بين الألوان، ولكن أين الكاتب المنشود، الكاتب الذي يحدثنا عما نعرف أو نجهل من أسرار النفوس وسرائر القلوب؟
لقد تفقدتُ هذا الكاتب في مقالات عبد العزيز البشري فلم أجده، بالرغم من طول الصبر على البحث والتفقد؛ فأين ذهب وكنت أرجو أن أراه في ثنايا تلك المقالات؟
تحدثك مقالات البشري أنه صحب كثيراً من الناس، وتنظر فتراه وصف ملامح من صحب من الناس، ولكنك لا تجده تنبه إلى ما تدل عليه خصائص تلك الملامح، فهل يكون من حق الناقد أن يفترض أنه لم ير وجوه الناس إلا عن طريق
(الصور الشمسية)؟
البشري الكاتب له عينان تريان الألوان، وأذنان تسمعان الأصوات، ولكنه عاش بلا قلب، فلم يدرك دقائق الفروق بين الألوان والأصوات من حيث الدلالة على المعنويات
كان البشري في مختلف أطوار حياته موصول بكبار الرجال، فماذا استفاد؟ وماذا أفاد؟ هل(394/10)
سمعتم أنه نقل رجلاً من رأى إلى رأى؟ هل سمعتم أنه انتقل من حال إلى حال؟ البشري هو هو لم يتغير ولم يتبدل، فقد قامت الشواهد على أنه ظل دهره على مذهب واحد في فهم الأدب والحياة، مع أن الدنيا تثور من حواليه في كل حين
انظروا ما صنع البشري وهو يصف (بنك مصر) لتروا كيف وقف عند المرئيات ولم يتعدها إلى المعنويات!
ما هو بنك مصر في نظر البشري؟
هو قصرٌ (فُرشت أرضه بجلود الصِّلال، أو بالوشى الصنعاني نُمنم بمثل أكارع النمال)
أتلك هي صورة (البُنُوك) في نظر الأديب؟
كنت أرجو أن ينظر البشري نظرةً أبعد من هذه النظرة، فللبنوك معانٍ أخطر وأعظم من السقوف والجدران، ولكن البشري لا يفكر في غير المرئيات
ثم أسأل نفسي مرة ثانية عن الموجب لإيذاء هذا الكاتب الفاضل بهذا النقد الجارح
وأجيب بأن هذا أثر الغيظ من فجيعتي في هذا الكاتب، فهو من عصابة أدبية أساءت إلى الأدب المصري حين صيرته متاحف تهاويل، ومعارض تزاويق، ثم فَرضتْ على الدولة وعلى الجمهور أن يفهموا أن هذا هو الأدب الحق، وأن لا أدب سواه!
لم يُجِد البشري إلا في فن واحد: هو وصف المرض، فما نظرتُ فيما كتب في وصف بلائه بالأمراض إلا صرخت بالتوجع له من أعماق القلب، ومن أجل حزني عليه مزقت الصورة الأولى من هذا المقال وكتيته مرة ثانية، وما أذكر أني كتبت مقالاً مرتين منذ عهدٍ بعيد. . . أجاد البشري وصف المرض، ولكنه وقف عند الغرض القريب فلم يتغلغل في وصف بلاء الرجال بالأمراض؛ فأين هو من مقال شِبلي شمُيِّل في وصف عناء المريض؟ شِبلي شميِّل الذي يقول:
(ذقتُ ذل السؤال، بعد عزَّ الإفضال، فلم أجد أشقى من المريض)!
إن الفرق بين مقال البشري عن المرض ومقال شميل عن المرض أبعد مما يتصور القراء، فما السبب في هذا البعد؟
السبب أن شميلا تأذى بالمرض فوصفه بصدق، أما البشري فرأى المرض فرصة لمقالة أدبية فقال كلاماً يُعوزه الصدق، ولم صدق البشري فيما حكى عن مرضه لكان من الحتم أن(394/11)
يموت قبل أعوام طوال!
عبد العزيز البشري مزخرِفٌ ومبهرِج، وبفضل الزخارف والبهارج وصل إلى أشياء، لأن الجمهور عندنا قد يكتفي من الكاتب بإجادة التزيين والتلوين
يسأل البشري عن الكاتب الذي يصور العواطف المصرية وأنا اسأل عن الكاتب الذي يصور العواطف الإنسانية، فما يهمنا أن نكون مصريين كما يهمنا أن نكون إنسانيين، فالشاعر الإنساني يجد لعواطفه صدًى في جميع البلاد، أما الشاعر (المحلي) فأفقه ضيق محدود. . . وما أريد الغض من العواطف التي توحيها الأجواء المحلية، وإنما أريد أن يتغلغل الشاعر والكاتب في أعماق الأرواح والقلوب بحيث يحدث قراءه عن آفاق روحية وعقلية لا يهتدون إليها إلا بوحيٍ من العقل الملهم والقلم البليغ
أنا أرجو أن يدرك كتّاب هذا العصر أننا مللنا من الحديث المعاد، وأننا نودّ أن يكون لهذا العصر تاريخ جديد في الأدب العربي، تاريخ ينطق بأننا عبّرنا عما في نفوسنا وقلوبنا بصراحة وصدق وإخلاص؛ تاريخ يشهد بأننا تغنّينا صادقين بعواطف هذا الجيل، وتألّمنا صادقين من مآثم هذا الجيل
لا أريد أن يكون الكاتب مصرياً، وإنما أريد أن يكون إنساناً مصرياً، إنسانً تعنيه الوشائج الإنسانية، ومصريٍّا تعنيه الأواصر المصرية؛ وأنتظر أن يكون الكاتب المنشود رجلاً قديراً على تشريح العواطف والأحاسيس فبل أن يكون رجلاً قديراً على ترقيش الألفاظ والتعابير. وأرجو أن يفهم أن له مهمة أسمى وأعظم من القناعة بإعجاب أهل هذا الجيل؛ فالكاتب الحق لا يخاطب العصر الحاضر وحده، وإنما يسكب رحيق قلمه في أذن الزمان وقلب الوجود
الكاتب الحق هو الذي يفرض علينا أن ندرس عواطفنا وأهواءنا في كل وقت، ويشعرنا بأن حساب الضمير لا يقِل قدسيةً عن أداء الصلوات. الكاتب الحق هو الذي يروضنا على الاقتناع بأن نعمة القلم الصوّال أعظم من جميع النعم، وأنفس من جميع الذخائر، وأشرف من جميع ألوان التكريم والتعظيم والتشريف، لأنه يمكّن صاحبه من مناجاة الضمائر والقلوب، ويوحي إلى القارئ أنه قَبَسٌ من السر المكنون في سرائر الغيوب
الكاتب الحق هو الذي لا تصرفه الأكاذيب والأراجيف عما يجب عليه من الفناء في خدمة(394/12)
الواجب. هو الذي يستعذب الأذى في سبيل الشريعة الأدبية - والأدب من الشرائع - هو الذي يرى أن لا بأس عليه من الحرمان في أبشع جانبه ونواحيه، ما دام يؤمن بأنه كاتب موهوب، لأنه يعرف أن نعمة الكتابة لا توهَب لغير المصطفين من أذكياء الرجال
الكاتب لا يستوحش من زمانه إلا وهو متكلف، أنه يستفيد من الظلم أكثر مما يستفيد من العدل، ولأنه ينتفع بالفوضى أكثر مما ينتفع بالنظام، ولأن الإساءة من أهل زمانه قد تصيره رجلاً لا يعتمد على غير صاحب العزة والجبروت
الكاتب رجلٌ مؤمِن. ألا ترون كيف يحتقر ما بأيديكم يا ظالمي أنفسهم بعبادة المنافع الفانية؟
زكي مبارك(394/13)
3 - أومنُ بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
نظرة واسعة - من الحياة؟ - ممثل مجهول. . . - زواج
الفكر بالمادة - أعماق النفس عي أعماق الكون - الحياة هي
الإنسان - الباقيات - أمومة الأخلاق وأبوة العلوم - نوعان
من الرجال - العكازتان. . .
في السماء: كل نجم عليه غشاء سرمدي من السكون. . . ولو ألقيت نظرة على النجوم والكواكب لم تر شيئاً إلا لمحة عينك أنت واختلاج ضوء يكاد يكون من خداع النظر. . .
وفي الأرض: كل شيء يسير في حركات محدودة وسنن مطردة وتكاد لا تسمع إلا أصوات الريح أو لطمات الموج أو أصواتاً تظهر من تلاقي الريح أو عبث الأمواج بالأشياء. . . وما عدا ذلك فأصوات حيوان لا تعدو أن تكون مقاطع ونبرات بسيطة محدودة يصح أن تلحقها بعزيف الرياح على شعاب الجبال وقصبات الأشجار، أو بهدير الأمواج ذلك الصوت الواحد المكرر على توالي الأزمان.
ولا ترى تلك الدورات الأبدية من ليل ونهار، وربيع وخريف، وشتاء وصيف، ورياح وأمطار، وفيضانات دورية، وأرحام تدفع وأرض تبلع، وحياة رتيبة للبهائم والوحش والطير والأسماك. . .
تلك هي الحياة في الأرض من غير الإنسان. . . لا تجديد في أساليبها ولا تنويع إلا ما خلق الله على الجلود والريش والأزهار والثمار والجدد البيض والحمر في السفوح والجبال. . . وإلا ما تنقله الرياح والمياه في دوراتها من مكان إلى مكان. . . وإلا ما توزعه قوى الطبيعة بالمكيال الوافي الواسع الكريم. فلا يضاف للطبيعة شيء لم يكن منها، ولا يقلقل فيها شيء من موضعه، ولا ينقح فيها شيء يستحق التنقيح
إذاً لمن هذا كله؟ لمن الليل والنهار، وهذه الآلات الهائلة التي تدار، والحيوان الأبد والداجن والأزهار والثمار والأنهار والجبال وألوان الشفق في الأصائل والأسحار؟. أهو للحمير والقرود والنمور والثعالب والفيلة والاساد والفهود والثعابين والخفافيش والبوم والغربان(394/14)
والحشرات والديدان؟!
كلا! ليس في هؤلاء من يصح أن يفقه شيئاً من ذلك الإبداع والجمال ولا أن يسند إليه الدور الأول في رواية الحياة. . . وإنما هذه مخلوقات على هامش الحياة. . . هن أعاجيب وتهاويل وصور لزينة المسرح ودواب لحمل لأدوات إليه. . . أو أن شئت فقل إن هؤلاء (حروف) في أبجدية (الأسماء) التي يلزم أن تتألف منها رواية الحياة التي يمثلها ممثل مجهول. . . ممثل لا بد أن يكون حراً يذهب في أي اتجاه على المسرح، ويجدد في التمثيل والإخراج كل يوم، ويقوم بأدوار جميع ما على الأرض ويتمثل فيه الابتكار الذي يجعل الحياة غير يوم مكرور دائم مملول لدى النظار من سكان السماء، وسكان الأرض من الراصدين الواعين. . . ويحشر كل شيء في رواياته ويضع عقله وقلبه على كل شيء. . .
وَمنْ هذا غير الإنسان؟!
لقد وزع الله عقوله وقلوبه على المواد والقوى سافلة وعالية، فجعل أفئدة من الناس تهوى إلى خدمة شيء، وأفئدة أخرى تهوى لخدمة شيء آخر كي لا يتعطل أفق من آفاق الحياة من غير نظر إليه وتفرس فيه. ولكي يزاوج بين خواطر الفكر وخواص المادة فتنتج الأحكام عليها، وتتبين حكمته المخبوءة وراء أسرارها ولتطلع العقول على فنه وإحاطة علمه بكل شيء. . . قانون المزاوجة هنا أيضاً: فبين فكر الإنسان وبين أسرار المادة زوجية تنتج علماً أو فناً أو إحساساً أو شعوراً. . . (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)
والإنسان كالقيثارة ذات الأوتار الكثيرة. . . تظل صامتة ساكتة حتى تضربها يد الأقدار بالمعلومات والأحزان والأفراح فيظهر ما في أوتارها من نغم عجيب. . .
فالأرض من غير الإنسان هي ذلك البيت الصامت وذلك الدولاب الدائر وتلك الدورات الأبدية التي لا غاية لها ولا بد تتلقى فيضها وتنتفع بقواها. ولا اطراد في ارتقائها ولا تغيير في أوضاعها ولا زيادة فيها
فأين المخرج من تلك الحدود الواقفة الجامدة؟ وأين الباب إلى ما هو أعظم وأوسع؟
إن عمق النفس هو الذي يوحي بعظمة الدنيا وتنوع المناظر فإذا خرج المرء من نفسه تبين(394/15)
له أن الحياة في وحدة قوانينها وتشابه دوراتها ومقاطعها ما هي إلا شيء محدود ممل مسئم. . . ولكن الإنسان أدرك عظمة الله وعظمة الكون لما أدرك عمق نفسه وعرف الطريق إلى الكمالات والصور التي لا تتناهى لما عرف باطن نفسه إلى عالم أرحب وأوسع لما طال النظر في نفسه
وما عرفت الإنسانية جلال الله ولا تبينت صفاته وتوضحت لها حكمته، إلا من عقل الإنسان الفائق الذي أطال النظر في الدنيا ذات الدورات المحدودة المكررة وأطال النظر في النفس ذات الدورات غير المحدودة وزواج بين هذه وتلك
وهذا يسلمنا إلى أن نقول: إن الإنسان هو الحياة الدنيا بالمعنى المعقد المركب غير المتناهي. . .
ولا حد للحياة إذا التقت الطبيعة بالعقل الإنساني الذكي الحساس المفكر. . .
ولا دخل الطبيعة إلا في تقديم المواد الخام إلى يده وفكره ليصنع بهما ذلك التنويع المدني. . .
ويخيل إلى أن روحه ميراثاً خفياً من نظام الجنة وجمالها وراحتها واتساعها، وهو يحاول بعد طرده منها أن يوجدها في الأرض. . . والله معه!
وإذا كان كل شيء في هذا الوجود يرمز إلى معنى بسيط فإن النوع الإنساني يرمز إلى جميع أنواع الحياة وألوانها مضروباً بعضها في بعض كما يضرب عدد هائل من الأرقام في نفسه من الواحد إلى آخر العدد إن كان للعدد آخر. . .
فالإنسان هو (مكان) التقاء عوالم الوجود المشهود كله ليحدث من النقاء كل شيء بكل شيء منفردين نتائج وصور بسيطة، ومن التقاء جميع الأشياء بعضها ببعض نتائج وصور معقدة لا يمكن تقريبها إلا للعقول الكبيرة التي لا تكاد تدركها إلا بالوهم أو الذهن الرياضي صياد الأخيلة والأحلام والفروض
وعمار عالم الفكر بتلك المعاني الناتجة عنه هو وتنوعها إلى ما لا نهاية أمره معجب! وخصوصاً إذا تصورنا أنها معان محدودة بحدود الرءوس البشرية، معدومة في غيرها، إلا إذا خرجت وتجسدت وتشكلت في قميص مادي. . .
ترى هل هي ذات وزن وحياة عند الله الكبير ذي العقل المحيط والعلم الواسع؟ وهل هي(394/16)
على تناقضها واختلاف الانفعالات المتصلة بها ذات قيم عنده؟ أم هي ملاه وسلويات لذلك النوع المدلل في الأرض تموت معه وليس لها في سجل الوجود أثر بعده؟
إن تصورنا فناء عالم الأفكار العظيمة الرائعة التي تتداول عقول الإنسانية كاف وحده أن يقذف في قلوبنا الإيمان بوجود عالم ثان وعقل آخر يحصى ذلك الحصيد ويجني ذلك القطاف العجيب الناتج من ازدواج الحياة المادية والروحية في الإنسان
أسرتان اثنتان من أفكار الإنسان هما الباقيتان فيما أرى على وجه الزمان في سجل الأرض:
أسرة الأفكار الخلقية وأسرة الأفكار العلمية التجريبية. . .
والأسرة الأولى هي التي سددته إلى غايته وهيأته للخلافة في الأرض، وتحدرت في أعصابه، وأيقظته إلى سموه، وجعلته ذا قيمة لدى نفسه. . . والى تلك الأسرة ينتمي الدين، ومنها انفتحت أبواب السماء للإنسان ونزل إليه وحيها
والأسرة الثانية هي التي مهدت له طريق الحياة المادية، وسلطته على الطبيعة يرتفق منها مرافق حياته ما وسعته الطاقة، وهي التي أنمت ثقته بنفسه وأظهرت آثار وجوده وجعلته متصرفاً في المادة بما لا طاقة لغيره من الأنواع به. . .
والأسرة الأولى كانت الأساس في بناء الحياة المدنية وإتاحة الفرصة للفرد أن يفكر ويعمل لخدمة المجموع في حماية القوانين والمعاهدات، وكانت الأساس في توجيه روح الفرد إلى المثل العليا وبناء سيادة الإنسان. . .
وقد استصبحت الإنسانية بأنوار الأنبياء بناة الأخلاق قبل أن تستصبح بأنوار العلماء بمئات القرون. . . وكانت الأخلاق للحياة بمكان الأمومة الرحيمة تنمو في رعايتها وتشب وترشد. وكانت العلوم بمكان الأبوة الساعية الجاهدة. . .
فالأرض مدينة لنوعين من الرجال: الباحثين في أطواء الروح الإنسانية، المستخرجين منها وسائل طمأنينتها، السباقين إلى أدراك سموها وتفردها، الواضعين لها أسس قيمها الذاتية، الرائدين بأبصارهم وبصائرهم كل أفق في الأرض والسماء، المستنزلين لها أسرار السماء بالإخلاص والبكاء. . . وهم لا شك الأنبياء والأصفياء الذين لم يقفوا عند حدود الكثافات والسدود والقيود المادية، بل ارحبوا وأفضوا فأتوا بالخير والتفاؤل والاطمئنان(394/17)
والنوع الثاني هو نوع المخترعين الذين يزيدون في وسائل راحة الأجسام ويخفقون المشقات والآلام وينمون قوة الخَلْق والتقليد في يد الإنسان ويزيدون صور الحياة بالتنويع والترصيع والتوشيع والافتنان
ولئن كان النوع الثاني هو صاحب الدولة على عقول الناس الآن لكثرة ما فتح عليهم من بركات الأرض فينبغي ألا ينسى المنكرون أن النوع الأول هو مقيم أساس الحياة الإنسانية والآخذ بيد البشرية حتى بلغت دور الرشد. وهو الأكبر خدمة والأبعد أثراً، إذ هو الذي بعث في النفوس طمأنينتها على قيمتها وأيقظتها لذاتها وأرشدها لمدخرات روحها وعقلها، وهو الذي أوجب عليها الملاءمة بين ما تصنع وما تنتظر
وستستحيل كل بركات العلم إلى آفات ونقم وشرور إذا لم تتذكر الإنسانية جهاد آبائها الأنبياء القدماء وتقيم حياتها الجديدة على أسس ما أفنوا أعمارهم في وضعه وتوسيده، وما قتلوا وصلبوا في سبيل إعلائه وتشييده
غير هاتين الأسرتين السالفتين من الأفكار فهو زبد يذهب جفاء. . . هو باطل لا حقيقة له ثابتة دائمة. هو صور عابرة لتسلية النوع في جهاده وتخفيف إعناته
ويخيل إليّ حتى درجن الظن. . . أن فكر الإنسان لا يجدي عليه شيئاً إلا حين يتجه إلى فتح جديد في عالم أخلاقه أو في عالم المادة للانتفاع بها وكشف خصائصها، ولقط أسرارها واستخدامها، وأنه ما وضع في الحياة موضعاً أصيلاً إلا في هذا الموضع. . .
فمعرفته بأخلاقه تقيم حياته على الصراط السوي الذي ليس فيه عقبات وسدود من فعل الغرائز والشهوات وعقابيل للطفولة وتفرغه للعمل المثمر الدائم في المادة
ومعرفته بأسرار الطبيعة تفتح له أبواب العمل فيها وتنتج له بركات السماء والأرض وتريحه وترقيه وتفرغه للعبادة بالفكر والعمل
أما فترات التفلسف النظري والهيام وراء البدوات والفروض فتلك لا محصول وراءها أو هناك محصول ضئيل
هاتان عضَوان لا يستطيع الإنسان أن يمشي بدونهما خطوة واحدة، وإنما يدور على نفسه كما كان في العصور الأولى ولو كان في القرن العشرين. . .
ولا يمشي بإحداهما ويترك الأخرى إلا أصيب بالعرج والتعثر(394/18)
فأمم الأخلاق بدون علم وعمل في المادة أمم بائدة مستضعفة معطلة القوى، محدودة الحياة، مسلوبة الحقوق.
وأمم العلم بدون أخلاق سباع ضارية يأكل بعضها بعضاً وتأكل غيرها، ويتجه كل علمها وفنها إلى خدمة الشر والإثم وتستحيل بركات العلم فيها إلى نقم، كما يتجه كل العلم والهندسة في الشوكة إلى قمتها الحادة، وكما يستحيل الدسم في الطعام إلى سم إذا ذهب صلاحه واختلت أخلاطه.
عبد المنعم خلاف(394/19)
لامرتين ولوروج
يمتدحان النبي عليه أفضل الصلاة والسلام
للأستاذ محمد توحيد السلحدار
الله يهدي من يشاء و (لمل نفس هوى في الدين يعنيها). فليس غريباً ألا يؤمن المسيحي إيمان المسلم؛ غير أن بعضهم جهل أو تجاهل، من كل وجه، فضل الإسلام على الإنسانية والمدنية وقدر نبي المسلمين. وشعر بعضهم، في أحوال شتى، بحاجة إلى تقرير جانب من الحق في شأن هذا الدين القيم وآثر الاعتراف بعِظم نبينّا الكريم. ومن هذا الفريق ريمون لوروج الذي ألف كتاباً عنوانه (حياة محمد)، طبعه فاسكيل سنة 1939، في باريس
وقد كتب السيد قدّور بن غبريت مقدمة ذكر ضمنها أن تقديم مؤمن لكتاب صاحب له غير مؤمن أمر دقيق، خصوصاً في مقدمة لموضوع ليس بد من أن يتضح اختلاف نطريهما فيه؛ وأنه لا يسلم من غير تحفّظ بالمعنى البشري البحت الذي تصوّره المؤلف في النبي، لبعد هذا المعنى عن الشهادة بالرسالة، ولاعتقاد المسلم أن الحوادث والأزمات قد تكون وجهت محمداً نحو الرسالة هي أمور فوقها ذلك النداء السماوي وكلمات الله نشرها الرسول بأمانة وإقدام بين الناس. وإن السيد، بعد أن تحفظ لهذا الخلاف على الأصل، هان عليه أن يحيي ضمير المؤلف ونبوغه في ترجمته النبي
وذكر أيضاً أن المؤلف فيلسوف لا تضطرب نفسه من مسائل الأجناس ولا من تعارض المذاهب؛ فهو يعيد المشاكل السياسية والاجتماعية كلها إلى مستوى المصالح المشتركة بين البشر أجمعين، لأنهم على رغم الاختلاف الثانوي المؤقت الذي يفرقهم فيه جهلهم وحدتَهم الأصيلة، ليس يمكن في الحقيقة تصورهم منقسمين انقساماً لا مرجع عنه
وذكر أن الكتاب يمثل جهداً من أصدق الجهود التي بذلت في جعل الكثيرين من غير المسلمين يعرفون قدر النبي ورفيع شأن الإسلام في تاريخ المدنية
وأهم ما جاء في هذه المقدمة كلام عن النبي للشاعر لامرتين يجانس الموضوع، أورده السيد قدّور و (عرف فضله لفرنسا) وقصد بإيراده أن يعجب به أبناء ملته. وقد نقله من (تاريخ تركيا) حيث قال ذلك السياسي الفرنسي ما ترجمته الحرفية:
(لم ينو إنسيٌّ قط، عن إرادة ذاتية أو غير إرادة، أن يبلغ غرضاً أسمى من غرض محمد إذ(394/20)
كان بلوغه فوق طاقة البشر: فهو تقويض الأباطيل التي جعلوها بين الخالق والمخلوق، وهداية الإنسان إلى الله، وإقامة معنى الربوبية المبني على العقل والتقديس في بهرة ذلك الزحم المختلط من آلهة الوثنيين المادية المسيخة. ولم يعتزم إنسي صُنعاً قط ويبدأه بوسائل على مثل ضعف وسائله ومثل هذا التفاوت بين قوى البشرية والعمل المنوي: إذ أن محمداً، في تصور مشروعاً على هذه الضخامة وفي إنفاذه، لم يكن له من وسيلة سوى نفسه، ولا من مساعد غير عدد قليل من الرجال في ركن الصحراء. وأخيراً لم يتم أنسيّ قط، في زمن أقصر من زمنه، انقلاباً في الدنيا على مثل هذه السعة وهذا الدوام: إذ لم يمض قرنان على الدعوة الإسلامية حتى كان الإسلام منادى به، مسلحاً، سائداً في ثلاثة البلاد العربية، فاتحاً للتوحيد فارس وخرا سان، ومصر وأثيوبية والمعروف من أفريقية الشمالية بأسره، وعدة من جزر البحر المتوسط، وأسبانيا وجانباً من فرنسا
وإذا كان سمو الغرض، وضعف الوسائل، وجلال النتيجة، أموراً هي ثلاثة المقاييس لعبقرية المرء، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يوازن من الجهة الإنسانية بين محمد ورجل من عظماء التاريخ الحديث؟ فإن أشهرهم لم يقلّبوا غير أسلحة وقوانين وإمبراطوريات؛ ولم يؤسسوا، حين أسسوا شيئاً، سوى دول مادية كثيراً ما انهارت قبلهم؛ أما هذا فقد قلّب جيوشاً وشرائع وإمبراطوريات وشعوباً وبيوتات مالكة وملايين من الرجال في ثلث المعمور من الكرة؛ لكنه زاد فقلب مذابح وآلهة وديانات وأفكاراً وعقائد ونفوساً، وأسس قومية روحانية على كتاب أصبح كل حرف منه شرعة قومية روحانية تضم شعوباً من كل لسان وكل لون، وجعل لهذه القومية الإسلامية طابعاً لا يبليه الزمان بما نفث فيها من بغض للآلهة الزائفة، وحب لله الواحد المنزه عن المادة. وهذه الوطنية المنتقمة من الاستهانة بالله هي خاصة أتباع محمد وفضيلتهم. ولقد كان فتح ثلث الأرض لعقيدته معجزته، والأحرى أنها لم تكن معجزة رجل، بل كانت معجزة العقل. وإن معنى وحدانية الله التي نادى بها والناس في سأم من العبادات الوثنية كان معنى له في ذاته من القوة، حين تفجر على شفتيه ما أضرم معابد الأصنام العتيقة جميعاً، وأشعل بأضوائه ثلث العالم
. . . إن حياة محمد وتأمله الديني ولعناته الشديدة الفعّالة لأباطيل بلاده، وإقدامه على مواجهة حفيظة الوثنيين وحَنقهم مواجهة الجسَّار، وثباته على احتمالهم في مكة خمس عشرة(394/21)
سنة، وقبوله أن يُعد بين مواطنيه فضيحة علنية (يعني قدوة سيئة تثير السخط) حتى كاد يكون ضحّية، وهجرته أخيراً، ووعظه بلا انقطاع، وحروبه السجال، وثقته بالنجاح، وأمنه في الهزيمة أمناً فوق القدرة الإنسية، وحلمه عند الفوز، وطموحه الفكري الخالص البريء من طلب السلطان وصلواته بلا نهاية، وحواره في البُرحاء، ووفاته وظفره بعد القبر، كل أولئك يشهد بأكثر من الكذب بل يشهد بالإيمان، وكان هذا الإيمان هو الذي جعل له القدرة على إقامة عقيدة، وكانت هذه العقيدة مثناة: وحدانية الله وتنزّه الله عن المادة، فواحدة تقول إن الله موجود والأخرى تقول ما ليس الله به، واحدة هادمة بالسيف لآلهة زائفة والأخرى مُشهرة بالكلام سيرة
إن محمداً فيلسوف، خطيب، داع، مشرع، محارب؛ وهو فاتح أفكار، مقيم عقائد معقولة وعبادة بلا صور؛ وهو مؤسس عشرين دولة دنيوية ودولة واحدة دينية، ذلكم محمد! فأي إنسيّ كان أعظم منه بكل المقاييس التي يقاس عليها العِظم الإنساني
محمد توحيد السلحدار(394/22)
ويلات السَّلم. . .!
للأستاذ سيد قطب
هذه الحياة الدنيا عجيبة، فهي ما تزال تنشئ السم وتدس فيه الترياق، وتخلق السقم وبين طياته عناصر الشفاء. وما تزال تخيل لأبنائها السذج أنها موشكة على التلف مشرفة على البوار، فتثير فيهم قواهم الكامنة، وتستحث منهم هممهم الراكدة؛ ثم إذا هي تنصل من الداء، وتنهض من الكبوة، أشد ما تكون عافية، وأوفر ما تكون قوة؛ كصحو الطبيعة غب الوابل المنهمر، وصفو الكون بعد العاصفة الهوجاء! وإن من عجائب هذه الحياة أن تكون للسلم ويلات، ربما فاقت ويلات الحرب، بل هي تفوقها بكل تأكيد. ألا وإن من عجائبها أن تجعل الحرب ترياقاً لسموم السلام!
وما يخالجني الشك في أن فرنسا كسبت بهذه الهزيمة أضعاف ما كسبت غداة الهدنة بالنصر. ومهما بدا هذا القول عجيباً فإنه بالتصديق. ومن شاء أن يختبر صدقه فلينظر فيما كانت عليه فرنسا قبل الحرب، وما يلوح أنها ستكون عليه بعدها
لقد عبث النصر السابق والرخاء الغابر بفرنسا عبثاً شديداً، فلقد غدت قبل الهزيمة شيعاً وأحزاباً لا حصر لها، ولا تدرك أسماؤها فضلاً على مبادئها، بل أهوائها. ولقد كان التشعب السياسي والحزبي أهون ما نكبت به فرنسا، فلقد أصابها ما يصيب الأمم المنحلة من تدهور خلقي، إباحية، وبيئة، وفردية مقيتة، واستهتار معيب؛ ولقد نُسيت فرنسا ليُذكر الفرنسيّ! وبات كل فرد أمة، فكل فرد وشأنه، وكل امرئ ولذائذه، وكل نفس وشهواتها، وعاد الأخذ شهياً والمنح مريراً وغلبت الرفاهة وحب الراحة على الجميع
هذه فرنسا التي هزمت في أسبوعين، وكانت ستهزم نفسها لو لم يهزمها الجرمان، وكانت ستخذل قضيتها لو لم تخذل في الميدان. . .
وهذه - ولا شك - بعض ويلات السلام، أو الاطمئنان إلى السلام! أما فرنسا بعد الهزيمة، فها هي ذي مغلوبة على أمرها ولكنها أشد حيوية وأكثر يقظة؛ فلقد تنبهت فيها كل حاسة؛ ولقد وحدها الخطر وهي ممزقة كل ممزق - والجسم الحي يتنبه ليدفع الخطر -؛ وأخذ كل فريق يعمل على طريقته، ولكن لفرنسا، لفرنسا وحدها لا لنفسه أو حزبه، ولا لمطامعه ولذائذه(394/23)
فهذا (بيتان) الشيخ يجدد شباب فرنسا! ويوحي إليها في كل حركة وكل عمل وكل خطبة أن تنهض، ويبشرها بالنهوض، وهو في الوقت ذاته يذكرها بالخطر الجاثم والهول المحدق، ويستنهض فيها الماضي المستقبل، ويقودها إلى الإيثار بعد الأثرة، والى التضامن بعد الفردية، والى الإنسانية العفة بعد الارتكاس في الشهوات
وهذا (فيجان) يحتمي في الشمال الإفريقي، ليشد ساعد الشيخ، ويثبت أقدامه أمام الغول الجرماني؛ وليبث في نفوس الفرنسيين الثقة بأن لهم بقية من قوة، ومسكة من مقاومة، وأنهم خليقون بالثبات بعد التقهقر، والنهوض بعد العثار، والرجاء بعد القنوط، والعزة بعد الاستسلام
أما (ديجول) فالحديث عنه نافلة، ذلك أن موقفه خطبة صامتة أبلغ من كل خطبة، وذلك أنه يمثل قلب فرنسا الحي، قلبها الشجاع الأبيّ، الذي لم يعترف بالهزيمة غداة الهزيمة. وإن (ديجول) وحده لشهيد بأن في هذه الأمة حياة، ولم طمست كل الأدلة والبراهين
وما من شك أن فرنسا ستنهض وقد تطهرت من أرجامها ونقيت من أدرانها. ستنهض باسم الرجولة والتضحية والأخلاق، وستكون خيراً لنفسها وللعالم من فرنسا الممزقة الغارقة في الشهوات.
ولقد صنعت ألمانيا سنة 1918 ما تصنعه فرنسا اليوم؛ فكانت الهزيمة حافزها الأول إلى وثبتها الجديدة. ولو لم يقم على هذه النهضة رجل مريض النفس، شاذ السليقة، لانتفع بها العالم في التعمير بدل التخريب، ولصرفت هذه الطاقة الضخمة من القوة الخارقة في غير هذا السبيل
وما أريد أن أضرب المثل بإنجلترا، فقد يكون الخلق الإنجليزي فوق مستوى إفهامنا، بل فوق إفهام العالم. هذه الخلق الذي يخلق من الشعب كله أبطالاً في ساعة المحنة، ويجعل من البشر ملائكة في لحظة الخطر، ويحيل الأفراد كتلة واحدة ما لها من فكاك
ومع هذا فقد كاد السلم، وكاد الغنى، يضعفان من أعصاب هذه الشعب، فذهب إلى الحرب متثاقلاً، ونام عن الاستعداد حتى دهمته الأهوال. ومن يدري لو طال به السلم، وأمِليَ له في الدعاية ما كان يصيب هذه الخلق المتين من الوهن، وهذه الأعصاب الفولاذية من الانحلال
للسلم ويلات. . .(394/24)
ومصر - كنانة الله في أرضه - أشد أمم الأرض بلا استثناء إصابة بهذه الويلات!
فأين ما كان في فرنسا من تشعب وتشعث مما في مصر؟ وأين ما كان هناك من فردية مقيتة وأثرة بغيضة مما في كنانة الله؟ وأين ما كان في وطن نابليون من رفاهة مريضة وترف ذليل، وفساد في الخلق والضمير، مما يجري هنا في وطن رمسيس؟
لا يحاول أحد أن يكتم عنا ما نحسه في أعماقنا، ولا يجادل أحد فيما تلمسه أيدينا وتراه عيوننا، ولا يفهم أحد أنه من الخير لنا أن نعصب عيوننا فلا نرى سوءاتنا
إن في مصر من (ويلات السلم) ما لا يتصوره أي أجنبي عنها؛ وفرنسا المنحلة المريضة الغارقة في الشهوات كانت قديسة طهوراً بالقياس إلينا. . . كانت أمة ولسنا نحن أمة، وهذا أخصر ما يصورنا من ألفاظ
في مصر ما لا يحفظ التاريخ من ... فحش يعج بها وفحش يكتم
كما قلت في قصيدة منذ سنوات
وليس هذا (الفحش) بقاصر على ما ينصرف الذهن إليه أول وهلة، ولكنه فحش يشمل كل شيء. يشمل الضمائر والأسرار، ويشمل التصرف الشخصي اليومي للألوف والملايين
في مصر فحش من الفقر من الغنى، فحش من الحرمان وفحش من المتاع. وفيها فحش من النعومة التافهة يقابله فحش من الخشونة العارمة
وفي مصر مشاحنات ومنازعات، ولكنها ليست على شأن جليل ولا غرض عظيم. وفي مصر أثرة عمياء صغيرة المطامع قريبة الآفاق لا تعدو لذة كلذة الحشرات والهوام
ومنشأ هذه كله طول عهدنا بالسلم الرخيصة والدعة المريضة والأمان التافه. كل ذلك عبث بأعصابنا فأوهنها وبآمالنا فقرب مداها، وبهمومنا فأصغر قيمتها، والخطر الذي يثير الأعصاب، وينبه الحواس، ويكبر الهمم، ويغذي الطموح قد حرمتنا الأقدار إياه، فمنحتنا طبيعة سمحة لا تحوجنا للجهد ولا تثير فينا الجهاد، وسلبتنا نعمة الاستقلال أحقاباً متطاولة فلم نضطلع من عهد طويل بأعباء الاستقلال
علم الله لقد كانت أكبر أمنية لي أن أعيش حتى أرى مصر تخوض معركة. معركة واحدة، تطهرها كما تطهر النار الخبث، وتبعث فيها الرجولة الكامنة والتضامن الوطيد، وتشفيها من رخاوة السلم وانحلال الدعة ونعومة الفراش!(394/25)
وإن مصر لكاسبة لو خاضت المعركة. كاسبة ولو تحطمت دورها وتمزقت أجسادها، لأنها ستبني أخلاقاً وتوحد كياناً، وترتفع فوق مستوى الحرص الحيواني على الحياة إلى مستوى الحرص الإنساني على الكرامة. ولأن حيويتها ستنبض في ساعة العسرة، وأعصابها ستشتد في مواجهة الخطر، فتعوض في المستقبل أضعاف ما تخسر من دور وما تفقد من أجساد!
لو خضنا المعركة - أية معركة - ما بقى ذلك الشباب الناعم الناعس، وما كان الإنذار بغارة جوية - لا الغارة - سبباً في ارتعاد الفرائص من الهلع، واصطكاك الأسنان من الذعر، وتساوي الرجال بالنساء في العويل والصياح!
لو خضنا المعركة - أية معركة - ما حدثك شاب (أرستقراطي) عن (النكبة) التي حلت به لأن (سهرة) فاتته، ولا عن الكارثة) التي تسود حياته لأن منافساً له من بني طبقته فاز بقلب راقصة - إن كان لها قلب!. . . ولا عن (ويلات الحرب) التي رفعت من أثمان العطور والخمور!
أي والله هذه أحاديث شباب (الوسط الراقي) في مصر، وتلك مطامعه وآفاقه في الحياة. وإن كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى - عماد الأمم - ليقلدون هؤلاء مع الأسف، فإن لم يقلدوه في هذا، فالكارثة عندهم أن لم يجدوا وظيفة بعد تخرجهم، والنازلة أن بعض زملائهم سبقوهم في الدرجات، وويلات الحرب عليهم هي وقف العلاوات والترقيات!
لو خضنا المعركة - أية معركة - لبرئنا من الأثرة الحمقاء التي يحسب فيها التبرع بالجنيه من صاحب الألوف مفخرة تشيد بها الصحف، وتطوع فتاة في مستشفى مبرة تنتشر من أجلها الصور. ذلك أن التبرع بالأرواح والتطوع بالدماء يصحبان إذ ذاك عملاً يومياً لا يلفت الأنظار!
لو خضنا المعركة - أية المعركة - لسكتت ألسن الدعاة الحزبيين عن الخوض في الشخصيات ولترفعوا عن المغانم والأسلاب، ولكان لهم من هموم مصر ما يشغلهم عن هموم الحكم، ومن مطالب الوطن ما يلهيهم عن مطالب الأنصار!
ولو خضنا المعركة لكان لنا أدب غير أدبنا الباكي الحزين ولكانت لنا أمجاد نتغنى بها، ومخاطر ندعو إلى اقتحامها، ومخاوف نثير الهمم إزاءها، ولكانت لنا عزة تستشعرها نفوسنا ويتغذى بها إحساسنا(394/26)
إي والله، ولا سمعنا في ذلة باكية (ما يهو نش) أو (ميلت بختي في الحب يختي) أو (يا حبيبي تعال إلحقني شوف اللي جرالي من نار حبك) أو (ليه تلا وعيني وأنت نور عيني). ولأنفنا لأن يكون نشيدنا القومي المختار: (لا والنبي يا عبده)!
اللهم إن تكن قد كتبت علينا إلا نخوض المعركة، فابعث اللهم علينا بركاناً ثائراً أو زلزالاً محطماً أو سيلاً جارفاً أو كارثة ما من كوارثك الرحيمة التي تنقذ بها عبادك من نعومة الأمن ورخاوة الدعة وويلات السلام!
فإن تكن اللهم قد أردت حرمان هذا الجيل من رحمتك فلا تحرم الأجيال الآتية ما حرمتنا، إنك أرحم الراحمين!
(حلوان)
سيد قطب(394/27)
يا قمر!
للأستاذ محمود البشبيشي
يا سمير الحزين في خلوته، ورفيق السعيد في جلوته!
كل ما فيك سحر. . . وكل ما فيك بشْر
سحر يغمر القلوب بشعاع النور فتطرب
وبشر يشمل النفوس فترتاع الآلام وتهرب!
. . . لا حزن معك. . . ولا ضلال بظلك يا قمر!
يا هادي الساري في البيداء. . . وقاهر الظلمة بالضياء
شراع أنت للملاح لا يبلى مع الزمن، ولا يضطرب مع الريح فيصيبه الوهن! يقهر موج البحر، كما يقهر أمواج الفكر، فتسير السفينة بفضله في أمان! ويهدأ الملاح فيصوغ لك شكره في ألحان
كم لك على الأمواج من قُبل ليست كالقبل! بل زادت عليها معنى النور!
قبلُ من نور! يا سحرك يا قمر! ترقص من فرحة اللقاء، على ثغور الماء. . .
قبلُ من نور! يا سحرك يا قمر! تخشى الرقيب فتضطرب وتنتقل!
ولا تقع في اضطرابها وتنقلها إلا على شفة من موج، أو خد من زورق!
قبلٌ من نور! يا سحرك يا قمر! تبعث الغيرة في قلوب الأشجار الحالمة، في الضفاف النائمة، فتمد لك أوراقها ثغوراً تطمع في قبلة من نور!
. . . ومن عجب يا قمر أنك تقبلها وتقبلها غير ما هائب ولا خائف من عتاب الأمواج وثورة قلوبها
للحقائق المجردة فعل السحر في كل شيء، تنزل بالغنى إلى الفقير لتقربه من النجاة، وترتفع بالفقير إلى الغنى لتشعره بالحياة
. . . فكيف وحقيقتك يا قمر من نور!!
تنزل بالسماء في معنى الشعاع إلى الأرض لتقول لها إنك لا زلت تراباً!! وترتفع بالأرض إلى السماء في معنى الظلال وانعكاس النور لتقول للسماء إنك لا زلت سماء ما دام فيك ضياء!!(394/28)
في نورك يا قمر معنى قلب المؤمن، ولا يلمس شيئاً من أشياء الحياة إلا طهره!
في نورك يا قمر معنى كلمة الحق! لا تحل في مكان إلا خرجت منه كلمة الكذب!!
في نورك يا قمر معنى كلمة الحب! لا ترن في مكان إلا جعلت من صخوره قلوباً!
في نورك يا قمر ماذا في نورك يا قمر؟!. . .
حقيقة أنت. . . ولكن حقيقة متغيرة. . .!
فأنت عند الجاهل قرص لا أكثر ولا أقل من ضياء وسناء!
جُعلت لتخفف من وحشة الانتقال من معنى النور إلى معنى الظلام
لا يعلم من سرك غير أنك تغيب لتطلع الشمس، وأن الشمس تغيب لتطلع أنت!
وأنت في عين الفيلسوف حقيقة النور، ولسان السماء الذي تخاطب به الأرض لتذكرها أن هناك رقيباً عليماً خبيراً يرى كل شيء حتى دبيب الخواطر في النفوس!
ومن عيونه المحسوسة لو عقل القوم! عيونك يا قمر.
عجباً يا قمر! نظرة سطحية جعلتكَ قرصاً من ضياء، ونظرة عميقة جعلتكَ عيناً من سناء! فما نظرة العاشق إليك يا قمر؟
نظراته لا تنتهي إلى أمد. كل نظرة فيها تنعطف على نظرة انعطافاً لا نعلم كيف يكون، لأنه من أسرار قلبه وأسرار نورك! تقلبت على قلبه وجوه الأيام فيها من لقاء وما فيها من فراق فنظر إليك يا قمر كأنما فيك مفتاح قلبه، وتكلم كلاماً، إني لا أعلمه، فهل تعلمه يا قمر؟
لقد أحصرني التطول إلى أسرار نظراته إليك، فهل من معين منجد ومساعد منشد؟
أين أنت يا دكتور مبارك وهذا الموقف موقفك! وإنك لناصح أمين لا تعرض الرأي على تهمة؟
وأين أنت يا زيات وهذا حديثك (في الجمال)، فإن المعاني هنا أصبحت لقلبي قُلْباً؟
وإني لأخوض في أوعاث وأوعار!
فما نظرة العاشق إليك يا قمر!
يا قمر! أنت قمر!
وهذا كل ما يستطيع الشاعر أن يقول لأنك فوق كل ما يقول(394/29)
نعم أنا لا أستطيع أن أصفك وصفاً يحمل كل معانيك يا قمر
ويكون في ألفاظه معنى النور والسحر والجمال والأحلام
لا أستطيع غلا إذا قلت: أنت يا قمر!. . . يا قمر
وهكذا لا توصف الحقيقة إلا بالحقيقة!!
يا أفكاري! لقد تمجّدت اليوم رغم الجاحدين الحاسدين
لقد بلغت اليوم عرش النور خفافيش الظلام
لقد أنصت لك القمر وتفتحت آذان السماء!
يا أفكاري لقد تمجدت اليوم، فأنصت لك القمر!
يا قمر هاأنذا أناجيك فهل تسمع النجوى؟
هاأنذا أعيد لك أنشودتي المنظومة شعراً يأرج ويتوهج بعبيرك وأنوارك. . .
يا أيها القمر السخي بنوره ... فيم احتجاجك عن وحيد ساري
في ظل نورك حين تبدو باسما ... أرب النفوس ومتعة الأنظار
كم في الدجى مذ غبت من متأمل ... بين النجوم ينوء بالأكدار
أمهديء الأفكار إن جد السرى ... هل رحمت مبلبل الأفكار
يا مشرق القسمات طبعك رحمة ... فإلام تتركني لوقت سرار
يا باعث الأنوار تنتظم الربى ... والوهد، طال الشوق للأنوار
(انظر القمر، وارقب الخطر، واسأل القدر!)
محمود البشبيشي(394/30)
اللورد روبرت بادن باول
الكشاف الأعظم العالمي
للأديب خميس زهران
توفي اللورد بادن باول الكشاف الأعظم في نيري بكينيا في
صباح 8 يناير وهو في الثالثة والثمانين من عمره. وكان قد
مرض مرضاً خطيراً بنوبات قلبية في نوفمبر من السنة
الماضية ثم تحسنت صحته ولكنها ظلت معتلة. . . وقد احتفظ
الفقيد بصحته ونشاطه حتى الثمانين ثم أخذت بعد ذلك في
الانحطاط. ومما يذكر عنه أنه له داراً فوق منحدرات جبل
كينيا حيث عاش حتى توفي
واشتهر الفقيد في حرب البوير في جنوب أفريقيا ودافع عن مافكنج؛ ولكنه نال شهرته العالمية عندما أسس حركة الكشافة عام 1908 فنجحت نجاحاً عظيماً وأصبح عدد الكشافين والمرشدات في العالم قبل وفاته نحو خمسة ملايين
بادن باول اسم يعرفه كل من له إلمام بتاريخ الكشافة، ويمجده كل من درس مبادئها واعتنقها في أي قطر من أقطار المعمورة، فهو يتزعم تلك الحركة المضنية التي ابتكرها، وقد وقف نفسه على خدمة الشباب في العالمين. وهو هو في نفسه وأخلاقه وعاداته ونزعاته لا يفرق بين جنس وجنس، ولا يوازي إلا بين النفس والنفس مجردة
ولد الطفل الإنجليزي (روبرت) مؤسس مذهب الكشف من أبوين كريمين هما (بادن باول) والسيدة (هزيتا هراس) ورأى النور في هذه الحياة لأول عهده بها في 22 فبراير عام 1857 في شمال هايدبارك بلندن، وكان أبواه ممن اشتغلوا بالتربية ولم يكن يدور بخلدهما أن ذلك الابن السادس سوف يأتي بمذهب في التربية هو خلاصة أراء علمائها وأظهره عملياً في ثوب الكشافة، فحقق بذلك نظريات سقراط وأفلاطون، ثم أقوال ابن خلدون ولوثر(394/31)
ومن بعدهم روسو وبستالوتزي وسبنسر فقد أجمع كل هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين وغيرهم أن أول الواجبات الإنسانية تأهيل النفوس إلى اكتساب الكمال الممكن بتأسيس الملكات الصالحة وتأصيل الفضيلة الذاتية بإصلاح الأنفس الناطقة حتى تستحق النظر في حال غيرها أو تمرين سواها؛ ووافقهم على هذا المبدأ الحقيقي حكماء السياسة والشرع عموماً لتسليم البرهان القاضي بعلو الغاية من التربية وإن اختلفوا في الكيفية على حسب المدارك والاقتضاءات الزمنية
وقد دخل في العقد التاسع من عمره وقد منحته الطبيعة ما عندها من فتوة وقوة ولم تحرمه لذة الألقاب والغنى فتدرج فيهما إلى أن بلغ ذروة الأولى وأصبح في درجة لا بأس بها من الثانية وكان لا يزال قدوة الشباب ومرجع المربين: يلبس كالطفل وكالشاب وكالرجل وهو في الواقع كهل لا بل شيخ. إنما تعاليم الكشف وحياة الكشف جعلت من شيخوخته الشباب الغض والعامل المجد الآخذ من المجتمع بأكبر نصيب. فبادن باول في حركاته وسكنا ته كان يعد من الشباب الناهض وإن يكن شيخاً في مظهره وفي منظره، لأنه كان يلبس ما يتذوق الشباب ويتحرك كما يتحرك الشاب، ويجانس الفتية ويجالسهم دون غضاضة أو تنافر. لعله في هذا كان يتحدى الطبيعة ويتحدى الذين إذا استقبلوا الخمسين ترحموا على الدنيا وعلى الحياة، وعاشوا أمواتاً يبحثون عن القبر ويستضيفون اليأس في كل أطوارهم
وتاريخ طفولة رو برت مملوء بالحوادث والمفاجآت فقد مات أبوه (بادن باول) الأستاذ بجامعة أكسفورد وهو في الثالثة من عمره فكفلته أمه السيدة هزيتا ابنة الأميرال (السير سدني سميث) من أعلام البحرية مدة الحملة الفرنسية مع اخوته الستة وكذا أخته الوحيدة. ولم تلحقه بمدرسة ما بل اكتفت بتعليمه المنزلي. وكانت لدى بادن واخوته سفينة يمخرون بها عباب اليم فيجازفون بأنفسهم متغلبين على الأعاصير حتى قويت ملكاته وصار يستعمل المجداف بلباقة وذكاء وتعلم الاعتماد على النفس. وبقى بادن يتلقى بعض العلوم الخفيفة والمعارف السهلة في منزله إلى أن بلغ الحادية عشرة من عمره فأدخل مدرسة روزهيل الابتدائية فمكث فيها سنتين كان خلالها العلم الفرد في الألعاب مما جعله محبوباً من أقرانه وأساتذته. ولقد قال عنه الدكتور هايج بروني في سياق كلام له: (ما شككت قط في كلمة قالها. ولقد برهن في جميع أدوار حياته أنه رجل شريف لا يعرف زوراً ولا بهتاناً ولا(394/32)
يخاتل ولا يشك في كلامه). ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بمدرسة تشارتر هاوس تلك المدرسة التي تحدث (ثكري) عنها وأشاد بذكرها في رواياته القصصية. وكان سيره التعليمي عاديا كشأن الطلبة المتوسطين أي أنه يبزهم في اللغتين اللاتينية واليونانية، وينافسهم في الأخلاق الفاضلة والصفات النبيلة. أما في الألعاب بأنواعها فهو ابن بجدتها وفارس حلبتها؛ شهد بذلك ناظر مدرسته حيث كتب على لوحة الإعلانات قبيل انعقاد مباريات كرة القدم السنوية: (إن الطالب روبرت بادن باول حارس مرمى يقظ هاديء الخلق يعتمد عليه دائماً)
وفي عام 1876 ترك الفتى روبرت مدرسة تشارترهاوس، وكان عمره إذ ذاك تسعة عشر عاماً، فأخذ يفكر فيما عساه يكون مستقبله، ولم يكن قد قرر اتجاه حياته بعد. وفي بعض الأحيان تخضع مصاير الناس لمصادمات تافهة لا وزن لها، وقد يتغير حظ الإنسان ويتبدل مصيره، لا لشيء إلا أن القدر يريد أن يحقق ما كتب في صفحته. ومن المحقق أن الامتحان العسكري الذي صادف انعقاده وقت خروج روبرت من المدرسة كان له الأثر مما كان يتوقع، فإن تفوقه ونجاحه بين سبعمائة طالب آخرين دخلوا معه هذا الامتحان بالرغم من عدم ميله إلى الجندية أرغمته على الالتحاق بالفرقة الثالثة عشرة من الهوزار بالهند، وهكذا هيأت له المصادفة الدخول في جيش بلاده
ولما ذهب إلى الهند ضابطاً في الجيش أعجبته الطبيعة وهام بها، فأخذ يرمي بنفسه في أحضانها، ويطبخ طعامه بيده، ويهيئ فراشه من أغصان الشجر ويهتدي إلى الاتجاهات: بالرياح والنجوم والشمس والقمر؛ ويعيش مع الحيوانات والطيور، ويلاحظ نظم حياتها ويدرس أنواعها حتى نمت لديه قوة الملاحظة والاستنباط، واتسع نطاق ذاكرته ورهفت حواسه ودقت. ولقد قيل إن أول عمل قام به هناك هو أنه جمع عددا كبيراً من أولاد الأوربيين الصغار ونظمهم واخترق بهم شوارع مدينة لكنو، لاعبين على بعض الآلات الموسيقية، وكان يعزف هو على آلة تدعى (أوكارينا)
واللورد بادن باول ذو اطلاع وافر على شئون ممالك كثيرة، فقد انتقل من الهند إلى بلاد الزولو فجنوبي أفريقيا بعد أن قام بسفرات أخرى طويلة كان له فيها مغامرات جريئة وتجارب قيمة(394/33)
لا ننظر إلى بادن كما ننظر إلى شاب، فهو في طفولته وفي شبابه ككل منا، ولكن النظرة التي تهمنا هي من يوم أن هداه الله، أو قل من يوم أن بعث الكشف من رقدته في صدر (توماس ستون)؛ فقد وقع في سنة 1904 أن تنبه الأمريكيون إلى مسألة الكشافة وما يكون لها من وقع حيوي. فذهب المستر توماس ستون الذي كان يحاول إدارة غابات كندا إلى تأليف نفر من أبناء الإنجليز هناك لاستغلال هذه الغابات فجعلهم فرقاً على رأس كل واحدة منها واحد يقوم عليهم يدربهم على النظام والعيش في العراء، يأخذهم إلى الغابة ليعلمهم تسلق الأشجار واقتفاء الأثر، والمراوغة، والاختفاء عن أعين الرقباء، والتعرض للشمس. ويعلمهم كذلك السباحة وبعض الحرف النافعة، ويمنعهم شرب الخمر والتدخين
فلما رأى ذلك السير روبرت بادن باول وكان إذ ذاك في أمريكا الشمالية أعجبته خطة الرجل وصادفت هوى في نفسه، ولكن ما لبث أم أسدل النسيان عليها ستاره
وذلك اليوم هو حين صدرت له الأوامر بالذهاب إلى جنوب أفريقيا لتأدية خدمة عسكرية، وحين عهد إليه قوة من الوطنيين لم يكن لهم عهد بالحربية
مائة شاب من سكان جنوب أفريقيا كانوا المزرعة التي غرس فيها (الماجور بادن باول) تعاليمه كتجربة. ومائة لا أكثر استطاعوا أن يؤيدوا صدق مذهب الكشف، لكن بقيادة هذا الزعيم الكبير، وهم اليوم يعدون بالملايين في أنحاء المعمورة، لا يقف تيارهم جنس أو دين أو مذهب؛ بل كلهم يعتنقون مذهب الكشف راضين قانعين بفوائده سواء لأجسامهم ولعقولهم ولاستعدادهم للحياة كأفراد عاملين وكأعضاء في المجتمع نافعين. واللورد بادن باول فضلاً عن شهرته ككشاف أعظم كان يعتبر بحق بطل واقعة مفكنج، فقد أظهر أثناء حصار مدينة مفكنج عام 1899 من النبوغ والعبقرية في الفنون العسكرية ما أطلق ألسنة مواطنيه بالمدح والثناء عليه
وتلك ولا شك كانت حرباً هائلة لم يكن الإنجليز يتوقعون أن يكون للكشافين أثر فيها. فلم يلبث أن دعي الجنرال بادن باول إلى جنوب أفريقيا عند قيام حرب البوير، فقام بأعمال جليلة رفعت من ذكره في بلاده
ومما يذكر في هذا الشأن أن الجنرال الإنجليزي حصر بجيشه في مفكنج وهي مدينة صغيرة واقعة في سهول أفريقيا الجنوبية ولم يكن أحد يظن بأنها ستهاجم من العدو كما لا(394/34)
تتوقع أنت مهاجمة العدو لبلدتك أو قريتك إذ أن هذا بعيد الاحتمال
قال بادن باول: (ولما وجدنا أننا سنهاجم في مكفنج أخبرنا حاميتنا عن النقط التي ينبغي الدفاع عنها. وكان عدد رجالنا قريباً من 700 ما بين شرطي ومتطوع ومنظم. ثم سلحنا من الأهليين 300 وكان بعضهم من رجال الحدود القدماء الذين هم أهل لهذه المهمة. غير أن كثيراً منهم كانوا تجاراً وكهنة وغير ذلك ولم يشاهدوا سلاحاً من قبل ولم يجربوا تعلم الحركات العسكرية أو الرمي. لذا لم يكن يرجى منهم خير في البدء. اجتمع لدينا بعدئذ ألف رجل كلفوا بالدفاع عن المكان الذي يضم 600 امرأة (بيضاء) وولد، 7000 من الأهليين وكان محيطه نحو خمسة أميال. أليس من المضحك أن تلقى عدواً يقصد قتلك وأنت لم تتعلم الرمي قط؟)
لقد اضطرب الجيش لهذا الحصار الشديد ولم تعد هناك نفس لم يداخلها الخور إلا صاحب ذلك القلم العظيم الذي عرف الحرب من قبل وبلاها فقد كان على بينة من أمره؛ ومعنى هذا أن لا سبيل أمامه غير الإذعان لمشيئة الظروف فلا بد مما ليس منه بد
اختلى بعد ذلك بزميله اللورد (ادوارد سيسل) لحديث قصير استشاره خلاله فيما يختص بالدفاع وأدلى باقتراحه ذاكراً خطة صديقه (توماس ستون) فوافقه عليها، وقد سره وأحيا الأمل في نفسه أنه قد وجد على الأقل رجلاً خبيراً بالعمل الذي ينتويه والذي عهد به إليه وخفف من غم الجنود وشجنهم، كما أعاد الثقة إلى نفوسهم هذا القوام العسكري المهيب وتلك اليد القابضة أبداً على السيف المتدلي بجانبه كأنه قد استحال قطعة متصلة ببدنه، وهاتان العينان الساكنتان أبداً لا تضطربان ولا تختلجان، وحديثه كلما تكلم عن المخاطر بلهجة المحتقر لها المستخف بها كل الاستخفاف (أرجو أن تحلوني مكاناً حامي الوطيس متأجج النيران) (نعم قد يحاولون الاقتحام ولكني أظن أن لا حاجة بي إلى أن انبه جندياً أن عشرين رجلاً من البواسل أولى العزم - وهو ما أعتقده فيكم جميعاً - قادرون بلا شك على الثبات في الدفاع عن مدينة كهذه إزاء عشرة أمثال أو أقل عشرين من أمثال العدد الذي يتقدم به البويريون لاقتحام مفكنج) (وما أنا إلا جندي مثلكم وما سيقع لكم هو واقع لي. فهل رأيتم أثراً للضعف أو التخاذل عندي، أو لمستم مني ناحية شك في النصر؟) ولما ضربت مدينة مفكنج لأول مرة طير خبر ذلك وعلق عليه قائلاً: (كسر إناء طبخ ومات كلب) ولقد(394/35)
كتب إلى أحد القواد البويريين: (إنك لم تأخذ المدينة بالقعود عنها والتطلع إليها)
وجعل بادن باول يظهر الاستخفاف من الحصار إلى درجة جعلت الحامية جميعاً مطمئني الصدور مرتاحي الخواطر، كما أن ثقته التامة بالنتيجة واستعجاله القتال تركهم في ذهول من أمره وإعجاب بشجاعته
(البقية في العدد القادم)
خميس زهران
زعيم جوالة بإسكندرية(394/36)
كلمات
رجل كسيح
رجلان أبرزتهما هذه الحرب وأبانت للعالم كله عن قيمتها وأن كليهما يصدق فيه قول شاعرنا العربي القديم: وما كل ألف لا تعدّ بواحد
أما أولهما فهو تشرشل، وأما ثانيهما فهو روزفلت
وقصة الحياة التي حيَّها رزفلت، هي قصة فذة عجيبة بين حيوات البشر. بل مثال كامل فريد لا يمكن أن تصل إليه الإرادة البشرية وقوة الخلق والكفاح
فهذا الرجل الذي استوى على كرسي الرياسة في أكبر جمهورية في العالم القديم والحديث، وتولى سياسة أعظم الدول مالاً وقوة وفتوة، والذي اختارته هذه الأمة ليسوس أمرها ثلاث دورات متواليات، ولم تُنل هذا الشرف ولا هذه الكرامة ولا هذه الثقة أحداً قبله في تاريخها
وهذا الرجل الفرد الذي يقف من وراء المحيطات يخطب مائة مليون من الناس يرسل في خطابه الصواعق والحمم، والذي يضع قوته وقوة أمته على كفة من كفتي هذه الحرب العاتية فتشيل، ويسيّر بقوته وفكرته وعزمه تاريخ العالم الحديث والمستقبل، وتاريخ الحضارة البشرية ومستقبلها إلى وجهة خاصة من السير.
هذا الرجل الذي بلغ هذا المبلغ هو إنسان معلول كسيح. . .!
وقد رأيت هذا الرجل منذ أيام على شاشة السينما يخطب الناس لانتخاب الرياسة فيستولي على عقولهم وقلوبهم وعواطفهم ويكادون أن يدموا أكفهم تصفيقاً له. ويزور المصانع والمعامل فيتحدث ويسير ويضحك ويداعب كأنه شاب في الثلاثين فتوة وحيوية. وكان يقف يتوكأ على عصاه ويسير يجر نصفه الأسفل كأنه لا حياة فيه. إنه كسيح أصيب في طفولته بالشلل.
سألت نفسي يا ترى لو أن طفلاً مصرياً أو شرقياً أصيب بما أصيب به رزفلت في طفولته فمات نصفه من الشلل، فأيَّ إنسان وأي رجل وكهل بصير هذا الطفل المصري أو الشرقي؟
أما إن كان غنياً فسينشأ شاباً مدلّلاً تافهاً ساقط النفس خائر العزم مريض القلب والنفس كمرض جسده. شاب مدلل تافه يأكل خير الطعام ويلبس خير اللباس لا رجاء لنفسه في(394/37)
نفسه ولا رجاء لأحد فيه، فقد خلقه الله - في زعمه - غير صالح لعمل ولا لرجاء. ستبكي أمه ويحوْقل أبوه ويزعم الثلاثة أنهم خاضعون لما قدّر الله حين ابتلاهم. فهو إنسان يطعم ويشكو حتى يجيء فيه قضاء الله
وأما إن كان فقيراً فهو كصاحبه ساقط الهمّة خائر العزم مريض النفس والقلب مشلول الفكر والعقل والعزيمة كمرض جسده. مستسلم - في زعمه - لقضاء الله لا عمل ولا رجاء حتى يحين فيه القضاء
بل إن صديقي يقول: لو أن روزفلت نشأ في مصر أو في بلد شرقيّ لوجدنا مكانه إلى جانب ضريح من أضرحة الأولياء قد مدّ نصفه الكسيح في الشمس يعْرضه على الناس فُرْجةً، ثم يمدّ يده يسأل الناس أن يدفعوا إليه ضريبة الصدقة. . .!
(محمود)(394/38)
رسالة الشعر
من نوازي القلب!
للأستاذ محمود خفيف
أَيْنَ ليلاَتُ أَدمُعي وسُهادي ... وَرِضَائي بِشقْوتي وَعِنادي؟
أَيْنَ مِنِّي ضلالَتي أَشْترِيها ... بالذِي قَدْ أَضَلَّني مِنْ رَشَادِ!
أَنا أَشْقى يَا وَيلَتا بانْطلاقي ... مِنْ إِسَاري فَأَيْن مِنِّ وِثاقيِ
آهِ! مِنْ لي بِساعَةٍ منْ زَمَانٍ ... كانَ بَعْضَ النَّعيمِ فيهِ احتِراقيِ!
لَمْ يَعُدْ بَعدَ مَوتِ الأَماني ... غَيرُ مَاضِ أَصْبو لهُ وأُعاني
إِنْ يَكنْ عَوْدُ عيْشِهِ مُسْتحيلاً ... فَشِفائِي في غَفْوةِ النِّسيانِ
كَيْفَ أَنْسى؟ اللهُ لي! ما لقلبِي ... مِنْ جِراحاتِهِ عُلاَلَةُ طِبِّ
وَقصَارَى العَذَابِ ذِكْرىَ حُبَّا ... لَمْ يَعُدْ بَعدُ غَيرَ سَالفِ حُبِّ!
أَيُّ طِبٍ لِحائِرٍ في الضُّلوعِ ... بَينَ يَأسٍ في خفقِهِ وَنُزُوعِ
ذِكْرُهُ اليَأسَ إِن تَوَثَّبَ يَثْني ... هِ ويُغرِيهِ ثمَّ طولُ الهجوعِ!
سحرَ ماضِيَّ غَيَّرتكِ الليالي ... بَعضُ هذا لمْ يجرِ يوماً بِبالي
لاَتَرى العَينُ في مُحيَّاكِ مَعْنىً ... غَيرَ ما تَدَّعينَ من إِقباَلِ
في مُحيَّاي لهْفَتي وأُوَامي ... وخَيَالُ القَديمِ من أَحلامي
أَزْهَقَتْ بَسْمَتي عَلَى شَفَتَيَّا ... خَطَراتٌ فيهِنَّ ماضي هُيَامي
لا تَخاليِ ادِّعَاءِ َكِ الوُدَّ يُغني ... تَقَرَأ الصَّدَّ في وِدَادِك عَيْني
وَسَوَاءٌ لَدَيَّ ما تُبْصِرُ العَيْ ... نُ ومَا غَابَ في ضَميرِكِ عَنَّي!
يَسْتَوي الْيَومَ وَيْحَ نَفْسيَ وُدُ ... إِن أَردْتِ الوَلاَء حَقَّاً وصَدُّ
رِعْدَةُ الأمْسِ عِنْدَ مَرْآكِ إِثْمٌ ... وَلَئِنْ أَلهَبَ الحَشْا مِنكِ وَقْدُ
السُّلوَّ السُّلوَّ. . . وَيْكَ فؤادِي ... لَنْ يَبُلَّ السَّرَابُ غُلَّةَ صَادي
قَدْ تَوَلى بَعْدَ الثَّلاثينِ عَاما ... نِ فَقَضِّ الشَّبابَ في الزُّهَّادِ
لَحَرَامٌ عَلَيَّ كُلُّ حَلاَلِ ... مِنْ مِراحِ الشَّبَابِ حُلوِ اللَّيالي
بَعْدَ دَعاني للهَّو بَعْضُ صِحابي ... واسْتَخَفَتهُمُوُ نَوَازِي الشَّباب(394/39)
فأَنا فِيهُمو الضَّحوك الذّي يُخْفِ ... ي عنِ الصَّحْبِ غاشِيَاتِ العذاب
ضَحِكُ الزَّهْرِ فَوْقَ مُوحِشِ رَمْس ... ضَحِكاتي بينَ الأسى والتَّأسي
وَمُجُونُ الرِّفاقِ حَوْليَ ضَوضَ ... اءُ صَدَاها فيهِ عَذابٌ لِنَفسي
وَإِذا اللَّيلُ هَزَّ في أَسْحارِه ... سَاجِعاتِ الخَمْيلِ مِنْ أَطْيارِهْ
وَالنَّهَارُ الضَّحُوك هَلَّ مِنَ الأُف ... قِ وَفاضَ الوَضِيءُ من تَيَّارِهْ
وإِذا ما الرَّبيعُ في رَيِعانِهْ ... أَلَّفَ السِّحْرَ في رُؤى مِهرَجانِه
وَتَعالَتْ أَلْحانُهُ في الضُّحَى الطَّل ... قِ فَهَاجَ الحَنِينَ في أَلحانِهْ
لا النَّهارُ الضَّحُوكُ يَملِكُ لُبِّي ... ولا وَلا في الرَّبيعِ عِيدٌ لِقلبي
ماتَ في مُهْجتي السُّرُورُ وِأمسى ... عَلْقَماً بَعْدَ مَوتِهِ كُلُّ عَذبِ!
الخفيف(394/40)
البريد الأدبي
وفاة هنري برجسون
توفي في الأسبوع الماضي الأستاذ هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي العظيم وعضو الأكاديمية الفرنسية عن 82 سنة
وقد تخرج برجسون في مدرسة المعلمين العليا وبعد أن حصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة أخذ يدرّس العلوم الفلسفية
في مدرسة فرنسا فلم يلبث أن أصبح من أبرز أساتذتها منذ سنة 1900، وطبقت شهرته الآفاق فأخذ الطلبة يفدون عليه من جميع أنحاء العالم لسماع محاضراته وتعاليمه
وقد وضع برجسون مؤلفات عديدة في الفلسفة منها (قوة التطور المبدعة) و (القوة الروحية) و (الضحك). وقد انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية سنة 1914 ونال جائزة نوبل للآداب سنة 1927
حقوق المؤلفين في الدانمرك
فكرت الحكومة الدانمركية في حظ المؤلفين وفيما يلحقهم من غبن فقررت أخيراً زيادة دخلهم المادي تشجيعاً لهم على مواصلة العمل والإنتاج
ومن التدابير التي اتخذتها أنها فرضت رسماً على كل من يطالع أي كتاب من المكاتب العامة أو في أندية المطالعة، وفرضت رسماً آخر على كل من يقتبس جزءاً من كتاب ويذيعه بالمذياع أو الحاكي
وهذه الرسوم تجمع بعد انقضاء فترة معينة وتوزع على الكتاب الذين انتفع بمؤلفاتهم للإذاعة أو المطالعة
إعلان الحرب على الفقر
نصب الأديب توم كرومر نفسه مدافعاً عن فقراء نيويورك، وعقد العزم هو وجمع من أنصاره على إعلان حرب شعواء على الفقر والتعطل، وقد أخرج كتاباً بعنوان (طريدو الجوع)، رسم فيه صوراً مروعة من حياة رجل أمريكي متعطل شريد.
ولقد تناول المؤلف بطل قصته في حياته اليومية، فأظهر لنا كيف يعيش، ومع من يعيش،(394/41)
وماذا يأكل، وكيف يلهو، وفي أي أمكنة يقضي لياليه، وكيف ينحط جسمه وينحط عقله وتفني كرامته حتى يستحيل إلى آله صماء وقد أعجبت هيئة اتحاد العمال الأمريكيين بهذا الكتاب، واتخذت منه وسيلة لمكافحة الفقر والدعاية للطبقة العاملة ومحاربة التعطل، فطبعته على نفقتها ووزعت منه آلاف النسخ بثمن زهيد ليكثر انتشاره بين العمال وصغار الموظفين
ومن الظواهر التي أحدثها هذا الكتاب اهتمام الرئيس رزفلت به واعترافه في جمع من الصحفيين بقيمته ومصارحته لهم بأن توم كرومر هو أول أديب شعبي ظهر في أمريكا وأول قصصي إنساني تحرر من دراسة أخلاق الطبقة الوسطى وأقبل على دراسة حياة العامل والفلاح من الجانب الاجتماعي الاقتصادي الذي يسيطر في هذا العصر كل السيطرة
حول أهل الكهف
إلى أستاذي الدكتور زكي مبارك
قلت يا سيدي في تحليل كتاب (أهل الكهف) إن عندك ثلاثة فروض كان توفيق الحكيم تحت تأثيرها عند كتابته القصة. . . وهي قوة الشهوة، وقوة الحب، وقوة الإيمان
وأنا معك أيها الأستاذ الجليل حين تقول إن الكاتب لم يصور الشهوة العارمة التصوير الذي يجعلها شهوة عارمة
ولكني لا أفهم الغرض الذي يرمي إليه الدكتور حين يقول إن توفيقاً عرض للحب في أدب ولطف كما يصنع العذريون الضعفاء. . . وهل عند الدكتور أن العاشق العذري ضعيف؟ وكيف يجوز هذا؟ وأهل الصبابة العذرية يكابدون في الحب أهوالاً، بل ويقاومون في الحب قوتين: قوة الحب نفسه والدكتور خبير بها عليم، وقوة كبت العواطف الملتهبة بنار الشهوة؟ إن العذريين لم يكونوا ضعفاء وعندهم قوة الصبر وقهر النفس وشهواتها. . .
وأكثر من هذا أن توفيقاً صور الحب تصويراً عاصفاً قوياً في مواضع كثيرة. وما ظنك بمن يقبر ويبعث فتكون أول عاطفة تموج في صدره هي عاطفة الحب. حب مشيلينا لبريسكا. . . ويظهر ذلك في حديثه مع مرنوش في أول فصل وفي حب مرنوش لزوجته وولده، وهو نوع نبيل من الحب جعله في آخر الأمر بعد أن شعر بفقدهما يفضل الموت في الكهف على الحياة بغير قلب!(394/42)
وأكثر من هذا أيضاً أن قوة الحب في نفسه جعلته يعشق بريسكا الثانية مجردة عن حقيقته الأولى! ويظهر ذلك حين يقول (سيان عندي أن تكون هي أو لا تكون. أحب هذه المرأة التي رأيتها في اليقظة. . .)
هذا من ناحية الحب. . . أما من ناحية الإيمان والارتياب، فأنا أرد على سؤال أستاذي الجليل: (ماذا صنع توفيق في وصف الإيمان، وماذا صنع في تشريح أوضار الارتياب، وأين المعركة التي أثارها بين نسائم الهوى وزوابع الضلال؟)
إن توفيقاً صنع كثيراً في وصف الإيمان. . . بل الإيمان المتجسم الذي يبلغ حد التسليم بكل شيء في شخص يمليخا. . . حين أرى أجرى على لسانه الفرق بين التدوين بالوراثة والتدين عن عقيدة وإقناع؛ وحين يقول: إنه لا يتصور الوجود بدون عقيدة الإيمان ولا انتهاءه بدونه؛ وحين يقول: أنا لا نملك حق السؤال. . . إنما ينبغي لنا أن نعتقد
تلك ناحية الإيمان القوي، أما ناحية الارتياب فتبدو واضحة في حيرة وتهكم مرنوش حين يقول له يمليخا: (إن رحمة الله قريب)؛ فيصرخ: (حقيقة! قرب السماء من الأرض تلك الرحمة التي لا تسعف إلا من يستطيع الانتظار)؛ وحين يقول له يمليخا: (لا تسخر، إن الله حق)؛ فيقول: (لا شأن لله بناها هنا. . . نحن اللذان أوقعنا بنفسينا!)
وحين يقول له يمليخا (كل شيء على الأرض بأمر الله)؛ فيصرخ: (إلا ما نحن فيه، فقد حدث بفعل الإنسان). . . الست ترى أن توفيقاً تعرض هنا لأخطر نواحي الارتياب حين يشك في رحمة الله. . . وحين لا يجعل له يداً في حالته. . . وحين يقول: إن ما يفعله الإنسان لا سلطان لله عليه
إن توفيقاً لم يكتب هذه القصة، ولم يعرض هذه الأفكار - وإن لم تكن جديدة - إلا لغرض في نفسه، وما أقام الإيمان يناقش الارتياب إلا ليعالج إحساساً اضطرب في نفسه من قبل. أنا أشعر بهذا فهل للدكتور العظيم أن يتكرم فيلقي نظرة كاشفة على حقيقته؟
(المنصورة)
حسن حسني محمود البشبيشي
اللوزينج(394/43)
جاء في عدد الرسالة (387) في كلمة الدكتور زكي مبارك هذه الجملة:
(وحشو اللوزينج في تعبير كتاب القرن الرابع يضرب مثلاً للشيء يكون حشوه أجود من قشرة. . .)، وهذه كلمة عابرة لا تعطي القارئ الثمرة الكافية، وبخاصة من وجهت إليهم تلك الدراسات. فتوضيحاً للفائدة وبسطاً للمقام. أذكر هذه الكلمة:
قال في المصباح: مادة لوز (الَّلوزينج - بهذا الضبط - شيء من الحلواء شبه القطائف يؤدم بدهن اللوز) وهو جمع مفرده (لَوْزِينَجَه). جاء في كتاب حصاد الهشيم ن 347 (يا جمال) (جاء في يوم أمام المكتفي (لوزينجة) فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فأنشُدِ قوله:
لا يخطئني منك لوزينج ... إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها ... إلا أبت زلفاه أن يحجبا
وهو على حسنه نادر جداً في اللغة قال في ثمار القلوب للعلامة الثعالبي ص488: سمعت أبا الفرج يعقوب بن إبراهيم يقول سمعت أبا سعد رجاء يقول: دخلت يوماً على أبي الفضل ابن العميد فقال لي: امض إلى أبى الحسين بن سعد فقل له: هل تعرف لقول عوف (إن الثمانين وبلغتها) ثانياً في كون الحشو أحسن من المحشو؟
قال: فسرت إليه، وبلغته الرسالة فقال: سألني عنه محمد بن علي بن الفرات فسألت عنه أبا عمر غلام ثعلب فقال: سألت عنه ثعلباً فلم يأت بشيء؛ ثم بلغني أن عبيد الله بن عبد الله سأل المبرد عنه فأنشده قول عدي بن زيد لابنه زيد بن عدي في حبس النعمان
فلو كنت الأسير ولا تكنه ... إذا علمت معد ما أقول
قوله: ولا تكنه. حشو مستغنى عنه ولكنه في الحسن نظير، وبلغتها:
ومما عثرت عليه في حشو اللوزينج من الشعر قول البحتري يمدح المتوكل:
وجزيت أعلى مرتبة مأمولة ... في جنة الفردوس غير معجل
فقد تم الكلام عند قوله: في جنة الفردوس؛ وقال: غير معجل أي بعد عمر طويل لأن الجنة إنما يوصل إليها بالموت
وقول أبي الطيب يمدح كافوراً:
وتحتقر الدنيا احتقار مجرِّب ... ترى كل ما فيها - وحاشاك - فانيا(394/44)
فقوله: وحاشاك. حشو فيه حلاوة، وعليه طلاوة
قال العكبري: وحاشاك من أحسن ما خوطب به في هذا الموضع؛ والأدباء يقولون هذه اللفظة حشوة ولكنها حشوة فستق وسكر)
وضد هذا الحشو. حشو الأكر لأنها تحشى بكل شيء ساقط: قال جحظة: أنشدت لأبي الصقر شعراً لي فقال: يا أبا الحسن، ولا زلت تأتينا بالغرور والدرر، إذا جاءنا غيرك بحشو الأكر (490 ثمار القلوب). ثم إنه قد ذكر مؤلف كتاب الثمار أنه افتتح كتاباً صغير الجرم لطيف في نظائر هذا الحشو وترجمه بحشو اللوزينج. فأطرح السؤال على الدكتور المبارك: أين يوجد هذا الكتاب؟
فخر الدين غزي
حول الفيتامين
جاء في مقال قصة الفيتامين للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي المنشور بالعدد (382) من الرسالة عن البلاجرا
1 - (ويوجد هذا المرض في بلاد البترول) وأظنه يقصد بلاد التيرول
2 - في العمود الثاني من الصفحة 1636 يقول: (زد حقيقة ثابتة أخرى وهي انتشار مرض البلاجرا في الأوساط الفقيرة فقط في البلدان التي تعتمد في غذائها على الذرة اعتماداً كلياً فاستنتج من هذا ارتباط مرض (البري بري) بالتغذية) وهذا خطأ إذ أن الأستاذ يقصد مرض البلاجرا كما هو مفهوم من معنى الجملة. فتكون (فاستنتج من هذا ارتباط مرض البلاجرا بالتغذية)
3 - وجاء في الصفحة 1637 - العمود الثاني - (وتارة أخرى تتعاونان معاً على تنبيه (النخاع الشوكي) ودفعه إلى تكوين الكرات الحمراء. . . الخ)
وهنا أخطأ الأستاذ أيضاً فهو يقصد النخاع العظمي لأن النخاع الشوكي هو قسم من الجهاز العصبي والموجود في القناة العظمية داخل العمود الفقري وليس له أي وظيفة في تكوين الكريات الحمراء فهو النخاع العظمي الأحمر أي الموجود داخل العظام. كما أن هذه الغلطة مكررة أيضاً في شرح الشكل المرسوم في الصفحة 1636(394/45)
بهجت قدوري سلمان
بكلية الطب ببغداد(394/46)
القصص
كنز في فندق
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
فتح إدوارد لانجتون الباب في رفق وأطلَّ في الغرفة الخالية إطلال الخائف الحريص، والحرص من دأب الذي يقدم على الإتيان بعمل يحرمه القانون. وكان لانجتون لصاً لا يحترف اللصوصية ولكنه من هواتها كأنها عنده بعض الألعاب التي تراد للتسلية.
ولما وجد الغرفة خالية دخل مسرعاً وأغلق الباب دونه، ثم دخل إلى غرفة أخرى بداخل الأولى فوجدها زينة ليس بها سوى فرش قليلة، وأمشاط ومرآة فوق دولاب صغير، وبضعة دبابيس، فقرر لانجتون أن هذه الأشياء لا تساوي المخاطرة التي قام بها لدخول الغرفة
وتردد لحظة ليقرر الخطة التي يتبعها. وفي هذه الأثناء كان (الكابتن كورنيش) نائماً في فندق باريزيان في ميدان أفرتون في لوندرا وهو في هذه اللحظة تحت رحمة هذا اللص الذي احتل جزءاً من المكان الذي استأجره الكابتن
ورأى اللص أن يفتش تحت المناضد لعله يرى شيئاً ثميناً قبل أن يخرج. فلما لم يجد شيئاً فتح الأدراج في دولاب الزينة وهو مغضب، فكاد الدرج الأول أن يسقط على الأرض للشدة التي استعملها في فتحه. وفي هذه الحركة رأى اللص في الدرج ذهباً. وفي اللحظة التالية لاحظ أن مع الذهب شعر سيدة فرفع الصرة ووجد تحتها صورة في شمسية لفتاة يعرفها وهي الآنسة (بورلورن)، فوضع الصورة في جيبه وهو مغتبط كأن حصوله على الصورة قد أدناه من الفتاة نفسها. وشعر بعامل سري في ضميره يدعو إلى السرور بهذا الاستكشاف، ونظر إلى الباب نظرة طويلة، ثم خرج في صمت وهدوء تركا الذهب ومكتفيا بالصورة. واختار لخروجه ممراً لم يخط بضع خطوات فيه حتى وقف خلفه، فوجد أنه قد غادر المكان المخصص للكابتن كورنيش، وأنه صار في مأمن، واستأنف سيره وهو يتصنع مشية طبيعية حتى لا يكون موضع ارتياب، ولكنه رغم تصنعه الهدوء، كان يلمس(394/47)
بيده اليمنى جيبه الذي فيه المسدس ليستوثق منه
وأخيراً وصل إلى منزله، وهو منزل صغير نظيف، يبعد نصف ساعة عن الفندق؛ وكانت أمه في الفراش، ولكنها غير نائمة، ولم تحس بحركته وهو خارج، لأنه توخى الابتعاد عن غرفتها في أثناء ذهابه إلى الفندق
لكنها الآن أحست بحركته وهو عائد، وسمعت صوت المفتاح وهو يفتح به الباب، ووقع أقدامه وهو يمشي في الممر. وأحست بحركته وهو يتناول الطعام على عجل، ويدخل غرفة نومه فيغلق دونه بابها. وبعد أن امتنعت الأصوات من جهته، اطمأنت الأم وأدركها النعاس. . . ولقد كان يكفي لقتلها غماً أن تخالج نفسها أية ريبة في أن ابنها، وهو سليل أسرة كبيرة، يجرؤ على الإتيان بما يأتي به من الأعمال. ولم يخطرها ببالها كذلك أنه الآن يشعر مشاعر غريبة شاذة لعثوره على صورة هي أهم عنده من الطلاسم التي يقتنيها الغير لجلب الخير ودفع الشر
وبعد يومين كان لانجتون يكتب خطابات متعددة لأناس يعتقد أنهم على اتصال بمرجريت بورلورن، وكتب كذلك إليها يطلب موعداً للقاء
وبالرغم من أنها لم ترد على خطابه، فإنه ذهب إلى المكان المعين في الموعد المضروب؛ وبعد ربع ساعة كانت الفتاة مقبلة نحوه، وكانت تحيط بها من الجلال والفتنة هالة مثل التي كانت بها في أول يوم فيه منذ سنين
وبدأته بالسؤال عن سبب كتابته لها وتعيين الموعد، فقال: إنني ما كنت لأجرؤ على طلب مقابلتك في هذا المكان وفي هذه الساعة لولا أن معي شيئاً أريد أن أقدمه إليك
وكان صوته في مخاطبتها صوت من يعلم سراً؛ وقال لهل بصوت خافت: أكنت لا تطنين سبباً لطلبي إياك غير الرغبة في رؤيتك؟
فقالت وقد احمرت وجنتاها: لست أعرف
قال: (إنني في المرة السالفة أديت لك خدمة ولكنها لا تذكر بالقياس لخدمتي في هذه المرة فإنني دخلت خلسة في مكان لا بد أن تكوني قد زرته في إحدى المرات، ولكنني لم أجدك في هذه المرة ووجدت. . . ماذا عراك حتى تغير لونك)
وكان لون الفتاة في هذه الآونة يكاد ينبط منه الدم(394/48)
فقالت: (يظهر أنك تريد أن تكلمني عن شيء مضى ولكن. . .)
فقال مقاطعاً:
(كلا. . . إنني لا أريد أن أكلمك عن شيء ماض، فإني كنت في مكان الكابتن آرثر كورنيش بالفندق
لم تكن مرجريت بعد ذكر هذا الاسم بحاجة إلى كلمة أخرى تنبه شعورها فأرخت أهدابها إلى الأرض وأنصتت، وكان إصغاؤها سؤالاً، فأجاب عليه لانجتوت: (إن الكابتن لم يعلم إلى الآن أنني زرت مكانه. ولعله لا يعلم كذلك أنني أخذت شيئاً)
قالت الفتاة:
(ولكن كيف عرفت أنني أعرف الكابتن؟)
فقال وهو يتظاهر بأنه لم يسمع سؤالها:
(لقد دخلت مكانه في الفندق منذ ليال. . .)
قالت الفتاة مقاطعة إياه:
(وهل تريد بواسطتي أن ترد إليه ما لأخذته من عنده؟)
فهز لانجتون رأسه وقال:
إنني إن رددت ما أخذته فلن يكون ذلك باختياري
ثم أدرك أن في قوله من الغلظة فقال: (إن كورنيش لن يعلم أنني زرت حجرته؛ وأنا إنما فعلت ذلك لمصلحتك ولمصلحتي)
قالت: (شكراً) ثم وقفت مرتبكة لأنها لا تعرف كيف يكون لها مصلحة في دخوله الفنادق خلسة. وعاد لانجتون إلى الكلام فقال: (بقى أن تعرف ماذا فقده الكابتن)
ثم ابتسم ابتسامة ضعيفة وقال: (إنني على كل حال لم أستطع مقاومة الرغبة في رؤيتك)
وظل ينظر إليها وهو صامت وظلت هادئة فقدم إليها الصورة وتركها في مكانها وعاد إلى منزله.
وبعد أيام قليلة كان الكابتّن أرثر كورنيتش واقفاً في بيت مارجريت بورلون. وكان يقول: (منذ أيام قليلة وصلت إليّ صورتك بالبريد دون أن أعرف أنها فقدت مني، وإني لأعجب كيف حصل عليها من ردها إليّ)(394/49)
قالت: (إن الذي تقوله يدهشني، فإني كنت أحسبك تحرص على تذكار مثل هذا فتصونه في مكان أمين
فقال كورنيش: سأفعل ذلك في المستقبل
وكان يحاول أن يحدق في عينيها، ولكنها كانت تتجنب نظراته؛ وعدا إلى الكلام فقال: لكن الخط الذي كتب به عنواني على المظروف يشبه خطك، فهل أنت التي أرسلتها؟ كيف وصلت إلى يدك وكيف سرقت من عندي؟
ولما رأى الابتسامة التي على ثغرها تدل على صدق ظنه مد إليها يديه ليضمها إلى صدره، فقالت بهدوء: سأخبرك على شرط أن تبرهن لي على حبك
قال: أنت تعرفين أنني لم أكن في وقت من الأوقات قليل الحب لك، فما الداعي إلى هذا السؤال؟
فقالت: إن هذا التأكيد هو كل ما أريده منك. إن الذي أعطاني الصورة هو ذلك اللص المخاطر الذي أسداني خدمة في يوم من الأيام، هل تعرف اللفتنانت دورن؟
قال آرثر: اللفتنانت دورن! يستحيل أن يكون هو الذي أخذ الصورة
فقالت: نعم ليس هو، ولكنه الرجل الذي أنقذني من اللفتنانت دورن
قال وقد جرى في عروقه دم الغيرة: (وماذا حمله على ذلك؟ ولماذا يدخل غرفتي ليأخذ صورتك؟)
فقالت: (ألا تزال تشعر بالغيرة بعد أن رددت إليك صورتي وبرهنت على أنني لك وحدك؟)
فضمها الكابتن إلى صدره وقبلها.
وبعد هذا اليوم صينت صورة الفتاة في مكان أمين، ولكنه بالأسف ليس مكان إدوار لانجتون المخلص في حبه الشديد المهارة، فإن حسن الحظ لا ارتباط له بهاتين الصفتين.
عبد اللطيف النشار(394/50)
العدد 395 - بتاريخ: 27 - 01 - 1941(/)
في سوق الوراقين
للأستاذ عباس محمود العقاد
راجت سوق الكتب القديمة بعض الرواج في هذه الأيام كما راجت في أيام الحرب الماضية، لأن الوارد من كتب أوربا قليل، ولأن طالب الكتاب الأوربي الجديد ينتظره طويلاً قبل أن يتلقاه في البريد، فإذا وجده مقروءاً قديماً فذلك خير من انتظاره جديداً بكراً بعد أشهر أو أسابيع، ومن هنا تروج الكتب العربية القديمة التي ترد من أوربا أو التي طبعت في هذه البلاد، لأن الذي يبيع مكتبته عند إحساسه بارتفاع الأسعار يبيع منها الإفرنجي والعربي على السواء.
وفي سوق الوراقين وباعة الكتب القديمة فلتات كثيرة من التاريخ، وفلتات كثيرة من الأخلاق، وفلتات كثيرة من العجائب: نسميها فلتات لأن المرء يجدها معروضة بين يديه دون أن يطلبها، وقد تكون الفلتة منها أنفس وأولى بالاقتناء من البغية المطلوبة.
أذكر أني عثرت بكتاب لي عليه تعليقاتي وملاحظاتي بعد فقده بخمس وعشرين سنة، ولو علم بائعه سره عندي لغالى بثمنه، ولكنه أعطانيه وهو مفرط فيه مسرور بما نقدته من ثمن قليل بالقياس إلى رغبتي فيه، كثير بالقياس إلى رغبة البائع في تصريفه.
وأذكر إني عثرت على عدة أجزاء من كتاب في إحدى المكتبات، ثم عثرت بعد حين على الناقص منه في مكتبة أخرى.
وأخبرني بعض الإخوان أن كتاباً من مكتبة الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل التي بيعت في إنجلترا وفاء ببعض الغرامات ما زال يطوف الأرض حتى وصل في مصر إلى يد أديب من المعجبين بالفيلسوف العظيم، فاشتراه وأرسله إلى صاحبه وتلقى منه جواباً بالشكر والتحية لا يزال من أعز محفوظاته.
وإلى جانب هذه العجائب والمصادفات عجائب أخرى من أخلاق الناس وولعهم بضروب الاقتناء والادخار.
فهذه كتب جديدة قديمة معروضة للبيع بعد طول احتباسها على الرفوف، وهي جديدة لأنها غير مفضوضة ولا مقروءة، وقديمة لأنها اشتريت منذ عهد بعيد.
لماذا اشتراها المشتري وهو لا يقرأها، ولعله لم يكن ينوي أن يقرأها؟. . . هنا العجب من(395/1)
بعض الأخلاق والعادات. فقد عرفت أناساً يغالون بشراء الكتب على قدر قدمها في الطبع وندرتها في الأسواق؛ وأناساً يبذلون في الكتاب من الثمن على قدر سعة الهامش وصلاح الكعب للتجليد!
ويحضرني هنا أن الأوربيين يصنعون من الخشب نماذج لها شكل الكتب من بعيد، يملئون بها الرفوف العالية من المكتبات ويشغلون الرفوف السفلى بالكتب الصحيحة التي تقتنى للمظهر لا للقراءة، لأن قصراً بغير مكتبة معابة في البلاد الأوربية، فلا غنى لبعض أصحاب القصور عندهم عن هذا التشبيه والتزييف.
أما نحن فلم نرتفع بعد إلى هذه المرتبة!
لأن خلو القصور من المكتبات عندنا لا يعاب، فلا حرج على صاحب القصر أن تسأله عن مكتبة فلا تراها، وإن كان يتحرج من خلو القصر من الإسطبل. . . والقصر كله بمن فيه وما فيه أحرى أن يحسب في الإسطبلات!
والمصادفة التي صادفتها اليوم في سوق الوراقين هي شيء من غير هذا القبيل: هي كتب الدكتور شبلي شميل مرصوصة كلها في رزمة واحدة، ومعها رواية له عن الحرب الماضية كنت أتوق إلى الاطلاع عليها ولا سيما بعد شبوب نيران هذه الحرب القائمة، فكانت مصادفة (ورَّاقية) من أحسن المصادفات.
نظرت إلى كتابه عن (فلسفة النشوء والارتقاء) - وهو الجزء الأول من مجموعته - فعادت بي الذاكرة ثلاثين سنة إلى يوم صدور هذا الكتاب النفيس.
كان الدكتور شبلي شميل فقيراً كما ينبغي للأحرار الشرفاء من أمثاله في بلادنا الشرقية، وكان عسيراً عليه أن يطبع مجموعة بغير معونة من أصحابه الأريحية الغيورين على العلم والثقافة. فلما تبرع له المتبرعون بالمعونة الكافية طبع المجموعة في جزءين، وذكر أسماءهم جميعاً ومقدار ما تبرعوا به في ختام الجزء الثاني، وقدم الأسماء بهذه العبارة الصريحة الحكيمة: (أذكرها مجردة عن النواتئ مكتفياً بجمال الأعمال، وكم يجمل بالناس أن يتعودوا ذلك اختصاراً للوقت وانصرافاً للجد. وسيكون ذلك منهم متى غلب النظر إلى الجوهر على الاستمساك بالعرض في كل أعمالهم)
وجعل الدكتور ثمن المجموعة الواحدة جنيهاً مصرياً عدا أجرة البريد، وهو ثمن معتدل(395/2)
لنفاسة طبع الكتاب ونفاسة موضوعه، وقلة الراغبين في قراءة هذه الموضوعات.
ولكن الجنيه ثمن مرهق للشباب الخالي من العمل، وكنت يومئذ خالياً من العمل مريضاً أستشفي ببلدتي أسوان وأشعر بما يشعر به المريض الخالي اليدين من تكاليف العلاج.
فكتبت إلى الدكتور ما فحواه: (إني أعلم أنك تدعو إلى الاشتراكية الصالحة التي تتجنب الغلواء، ومعنى ذلك أنك تأبى على الأغنياء أن يحتكروا موارد المال، فما بالك الآن تريد أن يحتكروا موارد العلم والمال معاً، وهل تحسب أن أحداً من غير الأغنياء يقوى على شراء كتاب بجنيه؟)
فما هو إلا أن وصل الخطاب إلى الدكتور ووصلت الصحف اليومية إلى أسوان حتى قرأت فيها أن الدكتور شميلاً قد أهدى مائة نسخة من مجموعته إلى الأدباء والطلاب، ولم يمض يوم أو يومان حتى جاءني الجزء الأول ومعه خطاب منه يشبه الاعتذار لما فاته من ذكر هذه الحقيقة بغير تذكير، ويشبه الشكر على أنني قد نبهته إلى ما كان خليقاً أن يتنبه إليه!
هذه قصة عارضة تلخص مناقب هذا الرجل الحر الصريح الشريف أوفى تلخيص.
فهو عالم يحب العلم والتعليم، ويعمل بما يقول، ويؤمن بالحجة المقنعة ولو كانت فيها خسارة عليه، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، وليست مائة جنيه بالخسارة الهينة على رجل محدود الموارد كانوا يحاربونه في رزقه وفي طبه وفي مؤلفاته وإن كان كسب الألوف ميسوراً له لو أنه نسي أمانة العلم وانصرف إلى طلب الثراء من حيث يطلبه أصحاب الأقلام.
أخذت المجموعة كلها من جديد، وأخذت معها الرواية التي كنت أتوق إلى مطالعتها فإذا العجب فيها أعجب من هذه المصادفة، لأنها نبوءة صدقت في الحرب الماضية قبل انتهائها بأكثر من ثلاث سنوات، ولو نشرها ناشر على أنها مما يقال في الحرب الحاضرة لما احتاج في إعادة نشرها إلى تبديل كثير.
قال بلسان أحد أبطال الرواية وهو المدعي العام الذي يشرح تهمة الإمبراطور أمام المحكمة الدولية: (إنه لغريب جداً أن أمة كالأمة الألمانية حاصلة على قسط وافر من العلم تخضع خضوعاً أعمى لنظام إمبراطورية كنظامها عريق في الأثرة والاستبداد. وأغرب من ذلك دعواها وهي في رق هذا الحكم أنها ذات (كلتور) يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم(395/3)
العريقة في الحضارة. ونحن مع اعترافنا بأنها بلغت شأواً بعيداً في العلم والصناعة ونالت امتيازات جمة على سواها لا يجوز لنا أن نجهل أن هذا الكلتور الذي تفاخر به يجعلها عبدة لنظام حكومة يديرها فرد أو أفراد غير مسئولين حقيقة. وقط ما كان العبد أرقى من الحر. وإذا كان في علمها وعملها شيء كثير من الإتقان فإنك قلما تجد فيهما شيئاً من الابتكار، لأن العبد إذا كان أصبر على العمل فالابتكار من امتيازات الحر وحده. وإذا كنا نراها تتعمد الشر كثيراً لسواها وتستخدم علمها لهذه الغاية خلافاً للآخرين فلأن ذلك من أخلاق العبيد. ولولا أن تكون هذه الأخلاق غريزية في هذه الأمة لما مالأت إمبراطورها على جنايته الكبرى مع ما هي عليه من العلم، ولأدركت حينئذ أن الأمم التي قامت لتذلها وسعت لتبديدها لكي تحل محلها إنما هي أعضاء نافعة في جسم العمران، بل لعرفت أن نجاحها هي نفسها لا يتم لها بدون التعاون معها. . .)
إلى أن قال وما أشبه الليلة بالبارحة: (وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء مهما أساءت فهم مصلحتها بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها وتوفير المصلحة لها عموماً، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم. فعوضاً من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فساداً، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته، فشرعت تنصره في السر وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال؛ وكيف يكون غير ذلك وحظ حلفائه منه ليس أفضل. . . انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته أو مستعمرة من مستعمراته)
وانتهى تأليف الرواية في نهاية شهر يونية سنة 1915 قبل انتهاء الحرب الماضية بأكثر من ثلاث سنوات، وقبل ظهور الهزيمة في صفوف الألمان بعهد بعيد، بل انتهت وهم منتصرون متقدمون، فإذا به يجزم بهزيمتهم ويصدق النبوءة حين يقول في لهجة الثقة واليقين:(395/4)
(قد يستغرب القارئ - وقد أنهيتها بهذه الصورة - مع أن الألمان حتى الآن في انتصار. ولكن من يتدبر الأمور بعين الناقد البصير يعلم أن الألمان من بعد فشلهم في حملتهم على باريس لم يعد يرجى لهم تحقيق حلم، وما انتصاراتهم الجزئية اليوم إلا تطويل لأَجل الحرب. ولذلك هم اليوم يتخبطون ويبذلون آخر ما عندهم من الجهد عسى أن يحرزوا من النصر ما يحمل الآخرين جميعاً أو فرادى لعقد صلح لا يغبنون فيه ولا يثلم مقام إمبراطورهم لدى أمته التي جر عليها كل هذه المصائب على غير جدوى أو بخسائر لا تعوّض. لأنه يستحيل اليوم أن يرجع العالم ويثق بهم ويخلص لهم ويفتح أبوابه لمتاجرهم ويحسن الظن بعلمهم وعلمائهم كما كان في الماضي. فهم في هذه الحرب خاسرون كل شيء: المقام الأدبي والمركز الاقتصادي التجاري. . . وانتصار الألمان على الروس اليوم وحفظ مراكزهم في الأماكن التي احتلوها في الغرب لا يستغربان لمن يعلم أنهم منذ أكثر من نصف قرن ولا سيما في عهد إمبراطورهم الحالي يستعدون لهذه الحرب ويعدون لها العدة. بخلاف خصومهم فقد ثبت أنهم من قلة حذرهم منها وفراغهم من العدة لم يكونوا ينوونها. . . فإذا كان الألمان حتى الآن أقوياء أشداء فذلك طبيعي، وهم ما خاضوا غمار هذه الحرب إلا وكانوا على أتم الأهبة لها. لكن إذا كان الألمان وهم في منتهى قوتهم لم يتمكنوا من تحقيق حلمهم، وخصومهم في غفلة غير مستعدين، فهل يرجى ذلك لهم بعد سنة وهم في تناقص وخصومهم في تزايد؟ هذا أمر لا يقبله العقل، ولا سيما إذا رأينا ما تؤول إليه حالهم بحصر البحار. . . ولهذا كله نرجع ونكرر القول أن انتصارات الألمان اليوم ليست إلا تطويلاً لأمد الحرب وأن مصيرهم في الآخر إلى الفشل التام)
صدق الدكتور وأصاب في ذلك الزمان، وكذب الأغبياء وأخطئوا في كل زمان. ولقد ذكر الأوربيون لحكمائهم أمثال هذه النبوءات النافذة والنظرات الثاقبة ولم تذكر هذه النظرة للدكتور شميل بين قراء العربية الذين هم أحوج إلى التذكر والاعتبار.
فإذا كان صواباً قول بعض الأدباء المازحين للدكتور: (إنك يا صاح نكبة على الناس، لأنك تخالفهم في كل ما يقولون). . . فأصوب منه جواب الدكتور على تلك التحية الجافية حيث قال: (إن كنت أنا نكبة على الناس لأنني أخالفهم فكم نكبة أعانيها وحدي من أولئك الناس وأنا واحد وهم ألوف؟)(395/5)
عباس محمود العقاد(395/6)
أخلاق القرآن
العفو
للدكتور عبد الوهاب عزام
العفو خلق يسمو بصاحبه عن الانتقام، ويكبر به عن المجازاة، ويتعالى أن يلقى الشر بالشر ويجزي السيئة بالسيئة. العفو خلة تؤثر الرحمة على العقاب، وتحل المودة محل العداوة، والوئام محل الخصام. ترى الرجل يؤذي في نفسه أو ماله فإذا قدر على خصمه استكبر أن ينزل إليه فيأخذه بجريرته، وآثر أن يغفر ويرحم، ووجد في هذا الإحسان من العزة والعظمة والطمأنينة ما لا يجد في الانتقام، ولقاء الجناية بجزائها.
وإنما العفو عند المقدرة. فليس الذي يصبر على الضيم، ويخنع للقوة، ويستسلم للظلم عفواً، ولكن خائفاً ذليلاً. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام
وقد قال تعالى في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون). وقال بعض المفسرين: (كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا)
وعظماء الناس يؤثرون العفو ما لم يجدوا فيه مفسدة لأمر من أمور الدين أو الدنيا. وقد عرف بذلك كثير من ملوك المسلمين ولا سيما الخليفة المأمون العباسي. ورويت في العفو عند المقدرة أخبار تنبئ عما يملك قلب الرجل العظيم من الحلم والعفو في الخطوب الجسام. كما أُثِر من استعطاف المؤمنين في مقام العقاب ما يذهب بالحفيظة، ويوجب المغفرة.
كانوا يرون العفو وسيلة إلى استصلاح النفوس وإزالة الأحقاد، وإحلال الوئام محل الخصام فيؤرثونه على الانتقام.
قال خالد بن الوليد لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة، وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأهل للعفو، وإن تعاقب فبما كان معنا).
وقال رجل لبعض الأمراء: (أسألك بالذي أنت بين يديه أذلُّ مني بين يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر مَن بُرئي أحبُّ إليه من سقمي، وبرائي أحب إليه من جُرمي).
وقال بعضهم: إن عاقبت جازيت، وإن عفوت أحسنت، والعفو أقرب للتقوى.(395/7)
والقرآن الكريم يحث على هذا الخلق الكريم ويهذي الناس إلى هذه الخلة التي تلقي جهل الجاهل بحلم العفو، وشر المسيء بخير المحسن.
سمى الله تعالى نفسه العفوّ، قال: فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، وكان الله عفوَّا غفورا؛ وفي آية أخرى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون؛ وقال أيضاً: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير؛ وقال: إن تبدوا خيراً أو تخفوه أو تعفوا عن سوء، فإن الله كان عفوَّا قديرا.
وقد أمر الله سبحانه الناس بالعفو فقال للرسول صلوات الله عليه: خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين؛ ويقول: فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر. ونهى أن يعاقب المسيء بحرمانه من الصدقة والبر فقال: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم.
