مظهر الوحي الإلهي من أمر أو نهي ليرده إلى أصله الذي صدر عنه ومبدئه الذي درج منه. فقال فريق (الأشاعرة): إن الله تعالى في أمره ونهيه وجماع تعاليمه التي يلقنها الأنبياء بالوحي، ليس يفعل سبحانه إلا ما يشاء ولا يشرع إلا ما يريد، فهو تعالى رب العالمين ومالك الملك كله لا يسأل عما يفعل؛ وينبني على هذا دستور الأشاعرة في التشريع السماوي، وهو أن ما يأمر به الله العلي القدير حسن جميل، وما ينهى عنه هو القبيح الرديء.
وأما المعتزلة فمال فقهاؤهم إلى النظر في صفات الله تعالى من لطف وحكمة ورحمة وعلم، وفضلوا أن يجعلوا منها مصدراً بدهياً لما يوحي به الله إلى رسله من نهج ومن شرعة. فهو على قدرته تعالى في تحريم ما شاء والأمر بما شاء، لا يخالف منطق العقل فيما نهى أو أمر؛ أي أنه تعالى لا يأمر إلا بما يراه العقل حسناً من قبل، ولا ينهى إلا عما يراه العقل قبيحاً من قبل.
والعقل أيضاً عند هذه الطائفة، هو المنظم لأحوال المجتمع الإسلامي قبل مجيء الرسل وبعث الأنبياء، فهو الذي يهدي الأفراد والجماعات إلى فعل ما يدركون أنه حسن بالفطرة، وهو دافعهم إلى أن ينتهوا عما بان قبحه وظهر ضلاله وخبثه وخالف حكم العقل مخالفة صريحة. وإذا كانت الجنة مثوى من أطاع شرع الله ونفذ أحكامه وانتهى بنواهيه، وإذا كانت النار قراراً لمن عصوا ربهم فارتكبوا محارمه وقارفوا مناكر ما نهوا عنه وصدوا عن سبيله، فإن العقل أيضاً هو المجيز المثيب وهو المعاقب المؤاخذ. فقدرة العقل على أن يستقل بإدراك الحسن والقبح في الأفعال، وعلى تقدير ما يترتب على فعل الحسن من استحقاق الثواب وما ينجم عن فعل القبيح من استحقاق العقاب، يصح أن يعد مصدراً لتعريف حكم الله تعالى ودستوراً، من باب أولى، لتشريع السماء، بله أحكام الفقهاء.
فالتشريع، سواء أكان من وحي السماء أم من وضع البشر في عصور ما قبل الرسل، يراه فقهاء المعتزلة كاشفاً ومقرراً لما أدركه العقل من قبل. فهو كما ذكرنا لا يستنكر إلا ما يراه قبيحاً، ولا يرضى إلا بما يراه حسناً. وفي كلا الحكمين يعتمد على فطرته الهادية وذوقه المرهف وإدراكه السليم. ولما كانت أحكام الله عند تشريعها قد قصد بها أن تحكم مصالح العباد وتنظم الروابط الاجتماعية بين الأفراد، وبالجملة تهدي الناس إلى التي هي أقوم،(377/28)
ولما اقتضت حكمته تعالى ورحمته بعباده أن تجيء شرائعه معقولة مفهومة من أولئك المطالبين بالأخذ بها والتسليم لها، كان (واجباً) على الله سبحانه أن يشترع لعباده الأصلح الذي يغني والأقوم الذي يهدي، وكان (حراماً) عليه أن يترك هذا الأمر لا ضابط له!. . .
ولعلنا لا يتداخلنا العجب بعد هذا الذي قدمناه، إذا رأينا المعتزلة يؤمنون بمبدأ (القدرية) حتى يغلب عليهم اسمه ويصير كنية لطائفتهم تمتاز به عن غيرها من الطوائف المتفرعة عنها. فهي ما دامت تقول بالعقل حاكما مطلقاً للحسن والقبيح من الأفعال، وما دامت تجعل منه دستوراً لا يخطئ في تفسير شرائع الله، وتنظيم مصالح العباد، واستنباط الأحكام للناس في دائرة المعاملة ومحيط المعاش، فإنها لن ينقطع بها تفكيرها عن درك هذه النتيجة المنطقية، وهي أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، وأن الله تعالى منزّه عن أن يضاف إليه شر أو ينسب إليه سبحانه ظلم، لأنه لو خلق الظلم لكان ظالماً، وبالتالي لو خلق العدل كان عادلاً. فالحكيم عند المعتزلة هو من يفعل الخير لأنه الخير، ويتنكب سبيل الشر لأن شره واضح له، أو بمعنى آخر تتقاضاه الحكمة الراشدة والمعرفة الهادية أن يعتنق الحسن ليثاب عليه، ويصدف عن القبح خشية أن يجازى به، لأنه يحفظ بالأول أمر دينه ودنياه، ويخرج بالثاني على أمر عقله فيعصف بحياته ويكون خاسراً لدينه ودنياه.
ومن ثم كانت تكاليف الله التي أمر رسله أن يأخذوا بها العباد، هي بمثابة ابتلاء صادق للصالح والطالح من عباده. فمن هلك في الدنيا أو الآخرة لأنه صد عنها، فإنما يهلك عن (بينة) أي عن تعقل وتدبر، ومن صلح وزكا وحقق له مرافه العيش الدنيوي ومناعم الآخرة، فإنما كان ذلك عن بينة أيضاً، لأن أصول المعرفة وإن كانت مستمدة من العالم الخارجي الذي يتكنفنا وتقع عليه حواسنا، إلا أن إدراك مدلولاتها الحسنة أو القبيحة وشكران النعمة على هذا الإدراك إنما مصدرها العقل، فالإدراك الصحيح والشكران الحق واجبان على كل مكلف لأنه رزق العقل ووهب الاختيار في الكسب
وبعد فهل أصاب المعتزلة في فلسفتهم هذه، وهل هي تصلح بذاتها لتعريف حكم الله وتقعيد التشريع والفقه على العقل الذي يستقل بالقدرة على تنظيم العباد تنظيماً معقولاً مفهوماً يقربون به من الحسن ويبعدون به عن القبيح؟(377/29)
قلنا إن الأشعرية يرون أن الحاكم على الأفعال بالحسن والقبح هو الله الذي لا سبيل للعقل في الحكم عليه لأنه سبحانه متعال عن أن يحكم عليه أحد من العباد فهو خالق أفعالهم وجاعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، ويلاحظ أن في هذا أخذاً - إلى حدٍ ما - بمذهب الجبرية الذي يقول إن الله قدر الأفعال حسنها وقبيحها، على الناس أزلاً، فلا مجال لهم في كسب أو اختيار ما دام أن العبد لم يقدّر فعله، فضلاً عن أن الثواب والعقاب هما لله وحده وليس في طوق العبد أن يعلم بهما إلا منه تعالى.
والواقع أن الحسن والقبيح إذا تأملنا فيهما تأملاً تجريدياً حكمنا بحق أنهما ليسا صفة ذاتية في الفعل وليسا أمراً ثابتاً مستقراً فيه حتى يصح حكم العقل على حسن الفعل أو قبحه. والعقول بجانب هذا مختلفة متفاوتة لا تتفق في حكمها، بل إن عقل الشخص الواحد لا يثبت في حكمه على شيء من الأشياء على حالة واحدة، تبعاً لاختلاف المؤثرات الزمانية والمكانية وتفاوت التفكير قوة وضعفاً.
ونخلص من هذا إلى أن المعتزلة قالت بنظرية القانون الطبيعي قبل الغربيين بزمن مديد، وهي النظرية التي تجعل العقل البشري مصدراً للقانون يعلو على التشريع سواء كان صادراً من سلطة غير منظورة كالله، أو من سلطة منظورة كالسلطان (الإمام). فالعقل - كما يقولون - هو الذي يستقل بكشف قواعد هذا القانون ومبادئه الخالدة معتمداً في هذا على الإدراك الصحيح والذوق السليم.
صلاح الدين الشريف
المحامي(377/30)
إلى معالي وزير المعارف
التعليم الزراعي
- 2 -
دعوتك لما يراني البلاء ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
فلا تسمعن من الكاشحين ... ولا تعبأت بعجل اليهود
وكن فارقاً بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد
(المتنبي)
المستقبل:
وهكذا تتكبد الدولة ستين وخمسمائة جنيه في السنة للمكتب الزراعي الواحد، أي حوالي خمسين جنيهاً للتلميذ الواحد في السنة، أي خمسين ومائة في السنوات الثلاث لينتهي بعدها إلى جهل مسطور في شهادة يسمونها (الدبلوم)، ثم يُلفظ إلى الشوارع والطرقات يتسكع يطلب الوظيفة كدأب أي طالب تخرج في مدرسته ليزداد به عدد العاطلين عاطلاً آخر.
وقد تنفرج شفتا الحياة لواحد منهم عن ابتسامة فيجد عملاً فما يلبث أن يبدو جهله، وكثير منهم طردوا من الدوائر والضياع وشرّدوا ولم يبق منهم إلا من أصاب عملاً في مدارس الزراعة المتوسطة.
والآن حين أسفرت التجربة عن إخفاق يندى له الجبين، قام ناس ينافحون عنها، ويريدون أن ينشروا الفكرة وينشئوا مكاتب أخر إشفاقاً على أنفسهم أن تجتاحهم العاصفة.
مشروع جديد:
إلى هنا هوى المشروع بين يدي النقد الصريح، وما كان لي أن أهدم مشروعاً دون أن ألتمس له طريقاً يسلكه صوب النجاح. وبينا أنا أفتش عن طريق الإصلاح إذا بالجرائد تطلع علينا تقول:(377/31)
(أشرنا من قبل إلى رغبة وزارة المعارف في تيسير التعليم الزراعي لتلاميذ المدارس الإلزامية وقد انتهت إلى وضع النظام التالي على أن يعمل به ابتداء من السنة الدراسية القادمة.
أولاً: يلحق تلاميذ المدارس الإلزامية بالمدارس الزراعية المتوسطة ليتمرنوا تمريناً عملياً في أقسامها المختلفة كالحقل ومعامل الصناعات الزراعية ومعامل اللبن.
ثانياً: أن تكون مدة الدراسة خمس سنوات: اثنتان إعداديتان والسنوات الثلاث الباقية يوزع فيها التلاميذ للتخصص بأحد القسمين وهما: قسم الحقل ويشمل معمل الألبان وتربية الحيوانات. وقسم البساتين ويشمل الصناعات الزراعية وتربية النحل ودودة القز.
ثالثاً: ألا تقل سن التلميذ عند الدخول عن 13 سنة ولا تزيد على 15 سنة وبشرط أن ينجح في كشف الهيئة والكشف الطبي).
(الأهرام، 381940)
فقلت: لا جرم، فقد تكسر المكتب الزراعي القديم ليكون هذا المشروع مكتباً زراعياً أخراً من نوع جديد، وهالني أن (يلحق تلاميذ المدارس الإلزامية بالمدارس الزراعية المتوسطة) لأمور أفصلها فيما يأتي:
أولاً: لأن التعليم الإلزامي يعم القطر المصري كله، والمدارس الزراعية المتوسطة في دمنهور وشبين الكوم ومشتهر والمنيا فحسب؛ فكيف يستطيع التلميذ الإلزامي في قنا أو جرجا أو كفر الشيخ أو كوم حمادة - مثلاً - أن يأخذ قسطه من التعليم الزراعي الجديد ونحن نعلم أن تلامذة الإلزام فقراء لا يستطيع الواحد منهم أن ينأى عن أهله، وإن استطاع هو فلن يرضى أبوه وهو في حاجة إليه شديدة، وإذن لا يمكن أن ينتشر هذا التعليم بين تلامذة الإلزام في سهولة وبتكاليف قليلة. وإذا قيل إن هذا المشروع ستغذيه فئة قليلة ممن يستطيعون. . . فقد ضاعت الفائدة المرجوة؛ وانمحى مبدأ (التيسير) الذي تنشده الوزارة.
ثانياً: لأن إجازات التعليم الإلزامي - ولاسيما في القرى -
مرتبطة بمواسم الزراعة فالتلميذ هو عضد أبيه. . . ولقد جاء
في أهرام 2771940 ما يأتي: (وافق معالي وزير المعارف(377/32)
على تعديل نظام الإجازات بمدارس الزراعة المتوسطة ابتداء
من أول السنة القادمة بحيث لا تقع هذه الإجازات أثناء
المواسم الزراعية المهمة فيفوت على الطلبة ما يمكن أن
يفيدوه من خبرة ودربة على الزراعة العملية تحت إشراف
أساتذتهم). ولا ريب فهذا قانون يسري على كل طالب وتلميذ
في المدارس الزراعية ومن بينهم تلميذ الإلزام، فهل يا ترى،
يضحي الأب بقوته، أم تضحي الوزارة بالفائدة؟
ثالثاً: لأن تلاميذ التعليم الإلزامي سيخلقون في المدارس الزراعية فوضى يحق لي أن اسميها (فوضى الاضطراب) أو (فوضى التوسع). ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يقوموا بما يقوم به الطالب الزراعي في حين أنهم يقفون معاً جنباً إلى جنب فالطالب الزراعي يستطيع أن ينهض بأعباء الدراسة في سهولة لأنه نال حظاً من الثقافة المتوسطة، وأن ينتظم في الدراسة في غير عنت لأنه كرس حياته لهذا النوع من التعليم، وأن يدفع المصروفات لأنه غني. أشياء تعضل كلها على التلميذ الإلزامي.
ولعل إنساناً يقول: إن التلميذ الإلزامي سيتعلم مجاناً. لا بأس وإذن يجب أن يتعلم الطالب الزراعي بالمجان أيضاً، وإلا فعلى أي أساس تكون التفرقة بين هذين التلميذين. فإن اعترض إنسان بقوله إن لكل منهما عملاً. قلت: وكيف يضمهما بناء واحد يشعر أحدهما بالكبرياء والترفع ويشعر الآخر بالضعة والذلة؟ وكيف يضم بناء واحد فئتين من التلاميذ يدرسان فناً واحداً غير أن إحداهما دون الأخرى. لا مرية، فهذا عمل تأباه الإنسانية وإذن لابد أن ينفصل أحدهما عن الآخر.
وهنا ينهد هذا المشروع الجديد قبل أن يبدأ.
رابعاً - لأن (فوضى الاضطراب) أو (فوضى التوسع) تبدو للعين واضحة جلية حين نرى أن ناظر مدرسة الزراعة المتوسطة سيشرف على المدرسة الجديدة والمدرسة القديمة(377/33)
وتلامذة الإلزام ولكل فئة من هؤلاء منهج ونظام، ثم الحقل والعمال والمخازن والآلات و. . . مما ينوء بالعصبة أولي القوة. ولكن الشغف بالشيء يعمي عن الحقيقة البينة.
الإصلاح:
إن نشر التعليم الزراعي بأقل التكاليف وأبسط الطرق هو المبدأ الذي وضعته أمام عيني حين أخذت نفسي - بادئ ذي بدء - بنقد هذا التعليم. وهذا المبدأ يستطاع تحقيقه بتنفيذ عملين معاً.
العمل الأول: أن تصير سنوات الدراسة في المدارس الإلزامية خمساً وتلحق بكل مدرسة قطعة أرض صغيرة تقسم إلى خمسة أقسام لكل فصل قسم يزرعه نوعاً أو أنواعاً من المحاصيل الزراعية أو الخضراوات حسب تقسيم المنهاج. وهذه القطعة يزرعها التلاميذ بأنفسهم لا يساعدهم أحد إلا أن يكون للتدريب والتوجيه ليشهدوا ويعملوا بأيديهم تحت إشراف مدرس من خريجي المدارس المتوسطة. أما الماشية التي يحتاجون إليها فيستطيعون الحصول عليها من أحد أعيان الناحية أو من عمدة البلدة. ويقوم التلاميذ على حساب الإيرادات والمصروفات، ويكلفون بجمع الحشرات المختلفة ويتعلمون (سورة الفدان). وهكذا يستطيع التلميذ أن يتعلم فن الزراعة وفلاحة البساتين ومبادئ الكيمياء الزراعية وعلوم الحيوان والنبات والحشرات ومساحة الأراضي في صورة بسيطة. ولا ريب عندي أن التلاميذ يستطيعون بجدهم أن يسددوا إيجار قطعة الأرض الملحقة بالمدرسة، وبذلك لا تخسر الوزارة شيئاً في حين قد كسب الوطن أشياء كثيرة.
وهذا عمل تقوم به مراقبة التعليم الإلزامي في سهولة، وفي غير إرهاق.
ولتمام فائدة هذا العمل ينشأ في كل مركز معمل ألبان وآخر للصناعات الزراعية يقوم عليه طائفة ممن أتموا مرحلة التعليم الإلزامي ويبتغون الزيادة: يشترون المواد الخام، ويبيعون المنتجات، ويحسبون الأرباح والخسائر بأنفسهم.
العمل الثاني: أن ينشأ في كل قرية أو عدد من القرى المتجاورة مكتب إرشاد يشرف عليه أحد خريجي كلية الزراعة.
ويكون رئيس هذا المكتب هو رئيس مدرس الزراعة بالمدرسة الإلزامية، وحلقة الاتصال بينه وبين المباحث الحديثة، فهو يبلغه النشرات الجديدة، وما يطرأ على فن الزراعة من(377/34)
تجديد وتغيير، ويفتش على عمله بالمدرسة وبالحقل، ويكتب التقارير إلى جهة الاختصاص و. . .
وهذا العمل تقوم به وزارة الزراعة أو وزارة الشئون الاجتماعية.
هذا. . . وللمدارس المتوسطة جولة أخرى إن شاء الله.
(للموضوع تكملة)
(*)(377/35)
وداع الشاطئ
من الفردوس إلى الجحيم
للأستاذ سيد قطب
اُحْلُ يا شطُّ ما تشاءُ فإنّي ... رغمَ سحرِ الجمالِ والموجِ راحلْ
راحلٌ حَشْدُ نفْسِه لفَتاَتْ ... ليس عن فتنةِ الجمالِ بغافلْ
قدَ دَعَتْهُ إلى الرَّحيلِ ديارٌ ... في صميمِ الجحيمِ تُدْعى الشواغلْ
هي قبرُ الآمالِ والفنِّ والحبْ ... بِ وقيدٌ عن كلِّ ما شاقَ شاغلْ
وهي داري التي دَرَجْتُ عليها ... وإليها المآبُ مَهْما أحاولْ!
اُحْلُ يا شطُّ بالجمالِ طليقاً ... من قُيوِد الزمانِ نشوانَ وَاهِلْ
أسْكَرَتْهُ الأمواجُ وهي تُزَجِّى ... دَفَعاتِ الحياةِ في كلِّ نازلْ
فيرَى نفْسَهُ خفيفاً غَرِيراً ... قاهراً قادراً يجوزُ الحوائِلْ
دَفَعاتُ الحياةِ في الموجِ أَسْنَى ... من بَريقِ الآمالِ في نفْس آمِلْ
اُحْلُ يا شطُّ بالعَرائِسِ حُوراً ... سابحاتٍ والموجُ ظمآنُ ناَهِلُ
كانْفِتاَلِ الحِيتانِ في البحرِ وَثْباً ... وانثناءِ الغِزْلانِ والشطُّ ذاهلْ
فتنةٌ تسكبُ الحياةُ عليها ... سِحْرَها والعيونُ حُورٌ قَوَاتِلْ
واندفاعُ الأمواجِ يُوقِظُ في النَّفْ ... سِ ظَماءً مُرَقْرَقاً في الدَّخائِلْ
وانطلاقاً من التَّزَمُّتِ والْعُرْ ... فِ وشوْقاً إلى المباهِجِ واغِلْ
اُحْلُ يا شطُّ لن نُطيقَ انْفِلاَتاً ... من رَحيلٍ إلى جحيمِ الشواغلْ(377/36)
القبلة
للأستاذ خليل شيبوب
يَا حَبِيبي قد أَمُوتُ غَدَا ... ذَائِباً في حَسْرَتِي كَمَدَا
آهٍ لوْ تَشْفِي غَلِيلَيِ في ... قُبْلَةٍ مَا تَنْتَهي أَبَدَا
أتَملاَّهَا فَماً لِفمٍ ... لِتُذِيبَ الرُّوحَ وَالْجَسَدَا
ناَهِلاً أنفَاسَهَا عَبَقاً ... نشْرُهُ يَسْتَرْوح الْخُلَدا
شَارِباً مِنْ طِيبِ رَشْفَتِهَا ... خَمرَةَ الموْتِ الذِي عُهِدَا
حَافِظاً مِنْ طَعْمِهَا بَفَمِي ... لَهَباً يَشْتَدُّ مُتَّقِدَا
عَلْقَماً تَحلو مَرَارَتُهُ ... وَتَشُقُّ الْقَلْبَ وَالْكَبِدَا
سَكْرَةٌ مَخْمُورُهَا تَعِسٌ ... لَنْ يُلاُقِي بَعْدَهَا رَشَدَا
إيهِ يَا شَمْسَ حَيَاتي التي ... نُورُهَا قَدْ شَعَّ مُنْفَرِدَا
أنْتِ رُوحِي لَيْسَ عَنْكِ غِنىً ... أوْ تُضَحَّى الرُّوحُ عَنْكِ فِدَى
أنْتِ آمَالِي مُجَسَّمَةٌ ... تَزْدَهِي ألْوَانُهَا جُدُدَا
وَحَيَاتي أنْتِ زِينَتهَا ... جُزْتِ فِيهَا المالَ وَالوَلَدَا
أنْتِ سِرُّ العُمرِ أفْهَمُهُ ... أنْتِ مَعْنَاهُ يَفِيضُ هُدَى
إنَّهُ قَدْ صَارَ لَحْنَ هَوَى ... وَغَدَا قَلْبِي بِهِ غَرِدَا
كاَنَ لِي عِقلٌ يُدَبِّرُني ... وَهْوَ فِي حُبِّيكِ قَدْ شَرَدَا
كاَنَ لِي عزمٌ أعِيشُ بهِ ... وَهْوَ مِنِّي اليومَ قَدْ فُقِدَا
كلُّ مَا فِي العَيْشِ مِنْ فِتنٍ ... ذَهَبَتْ غَيْرَ الغَرامِ سُدَى
أنَا مُسْتَغْنٍ بِحبِّيَ عَنْ ... كلِّ مَا في الكاَئِناَتِ بَدَا
آهِ يَا شَمْسَ حَيَاتي ألاَ ... قُبْلَةٌ أحْيَا بها أبَدَا
أتَمَلاَّهَا فَماً لِفَمٍ ... لِتُذِيِبَ الرُّوحَ وَالْجَسَدَا(377/37)
عيد ميلاد سعيد
للأستاذ العوضي الوكيل
يَومُكِ يَوْمي، وعِيدُكِ العيدُ ... وَفيهِ تَحلُو لِي الأناشيدُ
يا رَوضَةً قدْ زَهتْ مطالعُها ... هَأنَذَا في رُباكِ غِرِّيدُ
أشدُو بأحْلامِ مُهجَتي أبداً ... شِعْراً تَعي سِحْرهُ الْجَلاميدُ
تألَّقَ الحُبُّ في جَوَانبهِ ... وازدانَ بالفنِّ وهو مَنضُودُ
وسَلْسلتهُ عواطفٌ سَلسَتْ ... فما بشعرِ الجمالِ تَعقِيدُ
يا زَوْجَتي، يا هَوَايَ، يا أمَلي ... قلبي بمعنَى سَنَاكِ مَحْشُودُ
بَقِيَّتِي أنتِ في الحياةِ وَمَا ... مَحْيايَ إلا إليكِ مَردُودُ
من مُنذ عشرينَ غَيرَ وَاحِدةٍ ... وَمَعدنُ الفَنّ فيكِ مَوجُودُ
وَقَدْ سَخَا الكونُ حِين أخْرَجَهُ ... وهو شحيحُ اليَدَينِ مَنكُودُ!
خُذي، خُذي الشعرَ من مَصادِرِه ... وَرَدِّديهِ إن لذِّ تَرْديدُ
ورَجعي لحنَهُ عَلَى خَلَدِي ... فإنّ هذا للحُسنِ تَمْجيدُ
إن حَدّدته الحروفُ في كلمٍ ... فما لهُ في الضميرِ تَحْديدُ
يومُكِ يومي، وتلكَ تَهْنِئَتي ... تزُفُّهَا نَحوَكِ الأغَاريدُ
تَبَلْبَلَ القَلبُ في مَقَاطِعهِا ... يَهتفُ: عُمرٌ كالدَّهرِ ممدُودُ(377/38)
نداء. . .
للأديب عبد الرحمن الخميسي
(يا حمامتي في محاجئ الصخر، في ستر المعاقل، أريني
وجهك، أسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف، ووجهك جميل)
(التوراة)
وجهها
سَواهُ رَبِّي فِتنةَ الأحْياءِ ... من سَرْمَدِي الحُسنِ وَالألاءِ
ما وَجهُ أفرُودِيت إلا صُورة ... منه، كَظِلِّ الوَرْد فوْق الماءِ
خَطَّ الإلهُ السحْرَ في قَسَماتِهِ ... ونَماهُ في جَنّاتِهِ الفيحاء
وَسَقاهُ أرْوَاحَ الجمالِ فكله ... كلُّ الجمال مُفَصَّلُ الآلاء
فيه الربيعُ وفيه طيرٌ ما شدتْ ... لكنها تشدو بغيرِ غِناء
فيهِ من الليْلِ الوَدِيعِ قدَاسةٌ ... تُلقى بُذورَ الخيرِ في أطوَائي
فيه مِنَ الألَقِ المُصفَّى لُمعَةٌ ... خمريةٌ مَشْبُوبةُ الإغرَاءِ
فيه خُفُوتٌ شاعريٌّ، تحتَهُ ... نارُ الشباب تسيرُ في اسْتِخذَاء
فيه النَّقاوَةُ وَالْبراءِةُ جُمعتْ ... وتَحدَّرَتْ منهُ إلى البُرآءِ
هو مَعبدٌ تَعتاشُ في مْحِرابهِ ... صَلوَاتُ عُشاقٍ، ونُسكُ سَمَاء
ضَحيتُ فيهِ تقرُّباً من خَالقي ... بزهور عُمرِي والتِماعِ هَنَائي
ونفضتُ عَنِّي المجدَ، مجداً زائفاً ... ونشدتُ فيهِ رفَعتي وَعلائي
وَعَبَدتُ فيه الله لا مَحبُوبَتي ... فالله مُبدعُ تلكُم العَذرَاءِ
وَنَسَجتُ من أنْوارِهِ غَيبُوبَتي ... فوجدتُها أنقَي مِن الأضْواءِ
يا شَعرَها الغِريبَ لَيتَ أنا الذي ... أهْتَز فَوقَ جَبِينهَا الوَضّاء
فأمُدُّ مِنْ ذَاتي قناَعاً حَالِكاً ... يخْفي ابِتسَامَتَها عن الأحْياءِ
فَأنا أغَارُ، وَغيرَتي مَجنُونةٌ ... هَدَّتْ بنائي، آه أيْنَ بنائي؟
ما حَرَّكتْ أجْفانَها إلا وَقدْ ... لَطَمَتْ فُؤَادِي غمرةُ الإعْياءِ(377/39)
والسهدُ في العينين كَبَّل مَنَطِقي ... وَأصَابَني بالرعْشَةِ الحَمقاءِ
صوتها
ينسابُ كالصهباءِ في حسِّي إلى ... أنْ تحتويه نشوةُ الصهباء
فتميد بي الدنيا وأنسى صرفها ... وتُفَكُّ روحي من إسار بقائي
وأهيمُ في أفقِ الذهول معانقاً ... وَهْمي إلى عُشٍ من الأضواء
تختالُ فيه القُشبُ من أحلامنا ... وتَرفُّ حولي عَذبةَ اللألاء
هو ذُخرُ وجداني إذا ما فَرقَتْ ... بيني وبينكِ رِجفةُ الأنواء
فيرنّ في غوري صداهُ مرقرقاً ... شوقَ الحبيبِ إلي الحبيب النائي
ويُفيحُ حرَّ الوجدِ من أنغامِه ... في حَبَّتي وعلى هدير دمائي
فَيلُفني الإعصارُ إعصارُ الجوى ... وتُذيبُ نفسي غُربةُ الشعراء
إني أحِسُّ لرَجعِ صوتك في دمي ... لهباً وبرداً يُترِعان ذِمائي
وأودّ لو أني هواءً عاطراً ... ثَملاً بموسيقاه في أحنائي
أطوي عليه النفسَ خشيةَ سامعٍ ... وأغارُ يا دنيايَ من أحشائي
يا ليتَ أني في لهاتِكِ غُنوَةً ... علوية التلحين والإلقاء
لَسَكنتُ في الألباب أخلدَ منزلٍ ... ما دمتِ أنتِ ترنمتْ بغنائي
إني الشحيحُ وجَرسُ صَوتُك في دمي ... وسواسُ تِبرٍ نافذُ الأصْداءِ
حول الرنينِ يطوفُ عُمري مثلماً ... يَتَطَوَّفُ الحَرَّانُ بالأفْياءِ
ولسانُكِ الذّهبيُّ قيثارٌ سَرتْ ... من قَلبهِ أغْرُودةُ الجوزاء
وكأنها فجرٌ، أنا في نُورِهِ ... جسمُ الدجُنَّةِ ذائبُ الأعضاء
وكأنها عِطرٌ يُضمِّخُ مهجتي ... وأنا النسيمُ مُطهَّر الأرُجاء
وكأنها طلٌّ يغيثُ حَشَاشَتي ... وأنا البَنَفسجُ في الربى القَحْلاء
وكأنها جَمرٌ يُحرِّقُ معْدني ... وَيُحيلني رُوحاً مِنَ العلياء
وكأنها كلُّ الحَيَاة تدُبُّ في ... جَسَدِي دَبيبَ النور في الظلْمَاء(377/40)
رسالة الفن
لابد من حل
الفن. الخبز. الروح
(الرجاء في معالي وزير المعارف الفنان الكبير (الدكتور
هيكل باشا))
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يذكر القراء أن مدرسة الفنون الجميلة العليا تورطت في العام الماضي مع نفسها تورطاً عجيباً إذ حكمت على طلبة قسم النحت فيها بأن يرسبوا جميعاً وأن يعيد كل منهم دراسته في سنته نفسها.
ويذكر القراء أن إشاعات كثيرة راجت حول هذا التورط العجيب، كما يذكر القراء أن الرسالة تناولت هذا الحادث الخارق للعادة بكلمة حدث على أثرها - ولا نقول بتأثيرها - أن نقل الدكتور ناجي مدير المدرسة السابق منها، وأن عهد بإدارة المدرسة للأستاذ محمد حسن المراقب المساعد للفنون الجميلة بوزارة المعارف.
والأستاذ محمد حسن رجل له خطط يرسمها وينفذها مستعيناً عليها بجماعة من أساتذة الفنون في مدرستي الفنون الجميلة العليا والفنون التطبيقية. وهم كلهم من الشبان المتطلعين إلى فوق، والذين يؤمنون بأنه قد آن للمصري الفنان - كما آن لكل مصري - أن يزيح عن مناصب الحكومة وعن ميادين الأعمال الحرة أيضاً كل أجنبي دخيل جاء إلى مصر ليربح المال، وليجمع المال، وليكسب المال.
وأنا وإن كنت بعيداً عن كل تعصب، وإن كنت أكره التفريق بين الناس لأي سبب من الأسباب، فإني لا أملك أن أصد الأستاذ محمد حسن عن المضي في اتجاهه، لأنه قد تم له فعلاً التخلص من كل الأساتذة الأجانب في مدرسة الفنون الجميلة، وقد أحل بدلاً منهم فعلاً فريقاً من الأساتذة الشبان المصريين، وهؤلاء هم الذين نرجو اليوم على أيديهم الخير للمدرسة، والله الموفق.
وكما دبر الأستاذ محمد حسن مسألة الأساتذة على هذا النحو الذي أرتآه، فقد فكر أيضاً في(377/41)
مسألة الطلبة والمتخرجين، ورسم لهم هم أيضاً خطة قال لي إنه عرضها على معالي الدكتور هيكل باشا في وزارته السابقة، كما قال لي إن معاليه وافق عليها، ورصد لها مبلغاً من المال ليبدأ تنفيذها به، ثم حلت الظروف القاسية التي نعانيها اليوم فبطل الإنفاق وبطل التنفيذ.
وهذه الخطة هي موضوع حديثنا اليوم، لأننا لا نزال نرى أن هذه الظروف القاسية لا يمكن أن تكون حائلاً دون تنفيذها، بل إننا نرى أن هذه الظروف القاسية نفسها دافع قوي يحفزنا إلى التعجيل بها.
تخرج مدرسة الفنون الجميلة العليا كل عام جماعة من الشبان الفنانين، بعضهم يلتحق بوظائف الحكومة، وبعضهم يظل يسعى وراء وظائف الحكومة إلى أن يلتحق بها، لأنه لا سوق للفن في مصر.
فإذا كانت الحكومة تنوي أن تستبقي مدرسة الفنون الجميلة العليا مفتوحة للطلاب تستقبلهم وتخرجهم، فإن عليها أن تفكر في أمرهم، فهي المسئولة عنهم، كما أنها المسئولة عن كل عبد من عباد الله الذين تتولى أمورهم.
ونحن لا نجرؤ على مطالبة الحكومة بتوظيف كل متخرج من هذه المدرسة، فنحن نعرف أن وظائف الحكومة محدودة، وأن الحكومة متخمة بالموظفين، كما أننا نعرف أن الفن لا يحيا مرتاحاً، ولا ينمو مزدهراً في الدواوين والمصالح.
فالباقي على الحكومة أن تفكر فيه إذن، هو أن تنشئ للفن في مصر سوقاً، أو أسواقاً؛ فإذا هي فعلت ذلك، تفتحت أبواب الحياة أمام الفنانين، وتفتحت عيون الناس على الفنون، وتابع الجمهور الحكومة في الاهتمام بالفن وفي الإقبال عليه.
وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن التمثيل فن جدير بالرعاية والتشجيع لما يهذب النفوس ويرقيها، فأنشأت الفرقة القومية، وفتحت بها للمثلين باباً مطمئناً من أبواب الرزق، وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن الغناء والموسيقى فنان جديران بالرعاية والتشجيع لما يصقلان النفوس ويرفهان عنها، فرعت محطة الإذاعة، ورصدت لها إعانة سنوية تنفق على المغنين والمطربين، وتضمن لهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق أيضاً، فإن على الحكومة كذلك أن تؤمن بأن النحت والتصوير فنان لهما أثرهما في النفوس كغيرهما من الفنون، وعليها بعد(377/42)
ذلك أن تفتح للنحاتين والمصورين الذين تربيهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق كما فعلت ذلك مع غيرهم.
فما هي هذه السوق التي تستطيع الحكومة أن تنشئها للنحاتين والمصورين؟
(المتاحف)، فهي أول ما يرد إلى الذهن، ولكن التجربة أثبتت أن الجمهور المصري منصرف عن المتاحف انصرافاً تاماً، وأن كل ما ينفق عليها عبث لا يجدي ولا يعود بالنفع، فهي بعيدة عن الجمهور، لا يقصد إليها أحد، ولا يستمتع بها أحد، ولا يتأثر بها أحد. والذي نريده نحن أن نضع الفن تحت أعين الناس حتى يروه ويتأثروا به، ثم يحبوه، ويقبلوا عليه.
وقد ألهم الله الأستاذ محمد حسن فكرة ضمنها تقريره الذي رفعه لمعالي الدكتور هيكل باشا فوافق عليه ولكنه توقف عنه للأزمة الطارئة. . .
وتلك الفكرة هي أن تقرر الحكومة تزيين معاهدها ودورها العامة، وحدائقها ومتنزهاتها، وشوارعها وميادينها بالصور والتماثيل. . .
وتستطيع الحكومة أن توفر آلاف الجنيهات من ثمن السجاجيد التي تفرشها على الأرض في دورها ومعاهدها، وأن تعطى هذه الآلاف للفنانين المصريين الذين يشكون اليوم أزمة البوار بينما اليوم هو يومهم الذي تلطب البلاد فيه نفثات أرواحهم.
ومعالي الدكتور هيكل باشا أول من يعرف أن نفوس الجماهير لا يؤثر فيها شيء مثلما يؤثر فيها الفن، وأنه لا يملؤها عزماً وحباً للحياة إلا الفن، وإني أخجل من التحدث إليه في هذا الموضوع لأني واحد من أبنائه فيه، فقد تعلمت من كتابته كما تعلم غيري أن تباشير النهضات دائماً لا تكون إلا فنوناً يتلوها العلم، ثم يتلوه العمل.
فإذا قيل لنا إن الظروف القاسية التي نعانيها اليوم تمنعنا من التبذير ومن الإنفاق على الفنون الجميلة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى الإنفاق على ما هو أهم منها وأكثر ضرورة ووجوباً في هذه الظروف، قلنا إنه لا شيء أهم من الفن في هذه الظروف ولا شيء أكثر منه ضرورة ولا شيء أكثر منه وجوباً.
وإن نظرة واحدة نلقيها على الدول المتصارعة في العالم اليوم تثبت هذا الذي ندعيه، فألمانيا وإيطاليا استعانتا بالفنون على تهييج شعبيهما، فما في برلين ولا في روما ميدان إلا(377/43)
وفيه تمثال، وما في برلين ولا في روما شارع إلا وفيه صور وخرائط ورموز تشعل الحقد والغرور في نفوس الناظرين إليها من أهلها، وإن بريطانيا العظمى اليوم لتستعين بالأدباء والخطباء على إثبات حقها في الدفاع عن الديمقراطية التي تتحدى بها الديكتاتورية وتناصرها عليها. وكل من ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا العظمى تنفق على التصوير والنحت والأدب والخطابة ملايين الجنيهات غير آسفة، لأنها تعرف أن هذه الفنون غذاء لازم للأرواح لا تستطيع الأرواح الإقبال على الكفاح أو الثبوت فيه إلا إذا شبعت وارتوت منها. وإذا كانت هذه الدول تؤمن بفوائد الفنون هذه الإيمان، وإذا كانت هذه الفنون قد أحدثت في هذه الدول هذه الآثار التي نراها من اختبال العقل في الألمان والطليان والصبر الجبار عند البريطان، فإنه جدير بنا أن هرع إلى هذه الفنون لنشبع أنفسنا ونرويها منها، فلسنا نعيش في دنيا غير الدنيا التي تعيش فيها هذه الدول، وإنما نحن في مركز الدائرة، وإذا نحن فوتنا هذه الفرصة وقعدنا فيها عن استغلال الفنون في إثارة الروح الوطنية في نفوس المصريين، فإننا قد لا نحتاج بعد اليوم إلى الفن يحيينا، لأننا قد نحتاج بعد اليوم إلى أدوية وضروب أخرى من العلاج.
هذه الظروف القاسية إذن هي أنسب الظروف لإنعاش الفنون الجميلة وإحيائها وتفتيح الأسواق للفنانين، وتستطيع الحكومة أن تبدأ منذ اليوم بإنشاء مكتب جديد في وزارة المعارف لشراء الصور والتماثيل من الفنانين لتوزيعها على الدور العامة والمعاهد الحكومية والميادين والمتنزهات والشوارع، وأظن أن تاريخنا الطويل مملوء بالموضوعات الوطنية الجبارة التي تفعل في النفوس فعل السحر، كما أظن أنه كان من آبائنا وأجدادنا أبطال من حقهم علينا، ومن حقنا على أنفسنا أن نخلد صورهم أمام أعيننا لننظر إليها دائماً ولنستقي من معانيها آيات المجد والحرية والإيمان.
ولعله مما يضيق به صدر الحق والفن أن تكون كليات الأزهر خالية من تماثيل أبطال الأزهر وصورهم، وأن تكون الكلية الحربية خالية من صور زيتية تخلد البطولات المصرية والانتصارات المصرية في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الجديد، وأن تكون كليات الجامعة خالية من تماثيل رجال العلم ورجال الأدب المصريين والأجانب الذين لا نزال نتتلمذ عليهم ونأخذ عنهم، وأن تكون دار البرلمان المصري مزدانة بصور فوتغرافية ملونة(377/44)
صنعتها آلات جامدة فهي لا تجسد للعين ولا للقلب المزايا التي استحق أصحاب هذه الصور أن يحتفظ البرلمان المصري بصورهم لها وأن يزين جدرانها بها من أجلها. ولعله مما يزور عنه الذوق أن تكون دور الأوبرا المصرية خالية من صورة أو تمثال لسيد درويش وسلامة حجازي، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان وغيرهم من الفنانين المصريين. . . ولعل. . . ولعل. . . ولست أريد أن أمضي في تعداد نواحي النقص هذه البارزة في حياتنا فنحن نعرفها، وليس فينا من يجهلها. . . والذي يهمنا اليوم هو أن نبدأ بعلاجها لأننا قد شبعنا كلاماً فيها.
بقيت بعد ذلك فكرة طريفة، قال لي الأستاذ محمد حسن: إن بعض الدول في أوربا تنفذها بالفعل، وهي أنها تلزم أصحاب العمارات والبنايات الكبيرة بأن يخصصوا اثنين في المائة على الأقل من تكاليف بناياتهم وعماراتهم بزخرفة هذه العمارات والبنايات وتزيينها بالرسوم والتماثيل والصور. ولا شك أن تنفيذ هذه الفكرة يفتح الميدان واسعاً جداً أمام الفنانين، وهو في الوقت نفسه لا يضر أصحاب العمارات والبنايات في شيء.
والآن: الطريق أمامنا ممهدة معبدة. ونحن إذا آمنا بفائدة الفن وفعله في النفوس وأردنا أن نستغله لترقية أنفسنا فإننا من غير شك سنجد أنفسنا حيال أزمة هي عكس الأزمة التي تشكو منها اليوم. . . فنحن اليوم نبحث عن عمل للفنانين. ولكننا عندما نبدأ بتنفيذ هذه الفكرة سنجد أنفسنا مشغولين بالبحث عن الفنانين لكثرة العمل.
وعلينا أن نذكر أخيراً أن الحكومة إذا بدأت بتقدير الفن والفنانين المصريين، فإن كثيرين من عظمائنا وأغنيائنا وفقرائنا سيتبعونها في هذا التقدير، لأننا شعب تعود أن يتأثر (الميري) دائماً. ويا حبذا أن نتأثر (الميري) في الخير.
عزيز أحمد فهمي(377/45)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 3 -
عاد البحث ثانياً عن (الفيتامينات) عقب سني الحرب في سنة 1919، بعدما انطفأت شعلة الحرب واتجهت الإنسانية تسعى وجهة علمية مدنية، وعاد شغف البحاثين وولع العلماء في جميع المعامل بمتابعة التوسع في دراسة مبهمات هذه المادة الغذائية اللازمة للحياة، والتي دلت عن طريق التجارب الغذائية على وجودها في كثير من الأطعمة مثل الخميرة والزبدة وكبد الحوت والبيض والقشدة وبذور الحبوب والكرنب والكرنبيت والخس والطماطم وغيرها، كما اتضح أنه يستحيل نسبتها جميعاً إلى أصل مادة واحدة، فهي إذن تنتمي إلى مجموعات عضوية مركبة مختلفة التركيب.
ومن المشاهد أنه في حالة غياب أي نوع واحد من الطعام يحمل الفيتامين تظهر أعراض مرضية تختلف عن تلك التي تظهر عادة عند نقصان نوع ما من الغذاء. فالحالة الأخيرة تتلاشى فيها الأعراض عند إكمال النقص بعكس الحالة الأولى التي تستدعي لزوال أعراضها مصادر عديدة مختلفة من الفيتامينات.
وبتوالي استنباط وتجديد تراكيب غذائية مختلفة لا توجد فيها الفيتامينات إما من الأصل أو سلبت منها قسراً، وإجراء هذه التراكيب على الحيوانات كالفيران، وملاحظة ما يطرأ من الأعراض ويجد، ثم معالجة هذه الأعراض بالدقة والترتيب اللازمين، وذلك باجتناب المواد المسببة لتلك الأعراض. من تلك المشاهدات، ومع ما تستوجبه من الحرص والكفاية أمكن العثور بادئ ذي بدء على أربعة أنواع من الفيتامينات. ومع ضياع كل الجهود التي ذهبت حينذاك هباء للتدليل على الفيتامينات من الناحية الكيميائية، أو لتكييفها طبيعياً، فقد وضحت طريقها ووضعت لهذه المواد الحيوية المبهمة غير المحدودة المعالم الرموز: , , ,
لم يثن هذا من عزم الباحثين ولم يقف الجمود أمام سر تركيب الفيتامينات حجر عثرة في طريق البحث والتطلع من الستار الحاجبة أخذت تتهتك وتشف، وأخذ في تطبيق النتائج(377/46)
التي وصل إليها عن طريق تغذية الحيوان - على الإنسان. وقد أدى هذا إلى معرفة وتشخيص كثير من الأمراض كانت مجهولة الأسباب حينذاك مثل: البري بري والأسخربوط والبلاجرا (الطفح الجلدي اللومباردي - نسبة إلى لومبارديا في إيطاليا) والراخيتيس فعرفت بعدئذ بأمراض نقص الفيتامين أو الفيتامينوزات.
وكان من أثر هذه النتائج وشيوعها، واستغلال بعض الصناعيين لها في ترويج مستحضراتهم بعد ما عرف أن الأمراض سابقة الذكر غير مستعصية العلاج - أن ظهر ما سمي حينذاك (بشبح الفيتامين) أو (حمى الفيتامينات) الذي يُذكّر من جديد (بشبح البكتريا) لعشرين سنة خالية قبل هذا التاريخ إذ قيل عند اكتشافها بأن كائنات دقيقة حية هي التي تنقل المرض وتسبب العدوى، لذا وجب الإغلاء والتعقيم كي تموت هذه المسببات، بينما قيل العكس في الحالة الجديدة التي يشار فيها بعدم الإغلاء أو الطهي إن أمكن حتى لا تؤذي الفيتامينات أو تتعرض حيويتها للهلاك.
وقد أدى هذا إلى كثير من الخلط والالتباس، تعرضت له حالة الفيتامين الجديدة إبان نشوئها إلى كثير من الشبهة، وليس فقط في مستهلها بل وفي أثناء إتمام بحثها مما سنراه.
ولقد أسيء كثيراً إلى كلمة الفيتامين نظراً لاستعمالها في أوضاع خاطئة ولتشعب النواحي والأفكار بخصوص ما ينتظر منها ومن أثرها ومدى عملها في منع أو شفاء كثير من الأمراض، ومع هذا فقد بلغ علم دراسة الفيتامينات شوطاً كبيراً في السنين الأخيرة حتى يومنا هذا - شوطاً ذا أهمية عملية بالنسبة لحياة الإنسان اليومية، مما لا يمكن أبداً الإقلال من قيمته بل على العكس إكباره وتقديره. وليس هذا فقط لما جدّ من اكتشاف أنواع أخرى من الفيتامين ولا لما عرف من عديد الأمراض التي كانت مجهولة الأسباب فأضحت أسبابها بيّنة ممكنة العلاج ولا لما أمكن تحضيره من هذه الفيتامينات صناعياً وما يجري العمل لإتمام تحضيره، بل لقد تهيأت الأسباب حديثاً لمعرفة طبيعة الفيتامين ومهمتها وعملها في الجسم وقصر ما بين حجابها وبين الإنسان.
وإذا ما أردنا بكلمات قليلة أن نحصر أو نعرف أهم ما عرف عنها إلى اليوم وجدنا أن الفيتامينات عبارة عن مجموعات أو مخلوطات عضوية مختلفة التركيب هي نتيجة تطورات (تعقيد) لعوامل مساعدة في التمثيل (التحول الغذائي) وعليه تكون الحاجة إلى(377/47)
وجود الفيتامين في الخلية الحية من أوجب الضرورات. وبما أن الفيتامينات قد وجدت في أصل البحث في النبات فيغلب على الظن أنها تقوم فيها مقام المواد الفعالة (الهرمونات) في جسم الإنسان والحيوان، كما وجد أن بعض النباتات قد تصيبها بعض أمراض نقص الفيتامين وهذا ما وصل إليه حديثاً العالم النباتي بورجيف إذا أثبت أن نبات يموت تدريجياً إذا لم يحصل أثناء نموه على الفيتامين (ب) عن طريق نبات فطري يعيش عليه معيشة اتحادية، وذلك لأن النبات نفسه غير قادر ولا مهيأ لعمل الفيتامين. وكما أن الفيتامينات ضرورية جداً في جسم الإنسان والحيوان ولا معدى عن وجودها فيه فهي كذلك (ضرورية) حتى عند الحيوانات الدنيئة - فقد تصيب الحشرات مثل الصراصير (صراصير المطبخ) والنحل ويرقة السوس أمراض نقص الفيتامينات.
يجب إذن تموين جسم الإنسان والحيوان دائماً بتلك المواد الحيوية، إما بفيتامينات كاملة أو أولية التركيب (بروفيتامين) وذلك لتسهيل عمل الخلية الحية أو مجموعة الخلايا وبالتالي لتنظيم سير الجهاز الحيوي (دورة الحياة)، وتكفي منها كميات صغيرة جداً وتعتبر كمصادر قوة أو كمواد البناء أو التشغيل في عملية التمثيل الغذائي وقد تعمل بين بعضها وبعض بطريق التبادل أو يحتل جزئياً بعضها أماكن بعض كمساعدة أو مسبب للأدوار المعقدة التي تقوم بها الخلية في عملية التمثيل.
فكما أن أي رئيس لأية فرقة موسيقية لا يشترك كباقي الأفراد في إدماج أو إدخال أي صوت آلي من عنده له أثر ما في النغم أو اللحن النهائي ولكنه كمشجع أو مهدئ أو ضابط للإيقاع أو موجه للعمل الآلي لبقية الموسيقيين فكذلك يمكن تشبيه الفيتامينات بضابط للإيقاع في فرقة متنوعة الأصوات، هي تشبه في مجموعها وعملها المتداخل بعضه في بعض التفاعلات الكيميائية في الجسم؛ فإذا انعدمت هذه القوة الدافعة المشجعة تداعت بالتالي القوات الأخرى أو ثبطت همتها أو تراخت ثم يقف التعاون بينها ويضطرب التجانس، ثم لا يلبث أن يظهر هنا وهناك أعراض تسترعي الانتباه.
وفي سبيل معرفة ميكانيكية أو تاكتيك المهام الدقيقة التي تقوم بها الفيتامينات بدأ العلم يجني أول ثمار بحثه وجهوده لاسيما بعد أن أصبح من المحقق الثابت أن عمل الفيتامين في الصميم يستقر هناك وراء كل دور أو عمل حيوي، فهو بهذا هناك حيث تجري عملية(377/48)
تحويل المواد في الخلية أي حيث يكمن سر الحياة.
ويقوم عمل الفيتامين في الخلية على ثلاثة أمور: أولها تأثير تلك المواد الحيوية في شكل وصفات الخلية - في نموها وفي بنائها وتكاثرها وتجددها. وثانياً تأثيرها في قوة أسطح وجدر الخلية مما يفرق مسامية وشعرية (نفاذية) بعض الخلايا عن بعضها كالحال في خلايا الأمعاء الماصة. وأخيراً وأهم أمر - هو قيادة وتوجيه التحليل الغذائي في الخلية، كما تعمل على ترتيب تنفس الخلية ومباشرة تحويل المواد نتيجة الاحتراق إلى حامض كربونيك وماء في الخلية مستخدمة في ذلك ذرات دقيقة من المعادن الثقيلة كالحديد والنحاس والمنجان وغيرها كوقود لتدفئة وتسخين أفران الاحتراق - ويتعين على كل نوع من الفيتامين بدوره تقديم مساعدته الخاصة به في الجهة الخاصة من الخلية للمساهمة في ناتج العمل الحيوي الكبير، ولكنه لم يتهيأ للآن إكمال هذه النقطة الأخيرة بحثاً وقد يقف بعض الفيتامينات والهرمونات قريباً من بعض في التعاون والعمل لدرجة يصعب معها أحياناً تمييز بعض أمراض نقص الفيتامين عن الاضطرابات الهرمونية.
وكما تعمل المواد البوتينية في الغدد الفارزة كذلك لا يعدو عمل الفيتامين أن يدير أو ينظم التحويلات الغذائية المعقدة التي يرتكز عليها سير ونظام الحياة؛ ولبلوغ مهمتها هذه حد الضبط والإنجاز هيأت الطبيعة ترتيبات ومعدات عظيمة ما زال الإنسان يتخيلها ويضرب في التعرف عليها.
وليس للفيتامينات ككميات مجتمعة (متكورة) أي تأثير، ولكنه - لكي تقوم بعملها - يجب أن تكون دقائق منتشرة في كل تيارات العصارة؛ ولكن إذا بلغت هذه الدقائق مبلغاً متناهياً في الدقة والصغر تراجع تأثيرها. ولتشبيه هذا العمل نتمثل لعبة من لعب الأطفال تتكون من كور ذات أحجام مختلفة تقابلها حفر (فتحات) معينة ذات اتساع كاتساع الكرات ولكن تضيق عنها قليلاً، ثم زد على الكرات الأصلية كرات أخرى أكبر منها وأخرى أصغر منها، فالكور الكبيرة لا تدخل الفتحات ولا تستقر فيها، والصغيرة تنفذ فيها ولا تستقر كذلك، والكور ذات الحجم الخاص هي التي تستقر وتملأ مواضعها. ولهذا قامت الطبيعة تبعاً لاختلاف انقسام جزيئات الكلوريد بعمل طريقة فذة لتنظيم سرعة الوظائف والأدوار الحيوية، وهذا من أهم ما تم معرفته للآن عن التأثير الميكانيكي الدقيق للفيتامينات.(377/49)
وتبعاً لنداء فيتامين ما - سرعان ما تلبي النداء الخلايا التي في انتظار تغييرات هامة يجب حدوثها فيها. وهكذا يتعين بحضور الفيتامين في خلايا الجسم قيام الوظائف الحيوية التي منها: اطراد النمو، المناعة ضد الأمراض الناقلة وغيرها، بناء العظام، منع النزيف الدموي، حفظ نشاط مركز الجهاز العصبي، قوة التوالد والنسل.
ويبلغ عدد الفيتامينات التي عرفت للآن أو على الأقل عرفت مصادرها ومدى عملها وتأثيرها أربعة عشر فيتاميناً، وهذا في مدى ربع قرن من الزمان، وسنكتفي هنا بالفيتامينات الهامة ذات الأثر الفعال في حياة الإنسان وهي المواد الحيوية , , , , ونبدأ أولاً بالفيتامين الذي كان سبباً في البحث وراء المواد الشافية الموجودة في الغذاء، وبه بُدئ درس هذه المواد الحيوية، ألا وهو الفيتامين
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي
مهندس(377/50)
البريد الأدبي
سؤال وجواب!
توهم أحد القراء أني وقعت في غلطة إعرابية مكشوفة بنصب كلمة (سجية) في هذا البيت:
فلا تحسبوا هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفس، كل غانيةٍ هندُ
ولو كان هذا القارئ يعرف أني في الإنشاء أسرع من أقدر الناسخين، لفهم أن من الجائز أن يندّ القلم فيرسم الضمة فتحة أو بالعكس، على فرض أن ما وقع لم يكن غلطة مطبعية.
وإني أوجّه الأسئلة الآتية إلى ذلك القارئ المُتحذلق:
أولاً: من قائل هذا البيت؟
ثانياً: من أي شاعر سُرق هذا البيت؟
ثالثاً: من هم النقاد الذين نصوا على أن هذا البيت مسروق؟
رابعاً: ورد هذا البيت في رسالة لأحد كتّاب الأندلس، فمن هو ذلك الكاتب؟
خامساً: في هذا البيت دقيقة نحوية ودقيقة بلاغية، فما هاتان الدقيقتان؟
سادساً: في هذا البيت كلمة اختلفت فيها الروايات، فما هي تلك الكلمة؟ وما هو الكتاب الذي نص على ذلك الاختلاف؟
سابعاً: أخطأ أحد الخطباء المشاهير في هذا البيت، فجعل (الصدّ) مكان (الغدر)، فمن هو ذلك الخطيب؟ ومن هو الناقد الذي استدرك عليه؟ وفي أي مجلة نشر ذلك الاستدراك؟
ثامناً: نقل أحد الصوفية هذا البيت إلى معنى من المعاني الروحية، فمن هو ذلك الصوفي؟ وفي أي بلد طُبع كتابه أول مرة؟ وما اسم ذلك الكتاب؟
تاسعاً: لو قال قائل: إن نصب (سجية) هو الصواب، فما وجهه عندك؟ وما نظائره في كتب العربية؟ وما وجه الإشكال فيه على التدقيق؟
عاشراً: هل تعرف الشاعر الذي يقول:
وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولة البُزْل القناعيس
هذه عشرة أسئلة، فيها ما تعرف، وفيها ما تجهل، وفيها ما تذوق. فإن أجبت فلك الحق في أن أشير إلى اسمك بعبارة كريمة، وإن سكت فعذرك مقبول، لأنك بالتأكيد من أبناء الجيل الجديد، وهم من أعرف وتعرف في قلة الصبر على متاعب الجهاد.(377/51)
وإليك التحية من الباحث الذي يرجو ألا تضطره إلى التكبر والازدهاء، والذي يود أن تذكره بالخير حين تخرج بعافية من هذه الرياضة الذهنية.
زكي مبارك
وفاة أمين الريحاني
نعت أخبار (بيروت) الكاتب الفيلسوف الأستاذ (أمين الريحاني). قضى أجله بالفريكة، بعد أن طوّف في بلاد الشرق والغرب، واستخدم قلميه العربي والإنجليزي في التعريف بملوك العرب وآدابهم، وله في ذلك آثار باقية. وهو أحد ثلاثة أقاموا الأدب اللبناني المعاصر على أسس جديدة من الفن الحديث: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وهو. ومن أشهر مؤلفاته (ملوك العرب) في ثلاثة مجلدات بالعربية والإنجليزية، و (تاريخ نجد الحديث)، و (كتاب المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية)، و (كتاب الريحانيات) في أربعة أجزاء، ضمنه مقالاته وخطبه، ورسالته عن الثورة الفرنسية، و (المكارى والكاهن) وديوان شعر سماه (سبيل الرؤيا) وليس من شك في أن رجلاً كأمين الريحاني لا يستطيع الموت أن يحجب عن الناس منه غير وجهه، ولكن آثاره الخالدة ستنشره في الوجود كتاباً تقرأه الأجيال، فترى فيه مثلاً رائعاً للجهاد الصادق، والفكر السليم، والأدب اللباب.
ثقافة الدكتور أدهم
إن نوع الأسئلة التي طرحها الأديب إبراهيم حسنين البريدي مما يباح في حياة الأفراد ليدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم، ولكنه مما لا يُباح إطلاقاً في أي أمة راقية بعد وفاتهم وقد عجزوا عن البيان والدفاع. ولا أدري أين كان صاحبنا الفاضل هذه السنوات التي ملأت فيها بحوث أدهم ونقداته ونقاشه أشهر الصحف والمجلات؟!
وواضح مما ذكره أحد الأدباء المعروفين الدكتور أبو شادي وردّدته (الرسالة) الغراء أنه لم يفته في حياة أدهم تبليغ القنصلية التركية في الإسكندرية عنه، بل تبليغ النيابة كذلك، فكان ردّ الفعل الوحيد لذلك زيادة تقديره وحمايته.
والأسئلة التي ردّدها أديبنا (البريدي)، أجاب عليها سلفاً في كتاباته المرحوم الدكتور أدهم نفسه، فهو أولى بالرجوع إليه والاعتماد عليه، إلا إذا كان الغرض إثارة الغبار حول الميت(377/52)
ودعوة أخي الفقيد للمساهمة عن غير وعي في ذلك!
وإن لمن العجيب أن يقال: إن الفقيد لم يكن يعرف الألمانية ولا الروسية، وقد كانتا بين وسائل مراجعه كما يعلم كل من اختلط به وعرفه من أصدقائه الأدباء؛ ولو قيل: إنه لم يكن واسع التضلع في الأخيرة، لكان هذا معقولاً. كذلك من العجائب أن يقال: إن كتاب (لماذا أنا ملحد؟) مترجم. مع أن ثلاثة أرباعه ذات صلات شخصية، وقد انتقده الدكتور أبو شادي في كتاب عنوانه (لماذا أنا مؤمن؟)، فردّ عليه الفقيد ردّاً مطوّلاً بليغاً. فهل كان ناقلاً ذلك الرد عن لغة أجنبية أيضاً؟! يا سبحان الله! أتحارب العبقرية في بلادنا إلى هذه الدرجة؟!
ليقل الشائنون والحاسدون في هذا الألمعي الفذ ما طاب لهم أن يقولوا، فإن العبقرية غريبة دائماً في هذا الشرق، وقد اعتدنا جميعاً ذلك، ولكن العديدين الذين حضروا مجالس أدهم ومحاضراته شهود أحياء على ذكائه النادر وثقافته المدهشة البعيدة عن كل ادعاء، وآثاره التي ستُطبع - بالرغم مما ضاع منها - شهود عدول.
(مؤرخ)
حول مقال (أضرار التشجيع)
قرأت في عدد مضى من الرسالة الغراء للسيد سعيد الأفغاني مقالة عنوانها (أضرار التشجيع) حمل فيها حملة طائشة عليّ ملأها كلمات كان ينبغي أن ينزه لسانه عنها، وما كنت أبيح لنفسي أن أهبط للرد عليه لولا أنه تعرض لكتاب (سر الصناعة) الذي أريد نشره والذي يشهد أستاذي الجليل إبراهيم مصطفى أنني كنت عاكفاً على دراسته وتصحيحه عن نسخة دار الكتب المصرية منذ عام 1932 حينما كنت أقرأ عليه العربية في كلية الآداب. ولما أتممت دراستي في مصر ورجعت إلى الشام ظفرت في المكتبة الظاهرية بنسخة ناقصة الجزء الثالث ولكنها جيدة الخط مضبوطة فاستنسختها، ثم أردت مقابلتها على الأصل فاستعنت بالأفغاني في ثلاث أو أربع جلسات في الغرفة التي كان يجلس فيها الأستاذ فوزي العاني أحد موظفي المكتبة، فكنت أقرأ عليه من المستنسخة وهو يقابل ذلك على الأصل، ولما اعتذر عن العمل طلبت من الأستاذ العاني أن يتم العمل في أوقات فراغه ففعل وله الشكر. ثم ذهبت إلى باريس فقابلت نسختي على نسخة المكتبة(377/53)
الوطنية فيها، وكان يعينني في ذلك الأستاذ الأديب عبد الوهاب حومد، ثم عدت إلى الشام وفي نيتي الذهاب إلى استنبول للمقابلة أيضاً، ولكن الظروف الحاضرة منعتني من السفر وأنا أرجو الله أن تزول هذه العقبات حتى أذهب فأتم الكتاب الذي عاهدت الله أن أخرجه خير إخراج ممكن.
هذا تاريخ قصة (سر الصناعة)، فما هي دعوى السيد سعيد؟ إنه يزعم أنني قرأت الكتاب كله أو أكثره عليه، وأنه أملى عليّ تعليقات وشروحاً من فيض خاطره فتبنيتها. . . الخ ما جاء في مقال الأديب الأفغاني. وردي على ذلك منحصر في النقاط الآتية:
1 - ليس في النسخة المراد نشرها تعليقات ولا شروح، وإنما فيها ذكر لما في النسخ (نسخ باريس ومصر ودمشق واستنبول) من اختلاف ليس غير.
2 - شهادة الأستاذ العاني التي أداها بمحضر من الأساتذة يوسف العش محافظ المكتبة، ويسن الخانجي أمين سر المجمع العلمي، والمحامي طاهر خياط. وهي تؤيد ما قلت من أن اجتماعي بالسيد سعيد لم يتجاوز ثلاث أو أربع جلسات، وأنه هو - أي العاني - الذي أتم المقابلة.
3 - تخلفه عن الحضور إلى الاجتماع الذي دعانا إليه الأستاذ الكبير خليل بك مردم لبحث القضية والتحقيق فيها.
هذا ما أقوله وهذا ما أريد أن تطلع الناس عليه ليروا ضرباً من خلقنا العلمي والاجتماعي. وأنا أسأل الله أن يلهمنا الأدب ويوفقني إلى نشر الكتاب.
أسعد طلس
خريج الجامعة المصرية ودكتور في الآداب
إكمال بيت في المخصص وتصحيح إحدى حواشيه
إن من شرائط نشر المخطوطات اقتناء الناشر لما يستطيع جمعه من نسخ الكتاب مخطوطة ومصورة واتخاذ أصح نسخة منها قطباً يرجع بسائر النسخ إليه ويديرها عليه بالعرض والمقابلة وقد لا يوجد من هذا الكتاب إلا مخطوطة واحدة. فإن كانت صحيحة مضبوطة بقراءة العلماء ومعارضتها بالأصل، وكان الخط جلياً متقناً، عدّ ذلك من بركة النسخة ويمن(377/54)
طائر النشر، وقد تكون بذلك أصح من المنشورة بعد المعارضة على كثير من المخطوطات غير المضبوطات، ومن أشباه هذه النسخ الوحيدة المخدومة كتاب (المثنى والإبدال) لأبي الطيب اللغوي صاحب مراتب النحويين، وصديق أبي الطيب المتنبي، وتلميذ الإمام المطرزي غلام ثعلب؛ فإني قد ظفرت بدمشق في مكتبة العلامة أبي اليسر عابدين (حفيد صاحب حاشية ابن عابدين المشهورة) بنسخة تغلب عليها الصحة، وعلمت بعد طول البحث والتنقيب أنها يتيمة في العالم فلم أتمكن من مقابلتها على مخطوطات أخرى، وإنما هوّن عليّ خطب نشرها غلبة الصحة كما ذكرت عليها، وسأصفها وصفاً علمياً ببحث خاص في مجلتنا هذه الممتعة قريباً.
أما مخطوطة المخصص لابن سيده المعروف بصاحب المحكم فإنها تشبه مخطوطة المثنى بكونها وحيدة يتيمة، ولكنها (قد ركض فيها البلى ولعب، وأكل منها الزمان وشرب، حتى أبلى ثوبها القشيب وأذوى غصنها الرطيب) - كما ذكر ذلك الأستاذ طه محمود رئيس التصحيح بدار الطباعة الأميرية في خاتمة المخصص؛ وبذا كثر في المطبوعة البياض والنقص والتصحيف، ولولا مرجع اللغة والأدب في عصره محمد محمود التركزي الشنقيطي وجميل عنايته بالمخطوطة لكثرت أغلاطها واستشرى فسادها، ولكنها مع ذلك لم تخل من نقص، والكمال الرباني معوز، فوقعت في المتن والحواشي الشنقطية أغلاط لا يحسن السكوت عليها ولا سيما في أصول اللغة، مثال ذلك ما جاء في السفر العاشر من المخصص (ص 167 س4)، وما نصه ورسمه:
(1) وكنا ما اعتفت=طلاب الترات مطلب
فقد علّق عليه إمامنا الشنقيطي رحمه الله التعليقات التالية بنصها:
(1) قوله: (وكنا ما اعتفت) هكذا وقع في الأصل، وهي عبارة لا يدري أهي شعر أم نثر، وليس لها معنى، وقوله (طلاب الترات مطلب) هو بعض بيت من الطويل ورد في قول الخنساء:
تطير حواليّ البلادُ براقشاً ... بأروعَ طلابِ الترات مطلَّب
والشاهد في (براقش)، لأن من معانيه الأرض المجدبة الخلاء، ولكنه ضاع من الأصل مع ما ضاع منه هنا، وكتبه محرره محمد محمود لطف الله تعالى به آمين. اهـ).(377/55)
بعد التأمل في هذا التعليق وجدنا مصحّح المخصص ومحرره لم تكشف له عبارة الأصل فجعلها قولين، وهي قول أو بيت من الشعر واحد، ولذا لم يدر هل القول الأول (وكنا ما اعتفت) شعر أم نثر مع أن ابن سيده ذكر قبله كلمة (وأنشد)، ثم جعل القول الثاني (طلاب الترات مطلب) بعض بيت الخنساء، مع أنها خاتمة أبيات جاهلية كثيرة، وأخطأ في الشاهد إذ جعله (براقش) وهو (الاغتفاف) أي تناول الغُفّة من العلف، وهي الشيء اليسير منه؛ والعبارة الأصلية الواردة قبل البيت لا يوقف عليها إلا بنسخة ثانية كاملة من المخصص، ولعل التعبير التالي لا يبعد عنها كثيراً، وقد ألّفته بعد مراجعة نصوص اللسان والتاج وهو: (وإذا كان الربيع (مقارباً قيل اغتفّ المال اغتفافاً أي أصاب غفة منه) أي شيئاً يسيراً وأنشد:
وكنا إذا ما اغتفَّتِ الخيل غُفَّة ... تجرّدَ طَلابُ التراتِ مُطَلَّبُ)
وهذا هو البيت عينه الذي استشهد به ابن سيده، وهو لطفيل
الغنوي لا للخنساء، وإنما استشهد به للاغتفاف لا ليراقش كما
فعل مثل ذلك صاحبا اللسان والتاج في مادتي (غفف وأغتف)؛
وهو في ديوان طفيل الغنوي ص26، ونسبه إليه صاحب
الأمالي (234)، وذكره الزمخشري في أساسه (غفف) وعزاه
إلى طفيل أيضاً، وآخره (يُطلَّب) بدل (مطلَّب) ولعله تصحيف
أو رواية أخرى، واستشهد به صاحب تهذيب إصلاح المنطق
(ص71) وغيره من أئمة اللغة، فليست القضية إذن من
الشكائك الجدلية، ولولا ما في مخطوطة المخصص من
التصحيف والنقص لما وقع كما بينّت إمامنا الشنقيطي في مثل
هذا السهو اللغويّ، وسجدة السهو واجبة في العلم والدين معاً،(377/56)
وقد سجدتها بهذا التصحيح عنه، وعسى أن يسجدها معي أيضاً
من يصحح من المخصص نسخته، ويغتفر للإنسان الضعيف
زلته.
(دمشق)
التنوخي
إلى الدكتور زكي
بدا لي أن ألفت نظرك إلى خطأ لا أشك في أنك وقعت فيه في كلمتك التي جعلتها افتتاحية الرسالة في العدد الماضي، وهو قولك: (والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية)! وأنا وأنت والناس جميعاً يعرفون أن الحس والروح ليسا من الجوارح كما تقول!! فهل تتفضل بأن تدلنا من أين جئت بهذا؟
(ع. ع)
كلمة منصفة
كتب الأستاذ محمد متولي مقالاً في العدد 376 من الرسالة الغراء عرض فيه لحديث السرقات الذي جرى على قلم كل من الأستاذين علي محمود طه وزكي طليمات. فسماه عراكاً في غير معترك، أو (خناقة على اللحاف)، لأن الفن كما يقول (صورة) وليس (فكرة). والحق أن الفن ليس فكرة فحسب ولا صورة فقط، ولكنه مجموع الأمرين، أو هو (فكرة مصورة)؛ وليست الفكرة من الأشياء المجردة التي تكون بعينها في جميع العقول والإفهام؛ لأنها قد تكون فكرة خاصة لنفس خاصة ممتازة، وقد تكون شائعة في بعض النفوس، ولكنها حتى في هذه الحالة لا يمكن أن تكون على درجة واحدة من القوة أو العمق أو الاتساع، وهل يمكن أن تتشابه النفوس جميعاً إلى هذا الحد الذي تصبح فيه قوالب مصبوبة على هيئة واحدة من مادة واحدة؟ وهل يمكن أن تكون الأفكار التي جالت في ذهن(377/57)
شكسبير، مثلاً هي بعينها الأفكار التي جالت في ذهن رجل الشارع، ولكن هذا الأخير لم يتح له أن يعبر عنها كما أتيح لشكسبير؟ على أن هذه النظرية ليست من المستحدثات كما يخيل إلينا الأستاذ متولي؛ وإنما هي في لبابها لا تخرج عن قول بعض الأقدمين: إن الشعر هو الأسلوب، وإن المعاني على (قوارع الطريق) وهي نظرية كانت منذ بعيد.
ويقول الأستاذ متولي بعد ذلك: (إن الأستاذ علي محمود طه رجل فنان بلا شك، لأنه قال (الجندول) فكان (كذوباً)! إنه يمثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه، فيتغنى به وهو نفسه يعلم أنه لم يركب تلك (الجندول) التي أرانا إياها في عرض القناة في ذلك الجو الساحر في فينيسيا) فهل يكون الأستاذ علي محمود (كذوباً) إذا صح أنه مثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه فيتغنى به؟ كلا! إنه يكون صادقاً كل الصدق، لأنه يصور لنا حالة نفسية من حالات نفسه الممتازة التي تحلم وتتمنى، وهل يكون الذي يحلم في نومه برغبات نفسه المكبوتة كاذباً، على أن أستاذنا (الزيات) قد قال كلمته النبيلة، وإذن فقد (قطعت جهيزة قول كل خطيب). نعرض بعد ذلك لزعم الأستاذ متولي في أول مقاله إن الناقد الأديب هو نفس الأستاذ علي محمود طه وأنه إنما نقد مسرحية بشر فارس تشفياً منه. فنقول له كيف اكتشف هذا الاكتشاف؟ إننا نعرف أن اسم (الناقد الأديب) لا يعرفه إلا الناقد الأديب نفسه، والأستاذ الزيات، فمن أيهما عرف الأستاذ اسم الناقد الأديب؟ أمن الناقد الأديب نفسه، أم من الأستاذ الزيات - وهذا مستحيل - الحق أنه لا هذا ولا ذاك، ولكن الأستاذ متولي أراد أن (يمثل دور) البوليس السري في هذه القضية الأدبية.
أما بعد فقد قرأنا حديث السرقة في شعر الأستاذ علي محمود فابتسمنا لصاحبه ابتسامة الرثاء والإشفاق، ثم قرأنا المقال الذي ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب، فابتسمنا لصاحبه ابتسامة الرثاء والإشفاق أيضاً، وأنا أنصح لهؤلاء السادة أن يحاولوا بلوغ شأو الأستاذ علي محمود طه من طريق غير هذا الطريق. أما هذه المناورات التي يقومون بها على اختلاف أساليبها، وتعدد صورها، فقد انتهت - والحمد لله - إلى الفشل والإخفاق، وبقي الأستاذ علي محمود طه عند جمهرة الأدباء (شاعر الحب والجمال)، بلا جدال.
إبراهيم محمد نجا(377/58)
القصص
ثمن الأمومة
للأستاذ محمد سعيد العريان
في الطابق الرابع من الدار القائمة على حدود الصحراء من ضاحية حلوان، كانت تعيش (سنية) وحيدة: لا أم ولا أب، وزوج ولا ولد. لقد فارقها أبوها ولم تزل طفلة بعد، إلى حيث لا يرجع من يمضي؛ وفارقت هي أمها العجوز وأخاها، إلى حيث فرضت عليها (الوظيفة) أن تعيش غريبة منقطعة لتجد ما تعيش به. وما كان المرتب المحدود الذي تمنحها (وزارة المعارف) في كل شهر ليُسعد فتاة في مثل سنها، ولكنها كانت به راضية سعيدة. وقد استطاعت على امتداد الزمن أن تزيد دخلها بضعة جنيهات في كل شهر، مما تحصل عليه من أجرة الإشراف على بعض تلميذاتها في دراستهن المنزلية؛ فتهيأ لها بذلك أن تنظم ميزانيتها الصغيرة تنظيماً يكفل لها أن تستمر على إعانة أمها العجوز بما ترسل إليها في كل شهر، وأن تدّخر لنفسها شيئاً إلى شيء، ارتقاباً ليوم تأمله. . .
منذ بضع سنوات لم تغيّر سنية شيئاً من نظام حياتها ولم تحاول؛ هذا منزلها الذي تسكنه منذ هبطت المدينة، لم يتبدّل شيء منه ولم يتبدّل شيء منها؛ هنا الغرفة التي تأوي إليها إذا جنّ الليل؛ وهنا الثّوى الذي أعدته لاستقبال من يزورها فلم يطرقه زائر قط منذ كان؛ وهنا الشرفة التي ترتفق إليها بذراعها كل مساء ساعة أو ساعات قبل أن تنام، تسرّح النظر في الفضاء الغارق في ضوء القمر، أو تنقل الطّرف بين النوافذ المضيئة قانعة في وحدتها الموحشة من سعادة الاجتماع بأنس النظر!. . . وهناك، على مد البصر، طفل يقفز ويثب؛ هذا هو حيث تراه كل مساء في مجلسها من الشرفة، جالساً بين أبويه أو عابثاً لاهياً يتوثب؛ إن بينها وبينه لسبباً قوياً؛ إنها لتحبه كأنها ولدته، وإنها لتفتقده إذا غاب كأنها بعض أهله، وإنها لتتحدث إليه على البعد كأنه منها بمرأى ومسمع. . . ذلك صديقها الوحيد في بلد لم تأنس فيه إلى صديق؛ أتراه يعرفها ويعرف أين هو من نفسها؟. . . أما هي فتعرفه عرفان الأخ والولد؛ وتعرف تاريخه وماضيه منذ كان وقبل أن يكون. . .
من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام، أبصرت أمّه عروساً في جلوتها، وأبصرت أباه؛ ومن هذه الشرفة نفسها رأته جنيناً في بطن أمّه تخيط له قمصه ولفائفه؛ ومن هذه الشرفة(377/59)
جاءها البشير بمولده والناس نيام؛ ثم أبصرت ذات صباح طفلاً يحبو؛ ورأته من بعدُ غلاماً يقفز ويثب. . . ولكنه هو لم يعرفها بعد. . .
هذه هي حياة سنية: أما نهارها فجهاد ودأب بلا ونى، تغادر بيتها في الصباح الباكر إلى مدرستها، وتغادر مدرستها إلى بيوت تلميذاتها، فإذا جن الليل عادت؛ وأما ليلها فهذه الشرفة وهذا الفضاء وهذا الغلام؛ فإذا أوى الغلام إلى فراشه، واختفى القمر وراء السحاب، وأسدلت الستائر على النوافذ المضيئة - نهضت سنية من مجلسها في الشرفة، فتفتح صندوقها وتحصي ما فيه ثم تأوي إلى أحلامها.
ومضت بضع سنين قبل أن يجتمع في صندوق سنية ما كانت تؤمّل أن يجتمع؛ وأيقنت - بعد صبر طويل - أنها من اليوم الذي كانت ترقب على مقربة. . .
. . . وغربت الشمس ذات مساء ولم تعد سنية إلى دارها؛ ثم عادت بعد العشية، واتخذت مجلسها من الشرفة وسرحت النظر، ولم يكن الطفل ثمة ولكنها لم تفتقده في غيبته؛ وأوت إلى فراشها ولكنها لم تنم حتى انتصف الليل؛ وتراءى لها الطفل في منامها وكان معه أبوه، ثم أصبحت. . .
وراحت تُعد عدة السفر إلى أمها تطلب مشورتها في أمر ذي بال. . .
وابتسمت أمها فرحانة، ثم غشيتها كآبة وهتف بها هاتف؛ ثم عادت فابتسمت ونهضت إلى مصلاها تناجي ربها وتدعوه لابنتها العزيزة أن يتم لها ما تأمل. . .
وتغيرت سنية منذ اليوم وتبدّلت وحشتها أنساً ومسرة، وهجرت الشرفة فلم تكن تغشاها إلا حين تكون على موعد ترقب له الطريق؛ وأنست غرفة الاستقبال بعد وحشة وطرقها الزائر المنتظر منذ سنين، وتعددت زيارته؛ وقالت له سنية ذات مساء وقد جلسا جنباً إلى جنب في الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام وأشارت إلى بعيد -: أنظر يا رشاد؛ إنه طفل ظريف!
ونظر (رشاد) حيث أشارت سنية، وقال: نعم، وأظرف منه أن تكوني أمه!
وطأطأت الفتاة رأسها وتضرّجت وجنتاها وسبحت في حلم لذيذ، وتراءى لها غلام يقفز ويثب بين أبيه وأمه، في مثل مجلسهما من هذه الشرفة العالية التي يكتنفها الظلام!
وجلست سنية ورشاد يتبادلان الرأي ذات مساء؛ وقال لها:. . . وإني لأتمنى ألا توافق(377/60)
الحكومة على بقائك في العمل بعد الزواج؛ لتكوني لي وحدي!
وقالت: ولكن أمي يا رشاد. . .!
وأجابها: وعليّ أن تكون أمك راضية سعيدة!
واطمأنت سنية وسُرّى عنها ما كان يقلقها منذ أيام؛ وجلست إلى مكتبها تكتب إلى الحكومة تلتمس الإذن في الزواج.
ولم يطل بهما الانتظار، ولم يقلقهما جواب الحكومة؛ فقد كانت سنية متوقعة من قبل ألا يؤذن لها؛ وكانت مطمئنة إلى وعد خطيبها بأن يرضي أمها!
وراح الفتى والفتاة يعدان العدة ليوم قريب.
وانتقلت سنية إلى بيت زوجها، وشهدها صواحبها عروساً في جلوتها، وشهدت نفسها؛ وكانت النوافذ المضيئة ترمي أشعتها إلى بعيد؛ وكان في الشرفات العالية التي يكتنفها الظلام عيون تنظر. . . . . .
. . . ومضت أشهر، ونظر الجيران فإذا سنية جالسة إلى جانب النافذة تخيط قمصاناً ولفائف؛ وفي هدأة الليل والناس نيام حل على الأسرة ضيف جديد، وارتفع صوته يعلن البشرى بمقدمه. . . . . . . . . . . .
ثم استيقظت سنية من الحلم الذي ضرب على آذانها عاماً وبعض عام؛ ونظرت، فإذ هي وطفلها وحطام الذكريات؛ ولم يكن الرجل ثمة ولم يكن الصندوق. . .!
وقبّلت فتاها في جبينه وقالت وفي عينيها دموع: لا عليك يا بنيّ؛ لقد خسرت الرجل ولكني كسبتك؛ فليذهب أبوك حيث يشاء، ولتبق لي أنت!
وخرجت تلتمس الرزق، واتخذت طريقها إلى المدرسة، ولكن المدرسة كانت قد أغلقت أبوابها!
وسعت إلى رئيس الديوان تلتمس الشفعاء إليه ليردّها إلى عملها، فأغلق دونها بابه؛ ووقفت في مفترق الطريقين تنظر، ثم سلكت إحداهما. . .
وعاد الرئيس من الديوان إلى داره، وانفتح باب السيارة ونزل، وسبقته إلى الباب امرأة؛ وهمّ حاجبه أن يمنعها ثم كف.
وهتفت المرأة في ضراعة: سيدي بحقّ ولدك. . .!(377/61)
قال: ولكنك خُيّرت من قبل فاخترت أن تكوني أمّاً؛ فهيهات. . .
وبرّقت المرأة وصرخت في غيظ: ولكنك أنت رضيت أن تكون أباً. . . فلم لا خُيّرت أنت؟. . . كن أباً، أو كن رئيساً في الديوان، إن صح ألا يجتمعا. . .!
وسكت الرجل وهتف هاتف من وراء حجاب: (ولكن ثمن الأمومة أغلى. . .!)
. . . ودخل (الرجل) داره وأغلق بابه ليجلس بين زوجه وولده فيقص قصته؛ ومضت (المرأة) على وجهها يائسة ذليلة، لتدفع وحدها ثمن الأمومة الغالي!
محمد سعيد العريان(377/62)
العدد 378 - بتاريخ: 30 - 09 - 1940(/)
خواطر مهاجر
- 3 -
أخذت نوافح الخريف الأولى تتنفس منذ أسبوع على وجه المنصورة رخية ندية؛ وللخريف على شُطئان النيل الشرقي وهو في عنفوان الفيضان سحر لا يبلغ كنهه الشعور ولا تعبر عن تأثيره اللغة. فللسماء اللازوردية على صفحاته ألوان وأحوال، وللسحب الرقاق البيض على حواشيه أطياف وأظلال، ولشمس الأصيل على مويجاته المرتعشات الحمر انكسار يخطف البصر، كأنما ذاب قرص الشمس فهو يتدفق من السماء على الماء، أو انبجست على النهر من الأفق الغربي عين من ذائب الماس لم يدخل علمها في الكيمياء. وللأبكار والعشايا أنسام طيبة الشميم كأنما تنقل عن رياض الفردوس؛ والطبيعة الريفية عطار حاذق يعرف كيف يفتق الطيب من سنابل الرز وأمطار الذرة وأقناء النخيل ونوار التيل ولوز القطن ومما ينبت على حفافي الترع والطرق من أشتات الريحان والبقل. وللمنصوريين والدقهليين على الجملة صباحة ووداعة يزيدهما الخريف حلاوة وشاعرية. وإن بينهم وبين طبيعتهم المشرقة الجميلة من التآلف والتجاوب ما لا تجده بين الناس والطبيعة في مكان آخر. والناظر في أخلاق هذا الإقليم ومزاياه يرى أن مثله بين أقاليم مصر كمثل أوربا بين قارات الأرض: تميز كما تميزت بالنبوغ والمدنية والجمال، وتألف تاريخه القديم والحديث من فصول وضاءة في الوطنية والعبقرية والبطولة.
ففي الحروب الصليبية كان للمنصورة وإقليمها شرف القضاء على حملتها الأخيرة؛ وكان الجيش المصري قد ارتد إليها مهزوماً؛ وامتحنه القدر القاسي فمات ملكه الصالح وقتل قائده فخر الدين، فانتشر الأمر على جنوده، واستبهم الرأي على قواده؛ وكاد الرجاء من نجاة مصر ينقطع لولا أن نهض الظاهر بيبرس بالمماليك ونهض معه أهل المنصورة، فأقاموا المتاريس في الطرق وجعلوا من دورهم قلاعاً يرمون من نوافذها الفرنسيين بالأحجار والقذائف، حتى قتلوا الكنت القائد أرتوا، واستأصلوا فرقته ومزقوا الفرق الأخرى؛ ثم كانت الهزيمة الحاسمة في فارسكور حيث أبيد الجيش العدو وأسر الملك القديس سجينُ بيت ابن لقمان ومضروب الطواشي صبيح.
وفي الغزوة النابوليونية كان للمنصورة وإقليمها فضل الجهاد السابق الصادق، فقد ثاروا يوم(378/1)
السوق على جنود القائد (دوجا)، وأعملوا فيهم السلاح حتى أفنوهم. وسجل التاريخ في ثبت الخلود من أسماء القادة في هذه الثورة: الأمير مصطفى كبير محلة دمنة، وعلي العديسي شيخ القباب، وحسن طوبار زعيم المنزلة.
وفي الثورة المصرية على الاحتلال كان للمنصورة وإقليمها في البطولة الوطنية مواقف سارت مُثلاً مضروبة في الإيثار والتضحية ولا تزال أسماء الشناوي والجيار وعبد النبي والأتربي عناوين لفصول خالدة من كتاب الجهاد الوطني المقدس.
على أن المزية الظاهرة للدقهلية هي انطباع أهلها على الأدب والفن حتى العامة والسوقة. وإنك لتتبين أثر ذلك في كل ما يصدر عنهم من ثمار العقل والقلب حتى في القانون والسياسة. وحسبك أن يكون من نوابغها في الأدب: علي مبارك، ولطفي السيد، وحسين هيكل، وعوض إبراهيم، ومحمد العشماوي، ومحمد عوض محمد، وإبراهيم رمزي، وعبد الله عنان، وصالح جودت الكبير. وفي الشعر: إسماعيل صبري، وعلي محمود طه، والهمشري، وكامل الشناوي، وصالح جودت الصغير، وعبد الغني حسن، والوكيل. وفي الغناء والموسيقى: أم كلثوم، ورياض السنباطي، ونجاة علي، وسعاد زكي، والدكتور الحفني. وما اقتصرت على من ذكرت إلا لأنهم عُرفوا بالأسماع في أقطار العروبة فلا يضعف بهم المثل. والواقع أن في كل بلد من بلاد هذا الإقليم الفنان هيكلاً لعطارد تفاديه نفثات الأولمب، وتراوحه نفحات عبقر!
أقامت جريدة الإصلاح في السنبلاوين لمجلة الرسالة حفلة تكريم وترحيب؛ وشاء زميلنا الكريم صاحب الجريدة أن تكون حفلته مظهراً من مظاهر الأدب الإقليمي في صورة من صور العطف الجميل؛ فدعا إليها جمهرة من أدباء البلد المختلفين في الجنس والزي والثقافة، فأسمعونا على موائد الشاي الحافلة أفانين من النثر المشرق الأسلوب، والشعر المحكم الأداء، والزجل البارع النكتة، فعجبنا أن نجتمع هذه الجملة المختارة في هذا البلد المغمور؛ ثم علمنا أن في كل بلد من بلاد الدقهلية عكاظاً يتبارى فيها صاغة القوافي وحاكة الفقر!
يا لله للريف المسكين! لقد غبنته المدينة في كل ما ينتج من مادة وأدب: ففلاحه يكد ولا ينال القوت، وشاعره يغني ولا يجد السامع، وصحفيه يجاهد ولا يلقى الجزاء!(378/2)
سحرتني مفاتن والخريف الريف في المنصورة فما ينفك ناظري وخاطري يسبحان في جو مشرق عبِق من حاضرها الجميل وماضيها المجيد. وكنت الساعة أنتبع بالخيال كتائب الصليبيين وهم يسيرون على ساحل النيل الأيمن من دمياط إلى المنصورة، يقود الحملة الأولى (جان دى بيريين)، ويقود الحملة الأخرى (لويس التاسع)، حتى رأيتهم على الثرى الخصيب الحبيب جزراً للسيوف وطعاماً للوحش. وسرعان ما انتقل ذهني إلى ساحل البحر الأبيض، فرأيت أحفاد أولئك الصليبيين يزحفون من السلوم إلى الإسكندرية في زي غير الزي وسلاح غير السلاح وعدد كأرجال الجراد! فقلت لنفسي وهي تضطرب بين الرجاء والخوف: إن رب الكنانة يا نفسُ عَسىٌّ أن يبعث (صلاح الدين) في هذا العصر، وأن يجعل في (السلوم) السلامة كما جعل في (المنصورة) النصر!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(378/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
جناية الجمال - ألفاظ صحيحة: الانسجام، الصنائع، النسائم،
مرير، البديه، الهناء، المساهمة، أبحاث - إلى المنصورة، إلى
المنصورة وطن الشعر والخيال.
جناية الجمال
أكتب هذه الكلمة في مساء اليوم الرابع عشر من شعبان بعد إذ نقل المذياع دعاء شيخ الأزهر الشريف بأن يكشف الله الغُمة عن الأمم الإسلامية، وهو دعاء أمّن عليه جمهور كبير بدعوة صاحب الجلالة الملك (ملك مصر بعون الله) أيد الله ملكه، واستجاب دعاءه، فدفع السوء عن بلاد العرب والمسلمين.
وفي هذا المساء يتحدث الناس عن المخاوف التي تساور مصر في الحدود الغربية وفي بعض أقاليم السودان. . . وتلك أحاديث تقبض الصدور، وتحزن القلوب، ثم تقهر النفس على التفكير في جناية الجمال على الجميل، فما تلقى مصرُ المكاره إلا بفضل ما تعد من خيرات وثمرات، وما تُمكّن للظاهرين عنها من السيطرة على الغرب والشرق، لأنها منذ الأزل إقليد الغرب والشرق، وإلا فكيف جاز أن تكون هدفاً أبدياً لكل من جن له الدهر في التاريخ القديم والتاريخ الحديث، بحيث يُمكن الحكم بأن جمالها لم يفارق خيال الطامعين في زمن من الأزمان؟
وهل مر على مصر عام واحد بلا ابتلاء بمكايد الطغاة والمسيطرين؟
من يصدّق أن مصر جشمت الناس المتاعب في التاريخ القديم يوم كانت صعوبة المواصلات لا تسمح بأن يصل إليها المغيرون إلا بعد التعرض للمخاطر والمعاطب في الشهور الطوال؟
وهل يعرف أحد كيف جاز أن تكون المعضلات الأخلاقية والاجتماعية في مصر هي أهم ما شُغلت به الكتب السماوية؟
ومن نحن حتى تكون بلادنا أخطر البلاد التي تحدّث عنها القرآن المجيد؟(378/4)
من نحن؟ نحن الصابرون على مصاعب الإتقان والتجويد في العلوم والفنون منذ العهد الذي سبق التاريخ بأجيال وأجيال.
وهل لبلادٍ في الدنيا ماضٍ يشبه ماضي هذه البلاد في العناية بالعلوم والفنون؟ فإن سألتم عن الحاضر فإليكم أسوق الحديث بلا تزيّد ولا إسراف:
كانت بلادنا الغالية هي الهدف الأول للحروب الصليبية، وكانت تلك الحروب مبدأ اليقظة في الغرب، وبفضل اصطدام الصليبيين بمصر عرفوا أول مرة كيف تكون الحضارة والمدنية.
ومن أين عرف الصليبيون معنى الاستشهاد في سبيل النصرانية؟
إنما نقلوا ذلك عن مصر، فهي أول بلد تعصب لدين عيسى في القرون الخوالي، كما كانت أول بلد أذاع نظرية التوحيد، يوم كان العالم كله لا يعرف غير الارتطام في أوحال الوثنية، وذلك هو السر في حرصها على إعزاز الإسلام، لأن الإسلام هو التعبير الصحيح عن نزعتها القديمة في إيثار التوحيد.
وجو مصر له فضل عظيم على الإنسانية. وأين من يعرف أن جو مصر هو الذي هدى الناس إلى الطيران؟
فوق جبل المقطّم شرقي القاهرة وقف رجل فرنسي فقير يكسب قوته من العمل بأحد متاجر القاهرة، وقف يرقب حركات الطير فوق ذلك الجبل قُبيل الشروق وبُعيد الغروب، وما زال يصوّب ويصعّد حتى اهتدى إلى سر الطيران.
فهل يذكر الألمان المغيرون بطائراتهم على لندن أو الإنجليز المغيرون بطائراتهم على برلين أن (جو مصر) هو الذي أمدّهم بذلك السلاح؟ وهل يذكر الطليان الذين يهددون (مصر الجديدة) بغاراتهم الجوية أن (مصر الجديدة) فيها تمثال (مويار) الذي نقل عن (جو مصر) سر الطيران؟
ما سمعتُ صفارات الإنذار بالغارات الجوية وأنا قارٌّ بداري في (مصر الجديدة) إلا عجبتُ من إمعان بني آدم في العقوق، فكل بلد يجوز الهجوم عليه بقاذفات القنابل إلا البلد الذي يقوم فيه تمثال الرجل الذي هداه (جو مصر) إلى سر الطيران.
ولكن أين من يحفظ لمصر الجميل؟(378/5)
وجو مصر صنع ما صنع في تقدم الطب الحديث، فأهل الصين على بعد الدار، وشط المزار، يعرفون أنهم أصبحوا في أمان من أمراض لم تكتشف جراثيمها إلا في البلاد التي أنجبت البارودي وشوقي وحافظ ومحمد عبده وعبد العزيز جاويش ومصطفى كامل وسعد زغلول، كما أنجبت الفلكي والبقلي وعثمان غالب.
وما استوطن أجنبي مصر إلا خلعت عليه أثواب القوة والبهاء، وما دخل غريب مصر إلا نسي بلده الأصيل أبد الآبدين.
فإن قيل إن بلدنا موطن الأخياف فهذا حق، لأن حوض الزهر هو الوطن لجميع أمم النحل.
وهنا أذكر أن النحل المصري تفرّد بالشراسة والحمق، لأنه يعرف أنه معدوٌّ عليه، ويعرف أن أسراب النحل تأتي لمنافسته من جميع بقاع الأرض، وكذلك يُسهمُ المصري بالثورة على (الأجانب) من حين إلى حين.
وطني! إن جمالك هو الذي يجني عليك.
أما رأيت كيف تباح حرية الإضاءة في جميع الشواطئ ولا تقيد إلا في الإسكندرية وبور سعيد؟ وهل كان ذلك إلا لأن هذين البلدين هما أجمل ما تملك فوق شواطئ البحر المحيط؟
وطني! لهذا اليوم ما بعده، وسوف تلقاني وألقاك، وإن أرجف المرجفون بأن لا لقاء بعد اليوم المخُوف.
وطني! إن لم أحمل السيف في حمايتك فقد حملتُ قلمي في الدفاع عنك، والقلمُ أبقى من السيف، وفضلُك في الدنيا هو فضل القلم قبل فضل السيف، وقد أقسم الله بالقلم لا بالسيف، فعِش إلى الأبد حجة العالم وبرهان الزمان.
وطني! أنت تذكر أنه ما استطاع أمير ولا وزير أن يأجرني في العصبية لك، لأنك وطني وحدي، ولأني لا أسمح لأحد بأن يسبقني في الوصول إلى مواقع هواك.
وطني! وطني! إن عشتُ لك فسأحمل رايتك في المشرقين والمغربين، وسأكون سفيرك في كل أرض يصل إلى أسماع أهلها قلمي، فإن مت قبل أن أدرك في خدمتك ما أريد فسأكون برغم الحوادث بطل الوطنية والإخلاص.
وسلامُ الله على أبرار الشهداء!
ألفاظ صحيحة(378/6)
قلت في بعض المناسبات إني سريع الإنشاء، فظن كثير من الناس أن هذه السرعة قد تعطّل العناية بالأسلوب، وقد تفوّت الفرصة في تخيُّر الألفاظ الصحاح.
وأقول إن السرعة في الكتابة لا ترجع إلى التحرر من قيود الألفاظ والأساليب، وإنما السرعة في الكتابة ملكة من الملكات النفسية يُكسب منها ما يُكسب، ويُوهب منها ما يوهب، وقد ترجع إلى ما يتصف به الفكر في بعض الأحيان من القوة والمضاء. . . فإن رأى أحد القراء في مقالاتي أو مؤلفاتي كلمات أنكرها النقاد فليعرف جيداً أن وجه الصواب لم يغب عني، وإنما أثبت تلك الكلمات وأنا أعرف ما وُجه إليها من التجريح والتزييف، لأني أدرك من أحوالها ما لم يدرك أولئك الناقدون الفضلاء. وإليكم بعض الشواهد:
تلطّف كاتب كبير فأوصى أحد الأصدقاء أن يبلغني أني أخطأت في استعمال كلمة انسجام بمعنى وأقول إنها وردت بهذا المعنى في رسائل إخوان الصفاء.
وأنكر أديب آخر أن أجمع صناعة على صنائع، وأقول إنه جمع صحيح وله نظائر مثل رسالة ورسائل وبضاعة وبضائع.
وأخطأ المتحذلقون بوزارة المعارف حين غيروا اسم (مدرسة الفنون والصنائع) ليصيروها (مدرسة الفنون والصناعات)، ولو نظروا لعرفوا أن الناس يقولون: (فلان رجل صنايعي) بالنسبة إلى الجمع وهو صحيح، ولو كان في أولئك المتحذلقين من ساير كتب العرب في أبواب الاقتصاد لعرف أن العرب في مؤلفاتهم لا يجمعون صناعة إلا على صنائع. والقول بأن (صنائع) ليس إلا جمع صنيعة لا يخلو من التحكم البغيض.
وأنكروا أن ترد (النسائم) في كلامي جمعاً للنسيم، وأقول إنها وردت كذلك في نثر الشريف الرضي. وأنا راض بأن أخطئ مع الشريف!
وأنكروا أن أقول المساهمة بمعنى المقاسمة، وقد طربت أشد الطرب حين وجدت لها شاهداً في نثر الشريف، ثم عجبت كل العجب من غفلة بعض النقاد حين رأيت الزمخشري نص عليها في الأساس فقال: وتساهموا الشيء، تقاسموه، ثم أنشد:
تساهم ثوباها ففي الدرع رأدةٌ ... وفي المِرطلفّاوان ردقهما عبْلُ
وأنكروا أن أقول المرير بمعنى المر، وقد استأنست بقول الشريف:
وما كل أيام الشباب مريرةٌ ... ولا كل أيام الشباب عِذابُ(378/7)
ثم عجبت أيضاً من غفلة بعض النقاد حين رأيت الزمخشري ينص عليها في الأساس فيقول: وشيء مُرٌّ ومَرِير ومُمِرّ، ثم أنشد:
إني إذا حذّرتني حَذُورُ ... حُلْوٌ على حلاوتي مَرِيرُ
وأنكر الشاعر حسن بك حمدي أن يقول الأستاذ العقاد (البديه) في مكان (البديهة) أو البديهي، وأقول إن المعاجم نصت على البديهة لغرض واضح هو القول بوجود المؤنث، وكذلك الحال في (الهناء) وهي كلمة يمحوها أساتذة اللغة العربية كل يوم من دفاتر التلاميذ بحجة أن القاموس المحيط لم يذكر غير (الهناءة) وهم ينسون أن النص على المؤنث مقصود. . . والشريف الرضي يقول:
وما أوفتْ على العشرين سني ... وقد أوفى على الدنيا عزيمي
والعزيم مذكّر العزيمة وإن لم تنص عليه المعاجم.
فإن قيل إن كلمة الشريف هي (غريمي) بالغين المعجمة فأنا أجيب بأن ذلك تحريف لا يخفى على أهل الذوق. وأنكر قوم أن أجمع بحثاً على أبحاث فأقول في صدر كتاب (الموازنة بين الشعراء) إنه (أبحاث في أصول النقد وأسرار البيان) وأقول إن البحث يُجمع على أبحاث كما يُجمع على بُحوث، وقد نص على ذلك بعض اللغويين.
إلى المنصورة، إلى المنصورة
بعد ساعة واحدة من الشروع في كتابة هذه السطور آخذ طريقي إلى المنصورة وطن الشعر والخيال، فهل تلقاني المنصورة بالضم والعناق وهي كناس الحُور العين؟
ما أذكر أبداً أن المنصورة داينت قلبي بشيء، فما سر ذلك؟ ما سر ذلك وما كنت أغلف القلب ولا أصم الفؤاد؟
يرجع السر إلى أني قضيتُ دهري مُثقلاً بفوادح الأعباء فما دخلتُ بلداً شرقياً أو غربياً إلا وفوق كاهلي واجب مفروض وما ظهرت بمظهر المتلهي والمتفرج إلا لأكايد خصومي فأزعم أني أعاقر من صهباء الحياة ما يُعاقرون.
فإن كنت زرت المنصورة قبل اليوم مرة أو مرتين أو مرات فما كان ذلك إلا تأدية لواجب أسأل عنه مرة أو مرتين أو مرات، لأن قلبي يحدثني في كل وقت بأني مضطهد، وبأن خصومي يسرهم أن يعلموا ولو من طريق الوهم أني قصرت في أحد الواجبات. . . وإذا(378/8)
كان الدكتور طه حسين لم ينس كلمة جافية سمعها من أبيه منذ أكثر من أربعين سنة فأنا لم أنس أن أحد الرؤساء بوزارة المعارف واجهني بالكلمة الآتية:
(في كل موسم لك كتاب جديد، ولك في أكثر الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية مقالات وبحوث، فمتى تشتغل لنا؟)
وكذلك كان الأمر في زيارة المنصورة فلم أدخلها إلا مُثقلاً بواجب تأبى فَداحتُه أن أتلفت إلى ما في رياض المنصورة من غرائب الأزهار والرياحين.
إلى المنصورة، إلى المنصورة.
ولكن كيف؟
كان في مقدوري أن أسير إليها على نفقة الدولة لتأدية بعض الواجبات هناك، ولكني رأيت أن تكون الزيارة على جيبي الخاصّ ليعرف القلب أن له حقوقاً تُذال من أجلها نفائس الأحوال.
وما حق القلب هناك؟ أيكون هو الشوق إلى الصديق أحمد حسن الزيات الذي اتهمه أحد كتاب جريدة الهدف بالفزع إلى المنصورة خوفاً من المعاطب؟
هو ذلك، مع إضافة واجب بسيط سأؤديه للدولة بالمجان.
ولكن هل يخف الزيات لاستقبالي بالمنصورة النجلاء؟
سألقاه مشغولاً بتصحيح تجارب (الرسالة) وسيدعوني إلى معاونته على تصحيح تلك التجارب، وسيرى حُضوري فرصة ترفع بها عن عينيه متاعب الإجهاد.
فإن كان في بلاد المشرق أو بلاد المغرب من يحسُد أدباء مصر على ما وصلوا إليه من نعمة السيطرة الأدبية فليذكر أننا وصلنا إلى تلك النعمة بجهادٍ شاق لم نقدم له من ناضج الوقود غير أقباس العزائم وألفاف القلوب، ونحن مع ذلك نؤمن بأننا لم نصنع غير حفر الأساس، فمتى نرى بأعيننا طلائع الجيل الجديد؟
ومتى نطمئن إلى أن كتّاب اللغة العربية لا يُعدّون بالعشرات وإنما يعدون بالمئات والألوف؟ متى؟ متى؟ الجواب عند أبناء اللغة العربية وهم يزيدون على مائة مليون.
وقد رجعتُ من المنصورة بعافية، لأني لم أبت فيها غير ليلة واحدة، فلم يتسع الوقت لعقابيل الوجد حتى تجرّب حظها في القدرة على تجريح قلب تكسّرت فيه النصال على(378/9)
النصال.
لم ألق أحداً في انتظاري على محطة المنصورة، فأين الزيات؟ وهل يشق عليه أن يُغبر قدميه بخطوات قصار لاستقبال صديق قضى في الطريق ثلاث ساعات، وإن مرت كومضة البرق في صحبة الأستاذ عبد العزيز صقر شاهين؟
وأتلفتُ فأرى الأستاذ محمود البشبيشي، الصديق العزيز الذي لم أر منه غير كرم الأخوّة وصدق الوداد، ثم أنظر فأرى الأستاذ عبد اللطيف علي، وهو مدرس فاضل قد مكنه التنقل من التعرف إلى ملامح البلاد المصرية.
هذه القهوة المنشودة، وتلك الكافورة الغيناء، وذلك الأستاذ محمود زناتي، فأين الزيات؟
لقد ذهب الشقيُّ إلى (رأس البر) وخلاّني، فهل أعود إلى القاهرة قبل أن أنفض عن ثيابي غبار الطريق؟
وما هي إلا لحظة حتى طاب المجلس وحلا الحديث، وأقبل المنصوريون فأحاطوني بوداد يذكّر بوداد أهل بغداد، حتى كدت أتوهم أني بين الرُّصافة والجسر، أو فوق الجزرة في مواجهة كلواذ. على ليلتي بالجزرة أطيب التحية، وأزكى السلام!
وأنظر في الساعة من ثانية إلى ثانية ومن دقيقة إلى دقيقة لأرى كيف أفرّ إلى دار تعودت المضي إليها بلا دليل غير وحي القلب، ولكن شيطانين منصوريين يصدّان عن سبيل القلب ويأبيان إلا مرافقتي حيثما توجهت، ونعوذ بالله من كيد الشياطين.
فإن كان حظي في تقبيل تلك الجدران قد ضاع فحسبي من العزاء أن أطمئن إلى أن هواي لم يزل من السر المصون.
أنا في المنصورة في صحبة القمر والنيل والنسيم، وفي ضيافة الأستاذ محمود زناتي وبرفقة جماعة من أفاضل الأدباء والمدرسين، فإن كان في الدنيا من يصدّق أن الحديث الجذّاب قد يكون أطيب الطيبات وقد يُنسى القلب لواعج هواه فليعرف أن سهرتنا كانت من تلك الطيبات العِذاب. ألم أسهر حتى يبلل الندى ثيابي على نحو ما كان يصنع معي في سهرات بيروت؟
ثم أستيقظ على صفير القطار، وهو يزفر زفرة الشوق إلى القاهرة فأهب لأداء بعض الواجبات، ثم أتجه إلى القاهرة قبل أن تصل الشمس إلى كبد السماء.(378/10)
فإن بدا للزيات أن يعضّ بنان الندم على ضياع حظه من لقائي بالمنصورة فليفعل، فقد كانت معي أطايب من الحديث لا تذاع إلا هناك، وكان في نيتي أن أدله على أشياء وأشياء من أسرار المنصورة الفيحاء، وكان وكان، ولكنه قليل الحظ من الطيبات.
كان الزيات يهدد ويهدد: كان يقول إن زيارة المنصورة قد تكفّ شر المنصوريين في التزيد على (ليلى المريضة في العراق).
وذلك والله هو السر في زيارة المنصورة بعد موسم الصيد: صيد الأسماك.
أما بعد فللمنصورة حقوق تعرفها القلوب، فإن قضى الدهر بألا أبيت فيها غير ليلة واحدة فقديماً صنع الدهر ما صنع في حرمان أرباب القلوب.
رباه! متى تعود أيامي؟
متى أرجع إلى تدوين الملاحة في البلاد التي يسقيها النيلُ الوفيُّ الأمين؟
متى يتسع الوقت لدرس ما في مرابع الوطن الغالي من غرائب السحر والفُتُون؟
ما هَلّ بلدٌ في وجه القطار إلا وثب القلب، فما في وادينا بلدٌ خَلَت أرباضه من آثار الحروب بين العيون والقلوب، حتى كدت أومن بأن كل بلدٍ في مصر هو صورة من صور سنتريس أو بغداد أو باريس.
وطني! أنا أحبك، أنا أحبك.
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تُكتَبْ عليّ ذُنوبُ
زكي مبارك(378/11)
3 - أخلاق القرآن
الوفاء بالعهد
للدكتور عبد الوهاب عزام
الوفاء بالعهد خُلق يقتضيه الإنصاف والصدق، وتوجبه المروءة وكرم النفس، وتحتمه الرجولة والنبل. ما أصغر وما أذل وما أخس النفس التي تتخذ عهدها وسيلة إلى التغرير بمن تعاهده، وتجعل يمينها سبيلاً إلى أن تفجئه وهو آمن مطمئن. الغادر كاذب حانث خادع، قد جعل كلامه وعهده حبالة لمآربه، حبالة واهية ذليلة كحبالة العنكبوت يصيد بها الذباب، ودبّ من وراء الأمن إلى خصمه كما تدب الثعالب والذئاب. أين هذا من الإنسانية في أخلاقها العالية، والرجولة في سجاياها الحرة؟ وأين هذا من أخلاق القرآن كتاب الإنسانية الكاملة؟
القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، ويكبر الموفين، وينهى عن الغدر، ويشتد في النهي عنه، ويقبحه، ويلعن الغادرين.
ومن يتدبّر آيات القرآن يجد العهد فيها ضربين: العهد العام، والعهد الخاص؛ فأما العهد العام فهو أداء الواجب الذي يقتضيه عمل الإنسان، فمن تولى عملاً فقد عاهد أن يبقى به على الوجه الأكمل. فإذا لم يفعل فقد خالف العهد، ومن آمن بدين فقد عاهد أن يأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه فإن لم يفعل فقد نقض العهد. ومن دخل في جماعة فقد عاهدها على أن ينفعها ولا يضرها، فإن ضرّها أو قصّر في نفعها فقد غدر. ومن تصدى للدفاع عن أرض أو جماعة أو عقيدة فقد عاهد ألا يألو جهداً في الدفاع. فإن نكص فقد خان. ومن أوتي علماً أو عرف حقاً فكأنه عاهد أن يبينه للناس ليهتدوا به، فإن كتمه فقد خاس بعهده. وهكذا.
نقرأ في الكتاب الكريم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبينُنّه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون) (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال أأقررتم وأخذتم على ذلك أصري؟ قالوا أقررنا. قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين.)
(وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم. وأخذنا(378/12)
منكم ميثاقاً غليظاً. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً.)
فهذه مواثيق عامة تضمنتها رسالة الأنبياء وعلم الذين أوتوا الكتاب، كأن النبوة عهد على الوفاء بما تقتضيه الرسالة من الدعوة والإصلاح والنصب واحتمال الأذى والصبر وكأنها عهد على أن ينصر النبيون الحق وينصروا من جاء به.
وكذلك العلم الذي حمل أهل الكتاب أمانته. هو عهد عليهم أن يعلّموه للناس ويظهروه غير مبالين ما ينفعهم وما يضرهم في إظهاره، وكذلك كل من عرف حقاً وهُدي إلى معرفة، وكل من ولى ولاية للناس، وكل من وكل إليه عمل، كل هؤلاء كأنهم عاهدوا الله والناس على أن يُعرّفوا الناس ما عرفوا وأن يؤدوا أعمالهم على الوجه الأحسن.
ومن ذلك قول القرآن الكريم في وقعة الأحزاب:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. ليجزي الله الصادقين بصدقهم.)
فهذا العهد هو ما ألتزمه المسلمون حين قبلوا الإسلام من القيام بفروضه ونصرته والدفاع عنه والاستماتة في تأييده.
والقسم الثاني من العهد الخامس: معاهدة رجلين أو فريقين على أن يسالم بعضهم بعضاً وأن يجتنبوا الضر فيما بينهم، أو تحالف فريقين على أن يتعاونوا على عمل، وهكذا؛ وهذه العهود شائعة بين الناس منذ اجتمعوا واحتاج بعضهم إلى بعض وخشي بعضهم بعضا
وقد حث القرآن على الوفاء بالعهد كله وبالغ في الأمر به. يقول في سورة الأنعام: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى. وبعهد الله أوفوا. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). وفي سورة الإسراء: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً). وفي سورة النحل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. يعظكم لعلكم تذكرون. وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. إن الله يعلم ما تفعلون. ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به، ولَيُبَيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون. ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً، إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعملون).(378/13)
يأمر الله سبحانه في هذه الآيات الجامعة بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، وينهى عن الفحشاء وكل منكر، وعن البغي على الناس. وهذا أمر بكل خير ونهي عن كل شر.
ثم يخص الوفاء بالعهد فيأمر به ويسميه عهد الله، وكل عهد بين اثنين يسمى عهد الله، لأن الله رقيب على أعمال الناس، وقد أمرهم بأن يصدقوا ويحسنوا ويفوا بالعهود، ولأن العهد قسم بالله وشهادة لله على الوفاء. وأكد الأمر بقوله: ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً. فالإنسان حين يعاهد يشهد الله على عهده ويجعل الله كفيلاً عليه بالوفاء، فكيف تنقض صفقة تكفّل بها الله؟ إن الإنسان ليتخذ كفيلاً من وجهاء الناس فيحرص على الوفاء بعهده إكراماً لهذا الكفيل وحياء منه، فكيف بمن جعل كفيله الله؟ ثم نهاهم أن تكون أمورهم لعباً وعبثاً، يبذلون وعودهم وعهودهم وأيمانهم ثم ينقضونها، كالمرأة الحمقاء التي غزلت ثم نقضت غزلها؛ ذلك عبث وصغار لا ترضى به النفوس الكريمة الكبيرة الحرة. نهاهم أن يفعلوا ذلك وأن يتخذوا أيمانهم غشاً وفساداً إذا لاح لهم نفع في نقض العهد، إذا وجدوا أن جماعة عاهدوها هي أقل عدداً وقوة من جماعة لم يعاهدوها، فهم يريدون أن ينقضوا عهد الضعيف ليرضوا القوي أو يحالفوه. وهذا معنى قوله: (أن تكون أمة هي أربى من أمة). ثم قال: (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً). يعني: لا يحملكم على نقض العهد نفع تنالونه من وراء نقضه، فإن كل ما تنالون بنقض العهود هو ثمن قليل في جانب هذا الأمر العظيم. وكل ربح تتوهمونه في ذلك خسران كبير.
وقد أثنى القرآن كثيراً على الموفين بالعهد، قال في وصف المؤمنين المفلحين: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون). وقال في وصف الخيرين البررة: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا). وقال: (إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق). وقال: (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين).
هذه إشادة القرآن بالموفين بالعهد، وثناؤه عليهم بكل خير تعظيماً لهذا الأمر العظيم.
وأما الذين لا يوفون بعهودهم فقد ذمهم القرآن وشنع عليهم فقال: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون). وقال في موضع آخر: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار). وقال في(378/14)
جماعة من أهل الكتاب نقضوا العهد: (فيما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية). واستمع إلى هذه الآية الهائلة التي تبين غضب الله على من ينقض العهد ابتغاء منفعة: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.)
وقد أخرج القرآن ناقضي العهود من الإنسانية وجعلهم من الدواب بل جعلهم شر الدواب في قوله:
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).
ألا ترى أنه جعل الذين كفروا شر الدواب ثم وصفهم وصفاً يلائم هذه الحال فأخبر أنهم لا يثبتون على عهد كلما عاهدوا نقضوا عهدهم. كما قال في آية أخرى: (أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟)
راعى القرآن العهود وأعظم شأنها حتى أوجب الدية في قتل غير المسلم من قوم معاهدين، ولم يوجبها في قتل المسلم من قوم غير معاهدين.
تلكم شرعة الإسلام في رعاية العهود، وهي التي سار عليها المسلمون في سلمهم وحربهم فكانوا أوفى ذمة وأثبت عهداً. . . تنطق بذلك سيرهم منذ جاءهم الإسلام حتى اليوم. كان للعهد عندهم حرمة لا تمتهن، في السراء والضراء، والشدة والرخاء. كان العهد الذي يعطيه أقل رجل من المسلمين ولو عبداً - نافذاً على المسلمين جميعاً لا يقبل تأويلاً ولا تبديلاً.
إن حفظ العهود ليلقى الأمن والطمأنينة في نفوس الأفراد والأمم ويقيم أمور الناس على شريعة من المودة والإنصاف والتعاون. وإن العالم ليزلزل اليوم بما استخف بالعهود واتخذها وسيلة إلى المطامع؛ فلم يركن الناس إلى معاهدة، ولم يأمنوا الغدر والمفاجأة، فصاروا في ريبة وحيرة، وزال ما كان يثبت الأمم من مواثيق تؤمن بها وتركن إليها وتسير في تدبيرها عليها. صار الوعد لا يدل على الوفاء، والعهد لا يؤمن من الغدر، فاضطرب الناس فهم في أمر مريج.
وقد حدثنا القرآن عن بلاد أهلكت وأخبرنا أن مما أهلكوا به استخفافهم بالعهد فقال: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم(378/15)
فهم لا يسمعون. تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل، كذلك نطبع على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). . . صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام(378/16)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: الرسم
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تشمل هذه الطائفة من العوامل جميع ما يبذله الأفراد والهيئات من جهود مقصودة في سبيل حفظ اللغة وتعليمها، وتوسيع نطاقها، وتكملة نقصها، وتهذيبها من نواحي المفردات والقواعد والأساليب، وتدوين آثارها، واستخدامها في الترجمة والتأليف الأدبي والعلمي. . . وهلم جرا
وتمتاز هذه الطائفة من العوامل عن الطوائف الثلاث التي تكلمنا عنها في المقالات السابقة بأنها أمور مقصودة، تسيرها الإرادة الإنسانية؛ على حين أن الطوائف السابقة تتمثل مظاهرها في أمور غير مقصودة تحدث من تلقاء نفسها، وتبدو آثارها في صورة جبرية لا اختيار للإنسان فيها ولا يد له على وقفها أو تغيير ما تؤدي إليه، وتمتاز عنها كذلك بأن هدفها الأصلي هو لغة الكتابة، بينما تتجه آثار الطوائف السابقة بشكل مباشر إلى لغات المحادثة.
ولهذه الطائفة مظاهر كثيرة من أهمها: الرسم، والتجديد في اللغة، والبحوث اللغوية، وحركة التأليف والترجمة، ووسائل تعليم اللغة. وسنعرض في هذا المقال لبعض نواحي الرسم، مرجئين التكلم عن نواحيه الأخرى وعن بقية العوامل الأدبية إلى المقالات التالية.
لم يتح الرسم إلا لعدد قليل من اللغات الإنسانية، أما معظمها فقد اعتمدت حياته على مجرد التناقل الشفوي، فالشرط الأساسي في حياة اللغة هو التكلم بها لا رسمها، فكثيراً ما تعيش اللغة بدون أن يكون لها سند تحريري، ولكن من المستحيل أن تنشأ لغة أو تبقى بدون أن يكون لها مظهر صوتي. ويصدق هذا حتى على اللغات الصناعية نفسها كالإسبرنتو وما إليها، فمن المتعذر أن تتاح الحياة للغة من هذا النوع ما لم تتناولها الألسنة وتصبح أداة للكلام، ولذلك كان أول ما يتجه إليه المفكرون في هذا النوع من اللغات هو وضع أصواته(378/17)
وأسلوب نطقه والبحث في وسائل انتشار التحدث به.
وعلى الرغم من ذلك، فللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر. فبفضله تضبط اللغة، وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنتشر المعارف، وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية، والمصرية القديمة، والإغريقية، واللاتينية، والقوطية؛ فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي.
وترجع أساليب الرسم التي استخدمت في مختلف اللغات إلى أسلوبين اثنين:
(أحدهما) أسلوب الرسم المعنوي , وهو الذي يضع لكل معنى صورة خطية خاصة وقد استخدم هذا الأسلوب في لغات كثيرة، منها الصينية والمصرية القديمة ولا نعلم على وجه اليقين أول أمة استخدمته ولكن يظهر من شواهد كثيرة أنه أقدم أساليب الرسم الإنساني.
وترجع الصور الخطية التي تستخدم في هذا الأسلوب إلى نوعين، فأحياناً تكون صوراً حقيقية للأشياء التي يراد التعبير عنها، أو لأجزاء من هذه الأشياء؛ كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشمس بدائرة في وسطها نقطة، وإلى القمر بقوس في وسطه نتوء، وإلى الزنبق بثلاثة فروع من شجرته في طرف كل منها ثلاث زنبقات، وإلى الصقر بصورته واقفاً. . . وهلم جرا. وأحياناً تكون مجرد رموز مصطلح عليها للتعبير عن الأشياء والمعاني كما يشير الرسم الهيروغليفي إلى الشهر بصورة هلال في وسطه نجمة، وإلى اليوم بدائرة في وسطها نقطة؛ وكما يشير الرسم الصيني لمعنى الإنسانية بخطين يتكون منهما شكل يشبه رقم 8.
ولهذا الأسلوب من الرسم عيوب كثيرة. فهو أسلوب بطيء يقتضي للكاتب إسرافاً كبيراً في الوقت والجهود. ولكثرة صوره ورموزه تبعاً لكثرة المعاني والأشياء، يقتضي تعلمه وتعليمه جهوداً شاقة وزمناً طويلاً. ولذلك يقضي كثير من الصينيين زهرة شبابهم في المدارس بدون أن يتموا تعلم الرسم الصيني، وهو لا يقوى على تأدية وظيفته إلا في صورة ناقصة مبتورة؛ إذ من المستحيل، مهما كثرت صوره وتعددت رموزه، أن ينتظم جميع ما يخطر(378/18)
بالذهن الإنساني من معان وأفكار وجميع ما ينطق به اللسان من ألفاظ وعبارات. هذا إلى أنه بمقتضاه لا يوجد للمعنى الواحد أكثر من صورة واحدة، مع أنه في معظم اللغات الإنسانية كثيراً ما يوجد للمعنى الواحد عدة ألفاظ مترادفة. فاستخدامه في حالات كهذه يوقع في اللبس ويؤدي إلى الاضطراب.
(وثانيهما) أسلوب الرسم الصوتي , الذي يضع لكل صوت صورة خاصة. وقد استخدم هذا الأسلوب من الرسم في كثير من اللغات القديمة، ويستخدم الآن في معظم الشعوب المتمدينة.
وترجع الصور الخطية التي استخدمت في هذا الرسم إلى طائفتين: إحداهما الصور المقطعية وهي التي ترمز إلى مقاطع كاملة كما يرمز في الهيروغليفي بشكل الشفتين إلى مقطع را والأخرى الصور الهجائية وهي التي ترمز إلى أصوات ساكنة، كما يرمز في الرسم العربي بهذا الحرف (ل) إلى صوت اللام مجرداً من جميع الحركات.
ويظهر أن قدماء المصريين كانوا أول من استخدم هذا الأسلوب بنوعيه (المقطعي والهجائي) منذ أكثر من ثلاثين قرناً قبل الميلاد. فمن بين صور الخط الهيروغليفي ما يرمز إلى مقاطع صوتية (صورة الشفتين مثلاً التي تعبر عن مقطع (را)) بل من بينها ما يرمز إلى مجرد أصوات ساكنة (صورة الشفتين مثلاً التي أصبحت ترمز فيما بعد إلى صوت الراء غير المتبوع بأي حركة، كما هو شأن الراء في الحروف الهجائية العربية). غير أن قدماء المصريين لم يستخدموا هذا الأسلوب وحده، بل مزجوه بالأسلوب الأول. فالرسم الهيروغليفي خليط من الرسم الصوتي والرسم المعنوي؛ يستخدم بجانب الصور المقطعية والهجائية صوراً حقيقية ورمزية.
ومن الراجح أن الفينيقيين هم أول من استخدم الأسلوب الهجائي وحده. وقد اضطرهم إلى ذلك نشاطهم التجاري وكثرة تنقلهم وتعدد علاقاتهم بمختلف الشعوب. فقد كانت هذه الشئون تقتضيهم في جميع أعمالهم السرعة في الحركة، والاقتصاد في المجهود، وتحري وجوه الدقة. والأسلوب الهجائي هو أسرع أساليب الرسم، وأيسرها وأدناها إلى الكمال. وليس من شك في أنهم حاكوا في أسلوبهم هذا ما كان يشتمل عليه الخط الهيروغليفي من صور هجائية. على أنه قد ثبت أنهم أخذوا أخذاً عن هذا الخط نحو ثلاثة عشر حرفاً من حروفهم.(378/19)
وقد انتشرت حروف الهجاء الفينيقية في معظم أنحاء العالم القديم واستخدمها كثير من شعوبه؛ ومنها تفرعت بشكل مباشر أو غير مباشر جميع حروف الهجاء التي استخدمت فيما بعد في مختلف اللغات الإنسانية.
فمن الحروف الفينيقية اشتقت الحروف العبرية القديمة، ومن هذه اشتق الرسم العبري الحديث (الحروف العبرية المربعة ' الذي استخدم بعد رجوع بني إسرائيل من نفي بابل، وظل مستخدماً إلى الآن بدون أن يناله تغيير ذو بال.
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك نوعان من الرسم قريبا الشبه بالعبرية الحديثة (الحروف العبرية المربعة): أحدهما الخط التدمري (أو البالميريني والآخر الخط النبطي ومن التدمري اشتقت الحروف السريانية التي أخذت منها الخطوط المغولية والمنشورية. ومن الخط النبطي والخط السرياني اشتقت حروف الهجاء العربية.
ومن الرسم الفينيقي أخذ كذلك الرسم الآرامي، بل إن الرسم الآرامي في أقدم أشكاله لا يكاد يختلف عن الرسم الفينيقي. وعن الآرامية أخذت الحروف الهندية الباكتريانية - التي كانت مستخدمة في شمال الهند؛ ومن هذه الحروف اشتقت جميع الحروف المستخدمة الآن في مختلف لغات الهند وسيام وكمبدج (بالهند الصينية) وماليزيا
ومن الحروف الفينيقية اشتق كذلك الرسم الإغريقي؛ ومن الرسم الإغريقي أخذت الحروف اللاتينية، ومن الرسمين اللاتيني والإغريقي تفرعت جميع أنواع الرسم المستخدمة في مختلف اللغات الأوربية في العصر الحاضر.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(378/20)
أوليفر جوزيف لودج
يونيو سنة 1851 - أغسطس سنة 1940
للدكتور أحمد موسى
ليس بين المثقفين من لا يعتبر أوليفر لودج من أئمة علماء العصر، كما لا يوجد من بين هؤلاء من لم يقرأ شيئاً له أو عنه. وإذا أراد أحد المؤرخين أن يسجل في قائمة أعظم عظماء التاريخ من الناحية العلمية، فإنه يضع اسم أوليفر لودج بين هذه الأسماء إن لم يضعه في مقدمتهم.
أنظر إلى حقل من الحقول وسر بنظرك إلى شجيراته التي غرست في وقت واحد وتعهدها الفلاح بالري في فترة واحدة، تر من بينها شجيرة تبز غيرها وترتفع عنها، مع أن البذور واحدة والعوامل الباقية مشتركة. وكذلك كان الحال منذ بدأ القرن العشرون، فظهر في الأفق العلمي كثيرون كان من أبرزهم أوليفر لودج الذي حلق في سماء الفكر تحليقاً عجيباً ووصل إلى نتائج من أبهر وأسمى ما يمكن الوصول إليه.
لم يكن أوليفر لودج موسيقياً، ولكنه كان يستمع إلى موسيقى الخلود؛ فيتخذ من هرمونيتها قواعد وأصولاً يجعلها أساس بحوثه في اللانهاية وفي علاقة الشموس والسيارات والكواكب بعضها ببعض، وكما يحافظ الموسيقي العبقري من أمثال بيتهوفن وفاجنر على الانسجام والاتزان والارتباط الفائق في مقطوعاته، كان أوليفر لودج يتخذ القاعدة البسيطة إلى المبادئ المركبة، وينتهي بالنتائج المحدودة إلى ما هو غير محدود.
وإذا كان العلم رهيناً بالبيئة والاستعداد المولود مع الموهوبين فإن المصادفة قد لعبت دوراً هاماً في توجيه أوليفر لودج إلى العلم.
كان الفضل في توجيهه لمجلة قديمة اسمها: (الميكانيكي القديم) تناولها صدفة فأثارت كامن استعداده، ولم يكن فقر أبيه ليحول بينه وبين العلم؛ فدرس وحفظ وأتقن وتفنن وتعلم وعلم من أجل الاستمرار في الدرس.
ولد أوليفر لودج يوم 12 يونيو سنة 1851 في بيكنهال بمقاطعة ستافورد بإنجلترا من(378/21)
أبوين متوسطي الحال، وكان أبوه مشتغلاً بصناعة الخزف، وقد تعلم الابن في المدرسة الابتدائية في بيوبورت إلى أن بلغ الرابعة عشرة، واستمر مع أبيه سبع سنوات جمع خلالها بين العلم والعمل، بحيث لم يكن اتجاهه العلمي متصلاً أقل صلة بحرفته التي كلفه بها واختاره أبوه، وقد صادف يوماً تلك المجلة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانكب على الدرس والبحث والاستقصاء، فما كان من أبيه إلا أن أرسله إلى لندن ليستمع إلى ما يروقه من المحاضرات.
رأى الفتى أنه لا بد له من الدراسة الجامعية المنظمة، ولابد له من مال ينفقه في هذه السبيل؛ فاستعان بإعطاء الدروس الخصوصية للحصول على النفقات الضرورية، وأمكنه بعد الجهد أن يحصل على أسمى شهادة تمنحها جامعة لندن وهي إجازة الدكتوراه بعد خمس سنوات قضاها في الدرس المرهق.
وعين في سنة 1879 مساعداً للرياضة التطبيقية بجامعة لندن، وانتخب عضواً في الجمعية الملوكية سنة 1887، وانتقل أستاذاً للعلوم الطبيعية في جامعة ليفربول سنة 1881 وظل فيها إلى سنة 1900 حيث انتقل عميداً لجامعة برمنجهام.
ومنحه الملك إدوارد السابع لقب فارس سنة 1902 وحصل على لقب (سير) فيما بعد.
ومن أوائل مؤلفاته (نظرات جديدة في الكهربائية) وهو المؤلف الذي ترجمه إلى الألمانية العلامة هلمهولتس سنة 1896 وله كتاب ألفه سنة 1908 أسماه (الحياة والمادة) تناول فيه بالنقد آراء الفيلسوف الألماني هيكل صاحب كتاب (لغز الكون).
وألف بعد ذلك الكثير من الكتب، وله مقالات ومحاضرات لا يتناولها الحصر، منها ما ألقاه في الجامعات ومنها ما ألقاه في مجمع تقدم العلوم البريطاني. أما مقالاته فقد نشرت عنها نبذة جيدة في مجلة الطبيعة ومجلة الاكتشافات وغيرهما من المجلات الأمريكية والألمانية والفرنسية والإيطالية.
أما الجرائد اليومية التي نشرت له، فأهمها التيمس التي بدأت منذ فجر القرن العشرين تنشر مقالاته وخلاصة محاضراته عن: (الكهرباء) و (الأتوم) و (المغناطيسية) و (المادة والروح) وغير ذلك.
ولم يقف نشاطه عند حد التدريس والتأليف، بل تعداه إلى الاشتغال العملي كمستشار لإحدى(378/22)
الشركات الكهربائية الكبرى؛ فقام لديها بتطبيق أبحاثه النظرية في الوقت الذي فيه استفادت الشركة فائدة عظمى.
وقد ظل عميداً لجامعة برمنجهام حتى سنة 1919، أي أنه ظل في هذا المنصب عشرين عاماً لا يتوانى عن العمل والإنتاج والسعي وراء ما هو جديد في العلم.
وقد انتخب رئيساً لمجمع تقدم العلوم البريطاني سنة 1933، ورئيساً للجمعية الطبيعية وجمعية الأبحاث النفسية وجمعية الأشعة المجهولة.
بهذا الوضع ترى أن لودج جمع بين العلم التجريبي والفلسفة، وكان وسيطه الأثير، وظل يتفلسف حتى حلق بفكره الصافي وخياله السامي إلى عالم الروح!
ما هو الفضاء؟ وما حدوده؟ وماذا يشغله؟ وما هذه الكواكب المنثورة في رحابه؟ وما الذي يربط بينها؟ وما هي المادة، ومم تتكون؟ وماذا يربط بين الذرات؟
صراع عنيف هذا الذي بين العالِم وبين ظواهر الكون! شجار هائل بين العقل البشري وظاهرة اللانهاية. ينظر العالِم البصير إلى الوجود نظرة المتأمل؛ فيرتد منه البصر خاسئاً وهو حسير! لقد قال (كانت) في كتابه (نقد العقل الخالص): إن العقل البشري محدود لا يستطيع اختراق الآفاق للوصول إلى ما يشفي غلته، وهذه حكمة الخالق!
ولعل ما وصل إليه أوليفر لودج كان من نوع الانبثاقات المشابهة لتلك التي فاز بها أينشتاين دون مقارنة. ومهما يكن من شيء فإن العقل الخصب لا يقف في البحث عند حد؛ لذلك ترى لون التفكير الحديث عند لودج بمعناه الكامل.
يتجه التفكير الحديث إلى تحقيق تأليف كل مادة من جزيئات منفصلة هي ذرات العناصر المركبة من كهارب وبروتونات وهذه هي الشحنات الكهربائية الدقيقة إلى أقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره.
أخذ هذا المبدع في التفكير على هذا النمط، واتخذ من البسيط قاعدة للمركب، واستطاع إدراك الموسيقى الكونية المعبرة عن الكمال المطلق في الهارموني الأزلية الأبدية!
كان لودج مؤمناً وكان ينبذ مذهب المادية كنتيجة لإيمانه. فتراه يقول: إن العالم لا يمكن أن يكون مادة خالصة، فهناك رابط وضابط يربط بين الكائنات ويضبط علاقاتها، وليس هو بالذات مادياً.(378/23)
وما هو الأثير يا ترى؟ أهو مادة ترى أم تلمس؟ يقول لودج في تعريف صفاته: إنه لا يرى ولا يلمس ولا يسمع ولا يشم! بل هو ناقل الضوء وهو الرابط بين جزئيات المادة، كما أنه الوسيط لنقل الأشعة الكونية إلى الأشعة اللاسلكية، والأشعة الكونية تبلغ حداً قصيراً جداً بينما اللاسلكية قد تصل موجتها إلى اثني عشر ميلاً أو أزيد.
أما جولاته وصولاته في عالم الروح فهي مشهورة وعظيمة فاعتقاده في بقاء الروح بعد الموت نتيجة لتجاربه التي يقرر في إحداها أنه استطاع التحدث إلى ابنه المتوفى، ويعلل ذلك بقوله: إن الحياة والعقل يبدوان في مجال لا يشترط أن يكون مادياً دائماً، وعلى ذلك فبقاؤهما بعد انحلال الجسم المادي محتمل.
ولم يصل لودج إلى التحقيق العلمي في هذا الشأن، ولذلك فتعاليمه الروحية مثار كثير من الجدل، ولكن هذا لا يمنع من اعتباره واضع النواة لاتجاه لا يبعد أن يميط البحث عنه لثام الغموض، لا سيما وأن الكثير من المبادئ العلمية كانت في أول أمرها مثار الشكوك ثم ثبت صدقها ونفعها فيما بعد.
تذكر (لامارك) واذكر أبحاثه التي ظلت أعواماً طويلة في عالم النسيان بعد طول الجدل والمناقشة، وبعد أن كانت مثار الحقد والكراهية له من معاصريه العاملين معه في معهد واحد، وتذكر ما قاله (دارون) عن هذه الأبحاث تر أنه لا يبعد أن يجود الزمان بمن يواصل البحث في عالم الروح على ضوء ما تركه لودج من تراث عظيم في هذا المجال.
جمع لودج بين عالم الروح وعالم المادة، وله أبحاث هامة عظيمة قد أيدت، وأبرزها النتائج التي وصل إليها في ظواهر البرق والصواعق، والمسلك الذي سلكه للوقاية منها.
وله فضل عظيم على نظريات اللاسلكي والأمواج القصيرة والطويلة، فلا غرابة إذا اعتبره البعض إمام الابتكارات اللاسلكية الحديثة قبل ماركوني.
لقد وهب الله هذا الرجل صدق النظر وعلو الهمة والرغبة في العلم والإنتاج، كما منحه إلى جانب ذلك عمراً مديداً، فهو في هذا كله قد وفق تمام التوفيق وأدى رسالته على أحسن وجه.
فإذا سجلنا اليوم بعض مآثره وتناولنا حياته ببيان قصير، فإن هذا إلى جانب مكانته لا يعد شيئاً مذكوراً.(378/24)
ولعلنا نعود إلى أبحاثه الروحية في وقت أكثر رحابة وأوسع مجالاً من هذا الذي اكفهر فيه الجو وخيم الظلام على عقول الناس؟
أحمد موسى(378/25)
في النقد الأدبي
أسلوب أدهم
في كتبه ومباحثه
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كان المرحوم إسماعيل أدهم شخصية في الأدب النقدي الحديث، تستحق الدراسة من نواح متعددة. وإذا كان عرف عنه دائماً زيغ في العقيدة، أو تعصب للترك على العرب والإسلام فقد عرف عنه بجانب ذلك كثير من دقة البحث واستقصاء الدرس واستكمال عدة النقد اللازمة للناقد الحديث. وامتازت كتاباته ومباحثه الواسعة المنتشرة هنا وهناك بطريقة جرى عليها علماء المشرقيات في مباحثهم. وهي طريقة غير هينة ولا معبدة لأنها تستلزم صبراً كثيراً وقراءة كثيرة وربطاً محكماً لكل ما يقرأ وإدراكاً واسعاً يستطيع به صاحبه الحكم في صحة، غير جانح إلى خطأ، أو مائل إلى انحراف عن الجادة.
ولقد أثار موت أدهم - بالطريقة التي اختارها - أموراً كثيرة، تعرض فيها كثير من الناس لأمور ما كان يليق التعرض لها، لأنها تمس شخصه هو، وتلمس جزءاً خصوصياً من حياته. وكان الأولى بهم لو وقفوا أمام أدبه وتراثه الفكري فاستعرضوه وبحثوه وأشبعوه درساً وتناولوه تناول الناقد - في رفق أو في غير رفق - لأنه تراث لم يعد من ملك إسماعيل أدهم، بل عاد من ملك الزمن ومن حق التاريخ.
ولا نعرض هنا لما قيل في أدهم وما قيل عنه، فليس ذلك وارداً على بحثنا اليوم ولا داخلاً فيه. ولا شك أن المغامز التي أثيرت حوله ستمضي، وسيبقى الكلام في عقيدته مسألة حسابها بينه وبين ربه.
والكلام عن أدهم في أي ناحية من نواحيه قد يكون شائكاً، وقد يكون دقيقاً، وقد يكون فيه غير قليل من الحرج، فليس من أسهل المواقف - في بيئة شرقية محافظة - أن يطيب الكلام عن أدهم المعروف بنزعاته الحرة غير المبالية بتقليد أو سنة.
وليس من أهون المواقف أن يكتب عربي عن شاب تركي الأب ألماني الأم أو صقلبيها كان يرى ويؤمن باحتقار للترك للعرب.(378/26)
وليس من أحب المواقف إلى النفس أن يكتب كاتب يريد الإنصاف عن أديب تعددت فيه مذاهب الرأي، وأحيط علمه وعرفانه الألمانية والروسية وقيم شهاداته العلمية بكثير من الشك.
نعم، ليس الكلام عن أدهم سهلاً ولا ليناً، ولا مما يرتاح إليه بعض الناس ممن يرون فيه رأياً خاصاً، ويذهبون في الحكم عليه مذهباً معيناً.
على أن الناقد لا يتقيد بما يتقيد به سائر الناس، ولا يخضع نفسه لعاطفة ثائرة قد يكون لها أثر سيئ في الحكم على المنقود. فلقد كان في أبي العلاء المعري شك وسخرية وجرأة على الأديان، إلا أن ذلك لا يمنع من وضعه في المنزل الخليق به في أدب العرب. أما المتزمتون الذين يتحرجون حتى من حفظ شعر لأبي العلاء لرميه بالزندقة، فأولئك قوم لا نكتب لهم، ولا نود أن يقع حديثنا في أيديهم. . . . . .
على أن أدهم - كما قلنا - قد مات وراح في الطريق الذي نروح ونغدو له في الحياة. . . وراح معه شكه وإلحاده ليلقى بهما وجه الله الذي سيرى عنده اليقين. فمن السخف أن نغضب ونسخط على أدهم، لأن الله لم يهده كما هدى غيره. ومن الرحمة أن نرثي لأدهم بسبب هذه الحيرة السوداء التي سودت عليه آفاق الطريق. وقد يكون من المفيد أن يتفضل أحد الباحثين بمعالجة هذا الموضوع - موضوع إلحاد أدهم - والكشف عن بواعثه والظروف التي هيأت له، مستعيناً في ذلك بما كتبه هو عن نفسه في كتابه (لماذا أنا ملحد؟)
يجد المتتبع لأسلوب أدهم أنه لم يسلم من وقوع الأخطاء النحوية فيه. وكان أصحاب الصحف والمجلات التي ينشر فيها يعانون كثيراً في سبيل إصلاح هذه الأخطاء وردها إلى وجه الصحة. على أن أدهم في مباحثه الأخيرة قلت عنده هذه الأخطاء ولكنها لم تنعدم انعداماً تاماً.
وكان خصوم أدهم يجدون في هذه المآخذ وفي غيرها فرصة للتعريض بقيمة ما يكتبه. على أن ذلك عند المنصف لا يحط من القيمة العلمية لمباحثه.
وضعف إسماعيل أدهم في قواعد العربية من السهل رده إلى نشأته في بيت غريب عن العربية. وكان للسنوات التي قضاها في تركيا كما نعرف - وفي روسيا كما يقال - أثر في زيادة هذا الضعف. إلا أنه بدأ منذ النصف الأول من عام سنة 1940 يفطن إلى أخطائه.(378/27)
ولعله اكتسب ذلك من نشر مقالاته مصححة من قلم التحرير فلا يقع خطأ في مقالاته المقبلة.
وكان بجانب ذلك لا يحرص على استعمال الألفاظ العربية العريقة، بل كان يعدل عنها إلى الألفاظ الدخيلة أو غير الصحيحة أو الألفاظ الإفرنجية نفسها مكتوبة بحروف عربية.
وقد لاحظت عليه كثرة استعماله للفظة (رومانتيكية) بدلاً من (ابتداعية) ويقول عن ترجمة البستاني للإلياذة إنها (ملحمة شعرية زحمة بمثولوجيتها) بدلاً من أساطيرها، وأكثر ما تلاحظ عليه هذه الطريقة في الكتابات الأولى التي كتبها بين سنتي 1935، 1938. وكتابه الموسوم (الزهاوي الشاعر) مشحون بأمثال هذه الألفاظ الإفرنجية المنبثة في خلال كتاباته العربية.
إلا إنه في السنتين الأخيرتين قبل وفاته عدل عن هذه الطريقة إلى الطريقة الأخرى المعقولة، وهي ذكر الكلمة العربية الأصيلة مع ذكر ما يقابلها في الإنجليزية والفرنسية بين قوسين بحروف لاتينية. وهذه الطريقة تظهر بشكل واضح في أبحاثه العميقة عن شاعر الأقطار العربية خليل مطران التي نشرت تباعاً في مجلة (المقتطف) في عام 1939 وبعض شهور من عام 1940. وعلى سبيل التمثيل نذكر ما يأتي: يقول في أحد هذه المباحث: (إن الخيال الشعري عند مطران إضافي ويقول أيضاً في الصفحة نفسها: (وهذه أشياء يمكنك أن تخلص بها كقاعدة إمعانك في مطالعة شعر ديوان الخليل). ويقول في موضع آخر: (وهي عناصر العاطفة والخيال والفكرة). ويقول في موضع آخر عن صناعة مطران الفنية: (فإن الكمال في الشعر يقوم على أساس الاتزان بين الروح الشعرية والتعبير الشعري من جهة من جهاته).
وهكذا تجد الأمثلة كثيرة على ميله أخيراً إلى استعمال اللفظ العربي والعدول به عن اللفظ الإفرنجي الذي كان يشيع في أوليات مقالاته. . .
وقد لا أكون مخطئاً في الظن أن السر في هذا العدول هو كثرة ما تعرض له من النقد من ناحية - فقد كانت طريقة حشد الألفاظ الإفرنجية على اللغة العربية لا ترضى كثيراً من القراء - ومن ناحية أخرى أراد أن يظهر لبعض الغامزين عليه تمكنه من اللغتين الفرنسية والإنجليزية.(378/28)
وبالرغم من ذلك كله فإن أسلوب إسماعيل أدهم يتميز من غيره من الباحثين المعاصرين بطابع خاص انفرد به وحده، وهذا الطابع تظهر فيه شخصية أدهم ظهوراً مستقلاً.
وقد بلغ من استقلال هذه الشخصية الأسلوبية وتفردها أنها كانت تنم عن صاحبها حتى ولو لم يعرف القارئ اسم كاتب المقال. وهو في ذلك يمتاز من كثير من الباحثين أو الكاتبين المعاصرين الذين يكادون يذوبون في غيرهم كما يذوب الثلج في الوهج. . . وهذه الميزة الفريدة لأدهم هي التي أعطته مكاناً طيباً في عالم النقد، فقد كان يُنظر إليه نظرة اعتبار من صاحب (الحديث) في حلب، وأصحاب (المقتطف) في مصر، وصاحب (الرسالة) الذي أفسح له صدرها غير عابئ بما كان ينسج حول أدهم وما يحاك له. . .
على أن هذه الشخصية الأسلوبية لأدهم لا تعني أنها استقلت بمقوّمات أو حسنات فقط، فقد كان فيها بعض العيب - وسبحان الكامل - فقد كان فيها شيء من لكنة الأعاجم. إلا أنه لحسن الحظ أن هذه اللكنة الموروثة فيه لم تفسد معاني كتابته، وإن كانت تضيع من عربيتها.
ويظهر أنه كان فقير المادة اللغوية العربية. وهو معذور في ذلك كل العذر لعجمته أولاً ولصغر سنه ثانياً. فلم يتح له عمره القصير أن يحيط بثروة لغوية واسعة، وإن كنا نلاحظ عليه ازدياد محصوله اللغوي من عام إلى عام.
ويؤيد ما نقول أنه كان له كثير من الألفاظ والتعبيرات والتراكيب الخاصة به يديرها في كل مبحث من مباحثه، ويكررها في كل كتاب من كتبه، وقد ينسى فيكررها في الصفحة أو الصفحتين المتقاربتين ثلاث مرات أو أكثر، ولسنا نلقي الكلام هنا من غير دليل، فهو يقول في أحد كتبه (تقطعت نتيجة له أوصال عقليته التقليدية) ويقول في الصفحة المقابلة من الكتاب نفسه (تقطعت أوصال عقليته التقليدية تحت محراث العلم والثقافة الغربية)، ويقول في صفحة 18 من الكتاب نفسه (فتقطعت عند الكثيرين من أبناء الشرق العربي أوصال العقلية القديمة).
وقد يكون العلة في هذا التكرير الواضح في كتابته ضعفُ محصول اللغة عنده كما أسلفت، وقد يكون له سبب آخر غير ذلك ولكن الذي لا شك فيه أن هذه الظاهرة في أسلوبه تدل دلالة قاطعة على عدم مواتاة الفيض التعبيري عند الكاتب.(378/29)
ومن أساليبه الخاصة المتكررة عنده والغالبة فيما يكتب ما يأتي (تموج الإحساس. طفت موجة وسط هذه الموجات. استقوت على عجلة الزمن).
وفي كتابته فيض غزير من الألفاظ العلمية الخاصة التي تستعمل في العلوم الطبيعية أو الرياضية، ولا شأن لها مطلقاً بمباحث الأدب والنقد، وعلة ذلك أنه كان علمي العقل، علمي الدراسة، ثم اتخذ الاشتغال بالمباحث الأدبية غاية له بعد ذلك، فانساب إلى كتابته الأدبية سيل عريض من ألفاظ كانت تشغل ذهنه في علم الرياضة والطبيعة وغيرهما.
ومقالاته وكتبه مملوءة بهذه الألفاظ، ونذكر هنا على سبيل المثال بعضاً منها. فهو يقول في كتابه عن مطران (ص108) (لأن الأصل في التعصب انطلاق الشحنات المفرغة من الأعصاب).
ويقول في الكتاب نفسه ص112 (وهذا الجو يفعل فعله في النفوس فعل مجال مغناطيسي في برادة الحديد). ويذكر كثيراً (التعادل) (والتقيض) (والتمدد) (والطيوف) (وعالم الجزئيات) (والدقائق) (والذرات) ويسمى قوى الحب (جاذبية).
أما التحقيق العلمي في مباحثه واتباعه وسائل علماء المشرقيات في بحوثهم، واهتمامه بالمصادر وذكرها، والتمويل عليها دائماً للاستشهاد، فذلك كله معروف عن كتابته. وهي وسائل تحتاج بغير شك إلى كثير من المعاناة والصبر والزمن.
وقد انتفع رحمه الله بكثير من الأبحاث التي كانت دائرة في السنوات العشر الأخيرة في الصحف العربية: (كالمقتطف)، و (أبولو)، و (الهلال)، و (السياسة الأسبوعية)، و (الرسالة). وكان يرجع إلى هذه الأبحاث مستشهداً على ما يعالجه هو نفسه من المباحث. ونظرة واحدة إلى هوامش مقالاته وكتبه تؤيد هذا الكلام.
لقد أصبح أدب أدهم الآن في ذمة التاريخ، فليكتب عنه المنصفون ليكشفوا النواحي الغامضة من أديب عاش عيشة الغموض ومات ميتة الغموض، بعد أن ترك خلفه آثاراً جليلة جريئة في عالم النقد الحديث.
(القاهرة)
محمد عبد الغني حسن(378/30)
عراك في معترك. . .
أي معترك!
للأستاذ زكي طليمات
(نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في
الحياة الأدبية، أو قل يجلب ثروة إليها، ولا يكون هذا الجلب
وذلك التجديد إلا بعد نضال عنيف).
هكذا ختم الأستاذ المستشرق (بروكلمن) دراسته لمسرحية (مفرق الطريق) للدكتور بشر فارس. وذلك في الجزء الثالث من الكتاب الثالث لتاريخ الآداب العربية، وهو الكتاب الذي وقفه المستشرق السابق الذكر للأدب العربي المستحدث.
وبهذا الحكم نفتتح ردنا على مقال الأستاذ محمد متولي الذي نشرته (الرسالة) في عددها 376، لنسكب في واعيته أن (مفرق الطرق) عمل أدبي إذا جرى النزاع عليه، فإنما هو يجري في معترك. . . أي معترك!
وآية ما نقرره أن الحديث حول هذه المسرحية يمتد من جديد بعد أن طوينا مكرهين صفحة منه مع (ناقد أديب) وأن المسرحية لا تبرح تشغل أذهان الأدباء، إما عن إعجاب وتقدير، وإما عن استغراب وبطء فهم.
الأستاذ متولي في مقاله المذكور يهدف إلى غرضين رئيسيين:
أولهما: أنه يريد أن يزيل الخصومة القائمة بين الدكتور بشر فارس والأستاذ الشاعر علي محمود طه، وهي خصومة أساسها - كما كتب عنها الأستاذ متولي نفسه في مطلع مقاله المذكور - أن بشر فارس نقد شعر الثاني فاتهمه بالإغارة والسلخ من المتقدمين والمتأخرين، فغضب الشاعر وانبرى يكيل له صاعاً بصاع، فاتهمه بأنه أخذ في كتابة مسرحيته (مفرق الطريق) من آراء وردت في قصيدة (القمة الباردة) للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، فكان أن نصب الأستاذ متولي نفسه قاضياً بين الخصمين، على ما بين التهمتين من اختلاف في الجوهر وملابسات الأحوال، ليقضي بأن الخصمين شريفان، وأن السرقة لم تقع من جانب واحد منهما، ودعم رأيه هذا بأن الفن ليس (فكرة)، وإنما هو(378/32)
(صورة) أولاً وأخيراً.
والموقف كريم مهما كانت بواعثه، ومهما بعدت أسبابه عن الموضوع الذي نحن في صدده، وهو تحديد قيمة هذه المسرحية من الناحيتين الفلسفية والفنية.
بيد أننا نعبر بالكرم لنقول إن بشر فارس ما كان في حاجة إلى الحكم الذي قضى به الأستاذ متولي فيما له علاقة بالمسرحية، لأن أحداً - حتى ولا (الناقد الأديب) - لم يزعم أن بشراً سرقها من كاتب مسرحي متقدم أو متأخر، وإنما المسألة محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته هذه من الفيلسوف (كانت) التي تمت إليه قصيدة الأستاذ العقاد، أو هو استوحى فلسفة (بيرجسون).
وأما ما أورده الأستاذ متولي دعامة لحكمه هذا من أن الفن (صورة) وليس (فكرة) فأمر لم يغلب عن ذهننا فيما سبق أن أجريناه في حديثنا السابق، بل سجلناه في أسلوب أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية، إذ قررنا (أن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس، فهي دوارة في نفس الجاهل والسوق، والمتعلم والأديب، وإنما العبرة بطرائق معالجتها، وبالكسي التي تضفي عليها، من حيث حسن التأليف، وجودة التركيب والابتداع والنفس المبتكر الخلاق، وهنا مجال التفاوت بإبراز الشخصية الكاملة المستقلة).
ولم تدل بهذا في معرض الدفاع عن بشر فارس لأنه أغار على قصيدة الأستاذ العقاد فانتحل مذهبها الفلسفي لمسرحيته، ولكننا أوردناه لندفع زعماً آخر لا يدور حول المذاهب الفلسفية المرسومة وإنما يدور حول حقيقة من حقائق النفس البشرية التي هي عامة ومبذولة لكل كاتب، ألا وهي (الصراع بين العقل والشعور).
قررنا هذا المبدأ الذي له أصل عند نقاد العرب والذي عليه نقاد الغرب، محاولين أن نضع له قيوداً خشية أن يصبح الأمر فوضى فتنتحل المعاني وتغتصب الصور.
واقتصار الفن على (الصورة) أو (الشكل) كما يرى الأستاذ متولي، لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد، فالتسليم بأن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها الكتاب، وبأن المتقدمين لم يتركوا شيئاً للمتأخرين، كل هذا وما يدخل في معناه، لم يحجز النقد عن أن يقيم الحدود بين الإغارة على المعاني وسلخها ونسخها وبين الاستلهام والتوليد والاستيحاء والتخريج.(378/33)
أما الغرض الثاني من مقال الأستاذ متولي، فنقد مسرحية (مفرق الطريق)، وفي هذا المجال وثب الأستاذ متولي وثبة نقول إن التوفيق لم يحالفه فيها كما سنبين:
أراد الأستاذ متولي أن يحدد (الناحية الفنية) للمسرحية، فإذا به يتحدث في غير ذلك، ذلك أن المعنى المباشر (للناحية الفنية) لمسرحية ما، هو خضوعها لشرائط الفن المقطوع بها، من حيث مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها. . . الخ، ولكننا لم نطالع شيئاً من هذا في مقال الأستاذ متولي، بل طالعنا آراء تتطوح بين علم النفس وعلم الجمال، والعلمان من صميم الفلسفة، وإذا بالأستاذ متولي الذي نعت حديثنا عن الفيلسوفين (كانت) و (بيرجسون) (بالتفلسف) يكتب فصلاً في الفلسفة - ونأبى أن نقول على غراره: في (التفلسف) - وإذا بأسماء (ريبو) و (بيكون) وغيرهما تجري مجنحة مطلقة العنان، مما يدل على أن الأستاذ متولي أراد (بفنية المسرحية) أمراً غير ما يدل عليه المعنى المتداول للمصطلح عليه لدى رجال المسرح، إذ هو يريد بها، ولا شك، (الناحية الرمزية الفنية) للرواية، يأتي بهذا الملبس في فصل من القول يجب أن يكون قائماً على الدقة والإحكام.
والنقد الذي أراده الأستاذ متولي لمسرحية (مفرق الطريق)، هو للمقدمة أكثر منه للمسرحية، هذا في حين أن (المقدمة) أمر عارض، لأنه غير المسرحية التي هي مناط القول في الجدل، وما احسب أن بشراً كان يتجشم كتابتها متبسطاً لولا حرصه على أن يقرب المسرحية إلى أذهان القراء وييسر لهم أمر استيعابها وهي حدث جديد في التأليف المسرحي المصري.
وعلى اعتبار أن (المقدمة) هي العنصر الأول، كما يتعمد أن يراها متولي، لينتقصها ثم ينفذ من هذا إلى انتقاص قدر المسرحية نفسها، فأين الأخطاء التي وقع فيها كاتبها، وما هي مزالق الكلام فيها؟
لا أخطاء ولا مزالق كلام؛ وإنما هو تعسف وعنت من جانب الأستاذ متولي، ومرد هذا كله أن فكرته عن الرمزية محدودة ضيقة، إذ هو يريد أن يخضع كل ما يؤلف في الرمزية لما وجده عند (ريبو فقط، و (ريبو) هو واحد ممن كتبوا في الرمزية وعلم النفس، وواحد ممن أسقطت الآراء الفلسفية الحديثة أكثر ما ذهب إليه فيهما، كما سنشرح هذا.(378/34)
ويؤسفنا أن نقرر، لو أن الأستاذ متولي، وهو الذي يحمل شهادة ماجستير للفلسفة، تعقب المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو) كتابه (المخيلة الخلاقة الذي هو عمدته في النقد، أي بعد عام 1900، لعرف أن علم النفس الذي أفدت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة، وفي الرمزية خاصة، كما تشهد بذلك مسرحيات (بيراندللو)، (جيرودو)، (جانتيوم)، وأن الرمزية المستحدثة أصبح مدارها خفايا النفس وبواطن الأشياء، وهو ما عبر عنه بشر فارس في مقدمته: (استنباط ما وراء الحس من المحسوس. . . الخ).
وقبل أن ننتقل من هذا نود أن يقف القارئ على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة التي هي أساس في كتابه المذكور، وذلك كما وردت في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، وضعه جمهرة من علماء فرنسا:
(يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)، ومن ذلك نرى أن حديث (ريبو) عن المخيلة في جميع العناصر المختلفة، قد أصبح موضع نظر، بعد أن بين الفيلسوف الأمريكي المعاصر (وليم جيمس) وغيره، أن مجرى الضمير متصل متلاحق من حيث إنه حقيقة متحركة، ومن حيث إن الفكر في تطور دائم، وكذلك قرر (بيرجسون) الفيلسوف الفرنسي المعاصر، أن الحياة النفسانية اندفاع وابتداع في زمن متصل الحركات.
(البقية في العدد القادم)
زكي طليمات(378/35)
رسالة الشعر
في رياض نيسابور
أسطورة الخيام
للأستاذ إبراهيم العريض
- 1 -
في أرضِ إيرانَ حَيثُ الْهُضْبُ لابسةٌ
زنارها
من الثُّلوجْ
كالْحُورْ
تستقبلُ الشمسَ. . . والأنهارُ هامسةٌ
أسرارَهَا
بينَ المرُوجْ
للنُّورْ
جلا الربيعُ بنَيْسَابُورَ موكبهَ ... فزادَ عيداً إلى أعيادِها الأُخرِ
يا ناعماً في رُبوعِ الخلْدِ ليلتَه ... مستْ خُطاكَ ثرَى الوادي معَ السحر
فلم تزلْ خُفراءُ الطْيرِ تهتفُ في ... أفْنانِها لجنُوم الأرضِ بالخبر
حتى تلأْلأْنَ في ضوءِ النهارِ ثنًى ... وفُزْنَ منكَ فُرادى بالشذى العطِر
فالزهرُ في قاعِها يفترُّ مبْسَمُه ... يا ليلُ! هل صبغَتْ فاهُ يدُ القمر
والعشبُ مِنْ حولهِا يزهو بخُضْرِته ... يا أفقُ! هل هو مَيْدَانٌ إلى النظر
والطيرُ من فوقِها في ظلِّ وارفةٍ ... يا غصنُ! هل أخذتْهُ رشةُ المطر
والنهرُ من تحتهِا في موجهِ ألقٌ ... يا شمسُ! هل هو مِرآةٌ إلى الشجر
إني لأسمعُ في أرجائها ضَحِكاً ... كنغْمَةٍ بعثنْها هزَّةُ الوتر
يا مَنْ يُؤَمِّلُ في الفِرْدَوْسِ بُغْيَتَهُ ... قررْتَ عْيناً بها في هذهِ الصُّور
لبِّ الحياةَ فقد عمَّتْ بدعوتِها(378/36)
وما الربيعُ سوَى تجْدِيدِ ذِكراها
- 2 -
أَتَى الربيعُ إلى الدُّنْيا كعادتِه
بما اجتناهُ
منَ الْجِنانْ
مِلءَ اليَدِ
فكادَ يُشْغلُ عنها في عبادتِه
بما رآهُ
مِنَ الْحِسَانْ
في المعْبَدِ
وأَقْبَلَتْ تتَهادَى في غلائِلِها ... بنْتُ الْجِنان تُحيِّيها كَحَوَّاءِ
لو حاول الليل أن يغْزُو غدائِرَها ... لماجَ يسألُ أَيْنَ الكوكبُ النائي
تضاحَكَ الورْدُ لما قِبلَ وَجْنَتُها! ... أكنتَ (يا وردُ) مَشْغُوفاً بإطراءِ
فأسفرتْ عن مُحيّاً في بشاشَتِهِ ... يكادُ يَقْطُر مِنْهُ الحسْنُ كالماء
شفَّ الحريرُ الذي وارَى ترائِبَها ... عن فاتِنَيْنِ. . . فهل هَمَّا بأشْيَاء
لم تسْحَبِ الذيل فوقَ الزْهرِ سائرةً ... إلا ومالَ يُزَكِّيها بإيماء
حتى أتَتْ مَحْفِلاً في الروضِ مُنزوِياً ... قد لاذَ في السُّكرِ أَهْلوهُ بأفياء
هذا أخُو شْيبَةٍ ألْقَى اليَرَاعَ عَلَى ... ما خطَّه وانْثَنى في شبهِ إغفاء
فهيَّأتْ كأسَه حتى إذا نظرَتْ ... ما في الصحِيفةِ غنَّتْ للأحِبَّاء
والشَّوْقُ في دمِها والعُودُ في يدِها ... يُعيدُ نغمتَها الأُولَى بأصْدَاء
يا نائماً في ظِلاِل الكرْمِ وابنْتُه
في الْحُلْمِ تُؤْنِسهُ قُمْ وَارْتشِفْ فاها
- 3 -
هَذا الجمالُ الذي كَمْ وَدَّ ناظِرُه(378/37)
في مَيْعةٍ
من صِباهْ
لوْ نَالهْ
يا وردُ! مِثْلَكَ إن حَيَّاهُ شاعرُه
بنَغْمَةٍ
من هواهْ
أصْغَي لهْ
شِيرينُ غنَّيتِ صوتاً كانَ يُطْرِبُني ... ليتَ الأحِبَّاَء عادوا لي مع النغَمِ
ناموا وهدْهدَتِ الأزهارَ بعدَهُمُ ... يدُ الربيعِ على عَيْني فلمْ تنم
ذكَّرْتِني بشبابي إذ تطوفُ بهِ ... في باحةِ الْخُلْدِ آمالٌ مَدى الْحُلم
إذ كنتُ أُطُلق نفسي في سجِيَّتِها ... فلا تني السْبقَ من جرىٍ على قدم
أشكو مواقعَ عينَيْ كلِّ فاتنةٍ ... مفتونةٍ بالذي أجلُو من الشَّمم
باحتْ بسر شكاةِ القلْبِ رائعةٌ ... تلوحُ كالبرْقِ في داجٍ من الظُّلم
ما للبياضِ أحالَ الله جِدَّتَه ... يُفْضي إلي الهمِّ لا يفضي إلى الهمم
نُعِدُّ للصَّبْرِ أنفاساً محرَّقةً ... حتى تحولَ رماداً فَحْمَةُ اللِّمم
لأقْطعنَّ نِياطَ القلبِ إن وَجدَتْ ... نفْسِي سبيلاً إلى غرْسِ المُنى بدمي
فلو سَفرْتُ عن الآمالِ كانَ بها ... ما بي من الزمنِ الموفىِ على الهرم
فَجَدِّدِي لَيِ باللَّحْنِ الجميلِ رُؤىً
لا زلتُ تحتَ ظِلالِ الكرْمِ أرْعاها
- 4 -
يا طرْفَها! إنَّهُ قضَّى الحياةَ إلى
مَشيبِهِ
في اكْتِنَاهِ
الشُّهْبْ
وظلَّ مُجِمَرُه في الأرضِ مُشتِعلا(378/38)
بطيبِه
لإِلهِ
الْحُبْ
شِيرينُ حُسْنُكِ أَعْطَى الأرْضَ زِينتَها ... حتى ولو لم يَزِنْها كفُّ نَيْسانه
فكيفَ والطيرُ قد بلَّ الندى فمهُ ... فطارَ يَمْلأُ مَغناها بألحانه
هذا الربيعُ قد استلقى بحاشيةٍ ... من الزهورِ على الوادي وشطآنه
يُصيخُ للبُلبل العِربيدِ وَهْوَ على ... أُرجوحةٍ من نسيمِ الرَّوْضِ أو بانِه
يَهُزُّ أرجاَءها هَزّاً بنغْمتهِ ... ولا يُفيقُ كأنّ السُّكرَ من شانه
فلقِّنيهِ من الألحانِ أطربَها ... إلى النفوسِ وجازِيه بإحسانه
وبادِلي الرَّوْضَ أنفاساً مُعطرة ... فما أرقَّ الصَّبا في ظلِّ أفنانه
وضاحِكي الوردَ في إِباَّنِ حُمْرَتِهِ ... فَرُبَّما عادَ مطوِيّاً لأشجانه
ودونَكِ النهرَ فأنْسَيْ في تدفُّقِهِ ... هذا القميصَ الذي يُزْري بإِنسانه
أما كَفى الْحُسْنَ أنَّ الَموْتَ يَرْصُدُهُ ... فماله في الصِّبا يسعَى بأكفانه
وقَبِّليِ الكاسَ ما دامتْ مُشَعْشَعَةً
ولا تشِحِّي على ثَغري ببُقياها
- 5 -
يا رَّبةَ الْحُسْنِ! إنَّ السُّكْرَ مَبْعَثُهُ
عَيْنَاكِ
وحْدَهُمَا
لا الكاسْ
وَأَيْنَ من شفَتَيْكِ السِّحْرُ ينْفثُهُ
صرْعَاكِ
باسمِهِمَا
في الناسْ
طافتْ عليهمْ بها كالشَّمْسِ ساطِعَةً ... يُري عَلَى الخدِّ من لأْلأَئها شفَقُ(378/39)
فعبَّ فيها ثلاثاً وَهيَ تسْنِدُهُ ... حتى تماسَكَ فيِ أَحْشائِهِ الرمق
وعاوَدَ العُودَ شْيءٌ مِنْ تملْمُلِهِ ... لما غَدَا العُودُ بيْنَ الجمرِ يحتْرِق
فظلَّ يبعثُ فِي الأَسْمَاعِ أَنَّتَهُ ... مَوْصُولَةً دُونَ أن ينتابَها قلق
ثم استمرَّتْ تغُنِّيهم - بما حملتْ ... يدُ الربيع لهم - والعُودُ يصْطفِق
(يا عَاشِقَ الوَرْدِ! ما جاَء الربيعُ لكيْ ... يحْيا حبيبُكَ مَحْفُوفاً به الودق)
وصوْتُها ماجَ بحراً لاَ هُدُوَء لهُ ... من كلّ نجْمٍ عَلَى أَمْوَاجِهِ الق
يعْلو، فتحْسبُه شقَّ القلوبَ إلى ... حبّاتِها، وَطوى آلامَها الغرق
حتى إذا خفَّ - مغْموراً بمْوجَتِه - ... شيئاً فشيئاً، تراَءى حولَها الأفُق
فمالَ كلُّ ندِيمٍ في ترنُّحِهِ ... على سِوَاهُ من الصوْتِ الذي عَشِقوا
فاقْطِفْهُ في زَهْوِهِ. . . وانْظُرْ إلى دَمِهِ
هل مَازَجَ الكاسَ إِذْ تُسْقِي وَتُسْقاَهَا
- 6 -
باتَ الهزارُ بقرْبِ الوردِ يَعْبُدُهُ
يا طَلُّ
كُنْ كالْخَمْرِ
رقْراقا
وقُلْ إلى النَّجْمِ إِنَّ الفَجْرَ مَوْعِدُهُ
يَظَلُّ
حتَّى الفجرِ
برَّاقا
وتمَّ للشَّمْسِ في الأفلاكِ جولتُها ... فجاوَزَتْ بخُطاها الغرْبَ في خفَرِ
وظلَّ من بعدِها ما أحمرَّ من شفَق ... يسائِلُ الأرضَ هل غابت عن النظر
فانفضَّ في الرَّوْضِ حفْلٌ كان مُنشِدُه ... من الطيورِ وساقيهِ من الزَهر
وأقبلَ الليلُ يحْدُوه تطلّعُهُ ... إلى الذي خَلَّفَ النُّدمانُ من أثر
يا ليلُ أنفرطَ العِقدُ الذي امتلأَتْ ... به يداكَ ففاض الكوْنُ بالدُّرر(378/40)
لولا سناها لما عاينْتَ شاعرَهم ... وقد توسَّد كفّيْهِ على النهر
بجنبِ شيرينَ مأخوذاً برَوْعةِ ما ... تُدليهِ في مائه الجاري من الشَّعر
ووجهُها باسمٌ يُغني بطَلعتِه ... عن الشُّمُوعِ ويُمناها على الوتر
قال: انظُري كيفَ يبدُو في الظلام لنا ... سرُّ الجمالِ الذي يخفَى مَعَ السحَر
شِيرينُ! لو كانَ لي بْعدَ البِلى أملٌ ... لما تَمنَّيْتُ إِلاّ ثانِياً عُمُرِي
فعشتُ في هذهِ الدنيا كعهْدِكِ بي
للحُسْنِ. . . يُشعِلُ لي ناراً فأغْشاَها
- 7 -
لِلحُسْنِ فينا - كما فيهِ لنا - وطَرٌ
مَنْ لمْ يَحُمْ
بَينَ يَدَيْ
نُورِهْ؟
عاشَ الندامَى. . . وحَلّى كأسَهُمْ قَمرٌ
على النغَمْ
مِنْ عَرْشِ دَيْجُورِهْ!
عادَ الربيعُ لنيْسَابورَ ثانِيةً ... وقدْ تبدلَ زاهي أمْسِها بغدِ
فكانَ في الموكبِ التالي كسابِقِه ... يَمْشي معَ الْحُسنِ مُخْتالاً يداً بِيد
كم ذابَ قلبُ هزارٍ في ترنمِهِ ... حتى تضوعَ هذا الزْهرُ وهْوَ ندِ
عادَ الربيع وقد حف الْحِسانُ به ... إلا الذي كانَ يهْوى الْحُسْنَ لم يعْد
سلِ الوُرودَ وقد وارتْ بكلَّتِها ... ضريحَهُ لَمِ لمْ تُكْثِرْ من العَدد
هُناكَ حيثُ قديماً طابَ مَحْلُفِهُمْ ... حلَّ الندامَى على أنماطِها الْجُدد
عادَ الربيعُ. . . فلا ردُّوا تحّيتّه ... إلا بأحْسَنَ منها - دائِمَ الأبد
بِشُعْلَةٍ في يدَيْهاَ رُوح شاعِرِهِمْ ... مثْلَ الفراشِ حوالَيْها معَ الحشد
حتى إذا تمَّ دوْرُ الكاسِ بْينَهُمُ ... مالتْ إلى القْبرِ بالباقِي ولم تكد
فرددتْ قولَه - والعودُ في قَلقٍ ... تهْتزُّ أوتارُهُ من صَوتِهاَ الغرِد -(378/41)
(واضَيْعَةَ الكاسِ يوْماً إن عثَرْتِ بها
على رُفاتي. . . فلَمْ أَنْعَمْ بِرُؤْياها)
(البحرين)
إبراهيم العريض(378/42)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
ظهور مرض البري بري
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 4 -
لقد كان من عادة الأطباء الهولنديين الذين قاموا بخدمات خارج بلادهم في المستعمرات الأسيوية الشرقية ألا يركنوا إلى الدعة والاستقرار إذا ما اطمأنوا إلى العيش - كيلا تبلد فيهم حاسة التفكير أو تصدأ روح الاستطلاع - بل كانوا في أوقات فراغهم يعملون ما يعود عليهم بالتسلية والنفع - فحوالي عام 1890 وُكل إلى الطبيب الهولندي كريستيان إيكمان إدارة مستشفى حكومي في جاوه وكان مولعاً باقتناء الطيور المنزلية ويعيرها بعض عنايته ويخص منها الدجاج والحمام. ولم يطل به الانتظار حتى تسنّى له مشاهدة بعض الملاحظات. إذ رأى أثناء نظره إلى طيوره نظرة الفاحص وهي تمرح في الحديقة - بعضها تغدو ثقيلة الحركة بطيئة الخطى وبعضها الآخر قد فقد توازنه. ولكن لم تدم هذه الحال طويلاً فقد أصابها تصلب في عضلات الرقبة لاقت بعده حتفها.
بهذه المشاهدات الأولية وُضع الحجر الأساسي لدراسة مرض البري بري في الهند الهولندية، وهو المرض ذو الأثر السيئ في حياة الشرق الأقصى والذي لم يكتف بخطف ضحاياه من الكبار بل كان يهدد الصغار في مطلع حياتهم بشكل مخيف ويحمل هذا المرض اسمه من شكل الحركة المتصلبة في مشية الخروف والتي تبدو على المصابين، وتدل كلمة (بري بري) في اللغة الهندوستانية على الخروف، وهنا نرى نجاح الدكتور ايكمان في اختيار هذا اللفظ للدلالة على هذا المرض نظراً للتشابه التام العجيب بين أعراض هذا المرض في الإنسان وفي مشية الخروف.
سرى مفعول هذا المرض خاضعاً مماثلاً للوصف الذي أشار إليه ايكمان بناء على ملاحظاته على دجاجة، وحمامة ولم يقتصر هذا المرض الذي ذهب ضحيته قديماً مئات الآلاف على موطنه الأصلي في آسيا الشرقية بل تعداه إلى جنوب أمريكا وأفريقية وأزهق(378/43)
في اليابان في مدى سنين قلائل خمسين ألفاً من الأنفس وفي الحرب الروسية اليابانية خمسة وسبعين ألفاً من الروس ذهبوا جميعاً بطريقة مماثلة للطريقة التي لاقت بها طيور ايكمان حتفها.
تبعاً لالتهاب عصبي عام يقف عمل الأرجل وتضرب عن حركتها الحرة، وتذهب حساسية الجلد، وتشل العضلات نظراً لعدم استعمالها أو القدرة على تحريكها، وتضمحل وتضمر الأطراف السفلى حتى العجز، وأخيراً يهبط القلب ويتجمع الماء في الأنسجة ويعقب ذلك النهاية المحتومة.
ومذ اكتشف حوالي عام 1880 أن الأمراض الناقلة ترجع إلى وجود دقائق حية - عُزي كذلك انتشار مرض البري بري إلى تلك الكائنات الدقيقة - ولقد ذهبت عبثاً جهود الوفود الطبية التي أرسلتها الدول إلى البلاد الموبوءة للكشف والبحث عن مسببات مرض البري بري.
ولا عجب إذا سلّم الدكتور ايكمان بهذا المبدأ السائد وعمل على فصل الدجاج الجديد الذي اشتراه عوضاً عن الفاقد وأبعده عن بقية الدجاج المصاب منعاً لانتقال عدوى الالتهاب العصبي - ومع هذا لم تمنع هذه الاحتياطات الجدية من إصابة الدجاج والحمام الجديد - ولكنه عندما بدأ يغير لها أصناف أكلها لم يقف تقدم المرض في الحيوانات الجديدة فقط بل تحسنت كذلك حالة الطيور القديمة المريضة ولما تبين الدكتور ايكمان هذه الحقيقة فطن إلى أن بقايا الأرز التي ترسلها مطابخ المستشفى بسبب ما - لا تصلح لغذاء طيوره فأحب شراء ما يلزمها من حبوب الأرز من خارج المستشفى ومن هذا اليوم وقفت تماماً تطورات أعراض مرض البري بري.
ولكنه في كلتا الحالتين - حالة المرض السابقة وحالة زواله - استمر إطعام الطيور بحبات الأرز. فما سر هذا الانقلاب إذن؟ ببحث الطبيب وتقصيه تبيّن له اختلاف نوعي الأرز الذي أطعمه طيوره، فالأرز الذي قدمه للطيور من مخلفات مطابخ المستشفى حتى يوم الانقلاب كان مقشوراً أبيض. أما الآخر الذي اشتراه من السوق فكان حافظاً لقشوره وما زال بأغلفته. لم يبق شك لدى الطبيب ايكمان في الصلة بين قشرة الأرز وهذا المرض بعد أن أوضحتها التجربة وأبانتها الخبرة، ولما تأكد من نتيجته هذه أراد أن يعبر عليها إلى(378/44)
مرض البري بري في الإنسان كي يحصل على نتيجة أخرى أهم وأجدى، ويصل إلى معرفة سبب إصابة بلاد الأرز بهذا المرض العضال.
وكان للياباني تاكاكي فضل السبق ببضع سنين في الوصول إلى أن مرض البري بري لا صلة له أصلاً بنظريات العدوى والانتقال، وصرح بأن هناك صلة بين البري بري ونوع الغذاء العام.
فهل يا ترى لم يتم بعد - حتى مع الاكتشاف العرضي للبري بري في الطيور - فتح ثغرة ما تلقى شعاعاً من نور يبدد هذه الظلمات والتخمينات؟
بحماس أكيد ورغبة صادقة تقد الدكتور إيكمان لترتيب تجاربه السابقة العرضية، فبدأ بمجموعتين صحيحتين من الدجاج والحمام، أطعم أولاها أرزاً مقشوراً، فما لبثت طويلاً حتى استشرى بينها المرض وتفشى فيها الداء ولم تقو أرجلها على حملها وذهبت سريعاً صرعى. أما المجموعة الثانية فأطعمها أرزاً غير مقشور، فلم تظهر عليها أعراض ما، وظلت صحيحة سليمة، ولما أبدل الغذاء لكلتا المجموعتين (بأن قدم لكل واحدة ما كان يقدمه للأخرى). انعكست الصورة فبرئت الطيور السقيمة، وظهر على الصحيحة أعراض الإصابة بالبري بري.
طار بعدئذ إيكمان ظفراً وفرحاً لوصوله إلى النتيجة وإن لم تكن كلها، لأن تعليله في شرحه للظواهر التي فطن إليها كان مستقيماً وكافياً إذ ذاك - ولو أنه غير متمشٍ مع الحقائق الثابتة - واعتقد إيكمان باحتواء حبات الأرز على نوع من السم ساري المفعول في الإنسان والحيوان، ويكون مرض البري بري نتيجة أو أعراضاً لفعله في الجسم وسريانه فيه، كما اعتقد بأن الترياق المضاد لهذا السم والذي يفسد مفعوله كامن في قشور الأرز. فأكل الأرز إذن مع قشوره ضمان لمصاحبة الترياق الشافي. وبهذا قضى البحاثة الهولندي على النظرية الخاطئة السائدة حينذاك عن انتشار البري بري أو الإصابة به عن طريق العدوى. وللإيضاح يجب التنويه بأنه ليس هناك شيء في حبوب الأرز، ولكن هناك شيئاً ينقصها، وتبعاً لنقص هذا الشيء أو غيابه في الطعام العام يستسلم الإنسان والحيوان للمرض؛ ولمعرفة هذا الشيء احتاج العلم لأكثر من عشر سنين لاحقة لهذا التاريخ.
ولقد كاد النسيان يطوي هذه النتائج الباهرة للبحاثة الجليل الشأن إيكمان، ولم ينل من(378/45)
جهوده أي غنم أو مكسب إلا بعد مضي ثلاثين عاماً إذ حصل مع زميله الإنجليزي الكيميائي هوبكنز على جائزة نوبل في عام 1929.
واعترض طريق إيكمان كثير من العقبات عندما جاهر بنتائجه التي قلبت كل قديم وكل مسلمة رأساً على عقب، ولم تسلم هذه النتائج من الطعن والتجريح، ولم تدّعم وتثبت إلا في عام 1910 عندما رحل الطبيب الألماني ماكس موسكفسكي إلى فينا الجديدة في وسط أفريقية للبحث والتنقيب عن البري بري، وكان قد مهد لبحثه بقراءة ودرس ما كتب حتى ذلك الوقت ومطالعة المذكرات الصحيحة والمطبوعات عن مرض البري بري ورأى ما صرح به إيكمان الهولندي عن نتائجه واتخذ كل هذا دليلاً ومرشداً، وأخذ يجمع المعلومات من الوطنيين سكان البلاد. وكان من ضمن ما حصل عليه من أقوال هؤلاء المواطنين أن المرء يستطيع تحصين نفسه ضد البري بري أو الشفاء من أعراضه عند سقوطه فريسة له إذا ما تناول بجانب وجباته نوعاً من الفاصوليا يسمى (الفاصوليا المشعة) وفي لغة أهل الهند الهولندية: (كاتيانج إيدجو) وقد يكفي حتى منقوع هذا البقل في الماء بعد غليه فيه، فاستنتج موسكفسكي من هذا أن هناك شيئاً في قشور الأرز والبقل المذكور (الفاصوليا) ضرورياً جداً لحفظ الصحة وعند غياب هذا الشيء ينشط التهاب الأعصاب وأن هذا الشيء ليس بالبكتريا ولا بالسم.
وفرض على نفسه ورجال بعثته ألا يأكلوا سوى الأرز المطبوخ في ماء من منقوع الفاصوليا - وبدلاً من انتظار ظهور أعراض المرض التي لا تسلم منها أبداً أمثال هذه البعثات - تمتع هو ورفاقه بصحة موفورة طوال عام عاد بعده إلى وطنه ألمانيا يفاخر بتغلبه على هذا المرض.
وكما يقول المثل (زامر الحي لا يطرب) أو (لا يُسمع النبي في بلده) كذلك شهر الناس بمسكفسكي وسفهوا رأيه، ولكنه لكي يبرهن على صحة أقواله ويدلل على أن مرض البري بري ليس من الأمراض المعدية التي تنتقل بالعدوى وأنه مرض يتصل اتصالاً كلياً بغذاء الإنسان وما يعده لطعامه - قام بإجراء التجربة على نفسه معرضاً حياته النافعة للخطر المحقق، وفي سبيل العلم ومنفعة بني الإنسان امتنع عن جميع ألوان الطعام العادية غير الأرز مدة أربعة شهور ونصف شهر. وكانت النتيجة الحتمية طبعاً أن وقع مريضاً يرزح(378/46)
وينوء بمرض البري بري في أشد أعراضه وصوره. وعندما بلغ به المرض مبلغاً كبيراً وأصبح خطراً يهدد حياته أخذ يعمل على دفع الداء ولكن ليس بالامتناع أصلاً عن أكل الأرز بل بالاستمرار عليه مع إضافة صنف آخر من الطعام هو حساء من قشر الأرز، ولا عجب أن اختفت تماماً أعراض المرض بعد أسبوعين اثنين.
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي(378/47)
البريد الأدبي
مجاملة أدبية نبيلة
تفضل الأستاذ عبد الفتاح محمد قنصوه صاحب جريدة (الإصلاح) بالسنبلاوين فدعانا إلى زيارتها لنتلقى التحية التكريمية لأسرة الرسالة من رجال الصحافة وشباب الأدب؛ وشاء للأستاذ فضله أن يجعل هذه الدعوة مظهراً فخماً من مظاهر الحفاوة والعطف فأقام لها سرادقاً وحشد إليها وجوه القوم وأعيان الفضل يتصدرهم صاحب العزة الأستاذ محمد عوض إبراهيم بك وكيل وزارة المعارف السابق، والعالم الفاضل الأستاذ أبو الفتوح سليط بك وصاحبا الفضيلة الأستاذ مصطفى الصاوي المدرس بالأزهر، والشيخ أحمد حافظ سليط المحامي، والوجيهان الفاضلان محمود سيد أحمد سليط بك، وحامد طلبة صقر بك؛ ثم حفلت موائد الشاي بجمهرة مختارة من أهل المدينة، وتعاقب الكلام عليها صفوة من المبرزين في الخطابة والشعر والزجل. ثم خصصت (الإصلاح) لوصف الحفلة ونشر ما قيل فيها عدداً وبعض العدد.
ولا يسعنا إزاء هذا التكريم الخالص لفكرة الجهاد المشترك في سبيل الله والوطن والأدب إلا أن نسجل في هذه الأسطر القليلة معنى من الشكر القلبي الدائم الذي لا يتقيد بالألفاظ ولا يتحدد بالمناسبة، لأسرة (الإصلاح) ولحضرات الأفاضل الذين شاركوا في هذا الترحيب بالقول أو بالفعل. ونسأل الله أن يديم على (الرسالة) التوفيق لاستحقاق مثل هذا التكريم من مثل هذا البلد العظيم.
الشاعر صالح جودت
أكتب إليكم هذه السطور من سرير المرض وقد ضاعف آلامي ما قرأته للصديق الدكتور زكي مبارك عن مرض صديقي الشاعر الموهوب الأستاذ صالح جودت، فقد شغلتني الهموم والأوصاب عن مكاتبته زمناً كما أقصته عني، ولكني ما كنتُ أقدر له إلا العافية والأنس فإنه مرآتهما المتألقة لكل من عرفه وخالطه، وليس في وسعي أن أتخيل صالح جودت إلا مثال الشاعرية الرقيقة السليمة المرحة خلقاً وكياناً.
وقد بالغ بل أخطأ صديقي الدكتور زكي مبارك في قوله إن صالح جودت يحقد عليه أبشع الحقد لسكوته عن التنويه بمواهبه الشعرية، وإنه كان يتقاضاه الكلام على شعره في كل(378/48)
لقاء. أجل، أخطأ في تفسيره هذا لعبث ودي ولمداعبة بريئة، فما عرفتُ عن صالح جودت هذا الخُلق المنقود في أي حال، وإن عرفتُ منه أنه لم يكن في أي وقت يحترم موازين النقد الأدبي لدى صديقي الدكتور زكي مبارك، وكلاهما لا يحسن الظن بشعر صاحبه!
وإني أوافق الصديق الدكتور زكي مبارك على قوله الحكيم إن كل شيء يجوز فيه التشجيع إلا الأدب والبيان فالتشجيع هنا مفسدة، بيد أن ما احتاج إليه الأدب والبيان في مصر زمناً طويلاً إنما كان (الإنصاف) وهذا ما أباه الأدباء الشيوخ على الأدباء الناشئين، ولكن الأحوال تبدلت الآن وتعددت المنابر الحرة لأدباء الشباب وانتفت دواعي شكاواهم.
ولا أعد قصيدة صالح جودت (شاعر العيون الزرق والشعر الذهب) إلا مثالاً لشاعريته الأصيلة التي فات صديقي الدكتور زكي مبارك الالتفات إليها من قبل حتى وجد الجو العاطفي الملائم لعقله الباطن فبدأ يستجيدها الآن وإن علل ذلك تعليلاً جديداً. ولعل كلمته النبيلة رسول الشفاء القريب إلى صديقي الشاعر الغرّيد الذي أعده نسيج وحده في فنه.
(الإسكندرية)
أحمد زكي أبو شادي
أهذا توارد خواطر؟
سيدي الأستاذ رئيس التحرير
بعد التحية: قرأت في عدد مضى من الرسالة مقالاً للأستاذ محمد عبد الغني حسن بعنوان (المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها) وقرأت في العدد 376 من الرسالة تعليقاً على هذا المقال للأستاذ محمود المرسي خميس. وقد تذكرت عند قراءة كلمة الأستاذ محمود المرسي أنني قرأت قصيدة لشاعر عباسي يقول فيها:
أغار على أعطافها من ثيابها ... إذا لبستها فوق جسم مُنَعَّم
وأحسد كاسات يقبلن ثغرها ... إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
ثم قرأت بعد ذلك في الجزء الأول من ديوان الأستاذ علي الجارم قصيدة بعنوان الحب والحرب جاء فيها البيت التالي:
إني أغار من الكؤوس فجَنِّبي ... كأس المدامة أن تقبِّل فاكِ(378/49)
وأنا أقول إن المعنى منقول وإن هذا ليس بتوارد خواطر.
والأستاذ محمد عبد الغني حسن محق في قوله إن المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها ولكن لا ننكر أن للشاعر الذي يبتكر المعنى ويكتبه لأول مرة لا يمكن أن يساويه من ينقل عنه هذا المعنى ويصوغه في قالب آخر. والسلام.
(كوم حماده)
فؤاد كامل
بين الأستاذ مختار الوكيل والبارودي
جاء في مرثية الأستاذ مختار الوكيل التي رثى بها الهمشري البيت الآتي:
فإذا هجعت فأنتَ في أحلامي ... وإذا مشيت فأنتَ أنتَ أمامي
ولقد سبقه إلى هذا المعنى البارودي إذ قال في المرثية التي رثى بها زوجته:
فإذا انتبهت فأنتِ أول ذكرتي ... وإذا أويت فأنتِ آخر زادي
فما رأي حضرته في ذلك؟
(ببا)
محمود عبد المطلب حسين
(الرسالة) الحق أن الشاعرين قد نظرا إلى قول التهامي في
رثاء ولده:
فإذا نطقت فأنت أول منطقي ... وإذا سكت فأنت في إضماري
الطابور الخامس في القرآن
في الحق أني مفتون بما تطالعنا به عبقرية صاحب هذا العنوان الجميل. . . ذلك أن الأستاذ الباحث يكشف لنا عن أسرار القرآن ما تزال تبرق جلواؤها على دولاب الزمن كلما تواترت الأجيال، وتزايلت الحضارات، والأستاذ مصور بارع، إذ نقل عالم قائد العروبة إلى دنيا زعيم النازية، واستطاع بعد ذلك أن يصور لنا بالدقة كيف كانت(378/50)
المشابهات والملابسات بينهما - مع ملاحظة الفروق بين الزعيمين - وتباعد الشقة بين عصريهما. وهو ضرب من التوفيق والتطبيق لم يتح إلا لفنان أديب.
وحرصي على استبقاء توفيقه في تحري البحث - يدفع بي إلى أن أشعره بما قاله من التوفيق في الحلقة الثالثة من نظيم مقالاته - ذكر في العدد 372 من الرسالة الغراء تحت شرحه لغزوة الأحزاب (ثم ساروا - أي (جماعة من يهود بني النضير بعد إجلائهم عنها) إلى غطفان. فأعدوها لحرب النبي - وخرجت قريش وغطفان يريدون المدينة).
وحقيقة التاريخ أن بني النضير بعدما أجلوا عن المدينة مرغمين لم تهدأ لهم ثائرة، بل عملوا طاقتهم ليثأروا من الرسول وأصحابه. قام سيدهم حُسَبيُّ بن أخطب ومعه سلام بن أبي الحقيق النضيري وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان بدعاية واسعة النطاق ليؤلبو العرب جميعاً على غزو المدينة وحرب المسلمين حتى يستأصلوهم.
ولقد جعلوا نصب أعينهم تلك القبائل التي بينها وبين المسلمين شر. فعمدوا أول ما عمدوا إلى قريش وهي صاحبة المواقف الجليّ مع الرسول، وأبرموا معهم أمراً. ثم خرج أولئك الدعاة إلى غطفان وحدثوهم بما حدثوا به قريشاً وبيتوا عليه. وفي النهاية جعلوا لغطفان نصف ثمار خيبر سنة كاملة إن هم نصروهم حتى يتم لهم الفوز. ومضوا إلى بقية الأحياء المعادية فطافوا على بني أسد وسليم وهذيل، وبعد أشهر كانت هذه الأحزاب قد أتمت جهازها للغزو. ففي شوال من السنة الخامسة خرج أبو سفيان ابن حرب على رأس أربعة آلاف مقاتل من قريش وأحابيشها يحمل لواءهم عثمان بن طلحة العبدري الذي قُتل أبوه على لواء المشركين يوم أحد، ولاقتهم بنو سليم بمرّ الظهران في سبعمائة، يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرج معهم بنو أسد بن خزيمة يقودهم طليحة بن خويلد، وجاءت فزارة في ألف رجل يقودهم عيينة بن حصن القزاري، وبنو مرة (من ذبيان) في أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف المُرّيّ، وبنو أشجع في أربعمائة كذلك يقودهم مسعر بن رخيلة، ولحق بهم بنو سعد (من ذبيان) وانضمت إليهم اليهود حتى تكامل عددهم عشرة آلاف جندي مقاتل.
من هذا يتبين أن كتائب المتحزبين لم تكن من قريش وغطفان فحسب، ولكن كانت قوة هائلة تكونت من مجموع هذه القبائل والبطون التي في قلبها من الرسول دخن.(378/51)
هذا ما أردت أن أذكر به الأستاذ صاحب البحث. وآمل أن يكون على ذكر منه لكن نكّب عنه مخافة الإسهاب، لكني مع هذا الأمل لا تطاوعني نفسي أن أجامل أستاذنا إلى هذا الحد الذي قد يتهمني فيه خاطري وضميري بالممالقة والمداخلة ما دام المقام مقام تشريح وإطناب. ولأنه إذا تحتم علينا أن نصحح تاريخاً لزعيم فأجدرُ شيء بنا أول ما نعني أن نصحح تاريخ الزعيم الأول، تاريخ الرسول الأعظم.
عبد الحميد إسماعيل
حول سؤال وجواب
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
نسب أحد القراء إلى الأستاذ القدير زكي مبارك غلطة إعرابية في بيت شعر أورده في مقال له.
وقد اطلعت على عدد الرسالة 377 فراعني ما كتبه الدكتور رداً على من لفت نظره إلى خطأ أصابه، إذ قال: (لو كان هذا القارئ يعرف أني في الإنشاء أسرع من أقدر الناسخين لفهم أن من الجائز أن يندّ القلم فيرسم الضمة فتحة) وهذا تعبير له شأنه، فالمرء لا يشكر على السرعة، وفي المراجعة تصحيح لندود القلم.
ماذا يضير الأستاذ لو اعترف بالزلة ولكل عالم هفوة! وأي غبار يلحق قلمه الفياض إذا صرح بأن الخطأ مطبعي لا ذنب له فيه؟
أظن أن الدكتور استعظم الأمر فوجه امتحاناً على صفحات الرسالة إلى ناقده والناقد بصير قال: (هذه عشرة أسئلة فيها ما تعرف وفيها ما تجهل وفيها ما تذوق) هل اطلع على الغيب أم فحص مواهب صاحبه بمجهر بلاغته، أم نسي نتيجة البحث والاطلاع وقت تحرير أسئلته؟
ليت الأستاذ يتذكر أنه وصم الجيل الجديد وهو فيه بقلة الصبر على متاعب الجهاد في مقالته. وبعد فيا حبذا لو عامل الأدباء بالحسنى دكتورنا المبارك ليكثر رواد سوق الأدب.
عبد الله عبد التواب
تفسير بيتين(378/52)
أفاد الأستاذ ناجي الطنطاوي على صفحات مجلة الرسالة سائله من اليمن عن قائل هذين البيتين:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه حالاً ... فإن الشمس ليس لها غروب
فقال إنه وجدهما في ديوان محيي الدين بن عربي. غير أن هذه الإفادة قد أوجدت إشكالاً آخر وهو أن الناظر إلى هذين البيتين يجدهما غامضي المعنى أو هما على الأصح على طريقة الصوفية التي تشير إلى الباطن أكثر مما تشير إلى الظاهر كقول أحد الصوفية ولعله ابن عربي نفسه (معبودكم تحت قدمي). فهل للأستاذ ناجي أن يتفضل مرة أخرى فيحل هذا الإشكال؟
الأبيض - سودان
ع. ا. سعد
اتهام
طالعت في عدد (الرسالة 376) كلمة (اتهام) بالرجوع إلى مجلة الشباب في كتابة (عمر الخيام) وهو الموضوع الذي نشرته لي مجلة (الثقافة) بعددها 86 الصادر في 30 أغسطس سنة 1940 ولقد استأنست ببحث الأستاذ (خليل جمعة الطوال) ورجعت إلى المصنفات التي استقى منها بحثه عن الفيلسوف الخيام هذا وإنني حللت شخصية الخيام من الناحية العلمية.
وتحت يدي أعداد مجلة الشباب التي رجعت إليها في البحث فليرجع إليها من يشاء، ليعلم أن اتهام الأستاذ (محمود عساف أبو الشباب) لا موضع له، وقد كان الأجدر بالأستاذ انتقادنا علمياً لا اتهامنا تهمة هو مسئول فيها أمام ضميره.
وشكراً للأستاذ (خليل الطوال) فقد كان لنا في بحث الخيام مرشداً. ولم تأخذه حماسة صديقه أبو الشباب في قذف التهم من غير دليل.
عبد الحميد سامي بيومي(378/53)
القصص
الهارب من الجيش
للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه
ترجمة الأستاذ حلمي مراد
يعد ألفونس دوديه (1840 - 1897) أبرع أدباء فرنسا في كتابة القصة القصيرة التي تدور وقائعها في جو الحرب المظلم الرهيب، وقد يرجع ذلك إلى معاصرته للحروب الطويلة التي نشبت بين فرنسا وألمانيا. . . وهو في تعبيره عن أرق وأعمق المشاعر وعطفه على الفقراء والمظلومين يشبه الأديب الإنجليزي المعروف تشارلس ديكنز وينحو منحاه. ومن مؤلفات دوديه الخالدة: (سافو) ثم (فرومون وريزلر) و (تارتاران) و (جاك).
. . . وقصة (الهارب) هي إحدى قصصه القصيرة التي نشرت في مجلد عنوانه (وسط غمار باريس). . .
رفع الرجل كأس البيرة إلى شفتيه وهو جالس أمام حانوته يرقب العمال، وقد تسربوا إلى الطريق ميممين شطر بيوتهم. . . حيث تنتظر كلاُ منهم زوجته وأولاده.
تلك هي الصورة التي اعتاد الناس أن يروها كلما مروا بحانوت مسيو جورج لوري الحداد. . . في مساء كل يوم.
. . . إلى أن جاءت ليلة خالف فيها مألوف عادته، إذ ظل إلى جوار النار المشتعلة في أتون حانوته، إلى ساعة متأخرة بعد غروب الشمس. . . ظل ساهماً شارد الفكر، يبدو عليه الهم وتعلو وجهه مسحة من الكآبة، غير عابئ بزوجته التي اشتد بها القلق لتأخره فانساقت إلى مخيلتها مخاوف وأوهام صورت لها صنوفاً من البلايا والأرزاء، فهي آناً ترى ابنها الذي اختطفته الحرب يروح ضحية مقذوف طائش، وآونة تخاله صريع المرض أو الجوع، تمتص الحمى دماءه في نهم وشره.
وأخيراً، حين عاد الزوج. . . عقد الخوف لسانها، فلم تجرؤ على تقصي جلية الأمر منه خشية أن يجيء جوابه معززاً لمخاوفها ومبعثاً للحزن والألم. . . فسكتت على مضض والقلق يعتصر قلبها فتعلو خفقاته ويشتد به الأنين.(378/55)
أما هو فلم يسكت. . . بل قذف بالصحاف التي وضعتها أمامه حين جلس إلى المائدة. . . قذف بها إلى الأرض، فتحطمت محدثة ضجة أفزعت الأطفال فأجفلوا وجفت حلوقهم عن ازدراد ما في أفواههم من طعام. . . وكأن لم يكفه ذلك، فصاح على الفور:
- يا للأنذال المجرمين.
فقالت هي في لهجة تساؤل لينة: من تعني يا عزيزي، وماذا أغضبك؟. . . ولم تكد تتم قولها حتى زجرها بصياحه:
(من أعني؟ أتسألينني لم أنا غاضب؟ حسن، إذاً فاعلمي أني حاقد على نفر من الجبناء رأيتهم منذ حين، خمسة أو ستة حسبما أذكر - ما لذاكرتي تخونني كأنها تأبى أن تذكرني أهاجوا الدم في عروقي - ومع هذا فإني أذكر أنهم أخذوا يذعرون طرقات المدينة محتمين بالجند الألمان الذين ساروا إلى جانبهم دون أن يعرف الخجل إليهم سبيلاً. . . يا للحسرة ويا للألم، لقد هربوا من الميدان وفروا من واجبهم المقدس. . . لعمري أني لا أدري أي شراب هذا الذي سلبهم كل نخوة وإدراك. . . يا للعار!)
وهنا عادت الزوجة إلى لهجتها الوادعة فقالت: (خفف عن نفسك يا عزيزي ولا تتعجل في الحكم، فلربما عاودهم الحنين إلى بلادهم فآثروا التحرر من خدمة الجيش. . . أو ربما)
ولكنه لم يدعها تتم قولها إذ بادرها بالصياح:
(أو تجرئين يا خائنة على تبرير فعلتهم؟)
قالها وهو يلوح بقبضته الغليظة في الهواء، ثم ما لبث أن أهوى بها على المائدة واستأنف القول (ولكنك - كسائر النساء - تعجزين عن فهم شيء من أمور الدنيا، فلقد تأثرت عقلياتكن بسذاجة الأطفال وغطت غشاوة من الجهل على أبصاركن، فبانت الواحدة منكن لا تحسن التمييز بين الضعف والخيانة. . . أفلا تدركن ما قد فعل أولئك الأوغاد؟ إنهم لمارقون يجب أن تتبرأ منهم فرنسا بل وتلقي بهم إلى الموت. . . وإلا فإني - وقد أمضيت في الجيش سبعة أعوام كاملة - لن أتردد في الانزواء مبتعداً عن الأرض التي يطئون بأقدامهم الدنسة) تناثرت هذه الكلمات من فم الرجل بل من قلبه - مصدر إيمانه وموطن عقيدته - قوية دافقة فاهتزت لها أركان الغرفة وردد البيت صداها مدوياً مزمجراً.
وكأني بها قد استنفدت كل جهده وهدت من كيانه، فخرج إلى الفضاء كي يسري عن نفسه(378/56)
بعض ما عانت وينعم بقسط من الهواء الذي تركه الله مباحاً حتى لأمثاله من البسطاء البائسين غير مفرق بينهم وبين من يشمخون بأنوفهم نحو السماء وهم من التراب وإليه مصيرهم المحتوم.
. . . فانطوت الزوجة على نفسها حتى أوى أطفالها الثلاثة إلى مضاجعهم بعد أن اخترقت آذانهم الصغيرة المرهفة تلك الصيحات الجامحة. . . ثم وقفت ومشت إلى النافذة في خطوات وئيدة، وحين بلغتها استندت إلى حافتها بالمرفقين وراحت تتطلع في شوق ولهفة ممزوجين بالقلق، إلى الحديقة التي ترامت الخضرة بين جنباتها؛ وبين التنهدات الزفرات جال فكرها المرهق في شتى المناحي وعاد حاملاً خليطاً من الخطرات:
. . . إنه محق، ويجدر بي أن أوافقه فهم حقاً جبناء أذلاء. . . ولكن مالي وشأنهم، ولِمَ لا يكون الحق في جانبهم. . . أفليست أمهاتهم لم يسعدن بلقائهم بعد فرقة طال عليها الأمد. . . ألسن سيستقبلنهم بشغف وسرور وقلوبهن تقطر ضحكات عذبة رقيقة، وإذاً فما الذي نبغي من الدنيا سوى ذاك؟)
واستمرت الخواطر المبعثرة تتجاذب ذهنها المكدود الذي ما لبث أن نبذها جميعاً ليتمثل ابنها الحبيب في صور سريعة متتابعة: هاهو ذا قبل رحيله إلى الميدان. . . ثم وهو في الحديقة قرب البئر التي اعتاد أن يملأ منها الدلاء ليسقي الزهور والشجيرات.
وانتفضت فجأة. . . على صوت باب الحديقة يفتح ثم يغلق بعد أن ولجه شخص في حذر، كلص متسلل. . . ولكن الكلاب لم تنبح، فماذا دهاها؟
ومن خلفها انبعث صوت متهدج: (أماه). . . يا إلهي إنه هو ابنها الأكبر في سترة الجندية التي كساها الغبار. ولكن ما باله يهمس هكذا. . . صه، إنه أحد الجبناء الهاربين من الجيش. وإلا لنطق صائحاً كعادته. . . نعم فلم يلجمه سوى العار الذي يكتنف أوبته. . .
وارتمى الابن بين ذراعي أمه معانقاً مستعطفاً فلمس منها صدراً حنوناً وقلباً رقيقاً يصفح عن زلته، كيف لا وقد طغت على حواسها عاطفة جامحة من الحنين والشفقة. . . بل والاغتباط بعودته إلى أبيه. . وأمه. . . والمصنع. إنه لم يطق البعد عن هذا الجو الذي ألف، ليستعيض عن بر الأسرة وعطفها بالأصوات الآمرة الزاجرة والحياة الجافة المضنية.
. . . واكتفت الأم بدفاع الابن فصدقته وغسلت بدموعها آلامه. . . وهل كانت تملك غير(378/57)
ذلك وعيونهما متواصلة القطرات وفماهما يفيضان بالبسمات.
وصحا الأطفال على صوت الاخوة فهرولوا إلى الأخ الأكبر، حفاة الأقدام، ليتبادلوا وإياه العناق والقبلات.
وقدمت الأم إلى ابنها طعاماً ولكنه لم يقربه وإنما أقبل على الماء يروي ظمأه منه بأقداح متتالية اختلطت في جوفه بما سبقها من الجعة والنبيذ
وبعد لحظات لم تطل ردد الممر أصوات خطى متزنة تقترب. . . إنه الأب الحانق
واندفعت الأم تهمس لولدها: (أسرع يا ولدي بالاختفاء حتى أوضح له الأمر على مهل). وهكذا حثته على الانزواء بدل أن تفخر بالظهور إلى جانبه لو كان قد عاد. . . رجلاً
وحين دخل الأب وجدها تطرز ويدها ترتعد، فقد نسي الابن قبعته فوق المائدة. . . وأبصر الرجل كل شيء فأدرك ووعى، فلم يعد ينفع الإنكار! وبقبضته الغليظة أطاح بالقبعة إلى الأرض وركلها بقدمه صائحاً:
(أين هو. . . كريستيان. . . كريستيان. . .)
تقدم الابن ذاهلاً يكسو وجهه الاصفرار، لا يكاد يقوى على المسير. . . ثم لم يلبث أن تراجع متخاذلاً بينما ارتمت الأم على زوجها تستعطفه:
(بالله لا تقتله. . . فأنا المذنبة. . . لقد استدعيته حين لم أقو على الفراق. . . اعف عنه ولا تكن قاسياً). واسترسلت في نحيب جاراها فيه الأطفال وهم كالأصنام. . . لا تفهم ولا تعي.
ورمى الحداد ببصره إليها وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد الصرامة، فالتقطت نظرته القاسية. . . وقد فقدت الجرأة على البكاء.
رفعت الشمس عن وجهها حجاب الظلام بعد إغفاءة طويلة، والأم المعذبة يقظى لم تغف ولم تغمض لها أجفان. . . بعد أن قضت الليل تنتفض وجلاً من نزوة قد تزين للرجل القضاء على فلذة كبده - ابنها الحبيب - بدافع من الوطنية أو الشرف والكرامة. . . تلك الأشباح التي تهددها في أعز من لها. . . وتوشك أن تفرض عليها ضريبة باهظة.
أما الابن التعس فقد أمضى ليلة لم يكن يخلص منها من حلم مزعج رهيب إلا ليواجه حلماً آخر أكثر إزعاجاً ورهبة. . . حتى فاض الضياء فغمر الكون كله خلا ذلك البيت الذي(378/58)
اكتنفته ظلمة قاسية. . . موحشة.
ومر الليل على الحداد العجوز. . . طويلاً مخيفاً، وهو يبكي وينتحب باحثاً بين غرف البيت عن شيء، لا يدرك كنهه، فقده قبل ساعات. . . ولم يكد الفجر يرسل نوره في عروق الظلام حتى قام الرجل يخطو نحو غرفة ولده حتى ولجها وتقدم إلى الفراش بخطىَ ثابتة صائحاً بالابن في صرامة: (انهض) ورفع هذا عينيه المخضلتين بالدموع فرأى أباه بثياب السفر وفي يده عصاه المثقلة بالحديد. . . فلم يتمالك نفسه من الوثوب من فراشه، وأمسك برداء الجندية ليلبسه، ولكن الأب صرخ قائلاً: (كلا. . . عليك بغيرها).
وحين اعترضت الأم بأنه لا يملك سواها، صاح مزمجراً: (إذاً فليأخذ من ملابسي. . . إنها لن تلزمني بعد الآن).
قالها وهو يتناول من ابنه رداءه العسكري ثم عاود الكلام بعد حين: (هيا بنا. . .)
. . . وحين ضمهما الطريق تتابعت في ذهن الابن صور الطفولة في سرعة خاطفة فذكر تلك الأيام السعيدة حين لم تكن السنون قد أثقلت كاهله بعدُ بأعباء الدنيا. . . ولم يلبث أن أطلق من صدره آهة عميقة قال الأب على أثرها بصوت خفيض: (كريستيان. . . إليك مصنعي، فهو كل ما أملك، فخذه ما دمت قد ابتعته بدماء مواطنيك وسلامة بلادك. . . خذه ولتنعم في ظله بما تشاء، مجرداً من الشرف الذي لم تعرفه. . . أما أنا، فذاهب إلى غير رجعة. . . نعم سأوفي عنك الدين لفرنسا فبت قرير العين وعش بلا كرامة.)
. . . تساقطت دموع الابن في لحظة الوداع وانبعثت إلى حلقه غصة أوشكت أن تخمد أنفاسه فنادى أباه بصوت مبحوح: (أبـ. . . تاه)
. . . وخرجت الأم إلى الطريق صائحة: (لوري. . . لوري إلى أين. . .)
ولكنهما لم يسمعا سوى صدى صوتيهما، فقد مضى الأب في طريقه. . . ليلحق بالجيش
مضى ليكفر عن خطيئة الابن. . . الهارب.
(حمامات القبة)
حلمي مراد
المحامي(378/59)
العدد 379 - بتاريخ: 07 - 10 - 1940(/)
تحية إلى تاجور
للأستاذ عباس محمود العقاد
حيا الله تاجور وأبقاه!
إنه من ضيوف هذه الأرض المؤنسين، ينظر إليه الناس بينهم فيستحضرون الرضوان والأمان، وكما تنظر الأسرة إلى الأب الوقور بينها فتطمئن ولا تخشى، وإن لم يكن في يديه سلاح، ولم يكن للسلاح غنى إن كان في يديه.
أنبأنا البرق أمس أن تاجور يعاني شدة المرض في شيخوخته المباركة، فرجونا أن تظهر تحيتنا هذه عند ظهور الرسالة، وقد جاءت الأنباء بشفائه، وشفاء تاجور بشرى تعلنها في الهند أكبر جماعاتها وهيئاتها. كذلك أدركته الوعكة من قبل فلما شفى علمنا بشفائه من خطاب رئيس المؤتمر الهندي وهو يفتتح لجنته العليا، ويبدأ بإعلان بشرى الشفاء قبل البدء بأمر من الأمور الجسام التي كانت اللجنة العليا مجتمعة لها في تلك الجلسة.
قال جوهر لال نهرو: (إن هذه اللجنة تهنئ الأمة بعناية الله التي شفت لها الدكتور رابندرانات تاجور: رجل من أعظم أبناء الأمة الهندية).
ورجاؤنا أن نسمع مثل هذه البشرى في يوم قريب.
نقل البرق نبأ اشتداد المرض عليه صباح يوم الأحد، فخطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجرية لنستخرج منها الفأل فيما كتب فيها من أقوال تاجور بازاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم.
رجعنا إلى صفحة اليوم فإذا بها تقول: (إن العقل يتركنا بمعزل عن الشيء الذي يعرفنا إياه؛ ولكن الحب يعرفنا ما يعرفه بالامتزاج به والنفاذ إليه).
وإذا بها تقول: (إن العالم الإنساني هو عالم المرأة، سواء كان من شئون البيت، أو من الشئون التي تمتلئ بجهود الحياة التي تسمى جهود الإنسان).
وإذا بها تقول: (إن ظلال المساء تهبط كثيفة عميقة. . . افتح نافذتك إلى الغرب، وانغمر في سماء المحبة).
ثم رجعنا إلى صفحة اليوم الثلاثين، وهو اليوم الذي نكتب فيه مقالنا هذا، فإذا بها تقول:(379/1)
(هنا يموج البحر، وهنا أيضاً يستقر الشاطئ الآخر في انتظار الوصول إليه. . . نعم هنا الحاضر السرمدي، لا على مسافة منك ولا في مكان غير هذا المكان).
وإذا بها تقول: (إن نفس موسيقاك المحيي يسري من سماء إلى سماء).
وإذا بها تقول: (على جفنيك حياء عذب كأنه قطرة الندى على طرف الورقة الرفافة).
ومن عجب أن خطرات تاجور في هذين اليومين تلخص كل ما كتب تاجور، بل تلخص روح تاجور في أعماقها وحواشيها أجمل تلخيص.
صفاء وصوفية، وجمال وحنان كحنان الأم العطوف، وتفاؤل ورجاء وشدوٌ رفيق.
ذلك هو تاجور كله، سرمدي لا تقول هو الماضي ولا تقول هو الحاضر، وتهم بأن تقول: هو الهند فتسمع على البعد هامساً يقول: كلا، بل هو النفس الإنسانية في براءة الطفولة وحكمة الأجيال.
تاجور لا تروعه ضجة العصر الحديث فينسى الماضي الأزلي، ولا يستغرقه الماضي الأزلي فينسى ضجة العصر الحديث. هو كطائر الشفق الذي يرفرف بين النهار المولي والليل المقبل. لحظة هنا ولحظة هناك، ثم يغيب في القمراء لأنها ظل الصباح وغشاء المساء
أو كما يقول هو إن الماضي يحتوي الحاضر، والحاضر يفسر الماضي. . . أو كما يقول: وقّر الماضي ولكن لا تعش فيه.
أهو رجل إنساني؟
نعم، ولكنه لا ينسى الهند. فلما دعته جامعات كندا للمحاضرة فيها أبى أن يلبي الدعوة لأن الكنديين في ذلك الحين لم يعطفوا على القضية الهندية. ولما اضطرمت نار الخلاف بين بلاده والحكومة البريطانية رد ألقابه وشاراته إلى تلك الحكومة.
أهو رجل هندي؟
نعم ولكنه لا يتعصب ولا ينسى سماحة الروح، فقضى ما قضى من أيامه يدعو إلى اللغة البنغالية ليكتب بها الأدباء ويتعلم بها المتعلمون، ولكنه لم يتقيد بأصولها العتيقة التي لا موجب للتقيد بها. . . حتى كان الأساتذة الجامدون في الجامعات يمتحنون الطلاب بشذرات من كتب تاجور يفرضون عليهم أن يردوها إلى اللهجة البنغالية الصحيحة.(379/2)
كذلك قضى ما قضى من أيامه يؤمن بالصوفية الهندية ويدعو إلى الإيمان بها، ولكنه سئل أن يختار نشيداً وطنياً فاختار نشيداً من الشعر الهندي القديم، فلما أبى المسلمون أن ينشدوه لأنه يذكر الآلهة العديدة قال تاجور: لقد أصابوا، فإني أنا أيضاً من الموحدين لخالق الكون العظيم. ثم أوصى بحذف الأبيات التي أباها المسلمون.
أهو شيخ في تفكيره؟
نعم هو يفكر تفكير الشيوخ ولم يتمرد قط تمرد الشباب. ونذكر في مصر أن شاباً مثقفاً لقيه مستأذناً في ترجمة بعض كتبه، فقال له ما معناه: لم العجلة يا بني؟ عند ما تبلغ سن تاجور تترجم معاني تاجور!
لكنه ربح جائزة نوبل وجاءه منها ثمانية آلاف جنيه، فبنى بها مدرسة جامعة لتعليم الشبان الحديث والقديم من العلوم، ولإنشاء جيل جديد غير الجيل الذي نشأ عليه ونشأ عليه آباؤه.
إذا شبهته فخير ما تشبهه به أنه نسيم لطيف لا يجمد في مكان ولا ينطلق انطلاق الرياح ليزعزع ما يقف في طريقه؛ ولكنه أبداً يحمل عطر الأزاهير في مروج البنغال.
يرى بعض الناقدين أن شعر تاجور يفقد كثيراً بالترجمة من البنغالية إلى الإنجليزية أو الفرنسية.
ويبدو لي أن هؤلاء الناقدين على صواب، لأنني سمعت تاجور يغني شعره البنغالي فأحسست لنغماته لطافة ووسوسة لا تنتقل بانتقال المعاني والكلمات.
إلا أن الخسارة الكبرى هي في نقل تاجور من البنغالية إلى الإنجليزية أو الفرنسية ثم في نقله من إحدى هاتين اللغتين إلى العربية.
وأخشى أن أقول إن هذه الترجمة قلما (تمسك) تاجور إلا كما تمسك الماء الغرابيل.
على أنه لو نقل إلى العربية كما نقل إلى الإنجليزية لما أمسكه من القراء إلا القليل، لأنه شعاع لا يوزن بميزان الشعر الذي يسيغه الأكثرون من أولئك القراء، وأدق موازينهم ميزان جواهر ودنانير.
قال لي أديب كبير كان من أوائل المحتفلين بشاعر الهند يوم عبوره بالديار المصرية: أنا لا أدري سر هذه الشهرة العالمية، وما أحسب إلا أن الدولة البريطانية بسلطانها وجاهها أرادت أن تظهر للعالم مبلغ آلائها على الهند فأبرزت هذا الشاعر مثلاً لما أفادت به أهل(379/3)
الهند من أدب وثقافة.
وكتب أديب آخر يعقب على التحية التي حييت بها تاجور في تلك الأيام فقال: أولاً نحسن نحن أن ننظم مثل هذا القصيد ونبدع مثل هذه الخواطر؟ فما بال العقاد لا يكبرنا كما يكبر هنديه تاجور؟. . . أم زامر الحي لا يحظى بإطراب!
وكل جواب لهذين القولين عبث، لأنه كجوابك من يقيس الجمال بعيون كعيون الغزلان، وفم كأنه خاتم سليمان، وبطن كأنه العجين الخمران، إذ أنت تنظر إلى عين تناجيك بمعناها وفم يجتمع فيه شعور روح، ويبدو أن على (خلاف الشروط) أقرب إلى الدمامة منهما إلى الجمال!
إنني أقرأ تاجور فلا أقول أصاب أو أخطأ وأبدع أو جاء بالكلم المطروق.
وإنما أقرأه وألتمس عنده (نفحة نفس لطيفة) وأنا على ثقة أنني وأجدها في كل ما ينظم وكل ما ينثر وكل ما يتخلل عباراته من صمت بعيد الغور مشبع بالهداية والإيحاء.
خذ لذلك مثلاً قوله: (كل طفل يولد في العالم هو آية على أن خالق الكون سبحانه لم ييأس من الإنسان).
هذه نفحة نفس محبة لا شك فيها، وإذا كان الشرط الأول من شروط الشعر أنه تعبير عن نفس إنسانية فقد وفى تاجور الشروط كلها في كلماته تلك، لأنك تعرف نفس تاجور بتلك الكلمات معرفة لا يضيرك بعدها أن تقيسها بالبرهان فلا تثبت على القياس، ولا تجيبك إذا سألت: وما القول في كل بيضة جديدة تلدها الحية الرقطاء؟
بيد أنك تقرأ لتاجور مع هذا حكمة إلهية لا ينقضها ناقض ولا تزال مطردة أتم اطراد مع نفحاته اللطاف.
سأله تلميذ من تلاميذ مدرسته: ما هذا النظام الكوني الذي نعظمه ونمجده ولا فرق فيه بين الإنسان والجماد؟ إن الريح العاتية لتعاملني حين تلقاني كما تعامل صخرة أو شجرة، فأين النظام الذي يزن كل شيء بميزانه؟
فكان جواب تاجور: أتود أن تكون لك روح ولا تنفصل مما حولك كأنك القطرة في الغمار؟ إنك إذن تفقد روحك وتزول من حيث أنت إنسان منفصل عن عالم الجماد. . . أم تود أن تنفصل عن عالم الجماد ولا تشعر به نافعاً وضاراً على اختلاف كما ينبغي الشعور بجميع(379/4)
المختلفات؟ إنك إذن تقضي على الكون بزوال الحركة وقانون النظام.
وما أرى أن حجة الشر في الدنيا قوبلت بحجة أصدق من هذه الحجة على ما فيها من لطافة وشاعرية.
ومن الذي ينقض حجة الشر بهذا الكلام؟ تاجور الذي أصيب من الشرور بالشيء الكثير، فماتت أمه وهو صغير، وماتت زوجه وبنته وهو كهل، وذاق من كيد الناس ما ينغص الحياة.
حياه الله وأطال حياته، فإنه من زينة الدنيا التي لا تعوض في هذا الزمان.
عباس محمود العقاد(379/5)
بمناسبة العودة المدرسية
اللغة العربية
في المدارس الأجنبية
(توجيهات لأحد المشتغلين بشئون التعليم)
تمهيد
الغرض من تقوية اللغة العربية بالمدارس الأجنبية هو الوصول بتلاميذ تلك المدارس إلى منزلة من المعارف اللغوية والأدبية والقومية تمكنهم من الحياة في المجتمع المصري حياةً لا يشعرون معها بأنهم أعاجم في أمة عربية، كالذي كان يقع لتلاميذ تلك المدارس من عهد بعيد إلى اليوم، وهي حال ضجّ منها آباء التلاميذ، وفكر في تغييرها نظار المدارس الأجنبية مرات كثيرة، ومن المأمول أن تغيّر تلك الحال بعد أن اهتمت وزارة المعارف بتقديم المعاونة الجدية لنظار تلك المدارس، وبعد أن أعلنت رغبتها في تشجيعهم على الوصول بمدارسهم إلى مكانة تسمح لأولئك التلاميذ بالقدرة على مسايرة الحياة العلمية والأدبية والاجتماعية بهذه البلاد.
ومن الواضح أن الوصول إلى تحقيق هذا الغرض يستوجب النظر في مناهج اللغة العربية بتلك المدارس نظراً جديداً يمكن به نقلها من حال إلى حال، ويستوجب أيضاً أن يقوى الروح المصري بتلك المدارس فيكون للغة العربية مكان ظاهر في النشاط المدرسي ويكون للرحلات الخاصة بدرس الآثار المصرية مقام ملحوظ، بحيث يشعر أولئك التلاميذ أن مدارسهم تدعوهم إلى تذوق الروح المصري في عهدهن القديم وعهده الحديث.
وخلاصة القول أنه يجب أن يزود تلاميذ تلك المدارس بنصيب وافر من اللغة العربية، ومن تاريخ مصر وجغرافية مصر وأنظمة مصر في الحدود الآتية:
اللغة العربية:
تنقسم الحياة المدرسية في أكثر المدارس الأجنبية إلى ثلاث مراحل: مرحلة التعليم الأولى الممثل في رياض الأطفال، ومرحلة التعليم الابتدائي، ومرحلة التعليم الثانوي.(379/6)
وفي المرحلة الأولى يحسن أن تعتمد هذه المدارس على المعلمين المتخرجين في مدارس المعلمين الأولية، لأنهم أعدوا لهذا الغرض ولأن مرتباتهم بسيطة، وذلك يساعد على الإكثار من دروس اللغة العربية في رياض الأطفال.
أما في مرحلة التعليم الابتدائي ومرحلة التعليم الثانوي، فيجب أن يكون المعول على المدرسين الفنيين الذين أعدتهم الوزارة لهذين النوعين من التعليم.
ونفهم من هذا الطفل في المدرسة الأجنبية يرى مدرس اللغة العربية منذ اليوم الأول لعهده بالحياة المدرسية فيأنس سمعه ولسانه للغة العربية بحيث يمكن أن تكون هي اللغة الأولى وبحيث يرجى أن تقوى على منافسة ما يدرس معها من اللغات الأجنبية.
في رياض الأطفال
المنهج في رياض الأطفال يقوم على توجيه الأطفال إلى التعبير عن أغراضهم بعبارات عربية مقبولة، ولا مانع من أن تكون لغة التخاطب هي الأساس لتذهب الوحشة التي تقع من شعور الطفل بغرابة اللغة الفصيحة، ثم يتدرج المعلم رويداً رويداً فينقل لغة الطفل برفق من العامي إلى الفصيح ليشعر بعد عام أو عامين بشخصية جديدة هي شخصية من يتكلم بلغة أقوم وأرفع من لغة العوام ويستعد للانخراط في سلك الخواص.
وفي هذه المرحلة تكثر المحادثات كثرة ملحوظة، ثم تلقن المحفوظات السهلة والأناشيد القصيرة ويترنم بها الأطفال بطريقة جمعية تزيد أنسهم بالدرس وتشوقهم إلى طلب المزيد. وفي هذه المرحلة يترفق المعلم في تعليم القراءة والكتابة وفقاً للخطط المرسومة لرياض الأطفال.
وإذا استطاع المعلم في هذه المرحلة أن يفوق زملاءه من معلمي اللغات الأجنبية، وأن يكون أقرب منهم إلى أنفس أولئك الناشئين كان ذلك خطوة محمودة في خدمة اللغة العربية بالمدارس الأجنبية.
ولن يصعب على الوزارة أن تجد المعلمين الصالحين لتأدية هذا الواجب تأدية صحيحة، فهؤلاء المعلمون سيأخذون من المدارس الأجنبية مرتبات أكبر من مرتبات المدارس الأولية، وذلك يمكن الوزارة من التخير، وقد تستطيع عقد المسابقات لتحقيق هذا الغرض الشريف.(379/7)
في التعليم الابتدائي:
يصل الطفل إلى مرحلة التعليم الابتدائي وقد استعد لمتابعة دروس اللغة العربية وقدر على قراءة بعض الفقرات المفيدة مما يقع تحت بصره من الجرائد والمجلات. وقدر أيضاً على فهم بعض ما يذيع الراديو من أناشيد ومحاورات، وهو لا يصل إلى ذلك إلا بعد أن يعني به عناية وافية في مرحلة التعليم الأولى بحيث لا يقل ما يتلقاه في الأسبوع عن عشرة دروس.
وفي التعليم الابتدائي يجيء الدور الجدي في تعليم اللغة العربية فيقسم التلاميذ إلى فريقين: فريق يستعد للأقسام الثانوية المصرية وفريق يستعد للأقسام الثانوية الأجنبية.
وإنما فرضنا هذا التقسيم لأن تلاميذ المدارس الأجنبية يدخلون الأقسام الثانوية المصرية بتلك المدارس بدون أن يؤدوا امتحان الشهادة الابتدائية المصرية. ويكون في أثر ذلك أن يدخلوا تلك الأقسام وهم ضعاف في اللغة العربية ضعفاً يجعلهم من الذيول في الامتحانات العمومية، وقد يلازمهم هذا الضعف طول حياتهم فلا يكون منهم كتاب ولا شعراء ولا خطباء باللغة العربية.
ومنهج اللغة العربية في الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية المصرية يجب أن يكون مماثلاً تمام المماثلة لمنهج اللغة العربية في المدارس الابتدائية المصرية مع زيادة عدد الدروس زيادة تعوض على التلاميذ ما يفوتهم من درس أكثر المواد باللغة العربية.
أما منهج اللغة العربية في الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية الأجنبية فيكون أخف ويكتفي فيه بسبعة دروس في الأسبوع توزع على مواد اللغة العربية توزيعاً يضمن تمكن أولئك التلاميذ من القواعد والإملاء والمطالعة والإنشاء.
ومن السهل وضع هذا المنهج الخفيف، والمهم هو أن يشمل العناصر الأساسية من القواعد بحيث يستطيع التلميذ أن يلقي خطبة أو يكتب رسالة بدون أن يقع في أغلاط تشهد عليه بالتخرج في مدرسة أجنبية!
وإذا تجاوزنا اللغة العربية إلى الجغرافيا والتاريخ رأينا من الواجب على تلاميذ الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية المصرية أن يدرسوا المقرر من هاتين المادتين في المدارس الابتدائية المصرية.(379/8)
أما الأقسام الابتدائية التي تعد للأقسام الثانوية الأجنبية فتدرس جغرافية مصر بالتفصيل، ثم تدرس التاريخ المصري بإيجاز مع الاهتمام بتاريخ مصر الحديث وعلاقته بالأمم الغربية والشرقية.
وما دام الغرض هو التعاون فمن حق وزارة المعارف أن تشير على المدارس الأجنبية بدعوة فريق من تلاميذها إلى اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية، فإن لم يسهل ذلك كان من الواجب على تلك المدارس أن تدقق في نقل التلاميذ من الأقسام الابتدائية إلى الأقسام المصرية الثانوية، فقد يساعد ذلك على تحسين النتائج في امتحانات النقل والامتحانات العمومية.
وبهذه المناسبة نذكر أن الليسيه فرانسيه بالإسكندرية رأت من المصلحة ألا تقبل في القسم الثانوي المصري إلا تلاميذ جازوا امتحان الشهادة الابتدائية المصرية، وسيكون لذلك تأثير حسن في نتائج الامتحان.
في التعليم الثانوي
وفي التعليم الثانوي نجد المدارس الأجنبية قد استغنت عن معونتنا في توجيه الأقسام المصرية، فهي تسير على مناهجنا خطوة خطوة، وتزيد عدد الدروس لتضمن نجاح تلاميذها في امتحانات النقل والامتحانات العمومية، ولا يبقى إلا اهتمام التفتيش بدروس التاريخ والجغرافية والأخلاق والتربية الوطنية، ولا موجب للنص على اهتمام التفتيش باللغة العربية، لأن أقل تقصير في ذلك يجعل اللغة العربية من المهملات في تلك المدارس، لأنها تملك وضع أسئلة امتحان النقل، وذلك قد يعفى بعض المدرسين من الحرص على تدريس جميع المقررات!
وأعتقد أن مبالغة التفتيش في تعقب دروس اللغة العربية لا يغض من كرامة تلك المدارس، فذلك أفضل من تعريضها لإلغاء الامتحان كما وقع في بعض الأعوام الماضية.
والموضوع المهم هو موضوع الأقسام الثانوية الأجنبية، والشبان في تلك الأقسام معرضون لأصعب الأخطار من الوجهة القومية إن لم يحرسوا حراسة أمينة من طغيان الدعايات المذهبية، ولا يعصمهم من تلك الدعايات إلا تزويدهم باللغة العربية تزويداً يمكنهم من مسايرة التيارات الأدبية والفكرية والاجتماعية بهذه البلاد، ولا يتم هذا التزويد الواقي من(379/9)
الأخطار إلا إذا ضمنا أن يدرسوا تاريخ مصر دراسة عميقة تصل بهم إلى الثقة بأنهم نشئوا في وطن له ماض في خدمة العلوم والآداب والفنون، وفي هذه الحال يكون من الذوق أن يعتمد الأجانب على المصريين في دراسة التاريخ المصري، وهم قد قبلوا في أكثر مدارسهم أن يدرس ذلك التاريخ باللغة العربية.
وما يقال في التاريخ يقال في الأخلاق والتربية الوطنية، فهذه المواد الثلاث لها اتصال وثيق بشؤون عربية وإسلامية لا يفقهها المدرسون الأجانب إلا في قليل من الأحابين، وهم حين يفقهونها لا يؤدونها بالروح الذي يؤديها به المدرسون المصريون.
وأعتقد أن الأجانب لا يمانعون في أن يتغلب العنصر المصري في مدارسهم، لأن ذلك يحقق التضامن بين المصريين والأجانب، وهو أيضاً يساعد على خلق جوٍ من التعاطف كان انعدامه سبباً في قلة التفاهم بين أولئك وهؤلاء.
والواقع أن الأجانب الذين عرفتهم يتمنون لو ظفروا بالثقة المصرية، فمن واجبنا أن ندلهم على السبيل لكسب هذه الثقة، وهي سبيل واضحة يسير فيها بأمان كل من يؤمن في سريرة نفسه بأن من واجبه أن يعين من يؤتمن عليهم من الشبان المصريين على التزود بأصول التثقيف الصحيح الذي يجعلهم من الوطنيين الصادقين.
الأدب العربي
وبعدما سلف من الإشارات إلى العناصر التي يجب أن توجد في منهج الدراسة في الأقسام الأجنبية نضع الأساس لدراسة الأدب العربي هنالك، ونرى أن تكون المحفوظات كلها من الشعر السهل المقبول الذي يقل فيه المهجور والغريب من الألفاظ.
أما مواد التاريخ الأدبي فتقصر على العصر الحديث مع الاهتمام بالفنون الأدبية الجديدة التي نشأت عن اتصال مصر بالثقافات الأوربية والأمريكية فيكون للشعر التمثيلي وللقصص مكان ظاهر في درس التاريخ الأدبي، ويعنى عناية خاصة بدرس الخطابة البرلمانية ودرس القضايا الشهيرة التي برزت فيها براعة المحامين، ويضاف إلى ذلك درس الصلات بين الأدب والمجتمع، بحيث يشعر التلميذ أن اللغة العربية لا تقل قدرة عن اللغات الأجنبية في الطب لأدواء المجتمع وتعقب أهواء النفوس وأوطار العقول.
ومن البين أنه يجب الاهتمام بدرس تراجم الكتاب والخطباء والشعراء الذين كان لهم تأثير(379/10)
في خلق التطور الحديث من الوجهة الاجتماعية والقومية والذوقية، لأن ذلك يساعد على الأنس بالأدب ويشعر أولئك التلاميذ بقيمة الحرص على المنافع الوطنية عساهم يصيرون في المستقبل من أقطاب المصلحين، وذلك هو المأمول من شبان تعترك في صدورهم جذوات الثقافة الشرقية والثقافة الغربية.
التعاون بين المصريين والأجانب
وحين تحقق هذه المقترحات يكون من الواجب أن نخطو خطوة جديدة في التقريب بين المدارس المصرية والمدارس الأجنبية فنراهم ويروننا في الحفلات وفي الرحلات، ويرفع الحجاب الكثيف الذي يجعل منا ومنهم أمتين مختلفتين، مع أننا نعيش جميعاً في ضيافة النيل.
والله عز شأنه هو ولي التوفيق.
(باحث)(379/11)
بين مصر والعراق
للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم
مما استرعى نظري في نسخة من جريدة الهدف العراقية صورة شمسية تهول وتروع للدكتور زكي مبارك، وما كدت أقرأ بضعة أسطر فيها حتى بان لي أن العدد كله قد خصص لتكريم الدكتور والاحتفاء به والإشادة بفلسفته وعلمه، فانطلقت ألسنة الأدباء العراقيين بالثناء عليه، وانبرت أقلامهم لتسجيل أدبه، وحفظ أثره، ووصف براعته في الكتابة التي تساوق براعته في الشعر.
وإنها لمدحة حقة صادفت أهلها، وحلت محلها، وجاءت تخليداً للمحمدة الباقية التي تفضلت الحكومة العراقية فأسبغتها عليه، إذ أكرمته بوسام الرافدين تقديراً لمجهوده، ومعرفة لمعروفه
وإن عرفان الجميل، وتقدير أعمال العاملين، وإعطاء الحق لمستحقيه، لهى فضائل طيبة عزّ وجودها في هذا الزمان الذي ابيضت عينه، وغاض معينه، وقل خيره، وكثر شره وضيره، وأغمطت فيه الحقوق، واشتد به بلاء العقوق، ولكن إخواننا العراقيين قد رفعوا فيه لواء هذه الفضائل، وتحلوا بحللها وحلاها وتلك بعض مناقبهم الغراء، وشيمهم الشماء.
وليس بمستغرب أن يشغف الدكتور بالعراق حبّاً؛ وأن يولع بالعراقيين وآثارهم وأخبارهم وأيامهم وتواريخهم وسائر أحوالهم فإن ميله إليهم قد خالط منه اللحم والدم، وأصبح جزءاً من عاطفته وضرباً من تعصّبه وشطراً من فطرته ولوناً من غذائه الروحاني ومقومه النفساني.
فهو حينما يخطر بباله خاطر عنهم - وما أكثر توارد هذه الخواطر الملحّة على ذهنه - تراه يتهلّل بشراً، ويسترسل في الحديث عن مفاخرهم ومآثرهم استرسالاً يأسر انتباه السامعين ويملك لبّهم، لحلاوة الأسلوب وحسن الأداء ولطف القول؛ ويجذب نفوسهم بما في حديثه من الطرائف والطرف، والروائع والتحف وكل ما يستهوي ويستميل.
وما أكثر المصغين من المعجبين ببلاد العراق الذين يشعرون بمثل ما يشعر به الدكتور من تقدير لها وميل نحوها، ويحسّون مثل ما يحسّه قبلها من عواطف نبيلة واتجاهات شريفة.
ولا ريب أن المودّة والمحبة والرغبة الصادقة المتبادلة بين الأقطار الشرقية لتزداد قوة على(379/12)
ممرّ الأيام وكرّ الأعوام، فتصل بين أطرافها، وتربط بين أنحائها، وتوثق العلاقة بينها من أقصاها إلى أقصاها، إلى أن تجعل منها وحدة متماسكة الأجزاء لا انفصام لها ولا انفصال، فإن روابط الجنس واللغة والدين قد صيّرت الممالك الشرقية توائم، بل وطناً واحداً محبباً إلى كل النفوس هنا وهناك، وقد تنبهت أممنا إلى هذا الترابط، فأخذت تفكر فيما كان عليه السلف من علوم وثقافة ومعارف لإحيائها وبعثها من جديد في صورة شرقية غربية سليمة، وإن تعاون الأدباء في العصر الحاضر على نشر هذه الثقافات ليبشر بمستقبل جديد باهر تصفو فيه الحياة الروحية من شوائب الغربيين ولوثات المحدثين المارقين.
فإن التخلص من البدع الزائفة التي دخلت في عقائدنا وأعمالنا وتصرفاتنا وتقاليدنا وسائر أحوالنا لمن أهم ما يجب البدء به في هذا الإصلاح الذي ينشدونه للأمم الشرقية، إذ يرجع بنا - نحن الشرقيين - إلى الأصول الأولى الحقة المبرأة من كل زيف، ومن كل مستحدث من البدع والتقاليد الضارة، وبذلك تتحد وجهات الأنظار وتتفق مسارح الأفكار؛ وتقوى أممنا بالاتحاد في الحق والائتلاف في الفضيلة، وتخرج من التطور الفاسد إلى التطور الصالح المؤسس على الفضيلة والحق؛ فتجتمع القلوب بحكم الطبيعة، وتتوحد الغابات، وتتبين المثل العالية، والأهداف البعيدة الرفيعة.
وما أحوجنا إلى من ينهض بالشرق نهضات أدبية وخلقية واجتماعية، بعد أن تناثرت أجزاؤه، واضمحلت هيئته، وضعف التئامه وقد كاد يتداعى للانحلال.
أدرك هذه الحال رجال من العلماء المثقفين والأدباء المخلصين فأخذوا في هذه الأيام يجاهدون بأقلامهم وقلوبهم ونفوسهم في سبيل الدعوة إلى اتحاد الشرق ليكون جسماً واحداً هائلاً كبيراً، قوي البينة، سليم الهيئة، تتعاون أعضاؤه، وتلتحم أجزاؤه.
وكم بذلوا من وقت ومال، وعلم مذخور، في صون حقوقه وحفظ ملته وحياته من الضياع، فصوبوا معاولهم الأصول الفاسدة لهدمها وتقويضها، وأكثروا من الكتابة في المجلات والصحف لتأسيس الأصول الصالحة للمدنية القوية النافعة، وتعهدوها بآرائهم وفلسفتهم وجهادهم حتى تكون كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وكم أنحوا على المقلدين للغربيين تقليداً طائشاً لا نفع فيه، وعابوا عليهم انتحالهم أطوار الأوربيون التي لا تتلاءم مع الأوضاع الشرقية، ولا تتناسب مع الحياة الإسلامية، حتى(379/13)
كادت تجعل حياة الشرقيين وعاداتهم خليطاً من القشور ومزيجاً من المظاهر الخلابة التي لم تخلق لنا ولم نخلق لها، وما كانت لتوائم طبيعتنا، أو توافق أذواقنا؛ لأنها إنما نقلت إلينا نقلاً فيه تعسف كما ينقل النبات قسراً من بيئة يجود فيها ويترعرع، إلى بيئة أخرى لا تلائمه ولا تعينه على النمو والنضارة، فلا يلبث أن يكون حطاماً لا خير فيه، وحطباً لا حياة به، وهشيماً تذروه الرياح.
فأهابوا بالشرقيين أن يأخذوا بأسباب النهضات القديمة، وأن يقتدوا بالسلف في صدر الإسلام وفي العصور الأولى الزاهرة، وأن يستمدوا من أدبهم ومعارفهم وثقافتهم ما يقربهم إلى الخير، ويبعدهم عن الضير، فكان لهذا الجهاد شيء من الأثر الطيب في إزالة بعض الحواجز القائمة بين شعوب الشرق، والقضاء على بعض الحجب الكثيفة الحائلة بين أممه والحق، والتي خلقها خلفاً أولئك الذين يمجدون حضارة الغرب، وينتقصون أعمال الشرق فكانوا نكبة على بلادهم، ومنافذ فيها يدخل منها الأعداء إليها؛ لأنهم وأمثالهم شؤم على أبناء أمتهم يمهدون السبيل ويفتتحون الأبواب لأرباب الغابات والمطامع والحضارات الفاسدة، ومن آيات الجهاد تلك النزعة الجديدة القوية التي ترمي إلى إظهار الحضارة الشرقية - وهي أصل الحضارات كلها - لتبرز للوجود، وتحل في الميدان، فلا تلبث الفوارق أن تضمحل، وتتابع الكوارث، ونزول المصائب والأهوال، وهي التي أوجدت في الشرق يقظة ظاهرة، وربطت أفراده بوشاح متينة لا تقل في قوتها عما بينهم من روابط النسب والجنس والدين واللغة والإنسانية، وبعثت فيهم روح المقاومة لدفع ما هو باطل، ومحو ما هو فاسد، وجعلتهم لا يغفلون عن مصيرهم ولا يستسلمون لإرادة سواهم، ودفعت نفوسهم إلى اتخاذ الوسائل للنهوض فيما أحبته، والتخلص مما كرهته.
وإن هذه المقاومة الروحية والعملية لتبقى عنيفة شديدة في الأمم الشرقية الناهضة ما بقي فيها رمقة من عيش، ومسكة من ضمير؛ وما دامت تسترشد بنور إيمانها، وتعمل بقوة عقيدتها وما بقي فيها رجال مخلصون، وعلماء ناهضون، وأدباء مثقفون، يقومون برسالة الحضارة العربية الشرقية، ويسعون لها سعيها، وهم مؤمنون بها، وأولئك كان سعيهم مشكوراً.
فإن الله إذا أراد بقوم خيراً جمع كلمتهم على الحق والهدى، وألف بين قلوبهم بصلات(379/14)
المودة والمحبة وإن بعدوا وتناءت ديارهم وشط مزارهم، فينالون شرفاً رفيعاً، ومقاماً محموداً.
محمد أبو بكر إبراهيم
المفتش بوزارة المعارف(379/15)
كلمة في القرآن
(إلى كبار العلماء، ومشيخة القراء، وجماعة الأزهر المعمور)
للأستاذ على الطنطاوي
قال لي صديق عالم في بعض حديث كان بيني وبينه: ما بال أحدنا يأخذ ديوان المتنبي مثلاً، فما يدع منه واحدة حتى يقتلها فهماً، ويحيط بأسرارها علماً، ويغوص على جواهر معانيها، ويتبع خفيف إشاراتها، وبعيد كناياتها، حتى ينتهي إلى مراد الشاعر منها، وقد تنطبع على صفحة قلبه آراء الشاعر فيؤمن بها إيماناً، ويتخذها قدوة وإماماً، وربما يدل ذلك من خلائفه، وعدل من سلائقه، مع أن ديوان المتنبي، وإن علت في الكلام مرتبته، وسمت في البلاغة منزلته، لا يعدو أن يكون كلام مخلوق يخطئ ويصيب، وليس من شأنه أن يكون كتاب هدى ولا إرشاد. . . ثم نتلو القرآن أناء الليل وأطراف النهار، فلا يأمرنا ولا ينهانا، ولا يكون له أثر في حياتنا، وٍالقرآن كلام الله رب العالمين، أنزله رحمة وهدى للناس أجمعين؟
تأملت فوجدت كلامه حقاً، فأطلت التفكير فيه، فرأيت النقص إنما دخل علينا من أنفسنا لا من القرآن، والقرآن لم يزل على ما كان عليه يوم أخرج من الأمة البدوية الجاهلة خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر، وأعطاها مقاليد الأرض، ففتحت بها ما بين مشرقها والمغرب. . . فما له اليوم وما لنا؟ وكيف غدونا وأمورنا في يد كل واغل علينا، يغلبنا كل مغلب، ويستنسر في أرضنا البغاث، ومن إذا استغاث لا يغاث، وإن أتى في عقر بيته لم يملك دفعاً ولا منعاً؟
النقص منا لا من القرآن، فلو أنّا أخذنا القرآن على وجهه ولم نعدل به عما أنزل له، لم نذل، والقرآن بين أيدينا، وبالقرآن عز من عز من أسلافنا.