وأجاز القرآن المجازاة بالعدل ولكن جعل العفو أقرب للخير فقال: (وأن تعفو أقرب للتقوى.) كما قال في وصف المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور.)
وقد أشاد القرآن بالعافين عن الناس، وبين عظم جزائهم في قوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).
وكانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً بأمر القرآن وتأدباً بآدابه. قال رسول الله: (أمرني ربي أن أصل من قطعني وأعفو عمن ظلمني.)
فانظر إليه يوم فتح مكة والجزيرة العربية في سلطانه، وصناديد قريش طوع أمره، وقد لقي ما لقي منهم أكثر من عشرين عاماً وفي كل بقعة من مكة والمدينة ذكرى ما لقي من ظلم وعدوان وأذى، وفي كل جماعة من قريش رجال قد قسوا عليه وعلى أصحابه ونالوا منه(395/8)
ومن دينه، وصدوا عن دعوته جهد طاقتهم. فما مد إليهم يوم الفتح والقدرة يداً بعقاب، ولا جازاهم بما فعلوا ولا بأقل مما فعلوا، بل عفا عنهم عفواً عاماً شاملاً وكان أكبر أعدائه أعظمهم نصيباً من عفوه ورحمته. قال: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً. أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وفر صفوان بن أمية أعدى أعدائه خوفاً من ذنبه ويأساً من العفو، فأرسل وراءه النبي من يؤمنه وأعطاه عمامته أمارة الأمان. فلما طلب منه أن يجعل له الخيار شهرين ليدخل فيما دخل فيه الناس أو يهاجر قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
ولما اجتمعت عليه قبائل هوازن بعد الفتح وأرادت أن تؤلب عليه القبائل وترد فتح مكة هزيمة خرج الرسول لحربها وكانت واقعة حنين التي لقي فيها المسلمون ما لقوا من الهزيمة أول الأمر ثم وثب الرسول وانحاز إليه أنجاد أصحابه حتى أنزل الله سكينته ونصره. فلما ظفر بالقوم وقد عظمت جنايتهم، جزاهم بالإساءة إحساناً وبالذنب عفواً. يقول الطبري:
أتى وفد هوازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجوانة وقد أسلموا فقالوا يا رسول الله إنما أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، فامتنّ علينا منّ الله عليك. فقام رجل من هوازن. . . فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك (يعني أنهم قوم حليمة مرضعة الرسول).
أمنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر.
فقال رسول الله: أبنائكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؛ بل تردّ علينا نساءنا وأبنائنا فهم أحب إلينا. فقال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فإذا أنا صلّيت بالناس فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم.
فلما صلى بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به. فقال رسول الله: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وقال المهاجرون: (وما كان لنا فهو لرسول الله)؛ وقالت الأنصار: (وما كان لنا فهو لرسول الله). وقال الرسول: (أما من تمسك بحقه من هذا السبي منكم فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه. فرُدَّ إلى الناس أبنائهم ونساءهم)(395/9)
ذلكم مثل من أمثال تُبِيِن عن خلق رسول الله، وهو الخلق العظيم الذي أوحاه إليه القرآن، وإنما تتجلى عظمة العظيم بالعفو حين القدرة، والترفع عن الاقتصاص بالذنوب.
وذلكم تأديب القرآن أمة القرآن، وتعلم رسول الله عباد الله، وإنما يريد القرآن أن يكون المسلمون أكبر من أن يُذلّوا إذا غُلبوا، وأعظم من أن ينتقموا إذا قدروا.
عبد الوهاب عزام.(395/10)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(أدباء مصر الجنوبية - العقاد الحقود! - أين متحف وزارة
المعارف؟ - جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء).
أدباء مصر الجنوبية
مصر الجنوبية هي السودان، وهو تعبير جميل، ويزيده جمالاً أنه لم يصدر أول مرة إلا عن أدباء تلك البلاد.
والحق أننا فرطنا في حق السودان كل التفريط من الوجهة الأدبية، وإن لم نغفُل من الوجهة السياسية. ولو أننا بذلنا في خدمة السودان أدبياً معشار ما بذلنا في خدمته سياسياً لوصلنا إلى نتائج باهرة في توحيد القلوب بين من يقيمون هنا ومن يقيمون هناك، ولكننا تركنا أمر السودان للساسة، والساسة عندنا لا يفكرون كثيراً في الوسائل التي تجعل تعاطف سكان وادي النيل أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى تعب أو نضال.
ومن العجيب أن يفكر السودان فينا قبل أن نفكر فيه، فهو يهتم بأخبارنا، ويساير حياتنا الأدبية والاجتماعية والسياسية، ويرى من الواجب أن يتعرف إلينا في كل وقت، فأين نحن من هذه الشمائل الروائع؟
أين الباحث الذي فكر في قضاء شهر أو شهرين في السودان لدرس ما هنالك من تطور الآداب والفنون والأذواق؟
أين الشاعر الذي رأى من واجبه نحو وطنه أن يستلهم الوحي من منابع النيل؟
أين المؤلف الذي خاطر بجزء من وقته وماله ليخرج كتاباً عن السودان، وهو اليوم في يقظة أدبية تستحق التسجيل؟ (مع عرفان الفضل للباحثين داود بركات وعبد الله حسين).
ولنفرض جدلاً أن السودان لا يرتبط بمصر من الوجهة القومية أو السياسية، فيكف يغيب عنا أن السودان قطر أصيل في العروبة، وأن أهله من النماذج الجميلة لأدب النفس وشرف الوجدان، ومَن كانوا كذلك فهم جديرون بعناية الباحثين والمفكرين من كتاب وشعراء!
الفطرة السليمة لا تزال من حظ أهل السودان. ولو أن معالي الدكتور هيكل باشا كان أقام(395/11)
بينهم مدة أطول من المدة التي أثمرت كتابه الطريف (عشرة أيام في السودان) لأظفر بمحصول نفيس في تقييد الأوابد من مكارم الأخلاق.
أقول هذا صادقاً، فما أذكر أبداً أنني رأيت ما أكره فيمن عرفت من السودانيين، فالسوداني مفطور على طيبة القلب، وهو يرى نكران الجميل من أفظع العيوب، وله بوارق من الذكاء تؤهله لاحتلال الصف الأول بين رجال الفكر إذا ظفر بالتوجيه الرشيد.
فمتى نعرف واجبنا نحو أدباء مصر الجنوبية؟
ومتى نفهم أن الأُخوة لها حقوق؟
أما بعد، فأنا أتأهب لكتابة سلسلة من المقالات عن الأدب الحديث في السودان، ولكن المصادر بعيدة مني، إلا شذرات قليلة قدمها إليَّ أحد أعضاء النادي السوداني بالقاهرة، وهي شذرات لا تحقق ما أريد، فماذا أصنع؟
كنت أتمنى أن تتاح فرصة لزيارة السودان والوقوف على أخبار الحياة الأدبية هناك لأحدث قراء (الرسالة) في جميع الأقطار العربية عن إخوان مجهولين حفظوا عهد العروبة والإسلام في بلد جميل، يغفُل عن جماله أكثر العرب والمسلمين.
كنت أتمنى أن أرى السودان، ولو في وقدة الصيف، لأقول لإخواني هناك: إن مصر لا تنساكم، ولن تنساكم، ولو ضُرب بينها وبينكم ألف حجاب.
فمتى أرى السودان؟ متى؟ متى؟
سأسارع فأراه في وجوه شعرائه وكتابه وخطبائه في حدود ما أصل إليه من آثارهم الأدبية، إلى أن يمنّ الله بزيارة أشرب فيها ماء النيل ممزوجاً بالطين، كما شربت ماء الفرات ممزوجاً بالطين، لأقول: إني ذقت رحيق النيل كما ذقت رحيق الفرات. متى أشرب أول كوب من النيل وأنا بنادي المعلمين في الخرطوم، كما شربت كوب من دجلة وأنا بنادي المعلمين في بغداد؟
لن أنسى أبداً كيف ذقت ماء دجلة أول مرة، ولن أنسى أبداً كيف رحلت إلى (الفلوجة) لأذوق ماء الفرات في طعمه الأصيل قبل أن ترفع عنه الأقذاء.
اللقاء قريب، يا أخواني في السودان، فسأتحدث عن أدبكم بعد أسابيع، على شرط أن تذكروا أن الخطأ يغلب في الحكم على المجهول، وقد قضت الأقدار بأن تكون أحكامي على(395/12)
أدبكم منقولة عن السماع، وهو يخطئ أكثر مما يصيب.
أما وفاؤكم لمصر، فلن يجزيكم عنه قلمي، وإنما يجزيكم عنه من شاءت إرادته العالية أن تكونوا مضرب الأمثال في الصدق والمروءة والإخلاص.
العقاد الحقود
في صبيحة اليوم الذي ظهر فيه مقالي عن نقد كتاب (المطالعات في الأدب والحياة)، طلبني الأستاذ عباس العقاد بالتليفون وأنبأني أن صدره انشرح لذلك المقال، وأنه موافق على ما ورد فيه من الملاحظات، إلا عبارة واحدة آذته أشد الإيذاء وهي العبارة التي تسجل أنه رجل (حقود)؛ فأجبته بأني نظرت إلى الحقد من بعض جوانبه الأخلاقية؛ ثم وجهته توجيهاً يرتضيه رجال الأخلاق، وأضفت نفسي إلى جملة الحاقدين لنكون سواءً! في التخلق بهذا الخلق الجميل! مع الاعتذار لحضرة الأستاذ نجيب هاشم الذي ساءه أن يكون لي بين أهل الحقد مكان.
وهل ينكر العقاد أنه رجل حقود؟
إليكم القصة الآتية:
في مصر شاعر (مشهور) هو الدكتور أحمد عارف الوديني المقيم بشارع العَجم في مصر الجديدة، وهو شاعرٌ قَصَر شعره على الإخوانيات، فلا يقرض الشعر إلا في تحية صديق، أو تهنئة زميل، وقد تسمو به همته إلى مجاملة الأمراء والملوك في المواسم والأعياد.
لقيته مرة في (المترو) بصحبة الأستاذ العقاد، فسألني عن الرأي في شعره، فقلت: أنت يا دكتور وديني أشعر رجل في مصر بعد الأستاذ الجارم! فظهرت عليه إمارات الاكتئاب، ولكن الأستاذ العقاد تلطف فصرح بأنه أشعر من الجارم في بعض الفنون!
ومضى الدكتور الوديني إلى الجارم بك فحدثه بما قلت وبما قال العقاد؛ فأعلن الجارم أن الرأي ما رأي العقاد! ثم لقيني الدكتور الوديني بعد أشهر وهو يقول:
- هل تعرف كيف ناقضَك العقاد؟
- وكيف ناقضني العقاد؟
- العقاد يرى أنني شاعر العرب
- أنت شاعر العرب؟ أنت؟(395/13)
- وبشهادة العقاد!
- وكيف والعقاد يرى نفسه أمير الشعراء؟
- هو أمير الشعراء، وأنا إمام الشعراء، والأمير يأتمّ بالإمام، كما قال الجارم الصناّج.
- هذا جائز، ولكن ما الدليل على أن العقاد يعدُّك شاعر العرب؟
- كتب إليّ خطاباً يقول فيه:
(إلى المفرد العَلمَ، صاحب الإنبيق والقلم، شاعر العرب في شارع العجم؛ عزيزي ونور عيني، الدكتور عارف الوديني)
- وهل ترى أن العقاد مدحك بهذا القول؟
- تلك غاية المديح
- وهل ترى أن العقاد صنع معك أجمل مما صنعتُ؟
- بالتأكيد!
- اسمع، يا دكتور، أنا جعلتك أشعر الناس في مصر بعد الجارم، والعقاد جعلك شاعر العرب في شارع العجم.
- وما العيب في ذلك؟
- العيبُ أنه جعلك أشعر من الأستاذ أمين الخولي ولم يزد، والخولي جارك!
وعندئذٍ تربّد وجه الدكتور الوديني وقال: يظهر أن العقاد رجلٌ حقود!
والحق أن العقاد حَقودٌ حقود، وإلا فكيف جاز أن يجعل الدكتور الوديني شاعر العرب في شارع العجم، فقط، مع أنه شاعر العرب بعد الجارم!
والحق أيضاً أن الخطأ لم يقع إلا مني، فالدكتور الوديني كان استراح إلى ذلك اللقب الطريف وعدّه تلطفاً من الأستاذ العقاد، والعقاد يلاطف أصدقاءه في أكثر الأحايين، ولكنه في هذه المرة يسئ مع سبق الإصرار؛ فقد غاظه أن تتسع آفاق الشاعرية (الودينية) بحيث يكون صاحبها أشعر الناس بعد الجارم، والشعراء يحقد بعضهم على بعض!
وعزاءً الوديني، فلن يكون إلا شاعر العرب في شارع العجم، بفضل ما في هذه العبارة الطريفة من عذوبة الطِّباق والجِناس.
أين متحف وزارة المعارف؟(395/14)
عرف قراء الرسالة خبر الخطاب الذي تلقيته وأنا في باريس من الدكتور طه حسين، الخطاب الذي قال فيه (أحمد الله إليك) وهي العبارة التي عدّها من المخترعات، وصار يبدئ ويعيد بأني تعودت الافتراء عليه؛ ثم ظهر أن الخطاب صحيح بشهادة كاتبه الأمين (توفيق)، وقد رجوت الدكتور طه أن يشتري مني ذلك الخطاب قبل أن أبيعه لمتحف وزارة المعارف، ولكنه لاذ بالصمت البليغ
أتركُ الدكتور طه لشأنه، فقلبي يحدثني بأنه رجلٌ لا يحفظ العهد، وأنتقل إلى الأستاذ مصطفى أمين المفتش المساعد لكبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف
عندي ذخيرة للبيع، ذخيرة أدبية ولكن أين المشتري؟ وأين من يعرف حاجتي إلى المال وقد شاع وذاع أني من الأغنياء؟
عندي كتاب لا يصلُح للاقتناء من حيث هو كتاب، ففي مكتبتي منه نسختان، وإنما يصلح للاقتناء حين يتبرأ منه من أُهدِيَ إليه، وهو صديق (أمين)!
هذا الكتاب هو (تاريخ آداب اللغة العربية في العصر العباسي) للمرحوم الشيخ أحمد الإسكندري وعليه إهداء بإمضاء المؤلف (إلى حضرة صديقه المفضال مصطفى أمين) وبتاريخ 26 يناير سنة 1913
فأي أثر أعظم وأشرف من كتاب يهديه الشيخ أحمد الإسكندري إلى صديقه الأستاذ مصطفى أمين في مثل ذلك العهد البعيد، يوم كان الناس يعرفون قيمة الوداد؟!
أين نحن من سنة 1913؟
وهل هان كتاب الشيخ الإسكندري وكان من المراجع التي اعتمد عليها مؤلف (ذكرى أبي العلاء)؟
هو كتابٌ وجدته عند أحد البقالين بمصر الجديدة وقد اشتريته بنصف درهم، فأين من يشتري مني هدية أحمد الإسكندري إلى مصطفى أمين؟
وأين متحف وزارة المعارف لأقدم إليه تلك التحفة السنية؟ أين لا أين؟!
جريمة الكتمان في نظر الجنية الحسناء
لم يكن الكتمان جريمة قبل أن أُسرف على نفسي بالكلمة التي نشرتها في (الرسالة) عن(395/15)
الجرائم الأدبية، وكنت نسيت تلك الكلمة، فلم يذكّرني بها غير الملام الذي عانيتُه من الجِنّية التي كانت ترى أن أعلم الغيب فأعرف لأي سبب قضت أيام الصيف في الصعيد، الجنية الرخيمة الصوت التي تُزلزل وجودي حين تباغمني الحديث من وراء حجاب، الجنية التي تقرأ الأشعار والمقالات والأقاصيص وتزعم أني أسرق أفكارها المبتكرة في كل ما أحدث به قرائي من ألوان الجد والفتون، والتي تهدد برفع أمري إلى القضاء إن عدت إلى انتهاب ما تُسِرُّ إلى أذنيّ أو عينيّ من معاني وآراء
من الذي يهدّد، يا شقية، أنا أم أنتِ؟
ومن السارق والناهب؟ أنا أم أنتِ؟
أتحداك في السر والعلانية أن تمضي خطوة واحدة في تنفيذ ذلك التهديد، فإن فعلتِ فسوف ترين كيف أقتلع جميع الأشجار والأزهار من الجيزة الفيحاء، وكيف أصيّرها أقفز من الفؤاد الذي جازه غيث الحب فأمسى وهو يَباب
ومن أنتِ حتى أسرق منكِ؟ هل كنتِ إلا طيفاً شفافاً يحاور روحي وهو معتصم بأجواء السماء؟ هل كنتِ إلا روحاً يتمثل في صوت رنان حنان نُقِل من وادي الخلود إلى وادي الفناء، إن جاز القول بأنك من أهل دنيانا الفانية؟
من أنتِ حتى أسرقُ منك، ومن دمي المسفوح على سنان القلم خُلِق روحك الظَّلوم؟ أنا أسرق منكِ وما كان ذكاؤك الوهّاج إلا شرارة طارت عن فؤادي؟ ويطيب لك أن تحتجبي عني لتصح دعواك في التأبي والتمنع. فهلا نطقت بقولة الحق فاعترف بالخوف من المصير المحتوم لمن يواجه اللهب العاصف؟
حماك الله من روحي، يا شقية وكتب لك السلامة من غزوات قلمي!
ثم تعالَيْ إلى كلمة سواء:
لقد هدّدتِ بالقطيعة الباغية إن لم أكتب (الصفحتين الممزقتين من جديد) الصفحتين المظلومتين بسبب التخوف من الأكاذيب والأراجيف
فمن يردّ عني عدوان أبناء الزمان، إذا خرجت على شريعة الكتمان؟
أنت يا طفلتي جاهلة جَهْلاء، ولو كنت تعرفين من خلائق أهل العصر بعض ما أعرف لعز عليك أن تعدي الكتمان من الذنوب(395/16)
أهل العصر، يا طفلتي الغالية، لا يسرهم أن يَنْبُغَ فيهم كاتب بليغ إلا أن يكون بوقة ضَّجاجة تهتف بما يرتاحون إليه من الأفق والرياء
الكاتب، يا طفلتي الغالية، قد يستبيح ما لا يباح من النقد الجريء، وبعض أهل العصر يفهمون جيداً أن منازلهم الأدبية لم تكن إلا ضرباً من المتاع المسروق، فهم يتصورون الناقد في شبح رجل يقدم عنهم بلاغاً للنيابة العمومية!
ومن أجل هذا يحرص قوم على إفهام الجمهور أن الرجل لا تكون له إلا شخصية واحدة، فهو موظف فقط، أو كاتب فقط، وليس من حقه أن يكون موظفاً بالنهار وكاتباً بالليل، وكيف يحق له ذلك وهو بَشرٌ مثلهم خُلقَ للوظيفة بالنهار، ولمنادمة السخفاء بالليل؟!
الكاتب، يا طفلتي، رجل مهدد في كل وقت، لأنه من عنصر غريب لا يرتاح إليه المجتمع، إلا أن يكون من أهل البراعة في خل المجتمع؟ وذلك خلق لم أفكر فيه، ولا يسرني أن أصير إليه، لأني أمقت الفناء في أقوام كل محصولهم من الشرف أن يقال إنهم يبغضون الاستعباد، وكنت أرجو أن يكون قرائي ملوكاً يسيطرون على جميع الممالك والشعوب، فعزة الكاتب من عزة القارئ، ولا يستريح إلى السامع الذليل إلا المحدث الذليل
وقد أنفقت من شباب القلم ما أنفقت في خلق جيل يفهم عني ما أريد، ثم كانت فجيعتي فيك يا شقية، فأنت تريدين أن أخضع للجمال، وأنا لا أعرف إلا خُيلاء السيطرة على الجمال، والرجال قوامون على النساء، ولو كره المتظرفون من أبناء الجيل الجديد!
وأنا مع هذا شديد الرغبة في الخضوع لإرادتك السامية، كما يتطامن الصائد في أصول الأدغال، فماذا تريدين أن أقول؟ هل تريدين أن أكتب الصفحتين الممزقتين من جديد؟
أنا عندما تريدين لتكوني بإذن الهوى عندما أريد؟ وإلى قلبك البكر سوف أسوق الحديث في غير هذا الحديث
زكي مبارك(395/17)
فرق لمكافحة الغناء المريض
للأستاذ سيد قطب
إذا صح ذلك الصدى الذي استرجعته لكلمتي في العدد الأسبق من (الرسالة) عن (الذوق الفني ونهر الجنون) من إخوان لي في الفكرة لم أعرفهم من قبل، كان عدد الذين (لم يشربوا من النهر) أكثر كثيراً مما قدرت، وكان عجيباً أن يضيعوا كل هكذا في غمار الشاربين المخمورين!
وإنهم ليفضون إليَّ بأسباب غريبة لصمتهم عن الجهر بآرائهم، أسباب لم تصادفني مرة واحدة، ولو صادفتني لعرفت كيف أثور عليها وكيف أحطم شباكها، ولكن مجرد اصطدامي بها حافزاً للثورة المحطمة لا للسكون الكظيم.
إنهم يشكون نفوذ بعض المشتغلين والمشتغلات بالغناء المريض في مصر هذا النفوذ الذي يعوق المقالات في إدارات الصحف فلا تنشر إذا كان فيها تصحيح لطريقتهم في الموسيقى والغناء، ويحبس الأغاني والألحان في محطة والإذاعة فلا تذاع، إذا كان فيها للضعف وتأثير في الشهرة، وفرصة للموازنة بين المشهورين وغير المشهورين. . . هذا النفوذ الذي يشتريه بعض المشهورين والمشهورات بالمال والشفاعات تارة، وبجاه المعجبين بهم الشاربين من النهر معهم من أصحاب السلطان والمرشحين للسلطان تارة!
ولست أدري مدى هذه الشكايات من الصحة، ولكن تواترها على ألسنة لا مصلحة لها في الادعاء، وبسط حوادث معينة في صحف (محترمة!) معينة. كل هذا جعلني أوجس شراً، خشية أن تقبر هذه الكلمة التي يخططها قلمي فلا تبصر النور، وأن تصدها الشفاعات والدسائس عن الظهور!
وعلى الرغم من ثقتي بالرسالة التي أوسعت صدرها غير مرة لنقد عظماء الفكر في الشرق والغرب، فأنا أرجو أن تعذرني في هذا التوجس، فإن الحوادث التي سمعت عنها تشير إلى الخطة منظمة يتوسل إليها بعض المشهورين والمشهورات بكل وسيلة مهما كلفتهم من جهد وتضحية، لكتم النقد وإذاعة الثناء، وقبر كل نبوغ يبزغ، ويهدد شهرتهم بين الغوغاء.
وحين يصح هذا يكون جناية على الفن والذوق والخلق، وعلى كل إحساس رفيع في الأمة وكل شعور كريم، جناية تجب مكافحتها، وأنني لأهب هذا القلم لهذا الكفاح وأعلم أن(395/18)
الحواجز والسدود التي يشكو منها الشاكون لن تحول دون هذا القلم حين يريد.
إننا لن نشتم هؤلاء الناس الذين يسحقون روح الشعب في كل أغنية، ويهدون عزيمته في كل لحن؛ ولن نوجه إليهم فاحش اللفظ ولا هجر القول، ولا شأن لنا بأشخاصهم، ولكننا ننتقد طريقتهم، ونندد بآثارها المقيتة في النفوس. وما دام الأمر كذلك فسنجد لهذا القلم مجالاً غير محدود، على الرغم من كل الحواجز والسدود، لن يكون هؤلاء المشتغلون والمشتغلات بالغناء الزائف المريض بأعز من عظماء الفكر الذين تناولهم النقد في أبعد الحدود.
والأمم تنشئ الفرق لمكافحة المرض حين ينتشر الوباء، ولمكافحة اللهب حتى يصب الحمم على الأبرياء، ولمكافحة المخدرات حين تهدد سلامة البلاد. . . فمن الواجب مصر أن تنشئ الفرق لمكافحة الغناء المريض الذي يسحق كبرياءها، ويحطم رجولتها وأنوثتها، ويثير أحط غرائزها، ويخدر أعصابها كالمخدرات.
وما أمزح أو أتهكم! فأنا أقترح جاداً إنشاء هذه الفرق، من كل ساخط على هذا الترنيم الوجيع، مشمئز من هذا التكسر الخليع. وهذه الفرق تستطيع الشيء الكثير: تستطيع بث الدعوة، وضرب المثل، ومقاومة كل نفوذ تجاري يبذل في إدارات الصحف ومحطة الإذاعة. . . وتستطيع تتبع هذه الأنغام بالتجريح والتهجين في كل مجتمع وناد، مع تصحيح الإفهام وتقويم الإحساس.
ولست أبالغ حين أنهي إلى وزارة الشئون الاجتماعية إلى وزارة الدفاع أن هذه الأغاني تعوق جهودهما في انتشال المجتمع المصري وتقويمه، وفي بث روح الحماسة وتقويتها، فشبان البلد وشوابها مشغولون ومشغولات بالمأتم الدائم في كل مذياع، الحافل بالنائحين والنائحات، وبالدموع الرخيصة المتصنعة، وبالدغدغات الخليعة المتكسرة في الألحان والأغنيات.
وحين نكافح (الطابور الخامس) يجب أن نحسب حساب (الغناء المريض) ويجب أن نسكت هذه الدغدغة وهذا التميع وتلك المخدرات المتسربة إلى الضمائر الهامسة في الإخلاد.
وما كان لأي (طابور خامس) أن يؤثر ما تؤثر هذه الأغاني - حتى الأناشيد الوطنية والحماسية التي خرجت أشبه بالمناحة مرة، وبالنشيج المترنح مرة - إذا استثنينا (نشيد الجامعة) لأم كلثوم.(395/19)
لم تبق عاطفة إنسانية نبيلة لم يشوهها هذا الغناء، ولم يبق شعور وجداني كريم لم يفسد طبيعته.
فالحب مثار الحيوية في النفوس، ومبعث القوة في الوجود. هذا الحب الذي تدخره الحياة لأبنائها، لتبيحه لهم في أفضل ساعاتهم وأملئها بالفيض الروحاني، والتفتح العقلي، والنضوج الجسمي، وتعبر به عن أقصى غبطتها بهم ورضاءها عنهم، وتدل به على صلاحيتهم لها وأدائهم لحقوقها. هذا الحب الذي هو (جواز المرور) من حمله من الأحياء أباحت له الحياة خدرها وأثمن مكنوناتها (كما يقول العقاد). هذا الحب الذي يفجر في الإنسان كل منابع السمو والعطف والمرح والاستعلاء كما يفجر في الحيوان - في صورة الغريزة - كل منابع النضج والقوة والازدهار.
هذا الحب كله عاد في ذلك الغناء رجع الصدى الهزيل للغريزة المضعوفة، وصوت الأسى الذليل للحيوانية المريضة، ودمعة الضعف الكسير للرغبة العاجزة.
والألم أنفس الأحاسيس الإنسانية. الألم الطهور الكريم صقيل الطبيعة البشرية، ومنضج المشاعر الفجة؛ وبوتقة الشهوات الخبيثة. . .
هذا الألم عاد في ذلك الغناء تصنعاً زرياً، وتكسراً شائهاً، وتميعاً (مقرفاً) ونعومة خبيثة.
والفنون على الإجمال، هي رمز الأمل الطليق من قيود الواقع المحدود، المتعالي على مطالب الضرورة القاصرة، وهي مهرب النفس الإنسانية الطموح حين يعجز الواقع عن تلبيتها فتجد في الفنون دنيا من المستقبل، وعالماً من الملأ الأعلى، وفسحة من الكمال الموموق.
ولم تكون الفنون تعبيراً عن جوعات الأجسام، ولا شهوات اللحم والدم إلا في أحط صورها وأولى درجاتها، ولكن ألواناً من القوة الحيوانية العارمة، والنشاط الغريزي الفاره، والجوع البهيمي المتنزي قد يعجب النفس لما فيه من معنى الحيوية المتوثبة والقوى المتحفزة.
فموسيقى الجازبند تعبيراً عن الحيوانية الهائجة ولكنها قد تجد لها شفيعاً في الدنو من دائرة الفنون بما فيها من قوة الهياج، وضجة الزياط، وثورة الدم في العروق.
ولكن أي شفيع للحن أو أغنية هي تعبير عن الحيوان المضعوف السقيم، يتميع بالغريزة العاجزة الكليلة، ويتخلع بالرغبة العجفاء الهزيلة، ويدغدغ غرائز السامعين المخدرين؟(395/20)
ما سمعت أغنية واحدة أو لحناً واحداً، ولا سيما الأغنيات الأخيرة إلا أحسست بالتقزز للرجل المتراخي النائم على نفسه، المتخاذل في حركاته، المهوم للنعاس في نغماته، وللمرأة المتخلعة في نبراتها، المدغدغة في تأوهاتها، ولشواب البلد وشبانها يتهالكون من الرخاوة، ويتحاملون الهزال، ويرفعون عقيرتهم بالنواح: (يا لوعتي يا شقايا يا ضنى حالي - طول عمري عايش لوحدي - ما يهونشي)
وكل هذا هين لولا فجيعتي في شاعر أعزه وتربطني به روابط ودية وثيقة، وصلات أدبية طيبة. وقف مرة أمام المذياع يقدم قطعة من تأليفه لحنت هذا التلحين، وأديت هذا الأداء؛ فقال: إنها في صورتها هذه الممسوخة تعبر عما أحس به وهو ينظم مقطوعته، وأنه يعتز بهذا التعبير كل الاعتزاز.
شعرت بالفجيعة مع ثقتي بأن عوامل غير عامل الإعجاب الفني بكل تأكيد هي التي أوحت إليه بما يقول. شعرت بالفجيعة لأنه شاعر وصاحب قلم، وكل ذوي الأقلام يتعين أن يكون مكانهم في صفوف المكافحين عن ذوق الأمة الفني وعن سلامة فطرتها التي تنهكها هذه الألحان.
ولقد انتهيت إلى مقاييس لا تخطئ في تقدير صحة الفطرة الفنية وسلامة الشعور الإنساني، وهي في يدي كمقياس الحرارة في يد الطبيب. فأيما إنسان دل مقياس الحرارة في فمه على رقم غير الرقم الصحي، فهو مريض مهما نطقت ملامحه بالصحة وجوارحه بالعافية؛ وأيما إنسان أحس في ضميره اختلاجه للحن من تلك الألحان المريضة، فهو مشوه الفطرة سقيم الطبع، شارب من النهر مخمور.
وللصحافة رسالة يجب إلا تنكل عنها، وواجب يجبأن تؤديه؛ وقد تعاورني الرجاء واليأس في إصلاح هذه الحال، ولكن يجب أن تكون فداحة العبء مثيراً لعظائم الجهد، ومن يدري، فقد نعثر على كنز مخبوء في طبيعة هذه الأمة، أو منبع مطمور من منابع الفطرة، نزيل عنه الركام، فإذا تفجر اكتسح هذه الرواكد وتلك المخلفات.
(حلوان)
سيد قطب.(395/21)
دير مِديْان
للأستاذ صلاح الدين المنجد
قال الشابشتي: (وهذا الدير على نهر (كرخايا) ببغداد؛ وكرخايا نهر ينبثق من المحوّل الكبير ويمر على العباسية ويشق الكرخ ويصبُّ في دَجلة، وكان قديماً عامراً والماء فيه جارياً، ثم انطمْ انقطعت جريته بالبثوق التي انفتحت في الفرات.
وهو دير حسنٌ نَزهٌ حوله بساتين وعمارة؛ ويُقصد للتنزه والشرب. ولا يخلو من قاصد وطارق. وهو من البقاع الحسنة النزهة. وللحسين بن الضحاك فيه:
حث المدام فإن الكأسَ مترعةً ... مما يهيج دواعي الشوق أحياناً
إني طربت لرهبانٍ مجاوبة ... بالقدس بعد هدوِّ الليل رهبانا
فاستنفرتْ شجناً مني ذكرتُ به ... كرخَ العراق وأحزاناً وأشجانا
فقلتُ والدمعُ في عينيَّ مطّردٌ ... والشوق يقدح في الأحشاء نيرانا
يا دير مِدْيان لا عُرِّيت من سَكنٍ ... ما هِجْتَ من سَقمٍ يا دير مِدْيانا
هل عند قَسِّك من علم فيخبرني ... أن كيف يسعد وجه الصبر من بانا
سَقياً ورعياً لكرخايا وساكنه ... بين الجنينة والروحاء من كانا
قال: وكان أبو علي بن الرشيد يلازم هذا الدير ويشرب فيه. وكان له قيان يحملهم إليه ويقيم به الأيام لا يفتر عزفاً وقصفاً. وكان شديد التهتك، وكان من يجاور الموضع يشكون ما يلقون منه. فانتهى الخبر إلى اسحق بن إبراهيم الطاهري وهو خليفة السلطان ببغداد؛ فوجّه إليه يقبّح له فعله وبنهاه عن المعاودة لمثله. فقال: (وأيّ يد لإسحاق عليّ وأيَّ أمر له فيَّ؟. . . أتراه يمنعني من سماع جواريَّ والشرب بحيث أشتهي. . .؟) فلما أتاه هذا القول منه أحفظَه، وأمهل حتى إذا كان الليل ركب إلى الموضع وأحاط به من جميع جهاته. وأمر أن يُفتح باب الدير وينزلَ به على الحال التي هو عليها. فأنزل به وهو سكران في ثياب مصبَّغة، وقد تضمخ بالخلوق فقال: سوءة لك! رجل من ولد الخلافة على مثل هذه الحال؟) ثم أمر ففُرش بساط على باب الدير وبُطح عليه وضربه عشرين درَّة، وقال: إن أمير المؤمنين لم يولني خلافته حتى أضيَّع في الأمور وأهملها، ولا حتى أدعك وغيرك من أهله تعرفونه وتفضحونه وتخرجون إلى ما خرجت إليه من التبذل والشهرة وهتك الحرمة إلى(395/23)
الديارات والحانات، وفي تأديبك صيانة للخلافة وردع لك ولغيرك عن هذه الفضيحة. ثم أمر بعماريات كانت معه فأركب فيها مع حُرمه وردَّ إلى داره. فبلغ ذلك المعتصم فكتب إليه يصوب رأيه وفعله ويأمره ألا يرخص لأحد من أهل بيته في مثله
وأم أبي علي هذا تعرف (بشَكل). وكان الرشيد قد اشتراها وصاحبة لها تعرف (بشذر) في يوم واحد. فحملت شذر وولدت (أم ابنها)؛ فحستدها (شكل) وبلغ بها الحسد إلى أمر عظيم من العداوة حتى اشتهر ذلك. وحملت (شكل) وولدت أبا علي. وماتت أماهما؛ وبقيت العداوة بين أبي علي وأم ابنها، حتى بلغ الأمر إلى أن تهاجيا بالأشعار، وشاع أمرهما في جميع آل الرشيد. فلما قتل الأمين وورد المأمون إلى بغداد جلس يوماً وعمه إبراهيم بن المهدي وأبو إسحاق أخوه والعباس ابنه، وتذاكروا العداوة التي بين هذين، فقال: لقد سمعت بخبر عداوتهما بخراسان ولقد هممت أن أصلح بينهما. ووجّه فأحضر أم ابنها وأقبل يعاتبها وهي مطرقة لا تردّ جواباً. ثم أمر بإحضار أبي علي، فلما رأته أم ابنها تنقَّبتْ وسترتْ وجهها. فقال المأمون: كنت مُسفرة فلما حضر أخوك تنقبت؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين لسفوري بين يدي عبد الله بن طاهر وعلي بن هشام، أوجب من سفوري لأبي علي، فوالله ما هو لي بأخ ولا للرشيد بابن، وقد قال الله عز وجل: (الذين أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف). قال ابن عباس: (آمنهم من البرص والجذام). . . وهو والله أبرص، ما هو إلا ابن فلان الفراش. . .! فأمر المأمون أخاه أبا إسحاق فجلدها حداً. فقالت: (سوءة يا أمير المؤمنين أن تحد أختك لابن الفراش وسننت على بنات الخلفاء الحد، فوالله لقد ظننت أن أمره يستتر: فأما الآن فوالله لتتناقله الرواة وليتحدثن به إلى أن تقوم الساعة. ونهضت فقال المأمون: قاتلها الله. . . فلو كانت رجلاً لكانت أقعد بالخلافة من كثير من الخلفاء. . . وقلد أبا علي الصلاة على جنائز أولاد الخلفاء ليدرأ عنه العيب
(لهذا الفصل بقايا)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(395/24)
عرابي الفلاح
حديث شيخ معمر من قرية عرابي باشا
للأستاذ محمود الشرقاوي
سيبقى اسم عرابي باقياً مذكوراً في التاريخ المصري الحديث ما بقى في مصر شعور بالقومية المصرية. وستظل الحركة العرابية أو (هوجة عرابي) باقية مذكورة في ضمير الشعب المصري حية على لسان أفراده وفي قلوبهم حتى تتمكن لمصر الحياة الحرة وحتى تتمكن للشعب المصري (الفلاح) السيادة التي جاهد عرابي لها ولقي في سبيلها ما لقي وما يلقي المجاهدون الأحرار
ومهما تكن نتائج الثورة العرابية. ومهما يكتب المؤرخون عن أخطائها فستظل ويظل اسم عرابي معها مذكوراً في ضمير الأمة المصرية كأول حركة قومية خالصة، وأول (تنبَّه) للشعور بالقومية المصرية في العصر الحديث، وأول هبة لتحقيق السيادة المصرية للدم المصري.
وقد عرف الكاتبون وكتب المؤرخون البحوث والتحقيقات عن عرابي البطل وعن ثورته. ولكني عرفت بمصادفة موفقة حديثاً عن العظمة النفسية التي كان يتميز بها عرابي؛ وعن الشعور الراسخ بالعزة الذاتية التي كان يحسها لمجرد أنه مصري وفلاح.
وقد بلغ شخص عرابي من الرفعة والمجد ما بلغ، وارتفع اسمه وعلا إلى حيث ارتفع، ولكن هذا كله لا يغير من نفسه ولا من شعوره بالفخار أنه مصري وفلاح، وبيننا إلى اليوم من لم يبلغ شيئاً ولا ارتفع اسمه شيئاً ولكنه يعلو بنفسه أن يكون فلاحاً وهو من طينه ومن ترابه.
بل لقد جعل عرابي نسب فخره أنه فلاح تحدّر من أصلاب فلاح ونشأ مثلهم ومعهم بين الماء والطين.
وحديث هذه الواقعة هو ما سأكتبه لقراء (الرسالة) كما سمعته.
منذ أيام عشرة قبض الله إليه شيخاً معمراً في قرية (هرّية رزْنة) قرية عرابي باشا في جوار الزقاريق وقد جاوز المائة.
وهذا الشيخ المعمر هو الشيخ علي نجم معلم القرية، وكان فيها صاحب (كتِّاب) تعلم فيه(395/25)
وحفظ القرآن أبناء هذه القرية وما جاورها جيلاً بعد جيل، وكان أبوه من قبله معلماً صاحب (كتِّاب).
وقد قدر لي أن أجلس إلى هذا الشيخ المعمَّر قبل أن يقبضه الله إليه، وأن يحدثني عن نبْت قريتهم عرابي وأنه كان يتعلم القراءة وحفظ القرآن في كتاب أبيه، وكان (عرابي) يصغره سناً وإدراكاً ويتخلف عنه في الحفظ. فكان الشيخ محدثي - رحمه الله - (عريفاً) عليه كما يقولون في لغة كتاب القرية.
وبقيت العلائق بين (العريف) المعلم الشيخ علي نجم وبين أحمد عرابي حتى انتهى لما بلغ من مجد ومن مكان، وكان من خاتمة الثورة العرابية ما عرفنا ونقل عرابي باشا إلى جزيرة سيلان ثم أعيد بعد عشرين سنة فيها.
قال الشيخ المعمر يرحمه الله:
وقصدت ومعي زميل من شيوخ القرية نهبط مصر لنرى عرابي باشا بعد رجوعه من المنفى، وكان يوم جمعة وحلَّ علينا وقت صلاتها قريباً من عابدين، فدخلنا مسجداً نصلي فإذا بنا ونحن خروج ننتعل أحذيتنا على باب المسجد نرى عربة تقف أمامه وقد صعد إليها رجل كبير ضخم عرفته، فقلت لصاحبي الشيخ: أليس هذا عرابي باشا؟ لقد تغير كثيراً، وكأنه لم يعد يُبصر. فقال صاحبي بعد صمت: ألا ترى من الخير لنا أن نعود وألا نذهب إلى بيت عرابي، فإني لا أستطيع أن أراه هكذا في ختام أيامه كسيراً مخذولاً مهيضاً.
وهل تظن أنه يعرفنا بعد كل هذه السنين وهذه الأحداث وهذه الغربة؟ وإننا نخجل أنفسنا حين نعرض عليه أو يستأذن لنا منه فلا يذكر أشخاصنا بأسمائنا. فهلم بنا نعود. قال محدثي ولكني عارضت صاحبي وشجعته وقلت له لقد جئنا إلى القاهرة لنزور عرابي ولا بد إن شاء الله أن نزوره. وقصدنا إلى بيته وفي شارع خيرت بعد صلاة الجمعة بساعات.
فلما قدمنا منزل عرابي باشا استقبلنا على بابه بعض الخدم والعبيد واستقبلنا واحد من أبنائه وهو لا يعرفنا. فلما عرفناه أنفسنا قال إن الباشا ليس في البيت وترك لنا أن نجلس أمام البيت على (دكة) البواب حتى يعود فيستأذن لنا عليه الخدم، فجلسنا وقد نظر إليَّ صاحبي كأنما يذكرني ما قال ونحن نترك المسجد وقد رأينا عرابياً وهم بنا صاحبي أن نعود.
ونحن وقوف على هذه الحال إلى حائط البيت انتهت إلى البيت عربة عرابي ونزل منها(395/26)
أمامنا يتمهَّل ووقع بصره علينا، وبعد دقيقة أو دقيقتين وقد همت بالتقدم للسلام عليه ناداني: ألست أنت (عريفي) الشيخ علي نجم؟
وسألني وصاحبي فقصصت عليه كيف جئنا وما قال لنا خدمه وابنه؛ وكنا دخلنا معه وقربنا إلى حيث يجلس يستقبل؛ فلما سمع منا تغير لونه ووقف ووقفنا؛ ثم رجع إلى أول الحديقة ونادى ابنه الذي استقبلنا وطلب معه من في البيت من اخوته ثم وقف وهم جميعاً أمامه، فحدثهم باللغة التركية حديثاً طويلاً كان فيه ظاهر الغضب. وقد وقفوا جميعاً أمامه صفاً واحداً رؤوسهم على صدورهم مشتبكة أيديهم كأنهم في صلاة؛ ثم قال ختام كلامه باللغة العربية، وقد فهمنا منه غضبته وما حدث أبناءه - وخدمه واقفون - باللغة التركية؛ وكان ختام عرابي باشا حديث أبنائه كأني أسمعه الآن يقول مشيراً إليَّ وإلى صاحبي:
هذا زميلي في الكتَّاب، وهذا عريفي جلست إليه يسمع مني القرآن فهو معلمي؛ وأنا فلاح ابن فلاح تحدرت من أصلابهم وأنا بهم فخور، فخور بأني نشأت ولعبت في الماء والطين معهم؛ وأنا عرابي باشا، ولكني فلاح ومن قرية (هرّية)، وهؤلاء الفلاحون هم أهلي وعشيرتي ومنهم دمي، فمن جاء منهم إلي لا يجلس بالباب.
ثم أولاده فانصرفوا وهم سكوت: فدخلنا فجلس معنا ساعات يحدثنا عن صبانا وأيام الطفولة ويسألنا عن رفقاء الكتاب. وأراد أن يستبقينا ليلتنا فشكرنا واعتذرنا. ولم يتركنا عرابي باشا حتى خرج معنا خطوات من حجرته واستحلفنا أن نعود إليه وأن يرانا.
قال محدثي الشيخ المعمر: ولم يشأ الله أن نزوره ولا أن نراه. ولكننا نحبه كما كان يحبنا.
قلت يرحمك الله أيها الشيخ كما يرحم الله عرابياً البطل الفلاح.
محمود الشرقاوي.(395/27)
اللورد روبرت بادن باول
الكشاف الأعظم العالمي
للأديب خميس زهران
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
انطلق بادن باول ومعه زميله إدوارد سيسل لتنفيذ التدابير التي ارتأياها. فوضع كل المتدربين في خط القتال وأخذ يجمع الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 12، 16 سنة منهم فرقة ألبسها الزي العسكري وعهد إليهم ببعض الأعمال مثل نقل البريد والمؤونة والإشارات وحراسة المخازن وغير ذلك من الأعمال التي تحتاج إلى نشاط أكثر من احتياجاتها إلى تمرين (لقد كانوا فتياناً لا يسددون الرماية، ولكنهم كانوا يركضون حولنا كالأرانب). وشرع هو ورجاله في حفر الخنادق حول المدينة لتكون بمأمن من الأعداء.
(كان لكل رجل قيمة وبما أن عددهم أخذ في النقصان شيئاً فشيئاً بسبب سقوط القتلى والجرحى، أصبحت واجبات القتال والمراقبة ليلاً أصعب من الباقين. ثم أن اللورد إدوارد سيسل رئيس أركان الحرب جمع الأولاد في المكان وجعل منهم فرقة تلامذة حربيين وألبسهم وشرع في تدريبهم وأصبحوا بعد حين جماعة لبقية منظمين، وكنا حتى ذلك الحين نستعين بعدد وافر من الرجال لحمل الأوامر والرسائل والمراقبة وأمثال ذلك. فأضحت هذه الواجبات الآن على التلامذة الحربين وذهب الرجال لتدعيم خط النار.
ولقد أدى هؤلاء الأولاد تحت رئاسة (جوديير) أعظم خدمة واستحقوا الأوسمة التي نالوها عند نهاية الحرب. كان معظم هؤلاء يحسن ركوب الدراجة، لذلك تمكنا من تأسيس بريد، استطاع الناس بواسطته إرسال الخطابات إلى رفاقهم الموجودين في مختلف القلاع أو حول المدينة دون أن يعرضوا أنفسهم لخط النار. وجعلنا لهذه الرسائل طوابع بريد رسم عليها صورة تلميذ حربي يركب دراجة.
قلت لأحد الأولاد مرة عندما جاء تحت وابل من النيران: ستصاب يوماً وأنت تركب على هذه الصورة والشرر يتطاير من كل صوب. فأجاب: سيدي إنني أنطلق سريعاً بالدراجة ولن يستطيعوا الوصول إليَّ.(395/28)
يظهر أن هؤلاء الأولاد لم يفكروا في القذائف قط كانوا دائماً على استعداد لتنفيذ الأوامر مع أن الخطر كان منهم على قاب قوسين أو أدنى. وهكذا صارت المدينة في حركة ونشاط متواصلين وقد سرت في نفوس الجميع روح الثقة والأمل.
فإن نعجب فلنعجب لهذا الساحر كيف أوتي هذه الجاذبية المدهشة التي سرعان ما أحالت الحامية خلفاً جديداً وأشاعت في جنودها النشاط والرغبة في العمل.
وحدث في تلك الأثناء حادث طريف يدل على ذكائه الفطري فقد نصب أعلاماً سوداء حول المراعي الخضراء موهماً العدو أنها ملأا بالمفرقعات والألغام لكي يتقي شر الإغارة عليها ولتبقى سليمة ترعى فيها إبله وماشيته وهما قوام حياة جيشه المحاصر. فلما رأى جنود العدو هذه الأعلام ساروا في طريقهم ولم يصوبوا أفواه بنادقهم ولا قذائفهم صوب هذه المراعي خشية انفجار المفرقعات المهلكة والتي ظنوها شراكاً منصوبة لهم. ومما ساعد على نجاح خدعته هذه أن حدث أن الأعداء أطلقوا أعيرتهم النارية على إحدى عربات السكك الحديدية ظانين أن بها بعض رجال الحامية الإنجليزية ولم يكن بها إلا مفرقعات حقيقية فما لبثت أن تطايرت الشظايا والمفرقعات فأصابت المئات منهم. وهكذا سنحت الفرصة لرجال الحامية الذين هجموا على الأعداء فأدخلوا الذعر في قلوبهم وجعلوهم يلوذون بالفرار
تلك واقعة واحدة سقناها للتدليل على شجاعة بادن باول في تلك الحرب التي استمر لظاها مدة 280 يوماً وانتهت بأن طلب قائد الجيش البويري الصلح حقناً للدماء معترفاً بما أبدته تلك الحامية الضئيلة العدد من البسالة الفائقة والمقدرة النادرة
ولنترك الآن روبرت نفسه يصف الحالة أثناء الحصار بتلك الجمل التي خاطب بها رجال حاميته مفكنج بعد أن فك الحصار عنها ومودعاً لهم (لقد كان مثلنا إبان ذلك الحصار كمثل أسرة سعيدة واحدة، والآن جاء وقت الفراق. إني أذكر أني قلت لكم يوم أن حوصرنا وتقطعت بنا الأسباب: اربضوا ربضة الأسود. صوبوا إلى المرمى بنادقكم. ولقد قمتم بذلك خير قيام فكانت النتيجة ما ترون. ولقد أثنوا على شخصي الضعيف، ولهجت الألسن بذكري والثناء عليّ الثناء كله وفاتهم أنه من السهل أن يكون المرء ربان سفينة ونسوا الحامية التي هي شراع السفينة مفكنج التي أخرجتها من العواصف القاصفة والزعازع(395/29)
المتلفة وأوصلتها إلى الميناء بسلام)
كل هذا حدث بفضل بادن باول الذي كان الناس يشكون في نجاحه في هذا الحصار ولكنه بجده ونشاطه ومثابرته على العمل وإيمانه بقدرته على النصر تمكن من التغلب على الصعاب التي اعترضته وفاز بنصر مبين رفعه إلى أوج المجد والشهرة
حياة بادن باول الملأ بالمجازفات والأخطار وما شاهده من بطولة الصغار في ظروف عدة وما لديهم من قوى كامنة تدفعهم لاختراق النيران بغية القيام بالواجب، وجعل الجنود بمعرفة الاتجاهات واستعمال الفؤوس في الغابات، وجهلهم أيضاً إيقاد نار في يوم اشتدت فيه الرياح أو هطلت فيه الأمطار: كل هذه أوحت إليه المبدأ الذي نسير عليه
فلما وضعت حرب البوير أوزارها إلى السير روبرت بادن باول على نفسه أن ينشر نظام الفتية الصغار بطريقة أوسع وأنظم في بريطانيا العظمى إذا ما ألقى عصاه بها. ولما رجع إلى وطنه لم يأل جهداً في تنفيذ فكرته فأقام معسكراً تدريبياً في جزيرة صغيرة تسمى برونس ونجح نجاحاً جاوز الآمال فيه. شجع نجاح ذلك المعسكر السير روبرت بادن باول على المضي قُدُماً فجاهر بفكرته وأعلنها للملأ؛ فندَّد بها الاستعماريون لما فيها من إخاء عالمي ولما تحويه من إزالة للفوارق الصناعية بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ وازدراها الاشتراكيون لأنهم توهموها عسكرية مقنعة ليس فيها لخير الإنسانية من شيء، وسخر كثير من زيها ورأوا فيه خروجاً عن اللياقة وضرباً من التصابي، فصمد لهم جميعاً وصابرهم إلى أن أصدر كتابه في ربيع سنة 1908 وقد وجه فيه الخطاب للفتيان أنفسهم فأقبلوا عليه إقبالاً عظيما والتهموا ما فيه التهاماً، وانخرطوا في سلك الحركة مؤمنين بمبادئها مصدقين بتعاليمها
وفي عام 1910 أسست الكشافة ليتعلم فيها معتنقوها الصبر واحتمال المكاره والاستمساك بالعقيدة والاستهانة بكل شيء في الحياة عداها، ويلقنهم البساطة والحياة الطبيعية لتطهر نفوسهم من الأطماع ولتخلص من الدسائس والهواجس فيجتمع لكل أبنائها إرادة قوية وعزم من حديد، فإذا اجتمع للإنسان الإرادة وطهرت نفسه وقوى إيمانه بفكرته فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في طريقه؟
وعاش الكشافون عيشة التقشف: ألم يعش الخلفاء الراشدون عيشة الفقر وأملاك دولتهم تمتد(395/30)
وتتسع، ورقعة إمبراطوريتهم تعظم وتترامى؟ ألم يكن رداء عمر (مرقعة) ذهب أصلها وبقيت رقعها وجيوش المسلمين تهد إمبراطورية الروم؟ ألم يرسم محمد صلى الله عليه وسلم للقادة والزعماء وأصحاب الرسالات والمبادئ والعقائد دستوراً جليلاً حكيما حين قال: (طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة. اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأدخلني في زمرة المساكين). اتخذ بادن باول لجماعته زيَّا خاصاً خاكي اللون رخيص الثمن بسيط المظهر؛ وشجعهم على عقد الاجتماعات والقيام بالرحلات والمخيمات، وعلمهم الاقتصاد في معيشتهم، وعودهم إلى الأخوة في مأكلهم ومشربهم، والمحبة في معاملاتهم والإخلاص في صداقتهم، ومنعهم عن التدخين وشرب الخمور، وحرم عليهم الفسق والفجور، ليحفظ لهم صحة أجسادهم وقوة أبدانهم وسلامة عقولهم وبارز شخصياتهم ووافر كرامتهم. لم يكن وقت التمرين قاصراً على التربية البدنية، بل تعداها إلى التربية الروحية؛ فأقام المخيمات التدريبية لبث الروح العسكرية فيهم، وألقى المحاضرات التاريخية ليزيدهم تعلقاً بكل ما هو قومي، ومحبة لكل ما هو وطني، وأذكى فيهم شعلة الحماس بالأغاني القومية والأناشيد الوطنية. ويعزي السبب في انتشار الكشافة إلى إيمان بادن باول وعقيدته في صحة ما يدعو إليه. ولا غرو، فإن أصحاب المذاهب والمبادئ الاجتماعية الكبرى التي أثرت في تاريخ العالم وغيرت مجراه لم يتمكنوا من جذب النفوس إلى مبادئها إلا بعد أن ثملوا بخمرتها، وبذلك أمكنهم توليد تلك القوة العظيمة الأثر في النفوس، ألا وهي الإيمان، وهي التي تجعل المرء عبداً لمذاهبه.
وقد تزوج اللورد روبرت بادن باول في أكتوبر سنة 1913 بمس أوليف ورزق منها ولداً وإبنتين، وانتخب كشافاً أعظم للعالم في أول معسكر دولي أقيم في إنجلترا سنة 1920، ولقد أنعم عليه صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى جورج الخامس عام 1930 بلقب لورد جزاء وفاقاً على قام ما به من عمل جليل. وكرمته جامعة ليفربول ومنحته لقب دكتور في القانون ولقد جمع اللورد بادن باول خريجي معهد جلويل بارك المخصص لتدريب معلمي الكشافة على فنونها المختلفة نظرياً وعملياً، وهو قصر فخم وسط ضيعة كبيرة في مقاطعة اسكس بالقرب من لندن وسألهم أن ينتخبوا اسمه الجديد الذي يضاف عادة بعد(395/31)
اللوردية فأجمعوا على جلويل فاغتبط به وأظهر ارتياحه
فبادن باول رجل خليق أن يعلم عنه شيئاً وأن يشغل حيزاً في ذاكرة كل فرد منا ومكانة في نفس كل واحد؛ ولا غرو إذا تقدمنا لقراء الرسالة بسيرة هذا البطل إعجاباً بهذا الطراز الجديد من الرجال وهم الذين لم يشهدوا في عصرنا غير رجال مزيفين من الحواشي. رجال أو أشباه رجال ولا رجال ممن لم يحذقوا غير التخنث والأناقة ولم يبرعوا في غير الخبث والمكر ومضغ الكلام وتزجيج الحواجب! أو بالاختصار رجال من أولئك الذين تلقى بهم المصادفة في طريق العظماء وتأتي بهم الظروف إلى مجالس الأمراء وأهل الخطر والشأو البعيد. وما أوسع المسافة بين أمثال هؤلاء وبين هذا الرجل النبيل العزيز الجانب الذي تعبق منه روائح المعسكر والخيام كما يعبق منه أريج المخدع والصالون! رجل وأي رجل!
من كان يدور بخلده أن صبي فرنسا وصبي استراليا وصبي مصر وصبي أمريكا يتلاقون في مكان واحد: لا يفرقهم جنس ولا تنفرهم ديانة ولا تبعدهم لغة أو سياسة؟ ومن كان يتوهم ولو على سبيل التفكهة أو المداعبة أن ابن مصر الشرقي الناطق بالضاد تأخذه العصبية الكشفية فينهض إلى منافسة ابن التاميز الغربي في اعتناق مذهب التربية الحديث
إنها آية للكشف وإنها معجزة بادن باول أن يأتلف الشباب حول المبادئ الكشفية، وإن شئت فقل إنها مبادئ الشباب الحديث الذي يريد أن يرث الأرض جميعاً لا فرق عنده بين وطن وغربة
إن شئت فقل عنها إنها آداب المعاشرة وآداب المؤاكلة وآداب العائلة وآداب الإنسانية وآداب المجتمع الراقي وآداب الحياة الصحيحة الخالية من شوائب السعادة. فما أعذبها مبادئ لو أن السياسة تتركها وشأنها في الدنيا دون أن تعكر لها صفو أو تكدر لها مجتمعاً
إنما هي في الواقع توحيد لنظم التربية وعامل قوي لإزالة الفوارق، لكن أنى للكشف وغير الكشف أن يزيل الفوارق وفي الدنيا من جنود الشيطان أضعاف أضعاف بني الإنسان
رحمك الله يا جبار الكشف وأنعم بك من مرب حطم القيود وزحزح العقبات من طريق مبادئه الصحيحة!
هاهي ذي الفقرة الأخيرة من رسالته التي أذاعها لأبنائه كشافي العالم من روديسيا: (لقد(395/32)
عشت جندياً ثم كشافاً، أما المرحلة الثالثة من حياتي فتتوقف على ما يريده لي الأطباء) ذلكم هو المرحوم الدكتور روبرت بادن باول ولورد جلويل وملك قلب كل كشاف، فرحمه الله رحمة واسعة
خميس زهران
زعيم جوالة بإسكندرية(395/33)
من وراء المنظار
محمد أفندي. . .!
قيل وما أكثر ما قيل إن قلة الذوق في مجتمعاتنا مردها في الغالب إلى خلوها من المرأة؛ وإلى هذا أشار صاحب الرسالة في أكثر من مناسبة، وعنده أن الشباب إذا ازدانت مجتمعاتهم بالأوانس شدوا الشكيمة وكبحوا جماحهم وحرص كل امرئ منهم على أن يظهر على خير ما يحب من دماثة الخلق ورقة الحاشية ولطف الحديث
ولكن منظاري قاتله الله بل عافاه الله وصرف عنه كل غشاوة يأبى إلا أن يكشف لي عن موقف لا تتحقق فيه هذه الفكرة بل لقد نقضت فيه من أصولها وجاء الأمر على عكس ما تفاءل المتفائلون وتمنى الكاتبون
كنت مسافراً إلى الريف الحبيب في قطار فالتقيت في ممر من ممراته بثلاثة من الشبان تقاربت أعمارهم، وكان كل منهم بادي العافية حسن البزة متهلل القسمات؛ ونادى أحدهم رابعاً لهم كان في اتجاهي يسبقني بخطوات فقال له: أمامك في هذه العربة قبل الآخر بديوان تجد محمد أفندي إلى جانب الشباك الأيمن وقد حجزنا أمكنة فانتظرنا هناك
ودخل (رابعهم) هذا الديوان المشار إليه وأحسست كأني أنجذب إلى هذا الديوان نفسه فدخلت واتخذت مكاني، ولكني لم أجد إلى جانب الشباك الأيمن غير آنسة أجنبية لم تقع عيني في نهاري كله على أجمل منها صورة وأملح منها محيا، وبدت لي في منتصف العقد الثالث من عمرها كالوردة في زمن الورد بلغت أقصى تفتحها ومنتهى ريعانها
وكانت متجهة ببصرها إلى النافذة، لا تلتفت إلا ريثما ترمق الداخل، ثم تعود فتتجه اتجاهها الأول، وكان على محياها الجميل ما يشبه الهم من فرط سكونها واحتشامها
وتحرك القطار وجاء الشبان الثلاثة وجلسوا في ضوضاء بعد أن نظر كل منهم إلى هيئته في المرآة، فأصلح ما تشعث منها، وتشاغلت عنهم بكتاب في يدي، ولكن منظاري لم يغفل عنهم، فرأيتهم يتخاطبون بالإحداق لحظة، وعلى فم كل منهم ابتسامة خبيثة، وكلهم يومئ لصاحبه برأسه نحو النافذة اليمنى
وقطع أحدهم فترة هذه الإشارات اللاسلكية بقوله: (محمد أفندي تقلان علينا يعني قوي)؛ وضحك الآخرون ضحكات ماجنة مائعة. . . وفطنت أن محمد أفندي لم يكن غير تلك(395/34)
الآنسة التي تتجه بنظرها إلى الفضاء الممتد خارج القطار!
وأيقن أربعتهم أنها لا تعرف العربية. فانطلقت ألسنتهم بألوان من القحة، عجبت ولن أزال في عجب، أن لم يبد على وجه أحدهم أي قدر من الخجل لتلك الألفاظ التي أخجل الآن لمجرد أن أتذكرها! ثم ذهب كل منهم يتظرف بما وسعته سماجته، فهذا يأتي بضروب من النكات لا يسيغها إلا ذوقه وذوق أصحابه، وذلك يداعب خاتمه الماسي وساعته الذهبية، وآخر يخرج حافظة نقوده فيقلب الأوراق المالية ثم يردها إلى جيبه، هذا فضلاً عما تنافسوا في سرده من المغامرات التي صرف فيها ما صرف من الأموال وكلها بالضرورة من نسج الخيال - كل أولئك و (محمد أفندي) في شغل عن ظرفهم ولطف حديثهم بالنظر إلى فضاء الأرض
ولما أفرغوا ما في جعبتهم من بارد النكات وسخيف الحكايات انتظرت أن يتطرق إليهم اليأس أو يمسهم شيء من برودة الموقف فيخجلون؛ ولكنهم انتقلوا إلى ما هو أدهى وأمر مما كانوا فيه فراحوا يصفون في طريقة بهيمية جمال تلك الآنسة التي لم يبد على قسماتها إلا ما يبدو على قسمات تمثال من التماثيل من الثبات على حال واحدة، ثم شاءت لهم دماثتهم أن يجعلوها موضعاً لنكاتهم فهي ابنة بائع إسفنج في الريف أو هي لا تكلف أكثر من نصف ريال يدفع لحزيمي إلى غير ذلك مما أمسك القلم عن ذكره من عبارات هؤلاء الظرفاء المهذبين!
ودنا القطار أخيراً من إحدى المدن فنهضت الفتاة لتنزل ومدت يدها إلى الرف لتأخذ حقيبة فتقدم أحد هؤلاء الظرفاء وأنزلها لها فتناولتها وهي تقول له في عبارة فصيحة: (أشكرك جداً يا أفندي) ثم خرجت من الديوان
ونظرت إلى وجوههم وحمرة الخجل تلهب وجنتي، وأشهد لقد شاعت تلك الوجوه الصفيقة شيء من هذه الحمرة ولكن لعل ذلك مرجعه إلى وجودي، ولعلهم لو كانوا وحدهم لأجابوها بضحكة من ضحكاتهم أو بنكتة من ظريف نكاتهم.
الخفيف(395/35)
رسالة الشعر
نَهْرُ النّسْيان. . .!
(إلى الذين هموا بالرحيل ولم يعرفوا إلى أين. . .!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
اِسْقِيَانِي مِنْ خَمْرَةِ النِّسْيَانِ ... وَانْسَيَانِي فَقَدْ نَسِيتَ زَمَانِي!
وَنَسِيتُ الشَّبَابَ وَالسِّحْرَ وَالأَحْ ... لاَمَ وَالْفَنَّ وَالرُّؤَى وَالأَغَانِي
وَنَسِيتُ الْمُنَى وَكَانَتْ شُعَاعًا ... بَاهتَ الظِّلَّ حَاَئرًا في جَنَانِي
وَنَسِيتُ الأَسَى وَكَانَ رِيَاحًا ... أَزْجَتِ الْجِنُّ خَطْوَهَا في كِيَانِي
وَنَسِيتُ الأيَّامَ حَتَّى تَلاَشَتْ ... كَهَشِيمٍ عَلَى تُرَابِ الزَّمَانِ
وَنَسِيتُ الأنْغَامَ رَعَّاشَةَ الشَّدْ ... وِ حَيَارَى حَزِينَةَ الْعِيدَان
وَنَسِيتُ الدُّمُوعَ وَهْيَ أَغَانٍ ... أَخْرَسَتْهَا زَوَابِعُ الأَحْزَانِ
غرِدَاتُ السُّكُونِ مَخْنُوقَةُ اللَّحْ ... نِ تَشَاجَتْ بِسِحْرِهَا أَجْفَانِي!
وَنَسيتُ الْجَمَالَ حَتَّى كَأَنِّي ... لَمْ أُضمِّخْ بِنُورِهِ أَلْحَانِي
فَنَسِيتُ الْعَبِيرَ وَالزَّهْرُ يُذْكِي ... هِ بِفَجْرِ الطَّبِيعَةِ النَّعْسَانِ
وَنَسِيتُ النَّدّى وَقَدْ كَانَ خَمْراً ... لِبَنِي الطَّيْرِ لَمْ تُرَقْ في دِنَانِ
وَنَسِيتُ الأَنْسَامَ تَنْقُلُ قي الْمَرْ ... جِ صَلاَةَ الطُّيُورِ لِلْغُدْرَانِ
وَنَسِيتُ النُّجُومَ وَهْيَ عَلَى الأُفْ ... قِ نَشِيدٌ مُبَعْثَرُ الأَوْزَانِ
وَنَسِيتُ الرَّبِيعَ وَهْوَ نَدِيمُ الشِّ - عْرِ وَالطَّيْرِ وَالْهوَى وَالأَمَانِي
وَنَسِيتُ الْخَرِيفَ وَهْوَ صِباً مَا ... تَ فَسَجَّتْهُ شَيْبَةُ الأَغْصَانِ
وَنَسِيتُ الظَّلاَمَ وَهْوَ أَسَى الأَرْ ... ضِ وَتَابُوتُ شَجْوِهَا الْحَيْرَانِ
وَنَسِيتُ الأَكْوَاخَ وَهْيَ قُلُوبٌ ... دَامِيَاتٌ تَلَفَّعَتْ بِالدُّخُانِ
وَنَسِيتُ الْقُصُورَ وَهْيَ قبُورٌ ... ضَاحِكَاتُ الْبِلَى مِنَ الْبُهْتَانِ
وَنَسِيتُ النَّعِيمَ وَالْبُؤْسَ مَاذَا ... تَرَكَا لِي مِنْ شَقْوَةٍ أو أَمَانِ؟
وَنَسِيتُ السَّلاَمَ وَالْحَرْبَ سِيَّا ... نِ شَذَا النَّورِ أو لَظَى الْبُرْكَانِ(395/36)
وَنَسِيتُ الْهُدُوَء وَالضَّجَّةَ الْهَوْ ... جَاَء سِيَّانِ سَكْتَتِي أو بَيَانِي!
وَنَسِيتُ الكَلاَمَ مَاذَا جَنَي المُصْ ... غِي إليه سِوَى بِغَاءِ اللِّسَانِ؟
وَنَسِيتُ السُّكُونَ وَهْوُ عَزِيفٌ ... أَبَدِىٌّ الصَّدَى أَشَلُّ الْمَثَانِي
وَنَسِيتُ الْحَيَاةَ وَهْيَ رَمَادُ ... نَفَخَتْ ذَرُّهُ يَدُ الشَّيْطَانِ
وَنَسِيتُ الْفَنَاَء وَهْوَ بِجِسْمِي ... هَادِمٌ يَرْصُدُ الْفَنَاَء لِبَانِي!
وَنَسِيتُ النِّسْيَانَ وَالذِّكْرَ حَتَّى ... صِرْتُ وَهْماً فِي خَاطِرِ النِّسْيَانِ!
وَتَجَرَّدْتُ مِنْ زَمَانِي وَكَوْنِي ... لِزَمَانٍ مُحَجَّبٍ عَنْ عِيَانِي
وإِذَا بِي فِي قَفْرَةٍ أَلْقَتِ الصَّمْ ... تَ عَلَيْهَا صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ
خَاصَمَ الدَّهْرُ لَيْلَهَا فَهْيَ دَهْرٌ ... مَا رَأتْهُ سَرِيرَةُ الأكْوَانِ
وَلَوَى الْجِنُّ خَطْوَهُ عَنْ ثَرَاهَا ... فَهْيَ حَتْفٌ لِكلِّ إِنْسٍ وَجَانِ
لاَ ظَلاَمٌ، وَلا ضِيَاءٌ، وَلَكِنْ ... هَمْهَمَاتٌ يَلْغَطْنَ فِي وِجْدَاني
جُبْتُ فِيهَا حَيْرَانَ أَقذِفُ نَفْسِي ... فِي خِضَمٌ مُغَيَّبِ الشُّطْآنِ
وَإِذَا أَشْيَبٌ يُغَمْغمُ كالْمَجْ ... نُونِ بَيْنَ السُّهُولِ وَالوِدْيانِ
شَعْوَذَتْهُ السَّمَاءُ فَهْوَ خَيَالٌ ... يتَزَيَّا بِصُورَةِ الإنسانِ
آدمِيُّ الرُّوَاءِ أَذْهَلَهُ الوَهْ ... مُ وَغَشَّتْهُ هَبْلَةُ الْحَيَوَانِ
نَقَشَ الْعَنْكَبُوتُ فَوْقَ مُحَيَّا ... هُ ظِلاَلاً مِنْ صُفْرَةِ الأَكْفَانِ
مُقْلَتَاهُ بِئْرَانِ دَلوُهُما الظَّ ... نُّ وَغَيْبَانِ فِي الدُّجَى تَائهَانِ!
وَيَدَاهُ لَقَامَةِ الزَّمَنِ الأَعْ ... رَجِ عُكّازَتَانِ مَشْدُوخَتَانِ!
ضَمَّ إِحْدَاهُما وَلَوَّحَ بِالأُخْ ... رَى لِوَادٍ مُخَدَّرٍ نَعْسَانِ
فِيهِ نَهْرٌ مِنَ الدُّمُوعِ، وَجُبٌّ ... مُترَعٌ بِالأَنِينِ وَالأَشْجَانِ
وَقلوبٌ أَقَلَّهَا بَيْنَ جَنْبَيْ ... هِ سَفِينٌ يَجْرِي بِلاَ رُبَّانِ
وَاِلهَاتٌ، مُجَرَّحَاتٌ، حَزَانَى ... مَزَّقَتْهَا فَوَاجِعُ الأَزْمَانِ
بَيْنَهَا ثَاكلٌ، وَآخَرُ شَجَّتْ ... هُ يَدٌ لِلأَسَى بَغَيْرِ سِنَانِ
وَشَقِيٌّ يَسُوقُهُ نَحْسُ دُنْيَا ... هُ إلى مَرْفَأٍ شَقِيِّ الْمَكَانِ
وَيَتِيمٌ، وَبَائِسٌ، وَغَريبٌ ... وَشَرِيدٌ مُقَطَّعُ الأَرسَانِ(395/37)
وَمُنَادٍ دَعَا الأَمَاني فَصَدَّت ... هُ! وَعَادَتْ إليه بَعْدَ الأَوَانِ
وَحَبِيبٌ أَرْدَتْهُ فِي لَهَبِ الأَسْ ... قَامِ وَالسُّهْدِ صَرْعَةُ الْحِرْمَانِ
وَطَعِينٌ بِخِنْجَرِ الظُّلمِ بَاكٍ ... دَفَنَتْ نَوْحَهُ يَدُ الطغْيَانِ
أَرْعَشتنِي السَّفِينُ وَاسْتَلَبَ الأَشْ ... يَبُ وَعْيِي، رَبَّاهُ مَاذَا دَهَاني؟
فَتَهَاوَيْتُ كالْهَشِيمِ عَلَى أَشْ ... لاَءِ رُوحِي الْمُفَزَّعِ الأَسيَانِ!
ثمَّ نَادَيْتُهُ فَأَمْعَنَ فِي الصَّمْ ... تِ قَليلاً وَصَاحَ بِي: مَنْ دَعَاني؟
قُلْتُ: رُوحٌ مُعَذَّبٌ! قَالَ: مِنْ أَيْ ... نَ؟ فقُلْتُ: الأَسَى إليكَ رَمَاني
عَلّنِي أَسْتَقِي الْهُدُوَء، وَأَلْقَى ... بَيْنَ كفَّيْكَ رَاحَةَ السُّلوَانِ!
قَال: أَقْبِلْ فكمَ بدُنْيَاكَ صَرْعَى ... شَرِبُوا مِنْ يَدِيَ رَحِيقَ الْحَنانِ
فَتَلاَشَتْ دُمُوعُهُمْ، أرَأَ يْتَ الشَّ - كَّ تُبْلِيهِ ثورة الإيمَانِ!
َواْسَتطارَتْ شُجُونهُمْ أَرأَيْتَ الطَّي - فَ تَطْوِيِهِ هَبَّةُ الوَسْنَانِ!
قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قال: رُؤْيا خَيَالٍ ... كلُّ حَيٍّ عَلَى الوُجُودِ رَآني!
أَنَا مَعْنًى فِي خَاطِرِ الْغَيْبِ ذَابَتْ ... حَوْلَ أَسوَارِهِ جَمِيعُ الْمَعَاني
أَنا كَهْفٌ مُغلَّفٌ فِي حَشَا الدَّهْ ... رِ يَشِعُّ الْفَنَاءُ مِنْ جُدْرَاني
غَلْغَلَتْ فِي ثَرَايَ دُنْيَا الشّقِيِّ_ينَ، وَلاَ ذَا الوُجُومُ فِي أَرْكاني
وَارْتمَتْ حَوْلِيَ الْحُظُوظُ التَّعِيسَ ... اتُ وَنَامُ الْعَذَابُ فِي أَحْضَاني
مَدْفَنُ لِلْخُطُوبِ قلْبي، وَمَنْفًى ... أَبَدِيٌّ لِنَكْبَةِ الحَدَثَانِ!
أَنَا طِبُّ الأيَّامِ أَشْفِي جِرَاحَا ... تِ الزّمَانِ الْمُرَزَّإِ اللَّهْفَانِ
أَنَا بَحْرُ الْهُدُوءِ مَنْ مَلَّ دُنْيَا ... هُ رَمَي عِبْأَهَا عَلَى شُطْآنى
مُنْذُ مَا دَبَّتِ الْخَلاَئِقُ حَوْلِي ... لَقَّبَتنِي السَّمَاءُ (بالنِّسْيَان)
فَنَسَيْتُ الحَيَاةَ وَالْمَوْتَ مَا أَدْ ... رِى أَحَيٌّ أَنَا هُنَا أم فَانِ؟!
مَرَّ بِي (آدَمٌ) قَدِيماً فَأَوْمَأَ ... تُ إليه بِطَرْفِ هَذَا الْبَنَانِ
فَسَقَي قَلْبَهُ مِنَ النَّهْرِ كَأساً ... وَتَلاَشَى عَنْ أَعْيُنِي في ثَوَاني
وَإِذا بِي أَرَاهُ يَهْتِكُ سِرَّ الْ ... خلْدِ في غَيْرِ هَدأَةٍ أو تَوَانِ
مَالَ بِالدَّوْحَةِ الَّتِي قَدَّسَ الل ... هُ جَنَاهَا فَلَمْ تَنَلْهَا يَدَانِ(395/38)
وَجَنَى مِنْ ثِمَارِهَا هَذِهِ الدُّنْ ... يَا وَأَحْدَاثَ هَذِهِ الأَكْوَانِ
عَبَّ خَمْرِي فَأَذْهَلَتْهُ عَنِ الْغَيْ ... بِ وَأَقْصَتْهُ عَنْ ظِلاَلِ الْجِنَانِ!
لَيْتَهُ لَمْ يَذقْ رَحِيقِي وَلَمْ يَهْ ... رَعْ لِنَهْرِي وَلَمْ يُطَاوِعْ بَنَاني!
أَنَا سِرُّ الوُجُودِ مَنْ رَامَ سِرِّي ... نَسِيَ الْحَشْرُ قَلْبَهُ في جَنَاني. .
قلتُ: يَا حَادِيَ الْخَطَايَا لِقَبْرٍ ... مَرَدَتْ رُكْنَهُ يَدُ الْغُفْرَانِ!
يَا هَوَايَ الَّذِي تَهَافَتُّ بِالرُّو ... حِ عَلَيْهِ وَبِالْحِجَا وَاللِّسَانِ
أَيْنَمَا سِرْتُ جَرَّ طَيْفكِ أَحْلاَ ... مِي وَمِنْ نَهْرِكَ الْمُصَفَّى سَقَاني
مُنْذُ مَا جِئْتُ لِلثّرَى وَأَنَا صَبُّ ... كَ فَارْحَمْ عِبَادَتي وَافْتِتَاني!
مَزَّقَتْنِي أَشْوَاكُ دُنْيَايَ وَاغْتَا ... لَتْ شَبَابي وَأَزْعَجَتْ أَلْحَاني!
الْهَوَى وَالنَّشِيدُ - يَرْعَاهُما اللَّ ... هُ - بِتِيِه الْخُلودِ قَدْ ضَيَّعَاني!
تَرَكاني أَهِيمُ كالْعَاصِفِ الْمَش ... دُوهِ فِي كلِّ بُقْعةٍ وَمَكانِ
لاَذَ عُمْرِي بِشَاطِئَيْكَ فَدَعْنِي ... فِي ثَرَاكَ الْغَرِيبِ أَدْفِنْ زَمَاني
فَتَمَطَّى فَزَلْزَل الأَرْضَ تَحْتِي ... وَطَوى الصَّمْتَ فِي الفَلاَ إذْ طَواني
محمود حسن إسماعيل(395/39)
رسالة الفن
شيء فظيع
أربعة قتلى، والخامس له الله
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أيام العصر الذهبي لشركة ترقية التمثيل العربي، أخرجت هذه الشركة رواية عن (محمد علي الكبير). وأسرفت الشركة في الإنفاق على إخراج هذه الرواية إسرافاً كان يريد أن يناسب ذكرى ذلك الأسد الذي جاء مصر جندياً صغيراً ثم استولى عليها بأخلاقه وعقله وشخصيته، ثم نفخ فيها من هذه الأخلاق وهذا العقل وهذه الشخصية الملكية ما استطاعت مصر أن تستولي به على غيرها من جاراتها القريبات والبعيدات، حتى لقد هجمت على تركيا الشائخة بقوتها الفتية الحقة، وحتى لم تجد تركيا مفراً من أن تستنجد بإنجلترا وفرنسا، وروسيا أيضاً على ما أظن، لتقف هذه الدول مجتمعة تيار الهجمة المصرية الجارفة. . .
هذه الذكرى الجبارة، أرادت شركة ترقية التمثيل العربي أن تخلدها برواية (محمد علي الكبير) فلم تأل جهداً في إعداد العدة لها، ولقد استعانت الشركة أيامها بالسراي الملكية نفسها، فاستأذنتها في أن يطلع مندوبون منها على مخلفات محمد علي الكبير في متحف القصر، وأن يأخذوا لها صوراً ورسوماً ما أرادوا ذلك، وكان أن تم كل الاستعداد على أكمل الوجوه، وكان أن وعد المغفور له الملك الأسد المسلم فؤاد الأول بشهود التمثيل في الليلة الأولى. . .
وهنا نقف وقفة أمام طيف فؤاد الأول فقيدنا الكريم
لقد كان رحمه الله رجلاً فذاً له جلال وله رهبة. وكانت تنبعث من ذاته ملكية طبيعية تنتشر حوله كل ما اشتملته خاضع لها خضوعاً طبيعياً لا إرادة فيه، وكان فيه من الحيوية ما ينشر هذه القوة إلى أفق بعيد قد لا تستطيع شخصية أخرى أن تمد سلطانها الطبيعي إليه. وقد لحظت هذا عند ما افتتح رحمه الله الجامعة المصرية في سنة 31 أو 32 إذ أعدت الجامعة له سر داقاً هائلاً في الفضاء الذي كان خلف كلية الآداب، وأعدت له الجامعة عرشاً(395/40)
نصبته على منصة عالية، فلما جلس جلالته على العرش مستمعاً إلى الخطباء، ولما وقف الجارم بك يلقي شعراً انصرفت أنا عن الشعر، وكنت بين الطلاب، إلى مشاهدة هذا الجمع والتأمل فيه، وكان أن مددت بصري إلى نهاية السرادق أو نهاياته جميعاً، فإذا بي أرى كل فرد من هذا الزحم قد ترك الشعر مثلما تركته أنا، وأسلم نفسه بحواسه جميعاً إلى هذا الملك كأنه ينتظر منه أن يلقي إليه إشارة فيسرع إلى تلبية الإشارة. . . كل فرد كان على هذه الحال، ومن يومها آمنت بأن فؤاد الأول لو لم يكن ملكاً لكان ملكاً. . .
أمام هذه الشخصية. . . من الذي يستطيع أن يمثل دور محمد علي الكبير تمثيلاً حياً، يبدأ حياً، ويستمر حياً وينتهي بانتهاء الرواية حياً لا تخلخل فيه ولا هبوط؟!. . .
لقد كانت مشكلة، ولقد حلتها شركة ترقية التمثيل العربي بأن عهدت بالدور إلى عبد العزيز خليل. . .
ووجدها عبد العزيز خليل فرصة العمر
وفي ليلة الملك هدر عبد العزيز خليل ساعتين أو ثلاث ساعات من ساعات يقظته الفكرية وهي الساعات القليلة التي تعد في حياة الفنان الإنتاجية في إعداد شكله ونفسه بالمكياج، أما شكله فقد لعب فيه بالأدهان والشعر والأصباغ، وأما نفسه فقد لعب فيها بالكبر ليكون كالرجل الكبير الذي سيمثله، وبالتقوَّى حتى يكون كالرجل القوي الذي سيعيده إلى الأنظار والأسماع والأفئدة، وبالتسلط حتى يكون كذلك السلطان محمد علي
ورفعت الستار، وبدأت الرواية ودخل محمد علي. . . محمد علي الممثل دخل إلى المسرح
ولكن حدث أن حضرة صاحب الجلالة الملك بالقوة والحق فؤاد الأول وقف احتراماً لمحمد علي. . . فوقف الشهود معه أمراء ووزراء ومن هم دون ذلك
فهل كان جلالته يقف لأي ممثل آخر. . . مهما كان الممثل! لا. وإنما جلالته وقف جزاء وتكريماً لهذا الممثل الذي أفنى نفسه واستحضر بدلاً منها نفس محمد علي، فلم يبد من نفسه شيء وإنما دخل إلى المسرح وهو محمد علي فلم يكن عجباً من حفيد محمد علي أن يقوم إجلالاً لمحمد علي هذا الذي يراه ماثلاً أمامه. . .
لقد اضطرب عبد العزيز خليل ولم يعرف كيف يتخلص من هذا الموقف المربك، فكان أن ألهمه الله الخلاص إذ أشار بيده إشارة كاملة إلى الممثلين من حوله وقال: تفضلوا يا أولادي(395/41)
وانتهى التمثيل، وبلَّغت السراي إعجابها إلى الأستاذ عبد العزيز خليل، ومنحت شركية ترقية التمثيل العربي ممثلها هذا الفذ مبلغاً كبيراً من المال مكافأة له على تشريفها في عيني الملك
ودارت الأيام، وانفضت شركة التمثيل العربي. . . وإذا بعبد العزيز خليل ممثل معطل، حتى الفرقة القومية التي تضم الأساتذة: محمد علي إسماعيل، وإبراهيم محمود عبد الله، وعبد الله محمود إبراهيم، لا تريد أن تعترف بالأستاذ عبد العزيز خليل ممثلاً
لماذا. . .؟
ليس هناك سبب إلا أنه ممثل عظيم، وأنه وصل إلى ما لم يصل إليه ممثل مصري؛ وهذا عند أهل التمثيل كاف جداً لأن يكون مبرراً للقتل؛ فكلما جاء ذكر عبد العزيز خليل جاءت معه الغيرة وجاءت معه النميمة، والاغتياب، والتهم الحقة والتهم الباطلة، وكل ما يمنع عنه الرزق والخبز والماء والهواء إذا أمكن. . .
فإذا ثار عبد العزيز من شدة هذا الضغط الحرام وقال كلمة نابية، أو كلمة خارجة استشهد على هذه الكلمة الشهود وحوسب عليها أشد الحساب. . . وغيره يا ما أكثر ما يقول، ويا ما أكثر ما يفعل، ولكنه مسامح ومقبول منه كل ما يقول وكل ما يفعل إذ لا خطر منه على أهل الفن كالخطر المنظور من عبد العزيز خليل والرؤساء يسمعون المداهنين المتملقين، ولا يسمعون الصادقين
وعلى هذا الأساس سيموت عبد العزيز جوعاً في مصر بعد أن مات عطشاً إلى فنه. . .
فإلى من يشكو عبد العزيز وأمثاله؟!. . .
إلى الله وإنه سميع مجيب. . . وهو الرزاق وحده، وهو المنتقم الغفار، الجبار الرحيم
وعبد الحميد الديب، الشاعر الذي يهجو بالشعر الأستاذ العقاد ويأخذ منه أجر الهجاء
لماذا يعطيه الأستاذ العقاد أجراً على هجائه وهو الذي إذا عمد إلى القلم هاجياً تقصفت أمام هجائه الأقلام؟. . . لا ريب أن العقاد يشعر بحلاوة في هجاء الديب، وهذا الشعور اعتراف من العقاد بأن الديب أديب كبير وشاعر يفاجئه بمعان وأخيلة يستحسنها ويطرب لها. . . وشهادة العقاد واعترافه لهما أثرهما في حياة الكثيرين من الأدباء في مصر؛ فهناك ناس أصبحوا بين الأدباء المعدودين والشعراء الملحوظين، وما كانوا ليكونوا شيئاً مذكوراً لولا(395/42)
أن العقاد زكاهم بكلمة أو كلمتين. . .
وهذا عبد الحميد الديب لا ريب أنه كان يحب من الأستاذ العقاد كلمة عن شعره وأدبه ينشرها فترفعه من صفوف المغمورين الجياع إلى صفوف البارزين المرتاحين. . .
ولكن الأستاذ العقاد له من شغله ما ينسيه عبد الحميد الديب فلا يذكره إلا وقت ما يراه، ووقت ما يستمع إلى هجائه، ووقت ما يدفع ثمن هذا الهجاء. . . ثم ينساه. . .
لقد ضاقت الحياة النظيفة بعبد الحميد الديب. وانجرف في تيار لا ريب أنه أول من يكرهه ويمقته، ولكن كيف سبيله إلى الحياة النظيفة وهو كلما طرق باب عمل في صحيفة طن الذباب وأزت الصراصير في آذان أصحاب العمل بأن هذا رجل فاسد وأنه كيت وكيت، كأن أولئك الذباب والصراصير من مختلسي حرفة الأدب والشعر لا فساد فيهم ولا كيت ولا كيت، والواقع الذي يعلمه الله أنهم كلهم فساد وكيت وكيت. . .
الذباب والصراصير. . .
أنقذ الله منهم عبد الحميد الديب. . .
وحسن سلامة. . . الملحن الذي انجذب إلى حسن الأنوثة وجمالها فانطبعت في روحه بحركاتها وسكناتها، والذي يلحن كلما ضاق به الحال لبديعة أو ببا لحناً أو لحنين ولا يعود إليهما إلا إذا ضاقت به الحال مرة أخرى. . . والذي كلما لحن لحناً اغتصبته (المونولوجيستات) و (العوالم) ورحن يتاجرن به في الليالي والأفراح ملاقيات ما شاء الله من النجاح والترحيب والأجر الكريم. . . وصاحب الحق الأول في هذا كله مغمور مفلس لا يهتم به أحد ظهر في الميدان ظهوراً قد تنكسف معه أضواء الكثيرين من الكواكب والنجوم. . .
وعلى هذا أيضاً تلوثت سمعة حسن سلامة، فكلما اقترح مقترح على واحد أو واحدة من أصحاب العمل باستغلال مواهب حسن سلامة هيأ الشيطان لحسن عتُلاً ذميما مناعاً للخير معتدياً أثيما يقول إن حسن سلامة مجنون بالنسوان وأنه خطر على الراقصات والمغنيات اللواتي يجمعهن به العمل، وأنه خطف فلانة من مسرح كذا، وفلانة من صالة كذا
والمسكين لا يخطف ولا يغتصب وإنما هو يتزوج ويطلق بحثاً وراء الراحة والعيش المطمئن. . .(395/43)
إن هذا الملحن جدير بأن يعهد إليه أستوديو مصر تلحين الأغاني في أفلام استعراضية قصيرة يتوفر عليها مخرج لبق رشيق وتقوم بأدائها فنيات خفيفات كأولئك اللواتي نراهن في استعراضات هوليود. . .
هذا صحيح. . . ولكن أين هو ذلك المخرج، وأين هن الراقصات، وأين هو ذلك المدير الذي يسمح لملحن شاب بالتجلي والظهور يتبعهما المجد والربح الوفير
لا شيء من هذا في مصر. . . وإنما يجب على حسن سلامة أن يموت. . .
وسيد سليمان. . . الذي لا تنقصه الصبغة ليكون مثل (آل جولسن). . . إنه مغن وممثل ومونولوجست وزجال أيضاً
لو أن الفرصة أتيحت له للظهور في السينما لجذب الجماهير وقفز قفزة قد يعلو بها على مرتبة القابضين والقابضات على خناق الفن في مصر. . . ولو أنه أتيح له أن يلقي مونولوجاته الاجتماعية الحية بين الفصول الدسمة جداً التي تمثلها الفرقة القومية لغطى الفرقة وفنها الهائل جداً. . .
ولكن منذا الذي يسمح له بهذا؟. . . أهم مجانين. . . إن عليه أن يموت. . . ولكنه لن يموت. . .
هؤلاء أربعة. . . والخامس. . .
عزيز أحمد فهمي(395/44)
البريد الأدبي
العوائد
الأستاذ مصطفى محمد إبراهيم ضم (الأهالي) محسناً إلى قبيل العربية، والأهالي والأهلون والأهلات عربيات خالصات. وحاول الأستاذ أن ينقذ (العائلة) في (تحرير المرأة) إنقاذاً لغوياً. . . بيد أنه نسى (العوائد) أو تناساها، فهل يماشي صاحبه ناقدها الأستاذ محمداً أبا بكر إبراهيم في تخطئته إياها؟
إن العلامة الفيومي في (المصباح المنير) يقول: العادة معروفة والجمع عاد وعادات وعوائد
والعلامة الشيخ إبراهيم اليازجي تقبل (العوائد) في (الضياء) تقبلاً مليحاً على حنبلية في اللغة عنده وعلى ولعه بتخطئة الصحيح، فقد ورد هذا الجمع في مقالة له لا لغيره في مجلته: (. . . ولا يطلب علماء هذه الأيام الوقوف عليها (أي على طائفة الكتب)، إلا بقصد الاطلاع على الشيء الغريب، كما يحب أحدنا الاطلاع على (عوائد) أهل الصين). وروى نصًّا في التاج في جواب سؤال: ومن جموع العائدة عوائد ذكره في المصباح وغيره وهو نظير حوائج في جمع حاجة نقله شيخنا) ثم قال - أعني اليازجي -: (فالظاهر من هذا النص أن هذا الجمع منقول عن العرب لثبوته عند أئمة اللغة)
وبين العلامة الفيلسوف ابن خلدون وبين (العوائد) حلف أو محالفة أو معاهدة متينة مستمرة فهو لا يترك (عوائده) هذه في حال في مقام يقتضيها:
(. . . - في أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله و (عوائده) - والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك انتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبهت به؛ أو لما تراه من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من (العوائد) والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلامه وفي سائر أحواله)
(أن (العوائد) تقلب طباع الإنسان إلى مألوفها، فهو ابن (عوائده) لا ابن نسبه)
(. . . - في أن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها -(395/45)
والسبب في ذلك ظاهر، وهو أن هذه كلها (عوائد) للعمران والأوان، و (العوائد) إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد، فتستحكم صبغة ذلك، وترسخ في الأجيال)
فهذه (العوائد) التي طولنا الكلام فيها أو عليها هي من جموع العادة والسلام.
(* * *)
بشر بن عوانة
قالت جريدة المكشوف البيروتية في مقال نشرته في العدد (283) بعنوان (شاعر جاهلي غير موجود يعيش ألف سنة): إن الأستاذ بطرس البستاني صاحب كتاب (أدباء العرب) كان فيما تعلم أول من أنكر وجود بشر بن عوانة، وأظهر أنه هو وقصيدته في وصف قتاله للأسد من خلق بديع الزمان الهمذاني في مقامته البشرية. والمكشوف التي جعلت من همها حماية الإنتاج الأدبي وتصحيح نسبته إلى صاحبه، يسرها أن نعلم أن الرسالة هي أول من نبه إلى أسطورة بشر بن عوانة في الصفحة 35 من عددها التاسع والسبعين الصادر في 7 يناير سنة 1935، وهو العدد الأول من سنتها الثالثة، فنرجو أن تنتبه إلى ذلك
حول العدد الممتاز من مجلة الحديث السورية
نوَّه الأديب السيد نصار في العدد (388) من (الرسالة) بالعدد الممتاز الذي أصدرته مجلة الحديث السورية، وخصت به المستشرق المنتحر الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم)، وقد أشار إلى ما كتبه أدباء مصر الأعلام عن المستشرق المذكور، وأغفل ذكر الكتاب الآخرين وقال: (وعداها لا توجد كلمات أخرى لكاتب مصري. . .!) كأن الكلمات الأخرى لا تستحق التنويه والإشارة، مع أن الوفاء كان يقضي على الأديب بأن يذكر الكتاب السوريين الآخرين (والمجلة السورية) ولا بدَّ من التنويه بأنه إلى جانب كلمات إخواننا المصريين كلمات أخر. منها كلمة عنوانها (دمعتي على أدهم) لأديبة الشام السيدة وداد سكاكيني، وأخرى عن (قوة الإيمان وعذاب المفكرين) للأديبة الرقيقة الآنسة فلك طرزي صاحبة (الآراء والمشاعر)، وقصيدة رائعة للشاعر المعروف عمر أبي ريشة عنوانها (ظمأ الروح)، وثانية للشاعر الأديب الأستاذ زكي المحاسني عنوانها (الستار)، وثالثة للشاعر صلاح الأسير، ورابعة للشاعر شارل نحوري، وهؤلاء كلهم سوريون(395/46)
ولعلى أعود إلى نقد العدد ومضامينه بعد حين.
(دمشق)
المنجد
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت مقالكم النفيس (مطالعات في الكتب والحياة) لعباس العقاد في مجلة الرسالة الغراء ولشدّ ما أعجبني حين اطلعت على ملاحظتكم الصغيرة حول كلمة الظرف إذ أنكم ضممتم الظاء فيها مراعين في ذلك الاتباع خصوصاً لأن الجمهور في مصر ينطق الظرف بضم الظاء؛ فهل لي أن أستبين من ملاحظتكم هذه وأنتم من خلفاء سيبويه القرن العشرين أنكم لا تبالون بقواعد النحو والصرف بل تسيرون على منهاج المراعاة في الاتباع من الألفاظ وتغالون في تحوير أصول النطق الصحيح وقواعده السليمة؟ وهل لي أن أنقدكم وأؤاخذكم على ذلك وأنتم أول من سبقني في نقده للأستاذ أحمد أمين وجنايته على الأدب العربي، فحملتم حملة شعواء عليه لغلطة في التحريك ارتكبها وهو أمام المذياع.
وتفضلو بقبول أسمى تحياتي إلى روحكم الطيبة من أبناء الجيل الجديد.
(حيفا - فلسطين)
الياس سليمان بحوث
فتيات في الأزهر
أتيح لي أن أستمع إلى المناظرة الطريفة التي أقيمت بطنطا بين فريقين من طلاب الأزهر. وكان موضوع المناظرة يدور حول السماح للفتيات بالانتظام في سلك طلاب الأزهر على نحو ما هو متبع الآن في كليات الجامعة المصرية. . .
وأذكر أن الأديبة أمينة السعيد كانت أول من أثار موضوع تعليم الفتاة في الأزهر، فتحدثت إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي حديثاً نشرت خلاصته الصحف. أذكر منه أن فضيلته رحب بالفكرة على أن تكون الفتيات في عزلة عن الشبان، أي أن تنشأ لهن فصول خاصة يتلقين فيها أصول الدين الحنيف)(395/47)
وقد ذكر المستشرق الإنجليزي (مستردن) في كتابه (الحياة الفكرية والتعليمية في مصر في القرن التاسع عشر) ما خلاصته (أن الحملة الفرنسية في قدومها إلى مصر وجدت في صحن الأزهر بضع نساء يتعلمن إلى جانب الشبان ويتفقهن في قواعد الدين. وكانت هناك عالمة ضريرة يلتف الشبان حولها ويتلقون الدروس عنها؛ كما أنه كان في معهد طنطا الديني جماعة من الفتيات يحضرن الدروس الدينية ويستمعن إلى التفسير والحديث)
إبراهيم إبراهيم الخولي
تصحيح
كتب الأستاذ سيد قطب كلمة في العدد الماضي من الرسالة الغراء عن الذوق الفني في مصر وجهها إلى المدرسة الحديثة، ولا أريد الآن التدخل بين الأستاذ وجماعة الأدب الحديث ولكني أريد - وأرجو الأستاذ أن يغفر لي تطاولي - أن أصحح خطأ جاء في حديثه عما سماه سهواً منه (أسطورة نهر الجنون). فقد أراد الأستاذ أن يستند في حديثه إلى أسطورة قديمة ولكنه ذكر بدلاً منها مسرحية للأستاذ توفيق الحكيم على أنها الأسطورة القديمة
أما الأسطورة فإنما تتحدث عن بئر شرب منها الناس فجنوا ولم يجد الملك ووزيره بدا من الشرب منها هما أيضاً ليكون شأنهما شأن الناس، ولم يجيء في الأسطورة أي ذكر للملكة
وحديث النهر وحديث الملكة وقصة قلقها وحزنها كل ذلك من خيال مؤلف المسرحية، ذكرها ليصور مسرحيته وعرض مشاهدها ونسقها كما شاء له خياله متخذاً أسطورة البئر أساساً للمسرحية. . .
هذا هو التصحيح الذي أردته، وأسأل الأستاذ قطب المعذرة مرة أخرى
محمود عزمي
أسئلة
سيدي رئيس تحرير الرسالة
تتبعت كل ما قيل في تفسير بيت ابن عربي. بذكر الله تزداد الذنوب الخ في أعداد الرسالة السابقة وقد ذهب الأستاذ الباجوري إلى أن لرجال التصوف نظرات عكسية تقلب الحقائق(395/48)
المعلومة إلى حقائق أخرى عليا لا يدركها غير أهلها. لذا أرجو من الأستاذ الباجوري أو الدكتور زكي مبارك الذي توصل لحل الكثير من قول أعلام الصوفية أن يفسر لي أحدهما تفسير ابن عربي لقوله تعالى: (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً). ولقوله تعالى: (أنا ربكم الأعلى)
قال ابن عربي أُغرقوا أي قوم نوح في بحار العلم بالله وهو الحيرة، فأدخلوا ناراً أي نار المحبة، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً، فكان الله عين أنصارهم وأن الكل بالله ولله بل هو الله
أما قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان الكل أرباباً فصح قوله أنا ربكم الأعلى وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون باختصار من كتاب النصوص. إه. والسلام عليكم ورحمة الله
(بواد وباوي. أم درمان)
يوسف عمر أغا
الجمعية العربية ببريطانيا
اجتمعت الهيئة العامة للجمعية العربية ببريطانيا يوم الأحد الموافق 7 يولية سنة 1940 في الساعة الخامسة بعد الظهر وقررت ما يلي:
أولاً: أن تبقى أموال الجمعية (ومقدارها مائة وثمانية وعشرون جنيهاً وستة عشر شلناً وبنسان) باسم (الجمعية العربية) في المصرف. ويودع حق نقل مالية الجمعية إلى ثلاثة أشخاص يمثلون ثلاثة أقطار عربية يكون لهم كاتم للسر من بينهم. وانتخب السادة: عبد المعز نصر (عن مصر) وموسى الحسيني (عن فلسطين) وعبد العزيز الدوري (عن العراق). ثم انتخب السيد عبد العزيز الدوري ليكون (نقيب الجمعية) أو كاتم السر
ثانياً: في نهاية الحرب، ترسل الهيئة الموكلة بياناً إلى الطلاب العرب في إنجلترا بواسطة:
(أ) المفوضيات والقنصليات العربية في إنجلترا
(ب) مكاتب البعثات والنوادي العربية في إنجلترا
(ج) الجامعات
(د) الصحف العربية(395/49)
تنبئ فيه الطلاب العرب في إنجلترا بأن (الجمعية العربية) (1937 - 1940) تركت مبلغ (128 جنيهاً و16 شلناً وبنسين) لجمعية عربية تؤسس بعد الحرب في إنجلترا بشرط:
(أ) أن لا يقل عدد أعضائها عن خمسة عشر عضواً على أن يمثلوا قطرين عربيين على الأقل
(ب) أن تقبل مبدئياً دستور الجمعية العربية (ببريطانيا) السابقة.
(ج) أن يشهد بذلك أحد الوزراء المفوضين العرب في لندن
(د) وينقل حق التصرف بأموال الجمعية لأول جمعية عربية تثبت تحقق الشروط السابقة فيها.
ثالثاً: وإذا لم تؤسس جمعية عربية في إنجلترا بعد انتهاء سنتين من إمضاء معاهدة الصلح فإن اللجنة تتصرف بأموال الجمعية حسب مواد قانونها الأساسي
هذا مع العلم بأن الجمعية العربية قد وقفت أعمالها مدة الحرب
عبد العزيز الدوري
نقيب الجمعية العربية ببريطانيا(395/50)
القصص
مكافأة رلف. . .
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان النسيم يهب من جانب البحر لطيفاً هادئاً ولكنه بارد على الرغم من هدوئه، وكان رلف مانرنج يرتعش وهو واقف ويدثر نفسه بردائه وقد قلب ياقة السترة ولفها حول عنقه، وقد استمر وقوفه مدة طويلة وهو عديم الحركة. ثم مشى وهو يتلفت نحو كل باب يمر به ليعرف أي المنازل هو الذي يريد، ورأى على ضوء المصباح الرابع في ذلك الطريق منزلاً ذا حديقة صغيرة فوقف أمامه واشتد خفوق قلبه وحاول عبثاً أن يهدئ من اضطرابه، ثم أخرج من جيبه مظروفاً وراجع وصف المنزل الذي يراه على ما كتب على ذلك المظروف بالرغم من أن ما يقرؤه كان منطبعاً في ذاكرته وبالرغم من أن هذا المنزل هو الذي يريده بغير شك
وحاول رلف أن يفحص المنزل فيما وراء الحديقة؛ ولكن النور كان قليلاً فلم يستطع أن يرى غير هيكل يحيط به الظلام. ففتح باب الحديقة ومشى فوق ممر ضيق بين النبات. ولما صار أمام باب المنزل عاد إلى الوقوف مرة أخرى وهو يحاول تهدئة نفسه، ورفع بصره فوجد مصباحاً ضئيلاً يضيء في إحدى الغرف. أما سائر النوافذ فكانت مغلقة؛ فدق الجرس وهو يسائل نفسه كيف يقابل الفتاة التي جاء لمقابلتها؟ وفتح الباب فتنهد تنهد الراحة، وأطلت الخادمة فسألته ماذا يريد. فسكت لحظة ثم قال: هل بيرتا كاستر هنا؟
قالت: سأسأل، ولكن من أنت؟
فتردد رلف قبل الإجابة ثم قال: قولي لها إن صديقاً قديماً يريد مقابلتها!
فظهر الارتباك على وجه الخادمة من عدم ذكر الاسم، وقالت: انتظر قليلاً حتى أعود
ثم أغلقت الباب ودخلت. فابتسم رلف ابتسامة مؤلمة من لجوئها إلى هذا الاحتياط
وبعد قليل عادت وقادته إلى غرفة الاستقبال، فجلس وهو يدير لحظة في كل ما حوله ليفحص المكان، وقد اجتمعت في ذهنه في هذه اللحظة كل الذكريات القديمة. ورأى على(395/51)
المكتب صوراً في أُطُر، فنظر إلى إحداها نظرة طويلة وقد علت وجهه مسحة من الحزن وهو ينظر إلى الوجه الجميل الذي يراه في الصورة ويوازن بينه وبين هذا الوجه الذي شهده في أيامه الأخيرة
وقد شوش عليه هذه الخواطر فتح الباب ودخول فتاة، فالتفت إليها ولاحظ أنها تتجاهله رغم ما كان بينهما من صداقة متينة منذ سنوات. فقال في نفسه: هل يحدث مرور سبع سنوات كل هذا التغيير أم لأن الخمس الأخيرة من هذه السنوات قد قضيتها في السجن؟
ثم دنت بيرتا فلاحظ اضطرابها وسألته: هل تريد مقابلتي؟ فلم يجبها، لأن اضطرابه كان أشد مما سبق فأعادت سؤالها: لماذا جئت إلى هنا؟
وكانت كلماتها تخرج ببطء وفي شيء من التردد. فمشى نحوها وقد خانه النطق، فقد كان منذ عهد طويل يحلم بهذه المقابلة، وكان قد أعد ما سيقوله في كل مرة فكر فيها في هذه المقابلة. ولكنه الآن لا يذكر حرفاً واحداً.