نزل القرآن آمراً وناهياً، ومذكراً وواعظاً، وكان للمسلمين دستوراً وقانوناً، فلم نفهم منه إلا أنه كتاب تبرّك، نتخذه تمائم ورقي، أو نتلوه تلاوة تطريب وتلحين، وتطربه وتليين، نؤخذ بحلاوة صوت القاريء، وبراعة إلقائه، وحسن تصرفه في ألحانه، ولا نتنبه الانتباه المطلوب إلى المعاني، ولا نخشع الخشوع اللائق بمن يسمع كلام الخالق، وإن كنتم في شك من الأمر فاسألوا من يفتح (الرادّ) لسمع قراءة الشيخ محمد رفعت، أكان يسمع لو قرأ غيره(379/16)
ممن لم يؤت الجرس الحلو ولا اللحن المطرب؟ واسألوهم ألا تهزم (سحبة) صبا، أو (حطّة) على الرصد، أكثر مما تهزم معاني كلام جبار السماوات والأرضين؟
أما إنه لا جدال في وجوب ترتيل القرآن وتجويده، وضبط مخارجه وأحكامه وأدائه، أما أن يكون القصد من الإصغاء إليه الطرب، والغاية من تلاوته الإطراب، فلا، ثم لا. . . وما مثل من يفعل ذلك إلا مثل ضابط في الجيش بعث إليه القائد برسالة فيها بعض أمره ونهيه، فلا هو ائتمر ولا انتهى ولا فهم معناها ولا حاول، وإنما قبلها ووضعها من التعظيم على جبينه ثم تلاها خمسين مرة، يتغنى بها ويرتلها، ثم جعلها تميمة تعلق على الصدر. . . ولله المثل الأعلى!
وقد حدثني الصديق الفاضل الأستاذ عبد المنعم خلاف أن في مصر قارئاً (سمّاه ونسيته) إذا قرأ أعطى المعاني حقها ففخّم وهوّل عند وصف العذاب، ورقق وجمّل عند ذكر النعيم، وحكى رنة صوت المستفهم والمتعجب عند الاستفهام والمتعجب، فإذا صار إلى آخر الآية ليسمعه الناس فيكون قدوة للقارئين صالحة؟ إن القائمين على أمر الإذاعة يحسنون صنعاً إذا سألوا الأستاذ خلافاً عن اسمه ودعوه. . . وأنا واثق أنهم لن يفعلوا!
هذه هي حال القراء، جعلوا القرآن كالغناء، بل ربما عدوه سلماً إلى الغناء! ألا ترى إلى بعض المطربات المصريات المشهورات، كيف ابتدأن قارئات، فارتقين حتى صرن مغنيات؟ أو لا ترى أن من كتاب الرسالة من ذكر المغنين مرة فعد الشيخ محمد رفعت في أهل الغناء؟
ثم إن القراء خصلة أخرى.
ذلك أن منهم من أولع بالقراءة على السبع، في المساجد والمجامع، يكرر الآية الواحدة على الأوجه المختلفة، فلا يأتي من ذلك إلا فتنة العامة، وتشكيك الجهلاء، وما يخالط القارئ من العجب والزهو، وذلك ما لا يستحبه الشرع. ولقد ثبت في الحديث أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، تسهيلاً على العرب المختلفة لغاتهم، وكانوا يقرؤون عليها جميعاً، حتى إذا كان زمان عثمان رضي الله عنه، وسيطرت لغة قريش أو كادت، وتوحدت اللغات ولم يبق للسبعة الأحرف من فائدة إلا اختلاف الناس، أمر عثمان بالاقتصار على واحد منها ومنع ما عداه، وكتب المصحف الإمام وبعث به إلى الأمصار، واقتصر الناس على الحرف الواحد(379/17)
حتى نشأ النحاة وأهل اللغة والقراء، فوقع بينهم اختلاف يسير في حركة أو إمالة أو مد أو همز فكان من ذلك القراءات السبع، وهي على حرف واحد وليست على الأحرف السبعة كما يظن بعض من لا علم له. . .
فإذا كان عثمان قد أمر بالاقتصار على حرف واحد من الحروف السبعة المنزلة ضماناً للمصلحة، فلم لا نقتصر على قراءة أو قراءتين فقط من القراءات السبع نقرأ بها في المساجد والمجامع، وندع لمن شاء من المتخصصين أن يحفظها ويرويها كلها من غير أن يذيعها على العامة الذين لا يعرفون إلا قراءة حفص في المشرق كله وورش عند المغاربة؟
هذا رأي فيه المصلحة، وهو من روح الشريعة التي تكره الاختلاف والفتنة أرجو من سادتنا العلماء المقلدين المقدسين لكل ما درجوا عليه الثائرين على كل رأي جديد، أن يفكروا ويتثبتوا قبل أن تقوم قيامتهم عليّ!
أما العامة وأشباههم فإن أكبر همهم أن يستكثروا من المتلوّ ولو أهملوا قواعد التجويد، ويتسابقون إلى الختمة، ولو قرؤوا شاردة أذهانهم؛ حتى أن لي عمة عجوزاً تقرأ كل يوم ختمة وتفخر بذلك، مع أن عمر بن الخطاب وهو أعلم من عمتي - ولو لم تقر بذلك - أنفق دهراً في البقرة حتى قرأها فقيه متدبر. . . وسبب هذا التسابق على الاستكثار من المقرؤ اعتقادهم أن للتالي بكل حرف عشر حسنات ولو قرأ قراءة ببغاويه. . .
ولندع هؤلاء ولنعرج على العلماء فنسألهم إذا لم يكونوا ممن يحرم الاجتهاد، ويرى أن الأئمة قد استنبطوا من القرآن كل شيء، ولم يبق إليه حاجة إلا استنباط. . . البركة!
نسألهم: كيف يتدبر القارئ الآيات للتدبر المطلوب، وليس عند المسلمين إلى اليوم تفسير لمعاني القرآن مختصر، حاوٍ لأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وبيان المحكم والمتشابه، خالٍ من فروع النحو والبلاغة ومسائل الفلسفة، مبرأ من الأكاذيب والإسرائيليات وتضارب الروايات في وضوح عبارة وبيان إشارة يفهمه الغبي قبل الذكي، وطالب العلم قبل العالم؟ ومتى يظهر التفسير الذي انتهى إلينا من سنوات عزم إدارة الأزهر على إخراجه للناس، وأنها ألفت له لجنة وسمّت لها رجالاً؛ فما صنع الله بلجنته ورجالها؟
وإذا لم تكن لجنة أفليس في العلماء من يستطيع أن يؤلف هذا التفسير لمعاني القرآن، لا كتفسير الجلالين المخل باختصاره ولا كالنسفي المقصور على النحو، ولا كالكشاف المعنيّ(379/18)
بالبلاغة، ولا كالفخر الرازي المترع بالفلسفة والعلوم والإشكالات والردود، ولا كالخازن الفياض بالإسرائيليات المكذوبة، ولا كالطبري الذي يشتمل على الروايات الكثيرة المختلفة، ولا كتفسير طنطاوي جوهري الذي حشد فيه من قضايا العلم الطبيعي التي لم يكن من أهلها ما لم يدع مكاناً للتفسير، ولا كتفسير المنار المطول الذي يشبه دائرة معارف تحتاج إلى عمر كامل، بل يأخذ من كل مزايه ويجتذب عيوبه، ويضم على ذلك ما لم يكن يدركه المتقدمون.
هذا ولم نزل نسمع بالإعجاز، ونعرف عجز العرب وهم شياطين البلاغة ومردة القول، عن أن يأتوا بمثل سورة من القرآن برغم التحدي الموجع، والاستفزاز البين، وقد قرأنا ما كتب في بيان الإعجاز وأسراره من لدن عبد القاهر والباقلاني إلى الرافعي ولكنا لا نزال نجهل أسرار الإعجاز، ولا نجد في كل ما كتب ما يبرئ من علة، أو يشفي الغلة، على طول البحث، وامتداد الزمان، حتى كدت أقول بالصرفة كما قال المعتزلة، فمتى يؤلف في الإعجاز الكتاب الذي يضع أيدينا على سره حتى تلمسه لمساً؟
إن كتاب الرافعي في حسن عرضه، وبلاغة عبارته، وصفاء ديباجته، يكاد يكون معجزاً لكتاب العصر عن تأليف مثله، ولكن اقرأه، ثم أطبق الدفتين ولخص لي رأيه في الإعجاز، وقل لي ما هي (نظريته) فيه؟ وهل تشبع الباحث، وتروى ظمأ الحيران؟
هذا وإن ما تقدم من تصحيح التلاوة، والتفسير والبحث في الإعجاز، إنما هي مقدمات، وجوهر الموضوع في دعوة العلماء إلى العودة إلى القرآن والسنة، ودرسهما دراسة المجتهد الفقيه المتبصر، واستنباط الأحكام منهما، وتنقية عقائد المسلمين مما يخالفهما، والفتوى بهما لا بالدر وحواشيه، ولا بأقوال أئمة المذاهب، فإنهم على ما بذلوا رحمهم الله وما أحسنوا، إنما راعوا مصلحة الناس في زمانهم، واعتمدوا العرف المعروف في أيامهم، والقرآن لكل زمان ومكان. وليس القصد أن ندع المذاهب جملة، ونأمر الناس جميعاً بالاجتهاد، فهذا ما لا يقوله ذو مسكة من عقل، ولكن القصد النظر في أدلة الأحكام الفقهية، فما كان دليله النص فلا مساغ للكلام فيه، وما بني على العرف يتغير بتغيره، وهذا معنى القاعدة المعروفة: (لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان).
فأفهموا الناس أن القرآن لم ينزل ليكون تمائم ورق، ولا ليتخذ منه غناء وطرب، ولكنه(379/19)
(كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتنى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هدى إلى صراط مستقيم.
علي الطنطاوي(379/20)
دولة الأدب في حلب
سيف الدولة بن حمدان
للدكتور محمد أسعد طلس
ما نعرف أن حلباً أو الشام كله قد أصاب عهداً أحفل بالعلماء والأدباء والشعراء والحكماء والأطباء من عهد سيف الدولة أبي الحسن علي بن عبد الله بن حمدان عظيم الدولة الحمدانية؛ فقد كان بنو حمدان (ملوكاً أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة؛ وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم، وكان رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه غرة الزمان وعماد الإسلام ومد به سداد الثغور وسداد الأمور، وكانت وقائعه في عصاة العرب تكف بأسها، وتنزع لباسها، وتفل أنيابها وتذل صعابها وتكفي الرعية سوء آدابها. وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال ومحط الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء. ويقال إنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ العصر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز لما يمدح به وكان علي عالماً وفقيهاً يناقش العلماء ويطرب لمحادثتهم ومناظراتهم كما كان شاعراً له الشعر الجيد والتشبيه الملكي، ولم يبق لنا الدهر من شعره إلا نحو خمسين بيتاً ذكرها من ترجم له وأكثرها مذكور في اليتيمية، ومن أجود شعره قوله:
أقبله على جَزَع ... كشرب الطائر الفَزعِ
رأى ماءً فأطعمَه ... وخاف عواقبَ الطمعَ
وصادف فرصة فدنا ... ولم يلتذ بالجُرعِ
وهو كما ترى شعر لطيف يدل على خفة روح ورشاقة خاطر لما تضمنه من صور سريعة وجميلة. ومن أجمل شعره أيضاً بل من أجمل الشعر العربي في موضوعه قوله في وصف ساعة من ساعات اللذة زانها ساق صبيح وقوس قزح رائع:
وساق صبيح للصَّبوح دعوته ... فقام وفي أجفانهِ سنة الغَمض
يطوف بكاسات العُقار كأنجم ... فمن بين مُنفضْ عليها ومنقض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارقاً ... على الجو دكناً والحواشي على الأرض(379/21)
يُطرزها قوسُ الغمام بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيضِّ
كأذيال خَوْد أقبلت في غلائل ... مُصبَّغة والبعض أقصر من بعض
هذا والله الشعر المرقص لما فيه من صور حية ومعان جميلة، ولا سيما تلك الصورة الفنية الرائعة للقوس بألوانه الجذابة واستدارته الرائعة. وقد كنت أود أن أجمع هنا ما انتثر من شعر أبي الحسن في بطون كتب الأدب ولكني أرجئ هذا إلى أن أظفر بشيء أكثر مما جمعت.
أما عناية أبي الحسن بالعلم فما كانت أقل من عنايته بالأدب ورجاله فقد كان مغرماً بنفائس الكتب وجياد الآثار العلمية. وقال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام: (كان بجامع حلب خزانة كتب كان فيها عشرة آلاف مجلدة من وقف سيف الدولة وغيره). وكان معنياً أيضاً بجمع الأطالس والآلات الفلكية، فقد ذكر الأستاذ أحمد تيمور باشا أن في دار الكتب المصرية نسخة مصورة من أطلس قيم ينتظم أشكال الكواكب وأطوالها وهي مما ألف للأمير العالم سيف الدولة بن حمدان. وكان يستكثر من الحكماء والأطباء والفلاسفة ويقربهم من مجلسه ويشجعهم على التأليف والترجمة ونشر العلم. . . قالوا: وكان إذا أكل الطعام وقف على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، وكان فيهم من يأخذ رزقين لتعاطيه علمين، ومنهم من يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم، وفي دائرة المعارف الإسلامية: (أن الفضل الذي ناله سيف الدولة بنشر العلم والأدب واللغة لهو مجد عظيم لا يقل عن مجده في أعمال السياسة والحروب).
وأما عطاياه التي كان يغدق على أهل العلم والأدب فحدث عنها ما شئت. وقالوا: إنه صنع دنانير خاصة للهبات والعطايا زنة كل دينار منها عشرة مثاقيل، وكان على هذه الدنانير اسمه وصورته وقد عقد الثعالبي فصلاً في انفجار ينابيع جوده على الشعراء. قال أبو الحسن الحمداني: كنت واقفاً في السماطين بين يدي سيف الدولة بحلب والشعراء ينشدونه، فتقدم إليه أعرابي رث الهيئة فأستأذن الحجاب في الإنشاد فأذنوا له فأنشد:
أنت عليُّ وهذه حلب ... قد نفد الزاد وانتهى الطلبُ
بهذه تفخر البلاد وبالأ ... مير تزهى على الورى العربُ
وعبدُك الدهرُ قد أضرَّ بنا ... إليك من جور عبدك الهرب(379/22)
فقال سيف الدولة: أحسنت، والله أنت، وأمر له بمائتي دينار، ومن هذا الإسراف والعطاء بلا حساب ما رواه صاحب اليتيمة من أبا فراس كان يوماً بين يدي سيف الدولة في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة: أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي (يعني أبا فراس):
لك جسمي تعُله ... فَدَمِي لِمْ تحِله
لك من قلبي المكا ... نُ فَلِمْ لاَ تحُله
فارتجل أبو فراس:
أنا إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه سيف الدولة وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألفي دينار وقصص ينابيع جوده على الشعر أكثر من أن تحصر فقد كان يغدق على من يقصدونه المال الجسيم ويبعث إليهم بالثياب والماشية والوصفاء.
كان من نتيجة هذا العطاء الراجح واليد الطولي أن اجتمع لدى أمير حلب جمهرة من العلماء الفحول أمثال: ابن نباتة، وابن خالويه، والفارابي، وأبي على الفارسي، وكشاجم، والخالديين أبي بكر وأبي عثمان، والصنوبري، والمتنبي، والوأواء، والببغاء، والناشئ، والنامي أبي الحسن السميساطي، وأبي الطيب اللغوي، والسري الرفاء، وأحمد البازيار، وأبي فراس، وعلي بن عبد الملك القاضي، وأبي سلامة القاضي، والطبيب عيسى الرقي. . . وغيرهم من رجال الأدب والعلم الذين سنقف عند كل منهم وقفة نبين فيها آثاره من علم وأدب إن شاء الله.
لم تقف حركة سيف الدولة الأدبية والعلمية على الشام فحسب بل تعدته إلى العراق وفارس، فهذا أبو الفرج الأصفهاني يأتيه من العراق، فيستظل بظله الوارف، ويفيد من عطاياه حين يقدم إليه أول نسخة من كتابه الفريد. وهذا أبو الفرج عبد الواحد الببغاء يأتيه من نصيبين فيصيب عنده مالاً وجاهاً.
وممن أفادوا من رعايته من شعراء بغداد ابن نباتة السعدي، وله في سيف الدولة شعر رائق جزاه عليه أفضل الجزاء، ومن أدباء فارس أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، وكان يقول: (ما فتق قلبي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ بي هذا المبلغ إلا تلك الطرائف الشامية واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي، وغصن(379/23)
الشباب رطيب ورداء الحداثة قشيب) ونحن إذا رحنا نتتبع الفضلاء الذين أموا حلب وأفادوا من سيدها وأميرها وعالمها في القرن الرابع للهجرة ذكرنا العدد الجم مما لا مجال لسرد طرف منه في مقال كهذا.
ظلت بقايا هذه الحركة الحمدانية في حلب بعد أن انقرضت دولة بني حمدان؛ فنحن نجد في القرن الخامس للهجرة - على اضطرابه السياسي والاجتماعي - حركة علمية قوية أفاد منها أبناء الشام كافة. وليس أدل على ذلك مما حفظه لنا أبو عبد الله الكاتب الأصبهاني في (جريدة القصر وجريدة أهل العصر) من الشعراء والأدباء الحلبيين والشاميين في القرن الخامس ممن لم نسمع بذكرهم ولا يعرف عنهم الأدباء المعاصرون شيئاً، فان نظرة واحدة إلى ما احتواه هذا السفر القيم من تراجم الأدباء الشاميين تؤيد ما نريد الذهاب إليه من أن الحركة الأدبية التي قام بها سيف الدولة ظلت تنتج حتى أواخر القرن الخامس، وممن أفاد من هذه الحركة أبو العلاء المعري، فقد ذكر ابن العديم المؤرخ الحي في رسالته (الإنصاف والتحري) أن أبا العلاء بعد أن تلقى العلم واللغة والنحو بمعرة النعمان على والده. . . دخل وهو صبي إلى حلب، فقرأ بها على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي راوية أبي الطيب المتنبي وعلى أبي بكر محمد بن مسعود النحوي. . . وممن أفاد من هذه الحركة أيضاً ثابت بن أسلم الشيعي قيم خزانة حلب وكان من كبار النحاة والقراء، ومنهم علي بن منصور بن طالب المعروف بابن القارح وهو الذي كتب إلى أبي العلاء رسالته المشهورة فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران.
أما بعد فهذه صفحة من صفحات تاريخ حلب الأدبية الخالدة التي خلفها ابن حمدان فرفع اسم حلب عالياً وخلده في سجل الدب العربي، وما يضير ابن حمدان أن يأخذ عليه بعض المؤرخين أنه كان جائراً على رعيته فإنه ما كان يجور عليها إلا ليحارب العدو بأموالها أو لينفقها في سبيل تعليمها وتأديبها.
محمد أسعد طلس(379/24)
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 1 -
كانت هذه الحرب القائمة في شهرها الأول عندما حملت أنباء البرق نعي العالم النفساني الكبير (سيجموند فرويد) الذي أثار في حياته حرباً كلامية وقلميه لا تقل عنفاً عن حروب المدافع والقنابل، وأحدث في علمي الطب والنفس ثورة وانقلاباً لا يقل مداهماً عما تحدثه المدافع والقنابل في طبيعة الأرض وما تخلفه الحروب من تغيير في أحوال البلدان وطبيعة العمران ونفس الإنسان
ذلك هو (فرويد) الذي توفى في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر سبتمبر من السنة الماضية، أي منذ عام تقريباً، في منزله بهامستيد بإنكلترا عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في خدمة العلم باحثاً منقباً، خالقاً مبدعاً، لا تثنيه عن عمله هجمات مناوئيه، ولا تشغله عن أغراضه أمور الدنيا ومشاكل العالم، مخلصاً لفكرته، معالجاً لأبحاثه، ساعياً وراء غاياته، حتى ركز علماً قائماً على التحليل النفسي وعلاقته بالغريزة الجنسية، وأحدث حدثاً لم يقتصر أثره على الطب ومعالجة الأمراض العصبية وعلى علم النفس وتداخل الغريزة الجنسية فيه، بل تعداهما إلى الفنون والأدب.
ولد (سيجموند فرويد) بمدينة (فريبرج) الصغيرة بالنمسا في 6 أغسطس سنة 1856 وتلقى فيها التعليم الابتدائي ثم انتقل إلى فينا ودخل جامعتها ودرس الطب فيها، وبينما كان يشعر في قرارة نفسه بزهد في هذا العلم، وقد كان صريحاً حين كتب متحدثاً عن نفسه: (لم أشعر في طور الشباب وبعده بميل خاص لمهنة الطبيب أو مركز الطبيب من المجتمع.) ثم أضاف إلى هذا قوله: (على أنه كان يحركني نوع من الظمأ للمعرفة يتجه خاصة إلى الصلات الإنسانية أكثر منه إلى الأشياء الطبيعية.) وإذا عرفنا أنه ليس في علم الطب مادة تعرف بالصلات الإنسانية فهمنا كيف وصف نفسه بأنه كان يؤدي واجباته في الأبحاث الجامعية (في كثير من الإهمال) وكيف وجه دروسه في الوقت نفسه إلى اتجاهات أخرى،(379/25)
وعلى أنه بالرغم من هذا التقصير وذلك الزهد فاز بشهادة الطب سنة 1881، وكان في مؤخرة الناجحين.
لم تكن مهنة الطب لتغري ذلك الطبيب الشاب بالرغم من فقره وحاجته إلى دخل يعيش به. فدفعه ميله إلى علم النفس إلى التخصص في مادة تتصل بهذا العلم وهي تشريح الدماغ والتحليل النفسي عامة، لأن الطب لم يكن قد قرر أن لكل فرد حالة نفسية يجب فحصها ودرسها على حدة، وهو ما استحدثه فيه (فرويد).
وقد تتلمذ فيما تخصص له على أستاذين اشتهرا بعلم التشريح وهما (بروك) و (مينير) فلم يلبثا أن لمسا في الطالب ميلاً طبيعياً إلى الاستكشاف المبدع.
نال (فرويد) سنة 1885 درجة (أجريجاسيون) في علم الأعصاب، وهي درجة يحسد عليها لأنها تدر عليه المال الوفير، ولكنه عندما أخذ يعالج مرضاه برزت فيه ميزة خاصة لازمته طول حياته وهي طول المراقبة وإنعام الفكر في الأسباب والنتائج.
كان يعرف أن الأساليب التي كان أطباء (فينا) يتبعونها في معالجة المصابين بالأمراض العصبية غير ناجحة ولا شافية، وكان قد بلغه كيف طرد شر طردة من عاصمة بلاد النمسا (فرانز أنطون ميسمر) حين شاء أن يدخل التنويم المغناطيسي على الطب، فضاق فرويد ذرعاً بحالته ولم يجد له وسيلة ليتخلص بها من سيطرة أساتذة الجامعة على الأطباء عامة.
في تلك الحقبة من عمره بلغه أن بباريس طبيباً يعالج الأمراض العصبية والنفسية على طريقة تختلف تمام الاختلاف عن طريقة الأطباء النمساويين، وهو (شاركو) المتخصص في علم تشريح الدماغ، وأنه يقوم بتجاريب عجيبة بوساطة ذلك الفن المستحدث الممقوت في بلاده، وهو التنويم المغناطيسي، فسعى (فرويد) حتى حصل على إعانة من الحكومة تساعده على السفر إلى باريس، وقد سافر فعلاً في سنة 1886 فوجد فيها جواً غير الجو الذي ألفه من قبل؛ وطالع كتاب الطبيب الفرنسي الكبير المسمى (الإيمان الشافي) فعرف الوسائل التي يدرس مؤلفه بواسطتها الحالات النفسية التي أحاطت بالعجائب التي روتها كتب الدين والتي كان الطب ينفيها إلى ذلك العهد.
شهد (فرويد) لأول مرة في حياته طبيباً يأبى أن يرى في (الهستيريا) مرضاً يصطنعه العليل أو يتظاهر به، كما كان يقرر أطباء النمسا، ويعترف بأنها مرض نفسي، بل لعله(379/26)
أجدر أنواع هذا المرض بالعناية والاهتمام، ويدلل على أنه نتيجة اضطرابات داخلية يجب أن تكون لها أسباب نفسية، وقد برهن (شاركو) في محاضراته على أنه يستطاع شفاء هؤلاء المرضى بالإيحاء في حالات تنويمهم مغناطيسياً لأن علتهم خاضعة للإرادة وليست ظاهرة جسمية.
تأثر (فرويد) بما طالع وسمع وشاهد، وعرف أن بباريس من يعترف بأنه في معالجة الأمراض العصبية، لا يجب أن يحسب حساب الأسباب الناتجة عن الطبيعة فقط، بل الناتجة عن النفس وما وراء النفس أيضاً.
وعرف (شاركو) قدر تلميذه كما عرفه من قبل أساطين الطب النمساوي فقربه إليه، وصيره من أخصائه، ورغب إليه في نقل كتبه إلى الألمانية.
أقام (فرويد) بباريس شهوراً معدودة، ثم عاد إلى وطنه؛ وكان يشعر أن (شاركو) يسلك في علمه طريقاً غير الطريق السوي الذي يحلم به، لأن (شاركو) كان لا يزال يعني بالجسم ولا يتوجه تماماً إلى ما يجب أن يتوجه إليه من الناحية النفسية، على أن هذه الشهور التي قضاها بباريس أذكت في نفس الطبيب الشاب إرادة حملته على التحرر من الماضي، وشجاعة دفعت به إلى السير في المنهج العلمي الذي اختطه لنفسه.
قدم (فرويد) إلى الجامعة، بعد عودته من باريس، تقريره عن الدروس التي شهدها والعلوم التي استفادها والنتائج التي انتهى إليها، فابتسم أساتذتها عندما طالعوا فيه أن في الإمكان استحداث عوارض الهستيريا في الجسم العليل، وضحكوا عندما انتهوا إلى أن هذا الداء يصيب الرجال أيضاً، وكان هؤلاء الأساتذة يعطفون عليه في أول أمره، ولكنهم أخذوا يزدرونه عندما رأوه يمعن في آرائه ولا يحيد عنها، فأقفلوا في وجهه باب الجامعة، ونحوه عن جمعية الأطباء، فلم يفز بكرسي مدرس فوق العادة إلا بعد لأي، وبعد أن توسطت له مريضة سرية من اللواتي عالجهن، وكانت ذات نفوذ فعال، وقد ظل طيلة حياته أستاذاً ملحقاً غير أصيل، وعندما احتفل ببلوغ السبعين من عمره لم تعن جمعية الأطباء بتهنئته.
على أن هذا جميعه لم يفل من عزيمة (فرويد) ولم يحط من جهوده، فقد أكب على العمل منذ صباه جاداً مجتهداً وعاش حياته كلها على وتيرة واحدة.
أقام (فرويد) أكثر من سبعين سنة بمدينة فينا لا يغادرها؛ وقد رحل عنها بعد أن اضطر إلى(379/27)
ذلك اضطراراً عندما ضمت ألمانيا النمسا إليها وفرض النازيون في هذه البلاد قوانينهم الجائرة على اليهود، وقد كان يهودياً، فكان من الأفراد القلائل الذين أجيز لهم مهاجرة النمسا وأخذ ما يكفيهم حاجتهم في الحياة.
وقد سكن، أثناء إقامته بفينا، أربعين سنة في منزل واحد لم ينتقل منه إلى غيره ولم يبدل في أقسامه وأثاثه؛ فهنا مكتبته وهناك عيادته التي يستقبل فيها مرضاه، وهذا مجلسه للمطالعة، وذاك مكتبه للكتابة والتأليف.
وبالرغم من أنه رب عائلة، ووالد ستة أولاد، فقد كان يقوم بعمله بنفسه لا يحتاج فيه إلى مساعدة، ولا يعرف شهوة غير شهوة العمل والمهنة.
لم يضيع لحظة من وقته الثمين سعياً وراء مظاهر باطلة وطلباً لألقاب زائلة. وقد كانت آلاف الأسابيع التي تألفت منها حياته تتتابع متشابهة متماثلة في دائرة العمل والاجتهاد، ولا يستثنى منها غير المحاضرات التي كان يلقيها بالجامعة في كل أسبوع من شهور التعليم، وغير مأدبة ثقافية على الطريقة السقراطية كانت تجمع طلبته حوله في مساء كل يوم أربعاء، وغير اشتراكه في لعب الورق بعد ظهر كل يوم سبت.
أما فيما عدا هذه الساعات القلائل فقد كانت كل دقيقة محسوبة عليه يستعملها في معالجة المرضى أو المطالعة أو الكتابة أو الأبحاث العلمية. وكان هذا الرجل الجبار يكتفي بساعات معدودة للراحة والاستجمام ينام فيها نوماً عميقاً ثم يقبل بعدها على العمل بكل ما فيه من حيوية هائلة وإرادة قوية.
كان (فرويد) يعمل نهاراً في عيادته فيستقبل عشرة مرضى أو أكثر، ويدرس حالة كل واحد منهم فاحصاً مدققاً مكتنزاً في ذاكرته كل مظهر من مظاهر عللهم، فإذا أقبل الليل انقطع إلى عمله الخالق المبدع القائم على تدوين النتائج التي انتهى إليها مما شاهده في النهار.
ولا شك أن هذا النشاط العجيب يحتاج صاحبه إلى صحة قوية وجسم سليم، وقد كان (فرويد) كذلك، فهو لم يعرف المرض في سني حياته الطويلة، ولم يشعر بتعب أو وني، ولم تفتر همته ولا ضعفت أعصابه أو تلاشت قدرته على العمل.
وقد أخذ نفسه في حياته العقلية بالصرامة التي أخذها بها في حياته العادية حتى صار مبدأه الوضوح في أعمال الرأي والتفكير والعمل، وصار التحليل غريزة في نفسه لا يستطيع(379/28)
الانفكاك منها.
كان لا يهتدي في تفكيره بغير آرائه الخاصة؛ لذلك كان إذا عرض له أمر ولم يتبين له تفسير يرضى به عقله أبى أن يتخذ من رأي غيره تكأة للوصول إلى غايته، وظل يبحث ويدقق ويفكر حتى يبلغ قصده.
كان قاسياً في تصرفاته، عنيفاً في جدله، صارماً في أوامره، دقيقاً في تحليله، جلداً في البحث عن الحقيقة، حذراً من أن يخطئ في هذا البحث، لذلك لم تكن آراؤه مرتجلة وليدة الحدس أو الصدفة. فقد كان يدير الفكرة في نفسه سنين حتى إذا ثبت له أنها صحيحة أبرزها في جرأة وحرية. وقد صدق من وصفه بأنه كان بطيئاً في الوصول إلى الحقيقة، ولكنه إذا استقر على رأي صار من الصعب نقضه.
(للبحث صلة)
صديق شيبوب(379/29)
عراك في معترك. . .
أي معترك!
للأستاذ زكي طليمات
(بقية المنشور في العدد 378)
بعد هذا التمهيد ننزل إلى مناقشة الأستاذ متولي، وإن كنا في غنى عن ذلك.
يدعى الأستاذ، حفظه الله، أن بشر فارس في مقدمة مسرحيته (أراد أن يفسر الفنون الرمزية فطمسها). وحجته في ذلك كما يقول: (أن بشر فارس يحدثنا في مقدمته بالنزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو) في كتابه (المخيلة الخلاقة) وهكذا يقرر متولي أن بشر يخلط بين ألوان الرمزية!
وقد رجعنا إلى هذا الكتاب وتتبعنا ما ذهب إليه متولي فوجدنا - ويا للعجب - أن كلام (ريبو) لا ينطبق على ما عناه متولي بالرمزية الفنية، بل هو كلام ينطبق على الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو ما وراء الطبيعة، والى القارئ نص (ريبو) كما ورد في كتابه المذكور المطبوع في باريس صفحة 196:
, ; ' , '
وترجمة هذا: (إن الرمزية الصوفية في اتجاهها إلى الدين تعتمد على عنصرين أساسيين، هما المخيلة والشعور، فإذا ما اتجهت إلى الفلسفة أو ما وراء الطبيعة، فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن).
وعليه فالأستاذ متولي هو الذي يخلط خلطاً صريحاً بين (الرمزية الفنية) وبين (رمزية ما وراء الطبيعة)، على ما في كلام (ريبو) من الوضوح!
وقد تحدث (ريبو) عن هذه (الرمزية الفنية) في غير هذا المقام، وذلك عند معالجته الرمزية في الأدب، أو بعبارة أخرى، عند حديثه عن المخيلة الخاصة بطريقة الأدباء الرمزيين في أواخر القرن التاسع عشر، وهي مخيلة تقوم على قوة العاطفة والانفعال.
وثمة تعسف آخر: يقول الأستاذ متولي، مستنداً إلى (ريبو) أيضاً: (إن الرمز في الفن هو(379/30)
أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد)، وعلى ذلك فمتولي يخطئ بشر فارس إذ يقول في مقدمة مسرحيته: إن الرمز الذي بنيت عليه المسرحية (بعيد أن يكون لوناً من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك من ضروب المجاز بل هو صورة، أو قل سرب صور ينتزعها المنشئ من المبذول).
ونحن لا نعرف وجهاً لهذه التخطئة إلا أن يكون كلام بشر خارجاً عما يفهمه متولي من الرمزية، ويؤسفنا أن نذكر متولي بحقيقة كان يجب ألا تغيب عن ذهنه، وهي أن بشر فارس حر في أن ينحو النحو الذي يوافق هوى نفسه من ألوان الرمزية المستحدثة، وأن يعرض عن (ريبو). ويؤسفنا أيضاً أن نقول لمتولي، إن الرمز عند (ريبو) - وذلك في حدود الجملة السابقة لا يخرج عن (المجاز)، إذ المجاز عندنا (هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة)، ومن ذلك ما يعرف في باب (الكناية) بالرمز، وهو الكناية التي قلت الوسائط فيها وخفيت.
وغريب ألا يفطن متولي إلى هذا، لا سيما بعد أن نبه بشر فارس إلى ابتعاد طريقته عن مثل هذا الرمز، فأورد في (مقدمته): (إن مسرحيته مجراة على الطريقة الرمزية إذا شئت)، ثم وضع بشر بعد ذلك فصلاً في هذه المجلة شرح فيه لم قال (إذا شئت)، فدلَّ على أن الرمزية التي أنساق إليها وارتاح، هي شيء بين (التأثرية) و (التعبيرية)، وقوامها الحياة الباطنة، واعتمادها الاضطراب الدفين!. . .
من هذه المآخذ المتعسفة في نقد مقدمة المسرحية، انساب الأستاذ بقلمه إلى المسرحية نفسها متسائلاً (ما قيمتها كقطعة رمزية؟) وسرعان ما أفتى بعد ذلك، وبلسان (ريبو)، فقال (إن ريبو فيلسوفنا نفسه يقرر أن الرمزية تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء لا تنطبع بزمان أو مكان. . . وقد تمعن في الإبهام فتقول هو - أو - هي - أو - أحدهم)، فهل هذا مستوفي في مسرحية بشر فارس بعد أن أسمى بطلة مسرحيته (سميرة)، وبعد أن حدد المكان الذي جرت فيه حوادث المسرحية وهو مصر؟
وجوابنا على هذا:
1 - أن (ريبو) قال (وقد تمعن)، و (قد) هنا للتقليل، وكان أن رجعنا بدورنا إلى النص الفرنسي فوجدنا أن (قد) هذه تساوي كلمة أي أن الإمعان في الإيهام ليس أمراً لازماً.(379/31)
2 - لو أحسن الأستاذ متولي استيعاب التبيين الذي عمله بشر عن شخوص مسرحيته في النسخة المطبوعة لأحجم عن هذا المأخذ؛ فقد جاء في ذلك التبيين أن (هو) - أي بطل المسرحية - عنوان الإنسان العادي المنشأ في حلقة المواضعات الاجتماعية) أما (سميرة)، فقد بيّن المؤلف في نفس التبيين أنها امرأة معينة، فمن المعقول أن يكون البطل (هو) لأنه عنوان لفئة غالبة من الرجال في مصر، وأن تكون (سميرة) - سميرة - لا (هي)، لأنها ليست عنواناً لفئة خاصة.
3 - أن الأستاذ متولي أشكل عليه المر بين لون الرمزية عند (ريبو) وبين لونها عند بشر فارس، وأنه يعتبر رمزية (ريبو) هي ما انتهت إليه الرمزية المستحدثة، والأمر غير ذلك، فإن (ريبو) لم يفرض لونه في الرمزية إلا على بعض الكتاب الرمزيين في أواخر القرن الماضي، وفي مقدمتهم المؤلف المسرحي (ماتيرنيك) الذي وضع أكثر رواياته قبل عام 1900، فهل يريد الأستاذ متولي، وقد قطعت الرمزية مراحل بعد (ريبو) ألا يؤلف المعاصرون الذين يعيشون في عام 1940 إلا بحسب نظرية عمرها نصف قرن تقريباً؟
بعد هذا نقول إنه ليس للأستاذ متولي أن يفرض على مؤلف معاصر وضع مسرحية رمزية وفاقاً لمحرجات نظرية فلسفية سجلت عام 1900، وهو العهد الذي كان الأدب الرمزي فيه لم يتخط طوره الأول. وإنه لا يجمل بالأستاذ متولي - وهو ماجستير في الفلسفة - أن يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عندما كتبه العلماء في القرن الماضي، فالعلم يتقدم، والنظريات تتحور، وإلا فما قيمه ما كتبه (بيرجسون) و (وليم جيمس)، وهما العلمان البارزان في عالم الفلسفة المعاصرة، وما نفع مسايرة الأدب للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟
زكي طليمات(379/32)
قداسة النقد
لبرناردشو
لا يمكن للحضارة أن تتقدم بلا نقد، ولذلك يجب أن تنقذ نفسها من الركود والتعفن بأن تعلن براءة النقد، ولكن هذه البراءة لا تكون للآراء الطريفة اللذيذة، أو الحكيمة المحترمة فقط، بل أيضاً للآراء التي تصدم من لم يألفوا النقد وتبدو لهم كأنها داعرة أو ثورية أو تدعو إلى الٍزندقة والكفر؛ ولمن يدافع عن إبليس في حق البقاء إذ لعله يكون بشيراً للمستقبل، وهناك صعوبة في التمييز بين الناقد والمعتوه والمجرم، وكذلك بين حرية القول وحرية العمل. فقد يكون من الضرورات الحيوية اللازمة للأمة أن تجيز لأحد الأشخاص الدفاع عن العرى، ولكن قد لا يكون من الصواب أن تترك هذا الشخص يسير وهو عريان في شارع كبير في لندن. وكذلك الحال في كارل ماركس، فإنه كان مقدساً حين كان يكتب ويؤلف في الاشتراكية في قاعة المتحف البريطاني. ولكن لو أن كارل ماركس هذا رفض أن يؤدي أجرة منزله لصاحبه، وأرسلها بدلاً من ذلك إلى وزير المالية، وقتل وكلاء المالك الذين جاءوا لتحصيل الأجرة، أو أطلق الرصاص على المحضرين الذين جاءوا لتوقيع الحجز على أثاثه أو إخراجه من المنزل، لما استطاع أن يدفع عن نفسه حكم الإعدام بالشنق بدعوى حرية النقد. ومعنى هذا أنه لا يمكن للقاضي أن يأذن للناقد بالعمل وفق نقده إلا إذا غير القانون. ونحن ناقصون في التربية المدنية نقصاً خطراً حتى أن كثيراً منا يحسبون أن لهم الحق المطلق في تغيير أخلاق الأمة لمجرد أنهم هم غيروا آرائهم. ومن الناس من لا يفهمون غير المعنى الغامض للاشتراكية ويعتقدون أنها تعني حالاً من الاجتماع ينزل فيه كل إنسان عن كل ما يملك لكل إنسان آخر. ويسألونني من وقت لآخر لماذا أنزل عن ممتلكاتي وأعيش في فقر ما دمت اشتراكياً؟ ومن الناس من يتخيلون أن الاشتراكيين يجب ألاّ يقتنوا السيارات. وقد أوشك بعض هؤلاء أن ينجحوا في أن يجعلوا اقتناء رئيس الوزارة لسيارة خاصة من المسائل العامة التي تستدعي البحث والمناقشة، وذلك حين كان المستر مكدونالد اشتراكياً. ولو أن هؤلاء المعتوهون أدركوا حق الإدراك ما يقولونه لعرفوا أنهم مخطئون حين يفرضون أن الناقد الذي يكره النظام القائم يمكنه أو يجب عليه أن يعيش كما لو كان يعيش في طوباه، أي في النظام الخيالي الذي يتخيله. وذلك أن كل ما(379/33)
يمكنه أن يحسب شاذاً في بعض سلوكه الذي تتسامح فيه الهيئة الاجتماعية.
أسكندر البطوسي
الليل. . .
(مهداة إلى الأستاذ الزيات. . .)
للأستاذ أنور العطار
هَذَا هُوَ الَّليْلُ الدَّجِىُّ الإِطارْ ... قد أحْتَوَى الشَّمْسَ وَضَمَّ النَّهَارْ
أَلْقَي وِشَاحاً حافِلاً بالرُّؤَى ... عَلَيْهِ مِنْ سِحْرِ الدَّرَارِي نِثَارْ
طَفَتْ عَلَيْهِ صُوَرٌ حُلْوَةٌ ... مَنْسُوجَةٌ مِنْ أَلَقٍ وَافتِرَارْ
تَلألأتْ أَنْجُمُهُ بالسَّنَا ... وَرُصِّعَتْ أَفْلاَكُهُ بالنُّضَارْ
وَهَبَّ مَلْكُ الَّليْلِ يُغْرِي الرُّبا ... وَيَفْتِنُ النَّهْرَ وَيُصْبِي الدِّيارْ
وَزَوْرَقُ الأَحْلاَمِ في زَهْوِهِ ... حَامَ عَلَى عَذْبِ مُنَاهُ وَدَارْ
تَحْملَهُ المَوْجَةُ ثَرْثَارَةً ... مُنْشِدَةً في صُعُدٍ وَانْحِدَارْ
والشَّطُّ مَغْمُورٌ بِأَصْدَائها ... مَشَى عَلَيْهِ خَشْيَةٌ وَانكِسَارْ
والنَّخْلُ مَفْتُونٌ بِلَحْنِ الهَوَى ... مَاجَ بِه الشَّوْقُ طَويلاً وَمَارْ
يُصْغِي إلى الأَنْغَامِ عُلْوِيَّةً ... وَمَا غِنَاءُ الحُبِّ إِلاّ ابْتِكاَرْ
تَوَهَّجَتْ فَحْمَةُ هَذا الدُّجى ... فَشَاعَ في الآفاقِ مِنها شَرَارْ
يا حُسْنَةُ مِنْ عَالَمٍ سَاحِر ... يكْتَتِمُ النَّجْوى وَيُخْفِي السِّرَارْ
باحَ لهُ الْقَلْبُ بِأَشْجَانِهِ ... وَمَا يُعَانِي مِنْ رَسِيسِ الأَوَارْ
والمُقْلَةُ الْحَمْرَاءُ مِنْ سُهْدِهَا ... نَاجَتْهُ لْهَفَي بدُمُوعٍ غِزَارْ
الأَمَلُ الرَّفّافُ عَنها انْطَوَى ... وَبُلْبُلُ الحُبِّ تَغَنَّى وَطَارْ
السَّامِرُ انْفَضَّ بأُلاّفِهِ ... وَغَابَ فِي حُلْمٍ شَهِيِّ القَرَارْ
وَالرَّكْبُ أَغْفَى بعد طُولِ السُّرَى ... وَلَم يَعُدْ يُلْمَحُ فِي الأَرْضِ سَارْ
وَنَامَتِ الأَدْوُرُ حتى الكوَى ... جَلّلَهَا النَّوْمُ بِضَافِي الدِّثَارْ
يا هَاجِرِي لَم تَكْتَحِلْ مُقْلَتِي ... بالْغُمْضِ مُذْ غِبْتَ وَشَطَّ الْمَزَارْ(379/34)
القَلْبُ مِنْ بَعْدِكَ مِلْكَ الْجَوى ... مُعَذَّبٌ مُخْتَطَفٌ مُسْتَطَارْ
حَذِرْتُ أَنْ نُرْمَي بِسَهْمِ النَّوَى ... فلم يُفِدْ إِلاّ الرَّزَايا الْحِذَارْ
وَحَظُّنا العَاثِرُ أَوْدَى بنا ... وَمَا يُرَجَّى أَنْ يُقَالَ العِثَارْ
هَلْ غَشِيَتْنَا عَادِيَاتُ الرَّدَى ... أَمْ َهلْ بَغَي الدَّهْرُ عَليْنَا وَجَارْ
أَظَلُّ حَيْرَانَ أُنَاجِي الْمُنَى ... كأنَّني فِي غَمَرَاتِ الْعُقَارْ
أَذَّكِرُ الْعَهْدَ فَأَبِكي أَسىً ... وَمَا حَيَاةُ الْقَلْبِ إِلاّ أذِّكَارْ
اللَّيْلُ ذُو الأَنجُمِ أَفْنَيْتُهُ ... مِنْ شِقْوَتِي فِي رِقْبَةٍ وَانْتِظَارْ
وَالسَّهْدُ أَضْنَاني وَلَوْلاَ الْهَوَى ... مَابتُّ نَهْبَ الشَّجْوِ رَهْنَ السبَارْ
أَقْتَاتُ بالوَهْمِ الذي مَضَّنِي ... وَلَم يَدَعْ لِلرُّوحِ إِلاّ الْبَوَارْ
يا هاجري أَوْسَعْتنَيِ حَسْرَةً ... قَلِبي مُعَنَّى وَالْجَوَى مُسْتَثَارْ
أَعِيشُ لِلْبَلْوَى وَمُرِّ الضَّنَى ... فِي نَاظِرِي جَمْرٌ وَفِي الصَّدْرِ نَارْ
يَشُوقِني الْحُبُّ وَأَوْجَاعُهُ ... وَما حَوَى مِنْ قَلَقٍ أَوْ إِسَارْ
وَاَنتَشِى مِنْ ذِكْرَيَاتِ الهوَى ... كأَنما تِلكَ الأَماني خُمَارْ
يا هاجِري لَم تَرْعَ عَهْدَ الهوَى ... أَسْرفْتَ فِي الصَّدِّ وَزِدْتَ النِّفَارْ
أَفِقْ تَجِدْني سَاهِماً سَاهِداً ... ليْسَ لِهذى الروح عَنْكَ اصْطِبَارْ
وَتَلْمِسِ الشَّوْقَ الذي شَفَّنِي ... مُحْتَدِماً فِي لَهَبٍ وَاسْتِعَارْ
أَوْجَعَ قَلبِي وَأَثَارَ الْجَوَى ... وَهَاجَ مِنِّي الْحَسَراتِ الحِرَارْ
الأُفْقُ مَحْجُوبٌ بِسُحْبِ الدُّجَى ... وَالْكَوْنُ مَسْدُولٌ عَليْهِ سِتَارْ(379/35)
عيناك. . .
للأستاذ خليل شيبوب
أَسْكَرَتْنِي عَيْنَاكِ إِذ سَقَتَانِي ... خَمْرَةَ اللّحْظِ أَيْنَ مِنها الْحُمَيَّا
ثَبَتَتْ في عَيْنَيَّ عَيْنَاكِ حَتَّى ... أَصْبَحَ اللّحْظُ مِنهمُا لِي رَئيَّاً
وَهُما زَهْرَتَا حَيَاتي وَنَجْما ... عُمُري والْهَوَى مَلِيّاً مَلِيّا
وَهُما لِي مِرْآةُ عَيْنَيَّّ يَبْدُو ... فِيهما لِي مَرْأَي الحياةِ جَلِيّا
أَيْنَما سِرْتُ قابَلتْنِيَ عَيْنَاكِ ... هُدىً لي واسْتَهْوَتَا عَيْنَيَّا
فِي غُدُوِّى وفي رَوَاحِي وفي اليَقْ - ظَةِ وَالحُلْمِ إنْ أَنَا نِمْتُ شَيَّا
وَإذَا ما قرَأْتُ طَالَعَتَاني ... في كتِاَبي وَاسْتَعْصَتَاهُ عَلَيّا
وَإذا ما شَرِبْتُ كأْسِي أَرَى في الكأْ - سِ عَيْنَيْكِ تَنْظُرَانِ إلَيَّا(379/36)
إلى النشيد الهارب!
(مهداة إلى الأخ الحبيب الشاعر النابغة الأستاذ (صالح جودت)
عجل الله بشفائه ورده إلينا معافى سالماً)
للأستاذ مختار الوكيل
أين أزمعتَ هارباً يا نشيدي؟ ... كيف خلّفتني رهين قيودي
كيف راودتني بحلمٍ سعيد؟ ... ثم أَرَّقتَني بهَمٍّ شديد؟
كنتَ مَنّيْتَنِي بِعُشٍّ فريدٍ ... مشمسٍ باسمٍ نضير الورود!
أتغَنَّى فيه بلحن الخلودِ ... فتطيبُ الحياةُ بالتغريد!
أين ما كان بيننا يا نشيدي ... من عهودٍ مرعيةٍ ووعود؟
من وفاقٍ وصحبةٍ ووفاءٍ ... وصفاءِ مُنَزٍّهٍ ممدود؟
كنتَ علَّمتني صراع الليالي ... كنت زوَّدتني بقلبٍ جديد
كنتَ أعليتني على النجمِ غرِّي ... داً، وألهمتني قصيدَ الخلود!
كنت أَسْلَمْتَنِي قلوبَ الغواني ... كنت أمتعتني بكل فريد!
كيف خلَّفتني رهينَ ظلامي؟ ... كيف بالله خنتني يا نشيدي؟
آدميّاً أصبحتُ أمشي ثقيلاً ... في قيودٍ خليقةٍ بالعبيد
سادراً، أخرسَ الشفاه، حزيناً ... غارقاً في كآبتي وشرودي!
تملأ البسمةُ الشقيَّةُ وجهي ... وينمُّ الذبول عن تسهيدي!
عُدْ كما كنتَ مُلْهِمِي يا نشيدي ... لا تَدَعْنِي مُكَبَّلاً بقيودي!
عُدْ فما أَرْتَجِي سِوَاكَ صَديقاً ... ومُعِيناً على الحظوظ السُّودِ!
عُدْ تَعُدْ لي الحياة بعد أُفولٍ ... وأُغنِّ الأنام لحنَ الخلود!(379/37)
إلى الملاح التائه
(مهداة إلى الأستاذ علي محمود طه)
للسيد أحمد عبد الجبار
أيها التائه في بحر الحياه ... تضرب المجداف يمنى ويسارْ
خذ بأيدينا إلى شط النجاه ... واشدنا لحن كنار وهزار
أترك القارب بين اللج يطفو ... وادر حيزومه نحو النجوم
عله يترك هذا البحر يغفو ... وَيِغُذُّ السير في بحر الغيوم
طف بنا فوق البراري نتملى ... حسن هذا الكون من برج السماء
واشدد الأوتار كيما نتولى ... ساحة الأحلام في صحن الفضاء
خلّ لي التجذيف واشرع بالغناء ... واسكب الألحان في صدر النسم
علها تحمل عنا ذا العناء ... وتذيب العطر في ثغر النعم
أيها الملاح ما هذى الدُّنا ... حل في أرجائها سم الظلامْ
ململت فيها تراتيل السنا ... وطغت فيها أحابيل الحرام
دع شراع الفلك يحمينا الخنا ... واترك المزهر في أيدي القصيد
فجميل الشعر دارات الهنا ... ينعش السكري ويحي من جديد
سر بنا يا فلك نحو المستحيل ... وامش يا قارب صوب اللانهاية
فسكون الليل براق جميل ... وعيون الله تومى بالهداية
يا لطير الليل ما هذا الهزيج ... يا لقلب النجم ما هذا القلق
كل ما في الكون يسري في ضجيج ... وضجيج الروح أحلى وأرق
آهة الأقدار في كاس هوانا ... ونعيم الخلد في بحر الغيوم
غنانا يا خل واطرب من غنانا ... واشرب الراح على رقص النجوم
هاهو الشاطئ قد طل علينا ... وبدا وجه الروابي والفنار
واقفٌ جبريل مشتاق إلينا ... وعلى أيكتنا رضوان حار
هذه الحور بأثواب الحبور ... شفها الوجد وأضناها الغرام
قادمات نحونا تبدي السرور ... فاغضض الطرف وبادر بالسلام(379/38)
هاهنا جنتنا فارح الشراعْ ... واطوِ هذا القلع فوق الساريه
ودّع البحر فقد آن الوداع ... وابق يا ملاح رب القافيه. . .(379/39)
رسالة الفن
تأملات:
بين الكواليس. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
بدءوا يستعدون للموسم التمثيلي الجديد، وسيكون موسماً بإذن الله، وستكون بدايته حافلة ببعض الروائع التي طال اشتياقنا إلى أمثالها. فأم كلثوم تعرض في هذا الأسبوع (دنانير)، وهي أوبريت موسيقية ساهم في تلحينها كل من: زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي. والفرقة القومية تعرض هذا الأسبوع أيضاً (يوم القيامة)، وهي أوبريت كتلك، انفرد بتلحينها زكريا أحمد، ووضع أزجالها بيرم التونسي، وأخرجها عمر جميعي. وملك تعرض هي أيضاً في هذا الأسبوع مسرحية بدوية زجلية لبيرم التونسي، لحنت هي أغانيها وأناشيدها. ونجيب الريحاني مشغول في هذه الأيام بإعداد روايته الجديدة التي يظن أنه سيستطيع أن يفرغ منها في هذه الأيام ليبدأ العمل بها في رمضان، والتي أظن أنا أنها ستتعطل بين يديه قليلاً أو كثيراً حتى يتم له إخراجها على النحو الذي يرضيه هو تدقيقاً وتنميقاً. ويوسف وهبي قد أعلن عن المسرح الجديد الذي سيحتله هذا العام، وإن لم يكن قد أعلن عن روايته الجديدة؛ ولكن يوسف مضمون من حيث محافظته على المواعيد، فهو يستطيع أن يؤلف رواية في يوم وأن يخرجها في يوم، وأن يطالع بها الجمهور في اليوم الثالث، وهو واثق من أن الجمهور سيرضى بها وسيرضى عنه. . .
وقد خطر لي أن أقوم في هذا الأسبوع بجولة (بين الكواليس)، لأرى كيف يهيئ هؤلاء الفنانون عملهم، فرأيت، وكما رأيت تذكرت حوادث قد يلذ للقراء أن يطالعوها:
اضربني يا علام. . .
كان على الأستاذ جورج أبيض أن ينطلق إلى المسرح ساخطاً هائجاً في موقف من مواقف (عطيل) أو (لويس) لا أذكر. . . وراح الأستاذ جورج يهيج نفسه ويثير فيها ألواناً من الغضب الصناعي يستعين به على الاندماج في الدور، ولكن نفسه كانت في هذه الساعة مملوءة حلماً ووداعة، فلم تتح له شيئاً من الهياج والغضب اللذين كان يطلبهما. . . فحزن،(379/40)
وتبادر اليأس إلى نفسه، وتراخت أعصابه، وكاد يتسرب من المسرح ويدع الجمهور ويهرب، لأنه كره أن يخرج إلى الناس بارداً في موقف يجب أن يكون فيه كالإعصار أو أشد ثورة. . . وبينا هو في هذا اليأس المعتم أبصر بالأستاذ أحمد علام يتبختر بين الأستار منتظراً أن يحين موقفه وأن يناديه مدير المسرح. . .
فأسرع الأستاذ جورج إلى الأستاذ علام وقال له بهذه الطفولة الضخمة المتجسدة فيه:
- هيجني يا علام. . . أغضبني!
- العفو يا أستاذ!
- لا عفو، ولا يحزنون، أريد أن أغضب وأن أثور. . . اضربني. . .
- لا يصح يا أستاذ. . .
- أرجوك يا علام. . .
- ولكن كيف أضربك يا أستاذ. . .
- هكذا. . .
. . . وهوى الأستاذ جورج بكفه على وجه الأستاذ علام بضربة كاد علام يفقد فيها أضراسه وأسنانه، وكانت هذه الضربة مفتاح الغضب الذي نشده جورج، فهاجت عندها أعصابه، وكانت دخلته إلى المسرح أزفت، فناداه مدير المسرح فدخل، ورآه الجمهور هائجاً مائجاً ساخطاً كما يجب أن يكون السخط والغضب فرضي عنه. . .
ولكنهم لم يروا علاماً الصريع الذي كان يتلوى بين الكواليس من الوجع والألم. . .
يا حبيبتي يا بنتي
وكان على الأستاذ عزيز عيد أن يخرج على الناس باكياً في مشهد من رواية لا أذكرها هي أيضاً. . . والأستاذ عزيز في طبعه صبر متأصل، ورضى متمكن؛ ورجل هذا شأنه، لا يستطيع أن يبكي بسهولة. ولذلك، فأنه حاول البكاء قبيل مثوله بين أيدي الناس، فلم تجبه من عينيه دمعة واحدة
فماذا صنع؟
رأى ابنته عزيزة الصغيرة تلعب مع الممثلين والممثلات، وتطفر في أرجاء المسرح من هنا إلى هناك، فجاءته فكرة عجيبة. . .(379/41)
نادى ابنته. . . ونادى اثنين من عمال المسرح، وطلب منهما أن يسرعا فيحضرا له نعشاً كانوا يستعملونه في إحدى الروايات، فأحضر العاملان النعش، وطلب عزيز من ابنته أن تنام فيه، وأن تغمض عينيها وقال لها:
. . . موتي قليلاً يا ماما. . .
وابنته، أبوها هو، وأمها فاطمة رشدي، فالتمثيل يجري في دمها وأعصابها. . . نامت في النعش، وتماوتت، بل إنها استطاعت أن تكتم أنفاسها وأن تبعث إلى وجهها صفرة وبرودة، وأخذ عزيز ينظر إليها وهو يقول لها:
- يا حبيبتي يا بنتي. . . الله يرحمك يا بنتي. . . أنا مسكين بعدك يا زوزو. . .
. . . انطلق لسانه بهذا، فسمعته أذناه، فصدقه عقله، فأحسه قلبه، فذرفت الدموع له عيناه. . . بكى، ولم يكن يريد إلا أن يبكي، ودخل إلى المسرح باكياً كما أراد. . .
الرقم القياسي
معروف عند أهل الفن أن الأستاذ نجيب الريحاني هو أشد المخرجين أتعاباً لممثليه، فهو يكثر من البروفات إكثاراً مضنياً حتى ليحفظ ممثلوه أدوارهم حفظاً عن وجه قلب لا عن ظهر قلب. فالممثل منهم بعد أن تتم بروفات الرواية يجد نفسه قد لبس في حياته الخارجية الدور الجديد الذي عهد إليه به، ويجد نفسه يحادث أهله وأصدقاءه في البيت والشارع بالجمل والعبارات التي تضمنها دوره. . .
هذا هو المعروف عند أهل الفن، ولكن الأستاذ عمر جميعي قد وصل إلى رقم قياسي عال جداً في اهتمامه ببروفات (يوم القيامة) فقد حمل ممثليها من أفراد الفرقة القومية على أن يقوموا بها أكثر من ثلاثمائة مرة بدون مبالغة، وليس ذلك لعجز فيه ولا ضعف، فقد شهد كثير من الفنانين الذين يعتد برأيهم وعلى رأسهم الأستاذ منسي فهمي بأن كل الروايات التي أخرجها الأستاذ عمر للفرقة القومية كانت أكثر روايات الفرقة القومية نجاحاً وتوفيقاً. . . وإنما يفعل عمر ذلك (بيوم القيامة) لأنها فتح جديد في عمل الفرقة القومية، فهي الأوبريت الأولى التي تقدمها الفرقة للجمهور، وقد أنفقت الفرقة على إعدادها أكثر مما أنفقت على أي رواية أخرى، وهو يشعر بخطورة هذه الأمانة الملقاة على عاتقه، وهو لذلك يريد ألا تخرج هذه الرواية من بين يديه إلا على أكمل وجه يستطيع تحقيقه. . .(379/42)
ولا ريب أن الله سيكافئه على أمانته وجده هذين.
أبو العلاء المعري
أعلن الأستاذ علي الكسار يوماً عن رواية البخيل لموليير، وذكر في الإعلانات أنه ترجمها إلى العربية بنفسه، والأستاذ علي الكسار ممثل موهوب من غير شك وإن كان التعليم ينقصه، فقد فاته حتى أن يلم بالقراءة والكتابة، وهذا شيء لا يحط من موهبته الفنية.
فسأله سائل: كيف جرؤت يا أستاذ (علي) على أن تدعي أنك مترجم (البخيل) مع أن الناس يعلمون أنك لا تقرأ ولا تكتب؟
فأجابه الأستاذ الكسار مسرعاً: وهل كان أبو العلاء المعري يقرأ وهل كان يكتب؟
وكان جواباً مسكتاً من غير شك.
رهان
يسبق إحساس الأستاذ يوسف وهبي عقله ولسانه وهو على المسرح أحياناً، وفي هذه الأحيان لا يرضى الأستاذ يوسف وهبي بأن يتريث وأن يتثاقل بإحساسه حتى يواتيه عقله ويواتيه لسانه بالألفاظ العربية التي يجب أن ينطق بها حتى يفهم الجمهور ماذا يريد أن يقول، وإنما يترك الأستاذ يوسف في هذه الأحيان نفسه ويدع لسانه ينطلق بأي ألفاظ مفيدة كانت أو غير مفيدة، عربية كانت أو غير عربية، ويكتفي الأستاذ يوسف في هذه المواقف بأن يعبر بصوته المنغم وإشارته المحكمة عما يريد أن ينقله من نفسه إلى الجمهور على شرط أن يختم هذه الانطلاقة بكلمة واحدة أو كلمتين فيهما تلخيص أو تركيز للمعنى الذي يريد أن يعبر عنه. . . فإذا كان في حالة سخط مثلاً، وحدث له هذا الذي يحدث له من مس الجن أو مما لا أدري، قال مثلاً: (أنت يا من جهنم والحديد شرر من أبالسة النار ينهار فوق رؤوس الشياطين حمم ونار وكبريت) يقول هذا، أو يقول ما يشبهه، والجمهور مأخوذ به، قد استولت عليه الكهرباء المنبعثة من أعصاب يوسف الذي يحرق نفسه على المسرح؛ فلا يستطيع الجمهور إلا أن يقبل هذا الكلام على أنه معقول ومفهوم، وعلى أن معناه متصل بالمتميز من ألفاظه، وألفاظه المدركة المتميزة هي: نار، وجهنم، وأبالسة، وشياطين وحمم وكبريت. . . والجمهور لا يعنى في مثل هذه الحال بتحديد المعنى على وجه الدقة، وإنما(379/43)
هو يرضى بعموم المعنى وعموم الحال. . .
وقد حدث أن زار الأستاذان بديع خيري وزكريا أحمد الأستاذ يوسف وهبي في مسرحه يوماً، ودار بينهم الحديث عن هذه المسألة واتهم الأستاذ بديع خيري الأستاذ يوسف وهبي بأنه (يهوش) الجمهور بها. . . فقال له يوسف:
- إنني لا أهوش. . . وهاأنت ذا تعرف أنني أفعل هذا، ولست أطلب منك إلا أن تنزل إلى القاعة، وأن تشاهدني الليلة وأنا أمثل، وهاأنذا أحيطك علماً منذ الآن بأني سأختم الفصل الأول بشيء من هذا، وكل ما أرجوه منك هو أنك تصدقني القول بعده، وأن تقول لي اهتزت لي نفسك أو لم تهتز، وهل صفقت لي أنت وصاحبك زكريا هذا أو لم تصفقا. . . وأطلب قبل ذلك من الله أن يسهل لي الانطلاق الذي أريده. . .
وتراهنوا. .
ونزل بديع وزكريا إلى القاعة، وتابعا يوسف وهو يمثل، ولم يشعرا بنفسيهما إلا والستار يسدل عن الفصل الأول وهما يصفقان مع المصفقين ليوسف.
ولم يدرك أحدهما أن يوسف فعل فعلته إلا بعد نزول الستار، عندئذ ضحكا حتى كادا يختنقان من الضحك، ويقول الأستاذ زكريا أحمد إن الأستاذ بديع خيري صعد بعدها إلى حجرة يوسف وقال له:
- إنني آمنت بك. . .
. . . أما أنا فأعوذ بالله من يوسف وهبي فهو جن وإن كان من المسلمين.
عزيز أحمد فهمي(379/44)
البريد الأدبي
الكرم الجارمي
للأستاذ علي الجارم بك شُهرة عريضة بالكرم والجود، وهذه الشهرة
هي التي قضتْ بأن تَكِل إليه وزارة المعارف تحقيق كتاب (البخلاء)
فما كان يمكن الوصول إلى أسرار ذلك الكتاب إلا إذا اضطلع بتحقيقه
رجلٌ خبير بمعاني العرب في العطاء والمنع، والسخاء والشُّح،
وبضدها تتميز الأشياء.
والكرم المأثور عن الجارم هو السبب فيما يقع من تغاضيَّ عن السؤال عنه حين يصطاف بالإسكندرية، فقد كنت أكتفي في تحيته بالسلام على الجدران فراراً من التعرض لكرمه العجاج، وهو كرمٌ قد يطغى فيتلف أمعاء المواهب، وأنا أزهد الناس في هذا الصنف من الجود!
واخطأ من قال إني كنت أتقرب إلى الجارم بترك السلام عليه، وهو قول يُقبل لمعنىً واحد هو توشيته بالبراعة والذكاء ماذا أريد أن أقول؟
أنا أمشي على الشوك في سبيل الوصول إلى عرض القصة الآتية:
منذ آماد طوال دخل الأستاذ سامي عاشور مكتب تفتيش اللغة العربية بوجه مشرق بسام وهو يقول: مبارك يا جارم بك! مبارك يا جارم بك!
فتهلّل وجه الجارم وقال:
- خير، خير!!
- خير جزيل، ولكن هات (الحلاوة)
- يا حلاوة عليك يا سامي بك يا حبيبي يا نور عيني، هات ما عندك هات!
- سيصدر قرار وزير المعارف بعد ثلاثة أيام بترقيتك إلى الدرجة الثانية.
- الدرجة الثانية؟ الله يبشرك بالخير، ما يجيء من الجميل إلا الجميل.
وبعد تروّ لم يطل أكثر من عشر دقائق توكل الجارم على الله وأعلن أن الحلاوة هي وليمة فيها (صيّادية) مطبوخة على أسلوب أهل رشيد!(379/45)
ثم توكل على الله مرة ثانية وقال: وسيكون معنا الدكتور مبارك ليعرف البيت وليحدِّث (أميرة) عن سميّتها في بغداد.
فالتفت إليّ الأستاذ سامي عاشور وقال: ما رأيك؟
فقلت: أفلح إن صدق!
فقال الجارم: سأصدُق لأكفّ شرَّك عني!
ومرّ يوم وأيام وأسبوع وأسابيع وشهر وشهور، ولم يف الجارم بما وعد، وطال التسويف حتى نسيتُ، وهل كنت أصدِّق أن الجارم يسره أن يعرف أحد أين يقيم؟
ولكن الأيام تصنع الأعاجيب، فقد لقيت الأستاذ سامي عاشور ونحن نراقب الامتحانات في إحدى المدارس، وبلغ مني العجب كل مبلغ حين رأيته لا يزال يذكر (حكاية الوليمة الجارمية)!
- ماذا نصنع في قهر الجارم على الوفاء بالوعد؟
- لا أعرف ماذا نصنع!
- نخوّفه بالشعر
- ولكني لا أجيد الهجاء
- وكيف تكون شاعراً إذا كان (الكرم الجارمي) لا يوحي إليك معاني الهجاء؟
وخِفتُ أن يقال: إني لا أجيد الشعر إلا في باب واحد هو النسيب، فصخختُ الجارم بهذه الأبيات:
وما بالجارم الصنَّاج بُخلٌ ... بزادٍ من طعامٍ أو شرابِ
ولكنْ المكارم أتعبتْهُ ... قفرَّ من السخاء إلى الدَّعاب
فإن يُطعمِك في (نيسان) يوماً ... بوعدٍ مثل رَقراق السَّرابِ
فصدِّقه ولكنْ لا تؤمِّل ... نداه ولو صبرتَ لشهر (آب)
فليس بمُنجزٍ في الجود وعداً ... ولو طاردته يومَ الحساب
ثم مضيتُ فأمليتُ هذه الأبيات على جماعة من الموظفين والمدرسين، وترفَّق الأستاذ سامي عاشور فأنفذها إلى الجارم بك على يد رسول بارع في إصلاح ذات البَيْن!
ثم ماذا؟ ثم هرب الجارم إلى رشيد، وهو يزعم أن الإقامة في القاهرة أصبحت لا تطاق(379/46)
بسبب (الغارات الشِّعرية)!
ولكن الجارم سيرجع، وقد رجع بالفعل، فما عسى أن نصنع لنروضه على الوفاء بالوعد.
يرى الأستاذ محمود العزَب أن نشر هذه الأبيات في الأهرام بعد نشرها في الرسالة قد ينفع بعض النفع في إثارة النخوة الجارمية وإلا فسيدعو الأدباء إلى اكتتابُ يعين الجارم على إعداد الصيادية الرشيدية.
أما أنا فأعرف أن الجارم سينكر القصة بحذافيرها، وسيقول: إنها (سمكة رمضان)، لا (سمكة نيسان)؛ وهل تجتمع أهوال الحرب وأهوال الوليمة على رجل في مثل رقة الجارم الصّنّاج؟
زكي مبارك
حول كلمة (تبان)
جاء في عدد (الثقافة) رقم 880 في مقال للدكتور بشر فارس عنوانه (الزاد المهمل) ما نصه: (أخذت معي لباس استحمام أحمر وقميصاً أصفر وتُبّاناً أزرق ثم سلكت في مطاويها ثلاثة كتب). ثم علق على كلمة تبان في الحاشية بقوله: (أعرض لفظة التبان للتعبير بها عن كلمة ويفهم من كلام الدكتور بشر هذا أنه أول من اختار هذه الكلمة للتعبير بها عن كلمة (شورت) غير أننا قد قرأنا في كتاب (وحي القلم) للمرحوم الرافعي ج أول ص200 ما نصه: (وهانحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العرى وأصبحنا نجد لفيفاً من الأوربيين المتعلمين رجالهم ونسائهم إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تُبّاناً قصيراً كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء - إذا رأوا هذا المتعفف بخرقه أنكروا عليه وتساءلوا: من. . . من هذا الراهب).
وواضح من هذا أن الدكتور بشر فارس ليس أول من تقدم بهذه الكلمة معبراً بها عن كلمة (شورت) وإنما للرافعي فضل الأسبقية.
(الأبيض - سودان)
ع. ا. سعد
إعادة الحياة إلى خلايا الجسم البشري(379/47)
أذيع في نيويورك أن عالماً ألمانياً كان يقوم باختباراته في مستوصف في قرطبة، استطاع - وهو يحاول درس أنسجة خلايا جسم الإنسان ليعرف هل تموت فعلاً أو لا تموت - أن يرد الحياة إلى أنسجة خلايا جثث المصريين المحنطة منذ 5300 سنة
وقد بدأ هذا العالم - واسمه الدكتور بوزي جراوتز - تجاريبه من عدة سنوات، فتبين له أن الأنسجة البشرية بعد أن حفظت في الكحول منذ 38 سنة أخذت تنمو نمواً كاملاً عندما وضعت في مادة مقوية خاصة.
كذلك يقال إنه أخذت من المتحف الوطني في (لابلاتا) عينات من أنسجة 12 مومياء متوسط عمرها 5300 سنة، وأن هذه الأنسجة وضعت في مواد مقوية فأخذت الحياة تدب في ذلك اللحم البشري.
ويقال أخيراً إن آلة تكبير الصور قد سجلت حركة دبيب الحياة في الخلايا، وأن هذا العالم يقول: إنه حينما يموت الإنسان لا يحدث له سوى انحطاط في الخلايا يبلغ حالة السبات، ولكن هذه الخلايا تكون مستعدة للعودة إلى الحياة في حالات ملائمة.
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأت كلمتك النبيلة التي وجهتها إلي في مقالكم السابق بالرسالة الغراء: قرأتها بعني، وأدركتها بقلبي، فكأنما كانت لمشاعري نشوة ذكرى، ولخواطري انتباهاً ويقظة. . . وفهمت منها معنيين! فقد أدركت بل أدرك قلبي أن وراء هذه الألفاظ ألفاظاً أخرى من الشعور لا تقرأ بالعين ولكن يدركها القلب، رأيت فيها تحية نبيلة من أخ عزيز نبيل، وأحسها قلبي عتاباً نبيلاً!
فيا أخي العزيز الكريم. . . لئن تك قد تلفت فرأيت صديقك العزيز محمود البشبيشي، وقد أسعده الحظ بلحظات كلحظات الحلم مرت بخيال مشرّد معذّب. . . فإن قلبي هو الذي تلفت وسمع ورأى! سمع أخاً وفياً، ورأى شقيقاً كريماً.
يا دكتور إن القلوب لتسمع وترى وتتلفت!
علم الله أن الذي منعني من العودة إليك تلك الليلة السعيدة هو مرض ابنتي. . . علم الله أيضاً. . . وتعلم شجرة الكافورة السعيدة (بما كساها الأستاذ الكبير الزيات من النباهة(379/48)
والخلود). . . أنني عدت ثم عدت فلم أجدك.
أخي الفاضل. . . لعل من غريب المصادفات أن أحس قبل مقابلتي لك بأيام رغبة غريبة وإحساساً قوياً وميلاً جامحاً للتمتع بهديتكم الكريمة (النثر الفني). . . ترى هل كانت رغبة في الاطلاع والمعرفة بعد غفوة طالت!!؟ أم هو الشوق إليك جعلتني أتصوَّرك في أسلوبك!! وكم يتجسم الفنان البارع في أسلوبه!!. . . إنها القلوب. . . قلوب الإخوان تتلفت وتشعر وترى. . . وإنه الشعور الحي لغة القلوب!!
والسلام عليك من أخ طالت غربته عن رياض القلم. ولكن لم تزل أوتار نفسه تهتز لكل رائع من الأساليب وفاتن من القول. إنها لا تزال تهتز لأنها تعودت ذلك عن طبع وخلق.
أخوك المخلص
(المنصورة)
محمود البشبيشي
أجوبة عن أسئلة:
وجه إلينا الدكتور زكي مبارك عدة أسئلة، يطلب منا الإجابة عليها، وكان ذلك رده على كلمتنا التي نبهنا فيها على الغلطة التي وقع فيها الدكتور الفاضل؛ والذين يعرفون قوانين البحث والمناظرة يدركون خروج الدكتور عليها، في رده علينا؛ والدكتور معذور، لأنه لم يجد ما يقوله، فكان من الطبيعي أن ينتقل إلى ميدان آخر يصول فيه صولة (البازل القنعاس) وقد كنا نريد ألا نعرض لهذه الأسئلة لأنها ليست مما نحن بسبيله ولكننا خشينا أن يؤول سكوتنا تأويلاً سيئاً، فنجيب بعون الله:
أولاً: قائل هذا البيت هو الشاعر الذي يقول:
أتيت فؤادها أشكو إليه ... فلم أخلص إليه من الزحام
والذي يقول أيضاً:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طوبت، أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
ثانياً: نظر هذا الشاعر إلى قول علقمة الفحل:(379/49)
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيبُ
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب
والمتنبي نظر إلى أبي تمام حين قال:
إذا غدرت حسناء أوفتْ بعهدها ... ومن عهدها ألا يدوم لها عهد
وكان أبو الطيب يتوكأ على حبيب، كما كان امرؤ القيس، يتوكأ على أوس.
ثالثاً: لم يلتفت إلى ذلك ابن رشيق في باب السرقات من العمدة، ولا العسكري في الصناعتين، ولا الآمدي في الموازنة على تحامله المكشوف على أبي تمام.
رابعاً: إذا كان هذا الكتاب جديراً بالالتفات، فلم لم يترجم له الدكتور في (النثر الفني) بين من ترجم لهم من كتاب الأندلس؟ ولم لم يثبت هذه الرسالة بين النصوص الكثيرة التي أثبتها في مؤلفه، على أننا راجعنا مجلدين من نفح الطيب فلم نجد أثراً لهذه الرسالة، فلعلها أن تكون في صبح الأعشى للقلقشندي.
خامساً: الدقيقة التي في هذا البيت هي ورود (وحدها) حالاً من الضمير في لها مع تعرفها، ولكنها تؤول بنكرة فتصير (منفردة) ومثل ذلك قول الشاعر:
فأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نَفَص الدِّخال
أي أرسلها معتركة، والدقيقة البلاغية هي: فصل الشاعر بين جملة (كل غانية هند) وبين الجملة السابقة، والفصل هنا واجب لأن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع، إذ لو وصل بينهما لتُوهِّم أن الجملة الأخيرة داخلة في ضمن الجملة التي قبلها، فتكون داخلة في ضمن المفعول الثاني لتحسبوا، وهذا غير مراد للشاعر.
سادساً: اختلفت الروايات في (تحسبوا) فرُوي أيضاً هكذا: (فلا تحسبا هنداً لها الغدر وحدها)
سابعاً: متى كان ذلك يا سيدي؟ لعله كان إذ كنت صبياً مرضعاً!
ثامناً: لعل الحلاج التفت إلى هذا البيت حين قال:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا
تاسعاً: وجهه: أن تعرب (لها) خبراً مقدماً و (الغدر) مبتدأ مؤخر، وتكون (سجيةَ) حالاً من(379/50)
المبتدأ، ويشكل على ذلك أن الحال لا تأتي من المبتدأ إلا على رأي سيبويه، ويشهد له قول طرفة:
لمية موحشاً طللُ ... يلوحُ كأنه خللُ
وهذا البيت يشهد أيضاً لصحة مجيء صاحب الحال نكرة إذا تأخر.
عاشراً: أجل يا سيدي الفاضل أعرف قائل هذا البيت فهو الذي قال:
إني أنصببت من السماء عليكمو ... حتى اختطفتك يا فرزدق من علِ
أما بعد: فلا نحب أن تشير إلى اسمنا بعبارة كريمة يا سيدي الدكتور (مع الشكر على هذه السنية الكريمة!) ولا يضيرنا أن تتجاهلنا هذا التجاهل، لأنك لست مهما عظمت إلا واحداً من الأدباء. وإليك التحية من أحد أبناء الجيل الجديد.
إبراهيم محمد نجا(379/51)
القصص
جناية رجل
للأستاذ محمد سعيد العريان
. . . أجابني صاحبي:
نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، على أنه قد أَوْدَى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعِة طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرني في عين نفسي وفي عيون الناس إلى ما ترى. . . وما أحاول أن أبرئ نفسي؛ بل إنني لأشعر أحياناً أن عليَّ وحدي إثم هذه الجناية التي لم أقترفها ولم يكن لي يدٌ فيها!
وصمت صاحبي برهة وهو يحدِّق في وجهي بعينين فيهما حيرة وارتياب؛ ثم استأنف الحديث:
بلى، وأقسم لك يا صاحبي، ولكنني كنتُ رجلاً كما تعرف؛ فلم يكن لي أملٌ في امرأة ولم يكن لامرأة حظٌّ مني؛ وأين تجد المرأة عندي ما يُغريها بي وأين أجد من نفسي؟. . . لقد كنت أعرف نفسي عرفاناً حقاً، ولم يكن يخفى عليّ ما يتحدَّث به الرجال والنساء عني، وما تتحدث به إليّ مِرآتي؛ لقد كنت وما يطيب لي أن أنظر إلى المرآة، كأني حين أنظر إلى صورتي بازائي أرى شخصاً غريباً عني بغيضاً إليّ لا أطيق أن أراه أو أنظر إلى صورته؛ وحين يتفق لي أن أرى شخصاً في وجهه بعضُ ما أعرف لنفسي من الدمامة، أزوي عنه وجهي، كأنما يذكّرني مرآه بشخص أكره!. . .
أراك تنكر عليّ ما أقول يا صديقي، ولكن ذلك كان هو رأيي في نفسي على حقيقته؛ وقد يكون رأياً غريباً، فما أعرف فيما قرأت أو سمعت أن أحداً كان له في نفسه مثلُ رأيي في نفسي وإن بلغت دمامته الحد الذي يوشك أن يبعده من حقيقته الآدمية!
. . . وكنت مؤمناً بأن القدر الذي تكتنفني صروفه منذ الطفولة قد هيأني لشيء غير ما يتهيأ له الرجال في عالم المرأة، من الحب والزواج والأبوّة؛ كأنما كانت تلك العلة التي شوّهتْ وجهي صغيراً، وتلك الحادثة أصابتني بالعرج صبياً - تحوُّلاً في إنسانيتي، وحجازاً بيني وبين أحلام الطبيعة التي تهمس في الدم وتوسوس في القلب. وشعرت منذ فقدتُ أمي ولم أتجاوز السابعة بعد، أن آخر سبب كان يربطني بالمرأة قد انقطع، فليستْ(379/52)
من دنياي ولستُ من دنياها؛ وعشت عمري في هذه الحقيقة من بعد، لا تنظر عيناي إلى امرأة ولا أحس وقع نظرة امرأة، ولو قد أحسستها مرة لخجلتُ، لعلمي أنها لا تنظر حين تنظر إليّ - رجلاً مما يقع في عالمها، ولكنها تنظر مسخاً مشوَّهاً يشير إلى آية من آيات القدرة الخالقة!
. . . كذلك كنت عند نفسي حتى لقيتها، فأرتني من نفسي صورة غير ما كنت أعرف لنفسي؛ وكشفت لي عن صورتي في مرآتها!. . .
. . . كنت يوم ذاك جالساً إلى مكتبي أعالج عملاً دقيقاً لا يصلح أن يتولاه غيري، حين دخل عليّ حاجبي يؤذنني أن سيدة تريد لقائي؛ ونهرت حاجبي إذ قطعني عن عملي من أجل امرأة؛ وما لي وللنساء؟ ما شأنهن وشأني؟
ودعوت شاباً من مساعديّ ليلقاها ويتقّصى أمرها فيخبرني؛ وكثيراً ما كنتُ أندبه لمثل ذلك فيكفيني ويجزئ عني؛ ولكنه في هذه المرة لم يُغْنِ عني شيئاً، وعاد إليّ ينبئني أن السيدة لا تريد لقاء أحد غير؛ وابتسمتُ على غيظ حين أنبأني ذلك؛ فقد كنت أعلم من طول خبرتي في هذا العمل الذي أتولاه، ما تدعوني له مثل هذه الزائرة؛ فما هو إلا لاعتقادها أنني - وأنا رئيس المكتب - أقدَرُ على قضاء حاجتها من غيري، وإن كانت حاجتها من التفاهة بحيث يستطيع ساعي المكتب أن يقطع فيها برأي!. . . ذلك رأي النساء جميعاً؛ وإن إحداهن ليبلغ منها الإلحاح في طلب لقائي أن تضجرني وتحرج صدري، فلا أجد عقاباً لها على ذلك إلا أن أخرج إليها فتراني. . .
. . . ولم أكن في ذلك اليوم متهيئاً لاستقبال أحد، ولم تكن بي رغبة إلى عقاب امرأة؛ فطلبت إلى حاجبي أن يعتذر إليها، وخرجت السيدة ولكنها لم تلبث أن عادت، وعاد حاجبي يؤذنني برغبتها في لقائي؛ وتكرر بيننا الرجاء والاعتذار، ثم لم أجد بدَّاً في النهاية من الخروج إليها. . .
ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأةٍ منهم. ولأول مرة منذ ماتت أمي، جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول، وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيراً مما ظننت وأشبّ شباباً؛ ولكني شعرت إذ جلست إليها(379/53)
شعوراً لم أحسّ مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!
كان في وجهها سماحةٌ وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديداً على عينيه، وقد افترَّت شفتاها عن ابتسامةٍ حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.
لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعدُ بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت عليّ تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إليّ.
. . . أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيباً عزيزاً لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!
ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفاً واحداً مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي؛ فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها. . . وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيراً وأناة وحسن احتيال؛ وعنيت بأمرها.
أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئاً على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؛ ولكنك مصدقي ولا شك، فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت؛ ليس لي همٌّ إلا عملي وواجبي!
وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات؛ وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وإنجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلاً يبغضِّه إلي، وتزّينت لي الحياة؛ وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!
ليس يعنيك كثيراً يا صديقي أن تعرف كل شيء؛ ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين، أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها؛ فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل؛ فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إليّ حديثاً أجد صداه في نفسي؛ ومن غير مؤامرة ولا تدبير، رأيتني امشي معها ذراعاً إلى ذراع في الطريق!. . .
لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحاً بتلك النعمة التي(379/54)
سيقت إليّ من حيث لا أدري! كلا، ولا بعض هذا، لقد سهرت تلك الليلة إلى الصباح في قلق وهم؛ وفي حديث بيني وبين نفسي كله تأنيب وملامة؛ لقد كنت موقناً أنني لست الرجل الذي تؤهله صفاته ليكون حبيباً يلم طيفه بخيال امرأة؛ ولم أكن من الغفلة بحيث أنسى بسهولة حقيقتي التي عشت بها ما فات من أيامي؛ وكنت خائفاً أن يكون قد بدر مني شيء على هوى أشعرها أملاً واخفي عنها حقيقة، فانقادت إليّ مخدوعة وعلى عينيها غشاوة.
بلى، لقد كنت سعيداً بحبها، ولكنني لم أحاول قط أن أشعرها معنى يدنيها إلي ويزيدني حباً إليها؛ وكان ضميري يخادعني حين كنت استمع إلى نجواه في نفسي قائلاً: (لا عليك ملامة إذ كانت تحبك دون أن تطلب إليها!) ويا لها خدعة! وهل زادها حباً لي إلا شعورها بأنها تجد لعواطفها في نفسي استجابة؟. . . وفي مرات كثيرة، كان يثوب إليّ رشادي ويغيب عني هواي، فأهم أن أقول لها وإنها لجالسةٌ بإزائي: (أنظري إليّ! هل ترينني أصلح للحب؟)، ولكني لم أجرؤ في مرة واحدة من هذه المرات أن أقولها؛ لأن هواي كان يغلبني على رأيي؛ فتقول لي نفسي: (أو ليست تراك دون أن تطلب إليها أن تنظر؟).
وحتى يوم أسلمت لي شفتيها وأغمضت عينيها في مثل غشيه الوحي، لم يقع في نفسي إلا أنه عمل منها لا مني، والقبلة المعسولة ما زال يرن صداها في قلبي!
ولكنني مع كل ذلك يا صديقي لم يغب عني قط، أن ذلك عمل لا ينبغي؛ كانت هذه الحقيقة قارة في أعماقي، على الرغم من هوى النفس وخداع الضمير؛ ولم أكن يومئذ أعرف، فكيف لو عرفت؟
. . . ومضت بنا الأيام على ما قدّر لي ولها، لم أحاول أن أسألها شيئاً ولم تحاول أن تخفي عليّ؛ ومع ذلك فقد ظللت دهراً لا أعرف، على غير إرادةٍ مني ولا إرادة منها، ولم تكن في يقيني إلا فتاةً على طبيعتها الطاهرة، لم يزل بينها وبين الحياة باب مغلق. . . وأغناني يقيني عن سؤالها، وحال بيني وبين التماس أسباب المعرفة أنني لم أكن أريد أن يكون مني عملٌ إيجابي يشعرها أن لي بأمرها عناية فأمد لها أسباب المنى!
ثم كان يوم وكانت الصلة بيننا قد توثقت حتى لا سرّ بيني وبينها، وجلست تتحدث إليّ، وعرفت. . .
يا لله!. . . ليتني كنت ادري! وهل كان يدور بخاطري يوماً أن هذه الفتاة التي بعيني هي(379/55)
امرأة، وهي زوجٌ قد انفتح الباب المغلق بينها وبين الحياة. . .!
لم تكن خادعةً فيما أعلم حين كتمت عني حديثها طوال هذه الأشهر، ولكنها لم تجد سبيلاً إلى أن تقول، فصمتت، فلما أمكنتها الفرصة جاء الحديث لوقته فراحت تقص عليّ. . .
وشعرت بالغيرة تلذغ قلبي لأول مرة، غير رجلٍ يحاول أن يستأثر بما لا يملك دون الذي يملك؛ ولكني لم ألبث أن فئت إلى رشادي واستيقظ ضميري، فرحت أوبخ نفسي على ما كان وأشبعها تعنيفاً وملامة، ولكني لم أجرؤ أن أقول.
لم يكن لها خيارٌ فيما فعلت. هكذا حكمتُ حين قصت عليّ خبرها؛ فقد ماتت أختها عن بنين وبنات وزوجٍ في سن أبيها له مالٌ وجاهٌ وشفاعةٌ ويد مبسوطة؛ وكانت هي يومئذ تلميذة في السادسة عشرة، دنياها معلم وكتاب ومسطرة. . . وعادت يوماً من مدرستها فإذا في غرفة الاستقبال كاتب وشهود، وباتت مُسمّاة على زوج أختها، ثم أصبحت زوجاً وأماً لبنين وبنات وما حملت ولا ولدت!
لم تفهم شيئاً مما مرّ بها إلا كما تفهم كل فتاة في بيت أبيها أن يقال لها قومي فتقوم، واجلسي فتجلس!
وانتقلت من دار إلى دار ولكن قلبها لم يزل على نقاوته وطهره، في عينيها نظرة الطفل، يرى كل شيء جديداً على عينيه، وعلى شفتيها ابتسامتها الصامتة المبينة، وفي رأسها أحلامها، ثم التقينا.
. . . هذا ما قالت لي؛ وقال لي ضميري: ويحك يا شقي! إنك تحاول إفساد امرأة على رَجلها!
وقال لي هواي: وماذا فعلت؟ أيكون الاستماع إلى شقية بائسة تشكو بثها محاولة لإفساد امرأة؟ وزدت من يومئذ آلاماً إلى آلامي، وزدت إلى ذلك إيماناً بنفسي وأيقنت من يومئذ أنني شيء، وأيقنت إلى ذلك أنني في عمل لا ينبغي!
وحاولت منذ عرفت أن أبتعد عنها وإن قلبي لينازعني إليها، فلا أنا صممت فيما حاولت ولا هدأ قلبي؛ وعدت بين نزاع القلب وتأنيب الضمير في شقاوة وألم؛ ولكنني كنت بشقاوتي سعيداً!
ويلي! ليتني عرفت يومئذ كل شيء! أم ليتني مضيت فيما صممت ولو كان فيه تدميري(379/56)
وهلاكي؛ إذن لاحتفظت لنفسي براحة الضمير إذ فقدت راحة القلب! ولكنني لم أكن اعرف؛ وكان الدهر يدخر لي البقية. . .
. . . ولقيت صديقي (فلاناً) على غير ميعاد؛ وجلس يتحدث إلي. . . وأرهفت أذني للسمع، وخيل إليّ وهو على مقربة مني وأنا أستمع إليه أن بيني وبينه من البعد مسافة تسافر فيها الأحلام وتثوب؛ وجثم على صدري كابوس مفزع لا يخف ولا يتحلحل؛ وهممت أن أتكلم فما أطقت الكلام؛ ودار رأسي مثل خذروف الوليد بين قوتين تتجاذبانه، وتناثرت أشلاءً على مكاني. . .
ولما أفقت بعد برهة لم يكن بجانبي أحد غيره، ورن صوته في مسمعي: (رفقاً بنفسك يا صديقي! إنك تتعب نفسك أكثر مما تطيق!).
ثم خلفني وآلامي، ومضى! إذن فهو ذاك؟ إنها زوجته! وهجرت المدينة يا صديقي إلى حيث أحاول التكفير عن خطيئتي والفرار بنفسي؛ وهجرتها بلا وداع، ولكنها لم تتركني وشأني؛ لقد أصابها من ذلك مثل سعار الجوع في الكلب الضالّ
وكان زوجها يتحدث إليها حديثاً من حديثه، فحسبته يعرّض بها، فثارت به، ثم اندفعت في ثورتها؛ وابتسم الرجل وتمتم بكلمات، وألقى الشيطان في أذنها كلمات غير ما قال؛ فزادت ثورةً وهياجاً، وقالت: (بلى، إنني أحبه، وسأتبعه إلى آخر الدنيا!).
وعلا بكاء طفل، طفلٌ رضيع لم يفتح عينيه على الحياة إلا منذ أيام معدودات؛ وقلب الرجل عينيه بين الطفل وأمه، وقال في همس: (إذن فهو ولده؟. . .)، وفتحت الأم فمها مدهوشة وبرّقت، وسألت: (أتراه يظن. . .! ويلي!).
ونالني رشاشها على مبعدة يا صديقي وما جنيت جناية. . .
. . . ذلك كل ما كان من أمري وأمرها؛ أم تراني جنيت إذ أحببت امرأةً أحبَّتني، أنا الذي عاش ما عاش من عمره لم يؤمل أن تعطف عليه امرأة؟. . . نعم، لقد كان ذلك عملاً لا ينبغي، ولكن. . .
قلت: (ولكنه أودى بشرف امرأة، وهناءة رجل، وضَيْعةِ طفل يَتِمَ في حياة أبويه، وصيّرك في أعين الناس إلى ما ترى. . . أنتَ ما جنيت يا صديقي، ولكن ثم جنايةَ رجل؛ فمن جناها؟).(379/57)
محمد سعيد العريان(379/58)
العدد 380 - بتاريخ: 14 - 10 - 1940(/)
خواطر مهاجر
- 4 -
سار (موكب الرؤية) من (مركز البندر) في صفين طويلين من الجنود المشاة تتقدمهم فرقة الموسيقى في شتى آلاتها وشاراتها، وتتلوهم طوائف الصوفية في مختلف هيئاتها وإشاراتها، وعشاق رمضان محتشدون على جوانب الطرق وفي طنوف المنازل يجتلون الموكب المهيب ووجوههم يشرق فيها السرور كأنما يستقبلون وافداً من الملأ الأعلى سيغمرهم بالسرور ويطهرهم بالنور ويزكيهم بالبركة. فلما أتم الموكب خطاه الوئيدة الموزونة تفرق، واجتمع الناس على شاطئ النيل يرتقبون بشرى المحكمة بطلعة الهلال الوليد! ولرمضان في رأي الريفيين هلال غير أهلة الشهور، يولد من نور الجنة، ثم يدرج في رياض الشفق دروج الطفل المدلل الموموق، حتى إذا أيدر واستحار شبابه تردد كل يوم بين المشرق والمغرب في موكب ذاكر من كرام الملائكة، يختلط فيه تسبيح القائمين بذكر الصائمين، ويمتزج فيه سلسل النور بسليل الطين؛ وتلك هي الأيام المباركة التي تتصل فيها السماء بالأرض من كل سنة
وهلال رمضان في لغة الريفيين هو رمضان نفسه. لذلك يتخيلونه رجلاً له حياته وعمره وأجله. فإذا لم يبق منه إلا ربعه الأخير تمثلوه في محفته السماوية محتضراً يعالج غصص الموت بين أناشيد الحور وصلوات الملائكة، فيندبونه في البيوت والمساجد، ويرثونه على السطوح والمآذن، ويبكونه يوم الجمعة اليتيمة أحر بكاء!
قصفت المدافع المصرية في كل محافظة وفي كل مديرية في لحظة واحدة وعلى فترات محددة، فأفتر البشر على الشفاه، وجرت التهنئات على الألسن، واستولى على المنصورة شعور نقي هادئ خاشع لا يصدر عنه إلا الكلم الطيب والعمل الصالح. ورمضان يرجع المسلم الصادق نقياً كقطرة المزن، طاهراً كقطرة الوليد، لا ينغمس في منكر، ولا يخف إلى شر، ولا يلغو في حديث، ولا يبغي في خصومة. ومن ذلك كان كل حي سعيداً في رمضان، ما عدا الرومي والشيطان!
كان في كل طلقة من طلقات المدفع المبشر تنبيه إلى فضيلة من فضائل الصوم. فالمؤمن حين دوى في سمعه صوت البارود تيقظت في نفسه نوازع الخير ففكر في توثيق ما وهن(380/1)
بين القلب والدين، وتقريب ما بعد بين الغني والمسكين، وتأليف ما نفر من القلوب المطمئنة، ووصل ما انقطع من الأرحام الشابكة. ولكنه وا أسفا لم ير في هذا العام المآذن تتلألأ في أجيادها قلائد النور، ولا فوانيس الأطفال تخفق شموعها في الشوارع والدور، فتذكر أن هناك على سواحل البحر الأبيض وشواطئ بحر المانش مدافع غير هذه المدافع، تنطلق لتطفئ كل نور وتظلم كل قلب وتخرب كل عامر وتقتل كل حي وتقطع كل سبب وتغشى أجواء السماء بدخان من البوار والدمار لا يقوم تحته قائم ولا ينسم فيه حي!
ليت الذي حول لوثر هتلر، ومسخ في هتلر الإنسانية نازية، جعل في كل ركن من هذا الجحيم الأوربي رمضان بحكمته وطبيعته وعقيدته! إذن لكان كل مدفع للسلام، وكل مصنع للخير، وكل مخترع للحياة، وكل مورد للناس! (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين!).
إن الفرق بين مدافع رمضان ومدافع هتلر، كالفرق بين القرآن و (كفاحي). كتاب الله دستور الخالق لجميع خلقه، فهو خير مطلق وأمن شامل؛ وكتاب هتلر نزغ من الشيطان للألمان، فهو شر محض وفزع دائم. فأنا حين أسمع مدافع رمضان في الغروب أو في السحر، أعتقد أن جياعاً سينالون القوت، وضلالاً سيجدون المثوى، وجوارح ستكف عن اجتراح الإثم، ونفوساً سترتاض على مكاره الفضيلة، وأمماً في جميع بقاع الأرض سيغمرهم الشعور السامي الجميل بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة، ممتزجة الروح متحدة العقيدة متفقة الفكرة، متشابهة النظام، متماثلة المعيشة.
وأنا حين أتصور مدافع هتلر أعتقد أن كتائب من الشباب الفريض قد صهرتهم النار فهم حمم على وجه الماء، أو مزقتهم الشظايا فهم مزق على أديم الثرى؛ وأن آلافاً من الدور الأنيسة قد نبت مراقدها فهي حبوس، وخمدت مواقدها فهي رموس، ثم دكتها القنابل فهي أنقاض على أشلاء، أو أحرقتها الصواعق فهي غسلين على فحم؛ وأن ملايين من الأطفال قد حرموا عطف الأب وحنان الأم، فهم يعانون في مطارح الغربة غصص الحرمان ومرارة اليتم؛ وأن ألوفاً من الأيامى والثكالى أصبحن بغير عائل ولا مأوى ولا أمل، فهن يمشين في ثيابهن السود بين الأطلال والخرائب كأنهن الأطياف الحزينة تجوس في الليل(380/2)
خلال المقابر؛ وأن ملايين من العمال والصناع أدركتهم العطلة وقعد بهم الكساد فضلوا يكابدون حسرة الحاجة في أنفسهم ولوعة الهم في أهليهم، وباتوا يضطربون من البؤس واليأس اضطراب القنيص لا يجدون مخلصاً للحياة ولا للموت.
إن الحرب في تاريخ الديمقراطية الإسلامية لم توقد نارها إلا دعاء إلى سبيل الله، أو ابتغاء لخير الناس، أو ذياداً عن سلامة الوطن؛ أما أن تنهب الممالك لأنك تريد أن تأكل، وتسحق الشعوب لأنك تريد أن تنتقم، وتخضع الدول لأنك تريد أن تسود، فذلك ماض البربرية الحمراء، وحاضر الطغيان الأسود!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(380/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(اللغة العربية في المدارس الأجنبية - كلمة صريحة إلى
مدرسي اللغة العربية بتلك المدارس - إلى الوكيل المساعد
لوزارة المعارف - أسئلة وأجوبة - القلب الذي تلفت فرأى
وسمع)
اللغة العربية في المدارس الأجنبية
تحت هذا العنوان نشرت (الرسالة) بحثاً سمته (توجيهات لأحد المشتغلين بشئون التعليم) فهل أستطيع التعقيب على هذا البحث أداءً لحق الواجب في أمثال تلك الشؤون؟
اهتم ذلك الباحث بتصوير حال اللغة العربية في المدارس الأجنبية وشغل نفسه وشغل القراء بالنص على ما يجب من حرص وزارة المعارف على الاهتمام بالتفتيش والاهتمام بالمواد التي تكون الثقافة للمصرية رعاية لمصاير التلاميذ المصريين بالمدارس الأجنبية.
وأقول إن الباحث لم يأت بجديد: فوزارة المعارف لا تحتاج إلى من ينبهها إلى التدقيق في التفتيش على المدارس الأجنبية، ولا تحتاج إلى من يدلها على أهمية الحرص على تدريس المواد التي تكون الثقافة المصرية بالمدارس الأجنبية، فمن المعروف أن معالي الدكتور هيكل باشا معنى بهذه الشؤون عناية جدية، ونظار تلك المدارس يعرفون عنه هذه العناية، وهم يبذلون جهوداً محمودة في تحقيق هذه المطالب.
ولكن المهم هو النظر في الوسيلة التي تمكن وزارة المعارف المعاونة على تحقيق تلك الأغراض، وهي وسيلة معروفة، ولكن معالي وزير المعارف يتجاهلها مراعاةً للظروف الاقتصادية، وليست هذه أول مرة يكون فيها (تجاهل العارف) من صور الكلام البليغ؟!
الحق أن معالي هيكل باشا يعاني صعوبات كثيرة في تدبير المال المطلوب لتحقيق ما يصبوا إليه من كرائم الأغراض، وهو يتلطف ويترفق في كل وقت ليقنع وزارة المالية بأن للتعليم شؤوناً هي من أوائل الضروريات، وأن الاقتصاد فيما يمس شؤون التعليم قد يكون(380/4)
من الشح البغيض.
وهنا أجد الفرصة لإقناع معاليه بأن تقوية اللغة العربية في المدارس الأجنبية لن تضطره إلى الوقوع في نزاع مع وزارة المالية، فهو يستطيع أن يدبر بكل سهولة أن يدبر أربعة آلاف جنيه للشروع في تحقيق ذلك الغرض النبيل، ومن هذا المبلغ تقدم الإعانات لعدد كبير من المدرسين الفنيين في المدارس التي تتطلع إلى إعانة وزارة المعارف. . . ولمعاليه أن يتصور كيف يكون فرح اللغة العربية بهذه الأربعة الآلاف وهي مبلغ ضئيل بالقياس إلى ما تجره من النفع الحق في تقوية اللغة العربية بالمدارس الأجنبية.
بأربعة آلاف فقط، وهي مبلغ يقدم لمدرسة واحدة من المدارس المصرية، بأربعة آلاف فقط يشهد التاريخ بأن معالي الدكتور هيكل باشا قدم يداً كريمة للمدارس الأجنبية، وبأربعة آلاف فقط يشهد الأجانب بأن المصريين يعرفون معنى الحرص على إعزاز اللغة القومية.
وقد أمضي إلى نهاية الشوط فأقول: إن معالي الدكتور هيكل باشا يستطيع أن يصدر قراراً باعتبار مدرسي اللغة العربية بالمدارس الأجنبية مدرسين منتدبين من وزارة المعارف كالمدرسين الذين ينتدبون للتدريس في الحجاز والشام ولبنان والعراق، وعندئذ يعرف هؤلاء المدرسون أن لهم حقوقاً محفوظة في الأقدمية والترقية فتقل رغبتهم في التطلع للالتحاق بالوظائف الحكومية، ويشعرون بأنهم في رعاية الدولة، وبأنهم ليسوا من المنسيين، وبأن من الهوان أن يردوا إلى مدارس الحكومة، لأن ذلك معناه أنهم عجزوا عن الظفر بثقة المدارس الأجنبية، وهي ثقة لها معنىً دقيق.
فما رأي معالي هيكل باشا في هذين الاقتراحين؟ وما رأيه إذا صارحته بأن اهتمامه بمصاير اللغة العربية في المدارس الأجنبية لن يؤتي الثمرات المرجوة إلا بتحقيق هذين الاقتراحين؟
يجب أن يذكر معالي هيكل باشا أن المدارس الأجنبية في طريق التمصر والاستعراب، وهي خطوات تستأهل التشجيع، فإلى من نتوجه إذا بخل بهذا التشجيع، وله أبناء يتعلمون بالمدارس الأجنبية، ولهم عليه حقوق؟
ولو كنت أعرف أني أحرج معالي وزير المعارف بهذين الاقتراحين لما استبحت نشرهما بطريقة علنية، وإنما أعرف أنه اهتم بهذه المسألة مرات كثيرة، ولم يعد من الأسرار أن(380/5)
يقال إنه يبالغ في الحرص على إنهاض التعليم الحر، وفي نفسه أن ذلك طريق لجذب المدارس الأجنبية إلى تقوية مواد اللغة العربية والثقافة المصرية عساها تستطيع الظفر المطلق بثقة آباء التلاميذ في زمن لم يبق فيه مجال للحياة في مصر أمام الشبان العاجزين عن مسايرة المجتمع المصري، وهو مجتمع يعبر عن مطامحه في المجد والحياة باللغة العربية.
كلمة صريحة
هي كلمة أوجهها إلى مدرسي اللغة العربية بالمدارس الأجنبية، فأغلب أولئك المدرسين ينسون أو يتناسون أن وجودهم بتلك المدارس فرصة ثمينة لتعلم اللغات الأجنبية، والتعرف إلى ما عند الأجانب من آداب ومذاهب في الميادين الاجتماعية والاقتصادية.
كنت أرجو أن يفهم من يشتغل بالتدريس في مدرسة فرنسية أو إنجليزية أو إيطالية أو ألمانية أنه انتقل إلى جو من أجواء باريس أو لندن أو روما أو برلين.
ولكن أولئك المدرسين يعيشون بمعزل عن الجو الروحي لتلك المدارس، وتظل صلاتهم بها صلات منافع تحد بحدود المرتب ولا تجاوزه إلا في قليل من الأحايين، وتكون النتيجة أن ينعدم التآلف والتعاطف، ولذلك تأثير في سير الأعمال المدرسية، لأن التجاوب الروحي بين النظار والمدرسين يعاون على تخفيف ما في مهنة التدريس من أعباء ثقال
أنا أحب لمن يشتغل بتدريس اللغة العربية في مدرسة أجنبية أن يضمر في قرارة نفسه أنه لن يفارق مدرسته أبداً وأنه سيجعلها داره إلى أن يفكر في الراحة من عناء التدريس
وقد اتفق لي فيما سلف أن أقضي أعواماً كثيرة في التدريس بالمدارس الأجنبية، وما أذكر أبداً أني لقيت من أصحابها ما أكره، وما زلت أذكر بالخير والعطف والحب أيامي بالليسيه فرانسيه والجامعة الأمريكية، وإن كنت أذكر بالحسرة واللوعة أنه فاتني أن أنتفع بصحبة أولئك القوم أكثر مما انتفعت، فقد كانت قلوبهم مفتوحة أمامي، وكنت أستطيع الانتفاع بمعارفهم وتجاربهم في كل وقت.
وخلاصة القول أنه يجب على مدرسي اللغة العربية بالمدارس الأجنبية أن يعتبروا أنفسهم في دورهم، وأن ينسوا أنهم (أجانب في دور الأجانب)، فما كانوا ولا كان رؤسائهم بتلك المدارس إلا جنوداً في الميدان العلمي، وهو ميدان تظهر فيه المواهب وتختفي الأجناس.(380/6)
إلى الوكيل المساعد لوزارة المعارف
لم يتفضل سعادة الأستاذ شفيق غربال بدعوتي إلى الاشتراك في اللجنة التي ألفها لوضع القواعد الأساسية لاختيار المدرسين الذين ينتدبون للتدريس بمدارس العراق، ولم أتطفل فأتشرف بعرض آرائي عليه في هذا الموضوع الدقيق، وليتني فعلت فقد يجب التطفل في بعض الأحيان!
فماذا صنع وصنعت اللجنة البصيرة بالعواقب؟!
أعلنوا في الجرائد عن موضوع يضر فيه الإعلان أكثر مما ينفع، فاستجاب لهم مئات المدرسين، إن صح ما أذيع!
فهل من الحق أن عندنا مئات تسمح لهم المواهب والكفايات بأن يكونوا أساتذة بالمدارس الثانوية والعالية بالعراق؟ ولنفرض أننا نملك هؤلاء المئات من المدرسين الأكفاء، فهل نراهم جميعاً صالحين للتمرس بأعباء مهنة التدريس في ديار الرافدين؟
لم يبق إلا أن نتخير، ولكن كيف نتخير عشرات من أولئك المئات؟ وقد تخيرنا بالفعل، فماذا وقع؟
وقع أن بعض من تخيرناهم عادوا فآثروا التخلف، فهل فكرت الوزارة في معاقبة أولئك الجنود الفارين، وقد اكتفوا من التشريف بخطورهم في بال وزارة المعارف؟
يجب أن تكون للوزارة سياسة ثابتة في هذه الشؤون، ويجب أن تكون عندها إحصائية دقيقة بالمدرسين الذين يصلحون لأمثال هذه الواجبات وعندئذ يكون من حق الوزارة أن تنقل المدرس المنشود من القاهرة إلى بغداد أو البصرة أو الحلة أو الموصل كما تنقله من القاهرة إلى دمنهور أم المنصورة أو أسيوط أو أسوان، ثم لا يكون من حق ذلك المدرس أن يتخلف لأنه جندي ينقل من ميدان إلى ميدان
أكتب هذا وأنا أعرف أن وزارة المعارف العراقية في انتظار جواب وزارة المعارف المصرية عن هذا السؤال: (ما الرأي في المدرس الذي يتخلف عن موعد افتتاح الدراسة أسبوعاً أو أسبوعين أو أسابيع، وإلى من يحتكم التلاميذ الذين تضيع منافعهم بتخلف المدرسين؟).
ولكن لا بأس، فالمصريون والعراقيون أشقاء، ومن واجب الشقيق أن ينسى تقصير(380/7)
الشقيق، فهو على كل حال أخ (شفيق)!
أسئلة وأجوبة
استطاع الأديب الذي وجهنا إليه عشرة أسئلة حول بيت من الشعر وقعت فيه غلطة مطبعية لا تحتاج إلى عناء في التصحيح، لأنها لا تزيد عن التنبيه إلى أن خبر المبتدأ واجب الرفع، استطاع ذلك الأديب أن يجيب إجابة صحيحة عن ثلاثة أسئلة، وأن يشرع في الإجابة عن سؤال رابع، ثم حاول الإجابة عن سائر الأسئلة فلم يوفق، فأرجوه أن ينظر من جديد في الأجوبة التي ظنها تخرجه من ذلك الموقف المحرج، إن كان يهمه أن يقال أنه سئل فأجاب
وليعرف إن لم يكن يعرف أني لا أعادي قرائي، وإنما أهتم من وقت إلى وقت بجذبهم إلى المراجعة والاستقصاء، فإن كان تأذى من هجومي عليه فليذكر أني أتحت له فرصة ثمينة للنظر والتعقيب. وقد كنت هممت بشرح الأخطاء التي وقعت في أجوبته (السديدة) ثم رأيت أن أكل ذلك إليه، فتلك فرصة لمحاورة نفسه في الخطأ والصواب.
القلب الذي تلفت
جاء في الكلمة الروحية التي نشرتها (الرسالة) للأستاذ محمد البشبيشي أن قلبه تلفت فرأى وسمع، ثم أكد المعنى فقال
(يا دكتور، إن القلوب لتسمع وترى وتتلفت).
هو ذلك، يا صديقي، منذ الفطرة الأزلية، أو منذ اليوم الذي (تلفت القلب) فيه عند وقفة الشريف الرضي على ديار بعض الأحباب.
ولكن أين حظي من حظك، يا صديقي؟
وما كاد قلبك يتلفت إلى صاحب (النثر الفني) حتى رأيت وجهه وسمعت صوته في مدينة جميلة هي المنصورة العصماء.
وقلبي يتلفت ويتلفت منذ شهور طوال طوال طوال إلى روح غالية كانت خلائقها الروحانية هي الشاهد على أن في دنيانا نسائم من فراديس الجنان.
وعلى طول التلفت والتسمع (تلفت القلب وتسمع القلب) لم أظفر من أخبارها بشيء؛ ولعل(380/8)
الشريف كان في مثل حالي يوم قال:
ومن حَذَر لا أسأل الركب عنكم ... وأعلاقُ وجدي باقيات كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب ... فلابد أن يلقى بشيراً وناعيا
فماذا تضمر الدنيا في أيامها المقبلات؟
وماذا عند القدر من مكنون النعيم أو الجحيم للقلب الذي صير الحديث عن الحب شريعة من شرائع الوجود؟
أين بائع النسيان، يا صديقي، وأين بائع السلوان؟
وأين من يوهمني بأن تلك الزهرة لم تكن نفحة سماوية وإنما كانت نفحة أرضية لا نصيب لأرجها العطر من روح الخلود؟
لقد بدأ قلبي يخمد من لفح اليأس، وإن دام هذا الحال فلن ترى في أحاديثي إليك غير التوجع للقلب الذي أضاعه تقلب القلوب.
وما ذنبي عند تلك الروح؟
ذنبي وذنوبي وعيبي وعيوبي أن لم أطعها بالافتضاح بالحب ولم أسطر في هواها مئات الصفحات كما صنعت مع (ليلى المريضة في العراق) كأنما كان مكتوباً علي أن أقضي الدهر في الهيام بالعيون العسلية والعيون السود، عيون أهل القاهرة وعيون أهل بغداد، والله هو وحده الذي يعلم مواقع هواي، فلن أطيع تلك اللئيمة في الترحيب بمآثم الافتصاح.
وما الموجب لقتل الوقت والعافية في تذكر القلوب الغوادر، وفي دنيانا تكاليف تميد من أثقالها الجبال؟ ما الموجب؟!. . . الموجب معروف وهو الوثاق المسطور في اللوح المحفوظ بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح.
أما بعد فإن قال قوم أني كاذب في الحب فقد صدقوا، وإن قال قوم إني صادق في الحب فقد صدقوا، فأنا كاذب في تصوير ما أعاني من شقاء: لأن الواقع يشهد أن الحب لم يشغلني عما أضطلع به في حياتي الخصوصية والعمومية من أعباء ثقال؛ وأنا صادق في تصوير ما أقاسي من لواعج وأشجان: لأن الواقع يشهد أيضاً أن حياتي لم تخل من التأثر بمكايد السحر والفتون.
كم تمنيت أن أكون في الحب من الكاذبين! وكم تمنيت أن أكون في الحب من الصادقين،(380/9)
لو كان في المقدور أن ينال الرجل ما يتمناه! وأنا على كل حال أحكمت أحبولة الرياء فقلت ما قلت وأنا في أمان من كيد الوشاة والعذال. . . وكيف يعظم علي الرياء وأنا أول من تقرب إلى الله بالرياء؟
إني أرائي من أحب، ولكني لا أرائي من أبغض، فلأعدائي الويل إن توهموا أني سأجازيهم رياء برياء. كتب الله لي في تأريق جفونهم الهواجد أجر المجاهدين.
زكي مبارك(380/10)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: الرسم
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تكلمنا في المقال السابق عن أنواع الرسم وتاريخه، وسنعرض في هذا المقال لموضوع مطابقته للنطق ولأثره في حياة اللغة وتطورها.
الأصل في الرسم الهجائي أن يكون معبراً تعبيراً دقيقاً عن أصوات الكلمة بدون زيادة ولا نقص ولا خلل في الترتيب؛ فيرسم في موضع كل صوت من أصواتها الحرف الذي يرمز إليه، ولا يوضع فيها حرف زائد لا يكون له مقابل صوتي. وقد حوفظ على هذا الأصل لحد كبير في بعض اللغات الإنسانية، وخاصة القديم منها. فرسم الكلمة في السنسكريتية مثلاً لا يكاد يختلف في شيء عن صورتها، ولكن معظم أنواع الرسم، وخاصة الحديث منها، لا تتوافر فيه هذه المطابقة. فكثيراً ما يرسم في حرف زائد أو حروف زائدة ليس لها مقابل صوتي في النطق ((مائة) في اللغة العربية؛ في الفرنسية؛ في الإنجليزية. . . الخ). - وكثيراً ما تشتمل الكلمة على أصوات لا تمثلها حروف في الرسم ((هذا) في العربية؛ في الإنجليزية. . . الخ). - وكثيراً ما يرسم في الكلمة حرف أو أكثر للتعبير عن صوت غير الصوت الذي وضع له في الفرنسية؛ في الإنجليزية. . . الخ) - وكثيراً ما ينطق بالحرف الواحد أو بالمقطع الواحد في صورة صوتية مختلفة تبعاً لاختلاف الكلمات أو اختلاف أزمنتها، أو اختلاف موقعه فيها، أو اختلاف ما يسبقه أو يلحقه من حروف. . .؛ فيرقق في بعض الكلمات ويفخم في بعضها الآخر، أو يمد في بعضها ويقصر في بعضها الآخر، أو يضغط عليه في بعضها ويرسل في بعضها الآخر. . . وهلم جرا (اللام) في (والله) (بالله) , , , , ; ; ,. .) ; ,
وكثيراً ما تختلف الحروف في كلمتين ويتحد النطق بهما.
ويرجع السبب في هذه الظواهر وما إليها إلى عوامل كثيرة من أهمها عاملان:(380/11)
أحدهما: أن حروف الهجاء في معظم أنواع الرسم لا تمثل جميع أصوات اللغة التي تكتب بها. فقد جرت العادة مثلاً في معظم أنواع الرسم ألا يوضع لكل صوت عام أكثر من حرف هجائي واحد، مع أن الصوت العام كثيراً ما يندرج تحته أصوات مختلفة في مخرجها ونبراتها وقوتها ومدة النطق بها وما إلى ذلك. فالصوت العام للام مثلاً ليس له في معظم أنواع الرسم الحديثة إلا حرف واحد (ل!. . .)؛ مع أن هذا الصوت يختلف نطقه باختلاف الكلمات والمواقع. فأحياناً ينطق به مرققاً (بالله , وأحياناً مفخماً (والله، وتارة ينطق به مضغوطاً عليه (أقسم بالله) وأخرى ينطق به مرسلاً (نستعين بالله). . . وهلم جرا؛ ورسمه واحد في جميع الحالات. والصوت العام للألف اللينة ليس له في العربية إلا حرف واحد؛ مع أنه أحياناً ينطق به مستقيماً وأحياناً ينطق به ممالاً. والصوت العام للجيم ليس له في العربية إلا حرف واحد؛ مع أنه في بعض اللهجات ينطق به مجرداً من التعطيش، وفي بعضها ينطق به معطشاً كل التعطيش، وفي بعضها ينطق به بين هذا وذاك.
وثانيهما: أن أصوات اللغة في تطور مطرد وتغير دائم. فالأصوات التي تتألف منها كلمة ما لا تجمد على حالتها القديمة، بل تتغير بتغير الأزمنة والمناطق، وتتأثر بطائفة كبيرة من العوامل الطبيعية والاجتماعية واللغوية: فأحياناً يسقط منها بعض أصواتها القديمة، وأحياناً تضاف إليها أصوات جديدة، وتارة يستبدل ببعض أصواتها أصوات أخرى، وتارة تحرف أصواتها عن مواضعها فيختل ترتيبها القديم. . .؛ وقد ينالها أكثر من تغير واحد من هذه التغيرات. على حين أن الرسم لا يساير النطق في هذا التطور، بل يميل غالباً إلى الجمود على حالته القديمة أو ما يقرب منها؛ فلا يدون الكلمة على الصورة التي انتهت إليها أصواتها، بل على الصورة التي كانت عليها من قبل؛ وهذا هو منشأ الخلاف في معظم اللغات الأوربية الحديثة بين النطق الحالي لكثير من الكلمات وصورتها في الرسم. فمعظم وجوه الخلاف ترجع إلى جمود الرسم وتمثيله لصور صوتية قديمة نالها مع الزمن كثير من التغير في ألسنة الناطقين باللغة.
هذا، وللرسم في حياة اللغة ونهضتها آثار تجل عن الحصر، فبفضله تضبط اللغة وتدون آثارها، ويسجل ما يصل إليه الذهن الإنساني، وتنشر المعارف وتنتقل الحقائق في الزمان والمكان. وهو قوام اللغات الفصحى أو لغات الكتابة ودعامة بقائها. وبفضله كذلك أمكننا(380/12)
الوقوف على كثير من اللغات الميتة كالسنسكريتية والمصرية القديمة والإغريقية واللاتينية والقوطية. فلولا ما وصلنا من الآثار المكتوبة بهذه اللغات ما عرفنا منها شيئاً ولضاعت منا مراحل كثيرة من مراحل التطور اللغوي. غير أن عدم مطابقة الرسم للنطق يجعل له بجانب المحاسن السابقة بعض آثار ضارة، فهو يعرض الناس للخطأ في رسم الكلمات، ويجعل تعلم القراءة والكتابة لأهل اللغة أنفسهم من الأمور الشاقة المرهقة، ويطيل مدة الدراسة، فيسبب إسرافاً كبيراً في الوقت والمجهود، وما يلاقيه أهل اللغة من صعوبات بهذا الصدد يلاقي أضعافه الأجانب الراغبون في تعلمها، ومن الواضح أن هذا يعوق انتشارها في خارج، ويضيق سبل الانتفاع بآدابها وعلومها، فيصعب التفاهم بين الشعوب وتضعف بينها حركة التبادل العلمي والثقافي. هذا إلى تمثيل الرسم لصور صوتية قديمة يعمل على رجع اللغة إلى الوراء وردها إلى أشكالها العتيقة. فكثيراً ما يتأثر الفرد في نطقه للكلمة بشكلها الكتابي، فلا يلفظها بالصورة التي انتهى إليه تطورها الصوتي، بل ينطق بها وفق رسمها فتنحرف إلى الوضع الذي كانت عليه في العهود القديمة. وليس الأجانب وحدهم هم المعرضين لهذا الخطر، بل إنه كثيراً ما يصيب أهل اللغة أنفسهم. وإليك مثلاً الحرف المضعف في اللغة الفرنسية في مثل ,. . الخ فقد كان ينطق به وفق رسمه في العصور الأولى لهذه اللغة. ثم انقرضت هذه الطريقة منذ خمسة عشر قرناً تقريباً، وأخذ الفرنسيون ينطقون به مخففاً كما ينطقون بحرف , ولكن منذ عهد قريب أخذت عادة النطق به مشدداً تظهر في ألسنة كثير منهم تحت تأثير صورته الخطية. فمن جراء الرسم نكصت اللغة على عقبيها في هذه الناحية خمسة عشر قرناً إلى الوراء.
ومن أجل ذلك كان العمل على إصلاح الرسم وتضييق مسافة الخلف بينه وبين النطق موضع عناية كثير من الأمم في كثير من العصور. فقد ظهر في هذا السبيل بعض حركات إصلاحية عند اليونان والرومان في العصور السابقة للميلاد. وفي أواخر القرن التاسع عشر عالج الألمان أساليب رسمهم القديم وأصلحوا كثيراً من نواحيه. ومثل هذا حدث منذ عهد قريب في مملكة النرويج ثم في جمهورية البرازيل. وقد بدت بهذا الصدد محاولات إصلاحية كثيرة في البلاد الواطئة (هولندا) وإنجلترا والولايات المتحدة؛ ولكن معظم هذه المحاولات لم يؤد إلى نتائج ذات بال.(380/13)
وأدخلت الأكاديمية الفرنسية - يشد أزرها ويعاونها طائفة من ساسة فرنسا وعلمائها - إصلاحات كثيرة على الرسم الفرنسي. وقد جانبت في إصلاحاتها هذه مناهج الطفرة، واتبعت سبل التدرج البطيء. فكانت تدخل في كل طبعة جديدة لمعجمها - بجانب التنقيحات اللغوية والعلمية - طائفة من الإصلاحات الإملائية. وقد أقرت في عام 1906 مجموعة هامة من القواعد الجديدة في الرسم الفرنسي. هذا إلى إصلاحات العلامة جريار التي تناولت كثيراً من نواحي الرسم وأقرتها الأكاديمية الفرنسية. وكانت كل مجموعة من هذه الإصلاحات تلقى مقاومة عنيفة من جانب غلاة المحافظين. وعلى الرغم من ذلك فقد عم الأخذ بها، وكان لها أكبر فضل في تيسير الرسم الفرنسي وتضييق مدى الخلاف بينه وبين النطق الحديث.
والرسم العربي نفسه قد تناولته يد الإصلاح أكثر من مرة من قبل الإسلام ومن بعده. ومع ذلك لا يزال عدد كبير من المفكرين في عصرنا الحاضر يأخذون عليه كثراً وجود النقص والإبهام، وينادون بإصلاحه من عدة نواح وخاصة فيما يتعلق برسم الهمزة والألف اللينة، وابتداع طريقة لإحلال علامات ظاهرة ترسم في صلب الكلمة محل الفتحة والكسرة والضمة حتى يتقى اللبس في نطق الكلمات: (عَلِم، عُلِم، عِلْم، عَلَمَ. . . الخ). ولكن الرسم العربي ليس في حاجة إلى كثير من الإصلاح، فهو أكثر أنواع الرسم سهولة ودقة وضبطاً في القواعد ومطابقة للنطق.
هذا، وعلى الرغم من المساوئ السابق ذكرها، فإن لجمود الرسم على حالته القديمة أو ما يقرب منها بعض فوائد جديرة بالتنويه، فهو يوحد شكل الكتابة في مختلف العصور، ويسهل تناقل اللغة، ويمكن الناس في كل عصر من الانتفاع بمؤلفات سلفهم وآثارهم. فلو كان الرسم يتغير تبعاً لتغير أصوات الكلمات لأصبحت كتابة كل جيل غريبة على الأجيال اللاحقة له، ولا احتاج الناس في كل عصر إلى تعلم طرق النطق والإلمام بحالة اللغة في العصور السابقة لهم حتى يستطيعوا الانتفاع بمخلفات آبائهم. هذا إلى أن جمود الرسم على حالته القديمة يفيد الباحث في اللغات أكبر فائدة. فهو يعرض له صورة صحيحة لأصول الكلمات، ويقفه على ما كانت عليه أصواتها في أقدم عصور اللغة فالرسم للألفاظ أشبه شيء في هذه الناحية بالمتحف للآثار.(380/14)
وقد كان للرسم في اللغات الأوربية فضل كبير في تيسير النطق بكثير من الأسماء المتداولة المركبة من عدة كلمات، فقد جرت العادة أن يكتفي في التعبير عن هذه الأسماء بذكر الحروف الأولى للكلمات التي تتألف منها:
; وشاع هذا الاستعمال في أسماء المخترعات، والشركات، والأحزاب، والفرق الحربية، والنظريات، والشهادات العلمية. . . وما إلى ذلك. وقد أنزلت هذه الرموز منزلة الكلمات، وأخذ الناس يصرفونها وينسبون إليها ويشتقون منها أفعالا وصفات. وللاقتصار عليها وكثرة استخدامها في الحديث والكتابة تنوسي أصلها عند عامة الناس، وأصبح كثير منهم يعتقد أنها كلمات كاملة (النازي، الأنزاك. . . الخ).
وللرسم أثر كبير في تحريف النطق بالكلمات التي يقتبسها الكتاب والصحفيين عن اللغات الأجنبية. وذلك أن اختلاف اللغات في الأصوات وحروف الهجاء والنطق بها وأساليب الرسم، كل ذلك يجعل من المتعذر أن ترسم كلمة أجنبية في صورة تمثل نطقها الصحيح في اللغة التي اقتبست منها. فينشأ من جراء ذلك أن ينطق بها معظم الناس بالشكل الذي يتفق مع رسمها في لغتهم، ويشيع هذا الأسلوب من النطق، فتصبح غريبة كل الغرابة أو بعض الغرابة عن الأصل الذي أخذت عنه. وليس هذا مقصوراً على اللغات المختلفة في حروف هجائها كالعربية واللغات الأوربية، بل يصدق كذلك على اللغات المتفقة في حروف هجائها كالفرنسية والإنجليزية. فجميع الكلمات الإنجليزية التي انتشرت في الفرنسية مثلاً عن طريق رسمها في الصحف والمؤلفات ينطق بها الفرنسيون في صورة لا تتفق مع أصلها الإنجليزي: - ; - ; ; ; ;. حتى أن كثيراً منها لا يكاد يتبينها الإنجليزي إذا سمعها من فرنسي.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون(380/15)
القبر التائه!
الأستاذ علي الطنطاوي
كم ذا يقاسي العاشقون ويألمون، ولا يدري بهم أحد، ولا يبلغ وهم إنسان تصور ما يعانون.
كم للحب من شهداء عاشوا بائسين، وقضوا صامتين، فما حازوا مجداً ولا فخاراً، ولا اشتروا جنة ولا أمنوا ناراً. . . مساكين. . . يعيشون في دنيا الناس وليسوا فيها، يرون بغير العيون، فلا يرى الناس ما يرون، ولا يبصرون ما يرى الناس، يموت عندهم كل حي ما لم يتصل بالحبيب، ويحيا كل ذي صلة به حتى الجماد. . .
إن فكروا ففي المحبوب، أو تكلموا فعنه، أو اشتاقوا فإليه، أو تألموا فعليه. . .
فإن تكلمت لم أنطق بغيركم ... وإن سكت فشغلي عنكم بكم
وإن منحوا الدنيا باعوها كلها بقبلة أو شمة أو ضمة، ثم لم يأملوا إلا دوامها، أو الموت بعدها لئلا يجدوا فقدها، لا يألمون إن قال الناس مجانين، ولا يحزنون إن نالهم الأذى، بل ربما سرهم ما يسوء، إن كان فيه رضا المحبوب. . .
ويا ويلهم من العذال، ويا ويل الشجي من الخلي!
يلومون قيساً، لأنهم لا يرون ليلاه إلا امرأة كسائر النساء، ففي كل امرأة عوض عنها وبديل منها، ولو استعاروا عيني قيس فنظروا بها ساعة لرأوا ليلى هي الدنيا، وهي الأخرى، وهي الروح، لولاها ما كانت الحياة، ولا أضاءت الشمس، ولا أنار القمر، ولا بسم الروض، ولا ضحك الينبوع، ولا همس النسيم، ولا غنى الطائر، ولا كان في الدنيا جميل. . .
قصة الحب هي القصة الأزلية التي تتكرر دائماً، وتعاد أبداً، لا تمل ولا تسأم. وهل يمل حديث الحب ويحكم! نقرؤها كل يوم فلا نراها تبدل فيها إلا الاسم، فهي آناً قصة ليلى أو لبنى أو عفراء أو سلمى كرامة، وهي آناً قصة هلويز أو ماجدولين أو فرجيني أو شارلوت، ولا تغير إلا المنازل؛ فمن بطاح نجد إلى ضفة البحيرة، إلى ساحل الدنيا الجديدة، إلى ضلال الزيزفون. . . أما القصة فهي هي ما تبدلت ولا تغيرت. . . ولا يمكن أن تتبدل حتى تبدل الأرض غير الأرض. . .
على أن للحب مواسم، وله منازل، ينبت فيها كما ينبت النخيل في البصرة، والكرم في(380/16)
الشام. فمن منازله لبنان. . .
لبنان (شرقية والغربي) الذي برأه الله على مثال الجنة: روح وريحان، وحور وولدان، فمن حل فيه مؤمناً ذاق نعيم الخلود في دار الفناء، وأحس في الدنيا بسعادة الأخرى؛ ومن حل به غير مؤمن أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها، وما له في الآخرة من خلاق!
لبنان الذي كان دار الأولياء والشعراء والسياح والزهاد، من كل عابد متبتل، ومحب هائم، وتائب أواب!
لبنان الذي جعل الله ماءه خمراً، وجماله سحراً، فلا تدري أهو السحر قد خيل لك أنك في جنة الخلد، أم هو السكر قد جعلك تحس التخلص من هذا العالم، الغارق بالدم الملتحف باللهب، وتشعر أنك تعيش في الأفق الأعلى عيشة اللذة الدائمة، والذهول الناعم الهنيء، وسط عوالم من النور تدرك ولا ترى.
لبنان الذي لا تدري أي شيء فيه هو أجمل: أذراه التي تبرقعت ببراقع الثلج فلم تبصرها عين حي من يوم خلق الله العالم، فعز بالحجاب جمالها حين ذل بالسفور الجمال، أم سفوحه الحالية بالصنوبر، أم القرى المنثورة على تلك السفوح، أم صخوره الرهيبة الهائلة، أم ينابيعه المتفجرة تفجر الحكمة على لسان نبي، أم أوديته الملتوية التواء الفكرة في رأس أديب لا يملك البيان عنها؟ وأيهُ هو أبهى: أصباح (بلودان) أم ظهيرة (الشاغور) من (حمانا)، أم الأصيل الفاتن في ربى (صوفر)، أم المساء الوادع في خليج (جونيه)، أم منجاة الملائكة في قمة (جبل الشيخ)، أم مسامرة الزمان عند (الأرز)، أو في (بعلبك)؟
أم أنت تؤثر هذا كله، وتتمنى لو شملته بنظرة منك واحدة، ثم ضممته إليك، ثم شددت عليه، حتى أفنيته فيك، أو فنيت أنت فيه؟
تعالوا سائلوا سفوحه وذراه ووديانه ورباه، كم شهد من فصول هذه القصة الخالدة، قصة الحب. . . وكم أريق على صخوره من الحيوات والعواطف. . يطل جوابكم لو ملك الكلام. . . ولكنه أبكم لا ينطق والناس بكم لا يروون إلا تاريخ الوحشية المدمرة العاتية ويحفظونه أبنائهم ليكون لهم منه أظفار كأظفار الوحش، ومخالب كمخالب النسور، أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم يزدرونه ويترفعون عن حفظه، ويرون من الخطر على الأخلاق أن يدرس في المدارس!(380/17)
وكذلك أرى أنا. . . وهل أنا إلا من غزية؟. . .
وإلا فمن يروي لي قصة هذا القبر التائه، الذي نأى عن موطنه، وفارق إخوانه، وطوف حتى استقر عند قدم صخرة هائلة من صخور (رأس بيروت)، يلطمه الموج صباح مساء، فيستغيث استغاثة غريق عاين الموت، ولا من مغيث!
قبر ضائع بين الصخور ليس ما يدل عليه إلا حجر منحوت نحتاً غير متقن، عليه كتابة قد براها الماء فلم يبق منها إلا أنقاض هذه الأبيات:
الشمس تطلع تارة وتغيب ... والليل يجمع شمل. . . . . .
وأنا محب لم أجد إلا الشقا ... أحيي الليالي. . . . . . . . .
أفيجمع القبر الأحبة إن نمت ... ويكون. . . . . . . . . . . .
فمن (يا أهل بيروت) يعرف تلك القصة التي لم يبق منها إلا هذه الخاتمة الأليمة: قبر تائه، عليه شعر إن لم يحفل به علماء اللسان، كان حسبه أن يحفل به علماء القلوب؟
هل قي هذا القبر عاشق من لبنان يوم لم يكن قد فسد لبنان ولا عاثت فيه يد الحضارة، عرف فتاته في الطفولة الحلوة المبرأة التي تتهدى بين البيت السعيد، والحقل الخصيب، والمرعى الجميل، والكرم البهي، فكانا يلحقان الأفراخ (الصيصان) وهن بنات يوم واحد، قد خرجن من البيض كرات ذهبية من الريش الأصفر الناعم، تطير لخفتها مع النسيم، وتحل لحلاوتها في الفؤاد، فإذا رأتهما الدجاجة الأم، فأقبلت عليهما نافشة ريشها مستنسرة، خافا فارتدا إلى الجدي يلاعبانه، والجحش يركبانه. وكان عالمهما صغيراً كله، والصغير من كل شيء فاتن محبوب. ومن منا لا يحب الصبي، والبنية، وفرخ الطائر، والهريرة، والكليب، وغصين الشجرة، وزر الورد، والكتيب، والقليم، وكل لطيف من التحف والطرف، ودقيق من الأشياء؟ من لا تنجذب إلى ذلك نفسه، ويحنو عليه قلبه؟
ثم كبرا، فكانا يصحبان القطيع إلى القمم القريبة وإلى الوادي. ثم أبعدا المرعى، فكانا يرافقان الشمس في غدوها ورواحها ويطوِفان تطوافها. ثم اكتمل جمالها وتمت رجولته، وكذلك تؤتي الفضيلة أكلها إذا عاشت تحت عين الشمس في الأعالي التي لا ترقى إليها جراثيم المرض وأمهاته، فصارا يقاسمان الكبار السمر على (المصطبة) في ليالي الصيف، وفي (العلية) في الشتاء. ومرت الأيام، فإذا هي فاتنة القرية وحسناؤها، وإذا هو بطل(380/18)
الديرة ورجلها، ومقدم الشباب في المصارعة، وحمل الأثقال، والعدو، والسباحة، وتلك هي مفاخر الشباب الجبلي في تلك الأيام. وكان رقصهم الدبكة على (اليادل) أو على (دلعونة) وكان هو شيخ الدبكة.
وكان الحب قد ولد في نفسيهما، فكانا يجلسان على قلعة على شفير الوادي، يرعيان هذا الحب الوليد، ويدعان القطيع يرعى بنفسه، وكان لها عنده مثل الذي له عندها، فما الذي فرق بينهما؟ أهو المال أم الدسائس أم قد زوجوها من غيره. أم ماذا، من يحفظ قصتهما يا أهل بيروت؟
وكيف عاشت من بعده، وكيف عاش من بعدها؟
أم كان متكئاً في زورقه، يرقب الشمس وهي في موقف الوداع صفراء شاحبة، لا يحفل بها أحد ممن كان في الميناء، لأن هموم العمل لم تدع في قلوبهم مكاناً للشعر. فأيقظه من غفوة التأمل أسرة تريد أن تجول في البحر جولة في الزورق. . . هنالك رآها، واستقر حبها في قلبه، ولم يكن بذي صاحبة ولا ولد، فهام بها هياماً وقلب الأرض يفتش عنها عله يحظى منها بنظرة فلم يلقها. فعاش بقية عمره يتجرع غصص الألم المكتوم، حتى مات حيث لقيها، ودفن حيث مات.
وهذا الحب هو النار التي تأكل القلب. . . وما قرأت مرة قصة القاضي ابن خلكان إلا رحمته مما يقاسي. وكان يبيت وحده في المدرسة العادلية الكبرى (دار المجمع العلمي بدمشق) فإذا أراد أن ينام تمثلت له صورة المحبوب، فغلى دمه في عروقه وفار، فأقبل يدور حول البركة ويقول:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
حتى يؤذن الفجر، وكان يحب من ليس فوقه إلا السلطان
قلت: ومن هنا ما تجدون من الذوق في ترتيب كتابه (وفيات الأعيان) وما يختار فيه من الشعر!
أم أن هذا قبرها هي، يقوم على الشاطئ، على مسرح المأساة التي طالما مثلت عليه وأعيدت(380/19)
هنا كانت تقوم ترقب عودته من المهجر من أمريكا، تذكر أبداً كيف ودعته بالدموع الغزار، وودعها بزفرة وعناق، ومناها الغنى والجاه والعودة القريبة؛ وانقضت الأيام وكرت الشهور ولا حس ولا خبر. . . والفتاة ترقب وتنظر وقد عافت عشها، وجفت أهلها، واختصرت دنياها كلها، فكانت هذه الصخرة الصلعاء التي شهدت مبدأ آلامها وتأمل أن تشهد نهايتها، تظن من حبها وتذكرها أن السفينة لا تزال قريبة منها، وأن الحبيب يلوح لها بمنديله. . . وبينها وبين الحبيب بحار ولجج، وأيام وليال، والحبيب قد سلاها ونسيها، وطمست صورتها في نفسه أمواج الثروة واللذة والدنيا العظيمة في نيويورك حتى محتها. . .
فماتت شوقاً إليه، وأسفاً عليه.
أم هي لم تمت وإنما شهدت عودته، فإذا هو قد عاد رجلاً غير الذي ذهب، لم يبق فيه من ابن القرية إلا كما يبقى من ندى الصباح تحت شمس الهاجرة، لا زيه زيه، ولا لسانه لسانه، فأعرض عنها وازدراها. ورأت إلى جانبه فتاة من بنات (باي باي). فخولطت وعادت إلى صخرتها تنتظر عودة من ليس يعود، حتى وافاها الأجل، فدفنت مكانها؟
أم هو قبر عاشق ماتت حبيبته كما ماتت ليلى، فعاش بعدها كما يعيش كل حبيب يائس؟
أم كانت قصة هذا القبر شيئاً آخر، فمن يعرف هذا الشيء؟
من يهتم بشهيد من شهداء الغرام؟ من يعنى بضحية من ضحايا العواطف؟ من يبكي المحب المجهول، ويقف على قبره وقوف الناس على قبر الجندي الجهول؟
يا رحمتاً للعاشقين! حبهم يائس، وميتهم منسي، وحديثهم ضائع. . .
يا رحمتاً للعاشقين! لا يقام لشهيدهم قبر، وإن أقيم له لم يقف عليه أحد، ولم يحفظ تاريخه.
ويا ضيعة هذا الكنز الأدبي العظيم، هذه الدنيا من العواطف لم يبق منها إلا ما أودع ديوان (العتابا) فمن يعنى بجمع هذا الديوان ونشره في كتاب؟
ألم تعلموا بعد أن في هذه العتابا من الصور والمعاني ما لا يملك بعضه غزل شعراء العرب كلهم مجتمعاً؟ فمن يهتم به؟ ومتى يأخذ الشعراء هذه الصور والمعاني فيودعونها الشعر الفصيح؟
وبعد فيا أهل بيروت
إذا جزتم هذا القبر التائه، فقفوا عليه كما تقفون على قبر الجندي المجهول؛ وقدسوا فيه(380/20)
المحبة كما تقدسون هنالك البغض، وكرما فيه الحياة، فالحياة الحب والحب الحيات، واجعلوه تمثال العاطفة، فالعاطفة فوق العقل، والإنسان إنسان بالعواطف لا بالتفكير. . .
لا تحقروا العاطفة، ولا تزدروا القلوب، فإن القلب منزل اقدس شيئين في الوجود: الإيمان والحب. وحسب العقل جموداً وعجزاً أنه لا يستطيع أن يفهم الحب ولا يدرك الإيمان. وحسب العاطفة كرماً ونبلاً، أن من ضروبها حب الوطن والوفاء، والإحسان والرحمة، وذلك ما يميز الإنسان من سائر الحيوان. . .
ونحن اليوم في حاجة إلى الإيمان بالعاطفة الخيِرة، فلنجعل الحب العفيف وسيلة إليها، ولنتخذ منه سلاحاً نحارب به الفسوق والدعارة، والغلظة والوحشية، ولنستكمل به إنسانيتنا فمن لم يعرف الحب لم يكن له قلب.
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمداً
علي الطنطاوي(380/21)
إلى الدكتور زكي مبارك
للأستاذ محمود غنيم
سيدي الدكتور:
طالما ترددت في الكتابة إليك لتهيبي من قلمك، وأخيراً وجدتني مدفوعاً إلى ما أتوق بعامل خفي ذي مصدر مجهول.
ولست من أولئك المكلفين بالمصاولة وبالمجادلة ولا ممن يرغبون في مهاجمتك حباً في ثورتك أو إرضاء لغريزتك التي حار في مرادها - على ما أعتقد - الكثير من زملائك: فمن حاول منهم الارتقاء بك أحجم عن ذلك مخافة وصفك له بالملق والمصانعة، ومن تحدثه نفسه بنقد خطوة من خطواتك لدغته في غير ما هوادة ولا رفق، ومن سكت عن ذكرك بخير أو بشر وصفته بالجمود والخمول والنوم.
وقد استخلصت من تتبعي لك واقتفائي لأثرك: أنك أخطر مخلوق في الوسط الأدبي؛ فلم ينج من سنان قلمك - على ما أظن - إلا نسبة ضئيلة من أدباء هذا العصر سواء في ذلك من يضمر لك الخير ومن يتمنى لك المكروه، كما تساوى أمامك من تدين له بصقل لسانك وسلامة تفكيرك، ومن شرب من منهلك واستظل بظل ثقافتك.
رأيتك يا دكتور تطل على ذاك الجمع الزاخر من علو شاهق غير عابئ ولا مكترث بما قد يكون مخبأ لك من سقطة أو سقطات تهوي بك من ذلك العلو إلى هوة تجر عليك شماتة الشامتين، وكلهم بالمرصاد. ولست بصدد مناقشة آرائك ومعتقداتك وموقعها من آراء ومعتقدات من تتصدى لهم أو يتصدون لك، أو حيال الحكم لك أو عليهم، فقد تكون عادلاً في كل ما قلت، وقد يكونون محقين في ذكر ما يدعون، وبالعكس؛ ولكني أمام موقفك من أعصابك التي تطالبك في إلحاح بإعطائها برنامجاً منظماً يخدم نواحي لا يناقض بعضها بعضاً، وتطالبك كذلك بالترفق حين الزج بها في تيارات مضطربة الاتجاهات.
وعلى هامش نقدي لأعصابك يا دكتور أقرر أن الأدب مدين لثورة تلك الأعصاب بالشيء الكثير وبدرر غاليات تزن ثقل ما لك من خصوم في هذا البلد. وإذا كانت تلك الثورات واحدة من اثنتين من تجاربك في ازدهار أدبك فأنا أهنئك مغتبطاُ بنجاح تلك التجربة وأطالبك في رفق بإجراء التجربة الأخرى: نريد أن نقرأك يا دكتور هادئاً كالنيل في غير(380/22)
إبان الفيضان، وكالغصن عند سكون الريح، وكالوردة قبل أن تهاجمها أشعة الشمس وأعين الرقباء.
لو كنت يا دكتور من أشرار الأدباء - إن كان بين الأدباء شرير - أو كنت من أدباء الشرور (إن وجد بين ذخائر الأدب شر) لما ترددنا لحظة من يوم أن ظهرت على المسرح الأدبي في الحكم عليك بما فيك، وقدمنا لك حسابك وأسلمناك لما تقوم به من صراع، ووقفنا في صفوف المتفرجين، أو قبعنا في زاوية بمنأى عنك بعيدين عما يصب عليك. ولكنك رغم إقلاقك للنائمين من مضاجعهم بصوتك المدوي نلمس إخلاصك ونؤمن برقة إحساسك.
نريد أن نحكم عليك يا دكتور بعد أن تجري التجربة الباقية وبعد أن اجتزت التجربة الأولى بكل نجاح.
وإلا فاجعل لنا يوماً من نفسك على صفحات (الرسالة) تحدثنا فيه بالصراحة التي نعدها من أهم مقوماتك - عن زكي مبارك كما يعرفه زكي مبارك، شارحاً لنا وجهتك في الحياة الأدبية التي نعتقد أنك تعيش فيها منفرداً، فأنت أجدر من يتحدث عن نوايا النفوس.
(إدكو)
المخلص
محمود غنيم(380/23)
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 2 -
زاول (فرويد) بعد عودته من فرنسا مهنة الطب بمدينة فينا وانصرف إليها يمارسها بالعناية التي انطبعت عليها نفسه والتي وصفناها في المقال الماضي.
وكان قد عرف قبل رحلته إلى باريس طبيباً يدعى (جوزيف بروير) فانضم إليه بعد أوبته واشتركا في مزاولة مهنتهما.
تحدث هذا الطبيب إلى (فرويد) قبيل سفره عن فتاة هستيرية أصيبت وغموض القوى الواعية، وروى له أنه لاحظ أن حالة الفتاة تتحسن كلما استطاعت التحدث ملياً عن نفسها. وكان لهذا السبب يصغي في صبر لحديثها عندما تترك فيه المجال لواهمتها الشعورية، وأنه لاحظ أن اعترافات الفتاة متقطعة، وأنها تخفي عن قصد أشياء يظهر أنها لعبت في حياتها دوراً هاماً، وكانت من مسببات علتها. فخطر له أن يستعمل التنويم المغناطيسي على أمل أنها، وهي معدومة الإرادة في حالة السبات، تبوح بما تخفيه في يقظتها. وهكذا استطاع أن يعرف من الفتاة أنها بينما كانت تعنى بوالدها المريض أحست في نفسها بمشاعر كبتتها لأسباب أخلاقية فاتخذت هذه المشاعر شكلاً آخر برز في أعراض مرضها. وكانت أعراض الهستيريا تزول كلما باحت بحقيقة الأمر.
لم يجد (بروير) في هذه الفتاة غير حادث مرضي استطاع كشف الستار عنه ومعالجته. أما (فرويد) فشعر بغريزته العميقة أن الأمر أشد خطراً مما توهمه صاحبه، وأنتهي من ذلك إلى هذه الحقيقة وهي أن (قوى النفس تتحول عن مراكزها) وأنه يجب أن يوجد في العقل غير الواعي قوة عاملة تحول الشعور عن مجراه الطبيعي وتقذف به إلى مظاهر نفسية أو طبيعية.
ولما كان هذا العارض الذي كشف عنه (بروير) يؤيد الاختبارات التي شاهدها (فرويد) بباريس ويبرزها في صورة جديدة، استقر رأي الزميلين على متابعة أبحاثهما التي قصدا(380/24)
إليها في طريق مظلمة وعرة. وهكذا وضعا كتاب (العمل النفسي في عوارض الهستيريا) الذي ظهر سنة 1893 و (رسالة في الهستيريا) ظهرت سنة 1895 فكشفا عن حقيقة هذا الداء في كتابيهما وأبرزاه تحت ضوء جديد.
وقررا للمرة الأولى في علم الطب أن الهستيريا ليست من علل الجسم الأصيلة ولكنها اضطراب ناتج عن صراع داخلي لا يشعر به العليل نفسه وأن تحت ضغط هذا الصراع تظهر عوارض هذا الداء، وهو انحراف مرضي.
تنتج إذن الاضطرابات النفسية عن كبت العواطف كما تنتج الحمى عن التهاب داخلي، وكما تهبط درجة حرارة المحموم عندما يجد الالتهاب منفذاً، كذلك تزول أعراض الهستيريا عندما يستطاع التفريج عن العواطف المكبوتة (والسير بها في السبل الطبيعية حيث تتركز القوى الشعورية منبسطة في حرية بعد أن كانت ملتوية أو بعبارة أخرى مخنوقة، وكان هذا الخنق سبباً لاستمرار عوارض الداء).
على أن الزميلين، (فرويد) و (بروير) انفصلا بعد لأي لأنهما كانا قد وصلا إلى نقطة لم يتفقا عليها. كان بروير طبيباً يخشى خطر الاعتماد المطلق على علم النفس ويصرف همه إلى وسائل معالجة الهستيريا والشفاء من أعراضها، بينما صار (فرويد) الذي اكتشف في مواهبه ميلاً إلى علم النفس مأخوذاً بالعوارض النفسية وبالأسرار التي يكشف عنها تبدل العواطف، وقد أثار فضوله أن هذه العواطف تكبت فتقوم مقامها عوارض جسمية فاستمر في البحث حتى بدا له أن هذه الظواهر تصح أساساً للتحليل النفسي، وأنها تفتح أبواب عالم جديد قائم على العقل غير الواعي، فوقف حياته منذ ذلك العهد على (درس المناطق غير الواعية في الحياة والنفس)، وكان ذلك أساساً لمذهبه الجديد الذي نفصله فيما يلي:
كان علماء النفس قبل (فرويد) يعرفون أن الطاقة النفسية لا تتلاشى كلها في عمل العقل الواعي، وأن هناك قوة أخرى خفية تؤثر في حياتنا وتفكيرنا، ولكنهم كانوا يجهلون هذه القوة ولا يحاولون إدخال العقل غير الواعي في محيط العلم والتجربة.
كان علم النفس أيامئذ، أي قبل سنة 1900، وهو العهد الذي قرر فيه (فرويد) نظرياته، لا يهتم بالأعراض النفسية إلا بقدر ما تدخل في دائرة الوعي الواضحة، فلا تدرس العاطفة إلا إذا ظهرت تماماً، ولا يعنى بالإرادة إلا إذا أملت مشيئتها فعلاً؛ وهكذا كان علم النفس(380/25)
يستبعد كل الظواهر النفسية التي لا تطفو على سطح الحياة الواعية في شكل بارز.
رأى (فرويد) أن العقل لا يعد مصدراً لكل عمل نفسي، وأن العقل غير الواعي ليس طبقة سفلى يختلف عن الأول ويخضع له؛ وقرر أن كل الأعمال النفسية ناتجة أولاً عن العقل غير الواعي، أو ما دعوه بالعربية العقل الباطن، وأن الأعمال التي نعيها لا تختلف عن الأولى ولا تتفوق عليها، لأن وعيها نتيجة عمل خارجي. ومثل هذا كمثل النور حين يضيء بعض الأشياء، فهذه الأشياء موجودة وجوداً مادياً، ولكن النور يجعلنا نراها فليس النور الذي أوجدها لأنها عالقة بالعالم الطبيعي سواء أكانت ظاهرة لتسليط النور عليها، أم مختفية تحت ستار الظلام حيث نستطيع أن نتعرف باللمس شكلها وحجمها.
وهكذا يجد (فرويد) أن (غير الواعي) لا يعني المجهول أو (غير المستطاع الوصول إليه)، كما كان يظن العلماء من قبل وقد اعتقدوا أن في النفس خزاناً مظلماً راكداً أو مستودعاً يحوي المنسيات والمختلفات، فتستمد الذاكرة منه بين وقت وآخر أشياء بمعاونة العقل الواعي. وكانوا يعتقدون كذلك أن عالم غير الواعي عاطل في نفسه لا عمل له ولا شأن له كأنه حياة انصرم عهدها وماض مدفون لا أثر له في عواطفنا الحاضرة.
أما فرويد، فقد رأى أن غير الواعي ليس من رواسب النفس بل هو مادتها الأولى ولكنه لا يصل إلى سطحها المستنار بالوعي غير جزء يسير منه. ولا يعني طي بعض أجزاءه أنه عقل ميت أو أن لا قوة له، لأنه في الحقيقة حي عامل يؤثر في تفكيرنا وعواطفنا، ولعله أقوى العوامل في حياتنا النفسية. وعليه فإنه يخطئ من لا يحسب حساب الإرادة غير الواعية في كل ما تعمله وتمليه، لأنه ينفي العنصر الدخيل في قوانا الداخلية.
ليست حياتنا مظهراً حراً للعقل الواعي يسيرها كما يشاء، وليس عالمنا ملكاً لإرادة واعية تسيطر عليه. إن من ظلمات العقل الباطن تنبع الأنوار التي تلقي ضوءها القوي على أعمالنا، وفي أعماق عالم الغرائز تتألف العواصف التي تسيطر علينا وتغير المجرى الطبيعي للحياة التي كان مقدراً لنا أن نعيشها.
تلتقي في هذه الأعماق المظلمة من طبقات النفس البشرية العواصف التي مرت بالوعي في حين من الزمان، ورغبات الطفولة المنسية التي يظن أنها دفنت إلى الأبد، والمخاوف والأهوال التي قيل أنها زالت ومحي أثرها، وهي جميعها تضطرب حيرى قلقة عطشى إلى(380/26)
الظهور بواسطة الأعصاب.
لا يعيش هذا جميعه في أعماق النفس فحسب، بل هناك أيضاً شهوات الأجيال التي انقرضت واحداً بعد واحد صعداً إلى عهد الهمجية، فتلتقي فيها الذاتية الهمجية بالذاتية المتحضرة وفجأة تتحرك الغرائز الأولية الجامحة فتمزق سجوف المدنية الشفافة وتبرز قوية عنيفة من العالم غير الواعي إلى العالم الواعي وتحاول أن تنال قسطها من العمل الحر، فيتولد صراع عنيف بين عاطفتنا الأخلاقية المتمدينة وبين غريزة اللذة الهمجية الدفينة فينا. ولا شك أن كل كلمة نتفوه بها، وكل حركة نأتيها، مظاهر لهذا الصراع الذي تحاول فيه العاطفة المتمدينة التغلب على غريزة اللذة، بل إن حياتنا النفسية كلها صراع دائم مؤثر بين الإرادة الواعية وغير الواعية، وبين العقل المسؤول والغريزة غير المسؤولة.
وقد شاء (فرويد) من هذا جميعه أن يفهم كل إنسان معنى اندفاعاته غير الواعية، لأنه ليس من المستطاع معرفة عواطف الإنسان إلا إذا أنيرت طبقات نفسه المظلمة، ولا يعرف أسباب اضطراباته إلا إذا انحدر إلى أعماق نفسه، وليست مهمة العالم النفساني أن يكشف للإنسان عما يعيه، كما أن الطبيب لا يستطيع أن يعالج المريض إذا جهل حقيقة عقله الباطن.
ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى أعماق النفس المجهولة؟ يعتقد (فرويد) أن العقل الباطن يعبر عن نفسه بإشارات ورموز، وأن على من يريد الكشف عن أسراه أن يتعلم لغته. وقد وضع (فرويد) أصول هذه اللغة على الطريقة التي جرى عليها علماء الآثار المصرية حين كشفوا عن اللغة الهيروغليفية. فقد أخذ يبحث إشارة بعد إشارة ورمزاً بعد رمز حتى انتهى إلى تدوين لغة العقل الباطن ووضع قواعدها. وهكذا استطاع أن يقيم لعلم النفس أسساً جديدة على طريقة علمية، وأن يكشف عن عالم مجهول.
(للبحث صلة)
صديق شيبوب(380/27)
ولز في كلمة موجزة
للأديب محمد جمال الدين أبو رية
حياته:
في مقاطعة كنت بإنجلترا سنة 1866، خرج ذلك الأديب النابغ، ذلك العقل الجبار، ليظهر للعالم أنموذجاً صحيحاً للأدب الفني، للقريحة الممتازة القليلة النظير.
حصل ولز الأديب على شهادة في العلم في سن مبكرة، ولكن أبى القدر إلا أن يذوق ذلك الأديب من تجاربه القاسية، فساءت حال ولز المادية، فاضطر أن يشتغل في محل للأقمشة، ثم اشتغل بالصيدلة، ثم اشتغل بالتدريس. فكادت كل هذه التجارب تودي بحياته، إلا أنه اشتغل أخيراً بالتأليف والصحافة محافظة على حياته. وما من فنان أو عظيم بلغ أوج عظمته إلا وقد ذاق الأمرين.
لم يكن ولز كغيره من الأدباء، إذ كانت له نظرية فريدة، رفعته إلى المرتبة الأولى من الأدباء، فهو يصل الماضي بالحاضر متغلغلاً في أعماق المستقبل.
كانت قصص ولز الأدبية، قصيرة وطويلة، موضوعاتها منوعة، فقد عالج أساليب الحياة التي وصفها وصفاً دقيقاً، وكتب في الحب والحياة والموت والموضوعات العلمية.
وقد كانت تتخلل كتابات ولز قطع فنية، يكتبها بمداد من خياله الرائع الجميل مثل قوله:
(لقد كانت الزهرات تتدفق وتتعانق كألحان الموسيقى العذبة، وترفع إليَّ عيوناً كعيون الأطفال، وسرى إلى أذني غناء سحري من فم الزهر والأغصان والأوراق، وفجأة سمعت من أعماقها أغرودة طائر وخفق جناح مرتاع. . . الخ).
كان من أهم مميزات ذلك الأديب الفذ. . . صدق حدسه عن المستقبل، حتى وصفه أدباء فرنسا في ذلك الحين بأنه (رجل الأحلام) ووصفوا أحاديثه بأنها (أضواء تخطف الأبصار).
أغراضه:
1 - اهتم ولز بالفرد، وأراد أن ينزهه عن التحبب إلى من يعلو عنه مرتبة وينزهه عن التسخير فيقول (وما الأهرام، وما تلك المشيدات الرومانية العظيمة إلا بيد الفرد المستعبد المسكين).(380/28)
2 - ترى أن ويلز غاضب من الحكومات، غاضب من الزعماء، غاضب من الساسة، لأنه يرى أن الزعيم لا يصل إلى المراتب العالية إلا بواسطة الفرد وإرضائه (رشوته). فهم يجتمعون ويتكلمون ويأدبون المأدب، كل ذلك لغرض واحد هو الوصول إلى الحكم ثم الاستبداد وحب الذات.
3 - يريد ولز أن تنتهي تلك الحروب وتخلق وحدة اقتصادية كبرى تشمل الدنيا، ووحدة مالية تحفظ العالم من الخراب والدمار.
ثم يرجع ولز فيبشرنا بالرخاء والرغد في المستقبل فيصيح قائلاً:
(إذن فاعلموا أني متفائل أرى الفجر يقترب، وأرى البشائر في حواشي الأفق).
ألا ترى بعد ذلك أن ولز ذلك الأديب يستحق بعض وقتك في قراءة تاريخه وكتبه.
(المنصورة)
محمد جمال الدين أبو رية(380/29)
إلى معالي وزير المعارف
التعليم الزراعي
- 3 -
(هذا الفلاح المزيف لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره؛
إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه. فإن صاحب الذوق
يبني الدار الجميلة ويخط الحديقة البهيجة؛ أما فاقده فخليق به
أن يجعل القصر زريبة والبستان مزبلة)
(الزيات)
ثانياً: المدارس المتوسطة
الآن أطوي صفحة المكتب الزراعي وإنه ليروعني أن يعيش هذا الفرع من التعليم الزراعي خمس سنوات لا يحس به جل من يعنون أنفسهم بالبحث في فروع التعليم، وإن كثيراً ممن اشتغلوا بالتعليم الزراعي لا يعرفون عن المكتب الزراعي إلا قطرات لا تبل غلة. ولقد سألني صديق من ذوي الرأي والمكانة في دهشة: (وماذا عسى أن يكون المكتب الزراعي؟) قلت: (هذا نوع من التعليم أسدلت عليه سجف كثيفة خشية الفضيحة).
وبعد فلا عجب إن امتد الزمن بالتعليم الزراعي خمساً وعشرين سنة لا يفيق من غفوته ولا يتخفف من ثقله، فهو لقي في ناحية الوزارة لا يستشعر وجوده أحد، ولا يجد هو من يهتك عنه أستاره ليتكشف أمام الملأ في غير تمويه ولا زيف. وأنا حين أجرد القلم ليرفع صوت التعليم الزراعي وينشر شكاته على أعين أولي الأمر لا أبتغي سوى كلمة الإنصاف أول قول الحق.
النظام و (فوضى النظام)
لا ريب فالطالب الزراعي خَلْقٌ شاء هو، أو شاء له القدر، أن يتحلل من أثقال الدراسة ليقضي سنوات في مدرسة ليست هي في رأيه مدرسة ولكنها بعض متع الحياة؛ وفي(380/30)
خاطره أنه سيطرح نصب الاستذكار وكد المطالعة وعناء الدرس. . . سيطرحها جميعاً وراء ظهره، لأنه سيكون فلاحاً نظيفاً يغدو إلى الحقل ويروح إلى المدرسة ينعم بالهواء الطلق ويمرح في الفضاء المنفسح، وينشق الحرية اللانهائية؛ يأكل وينام ويلعب ويهدأ متى شاء وأنى أراد؛ ثم هو بعد ذلك لا يستشعر بأساء الاختبار، ولا شدة الامتحان، ولا غلظة الدرس، ولا جفاء المدرس. . . ثلاث سنوات تمر مر السحاب، فإذا هو رجل يحمل بين يديه (دبلوماً) فتفتح أمامه مغاليق الحياة، وتهش له مصالح الحكومة!
يا ما أحلى هذه الأحلام حين تطيف بخيال الفتى وهو غر قد وقفت به همته عن أن يبلغ مبلغ الرجال، أو أعجزته الوسيلة عن أن يسمو إلى مراتب التعليم العليا، أو ضاقت به فرج التفكير عن أن يصل إلى الغاية!
هذا هو الطالب الزراعي، وإن نزوات الشباب لتتوثب في رأسه توحي إليه بأنه يوشك أن يكون رجلاً يعرف كل شيء في حين أنه يخرج من مدرسته لا يعي شيئاً، وهو أجهل ما يكون في الزراعة التي وقف عليها ثلاث سنوات من عمره.
ويغتمر الطالب في خضم هذه اللجة فتصفعه الحقيقة المرة صفعة تطير لها هذه الرؤى الجميلة بعد أن يكون قد استشعر لذتها حيناً من الزمان؛ فتعود إليه نكسة اليأس حين يرى أن المدرسة التي فزع منها هي المدرسة التي زج بنفسه فيها؛ فهو هنا سيقرأ ويكتب ويطالع ويجلس على مقعد في فصل يسيطر عليه مدرس، ثم يتذوق مرارة الدرس ولذع الامتحان ونكد الرسوب و. . . فإذا هو هو الطالب الذي أخفق ويخفق مرات ومرات، الطالب الذي حطمته السنون العجاف، الطالب الذي جاء ليموت في التعليم الزراعي أو يموت به التعليم الزراعي.
وليت كل طلاب المدرسة من بيئة واحدة وثقافة واحدة ووسط واحد، إذن لاستطاع المدرس أن يوائم بين نوازعهم ورغباتهم، أو أن يجد الحيلة فينفذ إلى عقولهم وأخلاقهم. ولكن هذا الجمع - وا أسفا - خليط لا يمت الأول إلى الآخر بسبب؛ فالفصل الواحد يضم بين جدرانه أشتاتاً من الطلبة تضطرب في غير ترابط ولا وفاق: فالحجرة الواحدة تجمع بين الطالب في الخامسة عشر والطالب في الخامسة والعشرين، وتؤلف بين من نال شهادة إتمام الدراسة الابتدائية هذا العام وبين من قضى سنوات ثلاثاً في السنة الرابعة الثانوية، وتربط(380/31)
بين من هو ما يزال في فتوة العقل ومن نخر اليأس حشاشة قلبه؛ وتلقى في ركن الفتى الريفي الذي رأى الغيط وجلس إلى الفلاح، وفي الركن الآخر الشاب الذي درج في المدينة وشب وترعرع ونما واشتد في حضن الحضارة الرفيق لا تربطه بالريف آصرة. . . وهكذا يصطدم المرء - أول ما يتغلغل في المدارس الزراعية المتوسطة - بهذا الخلل الذي أسميه في غير تحرج (فوضى النظام).
و (فوضى النظام) تتسلل إلى المدرسة منذ أول يوم من أيام السنة الدراسية، حين تفتح المدرسة أبوابها على مصاريعها، لا تدفع طالباً ولا ترفض طلباً؛ ولقد تظرف معي صديق فقال: (لعل كل هم مدارس الزراعة أن تستنفذ ما عندها من استمارات الدخول طلباً للربح، كدأبها في منتجاتها ومحاصيلها، ولا عليها بعد ذلك!) وقال آخر: (وإنه ليتراءى لي لو أن (عربجياً) تقدم إلى مدرسة زراعية لقبلته بين طلبتها في غير غضاضة، ولا أنفة!) هذه عبارات كانت تحز في نفسي وتؤج في صدري، لأن فيها التهكم اللاذع والسخرية المرة. وليت شعري أي مدرسة في العالم تفتح أبوابها لكل من كان (أفندياً) يتأنق في البذلة والطربوش؟
وتدخل (فوضى النظام) المدرسة فتتشعب لتفعم القسم الداخلي والقسم الخارجي، والصلة بين المدرس والطالب، وبين المدرس والناظر، وبين المدرسة وأولياء أمور الطلبة، و. . . ثم إلى بيت المدرسين.
إن الاضطراب الذي رأينا - من قبل - بين جدران الفصل نشعر به أيضاً في أركان (العنبر) في القسم الداخلي، فهناك مهزلة العلم يمثلها المدرس وتلامذته على مسرح الفصل حين يجهد نفسه ليتغلغل إلى عقول التلاميذ، فلا يجد السبيل، وقد ضرب بينه وبينهم بسور لا يستطيع أن يظهره إلا لماماً؛ وهناك مهزلة الأخلاق يمثلها التلاميذ وحدهم على مسرح (العنبر)، وإدارة المدرسة إما لاهية وإما عاجزة، ولها عذر؛ فهي لا تستطيع أن تسدل حجاباً بين الطالب الكبير والطالب الصغير وهما يقضيان عمر اليوم جنباً إلى جنب، صديقين في الفصل وفي الحقل، ثم. . . ثم في (العنبر)، والكبير يوسوس للصغير ويزين له فيندفع فتنفرط أخلاقه فيهوى، وينفض السامر عن أشياء تصم جبين العلم، لأن كلاً منهما ينطلق يريد أن يشبع رغباته الشريرة على حين قد غفا الرقيب. . .(380/32)
وهكذا نجد أثر التباين في السن والثقافة واضحاً في هذه المدارس، ولا سيما في القسم الداخلي. ومن الغريب أن النظام الداخلي يوشك أن يعم التعليم الزراعي المتوسط، في حين أنه قد ثبت فساده في التعليم العام.
لهذا جاء ناظر المدرسة وإن أوصاله لترعد من شدة الخوف والفَرَق. . . جاء ليحول بين الطالب والمدرس، وبين المدرس وولي أمر الطالب، يبذل في ذلك جهد الطاقة، ثم هو يرمي أشرف مبادئ التربية الحديثة بأقذع الهجاء وأقسى الألفاظ.
هذا الداء. . . داء اختلاط الشر بالخير، حري به أن يدفع أولي الأمر إلى أن يجتثوا أصول الشر ليذروا الخير وحده ينمو ويسمو في هذا الوسط. غير أن شيئاً في المدارس المتوسطة يقوي الشر وحده فيضوي له الخير، هذا هو داء (إعادة القيد) وهو أيضاً أثر من آثار (فوضى النظام).
وداء (إعادة القيد) هذا هو نظام احتال به الرئيس مرة ليعيد طالباً إلى مكانه في مدرسته بعد أن رسب سنتين في فرقته فرفت؛ فأصبح قانوناً. وهذا الضرب من الطلبة هم الشر المحض الذي يتخلل أثناء المدرسة، وهم الفئة الباغية التي يجب أن تستأصل من هذه المدارس ليجد الخير سبيله فيها.
وانسربت (فوضى النظام) إلى (بيت المدرسين)، وهو بيت خلقته يد الإصلاح ليسكنه جماعة من المدرسين ليكونوا إلى جانب تلاميذهم، يراقبونهم ويهيئون لهم وسطاً علمياً أدبياً يستروحون من خلاله نسمات الهداية والرشاد؛ غير أن الانكماش الذي أرادهم عليه الرئيس نفث في هذا البيت معنى آخر، فأصبح خلوة للمدرس، وحاجزاً بينه وبين تلامذته؛ أو هو كبعض (تكايا) العهد البائد يسكن فيه المدرس ويأكل ويستمتع بالراحة والهدوء، لا يشعر بتكاليف الحياة ولا مضض العيش، دون أن يدفع من ثمن ذلك في الشهر إلا دريهمات لا تكفي غيره سوى يوم أو بعض يوم، وهذا البيت نفسه بعث في المدرس روح الكسل والتراخي والتواكل والحرص، فما فيه من نشاط جسمي ولا عقلي، وما فيه من فرحة للنفس ولا لذة للقلب؛ وإذا قدر لإنسان أن يرقى إلى بيت (المدرسين) ألفى هناك شراذم من المدرسين يزجون الوقت بين الهذر والمزاح والنرد والورق و. . . ثم لا يجد سوى بقايا مذكرات قديمة وأوراق متناثرة وجرائد ومجلات هزلية، أشياء مما تنحط بالعقل والتفكير،(380/33)
ثم لا يعثر على كتاب أدب ولا رسالة في علم ولا نشرة زراعية ولا بحث في موضوع ولا. . . ولا. . . مما يرقى بعقل المدرس ويفيد الطالب.
(للموضوع تكملة)
(*)(380/34)
رسالة الشعر
الهوَى يُغَنى
للأستاذ أنور العطار
يَا فُؤَادِي لَوْلاَكَ مَا هَدَّنِي الشَجْ ... وُ وَلاَ ذُبْتُ حَسْرَةً وَشَقَاَء
كنْتَ تَشْكُو وَكنْتُ آسَى لِشَكْوَا ... كَ وَأسْتَنْفِدُ الدُّمُوعَ بُكَاَء
وَأُسَلِّيِكَ مَا وَدِدْتَ التَّسَلِي ... وَأعَزِّيكَ مَا حَبَبْتَ اْلعَزَاَء
أرْقَأُ الدَّمْعَ خَيْرَ مَنْ رَقَأ الدَّمْ ... عَ وَأَطْوِي الْجَوَى وَأُقْصِي الدَّاَء
يَا فُؤَادِي لَوْلاَكَ مَا بِتُّ لَيْلِي ... سَاهِدَاً أُضْجِرُ النُّجُومَ اشْتِكَاَء
أَتَنَزَى أسَىً وَأنْتَ مِنَ الوَجْ ... دِ تَعُبُّ الظِّلاَلَ وَالأَنْدَاَء
وَتَرَى اللَيْلَ خَيْمَةً للتَّمَنِّي ... تُلْهِمُ الشِّعْرَ وَالهَوَى وَالغِنَاَء
هَاهُنَا يَرْقُدُ الْهُيَامُ كَئِيباً ... مَضَّهُ الْيَأسُ فارْتَمَى إعْيَاَء
هَاهُنَا تَسْتَرِيحُ دُنْيَا مِنَ الأشْ ... وَاقِ تُغْرِي الأُلاّفَ والشُّعَرَاَء
هَاهُنَا تَهْدَأُ المُنَى غَيْرَ نَجْوَى ... تَغْمُرُ الرُّوحَ هَاجِساً وَنِدَاَء
الْهَوَى جَدْوَلٌ يَظَلُّ يُغَنِّي ... يَتَنَدَّى بَشَاشَةً وَرُوَاَء
مَنْ يُسَايِرُ ضِفَافَهُ الْخُضْرِ يَهْتَ ... زُ مِرَاحَاً وَيَسْتَعِرُ خُيَلاََء
وَيَغِبْ في رَغَادَةِ الفَرَحِ السَّم ... حِ وَيَنْسَرَ الحَيَاةَ وَالأحْيَاَء
ذَلِكَ الجَدْوَلُ الشَهِيُّ المُوَشَى ... حُلُمٌ يُلْهِبُ الْقُلُوبَ اشْتِهَاَء
رَفَّ بَيْنَ المُرُوجِ وَالقَلْبُ ضَمْآ ... نُ يُنَاجِي الأمْوَاهَ والأفيَاَء
نَضْرَ الْعُمْرَ فِي خَيَالِي وَهَزَّ ال ... كَوْنَ بِشْرَاً وَزَيَّنَ الأَشْيَاَء
أنور العطار
صفحات من الحب العظيم(380/35)
الخلوة الأولى
في أرض الجزيرة على النيل
للأستاذ محمود الشرقاوي
في خلوةٍ كان الهوى بيننا ... وكانت النجوى وكانت دموع
وكانت الشكوى وكان الجوى ... وخافقٌ يضرب بين الضلوع
سقْيتني من روحك الطاهر ... عذبَ هوىً كنتُ إليه ظِمى
رويت فيه ظمئي وانتشى ... قلبيَ منه وجرى في دمي
شكا كلانا ما به وانثنى ... يستمع الشكوى إلى جاره
يستمع الشكوى وفي قلبه ... دنيا من الوجد ومن ناره
ومرَّت الساعات تعدو إلى ... حيث تهاوى في قرار سحيق
ونحن في خلوتنا نشتهي ... أن ينقضي الدهر وما إن نفيق
حتى أتت ساعتنا للوداع ... ثم وقفْنا موقفاً موجعا
مدْدت يمناك وأبقْيتها ... في قبضتي ثم صمْتنا معا
وقلت لي: كيف سأبقى إلى ... أن يصبح الصبح؟ أما تتَّقي!
يا حسرتا لي! نتوالى الليال ... لا نشتكي فيها ولا نلتقي!
بالله قل لي كيف كان الهوى ... وكنت بَعدي يا طويل الغياب
وكيف تُقضَى ليلةٌ في الشتاء ... بغير شكوى في الهوى أو عتاب
وكيف بالليل تولّى ولا ... تسمع فيه زفرةً من شجوني
وكيف بالأيام تمضي ولا ... تشهد فيها دمعةً من عيوني
يا قاسي القلب، أما تشتهي ... أن ترجع الأيام تلك العهود؟
أين الوفا منك وميثاقه ... وأين منه اليوم هذا الجمود
أين ليالينا وأيامنا ... ما بين شكوى في الهوى أو عتاب
إذ نتلاقى في الضحى والمسا ... ونشتكي في الصبح مرّ الغياب
طال ندائي لك في خلوتي ... وطال حرماني وطال العذاب
من بعد أنسى منك في وحدتي ... يوحشني بعدك بين الصحاب(380/36)
هلّم نسترجع عهداً مضى ... كنت لقلبي فيه دنيا المنى
هلّم نسعد بكؤوس الرضى ... من بعد ما ذقنا كؤوس الضنى
هلّم نفرح بعد هذا النوى ... ونسدل الستر على ما مضى
أسقيك من روحيَ صِرف الهوى ... ونملأ الكأس بخمر الرضى
هيهات! لا قلبي له مسعد ... ولا حبيبٌ قربه يرتجى
بل أمنيات أشتهي أن تكون ... أشقيت عمري وهي ليست تجى
محمود الشرقاوي
نشيد(380/37)
لك روحي. . .
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
لكِ رُوحي فاسلمِي مصرُ وسودِي ... وابْلغِي بالمجْدِ هَامَاتِ الوُجودِ
من صُعودٍ للسَّمَا نحو صُعودِ ... وَيَقِينِ بالعُلا بَعدَ يَقِينْ
لكِ صَدْرِي فاتَّقِي سَهمَ المنُونِ ... وَيَمِينِي إنْ وَنَتْ شُلَّتْ يَمِيني
إنْ عَدَا العَادِي على الوادِي الأمينِ ... أوْرَدَتْهُ القَبْرَ أيْدٍ لاَ تَلِينْ
إنني نَسْلُ جُدُودٍ خَالِدينَا ... مَلأُوا الدُنْيَا جُنُوداً وَسَفِينا
لاَ تَقُلْ مَا كَانَ مِنْهُمْ لَنْ يَكُوناَ ... كلُّ مَا هَوَّنْتَ مِنْ صَعْبٍ يَهُونْ
صُلَّبٌ فِي حَقِّ أوْطَاِني فَإنْ ... لاَنَت الأحْجَارُ فيِهَا لَمْ ألِنْ
قَدْ سَقَاِني نِيلُهَا، إنْ لَمْ أكُنْ ... حَامِيَ النيلِ فَمَنْ غَيْرِي يَكُونْ؟
سَلِمَتْ مصرُ وَسَادَتْ فِي الْحَيَاهْ
فِي عُلاَ (الفَارُوقِ) تَعْلُو وَحِمَاهْ
جَلَّ رَبِّي مَنْ رَعَاهَا وَرَعَاهْ
أنَا فِي الرَّوْعِ فِدَاهَا وَفِدَاهْ
أيُّها الجنُدِيُّ قُمْ وَافْدِ الحِمَى ... وَابْلُغْنَ بِالنِيلِ أسْبَابَ السَمَا
لاَ تَقُلْ: أعْجَزُ عَنْهَا، إنَمَا ... خَلَقَ العَجْزَ خَيَالُ العَاجِزِينْ
هَذِهِ الرَايَةُ فِي أوْجِ العَلاَءِ ... أنَا إنْ جُدْتُ فِدَاهَا بِدمَائِي
خَلَدَتْنِي كُلُّ حَيٍّ للفَنَاءِ ... لَيْسَ يَبْقَى غَيْرُ ذِكْرَى الخَالِدِينَ
يَا ثَلاَثاً هُنَّ خَيْرُ الأنْجُمِ ... أنْتِ: رُوحِي، وَحَيَاتِي، وَدَمِي
خَضْرَةُ الجَنَةِ فِي ذَا العَلَمْ ... وَبَيَاضُ الصُبْحِ وَالحَقِّ المُبِينْ
عشتَ يَا فاروقُ والدنيا فِدَاك ... وعُلاَ الأنجُمِ بَعْضٌ مِنْ عُلاَك
جَنَّةٌ للنيلِ ما شادتْ يَداك ... فاعمُروها بسلامٍ آمنين
سَلِمَتْ مِصْرُ وَسَادَتْ فِي الحَيَاهْ
فِي عُلاَ (الفَارُوقِ) تَعْلُو وَحِمَاهْ
جَلَّ رَبِي مَنْ رَعَاهَا وَرَعَاهْ(380/38)
أنَا فِي الرَّوْعِ فِدَاهَا وَفِدَاهْ
أحمد فتحي مرسي
المحامي(380/39)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين المضاد للالتهاب العصبي أو فيتامين البري بري
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 5 -
زال كل شك على التقريب لدى من بقي متردداً في احتواء قشرة الأرز الرقيقة على هذه المادة الحيوية العجيبة المضادة للالتهاب العصبي، وخاصة بعد ما عزز اليابانيون هذه النظرية بنتائج قاطعة وقعت في جيوشهم وبحريتهم إذ كانت هذه تعتمد في غذائها على الأرز الأبيض المقشور، وكانت تقدم سنوياً ضحايا للبري بري من لا حصر لعدده من الرجال حتى بلغت نسبة الضحايا في بعض السنين أربعين في المائة من رجال القوات المحاربة مما تأثر به الجيش والبحرية، ولكن حدث بعد هذا أن أضرب عن طعام الأرز كغذاء رئيسي أساسي وأضيف إليه البطاطس والفواكه والدرنات وخبز الحبوب، فكانت النتيجة اختفاء مرض البري بري، وهذه الخطوة الأخيرة من أهم الخطوات العملية الجديدة التي خطاها البحث وقاوم بها الداء وكسرت بها شوكة المرض، ولا يلعب الآن هذا المرض إلا دوراً بسيطاً في تلك البلاد الآسيوية الشرقية التي عرفت الأهمية الصحية لما تحويه قشرة الأرز من المواد الحيوية، فأحلت الأرز غير المقشور أو نصف المقشور محل الأرز المقشور، وقد لا يقدر قيمة هذا العمل الأخير أحد مثل الذين رأوا بعيونهم الفعل الوبيل للمرض الذي كان يتخطف الناس زرافات من الوطنيين وآكلي الأرز بعد أن يهلك أبدانهم ويضنيهم.
وربما يكتفي الإنسان في مثل هذه الأحوال في البلاد التي تعتمد في غذائها على الأرز اعتماداً كلياً بسن قانون يمنع تبييض الأرز. ولكن مثل هذا العمل لا يحل المسألة ولا يرضي الروح العلمية البحاثة التي تصبو إلى تقرير معرفة وتكييف طبيعة هذه المادة التي تمنع حدوث المرض وعلة وجودها في القشرة الفضية الرقيقة ضمن الطبقة البروتينية التي تكسو حبة الأرز؛ وقد توصل بعض لباحثين اليابانيين، وكذلك البيولوجي فونك الذي سبق(380/40)
ذكره، وكان أول من وضع لفظ (الفيتامين) - إلى فصل وتحضير مادة من كساء (الطبقة الكاسية) الأرز كفت كميات منها متناهية في الصغر للقضاء التام على أعراض مرض الالتهاب العصبي الناتج من تناول الأرز المبيض غذاء أساسياً. وبعدئذ وعند تبويب وتصنيف الفيتامينات أطلق على الجزء الفعال من هذه المادة المحضرة الحرف الهجائي ولما كان الاسم العلمي للالتهاب العصبي هو المأخوذ من الإغريقية بمعنى أعصاب لقب هذا الفيتامين بالإنتينويريتيك.
وتوجد هذه المادة الحيوية في الأرز الغير المقشور بنسبة جرام واحد في كل ألف كيلو جرام أو بنسبة جرام ونصف في كل مائة كيلو جرام من نخالة الأرز (نخالة الأرز هي القشرة الداخلية للأرز التي تنزع عن حبة الأرز وتفصل عنها أثناء تبييضه) وقد استبعد وجود هذه المادة فقط في قشرة الأرز فدل البحث بعدئذ على وجود الفيتامين كذلك ضمن الطبقة البروتينية في الحبوب كالشعير والذرة والقرطم والقمح وفي بذورها كذلك، وقد لا يثير عجبنا غنى بذور تلك الحبوب بهذه المادة، فالبذرة هي مصدر الحياة، فلا بدع إن حملت كذلك المادة الحيوية اللازمة للبناء والنمو والحفظ، أما في داخل الثمرة (في الحبوب) أي النسيج الخلوي النشوي، حيث المستودع الغذائي للنبت الجديد، فيندر وجود الفيتامين أو ينعدم.
ولهذه النتيجة أهمية في حياتنا اليومية، فتقل إذن أو تكثر نسبة الفيتامين في الخبز الذي نأكله تبعاً للنسبة المئوية في طحن الحبوب أي نسبة إنتاج الدقيق من القمح المطحون، وهذا يعني كثرة وجود أو قلة النخالة والبذرة في الدقيق؛ فكلما قلت نسبة الإنتاج وقل وجود قطيعات النخالة والبذرة في الدقيق الأبيض الناتج قلت معه نسبة الفيتامينات؛ أما الدقيق ذو الإنتاج العالي أو الدقيق الكلي الذي يحوي معظم الحبة فنسبة وجود وهذا ما أثبتته التجارب الغذائية التي قامت للتدليل على التأثيرات المختلفة للفيتامين في أنواع مختلفة من الدقيق، وإحدى هذه التجارب قامت على تحضير عدة مجموعات من الفيران أطعمت كل واحدة على حدة نوعاً خاصاً من الغذاء من دقيق القمح والذرة والقرطم والشعير، فكانت أولى الضحايا هي المجموعة التي كان دقيق القمح من نصيبها، أما المجموعة المطعمة دقيق الشعير فقد مكثت أربعين يوماً حية رغم صنف غذائها الواحد - أما الفيران التي(380/41)
أكلت من غذاء القرطم الأسود فلم يصبها أي سوء وذلك لاحتواء الدقيق الأسود على كميات وفيرة من الفيتامين.
ولم لا يصاب الإنسان إذن بتلك الأعراض القاسية للالتهاب العصبي إذا ما اعتمد في غذائه الخبز الأبيض لاسيما وقد أكد هذا القول نتائج تجارب قامت حول تغذية الحيوانات، فالكلاب إذا ما أطعمت بالخبز الأبيض فقط تمرض بالبري بري بعد أربعين يوماً والدجاج بعد عشرين، أما الفيران فيمضي اثني عشر يوماً. وفي كل هذه التجارب تلاشت أعراض المرض سريعاً عندما أضيف إلى دقيق القمح نخالة القمح، وإذا ما لاحظنا أننا قد لا نمرض إذا تناولنا الخبز الأبيض فإن لنا في بقية أصناف الطعام المتممة مصادر أخرى للفيتامين إذ نجد تلك المادة الأنتينويريتيكية خلاف الدقيق الأسود العالي الإنتاج في الخميرة بكميات كبيرة وفي الخضروات والفواكه الطازجة وفي الدرنات واللوز والبندق وصفار البيض واللبن والكبد واللحم الطازجة، ولا يتأثر الفيتامين كثيراً في هذه الأطعمة عند طهيها طهياً عادياً ولا يفقد قدرته الفعالة عند سواد الأطعمة فيموِن الجسم بكميات كافية من الفيتامين عندما نتناول ألواناً مختلفة من الطعام العادي. وهنا تضرب الطبيعة مثلاً غريباً في القناعة، إذ يكفيها يومياً من ثلاثة أرباع إلى واحد على الألف من الجرام من فيتامين الأنتينويريتيك ضمن الغذاء اليومي للقيام بمهمتها في حفظ كيان الإنسان وصونه من الأمراض.
ومن الثابت المحقق الآن أن مجال عمل الفيتامين الأنتينويريتيكي وموضع تأثيره هو عند تحول المواد في الخلية العصبية، ولذا نرى أنه عند غياب هذه المادة الحيوية تحدث الاضطرابات وأعراض الإصابة في محيط الجهاز العصبي. وزيادة على ذلك يعمل هذا الفيتامين على تنظيم عمل الغدد الدرقية وأخيراً وبفضل مجهود العالم إميل أبدرهالدن ثبتت أهمية هذا الفيتامين عند تمثيل الكربوهيدرات (المواد النشوية والسكرية) وأثر هذا أنه بغياب هذا الفيتامين تحدث اضطرابات في تحليل الجليكوجين (سكر الكبد) أو في أية مادة سكرية نشوية تبقى في الجسم كاحتياطي من الكربوهيدرات، ونتيجة ذلك ازدياد كميات سكرية نشوية في الكبد وفي عضلات وأنسجة القلب ازدياداً غير عادي، وتأخذ هذه الكميات في الهبوط والنزول عند تموين الجسم ثانياً بفيتامين
ومع أن البحث العلمي بذل قديماً جهوداً عظيمة في سبيل(380/42)
التعرف على طبيعة تكوين هذه المواد الحيوية التي تكفي منها
كميات ضئيلة لحدوث تأثيرات بيولوجية هامة في جسم
الإنسان، ورغم تعاون الكيمياء مع علم الطب لم تثمر هذه
الجهود ولم يتحقق إلا حديثاً بعض الحلم في تحضير الفيتامين
في حالة نقية. إذ توصل الكيميائي فونك الذي تردد ذكره
مرات في هذا المقام إلى تحضير بلورات دقيقة من نخالة
القمح استخدمت منها أجزاء ضعيفة من الألف من الجرام
الواحد في علاج حمام مصاب بالبري بالبري، فكان لها مفعول
السحر في شفاءه كما حضرت كذلك خلاصة من الخميرة كان
لمفعول أربعة أجزاء من الألف من الجرام منها أثر بالغ
العجب في إزالة أعراض الالتهاب العصبي في حمام مصاب
بالبري بري، وفي ردهة اجتماع مؤتمر طب المناطق الحارة
الذي عقد في برلين عام 1911 وضع العالم الألماني شاومان
في حنجرة حمامة كسيحة مريضة بالبري بري - حبيبة من
الفيتامين الخام كان من أثرها الشافي أن طارت الحمامة في
اليوم التالي في جو ردهة المؤتمر. ولم تتضح درجة نقاء هذه
المنتجات المحضرة إلا بالمقارنة. وعندما توصل العالمان(380/43)
الهولنديان، يانسن ودونات , في سنة 1926 بعد تحضير
وتنقية تامة لبلورة محضرة من نخالة الأرز حالت كمية منها
لا تزيد على عشرة أجزاء من مليون من الجرام دون إصابة
حمامة رغم تقديم غذاء البر بري لها ورغم هذه الجهود
الجبارة المضنية من يانسن ودونات، فلم يثبت أن المادة التي
استخلصاها ونقياها ذات تركيب كيميائي واحد، ولم يتوصل
أحد إلى معرفة الحجر الأساسي لهذا البناء الكبير، وكذلك
الاحتفاظ بسر تركيبه قبل العالمين الألمانيين: أدولف ونداوس،
فريتز لاكور & وذلك في أواخر عام 1931، إذ تمكنا مع
مساعديهما من إزالة الستار عن الفيتامين وتحضير مادة نقية
بلورية من الخميرة يكفي منها جزءان من المليون من الجرام
لإظهار أثر حميد في شفاء حمام مصاب بالبري بري. وقد
وصلا إلى تحضير كمية هي 100070 سبعين على ألف من
الجرام من مائة كيلو جرام من الخميرة بينما توصل غيرهم
من الباحثين إلى تحضير نضف جرام فقط من ألفي كيلو جرام
من الخميرة مع الفارق العظيم في الإنتاج الصناعي، وللآن لم
يذع أي شرح كيميائي تفصيلي لطبيعة هذه المادة.(380/44)
والمعروف عن فيتامين الأنتينويريتيك فقط أنه يتركب من الكربون والإيدروجين والآزوت والأكسجين، وأحياناً من الكبريت، وأنه سهل الذوبان في الكحول والماء، وأنه يتأثر بالحرارة الطويلة المدى عند درجة 120ْ وأنه لا يتأثر عند الإغلاء القصير المدة. ولو قدر يوماً ما الوصول إلى الإحاطة التامة بالتركيب الكيميائي لفيتامين البري بري والإعلان عنه، فسوف لا يصل العلم إلى هذا الفتح قبل الاصطدام بنواحي وأبواب كثيرة موصدة، إذ كلما تعمق العلماء في حل لغز الفيتامين تكشف لهم أنهم ليسوا حيال فيتامين واحد، بل أمام مجموعة من المواد الحيوية، بل المعروف الآن أن ما اعتبره الباحثون فيتامين ليس إلا مجموعة تكون من خمسة فيتامينات مختلفة على الأقل والتي منها ما تكلمنا عنه في هذا الباب تحت عنوان فيتامين الأنتينوترتيك (الفيتامين المضاد للالتهاب العصبي) أو فيتامين البري بري أما الفيتامينات , , فلا يعرف عنها إلا ما استنتج من التجارب الغذائية التي أجريت على الحيوانات وهي معرفة علمية نظرية بعيدة عن الناحية العملية - بينما تأثيرها وصلتها بفسيولوجيا الإنسان فلم تعرف بعد. أما الفيتامين فلصلته القريبة الهامة بالتمثيل عند الإنسان ووجوده في الطبيعة ملازماً للفيتامين فسنخصص له الكلام في المقال القادم.
عبد اللطيف حسن الشامي(380/45)
البريد الأدبي
أدهم قال لي
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير الرسالة
تضمنت كلمة الأستاذ عبد الغني حسن دعوة لأصدقاء المغفور له إسماعيل أدهم أن يكتبوا عن مقدار ما وصل إليهم من العلم عن عقيدته. ولقد منعني أن اكتب عنه أنني كنت أتوعده بأن أكتب عنه. فلما مات منتحراً تحرجت من إنفاذ الوعيد!
على أن الذي قدم الانتحار بكتاب إلى النيابة يطلب فيه تشريح جمجمته لم يفته أن يتحداني في يوم انتحاره بمطالبتي أن أكتب عنه بعد موته، ولم يفته أن يختار للتحدي أقوى وسيلة عرفتها من وسائل الإغراء، وهي أنه أهداني كتاب ميخائيل نعيمة عن جبران خليل جبران، وسألني عما إذا كنت أستطيع أن أكتب عن صديق لي مثل هذا الكتاب إن مات.
أما أني كنت قد توعدته بالكتابة عنه فلذلك قصة تدل على طريقة تفكيره وعلى مقدار ما عانى من المتاعب التي أفضت إلى الانتحار بسبب هذه الطريقة:
ذلك أنني دخلت منذ أقل من عام إلى مكان اجتماعنا المعتاد في نادي جماعة الفنون الجميلة ومعي كتاب (هتلر قال لي)، فدار الحديث بين المجتمعين، وما فيهم إلا مصور أو مثال أو شاعر أو أديب، عن شخصية هتلر. وانفرد أدهم بالثناء وذم الإنجليز والمصريين والمسلمين، وأسرف في كل ذلك أشد الإسراف، فتوعدته إن لم يكف أن أضع كتاباً أجعل عنوانه (أدهم قال لي) وأدون فيه آراء أدهم كما سمعتها منه.
سكت أدهم إلى اليوم الذي انتحر فيه. وفي هذا اليوم طلب إليَّ أن أكتب عنه كما قدمت. فهل اكتب؟
أرجو أن يجيبني مجيب فإني حائر أتلمس النصح.
عبد اللطيف النشار
اضطراب في مقال
حضرة الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
بعد التحية، كتب الأستاذ الدكتور زكي مبارك في حديثه ذي الشجون بعنوان (إلى(380/46)
المنصورة وطن الشعر والخيال) في عدد الرسالة رقم 378 ما يلي:
(بعد ساعة واحدة من الشروع في كتابة هذه السطور آخذ طريقي إلى المنصورة وطن الشعر والخيال؛ فهل تلقاني المنصورة بالضم والعناق وهي كناس الحور العين؟)
واستطرد الدكتور فعرج على بعض ذكرياته إلى أن ذكر الجهود الشاقة التي بذلها أدباء الطليعة في مصر (الستة أو السبعة كما كتب الأستاذ الزيات منذ ثلاث سنين في عدد مضى بالرسالة) حتى وصلوا إلى السيطرة الأدبية، ثم قال:
(وقد رجعت من المنصورة بعافية لأني لم أبت فيها غير ليلة واحدة؛ فلم يتسع الوقت لعقابيل الوجد حتى تجرب حظها في القدرة على تجريح قلب تكسرت فيه النصال على النصال).
ثم استطرد الدكتور فذكر ما لقي بالمنصورة وما فعل. والذي يقرأ هذا الكلام يرى بعضه يناقض بعضاً إذ كيف يقول الدكتور في أول المقال إنه سيأخذ طريقه إلى المنصورة بعد ساعة واحدة من الشروع في كتابة تلك السطور ثم يعود بعد كتابة عمود واحد فيقول إنه رجع من المنصورة بعد أن أمضى بها ليلة واحدة. فالمعنى لا يمكن أن يستقيم إلا على فرض كون الدكتور قد كتب بعض مقاله قبل أن يأخذ طريقه إلى المنصورة ثم عاد فأتمه بعد رجوعه منها أي بعد يوم كامل على الأقل. وبفرض حدوث هذا فهلا كان واجباً أن يشير الدكتور إليه ليمنع اللبس وليستقيم المعنى.
لعل الإسراع في الكتابة إلى جانب احتمال أن يند بالقلم - كما يقول الدكتور تعليقاً على من أخذ عليه فتح كلمة (سجية) في بيت الشعر المشار إليه هناك - يمكن أن يشرد بالذهن مما نود دائما أن ننزه عنه قلم أديبنا الكبير الدكتور زكي مبارك.
وتفضلوا يا صاحب الرسالة بقبول إجلالي وإكباري.
(المحلة الكبرى)
محمود أحمد وصيف
القراءات السبع
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة(380/47)
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فقد كتب الأستاذ الباحث علي الطنطاوي في العدد 379 من الرسالة الغراء (كلمة في القرآن) جاء فيها:
(واقتصر الناس على الحرف الواحد حتى نشأ النحاة وأهل اللغة والقراء؛ فوقع بينهم اختلاف كبير في حركة أو إمالة أو مد أو همز فكان من ذلك القراءات السبع).
وهي عبارة تفهم القارئ أن للنحو واللغة والقراء مدخلاً في اختلاف القراءة. وما أظن الأستاذ - وهو باحث فاضل - يعتقد ذلك أو يميل إليه؛ فإن الحق الذي لا شبهة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ أمته على الأحرف السبعة تخفيفاً وتيسيراً؛ وأن هذه القراءات المشهورة الآن - وإن تكن على الحرف الذي اقتصر عليه عثمان رضي الله عنه حسماً لمادة الخلاف - مروية عنه صلى الله عليه وسلم بطريق التواتر، وإنما لم يكتب المصحف العثماني مشكولاً منقوطاً تيسيراً لقراءته على الأوجه التي صح سماعها عن صاحب الوحي قطعاً. ولا غرابة في أن يكون للحرف الواحد أوجه كثيرة؛ ومن ذلك - مثلا - اختلاف الكلمة بين الاسمية والحرفية في مثل قوله تعالى (فناداها من تحتها) قرئ بكسر (من) وفتحها. ومن ذلك اختلافها في حرف المضارعة في مثل قوله تعالى (وما ربك بغافل عما يعملون) قرئ بالتاء والياء ومن هذا أيضاً اختلاف حركة الإعراب في نحو قوله جل ثناؤه (واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام) بنصب كلمة (الأرحام) وجرها.
فلو كتب المصحف الإمام مشكولاً منقوطاً لثبتت به قراءة واحدة فقط، وفيه من الحرج ما فيه. لكن لما كثر الناس ونشأ اللحن خيف على القرآن الكريم أن يلحن فيه، وان يقرأ على غير وجهه، فطلب زياد بن أبيه - وكان أميراً على العراق - إلى أبي الأسود الدؤلي، وهو من كبار التابعين المتقنين للقراءة أن يضع للناس علامات تضبط قراءاتهم ففعل، وكان ذلك مبدأ للشكل ثم النقط.
هذا، وأكبر الظن أن الأستاذ اطلع على تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير، وعلى الشفا للقاضي عياض، فوجد فيهما بغيتيه أو ما يدنو منهما. ولعل علماءنا لا يزالون يرون أنه ما ترك الأول للآخر شيئاً، أو أنهم ينتظرون من الشباب الناهض همة وإقداماً على أني أؤيد الأستاذ في ما ذهب إليه، وأسأل الله للعاملين سداداً وتوفيقاً.
هذه عجالة نمد بها سن القلم، أو نرفع بها سهو الكاتب، ولعل صدر الرسالة الغراء - وهي(380/48)
رسالة العلم والدين والأدب - ينشرح إن شاء الله لتحقيق معنى الحديث الشريف (أنزل القرآن على سبعة أحرف).
طه محمد الساكت
مدرس التفسير والحديث بمعهد القاهرة
أخلاق القرآن
أورد الدكتور عبد الوهاب عزام الآية الكريمة التي ختم بها بحثه في أخلاق القرآن هكذا: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك نطبع على قلوب الكافرين) وقد نطق بها كذلك في حديثه في المذياع وصحتها: (. . . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين) الأعراف (101) وأعتقد أنها اختلطت في ذهنه مع الآية الأخرى (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) يونس (74).
حسين محمد الأنصاري
سؤال
على قمة جبل قاسيون أثران قديمان على شكل قبتين يعتقد أنهما شيدتا للرصد، وقد اختلفت أقوال العلماء فيمن بناهما، فأرجو ممن عنده علم به أن يخبرني على صفحات هذه المجلة الغراء وله مني الشكر.
(سائل)
تعقيب
سيدي المحترم رئيس تحرير الرسالة
سأل الأستاذ محمود المرسي خميس في عدد الرسالة 376
الصادر بتاريخ 1691940 (لمن تعطى الأفضلية في الاهتداء(380/49)
إلى من اشتركوا في معنى واحد؟) ثم سأل: (أنقول إن المعاني
شائعة ولا تجوز الملكية والاختصاص؟) وأظن إن هذا السؤال
جدير بالبحث من الوجهة الأدبية.
فالذي يعرفه كل مطلع على الأدب العربي أن الشعراء يتفقون كثيراً في المعاني بل وفي بعض الألفاظ في البيت الواحد، وقد تعرض لذلك النقاد ووضعوا للأمر قانوناً عادلاً من قوانين النقد ساروا عليه في كل ما تعرضوا له في هذا الصدد.
ذلك القانون هو أن (من استرق شيئاً واسترقه، فقد استحقه) أي أن الشاعرين بصرف النظر عن أيهما أسبق للمعنى يَفْضُل أحدهما الآخر إذا اشتركا في معنى واحد بجودة الصياغة وحسن السبك واختيار الألفاظ إلى غير ذلك من أصول البلاغة. فقد كان الناس ينشدون بإعجاب بيت الأعشى
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
فلما جاء أبو نواس بعد هذه المرحلة الطويلة من الزمن بين الشاعرين، وأخذ هذا المعنى بعينه وحسن فيه على قدر ما وسعه تملكه من زمام البلاغة ثم قال:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
لما قال أبو نواس هذا نسي الناس بيت شاعرهم الأول وحكموا لأبي نواس بفصل الخطاب، واصبح هو صاحب المعنى ومبتكره وعلى ذلك قس كل شاعرين أو أديبين اشتركا في معنى من المعاني.
(الخرطوم - سودان)
(ا. ب)
إلى علماء النحو في جميع الأقطار
1 - تقول كتب النحو من صغيرها إلى كبيرها: إن مميز العدد من ثلاثة إلى عشرة حقه أن يكون جمعاً، مثلاً سبع ليالٍ، وثمانية أيامٍ، وخمسة آلاف. . . فما بالنا نقول (وتسكتون(380/50)
على هذا القول): ثلاثمائة، وخمسمائة، وتسعمائة. . . بإفراد لفظ مائة الذي هو تمييز للعدد، ولم نقل ثلثمئات، وخمسمئات و. . . كنص القاعدة، وكما نقول في الألف، وما وجه العلة في جمع الألف دون المائة؟
2 - وتقولون: إن ألفاظ العدد من ثلاثة إلى عشرة تكون على عكس المعدود في التذكير والتأنيث، فما قولكم في قوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)؟ حذف التاء من عشرة مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر! وما تعليل ذلك؟
3 - وقلتم إن (لن) حرف وضع للنفي المؤبد (والعياذ بالله)! فإذا كان ما زعمتم صحيحاً، فمالي أقرأ في كتاب الله تعالى قوله (فلن أكلم اليوم إنسياً) فأرى كلمة اليوم في الآية جاءت بعد النفي بلن فأفسدت قاعدتكم، واقتلعتها من أساسها، ولو كانت (لن) لتأبيد النفي كما وهمتم لما كان هناك موجب لتقييد هذا النفي باليوم!. . .
وكذلك أقرأ قوله تعالى (ولن يتمنوْه أبداً) فأراني متحيراً في إيراد لفظ أبداً بعد لن، ولو صح ما قلتموه من تأييد النفي بلن لكان لفظ (أبداً) تكرار لا داعي له، والأصل عدمه.
وحاشا لكلام الله أن يخضع لأحكامكم!. . .
أفتونا فيما جئتم به من علم في كتبكم، وهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
مصطفى محمد إبراهيم
مدرس لغة عربية(380/51)
القصص
صفحة من حرب الجبابرة
جيوكندا
للأستاذ محمد محمد مصطفى
السماء يومئذ تمطر شهباً تزلزل الأرض وتفتت الصلب، والمدفع تصم الآذان وتدك البنيان، والقذائف تشمل الجو ناراً ودخاناً. وانقلبت (بورجيا) قرية فرنسا الجميلة إلى حطام يلتهب وأنقاضاً تنفر منها الشياطين، وزخرت الطرق والمزارع بالنازحين منها والدبابات في أثرهم ترسل عليهم الموت ولا عاصم لهم منها إلا العراء.
وانتهت (جيوكندا) إلى ظل من ظلال الغابة، فجلست مكروبة محزونة تنظر من خلال الدمع إلى القرية وقد أضحت يباباً.
لقد ماتت أمها كمداً لمصرع وحيدها في الميدان، وكان أبوها مسبوتاً على فراش المرض فبات تحت الأنقاض.
ووقفت تنتفض ذعراً وهي ترى جموعاً مائجة ولججاً هائجة من دبابات الألمان تطوي الأرض وترسل ضوضاء وصفيراً يحطم العصب ويوهن القلب، ومع ذلك فقد كانت مدافع الفرنسيين ترسل عليهم لظى من نار، فلا يقفون ولا يهزمون كأنما قد بسط لهم أديم الأرض.
ودنت منها الدبابات متراصة تنفث لهباً وموتاً، وتترك ما وراءها صعيداً جرزاً، فجرت هالعة إلى غير هدف، ولبثت في عدوها تنظر بين الحين والحين إلى الوراء فترى الدبابات تقترب منها فتواصل العدو، وأضناها السير فسقطت لاهثة وانية ثم غابت عن رشدها.
- أأنت قائد فرقة باصقات اللهب الخامسة والستين؟
- نعم.
فحول الجنرال نظره وعبث بشاربه الأشيب وتمتم بصوت خافت:
- ولكنك صغير السن. . .
فأردف القائد الشاب:(380/52)
- كبير القلب مخلص لألمانيا والزعيم.
- حسن. . . ألم يسبق لك الاشتراك في معارك؟
- كان لي شرف الاشتراك في حصار (لييج)
- تقضي أوامر الفوهرر بألا تقف دبابتك ولا تتراجع وسيكون هجومك على جبهة تمتد تسعين ميلاً من (بورجيا) دمرتها لك الطائرات وستسوق أمامك ألوف النازحين ليكونوا لك درعاً وليوقعوا الارتباك في صفوف الحلفاء.
والآن ما اسمك أيها القائد؟
- جون فريتش.
- إلى العمل يا جون فريتش. . .
لما اقتربت الدبابات من (جيوكندا) كانت نفس القائد جون فريتش تنازعه إلى إبعادها من طريق الدبابات.
. . . ولما حملها بين يديه أفاقت وابتسمت له ابتسامة لو مات على أثرها لما أسف على نعمة تركته في الحياة.
. . . ولما سألها عن وجهتها لم تدر بم تجيب.
. . . ولما جلست إلى جانبه بالدبابة ألهاها كثرة ما بها من عدد وآلات.
قالت بعد ما أدركت أنها بين ألمان:
- أتسوقون المدنيين هكذا كالنعاج؟
- إنها أوامر الفوهرر. . . والحرب لا ترحم.
- وتقولون إنكم تنتشلون العالم من ربقة الديمقراطية وتريدون به السلام؟
- لا شك في ذلك.
- فماذا أفاد حكمكم فيما اكتسحتموه من بلاد؟
- قضاء على الرأسمالية وأصحاب الثروات.
- وتقولون إنكم تناهضون الشيوعية؟
- ليس في القضاء على بطالة العمال بلشفة لهم. . . فأي عدل ترين يا فتاتي في رجل يملك الملايين وينام عمال مصانعه على الطوى؟(380/53)
- ذا نصيبهم في الدنيا (وجعلنا بعضكم فوق بعض درجات).
- درجات. . . وليس ملايين الدرجات فلا يكون البون بين صاحب المصنع وعامله ساشعاً. والعامل الذي انتج الربح له قسم فيه وللدولة مثله لتثقف به أولاد ذلك العامل، فليست العبقرية وقفاً على أولاد الأغنياء.
- تالله أنتم أعداء لكل ما يحرص عليه المتمدينون من تقدم اجتماعي وحرية بشرية، وما من أمة تبيت اليوم في أمان من ظل الصليب المعقوف. وقهقه القائد حتى بدت نواجذه وقال:
- يا صغيرتي العزيزة. هاأنت ذي ترين جنود الحلفاء يفرون من وجه آلاتنا التي أنتجتها عقولنا، فهل من بين علمائكم من يستطيع أن يصنع شيئاً يقفنا ولو لبضع ساعات. . . والعقل الذي يذلل العلم لرغباته والأمة التي تخفف الفوارق المادية بين طبقات الشعب فلا يكون فيها فاحش الثراء ولا من يسمو بالفقراء، هي أرفع مدنية من أمة تتخم خزائن أفراد قلائل منها بالذهب ولا يجد العامل الذي أنتجه ما يقتات به كفرنسا أو مصر التي يسخر شعبها بأزهد الأجور لخدمة القلة من الأغنياء والتي دل الإحصاء على أن اثني عشر ألفاً منها يملكون نصف الثروة العقارية للبلاد مما لا أعرف له مثيلاً في بلاد أخرى.
وعملت هذه الملمات في نفس الفتاة عملها، وذكرت أولئك الغارقين في لذائذ الدنيا من أثرياء قومها، وما لقيته من شظف العيش في قريتها فأطرقت وأغرقت في صمت طويل، حتى إذا ما شارف سيل الدبابات على (باريس) كانت قد طوت نفسها على أمر.
(يبدي الفوهرر خالص ثنائه على المعاونة القيمة التي قدمتها الجاسوسة س 107 في الميدان الفرنسي).
وأفتر ثغر س 107 وهي تقرأ الرسالة الشفوية وملكها الزهو فأعادت قراءتها ثم سلطت عليها زفيراً من فمها تلاشت على أثره السطور وألقتها مزقاً في الطريق.
وأخذت سمتها شطر محطة (بوردو)، تلك المدينة التي كانت مسرحاً لعملها الشاق، وذكرت ذلك الحان الذي قضت فيه الوقت كله بين جواسيس الحلفاء تبيع لهم الخمور وتستدر الأسرار من الصدور، وسمعت صوت أقدام تتبعها فالتفتت في ذعر فلمحت شبحاً يقترب منها ويهمس في أذنها:(380/54)
- أأنت س 107
فلما سمعت صوته هتفت:
- ميجر براون. . . لم جئت؟
- برسالة يا جيوكندا. . . وناولها إياها.
فهتفت نفسها:
- ترى أتكون من جون؟
. . . (تقوم فجر اليوم س 107 إلى مدينة إيفيل وترحل مع الهاجرات إلى دوفر لتتلقى الأوامر من ل 14 الذي سيستقبلها بربطة عنق زرقاء).
وألقت على الورقة زفيرها فابيضت ورمت بها إلى الطريق.
قال (ل 14):
- شاء الفوهرر أن يترك قليلاً من قوات الحلفاء التي رحلت عن (دنكرك) لتصف الأهوال التي أذاقها لهم الألمان، فيكونوا لألمانيا خير دعاة، فعليك تصويرهم في أسمالهم لدى نزولهم من البواخر لتزين بها المنشورات الألمانية التي تلقيها الطائرات على إنجلترا. . . والساحل الإنجليزي يا. . .
فأشارت إليه بالسكوت فهمس:
أقول إن الساحل الإنجليزي حاجز من الجحيم ضد القوات التي تحاول اختراقه فعليك مراعاة الدقة في تنفيذ هذه التعليمات، ومد لها يده بورقة.
وأبدت (جيوكندا) من الحذق والمهارة في الحصول على صور الحصون وأوكار المدافع وحركات الجنود والقوافل البحرية ما ألهج ألسن الجستابو بالثناء.
وجد قلم المخابرات البريطاني في تعقب الجاسوسة س 107 وضاق بحيلها ذرعاً، فهي آناً مهاجرة حليفة، وآناً ممرضة تندس بين الجنود، أو متطوعة توزع الحلوى في المعسكرات والمستشفيات ومالأها الحظ فكان يكلل مجهودها بالنجاح.
وطلعت عليها الصحف بنبأ الهدنة، وأخذ المارشال بيتان بنظم ألمانيا الاشتراكية، فخمدت فيها جذوة النشاط.
لقد أدركت غايتها وأصيب الهدف الذي كانت تسعى إليه.(380/55)
ولكنها تعلم أن الجاسوس لا يمكنه التخلي عن عمله لأي حال كان. . .
وفرت جيوكندا على باخرة تعيد اللاجئين إلى فرنسا.
واستقبلها الجستابو على رصيف ميناء (كاليه)، وابلغها الأسف الشديد لصدور الحكم بإعدامها.
وشدهت جيوكندا وفرقت وهتفت بصوت خائر:
- ألا يشفع لي ما قدمت يداي لألمانيا من خدمات؟
سقطت (باريس) تحت أقدام الألمان فخيم على مدينة النور الظلام. . .
وأخذ حذاء القائد (فريتش) يدب في رفق على إفريز (السين) ولم تزل صورة (جيوكندا) تعبر في فكره وتتسلل إلى قلبه فتثير فيه الألم والشجون، ومرت بخاطره خيبته في إقناعها بالعدول عن الالتحاق بالطابور الخامس وإصرارها في عناد وقولها له في حزم:
- فلن أهدأ حتى تتحطم الرأسمالية في فرنسا وأرى بعيني فيها نظم الريخ.
وتصور أنها الآن تضرب في أرض الدنيا لا تكاد تستقر في بلد حتى يأمرها الجستابو بالانتقال إلى آخر.
وملكته رغبة ملحة في رؤيتها والوقوف على حالها.
ربما اعتقلت. . . ومن يدري لعلها أعدمت بالرصاص، وأفزعه هذا الخاطر فخفق قلبه الملتاع وتهالك على مقعد قريب وقد تولاه طائف من الوجد والذهول. . .
ووثبت صورة جيوكندا أمام ناظره تتهادى على صفحة السين الساكن ترنو إليه بعينين تحكي خضرة البحر، وشعرها الذهبي الهفهاف يداعبه النسيم
وبدا له أن الجاسوسية أنهكتها، وأن شبح الإعدام أرهف أعصابها، ورآها بعين الخيال تهرع إليه وتسرد عليه ما خاضته من أهوال، وهو مع ذلك لاه عن حديثها بضمها وشمها ولثم ثغرها العطري كأنفاس الياسمين.
ودبت خيوط الفجر في فحمة الليل فهب القائد من حلمه الجميل يمشي خفق الفؤاد مبلبل الفكر، وحينما مر بجريدة (باري سوار) التي اتخذت مركزاً للجستابو، طرأ عليه أن يسال صديقه الميجر (براون)، فعلم أنه أوصل لها رسالة سرية في بوردو وأنه رآها تركب عربة. ثم أردف: وأحسب أنني سمعتها تقول للسائق إلى (إيفيل).(380/56)
وبذل الميجر لصديقه معاونة صادقة حتى علم أنها في دوفر ولكن دوفر واسعة، ووصول الألماني إليها مستحيل
. . . واخذ القائد يفكر ويفكر. . .
وانتشله من أفكاره صوت طرق الباب ودخل ضابطة المساعد وبيده الثبت اليومي لمن طلبت القيادة والجستابو إعدامهم بالرصاص، فألقى عليه نظرة عجلى، ولما أراد التوقيع عليه علق نظره باسم جيوكندا، فازدلفت تحت ناظره الأرض وانتفض قلبه في صدره كطائر مذبوح.
وكذب عينيه وقام ينهب الأرض إلى ميدان الإعدام.
وألفى فاتنته الموموقة معصوبة العين بين طابور المحكوم عليهم تقف مهيضة النفس كاسفة البال.
يالها من لحظة هائلة. . . لقد آن موعد إعدامها. . . وأي محاولة لإنقاذها تفقده شرفه وحياته. . . فكيف السبيل؟
وشحب لونه شحوباً هائلاً وغلى رأسه كالمرجل واصطرعت فيه أفكار سود.
اقترب القائد من جيوكندا وهمس في أذنها كلمات.
وأمر الضابط أن يقف الإعدام لحظة ينهي فيها أمراً عاجلاً ويعود. وعاد بعد دقائق.
قال القائد فريتش لضابط الإعدام:
- أمتأكد أنت من حشو بنادق الجنود؟
- كل التأكيد يا سيدي. . . وتفضل بالتفتيش.
ومر القائد على الجنود. وفتش بنادقهم واحداً واحداً ليتأكد من حشو جميع البنادق. وسقطت من يد القائد رصاصة أحد الجنود فانحنى الجندي لأخذها، ولكن القائد كان أسرع منه في التقاطها ووضعها بيده في بندقية الجندي. . .
وأشار القائد. . . فدوى الرصاص.
- ولكن المعجزة يا جون. . . كيف تمت؟
- كان جنوناً أن أراك تعدمين يا جيوكندا ولا أفعل شيئاً فهمست لك أن تتماوتي لدى إطلاق الرصاص وأتيت بطلقة فشنك وحشوت بها بندقية الجندي المكلف بإعدامك بدل التي(380/57)
تعمدت إسقاطها عند التفتيش عن بنادق الجنود.
فطبعت جيوكندا قبلة طويلة على ثغر جون فريتش.
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس(380/58)
العدد 381 - بتاريخ: 21 - 10 - 1940(/)
الحرب والشعر
للأستاذ عباس محمود العقاد
من رأيي الذي شرحته قبل الآن أن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، لأن الشعر (فردي) والخطابة اجتماعية تنشط بنشاط الجماعات، وتؤدي عملاً لا غنى عنه في أيام الحروب والثورات
وما يروج من الأناشيد والأغاني في إبان الحرب أو الثورة، فإنما حكمه حكم الخطابة، لأنه يتردد بين الجماهير في حالات الاجتماع ولا ينظم بداءة كما تنظم القصائد التي يترنم بها الشاعر على انفراد
وقديماً نظمت الملاحم الكبرى عن حروب الأمم البائدة، فخيل إلى بعض الناقدين أن الملاحم تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء، وهو في رأينا تخيل خاطئ، لأن اتخاذ الملاحم موضوعاً شعرياً لا يستلزم أن يزدهر الشعر في أيام الحروب، كما أن وصف إنسان في قصيدة لا يستلزم أن يكون ذلك الإنسان من عرائس الشعر التي توحي المعاني وتفتق الخواطر، وقد يكون في حقيقته على نقيض ذلك
ولقد كانت الملاحم فيما مضى تنظم على سبيل التدوين والتخليد بعد انقضاء عهدها بزمن طويل أو قصير، وكانت هذه الملاحم المنظومة هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين. فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر في الحياة وحوادث الأيام منها إلى سجلات الحفظ والتأريخ
فليست أيام الحروب من أيام الشعراء. ولعل الحرب من حروبنا الحديثة تشغل الملايين وألوف الملايين أعواماً، ثم تنجلي عن بضع قصائد مختارة لا تملأ كراسة واحدة ولا تساوي في عدد سطورها رواية من الروايات التي تمثل في بضع ساعات وموضوعها محصور بين رجل وامرأة، أو بين شرذمة قليلة من الرجال والنساء
إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست(381/1)
باللقاح الجيد لقرائح الشعراء
ومن العجيب أن أشيع القصائد التي خلقتها الحرب الماضية كانت لرجل ليس بالشاعر ولكنه طبيب
ولم يكن من عادته أن ينظم الشعر، ولكنه فتح له في لحظة من اللحظات كما تفتح أبواب الإلهام
ولم تنشرها صحيفة البنش الإنجليزية التي نشرتها دون غيرها إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها بل في التفاتهم إليها
ثم كان من شأنها أنها ملأت العالم الإنجليزي في أيام، وحاولت أمم أخرى أن تترجمها فلم تفلح في أداء بساطتها وجرسها وما يتخللها من الحزن والتفاؤل الرصين
ثم أصبح من عادة الجماهير الإنجليز كلما تجدد ذكرى الهدنة أن يلبسوا في عروة المعطف صورة أقحوانة مصنوعة تباع وتخصص أثمانها لأعمال الخير التي تقام باسم المارشال هايج، لأن الأقحوانة كانت موضوع ذلك القصيد
قال الطبيب الشاعر:
(ترفّ الأقاحي في سهول الفلاندرس
بين صلبان القبور صفوفاً وراء صفوف
معلماً من معالم المكان الذي نحن فيه
وللقنابر في الفضاء - يا لشجاعتها - لا تزال تغني غناءها،
وندر أن تسمعها الآذان تحتها بين قصف المدافع وانطلاق النيران)
(نحن الموتى!
قبل أيام قليلة كنا أحياء
وكنا نحيا ونحس الفجر الطالع وننظر إلى الشفق الوهاج،
وكنا نحب وكنا محبوبين
ونحن اليوم في سهول الفلاندرس ننام)
(خذوا بأيديكم عنان النضال مع الأعداء،
أيدينا المتخاذلة ألقت إليكم بذلك العنان.(381/2)
وارفعوا الشعلة عالية. . . ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات
فإن نقضتم عهدكم لنا نحن الذين مضينا
فلن ننام في مضاجعنا
ولو ظلت الأقاحي رفافة في السهول)
نظمت هذه الأبيات قبل نيف وعشرين سنة، وعادت الأقاحي ترف في سهول الفلاندرس، وعادت الأجساد تهوي هنالك ألوفاً وراء ألوف، وتناول شاعر إنجليزي القلم من حيث ألقاه الطبيب الكندي الذي قضى قبل أن تنقضي الحرب الماضية فقال:
(الآن، ومن تلك الأرض التي يطل من قبورها الأقحوان
ينهض موتانا كرة أخرى!
علموا من قبل أنهم لا يهجعون
إذا قيل يوماً إنهم عبثاً ماتوا وعبثاً ضرجوا تلك السهول بالدماء.
لقد غرسوا ولم يحصدوا. . . أليس هؤلاء الأعداء يعودون؟
فالآن ينهضون ليحصدوا ما غرسوه، ويحصدوا الكيل ألف كيل.
لأن الموتى كلمة يعرفون كيف يحفظونها، فلا تموت)
والشاعر الذي أضاف هذه الأبيات هو ألفريد نويس صاحب القصائد التي تقرأ اليوم حيث تقرأ اللغة الإنجليزية، ولكنه يحسب نفسه من السعداء إذاً جرى مع الطبيب الكندي في مضمار
وتجري مع هذه النغمة في سهولتها وشجاها أبيات الشاعر المعروف لورنس بنيون التي يرثي فيها لضحايا الحرب ويغبطهم لأنهم لا يشيخون حيث يقول:
إنهم لن يشيخوا كما نشيخ نحن المتروكين
إنهم لن يعرفوا سأم العمر ولن تثقل على كواهلهم السنون.
سنذكرهم حين تهبط الشمس وحين تؤب
(سنذكرهم وهم غالبون!)
أما في الحرب الحاضرة فالشعر الذي نشرته المجلات حتى الآن كثير، والمختار منه قليل
ومن هذا القليل قصيدة للسير روبرت فانسيتارت من رجال السلك السياسي النابهين ومن(381/3)
الشعراء الذين يروق في شعرهم الترصيع الأنيق والإيحاء الموارب، لأنه يذكرك لغة السياسيين
نظم هذه القصيدة بعد هزيمة فرنسا كأنه يخاطب بها محبوبة ناكثة فقال:
(ألم أكن وفياً لك من البداية؟
ألم أخلص لك الحب منذ عهد الشباب؟
ألم أحببك غير مضلل عن عيوبك ولا واهم فيك؟
أعرف أسوأ ما عندك وأعرف أن الأحسن فيك هو الأقرب إلى الحق والصواب!
وإنك لمثلي كنت صفوحاً وكنت تعلمين ما لم أكن أخفيه من عيوب
فامتزجنا ومشينا جنباً إلى جنب
نواجه عالماً لا نقوى على مواجهته منفردين
أكنت تحفظين ودي والأيام مقبلة؟
نعم. . . ولكني كنت أحفظ والأيام ليست كذاك،
وكان الإغراء ينال من حصنك.
وبضعفك مرة أخرى تنتصرين
وتنسين!. . .
تنسين نفسك وتنسين الحرية وتنسين الصديق،
بل تنسين حتى ما ينفعك وحتى ما تغنمين.
واليوم يعود التورد اللماح من وهج الحب
مسحة من الخجل، وتنقضب القصة كما انقضبت قصص كثيرة من قديم
ويتم الوداع في بوردو
وإياي الآن تكرهين، ولن ينقص كرهك لي حين أذهب غير واهن ولا مهدود بما أصابك
وحين أقف وحدي في وجه الدنيا، وأنظر جنبي فلا أراك)
ومن قليل الشعر الرائق في الحرب الحاضرة ولا يقال مثله في حرب قبلها هذه الأبيات التي نظمها (ولفريد جبسون) وهو يصغي إلى موسيقى (بيتهوفن) من مذياع ألماني ويستمع إلى دوي القذائف الألمانية على بلاده. . . قال:(381/4)
(من بعض الديار الألمانية يشدو العازفون بالنشيد الخامس العظيم. . . كأن لا حرب هناك
تعيث خلال الديار
يكرمون الفن والخراب جائح
ونصغي في أكواخنا فتنسرب إلينا الأصداء العلوية بين أزيز الطائرات ونذير الدمار
لحن خالد يحمله أي فضاء؟. . . يحمله الفضاء الذي يطير عليه القاذفون ليصطرعوا
صراع الموت تحت نجوم باردة العيون
واللحن الخالد من أرض إلى أرض ومن سماء إلى سماء ينفذ في الأسماع والقلوب
كأنما يخلق الألفة والانسجام حيث أبناء الفناء لا يعرفون الألفة والانسجام
وكأنما ينفث التوفيق والتنسيق في قلوب تنحدر إلى قرار سحيق. . .)
على أننا لا نظلم الشعراء النابهين فنقول إنهم يتخلفون حيث يسبق المصلون المجهولون. ففي الحرب الحاضرة شعر حسن لبعضهم لا يمنعنا أن ننقله إلا أنه لا يقبل الإيجاز والاقتضاب
أما في الحرب الماضية فقد ارتفع فيها (كبلنج) بالشعر الحماسي إلى الذروة التي رفعته الشهرة إليها، ونظم تلك القصيدة التي لا يسمعها إنجليزي إلا سرت في عروقه هزة الحمية وصالت نفسه صولة الكبرياء. ومنها:
الشأو هناك. . .
لا يبلغنا إليه رجاء خادع ولا وهم كذوب
بل فداء من معدن الحديد
فداء بالأوصال والعزائم والأرواح
إنه لواجب واحد علينا
وإنها لحياة واحدة نعطيها
من ذا الذي تنهض قدماه وقد هوت الحرية
ومن ذا الذي يموت وقد عاش الوطن!)
وموعدنا الحين بعد الحين بما نختار من هذه الشذرات، وهي على قلتها بالقياس إلى غيرها مما تتسع له صفحات وصفحات(381/5)
عباس محمود العقاد(381/6)
4500 ثانية في صحبة أم كلثوم
للدكتور زكي مبارك
لم تسمح الظروف بلقاء الآنسة أم كلثوم بعد الذي دوناه من لحظات التلاقي في كتاب (ليلى المريضة في العراق) وهي لحظات قصار ولكنها جياشة بأقباس المعاني، ولو طالت تلك اللحظات لظفرنا من سحر الحديث بأطايب وأفانين
ولم يكن ذلك الحرمان عن هجر منها أو صدود، فما يستطيع ذلك الروح أن ينسى أن له مآرب وجدانية من مسامرة أرباب الوجدان، وإنما شاءت المقادير أن تصرفنا بالشواغل القاسية عن التأهب لمداعبة الأفاعي والصلال
وما معنى ذلك؟
معناه أني سأتحف أم كلثوم بصورة وصفية تبسم لها في حين وتعبس لها في أحايين، مع العرفان بأني لم أقل غير الحق في وصف ذلك الروح اللطيف
وهل لهذه الحمامة الموصلية روح لطيف؟
ما وازنت بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم إلا تذكرت قول شوقي في الصوت الحنان
وَترٌ في اللَّهاة ما للمغنِّي ... من يدٍ في صفائه ولِيانِهْ
فهذه الحمامة تغرد بلا وعي ولا إحساس في نظر من يحكم بظاهر ما يند عن شفتيها الورديتين من أغانٍ وأحاديث
فهل تكون في حقيقة الأمر كذلك؟
إن كانت أم كلثوم بلا وعي ولا إحساس فعلى الأدب والفن العفاء. وكيف تُحرم أم كلثوم قوة الروح وهي بلا نزاع ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟
وأين من يزعم أن قلبه سلم من الشوق لأغاني أم كلثوم، وما مرت لحظة واحدة في المشرق أو في المغرب بدون زفرة أو لوعة تثيرها أغاني أم كلثوم؟
وهل سمع الناس في قديم أو حديث صوتاً أندى وأعذب من صوت أم كلثوم؟
تلك الفتاة هي الشاهد على أن الله يزيد في الخلق ما يشاء، فتبارك الله أحسن الخالقين!
ولكن كيف نحل هذه المشكلة: مشكلة الفرق بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم؟
الحل سهل: لأن العقدة مشتركة بينها وبين محمد عبد الوهاب وإليه وإليها انتهى الإبداع في(381/7)
عالم الغناء
عبد الوهاب رجل أعمال وأم كلثوم رجل أعمال، وذلك سر العبقرية عند هذين الروحين، وهو الدليل على أن الله لا يهب المواهب لأهل التخاذل والانحلال، والزهد في جمع الثروة هو الآية الحق على التخاذل والانحلال. وغضبة الله على من يحسبني أمزح في هذا الحديث!
دعتني أم كلثوم مرة لتناول العشاء في أحد مطاعم القاهرة فأجبت الدعوة، ولكني رأيت أن أدفع عن نفسي، فاستظرفتني جداً وصرّحت بأني لم أقل غير الحق حين قلت: (إني أعظم من الجاحظ ولو غضب الدكتور طه حسين)
ولن أنسى أبداً موقف القصبجي الملحن وقد زعم أنه صائم مع أن العشاء كان في جوف الليل ولم نكن في رمضان ولا شعبان، ولكنه كان يعرف أن (حمامة الشرق) لا يسرها أن يكون القصبجي رجلاً له أمعاء تظمأ وتجوع كسائر الناس، وكيف يكون فناناً وهو يحس الظمأ والجوع؟!
أشهد أن البخل حق، وأنه من خصائص أهل العبقرية، وإلا فكيف صحبت الدكتور طه حسين عشر سنين ولم أتناول الغداء في داره غير مرة واحدة لظروف قهرية قضت بأن نمضي النهار كله في درس شواهد الشعر المنحول سنة 1926؟
وكذلك يكون شقيق الروح محمد عبد الوهاب، فهو أبخل من الجارم بمراحل طوال، وهو إلى اليوم لا يدرك أن الدينار قد ينقسم إلى دراهم، وأن الدرهم قد ينقسم إلى فلوس، إنما الدينار دينار، فإذا انقسم فهو هباء، وإليكم هذا الخبر الطريف:
نشر الموسيقار محمد عبد الوهاب كلمات في مجلة الاثنين عن ذكرياته في زيارة العراق، وقد قرأت تلك الذكريات وأنا في بغداد فحزنت لأني عرفت منها أن الأستاذ الصراف خدعه فزين له الذهاب من دمشق إلى بغداد في سيارة عربية لا إنجليزية، وكانت النتيجة أن يقضي ثلاثة أيام بلياليها في الطريق بين دمشق وبغداد، فصممت على تأنيب الأستاذ الصراف حين أراه، ثم عظمت الدهشة وعظم الاستغراب حين عرفت من الأستاذ الصراف أن الموسيقار عبد الوهاب هو الذي اختار تلك السيارة لأن أجرتها أرخص بمبلغ لا يقل بحال من الأحوال عن دينارين!(381/8)
ماذا أريد أن أقول؟
لعلي أريد القول بأن الاهتمام بجمع الثروة يدل على الشغف بحب الدنيا، وحب الدنيا هو الأصل الأصيل لحيوات النوازع والغرائز والأحاسيس
وحب الدنيا كان السر في عبقرية أحمد شوقي أمير الشعراء، فقد صحبته مرات كثيرة وهو يطوف على أملاكه بالقاهرة وضواحي القاهرة، وشهدت كيف ينظر إلى كل بقعة من أملاكه وقلبه يهتف: (كل مليحة بمذاق) ورحم الله شوقي، فما مات إلا وهو حزينٌ حزين على فراق أملاكه الواسعة بأرجاء هذه البلاد
وحب الدنيا هو السر في عبقرية عبد الوهاب وأم كلثوم، عبد الوهاب ساكن العباسية وأم كلثوم ساكنة الزمالك، وهل يستطيع مخلوق أن يقول إنه على شيء من الأدب أو الفن وجيوبه خاوية؟
آه، ثم آه!!
كنت غنياً وكانت لي أموال مرصودة في مصارف مختلفات، ثم شاء القدر أن أترفق بمرضاي من الملاح فأنفق عليهم ما أملك، فأنا اليوم فقير، فقير، فقير، بحيث ترفض أم كلثوم أن تكون (ليلى المريضة في الزمالك) بحجة أنها صحيحة، لا بحجة أني لم أعد أملك البر بمرضاي من ذوات الخد الأسيل والطرف الغضيض!
وهجرتي إلى العراق هي سبب هذا البلاء، فقد أعداني العراق بالكرم وراضني على البذل والجود، فأنا اليوم بلا ذخيرة ولا عتاد
ألم تسمعوا أني كنت أتمرد على رؤسائي بالجامعة المصرية وبوزارة المعارف، فكنت أملك الزهد في مناصب الحكومة في كل وقت؟
فإن صح أني صبرت أخيراً على خدمة الحكومة أربع سنين فاعلموا أن أخاكم مكره لا بطل، وأنه لم يتمرغ في تراب (الميري) إلا وهو في فاقة وإملاق
وآه ثم آه من الصبر على خدمة الحكومة أربع سنين!
وهل خلق الشعراء لهذا الاستعباد؟ وهل كان ذلك هو المصير المنشود لمن يؤمنون بفاطر النخيل والأعناب؟
ولكن لا بأس فمن واجب الشاعر الذي أخضعه الفن للقوافي والأوزان أن يقبل الخضوع(381/9)
لقيود الوظيفة وقيود المجتمع وما قيمة الفلسفة إن لم نحسن تعليل الصبر على قيود الوظيفة وقيود المجتمع؟
وما حديث الـ4500 ثانية في صحبة أم كلثوم؟
كانت النفس حدثتني بوجوب السفر إلى الإسكندرية في أواخر أيلول لأرى كيف ينجزر الصيف عن الخريف في تلك الشواطئ للِفيح، فرأيت على المحطة فتىً من عصبة الفن الجميل وهو يهتف: (أما ترى ثومة يا دكتور؟)
والتفت فرأيت إنسانة نحيلة تكبح سحر عينيها بمنظارين سمراوين وهي تحاور المودعين حواراً تقع فيه ألفاظ غلاظ على غير ما ينتظر من فتاة لها تلك المكانة بين البيض الخَفِرات من بنيات وادي النيل
وأقبلت فسلمت تسليم الشوق بتهيب واحتراس، لتفهم أني لا أريد نضالها في ميدان التنكيت، ولكن الشقية تغابت وتجاهلت رغبتي في البعد عن هذا الميدان، ولم تكن إلا لحظة حتى اقتنعت بأن الزمالك تجاور بولاق!
ما الذي يحمل ثومة على خلع البرقع وهي تحاور الرجال وفيهم من لا يتأدب وهو يحاور النساء؟
لم يبق بين ثومة وبين الفصيلة النسائية أية صلة، فهي اليوم رجل أعمال، وهي أبو كلثوم لا أم كلثوم!!
وقت ثومة لا يضيع في مراجعة الأدب القديم والأدب الحديث - كما تسمعون - وإنما يضيع وقت ثومة في تدبير المال لاقتناء النفائس من البيوت والبساتين
وثومة ليست غبية، فهي تعرف أن البيئات الفنية يكثر فيها الوباء، وأنه لا موجب لطاعة الفطرة التي يتجلى فيها الحنان النسوي، لئلا يكون من أثر ذلك أن تدور حولها الأقاويل والأراجيف في زمن الأقاويل والأراجيف
ومن أجل هذا لا تجيد أم كلثوم ممثلة إلا في مواقف الانفراد، فهي كتلة من الثلج حين تحاور رجلاً في مواقفها التمثيلية، وهي نارٌ تتأجج حين تخلو إلى نفسها في موقف من مواقف التذكر والاشتياق
العزلة هي الفرصة الوحيدة لانفجار العواطف في صدر أم كلثوم، لأن هذه الإنسانة تتوهم(381/10)
أن المجتمع لا يُحسن غير التجريح والاغتياب، فهي تلقاه بلسانٍ حديد لا يجيد غير السخرية والاستهزاء، فإذا اعتزلت الناس أو توهمت أنها اعتزلت الناس صارت أم كلثوم الحقيقية بشفتيها الورديتين وثناياها اللؤلؤية وأنفها المسنون. ولو استبحتُ مغازلة هذه الشقية لقلت إن ابتسامها يصدر عن وادٍ سحيق هو وادي الخلود!
وما أسعد من يظفر بابتسامة صفية من أم كلثوم ولو لحظة واحدة من عمر الزمان!
هانحن أولاء في محطة القاهرة، وإني وإياها لمختلفان، فهي ذاهبة إلى المنصورة وأنا ذاهب إلى الإسكندرية، وسنفترق في طنطا كارهين أو طائعين
وأترفق فأقول: ألا تحتاج الحمامة الموصلية إلى رجل يضايقها لحظات؟
فتجيب: وأنت؟ ألا تحتاج إلى من يضايقك ساعات؟
ثم نأخذ في الحديث بعنف ولجاجة وصيال، فهل كان بيني وبين هذه الروح ثأر قديم؟ وهل سمعت أني اغتبتها فقلت إنها ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟ وهل نقل الوشاة أني زعمتُ أنها أطيب من العطر وأرق من الزهر المطلول؟
لا أعرف ما ذنبي عند أم كلثوم، ولم أخرج على الأدب فأقول إنها خير ما أخرجت مصر من ثمرات، وإنها ألطف روح سكن الزمالك وتخطّر في شارع فؤاد؟
ما هفوت في حق أم كلثوم إلا مرة واحدة حين قلت إن حنجرتها مسروقة من الحمائم الموصلية، وكان الرأي أن أقول إن حمائم الموصل سرقت رخامة الصوت من الحنجرة الكلثومية
ثم تشتط أم كلثوم في المزاح الغليظ، ولكن مع من؟ مع الرجل العليم بمواقع أهواء القلوب ولو سُدل على سرائرها ألف حجاب!
هل تذكرون المصباح المغطّى بالأوراق الزرق؟
هو قلب أم كلثوم، لو تعلمون!
وبلفظة واحدة نزعت تلك الأوراق لأواجه ذلك القلب الوهاج
فما هي تلك اللفظة السحرية؟
قلت: إن حمامة الشرق تستر بمزاحها الغليظ قلباً يحترق
فالتفتت الفتاة التفاتة رشيقة وهي تستزيد، فقلت: وقد حدثتني ليلى أن الأفعى تغفو أوقاتاً(381/11)
طويلة ثم تستيقظ حين تجد الفرصة لتخدير الفريسة بالسم الزعاف
وبهذا الكلام تنبهت أم كلثوم من سباتها المتكلف المصنوع، وابتسمت ابتسامة لن أنساها ما حييت، فقصصت عليها قصة ليلى حين قرأت في كتب التاريخ الطبيعي أن الحيات تثور وتهتاج حين ترى إنساناً أخضر العينين، فزعمت الشقية أنها لم تكن تعرف أني أخضر العينين، فقلت: وما السر في نفرتك مني أيتها الرقطاء؟
وترفقت أم كلثوم وتلطفت بعد التأبي والتمنع، وانطلقت تتحدث بلا تكبر ولا ازدهاء، فمن قال إنه عرفها قبلي فهو كاذب، لأني أول من نزع الأوراق الزرق عن ذلك القلب الوهاج، وأنا أول من فرض على أم كلثوم أن تعرف أن الدنيا فيها أمانة وصدق وإخلاص
من حق أم كلثوم أن تكون في دنياها رجل أعمال، فنحن في عصر سخيف لا يقيم وزناً لمواهب الأدب والفن إذاً فاتهم سناد الجاه والمال
ولكن. . . ولكن دنيا أم كلثوم صدّتها عن الانتفاع بأرباب المواهب، فلو كان لأم كلثوم مستشار أمين لوصلت إلى الإعجاز في الغناء والتمثيل، فلا عفا الله عمن من صدوا هذه الروح عن الاستئناس بأذواق أهل الآداب الفنون!
وهل أنسى بشاعة الاستئثار بتصوير عصر الرشيد؟
كان يمكن أن يكون فلم (دنانير) أعجوبة الأفلام التاريخية لو كانت أم كلثوم تعرف أن في مصر رجالاً أدق ذوقاً وإحساساً من فلان وفلان، وأن الانتفاع بآراء هؤلاء الرجال قد يعود عليها بالخير الجزيل، ولكن أم كلثوم امرأة وإن كانت رجل أعمال، والمرأة لا تفلح حين تتوهم أنها أعقل من الرجال
فلم دنانير جميل جميل، ولكن تعوزه قوة الروح، ولأم كلثوم أن تغضب كيف تشاء، ولفلان أن يقتل نفسه من الغيظ، فقد أخلف الظن به كل الإخلاف
إن هذا الفلم يلخص رأينا في أم كلثوم: فهي لا تجيد إلا عند العزلة والانفراد
فأين من يجعل أم كلثوم من أزهار المجتمع؟
أين من يحوّل هذه الفتاة إلى روح لطيف يشيع في المجتمع معاني الأنس والانشراح؟
إن كانت هذه الفتاة تحب أن تكون (ابن بلد) فقد ظفرت بما تريد، أما إن كانت تحب أن تكون أعظم من أم كلثوم فلذلك حديث غير هذا الحديث(381/12)
ثم وصل القطار إلى طنطا فانتقلت إلى قطار المنصورة وبقيتُ أتشوف إلى الإسكندرية، وذلك آخر العهد بتلك الروح، فإن رضيت عن هذا المقال فقد نلتقي في مصر الجديدة أو في الزمالك، وإلا. . . . . .