قالت: ماذا تريد؟ فأجابها: لقد جئت. . . ألم تلاحظي يا بيرتا أن حبي إياك لم يتغير بعد كل هذه السنوات؟
قالت بيرتا: لقد كنت أظن بعد حدوث. . . ثم سكتت فجأة كأنما أرادت أن تصوغ جملتها في أسلوب آخر. وقالت: لما كنت أعني بحبك لما كنت تستحقه. ولو أنك كنت تحبني حقاً لما هبطت هذا الهبوط.
فأصفر وجه رلف وعرته رعشة وقال: هل أنت تعتقدين إجرامي؟
فتراجعت بيرتا قليلاً وقالت: ماذا كنت أعتقد غير ذلك؟ إن القرائن كلها ضدك وأنت لم تدافع عن نفسك أي دفاع؛ وقد حاولت أن أفهم كيف لا تكون أنت المجرم؟
فمشى رلف في الغرفة ذهاباً وجيئة وهو مفقود الصبر، ثم وقف أمامها فجأة وقال: أقسم بشرفي أني لم آخذ المال، وأنت تقولين أنك تحبينني، ولكنك تعتقدين أني مجرم؛ وأنا أقسم بشرفي أني بريء يا بيرتا.
ثم قال بلهجة مؤلمة: لقد قضيت خمسة أعوام في الجحيم؛ ولكن آلامي في هذه المدة لا تذكر بجانب الآلام التي أعانيها في المستقبل إذا أنت طردتني.
لم تجبه بيرتا وكانت في أعماق نفسها تعرف أنها تحب الرجل ولكن شبح الجريمة المنكرة(395/52)
التي كانت تعتقد أنه ارتكبها قد حال بينها وبين الجواب الذي تود من صميم قلبها أن تجيب به.
ومشى رلف نحو الصورة التي كان ينظر إليها أولاً ويلاحظ الشبه التام بين صاحب هذه الصورة وبين أخ لبيرتا؛ ثم عاد إلى الالتفات نحوها وقال: وقال إذا برهنت لك على براءتي، فهل تتزوجين مني؟
فأطالت نظرتها إليه وقالت: ربما، ولكن من الصعب أن أعد. إنك الآن غريب وإن أخي. . .
ثم أحنت رأسها فاغرورقت عينا رلف بالدموع وقال بصوت يدل على التأثر: لقد علمت.
قالت بصوت فيه رنة البكاء: هل سمعت؟
فلم يجبها ولكنه عاد الالتفات للصورة.
قالت: لقد كنت أحبه؛ وبعد ذلك الحادث استقال من منصبه، وكنت أحاول منعه عن السفر ولكنه سافر وحصل على عمل في روسيا وقد مات بعد عهد قصير وكنت يوم سفره أشعر بأني فقدت كل شيء.
فقال رلف: لقد كنت معه عند موته.
التفتت بيرتا وأصفر لونها وابيضت شفتاها وأخذ يقص عليها كيف قام بواجباته في مدة المرض والاحتضار وبعد الوفاة. فقالت: شكراً لك يا رلف ولكن كيف قابلته؟
قال: بعد خروجي من السجن أردت السفر لأتناسى هذه النكبة وعلمت أنه سافر إلى روسيا فسافرت إليها فأدركته في الوقت الأخير.
وكان هو يتكلم يلاحظ ما يبدو عليها من التأثيرات، فأدرك أنه إلى ما قبل هذه اللحظة لم يكن يعرف مقدار حبها لأخيها.
وكره استمرارها على هذه الحالة النفسية فحاول تغييرها وجثا على ركبتيه بالقرب منها وأمسك بيديها وقال: ألا تسمحين يا بيرتا بأن تجعلي لي من قلبك مكان أخيك؟ إنني أجعل حياتي كلها وقفاً على إسعادك. تعالي نسافر من هنا فنقيم في مكان بعيد نحاول فيه نسيان هذه الذكريات.
فخلَّصت بيرتا إلى إحدى يديها من بين يديه ووضعتها فوق رأسه. فشعر رلف في هذه(395/53)
اللحظة بالسعادة التامة. وقالت: أنت تعرف يا رلف أني أحبك ولكنك تعرف الذي يحول بيني وبينك. وعليك أن تبرهن على أنه خطأ.
قال رلف: إنني لا أستطيع يا بيرتا أن أبرهن على أني بريء؛ ولكن ألا تثقين بما أقول؟ إذا كنت تحبينني فيجب أن تثقي بما أقول.
فلم ترفع بيرتا رأسها ولم تجب. فوقف رلف ثم مشى متباطئاً نحو الباب وهو يأمل أن تستوقفه بكلمة. ولكنها لم تتكلم. ففتح الباب ورأسه منحنٍ إلى الأمام، واجتاز الممر على مهل وهو لا يزال يأمل أن تناديه. فلما صار عند باب الحديقة أخرج من جيبه اعتراف أخيها ومزقه بحالة تدل على أن عزمه على تمزيقه كان نتيجة فكرة فجائية. ووقف ذاهلاً وهو لا يعرف كم وقف.
وشعر بيد توضع فوق كتفه، وصوت رقيق يقول: (إنني يا رلف أكتفي بقولك فإني أثق بك وبما تقول).
عبد اللطيف النشار
تعليق المترجم
رحم الله الشاعر العربي الذي يقول:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن ... لنا في هوى ذات الوشاح نصيب(395/54)
العدد 396 - بتاريخ: 03 - 02 - 1941(/)
في عيد الهجرة
تقليد كريم
يسنه صاحب الجلالة الفاروق
(لكاتب كبير)
لم يكن رأس السنة الهجرية من الأيام التي تحتفل بها الحكومة المصرية بصفة رسمية، وإنما يرجع هذا التقليد المحمود إلى دعوة هتف بها شباب الحزب الوطني قبل أكثر من ثلاثين سنة على لسان (إمام واكد) الذي سُجن فيما بعد مدة طويلة بعد أن حوكم في قضية سياسية كان لها في قلوب الجماهير دويٌّ وضجيج.
وقد استجابت الحكومة لتلك الدعوة في سنة 1327 وكان رئيس الحكومة يومئذ بطرس غالي باشا، فتقرر أن تُغلق المصالح والدواوين في اليوم الأول من السنة الهجرية، وبهذا أضيف يوم الهجرة إلى الأعياد الرسمية.
ولكن الاحتفال بذلك اليوم لم يُصبَغ بصبغة التعميم، فقد كان في بداية أمره مقصوراً على حفلة يقيمها الحزب الوطني في (كلية مصطفى كامل) بحيّ الجمالية. وقد حضرت ذلك الاحتفال مرة واحدة، وهي أول مرة وآخر مرة رأيت فيها الزعيم محمد بك فريد الرئيس الثاني للحزب الوطني. وكان خطيب الحفلة علي فهمي كامل بك، الذي مات وهو يخطب في رثاء محمد فريد، في مساء الحادي والثلاثين من ديسمبر سنة 1926.
ثم اتسع نطاق الاحتفال بعيد الهجرة بعد ذلك، فكان يحتفل به في الأزهر وفي الجمعيات الإسلامية.
ويظهر أن أول وزير أشار بأن تقام الحفلات في المدارس الأميرية تكريماً لعيد الهجرة هو معالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف.
ثم ماذا؟
ثم صار الاحتفال بعيد الهجرة موسماً عظيماً بفضل التقليد الكريم الذي شرعهُ جلالة الملك حين رأى أيده الله أن يحضر الحفل الجامع الأزهر الشريف. وهي أول مرة يظفر فيها عيد الهجرة بمثل هذا الاهتمام المرموق من ملك مصر والسودان، وفي معيته الشيوخ والنواب(396/1)
والوزراء وسفراء الممالك الإسلامية.
وحفلة عيد الهجرة في الجامع الأزهر بالقاهرة تذكِّر بصلاة (الجمعة اليتيمة) في جامع عمرو بالفُسطاط. فالجمعة اليتيمة يحضرها ملك مصر في كل سنة باحتفال جليل في جامع عمرو، لأنه أول مسجد أُسس في الديار المصرية بعد أن فتحها عمرو بن العاص؛ وكذلك ظفر الأزهر بمنغم جديد هو جعله بصفة رسمية مكان الاحتفال بهجرة الرسول.
ولكن بقي شيء وأشياء.
بقى التفكير في جعل هذا العيد موسماً حيويًّا يتصل بأذواق الناس في فنون المعاش؛ ولا يكون ذلك إلا يوم يصبح هذا العيد وله فَرحة دنيوية تشبه فرحة الميلاد في الغرب، وفرحة النيروز في الشرق. وهذه الفرحة لا تتمَّ إلا إذا وصلناه بحياتنا الاجتماعية، فمنحناه فرصة من الوقت تسمح بأن تكون أيامه مجالاً للهدايا والرحلات والانشراح
من الجميل حقاً أن يبكِّر إمام جلالة الملك فيصلي الصبح بمسجد الحسين، ثم يخطب في الناس مذكراً بما عانى الرسول من مكاره الاغتراب في سبيل الدين. ومن الجميل حقاً أن يخطب شيخ الأزهر بعد صلاة المغرب مذكراً بفضل الأذى في إذكاء الأرواح والقلوب
كل أولئك جميل، ولكني أعتقد أنه لا يصيَّر هذا السيد موسماً شَعْبياً بالمعنى الذي نريد، كموسم (المولد النبوي)، وهو موسمٌ اتصل بأذواق الناس إلى أبعد الحدود، وإن لم يصل إلى الغاية في خلق فنون أدبية تذكِّر بالفنون التي خلقها النيروز في العصور الخوالي
فما الذي يمنع من أن تفكر وزارة الشؤون الاجتماعية في تنظيم عيد الهجرة تنظيماً دنيويًّا بعد أن فكرنا في تنظيمه تنظيماً دينياً؟
عيد الميلاد في الغرب له تقاليد دنيوية هي السبب الأكبر فيما له من جاذبية، فكيف يفوتنا أن نجعل لعيد الهجرة تقاليد دنيوية بخصائص تغاير خصائص عيد الميلاد؟
قد يقال إن قرب عيد الهجرة من عيد الأضحى يمنع الحكومة من السخاء بالامتيازات التي تجود بها في الأعياد، وهذا حق، ولكن لا بدّ من التفكير في خلق أسلوب جديد يجعلنا نشعر في أول ليلة من المحرّم بأننا مقبلون على عيد سعيد
تعوّد المصريون أن يذكروا موتاهم في الأعياد الإسلامية، وبذلك ضيعوا على أنفسهم فرصة الانشراح في ليالي الأعياد، فهل يكون عيد الهجرة فرصة لموسم جديد لا تزرف فيه(396/2)
الدموع ولا تشق الجيوب؟
افرحوا، أيها الناس ولو متكلفين!
افرحوا، أيها الناس ولو متصنعين!
افرحوا، افرحوا، فالفَرَح هو الزاد الوحيد الذي لم يذقه الناس جيداً في مصر والشرق
افرحوا لأفرح معكم، ولأوق بفضلكم نعمة الشهود لمواكب الأفراح!
(كاتب)(396/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(في قصر جلالة الملك - التجني على مصر والشرق - أهل
الكهف - حشو اللوزينج - مناجاة القمر ومناجاة الشمس -
إلى طلبة السنة التوجيهية - الهجوم الآثم على الشيخ سيد
المرصفي - إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)
في قصر جلالة الملك
كان من الحظ السعيد أن ألتفت إلى الروح اللطيف الذي يسود جوّ التشريفات يوم دخلت قصر عابدين مع المهنئين بقدوم العام الهجري الجديد
فماذا رأيت هنالك؟
كنت أحسب أن الناس يقيدون أسماءهم في الدفاتر ثم يخرجون، كما كنت أصنع قبل أن ألتفتَ إلى ذلك الروح اللطيف؛ ولكني في هذه المرة عرفت ما لم أكن أعرف، فقد رأيت المهنئين من وزراء ونواب وشيوخ وأعيان وعلماء يتلاقون فرحين مبتهجين، ثم يتبادلون الأحاديث الطوال، وكأنهم تلاقوا على ميعاد في مكان يرحِّب بتلاقي القلوب أطيب الترحيب
كان الرجال يستقبل بعضهم بعضاً في بشاشة وأريحية، وكان كل زائر يرى نفسه في داره، وقد تجرَّد مما يجري خارج القصر من مختلف الشؤون؛ فهو في حَرَم مقدَّس لا تهتف فيه النفوس بغير معاني الرفق والصدق والإخلاص
في قصر جلالة الملك ترى للوجوه ملامح لا تراها إلا هنالك؛ فقد ترى رجالاً يتلاقون مبتسمين منشرحين، وكنت تعرف من قبل أنهم لم يكونوا إلا متباعدين متنافرين، فتدرك أن جلال المكان يوحي بالتآخي والصفاء
إن باب ذلك القصر يُفتَح للجميع في المواسم والأعياد، فما الذي يمنع من اغتنام هذه الفرصة السخيّة لنتخذ منه ملتقى لأرواحنا وقلوبنا في كل موسم وفي كل عيد؟
لا بدّ من لحظات ننسى فيها شو اجر الخصومات اليومية، ونلتقي فيها منزهين عن أسباب(396/4)
التعادي والشقاق، فكيف يفوتنا أن نجعل رحبات ذلك القصر ميادين لسباق العواطف في تلك اللحظات؟
أقول هذا وقد شفى الله صدري من خصومات محاها تلاقي الوجوه والقلوب في قصر جلالة الملك، فرجعت وفي صدري أنوار لم أشهد مثلها من قبل، والمكان الطيب كالبلد الطيب لا يثمر غير الخيرات والبركات
أعزّ الله جلالة الملك، وجعل قصره موئل العواطف والأرواح والقلوب، وأدام على أمته نعمة الأنس بنفائس المعاني وكرائم الأغراض
التجني على مصر والشرق
أنا لا أقول بموجب التغاضي عما في مصر والشرق من عيوب، فالدعوة الإصلاحية قد توجب أن نكشف عن مواطن الضعف في مصر والشرق، وإنما أكره أن نتجنى على بلادنا بلا موجب معقول، فذلك يوحي إلى القراء أننا خلقنا متخلفين عن جيش العبقرية والنبوغ.
أكتب هذا وقرأت كلمة الأستاذ (محمود) عن روزفلت هو العبقريّ (الكسيح) ففي رأي هذا الكاتب أن الشلل لو أصاب طفلاً مصريَّا أو شرقياً بمثل ما أصاب روزفلت لكان مصيره أن يكون (تافهاً ساقط النفس خائر العزم مريض القلب) وما لمثل هذا التجني حملتا الأقلام، أيها المربي المفضال.
في مصر والشرق مئات من أصحاب العاهات وصلوا إلى منازل لا تقل في قيمتها الجوهرية عن منزلة روزفلت، إلا أن تكون (رياسة الحكومة) هي المثل الأعلى بين منازل التشريف!
وما خطر الكساح في أرض مثل أمريكا، وقد عرف أهلها أن مرجع الحكم إلى العقل؟
إن كان عندك بقية من الإنصاف، أيها الأستاذ، فوجهها مشكوراً إلى المجاهدين في مصر والشرق، ولا أقصد المجاهدين من أصحاب العاهات، فأولئك رجال أقاموا ألوف البراهين على ما يملكون من قوة العزائم والنفوس، وإنما أقصد المجاهدين من أهل السلامة في الأجسام والحواس، فأولئك أقوام يعانون كساحاً أفظع وأثقل من الكساح الجثماني؛ فالكسيح جسمياً يشعر بأنه مشدود إلى الأرض من وجهة حسّية، أما الكساح الذي يرزأ به الرجل السليم من أخل النبوغ والعبقرية فيُرمى عليه من المجتمع المتخلِّف، المجتمع الذي ينظر(396/5)
إلى النوابغ والعبقريين بارتياب واحتراس، ثم يشدهم بعنف ليقيموا حيث أقام في حضيض الغفلة والجمود.
في أوربا وأمريكا يتلهف الناس إلى المبتكر الطريف في الآداب والفنون، فيمضي الأديب إلى غايته وهو مطمئن إلى السلامة من تجني المجتمع عليه، فكيف ترى الناس يصنعون في (أفريقيا وآسيا) أو في (مصر والشرق) وقد أقفِل باب الاجتهاد في الأدب، كما أقفل باب الاجتهاد في الدين.
كما ظفرنا به من الحرية
في الأدب هو الجدال حول القديم والجديد. وقد ظهر بعد أن انجلت المعركة أن الخلاف لم يَدُر إلا حول الأسلوب، ففلان من أنصار الجديد لأنه لم يستأسر لمثل أسلوب الجاحظ أو ابن العميد، وفلان من أنصار القديم لأنه لم يتحرر من أساليب القدماء.
أما التجديد في الفكر، فهو محرمٌ علينا تحريماً قاطعاً. وليس من حقنا أن نصارع الأمواج الفكرية إلا إذا جازفنا بحقوقنا المشروعة في التمتع بثقة المجتمع، وهو لا يثق بنا إلا إن جاريناه فيما درج عليه من إيثار القرار والركود.
وليس هذا شهادة على أننا خضعنا لأهواء المجتمع فيما نعالج من فنون الفكر والعقل، فقد ثُرنا عليه في كثير من الظروف لنوجهه كما نريد، ولكن تلك الثورة لم تمر بلا عقاب، فقد رأينا أن المناصب الفكرية أصبحت وقفاً على الموسومين بمسايرة المجتمع في ضلاله وهداه، ولم يصل إليها من أحرار العقل إلا أفرادٌ آزرتهم قوىً سياسية لا فكرية. ولو كان العقل وحده هو الذي يقدِّم ويؤخر لرأينا في مصر والشرق موازين غير تلك الموازين، ولكان من المؤكد أن تشهد مصر ويشهد الشرق موسماً جديداً من مواسم المذاهب والآراء.
إن رئيس الحكومة يستهدي جلالة الملك ألقاب التشريف لمن يتبرع بمبلغ من ماله الموروث لإحدى الجهات الخيرية، وذلك تشجيعٌ واجب، وهو يحض الأغنياء على بذل أموالهم في أبواب الخير، ويروضهم على الاقتناع بأن الدولة ترعى الضمائر اليواقظ، فتجزيها خير الجزاء.
ولكن الدولة التي تحفظ جميل المحسنين بأموالهم تنسى المحسنين بعقولهم، وإلا فهل تذكر الدولة جماعات المكافحين في سبيل الأدب والبيان وهم يؤدون خدمات تعجز عنها المدارس(396/6)
والمعاهد والكليات؟
المال يُعَدّ فيكون له حساب، أما الدم الذي يُسفح على سنان القلم في تجاليد الليالي فليس له حساب. ولو أن حملة الأقلام الجياد كانوا أنفقوا أعمارهم الذواهب في الاتجار بالتراب لوصلوا إلى إدانة الدولة بما يستوجب أن تستهدي لهم من جلالة الملك ألقاب التشريف، بدون انتظار أو اقتضاء. . . فمتى تسمع الدولة هذا الصوت وهو تذكيرٌ بواجبها في إعزاز العقل؟ لقد حَفِيَ قلمي وهو يذِّكر الدولة بحقوق الأدب الرفيع، الأدب الذي تَدين له الدولة دَيناً أرزن من الجبال، وهي تعرف وكأنها تجهل، وتجاهلُ العارف قد يَثقل في بعض الأحايين!
ذلك المصير المحزن هو مصير أرباب الفكر في مصر والشرق، فمن توهم أنهم في بلادهم سعداء فهو مخلوق نقلته الغفلة من أرض الواقع إلى سماء الخيال. . . وما أسعد الغافلين!
هل سمعتم بالأدب القديم عند السُّريان؟
قيل: إن السريان كانوا أقدر الأمم القديمة على نظم أغاني الحزن والبكاء، فهل كان لذلك خمن سبب غير ابتلائهم الموصول بالكوارث والخطوب؟
ونحن في مصر أمعنّا في الدعوة إلى نظم أناشيد الجهاد، مع أننا كل لحظة في جهاد، فمتى ندعو إلى نظم (نشيد العدل) ومن بلوانا بالظلم صرخ الدهر صرخة الإشفاق؟
كم مرة فكر فينا مَن نخاطر في سبيل إسعادهم بأعز ما نملك وهو العافية؟
إن الزميل الذي يعرف في سريره قلبه أنه مَدينٌ لك ولو بلمحة من لمحات القلب والعقل، والذي يؤمن بأن الحياة الأدبية مدينةٌ بعض الدَّين لصرير قلمك، والذي يوقن بأنك نقلت صوت مصر إلى إسماع الشرق، هذا الزميل يتلقف إخبارك من أفواه أعدائك ليجوز له التطاول عليك في غيبتك، عساه يشفي صدره الموبوء بجراثيم الضغائن والحُقود.
وفي مثل هذا الهواء الفاسد يعيش الأديب في مصر والشرق ثم ينسى الناسون أنه لم يكن من المكافحين، وأن الشلل لو أصابه بمثل ما أصاب روزفلت لأصبح من المتسولين!
حدثتنا إحدى المجلات أن جرائد أمريكا عابت على روزفلت أن يُرقى كاتبه بلا استحقاق، وأنه أجاب: كيف لا يستحق الترقية وهو الذي يكتب خُطبي؟
فأي رئيس في مصر أو في الشرق يطمئن إلى عقل أمته فيصرّح بمثل هذا التصريح؟(396/7)
وأين من يعترف للكاتب بأنه عنوان مصر من الوجهة العقلية أو السياسية؟
وهل يستطيع (خلف الأحمر) أن يميط اللثام عن وجهه ليقول: إنه المنشئ الأصيل لهذه الخطبة أو تلك، والمؤلف الأصيل لهذا الكتاب أو ذاك؟
وهل صدّق الناس قول (خلف الأحمر) قديماً حتى يصدقوا قوله حديثاً؟
الفرق بين (الخلفين) أن الأول استفاد من تزوير القصائد والأراجيز، أما الثاني فلم يظفر بغير الخيبة والحرمان.
أما بعد، فأين أنا مما أريد، وقد انتقلت من الدفاع عن مصر والشرق إلى الهجوم على مصر والشرق؟
أنا أريد القول بأن الحيوية لم تنعدم أبداً من مصر والشرق، والكساح الذي فرضته الصُّروف على الأفكار والعقول لم يمنع المصريين والشرقيين من الجري في ميادين الفكر والعقل، ولو اعتدل الميزان لعرف قوم أن القليل منا كثير وفوق الكثير، لأنه يُبذَل من دماء القلوب، ولأنه يقدَّم بلا انتظار الثواب، وقد يقدِّم من انتظار العقاب، فالفضل ذنب من لا ذنب له في (بعض) البلاد!
السائر الذي يقطع ألف مِيل في طريق مسلوك ليس أعظم من السائر الذي يقطع مائة خطوة في طريق شائك، ولكن أين من يعرف؟
والكاتب الذي يُعَدّ قراؤه بالملايين ليس أعظم من الكاتب الذي يُعَدّ قراؤه بالألوف، وقد ظهر الأول في الغرب وظهر الثاني في الشرق.
ارفعوا عن كواهلنا الأثقال، وانزعوا من أغلالنا، ثم انظروا كيف نستبق إلى أجواز الفكر والخيال.
فإن عجزتم عن تحرير كواهلنا وأقدامنا فحرروا قلوبكم من آصار الحسد والحقد لنشعر بأننا سنُجزَي على صدق الجهاد، ولو بالبَسمات والدعوات الصالحات.
إلى من يتوجه قلب الأديب في أمثال هذه البلاد، وهو من كيد الزملاء في عناء؟
إلى من يتوجه؟
يتوجه إلى الله الذي جعل سواد المداد أشبه الأشياء بسواد العيون فهو يحيي ويميت كيف يشاء.(396/8)
يتوجه إلى الله، وهو الأنس الأنيس لغرباء الأرواح والقلوب.
يتوجه إلى الله خالق الشرق والغرب وفاطر الأرض والسموات، الله الذي أقسم بالقلم في كتابه المجيد، فكان بشهادته السامية أكرم ذخائر الوجود.
يتوجه إلى الله الذي جعل بأس القلم أفتك من بأس النار والحديد، ومن القلم يخاف من لا يخاف، ومن صريره استعاد من لا يَهُو لهم زئير الأسود.
يتوجه إلى الله الذي يجعل من عزلة الكاتب دنيا صاخبة هي العِوض الأنفس من كل ما يفوته من الأنس بالمجتمع الصخاب. وهل يعرف الكاتب ما هي العزلة ودنيا الناس جميعاً ليست إلا سُمّ الخياط بالقياس إلى دنياه الفيحاء؟
يتوجه إلى الله الذي يخلق الضر للنفع، والذي يبتلي الأديب بما يشاء، ليصوغه كما يشاء، وليكون حجته البالغة على أن العاقبة للصابرين.
متى أومن بك يا ربي؟ ومتى أعرف حكمتك في بعض ما سوّيت من المخلوقات؟
ارفع الحجاب لحظة واحدة لأومن بأنْ ليس في الإمكان أبدع مما كان.
حول أهل الكهف.
أحسنَ فضيلة الشيخ عبد المتعال الصعيدي في استدراكه على ما سميته (الرواية الإسلامية) في تحديد عدد أهل الكهف، فهذه التسمية قد توهم أن ذلك هو الرأي الإسلامي بدون موجب لذلك. والحق أني لم أرد غير إثبات رأي كان قال به فريق من المسلمين قبل نزول سورة الكهف، وفي هذا الرأي ما يكفي لمناقشة المؤلف في خلق بيئة الرواية المسرحية، لأن هذا الرأي كان يجعل جمهوره أعظم وأضخم فيتيح له فرصة التعمق لدرس طوائف من المعضلات الاجتماعية.
أما كلمة الأديب حسين محمود البشبيشي فهي تشهد بأنه قرأ الرواية وقرأ النقد بفهم، ولكني أرجوه أن يلقاني بعد عامين، فقد يعرف من الأيمان والارتياب ما لم يعرف، وقد يدرك أني رميت إلى غرض فات عليه، لأني أرمز إلى معانيَ كثيرة في أغلب ما أعرض له من الشؤون.
وهنا يجب النص على أن مقالي في نقد رواية أهل الكهف وقع من الأستاذ توفيق الحكيم موقع القبول، ولم يعترض إلا على عبارة واحدة، وهي العبارة التي تقول بأنه ليس من(396/9)
أرباب الفكر العميق، وهو اعتراض يؤيده أسف الشاعر صاحب (الجندول) هو يرى أن الحكيم مفكر متعمق وإن أظهرته السخرية بغير ما هو عليه. وأنا أيضاً أرى الأستاذ الحكيم من ذخائرنا الأدبية، وقد أعلنت إعجابي بكتابه (عصفور من الشرق) في كثير من المناسبات، وفي بيئات لا تخطر في بال، فقد وجهتُ إليه أنظار أهل الأدب في العراق، وليس ذلك بالقليل في تكريم هذا التصديق.
الأستاذ الحكيم رضي عن مقالي في نقد مسرحية أهل الكهف، فما شأنك أنت، يا سيد حسين؟
التفت إلى دروسك، أيها التلميذ النجيب، قبل أن أشكوك إلى أبيك!
حشو اللوزينج
سألنا الأديب فخر الدين عزي عن كتاب الثعالبي في (حشو اللوزينج) أين توجد؟
وأجيب بأن الثعالبي قال إنه كتاب (صغير الجِرم لطيف الحجم) ومعنى ذلك أنه رسالة صغيرة سجَّل بها ما صعُب عليه تسجيله في كتاب (ثمار القلوب) لئلا يخرج على شرط التأليف ولم يتفق لي أن أظفر بهذه الرسالة، فأرجو هذا الأديب أن يؤلف رسالة في معناها، فقد وَضَح المنهاج، ولم يبق إلا تقييد الشواهد وهي مبثوثة في رسائل الكتّاب وقصائد الشعراء.
مناجاة القمر ومناجاة الشمس
خطرتُ في بال الأستاذ محمود البشبيشي وهو ينظم مقالهُ في مناجاة القمر، فهل يعلم أنه خطر في بالي وأنا أنظم مقالي في مناجاة الشمس؟
سأوجه إليه هذا المقال بعد أن تنشر (الرسالة) كلمتي عن البلبل والروض، تعقيباً على كلمة وجَّهها إليّ منذ أسابيع، وهي كلمة لم يسرقها من (الجِنية الحسناء) لأنها صدرت في اليوم الذي تلقيت خطاباً فيه، فكان ادعاء السرقة من المستحيلات!
آه، ثم آه!!
لقد ذكرتني نجوى القمر حين صدرتْ عن البشبيشي وهو في المنصورة بنجوى القمر حين صدرتْ عن صاحب (مدامع العشاق) وهو في سنتريس؛ فقد جاء في مقدمة ذلك الكتاب ما(396/10)
نصُّه بالحرف:
(وإنك لتعلم، أيها القمر، كيف كنت أَصدِف عنك، وأنا أطالع ذلك الوجه الذي نَعِمتَ معي بثغرة المفلِّج، وأنفه الأقني، وطرفه الأحور، وجبينه الوضّاح. وإنك لتعلم، أيها القمر كيف هجرتك حين غاب، وتعلم أني لا أنظر إليك إلا حين السِّرار لأرى كيف يفعل الشحوب بك، وكيف تنال منك الليالي! وإنها لشماتة طفيفة أحزن من بَعدها على خلود متعتك بصِباح الوجوه، وعلى عودتك لشبابك، في حين أني أودِّع كل يوم جزءاً من شباب، ووا حسرتاه على ما أُودِّع من أجزاء الشباب!!)
ولكن لا بأس، فقد نويت أن أعيش إلى أن أرى الشمس والقمر من بعض ما أملك، وما دام هذا القلم طوع يميني فلن يَبيت قلبٌ إلا وهو مني على هوىً أو بغض فما كنتُ في زماني إلا صوت القلب والوجدان.
نويت أن أعيش، نويت أن أعيش، وليس على الله بعزيز أن ينصر أرباب القلوب.
إلى طلبة السنة التوجيهية.
تلقيت خطاباً من الأقصر (بفتح الهمزة وسكون القاف وضم الصاد، وهي جمع قصر، وبذلك سنيَّ العرب تلك المدينة لكثرة ما رأوا فيها من أًقْصُر الفراعين). أقول تلقيت خطاباً من الأقصر بإمضاء (غريب جادو) يثني فيه على الدراسات التي نشرتها (الرسالة) في تشريح الكتب الخاصة بمسابقة الأدب العربي. ثم يقترح أن أكتب مقالاً مفصَّلاً عن كتاب (المكافأة)، ومقالاً آخر عن كتاب (الأدب التوجيهي).
وأجيب بأني فصَّلت القول عن كتاب المكافأة ومؤلفه أحمد بن يوسف في بحث يقع في تسعَ عشرة صفحة من كتاب (النثر الفني)، وليس عندي ما أقوله بعد ذلك البحث المفصَّل، فمن كان يهمه أن يعرف أسرار (المكافأة) فليقرأ ذلك البحث. أما كتاب الأدب التوجيهي فسأخصصه بمقال أو مقالين بعد أسابيع.
الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي
كثرت الخطابات التي تَرِد إليّ في تحقيق ما ادعاه الأستاذ السباعي بيومي في حق الشيخ سيد المرصفي، وكنت أغفلت هذا الموضوع عن عمد، لأن الأستاذ السباعي له عليّ حقوق؛(396/11)
فقد كان دائماً من أنصاري، ولم آخذ عليه ما يريب ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يُهدَم بكلمةِ جارحة تساق إليه في إحدى المحاضرات.
ولكن سكوت الأزهريين عن الانتصاف للشيخ المرصفي أزعجني، وكنت أرجو أن يكونوا درعاً واقية لذلك الشيخ الجليل، وهو رجلٌ لم يرِ مِثله الأزهر منذ أجيال طوال.
فماذا أصنع؟
مضايقة الأستاذ السباعي بلاء، لأنه صديقي، والسكوت عن نصرة الشيخ المرصفي بلاء، لأنه أستاذي، فماذا أصنع؟
سأنقل القضية من وضع إلى وضع، فأصيرها قضية أدبية لا قضية شخصية، وأبيِّن أن السباعي بيومي يستُر جنايته على المبرِّد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف؟
سيرى صديقنا السباعي أن (تهذيب الكامل) لم يكن إلا جناية أدبية، وسيعرف أن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا يذهب بلا عقاب.
وقد زعم الأستاذ السباعي أن الشيخ المرصفي سرق بعض أفكاره، فليستعد للدفاع عن النظرية التي نهبها نهباً من كتاب (النثر الفني) ونشرها في مجلة (السراج)
ولكن على شرط أن يؤمن في سريره نفسه بأني أكره البغي على أصدقائي، وأن أمري لم يكن إلا شبيهاً بأمر أكثم ابن صيفيّ حين قال: (إن قول الحق لم يَدَع لي صديقاً).
وإلى اللقاء في غير بغي ولا عدوان، فما أستبيح إيذاء أصدقائي، ولو ظلموا أنفسهم فظلموني.
زكي مبارك.(396/12)
في الاجتماع اللغوي.
تطور الدلالة
أنواع التطور الدلالي وخواصه.
للدكتور علي عبد الواحد وافي.
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ترجع ظواهر التطور الدلالي إلى ثلاثة أنواع:
(أحدها) تطور يلحق القواعد المتصلة بوظائف الكلمات وتركيب الجمل وتكوين العبارة. . . وما إلى ذلك، كقواعد الاشتقاق والصرف (والمورفولوجيا) والتنظيم (السنتكس). . . وهلم جرا. وذلك كما حدث في اللغات العامية المتشعبة من اللغة العربية إذ تجردت من علامات الإعراب وتغيرت فيها قواعد الاشتقاق واختلفت مناهج تركيب العبارات.
(وثانيها) تطور يلحق الأساليب، كما حدث للغات المحادثة العامية المتشعبة عن العربية إذا اختلفت أساليبها اختلافاً كبيراً عن الأساليب العربية الأولى، وكما حدث للغة الكتابة في عصرنا الحاضر إذا تميزت أساليبها كذلك عن أساليب الكتابة القديمة تحت تأثير الترجمة، والاحتكاك بالآداب الأجنبية، ورقي التفكير، وزيادة الحاجة إلى الدقة في التعبير عن حقائق العلوم والفلسفة والاجتماع. . . وهلم جرا.
(وثالثها) تطور يلحق معنى الكلمة نفسه، كأن يخصص معناها العام فلا تطلق إلا على بعض ما كانت تطلق عليه من قبل، أو يعمم مدلولها الخاص فتطلق على معنى يشمل معناها الأصلي ومعاني أخرى تشترك معه في بعض الصفات، أو تخرج عن معناها القديم فتطلق على معنى آخر تربطه به علاقة ما وتصبح حقيقة في هذا المعنى الجديد بعد أن كانت مجازاً فيه، أو تستعمل في معنى غريب كل الغرابة عن معناها الأول. . . وهلم جرا.
هذا وللتطور الدلالي بمختلف أنواعه خواص كثيرة من أهمها ما يلي:
1 - أنه يسير ببطء وتدرج. فتغير مدلول الكلمة مثلاً لا يتم بشكل فجائي سريع، بل يستغرق وقتاً طويلاً، ويحدث عادة في صورة تدريجية، فينتقل إلى معنى آخر قريب منه،(396/13)
وهذا إلى معنى ثالث متصل به. . . وهكذا دواليك حتى تصل الكلمة أحياناً إلى معنى بعيد كل البعد عن معناها الأول. فكلمة مثلاً كانت تطلق في المبدأ على صنف خاص من الأقمشة الصوفية ثم أطلقت على غطاء مائدة المكتب لاتخاذه غالباً من هذا الصنف، ثم أطلقت على مائدة المكتب نفسها، ثم أطلقت على مقرّ العمل والإدارة لملازمة المكتب له. فلا علاقة مطلقاً بين أول مدلول لهذه الكلمة وهو القماش الصوفي وآخر مدلول لها وهو مقر العمل والإدارة، على حين أن العلاقة وثيقة بين كل معنى من المعاني التي اجتازتها والمعنى السابق له مباشرة
2 - أنه يحدث من تلقاء نفسه بطريق آليّ لا دخل فيه للإرادة الإنسانية. فسقوط علامات الإعراب في اللهجات العربية الحاضرة، وتغير أوزان الأفعال، وتأنيث بعض الكلمات المذكرة، وتذكير بعض الكلمات المؤنثة، وجمع صفة المثنى، وتأخير الإشارة إلى المشار إليه، وتزحزح كثير من المفردات عن مدلولاتها الأولى إلى حقائق جديدة. . . كل ذلك وما إليه قد حدث من تلقاء نفسه في صورة آلية لا دخل فيها للتواضع أو إرادة المتكلمين
3 - أنه جبريّ الظواهر لأنه يخضع في سيره لقوانين صارمة لا يد لأحد على وقفها أو تعويقها أو تغيير ما تؤدي إليه. وإليك مثلاً حالة اللغة العربية، فعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلت في سبيل صيانتها ومحاربة ما يطرأ عليها من لحن وتحريف، ومع أن هذه الجهود كانت تعتمد على دعامة من الدين، فإن ذلك كله لم يحل دون تطورها في القواعد والأساليب ودلالة المفردات إلى الصورة التي تتفق مع قوانين التطور اللغوي فأصبحت على الحالة التي هي عليها الآن في اللهجات العامية
4 - أن الحالة التي تنتقل إليها الدلالة ترتبط غالباً بالحالة التي انتقلت منها بإحدى العلاقتين اللتين يعتمد عليهما تداعي المعاني ونعني بهما علاقة المجاورة والمشابهة. فتارة يعتمد انتقال الدلالة على علاقة المجاورة المكانية، كتحول معنى ظعينة (معناها في الأصل المرأة في الهودج) إلى معنى الهودج ومعنى البعير؛ وتحول معنى ذقن في عامية المصريين إلى معنى اللحية، وتحول معنى من غطاء المكتب إلى المكتب نفسه، وكتأنيث الرأس في عامية بعض المناطق المصرية (انتقل إليه التأنيث من الأعضاء المجاورة له وهي العين والأذن). . . وهلم جرا. وتارة يعتمد على علاقة المجاورة الزمنية، كتحول(396/14)
معنى الوغى إلى معنى الحرب، بعد أن كان معناها اختلاط الأصوات في الحرب (فلا يخفي أن العلاقة بين هذه الأصوات والحرب هي علاقة المجاورة الزمنية)؛ وكتحول معنى العقيقة (هي في الأصل الشعر الذي يخرج على الولد من بطن أمه) إلى معنى الذبيحة التي تنحر عند حلق ذلك الشعر. وكتذكير كلمة (فصل الصيف) التي كانت مؤنثة في الأصل لمجاورة مدلولها مجاورة زمنية لمدلول كلمة مذكرة وهي فصل الربيع. وتارة يعتمد على علاقة المشابهة، كتحول معنى الأفن (وهو في الأصل قلة لبن الناقة) إلى معنى قلة العقل والسفه، وتحول معنى المجد (وهو في الأصل امتلاء بطن الدابة من العلف) إلى معنى الامتلاء بالكرم. . . وهلم جرا
5 - إن التطور الدلالي في غالب أحواله مقيد بالزمان والمكان. فمعظم ظواهره تقتصر أثرها على بيئة معينة وعصر خاص. ولا نكاد نعثر على تطور دلالي لحق جميع اللغات الإنسانية في صورة واحدة ووقت واحد
6 - أنه إذا حدث في بيئة ما ظهر أثره عند جميع الأفراد الذين شملتهم هذه البيئة. فسقوط علامات الإعراب في لغة المحادثة المصرية لم يفلت من أثره أي فرد من المصريين
ومن هذه الخواص يتبين فساد كثير من النظريات القديمة بصدد هذا التطور
فليس بصحيح ما ذهب إليه بعض العلماء من أن هذا التطور نتيجة لأعمال فردية اختيارية يقوم بها بعض الأفراد وتنتشر عن طريق المحاكاة
وليس بصحيح كذلك ما ذهب إليه أعضاء المدرسة الإنجليزية وبعض الباحثين من الفرنسيين كالعلامة بريال إذ يرون أن التطور الدلالي يسير باللغة نحو التهذيب والكمال ويسد ما بها من نقص ويخلصها مما لا تدعو إليه الحاجة. وذلك أن اتجاهات كهذه لا يمكن أن تتحقق إلا في تطور اختياري مقصود تقوده الإرادة الإنسانية في سبيل الإصلاح. أما وقد ثبت أن التطور الذي نحن بصدده تطور تلقائي آلي لا دخل فيه للإرادة الإنسانية فلا يتصور أن يتقيد في اتجاهه بالسبل التي تقول بها هذه النظرية. وإن موازنة بين الحالة التي كانت عليها اللغة العربية فيما يتعلق بدلالة ألفاظها وقواعدها في الإعراب وغيره وما آلت إليه في اللغات العامية الحاضرة لأكبر دليل على ما نقول؛ فمن الواضح لان هذا التطور لم يتجه دائماً نحو التهذيب والكمال، بل أدى في معظم مظاهره إلى اللبس في دلالة(396/15)
الكلمات والخلط بين وظائفها وأنواعها وجرد اللغة مما بها من دقة وسمو، وهوى بها إلى منزلة وضيعة في التعبير. وما حدث في اللغة العربية بهذا الصدد مثله في كثير من اللغات. وإليك مثلاً قواعد اللغة اللاتينية التي انقرضت في اللغات المتشعبة عنها، فإن معظم هذه القواعد كان كبير الفائدة في بيان وظيفة الكلمات وتحديد مدلولاتها وتعيين العلاقات التي تربط عناصر العبارة بعضها ببعض، وقد أدى انقراض هذه القواعد في اللهجات المتشعبة عن اللاتينية إلى كثير من اللبس والاضطراب
حقاً إن هذه المذاهب تصدق على بعض مظاهر التطور الدلالي الخاص بلغات الكتابة، فتطور لغات الكتابة يعتمد في كثير من نواحيه على عوامل أدبية مقصودة ترمي إلى تنقيح اللغة وتهذيبها والسير بها في سبيل الكمال.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون(396/16)
4 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(عود لتوضيح معنى جليل - دنيا المهندسين - صوفية مادية
- إلى المعتمدين على المباحث الروحية - نتائج لقانون
التسلسل والترقي - فرضية لا بد منها - إشارة قرآنية عجيبة
- ضروب من العقول - أدوار المعرفة وأدوار العلم -
إنسانية الشرق المضيعة - العلم دين - أين رجال القمة في
الفكر والخلق؟
يدفعني التفاوت الكبير الذي أشرت إليه سابقاً بين قوة بعض الآلات التي صنعها الإنسان من الحديد وغيره من المعادن وبين قوة الحيوان والإنسان نفسه، إلى أن ألح بالبيان والتوضيح على هذا الموضع لأثبت به الحجة في الدعوة إلى الثقة بالإنسان بعد أن استطاع أن يصنع موجودات عظيمة وقوية تخلفه وتخلف الحيوان في السرعة والاحتمال والانبعاث والدقة في الحساب والرصد وقياس الدقائق وإبراز الخفايا وجلب المنافع والأضرار.
وهذا لا يعني أن هذه الآلات مستقلة بحياتها ومدركة لما تفعله، ولكنه يعني أن الإنسان مد حياته وتفكيره إليها، وأقامها مكانه في رصد حوادث الحياة وأداء بعض أفعاله فيها كي يتفرغ لغيرها ويتجه إلى فتوح وغزوات جديدة في مجاهل الكون. . .
ولست أستطيع أن أغفل هذا التفاوت العظيم بين هذه الآلات، وبين النماذج الحية من أجسام الحيوان التي اتخذها الإنسان أساساً لعمله وطرق إيجاد ما أوجده بدون أن أصل منه إلى مدى بعيد من الاستنتاج قد ينفع العلم وينفع الدين وعلم الاجتماع في تحديد وضع الإنسان. . .
وينبغي قبل كل شيء أن أقول لمن عساهم يخشون من مغالاتي في تقدير قيمة الإنسان وإعجابي بما صنعه من الآلات التي فاقت قدرة الحيوان وقدرته هو على العمل والاحتمال آلاف الأضعاف: إنني لا أبغي من وراء ذلك إلا لفت أنظار الغافلين إلى قدرة الفكر(396/17)
الإنساني وإلى وجوب تمجيده عن السفساف الحقير من التصرف وإطلاقه يرود وينظر ويعمل في ملكوت الطبيعة. . .
ولا أقصد بتمجيد الفكر الإنساني إلا تمجيد بارئه وواضع أسراره في هذا الجسم المحدود الضئيل. . . فلا يتوهمن متوهم أنني سأخرج بغلوي في تمجيد الإنسان إلى شيء أشبه بإشراكه في الخلق والإيجاد، فإنني قد حددت هذا النوع في مقال سابق بأنه آلة في يد البارئ يتمم بها التنويع والتفريع في خلق المادة وتصويرها.
ولا يسعني غير هذا بعد أن رأيت وفكرت في أعمال تلك الطائفة المجيدة التي لم يلتفت إلى وضعها في الحياة بعد ولم يعرف لها خطرها في تحقيق الغرض من خلق النوع ولم ينظر إليها ولم تنظر لنفسها نظراً صوفياً. . . وأعني بها طائفة المهندسين. . . أولئك الشعراء الصامتين الذين يرسلون قصائد مجسمة ويفعلون الأعاجيب من المواد المبعثرة المشوشة المختلطة الملقاة بدون نظام وتنسيق، ويقيمون منها هذه الأشكال الموزونة المصقولة المنوعة التي عملت فيها آلاف العقول والأيدي بالتلوين والتزيين والإخراج الفَنّي الغني باللفتات الذهنية واليقظة لألوان الشفق وأفواف الزهر، ومزج الأضواء والظلال. . .
أو يقيمون أجساماً آلية تنبض بالنار والبخار وتسعى بهما أو بالكهرباء وتضيف إلى عالم الحركة في الأرض قوى أخرى تملأ مسمع الزمان مع كل ما يدور فوق وتحت. . .
أولئك الذين تسير أعينهم على مواقع يد الله يلقطون أسرارها من غُمار الحياة الزاخرة وعباب المائع و (المتبلور) والجامد، ثم ينظمون كل هذه الأفانين ويتخذونها أساساً لقوة التقليد وقدرة الابتكار التي في أفكارهم وأيديهم
أولئك الذين يسيرون على أسلوب الله من العمل في المادة مع الصمت. . . ويتلقون فيوض المواد والقوى الطبيعية من يده الكريمة فيقسمونها ويوزعونها ما أراده فيها ويجلون ما أخفاه في أطوائها وثناياها ثم يضعونها في الأرض مجملة منسقة متاعاً للعيون ومثابة للأجسام ومظهراً وتأويلاً لأحلام الروح في عالم الجمال
ولن ينتهي العمل الهندسي للإنسان في الأرض إلا بعد أن يملأ شعابها وهضابها وهواءها وماءها وسهولها وأوعارها بآثار يده وفكره. فإنه مخلوق برهن على أنه يصلح للعيش في اليابس والماء والهواء، وأنه لا شيء إلا وهو واجد فيه حقلاً ليده يعمل فيه ويأخذ منه. . .(396/18)
وإنني ما سمعت صوت قارئ واحد يتلو كلام الله في تمجيد ذاته العليا في محطة الإذاعة فتردد صوته جميع آلات الالتقاط في جميع الأنحاء وتبث ذلك التمجيد إلى زوايا الدنيا وأركانها وطبقات الجو إلا أحسست أن الإنسان ابتدأ يؤدي رسالته وعبادته ويُنطق بها الجماد ويُسمع بها على رغم الأبعاد. . .
تلك صوفية مادية حديثة ينبغي أن تكون من مظاهر التدين في هذه العصور التي تسير فيها المدنية المادية بحياة الإنسان في ساعة واحدة أضعاف ما كانت تسير به مدنيات العصور السالفة في عشرات السنين. . .
نعم إن أصول الدين واحدة ثابتة لا تتغير، ولكن ما نشأ حولها بفعل جهالات الإنسان وتزيداته ينبغي ألا يجعلنا جامدين متحجرين في طرق العبادات، فنفهم أن عباداتنا قاصرة على الأشكال الموروثة بل يجب أن تكون انتقالات العلوم بنا سبباً في أن نعبد الله بها وأن يزيد فكرنا فيه من أجلها. وتلك عبادة مطلقة من قيود الطقوس والرسوم والأشكال. . . عبادة يستطيع أن يقوم بها من يسير بسرعة ألف ومائتي ميل في الساعة. . . ويرتفع إلى طبقات الجو العليا، وينخفض إلى أعماق البحار السفلى. . . ويتنفس في أقصى الشرق فتسمع أنفاسه من أقصى الغرب. . . ذلك الذي يستطيع أن يترك في كل مكان كلمة تشهد بالله وينطق بها الأحجار والأشجار والماء والهواء. . .
فبين العلم المادي والتصوف هنالك يجب أن يقف الإنسان الحديث ينادي الله وفي قبضة يده مفاتيح أسرار المادة ونواميسها وفي قلبه صلاة دائمة جامعة. . .!
وهذه الصوفية المادية تمجد العلم المادي والعمل به وتخضع لدولة الأجسام ولا تثور عليها ولا تعطل قواها بل تنميها، لأنها تعرف أننا ما خلقنا في عالم الأجسام إلا لنعرف قوانينها ونؤمن بها.
وينبغي أن نقول هنا لبعض المغرمين بمباحث الروح الذين يفرحون إذا عثروا على حادثة غريبة لا يمكن تفسيرها تفسيراً مادياً ليتخذوها حجة على وجود قصد وعالم آخر وراء هذا العالم المادي: إن ما تغرمون به وتنفقون حياتكم من أجله لا يمكن أن يبلغ مهما كثر إلى معشار الحجج التي تستطيعون أن تأخذوها من ذلك العالم الظاهر المليء بالعجائب والمعجزات التي لا تحتاج العقول معها إلا إلى حركة ارتداد إلى مبادئ الأشياء، وإلا إلى(396/19)
اليقظة الدائمة لمراقبة كل شيء والدوران حوله.
وما حاجتنا إلى أن نستمد من عالم غير مرئي حججاً إن رآها شخص فسوف لا يراها آلاف؟ مع أن ما بين أيدينا وما خلفنا مليء بالعجائب التي يراها كل فرد، ويخضع للمنطق المستمد منها كل سليم الطبيعة غير شاذ ولا شارد. (وكأيٍّ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)
فنحن نستطيع بجهد فكري قليل أن نأخذ من هذا العالم المادي الظاهر أدلة كثيرة على أن وراء عالماً آخر بل عوالم أخرى مجردة من قيود حياتنا هذه ولو لم نر من ذلك شيئاً. . . فإن الرؤية ليست هي الطريق الوحيد إلى التصور والحكم.
والنظرة العلمية المبنية على إدراك قانون الترقي وقوة التطور تبين لنا أنه ما دام قد وقف الإدراك بواسطة جسم من الأجسام عند حد الإنسان بعد أن تدرج إليه في سائر أنواع الحيوان، فينبغي أن يكون وراء الإنسان أفق حياة عاقلة أخرى هي بطبيعة سلم الترقي مجردة من الأجسام. وكما أن هذه الآثار والمشاهد البارعة التي نراها في العالم المادي نتيجة لعوامل خفية نوعتها وشكلتها فلا بد أن يكون في غير الأرض آثار ومشاهد أخرى هي نتيجة لعوامل ونواميس أخرى غير التي كان من نتائجها ظهور عالمنا الذي ندركه بحواسنا. وهذا هو اللائق باتساع الكون الذي أرضنا فيه كذرة رمل في صحراء. فلا يصح أن تكون أساساً في الحكم على جميع ما فيه.
وهذا حكم نحكمه خضوعاً للفرضية الآتية التي تحل لنا هذا الإشكال وإن أوقعتنا في غيره. . .:
تخيل إنساناً خرج إلى الحياة أعمى أصم أبكم معدوم اللمس والشم. . . فهل مثل هذا يكون لعالمنا وجود عنده؟ بالطبع، لا. . . ولكننا مضطرون إلى أن نحكم أن عالمنا هذا موجود ولو لم يوجد في حواس هذا الممسوخ. . .
وكذلك نحن مضطرون إلى أن نحكم أن وراء عالمنا هذا عوالم أخرى، ولو لم توجد لنا حواس تدركها. . . لأن هذا هو الذي يتلاءم مع اتساع الكون واتساع قدرة المسيطر عليه، واتساع عالم المفروض والصور في بعض العقول.
وقد أشار القرآن إلى معنى عجيب يتفتح معه خيالنا ويأخذنا في عالم لا نهاية له من(396/20)
المفروض وإن كان لا طاقة لنا بإدراك ما فيه من الصور. قال: (أفرأيتم ما تُمْنوُن؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبذل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون. . .).
وما تحته خط هو موضع النظر الطويل، وباب للخيال المجَنَّح. . . ولكنه خيال مطموس الصور لأنه لم يجد أصباغاً وألواناً ينتزع منها ما يريد أن يؤلفه ويركبه ويَفتَنَّ في تهاويله.
وكيف ذلك وقد قالت الآية: (فيما تعلمون. . .!)
وينبغي لمن لم يدرك ألا ينكر على من أدرك. . . فإن جوانب الكون واسعة ورسالات علم الله إلى العقول كثيرة. . . وليست كل العقول قادرة على الغوص في أعماق الكون. كما أنه ليست كل الأجسام قادرة على الغوص في أعماق الماء. فمن لم يستطع السباحة والغوص في تلك اللجج والرجوع إلى الشاطئ فليلزم وليحذر حتى لا يغرق ويذهب في أهوال المعاني. . .
وما في العالم (المتبلور) (شيء تافه بالنسبة للعالم الذي تلتقي فيه أمواج المعاني ويعب عباب الفروض والغيوب والرموز، ولكن ما فيه لا يكون أساساً لأحكام الحياة الدنيا. . . وعقل الإنسان كطفل الأم: ينبغي إلا تطلقه في المخاطر والمزالق إلا إذا شب وكان له قوة واقتدار. . .
ومن المعقول نوع لا يعيش إلا في أعماق الكون. فإذا طفا على السطح وأخذ بظاهر الحياة اختنق وقلت فيه الحياة، كالسمك الكبير. . .
ومن العقول ما هو مساير لظاهر الحياة لا يتخلف عنها ولا يتقدم. . .
ومن المعقول ما هو واقف متخلف انقطعت به الطريق فلم يصل إلى العالم الفكري الموجود الآن في أذهان الأمم المتحضرة، وهذا عقل مخروم فاته كثير من رسائل الله إلى الفكر الإنساني.
ومن العقول ما هو أسرع من الحياة بحيث يرى مشاهد آخر ساعة فيها كصور مكررة قديمة لا تثير في نفسه تطلعاً، فلو خرج من الحياة لم يخسر شيئاً ولم يفته شيء، وهذا هو العقل الفائق السابق.
والنفس إذا عرفت قرار الحياة وأولها لم تبال بما يحدث في فروعها من تلون وتبدل، وما(396/21)
عند هذا الصنف من صور كمال الحياة أرحب من الموجود وأكمل. فهو يسير في مستحدثات الأيام كما يسير المرء في طريق معروفة له تردد عليها مراراً من كثرة فكرة في الموجود والمعدوم وما يصح أن يوجد.
وهذا قد يعمل في الحياة بجد وصبر، ويسير كما يسير الغافلون بدفعة دولاب الحياة، وطواعية لحركات سيرها بالناس. وإنما يطيع آمالها ويزاول أعمالها خضوعاً لقانونين عظيمين من قوانينها: وهما الأمل والعمل. . .
وهكذا الطبيعة رسالات من علم الله إلى الفكر الإنساني العام. يتلقاها كل عقل حسب طاقته واتساع حوزته، ويأخذ منها ما قدر ويسر له. . .
فينبغي لمن لم يدرك ألا ينكر على من أدرك. . . ينبغي لرجل الشارع ألا يجادل في عالم (أينشتين) أو (أديسون) أو الغزالي من إليهم من العقول الفائقة التي أطلت على الأرض وكانت فيها كالثمرات التي تلقط أسرار نوعها وتحفظ بذوره وترقيها
وبين الإله البارئ الكبير وما عنده من عوالم المعاني والقوى المجردة والكمالات التي لا تتناهى، وبين عالم المولد والكثافات، وقف الإنسان التائه المتأمل الساعي وراء المعرفة حيناً من الدهر لم يتقدم فيه خطوات كثيرة، ثم انقسم فريقين: فريقاً استمر في التفكير المجرد في الطبيعة وما وراءها، وأدرك بعض اتجاهات الكون باللمحات والنظرات الشعرية الخاطفة، وقنع بذلك حتى خرج من الحياة (عارفاً) غير (عالم) ولا (عامل). . .
وفريقاً أعياه التفكير المجرد، ولم يجد له محصولاً يملأ يديه ويشهد له الناس بأنه أدركه وقنصه، فانصرف إلى أنواع الحياة في الأرض وأشكال المادة يعبث فيها ويدور حولها ويخرج أسرارها حتى (علم) ثم أخذ يقلد ويبتكر
وكما أن الأقدمين كانوا ينظرون إلى أعمال الطفولة وحب استطلاعها الأشياء على أنها عبث ولعب لا طائل تحته. . . كذلك نظروا إلى أعمال أكثر الرجال في المادة وتنويعها وملء الحياة بضجاتها وأصواتها على أنها عبث ولعب لا يليق بمن يسير إلى الموت والفناء. وكان المثل الأعلى للحياة الصالحة عندهم أن يطلْق الناس أعمال الدنيا ويذهبوا إلى المعابد والمعاهد يتلون الأوراد ويفلسفون ويرسلون الأشعار ولا يرفعون في الأرض حجراً على حجر، فيكونون عنصراً مستهلكاً غير منتج يأخذون من الحياة أغذية وأعمالاً،(396/22)
ولا يعطونها إلا أقوالاً وأشعاراً، ويقفون في طريق تحقيق بعض الغايات الكبرى من خلق الإنسان
هؤلاء لا تزال منهم بقايا كثيرة في الشرق، بل هم الكثرة الغالبة فيه. وهم الذين جعلوا إنسان الشرق كأكداس الحصيد وأهراء الغلال التي تترك في أماكنها حتى تقتلها الآفات وينخر فيها السوس. . . وهم بذلك يضيعون على الإنسانية ثروات تحصل عليها من تشغيل أفكار هؤلاء الملايين وأيديهم. وهم بذلك يتركون أفراد الناس من غير تنسيق وتنظيم في الحشد والتعبئة للمعابد والمعاهد والمعامل والحقول والجيوش. . .
هؤلاء ينبغي أن زيلوا عن عيونهم غشاوات القرون الأولى ويعدلوا أفكارهم على مقتضى ما توحيه سنن الله الدقيقة التي تجعل من تصرفات جميع قوانين الطبيعة في وقت واحد لحناً موسيقياً متسقاً يشترك في توقيعه كل شيء. . . ويعلموا أن الكفر بعلوم الطبيعة والفسق عن نظمها كالكفر بعلوم العقائد والفسق عن نظم الأخلاق
إن الإيمان بالعلم وتنظيم الحياة الإنسانية بطرقه وإطلاق الأفكار فيه هو الدين الواحد الذي يدين الإنسانية جميعها وتلتقي عليه بأفكارها وأيديها. . . وقد جعلها تلمس عرشها المرموق، وتعرف دولتها المأمولة في مستقبل الحياة. . .
ولكن أين العصا السحرية التي ستفعل في تعديل شهوات الأمم وغرائزها وتعصباتها الذميمة، بحيث تجتمع على خدمة العلم والحياة بأفكارها وأيديها؟
ذلك ما يسأل عنه رجال التربية والمفكرون في الدين والاجتماع
رجال التربية فلاحو حقول الطفولة: منطقة النمو الدائم وعُلَب أسرار المستقبل. . .
ورجال الفكر رسامو المثل العليا القادرون على استدراج الناس إليها وسجنهم فيها. . .
ولكن هؤلاء وأولئك لا يزالون بعيدين عن مقاليد الحكم وتسلم مقاود القطيع بينما مكانهم هناك لو صحت الأوضاع. . . ولا يزال محترفو السياسة والدجاجلة بها المتخلفون عن بلوغ القمة في الفكر والخلق هم الغالبين المتسلطين. . .
وهؤلاء هم سر البلاء النازل الآن بالناس، كما كانوا في القديم. . .
عبد المنعم خلاف(396/23)
لست أومن بالإنسان
للأستاذ زكي نجيب محمود
وقع لي منذ سبع سنوات كتاب، لعله أنفع ما قرأت من الكتب، لأنه غاص بي إلى قلب الطبيعة ولبابها؛ فقد كنت قبل قراءته لا أفهم إلا عن بني الإنسان دون ألوف الألوف من الكائنات التي تملأ فجاج اليابس وأغوار الماء، فعلمني هذا الكتاب النفيس كيف أفهم عن الحيوان ما يريد. فلئن كان الإنسان يلوك لسانه يميناً ويساراً وبخبط به أعلى وأسفل ليرمز بهذه الحركات إلى معان، فليس الحيوان بأقل قدرة منه في ذلك. يتناقل أفراده المعاني بهز الأذناب وتحريك الأهداب. . . وقد كان علمي بلغة الحيوان موضوع فكاهة وسخرية من أصدقائي جميعاً، يلذعونني بنكاتهم كلما نهق حمار أو زقزق عصفور، ولكني مضيت في دراستي لا يثنيني ما لقيت في الدرس من مشقة وعناء، لأني رأيت أنه إن جاز لمعاهد العلم أن تفني من طلابها زهرات أعمارهم في دراسة لغة قديمة دَرَس أهلها وطواهم الزمن في جوفه العميق، فخليق بواحد من بني آدم أن يعتني بلغات (أقوام) تعاصرنا وتعاشرنا وتبدل لنا وحشة العالم بهجة وأنسا. وأحمد الله أن كتب لي التوفيق فأعانني على بلوغ ما أريد. فهاأنذا أجلس إلى مكتبي ذات مساء، والليل منشور الذوائب ضارب بجرانه، والسكون عميق لا أسمع فيه إلا حفيفاً خفيفاً وهمساً خافتاً، وهاتان فراشتان قد التقتا تحت مصباحي وأخذتا تسمران بحديث رائع جذاب، لم أملك معه إلا أن ألقي الكتاب جانباً لأنصت. . .
- لقد أنبأتني زميلة حديثاً عجيباً هذا المساء: أنبأتني أن كاتباً بليغاً من بني الإنسان قد رفع القلم يجول به ويصول في عشيرته من بني آدم، ليقول في ورع وإيمان إنه يؤمن بالإنسان!
- وفيم كل هذا العناء؟
- لأنه واحد من بني الإنسان! يا ليت شعري ماذا تقول الأبقار لو تحركت بين حوافرها الأقلام، وماذا تزعم الأطيار لو كان تغريدها كلاماً من الكلام؟
- وهل تؤمن البقرة إلا بفصيلة الأبقار، والعصفور إلا بقبيلة الأطيار؟
وجاء برغوث يقفز حول الفراشتين جذلان فرحاً، ويحوم فوقهما صاعداً هابطاً؛ ولم أكن وا(396/24)
أسفاه قد أتقنت لغة البراغيث لما فيها من عسر وتعقيد، ولكني استطعت رغم ذلك أن ألتقط من حديثه مع إحدى الفراشتين ألفاظاً متناثرة علمت منها ما يريد.
قالت فراشة تحدث البرغوث الوثاب، وقد ضاق صدرها بلهوه وعبثه:
- هلا اصطنعت يا أخي شيئاً من الجد في ساعة يجد فيها الحديث؟ ما كل ساعة للهو والطرب
- وفي أي أمر خطير تتحدثان؟
- في هذه النشوة التي أخذتك بغير مبرر معقول
- وأي حافز للطرب أشد وأقوى من عالم فسيح خلقه الله لي ألهو فيه وأمرح؟. . .
فقالت الفراشة الثانية:
- أخلق الله هذا العالم الفسيح لك أنت؟ وماذا تقول إذن في الإنسان الذي سخر الطبيعة بعقله الجبار؟!
- ومن تقصدين؟ أتريدين هذا الحيوان الذي ضمرتْ فيه رِجلان وطالت رِجلان؟ هل تعلمين لماذا خلق الله هذا الإنسان؟ هل تعلمين فيم سعى هذا المسكين آناء الليل وأطراف النهار؟ ليطعمَ فيجود لحمه فيصبح طعاماً شهياً للبراغيث. ألا ما أشقى عالم البراغيث إن لم يكن بين صنوف الحيوان هذا الإنسان!!
وجاءت بعوضة تسعى، تهز جناحيها الصغيرين طياً ونشراً، وأخذت تدنو من الفراشتين قليلاً قليلاً، ومالت برأسها تستمع للحديث، فلما استجمعت أطرافه اقتربت من الفراشتين ولبثت بينهما صامتة. وحدِّث ما شئت عما ملأ نفسي من سرور حين رأيت البعوضة تهم بالكلام، لأنني بلغت في فهمها حداً بعيداً بحيث لا تخفى علي من ألفاظها خافية، ولأني عهدت في البعوض حكمة عجيبة وعلماً واسعاً، لست أدري أنى له بمثله، ولا أنفك يوماً عن التفكير في هذه الحشرة الغريبة، فهل جاءها العلم مكسوباً من تجاريب الحياة، أم هو موهوب مفطور في جبلَّتها؟
قالت البعوضة بعد صمت:
- فيم الحوار؟
فأجابت الفراشة المتحمسة، ولعل حماستها مستمدة من شبابها:(396/25)
- في آدمي زعم لقومه أن كل شيء في الطبيعة يرقب أملاً واحداً هو الإنسان، كما ينتظر كبار البيت بلوغ طفل عزيز: كل شيء في البيت مسخر للطفل، يضحك له إذا ضحك، ويألم إذا تألم! ثم زعمه لقومه - ويا هول ما زعم - أن الليل والنهار والحيوان الآبد والداجن، والأزهار والثمار والأنهار والجبال، وألوان الشفق في الأصائل والأسحار. . . كل هذا وغير هذا من صنوف ما يطوي الكون بين دفتيه، إنما خلق للإنسان!!
قالت البعوضة:
- ومن يكون هذا الإنسان؟
- قرد نهض على قدميه
- أو يكون النهوض على الأقدام كفيلاً له بهذا كله؟ هل تعلمين يا عزيزتي أن هذا الإنسان أحدث صنوف الحيوان عهداً بهذه الأرض.
- عرفت ذلك من زميلتي منذ دقائق.
- إن كانت كائنات الله قد خلقت لينعم بها الإنسان وحده، فمن ذا كان يستمتع بها قبل ظهوره؟
فأجابت الفراشة العجوز في رزانة:
- قال كاتبهم هذا البليغ، إن ذلك كله صُوَرُ جاءت قبله لتزخرف له المسرح. . . إنها حروف تتألف منها الرواية التي يمثلها الإنسان!
- ويحه! هل صَوَّرَ الخيال لهذا المغرور أن الله قد زَيَّنَ الطاووس بريشه الجميل ليُمتِعَ الإنسان ناظريه، ورقَّشَ الأفعى لينظر إليها الإنسان وهي تتلوى وتتحوى في صندوقها الزجاجي في حديقة الحيوان؟ وماذا هو قائل قي الجراثيم التي تفتك ببدنه لتعيش؟ تلك الجراثيم التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن في جوفه، باضت له ألوف الألوف من صغارها؟. . . لو أنصف المسكين لعلم أن الله جلت قدرته أبدع قصيدة الكون العظمى منظومة منغومة، والإنسان بيت من أبياتها. إن سر الوجود ليستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى! إنها أنغِام تتسق كلها لتنشئ موسيقى الوجود! وهل يعظم الشاعر ببيت واحد أكثر مما يعظم بقصيدة عامرة بالأبيات والقوافي؟
فقالت الفراشة العجوز:(396/26)
- أراكم تعجبون وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب! لقد ذكرتم أن الإنسان بين صنوف الحيوان طفل وليد. إنه ما يزال يعبث في مهده ويلهو، أفيكون عجيباً من الطفل أن يتشبث بالأشياء ويمسك بها في قبضته صائحاً: هذا كله لي، لي وحدي دون سواي؟ فاغفروا له هذه النزعة الصبيانية حتى تُعَلمه الدهور أنه جزء من كلٍّ عظيم. . .
وهنا قفز البرغوث قفزات لفتت له الأنظار، فقال:
- حدثوني - نشدتكم الله - ماذا حدا بالإنسان أن يتبجح فيزعم لنفسه ما زعم؟
فأجابت الفراشة المتحمسة:
- أغراه بذلك ما له من علم وأخلاق؟ وما يدري أنه بعلمه يكمل النقص في غريزته وفطرته، وأن أخلاقه حين تحلم بالمثل الأعلى فهي أحلامها دون ما يسود ممالك النمل والنحل من أخلاق! إن الحيوان لا يعرف العري والجوع، وأما الإنسان بكل ما له من علم وأخلاق. . . آه! وددت لو خرج هذا الكاتب البليغ من لفائفه (الصوفية) فيخوض في برد الليل ساعة فيرى بني جنسه قد ألقاهم البؤس في العراء. حرمتهم الطبيعة الفراء اتكالاً على علم الإنسان وأخلاقه، فعجز العلم والأخلاق أن يهيئا لهؤلاء الأشقياء وطاء أو غطاء! وددت لو خرج الكاتب البليغ لحظة من (تصوفه) الذي يدفئه بين جدران داره وفوق حشايا مخدعه ليرى كم من بطون قومه قد باتت خاوية على الطوى. . . ولكنه لن يبارح هذا الغشاء (الصوفي) ليرى الحقيقة (عارية) حتى يخزه في رقاده واخز.
فقال البرغوث وهو يثب في جذل طروب:
- لكم مني هذا الصنيع. والله لأقُضَّنَّ مضجعه هذا المساء، لعل السهاد أن يحفزه على التفكير في هؤلاء الذين ينبتون القمح حتى يملأ الأهراء ثم لا يأكلون، والذين يزرعون القطن حتى تغص به المخازن ثم لا يكتسون. . . والله لأؤرقنه هذا المساء لعله يعيد التفكير في هذا الإنسان الذي يقتل بعضه بعضاً بأدوات من العلم، ويهلك بعضه بعضاً بنزوات من الأخلاق.
. . . وقال ذلك البرغوث وانصرف، وكان الليل قد انتصف، فأطفأت سراجي وأويت إلى مخدعي، وبي إشفاق على صديقي خلاف من هذا البرغوث اللعين!
خلافُ يا صديقي لا تسرف! أفيكون هذا الإنسان الذي جارت به السبيل والدليل جديراً منك(396/27)
بالإيمان؟
زكي نجيب محمود(396/28)
أسبوع في تاريخ الأزهر.
للأستاذ محمد محمد المدني
ليست الأزهر جامعة من الجامعات المحدثة التي عاصرت جيلاً أو جيلين من الزمان؛ وليس الأزهر وليد ثقافة واحدة لم تبلُها الأحداث، ولم تصقلها التجارب، ولم تمحصها العقول والأيام. . .
إنما الأزهر تاريخ حافل بأمجد الذكريات، وسفر ممتلئ بأروع الآثار؛ إنما الأزهر عمر ثقافة عالية في اللغة والفقه والتشريع، ومثال من أمثلة التدرج الهادئ الرزين في العلم والتفكير والنضوج.
أليس من العجيب مع هذا أن يقال: (أسبوع في تاريخ الأزهر) وهل تحسب الأسابيع والشهور في تاريخ طويل ممدود لا يحسب بالعشرات من السنين، وإنما يعد بالمئين؟
بلى أنه لعجيب، ولكنه مع ذلك الأسبوع، وسيظل أسبوعاً معروفاً متميزاً لا تغمره هذه المئات من السنين!
ذلك هو الأسبوع الذي ابتدأت فيه مناقشة الرسائل التي قدمها لأول مرة الطلاب المتخرجون من كلية الشريعة لنيل شهادة (الأستاذية) في الشريعة الإسلامية
احتفل الأزهر بهذه المناسبة احتفالاً ظاهراً لا فيما أعده لها من مكان منظم منسق، ولا فيما وضعه لها من نظام محكم دقيق، فإن الأزهر يسير في أمثال هذا على طبيعته الساذجة التي لا تعرف الدعاوة ولا تحب الإعلان.
ولكنه كان احتفالاً ظاهراً لما احتشد له من علماء وطلاب، ولما شهده من رجال الفكر وأهل العلم، ولما ضم في نسق واحد بين ألوان مختلفة من التفكير، وعناصر متباينة في وجهات النظر.
جمع هذا الحفل بين العالم الكبير الذي عاش طول حياته في ظل ثقافة محافظة ترى التجديد خروجاً على الدين، وافتياتاًً على السلف الصالح من علماء المسلمين، وترى الاجتهاد والنظر مزلقة من مزالق الهوى والضلال، وبين العالم الشاب الذي يرى الحياة أمام عينيه قد اصطبغت بصبغة غير التي يعهدها هؤلاء الآباء، واتسمت بطابع غير هذا الطابع الذي ألفوا أن يروها متسمة به، والذي يرى من حقه بل من واجبه ألا يعيش بعقله وروحه في(396/29)
عصور عفّي عليها القدم، وأخنى عليها الزمن، بينما يعيش بجسمه وعمله في عصر العلم، والتفكير الحر، والتجديد النافع!
جمع هذا الحفل بين العالم الذي ظل عمره في أحضان الأزهر وبين ريوعه، وبين العالم الذي عاش دهراً في أوربا فرأى ما لم يكن قد رأى، وعلم ما لم يكن قد علم، فاشتجر في نفسه القديم مع الحديث، وامتزج في ثقافته الشرق بالغرب.
وكنت ترى إلى جانب هؤلاء وأولئك طلاباً أزهريين يحرصون في لهف وشوق، وإلحاح وإصرار على شهود هذا الحفل، والاستماع إلى نقاش فيه وجدال بين طالب منهم، وأعلام من أساتذتهم على أساس الحجة والبرهان، والبحث الحر، والنهج العلمي المستقيم.
وكنت ترى في هذا المحيط الأزهري الصاخب زواراً من غير الأزهر، جاءوا ليشهدوا هذه المناقشة العلمية التاريخية التي تدور في الأزهر لأول مرة والتي يرأسها رجل من أفذاذ المفكرين، وكبار المصلحين، وهبة الله عقلاً ممتازاً وفكراً رشيداً وقلباً جريئاً.
ودارت المناقشة، وتجلت فيها حرية الرأي سافرة ليس من دونها حجاب، سليمة لم تفسدها مداراة ولا مصانعة ولا تخوف. وانطلق العلم فيها على سجيته لا يتعثر في تركيب من تراكيب المؤلفين، أو لفظ من ألفاظ المصنفين، وسمعنا مبادئ لا نعدو الحقيقة إذا عددناها جديدة في جو الأزهر، أو حسبناها توجيهاً صالحاً للتفكير العلمي بين العلماء والطلاب، ومبدأ لتحول دراسي خطير في حياة هذا المعهد العظيم
وكان من المبادئ الجليلة التي سمعناها ما قرره فضيلة الأستاذ الإمام المراغي من أن الدين في كتاب الله غير الفقه، وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء وفرعوا عليها، واختلفوا فيها، وتمسكوا بها حيناً، ورجعوا عنها حيناً: إنها أحكام الدين، وأن من أنكرها فقد أنكر شيئاً من الدين، فإنما الدين هو الشريعة التي أوصى الله بها إلى الأنبياء جميعاً؛ أما القوانين المنظمة للتعامل والمحققة للعدل والدافعة للحرج فهي آراء للفقهاء مستمدة من أصولها الشرعية تختلف باختلاف العصور والاستعدادات، وتبعاً لاختلاف الأمم ومقتضيات الحياة فيها، وتبعاً لاختلاف البيئات والظروف. ولو جاز أن يكون الدين هو الفقه مع ما نرى من اختلاف الفقهاء بعضهم مع بعض، وتفنيد كل آراء مخالفيه، وعدها باطلة، لحقت علينا كلمة الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم(396/30)
في شيء)
وهذا معنى قد جلاه الأستاذ الأكبر في هذه المناسبة، وكان قد عرض له برفق في أحد دروسه الدينية عند تفسير قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
وكان من المبادئ التي قررها فضيلة الأستاذ الأكبر أيضاً مسألة تأثير العرف في المعاملات، وقد ضرب لذلك مثلاً بأن عُرفنا الحاضر قد أهدر المعايير والأوزان في التعامل بالذهب والفضة، فأصبحنا نصرف الذهب بالفضة من غير نظر إلى الوزن ولكن على أساس العد، وكذلك الأمر في صرف الفضة بالفضة.
وكان من المبادئ التي قررها فضيلته أيضاً التفريق بين ما حرم لنفسه وما حرم لغيره، وما ينبغي على هذا التفريق من جواز إباحة الأخير عند الحاجة.
وسمعنا أيضاً مبدأ من المبادئ الهامة فيما يتصل بالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقوم على أساس التفريق بين ما يقرره النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مبلغ عن الله، وما يقرره على أنه أمام للمسلمين، وما يقرره على أنه قائد للجيش في زمن الحرب، وما يقرره على أنه قاض. . . الخ، وأن بعض ذلك يكون ملزماً للمسلمين في جميع عصورهم، وبعضه لا يكون ملزماً.
سمعنا ذلك كله، ورأينا آثاره بين السامعين، وسمعنا غيره من أعضاء الهيئة العلمية التي كانت تناقش الرسائل، ثم تحرينا أن نعرف آثاره في أحاديث العلماء والطلاب، وتحرينا أن نعرف آثاره في الفصول الدراسية، فإذا الجميع طوال هذا الأسبوع مشغولون، بهذه المبادئ يتناقش فيها الأستاذ مع الأستاذ، والطالب مع الطالب، ويرغب الطلبة إلى أساتذتهم في تفصيل مجملها، وتوضيح مشكلها، والتمثيل لها، والتطبيق عليها
ولعل من الظواهر السارة التي تستحق التسجيل أننا رأينا لأول مرة احتياطاً في التعليق، وحرصاً عند التعقيب، وزهداً في وصف الناس بالخروج أو المروق، وانصرافاً إلى الفكرة من حيث هي فكرة، لا باعتبارها قولاً يخفي وراءه غرضاً من الأغراض.
ونحن نسجل هذه الظاهرة الهامة في تاريخ الأزهر مغتبطين ونهيئ عليها فضيلة الأستاذ الإمام، كما نهنئه بهذا الأسبوع الفريد في حياة الأزهر العلمية، ونرفع إلى فضيلته(396/31)
اقتراحين.
الأول: أن يأمر بوضع خلاصة لهذه المناقشة تعرض فيما بعد على فضيلته لإقرارها وإذاعتها بين أهل العلم، فإن هذه الصفحة جديرة بأن تضاف إلى تاريخ الأزهر كظاهرة من ظواهر الرقي الفكري في عهد الإمام المراغي.
الثاني: أن يعمل على أن تكون مناقشة السادة الأجلاء، المرشحين لجماعة كبار العلماء، مناقشة علنية، فإني أعتقد أن من حق العلم عليهم أن ينشروا بين الناس ثمرات عقولهم، وأن يقطعوا ألسنة الناقدين، وأن يردوا بذلك على الذين يتساءلون: لماذا يفرض على طلاب الأستاذية هذا اللون من التمحيص العلمي على ملأ من الناس أجمعين، بينما تمر رسائل (أساتذة الأساتذة) متسللة في خفية وتستر؟
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(396/32)
كلمات
مكافآت للقراء. . .!
في بريد (الرسالة) الأدبي من عددها الأخير خبر قرأته ووقفت عند تلاوته بالعجب والحسرة
ذلك الخبر الذي يقول في عنوان: (حقوق المؤلفين في الدنمرك). إن حكومة هذه الدولة فكرت في حفظ حقوق المؤلفين وفيما يلحق بهم من غبن، فقررت زيادة دخلهم المادي تشجيعاً لهم على مواصلة الإنتاج والعمل
ومن التدابير التي اتخذتها لذلك أنها فرضت رسماً على كل من يطالع أي كتاب من المكاتب العامة أو في أندية المطالعة؛ ورسماً آخر على كل من يقتبس جزءاً من كتاب ويذيعه بالمذياع أو بالحاكي
قرأت هذا الخبر مرة ومرة، ثم أخذني - كما قلت - العجب والحسرة، وكيف لا أجد في قلبي الحسرة وقد مرَّ في خاطري اسم فلان، كاتب من أساتذة الجيل، وقد أوشك منذ سنين أن يُطرد من بيته لأنه عجز عن وفاء أجره شهوراً. ومرًّ في خاطري اسم فلان، مفكر من الطراز الأول، قضى سواد عمره في الكتابة والترجمة والتحرير، يكدح الكدح كله الليل والنهار في جزاء جنيهات قلائل ينفقها نصف حيوان، أو نصف إنسان مستكرش، لأنه قريب فلان أو محسوبه أو حميمه في سهرات الليل. . .!
وذلك الكاتب المفكر كان منذ سنوات عشر يربح في كل شهر ثمانين جنيهاً، فإذا هو الآن بعد الكهولة والجهد وكثرة العيال ينحدر منها إلى عشرين أو ثلاثين، كأنما عمله من نوع ذلك الذي قاله فيه ابن الرومي تهكمه الظريف اللاذع:
فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل!
ومر في خاطري اسم فلان الكاتب الشاب الملتهب الذي قعد به المرض والعجز من طول ما أجهد عقله وأعصابه وفكره ليكتب ويفيد، فلم تفده كتبه ولا مؤلفاته ولا بحوثه وترجماته حين عجز وانهد بالعجز والمرض، لم يفده شيئاً من ذاك كساء ولا طعاماً ولا دواء.
فهذا حظ الكاتب والكتاب في مصر منار الشرق وزعيمه وطليعة أقطاره
وذلك ما يجد الكاتب والكتاب في بلد من بلاد أوربا كما نقلت لنا الرسالة في بريدها، وحين(396/33)
تفرض هذه الضريبة على القراءة في دنيمرك لن ينقص بسببها عدد القارئين، فإن الكتاب عندهم كالطعام والشراب، وتريد حكومتهم أن تزيدهم براً ورعاية
وقد وجدنا في مصر وزارة معارفنا تجري اختباراً وتقيم مسابقة للسنة التوجيهية تهدي فيها الجوائز تحايل تلاميذ مدارسها حتى تعودهم أن يقرءوا، ووجدنا الصديق الدكتور زكي مبارك وهو يكتب عن واحد من تلكم الكتب المختارة يذكر أنه طبع مرتين. وذلك دليل على حظه من الرواج. . .! وعما قليل تخصَّص الجوائز في مصر للقراء. . .! وفي دنيمرك تفرض عليهم المكوس
وقد يخرج بعضنا بل أكثرنا قد نال درجة كبرى من الجامعة وهو لا يعرف أن يقرأ كتاباً، ولا يعرف أين في القاهرة دار الكتب، ولا يجد أن ذلك ينقصه ولا يعيبه. . .!
إنه لا يزال أمامنا شوط كبير تنقطع دونه الأنفاس حتى تصدق علينا القولة التي قالها الخديو إسماعيل:
(إن مصر قطعة من أوربا)
(محمود)(396/34)
تجديد أغراض المجمع اللغوي
لصاحب المعالي وزير المعارف
نص كلمته في افتتاح مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية
سيدي الرئيس. زملائي المحترمين. سيداتي. سادتي
تفضل معالي الرئيس فسألني خلال هذا الأسبوع الأخير:
أأنا على استعداد لألقي كلمة في هذه الجلسة الافتتاحية للمؤتمر أتناول فيها شأناً من الشؤون المتصلة بأغراض مجمعنا؟ وقد شكرت لمعاليه هذه الدعوة وقبلتها، مغتبطاً أن أتحدث إليكم، رغم ضيق الوقت، في أمر أعده جليل الخطر في حياتنا وفي مستقبلنا
وأود قبل أن أعرض لهذا الأمر أن أشكر لمعالي الرئيس ما وجه إليّ وإلى زملائي الجدد من عبارات التحية، كما أود أن أنوه بالجهود الكبيرة التي بذلها المجمع قبل أن أنظم أنا وهؤلاء الزملاء الأفاضل إليه. وحسب من شاء أن يطلع على المذكرة الموجزة التي وضعها المجمع ووزعت في هذا الاجتماع ليقدر ما بذل من هذه الجهود. أما الذين اطلعوا على مجلة المجمع وعلى محاضر جلساته، فهم لا ريب أعظم تقديراً لجسامة هذا المجهود. وإن جاز لي أن أعبر عن رأي زملائي الجدد فليس يسعني إلا أن أشكر باسمهم وباسمي زملاءنا المحترمين الذين قاموا بهذا المجهود، وأن نذكر الذين قضوا أجلهم بالخير، وأن نطلب لهم من الله مثوبة ومغفرة
وليس ينقص من قدر هذا المجهود الكبير أنه ما يزال في بدايته، أو أن لي أو لغيري بعض ملاحظات عليه براد بها مزيد من دقة التوجيه إلى الغرض المنشود حيناً، وتبلغ حد النقد في بعض الأحيان. فالغرض العظيم الذي أنشئ المجمع لتحقيقه، والعمل الجسيم الذي لا بد منه لبلوغ هذا الغرض، يحتاجان إلى كثير من الأناة والروية، وإلى زمن لا تعد السنين شيئاُ مذكوراً فيه. لقد قضى المجمع الفرنسي منذ أنشأه ريشليو عشرات السنين قبل أن يضع معجمه الأول للغة الفرنسية. ومع هذه الأناة، ومع ضخامة المجهود الذي بذل خلال السنين الطويلة، وجهت إلى هذا المعجم ألوان كثيرة من النقد كانت موضع اعتبار المجمع وتقديره أثناء مراجعة معجمه. ولا تزال لجنة المعجم في المجمع الفرنسي تراجعه وتضيف إليه وتحور فيه تبعاً للتطور اللغوي في تلك البلاد، متوخية في عملها أن تحافظ على سلامة(396/35)
اللغة الفرنسية وعلى ملاءمتها لحاجات الحياة وتطورها، مؤمنة دائماً بأن اللغة كائن حي متصل أوثق الاتصال بكل صور الحياة، يسايرها في نمو ما ينمو وانقراض ما ينقرض وتطور ما يتطور. فالمجمع الفرنسي، ككل من درسوا اللغة ومارسوها، يرى أن اللغة هي صورة الحياة في إدراك الذين يتكلمون هذه اللغة، وأنها لذلك مرآة تقدم هؤلاء القوم أو تأخرهم، نشاطهم أو قعودهم، قدرهم الصحيح لحقائق الحياة أو توهمهم الباطل لهذه الحقائق:
وكيف لإنسان أن يغمط المجهود الذي قام به المجمع وقد أقر أكثر من أربعين قاعدة في اللغة تيسرها وتوسع أقيستها، وتلينها للترجمة عن مستحدثات المعاني، وقد استخرج آلافاً من المصطلحات في علوم الأحياء، والرياضة، والطبيعة، والاقتصاد السياسي، والقانون، وتاريخ القرون الوسطى، والموسيقى، والرسم، والعمارة، وقد أقر طائفة جليلة من المسميات الحديثة في الشئون العامة كأدوات المنازل وأثاثها، وما تتناقله الألسن والأقلام في الأسواق والأندية والصحف، وقد بدأ بوضع المعجمات التي تدعو إليها الحاجة، وقد صحح من الأعلام الجغرافية في مصر وأفريقيا وآسيا عدداً عظيما، وقد نشرت مجلته بحوثاً بلغت صفحاتها نحو ألف وخمسمائة. هذا وما إليه جدير بتقدير الناس جميعاً وثنائهم، وإن وجه إلى بعضه من النقد ما قد يقره المجمع نفسه، وما قد يدعوه إلى أن يعدل عن شيء أقره إلى ما يراه خيراً منه وأدنى إلى تحقيق غايته.
سادتي: لقد كان ما يتصل باللغة من شئون التعليم مما وجه إليه المجمع عناية مذكورة؛ وأنتم تقرءون في المذكرة التي وضعها المجمع بين أيديكم أنه وضع نصب عينيه أخذ الناشئين بصحيح العربية فيما يتدارسون من العلوم والفنون، وأنه قد وجه جل همه من هذه العناية إلى المصطلحات التي تدخل في التعليم الثانوي، وأن بين المعجمات التي يتوفر على وضعها معجماً علمياً صغيراً للتعليم الثانوي في الأقطار العربية، وآخر تثبت فيه طوائف من المواد والألفاظ والصيغ تغني الطالب الثانوي والمثقف الوسيط عن غيره من المعجمات، وأنه في وزارة المعارف بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مصطلح لإدخالها في كتب التعليم وفي التدريس.
ولم يتم بعد وضع المعجمين اللذين أشرت إليهما ليتسنى إبداء الرأي فيهما. وقد سألت(396/36)
وزارة المعارف عما وافتها به إدارة المجمع فعلمت أن هذه المصطلحات لما تعرض على رجالها، وأن تجارب الطبع لهذه المصطلحات لا تزال حبيسة في المطبعة الأميرية منذ سنة 1939. وقد أرسلت إليّ إدارة المجمع من أيام هذه المصطلحات فعرضتها على الفنيين من رجال الوزارة فأقروا طائفة مما اطلعوا عليه ولم يقروا طائفة أخرى. ثم إنني ألقيت علة هذه المصطلحات نظرة عجلي ألهمتني ما أريد أن أتحدث إليكم اليوم فيه.
جاء في المذكرة التي وضعها المجمع بين أيدينا تمهيداً لهذه الجلسة أن من يترسم آثار المجمع (لا يرتاب في أنه، في تشدده في المحافظة على لغة العرب، وبعث ما لا عهد للجمهرة به من قديمها ومجفوها مما يقع عندها موقع الغرابة أو ما هو أشد من الغرابة في أول الأمر، فإنه من ناحية أخرى لا يفتأ يترخص أعظم الترخيص، وييسر أبلغ التيسير. على أن ترخصه هذا وتيسيره إنما يقعان في حدود اللغة، وما مضى من مذاهب علمائها الأعلام؛ فلا سيادة لعامية، ولا طغيان للعجمة على لغة الكتاب)
هذه الفقرة من مذكرة المجمع قد جلت أمامي كثيراً مما رأيته في المصطلحات التي اطلعت عليها، وفي المسميات التي وضعها المجمع لحاجات الحياة المتداولة. فهو قد آثر أن يبيع من تراث اللغة المهجور ما رآه معادلاً لهذه المسميات والمصطلحات. ولا إخالني مخطئاً في هذا التصوير وقد وضع المجمع منذ سنوات جوائز مختلفة لمن يضعون طوائف من الكلمات العربية الفصيحة للمسميات الحديثة وللمصطلحات العلمية والفنية والأدبية؛ ثم نبه الذين يتقدمون لهذه الجوائز أنه يفضل عند التسمية ما وضعه القدماء من الكلمات الصحيحة ثم هجر وتنوسى، واستعمل بدلاً منه ألفاظ مولدة حديثة، أو عامية، أو أعجمية؛ فإن لم يعثر على شيء من ذلك وضعت الكلمة وضعاً جديداً بطريقة من طرق الوضع القياسية
لست أتردد في الموافقة على هذه الخطة في أمر المصطلحات العلمية كلما وجد اللفظ العربي القديم الذي يؤدي الغرض من هذا المصطلح أداء دقيقاً يقره المتخصصون من العلماء. ولعلي لا أتردد كذلك في الموافقة عليها إذا استعمل لفظ أجنبي للتعبير عن معنى قديم كان العرب يعبرون عنه بلفظ عربي. لكني أقف متردداً، ويطول ترددي، فيما خلا هاتين الصورتين؛ وفيما يوضع من المسميات لحاجات الحياة المتداولة. ولا احسبني دون ذلك تردداً في أمر الألفاظ العامية إذا أمكن تقويمها لتسترد صورتها العربية الصحيحة(396/37)
أيها السادة: إن الغرض الأساسي من إنشاء هذا المجمع إنما هو جعل اللغة العربية ملائمة لحاجات الحياة في عصرنا مع المحافظة على سلامتها. هذا الغرض يتضح جلياً في المذكرة التي وضعها المجمع اليوم بين أيدينا، فكل ما بذل من جهود الأفراد والجماعات في أمر اللغة من عهد محمد علي الكبير إلى اليوم قد توخى هذا الغرض. وقد سجل مرسوم إنشاء المجمع هذا الغرض في المادة الثانية منه تسجيلاً صريحاً. ولكي تلائم اللغة حاجات الحياة في عصر من العصور يجب أن تكون صورة صادقة لكل ما تتناول الحياة في هذا العصر. ويجب أن تكونَ سليقة للمتكلمين بها والكاتبين لها، ويجب أن تكون بذلك أداة التفاهم بين هؤلاء جميعاً تفاهماً يتم في غير عسر ولا مشقة. ويجب لذلك أن يكون القدر المشترك منها بين الجميع، من الصبي الناشئ إلى العالم الكبير، ومن ربة البيت في أهلها إلى المتحدث في الفنون والعلوم والآداب. يجب أن يكون عظيماً بحيث ييسر هذا التفاهم ويجعله في متناول الجميع؛ فلا يقع خلاف بينهم فيه بسبب اللغة وألفاظها وإن أمكن أن يقع بسبب تفاوتهم في الثقافة. وكل جهد يبذل لزيادة القدر المشترك تيسيراً للتفاهم المتبادل، يدني من الغرض الذي تنشأ مجامع اللغة لتحقيقه
إذا كان هذا صحيحاً، وأعتقد أنا صحته، وجب ألا نتقيد في جعل لغتنا ملائمة لحاجات عصرنا بالحدود التي وضعت في عصر العباسيين أو في عصر الأمويين، أو في الجاهلية، لحاجات عصرهم. فإذا أردنا أن نضع معجماً يغني المثقف الوسيط، ويغني الطالب الثانوي، وجب مع محافظتنا على سلامة اللغة ألا نهمل تطورها إلى حيث وصلتنا اليوم، ووجب أن ندرس بعناية هذا التطور في لغة الكتابة وفي لغة الكلام
لقد رأى العالم العربي في كل العصور، إلى عصرنا الحاضر، خطباء اهتزت لبلاغتهم المنابر، ومحامين كانت مرافعاتهم مثلاً عالياً للبلاغة القضائية، وكتّاباً في الصحف وفي المجلات ومؤلفين قدرهم أهل هذه الأمم أسمى التقدير. هذه الخطب، وهذه المرافعات، وهذه الكتابات على اختلاف أنواعها وعصورها، تصور تطور اللغة، فلا سبيل إلى إنكارها. وهذه الخطب والمرافعات والصحف والمجلات والكتب تحوي قدراً مشتركا عظيما جداً من ألفاظ اللغة وتراكيبها! ومن أساليبها التي تتفق مع تصور الناس للحياة في هذا العصر؛ وأبناؤنا في المدارس، وجماهيرنا المثقفة تثقيفاً وسطاً، تستمع إلى هذه الخطب والمرافعات،(396/38)
وتقرأ هذه الصحف والمجلات والكتب، بشغف أكثر من شغفها حين تقرأ الكتب القديمة. أفيقال مع هذا أن في هذه الخطب والمرافعات والصحف والكتب ألفاظاً عامية لا يجوز أن تكون في معجمات اللغة؟ أم الحق أنه يجب علينا ألا نهمل هذه الثروة اللغوية الحية، وأن نسجل منها كل ما يتفق مع ذوق العربية وأقيستها، وأن ما نقوم به من ذلك هو الذي يجعل اللغة لغة الحياة تسير معها وتتطور بتطورها؟
وأذهب إلى أبعد من هذا. إن في اللهجات العامية للبلاد العربية المختلفة لقدراً عظيما من الكلمات المشتركة، والتي يمكن أن ترد إلى أصل عربي دون حاجة إلى أكثر من تقويمها بعض التقويم. وهذه ثروة ضخمة تقابل حاجات الحياة وتعبر عنها أصدق تعبير. مع ذلك درجنا على التنكر لهذه الألفاظ والعبارات، وعلى اعتبارها مبتذلة لا يجوز للمتكلم الفصيح، أو للكاتب البليغ، أن يكتبها أو يتكلم بها. أما وقد انحدرت هذه الألفاظ إلينا من العرب الأولين الذين نزحوا إلى مصر وإلى غير مصر من البلاد العربية، فلست أدري لم تكون مبتذلة، ولم لا تدخل في معجماتنا وفي كتاباتنا وخطاباتنا، وفي مصطلحاتنا المختلفة؟ السبب الوحيد في نظري هو أننا نريد أن تكون اللغة وقفاً على طائفة خاصة، وأن تكون لها من أجل ذلك أسرار تغيب عن الكافة، كما أراد الكهنة في عهد الفراعنة أن يجعلوا حقائق الدين سراً موقوفاً على طائفتهم، وأن يدعو للناس من الزيف ما يتنزهون هم عنه، وما يسخرون منه
أيها السادة: إن ما أطالب به المجمع من إقرار ما يجوز إقراره من هذه الألفاظ المتداولة في الكلام وفي الخطابة وفي الكتابة بعد رده إلى حدود اللغة السليمة هو ما تقوم به مجامع اللغة في بلاد العالم أجمع، وهو ليس بدعاً في لغتنا العربية منذ عهدها الأول؛ والمادة الثانية التي حددت أغراض مجمعنا تطالبنا به، فهي قد نصت على أن يقوم المجمع بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة؛ وهذان الأمران يتصلان أوثق الاتصال. فاللهجات الحديثة تشتمل كما قدمت على قدر عظيم مشترك من الألفاظ والعبارات العربية، كما أنه قد اندس إليها بحكم الحوادث التاريخية واختلاط الأمم العربية بشعوب أجنبية عدد عظيم من الألفاظ غير العربية. فالدراسة العلمية المقصودة هنا، والتي تتفق مع مهمة المجمع، لابد أن يكون مرماها تحديد الألفاظ العربية في هذه اللهجات(396/39)
المختلفة تحديداً علمياً دقيقاً للاستفادة منها في وضع المعاجم التي نص عليها في أغراض المجمع؛ أما المعجم التاريخي، فيجب أن يتناول تطور اللغة على العصور إلى وقتنا الحاضر، وأن تكون الألفاظ العربية السليمة التي يصطنعها الناس في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم بعض هذا الذي يتناوله
أيها السادة: إن هذا الذي قدمت صحيح في نظري كل الصحة، واضح كل الوضوح. لذلك كان عجبي ولا يزال شديداً ألا يفصل من تاريخ اللغة وآدابها في معاهدنا شيء فيما وراء العصر العباسي ولم يدرس الأدب الحديث إلا من عهد قريب، وعلى نحو لا يزال بدائياً غير متصل بما سبقه من تاريخ الأدب واللغة. ولقد لاحظت منذ سنوات على المعجم التاريخي للدكتور فيشر، وهو المعجم الذي يعني المجمع بطبعه الآن، أنه لا يتناول إلا العهد الأول من صدر الإسلام، وكنت قد فهمت يومئذ أن هذا المعجم سيضاف إليه ما يتم الغرض منه بتناول تاريخ اللغة إلى وقتنا الحاضر. ولا أظن أحداً يخالفني في أن ما دون كتب الفقه والأدب والفن والعلم في العصور المختلفة يجب أن يكون بعض هذا التاريخ، ولا أظن أحداً كذلك يخالفني في أن الألفاظ العربية الأصل مما تتناوله لهجات العصر الحديث تدخل في نطاق هذا التاريخ
أيها السادة: إنني أعتبر هذا العمل أساسياً لتلائم اللغة حاجات الحياة في العصر الحاضر. فاللغة اليوم ملك مشاع للجميع. يقرؤها الناس في الصحف، ويسمعونها في الإذاعة، ويخطبهم بها الخطباء، ويتلونها في الكتب. لم تبق وقفاً على القارئين والكاتبين ممن تثقفوا ثقافة لغوية عالية، بل صارت أداة التفاهم في هذا العصر الكثير الحاجات والمطالب، والذي يسر للناس من كل الطبقات أن يقفوا على السر من كل شيء، لا تختص فئة منهم دون الأخرى، بما يزاول الناس من علم وفن وأدب وصناعة وتجارة. فكلما تيسرت اللغة للناس، وكلما شعر الطالب في دور العلم بأنها لا تقف عقبة في سبيل المعرفة التي يبتغي النهل من وردها كانت الأداة الصالحة للغرض الذي وجدت اللغات من أجله. بذلك يحب الناس اللغة ويرون جمالها في بساطتها، وفي وضوحها وفي تكشفها غير محجوبة بحجب التعقيد الذي يحتاج دراسة السنوات الطوال لحل رموزه وتبين أسراره.
أيها السادة: هذا ما تيسر لي أن أحدثكم اليوم فيه. وهو بعض ما نطلب به في هذا المجمع(396/40)
لتيسير اللغة العربية حتى تفي بحاجات حياتنا ومطالبها. وقد أحيلت على المجمع مسألة الكتابة العربية وتيسيرها؛ وهذه مسألة جوهرية في نظري ونظر الكثيرين، فحلها يزيد الناس إقبالاً على القراءة وعلى اللغة ودراستها. وأرجو لذلك أن تنال ما هي جديرة به من البحث
وأختم كلمتي معتذراً لحضراتكم عما قصرت فيه؛ فقد كان واجباً عليّ أن أزيد فكرتي جلاء؛ ولكن الوقت لم يتسع أمامي. فلعله يتسع من بعد. ولعلنا نوفق إلى الوفاء بما يجب علينا من تيسير اللغة لتلائم حاجات العصر، مع المحافظة على سلامتها، والعمل على ما يزيدها حياة وقوة وجمالاً.
محمد حسين هيكل باشا(396/41)
من وراء المنظار
صاحب السلطان الزائل
أقبل فسلم في صوت كأنه الهمس، وأحسست ولم أكن عرفت بعد شيئاً من أمره روح المذلة في صوته؛ ومد إلى من نهض لتحيته يداً معرفة مرتعدة كأن بها استخذاء من أن تصافح الأيدي الممدودة إليه، ونهضت فيمن نهضوا فسلمت وأنا في حيرة من عبارات التحية توجه إليه مشفوعة بلقب (البك)
وأخذت نعته بهذا اللقب على أنه ضرب من المزاح، فكثيراً ما رأيت بعض المازحين في القرية ينادون بهذا اللقب رجلاً بلغت به الفاقة حداً جعله مضرب المثل في البؤس، وجعل لقب (البك) مضافاً إليه أكثر بلاغة فيما يتضمن من تهكم وفيما يثير من ضحك باستعماله هذا الاستعمال
ولكني لم أر للمزاح أثراً في وجوه الجالسين، بل لم أر فيها إلا التزام الجد والحرص على مظهر الاحتشام والسكون، وفهمت أن الابتسام يتقي بين الجلوس فيما يدور بينهم من حديث، فما تكاد تنفرج الشفاه حتى تنضم في استدراك سريع
واتجه منظاري إلى هذا البك الجديد، وأخذت أختلس النظر إليه، وكان كلما زدته نظراً زادني دهشة ذلك اللقب الذي يسبغ عليه في جد لا أثر للعبث فيه. وظللت أنظر إلى معطفه الذي تراكم عليه ما تراكم من آثار الزمن، وإلى جلبابه الذي لم أعرف ماذا كان لونه قبل أن يعلق به ما علق من تشويه، والذي راح يستر خروقه بأطراف ذلك المعطف الذي يعد تسميته بالمعطف وهو على تلك الحال من قبيل تسمية صاحبه بالبك. . .! أما طربوشه، فقد اتسق في هذا النظام اتساقاً بليغاً، إذ كانت اسطوانته من لون وقرصه من لون آخر، غير أن أحد جانبيه أكثر كدرة من الجانب الثاني، وإن كانت تلك الألوان جميعاً بقايا حمرة زائلة
وعرَّفه إليَّ وعرَّفني إليه أحد الخبثاء الذي أخذ ينظر إلى منظاري، وكأنه كان يرى فيه - كما حدثني بذلك بعد - آلة تصوير، وما كاد يذكر لي اسمه حتى ذهب اللغز من ذلك اللقب الذي لقب به؛ وقلت في نفسي: أهذا هو الذي سمعت من أخباره ما سمعت؟
وتزاحمت في ذهني صور ما علمت من أنبائه، وبرزت من بينها صورة كانت بين غيرها(396/42)
من الصور، كما يكون المارد بين الأقزام. فهذا الرجل الذي أراه أمامي، هو بعينه الذي أشعل ذات ليلة دخينة لإحدى المغنيات في بندر قريب، لا بعود من الكبريت كما يفعل عامة الناس، ولكن بإحراق رقعة من الورق تركها حتى أتت عليها النار بعد أن أشعل بلهيبها تلك الدخينة. ولم تك هاتيك الورقة بذات قيمة كبيرة، فهي من فئة الخمسة جنيهات فحسب!
واضطجع صاحب السلطان الزائل اضطجاعه فيها بقايا الكبرياء، ونظرت إلى وجهه فرأيت في سحنته خيال تعاظمه الماضي، واستكباره يحيط به خيال استخذائه الحالي ومسكنته. والحق لقد كانت نظراته مزيجاً عجيباً من العظمة والمذلة والرضاء والضجر والخجل والتبجح، ثم كان وجهه الشاحب يذكرني بتلك الصورة التي كانت تعلق على الجدران لمحاربة (الكوكايين)!
ووجهت إليه بعض عبارات التحية فرد في هدوء واتزان وهو ينظر إليّ نظرات من يريد أن يستوثق من صدق تحياتي، كأنه لا يصدق أنه اليوم أهل للتكريم بعد أن هلك عنه سلطانه. على أنه ينتمي إلى أسرة معرقة لا يزال لبعض أفرادها جاه عظيم وثراء، وإن كان ثراؤها لا يبلغ اليوم في مجموعه عشر ما كان لها منه بالأمس. ولعل خيال ذلك الجاه الباقي في أسرته هو الذي يجعل الكبرياء تتغلب في وجهه أحياناً على الاستخذاء وإن كان الاستخذاء قد بات وهو طابعه الجديد
وقدم إليه أحد الجلوس دخينة فتناولها في صورة عجيبة وفي وجهه إمارات توحي بأنه يفهم من هذه التحية أنها ضرب من إعطاء المحروم، وعلى شفيته ابتسامة تصور هذا المعنى وتبرز ما في قرارة نفسه منه. وأيد ذلك لي إسراعه بإخراج علبة الدخائن من جيبه وتقديمه دخينة إلى من سبق فقدم إليه مثلها، ثم إنه تقدم في خفة وظرف فيهما طيف أريحيته الماضية فأشعل الدخينة لصاحبه ولكن بعود من (الكبريت). . .