زكي مبارك(381/13)
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
يعتبر سقراط أول من وضع الأسلوب الحواري الاستنباطي أسلوب التهكم الذي يقف نفسه فيه موقف الجاهل، ثم يسوق أسئلته البريئة اللاذعة التي تصير بالمسئول إلى حال التشكك والحيرة؛ غير أن سقراط لا يلبث أن يستدرج محاوره إلى الغاية الخفية التي يضمرها، والتي يريد كشفها بأسئلته ونقاشه، فيتجلى الأمر ويصل إلى النتيجة، ولا يجد محاوره مفراً من التسليم له بوجهة نظره من غير أن يقصد إلى ذلك
ولقد نهج أفلاطون فيما كتبه - ولاسيما في جمهوريته ومحاوراته - منهج أستاذه سقراط: ففي (الجمهورية) مثلاً يعالج مبدأ العدالة في مدينته الفاضلة بأسلوب استنباطي حواري على لسان سقراط نفسه. غير أن الحديث يتشعب به فينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن بحث إلى بحث، حتى يخيل لقارئه أنه يكاد يفقد الفكرة التي بدأ بها موضوعه الأول، ولكن لا يلبث حتى يعود إليها
ومما عالجه أفلاطون في (الجمهورية) موضوع التربية. وآراؤه فيها - وإن كانت قد أصبحت قديمة كبعض فلسفته - تستحق إيرادها هنا كتمهيد لتلك المحاورة الخيالية التي سأنقلها للقراء من الإنجليزية، والتي دارت بين أحد المربين الإنجليز وبينه حين بعث منذ أربع سنوات، بعد أن مر على وفاته ثلاثة وعشرون قرناً
يرى أفلاطون في (الجمهورية) أن هناك ثلاثة أنواع من الناس: نوع وهبه الله الحكمة والذكاء، وهؤلاء يربون إلى أن يصلوا إلى مرتبة الحكام الفلاسفة، وهم الساسة المفكرون، ذوو الأمر والنهي والرأي المطاع؛ ونوع دونهم في الذكاء والقدرة الفلسفية، وهؤلاء يربون ليكونوا مساعديهم في الإدارة والتنفيذ وليكونوا رجال الجيش الذين يحفظون النظام داخل الأمة ويذودون عن حياضها في الخارج؛ ونوع في المرتبة الدنيا غير الموهوبة التي لا تصلح إلا للزراعة والتجارة والصناعة، وهؤلاء يكوّنون جمهرة الشعب وعامته
والمحاورة الخيالية التي سأوردها هنا من وضع الأستاذ كرُصمان بجامعة اكسفورد. وقد أذاعها من محطة لندن ضمن سلسلة أحاديثه التي تشمل أيضاً: أفلاطون والديمقراطية(381/14)
الإنجليزية، أفلاطون والأسرة الإنجليزية، أفلاطون والاشتراكية، أفلاطون والنظام الفاشستي الخ. وهاهي ذي المحاورة:
أفلاطون للمربي: يقال إنكم أنتم معشر الإنجليز مهتمون بالتربية ومعضلاتها، ومصممون على بنيان نظامها على أسس قوية لأنكم تدركون أن تربية النشء تربية صحيحة، إنما هي عامل فعال في إصلاح شؤون الدولة، وأن سلامة الأمة لا تكون إلا بالتربية الحقة
المربي: نعم، الأمر كذلك. ولقد خطونا خطوات مباركة في الخمسين سنة الماضية. ولعلك لا تدري أننا حتى سنة 1870 لم يكن لنا نظام تعليم حكومي موضوع، ولم يكن عندنا تشريع للتعليم الإجباري، ولم تكن عندنا كليات ثانوية للبنات بجانب العدد القليل من مدارس البنين الثانوية الصالحة، ولم يكن لغير أتباع الكنيسة الإنجليزية حق في التعليم العالي مهما كانت ثروتهم. أما الفقير فلم يكن له نصيب من التعليم الجامعي ولو كان من النابغين. ولكن كل هذا قد تغير الآن. فالتعليم الإجباري إلى الرابعة عشرة، والتعليم الثانوي إلى الثامنة عشرة. وهو نصيب نسبة كبيرة من الناشئة التي هي أهل له. وعندنا عدد لا بأس به من الجامعات التي تعينها الحكومة مالياً، والتي يتلقى فيها الشباب التعليم العالي إلى الثانية أو الثالثة والعشرين
أفلاطون: حقاً لقد كنتم نشطين في ميدان التربية خلال هذه الحقبة الماضية، وإني لأهنئكم على أنكم أبيتم أن تدعوا التربية كما كانت في يد الأسرة فقط، أو غيرها من الهيئات التي لا تقدر هذه التبعة، تبعة تنشئة الجيل القادم. ولكني أود أن أعرف جلياً الأسباب التي من أجلها وجهتم كل طاقتكم لجعل التعليم العام حقاً لكل فرد من أفراد الشعب
المربي: مما لاشك فيه أن من بين الأسباب التي دعتنا لهذا إيماننا بمبدأ العدالة. فنحن شعب ديمقراطي، ونعتقد أن التربية يجب ألا تكون وقفاً على طبقة خاصة من الشعب، بل يجب أن تكون حقاً مشاعاً لكل فرد. وما فائدة أن نخول للفرد حق الانتخاب واختيار من يمثله في المجالس النيابية إذاً كان هذا الناخب جاهلاً لا يحسن اختيار ممثله. وتربية الشعب هي الوسيلة التي بها يكون للانتخاب أو التمثيل النيابي معناه ومغزاه، فلا يكون له ذلك المظهر الصوري التقليدي. ومن السهل أن يكون للأمة حكومة نيابية، وهيئة برلمانية، ومؤسسات ديمقراطية، هي نتيجة الانتخابات العامة. ولكن كل هذه مظاهر خادعة ما لم يكن الشعب(381/15)
متعلماً. والمؤسسات الديمقراطية لا تجعل الشعب ديمقراطياً، ما لم يكن أفراده قد عرفوا معنى الديمقراطية واستطاعوا أن يتمتعوا بها، وأن يستفيدوا منها. ومعرفة معنى الديمقراطية واستغلالها الحكيم ليس شيئاً يسقط من السماء، بل لابد لخلقها في نفوس الشعب من المال والمجهود. ونحن جادون في هذا السبيل بالتربية التي نقدمها لأبناء الشعب في مدارسنا. وليست التربية عندنا أن نصب عقول الناشئة في قوالب منتظمة، فتخرج قطعاً منتظمة تركب في عجلات المحرك الحكومي، فتؤدي وظيفتها دائرة مع هذه العجلات دوراناً آنياً، حتى إذاً عراها الصدأ أو تحطمت ألقينا بها جانباً، واستبدلنا بها غيرها، والحقيقة هي أننا لا نريد أن نجعل أبناء الجيل القادم صناعاً مهرة فحسب، ولكنا نريدهم أن يكونوا مواطنين صالحين في شعب ديمقراطي، قادرين أن يقوموا بدورهم بنجاح فيما هم أهل له، سواء أكان ذلك في ميدان الكرة، أم في نقابة التجار أم في المجلس المحلي أم في دار النيابة. نريد أن ننشئهم بحيث يعرفون كيف يحكمون أنفسهم ويساعدون من يحكمهم. فأنت إذاً ترى أن غاية التربية في مدارسنا ليست إقدار الناشئة على كسب الخبز ونيل الوظائف، ولكن الغاية من تعليمهم التاريخ والجغرافيا والاقتصاد هي أن يصبحوا في أمتهم أعضاء يقدرون حقوقهم المدنية، ويعرفون واجب الأمة عليهم
أفلاطون: صحيح كل هذا، وهو يطابق تماماً ما قرأته لأحد ساستكم إذ يقول: إن التعليم العام للشعب ما هو إلا تجربة في الحكم الذاتي. ولقد كان لهذه العبارة أثرها ومعناها في نفسي لأني أنا كنت قد حاولت في مدينتي الفاضلة أن أجعل جميع أفرادها يشتركون في حكومتها الذاتية. غير أن تجربتي لم تنجح فحدثني إذاً عن نتائج تجربتكم التربوية هذه، وهل توقظ في الشعب شعوره بضرورة اشتراكه في أمور السياسة الخارجية والداخلية؟
المربي: نعم، أعتقد ذلك، فالشعب قبل الحرب الماضية مثلاً ما كان ليعنى بالشئون الخارجية، أما الآن فالشعب جميعه يعنى بالسياسة الخارجية، ووزير الخارجية في البرلمان أكثر النواب حديثاً، وأكثرهم إجابة عن الأسئلة المتنوعة التي توجه إليه من كل حزب ومن كل صوب، ولا تسمع الآن في أحاديث الأسرة الإنجليزية إلا أخبار الحرب والسلم
أفلاطون: ولكن هل تظن أن لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية وتدخله فيها كما ذكرت أثراً في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟(381/16)
المربي: من غير ما شك. وآية ذلك أن الحكومة لا تستطيع الآن - كما كانت تستطيع من قبل - أن تقرر في الخفاء أي شأن من شئون السياسة الخارجية
أفلاطون: إن سؤالي مرة أخرى هو: هل كان لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية أثر في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟
المربي: أجل، لقد جعل اهتمام الشعب بالسياسة الخارجية الحكومة تدرك تبعة تصرفاتها، وأنها مسئولة عنها أمام هذا الشعب الذي انتخبها، فهي إذاً لا تستطيع أن تعمل ما تشاء، ولكن ما يشاؤه الشعب
أفلاطون: ولكن هب الحكومة أرادت أن تفعل شيئاً تراه هي صالحاً، ولا يراه الشعب كذلك، فما هو الموقف؟
المربي: نحن نعتقد أنه من الحكمة أن يفعل الشعب الفعلة الخاطئة بإرادته وحريته متى قرر ذلك بدلاً من أن يكره على عمل الصواب. . .
أفلاطون: كأني بك تعتقد أن الحرية خير من الفضيلة؟
المربي: لا، لا أعتقد هذا. ولكن الرأي عندي أن الفضيلة مستحيلة بدون الحرية. إنك لا تستطيع أن تكره الطفل على أن يكون خيِّراً، بله الكبار من الرجال والنساء
أفلاطون: قد تكون على حق! وإذاً فلماذا تريدون الحكومة مادام الشعب يريد أن يعاني التجارب القاسية بأفعاله الخاطئة وتصرفاته الحمقاء، وهو مطمئن لأنه قام بها بمحض حريته ومجرد رغبته. ألا ترى أن الأصلح إلغاء النظام الحكومي نهائياً!؟
المربي: إن أسئلتك كالحلقة المفرغة لا يدري لها طرف. وإنك لتلعب بعبارتي وتتهكم حتى ليحسبها السامع جوفاء. . . لا يختلف اثنان في أنه يجب أن يحال بين الأفراد وبين أي تصرف يتنافى مع حرية غيرهم. وهذه هي الحكمة في قيام الحكومات، ولكن يجب أن تترك الحرية لأفراد الشعب بقدر المستطاع ليقرروا بأنفسهم مصير شئونهم. إن الهدف الذي نرمي إليه - نحن المربين - في هذا العصر هو أن نعد مواطنين يحسنون استخدام حقهم الانتخابي، ويعرفون كيف ولِمَ ينتخبون، فلا ينتظر منهم أن يكونوا خبراء في شئون السياسة والاقتصاد، ولكن يكفي أن يكونوا ذوي بصر وفكر بهما
أفلاطون: ألست تقر أنكم لم تكوّنوا بعدُ هذا النوع من الرجال؟ فلِم إذاً تتعجلون - قبل أن(381/17)
تتم مشروعاتكم التعليمية وتنضج - فتكلون إلى أنصاف المتعلمين من الشعب الفصل في شئونكم السياسية؟ إن هذا لقلب للموضوع وللوضع المنطقي! الواجب أن يكون عندكم أولاً نظام عام للتربية يكوّن هؤلاء المواطنين الذين وصفتهم في نقاشك، وحينئذ تكلون إليهم مطمئنين الإشراف على سياسة الدولة داخلية وخارجية، غير أني أعتقد أنكم متى كوّنتم هذا النوع من المواطنين كامل التربية لم تعد ثمة حاجة إلى أية حكومة
المربي: لقد عدت بنا من حيث بدأنا. إن العالم لم يصل بعد إلى المثل الأعلى، ولن يصل إليه، فلا مفر من مواجهة الواقع كما هو، ونحن في بلادنا نعتقد أننا إذا وكلنا إلى المواطنين العاديين الإشراف على أمورهم ومستقبلهم فإنما نعطيهم الحرية التي بدونها نرى الحديث عن الفضيلة والخلق لغواً
أفلاطون: لقد قلت الآن إن الغاية من قيام الحكومة هو منع الأفراد أن يتعدوا في تصرفاتهم إلى حقوق الآخرين، وإلزامهم أن ينصرفوا لأمورهم ويدعوا غيرهم وشأنهم، فإذا كان الأمر كذلك فمن واجب الحكومة، في سياستها الخارجية، أن تحول أيضاً بين أفراد شعبها وبين تعديهم إلى حقوق غيرهم من أفراد الشعوب الأخرى. وأنت الآن تريد مواطني بلادك أن يوجهوا الحكومة فيما تبحثه من الشئون العالمية، وأن يتدخلوا فيما تقرره منها. ومعنى هذا أن سياستكم الخارجية ستكون طبعاً خاضعة لنفوذ ذوي المصالح الشخصية من المواطنين الذين همهم الوصول إلى منافعهم المادية على حساب الشعوب الأخرى
المربي: كلا، إننا نتوقع عكس هذا. إن عامة الشعب لا ترغب في الحرب، وليس له مطامع مادية أو استعمارية، إن هذه إلا مطامع تجار السلاح والذخيرة والرأسماليين. أما عامة الشعب فتريد السلم والعدالة العالمية
أفلاطون: هذا جميل حقاً، ولكن هل يعرف أفراد الشعب كيف يحققون هذه المبادئ العالمية السامية؟ دعني أنبئك وما ينبئك مثل خبير؛ إن فن السياسة فن دقيق صعب المراس، وإن علوم الحرب ليست من العلوم التي تدرك في يوم؛ فهل ترى أن أفراد الشعب خبيرون بفنون السياسة عليمون بتاريخ العلاقات الدولية؟ أو هم فقط غيورون متحمسون تدفعهم العواطف النبيلة، فإذا ما صدمتهم الحقائق الصماء ذهبوا كفقاعات الصابون في الهواء
المربي: نحن الآن جادون في تعليمهم فن السياسة والعلاقات الدولية. ولكن الحق هو أن(381/18)
هذا العالم يحتاج إلى قليل من المكر السياسي، وكثير من الخلق المستقيم
أفلاطون: نحن على وفاق. فإن كل ما يحتاج إليه المواطن هو العواطف الخلقية القوية القويمة. ولكن هذه العواطف وحدها لا تكفي لتكوين من يصلحون للحكم. وأنتم في تجربتكم التي تقومون بها الآن بتربية الشعب تحاولون أن تعدّوا جيلاً يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه. وعندي أن هذا الجيل يحتاج إلى شيء آخر بجوار العواطف الخلقية التي أشرت إليها. إن مهنة السياسة تحتاج إلى مهارة ولباقة عقلية. وإذاً فلابد أن نفرق بين التربية التي يحتاج إليها المواطن العادي والتربية التي يحتاجها الحاكم السياسي. فهذا الأخير يجب أن يعرف شيئين: قواعد السياسة التي يريد أن يتبعها، والعالم الذي يريد أن يطبق فيه هذه القواعد. فهو باحترافه السياسة يشبه كل صاحب مهنة فقد نجد الرجل المغرم بالصور الجميلة، الذي يدرك الجمال أنى يكون ويحبه بكل قواه، ولكن هذا الإغرام أو الحب لا يخلق منه رساماً أو مصوراً. فالمصور لابد له من معرفة قواعد التصوير، وخواص الألوان ومزجها ونتيجة أخلاطها، وأنواع الأوراق والمواد التي يستعملها في تصويره، وأصناف الفراجين التي يستخدمها وهلم جرا. هذا إلى الهبة الطبيعية التي تكون فيه. والأمر كذلك في الحكم؛ فليس يكفي أن يكون الحاكم ذا ميول خلقية نبيلة كحبه للعدل والسلم، لا، بل لابد من أن يعرف أصول السياسة، وحوادث العالم اليومية، العالم الذي سيطبق فيه أصول سياسته. فأمر السياسة العالمية الخارجية إذاً ليس من السهولة بحيث يمكن أن يصير المرء بها وفيها خبيراً. ولهذا لا أفهم كيف يستطيع مواطنوك أن ينقدوا سياسة الحكومة وأن يوجهوها
المربي: إن المواطنين لا يستطيعون طبعاً أن يفهموا دقائق الأمور، ولا أن يتعدوها أو يغيروها، ولكنهم يستطيعون أن يقرروا اتجاهات السياسة العامة التي يجب أن تتبعها الحكومة
أفلاطون: أخالفك في هذا. لأن الاتجاهات العامة من المكان والأهمية بحيث تحتاج إلى فيلسوف لحل معضلاتها التي هي معضلات الحرب والسلم، والاعتداء والدفاع، ولكن مهما يكن من الأمر فلنترك بحث السياسة الخارجية، ولنرجع إلى موضوع إصلاحاتكم في التربية ونظمها. لقد ذكرت في حوارك أن غايتكم المثلى في التربية هي أن تكون عامة لكل أفراد الشعب، ولعلي لا أكون بعيداً عن الصواب إذا قلت إنك تريد (أن تكون فرص التربية(381/19)
والتعليم للجميع سواء). فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله!؟
(يتبع)
عبد العزيز عبد المجيد(381/20)
عراك في غير معترك
وحكايات أخرى. . .
للأستاذ محمد متولي
ذات صيف، إذ كنت صبياً في المدرسة الابتدائية، وكنت في الريف أقضي عطلتي، صادفت الليلة الختامية للاحتفال بمولد أحد الأولياء هناك، وذهبت أجوس خلال حلقات الذكر ليلتئذ، فإذا (مجذوب) ناحل هزيل، مأخوذ بشعور ما، يهذي بما هو أشبه بالدمدمة أو (الهلضمة) منه إلى الكلام الواضح المفهوم، بينما وقف بجانبه فتى شاب يصلح من شأنه وهو يقول له: (وحّد الله وحد الله. . .) ودفعني فضول المعرفة فرفعت قامتي القصيرة إلى الفتى وسألته: (الراجل دا بيقول إيه؟) فأجابني في ابتسام وإشفاق أنه يتكلم (اللاوندي)
ولقد كنت أنتظر من صديقي الأستاذ زكي طليمات، بعد أن لفته في مقالي السابق إلى وجوب (موضوعية) كلامنا، كنت أنتظر من هذا الصديق أن يكون أكثر لباقة فلا يدفعه الدكتور بشر في المزالق فيندفع وينزلق ويتورط في مسائل علمية وفنية، ويشط بعيداً، ويجيئنا بحكايات متناثرة متنافرة مشحونة بالزيف والبهرج، حتى لقد غُمض فحسبته، أول الأمر، يقصد بألفاظه إلى رموز خاصة بنفسه، كما في الصوفية؛ وصخب فخلته يتكلم ذلك (اللاوندي) الذي سمعت في حلقة الذكر منذ ربع قرن من الزمان، وجئت أردد له قول صاحبي الريفي: (وحد الله. . . وحد الله. . .)
كان العراك بين جبهتي بشر فارس والشاعر علي محمود طه في غير معترك، ولكن الأستاذ زكي لم ير هذا، لأنه لم يتفق معنا على أن (النقد الفني) يجب أن يقتصر على تبيين قيمة (الصورة) التي يقدمها الفنان كإبداع له وحدته، بخلاف ما كان بين الجبهتين من خلط وتنابذ واتهام. إنما يتصور الأستاذ أني قصدت بتقريري أن (العراك كان في غير معترك) كون رواية (مفرق الطريق) تافهة ممسوخة، وأنا لم أرد غير ما رأيته من ضلال الجماعتين (أصول النقد) فليس ذنبي أن قصر فهم صديقي دون إدراك غرضي في تلك العبارة، وهو قريب بيّن
وأحببت أن يكون العراك في معترك، فبينت أن رواية بشر ليست من الرمزية في شيء، كما دللت على أن الدكتور المؤلف لا يفرق بين (رموز الصوفية) و (رموز الفن)، مع أنهما(381/21)
عمليتان تختلفان (سيكلوجياً)؛ ولكن بشراً وزكياً عقدا جلستهما وقررا كتابة الرد على هذا الرأي، ولعل لذة المعرفة فاتتهما، أو لعل غريزة (حب الغلبة) غلبتهما فحجبت جمال المعرفة عن بصيرتيهما، فنسيا موضوع الكلام وراحا يتفلسفان ويتعالمان!
وحدّ الموضوع كما قلنا - وكما يقرر (ريبو) - هو أن الرمزية في الفن (تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء تمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما ندري أين حصلت ولا متى؛ فلا هي (تمت) بصلة لأي بلد، ولا هي تمثل عصراً بذاته). والدكتور بشر يعرض علينا، في مفرق الطريق، صورة محلية (تجري حوادثها في مصر في أحد شوارعها، أمام صف من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب في الأحياء القديمة). فهل حاول أحد الفارسين أن ينقض هذا التحديد الذي يجرد مسرحيتهما من صفة الرمزية؟!
اللهم لا شيء من ذلك، ولكن بشراً يدفع زكياً ليقول أشياء لامعة، ويذكر أسماء رنانة بينها وبين مسألتنا من البعد قدر ما بين الدكتور بشر ومفهوم الرمزية في الفن. وهذه الأشياء هي الحكايات التي استنبتها الفارسان على هامش المسألة، والتي أتناولها الآن بالتفنيد للتدليل على ما ذهبت إليه من أن صاحبينا يجترئان ويتأملان كتب الفلسفة والفن بالاجتهاد، ويقرآنها كما يقرآن روايات الجيب - مثلاً - فيزلاّن ويقعان فيما يجب ألا يقع فيه المخلصون في طلب المعرفة
وإذن ندور حول الموضوع تمشياً مع منطق الأستاذ طليمات ونعتذر عن هذا اللغو لأستاذنا صاحب الرسالة، ونعده ألاّ نعود إلى الكلام (خارج الموضوع) مهما يقل بشر أو زكي أو غيرهما
1 - استهل زكي مناقشته بنص للمستشرق (بروكلمن) وساقه برهاناً على أن مسرحية بشر عمل أدبي، وترجمة ذلك النص الدقيقة هي (نحن هنا في بداية تطور هو تجديد يمكن أن يؤثر في الحياة الأدبية، بعد نضال عنيف) وهذا النص بذاته برهان على أن الرواية (محاولة) فجة، إذا صدقنا أن (بروكلمن) يمكن أن يقدم (دراسة) لعمل أدبي في بعض صفحة من القطع المتوسط، ولكن الواقع أن هذا المستشرق يعرض المسائل عرضاً تاريخياً بسيطاً، ثم هو كالأستاذ زكي لا يحسن النظر في الأشياء ويتورط في أحكامه، لأن بشراً قدم(381/22)
روايته عملاً مطبوخاً وغير ناضج عام 1938 فيما أذكر، بعد أن قدم توفيق الحكيم (شهرزاد) عام 1934 مثلاً رفيعاً للأدب الرمزي، ليس في أدبنا وحده، ولكن في جميع الآداب، فكيف لا نصف (بروكلمن) بالغفلة إذا اعتبر مفرق الطريق (بداية تطور) مع أننا قبل ذلك وصلنا إلى غاية الغاية برواية توفيق الحكيم؟!
2 - والمسألة عند زكي (محصورة فيما إذا كان بشر قد استلهم في كتابة مسرحيته. . . من (كذا) الفيلسوف (كانت). أو هو استوحى فلسفة برجسون، وهذا الحصر مرفوض لأنه لا معنى له عند من (يشعر) بمعنى الإيحاء أو الإلهام و (يعرف) طريق النظر في أية فلسفة، وكذلك هذا الحصر ليس إلا لفاً حول الموضوع ورجوعاً إلى (الخناقة على اللحاف)
3 - والأستاذ زكي يصف أسلوبه بأنه (أوضح وأدنى إلى الثقافة العربية) وأنا لم أعرف أني (مستشرق) وإذا كانت المصطلحات الفلسفية غريبة على ثقافته، فليس هذا من خطئي ولا هو مما يدعوني إلى أن أسوق له عبارات مبتذلة كي يفقه قولي. وعلى أي حال، كنا نحب أن نحمد الله لأنه (لم يغب عن ذهن زكي) التفريق بين (الصورة) و (الفكرة) في الفن، لولا أنه عاد فقال إن (اقتصار الفن على الصورة أو الشكل لا يعني أن يكون هناك فن رفيع وفن رخيص، وفن أصيل مبتكر وفن متبع مقلد، وشاعر يسرق وكاتب يستمد) قال هذا فبدا لنا عقله كصندوق حروف، ورأيناه هو كأنه (مطبعجي) يرص الحروف وهو لا يقصد من ورائها إلى معنى في نفسه محسوس، ذلك أن الفن يجب أن يكون رفيعاً، وإلا فهو تهريج لا نسميه فناً، ويجب أن يفيض عن الروح طريفاً لطيفاً، وإلا فهو شيء صناعي لا حياة فيه؛ أما عبارة الشاعر الذي يسرق والكاتب الذي يستمد، فقد نرجو إعادة حروفها إلى (الصندوق) إذا كان ممكناً، فلا يقرؤها الناس فيسيئوا الظن بصديقي المعروف من أهل الفن
4 - ويحدثنا الأستاذ طليمات عن (شرائط الفن المقطوع بها) في المسرحية، ويحددها بأنها (مراعاة بلاغة العرض لحوادثها وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار ولطفه، وعمق التفكير وانسيابه إلى أعماق النفس يكشف عن خفاياها)؛ وهذا الحديث يذكرنا بذلك الطراز من نقاد المدرسة القديمة الذين يحتفظون بعدد من (الكليشيهات) يضيفونها إلى أسماء الشعراء والأدباء، من غير نظر ولا تأمل، فإذا الفرق بين شاعر وشاعر أن هذا (جزل(381/23)
الألفاظ)، وأن ذاك (سلس الأسلوب)، وأن الآخر (حسن الديباجة). زكي معذور في هذا، لأنه يتصور الفن تصوراً (ميكانيكياً) لا أثر فيه للعاطفة، فيبتدع تلك (الشرائط) ويقطع بها وحده، ويحاول أن يفرضها علينا قبل أن يطبقها، ولو استطاع تطبيقها لما انطبقت إلا على الرواية الفاسدة التي لا يمكن أن تصدر عن روح فنان، وإنما يخرجها (مصنع تزييف)
5 - ولقد كان الأستاذ زكي يستطيع أن يصفني بالتفلسف لو أنني أخذته إلى مجاهل ما وراء الطبيعة، ورحت أحدثه في نظرية المعرفة عند (كانت) أو (برجسون)، بينما نحن نتكلم في مسألة فنية، ولكني أردت أن أهديه سواء السبيل، فأخذت بيده إلى علم الجمال الذي موضوعه الفن، وبدلاً من أن يبهره هذا النور الجديد رأيته، كالتلميذ الكسلان، يركب رأسه، ويأبى متابعتي؛ بل رأيته أكثر من هذا يطالبني بأن أترك مصطلحات علم الجمال إلى ما يدعي أن رجال المسرح اصطلحوا عليه حتى يكون قولي قائماً على الدقة والإحكام في نظره. يطالبني بهذا الكفر، وليته كان صادقاً، فرجال المسرح لم يصطلحوا على شيء اسمه (الرمزية الفنية)، وهذا الشيء لا وجود له إلا في (صندوق حروف) الأستاذ المخرج الممثل
6 - وفي هذه الحُزُون، يصل الأستاذ زكي إلى الهاوية السحيقة، ويدفعه بشر، ويسقط، فإذا هو مبقور البطن مجدوع الأنف مصلوم الأذن، ثم هو، مع ذلك كله، يأسف من أجلي راثياً لأني لم أتعقب (المراحل الحديثة التي مر بها علم النفس بعد العهد الذي ألف فيه (ريبو). . .) ولأني لم أعرف (أن علم النفس الذي أفادت منه الرمزية كثيراً قد دخل في طور جديد تبدلت على أثره أوضاع في الأدب عامة وفي الرمزية خاصة) وبعد الأسف والرثاء (يود) الأستاذ العالم أن نقف (على آراء علماء اليوم فيما كتبه (ريبو) خاصاً بالمخيلة. . . وذلك كما وردت (كذا) في مؤلف كبير يدرس اليوم في جامعة السوربون بباريس) ويزيّف علينا أن (وليم جيمس) يقول في هذا الكتاب: (يلوح لنا أن علم النفس عند ريبو في مسائل المخيلة والاختراع لا يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة) وأخيراً لا ينسى حضرته أن يصف وليم جيمس بأنه (الفيلسوف الأمريكي المعاصر)
ولو أمكن إيجاد محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على(381/24)
جناياتهم، لو أمكن إيجاد هذه المحكمة وقدمنا لها هذا الكلام الذي يرسله صديقي زكي إرسالاً، إذن لحكمت عليه بالحرمان الأبدي من القراءة والكتابة، ولحكمت على الدكتور بشر بسحب شهادته بتهمة التحريض والإفساد
أما أنا فأؤكد للأستاذ زكي أني أعرف موضوعي لدرجة تسمح لي أن أصحح له ولشريكه تلك الأوهام التي يعيشان فيها؛ فليسمع، أو ليسمعا
(أ) (وليم جيمس) ليس معاصراً، بل هو متوفى عام 1910، أي منذ ثلاثين عاماً، بينما (ريبو) متوفى عام 1916
(ب) ألـ (طبعة 1923 - 24 ذات الثلاثة الأجزاء) التي يعتمد عليها زكي وبشر أصبحت منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء بزيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936، وظهرت قبيل الحرب أجزاء لا علم لي بها
(ج) لو أن الأستاذ زكي ذو عهد بالدراسة الجامعية لما قال إن كتابا يدرس بجامعة السوربون، كما تقرر الكتب في المدارس الابتدائية والثانوية، ولعرف أن أي كتاب يمكن أن يدخل الجامعة إنما ليقلب ويجرح، حتى ولو كان مؤلفه زكي طليمات
(د) (ريبو) الذي لا يرضي زكي طليمات، هو الذي عرف قدره فاختاره ليكتب مقدمة الـ واعترف بفضله فأهدى السفر إلى ذكراه بعد موته
(هـ) لا وجود لكلمة (المخيلة)، ولا وجود لكلمة (الاختراع) في النص الذي ينقله زكي عن (وليم جيمس). وإذا كان هذا النص مذكوراً في باب (الاختراع) فقد جاء في عرض (جيمس) لوصف العملية الفسيولوجية لتداعي الخواطر ' عند (ريبو) (راجع ص20 في كتاب ' ولكن زكي يفتي فيما لا يدري فيضطر إلى تزييف هذا النص الذي يتعلق بمسألة (بسيكوفيزيولوجية) ولا يتعرض للظاهرة النفسية ذاتها، والذي يدل على مكان فيلسوفنا العظيم ولكن من يقرأ؟! قال (وليم جيمس)
' , ' - ' - , '
(و) مفهوم علم النفس عند الأستاذ زكي شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن (قهوة بيرون) لأنه يفهم أن الرمزية (أفادت من علم النفس) والأمر بالعكس، فهذا العلم الذي موضوعه ظواهر النفس هو الذي أفاد من وجود الرمزية.(381/25)
7 - وأنا لم أستنكر أن يحاول صديقي زكي أن يناقشني في مسائل الفن والفلسفة، فهل هو يستكبر إذا فسرت له نصاً فلسفياً لم يفهمه فأفسد ترجمته؟ (راجع النص الفرنسي وترجمة زكي ص1548 - العدد 379 من الرسالة) رضى أو لم يرض فواجبنا يحتم أن نعلمه أن الرمزية الميتافيزيقية (الفلسفية عند (ريبو) هي الرمزية الفنية التي يتكلم عنها الفيلسوف نفسه في صفحتي 169 - 170 من كتابه ' ولو أدرك زكي أنه لا وجود لغير نوعين من الرمزية، لعرف أن الرمزية الميتافيزقية، أو الفلسفية، هي بعينها الفنية، ولا استطاع أن يفهم (ريبو) ويترجمه في أمانة؛ وإلا فهل وجد هو (ريبو) يذكر اصطلاح في أي فصل من فصول كتابه؟!
إن زكي في حيرته ودورانه يدعي أني (أخلط خلطاً صريحاً) بين الرمزية الفنية وبين ما يسميه (رمزية ما وراء الطبيعة)؛ فهل يتفضل الزميل بأن يفسر لنا هذه الرمزية الثالثة التي يضيفها إلى النفس الإنسانية وكأنه يريد أن نتصور إنساناً بثلاث أرجل أو عيون مثلاً؟!
8 - بقي أن نهمس في أذن الصديق زكي أن تاريخ الرمزية الفنية، هو تاريخ تطور العقل البشري، وأن هذه الرمزية إذا كانت قد بلغت بهذه الصور المركبة، فهي قد بدأت بالأساطير في أحضان الدين، بل يرجع تاريخها إلى ابتداع الحروف الأبجدية كرموز تدل على أصوات، وهي في جميع مراحلها تقوم على أساس (سيكلوجي) واحد. والفرق بين هذه الرمزية وبين الرمزية الصوفية هو أن الأخيرة تعتمد على رموز شخصية ينتزعها الصوفي من نفسه انتزاعاً ليس فيه أي عنصر عقلي، ولهذا السبب لا يفهمها أحد غيره، بينما الرمزية الفنية تقوم على رموز تنتزع من الحياة العامة، فتكون عند جميع العقول
ولقد أكتفي بهذا القدر لأن الأستاذين زكيا وبشرا يذهبان في مناقشتي على غير أساس من العلم الوضعي، مما أشاع الغلط والسفسطة في كل سطر كتبه زكي، ومما جعل المناقشة معهما سقيمة عقيمة؛ فإلى أن يجدا ما يقولانه في (الموضوع) سيجدانني في كل لحظة مستعداً لتقديم كل ما يحتاجانه لدراسة الرمزية وفهمها، على أن يعاهدني الدكتور بشر ألا يحاول التأليف، فليس الفن قواعد وتطبيقات، إنما الفن فيض من عند الله، يؤتيه من يشاء
محمد متولي(381/26)
ماجستير في الفلسفة
ومفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف(381/27)
نفثات
أماه. . .
للأستاذ سيد قطب
من نحن اليوم يا أماه؟ بل ما نحن اليوم عند الناس وعند أنفسنا؟ ما عنواننا الذي نحمله في الحياة ونعرف به؟
إننا لم نعد بعد أسرة، ولم يعد الناس حين يتحدثون عنا يقولون: هذه أسرة فلان؛ بل أصبحوا يقولون: هذا فلان وهذا أخوه، وهاتان أختاه!
اليوم فقط مات أبي؛ واليوم فقط أصبحنا شتيتاً منثوراً، وإني لأضم اليوم إلى صدري ابنكما وابنتيكما. أضمهم بشدة لأستوثق من الوحدة، وأشعرهم بالرعاية. ولكن هيهات هيهات. فأنا وهم بعدك أيتام يا أماه!
لقد شعرت اليوم فقط بثقل العبء، وعلمت أنني لم أكن أنهض به وحدي، وأنني كنت أرعاهم وأرعاك معهم، لأنني قوي بك. أما اليوم فالعبء فادح، والحمل ثقيل، وأنا وحدي ضعيف هزيل!
إن الشوط لطويل، وإني لوحدي في الطريق، وأخي وحده كذلك، وأختاي وحدهما أيضاً، وإن كنا نقطعه جميعاً!
والعش الذي خلفته ستظل فراخه زُغباً مهما امتد بها الزمن، لأن يدك الرفيقة لا تمسح ريشها وتباركه، وكفك الناعمة لا تدرب أجنحتها على التحليق، وروحك الحنون لا تكلؤها في أجواز الفضاء
نحن اليوم غرباء يا أماه
لقد كنا - وأنت معنا - نستشعر في القاهرة معنى الغربة في بعض اللحظات؛ وكنا نشبّه أنفسنا بالشجرة التي نقلت من تربتها، والتي ينبغي لها أن تكّثر من فروعها، لتتقي الاندثار في غربتها
أما نحن اليوم فغرباء في الحياة كلها. نحن الأفرع القليلة ذوى أصلها، بعد اغترابها من تربتها، وهيهات أن تثبت أغصان في التربة الغريبة. . . بلا أم!
أماه. . .(381/28)
لقد امتلأ حسي إرهاصاً بالكارثة قبيل وقوعها، يوم لم يكن يبدو في الأفق نذير بها. ولقد حدثت بهذا الإحساس بعض الإخوان فعجبوا من أمري، وحسبوها وسوسة الشعراء. وقد ناديتها مراراً: (أقبلي أقبلي لطال انتظاري!). ولكنني لم أكن أتخيل الكارثة فجيعة فيك. لقد دعوتها لتقبل وأنا قوي بك، فكم من كوارث صمدت لها وأنا معتصم بركنك الركين!
لقد تمتمت قبل الكارثة بليلتين اثنتين أقول: كم أنا في حاجة لمن يربت على كتفي ويضمني إلى أحضانه! ولقد دعوتني مرة - في دعابة من دعاباتك الحلوة - أن آوي إلى حضنك كما كنت طفلاً. وكم كنت مشوقاً لتلبية دعوتك، لولا الكبرياء، الكبرياء التي أودعتها نفسي منذ الطفولة، فجعلتني أهرب من كل مظاهر الطفولة. ولو علمت ساعتها يا أماه أنك راحلة لنسيت كل تعاليمك لأرتمي لحظة واحدة في حضنك الرفيق. . . كما كنت طفلاً!
أماه. . .
من ذا الذي يقص علي أقاصيص طفولتي كأنها حادث الأمس القريب، ويصور لي أيامي الأولى فيعيد إليها الحياة، ويبعثها كرة أخرى في الوجود؟
لقد كنت تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً. وكنت تحدثينني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي، فينسرب في خاطري أنني عظيم، وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسج خيالك ووحي جنانك. فمنذا يوسوس إلي بعد اليوم بهذه الخيالات الساحرة؟ ومنذا يوحي إلي بعد اليوم بتلك الحوافز القاهرة؟
منذا الذي يصوغ لي الأحلام الذهبية في الآمال، ويبني لي قصور المجد في الخيال، فتصح الأحلام بعد لحظة، ويتجسم الخيال بعد برهة، لأنك تنفخين فيها من حرارة القلب، وتوسوسين لها برُقى الإيمان، وتسكبين عليها إكسير الوجدان
لمن أصعد درج الحياة بعدك يا أماه؟ ومن ذا الذي يفرح بي ويفرح لي وأنا أصعد الدرج، ويمتلئ زهواً وإعجاباً وأنا في طريقي إلى القمة؟
قد يفرح لي الكثيرون، وقد يحبني الكثيرون. . . ولكن فرحك أنت فريد، لأنه فرح الزارع الماهر يرى ثمرة غرسه وجهده؛ وحبك أنت عجيب، لأنه حب مزدوج: حبك لي وحب نفسك في نفسي. . .!
أماه. . .(381/29)
عندي لك أنباء كثيرة، كثيرة جداً ومتزاحمة، تواكبت جميعها في خاطري على قصر العهد بغيبتك. وإنه ليخيل إلي في لحظات ذاهلة أنني أترقب عودتك لأسمعك هذه الأنباء، وأحدّثك بما جدّ في غيبتك من أحداث؛ وأنك ستسرين ببعضها وتهتمين ببعضها. . . وهي مدخرة لك في نفسي يا أماه، ولن تدب فيها الحياة إلا حين أقصها على سمعك. . . ولكن هيهات، فسيدركها الفناء الأبدي، وستغدو إلى العدم المطلق، لأنك لن تنصتي إليها مرة أخرى. . .!
أماه. . . أماه. . . أماه. . . . . .
(حلوان)
ابنك المفجوع
سيد قطب(381/30)
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 3 -
العقل الباطن سر من أسرار النفس المغلقة التي يصعب الوصول إليها وإماطة اللثام عنها، وكان الأطباء يلجئون إلى التنويم المغناطيسي في أول الأمر لشفاء داء الهستيريا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولكن (فرويد) أبى الأخذ بهذه الطريقة وقرر ثلاث وسائل يستطاع بها معرفة دخائل العقل الباطن. فإما بانتزاع السر عنوة وقوة كما كان يفعل رجال التحقيق في القرون الغابرة، وإما بتقريب الأدلة وحل ألغاز العواطف المكبوتة وتحليل بعض الظواهر، وإما بالانتظار والصبر حتى تطرأ على المريض حالة ضعف عرضية فيبوح بسره
عندما ابتدأ فرويد اختباراته اكتشف ظاهرة لم ينتبه إليها أحد من قبله، وهي ما أسماه (الأفعال الفائتة). ذلك أن الإنسان كثيراً ما يخطئ التعبير فيقول كلمة وهو يريد ضدها، أو يدلي بأمر وهو يقصد عكسه، وكان العلماء الأقدمون، كما كانت عامة الناس، يعزون هذه الأخطاء للغفلة أو الالتباس أو قلة الانتباه. أما (فرويد) فقد رأى أن الغفلة أو الالتباس معناهما أن أفكار الإنسان ليست حيث يريدها أن تكون. ففي (الفعل الفائت) فعل قام مقام آخر، وهذا الأخير هو الذي كان المراد إتيانه. قد تدخل إذن فجأة بين الإنسان وعمله عنصر ثالث حال دون القيام به وفقاً لإرادته. فإذا عرفنا أن لكل حادث نفسي معنى مقصوداً كما أن لكل فعل فاعلاً، وأن العقل الواعي ليس العامل الصحيح في (الفعل الفائت) لأن العقل الباطن طغى عليه فيه، قدّرنا أن الفعل الفائت ليس نتيجة غفلة أو التباس ولكنه دليل على ظهور عاطفة مكبوتة، والخطأ في الحديث يدل على صميم فكرنا بينما تصحيحه لا يدل إلا على ما يقصده إليه وعينا
وهكذا نستطيع أن نقرر أولاً: أن كل فعل فائت وكل عمل يظهر أنه نتيجة خطأ إنما يعبران عن إرادة خفية، وثانياً: أنه يوجد في المنطقة الواعية مقاومة فعالة لمظاهر العقل(381/31)
الباطن
وقد اندفع (فرويد) في التحليل بعد تقرير هذه المظاهرة ليفسر ظواهر وأعراضاً أخرى كان يظن أنها ضرب من المحال حتى انتهى إلى أشدها إمعاناً في المحال وهي الأحلام
كان الأقدمون يعتقدون في إيمانهم الخرافي أن الأحلام ضرب من وحي الآلهة، فاستحدثوا في أوائل عهد الإنسانية علم تفسير الأحلام، وشاع في هياكل مصر وبلاد اليونان والرومان وفلسطين. ثم زال هذا الاعتقاد وصارت الأحلام أضغاثاً لا معنى لها ولا قصد، وصار ينظر إليها كسديم، أو كشيء لا قيمة له، أو أنها ذبذبة متأخرة خرساء توقع على أوتار الجهاز العصبي، أو أنها نتيجة عدم انتظام الحركة الدموية واندفاع الدم إلى الدماغ
ولكن (فرويد) رأى غير ذلك، فنظر إلى الأحلام نظرة وضعية، وقرر أنها الوسيط بين عواطفنا المكبوتة والعواطف الخاضعة للفكر، وقال إن الحلم ليس كله محالاً، ولكن لكل واحد معناه الخاص به من حيث هو فعل نفسي كامل
صحيح أن الأحلام لا تعبر باللسان الذي تعودنا النطق به في ساعات اليقظة، لأنها لغتها لغة أعماق الطبيعة غير الواعية؛ لذلك لا نستطيع أن نفهم فهماً مباشراً معناها ورسالتها، ويجب أن نتعلم وسائل تفسيرها، ولغة الأحلام تعبر بوسائل الصور كما كانت تكتب اللغات القديمة
رمى (فرويد) من تفسير الأحلام إلى قصد جديد. كان الأقدمون يحاولون بواسطة هذا التفسير الكشف عن المستقبل، أما فرويد فقد أراد الكشف عن الماضي النفسي وأسرار الإنسان العميقة، لأن (الذات) في الحلم مثلنا شكلا في حالة اليقظة، ولكنها تختلف عنا من حيث انعدام الزمان، فهي في ساعات الحلم يستوي لديها الماضي والحاضر، أي أنه يجتمع في الحلم الطفل والمراهق ورجل الأمس ورجل اليوم مما تتألف منه (الذات) الكاملة
كل حياة مزدوجة إذن، ففي الأعماق غير الواعية تتألف المجموعة الصحيحة من الأمس الدابر إلى اليوم الحاضر، ومن الرجل الأولي إلى الرجل المتحضر، بينما تطفو على السطح الحياة المستنيرة والذات الواعية القائمة في الزمان
تلتقي هاتان الحياتان في حرية كاملة في عالم الأحلام الذي يعبر تماماً عن أدق عناصر حياتنا، بحيث لا يستطاع معرفة مجموعة حياتنا الزمنية التي تتألف منها شخصيتنا، ولا(381/32)
فهم مرامي إرادتنا، إلا إذا تمعنا جيداً في مغزى أحلامنا
ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وضع (فرويد) طريقة لحل الأحلام المعقدة، فابتدأ بالسهلة البسيطة منها ثم قارب بين الشكل الأول والشكل الأخير؛ والأحلام كالزهرة التي لا تعرف حقيقتها إلا بعد درس أصولها المغروسة
ابتدأ (فرويد) بأحلام الطفل الصغير بدلاً من أن يبتدئ بأحلام المراهق، لأن الطفل الصغير لا يعي بينما المراهق يعي ويكتب؛ والطفل الصغير لا يكتنز خياله إلا أشياء قليلة، ودائرة تفكيره ضيقة، والتداعي ضئيل لديه، مما يجعل أحلامه سهلة المنال بالتفسير. يرى الطفل الحلوى فيلح في طلبها، فإذا رفض والده أو أبت والدته مشتراها، رآها في الحلم كما هي لأنه لا يفهم الخير من الشر. إنه يظهر رغباته بلا خشية كما يكشف عن جسمه بلا حياء
والأمر عكس ذلك عند المراهق فما فوق؛ فصور الأحلام الرمزية تخفي في أغلب الأحيان شهوات مكبوتة ورغبات لم تتحقق في النهار فتتخذ سبيلها إلى حياتنا عن طريق عالم الأحلام
هذا ما فهمته العامة من طريقة (فرويد) في تفسير الأحلام ولكنه في الحقيقة لم يقف عند هذا الاكتشاف السهل لأنه يعرف أن الإنسان خاضع للعقل الواعي حتى في أوقات النوم عندما يستسلم لعالم الأحلام. ففي الأحلام توجد عواطف تحاول أن تظهر ولكنها لا تجرؤ على ذلك في حرية خوفاً من المراقبة فتتحول إلى رموز في شكل دقيق والتواء مقصود وتختلط بضروب من المحال كيلا يظهر معناها الحقيقي، والحلم كالشاعر كاذب صادق، لأنه يخفي الحادث النفسي وراء مظاهر رمزية. ومهمة العالم النفساني أن يحل هذه الرموز وأن يفرق بين الصحيح والكاذب منها وأن يبحث عن الحقيقة من وراء مظاهرها الكاذبة
يريد (فرويد) أن يكون البحث علمياً وأن يكون عمل الطبيب كعمل الناقد الأدبي في دراسة ديوان من الشعر. فكما يحاول الناقد الفصل بين خيال الشاعر وبين المعنى المقصود والبحث عن أسباب استعمال الاستعارات والتوريات والتشابيه والوصول إلى نفسية الشاعر الكامنة وراءه، كذلك يجب أن يفعل الطبيب النفساني لأن عليه أن يبحث في الحلم الخيالي عن دوافع المريض الشعورية. ولما كانت غاية علم التحليل النفسي معرفة الشخصية فإن على العالم أن يستخدم مواهب الإنسان الخيالية، وأن يدرس العناصر التي تألف منها الحلم،(381/33)
وأن يمعن تفكيراً وتحليلاً حتى يصل إلى الحقيقة
وهناك نظرية أخرى عرض لها فرويد لتدعيم رأيه
من المقرر أن النوم وسيلة طبيعية للراحة وتجديد القوى التي تستنفدها اليقظة. فيجب أن يكون النوم إذن سباتاً عميقاً في ظلام لا ينقطع. وإذا كان الأمر كذلك فلا معنى إذن للأحلام، وهذا ما قرره الكثيرون من العلماء. ولكن (فرويد) رأى فيها وسيلة للتفريج عن العواطف والشهوات المكبوتة وتحريرها من حكم العقل وسيطرته عليها. وهكذا تقوم الأحلام مقام الأفعال التي أبينا إتيانها في اليقظة. وقد قال أفلاطون: (يكتفي الرجل الصالح بأن يحلم بما يفعله الرجل الشرير في اليقظة)
هذه هي النظريات الأساسية التي بنى عليها (فرويد) علم تفسير الأحلام. وقد أبينا شرح وسائل هذا العلم وطرق التفسير لأنها كثيرة متشعبة، وهي في مجملها متروكة لفطنة الطبيب وذكائه
على أن الحلم ليس الوسيلة الوحيدة لتعرف شخصية المريض وشهواته المكبوتة. فهناك طريقة أخرى يقول (فرويد) بأن العالم النفساني يستطيع أن يمارسها في كثير من الدقة والصبر، وهي أن يفسح المجال للمريض ليتحدث بكل ما يمر بخاطره من غير إمعان فكر أو تحكيم عقل
يستلقي المريض على مقعد طويل بينما يجلس الطبيب إلى مكتبه بحيث لا يراه المريض الذي يجب أن ينسى حضوره. ثم يأخذ المريض بالكلام يلقيه على عواهنه فيدلي بكل بادرة تمر بذهنه، بينما يصغي إليه الطبيب ويلاحظ ما يجد فيه دلالة على حالة مريضه
ولاشك أن هذه الطريقة صعبة وخطرة لأن المريض الذي تعود الكبت قد لا يبوح بكل خلجات ضميره، ولأن العقل الواعي يسيطر أبداً على اللسان بالرغم من إرادة الإنسان، ولأن المريض كثيراً ما يكون قد أعد قصته ليرويها للطبيب فلا يستطيع الانفكاك من أثرها
لذلك يجب أن يطول المجلس وأن يتكرر أكثر من مرة، وأن يتذرع الطبيب بالصبر الطويل حتى ينفد صبر المريض فتجري على لسانه ألفاظ يستطيع الطبيب بواسطتها أن يتعرف إلى حقيقة الداء. والأمر بعد ذلك موكول إلى مهارة الطبيب وذكائه
صديق شيبوب(381/34)
رسالة الشعر
أصداء الحب
للأستاذ أنور العطار
خَاطِرِي جَدْوَلُ تَرَقْرَق أَلْحَا ... ناً وَقَلْبِي عُشٌّ يَمُوجُ غِنَاَء
وَبِنَفْسِي قَصِيدَةٌ أنا مِنْهَا ... ثمِلٌ ما تُفيقُ رُوحي انْتِشاَء
كُلَّماَ رَنَّ هَمْسُهاَ في ضُلوعي ... صَفَّقَ الْقَلْبُ واسْتَحَالَ نِدَاء
يا حَبيبي أَرَاكَ في نِعْمَةِ الذِّكْ ... رى فأَصْبُو شَوْقاً وَأَهْفُو لِقاََء
عِشْ بِقَلْبِي لَحْناً عَلَى الدَّهْرِ حُلْواً ... واسْرِ في حُلْمِيَ الشَّجِيِّ صَفاَء
أَتَرِعِ الروحَ بَهْجَةً وَائْتِلاَقاً ... وَامْلأ النَّفْسَ فَرْحَةً وازْدِهَاَء
تَتَراَءى فَيَعْبَقُ الْكَوْنُ بُالْعِطْ ... رِ وَيَخْتاَلُ جَنَّةً غَنَّاَء
وَظِلاَلاً يُنَغِّمُ الْحُبُّ فيها ... وَيَذُوبُ السَّنَا بها أَنْدَاَء
أَنْتَ لي عَاَلمٌ يَمُوجُ مِنَ الزَّهْ ... وِ وَدُنْياَ تَأَلَّقَتْ أَفْيَاَء
وَمُنىً تَسْكُبُ الرَّغادةَ في الْقَلَ ... بِ وَتُحْيِي في ناظِرَيَّ الرَّجَاءِ
وَتُعيدُ الْحَيَاةَ جَمْرَةَ شَوْقٍ ... وَهْجُهَا يَمْلأُ الوُجُودَ ضِيَاَء
يا حَبيبي تَرِنُّ في الْقَلْبِ أَصْدَا ... ءٌ وبالْقَلْبِ أَفْتَدِي الأَصْدَاءِ
وَدَّتِ الْعَينُ أَنَّهاَ تَسْمَعُ الْهَمْ ... سَ وَتَحْياَ عَلَى المَدَى عَمْياَء
تَحْسُدُ الأُذْنَ أَنْ يُهَدْهِدَهَا اللَّحْ ... نُ وَتَفْنَى في سِحْرِهِ إِصْغَاء
يا هَوَايَ الْقَدِيمَ جَدَّدْتَ دَائَي ... فَتَفَجَّرْتُ مِنْ أَسَايَ بُكَاَء
أنور العطار(381/36)
الشاطئ والحرب
عودة إلى الشاطئ!
للأستاذ مصطفى علي عبد الرحمن
عدتُ واللهفةُ تدعوني إليكْ ... عودةَ المخذولِ من ساح الحروبِ
أذكرُ الأمسَ وأيامي لديكْ ... علَّ في الذكرى شِفاء لنُدوبي
زاحفُ الأحداثِ قد أخنى عليك ... وخطوبٌ جئنَ في إثرِ خطوب
كل سحر قد تولى ... وتوارى عن عيوني
لم يعدْ للقلبِ إلا ... ذكرياتي وحنيني
هذه الصخرة بالأمس جلسنا ... فوقها نرعى العهودَ الباسماتْ
وعلى أقدامِنا الموجُ يغني ... باعثاً في الشط عذب النغماتْ
هاهنا نامت عيونُ الدهر عنا ... بعض حين والأماني راقصاتْ
هاهنا في كل منحى معهدُ
ترقصُ الذكرى به أو تقعدُ
وأنا الذكرى التي لا تنفد
يا حبيبي كيف تصفو لي الليالي ... والذي كان تولى واندثرْ
أترى تهفو لأيامي الخوالي ... وعهودٍ هُنَّ في عمرِ الزهَرْ
نتغنى بالمنى فوق الرمال ... ونسيم الود مجلو عَطِرْ
هاهو الموجُ عبوسٌ مزبدُ
هاهو الشاطئُ جسمٌ هامد
وأنا وحدي شقي واجد
كل سحر قد تولى ... وتوارى عن عيوني
لم يعد للقلب إلا ... ذكرياتي وحنيني
عدت واللهفةُ تدعوني إليك ... وبقلبي ما بقلبي من وجيبِ
ذاكراً عهداً قضيناه لدَيْك ... آهِ ما أحلاه من عهدٍ حبيب
زاحفُ الأحداث قد أخنى عليك ... وخطوبٌ جِئْنَ في إثرِ خطوب(381/37)
(الإسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(381/38)
رسالة الفن
عهد جديد:
يوم القيامة - مايسة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
1 - يوم القيامة
منذ أنشئت الفرقة القومية وهي تعد الناس بأنها ستقدم لهم في يوم من الأيام أوبرا أو أوبريت، ولكنها لم تبر بوعدها هذا إلا اليوم فقط، ويقال إنها كانت مترددة إلى حد كبير في البر بوعدها هذا؛ ويقال إن عمر جميعي لاقى صعوبات جمة حتى استطاع أن يقنع ولاة الأمور في الفرقة وفي وزارة المعارف بأن إخراج الأوبرا أو الأوبريت شيء لا خطر فيه ولا خوف منه؛ ويقال إن هذه الصعوبات لم تزلل إلا بعد أن كتبت تقارير، وألفت لجان، وعرضت أبحاث، وتبدت وجهات مختلفة للنظر، وتضاربت وجهات النظر المختلفة هذه تضارباً حكومياً ممتازاً. . . ثم انتهى الأمر أخيراً بأن قال ولاة الأمور: لا بأس في أن نجرب هذا النوع لعله يفتح للفرقة فتحاً جديداً، ولعله يقربها من الجمهور تقريباً. . .
ولقد كان. . . وأذن الله سبحانه وتعالى لنا بأن نسمع من الفرقة القومية ألحاناً. . .
القصة:
قال الوالي للأهالي: إن يوم القيامة سيقوم يوم الجمعة المقبل فحزن الذين لهم بسمت الدنيا، وفرح الذين كشرت لهم الدنيا عن أنيابها، وتصدق كثيرون بأموالهم، وفزع كثيرون على أرواحهم وارتبكت سوق التجارة، وانخفضت أسعار الحاجات، وزهد الناس في الدنيا، واستغلها الوالي فرصة فجمع الأموال واكتنز الذهب. ثم جاء يوم الجمعة الموعود فلم تقم القيامة ولم ينفخ في الصور ولم تزلزل الأرض زلزالها، ولم تخرج أثقالها، ولم يقل الإنسان ما لها بل قال الناس: ما للإشاعة المزعجة لم تتحقق؟ وقال الأغنياء: ما لنا وزعنا أموالنا؟ وقال الفقراء. يا خيبتنا في رجائنا، ويا مرارة عودتنا إلى بؤسنا وشقائنا. . . ثم هاج الناس، وكان في البلد شيخ مجذوب فضح الوالي وقاد الثور عليه
هذه هي الناحية التاريخية من القصة، وقد دس المؤلف فيها قصة أخرى غرامية ليحليها بها(381/39)
ويزخرفها، فابتدع عاشقاً ومعشوقة وزواجاً وزفافاً يشبع به شغف الذين لا يطيقون أن يظلوا الساعات يشاهدون قصة ولا يرون فيها امرأة. . .
ولست أريد أن أعرض للرواية من الناحية التاريخية فأبحث وراءها لأخرج من البحث بحكم عن صدقها أو كذبها، فهذا أمر أدعه للمؤرخين والباحثين والقارئين والمطلعين، وفي الصف الأول منهم أستاذي الدكتور زكي مبارك الذي قال لي إن في القصة غلطة تاريخية، وإنه سيدحضها
فليدحضها أو لا يدحضها، فأنا لا يعنيني من القصة شيء أكثر من اللذة الفنية التي أستمتع بها حين مشاهدتها، ولست أنكر أني ذقت لذة فنية سائغة في يوم القيامة، فموضوعها كما رأيت طريف، وحوادثها كما رأيت شاذة، وتأليفها لبق ولذيذ. وهذا كله من نعم الله التي لا أحب أن أتلفها على نفسي بمراجعة التاريخ وأسانيده
الإخراج!
قلت في الأسبوع الماضي إن عمر جميعي أجهد نفسه، وأجهد الممثلين معه إجهاداً مضنياً في إخراج هذه القصة، وأقول اليوم إن هذا الإجهاد قد أثمر ثمرته
وإني أعتقد أن الأوبريت الثانية ستكون أبهى من هذه بإذن الله، وأن الثالثة ستكون أبهى من الثانية، وإن أملي في عمر أمل كبير، وقد يكفيه فخراً أنه كان يسأل كل من يتصل به عما يستطيع أن يبديه له من الملحوظات وعما يمكن أن يدلي به إليه من الاقتراحات، مع أنه يعلم أن هذا السؤال قد يؤول تأويلاً سيئاً، ولكنه أعرض عن هذه الأوهام لأنه أراد أن ينجح، وقد نجح، ومادام متلهفاً إلى النجاح هكذا فسينجح أكثر مما نجح وأكثر
التمثيل
لم يشترك في تمثيل هذه القصة من فحول الفرقة القومية إلا اثنان أو ثلاثة ومع هذا فقد سرت في الرواية من أولها إلى آخرها حيوية ملحوظة كان سببها أن الممثلين والممثلات الناشئين الذين أسند المخرج أدوار الرواية إليهم طاوعوه بقدر ما استطاعوا المطاوعة، وقد نتج عن هذه المطاوعة أن توحدت روح التمثيل بين الممثلين، فلم يكن فيهم من أراد أن يبرز على غيره، ولا من أراد أن يشذ(381/40)
صحيح أن بعض الحركات والإشارات والجمل كانت تلقى بأسلوب (إفرنجي). وهذا عيب. ولكنه ليس عيباً قاصراً على هذه الرواية وتمثيلها، فأغلب الممثلين المصريين لا يزالون يتتلمذون على الممثلين الغربيين، ولا يزالون قريبين من أساتذتهم بعيدين عن أنفسهم هم. وهذه حال ستنقضي يوم يكون لنا مسرح قوي يكتب له كتاب مصريون، حوادث مصرية، يعرفها الممثلون المصريون، ويعرفون ذويها ويستخلصون منها ومنهم فنهم عن طريق مباشر، لا بعد أن يصدر هنا الفن عنا إلى أوربا حيث يصنع صناعة غريبة ثم يعود إلينا وهو منا حقاً ولكن بعد أن لعبت اليد الأجنبية فيه. . . كما يحدث لقطننا. . .
الأزجال
كتبها بيرم التونسي، وبيرم التونسي هو بيرم التونسي
يقول في يوم القيامة:
لا الطفل يقول يا باه ... ولا أم تقول ولداه
وملايكة تقول: الله ... حاكم قهار يا ويل. . .
يا ويل الناس يا ويل
دا ميزان منصوب قسطاس ... ورصاص مصبوب ونحاس
فوق روس الناس. . . الخ
الألحان
أربعة عشر لحناً صاغها كلها زكريا أحمد، منها ألحان للمجموعة ومنها ألحان للأفراد، وألحان المجموعة أرسلها زكريا إرسالاً سهلاً في روعة واتساق امتاز بهما على غيره من الملحنين. وأما ألحان الأفراد فقد أودعها زكريا التطريب الشرقي الذي تتذوقه آذاننا وأرواحنا، والذي لا يتعثر في دخوله إلى أنفسنا. وقد كنت أحب أن أفيق ولو للحن واحد من هذه الألحان حتى أصفه لقرائي، ولكني مع كثرة ما سمعت هذه الألحان من زكريا ومن الفرقة لم أملك نفسي إلا أن أنساق لها مذهولاً مأخوذاً، فلست أملك اليوم أن أقول لقرائي شيئاً أكثر من أن أحيلهم على هذه الألحان ليسمعوها وليسكروا بها كما سكرت
على أني سأتربص منذ اليوم لزكريا وألحانه في دنانير، فقد كرهت أن أظل تحت تأثير(381/41)
سحره، وقد عزمت على أن أتحفز له. . .
الغناء
مع أن نجمة إبراهيم ليست من المطربات المعدودات فإنها مغنية بالطبع. يخيل إلي أنها حين تخلو إلى نفسها تغني، وأنها تبث في غنائها لواعجها وهمومها. وهذا هو ما مكنها من أن تمر في يوم القيامة مغنية تلفت السمع وتلفت الشعور
وحسن سلامة مع أنه موسيقي أعده ممن يلهمون في اتجاه خاص هو تصوير نفوس النساء، فإنه استطاع أن يغني كثيراً من عواطف الرجال، وإني أترك حسن سلامة اليوم عند هذا فهو جدير بأن أقدمه إلى الناس على حقيقته في ظرف آخر على اعتبار أنه موسيقي لا مغن
فرقة الألحان
يتقاضى الفرد في فرقة الألحان من الفرقة القومية عشرة قروش في الليلة، وهو يؤدي بصوته وروحه غناء يساوي القروش العشرة. . . فلو أنه أعطى خمسين قرشاً في الليلة أو جنيهاً فإنه من غير شك يكون شيئاً آخر. . .
وماذا أيضاً:
لا أظنه بقي بعد ذلك في يوم القيامة شيء، ولكنه لا يزال بعد يوم القيامة أشياء، هي روايات الألحان التي ننتظرها والتي لا يمكن أن نشبع منها ولا أن نمل
2 - مايسة
قصة تصور حياة البدو المصريين الذين يعيشون على حدود مصر، وما يشعرون به من أنهم حماة السبل المؤدية إليها، كتبها بيرم التونسي زجلاً، ولحنتها ملك، فهي ألحان من النغم في ألحان من الكلام
وقد كنت، إلى أن سمعت ألحان ملك في مايسة، أحسبها مغنية كل ما تستطيعه هو أن تتلقى اللحن من غيرها وأن تؤديه بعد ذلك أداء فيه إتقان يتاح لها من قدرتها على أن تسلس راغبة لمن تريد أن تسلس له
ولكني بعد أن سمعت ألحان مايسة رأيتني أخاف من ملك، وكأني بها قد نفذت إلى عالم(381/42)
آخر غير هذا العالم استرقت منه هذه الألحان، وإلا فمن أين أتتها هذه الشرارة التي اندلعت في روحها فتوهجت فيها هذه الأنغام اللامعة المصقولة
لقد حرت. . . وسألت. . . فقيل لي إن ملك استعانت باثنين موسيقيين أخفت اسميهما، ولكني قلت إن هذه الألحان مطبوعة كلها بطابع واحد، فلابد أن يكون صاحبها واحداً ولا أكثر. ثم إنها ألحان ظاهر جداً أنها حريق امرأة اندلعت في نفسها النار اللطيفة ذات السعير اللذيذ. . .
لست أدري. ولكن هذا هو رأيي. . . وأنا أعلم أن فيه مفاجأة، ولكنه شعوري. ولعل هذه هي المرة الأولى التي يستولي علي فيها الخبل من فن امرأة. . .
إن ملك تتكلف في الغناء أحياناً، وهي تثقل فيه على النفس أحياناً. . . ولها في هذه الأحيان العذر، فما يستطيع الإنسان أن يستنبع روحه في كل حين. . . ولكنها كانت في هذه الألحان نبعاً يتدفق. . .
فهل هذه ألحانها حقاً، وهل ننتظر بعد ذلك منها ألحاناً تشبه هذه. . .
إذا كان الأمر كذلك فعلى الملحنين أن يأخذوا حذرهم. . . وعلى بعضهم أن يتعلم وأن يتذوق
عزيز أحمد فهمي(381/43)
البريد الأدبي
لا تناقض ولا اضطراب
لم أكتب عن المنصورة مقالاً واحداً، وإنما كتبت مقالين أحدهما قُبَيْل السفر وثانيهما بُعَيْد الرجوع، وبين المقالين فاصل هو الإمضاء، فقد نبهتُ مدير مطبعة الرسالة مرتين إلى ذلك الإمضاء، فقد كنت والله أشعر بأنه لن يُثبته في صُلب الحديث، وقد وقع ما توقعتُ وصحّ للسيد محمود وصيف أن يحكم بأن المقال وقع فيه تناقض واضطراب
ولعل هذه الملاحظة تذكر مدير مطبعة الرسالة بأن ليس من حقه أن يتصرف بالحذف والإيصال في مقالات الكتاب، فقد يكون من الذين يخفى عليهم وجه الصواب في بعض الأحايين، وإلى صاحب الملاحظة أقدم تحيتي وثنائي
زكي مبارك
غناغراف
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة (الرسالة) الغراء
تعلمون كما يعلم قراء الرسالة أن لدى إدارة البرق (التلغراف) نوعاً من الرسائل أعد للتهنئة وهو يمتاز عن الرسائل البرقية العادية برسوم زخرفية ذات شكل بهيج
ومع أن هذه الميزة لا تكاد تؤدي مرح المهنئ المخلص وفرحه واغتباطه فقصارى ما أتمناه لكم ولقرائكم أن تتلقوا رسائل من هذا النوع بما يقر أعينكم ويطمئن قلوبكم
ولكن الذي أرجو أن أعرف وقعه لديكم وأثره فيكم هو نوع رسائل التهنئة الذي ابتكرته الولايات المتحدة، تلك الأمة الخالية القلب من متاعب العالم القديم
في عدد اليوم من جريدة الاجبشيان غازيت مقال ممتع بقلم المستر جرني وليمز عن ذلك النوع من الرسائل واسمه (الغناغراف) فماذا ترون لو ازدحمت غرفتكم بالرسالة أو بالمنزل العامر بفرقة من سعاة التلغراف تنشدكم برقية تهنئة من شعر رامي وتلحين السنباطي أو من شعر الدكتور زكي مبارك وتلحيني أنا؟!
يقول كاتب ذلك المقال إن مكاتب البرق في الولايات المتحدة أعدت نماذج مختارة من التهنئات المختلفة الأغراض وهي شائعة الألحان، ولكن للمهنئ أن يبعث بغيرها، ولدى(381/44)
السعاة مقدرة على الأداء، ولدى إدارة البرق مقدرة على التلحين
وفي هذا الخبر على قصره بشريات لنا لو أخذنا بهذا النظام فمن لنا بالفرصة التي تتيح حفظ مكتبة في كل مكتب للبرق تحتوي على كل دوواين الشعر العربي، ومن لنا بفرصة لتوظيف الملحنين وبعض المغنين والمغنيات سعاة للتلغراف!! ولقد ينشأ بعد ذلك شعراء عموميون كالكتبة العموميين لنظم التهنئات للبرقية، فما أسعد البشرى!
ويصف الكاتب استغلال الماجنين لنظام التهنئة المغنية فهم يبعثون لحفلة متزمتة بفرقة من السعاة تنشدهم ما لا يتفق ونظام الحفلة، قال وعند ذلك يطرد الساعي المنشد المسكين قبل أن يتمم إنشاد البرقية وقبل أن يعلن اسم المرسل
قال: وفي هذا النوع من الرسائل تكثر مداعبات الغزل بين الشبان والشواب، وروى قصة فتاة أرسلت أغنية كبعض شعر عباس بن الأحنف إلى صديق لها، فطرب الشاب وجعل الرد برقية إلى مكتب البرق في حي الفتاة يرجو فيها تقديم طعام الإفطار لها فقدمه المكتب على حساب المرسل للظريفة المداعبة في غرفة نومها في ساعة الفجر
سيدي الأستاذ:
لا علينا من طبيعة نظام الغناغراف ولكن أمة يمكن فيها إنشاؤه واستمراره لهي أمة سعيدة فهل تدعون إلى إنشائه بمصر إدارة المصلحة التي أنشأت قطار المفاجآت وقطار البحر
أحسب ذلك إن شاء الله.
عبد اللطيف النشار
أدهم قال لي
قرأت للأستاذ عبد اللطيف النشار كلمة بمناسبة دعوة أحد الأدباء لأصدقاء المرحوم الدكتور أدهم في أن يكتبوا عن مقدار ما وصل إليهم من العلم عن عقيدته
وفي الواقع كانت دهشتي عظيمة لأمرين: الأول هي تلك الدعوة الغريبة التي لا أجد لها أي داع، وقد حرت في فهم ما يرمي إليه الداعي من وراء دعوته، فإن كان يقصد بالعقيدة (الدين) فإنني أعتقد أنها مسألة شخصية بحتة يجدر بنا أن نبعدها عن نطاق الجدل؛ ثم إنني لا أفهم كيف يمكننا أن نخدم الأدب بتركنا الكلام عن الناحية الأدبية في الكاتب إلى مسائل(381/45)
خاصة، ويجب أن تظل كذلك
وإنني أتساءل: متى يمكن لأفكارنا أن تسمو عن الاهتمام بمثل هذه الفوارق التي يجب أن تتلاشى مادامت رسالة الأديب نبيلة في مرماها مجدة في الرفع من شأن الأدب؟
والأمر الثاني الذي دهشت له هو رد الأستاذ النشار نفسه وتلبيته دعوة كهذه، ولم أخرج إلا بنتيجة واحدة من كلمته، وهي أنه قد انتهز فرصة الكلام عن أدهم ليرميه بمر الذم والتعريض؛ وإنني أرجو أن تكون نية الأستاذ النشار - وقد كان صديقاً لأدهم - بريئة مما استطعت استنتاجه من كلمته
ليتكلم عن أدهم وأدبه كما يشاء، ليناقش آراءه الأدبية والعلمية إذا أراد، فهذه رسالة الناقد؛ أما أن يدخل في أمور شائكة كهذه، فهذا ما لا يقره عليه أحد، وخاصة أنها تتعلق بشخص انتقل إلى جوار ربه، فللموت حرمة يجب علينا تقديسها
شعبان فهمي
إلى الأستاذ النشار
في عنقك الآن قلادتان: أولاهما للأستاذ إسماعيل أدهم - رحمه الله - وأخراهما للأدب الحديث
أما قلادة أدهم فأرى أن يَوحْك بما (قال لك) قد يحيك له وشياً من الخلود لا يخلق ولا يبلي. أما قلادة الأدب فأعتقد أن أدب الأستاذ - وإن كان جافاً لا يخلب كما قال الأستاذ محمد عبد الغني حسن في مقاله - إلا أنه جديد في أفق الآداب، ورأيه غريب في سماء الآراء
وعالم الأدب الآن محتاج إلى كل جديد، ودنيا الآراء عطشى إلى كل غريب
فإن صح ما تقول فهنيئاً لبحر أدهم بغواص يتصيد الدرر الخبيئة، ولعالم الأدب بمرآة تشع نفساً غامضة تاهت (حتى حقائق نسبها) عمن تعرضوا لموضوعه الشائك فراح أخوه يخطئهم (الرسالة من عدد 369 إلى 373)
على أني لا أرى عليك حرجاً من (إنفاذ الوعيد) بل إن إنفاذه للزام عليك (إن صح إن هذا وعيد) لاسيما وقد اختارك لذلك واختار لك أقوى الوسائل المغرية للكتابة عنه في فلسفة عملية تكشف عن نية مبيتة للانتحار(381/46)
أيها الأستاذ: أن في عنقك للعلم ثقة، فدع عنك مبضع الجراح، وانقل مزهرك في خيال رقيق، وانفذ إلى الحقائق في تمحيص وتدقيق، سدد الله خطاك
حلمي إبراهيم النبوي
إلى طلاب النحو في جميع الأقطار
ما كان أظرف الأستاذ مصطفى إبراهيم حينما وجه (إلى علماء النحو في جميع الأقطار) معضلاته الآتية:
1 - لِمَ أفرد لفظ مائة في ثلاثمائة إلى تسعمائة على خلاف القاعدة؟
2 - لِمَ حذفت التاء في قوله تعالى: (فله عشر أمثالها) على خلاف القاعدة أيضاً؟
3 - كيف قلتم إن لن لتأبيد النفي، وقوله تعالى: (فلن أكلم اليوم إنسياً)، (ولن يتمنوه أبداً) ينافي ذلك؟
وقد هممنا أن نفزع إلى أستاذنا العلامة صاحب النحو والنحاة، ولكنا وجدنا الأمر أيسر من ذلك
1 - إنما يكون مميز الثلاثة إلى العشرة جمع قلة ما لم يكن لفظ مائة أو اسم جمع نحو تسعة رهط وخمس ذود؛ لأن مائة - وهي مفردة في اللفظ - جمع في المعنى، لأنها عشر عشرات وهو عدد قليل اهـ توضيح وأشموني. وأقول ربما لوحظ في إفراد لفظ المائة خفة النطق؛ والتعداد بالمئات كثير بخلاف الآلاف، ولذلك وصل الإملائيون المضاف بالمضاف إليه فيها لكثرة الاستعمال وفرقاً بين الجمع والكسر في مثل رُبُع مائة وثُمن مائة الخ. ثم إن إضافتها إلى الآلاف جمعاً قد جاء على أصل القاعدة، وعندهم (ما جاء على أصله لا يسأل عنه) وظاهر أن اسم الجمع في حكم جمع القلة. هذا وشذ قول الفرزدق في الضرورة:
ثلاث مئين للملوك وَفَى بها ... ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم
2 - يُعتبر في واحد المعدود - تأنيثاً وتذكيراً - لفظُه إن كان اسماً؛ وموصوفه المنويُّ إن كان صفة؛ فتقول ثلاثة أشخُص قاصدَ نسوة وثلاث أعين قاصدَ رجال؛ وتقول ثلاثة رَبَعات إن قدرت الموصوف رجالاً، وتحذف التاء إن قدرت الموصوف نساء؛ لأن الربعة يوصف بها المذكر والمؤنث. وعلى هذا قوله عز وجل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، تقديره(381/47)
فله عشر حسنات أمثالها. ويمكن تخريجها على تأنيث المعدود مراعاة للجمع، ولكن الصحيح مراعاة واحد المعدود خلافاً للبغداديين. وقد يقال إن المعدود اكتسب التأنيث بإضافته إلى المؤنث. اهـ أشموني وتوضيح. واختر ما يحلو
3 - النحاة جميعاً على أن (لن) لمجرد النفي. والتأكيد أو التأبيد يستفادان من القرائن؛ ولم يخالفهم فيما نعلم إلا الزمخشري. وكيف نجعل المرجوح راجحاً ثم نستشكل بناء عليه؟
على أن من ينصر مذهب الزمخشري في إفادتها التأكيد أو التأبيد، فله أن يجيب عنه بأنها إنما تكون للتأبيد عند الإطلاق. فإذا ذكرت قرينة تمنع منه مثل (اليوم) في الآية الكريمة فهي للتأكيد فحسب. وبأن التكرار في مثل: (ولن يتمنوه أبداً) يقع في بليغ الكلام لزيادة التأكيد
وإذا لم نرتض مذهبه فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب
طه محمد الساكت
مدرس بمعهد القاهرة
شرح بيت ونسبة آخر
حضرة الأستاذ صاحب الرسالة الغراء المحترم
1 - مررت وأنا أقرأ ديوان (أبي نواس) جمع الأستاذ محمود كامل فريد بقصيدة نسبها الأستاذ للنواسي مطلعها:
لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكم يصير إلى تراب
على أني قرأت هذه القصيدة بكتاب آخر منسوبة إلى أبي العتاهية. فهل لي أن أسأل سيدي الأستاذ أي القولين أصوب؟
2 - وفي صفحة (247) من الديوان نفسه قرأت البيت التالي:
وتبسم عن أغر كأن فيه ... مجاج سلافة من بيت راس
يقول الشارح في الحاشية: إن (بيت رأس) اسم لقريتين في كل واحدة منهما كروم كثيرة ينسب إليها الخمر، إحداهما بيت المقدس والأخرى من نواحي حلب. وأقول إن بيت رأس اسم لقرية صغيرة تقع قريبة من الحدود الأردنية السورية من جهة الشمال، وهي كما(381/48)
وصف الأستاذ غنية بكرومها، فلا يبعد أنها كانت مشهورة بخمورها، وأنها هي التي عناها الشاعر. . .
أرجو إفادتي في أيهما وجه الصواب خدمة للحقيقة وتعميماً للفائدة
(عمان)
مصطفى علي عزام
(الرسالة): القصيدة لأبي العتاهية لا لأبي نواس. وقولك في
بيت رأس هو الصحيح
من لصوص المجلات
نشرت (الرسالة) في العدد (379) فصلاً طريفاً عنوانه (قداسة النقد) بتوقيع (اسكندر البطرسي)، الذي زعم لنفسه فضل ترجمته عن (برناردشو) وأحب أن أبين أن هذا المقال منقول بنصه من العربية إلى العربية عن عدد شهر نوفمبر سنة 1934 من (المجلة الجديدة) التي نشرته في صحيفة 89 و 90 مترجماً بقلم صاحبها الأستاذ سلامة موسى، وقد أردت بهذا البيان أن أضع الأمور في نصابها وأفضح هذا الدعي وأمثاله ممن يسرقون آثار الناس ليوهموا أنهم من الناس
أسعد حسني
حول مقال
أستاذي الكبير صاحب الرسالة
تابعت باهتمام ما دار على صفحات الرسالة حول مسرحية مفرق الطريق للدكتور بشر فارس، حتى قرأت في العدد 379 مقالاً للأستاذ زكي طليمات يرد به على مقال سابق للأستاذ محمد متولي وقد عنّت لي عند قراءة هذا المقال الملاحظات الآتية:
أولاً: يقول الأستاذ زكي طليمات إنه لا حرج على الدكتور بشر في تسميته بطلة مسرحيته (سميرة) وتحديد المكان الذي وقعت فيه حوادث المسرحية وهو مصر. ولو علم الأستاذ أن(381/49)
القصة الرمزية يجب أن تكون رمزاً لما يحدث في كل زمان وفي كل مكان بين أشخاص غير معينين، لعرف أن هذه التسمية وذلك التحديد يتنافيان مع أبسط شروط القصة الرمزية. لذلك يجب أن يحيط الغموض والإبهام أبطال القصة الرمزية وحوادثها.
ثانياً: يذكر الأستاذ أنه (من المعقول أن يكون البطل (هو) لأنه عنوان لفئة خاصة من الرجال في مصر وأن تكون (سميرة) - سميرة - لا (هي) لأنها ليست عنواناً لفئة خاصة. ونحن لا نفهم كيف تكون القصة رمزية إذا كانت بطلتها امرأة شاذة لا يوجد على طرازها، ففي هذه الحالة تفقد القصة صفة الرمزية، لنفس السبب الذي أوضحناه في الفقرة الأولى.
ثالثاً: يعتقد الأستاذ زكي طليمات - كما ذكر في الفقرة الأخيرة من مقاله - أن الأستاذ متولي يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عند ما كتبه العلماء في القرن الماضي. لماذا؟ لأن الأستاذ متولي يقف علمه بالرمزية وعلم النفس عند ما كتبه العلماء في القرن الماضي. لماذا؟ لأن الأستاذ متولي أراد أن ينقد المسرحية فأتى بشاهد من فلسفة (ريبو) فالأستاذ زكي طليمات إذن قد أخطأ الفهم لأنه لو طُلِب من شاعر أن يأتي ببيت في غرض من أغراض الشعر كالهجاء مثلاً فأنى ببيت من الشعر الجاهلي، فليس ذلك دليلاً على أن الشاعر لا يحفظ من الشعر سوى الشعر الجاهلي
هذا ما أردت أن أنبه إليه الأستاذ زكي طليمات. والسلام
فؤاد كامل
أحوال النساء
كتب الأستاذ إبراهيم محمد نجا في (أجوبة عن أسئلة) أبيات علقمة الفحل عن (أحوال النساء) على هذه الصورة: عدد 379 من (الرسالة):
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له من ودهن نصيب
وأنا لا أريد أن أدخل بين الدكتور زكي مبارك والأستاذ نجا فيما يجري بينهما من سجال وصيال، ولكني أذكر أن الرواية الصحيحة لشعر علقمة هي:
فإن تسألنّي بالنساء فإنني ... خبير بأحوال النساء طبيب(381/50)
إذا قل جاه المرء أو قل ماله ... فليس له من حظهن نصيب
يردْن ثراء المال حيث وجدنه ... وشرخ الشباب عندهن عجيب
وأظن صديقنا الدكتور زكي مبارك يطابق حفظه حفظنا في هذا الشعر
محمود الشرقاوي
تصويب
ورد في المقال الافتتاحي لرسالة هذا الأسبوع (خواطر مهاجر) نص الآية القرآنية الكريمة هكذا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولكن لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم. . .) والصواب حذف (لكن)
ولكم في النهاية واجب التحية والإكبار.
السيد محمد أحمد الفقي
تصويب
في قصيدة (الخلوة الأولى) (عدد 380) من الرسالة نشر هذا البيت:
أين الوفى منك وميثاقه ... وأين منه اليوم هذا الجمود
وصحته: هذا الجحود
جريدة فتى النيل
دخلت زميلتنا (فتى النيل) في عامها الثالث وعهدها الجديد حافلة بكل ما يهم القراء الاطلاع عليه. وقد اشترك في تحريرها نخبة من حملة الأقلام الممتازين. وفي مقدمتهم الأستاذ عبد الحميد المشهدي. وجعلت موعد صدورها صباح الاثنين من كل أسبوع
فنتمنى للزميلة كل تقدم ونجاح.(381/51)
القصص
لقاء!. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كان النَّدِيُّ مزدحماً بالسامرين على عادته كل مساء؛ قد تحلقوا حول الموائد جماعات جماعات، في البهو، وفي الشرفات، وعلى الطَّوار؛ وكان الميدان الفسيح الذي يشرف عليه الندي، مراد العيون ومستراح النظر؛ فما تقع العين منه إلا على منظر أنيق ومرأى فاتن، والسيارات تتهادى ذاهبة آيبة تحمل كل منها قصة حب أو تُسرّ حديث هوى، وأسراب الملاح تتواكب في مطارف الفتنة وعطر الشباب غادية إلى ميعاد أو رائحة إلى أمل، ونسيم المساء الهادئ ينفح عطره ويهمس في كل أذن حديثه. . .
. . . وكان ثمة بضعة نفر جلوساً إلى مائدة مستديرة في ظل وارفة لفّاء يتجاذبون الحديث ويتبادلون الفكاهات في أنس ومسرة. أولئك (رفيق) وأصحابه
بضعة نفر لا يشغلهم من هم الحياة ما يشغل الناس، جمعهم الشباب على هوى مشترك، وألفت بينهم الحياة على رأيٍ جميع، واجتمع لهم من أسباب النعمة ما أغنى بعضهم عن بعض فقرّب بعضهم إلى بعض؛ فهم قدمٌ واحدة بكل سبيل، وقلب واحد في كل هوى، ورأيٌ واحد في كل مغامرة من مغامرات الشباب. ذلك مجلسهم كل مساء حيث يلتقون فيقص بعضهم على بعض من حديث الهوى والشباب؛ فلكل فتاة من فتيات المدينة بينهم حديث؛ ولكل منهم من حديثها خبر، ولكل غاديةٍ ورائحةٍ لحظة عين وبنتُ شفة
على أن رفيقاً وأصحابه لم يجتمعوا الليلة لمثل ما يجتمعون كل مساء؛ فإن لهم اليومَ لشأنا يشغلهم عن لحظات العيون وبنات الشفاه وأقاصيص الهوى والشباب؛ فقد غدا عليهم (رفيق) يؤذنهم بخبر لم يكن لهم في حساب؛ لقد اعتزم رفيق أن يتزوج. . .
وا أسفا! لم يكن يحسب هؤلاء الأصحاب أن يصير اجتماعهم بعد تلك السنين إلى شتات، وأن يكون رفيق أسبقهم إلى الفراق!. . . أتراه يكون لهم بعد الزواج ما كان لهم قبله؟ من يدري؟ بل إنهم ليكادون يدرون؛ فما يتأتى له أن يلقاهم بعدُ ويلقونه، وإنه لزوج ورب دار. . .
وتناولوه بألسنتهم وركبوه بالمزاح والدعابة، وهو يستمع إليهم مبتسماً في صمت، ثم مضى(381/52)
ومضوا. . .
لقد ذاق رفيق من ألوان اللذات ما ذاق، وباع في الحب واشترى، وربح وخسر، وتقلبت على عينيه مناظر لعل مثلها لم يجتمع لشاب آخر في مثل سنه؛ على أنه قد مل ذلك جميعاً وضاقت به نفسه، وحن إلى حياةٍ هادئة يحياها بين زوجٍ تحنو عليه، وولد يجدد أمله؛ فاعتزم أن يتزوج
وأتاح لرفيق ما لقي من تجارب الحياة، أن يعرف من شئون المرأة أكثر مما يعرف الشباب؛ فلم يكن تعجبه فتاة ممن رأى وعرف فيرضاها زوجة يملِّكها داره ويأتمنها على سعادته؛ إذ كان يعرف أكثر من غيره ما وراء هذه القشور التي يتزين بها النساء في مجالس الرجال تجملاً من غير جمال؛ فزاح إلى أمه العجوز يسألها أن تختار له ويصف لها ما يحب في المرأة وما يكره
وكان عجيباً من فتى مثل رفيق - رأى من رأى وعرف من عرف - أن يتوسل بأمه إلى اختيار زوجته؛ ولكن ما رأى وما عرف هو الذي دعاه إلى ذلك؛ فقد كان مما جرّب لا يثق بواحدةٍ ممن عرف؛ فراح يتوسل بأمه أن تكون سببه إلى من لم يعرف
تلك مسألة أخفاها رفيق على صحابته، ولو عرفوها لنسبوه إلى فساد الرأي وأفن التفكير؛ فما ينبغي لفتىً مثله من أبناء الجيل الجديد أن يخطب فتاةً إلى نفسها من وراء حجاب، وأن ينظر إلى زوجته بعيني أمه؛ ولكنه كان موقناً يقيناً لا شبهة فيه، أن تلك الوسيلة التي ينسبها أصحابه إلى الرجعية وفساد الرأي وأفن التفكير، هي أسدّ وأحكم من اختيار فتاةٍ كبعض من يعرف، تقلبت على أعين الشبان وتنقلت بينهم من ذراعٍ إلى ذراع كجارية النخاس!
لو أن أحداً رأى له هذا الرأي منذ سنين، لسخر منه واستهزأ به ورماه بما يرميه به صحابته اليوم؛ ولكن تجارب الحياة لا تدع لذي رأيٍ أن يثبت على رأيه إلا أن يكون أحمق ليس له رأي ولا إرادة!
وراحت أمه العجوز في حاشية من صواحبها تطرق الأبواب وتهتك الأستار لترى وتعرف وتتخير، لتعود إلى ولدها كل مساء فتقص عليه ما رأت وما عرفت؛ وكانت تعلم من شئون ولدها ما لا يجهل أحد؛ فمن ذلك كان حرصها على أن تتخير له فتحسن الاختيار؛ وعادت(381/53)
إليه ذات مساء تخبره:
لو رأيتها يا رفيق. . .! لها غُرة الصبح الطالع، وابتسامة الأمل المشرق، وحياء الزنبقة البيضاء تحت عيون الزهر. . . لله هي يا بني! خارَ الله لك!
وقال رفيق: وددت لو رأيتها يا أمي!
ومطّت أمه شفتيها تنكر عليه، وقالت: وددتُ يا بني، ولو أنك رأيتها ما زادت في عينيك على ما أصف؛ ولكن، من أين لك؟ ما أرى أباها يسمح يا رفيق، ولو سمح أبوها ما أطاقت هي أن تتراءى لك. . . إنها. . .
وصمت رفيق وعاوده قلق الشباب، وراح يؤامر نفسه: كيف يطيق أن يقطع برأي في المرأة التي يهم أن يشركها في عمره وما رآها؟
ثم ثابت نفسه إلى الاطمئنان والرضا رويداً رويداً، وغلبه عقله على هواه؛ فقال لنفسه: ذلك أحب إلي؛ وإن يقيني بطهارتها لأطيبُ لنفسي من اليقين بجمالها؛ وهل رضيتُ أن أخطبها من وراء حجاب إلا زهادةً في الجمال المبذول لكل ناظر؟
وذهب رفيق يتقصى خبرها ويسأل من يعرف عما لا يعرف، وأتاه جواب ما سأل؛ ولم يبق إلا أن يراها ليُبرم أمره؛ وأي حرج في ذلك؟
وعادت أمه تسعى مسعاتها بينه وبين عروسه؛ ثم عادت تحمل إليه الإذن في أن يراها يوم يقدم لها هدية الخطبة
. . . لم ينقطع رفيق عن صحابته ولم يشغله أمره عن مجلسه وإياهم كل مساء؛ فما كانت له طاقة على فراق بائن إلى غير لقاء؛ وكذلك لم يهجر ما كان من عادته وإياهم حين يتحلقون حول المائدة المستديرة على الطوار، يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الفكاهات، أو يُتبعون أعينهم كل غادية إلى عمل أو رائحة إلى ميعاد، أو يتداعون إلى سهرة حمراء في عُش من عشاش الحب المأجور إلى أن تشيب ذؤابة الليل!
كان يعلم أنه عما قليل مفارق هذه الحياة الصاخبة التي عاش فيها عمراً من عمره؛ فلا عليه أن يتزود لما يأتي من لياليه، لا يمنعه عن ذلك ما يشغله من أمر يعد له عدته ويهيئ أسبابه. . . وتوزّعته شئونه، فنهاره تأهب واستعداد، وليله ليلُ الهوى والشباب!
أرأيت إلى الصائم يتأهب لنهارٍ ظامئ جوعان بالمائدة الحافلة بأطايب الطعام والشراب؟(381/54)
كذلك كان رفيق في إسرافه على نفسه وفي غلبة هواه!
وراح يوماً لموعده فجلس يقص على صحابته من مغامراته:
(. . . وكنتُ وحدي إلى هذه المائدة أنتظر، وغاظني أنني بكّرت فلم أجد أحداً منكم آنس إليه، وتخايلت لعيني فتاة على مبعدة. . . ثم تجاوزتني ومضت؛ ومضيت في أثرها. . . . . .)
وتقصّف عليه أصحابه يستمعون إليه؛ فإنه لفارس هذا الميدان غير منازع، ومضى في قصته:
(. . . وقلت لها وهي جالسة إلى جانبي على الصخرة الناتئة والأمواج تحت أقدامنا تصفق على الشاطئ الغضبان: (إنك أول من أحببت. . .!) فنظرت إلي ساخرة وقالت: (صحيح. . .؟) ثم انفجرت إلي ساخرة ثم انفجرت ضاحكة. قلت: (وما يمنع. . .؟) قالت وتكاد تغص بضحكتها: (تلك كلمة ليست جديدة على أذني، كم مرة سمعتها قبل أن تلفظها شفتاك!)؛ وحدّقت في وجهي بعينين فيهما تصميم وإرادة، كأنما تتحداني لتبلو إرادتي، وزويت جبيني وتحوّلتُ ناحية أنظر إلى رشاش الماء يتواثب تحت أقدامنا وقلت: (ولكنك لن تسمعيها بعد، ولن أقولها!). . . ورحت أجمع طائفة من الحصى فأقذف بها الماء وأصابعي ترتعد؛ إذ لم يكن يعنيني إلا أن أثأر لكبريائي. . .
قال رفيق: وتخاذلتُ سريعاً حين رأت وجهي مصروفاً عنها؛ فدنت مني وهي تقول: (أنظر، أترى هذين الطائرين؟) ونظرتُ ونظرتْ، والتقت عينان بعينين، وشفتان بشفتين!. . . ثم. . .
قال الذي عن يمينه: ثم صحوتَ من النوم!
وعَلَت ضحكاتُ الجماعة، وسكت رفيق، ومضى أصحابه يتجاذبون الحديث. . .
. . . ودنا الموعد الذي حدّده رفيق ليلقى عروسه فيقدّم لها هدية الخطبة؛ وكأنما أحب أن يهيئ نفسه لهذا الحدث الجديد، فانقطع أياماً عن موعد أصحابه، ومضى يزوّر في نفسه الكلام الذي يلقى به خطيبته يوم يلقاها؛ أتراه كان يخشى أن يخونه بإزائها بيانه وخلابتُه وما عجز قبلها في مجلس فتاة قط؟ تُرى ماذا يقول الناس في هذا المقام؟ وتواردت على خاطره كلمات كثيرة، كلمات طالما جرى بها لسانه في مجالس الفتيات فكان لها في نفوسهن(381/55)
فعل السحر؛ ولكنها جميعاً على لياقتها في هذا المقام وصدقها في التعبير عن حقيقة موضعها، لم ترُق له؛ كأنما كان ينزه لسانه في خطابها أن يلقاها بكلمة لم ينطقها قط إلا كاذباً ولم يلقَ بها قط فتاةً تستحق الاحترام!
وأعجزه القول حين وجد الحاجة إليه، إذ كان كل جديد في لغة الحب الصادق قد حال في لسانه عن معناه الحقيقي إلى معنى وضيع من معاني الخداع والغش والتغرير؛ فما ثمة إلا كلام بالٍ قد أخلقه التكرار، أو كلام ساقط قد نسخه الكذب وأحاله عن معناه. . .!
وضحك رفيق حين أحس من نفسه العجز عما يريد، وخطر بباله حديث الناس عن عجز المحبين عن التعبير حين يتراءى العاشقان وجهاً لوجه وتتناجى العيون! فسأل نفسه: أتراني عشقتها؟
ثم جاء الميعاد. . .
وسبق البشيرُ يؤذن بمقدمه؛ وجلست فتاةٌ تنتظر، وفي رأسها أخيلة تتراءى وفي قلبها أمل. . .
وقال رفيق لنفسه والسيارة تقله إلى هناك: ينبغي أن تكون هي أول من أحب؛ أليس كذلك. . .؟ بلى، ومن ذا يستحق الحب غير الفتاة التي أهم أن تشركني في عُمري؟
وقالت الفتاة لنفسها وهي جالسةٌ مجلسها تنتظر: نعم، ولمن تهب الفتاة قلبها غير الشاب الذي تشركه في عمره؟
ودق الجرس، ودخل رفيق تسبقه البشرى. وعلى الكرسي المذهب في صدر غرفة الاستقبال جلس ينتظر، وكان إلى جانبه كرسيٌ خال؛ ثم انفتح الباب ودخلتْ. . .
وتراءيا وجهاً لوجه، وعرفها وعرفته. . . وهم الفتى أن يقول: (أنت أول من. . .) ثم سكت؛ وتهيأت الفتاة لتقول، ثم سكتت. . .
ودوّى في أذنيه مثلُ هدير الموج يتواثب رشاشه إلى وجهه، ودوَّى في أذنيها؛ كمجلسهما هنالك في يومٍ قريب. . . وطأطأت الفتاة رأسها في خزي، وطأطأ الفتى رأسه؛ وثقل على الفتى والفتاة موقفهما، وأحسا مواقع النظرات تأخذهما من كل جانب، فمشيا صامتين إلى مجلسيهما؛ وتبادلا نظرةً أخيرة أغنتهما عن الكلام.
ولم تتحرك شفتاه بكلمة، ولكنها سمعته يهمس في أعماقها ساخراً: (أنت أول من أحببت!!)(381/56)
ولم تنطق شفتاها، ولم تجب؛ ولكن صوتاً من أعماق الماضي كان يهمس في نفسه: (. . . تلك كلمة. . . كم سمعتها أذناي قبل أن تلفظها شفتاك!!)
وتحوّل وجهه إلى ناحية وهو يقول: (ولكنك لن تسمعيها بعدُ، ولن أقولها!!)
وراحت أصابعه تعبث بحبات العقد الغالي فتتناثر على البساط كأنها حصيات من رمل الساحل؛ وعاد هدير الموج يدوّي في أذنيه ويتواثب رشاشه إلى وجهه؛ ونهض، ثم اتخذ طريقه إلى الباب في صمت!. . .
محمد سعيد العريان(381/57)
العدد 382 - بتاريخ: 28 - 10 - 1940(/)
من ليالي الملاح التائه
في مخبأ الفيشاوي. . .
جلست أنا وصديقي شاعر الجندول في قهوة (الفيشاوي) عشية يوم الأحد الماضي نحتسي أقداح الشاي العنبري الهنيء، بعد إفطار من طهو رمضان الدسم المريء؛ وكان الظلام قد هب يتموج لطيفاً بين المصابيح الزرق كأنه ظلال الأجنحة الخفاقة في جو بنفسجي قاتم، والحركات الهامدة والأصوات الخاشعة قد أخذت تتخلص رويداً رويداً من فترة الصيام وسكرة الطعام، فهي تنتعش في البيوت، وتنتشر في الشوارع، ويقبل الناس على المقاهي فيلقون ثقل بطونهم على مقاعدها ليعالجوها بالأفاويه المنبهة والأشربة الهاضمة. وكان صديقي الشاعر قد طفق بعد شايه يكركر في شقته الأعجمية وقد انمحى من خياله السباح جندول البندقية وخمرة الرين وبحيرة كومو، فلم يعد يشعر إلا بعطر الشرق وسحر الشرق ونور الشرق، وتراءت له من خلال ما يجلوه الحي الحسيني على عينيه من مختلف الأجناس والألوان والصور. بقايا الملك الإسلامي العظيم، ودلائل المجد العربي الخالد، فلم يتمالك أن قال في لهجة تنم على الأسى والأسف:
- يا ضيعة الشعر ويا ضلة الشاعر إذا لم يُسجَّل هذا الملك في ديوان، ويُخلَّد هذا المجد في ملحمة!
وكان شعوري في تلك اللحظة يجري مع شعوره من غير تنبيه ولا توجيه، فقلت له على الفور:
- لو أن شعراءنا في الماضي والحاضر قد خلصوا كما خلصت أنت الساعة من أنانية الفكر وفردية الشعور لوجدوا في حضارتنا الزاخرة وتاريخنا الحافل أفانين عجيبة من الشعر القصصي توحد شتات الهوى وتكمل نقص الأدب؛ ولكنهم كانوا وما زالوا ينقلون عن ذاتية غالبة وطبع أثِر. فالقصيدة عواطف الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والأغنية لواعج المغني فلا تعبر المعاني العامة ولا تهتف بالأماني المشتركة. ولعل ملاحك التائه يُرسيه القدر الهادي على شطئان الشرق الجميلة فيقبس من شمسها نور إيمانه وأمانه، ويأخذ عن إلهامها سحر أوزانه وألحانه!
غصت القهوة على عادتها في ليالي رمضان بالسامرين من كل لون ومن كل طبقة، وكان(382/1)
القمر يضرب بأشعته الباردة الرخية في ضوء المصابيح الداخلية فيشعشعه ويقويه، والمذياع على جدار القهوة ينقل الأغاني المسئومة في فرقعة وصخب، والجالسون يتجادلون في السياسة أو يتحدثون في الأدب، والنّدُل يذهبون ويجيئون وألسنتهم لا تفتر عن ترديد عن هذه الجُمل: (واحد كشَري مظبوط. . . فلوسك يا محمود. . . أيوه حاضر. . . ِولْعَه لمين؟. . . واحد ساده، مستوى زيادة. . .)
وعلى حين فجأة سكت المذياع وانطلقت صفارات الإنذار تردد نعيقها المتقطع، فأطفئ النور، وأخذت الناس زلزلة من الفزع، فنهضوا وتجمعوا ودخل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا دهمتها العاصفة؛ ثم تدافعوا متدفقين في داخل القهوة وهي قبو مظلم مسلوك تحت بيت ضخم من البيوت القديمة؛ وعلى جانبي هذا القبو حجرات ضيقة من غير أبواب للخلوة أو للعب. فدخلت أنا وصديقي إحداها فوجدنا فيها شيخاً هادئاً يكركر، وشاباً مضطرباً يثرثر، وآخرين قد ألجمهم الذعر فهم في وجوم ذاهل. ثم أنصت الناس ونظروا، فلم يسمعوا رعداً يقعقع ولم يروا برقاً يلعلع، فتساير عنهم الخوف، وتذكروا أن القدر لا مفر منه، والقضاء لا حيلة فيه؛ فأخذوا يتنادرون على الصفارات والغارات، ويجددون ما أريق من الأكواب وأطفئ من الشياشات. والمصري أربط الناس جأشاً في الخطوب متى زايلته بوادر الجزع؛ لأن إذعانه لقضاء الله بكسر حدتها عنه، وأخذه المكاره بالمزاح يضعف أثرها فيه. وهو في ذلك كالإنجليزي، إلا أن ثبات المصري يرجع إلى حرارة يقينه، وثبات الإنجليزي يرجع إلى برودة طبعه: هذا يبلد ثم يجلد، وذاك يتفرق ثم يتماسك
ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به بوجه القمر! لقد كان أجدادنا القرويون يقولون: (لم يبق من ليالي الهناء غير ليالي البدر) فهل يصح هذا القول إذا قلناه اليوم؟ إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة. فمن يزعم الآن أن الليل لا يزال لباساً وأن الناس لا يزالون ناساً، فقد جهل أن العالم الحاضر يسوسه الشياطين، فهو يرتكس ليسقط، وينتكس ليموت!
قال لي صاحبي وقد أعلنت الصفارة بصوتها المتصل زوال الغارة الأولى: قم بنا نتلمس الطريق إلى مكان آخر نتنفس فيه من كربة الحر والحرب(382/2)
فقلت له وأنا أحبسه على كرسيه: هنا يا صديقي مخبأ هيأته لنا وقاية الله؛ فإذا تركناه وأدركتنا غارة أخرى فأين نختبئ؟
ليس في القاهرة ولا في غير القاهرة مخبأ حصين يعرفه الجالس في بيته أو السائر في طريقه. ولا أدري أي ضرب من ضروب الغفلة أطبق على مصلحة الوقاية المدنية فلم تقيم بإنشاء المخابئ الصالحة على وضعها الصحيح! هل أخذوا على الدهر عهداً بالأمان، أم حسبوا أن بضعة أخاديد في أمكنة متباعدة مجهولة تعصم سكان القاهرة وهم في المنازل أو في الطرق من شظايا القنابل؟
ليس من صالح الرأي يا صديقي أن تجهز قصور السراة ودور الحكومة بالمخابئ المسلحة المريحة؛ ثم يقال للشعب المسكين تبرع بالقروش لنشق لك لحوداً في ظاهرها الحمام المنقض، وفي باطنها الزحام المهلك! فقال لي الشاعر وهو يتمكن في مجلسه: إن سياسة الملاح التائه لا تزال هي سياسة الحكومة في كل أمر. فاسأل الله وحده أن يجعل لهذه الأمة مرفأ في كل عاصفة وملجأ من كل غارة!
أحمد حسن الزيات(382/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الواقفون بالمرصاد - ما بيني وبين نفسي - طلعت حرب باشا
في ميادين الأدب والاقتصاد
الواقفون بالمرصاد
قرأت في (الرسالة) كلمة كريمة للأستاذ محمود غنيم دعا فيها كاتب هذه الأحاديث إلى الحذر من عواقب العنف والجُموح، لئلا يقع القلم في سقطة تشمت به الأعداء الواقفين بالمرصاد، وهو يرجو أن نخصص يوماً من أيام (الرسالة) نحدث فيه القراء بهدوء على نحو ما يكون النيل في غير أيام الطغيان؛ ثم استطرد فقسم قراءنا إلى فريقين: فريق عدو، وفريق صديق؛ ونص على أن الصديق لا يملك أن يقول فينا كلمة الثناء لئلا نتهمه بالتزلف، وأن العدو لا يستطيع مجاهرتنا العداوة لئلا نمسه بسنان القلم مسَّاً غير رفيق
والصورة التي قدمها الأستاذ محمود غنيم صورة صحيحة، ولا تحتمل المناقشة إلا من جانب واحد: هو القول بأننا قد نصم من يثنون علينا بوصمة التزلف، فما يسمح لنا أدب النفس بأن نتلقى كلمات الإعجاب بغير الحمد والثناء، وإنما ينهانا العقل عن استزادة المعجبين فراراً من أخطار الزهو والخُيلاء
وقد ترفق الأستاذ الزيات مرات كثيرة فدعاني إلى النظر فيما يرد إليه من كلمات الاستحسان لأقدم منها للنشر ما أريد، ثم نهاني الذوق عن الاستجابة لهذا الاقتراح النبيل، واكتفيت بالمرور عليه من وقت لأطلع على عواطف الأصدقاء من القراء، وهم بحد الله أكثر عدداً من أعدائي، وفيهم أفراد على جانب كبير شرف النفس وعظمة الروح
وإنما نصصت على هذا الفريق من القراء ليعرف بعض من أسكت عن كلماتهم الطيبات أنهم يخاطبون رجلاً وفياً، وأني أحفظ لهم في أعماق القلب أطيب الذكريات، وأن (الرسالة) لم تطو كلماتهم عن استهانة أو بخل، وإنما هو الواجب، الواجب الحازم الذي ينهانا عن الإصاخة لكلمات العطف والتشجيع
ثم ماذا؟ ثم ألتفت إلى الأعداء الواقفين بالمرصاد فأقول:(382/4)
لم أرزق من الغفلة ما أطمئن به إلى أني أعيش بلا خصوم وبلا أعداء، وكيف وحياتي كلها قامت فوق مخازن من البارود لو وقعت عليها شرارة واحدة من الخطأ لحولتني في مثل لمح البصر إلى رماد تذروه الرياح؟
فمن كان يريد أن ينتفع من تجارب الرجل الذي اكتوتْ يداه بنار الحياة الأدبية فليسمع هذا القول:
من الخطأ القبيح أن يعتمد الكاتب على ماضيه الجميل، وأن يتوهم أن القراء قد يذكرون حين يخطئ أن الحسنات يُذهبن السيئات، وأن الذي يُحلق ألف مرة قد يُغتفر له الإسفاف مرة أو مرتين
هيهات، هيهات، هيهات، فليس للقراء ذاكرة، وليس للقراء ميثاق
إنما يعرف القراء آخر مقال، فإن كان جيداً فالكاتب مجيد، وإن كان وسطاً فالكاتب ضعيف، وربما أضافوه إلى أهل الغثاثة والهزال
الكاتب يواجه ميدان السباق في كل وقت، وهو معرض في كل شوط للحكم له أو عليه. ولو كان الكاتب كالجواد لخف الأمر وهان، لأن السباق بين الجياد لا يحتاج فيه الحكم إلى ذكاء، فأغبى الناس يدرك بنظرة عابرة من السابق ومن المسبوق، ولا كذلك الحكم بين كاتب وكاتب، فهو يحتاج إلى ذوق وفطنة وذكاء، ولا يظفر الكاتب بقصب السبق إلا حين يكون له من اللوذعية ما يقهر به أهل الغرض واللجاجة والعتاد، وهو لا يصل إلى ذلك إلا بقوة قاهرة عاتية لا يفلح في صدها المكابرون إلا كما يفلح نجم الأرض في مسايرة نجم السماء
نحن أشقى الناس يا صديقي، لأن من حق كل مخلوق أن يحكم لنا أو علينا، وإن كان من مواليد العقد الثالث من القرن العشرين!
وحظنا يا صديقي حظ ممسوخ، لأنه معرض لانتقاص الممسوخين
وأعيذك أن تظن خيراً بسماحة الأقطاب من أهل البيان، فأولئك قوم يصعب عليهم أن تذكر بالجميل، لأنهم يتوهمون أنك تعتدي عليهم حين تقضي ليلك ونهارك في تزويد عقلك وذوقك بذخائر الأدب الرفيع.
وهل عانى أحد في دنيا الأدب مثل الذي عانيت؟(382/5)
لقد انتزعت حظي من أنياب الحيات السود، فهو حظ مدوف بالسم زعاف، ولو استطاع قوم أن يتجاهلوا وجودي لفعلوا، ولكن كيف يستطيعون وقد ضيقت عليهم الخناق وقهرتهم على الاعتراف بأن العاقبة للصابرين على مكاره الجهاد
وهل كانت مكايدة الأعداء هي أصل النار التي يقذف بها قلمي؟
العدو الحق هو الغلطة المطبعية التي وقعت في سفر الوجود
وهذه الغلطة قد تسمى أوهاماً أو عادات أو تقاليد، ومن واجب القلم أن يصحح تلك الغلطة بلا ترفق ولا استبقاء
وأنا أصنع في محو تلك الغلطة مثل الذي كان يصنع يأجوج ومأجوج، فأنا أمحوها في كل يوم وهي ترجع إلى ما كانت عليه في كل يوم، ولكني سأنتصر ولو بعد حين، لأني أملك من الصبر واليقين ما لم يملك يأجوج ومأجوج
وهل يغيب عني أن كتاب (التصوف الإسلامي) سيزعزع أقواماً وخلائق في آمادٍ قصار أو طوال؟
أن وصل كتابي إلى سرائر المجتمع الإسلامي فسيغير ما يغير ويبدل ما يبدل، وهو سيعيش لأنه لم يخلق ليموت، وكيف يموت وهو مقدود من صخر الوجود؟
ما بيني وبين نفسي
ويقترح الأستاذ محمود غنيم أن يعني زكي مبارك بشرح صرائر زكي مبارك. وأجيب بأني أخاف من ذلك أشد الخوف، فما رجعت إلى نفسي مرةً إلى تهيبت اقتحام ما في شعابها من وعور وصخور وأشواك. وقد وقفت مرةً على ساحل النفس في ظلمات الليل فرأيتني عندها من الغرباء، وكيف لا أكون كذلك وأنا منها على بعد سحيق سحيق يُعدّ بالملايين من الأميال؟!
وقد حاولت الاقتراب من نفسي مرات كثيرة ولكن الخوف في كل مرة كان يشعرني بصدق الحكمة التي تقول: الرفيق قبل الطريق.
فأين الرفيق الذي أعتمد عليه في مواجهة لجج النفس وحولها عواصف وأنواء؟
الرفيق هو القارئ، ولكن أين القارئ الذي يفهم عنك ما تريد؟
كان لأسلافنا قراء، ولنا قراء، أما قراء الأسلاف فكانوا فئة قليلة تعد بالآحاد أو العشرات،(382/6)
وكان يندر جداً أن تصل إلى المئات، وكانت تلك الفئة القليلة هي عصارة العقلية العربية، فكان الكاتب أو الشاعر أو المؤلف يلقاها بلا تكلف ولا تصنع كما يلقي إخوانه الأصفياء، وكذلك كان الحال في أكثر الأمم الشرقية والغربية، ولهذا السبب وحده كانت الآداب القديمة أصدق وأروع، لأنها خلت من الزور والرياء
أما قرائنا فيعدون بالألوف وقد يصلون إلى الملايين، وفيهم الغبي والذكي والعدو والصديق، وفيهم من يطيب له أن يحمل أقوالك غرائب التفاسير والتأويل، فمن حدثك من كتاب هذا العصر وشعرائه ومؤلفيه أن يصدق كل الصدق فيما يكتب وما ينظم وما يؤلف فهو خادع أو مخدوع، إلا أن يصنع مثل الذي أصنع في إيثار الرمز والإيماء
وإليك هذا الشاهد الطريف:
في وزارة. . . موظف أديب هو الأستاذ فلان حفظه الله، ومن هذا الموظف الأديب علمت وعلم جمهور من الأدباء أن مطبعة الرسالة نقلت إلى المنصورة، ولن ترد إلى القاهرة إلا بعد انتهاء الحرب. فهل تعرف كيف أستقي ذلك الموظف (الأديب) هذا الخبر (الصحيح)؟
استقاه من (خواطر مهاجر) التي ينشرها أخونا الزيات في الرسالة من وقت إلى وقت كلما بدا له أن يسجل مشاهداته عن أهالي الريف وقد أنتقل إليهم للترويح عن النفس في أيام الصيف، وسيرجع إلى القاهرة مع هلال شوال
ولو كان هذا (الأديب) أديباً لعرف أن نقل مطبعة الرسالة من القاهرة إلى المنصورة عسير لأسباب كثيرة أيسرها تكاليف ذلك النقل، لأن نقل مطبعة مثل مطبعة الرسالة من مدينة إلى مدينة يتكلف نفقات لا تغيب عن ذهن ذلك الأديب
وما دام الحديث ذا شجون فأنا أذكر ما قصه علينا المرحوم (أبو شادي بك) في إحدى خطبه بالأزهر أيام الثورة المصرية سنة 1919؛ قال الخطيب رحمة الله:
(أردت أن أعرف إلى أي حد تجوز الخرافات على الناس فقلت صباح الأمس وأنا راكب بالترام إن الألمان قد أتوا بالأعاجيب في العالم الاختراع، ومن ذلك أنهم حفروا بئراً في المنطاد زِبلنْ لتغنيهم عن حمل الماء في الأسفار الطوال، فلما كان المساء رأيت الناس يتحدثون عن ذلك الأختراع في إحدى القهوات)
ذلك ما قصه علينا أبو شادي بك، فهل أستطيع القول بأني أعاني من بعض القراء لواعج(382/7)
هي أشد وقعاً من ذلك القصص الغريب؟
تصل إلى من يوم إلى يوم رسائل أفهم منها أن في القراء من يحرف كلامي أبشع التحريف، وهم في الواقع على حق، لأن مذهبي في الأدب يقوم على أصول من الرمز والإيماء، ولكن لا مفر من التصريح بجزعي من هذا المصير المخيف، فقد كنت أتوهم أني فررت من جماهير العوام حين تحصنت بمجلة الرسالة وقرائها خواص، لأنهم في الأغلب من الصفوة المختارة بين أبناء هذا الجيل، فإلى أين أفر إذا كان في أمثال هؤلاء القراء من ينتظر أن أقدم إليه كلاماً في وضوح الكلام الذي يقدم إلى قراء الجرائد اليومية؟
وهل قلت الرقابات حتى نحسب حساباً لرقابة القراء، وهم فيما تفترض أخوان أصفياء؟
حولنا رقابة المنافسين (وهم أكثر من الهم على القلب)؛ وحولنا رقابة المتجاهلين، ورقابة المتعالمين؛ وحولنا رقابة عنيفة جداً هي رقابة أعداء الأدب الصريح. وليس لنا أصدقاء غير القراء، فهل نيأس أيضاً من القراء؟
وإلى من نتوجه إذا يأسنا من قرائتنا، وإليهم نبث نجوانا بعبارات هي نجوى الحبيب إلى الحبيب في محضر الرقباء؟
ومن موجبات الأسى أني لا أستطيع السكوت بحال من الأحوال، ولا يمر يوم واحد بدون أن أخلو إلى قلمي ساعةً أو ساعتين، ولو كان أخوناً الزيات ينشر كل ما أقدم إليه لظفر الأدب بألوان كثيرة من الحلم والجهل واليقين والارتياب.
ولكن الزيات يرى أنه أعقل مني، وأنه يعرف من العواقب ما لا أعرف، وبذلك يستبيح التغافل عن بعض ما أكتب في بعض الأحايين، وهو يعرف كيف يوشي ذلك التغافل يوشي الترفق والتلطف، كما كان يصنع سعادة عبد القادر حمزة باشا يوم كان يهذب ما أرسل إليه من المقالات الجوامح وأنا في باريس
وفي ظلال الرقابة التي يفرضها المجتمع ويفرضها القراء الأوفياء يراد منا أن نصدق كل الصدق في جميع الظروف، فهل رأيتم مثل هذا التحكم العنيف؟!
وأنا مع ذلك سأنتقم - وقد انتقمت - من أهل زماني. سأتركهم في بلبلة فكرية لا تنجيهم من أهوالها صَفارة الأمان. سأتركهم في حيرة أقصى وأعنف من حيرتي حين أهم بمواجهة نفسي، ولن أموت إلا وقد أوقدت في صدر كل قارئ جذوة لا تخمد ولا تبيت. وتلك هي(382/8)
رسالتي الأدبية، فأنا موكل بتأريق الجفون وتأريث النفوس، ولن يرى مني الناس غير ما يروع ويوهل، فقد ابتلهم المقادير بقلم يقترب إلى الله لتوزيع الروع والهول على الأغنياء الآمنين!
أمثلي يُجزى بمثل الذي أتلقاه من بعض الناس من يوم إلى يوم، وما كنت في كل أدوار حياتي إلا نموذجاً من الصدق والأمانة والإخلاص؟
لبعض الناس الويل، وما أحب أزيد!
طلعت حرب
أخرج الأديب مصطفى كامل الفلكي كتاباً نفسياً عن طلعت حرب باشا، وهو كتاب يسجل أعمال ذلك الرجل العظيم في الميادين الاقتصادية بنزاهة وصدق. وهل يكذب الباحث حين يضيف ألوف الصفات الجميلة بلا تحقيق إلى طلعت حرب؟ أن كلمة (بطل الاستقلال الاقتصادي) هي أصغر كلمة يوصف بها ذلك المصلح الهائل الذي استطاع بالصبر والصدق والمثابرة أن يروض المصريين على الثقة بأنفسهم في ميادين الجد والكفاح والنضال. ولو أن طلعت حرب ظهر في ظروف غير هذه الظروف لكتب عنه الباحثون ألف كتاب، فهو أهل لكل تكريم وإعزاز وإجلال. وقد ينسى الشعب المصري كثيراً من الأسماء اللوامع، ولكنه لن ينسى أسم طلعت حرب، لأن أسم هذا الرجل أعظم وأخطر من أن يجوز عليه النسيان
كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي عن طلعت حرب كتاب نفيس، وهو يمثِّل حرص الشباب على تأثر خطوات ذلك الزعيم الحصيف، ولكن ذلك الكتاب لا يصور من طلعت حرب إلا ناحية واحدة هي الناحية الأقتصادية، وإلا فأين طلعت حرب الأديب والمفكر والمصلح الذي كانت له مواقف في مخاصمة قاسم أمين والاهتمام بمصير قناة السويس؟
وهل صور هذا الكتاب جهود طلعت حرب في إنهاض (الجمعية الخيرية الإسلامية)؟
هل صور هذا الكتاب جهاد طلعت حرب في إعزاز الشخصية الأدبية؟
أن كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي على نفاسته قد أغفل هذه الجوانب، فهل يعود إلى ترجمة طلعت حرب من جديد لنعرف كيف يصير الأديب رجل عمل واقتصاد؟
هنا المشكلة الحقيقية وهي درس الصلة بين الأدب والمعاش، فأين من يفهمنا كيف صار(382/9)
طلعت حرب الأديب طلعت حرب الاقتصادي؟ وأين من يفهمنا كيف جاز أن ينتقل الرجل من نقد الألفاظ إلى نقد الأموال؟
زكي مبارك(382/10)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
أثر العوامل الأدبية المقصودة: التجديد في اللغة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تبدو حركة التجديد المقصود في مظاهر كثيرة من أكبرها أثراً في التطور اللغوي الأمور الآتية:
1 - تأثر الأدباء والكتاب بأساليب اللغات الأجنبية، واقتباسهم أو ترجمتهم لمفرادتها أو مصطلاحاتها، وانتفاعهم بأفكار أهلها وإنتاجهم الأدبي والعلمي. فلا يخفى ما لهذا كله من أثر بليغ في نهضة لغة الكتابة وتهذيبها وأتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر. فأكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في عصر بني العباس يرجع إلى انتفاع العلماء والأدباء باللغتين: الفارسية والإغريقية. فقد أخذوا في ذلك العصر يترجمون آثارهما، ويعقبون عليهما بالشرح والتعليق، ويستغلونهما في بحوثهم، ويحاكون أساليبهما، ويقتبسون منهما عدداً كبيراً من المفردات العلمية وغيرها، ويمزجونها بمفردات لغتهم عن طريق تعريبها تارة وعن طريق ترجمتها تارة أخرى؛ فأتسع بذلك متن اللغة العربية، وأزدادت مرونة وقدرة على تدوين الآداب والعلوم. ويرجع كذلك أكبر قسط من الفضل في نهضة اللغة العربية في العصر الحاضر إلى انتفاع الصحفيين والأدباء والعلماء باللغات الأوربية الحديثة، ومحاكاتهم لأساليبها وتعريبهم أو ترجمتهم لألفاظها ومصطلحاتها، واستغلالهم في مؤلفاتهم ومترجماتهم لمنتجات أهلها في شتى ميادين الحركة الفكرية. ولغة الكتابة بفرنسا في العصر الحاضر مدينة بأهم نواحي رقيها إلى تأثرها باللغتين الإغريقية واللاتينية من جهة، وباللغات الأوربية الحديثة من جهة أخرى. فمنذ (عصر النهضة) لم ينفك أدباء فرنسا وعلماؤها دائبين على اقتباس المفردات اللاتينية واليونانية القديمة، ومحاكاة أساليب هاتين اللغتين، وترسم قواعدهما ومناهجها في البحث وقد أخذوا منذ عهد بعيد يقتبسون كثيراً من المفردات(382/11)
والأساليب عن اللغات الأوربية الحديثة وخاصة الإنجليزية والألمانية؛ ولولا آلاف المفردات التي أقتبسها المحدثون من أدباء ألمانيا وعلمائها من اللغة اللاتينية وما تفرع عنها ومن اللغات الأوربية الحديثة، وبخاصة الفرنسية والإنجليزية، ما قويت لغة الكتابة بألمانيا على أن تصل إلى الشأو الذي بلغته الآن. . . ومثل هذا يقال في معظم لغات الكتابة في العصر الحاضر
وكثيراً ما تقتبس لغة الكتابة عن اللغات الأخرى بمفردات لها نظير متنها الأصلي. وكثيراً ما تقتبس مفرداً من لغة، وتقتبس نظيره في الدلالة عن لغة أخرى. وإلى هذه الظاهر وما إليها يرجع السبب في كثرة الألفاظ المترادفة (المشترك المعنوي) في لغات الكتابة. فما يذهب إليه بعضهم من أن الترادف بالمعنى الكامل لهذه الكلمة لا وجود له في اللغات ليس صحيحاً إلا فيما يتعلق ببعض لغات المحادثة التي تظل بمأمن من الاحتكاك باللغات الأخرى. أما لغات الكتابة التي يستحيل بقاؤها بمعزل عن غيرها، ولغات المحادثة التي يتاح لها هذا الاحتكاك، فلا تخلو من الترادف بالمعنى الصحيح للسبب الذي ذكرناه
2 - إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في استخدام كلمات غريبة أوفى الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً
وبكثرة الاستعمال تبعث هذه المفردات خلقاً جديداً، ويزول ما فيها من غرابة، وتندمج في المتداول المألوف. ولا يخفى ما لذلك من أثر في نهضة لغة الكتابة واتساع متنها وزيادة قدرتها على التعبير. وقد سار على هذه الوتيرة بمصر في العصر الحاضر كثير من الأدباء والعلماء والصحفيين، فردوا بذلك إلى اللغة العربية جزءاً كبيراً من ثروتها المفقودة، وكشفوا عن عدة نواح من كنوزها المدفونة في أجداث المعجمات
3 - خلق الأدباء والعلماء لألفاظ جديدة. فكثيراً ما يلجئون إلى ذلك للتعبير عن أمور لا يجدون في مفردات اللغة المستعملة، ولا في مفرداتها الدائرة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقا. ً وقد لا يضطرهم إلى ذلك إلا مجرد الرغبة في الابتداع أو مجانبة الألفاظ المتداولة المألوفة، أو إبراز المعنى في صورة رائعة وتثبيته في الأذهان وتذليل سبل انتشاره بالإغراب في تسميته. وقد عم استخدام هذه الطريقة في الأمم الأوربية منذ القرن التاسع عشر، وكثر(382/12)
التجاء الأدباء والعلماء إليها بنوع خاص في تسمية المستحدث من المخترعات الصناعية، والمصطلحات العلمية والأحزاب والمبادئ السياسية والاجتماعية، وفي التعبير عن بعض معان دقيقة في عالم الأدب والفلسفة، فناءت مؤلفاتهم بهذه الكلمات المصنوعة وتألف منها معظم المصطلحات في الفلسفة وعلم النفس والعلوم الطبيعية والطب والصيدلة. . . وما إلى ذلك، وصبغ معظم هذه المصطلحات بصبغة دولية، فأقرته المؤتمرات والهيئات العلمية الممثلة لمختلف الأمم الأوربية وعم استخدامها في لغاتها (تلغراف، تليفون، سوسيولوجيا، جيولوجيا. . . الخ)، وقد أجاز المجمع اللغوي بمصر الالتجاء إلى هذه الطريقة حيث تدعو إلى ذلك ضرورة، بألا يوجد في مفردات اللغة متداولها ومهجورها ما يعبر تعبيراً دقيقاً عن الاصطلاح المراد التعبير عنه
ولا يخفى ما لهذه الوسيلة من أثر في نهضة لغة الكتابة، واتساع متنها ودقة مصطلحاتها وزيادة مرونتها وقدرتها على التعبير وقد أرتضى الأدباء والعلماء بعض قواعد عامة في وضع هذه الألفاظ، ويستعينون عادة في تكوينها بالنحت والاشتقاق الأكبر ومزج كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة. ويستمدون أصولها من اللغات الحية أو الميتة، وخاصة اللاتينية واليونانية القديمة. وكثيراً ما يستعان في تكوينها بأكثر من لغة واحدة. فمن هذه المفردات ما هو مؤلف من لغتين (سوسيولوجيا) أي علم الاجتماع: فصدر الكلمة (سوسيو) من أصل لاتيني معناه الجمعية، وعجزها (لوجيا) من أصل يوناني معناه المقال أو البحث أو الخطبة , بل منها ما هو مؤلف من ثلاث (بيسيكلت) أي الدراجة، فإن (بي) من أصل لاتيني يدل على التثنية، و (سيكل) من أصل يوناني معناه الدائرة، وعجز الكلمة علامة فرنسية للتصغير , ,
وقوام هذه المفردات هو التواضع والاصطلاح. ولذلك كثيراً ما تختلف معانيها اختلافاً يسيراً أو كبيراً عن معاني الأصول التي استمدت منها
ولا تبقى هذه الألفاظ جامدة على الحالة التي وضعت عليها، بل ينالها ما ينال غيرها من المفردات، وتخضع في تطورها الصوتي والدلالي لنفس القوانين العامة التي تخضع لها الألفاظ الأصلية؛ فبمجرد أن يقذف بها في التداول اللغوي، وتتناقلها الألسنة، تفلت من إرادة مخترعيها وتخضع لنواميس الارتقاء العامة المسيطرة على ظواهر الصوت والدلالة.(382/13)
فاللفظ الموضوع أشبه شيء بحجر يقذف به القاذف في جهة معينة بقوة خاصة؛ فإنه بمجرد أن يفارق يده يخضع في سيره لقوانين ثابتة صارمة لا يد للقاذف ولا لغيره في تعطيلها أو وقف آثارها. ولذلك يختلف الآن النطق بالألفاظ الموضوعة، ويختلف رسمها باختلاف الأمم واللغات. والأسلوب الصوتي الذي كانت تلفظ به منذ قرن أو قرنين مثلاً غير الأسلوب الصوتي الذي تلفظ به الآن. وقد أخذ كثير منها عند جميع الكتاب أو عند بعضهم ينحرف في دلالته نفسها عن المعنى الذي له في الأصل
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(382/14)
من رسائل الصيف
النيل المنتصر
للأستاذ عبد الحميد يونس
أخي إبراهيم:
. . . وشاءت الأقدار أن تحول بيننا وبين اللقاء فوق تلك الصخرة الناتئة في البحر عند سيدي بشر، التي يعرفها الناس باسم صخرة (بئر مسعود). . . وكنا قد تعودنا اللقاء عندها كل صيف، ولعلك لم تنس بعد ما كان لنا هناك من مجلس وما دار بيننا من حديث
ألم يكن يهولنا البحر الذي رأيناه كائناً حياً يفيض بالمشاعر ويزخر بالأحاسيس؟ أما عجبنا من بغضه للقراءة وعداوته للأوراق مما يحجب الإنسان عن الاتصال به والغناء فيه؟ وكم من مرة اختطفت نسائمه، وما عرف عنها من فضول، الصحف من أيدينا، فما رددنا ذلك - لفرط افتتاننا به وقتذاك - إلى الجهل، وإنما رددناه إلى اختلافنا وهذا البحر في النظرة والاتجاه، فنحن قد عكفنا على القراءة عكوفنا على لفائف التبغ إنفاقاً لجهد محتبس وتزجيه لفراغ طويل، وفراراً من العقل والقلب جميعاً!
ألم نكن نأخذ على هذا البحر ولوعه بالجمال وكلفه بالحسن، لا يبالي في ذلك احتشاماً ولا يحفل بتقليد؟ ألم ننتقد فيه تلك الإباحية التي تدفعه إلى إيثار العري أو ما يشبه العري، ولا نأبه لدفاعه على ألسنة أمواجه المدمدمة ورياحه المصفقة، بأن التخفي والتستر ضرب من النفاق يجب أن يزول؟
ألم تكن تلمح فيه بنوع خاص عزوفه عن تكلف الزينة التي أصبح الناس يحذقونها إلى حد جعل السواد الأعظم منهم لا يفرق بين الطبيعة والصناعة في قليل أو كثير، بل حتى وأصبح الفن لوناً من التزييف المحكم الدقيق؟
ألم نلاحظ في ذوق هذا الهمجي توحيده بين الجمال والقوة، أو على الأقل تقريبه بينهما، ثم تفرقته بين الجمال والجنس حتى لكأنه يوناني النزعة في تفضيل الذكور على الإناث في النوع الإنساني. . .؟
لقد سرنا أيها الصديق شوطاً بعيداً في محاولة الكشف عن شخصية هذا الكائن المهوب ودراسة نوازعه ومعرفة أهوائه. ومن يدري فربما كنا نكسب عليه شعاعاً من نفوسنا نحن،(382/15)
ونلقي عليه قبساً من نوازعنا نحن، وأهوائنا نحن؛ والإنسان يضفيُ من مشاعره على كل ما يحيط به، ينطق الصخور الصم الجلاميد بالشعر، ويرسل الحكمة على الألسنة الرياح المختلطة الأصداء والنغم. . . وإلا فكيف غاب عنا ما في هذا البحر من غدر وبطش وفتون؟. . .
واليوم لا مجلس لنا عند تلك الصخرة العاتية، ولا سمر ولا حديث! أين المظلة المنعزلة عن أخواتها لأن أصحابها زعموا لأنفسهم أنهم أكثر اتصالا في الطبيعة وأقوى شعوراً بالجمال؟ وأين جنيات البحر اللاتي لم يكن يراهن سوانا ونحن ينشرن أجنحتهن على صفحة الماء بالألوان السبعة التي تتفرق وتتداخل حتى يرد عنها البصر وهو حسير؟ أين بنات (ليليت) وهن يرقصن في نشوة وجنون على موسيقى الأمواج والرياح الزاعقة؟ أين. . . أين؟
ولست أدري ماذا فعلت أنت في هذا الصيف. أما أنا فقد أستعظت عن البحر بالنيل، ولم يكن مجلسي منه على صخرة ناتئة صلبة إسفنجية السطح كصخرة بئر مسعود، وإنما كان حيث ما يلذ لي أن أجلس على شاطئه السخي الحنون. وما من مرةٍ خلوت إليه إلا ذكرتك. ترى لو كنت معي في هذه اللحظات التي لا تقاس بالأعمار، أكنت تشاركني في الإعجاب به؟. . أنه أسمر الطلعة، ولكنه واضح الجبين، تلتقي فيه الحكمة والشعر. أنه لا يحس الجمال فحسب، ولكنه يخلقه خلقاً ويبدعه إبداعا؛ ثم هو لفرط شعوره بالقدرة يعبد خالق القدرة وينفق جانباً كبيراً من وقته في التسبيح والترتيل والصلاة!
في كل بقعة من واديه حياة، وفي كل ناحية من أنحائه حب، وفي كل ركن من أركانه معبد للجميل الذي يحب الجمال. . .
ولا عيب فيه إلا حلاوة في طبعه، ودماثة في خلقه، ورحابة في صدره، يراها الأغرار مظهراً من مظاهر ضعفه مع أنها سمة من سمات قوته، وشارة من شارات اعتزازه بنفسه صيانة لها عن إدعاء القوة في معترك لا شبيه له فيه ولا قريب. . .
النيل يبذل في غير تبذير، ويأخذ في غير اغتصاب دائم الصداقة، دائم الإحسان، معتدل في حالتيه بين البسط والقبض، لا تهاون فيه ولا غفلة ولا طيش. . .
النيل خلاق ولود فيه من الأبوة ميل إلى البناء والتعمير واختزان التجاريب على الأيام(382/16)
والعصور. . .
أتذكر أيها الصديق كتاب طبقات الأرض الذي شقينا بدراسته أيام الحداثة والذي كنا نعتبره إذ ذاك أنجع دواء للأرق! أنت تذكره ولا شك، ولكنك لن تصدق أنني مشوق إلى قراءته من جديد! أنه الكتاب الذي فتح عيني على سر العظمة في هذا الملك العظيم. . . ألم تقرأ فيه أن البحر كان يبسط سلطانه القاهر إلى الصعيد؟ فمن الذي رده إلى حيث هو اليوم، ومن الذي سيرده إلى أبعد من هذا غداً؟
قل لهؤلاء الذين ظنوا به الهرم: لقد جهلتم طبيعته واستخفكم هدوءه. . . إنه يحتمل ويحتمل، ولكنه لا يصبر طويلاً على الأذى. إنه يأخذ من الجبل الأشم ويبسط جناحيه على الصحراء الجافية ويطأ البحر بقدميه الثابتتين في أناة وبطؤ وعزم!
قد يستعدي البحر قبضات من رمال الصحراء عليه تستدرجها أمواجه ثم تقذفها عليه، وقد يرسل البحر رياحه تدفع الكثبان للإغارة عليه، ولكنه يهضمها فيما يهضم ويحيلها مادة من مواده وكتيبة من كتائبه، وما أندر ما عسر هضمه على معدته القوية الجبارة، إنه يلفظه إلى حيث لا يمكن أن يعود
تعال أيها الصديق أنظر إلى عرائس حقوله بعيونهن العسلية التي تفيض بالوداعة والبشر والإيناس. إنهن يتحدثن في همس، ويتحركن في لين وخفة، يزيد شغفك بهن كلما سترن محاسبتهن تحت الشفوف ذوات الألوان الثابتة، وإذا رقصن أعدن عليك مشاهد الصلاة القديمة التي كان يمتزج فيها الفن بالعبادة
فتننا البحر كما فتن غيرنا لأن الإنسان يكلف بما ليس في طبيعته. إننا ذرات صغيرة من هذا النيل، وأنا في هذه الأيام السود أشعر بقوة هذا الامتزاج حتى لكان هذا النيل يسعى على قدمين
إنه يتأهب لوقعة حاسمة سينتصر فيها كما أنتصر دائماً، ولن يبذل في سبيل ذلك إلا ذرات صغيرة، وأن تكن عزيزة عليه، وما أسعدني يوم يضمني إليها حين يدعو إلى التضحية والفداء
(طبق الأصل)
(حمدي)(382/17)
تاريخ مصر ونهضتها القومية
للأستاذ عبد المجيد نافع
في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين أثارت طائفة من فلاسفة الغرب وعلمائه وكتابه، حملة شعواء ظالمة على التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية، وبلغت تلك الحملة أشدها حين طغت موجة العلوم العلمية على العلوم النظرية، وجرف تيار الروح المادي كافة المثل العليا التي تغنت بها الإنسانية طوال السنين أو كاد، وأسرف بعض الفلاسفة في توجيه النقد فنادى بأن التاريخ لا يعدو أن يكون (مجموعة أكاذيب) لا ينبغي للشعوب أن تشغل أذهانها بها، ولا يحل في شريعة التربية الوطنية أن نسمم عقول النشء بحشوها في ثناياها؛ وأبى بعض أولئك الفلاسفة أن يسمو بالتاريخ إلى مرتبة العلم الجدير باسم علم، إذ لم تكن له المبادئ الثابتة والمقاييس والضوابط والحقائق التي تنطوي عليها علوم الرياضة والهندسة والفلك وما إليها من العلوم المضبوطة، وإن من ضياع الوقت الضرب في مجاهل التاريخ بدل الإلمام بالكيمياء
والميكانيكا والجيولوجيا والبيلوجيا والفزيولوجيا وغيرها من العلوم العلمية. وذهب بعضهم إلى حد القول بأن الذي جنى على الحضارة الإنسانية شر الجنايات إنما هو التعلق بالخيالات، واطراح الحقائق العلمية ظهرياً ونعي أحدهم على التربية في عصره العناية بالنظريات، والتنكر للحقائق العملية إلى حد أن يجهل الناشئ جهلاً مطبقاً أعضاء جسمه، على حين أنه يلقى عن ظهر غيب تاريخ ميلاد الملوك ووفياتهم وحروبهم، ولو لم يكن لأولئك الملوك أثر بارز في التاريخ، ولو لم تغير معاركهم الحربية مجراه في كثير أو قليل، كأنما التاريخ بات ثبتاً بمواليد الملوك ووفياتهم، وقائمة حمراء بالمعارك الدموية! وعلى الجملة فقد قام أولئك العلماء ينشدون (الإنسان الآلي) ويضلون عن الإنسان المركب من جسم وروح وعقل!
كان يمكن أن ترجح وجهة نظر دُعاة المذهب المادي لو أن التربية إنما تعني بالجسم والعقل دون الروح، ولكن التربية الحقة في ضوء العلوم النفسية، وعلى هدى التجارب التي تمليها نهضات الشعوب، ينبغي لها أن تعني بالجسم ثم بالروح ثم بالعقل، بحيث يحصل التوازن فلا تطغى قوة على أخرى والإنسان تسوقه العاطفة أكثر مما يسوقه العقل.(382/19)
والعواطف الملتهبة الجياشة التي تبلغ حرارة اليقين وغليان الإيمان، وتترفع إلى الرضا بالاستشهاد في سبيل ما يعتقد المجاهدون أنه الحق، هي التي غيرت وتغير وجه التاريخ، لا برودة العقل والبحث العلمي المجرد. والأمم في جريها وراء تحقيق المثل العليا تشعر في أعماق نفسها بقوة تحفزها للنهضة والتقدم إلى الأمام. وما كان لحفنة من العرب أن يخرجوا من جزيرتهم الجرداء القاحلة غير مزودين بعدة أو عدد، أن يهدموا إمبراطوريتي الرومان والفرس ويقيموا على أنقاضهما الإمبراطورية العربية الضخمة، وينشئوا الحضارة الإسلامية، وهي أبقى على الزمن الباقي من الزمن، لولا الإيمان الذي يغمر قلوبهم، واليقين الذي يدفعهم إلى تحقيق مثلهم الأعلى
وفي الحروب أفلا تراهم يتحدثون عن الروح المعنوية، وأنها هي التي ترجح كفة النصر. ثم ألا ترى أن الدعاية القوية هي التي تقود خطوات الشعوب. ولعله لا يكون من الإسراف أن نحمل طائفة من مؤرخي الألمان وفلاسفتهم وعلمائهم النصيب الأكبر في تبعات الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت في حربين لم تكد تخبو نار أحدهما حتى تأججت نيران الأخرى أشد ما تكون ضراماً في فترة واحد وعشرين عاماً، ولا يعلم إلا الله ماذا تلتهم ومتى تخمد! ومن ذا يستطيع أن ينكر أن تريتشكه ونيتشه يساهمان بنصيب كبير في الروح الحربية الروسية، وأن عقول وأقلام راتينا وكيزرلنج وتوماس مان وشبنجلر ومولر فإن دن بروك وفيدر وروزنبرح وغيرهم من غلاة المذاهب الفلسفية المتطرفة هي التي صاغت ألمانيا النازية التي تتحدى اليوم العالم بمن فيه وما فيه! لقد نفخ هؤلاء وأولئك في روح الألمان أنهم من طينة كثير من الأمم، وأنهم خلقوا للتسلط والسيادة، وأن الحرب إنما هي صدام بين إراديتين، وإنما يعقد النصر بلواء الأقوى فيهما وأنه لابد لألمانيا من أن تصفي حسابها مع الغرب، أن لم يكن اليوم فغداً، ليتسع لها المجال الحيوي، ولتأخذ مكانها في الشمس، ولتأخذ مكانها من سيادة العالم، وتطالع الدنيا بنظام جديد ينهض على القوة والرقي بدل النظام الذي كان يقوم على الضعف والانحلال!
إنما تنكر بعض الفلاسفة والعلماء للتاريخ وأكبروا أن يرتفعوا به إلى مرتبة العلم، لأنه كان قائماً على مجرد سرد الوقائع وذكر الأرقام، وليس هذا من التاريخ في شيء. فإذا اصطبغ بصبغة الأدب فهو أدنى إلى القصص التاريخي منه إلى التاريخ الحق. إنما المؤرخ الجدير(382/20)
بهذا اللقب، هو الذي يعتبر المجتمع الإنساني مثل الجسم الإنساني يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر من عوامل التطور، ودواعي الصحة والمرض، والقوة والضعف؛ ويساير الأمة منذ نشأتها، ويدرس البيئة وما يحيط بها من عوامل مؤثرة، ويحلل المؤثرات التي تنتاب الشعوب، ويعلل الظواهر الاجتماعية، ويلقي شيئاً من الضوء على ما أبهم في حياة الأمم ويضيء الجوانب المظلمة في التاريخ الإنساني، ويجلو الغامض في المسائل التاريخية التي أحدثت الانقلابات أو جرت إلى التحول والانتقال، ويطالعنا كيف ارتفعت بعض الأمم إلى الذروة، ثم هوت إلى الحضيض، وعلى الجملة يكون في تحليله وتعليله مثل العالم في معمله، والفلكي في مرصده
توفرت على دراسة كتاب (مصر القديمة) للعالم الأثري الكبير الدكتور سليم بك حسن، فأوحى إلي فيما أوحى بتلك الخواطر جميعاً. والحق أنه جعل التاريخ المصري القديم مادة حية تغذى نهضتنا الحديثة الغذاء الروحي والعلمي والعقلي الصالح، ووصل ما أنقطع بين مصر العصرية ومصر القديمة
لقد ظل تاريخنا القديم السنين الطوال حرماً مقدساً لا يغشاه إلا الغربيون، وكنا إذا شئنا أن نجيل الطرف في مجدنا التليد عمدنا إلى مصنفات الفرنج نقلب صفحاتها، ومن لم يكن ملماً بلغة أجنبية ضرب بينه وبين تاريخ بلاده حجاب، وكنا إذا أردنا أن نرتوي من عظات الماضي نهلنا من موارد الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان، فأكبر عالمنا الجليل أن تظل تلك الوصمة عالقة بنهضتنا، وهذه الشائبة، تشوب صحيفة ثقافتنا، وذلك النقص يعتور حضارتنا، فأقبل يستلهم الآثار النقوش، ويستهدي المحاجر والمقابر، ويبحث وينقب، ويبوب ويرتب، ويتابع، ويراجع ما كتبه الفرنج وغير الفرنج، ويساير البيئة المصرية منذ نشأتها ويرقب تطورها وتحولها، ويراقب العوامل التي أثرت فيها والملابسات التي أحاطت بها، ويرقب النتائج على المقدمات، ويفصل بين أصدق الآراء في معترك الآراء ويجلو الغامض والمبهم، ويمزح علم التاريخ بعلم الاجتماع، ويقدم من مجد الماضي مادة لتغذية الوطنية المصرية المتوثبة، ويكشف عن مواطن الأدواء التي انحدرت إلينا من الماضي السحيق، ويضع مشرطه على مكمن العلة في غير تهريج علمي، ولا نعرة وطنية كاذبة، بل في تواضع العلماء، فوفق إلى إبراز التاريخ المصري في حلة قشيبة يجدر بكل من(382/21)
شرب ماء النيل وأظته سماء مصر أن يرجع البصر في ذلك التاريخ الحي كرتين
لقد ساهم العالم الفرنسي الكبير شمبليون بقسط كبير في خدمة قضية المدنية والعلم حين كشف عن الكتابة الهيروغليفية المنقوشة على حجر رشيد؛ وما احسبني مسرفاً أو مغالياً حين أقرر أن الدكتور سليم حسن قد خدم النهضة المصرية بمؤلفه الجديدة أجل الخدمات
ولعلي لا أعد محلقاً في أجواء الخيال إذ أجاهر بأن لفنجستون وستانلي قد كشفا عن مجاهل أفريقيا فخدما العلم والحضارة، وأن عالمنا المصري قد كشف عن مجاهل التاريخ المصري فتوج النهضة الحديثة بأبهى التيجان وأغلاها
لم يكن التاريخ المصري غامضاً فحسب، بل كان لفرط تشابهه يبعث السأم في النفوس، فانصرف عنه الشبان الذين يؤثرون تغذية الروح على تغذية العقل. ولكن عالمنا قد نفخ فيه من روحه وأسبغ عليه من فيض حماسه، وأضفى عليه من وافر إخلاصه ما جعل النفوس التي على ظمأ تتشربه تشربا
على أنه قد عف عن التهويش العلمي، وتورع عن أن يجعل كتابه مصطبغاً بالصبغة الأدبية البحتة ليكون سائغاً للنفوس، بل جعله بين ذلك قواماً في أسلوب علمي هادئ وبحث أدبي رصين
إلى عهد غير بعيد كانت معرفة التاريخ المصري القديم تعتبر ضرباً من ضروب الترف العقلي ولوناً من ألوان الزينة العلمية، ولكن اليوم ونحن أمة تبتغي أن تأخذ مكانها بين الأمم الناهضة وتطمح لأن تساهم بنصيب في خدمة قضية الحضارة، ينبغي لنا أن نعد الإلمام بتاريخ وطننا ضرورة قومية
الكبرياء رذيلة للأفراد، ولكن الكبرياء القومي فضيلة اجتماعية للشعوب، والكبرياء القومي والعزة الوطنية لا يتوفران لشعب إلا إذا شعر شعوراً صادقاً وعميقاً بمكانة وطنه في الماضي والحاضر، وإذن فليس يكفي القومية المصرية أن تشهد نهضة حقة في الحاضر، وإنما ينبغي لها أن تعرف أن الأمة التي بلغت ذروة الحضارة في الماضي البعيد بينا كانت أمم الغرب لا تزال تأوي إلى المغاور والكهوف لهي أمة خليقة بأن تكون في طليعة الأمم المتحضرة
ما أحسب الذين يدينون بمبدأ العنصرية القائل بجعل الأجناس بعضها فوق بعض درجات(382/22)
إلا مريدين به أن يكون حافزاً لشعوبهم لتحقيق غاية التسلط والسيادة، ولنا أن نسأل: إذا كان المصري قد بلغ ذاك الشأو من الحضارة في الماضي فما الذي يقعد به عن أن يكون في مقدمة المتحضرين اليوم
ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن المدنيات نشأت أول ما نشأت في الأمم التي تتوافر فيها وسائل العيش وتسهل، في الأمم التي لا تكون الطبيعة فيها قاسية لا تعرف الرحمة، ولهذه الاعتبارات نشأت المدنيات في مصر وآشور والهند والصين، فلما أشتد ساعد الإنسان فوق الأرض، واستطاع مكافحة عوامل الطبيعة ومغالبتها انتقل مركز المدينة. ولكن الرد على تلك النظرية هين ميسر، فالذين بنوا الأهرام ونحتوا أبا الهول في الصخر، وضربوا في العلوم بسهم وافر، وأنشأوا النظم على اختلاف أنواعها، خليق بأبنائهم أن يأتوا في هذا العصر بالمعجزات
لقد كانت مصر القديمة مهبط وحي الأديان جميعاً. فالله، والروح، والبعث، والعقاب، كل أولئك قد اهتدى إليه آباؤنا المصريون. وأين نبتت فكرة الخلود إلا في الأرض المصرية؟ ولعله ليس من العجيب أن يؤلهوا ملوكهم، فعبادة البطولة كانت ولا تزال متأصلة في أعماق النفس البشرية
كان لأجدادنا المصريين حكومة منظمة بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى، يوم كان الغربيون يهيمون على وجوههم في الآجام، ويسكنون المغاور والكهوف، وكانت إدارة مصالح الحكومة تسير على أحسن وجه، وأكمل صورة، يوم كان الأوربيون لا يدركون حتى مدلول تلك الكلمة، وكانت لهم علوم وفنون، يوم كان غيرهم يعيشون على الفطرة
وآمن المصريون القدماء بأن العدل أساس الملك، فوضعوا التشريع المدني والجنائي، ونظموا الهيئات التي توزع العدالة بين الناس
وفطنوا إلى أن الثروة عنصر من عناصر قوة الأمم فاستغلوها على خير وجوه الاستغلال
وأدركوا أن عزة الشعوب ومنعتها في قوة جيوشها التي تحمي استقلالها وتصد المغيرين عن كيانها، وأن الحروب هي القانون القاسي الذي فرض على تلك الإنسانية البائسة، وأن السلام ليس إلا هدنة بين حربين، وأن الجار المتوثب لا يكبح جماحه إلا السلاح، أدرك المصريون كل أولئك فجيشوا الجيوش وغزوا البلاد وقلموا أظافر المعتدين(382/23)
وضعوا نظاماً صالحاً للأسرة إذ آمنوا بأنها الأساس الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي
وأحاطوا بكل عناصر المدنية، فأوغلوا في العلوم والفنون والآداب، ومازالت أثارهم تنادي بالتقدم الذي بلغوه يوم كان العالم لا يزال يضرب في ظلمات الجهالة
إذا كانت السياسة هي فن حكم الشعوب، فلا مندوحة لمن يطمح لحكم شعب أن يلم بعلم التاريخ عامةً وتاريخه خاصةً
وسط ضجيج الحرب عمل الدكتور سليم في صمت، فطالع الأمة بذاك الأثر الخالد، فما أجدى المصريين أن يجعلوه مصباحاً يضيء لهم طريق المجد والمدنية.
عبد المجيد نافع(382/24)
بعد الفاجعة
أماه. . .
للآنسة أمينة قطب
الثلاثاء 15 أكتوبر سنة 1940. . .
أماه. . .
أتراني أقوى الآن على أن أكتب شيئاً؟ يخيل إلي أني لا أستطيع، وأن استطعت فبضع كلمات لا تعبر عما في نفسي
لقد كنتِ القوة الغريبة التي لا تُشِع الحياة في عقولنا ونفوسنا، فنفكر ونحس، ونقوى على العمل. كنت الأمل الباسم الذي ينير لنا الحياة. كنت المصباح الهادي نسير على ضوئه غير مبالين ما يعترض طريقنا من صعاب
والآن ماذا فقدنا بفقدك يا أماه؟ لقد فقدنا كل شيء. فكفت عقولنا عن التفكير، وأظلمت نفوسنا، وخمدت فيها جذوة الحياة
كل هذا ولما يمضي أسبوع على غيبتك. فيكيف تمر بنا الأيام والسنون؟
هاهو ذا القمر الذي كنت أجلس إليه الساعات الطوال أتأمل في جماله وما يسبغه على الكون من جمال وسحر. هاهو ذا الآن يسطع أمامي ويملأ الكون نوراً، فماذا أرى فيه، أنه رقمه صفراء أو بيضاء لست أدري! لا توحي إلى النفس بشيء، بل تشوه الفضاء الواسع بلونها الباهت المريض. . . أي تبدل هذا الذي تم في نفسي خلال أسبوع؟. . . ويحيى ماذا أقول؟ أسبوع فقط؟ أني لأحس به سنين وأجيالا
آه ما أقسى الحياة، حين تموت في النفس الحياة!
أماه. . .
بربك تعالي وأعيدي إلينا الحياة. أن هذه الوحدة قاسية ومؤلمة. ولن نستطيع احتمالها أكثر من هذا الأسبوع! تعالي فلن نستطيع احتمالها السنين الطوال
أماه. . .
هل أطمع في تلبية ندائي؟ هل أطمع في عودتك يوماً من الأيام؟
الجمعة 18 أكتوبر. . .(382/25)
أمي. . .
أصحيح إنما مضى على رحيلك عنا هو تسعة أيام؟ إذا كيف تمر الشهور والسنون؟ تسعة أيام فقط تتبدل فيها نفسي هذا التبدل؟ أين نفسي الأولى المرحة المشرقة المتفتحة للحياة الخالقة للآمال؟ أين هي من هذه النفس الميتة الغائبة عن العالم وما فيه من آمال وأحلام، البعيدة عن كل ما في الكون من مباهج الحياة وجمال؟ أنها هاتين النفسين لتفصل إحداهما عن الأخرى سنون وأجيال!
لقد طرق سمعي من بعيد منذ لحظات صوت (أم كلثوم) في تلك الأغنية الحبيبة إلى نفسك التي كنت تطربين لها حين أغنيها لك. . . تنبهت فجأة وكأنني أحلم: أو مازال صوت (أم كلثوم) يردد في الأفاق ويسمعه الناس ويطربون له؟ أو مازال في الدنيا غناء؟!
أين أنا أذن وأين نفسي التي كانت تطرب للغناء؟ لقد جمعت شتات فكري على نغمات هذا الصوت، وأخذت أبحث عن نفسي التي كانت تسمع وتطرب، فوجدت أنها كانت هنا قبل تسعة أيام!
أمي. . .
يخيل إلي عندما أسمع صوتاً كنت أسمع أو أرى شيئاً كنت أرى هناك في المنزل الأخر قبل أن نرحل إلى هذا البيت. . . يخيل إلي أنني لو ذهبت إلى المنزل الأول لوجدتك هناك! وعند إذن أجلس إليك وأحدثك وأغني لك تلك الأغاني التي كنت تحبينها! أجل، يخيل إلي هذا فأصدقه وأعتزم الذهاب. ويومض في نفسي شعاع من الماضي الحبيب، ولكن سرعان ما يطفئه صوت الحقيقة المؤلم الحزين، وتعود نفسي إلى ظلامها وموتها
أمي. . .
هل أطيع ذلك الخيال مرةً وأذهب إلى المنزل الأخر؟ من يدري يا أماه، ربما أجدك وأجلس إليك ولو بضع لحظات؟!
أبنتك الحزينة
آنسة أمينة قطب(382/26)
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 2 -
المحاورة بين أفلاطون وأحد المربين الإنجليز. ولقد أسفرت
في المقالة السابقة عن أن التربية الإنجليزية إنما تعد الفرد
ليشترك في انتخاب الحكومة الديمقراطية التي يكونها الشعب
لخدمة الشعب، وليساهم في حكم الأمة، وتسيير شؤونها
الداخلية والخارجية. غير أن أفلاطون يتساءل كيف يتمكن
أفراد الشعب، بما هم عليه من تربية محدودة، وخبرة في
الحكم وسياسة ناقصة، أن يوجهوا سياسة الحكومة وأن يشرفوا
على نظام الحكم، فهذا التوجيه والأشراف لا يقوى عليه إلا
الفيلسوف. وكان آخر سؤال وجهه أفلاطون للمربي هو: لقد
كنت أنك تريد أن تكون فرص التربية والتعليم سواء لجميع
أفراد الشعب، فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله؟
المربي: المسألة مسألة مبدأ العدالة العامة التي تقضي بأن يتاح لكل أطفال المجتمع على السواء جميع الفرص الممكنة في التربية، لا فرق بين غني وفقير
أفلاطون: أي الفرص تعني؟
المربي: الفرص التي تمكن الطفل من تنمية مواهبه وقواه الطبيعية إلى أقصى حد ممكن.(382/27)
الفرص التي تفسح له طريق التعليم الجامعي أن كان عنده الاستعداد العقلي لذلك
أفلاطون: واضح كل هذا. أنت تريد تعطي كل فرد في المجتمع مجالاً ليتعلم، وليتخذ المهنة التي يصلح لها بمواهبه الفطرية، وتقصر التعليم الجامعي على ذوي الاستعداد العقلي، والذين يمكنهم الإفادة منه؟
المربي: أجل هذه هي غايتنا. وقد استطعنا - بوضع هذه الغاية نصب أعيننا - أن نبني نظام التربية في بلادنا على شكل هرمي؛ يكون التعليم الأولى قاعدته؛ وعليها يرتكز التعليم الثانوي، أما التعليم الجامعي العالي فيكون القمة
أفلاطون: وهل تُعُدُّون الذين لم ينالوا التعليم الجامعي كاملي التربية؟
المربي: لا أظن ذلك
أفلاطون: فكيف إذا يجوز لكم أن تخولوا هذا الذي لم يُتْمم التعليم الجامعي أن ينتخب الممثل النيابي، وأن يكون له رأي في شئون الأمة وسياستها، على حين أنك أنت تقرر أنه غير قادر على ذلك؟ فإذا كان السواد الأعظم من النشء لا يعدو مرحلة التعليم الأولي والثانوي، ولا ينال أي حظٍ من التعليم الجامعي فإنه من البين أن هذا الشعب الذي يمثله سواده الأعظم يجب ألا يتحمل أمانة الحكم الثقيلة ويجب أن يترك سلطة الحكم والسياسة في أيدي من ينجحون بتفوق في الامتحانات الجامعية من الرجال والنساء
المربي: حقاً إن هذا لصحيح من الناحية النظرية، غير أنا - معشر الإنجليز - لا نعتقد أن الدرجات العلمية والجامعية هي المؤهلات الوحيدة لتحمل أمانة الحكم وتبعة السياسة. والواقع أننا نجد معظم الجامعيين من الأساتذة والعلماء على نصيب قليل من الدربة السياسية، والدراية بطرق الحكم، إذا قسناهم بهؤلاء الذين تخرجوا في جامعة الحياة اليومية
أفلاطون: إذا كنتم تعتقدون في جامعة الحياة اليومية وإعدادها، فلماذا إذا أسستم الجامعات، ولم تتركوا الأمر للعناية السماوية أو لظروف الحياة (أيهما تختار) لإعداد حكامكم وتكوينهم؟ وإذا كنتم لا تعتقدون أن التربية تستطيع أن تنشئ الفرد وتسويه وتخلق منه شخصاً آخر أصلح من ذي قبل لمهنته في الحياة، سواء أكانت الصِّرافة أم التجارة أم الحكم، إذا كنتم لا تعتقدون هذا فنصيحتي لكم أن تضربوا بمشروعات التربية عرض الحائط، وأن تتركوا الأمر لظروف الحياة والقدر(382/28)
المربي: يظهر أنه من المستحيل على أن أبحث أمور التربية مع رجل مثلك يضحي بأية فكرة في سبيل صحة القضايا المنطقية. إن نظام التربية عندنا في إنجلترا ليس منطقياً، لأنه نما نمواً تاريخياً على أسس رسخ أصلها في الماضي. فهو مملوء بالمتناقضات والغموض، لا لسبب إلا لأنه نشأ وتطور بحسب الحاجة والمناسبات المختلفة المعقدة. فليس نظام التربية عندنا من صنع أفراد مستبدين
أفلاطون: إن ما تقول لجائز. ولكن يجب أن تكون ثمة مبادئ ثابتة تسيرون عليها في إصلاحاتكم التعليمية، ومناهجكم التربوية، وحين تقررون خطوات الإصلاح الاجتماعي. هذه المبادئ الثابتة هي التي أحاول استيضاحها الآن في محاورتنا هذه. إن صحة المنطق واستقامته ليستا عيباً حتى ولو كان محاوري إنجليزياً! وإنني أعتقد أن عدم استطاعتك أن تجيب عن أسئلتي البسيطة دليل على عدم وضوح غايات التربية عندكم. فبالرغم من أنكم لن تقرروا بعدُ لمَ يربَّي الشعب ولم يُعلَّم، أراكم دائبين على افتتاح مدارس جديدة، ومطالبين البرلمان بمد أجل التعليم الإجباري إلى الخامسة عشرة بدلاً من الرابعة عشرة
دعني إذا أشرح لك الأمر بوضوح أكثر. هناك نوع من التربية يسمى التربية المهنية أو الفنية، أليس كذلك؟ ونعني بهذه التربية إعداد الفرد لمهنة خاصة أو حرفة
المربي: نعم
أفلاطون: وكنتيجة لهذه المقدمة المنطقية أعتقد أنه من الممكن أن تحكم على كل أنواع التربية بأنها فنية مهنية، لأن كل إنسان لا يخلو من أن يكون صالحاً بطبيعته لمهنة من المهن التي يمكن أن يتعلمها ويحذقها بالتربية؛ فالمزارع يمكن أن يتعلم الزراعة، والبناء يمكن أن يتعلم البناية وهكذا. وقد اعترفت أنت في حديثك أن الحكم مهنة من المهن، أفلا يكون من المعقول أن يوجد نوع من التربية بمكن الفرد من التمرن على فن الحكم وإجادته؟ فما رأيك؟
المربي: ربما
أفلاطون: إنني أعتبر (ربما) هذه دليلاً على أن ناحية التعقل عندك - لو لم يشبها التحيز والتعصب للرأي - تميل إلى قبول وجهة نظري. وما دمت توافق على أن هناك نوعاً من التربية، أو بعبارة أخرى أضبط يمكن أن يوجد نوع من التربية يعد طبقة الحكام ويكونهم،(382/29)
فدعنا نشرح الآن في بحث ما إذا كانت التربية الجامعية قادرة على إعداد هذه الطبقة من الحكام، أموافق؟
المربي: أظن أنك تتوقع مني الإجابة (بنعم) ما دامت نظريتك هذه مبنية على المبادئ التي في (الجمهورية)
أفلاطون: لقد سررت كثيراً حينما عرفت أن التعليم الجامعي عندكم يشمل ناحتين: ناحية البحث العلمي الحر، وناحية الثقافة العامة، وحينما وجدت أنكم في الجامعات تعتنون بالمسائل المعنوية النظرية كجزء ضروري في التعليم الصحيح، ولكني أسفت حينما سمعتك تقول: إن خريجي الجامعات لا يعتبرون عندنا ساسة قديرين، ولعل السبب في هذا هو أن معظم الشبان الذين يدرسون في جامعاتكم لا يهمهم أن يعدوا أنفسهم لمهنة السياسة والحكم، ولكنهم يعدون أنفسهم لمهنة تجارية أو صناعية أو كتابية، يستطعيون بها كسب قوتهم ومعاشهم. فإذا كان الأمر كذلك فإن جامعاتكم لا تحتفظ بتلك المبادئ التي قررتها أنا في أكادميَّ ولكنها قد أصبحت مدارس فنية عليا لإنتاج الصناع وذوي المهن المهرة، الذين يظلون دائماً بعيدين عن ميدان السياسة والحكم، ذوي المهن الذين همهم محصور في الطاحونة أو دواوين أعمالهم، ولا يعنيهم من أمر السياسة الدولية العليا وشئونها شيء
المربي: ربما يكون صحيحاً أن جامعاتنا قد أصبحت مدارس فنية عليا، لأننا لا نعتبرها مجرد معاهد لتخريج الساسة ورجال الحكم. كما أننا لا نحظر الالتحاق بها على أي فرد - رجلاً كان أو امرأة - عنده الاستعداد للبحث العلمي، أو يريد ثقافة عامة. إننا نريد أن يكون لكل فرد يلتحق بالجامعة حرية اختيار المادة التي يتعلمها والمنهاج الذي يتخذه، لا أن نزج بهم جميعاً في حلبة السياسة
أفلاطون: أفهم من حديثك هذا أنكم واثقون بساستكم الحاليين مطمئنون إلى خططهم، وإلا لما كنتم تتركون أبناءكم يختار كل منهم منهاج الدراسة الذي يريده. ونتيجة هذا هي أن خيرة أبنائكم ذكاء قد أقبلوا على دراسة ما يميلون إليه، وانصرفوا عن تحمل تبعات الحياة التي يفرضها عليهم ذكائهم، فنراهم مغرمين بمزاولة أشياء لا أثر لها في تقدم مصلحة الشعب العامة
المربي: يخيل إلي أن فكرتك عن أهمية رجال السياسة ضخمة ضخامة الطبل. إن الدولة لا(382/30)
يقبض على زمام شئونها ويسيرها رجال السياسة وإنما أمور الدولة في أيدي الموظفين ورجال الدواوين والإدارة، وأصحاب الصناعات والتجارة. هؤلاء هم ذوو الخطر والشأن في أمور الدولة. أما رجال السياسة فمعظمهم كخطباء المسارح يقولون ما لا يفعلون
أفلاطون: الحقيقة أن الأمر تشابه علي، ولست أدري أين أنا من رأيك. إنكم لا تنتخبون رجال الإدارة أو الموظفين ورجال الدواوين، ولا تنتخبون الصناع والتجار ورجال الأعمال، أتنتخبونهم!؟
المربي: كلا، لا يحدث هذا
أفلاطون: ومع هذا تقول لي أن هؤلاء الرجال هم ذوو الشأن والخطر في نظام حكمكم الديمقراطي، وإن السياسيين ما هم إلا خطباء مسارح! فإذا كان الأمر كما تقول فكيف تزعمون أنكم تتمتعون بالحرية السياسية، وأن لكم إشرافاً على شئون الدولة وأمور السياسة؟ يجب أن أعترف بمعجزي عن فهم هذا الموضوع! كأني بك تقرر أن مؤسساتكم الديمقراطية، ومجالسكم النيابية ما هي إلا صورة ومظهر فقط، ولكن من ورائها يعمل رجال الدواوين والإدارة بحكمة وجد. إنني أعتقد بوجاهة هذا النظام، وأرى الآن كيف أن التربية عندكم لا ترمي لإعداد الساسة والحكام، ولكن لتخريج الكفايات - من الرجال والنساء - القادرة على أداء مهمتها ووظيفتها بإخلاص تحدوها المصلحة العامة، مصلحة الشعب. فإذا كان الأمر هكذا فلتعلنه بصراحة، ولُتلغ ما ذكرته من أن التربية عندكم إن هي إلا تجربة في الحكم الذاتي للشعب، لأن من الواضح أنه ما دامت التربية هي إعداد الأفراد للمهن المختلفة والوظائف التي يصلحون لها، فأنواع التربية تختلف حتماً باختلاف الإعداد
المربي: نعم، الأمر كذلك.
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(382/31)
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 4 -
تعتبر الغرزية الجنسية أساساً لنظريات (فرويد) في علم النفس وقد كان أول من تجرأ على القول بأنها أهم القوى الفعالة في النفس
كانت الأجيال السابقة تعرف مدى انفعالات النفس بتأثير الغريزة، ولكنها كانت تضرب صفحاً عن ذكرها أو الإشارة إليها مراعاة للقوانين والأخلاق. وقد ساعدت الديانات والحكومات، على اختلاف أنواعها وأشكالها، على ضبط جماح الغرائز الأولية فلم يشذ هذا الإجماع إلا القليل
حاربت النصرانية شهوات الجسم بشهوات العقل والروح، وجعلت من تحقيق رغبات هذه الشهوات الأخيرة مثلاً أعلى في الحياة، وأوجدت وسائل تختلف قسوة وليناً للتغلب على الغرزية الجنسية، وكان بعض هذه الوسائل جسمياً وبعضها الآخر عقلياً، وهو حل قائم على العقل والمنطق، لأن الأخلاق برزت في شكل مادي قائم على فكرة تتصل بما وراء المادة. على أن هذا الحل ظهر غير فعال تماماً لأنه لم يشف الإنسانية من الغريزة الجنسية ولم يحل دون بروزها مسيطرة على الجسم والنفس معاً
أما الشرائع الوضعية فقد اختلفت عن الشرائع السماوية بأنها لم تحتم على الفرد أن يخضع للأخلاق في نفسه وضميره بل أقرت المجتمع على مظاهر أخلاقية متواضع عليها ولم تطالب الفرد بمراعاة الأخلاق إلا في المظهر فقط
أما القرن التاسع عشر، وهو عصر الاكتشافات الخطيرة والاختراعات الهامة والمذاهب المستحدثة التي غيرت مجرى العقل والذوق في شتى أنواع الفنون ومختلف أساليب الفلسفة والعلم، فقد حارب الغرزية الجنسية بطريقة سلبية لأن كبار مفكريه تواطئوا على إهمال وإغفال ذكرها أو الإشارة إليها، فلم يؤيدوا وجودها ولم ينفوه ولم يبحثوا في أثرها
لم يقتصر هذا الإجماع على العلماء المفكرين بل تناول الأطباء الذين أبو توجيه بحوثهم(382/32)
شطرها في معالجة مرضاهم واكتفوا بمعالجة الأمراض العقلية. بالوسائل الطبية المعروفة لديهم أو بإرسال مرضاهم إلى مستشفى الأمراض العقلية
على أنه عند ما أشرف القرن التاسع عشر على الزوال قام الطبيب الشاب (فرويد) يتحدث عن كبت الغريزة الجنسية وإمكان شفاء الأمراض العصبية، معتمداً في ذلك على الأبحاث التي أجراها في داء الهستريا؛ وأخذ يقرر أن أكثر الأمراض العصبية - إن لم يكن كلها - ناتج عن ذلك الكبت. فثار به أساتذة الجامعة، ونصحه أصدقاؤه بأن يتحول عن هذه الأبحاث التي لا ترجى فائدة منها والتي تتناول مسألة دقيقة من الخير أن تظل طي الكتمان
على أن (فرويد) تجاوز عن هذا النصح وسار في أبحاثه إلى أقصى حد؛ فاصطدم بمعارضيه واحتدم الجدل بين الفريقين الذين تتمثل فيهما طريقتان متباينتان لا سبيل إلى التوفيق بينهما؛ يتمثل في أحدهما علم النفس في أسلوبه القديم يحده مثل أعلى قائم على تغلب العقل على الغريزة في الفرد المتمدين المثقف، ويتمثل في الفريق الآخر فكرة مستحدثة تقرر أن الغرائز لا تقهر، وأنه من العبث أن نفرض أنها إذا كبح جماحها اندحرت واختفت إلى غير رجعة، لأن أقصى ما نستطيعه إزالتها من العقل الواعي وكبتها في غير الواعي؛ فإذا تجمعت في أعماق النفس اختمرت وأحدثت قلقاً واضطرابياً في الأعصاب لا يلبث أن يتحول إلى داء عضال!
يقول فرويد: إن الشهوة بمعناها العام أول نسمة بتنفسها الفرد في حياته النفسية، فهي للنفس كالطعام للجسم، والنفس تصبوا أبداً للوصول إلى اللذة، وهو ما يسميه (ليبيدو) الذي أطلق عليه بعض كتابنا لفظة (اللبيد) ومعناها الطموح إلى اللذة رغم كل العقبات، وهو طموح يملي على الإنسان كل أعماله
ولم تكن غاية (اللبيد) واضحة حتى أكتشف فرويد أن معناه التفريج عن الغريزة الجنسية. على أنه قرر بعد ذلك أن القوى النفسية تتحول عن مراكزها، وأن اللبيد لا يقتصر على الصلات الجنسية لأنه يمثل قوة هوجاء تطلب الظهور والبروز، كوتر القوس المشدود المستعد أبداً لإنفاذ السهم، أو السيل الجارف الذي لا يدري أين مصبه، فقد يظهر اللبيد في الصلات الطبيعية، وقد يتحرر من قيود الجسم فيسمو إلى النفس ويظهر في مناطق رفيعة كالفنون الرفيعة أو الدين أو الفلسفة. وقد يصدف عن هذه الغاية أو تلك فيتيه في مجاهل(382/33)
العالم أو يتمركز في أشياء غريبة أثرت في غريزة الفرد منذ صباه، وقد ينحط إلى أسفل دركات البهيمة وقد يرقى إلى أسمى الغايات. وهكذا تختلف أشكال اللبيد ومظاهره، ولكن غايته تظل واحدة ترمي إلى ري صدا النفس الطموحة إلى اللذة، وهي غاية أصيلة فيه عالقة به
هنا يظهر التجديد في الآراء التي أقرها فرويد
كان علم النفس من قبله يجهل أن قوى النفس تتبدل وأن مراكزها تتحول، وكان يخلط بين المسائل الجنسية وبين أعضاء جسم الإنسان، ففصل فرويد بين هذه وتلك ودلل على تحول مراكز قوى النفس
وكان علماء التحليل النفسي يقررون أن المسائل الجنسية التي تسبب اضطراباً في الأعصاب ترجع إلى عهد قديم، وقد كان من الطبيعي أن يبحث عن هذه المسائل صعداً في حياة الإنسان إلى سن المراهقة، ولكن فرويد اهتدى إلى أن من الخير ألا يقف البحث عند هذا الطور من حياة الإنسان، بل يتعداه إلى الطفولة
وقد برهن فرويد على أن اللبيد أصيل في نفس الطفل بالرغم من أنه يجهل الحياة التناسلية، ثم ذهب ألب أبعد من ذلك فقرر أنه إذا كان للطفل حياة تناسلية فإن الحياة لا تستطيع أن تكون قويمة، بل إنها خبيثة، ولكنها تعمل في الذات غير الواعية بحيث يرضع الطفل كل اللذة من أثداء العالم
ثم تدرج فرويد في دراسة الفرد من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى مجرى طبيعي إذا سارت حياتهم على وتيرة متساوقة. أما إذا أعتورتها حالات خاصة ظهر الشذوذ الخلقي والتناسلي
وقد درس بعض هذا الشذوذ في حياة مشاهير الرجال فانتهى من دراسته إلى أن الاضطراب النفسي ينتج عامة عن تجارب شخصية تناسلية، وأن ما نسميه طبيعة ووراثة ليس سوى حوادث جرت في الأجيال السابقة وأثرت في الأعصاب. وهكذا وجد أن كل حادث - في نظر علم تحليل النفس - عامل حاسم في تكوين النفس، وقرر أنه يجب بحث ماضي كل فرد للوصول إلى فهم حياته، وأن العلل النفسية والعصبية فردية لا وجه للشبه(382/34)
بينها وبين أمثالها في شخص آخر غير المصاب بها
وقد تفرعت عن هذه الأبحاث نظريات عدة في شذوذ الأخلاق وتفصيله إلى مراتب ودرجات يضيق مجال البحث دون استيعابها
وجملة القول أنه يتضح من مذهب (فرويد) أن كل شهوات النفس الأمارة بالسوء، ونوازعها التي حاربتها الإنسانية بشتى الأسلحة الأخلاقية والثقافية لا تزال أصيلة في النفس، وأننا نحمل في دمنا غرائز عصور الهمجية الأولى حين لم يكن للقوانين والأخلاق وجود، وأننا مهما بذلنا من جهد في سبيل إبعاد الغرائز عن ميدان عمل العقل الواعي، فإن هذا العقل لا يستطيع أن يتخلص منها تماماً ولا غرابة إذا كثر نقاد هذه النظرية (المعادية للمدنية) كما قالوا، لأنها أقامت الغريزة الجنسية أساساً لسائر نواحي الحياة، وجعلت اللبيد قوة لا تقهر
يقول (ستيفان زويج) في كتابه القيم عن (فرويد) وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه في أكثر فصول هذا البحث: إن (فرويد) لم يقل إن نظريته عامة وإن اللبيد أو الغريزة الجنسية هما العاملان الوحيدان اللذان يحركان الفرد ويمليان عليه أعماله ومآتيه بل إنه قرر أن هناك غرائز أخرى تستولي على الفرد وتعمل في عقله الباطن مثل غريزة الموت وغريزة الذات ولكنه يؤخذ على (فرويد) أنه لم يسهب في شرح نظرية الغرائز الأخرى كما فعل في شرح غريزة اللذة، فجاءت مبهمة قلقة
ولاشك أن النقد الذي وجه إلى (فرويد) صحيح من حيث أنه بوأ غريزة اللذة مقاماً أسمى مما يجب وأبرزها كقوة لا تقهر وحط من قدر المدنية والشرائع ومقدرتهما على محاربتها
(للبحث صلة)
صديق شيبوب(382/35)
ليالي الملاح التائه
(أهدى الشاعر النابه الأستاذ علي محمود طه نسخة من ديوانه
إلى صديقه الأستاذ فؤاد بليبل فأوحت إليه هذه الهدية الأبيات
التالية)
شاعرٌ تاهَ في بِحَارِ خَيالِه ... واهْتَدَى كُّل تائِهٍ بِضَلالِهْ
طافَ بالكونِ ينشدُ الحسنَ فيهِ ... ضارِباً في وِهادِهِ وجِبَاله
كلَّما شامَ بارِقاً من جمالٍ ... راحَ يَشْدُو بسِحْرِهِ وَدَلاله
يَتَغَنَّى مُصَوِّراً كلَّ ما يَبْ ... دوا لِعَيْنَيْهِ أَوْ يمرُّ بِبَاله
بارعُ الرَّسْمِ بالبليغِ مِنَ اللَّفْ ... ظِ خَبيرٌ بمَوْضعِ اسْتِعماله
تِلْكَ ألْوَاحُ شِعْرِهِ ماثِلاتٌ ... حافِلاتٌ بالعَذْبِ منْ أقْوَاله
قَدْ أرَانا بِبَدْرِهِ الصَبِّ لَوْحاً ... يَقِفُ المرءُ حائراً بِحيَاله
قمرٌ عاشقٌ قد اقْتَحَمَ الْحِصْ ... نَ على شَمْسِ مَخْدَعٍ لم تُبَاله
وَتَدَلَّى عَلَى النَّوَافِذِ وَلْهَا ... نَ إليها وَلَفَّها بحبَاله
واحْتَوَاها بِنَورِهِ وَهْيَ وَسْنَى ... يا لبَدْرٍ مُتَيَّم بِمثَاله!
وَهْوَ رَانٍ يَغَارُ من قُبَلِ البَدْ ... رِ المُعَنَّى عَلَى شِفَاهِ غَزَاله
وَأرَانَا بِهِ وَقَدْ غادَرَ الْخِدْ ... رَ عَشِيقاً يَبْكي عَلَى آماله
قَدْ سَبَانَا مِنْ كِّل فَنٍّ بسابٍ ... مِنْ أغارِيِدِهِ وَرِقَّةِ قاله
وَبِمَا عاينَتْ مِنَ الْحُسْنِ عَيْنَا ... هُ وما قَدْ رآهُ في تَجْوَاله
أينَ مِنْهُ (فِينسيا) الآنَ و (الري ... نُ) وَأيَّامُ حِلِّهِ وَارْتحاله؟
أين ذَاكَ (الْجُنْدُولُ) يُرْقِصُهُ المَوْ ... جُ فيَنْسَابُ مُمْعِناً في اخِتياله
بُحَّ صَوْتُ القيثَارِ فِي كفِّ حَادِي ... هِ وَطافَ السَّاقِي عَلَى آهَاله
مَوْكِبٌ يتركُ العقولَ حَيَارَى ... ليْتَ لِي أنْ أرَى سَنَاً (كرنفاله)
أيْنَ تِلكَ الآرامُ مِنْ فتيةِ (الآ ... رِ) وَهَلْ حَال عَهْدُهَا عن حاله؟
شاعرٌ هامَ بالجمالِ فغَّنا ... هُ بشعرٍ أيْنَ الطَّلا مِنْ زلاله؟(382/36)
عَبْقرِيُّ الإيقَاعِ عَذُب القوافي ... تَتَمَشَّى الحياة في أوْصَاله
مَا لياليهِ غيْرُ مِنَ الوَحْ ... يِ عَلَيْهِ رَفَّتْ بَنَاتُ خَيَالِهْ
فَاتِكَأتُ اللِّحاظِ مِنْ كِّل بكرٍ ... سَلَّحَ السحرُ جفنُها بِنِبَالهْ
خَاشِعَاتٌ، مًعَرْبِدَاتٌ، شَوَاجٍ ... عَاِبثَاتٌ بكلِّ قَلْبٍ وَالِهْ
أيْنَ (بودليرُ) مِنْ رَقِيِق مَعَاني ... هِ وَإبْدَاعِ نَظْمِهِ وَجَلاَلِهْ؟
أعْتَقَ الشِّعْرَ مِنْ عَتِيقِ صَحَاري ... هِ وَمِنْ عِيسه وَمِنْ أطلاَلِهْ
وَتمشَّي مَعَ الحديثِ جَرِيئاً ... لاَ يُبَالِي الرَّجْعِيَّ مِنْ عُذّالِهْْ
مُعْجِزَاتٌ من الْبَيَانِ تَجَلَّتْ ... فِي قريضٍ يسبى النُّهي بجمالِهْ
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل(382/37)
موعد الشروق
(يا حبيبي! إن الشعاعة الذهبية التي تلهم الهزار حب الإنشاد
عند مولد النور قمينة بأن تسعد قلوب العاشقين)
زَقْزَقَ الطَّيْرُ فِي الْجَزِيِرِةُ يذْكِي ... وَقْدَةَ السَّحْرِ فِي الْقلوبِ الرقَاقِ
هُوَ ذَا الصُّبْحُ يا حَبِيبي تَهَادَى ... مَائِسَ النُّورِ، أبْيَضَ الأَطوَاق
حَامَتِ الوُرْقُ حَوْلَ زَهْرِ الرَّوَابي ... تَرْشُفُ الطَّلَّ مِنْ حَشَا الأوْرَاق
وَالنَّسِيمُ الوَئِيدُ يَنْفَحُ عِطْراً ... ذَوَّبَتْهُ السَّمَاءُ لِلْعَشَّاق
لَيْتَنِي فِي جناحه خَفَقَاتٌ ... سَابِحَاتٌ لِوَجْهِكَ الأَلاَّق
نَشَرَ الصُّبْحُ فِي الفَضَاءِ جنَاحاً ... قُرْمُزِيّاً مِنْ مَوْكِبِ الإشْراق
فَوْقَ قَلْبٍ مِنَ الغُيُومِ وَضِئٍ ... مُطْفَإ الماسِ، نَاصِعِ الأطبَاق
وَبُرُوجُ الْعقيَان مُرْتَجَّةٌ لَم ... يَعْصِمِ اللهُ شَمْلَهَا بِوِثَاق
فَضحَ النُّورُ جَبْهَة السُّحْبِ فَابْيَضَّ (م) ... تْ أسَارِيرُهَا عَلَى الآفَاق
وَأطَلَّتْ ذُكاءُ مِنْ شُرْفَةِ الْغَيْ ... بِ تُزِيلُ الكَرَى عَنِ الآمَاق
لَيْتَما تُوقِظين يَا شَمْس حُبِّي ... فَيَبُلِّ الأُوَامَ فِي أعْمَاقِي
اُسْكُبي فِي عَيْنَيْهِ ضُوءً! رَفِيقاً ... ذَكرِيهِ بِمَوْعِدِي وَاشْتِيَاقِي
عبد الرحمن الخميسي(382/38)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين المانع لمرض البلاجرا
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 6 -
يفشو المرض المعروف بالبلاجرا في الطبقات الفقيرة في البلاد التي تقوم فيها الذرة المقام الأساسي في التغذية. وأعراض الإصابة بهذا المرض ظهور قروح وطفح جلدي على الأجزاء والأطراف من الجسم المعرضة للشمس (العارية) وتسميته الإيطالية بالبلاجرا يقابلها بالعربية الجلد الخشن. ويوجد هذا المرض كذلك في أوربا الوسطى والجنوبية وفي بلاد البترول، ويكثر انتشاره في شمال إيطاليا وجنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال وفي بلاد البلقان وشمال أفريقية وظهر أخيراً في الأمريكتين. ويشهد على خطورة الإصابة به أن 1535 شخصاً ماتوا بالبلاجرا في سنة 1915 بأمريكا الشمالية في ولاية مسيسبي. وفي السنوات الأخيرة أصيب به في أمريكا الشمالية ما يقرب من نصف مليون من السكان مات منهم ما يزيد على خمسين ألفاً. وتبدأ الإصابة به غالباً في فصل الربيع بأعراض مرضية عامة يتبعها اضطراب جلدي فوق الأعضاء الجسمية العارية. فعلى الوجه والرقبة واليدين يظهر على شكل طفح دميم قد يكسو اليدين تماماً كما يكسوها القفاز. ويصحب هذا آلام حادة في الرأس والأطراف والظهر وضعف عام وخمول ثم اختلال في الجهاز الهضمي يعقبه اضطراب عصبي يكون نذيراً بالاضمحلال الجسماني والهلاك. وقد يقدر الجسم عند الإصابة على المقاومة ردحاً طويلاً من الزمن يمتد إلى عشر أو خمس عشرة سنة، كما أنه لا يقاوم أكثر من أسابيع قليلة يضني ويهلك بعدها سريعاً
ولقد كثرت الأقاويل قديماً حول أسباب البلاجرا. فكما أعتقد خطأ زمناً طويلاً عزو مرض البري بري إلى العدوى عن طريق مُسببات دقيقة حية - ظُنَّ ثانياً يالبلاجرا. بيد أنه ظهر بعدئذ ما ينقض هذا الزعم الخاطئ. إذ كيف لا ينتقل المرض وتقع العدوى مثلاً من المرضع المريضة بالبلاجرا إلى رضيعها. زد حقيقة ثابتة أخرى وهي انتشار مرض(382/39)
البلاجرا في الأوساط الفقيرة فقط في البلدان التي تعتمد في غذائها على الذرة اعتماداً كلياً فاستنتج من هذا ارتباط مرض البري برى بالتغذية. وذهب بعض الباحثين في استنتاجهم إلى وجود مواد سامة في حبوب الذرة التي تكون قد أصابها الفساد والعطب من جراء التخزين. وأكتسب هذا الاستنتاج بعض الأهمية والسند من الحالة الاقتصادية الرديئة التي عليها الطبقات الزارعة الفقيرة التي ترغمها هذه الحالة إلى حصاد الذرة مبكرة قبل تمام نضجها ثم تخزينها رطبة تخزيناً غير صالح يضر الحبوب ويفسدها
ومما قوى الزعم في اتصال البلاجرا بالذرة أنه في مدينة ترنتينو بإيطاليا حيث تنتشر البلاجرا، أخذت الإصابة في نقص تدريجي أثناء حرب 1914 - 1918 بسبب هبوط عام في محصول الذرة؛ مما أضطر القوم إلى الالتجاء لأنواع أخرى من الغذاء غير الذرة ولكن الحقيقة التي لا جدال فيها، والتي يؤيدها العلم الحديث - كما ثبت كذلك في حالة البري بري - هي أن مرض البلاجرا. لا يرجع إلى وجود مادة ما في الذرة، ولكن يرجع إلى شيء ينقصها ولا يوجد فيها، وينشأ عند غيابه ظهور أعراض البلاجرا. وتعليلاً لهذه الصلة الوثيقة التي تربط مرض البلاجرا كنتيجة للتغذية بالذرة، نجد الذرة نفسها لا تحتوي على كميات ملحوظة من الفيتامين زد على ذلك افتقارها إلى المواد الزلالية. عاملان أو مادتان لابد عند نقصهما في الغذاء العام من رضوخ الجسم إلى تجارب واضطرابات غذائية قاسية، ولكنه يجب، مع ذلك أن تظهر البلاجرا في حالة أية تغذية أخرى لا تحتوي على الفيتامين ولا تدخلها الذرة بتاتاً وهذا ما حصل وشوهد أخيراً في المناطق الصناعية الأوربية التي يسودها عدم كمال التغذية ووفرتها ففي بعض البلاد السويسرية وفي برلين وفينا وبرسلاو وهامبرج أصيب بعض ساكنيها بالبلاجرا ولو لم يقربوا الذرة بتاتاً إلى مآكلهم وأفواههم
ومما دعم القول بأن مرض البلاجرا هو نتيجة لنقص الفيتامين وبدون سابق أية تغذية بالذرة - النتائج الأكيدة التي حصل عليها عند إجراء تجارب غذائية على القردة والكلاب والفيران فهذه أصيبت بأعراض مرضية شديدة الشبه بأعراض البلاجرا لدى الإنسان وذلك بإطعامها غذاء نزع منه الفيتامين كلية. ولقد توصل العلم إلى الكشف عن الفيتامين إلى درجة مرضية كما أمكن تحضير بلورات صغيرة منه من الخميرة وهو فيتامين يقاوم(382/40)
الحرارة ويذوب في الماء ويتأثر بالأشعة فوق البنفسجية، وفي حالته النقية الدقيقة يمثل مادة ملونة صفراء تشبه المادة المعروفة باللاكتوفلافين التي تحضر من اللبن (لبن , أصفر ولقد حضر هذا الفيتامين على هيئة بلورات في مجمع القيصر ولهلم الطبي في مدينة هايدلبرج في ألمانيا باستخدام خمسين ألف لتر من اللبن. وكانت كميات ضئيلة من بلوراته لا تزيد على ثلاثة أجزاء من المليون من الجرام كافية لانتظام واطراد النمو في الفيران، ولكن حدث بعد أن انتزعت المادة الملونة الصفراء منه أن قل ووقف تأثيره في اطراد نمو الفيران، وبهذا أخذ قديماً في تسمية الفيتامين بفيتامين النمو، ولكن نسخت هذه التسمية فيما بعد عندما ثبت أن كل نقص في أي فيتامين يكون مدعاة لتأخير النمو الجسماني العام
والمهام الملقاة على عاتقه عديدة وذات أهمية كبيرة. فبتعاون هذه المادة الملونة الصفراء مع مركبات عضوية أخرى عويصة هي الأنزيمات تكسبه تأثيراً ومفعولاً في دورة الأوكسجين عند عملية الاحتراق في الخلية أي في النفس الخلوي وكذلك في حالة تحليل الكربوهيدرات التي يساهم فيها بقسط وافر. ويلعب كذلك دوراً هاماً في تكوين الكرات الدموية الحمراء، تساعده في إتمام هذه العملية مواد يفرزها الجسم هي الهرمونات الموجودة في العصير المعدي التي تساهم بدورها في تكوين الدم، ولذا يعزى فقر الدم أو عدم القدرة على تكوين كرات حمراء جديدة لسببين أولهما نقص الفيتامين والثاني غياب الهرمونات في العصير المعدي. ويأخذ العلم الحديث اليوم بأن فقر الدم البسيط يرجع إلى عدم وجود الفيتامين في حين أن الأنيميا الخبيثة أي الضعف الدموي الحاد الذي كان يعتبر إلى ومن غير بعيد من الأمور المستعصية العلاج، ترجع إلى غياب الهرمونات المكونة للدم عن العصير المعدي، وكم أفادت هذه المعلومات الحديثة الطب العلاجي فائدة جليلة الشأن
ولقد كشف لنا ظهور الفيتامين في هذا الميدان عن تأثيرات متداخلة جليلة الشأن والأثر لقوى عاملة. مادتان مؤثرتان يفرزهما الجسم تستأثران بمهام حيوية خطيرة لا تقومان بواجبهما على الوجه الأكمل حتى تظهر دعامة ثالثة لهما تكسبان بظهورها وحلولها قوة ذات حول وطول كما تكسب المواد القابلة للاشتعال زيادة قوة على الاشتعال بحلول الأوكسجين مثلاً ولا يقدر الجسم وحده على تكوين هذه القوة الثالثة حتى مع ضآلة جرمها وصغر الكمية التي يحتاج إليها، ولابد له من الحصول عليها إما من النبات والخضراوات(382/41)
أو من لحم الحيوانات الآكلة للخضر والعشب وذلك في صورة مادة ملونة صفراء مشعة. فإذا تم الحصول على هذه القوة الثالثة اتحدت هذه الأخيرة مع الأخرى الموجودة في بطن الإنسان، تارة للمساهمة في عملية الاحتراق والتنفس الخلوي وتارة أخرى تتعاونان معاً على تنبيه النخاع الشوكي ودفعه إلى تكوين الكرات الحمراء الوسيطة في تبادل الغاز
وقد قامت الطبيعة بتخزين كميات وفيرة من هذه المادة الحيوية التي بدونها لا تقوى الخلية الحيوانية على القيام بعملها. وكما سبق القول بأن الفيتامين المضاد للبلاجرا يوجد غالباً بصحبة الفيتامين المضاد للبرى برى؛ فالمصادر الرئيسية التي يوجدان بها هي: الخميرة، واللحم الطازج، والكبد، والأعضاء الفارزة الأخرى، والحبوب، وفي كثير من الخضر والفواكه، وفي اللبن وفي زلال البيض. ويكونان في أغلب الأحايين بنسب متساوية، مع ملاحظة أرجحية وجود الفيتامين في الخضر والحبوب ومنتجاتها وأغلبية وجود الفيتامين في المواد اللحمية (اللحوم)؛ ومن الصعب جداً فصل تأثيريهما مع ضرورة وجودهما لحفظ الإنسان، وتبعاً لتلازمهما فقد صح حصرهما تحت التسمية الجامعة فيتامين
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي(382/42)
البريد الأدبي
ديوان الطبران
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
يقول الشاعر العربي القديم في وصف الناقلة:
فلو إنما تمشي على الأرض أدركت ... ولكنما تهفو بتمثال طائر
وإني لأتمثل بهذا البيت كلما أطلقت صفارة الإنذار بالإسكندرية وشاهدت إحدى المغيرة، وأني لأحس أن البيت كأنما قيل لينشد اليوم في مثل هذه المناسبة؛ ولقد أتمنى أن أطير لألحق بتلك التي لا يمكن إدراكها لأنها لا تمشي على الأرض، فأتمثل بقول الشاعر العربي القديم:
أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من (لا أحب) أطير
أستشهد بهذين البيتين بمناسبة كتاب أقرئه الآن عنوانه (ديوان الطيران) جمعته الكاتبة الإنجليزية ستيللاولف موري ووضع مقدمته السير صمويل هور وزير الطيران البريطاني الآن، والذي كان وزيراً للطيران أيضاً في سنة 1925، وهي السنة التي طبع فيها هذا الديوان
والكتاب يختلف عن غيره من كتب أدب الحرب في الجزء الأول منه على الأقل لأنه مقسم إلى ثلاثة أجزاء أولها لم يوضع في زمن الحرب ولا مناسبة الحرب وإنما جمع من الشعر القديم (ليدل على أن الطيران كان أمنية من أماني النفس الإنسانية أحسها الشعراء قبل الأوان الذي يمكن تحقيقها فأعربوا عنها) وغرض الكاتبة من جمعه التنويه بفضل الفنون التي يرى أصحابها بأعين الخيال ما لا يستطيع الكافة أن يروه إلا بعد تجسيده حين تتحول الفكرة إلى عمل
ويشير السير صمويل هور في المقدمة إلى قصة حبشية قديمة تشبه قصة بساط سليمان ولكن القصة الحبشية تذكر سفينة سليمان الطائرة في الموضع الذي نذكر فيه نحن كلمة بساط، كما يشير إلى أجزاء من شعر هوميروس فيها وصف لسباق في الجو بين مركبات تقصف مثل قصف الرعد. ويشير أيضاً إلى خيول مجنحة ذكرت في أدب أهل الشمال في عصوره الأولى وإلى البساط المسحور في الآداب الشرقية؛ ويعد السير صمويل هور كل(382/43)
ذلك نبوءات بالطيران
وفي هذا الجزء شعر كثير للمتقدمين لم يقصد به أن يكون من شعر الحرب ولكنه صار من شعرها لما أفادته المناسبة معنى جديداً - مثله في ذلك كمثل البيت الذي بدأت به هذه الكلمة
أذكر هذا بمناسبة المقال الممتع الذي دبجته براعة العقاد في صدر العدد الأخير من الرسالة والذي تحدث فيه عن نوعين من شعر الحرب نوع يكتب بعدها ليؤرخها وهو شعر الملاحم، ونوع يكتب في عهدها ليصفها
ولكن هذا النوع الثالث الذي لم يشر إليه العقاد لندرته هو الذي كتب قبل الحروب ولم يقصد به إلى وصف معنى من معانيها ولكنه تضمن من المشاعر أو الأخيلة ما أسفرت الحرب عن خروجه من حيز المعاني التي يراها الشعراء إلى عالم الحس الذي يراه الجميع
ولعلي أستطيع ترجمة بعض هذه المختارات فهي من غير النوع الذي ينشأ مع الحرب ويموت معها
(الإسكندرية)
عبد اللطيف النشار
الحرب والشعر العربي
كتب الكاتب الكبير الأستاذ العقاد بالعدد الماضي من الرسالة في (الحرب والشعر) يقول بأن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، وفند القول بأن الملاحم الكبرى التي نظمت عن حروب الأمم البائدة تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء إلى أن قال (إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست باللقاح الجيد لقرائح الشعراء) وعرض بعض ما قاله شعراء الغرب من الشعر القليل في الحرب الماضية والحرب الحاضرة
ساق الأستاذ الكبير كل ذلك ببيانه الرائع ومنطقه السديد. وكتابة الأستاذ العقاد تبعث على التأمل والنقاش. فلما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر - جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية(382/44)
فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت
لقد هاجت الحروب شعراء العرب فقالوا في التحريض على القتال ووصف المعامع، والصبر والإقدام فيها، والجبن والفرار، والنوح على القتلى، والتغني بالانتصار؛ ووصفوا الخيل والسلاح، وأكثروا في كل ذلك وأتوا بالعجيب
وإننا لو نظرنا فيما بين أيدينا من شعر العصر الجاهلي لوجدنا نحو نصفه مقولاً في الحروب وما يتعلق بها، وكان كثير من الشعراء يستوحون الحرب أكثر ما ينشدون مثل عنترة الفوارس وعمرو بن معد يكرب
وقد أختار أبو تمام مجموعة من شعر العرب فكان نصيب الحروب منها أكثر من الثلث، على تنوع الأغراض الأخرى وسماها (الحماسة) تغليباً للشعر الحماسي
وقد اطرد قول الشعراء في الحروب وفي العصور الإسلامية المختلفة، فكان الشعراء يصفون المعارك الحربية في صدد مديحهم للخلفاء والأمراء، ويشيدون بشجاعتهم وبلائهم فيها. وقد صحب الثورات والانقلابات في الدول الإسلامية قيام كثير من الشعراء مناصرين ومعارضين، وهذا أبن هانئ الأندلسي - مثلاً - يجد متصفح ديوانه أغلب قصائده في مديح الفاطميين ووصف حروبهم وشجاعتهم.
وقد كان من كل ذلك نتاج شعري عظيم تزخر به كتب الأدب العربي
ومن أحسن ما قبل في وصف الحروب قولُ عمرو ابن معد يكرب:
الحرب أول ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء جزت رأسها وتنكرت ... مكروهة الشم والتقبيل
ألا ليت شعري، ألم يشعر جبابرة الحرب الحاضرة الذين يحيلون خيرات العالم إلى حمم - أن الحرب قد صارت عجوزاً شمطاء لا تطاق عشرتها. . .؟
وللأستاذ العقاد تحيتي وإكباري
عباس حسان خضر
وفاة الأستاذ فخري أبو السعود(382/45)
تنعى الرسالة إلى قرائها أديباً من صفوة أدباء الشباب هو الأستاذ فخري أبو السعود الشاعر الكاتب والمترجم المعلم
برم - رحمه الله - بالحياة في ساعة من ساعات الضيق الكاربة فأطلق على رأسه المسدس وهو جالس على كرسيه الطويل في حديقة داره برمل الإسكندرية، وقد كان يعيش وحده في المدة الأخيرة لأن الحرب فصلت بينه وبين زوجته الإنجليزية وولده الوحيد. وقد شاء القدر أن يغرق ولده مع السفينة التي كانت تحمل الأطفال الإنجليز إلى كندا وأن تنقطع عنه أخبار زوجته. ولعل في هذه الحادثة الأليمة تفسيراً للدوافع الخفية التي دفعت هذا الشاب القوي الفتي إلى الانتحار وهو في سن الثلاثين. رحمه الله رحمة واسعة وعوض مصر عن أدبه وشبابه خير العوض.
الديوان التائه بالبريد
أهدى الأستاذ الشاعر على محمود طه نسخة من ديوانه إلى صديقه الأستاذ محمود غنيم فتاهت في البريد وعلم صاحب الديوان بذلك بعث إليه بأخرى فكان مصيرها كأختها فكتب إليه الأستاذ غنيم يقول:
بَعَثتَ بملاَّحَك التِائه ... وطوَّقْتَ جيدي بإهدائِه
ولكنَّه تَاه في ظلمات ال ... محيطِ وَضَلَّ بأحشائه
ألاَ ما لشعركَ في البحرِ تَاهَ ... وشعرُك أعمقُ من مائه؟
كأني به ضَلَّ بين اللآلي ... فلألاؤها مثلُ لألائه
له الله كيف اهتدى للجميع ... وأخطأ أشوقَ قرائه؟
ترى هل ألحَّ عليهِ الحياءُ ... فأعرضَ خشيةَ إطرائه؟
لعمرك ما تاهَ تِيهَ الظلالِ! ... متى ضَلِّ نجمٌ بعليائه؟
ولكنَّهُ تاهَ تِيهَ الدلالِ ... وقام الجمال بإغرائه.
(مدرسة فؤاد الأول الثانوية)
محمود غنيم
تفسير بيتين(382/46)
طلب الأديب (ع. ا. سعد) إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي أن يفسر له البيتين:
(بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه (حالاً) ... فأن الشمس ليس لها غروباً)
وقد مضى على طلب الأديب السوداني أسابيع ولم يستجب الأستاذ له، فكان لزاماً عليِّ أن أتقدم لشرح معناهما:
الشاعر يقول: بذكر الله تزداد الذنوب الخ. ويعني بذلك أن ذكر الله يوسع أفق المعرفة ويظهر عظمة الله وسطوته وفضله على أتم ما تكون، فيرى المرء ما كان يعده هيناً حقيراً من الذنوب حدثاً جللاً وأمراً عظيماً. . . وهذا يطرد مع قاعدتهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين. . . ثم أراد أن يعرج في الشطر الأخير على الذين يذكرون الله بألسنتهم، تاركين قلوبهم مغلفة وبصائرهم مطموسة. . .
وفي البيت الثاني أراد الشاعر أن يشير إلى صفة معروفة عند الصوفية تسمى (الحال). وقال الدكتور زكي في (التصوف) نقلاً عن (أبن عربي في اصطلاحاته)
الحال: هو ما يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب اهـ فهو يقول:
إن المرء إذا ترك الذكر المجتلب والحديث المصطنع عن الذات العلية، وأمعن في الهيام الحقيقي، والحب الرباني، كان ذلك خيراً له وأجدى عليه. (فإن الحال إذا تمكنت لم تفترق الروحان ص 232 - التصوف)
ثم جاء الشطر الأخير تذييلاً لما قبله فقال: أن الشمس ليس لها غروب. وكذلك ذات الله تعالى لا تغيب ولا تحتجب ولا تفني ولا تحول، فلماذا إذن نذكرها؟ الواجب علينا أن نعبدها حق العباد، ونقدسها كل التقديس
وأدباء الصوفية هاموا باللغز والرمز. وما قول القائل: (معبودكم تحت قدمي) إلا من نوع (ما في الجبة غير الله). وهم يشيرون بمثل هذه الكلمات إلى مذهبهم في الحلول، وهو مذهب تحدث عنه المبارك في الصفحات 180 إلى الصفحات 210 وهو يتخلص في أن الله روح، والعالم جسمه
السعيد جمعة(382/47)
تاريخ الإنسانية العاشقة
جاء في مقال الأستاذ على الطنطاوي (القبر التائه) الفقرة (أما تاريخ الإنسانية العاشقة فإنهم (الناس) يزدرونه ويترفعون عن حفظه ويرون من الخطر على الأخلاق أن يدرس في المدارس - وكذلك أرى أنا -)
من ذلك عرفنا أن الأستاذ يتفق رأيه مع الناس في خطر دراسة تاريخ الإنسانية العاشقة على الأخلاق، غير أن الأستاذ عاد وقال: (ولنتخذ منه (الحب) سلاحاً نحارب به الفسوق والدعارة والغلظة والوحشية ولنستكمل به إنسانيتنا)
فالأستاذ بقوله هذا يدعوا إلى إصلاح الأخلاق واستكمال الإنسانية عن طريق الحب. فكيف يدعونا إلى هذا وقد رأى معنا أن في مجرد دراسة تاريخ الإنسانية العاشقة خطراً على الأخلاق؟ وكيف تكون أخلاقنا لو سلكنا هذا الطريق؟
هذا ما نسأل الأستاذ عنه وأنا في انتظار ما به يجيب وله مني أعظم شكر وأطيب تحية
عبد العظيم حسن زيد
في فلم دنانير
أبتدأ عرض (فلم دنانير) في سينما ستديو مصر، وانتقلت بنا الشاشة البيضاء إلى بغداد وإلى عصر الرشيد، فرأينا بيئة عربية وسمعنا حوراً عربياً، وغنت أم كلثوم (دنانير) في أول الأمر غناءً عربياً، وكان كل ما نرى ونسمع عربياً صريحاً، ثم إذا بنا نسمع دنانير تغني أمام الرشيد ووزيره جعفر باللهجة العامية الخالصة:
هلالك هل لعيننا ... فرحنا له وغنينا
وقلنا السعد حيجينا ... على قدومك يا ليلة العيد
فيتبدد الخيال المحبوك وتصدمنا الحقيقة الواقعة، وهي أن أغاني الرواية الواقعة حوادثها في عصر الرشيد، وذات الحوار العربي - معظمها عامي. . . ولعمري لقد أبدعت أم كلثوم في القصائد العربية التي غنتها أيما إبداع، فما الداعي لأن يتردد هذا الصوت الحنون في جنبات قصر جعفر بعاميتنا الحاضرة، فنسمع أمثال:
بكره سفر ويروق بالنا ... وأفرح بقربك واتهنى(382/48)
أم كلثوم تغني في عصرنا هذا كلاماً عربياً فصيحاً، أفلا تغني للرشيد غناءً عربياً؟ وكيف يكون حوار القصة بلغة والغناء بلغة أخرى؟
وشيء أخر يجب التنبيه إليه في هذا القلم وهو أن المعروف في العصور الإسلامية - أن الجواري مغنيات وغير مغنيات - كن رقيقات يأسرهن المسلمون في حروبهم مع الأعداء. ولكن دنانير فتاة عربية من قلب البادية وليست أخيذة حرب، فكيف تعيش في قصر جعفر وتعاشره - على حبها - كجارية من جواريه. . .؟ ثم كيف يطلب الرشيد ضمها إلى جواريه وهي تلك العربية الحرة. . .؟
ع. ح. خ
رأيان يتناقضان
حضرة الأستاذ الكبير صاحب الرسالة
تحيتي وإجلالي وبعد فقد قرأت بعدد (الرسالة) 381 مقالاً بعنوان (4500 ثانية في صحبة أم كلثوم) للدكتور زكي مبارك. ولكني عدت من جولتي مع الدكتور أتراوح بين الشك واليقين في روح أم كلثوم الذي وعدنا الدكتور أن يتحفه بصورة وصفية. فهو يقول في افتتاحية مقاله (مع العرفان بأني لم أقل غير الحق في ذلك الروح اللطيف) ثم يقول في ختاميته (فأين من يحول هذه الفتاة إلى روح لطيف يشيع في المجتمع معاني الأنس والانشراح؟)
فكيف يجوز لرجل أن يطلب خفة الروح لروح خفيف؟ اللهم إلا إذا طلب لذلك الروح المزيد من تلك الخفة.
يا دكتور هل أخذتك فتنة من إحدى (ذوات الخد الأسيل والطرف الغضيض) فاضطربت في مخيلتك الأفكار؟ ورحت تأخذ وتعطي من صفاتها؟
أم كانت خفيفة الروح حين أرضتك، عديمة الخفة حين أغضبتك؟
لعل القلم لم يند في هذه المرة، ولعل مدير المطبعة لم يصل مقالاً بمقال، ولعلني لا أهاجم من دكتورنا بامتحان ذي عشرة أسئلة. . .
وإليك تحية أحد أبناء الجيل الجديد.(382/49)
(المحلة الكبرى)
حلمي إبراهيم النبوي(382/50)
القصص
التطوع للعذاب
للأستاذ نجيب محفوظ
انتهى الأستاذ حسان جلال - وهو محام تحت التمرين - من كتابة المذكرة القضائية - التي شرع ينشئها منذ الصباح الباكر - في تمام الساعة الثانية عشر وكان الجهد قد نال منه كل منال فأستند إلى ظهر كرسيه في إعياء ونصب. ومد يده إلى فنجال قهوة وأرتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينيه يوشك أن يلتقي جفناهما. ودخل الخادم عند ذاك فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة وشاب مستغرق في عمله. فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت في وجدانه صدمه عنيفة مباغتة أرهفت حواسه وأثارت انفعاله وأقلقت باله، فالتمعت عيناه بنور خاطف وبدأ شخصاً جديداً. عرف الخط من أول نظرة فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه في ضوء النهار، فلم يرى خطاً ولكن رأى وجهاً مستديراً كالبدر، خمري اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة. وغشيه الانفعال ساعة لا يدري من أمره شيئاً. ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلي الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواعي الدفينة التي تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يديه وجعل يديم النظر إليه في شغف ولذة وارتباك وخوف. وقد فرح به وحزن ورضي عنه وغضب. وتساءل في حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه في سلة المهملات؟. . . على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب. وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب، وهو (عزيزي حسان) فلم يستطع أن يستمر في القراءة واستولت عليه خواطر وشجون، وأحس بخيبة لم يهون من شأنها أنه كان يتوقعها. كانت إذا كتبت إليه في ما مضى تبدأ خطابها فتقول: (حبيبي حسان) أما اليوم فأنها تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه فليس إبدال حبيبي بعزيزي بالشيء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث وفجيعة من الفواجع. رباه. . . لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها فتنكأ جرحاً في فؤاده أوشك أن يلتئم وتثير بركاناً كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليها(382/51)
نظرة عامة، فأدرك إيجازها (التلغرافي) وأحس بذلك بكآبة خفية وانقباض صدر، وكأنه كان يرجو لو أنها أطالت وأسهبت. ثم قرأ ما يلي: (راودت نفسي مراراً على الكتابة إليك فكانت تتمتع وتتأبى حتى كدت أسلم لليأس بعد أن تقادم الفراق، وبعد أن نالني من تغاضبك ما نالني، لولا سؤال حيرني إدراكه فرأيت أن ألقيه عليك عسى أن يكون لديك الجواب عليه. أني أسأل لماذا هذا الجفاء؟ ولماذا هذا الهجران؟ هل دعت إليهما دواع معقولة؟. . . فإني أخشى أن يظل كلانا يتعذب لغير سبب. . .)
ورفع رأسه عن الخطاب وقد ثقل تنفسه ويبس حلقه. وحملق إلى لا شيء بعينين مظلمتين. يا له من سؤال! أليس يحق لها أن تسأل كما يحق له أن يسأل: لماذا هذا الجفاء؟. . . لماذا يتباعدان؟ لماذا يعانيان الآم والعذاب في صمت وعناد قرابة عام طويل وثقيل؟ آواه! كم كان يحبها وكم كانت تحبه! وأن آي ذاك الحب لتبدو لعينيه خلل الذكريات كما تبدو المشاهد الغارقة في الظلماء على ضوء المغنيسيوم فأنه ليذكر إخلاصها ومودتها وشدة وفائها، وكأنه كان يرى تألق عينيها حين تراه، أو يسمع تنهدها لدى قربه وعطفه. كانا يعيشان في غمرة الحب ذاهلين عن كل شيء سوى أمالهما الناظرة، ومع ذلك قضى أن يتباعدا ويتفارقا ويذوقا مرارة الهجران والألم الجفاء؛ وكان هو البادئ ولعله كان الظالم. وعلى أي حال فقد استسلم للأوهام فلم تجد هي سبيلاً إلا أن تلوذ بالصمت والصبر. لماذا هذا كله؟. . . على أنه كان في تساؤله متجاهلاً متبالهاً. وكان بذلك عليماً فذكريات الأمس من القوة والعمق بحيث لا يمحوها اليوم ولا الغد. وقد دعت أشجانه إلى ذاكرته صورة أخرى عزيزة حبيبة طالما سكنت قلبه محوطة بالعطف والإجلال حتى أنتزعها القبر بقساوة ولم يترك له منها إلا طيفاً رقيقاً يجفل من ضوء النهار ومشاغل الدنيا ويتسلل في رفق إلى الذاكرة في فترات الأحلام والحنين. جاءته بوجهها الذابل المكال بالشيب ونظرة عينيها الحنونة، فتنهد حزيناً كئيباً وتمتم قائلاً: (أماه). . . نعم هي أمه العزيزة التي قضى حبه إياها على سعادته وآماله، وفرق بينه وبين حبيبته وترك كلاً لوحدته وآلامه. . .
وارتدت عيناه إلى صفحة الخطاب تقلقان بين أسطرها التي اقتضبها الحياء؛ واختزلها الحذر والكبرياء، فلم يجد سوى هذه الكلمات: (سأنتظرك أصيل اليوم في مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية؛ فإن أنت أتيت لكي نصفي الحساب - أي حساب يا ترى؟ - رحبت(382/52)
بك؛ وإن أنت أصررت على الجفاء فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد)
ويلي ذلك الإمضاء المحبوب: حسان. ج. وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب: (أصيل اليوم في مكاننا المعهود) وأحس بدنو الموعد فاهتاج شعوره واضطرم صدره، ثم أستقر بصره على هذه العبارة: (فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد. فجفل منها وذعر، وأنقبض صدره؛ ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة!؟ أولم يكن يظن أنه نفض منها يديه إلى الأبد!؟. . . بلى، ولكن ذاك الخطاب رده إلى ماضيه بسرعة فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث فيه حرارة كما تنبعث الكهرباء في المصباح بعد سريان التيار إليه. وضاق عند ذاك بمقعده بالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذي يتمرن فيه وطوى الخطاب وارتدى طربوشه ومشى إلى الخارج. وفي الطريق أرتد خياله إلى الماضي يتعقب حوادث الأمس المنطوي. . . لا يدري بالضبط متى تعرف بإحسان وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعاً، ذلك أنه لم يعتد مطلقاً عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه في صيف العام الماضي سكنت أسرة إحسان في عمارة رقم 10 بشارع البستان بالسكاكيني، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضي شهر على نزولها بالحي الجديد. وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه، فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه. وجذبته بادئ الأمر ملاحتها وأناقة قسماتها، فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدري إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة، فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن يكون لها وأن تكون له ما أمتد بهما العمر. وشاركا المحبين حياتهم الهنيئة التي تطرد في هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والآمال كأنها جدول صاف يشق حقلاً من بدائع الورود والرياحين إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة في بيت جارتها. فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحري فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن. ولما سئلت أمه عن سنها قالت: (كنت أبنه عشرين أيام الحرب) وكانت تعني الحرب الكبرى ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة - وهي تجهل أنها أم حبيبها -: (حرب عرابي يا تيزة) وضحك السيدات طويلاً وضحكت إحسان كذلك ولم تكن(382/53)
قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة، ولكن أمه لم تحتمل هذر الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها
واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف وكان ينوى قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوباً على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسي وعفا أثره تقدم إلى والدته يحادثها في أعز أماني قلبه، ولكنه وجد منها ازوراراً وإباء، وكبر عليها جداً أن تستأثر بابنتها غداً التي أهانتها بالأمس، فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به ولا كفء له وذهبت كل محاولته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقاً لتلك الدعابة المرة، أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب أبنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معاً؟. . . ومهما يكن من الأمر فقد أسقط في يده وتوزع قلبه ألماً وحزناً بين أمه وحبيبته، وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب، موزعة بين الألم والضجر واليأس والخنق. ثم أعلن ما كان سراً وافتضح ما كان خافياً، فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحي جميعا. ً وأنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست بالمرض فجأة فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها في اليوم الرابع، ووقع عليه الخبر بعنف وشدة؛ ففزع وهلع وتقطع قلبه ألماً. كان يحب أمه حباً كبيراً؛ وقد هاج الفراق الأبدي الحب المتغلغل فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا في عينيه. . .
ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه وقد كانت تعدها عثرة في سبيل سعادتها؛ فما من شك في أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه. وألمه هذا الخاطر ألماً عميقاً وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون به فانطوى على الحزن والغضب ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلاً منيعاً بينه وبين الفتاة. . .
فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها وانغمس في الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد وظن أنه يتناسى الماضي بهمومه وآلامه أو أنه نساه بالفعل
ازدحمت هذه الذكريات برأسه في طريق العودة إلى البيت ولكنها لم تصحب بعواطف في مثل مرارتها وحزنها إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة عن عواطفها واحساساتها.(382/54)
أما وجدانه فكان كله مستغرقاً في أثر الخطاب والموعد. لذلك انصرفت نفسه عن الغذاء، وعز النوم على جفنيه وحامت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدري وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة (سوار دي باري) التي تتعطر بها، فانفعل انفعالاً شديداً نبا به عن الطمأنينة. ولم يكن قر رأيه على شيء ولا بت في المسألة برأي، بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأي ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه. حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلماً لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه ويأبى أن يقر بالاستسلام. ولكنه ألفى نفسه أمام ما يحاذره حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشبة ومدرجاتها السندسية، هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطرباً حتى حجبه سورها الحجري ثم أستند إليه متريثاً وقد لفته الحيرة والاضطراب ولبث في جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التي لا يفصلها عنه سوى السور الحجري. وسرى في ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق، فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعاً وفي تلك اللحظة الفاصلة أرتد خياله - فجأة - إلى بعض حقائق الماضي الأليمة، فبردت حماسته وهبطت حرارته وانتكس انتكاساً غريباً أحس من جرائه يخجل واستحياء وألم فجعل يتساءل مغيظاً محنقاً: كيف حملتني قدماي إلى هنا! ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيق بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين
وهز منكبيه باستهانة وانحدر في الطريق الضيق مبتعداً عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلاً والتفت وراءه ثم أستأنف المسير بعزم وبأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه. . . وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفياً لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب في سبيل ما يتمثل في نفوسهم من الأوهام
نجيب محفوظ(382/55)
العدد 383 - بتاريخ: 04 - 11 - 1940(/)
السنويات الأدبية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب إلي أكثر من مستفهم يسألون عن (السنوية التاجورية) التي أشرت إليها في تحيتي إلى تاجور إليها في تحيتي إلى تاجور من مقال بالرسالة قلت فيه: (خطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجورية لنستخرج الفأل مما كتب فيها من أقوال تاجور بازاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم. . .)
وهم يطالبون بياناً عن هذه السنوية، هل هي من صنع الشاعر؟ وهل للشعراء والأدباء المشهورين غير تاجور سنويات على هذه الوتيرة؟ وهل تتجدد في كل سنة أو تصدر في سنة واحدة، ثم تتكرر على نمط واحد؟ إلى أشباه ذلك من أسئلة وتعقيبات
وسنويات الأدباء والشعراء هي نوع من السنويات الكثيرة التي أفتن فيها الطابعون والناشرون في الأمم الغربية
فهناك سنويات لمحبي الأزهار ينشرونها للفن والجمال، أو ينشرونها للعلم والخبرة العملية. فما كان منها للفن والجمال زخرفوه بنقوش الأزهار الملونة ونثروا خلالها شذرات من أقوال الأدباء والشعراء في الرياض والرياحين، وجعلوا بعض حروفها البارزة على مثال الورود والأوراق، وجملوها بما استطاعوا من جمال الشعر والتصوير. وما كان منها للعلم والخبرة العملية رتبوا فيه مواسم الغرس والنقل وبثوا فيه الوصايا والنصائح عن السقاية والتظليل أو التعريض للنور مما له نفع في إنماء النبات وإنماء النبات وإنماء الزهر على الخصوص
وهناك سنويات لمحبي الكتب يذكرون فيها المعلومات المتفرقة عن المكتبات التاريخية والكتب النادرة ونشأة الكتاب في أطواره المتعاقبة، وقوانين الطبع والنشر وحقوق المؤلفين والمترجمين وما إلى ذلك من الحقائق والأنباء التي يعنى بها الكتاب والقراء، وقد يصدرون السنوية بمقدمة نفيسة تختلف كما تختلف المعلومات الأخرى عاماً بعد عام
وهكذا السنويات التي ينشرونها لمحبي العصافير أو محبي الرحلات أو محبي الصيد أو محبي الرياضة وما إلى ذلك من ضروب اللهو والمتع النفسية والذوقية. فمن جمعها عنده(383/1)
فليس من الضروري أن يملأ فراغها ويشتغل بما يشتغل به طلابها وهواتها، بل لعله يجمع منها مكتبة للمعرفة: كل سنوية منها بكتاب جامع لأشتات الطوائف والمقتبسات والأخبار
أما سنويات الأدباء والشعراء فهي المفكرات السنوية المألوفة التي تخصص منها صفحة أو أقل من صفحة لكل يوم من أيام العام، ولكنهم يجعلون للأديب أو الشاعر المشهور مفكرة باسمه يصدرونها بترجمته وفصل قيم لكاتب من كبار الكتاب في نقده والتعريف بخصائصه ومزايا شعره ونثره، ويقرنون كل صفحة ليوم من أيام السنة بصفحة من مختاراته تناسب الموعد أو تمت إليه، بسبب، وربما اشتملت الصفحة على فقرة واحدة أو بيت واحد، وربما اشتملت على أكثر من ذاك، حسب التفاوت في الحجم والموضوع
وقلما تتغير هذه المفكرات سنة بعد سنة، ولكن الطابعين المتعددين قد يصدرون مفكرات متعددة لشاعر واحد، وقد تكون المفكرة المفردة أو المفكرات المتعددة أوفي من أحسن المختارات التي تختار لذلك الشاعر، وأحظى بالقراءة والنظر من الكتب التي توضع على رفوفها ولا تحمل بالليل والنهار حيثما مضى صاحبها وكلما احتاج إلى النظر في مفكراته اليومية
وهنا معرض للعجب لا يفرغ منه المتعجب!
ففي الغرب حيث يستغني القراء عن التشويق والإغراء يوجد التشويق على أبرعه والإغراء على أشده
وفي الشرق حيث يحتاجون إلى جميع المشوقات والمغريات لا يوجد من يُغرى ولا من يُغرى، ولا يزالون على ما بهم من الجهل كأنهم أزهد الناس في الدرس والاطلاع
وليس هذا وحده بمعرض العجب في شؤون الكتابة والقراءة عندهم وعندنا
ففي الغرب حيث يظفر الكاتب بأحسن الجزاء من قرائه يعطيهم ما يعطي من ثمراته، ولا ترهقه الشروط، ولا تثقل عليه القيود، ولا يتمحلون له أسباب العيب والتجني والانتقاص. فليس في إنجلترا من يشترط على برنارد شو مثلاً أن يحلق لحيته، أو يقلع بدعة النباتية في طعامه، أو يدين في السياسة والاجتماع بمثل ما يدين به، أو ينهج في معيشته أو اعتقاده نهجاً غير الذي ارتضاء لنفسه
وفي الشرق حيث لا يغني الجزاء، ولو وفر القراء، ترى العالم القارئ أو جمهرة القراء(383/2)
كأنهم الطفل الممعود، لا أكثر من شروطه، ولا أقل من زاده، ولا أعجب من مطالبه ومقترحاته: تعطيه الحلوى فيطلب الفاكهة، وتعطيه الفاكهة فيطلب الخبز واللحم، وتعطيه الخبز واللحم فيطلب المطبوخ إذا أعطيته الشواء، ويطلب الشواء إذا أعطيته المطبوخ، ويتحكم وهو في مطعم الصدقة، أو شبيه بمطعم الصدقة!! ثم لا هو بالآكل، ولا هو بالشاري، ولا هو بالملتمس العلاج لما عنده من ضعف القابلية قبل أن يلتمس العلاج للطاهي وأصناف الطعام
واسمع غرائب ما يطرق الآذان ويصك الأذهان: فهذا الكاتب لماذا لا يكتب في القصة، ولماذا لا يكتب في الدين، ولماذا لا يكتب في الفكاهة، ولماذا لا يكتب في هذه الصحيفة أو تلك المجلة؟. . . وهذا الكاتب لماذا لا يطلق لحيته، أو لماذا لا يقصها؟. . . وهذا الكاتب لماذا لا يعجب بفلان ولا يقلع عن الإعجاب بفلان؟ وهذا الكاتب لماذا لا يتوجه إلى جمهرة القراء قارئاً قارئاً ليعفر وجهه بتراب الاعتذار والاستغفار، ويعترف بما يسومونه من اعتراف أو ينكر ما يسومونه من إنكار؟
وخذها قاعدة لا ريب فيها أن الشروط عندنا تزيد بمقدار ما يقل الجزاء، وأن الجزاء عندهم يزيد بمقدار ما تقل الشروط
أليس هذا بعجيب؟
بلى. ولكنه عجب في الظاهر دون الحقيقة، وما من عجب صحيح في كثرة الطهاة حيث يكثر الآكلون، ولا من عجب صحيح في كثرة الافتنان والتسابق إلى الإتقان حيث يكثر الطهاة في مكان
فالغربيون يفتنون في الطبع والنشر والتشويق والترغيب لأن طهاة الأدب كثيرون، وآكلي الأدب كثيرون
وكذلك تقل الشروط عندهم لأن الطعام مطلوب هنا إن لم يطلب هناك، وسائغ في بعض الأذواق إن لم يسغ في غيرها من الأذواق
أما الطفل الممعود فكيف يعيش الطاهي إلى جانبه؟ وكيف يقلع عن الاقتراح والاشتراط وهو لا يأكل ولا يشتهي؟
لو أنه أكل لما اشترط واقترح(383/3)
ثم إنه ليجد شروطه كاملة وافية دون أن يطلبها ويلح في تقاضيها، لأن الطهاة يكثرون حيث يكثر الآكلون، ثم يتنافس الطهاة فيجيدون ويبدعون.
لقد أخذنا المفكرات السنوية من الطباعة الغربية، ولكننا لم نأخذ بعد افتنانهم في أوضاعها ولا في موضوعاتها. فقلما تختلف مفكراتنا السنوية بغير الحجم وصنف الورق ولون الغلاف، وقد يزيدون عليها بعض الحكم والأمثال على غير قصد مرسوم أو تفرقة منوعة
وإني لأكتب هذا المقال وأود أن يصل إلى طائفة من الناشرين والطابعين فيتخذوا من المفكرات مروجاً للأدب ومن الأدب مروجاً للمفكرات، ويخرجوا لنا مفكرة للمتنبي ومفكرة للبحتري ومفكرة لابن الرومي، ومفكرات للجاحظ وابن المقفع ومحمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وسائر العظماء من الكتاب والمصلحين والقادة في عصورنا الغابرة والحاضرة. وإذا خيفت قلة الإقبال على مفكرة مقصورة على أديب واحد فلتطبع منها طبعات متفرقة لأدباء متعددين. فيجتمع من المفكرة كلها ديوان منتخب لأدباء العربية، ويقتني القارئ الواحد أكثر من مفكرة واحدة إذا حسن الاختيار والتنويع
ومهما يكن من الإعراض عن القراءة فلا أخال أن الكتيب الصغير الذي يباع بدريهمات ويحتوي ثلاثمائة وستين معنى للمتنبي أو المعري يعدم مئات القراء إذا استكثرنا عليه الألوف، وقد يقبل عليه من لا ينشط لقراءة الدواوين والكتب، ولكنه يتسلى بالبيت بعد البيت والمعنى بعد المعنى كلما قلب صفحة لإثبات موعد أو تقييد حساب
ونعود إلى تاجور الذي بدأناه بالتحية وذكرنا من أجله هذه المفكرات السنوية
فنحمد الله أنه بات بمنجاة من الخطر وأن النبأ الذي انتظرناه مبشراً بسلامته قد سرى بين أرجاء العالم في هذا العهد الذي ندرت فيه أنباء السلامة، فكان له جمال الندرة الموموقة وغبطة الترفيه المنشود في أوانه
ونفتح السنوية التاجورية على شهر أكتوبر فنقرأ له تحية الخريف التي يقول فيها: (المساء يومئ. وبودي أن أتبع السفر الذين أقلعوا في الزورق الأخير لعبور الظلام: منهم من هو راجع إلى مقره، ومنهم من يذهب إلى الشاطئ البعيد، وكلهم قد اجترأ على الرحيل، وأنا على المورد وحدي قد تركت مقري وأخطأت الزورق وذهب مني الصيف وليس لي في الشتاء حصاد. وهأنذا أنتظر الحب الذي يجمع العثرات والخيبات ليبذرها دموعاً في(383/4)
الظلام، عسى أن تنبت الثمر حين يطلع النهار الجديد)
ثم نقرأ له في الصفحة التالية: (تقبَّلني يا رب. . . تقبلني في هذه السويعة، واغمر بالنسيان تلك الأيام اليتيمة التي انقضت في البعد عنك. وانشر هذه السويعة موسعة فسيحة على جحرك وتحت ضيائك، فكم ذا أقتفي الأصوات التي تجذبني إليها ثم لا تهديني إلى مكان. فاليوم هبني يا رب أن أجلس في سلام حيث أصغى إلى كلماتك من خلال هذه السكينة)
ذلك وحي الشاعر الذي له رسالة من الغيب وإلى الغيب في صفحة كل يوم
عباس محمود العقاد(383/5)
إلى. . .
للدكتور زكي مبارك
مولاتي
إليك أقدم نجوى القلب وحنين الروح، ثم أعتذر عنك إن سمحت، ففي رسالتك الكريمة ألفاظ تحتاج إلى اعتذار، فليس من الصحيح أني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان، كما تتوهمين، وإنما أنا رجل مر العداوة حلو الوداد، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يوغل في مخاشنة أعدائه حتى يوصم بالإفراط في القسوة والعنف، وأن يكثر من محاسنه أصدقائه حتى يتهم بالإسراف في الرفق واللين
ومع أني أنزه نفسي عن اختلاف المعايب لأعدائي فأنا أترفق في ابتداع المحاسن لأصدقائي، ولست من الذين يستبيحون إيذاء أصدقائهم باسم الحرص على منفعة المجتمع أو الصوالح القومية لأن الصداقة عندي مبدأ من المبادئ ورأي من الآراء وعقيدة من العقائد، وأنا أعد الاستهانة بحقوق الأصدقاء جريمة روحية تعرض القلب لعقاب الله ذي العزة والجبروت
أنا يا مولاتي أومن بأني مسئول أمام الله عن واجب التلطف مع أصدقائي، بل أنا مسئول عن وجوب الاعتقاد بأنهم منزهون عن المآثم والعيوب، فاحترسي من اتهامي بالتقرب والتزلف، فلله غَضَبات تنصبُّ على رءوس من يتهمون الأبرياء، حماك الله من التعرض لغضبات السماء!
وقد يقع أن أصوب سنان القلم إلى زميل أو صديق، ثم أظل مع ذلك سليم القلب، أمين الروح، لأن لي رأياً في البر بأصدقائي، وذلك الرأي يحتم الاهتمام بآثارهم الأدبية والعقلية من حين إلى حين، لأني أومن بأن النقد البريء من الغرض صورة جميلة من صور العطف والرفق والإعزاز، وأصدقائي يرون في هذا المسلك ما أراه، إلا أن ينحرفوا عن القصد فيروه من مذاهب الاستطالة والكبرياء، كالذي وقع من فلان وفلان وفلان. على أيامي في صحبتهم ومودتهم سلام الروح وتحية الفؤاد!
أما بعد فما هذا الذي تقولين؟
كنت مريضة منذ شهور طوال؟؟؟(383/6)
لله الحمد وعليه الثناء، فما كان المرض أهول ما أخاف، وإنما كنت أخاف عليك بغي وعدوان العقوق!
كان قلبي في تلك الشهور يهتف بالشوق إلى الروح اللطيف الذي كان يتصدق على بالسؤال من وقت إلى وقت، ثم انقطع عني مع قدوم الصيف، كأن لم يكف ما حل بنا من المخاوف مع قدوم الصيف! كان قلبي يقول ويقول ويقول، لقد قال كل شيء، ولم يقل إنك مريضة، ولو أنه قال لقدمته فداء لأظرف فتاة فهمت أسرار قلبي وسرائر روحي
كنت يا مولاتي أرجو دائماً أن أصل من الهتاف بالحب إلى محصول نفيس من فهم ما في الوجود من تيارات خفية تصنع ما تصنع في وصل القلوب بالقلوب، والأرواح بالأرواح، بلا جهد ولا مشقة ولا عناء
فهل أستطيع القول بأن قلبك الغالي كان من نفائس ذلك المحصول؟
وأعيذك أن تظني - وبعض الظن حق - أني أستهدي لمحة جديدة من لمحات العطف، فأنا راض بأن تظلي محجوبة عني، مادام لك هوى في ذلك الحجاب، فهو على كل حال فرصة ثمينة لمن يزدهيها أن تقول: أتحداك أن تعرف من هي (ليلى من الليالي)
وأنا يا مولاتي أعرف، فلقلبي أرصاد وعيون يطلع بها على الذخائر التي تفرد بها وطني، الوطن العظيم الذي ينجب عرائس لها أرواح في مثل روحك العذب الجميل
وهل خفي عني منك شيء؟
في كل لفظة من رسائلك الكريمة عروس تتخطر وتميس في دلال وكبرياء، وفي كل نبرة من صوتك الرنان - ولم أسمعه إلا عن طريق التليفون - في كل نبرة من صوتك لحن ينقل قلبي برفق ولطف إلى أجواز الخلود
فإن كنت فتاة حقيقية، فأنت البشير بأمل معسول، وإن كنت فتاة خيالية، فأنت المطلع الجميل لأنشودة رائعة من وحي الخيال. . .
ولي غرض من هذا التشكيك، فما أحب أن تكوني أنت أنت، لئلا يعرف السفهاء باب التطاول على نجم السماء
إن الغرض الأصيل من نجوانا هو خلق روح جديد في الأدب الحديث، ولابد من أن نقول مثل هذا القول دفعاً لمكايد الرقباء، وهل يكون السياسيون أعقل منا وهم يستبيحون تسمية(383/7)
الأشياء بغير أسمائها لغرض مدفون؟
المهم هو أن تعرفي بالرغم من هذا الرياء المصنوع أن قلبي أبر وأعطف من جميع القلوب، ألم أقل ألف مرة إني أول من تقرب إلى الله بالرياء؟
وأنا مع ذلك أشهد بأني لم اكن أصدق أن في مصر فتاة ترجع إلى مقالات صدها عنها المرض في شهور طوال، ثم تفكر في تقسيمها إلى لوحات فنية مختلفة الظلال والألوان
ولكن ما السبب في أن أطرب لرأيك الجميل كل هذا الطرب؟
أيرجع السبب إلى أنه يزدهيني أن أشعر بأن هنالك قلوباً يسرها أن أكون في دنيا الصبابة آمر يطاع؟
أم يرجع السبب إلى أنها أول مرة أشعر فيها مرة أشعر فيها بقسوة الحرمان من نشوة الافتضاح؟
لو تعرفين أيتها الروح بعض ما أعرف لسرك أن أكون في الحب من أبطال الرياء!!
ولو فهمت بعض الفهم لما آذاك أن أكون فيما تحدثت عن زيارة المنصورة من المرائين
أسمعي، أيتها الروح الطروب
قيل وقيل: إن طيارات الأعداء قد تنتفع من النور الضئيل إذا أضيف بعضه إلى بعض، لأنه عندئذ يكون هالة نورانية تدل على المستور من المنازل والقصور
وأنا كذلك أبخل بالكتابة عن الحب في جميع الأحاديث، كما تقترحين، لأن ذلك لو وقع سينتفع به الحاقدون من أعداء الأدب الرفيع
ومن هذا الحديث تفهمين أني أعرف هويتك الصحيحة، فأنت طفلة بالتأكيد، لأنك تجهلين عواقب الافتضاح
أنا افتضحت وسلمت - إن كنت سلمت - لأني أقمت أدبي على أصول من الرمز والإيماء، فما هواك في أن أدل عليك بلا ترفق ولا استبقاء؟؟
ومن يسترنا إذا افتضحنا، يا ظلوم؟
ومن يستر الشمس إذا أطلت بوجهها على الوجود؟
الحب هو الشمس، والرياء هو السحاب، وللشمس قدرة سحارة على تمزيق أردية السحاب، فإن زعمت أنك مستورة بسحاب من فوقه ظلمات، فاعرفي يا شقية أن ظلام الحب يعقبه(383/8)
صباح، وسنلتقي ولو بعد حين، وسنذوق أذى الناس ولو بعد أزمان!! نحن أيتها الروح غرباء في هذا الوجود، وآية ذلك أني لا أستطيع التسليم عليك في صبيحة العيد، لأني - وفقاً للعرف - لا أمت إليك بغير الوشيجة الروحية، وهي وشيجة مجحودة الأصول والفروع عند أكثر الناس
فنم يعزي المحروم من طلعتك البهية وصوتك الرخيم في صبيحة العيد؟
ومن يواسي الهائم الحيران وهو من الهُيام والحيرة في شقاء وعناء؟
أَمَا والله لو تَجدين وجدي ... جمحتِ إليَّ خالعةَ العذارِ
وهل كانت الحياة إلا في الشعور بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح؟
ما هذا الذي أقول؟ وما الذي أجترح بهذا القول؟
أمن الصحيح أننا لا نجد السعادة الحق إلا إذا تلاقينا في صبيحة العيد وجهاً لوجه، وتصافحنا يداً بيد، وآذنا الناس بما نحن عليه من وداد وصفاء؟
أشعر يا مولاتي بأن موازين الأحكام الروحية قد اختلت بعض الاختلال، وإلا فما بالنا لا نصدق بالتصاق التام إلا إذا تصافحت الأيدي وتلاقت الوجوه؟
وماذا يصنع مثلى إذا أبتلى بهوى فتاة روحانية ترى الأنس في أن تلقاني في مقالاتي ومؤلفاتي، وأن ألقاها فيما تكتب إلي من رسائل معطرة بعبير الرفق والحنان؟
إننا غلبنا أسلافنا بكثرة الإنتاج الأدبي، ولكننا لم نصل بعدُ إلى مسابقتهم في ميدان الخلود، لأن أدبهم على قلته مطبوع بطابع الصدق؛ فقد كان فيهم من يقضي العمر وهو مجذوب إلى صورة لا تطمع في رؤيتها العيون؛ أما نحن فنيأس وننصرف لأول بادرة من بوادر المنع، ويكون من أثر ذلك أن تحرم أكبادنا قسوة اللوعة والاحتراق، وهي قسوة لطيفة محبوبة لا يتذوق عذوبتها غير الأديب والفنان
ومن يدري؟ فلعل لي غرضاً في العزلة يشبه غرضك في الاحتجاب، والإنسان حيوان لئيم. وهل أجد نفسي إلا حين أخلو إلى قلمي؟
وما سر تلك الخلوة؟ وما أخبارها؟
هي خلوة أقترب فيها من نفسي بعض الاقتراب، وأشعر بمواجهة اللهب المقدس الذي يمن به الله على أحد الأرواح في إحدى الأحايين، وأسمع صرير القلم بلهفة وشوق، لأن كتاباتي(383/9)
لها في أذني وقع، وفي قلبي وقع، وما خططت حرفاً إلا وأنا مشغوف بتصرف ما يتسامى إليه من ألحان وأغاريد، ولو شئت لقلت إن طاعة القلم هي التي تجذبني إليه، فهو لا يصدر إلا عن أمري ولا يصدح إلا بما أشاء، وهو لا يخطئ حين يخطئ إلا وهو مؤمن بأن أخطائي أصدق وأجمل من الحق ومن الصواب
فمن كان في صدره عتاب أو ملام لانصرافي عن محضره الأنيس فليذكر هذا القول، فأنا لا أصادق من يتوهم أني رجل يخطئ كما يصيب، وإنما أصادق من يعتقد اعتقادا جازماً بأن العيب حين يقع مني هو الغرة في هلال شوال. وهل كانت لي عيوب إلا في أوهام الذين أبنيهم ليهدموني؟ جزى الله بعض الزملاء (خير) الجزاء!
وماذا نصنع إذا التقينا يا شقية، يا شقية؟
سيهمك أن تعرفي الفرق بين زكي مبارك المؤلف وزكي مبارك المحدث (؟!)
وسيهمني أن أعرف الفرق بين الفتاة التي تكتب إلي من بعد والفتاة التي أراها من قرب (؟!)
وعندئذ آثم وتأثمين، لأن شريعة الحب تبغض هذا الفضول
ألم تقولي في إحدى رسائلك إني أصانع فلاناً وأتوسل إلى فلان؟
وأين كان التوسل والتصنع وقد صبرت على الحرمان من وجهك الجميل أكثر من عامين؟
وهل حُرمت منك عامين أو شهرين أو يومين أو ساعتين؟
الجواب عند ليلى، فاسأل ليلى، ليلى المريضة في العراق، اسأليها تخبرك أن صدها عني لم يكن إلا فناً من فنون الوصل، والصد المقصود ليس قطيعة، وإنما هو آية من آيات العطف، لا حرمني اللًه تعتب ليلاي هنا وليلاي هناك!
أين أنا مما أريد؟ وهل ترينني أفصحت بما أريد؟
ما نظرت في رسائلك إلي إلا زاغ بصري وطار صوابي؟
فهل من الحق أنك تخافين عواقب التصريح باسمك المكنون؟
أنا لم أجترح معك غير هفوة واحدة يوم استبحت تسجيل صورة من خطك البديع في الكتاب الذي تعرفين وقد نهيتني فانتهيت فما تحجبك عن المحب الذي (أدبتهُ عقوبة الإنشاء) فتاب وأناب؟(383/10)
على أنني راضٍ عما صرنا إليه من الاكتفاء بمصافحة القلوب، أدام الله عليك نعمة العافية، وجعلك مصباحاً وهاجاً لبيتك الرفيع، ولا أراني فيك إلا ما أحب، يا زهرة الشباب في الوطن المحبوب، ويا أصدق شاهد على صحة ما قال قاسم أمين وهو يُهدي كتاب (المرأة الجديدة) إلى سعد زغلول
ثم ماذا؟ ثم كان العطف النبيل في منحى لقب (أمير البيان) فهل ترين هذا اللقب على سموه يستوجب الدخول في خصومات كالتي عاناها شوقي (أمير الشعراء)؟
أن لقب (أمير البيان) أضيف إلي أول مرة على سبيل السخرية في إحدى مجلات لبنان، ثم أضيف إلي مرات على سبيل الإنصاف في بعض الجرائد في مصر والعراق، فماذا ترين أن أصنع في حراسة هذا اللقب الرفيع؟
أنا أومن يا مولاتي بأنه لا يمكن لأحد أن يكون أكتب مني، إلا إذا استطاع أن يكون أصدق مني، ومن المستحيل أن يكون في الدنيا أحد أصدق مني، وهل هان الصدق حتى يكون لي فيه منافسون من أبناء الزمان؟
الصدق يحتاج إلى تضحيات عظيمة جداً، ومن تلك التضحيات ما تعرفين وما تجهلين، ولو علمت الغيب يا شقية لعرفت أن الصدق جرني إلى معاطب ومهالك لا يصبر على محرجاتها ومؤذياتها إلا من كان في مثل إيماني، وقد صبرت وصبرت حتى أتهمني الغافلون بالبلادة والجمود، لأنهم لم يعرفوا أن دنيا الأدب فيها مبادئ تروض أهلها على الترحيب بمكارة الظمأ والجوع، إن جاز القول بأن اللَه رضي لحظة واحدة بأن أحس مكارة الظمأ والجوع، ولن أموت إلا مقتولا بنعمة الترف في الطعام والشراب، فليغفر الله ما أدعية زوراً من الترحيب بكاره الظمأ والجوع، وهو الغفور التواب
وهل أنسي يا شقية أن الصدق حرمني نشوة الاستصباح بوجهك الوهاج؟
هل أنسى أن الصدق جعل لأعدائي حججاً دوامغ في مقاومة مؤلفاتي؟
الصدق في الدنيا غريب، وأنا في الدنيا غريب، والله هو المسئول عن رعاية الغرباء!
أما بعد، ثم أما بعد، فسأظل إلى الأبد عند ظنك الجميل، وسأغفر لك التطاول على من حين إلى حين لأني آخر من يتذوق تجاهل المحبوب لأقدار الحبيب
من نعم الله أن نعيش قلباً إلى قلب، لا جنباً إلى جنب، فما كان الهوى العذري إلا الروح(383/11)
المكنون في قصيدة الوجود
وإلى اللقاء يا شقية في عالم الفكر والوجدان
ولكن متى؟ متى؟ متى؟ وأنت تؤمنين بأن البخل أشرف خلائق الملاح!
قالوا عشقتَ فقلت كم من فتنة ... لم تغن فيها حكمة الحكماء
إن الذي خلق الملاحة لم يشأ ... إلا شقائي في الهوى وبلائي
زكي مبارك(383/12)
سيجموند فرويد
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 5 -
حين أربي (فرويد) على السبعين كانت نظرياته في علم النفس قد استحكمت حلقاتها وقامت كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً بعد أن عمل على تشييدها جزءاً فجزءاً، وكان (الجزء يلد من الجزء تباعاً) كما يقول: (ليوناردو فينتشي، وأخذت هذه النظريات تؤثر في كل علم وفن. فهل استراح هذا الشيخ مطمئناً إلى ما قدم من خدمات وما أحرز من نصر؟)
لا شك أنه رأى مجال العمل ذا سعة ولكن أزعجه أنه سوف لا يجد فسحة من الأجل لإتمام ما يبتدئه من بناء للمستقبل. لذلك صار يلقي من الذروة التي تنسم قمتها نظرة شاملة على الماضي على طريقته التحليلية المعهودة، ولكنه بدلاً من أن يعالج الأعصاب والنفس في الفرد، أخذ يعالج العالم ويبحث التاريخ كمجموعة إنسانية فريدة، وبدلاً من أن يوجه أبحاثه شطر المادة أخذ يسوقها ناحية المسائل النظرية بالرغم من أنه كان يأبى هذا التوجيه في شبابه، وهو القائل من قبل: (إني لا أرضى عن تركيب النظريات العامة) فكأنه أراد أن ينتحل لنفسه الأعذار حين قال: (لقد طرأ على أسالبي في العمل تغيير لا أنكر نتائجه. كنت من قبل لا أعرف كيف أحتفظ في نفسي بنظرية أعتقد أنها جديدة وكنت أفضي بها بالرغم من أنه لم تجتمع لدي الأدلة على صحتها. . . لأن الزمان كان منفسحاً أمامي، كان الزمان خضماً واسعاً كما يقول شاعر ظريف. وكانت مواد البحث تتدفق عديدة بحيث أجد من الصعوبة اختيار كل ما بين يدي. أما اليم فقد تغير وضع الأشياء فالزمان محدود الأجل، وفيه من الفراغ ما لا يسده العمل بعد أن تضاءلت ظروف الاختبارات الجديدة. فقد أصبحت لا أجرؤ على الإفضاء بما أكتشفه من جديد مخافة ألا أجد متسعاً من العمر للتدليل عليه. . .)