وأردت أن يتكلم لعل الحديث يميل به إلى الإفضاء ببعض ما يقوم في نفسه من هذه الحال التي تدلي إليها بعد عزة، ولكنه لزم الصمت، وكان صمته أيضاً يجمع بين الحياء والاستعلاء. . .
ودخل علينا شيخ من أهل القرية فما وقعت عيناه على ذلك البك حتى أقبل عليه في اهتمام شديد وهو لا يفتأ يكرر قوله: (شرفت بلدنا يا بك! أهلاً وسهلاً بابن الأكابر. دي البلد كلها(396/43)
منورة بوجودك فيها! الله يرحم والدك البك الكبير)
وأخذ ذلك الشيخ يفيض في وصف سجايا البك الكبير وأبهته وجاهه، ويحكي في ذلك الحكايات الطويلة، ويذكر الضياع التي عمل فيها بأسمائها، ويقارن بين ما كانت تخرجه من خيرات هاتيك الضياع، مستشهداً برأي البك الصغير كأنها لا تزال ملك يديه يتمتع بخيراتها جميعاً؛ ثم تنهد ذلك الشيخ وختم حديثه في سذاجة محبوبة قائلاً: (هيه سبحان من له الدوام! يا ابني ما تزعلش أنت ابن الأكابر على كل حال، وعندنا إحنا يا فلاحين نقول إن دبلت الوردة ريحتها فيها).
ومضى الشيخ وأنا أفكر فيما ضرب من مثل، وأنظر إلى تلك الوردة الذابلة فلا أحس من سابق رائحتها فيها، ويتملكني الإشفاق حيناً، ولكني أذكر الورقة ذات الجنيهات الخمسة وأتصورها مشتعلة في يده فينفي الإشفاق من قلبي شعور يكاد بقرب من الشماتة لولا أني أكره الشماتة، شعور هو في الواقع إحساس خفي بعدالة الجزء وتطابق الجريمة والعقوبة.
ولما ذكر أمامي اسم البك الكبير وذكرت ثروته الهائلة التي انتهت إليه هو أيضاً من والده، وموطن هؤلاء وأسرتهم الكبيرة قرية تقع غير بعيد من قريتنا، عجبت كيف بدد هذا البك الصغير الماثل أمامي أو هذا الشيطان الكبير ثروة أبيه على هذا النحو حتى لم يبق له منها إلا الذكرى.
وتكلم أخيراً صاحب ذلك السلطان الضائع، وكأن حديث ذلك الشيخ أثار شجونه، وأخذ يصف لنا كيف كان يعيش، وهو لا يدري أنه يسرد علينا قصة سفهه! ولعله كان يحس إن لم يبق له من الثروة إلا فخاره بما كان له من ثروة، إن كان ذلك من دواعي الفخار، ونسي سكونه الأول فأطنب وأفاض في غير تحفظ أو استحياء. ومن درر حديثه قوله: (يا ما شوفنا عز! دا الواحد كان يأخذ معه ألف جنيه إلى الإسكندرية فيعود بعد أسبوع ما فيش في جيبه غير أجرة الوابور. . . دا أنا كنت هرون الرشيدي اللي بيقولوا عليه).
وقلت وكان ذلك المال من إيراد أملاكك طبعاً، فلتعثم قليلاً وقال لو كان ذلك المال من إيراد أملاكي ما ضاعت أملاكي؛ إنما كان بعضه من الإيراد وبعضه من البنك، وآه من البنك. . . آه من البنك!.
وإذ ذكر لي البنك ذهب من نفسي كل عجب، فكم استدرج البنك من أمثال هذا الذي ورث(396/44)
ما ورث فلم يشعر بقيمة ملكه حتى ذهب عنه كما جاء إليه. ثم سألته عن مصير هذا الضياع فقال أخذها الخواجة خريستو تاجر القطن. وأحزنني أن يمتلك مثل خريستو من ثري هذا الوادي أرضاً أولى بها بنوه، أرضاً كانت تكفي لأن يعيش عليها أكثر من مائتي أسرة من تلك الأسر التي تكدح صابرة في وهج الشمس وتسقى بعرق جباهها تربة وادينا ولا تمتلك الواحدة أكثر من فدانين أو ثلاثة فدادين.
وسألته عن شعوره إذا مر اليوم بهاتيك الضياع. ولشد ما أدهشني قوله إنه لم يرها كلها، وأنه لا يعلم إلا موضع ما كان يحيط بقصره منها؛ فلقد كان أمر زراعتها وتعهدها مفوضاً إلى نظاره الثلاثة الذين يمتلك الواحد منهم اليوم ما لا يقل عن ثلاثين فداناً، من أرض أجداده.
وكان مجلسنا هذا في دكان بدال. ولما هم البك بالانصراف طلب من التاجر أشياء ولكن التاجر نفي وجودها عنده. فلمحت عينا البك بعض الأصناف المطلوبة على رف من الرفوف فأشار إليها قائلاً: (أمال إيه ده؟) وأجاب التاجر بأن غيره دفع ثمنها وسيرسل في طلبها. وضحك صاحب السلطان ضحكة مُرَّة وهو يهز رأسه قائلاً: (هيه. . . طيب! السلام عليكم) ثم خرج وتنفس التاجر الصعداء.
واتجه إلينا ذلك التاجر وقال في لهجة اعتذار: إن قريبه فلان بك الذي ينفق عليه أمره إلا يعطيه شيئاً إلا بإذن كتابي قال: (دا مسكين ضيع كل ما يمتلك في المكيفات، اللهم احفظنا وباع عفش بيته. وهل تاب بعد كده؟ لا، دا صنف لا يستحق النعمة).
ومضيت وفي نفسي كلمة التاجر الأخيرة وأنا أحدث النفس قائلاً كم ذا بمصر من هذا الصنف الذي لا يستحق النعمة!
الخفيف.(396/45)
وداع الشكر
للشاعر الفرنسي لامرتين
كان لامرتين من أعظم شعراء فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وهو غني عن التعريف، وتعد آثاره الأدبية من أنفس ما أبدعه الخيال الرائع.
ومن تلك الآثار قصيدة بديعة نسج بردها يوم كان ملحقاً بمفوضية فرنسا بنابولي عام 1820 حيث كان انهماكه في تحبير الرسائل الدبلوماسية يحول بينه وبين استرساله في قرض الشهر فأفرغ في هذه القصيدة وداعه للشعر.
(المترجم)
لما اعتزمت اعتزال الشعر خالجني ... موطد العزم لكن خاب تصميمي
ودعته صادقاً لكنما عرضت ... منازع الفكر تدعوني لترنيم
تألبت وهي شتَّى في بواعثها ... وطالما ناشدتني نظم تلحيني
هناك في ساعة حل السكون بها ... في وحدة الصمت عاد الشعر يغريني
حيث الوجود حليف النوم أجمعه ... حتى الأماني استكنَّت في زواياها
في غابة برزت كالطيف ثابتة ... فما تهادى نسيم في حناياها
هناك مرحلة في العمر شاردة ... كأنما النفس فيها نفس وسنان
فلا التنفس في الأحشاء منسجم ... ولا الحماس لقرض الشعر ناداني
والطير وهو الذي يضُفي ببهجته ... على الرياض سروراً بالغ الأثر
لا ينجلي ساجعاً في كل آونة ... وفي الظهيرة يهوى ظُلَّةَ الشجر
فإِن بدا الفجر ناغى الكون مبتهجاً ... وفي الغروب يناجي دورة الفلكِ
يشف تلحينه في الصبح عن طربٍ ... وفي المساء يناغي وحشة الحلكِ
ربابتي، ساعة الهجران قد أزفت ... لكِ الوداع إذن من مغرمٍ دَنِفِ
يا من تنَهُّدِكِ المشجي يثير جَوىً ... وكم يثير وداعي بالغَ الأَسَفِ
أنَّي تلامس كفي منكِ ناصيةً ... ولم يزل باكياً من شجوه الوتَرُ
قد أقبلت ساعة التوديع مسرعةً ... فهاكِ عَبْرَةَ ودٍّ وهي تنهمر(396/46)
أيْهاً لعيني أن تُخفي لها أثراً ... وتلك ثائرة من واكف الشجنِ
كم دمعةٍ سكَبَتْهَا النفسُ وا أسفي ... فبلَّلَتْ وتراً أوفى ولم يخنِ
لم تستطع زفرات منكِ صاعدةٌ ... تجفيفها، فحكت طلاَّ على فَنَنِ
إن الربابة لم تُمنح مُكلَّلةً ... بالسر والناس في هذى الدنا التعِسه
إلا لتسكين آلامٍ لنا انتشرت ... حيث الدموع من الآماق منبجسه
ما كل ما يرسل الأنغام مُشْجيةً ... إلاّ يردد آلاماً وآمالاً
أما السعادة لم ينطِق بها وترٌ ... بل حالف الصمتَ تلو الصمتِ أجيالا
أحلى الأغاني أغانٍ طاب مسمعها ... من بلبلٍ ناحبٍ أو شاعر باكٍّ
تحت الظلال على قبر توسده ... أعز خدنٍ يناجي روحَه الشاكِي
ربابتي، أنتِ مثلي سرتِ في أثري ... حزيتةَ الصوتِ والإنشادِ والنَّغَمِ
لم تمتزج قط بالأنغام يُنشدها ... أهل السعادةِ والإقبالِ والنعم
بغصن صفافة في الشط عالقة ... طليقة كطيور الغاب في الأيك
أبت يدي لكِ رَبطاً كالأسير على ... أبواب قصر عظيم أو حِمَي مَلْك
لم تُلهمي أبدا في أي آونةٍ ... ثوائر النفثِ تعزيزاً لذي حزب
فأنتِ قد فقت طهراً كل خاطرةٍ ... ولم تداعبكِ إلاّ نفثة الحب
قد قُطِّبت جبهتي يوماً لكارثة ... هوجاَء عاتية من قسوة القدر؟
كلا، بفضلك لم أجزع لصدمتها ... ولم أبالِ بما ألقاه من خَطرِ
وأينما ذهبت نفسي سمعتُ صدىً ... من السماء لصوتٍ حين تبعثه
نفسي الغريبة فوق الأرض ما برحت ... تُصغي لما دَأب الإلهام ينفُثُهُ
على الربا حيث يبدو للرقيب إذا ... لاح النهار كما لو فوقها بزغا
إذ كنتِ في صحبتي كيما أرددَ ما ... نظمتُ في مدح معبودي له صِيَغا
ما كان أول إشعاعٍ يُفيق بها ... إلا وقد فتر الإنشاد أو فرغا
كم كنتِ تُلْقين بالأنغام موحشةً ... على هدير حبالِ الفلك والموجِ
وقد بدا البرقُ خلاَّباً بزرقَتِه ... يخبو ويسطع عَبْرَ الأفق في الأوجِ
وكنتِ مثل طيور العاصفات تُرى ... محلِّقاتٍ على الأمواج في البحرِ(396/47)
وكدتِ أن تلمسي من فوقها زَبَداً ... يهبط ويعلو من المد والجزرِ
تلك التي طالما استرعت مناظرها ... مرآي قد حالفت أنغامها نَغَما
تنهُّداتك مع أصواتها امتزجت ... فكان رجع صدى الحنين منسجما
وطالما ارتعشت شجواً حبائلها ... القاتمات علتها نفثتي الرخوة
تحكي ارتعاشاً عرا الأوتار من سُجن ... أناملي حرَّكت في روحها النشوة
ربابتي! ربما ألقاكِ بعدُ، متى ... رأيتِ يوماً نذير الموت يقتربُ
تليه غاشيةُ الأحلام موحيةً ... من السماء أموراً ما بها لَعِبُ
تكون قد بعدت عنا الحياة كما ... لو أصبحتِ ذكرياتٍ مهدها الكتبُ
وإذ يعود شباب الخلق ثانيةً ... يحفه طائف حلو لنسيان
قد ينحني المرء أوقاتاً عليكِ ففي ... رنينِكِ العذبِ تلطيف لأحزان
وهذه الريح إذ تجري محلقةً ... من فوق أرواحنا في برزخ العدم
تهب في الفجر أحياناً مُبَكِّرَةً ... كما تهب بَيَاتاً هبَّ مُخترم
وكم يوق لها إمعانها عبثاً ... بشعر ريحانةٍ أو ذقن ذي هرَم
إيهاً للحية هوميروس تحجبها ... قُطَاعةٌ من جليد عن ذوي النظر
وكأن لمع شعاع الفكر مؤتلقاً ... يعيد نوراً خبا من قبلُ في البصر
ألم يكن ملتن البصر الأعمى بذي بصر ... فكم جلا غيهباً في حومة الفِكَر؟
ألم تحم حول عيني ملتنٍ طُرَفٌ ... من رائع الحب والآمال والصور؟
تحكي الفراشة حامت قبل أن هبطت ... على فلورا التي تهوَى على الأثر
يبدو وميض جناحيها كبارقةٍ ... أضاءها شَفَق وضّاءُ كالشرر
ربابتي، ربما تأتين قاصدةً ... زيارتي بينما الميعاد لم يَحِن
فتمتطين مياه البحر طافيةً ... من شاطئ لسواه طفو متّزن
أكون قد غالبتني موجة فقضت ... على حياتي غريقاً ماؤها كفني
وغيَّب اليم صوتي تحت لجَّته ... فضاع لحن شَكاتي فيه من زمن
وقد نأي بي مصيري في غياهبه ... عن السموات، إن الهجر يؤلمني
كعُشبة البحر تحت الماء شاردة ... وقد رمى الموج عَظمى رمي مُمْتَهِن(396/48)
على الرمال يُرى ملقًى بشاطئه ... فيا لهول رُفاتٍ هالكٍ عَفَنِ
لكنما أنتِ يا من ترسلين علي ... شتى المسامع أمواجاً من الطرب
وتركبين متون الموج سابحةً ... لا ترهبين دنو الموت والعطب
إن البعاج على متن البحار جرت ... تحكيكِ من حسدٍ في موكِبٍ لَجِب
(الإسكندرية)
محمد أسعد ولاية(396/49)
البريد الأدبي
المجمع اللغوي والمعجم الوسيط
حدثنا ثقة من المتصلين (بالمجمع اللغوي) أن اللجنة المؤلفة لوضع المعجم الوسيط قد أنجزت حتى الآن مائة وستين صفحة فقط من هذا المعجم، إذا صفت حروفاً وطبعت لا تتجاوز جميعها مائة صفحة؛ وإن هذا العمل استغرق من عمر المجمع سنة ونصف سنة، وإنه استغرق من عمر المعجم ثلاثة أرباعه، لأن الزمن المحدد لإتمامه سنتان. وزاد محدثنا على ذلك أن العمل في هذا المعجم يكلف الدولة لا أقل من مائة وعشرين جنيهاً في الشهر. فكأن هذه الصفحات المائة قد كلفت الدولة 2160 جنيهاً مصرياً وأن الصفحة الواحدة كلفت الدولة قرابة 22 جنيهاً. فإذا كانت صفحات هذا المعجم ستبلغ على ما يقال ألفي صفحة، استغرق تأليفه ثلاثين سنة، وبلغت نفقات نقله من المعجمات القديمة 64800 جنيهاً مصرياً. هذا غير ما يستهلك فيه من ورق وآلات كاتبة وجزازات ونفقات طبع وأجور أخصائيين يحققون ما يرد به من الألفاظ العلمية وأسماء الحيوان والنبات ورد بعض الكلمات غير العربية إلى أصولها الصحيحة، وهذه قد تجمل نفقات هذا المعجم 100 , 000 جنيه
وبعد، فإذا قلنا إن المال لا قيمة له إلى جانب العلم، فما بالكم بالزمن؟ وإذا قلنا إن الزمن لا قيمة له إلى جانب المال؟ فما بالكم بالعلم؟ وإذا قلنا إن العلم لا قيمة له إلى جانب الزمن، فما بالكم بالمال؟
خبيرات في الكذب
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير الرسالة الغراء
يقول كثير عزة:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
ويقول المثل العربي القديم
(لا يفل الحديد إلا الحديد)
ولعل وزارة الاستعلامات الإنجليزية ترى هذين الرأيين في الجنس اللطيف وفي وجوب الاستعانة به على فل حديده؛ وذلك أنها أنشأت كما ورد في البريد الإنجليزي الأخير مكتباً(396/50)
اسمه مكتب فحص الأكاذيب وعهدت برياسته إلى آنسة تدعى (اليزابيث مونرو) يعاونها أربع أوانس إنجليزيات يحذقن اللغة الألمانية ويعمل معهن عدد كبير من النساء. ومهمة هذا المكتب فحص الأخبار الواردة من ألمانيا والتعرف على الكاذب منها بالمقارنة، لتظهر مواضع التناقض وبوسائل أخرى يعرفها
وتقول رئيسة هذا المكتب أن مكتبها مفتوح للعمل آناء الليل وأطراف النهار، وأن عدد الموجودات به في أية ساعة لا يقل عن اثنتي عشرة. ولما سئلت عن عدد الأكاذيب التي يستكشفنها كل يوم أجابت: (إنني لا أحب أن أقترف أكذوبة أنا الأخرى. ولذلك أقول في غير مبالغة أننا نستكشف ما لا يقل عن مائة أكذوبة ألمانية كل يوم)
ومن أمثلة تلك الأكاذيب ما أذاعه الألمان من أن ساعة (بيج بن) دقت في منتصف الليل ثلاث عشرة دقة بسبب ما أصابها من التلف الناشئ عن الغارات. وأن أهل لندن فزعوا فزعاً شديداً من هذا الفأل السيئ لأن معظمهم يتشاءم من العدد 13
وثبت أن الساعات مهما أصابها من التلف فلا يمكن أن تزيد دقاتها عن الحد المعتاد
ولست أرى رأي كثير عزة في نسبة النساء إلى الكذب؛ ولكن النساء تتوقف سعادتهن وسعادة أطفالهن على صدق الرجال فهن أقدر على استكشاف الكذب. . . وهي خبرة فنية فيهن!
عبد اللطيف النشار
التعليم في مصر في السنوات العشرين الماضية
قال صاحب المعالي وزير المعارف من كلمة قيمة ألقاها في الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للتعليم:
حسبي لتصوير السرعة التي سار بها التعليم وتطور في مصر أن أذكر لحضراتكم أن مصروفات التعليم المدرجة في ميزانية الدولة العامة كانت في سنة 1920 (1. 013. 503) جنيهات مصرية، وأنها الآن 5. 619. 181 جنيهاً مصرياً، منها لوزارة المعارف 4. 769. 881 جنيهاً وللجامعة 849. 300 جنيه. وقد كان عدد المدرسين بمدارس الوزارة في مراحل التعليم المختلفة سنة 1920 (1293) مدرساً، وهم اليوم 7277.(396/51)
وكانت مدارس التعليم الثانوي سنة 1920 تسعاً بها 3314 تلميذاً، أما الآن فهي ست وثلاثون بها 19749 تلميذاً.
وقد انتقل عدد مدارس التعليم الابتدائي من 34 في سنة 1920 إلى 132 مدرسة الآن، وانتقل عدد من تلاميذها من 10749 في سنة 1920 إلى 24301 الآن.
أما التعليم الفني (صناعي وتجاري وزراعي) فكانت مدارسه سبعاً في سنة 1920 فأصبحت الآن سبعاً وثلاثين. وكان عدد تلاميذها 1412 سنة 1920 فأصبحوا الآن 13800.
ولم يكن بمصر في سنة 1920 غير مدرسة ثانوية واحدة للبنات، عدد تلميذاتها 28. أما اليوم فعندنا ثماني مدارس من هذا النوع بها ألف وستمائة تلميذة.
وهذه الفترة أنشئت إلى جانب التعليم الثانوي للبنات المدارس النسوية الراقية والمدارس الفنية والخصوصية: كالفنون الطرزية، والثقافة النسوية، وكلية البنات وما إليها. وقد بلغ عدد هذه المدارس الآن خلا مدارس المعلمات اثنتي عشرة مدرسة بها 2411 طالبة.
وكانت مدارس البنات الابتدائية خمساً في سنة 1920 عدد تلميذاتها 843؛ أما الآن فعدد هذه المدارس اثنتان وثلاثون، وعدد تلميذاتها 3489.
وقد تضاعف نشاط التعليم الحر واستأثر بالحظ الأكبر من التعليم الابتدائي، وبحظ غير قليل من التعليم الثانوي. كانت مدارسه في سنة (1920) 61 مدرسة للبنين، و25 مدرسة للبنات بها 14638 تلميذاً وتلميذة. أما الآن فللتعليم الحر الابتدائي 251 مدرسة للبنين و92 مدرسة للبنات، بها جميعاً 56691 تلميذاً وتلميذة. وكانت مدارس التعليم الثانوي الحر في سنة (1920) 32 للبنين فقط بها 4490 تلميذاً؛ أما الآن فقد صارت 59 مدرسة للبنين و12 مدرسة للبنات جميعاً 14621 تلميذاً وتلميذة.
وكانت مدارس التعليم الأولى والتعليم الإلزامي في سنة 1920 3978 مدرسة بها 5851 معلماً و262553 تلميذاً. أما الآن فمدارسه 4631 مدرسة بها 25130 معلماً و1148219 تلميذاً. وحظه من ميزانية وزارة المعارف 1548884
تصحيح رواية في مقال.
حضرة الأستاذ الجليل صاحب الرسالة الغراء.(396/52)
لأستاذنا الجليل الدكتور عبد الوهاب عزام أسلوب قوي رائع في أبحاثه القيمة عن أخلاق القرآن نتابعها بدقة بدقة وشغف. . .
ونستزيده منها. وإنه لماض أعزه الله.
. . . وغير أني لاحظت في موضوع (العفو) المنشور في العدد 395 من الرسالة ما يلي:
قال خالد بن الوليد. لسليمان بن عبد الملك: (إن القدرة تذهب الحفيظة. وقد جل قدرك عن العقاب ونحن مقرون بالذنب. فإن تعف فأنت أهل للعفو، وإن تعاقب فيما كان منا) ويبدو لي الخطأ في اسم خالد بن الوليد أو السهو أو إنه يقصد خالداً آخر، فما كان رضي الله عنه من رجال سليمان بن عبد الملك ولا شاهد عصره. ولا أخال أحداً يجهل تاريخ موت خالد إذ وافاه الموت في حمص سنة إحدى وعشرين في عهد الفاروق عمر ابن الخطاب. وهو القائل على فراش الموت: لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجي عنده بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني بمطر إلى صبح حتى نغير على المشركين فإذا أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي فاجعلوه في سبيل الله. . .
وأوصى وصية واختار أميناً عليها عمر بن الخطاب على ما كان بينهما، فلما بلغ أمير المؤمنين عمر نبأ موته قال في حزن وألم: ما على نساء الوليد أن يسفحن على خالد دموعاً.
وسمع راجزاً يذكر خالد فقال والأسف ملء فؤاده: رحم الله خالداً. رحم الله خالداً.
(المنصورة)
خالد عبد المنعم.
فتيات في الأزهر
نشرت الرسالة في عددها رقم (395) نبذة بقلم الأديب (إبراهيم إبراهيم الخولي) بعنوان: (فتيات الأزهر) ورد فيها أن المستشرق الإنجليزي (مستر دن) في كتابه: (الحياة الفكرية والتعليمية في مصر في القرن التاسع عشر) ذكر ما خلاصته أن الحملة الفرنسية في قدومها إلى مصر وجدت في صحن الأزهر بضع نساء يتعلمن إلى جانب الشبان. . . الخ.(396/53)
والذي أعرفه أنه ليس للأستاذ (هيورت دن) مدرس العربية بقسم اللغات الشرقية بجامعة لندن كتاباً يحمل العنوان الذي ورد في سياق النبذة التي سجلها الأديب، وإنما عنوان كتابه هو: (مقدمة عن تاريخ التعليم في مصر الحديثة).
والكتاب مطبوع في لندن عام 1938
ولا يحوي هذا الكتاب أية معلومات من النوع الذي ذكره الكاتب، وإنما الشائع أنه كانت في مصر في الجيل الماضي بضع نساء لهن إلمام بالنحو والعروض والشعر ومنهن: (فاطمة الأزهرية) و (ستيتة الطبلاوية). وقد درست عليهما السيدة (عائشة التيمورية) القصائد والموحشات والأزجال. فإذا كان حضرة الكاتب يعرف غير ما تقدم، فأرجو إلا يبخل بإرشادنا إلى ما فيه النفع.
محمد أمين حسونة(396/54)
القصص
الرفاق الثلاثة
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار.
(عزيزي:
إن خطابك المؤرخ في 16 من هذا الشهر قد تضمن من الحماقات ما تضمنه كل خطاب تضمنه كل خطاب تكتبه لأن المركز الذي وضعت نفسك فيه سببه فقدانك التروي والتعقل. . .)
بهذه الألفاظ بدأ هنري وارنج خطابه الذي كان يمليه على كاتبته وهو جالس إلى مكتبه وهي بجانبه تكتب على الآلة الكاتبة. ثم نهض متبرماً ومشى وعلائم الملالة والسأم بادية عليه حتى وصل إلى النافذة فأطل منها ثم أخرج من جيبه خطاب ابنه فأعاد تلاوته وهو يتأفف وقال: (خمسون جنيهاً! هذا كثير! هذا تصرف غير معقول)
ثم عاد إلى السكوت وإلى الإطلال من النافذة فنبهته الكاتبة قائلة: (ألا تريد إتمام الخطاب؟).
فمشى نحوها ووضع يده على كتفها برفق وقال في صوت يتصنع فيه العذوبة: (لقد كنت شارد الذهن - إن ابني الشقي -).
وتنهدم ثم قال: (إن ابني يعاملني معاملة سيئة، فقد رفض مساعدتي إياه على اختيار عمل مناسب واشتغل بحرفة التمثيل ثم تزوج من ممثلة تعسة).
وكان الأب يرتعش عند ما ذكر الجملة الأخيرة. فقالت الكاتبة: (هل هذه الممثلة جميلة).
قال هنري: (إنني لم أرها ولا أريد أن أراها). فقالت الكاتبة: (والخطاب؟).
قال: (اتركيه الآن). ثم أنعم نظرة في عنق الكاتبة وذراعيها وقال: (ألا تتعبين من العمل يا مس ماسترز؟).
فقالت: إنني أتعب كثيراً ولكن لي جلداً على العمل.
قال: ألا تحبين التنزه و. . . والسرور؟ فقالت: إنني أجلس أحياناً في مقهى من مقاهي حي(396/55)
سوهو.
قال: إن المقاهي كثيرة في أحسن من هذا الحي الحقير. ثم سكت وعاد ذهنه إلى الشرود، وبعد قليل التفت إليها وقال: ماذا كنت أقول لك الآن؟
فقالت: هل كنت تدعوني إلى العشاء؟
قال: إنني آسف، لقد كنت أفكر. . .
فقاطعته قائلة: إنني أقبل إذا أردت.
فابتسم وبدا على وجهه السرور؛ وقال: هذا حسن.
قالت: ولكن خطاب ابنك؟
فتحولت حالته مرة أخرى إلى الغضب وقال: إنني لن أبعث إليه بدرهم واحد.
قالت: إذا كانت هذه هي معاملتك لابنك فإني لن آتمنك على نفسي.
فقال الأب في شيء من الغضب: لماذا تهتمي كثيراً بابني؟
قالت: أنا لا أهتم؛ فقال: إذن فلماذا. . .؟ فأحنت رأسها ولم تجبه؛ وكان منظرها وهي تتحدث باعثاً لخاطر جنوني في نفس هذا الشيخ الفاني فانحنى وقبل شعرها اللامع؛ فقالت بصوت خافت وهي لا تزال مطأطئة الرأس: متى. . . غداً؟
فأجابها: نعم في الساعة السابعة.
قالت: وماذا تقول في الخطاب؟
ثم نظرت إليه وهي تبتسم ابتسامة مغرية؛ فقال: أتمي الخطاب كما تريدين.
فقالت وهي تستأنف الكتابة: أما عن المال، فإن طلبك إياه وقاحة.
قال: اكتبي كما تريدين. فعادت إلى الكتابة وهي تقرأ ما تكتبه: ولكني مع ذلك أبعث إليك تحويلاً بمبلغ خمسين جنيهاً، ثم قالت: هل أوقع الخطاب بتوقيع (والدك الحنون)؟
فلم يجبها؛ وسكتت هي أيضاً.
كان مطعم لويز بلو مزدحماً عند ما دخل هنري وكاتبته فجلسا متقابلين في وسط الزحام على جانبي منضدة، وكانت تحدثه بصوت رخيم وينظر إليها نظرة إعجاب وسألها: (هل أبواك على قيد الحياة؟)
فبدا عليها الاضطراب وقالت بصوت متغير: (إن أبي لا يزال حياً)(396/56)
فقال هنري: (إنني آسف إذا كان هذا السؤال قد جدد لك ذكرى تريدين نسيانها، ولكني أشتاق إلى معرفة شيء عنك.
قالت: (إن أبي تزوج بعد أمي ولم أستطع الحياة مع زوجته فتركتها) فقال هنري: (ألم تفكري في العودة؟)
قالت: (إذا أردت فإنني لا أستطيع لأنه طردني من المنزل)
فقال: (ولكنه بغير شك أعطاك شيئاً من المال)
قالت الكاتبة: (لقد أرسلت إليه مرة أطلب مالاً فرفض.
فقال هنري: (يا له من وحش! أيستطيع الآباء أن يفعلوا هذا؟. . .)
ثم تذكر الأب بعد ما نطق بهذه الجملة أنه كان بالأمس يريد أن يرفض مطلب ابنه في المال فخجل، وفي هذه اللحظة رأى شاباً يدخل المطعم وقد دلت حالته على أنه يبحث عن إنسان بعينه، لأنه كان يدور بلحظة حول كل المناضد، ولما أدار هذا الشاب وجهه عرفه هنري وإذا به ابنه.
أحمر وجه هنري فجأة ونظرت إليه الكاتبة مستغربة، ثم تمتم بكلمات فهمت منها أنه قد آن أوان الذهاب.
ولكن قبل أن يتحرك امتدت إليه يد الشاب وقال: سعدت مساء يا أبي.
فسأله هنري: ما الذي تعنيه باقتفاء أثري؟
قال الابن: أليس لي يا أبي أن. . . ولكن قبل يتمم جملته وقع نظرة على الكاتبة فسكت، وأشار له أبوه بالجلوس فشكر وجلس، وقال هنري وهو يقدم لابنه كأساً من النبيذ: قل لي لماذا أتيت هنا؟
فقال الابن ببرود: أليس لي أن أبحث عمن يأخذ زوجتي فيدعوها إلى العشاء في المطاعم؟
قال هنري قد احتدم غيظاً: زوجتك! هذه كاتبتي يا روبرت). فقال روبرت: (هذه السيدة كاتبتي أنا يا أبي)
فنظر هنري إلى ابنه ثم إلى الكاتبة فابتسمت ووافقت على قول روبرت فعادت إلى الأب حالة الغضب، فقال روبرت: (إننا نريد يا أبي أن نصطلح. فزمجر هنري وقال الابن: لقد مرت بي وبزوجتي ظروف عصيبة ففكرت في هذه الحيلة. وجاءت للاشتغال عندك ونحن(396/57)
آسفان على إغضابك)
وقالت الكاتبة: (إنني على ما أراه قد حزت رضاك وإعجابك فلا أظنك تظل على غضبك من زواج ابنك بي)
ومدت قدمها من تحت المنضدة نحو قدمه لتعاكسه كما كان يفعل منذ خمس دقائق. ولكنه لم يجرؤ على ذلك، وقال وهو مغضب: (لقد خسرت كاتبتي يا روبرت)
فقالت وهي تبتسم: (خير لك أن أكون زوجة ابنك)
عبد اللطيف النشار(396/58)
العدد 397 - بتاريخ: 10 - 02 - 1941(/)
فلسفة الضحك
للأستاذ عباس محمود العقاد
والذي ذكرني هذا الموضوع نعى الفيلسوف الفرنسي (برجسون)، لأنه صاحب رأي من الآراء المعدودة في (فلسفة الضحك)، ولأن الأشياء التي توضع في الذهن موضع المتناقضات من دأبها أن يذكر بعضها ببعض؛ فالبكاء من ألزم الأشياء لفجيعة الموت، والضحك يناقض البكاء على جميع الألسنة، وإن لم يكونا في الواقع نقيضين أو طرفين متقابلين
فالحزن نقيض السرور ولكته ليس بنقيض الضحك؛ وقد يحزن الحيوان الأعجم ولكنه لا يضحك أبداً ولا يستطيع أن يضحك، إذ الضحك خلة إنسانية ملازمة للعقل والضمير. ويقال: إن الإنسان حيوان ضاحك، كما يقال: إن الإنسان حيوان ناطق: كلاهما وصف لا ينفصل عن التمييز الإنساني ولا يكون لغير الإنسان
وهنا ينبغي أن ننبه إلى أن قهقهة القرد ليست من الضحك إلا في الصوت، وأن الببغاء قد تحاكي الإنسان الضاحك كما تحاكي الإنسان المتكلم، ولكنها جميعها أصداء وأصوات ليس لها من التمييز المنطقي نصيب
ولا غرابة في أن يُعرَّف الإنسان بالضحك كما يعرَّف بالمنطق والتمييز، لأن المنطق هو الذي يجعلنا نضحك، وكل عمل مضحك فهو في حقيقته منطق ناقص أو قضية يختل فيها القياس والترتيب
ومن ثم يضحكنا الأطفال لأنهم لا يحسنون القياس، ولكنهم يركبون القضايا المنطقية تركيباً في نقص واختلال
فالطفل الذي يرى أباه يحلق ذقنه فيصر على أن يحلق ذقنه مثله يقيس قياساً منطقياً لا يدري موضع النقص فيه
وكذلك الطفل الذي يصيح في أهله أن يردوا شعره إليه بعد حلقه، إنما يقيس الشعر على الأشياء التي تؤخذ منه وترد إليه كلما شاء استردادها، فيخطئ القياس
والكبار الذين يضحكوننا إنما يصنعون مثل هذا: يقيسون ويخطئون القياس، ويكتفون بالمحاكاة ولا يتصرفون(397/1)
ولو أننا نظرنا إلى كبار الممثلين المضحكين لوجدنا أنهم يتعمدون اخطأ على هذا المنوال، ويتبعون أسلوباً في وضع الأمور في غير مواضعها يتنوع ويختلف على حسب أمزجتهم وملكاتهم ولكنه يلتقي في خلة واحدة وهي اختلال القياس
فلوريل وهاردي مثلاً قد أُدخلا السجن في إحدى رواياتهما ثم استطاعا الإفلات منه ونعما بالسكر والنزهة وهما مفلتان، فلما طاردهما الحراس في الطريق هربا إلى باب السجن يلتمسان الخلاص هناك: قياس منطقي لا شك فيه، ولكن النقص فيه ظاهر للمتفرجين وإن لم يظهر للممثلين على حسب الدور الذي كانا يمثلنه
وشارلي شابلن قرأ فلسفة الضحك للفيلسوف برجسون قبل أن يمثل لنا الإنسان الآلي الذي يأكل بالعدد المتحركة في روايته (أنوار المدينة)، وكذلك لاحظ هذه الفلسفة على ما نظن في الكلمات التي كان يغنيها بغير معنى ولا وحدة في بعض مواقف تلك الرواية، لأن مذهب برجسون أن سبب الضحك هو تصرف الإنسان كما تتصرف الآلة، بغير تمييز بين المتفقات والمختلفات، وبين ما يقتضي التغيير وما ليس يقتضيه
وهذا مذهب مطابق لما أسلفناه من تعليل الضحك باختلال القياس أو الاطراد على نسق واحد لا يوجب الاطراد
رجل دخل السجن مرة فهرب وسكر وطرب فهو يحسب كل دخلة إلى السجن منتهية إلى هذه النتيجة، ويمضي على هذا السنن كما تمضي الآلة التي تأتي بحركة واحدة ولا تقدر على تغييرها إذا تغيرت الدواعي والموجبات
فاضحك إنما هو سلاح الإنسانية للمحافظة على المرتبة التي وصلت إليها فوق الجماد وفوق الحيوان، ومن هنا استحال على الحيوان أن يضحك لأنه لم يصل إلى هذه المرتبة وليس عنده من التمييز ما تستدعيه
ومذهب برجسون هذا هو جزء متمم لفلسفة كلها في حقيقة التطور وحقيقة المادة والفكرة، فهي تركيبة شاملة يفسر
بعضها بعضاً ويقوم الدليل من إحدى نواحيها على إثبات سائر النواحي. وله براعة في هذا التوفيق مع سهولة في
التعبير لم يرزقها فيلسوف حديث بعد (شوبنهور) الذي انفرد بهذه المزية بين فلاسفة(397/2)
الألمان وسائر الفلاسفة في عصره
وللقارئ أن يراجع النكات أو المواقف التمثيلية التي أضحكته ليعرضها على هذا المذهب، فهو واجد فيها لا محالة تصرفاً هو أشبه بحركة الآلة منه بتمييز الإنسان الناطق، أو واجد فيها شيئا من وضع الأمور في غير موضعها وقياسها على غير مقياس صحيح
ومن أمثلة ذلك تلك النكتة التي تروى عن ظريف من أبناء البلد يقول عن أحد الأطباء إنه يعلق مريضاً على باب المستوصف!
فذلك الطبيب على حسب هذه النكتة يرى أن أصحاب الدكاكين يعلقون على وجهاتها نماذج مما يعملون فيه، وهو يعمل في المرضى ويستمد منهم تجارته، فلماذا يا ترى لا يعلق مريضاً على باب دكانه؟
وهذا هو التصرف الآلي كما يقول برجسون، أو هذا هو القياس بغير المقياس الصحيح
ومن أمثلة ذلك (حانوتي) في إحدى الروايات الهزلية التي عرضت بمسارحنا المصرية يملأ جيوبه بالمناديل المطوقة بالسواد ليقدمها إلى الباكين من أهل الموتى على سبيل الإعلان (عن المحل)!
فالتصرف في هذا الموقف كتصرف الطبيب المزعوم، والقياس هنا كالقياس هناك
ومن الواجب أن نفرق بين موضوع الضحك وبين شعورنا الذي نواجه به الإنسان المضحك، فإنهما شيئان منفصلان كل الانفصال كانفصال حقيقة الجمال عن شعورك أنت بالإنسان الجميل
فنحن نعطف على الطفل الذي نضحك منه، ونزدري الرجل الكبير الذي يصنع مثل صنعه، وننفر من المغرور المكابر الذي يبعث الضحك والسخرية، ونألم للمريض الذي يخطئ كما يخطئ الأطفال وأشباه الأطفال، وما من إحساس من هذه الأحاسيس داخل في طبيعة الضحك وحقيقته الفلسفية، بل هو عارض يلازم الضحك أو يفارقه ويكون عند هذا الإنسان على خلاف ما يكون عند غيره: فقد يؤلمني ما يوجب الازدراء عند الآخرين؛ وقد تغتبط لرؤية العدو في موقف السخرية وتأسى لرؤية الصديق في ذلك الموقف بعينه
إن نعي برجسون لم يذكرني فلسفة الضحك وحدها بل ذكرني أموراً كثيرة منها ما يحزن ومنها ما يبعث الرجاء(397/3)
ذكرني نصيب الفلسفة بيننا نحن المصريين منذ عشرات الآلاف من السنين، فلم يكن للفلسفة قط نصيب حسن بين المصريين أقدمين كانوا أم محدثين
لم؟ لأن الدولة القوية تنشأ إلى جانبها الكهانة القوية، ولأن الكهانة القوية قد استأثرت في مصر القديمة بالبحث عن حقائق الكون وأسرار الحياة، وأدخلتها في عداد المراسم الدينية التي تفرضها على الأفكار، ولا تسيغ فيها التجديد والابتكار
أما بعد انقضاء الدولة القديمة والكهانة القديمة فالاستعباد علة محققة من علل القضاء على الفلسفة في هذه الأمة، لأن الفلسفة هي المعرفة التي يطلبها العقل لذاتها أو يطلبها لذاته؛ فهي من مطالب الأحرار وليست من مطالب المستعبدين الذين يريدون ما يرادون عليه ويحصرون همتهم في المنفعة والجزاء
وقد ينبغ بين هؤلاء المستعبدين حكماء من معنى الحكمة التي هي اختبار واتعاظ وانتفاع بتجارب السابقين
أما الحكماء من معنى الحكمة التي هي نفاذ إلى كنه الحقائق، فظهورهم وارتفاع شأنهم بين المستعبدين مستحيل أو كالمستحيل
هاتان علتان أرضاهما لتعليل كساد الفلسفة بين أبناء هذه الأمة في الزمنين القديم والحديث، ولا بد من مرانة طويلة على الحرية قبل أن يزول هذا الأثر من آثار الاستعباد
ولكن هل العلة التي أرضاها هي العلة التي تطابق جملة الأسباب؟ وهل هي دون غيرها التي تطابقها، أو هنالك علل أخرى يقول بها من ليس يرضيهم من أمر هذه الأمة ما نرضاه؟
العلل التي تقال في هذا الصدد كثيرة، ومنها ضيق الواعية وانطباع الذهن على سهولة التفكير والتقيد بالمحسوسات والعمليات
ومنها قلة الجد والجلد وأخذ الحياة بالظواهر والوقوف بها عند السكك المطروقة والعادات المكررة التي تصد عن الإبداع وتغلق منافذ الاستغراب والتساؤل والاستطلاع
وكلتا العلتين تستند إلى الأخرى، وكلتاهما لا نرضاها ولا نجزم بنفيها لأننا لا نرضاها!
قلنا إن نعي برجسون ذكرنا أموراً تحزن وأموراً تبعث الرجاء. فهذا الذي يحزن وهو حزن هين في عرف الكثيرين!(397/4)
أما الذي يبعث الرجاء فهو تلك النبوءة التي أنبأ فيها الفيلسوف بهزيمة السلاح المادي أمام الآداب الإنسانية يوم أن نشبت الحرب الماضية وكان الناس في شك من عقباها لما شاهدوه من بطش السلاح المادي خلال المعارك الأولى
فقد كان برجسون مؤمناً بغلبة الروح على القوة المادية، وكان يبني ذلك الإيمان على مثل السبب الذي اعتمده في تعليل الضحك، وهو أن التقدم الإنساني مرهون بتقدم الروحيات على الآليات، وأن الإنسان لم يخلق ضاحكاً ليصبح آلة مغلوباً بقوة الآلة، بل خلق ضاحكاً ليسخر من الآلات، ومن يردونه إلى حكم الآلات.
عباس محمود العقاد(397/5)
أخلاق القرآن
صلة الأرحام
للدكتور عبد الوهاب عزام
(خاتمة)
أمر القرآن الكريم بالرحمة العامة والإحسان الشامل - الرحمة التي تنال القريب والبعيد والإنسان والحيوان، والإحسان الذي يعم الناس جميعاً ويشمل كل فعل وكل قول. . .
ثم خص ضروباً من الناس فوكد الأمر بالإحسان إليهم وكرر الوصية بالبرّ بهم، ومن هؤلاء ضعاف الناس من الفقراء واليتامى إذ كانوا أحوج إلى العطف، وأجدر بالبر، وأولى بالإحسان.
وممن وكد القرآن الأمر ببرهم والإحسان إليهم، ذوو القرابة لأن القريب أعرف بقريبه وأدنى إليه، ولأن الإحسان العام يبدأ بالقرابة ثم يتسع فيعم، ولأن مودة القرابة تمكن الأواصر بينهم وتشيع المحبة فيهم، وتقربهم إلى التعاون. ومن هذه المودة في القربى تستحكم روابط الأسر، ومن الأسر تتألف الأمة متينة الأساس محكمة البناء. فمودة القربى دُربة على المودة العامة، وتمهيد للإحسان الشامل. والقطيعة بين الأقرباء فساد وإن صغر كبير، وشر وإن قل مستطير، وعلة في النواة تبين في الشجرة، وخلل في الأسرة يظهر في الأمة
لذلك وكد كتاب الله الأمر بمودة ذوي القرابة وصلة الأرحام ولا سيما الوالدان
عظَّم القرآن صلة الأرحام إذ قرن تقواها بتقوى الله تعالى فقال: (واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام إن الله كان
عليكم رقيباً). وأمر بتوفية القرابة حقها إذ قال: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل). وقرن قطع الأرحام
بالإفساد في الأرض إذ قال: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)
وقد جاء في حديث الرسول صلوات الله عليه وسلامه أن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من(397/6)
خلقه قالت الرحم: (هذا مقام العائذ بك من القطيعة. قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب. قال: فهو لك) وقال رجل للرسول: (أخبرني بعمل يدخلني الجنة) فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم) وفي الحديث أيضاً: (لا يدخل الجنة قاطع)
ذلكم أمر القرآن والسنة بصلة الأرحام عامة والنهي عن قطعها. وأما بر الوالدين خاصة فقد أعظم القرآن أمره، وكرر الأمر به في آيات كثيرة. وحسبك أن القرآن قرن الإحسان إلى الوالدين بتوحيد الله، وشكر الله بشكرهما في آيات قال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) وقال: (قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا) وقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.)
بل أمر القرآن الكريم أن يحسن الولد المسلم إلى أبويه غير المسلمين وإن دعواه إلى الكفر واجتهدا في ردّه عن الإسلام. قال: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك. إلىّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون)
وجاء في الحديث أن رجلاً سأل رسول الله أي العمل أحب إلى الله عز وجلّ؟ قال: الصلاة على وقتها. قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله. وروى عبد الله بن عمرو (أن رجلاً قال للنبي: أجاهد. قال: ألك أبوان؟ قال نعم. قال: ففيهما فجاهد.) وقد ذكر رسول الله الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين.)
وأما الإحسان إلى الأولاد فله من شفقة الوالدين ما يغني عن الترغيب والإيصاء؛ ولكن يقع في البشر شذوذ يصيب الولد بقسوة الوالد. وقد علم القرآن الناس البر بالأولاد ولا سيما البنات فعصم دماءهن وجعل لهن حقاً في الميراث، ورفع مكانة المرأة وجعل لها مثل ما عليها من الحقوق والواجبات
وفي رسول الله أسوة حسنة للوالد الشفيق والأب البار. قبّل رسول الله الحسن بن علي(397/7)
وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. فنظر إليه رسول الله ثم قال: من لا يرحم لا يرحم. وقال أعرابي للنبي: تقبلون الصبيان؟ فما نقبّلهم. فقال: (أو أملك لك آن نزع الله الرحمة من قلبك؟)
هكذا أشاد الإسلام بحقوق القرابة وأواصر الأسرة ووكد رعايتها وجعل لها مسحة من التقديس، لأن الناس لا يتاحبون ويتوادون ويتعاونون إلا ان تبدأ هذه المحبة وهذا التعاون من الأسرة، ثم تتسع عاطفة الخير فتعم القريب والبعيد، وتفيض على الأمة كلها ثم تنال الناس جميعاً
وإنّا لنرى اليوم أواصر الأرحام تنقطع، وعرى القرابة تنفصم، وبناء الأسرة يهن بما بعدنا من قرآننا وديننا وتاريخنا وسنننا. شغل رب الأسرة عن أسرته، وثارت بالأولاد الفتنة، وظن الأحداث إن الحرية أن ينتهكوا حرمات الأسرة، وأن الجِدّة أن يثوروا على سلطان الوالدين
ألا إن على المصلحين أن يطبوا لهذا الداء، وأن يبذلوا ما يملكون من فكر وعمل في تقوية أواصر القرابة وإحكام بناء الأسرة على قواعد من الحب والإيثار، وإكبار الكبير والعطف على الصغير، والتعاون على الخير والحق
خاتمة
قصصت عليكم طرفاً من أخلاق القرآن، وحدثتكم بنبذة من آدابه وشذرة من وصاياه، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
تكلمت عن العدل، والوفاء بالعهد، وعن الإحسان والصدق والصبر والعفو ولم أرد أن أستقصي أخلاق القرآن وآدابه فهي شريعة الإسلام الأخلاقية كلها، وهي تهدي إلى ما بعدها وترشد إلى ما وراءها. والقرآن الكريم كنز من الأخلاق لا يفنى، ومنبع للفضائل لا ينضب. فليت المسلمين يرجعون إليه ليتبينوا سننه، ويتخلقوا بأخلاقه، ويتأدبوا بآدابه، لتكون لهم عصمة في هذا العصر المفتون، وقبساً وعزاً من هذا الذل، واجتماعاً من هذه الفرقة، وعلماً من هذه الجهالات، وهدى من هذه الضلالات، ولتكون لهم بعد الشقاء سعادة، وبعد الشدة رخاء، وبعد العسر يسراً.
أَلا إن كتاب الله الكريم لا يدعو إلى أخلاق الصوامع كما بينت لكم، ولكن يدعو إلى أخلاق(397/8)
تسعد الناس في معارك الحياة، وترشدهم في فتنها، وتوفي بهم على الغاية التي أرادها الله لخلقه، وهدى لها عباده، وبعث من أجلها رسله. الأخلاق التي يحيا بها موتى الشقاء لا التي يموت بها الأحياء. وإن فيها لسعادة الفرد والجماعة وسعادة الناس كافة، وإن فيها لنجاة العالم من كوارثه، وخلاصه من مهالكه، وإنما هي السلام في نفس الفرد، وفي جماعة الأسرة، وفي نظام الأمة، وفي مجتمع البشر. وهل هي إلا تخليص النفس من ضلالاتها، وتطهيرها من أرجاسها، وإبراؤها من أهوائها، ثم حكمها بعدل الله الذي يبصّر بالواجب كما يبصر بالحق، ويدعوا إلى العطاء كما يدعو إلى الأخذ، وينزل الناس على حكم الإنصاف المؤلف للقلوب، والألفة المعينة على الخطوب، والتعاون الذي يذلل الصعاب، ويُبلغ المقاصد، وينيل المطالب، ثم إقامة الجماعة في نظام جامع من الإنصاف والألفة والمودة والتعاون يرد عداوتهم محبة، وحربهم سلاماً، وظلمهم عدلاً، وجشعهم قناعة، ويجمع القلوب والعقول والأيدي على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان.
إلى هذه الأخلاق يدعو القرآن، وإلى هذه المقاصد تقصد أخلاق القرآن. فمن لي بأن يهتدي المسلمون بها لتهدي الأمم بهم؟ ومن لي أن يلجأ المسلمون إليها ليكونوا لها حجة قائمة وإليها دعوة صادقة، ويذكروا أنهم أمة واحدة يهديها كتاب واحد، وأن أخلاق هي الوشائج التي تجمعهم والسنن التي تنظمهم، والأسطر التي تؤلف بين كلماتهم؛ ثم يحذروا أن يذهب نظامهم بدَداً، واجتماعهم اضطراباً، بما فرطوا بما أورثوا من هذه الأخلاق القويمة، وهذه السنن الصالحة، وهذه القوانين الجامعة
يقول الله تعالى: (إن هذا القرآن للتي هي أقوم). ويقول: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين. ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). صدق الله العظيم.
عبد الوهاب عزام(397/9)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
البلبل العائد إلى الروض - بيني وبين أصدقائي
البلبل العائد إلى الروض
كنت أحب أن أجزي الأستاذ البشبيشي ثناءً بثناء، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ولكن غرامي بالمشاغبة غيَّر مقام الخطاب، فأنا سألقاه بالملام لا بالثناء، وهو المسئول عما سيقع في كلامي من قسوة وعنف، لأنه حدثنا أنه مُقْبلٌ على أمر عظيم هو العودة إلى الروض، وقد كادت كلمته بالرسالة تشهد بأنه يعاني مشقة أليمة في رياضة جناحيه على النهوض، بعد طول القرار بأرض الهُجود، إن جاز الوهم بأن الغفوة تجوز على قلب ذلك الصديق
وما لي لا أقول الحق فأصرح بأني أخاف على الأستاذ البشبيشي عواقب العودة إلى روض الأدب والبيان؟
أنا أخاف على هذا الصديق أشد الخوف، لأن ماضيه القريب داني على أنه تعرض لغضب الأدب مرتين، ولو شئت لقلت إنه تعرض لغضب الله مرات. . . ولكن كيف؟
نسي الأستاذ البشبيشي أو تناسى أن الله يسوق المكاره إلى النوابغ من وقت إلى وقت ليفتح عيونهم وقلوبهم على ما في الوجود من أنوار وظلمات، ونسي أو تناسى ان الله يطالب أولئك النوابغ بالحمد على تلك المكاره، لأنها في الواقع نعم سوابغ
فما الذي صنع ذلك الصديق وقد تفضل الله بامتحانه مرة ومرتين ومرات ليشرع القلم في وصف ما يعتلج في ضمير الوجود من آراء وأهواء وحقائق وأباطيل؟
أُوذيَ البشبيشي بالظلم والغدر والعقوق، فهل استفاد قلمه من ذلك الإيذاء؟
أيكون آثر العفو عن ظالميه؟ إن كان ذلك فما الذي صدر عن قلمه في ذلك الصفح الجميل؟
المهم هو ان ينتفع الكاتب من جميع الظروف، فيكون لقلمه حنين ورنين وصرير وزئير، وفقاً لاختلاف الأحوال من قلق وهدوء، وبؤس ونعيم، فإن ضيع هذه الفرص السوانح وترك عواطفه تخمد وتبيد فهو غير أهل للعودة إلى الروض، ونحن على صده قادرون، فليس منا مَن يضيِّع فرصة الانتفاع بمواسم القلوب في القبض والبسط واليأس والرجاء(397/10)
إن روض الأدب ليس حديقة مصقولة الحواشي كالحدائق التي تقام في قصور الأمراء والوزراء، فتلك حدائق لا تغنِّي فيها البلابل إلا وهي محبوسة في أقفاص، أو ما يشبه الأقفاص من المغاني المسقوفة بأسلاك الحديد
روض الأدب ليس من تلك الحدائق حتى يقول الأستاذ البشبيشي إنه قادم للغناء وفي يده وَترٌ حنّان هو قلمه البليغ
هيهات، هيهات، وإنما روض الأدب جنة وحشية تشبه الجنة التي اعترك فيها الخير والشر والهدى والضلال لعهد آدم وحواء
في روض الأدب أزهار ورياحين، وفيه أيضاً أشواك وحيات وشياطين
هو روضٌ وحشي تجاورَ فيه الكِناس والعرين، واقترب فيه عش الطائر من وكر الثعبان، وأنتَ واجدٌ بذلك الروض ما شئت من صنوف السم والترياق، ففيه أنهار من الشهد وبحار من الصلب، وفيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من أفانين الود والحقد والصدق والبهتان
في ذلك الروض الوحشي لا يغرد البلبل إلا وهو مطمئن إلى أنه تفرد بالقدرة على السباحة في لجج الهواء. . . وفي ذلك الروض يزأر الأسد وهو واثق بأنه السيد المطلق، وفيه يبغم الظبي حين يعرف مسالك الأمان من كيد أولئك (السكان)
كل شئ حيٌ في ذلك الروض حتى هوامد الأعشاب وصوامت الغدران. فما الذي أعددت، أيها البلبل، لزيارة هذا الروض؟
ما أشد خوفي عليك، يا صديقي، فأنت فيما يظهر لم تسمع بأفاعي الرياض
البلبل في ذلك الروض يغني بالنهار، ويسهر خائفاً بالليل، لأنه يعرف أن في ذلك الروض خلائق مؤذية تتسلق الأشجار في الظلمات لتعصر رقاب البلابل ثم تبتلعها برفق؛ والموت هو الموت ولو جاء في أعقاب النشوة بكؤوس الرحيق
وأنا جربت الحياة في روض الأدب، وعرفت من أهوال ذلك الروض ما لا تعرف. وهل تعرف أني كنت في روض الأدب بلبلاً وأفعواناً ورئبالاً؟ هل تعرف أني غَنّيتُ ولَدَغتُ وهَصَرتُ؟ هل تعرف أني قابلتُ خلائق ذلك الروض بأسلحةً مختلفات: منها الصوت الرخيم، والناب المسموم، والمِخْلبُ الفاتك؟(397/11)
وهل ألام على ما صنعت وأنا أعيش في مَسبعة سميتْ تفاؤلاً بالروض؟
وتقول: إنني اجتذبتك إلى هذا الروض؛ وما قلت إلا الحق فقد كان قلمي ولن يزال مسموع الصوت، مستجاب الدعاء، ولكن كيف أجتذبك؟ ما صنعت ذلك ترفقاً بك ولا عطفاً عليك، وإنما أردت ان تكثر النفوس في تلك المسبعة الفيحاء، ليذهب عني بروحك المؤنس بعض ما أقاسي من مُضجِرات الاستيحاش، إن صح لمثلي أن يتهيب العزلة والانفراد في روض السباع الضاريات
أما بعد، فهذا روض الأدب، وهذا بلبل يعود بعد طول الغياب، ليغَّرد فوق أفنان (الرسالة) الشَّجراء
والحق أنه لن يرى لأول وهلة أن روض الأدب من الغابات الوحشية، وكيف وفي ذلك الروض كتاب وشعراء وعلماء؟ ولكن العبرة بالخواتيم، والخواتيم في أيدي أناس غير أولئك، ناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، وهم الذين يحكمون على الأدب وهو منهم براء
لو فهم كل قارئ ما تريد أن تقول، لكان من السهل أن يأتلف الأسد والغزال، والبلبل والثعبان
ولو فهم كل قارئ أن للكاتب حقاً في أن يؤدي رسالته بالأسلوب الذي يختار لعرف قومٌ أن لا موجب للحيرة في أمري وقد طويتُ محاسني ونشرتُ عيوبي، لأسلم من آصار التكبر والإزدهاء، ولأجعل الرأي في سعادتي وشقاوتي لمن تفرد بالعزة والجبروت، وله الحمد وعليه الثناء
هذا روض الأدب، وهذا بلبل يعود
أهلاً وسهلاً ومرحباً!!
ولكن يجب أن يعترف الأستاذ البشبيشي بأننا خصصناه بالأهل والسهل والمرحب، وهي ألفاظ لم نسمع بها في هذا الروض فما كان إلا مسارب صِلال ومدارج ذئاب
الأدب؟ الأدب؟
ماذا جنينا من أيامه ولياليه وقد سبَقَنا المتجرون بالنمائم والدسائس والأراجيف؟
إن الجاسوس يملك من الثروة أضعاف ما يملك الأديب، وأهون الحظوظ في الدنيا هي حظوظ الأديب؛ فأين من يتوجع لبلائنا بالدنيا والناس؟(397/12)
آمنت بالله، وتُبتُ إلى الله؛ فما عرفت نعمةً أعظم من نعمة الخلوة إلى القلم في لحظات السيطرة الروحية على زمام الوجود
إلى القلم، إلى الروض، إلى مُعْتَرَك الهدى والضلال، إلى حيث نصافح بالفكر والروح شياطين النفوس وملائكة القلوب!
ومن الله الذي أقسم بالقلم وما يَسطُرُون نسأل الأمان من إخوان الزمان
بيني وبين أصدقائي
وأصدقائي في هذا الحديث هم قراء (الرسالة) الذين تطيب لهم مراسلتي من حين إلى حين، وهم خير الأصدقاء، لأن الصلات الروحية أعظم وأنفس من جميع الصلات؛ ومع اعترافي بهذه الحقيقة التي تؤنس روحي فأنا لا أؤدي حقوق هذه الصداقة إلا في أندر الأحايين، لأن صفحات (الرسالة) تضيق عن تسجيل ما يدور بيني وبينهم من فنون الأحاديث؛ فماذا أريد ان أقول لهم في هذه الكلمات؟
1 - أريد أن أُطَمْئن الأديب (البيسي) الذي نقل إلي عواطف بعض إخوانه في الإسكندرية عما كتبته في تأنيب الشاب المقيم بإحدى قرى المنوفية، فقد عدّوا كلامي تثبيطاً لعزائم الشبان، وتخوفوا عواقبه في قتل مواهب ذلك الأديب الناشئ.
وأجيب بأن ذلك الشاب لم ينتحر - كما توقعت - وإنما أجاب جواباً يشهد بأنه خُلق للحياة لا للموت، وذلك ما كنت أبغي، فما يسرني أن تكثر الأرقام، وإنما يسرني أن تكثر الأعلام، وأديبٌ واحدٌ متمكن أنفع للأمة من ألوف الأدباء الموسومين بالجهل المصقول، وأعيذ الأديب (الدسوقي) أن يكون من هؤلاء
2 - وأريد أن أقول للأديب (. . . .) إن ثناءه على ما أكتب في النقد الأدبي لا يغريني بالسير في ذلك الطريق إلى نهاية الشوط، لأن الجمهور يغيب عنه الفرق بين النقد والتجريح، وهو يتوهم أن لنا غاية في تعقب الآثار الأدبية بالتزييف والتصحيح. . . يضاف إلى ذلك أني أكره أشياء من بعض الناس، ففيهم من يعيش بوجهين، فيكتب إلي مشجعاً، ويكتب إلى من أنقدهم متوجعاً؛ كالذي صنع فلان حين رجا أن يكون كتابه خاصاً لا يصل إلى أسماع القراء! فهل تراهم سمعوا منه شيئاً؟! وهل عرفوا أنه يقيم في بلد يقيم فيه شاعر كبير اسمه أحمد. وهو غير الشاعر أحمد الكاشف؟(397/13)
3 - وأريد أن أقول لصاحب (جريدة مصر العليا) إني راض عن التسمية الطريفة لمصر الشَّمالية ومصر الجنوبية، وهو يعرف ما أعني
4 - ثم أنظر في جريدة (الأحوال) البغدادية فأجد صورة (شارع فيصل) بجانب الكرخ، وتحت الصورة كلمات موجهة إلي برفق ولطف، كلمات دَّبجها أديبٌ كريمٌ عز عليه أن أشكو زماني فهو يقول:
(أنت أكبر من الزمان، ما دام لك إخوانٌ أوفياء)
وعندئذٍ أتذكر أن لي في العراق ذخيرة روحية، ثم أتذكر تمثال فيصل، فمع من جلست في رحاب ذلك التمثال وصدري يفيض بالكروب في ليلة عتاب:
يا روعةَ البدر في سَماهُ ... وفتنةَ الزهر في الغصونِ
تناسَ ما شئتَ سوف تخبو ... حرارة الدمع في الشؤون
وسوف تَبلَى على الليالي ... غرائب الِّحر في العيون
أستغفر الحبَّ سوف يَبقَى ... على صروف الأسى حنيني
وتذكرت الخطابات التي تلقيتها من الكرخ، وأجبت عنها بالصمت، فراراً من عواقب الافتضاح، وهل كنت إلا طيفاً زار في السحر بساتين الكرخ وبغداد؟!
5 - وهذا خطاب من الأستاذ جاسم الرجب يشرح خلافاً بينه وبين الأستاذ شاكر الجودي حول مقال نشر في (الرسالة) بدون إمضاء، ثم فنّدته بعنف، ويرى السيد جاسم أن الناقد هو الكاتب، وأجيب بأني نسيت ظروف ذلك المقال!
أما ثورة السيد جاسم على فِلم (فتاة متمردة) ودعواه أنه يغضّ من المجتمع المصري فهو كلام لا أوافقه عليه، فذلك الفلم من الأفلام الجيدة، وقد شاهدته فأبكاني، وهو يمثل صورة من أزمات النفوس تقع في مصر كل يوم، وقد تقع أيضاً في العراق، لو التفت هذا الصديق إلى ما يمرّ بالنفوس من مكاره وخطوب.
6 - وذاك خطاب من أخ صادق يقول فيه: (هل يذكر الدكتور زكي مبارك أنه ألقى في البريد المصري تذكرة واحدة لإخوانه في بغداد وما عرف فيهم غير الصدق والوفاء؟)
وأجيب بأن العراق شغلني عن العراقيين، ولو جمع ما كتبته في الجرائد المصرية عن العراق لكان مادة تكفي لتأليف ألف خطاب، فهل ينفعني هذا الاعتذار الطريف؟(397/14)
وأنتهز هذه الفرصة فأوجه العتاب إلى رقابة البريد في مصر، فهي تفتح جميع الخطابات التي ترد إلي من العراق، فماذا ينتظر الرقباء؟ هل يتوهمون ان من المحتمل أن يكون في تلك الخطابات ما يستوجب السؤال والجواب؟
وماذا يصنع رجل مثلي أكثر من الذي صنع ليقنع قومه بأنه لا يعرف غير الهيام بخلق المودّات لمصر في أقطار الشرق؟ وكيف كانت تصير الصلات بين مصر والعراق لو صفح قلمي عمن حاولوا تكدير تلك الصلات؟
الرقباء ينفذون خطة يقضي بها الواجب، ولكن من حقنا على الدولة أن نذّكرها بأننا نعرف من المسؤولية مثل الذي تعرف، فنحن جنودها الأمناء، وما يجوز لها ان تؤذينا ولو بالتلميح، إلا ان يقال إن الرقباء لا يعرفون اسم زكي مبارك وهو عُذرٌ مقبول!
7 - وأريد أن أشكر للأديب الذي يكتب إليّ من (فارسكور) حماسته البالغة في ملاحقتي بالنقد العنيف، ثقةً بأن خفاء اسمه ينجيه من بطش قلمي! ثم أرجوه أن يتذكر أن عنواني هو (مصر الجديدة) فلا موجب لهيام خطاباته بين إدارة الرسالة ووزارة المعارف، فقد يعرضها ذلك الهيام للضياع
أما التوجيه الذي ينتظره مني فهو سهل؛ فقد دلت رسائله على تباشير من الفهم الصحيح، ويكفي ان يثابر على المطالعة الجدية بدون انقطاع، وليقصر مطالعاته مؤقتاً على أطايب المؤلفات في الأدب الحديث، لأنه أقرب إلى الإفهام والعقول، إذ كان صوراً تمثل أذواق الناس في هذا الجيل، وله بعد ذلك ان يطالع من الأدب القديم ما يشاء
وأعتقد أن من حقه أن ينشر في (الرسالة) بعض خواطره، لأنه يملك القدرة على التعبير المقبول
8 - وأريد أن أقول للأستاذ (م. م. م) إن نثرك أقوى من شعرك، وقوة الروح لا تعوزك، وإنما يُعوزك ما كان يسميه القدماء (شِدة الأَسر) في صوغ القصيد، فأرجو أن تكثر من حفظ القصائد الجياد ليرتاض طبعك على النظم الرصين
أما الأديب (مجنون القريض) فسيكون له بين الشعراء مكان
9 - وأريد أن أقول للأديب (الصنعاني) إني تلقيت خطابه بأطيب القبول، ونحن أنصار الحرية في الرأي، فمن واجبنا أن نرحب بكل ما يؤيد دعائم الحرية، وإن أخطأ صاحبه في(397/15)
التعبير عن قلبه السليم
10 - وأقول للأديب اليأس سليمان بحوث إني لا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أغير مني على لغة العرب، فليس من حقه أن يتوهم أني لا أبالي قواعد النحو والصرف حين ألتمس وجهاً لضم الظاء من (الظرف) في نطق المصريين، وما شأن هذه المسألة في بالنحو الصرف، يا حضرة الأديب؟
أنا أقول إن (الظُرف) أخذ حكم (اللُّطف) عن طريق الإتباع، ثم بقى له الحكم مع الانفراد، وهناك علة ثانية وهي التمييز بين المحسوس والمعقول، والمصريون عرب، وهم لا يخطئون في لغتهم عن جهل، وإنما (يخطئون) لأسرار قد تخفى على بعض القراء، فنتوهمهم مخطئين وهم على صواب
والحق أنه لا بدّ من التماس العلل والأسباب لانحراف النطق عند بعض الجماهير، فذلك الانحراف قد يصدُر عن سليقة مستورة لا يتنبه لها اللغويون، وهذا ما أردت النص عليه، يا سيد (سليمان)
زكي مبارك(397/16)
5 - أومن بالإنسان!
رد وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
من الدفتر القديم - في حدود البداهة - فليكن قرداً نهض على
قدميه، ثم ماذا؟ - وارث الحياة - الشر يلد والعلم يدفن -
الأشقياء الهالكون - نتائج الإيمان بالإنسان ونتائج الكفر به -
أخلاق العلماء - الألمان والإنجليز والعرب - الهنادكة وعبادة
الأبقار والثعابين - صوفية شاردة تتخيل وصوفية مادية تتحقق
- استعلان سر الوجود على تفاوت - برغوث أبي العلاء -
مذهب هدامة - فترات التمهيد لظهور الإنسان - لا نقص في
غرائز الإنسان - العلم أضاف حياة للحياة - ما أشدت بأخلاق
الإنسان - الدولة كائن عضوي واحد - تقدم العلم وتخلف
الخلق - لو آمن بنفسه - يوم قريب - لغير المؤمنين
قرأت المقال الطريف لصديقي الأستاذ زكي نجيب محمود الذي أخرجه مخرج الإنكار لما ذهبت إليه من رأي في القيمة السامية لحياة الإنسان وتفرده بالسيادة بين الكائنات، وبتوجه منافع ما في الأرض كله إليه، وبتفرده بالتغلب على كثير من قوى الطبيعة الأرضية وتسخيره إياها، وببساطة الحياة في الأرض بدونه، وبقدرته على إيجاد عوالم ومعادن وصناعات ومدن وآثار ورسالات لم يكن في الحياة شئ منها، وبقيامه وسط دورات الأرض الأبدية المحدودة المكررة، بحياة حرة تذهب في أي اتجاه وتكاد تكون منفصلة عن حياة الطبيعة(397/17)
وكنت أود أن أعيد في صدد الرد على صديقي ما سبق أن ذكرته في العددين 353، 356 من هذه المجلة رداً على سائل بيروتي سألني عن مسائل تدور حول الإنسان، وآخر مصري رأى أن يذكرني بحياة النظام والدقة التي تحياها أمم النمل والنحل وغيرهما حين رأى إشادتي بالقيمة السامية لحياة الإنسان، ولكن إعادة ذلك الحديث على قرب العهد به مما يضيق به صدري ويضيق عنه نطاق (الرسالة) ومنهاجها؛ فأحيل صديقي والذين قرءوا مقاله فأثر فيهم على هاتين المقالتين السالفتين فإن ما فيهما كفيل - فيما أرى - أن يلقي ضوءاً عريضاً غزيراً كاشفاً على الفروق بين أمم الحيوان وأمة الإنسان أبي العجائب. . .
غير أني أود أن أزيد هنا بعض أفكار أقدم قبلها أسئلة بديهية ألقيها على صديق خليفة (سليمان بن داود) (مفهم الطير والبهائم والمردة) والفراش المبثوث والبعوض والبرغوث:
هل رأى أو سمع أن أمة من أمم الحيوان والحشرات اصطادت إنساناً ووضعته في قفص وعرضته أمام الأنظار؟
وهل رأى أو سمع أن فرساً أو حماراً ألجم إنساناً وركبه أو حرث عليه حقله أو وضع على ظهره حمله؟
وهل رأى أو سمع ان جملاً أو فيلاً أو ديكاً أو خروفاً قدم لإنسان حفنة من شعير أو أعواد برسيم أو قدح ماء؟
وهل رأى أو سمع أن برغوثاً أو بعوضة أو فراشة صنعت دواء ووضعته في مضخة ماصة كابسة ثم أطلقته على الإنسان لتخدره أو تدفع أذاه أو تقتله؟
وهل رأى أو سمع أن حيواناً ما قطف زهرة ووضعها في أصيص يتأمل جمالها ويزين بها مسكنه، أو أقام معرضاً أو متحفاً للبذور والثمار أو منتجات الحيوان والإنسان؟
هل رأى أو سمع أن جماعة من الأبقار أو الأغنام ثارت على جزار وأمسكت به وذبحته وسلخته، وأخذت من لحمه وشعره وجلده وظفره منافع؟ أو على الأقل أدركت لماذا تساق هي إلى المذابح؟
هل اصطنع ذئب أو سبع من سباع الأرض سلاحاً يدفع به غائلة الإنسان ومكايده وحبائله؟
أترك لصديقي زكي أن يدرك سير الحياة بالإنسان، ووضعه بين الأحياء من خلال الأجوبة على هذه الأسئلة(397/18)
ثم لنفرض ما يقوله بعض شراح نظرية النشوء والترقي صحيحاً من أن الإنسان أصله قرد نهض على قدميه. . . ثم ماذا؟
لقد سبق هو وتخلفت سائر الأنواع. . . إذا هو وحده كان محقوفاً بعناية الذي خلق الأنواع كلها حتى جعله في قمة الحياة العضوية الحيوانية، ثم بثق في رأسه بثقاً صار منبع عالم جديد عريض مخالف لسائر أساليب الحياة المعهودة، إذ جعله يصنع موجودات تفوق قدرة الحيوان، وقدرته هو على السرعة والاحتمال والنقل والسمع والبصر والتكبير والتجهير والتقريب، ولم نر غيره حيواناً يخترع آلة لصيد فريسته. ولم نر أمة من أمم النمل تخترع عجلة تحمل عليها الأثقال التي تعاني نقلها من مكان إلى مكان، ولم نر أمة من أمم النحل تفكر في دفع عدوان الإنسان على عسلها الذي تتعب وتدأب في جنيه واشتياره من رحيق الأزهار ونوار الثمار على كثرة ما جربت من غزواته لها، وكل حيوان يعيش في نطاق ضرورات حياته لا يتجاوزه. فلئن كان قانونا (الانتخاب الطبيعي) و (بقاء الأصلح) أقنومين عظيمين من أقانيم نظرية النشوء والترقي كما يعترف بذلك أنصارها - صديقي زكي منهم - فهما اللذان وضعا الإنسان هذا الموضع الممتاز. . . موضع القمة في سلسلة الأنواع. وما دام الإنسان استطاع أن يتغلب على سائر حيوان الأرض يستبقي منه ما له فيه نفع ويبيد منه ما يشاء ويجد من الطبيعة إقبالاً عليه وكرماً في إمداده بوسائل التغلب على ما يريد إبادته ولا يصده صاد عن اقتحام الغابات والأجمات والبحار والمناقع للصيد والتلهي بالقتل. . . ما دام الإنسان استطاع أن يفعل كل هذا والطبيعة تساعده على فعله فهو إذا الابن البكر للحياة في الأرض، وهو المقصود بها بحكم قانون (انتخاب الأصلح)، وهو وارثها لأنه الأقوى. . .
سيقول صديقي زكي: (وماذا أنت قائل في الجراثيم التي تفتك ببدن الإنسان لتعيش؟ تلك التي إن أفلح في نزع واحدة منها مما يسكن جوفه باضت له ألوف الألوف من صغارها؟)
وأقول: إن مصير هذه الجراثيم مصير غيرها من قطعان الوحش وسائر أعداء الإنسان التي تغلب عليها وتحصن منها وأوشك أن ينظف الأرض من غوائلها. . . وإن تاريخ كشفه لها قريب جداً، ومع ذلك استطاع أن يقيم أسباب المناعة منها في المسكن والملبس والمطعم والمستنشق. . . وما دام قد رصد حياتها وعرف أوكارها، وسلط عليها حرساً من(397/19)
المجاهر والمخايير والعقاقير، فهو لا شك واصل إلى التغلب عليها في سائر البقاع ما دام قد تغلب عليها في مناطق المستشفيات ودور النقاهة وكثير من المنازل والمدن التي لا تهمل وسائل الوقاية العلمية. . .
وإنه لجهاد مشكور وأمر عظيم أن يقتحم الإنسان بعلمه وأدواته هذه المناطق التي عاشت دهوراً وراء نظره وفوق وهمه وتخيله. . .
وإنها لعناية من بارئ الطبيعة بهذا النوع أن يعرفه أعداءه واحداً واحداً ويمكن له في الأسباب حتى يتغلب عليها جميعاً. . .
وإنه لبدء حياة جديدة لهذا الإنسان في الأرض أن يعلم ما ظهر وما بطن وما خفي وما استعلن من هؤلاء الأعداء. . .
وأظن يا صديقي أن من السهل على الذي تغلب على أعداءه من الجراثيم الخفية أن يتغلب على غيرها من البراغيث الظاهرة. . . تلك التي حسبت واحداً منها جديراً أن يقض مضجعي فأشفقت عليَّ. . .
فلتلد بطون الشر والألم ما تستطيع من أطفالها. . . فستلد قوانين العلم مقامع ومهالك لهذه الأطفال. . .
وإن الأشقياء الهالكين في الحياة الدنيا هم الكافرون بالعلم وبالإنسان الذي أنتج هذا العلم. . .
أولئك الذين يعيشون بأساليب القرون الجاهلة العاجزة، وينظرون إلى الحياة نظر العجز وضعف الثقة بروح الإنسان وعقله، ونظر القاصرين الذين لم يدركوا ذلك النمو السريع للحياة الإنسانية في مدى قصير جداً من الزمن وهو أربعة آلاف سنة وهي عمر التاريخ الذي نعرفه. . .
أولئك الذين لم يدركوا بعد كيف قفز الإنسان في السنوات الخمسين الأخيرة من عمره قفزات حققت كثيراً من أحلامه في الانطلاق والسيطرة والإنتاج والاستغلال والتوليد والتقارب بين أجناسه وأقطاره واختزال المسافات والأبعاد وإقامة الأرصاد لحوادث الحياة وظواهر الطبيعة
أولئك الذين لا يزالون يعيشون كما كان يعيش آباؤهم الأولون الذين لم يكونوا يعرفون من(397/20)
الدنيا إلا حدود البقعة التي ولدوا فيها أو القطر الذي ينتمون إليه. . . ولم يكونوا يعرفون أن في الأرض محيطات هائلة وقارات مجهولة وعوالم مستورة، وأن الأرض ما هي إلا كرة صغيرة جداً كذرة رمل في صحراء. . . الذين كانوا يبيتون في الظلام والبرد، وأنهارُ النور والنار على بعد ضربة معول منهم في منابع النفط والبترول. . . ويعيشون تحت رحمة غيض الماء وفيضه بدون أن يقيموا سداً أو خزاناً يحفظ الماء ويحفظهم من طغيان الماء. . . والذين كانوا يأكلون الموت ويشربونه في المطاعم والمشارب الملوثة بالجراثيم. . .
أولئك الذين كان كفرهم بالإنسان وعدم إدراكهم لسموه وتفرده بين سائر الأنواع السبب الأكبر فيما نراه يسود حياته من اصطناع أساليب الحيوان الفاتك الضاري المتشهي الغافل الذاهل عما يدور في السماء ويجري في الأرض من العجائب والمعجزات وأفانين الحياة. . .
وما يجر الشر والإثم والسفالة على النفس الإنسانية إلا غفلتها من مقامها الممتاز في الحياة، وإلا أخذها بظاهر الحياة الجسمية الآلية التي تجعلها والحيوان في حظيرة واحدة. وما كان جهاد أنبيائها وحكمائها الذين خطوا بها خطوات واسعة إلى الأمام إلا نتيجة لإدراكهم امتيازها وما فيها من قوى زائدة عما في غيرها من سكان الأرض. . .
وأخلاق العلماء شئ عظيم عميق لأنها أخلاق بنيت على العلم بأعماق النفس الإنسانية. وقد قال سقراط (الفضيلة معرفة، والرذيلة جهل)
والفرق بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد هو مبدأ الفلسفة الألمانية الحديثة التي سنها (نيتشه) للألمان فكان إدراكهم معنى السيادة وحديثهم حولها أكبر باعث لهم على نهضتهم الجبارة التي جعلتهم يفهمون في أنفسهم أنهم فوق مستوى سائر الأجناس
وأخلاق الإنجليز المبنية على ثقتهم بأنفسهم وتفردهم من بين سائر البشر بطبيعة ممتازة وروح ممتازة هي التي جعلتهم فوق المستوى الإنساني الحالي في الصبر والاحتمال والثبات وسعة الحيلة والوقار والسكينة في السلم والحرب
فهم يؤدون لهذا الاعتقاد تلك الثقة بالنفس مهرهما من الفعال الكريمة والصبر الجميل والدم العزيز والمال المبذول ولامساكن المترفة(397/21)
وقديماً كانت العرب أمة ضائعة المكانة لما كانت مفقودة الإحساس بسمو نفوسها ومواهبها، مغمورة فيما يحيط بها من الطبيعة، مدمجة فيها، عابدة للحقير والجليل منها حتى تسمى أفرادها بأسماء الجماد والحيوان السافل والنبات الحقير: فقالوا حجر وصخر وكلب ويربوع وحنظلة، إلى آخر أسماء ما يحيط بهم، وطافوا بالأحجار والأشجار عابدين عاكفين. . . فلما أيقظهم موقظهم العظيم لأنفسهم وما فيها من امتياز على سائر ما يحيط بها فلا يليق بها أن تلتمس لشيء من هذا المحيط عبادة، ولا أن تبتغي إليه زلفى أو وسيلة، ولا أن تقدم إليه قرباناً من دمائها ودموعها وسائر قرباتها؛ بل يجب أن تبتغي بذلك كله وجهاً أسمى وقدرة أعظم لا تدركها الأبصار ولا تستوعبها الأفكار. . . حين هذا بدا السر الخفي في هذه النفوس الضائعة واستعلن كما يستعلن نور الصباح عريضاً في الآفاق، ومضى أفرادها إلى فجاج الأرض حاملين رسالة وموطدين دولة ومقيمين حضارة
وهانحن أولاء نرى (الهندوكيين) يأتون في عبادتهم للأبقار والحيات وكثير من الحيوان مخازي وسخافات تلطخ وجه الإنسانية بالحياء والخجل والعار. . . كل هذا لأنهم توهموا أن في البقر والثعابين سراً وروحاً مقدساً يعبد، فتركوها تعيش وتسرح وتهيم في الشوارع والبيوت والطرقات وهاموا وراءها وأكلوا روثها وشربوا بولها وتقربوا للثعابين ورحبوا بلدغاتها وموتهم بأنيابها وتركوا بلادهم تصاب بطواعين الأبقار التي تترك حتى تشيخ وتصير عشاً للجراثيم التي تنتقل منها إلى عابديها وساكني بلادها. . . والأبقار المسكينة في ذهول وغفلة عن قربات هذا الإنسان الضال وتقديسه إياها. . . فهي تبول عليه وتنطحه ولا تنفعه. . .
وهكذا كان الإنسان فريسة للأوهام وعبادة الأحجار والأبقار والجعلان والقطط والحيات وغيرها حين لم يكن مؤمناً بنفسه وطيد الثقة بها، فاهماً أن جميع ما في الأرض مخلوق له ومسخر لمنفعته. . .
ولست أدري من منا الذي أوغل في لفائف الصوفية وشرودها أنا أم صديقي زكي؟
إن صوفيتي مادية تؤمن بالعلم وتعترف بدولة الأجسام ولا تشرد وراء الأوهام، فلا تتخيل أن الإنسان العظيم الخصيم المبين الفكر المبتكر مخلوق ليكون طعاماً للبراغيث والبعوض والقمل. . . وإنما تعلم أن هذه الحشرات مخلوقة لحمل الإنسان على تنظيف جسده وثيابه(397/22)
ومسكنه وبيئته من القاذورات والعرق والأتربة والمناقع الراكدة الآسنة. . . فلولاها لأصابه الكسل عن كثير من أعمال النظافة والتطهير والتجميل
وقد كانت هذه الحشرات تعيش في الأصل على النبات والحيوان، ثم لصقت بجسم الإنسان وتطورت بلصوقها به. فلا يصح أن يقال إن الإنسان خلق لأجلها. . .
وصوفيتي لا تخيل إلي (أن سر الوجود يستعلن في الجرثومة الضئيلة كما يستعلن في الإنسان والقرد والأفعى!) كلا. . . هناك فروق هائلة بين استعلان قدرة الله في الجرثومة ذات الخلية الواحدة ذات الوظيفة الواحدة، وبين استعلانها في الإنسان ذي الخلايا التي لا عدد لأنواعها وأشكالها وصورها وأوضاعها ووظائفها منفردة وموضوعة في مجاميع ومنتجة حياة كلية. هو كالفرق بين جزئ صغير في قالب حجر موضوع في عمارة من ناطحات السحاب، وبين العمارة نفسها بما فيها من زخرف وزينة. . . وفي هذا التشبيه تجاوز كبير وقياس مع الفارق الهائل. نعم إن الجرثومة شئ ثمين عظيم كأول خطوة في سبيل الحياة. . . ولكنها لن تبلغ مبلغ الإنسان الذي هو آخر خطوات الحياة وحلقتها النهائية كما تقول نظرية النشوء
وما أعتقد أن خالقاً عظيما حكيما يخلق كرة أرضية هائلة، ويجعل فيها رواسي من فوقها، ويجري فيها بحارها وأنهارها، ويقدر فيها أقواتها ليعيش عليها عالم من البراغيث أو النمال أو الثعابين أو الأبقار أو السباع عيشة أبدية بدون خليفة فائق عليها يستطيع أن يضع الحمل بجوار الذئب، والأسد بجوار الغزال، وكل عدو بجوار عدوه كما هو الحال في حدائق الحيوان. إن الحياة حينئذ تكون عبثاً وفيضاً لا يتلقاه أحد يعي ويفكر ويعمل في الأرض عملاً جيداً
وإن الصوفية التي تقول بهذا ما هي إلا شرود وراء الأوهام وعدم الإدراك لغايات الحياة والتمييز بين آفاقها
إنها صوفية كصوفية أبي العلاء المعري المريض شاذ الطبيعة الذي يقول:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به ... أبر من درهم تعطيه محتاجا!
كلاهما يتوقى، والحياة له ... عزيزة ويروم العيش مهتاجا
ولنتصور الناس جميعاً على مذهب أبي العلاء وبعض متصوفة الهند. . . لا يأكلون اللحوم(397/23)
والألبان ولا العسل ولا سائر منافع الحيوان. . . ويتركون البراغيث والقمل والضفادع والعقارب والثعابين وسائر الحشرات، والسباع والبهائم حرة طليقة في الحياة ما دامت الأرض ميراثاً مشتركاً بيننا وبينهم، وما دامت جميعها مقصودة بالحياة، وما دام (سر الوجود) قد استعلن فيها استعلانه في الإنسان. . . فماذا تكون النتيجة؟
هي فناء الإنسان بفناء أقواته التي تأكلها قطعان الأنعام والسباع وعراجل الحمير وأسراب الطير والحشرات وغيرها. . . هذا إن عاشت وعمرت دهراً، فإن فنيت فالأرض خراب. . .
تساءل صديقي على لسان أحد حشراته: من ذا كان يستمتع بكائنات الله في الأرض قبل ظهور الإنسان؟
وأجيب: كان يستمتع بعضها ببعض ويعيش بعضها على بعض كما هو الحال الآن. . . فالسباع تأكل الأنعام، والأنعام تأكل النبات، والحشرات يعيش بعضها على النبات وبعضها على الحيوان. . .
ولكن ينبغي أن نعلم ما يقوله العلم من أن الحياة الحيوانية على الأرض لم تكن غزيرة ولا كثيرة الأنواع قبل عصر ظهور الإنسان. . . نظراً لقسوة عوامل الطبيعة من الأمطار والثلوج والبراكين والزلازل التي لم تكن تسمح بحياة كائن ضعيف؛ فلما استقرت القشرة الأرضية قليلاً وهدأت عوامل الغليان والتشقق، وصارت الأرض صالحة للحياة، خلق الله فيها الحيوانات الضخمة الزاحفة، ثم انقرضت بفعل الزلازل والفيضانات واختلافات الطقس. . .
وهكذا الأرض مرت بأدوار وراء أدوار حتى صلحت لحياة هذه الأنواع التي نراها تعمر الأرض. . . وكان كل هذا تمهيداً لإخراج ذلك النوع الذي صار خليفة الأرض وفاتح إغلاقها ومخرج أسرارها. . .
وفترات التمهيد لهذه الحياة الصالحة المعمرة لا يصح أن يعترض عليها معترض بأنها ضاعت هباء. . . فإن أيام الله ليست كأيامنا تقاس بالسنين الشمسية والقمرية، بل هي دهور بالنسبة لنا، ولكنها لحظات بالنسبة للذي خلق الأزمان ويدير الأفلاك دورات هو أعلم بمقدارها. . . والله أعلم متى ينضج الثمار!(397/24)
زعمت فراشة الأستاذ أن علم الإنسان وأخلاقه هما سر تبجحه ودعواه الامتياز، مع أن علمه يكمل النقص الذي في غريزته وفطرته، ومع أن أخلاقه في مثلها الأعلى الذي تحلم به هي دون ما يسود من ممالك النمل والنحل من أخلاق. . .
وأنا أنكر إنكاراً باتاً أن يكون في غرائز الإنسان نقص يحتاج إلى تكميل، وأن يكون العلم هو هذا المكمل. . . وإنما أرى أن غرائزه التي تضمن له حياة آلية رتيبة كحياة أنواع الحيوان، غرائز كاملة يستطيع أن يعيش بها مفتتح حياته وتكفيه. . . فإذا نظرنا للعلم على أنه نتيجة لغريزة حب الاستطلاع فهو إذا أثر من آثار هذه الغريزة، ولكن لا يقال إنه تكميل لها إذ لا نقص فيها. . .
فالعلم نتيجة لهذه الغريزة كما أن الولد نتيجة للغريزة الجنسية. وحب الاستطلاع غريزة مشتركة في جميع أنواع الحيوان، ولكنها فيما عدا الإنسان محدودة بحدود ضرورات حياة الأنواع وفي الإنسان لا حد لها. ولذلك أنتجت للإنسان علماً زائداً عما يحتاجه وعما يمكن أن يدركه أي حيوان. وهذه القابلية الطبيعية الدائمة في هذه الغريزة هي التي أنتجت نمو علم الإنسان وفكره ونمو الحياة به دائماً. . .
والإنسان الفطري المحدود الذكاء يكاد يعيش بالغريزة وحدها فهو لا ينوع ما ورثه من الحياة ولا يزيد عليه ولا ينقص منه. وهو مع هذا يحيا وينمو وسط الأهوال. . .
فغرائز الإنسان التي تكفل له حياة كحياة الحيوان غرائز كاملة يحيا بها حياته الضرورية
أما العلم فيفتح له أبواب حياة خاصة منفصلة عن حياة الطبيعة. . .
فالقول بأن علم الإنسان يكمل النقص الذي في غريزته وفطرته قول غير مفهوم. . .
وأما الأخلاق الإنسانية الحالية فلم أدافع عنها بل نعيت عليها واعترفت بفسادها وقصورها إلا في قليل من الأمم وهي
التي أدركت أن للحياة الإنسانية قوانين تشبه قوانين الطبيعة في صرامة عقابها لمن يخالفها. . .
واعتقادي أن الدولة كائن عضوي يسري عليه ما يسري على أي جسم ذي أعضاء من وحدة المنفعة والضر. . . الدولة كالجسم الواحد لا يصح أن يترك فيه شئ فاسد ولو كان ظفراً وإلا فسد كله. . . ولا يليق أن يكون فيه عضو مريض وآخر صحيح بل يجب أن(397/25)
يصح كله. . .
والقلب في الجسم يقذف الدم إلى كل خلية لتحيا، وكذلك يجب أن يقذف قلب الدولة إلى كل فرد فيها غذاء الجسم والفكر والروح ليحيا الحياة الكاملة
والفكر في الجسم الواحد حارس يقظ أمين يتلقى الرغبات ويصدر الأوامر، وكذلك يجب أن يكون قادة الأمم والمسيطرون عليها. . .
فأنا لم أشد بأخلاق الإنسان الحالية وإنما أشد بعلومه وفتوحه في مجاهل الكون، وأريد من وراء هذه الإشادة يقظة النفس المادية الدائرة مع الحديد البليد القاسي في غير وعي وإحساس إلى آثارها وتفردها بين الكائنات حتى تعلم وضعها الصحيح. . .
والواقع أن أخلاق الإنسان لم تتطور كما تطور علمه وفكره، بل لا يزال يعيش بمواريث التاريخ السيئة المغلوطة، ولم يجد له زعماء انقلاب في روحياته، كما وجد زعماء انقلاب في مادياته. . .
فالانقلاب الجسمي والآلي والصناعي في حياة الإنسان لم يصحبه انقلاب نفسي يجعله يصفي تركات الماضي في الأخلاق ويتحرر من مواريث التاريخ السيئة ويقيم حضارة روحية تناسب هذه الحضارة المادية التي أقامها في مدى السنوات الخمسين الأخيرة.
ولو آمن الإنسان بالإنسان وأدرك مدى الرحلة التي رحلها في الحياة والخطوات التي سارها في التاريخ ومركزه بين الكائنات كخليفة في الأرض خلف الله على جميع مقدراتها، وصنع فيها موجودات فاقت نماذج الحيوان في الدقة والاحتمال والسرعة والخدمة آلاف الأضعاف، وعرف أن الله ما كان ليعطيه هذه القدرة العظيمة على الصنع والإنشاء والافتنان إلا وهو به حَفيٌ، وعليه متفضل، وله مكرم، وإياه مسدود وموفق، ولتطوراته مرتقب ومنتظر بلوغه رشده؛ لو آمن بهذا كله لأسرع إلى إقامة الحياة على ما أقام الله الطبيعة عليه من العدل الموزون والرحمة السابغة والتوزيع الكريم، فإذا لم يذهب الإنسان إلى هذا طائعاً مختاراً كما فعلت أمم الشمال في أوربا، فسوف يذهب إليه مكرها بالحديد والنار في يوم أحسبه قريباً. . .
ملء يدي الاثنتين نصوص من القرآن تثبت أن جميع ما في الأرض خلقه الله للإنسان وخوله إياه واستخلفه عليه وجعله متاعاً وتذكرة له، ولكني آثرت أن أقدم حججاً من الفكر(397/26)
الطليق والنظر الحر والعلم العصري حتى لا يقول قائل من المنكرين المفتونين: أساطير الأولين. . .
عبد المنعم خلاف(397/27)
الموسيقى والغناء والحروب
للأستاذ محمود البشبيشي
لا تستطيع النفس أن تتخلص من مشاعرها وعواطفها لأنها بضعة منها، بل إن الشعور والعاطفة هي الحياة نفسها. . .
وما تُحسب من الأعمار أيام تمر من غير أن يشعر بها الإنسان ولا يصيبه فيها ألم أو فرح. . . وإذا كانت الحياة هي الشعور بما في الحياة كانت مصادر الشعور من أسس الحياة التي لا سبيل لإنكار وجودها؛ ومن هذه المصادر: الجمال، والشعور به هو عاطفة الحب والوفاء، والوطن، والشعور به هو عاطفة الحنين والفداء
وليس في مقدور الإنسان وقد خلق وفي نفسه تقدير الحسن من الأشياء، ألا يعجب ويتأثر. . . بل إن الإنسان إذا فقد هذا الشعور فقد معه صفة الإنسانية، وأصبح كالصخر يحتضن الزهر والشوك ولا يفرق بين رقة هذا وغلظة ذاك. . .
تمر الصور بالإنسان فيتأثر بها، وقد يزداد هذا التأثر فيصير حباً يلازمه، فيتعلق بها تعلق روح وقلب. فإذا فارقها تعلق بها تعلق ذكرى وحنين. وإذا طال الفراق، وتمرد الشوق، صاغ أشواقه نغماً ورتلها نشيداً؛ وإن ذلك منه لهو الوفاء بعينه، الوفاء الذي ضاق بأسلوب الحديث والكتابة. فخرج في أسلوب منغم منظم أصدق في التعبير عما فيه من عاطفة روحية من كل الأساليب
ومن هنا كانت الموسيقى والغناء!
كانت الموسيقى وليدة الإعجاب بالشيء، فهو شعور وعاطفة نحو هذا الشيء. وكذلك الغناء، كانت الموسيقى تعبير الروح الذي عجز عن عرضه اللسان بلغة الكلام، فهي إحساس روحي نبيل لا سبيل للخلوص منه، وكذلك الغناء
الموسيقى إذن من مادة الشعور والعاطفة والروح، وليست من مادة الفكر والمنطق والاجتماع. . . ومن ثم لا يعقل أن نقيدها بموازين الفكر والمنطق والاجتماع. وكذلك الغناء. فمثلاً مما يقع تحت النقد الدعوة إلى تثبيط العزائم وقت الحروب. ومما يقع تحت النقد تنفير الناس من الجهاد بأساليب الخوف والتهاون
ومما يقع تحت النقد اشتغال القوم بالنظريات الفكرية والجدل والخطر يتوثب! كل هذا قد(397/28)
ينتقد لأن من ورائه الضرر
ولكن ليس من المعقول أن ينتقد التعبير الموسيقي في مختلف صوره الوجدانية وكذلك الغناء
لأن الموسيقى من الشعور، والشعور فوق القيود، بل هو قيد اتجاهات الحياة فينا
فقد يجوز أن تنتقد فكرة أو رغبة أو طريقة حياة وعمل، لأن العقليات صاحبة الحكم هنا، تتفاوت وتتباين. يجوز هذا ولا يجوز أن تنتقد وتنكر أو لا تقبل قطعة موسيقية وجدانية، لأن المشاعر والأحاسيس تتلقاها، إما بعاطفة الطرب للنغم، أو بعاطفة الحنين والذكرى؛ والمشاعر في الحالتين محتاجة لها
ومن ثم لا يجوز لكائن من كان أن ينكر أناشيد العاطفة وموسيقى العاطفة في زمن الحروب
لأنها صورة من صور الروح الإنسانية، وعبير من مشاعرها ولون الحياة فيها، ولا يمكن أن تقيد أو تفقد. . . بل من العار أن يتجرد الإنسان منها، لأنه حينئذ يتجرد من آدميته - وإن ظن بعض الناس غير هذا - إنه لو تجرد منها فقد أصبح لا يقيم لحوادث الحياة وزناً، وساء تقديره لمؤثرات العيش. . . فلا حظ يحركه، ولا حزن يؤرقه، ولا فرح يطربه، ولا شوق يقلقه. وغاية القول إنه لو تجرد من عواطفه التي تطرب للنغم الوجداني في كل زمان ومكان، سقط من سجل الوجود، لأنه حينئذ لا يتأثر بما يدور في المجتمع وما يطرأ عليه من تقلبات الحياة
أجل، إن من لا تتأثر عواطفه، وتتحرك مشاعره، ومن لا تكون في نفسه عقيدة الحب لا يكون جديراً بالحياة ولا تنتظر منه المنفعة، ولا يكون فيه رجاء وغناء. وكيف وقد انفصل عن كل شئ، فلا تربطه عاطفة بشيء!!
يا قوم إن موسيقى العاطفة والحب تلهب في النفس الحنين وتؤجج الشوق. واشتداد الحنين والشوق إلى المحبوب مثلاً يكون في الجندي خاصة ألواناً من المثل العليا منها الرغبة في حماية هذا المحبوب لتدوم له السعادة به، وحمايته تقتضي حماية الوطن لأنه منه، وما الوطن إلا موطن الأهل وروض الأحبة
ومن هذه المثل الشعور بالعاطفة الروحية التي تربطه بالمحبوب. وإن هذه العاطفة نفسها لصورة مصغرة لما يربطه بوطنه الذي يرتع في ظلاله ويحب(397/29)
وحقيق بالذي ينجذب إلى محبوب ويحس بعاطفة روحية نحوه، ويميل إلى حمايته أن ينجذب إلى الوطن، وتتغلغل عاطفة الوفاء له في نفسه، ويجد نفسه مدفوعاً إلى حمايته، لأنه بذلك يحمي الأحبة فيه
وقد تكون الأغنية الوجدانية أشد أثراً في إشعال حمية المحارب من أي مؤثر آخر، لأنها تحرك في نفسه رغباته ورغبات الأحبة، وتهيج أشواقه وأشواقهم، وتصور آماله وآمالهم، فيستميت في القتال رغبة في النصر، ويرد الموت حباً في الحياة، بل حباً في العودة إلى الحبيب قاهراً لا مقهورا
والموسيقى في حالة الحرب والسلم ترتفع بالإنسان عن عالم الأرض فيحتقر الأغراض والشهوات، وتصوغه في قالب روحي نبيل، يجعله يرى الحياة بعين الروح التي لا تقيم لعرض الدنيا وزناً، ولا تهتم إلا بصيانة الشرف والكرامة
ومن عظمة الموسيقى الوجدانية خاصة أنها تخاطب كل النفوس لا فرق بين كبير وحقير، لأنها تخاطب الروح المشترك فيهم. ومن هنا يكون أثرها في تهذيب الإحساس أعظم خطراً من كل المؤثرات المادية ومن الترهيب والترغيب
وليس هناك عيب في أن جندياً يتغنى بأغنية حب. . . بل العيب في أن يتجرد الجندي من معنى القلب فلا تكون له صفة غير صفة إراقة الدماء ولو في الدفاع عن النفس. إنك حين تقول للجندي: يا لك من رجل لا يعرف غير القتال، تجرده من كل معاني الحياة؛ ولكنك لو قلت له: يالك من رجل جمع بين حاجات القلب والدفاع عن حاجات القلب، وألف بين نزعات الروح والدفاع عنها. . . إنك لو قلت له هذا ترفعه إلى مرتبة البطولة الروحانية
ليس في الأمر كارثة، ولن تكون فيه كارثة، بل إن في الأمر طبيعة. . . وطبيعة فطر عليها المصري فلا سبيل لفك قيودها لأنها فيه وهو فيها
عجباً أي عجب! ماذا يريدون من المصري أن يغني؟ أنشيد القوة؟ ولم يفسر لنا أحدهم معنى تلك القوة. وكيف يكون الغناء قوة وهو في طبيعته محاولة تحكم في مخارج الصوت بالعواطف الرقيقة، فلا يخرج لفظ إلا وقد مسحه المغني بيد العاطفة فخرج في ثوبها الرقيق الأنيق الندي
ليس في الأمر كارثة ولن تكون فيه كارثة(397/30)
ولغة الغناء في مصر وعاطفة الغناء الرقيقة (المتهمة عند بعض الفضلاء) هي لغته وعاطفته في المغرب، والهند، وسوريا، وفلسطين؛ ثم هي نفسها عند الأتراك. وغاية القول أنها مشتركة في جميع بلاد الإسلام. . . فما السر في ذلك؟ والبحث وراء هذا السر هو الذي يجب أن يكون مجال القول. . . وكل ما عداه ضرب من الأوهام والأباطيل
السر في ذلك هو أن الإسلام طبعها بطابع الروحانية الرقيق النبيل. وكان القرآن الكريم أعذب ما يكون ألفاظاً يترنم بها ويتغنى. ومن منا لا يسبح في عوالم روحانية إذا مسه سحر من ترتيل (الشيخ رفعت)؟ ومَن من هؤلاء الدعاة يدلنا على طريقة أوقع أثراً في النفس من هذه الطريقة الرقيقة في ترتيل القرآن؟
أو ليس القرآن حافلاً بأبلغ معاني القوة وأبلغ معاني التوسل والدعاء وأبلغ معاني الوعيد؟. . . ولماذا ترى الناس يتلونه في نغم رقيق نبيل؟ ولماذا يشتد أثره وفعله إذا تلي كذلك وهو العظيم الأثر البالغ الغاية؟؟
السر في ذلك هو الوصول إلى مخاطبة المشاعر والروح قبل مخاطبة العقل، فيتذكر الإنسان ويتعظ. . . فتلك العاطفة النبيلة الضغط على النفوس، هي العاطفة التي سار على هديها الغناء في الشرق كله، وسلكت موسيقاه سبيلها. ومن هنا كانت الأغنية الوجدانية تدخل على النفس برقتها، فتهيج أشجاناً، وتحرك عاطفة، فيتذكر الإنسان العهود ويرتبط بالوفاء، ذلك الخلق النبيل السامي. . . وحين تكون الذكرى متصلة بالوفاء، يكون من ورائها الخير كل الخير والفداء والتضحية
. . . ليس في الأمر كارثة، ولن يكون فيه كارثة، لأن الأغنية منتزعة من صور الطبيعة المصرية السهلة الباسمة. . . هنا النيل ينساب في حلم كأنما يخشى أن يوقظ الشاطئ الحالم! والسماء أصفى من ضمير الوليد. . . ليس في مصر براكين ثائرة، وليس في مصر جبال شاهقة وعواصف وأنواء. . .
فكيف تنكرون أن يكون في الموسيقى هذا الصفاء وتلك الرقة؟ غيروا الطبيعة نفسها قبل أن تغيروا العواطف الصادرة عنها
من الغريب أن يعيب إنسان على جندي مصري أنه يتغنى بأغنية حب، وما علم أن هذا الجندي مقبل في يوم من الأيام على الموت. . . فمن الرحمة بنفسه أن يعيش على عبير(397/31)
الذكرى. . .
لقد أدركت بريطانيا العظمى خطر الموسيقى وخطر الغناء واللهو البريء في إيقاظ عواطف الجنود، فأنشأت في مصر أماكن خاصة (كفندق المتروبوليتان)، تعرض فيها عليهم شتى أنواع الأغاني والموسيقى واللهو الطاهر. . .
فعلتْ هذا لأن الخير فيه عظيم: فهي تعرض عليهم الأنشودة لتلهب فيهم الذكرى والحنين. . . فيشتد الوفاء، وترتبط أرواحهم بأرواح الأحبة في الوطن. . .
ومن ثم يكون الشوق إلى العودة ظافرين. وليس الأمر ببعيد، وهاهي ذي صفحات التاريخ العربي المجيد، ترينا كيف كان العرب في أشد المواقف حرجاً، وفي ظلال السيوف والرماح يتغنون بذكرى الأحبة. وكفى أن نتذكر قول عنترة في معلقته:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم
) المنصورة)
محمود البشبيشي(397/32)
من فصول كتاب (الديارات) للشابشني
2 - دير مدْيان
للأستاذ صلاَح الدين المنجد
ونرجع إلى ذكر إسحاق ابن إبراهيم، ونورد طَرَفاً من أخباره في حزمه وضبطه بقدر ما يليق بالكتاب
أسحق هذا هو ابن طاهر بن الحسين، ويكنى أبا الحسين، وكان المأمون اصطنعه وولاه خلافة عبد الله بن طاهر بحضرته لما أخرج عبد الله إلى خرا سان. وكان أشد الناس تقدماً عنده واختصاصاً به. فذكر عبد الله بن خرداذَ أنه حضر مجلس المأمون يوماً وقد عرض عليه أحمد بن أبي خالد رقاعاً فيها رقعة قوم متظلمين من إسحاق بن إبراهيم؛ فلما قرأها المأمون أخذ القلم وكتب على ظهرها: (ما في هؤلاء الأوباش إلا كل طاعن واش. إسحاق غرسُ يدي، ومَن غرستُه أنجب ولم يخلف، لا أعدي عبيه أحداً.) ثم كتب إلى إسحاق رقعة فيها: (من مؤدب مشفق إلى حصيف متأدب. يا بني! من عز تواضع، ومن قدر عفا، ومن راعى أنصف، ومن راقب حذر، وعاقبة الدالة غير محمودة، والمؤمن كيّس فَطِن والسلام.)
وذكروا أن بعض ولد الرشيد - وكان له موضع من النسب ومكان في المعرفة والأدب - مرض ببغداد مرضاً طال، ولم يقدر على الركوب، واشتهى التفرج والتنزه في الماء، فأراد أن يبني زلاَّلا يجلس فيه فمنعه إسحاق وقال:
(هذا شئ لا نحب أن يعمل مثله إلا بأمر أمير المؤمنين) فكتب إلى المعتصم يستأذنه في ذلك، فخرج الأمر إلى إسحاق بإطلاقه له. فكتب إسحاق (ورد عليّ كتاب من أمير المؤمنين بإطلاق بناء زلاَّل لم يحد لي طوله ولا عرضه، فوقفت أمره إلى أن أستطلع الرأي في ذلك. . .) فكتب إليه يحمده على احتياطه ويحد له ذرع الزلاّل
قال أبو البرق الشاعر: كان إسحاق يجري على أرزاقاً. فأنشدته يوماً؛ فسألني عن عيالي وما أحتاج إليه لهم. ثم قال لي: يحتاج عيالك في كل شهر من الدقيق كذا، ومن كذا كذا. . . فما زال يخبرني بشيء من أمر منزلي كثير جهلته وعلمه هو
وذكر أبو حشيشة الطنبوري قال: كنت يوماً في منزلي إذ طَرَق البابَ صاحبُ بريد وقال أجِبْ. فلما قال: أجِبْ علمتُ أنه أمرٌ عال. فلبست ثيابي ومضيتُ معه حتى دخلنا دار(397/33)
إسحاق بن إبراهيم. فعُدِل بي إلى ممر طويل فيه حُجُر متقابلة، تَفوح من جميعها روائح الطعام. فأُدخلتُ حجرة منها، وقُدِم إليّ طعام في نهاية النظافة وطيبِ الرائحةِ، فأكلتُ. وجاءوني بثلاثة أرطال فشربت، وأحضروني صندوقاً فيه طنابير، فاخترت طنبوراً منها وأصلحتُه على الطريقة، وأُخرجتُ من الموضع إلى حجرة لم أر أحسن منها، وإذا في مجلسها رجلان على أحدهما قباء ملجم وقلنسوة سمورية، وعلى الآخر ثيابُ خزّ وستارةٌ مضروبة. فسلمتُ وأمرتُ بالجلوس، فجلستُ. فقال لي صاحب السموّرية: عنّ، فتغنيتُ:
ما أراني سأهجرُ مَنْ لَي ... س يراني أقوى على الهجران
ملَّني واثقاً بحُسنْ وفائي ... ما أضر الوفاء على الإنسان
فغنيته فشرب رطلاً، ونقر الستارة وقال: غنّوه. فغنى الصوت أحسن غناء في الدنيا، وخِلْتُ أن البيت يرقص!. فقال لي: كيف ترى؟ قلت: والله يا مولاي بغضوا إلى هذا الصوت وسمّجوه في عيني. فضحك واستعادنيه ثلاث دفعات، فشرب في كل دفعة منها رطلاً. ثم قال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم، وهذا محمد بن راشد الخناق ووالله لئن ظهر حديث هذا المجلس منك لأضربنك ثلاث مائة سوط. قم، إذا شئت. فقمت من بين يديه، فلحقني الغلام بصرة فيها ثلاث مائة دينار فاجتهدت أن يأخذ منها شيئاً، فأبى.
وذكر عمرو بن بأنه قال: وجه إلي إسحاق بن إبراهيم في آخر النهار. . . فصرت إلى داره، وأدخلت عليه وهو جالس في طارمة ملبسة بالخزّ على دجلة، وقد انبسط القمر على الروشن وعلى دجلة، وهو من أحسن منظر رأيت قط، والمغنون جميعاً بين يديه. و (بذل) جالسة وراء مقطع في الطارمة. فلم يزل جالساً بموضعه ونحن بين يديه إلى أن نودي الفجر، فقام وقمنا. وقال لنا الغلمان: انصرفوا، فنزلنا إلى الشط ودعونا بسميرية فجلسنا فيها جميعاً، وقلت لهم: إن منزلي أقرب من منازلكم فاجعلوا مقامكم اليوم عندي ففعلوا و. . . في المنزل؛ فطلبت فيه شيئاً يؤكل فلم أجد: فأمرت بإحضار المائدة، فأحضرت فارغة، وطرحت في وسطها مائة درهم صحاحاً وقلت: يوجه كل واحد فيشتري له ما يريد. فما كان بأسرع من أن امتلأت بكل شيء. . . فأكلنا وشربنا، ومرّ لنا يوم طيِّب، وتفرقنا في آخر النهار، وفي قلوبنا غصص مما فعله بنا إسحاق، وما فاتنا من تلك الليلة الحسنة في ذلك الموضع الحسن. فمضيت بعد ذلك إلى (بذل) وسألتها عن السبب فيما فعله. فقالت: قد(397/34)
سألته عن ذلك فقال: ويحك أنا أشتهي الشرب في مثل هذه الليلة منذ سنة وأواقع نفسي به. فلما حصل لي جميع ما أريده واشتهيته أردت أن أرى نفسي سلطاني عليها، وقهري لها ومنعها مما تحبه لئلا تقودني إلى ما تريد ففعلتُ ما رأيتِ
وكان مع ذلك حسن المروءة كريم النفس فذكر أبو حشيشة الطنبوريّ قال: دعاني في بعض الأيام فصرت إليه وجلست أغنيه، وعليه درّاعة خز خضراء لم أر أحسن منها قط. فجعلت أنظر إليها. وفطن لنظري فدعا بالخازن وقال: كانوا جاؤونا منذ أيام بعشرة أثواب خز خضر، هذا أحدهما، فجئني ببقيتها. فأحضر تسعة أثواب يتجاوز حسنها كل وصف فأعطانيها، فبعت من رذالها الثوب بمائة دينار
وكان المأمون يصير إليه في داره، فيقيم عنده الأيام وغلمانه وحشمه أنساً به وثقة بمكانه
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(397/35)
الإنتاج الأزهري
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
(أن الأزهر إذا أصلح كان بثقافته أهدى إلى تربيتنا من أية
جامعة.)
(الزيات)
(افتتاحية الرسالة في عامها التاسع)
عادت الرسالة الغراء إلى العناية بالشئون الأزهرية على دأبها، بعد ما عادت الحياة إلى الأزهر أثر إجازته الطويلة، وبعد ما اطمئن الأساتذة والطلاب إلى موضوعاتهم وساروا فيها شوطاً ليس باليسير. وعدت أساهم مع الكاتبين، وألقي بدلوي في الدلاء، ولسنا نبتغي من وراء ذلك - علم الله - إلا الخير لهذا المعهد المبارك الذي نرجوا أن ينال من الإصلاح ما يتمناه المحبون المخلصون.
وفي النفس حاجات، وللقلب خفقات، إذا ما ذكر إصلاح الأزهر وجرى على الألسن. ولكننا نقف في كلمتنا اليوم عند الحديث عن الإنتاج الأزهري لتردده على أقلام الكاتبين
فقد نغمط الأزهر حقه إذا وقفنا بالإنتاج عندما كان من جماعة كبار العلماء وجعلنا ذلك الأساس الذي يبني عليه التقدير والاعتراف بشخصية الأزهر العلمية. ونحن لا نؤمن بأن إنتاجهم بمثل هذه الشخصية، وإنما يمثل شخصياتهم أنفسهم ومدرسة تلقوا عنها وعقيدة في التحصيل والتأليف درجوا وما زالوا عليها
وسواء لدينا أنشر إنتاجهم أم لم ينشر فرسائل كثير منهم على ما نعتقد صورة أريد بها تبرير الرسميات، وأغلب الظن أنها لا تعدو في الجودة رسائل المتخصصين إن لم تكن الأخيرة أفضل من بعضها. فمن الغبن الكبير إذن أن نجعل إنتاج هذه الجماعة دليلاً إلى شخصية الأزهر العلمية
وفي الأزهر غير هذه الجماعة طائفة مهما قل عددها لها استقلال في البحث والتفكير، ولها حرية في الرأي والنقد وأبحاث قوية نشرت وتداولتها الأيدي، وهذه الطائفة من غير شك - لاعتراف الجميع بها - تمثل الأزهر الناهض من الناحية الفكرية، وهي بحق أولى أن تدل(397/36)
على شخصية الأزهر العلمية
قد يكون من الإحراج أن نقصر الإنتاج على إبداء رأي خاص في مشكلة من مشاكل العلم. ولو أننا فعلنا ذلك لكان كل ما نسميه الآن إنتاجاً للأزهر وما عدا الأزهر غير إنتاج؛ أو لكانت كثرته الغالبة على هذا الوصف. ولم لا نعد الإنتاج المدرسي إنتاجا متى كان قائماً على الشخصية والتصويب أو التخطئة لما للعقل فيه مجال، والمناقشة للموروث والتعقيب عليه؟ أليس ذلك هو الاستقلال في التفكير والإعلان للرأي الخاص بعد الدرس والبحث، وإذن ففي الأزهر إنتاج قل أو كثر
هناك فرق بين الإنتاج والقدرة عليه وإن كان أحدهما لازماً لصاحبه وأثراً من آثاره. ومما لاشك فيه أن هذه القدرة على الإنتاج موفورة لدى الكثير من رجال الأزهر وإن لم يظهر الإنتاج الفعلي إلا من قليل منهم
وإذا أنت سألت عن السبب في إحجام الكثير عن الإنتاج فلا يستطيع منصف أن يجيبك إلا بأن فقدان التشجيع والأغراء من ناحية القائمين بالأمر في الأزهر هو السبب الوحيد لذلك. فهم قد رأوا إخواناً لهم حاولوا أن ينتجوا بل أظهروا صوراً من إنتاجهم كان معترفاً بها؛ ولكن أحداً من الرجال الرسميين لم يقل لهم إنكم أحسنتم، ولم يشجعهم بكلمة يدأبون على مثل هذا العمل أو تجعل غيرهم يسير في طريقهم. فخير لهم إذن ألا يسيروا في طريق لا يحمد السائرون فيها
إن الأزهر يطلب من علمائه أن يكونوا منتجين، وأن يعرضوا علمهم لناشئة الجيل الجديد في صور تلائم جيلهم، ولكنه لا يأخذ بأسباب ذلك. فهو مثلاً لا يأخذ بسنة وزارة المعارف فيعلن عن حاجته إلى الكتب اللازمة لتحقيق مناهجه، ويشترط فيها ما يشترط من نظم وتوجيهات، ويجعل ذلك كل عام أو عامين أو أكثر ليكون له من ورائه ثروة طائلة من الإنتاج سواء فيما يقرره من ذلك أو فيما ينشره أصحابه على الناس ليوازنوا بينه وبين ما اختير
إنه لو فعل ذلك لزرع في نفوس علمائه الاستقلال في الفكر والجهر بالرأي والصراحة في الحق - وهي أهم مقومات الإنتاج الصحيح - ولقضى على فكرة اعتقاد عجز العلماء عن مسايرة الحياة الجديدة وعن الخروج عما درسوه من كتب وعبارات(397/37)
أليس من العيب أن يظل الأزهر إلى الآن يقرأ في سنتيه الأولى والثانية الثانويتين كتباً في البلاغة لمعاصرين من غير الأزهريين وفيه مائة من المتخصصين في البلاغة كل واحد منهم قادر على أن يخرج كتاباً مثلها إن لم يكن أفضل منها!
لا تقل أيها القارئ بعد ذلك ما لهم لا يؤلفون، فإن عدم التشجيع كما قدمنا وعدم الإغراء بتقرير الكتاب أو بشراء حق التأليف أو ما إلى ذلك هو الذي صرفهم فكان سبباً مهماً في قلة الإنتاج؛ ولو أن هذا الباب فتح لجاءت كتب كثيرة ولنشرت أبحاث ينبغي أن تحسب في إنتاج الأزهريين كما حسب مثلها لغيرهم
أو ليس من العيب كذلك أن يقرر الأزهر في أقسامه الثانوية كلها كتاب في تاريخ أدب اللغة لفظته وزارة المعارف منذ زمن طويل؛ وفيه كذلك مائة أو يزيدون من المتخصصين في أدب اللغة! وليس ذلك لعجزهم عن إخراج أفضل منه، فقد برهنوا على انتفاء ذلك عنهم، ولكن لاعتبارات أخرى على نحو الاعتبارات التي أشار إليها صديقي الأستاذ المدني في مقاله (السياسة التوجيهية في الأزهر) عدد الرسالة 393
ففيم كان يضيع هؤلاء وأمثالهم سني تخصصهم إذا لم يستطع أحدهم أن يؤلف كتاباً يرضي به منهج الدراسة ويعلن به رأيه في هذه الموضوعات الأدبية مثلاً التي لا ينبغي أن يعتقد الإنسان فيها رأي غيره، ولا أن يلقن الطلاب فيها عبارات كتاب بعينه
ذلك عيب واضح يشكو منه الأساتذة والطلاب جميعاً. ونحن إذ ندل عليه نرجو أن يلتفت إليه القائمون بالأمر في الأزهر فيعملوا على تلافيه وإبعاده حتى لا يظل الأزهر كَلاًّ على غيره فيما تخصص فيه أبناؤه وعطلوا أنفسهم سنوات للعناية به ومعرفة مناهج بحثه
ونستطيع أن نقول مثل ذلك في كثير من مواد الدراسة، فأنها تقرأ في كتب لا صلة لها بالعقلية الحاضرة ولا بالأسلوب المألوف. ومن الخير كل الخير أن يعدل عنها إلى ما يوافق ذلك وأن يوسع المجال للمستطيعين وتعطى الفرصة لهم. ولست أقصد بذلك - طبعاً - إلى عيب هذه المواد والتنقيص من قيمة كتبها. ولكني أعتقد أنها جعلت لزمان مضى، فمن الجائز أن يصلح بعضها لزماننا، وأن يتعارض بعضها الآخر معه فلنبق على ما يصلح ولندع ما عداه. فإننا إن لم نفعل ذلك صدق علينا أننا نعيش في عصر غير العصر الذي يعيش فيه الناس(397/38)
على أنه مما يعوق الإنتاج الأزهري ويقف في سبيله أن الدراسة في الأزهر ما تلتزم (طريقة الكتاب). فأنا كمدرس حريص علي أن أهضم عباراته وأساليبه: السائغ منها والملتوي، وأفهم ذلك الطلاب كلمة كلمة وحرفاً حرفاً ما له ضرورة وما ليس له ضرورة، لأنه في الكتاب المقرر، والطالب أمامي يهتم بذلك ويوليه عنايته، لأنه يرى شبح الامتحان مخيفاً، ويرى أنه لا ينجيه منه إلا أن يفهم كلمات الكتاب، وكلما تمثل له هذا الشبح في أثناء (الحصة) حقق ودقق وأخذ وأعطى وفكر وقدر
وعلى فرض أنه لا بد من ذلك في بعض المواد، فما لنا لا نعدل في بعضها الآخر إلى (طريقة الموضوع)، لنمكن المدرس من الجمع والتحصيل والإبقاء والإلغاء، فيظهر بذلك شخصيته ويظهر إنتاجه واستقلال فكره. ألا إننا لو فعلنا ذلك لكنا محسنين إلى الأزهر، إلى علمائه وطلابه، وإلى العصر الذي نعيش فيه
أن الدراسة على هذا النحو فرصة من الفرص الجيدة التي تمهد السبيل لظهور الإنتاج الأزهري والانتفاع به، فإذا لم تتح هذه الفرصة لعلمائه، فعلى من يقع إثم التعويق عنها؟
لا ينبغي أن نسرف في التشاؤم ولا أن نقول: إن مدرس الموضوع لم يخلق، ففي الأزهر كثير عندهم هذا الاستعداد، فليكن عملهم بدء الغيث. فإن أصابوا فذلك ما نرجوه، وإلا كانوا النواة الحسنة لمن يجيء بعدهم من إخوانهم وأبنائهم. وإذا نحن انتظرنا بالدراسة الموضوعية إلى أن يخلق مدرس الموضوع ولم نعمل على خلقه وتكوينه، تقطعت بنا السبل وخلفتنا القافلة ولم نصل إلى ما نريد
إن أنسب الأوقات لإعلان هذه الآراء والمناداة بها هو ذلك الوقت الذي يدير الشؤون فيه شيخ هو خير شيوخ الأزهر فيمن رأينا
ونحن إذ نجهر بذلك وننادي به فإنما نعبر عن رأي الكثيرين من العلماء، وبخاصة ذووا الصراحة منهم، ونحتذي في الوقت نفسه خطة المصلح الأكبر الإمام المراغي التي رسمها في أول خطاب له في الجامع الأزهر حين عاد شيخاً له للمرة الثانية
فهل يجد هذا النداء المتواضع من سميع؟
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة(397/39)
فتنة الزَّنج ورثاء البصرة في شعر ابن الرومي
للأستاذ محمود الشرقاوي
في هذا الوقت الذي نسمع فيه ونقرأ أنباء ذلك الخراب الذي يصيب المدائن العظيمة من هذه الحرب بين إنجلترا وألمانيا؛ وذلك العذاب الذي يصب على الآمنين من أهلها، ينزل عليهم من السماء، ذكرت قصيدة من عيون الشعر وعجائبه قالها (ابن الرومي) في حال تشبه هذه الحال، هي قصيدته في رثاء البصرة. وقبل أن أقدم لقراء (الرسالة) هذه القصيدة العجيبة أذكر خلاصة سريعة من التاريخ عن (فتنة الزنج) الذين جرى على أيديهم خراب البصرة في القرن الثالث الهجري:
صاحب الزنج
في شهر شوال من ستة خمس وخمسين ومائتين، خرج في فرات البصرة رجل وزعم أنه علي بن محمد بن حمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ وجمع الزنج الذين كانوا يسكنون السباخ وعبر دجلة فنزل الديناري، وكان قد شخص من سامرّا سنة تسع وأربعين ومائتين إلى البحرين، فادعى بها أنه علي بن عبد الله بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله ابن العباس بن علي بن أبي طالب، ودعا الناس بهجر إلى طاعته، فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها ومن غيرهم. وكان أهل البحرين قد أحلّوه بمحل نبي، وجبى الخراج ونفذ فيهم حكمه، وقاتلوا أصحاب السلطان بسببه
ذلك هو مبدأ ظهور صاحب الزنج كما رواه ابن الأثير في تاريخه الكامل، ومنه نعرف أنه رجل دعيّ أفاق، كان اسمه الحقيقي علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد القيس، وأمه من قرى الري، وأن أمه لأبيه كانت جارية سندية، وكان متصلاً بجماعة من حاشية المنتصر، كان معاشه منهم يمدحهم ويستميحهم بشعره منهم ومن غيرهم
وقد جعل هذا الرجل العجيب لنفسه خطة بارعة للوصول إلى غرضه والحصول على ما يبتغيه من الحكم والسلطان. فجعل لنفسه زوراً هذا النسب الشريف يصل به إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. مرة على أنه ابن محمد بن أحمد بن عيسى الخ. . . ومرة على أنه ابن عبد الله بن محمد بن الفضل. وهو في كليهما واصل نسبه إلى علي بن أبي طالب. ثم استولى على جماعة من ضعاف العقول في أهل البحرين، فجعل نفسه(397/41)
بينهم نبياً يزعم لنفسه الآيات حتى قال: (إني فكرت في الموضع الذي أقصده حيث نبت بي البلاد فأظلتني غمامة وخوطبت منها فقيل لي: أقصد البصرة)
ومن الدهاء العجيب الذي تحايل به صاحب الزنج أنه بدأ دعوته بين العبيد والدهماء والأراذل من الشعب فزعم أنه ناصرهم وخارج بهم من الذل والفقر والعبودية
ذكر ريحان - أحد أصحاب الأول - قال: (كنت موكلاً بغلمان مولاي أنقل لهم الدقيق، فأخذني أصحابه فساروا بي إليه وأمروني أن أسلم عليه بالآمرة ففعلت. فسألني عن الموضع الذي جئت منه فأخبرته. وسألني عن أخبار البصرة فقلت: لا علم لي. وسألني عن غلمان السودجيين وعن أحوالهم وما يجري لهم فأعلمته. فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته فقال: أحتمل فيمن قدرت عليه من الغلمان واقبل بهم إلي. ووعدني أن يقودني على من آتيه به واستحلفني ألا أعلم أحداً بموضعه وأن أرجع إليه؛ وخلى سبيلي)
(وما زال يدعو غلمان أهل البصرة ويقبلون إليه للخلاص من الرق والتعب، فاجتمع عنده منهم خلق كثير فخطبهم ووعدهم أن يقودهم ويملكهم الأموال. وحلف لهم بالإيمان ألا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئاً من الإحسان إلا أتى به إليهم)
وكان من الطبيعي وقد دخل هذا الأفاق على العبيد من هذا الباب وأطمعهم أن يكونوا أحراراً، بل وعدهم أن يملكهم الأموال وهم أنفسهم مملوكون لمواليهم، كان من الطبيعي أن يجد من نفوسهم قبولاً لدعوته وحماسة في الدفاع عنها
فهذا الرجل الماكر أقام دعوته على ثلاثة عمد وراسخ: أولها هذا النسب الشريف الذي ادعاه لنفسه متصلاً بالحسين بن علي. وثانيها دخوله على المستضعفين الأذلاء من العبيد حتى قال الطبري إنه جمع لدعوته الزنج الذين كانوا (يكسحون السباخ) وكذلك في النجوم الزاهرة. وهؤلاء يدفعهم ما هم فيه من البؤس والتعس والشقوة إلى المغامرة والاندفاع. وكيف بهم يقودهم رجل شريف من نسل الإمام على يمينهم وبعدهم ويجعل نفسه موكلا بخلاصهم من الرق والذل والفقر والهوان. ويصل نفسه بهم حتى يكون وهو الرجل الشريف (صاحب الزنج)
وثالث هذه العمد ادعاؤه النبوة أو ما هو قريب منها. وقد آمن بدعوته قوم من هؤلاء العبيد. وبذلك أثار في نفوسهم اشد ما فيها من العواطف قوة وجموحاً من العواطف: الإيمان والنفع(397/42)
الذاتي بعد الوصول إلى الحرية، وهي أعز ما تشتهيه النفس الإنسانية.
ظهور الفتنة
لا أريد بعد ذلك أن أتابع الخطوات التي مشت بها فتنة الزنج في العراق؛ ولكني أبرز من ذلك أمرين يستطيع القارئ أن يعرف بهما إلى أي حد استطاع صاحب الزنج أن يكوِّن مع عبيده السود قوة قاهرة تخيف الولاة وتحارب جند الخليفة، وتدخل الرعب في قلوب الناس
أذكر أن صاحب الزنج استطاع في سنتين اثنتين أن يأخذ من جند الخليفة بلاء الأبلة وعبادان والأهواز والبصرة، واستطاع في هاتين السنتين (وهما سنتا ست وخمسين ومائتين وسبع وخمسين) أن يحارب من الولاة ومن القواد سعيدا الحاجب وابن المدبر، ومسيرا المولد وموسى بن بفا وعدة غيرهم، واستطاع أن يهزم كثيرين منهم وأن يأخذ منهم ما أخذ من البلاد
وأذكر هذه القصة التي رواها ابن الأثير تدل على ذلك الفزع والرعب الذي ملأ به صاحب الزنج قلوب الناس، وذلك الحقد والجبروت الذي ملأ به قلوب زنوجه العبيد على أسيادهم ومواليهم
يقول ابن الأثير إن موالي هؤلاء العبيد وقد رأوا سلطان صاحب الزنج على عبيدهم وخافوا بطشه أتوا إليه (وبذلوا له على كل عبد خمسة دنانير ليسلم إلى كل منهم عبده. فبطح أصحابهم وأمر كل من عنده من العبيد فضربوا مواليهم. . . أو وكيلهم كل سيد خمسمائة صوت. ثم أطلقهم)
فتأمل ذلك الرجل الذي يبطح السيِّد المالك ليضربه عبده ومملوكه خمسمائة صوت. ولا يبيع هذا العبد بخمسة دنانير لسيده وصاحب رقبته، وهو لا يملكه. . .!
خراب البصرة
وبقي هكذا حال صاحب الزنج وزنوجه يستفحل أمرهم، ويستشري داؤهم، حتى كان شهر شوال من سنة سبع وخمسين ومائتين، فاجتمع الأعراب من البحرين بآمرة محمد ين يزيد الدارمي، وتجمع عليهم كثيرون من مثلهم أتباع صاحب الزنج، وأحاطوا البصرة من أطرافها فدخلوها وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال. وأباح صاحب الزنج(397/43)
لزنوجه البصرة يوم الجمعة وليلة السبت ويوم السبت يفعلون بها وبأهلها ما يشاءون. . .! حتى حرق المسجد وأحرقت البصرة في عدة مواضع، واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل
وقدّمت الخدعة إلى أهل البصرة بأن من دخل دار فلان فهو آمن؛ فجاء أهل البصرة قاطبة إلى دار الأمان ثم غُدر بهم وقتلوا، فكان السيف يعمل فيهم وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلك الجمع كله ولم يسلم إلا النادر منهم. وعظم الخطب بالقتل والتحريق والنهب؛ فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيراً قتلوه لوقته. وبقوا كذلك عدة أيام
ابن الرومي
هذه الصورة الدموية البشعة التي نلخصها تلك السطور السابقة عن خراب البصرة على يد الزنج قد أوحت لعلي بن العباس ابن جريح (ابن الرومي) قصيدة عجيبة هي من غرائب الشعر العربي وضوح بيان وقوة تصوير وإعجاب خيال وصدق عاطفة. وهي من بدائع الشعر العربي كله. هذه القصيدة هي التي نقدمها لقراء الرسالة
(البقية في العدد القادم)
محمود الشرقاوي(397/44)
من أدب الحرب
نهاية زعيم. . .
(مرفوعة إلى المغفور له خالد الذكر السنيور موسوليني!)
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
خَفَّضْ عَلَيْكَ مِنَ الْعَذَابِ ... الصَّبْرُ أَجْمَلُ في المُصَابِ
وَلَى صَوَابُكِ لا أّصَبْ ... تَ ولا رَجعتَ إلى الصَّوَاب
لَكَ إِنْ تَشَأْ في الْخَطْبِ تَعْ ... زِيَتِي وَإِنْ شِئتَ انتِحابي
هَوِّنْ عليكَ فهذهِ الدُّ ... نيا كَلمَّاحِ السَّرَاب
فيها الْقَريبُ إلى ابْتِعَا ... دٍ، والعبيدُ إلي اقتراب
لا تَجْزَعَنَّ مِنَ الصَّعَا ... بِ فَأَنْتَ غَلاَّبُ الصِّعَاب
كم ذا خَدعْتَ النَّاسَ بال ... تَّمويهِ وَالْكَلِمِ الْعِذَاب
فَلَكَ الْجَوَارِي المُنْشئا ... تُ مَلأنَ آفَاقَ الْعُبَاب
وَلَكَ الأسودُ الضاريا ... تُ بغيرِ أظفارٍ ونَاب
وَلَكَ التَّحِيَّةُ والتَّجِلَّ ... ةُ في مَجيئِكَ والذَّهاب
ولك اللَّسانُ الطَّلْ ... قُ فيَّاضُ البّلاغةِ والخِطاب
يأتيكَ من تَضْلِيلهِ الغَرَّا ... رِ باْعَجَبِ الْعُجَاب
ولكَ الضميرُ العَفُّ يُلْبَ ... سُ ثمَّ يُخْلَعُ كالثياب
يَتَخَلَّصُ الوَعْدُ الكِذَا ... بُ بهِ إلى وَعْدٍ كِذَاب
ولكَ القليلُ من الفَطا ... نةِ والكثيرُ من الرِّغَاب
وَلَدَيْكَ من خُدَعِ السَّيا ... سَةِ ما يزيدُ عَلَى الْجِرَاب
كَذَبَتْكَ أّحْلاَمُ الْكَرَى ... وَزَهَتْكَ أَوْهَامُ الشَّرَاب
أَسَدُ اللَّسانِ وَلَسْتَ في ... سَاحِ الوَغَى أَسَدَ الوِثَاب
ضَلَّ الذي ركبَ الضَّلا ... لَ إلى الرَّغَائِبِ والطِّلاَب
إِنَّي أُنَاشِدُكَ الدَّمَ الْ ... مُهْرَاقَ في شُعَبِ الهِضَاب(397/45)
والرِّفقَ بالأرواحِ تَذْ ... هَبُ في الْعِرَاكِ والاحتِرَاب
وفلولَ جُندِكَ هائما ... تٍ في السُّهولِ وفي الرَّوابي
وكتَائِبُ الأسْرَى تَوَا ... لَي في شُحُوب واكتِئَاب
هَلاَّ قَنِعْتَ من (الْغَنِي ... مةِ) والهزيمة بالإياب
يَا أَوْحَدَ القُوَّادِ قُلْ ... لي ما لِجَيْشَكَ في اضطراب
أَعَلِمْتَ غَيْرَكَ عَبْقَرِيَّ (م) ... الْجَهْلِ، مشئومَ الرِّكاب
فِيمَ الترفُّقُ والتلطُ ... فُ بالمغيرِينَ الغِضاب
أأقول مُحتشمٌ - هَداكَ الل ... هـ - بلْ خَوْف الغِلاب
أين الرِّجالُ، وَأينَ أب ... طالُ (الصِّراع) وَالانسحاب
قد سُقْتَهُمْ بل سُقْتَهُنَّ (م) ... إلى المماتِ بلا حساب
أَلْطفْ بهنَّ فما يُطِقْ ... نَ - فديتهنَّ - أذى الضِراب
رِفْقاً، فما صبرٌ لهنَّ (م) ... عَلَى الْبِعَادِ والاغتراب
من كلِّ ممشُوقِ القوا ... مِ حشدتَهُ غضِّ الإِهاب
ما تفعلُ الَّصحراءُ بالأ ... غنامِ في الأرضِ اليَبَاب
قد أجْدَبَ المرعَى وَجَفَّ (م) ... لديهِ مُنْهَلُّ السَّحَاب
لَيْسَتْ مُوَطَّأَةَ الْفَرَا ... شِ، ولا مُمَهَّدَةَ الْجَنَاب
يَخْلُصْنَ من صَلْبِ الْقَنَا ... ةِ إلى الألوفِ من الصِّلاب
لما بدَا يومُ الهزي ... مةِ في دُنُوّ واقتراب
زِنَّ الخُدودَ لها وَخَضَّبْ ... نَ الأظافِرَ بالخِضَاب
وَرَمَيْنَ مُشْرَعَةَ القَنَا ... ونبذنَ مُرْهَفَةَ الْحِرابِ
وأخذنَ أُهْبَتَهُنَّ للأس ... رِالْمُبَاركِ والذِّهابِ
وَجَعَلْنَ يَعْدُدْنَ الدقَا ... ئِقَ فِي اشتياقٍ وارتقابِ
أن تحملْ السيفَ النسا ... ءُ، فألفُ بشرًى لِلرِّقابِ
أقْسَمْتُ باللهِ العليِّ ... وَبالرسولِ وبالكتابِ
وَالليلِ وَالإصبَاحِ وَال ... جيْش المُشَرَّدِ فِي الشِّعابِ(397/46)
لولا التعفُّفُ والترفُّ ... ق وَالْجُنوحُ عن السِّبَابِ
لجعلتُ منكَ، وَقدْ جلوْ ... تُكَ لِلعُيونِ بلا نقابِ
أُضْحُوكةَ الدُّنْيَا وَسُخ ... رِيَةَ المجالس وَالصِّحَاب
عطفاً على بلدٍ ضعي ... فِ الرُّكنِ مخذولِ الشبابِ
قد عادَ مهجورَ الرِّحَا ... بِ وكان محشودَ الرَحَابِ
عَمَّى بصائرَهُ الضّلاَ ... لُ عن الحقيقةِ وَالصَّوَابِ
وَالعينُ تبصرُ فِي الضيا ... ءِ وَليسَ تبصرُ فِي الضبابِ
قد سُقْتَهُ - ثَبْتَ الْجنا ... نِ - إلى الهزيمةِ وَالخرابِ
وَرَكَنْتَ للآمالِ، وَالآ ... مالُ أمنعُ من عُقَابِ
كُفَّ الخِداعَ عن الورى ... قد جاءهُمْ فصلُ الخطابِ
إن المحجَّبَ سوفَ يَبْ ... دُو لِلعيونِ بلا حِجَابِ
دَعْهُمْ وَشَأْنَهُمُ جَزَا ... كَ اللهُ مَوْفُورَ الثَّوَابِ
لاَ يَوْمَ لِلأَقْوَامِ حَتَّى ... تَذْهَبَنَّ بِلاَ إِيَابِ
(القاهرة)
(فتحي)(397/47)
البريد الأدبي
خزائن الكتب في قصور الأندلسيين
حديث حضرة العلامة الأستاذ عباس محمود العقاد عن مكتبات القصور الأوربية في المقالة الأولى في الرسالة الغراء (395) - ذكرنا بشيء في (نفح الطيب) أرويه حاشية لحديث حضرة الأستاذ. وفي خبر النفح فائدة تاريخية وأملوحة:
قرطبة أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأهلها أشد الناس اغتناء بخزائن الكتب. صار ذلك عندهم من آلات التعيين والرياسة حتى أن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها، ليس إلا لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني ليس عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به
قال الحضرمي: أقمت مرة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة، أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع، وهو بخط مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إلي المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي. فأراني شخصاً عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت: أعز الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده
فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير
قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلا عند مثلك. يُعطى الجوز من لا أسنان له! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!
(باحث)
المجمع اللغوي والمعجم الوسيط
أخي الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة) الغراء(397/48)
بعد التحية اللائقة، قرأت كلمة تحت عنوان: (المجمع اللغوي والمجمع الوسيط) عرض فيها كاتبها لنفقات هذا المجمع وظل يترقى بهذه النفقات حتى أبلغها 100000 جنيه مائة ألف من الجنهيات!!!
والواقع أن وزارة المعارف تعاقدت مع سبعة من العلماء اللغويين بعضهم من حضرات أعضاء المجمع، وبعضهم من حضرات أساتذة الجامعة، على أن يقوموا في مدى عامين بوضع هذا المعجم على أحدث الأساليب في نظير مبلغ معين يقل عن ألف وسبعمائة جنيه لهم جميعاً. وقد قام تقدير هذا المبلغ على أساس ما تجيز به وزارة المعارف المؤلفين الآخرين
أما دعوى أنهم لم ينجزوا إلا مائة وعشرين صفحة إلى الآن فهي من نوع ذلك الحساب أيضاً!
وتفضل يا صديقي بقبول أزكى السلام، وأخلص الاحترام.
المخلص
عبد العزيز البشري
المراقب الإداري للمجمع
خصومة أدبية
ما أحبها إلى نفسي خصومة أدبية تقوم على صفحات الرسالة الغراء بيني وبين صديقي زكي مبارك، فإن في الخصومات الأدبية للمتخاصمين مجالاً واسعاً للبحث والتدقيق، ولحضرات القارئين مجالاً أوسع للموازنة والتحكيم
وإني لأشكر لصديقي الدكتور إثارة هذه الخصومة، وأطمئنه على نزولي ميدانها عن طيبة خاطر واستراحة فؤاد؛ غير أني قبل الخوض في هذه الخصومة أرى من حق نفسي وحق الموضوع عليَّ، كما أرى من حق الرسالة وقرائها كذلك، أن تتسع صفحاتها في العددين المقبلين لكلمتين اثنتين لي
فأما إحداهما فلوضع الأمر الأصيل في نصابه وتقريره على وجهه، لأنه الذي دعا الدكتور إلى كلمته الأولى المنشورة في العدد 392 وكنت أغفلت الرد عليها عسى أن يتحرى(397/49)
الحقيقة ولكنه لم يفعل.
وأما الأخرى فحول النظرية التي ادعى في العدد الأخير أني نهبتها من كتابه النثر الفني ونشرتها في مجلة السراج حتى يعلم حضرات القراء آينا الناهب
وأما الذي يهدد به ويعتزم تبيينه، من أن تهذيبي للكامل لم يكن إلا جناية أدبية، ومن أن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا ذهب بلا عقاب، فهو ما سيكون حلبة الخصومة، وليعرف الملأ إذ ذاك - إن هو اجترأ على الكتابة بعد كلمتي هاتين - آينا الجاني على الأدب بآثاره، وآينا القليل الاطلاع الطائش الأحكام في أبحاثه، وإلى اللقاء
السباعي بيومي
أستاذ بدار العلوم
إلى الدكتور مبارك
كان قلمكم الثائر قد خط في مقالكم الخامس في نقد آراء الأستاذ أحمد أمين وتبيان جنايته على الأدب العربي (الرسالة 314 - 10 يولية سنة 939) أن هذا الأستاذ لم يؤت أسلوباً خاصاً، وأنه ما كان في يوم من الأيام أديباً، وكان مما قلتموه يومئذ:
- إن أحمد أمين ليس له أسلوب
وإن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره والأنس بما يحب. فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية، ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب خاص. . .
ولقد عانى أحمد أمين في الواحات فلم يصفها، واشتغل بالقضاء الشرعي فما توجع مرة واحدة للمآسي التي رآها، ولو كان أحمد أمين أديباً كتب خواطره وسطر احساساته في القضاء وفي الواحات، (ولكن أحمد أمين لم يكن أديباً وإنما كان موظفاً مخلصاً لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشئون) (الرسالة 314 ص 1337 - 1338)
ويمضي على ذلك سنة ونصف سنة، ويأتي العدد (384 - 11 نوفمبر سنة 1940) من الرسالة فما نجد يا ترى؟ وماذا نرى؟
نجد أن الدكتور زكي مبارك يقول: (يجب الاعتراف بأن لأحمد أمين أسلوباً. . . وبأن لهذا(397/50)
الأسلوب شخصية تتميز بالسهولة والوضوح. . .)؛ وبأن في كتابه (فيض الخاطر) مقالات من الأدب الذاتي، (وهو الأدب الذي يصور الكاتب واحساساته. . .
ثم رجا طلاب السنة التوجيهية (أن يفطنوا وهم يقرءون كتاب (فيض الخاطر) إلى أن المؤلف أديب. . . يصور لواعج نفسه)
فهل للأستاذ أن يجلو لنا السر الذي جعل أحمد أمين أديباً؟ أم إن ذلك كان من باب: (رضيت فكسوته، وغضبت فجردته. . .!)
وللدكتور مبارك منا أجمل التحيات
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
متحف وزارة المعارف
تساءل الدكتور زكي مبارك في أثناء مقاله في عدد الرسالة (395) عن متحف وزارة المعارف ليقدم إليه هدية سنية، وهي رسالة من الدكتور طه حسين، وكتاب من مؤلفات الأستاذ أحمد الإسكندري كان أهداه للأستاذ مصطفى أمين، وعلى الكتاب عبارة (إهداء بقلم الإسكندري)
وأذكر بهذه المناسبة أني بحثت عبثاً عن متحف وزارة المعارف لأهدي إليه تحفة تاريخية لها قيمتها الأدبية، وهذه التحفة هي عدة رسائل بخط المغفور له إبراهيم أدهم باشا ثاني نظار المعارف المصرية على عهد ساكن الجنان المغفور له الخديوي إسماعيل
ولا شك أن مثل هذه الرسائل مكانها متحف وزارة المعارف الذي يصونها من التلف ويحفظها من الضياع، فمثل هذه الرسائل أصبحت ملكاً للتاريخ والأجيال المقبلة
ومن العجيب أن يكون للبريد متحف، وللسكة الحديد متحف، وللصحة متحف، ثم لا يكون لوزارة المعارف متحف!
حقاً إن هذا نقص يجب أن يكمل، وثغرة من الواجب سدها
ونرجو أن تولي وزارة المعارف هذه الملاحظة عنايتها، وأن تنظر إليها بعين الاعتبار، ولا سيما وعلى رأس هذه الوزارة أناس عرفوا برجاحة العقل وقوة العزيمة ومضاء الهمة(397/51)
(القاهرة)
إبراهيم أدهم
تصويب
جاء بالعدد 395 في مقال (دير مديان): قال الله عز وجل (الذين أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف) والصواب (الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف)
محمد الساكت
بكلية أصول الدين(397/52)
القصص
البغض الأول
للقصصي الروسي أنطون شيخوف
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
جلس جماعة من المصطافين في كوخ بين الحشائش الخضر وكانت الليلة قمراء ونافذة الكوخ مفتوحة ينفذ منها ضياء القمر. وكانت روائح النبات تفوح في المكان والأصدقاء يتحدثون أحاديث مختلفة، وتناول الحديث ذكر النساء والحب فقص كل منهم أقاصيص كثيرة حتى تجاوز عدد هذه الأقاصيص المائة أقصوصة
وكان في ركن من الكوخ ضابط لزم الصمت من أول الليلة وظل يتثاءب؛ فلما جاء دوره صاح:
(ليس في التحدث عن الحب غرابة، فكل النساء قد خلقن للحب، وليس لأحدكم أن يفاخر بالحب؛ فهل منكم من جرب البغض الحق؟ هل عرف أحدكم الكراهية؟)
لم يجبه أحد، واستمر الضابط يقول: (أنا قد جربت هذا البغض فقد كرهتني فتاة فدرست في شخصي أعراض الكراهية الأولى؛ وإنما قلت الكراهية الأولى كما يقال الحب الأول. ولكن هذه التجربة الغريبة قد حدثت في عهد من العمر لم تكن لدي فيه فكرة واضحة عن الحب والبغض فقد كنت لا أتجاوز الثامنة من العمر) وليس هذا مطلب القصة بل مطلبها فتاة فأنصتوا:
خرجت من المدرسة في أصيل يوم من الأيام وجلست أمام مكتبي في الغرفة التي أذاكر فيها، وكانت مربيتي - وهي فتاة حديثة عهد بالمدرسة - تطل من النافذة
نظرت إلي فتبينت على وجهها الارتباك، وسألتني وهي لا تكاد تعني ما تقول: هل الأشجار تتنفس الأكسجين؟
فقلت: نعم
قالت: وماذا نتنفس نحن؟
فقلت: ثاني أكسيد الكربون؟(397/53)
قالت: أصبت، وثاني أكسيد الكربون غاز خانق يوجد في الكهوف وفي بعض المياه، وقد رأيت كهفاً بالقرب من مدينة نابولي يكثر فيه هذا الغاز، ورأيت كلباً ألقي فيه فمات لساعته
قالت لي مربيتي بعد هذا الحديث: إن أبي وأمي ليسا بالمنزل، وإن أخي يشكو الصداع وأنه ذهب للطبيب وأن ليس بالمنزل غيري وغيرها، ثم سألتني وهي لا تزال تطل من النافذة على الأشجار وما يليها من الفضاء:
ما هو الأفق؟
فقلت: هو الخط الوهمي الذي عنده تلتقي السماء بالأرض
وعادت فسألتني وهي لا تزال تنظر إلى الأشجار: وهل الأشجار تتنفس الأكسجين؟
فقلت: نعم، ثم رأيت في يدها ورقة مطوية قد شدت عليها أناملها ونظرها يرتد عن الأشجار وقالت: في إيطاليا كهف بالقرب من نابولي يكثر فيه هذا الغاز الخانق، هل تقول: إن الأفق هو الذي تلتقي عنده السماء بالأرض؟
وكانت وهي تقول ذلك كالحالمة، وتجلى اضطرابها الشديد، ثم مشت ذهاباً وإياباً في الغرفة بحالة تدل على القلق وقالت لي: أقرأ درس الرياضة حتى أعود بعد نصف ساعة
خرجت مربيتي من الغرفة، ورأيتها وهي تمشي في الحديقة بخطوات كخطوات المحموم، وكان وجهها أكثر احمرارا من عهدي به، واضطرابها جلي إلى درجة استلفتت نظري، فقلت في نفسي: إلى أين تذهب يا ترى؟
وطويت الكتاب وقلت: أتبعها وكنت أحسبها ستنتهز غياب أمي فرصة وتسرق بعض الفواكه من أشجار الحديقة. ولكنها لم تفعل بل تجاوزت كوخ البواب وخرجت من المنزل، وتبعتها مختفياً وراء الأشجار حتى وصلت إلى البحيرة. وهنالك. . . هنالك وجدت أخي الذي قالت إنه مريض وأنه ذاهب إلى الطبيب
لم يكن أخي عندما شاهدته مريضاً بل وقف عندما رآها وكأن قوة غريبة دفعت كل منهما إلى الآخر فتعانقا وقبلها وقبلته وفهمت من كل حركاتها وإن كنت صغيراً أن هذه أول مرة فعلتْ فيها مثل ذلك
وكان وراءهما أكمة عالية فغابا خلفها وعدت إلى المنزل وأنا أشعر بخجل شديد. ولم أر أكثر من ذلك، ولكن لكوني متقدماً في الذكاء عمن كانوا في مثل عمري فقد فكرت في الأمر(397/54)
وقلت لا بد من الاستفادة منه. ثم ابتسمت ابتسامة المنتصر، وذلك لأن في معرفة الأسرار لذة لا يستهان بها خصوصاً إذا كانت أسرار أخي الذي له نفوذ بالمنزل، ومربيتي التي لها نفوذ عليّ
لما عادت مربيتي إلى الغرفة كالعادة نظرت إلى وجهها الجميل وعينيها البراقتين، وكان السر الذي أكتمه يكاد يمزقني فقلت: لقد عرفت! لقد رأيت!
قالت: (ما الذي رأيته، وما الذي عرفته؟)
فقلت: (رأيت أخي يقبلك وأنت تقبلينه عند البحيرة)
عند ذلك وجدت النار تكاد تتقد في عينيها، وجلست خائرة القوى على المقعد ولم تنطق بحرف، وأعدت جملتي وزدت عليها: (انظري حتى أخبر أمي)
فنظرت إلي باهتمام ورعب؛ ثم لما تبينت أني لن أفعل أمسكت بذراعي وهي في حالة شديدة من اليأس، وقالت بصوت خافت: (هذا لا يليق. . . أتوسل إليك. . .! بالله لا تقل شيئاً! إن الشرفاء لا يتجسسون. . . أتوسل إليك. . .!)
لقد كانت مربيتي المسكينة تخاف من أمي، وهذا سبب من أسباب فزعها، ولكن أهم هذه الأسباب هو افتضاح حبها الأول. وأنتم بلا ريب تقدرون شعورها في هذه الحال. وفي الصباح عرفت أنها لم تنم طول ليلتها لأني رأيت حول عينيها هالة زرقاء مسودة، ورأيت في عينيها علامة السهاد. ولما وجدتها وحدها بعد ذلك في غرفتي قلت: (لقد عرفت، لقد رأيت!)
فنظرت إلي ولم تجب، ثم لما رأيت أخي وحده قلت له هذا القول، فلم يكن ليخاف خوف المربية، بل شتمني فخفت أنا. . . ولم أعد أجرؤ على تكرار كلمتي أمامه. أما المربية فقد أردت الاستفادة من معرفة سرها، فصرت لا أذاكر، وصرت أعبث في غرفتي كما أشاء فلا تشكو إلى أمي ولا تظهر لي الضجر. وحافظت على تلقيني دروسي متى أردت وعلى شرح ما أطلب شرحه، وهي تتغاضى وتلزم الوقار. ولكن مضى أسبوع وضاق صدري بالسر فجلست مرة مع أمي وكانت معنا المربية وأخي فقلت لأمي: (لقد عرفت! لقد رأيت!) فبدا الفزع والرعب على وجه المربية وبدا الغضب على وجه أخي ولكني لم أزد ولم تسألني أمي.(397/55)
ومن ذلك اليوم صرت أرى نظرات المقت والكراهية الجنونية على عيني المربية وصارت تقرض أسنانها كالذئب كلما رأتني؛ وبدأت أعرف كيف تكون كراهية الشياطين. وفي يوم من الأيام كانت تلقنني الدرس فسمعتها تقول: (إنني أمقتك؟ ليتك تعرف مقدار كرهي لك أيها الحيوان) ثم زادت على ذلك: (إنني لا أخاطبك ولكني أعيد جملة من رواية.)
كانت بعد ذلك تأتي إلى غرفة نومي وتنظر إلي وأنا بين النوم واليقظة نظرة مقت؛ وصارت الحالة تزداد حتى أمسكتني من ذراعي مرة من المرار وقالت: (إني أكرهك وما تمنيت لإنسان من الشر مثل الذي أتمناه لك وأريد أن تفهم ذلك.)
كان ذلك في الليل، وكان ضياء القمر الشاحب ينير الغرفة، ونظرت إلى عينيها فسررت أولاً، لأن هذا الشيء جديد، ثم خفت فصرخت بصوت عال، ثم عزمت على أن أخبر أمي؛ على أني لو كنت أعرف جوابها لما عزمت هذا العزم الأحمق
لقد أجابتني: (وما شأنك أنت؟ أنت صغير فلماذا تتدخل فيما لا يعنيك؟)
وكانت أمي فاضلة رقيقة الإحساس؛ وكانت تتجنب ما يؤدي إلى الفضيحة فلم تطرد مربيتي في الحال بل انتظرت مدة كانت تنصرف فيها عن المربية شيئاً فشيئاً ثم أخرجتها بعد مدة من المنزل لسبب آخر انتحلته. وأنا لا أزال أذكر تلك النظرة التي رمتني بها المربية وهي تغادر المنزل
بعد ذلك بعهد طويل صارت مربيتي زوجة لأخي وهي فلانة التي تعرفونها جميعاً. وتغيرت ملامحي فلم أعد أشبه ذلك الغلام الذي كنته، ولكنها بالرغم من ذلك لا تزال تنظر إليَّ إلى اليوم نظرة بعيدة عن الود، وتعاملني كلما زرت أخي معاملة غير معاملة الأصهار، وما ذلك إلا لأن البغض الأول كالحب الأول ليس من السهل أن يزول
عبد اللطيف النشار(397/56)
العدد 398 - بتاريخ: 17 - 02 - 1941(/)
محمد محمود باشا
رجلان يُرْبكان الكاتب إذا حاول أن يكتب عنهما: رجل لا يستطيع أن يجد ما يقوله فيه، ورجل لا يستطيع أن يَختصر ما يعرفه عنه. ووصْف (الأول) بالرجولة تساهل في التعبير، وإطلاق لفظ الرجل على (الآخر) قصور في اللغة؛ فإن من المسلَّمات في تاريخ الإنسان أن من أفراده من يعلمون حتى يكونوا خيراً من الملائكة، ومنهم من يسفلون حتى يكونوا شراً من البهائم. أولئك هم أصحاب الرسالات فحياتهم للناس، وهؤلاء هم أصحاب الشهوات فحياتهم لأنفسهم. ولا مراء في أن الرجل الذي فقدته مصر في هذه الأيام السود كان من البابة الأولى في الرجولة: تجلت في خلائقه مزايا الإنسان الرفيع فاتفق على نبله الصديق الحميم والعدو الكاشح؛ وتمثلت في أفعاله خلال الشريف الحر فاعترف بفضله الوطني النزيه والأجنبي المنصف؛ وعاش محمد محمود عمراً ثم مات، كما اشتعل القبس حيناً ثم انطفأ، فقال قوم هو النور والإشراق، وقال آخرون بل هو النار والإحراق؛ وما أرسل الله من قبلُ حكيماً ولا زعيماً إلا آمن به بعض وكفر به بعض. وليس الإيمانُ بالدعوة دليلاً على الصدق، ولا الكفران بها دليلاً على الكذب.
لا يَعني (الرسالة) من تاريخ صاحب الهوى الرفيع والنفس الكبيرة
محمد محمود إلا دينه وخلقه وأدبه؛ وهو في هذه الثلاثة بإجماع الكلمة
كان مضرب المثل وموضع القدوة. فدينه دين المعتقد عن علم، وخلقه
خلق التقي عن عقيدة، وأدبه أدب السرى عن أصالة. وما اجتمعت هذه
الصفات في زعيم حكيم إلا كانت ضماناً لحسن نيته وأماناً من سوء
عمله.
أما السياسة فلا تزال في الشرق العربي كله أثراً للعوامل الأجنبية، فلا تتأثر برأي حزب ولا تتغير بإرادة حكومة. فمن الخطل أن ندخلها في أسباب الحكم على زعيم أو حاكم ما دام يتأثر بها ولا يؤثر فيها. وإذا اعتبرنا السياسة على هذا الوجه السلبي وشهوة من شهوات النفس الطموح تصل من طريقها إلى المال أو الجاه أو الحكم، فقد أبى لزعيم الأحرار الدستوريين نبل فطرته وكرم أسرته أن يجعل أي عَرضِ من هذه الأعراض الدنيا غاية(398/1)
لهذا الطريق.
اجتمعت لمحمد محمود باشا أرستقراطية النسب والمال والعلم والمنصب. فلو أنه كان يندلق على الناس بالبطر والزهو في الشوارع والمجامع لما كان ذلك بِدْعاً من الأمر، ولكنه - برّد الله بالرحمة ثراه - ظل طول حياته يطالع الجمهور ويعالج الأمور ومن دونه حجاب من التصون الكريم لا يسمح له أن يتخذ الشعب إطاراً لصورته، ولا مظهراً لعظمته.
لم يقل أحد من الناس في وقت من الأوقات:
هذا محمد محمود يعرض سلطان منصبه على عيون الفقراء، أو يفرض إعلان موكبه على حناجر الدهماء، أو يرفد ثروته الضخمة بعضوية ظنينة في شركة من الشركات أو في بنك من البنوك!
ولم يقل أحد من الناس في مناسبة من المناسبات:
هذه زوج محمد محمود تتمرد على تقاليد الشرق وآداب الإسلام، فتشهد مع الرجال حفلات النهار وسهرات الليل!
ولم يقل أحد من الناس في حالة من الحالات:
هذا ابن محمد محمود ينبو على القانون في الدواوين، أو يعربد على الناس في عماد الدين، أو يتنبل باللباس والمركب في طريقه إلى نادي القمار أو إلى سباق الخيل!
إن بيت آل محمود وبيت آل عبد الرزاق هما المثلان الصحيحان في مصر للأسرة المسلمة الحديثة. ذلك لما تهيأ لهما من وسائل السؤدد وشمائل الفتوة؛ وجماع هذه الوسائل وتلك الشمائل قيامهما على أركان من المجد والمال والعلم والشخصية القوية قلما تجتمع كلها لبيت واحد. والسر كله في الشخصية الأصيلة التي خلقت من التليد والطريف والشرقي والغربي مدنية مستقلة كانت أبلغ حجج الإسلام والشرق على من يقولون بلسان الجهالة والوضاعة إن الإسلام ينافي التمدن، وإن الشرق يجافي الحضارة.
ومن هنا كانت حياة الفقيد العظيم بخصائصها المميزة من العزة والعفة والإباء والصدق، رسالة خلقية تقوم على الدعوة والقدوة في فترة من المصلحين الصالحين تفككت فيها الأواصر وتحللت العقد وانماعت النفوس، وأصبح كل عمل يجوز، وكل شيء يمكن، وكل وضع يستقر!(398/2)
رحم الله محمد محمود! لقد كان فوق الشهوات والحزازات والحوادث فكان عفَّ اليد واللسان والضمير. وكان الناس لندرة هذه الخلال فيهم يحسبونه قد نزع في ذلك إلى أبناء (أكسفُرد)؛ وما كان الشبه بينه وبينهم إلا في صفات القوة كصراحة الخُلق وصرامة النظام والاعتداد بالنفس والاستقلال في الرأي وما يستتبع أولئك من المحافظة على السَّنن الموروث والاكتراث للعرف المتَّبع. وأصول هذه الأخلاق مما ينبت طبيعةً في أقاليم الصعيد؛ ولكنها تزكو زكاء الكلمة الطيبة إذا غذت أرومتها خصائص الجنس الممتاز وفضائل الدين الصحيح.
فإذا برَّح بالأمة الحزن عليه فذلك لأنه كان المثل الشاهد على أنها تلد الرجال الكمَلة إذا نشَّأتهم على سننها القويمة، ولأنه كان القدوة الحسنة لمن كان يشك في نجاح الأخلاق الكريمة.
رحم الله محمد محمود، وعزى أسرته على رزئه أجمل العزاء، وعوض أمته من فقده خير العوض!
أحمد حسن الزيات(398/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
اتجاه جديد في وزارة المعارف - الهجوم الآثم على الشيخ
سيد المرصفي سينزلون الهاجمين عليه وسيقهر بعض الناس
على الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية واللغوية. . .
والحق أقوى وأغلب.
اتجاه جديد في وزارة المعارف
لا يمرّ أسبوع بدون أن يطّلع الجمهور على أخبار جديدة عن وزارة المعارف، فهي في هذه الأيام مثار حركة ومجال نشاط، والحركة في أقبح صورها أجمل من السكون، لأن السكون في أجمل صوره من نُذُر الفناء
ومن مظاهر الحيوية في وزارة المعارف لهذا العهد خطب الدكتور هيكل باشا، وهي خُطب تشهد بأن هذا الرجل يريد أن يجعل لنفسه تاريخاً في تطّور التعليم، وهو بذلك خليق، فلهذا الرجل لفتات ذوقية واجتماعية تضعه في الصف الأول بين أقطاب الفكر في هذا الجيل
والظاهر أن وزارة المعارف أصبحت من الوزارات المجدودة، فهي منذ أعوام طوال صاحبة الحظ الأوفر من أحرار الرجال. ألم يتول أمورها أعلامٌ كان منهم: زكي أبو السعود، وأحمد ماهر، ولطفي السيد، وبهي الدين بركات، وعلي ماهر، ومحمد علي علوبة، وحلمي عيسى، وعلي زكي العرابي، وأحمد نجيب الهلالي، ومحمود فهمي النقراشي؟
وزارة المعارف هي تاج الوزارات، وإليها يرجع الفضل في تكوين العقول والقلوب والأذواق، وعن وزارة المعارف يصدُر النشاط الأدبي والفني والاجتماعي، وهي صوت مصر في الشرق والغرب يوم يوضع للفضل ميزان.
تلك وزارة المعارف، فما حالها في هذه الأيام؟
كان يُظَن أن المسيطرين على وزارة المعارف قد يفوتهم النظر فيما يوجَّه إليهم من الملاحظات عن طريق الجرائد والمجلات، ثم ظهر أن في الوزارة رجالاً يقرءون ما يكتب(398/4)
ويسمعون ما يقال، وإن كان فريق منهم يعيش في أبراج من العاج!
لقد آمنت وزارة المعارف بأن من الواجب أن يظفر التلميذ المتوسط بالنجاح في امتحانات النقل والامتحانات النهائية، فأوصت بأن (توضع الأسئلة بحيث تكون الإجابة في متناول الأوساط من التلاميذ)
وهذا فتح جديد، فقد كان مفهوماً أن الامتحان من ضروب التأديب، ليصح القول بأن (من المحنة جاء الامتحان)؟
وماذا تغنم الأمة حين ينجح التلميذ المتوسط؟
يقول المتحذلقون إن نجاح الأوساط من التلاميذ قد يجني على سمعة العقلية المصرية، وهؤلاء المتحذلقون هم مصدر البلاء، وهم عند التحقيق بعيدون كل البعد من السياسة الحكيمة في رياضة العقول، والزمن الغافل هو الذي قضى بأن يكونوا من المرِّبين.
إن النجاح - ولو عن طريق التسامح الرفيق - يقّوي الشخصية المعنوية، ويزيد في عزائم التلاميذ، ويشعرهم بأن الجدّ له جزاء، ولو كان أقل مما يجب أن يتحلى به الطالب الرشيد.
لم يعرف المرّبون في مصر أن نتائج الامتحانات العمومية - تلك النتائج الضعيفة الهزيلة - كانت الشاهد على أنهم حُرِموا نعمة التوفيق في إيقاظ الغوافي من عزائم التلاميذ؛ وكانت البرهان على أن الجاذبية بينهم وبين تلاميذهم قد انقطعت أقبح انقطاع؛ وإلا فكيف جاز أن يقضي التلميذ سنة كاملة بين أيدي أساتذته بدون أن يستفيد، أو بدون أن تعي آذانه نصف ما يسمع، أو بدون أن يتجه قلبه إلى معانيَ جديدة تسوقه سوقاً إلى منازل الفضل والتشريف؟
المرّبون هم علة العلل في فساد هذا الجيل، فهم السبب في ذهاب البشاشة من الحياة المدرسية، وهم الذين حولوا الجوّ المدرسي إلى مجازر نفوس، ومصارع قلوب، بفضل ما وَقر في أذهانهم من أن وزارة المعارف لا تريد إلا أن يكونوا جبابرة مستكبرين.
لا يصلح المدرس لمهنة التدريس إلا حين يشعر التلميذ بأنه أبّر به من أمه وأبيه. أما المدرس الجهم الوجه، الغليظ الكبد، القاسي القلب، فله مكان آخر هو حراسة المساجين. ومن العجيب في مصر ألا تنال المدارس من العناية بعض ما تنال السجون! فالسجون مصدر خير على من يعيشون فيها، لأنها تؤهلهم للحياة؛ أما المدارس فهي تؤهل بعض(398/5)
أبنائها للتشرد البغيض، لأنها ترمي ثلاثة أرباعهم في الشوارع بلا رحمة ولا إشفاق، بحجة أنهم لا يجيبون وفقاً لنماذج الإجابة، وهي صور لا يضعها من شابت نواصيهم في التعليم إلا بعد إجهاد الفكر في غَفوات الليل!!
ليت المدرسين يعلمون! ليت المدرسين يعلمون! ولو استطعت لكررت هذه العبارة ألف مرة! ولكن أين من يسمع؟!
يدخل المدرسون إلى أماكن التصحيح في الامتحانات العمومية وهم لا يدركون ما يُقبِلون عليه من شؤون لا يجوز فيها المزاح، فيصنعون ما يصنعون بمصاير جيل بريء لا ذنب له غير الاعتراف بأبوّة أولئك (الراحمين)، وتكون النتيجة أن يفقد أكثر الشبان فضيلة (الاكتراث) لأنهم يشهدون أن المقصر قد يفوز، وأن المجاهد قد يخيب. وأين الفوز في امتحانات لا ينجح فيها بين كل مائة تلميذ أكثر من ثلاثة وعشرين ثم لا يُقبل منهم في الجامعة غير آحاد!
والأمة المصرية التي تبحث عن المعادن المطمورة في الصحراء الشرقية والغربية هي ذاتها الأمة المصرية التي تقتل عواطف شبانها بسيف الامتحانات العمومية؛ ثم يأخذ بعض جلاديها جزاءهم على ذلك القتل، ولم يبق إلا أن تُحلَّى صدورهم بالأوسمة والنياشين!!
غيِّروا بأنفسكم، يا بني آدم، من المدرسين بهذه البلاد. غيروا بأنفسكم، قبل أن يضع الله السم فيما تنالون من أجور الامتحانات!
المعروف للجميع أن البكالوريا في مصر أصعب منالاً من البكالوريا في فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فهل نحن أعظم من الفرنسيين والإنجليز والألمان؟
وماذا غنمنا من قوة البكالوريا في مصر وهي لا تكفي للانتساب إلى الجامعة المصرية إلا في حدود أضيق من سمْ الخِيَاط؟
نريد أن نعرف مصاير أبنائنا في هذا البلد الذي قيل فيه إنه مَجمَع الغرائب!
نريد أن نعرف إلى أي حد تنتهي الخصومة بين الجامعة ووزارة المعارف!
ولكن من يبلغ هذا الصوت إلى الرجال المسئولين؟
من يبلغهم هذا الصوت والشيوخ والنواب لا يهتمون بغير مسائل فردية يتقدم فيها طالب على طالب بدرجة أو درجتين؟(398/6)
ليس المهمّ أن يُستَجوب وزير المعارف عن هذه التوافه من الشؤون، وإنما المهمّ أن يُستجوَب عن مصاير المتعلمين في هذا الجيل.
المهم حقاً وصدقاً أن ينسى الوزير أنه مسئول أمام الشيوخ والنواب، وأن يذكر أنه مسئول أمام الضمير المصري، والضمير المصري يصرخ صراخ الجزع والرعب من ضياع أبنائه بين الجامعة ووزارة المعارف.
وقد ظهرت تباشير تشهد بأن الوزير قد سمع صراخ الضمير المصري لهذا العهد، فمتى يقال إنه نودي فأجاب؟ ومتى نسمع أن التعليم صار من وسائل الحياة الكريمة في هذه البلاد؟ متى؟ متى؟ علينا أن ندعو، وعلى الوزير أن يجيب!
الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي
في العدد 391 نشرت الرسالة كلمة بإمضاء محمد فهيم عبية جاء فيها أن الأستاذ السباعي بيومي وصف الشيخ المرصفي (بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد وسطحية البحث والتطاول الذميم) وأنه (حَكم بأن أخلاقه ذهبت بفضله كما تذهب الريح العَصوف بسحيق التراب)
وفي العدد 392 نشرت الرسالة رداًّ بإمضاء عبد الرحمن أيوب مع كلمة من الأستاذ السباعي بيومي تشهد بأنه أقر ما جاء بذلك الرد، وهو يلخص في أن الأستاذ السباعي حكم بأن الشيخ المرصفي (كان يملكه الغرور) وأن (الأستاذ السباعي في حديثه عن المبرد وما يتصل به إنما يصدُر في ذلك عن دراسة بعيدة الأمد) وأن كتابه ظهر في سنة 1923 على حين لم يظهر كتاب الشيخ المرصفي إلا في سنة 1930، وأن فهارس كتاب الشيخ المرصفي وعناوينه سُرقت من كتاب الأستاذ السباعي، وأن المرصفي لم يكن أستاذ السباعي!
وفي العدد نفسه 392 نشرت لي الرسالة كلمة عتاب موجهة إلى الأستاذ السباعي بيومي، وقد جاء في تلك الكلمة أن الأستاذ تحدث عن أخلاق الشيخ المرصفي بما لا يليق، (فإن كان ذلك الكلام لم يقع منك فانفِه في العدد المقبل، وإن كان وقع منك فسارع إلى الاعتذار، إبقاءً على ما بيني وبينك من وداد، فما أستطيع السكوت عن رجل يعترض لأخلاق الشيخ المرصفي بسوء، ولو كان من أعز الأصدقاء)(398/7)
ثم لقيني صديق عزيز فقال: لم يرضني تحدَّيك للأستاذ السباعي بيومي، فقد كان يتفق في أحيان كثيرة أن يجعل مقالاتك من موضوعات الدروس بدار العلوم وذلك من شواهد الإعجاب.
وعندئذ رجعت إلى نفسي فحفظتُ للأستاذ هذا الفضل، وآثرت الصمت، ولكن الأديب علي محمد حسن كتب إليّ خلاصة ما تجنَّى به السباعي على المرصفي وأكد أنه قال:
(أنا أحذركم من قراءة كتاب المرصفي فإن فيه من الخطأ أكثر ما يتوهم أن يكون في كتاب الكامل من الخطأ، وأنا أدعوكم مرة أخرى إلى إساءة الظن بهذا الرجل، فقد كان ممتلئاً غروراً) وأكد هذا الأديب أن الأستاذ السباعي لن ينكر ذلك الكلام (وقد كان الحضور كثيرين من أساتذة وطلاب)
ومع هذا فقد كان في النية أن أسكت عن الأستاذ السباعي لأنه صديق، ولأن هجومه لن يقلقل مركز الشيخ المرصفي وهو أرزن من الجبال، ولأن الأقدار قضت بأن يكون الأستاذ السباعي من زملاء الأستاذ محمد هاشم عطية والأستاذ أحمد زكي صفوت، وهذه الزمالة تمنحه عندي طوائف من الحقوق.
ثم ماذا؟ ثم رأيت أنه ليس من الصعب أن أدفع الشر عن تاريخ الشيخ المرصفي، وأن أقدِّم في الوقت نفسه خدمة أدبية للأستاذ السباعي، ولن يُخدَم الأستاذ السباعي وهو صديق إلا بجذبه إلى الجدل على صفحات الرسالة في أسلوب رفيق لا يغض من مركزه بين تلاميذه بمدرسة دار العلوم.
وإنما نصصت على الأسلوب الرفيق لأن أكثر الأدباء يفرّون من وجهي بحجة أني لا ألقاهم إلا بقلم تطير على أسلاته شظايا الشراسة والعنف.
وقد استجاب الأستاذ السباعي لهذه الدعوة، وأعلن على صفحات الرسالة أن في الخصومات الأدبية مجالاً واسعاً للبحث والتدقيق.
وما دام الأمر كذلك فأنا أقدم الحقائق الآتية:
أولاً - قضى الشيخ سيد المرصفي شبابه في خدمة كتاب الكامل للمبرد، وظفر من ذلك الجهاد بكتاب اسمه: (رغبة الآمل في شرح الكامل) وقضى الأستاذ السباعي بيومي شبابه في خدمة كتاب الكامل للمبرد، وظفر من ذلك الجهاد بكتاب اسمه: (تهذيب الكامل)(398/8)
فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة أن يكون الفرق بين (رغبة الآمل) و (تهذيب الكامل) كالفرق بين المرصفي والسباعي، وهو بونٌ شاسعٌ جدًّا بحيث يعجز عن اجتيازه نوابغ الطيارين من الإنجليز والألمان، ولو كانوا أقدر من بعض الناس على التحليق في جواء الادعاء.
ثانياً - أعلن الأستاذ السباعي أن كتاب الشيخ المرصفي ظهر في سنة 1930 والصواب أنه ظهر سنة 1927 وليس لهذا التاريخ أهمية، وإنما الأهمية للتاريخ الذي أخذ فيه الشيخ المرصفي يشرح الكامل، وهو تاريخ يرجع إلى أكثر من أربعين سنة يوم أوصاه الشيخ محمد عبده بتدريس (الكامل) لطلاب الأدب من الأزهريين، ففي ذلك العهد ثار الشيخ الشنقيطي وطلب إلغاء ذلك الدرس، وكان مفهوماً عنده أن المبرِّد أكبر من أن يتسامَى إلى نقده رجلٌ من المحدَثين، ولكن الشيخ محمد عبده تلطف فأرسل الشيخ إبراهيم عامر إلى الشيخ الشنقيطي ومعه ملزمة من شرح الشيخ المرصفي، فدهش الشيخ الشنقيطي وسارع إلى الاعتذار، ثم صارحَ الشيخ محمد عبده بأن المرصفي لا يقل علماً بأسرار اللغة عن المبرّد.
ثالثاً - كان كتاب (رغبة الآمل) كاملاً من جميع الجوانب حتى في سنة 1915 وقد رأيته بعينيَّ في ذلك العهد ورآه معي الشيخ الزنكلوني طيَّب الله ثراه!
ولن أنسى ما حييتُ تلك العبارة الشعرية التي صرخ بها الشيخ المرصفي وهو يقدِّم إلينا شرحه على كتاب المبرد، لن أنساها أبداً، فقد قال شيخنا العظيم وهو يخاطب المبِّرد:
(الله على أيامك، يا بَطَل!!)
والكتاب الذي كان كمل من جميع نواحيه حتى الفهارس قبل سنة 1915 هو الكتاب الذي سُرِقَتْ بعض فهارسه من كتاب ظهر في أواخر سنة 1923.
رابعاً - لم يكن الشيخ المرصفي يطلِّع على شيء من مؤلفات المعاصرين، فكيف اختص الأستاذ السباعي بتلك العناية؟ تلك والله إحدى الأعاجيب!
خامساً - كان الشيخ المرصفي أول رجل تسامَى إلى نقد مؤلفات الأكابر من القدماء، وكان أول رجل أقرَّ (كرسي الأدب) في الأزهر الشريف، وكان أول رجل جعل للأديب مكاناً بين (جماعة كبار العلماء) فكان بتلك الصفات أوحد عصره بلا جدال.(398/9)
فماذا صنع الأستاذ السباعي في دار العلوم، ولن يكون إلا الرابع أو الخامس بين أساتذة تلك الدار، مع التسامح الشديد؟
سادساً - برَّأ الأستاذ السباعي نفسه وطهَّر تاريخه من التلمذة للشيخ سيد المرصفي، فأين هو من تلاميذ الشيخ المرصفي وكان منهم محمد إبراهيم هلال، ومحمود حسن زناتي، وأحمد حسن الزيات، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين؟
سابعاً - ترك الشيخ المرصفي ذخيرة عظيمة، منها: شرح الكامل، وشرح الأمالي، وشرح الحماسة، وشرح العقد الفريد، وشرح أراجيز رؤية وأراجيز العجاج؛ ومنها: التعقيب على لسان العرب، والنص على أغلاط صاحب المفصَّل والكشاف. فماذا صنع الأستاذ السباعي، وكان عمره موقوفاً على نقل نصوص الكامل من مكان إلى مكان؟!
ثامناً - أثَّر المرصفي في عصره أبلغ التأثير، فكان الرجل يتشرف بالانتساب إليه، كما صنعتُ حين رثيته يوم وصل نعيه وأنا طالب في جامعة باريس، فكم طالباً يسرُّهم أن يقولوا: إنهم تلاميذ السباعي بيومي؟!
تاسعاً - كان تلاميذ المرصفي يقيِّدون جميع ما ينطق به، ولو عن طريق المزاح، وقد قيدتُ من كلامه ثلاثين كراساً، فأين ما قيَّد تلاميذ السباعي من كلامه البليغ؟
عاشراً - دخلتْ مؤلفات الشيخ المرصفي على القلوب بدون استئذان، ولم يدخل كتاب الأستاذ السباعي دار العلوم إلا بعد أن صار أستاذاً بتلك الدار، وبعد أن مات الشيخ علاّم!
أما بعد، فهذه طلائع لغزوة شريفة تنقل عقل الأستاذ السباعي من وضع إلى وضع، وذلك فضلي عليه، وهو واجب الصديق نحو الصديق؛ وقد تلطَّف فأشار إلى أنه سيخاصمني خصومة أدبية، وهي خصومة أرحب بها كل الترحيب، لأني أشعر شعوراً صادقاً بأني موكلٌ بإحياء العزائم والقلوب.
وقد أسرف في الكرم فأعلن أني لن أجترئ على الكتابة بعد أن ينشر في (الرسالة) كلمتين!
وأقول: إني لن أصفح عنه أو يشتغل محرراً متطوعاً بمجلة (الرسالة) ثلاث سنين، كما قهرت أخاً له من قبل على أن يشتغل محرراً متطوعاً بجريدة (البلاغ) ثلاث سنين!
وهي محنةٌ صُبتْ من شاهق على الأستاذ السباعي، فليتحملها صابراً، وليوطن نفسه على أن الخصومة بيني وبينه لن تنتهي قبل بداية شهر مايو، وهو الموعد الذي حدده الشيخ(398/10)
الأسيوطي لنهاية الحرب بين الإنجليز والألمان!!
وكيف يخيفني تهديد الأستاذ السباعي وليس في ماضيه الأدبي غير نقل نصوص كتاب الكامل من مكان إلى مكان، وتلك مهمة يقوم بها أحد النساخين بدراهم معدودات؟!
امثلي يخاف من عواقب الجهر بكلمة الحق وقد قضيت دهري ممتحَناً بعداوات الرجال؟
الأستاذ السباعي يهدد بمقالتين اثنتين، وهو يعرف من نفسه أكثر مما أعرف، فهل يتوهم أني سأخلي له الميدان ليخاطر نفسه كيف شاء؟!
لقد تلطفت معه أكثر مما يجب، ولم يحفظ جميلي، فكيف يراني أعطف عليه وقد تردَّى بثوب العقوق؟
ثم أما بعد، فقد حكمت على الأستاذ السباعي بترك دروسه في دار العلوم ليشغل نفسه بمخاطرتي، وليقول: إن (تهذيب الكامل) أعظم من (رغبة الآمل)، كما كان نجم الأرض أعظم من نجم السماء!!!
وماذا يمنع من أن يكون السباعي أعظم من المرصفي؟ ماذا يمنع وقد اختلت الموازين وفسدت الدنيا إلى أبعد حدود الفساد، حتى جاز للأستاذ السباعي أن يهدد صديقه القديم:
زكي مبارك(398/11)
إلى الدكتور زكي مبارك
خصومة أدبية
للأستاذ السباعي بيومي
أولى الكلمتين
وعدت حضرات القراء في عدد الرسالة الأخير أني سأنشر في عدديها المقبلين كلمتين اثنتين، أتوجه فيهما بالحديث إلى صديقي الدكتور زكي مبارك. وهذي أولى الكلمتين، وهي كما رسمت حين وعدت، ترمي إلى تقرير الموضوع الأصيل الذي من أجله كتب الدكتور.
ألقيت محاضرة بمدرج على مبارك باشا في دار العلوم عن (أسلوب المبرد في كامله) وعقب انتهائي منها طلب أحد مستمعيها من طلاب كلية اللغة العربية السماح له بكلمة، فأجبته إلى ما طلب، وكانت كلمته أربعة أسئلة ألقاها، رمي المبرد في رابعها بالغرور والادعاء، وأنه كان لا يتحرى إذا أجاب. فرأيت الموقف يقضي عليّ أن أرد عليه، وفعلاً رددت، وكانت إجابتي عن السؤال الأخير تتلخص في نفي تلك الصفات الذميمة عن المبرد نفياً قاطعاً، استدللت عليه بامور، منها أن من شأن من لا يتحرز في إجابته إلا يمسك إذا لم يتثبت، وإنما يرمي بالقول جزافاً، ويخترع الإجابات اختراعاً، وعهدنا بالمبرد انه غير ذلك، فقد رأيناه في كامله إذا عرض له ما لا يعرفه اعترف بذلك، خضوعاً لتلك الكلمة الجامعة التي لا ينزل على حكمها إلا الثقات الأعلام، وهي (من قال لا أدري فقد أجاب) ثم أخرجت من الكامل شاهداً على ذلك أسمعته الحاضرين، ومنها أن من خالط قلبه الغرور وتملكه الادعاء لم يك في مقدوره أن يخفي ذلك في مصنفاته، بل لا بد أن يفضحه أسلوبه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وليس في كامل المبرد على كثرة كسبه فيه ونسجه حول أصوله، ما ينفي عنه صفة التواضع العلمي، أو يلقي على أبحاثه ولو ظلاً صغيراً من الكبرياء والادعاء.
ودعماً لهذا الاستدلال الأخير في أن أسلوب الكاتب يشف عن خلائقه، قلت للسائل - وقد ذكر أنه استقى ذلك من شرح الشيخ المرصفي على الكامل - إن مؤلفات المرصفي هي التي تنم عن خلق الغرور والادعاء فيه، كما يعلم ذلك من أطلع على هذا الشرح ومقدمته؛(398/12)
وكذلك من أطلع مثلهما فيما عمله بديوان الحماسة. وقلت: وإنه لتأصل هذا الخلق فيه كان شديد التحامل على المبرد والتشهير به فيما يظن أن المبرد أخطأ فيه؛ ثم قلت: وكم كنا نتمنى للشيخ المرصفي أن يجرد علمه من غروره، ويسبل على تأليفه ثوباً ضافياً من التواضع والاعتدال، حتى يكون ذلك أبين لفضله وأدل على نبله.
وأخيراً قلت: ولا يبعد أن تكون البيئة العلمية التي عاش فيها المبرد قد تقولت عليه ما تقولت حسداً وبغياً، فإن علماء عهده ما كانوا يعهدون من علمائهم إمامة في اللغة إلا في ناحية واحدة منها، كناحية قواعدها، أو ناحية مفرداتها، أو ناحية آدابها، ولكن المبرد كان إماماً ذا آراء في هذه النواحي الثلاث جميعاً، فهم بما كانوا يتقولون عليه إنما يريدون انتقاصه شفاء لما دب في صدورهم عليه من حقد وحسد.
ولقد خفت أن يهجس في نفوس السامعين تنزيه قلوب هؤلاء العلماء من رذيلة الحسد فأتبعت ما سبق بقولي لحضراتهم: ولا تستبعدون الحسد على العلماء، فإن من طبيعته أن تكون أقرب إلى الأدنين منه إلى الأباعد، وأسرع إلى قلوب العلماء منه إلى قلوب الجهال، وإذا ما شئتم مزيداً في معرفة هذه الطبيعة - طبيعة الحسد - فاقرءوا رسالة الجاحظ فيه، وهي اكثر من اثنتي عشرة صفحة.
ذلك ما قررته في إجابتي عن السؤال الأخير، بعد الذي قررته في الإجابة عن الثلاثة قبله. وما كان أشده عجباً وأبعده غرابة أن تطوى صحيفة الإجابات الثلاث وقد سلخت فيها نحو الساعة، تم تشوه هذه الإجابة الأخيرة تشويهاً يمسخها مسخاً، وإذا أنا أمام الواصل إلى منها كالذي يستمع إلى الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة) دون ذكر هذه الجملة الحالية بعدها (وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) فقد كان هذا الواصل أنني وصفت الشيخ المرصفي (بكثير من الأخلاق الذميمة كالغل والحقد والحسد والسطحية البحث والتطاول الذميم) وأنني تعديت ذلك إلى (تجريح طوائف العلماء على اختلاف مهنهم وحكمت بأن طباع الحسد والحقد لا تجد لها مراحاً خصيباً كالذي تجد من قلوب العلماء)
وا رحمتا للأخبار من رواتها! فما كان مني عن الشيخ المرصفي علم الله إلا أسفي على ما خالط مؤلفاته من غرور وادعاء وتطاول على المبرد في أسلوب غير حميد؛ وما زلت معتقداً هذا رضى الدكتور أم سخط، وواثقاً أن كثيراً من أهل العصر يعلمونه علمي،(398/13)
ويعرفون كيف يستدلون عليه استدلالي. وكم كنت كما قلت في إجابتي أتمنى خلوّ مؤلفات المرصفي من غروره، حتى لا يذهب هذا الغرور بفضله، وما كان مني عن العلماء شهد الله إلا أنهم في بيئة المبرد حسدوه تنوع ثقافته وتعدد إمامته، وأن هذا الحسد لم يك من شأن علمهم أن يبعده عنهم، لأن الحسد كما يقولون مُوكَل بالأدنى، وهو كما ذكر الجاحظ في رسالة الحسد: (قد صار العلماء أكثر منه في الجهال، ودب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين). وأنا بهذا الرأي لا زلت ولن أزال أدين، وافق الدكتور أم خالف.
هذا يا صديقي الدكتور هو الأمر الأصيل على جليته، قد بسطته موضوعاً في نصابه مقرراً على وجهه، لا كما تطايرت به الإشاعات بل الإشاعات المغرضة، وأنت بما تدخله روايات السوء على الأخبار جد خبير. وقديماً قالوا: وما آفة الأخبار إلا رواتها. ولعلك يا صديقي عتبت عليّ أني لم أجبك أول ما سئلت، وما كان لك أن تعتب، فتلك عادة الناس فيك وموقفهم منك. على أني أخالف تلك العادة وأجيبك عسى أن تستريح.
تعلمْ يا صديقي أن إغفال إجابتك ما كان إلا استبعاداً عليك أن تفهم ما فهمت، وإلا أملاً أن يردك هذا الاستبعاد إلى الحقيقة تستقيها بعيداً عني، من غير كاذب فيها أو مشوه لها، وشهود المحاضرة كانوا بحمد الله كثيرين. ولا أكتمك سبباً آخر قوى هذا الإغفال في نفسي، ذاك هو أمرك لي أن أسارع إلى نفي ما سمعت إن كان لم يقع، وإلى الاعتذار منه إن كان قد وقع، وإسرافك في هذا الإسراع تطلبه في أول عدد يصدر من الرسالة، وثالثة الأثافي أن تقول لي: (إلى أن يثبت الراوي افتري عليك، أعلن غضبي على ما بدر منك). سبحانك اللهم وتعاليت! فما كان لأحد أن يقول: (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) إلا أنت.
تلك الثلاث يا صديقي وغيرهن كن محرضاتي على ترك أول عدد من الرسالة يصدر خلواً من نفيي واعتذاري، لأقف على ما في كنانتك من سهام، ولأتذوق ما قد يصبه غضبك في الجام. وهأنت قد اغتررت فكتبت كلمة ثانية تؤذنني فيها بخصومة تريدها أدبية، والله أعلم بما تريد، وترميني فيها بفرية السرقة منك، جاهلاً كما ستعلم في كلمتي الثانية أنك أنت الذي افتريت وسرقت.
وبعد فإن وصاتي لك يا صديقي أن نتريث، فإن في العجلة وبالاً عليك، وألا تعود تغتر(398/14)
بسكوتي عنك، فما مثلي ومثلك فيه إلا كما قال الأول:
ما بال من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من تطاوله كسري
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر
وإني وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
السباعي بيومي(398/15)
في الاجتماع اللغوي
تطور معاني المفردات
عوامله وآثاره
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
لهذا النوع من التطور الدلالي عوامل كثيرة سنعرض لبعضها في هذا المقال، مرجئين تكملتها إلى مقال آخر إن شاء الله
1 - عوامل تتعلق بانتقال اللغة من السلف إلى الخلف. فكثيراً ما ينجم عن هذا الانتقال تغير في معاني المفردات. وذلك أن الجيل اللاحق لا يفهم جميع الكلمات على الوجه الذي يفهمها عليه الجيل السابق. ويساعد على هذا الاختلاف كثرة استخدام بعض المفردات في غير ما وضعت له عن طريق التوسع أو المجاز. فقد يكثر استخدام الكلمة مثلاً في جيل ما في بعض تدل عليه، أو في معنى مجازي تربطه بمعناها الأصلي بعض العلاقات، فيعلق المعنى الخاص أو المجازي وحده بأذهان الصغار ويتحول بذلك مدلولها إلى هذا المعنى الجديد. وإليك مثلاً كلمة الفرنسية؛ فقد كان معناها في الأصل (الشبعان) من الطعام، ثم كثر استخدامها في عصر ما في النشوان من الخمر، عن طريق المجاز والتهكم، وللتحرج من استخدام الكلمة الصريحة في هذا المعنى وهي فعلق هذا المعنى الجديد وحده بأذهان الصغار في هذا الجيل، وتحول إليه مدلول هذه الكلمة فأصبحت صريحة فيه، وانقرض معناها القديم في لغة التخاطب.
وإلى هذا العامل ترجع أهم الأسباب في تحول الكلمات إلى معان كانت مجازية في الأصل، وفيما يعتري المدلولات في نطاقها من سعة أو ضيق. بل إن طائفة من العلماء، وعلى رأسها العلامة هرزوج قد رجعت إلى هذا العامل وحده كل ما يحدث من تطور في الدلالة.
2 - وكثيراً ما يتغير مدلول الكلمة على أثر انتقالها من لغة إلى لغة؛ فقد يخصص مدلولها العام، وتقصر على بعض ما كانت تدل عليه في لغتها الأصلية، وقد يعمم مدلولها الخاص، وقد تستعمل في غير ما وضعت له لعلاقة ما بين المعنيين، وقد تنحط إلى درجة وضيعة(398/16)
في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره، وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . كما أشرنا إلى ذلك في بعض مقالاتنا السابقة.
3 - وقد يكون العامل في تغير معنى الكلمة أن الشيء نفسه الذي تدل عليه قد تغيرت طبيعته أو عناصره أو وظائفه أو الشئون الاجتماعية المتصلة به. . . وما إلى ذلك. فكلمة (الريشة) مثلاً كانت تطلق على آلة الكتابة أيام أن كانت تتخذ من ريش الطيور، ولكن تغير الآن مدلولها الأصلي تبعاً لتطور المادة المتخذة منها آلة الكتابة، فأصبحت تطلق على قطعة من الحديد مشكلة في صورة خاصة. والقطار كان يطلق في الأصل على عدد من الإبل على نسق واحد تستخدم في السفر والنقل، ولكن تغير الآن مدلوله الأصلي تبعاً لتطور وسائل المواصلات فأصبح يطلق على مجموعة عربات تقطرها قاطرة بخارية. و (البريد) كان يطلق على الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تغير الآن مدلوله تبعاً لتطور الطرق المستخدمة في إيصال الرسائل، فأصبح يطلق على النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر. و (بنى الرجل بامرأته) كانت تستخدم كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباء جديداً؛ ولا نزال نستخدم هذه العبارة كناية عن نفس المعنى مع أن الزفاف لا علاقة له في نظمنا الحاضرة بالبناء. وقد جرت العادة في بعض العصور بفرنسا أن يقضي المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة مدة عقوبتهم في أعمال التجديف على ظهر السفن الملكية؛ ومن ثم جاءت عبارة ولكن تغير الآن مدلولهما، مع بقائهما في الاستعمال، تبعاً لتغير النظم المتصلة بهذه العقوبة ونوعها.
4 - عوامل تتعلق باختلاف الطبقات والجماعات. فكثيراً ما ينجم عن اختلاف الناس في طبقاتهم وفئاتهم اختلاف مدلول الكلمات وخروجها عن معانيها الأولى. ويؤدي إلى ذلك ما يوجد بين الطبقات الناطقة باللغة الواحدة من فروق في الخواص الشعبية والجسمية والنفسية، وفي شؤون السياسة والاجتماع والثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان ومستوى المعيشة وحياة الأسرة والتقاليد والعادات. . .، وفي الظروف الطبيعية والجغرافية المحيطة بكل جماعة منها، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته، وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها(398/17)
في حياتهم، وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له، أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم وأعمالهم. . . وهلم جراً. فمن الواضح أن هذه الأمور وما إليها من شأنها أن تخرج بالكلمات عن مدلولاتها الأولى وتوجه معانيها في كل طبقة وفي كل جماعة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها فينشأ من جراء ذلك ما يعرف (باللهجات الاجتماعية) التي تكلمنا عنها في مقال سابق.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(398/18)
6 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
بين الغفلة واليقظة - صيحة في أذن الإنسان - لو، ولعل،
وربما - لا ملام على الأقدار - لم تفت الغاية - نقطة البدء
في الحياة الفكرية - الجناية الأولى - حادث عظيم - آثار من
الوثنية - الوضع الأصيل الدين - ديانة الحياة.
حينما أعس وأندس إلى مجلس في مقهى بلدي حقير أرقب الحياة الإنسانية في بعض جوانبها، وأتفرس في وجوه القوم ونواصيهم، وأتسمع إلى أحاديث دنياهم وآمالهم وأعمالهم، وأتتبع نظراتهم للحياة فأجدها لا ترتفع إلى شيء سام، ولا تدور حول قضية من القضايا العليا للحياة، ولا تفكر في مبدأ أو مصير، ولا تتساءل عن صلاح أو فساد. . .
وحينما أقذف بجسمي في زحمة سوق من الأسواق بين ضجيج الحركات والأصوات والأبواق وصفقات الأيدي الخاتلة على الأيدي المختولة في العقود والمبايعات، وسائر الارتفاقات والمشاحنات.
وحينما أرصد حياة الأفراد اليومية. فأجدها سلسلة من الغفلات والأكلات واللذات والأعمال الآلية التي لا استحضار فيها لمعان كريمة، ولا يقظة فيها إلى أسرارها ومآل الإنسانية بها. . . وإنما هي دورات رحوية وسير أعمى وراء دولاب الحياة من غير سؤال: إلى أين المسير؟
حين هذا كله أجد في نفسي كأن الإنسانية عريقة في غفلتها وذهولها، وكأنها خلقت لهذه الغفلات ولن تكون لغيرها، ولن تكون لحياة أخرى وراء هذه الحياة. . . وكأنها منفصلة عن حياة الطبيعة الحادة الواعية العادلة الموزونة انفصالاً يكاد يجعلها عالماً مستقلاً. . .
ذلك وحي رؤيتي لغفلات الناس وانقطاعهم عما يدور في الأكوان، وإهمالهم التفكير في مبدأ الحياة ومنتهاها وفي خفايا الطبيعة وأسرارها. . .
وحين أجلس مجلساً تثار فيه الأفكار عن الكون والفساد والحقائق والأباطيل وتصول فيه العقول وينبري بعضها لبعض بالاعتراض والرد والتعليق والتشقيق والبيان الساحر(398/19)
والحجج اللاقفة. . .
أو حين أقرأ كتاباً يعرض فكرة من أمهات الأفكار ويسيل به سيلها فيفيض على الفكر والفؤاد. . .
أو حين أرى آلة معقدة التركيب تطير أو تسير أو تخفق بالأصوات والبرقيات مما أخرجه عقل مهندس ذي قدرة على الاستيعاب والتقليد والابتكار. . .
أو حين أرى شيخوخة جليلة واقفة في محراب تتلو صلوات أو ترتل آيات في إطراق وخشية واستحضار لعظمة الكون وجلال بارئه. . .
أو حين أسمع نشيداً من شاعر ذي قلب اتسع وتيقظ للأحاديث الصامتة والناطقة في الطبيعة، واسترق السمع للنغم الذائب في الكون، والموسيقى الأبدية في حركات نجوم السماء ونجوم الأرض. . .
حين هذا وذاك وذلك أقول: هنا موضع تكريم هذا الجنس ومؤهلات خلافته. . .
هنا الإنسانية التي تقنع العقل الحائر بقيمته وقيمة الطبيعة وقيمة الخير والحق والجمال.
هنا وضوح وانكشاف لمعنى سيادته وملكوت واسع يصح أن تستند إليه في تخيل مستقبله وفي تبين موضعه وسط ما يعمر الكون من المخلوقات. . .
ثم أصيح: أيها الإنسان! تيقظ لنفسك لتفرح بها. . . تيقظ إنك حي تسعى وترى وتفكر وتتجه في أي اتجاه تريد وسط الظلام والجماد والنور والصمت والبكم والصمم والعمى.
أنت الذي تفقه وتدرك تلك الحياة التي لا تجد غير عينك وأذنك وسائر حواسك.
تذكر أنت المقصود بكل هذا الذي يحيط بك وأنك خليفة على مقدرات الأرض وأن في يدك قوة من قوى التعمير والإنشاء والتوجيه والتغيير والتنويع والتفريع، وذلك شرف عظيم!
تيقظ واهتف في سمع الزمان والمكان: أنا أنمو وأترقى وأتكلم وأفكر وليس أمامي حدود وسدود أيتها الخلائق الواقفة المحدودة. . .
وأجلس بجانب الجماد والنبات والحيوان فترات لترى الفوارق بينك وبينها. . . ولن يغفر خالق الإنسان لامرئ جاء إلى الحياة ولم يجلس مجلساً بين هذه الكائنات يوازن بينها وبين نفسه ويحدد موضعه منها، ثم يرفع عينه إلى السماء ويخفضها إلى القبر حتى يرى الطريق بينهما. . .(398/20)
تيقظ إلى الذي مسنا بالحياة ونحن نجهلها ونجهله، وأخرجنا ذاهلين إلى الضحى النهار وسواد الليل، وأرانا مشاهد ثابتة صارمة في السماء ومشاهد مَرنة متغيرة في الأرض، وبدأ حياتنا من نطفة، ومَطّ أجسامنا من مضغة لحم ملقاة في ظلمات الأرحام إلى أجنة مكتملة التخليق إلى أطفال دراجين إلى غلمان يافعين إلى مراهقين متفتحين إلى شبان مشبوبين إلى كهول وشيوخ منتظرين لا يعلمون وراء أيامهم أياماً. . .
إلى الذي أدار الشمس أمام عيوننا دوراناً يبلي في أجسامنا نسيجاً وينسج آخر، ويزيد في أفكارنا صوراً وينقص أخرى، ويطوي الأيام تحت أقدامنا سفراً من الزمن، ثم يطوينا بالأيام عضواً عضواً وذكرى وراء ذكرى. . .
إلى الذي فتح في نفوسنا نهماً لا يشبع من أطايب الوجود وحقائق الوجود، ثم سجننا في سجون القبور إلى يوم النشور. . .
إليه منا نحن الذين نبحث عنه منذ أن دخلنا عالم الفكر وننتظره وراء الأستار ونقرع باب الزمان والمكان في غرة كل يوماً وقَفَا كل مساء نسائل عنه، ومعنا عيون تقود وأقدام تسير وقلوب تتلفت وراء كل ورقة في كل شجرة وكل ذرَّة في كل مَدَرَة. وتنظر في الوجوه والعيون والألسنة، وما يزحف وما يمشي وما يطير وما تحمله الريح وما يحمله الماء والأثير وما تحمله قوة القوى: الفكر!
أواه! أية غفلة هذه التي تغشي الناس وتتركهم عمياً ذاهلين عن مجيء الحياة بهم من غير اختيار إلى دار العجائب وعن سيرها بهم إلى دار المجهول! وعن سير الشمس والقمر وتوارد الأيام وسقوط الأمطار وأسفار الرياح إلى مختلف النواحي!
ثم أية غفلة هذه التي تغشي عقولهم وتصرفها عن الفكر فيمن جاء بهم وسيذهب. . . ذلك الذي استتر وأصر على تكبره واختفائه؟
ولو دخل الإنسان الدنيا بكامل نفسه وفكره حين يولد، ولم يدخلها في غيبوبة الطفولة وذهولها وتدرجها به من البسائط إلى المركبات إلى المعقدات وهو في شغل عن الأسباب والمسببات إذاً لخرج منها مجنوناً بمجرد دخوله إليها من شدة الفجأة ودهشة العجب!
ولعل الله الخالق المبدع شغل أكثرهم بصغائر الحياة والنزاع عليها، وجعلهم كالقطيع الغافل المرتاح السادر في غفلته وعمله عن المعلوم والمجهول من أمور الحياة. . . وأخرجهم في(398/21)
خطوط مرسومة وحلقات مفرغة ليعملوا في الأرض كما تعمل الثيران في الطواحين. . . تدور وهي لا تعلم أنها تدور ولماذا تدور. . . وضربهم بفتنة الدنيا، فزاغت منهم الأبصار عن الحقائق إلا في فترات الدين والصلوات. . . وحتى هذه أدركوها وهم في خمار المادة وسعار الشهوات، إلا قليلاً منهم وهم العارفون المدركون لأرصاد الطبيعة وشيء من تدبير الله فيها. . . لعله فعل هذا ليخفف عنهم دهشة الفكر في أعاجيب صنعه التي كلما زاد فيها الإنسان تفكيراً زاد حيرة. . .
وهؤلاء العارفون لو أطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع وانصاعوا تحت حكم الأقدار، ولو في مقارنة الأضرار والأوصاب، إذ قد عرفوا أنهم لا بد أن يخضعوا ليشتركوا في حبك الخديعة التي أرادها الخالق المبدع لأطفال الحياة الذين هم جمهور الإنسانية العاملة التي عليها عمار الأرض بالأسلوب المادي المعروف.
وربما كانت غرائز القطيع العنيفة هي التي تنمي حركة الحياة الدنيا وتوسع آفاقها، كما ينمي عنف غرائز الطفل مستقبله ويوسع من آفاق حياته. . .
إذاً، فلا ملام على الأقدار التي تدبر كل شيء وتضعه بميزان ولا يجوز مطلقاً أن نتوهم أن حياة الإنسان بما فيها من أزمات ومآثم قد خرجت على الأقدار، وأنه قد فاتت على الله الغاية من خلق هذا النوع - كما توهم بعض من كتب إليّ منذ حين - فإن الإنسانية لا تزال في دور تفتح المدارك واستقبال الشباب، والشباب فيه لوثات كثيرة، ولا بد أن تتدرج إلى أدوار الرشد الخالص في كهولتها وشيخوختها، وأن تحقق الغاية من خلقها كما أراد ربها. . .
وكل مآثم الحياة الإنسانية وأزماتها قد تغتفر ويجد الفكر لها تعليلاً، إلا الفكر بخالق الحياة أو الإشراك به!
وكذب من يريد خديعة نفسه وخديعة الطبيعة وخديعة رب الطبيعة!
ذلك الذي يريد أن يفرض للحياة الفكرية الإنسانية مبدأ غير نقطة البدء التي يراها الفكر أول حياته ومفتاح عالمه. . .
كذب وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، وقلب الحياة على أم رأسها وأم رأسه!
إن نقطة البدء في الحياة الفكرية، هي الفكر في صاحب الدنيا: هذا البيت الكبير الهائل(398/22)
الذي جاء بنا إليه وأسكننا فيه من غير اختيار منا. . . الفكر فيه حتى نعرفه وندرك طرق تسييره للحياة والطبيعة، فنسير على خطواته وأسلوبه. . .
إنه مجهول للحواس ولكنه معلوم للفكر. . . وقد رأينا ظل يده يقع على كل شيء ويضع كل شيء في موضعه.
ومن أضلُّ ممن يأخذ أطفال الحياة أول نشوئهم ويباعدهم عن نقطة البدء هذه وبعضهم في مكان سحيق، فيستمر أول الطريق عندهم مجهولاً وآخره مجهولاً، ووسطه مختلطاً مشوشاً كذلك!
الجناية الأولى هي إهمال الفكرة الأولى: وهي السؤال عمن جاء بنا إلى هنا، ويمضي بنا كعابري سبيل. ومن وراء الجناية الأولى تتلاحق أخواتها التي تجعل الحياة أغلاطاً مسلسلة.
إن انفصال جنين إنساني من رحم أمه حادث عظيم ينبغي للإنسانية أن تتلفت إليه وتوليه أجل عناية؛ فلعل في الوليد حلقة جديدة فائقة تحمل سراً جديداً من أسرار تكوين هذا النوع.
ولكن الإنسانية أو الدولة تجني على نفسها إذ تهمل وصل كل عقل ناشئ بمفتاح الحياة، ومفيض فيضها ومرسل رحماتها.
وكأن الوثنية لم ترتفع بعض آثارها من الأرض للآن. . . وما الوثنية؟ هي انصراف العقل الإنساني عن الفكر في مصدر الحياة وما يليق له من الكمالات وعن شكره الدائم ما دامت آلاؤه وفيوضه تملأ النفس بالحياة وتتواتر على الجسم. . . ثم الركون إلى حجر أو بشر أو شيء من الأشياء ينسى الإنسان معه الإحساس بالحياة ورب الحياة ويستغرق في ذلك النسيان حتى يتعبد ويلوذ بما ركن إليه. . .
وها نحن أولاء نرى في هذا العصر آلهة منصوبة من المتاع والشهوات والآلات والأعمال والصناعات يستغرق عقل الإنسان فيها حتى ينسى صاحب الحياة. . .
قد يظن ظان أني مغال في الصوفية حين أدعو إلى أن يكون عقل الإنسان دائماً مرآة لشعاع ساقط من سماء الله. . . ولكن هذا هو الوضع الأصيل الحقيقي للدين على ما أفهمه وعلى ما فسرته به في مقال سابق من أنه الإحساس الدائم بالحياة والفكر في مبدعها لتكون ذاتها وآلامها وأطرابها وأوصابها صوراً وألواناً من العبادة. . .(398/23)
والإسلام الذي هو دين الطبيعة ودين الحياة قد رسم لنا هذا حين سن رسوله أن يذكر اسم رب الحياة عند الأكل والشرب والجماع وسائر الأعمال والآلام، حتى عند ما يريد الإنسان أن يدخل المكان الذي يخرج فيه ما في جوفه من الأذى. . .!
ولن يكون الدين غير هذا. . . فليحمله في نفسه من شاء، وليتركه من شاء. . .
ألا أنها (ديانة الحياة) التي تستحق وحدها أن يحيا الإنسان بها ويسعى جاهداً في سبيلها لتحقيق غاياتها. . .
وغاياتها: العقيدة الثابتة التي لا تتزعزع بخالق الحياة الواحد وحفظ الحياة نقية قوية متجددة كما هي في الطبيعة. . . ورصد قوانين الطبيعة التي تسير الحياة بنظام دقيق في الجليل والحقير. . . واستخدام تلك القوانين لصنع موجودات جديدة على النماذج والأساليب التي في الطبيعة. . . وعدم الغفلة والذهول حتى لا نرى نهار اليوم كنهار أمس. . . فلا يكون الزمان عندنا يوماً مكرراً مملولاً، ولا يكون إحساسنا بالحياة واحداً في مراحل عمر الفرد وعمر الجماعة، فإن ذلك إحساس جسدي فقط بالحياة. . . ووراءه إحساس فكري روحي عند من لهم إخلاص الفكر في الكون. . .
أولئك الذين يرون كل يوم جديداً. . . ثم يسبقون الحياة والزمن. . . ثم يموتون ليولدوا مرة ثانية من بطن الدنيا ليروا مشاهد أخرى جديدة. . . فإن العالم لا ينتهي أمده عند رؤية النفس والأرض والنجوم.
وإن الذي صنع هذا العجب الذي نراه، لا بد قد صنع غيره لا نراه.
عبد المنعم خلاف(398/24)
أيام الرواق. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
الرواق العباسي هو أشهر أروقة الجامع الأزهر، وكان الأستاذ
الإمام محمد عبده عليه رضوان الله، يلقي فيه دروسه
التاريخية التي هي من مفاخر الأزهر، وقد شهد الرواق في
الأيام الماضية القريبة مناقشات الرسائل الفقهية التي تقدم بها
طلاب الأستاذية من كلية الشريعة، وكانت هيئة الامتحان
برياسة فضيلة الأستاذ الإمام المراغي الذي انتهز هذه الفرصة
ليلقي على الأزهريين أنفع الدروس، وبضرب لهم أحسن
الأمثال، فما أشبه الليلة بالبارحة!
شفاك الله يا صاحب (الرسالة) وألبسك ثياب الصحة ضافية، وأدالك من هذا المرض عافية سابغة كما يتمنى لك أصدقاؤك ومحبوك!
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنت تكتب، وكنا نكتب معك عن (فقهاء بيزنطة) الذين شغلوا الناس عما يجدي من العلم النافع، والفقه المفيد، بالجدال في المحراب والشيطان وفائدة الأربعاء، كما شغلوهم من قبل زر العمامة: (أيبتر أم يُضفي، وفي شعر الذقن أيُخفى أم يُعفى، وفي قبور الموتى: أتسوّى بالأرض أم تقام!)