سلخ (فرويد) خمسين عاماً من حياته لا يقابل فيها غير مرضاه، ولا يعرف من الإنسانية غير أفرادها المصابين التاعسين في غرو إذا نظر إلى الحياة في مجملها نظرة مليئة(383/13)
بالتشاؤم في الكتابين اللذين وضعهما في طور شيخوخته وهما (مستقبل وهم) و (علة المدنية) ولا غرو إذا قرر أن (الحياة عبء ثقيل على الإنسانية جمعاء كما هي على كل فرد)
عرض (فرويد) للإنسانية في عصرنا الحاضر فوجد أنها بلغت من الرقي حداً بعيداً بينما لم يستطع هذا الرقي أن ينيل الفرد السعادة التي يصبو إليها كل إنسان
وللتدليل على هذا استعرض (فرويد) تاريخ العالم منذ الإنسان الأول أي منذ كان الإنسان يجهل القوانين والأخلاق ويبعث كالبهيمة حراً طليقاً من كل قيد. وعندما تألفت الجماعات والقبائل حد هذا التآلف من أطماع الفرد وأهوائه، لأن كل حياة اجتماعية مهما كان شكلها أولياً تحد من حرية الفرد في سبيل إخوانه، فصار لزاماً عليه أن يمتنع عن أشياء كثيرة، فاستحدث الحرام والحلال، ونشأت التقاليد والتواضع والحقوق والواجبات واستتبع هذه جميعها العقاب الذي يقع على من يخالفها
ولم تلبث معرفة الحرام وخوف العقاب، وكانتا ظاهرتين ماديتين، أن نفذتا إلى رأس الفرد وقلبه فاستحدثتا فيهما ما هو أبعد من الذات المادية، أي أنهما أوجدتا فيه الضمير، ونشأت في الوقت نفسه الثقافة العقلية والفكرية والدينية، وأوجدت فكرة الإله القدير العليم يقظة الضمير وكبت الشهوات فتحولت القوى المادية التي كانت تحرك الإنسان الأول إلى قوى عقلية وأخلاقية خالقة وأخذت تسيطر على العالم حتى أخضعت عناصره واستخدمتها في سبيل غايتها
ثم قرر (فرويد) أن الاختراعات والاكتشافات التي قربت الإنسان من درجة الألوهية من حيث الخلق لم توفر للإنسانية أسباب السعادة ولم تدخل الغبطة والسرور عليها. وسبب ذلك أن الثروة الثقافية التي أنتهي إليها الإنسان لم ينلها مجاناً لأن ثمنها الحد من حرية الغرائز. وكل ريح للإنسانية خسارة تلحق بالفرد في أسباب سعادته
تعاودنا في أحلامنا ورغباتنا الغرائز التي أجبرتنا المدنية والأخلاق على كبتها، ولا تزال الذات الأخلاقية تصبو إلى الفوضى والحرية والحيوانية التي كان الإنسان الأول يتمتع بها. فكأننا نفقد من حيويتنا كلما تقدمت المدنية. ويحق لنا إذن أن نتساءل: هل المدنية لم تسط على نفس الفرد، وهل (ذات) المجتمع لم تصب (ذات) الفرد بغبن فاحش؟(383/14)
فما هو الدواء الذي يصفه (فرويد) لمعالجة العلة التي وصفها؟
إن علم تحليل النفس يقرر نظرياً تفوق العقل الباطن والغرائز على العقل الواعي، ويقرر عملياً أن تغلب العقل الواعي هو الوسيلة الوحيدة لشفاء الإنسان
ترى هل يصف (فرويد) للمجتمع ما قرره من قبل للفرد بعد ان لاحظ ما في قوله من الاختلاف بين النظريات وبين العمليات، وهو الذي قرر بشكل حاسم أن الغرائز حاسم أن الغرائز الهمجية هي التي تسيطر على العقل
كان فرويد قد شهد الحرب الأخيرة، ولاحظ تغلب الغرائز على العقل، فلم يقرر علاجه تقريراً باتاً ولكنه رجا أن تصل إليه اليد الإنسانية بعد ردح من الزمان متعللاً بالأماني فقال: (نستطيع أن نستمر على القول في حق بأن العقل الإنساني ضعيف إذا قيس بالغرائز، ولكن هذا الضعف أمر عجيب. إن صوت العقل خافت ولكنه لا يفتأ يتردد حتى يسمع، والعقل لا أشك واصل إلى غايته في النهاية بالرغم من اندحاره أكثر من مرة، وهي ظاهرة من المسائل النادرة التي تحملنا على التفاؤل في مصير الإنسانية. إن تفوق العقل قائم في منطقة نائية، ولكنها ربما كانت غير بعيدة المنال)
وكان آخر مؤلفات (فرويد) كتابه عن موسى وفكرة التوحيد عند اليهود، وهو الكتاب الذي قرر أن موسى لم يكن من العبريين، وأنه كان مصرياً مستدلاً على ذلك باسمه. إن كلمة (موسى) في رأيه مصرية معناها الطفل أو العبد بدليل أسم الملك (تحوتمس) أو (تحوت موسى) أي عبد (تحوت) فيكون أسم موسى اختزالاً كما نقول بالعربية (عبده) لعبد الله. وقد أطلقت أبنه فرعون عليه هذا الاسم المصري الذي لم يكن معروفاً عند العبرانيين
كان موسى من رجال حاشية الملك إخناتون الذي كان أول من قال بالتوحيد عند قدماء المصريين، وجرى بعد وفاة هذا الملك أن ثار الكهنة واستردوا سلطانهم فتفرق أشياعه، ومنهم موسى الذي هرب من مصر وأخذ معه الإسرائيليين لأنهم كانوا مستعبدين مضطهدين
وقد عرض في كتابه لأدلة عديدة مثل مصرية أسماء اللاوبين الذين يقول إنهم كانوا أشياع موسى، واقتباس العبريين عن المصريين الختان وتابوت العهد وهندسة بيت المقدس إلى غير ذلك مما يطول بنا بيانه.(383/15)
هذه آثار (فرويد) في العلم والفكر. ولا شك أن أسمه سيظل عالقاً بنظرية العقل الباطن التي أكتشفها والتي جعلته زعيم مذهب تشيع له علماء كثيرون نذكر في طليعتهم (يونج) و (ادلر) اللذين بنيا أبحاثهما على نظرياته ووصلا إلى نتائج تختلف عن نتائجه خصوصاً في تفوق الغريزة الجنسية واللبيد، وقد أرادا بهذه الكلمة الأخيرة معنى آخر غير الذي قرره لها (فرويد)
على أن أثره لم يقتصر على علم النفس وطب الأعصاب بل تعداهما إلى مختلف العلوم والفنون كالتربية (بداجوجيا) ودرس الميثولوجيا والشعر والنقد والفنون الرفيعة
حين قرر فرويد أن الناس قد يتشابهون في أجسامهم ولكن نفس كل فرد كائن قائم في ذاته لا وجه للشبه بينه وبين غيره فتح باباً جديداً، لا في العلم فحسب، بل في فن النقد والقصة وكتابة التراجم، وجعل من بعض العلوم التي كان العلم الحديث يعترها ضرباً من الوهم كقراءة الطالع بواسطة النجوم أو الكف أو الكتابة علماً يقوم على نظريات جديدة لعلها صحيحة
وخلاصة القول أنه مهما اختلف العلماء في الحكم على مذهب الفردية من ناحية العلم والأخلاق فلا سبيل إلى إنكار فضله لأنه أفاد الإنسانية فوائد جمة في مختلف النواحي فسار بها شوطاً بعيداً في التقدم والرقي وساعد على تخفيف ويلاتها وزاد ثروتها العلمية والفنية فاتسعت آفاق البحث وتشعبت أصوله وفروعه.
صديق شيبوب(383/16)
فخري أبو السعود
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
قضي الأستاذ الشاعر فخري أبو السعود - طيب الله ثراه وخلد ذكراه - فانطوى بموته صديق يعز على الأصدقاء فقده، وأديب يشق على الأدب رزؤه فيه، وعالم لن ينساه العلم وإن نسي الكثير غيره، فمن حقه علي أن أكتب، ومن حقه علي الرسالة أن يتسع صدرها لما أكتبه عن أديب طالما طلعت علينا بالكثير من آياته وغرره.
قال البعض إنه مات منتحراً برصاص مسدسه في لحظة ضيق بعد أن خط هذا البيت على رقعة:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثلاثين حولاً - لا أبالك - يسأم
وقيل إنه فقد ولده في باخرة ترحيل الأطفال الإنجليزية التي أغرقها الألمان، وقيل إنه انقطع اتصاله بأسرته في إنجلترا، وقيل إن في الأمر جريمة قتل. . . إلى غير ذلك مما يذيعه الناس في مثل هذه المناسبات، إذا عمي عليهم الأمر ووقعوا في الحيرة، فذهبوا يتقصصون الآثار، وينتحلون العلل، ويضربون في الأوهام. . . ثم انبرت أسرته تكذب كل ذلك وتقول إنه مات برصاصة طائشة من رصاص مسدسه أثناء إصلاحه. . . كل ذلك لا شأن لنا به فلقد مات الرجل - يرحمه الله - وانقضى الأمر؛ إلا أن ما عرفته في فخري طول صحبتي له من صموده للحياة، وثقته بالله وعدم تطيره من الحادثات، يجعلني كثير الشك فيما قيل عن الانتحار. . . فقد كنت معه مرة في معرض الحديث عن مقال في الانتحار لأديب كبير، ثم تطرق بنا الحديث إلى ذكر فلان من أدباء الشباب - وكان فخري يعجب بأدبه ولا يعرفه - وأنه قد حاول الانتحار في ذلك الحين، فسخر فخري منه، فلما عرضت على فخري أن أعرفه به أبتسم قائلاً: (إنني لا أود أن أعرفه)
عرفت فخري أول ما عرفته في أول عهده بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية، وكان ناظرها في ذلك العهد الأستاذ عبد الرحمن شكري. قدمني إليه صديق، فخلت بادئ ذي بدء، أنه أحد الطلبة، فقد كان - رحمه الله - ضئيل الجسم، قصير القامة قليل الكلام، شديد الخجل، لا تبدو عليه سنه؛ فلما قدمه الصديق إلى، خلت أنه هازل لا جاد، أو أنه ربما أشتبه عليه الاسم - فكثيراً ما تتشابه الأسماء -، وساعد على ذلك أن الصورة التي كنت(383/17)
رسمتها لفخري في ذهني - من المطالعة - تتباين مع أراه جد التباين، فسلمت عليه في فتور ووناء، ثم إنه كان قليل الكلام - كما قدمت - فتوهمت أن ذلك قلة مبالاة، فقابلته بالمثل، فكانت مقابلة جافية أسرها لي فخري، وعتب علي بعد ذلك بزمن
ثم مضت الأيام فذهبت إليه في بعض الشأن، وكنت قد نشرت قصيدة بجريدة الأهرام بعنوان (الصباح)، فقابلني مقابلة طيبة، وجلسنا نتحدث عن القصيدة، ثم عن الشعر في مصر، ثم قرأ لي قصيدة عنوانها (نجوم السينما) كان يعدها للرسالة، وأهدى إلى كتابه عن الثورة العرابية؛. . . ثم تكررت المقابلات بعد ذلك، واتصلت بيننا أسباب المودة، فكنا نلتقي في أكثر الأيام
نقل فخري بعد ذلك إلى الرمل الثانوية، وتركت أنا الإسكندرية، ثم عدنا فالتقينا في الإسكندرية بعد ذلك بعام، وكنت قد اتصلت بالرسالة، وكان قد بدأ يكتب فيها سلسلة مقالاته عن المقارنة بين الأدبين العربي والإنجليزي، فأثارت اهتمام كثير من الأدباء، وقد أبدى لي الأستاذ الزيات إعجابه بها أكثر من مرة، وكتب إلي فخري يقول في ختام خطاب له - أطلعني على فخري -: (فأستزيدك، ثم أستزيدك، ثم أستزيدك). وكان في نية الأستاذ الزيات طبع هذه المقالات بعد إتمامها، ولكن فخري لم يتمها
ظهرت بعد ذلك مجلة الرواية، وبعد ظهورها بنحو عام وقعت جفوة بين فخري وبين الزيات أدت إلى قطع هذه المقالات، وانقطاع فخري عن الرسالة. . . قابلته بعد ذلك بحين فشكا لي شيئاً من ركود الذهن بعد انقطاعه عن الرسالة؛ وقال لي إنه شديد الخجل لأن الأستاذ الزيات مازال يرسل إليه مجلتي (الرسالة) و (الرواية) في حين أنه لا يؤدي له أية خدمة نظير ذلك. . .
وظهرت في ذلك الحين مسابقة وزارة المعارف في التأليف؛ فعرض علي بعض ما كتبه. وكان - رحمة الله عليه - كثير الشك في الفوز، فطمأنته ورجوته أن يتم ما بدأ، فأتمه - وأظنه فاز بجائزتين -؛ ثم انقطع حيناً عن الكتابة وانصرف إلى القراءة، وكنت ألقاه في ذلك الوقت كل يوم تقريباً، فنمضي سيراً على الأقدام في طريق (الكورنيش)، ويمتد بنا الحديث في الأدب والجدل أحياناً حتى نجد أنفسنا في جهة لم نكن نقصدها؛ وكثيراً ما كان يشغلنا الحديث حتى نقطع في السير مسافات بعيدة دون أن ننتبه؛ فقد كان رحمه الله يؤثر(383/18)
السير على الجلوس؛ وكان شديد النفور من المجتمعات ولا أذكر أنني رأيته مرة في مقهى أو منتدى ولعل ذلك هو السبب في سعة اطلاعه، ووفرة إنتاجه، فكان يقسم فراغه بين التريض والقراءة، والكتابة. والظاهر أن ذلك يرجع إلى طبيعته الهادئة، فقد كان يكره الضجة، ويتجنب الناس. وكان منزله في بقعة هادئة من رمل الإسكندرية، وحتى طفله يبدو لي أنه ورث عنه هذه الميزة، فكان ينفر من الغريب، ويبتعد عن الناس، أذكر أنه تركه معي مرة وذهب لبعض شأنه، فجعل الطفل يصرخ ويبكي ويتملص مني ليجري، وعبثاً حاولت تهدئته ولكنه لم يهدأ حتى عاد والده إلى جانبه مبتعداً عني
ولا أود أن أختم هذه الإلمامة قبل أن أشير إلى دراسة فخري واتجاهه في الأدب؛ فقد تخرج في المعلمين العليا واشتغل بعض عام بالصحافة، ثم اختارته وزارة المعارف في بعثة لها فتخرج في جامعة إكسترا في إنجلترا - وهناك تزوج من زميلة إنجليزية له في الدراسة - فلما عاد اشتغل بالتدريس في المدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية وكان فخري - رحمه الله - كما علمت منه مكباً على القراءة من صغره ولا سيما قراءة القديم حتى أوشك أن يستظهر كتباً بأكملها، ويظهر ذلك جلياً في أسلوبه، فتمتاز كتابته بقوة الأسلوب وجزالة الألفاظ. كذلك تبدو في شعره محاولة تقليد القدماء، وقد تأثر في هذا بالبارودي، وكان يحفظ جل ديوانه ومختاراته. وكان يؤثر من الشعراء القدماء أبا تمام وبعض شعراء الجاهلية لاسيما طرفة بن العبيد. كل هذه الدراسات القديمة كان لها أثر واضح في شعره لا يخفى على قارئه، وكان يختار منها اكثر شواهده في مقارنته بين الأدبين العربي، والإنجليزي. وكان يؤثر العقاد على شوقي وحافظ، وكثيراً ما قام بيننا جدال طويل في ذلك. وكان رحمه الله ينظم الشعر في سيره فتراه يغمغم في سيره بكلام لا تستبينه لانخفاض صوته، حتى إذا جلس كتب ما قال، ولا يزال كذلك حتى يتم القصيدة
وهناك ناحية تجب الإشارة إليها هنا وهي ضيق صدره بالنقد، وإن كان سلم منه في الصحف، وكثيراً ما كنت آخذ عليه ذلك. حدث مرة أن عثرت له على بعض أخطاء في نسبة الشواهد، وعلى هنة لغوية في قصيدة له، وكان في ذلك العهد يقضي الصيف بإنجلترا، فانتظرته حتى عاد فنبهته لذلك فغضب مني ودعاني في اليوم التالي وقد جمع لي بعض ما كتب في الرسالة وجعل ينتقد لي بعض المعاني حتى يرد علي بالمثل(383/19)
وقد نشر فخري القسط الأكبر من كتابته بمجلة الرسالة، واتصل في أواخر أيامه بمجلة الثقافة وجعل يكتب بها حتى توفاه الله، وفيما عدا ذلك له متفرقات بجريدة الأهرام والهلال وغيرهما من الصحف هذا غير كتابيه (الثورة العرابية) وقصة (تيس)
رحمك الله يا فخري، وأجمل عزاء الأدب فيك، ولطف بأصدقائك وعارفيك. فقد كنت نعم الأديب ونعم الصديق. . .
هذا بعض حقك علي، أرجو أن تجد لي العذر إن كنت قد قصرت فيه أو أخطأت فإن الحزن يغالب خاطري وذاكرتي كلما أمسكت القلم لأكتب عنك، أو أنا كما يقول شوقي:
رثيتك لا مالكا خاطري ... من الحزن إلا قليلاً خطرْ
سقتك الدموع فإن لم ... يدمن كعادتهن سقاك المطر
أحمد فتحي مرسي(383/20)
عودة إلى الروض
للأستاذ محمود البشبيشي
كنت أعلم أن للقلم غفوة كما للقلوب، ولكن لم أكن أدري أن للقلم صحوة كصحوة القلوب
وما كنت أعلم أن القلم يدرك معنى الحنين، ويحس لوعة الفراق، أنه كالقلوب تحس أن الحنين دليل الرغبة، والرغبة سبيل العودة
لم أكن أعلم هذا، حتى قرأت كلمة الدكتور الفاضل زكي مبارك، فأحسست أن القلم غلبه الحنين والشوق، وأنه أصبح من مادة القلوب يسيره الشعور وبأمره فيطيع!
. . . ودبت فيه الحياة من جديد وأخذ يمطرني وابلاً من الخواطر السيالة بالعاطفة، المتلألئة بالنور، الفواحة بالزهر، تخلص من فكرة لفكرة خلوص كلمة الحب من قلب المحب! نقية طاهرة. وللقلم حق عزيز عليَّ. . . آه من تبعاته ورغباته!
فيا ليتك يا صديقي ما تلفت فهجت أحلاماً كانت هي أيضاً في حلم! ويا ليت قلبي ما تلفت وتسمع. . . يا ليته، يا ليته!
فأيقظ القلم وحرك الطبيعة الكامنة في النفس كمون سر الحياة فيها. . . أنت السبب في كل ذلك يا دكتور. . . أنت السبب في العودة وحنين العودة، فقد أحسست روحاً غريباً ينشره أريج كلماتك سحراً تتلفت إليه القلوب فيقيدها! ثم هي برغم ذلك تهنأ بالقيد لأنه روحي نبيل في ضغطه على النفوس. . . فأعجب لقلب ينعم بأن يتعذب ويتعذب بأن ينعم! إنني هذا القلب الغريب!
فمن الناس من يرق ويرق، وينبل وينبل، ويدق شعوره حتى يُصبح كل جزء من جسده البشري قلباً حياً. . .!
وأنت أيها الصديق من هذه القلوب التي تمشي على الأرض! وتتألم لأنها لا تستطيع إلا أن تتألم، وتحب لأنها لا تستطيع سوى أن تحب! هي حرة في كيانها وليست بحرة. . . صريحة في فعلها وميولها وليست بصريحة. . . يقيد حريتها خوف الجور على حرية الغير! وهذا نبل جميل. . . ويمنع صراحتها خوف جرح قلوب الغير. . . وهذا نبل آخر. . .
أنت من هذه القلوب أيها الصديق وإن احتار في أمرك الكثير، وطالبك البعض برفع القناع(383/21)
عن زكي مبارك الأديب. وليتهم قالوا عن القلب المبارك الأديب!
أيها القراء إن أردتم معرفة زكي مبارك الرجل فأنا أقول: إنه الوفاء والشهامة والسهولة في الطبع. . . وإن أردتم معرفة زكي مبارك الأديب أو القلب المبارك الأديب واحترتم في أمره فعليكم بما كتب وما سوف يكتب في عالم الحب والجمال وصوفية الحب والجمال
هناك تلمسونه روحاً تتدفق، وقلباً يعرف كيف يحب وكيف يكره، كيف يصارح وكيف يرائي، كيف يتألم فيستر الألم لعزة في نفسه، ويفرح فيملأ الدنيا غناء، لأنه قلب إنساني كما قلت لا يحب أن ينعم وحده. بل يسعده أن يُطلع قلوب الغير على أطياف السعادة!
أيها الحائرون في أمر الدكتور، أنا لا أرى سبيلاً للحيرة في أمره. وكيف تصح الحيرة في رجل (يقتل الوقت والعافية في تذكر القلوب الغوادر، وفي دنياه تكاليف تميد من أثقالها الجبال. لأن الموجب معروف وهو الوثاق المسطور في اللوح المحفوظ بألا تعيش روح إلا مجذوبة إلى روح).
كيف الحيرة في رجل يرى من يكذبه صادقاً. لأنه كاذب في تصوير ما يعانيه!
تلك يا دكتور فلسفة جميلة، وأجمل منها أنك أحكت أحبولة الرياء وجه الوشاة والعذال. إنه رياء نبيل حقاً. . . ولكني في حيرة من أمر ذلك الرياء الذي تقربت إلى الله به. وأنا في حيرة فهل لك أن تأخذ بيد صديقك من الظلمة فيطمئن قلبه عليك وعلى نفسه! أهو رياء المجد كل ما فيه حب ووفاء!. . . ما أصدق حنين القلم وما أجمل العودة إلى الروض!
يا صديقي. . . لست أدري أي سحر في ظلال دوحة أفكارك استطاع أن يخرجني من صمت ظننته لا يفارقني ولا أفارقه. . . أي سحر يا صديقي أي سحر!
ترىُ هل ودعني الأدب يوم ودعته لغير عودة، وفي نفسه أن يعود، وأن يكون بعثه على يدك يا دكتور، وإلا فما هذا الصوت الغريب الذي يناديني من ثغور أزهارك؟ وما هذه الألوان النفسية الصوفية التي تغمرني من خواطرك الجريحة في الشوق والحب!
تسأل يا دكتور ماذا تضمر الدنيا في أيامها المقبلات؟! إنها تضمر الخير والحب والنور والمجد، وما كان لها سوى أن تضمر ذلك للقلب الذي صير الحديث عن الوفاء والحب شريعة من شرائع الوجود!! للقلب الذي يسأل أين بائع النسيان؟ وأين بائع السلوان؟ للقلب الذي علمته صوفية الحب ألا يرائي من يبغض، ويرائي من يحب!! إنها القلوب أيضاً يا(383/22)
دكتور لها من منطق شعورها صراحة لا يعرفها سوى الذين خلقوا وكل ما فيهم قلوب حية!!
يا طالما أحسست في نفسي شيئاً لم أستطيع إدراكه، ومر على قلبي إحساس لم تفسره دقاته! ولكنني اليوم واليوم فقط علمت هذا الشيء وعرفت هذا الإحساس. إنها أغنية العودة إلى الروض، أغنية القلم تذكرني بأيامه ولياليه، بل بأيامنا وليالينا أيام كنا يا دكتور نصل الحديث بالحديث، نتقابل لنتكلم في النثر والشعر، ونفترق لنعود للنثر والشعر. . . أيام كانت نفس تشعر بالحياة لأن كل شيء في الحياة يشعر بها. . . وقبل أن تسود الضمائر وتجحد الأيادي!
. . . لا يكاد يظهر كتاب حتى نقتله بحثاً أو ننقده نقداً نزيهاً يعلمه الدكتور. تذكرت هذه الأيام والليالي، وما كان منا في هذه الأيام والليالي، وهاجت الذكرى في نفسي فأصبحت شعوراً قوياً وكبر الشعور للقوي فصار رغبة، وتجسمت الرغبة فكانت عودة إلى الروض، الروض الحبيب، روض الأدب، وكنت أنت باعث هذه الرغبة وصاحب الفضل في تلك العودة
فيا أيها القلم تحية لقاء حبيب مني!. . . علم الله ما تركتك زاهداً. . . إنما عز علي أن أشرعك في وجه من يشرع في وجههم السيف وشيء آخر أحقر من السيف! ولكنها عودة جميلة. . . ومن العيب أن أناديك فلا تلبي النداء. . . إن الروض قد ابتسمت أزهاره فلم لا تبتسم. . . وإن رفاق الفكر والقلب ينتظرون منك الأغنية. . . والعودة إلى الروض. . . بعد أن ظن رفاق السوء أنها غفوة لا صحوة بعدها! أيها القلم، عزيز على هذه الغيبة الطويلة. . . وحبيب إلى هذه العودة الجميلة. . . وليعلم الذين جحدوا آياتك. . . أن الدائرة تدور. . . وأنك بالمرصاد! وأن القلب الكريم إن هو لم يثر في وجه المعتدي يوماً فله عودة وعودته غير عودته إلى الروض!
(المنصورة)
محمود البشبيشي(383/23)
عراك في معترك أي معترك
للأستاذ زكي طليمات
هذا التحدي بالسباب من جانب الأستاذ محمد متولي نرده إلى صاحبه
نحن هنا، على صفحات هذه المجلة للأدب الصرف وللعلم الخالص، وقد نكون في غيرها لما يريده الأستاذ الجامعي الثقافة. لهذا نقول له إننا نحجم عن ذلك في هذه الصحيفة، لا إكراماً لشخصه ولا ترفقاً لحاله، لأن من يقذف الناس بالحجارة من غير مبرر لا يرده ويحسن تأديبه إلا القذف بما هو دون الحجارة، ولا لأي اعتبار آخر سوى وقار الموضوع الذي تبادلنا الحديث فيه، وهو موضوع جدير بالرعاية في معالجته على الوجه الصحيح. كشف عن لون جديد من ألوان المعرفة، وتقرير صنف حديث من أصناف التأليف المسرحي، نقول إنه موضوع طريف، أثار وسيثير حوله جدلاً طويلاً ستتبارى فيه الأقلام وتختبر المعارف وتسقط الأقنعة المزيفة عن الوجوه، فيتضح - وليس للمرة الأولى - كيف أن النقد يجب أن يقوم قبل كل شيء على الخلق الرضي المتواضع لا على التعلم المزهو فحسب، لأن التعلم وحده لا يحقق إنتاج الأديب الأصيل الذي يصدر أحكامه عن عقيدة مخلصة في الحق والعدالة، وكيف أن الذكاء وهو من صقل التعلم، مجرداً عن الخلق العادل، إنما يكون أداة للتضليل ومعولاً للشر، ثم ينهض البرهان من جديد على أن بعض التعلم (وإن أذهب عن العاقل طيشه، فإنه يزيد الأحمق طيشاً، كما أن النهار يزيد كل ذي بصر نظراً ويزيد الخفاش سوء النظر)
نحن إذن أمام قضية خطيرة للعلم وللقراء ولهذه المجلة، قضية يجب أن يقضي فيها بشرعة الحق وبقسطاس العلم، والعلم أمانة وذهن القارئ أيضاً أمانة لدى الكاتب، ولدى أستاذنا صاحب هذه المجلة
لهذا سنمضي في أثر الأستاذ متولي مهما شاء له أدبه
وتمهيداً للبراهين التي سنسوقها للتدليل على ما وصفنا به نقد الأستاذ متولي، نعرض أولاً للباب الموضوع حتى يحسن القارئ تفهمه
الرمزية المستحدثة أوسع نطاقاً من رمزية (ريبو)
مثار الخلاف أنني دفعت رأي الأستاذ متولي في أن الرمزية التي نحن بصددها في(383/24)
مسرحية (مفرق الطريق) أوسع نطاقاً من الرمزية التي حددها الأستاذ متولي، نقلاً عن (ريبو) وحده في كتابه (المخيلة الخلاقة. باريس سنة 1900)
الأستاذ متولي يقول بلسان (ريبو): (إن الرمزية في الفن تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً فإذا الناس والأشياء ثمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما تدري أين حصلت ولا متى، فلا هي تمت بصلة إلى أي بلد ولا هي تمثل عصراً بذاته)، ولما كانت (مفرق الطريق) تعرض صوراً محلية تجري حوادثها في مصر؛ وما دام بشر فارس قد أسمعي بطل مسرحيته (هو) وأسمى بطلتها (سميرة)، إذن فالمسرحية لا تمت في نظر الأستاذ متولي إلى الرمزية في شيء وأنها محاولة مخفقة، وأن مؤلفها لا يصح له أن يؤلف، إلى غير ذلك من العبارات التي أصدرها بمراسيم تحمل أسمه الكبير!!!
سجل متولي هذا في أول مقال له فرددنا عليه في مقالنا السابق
1 - بأن (ريبو) واحد ممن كتبوا في علم النفس وأن ما أدلى به هذا (الريبو) بصدد الرمزية في الأدب، قد فات أوانه بعد أن انبسطت للرمزية أطراف جديدة أخذ بها مؤلفون محدثون في تأليف المسرحية والقصص والشعر، وذكرنا أسماء لبعض هؤلاء المؤلفين وكلهم من المبرزين في عالم الأدب الرفيع أمثال (بيراندللو)، (جيرودو)، (حانتيون)؛ وهم مؤلفو مسرحيات رمزية صميمة لم تتقيد بآراء (ريبو) من حيث الاستخفاف بتمثيل العالم الخارجي وغير ذلك؛ بل هي مسرحيات تنطبع بزمان ومكان، وشخوصها يحملون أسماء كسائر الناس، وتجري حوادثها في مدن معروفة. وذلك أن الرمزية المستحدثة أصبح مدراها الأول استكناه خفايا النفس وبواطن الشياء، أو بمعنى آخر (استنباط ما وراء الحس من المحسوسات الخ)، كما أورده بشر فارس في مقدمته لمسرحيته المذكورة
2 - ولم نقف من هذه الأقوال عند مجرد الرد فحسب، وإنما أضفنا إلى هذا النقص عند (ريبو) ذكر نقص آخر، قرره العالم (أبيل راي أستاذ تاريخ العلوم وفلسفتها بجامعة السربون. وذلك في بحث له عن الاختراع بكتاب لجورج دوماس (صفحة 1441 السطر 14 - 20 الجزء الثاني طبعة باريس 1924) هذا نصه:
' , ' - ' - , '
ومجمل ترجمته: (يلوح لنا أن علم النفس عند (ريبو) في مسائل (المخيلة) والاختراع لا(383/25)
يزال تحت تأثير النظرية الآلية البسيطة الخاصة بتجزؤ الذهن إلى ذرات متجاورة)
3 - وأيدنا هذا النقص بذكر تقدم علم النفس في هذه المسألة بعينها على أيدي الفيلسوفين (وليم جيمس) و (بريجسون)!
(وقبل أن أنتقل من هذه النقطة أرجو القارئ أن يقف قليلاً أمام هذا النص الفرنسي ومجمل ترجمته فله قصة طريفة سنوردها بعد قليل!)
4 - ولم نكتف بكل هذا، وهو من صميم العلم الذي لا ترقي إليه الشبهات، بل رجعنا إلى (ريبو) نفسه في كتابه المذكور (المخيلة الخلاقة) ووقفنا عند النص الذي اقتطعه الأستاذ متولي ليدعم دعواه في الرمزية، فوجدنا، ويا للعجب، أن (ريبو) لم يتحرج التحرج الذي أراده متولي، إذ أنه، أي (ريبو) لم يحتم التحتيم كله أن أن تكون الرمزية ممعنة في الإبهام إذ يقول (إنه كثيراً ما تفلت الرمزية - في عهده طبعاً - من التحديد الزماني والمكاني، وإذ يقول إن الأسماء، أسماء الأشخاص في المسرحية يعبر عنها أحياناً بهو أو هي، أو هم!
5 - ثم تساهلنا مع الأستاذ متولي فقلنا إنه على فرض أن (ريبو) إله في علم النفس، وأن آراءه في الرمزية لم يشحب لونها، وعلى فرض أن العلماء مثل لم تطعن في صحة موقف (ريبو) في كلامه عن (الاختراع) و (المخيلة) كما قدمنا، على فرض كل هذا، فإنه من الغريب أن يأتي متولي عام 1940 فيفرض على كل كاتب في الرمزية أن يخضع ما يكتبه فيها لآراء (ريبو)، فيقول للدكتور بشر فارس إما أن تنشئ على آراء (ريبو) وإما فما تنشئته لا يمت إلى الرمزية بصلة ما! ثم سألناه، بعد أن قررنا له أن العلم يتقدم والنظريات تتطور: وما نفع مسايره الأدب - وفيه الرمزية - للعلم في تقدمه وفي مستحدثاته؟
أين موضوعية النقد يا أستاذ؟
بهذا المنطق الواضح والبرهان المستقيم دفعنا أقوال الأستاذ متولي، وهي أقوال أتخذها أساساً لانتقاص مسرحية (مفرق الطريق)، فلم يدفع ما أدلينا به بحجة علمية واحدة مع أن ما نحن بصدده في هذا يؤلف جوهر الموضوع!
فهل قرأ متولي هذا في مقالنا ولم يفهمه، أو هو قرأه ووعاه ثم أسقطه من حسابه في رده علينا خشية أن يبدو أمام القراء في غيبوبة وتباطؤ في التحصيل لا يصح أن يكون عليهما(383/26)
مزهو بإجازة الماجستير!!
لئن كان الأمر الأول فله العذر ولنا العزاء، ولئن كان الأمر الثاني فيا خيبة الأمل في نزاهة النقد وصدق النفس!!
الهارب المهزوم!!
بماذا طلع علينا متولي في مقاله الأخير؟؟
1 - سبحات في خيال، ونطحات في جدار، وسباب ساقه إليَّ وإلى بشر فارس يعزيني فيه، كما يعزي - على ما أظن - بشر فارس، أنه في غير حياء إلى المستشرق الكبير الأستاذ (بركلمن)، الحجة في تاريخ الأدب العربي، هجم متولي، الماجستير في الفلسفة من الجامعة المصرية على هذا الإمام الكبير فنعته (بالغفلة) لأنه قرر في تاريخه عن الأدب العربي الحديث عن مسرحية (مفرق الطريق): (نحن هنا عند استهلال تطور يستطيع أن يحدث تجديداً في الحياة الأدبية أو قل يجلب ثروة إليها)
ما رأى أساتذة كلية الآداب في هذا، وبماذا يعاقبون التلميذ محمد متولي؟
2 - عمد إلى المغالطات الصريحة والادعاءات الجريئة، وإلى القارئ بعضاً منها:
(ا) أدعى أننا نسبنا - غفلة وجهلاً وإمعاناً في تزييف الحقائق
العلمية - ما قاله العالم (أبيل راي خاصاً بنقد (المخيلة) عند
(ريبو) - ونص هذا القول سجلناه بالفرنسية مع ملخص
ترجمته قبل هذا بسطور ورجونا القاري أن يقف عنده - أدعى
الأستاذ متولي أننا نسبنا هذا إلى (وليم جيمس) الفيلسوف
المعاصر، ولا نعرف لهذه الدعوى وجوداً إلا في مخيلة متولي
المبتدعة، لأننا أوردنا نص ما قال في مقالنا السابق مع إشارة
صريحة إلى أنها واردة في كتاب لجورج دوماس، ولم(383/27)
نغفل تاريخ طبع الكتاب وأرقام الجزء والصفحة والسطر! وما
على القارئ إلا أن يتفضل بالمراجعة ليحكم هل أنا المزيف أم
الأستاذ متولي!
(ب) يدرس لا يدرس
قلنا في مقالنا السابق إن كتاب جورج دوماس هذا يدرس اليوم في جامعة السربون بباريس، ولم نضع شكلاً على كلمة (يدرس) باعتبار أن المعنى صريح لا يحتاج إلى ضبط لدى كل من له معرفة بدراسة الجامعات، وقد قمت بدراسة في جامعة السربون لتاريخ الفن ' الذي يصح أن يعرفه الأستاذ متولي، ولكن مخيلة الأستاذ شاءت أن ترى في كلمة (يدرس) بمعنى يقلب ويقرأ، معنى آخر تحدده كلمة (يُدرَّس) أي واجب على الطلبة الأخذ بكل ما جاء فيه. كبا متولي هذه الكبوة ليقول مزدهيا: إن زكي طليمات لا عهد له بالدراسة الجامعية وعليه فلا يجوز أن يناقش خريجاً من جامعة
(ج) ولو!!
أراد متولي أن يسجل علينا رذيلة التطاول والتهجم على رجال العلم، وأولهم في نظره (ريبو)، لأنه عكازه ومنظاره فيما يكتب، فقال: إن (ريبو) هذا الذي لا يرضينا هو الذي عرف (جورج دوماس) فضله فاختاره ليكتب له مقدمة كتابه السابق الذكر. هذا في حين أننا لم ننتقص قدر (ريبو) هذا ولم نتطاول عليه، وكل ما قلناه عنه أن آراءه في الرمزية قد فات أوانها، ولم نكن في هذا أقل براً من جورج دوماس نفسه الذي أصطفى (ريبو) لكتابة مقدمة كتابه، ثم سجل عليه في نفس الكتاب ما أخذه عليه العالمِ السابق الذكر!
(ء) الفيلسوف المعاصر!
قرر الأستاذ متولي إرسالي إلى محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته لتعاقبهم، قرر هذا تتقدمه عريضة اتهام مفادها أنني وصفت (وليم جيمس) بالفيلسوف المعاصر، هذا في حين (وليم) هذا توفي في عام 1910، فهو بذلك غير معاصر!(383/28)
وهنا أقول إنه يؤسفني أن أصرح بأنه ما كان يدور بخلدي أن متولي يجهل كل المعنى التي تحت كلمة معاصر وموعدنا العدد القادم ليحكم القراء فيمن يقدم إلى هذه المحكمة وإلى محاكم أخرى من نوعها، أنا أم الأستاذ محمد متولي؟
(الحديث بقية)
زكي طليمات(383/29)
قصة القمر العاشق
للأستاذ علي محمود طه
للأديب محمد سيد الكيلاني
هي قصة بارعة في قصيدة رائعة عدتها اثنان وثلاثون بيتاً، ومع هذا، فإنها تقع في أربعة فصول تمثل لنا العشق في صورة مستحدثة، وتعطينا لوناً لا عهد لنا به من ألوان الموسيقى. وهذه القصة واضحة المعاني، بينة المرامي، بالرغم مما فيها من رموز وإشارات. وهي مفعمة بالشذوذ، ولكنها مع هذا كله مما يستقيم به منطق الشعراء الواقعيين
يتحدث الشاعر في قصيدته عن (قصة قمر عاشق) يهوي الصبايا الحور، ويقتحم عليهن الخدور. ولقد تواضع الشعراء من قبل على أن يجعلوا من القمر معشوقاً جميلاً رقيقاً فاتن السمات، بديع القسمات، فشبهوا به وجه الحبيب، وفي ذلك يقول قائلهم وهو يخاطب الليل:
لو كان عندي قمر ... ما بت أرعى قمراً
ولكن شاعرنا المهندس خرج على هذا الإجماع فجعل من هذا المعشوق الوادع الرقيق عاشقاً سابياً وعربيداً فاتكاً، فأسبغ عليه منصفات الرخاوة حيناً، والضراوة حيناً آخر، ما جعل قصيدته قمينة بالنظر، حرية بالاستقراء، جديرة بتأمل كل حسناء كأنما يوجه إليها الشاعر قصيدته، كيلا يستخفها هذا الضوء الرطب المنحدر من قمر الليالي الصائفة فيلهيها عن نافذتها المفتوحة قال مخاطباً هذه الغادة:
إذا ما طاف بالشرفة ... ضوء القمر المضني
ورف عليك مثل الحلم ... أو إشراقة المعنى
فهنا شرفة يطوف حولها ضوء القمر متعباً من طول ما قطع من مسافة إليها وهذا الضوء لطيف عذب كالحلم، مشرق كالمعنى المتوقد في خاطر الشاعر، يرف على زنبقة نائمة في مهدها، وقد انحصرت غلالتها الرقيقة عن بعض جسمها. قال وأنت على فراش الطهر كالزنبقة الوسنى:
فضمي جسمك العاري ... وصوتي ذلك الحسنا
وفي هذا النداء الأخير تتجلى عبادة الشاعر للجمال وتقديسه له، فهو يربأ بهذا الجسم الفاتن أن يكون نهب هذا الضوء المفتون، أو بمعنى آخر نهب الأعين الشرهة الجارحة، فالشاعر(383/30)
ينصح صاحبته الحسناء أن تضم جسمها العاري وأن تستره حتى يبقي حسنها مصوناً. فنظرة شاعرنا المهندس إلى المرأة وجمالها في هذين البيتين نظرة فنية روحية في حين أن شاعراً كإسماعيل صبري كان ينظر إلى الجمال نظرته إلى المتعة المبذولة. قال:
إن هذا الحسن كالماء الذي ... فيه للأنفس ري وشفاء
لا تذودي بعضنا عن ورده ... دون بعض واعدلي بين الظلماء
فنظرة علي محمود طه إلى الجمال أسمى وأنبل وهي على أنها نظرة شاعرية متخيلة إلا أنها واقعية مستمدة من صميم الحياة وطبائع الأشياء. أما نظرة إسماعيل صبري فهي ساذجة أو قل إنها تنافى منطق الحياة وتجافي طبائع الأشياء إن هذه المرأة التي يطلب منها إسماعيل صبري أن تجعل من حسنها مورداً لكل ظمآن ومتعة لكل إنسان وأن تعدل بين الظماء فلا تزيد في كأس هذا قطرة عما في كأس ذاك لم تخلق بعد وهي كما يصورها إسماعيل صبري ليست من بني البشر، إنما هي آلة مصنوعة توزع الطعام والشراب بالدرهم والمثقال. هذا هو التمهيد الذي قدمه الشاعر لقصته
أما الفصل الأول فهو هذا الضوء الذي نظر من خلال السحاب فرأى هذه الفتاة النائمة وقد تعري بعض جسمها ففتنه جمالها فهبط من عليائه إلى أرض حديقتها، ثم نظر فإذا هي نائمة في فراشها تحت نافذتها وهنا يمثل الضوء دوراً تاريخياً من أدوار العشق والغرام التي قام بها روميو، فيسترق الضوء الخطأ حتى يصل إلى هذه النافذة فيراها عالية فيتسلق إليها الأغصان لا يبالي بأشواكها حتى يصل إلى فاتنته قال الشاعر:
ومس الأرض في رفق ... يشق رياضتها الغنا
عجبت له وما أعجب ... كيف استلم الركنا؟
وكيف تسور الشوك ... وكيف تسور الغصنا
والفصل الثاني حين يقف الضوء في مخدع الحسناء فيرى في خديها خمر صبابة. ولقد ألفنا الشعراء يصفون خدود الملاح بالتفاح ولكن علي محمود طه إلى وصف ما ينبعث من الخلود من سحر وجمال بخمر صبابة لا ينضب معينها قال:
على خديك خمر ... صبابة أفرغها دنا
رحيق من جنى الفتنة لا ينضب أو يفني(383/31)
ثم أسترسل الشاعر في الخيال فتصور ضوء القمر غريماً له ومنافساً سبقه إلى هذه الغانية، ثم ذكر غيرته عليها كلما قبل ثغرها أو لف نهدها أو ضم جسدها قال:
أغار، أغار إن قب ... ل هذا الثغر أو ثني
ولف النهد في لين ... وضم الجسد اللدنا
ثم أخذ ينصح صاحبته بألا تستهين بهذا الضوء وأن تأخذ حذرها منه، وأن تخشى بأسه. وقد دعم أقواله بحقيقة من الحقائق العلمية، فذكر أن هذا الضوء يؤثر في الموجة الكبرى ويرغمها على الخروج من أعماق البحار. وفي هذا إشارة علمية لطيفة إلى المد فإن الأمواج ترتفع تحت جاذبية القمر. وهنا ينتهي الفصل الثاني
أما الفصل الثالث فيبدأ حينما تصور الشاعر هذا الضوء وقد عجز عن أن ينال من هذه الحسناء بعد أن أسبغ عليها كل فنه وجماله. . . قال:
أراد فلم ينل ثغراً ... ورام فلم يصب حضنا
حوتك ذراعه رسماً ... وأنت حويته فنا
في حين أن الفصل الرابع يتمثل في ثورة هذا الضوء الذي أظهر الرعونة والطيش ومضى يطوي السهول والحزون:
يثير الليل أحقاداً ... وصدر سحابه ضغنا
وعاد الطفل جباراً ... يهز صراعه الكونا
فهذا الذي كان يجثو أمامها كالطفل ملتمساً العطف عاد جباراً يهز الكون هزا بصراعه الشديد المتواصل، يثير الرياح ويرسل العواصف فيهرع الناس إلى منازلهم كما يهرعون عند سماع صفارة الإنذار من الغارات الجوية، ويسرع كل منهم إلى لقاء زوجته. وحينئذ يذكر الناس أن القمر لابد أن يكون مفتوناً بغادة ملكت عليه كل جوارحه. ثم نصحها بأن تتقي شر ذلك الجبار وتقفل النافذة حتى تصون حسنها من ثورة هذا العاشق، وحتى لا يظن الناس بمخدعها الظنون. وختم هذه الدرة الثمينة بقوله:
فكم أقلقت من ليل! ... وكم من قمر جنا!
محمد سيد الكيلاني(383/32)
رسالة الشعر
من أمسيات الخريف
للأستاذ محمود الخفيف
حَتَّامَ تَوحي شَمْسُهُ الغَارِبَهْ ... للنَّفْسِ هَذا الشَّجَنْ؟
حَتَّامَ تَحْكِي لِي المُنَى الذاهِبِهْ ... وَقَدْ تَرَاخى الزَّمَن؟
شُحُوبُهُ في وَجْنَتِي الشَّاحِبَهْ ... يَكشِفُ مِنْ أسْقامِهِ ما كَمَنْ
مَنْ مُبْلِغٌ آسِرَتي الغَائِبَهْ ... أنِّي غريبُ هَاهُنا في الوَطَنْ؟
أمْسُ انْقَضَتْ يا قَلبُ أحْلاَمُهُ ... فَفِيمَ هَذا العَذابْ؟
لا تَنْفَعُ المَحْزُونَ أوْهَامُهُ ... إلاّ كَلَمْحِ السَّرَاب
هَذا الأسَى النَّوَّاحُ أنْغَامُهُ ... كالرِّيحِ أنَّتْ في شِعَاب الهضابْ
وَدَمْعُكَ السَّحَّاحُ تَسْجَامُهُ ... كما هَمَى في القَفْرِ دَمْعُ السَّحَاب
وَأحَزَنَا هَذَي رِياحُ الخَرِيفْ ... نَوَّاحَةً شاكِيَهْ
أرْغُولُها غَنَّى بِهَذا الحَفِيفْ ... ألحَانُهَا النَّاعِيَه
حَشْرَجَةٌ فِيها نَشِيجُ مُخِيفْ ... لم تَخْلُ من أنَّاتِهَا نَاحِيَه
كَمْ أسْلَمَتْ للسُّقْمِ قَلْبِي اللَّهِيفْ ... وَأيقَظَتْ آلاَمِيِ الغَافِيَهْ!
تَهَيَّأتْ لِلْمَوْتِ شَمْسُ الأصِيلْ ... رَاجِفَةً كاسِفَهْ
مَا زَادَ في العُمْرِ النَّهَارُ الطَّوِيلْ ... عَنْ لَمْحَةٍ خَاطِفَهْ!
في مِثْلِ هَذا الوَقْتِ كانَ الرَّحيلْ ... والشَّمْسُ في كَفِّ الرَّدَى راعِفَه
لمْ أنْسَ وَالقَوْلُ دُمُوعٌ تَسِيلْ ... أفْئِدَةً يَوْمَئِذٍ وَاجِفَه
تَجْهَشُ يا أُمَّاهُ هَذا السَّفَرْ ... تَحْزَنُ رُوحي لَهُ
أُمَّاهُ ما أَحْسَسْتُ هَذا الأثَرِ ... في سَفَر قَبْلَهُ!
ولا تُحيرُ الأمُّ غَيْرَ النَّظَرْ ... في شَجَن ما عَرَفَتْ مِثْلْهُ
وَذَاكَ رَبُّ الدَّارِ مَهْمَا صَبَرْ ... يكادُ لا يُبْصِرُ ما حَوْلَهُ
وَالتَفَتَتْ هَامِسَةً بِالسَّلاَمْ ... بَاسِمَةً دَامِعَهْ
وَحِرْتُ وَاسْتَعْصَي عَلَىَّ الكَلاَمْ ... وَانْطَلَقَتْ جَازِعَهْ(383/33)
تَنَاوَحَتْ حَوْلِي بهذَا المَقَامْ ... رِيحٌ عَلَى أوْتَارِهَا القَارِعَهْ
كَمْ نَثَرتَ حَتّى احْتَوَاني الظلامْ ... سِلْسِلَةً من أدْمُعِي الهامِعَهْ
هَاهِي ذِي فِي اليَأسِ تُطْوَى السِّنون ... وَفِي المُنَى البَاطِلَه
يُوحِيِ لِنَفْسِي فِي الخَرِيفِ المَنُونْ ... أطْيَافُهَا المماثِلَهْ
الصَّمْتُ في وِديَانِهِ وَالسُّكُونْ ... وَالمَوْتُ في أوْرَاقِهِ الذّابِلَهْ
والرِّيحُ غنَّتْ نَاحِلاَتِ الغُصُونْ ... ألحَانَ تِلْك الخُضْرَةِ الزّائِلَهْ
فِي الأُفُقِ الغَرْبِّي ألقَى الَمَساءْ ... ظِلاَلَه الحائَمهْ
وَانْطَفَأتْ فِي لاَزَوَرْدِ السَّمَاءْ ... جَمْرَتُهَا القَاتَمِهْ
وَأقْبَلَ اللَّيْلُ وَمَاتَ الضِّيَاءْ ... وَأنْذَرَتني الظُّلْمَةُ العَارِمَهْ
مَعْنىً جَدِيدٌ مِنْ مَعَاني الفَنَاءْ ... يَلمَحُ لِي فِي هَذِهِ الخَاتِمَهْ
فِي كلِّ شَيْء شَاعَ حَوْلي الفُتُورْ ... وَدَبَّ طَيْفُ الكَرَى
فِي الدَّوْحِ والزّرْع وَهَذِي السُّطُورْ ... مِنَ دُورِ أهْلِ القُرَى
تَجسِّمُ الوَحْشَة تِلكَ القُبُورْ ... مَنْظُومَةً فَوْقَ الثَّرَى أسْطُرا
صَائحةً مَهْمَا يَطُل مِنْ غُرُورْ ... فِي العَيْشِ هذا مَصِيرُ الوَرَى!
وَاللاَغِبُ الفَلاّحُ فِي لَحْنِهِ ... أشْجَي مَعَاني الأسَى
لَحْنٌ قَبَسْتُ الشَّجْوَ مِنْ لَوْنِهِ ... وَصُغْتُ هَذَا البُكَا
الذُّلُّ وَالحِرْمَانُ فِي فَنِّهِ ... وَالخَوْفُ وَالجُوعُ وَطُولُ العَنَا
مِنْ شِقْوَةْ الدُّنيا إلى كِنِّهِ ... يَأوِي َوما فِي الكِنِّ غَيْرُ الضّنَى
الخفيف(383/34)
بين الشرق والغرب
آفَةُ الشَّرْقِ اهتِضَامُ الضُّعَفاءِ ... وهَوى الظُّلْمِ وَإرْهَاقُ العِبَادِ
وَبَلاَءُ الشَّرقِ خُلْفُ الزُّعَمَاءِ ... وانْقِسَامُ الرَّأي في سَاحِ الجِهَادِ
وَبَنُو الشَّرقِ أُنَاسٌ نَبَذُوا ... خِشْيَةَ اللهِ وَحُبَّ الوَطَنِ
تَبَعوا الغَرْبَ عُمَاةً وَحَذَوا ... حَذْوَهُ فِي القُبْحِ لا في الحَسَنِ
تَرَكُوا نَهْجَ التُّقَي واتخَذُوا ... سَبْلَ الكفْرِ وَطُرْقَ الفِتَنِ
وَتَبَاهَوَا بِالمخازِي، بِالرِّياءِ ... بالمعاصِي، بِأفانين الفَسَادِ
فاتَهُمْ أنّ العُلاَ بِنْتُ الإباء ... وَبُلُوغُ المَجْدِ رَهْنُ الاتحادِ
غُلِبَ الشَّرْقُ عَلَى نَيْلِ الأرَبِ ... وَأبَى التَّفْرِيقُ أنْ ينْصُرَهُ
ولو أنّ الشَّرْقَ ضَحّى وَدَأبْ ... كانَ لُطْفُ الله قَدْ أظْهَرَهُ
إنما أهْلُوُه زَادُوهُ نَصَبْ ... قُتِلَ الإنْسَانُ ما أكفَرَه
لاَ يَميلونَ إلى غَيْرِ الهُرَاءِ ... أو يَهِيمُونَ بِغَيْرِ الانْتِقَادِ
شَأنُهُمِ فِي العَيْشِ شَأنُ الجُبَنَاءِ ... خَامِلو الذِّكرِ قلِيلو الاعْتِدَادِ
أيُّهَذَا الشَّرْقُ يَكفْيكَ عَمَى ... فَاتَّقِ الغَرْبَ وَكنُ فِي حَذَرِ
لاَ يَغُرَّنَّكَ إمَّا أبْتَسَما ... بَسْمَةَ البَرْقِ قُبَيْل المَطَرَ
فَهْوَ لم يَعْشَقكَ إلا مِثْلَمَا ... يَعشقُ الجزّارُ سِرْبَ البَقَرِ
سَائِلِ السِّكِّينَ عَنْ هَذَا الوَلاَءِ ... وَسَلِ المَسْلَخَ عَنْ ذَاَكَ الوَدَادِ
وَأحْذَرِ السُّمَّ بِمعَسُولِ السِّبَاءِ ... وَاجْتَنِبْ فِي وَرْدِهِ شَوْكَ القَتَادِ
لاَ َتظُنَّ الغَرْبَ ضبَّا مُفْتَتِنْ ... بِكَ، فَالغَرْبُ وَلوعِ بفَنَاكا
أوْ تَخَلْهُ الطَّاعِمَ الكاسي المَرِنْ ... فَهْوَ مِنْ جِلدِكَ يا شَّرْقُ كسَاكا
وَهْوَ مِن لَحمِكَ غَذّاكَ وَمِنْ ... دَمِكَ المَسْفُوكِ عُدوَاناً سَقَاكا
مُستبَدِاًّ جَائراً باسم الإخَاءِ ... شَائِقَ الأقْوَالِ شرَّيرَ المُرَادِ
قَدَّسَ الغَدْرَ وَنَادَى بِالوَفَاءَِ ... وَيْلُ هَذَا الشّرِقِ مِنْ ذاكَ المنادى
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل(383/35)
رسالة الفن
تأملات:
الفن والاطمئنان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
منذ سنة شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة، فأعجبت بها إعجاباً خفيفاً، لأني لم أجدها أكثر من ممثلة درست دورها على يد أستاذها الريحاني، واتبعت إرشاداته وتعليماته بأمانة وتدقيق.
ومنذ أسبوع شاهدت السيدة ميمي شكيب في رواية الدلوعة أيضاً، فإذا بي أراها شيئاً جديداً، وإذا بشبح الريحاني الذي كان يصاحبها في السنة الماضية ويقودها على خشبه المسرح خطوة خطوة، ويلون صوتها في إلقائها نبرة نبرة، قد اختفى تماماً. . وإذا بالسيدة ميمي شكيب ممثلة أستاذة تعربد على المسرح عربدة حية توحي بها إليها خواطره هي، وتتبع فيها اختيارها هي، ولا تقيد فيها بإرشادات موجهة إليها، ولا تعليمات مدروسة. . .
فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب، حتى استطاعت أن تقفز هذه القفزة، وأن تخرج في عام واحد من صفوف التلميذات النجيات إلى صفوف الأستاذات المجيدات؟
لابد أن يكون شيء ما قد حدث لها، ولا يمكن أن يكون هذا الشيء اجتهاداً في دراسة المسرح، أو اهتماماً بالفن زاد عندها عن ذي قبل. فليس شيء من هذا بقادر على أن يخلق على أن يخلق الإنسان خلقاً جديداً، وإن كان قادراً على أن يصقله شيئاً ما، وأن يهذبه شيئاً ما، وأن يرفعه شيئاً ما. . .
فما الذي حدث للسيدة ميمي شكيب إذن؟
الذي حدث هو أنها تزوجت!
ولكن ما للزواج والفن؟ وكيف يمكن أن يكون الزواج سبباً في النهوض بفنانة نهضة تلفت الناقد هذه اللفتة المحيرة؟ وإذا كان الزواج هو السبب في هذه القفزة التي قفزتها السيدة ميمي شكيب، فإن أستاذها الريحاني نفسه ليس متزوجاً ومع هذا، فهو أستاذها، وهو الفنان الذي لا يشق له غبار. . .(383/37)
الواقع أن الزواج يبعث في النفس اطمئناناً وارتياحاً وهو يبعثهما في نفس المرأة أكثر مما يبعثهما في نفس الرجل، وكل فنان محتاج إلى الاطمئنان والارتياح كي يتفرغ لفنه ويجيد فيه، وإذا عدم الفنان الاطمئنان والراحة فهو مهدد دائما بأن ينعكس على فنه ذلك يتردد في نفسة، وهومهدد كذلك بأن يصطبغ فنه بلون معتم مظلم أسود هو لون اليأس والشقاء اللذين يعانيهما من قلقة. وكثيرا ما كان هذا القلق سببا في اندحار الفنانين وذبولهم، وكثيرا ما كان سببا في الانزلاق بهم إلى مهاوي الخبل يطلبون الاطمئنان عبثا في الخمر، والمخدرات، والمواخير.
والخمر والمخدرات والمواخير، لاشك في أنها تبعث اطمئناناً عارضاً وارتياحاً وقتياً في نفس الفنان، ولكن آثارها عندما تزول ان يصبح الفنان فإذا به يرى نفسه فارغة كما كانت قبل السكرة، وإذا به يرى نفسه وحيداً هائماً على وجهه لا يدري له مستقراً، ولا يعلم له هدفاً، فيعود إلى ما كان فيه، ويطلب السم الذي يطمئنه ويقتله في الوقت نفسه، ولا يطول به الزمن حتى تتلف صحته، وتتحطم أعصابه، ويخمد عقله، ويتبلط إحساسه، ويخبو من نفسه ذلك النور الذي يهديه ويلهمه، فيصبح في آخر الأمر إنساناً مسكيناً لا حياة له إلا الأوهام، فهو يحسب نفسه قادراً على الإنتاج لأنه يلمح أطيافاً من الفكر تجول في رأسه، ولكنه إذا أراد أن يحصرها، وأن يجندها وأن ينظمها، وأن يطلقها، إلى الدنيا فناً رآها تشق عصا الطاعة عليه، وتستعصي، وتلفت منه وتذوب في رأسه كأنها لم تكن. . . وإذا ابتلى فنان بحال كهذه فمآله الانهيار من غير شك فإما أن يموت كما مات سيد درويش وإما أن ينتحر كما انتحر إيفان مسجوكين، وإما أن ينطلق في الدنيا مشرداً مسكيناً إن عطف عليه الناس اليوم فسينبذونه غداً
والفنانون في الدنيا بأسرها ليسو غائبين عن هذه الحقيقة، كما أنه ليس في الدنيا إنسان غائباً عنها، فلماذا يعرض كثيرون من الفنانين والفنانات عن الزواج، ولماذا يجرؤ بعضهم على أن يدعو غيره إلى الإعراض عنه حتى أصبح هناك مذهب فاسد عشش في رؤوسهم أو في رؤوس بعضهم، واجتذب له أنصاراً يقولون بأن الزواج يعرقل الفن. . .
هناك سبب خفي لهذا وهو أن في الفنانين كثيراً من طبائع النساء، فهم أشد إحساساً من غيرهم من الرجال، ومن شدة إحساسهم هم أشد غيرة من غيرهم، ومن شدة إحساسهم هم(383/38)
أقل حكمة من غيرهم. ولهذا كان مما يشبه الأمر العسير أن يجمع الرجل بين الفن والمرأة، لأنه من العسير أو من المستحيل أن تجمع بين المرأة والمرأة
وقد نتج من هذا أن كثيرين من الفنانين شذوا عن الحياة الطبيعية، وأصبحوا يطلبون الاطمئنان والارتياح في المغالطات والأوهام. وقد كانت هذه المغالطات وهذه الأوهام مواد لذيذة لكثير من الفنون استمتع بها الناس، ولكنهم كانوا وهم يستمتعون بها يشفقون على أصحابها ويقولون دائماً: يا لهؤلاء من أشقياء مساكين محرومين. . .
والعجب أن هذا لم يكن في يوم من الأيام محرضاً على نبذ هذه المغالطات وهذه الأوهام، وإنما كان دائماً محرضاً على الإقبال عليها، فكلما نشأ فنان صغير وأحس في نفسه شيئاً من الضعف حيال الحياة الطبيعية، وأدرك أن ضعفه هذا راجع إلى قوة إحساسه وحدة نفسه، لم يسرع إلى تنمية عقله التنمية التي توازنه، ولم يسرع إلى توطيد أخلاقه التوطيد الذي يحميه من الوقوع في اضطراب الشذوذ، وإنما طلبته صور هذا الشذوذ، وحسبها نوعاً من الحياة يمكن أن يعيش إلى جانب الحياة الطبيعية التي لا سبيل إلى الخلود إلا بها. . .
وهكذا ضعف كثيرون من الفنانين، وهكذا انهاروا، وهكذا أعقبوا فنوناً لا أنكر أنها لذيذة وإن كنت أسخط عليها وأمقتها مقتاً جد على نفسي ووجدته حقا
وإلى هؤلاء الفنانين أريد أن أوجه الحديث اليوم
فليتصوروا سلماً يصل ما بين الأرض والسماء، وأن الناس جميعاً مطالبون بأن يصعدوا هذا السلم، وليقولوا لي أي الناس أضمن وصولاً إلى قمة هذا السلم!
الإنسان الذي يقبض عليه برجليه ويديه وأسنانه ويصعد درجة درجة فما تفلت منه درجة، أم الإنسان الذي يقفز عليه برجليه فقط بينما يداه يلوح بهما في الهواء، وبينما يزعق بحنجرته مغنياً أو نادباً أو مهللاً؟. . .
لاشك في أن الأول أضمن وصولاً من الثاني، كما أنه لاشك في أن الثاني كلما قطع مع الأول مرحلة كان ذلك دليلاً على أنه أبرع منه وأقدر. . .
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يكون هذا الثاني البارع القادر إذا استغل قواه جميعاً، واستخدم جوارحه جميعاً كما يفعل الأول؟. . .
لابد أنه يسبقه بمراحل، ولابد أنه يشعر بعد ذلك بدافع من نفسه يدفعه إلى مساعدة غيره(383/39)
والأخذ بأيديهم. . .
وهذا هو ما يفعله الأنبياء وأصحاب الرسالات، فهم ليسوا إلا بشراً وهم أشبه الناس بالفنانين، ولكنهم يزيدون على الفنانين قوة العقل وقوة الخلق إلى جانب قوة الإحساس، ولذلك فإنهم ساروا دائماً نحو المثل الأعلى في خطى ثابتة ومن غير قلق، ومن غير يأس، ومن غير شذوذ ولا خروج على قواعد الطبيعة وسننها
ولعل أقوى حجة من حجج أولئك الأنانيين الذين يمقتون الزواج هو قولهم إن مسئوليات الزواج تثقل على كاهل الفنان وتحرمه من الفن وتحرم الفن منه. وهذا قول سخيف، لأن الحياة من غير زواج ليست إلا (رهبنة) أو قرصنة، و (الرهبنة) شيء ليس من اليسير على الإنسان أن يحققه، ولو حققه الناس جميعاً لتعطلت الحياة التي أرادها الله، والقرصنة شيء قد يكون من اليسير على كل إنسان أن يحققه، ولكنه لو حققه كل إنسان لفسدت الحياة واضمحلت وتخاذلت ودبت إليها الأمراض البدنية والنفسية، ثم يعالجها بعد ذلك الموت السريع. ثم إن حياة الأسرة نفسها فيها تلخيص لقصة الخلق لا يمكن أن يتذوقه إلا من يباشرها؛ والعجيب أنه لا يمكن أن يتذوقها إنسان مثلما يستطيع الفنان الحساس العاقل القويم الخلق أن يتذوقها، فهي تجعل منه رباً صغيراً لجماعة من الناس الأحياء، وتمكنه من أن يرزق، ومن أن يعلم، ومن يصلح، ومن أن يوجه، ومن أن يعطي، ومن أن يجازى، ومن أن يحاسب، ومن أن يرحم، ومن أن يشفق، ومن أن يغفر، ومن أن يضمن الذكر لنفسه بعد موته، فيكون هو الوصلة بين الماضي والمستقبل، ومن أن يطلب حقه بلا تفريط ولا تهاون، ومن أن يعز ويعتز، ومن أن ينصر وينتصر، ومن أن يقول لشيء كن فيكون. . .
وهذا هو ما يريده الله لنا، وما يريده منا، ففي هذه الحياة من المعاني ما لو أنتبه الفنان وأستغله لأخرج منها صوراً وسلاسل لا نهاية من الفن الذاخر بالعواطف والفكر والمثل الخلقية العليا التي تفيض بها أنفس الآباء العاديين ويعجزون عن تسجيلها.
وقد يعترض علي معترض من غير المجربين ويقول لي: ما لنا نرى كثيرين من أفذاذ الفنانين الذين مجدتهم أنت نفسك واقعين في ذلك الشذوذ الذي تعيبه وهاربين من الزواج مع أنهم لا تعوزهم الحكمة ولا العقل ومع أن أفعالهم تشهد لهم بأن من الأخلاق الفاضلة ما(383/40)
ليس لغيرهم، فهم محسنون غير أنانيين، وهم يربون أولاد غيرهم بأموالهم ويصنعون ويصنعون. . .
ولهؤلاء أقول. . . إن غلطة واحدة يرتكبها الإنسان في صغره مختاراً أو مجبراً قد تظل آثارها عالقة بأعصابه وحياته إلى أن يموت. فإذا لم يلفت الإنسان إليها التفاتاً خاصاً، ويقاومها مقاومة خاصة فإنه يظل منساقاً وراء نتائجها ويظل يعاني الأمرين من آثارها، وقد يخيل إليه في ظروف من الظروف أنه مستطيع الانخراط في طريق الحياة الطبيعية العادية إذا ما اعتزامها واصطنعها، فيعتزمها ويصطنعها ولكنه لا يلبث أن يرى نفسه بعد حين عاجزاً عن المضي فيها. . . كما حدث ذلك للفنان الكبير شارلي شابلن فإنه تزوج أكثر من مرة واحدة، وأنجب من زوجه الأول ولداً هو الآن شاب كبير. ومع هذا فإن شارلي لا يزال يتخبط في حياته وإن كان له عذره في تخبطه، وإن كان فنه السامي مما يشفع له، فنحن إذا طالبناه بإصلاح نفسه الآن بعد فوات الأوان فإن ذلك قد يستنفد منه بقية حياته، وإن أنانيتنا نحن لتمنعنا من أن نسدي إليه هذه النصيحة، فخيرنا في أن نستمتع بفنه، ولو كان في ذلك هلاك روحه. . .
إذن فمن الذي يستطيع أن يضع حداً لهذا الاضطراب. . .
هم الآباء، والمربون، والأمهات قبل هؤلاء وهؤلاء. . . فعلى أولئك تقع التبعة الأولى في المحافظة على تعادل أبنائهم النفساني. وإني لا أشك في أن حضارة القرن العشرين قد بدأت تحس بأنها في حاجة إلى تبديل وتغيير، وعلى الخصوص بعد أن انهارت فرنسا هذا الانهيار السريع الذي لم يكن المعجبون بها يتوقعونه لها؛ وإني لا أشك كذلك في أن أصحاب الرأي والفكر يتربصون اليوم للحرب القائمة يريدون أن تضع أوزارها ليستطيعوا بعد ذلك أن يقولوا كلاماً صريحاً مفهوماً تلخيصه: أن عودوا أيها إلى حياة الطبيعة فلا مفر منها، ولا مهرب من الشر إلا بها، وهي سنة الله
عزيز أحمد فهمي(383/41)
البريد الأدبي
1 - إلى المفكر الكبير الأستاذ خليل مطران
إليك - وأنت مدير الفرقة القومية - أوجه القول:
هل ترى أن الأدب اليوناني القديم يقدم غذاءً نافعاً للعقل العربي الحديث؟
لقد شهدت تُمثيل رواية أوديب على مسرح الأوبرا الملكية فلم أرها إلا حماقة من حماقات الإغريق يوم كانوا يؤمنون بأن الآلهة أقوام مجانين يتصرفون في شؤون الخلق بلا بصيرة ولا خلق ولا رفق ولا ميزان
ومع أن المآسي تثير دموعي فقد أحسست قلبي وهو يتحول إلى جلمود عند شهود هذه المأساة، لأنها لم تكن إلا صورة من سخف الوثنية اليونانية، وهي وثنية عادت على أصحابها بأجزل النفع، لأنها مثلت أهواءهم وأوهامهم أصدق تمثيل، ولكنها لن تنفعنا بشيء، لأنها بلبلة خلقية وذوقية تلحق الضرر البليغ بأذواق الجيل الجديد. وهل هناك لرياضة الجمهور على التحزن والتحسر والتفجع لمصاير مجهولة خلقها الروح الإغريقي ليوهم بني آدم أن لا قدرة لهم على الخير أو الشر وأنهم لم يخلقوا إلا ليكونوا ألعوبة في أيدي المقادير الهوجاء؟
أنا أفهم أن تترجم أمثال هذه الروايات إلى اللغة العربية لتعين على تصور بعض ما مر بالإنسانية من أوهام وأضاليل، ولكني لا أفهم كيف يتخذ من أمثال هذه الروايات نماذج لروعة الفن، ونفاذ الفكر، ورجاجة العقل؛ وهي قد نشأت في أحضان الطفولة البشرية يوم كان الملوك والوزراء والحكام عبيداً مسخرين لسدنة الهياكل الوثنية، ويوم كانت مصاير الأحكام إلى من يحسنون الرجم بالغيب من الكهنة والعرافين
قد يقال إن في مصر رجلاً أسمه الدكتور طه حسين، وأن هذا الرجل يُقسم بأبوللون أن الفن لفي خُسر إن لم يفلح بأدب الإغريق القدماء
ولكن هذا الرجل لا يزعم ولا يستطيع أن يزعم أن الرأي ما يرى، وأن القول ما يقول، ففي مصر رجال يملكون رجعة إلى الصواب بلا مشقة ولا عناء، وسيرى ما يسره إن هم ينقض هذا الاعتراض، ولكنه لن يفعل لأن كهنة دِلْف أنبئوه أن خير ما يجاب به على اعتراضات زكي مبارك هو الصمت البليغ!(383/42)
للأستاذ خليل مطران أن يتفضل بالإجابة عن هذا السؤال:
هل استطاعت مأساة أوديب أن تصور مشكلة واحدة من مشكلات العدل والعقل والذوق؟
وكيف ولم تكن تلك المأساة إلا صورة بهلوانية من صور الوثنية اليونانية؟
كانت هذه المأساة مقبولة يوم كان الناس يتذوقون عبث الأساطير، وهي قد تقبل في مدينة روما أو باريس، حيث يطيب للناس أن يتلهوا بخرافات الوثنية بعد أن شبعوا من أطايب الأدب الحديث، وهو عندهم يقوم على نقد خلائق المجتمع بنزاهة وصدق
فهل الحال في القاهرة كالحال في روما وباريس؟ وهل تظن أن الفرقة القومية فرغت من تشجيع الروايات الاجتماعية والتاريخية التي تصور حاضرنا وماضينا، ولم يبق إلا أن تتحفنا بخرافات اليونان؟
الآن تذكرت ما كنت نسيت توجيهه إليك، فقد كنت أحب أن أسأل عما صنعت وصنع زملاؤك في الانتفاع بما في مصر من مواهب وآراء؛ وقد صح عندي أنكم ورجال الإذاعة سواء، فانتم جميعاً لا تعرفون غير من يتعرف إليكم، ولا تذكرون إلا من يذكركم بنفسه، وليست عندكم طريق مرسومة لاستثمار المواهب المكنونة في هذه البلاد. أليس من العجيب أن يكون في زادكم الفني روايات بالية لا ينتظر من بعثها غير إعلان الفاقة والإملاق؟
والآن عرفت ما لم أكن أعرف، فقد تعب المفكرون في البحث عن السبب الذي استوجب أن يهتم العرب بنقل ما عند اليونان من فلسفة وأن يزهدوا في نقل ما عندهم من آداب
أهتم العرب بنقل فلسفة اليونان لأنها وليدة العقل، وزهدوا في آداب اليونان لأنها بهلوانية، تقوم على قواعد واهية من الزخرف والبريق
فهل يظن الأستاذ خليل مطران أنه أعقل من أئمة العقل لعهد ازدهار الحضارة العربية؟
وخلاصة القول أن الفرقة القومية في حاجة إلى العلاج وهي لن تعافى من أدوائها المزمنة إلا بعناية أطباء بارعين لا يكون منهم فلان وفلان وفلان، فللفن والأدب أصول لا يعرفها هؤلاء
فإن لم أكن على حق فحدثوني كيف جاز أن تنفرد الفرقة القومية بالإخفاق وقد جمعت نوابغ الممثلين والممثلات؟ يعوزكم شيء واحد: هو التأليف. فابحثوا عن المؤلفين، لأن التأليف هو الروح، وكل شيء في الفن ما خلا التأليف إخراج وتمثيل.(383/43)
2 - مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
ذلك مشروع جميل أقرته وزارة المعارف ودعت إليه، وهو حين يحقق على الوجه المنشود يجذب الطلبة إلى مسايرة الأدب الحديث، ويغرس فيهم الشوق إلى تعقب الآراء الأدبية والمذاهب الاجتماعية.
ولكني لاحظت مع الأسف أن أكثر الطلبة انصرفوا عن الانتفاع بهذا المشروع بعد أن أقبلوا عليه. وقد أخبرني كثير من المدرسين أن طلبة السنة التوجيهية لم يعرفوا كيف يدرسون المؤلفات المختارة للمسابقة. وأن المدرسين أنفسهم لا يعرفون على وجه التحقيق كيف يوجهون تلاميذهم إلى درس تلك المؤلفات، لأن الوزارة لم تضع منهاجاً واضحاً للاستفادة من هذا المشروع الطريف
وقد دعتني الرغبة في معاونة طلبة السنة التوجيهية على الاستفادة من مسابقة الجامعة المصرية إلى درس تلك المؤلفات على صفحات (الرسالة) درساً تحليلياً يستطيعون به الوصول إلى ما تشتمل عليه من مقاصد وأغراض، بحيث يصبح الانتفاع من المسابقة ميسوراً لكل طالب يُقبل على درس تلك المؤلفات بعناية واهتمام وقد وضح أمامه منهج الفهم والاستقصاء
وسنبدأ في الأسبوع المقبل بتحليل كتاب (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد أمين، والله بالتوفيق كفيل
زكي مبارك
معنى القديد
وفق الأستاذ محمد فخر الدين السبكي في حديثه عن (زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي أذيع من محطة الإذاعة مساء 21 رمضان - توفيقاً كبيراً
بيد أنه فسر (القديد) - في قول الرسول (ص) للأعرابي حينما دخل عليه فارتاع من هيبته: (خفض عليك فإنما أنا أبن امرأة تأكل القديد بمكة) - تفسيراً لم أسمعه قط.
إذ قال: أي أنا أبن امرأة تأكل التمر الجاف!
والذي أعرفه في كتب اللغة، وفي كتب اللغة، وفي كتب السيرة أن القديد (هو اللحم المشرر(383/44)
المقدد، أو ما قطع منه طوالاً). اهـ قاموس
(لحم قديد: مشرح طولاً) اهـ مصباح (هو اللحم. المجفف، فعيل بمعنى المفعول تنبيهاً له على أنه مأكول المساكين) اهـ شرح الشقا، للفاضل علي القارئ
لهذا لزم التنبيه على ذلك في الرسالة الغراء والسلام عليكم ورحمة الله
عبد الحفيظ أبو السعود
حول تفسير بيتي أبن عربي
كتب إلى أديب من القاهرة في رسالة خاصة بشرح لي معنى بيتي أبن عربي اللذين استفتيت فيهما الأستاذ ناجي الطنطاوي على صفحات مجلة الرسالة وهما:
بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه حالاً ... فإن الشمس ليس لها غروب
فجاء في رسالته هذه ما نصه (إن ابن العربي يعارض الآية القرآنية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، ويدعى أن الله ليس حتماً أن يذكر لأنه حال فينا (كشمس ليس لها غروب) فالذكر في شرع أبن العربي يبعد بنا عن هذه الشمس، أما الذي يقربنا منها فشيء آخر يسأل عنه هو ومن أتبعه من المتصوفة لا ناجي الطنطاوي)
وقد رأيت في هذا الشرح ما تطمئن إليه النفس نوعاً ما فأحببت أن تتفضل مجلة الرسالة الكريمة وتسجله على صفحاتها فلعل من قرائها من ينتظره.
(الأبيض - سودان)
وجاءنا من صاحب الإمضاء الفاضل هذه الكلمة في هذا الموضوع:
عرفت رجلاً صوفياً وسمعت منه شرح هذين البيتين، وقال: (بذكر الله تزداد الذنوب الخ). في مذهب القوم، إنما يذكر الغائب، والله تعالى حاضر لا يغيب، وخاصة في مقام المشاهدة. فكيف يذكر؟ إن ذكره حينئذ يدل على بعد عن ذاته وجلاله. والبعد حرمان يدل على كثرة الذنوب والعيوب. والبعد عن الذات طمس في البصائر وظلمات في القلوب
وترك الذكر أفضل كل شيء ... فشمس الذات ليس لها غروب
هكذا رويت عنه. وهو وجيه في نظري وخاصة لما تضمنه الشطر الثاني من تعليل(383/45)
طريف. قال: إذا أستغرق العبد من مقام الشهود، وبت أسبابه بالعالم وما فيه من مخلوقات بائدة ليس لها وجود. فلا داعي للذكر حينئذ، لأنه في حال دونها كل ذكر. وكيف يذكر من يراه ومن لا يغيب عنه طرفة عين؟ لا. إن شمس الذات العلية مشرقة لا تغيب، وضاءة لا تحتجب، فذكر الله يدل على غيبته، وهو سبحانه حاضر مشاهد لا يفنى، وهو معكم أينما كنتم. اهـ باختصار.
وحديث القوم لا يفهمه غيرهم لأن لهم رموزاً تدق على الإفهام
محمود محمد بكر هلال
الأدب والانتحار
منذ شهرين أنتحر الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم بأن ألقى بنفسه في أليم ليذيب فيه أحزانه ويدفن أحلامه. وأختار الأستاذ الموت على هذه الصورة ليروي ظمأه ويطفي حرارته
وفي هذا الأسبوع انتحر الأستاذ فخري أبو السعود بأن أطلق على رأسه الرصاص
والأستاذ أبو السعود ليس غريباً عن قراء الرسالة فقد ساهم في تحريرها عدة أعوام
فهل كان اتفاقاً أن ينتحر أديبان لهما قيمتها في المحيط الأدبي؟
أم هي مصادفة ألقت بها المقادير في هذه الأيام التي كثرت فيها العجائب وطغى الشر
وأين أثر البحر الذي يشيد به الدكتور زكي مبارك في أعصاب هذين الأديبين
الواقع أن الأديب رجل مرهف الحس شديد التأثر، له من المنى ما أخفق فيه وما تحقق، وحتى هؤلاء الذين ظفروا ببعض الأماني يشعرون بالغبن ويحسون بالنقص
فلن تكن مصادفة أن ينتحر أديبان في مدة وجيزة وفي بلد واحد هو الإسكندرية
وإنما هو الألم. . . ولعل الأدباء يفكرون في علاج هذه الظاهرة قبل أن تجر عليهم الفناء
رحم الله الأستاذ فخري وأجزل لأدهم الثواب
عبد العزيز سالم
الحرب والشعر
تفضل الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد فأتحف قراء (الرسالة) ببحثه التحليلي الممتع في العدد الماضي، وقد قرر فيه أن الحروب لا تشحذ ملكات الشعر، لأن الشعر فردي، وإن ما(383/46)
يروج في أيام الحروب هو الأغاني والأناشيد، فإن حكمها حكم الخطابة، لأنها تتردد بين الجماهير في الاجتماعات، ثم قال أستاذنا الجليل إن الملاحم في الأمم البائدة ليست هي التي شحذت تلك الأفكار التي نتج عنها تلك المنظومات الشعرية).
فهل يسمح الأستاذ الجليل أن أقول: كيف لا تكون الحروب شاحذة للملكات الشعرية في حين أن أستاذنا نفسه استشهد في ثنايا مقاله شعرية رائعة لشاعر إنجليزي، لو لم تكن الحرب لظل مغموراً في مهنته الطبية؟ فإذا كانت الحروب تخلق من الطبيب شاعراً، فكيف بالشاعر المطبوع؟
وهل يتفضل أستاذنا الجليل ويزيد الموضوع إيضاحاً في منظومات الملاحم؟ ولماذا لا تكون دليلاً على أن الحروب تشحذ ملكات الشعر في حين أنه لو لم تكن الحروب لما كانت تلك المنظومات؟
أجل، إن الشعر ينزر في أيام الحروب، ولعل السر في ذلك (ورأي أستاذنا القول الفصل) أن الأمم في أيام ثوراتها وحروبها تكون منهمكة بشئونها ما بين حاضرها ومستقبلها، ومضطربة الخواطر، جياشة بمختلف الأحاسيس، ليس لديها الصبر الكافي لقراءة الشعر والتروية فيه، فالخطيب يستهويها لأنه يستطيع أن يتخذ من الحوادث اليومية مجالاً لقوله وجلجلته، فهو لا يحتاج إلى ساعات يزور فيها خطبة، بل تأتيه الجمل عفو الخاطر، وقد تكون في أسلوبها عادية، ولكن موقفه الحماسي يجعل لها شأناً آخر، أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع أشتات فكره، ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته، كالشاعر الإنجليزي (كبلنج)، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل، ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره
إذاً، فالحرب تشحذ ملكات الشعر وتجودها، غير أنها تمتاز بأنه لا يقوى على الظهور فيها والشيوع إلا الشعر العبقري الحق فحسب، وأنا في انتظار رأي الأستاذ الجليل والسلام
يحيى زيارة
عضو البعثة اليمانية(383/47)
القصص
فتوة العطوف
للأستاذ نجيب محفوظ
عند هبوط المساء غادر المعلم (بيومي) الفوال نقطة بوليس الحسينية يحمل (إنذار التشرد)، يكاد يتصدع صدره من الغضب والغيظ. وكان يرغي ويزبد ويتمتم ويدمدم بأصوات كالخوار، خشنة مبهمة، ما زالت تعلو وتميز كلما باعدت الخطأ بينه وبين نقطة البوليس، حتى صارت في ميدان فاروق لعناً وسباباً وقذفاً صريحاً مخيفاً عنيفاً. وجعل يهز قبضة يده الغليظة في الهواء مهدداً متوعداً، ويدير في الفضاء عينين يتطاير منهما الشرر صيرهما الغضب كجمرتين ملتهبتين. فوقع بصره على (تاكسي) واقف بالميدان، فقصد إليه، ورآه السائق - وكان يعرفه - ففتح له الباب، فأندفع إلى الداخل وارتمى إلى جانبه. وأحس السائق بالثورة المضطرمة في صدر صاحبه، فسأله عما يقلقه، ووجد المعلم في السؤال متنفس عن صدره، فرما إليه بالإنذار وهو يصيح غاضباً: (أنظر كيف تعاملني الحكومة السنية!)، وشبك يديه على صدره وقال بلهجة تدل على السخرية والحنق: (ألا ترى أنه يحتم عليَّ أن أجد عملاً في ظرف عشرين يوماً، أو يزج بي في السجن مره أخرى؟ ما شاء الله!). وأشتد اكفهرار وجهه، وأرسل من تحت حاجبيه الكثيفين نظره شريرة، وكان صاحبه ساهماً متفكراً يردد ناظريه بين وجه المعلم المكفهر والإنذار المبسوط بين يديه
وكانت هيئة المعلم بيومي من الهيئات التي لا يمكن أن تقتحمها العين، أو تمر بها دون التفات إليها، لأن صورته كانت حافلة بآي القوة والجسارة. نعم كان مظهره الرث وملابسه البالية القذرة تنطق بما هو عليه من فقر وبؤس، ولكن هيكله الصلب وصدره العريض وعضلاته المفتولة دلت على القوة والبأس، ونظرة عينيه وإيماءاته توحي بالكبرياء والعنف، وتلك الندوب تكتنف وجهه وجبينه، وآثار من طعن سكين في صفحة عنقه تثبت أنه خاض معارك عنيفة شديدة الهول، ولذلك أحاط به في غضبه صمت رهيب ألزم ألسنه الأقربين من سائقي (التاكسي) الجمود الثقيل. وقد التفت إلى صاحبه وقال في غيظ وحنق: (أنا. . . أنا بيومي الفوال. تتنكر لي الدنيا إلى هذا الحد؟!) وكبر عليه الأمر فجعل يضرب كفا بكف ولسانه لا يكف عن القذف والتهديد، وأكثر من القذف والتهديد. وقليلاً ما كان(383/49)
يحرك لسانه ساعة الغضب فيما مضي من زمانه. فكان إذا غضب انطوى على الغضب حتى ينزل عقابه الصارم بعدوه، ولكن لم يبق له من ماضيه ذاك إلا ذكريات تطوف بين الحين والحين برأسه المثقل. فتنشر في ظلماته ضياء منيراً مقتبساً من عز الماضي ومجده وسلطاته
كانت نشأة المعلم بيومي في العطوف. وقد شهد صباه الأول على جسارته الطبيعية، فكان من خيرة صبيان الأعور (فتوة) العطوف الذي أرهب السكان وأعجز رجال الأمن. يجلس بين يديه يستمع إلى قصص مغامراته ويشهد مشاجراته ويخرج في مؤخرة عصابته إذا نفرت لقتال عصابات الدراسة أو الحسينية عند سفح المقطم، يحمل في حجره (الزلط) (وقطع الزجاج) يمد بها المتعاركين من قومه ويلاحظ فنون قتالهم عن كثب ويمتلئ حماسة للقتال وأعمال الجرأة فما شارف الثامنة عشرة حتى أشتد ساعده وانفتلت عضلاته، ومهر مهارة عجيبة في الضرب (بالروسية) والعصا والسكين والكرسي؛ واشترك في معارك فردية وجماعية فأبلى فيها أحسن البلاء. وذاع أمره كمتعارك شديد المراس، يقدم على مقاتلة عشرات الرجال بقلب لا يهاب الموت، ويدمر مقهى كاملاً إذا حدثت النادل نفسه بمطالبته بثمن مشروب، وأكبر الأعور فيه هذه الصفات فاصطفاه وآخاه وجعله ساعده الأيمن، وقاسمه الغنائم والأسلاب. ومات الأعور فخلقه على أريكة (الفتونة) دون شريك. وأبى طموحه عليه الهدوء والراحة؛ فتحدى فتوة الحسينية وظهر عليه، وقاتل فتوة الدراسة فهزمه، وخرج بمجموعة إلى الوايلية فأذل كبيرها ومزق جموعه شر ممزق، ودوى أسمه في تلك الأحياء دوى نذير الغارات، واستكانت له نفوس الفتوات، وأفاد من سلطانه فائدة رمقتها عيون الجسد جيلاً طويلاً. فجعل مركزه قهوة غزال بالخرنفش حيث يجتمع بأنصاره وصبيانه. وفرض الآتاوة على كبار الأغنياء والتجار والقهوجية وشركة سوارس يؤدونها إليه صاغرين، ومن يتردد عن دفع ما يطلب منه عرض نفسه وما يملك للهلاك المبين. هذا غير ما كان يؤجر له من أعمال الانتقام والتهديد وحماية بعض النسوة من أهل الهوى، وتنافس كثيرون في التودد إليه بإهدائه الهدايا الثمينة، فكان يتقبلها تقبل الزاهد فيها وهو من غير الشاكرين وعاش المعلم بيومي في ظل سلطانه عيشة راضية في بلهنية ونعيم. يلبس الجلباب الحرير والعباءة من وبر الجمل، ويتلفع بالشال الكشمير الفاخر(383/50)
ويركب الدواكر تجره الجياد المطهمة. ثم عشق (عالمة) فتزوج منها وكان فرحه فرح أهل الجمالية والعطوف والدراسة جميعاً، وانتظمت (زفته) الفتوات من جميع الأحياء وعدداً عديداً من أصحاب (السوابق) وحاملي الإنذارات والمترددين على السجون. . . وأحيا ليالي العرس الشيخ ندا وعبد اللطيف البنا وبمبة كشر. ثم مازال يعلو نجمه يوماً بعد يوم حتى تسنم ذروة المجد في الانتخابات الأولى عام 1924. فقد أقر بنفوذه كثير من رجالات السياسة في مصر وسعوا إليه يرجون نصرته لهم ويساومن على شراء أصوات أنصاره وأتباعه، وشهدت قهوة غزال محضر باشوات وبيكوات يجلسون إلى المعلم بيومي الفوال متوددين متحادثين. وكان المعلم لهم ويستولي على نقودهم، ولكنه في يوم الانتخابات ذهب وصحبه إلى أقسام البوليس يعطون أصواتهم لمرشحي سعد زغلول
ومنذ ذاك العهد وهو يسمى أولئك الباشوات والبيكوات (بالكروديات) على أنه كان يباهي باتصالاته بهم في أحايين كثيرة فيقول في أثناء حديثه (وقال لي الباشا كيت وكيت) وقلت للباشا كيت وكيت
تلك أيام خلت. . . وخلفت وراءها دهراً قاسياً شديد الظلمات. فما يدري أولئك الفتوات إلا والبوليس يضيق بهم ذرعاً ويشمر للقضاء على أعمالهم، وكان من سياسته أن قذف الحسينية بضابط شاب لم تشهد الداخلية له من قبل نظيراً، سواء في قوته أم في شجاعته وشدة عناده. وكان يعلم أن هدفه الأول هو المعلم بيومي الفوال، فلم يحد عنه، ولم ينتظر الأدلة القانونية لأنه كان يعلم أن أحداً من الناس لن تواتيه شجاعته على الشهادة ضده. فهاجمه بجنوده بغتة وقاده إلى النقطة وأمر الجنود بضربه ضرباً مبرحاً. وأصيب المعلم بذهول شديد لذلك العدوان الجريء. فما كان من الضباط إلا أن أعاد الكرة مرة ومرتين حتى كسر شوكته. ثم جعل يسوقه أمامه محاطاً بجموع الجند الشاكي السلاح يصفعونه في كل منعطف طريق، ويركلونه أمام كل قهوة وينزلون بمن يظهر لهم من فتيانه أشد العقاب، فأفاق الناس من غشيتهم وانحلت عقدة الذعر الممسكة بألسنتهم فهرعوا إلى رجل الأمن يشكون ويستعدون، ووجد الرجل الدليل الذي يطلبه وزج بالمعلم في غيابات السجون يذوق أشد الأهوال والآلام. وهكذا أخذ المعلم بالإرهاب الذي أخذ به الناس جميعاً. وقضى في السجن بضع سنين. ولما فارقه لم يجد أحداً من الفتوات في استقباله يهنئه ويقول له:(383/51)
(السجن للجدعان) فقد لاذ كل منهم بسبيله، منهم من سجن، ومنهم من هجر الحسينية، ومنهم من راض نفسه على العمل كما يعمل الناس جميعاً سعياً وراء الرزق. فألفى المعلم عالمه مهجوراً كئيباً، ومجده ذكرى أليمة لا يترحم عليها إنسان، حتى زوجه ضاقت بفقرة وتسولهٍ فهجرته وعادت إلى بنات فنها في شارع محمد علي. وطحنت الآلام تلك النفس الجبارة العاتية. وترنح صاحبها تحت أثقال الهموم لا يستطيع أن يجأر بصوت الشكوى خشية عيون البوليس المحدقة به من كل جانب، وظل على حزنه وألمه حتى تلقى إنذار التشرد الذي يخيره بين العمل أو السجن
طافت برأسه - في ساعة بؤسه تلك - صور من أيام مجده تراءت راقصة أمام ناظريه خلل أغشية الحزن والألم. وكان صاحبه السائق في تلك الأثناء يراقبه بطرف خفي وأصابعه تبعث بالإنذار الذي أحدث كل ذاك الغضب. وكان يدير أمراً هاماً في عقله. فلما قلبه على أوجهه المحتملة التفت إلى المعلم وسأله:
- ماذا تقول يا معلم لو عرض عليك عمل يدفع عنك غائلة البوليس؟. . .
وحدجه المعلم بنظرة غربية دون أن يفوه بكلمة. وتشجع السائق يصمته فاستدرك قائلا:
- سبق أن علمتك قيادة السيارة. وهي صنعة في اليد تعمر بيوتاً، وما من شك في أنك خبير بالطرق والمواصلات وأستطيع أن أدلك على عمل في (الجراح) الذي أعمل فيه على شرط أن تتنازل وترضى. . . فما رأيك يا معلم؟
ولم يسارع المعلم إلى الفرح كما ينبغي لأي رجل في مكانه، لأن العمل كان التجربة الوحيدة التي لم يعرفها، وهو لم يكن شيئاً عظيماً قط في نظر الفتوات المحترفين، فتوجس منه خيفة، ولكنه لم يكن في حالة يستطيع معها رفض ما يعرض عليه مادام العمل هو المنقذ الوحيد له من السجن. فقال لصاحبه بلهجة لم تخل من الامتعاض: وهل من الممكن أن ألحق بهذا العمل قبل مضى العشرين يوماً؟
- يغير شك ولا ينقصك إلا شيء واحد. فتساءل المعلم قائلاً:
- ما هو؟. . .
- بذلة يا معلم، لأنه لا يمكن أن تكون (شوفيراً) بغير بذلة. فاشتر بذله أو أجرها أو أستعرها كيفما أنفق. ولكن لابد من بذلة(383/52)
ومال إلى التفكير في الأمر تفكيراً جدياً ووجد نفسه يحاول حل مسألة العثور على بذلة. ولكنه لم يدر له بخلد أن يجد ضالته عند صاحبه السائق أو عند أحد من أقرانه، لأنه كان يعلم أنهم لا يملكون سوى البذلة التي يلبسونها. على أنه لم ييأس لذلك من العثور على بذلة. فعليه بالأفندية الذي كانوا إلى عهد قريب يتقون أذاه ويرجون خيره، فلا يمكن أن يضنوا عليه ببذلة قديمة ناطت الأقدار باقتنائها قوام حياته. واعترض على أولئك الأفندية سلبهم وطرق أبوابهم ورجالهم بلهجة غير التي ألفوا أن يسمعوها منه، أن يتنازلوا له عن بذلة قديمة، ولكنهم ردوا عليه بأوجه من الأعذار لا تفند، فقال فريق إنهم لا يملكون سوى بذلة واحدة غير التي يلبسونها، واعتذر فريق آخر بسوء الحال وكثرة العيال ووطأة الأزمة. وقال واحد بقحة إن خادمه أحق ببذلته القديمة. وعجب المعلم لأولئك اللؤماء واهتاجه الغضب اهتياجاً شديداً وقال لنفسه بإصرار وعناد (ما دامت البذلة تنقذني من السجن فسأحصل عليها مهما كلفني ذلك من العناد) وكان يتخبط في الطريق على غير هدى حين وجد نفسه اتفاقاً أمام دكان كواء عند مبتدأ شارع السبيل، فألقى عليها نظرة سريعة لصقت بالبدلة المعلقة، فتراخت ساقاه عن المشي وأسند ظهره إلى شجرة قريبة ومضى يتفرس في البدل المتراصة تفرس الجائع المنهوم في فرن الحاتي المليء بالشواء من اللحوم، ثم عاين المكان فرأى الدكان قائماً إلى جانب جراج تحدهما من الخلف صحراء العيون. ودارت برأسه خواطر محمومة عنيفة وعزم عزماً أكيدا
وأصبح الصباح وجاء الكواء يفتح دكانه فما راعه إلا أن رأى في ظهرها ثغرة فانخلع قلبه وهرع إلى ثياب زبائنه. ووجدها كاملة إلا بدلة واحدة. . . فكانت دهشته قدر انزعاجه!
وصار المعلم بيومي سائق تاكسي ولم يعد لضابط نقطة الحسينية من سلطان عليه، ولأمر ما أختار الجيزة ميداناً لعمله فاراً بالبذلة التي لم تهده الحيلة إلى صبغها أو قلبها كما كان ينبغي أن يفعل اللص الماهر. وما كان يصبر على نظام العمل لولا أن السجن كان عودة على ما هو أشد إيلاماً ومقتاً، فرضي كارهاً أن يلبي النداء ويحمل الراكبين، ويبدي احترامه لمن كان بالأمس ينظر إليهم شزراً ويدعوهم (بالكرديات). . .
ولم تخل حياته في ذاك المهجر من حوادث، ففي ذات أصيل وكان مضى عليه ما يقارب الشهر في عمله. وكان ينتظر في موقفه برز رجل وجيه من باب الفانتزيو وناداه ولبى(383/53)
المعلم مسرعاً وترك مقعده ليفتح الباب للسيد الوجيه ومضت دقيقة وهو ينتظر والرجل لا يتحرك، فعجب المعلم للأمر ونظر إلى الرجل فرآه ينظر إليه بإنكار بل رآه ينعم النظر في بذلته وخفق قلب المعلم. واضطرب وأحس كمن وقع في فخ، وهم بالتحرك ولكن الرجل دنا منه وأمسك بالياقة بسرعة وثناها ليقرأ اسم الطرازي ثم قبض على ذراع المعلم وصاح به بغضب:
- قف يا لص. . . من أين لك هذه البدلة؟
ونادى الشرطي بصوت عال. فحدجه المعلم بنظرة نارية وكان يستطيع بغير شك أن يبطش به لو أراد، ولكنه استشعر بأساً غريباً خرج به عن وعيه فما يدري إلا والشرطي يقبض عليه. . .
والظاهر أن الحظ الذي حالفه قديماً تخلى عنه إلى الأبد، وإنه ليعاني الآن السجن؛ والله وحده يعلم ما هو صانع به بعد ذلك
نجيب محفوظ(383/54)
الفنون أسرار
للأستاذ عبد اللطيف النشار
كانت غرفة المكتبة في منزل المسيو (بنديبي) محتوية على (دواليب) قصيرة ذات طبقتين وفوق ظهورها عدد غير قليل من الصور والتماثيل الصغيرة والعاديات والتحف المختلفة الأنواع والأشكال، وكان (بنديبي) على فقره رجلاً على درجة من الأهمية لاشتغاله بالآداب والفنون، وكانت التحف الموضوعة فوق دواليبه مجردة عن النظام والترتيب، وكانت زوجته مدام بنديي الضعيفة البصر تعاني جهداً في تنظيف الدواليب وما فوقها بمكنستها الصغيرة المصنوعة من ريش النعام
وفي يوم من الأيام أدت واجبها بالمنزل وجلست مستندة إلى ذراعي مقعد كبير تنتظر عودة زوجها فعاد وعلى وجهه كل علائم الاهتمام وقال: (انظري إلى هذه القطعة) وأشار بإصبعه إلى شيء فوق الدولاب واستمر يقول: (لقد استكشفت أن هذه القطعة الفنية تساوي مائة ألف فرنك). فأدارت السيدة نظرها الضعيف إلى حيث يشير إصبعه ورأت طبقاً عادياً من أطباق الحساء (سلطانية) فقالت: (أحقاً إنها تقوم بهذا الثمن؟)
قال المسيو بندبي: (نعم والذي قومها بهذا الثمن من أشهر هواة العاديات، وقد رفضت بيعها مع إلحاحه في طلبها. وماذا أفعل بالمال؟ إنني لست تاجراً ولكنني هاو. وأذكرك أيضاً بأني كلما اشتريت تحفة من هذه التحف كنت تقولين لي إنها حقيرة لا تساوي شيئاً، فهل تقدرين الآن أنني كنت مصيباً لما اشتريت هذه القطعة بسبعة فرنكات؟)
ومن ذاك اليوم لم تكن الزوجة تجرؤ على أن تمس الطبق خوفاً عليه من الكسر. وكانت تنظر إليه فتتذكر أنه كان في بيت جدها آنية مثله تماماً وأنها كسرت فلم يحزن عليها أحد، فكانت تقول في نفسها: (حقاً إن الفن كله أسرار. وكان زوجها يقول: (انظري إلى بهجة لونها وإلى الرنين الذي تحدثه عند لمسها بالإصبع). فتنظر ولكنها لا تجد جديداً في اللون ولا في الرنين. وكان الأولى بها أن تقول ما تعتقد؛ فيحاول زوجها إقناعها، وتنكشف لها الحقيقة فتعرف خطأها.
ولكنها كانت توافق زوجها إذعاناً. وكان ذلك من سوء حظها، فمات زوجها بعد أمد قصير ولم يبين لها سر الفن الذي يعرفه هو وجامع العاديات الذي عرض عليه مائة ألف فرنك(383/55)
في القطعة الأثرية. ولم تكن القطعة هي الآنية، ولكنها تمثال فتاة كان موضوعاً خلف الآنية. وكانت تلك المسكينة لضعف بصرها تحسب زوجها يشير إلى الآنية. وبعد موته رأت مدام يندبني أن تبيع كل ما تركه زوجها إلا الاتية؛ واستدعت أحد الهواة فأرته المكتبة وما فوق دواليبها، وقالت إنها تريد أن تبيع ذلك كله صفقة واحدة. وكان التمثال لسوء الحظ لا يزال موجوداً وراء الآنية، فنظر المشتري إلى كل الأشياء فأدرك قيمة التمثال وأشار إليه وقال: (وهل تدخل هذه القطعة ضمن الصفقة؟) فصاحت الأرملة محتدة (الآنية! فإنني لا أبيعها، فهي أنفس شيء عندي إنني لا أبيع هذه الأشياء لأني محتاجة إلى الثمن، ولكن لأنه ليس لها لزوم عندي) ونظر المشتري إليها وقدر أنها مجنونة فلم يناقشها، وأشترى التمثال بخمسين فرنكاً ثم باعه بعد ذلك في أمريكا بنصف مليون وباعت السيدة سائر التحف والمنزل وما فيه. وأخذت الآنية معها وذهبت إلى الريف. ولاحظ خدمها الجدد وأقاربها وجيرانها أنها لا تخشى على شيء غير الآنية، وأنها تحذرهم من المساس بها كل التحذير. وشاع في القرية أنها تعبد آنيتها هذه، وأن عقلها غير سليم
وأخذوا يناقشونها وهي تحتد في طلب سكوتهم، وتزيد في حرصها على آنيتها وإيصاء الخدم بها، فاستدعى أهلها طبيباً، وسألها الطبيب عن سر هذه الآنية. فقالت: إنها مستعدة لإطلاعه على الحقيقة على شرط أن يعادلها على الكتمان فالأمر سر عظيم؛ وقالت: (لقد اشترى زوجي هذه الآنية بسبعة فرنكات وهي الآن تساوي مائة ألف فرنك كما قرر ذلك أحد الهواة) قال الطبيب: (أظنك يا سيدتي تمزحين، فإن هذه الآنية لا تساوي شيئاً وأكثر العائلات تملك نظائرها) فقالت: (أو بمثل هذه البهجة في اللون؟ وهل تحدث مثل هذا الرنين؟!)
فأضطرب الطبيب ودهش لثقتها بشيء لا وجود له، فلم يكن للآنية لون مبهج ولا لها أي رنين. ولم يشأ مجادلتها لاعتقاده أن مرضها هو (الجنون بالفكرة الواحدة) وأنها إذا عولجت فقد تشفى. وبناء على قرار الطبيب نقلها أقاربها إلى مستشفى الأمراض العقلية، فدخلته راضية ومعها الآنية؛ ولم يهمها هذا الانتقال ما دامت معها هذه الثروة العظيمة، ولم يضن أهلها عليها بها ولكنها انتقاماً منهم لكيلا يرثوها أوصت بها لمتحف (اللوفر)
ومن يدري كم بالمتاحف من أمثال هذا الأثر؟ أليست الفنون كلها أسراراً؟(383/56)
(عن الفرنسية)
عبد اللطيف النشار(383/57)
العدد 384 - بتاريخ: 11 - 11 - 1940(/)
بشائر السلامة
أمة التوحيد تتحد. . .
قالت الأهرام في عدد يوم الجمعة الماضي: (إن هناك بحثاً يدور الآن في بعض الدوائر العربية حول تكوين حلف عربي يواجه به العرب الظروف الحاضرة التي يجتازها العالم اليوم. والمفهوم أنه إذا انتهى هذا البحث التمهيدي فستدعى الحكومة المصرية رسمياً إلى الاشتراك فيه. أما الدول التي يشملها هذا الحلف فهي: مصر وسوريه وفلسطين والعراق والحجاز. وقد يتسع نطاقه فيشمل إيران وأفغانستان)
هذا التفكير على أي شكل كان يدل على تيقظ الروح الهاجد في الجسم العربي، ويبشر بتجمع القوى الشتيتة في أعضائه، ويطمئن قلوب الأحرار الأبرار الذين تتفارطهم الهموم على مستقبل العرب والإسلام والشرق. وكان من أعجب العجب أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه؛ ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها تتلهى بالنظر الغرير إلى حركات زعمائها وهم يتصارعون على المناصب ويتنازعون على الحكم؛ كأن السلامة والسلام أمران يجريان من حياتها مجرى الأمور الطبيعية كالنوم واللذة والضحك، فهي لا تشغل بهما البال ولا تدير عليهما الفكر
ولقد قلنا منذ عام حين تحلبت أشداق النازية على حدود الدول الصغيرة: إن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حره آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني؛ فلما كفر النازيون والفاشيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك، ففسد النظام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق. فليس لها اليوم من عاصم أن تنضوي إلى الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا انتصرت على هذا الطغيان المسلح الكافر نظرت هي في يومها وفي غدها، فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود، وهو التجمع والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة كشعوب الإسلام الأربعة عشر شبه ما بين الولايات الأمريكية الثماني والأربعين: من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام، والدستور المشرع،(384/1)
والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيره يقوم على استعمارها النزاع ويميل من جراها ميزان السلامة
إن من يستمع إلى الإذاعة العربية من بلاد المحور يرتعد فرقاً من هذا الإخلاص الإيطالي للإسلام وذلك العطف الألماني على العرب. ومن شقاء العقل أن نحمله على أن يسيغ هذه الدعاية الغريبة التي اتخذت وا أسفاه ألسنتها من بعض العرب الذين فتنهم المال الغرور لتقول: إن فيالق الدتشي وكتائب الفوهرر لم تحشد في صحراء مصر وجبال البلقان إلا لتنقذ العرب والمسلمين من عذاب الديمقراطية البريطانية!
ليت شعري من الذي حملهم هذه الرسالة وأوجب عليهم هذه التضحية؟ لسنا اخوتهم في الجنس ولا في العقيدة ولا في المنفعة حتى يكون لما يبذلون في سبيلنا من الأموال والأنفس مسوغ. ولسنا من السذاجة والغفلة بمكان القطيع الذي حالف الذئب الجائع الطامع على الكلب الحارس الأمين. إنما نحن شعب مختار حكم العالم في ماضيه، وتمرس بالشدائد في حاضره؛ فله من بصيرته الموروثة نفاذ إلى صميم الخديعة، ومن تجاربه الأليمة سداد في مزالق الفتنه؛ فلا نجهل أننا نحن الغنيمة التي يحتربون عليها، والطعمة التي يختصمون فيها؛ وكلما أرسلوا الأمواج من مذاييع باري وبرلين تحمل إلينا منهم الشوق المبرح والحدب الشديد، تضاممنا من الفزع ليتقي بعضنا ببعض سهام كيوبيد الأثيرية!
هذا التضام هو التكتل الذي يصير إلى الوحدة. والوحدة التي يقتضيها الدفاع عن النفس ويدعو إليها الخوف، أوثق وأصدق من الوحدة التي يوجبها النزوع إلى الأنس ويبعث عليها الأمن
لقد كان العرب والمسلمون فيما غبر متواكلين متخاذلين، لأنهم كانوا هم على هذه الحال يستطيعون في حمي الديمقراطية السمحة أن يعيشوا بوجه من الوجود. ولكن ماذا عساهم يصنعون وهذه الدكتاتورية الباغية تزحف شعبتاها إلى الشرق عن طريقين مختلفين: شعبة تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، وشعبة تريد استعباد الناس لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة. وإذا دهمك من اليمين ومن الشمال الجائع السلاب والمتكبر الغلاب فقدت وجودك المادي والأدبي السلب والغلب؛ ثم لا تدري أي شيء تكون بعد ذلك!
فاتحاد الأمم العربية أمام هذا الخطر الهاجم ضرورة خلقتها غريزة حب الحياة. وفي(384/2)
اعتقادي أن الأمر في هذا الاتحاد لن يقف عند مناقشة الفكرة ومواضعة الرأي؛ ولكنه سيتعداهما إلى إمضاء العزيمة وإنجاز العمل. ذلك لأن كل أمة من هذه الأمم تشعر في وسط هذه الكوارث الداجية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع. وإن أسهل على الطبيعة أن تعيد اتحاداً ألفه الله من صلة الدم ونسب الروح من أن تبدأ اتحاداً ألفه الشيطان من النازية والفاشية والشيوعية والوثنية؛ فإن هذه النحل المجرمة أضداد تنسجم في الباطل وتتنافر في الحق، ولا بد أن يدركها داء البغي فتحر ضارعة صريعة أمام قوى الخير والعدل ولو بعد حين!
أحمد حسن الزيات(384/3)
أخلاق القرآن
الإحسان
للدكتور عبد الوهاب عزام
الإحسان الإتيان بالحسن من القول أو الفعل. والإحسان خلق ينزع بصاحبه إلى الحسن من كل شيء، وينفر به عن القبيح من كل شيء، ويطمح به إلى الأحسن فالأحسن رقياً في درجات الكمال
فعل الخير إحسان وتأدية الواجب إحسان؛ ولكن أكثر ما يقال الإحسان للتبرع الذي يزيد على أدنى درجات الواجب وللتفضل بأكثر مما يطلب
وذلك درجات يعلو بعضها بعضاً حتى تنتهي إلى الكمال
في كل عمل درجات من الإحسان يختلف فيها المتسابقون إلى الخير، ينال أدناها كثير من الناس، ثم يقلون كلما علت الدرجات حتى ينقطع معظم الناس دون الدرجات العلى فلا يبلغها إلا أفذاذ من الأخيار المحسنين
وفي كل صنعة درجات من الإحسان يتنافس فيها الصناع إلى أن يستأثر النابغون بدرجات يقف دونها الدهماء والأوساط
والأفراد والجماعات والأمم وتتفاوت في الضروريات كالطعام والشراب الذين يمسكان الحياة، والملبس الذي يقي الجسم عوادي الحر والبرد، بل يستوي في ذلك الأمم التي لا تزال في درك الهمجية والأمم التي بلغت في الحضارة مكاناً علياً، وإنما يتفاوت الناس في الحاجيات والكماليات تفاوتاً بعيداً، يقاس بما بين طعام الهمج وملبسهم ومعاملاتهم وبين نظائر أولئك في الأمم التي توفر نصيبها من الحضارة
وكذلك يعظم تفاوت الناس في الإحسان. الواجبات يحتمها القانون أو العرف، وفوق الواجبات ضروب من التبرع في المعاملة أو الإتقان في الصناعة يتلاحق فيها الناس إلى درجة الكمال أو ما يقرب منها
وفي الناس من يقنع بأداء الواجب، وهو الدرجة الدنيا من الإحسان، وفي الناس من لا يعرف في الإحسان حدا، ولا في الكمال غاية؛ طماح كلما بلغ درجة استشرف لما فوقها
والنفوس الكريمة تنزع إلى العلاء نزوعاً دائماً، وتتطلع إلى الكمال كل حين. تحس في(384/4)
سريرتها دعوة من الله العلي تدعوها إلى الرفعة وتهيب بها إلى الكمال، وترى النقص في كل درجة فوقها درجة، لا أعني درجات من الغنى والجاه والسلطان، ولكن درجات من الخير والمواساة والرحمة، وتكميل النفس في معارفها وعواطفها، درجات من النظام والجمال في عقل الإنسان وخلقه وبيئته وكل ما يتصل به. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
رحم الله النفس الطماعة اللوامة التي لا تحد طموحها غاية، النزاعة إلى الخير والكمال في غير نهاية. إنما يسير الله خلقه إلى الكمال بأمثال هذه النفوس، ويهديهم إلى المثل العليا بأفعالها وأقوالها
وقد جاء في الحديث أن الرسول صلوات الله عليه سئل:
ما الإسلام؟ فقال: (أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان) ثم سئل: ما الإحسان؟
فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فقد جعل الرسول الإحسان تأدية العبادة على أحسن الوجوه، وأن يبلغ بها العابد أعلى الدرجات
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا في قوله: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعِموا إذا ما اتقوا وأمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين). جعل الإحسان نهاية التقوى والعمل الصالح
والقرآن الكريم يأمر بالإحسان كله: الإحسان بفعل الحسن واجتناب القبيح، والإحسان بمجاوزة الحسن إلى الأحسن. وقد أكد الأمر به وكرره وبين مكانة المحسنين من الله سبحانه وجزائهم عنده
بين القرآن أن الله تعالى أحسن خلق الناس وأحسن خلق كل شيء. قال: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين). وقال: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، ذلكم الله ربكم فتبارك ربكم فتبارك الله رب العالمين). وإذا كان خلق الله كله إحساناً فهذا العالم أولى به الإنسان، وأقرب إلى سنته وإلى مرضاة خالقه
بل بين القرآن أن الغاية من الحياة والموت والعمران استباق الناس إلى الإحسان وتنافسهم(384/5)
فيه
قال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) وقال: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً)
أمر الكتاب الكريم بالإحسان في العمل إذ قال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) والإحسان هنا إما أن يكون فعل الحسن وإما أن يكون زيادة على العدل. فالعدل إيتاء كل ذي حق حقه، والإحسان أن يعطي الإنسان ما لا يلزمه ويفعل أكثر مما يطلب منه. ومهما يكن فهذا وذاك يأمر به القرآن ويدعو إليه ويحث عليه
وأمر بالإحسان في القول إذ قال: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن.) وقال: (وإذا جبيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها. إن الله كان على كل شيء حسيباً.) فالمسلم مأمور أن يحسن في فعله وقوله جهد الطاقة، حتى ينتهي به الإحسان إلى الكمال الذي هو أليق به وأقرب إلى مقاصد دينه
وهذا الإحسان الذي أمر به المسلمون عام لا يخص فريقاً دون فريق إلا من ظلم واعتدى فليس له من إحساننا نصيب. يقول القرآن الكريم: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.)
الطريقة المثلى والدين الأحسن في شرعة القرآن أن يؤمن الإنسان بالله ويخلص له ويفعل الحسن. بين هذا القرآن في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن). وفي قوله (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن فقد أستمسك بالعروة الوثقى)، وقوله (من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
هذه هي الطريقة المثلى والخطة التي تكفل للإنسان سعادته واجتماع القلوب عليه وتجنبه الشقاء والبغضاء والشحناء مما يجعل الحياة شراً والأرض سعيراً. في الكتاب المبين: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وهذا مطلب عظيم يحتاج إلى رياضة النفس على الخير وصبرها على المكاره. لذلك يقول القرآن بعد هذه الآية (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) وقال في آية أخرى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار)(384/6)
وبين القرآن أن الإحسان يكون في كل عمل وفي كل قول. فالاعتراف بالحق والإيمان به إحسان. حكى القرآن عن جماعة من القسيسين أنهم آمنوا وقالوا فيما قالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) وقال عقب هذا: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين). فقد عد قولهم المنبئ عن الإيمان إحساناً. وفي آية أخرى يعد العفو عن المسيء والصفح من الإحسان قال: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وعد استجابة المسلمين لدعوة الرسول إلى تعقب المشركين بعد ما أصاب المسلمين في أحد - عد هذا إحساناً في قوله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وعد احتمال المشقة في سبيل الحق إحساناً فقال في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
النفس الكريمة الطيبة تنزع إلى كل عمل حسن وتنفر من كل قبيح ولا تقف في الإحسان عند حد، فهي تواقة إلى الأحسن فالأحسن؛ تحسن في كل فعل وفي كل قول وتطمح في كل في كل درجة إلى ما فوقها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والمحسنون مقربون إلى الله سعداء بقربه ومحبته، لا يفارقهم إحسانه ورحمته. يقول القرآن: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ويقول إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. ويقول: (إن رحمة الله قريب من المحسنين)
وأما جزاء الإحسان فقد قال فيه القرآن: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). وقال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) جزاء الإحسان أن يحسن الله إلى المحسن في الدنيا والآخرة. جزاؤه في الدنيا صلاح النفس وتزكّيها وفتح أبواب المعرفة عليها واستمتاعها بالحياة على أحسن وجه وتمكنها في الأرض وسيادتها وبلوغ الكمال الذي أراده الله للمحسنين. جاء في سورة يوسف: (ولما بلغ أشدَّه آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين) وقال في السورة نفسها: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين). جزاء الإحسان في هاتين الآيتين إيتاء الحكمة والعلم والتمكن(384/7)
في الأرض والرحمة. وأعظم به من جزاء
وأما في الآخرة فحسبك هذه الآية من آيات: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار)
ذلكم الإحسان الذي يدعوا إليه القرآن، وذلكم جزاؤه في الدنيا والآخرة. على الإنسان أن يحسن ما استطاع ولا جناح عليه بعد إحسانه أن يستمتع بالطيبات من الرزق في هذه الحياة. وأن يبلغ من هذه الدنيا ما يشاء! وقد تلوت أنت هذه الآية:
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)
وهذه آية أخرى جامعة:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)
ذلكم هدى القرآن في الإحسان، وقد جاء في السنة حديث جامع: (إن الله كتب عليكم الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) يعني إذا لم يكن بد من قتل إنسان قصاصاً فليقتل قتلة حسنة لا مثلة فيها ولا تعذيب؛ وإذا ذبحتم الحيوان فاذبحوه بأحسن وسيلة، الوسيلة التي تؤدي إلى المقصود دون تعذيب كذلك
وبهذا الهدى سار المسلمون الأولون، فأحسنوا أقوالهم وأفعالهم وأحسنوا إلى الناس وبالغوا في الإحسان والإنفاق فنالوا جزاء المحسنين من السيطرة على الدنيا بالحق والسعادة بها وحسن الجزاء في الآخرة
وإن فيهم لأسوة حسنة للمتخلفين من بعدهم، فليجدوا في الإحسان ولينافسوا فيه. ليحرصوا على الإحسان في العلم والمعرفة والقول والفعل وفي كل صنعة وكل نظام تستقيم به أمور الناس على هذه الأرض، فقد دعا الإسلام إلى الإحسان كاملاً عاماً شاملاً. ومن أخلق من المسلمين بإجابة هذه الدعوة؟
عبد الوهاب عزام(384/8)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 1 -
تمهيد
كان يراد بالجامعة المصرية، الجامعة التي أنشأنها الأمة سنة 1908، والتي تحولت إلى جامعة أميرية 1925، وقد سميت (جامعة فؤاد الأول) سنة 1938 تكريماً لذلك الملك العظيم، لأنها أنشئت في عهده، ولأنه كان أول رئيس للجامعة المصرية.