وكنت تأسف، وكنا نأسف معك، على الواقع الذي يكسف البصر، ويرمض الفؤاد، ويثير الظنون، من أن أحداً من هؤلاء السادة لم يضم إلى المكتبة الإسلامية - على كثرة ما أرغموها عليه من رسائلهم - سفراً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين، وفلسفة تشريعه، ووجوه إصلاحه، وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف، ونظام التأليف الحديث!
فليتك الآن كنت معافىً طليقاً، لم يعقدك هذا العاقد الكريه، لتشهد معنا (أيام الرواق)!
إذن لرأيت فقهاء من غير الطراز الذي أثار بالنقد قلمك، وأسال باللوم والتثريب بيانك،(398/25)
ولرأيت الأزهر يكتب صفحة خالدة سوف تسجل في تاريخه العلمي بيضاء ناصعة، وسوف يتحدث عنها الأبناء والأحفاد كما نتحدث نحن عن صفحات الفخار في ماضينا المجيد!
لم يكن الإمام المراغي في هذه الأيام رئيس هيئة الامتحان فحسب، ولو أراد ذلك واكتفى به لمرت هذه الأيام كما تمر غيرها من أيام الأزهر، لا تلفت نظراً ولا تثير عبراً، ولكنه أراد أن ينتهزها فرصة يضرب فيها للأزهريين جميعاً أروع الأمثال في شتى نواحي العلم والفقه والتأليف والإفصاح!
فرأيناه وهو يناقش رسالة (النسخ) يأخذ على صاحبها أنه نقد أبا مسلم الأصفهاني نقداً مراً، وتعصب عليه تعصباً ظاهراً، لا لأنه هدم فكرته، ووصل إلى أنها باطلة بالدليل العلمي الواضح، ولكن لأنه يخالف جمهور العلماء وأكثرية المفسرين القائلين بوجود النسخ في القرآن.
وجه الأستاذ الأكبر هنا درساً نحب أن يلتفت إليه الأزهريون وأن ينتفعوا به، فإنه قال للطالب: لقد كنت قاسياً على أبى مسلم في غير ذنب جناه، ولا شطط صار إليه، فإن هؤلاء الذين قالوا بالنسخ في القرآن مثلوا له بآيات بلغت عدتها عشرين آية، فجاء الفخر الرازي وناقشهم في تسع منها أو ثمان فظهر له أنها لا ينبغي أن تعد من باب النسخ، فإذا جاء أبو مسلم ونقض بقية العشرين مبيناً بالدليل والبرهان ما صار إليه، أيكون مستحقاً لهذا اللوم العنيف، وكيف تحرمون على أبى مسلم ما تبيحون للفخر الرازي؟
ورأينا الأستاذ الأكبر في مناقشة لرسالة الزكاة، ثم في مناقشته لرسالة الحجر، مثال العالم الذي درس نظم المعاملات دراسة موضوعية وافية، وأدركها إدراكاً صحيحاً، فأصبح بصيراً بكل ما حوله، لا يُخادَع، ولا يُغالَط فيه.
تجلى هذا المعنى مرة في رسالة الزكاة، فقد أراد الطالب أن يعتبر (البنكنوت) من جنس الحوالات بالديون، فسأله الأستاذ الأكبر: هل تحققت في هذه الأوراق شروط الحوالة بالدين من رضا المحال والمحال عليه، حتى تكون حوالة صحيحة؟ ثم أفاض في شرح اقتصادي تاريخي لنظام التعامل بالورق قديماً وحديثاً جلّى به المسألة للسامعين، وضرب بهذه الدراسة الوافية أحسن الأمثال لمن يريد أن يصل إلى استنباط فقه جيد مستقيم!
وتجلى هذا المعنى مرة أخرى في رسالة الحجر، فقد قرر الطالب أن قانون المجالس(398/26)
الحسبية قد أخذ بمبدأ معين، فأنكر عيه الأستاذ الأكبر ذلك، وسأله عن مرجعه الذي اعتمد عليه في تقريره، فظهر أنه اعتمد على سؤال شفوي وجهه إلى أحد العارفين بنظام المجالس الحسبية واطمأن إلى جوابه! وهنا ألقى الأستاذ الأكبر درساً عاماً في الأمانة العلمية، وما يجب على الباحث من التحري وطول الصبر والأناة حتى لا يقع في مثل هذا الخطأ الكبير!
وقد أثار الأستاذ الأكبر في مناقشته لرسالة الطلاق مسألتين تستوقفان النظر، وتستحقان البحث والدرس.
إحداهما: أن الطالب كان يقرر أن الشريعة الإسلامية إنما أعطت حق الطلاق للرجل دون المرأة، لأن الرجل أسمى من المرأة تصرفاً وأرجح عقلاً، وأقدر على أن يحسن استعمال هذا الحق فيسمو به عن مواطن العبث ومواقع الهوى والغرض.
فقال له الأستاذ الأكبر وهو يحاوره: إننا أولاً لم نجرب المرأة لنعرف إن كانت تستطيع أن تحسن استعمال هذا الحق لو أعطى لها أو لا تستطيع، ولكننا إذا نظرنا إلى الرجل وجدناه قد أساء استعمال هذا الحق إساءة أصبحت مضرب الأمثال، فهو يقسم بالطلاق حين يبيع ويشتري، ويقسم به حين يمزح مع أصحابه، ويقسم به حين يلعب النرد، ويقسم به في كل تافه من الأمر، فإذا كانت العلة تدور حول إحسان استعمال هذا الحق أو إساءته، فها هو الرجل قد أساء، فهل لنا أن ننتزع منه هذا الحق لنضعه في يد القاضي؟ وحينئذ لا يجوز للزوج أن يطلق زوجته إلا أمامه، فنكفل بذلك مصلحة الرجل والمرأة معاً، ونجعل بذلك رباط الأسرة في يد أمين بعيد عن الهوى، خال من الغرض، قدير على التدبر والنظر والموازنة والحكم العادل!
هكذا أورد الأستاذ الأكبر سؤاله واضحاً لا يكتنفه غموض جلياً لا يحيط به لبس ولا تعقيد، ولكنه مع ذلك كان حريصاً على ألا تنسب إليه هذه الفكرة، على أنها أمر قد بُت فيه وفر منه؛ ولكن على أنها سؤال قابل للمناقشة والبحث، ولذلك قال الطالب: إني سائل فقط، ولست قائلاً بهذه الفكرة ولا مقترحاً الأخذ بها، ولا مشيراً بتشريع فيها!
ومسألة أخرى في رسالة الطلاق، عرض لها الأستاذ الأكبر، وشرحها شرحاً وافياً، ذلك أنه ورد في الصحيحات أن الطلاق الثلاث في لفظ واحد كان سبباً في وقوع طلقة واحدة فقط(398/27)
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي خلافة الصديق رضي الله عنه، وفي صدر من خلافة عمر، ثم قال عمر رضي الله عنه إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيت عليهم، فأمضاه. فهل لعمر بوصفه إماماً للمسلمين أن يشرع ما لم بشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل له أن يبطل سببية معتبرة شرعاً ويضع موضعها سببية أخرى؟ وكيف ذلك مع أن الحكم بسببية صيغة من الصيغ في استتباع أمر مما اختص به الشارع دون سواه؟
يقول الأستاذ الأكبر: إن عمر لم يبطل سبباً، ولم يرد سبباً، وإنما رأى مصلحة في أن يمنع الناس من بعض ما أبيح من قبل، ذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً في لفظ واحد لم يلحقها بذلك إلا طلقة واحدة يباح للزوج معها أن يراجع ما دامت في عدتها، ويباح له أن يتزوج بها مرة ثانية إذا خرجت من هذه العدة بدون أن تنكح زوجاً غيره؛ فكل ما فعله عمر منع الأزواج من هذا الحق الذي كان مباحاً لهم، فأصبح الزوج لا يستطيع أن يراجع زوجته من هذا الطلاق وهي في عدتها وأصبح لا يستطيع أن يعقد عليها إذا خرجت من عدتها إلا أن تتزوج سواه ويطلقها، وإنما منعهم من ذلك لمصلحة رآها ومن المقرر أنه يجوز للحاكم أن يمنع الناس من شيء كان مباحاً من قبل إذا كان للصالح العام مصلحة في ذلك.
هكذا قرر الأستاذ الأكبر المسألة على هذا الوجه؛ + + بعد ذلك وجه آخر لم يعرض له فضيلته هنا، ولعله عرض في مذكرة قانون الطلاق سنة 1928.
أما بعد. فهذه الأمثلة مما اضطلع به فضيلة الأستاذ الأكبر الإمام المراغي من توجيه للأزهريين، (في أيام الرواق) لم نقصد بها إلا الاستعياب وإنما أردنا تنبيه الأساتذة والإخوان والأبناء إلى وجه العبرة منها ليستخلصوه وليعتبروا به، وليعلموا أن مجال العلم والتحقيق أوسع وأجدى مما يتصوره عليه سادتنا الأعلام (أعضاء الجماعة)، أولئك الذين قضوا عاماً كاملاً يتناقشون في حملة العرش، وما صفتهم، وهل هم أوعال أو غير أوعال!
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(398/28)
بين رجال الدين والفلسفة
تمهيد. . .
للأستاذ محمد يوسف موسى
هذا موضوع لا زلت به حفياً وله متطلباً. تصديت لبحثه منذ زمن، وقرأت لأجله كثيراً من المراجع التي أرَّخت الإسلام وحالة العلم والعلماء في العصور المختلفة. وقد أعلم أن بحث الخلاف بين رجال الدين والفلسفة أبيّ الزمام عسير العلاج، وأنه حري أن يجعلني مرمي النظر الشزر وغرض الألسنة الحداد. ولكن الأيام وما خلعته من قداسة على بعض رجال الدين حالت دون نقد ما كان لهم من آراء وأحكام بالتحليل والتحريم والإيمان والتكفير، وما كان لهذا أثر جعل كثيراً يجمدون مع الزمن ويأبون إلا أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم. ولكن الخصومة المشبوبة النار بين أنصار القديم وبين أنصار الجديد في الأزهر وغير الأزهر؛ لكن هذا وذاك جعلني أستسهل الصعب، ولا أتهيب الخطر، وأحاول أن أبين
- بعد استعراض مراحل هذا الخلاف وألوانه ومظاهره عصراً بعد عصر - أن ما كان يوماً ما بين الدين وبين الفلسفة، بل كان بين بعض رجال الدين وبين الفلسفة لبواعث يرجع بعضها لحب الدين والعمل على الدب عنه، وبعضها يرجع للجهل والتعصب وحب الرياسات. هذا واجب يتعين على بعضنا أن يندب له نفسه؛ لأنه مما يوجع القلب ويحز في الصدر ألا يزال الكثير - حتى في هذه الأيام - يرى ما كان يراه بعض الذين اتخذوا الدفاع عن الدين وسيلة لذيوع الاسم من أن هذا الفيلسوف ملحد وذاك كافر من غير بينة أو دليل، إلا ما سمعه عن أحد أولئك الذين تقدم بهم الزمن، دون أن يكلف نفسه محاولة الاطلاع على شيء من الآراء التي كانت السبب في الحكم بالفكر أو الإلحاد في الدين، ودون أن يتعرف البواعث الحقة التي بعثت على هذه الأحكام ليعرف ما كان منها لله وما كان للدنيا وزينتها! وأحب قبل كل شيء أن أجلو أمري وأشرح قصدي من هذه المحاولة.
1 - لست من القائلين ببقاء القديم على قدمه، ولا من الذين يعيبون بعض الشيوخ لما شبوا عليه، وانطبعوا بمرور الأيام به، من الحياة حسب مناهج القرون الماضية وأساليبها، والعزوف عن الجديد والتخوف منه، وعدم القدرة على تحضير البحوث العميقة الشاملة التي تحتاج لكثير من مراجع لا طاقة لهم بالرجوع إليها.(398/30)
2 - ولست لهذا من الذين يرون أن شخصية الأزهر العلمية منوطة بجماعة كبار العلماء وما يقدمون من رسائل لا نعلم عنها شيئاً إلا أنها تتفق ومبلغ جهود مقدميها، وإلا أنها صور لا يستغني عنها المؤرخ لأنها تعبر عن الحياة التي حيوها والمنهج الذي درجوا عليه.
هذه الشخصية العلمية للأزهر يجب أن يخلقها - إن كانت غير موجودة - الشبان الذين واتتهم الوسائل، أو تهيأت لهم السبل، وعرفوا طرق البحث وأساليبه، وعلى حبل الذراع منهم ما يدنيهم من الغاية ويقربهم من المقصد. فلنقصد من أجل هذا في اللوم، ولنعمل على تدارك ما عجز عنه الآخرون غير ملومين، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إن في ميدان العمل لمتسعاً لجميع الجهود الصادقة. هناك مثلاً كتب علم الكلام في حاجة شديدة لمن ينفي عنها ما دخلها من آراء غير صحيحة النسب لمن تعزي إليهم من الحكماء والفلاسفة وغيرهم من أصحاب المذاهب الكلامية. هذه الكتب يجب أن يتوفر على دراستها نفر من الأكفاء الذين درسوا علم الكلام على النحو المعروف في الأزهر، وآخرون من الأزهريين الذين درسوا الفلسفة الإغريقية في مصادرها الصحيحة، ليكون في مقدورهم تقويم ما فيها من تلك الآراء ونسبة ما يصح منها لأصحابها، وتبيين ما دخل علم الكلام من فلسفة اليونان تبييناً يرتفع به الشك وينجلي به الحق، وتسهل معه دراسة علم الكلام. وهناك أيضاً مسألة أخرى أعدها هامة من الطراز الأول، أعني بها تاريخ الأزهر ببيان الرسالة التي أنشئ أولاً لأجلها، ومدى تطور هذه الرسالة على مدى القرون، وما يجب أن تكون عليه في المستقبل، وتاريخ رجالاته الأعلام حتى تصل للعصر الحاضر. إن من أعجب العجب أن يؤرخ مفكري الإسلام كثير من المستشرقين ومن بينهم العالم الفرنسي كارّ ادي فو في خمسة مجلدات تشمل ما يزيد على الألفين من الصفحات وأن نجد في المعجمات الفرنسية ترجمات لمن يجب أن يكون لهم ذكر في التاريخ، بينما كبار من خرجهم الأزهر، ومن لهم علينا أكبر المنة - بما تدرس من مؤلفاتهم وبما أفادوا العلم في النواحي المختلفة - أصبحوا منسيين منا ولا نجد السبيل لتراجم لهم إن أردناها! هذا وذاك من الأعمال جدير بأن يستأثر بكثير من جهود من يرى في نفسه الكفاية من حتى يكون لنا شيء نباهي به في العيد الألفي للأزهر، وأرجو أن يكون منا غير بعيد.
3 - الغاية التي أستشرف إليها هي إذاً المساهمة - في غير تثريب على الغير من كبار(398/31)
الشيوخ الذين أدوا ما طلب منهم كما فهموه - في تهيئة بيئة علمية ينظر فيها المطالب بعقله لا بعقل أحد ممن سبقوه، ويرى فيها الرأي لأن الدليل يعضده لا لأن الغزالي أو مثله ذهب إليه. بذلك يصح لنا وجه الحكم في العداء الذي زعموه بين الدين والفلسفة، ويسهل الإقناع والاقتناع، ونصحح كثيراً من قضاياً الماضي وأحكامه، وتبني على ماض غير مدخول، وأساس متين ولا وهن فيه. وإلى اللقاء القريب - إن تفضلت الرسالة الغراء - إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(398/32)
فتنة الزَّنج
ورثاء البصرة في شعر ابن الرومي
للأستاذ محمود الشرقاوي
- 2 -
خلاصة
جئنا في مقالنا الأول عن فتنة الزنج على مبدأ ظهور صاحب الزنج وبدء فتنته واستيلائه على العبيد الزنوج وخروجه بهم على الولاة حتى دخل بهم البصرة وخرَّ بها في شهر شوال من سنة سبع وخمسين ومائتين. وكان دخوله إليها وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت منه، فأباحها صاحب الزنج لأتباعه ليلة ويومين يفعلون بها وبأهلها ما شاءوا.
رثاء ابن الرومي
بدأ ابن الرومي قصيدته في وصف هذه الحال بهذه البداية الجازعة:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغْلها عنه بالدموع السجام
أيَّ نوع من بعد ما حل بالبص ... رة ما حل من هنات عظام؟
أي نوم من بعد ما انتهك الزن ... ج جهاراً محارم الإسلام؟
إن هذا من الأمور لأمر ... كاد ألا يقوم في الأوهام
ومن هذه البداية يشعر القارئ بما يريد ابن الرومي أن يوحي إليه من الجزع والتهويل والتقديم لأمر عظيم (انتهكت به محارم الإسلام) حتى أن هذا الأمر العظيم يكاد ألا تصدقه الأوهام.
ثم ينتقل بعد هذا الإيحاء وإثارة الغضب والسخط في قلب سامعه وقارئه إلى وصف ما يريد فيقول مجملاً في بيت واحد:
أقْدم الخائن اللعين عليها ... - وعلى الله - أيَّما إقدام
ثم يعود بعد هذا الإجمال البارع إلى ما في نفسه من الحزن واللهفة على ما أقدم صاحب الزنج من أمر فيقول هذه الأبيات:
لهف نفسي عليكِ أيتها البص ... رة لهفاً كمثل لهب الضرام(398/33)
لهف نفسي عليك يا معدن الخي ... رات لهفاً يعضني إبهامي
لهف نفسي عليك يا قبة الإس ... لام لهفاً يطول منه غرامي
لهف نفسي عليك يا فرْضة البل ... دان لهفاً يبقى على الأعوام
لهف نفسي لجمعك المتفاني ... لهف نفسي لعزَّك المستضام
بهذه اللهفات المتواليات قد هيأ ابن الرومي قارئه لأن يقرأ وصفه القادم لما حلَّ بالبصرة، وقد امتلأ قلبه بالغيظ والغضب الذي أوحاه إلينا في مطلع قصيدته. ثم يقول:
بينما أهلها بأحسن حال ... إذ رماهم عبيدهم باصطلام
دخلوها كأنهم قطع اللي ... ل إذا راح مدلهم الظلام
أيّ هول رأوا به أي هول ... حقَّ منه يشيب رأس الغلام
إذ رموهم بنارهم من يمين ... وشمال، وخلفهم، وأمام
كم أغصوا من شارب بشراب ... كم أغصّوا من طاعم بطعام
كم ضنين بنفسه رام منجًى ... فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخٍ قد رأى أخاه صريعاً ... تَرِب الخد بين صرعي كرام
كم أبٍ قد رأي عزيز بنيه ... وهو يُعلى بصارم صمصام
كم مفّدى في أهله أسلموه ... حين لم يحمه، هنالك، حامي
كم رضيع، هناك، قد فطموه ... بشبا السيف قبل حين الفطام
كم فتاة - بخاتم الله - بكرٍ ... فضحوها جهراً بغير اكتتام
كم فتاة مصونة قد سبوْها ... بارزاً وجهها بغير لثام
من رآهن في المساق سبايا ... داميات الوجوه للأقدام
من رآهن في المقاسم - وسط الزن ... ج - يقسمن بينهم السهام
من رآهن يتَّخَذْن إماَء ... بعد ملْك الأمام والخدام
هذه القطعة من قصيدة ابن الرومي قد رأى فيها القارئ كيف دخل الزنج على البصرة وأهلها على أحسن حال، فكان جيشهم كأنه قطيع الليل. وكيف أخذتهم نار الزنج من خلفهم وأمامهم ومن يمين وشمال. ثم هو يقدم إلينا هذه الصورة الشعرية الرائعة كأنها الرسوم أو التماثيل في قوة تصويرها. فهذا شارب أو طاعم حين هجم عليه الزنج غصَّ بشرابه(398/34)
وطعامه، وهذا هارب ضنين بنفسه قد جبهته سيوفهم وتلقت جبينه، وهذا أخ يرى أخاه صريعاً قد عفَّر التراب خده بين كرام غيره، معفَّرة خدودهم. ثم يقدم إلينا صورة من تلكم الفتيات الأبكار على خاتم الله قد فضحهم الزنج وفضّوهن حهرة بغير اكتتام. ثم ساقوهن إلى السبي يفرقونهن بينهم ويقتسموهن مماليك وكنّ من قبل يملكن الإماء والخدام.
ثم يعود بعد إبراز هذه الصورة القوية من السفك والقتل والعدوان إلى شعوره النفسي يوحي به فيقول:
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أضرَم القلبَ أيما إضرام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أوجعتني مرارة الأرغام
ثم يعرج إلى ذكر صور مجملة بعض الأجمال عن بيع السبايا وتخريب البيوت البارة كانت مأوى الضعاف والأيتام. ودخول القصور العامرة كانت من قبل صعبة المرام. ثم يقدم لنا بعد ذلك صورة كلها حياة وكلها حركة وكلها دقة ووضوح وهي قوية غاية القوة عن مدينة البصرة وكيف كان زحام الخلق فيها وعماد أسواقها وتلك الفلك التي تسير منها وإليها بالتجارة والناس، وتلك القصور ذوات الأحكام من بنيانها، وكيف استحال هذا كله - بفتنة الزنج - إلى خراب وصمت لا يرى فيه غير أيد وأرجل مقطوعة ورؤوس مهشمة ووجوه دامية بين الخرائب تسفي عليها الرياح:
عرَّجا صاحبّي بالبصرة الزه ... راء تعريج مدنف ذي سقام
فاسألها - ولا جواب لديها ... لسؤال - ومن لها بكلام. . .؟
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها؟ ... أين ذاك البنيان ذو الأحكام؟
بدلت تلكم القصور تلالاً ... من رماد ومن تراب ركام
سلط البثق والحريق عليها ... فتداعت أركانها بانهدام
وخلت من حلولها، فهي قفز ... لا ترى اللعين بين تلك الآكام
غير أيد وأرجل بائنات ... نبذت، بينهن أفلاقُ هام
ووجوه قد رملتها دماء ... بأبي تلكم الوجوه الدوامي
وطنت بالهوان والذل قسرا ... بعد طول التبجيل والإعظام
فتراها تسقي الرياح عليها ... جاريات بهبوة وقتام(398/35)
خاشعات كأنها باكيات ... باديات الثغور، لا لابتسام. . .!
ولا شك في أن القارئ يشعر بتلك القدرة الفائقة التي صورت بها ابن الرومي ذلك المشهد، مشهد خرائب البصرة وقصورها التي أضحت تلالاً، ومشهد تلك الأيدي والأرجل مبعثرة فيها قد نبذت بينهن أفلاق هام، ومشهد تلك الهام ملقاة خاشعة باكية قد بدأ منها الثغر وبرزت النواجذ ولكن لا لتبتسم. . .!
ثم ينتقل ابن الرومي بعد ذلك إلى ذكر مسجد البصرة وما حل به فيقول مخاطباً صاحبيه أيضاً:
بل ألما بساحة المسجد الجا ... مع إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه - ولا جواب لديه - ... أين عبادة الطوال القيام. . .؟
أين عماَّره الألى عمَّروه ... دهرهم في تلاوة وصيام
أين فتيانه الحسان وجوها؟ ... أين أشياخه أو لو الأحلام
تحريض وإثارة
إلى هذه الغاية يكون ابن الرومي قد أبرز تلك الصورة البارعة القوية الصادقة عن وصف ما حل بالبصرة وأهلها على يد الزنج، فهو ينتقل بعد ذلك الوصف إلى تهيج الناس وتحريضهم وإثارة نفوسهم على صاحب الزنج وزنوجه حتى يثأروا منه لأنفسهم وأهليهم. وهنا تبرز الغاية التي قصد إليها ابن الرومي، ونعتقد أنه تعمدها حين بدأ قصيدته بتلك البداية. . . وقد أشرنا إلى ما تشعر به من الرغبة في التحريض والإثارة حين ذكر ابن الرومي (محارم الإسلام) وحين قال بعد ذلك بيتاً قصدنا أن نسقطه من موضعه لنذكره الآن وهو:
وتسمى - بغير حق - إماماً ... لا هدى الله سعيه من إمام
وقد ذكر هذا البيت بعد ذلك الذي يقول فيه إن الخائن اللعين صاحب الزنج قد أقدم عليها وعلى الله
كل هذه الإيحاءات بالهياج والثأر يجعلها ابن الرومي دعوة صريحة في هذه القطعة التي ينتقل اليها بعد ذكر المسجد الجامع وعبادة وفتيانه وشيوخه أولى الأحلام.
أي خطب، وأي رزء جليل ... نالنا في أولئك الأعمام(398/36)
كم خذلنا من ناسك ذي اجتهاد ... وفقيه في دينه علام
واندامي على التخلف عنهم! ... وقليل عنهم غناء ندامى
وأحيائي منه - إذا ما التقينا ... وهم - عند حاكم الحكام
أي عذر لنا؟ وأي جواب؟ ... حين ندعي على رؤوس الأنام:
يا عبادي! أما غضبتم لوجهي ... ذي الجلال العظيم والإكرام؟
أخذلتم إخوانكم وقعدتم ... عنهم - ويحكم - قعود اللئام؟
كيف لم تعطفوا على أخوات ... في حبال العبيد من آل حام؟
لم تغاروا لغيرتي، فتركتم ... حرماتي لمن أحلَّ حرامي
إن من لم يغر على حرماتي ... غير كفء لقاصرات الخيام
كيف ترضي الحوراء بالمرء بعلاً ... وهو - من دون حرمة - لا يحامي
ثم يقدم لنا ابن الرومي بعد هذا التحريض القوي هذه الصورة البارعة عن خصومه تخيل أنها واقعة بينه وبين النبي عليه السلام عن هؤلاء الشيوخ والفتيان وكيف لم يثأر لهم:
واحَيائي من النبي إذا ما ... لا مني فيهم أشدّ الملام!
وانقطاعي إذا هُم خاصموني ... وتولى النبي عنهم خصامي!
مثَّلوا قوله لكم - أيها النا ... س - إذا لامكم مع اللوام
(أمّتي! أين كنتمُ إذ دعتكم ... حرّة من كرائم الأقوام. . .؟
صرخت: يا محمداه. . .! فهلاَّ ... قام فيها رعاةُ حقّي مقامي. . .!
لم أجبْها إذ كنت ميتاً فلولا ... كان حيٌّ أجابها عن عظامي!)
وأريد هنا أن أشير إلى براعة ابن الرومي إذا انتقل من خطاب نفسه في الأبيات الأول إلى خطاب من يحرضهم حين بدأ يصف خصومه النبي عن قتلى الزنج فقال: (مثّلوا قوله لكم أيها الناس)
ثم يندرج ابن الرومي بعد هذه الإثارة وإهاجة النفوس إلى الدعوة الصريحة إلى الثأر من صاحب الزنج فهذه القطعة التي هي ختام قصيدته، والتي نكتفي منها في هذه الأبيات:
انفروا - أيها الكرام - خفافاً ... وثقالاً إلى العبيد الطغام
أَبرموا أمرهم وأنتم نيام، ... سوْءة سوءة لنوم النيام(398/37)
صدَّقوا الظن اخوة أمّلوكم ... ورجوكم لنوبة الأيام
أدركوا ثأرهم فذاك لديهم ... مثل ردَّ الأرواح في الأجسام
لم تقروا العيون منهم بنصر ... فأقروا عيونهم بانتقام
أنقذوا سبْيهم - وقَلَّ لهم ذا ... ك حفاظً ورعية للذمام
عارهم لازم لكم، أيها النا ... س، لأن الأديان كالأرحام
لا تطيلوا المقام عن جنة الخل ... د فأنتم في غير دار مقام
فاشتروا الباقيات بالعرَض الأد ... نى، وبيعوا انقطاعه بالدوام
هكذا ينتهي ابن الرومي من قصيدته في رثاء البصرة وفيما أصابها وأهلها من صاحب الزنج وفتنة الزنج وتحريض الناس على الثأر منه ومنهم.
وأعتقد أن القارئ يجد أني لم أكن مغالياً حين قلت في ختام مقالي الأول عن هذه القصيدة من شعر ابن الرومي إنها قصيدة عجيبة من غرائب الشعر العربي، وضوح بيان، وقوة تصوير، وإعجاب خيال، وصدق عاطفة، وأنها من بدائع الشعر العربي كله.
وأزيد على ذلك اليوم أن ابن الرومي كان في تحريضه الناس وتهييجه لهم، ماكراً خبيثاً وقوياً عارماً شديد التأثير، يكاد شعره في ذلك يدفعنا نحن الآن - أحد عشر قرناً - إلى الثورة والهياج.
محمود الشرقاوي(398/38)
من وراء المنظار
المتعاظمون
هذا الفريق من بني آدم أو هذا الصنف كثير شائع، ولكني أقصر الحديث هنا على بعض أصحاب السلطان منهم؛ ولسوء حظك أو لسوء حظي أنا - على أقرب الرأيين إلى الصحة - أن يرى هؤلاء في كثير من المجالس. ولست بحاجة إلى منظار، بل ولا إلى عينين - لا قدر الله - لنرى هؤلاء الناس، أو تحس سلطانهم إن صح عندهم أنهم ناس من الناس. . .
ومن عجيب أمر هؤلاء أنهم وإن كانوا على رغم أنوفهم الشم ناساً يجري عليهم ما يجري على سائر الخلق لا يؤمنون إلا بأنهم فوق مستوى الناس، وعسير عليك أشد العسر أن تقنعهم من بعيد أو من قريب بأن لهم مثلك يدين ورجلين وحواس وما إليها من جوارح وأحشاء، وأنهم يأكلون كما تأكل، وإن لم يكن مما تأكل، وأنهم يشربون وينامون ويفرحون ويغضبون ويمرضون ويموتون كما يجري عليك من أحكام الطبيعة سواء بسواء.
هذا الفريق الذي أتحدث عنهم أصحاب السلطان من أصحاب الديوان. ولعلك لم تنس بعد أحاديثي عن أصحاب الديوان، وإن كنت وقفت بك عند صغارهم لا خوفاً من كبارهم علم الله. وما لي أقسم وهاأنذا أعرضهم عليك جملة وأحشرهم أمام المنظار في غير تهيب ولا رفق:
ترى الشخص منهم - وهو شخص رضى أو لم يرض - في ردهة من ردهات دور اللهو، أو في سيارة عامة، إن لم تكن له سيارة خاصة، أو في عرض الطريق، فتحييه تأدباً منك وعملاً بما يوجبه الذوق وتفرضه الإنسانية، فيدهشك أنه يبدو عليه كأنه لا يلقي منك تحية، بل تراه وكأنه يلقى منك إهانة؛ وإلا فما باله وقد كان منبسط الأسارير: يتجهم لك ويشمخ بأنفه ويرميك بنظرة كريهة كأنه يريد أن يخيفك في غير داع لذلك ولا مناسبة؛ ثم يرد تحيتك الحارة برفع سبابته قليلاً تجاه رأسه العالي، أو بإيماءة بسيطة، ويمضي وكأنه لم يكن يرد تحية، وإنما كان يرد على توسل سائل بإلقاء مليمين في كفه المبسوطة!. . .
ولقد تعجب لذلك، ولكن عجبك دليل بساطتك أو طيبة قلبك. . . والحق أني أريد أن أقول دليل (عبطك) فاقبلها مني ولا تدعني أموه فأتحايل على الألفاظ، ولخير لك على أي حال(398/39)
أن تكون كما أذكر، من أن تكون فظاً غليظ القلب، وإلا فلك الخيار، ولكن على شرط أن يتوافي لك السلطان قبل كل شيء. . .
وفيم تعجب وعنده أن التحية توجه إلى مقامه ممن هم دونه، إنما هي ضرب من عدم الاحتشام بين يديه، فهي لذلك ضرب من عدم اللياقة، أو هي جرأة تلحق بقلة الأدب عند بعضهم، وما أردت أنت إلا أن تكون مؤدباً. . . ولقد يصور له كبرياؤه وغروره أن ذلك منك تحد لذاته الخطيرة والعياذ بالله، وفي ذلك سر تجهمه وتعاظمه وكريه نظراته وتفسيره تأدبك بأنه قلة أدب.
وكأني بك، أيها القارئ، تضحك مني وتقول في نفسك إنما يصور بما يكتب ما وقع له، وأريد أن أكون صادقاً، فأسلم لك بصحة هذا، ولكن قل لي بربك، ما ذنبي لتضحك مني يا أخي - سامحك الله - وأينا أجدر بضحكاتك، أنا أم ذلك المتعاظم المتكبر؟ ثم اعلم أني لم أغضب ولن أغضب لما يكون بيني وبين هؤلاء المتعاظمين. لم أغضب لأن ما حدث هو ما كنت أتوقعه، بل إني لأضحك إذا أقع من ذلك على مادة لمنظاري، ثم إني لم أغضب لأني أعرف كيف أكيل لهم بنفسي كيلهم متى أردت، فأزيدهم غيظاً وأزداد منهم ضحكاً، ولو علمت الحق لرأيت أني دائماً ألفاهم بالعصيان المدني، وهو سلاحي السلبي الوحيد الذي لا سبيل لي إلى غيره.
جمعني بفريق من هؤلاء مجلس من المجالس، أو قل قادتني الظروف على رغمي إلى هذا المجلس، فما كان لي أن أغشى مجالس أصحاب السلطان مختاراً، فانتحيت ناحية وجلست، وقادت الظروف كذلك بعض أصدقائي ممن هم في مثل سني، وفي مثل مركزي الصغير، فحمدت الله وزال عني القلق، فلقد كنت أحس نفسي غريباً قبل مجيء هؤلاء الذين لا حول لهم ولا سلطان، وانفرجت شفتاي لأول مرة منذ جلست أرد على تحيات هؤلاء الأصدقاء، فما وجه إلى أحد من أصحاب السلطان تحية تنفرج لها الشفاه، فلم تك ثمة إلا إيماءات متكلفة لاذعة قصيرة، أو إشارات باليد آلية لا روح فيها، اللهم خلا رجل منهم تلطف فجاد عليَّ بتحية منادياً إياي باسمي ولكن بعد أن فعل ذلك من هم على شاكلتي من الخلان.
وجلست صامتاً أترقب وأنا أخفي ضحكي مما رأيت على وجوه أصحاب السلطان من معاني الازدراء عند دخول أصحابي، ولقد حياهم هؤلاء السذج في أصوات طلقة، وفي(398/40)
إشارات وانحناءات دمثة جميلة، فما عادوا إلا بإشارات وإيماءات أرستقراطية كانت هي الأخرى جميلة على رغمي وعلى رغم منظاري!
واستأنف أحد أصحاب السلطان ما كانوا فيه من حديث، واحتدم النقاش بين هؤلاء السادة، فهذا يعترض على ذاك، وذلك يرى ما يرى جاره أو لا يرى الصواب في رأيه، وفي وجوه الجميع بشر أو تحمس أو ضحك من دعابة أو نكتة يطرد من هاتيك الوجوه شبح الكهولة أو يستمهل الشيخوخة لحظات.
وبدا لأحد السذج من الرفاق - رفاقي أنا - فحشر نفسه في الحديث يحسب أنه يكلمني أو يكلم أحد أقرانه، فما أسرع ما بدت الدهشة على وجوه الجميع! ثم تغافلوا عنه بأطراقهم، وقطع عليه أحدهم كلامه فساق الحديث إلى رأي جديد، وذهبت كلمات المسكين هباء أو أقل من الهباء.
ثم تكلم شاب آخر لم يتعظ بما جرى لسالفه فكان من أحب المناظر عندي، ولا أقول من أبغضها أن أرى على وجوه أولئك السادة ذلك الاتفاق الذي لم يقصدوا إليه لأنهم اعتادوا كلما تطفل على حديثهم العالي متطفل لم تصل بعد مداركه إليه ولا هيأه مركزه حتى لمجرد الاستماع له، وهو اتفاق على المقاطعة أو الإغفال لأمر المتكلم. وأحسب أنهم لو نظروا ساعتئذ إلى ذلك الساذج الثاني لأخذتهم الشفقة لحمرة الخجل تتوقد في محياه فما تقسو قلوبهم إلى حد أن يعرضوا عنه وهو على تلك الحال.
على أن اثنين منهما رمياه بنظرة ولكن بعد أن خفت في وجهه حمرة الخجل ورأيتهما يزدريانه في صمت، فهو مرؤوسهما في الديوان ولا يجمل أن يجرؤ مثل هذه الجرأة فيناقش رؤساءه. وكم أتمنى لو يتاح لي من البيان ما أصور به ما ارتسم على محياهما الكريمين من اشمئزاز! وكم يؤلمني ألا تسعفني الألفاظ بما أريد!
وأني أحدهم بنكتة تصلح لأن تكون نكتة ولكنه أتى بها لسوء حظه في ضجيج من النقاش فلم يفطن إليها غيري فضحكت بصوت يسمع فالتفت نحوي ضاحكاً مسروراً وصاحب النكتة يبحث دائماً عن الضاحكين من نكتته ويسر إذ يجدهم. . . على أن هذا ما لبث أن قطع ضحكته بغته كأنما أزعجه أن يتبادل وإياي الضحكات ثم تكلف العبوس ونظر إليَّ ولكني لم أقطع ضحكتي فقد كانت هذه الحركة منه أدخل في معنى النكتة من عبارته(398/41)
وأدعى إلى الضحك منها.
وما يريد أصحاب السلطان ممن هم أصغر منهم إلا أن يتزلفوا إليهم فينهضوا وقوفاً إذا أقبل أحدهم ويشيعوه إذا انصرف، فإذا تقدم أحد هؤلاء الصغار ففتح باب السيارة حتى يركب (سعادة البك) أو حمل له معطفه حتى يلبسه فذلك هو ما يكبر به في عين سعادته ولذلك دخل كبير في قياس كفايته في عمله وإن لم يكن لعلمه صلة ما بعمل (الجرسونات)! والعجيب أنك ترى الرجل من هؤلاء يتصاغر وينكمش كأنما يدخل بعضه في بعض إذا كان أمام من هم أكبر منه وذلك بقدر ما يتعاظم وينتفخ إذا نظر إلى من هم دونه.
وبعد فقد أفهم أن أرى أصحاب السلطان في دواوينهم متعاظمين وإن عد ذلك مرذولاً منهم أينما كانوا، فإن الرجل منهم يكون هناك في (منطقة نفوذه) وما يذهب إليه في الغالب حيث مقر سلطانه إلا طالب حاجة عنده.
ولكن كيف أفهم لعمري أن يتعاظم عليك هؤلاء خارج دواوينهم ولقد تكون بحيث لا تربطك بهم صلة من عمل أو من حاجة؛ بل كيف يتعاظمون وإن كان يصلك بهم العمل أكبر صلة وإن منهم من لا يفضلك إلا بما ساقته إليه الظروف من منصب بحيث لو رجع القهقري إلى مثل سنك لكنت أحسن منه عقلاً وأقوى تفكيراً وأكثر اطلاعاً. ولقد تكون اليوم أكثر منه ذكاء على رغم جاهه، بل ولقد يكون من الغباء بحيث لا يصح أن تقيس عقلك إلى عقله إلا إذا أردت أن تمتهن نفسك.
وبعد فنحن أمة تكثر الكلام في الديموقراطية وتبالغ في السخرية أحياناً من حيث لا تدري فتطيل الكلام عن الانتخابات مثلاً أتكون مباشرة أم غير مباشرة؟
الخفيف(398/42)
رسالة الفن
إن كنت فناناً
. . . فهذه نفسي!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يا رب محمد! استغفرك يا رب محمد!
أعصابي متراخية. عقبي نائم. عيناي تريدان أن تنطبقا كأنهما زهدتا النور، وما هو زهد ولكنه تسليم.
نفسي تتهرب مني، وتتحجب عني. . . أريد أن أعرف ماذا بها؟ أسألها فيقع السؤال فيها كما تقع الحجرة على كومة التبن المحروق، فلا صوت، ولا رد على الصوت، ولا شيء.
إذن فماذا بقي لي؟ لا شيء!
وإذن فماذا أصنع؟. . . لا شيء. والصبر طيب. والنجدة عند رب محمد. . .
اللهم إني قد أسأت، اللهم إني قد أسأت!
هأنذا أعترف لك وما أنت بحاجة لأن يعترف لك مذنب. ولكني أريد أن أفضح نفسي لعلك تريد بعد ذلك فتمحو بلطفك وكرمك ما سطرته على جبيني بحكمتك وخبرتك من الإثم، وآثار الإثم. . .
لن أعدد ما ارتكبت، فإني لا أحصيه. ولكني أقول إني ما تركت إثماً إلا واقترفته.
ولكن كان شر آثامي أني في يوم أنكرتك. أعوذ بك من نفسي. وأعوذ بك لها.
لقد انطلقت يومها أعربد بروحي وبدني، وأقول - وبئسما كنت أقول - إن الخبطة العشواء التي أوجدت هذا الكون وإنما أوجدتني حكمتي في الكون كما حكمت الكون فيَّ، فما دام هو يأخذ مني فلآخذ منه، وما دام يستبد بي فلأستبد به. . . ومن أنا. . .؟؟
حقاً إني كفرت يا ربي. ولكني لا زلت أتوسل إليك حتى بكفري. فقد كنت أحبك وأنا منكرك
ألست أنت صاحب هذا البحر الذي كنت أصارع الريح وأنا ساع إلى أعتابه في ليالي الشتاء العاصفة المقمرة لأجلس عنده وأنا سكران وفي يدي السيجارة كلما شهقت منها نفساً(398/43)
شهقت معه من البحر أملاً، وكلما زفرت نفساً زفرت معه إلى البحر هماً. لقد كنت أتبادل الأنفاس مع البحر، هذا الوحش المحبوس عن الأرض الراضي بالحبس.
لقد كنت أحبه. ولقد أحبني هو أيضاً فأعطاني الكثير من نفسه: جلداً، وصبراً، وصفاء، وغنى، وحياة، وقوة. . . ومسكنة مع هذا كله وذلاً.
لقد سبحتك فيه يا رب لأني كنت أراه وأبادله الحب، وكان عقلي أصغر من أن يؤمن بك غيباً
ثم ألست أنت صاحب تلك الماسة التي كانت تريق عليَّ أضواءها فأشرب منها وأشرب وأشرب وأنا لا أدري لماذا لا أرتوي على كثرة ما أنا شارب حتى علمت أن ما كنت أشربه لم يكن إلا نوراً، والإنسان لا يريه النور وحده إن لم يمزجه بشيء من الظلمة. فلما بحثت عن الظلمة انفلت النور مني، وكف يده عن أوتار قلبي.
من يومها يا رب وأنا غارق في ظلمات وظلمات ولكن بعد أن آمنت بالنور. فاللهم شعاعاً، رحمة منك وعزاء.
ثم ألست أنت صاحب حديقة النزهة. . . أنت صاحبها رغم أنف المجلس البلدي
كنت كلما اكتأبت وثقلت علي واجبات الجبر والكيمياء، وأرهقتني حياة المدرسة الجافة التجأت إلى النزهة أفرغ فيها ذبولي وآخذ من أزهارها وأشجارها نضرة. . . وبهجة. . . واطمئناناً وفرحاً. . .
ما أكرمها الأشجار والأزهار! ما أحلاها! إنها تتضور حباً، وتشرئب إلى عاشق يهفو إليها بنظرة. . . وخفقة.
وما أقسى عشاق الأشجار والأزهار. . . أطمعهم صمتها وسكونها واستسلامها فانهالوا عليها قطفاً. . . والقطف قتل. . . وأكرمهم يجود عليها بشعر. والشعر كلام. . .
إنني لم أسرف يا رب في قطف الأزهار، واسألها
كنت أقنع بالذي تنفثه هي راضية من الحنين المؤمل، والشهوة المتبخرة الرطبة. . . وكنت أعوذ عنها إلى المدرسة وأنا كالقرنفلة الناطقة الحية: أبذر في قلوب الناس حباً أبعثره وأبعثر وراء من تلك الزأرة التي أعطانيها حبيبي الأزرق ذو الأمواج وذو الأنفة!
ثم ألست أنت صاحب هذه السماء التي كنت أنقلب على الرمال إليها لأسرح بنفسي فيها(398/44)
مرتحلاً من نجم إلى نجم، ومن كوكب إلى كوكب، متباعداً عن الأرض ما استطعت، مختاراً من أكوانك أقصاها ٍكأنما كنت أريد أن أستوعب ملكك، فما استوعبت شيئاً وما كنت إلا لأرتد حسيراً، ولكن بعد أن تطول حيرتي فيك وفي ملكك. . .
سبحانك! قد خلبت لبي. . .
يا صاحب الصحراء تخرج فيها الحي من الميت. . . يا لمسحرك هذا الأقفر من مسرح!
يا صاحب الناقة الصابرة! يا صاحب النخلة المتكبرة! يا صاحب السلحفاة الصائمة الساخرة! يا صاحب الغزالة النافرة!
أليس هذا فنك! وهل عشقت سواه حين كنت أنكرك!
ما عشقت سواه وأنا منكرك! ولا عشقت سواه وأنا راج أن أعرفك! وما سوى ذلك إلا العدم، فكل موجود من أثرك وصنعك.
يا رب محمد! أستغفرك!
وأحمدك وأشكرك. فلقد ذكرتني بك حين أنسيتني نفسي، وأنا حين أذكرك أهدأ وأطمئن، لأني أعرفك الرحمن الغفار الذي ينقشع أمام رحمته وغفرانه كل ضلال وكل عطب؛ والذي إن عاقب أرسل في العقاب راحة ورضى، وقرن بالعسر يسراً. وإن مع العسر يسراً.
بدأت أنتعش. . .
زوابع من الإسكندرية تناديني. أريد أن أنطلق. أريد أن أعربد مرة أخرى؛ ولكن عربدة المؤمن المطمئن.
أريد أن أصرخ. أريد أن أبطش بهذه الظلمات التي بطشت حين أمنت إليها. أريد أن أقيم الدنيا وأقعدها. فهل أنا قادر من ذلك على شيء. . .
إذا أردت أنت فإني قادر، فإذا لم ترد فهاأنذا كما أردت. . .
قلبي ينبض بالأمل فيك، وعقلي شارد وراء هذا الأمل يريد أن يعرف ما هو، ولكنه تعب ولم يعرف ما هو. . . فأرشدني.
ليس أشهى لدى من أشعر بأني أرضيتك وأنك أرضيتني
وأنا طماع، دنيء النفس. قد أتخم ولكني قد أشبع.(398/45)
أنت الذي خلقتني. فساعدني على نفسي. وخذ بيدي، وأنت تستطيع. ولا أحد غيرك يستطيع.
أنت تطالبني بالتوبة؛ ولكنك أرجأت التوبة في قرآنك إلى سن الأربعين. فلي الآن إن مددت في عمري عشر سنوات باقية قد أستجديك بعدها عشراً، وقد أستجديك بعدها عشراً، فما أحسب التوبة ممكنة وقتك الخلاب يدغدغ العيون، ويناوش الأسماع، وينكث القلوب. . .
ثم لماذا يتحتم علي أنا أن أتوب؟!
أأنا إنسان عاقل ورشيد؟! إني لا أظن ذلك. فليس عاقلاً رشيداً هذا الذي يستمرئ أن يفضح نفسه بنفسه. ولا هو عاقل رشيد هذا الذي يطاول من هم أشد منه قوة وآثاراً في الأرض، وينوخ للضعيف الهزيل يركبه ويضرب بطنه برجليه. . .
أنا يا رب كما تعلم. فعافني. واسمح لي أن أقضي في ملكك هذا ما قدرت لي من البقاء وأنا تحت رعايتك وعطفك. فلست إلا طفلاً غراً آفته دلال استحكم في نفسه من كثرة ما استقاه وعَبَّه من نفح القرنفل والياسمين.
واحمني يا رب من الشر أن يسكن نفسي. واملأ قلبي سلاماً. وانزع منه كل حقد وكل غل.
واحمني يا رب من الشر أن يقذفني به حاقد أو مغلول؛ فأنا أعجز من أن أتلقى قذائف الشر المتستر، ولدغات الحقد والغل.
يا رب محمد. أحفظ يحيى السيد فقد أقرضني اليوم عشرة قروش وإن كان لا يعرف متى سيستردها.
هو طالب في ليسانس الحقوق. فخذ بيده في امتحانه القريب. . . أرجوك بحق محمد.
عزيز أحمد فهمي(398/46)
البريد الأدبي
المسلمون (قواري) الله في الأرض
وردت لفظة من الجموع الشاذة في قول لابن الخياط (أو غيره) في الإمام مالك:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
هدْي التقي وعز السلطان التقي ... فهو المطاع وليس ذا سلطان
في كتاب (الحيوان) لإمام أبي عثمان الجاحظ ذي الأحاديث الطلّة المنورة، فقال محققه وشارحه الأستاذ عبد السلام محمد هرون في أمر تلك اللفظة:
(نواكس جمع ناكس وهو من الجمع الشاذ وقد أسهب البغدادي عن نحو هذا الجمع في الخزانة (1: 190 - 195) وفي مجلة الرسالة العدد (315 ص1394) بحيث قيم، واستدرك طيب لهذا الشذوذ).
راجعنا هذا البحث في (المجلة) فألقينا فيه ثمانية عشر جمعاً لكنه قد فاته جمعان ذواشان. ولا نقول: إن سبب هذا الفوت هو قلة الاستقراء أو العجز إذ لا نجهل أنها لغة العرب بل لغات العرب كما أنا ما نسينا ما روى في (الرسالة) عن (رسالة الإمام الشافعي في أصول الفقه): (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي) وذانك الجمعان الشاذان الفائتان هما القواري والسوابق.
1 - في الفائق: في الحديث: الناس قواري الله في الأرض، وروى المسلمون، وروى الملائكة. وفي الصحاح: الأصمعي: الناس قواري الله في الأرض أي شهداء الله، أخِذ من أنهم يقرون الناس أن يتبعونهم فينظرون إلى أعمالهم. حكاه أبو عبيد في المصنِّف. وفي النهاية: أي شهوده فإذا شهدوا الإنسان بخير أو شر فقد أوجبَ، وأحدهم قار، وهو جمع شاذ؛ حيث هو وصف لآدمي ذكر كفوارس ونواكس.
جرير:
ماذا تعهد إذا عددت عليكم ... والمسلمون بما أقول قواري
راجز:
حدثني الناس وهم قواري
أنك من خير بني نزار(398/47)
لكل ضيف نازل وجاري
2 - قال محمد بن مالك:. . . وشذ في الفارس مع ما مائله. قال ابن عقيل: وشذ فارس وفوارس وسابق وسوابق.
حماسي:
إن تُبتدر غاية يوماً لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا
القناني في مدح الكسائي:
أبى الذم أخلاق الكسائي وانتهى ... به المجد أخلاقَ الأبُوِّ السوابق
أغلب الظن أن نديدةَ سيبويه قد أحبره تضمين في الفعل (انتهى) أو حذف وإيصال كما سره هذا الجمع اللطيف للأب وهذا الجمع الشاذ، إنهم النحاة. . .
ضبط الكتابة العربية
أصدر معالي وزير المعارف قراراً جاء فيه: أنه رغبة في ضبط الكتابة العربية، بحيث يمكن أن تقرأ في غير تعرض للخطأ واللحن؛ وفي تقريب قواعد اللغة العربية إلى فهم الجيل الحديث دون أن يكون في ذلك مساس بجوهر اللغة وأصولها. ورغبة في تشجيع الأدباء المعاصرين على تصوير الحياة الحديثة في أدب يجمع بين نشر اللغة وروعة الأسلوب، تقرر أن يعهد إلى مجمع فؤاد الأول للغة العربية في أن يدرس ما من شأنه تيسير الكتابة العربية وقواعد النحو والصرف، والتماس الوسائل إلى تشجيع الأدباء على التنافس في الإنتاج الأدبي الممتاز؛ على أن يعرض المجمع على معالي الوزير في نهاية هذا العام ما تصل إليه مباحثه من النتائج.
وقد أبلغ هذا القرار إلى حضرة المراقب الإداري للمجمع للعمل على تنفيذه.
تحريف معنى بيت بالنحو
وعجيب أن يحرف معنى بيت بالنحو وهو لم يوضع إلا لصون اللسان عن الخطأ في الكلام، ليصح المعنى ويستقيم الفهم، وهذا البيت الذي حرف النحو معناه هو قول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
فأو في البيت من النواصب التي تنصب الفعل المضارع بنفسها عند الكوفيين. وبأن(398/48)
مضمره عند البصريين، وهي في البيت بمعنى إلى، وعلى هذا يكون معنى البيت: ليكونن منى استسهال للمصعب إلى إدراك المنى، لأن الآمال لا تنقاد إلا لمن يصبر على تحمل الصعاب في سبيلها - فهناك صعاب يستسهلها أولاً؛ ثم يكون بعدها إدراك المنى، ويجتمع في ذلك الأمر أن اجتماع السبب والمسبب؛ ولكن علماء النحو لا يرضون إلا أن تكون أو عاطفة مع كونها ناصبة، ويجعلون المعطوف المصدر المنسبك من الفعل المنصوب بها، ويجعلون المعطوف عليه مصدراً متصيداً من الكلام السابق عليها، ويكون تقدير البيت على ذلك العطف الذي يتكلفونه: ليكونن منى استسهال الصعب أو إدراك المنى - وهنا يقع التحريف في معنى البيت، لأن أو العاطفة لها معان غير معنى أو الناصبة، وقد جمع ابن مالك معاني العاطفة في قوله:
خَيِّرْ أبحْ قَسِّمْ بأو وأبْهِمِ ... واشكك واضرب بها أيضاً نُمى
وربما عاقبت الواو إذا ... لم يُلف ذو النطق للبس منفذا
أما أو الناصبة فتكون بمعنى إلى أو إلا، وكلاهما ليس من من معاني أو العاطفة، ولهذا كان تقدير البيت على العطف تحريفاً لمعناه، وخروجاً به عن معنى إلى المقصودة منه.
عبد المتعال الصعيدي
حول الإنتاج الأزهري
قرأت في مقال الأستاذ عبد العزيز محمد عيسى (الإنتاج الأزهري) في عدد الرسالة 397 ما يلي:
(أليس من العيب أن يظل الأزهر إلى الآن يقرأ في سنتيه الأولى والثانية الثانويتين كتباً في البلاغة لمعاصرين من غير الأزهريين وفيه مائة من المتخصصين في البلاغة كل واحد منهم قادر على أن يخرج كتاباً مثلها إن لم يكن أفضل منها)
ولعل هذا الذي يراه الأستاذ لا يراه أحد سواه، أو لعله إذا نظرنا إليه بالعين التي رآه هو بها لعددناه آخر العيوب إذا لم يكن بد من احتسابه أحد العيوب.
وإذا كانت الجامعة المصرية قد تقدمت الجامعة الأزهرية خطوات في الإنتاج والتأليف فهل قال أحد أساتذة الجامعة بوجوب أن تكون كل الكتب التي تقرأ في الجامعة من إنتاج(398/49)
الجامعيين.
ولقد أشار الأستاذ إلى ما سنته وزارة المعارف في إعلانها عن الكتب التي هي في حاجة إليها، وأريد أن أقول في هذا الصدد هل طلبت وزارة المعارف أن يكون المتقدمون للمسابقة ذوي ثقافة معينة أو يشغلون مراكز معينة في شعب التعليم، ولعله ليس ثمة شك في أنه لو تقدم أحد الأزهريين لمسابقة وزارة المعارف ورأت لجنة التحكيم أن كتابه أفضل الكتب المقدمة لما وقع الاختيار على غير كتابه.
محمود أحمد وصيف
كتاب (تشرتشل)
لا شك أن ونستون تشرشل هو رجل الساعة في بريطانيا؛ ويتصل التطور الذي حدث في الحرب أوثق اتصال مع رآسته للوزارة الإنجليزية.
ومن عجب أن هذا الشيخ الكبير لا تزال فيه ذخيرة من الفتاء والشباب تستمد منها إنجلترا في أحرج الساعات التي تمر بها الآن.
ولقد كتب الكاتبون عن أعداء الديمقراطية وذكروا حياتهم؛ ولكن صديقنا محرر المقتطف يكتب أول كتاب عن أول منافح عن الديمقراطية وأول مكافح لشرورها في العالم. ولعله يتحفنا بعد كتابه هذا بكتاب عن حياة (روزفلت) صديق الديمقراطية في العالم الجديد، فإن سير هؤلاء العظماء تعمل عملين: تحييهم من ناحية، وتحيي همم القارئين من ناحية أخرى وكتاب تشرشل ظهر في سوق الأدب في حينه المناسب، وفرصته السانحة، فإن هذا الرجل يزداد نجمه كل يوماً ألقاً وسطوعاً؛ وهو إلى جانب إرادته الماضية وعزيمته المصممة أديب كبير، وأدبه من نوع خلفته القوة وصاغته المشيئة فخرجا أدباً قوَّيا. فله كتاب في وصف الحرب العظمى. وله ترجمة لوالده اللورد راندولف تشرتشل؛ وله مئات من المقالات وعشرات من الخطب التي تفيض بالإيمان القوي: إيمان الواثق بنفسه لا المغرور بما يملك.
يصور هذا الكتاب حياة تشرشل تصويراً عذب السياق، حلو السرد؛ قرأته فما مللته ولا غالب النوم جفوني أثناء مطالعته. وكيف ينام الإنسان وهو يقراً حياة حية يقظة، حياة قوية(398/50)
فتية، حياة ملآى بالمفاجآت والمغامرات.
وتشرتشل من يومه يحب الصيال والنضال، ولعل نضاله اليوم هو أعلى مثل لما يستطيع الرجل الصئول أن يفعل، وهو يتكلم. . . ولكن أفعاله دائماً اكثر من كلامه وقد أشار هو نفسه إلى ذلك في خطبته الأخيرة التي أذاعها على الشعب يوم 9 فبراير حيث يقول: (في أوقات الحرب توجد أشياء كثيرة تستحق القول ولكن شعارنا دائماً الأعمال لا الأقوال)
إن كتاب الأستاذ فؤاد صروف عن تشرشل هو قطعة من أدب الحرب؛ وكثيراً ما كتب صديقنا في أوقات السلم عن العلم والصناعة فأجاد في كل فن تناوله. وهو حين يكتب اليوم عن حياة رجل كُتب له أن يدير أفظع حرب عرفها التاريخ فإنما تجيء كتابته دائماً على الغرار الذي عودنا والنهج الذي طالعنا. وهو غرار فيه وضاحة في التعبير، وتسلسل في الأداء، ومتابعة للحوادث.
لقد قرأنا كثيراً عن وحوش هذه الحرب الطحون، فهل آن لنا أن نقرأ عن مصارعي تلك الوحوش؟
الحق أن كتاب تشرشل هو أول خطوة في هذه السبيل؛ فلعلنا نسمع غداً عن وايفل، وويلسون، وأوكونور، وماكي، وبيغر بروك، وماتكساس، وغيرهم من أبطال النضال وأعلام القتال؟
إن تاريخ هؤلاء العظماء يجب أن يتلى في كل زمان ومكان، ويجب أن ينتقل إلى كل لسان. لأنهم - كما كتبت إليَّ مسز ساتيز الكاتبة الأمريكية - لا يدافعون عن بريطانيا فحسب، ولكنهم يدافعون عن قضية الحق والسلام.
محمد عبد الغني حسن(398/51)
القصص
فندق الدانوب
للأستاذ محمود البدوي
عدت إلى كونستنزا ونزلت في (فندق الدانوب) مرة أخرى كما شاءت كاترينا، على الرغم من أنه ليس من الفنادق التي نشتهي في هذه المدينة، فهو يبعد عن البحر ويبعد كذلك عن أنظار السائحين، والجانب الأكبر من حجراته لا يدور مع الشمس، ولا يشرف على مناظر خلابة، وهو إلى جانب هذا يقع في قلب المدينة، وعلى خطى قليلة من الخط الحديدي، فالمقيم فيه ينام على صوت العجلات وهي تدوي القضبان، وينهض على صفير القطر وهي تبرح المحطة!
على أن كل شيء يتحول في نظرك إلى جمال وفتنة عندما ترى كاترينا. . . تلك الفتاة الروسية الجميلة التي تعمل في الفندق.
وكنت قد لبست حلتي وتهيأت للخروج عندما دخلت كاترينا غرفتي فحيتني في ابتسامة ساحرة! وهصرت ستر النافذة وقالت ووجهها مشرف على الطريق:
- نمت نوماً عميقاً وحلمت بكاترينا كالعادة؟
- أجل يا كاترينا. . . وحلمت أننا نجري على ساحل البحر في كارمن سلفيا. . . وأنت تطفرين من المرح وتقذفينني بالكرة. . . والآن، هل تحققين هذا الحلم. . .؟
- ماذا؟ أتنزه معك؟ والعمل والفندق؟. . . أنا لا أمشي مع الشبان في الطرقات. . .!
- طبعاً يا كاترينا. . . أنت لا تمشين مع الصعاليك من أمثالي. . .!
- آه. . . صعلوك. . . ماذا تقول صعلوك؟. . . لا تقل هذا ومالت بخصرها على مائدة صغيرة في الغرفة وهي تهتز من الضحك وتزيح خصل الشعر المتدلية على جبينها، وتمر بأناملها على فمها، وقد تورد وجهها وأشرق محياها. . . ثم سكنت نأمتها. . . وأخذت ترنو إليَّ وعلى وجهها سحنة الفتاة الريفية التي لا تعرف من حروف الحياة شيئاً. . . وقالت بصوت حلو لين النبرات:
- أنت لا تعرف شعور الفتاة يا شوقي. . . كيف أخلع رداء الحياء وأمشي على شاطئ البحر شبه عارية وعيون الشبان تأكلني؟ كلا. . . أنا فتاة من أسرة روسية معروفة. . .(398/52)
وأنت تقول لي هذا الكلام لأنك لا تعرفني. . . ترى أمامك فتاة فقيرة تعمل في فندق. . . هذا هو كل ما تعرفه عني. . . افهم شعور العذراء يا شوقي!
- طبعاً. . . أنا أعرف شعور العذراء يا كاترينا. . . ولكن هذا لا يمنعك من التنزه معي لتري الدنيا. . . الدنيا ليست هنا في هذا الفندق. . .
فاحمر وجه كاترينا، وأسبلت جفنيها، وغضت رأسها كطفل صغير ارتكب عملاً يعده مزرياً. . . ثم رفعت أهدابها وقالت بصوت خافت:
- كيف أخرج معك بهذا الثوب. . .؟ أنظر. . .!
ونظرت إلى ثوبها وكان يبعث على الرثاء حقاً. . .!
- أليس معك غيره يا كاترينا؟
فغضت رأسها ثانية، وانسدلت أهدابها على هاتين العينين الزرقاوين اللتين لا تعرف من أسرارهما وتعابيرهما شيئاً. . .
ورفعت جبينها وقالت ويدها على عاتقي:
- أبداً. . . أنا فتاة وحيدة وفقيرة. . .!
- سأجود لك بثوب جديد يا كاترينا. . .
فاهتز جسمها. . . كأن سيالاً كهربائياً سرى في ألياف لحمها. . . وطوقتني بذراعيها وقالت وهي نشوى طروب:
- والآن، سأجيء لك بالإفطار. . . وسنفطر سوياً. . . ولكن لا تأكل الطعام كله كما تفعل دائماً، ولا تدع للصغيرة المسكينة كاترينا شيئاً. . . أوه. . . أنت مروّع!
رجعت ذات ليلة إلى الفندق متأخراً، بعد أن قامرت وأفرطت في الشراب. . . لعبت الروليت في الكازينو وخسرت كثيراً، وطيرت الخسارة الأحلام من رأسي. . . وصعدت درجات الفندق متثاقلاً حتى بلغت غرفتي. . . وقد خيم السكون العميق على الطابق كله. . . وفيما أنا أدير المفتاح في الباب سمعت رنين قبلات في إحدى الغرف. . . ثم صوت ضحكات. . . ضحكات كاترينا بعينها، فلا أحد يضحك مثلها بقلب طروب. . . وسمعت إثر ذلك صوتها وهي تتحدث في همس. . . وفتحت باب غرفتي ودفعته ورائي بغيظ وحنق. . .(398/53)
وبعد لحظات فتح الباب برفق، ودخلت كاترينا وهي تتثاءب وعيناها شبه مغلقتين كأنها مستيقظة من نوم عميق. . . وأفاقت في التو من تأثير مخدر! وجلست على الديوان وهي تفرك عينيها ووضعت ساقاً فوق أخرى ومالت بجسمها إلى الوراء وقالت وهي أسبه بالنائمة أو الحالمة:
- لماذا تأخرت هكذا؟ كنت في الكازينو طبعاً. . . لقد أبصرت بك ليزا مع بعض الغواني. . .
فصمت ولم أجب. . . ونظرت إلى هذه الفتاة وهي تتكسر وتتثاءب، وتتصنع التعب الشديد وتحاول الاستفاقة من النوم، وقد كانت منذ لحظة في أحضان رجل، وحاولت أن أقرأ في عينيها شيئاً ينم عن حقيقة أمرها فلم أستطع.
وجلست وهي تسارقني النظر. ثم نهضت ومشت إلى صوان الملابس وجاءت لي بجلبابي. فتناولته منها، ودفعتها عني فابتعدت قليلاً ولم تقل شيئاً، وظلت هادئة ووجهها ساكن الطائر ونظراتها لا تتغير.
وقلت بصوت خشن وقد تحول بصري عنها
- والآن أريد أن أنام يا كاترينا.
- ألا تريد شيئاً. . .؟
فرفعت وجهي ونظرت إليها نظرة يتطاير منها شرر الغضب. فوقفت في وسط الغرفة أكثر من دقيقة وهي لا تبدي حراكاً ولا تحرك ساكناً. . . ثم مشت متثاقلة إلى الباب. . .
وأغلقت الباب وراءها بعنف وغيظ ولا أدري لماذا كنت أحمق إلى هذا الحد.
وذهبت مرة إلى مطعم من مطاعم السمك الفخمة في شارع كارول لأتعشى. . . بعد أن ترددت طويلاً في ولوج بابه. . . وجلست في ركن بعيد عن الخلق وأنا شاعر بالنفور والقلق. . . ودرت ببصري الحائر فيمن حولي. . . كما ينظر الرجل الغريب إلى قوم لا يعرفونه. . . وشد ما كنت دهشتي عندما لمحت كاترينا جالسة إلى مائدة في وسط القاعة مع كهل أنيق الملبس رائع المظهر. . . وكانت ترتدي ثوباً من الحرير الفاخر لا نرى مثله إلا في قصور الأمراء!. . . ولما وقع بصرها علي ابتسمت وأحنت رأسها في أرستقراطية أصيلة!. . . ولمحت في عينيها وهي تنظر إلي ذلك البريق الخاطف الذي يبدو ثم يختفي(398/54)
في لمح الطرف. . . ولا تعرف منه شيئاً على الإطلاق. . . ونظرت إلى هيئتها وبزتها وقارنتها بالنساء الجالسات في المطعم فإذا بها تبزهن جميعاً. . . فهي آنق مظهراً وأحلى شكلاً وأنضر وجهاً ورجعت أذكرها وهي في ثوبها الأبيض البسيط في الفندق كفتاة ريفية ساذجة يبدو من مظهرها أنها لا تعرف من شئون الحياة شيئاً. . . وأدركني العجب.
وغافلتها وهي تحادث صاحبها وانسللت إلى الخارج وعدت من بعض المراقص إلى الفندق فوجدتها جالسة في غرفتي منكبة على المكتب تكتب رسالة! ورفعت وجهها لما شعرت بي. . . وتوقفت عن الكتابة ونظرت إلي وهي باسمة. . . ثم عادت تكتب وبعد دقيقتين طوت الرسالة وغلفتها وقالت: (إنني أكتب رسالة إلى صديقة عزيزة في بلغراد. . . هل رأيت ذلك العجوز الذي كان معي الليلة في المطعم؟ إنه عمي! جاء أمس من بلغراد وحدثني عن مرض كاتوشنكا العزيزة فجلست أكتب إليها هذه الرسالة في الحال. إنها من أعز صديقاتي وقد طَرَنَا الحمر معاً. وكنا نعمل سوياً في بودابست، ثم طوحت بنا الأقدار. . . وما زلت أنحط حتى وصلت بي الدرجة إلى العمل في هذا الفندق! هل تتصور أنني سأترك هذا اليهودي يحاسبك على هواه. . . ويقدم إليك الكشوف في آخر الشهر كأنك مهراجاً من الهند. . . كل شرقي عند هذا الرجل الجشع مهراجاً. . . لا. . . أنت طالب مسكين يا شوقي؛ عندما يجيء ديمتري ويدفع لك بهذه الأوراق ألقها في هذه السلة. . . سأحضر الحساب فلا تسل عن ذلك اليهودي يا شوقي!)
وكانت تتكلم بسرعة وكأنها تتلو من ورقة أمامها ثم كفت عن الكلام. ونظرت إليها فإذا بها ساهمة كأنها تفكر. . . ولأول مرة في حياتي أشاهد كاترينا تفكر، فإن رأسها الصغير الجميل لا يتسع للتفكير. . .
وطوقتها بذراعي وقلت لها:
- هل نذهب غداً إلى أيقوريا؟
- أجل. . . ولكن ليس أيقوريا. . . أو كارمن سلقيا. . . أو مامايا. . . سنذهب بعيداً بعيداً عن كل هذه البلاد.
وكانت تحلم؛ وما أعذب الأحلام في رأس فتاة في مثل سنها وجمالها. . . وضممتها إلى صدري فسكتت واستراحت وأغمضت عينها نصف إغماضة، ثم انتفضت فجأة واعتدلت(398/55)
في جلستها وصاحت:
- ما هذا. . . هل تعلمت هذا الجموح في بخارست؟ أنت تعرف أنني عذراء. . . أنت مروع؟
وسافرت من كونستنزا إلى مدينة صغيرة على الدانوب، وعدت منها بقطار بوخارست السريع إلى ميناء مباشرة. . . ولم أشأ الذهاب إلى الفندق مخافة أن ألتقي بكاترين فتبقين أياماً أخر.
ولما اقترب موعد السفر صعدت إلى ظهر السفينة ووقفت على الجسر أرقب حركة المسافرين والمودعين وقد علت وجهي تلك الكآبة التي تعلو الراحل من بلاد يحبها. . . بلاد قضى فيها أسعد أيامه وأمتع لياليه. وكانت الشمس قد غربت وبدت تلك الميناء الصغيرة تتلألأ في غبش الغسق؛ وأخذت أستعرض في ذهني الصور الجميلة التي مرت علي في تلك البلاد. . . مناظر سينايا الخلابة. . . وشواطئ الدانوب الساحرة. . . وحسان بخارست. . . وغانيات كارمن سلفيا. . . وفاتنات ممايا. . . وفندق بولونا. . . وفندق الدانوب. . . وكاترينا. . . أجل كاترينا. . .! واتكأت على السور الحديدي وعيني إلى الأفق وكل شيء يمضي سريعاً. . . ولمحت فتاة تهبط المنحدر المشرف على الميناء. وكانت تمضي على عجل وبصرها لا يتحول عن السفينة. . . وفتحت عيني وتبينتها فكانت كاترينا. وقفت لحظة حائرة. . . ثم نقلت بصرها في الركاب. . . ولمحتني فجرت على الرصيف حتى وقفت أمامي وهي تلهث. . . فنظرت إليها مشدوهاً وسألتها:
- ما الذي جاء بك. . .؟ وكيف عرفت أنني سأسافر اليوم. . .؟
- هذا سهل!. . . دعك من هذا الآن. . . كيف حالك. . . شد ما تغيرت ونسيت كاترينا المسكينة لا يذكرها أحد. . .
ولم أستمع لباقي حديثها. . . فقد درت ببصري في الركاب لأحصى عدد الذين جاءت تودعهم كاترينا. . . فلا بد أن يكون منهم من نزل في فندق الدانوب والتقى بها!
ورأت نظراتي، وقرأت ما دار بخلدي. . . فامتقع لونها وغضت طرفاً. . . ثم رفعت رأسها وقالت وقد اختلجت نبرات صوتها:
- شوقي. . . هل تحسب أنني جئت أودعك كلا. . . أنت مروع! إنني جئت أرقب هذه(398/56)
السفينة وهي مقلعة وسائرة برهة في الطريق الذي تسير فيه السفن إلى وطني. . . سأركب هذه السفينة يوماً ما. . . وأعود إلى وطني، وأرى بافلوفنا، وسونيا، وأولجا مرة أخرى. . . إنني أجيء إلى هنا كل أسبوع وأرقب السفن وهي مبحرة وأتخيل إلى ذلك اليوم سيأتي ولا بد أن يأتي. . . فلا تحسبن أنني جئت أودع الصعاليك أمثالك!. . . فاستغرقت في الضحك.
- لا تقولي هذا يا كاترينا. . . إنني مسافر اليوم وسأعود غداً لأراك ولا بد أن نلتقي ثانية.
- حقاً. . .؟
- أجل. . . لا بد وأن أعود في العام المقبل وكل عام بعده لأرى كاترينا. . .
- والآن اصمت واقترب. . . أرأيت؟ إننا لا نستطيع أن نتصافح. . . انتظر لا بد من ذلك. . .
واحمر وجهها ولمعت عيناها، وظهرت في أبدع ما كونها الله. . . فقد اختلجت شفتاها، وتهدل شعرها، ورف لونها، وتورد خداها. . . وعلت أنفاسها، ومالت برأسها إلى الوراء، وارتفعت بجسمها قليلاً. . . وانحنيت عليها. . . والتقت يدانا. . . وتصافحت أنفاسنا. . .
ودوى صفير الباخرة. . . وتراجعت كاترينا. . . ووقفت جامدة كالتمثال. . . وعيناها مخضلتان بمثل الدمع. . .
وشيعتها ببصري وهي تصعد المنحدر الذي جاءت منه. . . ولكنها لم تكن تمضي مسرعة. . . بل كانت تسير على مهل كاسفة البال حزينة، كأنها استفاقت من حلم. . .
محمود البدوي(398/57)
العدد 399 - بتاريخ: 24 - 02 - 1941(/)
من دروس الحرب
بين اللاتينية والجرمانية
كان بعض المولعين بتصنيف الناس من علماء الأجناس يقولون أن الله اصطفى الآريين على الساميين بمواهب العقل الأصيل فآتاهم الحكمة؛ ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي العلم والحكم وهيئ فطرته لملك الأرض وتمدين العالم. واستغل المستعمرون هذه الفكرة فسرقوا بها ملك العرب، ونسوا أن العرب، وهم ساميون، كانوا خلفاء الله وورّاث المعرفة في الدنيا؛ واستغلها النازيون آخر الأمر فسرقوا بها مال اليهود، ونسوا أن اليهود، وهم ساميون، كانوا الرأس الخلاق واليد المصرفة في ألمانيا.
ولعل هؤلاء المصنفين لخلق الله يشغلون بالهم اليوم بما يتجلى من الفروق بين اللاتينية والجرمانية وهما شعبتان من الآرية، ليعلموا أن من عوامل البيئة والتربية وطريقة العيش ما لا يقل أثراً في اختلاف العقل وتغير الخُلق عن عوامل الجنس والوراثة. ولئن كان في فكرة الآرية والسامية أكثرُ الكذب الذي يسنده الغرض؛ فإن في فكرة اللاتينية والجرمانية أكثر الصدق الذي يؤيده الواقع. وإذا كان الغربيون قد انتفعوا بفكرتهم في أن يسودوا، فإنا حريون أن ننتفع بفكرتنا في أن نتحرر.
لأمر ما تنهار اللاتينية وتتماسك الجرمانية وقد مسهما من هذه الحرب الطحون عذاب لا يختلف!
هنا الديمقراطية الوادعة تتمثل في دولة جرمانية هي إنجلترا، ودولة لاتينية هي فرنسا؛ وهناك الدكتاتورية الباغية تتمثل في دولة من الدول الجرمانية هي ألمانيا، ودولة من الدول اللاتينية هي إيطاليا؛ فما هو إلا أن امتحنت الحرب بنارها معدن الفريقين حتى ذابت فرنسا هنا وتفككت إيطاليا هناك، وظلت الأمتان الجرمانيتان ثابتتين، تتصارعان بعبقريات الذهن، ومبتكرات العلم، ومهلكات المادة، والعالم كله يشهد هذا الصراع العنيف المخيف وهو من هوله الهائل لا يتقارُّ ولا يتمالك. وسيكون النصر ولا ريب للفريق الذي يحالفه الحق والصدق والصبر؛ ويومئذ تنقسم الجرمانية كذلك إلى سكسونية تعتمد على قوة الخُلق، وتوتونية تعتمد على سعة الحيلة.
ليت شعري من أين أُتِيت اللاتينية حتى انخرعت فما تقوم، وانماعت فما تتماسك؟ لم تُؤت(399/1)
يا زعماء الشرق إلا من جهة خصائصها التي تبجحت بها حيناً من الدهر، وهي الإفراط في الأدب والفن والكلام، حتى غلب فيها النظر على العمل، والحفظ على التفكير، والخيال على الواقع. وقاعات التمثيل على أندية الرياضة؛ فمن المعقول ألا يقام لها وزن مع الجرمانية التي كان من أظهر خصائصها الممتازة أن ألَّفت ثقافتها وحضارتها من عناصر معلومة المقادير مضبوطة النِّسب من كل ما يتصل بالمادة والأدب، ويدخل في غذاء الجسم والروح، فلا يطغى منى على معنى، ولا يجوز شئ على شئ؛ ثم هي لا تفهم الفرد إلا بالأمة، ولا العلم إلا بالتطبيق، ولا العمل إلا بالتجويد، ولا رياضة العقل إلا برياضة البدن، ولا غاية الآخرة إلا بطريق الدنيا. وكل ما يصدر عن الجرمانية من نتاج الفكر واليد موسوم بسمات القوة والدقة والجد.
ماذا عسى أن نصنع يا زعماء الشرق العربي وهذه اللاتينية المتخلفة العجفاء قد غلبت علينا لوجودنا على البحر الأبيض المتوسط، واتصالنا بشعوبها المختلفة في العمل والتجارة، واعتمادنا على رسلها الدينيين في التربية والتعليم، فأخذنا من أهلها حب الكلام وشهوة الجدل. فقادتُنا كتاب ومحامون، وجيشنا هُتَّاف ومتظاهرون، وعُدتنا أحزاب وصحف! وإذا لم يكن زعيمنا من صاغة الكلام وراضة المنابر انصرفت عنه الأسماع ونبت عليه النفوس ولو كان ملء سكوته العمل المثمر!
من صفات اللاتينية فينا أننا لا نزال نتعلم بالحفظ، ونتقدم بالمحاباة، ونعمل بالواسطة، ونقنع بالشكل، فلا يهمنا من النظام إلا أن يبقى مظهره وإن ذهب جوهره.
ومن مظاهر اللاتينية فينا أن ضعف إيماننا بالمثل الأعلى والخير الأعم. فالأمة معناها: أنا أكون، والوطنية مغزاها: أنا أعيش. فإذا تناقضت منفعة الفرد ومنفعة الأمة، وتعارضت رغبة النفس وإرادة الوطن، وقع الضمير الاجتماعي في غشية ثقيلة لا يبالي المرء فيها أن يخون أو يسعف أو يسقط.
ومن بلايا اللاتينية فينا أننا نسرف في الوعود، ونتزيد في الحديث، ونداجي في النصيحة، ونكابر في الحق، ونجاحش في النقاش، ونركن إلى شعبذة الحظ، ونستكين إلى معابثة القدر، ونستأمن إلى مخادعة السلامة.
فإذا شئنا أن نتقي العواقب المحتومة لهذه التربية الفاشلة، فلنطهر قلوبنا من رواسبها(399/2)
المتراكمة، ولنهيئ نفوسنا لحياة جديدة تنكشف عنها هذه القيامة القائمة. فإن مما لا شك فيه أن الحياة الحاضرة بمذاهبها ونظمها تنصهر الآن في نار هذه الحرب لتصوغها يد الخالق المصور صياغة أخرى تتفق مع تقدم الإنسانية في سبيل الخير المحض والكمال المطلق؛ ومتى خلصت العقول من الهوى، وبرئت النفوس من الأثرة، وطهرت القلوب من الحقد، عاد الناس إلى شريعة الحق الخالد فيلتقي الشرق والغرب، ويأتلف الأحمر والأسود، وتطمع الأمم والشعوب أن يعيشوا في عالم من الإخاء والرخاء جديد. وهل ذلك على الله بعيد؟
أحمد حسن الزيات(399/3)
ليحكم رجال الأدب العربي
السباعي بيومي
يستر جناية على المبرد بجناية على المرصفي
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
عرف قراء (الرسالة) أن الأستاذ السباعي توعدني بمقالتين خطيرتين: الأولى في تحديد ما قال في الشيخ المرصفي، والثانية في دفع النظرية التي نهبها من كتاب النثر الفني، وكان يرجو أن أنتظر إلى أن يفرغ من المقالتين المرتقَبتين، لعلني أعتبر فلا أجترئ عليه، وقد شاع أني من كبار المجترئين!
وقد نشر مقالته الأولى، فعرفنا أنه يصر على اتهام الشيخ سيد المرصفي بالغرور، ولم يبق إلا أن ينشر مقالته الثانية، وهي مقالة عرفنا مضمونها مقدماً، فهو سيُثبت أنه لم يَسرق من كتاب (النثر الفني) وإنما سَرَق منه مؤلف (النثر الفني) فكان حاله حال اللص الذي رأى صاحب الدار يمشي من بُعد فصاح: (مين اللي ماشي هناك!)
وأنا لن أنتظر إلى أن يفرغ الأستاذ من تحبير مقالته الثانية، فما كان أول باحث سَرَق من كتاب النثر الفني، ولن يكون آخر باحث يسرق من كتاب النثر الفني، فقد كتمتُ سرقته من كتابي أربع سنين، لأني أشعر بالارتياح كلما تذكرت أن عندي ذخائر يطلع إليها الناهبون من الفضلاء.
لن أنتظر، لن أنتظر، فليواجهني إن استطاع؛ وأنا ماضٍ إليه بقلمٍ أمضى من السيف وأعنف من القضاء، ولن أتركه بعافية أو يعترف بأنه يستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
ولكن كيف جَنَى على المبرد وقد قضى شبابهُ في خدمة كتاب (الكامل)؟
تلك هي النقطة، كما يقول لافونتين!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس:
المبرِّد دان اللغة والأدب والنحو والتصريف والتاريخ الإسلامي بكتابٍ نفيس اسمه (الكامل)(399/4)
وهذا الكتاب قد شرَّق وغرَّب فانتقل من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال، وبذلك تعرَّض للتصحيف والتحريف، وإذاً كان من الواجب ألا يتقدم لنشره من أبناء العرب غير من يملك القدرة على إصلاح ما أفسدت تلك الأجيال.
فهل يكون السباعي بيومي هو المصلح المنشود وما قال أحدٌ بأن الله وهبه نعمة الذوق الأدبي، وهي نعمةٌ سامية لا يظفر بها من كل جيل غير آحاد؟
كان المصلح المنشود لكتاب الكامل هو شيخنا العظيم (سيد بن علي المرصفي) الذي قضى من عمره عشرين سنة وهو يراوح المبرِّد ويغاديه بالنظر الثاقب والفهم العميق.
ولكن المرصفي مات وصار من حق كل باغٍ أن يتقوّل عليه كيف شاء، ولو كان في منزلة السباعي بيومي، وهو كما وصف نفسه أستاذ بدار العلوم!
هل سمعتم أشياء من أقوال الدكتور طه حسين؟
أتعب الدكتور طه نفسه في النَّيل من (دار العلوم) فكان يقول: هي مدرسةٌ عاقر، ومن الواجب أن تُغْلَق بدون تسويف!
فهل غضب السباعي بيومي وهو (أستاذ بدار العلوم) كما ذيَّل اسمه وهو يحاورني بمجلة الرسالة الغراء؟
وكيف يغضب والدكتور طه رجل يضر وينفع، وهو يملك المحو والإثبات في أعضاء بعض اللجان بوزارة المعارف، والسباعي يطمع في أن يعيَّن عضواً باللجنة التي تنقل كتاب (هانوتو) من الفرنسية إلى العربية؟!
أما الشيخ المرصفي فهو اليوم جسدٌ هامد لا يملك دفع الضر عن سمعته ولو صدر عن باغٍ في منزلة السباعي بيومي
الشيخ سيد المرصفي مات وشبع من الموت، وهو اليوم لا يملك دفع عادية الذباب
مات المرصفي ثم مات، ولكن تلاميذه أحياء، والويل كل الويل لمن يتعرض لشيخنا العظيم بكلمة سوء، ولو كان من أعز الأصدقاء.
أَيُشتَم المرصفي في مصر وهو قَريع الزمخشري والمبرِّد؟
ألم يكف المرصفي أن يعيش غريباً ويموت غريباً؟
لم يوجد في الأزهر من يدرك قيمة الشيخ سيد المرصفي غير الشيخ محمد عبده، وبموت(399/5)
(الأستاذ الإمام) أصبح المرصفي من الغرباء.
وقد عرف المصريون قيمة الشيخ محمد عبده بعد الموت، فكيف يجهلون قيمة الشيخ سيد المرصفي بعد الموت؟
السباعي بيومي هو الذي أراد الإعلان عن نفسه بالقدح في الشيخ المرصفي، فليدفع ثمن ذلك الإعلان بلا إمهال
ولكن كيف يدفع ذلك الثمن؟
إلى رجال الأدب العربي أسوق الحديث:
أخرج السباعي كتاباً سماه (تهذيب الكامل) في جزأين أولهما في المنثور ثانيهما في المنظوم، ومعنى ذلك أنه قدَّم وأخَّر في نصوص الكامل ليقع المنثور في جانب والمنظوم في جانب. فهل يرى القراء أن هذا عملٌ مطلوب؟ وهل يرون أن المبرد كان يعزّ عليه أن يصنف كتابه على هذا الوضع لو أراد؟
المبرد راوَحَ بين المنثور والمنظوم لحكمة تعليمية، هي نقل الذهن من فنّ إلى فنّ ليبعد عنه السآمة والملال، وقد أضاع السباعي تلك الحكمة التعليمية بصنيعه (الجميل)
والفرق بين الكامل وتهذيب الكامل هو الفرق بين روح المبرد وروح السباعي، فأنت حين تقرأ الكامل تواجه روحاً لطيفاً هو روح أبي العباس - طيب الله ثراه - وقد كان مثلاً رائعاً في صباحة الوجه ولطافة الروح، وحين تقرأ تهذيب الكامل تواجه روح السباعي بيومي، وهو روح السباعي بيومي بلا نزاع ولا جدال!
ومهما يكن من شيء فقد استطاع السباعي أن يطارد المرصفي، المرصفي شارح الكامل، المرصفي الذي أقام البراهين على أن مصر وُجِد فيها رجلٌ يصاول المبرد، ويمشي إليه مَشْيَ البازل إلى البازل في شراسة وكبرياء.
استطاع السباعي أن يحرِّم على شرح المرصفي دخول (دار العلوم) ليجهل طلبة تلك (الدار) أسرار كتاب الكامل، وليجهلوا مبلغ أستاذهم السباعي من (العلم) بما وقع في (الكامل) من تحريف وتصحيف.
أنا أعرف أن دار العلوم مدرسة عالية لا يزورها أحدٌ من المفتشين، إلا إن ظمئ إلى فنجان من القهوة يحتسيه في مكتب العميد أو مكتب الوكيل، وإذاً فمن العسير أن تسنح الفرصة(399/6)
لمحاسبة الأستاذ السباعي بيومي على ما يصنع في تكوين الطلبة بتلك الدار، وهم الجيل المقبل من رجال التربية والتعليم.
أعرف ذلك، وأعرف أن الذوق نهاني عن زيارة دروس الأستاذ السباعي بالجامعة الأمريكية، وأنا عن تفتيشها مسئول، لأنه لا يجوز ذوقاً أن أفتش على مدرس رأته وزارة المعارف صالحاً للمشاركة في إعداد المدرسين.
ولكن يظهر أن الأستاذ السباعي محتاج إلى من يعاونه على إعداد دروسه بدار العلوم، فقد رأيت أنه لم يفطن إلى ما في كتاب (تهذيب الكامل) من تصحيف وتحريف قضى بهما انتقال (الكامل) من يد إلى يد ومن بلد إلى بلد على اختلاف الأجيال!
يضاف إلى ذلك أن كتاب (تهذيب الكامل) تسرَّب إلى (كلية اللغة العربية) وقد يتسرب إلى (كلية الآداب) بحجة أن الدكتور طه حسين قَرَنه بكتاب (مدامع العشاق) في أحد فصول (حديث الأربعاء)
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على الأغلاط التي عجز عن إدراكها ذهن السباعي، وفطن لها عقل المرصفي، وهي أغلاطٌ ستؤذي السباعي أعنف الإيذاء، لأنها ستقنعه بأن ثناء الدكتور طه حسين على صنيعه في كتاب خدمة الكامل لن ينجيه من عذاب النقد الأدبي، وهو عذابٌ أليم
سأقوم بهذا الواجب خدمة لأبناء دار العلوم وخدمة لجميع طلاب الأدب العربي، وعلى الأستاذ السباعي أن يناقشني إن استطاع، وهو لن يستطيع، ولو ظاهره ألوف من المعجبين بقدرته على الاستهانة بفضائل التدقيق والتحقيق
والأستاذ السباعي قد شتمني بمجلة الرسالة مرتين، فليكف عن شتمي - غير مأمور - فإن الألسنة والأقلام لم تبقِ في شتمي مزيداً لمستزيد، ولو حاسبَ الله أعدائي وخصومي على ما اجترحوا آثمين في إيذائي لسلط عليهم شآبيب البلاء.
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فحسبي ما أعاني من البلوى بمحنة النقد الأدبي. ألا تراني أحاور أناساً لا أرتضيهم نساخاً لمقالاتي ومؤلفاتي؟
لقد لامني الناصحون على ما اقترفت من التنازل إلى مساجلة بعض الناس، فهل تعرف(399/7)
كيف كان جوابي؟
لقد أجبت بأن الأدب كالعلم، والعالم يشرِّح جسم الضفدعة كما يشرِّح جسم الإنسان، فمن واجب الأديب أن يفهم أنْ لا عيب في أن يهتم بتشريح ما يضاف إلى الأدب ولو صدر عن نكرات
لا تشتمني، يا سيد سباعي، ولا تصفني بالغرور والاجتراء، فلو أنك رأيت الدنيا بعينيّ لطاب لك أن تتخلّق مثل أخلاقي، فما اغتررت وما اجترأت إلا وأنا أعرف أن في الدنيا ناساً أخف وزناً من الهباء
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فأنا رجلٌ (شَقيم) وذلك حرف لا يخفى عليك
لا تشتمني، يا سيد سباعي، فما أملك محاسبتك لو أردت الانتصاف لنفسي، وماذا أقول في تجريحك ولستَ بشاعر ولا كاتب ولا مؤلف ولا خطيب؟
ليس لك غير نقل نصوص (الكامل) من مكان إلى مكان، فهل فهمت أسرار (الكامل)؟ وهل (هذبت) أو (شذبت) تلك الغابة الشجراء؟
ما أنت و (الكامل) أيها المفضال؟!
الأمر في ذلك لشيخنا العظيم سيد بن علي المرصفي، الشيخ الذي ربانا على الصراحة والصدق والاخلاص، وهو المنافس الأعظم للأساتذة الاماجد: محمد المهدي ومحمد الخضري وإسماعيل رأفت ومنصور فهمي وأحمد ضيف وطه حسين.
أما بعد فقد آن للأستاذ السباعي أن يقرأ ما يرضيه، وعليه أن يجيب، إن كان يملك الجواب، وهيهات ثم هيهات!!
1 - في تهذيب الكامل ج2 ص 262 قال الأخطل:
نازعتهم طيّب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
ولم يلتفت السباعي إلى التحريف في (نازعتهم) وقد التفت إليه المرصفي، فنص على أن الصواب (نازعته) لأن الأخطل يقول قبل هذا البيت:
وشاربٍ مزيجٍ بالكأس نادمني ... لا بالحَصوُر ولا فيها بسوّار
2 - في تهذيب الكامل ج1 ص38 ورد قول الشاعر:
إذا ما حقبٌ جالَ ... شددناه بتصدير(399/8)
وهنا أتعب السباعي نفسه فأثبت في الهامش نقلاً عن المضاف إلى المتن أن هذا الشاعر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهذا خطأ ظاهر، وإنما الشعر ليزيد بن ضبة الثقفي يمدح الوليد بن يزيد، وقد أفضت إليه الخلافة (انظر تحقيق الشيخ المرصفي ج1 ص101 من رغبة الآمل في شرح الكامل)
وعذر الأستاذ السباعي أنه غير مسئول عن التحقيق، لأنه أستاذ بدار العلوم!!
3 - في تهذيب الكامل ج2 ص307 قال المبرد: روُي لنا أن رجلاً من الصالحين كان عند إبراهيم بن هشام فأنشد إبراهيم قول الشاعر:
إذ أنت فينا لمن ينهاك عاصيةٌ ... وإذ أجرّ إليكم سادرًا رسني
فقام ذلك الرجل فرمى بشق ردائه وأقبل يسحبه حتى خرج من المجلس، ثم رجع على تلك الحال فجلس، فقال له هشامٌ: ما بك؟ فقال: إني كنت سمعت هذا الشعر فاستحسنته فآليت أن لا أسمعه إلا جررت ردائي كما سحب هذا الرجل رَسَنه
والشاهد في كلمة (رجل من الصالحين) فقد أشقى الأستاذ السباعي نفسه بالنص في الهامش على أنه ابن أبي عتيق، نقلاً عما أضيف إلى متن الكامل، فهل سمع أحد أن ابن أبي عتيق كان يُعَد في الصالحين ومساعداته لعمر بن أبي ربيعة تشهد بأنه كان من أهل الخلاعة والمجون؟ لا يُطلَب من السباعي فهم هذه الدقائق، فلنرض تحقيق الشيخ المرصفي وقد نقل أن ذلك الرجل الصالح هو أبو عبيدة بن عمار بن ياسر (رغبة الآمل ج1 ص155)
4 - في تهذيب الكامل ج2 ص308 قال الشاعر:
فقلت له تجنّبْ كل شيء ... يعاب عليك إن الحرّ حرّ
ثم قال المبرد في التعقيب على هذا البيت: فهذا كلام ليس فيه فضلٌ عن معناه، وقوله (إن الحرّ حرّ) إنما تأويله أن الحرّ على الأخلاق التي عهدنَ في الأحرار، ومثل ذلك (أنا أبو النجم وشعري شعري) أي شعري كما بلغك وكم كنت تعهد، وكذلك قولهم (الناس الناس) أي الناس كما كنت تعهدهم.
وتعقيب المبرد سديد، ولكن الأستاذ السباعي ينقل في الهامش أن من هذا قول الله عز وجل: (فغشيهم من اليّم ما غشيهم) بدون أن يدرك أن الأخفش الذي نقل عنه قد أخطأ الفهم، فالآية ليست مما اتحد فيه المبتدأ والخبر لفظاً، وإنما هو موصول أسند إليه فعلٌ جُعل مثله(399/9)
صلة، للمبالغة في التهويل (رغبة الآمل ج1 ص155). وكان المأمول أن لا تغيب هذه المسألة البسيطة عن ذهن أستاذ بدار العلوم.
5 - في تهذيب الكامل ج2 ص309 تكلم المبرد عن الخيل المحبوكة الأصلاب فقال: (المحبوك الذي فيه طرائق، يقال لطرائق الماء حُبك واحدها حِباك). وبهذا سها المبرد سهواً لم يفطن له السباعي، فقد فسر الكلمة بما لا يراد منها في تركيبها، والصواب أن يقول: فالمحبوك الذي أُحكم خَلقه، من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه، يريد أن أصلاب الخيل موثقة مدمجة. ثم يقول: والمحبوك أيضاً الذي فيه طرائق (رغبة الآمل ج1 ص161) وهو كتاب المرصفي المحكوم عليه بالغرور والادعاء!!
6 - في تهذيب الكامل ج2 ص212، أنشد المبرد قول حاتم الطائي:
إن الكريم من تلفت حوله ... وإن اللئيم دائم الطرف أقودُ
وقد غيرّ المبرد لفظ البيت وروايته، بدون أن يتنبه السباعي لذلك، والصواب:
فمنهم جوادٌ قد تلفّت حوله ... ومنهم لئيم دائم الطرف أقود
لأن حاتماً يقول قبل هذا البيت:
كذاك أمور الناس راض دنية ... وسامٍ إلى فرع العلا متورد
(راجع رغبة الآمل ج1 ص177)
7 - في تهذيب الكامل ج2 ص312 ورد قول الأشهب ابن رُمَيْلَة:
أُسود شرًى لاقتْ أسود خفية ... تساَقوا على حرد دماء الأساود
وقد تفضا الأستاذ السباعي فأثبت في الهامش أن رميلة هي أم الشاعر، ولم يتعب الأستاذ في هذا التحقيق، فقد نقله عما أضاف أبو الحسن إلى متن الكامل، فكيف يجيب لو سأله أحد طلبة دار العلوم عن أبي هذا الشاعر وهو قد عرف أمه وجهل أباه؟
الجواب عند الشيخ المرصفي (المغرور) فقد جاء في رغبة الآمل ج1 ص179 أن أبا هذا الشاعر وهو ثور بن أبي حارثة ابن عبد الدار.
8 - وفي تهذيب الكامل ج2 ص 92 ورد قول ابن الإطنانة
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المُشيح
وسكت السباعي عن (الإطنابة) فلم نعرف أهو اسم أم الشاعر أم اسم أبيه، وإنما سكت(399/10)
السباعي لأنه لم يجد ما ينقله عن أبي الحسن، فليعرف إن شاء إن الإطنابة هي أم الشاعر، أما أبوه فهو عامر بن زيد مناة أحد أشراف الخزرج (رغبة الآمل ج2 ص23)
9 - في تهذيب الكامل ج2 ص315 قال رجل من بني عبس يخاطب عروة بن الورد:
لا تشتمني يا ابن ورد فإنني ... تعود على مالي الحقوق العوائد
ومن يؤثر الحق النؤوب تكن به ... خصاصة جسم وهو طيان ماجد
وإني امرؤٌ عافى إنائي شِركةٌ ... وأنت أمرؤ عافي إنائك واحد
أقسِّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قَراح الماء والماء بارد
والسياق الذي أورده الأخفش وغفل عنه السباعي يوهم أن الأبيات الأربعة من شعر ذلك العبسي، والصواب أن العبسي لم يقل غير البيتين الأولين، أما البيتان الأخيران فهما جواب عروة بن الورد، وقد نقل الشيخ المرصفي (ج1 ص195) أن عبد الملك بن مروان كان يحفظ لعروة الأبيات الأخيرة، وثانيها هذا البيت:
أتهزأ مني أنْ سمنتَ وأن ترى ... بجسمي شحوب الحق والحق جاهدُ
فإن ارتاب الأستاذ السباعي في تصحيح الشيخ المرصفي فليرجع إلى ديوان الحماسة في باب الأضياف والمديح ليرى هذه الأبيات الأخيرة منسوبة إلى عروة بن الورد، والمفهوم أن ديوان الحماسة مما يحفظه الطلبة بمدرسة دار العلوم!
ثم أما بعد، فهذا هو المنهاج الذي سنسلكه في بيان فضل المرصفي على السباعي وعلى جميع من يقرأون الكامل للمبرد، وسنرى فيما بعد غرائب وأعاجيب من غفلة السباعي عن فهم أغراض المبرد، فكيف ترونه يصنع؟ هل يصر على القول بأن المرصفي كان رجلاً مغروراً، وأن من الجريمة أن يدخل كتابه (دار العلوم) ليخلو الجوّ لمن تفوتهم البسائط من الأغلاط؟
لقد أنذرني الأستاذ السباعي، فهل يجيب عن هذه المؤاخذات قبل أن ينفذ ذلك الإنذار الفظيع؟
المهمّ هو أن ينظر أبناء دار العلوم في هذه المؤاخذات الموَّجهة برفق إلى نسخة (تهذيب الكامل) لا إلى الأستاذ السباعي، فما أجرؤ على الهجوم عليه، وهو أديبٌ يراني ويرى أستاذي من المغرورين المجترئين!(399/11)
المهمّ هو الصدق في خدمة اللغة العربية، وأنا بهذه الدراسات أخدم لغة العرب خدمةً يعجز عنها السباعي بيومي. وإن طال الشوط وسيطول فسيندم السباعي على ما اجترح من ستر جنايته على المبرد بجنايته على المرصفي.
إن قلبي ليكتحل بالغُبار الذي يثيره قلمي، فمن طاب له أن يلقاني في ميدان النقد الأدبي فليوطّن نفسه على مكاره لا يصبر على لأوائها غير الخناذيد.
وإلى اللقاء، فللحديث شجون وشجون
زكي مبارك(399/12)
إلى الدكتور زكي مبارك
خصومة أدبية
للأستاذ السباعي بيومي
معذرة يا صديقي الدكتور، فقد حملني ما ظهر في كلمتك
السالفة من مخالفة الرفق الذي تطلبه قولاً وتنبذه عملا أن أقسو
عليك في عبارة هذه الكلمة بعض القسوة، ولدينا مزيد. . .
كلمتي الثانية
أينا الذي نهب وادعى؟
وجه إليَّ صديقي الدكتور زكي مبارك كلمة بعدد (الرسالة) رقم 396 كان مما ذكره فيها قوله:
(وقد زعم الأستاذ السباعي أن الشيخ المرصفي سرق بعض أفكاره، فليستعد للدفاع عن النظرية التي نهبها نهباً من كتاب (النثر الفني) ونشرها في مجلة السراج)
فهالني من صديقي أن يهفو تلك الهفوة، بل أن يسقط تلك السقطة، لأنه بنى هذا الزعم الفاسد على شيء سطحي ظاهري لا يأخذ به محقق ولا يغتر فيه باحث، ذلكم هو أنه رأى تاريخ العدد الذي نشرت فيه تلك النظرية بمجلة السراج، لاحقاً لتاريخ نشر كتابه المذكور - ناسياً أنها ثابتة لي قبل تاريخ هذا النشر بزمن طويل - فادعى أني نهبت وسرقت؛ وهأنذا باسط هذه المسألة للقارئين بسطاً يجعلهم يوقنون أن صديقي هو الذي نهب وسرق؛ ثم أبى إلا أن يصحب ذلك بجاه عريض من الادعاء والتطاول على رجالات الأدب قدماء ومحدثين، وإلى حضراتهم البيان:
قال الدكتور في كتابه (النثر الفني) من كلامه على نشأة المقامات: (وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ المقامات، ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان)؛ ثم قال: (وقد وصلت إلى أن بديع الزمان ليس مبتكر فن المقامات، وإنما ابتكره ابن دريد المتوفى سنة 321، وإلى القارئ النص الذي اعتمدت عليه في(399/13)
تحرير هذه المسألة)؛ وهنا ساق النص الآتي:
(قال أبو إسحاق الحصري حين عرض لكلام بديع الزمان: - كلامه غض المكاسر، أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفاً، والهوى يعشقه ظرفاً؛ ولما رأى أبا محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثاً، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها للأفكار والضمائر، في معارض عجمية وألفاظ حوشية، فجاء أكثر ما أظهر تنبو عن قبوله الطباع، ولا ترفع له حجبها الأسماع، وتوسع فيها إذ صرف ألفاظها ومعانيها في وجوه مختلفة وضروب متصرفة، عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية، تذوب ظرفاً وتقطر حسناً؛ ولا مناسبة بين المقامتين لفظاً ولا معنى، وعطف مساجلتها ووقف مناقلتها بين رجلين، سمى أحدهما عيسى ابن هشام، والآخر أبا الفتح الإسكندري؛ وجعلهما يتهاديان الدر ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين وتحرك الرصين، يتطلع منها كل طريفة، ويوقف فيها على كل لطيفة، وربما أفرد أحدهما بالحكاية، وخص أحدهما بالرواية). أنتهي النص
وأنا أؤكد لحضرات القارئين أن قول الدكتور (وكان المعروف أن بديع الزمان الهمذاني هو أول من أنشأ المقامات) لم يكن المعروف وإنما كان المنكر الذي ينكره التاريخ ويبرأ منه الأدب قديماً وحديثاً، وإنما هي مقدمة ساقها الدكتور باطلة ليبني عليها تلك النظرية التي طنطن بها وعج. وليسمح لي صديقي أن أعيد على مسمعه ما سبق أن رميته به من قلة الاطلاع، فإن ذلك النص التاريخي لم يكن هو الذي كشف عنه. وكيف وقد كان نصاً معروفاً متداولاً نقله كثير من الأقدمين تدليلاً على أن البديع لم يكن المنشئ الأول للمقامات، كابن خلكان وياقوت في كتابيهما وفيات الأعيان ومعجم الأدباء، وكالشريشي في شرحه لمقامات الحريري. ولولا ضيق (الرسالة) في هذى الظروف لنقلت نصوص هؤلاء الأعلام، ثم لذكرت غيرهم وأتيت على نصوصهم، في سبيل نقض الدعوى التي ادعاها الدكتور، تلك التي أخجل أن أسميها دعوى بالمعنى المعروف لأنها ظاهرة الفساد والبطلان، وليس للخصومة بشأنها أي مجال، ولكن صديقي حين صادفه هذا النص وهو يقوم بما يقوم به في زهر الآداب - بتكليف من طابعه الحاج مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية ولولاه ما كان عثر - أعتقد أنه عثر على ما لم يعثر عليه إنسان، وأنه بهذا الكشف عن(399/14)
ذلك الكنز: كنز توت عنخ آمون قد أصبح فارس ميدان أو فارس الميدان، وإذن فليجل ويصل وليمش في الأرض مرحاً حتى يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً؛ ثم ليستمع الناس له مرغمين ساكتين وهو يقول بعد القول الذي فندناه: (ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان إلى هذا الفن، وإنما رأيت من يعلل سبقه بنزعته الفارسية) جاهلاً أن رجال النقد يأبون عليه ذلك إن كان قد عرفهم؛ فإن تلك النظرية التي يزعم كشفها بيده وتقديمها للأدباء مخترعة ببحثه، معروفة للأدباء الحديثين، ومدروسة منهم للمتأدبين. وها نحن أولاء أبناء دار العلوم فتحنا عيوننا أول ما درسنا الأدب بتلك الدار على هذه النظرية المزعوم كشفها وتلقيناها على أيدي أساتذتها في العُشر الأول من هذا القرن الذي أوشك أن ينتصف، أي منذ أربعين من السنوات.
هذه هي الحقيقة ناصعة، ولكن ليس لي أن أتركها من غير دليل أقدمه لصديقي الدكتور، بعد الذي قدمه عن نفسه من أنه لا ثقة للناس في اطلاعه ولا علم لهم باتساع أفقه، وإذن فليتلق هذا الدليل من إحدى مذكرات المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري، فقد كان يدرس تلك النظرية لطلبة دار العلوم قبل أن يكون الدكتور شيئاً. قال رحمه الله في الصفحة 310 من مذكرة مطبوعة في الأدب العباسي لطلاب السنة المكتبية 1929 - 1930 طبعة أخيرة، وهو يتكلم على المقامات في ترجمة البديع ما نصه: (وكان ممن أعجبته هذه الطريقة - يعني طريقة المقامات - ابن دريد، فأراد أن يلقن نابتة زمانه اللغة والأدب في هذا النوع من الكلام. قال أبو إسحاق الحصري في كتابه (زهر الآداب): وقد ذكر أبا الفضل الهمذاني بديع الزمان - وهذا اسم وافق مسماه، ولفظ طابق معناه، كلام غض المكاسر، أنيق الجواهر) إلى آخر هذا النص الذي ادعى كشفه الدكتور ثم نقله في نثره معجباً به أيما إعجاب.
أصدقت إذن يا صديقي أنك كنت في قولك: (ولم أجد فيمن عرفت من رجال النقد من ارتاب في سبق بديع الزمان إلى هذا الفن) أجرأ منك في قولك السابق: (وكان المعروف أن بديع الزمان هو أول من أنشأ المقامات)
صدق صدق يا دكتور ثم أخل إلى نفسك واحسب عدد من درسوا في دار العلوم على هذا العالم الجليل حقبة تقرب من ثلث القرن؛ وما كان متوسط عدد كل فرقة على سنيه ينقص(399/15)
عن الستين؛ فإذا ما حسبت علمت أن من يعرفون تلك النظرية من خريجي دار العلوم وحدهم، فما بالك بغيرهم، يناهزون الألفين بل يزيدون. ثم اذكر يا صديقي أن هؤلاء الخريجين يدرسون ذلك لتلاميذهم في مختلفات المدارس، وفيهم من درسوها لطلاب دار العلوم وطلاب كلية اللغة العربية؛ ودونوا هذا في مذكراتهم مفصلاً مبسوطاً، قبل أن تدونه أنت في كتابك موسوماً بسمة الاختراع؛ وأنا أحد من فعل ذلك لطلابي في المعهدين المذكورين منذ أن بدأت دراسة الأدب فيها سنة 32 - 33 وكتابك لم يطبع إلا سنة 34؛ وكذلك فعل زميلي وابن دار العلوم الأستاذ محمود مصطفى في كلية اللغة العربية التي لا يزال فيها إلى الآن.
الحق يا صديقي أنك كنت جريئاً إن صح أن يسمى جراءة هذا الادعاء؛ والحق أن الخجل كان قد رفع حينما زهوت بهذا الكشف المزعوم زهو الطاووس، فقلت أنك حين اطلعت عليه المسيو مرسيه بباريس دهش وعجب كيف اتفق الناس مع هذا على أن بديع الزمان هو منشئ فن المقامات، وأنه أتحفك بهذه العبارة بقولها لك من باب الإطراء وهي: (يظهر أنه ضاع علينا من تاريخ الأدب العربي شيء كثير)؛ ثم زدت في الزهو فنسبت إلى الدكتور طه حسين من العجب والدهش مثل ما نسبت إلى المسيو مرسيه، وأنه جال معك في حديث ألهمه إياه نبأ هذا الاختراع، ولم يك باقياً عليك إلا أن تذيع أخبار هذا الكشف على تيارات البرق وموجات الأثير.
والآن، أفما كان الأجدر والأولى بالأستاذ الإسكندري وأمثاله من المحدثين الذين سبقوا إلى هذا الكشف بسنين أن يدعوه لأنفسهم إن كان هناك اختراع؟ ولكن حاشا لهم وهم ممن يحترمون الحقيقة ولا يتغفلون السواد أن بدعوا دعواك. وأما كان لي أن أرميك - إذ رميتني بالسرقة والنهب - أنك أنت الذي افتريت ومني نهبت؟ ولكن حاشا ونحن كأساتذتنا نحترم الحقائق ولا نتغفل السواد، أن نفعل ما فعلت؛ فإنما الأمر مفهوم معروف، وأنت فيه المتأخر المسبوق. والذي لا شك فيه بعد هذا البيان أنك كذبت على القدماء، واغتصبت جهود المحدثين، ثم لم تتسلل لواذاً ولم تخلص نجياً كما يفعل السارقون، ولكن أبيت إلا أن تهلل وتكبر، وتتعالى وتتجبر، ثم تغالي بالزهو بنفسك، واجتذاب الإعجاب بك من غيرك، وإذا بالحق يصرعك وينتقم للأدب والجماهير منك. . . وأني أستحلفك بالله يا صديقي(399/16)
صادقاً، كيف وصفت نفسك إزاء ما سميتها نظرية وهي من البدهيات بما وصفت؟ أكان ذلك عن جهل منك إلى هذا الحد، أم هو تغرير وادعاء ليس من بعده بعد؟
وبعد فقد آن لي أن أكر راجعاً على كلمتك التي رميتني فيها بالسرقة منك بعد أن قبضت عليك متلبساً بالسرقة التي ادعيت، فأعلق على باقي ما ذكرت فيها بعبارات خاطفة؛ إن شئت بسطت كل عبارة منها في مقال كالذي سمعت:
1 - جعلت عنوان كلمتك (الهجوم الآثم على الشيخ سيد المرصفي) وهذا أمر غبت عنه ولم تشهده فكيف أقدمت عليه قبل أن ينجلي لك؟ وإذا سوغك تطاولك أن تسميه هجوماً فكيف وصفته متسرعاً بالآثم فكنت الآثم بما وصفت؟
2 - تزعم أن الخطابات قد كثرت عليك في تحقيق ما ادعيته علي في حق الشيخ المرصفي، وأنا أجزم قاطعاً، وأحلف غير حانث، أنه لا خطابات؛ وإذا كانت فإنها لا تعدو ركب النميري الذي قال فيه:
فلما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
فلما سئل فيما كنت؟ قال والله إن كنت إلا على حمار هزيل ولي رفيق على أتان مثله
3 - تقول: (وكنت - أي لولا تلك الخطابات - أغفلت هذا الموضوع عن عمد، لأن الأستاذ السباعي له علي حقوق) وما كنت أفهم إلا أن تلك الحقوق إنما هي حقوق الصداقة، فإني لا زلت بها حفياً وعليها حريصاً، ولكنك جعلتها يا صديقي: (أنني كنت دائماً من أنصارك) وليس لمثلي أن ينخدع بخدعة الصبي هذه تسوقها إليه، فالحقيقة المرة التي أسمعك إياها الآن بعد أن طغيت زماناً ولم ترد، أنك ما كنت في يوم زعيما في الأدب حتى يصح أن يكون لك أنصار، وإنما زعامتك نسج عنكبوت حكته من حولك، وتركك الناس تلهو به وتلعب، ثم زدت هذه العلة أخرى تقول فيها: (ولأن مقام الشيخ المرصفي أقوى من أن يهدم بكلمة جارحة تساق إليه في إحدى المحاضرات). وإني أحذرك جريئاً على تحذيرك إن كنت تريدها خصومة أدبية بيني وبينك أن تترك الآن الشيخ المرصفي، فإن التحكك به لن يغني عنك بالموضوع شيئاً؛ وإذا ما صفي الحساب بيننا عدت أبين لك أن مكانة الشيخ المرصفي لا تعلو على النقد؛ وأن الذي يصفه ببعض ما وصف به المبرد لا يكون قد عدا الحقيقة، ولا تعدي على السلف الصالح، فإن المبرد على أية حال أعلم من المرصفي علماً،(399/17)
وآدب منه أدباً، ثم هو أدخل منه في السلفية الصالحة دخولاً يقوم شاهداً عليه عدد وافر من القرون.
4 - ورابعاً تقول: (ولكن سكوت الأزهريين عن الانتصار للشيخ المرصفي أزعجني وكنت أرجو أن يكونوا درعاً واقية لذلك الشيخ الجليل وهو رجل لم ير مثله الأزهر منذ أجيال طوال). وأنا أصدقك القول يا صديقي بغض النظر عن نصيب هذا التفضيل الذي أسبغته على الشيخ من الحقيقة والواقع، بأن عبارتك هذه من باب الاستعداء الذليل والملق الرخيص الذي ينقص منك ولا يزيد فيك، فقد فاتك أن الأزهريين يقدسون حرية البحث في دراساتهم أول ما يقدسون، وأنهم يرثون المبرد قبل أن يرثوا المرصفي، وأن ديدنهم في ماضيهم وحاضرهم يأبى عليهم إجابتك إلى ما تطلب، لما يحسونه في طلبتك من غرض وهوى، ولأنه إذا كانت هناك حقيقة اعتدى عليها كان من شأن هذا الاعتداء أن يحفزهم على نصرتها من دون صراخ لك فيها ولا استعداء منك بشأنها.
5 - وخامساً تعتبر مضايقتي بلاء لصداقتي، والسكوت عن المرصفي بلاء لأستاذيته، ثم تخرج من هذه الحيرة بنقل القضية من وضع إلى وضع، لتصيرها أدبية بعد أن كانت شخصية، ثم تعلن عن هذه الخصومة فإذا هي أمران، أحدهما زعمك أني زعمت الشيخ المرصفي قد سرق بعض أفكاري، وإهابتك بي أن أستعد للدفاع عن النظرية التي نهبتها من كتابك النثر الفني ونشرتها في مجلة السراج، والآخر أنني أستر جنايتي على المبرد بجنايتي على المرصفي، وأنك ستعرفني أن تهذيبي للكامل لم يكن إلا جناية أدبية، وأن التطاول على مقام الشيخ المرصفي لا يذهب بلا عقاب.
ورأيي لك يا صديقي في الأمر الأول، أمر سرقتي من نثرك إلى مجلة السراج قد سمعت فيه كلمتي الثانية هذه التي سقتها إليك بشأنه، واثقاً أن لك فيها دواء ناجعاً من الادعاء وشفاء شافياً من الغرور، وراجياً أن تكون أهلاً لثقتي هذه فيك.
أما رأيي لك عن الأمر الثاني فقد أنبأتك آنفاً بإرجائه إلى ما بعد كلمتي هذه والسابقة، لأنه موضع الخصومة وفيه سيكون النزال. وأني بهذه الخصومة لجد مسرور، أتدري لماذا؟ لأني سأعرضك فيها للجمهور على حقيقتك التي غشيتها ما غشيتها، وتسامح الناس فيها معك ما تسامحوا. وسيكون أول كشف لك فيما عملت، واقعاً على زهر الآداب إن شاء الله،(399/18)
لأنه دون سائر أعمالك أشبه بما عملت في تهذيب الكامل الذي عددته جناية أدبية، حتى إذا ما أخرجتك بمقالاتي فيه، معترفاً لي ببراءتي من هذه الجناية، ومعترفاً على نفسك بإجرامك على الزهر وصاحبه وعلى الأدب، انبريت إلى تصانيفك - التي لا شبه لها عندي إلا أفراخ البغاث كثرة عدد وقلة غناء - أرد ما ليس لك فيها وهو أكثرها إلى مآخذه ذاكراً ما أوقعت فيه من تحريف، وأبين زيف ما هو من صنع يدك وهو القليل، بما لا مخرج لك منه أمام الناس لا أمام نفسك.
6 - بقي قولك في نهاية كلمتك إنك تكره البغي على أصدقائك وإن أمرك معهم لم يكن إلا شبيهاً بأمر أكثم بن صيفي (إن قول الحق لم يدع لي صديقاً) وما كان أكثم لك بشبيه، فإن الذي لم يدع لك صديقاً إنما هو دأبك على الباطل في كثير مما تبحث، وبغيك على حق الصديق في جل ما تنقد، حتى لقد أمللت ومللت. ولقد حدثتني نفسي أن أكون فيما بغيت عليّ عاملاً بالآية (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) كما فعل كثير، ولكني رأيت في بعض وجوه الحزم - وأنت عالم بالوجه الذي رأيت - أن أحيد في معاملتك عن تلك الآية السمحة إلى هذه الآية العادلة (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) وحقاً لا تثريب عليّ ولا سبيل (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم)
وإليك يا صديقي سلامي حتى ألقاك في مقالي المقبل بالدفع العنيف لما كتبت في العدد الماضي مصحوباً بالهجوم الأعنف على ما صنعت بزهر الآداب.
السباعي بيومي(399/19)
في العقد
لأستاذ جليل
- 1 -
طالعت الجزء الأول من كتاب العقد الذي أظهرته في هذا الوقت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أو دولة العلم والأدب والفضل في مصر، وضبطه العلماء الإجلاء: الأستاذ الكبير أحمد أمين، والأستاذ الفاضل أحمد الزين، والأستاذ الفاضل إبراهيم الإبياري، فرأيت في هذه الطبعة الرائعة تحقيقاً كثيراً، وفضلاً في الشروح والتعاليق كبيراً. وقد عثرت على أشياء في هذا الجزء في أربع مئة صفحة كنت أعاين ضعفها (والله) في صفحة واحدة من تلك الطبعات القديمات الخبيثات. ولا ريب في أن أكثر الخطأ في طبعة اللجنة إنما هو تطبيع، وإن لم يرد في جريدة الإصلاح، وسأكتب في هذا (الإملاء) معظم ما وجدت غير متبع ترتيب الأقوال في صفحاته.
1 - ص (119) قال الشنفري:
إذا حُملتْ رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثَمَّ سائري
وجاء في الحاشية: في 1: احتملت. وفي عيون الأخبار: هم ضربوا وفي البخلاء: إذا ضربوا
قلت: هذا البيت في مقطوعة (ثلاثة أبيات) رويت في العقد وفي ديوان الحماسة، ورواية أبي تمام: (إذا احتملوا)، وفي شرح التبريزي: (ويروى إذا احتملت)، واللفظة غير مشكولة. وإذا صحت هذه الرواية، فالفعل مبني لما سمي فاعله، فيعود الضمير إلى (أم عامر) في البيت قبله في أول المقطوعة:
لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن ابشري أم عامر
أو إلى شيء حذفه أبو تمام، فقد كان يختار من قصيدة طويلة بعض أبياتها. وضبط (حملت) بالبناء لما لم يسم فاعله مشكلة أي مشكلة، بل مصيبة. . . إذ يؤنث بها (وطن النهى) والرأس في أقوالهم في جميع أزمانهم مذكر. قال التاج: اجمعوا على أن الرأس مذكر.
ويلوح لي أن صاحب هذه الأبيات هو صائغ اللاميتين: لامية الشنفري ولامية تأبط شرّا. .(399/20)
في الرثاء، وأولها:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يُطل
قال التبريزي: (إنها لخلف الأحمر وهو صحيح)؛ وقال أبو علي في أماليه: كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفري التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول؛ فكان أقدر الناس على قافية.
قلت: وأبو بكر بن دريد كان خير خلف لخلف ولمن سلف من الصواغين المزخرفين، فصنع ما صنع، وأمالي القالي ملآنة مما ابتدع.
2 - ص (361) ودخل أعشى ربيعة علي عبد الملك ابن مروان، وعن يمينه الوليد، وعن يساره سليمان، فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي (ما بقى) وأنشأ يقول. ورويت مقطوعة بيتها الرابع هو هذا:
وإن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وجاء في الحاشية: زيادة (ما بقي) يقتضيها السياق وألذ في ب: مضى وبقى
قلت: جاء في شرح الحماسة للتبريزي:. . . فقال له: يا أبا المغيرة ما بقي من شعرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بقي منه وذهب، على أني الذي أقول. . . الأبيات. وقوله: ذهب أي ذهب منه، وهو قول حلو محكم. والبيت الرابع هذه روايته في الحماسة:
وإن فؤاداً بين جنبيَّ عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
قال الإمام التبريزي: (نكَّر فؤاداً لأنه باتصال قوله بين جنبيّ - اختص، حتى علم أنه قلبه من بين القلوب) وقد ائتم المتنبي بهذا الشاعر في قوله:
وفي الناس من يرضي بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أحده
وتنكير فؤاد الرَّبعي وقلب الكندي في هذا المقام - من ألطف الكلام.
3 - (ص 367) والدهر (أطرقُ مستتب)
وجاء في الحاشية: كذا ورد هذان اللفظان (أطرق مستتب) في الأصول والأغاني (ج 18(399/21)
ص74 طبعة بولاق)، وكذلك في النسخة الخطية ولم تتبين معناهما.
قلت: هذا القول من أمثالهم، وقد رواه الميداني في (مجمع الأمثال)، وقال في تفسيره: أي مطرق مغض منقاد. وفسره في مكان آخر بقوله: الطرق استرخاء وضعف في الركبتين، والاستتباب: الاستقامة: يريد أن الدهر تارة يعوج وتارة يستقيم
قلت وأطرق في التفسير الأول مبني من (أفعل) قال الرضي: وعند سيبويه هو قياس من باب أفعل مع كونه ذا زيادة، ويؤيده كثرة السماع، ومجوزه قلة التغيير لأنك تحذف منه الهمزة وترده إلى الثلاثي، ثم تبني من أفعل التفضيل، فتخلف همزة التفضيل همزة الأفعال، وهو عند غيره سماعي مع كثرته.
4 - (ص367) فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة
قلت: لا تجعلن بجنبك الأسدة. وهو من أمثالهم. قال الميداني في كتابه: هذا مثل يقع فيه التصحيف، فقد روى بعض الناس: لا تحفلن بجنبك الأشد، وتمحل له معنى يبعد عن سنن الصواب. وقد تمثل به أبو مسلم صاحب الدولة حين ورد عليه رؤبة بن العجاج، وأنشد شعره ثم قال له أبو مسلم: (إنك أتيتنا والأموال مشفوهة، والنوائب كثيرة، ولك علينا معول، وإلينا عودة، وأنت لنا عاذر، وقد أمرنا لك بشيء وهو وَتِح. فلا تجعلن بجنبك الأسدة، فإن الدهر أطرق مستتب)؛ ثم دعا بكيس فيه ألف دينار فدفعه إليه. قال رؤبة: فو الله ما أدري كيف أجيبه. . . قال الجوهري: السد بالفتح واحد الأسدة، وهي العيوب مثل العمي والصم، جمع على غير قياس، وكان قياسه سدوداً، ومنه قولهم: لا تجعلن بجنبك الأسدة، أي لا يضيقن صدرك فتسكت عن الجواب كمن هب صمم أو بكم. . .
قلت: كان أبو مسلم من كبار البلغاء الفصحاء. أورد الإمام الزمخشري في الكشاف قراءة له في تفسير الآية الكريمة: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سلطاناً، فلا يسرفْ في القتل، إنه كان منصوراً) فقال: (وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرفُ بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر، وفيه مبالغة ليست بالأمر.
وهذا الخبر في الكشاف يدلنا على مكانة أبى مسلم في العربية وقدره العظيم عند جار الله.
ووصف المدائني أبا مسلم - كما نقل ابن خلكان - فقال: كان قصيراً أسمر، جميلاً حلواً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر، طويل(399/22)
الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلو المنطق، راوية للشعر، عالماً بالأمور، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستفزه الغضب.
وكان أبو مسلم ينشد في كل وقت:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقَدوا
حتى طرقتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولي رعيها الأسد(399/23)
بين عامين
سراب وأمل. . .
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
رجعت اليوم مبكراً إلى غرفتي المتواضعة في الضاحية النائية، في موكب من الوحدة والصفاء والانطلاق، فلم يعد يحلو لي أن أطوف في أرجاء المدينة، أو أذرع شوارعها العابسة بعد أن لفّتها الظلمة، وغيض منها النور، وكرهت نفسي هذا الرداء الأسود ذا النجوم الزرقاء الكابية الذي يضفونه على جنباتها الزاهية، فلم أجد إلا مصباحي وزاويتي. . . أعوذ بهما من شر الظلام الحالك.
جلست إلى جوار النافذة أرقب النهار المدبر. لقد تجهمت السماء، وأخذت تودع ألقها الصافي، وانتشرت في أطرافها البراقع القاتمة كأنها نذر الليل الزاحف. . . ولم يبق من الشمس إلا تلك الشعاعات الجريئة القوية التي أبت الهزيمة، وكرهت الفرار، فوهبت دمها القاني لهذا الطرف البعيد من الأفق كآخر ما تملك من فداء وتضحية!!
لشد ما يأسرني الغروب. .! إني لأجد له في نفسي أجمل الوقع. أترى كان ذلك لأنه يذكرني آمالي الغاربة التي بددتها الريح وابتلعها اليأس؟
- 2 -
كان كل من في الضاحية يتشح بالسكون، ويغرق في الصمت، ويدعو إلى التأمل. . . هذه الأرض الحلوة الطيبة تضم ذراريها التي تفتحت عنها من الخضرة الزاهية، وتنام معها على هدهدة المساء؛ وهذا النخيل القائم، يرتكز إلى نفسه، كأنما ملَ هذا الانتصاب؛ والشارع الطويل الممتد، كأنما كان طريقاً في صحراء لا يقطعه إنسان، ولا تجوزه مركبة، ولا تخترقه سيارة؛ وهذه الخراف الصغيرة في أرض الجارة العجوز قد اطمأنت إلى حظيرتها الناعمة. . . لم يبق أحد أو شيء. . . إلا أنا. . . أنا وهذه الساعة التي لا تني تتحدث وتتحدث.
- 3 -(399/24)
واستغرقت في هذا التأمل، وأصغيت إلى هذا الحديث، وأحسست له معنى جديداً. لقد كنت أستمع إليه في الصباح وعند الظهيرة وفي المساء، فلم يكن ليحظى بشيء من انتباهي إليه وإصغائي له، ولكنه يلقي إلي الآن معنى رهيباً أجد له في نفسي ألواناً من الصدى، وأنواعاً من التأثير، ثم هو يقترن إلى هذه الشعاعات الأخيرة الذاهبة في الفضاء فيكون معها شيئاً رائعاً ينفذ إلى أعماقي، ويستثير فيها الذكريات الجاثمة التي احتضنها الألم وغشاها الحزن.
أيظل الإنسان رهن هذه اللفتات النفسية التي تصرفه عن دنياه، وتباعد بينه وبين أجوائه، وتقذف به في عوالم مواجة، وتطيح به هنا وهناك ألعوبة في يدها. يذكر كل شيء وينسى كل شيء، ثم لا يخرج من هذا الذكر والنسيان بغير الابتسامة الفاترة أو النظرة القلقة أو الأمل المريض.
وتثاءب الكون، فسرت في جسم الأرض نسمة هادئة اهتز معها العشب الأخضر، وانثنت لها أغصان النخيل ورقص قرص الشمس المضطرب في كبد الأفق وهو يغوص في بحر اللانهاية.
- 4 -
في هذه الساعة كانت تتمثل آخر معارك النور والظلمة على مشهد الكون. لقد ظلت هذه المعارك أياماً كثيرة ما أطولها! لقد امتدت مع العام الراحل كله، تسجل غدر الزمان وغلبة الشر وتظهر هذا الإنسان المتفائل على مكاره الحياة ومصاعب الدهر، ولكنه يأبى إلا أن يسرف في التفاؤل، ويُغرق في الضحك، ويرى الحياة بعيني طفل غرير.
وأصغيت من جديد إلى حديث الساعة، كما أصغي لوحي الحنين حين يهيج بي الشوق، وعجبت لنفسي كيف تأخذ على هذه التمتمات الخافتة كل مشاعري وانتباهي، أكان ذلك لأنها نشرت لعيني حديث الماضي، وطوفت بي في ثنايا العام، ووقفت بي عند هذه اللحظات من سنة خلت، حين كنت أرقب مطلع الشمس من ضمير الأفق ومنبت البذور في مغرس الأمل، وحياة النعيم في دنيا الشقاء؟ أم كان ذلك لأنها تريدني أن أعب من هذا النور المرتجف قبل أن يخنقه الظلام، وأتزود بهذه الحرارة قبل أن يودي بها العدم، وأشهد ساعة الوداع قبل أن يطغي الليل؟!(399/25)
سواء لدي الأمر فلقد أثرت أيتها الساعة القابعة في طرف الغرفة كل شجوني فاستفاقت على أنغامك العذبة ذكرياتي الغافية كما تستفيق جماعة الطير على أنداء الفجر، وتحركت نفسي الراكدة على نبراتك الساحرة كما تتحرك صفحة الماء في استقبال النسيم، وأحسست حرارة الحياة حين خضت على هدى منك هذا الفضاء الذي أخلفه ورائي في العام الراحل.
لقد كنت أتجنب أن أنظر إليه، لأنه يرهبني أن أرى الزهرة الناظرة تذوي في الكهف المظلم، والبرعم الحلو ينطفئ في رطوبة الفناء، والشعلة المقدسة تخفت في مهب الريح العاتية.
- 5 -
في مثل هذه اللحظات من العام الماضي كنت اقتطفت هذه الزهرة من روضة الصبي فغرستها في أرض الحياة، وسقيتها بماء الأمل، وغذيتها بالأماني، وانتظرت ثمرتها الغضة. . . ولكن الحياة التي ألفت الغدر وعشقت الشر، تريد أن تمنع عني الأريج وتحول بيني وبين الثمرة!
وفي مثل هذه اللحظات من العام الفائت، حملت يداي المصباح الذي يستمد حرارته من دم القلب، ونوره من شعاع العقل، وطوّفت به أنشد الهدف وأرنو إلى الغاية. . . ولكن السبيل ما تزال تملؤها العقبات، وتعترضها الحواجز، وأنا أمضي وأمضي. . . ثم أجدني حيث كنت. . . كأنما أدور حول محيط الدائرة دون أن أستطيع بلوغ مركزها، والمصباح يرف رفيف الأمل المنكسر، كأنما يظهرني على خفقات القلب الآيسة من هذا الطواف الممل. . .
وفي مثل هذه اللحظات أيضاً مددت يدي إلى الحياة، في نفسي السرور، وعلى وجهي البشر، وفي يميني الحق. . . وانطلقت أصافحها، تملأني الثقة، ويزدهيني المستقبل، ولم أفطن لهذا العطاء الناعم الذي كان يكسو يدها ويربق عليها مظاهر الفضيلة. . . ثم أدركت بعدُ أن القفاز يستر الشوك، وأن الشوك ينطوي على السم، وأن السم يكيد للحق ويخنق المستقبل.
لقد أدركت الآن لماذا كان لدقات الساعة في هذه اللحظات مثل تلك الروعة وذاك الأثر. . . لقد كانت توقع بنبراتها الهادئة رنين الأمل الهادي في قرارة اليأس، وتمثل حشرجات الأماني في صدر الزمن، وتبكي بنغمتها المؤثرة العام الراحل. . . وكانت تستفزني أن(399/26)
أرفع بصري إلى السماء، وأدير نظري في الكون لأشهد هذا الوداع. فما كنت أستطيع أن أرى شيئاً، فقد اختلط عليّ الأمل واليأس، كما يختلط قتام الليل بوضح النهار، وتساوى عندي الأمس واليوم، كما تساوى الماضي والمستقبل في عمر الدهر، وأحسست في نفسي فراغاً كبيراً ممتلئاً بكل شيء ويتسع لكل شيء. . . يتجاوب فيه كل صدى، وترن فيه كل نغمة. . . ثم تضيع فيه هذه الأشياء والأنغام والأصداء، كما تضيع هذه الأشعة في كهوف الأفق.
- 6 -
إني لأفتح عيني الآن فلا أرى شيئاً، لقد امتزجت في أذني الأصوات المنبعثة عن حداء الزمن، وضحك الأمل، وصعقات العاصفة، كما اختلطت في عيني الأنوار المنبعثة من جوف الماضي وغياهب الآتي، وصفحات الحاضر. . . فما تغريني دقات الساعة لأن الزمن لم يعد شيئاً في حياتي، فقد أسفت للزمن، وما تبكيني الشجون، لأن اليقين قد طوى الألم، وما ينتابني القلق، لأن الإيمان يصرع الهواجس.
سأقتطف الزهرة الجديدة من قلب الصبي الناعم. . . وسأغرسها في رعاية الله وحنانه وبره، وستمتد يدي من جديد لتصافح ملائكة السمو والمجد، وسأحمل المصباح، يستمد نوره من الإيمان واليقين، وسأنشد الغاية رضى النفس، وسأقطف الثمرة، تباركها يد الله، وأحقق الهدف يهدي إليه نور الله. . .
في طرف الأفق، كانت تُغيب الأرض غلالة النور وفي كبد الجو كانت تطلع السماء أنوار النجوم، وتبعث شعاعاتها المهتزة على الأرض المكروبة، تبشرها بالنور الطالع والفجر القريب، وفي الحاشية البعيدة، كان يرقص خط دائر من النور. لقد طلع الهلال، وولد العام، فعاشت معه آمال، وانتعشت أماني وضحكت نفوس.
(القاهرة)
شكري فيصل(399/27)
الفنون وضمائر الشعوب
للأستاذ سيد قطب
حين تفسد الفنون في أمة من الأمم تفسد فطرتها، والعكس صحيح، فما تفسد سليقة الأمة حتى تتبعها الفنون؛ ومن هنا كان اهتمامنا بمكافحة (الغناء المريض) لأننا نكره لهذا الشعب أن تفسد فطرته، كما نكره له أن يكون عنوان هذه الفطرة هو هذا الغناء.
والموسيقى والغناء أمسُّ بضمائر الشعوب من سائر الفنون، فقد يكون الأدب كما يكون النحت والتصوير لغة جماعة من خواص المثقفين المدبرين على الإحساس والفهم، أما الموسيقى والغناء فهما لغة البداهة والتعبير المباشر عن أعماق السليقة
نعم إن الطبائع تتفاضل في فهم الموسيقى والغناء والحس بهما، ولكن يبقى مع ذلك فارق أصيل بين السلامة - وهي أولى درجات الفنون، والمرض - وهو لا يلتبس على طبيعة مستقيمة أو فطرة سليمة.
ونحن لا نتطلب من الملحنين والمطربين اليوم سمواً في التعبير عن الفطرة الإنسانية ولا امتيازاً في الإحساس على الجماهير، ولكننا نقنع فقط بالسلامة في الشعور الإنساني، بل نتواضع فنقنع بالسلامة الحيوانية، غير أننا لا نجد حتى هذا المطلب المتواضع فيما يذيعونه من أغنيات ولحون.
ويبدو أننا مبالغون فيما نطلب من هؤلاء الناس، وأنه تكليف مجهد لطبائعهم ولثقافتهم ذلك التكليف الذي نسومهم إياه. وإذا كانت هناك بارقة من أمل فلن تكون من محاولة توجيههم أو تقويم فطرتهم أو رفع مستوى إحساسهم؛ فذلك ما لم يتهيئوا له، ولكن المحاولة يجب أن تتوجه إلى وخز طبيعة هذه الأمة، فإن كان فيها خير عافت هذا الترجيع وانصرفت عن هذا الترنيم، وإلا فقد (وافق شن طبقة) وعفاء على الجميع!
ووجه المبالغة فيما نكلفه هؤلاء الناس أن الموسيقى والغناء مهما يكونا لغة الفطرة وتعبير البداهة، فهما في حاجة إلى طبائع سليمة، وتلك موهبة لا يؤتاها إلا القليلون وإن كانت تبدو حقاً مباحاً للجميع، وفي حاجة إلى ثقافة عقلية ونفسية كذلك وإلى فهم أو إدراك لدُني لمهمة الفنون، وتلك شقة بعيدة علة نشأة هؤلاء القوم، وآفاق لم يفتحوا أعينهم عليها ولم يتطلعوا مرة واحد إليها.(399/28)
الفن - شعراً كان أم تصويراً أم غناء أم موسيقى. . . - هو (صورة الكون في نفس إنسان) وهو (تبلور الحياة في حس فنان) فهل ترى حين تقول هذا الكائن من كان من المشتغلين بالموسيقى والغناء في مصر يحسبك تتحدث بلغة مفهومة أم يفغر فاه عجباً من هذه اللغة الغريبة التي لم يسمع بها في لغة أبناء هذا الزمان ولم يحس لها تفسيراً في نفسه وهو يعالج ما يعالج من ألحان؟!
الموسيقى والتلحين، هما هذا الذي يدرسونه في معهد الموسيقى الشرقي من السلم الموسيقي والمسافات في النوتة والتوفيقات التوقيعية بين وزن القطعة التي بين يدي الملحن وبين النغمات التي تناسبها - أيا كان معنى هذه القطعة وجوها الفني فذلك آخر ما يفكر فيه الملحنون. فإن خرج (موسيقار مجدد) عن هذه الحدود، فإلى بعض الألحان الإفرنجية وبعض ألحان سيد درويش: سرقة واقتباساً وتمزيقاً وتشويهاً، ويا ليتها سرقة صريحة واضحة ولكنها (مرمطة) لهذه الألحان المسروقة حتى تلين وتتكسر وتتخلع وتناسب هذه الدغدغة الماجنة التي يدعونها تجديداً في التلحين.
هذه وتلك آفاق المشتغلين بالموسيقى والغناء في مصر، فما تكون إذن (صور الكون في نفس إنسان وتبلور الحياة في حس فنان)؟ ما يكون هذا الكلام الذي يشبه المعميات والألغاز عند هذه النفوس الضعيفة الصغيرة، وهذه العقول المسكينة المحدودة؟!
بلغتني قصة طريفة عن مولد قطعة غنائية يتميع بها شبان البلد وشوابه في هذه الأيام، ولست متأكداً من صحة جميع تفصيلات هذه القصة ولكنها ليست بعيدة التصديق ولا متعارضة مع المعروف عن هؤلاء (الفنانين)!
قال مغني القطعة لمؤلفها: ما رأيك في (ما يهونش) ألا ترى أنها تكون (مؤثرة)؟ قال المؤلف: تكون!. قال المغني: وحياة أبيك تضع لنا عليها (طقطوقة). . . فكان!
هذه قصة لا أجزم بصحة تفصيلاتها هي بالذات ولكنها تتفق مع ما أجزم به من طريقة تأليف المقطوعات الغنائية وبواعثه وعن غناء هذه القطع وأسبابه في نفوس المؤلفين والمطربين، فليست هذه البواعث أحاسيس نفسية تبعث بالقطعة في نفس مؤلفها ألفاظاً وأوزاناً وفي نفس مغنيها نغمات وألحاناً.
فكيف يتأتى إذن لهذه الأغاني أن تكون شعوراً إنسانياً كريماً، أو شعوراً حيوانياً وتلك(399/29)
بواعث القول والغناء عند هؤلاء وهؤلاء!
ولكنني أغمط التأليف الغنائي حقه حين أسوي بين مستواه ومستوى التلحين والغناء في هذه الأيام، فنحن إذا تجاوزنا عن المؤلفين المحترمين الذين يطنون كالذباب حول المطربين والمطربات نجد آخرين من كرام الشعراء ومشهوري الأدباء قدموا بعض مقطوعاتهم للغناء، ولكنها خرجت من يدي الملحن جثثاً هامدة بعد إخضاعها للنغمات المحفوظة والترنيم الممجوج.
ولو سارت خطوات الموسيقى والتلحين في مصر على هدى خطوات الشعر، لكان لنا فن موسيقي محترم، ولكُنا شيئاً في رقعة العالم العريضة التي تموج بالفنون الحية، بينما نحن منها في الرميم.
ولا زلت أذكر أن مطربة كبيرة مشهورة ذات صوت فريد في جوهره مستعد لأداء كل النغمات، كانت تغني في مناسبة بهيجة قطعة تفيض ألحانها غبطة، ولكني كنت أتصورها هناك وراء (الميكرفون) وهي تعتصر دموعها اعتصاراً وتنوح نوح المفجّع المكلوم!
وإذا ذكرنا الأصوات فلنعترف مرة أخرى أن لدينا منها ثروة لم نحسن استغلالها بالتلحين، كما لم نحسن استغلال ثروة التأليف، فالتلحين هو علة العلل، لأنه جوهر الإحساس الفني وموجّه الأصوات والأنغام، وهو في أيدي هؤلاء الفارغين المشوهي الفطرة، بل في يد هذا الحطام الآدمي الذي لا يقوى على إحساس الآدميين.
وكل لفظ مؤدب عف لا يكفي لتصوير جريمة التلحين على بعض المطربات والمطربين، وعلى سبيل المثال أذكر المطربة (أسمهان) ففي جوهر صوت هذه المطربة تعبير عن لذة الغريزة وفورة الجنس، وهو في نظر المعدمين من التعبير السليم مثلنا مكسب كالكعكة في يد اليتيم! لأن السلامة الحيوانية مطلب من المطالب البعيدة عنا في عالم الغناء، ولكن التلحين الغشوم لم ينتبه إلى هذه الخاصة في ذلك الصوت، فما هي إلا أغنية أو أغنيتان فيهما حتى تتوارى وراء التلحين المريض الشائه والتكسرات المغشوشة التي ينفر منها حتى الحيوان السليم!
وبعد فما كان لنا أن نأمل شيئاً في محترفي الغناء والتلحين، ولكن أملنا كله كما أسلفت في طبيعة هذه الأمة، وفي ضمائر القلة القليلة التي (لم تشرب من النهر) أن يثيرها الاشمئزاز(399/30)
من كل ما ترجعه الأوتار والحناجر في هذه الأيام، وأن تدفعها حوافز البشرية الحساسة، فتقوم بالدعاية الواجبة في كل مجتمع وكل صحيفة ضد هذا الزيف الكريه.
ولقد حمدت للأستاذ (عبد الحميد يونس) المذيع بمحطة الإذاعة برنامجه المختار (نصف ساعة من الموسيقى الغربية) وهممت أن أرسل إليه - على غير معرفة - رسالة شكر وإعجاب بحسن اختياره للأسطوانات التي أذاعها لولا أن صرفتني عن ذلك بعض المشاغل العارضة.
وإني لأذكر ذلك اليوم علاجاً مضمون العاقبة للسامعين وجرعة منبهة إلى ما في الكون من تعبير رفيع عن المشاعر الإنسانية في الموسيقى العالية يجب تكراره وتكراره كل يوم ضمن برامج محطة الإذاعة لا بين الحين والحين.
وإني لأخشى أن يكون وقف هذا البرنامج ثمرة لمسعى بعض المشهورين بالغناء المريض، فقد كان في بعضه كشف لمواضع سرقاته وفي بعضه عرض لمثل حية رفيعة تعاف النفوس بجوارها فهم الرخيص.
سيد قطب(399/31)
دراسة شاعر
جوفري شوسر
للأستاذ أحمد الطاهر
إذا أنست لهذا الشاعر وتذوقت شعره، فإنك واجد فيه صورة ناطقة لبلاد الإنجليز في العصور الوسطى، أو في القرن الرابع عشر الميلادي. وأجمل ما في هذه الصورة أن (شوسر) يمثل بأسلوبه البارع - الذي وصفنا في مقال سابق - نظرية اجتماعية أخلاقية، تتلخص في أن الغرائز الإنسانية باقية كما هي على مدى الدهر، لا تتغير ولا تتحول، وهي سواء في الناس جميعاً، وأما ما يكتنفها أو يخفيها من التخلق أو اكتساب العادات أو ما إلى ذلك، فما هو إلا عرض لا يتصل بجوهرها. خذ مثلاً رجال الدين - كما أراد شوسر - أولئك الذين هاجمهم في عنف وشدة، تر أنه لا يحفل بما يبالغ فيه بعضهم من إبداء النسك والتبتل والتظاهر بالتأبد والتنطس، وإنما يعمد إلى المسوح السوداء فيرفع إسدالها، وإلى المسابح فيقطع أوصالها، ثم يبرز لك الرجل من وراء ذلك إنساناً ككل الناس: يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويضطرب في كل شأن من شئون الحياة، كما يضطرب سائر الناس. فينزع إلى الهدى والرشد أحياناً، وإلى الغواية والعشوة أحياناً. والشاعر حين يتناولهم بقلمه، لا يصدر عن ضغينة في نفسه، ولا عن ميل إلى التندر والتظرف، ولا عن استخفاف بالدين، كلا، بل لقد كان هو من أكثر الناس تديناً وإغراقاً في الصلاح والتقوى. إنما هي أسباب أخرى لو سمعها اليوم (شوسر) لم يرض عنها، أو لم يعترف بها: فعصره كان عصراً تغلي فيه مراجل الثورة النفسية، يؤجج أوارها عناصر أربعة متنافرة متدابرة: الكنيسة والشعب والبرلمان والقصر.
ففي القصر إدوارد الثالث ثم ريتشارد الثاني يرهقان الشعب بالجبايات والإتاوات، ويسرفان في التمكين للأشراف وأصحاب الضياع من إذلال الدهماء عبيدهم ومواليهم يبتزون جهودهم ويستغلون نشاطهم، ولا أقول أموالهم فما كان للعبيد والموالي أموال ولا أملاك. والبرلمان يأنس في الملك ضعفاً وخوراً في حين من الأحيان، وجبروتاً غاشماً في حين آخر، وطراءة في الشباب في عهد من العهود فيحفز للنضال حقه المهضوم وسلطانه المكلوم وتغريه كثرته فيثور ثم يناوئ ثم يعتدي ثم يمالئ. كل ذلك على حساب الشعب؛(399/32)
والشعب مرهق مغلول ضعيف مفلول يتلقى العذاب من ملك يرميه بالتمرد ويكديه بالجباية، ومن أمير أو شريف يتهمه بالكسل ويرهقه بالعمل. والكنيسة يطيب لها أن تثبت وجودها بأن تتهم الناس بالكفر والضلال وتعزو سوء الحال إلى إسراف الملك في سلطانه والحد من سلطانها فتصور الشعب فريسة أطماع الملك الضليل، وتصور الملك مغلوباً على أمره من شعب مغرق في الأباطيل، وتستعدي الشعب على الملك والبرلمان يوماً، وتستعدي البرلمان أو الملك على غيره يوماً آخر. وهكذا ألقيت بينهم العداوة والبغضاء وألْبِسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض. تلك أمة قد خلت.
وهناك نتساءل أين موضع شاعرنا من هذا المعترك المصطخبة أمواجه المتلاطمة أفواجه؟ كان من رجال القصر وسفرائهم ومن خدم الملك، فليس عجيباً أن نراه من رجال الدين في الموضع الذي رأيناه؛ وليس غريباً أن نراه يصورهم بالصورة التي تفزعهم وإن تلطف أو داجى، ولا يتعاظمنا أن ينظم قصة فيسلكهم في صدرها ساخراً مقذعاً متندراً: قال:
في عصر الملك الصالح أرثور كنت ترى بلادنا الإنجليزية مشرقة بالبشر رافلة في حلل النعيم تمرح في أرضها وغابها أميرات الجن تحوطهن صاحبات لهن من الخود الرعابيب، فإذا أمسى المساء خطرن على مروج الزهر، وإذا أصبح الصباح رأيت في الأرض ما تناثر من عقود الزهر التي نظمنها في حلقات رقصهن. وأما الآن فما بقي في الأرض إلا شحاذو الكهان والرهبان نفروا كل مليحة من أميرات الجن، وأفزعوا كل غضة من بنات الغاب، وملئوا المكان بعد أن كان زاخراً بالأميرات. كان أحد فرسان ذلك الملك الصالح ممتطياً صهوة جواده وعلى وجهه سحابة من الحزن وغشاوة من الشجن فأفضى به التسيار إلى جانب من الغابة قد اتخذته أميرات الجن مرقصاً فركض إليهن جواده يلتمس عندهن شفاء من آلام نفسه وأوصاب صدره، فما أن رأينه حتى شردن وتوارين ولم تبق إلا عجوز شمطاء شوهاء قامت إليه وأخذت عليه السبيل ثم قالت: (أأكول في عونك أيها الفارس؟) قال: (نعم أيتها الجدة، وإن لم تفعلي لأكون من الهالكين) لقد سلفت مني بادرة لا تليق بالسادة الأشراف. أسأت إلى فتاة فحكمت علي الملكة بأن أقصي عن بلاطها سنة ثم أعود فأنبئها وفتياتها الغاضبات بجواب عن سؤال حيرتني به ألا وهو (ما أحب شيء للمرأة؟) فإن أعجبهن جوابي كنت سعيداً موفقاً، وإن أخطأني التوفيق فهنالك هلاكي. ولقد تصرم يا(399/33)
جدتي العام بعد أن التمست الجواب عند الأمهات والزوجات والعاتقات فما اتفقن على رأي ولا عرفن شيئاً واحداً هو أحب ما يحب النساء: قيل لي أن النساء يعجبهن الملق والمداجاة؛ وقيل لي أحب شيء إليهن الحب والهوى؛ وقيل بل الزواج وقيل المرح والطرب؛ وقيل التكريم والثناء، وقيل البذخ والثراء؛ وقيل غير هذا وأنا لا أزال حائراً مضطرباً. فهل عندك الجواب وعندي لك كل حاجة تريدين قضاءها وكل مطلب مجاب؟) قالت العجوز: (أتقسم أن لي كل حاجة عندك مقضية؟) قال: نعم. وأقسم بشرفه ليفيَنّ لها بما وعد: قالت: (هلم معي إلى القصر) وأفضت إليه في الطريق بالجواب. فلما بلغا القصر عقدت الملكة مجلساً ومثل أمامها الفارس وقالت له: (حياتك رهن بالجواب عن هذا السؤال: أي شيء أحب إلى المرأة سواء أكانت عانساً أم بكراً أم زوجة) قال الفارس: (ليس أشهى إلى المرأة يا صاحبة الجلالة من السيطرة والسلطان تشتهي السيطرة على زوجها وعلى بيتها وعلى ثروتها وعلى ضيعتها وعلى كل شيء وكلهن في ذلك سواء. أنتن أيتها النساء تردن الحكم، تردن التحكم في جميع الناس، تردن أن يكون لكن الأمر وعلى الرجال الطاعة.) وما فرغ من إلقاء جوابه حتى أمَّن الحاضرات عليه وغشيت وجه الملكة حمرة لا تخفيها. وهنا برزت العجوز وصاحت: (أنا يا مليكة صاحبة هذا الجواب لقنته إياه بعد أن أقسم ليأتمرن بأمري ويجيبن مطلبي؛ وهاأنذا بحضرتك أتَنَجَّزه وعده، وما حاجتي إلا أن يتزوجني) شده الفارس لهذا المطلب العسير الفظيع، والتمس إليها الوسيلة للخلاص من وعده، وأخذ يغري هذه العجوز بالثروة والنشب فما أغنى عنه ماله وما كسب، وكرهت الملكة أن تكون هذه الشمطاء زوجة لفارس من فرسان القصر؛ ولكنها آثرت ذلك على أن يدنس الفارس شرفه فينقض عهده وينكث وعده وأمرته أن يتزوجها. وبنى بها الفارس مكرهاً في ليلة لم ير أسود منها. ولم يخف عليها حنقه وغيظه إذ قال: (ليت مصابي بك كان عند قبح وجهك وكبر سنك، ولكنه تجاوز هذا إلى خسة منبتك وضعة شأنك) قالت العجوز: (أهذا كل ما يؤلمك - ألا تعلم أن شرف المنبت وطيب الأعراق ليست إلا ثروة عتيقة موروثة، وماذا يغني عنك حسبك ونسبك؟ إن كان لك مجد تليد فالفضل فيه لمن كسبه من آبائك وأجدادك؛ وإن كان لك مال قد خلفوه لك واسم كريم قد ألصقوه بك واعتمدت على هذين في طلب المجد والشرف، فما أخيب مسعاك وما أبعدك عن بلوغ القصد. المجد والشرف لا يشتريان(399/34)
بالمال. هأنذى امرأة وضيعة المنبت لا أملك طارفاً ولا تليداً، ولكنني لست امرأة سوء هل كان المسيح غنياً وهو مثلنا الأعلى في المجد والشرف؛ كلا بل كان جهده أن يفعل أفعال الكرام. أما قبح وجهي وكبر سني فإني أعرض عليك في ذلك اختياراً: أتريدني عجوزاً حصيفة الرأي أم فتاة ضالة في سبيل الحياة؟) قال الفارس: (الرأي لك أيتها العجوز العاقلة) قالت: (ألا ترى أنني بسطت عليك سلطاني وأخضعتك لأمري فأذنت لي أن أفعل ما أريد) قال: (نعم) قالت: (أنظر إلي واعجب لما تحولت إليه قسماتي) فنظر الفارس وإذا بالعجوز قد تحولت إلى فتاة نضرة غضة لم تقع عيناه على أجمل منها.
(الإسكندرية)
الصباغ
أحمد الطاهر(399/35)
معركة السياسة بين هتلر وبيتان
للأستاذ يوسف شبلي
كان المحور الدكتاتوري في المدة التي سبقت إعلان الحرب في سبتمبر في سنة 1939، وفي المدة التي لحقت إعلانها لا يقوم على أساس مشترك في العمل بين طرفيه، أو تساو عادل في إبداء الرأي والقطع فيه، بل استقل بتوجيه المحور في أعماله وفي أفكاره طرف واحد دون الآخر؛ وتطور الأمر فيما يختص بأحدهما إلى احتلال المقدمة؛ وفيما يختص بثانيهما إلى الوقوف في المؤخرة؛ حتى أهمل أمره وهان شأنه في الكبيرة والصغيرة على السواء.
لقد حار الكل في تعليل الموقف في مظهره الجديد، وطارت الأفكار في تلمس المعاذير والأسباب كل مطار ومدار؛ فكثرت الاحتمالات، وتعددت الإشاعات، واجتهد القريب والغريب في الاستنتاج والاستخراج؛ ونشط الفهيم والعقيم في الإفصاح والإيضاح. إلا أن شيئاً واحداً انقطع دونه التفكير وجف عنده مداد التحبير، وهو أن يكون الضعف سبب الجمود، ونفاد الحيلة العلة الأصيلة في هذا الهبوط والقعود.
أليس من دلائل القوة أن يعمد الزعيم الإيطالي في كل مناسبة وغير مناسبة إلى الخطب الحماسية يلهب بها أعصاب سامعيه، حتى إذا انتهى من إلقاء الخطاب تأبط شباب الفاشست - وكلهم دون سن النضوج - منشورات مليئة بالقذف والبذاء في الإنجليز والفرنسيين، وهرولوا مسرعين إلى حيث يقيم السفير الإنجليزي فيقابلونه بالصفير والتهليل، وبإلصاق تلك المنشورات على سيارته وعلى دار سفارته!
بل أليس من دلائل القوة أن يعمد السنيور موسوليني في تقديم مطالبه ونشر مآربه إلى رأس المدفع فيتخذ منه مسنداً، وإلى جناح طائرة فيجعل منه مقعداً، ليكون من مجمل هذه المظاهر الجوفاء والحركات النكراء صورة لقوة زعيم ورمزاً لغضب الحليم!
ما كان أحد يتوسم في إيطاليا غير القوة والجبروت، حتى إذا أشرفت معركة فرنسا في الميدان الغربي على الانتهاء، وأعلنت إيطاليا الحرب على الحلفاء، طمعاً في كسب غير مشروع، ورغبة في غنم مأمون ومضمون؛ وحتى إذا فوتت إنجلترا على الدكتاتورية قصدها بإطالة أجل الحرب، وتعين على إيطاليا أن تقوم بدورها في القتال، تكشفت الحقيقة(399/36)
السافرة عن ضعف تام في جميع ميادين الحياة والنشاط
وبينما أحد طرفي المحور يعاني من مرائر الهزائم المتوالية في ميادين القتال: ففي الميدان الشرقي انقلبت الجيوش اليونانية في الدفاع في بادئ الأمر إلى الهجوم؛ وانقلبت الحرب من البلاد اليونانية إلى الميدان الألباني في بضعة أيام. وفي شمال أفريقيا وشرقها، أحرزت الجيوش الإنجليزية انتصارات حاسمة في معارك فاصلة، فوصلت في الشمال إلى ما بعد بني غازي وأسرت ثلاثين ومائة ألف أسير، وغنمت كثيراً من عتاد القتال؛ كما توغلت في الشرق أميالاً عديدة في المستعمرات الإيطالية. نقول بينما أحد طرفي المحور يعاني كل ذلك، إذا بالطرف الثاني يفشل فشلاً تاماً فيما كان يأمله من غزو الجزر البريطانية جواً وبحراً، وما كان يرومه من إنهاء الحرب في هذا الميدان؛ وكلما امتد الوقت بالحرب زاد استعداد الجزر البريطانية لملاقاة العدو إذا غامر بغزوها، حتى صارت فكرة الغزو اليوم مما لا يمكن تحقيقه أو الإقدام عليه.
وهنا وجب على إيطاليا أن تطلب المساعدة الألمانية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حطام ومخلفات. . . كما وجب على ألمانيا أن تبحث في ميدان جديد تقهر فيه إنجلترا، يكون أقل مناعة، وأضعف حصانة.
ولما كان أمام الألمان خطة واحدة يجب عليهم أن يسلكوها، وهي أما الاتجاه شرقاً، والانتقال بالحرب إلى البلقان، ثم إلى الشرق الأدنى وأما الاتجاه جنوباً، لتجربة خطة الغزو بحراً في ميدان ضيق إلى شمال أفريقيا؛ فقد وجدت في هزيمة حليفتها واضطرارها إلى طلب المساعدة الفرصة المرتجاة؛ فتسللت الجنود الألمانية إلى شمال إيطاليا، واحتلت أسرابها الجوية جميع المطارات لتعمل هذه القوات في ميدان البحر الأبيض المتوسط، وتمنع النجدات البريطانية في حالة الاتجاه شرقاً، أو الاتجاه جنوباً.
غير أن المطارات الإيطالية، صار يقابلها في ليبيا بعد الانتصارات الإنجليزية الأخيرة عدد مضاعف من هذه المطارات، مما يجعل التفوق للقوات الإنجليزية في هذا الميدان
إذن يجب البحث عن قواعد بحرية وجوية تطل على البحر الأبيض المتوسط لضمان التفوق والاطمئنان على نجاح التجربة الجديدة.
لكن كيف السبيل إلى ذلك، ولم يبق إلا أسبانيا وفرنسا. أما أسبانيا فقد قال جنرالها للهر(399/37)
هتلر: إن للبحر الأبيض بابين، أحدهما غربي، والآخر شرقي؛ فإذا تمكنت من إقفال الباب الشرقي، فكرت في مساعدتك في إقفال الباب الغربي في جبل طارق، وهذا رد لا يفوت معناه ومغزاه على لبيب.
اتجه الهر هتلر إلى فرنسا، فهي أولى بأن تتحمل نتائج الهزيمة، وغرم الانكسار. فكاشف المسئولين من رجال حكومة فيشي بأغراضه ونياته، من الاستيلاء على المواني الفرنسية، في فرنسا غير المحتلة وفي المستعمرات؛ ومن انضمام وحدات الأسطول للعمل مع الأسطولين الألماني والإيطالي، ضارباً بشروط الهدنة التي حفظت لفرنسا أسطولها ومستعمراتها ناحية الأفق؛ فأبى عليه المريشال بيتان وصحبه أن يجيبوه إلى هذه المطالب والأغراض؛ وابتدأت المعركة السياسية بين هتلر وبيتان، تلك المعركة التي كانت منذ شهر يونيو من السنة الماضية، تتفاوت بين مظاهر اللين والشدة، وبين الاعتدال والاحترام، تبعاً لتطورات الحال، وظهور المفاجآت بين آن وآن.
ففي الأيام التي تلت انكسار فرنسا في الميدان الغربي، كانت هذه المعركة بين ألمانيا وفرنسا، تعلوها مسحة من اللين والتهاون، حيث كان الزعيم الألماني يمني نفسه بقرب غزو إنجلترا، والدخول إلى قصر بكنجهام، إذ يشرب فيه نخب الانتصار!
وأما اليوم، وقد أغلقت جميع الأبواب، وسدت كل المنافذ والفتحات؛ ولم تعد يد تمتد إلى الزعيم الألماني بالمصافاة، فقد تطورت المعركة بينه وبين بيتان إلى احتدام عنيف، وصفته التلغرافات بأنه نضال البقاء أو الفناء.
والحقيقة أن الهر هتلر يحسب حساباً خاصاً للفرنسيين، لما يعرفه عنهم من حدة المزاج، ولما يعلمه تمام العلم من استعداد المستعمرات لاستئناف القتال ضده عند الإشارة الأولى. لذلك جاملهم كثيراً في بداية الأمر، وحاول جاهداً أن يستدرجهم إلى داخل الدائرة الألمانية بالحسنى ولين الجانب. ولم يطرق بابهم بشدة إلا عندما أفزعته الحوادث، ووصل إليه فعل التيارات الآخذة في الاقتراب منه. حتى لقد فضل أن يلج الباب الإيطالي، بحيلة هتلرية، تحت ستار المساعدة ومباشرة عملية الإنقاذ، قبل أن يطرق الباب الفرنسي، ويلح في طلب ولوجه.
وإذا كانت الأنباء قد أجمعت على القول بثبات المرشال بتان أمام تهديد الألمان، ورفضه(399/38)
إجابة مطالبهم، معرضاً فرنسا لما يحتمل أن تتعرض له، من ظروف قاسية، لن تكون بحال أقسى مما هي عليه الآن؛ فليس الغريب أن تأتينا الأنباء بمثل ذلك، بل الغريب أن يجيب المريشال بتان هذه الطلبات، ويستسلم للتهديدات، في وقت وضح فيه الطريق أمام الحلفاء، واتسعت فرجات النور وسط الظلام الذي كان مخيماً على أوربا عند عقد الهدنة بين الفرنسيين والألمان.
إن العوامل التي ترغب الفرنسيين في استئناف القتال، وتحفزهم إلى تجديد النضال، كثيرة وعديدة. تجد هذه العوامل في ثبات البريطانيين، وظهور قدرتهم التامة على الوصول بالحرب إلى نتيجة مرضية. وفي موقف أمريكا التي وعدت رسمياً بمساعدة الحلفاء مساعدة لا تسمح لدولتي المحور بالانتصار بأي حال من الأحوال؛ كما أن القانون الذي يطلق يد الرئيس روزفلت في العمل، على وشك أن يفوز بالإقرار في مجلس الكونجرس. وفي شجاعة اليونانيين، واستبسالهم في الهجوم في الميدان الألباني وفي الانتصارات الباهرة التي أحرَزتها الجيوش الإنجليزية في ميادين الحرب الإفريقية الثلاثة، مما يبشر بضياع الإمبراطورية الإيطالية قريباً. وفي موقف الدول التي لم تدخل الحرب بعد، ولكنها أعلنت في صراحة تامة عن عزمها على الدفاع عن كيانها ضد كل من توسوسه نفسه بمباشرة الاعتداء عليها. وأخيراً في روح الحماس البالغة عند أهل المستعمرات الذين يتحرقون شوقاً إلى ملاقاة العدو، والانتقام للشرف الفرنسي من هزيمة يونيو من السنة الماضية.
وإذا تركنا كل ذلك، نجد أن لفرنسا قوة مادية في أسطولها، وفي مستعمراتها كفيلة بترجيح كفة الحلفاء إذا اختارت أن تستأنف القتال إلى جانبهم. وإذا عرفنا أن الخمسين مدمرة التي أرسلتها أمريكا إلى إنجلترا، كانت سبباً حاسماً في بعض الميادين، خصوصاً في ميدان البحر الأبيض المتوسط؛ فكم بالحرى يكون الفصل لمائة وخمسين مدمرة تملكها فرنسا. لا شك أن عدداً كهذا، يضاف إلى قوة المدمرات البريطانية، وما عساه أن يرد من أمريكا، وما تخرجه المصانع قريباً يكون له فصل الخطاب فيما هدد به الهر هتلر في خطبته الأخيرة من عزمه على مباشرة حرب الغواصات في الربيع القادم.
فإذا ألانت فرنسا قناتها، مع توفر أسباب الثبات، وأجابت الألمان إلى ما يطلبون؛ وقنعت بنصيبها الذي بذلته في هذه الحرب، وبنصيبها الذي قدر لها أن تنتهي إليه، من جرها في(399/39)
ذيل العربة الألمانية؛ فكيف يكون موقفها من مؤتمر الصلح القادم، عند ما تنتهي الحرب بنصرة الحلفاء!
أترضى فرنسا لنفسها، ويرضى كبرياء شعبها، وكبرياء قوادها، وفيهم أبطال فردون، وأبطال المعارك الهائلة في الحرب الماضية، أن تلعب اليونان، وبولندا، وهولندا، والنرويج، وتركيا، دوراً رئيسياً في هذا المؤتمر، ولا تستطيع فرنسا أن تمثل دوراً ثانوياً فيه! وإذا أجلستها إنجلترا إلى جانبها في مكان الصدارة من المؤتمر، فكيف يكون موقفهما فيما بينها وبين نفسها وهي تعلم الدور الذي قنعت بتحمله والقيام به.
لا شك أن كل ذلك، في جملته وفي تفصيله، وقد قدره المرشال وأعوانه حق قدره وحسبوا حسابه في المفاوضات الدائرة الآن بين فرنسا وألمانيا، في صدد المطالب المزجاة. ومن يدري! فقد يرى المسئولون عن مصير فرنسا من رجال حكومة فيشي، أن متاعب الحرب من جديد إلى جانب حليفتهم أقل من المتاعب التي تنشأ عن مزيد من التسليم، فيفضلوا الحل الأول على الثاني ويصلوا بدورهم في الحرب إلى النهاية المفروضة على أمثالهم.
وليس الغريب أن يقر قرارهم على شيء من هذا، بل الغريب أن يقف الفرنسيون جامدين، وأن يدوم تصميمهم بالتخلف في الطريق. وستأتينا (جهيزة) في الأيام القليلة القادمة بفضل الخطاب في هذا الشأن الخطير، عند ما يقول المرشال بتان كلمته النهائية في شأن المطالب الألمانية، وهي كلمة الشرف والإباء، والأنفة والكبرياء، على ما نظن، ويظن معنا الكثيرين.
(دار الأهرام)
يوسف شبل(399/40)
من وراء المنظار
المتعاظم الصغير
يملك حب العظمة عليه نفسه، ولقد ركبه هذا المتعاظم منذ مدرجه وكبر معه، فهو اليوم في منتصف العقد الرابع، طفل في الخامسة والثلاثين. قتر على نفسه حتى اقتنى سيارة قديمة راح يتشبه بها بذوي اليسار من أصحاب السيارات الفخمة، وإن كان مرتبه كله لا يساوي ما يدفع هؤلاء من (بقشيش)؛ وقتر على نفسه مرة أخرى، فقضى الصيف في أوربا، وإن كان من ذوي رحمه الأدنين من لا يكاد يجد قوته.
ومن أحب الأشياء إليه أن يذهب في سيارته إلى القرية، فيطلق نفيرها هناك عالياً في داع وفي غير داع، وبنظر الفلاحون البسطاء إلى هذا (المحدث) مبتسمين، فيزهى إذ يخيل إليه غروره أنها ابتسامات الإعجاب. ولقد رأيته مرة - وكأنه أحد الدكتاتورين يدخل المدينة على رأس قوته المصفحة لكثرة ما تجبر يومها وتعاظم، ولكن سيارته لسوء حظه أصابها في تلك اللحظة عطل فوقفت، ونظر مبهوتاً على صوت ضحكات قريبة، وكنت غير بعيد من الفلاحين الضاحكين، فحبست ضحكاتي مخافة أن يفهم الدكتاتور أني غيران!
ومن آلم الأشياء عنده أن تمر به فلا تحييه، ففي ذلك إنكار منك لعظمته، ولقد يبلغ به الألم من ذلك حد الحمى، فإذا أقبلت مع ذلك تحييه: تباطأ وهو يقبل عليك، وتكلف سلام العظماء ونبرات العظماء وحركة رؤوس العظماء وعبوس العظماء أو تبسمهم حسب مقتضيات الظروف.
وشاع في القرية أو أشاع هو فيها أنه ما من كبير من رجال الحكومة إلا وله عنده مكانة مهما اختلفت على كراسي الحكم ألوان الأحزاب، وتهاوت عليه عرائض البسطاء يطلبون الاستخدام وما تزال تتهاوى عليه وهو يدسها كل مرة في جيبه في اتزان ووقار بالغين ولكنهما مع ذلك بثيران الضحك العميق!
وهو ينظر إلى هؤلاء من عل ويفرح أشد الفرح إذ يجد من يتملقه، ويغتر إذ يكون بعض الناس منه كما يكون هو ممن يطرق أبوابهم من ذوي المناصب مستجدياً متملقاً، وهو كثيراً ما يتملق ويستجدي، وقصارى أمره أن يظفر بتعيين فراش أو نقل ساع من جهة أخرى إلى أخرى يحبها ويحسب ذلك هو الجاه أعظم الجاه، وهكذا يتمسكن ويتضاءل في المدينة(399/41)
ليزهي ويتعاظم في القرية ويريق ماء وجهه عند أولى المناصب من يعرف منهم ومن يعرف منهم ومن لا يعرف ليصعر خده لطالبي الرزق وذلك عنده من أعظم لذات حياته.
وإذا جلس أحب أن يلتف حوله طالبو جاهه وفضله وتراه؛ يعجب أشد العجب إن صغرت الحلقة من حوله، فهو يعتبر نفسه كبيراً عظيماً ومن حقه أن يلتف حوله الناس كما يلتفون حول أقرانه من العظماء، وما كان في حلقته إلا من يضمر له السخرية حين يريه الاحترام.
وتراه يلوك بعض كلمات إفرنجية تعد على أصابع اليد فيحرك بها لسانه في لهجة محطمة أكثر تحطماً من سيارته، لهجة أشبه بلهجة الأوربي الذي ينطق كلمات عربية لم تطرق سمعه إلا منذ شهر، وأرى شأنه في هذا كشأنه في استبدال ملابسه العربية بحلة إفرنجية.
أما مكانته عند من يزعم من الكبراء فقصاراه في هذا السبيل ألا تفلته فرصة إذا رأى أحد هؤلاء أو بعضهم في أي مكان فيتقدم إليهم محيياً متهللاً يهز الأيدي التي تمتد في فتور إليه هزاً حماسياً قوياً وهو يقول: (أهلاً فلان بك. . . كيف حال سعادة البك). ولا ينصرف إلا بعد أن يكرر تحياته وإن هموا هم بالانصراف دون أن ينظروا إليه لأنهم لا يعرفونه! وهي بعد مقدرة على أي حال أميل إلى أن أسميها (فن الحياة) ففي الناس من لا يستطيع أن يسلم على من يعرف حق المعرفة ممن هم أكبر منه!
رأيته ذات يوم يطلع المحيطين به على البطاقات الكثيرة التي جاءته في العيد، وقد مهد لذلك بذكر ما شاء له زعمه ممن يعرف من (الباشوات والبكوات). وكانت البطاقات كلها مرسلة إليه حقاً وفيها من هذه الألقاب حقاً؛ ولكن لم أر على واحدة منها غير كلمة (للشكر) فحسب!
وآخر مرة رأيته فيها كان محنقاً فقد حياه أحد الريفيين بقوله يا شيخ فلان، وهذا هو اللقب الذي يجري على ألسنة البسطاء من أهل الريف إذا أرادوا التعظيم، وعجبت لم يغضب وهو شيخ في نشأته العلمية قبل كل شيء وكان أولى به أن يجعل هذا اللقب مدعاة فخره، ولكن هيهات أن يرضى حتى بالأفندي وهو عند نفسه سعادة البك!
الخفيف(399/42)
الفنان
(مهداة إلى الصديق النابغة صلاح الدين طاهر)
للأستاذ عبد المعطي حجازي
كلما أسفر في الليل القمرْ ... مثل معنى في خيال الشاعرِ
أو مشى الموج صفوفاً واندثر ... كأمان هجستْ في خاطرِ
أو سرى برق أو انهلَّ مطر ... كسنا الشرِّ ودمع الحائرِ
أو تهادي في الأصيل الجدْوَلُ ... خافتَ الأنغام حلو النَّبراتْ
قبس الفنان عنها ... بعض ألحان الخلود
وجلى للناس منها ... بعض أسرار الوجود
وإذا احمرَّتْ من العُتب خدود ... أوشكتْ من خجل تستعرُ
وإذا ماست من الدلَّ قدود ... عبث الكاس بها والوتر
وإذا ثارت على الصدر نهود ... يأمر الثوبُ فلا تأتمر
أو تناجت في الشفاه القُبل ... فتلاقت فاستحالتْ لثماتْ
ترجمتها رشة الفن ... ان للحسن نشيدا
وكستها روعة الأل - وان إبداعاً جديدا
وجمال العيش في صبح الربيعْ ... وجلال الموت في ليل الخريف
والمنى تشرق في الوجه البديع ... والأسى يعصف بالقلب الضعيف
وحنان الأم للطفل الرضيع ... ووميض الغدر في وجه المخيف
وابتسام الدهر لما يقبلُ ... وعبوسَ الحظ عند النائبات
كلها أصداء حس ... وخيال عبقري
مزجت سعداً بنحس ... وجميلاً بِزَرِي
أيها السابح في دنيا الجمالْ ... كشعاع الشمس في الروض الأنيق
تنثر النور وتلقى بالضلال ... كسناء العين من الهدْب الرشيق
تمزج الحس بألوان الخيال ... مثلما يمزج بالماء الرحيق
أنت للفن نبي مرسل ... شهدت عيناي منك المعجزات(399/43)
أنت ظل الله في الأر - ض افتناناً وابتداعا
أنت وحي الشمس للرو ... ض حياة وشعاعا
أيها الطائر كالنسر الجسورْ ... بجناحين: سمَوّ وابتكار
تحت ظل الغصن أو فوق الصخورْ ... ترسل الوحي إلى غير عثار
فإذا الطوَّد على الرق سطور ... وإذا الروض نزيل في إطار
وإذا الماضي جديد مقبل ... هب كالنائم من طول سُبات
أيها الجبار هذا الكو ... ن مَعْنًى في خيالك
وصدى سجله الفن ... ليحيى في ضلالك
أيها الساهر والناس نيامْ ... تصنع الحسن وتلهو بالخلود
أيها الراهب في دير الظلام ... تكشف الأستار عن لغز الوجود
هذه دنياك، دمع وابتسام ... وأغاريد عِذاب ورعود
ونعيم بالأماني مثقل ... وجحيم مستطير الجمرات
أنت عنوان الحياة=أنت رمز للزمان
مستبد أنت عات ... ورفيق أنت حانِ
إن يكن في الأرض سحر أو جمالْ ... فهو الفنان في الدنيا سناهْ
أو يكن في الحب شوق أو ملال ... فهو الفنان للحب صداه
أيكن للشمس نور أو جلال ... فهو الفنان مشكاة الحياة
ذلك الفنان وحي منزل ... انطلقَ الصامتَ بل أحيا الموات
أوقفت ريشته الدهر ... فلبى واستجابا
وكستْ من خلدها العمر ... مدَى العمر شبابا
بَشَر مثل جميع البشر ... رفعته ريشه عن مستواهْ
كاد لولا قطرة من حذر ... يزدري الناس ويحيا كإله
إنه الفنان، صوت القدر ... وهوي الفنان دستور الحياة
هو دنيا رف فيها الأمل ... وثوى اليأس ودارت دائرات
عالَم تصطخب الآلا ... م والآمال فيه(399/44)
ويظل العقل والأفها ... م فيما يحتويه
(الإسكندرية)
عبد المعطي حجازي(399/45)
البريد الأدبي
زهر الآداب
أخبرني جماعة من الأصدقاء أن الأستاذ السباعي بيومي حدثهم أنه سيكشف الأغلاط التي فاتتني وأنا أنشر كتاب الحصري، كما أصنع في كشف الأغلاط التي فاتته وهو ينشر كتاب المبرد.
وأقول: إني طبعت كتاب (زهر الآداب) مرتين، وقد تداركت في الطبعة الثانية ما فاتني في الطبعة الأولى، فإن كان الأستاذ يريد كشف أغلاط الطبعة الثانية فسيؤدي إليَّ جميلاً أذكره له مع الثناء في الطبعة الثالثة. أما إن كان يريد كشف أغلاط الطبعة الأولى فجهده ضائع، لأني سبقته بذلك بنحو عشر سنين، ولأن صفحات الرسالة تضيق عن الحديث المعاد.
الوحدة العربية
أجبت دعوة (جماعة الطلبة العرب) بكلية الآداب لسماع محاضرة الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام في شرح (عناصر الوحدة العربية) فالتفت ذهني إلى ظاهرة تستحق التسجيل، وهي إقبال الجمهور على تلك المحاضرة مع بعد المكان، فهل يكون ذلك إلا دليلاً على أن فكرة الوحدة العربية صارت في مصر من الأمور ذوات البال؟
أرجو أن ينشر الدكتور محاضرته تبليغاً لما دعا إليه من كرائم الأغراض.
نقل الأديب
من واجبي نحو نفسي أن أعلن أني استوحشت لغياب الشذرات النفسية جداً، الشذرات التي كان ينشرها الأستاذ الجليل إسعاف النشاشيبي على صفحات (الرسالة) فمتى يعود؟
هي مختارات منقولة من هنا وهناك؛ ولكن الذوق في نقلها قد بلغ الغاية في شرف التحليق؛ وأظنها ستصبح كتاباً يحق لهم أن يسمى (كتاب الأمة العربية)
زكي مبارك
بعد انتهاء مناقشات رسائل الأستاذية
في يوم الاثنين الماضي انتهت المناقشات العلنية لرسائل (الأستاذية) الأزهرية المقدمة في(399/46)
هذا العام. وقد رأيت بهذه المناسبة أن أدلي ببعض الملاحظات بشأن هذه الدرجة العلمية التي لا أشك في أن الأزهر يفتتح بها في حياته الدراسية الحافلة عهداً جديداً سيكون ذا أثر بعيد في توجيه نشاطه العلمي توجيهاً صحيحاً.
وقبل أن أدلي بهذه الملاحظات، أود أن أنوَّه بظاهرتين جديرتين بالتسجيل، تجلتا بوضوح أثناء المحاضرات العامة والمناقشات العلنية:
الأولى: أن الأزهريين قد خطوا خطوة موفقة في التقريب بين طريقتهم الخاصة في التعمق في النقاش والبحث والتحليل اللفظي، والطريقة الحديثة في العرض المنظم والابتكار، بما جعل جمهور المستمعين يدرك أن الطريقين تتكاملان ولا غنى عن الاستعانة بهما معاً في الدراسات الأزهرية في العصر الحاضر.
الظاهرة الثانية: وجود مدرستين علميتين في الأزهر: المدرسة القديمة التي تتشبث بما خلف السلف من تراث علمي تقف بنشاطها عند حد تفهمه وتفهم أحكام الشريعة والعلوم المتصلة بها في نطاقه؛ والمدرسة الحديثة التي ترى أن السير على منهاج أولئك الأئمة الأمجاد يقتضي بذل المجهود الشخصي المستقل لأداء رسالة العصر الحاضر للشريعة وعلومها، كما أدوا رسالة عصورهم لها؛ ومن وافر حظ الأزهر أن تتم الغلبة للمدرسة الحديثة في ظل إدارته الحالية.
تفضل الأنظمة التي اتبعت في امتحان هذه الدرجة نظائرها المتبعة في امتحانات الدكتوراه في الجامعات الأخرى في نواح، كما تقصر عنها في نواح أخرى.
أما ما تفضلها فيه فهو:
1 - إلزام طلاب (الأستاذية) بإلقاء محاضرات عامة تعطى مع الرسائل فكرة صحيحة عن مقدرة كل منهم في الإبانة بالقول والكتابة والبحث.
غير أننا نلاحظ على المحاضرات والرسائل أن موضوعات معظمها أبواب عامة من الفقه لا يكون للمجهود الشخصي فيها سوى أثر ضعيف قوامه التجميع والتنظيم. وعهدنا بموضوعات الرسائل والأبحاث الجامعية التي من هذا القبيل أن يتناول كل منها بالبحث نقطة معينة يتولى الباحث تقرير كيان مستقل لها مما لا يبرز فيه سوى المجهود الشخصي المستقل.(399/47)
2 - خضوع كل عضو من أعضاء لجنة مناقشة الرسائل لرقابة بقية الأعضاء أثناء دوره في المناقشة، تلك الرقابة التي يظهر أثرها بتدخلهم للفصل فيما يكون موضع خلاف بين الأستاذ وصاحب الرسالة، أو لجلاء بعض النقط الغامضة أو لغير ذلك مما تتكشف المناقشة عن ضرورة الاشتراك في بحثه. وإننا مع ترحيبنا بمثل هذا التدخل النافع لا يفوتنا أن ننبه إلا أن ما تقضي به الضرورة يتقدر بقدرها الذي لا ينبغي تجاوزه بحال.
3 - جعل الحكم في صلاحية الرسالة للمناقشة في يد هيئة بدلاً من فرد.
ويقصر نظام هذا الامتحان عن نظام (الدكتوراه) في النواحي الآتية:
1 - لا يخصص لكل رسالة أستاذ يكون لصاحبها نصيب في اختياره ليشرف على توجيه توجيهاً علمياً أثناء كتابتها.
2 - التساهل في إقرار صلاحية رسائل للمناقشة ظهر أنها لم تكن جديرة بذلك مما أدى إلى تكليف أصحابها تقديم رسائل أخرى.
3 - لم يتبع التقليد الجامعي في إتاحة الفرصة لصاحب الرسالة لعرضها بإيجاز على جمهور المستمعين قبل البدء في المناقشة.
4 - لم يبدأ أعضاء اللجنة أدوارهم في المناقشة بالتنويه بما يعتبرونه مواطن إجادة في الرسالة المقدمة، بل كان كل همهم محصوراً في تقصي النقائص أو الإطراء بصفة عامة مما فوت كثيراً من التشجيع النافع والتنويه بما يستحق التنويه.
5 - كانت الأحكام التي صدرت في الرسائل متأثرة في الغالب بما أصابه أصحابها من التوفيق في المناقشة الشفوية، لا بمجهود كل منهم في كتابتها وأثره الشخصي فيها.
6 - لا يقضي النظام الحالي - فيما نعلم - بطبع الرسائل ولم توضع قواعد لتبادلها مع الجامعات الأخرى؛ وينبغي - على الأقل - أن يقوم الأزهر بطبع الممتاز منها على نفقته مع تقرير نظام التبادل حتى يعم النفع.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخرج في الأزهر وكليتي باريس والقاهرة
تعليق(399/48)
طلب مني من لا تسعني مخالفته، أن أعلق على ما كتبه الأستاذ مصطفى محمد إبراهيم في العدد الأخير من الثقافة في أيجابه أن تكون مفاتيح جمعاً لمِفتَح، وتخطئة من يقول إنها جمع مفتاح.
وعندي أن الأستاذ قد أسرف في دعوى التخطئة، ولو قال إن جمع مفتاح على مفاتح في غير ضرورة مخالف لرأي البصريين لكان قوله أدنى إلى الصواب.
فلقد جوَّز الكوفيون زيادة الياء فيما يماثل مفاعل في عدته وهيئته، وحذفها مما يماثل مفاعيل، فقالوا في جمع جعفر: جعافر وجعافير، وفي جمع عصفور: عصافر وعصافير. وجعلوا من الأول قوله تعالى: (ولو ألقى معاذيره) ومن الثاني قوله: (وعنده مفاتيح الغيب) على أن يكون مفرد الجمع الأول مقدرة، ومفرد الجمع الثاني مفتاح.
محمود حمزة
مفتش بالمعارف
إلى الأستاذ محمود الخفيف
تحية طيبة. . . وبعد فقد تهجمت (من وراء المنظار) على نائب محترم نعزه ونجلّه أعيان دائرته فكتبت إليك هذه الكلمة رداً على مقالك من غير تعليق.
قرأ أحد النواب الفرنسيين ذات صباح مقالاً يهاجمه فيه الكاتب هجوماً بلغ حد الإهانة، فبلغ به الغضب مبلغاً عظيماً وأسرع إلى صديق له يسأله كيف يستطيع أن يرد هذه الإهانة: أيدعو الصحفي إلى المبارزة؟ أم يطلب منه أن يعتذر رسمياً؟ ولكن صديقه كان عاقلاً إذ ابتسم وقال: (لا عليك يا صاحبي من هذا كله، فإن نصف قراء الصحيفة لم يلاحظوا هذا المقال، ونصف الذين لاحظوه لم يقرءوه، ونصف الذين قرءوه لم يفهموه، ونصف الذين فهموه لم يصدقوه، ونصف الذين صدقوه لا قيمة لهم. . . فماذا يبقى بعد ذلك؟)
هل أنت فاهم يا صاح؟ وهل عرفت أنك كالحادي وليس له بعير؟
حسين فهمي صادق
بكلية الحقوق(399/49)
إلى الأديب حسين فهمي
حيرتني في غير داع بكلمتك، فما كتبت مقالي عن شخص معين؛ والذي كتبت عنه ليس بنائب ولا بذي دائرة بالطبع، ولا هو ممن يعزه أحد بالضرورة.
وما قابلت إنساناً ممن يفهمون ما يقرءون إلا حدثني أن هذه الصور التي أجلوها إنما هي صور شائعة في كل بلد فلا تعني واحداً بالذات.
أما عن قصتك فيكفي أن أنبهك وكنت خليقاً أن تنتبه من تلقاء نفسك أني لم أكن حادياً بغير بعير، وأظنك فهمت الآن مَنْ بعيري. . . فأنت بلا شك من ذلك النصف الذي فهم، ولا عليّ إن كنت صدقت أم لم تصدق.
الخفيف
شبابيك القلل
كتب الدكتور زكي محمد حسن في العدد 112 من (مجلة الثقافة) مقالاً بهذا العنوان أود أن أعلق عليه بكلمة صغيرة فقد قال: (ومن العجيب أن يعني بزخرفة شبابيك القلل إلى هذا الحد بينما تبقى القلل نفسها بغير طلاء أو رسوم زخرفية).
ولقد فات الزميل الفاضل أن القلل في العصور الوسطى كانت على نوعين أحدهما نسميه - في اصطلاحنا العرفي - (القلل الصيفية) وتستعمل صيفاً وهي من الفخار غير المطلي، لأن مسامها تساعد على تبريد الماء. والنوع الثاني (القلل الشتوية) وتستعمل شتاء لأنها مكسوة بطلاء زجاجي يحفظ على الماء درجة حرارته الطبيعية.
وقد لاحظنا أن بعض أبدان القلل التي وصلت إلينا من هذين النوعين تزدان برسوم زخرفية غاية في الجمال كما يظهر ذلك في اللوحات الثلاث الأول من كتاب الأستاذ أولمير الذي ذكره في مقاله. وإذا كنا لم نجد كثيراً من القلل ذات الرسوم الزخرفية فهذا يرجع إلى أن الأجزاء التي عثرنا عليها هي بقايا من هذه القلل فقط، ولا ينهض ذلك دليلاً على ما ذهب إليه الدكتور من أن أبدان القلل لم تكن مزخرفة.
وقال أيضاً: (إن الرسوم الآدمية ورسوم الحيوان والطيور والأسماك التي نراها على تلك الشبابيك يشهد معظمها بأن صانعها كانت تنقصه المهارة ودقة الملاحظة حتى أن رسومه(399/50)
تبدو صبيانية وغير دقيقة).
ولئن صحت هذه الملاحظة نسبياً فيما يختص بالرسوم الآدمية فإنها لا يمكن أن تصح بأي حال في الحيوانات والطيور والأسماك وأن نظرة واحدة للرسوم التي نشرها الدكتور - وهي ليست بأجمل ما في مجموعة شبابيك القلل - لكافية للإقناع بما كان عليه هؤلاء الفنانون من دقة الرسم وحرية التعبير.
وعندما تعرض لتأريخ هذه الشبابيك قال (وليس من السهل تأريخ شبابيك القلل المحظوظة في المتاحف والمجموعات الأثرية لأنها من منتجات افن الشعبي).
فهل للزميل المحترم أن يعرف لنا ما يفهمه هنا من اصطلاح الفن الشعبي؟ ألم تكن القلل كباقي أنواع الصناعات الزخرفية في الفن الإسلامي مثل الخزف والخشب والمنسوجات والزجاج الخ. . . فيها الثمين والرخيص، يشتريها خاصة الناس وعامتهم كل على حسب مقدرته المالية؟ وكانت الرسوم الزخرفية والدقة الفنية في الصناعة توزع بين هذا وذاك كل حسب قيمته؟
وفي ختام كلمته قال الدكتور زكي بعد أن أشار إلى كتاب الأستاذ أولمير عن شبابيك القلل: وصفوة القول أن الأستاذ أولمير ظن أنه يستطيع الوصول إلى تأريخ بعض شبابيك القلل بواسطة الموازنة بين رسومها ورسوم سائر التحف الممكن معرفة تاريخها، ولكنا نظن أنه بالغ في تقدير النتائج التي تؤدي إليها هذه الطريقة.
فهل فات زميلي الدكتور أننا عثرنا على بعض هذه الشبابيك مطلية بالطلاء ذي البريق المعدني، وكان الفضل الأكبر في ذلك إلى الأستاذ حسين راشد رئيس أمناء دار الآثار العربية، كما ذكر ذلك الأستاذ أولمير في مقدمة كتابه (ص8 وما بعدها)، ونشر صورتها في اللوحة الأولى، وكان لهذه المجموعة أكبر الأثر في تاريخ شبابيك القلل التي تنسب إلى العصر الفاطمي؛ والبريق المعدني كما يعلم صديقي الفاضل معروف وقت استعماله في الخزف المصري. ولا أدري لماذا لم يذكر حضرته هذا النوع في مقاله. ولعله على رأي آخر في هذا الصدد نود لو يكشف لنا عنه.
دكتور محمد مصطفى
أمين مساعد دار الآثار العربية(399/51)
القصص
الرجل الصامت
عن الروسية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان في فندق القرية ضيوف كثيرون لا أعرف معظمهم، وانقضى النهار وجانب من الليل ونحن في هزج وضوضاء، فلما بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل بدأنا نفكر في النوم فانصرف من انصرف وبقى في الفندق ثمانية. ولم يكن خالياً من غرفة غير أربع، فقالت لي صاحبة الفندق: إن هذا الضيف سيكون شريكاً لك في غرفتك واسمه (ماكسيم سيمو نوفتش) وأشارت إلى رجل قصير القامة ضئيل الجسم فقلت: لا بأس وإن كنت أوثر أن تكون لي غرفة وحدي.
تقدم نحوي سيمون وقال: أترى مانعاً من مشاركتي إياك؟. . .
فقلت: كلا وماذا عسى أن يكون المانع؟. فقال إنني قليل الكلام وأخشى أن يكون من عاداتك قبل النوم أن تتحدث فلا تسر برفيق صامت مثلي.
قلت: وأنا أيضاً أحب الصمت. فقال: إذن فلن يؤذيك صمتي الطويل.
ودخلنا غرفة النوم فقال: في الناس من لا يستطيعون الصبر على صاحب صامت، ولذلك سألتك حين رأيتك هل تحب الكلام فإن كثيرين ممن عرفوني أبغضوني لأنني قلما أتكلم.
ابتسمت وقلت له: لا يشغل بالك هذا الخاطر. فقال: شكراً لك. وخلع إحدى حذاءيه وأمسكها بيده. ثم أطرق لحظة وقال: لقد حدثت لي حوادث بسبب الصمت أذكر لك منها: أنني سكنت في عهد شبابي في غرفة واحدة مع صديق لي اسمه أورلوف وكان ينقضي اليوم واليومان وأنا صامت؛ فتضجر وصار يسخر مني ويتهمني بأني سيئ الضمير، وسألني: هل أقسمت لا أتكلم؟ فقلت: كلا. فقال: إذن تكلم. فقلت: عن أي شيء؟.
وانقضى يومان وأنا صامت، فأمسك زجاجة وقال: تكلم وإلا ضربتك بها في رأسك.
قلت: إن ذلك لن يكون جميلاً منك لو فعلته.
ومضت ثلاثة أيام ولم أتكلم. ودخلنا نبدل ثيابنا كما نفعل الآن فخلع حذاءه ورماني به(399/53)
وقال: أنت كالميت لا تنطق ولا تتحرك، وأن الحياة معك كالحياة بين المقابر؛ فسأترك لك الغرفة غداً. هذا ما قاله ولكن هل تعرف ماذا فعل؟
قلت: كلا.
فضحك سيمون واستمر يقول: والله لقد خرج. . . خرج من الغرفة ولم يعد إليها وقد كان في حالة عصبية. . . ولكن هل تعرف أن فتاة غضة الشباب موفورة الصحة تنتابها هذه الحالة؟ لقد كانت لي خطيبة أحبها وكانت تحبني وقالت إنها أحبتني لأني رجل جد وعمل ولأنني مفكر غير ثرثار. لقد قالت ذلك في أول عهدي بها ولكن لما قدم العهد بيننا سألتني لماذا أنا كثير الصمت؟ فقلت ولماذا أتكلم؟ فقالت أليس لديك ما تقول؟ قل ما فعلته اليوم أو ما رأيته. فقلت لها باختصار لقد كنت في مكتبي ثم تغديت وجئت لزيارتك. فقالت: إنها تخافني لأني قليل الكلام فقلت: هذه طريقتي فأحبيني كما أنا. . .
وبعد أيام زرتها فوجدت معها شاباً كثير الكلام، فظل يحادثها بغير انقطاع، وكان كل حديثه تافهاً، وإنني لأعجب له كيف كان يواتيه هذا الكلام. لقد كان يسألها هل تعرف الرقص، ثم يقص عليها خبراً رآه ويسألها عن معنى إهدائها إليه وردة صفراء. . . كلام كثير لا أعرف من أين يخلقه وهل لإهداء وردة صفراء أي معنى؟ وكانت تصغي إليه. . . إلى أحاديثه التافهة. . . إلى أسئلته. . . وكانت تجيبه. . . وكنت أراهما ولا أتكلم. ثم أخذا يتهامسان ويبتسمان وهما ينظران إلي. وبقيت صامتاً ثم تركت لهما المكان. . . وبعد أيام زرتها فجاء هذا الشاب وقال لي: ما الذي تفعله هنا! اذهب وإلا قتلتك فقلت: جئت لأزور ماريا بتروفنا فقال: اذهب أيها الوغد.
وأردت إقناعه بأنه مخطئ ولكني رأيت الفتاة تضحك وتقول: اذهب فإنني لا أحبك لأنك قليل الكلام! آه ما أحمق هذه الفتاة!
لما بلغ سيمون هذا الحد من حديثه كنت شعرت بحاجة شديدة للنوم، فابتسمت وقلت: قصة جميلة! أسعدت مساء.
فقال: سعد مساؤك وطاب نومك. إن الرجل خير من النساء، فهم يزنون الأمور بميزان المنطق، وأما النساء فهن غاية في الغرابة. إنني أعترف لك بأنني أحببت امرأة متزوجة وأحبتني في أول الأمر، ولكنها بعد ثلاثة أيام فقط زهدت فيَّ واحتقرتني وقالت: لقد قبَّلتُ(399/54)
قبلك كثيراً من الرجال، ولكنني لم أقبَّل غيرك جثة هامدة. . . أنت رجل مضحك فاذهب من أمامي لقد قالت لي ذلك؛ فلما لم أذهب، خرجت هي من تلك الغرفة، وقالت لزوجها بنفسها: إن في المنزل رجلاً غريباً. . . هل أنت سامع؟
فقلت له وأنا بين النوم واليقظة: إنني أريد أنام، فنحن في منتصف الساعة الرابعة، فقال: أنحن في منتصف الساعة الرابعة؟ لقد آن وقت النوم.
وخلع حذاءه الثاني وقال: لقد كنت مسافراً مع أحد الأعيان، فبقيت كعادتي صامتاً في الطريق.
عند ذلك أغمضت عيني ودفعت صوتي بالغطيط لكي يحسبني نائماً فيسكت، ولكنه استمر يقول: فسألني عن الجهة التي أسافر إليها؛ فقلت له: نعم. . . هل نمت أيها الشاب؟ هل أنت سامع؟ أنائم هو؟ أهو غير نائم؟ ها ها! لقد كان الشاب الذي سكنت معه يفعل مثل ذلك. . . لقد كان ينام ساعة يضع رأسه على الوسادة. . . إن الناس لا يحبون كلامي. . . ها ها!
فرفعت رأسي وقلت له بلجة المتهكم:
- لقد قلت لي إنك رجل صامت، وأنا الآن أشك فيما تدعيه.
فقال: إنني أتكلم عن حوادث جرها حب السكوت. ومن تلك الحوادث، أنني ذهبت مرة لأعترف للقسيس فسألني:
- أي خطيئة ارتكبتها؟ فقلت: خطايا كثيرة.
فقال: قلها. قلت: كل الخطايا.
فسكت القسيس وسكت أنا.
فقلت له بصوت مغضب وقد جلست على الفراش:
- كلما زدت في حديثك عن الحوادث المؤيدة لحبك للصمت زاد في نفس اليقين بأنك كاذب!
فقال: لماذا؟ هل في حديثي ما يبعث على الشك في حبي للصمت؟ إن حبي للصمت قد آذاني كثيراً، فقد كنت مرة بالمكتب، فجاء رئيسي وسألني: هل لدي أخبار؟ فقلت: كلا، فقال: ما معنى قولك كلا؟(399/55)
قلت: إنني نائم، ليلتك سعيدة! ليلتك سعيدة!
فقال سيمون: ليلتك سعيدة، وقد قلت له إنني لا أعلم شيئاً من الأخبار فقال: هذا جواب غير مناسب؛ فقلت: وبأي جواب أجيبك؟
غلبني النعاس فنمت نوماً عميقاً، ولما استيقظت في الصباح سمعت صوتاً بجانبي، فنظرت إلى سيمون فوجدته يقول:
- وقد طلبت مني زوجتي الطلاق لأنني صامت، وهي تريد إنساناً لا جماداً؛ فقلت لها: يا عزيزتي ليدا عن أي شيء أتكلم؟
عبد اللطيف النشار(399/56)
العدد 400 - بتاريخ: 03 - 03 - 1941(/)
يومان من أيام الرسول
يومان من أيام الرسول تضمنا سر النبوة كما تتضمن النواة سر النخلة، ولخصا تاريخ الإنسانية كما يلخص الجنين تاريخ الإنسان. ذانك يومه الخائف المجهود وقد خرج مهاجراً إلى المدينة، ويومه الآمن المشهود وقد رجع ظافراً إلى مكة!
كان يومه الأول خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام الفواتن تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. . .
وكان يومه الآخر فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، خنس فيه الشرك واستخذت الجهالة وذلت قريش حتى قال الرسول وهو واقف بباب الكعبة: لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!
وإذا كان للرسول في تاريخ الإسلام يومان لا تزال العقول تقع منهما كل يوم على سر، فإن مصدر هذه الأسرار معجزتان لله لا تزال الإفهام تكشف فيهما كل حين عن آية: معجزة الرسول في خلقه، ومعجزة القرآن في بيانه، وقد انكسر القرن الرابع عشر على هاتين المعجزتين والأذهان البصيرة الموالية والمعادية تدرس آثارهما وتستبطن أسرارهما، فما بلغت من ذلك كنها ولا غاية
كان محمد في يوميه العظيمين مثل الإنسانية الأعلى: حمل رسالة الله وحمل أبو جهل رسالة الشيطان، واستحالت مكة المشركة جبلاً من السعير سد عليه طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتتسعر بالعذاب؛ وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبى لهب بالأذى والهون والمعاياة والمقاطعة. وكل قريش كانت يومئذ أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن شياطين مكة في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي قومه وفي أصحابه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لان ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (الندوة) فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (الغار) فقدر النجاة. وانطلق محمد وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المشركين في الطريق الموحش الوعر إلى يثرب. وكأن هؤلاء الناجين بدين الله لم يكادوا يدخلون في غيب الطريق حتى انشقت الصحراء عنهم فإذا هم عشرة الآلاف من جند الله يجرون الحديد على النياق الكوم والخيول الجرد، والرسول في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يظهر منهم(400/1)
وراء الدروع غير الحدق، وإذا أبو سفيان زعيم قريش قد أشترى حياته بإسلامه، ثم وقف مع العباس بمضيق الوادي يشهد جيش الفتح وهو زاحف إلى مكة ويقول: هذا والله ما لا طاقة لنا به! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا أبا الفضل عظيماً. فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة!
ثم نجا أبو سفيان إلى مكة فصاح بأعلى صوته: يا معشر قريش، لقد أتاكم محمد بما لا قبل لكم به، فسلموا تسلموا
أهذه مكة الطاغية التي لبثت إحدى وعشرين سنة تفور بالسفه والإفك والضغينة والمعارضة على محمد ودين محمد وأصحاب محمد؟ ما بالها خشعت خشوع الجناح الكسير وسكنت سكون المقبرة المهجورة؟ لقد باتت ليلة من ليالي يناير الباردة الطويلة وقلبها يرجف من هول الغد وانتقام الفاتح. ثم أصبحت مكة الساهدة فإذا أهلها بين قابع في منزله، أو عائد ببيت الله، أو لائذ بدار أبي سفيان؛ وإذا فرق الجيش المحمدي الظافر تنحدر من (ذي طوى) مكبرة ومهللة إلى جهات مكة الأربع، فلما ارفضت المخاوف عن الناس خرج القائد الأعظم من قبته المضروبة بأعلى مكة يؤم المسجد الحرام، وعلى جوانب الطرقات ألسنة المسلمين تذكر، ومن وراء الحجرات عيون المشركين تنظر، والرسول الكريم قد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد أن يمس قادمته؛ فلم يجر على باله أن هذه الأرض التي طورد فيها وسال دمه عليها قد أصبحت ملكه، وأن هؤلاء الناس الذين قذفوه بالأحجار ورموه بالأقذار قد أصبحوا أسراه، حتى دخل المسجد فطاف؛ ثم أقبل على الأرستقراطية الصاغرة وهي تتطامن من القلق والفرق وقال لأهلها الذين افرطوا عليه في البذاء والإيذاء: يا معشر قريش، أذهبوا فأنتم الطلقاء!
كان يوم الهجرة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغى على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز
وكان يوم الفتح وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها واجتمعت كلمتها واستحصدت قواها لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله ولا تسالم إلا في الحق(400/2)
كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالاً لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة ويوثق عقدة الدين ويجمع أهبة الحرب؛ فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة!
ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة؛ ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة
ذالك يومان من أيام الرسول تضمنا أسرار نفسه ولخصا أطوار حياته. فهل تطمعون يا من تظنون أن الزعامة تجوز من غير صدق، والجهاد يفوز من غير صبر، والحياة تصلح من غير إيمان، أن تكون لكم في رسول الله أسوة حسنة؟
احمد حسن الزيات(400/3)
الدين مصدر المدينة الفاضلة
لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر
في هذا الوقت العصيب الذي يفرق الله فيه بين عهد وعهد، وبين نظام ونظام، تعود ذكرى الهجرة النبوية التي فرق الله بها بين الشرك والوحدانية، وبين الحيوانية والإنسانية، فتكون للقلوب المؤمنة هدى يزيل الضلال، وأملا يذهب اليأس
وذكرى الهجرة هي ذكرى ما لقيت دعوة الحق من كيد الباطل، وما أدركت بالصدق والصبر من نصر الله؛ إذ لم تكد تشرق من غار حراء حتى استخفت في دار الأرقم، ثم لجأت إلى غار ثور وقد طاردها الظلم من كل سبيل، وهاجمها الكفر من كل جانب. وهناك أراد الله سبحانه وتعالى أن تدرك قدرته كلمته فطمس عين الباطل فلم ير، وزلزل قدم الشرك فلم يلحق، ومكن لرسالته أن تشرق في الأبصار والبصائر، فاهتدى من حار ورشد من غوى وقوى من ضعف وعز من ذل. ذلك لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وقد (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً). ثم صدقهم الله وعده، فجعلهم وراثاً للأرض، وخلفاء على الناس، ووطد لدولتهم الملك، وأسعد بمدنيتهم العالم، حتى نسوا الله فأنساهم أنفسهم، واستجرّوا للهوى فأخضعهم لغيرهم، وتركوا الجادة وسلكوا البينات فضلوا آثار السلف، وغفلوا عن تطور الزمان، وقصروا في اتخاذ العدة، حتى تمزقت وحدتهم، وضاعت هيبتهم، وأصبحوا أتباعاً وأوزاعاً، يقضي عليهم ولا يقضون، ويمضي لهم ولا يمضون
(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون)؟
لقد تحدث بعض الذين مكنتهم القوة المادية من السلطان عن نظام جديد للعالم يكفل له السلام والعدل؛ ومثل هذا النظام لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الدين؛ فقد دلت تجارب(400/4)
الماضي الطويل أن نظم الإنسان لا تبرأ من النقص لإعواز الكمال فيه وغلبة الهوى عليه. وإذا استحال على العالم كله اعتناق مدنية دينية واحدة، لأن الله لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، فإن المسلمين أولى الشعوب بالمبادرة إلى هذه المدنية الفاضلة، لأنهم مدينون لدين الله بسلطانهم الذي طبق الأرض، وعمرانهم الذي جمل الدنيا، وشريعتهم التي نظمت فوضى الطبيعة،؛ ولولا الدين ما كان لهم علم ولا حكم ولا حضارة
ولعل الذين استهوتهم مدنية الغرب من الشرقيين فقلدوها تقليد التابع الذليل، قد أدركوا اليوم بعد أن زيفتها التجارب وكشفتها الأحداث وحكم عليها أهلها، أن الرجوع إلى مدنيتهم أحق، واقتباس النافع من حضارة الغرب أولى، وإنشاء مدنية فاضلة مستقلة تقوم على الدين الصحيح والأخلاق القويمة والتقاليد الصالحة، هو الأشبه بأبناء الذين ورثوا مدنيات الشعوب وثقافات الأمم، ثم أجروها على دستور القرآن، ووسموها بطابع العرب، حتى جعلوها مدنيتهم الخاصة، إليهم تعزى وعنهم تؤخذ
اسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهم المسلمين الصواب، ويسدد خطاهم في طريق الحق، ويهيئ لهم من أمرهم رشداً
محمد مصطفى المراغي(400/5)
أدين قتال هو؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
من المطاعن التي وجهها أعداء الإسلام إليه أنه دين سيف وليس بدين إقناع: يريدون بذلك أنه لا يقنع الأمم التي دعيت إليه لولا الغزو والإكراه بقوة السلاح
ولتمحيص هذا القول الذي يقال ويعاد في كل زمان نقرر هنا بعض الحقائق التي يسلمها المنصف ولا ينكرها إلا المكابر، لنثبت أن الإسلام شأنه في استخدام القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحاً للانتصار
(فالحقيقة الأولى) أن هذا المطعن لو صدق لوجب أن يصدق في بداية عهد الإسلام الذي دان فيه بهذا الدين كثير من العرب المشركين ولولاهم لما كان له جند وى حمل في سبيله سلاح
لكن الواقع أن الإسلام في بداية عهده كان هو المعتدَى عليه ولم يكن من قبله اعتداء على أحد، وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية واجتماع القوم حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)
وكانوا يحاربون من لا يؤمن عهده ولا يتقي شره بالحلف والمسالمة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أمروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة؛ فلم يكن منهم قط عدوان ولا إكراه
وحروب النبي عليه السلام كلها حروب دفاع، ولم تكن منها حروب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم
(والحقيقة الثانية) أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه(400/6)
لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة، ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، بل كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها لأنهم أصحاب (السلطة) التي تأبى العقائد الجديدة، وتبين بالتجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء، لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كانت تمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية فيمتنع القتال
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب؛ ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة أمثاله في سائر البلاد
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة، ولا بد من التمييز بين العملين لأنهما جد مختلفين
(والحقيقة الثالثة) أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها بماذا تفض الخلاف بينهم إن لم تفضه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضاً حيث جاء فيه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.(400/7)
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح. ثم يأتي الصلح والتوفيق أو يأتي التفاهم بالرضى والاختيار.
(والحقيقة الرابعة) أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لابد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع
فاليهودية كانت كما يدل اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس، فكان أبناؤها يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم، فضلاً عن امتشاق الحسام، لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار
أما المسيحية فهي عنيت (أولاً) بالآداب والأخلاق ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة
وهي قد ظهرت (ثانياً) في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال
أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام، وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه
وآية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأربت حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات. . .
(والحقيقة الخامسة) أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)(400/8)
وجاء في القرآن الكريم: (فقاتلوا في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً)
وحدث فعلاً أن المسلمين فتحوا بلاداً غير بلاد العرب ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح
لكن هذه الفتوح لم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه واجتمعت له جنود تؤمن به وتقدم على الموت في سبيله
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها
فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم، ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسرها منهما إلى حماه
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب
(والحقيقة السادسة) أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع
فقد أستقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم وكانت جميعا مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه
فإذا قيل أن المدعوين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم أقنعوا به متأخرين، وإن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح
ومن نظر إلى الإقناع العقلي تساوى لديه ما يستميلك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام(400/9)
فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول: كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة ولا يدفع عن عقيدته دفع العارف البصير
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك: إلا أن يحال بينها وبين انتضائه أو تبطل عند أبنائها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وان الإسلام عقيدة ونظام، فهو من حيث العقيدة قد نشأ وتأسس قبل أن تكون له قوة، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في اخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه
عباس محمود العقاد(400/10)
المنصور بن أبي عامر
للدكتور عبد الوهاب عزام
(مفخرة من مفاخر التاريخ العربي، ومثل من الهمة الطامحة،
والنفس الهمامة، والعزم الذي لا يفل)
- 1 -
ينتسب إلى قبيلة معافر إحدى قبائل اليمن. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلسي في جند طارق بن زياد، وأقام بعد الفتح في الجزيرة الخضراء فكان له ولبنيه شأن؛ واتصل أبو عامر جد المنصور بالخلفاء في قرطبة، وعدت أسرة أبن عامر في أسر الوزراء. وكان أبو حفص والد المنصور متألهاً زاهداً، شغل بالحديث عن خدمة الخلفاء، ومات قافلاً من الحج فدفن بمدينة طرابلس. وأم المنصور من أسرة تميمية - أسرة بني برطال - ويقول القسطلي في المنصور:
تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور
من الحميريين الذين أكفّهم ... سحائب تهمي بالندى وبحور
- 2 -
ونشأ محمد (المنصور) نجيباً، طماحاً، عظيم الهمة، كبير القلب. أثر عنه أيام طلبه العلم بقرطبة نوادر تنبئ باعتداده بنفسه واستشراقه للمعالي. يقول محمد بن أسحق التميمي:
كان محمد بن أبي عامر نازلاً عندي في حجرة فوق بيتي، فدخلت عليه في بعض الليالي في آخر الليل، فوجدته قاعدا على الحال التي تركته عليها أول الليل حين فصلت عنه؛ فقلت له: ما أراك نمت الليلة. قال: لا. قلت: فما أسهرك؟ قال: فكرة عجيبة. قلت: في ماذا كنت تفكر؟ قال: فكرت إذا أفضى إلى الأمر ومات محمد بن بشير القاضي، بمن أستبدله، ومن الذي يقوم مقامه؟ فجلت الأندلس كلها بخاطري، فلم أجد إلا رجلاً واحداً. فقلت: لعله محمد بن السليم. قال: هو والله، لشد ما اتفق خاطري وخاطرك)
وكذلك رشحته للمعالي نفسه العظيمة وآماله الكبيرة، والمرء حيث يضع نفسه
- 3 -(400/11)
صار محمد من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم تقلب في القضاء، وجعل وكيلاً لعبد الرحمن ابن الخليفة المستنصر وأمه. ولما مات عبد الرحمن، جعل وكيلاً لأخيه هشام، ورتب له خمسة عشر ديناراً كل شهر
وعرف الخليفة قدر الرجل، فكان يندبه فيما يعضل من الأمور، ثم ولاه الشرطة الوسطى. ولم يأل ابن أبي عامر جهداً في التقرب من هشام وأمه صبح، وكانت ذات مكانة عند الخليفة
وعهد الخليفة إلى ابنه هشام فحرص أبن أبي عامر على أن يحتفظ لهشام بولاية العهد، ثم الخلافة بعد أبيه، على كثرة ما أجتهد الصقالبة في تولية المغيرة بن عبد الرحمن الناصر عم هشام
وتولى قيادة الجيش إلى غزوة نكص عنها كبراء الدولة، ورجع منها مظفرا فزاد هيبة ومكانة. ثم ولي شرطة قرطبة فسيطرت على المدينة هيبته وعدله. فأمن الأخيار وسكن الأشرار
يقول صاحب البيان المغرب:
(فضبط محمد المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله عنهم بمحمد أبن أبي عامر وكفايته وتنزهه؛ فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى أرتفع البأس وأمن الناس. وأمنت عادية المتجرمين من رجال السلطان حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجله جلداً مبرحاً كان فيه حمامه. فانقطع الشر جملة)
ولما رجع من غزاته الثالثة ظافراً رفعه الخليفة إلى الوزارة وجعل راتبه ثمانين ديناراً وهو راتب الحجابة، ثم شارك أبا جعفر الحاجب ثم أستبد بالحجابة عام سبعة وستين وثلاثمائة؛ فقد بلغ أرفع مناصب الدولة
- 4 -
سيطر أبن أبي عامر سبعة وعشرين عاماً على الأندلس كلها فصرف أمورها في الحرب(400/12)
والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا يد عبد الرحمن الناصر ويد المنصور أبن أبي عامر. أما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه ومضاؤه وإقدامه، وأما أبن أبي عامر فقد رفع إلى السلطان نفس طماحة وعزيمة ماضية وخلق مريم. ولم تكن هيبته في نفوس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو وانتدب للجهاد فغزا خمسين غزوة في شمالي الأندلس، لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ (شنت ياقوب) في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي. لقد صدق صاحب البيان حين قال: (ثم أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده. فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما أنصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم؛ وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده وتمكن جنوده، سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان)
- 5 -
وكان المنصور عادلاً شديداً في الحق لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة: (جاء إلى مجلسه رجل فناداه يا ناصر الحق لي مظلمة عند هذا الفتى - وأشار إلى أحد فتيانه - وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت. قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية. وقال للفتى: أنزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك. وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ
عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق)
ولما عاد الرجل المتظلم إلى المنصور يشكره قال له: (قد انتصفت أنت فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي). وعاقب الفتى وعزله
ما ثبت سلطان هذا الرجل الطماح المتسلط المقدام إلا بهذا العماد من العدل والإنصاف(400/13)
وإيثار الحق على نفسه وخاصته
وكان له فصاد فاحتاج إليه يوماً فقيل له إنه في حبس القاضي لحيف كان منه على امرأته. فأمر المنصور بإخراجه مع رقيب من رقباء السجن ليفصده ثم يعود إلى محبسه. وشكا الرجل إلى المنصور ما ناله من القاضي فقال: (يا محمد أنه القاضي! وهو في عدله. ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع عنه. عد إلى محبسك أو أعترف بالحق فإنه هو الذي يطلقك)
فمن يسأل عن ملك العرب والمسلمين كيف ثبت هذه الحقب الطويلة على أعاصير الخطوب ففي هذا وأمثاله جواب
- 6 -
وكان على كثرة مشاغله ذا عناية بالأدب والعلم يجتمع العلماء والأدباء كل أسبوع ويتناظرون في حضرته، ويمدحه الشعراء
وكان رحمه الله دّيناً متألها ورعاً كتب بيده مصحفاً كان يحمله في أسفاره. وجمع ما علق بثيابه من غبار الحرب وأوصى أن يجعل في حنوطه إذا مات، كما فعل أمير العرب ابن حمدان من قبله: صنع من غبار الوقائع لبنة لتوضع في قبره تحت رأسه وأتخذ المنصور كفنه من مال موروث من أبيه ومن غزل بناته اتقاء للشبهة، وتورعا أن يكون في أكفانه مال يرتاب فيه.
- 7 -
توفى المنصور سنة ثلاث وسبعين وتسعين وثلاثماية غازياً بمدينة سالم في أقصى الثغور الأندلسية ففرح أعداؤه بموته وصوروا جنازته ولا تزال صور الجنازة في متاحف أوربة
رحم الله المنصور بن أبي عامر! إن في سيرته لقدوة حسنة لكل طامح يسمو بنفسه إلى الدرجات العلى في المنصب والدين والخلق.
رحم الله المنصور! إن في سيرته لحجة يوم نفاخر بتاريخ العرب والإسلام
عبد الوهاب عزام(400/14)
فتح مصر
كما صوره الأديب المجهول
للدكتور زكي مبارك
دخل العرب مصر يوم الجمعة مستهل المحرم سنة عشرين لهجرة الرسول، على خلاف في ذلك لا يغير الجوهر من موضوع هذا الحديث
ولم تكن مصر بعيدة عن أذهان العرب في الجاهلية، فقد تحدث القرآن عن أخبار مصر بإفاضة وإطناب، ذلك يشهد بأن العرب كانوا يسايرون ما يقع في مصر من حوادث وتقلبات، ومن هنا كانت الحكمة العالية في عناية القرآن بالتحدث عن مصر وملوك مصر وهو يدعو إلى الاعتبار بمصاير الجبابرة والظالمين
كان العرب يعرفون مصر قبل الفتح، وكانوا ينزحون إليها من وقت إلى وقت، طلباً للغنى والثراء. ومن شواهد ذلك شدة القرب بين اللغة العربية واللغة المصرية، وهو قرب يؤيده الاتحاد في ألفاظ كثيرة تعد بالمئات، ألفاظ نطق بها العرب والمصريون مع تشابه في الجرس والمدلول، وذلك لا يقع بين أمتين عن طريق المصادفات، وإنما هو برهان على قوة التعارف فيما غبر من عهود التاريخ.
والحق أن الفترة التي سبقت ظهور الإسلام كانت من مواسم اليقظة العربية، فكانت للعرب سفراء من التجار بأكثر البلاد التي فتحت في أيام الخلفاء، ولا سيما مصر والشام، فمن العسير أن نصدق أن مصر لم تخطر في بال العرب إلا قبيل سنة عشرين وكانوا يعرفون في جاهليتهم أنها أعظم مصادر الخيرات والثمرات، وأنها الطريق إلى أفريقيا الشمالية، وبأفريقيا الشمالية أقطار تسامع بها العرب ودخلت في أساطيرهم قبل الإسلام بأزمان
أقول هذا - وهو حق - لأثبت أن ما سطر التاريخ من أخبار فتح مصر لم يكن إلا من صنع الأديب المجهول، فمن هو ذلك الأديب؟
في الأدب العربي عشرات أو مئات الأدباء المجهولين، فالذي سطر خطب وفود العرب على كسرى أديب مجهول، والذي دون مشاورة المهدي لأهل بيته أديب مجهول، والذي ألف رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء أديب مجهول، والذي حرر المساجلة بين المقوقس وعبادة بن الصامت يوم حصار حصن بابليون أديب مجهول، فماذا صنع هذا(400/15)
الأديب؟
يجب أولا أن نفهم أن العرب لم يدونوا أخبار الفتوحات يوماً بيوم، كما يصنع الناس في هذا العهد. فقد كان العرب محمومين بالقتال والصيال، وهل دونوا القرآن إلا بعد الخوف عليه حتى يهتموا بتدوين أخبار الفتوحات؟
إذا فهمنا هذا أدركنا بسهولة أن من دون من أخبار فتح مصر لم يكن إلا صورة من التاريخ المزخرف، وهو تاريخ يمثل عقل الكاتب أكثر مما يصور الواقع، وإلا فكيف جاز أن يتفق عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص على خطاب يتلقاه عمرو في الطريق وفيه هذه الكلمات: (إن أدركك كتابي هذا قبل أن تدخل مصر فأرجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت فامض لوجهك. . .)
ليس هذا خبراً من الأخبار، وإنما هو أقصوصة من الأقاصيص؛ فعمر بن الخطاب لا يسير جيشا لفتح مصر إلا وهو مصمم على ضم مصر إلى الممالك الإسلامية. وعمر بن العاص لا يدافع رسولا يحمل إليه خطاباً من أمير المؤمنين، كما تشاء (القصة) أن تقول لغرض شريف هو وصف عمر بالحذر، ووصف عمرو بالإقدام، وكذلك وصف عمر وعمرو في أكثر ما تحدث به القصاص، وهم أقطاب التاريخ المزخرف في شباب العصر الإسلامي
ثم أنتقل الأديب المجهول إلى وصف الحوار الذي دار حول حصن بابليون، وهو حوار ترى فيه المقوقس يتكلم اللغة العربية بفصاحة يصورها هذا التحذير الطريف:
(إنكم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فاعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء)
ثم يتلطف الأديب المجهول فيجعل رسول عمرو إلى المقوقس هو عبادة بن الصامت مع جماعة من الفرسان، فلأي غرض تخير عبادة لذلك اليوم المشهود؟
أنا أفترض أن الفن الأدبي هو الذي قضى بذلك التخير، فقد كان عبادة أسود، وكان العرب(400/16)
يعيرون بالسواد، فلم يكن بد من قرن الشجاعة بالسواد ليصبح وهو من مزايا الرجال
المقوقس: كيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟
أصحاب عبادة: إنه وإن كان أسود، كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً، وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأيا، وليس ينكر السواد فينا
المقوقس: تقدم يا أسود، وكلمني برفق، فإنني أهاب سوادك
عبادة: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي وأشد سوادا مني
من هذا الحوار نفهم أن ذلك الأديب المجهول قد أتجه إلى الدفاع عن اللون الأسود، وهو لون كان يعير بع العرب في بلاط كسرى وبلاط قيصر، وشعور العرب بالتأذي من السواد هو الذي فرض على شعرائهم أن يكثروا من التغني بالبياض، وهم لم يجعلوا (البياض نصف الحسن) إلا لكثرة ما عيرهم الناس بالسواد، وهل كانت رسالة الجاحظ في تفضيل السود على البيض إلا دفعاً لما تأذى به العرب من أراجيف الشعوبية وهم قوم ألحوا في تعيير العرب بالسواد؟
أنا أفترض أن سواد عبادة له دخل في جعله رئيس القوم عند محاورة المقوقس وقد شجع عبادة وهو أسود، وجبن المقوقس وهو أبيض، ليظهر الأديب المجهول فضل الأخلاق على الألوان، إن لم أخطئ في هذا الافتراض
ولكن ما الغاية الأصيلة لذلك الحوار الجميل؟
هو حوار يصور الخصائص الإسلامية في أدب النفس، وينفي عن العرب تهمة القول بأنهم لم يفتحوا الممالك إلا حبا في المغانم الدنيوية
لهذا نرى الأديب المجهول ينطق رسل المقوقس إلى عمرو بهذه الكلمات:
(رأينا قوماً الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد)
فهذا كلام مصنوع قد أبتدعه ذلك الأديب المجهول ليصور شمائل المسلمين على ألسنة(400/17)
رسل المقوقس، وإلا فكيف يمكن الحكم بأن هذا الكلام وقع بألفاظه ومعانيه، وما كان رسل المقوقس يتكلمون العربية، ولا كان الغزاة بقادرين على تسمع ما دار في مجلس المقوقس من وصف للعرب بتلك الأوصاف؟
والظاهر أن الأديب المجهول كان حريصاً على تأكيد هذه المعاني، فلم يكتف بإجرائها على ألسنة رسل المقوقس، وإنما أجراها بصورة أروع على لسان عبادة بن الصامت، إذ تصوره يقول وهو يحاور المقوقس:
(أنا قد وليت وأدبر شبابي، وأني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدوا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا حاجة للاستكثار منها، إلا أن الله عز وجل قد أحل ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا أكان له قناطير من ذهب أم كان لا يملك إلا درهماً، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعته ليلته ونهاره، وشملة يلتحفها، وإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى وأقتصر على ما يبلغه، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، بذلك أمرنا الله وأمرنا به نبيه، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا في الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضاء ربه وجهاد عدوه)
ثم ترفق الأديب المجهول فأدار الحوار بأسلوب رشيق يجد القارئ تفاصيله في الجزء الأول من (النجوم الزاهرة) ويرى فيه ملامح من الحجاج الذي دار بين كسرى وأشياخ العرب يوم صاولهم وصاولوه في الصورة التي زخرفها أديب آخر مجهول
ومن الطريف أن نرى المقوقس يزين لأصحابه الصلح مع العرب بطريقة تشبه ما يسمى في هذا العصر (حجة دعاة التردد والهزيمة) فنفهم أن ذلك الأديب كان من أئمة الابتداع
المقوقس لأصحابه: أطيعوني وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث أفوالله مالكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين
أصحاب المقوقس: وأي خصلة نجيبهم إليها
المقوقس: إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم(400/18)
لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة (وهي دفع الجزية)
أصحاب المقوقس: فنكون لهم عبيداً أبداً؟
المقوقس: نعم تكونون عبيداً مسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خيراً لكم من أن تموتوا عن أخركم
أصحاب المقوقس: فالموت أهون علينا
وبهذا انقطع الأمل في الصلح، ودارت الحرب فاقتحم المسلمون الحصن، وانتهت الأمور إلى الخصلة الثالثة بعد أن أدى المصريون واجبهم في الدفاع عن بلادهم دفاعاً سلم من الخضوع لتخاذل المقوقس، وإن انتهى بالتسليم بعد احتدام نار القتال، والهزيمة في الحرب لا تغض من أقدار المحاربين، فالغالب والمغلوب في شرف الرجولة سواء
قد يعترض معترض فيقول: وهل تظن يوم الحصن خلا من مفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس حتى تحكم بأن ما دون من ذلك لم يكن إلا بدعا حبره أديب مجهول؟
وأجيب بأني واثق بأن المفاوضات دارت بين الفريقين، وإنما ارتاب في صحة الوثائق التي صورت بها تلك المفاوضات؛ لأنها أصغر مما يجب أن تكون، ولأنها أنطقت المقوقس وأصحابه بألفاظ صنعها كاتب فنان
ثم ماذا؟ ثم أهجم على خطاب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في وصف مصر الخطاب الذي يقول: (مصر قرية غبراء وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات) والذي يقول: (فبينما مصر يا أمير المؤمنين، لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء)
أهجم على هذا الخطاب فأحكم بأنه موضوع لأني أستبعد صدوره عن عمر بن العاص، لأني أراه عبث عابث، لا كلام رجل مسئول
أما بعد فقد كان أسلافنا يقولون في ختام كل بحث: (والله أعلم) فأنا أختم هذا البحث بعبارة (والله أعلم) تأدباً بأدب السلف وفراراً من وصمة الرجم بالغيب
كتب الله لنا النجاة من الخطأ وهدانا إلى الصواب، إنه قريب مجيب
زكي مبارك(400/19)
اثر الهجرة في التشريع الإسلامي
للأستاذ محمد محمد المدني
في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عبر عظمى ما تزال الأقلام والأفكار جاهدة في كشفها، والبحث عنها، وتجلية أسرارها
ومن هذه العبر التي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون وينتفعوا بها، ما نجعله اليوم مساق الحديث وموضوع المقال
كان للهجرة في التشريع الإسلامي أثر معروف مذكور، ولهذا الأثر ناحية دلالة وإرشاد، ربما كان القول فيها جديداً، والبحث عنها مفيداً
فأما الأثر المعروف المذكور، فهو أن القرآن الكريم ظل ينزل بمكة ثلاثة عشر عاماً لا يعرض فيها إلا إلى أصول الدين، وقواعد الأيمان، وبرهان التوحيد، ومحاسن الأخلاق، يريد بذلك أن يقتلع ما كان للعرب من العقائد الفاسدة، والأخلاق المستنكرة، ويزيل ما في نفوسهم من شبه في إرسال هذا الرسول إليهم على فترة من الرسل، وظلام من الشرك، وإغراق في الجهل، وجمود على تقليد الآباء والأجداد ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!
ولا يكاد يعرف أن القرآن الكريم عني في هذه الفترة إلا بهذه الناحية يضرب لها الأمثال، ويقص لها القصص، ويحشد لها الآيات البينات، فإذا عني بغيرها فإنما يعني بما كان من سبيلها من التشريع الذي له صلة بحماية العقيدة والحفاظ على أساس الدعوة
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعل القرآن ينزل بياناً للعبادات والمعاملات والنظم وأحوال الناس، وجعلت آياته تترى في تشريع كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة من المواريث والوصايا والزواج والطلاق والقضاء والجنايات والحدود والجهاد وغير ذلك
هذه السياسة التي ساس بها القرآن أمر الإسلام في مكة والمدينة، وأخذ بها المسلمين في سبيل التمكين لهم، والتثبيت لسلطان دينهم، سياسة ظاهرة الرشاد، مضمونة النجاح، متفقة مع نظام التدرج الطبيعي الذي أخذ الله به جميع الكائنات فما كان الله ليدع الناس فيما هم عليه من رجس وعبادة أوثان وتقاطع وتدابر وحروب وفتن وسفك دماء، ثم يدعوهم فجأة(400/21)
إلى النظام المطلق الشامل، وقد ألفوا الفوضى، ويأخذهم بالتشريع المحكم المفصل، وقد عاشوا في كفالة الأهواء والشهوات، ويتعبدهم بأنواع من العبادات فيها سمو وفيها تهذيب، وهم الذين كانوا في مراتع الغي يسيمون!
ذلك هو المعروف المذكور من أثر الهجرة في التشريع الإسلامي: أما موطن العبرة فيه، وناحية الإرشاد والدلالة منه، فهي أنه يحسن بنا، ونحن بصدد الدعوة إلى أن يكون التشريع الإسلامي أساساً للقانون العام في مصر والشرق، أن نطبق هذه السياسة الرشيدة التي ساس لها القرآن أمر المسلمين الأولين، لنضمن نجاح هذا المسعى الشريف، وليعود ذلك على الإسلام بالعزة والقوة!
إن أهم ما يعترض هذا المسعى، ويقف في سبيل تنفيذ هذه الفكرة ما يتخيله كثير من الذين بيدهم الحول والطول، وتحت إشرافهم مراكز المال والاقتصاد، وفي عهدتهم حراسة الأمن والطمأنينة في الدولة، وبث أسباب الرغد والرفاهية في الأمة من أن في الأخذ بالشريعة الإسلامية الآن إعناتاً للناس وإرهاقاً، وشلاً لحركات التعامل التي أصبحت جزءاً من النظم العامة في العالم كله، وتنفيراً للأجانب من الإقامة بيننا، ونحن أحوج ما نكون إلى التعاون معهم، والانتفاع بنشاطهم، وما يديرون بيننا من أموالهم!
يقول هؤلاء للذين يطالبون بالتشريع الإسلامي: ماذا تصنعون في هذه المصارف التي انبثت في صميم الحياة المالية، وأصبحت في سائر الدول أساساً من أسس الاقتصاد ولا يستغني عنه تاجر، ولا زارع، ولا موظف، ولا صاحب مال؟ وماذا تصنعون في هذه الشركات التي فتح الله بها للصناع أبواباً من الرزق، وجعل منها للأموال الراكدة حظاً من الربح، وسد بها حاجة بعد حاجة مما لا يستغني عنه الناس؟ لاشك أنكم ستضطرون إذا بسطتم سلطان الشريعة الإسلامية إلى إغلاق هذه المصارف، وفظ هذه الشركات، التي تتصرف تصرفاً لا يتفق وأراء الفقهاء، فإذا لم تغلقوا المصارف ولم تفضوا الشركات، أرهقتموها بالشروط والنظم التي توافق شريعتكم إرهاقاً لا تستطيع معه الحياة، ولا أداء ما تؤديه إلى الناس من خدمات!
ثم كيف تنفذون الحدود؟ كيف ترجمون الزاني، وتقطعون السارق، وتقتصون من عين بعين، ومن سن بسن؟ بينما العالم ناظر إليكم، متعجب من هذه العقوبات الصارمة تنزلونها(400/22)
على الجناة بلا رحمة ولا شفقة في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار المصلحين إلى مداواة الإجرام، بإصلاح نفوس المجرمين، وإلى اقتلاع أسباب الشر، بتهذيب الأشرار في غير عنف ولا تغليظ؟
ومتى نصبر على سياط الجلاد أجسام غذيت بالنعيم، ونشئت على الرفاهية وعاشت في عصر الطب والكهرباء والمدافيء والمراوح بين مروج الحدائق، ومتاع القصور؟
ومتى يعيش معكم أجنبي إن لم تنفذوا الحد فيه نفذتموه في صديق له أو جار أو عميل، فإذا هو يلقاه بيد مبتورة، أو عين مفقوءة، أو سن كسير؟
هكذا يقوا الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم! وهم من غير شك مخطئون، لأن الشريعة الإسلامية تستطيع أن تنظم أحوال المصارف والشركات بما لا يتنافى مع قواعدها، ولا يرهق القائمين بها، ولا المتعاملين فيها
وهم مخطئون فيما تخيلوه من أمر الحدود والقصاص، فإن هذه الأشياء التي اعترضوا بها هي الوسيلة إلى اقتلاع الإجرام من أساسه، واجتثاث الفساد من أصوله، وتوفير الجهود العظيمة التي تذهب سدى في مكافحة الإجرام والمجرمين!
وهم مخطئون لأنهم حين يظهرون بهذا المظهر الذي يفيض رحمة وشفقة بالمجرمين وأهل الفساد، ويتناسون إجرامهم وفسادهم وما أساءوا به إلى الآمنين!
وهم مخطئون لأنهم حين يذكرون اتجاه المدنية الحديثة إلى تهذيب الجناة وإصلاح نفوسهم بالرفق واللين، ينسون اتجاه بعض الأمم إلى إعدام المجرمين، وأصحاب الشذوذ، والمصابين بالإمراض التي لا يرجى لها شفاء، رفقاً بالأمة في مجموعها وصيانة لها كما يصان الجسم ببتر بعض أعضائه الفاسدة التي لا يرجى لها صلاح!
هم مخطئون لهذا كله، ولكنهم لا يقتنعون بخطئهم، ولا يرجعون عن غيهم، ومن العبث أن ننفق الوقت والجهود في سبيل إقناعهم وما هم بمقنعين، ونحن لا نستطيع أن نمضي في طريقنا، ونغض النظر عنهم، لأن هؤلاء - كما قدمنا - لهم أثر لا ينكر في توجيه سياسة البلاد، ولهم قوة وسلطان يستطيعون بهما إقامة العراقيل، ووضع العقبات في سبيل كل مشروع لا يرضون عنه، ولا يقتنعون به
فما هي الحيلة التي ينبغي أن نتوسل بها إذن إلى تنفيذ هذه الفكرة الجليلة، فكرة إحلال(400/23)
التشريع الإسلامي محل التشريعات الوضعية؟
إن أثر الهجرة في التشريع الإسلامي يوحي إلينا بهذه الحيلة، ويرشدنا إلى هذه الوسيلة، فما دام الله القادر العليم الحكيم قد أرتضى للمسلمين أن يعيشوا حيناً من الدهر موقناً بدون تشريع تفصيلي شامل، لأن المصلحة كانت يومئذ تبرر ذلك، وما دام هذا لم يؤثر في اطراد تقدم المسلمين ونجاح دعوتهم، فيحسن بنا أيضاً وقد عاد الدين غريباً كما بدأ، أن ننادي بتنفيذ ما ليس بيننا وبين أحد خلاف عليه ونؤجل تنفيذ ما فيه الخلاف، حتى إذا اقتنع الناس فيما بعد بما لم يقتنعوا به اليوم مضينا في تنفيذه أيضاً، وإلا صبرنا حتى نهيئ لذلك العقول والأفكار
ينبغي أن نقول لهؤلاء الذين يحاجوننا عن دعوتنا: سنترك لكم المصارف والشركات تسير على النظام الذي شرعتم لها حتى نستطيع إقناعكم بنظام أفضل منه يتمشى مع التشريع الإسلامي وينهض بحاجات الأمة، وسنترك تنفيذ هذه العقوبات التي ترونها صارمة منافية للرحمة حتى نقنعكم يوماً بخطأ فكرتكم، وفساد تخيلكم، وسننفذ ما نحن وأنتم عليه متفقون؛ فقد رضى الله مثل ذلك للمسلمين من قبل. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ولنتعاون جميعاً على جعل التشريع الإسلامي أساساً لما نشرع بعد اليوم من قانون أو نضع من نظام!
إن الشريعة الإسلامية لا تأبى مثل ذلك، وقد أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذ القطع في عام المجاعة، وأخذ بذلك أحمد بن حنبل والأوزاعي. وقد روى في سنن أبى داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وروى صاحب أعلام الموقعين أن عمر رضى الله عنه كتب إلى الناس: (أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار)
وفي كل هذا توسيع على المسلمين وإرشاد لهم إلى رعاية المصالح وتقرير الظروف والأحوال؛ ولا شك أن من مصلحة الإسلام الآن أن نأخذ في تشريعنا الحاضر بما نستطيع أن ننفذه من أحكامه، على أن نوقف ما لا يمكن تنفيذه حتى يهيئ الله للمسلمين من أمرهم رشداً
هذه فكرتي، ولعلي أكون قد جليتها وأوضحتها حتى لا أثير بها ثائرة الذين يحرفون الكلم(400/24)
عن مواضعه، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(400/25)
طارق بن زياد
من شاطئ إلى شاطئ
للأستاذ علي محمود طه
أشباحُ جِنٍّ فوق صدرِ الماءِ ... تهفو بأجنحةٍ من الظلماءِ؟
أم تلك عُقبَان السماءِ وَثَبْنَ من ... قُنَنِ الجبالِ على الْخضمِّ النائي
لا، بل سفينٌ لحْنَ تحت لواءِ ... لمن السفينُ تُرَى! وأيُّ لواءِ؟
ومَن الفتى الجَّبارُ تحت شراعها ... متربِّصا بالموج والأنواءِ؟
يُعلى بقبضتِه حمائلَ سيفهِ ... ويضمُّ تحت الليل فضلَ رداءِ
ويُنيلُ ضوَء النجم عاليَ جبهةٍ ... من وَسْمِ (إفريقيَّة) السمراء
ذَهَبٌ ببوتقةِ السَّنى من ذَوْبِه ... مَسَحَتْ مُحَيَّاهُ يَدُ الصحراء
لونٌ جَلَتْ فيِه الصحارى سحرَها ... تحت النجوم الغُرّ والأنداء
وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ ... من قبلُ لأبنِ الواحةِ العذراء
بحرٌ أساطيلُ الخيالِ شطوطهُ ... ومسابُح الإلهامِ والإيحاء
ومدائنٌ سحريةٌ شارَفْنَهُ ... بنخيلها وضفافِها الخضراء
ومعابِدٌ شُمٌّ، وآلهةٌ على ... سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي
أبطالُ يونان على أمواجه ... يطوون كلَّ مفازةٍ وفضاء
يتجاذبون الغارَ تحت سمائهِ ... يتناشدون ملاحمَ الشعراء
ما زالَ يرمي الرُّومَ وهو سليلُهم ... ويُديلُ من (قرطاجة) العصماء
حتى طَلَعْتَ به فكنتَ حديثَه ... عجباً! وَأيَّ عجائبِ الأنباء
ويسائلونَ بك البروقَ لوامعاً ... والموجَ في الأزبادِ والإرغاء
من علَّم البَدوِيَّ نّشْرَ شراعِهِ ... وهداهُ للإبحارِ والإرساء!
أين القفارُ من البحارِ؟ وأين من ... جِنَّ الجبالِ عرائسُ الدأماء
يا ابن الِقبابِ الحمرِ ويحك! من رمَى ... بكَ فوق هذى اللجَّةِ الزرقاء؟
تغزو بعينيك الفضاَء وخَلْفَهُ ... أفقٌ من الأحلامِ والأضواء
جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغورِ كأنها ... قطراتُ ضوء في حفافِ إناء(400/26)
والشرقُ من بُعْدٍ حقيقةُ عالَمٍ ... والغربُ قُرْبٍ خيالةُ رائي
ضحكتْ بصفحتهِ المنى وتراقصتْ ... أطيافُ هذى الجنةِ الفيحاء
ووثبتَ فوق مروجها وتلمَّستْ ... كفاكَ قلباً ثائرَ الأهواء
فكأنما لكَ في ذَراها مُوعِدٌ ... ضَرَبَتْهُ أندلُسيةٌ للقاء!
ووقفتَ والفتيانُ حولك وانبرتْ ... لكَ صيحةٌ مرهوبةُ الأصداء
هذى الجزيرةُ إن جهلتم أمرَها ... أنتمْ بها رهطٌ من الغرباء
البحرُ خلفي والعدوُّ إزائي ... ضاع الطريق إلى السفين ورائي
. . . وتلفتوا فإِذا الخصمُّ سحابةٌ ... حمراءُ مُطْبِقَةٌ على الأرجاء
قد أحرقَ الربَّانُ كلَّ سفينةِ ... من خلفِه إلاّ شراعَ رجاء!
ألقى عليهِ الفجرُ خيطَ أشعةٍ ... بيضاَء فوق الصخرة الشمَّاء
واتى النهارُ وسار فيه طارقٌ ... يبنِي لملكِ الشرق أيَّ بناء
حتى إذا عَبَرَتْ لَيَالٍ طوفت ... أحلامُه بالبحر ذاتَ مساء
ترعى على الأفُقِ المرصَّع قريةً ... أعْظِمْ بها للغزوِ من ميناء!
مَدَّ المساء لها على خلجانها ... ظِلا فنامتْ فوق صدور الماءِ!
على محمود طه(400/27)
العقيدة الإسلامية تكون البطولة
عمر المختار
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي
دخلت الهزيمة على الطليان من أقطار الصحراء، فأمعنوا في الفرار لا يتلبثون ولا يستأنون. . . لا ينتظرون عند المساء صباحاً، ولا عند الصباح مساءً، كأنما يغزوهم الرعب، ويقتلهم الخوف، من قبل أن تدهمهم الجيوش، ومن قبل أن يحاط بهم
كلما طلع نهار أو غسق ليل، تتابع الصور الشاحبة لتلك الهزيمة النكراء، وفي أعقابها ألمح صوراً مشرقة لأبطال (طرابلس) ومن بينها صورة فريدة تتألق أمام عيني في هالة من الجلال والتهيب، تلك هي صورة البطل المسلم الشهيد (عمر المختار) ومن عجب أن تتلاحق الصورتان: صورة الهزيمة النكراء، وصورة الشجاعة البلقاء!
هذه صورة للأفئدة الهواء، وتلك صورة للأحلام الرزان، وللنفوس الوثابة مطمئنة راضية مرضية
تباركت يا الله!! تجلت آيتك الكبرى في هذا البطل المسلم الصحراوي، فقد أفرغت عليه إيماناً من فرعه إلى قدمه، فإذا هو وقد خرج صورة مجسدة للعقيدة الإسلامية، يضرب للناس أروع الأمثال: من همامة نفس وقوة بأس، لا يحدث نفسه بالأدباء، ولا يفسد مروءته بعرض زائل، ولا ينتفض رجولته بقبول الهضيمة والهوان
في شوال من عام 1329هـ اندفعت القذائف (الطليانية) الغادرة، مصوبة إلى طرابلس وبرقة، فكانت مؤذنة بتوقد جذوة الإيمان في قلوب المجاهدين؛ ومن بينهم عمر المختار
ولم يكن لهم من العتاد ولا من الذخر ولا من الحشد ما اجتمع لأولئك الغادرين، ولكن كان لهم شأن واحد أغناهم عن كل أولئك الشئون. . . كان لهم أيمان، وكانت لهم عقيدة، ولم يكن لهم أهواء، ولا بهم نزوات. . . وحسبك هذا غناء أي غناء. . .! فلقد بقى عمر المختار يفل شوكة أعدائه، ويقلم أظفارهم، ويتخطفهم من حولهم، ويكسر سلطانهم، حتى كانت سنة خمسين وثلاثمائة وألف الهجرية!
اثنتان وعشرون سنة دأباً، وعمر لا تخضد شوكته، ولا تفل عزيمته، تتكسر الأحداث أمام يقينه وإيمانه(400/28)
وما خطبه بعد ذلك؟ - نضر الله وجهه - امتدت يد غادرة من وراء ظهره، فعبثت بحريته، ثم عبثت بحياته الدنيا، لكنها - الحق - قد أطلقت روحه إلى أعلى عليين، فإذا موته حياة، وإذ ذكره خلود، وإذا سيرته سناء. . .
ويا فرق ما بين ثبات الأعزاء، وبين فرار هؤلاء الأذلاء، وبضدها تتميز الأشياء
نشأ (عمر المختار) ببرقه، من أبوين مسلمين، لقناه العقيدة الإسلامية، وثقفاه بالقرآن الحكيم، ونشأه أبوه (المختار) في زاوية (الجغبوب) في البيئة السنوسية، تلك البيئة التي تلهم النفس فجورها وتقواها، وتفقهها أن قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، ثم تبعث في الإنسان: حرية الإرادة وحرية الفكر، وسلامة الرأي وصفاء الطوية؛ وقلما ينحرف ربيب تلك البيئة عن الفطرة النقية: فطرة الله التي فطر الناس عليها
فلما بلغ (عمر) أشده واستوى، اكتملت فيه معاني الرجولة، وبرزت صورته صورة (للرجل الكامل المسلم)
اختاره - في صدر شبابه - (السيد المهدي السنوسي) ليرافقه في رحلة إلى السودان، وكانت فراسة السيد المهدي فراسة صادقة، فقد اجتمع حول (عمر) بالسودان رجال أولو بأس وأولو قوة، عرفوه بالحاسة الصادقة، وعرفهم بنور الله؛ ثم أحبوه وأكبروه وأعظموه
والسيد المهدي معنى بأمره، معجب بإيمانه، يرى أنه قد جمع - في برديه - ما تفرق من القبيل وتناثر في الرجال، فكان يقول: ليت لنا عشرة كعمر، إذن لفتحنا بهم كل قلب موصد، وأنرنا كل بصيرة مطموسة. .! ثم تركه في السودان يعلم الناس الرجولة الإسلامية
عقد الصلح الأبتر بين تركيا القديمة وبين الطليان سنة 1912م واشتعلت نيران الحرب في البلقان، واستقدمت الدولة (أنور) فسلم الآمر (لعزيز) المصري، وهم (عزيز) أن يدع القتال وأن يذهب إلى الحدود المصرية، فتحرج الموقف، وثارت روح عاصفة عنيفة بين المجاهدين؛ وأخذ كل فريق يكافح الفريق الآخر، وتمشت فتنة عمياء صماء، وكاد المجاهدون يخربون بيوتهم بأيديهم
وهنا تتدارك الجميع رحمة الله، ويظهر الفيصل المغوار (عمر المختار) فيطفئ نيران الشر، ويجدع أنف الفتنة، ويهيب بالمختلفين: يا للفضيحة ويا للعار. . .! لو تسامعت الأمم: أن المجاهدين قد أصبحوا - وبأسهم بينهم شديد - تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى(400/29)
دوت تلك الصرخات في شعاب الصحراء، وفعلت في النفوس كما يفعل السحر، ونزل الثائرون على حكم (عمر)؛ عزمهم جميع وقبلتهم واحدة
وهكذا يكتب لهذا البطل الظفر على نوازع النفوس، وينبسط سلطانه على نزوات القلوب، ويستل السخائم والترات بهدى الدين، وبترياق الإخلاص
أحصى الرواة (لعمر) ألف معركة أشتبك فيها مع الطليان في اثنتين وعشرين سنة، وهو يتعقبهم، وهم يحتالون لأمره، ويتحيرون في القضاء عليه، ويستبدلون القائد بالقائد، وعمر وحده هو القائد الصامد، حتى ظنوا - آخر المطاف - أنهم قد رموه بالداهية الدهياء (بجرازياني)
ويتحدث جرازياني في مذكراته: أنه قد نازل عمر في ثلاث وستين ومائتي معركة، كانت مدتها عشرين شهرا وعمر - كما وصفه شوقي -:
لم تُبق منه رحى الوقائع أعظماً ... تبلى، ولم تبق الرماح دماء
كان عمر قافلاً إلى برقة من رحلة له في مصر يصلح ذات البين، فلقيه عسس الطليان وتصدوا لقتاله وهم في سيارات ثلاث، مسلحات فتاكات مزودات، وعمر فوق صهوة جواده، وسلاحه سلاح أبناء الصحراء، فما هو إلا أن كر كرة في حصانه اليقين وثبات المؤمنين؛ فإذا بالسيارات الثلاث، وقد صرن سلباً وغنائم، وإذا بأصحابها الطليان، وقد صاروا خبراً من الأخبار؛ ولله إلهام شوقي:
بطل البداوة لم يكن يغزو على ... (تنك) ولم يك يركب الأجواء
لكن أخوخيل حمى صهواتها ... وأدار من أعرافها الهيجاء
ما نسى جند عمر ولا قواده: أنهم يحمون عقيدة، وأنهم جند الله. . .
ويا ما أروع وأرهب الصورة التي يصفها عمر لموقعه وكرسه بالجبل الأخضر، وقد حانت صلاة الظهر، وقائد الموقعة الشهيد (الفضيل أبو عمرو)، فقسم الجند طائفتين، وصلى بهم صلاة الخوف، فطائفة تأخذ حذرها وأسلحتها، وطائفة تتوجه إلى ربها وقد انجلت الموقعة هن قتلى عددهم خمسمائة طلياني بينهم (ماجور) وثلاثة ضباط
أعجز الطليان شأن عمر، وأعياهم أن يأخذوه أخذ الجند للجند، فهو لا يضجر ولا يستخذي، فأعملوا السفارة بينهم وبينه ليتهادنوا، وأرادوا أن يعرفوا شرطه لوضع السلاح وحقن(400/30)
الدماء، فكانت شروط عمر، قطعة من عقله، كلها سياسة رشيدة، وكلها من العزة والكرامة والسداد
فأولها: أن يشهد المفاوضات مندوب من (مصر) ومندوب من (تونس) ليكون الناكث مسئولاً أمام العالم بشهادة مندوبي الأمتين.
وثانيها: حرية المسلمين الدينية، وتأديبهم لكل خارج على الدين أو هازئ به أو مستخف بتعاليمه أو متهاون في شعائره
وثالثها: أن تكون اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، كالطليانية سواء بسواء
ورابعها: أن تنشأ مدارس يعلم فيها التوحيد والتفسير والحديث والفقه وعلوم الدين
وخامسها: أن يلغى قانون سنة 1923 م الذي يحرم على الوطنيين دخول المدارس العالية، كما يلغى القانون الذي ميز حقوق الطليان عن حقوق المواطنين، وأن ترجع الحكومة ما غصبته من الأملاك والأموال
عرف الطليان من تلك الشروط أن الأيام والأحداث لم تنل من شدة الشكيمة العمرية، فأظهروا له وفاء بشروطه، وأضمروا لها الغدر والخيانة. ثم راحوا يدبرون للمجاهدين الحصار والإجاعة؛ وفكروا أن يذروا عليه الصحراء من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها بالإجاعة.
وقد أختار عمر المبيت على الطوى، وأن يسلم له الشرف الرفيع؛ كما وصفه شوقي:
خُيرتَ فاخترت المبيتَ على الطوى ... لم تبن جاهاً أو تلم ثراَء
إن البطولة أن تموت من الظما=ليس البطولة أن تعب الماء
وهكذا بقيت البطولة العمرية تبعث اليأس في نفوس الطليان منها، حتى أصيبت في مأمنها! يوم سلمت (جغبوب) للطليان، فحصروا - بالأسلاك الشائكة - الرقعة التي يأوي إليها المجاهدون، وحموهم أن يتصلوا بالحدود المصرية، حتى لا يجدوا قوتاً، وحتى تنقطع بهم الأسباب
وبينما (عمر) يتنقل - بين الغداة والأصيل يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة1350 هـ - يستطلع كمينا، أو يناوش شرذمة، وهو في خمسين فارساً من رجاله، إذ التقى بطائفتين من الطليان، كانتا تجدان في قص أثره، فأحدقوا به، وثارت في نفسه - تلك(400/31)
الساعة - كل المعاني التي قامت عليها بطولته، فهاجمهم هجوم المستأسد، من اليمين ومن الشمال، حتى تساقط رجاله، ونفق جواده من تحته، فنزل عنه يترنح من الجراح، ثم يحاول النهوض، فتكاثروا من حوله رجالا وركبانا
واهتزت الأسلاك البرقية في جوف الصحراء، ومن فوق أعلام الشواطئ: أن البطل أمسى أسيراً، فسالت الأودية بالكتائب والفصائل، واجترأت السرايا والأجناد، وكانت من قبل تتحاماه وتخشاه
وجاء طراد حربي فنقله إلى بني غازي، وتقررت محاكمته في مركز الإدارة الفاشستية
وإنها لمحاكمة أبانت عن نقائب وصفات في عمر، ما سمعنا بمثلها من قبل في الموقف الضنك والساعات الفاصلة
وقف عمر أمام الحكام العسكريين كما قال فيه شوقي:
لبى قضاء الأرض أمس بمهجة ... لم تخش إلا للسماء قضاَء
وافاه مرفوع الجبين كأنه ... سقراط جر إلى الفضاء رداء
سئل عمر: هل أنت رئيس الثوار ضد إيطاليا؟
فأجاب بنبرات قوية وفي حزم قاطع: نعم!
سئل: هل شهرت السلاح واشتركت في القتال، وأمرت بقتل الجنود، وجبيت الضرائب؟ فأجاب على كل ذلك بنعم!
سئل: هل لديك ما تقوله بعد ذلك؟ وكأنما أرادوا أن ينتزعوا من عمر - في البرهة الذاهلة - ضراعة أو استعطافاً، ولكن هيهات هيهات، فقد أجاب:
ليس لدي شيء وراء ذلك:
الأسد تزأر في الحديد ولن ترى ... في السجن ضرغاماً بكى أستخذاَء
واختلى الحكام العسكريون ثم أعلنوا حكم (الإعدام)
ولم يستطع محاكمو (عمر) إلا أن يصرحوا وقت المحاكمة بقولهم: إن المتهم يمتاز عن بقية الزعماء بأنه لم يبتز أموال الدولة
شهادة بأفواههم تسجل عليهم عار الحكم، وتخلد للشهيد النزاهة والعفة في جهاده المتصل العنيف!!(400/32)
لقد لخص (الطليان) تلك المقاومة العمرية في اثنتين وعشرين سنة، فإذا هي تركزت في البلاغ الرسمي الذي صدر عقب تلك الأحداث يقول:
(هكذا انتهت حياة الرئيس العظيم (البرقاوي) أحد تلاميذ مدرسة (جغبوب) القرآنية)
فيا أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها:
من مبلغ أبناء هذا الجيل من المسلمين: أن تداع البطولة الإسلامية لا يتصل حاضره بماضيه، إلا إذا وجدت مدارس على غرار مدرسة جغبوب القرآنية، تعلم القرآن، وتعلم العقائد، وتعلم العزة والكرامة!!
الجديلي(400/33)
في الحروب
بماذا كان ينتصر الإسلام
للأستاذ عبد العزيز البشري
ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركاً حامي الوطيس، بين دولة صغيرة، قليلة العدد، قليلة العُدد، ضئيلة الموارد، كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يزجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات؛ لها من كل أولئك مقنع وليس لها من وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقد ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور، ولو إلى حين - أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة - ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء، لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة، وتركلها كلما غربت الشمس ركلة. وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء. وتلون لها من المهانات ما أجراها مثلاً للخزي على ألسن العالمين
لعمري ما وقع حدث من هذه الأحداث إلا اذكرني سير العرب السابقين، وأحضرني شأنهم في فتوحهم ومغازيهم. فلم يكن هؤلاء في الأكثر الأغلب أكثر من عدوهم عددا، ولم يكونوا أقوى منه عددا، ولم يفوقوه في تنظيم الجيوش وتنسيق الكتائب، وتدبير المكايد، وإحكام خطط الحرب، وتدبير وسائل الكر والفر؛ بل لقد كانوا أضعف وأهون شأناً في كل أولئك جميعاً! ومع هذا فإنهم ما صارعوا إلا صرعوا، ولا قارعوا إلا قرعوا، ولا شدوا إلا ظفروا، ولا حملوا إلا قهروا، ولا هجموا إلا انتصروا؛ ففتحت بين أيديهم أبواب المعاقل، ومهدت لهم السبل إلى أمنع المدائن، وحشدت لهم أضخم الغنائم، واستأسر لهم من المقاتلة أضعاف أضعافهم في يسر، بلغت عين الدهر. وكذلك لم تجهد دورة الفلك إلا قرناً واحداً حتى دانت لهم مناكب الأرض، وذلت نواصي البر والبحر!(400/34)
إذن لم يظفر العرب، في حروبهم، كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد، وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عدوهم عدداً، ولا أمضى سلاحاً، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها؛ بل لقد علمت أنهم كانوا دائماً دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه التشبيه ولا يصح معه القياس
وبعد، فلعمري ما مشى النصر بين أيديهم أنى قاتلوا في شرق الأرض وفي غربها، بالغاً ما بلغ من الضآلة عددهم، وواقعاً حيث وقع الضعف سلاحهم، إلا بأسباب ثلاثة:
1 - الأيمان 2 - الرحمة 3 - العدل
فالإيمان ييسر على النفس التضحية، مهما جلت، بل لقد يغري بها ويدفع إليها في المطلب الجسام.
ولا ننس أن من أثر الأيمان بناء النفس على الصبر عند معاناة الشدائد وخوض المكاره، فإن إصابة الغرض الذي يدفع المجاهد إليه إيمانه لحقيقة بأن تحد من عزمه، وتشد من متنه، فلا يعتريه خور ولا خذلان، وأنت خبير بأن الصبر هو مفتاح النصر، وصدق من قال: الشجاعة صبر ساعة، والأمثلة على هذا مما لا يحيط به الحساب!
وبعد هذا أحسب أن العجب قد أخذ فيك بادئ النظر، من نظم الرحمة والعدل في أسباب الظفر في الحروب والتنكيل بالأعداء، والواقع أنهما قد يكونان أمضى من السيف في كسب الحروب، وذلك بأن القسوة وغلظة الكبود لا تجدي على المقاتل شيئاً البتة، بل إن شهرته بين مقاتليه بالرأفة إذا تمكن، والمعدلة إذا حكم، لما يخزلهم عن الاجتهاد في قتاله، ويشيع فيمن وراءهم قلة الاستحماس لهم وثقل القادرين على القتال عن نجدتهم، بل لقد يرجون النصر لهذا العدو ليخرجوا من ظلمهم، وينعموا في ظلال حكم ملائكة الرحمن والرقة والعدل والإحسان
وكذلك ساد العرب الدنيا، وما هداهم إلى هذا إلا دينهم العظيم. . .
والشواهد على هذا في حروب المسلمين مما لا يبلغه كذلك الإحصاء
وبحسبنا أن نورد في هذا الباب مثلين يسيرين: أولهما أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، قال في وصاة له لأسامة ابن زيد قائداً أحد جيوشه ولأصحابه، وهم مرتحلون إلى الحرب(400/35)
التي وجههم إليها: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تتبعوا موليا، ولا تقعروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. الخ)
أسمعت حديثا في الرحمة بالعدو المقاتل والرقة له أبلغ من هذا الحديث؟
ذلك بأن الإسلام لا يبغي بالحرب كيدا ولا شفاء ضغن! إنما يبغي بالحرب أعلى المثل: فإما دفع أذى، وإما بسط الحق والخير والفضيلة في هذا العالم. قال الله تعالى يخاطب رسوله الكريم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) صدق الله العظيم
ولقد قال تعالى في كتابه العظيم: (إن الله يأمر بالعَدْلِ والإحسان، وإيتاء ذي القربىَ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)
وكيف ظنك بدين يأمر بالإحسان حتى في القتل! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة).
أما التمثيل حتى بالحيوان فقد أغلظ هذا الدين في النهي عنه، واشتد في الوعيد عليه، فقد روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مثل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
وتلك كانت سنة الغزاة والفاتحين في صدر الإسلام
وإن تعجب فعجب أن يكون ذلك أدب الإسلام في عصر كان من السائغ المألوف فيه سوم المحكومين المقهورين ألوان الخسف من إهدار الدماء، وتخريب الدور، واستصفاء الأموال، في غير جرم يقترف، أو إثم يجترح، حتى كاد يكون ذلك شرعا مشروعا وواجبا مفروضا!
وأما المثل الثاني فأجلوه لك في حادثين مأثورين عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهذان الحادثان معروفان شائعان، وما كنت لآتي بهما لولا أنه قد اقتضى الإلمام بهما نظم المقال: وأولهما ما حكى من أن جبلة بن الأيهم - وكان آخر ملوك بني غسان - أسلم وخرج إلى مكة، فلما كان في بعض طوافه داس رجل من فزارة على طرف ردائه فحل أزراره، فلطمه جبلة، فاستعدى الرجل عليه عمر، فدعى به، وخيره بين أن يترضى الرجل أو يقيد له منه. فقال: يا أمير المؤمنين: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال ولكن الإسلام(400/36)
سوى بينكما؟
وأما الحادث الثاني، فما حكي عن رجل من أهل مصر قدم على عمر، فقال: عائذ بك يا أمير المؤمنين! فقال رضي الله عنه: عذت بمعاذ! فقال: لقد ضرب ولد عمرو بن العاص ولدي (وكان عمرو يومئذ عامله على مصر)، فأرسل في طلبه معه ولده واستقاد من الولد والوالد جميعاً؛ ثم أقبل على عمرو وقال: يا عمرو بماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟
هذه الأمثلة، على قلتها، تريك مبلغ ما يدعو إليه الإسلام من الرحمة بالمقهور والرقة له، وإقامة العدل بين الناس، مهما يكن الفرق بين الظالم والمظلوم، وأخيرا توطيد الحرية وتوكيدها على أنها حق طبيعي للإنسان، كائناً من كان
أما الحرب في هذا العصر، فلقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالو حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيراً ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال؛ بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمداً عن المسالح ومستودعات الذخائر، وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب، إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها، وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعياً على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب - لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمداً، وتزلزل بهم الأرض زلزلة، وتدمر الدور تدميراً، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير. فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرا من الموت
فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل ذلك السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمنا لك من قوة الأيمان، وإشاعة العدل بين الناس، وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!
وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل، إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام إلى انهزام - إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا(400/37)
فصدق، وأرحل عن الأمر كله على قوة الأيمان بحق الوطن المعتدى عليه بغير إثم ولا عدوان!
فإذا قال لك قائل، لقد ذهب عنك ما فعلت القوة القوية من اجتياح للممالك، وقبض على نواصي الشعوب، واستصفاء لأموال الأمم، وامتصاص لدمائها، واتخاذها عبيدا، فقل له لا تعجل بالحكم، فإن الله ليملي للظالم، ولتعلمن نبأه بعد حين
عبد العزيز البشري(400/38)
فارس وفارس
للأستاذ محمود الخفيف
بَنَى الشرْقِ أَيَّام أَبْطاِلكُمْ ... شَدَوْتُ أَحَدِّثُ أَخبارَها
أُغَنِّي لكمْ لَحْنَ قيثارَةٍ ... تَهُزُّ البطولاتُ أوْتارَها
وَأُسِمُعكُمْ من حديثِ الْخُلودِ ... أغاني الّليالي وأسمارَها
بَنُو السفِ نحنُ، بُنَاةٌ العُلاَ ... رَكِبْنَا الرِّمَالَ وَخُضْنَا البِحارا
شَرَعْنَا عَلَى الدَّينِ منهاجَنَا ... وسِرنْا إلى حيثُ شِئنا اقتدارا
وأخلاقنا. . . كم بأخلاقِنا ... رَكزْنا صُوًى وَرَفَعْنَا مَنارا
وكم أُفقٍ في سماءِ العُقولِ ... شَأَوْنَا بني الأرْض فيهِ ابتكارا
إلى فْتَيِة الشرقِ هذا النشيد ... تقارَعَ فيهِ القَنَا واشتَجَرْ
وَقعْقَعَتِ البيضُ بين الصفوفِ ... وَغَالَ الكُمَاةَ الرَّدَى وَاستَعَرْ
وَحَمْحَمَتِ اْلَخْيُل تَحْتَ الْغُبَارِ ... أضاَءتْ جوانِبَهُ بالشّرَرْ
أدِيرُ الّنشِيدَ إلى فارِسَيْنِ ... حَوَتْ رُكنَيِ الأرْض لُقْيَاهُما
فمِنْ أَنْجُمِ الشّرْق هَذا الكمِيُّ ... وَمِنْ أُفُقِ الْغَرْبِ ثَانيهِما
وكلٌّ يُرَى بين فُرْسانهِ ... غَدَاةَ الوَغَى الفارِسَ الْمُعْلَمَا
على هذه الأرْضِ تَفنَى القُرُونُ ... وَتُوحِي البُطولةَ ذِكراهُما
سَمَا بابْن أَيُّوبَ مُلْكٌ بَنَاهُ ... فأَعْلَى عَلَى السَّيْفِ هذا البِنَاء
أخو الْخَيِل والسَّيْفِ والبيد واللْ ... يلِ يَمْضِي فيزُجي الردى كيفَ شاء
فتى كان في الشّرقِ بعد الظّلام الضيَ ... اَء وكان بمِصرَ الرَّجَاَء
كَرِيمُ الْخٌصومَةِ عَفُّ الْحُسَامِ ... يُرِيكَ التُّقَى وَيُرِيكَ الْمَضاَء
فتَى الغَرْبِ إِفْرِنْدُهُ فَيْصَلٌ ... به المُلكُ في ظِلّهِ يَحْتَمِي
لهُ لَقَبٌ فوق تاجِ الْمُلوكِ ... به باتَ يُقْرَنُ بالضَّيْغمِ
على الماءِ كرْسِيُّهُ قَائِمٌ ... وَذِرْوَتٌهُ في ذرى الأَنجُمِ
مَشَتْ في النّجيِع إلى (أُرْشِلِيمَ) ... جيَادٌ من الغربِ رُعْنُ الخَبَبْ
خَبَبْنَ بِكلِّ مُدِلِّ الْحُسامِ ... صَرِيم الخِصامِ دَعِيِّ الْحَسَبْ(400/39)
لقَدْ كان للدِّينِ ما هَزَّهُ ... فأَصْبَحِ لِلْمُلْكِ حين أغْتَرَبْ
مَضَوا يَزدَهِي الفوْزُ أفراخَهُمْ ... وَيُغْرِي بُزَاتَهُمُ الْمَأْرَبُ
غِلاَظٌ، سَرَابيلُهُمْ مِنْ حَدِيدٍ ... مِنَ الصَّخْرِ أكبادُهُم أَصْلَبُ
يُحَدِّثُ كلاًّ هَوَاه بما ... يُجَنْدِلُ في القُدْسِ أو يَسْلبُ
وَيَسْتَهْزِؤُونَ بدُنيا الْهِلاَلِ ... وَحَشْدُهُمُو بالْمُنَى يَصْخَبُ
فما إنْ نَجَا قَط مِنْ بَطْشِهمْ ... صَبِيٌ ولا طِفلَةٌ لاَعِبَهْ
وَلاَ مُقْعَدٌ قَوَّسَتْهُ السُنونَ ... وَلاَ جَدَّةٌ شَمْسُها غارِبَةْ
وَلاَ سَلِمَتْ من بناتِ الحِجَالِ ... عروسٌ مُلَّفَقٌة هَائِبَةْ
لدَى مَدْرَج السَّمْح عِيسَى الَمسِيح ... أثارَ دُعاةُ السلامِ القِتالا!
مُسُوحُ الرَّهابينَ باتَتْ حديداً ... وَأَلسِنَةُ الزاهدينَ نِصالا
وَعُدَّ هُدّى كلُّ غَيّ جَسورٍ ... وأصبحَ كلُّ حَرام حَلالا
وطالَتْ عَلَى الشرْقِ سودُ السِّنين ... أَذَلَّ الصَّليبُ بِهِنَّ الهِلالا
أقاموا على الْبَغْيِ بُنْيَانَهُمْ ... وعاشوا على البغيِ دهْراً طويلا
وَغُمَّ عَلَى الشرقِ تِسعينَ عاماً ... فَمَا يَلْمَحُ النورَ إلاْ ضَئِيلا
يَسيلُ عَلَى الأُفْقِ جُرْحُ الِهلال ... إذا ما أطَلَّ، سَقيِماً هَزِيلا
وتَسمعُ مِصْرُ وَمَنْ بالحجازِ ... وَمَنْ بالعراقِ الأذَان عَوِيلا
وما زال يَبْطِشُ طُغْيَانُهُمْ ... إلى أن تَألَّقَ فجرُ الأملْ
وَهَلَّ من الشرقِ مثلَ الصباحِ ... زعيمٌ ترَدَّى ثِيابَ البَطَلْ
تُجدِّدُ وَثْبَاتُهُ أبنَ الوَليدِ ... وَسَعْداً وعَمْراً بنيه الأوَلْ
إذا سارَ فالنصرُ من يُمْنِهِ ... فتّى لا يرَى العيْشَ إلا كِفاحا
فتًى ذِكرُهُ هَزَّ شم الْحُصونِ ... ويغزو اسمُهُ إذ يَهُزُّ السَّلاحا
صلاَحٌ ومن كابن أيوبَ سيفاً ... إذا ذكرَ الدَّارِعونَ صَلاحا!
وَمَنْ مِثلُهُ حينَ يُعْطِي العُهُودَ ... وَيَرَعى الحُدودَ وَيأسو الجراحا
مشى نحوَ (حِطَّينَ) في فَيْلَقٍ ... يَرِفُّ له النصرُ حوْلَ العَلمْ
يَدِينُ لأِرْوَعَ ثْبَتِ الجنانِ ... جَمِيِلِ الفَعالِ كريمِ الشِّيَمُ(400/40)
ذَلولِ السَّماَحَةِ حُلْوِ اللِّسَانِ ... عَصِيِّ الأبَاءِ بعيدِ الهِمَمْ
تقدَّم فانهارَ مِنْ حَوْلِهِ ... عَلَى الْبَغْيِ رُكنٌ أقِيمَ اغْتِصابا
رَأَى يوْمُ حِطَّينَ تحتَ العجَاج ... جُنودَ صلاَحٍ أسُوداً غِضابا
ألوفُ الرجالِ لدَيْهِ أسارَى ... ومَن فَرَّ ليس يطيقُ اقترابا
وَيُذْعِنُ كلُّ قوِيٍ عزيزٍ ... وتهوِى المعاقِلُ باباً فبَابا
وَدَانَ له القُدْس بعد الإباءِ ... وَأَعْظِمْ بهِ لِلْهِلاَلِ انتِصَارا
وراحَ الْمُظَفَّرُ يُولي الأمانَ ... ويُطِلقُ في (أرْشِليمَ) الأسارى
وَأَجْمَلُ ما كان عَفْوُ الرِّجالِ ... إذا ساقَهُ ما نحُوَه اقتدارا
تَرَفَّعَ لا سَيْفُهُ قاتِلٌ ... بريئاً، ولا وعْدُهُ خاتلُ
ولا غرَّهُ النَّصْرُ في أَوْجِهِ ... ولا خابَ في عَدْلِهِ آمِلُ
وديعُ السِّماتِ جَمِيلُ الأنَاةِ ... وفي دِرْعِهِ أَسَدٌ بَاسِلُ
يَلوذُ بهِ الحقُّ مُسْتَعْصِماً ... وَيَفْرَقُ من وَجْهِهِ الباطلُ
وَأَدْهَشَ أعداَءهُ نُبُلُهُ ... وذاعَتْ أحادِيثُ أفعالِهِ
وأروَعُ ما هَزَّ سَمْعَ الفِرِنج ... من الفضل غُرَّةُ أفضالِهِ
يجود لفدِيْةِ بعضِ الأَسَارى ... لفُرْسانهِ الشُّمِّ من مالهِ!
تَأَلَّقَ في الشرق نور الهلال ... وصاحبه اليُمْنُ في طَلْعَتِهْ
وكان غريباً بأوطانِهِ ... خَيَالُ المذَلَّةِ في هالَتِهْ
تَبسَّمَ في الأُفْقِ بَعْدَ الشُّحُوبِ ... فغاَظَ وَأعجَبَ في بَسْمَتِهْ
وَدَوَّى فأَطَربَ صوْت الأَذَانِ ... جلالُ المصلِّينَ في نَبْرَتِهْ
أفاقَ على نَبَأٍ جاءهمْ ... بنو الغَرْبِ، يَكرَهُهُ السامِعُونا
تثيرُهُمُ النُّذُرُ الشائِعَاتْ ... وَيَقَتِنصُ الفرصةَ الطّامِعُونا
وَيَنْفُخُ في الصُّورِ رُهْبَانُهُمْ ... فيأتي على الصَّيحَةِ الدَّارِعُونا
وهَّبتْ منَ المغْرِب العاصفة ... على الشرْقِ تُنْذِرُ بالراجفَةْ
ففي البحْرِ طائِفَةٌ في السَّفِينِ ... تُسَارِعُ في إثْرِهَا طائِفَةْ
وفي البَرِّ فَوْق مُتُونِ الجِيادِ ... ألوفٌ مُدَجَّجَةٌ زاحفَةْ(400/41)
إذا هاجَها الزَّحف غَنَّى الحديدُ ... وغنَّتْ حناجرُهم هاتفةْ
أطَلَّتْ على الحشْدِ أسوارُ عَكا ... خِضَمًّا يَزيدُ لديْهَا ارْتِطاما
حَوَى الْمُرْدَ والشِّيبَ والعِلْيةَ الصِّ ... يدَ والتَّابِعبهم خليطاً تَرَامى
نَشَاوَى النِّصَالِ، بأرماحِهِمْ ... جُنونٌ سَقَاهَا هناك احتداما
ومِن دون عَكا شُبُولُ العَرِينِ ... من الشرْقِ يمْنَعُ أسوارَها
يطوفُ على الْجُنْدِ سلطانُهُمْ ... مَهِيبَ الملامِحِ قَهَّارَهَا
مُطاعاً له طَلْعَةٌ في الصُّفوفِ ... تَعَوَّدَتِ الْجُنْدُ إكبارَها
وَيَفْدِيهِ في الحرْبِ أجنادُهُ ... إذا رَاحَ يَرْكَبُ أخطارَها
وَعَزَّتْ على الطالبينَ القِلاعُ ... وإذ مَرَّ عامانِ زِدْنَ امتناعا
وَذَاقَ حُماَةُ الصليبِ الهوانَ ... فما شَهِدوا مِثل هذا صِراعا
أهابوا وقد عَجَّ مَوْجُ المنَايا ... بأَوْطانِهِمْ فأجابَتْ سِراعا
وَلبَّى الملوكُ النِّداَء ففي البَ ... رِّ جيشُ (فِرِدريكَ) جَمُّ العددْ
وجيشُ الفِرِنْسِيسَ حشدٌ عظيمٌ ... وفي البحرِ أسطولُ قلبِ الأسدْ
فتَى الغربِ ريكَرْد خيْرُ السيوفِ ... الجسورُ النَّجيدُ القَوِيُّ السَّنَدْ
فتَى ليسَ يَنْزِعُ عن قَوْسِهِ ... سِواهُ ولا جَلَّ عنهُ أحدْ
وَأَرْغَمَ (رِيكَرْدُ) تلك الحصونَ ... فما إن تَطَامَنُ إلاّ لهُ
وَإِنْ كان لاَقَى من ابنِ القِفارِ ... من البطشِ والبأسِ ما هالهُ
وكانَ (صلاحٌ) رَمَى بالرِّجالِ ... (فِرِدْرِيكَ) يَدْفَعُ إِقبالهُ
وما كادَ يُزْهَى بإِكليلهِ ... فَتى الغَربِ حَتَّى اعتراه الهزالُ
أَلَحَّ على جِسْمِهِ الْقَسْوَرِىِّ ... لدى ساحِة المَوْتِ داء عُضال
ثَوَى اللَّيْثُ حيناً على رَغمِهِ ... وَعُلِّقَ - حَتَّى يُبِلُّ - القِتال
يُعَذِّبْهُ خَوْفُهُ أن يطولَ ... ضناهُ، وأن يَتراخى الرِّجال
وَأَعْجَبَ ذاكَ الهصورَ المريضَ ... طَبيبٌ سعى من لدُنْ خَصْمِهِ
يقول لهُ قومُهُ: أَقْصِهِ ... وَنَجِّ دِماءكَ من سُمِّهِ
فقال: جَهِلتُمْ لعَمْرِي صلاحًا ... تَنَزَّهَ عن ذاكَ عالي اسمِهِ!(400/42)
سقاهُ وناولهُ رُقعةً ... تَنَزَّي وَغَمْغَمَ لمَّا تلاهَا!
تمنى لهُ البُرَْء في طيِّهَا ... صلاحٌ لِتَدْرِى الوَغَى من فَتاها:
(إذا رُمْتَ سِلماً مَنَنتُ بها ... وإن رُمْتَ حَرْباً أَدَرْتُ رَحاها
وأَعْزِزْ بِنَفْسٍ كَنَفْسِكَ أن ... يكونَ بِغَيْرِ الحُسامِ رداها)
وَأَكْبَرَ (ريكرْدُ) هذا العَدُوَّ ... فأثنَى وأطنبَ في حَمْدِهِ
وكم أخجلت لدى ذِكْرِها ... شمائلهُ الغُر في جُنْدِهِ
أخو البيدِ أسمَى فروسيَّةً ... فأَنَّى لهُ ذاكَ في بِيدِهِ؟
أَتَتْ بَابَهُ من بَنَاتِ الفِرِنْجِ ... تُوَلْوِلُ أُمٌّ، وَتَدْعُو بهِ
قَدْ اختَطَفَ ابناً لها فارِسٌ ... وَيَا هَوْلَ ما كان من غَصْبِهِ
بكى رَحْمَةً وَهْوَ ذاك الذي ... إلى اللْيثِ يُنْسَبُ في وَثْبِه
وَأَجْزَلَ لِلْجُنْدِ من مالِهِ ... فِدَى للصَّبيِّ، فَجيَء بهِ
وَمَالَ إلى السِّلمِ قَلْبُ الأَسَدْ ... وَلَبَّى صلاحٌ فأمضَى العُهُودا
وَلَكِنَّهُ رِيعَ أَنْ جَاَءهُ ... من الْخَصْمِ خُلْفٌ أثارَ الْجُنودا
لقد فتَكَ القَوْمُ بالأبرِياء ... وما إن رعَوا لِعُهُودٍ وُجُودا
سقَتْ أَرْضَ عَكّا دِمَاءٌ حَراٌ ... وَطافَ الفِرِنْجُ بها باطشينا
فوارِسُهُمْ يَذبحونَ النِّسَاَء ... وَزُغْبٌ البناتِ بها وَالبنينا
وَكم ذَكَرُوا الشرق سُلطَانَهُ ... وَصَفْوَةَ فُرْسَانِهِ هازئينا
أَهَابَ صلاحٌ بفُرْسانِهِ ... فَسَلّوا سُيوفَهُمو صائحينا
لدى غابِ أَرْسُوفَ سَوَّى الرجالَ ... صُفُوفاً تَلاَحَق تحتَ العَلَمْ
مِنَ الغِيِل أَصْحَرَ أجنادُهُ ... وَجَرَّ الحدِيدَ أسُودَ الأَجَمْ
ونَادَى المنَادُون فيهم هَلُمُّوا ... تراءى العَدُوُّ لنا من أُمَمْ
هُنَا الشرْقُ جُنْدُ الهلالِ، هنا ... بنو الشَّمْسِ والبِيدِ شُمُّ القَنَا
دماءُهُموكم كَوَنْهَا الصَّحَارى ... وأعْظِمْ بِصَحْرَائِهم مَوْطِنا
خِفَافُ الهياكِلِ ضُمْرُ الْجِيَادِ ... إذا زَحَفُوا قلتَ وَمْضُ السَّنَى!
تَنَادَوْا على نقَرَات الطَّبولِ ... فداعٍ هناك وشادٍ هنا(400/43)
على فْرسخين يُرَي الغَربُ حَشْدَاً ... خَلِيطاً هناك تَلاَقَوْا دِرَاكا
فَمِنْ كلِّ لِسْنٍ ومن كلِّ شَعْبٍ ... وَمَلْكٌ هنا وَأَمِيرٌ هناكا
حُمَاةٌ الصَّلِيبِ نَسُوا الصَّلِيبِ ... خِصَاماً فَشَى بينهم واعتِراكا
وَدَارَ القِتَالُ فَطَارَت سِهامُ ... بَنِي البِيدِ يَغْرِقُ فيها البَصَرْ
تُصَوَّبُ تحْتَ مُثَارِ العَجَاجِ ... وَتَنقضُّ يقْدَح منها الشَّرَرْ
فَتُصْمِى الْجَيادَ وَتُلْقى الرِّجالَ ... على الرَّمْلِ مُلْتَهِباً وَالصَّخَرْ
كأَنَّ الْجَحيمَ رَمَتْ بالّلظي ... على مُلتَقًى بالغُبَارِ أعْتَكِرْ
وَذَاقَ الفِرِنجُ صُنُوف العَذَاب ... ففي كلِّ يوْمٍ يَرَوْنَ الرَّدى
وَرَاحَ قَبِيلٌ يقولون: ماذا ... نَرَى من سِهام العَدُوِّ غدا
يُسِرُّونَ سُخْطاً على من دَعاهمْ ... وَأَوْرَدَهُمْ ذلِكَ الموْردا
وَغِيظَ الفِرِنْجُ فَشَدُّوا الوَثَاقَ ... وَجَدَّتْ لهمْ كَرَّةٌ خاسِرَة!
وَهَرْوَلَ ريكردُ بين الصُّفوفِ ... يَشُدُّ عَزَائِمَهَا الخائِرَةْ
وَزَمْجَرَ كالْليثِ يَدْعُو الْجُنُودَ ... وَيَجْمَعُ آلافَهَا النّافرَة
وَهَاجَ، فَجُنَّ جُنونُ الرِّجالِ ... وَكَرَّتْ عَلَى صَوْتِهِ زائرَة
دَعا وَتَقَدَّمَ تحتَ السِّهام ... بِيُمْنَاهُ صَمْصَامُهُ الهائِلُ
تحَدَّى الرَّدى وَمَشَى تحْتَهُ ... فما إن تَصَدَّى لهُ صَائلُ
يُهَزْهِزُ في النَّقْعِ إِفْرِنْدَهُ ... فيُومِضُ عالِيهِ وَالسّافلُ
مَضى مُغْضَباً خَلْفهُ جُنْدٌهٌ ... يُفَزَّعُ ذاك وذا يَضربُ
يُجِنْدِلُ كلَّ فتًي مِن عِدَاهُ ... وَما كَلَّ من سيِفِه الْمَضْرِبُ
لهُ وَثبَةُ الأسْدِ، صَمْصَامُهُ ... كما أنقَضَّ في الُحلْكةِ والكوكَبُ
وَطاشَ الكماة جنودُ صلاحٍ ... وَطابَ لهم في الوغَى المهْرَبُ
تَلَفَّتَ تحت الِّلوَاء صلاحٌ ... إلى جَحْفلٍ حَوْلهُ رُوِّعا
تَفَرَّقَ في البيدِ إِلاّ فَريقاً ... يُفَدَّوْنَ ذا الباسِلَ الأرْوَعا
وَمَا طاشَ في الرَّوْعِ مِمَّا رَأَى ... وَهَلْ شِيمَةُ اللَّيثِ أن يَفْزَعا؟
رَأَى جُنْدُهُ اللَّيثَ تحت اللِّوِاءِ ... فعادُوا يُموتُونَ دُونَ اللِّوا(400/44)
وَجدَّ اللِّقاءُ وَحَقَّ الفِداءُ ... وَأَجْفَلَ بَعْدَ الصِّيالِ العدا
وَخَفَّ صلاحٌ فقادَ العديدَ ... وَأَعمَلَ في الزاحِفين الظُّبَا
رَأى هَبَّةَ الأُسْدِ من دُونهِ ... فخافَ العَدُوُّ الوَغى وانثنى
وأرسَل ريكرُدْ يدعُو صلاحاً ... إلى السَّلمِ حينَ توافى الأَمَلْ
يقول: لَقيتُ هنا مُشْبِهي ... وَأَحْبَبْتُ في الشَّرْق هذا البَطلْ
وَلبَّى أبنُ أيُّوبَ عالي الجبين ... عَلَيهْ من المجدِ أضفَي الْحُلل
الخفيف(400/45)
مشروعية الحرب في الإسلام
دفع شبهة لا موجب لها
للأستاذ محمد فريد وجدي
اشتد خصوم الإسلام عليه في إقراره الحرب، ذاهبين إلى أن الدين الذي يشرع لتطهير قلب الإنسان من الميول العدوانية، وتخليص نفسيته من آثار الحيوانية والوحشية، لا يجوز له أن يقر مبدأ التناحر في العالم الإنساني؛ فإن كان ولا بد فدفاعاً عن النفس، أو ذيادا عن الحوزة؛ أما الهجوم على الآمنين في ديارهم للتبسط في الأرض، والتوسع في وسائل الثروة، فإن رآه طلاب الدنيا سائغاً، فلا يصح أن يعده دعاة السمو الخلقي من محاولات الصالحين
كثرت هذه الشبهة في رؤوس خصوم الإسلام، ورأوا فيها مثاراً خصباً للتشهير به، ونبزه بالألقاب، حتى تأثر بعض المدافعين عنه، فأخذوا يحاولون أن يثبتوا أن كل ما ورد فيه خاصا بالحرب، فالمراد منه الدفاع لا الهجوم، وغاب عنهم أنهم بعملهم هذا يضرون بقضية الإسلام، ويسجلون عليه الشبهة أصرح تسجيل
الحق أن الإسلام أقر الحرب دفاعاً وهجوماً، لأن مهمته التي شرع من أجلها لا تتم إلا على هذا الوجه؛ فليس الإسلام بدين خاص شرع لجماعة من الناس في بيئة محدودة من الأرض كما كانت عليه حال جميع الأديان التي شرعت للأمم قبله، ولكنه شرع ليكون دينا عاما للأمم كافة، فهو بحكم الغاية التي أنزل من أجلها يجب أن يماشي ما فطرت عليه الطبيعة البشرية، في كل ما تدفعها إليه الغرائز النفسية، من الحركات الاجتماعية؛ وقد اندفعت الجماعات في التناحر لا لمجرد توفيه أغراضها المادية، ولكن لحاجتها الأدبية أيضاً، فلولا الحروب التي ثارت بين الجماعات، لتعطل تقدمها في طريق العمران والمدنية كما نبه إليه علم الاجتماع نفسه، ودورة الحياة الإنسانية العامة تجعل الحرب من ضروريات التطور أيضاً، فإن تلاشي الجامدين وعديمي الصلاحية للحياة، وضرورة نبوغ الأصلح فالأصلح للبقاء، لا يمكن أن يتم في بيئات يسودها السكون المطلق. هذه أمور يدركها أولو العلم إدراكهم للبدهيات، وهذا لا يمنع أن يجيء عهد تصبح فيه الحرب شراً مستطيراً بسبب زوال الموجبات الطبيعية لها، ونشوء عوامل أدبية تقوم مقامها في تطوير الجماعات دون(400/46)
أن تضطرها إليه بواسطة الحركات العنيفة؛ يجوز أن يكون قد أظلنا الآن ذلك الزمان، فيقرر البشر بعد هذه الحرب المستمرة حذف هذه الوسيلة الجائحة، فينعم الناس بسلام يناسب ما وصلوا إليه من علم ومدنية، وقد أشار الإسلام إلى إمكان حدوث هذا العهد، فجاء في كتابه: (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله)
ولكن إلى العهد الذي شرع فيه الإسلام وما بعده إلى أكثر من أثني عشر قرناً، لم تكن فكرة السلام العالمي قد نشأت، وقد رأينا الأديان التي جاءت ناهية عن الحرب كالبوذية والنصرانية قد اضطرت إليها، وتوسلت بها، وهذه الديانة الأخيرة لم تستطع أن تستقر كدين إلا بواسطة حروب شنتها، حتى اضطرت البابوية إلى اتخاذ الجيوش البرية والبحرية، وإلى الاشتراك في الحروب دفاعاً وهجوماً على حد سوا
فكيف يراد من الإسلام وقد شرع دينا عالمياً، أن يتجرد منها، وهو مضطر بحكم مهمته أن يسيطر على الغرائز الجبلية، ويهيمن على الميول النفسية، محاولاً التأثير فيها بالتعديل والتقويم، دون أن يعرقل ناموس التطور الذي يعمل إلى إيصالها لغاياتها البعيدة من السمو الذي قدر لها أن تبلغه بجهودها الذاتية
إن الصفة المميزة للإسلام أنه دين يماشي الطبيعة ويعدلها، ولا يلاشي عاطفة منها؛ ولو كان غير ذلك لما صلح أن يكون ديناً عاماً للبشرية بأسرها، ولا يكون محترم الأصول، مراعي التعاليم، لا عذر للمتخلف عنه، أو للخارج عليه
أفكنت تريد أن ينشأ الإسلام ناهياً عن الحرب فلا يتم له قيام أصلاً، بدليل لجوء جميع الأديان إلى الحرب بعد أن أعيتها الحيل في القيام بدونها؟ أم كنت تريد أن يحرمها على أتباعه، ثم متى اضطرتهم الحياة لجئوا إليها، غير آبهين لنهيه عنها، كما حدث ذلك لأهل الأديان التي كانت قبله؟
لا هذا ولا ذاك، فالإسلام دين صراحة ومنطق، يعطي كل حالة من حالات الإنسان حقها من التقدير والرعاية، ويبني حكمه فيها على مصلحتي المادة والروح معاً
فالحرب إن كانت شراً فهي من الشرور الضرورية ولو في أوائل الأدوار البشرية، وإغفالها أو تركها بلا ضوابط قد يفضي بالآخذين به إلى الإفراط أو التفريط فيها، وقد يكون في ذلك القضاء عليهم، فجعلها الإسلام لهذا السبب من أهم ما عني به، وختم كل آية(400/47)
نزلت في الحرب بوصاة مؤكدة بوجوب العدل فيها وعدم توخي العدوان بوساطتها، إلى حد لم يسبق له مثيل في كل ما أثر عن تعاليم الأمم قديماً وحديثاً
لم يكتف الإسلام بكل هذا فوضع للسلم والحرب أصولاً بدأها بوجوب احترام العهود، وبوجوب تتبع الحوادث الاجتماعية، مع إحاطة كل منها بما يحميها من التطرف والظلم، حتى إذا أفضت الأمور إلى تحكيم السيف أحاط حكومته بالملطفات من كل ضرب، عاملاً على ألا تراق قطرة دم ولم يكن لإراقتها موجب يوجبها، حتى أمر بعدم تعقب المهزومين، وباحترام حياة خدمة المحاربين، وحياة الهرمي والنساء والأولاد ورجال الدين
في تاريخ الإسلام من هذه الناحية طرائف لا يروى مثلها عن جماعة من الجماعات الإنسانية إلى اليوم، منها أن أسامة بن زيد تعقب مهزوما حتى صعد وراءه الجبل؛ فلما رأى الرجل السيف يهوي عليه نطق الشهادتين، فلم يكترث أسامة له وقتله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استحضره وعنفه على فعله، فقال أسامة: يا رسول الله إنه نطق بها تقية لينجو بنفسه. فقال النبي منكراً عليه: أشققت عن قلبه؟
لا أظن أن بعد هذا غاية في التنبيه على وجوب احترام الحياة البشرية
محمد فريد وجدي(400/48)
على طريقة الصين أو أبى دلامة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
قرأت في بعض ما كتب عن الصين الحديثة وحروبها الداخلية - قبل أن تغزوها اليابان - أنه كان يحدث أن يخرج القائد من القواد الصينيين لقتال غريمه فيلقى الجمعان ويصطف الجيشان ويبرز أحد القائدين، ويدعو خصمه فيخرج إليه ويقف بين العسكرين يتبارزان ولكن بالحجة والمنطق، ويتصاولان ولكن على الورق والخرائط، ويتجادلان في أي الخطتين كانت خليقة أن تجيء صاحبها بالنصر، حتى يقتنع أحدهما بأن الدائرة ستدور عليه لا محالة، فيعد نفسه مهزوماً، ويرتد بجيشه عن الساحة، وينصرف خصمه وقد رفع ألوية النصر
كذلك قال بعض الكتاب. وزعموا أيضاً أن هذا بعض ما أطمع اليابان في الصين وأوهمها أن قتالها أمر هين، وأن المنال قريب والغاية في حكم المدركة، فإذا بها تتورط في حرب لا تعرف لها منها مخرجاً ولا تتبين لها نهاية قريبة، بعد أربع سنوات طويلات دخلت في خلالها مئات من المدائن، واحتلت رقعة أوسع من نصف القارة الأوربية وما زالت الحرب - إذا اعتبرنا قوة المقاومة - كأنها في بدايتها
وليس من همي أن أقول شيئاً عن الصين، وإنما سقت هذا الخبر لأني ذكرت له مشبها له من أخبار أبى دلامة الشاعر الماجن الظريف فقد حكوا عنه - وحكى هو عن نفسه فيما يروون عنه - أن الخليفة - المنصور أو المهدي - غضب عليه لاعتكافه على الخمر، فأمر به فخرج في بحث حرب مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. قال أبو دلامة: (فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه) فضحك وقال: (والله لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك) ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى ودعا بغيرهما، فلما حصل ذلك زالت عني حلاوة الطمع فقلت له: (أيها الأمير هذا مقام العائذ بك) فقال: (دع عنك هذا) وبرز رجل من الخوارج يدعو إلى المبارزة فقال: (اخرج إليه يا أبا دلامة) فقلت: (أنشدك الله أيها الأمير في دمي) قال: (والله لتخرجن) قلت: (أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج)(400/49)
فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعيناه تتقدان، فقلت له: (على رسلك يا هذا كما أنت) فوقف، فقلت: (أتقتل من لا يقاتلك. . .) قال: (لا) قلت: (أتقتل رجلاً على دينك) قال: (لا) قلت: (أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتل إلى دينك) قال: (فأذهب عني إلى لعنة الله) قلت: (لا أفعل أو تسمع مني) قال: (قل) قلت: (هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً) قال: (لا والله) قلت: (ولا أن أعرف والله إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأريد السوء لمن أراده لك) قال: (يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف) قلت: (إن معي زاداً أحب أن آكله معك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا) قال: (أفعل) فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلها على معارفها والناس يضحكون، فلما استوفينا ودعني، فقلت له: (إن هذا الجاهل - يعني روح بن حاتم - إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل) قال: (قد فعلت) ثم انصرف وانصرفت، فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك. فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى المبارزة، فقال لي: اخرج، فقلت له:
إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى النزال فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت به ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد
فضحك وأعفاني
وهذا الذي كلم به أبو دلامة قرنه فكفاه شره، احتجاج قوي لترك الحرب، ولو كان الأمر إلى الجنود المسوقة وخوطبت بمثله لكان الأرجح في الرأي والأغلب في الاحتمال أن تلقى السلاح وتنفض يدها من كفاح لا تعرف باعثاً عليه أو موجباً له، ولكن الأمر للقادة والرؤساء وهؤلاء لا يعبئون إلا بما يطمعون فيه ويسعون له، ولا يبالون من رضى ممن سخط، ومن بقى ممن هلك، إذا هم أدركوا بغيتهم ونالوا وطرهم
وقد خاطب الألمان جنود فرنسا بمثل كلام أبى دلامة - في هذه الحرب فكانوا في الشهور الأولى - شهور الركود والتربص - كل ليلة ينادونهم من خط سجفريد (أن لماذا تحاربوننا(400/50)
يا معاشر الفرنسيين ولا عداء بيننا وبينكم ولا مطمع لنا في مستعمراتكم، وقد سمعتم (الفوهرر) يقول في خطبته إن بناء خط سجفريد اعتراف من ألمانيا بأنها تعد الحدود بينها وبينكم نهائية، ولولا ذلك ما جشمت نفسها مشقة البناء ونفقاته، إنما غريمنا وغريمكم الإنجليز، وقد زجوا بكم إلى الحرب ليقاتلونا بكم) الخ الخ وقد فعل هذا الكلام فعله في نفوس الفرنسيين وظهر أثره في معركة فرنسا
وأعود بكم إلى صاحبنا أبى دلامة فأقول: إن الرصافي - شيخ شعراء العراق في هذا الزمان - أسبغ الله عليه برد العافية صنع شعراً في خبر أبى دلامة مطلعه (قضت المطامع أن تطيل جدالاً)
قال فيه:
أمن السياسة أن يقتل بعضنا ... بعضاً ليدرك غيرنا الآمالا
تفنى الجيوش ولا ضغائن بينها ... سبقت ولا ترة ولا أذخالا
وأستطرد إلى قصة أبى دلامة ثم ختم القصيدة بقوله:
إن الدهور - وهن أمهر سابك - ... سترد أضداد الورى أشكالاً
حتى كأني بالطباع تبدلت ... غير الطباع وزلزلت زلزالا
وكأنني ببني الملاحم أصبحوا ... لأبي دلامة كلهم أشكالا
ويا عسى ولعل، وسمع الله منك صديقنا، ولكن هيهات. . . هيهات! والسلام عليك إذا لم يكن على الأرض سلام
إبراهيم عبد القادر المازني(400/51)
مزامير
للنفس العربية
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
2 - غول المهد الأول
كان المهد الأول للعربية (غول) عجوز شوهاء، عمرت هناك دهرا طويلا تأكل أكباد الرجال بالحقد والضغينة والحسد والأنانية والتفرد، وتلعب بقلوبهم، تتخذ منها عقوداً وقلائد، إذ تغري بينها العداوة والبغضاء، فتوقد نيران الحرب الطاحنة لتلغ في دماء الجميع: القاتل والمقتول، والخاذل والمخذول. . .
وقد اتخذوها إلهة معبودةً وقدموا لها القرابين من دماء الأحرار، وزينوا عرشها بجماجم الشبان المفتون دائماً بالبطش والحرب، وأنشدوها الأشعار، واجتلبوا لها الأسمار، وقرعوا الطبول، ونفخوا الزمور. . .
ما تركت فيهم شاباً يكتهل أو كهلاً يشيخ؛ فكبدها عطشى مخلوقة من نهم الرمال، وجشعها للدم المسفوح والدمع المنضوح. . . فلم تك تبقي للحياة إلا النساء والأطفال والمستضعفين، من الذين يقال فيهم: بقايا السيف، وطلقاء عفو القادرين. . .
وكان لها كأسان: تتلقى في إحداهما دم الرجال، وفي الأخرى دمع النساء على الرجال. . . ثم تمزج وتشرب وتعربد وتقهقه. . . كاشفة عن أنيابها الزرق المسنونة. . .!
تلك هي الفرقة! حليلة الشيطان المحظية. . . يقدمها بين يدي الجليل الخطير من كيده، ويرصدها لتحطيم الشأن العظيم في حياة الإنسان غريمه. . . أخرجه بها من الجنة حين فرق بين هوى آدم وحواء ووصايا ربهما، فأزلهما. . . فهبطا إلى الأرض للمحنة والعناء. . . فكانت بيده مفتاحاً عريقاً يفتح به قلوب بني آدم للشر، ويغلق به أبواب الخير. . .
وقد أسكنهما قلب الجزيرة العربية، وأوصاها ألا تترك قلوب هذه الأمة تجتمع وشملها يلتئم وذكاءها الخارق وبيانها الحاذق ييسران لما خلقا من أجله؛ إذ كان يعلم أن وثيقة ملاعنه وبيان خدائعه للنفس البشرية، ستكتب بقلم هذه الأمة، وتسجل في (كتابها)، وتنزل على قلب أحد أبنائها؛ فاستجمع لها كل خبائته ومكايده، واستعان حليلته وأرصدها لها بكل سبيل،(400/52)
وفتنها بأكرم خصالها: الشجاعة والكرم والبيان!
حول الشجاعة إلى وحشية وإسراف في سفك الدماء، كأن ذلك حرفة. . .
وحول الكرم إلى إسراف في مقومات الحياة وتفريط في بنائها المادي، حتى لا يحصل تمدين فيستقر السلام، فيكون وراءه عمران مستفحل وخدمة باقية في الذريات والأعقاب، للتحضير والترقية والتهذيب. . .
وحول البيان إلى شقاشق تهدر ثم تضيع، وأناشيد ترسل فيما لم تخلق له؛ إذ تسجل المخازي وتعرض العورات على الأسماع، وتهيم بأصحابها في أودية الخيال. . .
وكان يعلم أن الظلم والشرك والعبودية والجهالة - وتلك هي قوائم عرشه - ستهدم بأيدي هذه الأمة، وأن ألاعيبه وتماثيله التي كان يملأ بها معابد الأقوام وجوانح إنسانية الشرق والغرب ستتركها معاول العرب حطاماً وجذاذاً. . . . فجعل من بينها سداً ومن خلفها سداً، وغشى أبصارها عن إدراك مواهبها ومكارمها وما عندها من الفطرة الصادقة. ووضع همه الأول في تفريق قلوبها وتمزيق وحدتها، ووسوس لكل قبيلة أنها أمة لها دم خاص منحدر من ماء السماء وضياء النجوم. . . وإلى كل فرد أنه خير هذه الأمة، وأنه عملها المفرد، وبدرها والفرقد! فغنى لنفسه وشرب على هواها مع النجوم في ظلمات الليل، ومع الشمس والشياه والبعران في مراعي الصحراء. . .
وفي الأرض أمامه سعه ومذهب لكل من أراد الاستقلال والتملك. . .
وفي السماء هول وعظمة يغريانه بمد آفاق نفسه كما يشتهي. . .
وفي القلب الإنساني حطب ولهب لكل فرقة ولكل شرود وجموح فلا عليه أن ينشد الإمارة ولو على الحجارة. . .
يا لهذه الصرخات الدائمة في أذن الصحراء من حناجر فتيان هذه الأمة!
يا لبكر. . .! يا لتغلب! يا لمضر! يا لربيعه! يا لعدنان! يا لقحطان! يا لكل قبيلة على كل قبيلة!
وسباع الأرض وهوامها وخشاشها، وعقبان السماء ونسورها، تتسمع إلى هذه الصيحات وتتبعها؛ لأنها أبواق دعوتها إلى الولائم التي تقام من الدماء التي تشخب، والبطون التي تبقر، والأكباد التي تفرى، والقلوب التي تسحق، والعيون التي تفقأ، والأشلاء التي تتناثر.(400/53)
فكم من قلب كبير لبطل كريم في فم ذئب لئيم. . .!
وكم من لسان فصيح بليغ في منقار غراب بكى منكر الصوت قبيح المرآة. . .!
وكم من عين نجلاء صافية تحت خنفساء قذرة وعقرب عمياء!
ثم يصحوا الذين نحروا الجزور وشربوا الخمور وأنشدوا الأشعار وهتفوا وصرخوا بدعوى الجاهلية، ويستيقظون بعد أبتراد الغلة وذهاب الحمية وسكون الترة، ويعودون إلى الخيام يسمعون للبوم والخفافيش وندب النساء وعويل الأطفال على الجثث الطريحة على الشراجع والنعوش. . .
والغول واقفة تقهقه فيذهب صوتها كصرخات مفزعة في شعاب الجبال وبطون الوديان وأغوار الكهوف. . .
ثم يسمع لقهقهتها صدى بعيد من حناجر الشباب الهاتفين: إلى الحرب. . .
إلى الفطام من الحب ونعيم السلم وقرار الأمن. . .
إلى الثأر من الذين قتلوا الآباء واستحلوا الحرمات. . .
ثم تدور الرحى على أمواج الرمال وضفاف بحار السراب والآل
فيلتقي رجل برجل (تحية بينهم ضرب وجيع)
ثم ترقص الحرب عارية حمراء، تنوس على الآفاق ذوائبها السود وغدائرها التي نسجت من ريح السموم. . .!
وتحولت الأمة العربية تحت سحر هذه الغول إلى أمة من الأحطاب. . . لا تتوهج عناصرها وتظهر عبقرياتها الكامنة إلا إذا مستها النار برهة تستحيل بعدها إلى رماد وهباء منثور تذروه الرياح على وجه الصحراء أرض الفناء والصمت الذي لا يخرقه إلا صرخات هذا الإنسان الضائع الفريد. . .
أما النمو والإبراق والإزهار والإثمار فتلك أدوار لم يكن لشجرة الأمة العربية منها نصيب كبير. . . وأنى للأخشاب والأحطاب أن تثمر وأن يكون فيها مناطق نمو؟ لقد أوشك الجفاف المادي والمعنوي أن يميت جذور هذه الشجرة العظيمة العريقة فاحتبس عنها فيض السماء وسيح الأرض مدة جعلت لبلبها يوشك أن يموت ويقسو كالأحجار أو يكون أشد(400/54)
قسوة
ولكن الله رب الطبيعة وموزع إنسانها وحيوانها ونباتها على بقاعها بقدر موزون، ومخرج الحي من الميت ومفجر العيون الثرارة من قسوة الحجارة. . . كان يصنع هذه الأمة هكذا تحت عوامل الحرمان والقسوة والجفاف والجهالة ليصنع منها معجزتها الأخيرة ويخرجها فجأة على إنسانية الشرق والغرب الناعمة المتعلمة الغنية بموارد الخصب والمال وأفانين الحكمة والجمال كما يخرج الفجر الصادق الوضاح من ظلمة الليل البهيم. . . ليعلم الإنسان أن عقله وقلبه في قبضة الذي (الأرض جميعا قبضته والسماوات مطويات بيمينه. . .) الذي يجلو بياض النهار، وينسخ سواد الليل ويحيي الأرض بعد موتها ويحول بين المرء وقلبه. . . الذي وضع قوانين الطبيعة وإن شاء خرقها: فهو لا يخضع لها كما يخضع أبناء العجز والفناء. . .
فقال للفجر الصادق في حياة الإنسانية: أبزغ من هنا. . . من أفق هذه العقول المحرومة من هدى النبوات وإرشاد العلوم، واسطع من هذه السماء التي لا ينظر إليها أحد من عباد دنيا الروم وفارس والمفتونين بعلوم اليونان. . . وأشرق من أرض الأوثان على المعابد والهياكل والبيع والصوامع (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء)
وقال للنهر الدافق مخصب العقول البشرية: تفجر من هنا. من هذه الرمال الظامئة والجبال الكزة القاسية، من غير نطفة دافقة ورحم لاقفة واعية، وأفض فيضك وأرسل سيحك على المواضع العفنة والبؤر الفاسدة التي اطمأن فيها الشيطان وعشش، ثم باض وفرخ. . . وأغسلها؛ فإن استعصت على التطهير فليجرفها عبابك وليحدر بها سيلك مع القش والغثاء والزبد الذي يذهب جفاء
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين!)
وقال للوحدة القومية بل للوحدة الإنسانية الجامعة: استعلني من هذه الأرحام المقطعة والعرى المنفصمة، واقتلي (الغول) واجمعي الفلول. . . (. . . وألف بين قلوبهم. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)(400/55)
(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)
فإذا أمة من الرهبان الفرسان يحملون المصحف والسيف لرسم الطريق وحماية السائرين فيه. يأخذون الدين بكاء وخشوعاً بالقلوب في المحاريب. ودفاعاً نبيلاً في الميادين، وعملاً صالحاً مثمراً في الأسواق والمعاهد والحقول والمصانع والجيوش. . .
وإذا دولة يحكمها سائسون قديسون! ليس فيهم خيلاء الحكام ومطامعهم وغطرستهم، وخداع الساسة وختلهم ونفاقهم، إذ كانوا يفقهون أن الحاكم خادم، والأمير أجير، والسياسة نصح وتربية وإرشاد، لا تجارة واحتراف وذبذبة مع اتجاه رياح المطامع، وخطب جوفاء، ووعود خلابة، وأماني براقة كالتي يلقيها ساسة هذا الزمان على آذان الإنسانية الشقية ليحشدوها بها في مواكب مجدهم الشخصي الكاذب وخيلائهم العاهرة. . .!
عبد المنعم خلاف(400/56)
غضبة إسلامية
للأستاذ عبد الله عفيفي بك
استهل عام اثنين وستين وثلاثمائة والدولة الإسلامية ببغداد تعاني جرحاً أليماً أصابها في الصميم، فقد اقتحم الروم بلاد الجزيرة وأمعنوا فيها، ودخلوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا أهلها إلا من نجا بنفسه وهم عدد قليل
وجاء الناجون إلى بغداد ودخلوا المساجد وكسروا المنابر ومنعوا الخطباء ووقف رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يخطبون الناس. وهل هنالك أخطب من امرأة تقص على الناس مأساة ابنتها العذراء، أو طفل يحدثهم عن مذبحة أخوته الصغار؟
هنالك ثار المسلمون ومادت بغداد بثورتهم حتى أصبحت أرضها وسماؤها وجوها ونهرها وجبلها رجوما من النار
وكان عز الدولة بن بويه القائم بالأمر في خلافة المطيع لله غائبا في بالكوفة، فذهب إليه وفد من علماء المسلمين ووصفوا له الخطب الفادح والثورة الجائحة، وأن ليس للمسلمين إلا أن ينتقموا أو يموتوا، وعادوا وعاد معهم عز الدولة، ونادى بالنفير في الناس. . .
هنالك ثارت الجماهير، وتألبت العامة، وخرج كل رجل عما يملك، وخرجت كل امرأة عما تملك، حتى عن أولادها فتياناً وصبياناً، وكل من يغني غناء قل أو كثر في سبيل الله
ونزل الخليفة عن ماله كله، وأثاث بيته كله، ثم جمع ثيابه وباعها، وهدم داره وباع أنقاضها، وقدم الحديد العاصم لها ليستعين به المجاهدون في الله
وسار الجيش كالسيل المندفع، أو كالعاصفة الثائرة، وأقوى أسلحته الغضبة الحامية لما أصاب المسلمين من ذل وهوان؛ وغضبة المسلم لله شعلة الإيمان في صدره وقوة الله في يده
وكان الروم قد أقاموا مقالع الصخر ومجانيق الحديد ومقاذف اللهب على أسوار نصيبين؛ فلما جاء المسلمون قذفهم الروم بذلك كله فلم يبالوا بشيء منه. وما أسرع ما أحاطوا بالعدو وأوقعوا به وقعة قد لا يكون لها نظير في التاريخ. وأسروا أمير الجيوش وقواده وبطارقته والسفاحين من رجاله وساقوهم إلى بغداد ليقضي فيهم أمير المؤمنين بقضاء الله المنتقم الجبار(400/57)
وبعد ثلاث سنوات حشد الروم قوى هائلة ولم يهاجموا هذا الحصن من حصون الإسلام بل هاجموا الحصن الثاني وهو الدولة الفاطمية واقتحموا حلب وحمص وحماة وفعلوا بها مثل ما فعلوا من قبل بنصيبين
وهنا يظهر الروح الإسلامي النبيل
فقد كتب عز الدولة إلى العزيز بالله الخليفة الفاطمي يقدم له ولاءه وولاء الخليفة العباسي ليشترك المسلمون في مصر وبغداد على دفع العدو المشترك، فتقبل العزيز هذا الود الإسلامي بأحسن القبول وقال إن الجيش المصري سيحمل هذه المرة العبء كله
وسار الجيش الفاطمي يحمل الراية الإسلامية من نصر إلى نصر، حتى دفعوا العدو دفعا وراء الحدود، ثم وقف الفريقان متحاجزين يحجزهما نهر يسمى (نهر المقلوب) ولكن الجيش الإسلامي آلى على نفسه أن يضرب العدو في عقر داره، حتى يقلم أظفاره عن الغدر بالمسلمين، فكيف وليس على النهر جسر، وليس فيه مخاضة؟ هنالك تظهر القوة الإسلامية التي لا تخاف الموت، فقد خلعت إحدى الفرق الإسلامية ثيابها الظاهرة، وتقدمت في النهر سابحة، وبينما هي تسبح كانت تضرب العدو بالنشاب!! وكان العدو ضربها كذلك بكل ما ملكت يداه
وبعد جهاد تحار من هوله العقول بلغت الفرقة الشاطئ وتبعها الجيش كله وضربوا العدو ضربة مزقته أشنع تمزيق. ولو طال عمر العزيز بالله أياماً لسار هذا الجيش يحمل رسالة الله إلى آخر مداه
أيها المسلمون في بغداد وفي مصر؛ بل أيها المسلمون في بقاع الأرض جميعا:
بعد عامين اثنين ينقضي على موقعة نصيبين التي باع فيها الخليفة ثيابه ونزع الحديد من أنقاض بيته ألف عام
وبعد خمسة أعوام ينقضي على موقعة حلب التي ضرب فيها المسلمون عدوهم وهم مندفعون سابحين في النهر ألف عام
وبعد خمسة أعوام ينقضي على الوحدة المقدسة التي انعقدت بين المسلمين في مصر وبغداد ألف عام
فهل تتأهبون لإقامة الأعياد الألفية لهذه الأحداث الجسام؟(400/58)
وليست الأعياد زينات تمر ولا أعلاما تقام، ولكن الأعياد الشاملة عرض للقوة، وتوثيق للوحدة، وإبرام للعهد، وإذكاء للعزيمة، وإعزاز للإسلام
فهل أنتم مستعدون؟
عبد الله عفيفي(400/59)
كتيبة الإسلام
للأستاذ محمد عبد الله العريان
مضى الركب على وجهه يطأ الحزونة ويجوب الصخر في المفازة الجرداء، لا يتكاءده سهل ولا جبل، فما هو إلا أن انتهى إلى (ثنية المرار) من أسفل مكة، حتى حط رحاله ووقف ينظر ما يكون من أمره وأمر قريش. . .
أربع عشرة مائة من أصحاب محمد عليهم الدروع والحلق، وفي أيديهم سيوف طالما رويت من دماء المشركين علا بعد نهل؛ لو شاءوا لدخلوا (مكة) دخول الفاتح لا يقف دون غايته شيء ولا يثبت له بطل؛ ولكن محمداً وأصحاب محمد لم يسعوا مسعاهم ذلك لحرب يحشون نارها في الشهر الحرام في البلد الحرام؛ وإنما جاءوا معتمرين حاجين يدعون دعوة السلام في دار الأمن والسلام. . .
أفترى قريشاً وقد أخرجت محمداً وأصحابه بليل منذ ست سنين فأجلتهم عن ديارهم وأموالهم عنوة، تأذن لهم اليوم أن يدخلوا البلد الحرام في عدة وعدد ليستلموا ويطوفوا ويدعوا دعوتهم بين سمع العرب وبصرها؟. . .
وكتبت قريش كتائبها وأجمعت أمرها على أمر؛ وخرج بنو عبد مناف وأحلافهم في جلود النمور، وعهم النساء والولدان، يقفون لمحمد على الطريق معاهدين ألا يدخلها عليهم عنوة أبداً!
ونظر محمد إلى أصحابه عليهم الدروع والحلق، وأيديهم على مقابض سيوفهم يريدون أن يقابلوا عدوانا بعدوان؛ ثم أرتد نظره إلى قومه الذين فارقهم وفارقوه، قد اجتمعت جماعتهم هناك تترقرق دماؤهم بين اللحى والترائب؛ ثم هتف محزوناً أسوان: (يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب! فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة!)
هنا جيش وهناك جيش، والرسل ما تزال ساعية ذهاباً وجيئة تحاول (الهدنة) بين العسكرين المتعاديين، حفاظاً على حرمات الشهر والبلد؛ وهدأت فورة الدم حيناً ريثما ينتهي أمر المتفاوضين إلى أمر؛ ولكن هناك، في مكة، على مسيرة ساعة أو بعض ساعة، كان بضع عشرات من المسلمين يعض الحديد على أرجلهم، ويعانون ذل الأسر في ظلمات(400/60)