وأنا حين أقول (الجامعة المصرية)، لا أريد (جامعة فؤاد الأول) بالقاهرة، ولا (جامعة فاروق الأول) بالإسكندرية، وإنما أعني (الجامعة المصرية) التي تنتظم هاتين الجامعتين، وما سينشأ من جامعات في مدائن الشمال ومدائن الجنوب: كالمنصورة وأسيوط
والحال كذلك في غير مصر، فالفرنسيون يقولون (الجامعة الفرنسية) حين يريدون المعنى الجامعي بلا تقييد، فإذا أرادوا التخصيص قالوا: (جامعة باريس) و (جامعة ليون) إلى آخر ما هنالك من جامعات
والمسابقة الجامعية التي أقرتها وزارة المعارف، لا تخص جامعة فؤاد الأول، ولا جامعة فاروق الأول، وإنما تعم جامعة القاهرة وجامعة الإسكندرية، فهي إذاً مسابقة (الجامعة المصرية)
موضوع هذه الدراسات
ويجب أيضاً أن نحدد الغرض من هذه الدراسات فنقول:
هو أولاً توجيه لطلبة السنة الخامسة بالمدارس الثانوية، وهو ثانياً تلخيص لطائفة من أثار الأدب الحديث
ولكن كيف نجمع بين هاتين الفائدتين؟ وكيف نسلك مسلك (التحبيب) وهو منهج من مناهج أسلافنا الفضلاء؟
يجب أن يكون مفهوماً أن هذه الدراسات موجهة إلى جميع القراء، وإن كان الغرض منها توجيه طلبة السنة الخامسة الثانوية إلى الاستفادة من مسابقة الجامعة المصرية. وذلك(384/9)
يوجب أن ننظر في تلك المؤلفات بترفق وتلطف، بحيث يمكن جذب الطلبة والجمهور إلى إدراك ما فيها من مقاصد وآراء بدون تزيد وبدون إسراف، فما يجوز أن نصف كتاباً بما ليس فيه، أو أن نحمل مؤلفاً ما لا يطيق
تنبيه يفرضه منهج الدرس
ليس الغرض من هذه الدراسات أن يرجع إليها الطالب قبيل المسابقة بيوم أو يومين، وإنما الغرض هو توجيه إلى الاستفادة من تلك المؤلفات، فهو مسئول عن مراجعتها فصلاً فصلاً وجملة جملة ليدرك بنفسه أغراض المؤلفين؛ فإن لم يفعل فهو متواكل مخذول، ولن يظفر من المسابقة بشيء؛ ولو كنت أتوهم أن طلبة السنة التوجيهية سيستغنون بهذه الدراسات عن المراجعة والاستقصاء لطويتها عنهم، فما أحب أن يكون في شباب اليوم من يغنيه الوصف عن تعرف حقيقة الموصوف
قراءة الناقد وقراءة المستفيد
تنقسم القراءة إلى قسمين: قراءة فهم واستفادة، وقراءة نقد واستقصاء
فما قراءة الطالب هذه المؤلفات؟
يجب أن تكون القراءة الأولى - أو القراءات الأولى - قراءة فهم واستفادة، بحيث يهتم القارئ أولاً وقبل كل شيء بتفهَّم أغراض المؤلفين والانتفاع بما يحلون من مشكلات، وما يعرضون من آراء، فإذا انتهى من ذلك وتفهم الكتاب تفهماً صحيحاً رجع إليه فقرأه من جديد قراءة النقد والاستقصاء، والمراد من النقد هو التعرف إلى نفسية المؤلف وإدراك ما في أقواله وآرائه من قوة وضعف، وصحة وبطلان؛ والمراد من الاستقصاء هو ربط أفكار المؤلف بما سبق للقارئ الاطلاع عليه من أفكار الباحثين، لتصح له الموازنات بين القراءات القديمة والقراءات الجديدة بصورة تقنعه بأنه تحرر من سيطرة المؤلف واطمأن إلى قدرته على المفاضلة بين رأي ورأي وأسلوب وأسلوب
وإذا انتفع الطالب بهذا التوجيه فسيفوز حتما وسيخرج بمحصول نفيس يكون من أنفع ذخائره الأدبية في الحياة الجامعية. والله عز شأنه هو الموفق
فيض الخاطر(384/10)
ونبدأ هذه السلسلة بدراسة كتاب (فيض الخاطر) لحضرة الأستاذ أحمد أمين عميد كلية الآداب، والمقرر للمسابقة هو الجزء الأول فقط، فإذا استطاع الطالب أن ينظر في الجزء الثاني أيضاً وأن يأخذ عنه فكرة مجملة كان ذلك أبلغ في الإحاطة باتجاهات المؤلف ومعرفة ما يعتلج في نفسه من أفكار وآراء
نشر الجزء الأول سنة 1357هـ 1938م وهو يقع في ستين وثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط (إلى أن نضع تحديداً دقيقاً لما يسميه الفرنسيون
والمؤلف يصور محتويات كتابه فيقول إنه (مجموع مقالات أدبية واجتماعية) نشر بعضها في (الرسالة) وبعضها في (الهلال) وبعضها لم ينشر في هذه ولا تلك)
ومقالات الكتاب تُعد بالعشرات، أو هي بالضبط اثنتان وسبعون مقالة، وقد وضُعت في أماكنها من الكتاب بدون ترتيب، لأن الترتيب لم يكن ملحوظاً في إنشاء هذه المقالات، وقد وضعت أيضاً بدون تأريخ، لأن المناسبات لم تكن ملحوظة، فهي آراء يتصل بعضها بالعصر الجديد وبعضها بالعصر القديم، بدون التفات إلى روابط التاريخ
ومع هذا التلطف في الاعتذار عن المؤلف فقد كنا نحب أن يؤرخ تلك المقالات، لأن منهج التأليف يوجب ذلك ولأن الباحث قد يحتاج إلى تواريخ تلك المقالات بعد حين
الأسلوب
يتفق الأستاذ أحمد أمين في أحيان كثيرة أن يقول إنه يراعي في أسلوبه ذوق العصر، كالذي صنع منذ أكثر من عشرين سنة يوم نشر كتاب (الأخلاق)، وكالذي صنع في مقدمة (فيض) الخاطر حين قال: (وخير أسلوب عندي ما أدى أكثر ما يمكن من أفكار وعواطف في أقل ما يمكن من عسر وغموض والتواء، وراعك بجمال معانيه أكثر مما شغلك بزينة لفظه، وكان كالغانية تستغني بطبيعة جمالها عن كثرة حليها)
وهذا القول يشهد بشعور المؤلف بأن أسلوبه خالٍ من الزخرف والبريق والرواء، وبأنه لا يعول على جمال الألفاظ، وإنما يعول على جمال المعاني
والأمر كذلك في أسلوب الأستاذ أحمد أمين، فهو يكتب كما يتحدث، بلا عسر ولا غموض، ولا يهمه حين يؤدي المعنى تأدية واضحة أن يقال إن أسلوبه ليس بالأسلوب الرشيق، وقد(384/11)
يتفق له أن ينقل العبارة الواحدة من موضوع إلى موضوع حين يراها تصل به إلى ما يريد، كعبارة (رواء في العين، ولا شيء في اليدين) فقد كررها بلفظها في معرضين مختلفين، وقد يأنس بتعابير العوام حين يراها تؤدي الغرض المقصود، كأن يقول: (وراحتْ أيام، وجاءت أيام) وهو مع ذلك ينقل بعض تعابير القدماء إلى كلامه من حين إلى حين؛ كأن يقول في سياق أحد الأحاديث (تجيئك بحمأة وقليل ماء)
أسلوب أحمد أمين ليس بالأسلوب الرشيق، وأحمد أمين ليس من (دهاقين الكلام) كما كان يعبر القدماء، ولا عبرة باعتذاره بأن المهم هو المعاني، ولا قيمة للغض من الزخرف والبريق والرواء، لأنها عناصر أساسية من الأسلوب الجميل
ولكن يجب الاعتراف بأن أسلوب أحمد أمين له شخصية تتميز بالسهولة والوضوح، فهو يعبر عن ذات نفسه تعبيراً صحيحاً، وهو يقنع وإن كان لا يفتن، لأنه يبغي الإقناع ولا ينشد الفتون، وليس ما وصل إليه بالمغنم القليل
موضوعات الكتاب
في كتاب (فيض الخاطر) موضوعات أدبية واجتماعية، وبعض الموضوعات الأدبية تراجم لرجال أنس بذكراهم المؤلف، كترجمة أبي مججن الثقفي، وفي هذه الترجمة تحدث المؤلف عن (الطائف) في الجاهلية والإسلام حديثاً طريفاً، وكان أكبر همه أن يبين قيمة الشخصية الخلقية لشاعر لا ينتهي عن الخمر إلا حين تصبح له من المباحات بفضل ما أبلى في الحروب. والنظر في هذه الترجمة ينفع، لأن فيها معارف تاريخية وجغرافية، ولأنها تصور حرص المؤلف على التنويه بقيمة الاعتزاز بالنفس في بناء الشخصية الخلقية
وأبو محجن هو الشاعر الذي تعقبه عمر بن الخطاب بالنفي والتشريد لهذين البيتين:
إذا مت فادفنّي إلى جنب كَرمةٍ ... تروِّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفننّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مُتّ أن لا أذوقها
وهنا يقول المؤلف: (ويشاء قاصّ من الظرفاء فيروي أنه رأى قبره بنواحي أذربيجان أو جرجان وقد نبتت عليه ثلاث كروم قد طالت وأثمرت واعترشت)
ونقول إنه لا موجب لعبارة (قاص من الظرفاء) التي تفيد الكذب والاختراع، فليس من المستبعد أن يحقق العرب مثل هذه الوصية، وكان من خير المدح عندهم أن يكون الرجل(384/12)
(شِريِّبَ خمر مِسْعَراً لحروب) وقد صقلت أذواقهم بالانتقال إلى فارس وطن الأعناب والصهباء، وهل يكثر على العرب أن يصنعوا مع قبر أبي محجن ما صنع الفرنسيون مع قبر ميسيه وما صنع الفرس مع قبر الخيام؟
العرب أظرف مما يتوهم الأستاذ أحمد أمين، و (القاص الظريف) لم يقل ما قال إلا استجابة لما فطر عليه العرب من الظرف في رعاية حقوق الشعراء
وفي كتاب (فيض الخاطر) ترجمة للأحنف بن قيس، وهي ترجمة نفيسة جداً، ويجب على الطالب أن ينظر فيها بعناية، فقد تفيد في الإجابات التحريرية أو الشفوية، لأنها بالفعل من أطايب هذا الكتاب، والأستاذ أحمد أمين يجيد حين يتعرض لموضوع وجدت عناصره الأصيلة في كتب القدماء
وفيه ترجمة لسيبويه المصري، وفي هذه الترجمة فكاهة وأدب وتاريخ، وهي جديرة بالالتفات
ويتصل بهذا النوع ترجمته للون الأصفر في العصر العباسي وهي نبذة طريفة تصور جانباً من الذوق الاجتماعي في ذلك العهد والأذواق تترجم كما يترجم الأشخاص!
أما التراجم الحديثة فأهمها ترجمة عاطف بركات وترجمة علي فوزي، وقد أجاد الكاتب في هاتين الترجمتين، وإن كان انحرف بعض الانحراف في الترجمة الثانية، لأنه صور فرار علي فوزي من المجتمع المصري بصورة العقل، ولو أراد الحق لعد ذلك الفرار من صور الجنون، وعذر المؤلف أنه أراد الترفق بأستاذه وهو يرثيه، وإلا فكيف يكون الانصراف عن الزواج رحمة بالمرأة وهي لا ترى الأمان إلا في رحاب الزواج؟
إن الكاتب حبر هذه المقالة في لحظة غضب على المجتمع، وبذلك استجاز أن يرى الانسحاب من ميدان الجهاد دليلاً على رجاحة العقل، ولو أنه كتب هذه المقالة في لحظة هدوء لرأى أن تصرف المرحوم على فوزي بك لم يكن إلا تصرف رجل مريض صده المرض عن الاضطلاع بأعباء الأسرة، وصرفه عن المشاركة في النهوض بالواجبات الوطنية
وعلى ذلك تكون هذه تكون المقالة من الأدب الذاتي، وهو الأدب الذي يصور الكاتب قبل أن يصور المجتمع، وهي مقالة لها تفاسير في أدب الأستاذ أحمد أمين، فقد شهد على نفسه(384/13)
في كتابه هذا بأنه قليل الضحك كثير البكاء، وذلك سر نجاحه كاتباً، لأن الأمم التي تعاني الاضطهاد، أو تتوهم أنها تعاني الاضطهاد تميل إلى الكاتب الذي يكثر من شرح معاني الضجر والاكتئاب
وننتهز هذه الفرصة فنشير إلى المقال الذي عنوانه (الضحك) والمقال الذي عنوانه (سيدنا) فهما يصوران شقاء الكاتب بالناس والزمان، فقد ضربه معلمه في الطفولة ضرباً قاسياً عنيفاً، ضربه ضرباً قضى بأن يستريح في المنزل نحو أسبوعين، والذي يواجه بأمثال هذه المكاره وهو في طهارة الطفولة لا يرى الناس إلا قطعاناً من ضاريات الذئاب
ولم يفت الأستاذ أحمد أمين أن يعقب على ذلك السلوك الفظيع من معلمي الأطفال، فقد عده رياضة على تحمل مكاره الحياة، ولعله صدق، فقد قام الدليل على أن الخوف من المجتمع هو أنجح الوسائل في الانتصار على المجتمع
وهذه النظرة تفسر ما يغلب على كتابات الأستاذ أحمد أمين من الميل إلى الجد الصرف، واستهانته بالأزهار البواسم في رياض الآداب والفنون، كالذي وقع في مقال (أدب القوة وأدب الضعف) وهو مقال جيد من حيث التصوير لنفسيته الذاتية، وهي نفسية الرجل الذي صرح في مقالة (الموت والحياة) بأن الأمر في السعادة إلى ما في داخل النفس لا في خارجها، وأن في الدنيا نفوساً قد تشقى في النعيم ونفوساً قد تسعد في الشقاء
وكذلك نرجو أن يفطن طلبة السنة التوجيهية وهم يقرؤون كتاب (فيض الخاطر) إلى أن المؤلف أديب يصور لواعج نفسه قبل أن يصور بلايا المجتمع، وإذا كان أحمد أمين قد نجح نجاحاً ملحوظاً في حياة الأدبية والمعاشية، فهو نجاح السباح المغامر الذي عانى ويلات الخطوب وهو يقارع الأمواج في ليلة داجية مُثقلة الحواشي بالعواصف والأنواء
ونخرج من هذا بأن أحمد أمين لم يكن مرائياً في قصر أدبه على الجد الصرف، فهو في حقيقة الأمر رجل حزين، وإن كان يستريح إلى أحاديث الدعابة والمجون حين يخلو إلى أصدقائه الخواص، وهل يستريح إلي الدعابة إلا الرجل المكروب؟
إن هذا الرجل أعلن في كتابه أنه يشتهي ضحكة قوية يمسك منها صدره، ويفحص منها الأرض برجليه، ضحكة تملأ شدقيه، وتبدي ناجذيه، وتفرج كربه الأليم، وتكشف همه المقيم. ولكن تلك الضحكة القوية لن تتاح لمن كان في مثل حاله من الحرص على الوقار(384/14)
والتزمت، والخضوع لأهواء المجتمع البليد الذي يرى المرح من عيوب الرجال
وهنا أذكر نكتة قصها رجل سخيف، رجل لا يؤمن بأن الشيخ محمد عبده كان من العظماء، لأنه شهده مرة وهو يضحك بقوة وعنف كما يضحك الأطفال
والنكتة هي ضحك الشيخ (محمد عبده) بتلك القوة وبذلك العنف، والعظيم عظيم في كل شيء حتى في الهزل والمجون، وكان محمد عبده عظيماً في الجد وعظيما في المزاح، ولن تكمل الشخصية الإنسانية إلا إذا استوفت معاني المرارة والحلاوة والقسوة واللين
قال الراوي: كان محمد عبده يضحك ينافي وقار العلماء
وأقول إن محمد عبده لم يكن واحداً من العلماء، وإنما كان أوحد العلماء، وللأوحد مزايا لا يتمتع بها الآحاد
وقد أخبرنا الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه أنه سيحاول الضحك. فهل ضحك؟ كتب الله لي وله نعمة القدرة على الاستهانة بمكايد الناس ومكاره الزمان!
أما بعد ففي كتاب (فيض الخاطر) مقالات نخصها بالحمد بلا تحفظ، وندعو الطلبة إلى فهمها بعناية وحرص، كمقالة (عدو الديمقراطية) وهي من بدع ما كتب بدع ما كتب أحمد أمين، ومقالة (الإشعاع) وهي مقالة رفضت النظر إليها في الكتاب، لأني فوجئت بها في مجلة الرسالة وأنا راجع من فرنسا في صيف سنة 1933 فكان لها تاريخ في تحديد ما بيني وبين الأستاذ أحمد أمين، ومع طول العهد ومع النفرة من مراجعة هذه المقالة فأنا أعتقد أنها من غُرر الأدب الحديث، وقد كتبت هذه المقالة في لحظة من (لحظات التجلي) وهو عنوان لمقال طريف وفق الكاتب في فقراته الختامية إلى معانٍ لا تصدر إلا عن رجل موهوب وأحمد أمين في بعض ما يكتب رجل موهوب
وهنالك مقال (الحلقة المفقودة) وهو مقال صادق، وقد كان له تأثير في بعض البيئات العلمية، والكاتب الحق هو الذي ينقل الفكر من حال إلى أحوال، ويعكر صفو الآمنين من حين إلى حين
ثم أما بعد فكتاب (فيض الخاطر) هو صور ذوقية وأدبية واجتماعية لرجل محترم يعاديه قوم ويصادقه أقوام، رجل له أهل وأبناء وأصدقاء وأعداء، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يفهم سرائر المجتمع كل الفهم أو الفهم أو بعض الفهم، وهو جدير بأن ينصب لآرائه ميزان(384/15)
أحمد أمين يمثل صورة الرجل المسئول، والرجل المسئول مسكين مسكين مسكين، هو مسئول أمام أهله وأبنائه وأصدقائه وأعدائه، وهو مسئول أما تلاميذه بكلية الآداب، وقد كففت عنه قلمي منذ اليوم الذي عين فيه عميداً لكلية الآداب، لأن الغض من عميد تلك الكلية خروج على ما لها في عنقي من عهود ومواثيق
ومعنى ذلك أنني أحب أن يقرأ طلبة السنة التوجيهية كتاب (فيض الخاطر) بتدبر وإمعان، لأنه حقاً وصدقاً كتاب نفيس، ولأنه صورة لرجل كريم لم يأخذ عليه خصومه غير هنوات لا تغض من أقدار الرجال، ومن الدليل على كمال الرجولة أن يكون فيها ما يعاب، لأن الرجولة الحق مزاج من الرشد والغي والهدى والضلال
ثم ماذا؟ ثم أنتقل إلى كتاب (وحي الرسالة) بمثل هذا الأسلوب من الصدق في تشريح أغراض المؤلفين، وأنا أرجو أن يقبل طلبة السنة التوجيهية على هذه المؤلفات بشغف وشوق، ليكونوا برعاية الله أنصاراً أوفياء للأدب الحديث.
زكي مبارك(384/16)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات المحلية
للدكتور على عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تقضي القوانين الخاضع لها تطور اللغات أن تختلف اللهجات في الأمة الواحدة تبعاً لاختلاف أقاليمها وما يحيط بكل إقليم منها من ظروف وما يمتاز به من خصائص. وقد جرت العادة أن يطلق على هذا النوع من اللهجات أسم اللهجات المحلية وتختلف هذه اللهجات بعضها عن بعض اختلافاً كبيراً في المساحة التي يشغلها كل منها: فمنها ما يشغل مقاطعة كاملة من مقاطعات الدولة؛ ومنها ما تضيق منطقته فلا يشمل إلا بضع قرى متقاربة؛ ومنها ما يكون وسطاً بين هذا وذاك. وكثيراً ما تختلف هذه المناطق اللغوية في حدودها عن المناطق المصطلح عليها في التقسيم الإداري والسياسي. فقد تقسم القرى التي تتألف منها منطقة لغوية واحدة بين مديريتين أو أكثر؛ وقد يجتمع في مديرية واحدة أو مركز واحد عدد كبير من المناطق اللغوية. ولدينا نحن المصريين على ذاك شواهد كثيرة في مختلف أقاليم الصعيد والوجه البحري
وتعمل كل لهجة من اللهجات المحلية على الاحتفاظ بشخصيتها وكيانها، فلا تدخر وسعاً في محاربة عوامل الابتداع والتغيير في داخل منطقتها، ولا تألو جهداً في درء ما يوجه إليها من خارجها من هجمات. فاللغة نظام اجتماعي، وكل نظام اجتماعي، يحمل في طيه قوة المقاومة والقهر، على حد تعبير العلامة دوركايم
أما محاربة عومل الابتداع في داخل منطقها فتم بفضل العلاقات الوثيقة التي تربط الناطقين بها بعضهم ببعض وتربطهم ببيئتهم ومجتمعهم. وذلك أنه بقوة هذه العلاقات يقوي الضمير الجمعي، وتتأكد سيطرة النظم الاجتماعية، ويعظم نفوذها، ويشتد بطشها بالمعتدين. فكل محاولة فردية للخروج على النظام اللغوي تلقى في مجتمع كهذا مقاومة عنيفة تكفل القضاء عليها في مهدها. وبذلك تتقي اللهجة ما عسى أن يوجه إليها في داخل منطقتها من محاولات الابتداع وعوامل التغيير(384/17)
وأما حمايتها من اللهجات المجاورة لها فيرجع الفضل فيها إلى ضعف الصلات التي تربط أهلها بمجاوريهم، وقلة فرص احتكاكهم بهم، وما يبدونه في العادة من نزوع إلى العزلة والاستقلال. ويظهر هذا على الأخص في البيئات الزراعية التي تقل فيها وسائل المواصلات، وتضعف حركة انتقال الأفراد، ويكاد سكان كل منطقة يعيشون في معزل عن سكان المناطق الأخرى. حقاً إن تزوج بعض الرجال في هذه البيئات إلى نساء من غير مناطقهم، وهجرة بعض الأفراد من بلادهم إلى البلاد المجاورة لها، كل ذلك وما إليه يجلب إلى البلد عناصر أجنبية عنه. ولكن قلة عدد من ينفذ من الأجانب عن هذه الطرق وما شاكلها وانتماءهم في الأصل إلى مناطق لغوية مختلفة، ودخولهم البلد فرادى وفي أزمنة متباعدة، وعدم وجود رابطة نربطهم بعضهم ببعض، وإقامة كل منهم بين مجموعة من الناس تختلف لهجة أفرادها عن لهجته، وما يبديه أهل المنطقة حيال لهجاتهم من سخرية وازدراء، وصعوبة فهم حديثهم أحياناً، كل ذلك وما إليه لا يحول دون تأثير لهجة البلد بلهجاتهم فحسب، بل من شأنه كذلك أن يحملهم هم على محاكاة لسان المنطقة التي يقيمون فيها. وأما البيئات التجارية والصناعية والساحلية التي يكثر في العادة احتكاك أهلها بغيرهم، فيرجع الفضل في حماية لهجاتها إلى قلة عدد الأجانب بالنسبة إلى سكانها الأصليين، وانتمائهم إلى مناطق لغوية مختلفة، وعدم وجود رابطة تربطهم بعضهم ببعض، وقصر مدة إقامتهم، لأن معظمهم يفد إلى البلد في شئون لا تقتضيه إلا إقامة ساعات أو أيام
غير أنه قد يتاح أحياناً للهجة محلية فرص للاحتكاك الدائم بلهجة أخرى. وحينئذ تشتبك اللهجتان في صراع أهلي لا يختلف كثيراً في مظاهره وطرقه عن الصراع الذي ينشب بي لغتين مختلفتين والذي عالجناه في مقالات سابقة في الرسالة
وينتهي هذا الصراع إلى إحدى نتيجتين: فأحياناً لا تكاد إحدى اللهجتين تؤثر في الأخرى، وذلك إذا تساوى أهل المنطقتين في الثقافة والقوة والنفوذ. وأحياناً تكون إحداهما عرضة للتأثر بالأخرى، وذلك إذا كانت أقل منها في مظهر من المظاهر السابقة. وتختلف درجة التأثر باختلاف الأحوال: فأحياناً يكون يسيراً لا ينال إلا بعض مظاهر، وأحياناً يكون عميقاً ينتهي بالقضاء على اللهجة المغلوبة
فيكون يسيراً إذا لم تكن الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في الثقافة والنفوذ والسلطان.(384/18)
ويبدو هذا في تأثر لهجة القرى بلهجة المدنية التي تجاورها أو يكون بها مقر المديرية أو المركز، أو في تأثرها بلهجة البلد الذي يتخذ مقراً لنقطة البوليس أو للعمدة أو التي يقام فيها السوق الأسبوعي. . . وهلم جرا. ففي هذه الحالات وما إليها يقف التأثر عند حد اقتباس الكلمات والتراكيب وطرق استخدام المفردات في معانيها الحقيقية والمجازية. . . وما إلى ذلك. أما الأساليب الصوتية وطريقة النطق بالحروف والكلمات فتظل بمنجاة من التأثر والتحريف. ومن ثم نرى أن القرى المحيطة بقاعدة مديرية من مديريات القطر المصري قد تقتبس عنها كثيراً من ألفاظها وتراكيبها ومدلولات مفرداتها. . .، ولكن لهجاتها تظل سليمة فيما يتعلق بالأصوات، وطريقة النطق بالكلمات. فالقرى المصرية التي تقلب في لهجاتها القاف العربية (جافا) أي جيما غير معطشة (جلنا=قلنا) قد تجاور مثلاً مدينة تختلف عنها في هذا الأسلوب الصوتي (بأن تقلب فيها القاف العربية همزة: ألنا=قلنا)، فنقتبس عنها كثيراً من مفرداتها، ودلالاتها وأساليبها؛ ولكن تظل طريقتها الصوتية حيال القاف العربية بمأمن من التأثر بطريقة المدينة، اللهم إلا في الكلمات التي تقتبسها منها
أما إذا كانت الفوارق كبيرة بين أهل المنطقتين في ناحية من النواحي السابق ذكرها، فإن التأثر يكون عميقاً لدرجة تصل أحياناً إلى القضاء على اللهجة المغلوبة. ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون إحدى المنطقتين خاضعة لسلطان المنطقة الأخرى، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجة المنطقة ذات السلطان، على شريطة ألا تقل عن المنطقة الأخرى حضارة وثقافة وآداباً. والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث. فلهجة باريس حيث كان مقر الحكومة والسلطان، قد قضت على كثير من لهجات المقاطعات الفرنسية التي خضعت لنفوذ باريس؛ وكذلك فعلت لهجة لندن مع عدد كبير من اللهجات الإنجليزية الأخرى، ولهجة مدريد مع اللهجات الإسبانية، ولهجة روما في العصور القديمة مع أخواتها الإيطالية؛ ولهجة قريش قبيل الإسلام مع اللهجات المضرية الأخرى. . . وهلم جرا. . .
الحالة الثانية: أن تفوق إحدى المنطقتين المنطقة الأخرى في ثقافتها وحضارتها وآداب لغتها، ففي هذه الحالة يكتب النصر للهجتها وإن لم يكن لها سلطان سياسي على المنطقة الأخرى. ولذلك أخذت اللهجة السكسونية بألمانيا تطارد اللهجات الألمانية الأخرى منذ(384/19)
القرن السادس عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الألمانية الحديثة وقبل أن تظهر غلبة براين. وأخذت التوسكانية بإيطاليا تقهر اللهجات الإيطالية الأخرى منذ القرن الرابع عشر الميلادي، أي قبل أن تتكون الدولة الإيطالية الحديثة، وقبل أن يظهر سلطان روما؛ وذلك بفضل ما كان لكل من السكسونية والتوسكانية من إنتاج أدبي لا يذكر بجانبه إنتاج أخواتها التي اشتبكت معها في هذا الصراع
وفي كلتا الحالتين السابقتين يختلف الصراع في مدته وعنفه تبعاً لمبلغ قرب اللهجتين إحداها من الأخرى ومبلغ ثقافة المنطقة المغلوبة. فيطول أمده ويشتد عنفه كلما كثرت وجوه الخلف بين اللهجتين أو قلت ثقافة الناطقين باللهجة المقهورة. فلهجة مدريد لم تقو بعد على التغلب كثير اللهجات الأسبانية الأخرى ولا تزال إلى الآن تلقى مقاومة عنيفة من جانبها، وذلك لتفشي الجهل والأمية بين الناطقين بهذه اللهجات، ولهذا السبب نفسه لم يتم بعد للهجة القاهرة التغلب على لهجات المناطق المصرية المجاورة لها، وفي القسم الفرنسي اللغة من سويسرا لا تزال اللهجات المحلية تقاوم الفرنسية الفصحى في المناطق الكاثوليكية (فاليه، فريبورج , على حين أنه قد تم انقراض هذه اللهجات أو كاد في المناطق البروتستانتية (نيوشاتل جنيف) وذلك لأن المناطق البروتستانتية من هذا القسم أرقى ثقافة وعلماً من المناطق الكاثوليكية وأقدم منها عهاً بالمدارس، ولسان باريس قد تغلب بسهولة على اللهجات التي كانت منتشرة في إقليمي السين واللوار، لقلة وجوه الخلف بينه وبينها، على حين أنه لم يقو بعد على التغلب على لهجات جنوب فرنسا ولا يزال يلقى منها مقاومة عنيفة لكثرة الفروق التي تفصلها عنه
واللهجة التي يتاح لها التغلب في أمة ما على بقية أخواتها، أو على معظمها تصبح غالباً (لغة الدولة) أو ما يطلق عليه اسم (اللغة القومية) أو (اللغة الفصحى) أو (لغة الكتابة). فتعلم وحدها في مدارس الدولة، ويجري بها تدريس المواد المختلفة في معاهدها، وتؤلف بها الكتب والصحف والمجلات، وتصدر بها المكاتبات الرسمية وغيرها، وتستخدم في مختلف مناحي الوعظ والخطابة، وتلقى بها الأوامر ويجري بها التخاطب في الجيش، وهلم جراً. فقد ترتب على تغلب لهجة باريس على معظم أخواتها أن أصبحت لغة الدولة بفرنسا؛ وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغة الفرنسية. وهذا هو ما حدث عقب تغلب لهجة لندن(384/20)
بإنجلترا ولهجة مدريد بأسبانيا، واللهجة السكسونية بألمانيا والتوسكانية بإيطاليا؛ فقد أصبحت هذه اللهجات هي اللغات الرسمية، وعليها وحدها يطلق الآن اسم اللغات الإنجليزية والأسبانية والألمانية والإيطالية
وتسلك لغات الكتابة في تطورها طريقاً خاصة تختلف عن الطريق التي تسلكها لغات المحادثة. ولذلك نرى أن لغة الكتابة مع اتفاقها في المبدأ مع لهجة المحادثة الغالبة، لا تلبث فيما بعد أن تختلف عنها في كثير من النواحي، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بينهما، حتى تستقل كل منهما عن الأخرى. فلغة الكتابة بفرنسا مثلاً تختلف الآن عن لهجة المحادثة الباريسية اختلافاً غير يسير.
علي عبد الواحد وافي(384/21)
الانتحار وعلاقته بالشخصية
للدكتور محمد حسني ولاية
حفزني إلى تناول هذا الموضوع الاجتماعي الهام انتحار عالمين من علمائنا هما الدكتور إسماعيل أدهم، والأستاذ فخري أبو السعود. وقبل أن أبين العلاقة بين الشخصية والميل إلى الانتحار أقول إن بعض علماء النفس والعقل يميلون إلى تقسيم الشخصيات البشرية (الطبيعية) إلى سبعة أقسام اختيارية على غرار الأمراض العقلية والنفسية الرئيسية
الشخصيات:
1 - الشخصية الهوسية: يمتاز صاحبها بالنشاط والحركة المستمرة والاعتداد بالذات، وهي تنطوي على كفاح بين الذات والضمير.
2 - الشخصية الملانخولية: تتصف بالهبوط النفساني، والكسل واليأس، واتهام النفس، واستحواز الأفكار السوداء على صاحبها. وتمتاز أيضاً بكفاح بين الذات والضمير.
يقول فرويد إن محتويات الهوس النفسانية لا تختلف في شيء عن محتويات الملانخوليا، وإن الشخص في كلا الحالين يصارع نفس المعقَّد وإن الذات تستسلم لهذا المعقد في حالة الملانخوليا ولكنها تسيطر عليه أو تطرحه جانباً في حالة الهوس
3 - الشخصية الوسواسية: يميل صاحبها إلى حسن الهندام والذوق السليم، ولكنه كثير التردد ضعيف الإرادة. وينطوي الوسواس على كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن
4 - الشخصية الهستيرية: تمتاز بتركيز الاهتمام على الذات والأنانية الشديدة، والاعتماد على معونة الغير. وتنشأ التصرفات الهستيرية من كفاح بين الذات ومستقر الغرائز الجنسية في العقل الباطن
5 - الشخصية القلقة: تتصف بالقلق، وتوجس الشر، وبلبلة الفكر، والخوف من المجهول
يقول فرويد ليس للقلق صفة محدودة لعدم تعلقه بموضوع ما. وهو وليد دفاع الذات ضد خطر غريزي غير معروف. وكثيراً ما تصبح الحاجة الغريزية خطراً داخلياً ويؤدي إشباعها إلى التماس خطر خارجي يمثله الخطر الداخلي، ولكي تتأثر الذات لابد أن يتحول الخطر الخارجي الموضوعي إلى خطر داخلي غريزي(384/22)
6 - الشخصية البارانوياوية: تمتاز بإساءة الظن بالناس وتوقع الشر منهم وبهواجس اضطهادية منظمة، وتنطوي على كفاح إيجابي بين الذات والبيئة
7 - الشخصية الشيزية وتمتاز بالانزواء عن الناس والأنانية وانقطاع التعامل مع البيئة. وينتسب إليها كثيرون من الفلاسفة والأدباء. وتنطوي على كفاح سلبي بين الذات والبيئة
تبرز في كل إنسان (طبعي) ناحية أو أكثر من هذه النواحي الشخصية. والواقع أن شخصياتنا تتكون من خليط متفاوت من هذه الوحدات الشخصية، وكلما ازداد تعدد جوانب الشخصية ازداد تعقدها وتعددت أمانيها
وأكثر الشخصيات التجاء إلى الانتحار الشخصيات القلقة والبارانوياوية؛ أما أكثرها ميلاً إليه فهي الشخصيات الملانخولية والقلقة والبارانوياوية وأحياناً الشخصيات الوسواسية
وكثيراً ما يحول الخمول المستحوذ على الملانخوليين وضعف الإرادة المتسلط على الموسوسين دون قتل نفوسهم. وإن أول ما يفكر فيه البارانوياويون هو الانتقام من الناس فيقتلون الزعماء والعظماء بسبب الهواجس الاضطهادية، غير أنهم ينتهون إلى التماس الانتحار إذا غلب عليهم اليأس. ويندر أن يلجأ الهستيريون إلى الانتحار، لأنهم يحبون أنفسهم حباً أنانياً ويحرصون على سلامة أنفسهم
يقول فرويد في صدد الانتحار (إن السادية هي التي تحل مشكلة النزعة إلى الانتحار. وقد أظهر التحليل أن الذات تعمد إلى الانتحار عندما تنصب عليها طاقة موضوعية، وحينئذ تعالج الذات نفسها كموضوع أي أنها توجه العداء الذي كان موجهاً إلى موضوع ما إلى نفسها)
إن الشخص الذي يميل إلى الانتحار شخص مريض، وهو في حاجة إلى العلاج النفسي ككل مريض بمرض عصبي، فمتى ما حلت المعقدات النفسية وجب إعطاء المريض علاجاً عضوياً كالغدد الصماء والفيتامينات والأملاح المعدنية وغير ذلك لاستعادة النشاط الذهني
ويتصف الراغب في الانتحار ككل مريض بمرض عصبي بالمبالغة في الطموح وشدة الحساسية والتماس الأماني البعيدة المنال دون جهد، والعناد والأنانية
والسبب في أن كثيرين من كبار المفكرين يعمدون إلى الانتحار هو تعدد جوانب(384/23)
شخصياتهم وطموحهم الشديد وتلمسهم أهدافاً بعيدة المنال
ولابد أن نبين أن إنهاك قوى العقل الواعي يؤدي إلى تقوية الباطن وظهوره على المسرح متحدياً العقل الواعي، وحينئذ تتحكم في النفس نزعات دفينة في العقل الباطن، قد تكون وجهتها التماس الموت
ولما كان للعقل الباطن علاقة وثيقة باتجاهات النفس ونزعاتها ونزواتها وتصرفاتها فقد رأيت أن أختم كلمتي بتفسير حلم رآه أحد مرضى العالم النفساني (يونج) قال:
(حلم رجل مثقف في الخمسين من العمر أنه حاول أنه تسلق جبل عال فكان صعوده في أول الأمر شاقاً ولكنه كلما أمعن في الارتقاء كان التسلق أهون، وبعد أن بلغ القمة مشى في الفضاء ثم استيقظ
وبالتحري علمت أنه رجل متمرن على تسلق الجبال بدون مرشد وأنه يشعر بلذة عندما يرى نفسه في موقف خطر، وقد كان عاثر الجد في زواجه مشمئزاً من عمله، وقد فسرت حلمه بالآتي:
عندما كان متعلقاً بالحياة كان ارتقاء الجبل شاقاً إذ كانت تتنازعه رغبتان متضادتان: الرغبة الظاهرة في الحياة والرغبة الدفينة في الموت، ولكنه كلما أغرق في استسلامه لهواه صار لديه الصعود أسهل
ولم يكن سيره في الهواء سوى تعبير عن رغبته في الموت وقد هوى من قمة جبل ومات بعد مضي نصف عام من هذا)
محمد حسني ولاية
طبيب بصحة بلدية الإسكندرية(384/24)
شعر الزواج
للأستاذ عبد المجيد مصطفى خليل
لعل (شعر الزواج) على هذا النهج موضوع جديد، كان لكل جديد غرابة، فقد تزول الغرابة بالبيان
يتناول الشاعر، وسائر أهل الفنون، حوادث حيواتهم بالشعر والتعبير. والزواج من أهم حوادث الحياة. فإذا تزوج شاعر يحسن الشعور بالزواج فكيف لا يكتب القصيد في حياته الزوجية؟! وإذا اقترن موسيقار فلماذا لا يشدو بقرانه؟
ويباح للشاعر وصاحب الفن الجميل الغزل بالفتاة الصبيحة، حتى نسب إلى أبي بكر الصديق أنه تغزل فقال:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت، أو اُمْرٌ في العشيرة حادث؟
وحتى أنشد كعب بن زهير النبي محمداً عليه الصلاة والسلام شعراً بدأه بالغزل على عادة العرب فقال:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
فهذا الغزل بالفتاة مباح للشعراء فكيف بالزوجية؟! إن الزوجة أحق بالغزل. ومن الغزال لائق وخليع. فللزوجة غزل لائق مهذب
هذا النقص في شعر الزواج يسترعي النظر. فهل وجد معظم الشعراء وأهل الفنون زوجاتهم تافهات؟ فإذا فرضنا هذا فإن لكل جديد فرحة ولو كان تافهاً. على أن الزوجة التافهة قد لا تظهر تفاهتها سريعاً. والناس مختلفون في غنى الشخصية. فقد تفرغ شخصية بعد أيام من الصحبة وتفرغ أخرى بعد أشهر، على حين تفرغ أخرى بعد أعوام، وغيرها لا تفرغ أبداً ما عاشت ثم بعد الممات. ففي فجر الحياة الزوجة تحس النفس المعبرة بتحية صادقة لهذي الحياة الجديدة. هذا منطق الشعور، وتلك طبيعة الإحساس. فإذا ما جاشت النفس وسطر القلم العواطف ثم بدت الزوجة تافهة عز على صاحب الفن وأْد فنه. هنا يجب التفريق بين فن صادق وشيء خادع ألهمه. فهذا (شلي) كتب قصيدة رائعة في فتاة باهرة السطوح بائرة الدخائل، ظهر زيفها قبل أن تتم القصيدة! راحت فرحة الشاعر، وضاع أمله وعراه الخجل، ووشابه الكدر، ومع ذلك أبقى على القصيدة وعاشت وخلدت(384/25)
وعلى رأسها إهداء تبطنته سخرية الحق من فطنة الإنسان!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر!
لقد آن أن يكون أدب داري جنب ذاك الأدب الطليق من كل قيد اجتماعي. آن إنصاف الحليلة. آن أن ينصف الشعراء أنفسهم من ظنة حب ما لا يملكون ومقت ما يملكون لأنهم يملكونه كما يكثر بين البلداء والجهلاء والعامة
وللزواج نصيب عند شعراء أوربا في الأساطير والشعر الكلاسيك. غير أنه نصيب غير كاف وغير شامل عند شاعر واحد فيما أعلم
وله نصيب عند المثقفين
فمن الأساطير هذه القصيدة:
(أخيراً أقاما بيتاً كريماً، ظلة منزلية، والعرش غير بعيد من الأرض، مصنوع من القصب والقش معاً عاش هناك بوسيس وفيليمون، وهناك عاشا زوجين طويلاً، وزوجين سعيدين: والآن هما في الحب قديمان، مع أن ذخرهما ضئيل،. . . والأمر عدم، حيث تبودل الحب المتكافئ، أو الأصح أن كليهما أمر، وكليهما أطاع. . .
(هكذا حينئذ نظر رب الأرباب نظرات هادئة قائلاً: تمن يا واحد الرجال عدلاً؛ وأنت يا مرأة وجدت وحدها جديرة بمثل هذا الرجل في رباط زواج
(همسا هنيهة؛ عندئذ كلما (جوف) هكذا يفضل فيليمون دعاء وصالهما ولأن أي عمل في حياتنا لم يدنسه النزاع الأهلي، نسأل ساعة موت واحدة: فلا هي تبكيني بدموع الأرملة إذا عاشت لتدفنني، ولا أنا بذراعين واهنتين أحمل بوسيسي الهامدة إلى القبر باكياً
(وأشارت رؤوس الرب موافقة)
إلى أن قال بعد تحولها معاً إلى شجرتين مورقتين:
(. . . سنديانة فارعة قرب زيزفونة تنموان. . .)
ومن الكلاسيك:
تزوج لورد تنيسون بامبلي شلوود، و (كان الزواج من كل النواحي ناجحاً، وكان الشاعر يقول فيما تلا من حياته: حين تزوجتها نزل سلام الله على حياتي)
وقد نظم تنيسوون شعراً عنوانه (صباح القران) جاء فيه: (هنا للحب الختام الذهبي، كل(384/26)
اختطابي قد فُعل) إلى أن قال: (لأن هذا للحب الصباح الذهبي، وأنت نجم صباحه) حتى قال: (قلبي، أأنت كافي العظمة لحب لا يكل؟ أيها القلب، أأنت للحب كافي العظمة؟ فقد سمعت بأوراد وأشواك)
وقد كان لورد تنيسون حيياً شديد الحياء، وكان من الأرستقراط
اقترن شلي بهريت وستبروك، وبعد عامين نظم فيها قصيدة عنوانها (مساء. إلى هربت) ختمها قائلاً: (كذلك كان محبك يا هريت. هل استطاع إطارة أفكار كل ما يجعل عاطفته عزيزة؟ وينشد ثقوباً في نسيج سعادتنا الموصول عائداً بغير حس من مسك الدافئ؟)
وختم قصيدته (إلى أيانب): (وأنت عزيزة أكثر حين تبدي خصائصك اللطيفة رسم جمال أمك)
ثم اقترن بماري جدوين، ومضت سنوات ثلاثة فنظم فيها حينئذ يقول بعنوان (إلى ماري شلي):
(الدنيا موحشة، وأنا تعب من تطويفي بدونك يا ماري؛
(كان في صوتك وبسمك من قبل فرح. وقد ذهب، يا ماري، حين وجب ذهابي كذاك)
ونظم (إلى ماري شلي) يقول: (ماري العزيزة، أين ذهبت وخلفتني وحدي في هذي الدنيا الموحشة؟ في الحق هنا شخصك - شخص جميل - لكنك فررت منحدرة في الطريق الموحش المؤدي إلى أظلم منازل الشجن. . . . . .)
وله غير ذلك في الزواج قصيدة متبوعة ولكنها عامة السياق وليست في زواجه
وكان شلي (جاداً على العموم، وكان مع ذلك قديراً على المزاح وكان كامل الأدب الذي هو طابع الأرستقراط الصغير)
وكان على حياء العذارى، يتورد وجهه من المقابلات أحياناً.
ومن المثقفين:
القائد الكبير الأرستقراطي فون هندنبرج، يقول في سيرته: (وجدت في زوجتي صاحبة محبة قاسمتني بولاء ودون ملل مسراتي وأحزاني، ومهامي وأعمالي)
كذلك للزواج نصيب في الموسيقى الأوربية الكلاسيك.
فقد ألف الموسيقار تشرد شتراوس (السيمفونية الأهلية) و (السيمفونية الأهلية إحدى(384/27)
كبريات قصائد شتراوس السيمفونية. وتمثل يوماً في حياته هو وقرينته وابنه الطفل)
وألف الموسيقار يوهان شتراوس (فالزاً) سماه (أجراس القران) أيام عرسه
أما نصيبه عند العرب فضئيل، وهو على ضآلته شتيت
قال الحسين عليه السلام في امرأته الرباب وابنته سكينة وقد عاتبه أخوه الحسن عليه السلام في امرأته:
لعمرك إنني لأحب داراً ... تحل بها سكينة والرباب
أحبهما وأبذل جل مالي ... وليس للائمي عندي عتاب
وقال الحسن بن هانئ يحكي عن زوجته:
تقول التي من بيتها خف مركبي: ... عزيز علينا أن نراك تسير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في جريهن عبير
وهنا نعوج فنذكر من مراثي الزوجات والأزواج، فإنه غزل حزين
قال الوزير الشاعر محمد بن عبد الملك الزيات في زوجته حين ماتت:
يقول لي الخلان: لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر؟
على حين لم أحدث فأجهل قبرها ... ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وقال جرير في قرينته:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
وقال الإمام علي في عقيلته السيدة فاطمة كريمة النبي وهو على قبرها: قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي
و (رَثَت) الرباب بنت امرئ القيس زوجها الحسين عليه السلام حين قتل فقالت:
إن الذي كان نوراً يستضاء به ... بكربلاء قتيل غير مدفون
سِبط النبي، جزاك الله صالحة ... عنا وجنِّبْتَ خسران الموازين
قد كنت لي جبلاً صعباً ألوذ به ... وكنت تصحبنا بالرحم والدين
من لليتامى ومن للسائلين ومن ... يغني ويأوي إليه كل مسكين
والله لا أبتغي صهراً بصهركم ... حتى أغيب بين الرمل والطين
والشعر العربي الحديث مقصر في هذا الباب. وهاهم أولاء جل أعلامه المتزوجين:(384/28)
البارودي وصبري وشوقي وحافظ وولي الدين والزهاوي وشكري والمازني قد خلت دووانيهم من شعر الزواج الشخصي
ولا تثريب على كل شاعر عزب
أما البارودي فقد تأهل مرتين فلم يستقبلها بالقريض ولم يترنم بالزوجتين بعد ذلك. ولكنه رثى الأولى رثاءً كأنه غزل حزين وكانت الوفاة بمصر والمرثاة بسرنديب. وهذه أبيات مجموعة منها:
لا لوعتي تدع الفؤاد ولا يدي ... تقوى على رد الحبيب الغادي
كم بين عاديٍّ تملي عمرَهُ ... حقباً، وبين حديثةِ الميلاد؟
سر يا نسيم فبلغ القبر الذي ... بحمى الإمام تحيتي وودادي
لا تحسبيني ملت عنك مع الهوى ... هيهات، ما ترْكُ الوفاء بعادي
وأما الأستاذ المازني فحين كان ينظم لم يكن لقرينته نصيب من نظمه، فلما هجر الشعر كان لها من نثره أكبر نصيب؛ وكان النظم والتناول الشعري أولى بهذا الحديث! وهو مع هذا يقول عن نفسه: (. . . ومن متناقضاتي أني على حيائي أراني في كثير من الأحيان ثقيل الصراحة)
أستطرد من هذا إلى علمين من أعلام الأدب هما الدكتور هيكل باشا والدكتور طه بك، فهما وإن لم يطرقا الموضوع فقد طرقا هامشه طرقاً خفيفاً. ذلك أن الدكتور هيكل تحدث عن قرينته في كتابه (ولدي)، وأن الدكتور طه قال عن قرينته يخاطب كريمته: (لقد حنا يا بنتي هذا الملك على أبيك فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى. ومن الشقاء سعادة وصفواً) وذكر كيف تعرف إليها وكيف كان أثر صوتها في نفسه
ثم أعود إلى حديث الشعر فإني قرأت قصيدة (ليلة الزفاف) للأستاذ إبراهيم العريض، وهي قصيدة (من وراء الستار) كما قال فإنه فصل فيها تفصيلاً ختمه بقوله: (فضمها شوقاً لأحشائه)
ثم قرأت قصيدة (عيد ميلاد سعيد) للأستاذ العوضي الوكيل قال فيها:
يا زوجتي، يا هواي، يا أملي ... قلبي بمعنى سناك محشود
من منذ عشرين غير واحدة ... ومعدن الفن فيك موجود(384/29)
ولكن أين الخطبة وما تلاها إلى (عيد الميلاد) عند الوكيل؟ وأين ما قبل ليلة الزفاف وما بعدها عند العريض؟
فإذا جاز لي أن أمازحهما قلت: ألم يعجب الأستاذ العريض من الزواج غير ليلة الزفاف؟. . . وهل كفى الأستاذ الوكيل نفسه شر غلاء الحرب في هدية العيد فأهدي القصيد؟. . .
وهكذا لم أجد شاعراً نظم الشعر في حياته الزوجية أو نثره، فشمل بشعره تلك الحياة. وقد وجدت الشعراء المجيدين الذين لا أثر للزوجية فيما رنموا!
في الحق أن نقص شعر الزواج يسترعي النظر
عبد المجيد مصطفى خليل(384/30)
من وحي المنصورة
الهروب من النفس
للأستاذ حبيب الزحلاوي
صديقي الدكتور مبارك
سواء خُدعت فوقعت في الشرك المنصوب، أو سولت لك نفسك صيد السمك في المنصورة، أو طمعت في سماع أحاديث (الزيات والزناتي) الحلوة وغير الحلوة، أو طاب لك أن تثرثر في رفاق ظننت أنه لا يستوي عندهم كلامك المقول والمكتوب، سواء أكان هذا أو ذاك، فأكبر الظن عندي أنك فزعت إلى البلد الأمين تنشد الهروب من نفسك!! أليس كذلك؟
للهاربين من نفوسهم قصص وحكايات يعرفها ويضمرها السكير والحشاش والمقامر، وأيضاً المتسكع في الطرق، والضارب في الفلوات، والقاعد في المقاهي، وكل هذه أنواع من بواعث، وأشكال من أسباب، يفتعلها المأزوم للخلاص من همه، فيها الظريف المستملح، وفيها المجرح المؤلم
ومن أظرف حكايات الهاربين من نفوسهم حكاية فزع إبراهيم ناجي الشاعر إلى ديوان زميله ونده الشاعر قسطندي داود كلما استحكمت أزمة نفسه أو افتعلها لها من توهماته وظنونه، ومن يقرأ أشعار ناجي ير مسحة من روح (داودية) شفافة تجلي غمامة الصدر وتبعث الضحك؟ ولو كنت يا صديقي ممن قدر (عليهم) أن يكونوا عرضة للأزمات النفسية التي يزنها الشاعر بميزان مزاجه وعاطفته وتصوراته، فعليك بلا توان بواحد من ديواني شعر الدكتور ناجي أو قسطندي داود فالبرء في قراءة أشعارهما لاشك مضمون
وحكاية ثانية عن الهاربين من أنفسهم بطلها (العبد لله) فعندما تغشاني الغاشية وتكون مسببتها الشيطانة (هي) لا أعمد إلى المسكر، ولا إلى أي سبب يمت بصلة إلى تغشية الواقع بالأوهام أو طلائه بالضحك، بل أتناول كتاباً ضخماً أسميته أنت تجوزاً أو اعتباطاً (ليلى المريضة في العراق)
وكنت أقلب، يا صاحبي المبارك، صفحات كتابك صفحة فصفحة، وأمعن وأغذ السير معك، متشوقاً متطلعاً إلى رؤية وجه ليلى الممرضة يصطفق روحها نفسي المريضة، فكان(384/31)
يجابهني وجه الحريري، أي الصفاح من خدك الأعوس، فأضحك وأضحك! ولكن سرعان ما أطرح الكتاب جانباً، وأنطوي على نفسي أستجمع قواي المبعثرة وذهني المرتكز حيال أمر واحد متكتل كخيوط في الشوك
لسبب لا أذكره ترفعاً وكبرياء، وجدت نفسي في حومة الأزمة الجائحة تحيط بي الثائرة المجنونة من كل جانب، تسد علي المسالك
تعلقت بكل خيوط الفرج من أضراب ناجي وداود ومبارك وأمين في قصة سارة، أطبقت الأزمة على نفسي وألقتني في الأسر والعبودية! وإن من الناس يا صاحبي من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم
تذكرت الخدعة التي أوقعك فيها أصحابك، ووسيلة (صيد السمك) التي حفزتك إلى السفر إلى المنصورة، فلقيت أنت فيها الوحدة والوحشة وانقباض الصدر فأخذت تصرخ وتئن! أما أنا فقد صفقت لها طرباً، فعمدت في التو إلى خداع نفسي، فركبت السيارة إلى المنصورة، وصدفت عمداً عن (الزيات) وكافورته، وألقيت بنفسي في وهاد الوحدة
حقاً إنه لأمر مروع يا مبارك أن يبقى الإنسان منفرداً في عتمة الليل عند شاطئ النيل الساجي لا يسمع إلا رشاش الأمواه تقطر من مجاذيف الفلك، مع من أقامه قاضياً على نفسه ومنتقما منها بالشريعة التي اشترعها، ولكني لقيت الراحة في الانفراد ليقين صادق مني بقول نيتشه القائل: (إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه؛ فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت)
لم أستسلم لهذه الأمنية بل صممت على الظفر بالعواطف والانتصار عليها
كدت أسقط يا صاحبي فريسة سمكة ليلية حاولت اصطيادي مستغلة وحدتي وانفرادي، والمنفرد كما تدري، يمد يده مسرعاً بلا وعي لمصافحة من يلتقي بطريقه، ولم يصدني عن مدها سوى خيال بدا كالشبح أمامي وهمس في أذني: (إن كثيراً من ساميات الأفكار أضراب شيطانتك تعمل عمل الأكرة المنتفخة فلا تكاد تتضخم حتى تضمر) وأردف قائلاً بصوته الأجش وقد شاع شيوع الروح في جوانب نفسي (أأنت عاشق أيها الأديب المنفرد؟ اعشق نفسك أولاً ثم احتقرها، فالأديب العاشق لا يبتدع إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب!!)
غاب الشبح عن ناظري فلقيت نفسي أسير على غير هدى وبيدي ما يثقلها وهو كتاب(384/32)
لتوماس هاردي ترجمه الأديب فخري أبو السعود. جلست في أول قهوة رمضانية أقرأ روح هذا الشاب المنتحر وقد مزجها بروح المؤلف العبقري
عليك الرحمة أيها الأديب المنتحر فقد عرفت كيف تحب وتنجب وتحتقر، وكيف تتفوق على إنسانيتك، أما أنا فمازلت أحب، وأحب الحياة. . .
وأنت أيها الدكتور مبارك فسلام عليك من صديق يحبك ولا يحتقرك
حبيب الزحلاوي(384/33)
عراك في معترك
أي معترك!
للأستاذ زكي طليمات
- 2 -
تعسف الأستاذ محمد متولي في رده علينا متسقطاً أخطاء لم تقم إلا في وهمه، وأسف إلى السباب وسقط الحديث في جدل يجب أن يسوده الوقار والحجة العلمية، كما أوضحنا ذلك في مقالنا الأول، فانحرف متولي بذلك عن (موضوعية) النقد الذي تحدث عنها بطرف لسانه دون طرف سنانه
(1) حكاية الفيلسوف المعاصر
والدليل على ما نذهب إليه - وهو ليس الأول والأخير - أن متولي في غيبوبة ألمه - ومصدر هذا الألم أننا رددنا أقواله بالحجة - أصدر أمراً بإرسالنا إلى (محكمة تحفظ كرامة العلم وتحاسب المستهترين بقدسيته وتعاقبهم على جناياتهم) لأننا وصفنا في سياق حديثنا الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) بأنه (الفيلسوف المعاصر)، هذا في حين أن وليم جيمس هذا توفي عام 1910، وكأننا بالأستاذ متولي يقول إننا تكلمنا عن فيلسوف لا ندري متى انتقل إلى الدار الباقية، وإن كلمة (معاصر) هذه لا تنطلق وصفاً إلا لفيلسوف ما برح يعيش في عصرنا برئتيه وبقلبه!
وحرصنا على أن يزداد الأستاذ متولي علماً، وبرنا بذهن القارئ الذي هو أمانة بين أيدينا يدفعاننا إلى التبسط في حديث ما كان أغنانا عنه لو كان الأستاذ متولي يعرف الموضوع الذي يجادل فيه، أو يعرفه ولم يغالط ويعاند
إن كلمة (معاصر) هذه تعدل على أقلام الكتاب عندنا كلمة الفرنسية، وهي في اصطلاح مؤرخي الأدب ونقاده تطلق وصفاً للآراء والاتجاهات الأدبية والعلمية والفنية التي يأخذ بها عصر من العصور في نواحي من نتاجه الذهني. وقد نص على هذا المعنى المصطلح عليه العلامة في مؤلفه (معجم اللغة الفرنسية) وهو حجة المعجمات الفرنسية بما يأتي:
' '(384/34)
وترجمة هذا النص: (إن الرأي المعاصر هو مجموعة أشياء يعتبرها مجتمع ما حقيقة في عهد معين)
فإذا نحن وصفنا (وليم جيمس) المتوفى عام 1910 بأنه (معاصر فمعنى هذا أن آراءه الفلسفية مازالت يؤخذ بها في شئون الفلسفة وفي شئون الحياة. (فالبراجماتيزم) أو مذهب (الذرائع)، وهو المذهب الذي صاغه جيمس نفسه ما برحت له أطراف طويلة تمتد على الفلسفة الحديثة وعلى سلوك الناس. فقد قرر (موسوليني) يوماً أنه (يدين لوليم جيمس بكثير من آرائه السياسية، وأنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً)
ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن (نيتشه) الفيلسوف الألماني المتوفى سنة1900، أي قبل وفاة وليم جيمس بعشر سنوات، له جانب كبير من فلسفته مازال (معاصراً) على الرغم من مرور السنين ووفاة صاحبها. فالدكتاتورية اليوم، ومظهرها النازية والفاشية، بدعوتها إلى استخلاص العنصر الآري ورعايته يهدد جانب العناصر الأخرى، إنما تستمد معينها من فلسفة (نيتشه)، التي تقوم على عبادة القوة، إذ القوة في نظر هذا الفيلسوف، كما هي في نظر الألمان والإيطاليين اليوم، هي الفضيلة السامية، والضعف هو النقيصة السافلة، والشر المستطير الذي يجب القضاء عليه!!
فإذا كان الأستاذ متولي لا يفهم هذا، أو هو لا يريد أن يفهمه مكابرة وعناداً فهانحن أولاء نسوق إليه براهين حسية تنهض حجة على ما نذهب إليه في أن كلمة (معاصر) يذهب معناها إلى ما قررناه، وقرره قبلنا كبار الكتاب والنقاد.
(ا) ألف العلامة دانيل مورنيه كتاباً في الأدب الفرنسي أسماه (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين 1870 - 1927) درس فيه الشعراء والكتاب منذ 1870، فقدم أبحاثاً عن (زولا) و (دوديه) و (موباسان) و (فلوبير) وغيرهم من الكتاب و (بودلير) و (فيرها رين) و (مالارميه) و (فارلين) من الشعراء، باعتبار أنهم كتاب وشعراء معاصرون في حين أن جلهم توفوا منذ سنوات بعيدة، ذكر (مورنيه) هؤلاء وغيرهم إلى جانب المحدثين باعتبار أن مذاهبهم في الأدب ما برحت تسود نواحي من نتاج الأذهان في هذا العصر(384/35)
هذا في المؤلفات الأدبية، وفي مؤلف يقرأه طلاب الأدب!
(ب) وفي الفلسفة - والأمثال عديدة - أخذ العلامة بالمعنى الذي ذكرناه لكلمة (معاصر) وذلك في كتابه (المسألة الأخلاقية والفكرة المعاصرة)، وهو كتاب ظهرت له طبعة بباريس سنة 1909، وفيه أنشأ المؤلف بحثاً في آراء العالم الأخلاقي الكبير صاحب مذهب (الآراء على أنها قوى)، وحصل بعد ذلك أن توفي العالم المذكور سنة 1912، وفي عام 1920 أعيد طبع هذا الكتاب بعد الزيادة والتنقيح. فإذا هو لا يزال يحمل اسم (الفريد فوييه) باعتبار أن آراءه في الأخلاق ما برحت قائمة، ولم يأت بعدها ما يعطلها أو يضفي عليها مسحة فوات الأوان!
فما رأي الأستاذ متولي في هذا؟ وبماذا يحكم القارئ؟ أنا متولي الذي يصح أن يقدم إلى المحكمة التي تحاسب المستهترين المتطاولين على العلم؟
(2) الرمزية وعلم النفس وأيهما أفاد من الآخر؟
وثمة شيء آخر لا أسميه من جانب الأستاذ متولي الذي يحمل من العلم شهادة يزهي بها
ذكرنا عرضاً في مقالنا الذي صححنا فيه أخطاء متولي أن علم النفس أفادت منه الرمزية، فرد علينا متولي بأسلوبه الموصوف: (إن علم النفس عندنا شعبي خاطئ لا يزيد على ما نسمعه من بعض زبائن قهوة بيرون)
وردنا المتواضع أن نكلف الأستاذ متولي مشقة قراءة كتاب (تاريخ الأدب والفكر الفرنسيين المعاصرين) السابق الذكر (الفصل الرابع الذي عنوانه (في البحث عن العوالم الخفية) صفحة 89 - 92) حيث رسم المؤلف العلامة (مورنيه) اتجاهات علم النفس عند الكتاب الاتباعيين والرومانيين، ثم عند الواقعيين والطبعيين، ليستطرد القول بعد ذلك في اللاوعية ' ونقتطع فقرة مما ورد في صفحة 92 خاصاً بما نذهب إليه ليقف القارئ على جلية الأمر ويحكم لنا أو علينا، وهانحن نترجم هذه الفقرة حرفياً: (وعند الفيلسوف برجيسون وغيره أصبح (اللاوعي) الشكل العادي للحياة الروحية، كما أنه غدا النبع الخفي الواسع العميق الذي تقطر منه حياتنا الواعية المنطقية. وإلى هذا النبع قصد الرمزيون منذ سنوات عديد يغترفون من معينه، وسار على أثرهم القصاصون والمؤلفون المسرحيون)
وإتماماً للفائدة التي نبتغيها للأستاذ متولي من هذا الدرس العابر نحيله إلى (الفصل(384/36)
الخامس) من الكتاب نفسه (ص107) لنضيف إلى ما تقدم ذكره، تأثير فلسفة برجيسون في الرمزية عن طريق تغليب (البصيرة) على الذكاء والمنطق
وعليه فظاهر مما تقدم أن آراء برجيسون في علم النفس أثرت في الرمزيين ومن ذهبوا إلى استكناء العوالم الخفية، بعد أن نفى برجيسون مقدرة الذكاء والمنطق، وأكد تغليب الحياة الباطنة على الحياة الظاهرية. وكفى هذا دلالة على انبساط أطراف هذه الآراء على الرمزية وما تشعب منها فأفادت منها
(3) أين هذا النص؟
وهناك في مقال الأستاذ متولي مثال ثالث ساقه لي ليقيم الحجة على أنه (يعرف موضوعه لدرجة تسمح له أن يصحح لي وللدكتور بشر فارس أوهاماً علمية نعيش فيها)
يقول متولي إن كتاب لجورجدوماس (طبعة 1923 - 1924)، وهو الكتاب الذي كان اعتمادنا عليه في التدليل القاطع على أن آراء (ريبو) في الرمزية فات أوانها. . . متولي يقول إن طبعة هذا الكتاب (منسوخة لأنها تطبع الآن في تسعة أجزاء زيادات وتفصيلات، وقد ظهر الجزء الخامس منها عام 1936. . . الخ)
والذي ندلي به هذا أنه من الجائز أن يعاد طبع هذا الكتاب، وأن تدخل عليه زيادات وتفصيلات، ولكن الذي لا نجيزه أن يختلق الأستاذ متولي أن الكتاب قد (نسخ) ولما يمض على الطبعة التي اعتمدنا عليها عشر سنوات، لأن (النسخ) إنما يأتي عن طريق إحلال آراء مكان آراء، وما على وما على الأستاذ متولي إلا أن يقدم النص الجديد في الطبعة الجديدة. وهو النص الذي ينسخ النص الأول الذي سقناه عن كاتبه العلامة (أبيل راي الذي عقد فصلاً بعنوان (الاختراع) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور ص426، وفيه طعن في نظرية (ريبو) النفسية. . .
بيد أننا نؤكد أن متولي لن يقدم هذا النص، وعليه فسيبقى قائماً طعن (أبيل راي) في (مخيلة) ريبو، من حيث إنها خاضعة بعض الشيء لمذهب (الذرية الذهنية) وهو مذهب لا يؤخذ به اليوم. سيبقى هذا الطعن قائماً على الرغم من أنف الأستاذ متولي، مادام نظر العلماء إلى مذهب (الذرية الذهنية) حتى يومنا هذا يرفض الأخذ به
وقد يتساءل القارئ: لماذا يفتعل متولي هذه الأفاعيل ويفتئت على الآراء الفلسفية متحرجاً(384/37)
راكباً رأسه؟ والجواب على هذا لا يخفى على من يعرف حكاية الثعلب الذي يطلق من جوفه ريحاً تعافها الأنف إذا أخذته الأيدي من كل حدب!!
نقف هنا وقد كفانا تدليلاً على ما تورط فيه متولي بعد أن ركب من غضبته شر الحمر
وفي مقالنا الآتي درس في الرمزية، كما نظر إليها (ريبو) نفسه، وكما أساء فهمها الأستاذ متولي
(للحديث بقية)
زكي طليمات(384/38)
رسالة الشعر
جيرة الحرم النبوي
للأستاذ على الجندي
أَتَتْني عَنْكُمُ الأنباءُ تَتَرى ... فإنْ صحَّتْ فقد عَظُمَ البلاءُ
أَحَقّاً أنكم بِتْمُ جياعاً ... ولوْلاكمْ لما عُرِفَ السَّخاء
وأَنّكُمُ حِيَالَ (القَبْرِ) صَرْعى ... أَنِيُنكمُ يَغَصّ به الفَضاء
تَفيضُ دموعُكم مِلَْء المآقِي ... فَيُمْسِكها التَّصَوُّنُ والإباء
فإِنْ نَاحَتْ صِغَارُكُمْ بَكَيْتُمْ ... لهَمْ من رحمةٍ وبَكى النِّساء
ولَوْ كُنْتُمْ (لموسى) أو (لعيسى) ... من الأتباع عَمَّكُمُ الرَّخاء
وَأَمْسَيْتُمْ وَقَفْرُكُمُ ظِلاَلٌ ... وأشجارٌ وأزهارٌ وماء
وكانَ لكم (بأمريكا) حُبُوسٌ ... وَوَافاكم من (الغَرْب) الحِبَاء
ولكن ضِعْتُمُ ما بَيْنَ قومٍ ... أَشِحَّاء، وَإِنَّ الشُّحَّ داء
خَبرْتُ المسلمين، فمَا نَدَاهُمْ ... سِوى الألفاظِ يَذْرُوها الهواء
يَفوقون الحصى والرَّمْلَ عَدّاً ... وهُمْ - إِنْ نَابَتَ البلوى - غُثاَء
أَيَفْنَى جيِرَةُ الْحَرَمَيْن فقراً ... ونحن بمصرَ يُفْنِينَا الثَّرَاء؟
وهم مِلْحُ الأنَام وآل (طَهَ) ... عليهم تحسُد الأرضَ السَّماء
أجيِرانَ (الرسول) دَمي وَرُوحِي ... فِدَاؤُكُمُ، وإنْ قَلَّ الفِداَء!
شَجَانِي خَطْبكُمُ فبكىَ قَرِيِضي ... عليكم، والقريضُ له بُكاء
وَلَوْ حِيزَتْ لِيَ الدّنيا جَمِيعاً ... لُجَدْتُ بها وفي وجهي الحَياء
وكنْتُ كفيْتُكم جَدْوَى أُناَس ... إِذَا نُودُوا أَصَمَّهُمُ النِّداَء
وكان لكم - وَلاَ مَنُّ عليكم - ... ثوابُ الله - ومن - والجَزَاء
ولكنْ حَسْبُكم - والمالُ يَفْنَى - ... دُعَائي، رَّبما نَفَعَ الدّعاء
علي الجندي(384/39)
الفجر
سَكَب الفَجْرُ بالدُّجَى لآَْلاَء ... عَبَّهُ الشّرْقُ فَانْتَشَى وَأَضَاَء
فَالسَّنَا زَاهِرٌ يُقِّبلُ آثا ... رَ الدَّياجِي وَيرْشِفَ الأَندَاَء
زفَّت الشَّمْسُ رَكبَهُ ثمَّ أَلقَتْ ... هُ عَلَى الأُفْقِِ صَفْحَةً بَيْضَاَء
وَالجِنَانُ الْحِسَانُ عَانَقَهَا النُّ ... ورُ مَشُوقاً فَهَزَّها سَرَّاَء
هَتَفَتْ بينها الطيورُ وَصَاغَتْ ... وَحْيَهَا الحُلوَ نَغْمَةً وَغِنَاَء
والغُصُونُ الرِّطَابُ حِليَتُهَا الزَّهْ ... رُ عُقُوداً تُتَوِّجُ الوَرْقَاَء
أَطرَقَتْ والنَّسِيمُ طاَرَحَهَا الشَّوْ ... قَ فَأَغْضَتْ وَبَاعَدَتْهُ حَيَاَء
تَنثَنيِ كَالقُدُودِ مَالَ بها الدَّ ... لُّ وَتَخْضَلُ إِذْ تَمُسُّ الماَء
والأَزَاهِيرُ إِنْ تَرِفُّ فَسَكْرَى ... رَشَفَتْ مِنْ كُؤُوسِهَا الصَّهْبَاَء
أَلفَّتَهْا يَدُ الطَّبِيعَةِ فَالْبَي ... ضَاءُ حُبّاً تُعَانِقُ الحَمْرَاَء
قَبْسَةَ الفَجْرِ لَمْحَةٌ مِنْكِ فَضَّتْ ... سُدَفَ اللَّيْلِ فَانْفَلَقْنَ ضِيَاَء
وَرَسُولٌ لِمُجْتَلاَكِ سَنِيٌّ ... بَلَغَ الشُّهْبَ فَانْتَثرْنَ هَبَاَء
هَلْ لِفَجْرِ الرَّجَاءِ مِنْكِ انْبِثَاقٌ ... يَطْعَنُ اليَأسَ طَعْنَةً نَجْلاََء
(بغداد)
مصطفى كامل ياسين(384/40)
أنا وأنت. . .
أَناَ السَّماَءُ وَأَنْتِ البَدرُ بَرْعَمَهُ ... كِمُّ الظَّلاَمِ عَنِ الإِشْعَاعِ في صَدْرِي
قَدْ أَوْحَشَتْ رَحَبَاتِي يا حَبِيبُ وما ... أَجْرَيْتَ أَنفْاسَكَ البَيْضاَء في نَحرِي
هُمْ غَلَّفوُكَ، فَمَزَّقْ سِتْرَ حُلكَتِهمْ ... وَاسْطَعْ عَلَى أُفقِي المَهْجُورِ يا بَدْري
أَنَا الخَمِيلَةُ، تِيجَانُ الوُرُودِ ذَوَتْ ... عَلَى ضَفَائِرِ أَشْجَارِي مِنَ الحَرِّ
والطَّيْرُ أَخْرَسَها عُريُ الغُصُونِ فمَا ... عَادَت تُسِرُّ أَغَاِنيها إلى الفْجَرِ
وَأَنْتِ. . . أَنتِ رَبيعٌ في ضَمِيرِ غَدِي ... وَسَوْفَ يُلبِسُنِي ثَوباً مِنَ التِّبْرِ
أَنَا الفْيَافِي، وَأَنْتِ القَطْرُ تَحبْسُهُ ... أَنَاملُ الغَيمِ في العَلْياءِ عَنْ قَفْرِي
قَدْ أَخْمَدَتْ زَفَرَاتُ الْقيْظِ في كَبدِي ... رُوحَ الحَياةِ وَمِنْكَ البَعثُ يا قَطِري
إنْ يَعقِدُوكَ فَبلُّلورُ السَّحَابِ غَداً ... تُسِيُلهُ لَفَحَاتُ الشَّمسِ في ثَغرِي
أَنَا البَنَفْسجُ لَمْ يُبقِِ الْهَجِيرُ عَلَى ... عُودِي سِوَى قَبَسٍ منْ هَالَةِ العُمْرِ
لَكِنَّما أَنْتِ دَمْعُ الطَّلِّ يَنْظِمُهُ ... جِيدُ السموات أَسمَاطاً مِنَ الدُّرِّ
وفي الصَّباحِ يَرُذُّ النَّسْمُ في وَرَقي ... بَعْضَ الدُّمُوعِ فَأَحْيَا ضَافِيَ السِّحرِ
أَنَا لَكِ الْعشُّ يَا قُمْريُّ. . . يُحْزنُني ... أَنْ قَدْ نأَيتَ وَلَكِنْ أَنْتَ لاَ تَدْرِي
اعْشَوشَبَتْ جَنَبَاتِي وَالُّلجَينُ جَرَى ... تَحتِي يُناديك َ يَا ظَمآنُ!! لِلنَّهْرِ
إنْ يُسكِنوكَ بُرُوجَ الْمَاسِ سَامِقَةً ... سَيحْتَوِيكَ حَنِينُ الطَّيرِ لِلوَكْرِ
(السويس)
عبد الرحمن الخميسي(384/41)
أين يقيني؟
صَحَتْ بين جنبيَّ الهمومُ وأيقظتْ ... دفيناً من الذكرى يثيرُ حنيني
حنيني لأيامِ الهوى وملاعب ... بهن صَبَاباتي وهنّ جنوني
عليهن قضينا الليالي هنيئةً ... تفيض بدنيا من منى وفتون
مضى الحُلمُ البسام وارفض سامري ... وغيَّبَ عن عينيَّ نورُ عيوني
وماتت أناشيدي وحطم أرغني ... ويا دهرُ هل شُوهدت غير ضنين
مضى في هدوءِ الوادعين وأغرقت ... لياليه في صفو وطيب سكون
وأين الأماني الزهر والدهر باسمٌ ... وهذي يد الأيام قبضُ يميني؟
وأين ربيع العمر والعود مورق ... وأين يقيني؟ هل فقدت يقيني
فأصبحت لا ألقى الحياة ونورها ... وأفراحَها إلا بعين سجين
سجين أضلته الهمومُ فما رأى ... سوى عصفِ أسقام وعين سنين
(الإسكندرية)
مصطفى عبد الرحمن(384/42)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
الفيتامين ومرض الأسخربوط
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 7 -
غالباً ما يكون حلول الربيع مدعاة لبدء الإصابة بمرض الاسخربوط، وذلك عندما تعم الشكوى من الأمراض الناشئة عن تقلبات الجو كالضعف والخمول وفقد شهية الإقبال على العمل وآلام الرأس والشعور بالثقل في الحركة وآلام في الأطراف. ولم يهتد بادئ ذي بدء إلى تعليل هذه الأعراض ومعرفة أسبابها إلا بعد ظهور المعلومات الحديثة عن المواد الحيوية الموجودة ضمن الأغذية والطعام، ولأنه كان غريباً وداعياً إلى الدهشة والتفكير تفشي هذه الأمراض بين الناس في هذا الوقت من كل سنة، وفي الشهور: مارس، أبريل، مايو، التي ترتفع فيها أثمان الخضر الجديدة (حسب المقتضيات الأوربية)، وصدوف سواد الناس عن شراء الخضروات أو إقلالهم من استهلاكها، وبذا تقل طبعاً كمية الفيتامينات اللازمة لحفظ الكيان والصحة
ويعزى (مرض الربيع) هذا إلى نقص في كمية الفيتامين التي تدخل الجسم، يؤيد هذا القول ظاهرتان هامتان أخذتا من الإحصائيات. وأولى هاتين الظاهرتين هو بطء النمو عند الأطفال في هذه الشهور، وطبقاً لما تردد ذكره من ارتباط النمو بالفيتامينات، فقد تبين أنه تبعاً للنقص في تموين الجسم بالفيتامينات في وقت الربيع ينخفض مستوى النمو الجسمي العام، وثانياً ازدياد نسبة الوفيات في شهري مارس وأبريل؛ وهناك مثل ألماني يشير إلى هذا المعنى ويقول: (إذا أخطأ مارس وولى، كان لأبريل القدح المعلى). وإذا ما علمنا أن وجود الفيتامينات في الجسم يدرء عنه العدوى من الأمراض المعدية، ويحصنه ضد كثير غيرها، وأن خلو الجسم منها يجعله أكثر قابلية للرضوخ لكثير من الأذى والعلل - قام هذا دليلاً آخر على الصلة بين التغذية المفتقرة إلى الفيتامينات، وبين الزيادة الظاهرة في أرقام الوفيات. فإذا تم بهذا ولو لحد ما حصر الأسباب الرئيسية التي ترجع إليها أعراض مرض(384/43)
الربيع. أي انخفاض مستوى نمو الأطفال وصعود نسبة الوفيات، فقد بقي سؤال آخر بلا جواب ألا وهو: أي نوع يا ترى يكون مرض نقص الفيتامين هذا الذي يسمى أول أعراضه وأولى صورة بمرض الربيع؟
ضمن أعراض مرض الربيع ظاهرة استعداد لحم الأسنان إلى الإدماء السريع حتى بأقل مجهود يبذل في تنظيفها، وتزداد هذه الظاهرة شدة وخبثاً وتتداعى عندها اللثة كلها إلى الإدماء وقد استعمل قديماً اسم الأسخربوط للتدليل على هذا المرض ولكنه نسخ بعدئذ بالتسمية الصحيحة بمرض نقص الفيتامينات. ويقابل الأسكربوط بالألمانية شاربوك، وهي منقولة عن الهولندية، شار بمعنى فتحة أو ثلمة، بك بمعنى فم، فيكون معنى الكلمتين مجتمعتين الفم الجريح أو الفم الدامي
ولقد كانت صورة المرض قديماً من البشاعة فوق ما يتصوره الإنسان، يدل على هذا البقايا العظيمة للجيوش الرومانية في عهود قياصرة الرومان وفي جيوش المحاربين الصليبين. ويُحدث المؤرخ السويدي أولاوس ماجنوس المولود عام 1490 في كتابه (تاريخ الشعوب الشمالية) بإسهاب عن إصابة رجال السفن الشراعية من رائدي القطب الشمالي من البحاثين وتابعيهم ومن صائدي الحيتان والسمك. كذلك كان ينشب المرض أنيابه على اليابسة بين الناس وقت الحروب والأسر والمجاعات، وبلغ من شدة وطأته أحياناً في العصور الوسطى وفي أزمنة الشدة أن أعتبر في المدن الكبيرة بجانب أمراض التدرن من الأمراض المستعصية التي لا يرجى معها شفاء. كما تخذ في عام 1911 في مدينة نوربنرج بألمانيا شكلاً وبائياً كارثاً إثر نكبة في المحاصيل الزراعية
وأعراض المرض في أواخر الشتاء أو أوائل أيام الربيع على المصابين هي التهاب اللثة وإدماء أغشية الفم المخاطية وإدماء ونزيف من الجلد والأنسجة والعضلات، ثم تثقل حركة الأرجل وتهزل هذه وتصاحبها آلام مبرحة في العضلات، وتفقد الأسنان تماسكها وارتباطها، وتضعف العظام وتصير هشة غضروفية. وإذا استمرت التغذية على ما هي عليه رغم هذه الأعراض فمصير المريض إلى التهلكة لا محالة. ولكنه إذا تنوع الغذاء وتعددت ألوانه وأضيف إليه الخضر واللحم الطازج، ولو بمقدار طفيف، تزول هذه الأعراض كما يزول كيد السحر(384/44)
لم يبق شك بعد هذا في أن مرض الأسكربوط هو مرض غذائي. وفي أثناء الحملة الاستطلاعية التي قام بها شارل الثاني عشر ملك السويد على أراضي أوكرانيا في مستهل القرن الثامن عشر، عالج أطباء حملته مرضى الجنود بالاسكربوط بالحقن بواسطة إبرة من الخشب بمادة أتت بنتائج طيبة مما جعلها تلقى طريقها إلى مستشفيات برلين للعمل بها في علاج الاسكربوط. وقاوم الإيطاليون من قديم الزمن مرض الأسكربوط بعصير العنب، وصرح أحد الأطباء العسكريين النمسويين في عام 1720 بأن عصير البرتقال والليمون أكثر فعلاً في مقاومة الأسكربوط وقد أخذت برأيه حينذاك رياسة البحرية البريطانية واستعملته في عام 1804 فوق سفنها في علاج رجال بحريتها الذين انتشر بينهم هذا المرض الخبيث
ولقد ساعدت هذه المعلومات القديمة حتى حرب سنة 1914 في مقاومة ودفع مرض الأسكربوط بالرغم من وجود بعض الإصابات الشاذة التي لم تنجح مقاومتها. وانتشر المرض في بعض الأقاليم الريفية في روسيا التي تقتات بالحبوب وظهرت أعراض الأسكربوط بانتظام في بعض جهات ألمانيا والنمسا التي كانت تتناول غذائها من الأطعمة المحفوظة كاللحوم والبطاطس والخضر المجففة واللبن المكثف وتفشي كذلك بين الأتراك وأهل رومانيا ووجد مرتعاً خصيباً بين الأسرى الألمانيين والنمسويين الذين وقعوا في أيدي الروس. أما أثره في الكتائب الإنجليزية في العراق فيكفي أن أحصي عدد المرضى بالأسكربوط بأحد عشر ألفاً من الجند. وكذلك انتشر مرض الأسكربوط بين الأطفال في الجهات التي وقع عليها حصار بحري أو أرضي في الحرب الماضية، إذ تبعا لهذا الخناق وانقطاع الصلات عبر البحر أو الأرض لم يكن هناك غير اللبن المعقم للتدوال في إطعام الأطفال، واللبن المعقم تقل حتى تنعدم فيه الفيتامينات، وأخذ المرض في الأطفال شكلاً خاصاً وكان يخطفهم ويلقي بهم في دور الرعاية والمستوصفات حتى امتلأت بهم. وكانت أعراضه عليهم آلاماً حادة في العظام ومبرحة في الأطراف ومضخمة في المفاصل ومصحوبة بإدماء في الفم والجلد والأغشية المخاطية. وأما الظاهرة الهامة فهي الخوف الذي استحوذ على الأطفال من لمس أي شيء عفواً
وإذا ما أضيف إلى الغذاء أنواع أخرى منه غنية بالفيتامين كالإسباناخ مثلاً أو عصيدة(384/45)
البنجر فلابد من أمل في الشفاء في أجل قصير. ويجدر بنا أن نورد هنا ما تصنعه كثير من الفلاحات الأوربيات اللائي لا يعرضن أبنائهن بأنفسهن بحكم الضرورة فهن يضعن بعضاً من البنجر المقشور في زجاجات لبن الأطفال
وحتى مع هذه النتائج والتجارب العديدة لم يتوصل أحد آنئذ إلى الكشف الصحيح أو إلى نتيجة حاسمة شافية تميط اللثام عن هذا المرض العضال الذي أخذ أشكالاً متعددة تارة عند الأطفال وأخرى لدى الكبار، وفي كل يبدأ على هيئة (مرض الربيع) وبين عامي 1907 و1912 توصل بعض العلماء النرويجيين بناء على تجارب غذائية دقيقة إلى إثبات حقيقة مرض الأسكربوط بأنه مرض غذائي. فقد حضروا غذاء خاصا من الشعير واللبن والبرسيم والعلف الجافة خالية من الفيتامين الواقي من الأسكربوط وأطعموا منه عدداً كبيراً من الحيوانات، فما لبثت أن ظهرت عليها أعراض شديدة الشبه بأمراض الأسكربوط لدى الإنسان. وفي هذه الآونة فقط أمكن البحث وراء المواد الشافية التي تحتوي على هذا الفيتامين المضاد للأسكربوط، والذي أطلق عليه فيما بعد الفيتامين كما بدأت المحاولات لمعرفة الكميات اللازمة من هذا الفيتامين التي يجب أن تتوفر في الغذاء كي تقف وتحول دون ظهور أعراض المرض
وبما أن عصيري البرتقال والليمون يعتبران من المواد الشافية الواقية من الأسكربوط، فكان طبيعياً أن يبدأ البحث فيها لاستخلاص الفيتامين، وكان لابد من التغلب على بعض العقبات التي اعترضت مجرى البحث في تحضير هذا الفيتامين في هيئة بلورية نقية ثم الكشف عن تركيبه الكيميائي. ولهذا أبتدأ تاريخ البحث عن الفيتامين أشبه شيء بالقصة، وكان من الأمثلة الحية على تعاون العلماء في مختلف البلاد تعاوناً جدياً للوصول إلى الحقيقة رغم بعض الاقتراحات الخاطئة المخلصة التي كانت تعرقل البحث وتؤخره.
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي(384/46)
البريد الأدبي
اللغة العربية في ورقة رسمية
قال الأستاذ العقاد في مقال له بالدستور:
(وعلى ذكر الكتابة والوزراء والعيد والعيديات نقول إن الحكومة المصرية على ما يظهر قد أرادت أن تعيد على الناس بالورقة الجديدة ورقة ربع الجنيه
فانتشرت هذه الورقة في أيام العيد بعض الانتشار
وما أظن أن نقوداً وصلت إلى يدي قد نغصتني كما نغصتني هذه الورقة الخاطئة
ففيها يقرأ القارئ هذه العبارة: (أتعهد أن أدفع لدى الطلب مبلغ خمسة وعشرون قرش صاغ)
ثلاث غلطات نحويات في سطر واحد. . .!
فهل يسمح بمثل هذه الغلطات في عملة حكومة؟ وأية حكومة؟
حكومة مصر التي هي زعيمة الأقطار العربية!!
وحكومة مصر التي تضن على التلميذ الصغير بالانتقال من السنة الثالثة إلى السنة الرابعة الابتدائية إذا أخطأ مثل هذا الخطأ في ورقة الامتحان
لموا هذه الورقة مهما يكلفكم لمها من الأسواق والبيوت، وافرضوا على حصتي التي تخصني من هذه التكاليف، فهي أرحم من هذه الصدمة مع كل خمسة وعشرين قرشاً صاغاً يكسبها الإنسان)
العربية الغربية في دارها
سيدي الأستاذ الفاضل الجليل محرر الرسالة
تحية الله ورحمته عليك يا محيي العربية، ومعيد شبابها إليها وملبسها قديم حلاها حلة جديدة توائم العصر وتوافق الزمن، ولا تخرج - مع ذلك - عن المسنون من طرقها، والمعروف من مناهجها. وبعد:
فلقد قرأت يا أخي من سنوات في الأهرام قصيدة عصماء لشاعر عربي ممن رمت به مطارح الغربة إلى العالم الجديد يقول فيها هذا البيت عن اللغة العربية:
لغة يهون على بنيها أن يروا ... يوم القيامة قبل يوم مماتها(384/47)
وقرأت قصيدة المرحوم حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية وهي مشهورة مذكورة لا يخلو منها كتاب من كتب المحفوظات المدرسية التي تختارها وزارة المعارف
وتابعت - منذ أن تعلقت من اللغة بسبب - كل ما كتب لها وفي سبيلها أو اقترح لأجلها من إصلاح منهج، أو إنشاء خطة أو تبسيط قاعدة. ولستُ في ذلك نسيج وحدي وإنما أنا واحد من كثرة كثيرة يقلق جنوبها أن تصبح العربية غربية في دارها، أعجمية إلى أهلها، بغيضة إلى أحبائها
ومن أعجب العجب أن لغة لا يستهين بها أهلها كالعربية، وأنها على الرغم مما وضع لها من قواعد، وما عمل لها من ضوابط، لا تزال تلقى من الكاتبين أو المتكلمين بها إهمالاً كثيراً وقلة مبالاة، وعدم اكتراث، وذلك أمر لا تجده في لغة أخرى غيرها. فالإنجليزية يكتب بها الإنجليز وينطقون بها صحيحة منحاة؛ والفرنسية - على كثرة شذوذ الأفعال فيها - يكتب بها الفرنسيون وينطقون بها صحيحة منحاة؛ والألمانية - على صعوبة نحوها - يكتب بها الألمان وينطقون بها صحيحة منحاة. . .
أما العربية فهي مسكينة بين أهلها وبين الغرباء عنها، وحق للغريب أن ينظر إليها شزراً مادام ابنها لا يحسنها ولا يبالي أن يحسنها. . .
هذا كلام ثار في نفسي بمناسبة ظهور بمناسبة ظهور الورقة المالية الجديدة ذات الخمسة والعشرين قرشاً. ففيها غلطة نحوية شنيعة أشار إليها كاتب فاضل في إحدى الصحف اليومية وهي لا تخفى على كل قارئ
ثم يشاء الله لهذه الثورة النفسية ألا تسكن، فقد ألهبها من جديد في نفسي إعلان غريب عن نوع من الصابون لا نذكره لئلا يؤخذ ذكرنا له على سبيل الإعلان عنه
وإني لمقتبس من هذا الإعلان (العربي) بعض عبارات وأقدمها هدية متواضعة إلى الأخ الدكتور زكي مبارك مفتش اللغة العربية بالمدارس الأجنبية! فلعل عنده من الرأي ما يسعف، أو من العزاء ما يسلي. . . وإليك بعض العبارات:
(صابون كذا هو محصول فاخر نتيجة اختبارات (ثلاثون) سنة. . . نظراً لكونه (صنف جيد) لتحلية وتنعيم الجلد ويجعله (خملي). . . والحراير يمكن غسيلها بهذا الصابون الذي يستطيع بأن (يبيضوا) بدون ما يؤثر عليها. وبالإطلاق جميع الأصواف يمكن بأن(384/48)
(يبيضوا) بصابون (كذا). ولا تحصل للملابس أي ضيق أو كشش)
ومن الغريب أنه بجانب هذا (الإعلان العربي) كتب إعلان آخر بلغة فرنسية صحيحة كل الصحة سليمة كل السلامة.
فإلى متى تظل اللغة العربية غربية في أهلها؟ وإلى متى تبقى سقيمة عليلة والمداوون كثبر؟
محمد عبد الغني حسن
سكران طينة
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
قرأت أن الدكتور الأديب أحمد عيسى قد نشر معجماً للمفردات العامية ذات الأصل العربي. وكان أحد عمداء الجامعة قد نشر أيضاً في بعض المجلات الأسبوعية شيئاً غير قليل من هذه المفردات والتعابير؛ وعنى الأستاذ المازني بالتنبيه إلى أنه يتحرى استعمال العربي الذي شاع أنه عامي فنبذ من أجل ذلك. ومثل الذي فعله المازني قد فعله الأستاذ محمد سعيد العريان في أقاصيصه
ويبدو أن أمر الاهتمام باللغة العامية لا يقتصر على أي عدد من الأدباء قل أو كثر وإنما هو ظاهرة من ظواهر النهضة الأدبية، كأن اللغة العربية تبحث عن حقها المضاع وتبدأ أول ما تبدأ باللهجات العامية فتسترد منها ما سلبته؛ ففي غير تنبيه إلى مثل هذا الغرض نشر الأستاذ أحمد رامي وغيره عدة دواوين باللغة العامية، فحرصا على خدمة المحافظة باسم التجديد، جزاهم الله خيراً عن المحافظين
ومن دواعي الدهشة في هذا البلد الشديد المحافظة أن تجد لفظاً جديداً في عاميته، فكلما سمعت كلمة خلتها جديدة أقنعتني مصادفة في كتب الأدب القديم بأنه لا جديد في اللغة،. .!
وآخر ما وجدته من ذلك كلمة سكران طينة؛ ففي شعر كشاجم في قصيدة مطلعها
متى تنشط للأكل ... فقد كللت الخونة
يأتي هذا البيت
فما عذرك في أن لا ... ترى من سكرة طينة(384/49)
أم لعل للفظ معنى آخر، أم لعله من قواقع المطبعة؟
عبد اللطيف النشار
سكان مصر في الإحصاء الأخير
نقتطف هنا بعض ما تضمنه كتاب (الإحصاء السنوي العام) لمصلحة الإحصاء، من بيانات عن أحوال السكان في مصر
قدر عدد السكان في عام 1800، أي في عهد الحملة الفرنسية بنحو 2. 460. 200 نسمة، وكان عددهم في عام 1846 - مقدراً على أساس عدد المساكن - 4. 476. 440 نسمة
أما في عام 1917، وهو التاريخ الذي بدأت فيه مصلحة الإحصاء باتباع النظم الحديثة، فكان عدد السكان 12. 750. 918 نسمة، زادوا في سنة 1937 إلى 15. 904. 525، ثم بلغوا في سنة 1939 - 16. 522. 000 نسمة
وبلغ عدد سكان البحيرة حسب تعداد سنة 1937، 1. 060. 882 نسمة، بزيادة 91. 043 نسمة عن التعداد السابق
وسكان الغربية 1. 963. 654 نسمة مقابل 1. 791. 985 في سنة 1927، والدقهلية: 1. 080. 693 نسمة مقابل 1. 119. 456 والشرقية: 1. 119. 456 نسمة مقابل 1. 016. 912، نسمة والمنوفية: 1. 157. 433 نسمة مقابل 1. 105. 191، والقليوبية: 607. 304 نسمة مقابل 558. 948. .
أما سكان محافظات أقسام الحدود فكان عددهم 121. 493 نسمة مقابل 94. 588 في سنة 1927
وبين سكان مصر 1. 670. 895 يلمون بالقراءة والكتابة، منهم 1. 386. 843 من الذكور و248. 052 من الإناث أما عدد الأمين فبلغ 12. 506. 969، بينهم 5. 671. 203 من الذكور و6. 835. 739 من الإناث
كلية التأريخ في أنقرة
من أنباء أنقرة أن الدكتور رفيق سيدام رئيس الوزارة التركية فتح كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا بحضور جمهور من الكبراء والعلماء، وقد ألقى خطبة قال فيها: (يسرني أن(384/50)
أفتتح كلية اللغات والتاريخ والجغرافيا التي أمر أتاتورك العظيم بتشييدها، وهي تعد من الأعمال المجيدة التي أنجزت خلال السنوات الأربع الأخيرة. وإني أشكر زملائي في العمل الذين وقفوا حياتهم على تلقين الشبيبة التركية مختلف العلوم
وقرأ الرئيس بعد ذلك فقرة من الخطاب الذي ألقاه رئيس الجمهورية التركية في حفلة افتتاح المجلس الوطني الكبير جاء فيه:
(إن أهم ما يتضمنه برنامج التربية الوطنية إقامة المعاهد الثقافية الكبيرة في أنقرة، لأننا نريد أن نجعل من هذه المدينة مركزاً للأناضول بما فيها من كليات ودور للأوبرا ومسارح ومعاهد، فيجب أن تعد أنقرة نموذجاً روحياً للجامعات الأخرى في البلاد. وبعد أن يتحقق ذلك لا نحجم عن تشييد مراكز ثقافية أخرى)
إلى علماء التاريخ
يقول الأستاذ الباحث صديق شيبوب في الرسالة الغراء عدد (383) أثناء تحليليه للعالم النفساني الكبير سيجموند فرويد ما نصه: (كان موسى من رجال حاشية الملك إخناتون الذي كان أول من قال بالتوحيد عند قدماء المصريين
ويقول الأستاذ طه الساكت في مقال ترتيب الأنبياء بمجلة الإسلام عدد (39) أول نوفمبر سنة 1940: (كليم الله موسى عليه السلام. . . بعثه الله تعالى رسولاً إلى فرعون وقومه ومنقذاً لبني إسرائيل من الذل والاستعباد. وكان فرعون موسى - وهو رمسيس الثاني على ما رجحه بعض الباحثين - يضطهد الإسرائيليين ويذبح أبناءهم). وقص علينا أساتذتنا أثناء دراسة التاريخ القديم أن فرعون موسى - هو الملك منفتاح - فهذه ثلاثة آراء متخالفة، فإلى أي رأي نتجه؟ وبأي قول نقول؟
فإلى علماء التاريخ وأساتذته يوجه الاستفهام والرجاء. وإنا لتحقيقهم لمنتظرون
محمود محمد بكر هلال
وصية أمين الريحاني
روت المكشوف أن السيد ألبير الريحاني عثر بين أوراق شقيقه فيلسوف الفريكة، على وصية مكتوبة بخط يده، تحتوى على عشرين بنداً، ومؤرخة في سبتمبر 1931(384/51)
وتتناول هذه الوصية شؤوناً في الأدب والسياسة والدين ولكنه لا ينتظر في الوقت الحاضر نشرها. وقد حفظت بين آثاره الكثيرة التي يعمل شقيقه ألبير على جمعها ومراجعتها وترتيبها بحسب تواريخها وموضوعاتها
ومما تجدر الإشارة إليه أن أمين الريحاني كان يحتفظ بنسخة من كل رسالة يبعث بها إلى صديق، ومن كل بحث يرسله إلى صحيفة، كما أنه كان يحتفظ بكل صحيفة له فيها مقالة.(384/52)
القصص
الملازم ألبير
للأستاذ محمد محمد مصطفى
كان يحمل أملاً بساماً بين جنبيه، وبشراً طافحاً في عطفيه وهو ينهب الطريق إلى قريته. لا يحس مسغبة وبطنه طاو، ولا يشعر بظمأ وحلقه جاف. وبدا الطريق كئيباً موحشاً وسوق القرية خالية وعهده بها غاصة بالوافدين. . . لشد ما غيرت الحرب معالم الطريق فلا ظل وارف ولا طير غرد وهذه الحفر من فعل الطائرات، وتلك الغابة أحرقها الألمان فامتد لهيبها إلى الحقول وأهلك ما فيها من زرع وضرع
ورأى قسيس قريته مقبلاً عليه فخيل للفتى أن فاجعة ألمت به فهو يمشي وئيد الخطى أغبر الوجه، كأنما يحمل على كاهله وقر السنين. ونراه يدنو من الفتى فيعرفه ويسلم عليه ويسأله:
- أحقاً يا بني سقطت بروكسل وألقيتم السلاح؟
فسقطت دمعة كبيرة من عين الفتى وقال:
- كان ذلك حقاً يا أبتاه. . . وإلا فكيف تراني هنا. . . أمرنا الملك بإلقائه فأطعنا وما كان لنا أن نختار وآلات الألمان تفتك بنا فتك الوباء
- ليغفر الله لليوبولد زلته. . . وإلى أين يا بني؟
- إلى أمي وخطيبتي يا أبتاه. إلى قريبتي الحبيبة (فورنتيه)
- خير لك يا بني أن تعود. فقد مسحت القرية من خريطة الوجود
- ماذا. . .!
- أقول إن الجيش الألماني لم يترك حتى ما يدل عليها
- وأمي يا أبتاه!
فربت القسيس على كتف الفتى، فكاد يسقط لفرط ما دهاه، وقال له:
- يا لها من ليلة هائلة يا بني. تعال، اجلس هنا على حافة الطريق، فقد هدني من يومها الهم وتضافرت على جسمي الأمراض. . . وسكت قليلاً كأنما يستعيد ماضياً بعيداً ثم أردف:(384/53)
- كانت فرقة من الجيش البلجيكي تعسكر في غابة القرية حينما هاجمتها الطائرات وأشعلت فيها ناراً أمتد لهيبها إلى عنان السماء، فبدت القرية على وجهها هدفاً ممتازاً دكته الطائرات. . .
وضرب الفتى في الطريق إلى بروكسل تنوء بحمله ساقاه وتخذله قوته، فيسقط في الطريق
- أماه. . . انظري! إنه ضابط من فرق القناصة يحتضر
- ماء يا فلورندا من النبع الرقيب
ويفيق الفتى ليرى رأسه على حجر امرأة فيشكرها، وتعاونه الأم وابنتها على المسير إلى كوخهما القريب
- تفضل فاجلس على هذه الحشية فلم يعد لنا بيت ولا أثاث
وبدا على وجه الفتى آيات من الألم الممض والحزن العميق. ولما قدمت له فلورندا شيئاً من الحساء، أحس بالدفء والراحة واستطاع أن يتكلم. . .
وانتشرت نفس الأم عليه رقة ورحمة، وأحبته الفتاة في صمت. ولم يأبه بذلك الفتى، ولم يجد له فراغاً بقلبه المعذب المفؤود
وجمعتهم نكبتهم المشتركة في قريتهم وأعزائهم فكان جل حديثهم يدور حول دمار بلادهم. وتصعب معرفة من كان منهم أشد سخطاً على الألمان، ولكن الفتى كان أكثرهم جنوحاً للصمت والتفكير العميق
. . . ويوماً قال ألبير:
- ليست فلاحة الأرض صناعة ضباط القناصة ولا يليق بي وقد رزئ وطني باحتلال النازي أن أكون هنا
- فأين يجب أن تكون يا ألبير؟
- في العاصمة أو حولها ليشعر الألمان أننا لم نستكن لحكمهم، وأن في بلجيكا رجالاً
فأدركت الأم مرماه وقالت: إنك تلقى بنفسك في أوار الجحيم
قال: لأشارك أمي ميتتها وقريتي محنتها
وعبثاً حاولت الأم ثني عزمه. . .
أما الفتاة فقد بكت قائلة:(384/54)
- أرجو أن تبقى هنا إلى جانبي أعوضك من حناني ما فقدته من حنان الأم. . . ألا تسمع. . .؟ إنني أرجو. . .
- أرجو أن تسكتي فقلبي عنك في شغل. . .
صادفت دعوت ألبير هوى في نفوس المنكوبين المغامرين الذين سرحوا من فرقته، وكان عملهم منظماً شأن رجال الجيش، فبعضهم لنسف الكباري، والبعض الآخر لقطع الجسور، وهؤلاء للسطو ليلاً على المخافر الصغيرة، والاستيلاء على الأسلحة والذخيرة، وأولئك لاقتناص البارزين من رجال الحملة الألمانية وغير ذلك من الأعمال التي سببت للمحتلين شتى المتاعب
وشاع أسم ألبير في وطنه وأكبر مواطنوه ووضع الألمان جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً
وكانت فلورندا تتلهف شوقاً لأخباره وقلبها الطاهر الغض يذوب إشفاقاً عليه، وكان جل مناها أن تراه فتتبعه رضي أم كره وتعنى به، فمن يطبخ له يطبخ له ويوقد له النار ويرتق له الصدار. . . كانت غارقة في الحب مسبوهة اللب، وكأنما كان ألبير يضفي على الحقل بهاء والدوح رواء والسماء صفاء، فلما ذهب أضحى الكون موحشاً كئيباً والجو خانقاً والشمس مصفرة حزينة كأنما تشاركها الألم وتقاسمها الشجون
وتأسى الأم لذهول ابنتها وإغراقها في حب رجل أهدر دمه. . . ولن يعود، فتقول:
- وهبك ملأت الأرض أنيناً، أفتظنينه يسمعك يا فلورندا
وتحطمها كلمات الأم فهو حقاً رجل هالك كان في حياتها كل شيء فلما ذهب خسرت كل شيء ولكنها لا تطرف ولا تجيب وتلوي عنانها إلى الحقل تطوف بمجالسه، وتلثم آثاره، حتى إذا ما ألقى الليل غواشيه قفلت عائدة وفي صدرها سعير من الوجد يذيب الحشا ويرمض الجوانح
ولم يذكرها ألبير فقد ملكت عليه ثورته لوطنه كل جارحة فيه، وكان ينفث من حميته الهائلة وفكره الجبار ناراً تدفع بزملائه إلى أهول الأخطار. فإذا انكفأت إليه ذكرياته وألح عليه ماضيه بدت له فلورندا شبحاً باهتاً يظهر ويختفي كلما سلب من حياته الجديدة ساعة فراغ
وضجت قيادة جيش الاحتلال من فعاله فشددوا الرقابة وبثوا في مظان وجوده العيون(384/55)
ويوماً شاع في العاصمة أن قطاراً قادماً يحمل زائراً عظيما فسرى بين الناس أن هتلر هو راكب القطار
وكيفما كان الراكب فقد عزم ألبير على أن يفجع الألمان فيه.
وكان بارع التدبير حار الحماسة لتدمير القطار
ووقف على شاطئ خياله ليرى هتلر تبعثره الألغام وإذا الدنيا كلها بين يديه تسأله أي جزاء يختار. . . حقاً. . . ماذا يختار؟
قال لنفسه: (أأكون ملكا. . . ولم لا. وأنا منقذ العالم من الدمار؟)
ودخل من خياله إلى قصره الملكي الموشى باليانع من الزهور الملفوف بالباسق من الأشجار تشدو عليها الطيور، فإذا العرش ممرد منيف والفراش وثير، وإذا المائدة تزخر بألوان من أشهى الأشربة وأطيب الآكال فيأكل ويروى ويسلم جسده لأريكة من فاخر الرياش
ويطير بأحلامه صفير القطار. . . إن نوره القاتم يشق غياهب الظلام وهو يقبل مسرعاً إلى حتفه المحتوم - فتهيأ ألبير للعمل العظيم. . . قال: القطار الآن فوق المنطقة الملغومة. فلأشعل الفتيل
وي. . . أن الألغام لا تنفجر. . . أترى رفعها خائن أم أخطأ في تركيبها زملائي المفاليك
وسمر ألبير في مكانه ليرى بغتة صرح آماله ينهار بينما يجري القطار على قضبانه متطامناً سلس القياد
وأخذت تنتاب رأسه فورات من اليأس والحزن العميق. فجلس على أنقاض حلمه وقد كست عينيه غشاوة حجبت عن ناظره المرئيات. وسمع قهقهة عالية فريع قلبه ونظر فإذا جنود تحيط به كأنما قد تثاءبت عنهم الأرض
- لقد أجهدتنا كثيراً يا ألبير
قالها قائد القوة في تهكم وتشف
وأسقط في يد ألبير ولكن روعه أفرخ حينما ذكر أنه أدى لوطنه رسالته وإن كانت لم تتم، وكان رافع الرأس شامخ الأنف وهو يمشي بينهم إلى حيث لا يعود
وطلعت الصحف بنبأ القبض على الثائر ألبير وقرار إعدامه في ساحة عامة ليكون عبرة(384/56)
لمواطنيه
وزلزلت فلورندا ومادت برأسها الدنيا واحلولكت مرائيها
وضربت في الطريق إلى بروكسل تتقصص أثره وتتسقط خبره، بينما يصهرها الأسى ويفري أحشاءها العذاب، وشاطرتها الطبيعة الألم، فاربد وجه الجو وهطل المطر غزيراً كأنما فتحت ميازيب السماء
وكنت ترى في شوارع بروكسل فتاة ذاهبة العقل تمشي الهوينى مرتهكة الأوصال والناس يقتحمونها بأنظارهم مشفقين
ولم يجد قائد حامية بروكسل في مظهر الفتاة القروية ريبة فسمح لها بوداع (شقيقها) ألبير
ومشت فلورندا في ممرات السجن الرهيب تتلمس سبيلها كالعميان، ونزلت إلى قبو رطب تنفذ أشعة ضئيلة من كوة فيه، وكان ألبير يقبع هادئاً في ركن منه. . . وتبينته بعد لأي فرمت نفسها على صدره، وطوقت عنقه وراحت تقبله:
- أواه يا ألبير. . . ألا تنبئي. . . أنا الوالهة فلوراندا
وأرتج على ألبير. . . وشدهته زيارتها الطائرة وفاض صدره بالسعادة التي أقبلت عليه في غمرة همه. . . أي مفاجأة هذه. . . أو كانت تضمر له هذا الوجد وهو عنها لاه بالفتك بالألمان؟ قال:
- ولكن ذلك يحببني في الحياة يا فلورندا وقد نفضت يدي منها
ويغص فم الفتاة بالأنين والزفرات، وتخرج كلماتها كحشرجة المحتضر؛ وقد بح صوتها فلم يدرك منه ألبير إلا أنها مريضة مدنفة، وأن نبأ إعدامه دمرها فهي راغبة عن الحياة. . . قالت:
- إنني جد ظمأى يا ألبير
ولما قام ليأتي لها بماء أخرجت من ثنية في ذيل ثوبها ورقة بها مسحوق قاتم الزرقة، وفي غفلته وضعته في الكوب
وداعاً يا ألبير. . . والى اللقاء. . . في أطباق السماء. وبدأت تتسلل روحها وتهمد أنفاسها
وبدت في غفوتها الأدبية كطائر وسنان، وكأنما أزال الموت ما رسمه الهم على محياها اللاغب الوهنان؛ فأشرق وجهها وانتشرت عليه علائم الاطمئنان(384/57)
وحدق فيها ألبير وحدثه نفسه:
- لقد تجرعت سكرة الموت من هذا الكوب ما في ذلك ريب، وفيه بقية تذهب بي إليها وتنقذني من إصر الألمان. . . وصبها في جوفه!
وانبعث من خلال أوهامه شبح فلورندا يناديه:
- تعال. . . تعال إليّ يا ألبير
فأجابها وهو يلفظ نفسه الأخير:
- هاأنذا قادم على أثرك يا فلورندا. . . ألا ترين جسدي يدب فيه الفناء؟!
محمد محمد مصطفى
بإدارة مدرسة البوليس(384/58)
العدد 385 - بتاريخ: 18 - 11 - 1940(/)
حول الحرب والشعر
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب بعض القراء الأدباء يعقبون على مقالنا في الحرب والشعر، وطلب إلينا بعضهم مزيداً من الإيضاح، فنحن نجمع هذه الملاحظات التي لعلها تلخص جميع الخواطر التي ترد على آرائنا في ذلك المقال، ونجيب على ما يحتاج منها إلى جواب في شيء من الإيجاز.
قال الأديب عباس حسان خضر: (لما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت) إلى آخر ما قال الأديب في هذا المعنى
والذي نراه أن الشعر العربي الذي قيل في الحرب كان ينبغي أن يبلغ عشرة أضعاف القصائد والمقطوعات التي قيلت في الأغراض الأخرى، لأن القبائل البادية قضت أيام الجاهلية في قتال، ثم أشتغل العرب بحروب الإسلام وفتوحه، ثم أصبحت الشجاعة الحربية معرضاً لمدائح الشعراء في الملوك والأمراء.
ومع هذا جميعه لا يبلغ شعر الحرب في اللغة العربية ما بلغه شعر العشاق في جيل واحد سواء نظرنا إلى قيمة الشعر أو مقداره
وقد استغرقت الحروب الصليبية ما استغرقت من الزمن، وشملت ما شملت من الأمم، وتناولت ما تناولت من الأقطار، وليس محصولها الشعري كله بمساو لقصائد عاشق واحد من المشهورين في معشوقة واحدة. وحسبك هذا دليلاً على مبلغ إيحاء الحروب لقرائح الشعراء حتى في الزمن القديم.
ونقول (حتى في الزمن القديم) لأن للزمن القديم في هذا حكما يخالف حكم الزمن الحديث. إذ كان الشاعر يومئذ يؤدي (وظائف شتى) كوظائف الخطيب والداعية والمسجل والشادي على ألسنة المعهودة في اجتماع الوظائف، ثم تفرقها بالتخصيص والتنويع. وعلى هذا النحو كان الرجل الواحد كاهناً وطبيباً، ثم أصبح طبيباً لجميع الأمراض وبطل عمله في الكهانة، ثم أصبحنا في الزمن الحديث وعندنا الحديث وعندنا خمسون طبيباً لا يعالج أحدهم مرض الآخر، وكلهم أطباء قادرون.(385/1)
وهذا ما أومأنا إليه في مقالنا السابق عن الحرب والشعر فقلنا إن الملاحم المنظومة كانت (هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين، فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر. . .)
فإذا تعرض الشعراء لموضوعات الخطباء والمسجلين في الزمن القديم فذلك شأن لا يدوم في زماننا هذا الذي تعددت فيه مطالب الخطابة ووسائل التدوين، فأصبح تضييع الشعر فيها من الفضول، أو من صرف الشيء في غير منصرفه المعقول
وقال الأديب يحيى زيادة عضو البعثة اليمانية: (أما الشاعر فلابد له من سويعات يجمع فيها أشتات فكره ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعراً حقاً عبقرياً استطاع أن يغتصب منبر الخطيب ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته كالشاعر الإنجليز كبلنج، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل. ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير ويحملهم على قراءة شعره)
وليس الأمر كما قال الأديب لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم فلم ينظموا فيها إلا قليلاً جداً بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم فيها بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين وقد حضر الثورة وحرب السبعين فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوبريان
ولا مرتين وشينيه وجملة الشعراء الذين لابسو الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائراً أبن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل(385/2)
الحوادث التي لا تنحصر في الحروب.
وكذلك جيتي وشيلر وهيني أعظم شعراء الألمان في زمانهم لم ينظموا في حروب عصرهم وهو عصر نابليون والثورات الوطنية إلا شذرات مهملة من شعرهم القيم المقدم على غيره.
ولقد شغلت الحرب الماضية أقطار العالم قاطبة أربع سنوات وفيه مئات الشعراء من غربيين وشرقيين ثم لم يعقبوا جميعاً من الشعر القيم ما يضارع ديوان شاعر واحد. وجاء الشاعر الناقد بيتس الذي عهد إليه في اختيار مجموعة أكسفورد من الشعر الإنجليزي في خمسين سنة فلم يثبت من قصائد الحرب إلا النادر الذي نظم بعد أنتهائها، وقال في مقدمة المجموعة إنه أهمل تلك القصائد لأن الموضوع بحذافيره لا يستحق الإثبات.
وتلك هي الحقيقة التي تنجلي لنا من مراجعه دواوين الفحول ومن مراجعة أوقات الحروب الكبرى. فمن أين نأتي بزعم من يزعمون أن النظم في الحروب شرط من شروط الشاعرية، وأن إهماله معيب في أساطين الشعراء؟
ولكن طالباً أديباً في الجامعة كتب إلي يلفتني إلى رأي للأستاذ أحمد أمين أذاعه في يوم ذكرى حافظ رحمه الله وقال فيه عن قراء الصحف إنهم (يقلبونها اليوم فلا يجدون فيها شعراً في غارة ولا في هجرة الريف ولا في بطاقة البترول كما لم يجدوا فيها ما هو أهم من ذلك في آلام مصر والشرق وآمال مصر والشرق. . . قد كان يقول حافظ بذلك كله ثم لم نجد له خلفاً)
ويسألني الطالب رأيي فيما أفتى به الأستاذ أحمد أمين، ورأيي أنه كان أولى به أن يسأل أستاذه علام أعتمد في هذه الفتوى التي قرر بها أن ميزان الشاعرية هو النظم في الغارات وبطاقات البترول والهجرة إلى الريف؟
إن مشاكلنا التي من هذا القبيل لتغرق في نظائرها من مشاكل الأوربيين كما يغرق الجدول في العيلم الزاخر، فما بالهم لم يفرغوا همهم للنظم في تلك الموضوعات التي يقترحها الأستاذ أحمد أمين؟ أليس في أوربا كلها شاعر في طبقة حافظ رحمه الله؟
نحن لا نحرم على الشاعر النظم في بطاقات البترول وما إليها، ولكننا نحرم على الناقد أن يجعل بطاقات البترول ميزان الشاعرية، ونحسب أن إيمان الأستاذ أحمد أمين بخطئه(385/3)
أحرى به من هذا الجزم العجيب بخطأ الشعراء الذين لا يجارونه في فهمه للشعر، وليس هو بشاعر ولا ناقد ولا صاحب سند فيما يرتئيه، وليست له إحاطة بما نظم الشعراء في مختلف المقاصد ومختلف المناسبات
وورد إلى الرسالة الخطاب التالي من صاحب الإمضاء: (. . . وبعد، نشرتم للأستاذ عباس محمود العقاد مقالاً افتتاحياً في العدد 381 بعنوان (الحرب والشعر)، اسمحوا لي أن أعلق على هذا المقال الممتع بما يأتي:
1 - ليس صحيحاً أن مجلة البنش الإنجليزية نشرت قصيدة جون ماك كراي التي عنوانها (في سهول الفلاندرز)، إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها، بل في التفاتهم إليها كما قال الأستاذ العقاد. والحق والواقع كما قال برنهارد راجنر الأمريكي في مجلة نيويورك تيمس إن محرر المجلة قدر ما في القصيدة من جمال ونشرها بالحروف الكبيرة التي لا تستعملها البنش إلا في المناسبات الأدبية العظيمة.
2 - ذكر الأستاذ العقاد في الترجمة ما يأتي: (كنا أحياء وكنا نحيا) والواقع أن هذا تكرار من الأستاذ المترجم لا معنى له لأن الأصل الإنجليزي هكذا فقط.
3 - ترجم الأستاذ كلمة بالعنان وهذا غريب، ولو أنه قال شعلة النضال لكان أصدق، لأن الشاعر يقول على لسان الموتى: إن الشعلة أسلمناها إليكم من أيدينا المتخاذلة.
4 - ويقول المترجم: وارفعوا الشعلة عالية. . . ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات. وليس في كلام الكندي مطلقاً ما يشير إلى هذا الشرط الأخير، أي بقاء الشعلة سنوات. وأظن أن الأستاذ العقاد قرأ وشتان بين الاثنين. . .)
(محمد عبد الغني حسن)
فأما أن تردد البنش في استحسان القراء للقصيدة ليس صحيحاً فهو ليس بصحيح.
وقد يفيد صاحب الخطاب أن يرجع إلى الصفحة (721) من كتاب (بعد عشرين عاماً) في فصل
الشعر والحرب العظمى فيقرأ هناك ما نصه بالإنجليزية:
, -
وترجمته: (إنه بعيد جداً أن الناظم أو محرر البنش الذي نشرها أول مرة توقعا أيّ توقع ما(385/4)
سيكون لها من السلطان على خيال الأمة)
وأما أن قولنا (كنا أحياء نحيا) تكرار لا معنى له فهو خطأ يدركه من يدرك أن اللغة العربية لغة المفعول المطلق ولغة التوكيد بتكرار اللفظ والمعنى، وأن قولنا (كنا أحياء) غير قولنا (كنا أحياء)
وأما أن ترجمة بالعنان غريب فقد يكون صحيحاً لو كان هناك عنان حقيقي أو شعلة حقيقية؛ ولكنها حين تكون مجازاً لا غرابة فيها ولا سيما إذا كان المترجم لا يجهل أن معناها الشعلة كما ترجمها في السطر التالي حين قال: (وارفعوا الشعلة عالية)
ونحن نترجم إلى اللغة العربية، والعرب يعرفون الأخذ بالعنان حين يراد به الاستلام، ولا يعرفون رفع الشعلة ألا للذكر والذكرى والنضر من بعيد، كما يتحدثون عن العلم الذي في رأسه نار
وأما ذكر السنين فهو مفهوم بمعناه وإن لم يرد بلفظه، وإلا فما هو بقاء الشعلة إن لم يقصد بها البقاء طول السنين؟
ونصيحتي لصاحب الخطاب أن يتعلم قبل أن يتهجم، فذلك أنفع له وأسلم
وبعد، فخلاصة القول في الحرب والشعر أن نصيب الحادث من الشاعرية لا يقاس بالضخامة ولا يحسب بالعدد. فرب شاعر تناول حياة فرد واحد فصور منها فاجعة خالدة تعيش حين تنسى الحروب التي نشبت في زمانها، فربما مات فيها مئات الألوف
وقد تستغرق الحروب ما استغرقته الحروب الصليبية ولا يترك لنا معاصروها أثراً يضارع تلك القصيدة الواحدة التي تدور على حياة فرد واحد.
عباس محمود العقاد(385/5)
مسابقة الجامعة المصرية
لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 2 -
نحن اليوم أمام كتاب (وحي الرسالة) لحضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو مختار من افتتاحيات (الرسالة) في ست سنين، ويقع في ثمانين وأربعمائة صفحة من القطع المتوسط، ويشتمل على نحو عشرين ومائة مقالة، فهو محصول غزير لا يستوعبه طلبة السنة التوجيهية إلا إذا أقبلوا عليه إقبال من يدرك ما فيه من معان وأغراض، وذلك ما نحاول تيسيره على الطلبة في هذا المقال الوجيز
الأسلوب
هو أسلوب كاتب يؤمن بأن الكتابة فن من الفنون، فهو لا يكتفي بشرح الغرض الذي يرمي إليه، وإنما يتجه عامداً متعمداً إلى تأدية المعنى تأدية جميلة توحي إلى القارئ فكرة العناية بالأسلوب الأنيق
والزيات يغرب في بعض الأحيان، ومعنى ذلك أنه يوشي كلامه بالألفاظ الغريبة من حين إلى حين ليحوّل تلك الألفاظ إلى الكلام المأنوس، وذلك منهج مقبول في إحياء المهجور من المفردات اللغوية، فلم تخلق تلك المفردات مهجورة، وإنما عاشت دهوراً ثم تناساها الكتاب والشعراء فأضيفت ظلماً إلى الغريب
والزيات لم يبتكر هذا المنهج بين أدباء العصر الحديث، فقد اختطه المرحوم الشيخ حمزة فتح الله والمرحوم السيد توفيق البكري ودعانا إليه أستاذنا الشيخ محمد المهدي، ولكن مزية الزيات هي القصد في الأغراب بحيث لا يقع منه في المقال الواحد غير لفظة أو لفظتين، وذلك يزيد ثروة القارئ من الوجهة اللغوية بدون أن يوقعه في العنت أو الارتباك
ويستطيع الطالب وهو يراجع (وحي الرسالة) أن يقيد هذا النوع من المفردات، فقد ينفعه ذلك يوم الامتحان، لأن إحياء تلك المفردات خصيصة أصيلة من خصائص هذا الكتاب. ولتوضيح هذه المسألة أذكر كلمة (الرّيازة) بمعنى العمارة، ثم أترك للطالب حرية(385/6)
الاستقصاء ليقنع لجنة الامتحان بأنه قرأ واستفاد
ويضاف إلى فكرة الأغراب فكرة الاجتهاد، ومعنى ذلك أن الزيات يحاول إيجاد ألفاظ عربية لبعض الألفاظ الفنية المنقولة من لغات أعجمية، كالذي صنع في إيثار لفظة (التناظر) بمعنى (السيمترية)
ولهذه اللفظة نظائر في كتاب (وحي الرسالة) وللطالب مسئول عن تقييد تلك النظائر، ليقيم الدليل على أنه ساير المؤلف في ميدان الاجتهاد
الموضوع
قلنا إن هذا الكتاب هو مختار افتتاحيات (الرسالة) في ست سنين، والرسالة مجلة أدبية، ولكنها مع ذلك صحيفة أسبوعية تواجه تطورات الحوادث الاجتماعية والوطنية، والمجتمع في نظر الزيات هو المجتمع المصري والعربي والإسلامي، ومن هنا جاز أن تكون في أبحاثه الاجتماعية آراء متصلة بالعرب والمسلمين في بلاد لا تصلها بمصر غير روابط اللغة والدين. وهذا المذهب يبدو لقصار النظر بعيداً عن (النزعة المصرية) النزعة التي خلقتها أوربا باسم (القوميات) ولكن المصري الحصيف يدرك جيداً أن هذا المذهب متصل أوثق الاتصال بالوطنية المصرية، لأن مصر في سرائر أبنائها الأحرار تريد أن تكون صلة الوصل بين الشرق والغرب، ويهمها أن تحيي العواطف التي تربط أمم الشرق بعضها ببعض، وذلك (الإحياء) لا يتيسر إلا بفهم ما يعتلج في صدور أمم الشرق من آلام وآمال
فإن استطاع الطالب أن يفهم الموضوعات المتصلة بهذا الغرض كان ذلك شاهداً على أنه قرأ الكتاب بعناية وإدراك
فما تلك الموضوعات؟ الطالب هو المسؤول، فقد شبعت من الابتلاء بمكاره الامتحان في جامعة القاهرة وجامعة باريس!
وبجانب الموضوعات العربية والإسلامية تنهض الموضوعات المصرية، الموضوعات التي تمثل الزيات كاتباً مصرياً يصوّر ما في الضمير المصري من قلق وتوثب وطموح في ميادين الأدب والسياسة والاقتصاد
فالزيات زار الأقصر وشهد ما خلف المصريون القدماء في ذلك الوادي الأفيح، فما الذي(385/7)
قال الزيات في وصف ما رآه؟ وكيف كانت تلك الزيارة سبباً في أن يؤمن بأن فكرة (العروبة) لا تطمس فكرة (المصرية)؟ وكيف أطمئن إلى أن تاريخ مصر له في أعناقنا حقوق؟
والزيات شهد نمو المصانع المصرية، فما الذي قال في تشجيع المجاهدين من أقطاب الاقتصاد؟
والزيات تحدث عن بعض المؤلفات الحديثة، فما هي تلك المؤلفات؟ وما رأيه في الأصول التي يقوم عليها التأليف الموصوف بالجودة والابتكار؟
هل تكلم عن حافظ عفيفي؟ هل تكلم عن عباس العقاد؟ هل تكلم عن مصطفى المنفلوطي؟ هل تكلم عن الرافعي؟
والزيات ترجم لبعض رجال العصر الحديث، فما هي آراؤه في لطفي السيد، وأحمد زكي، ومحمد عبدة، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وطلعت حرب، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم؟؟
وتحدث الزيات مرات كثيرة عن المظاهر الإسلامية والقومية، فما الذي قال عن رمضان والأعياد وشم النسيم؟ وما هي الأوصاف الأساسية لمواسم هذه البلاد في مقالات هذا الأديب الفنّان؟
وتكلم الزيات عن الطيران، فما هي المناسبة التي استوجبت ذلك؟ وما هو المعنى (القومي) الذي قصد إليه في مقاله عن الطيران؟
وتحدث الزيات عن الريف، فماذا قال عن الريف؟
وتحدث عن الأوقاف، فماذا قال عن الأوقات؟ ولأي غرض شغل نفسه بالأوقاف؟
وتحدث عن سعد زغلول مرتين أو مرات، فما هو رأيه في سعد زغلول؟
وفي (وحي الرسالة) صفحات موجعات، فما موضوع تلك الصفحات؟
وتكلم عن الأدب المزّيف والأدب الصحيح، فما الذي أوجب أن يثور هذه الثورة؟
ونظر إلى الأزهر نظرة لها معان، فماذا أراد؟ ولأي سبب شغل نفسه يحاضر الأزهر وماضيه؟
وتحدث عن (تنظيم الإحسان) فما الذي قال؟ ومن هو الكاتب الذي شغل بهذا الموضوع قبل(385/8)
الزيات؟
لا يمكن لطلبة السنة التوجيهية أن يقولوا إنهم اطلعوا على كتاب (وحي الرسالة) إلا إن نظروا في الموضوعات التي أشرت إليها في هذا المقال بعناية وتدّبر وإدراك، لأنها بالفعل أهم أغراض هذا الكتاب. ولأنها متصلة بشؤون أساسية من معضلات الحياة المصرية في هذا الجيل
والزيات يحس هذه المعاني أصدق إحساس، لأن قيامه على (الرسالة) قربه من المجتمع، وأخرجه من (العزلة) التي يفرضها ما فطر عليه من الاستحياء
بين الجمال والتفصيل
قال الزيات في مقدمة (وحي الرسالة) إن مقالاته لم تكن إلا وحي الساعة أو حديث اليوم أو صدى الأسبوع
وتلك دعوى تحتاج إلى بينات!
فليس من المعقول أن يكون الزيات صدق كل الصدق في هذا القول، والكاتب يباح له التمويه في بعض الأحايين؟!
وإلا فمن الذي يصدق أن مقال الزيات في (فنّ الجمال) كان وحي الساعة أو حديث اليوم أو صدى الأسبوع؟
ومن الذي يصدق أن ما كتب الزيات عن الفقر والغنى والبؤس والنعيم كان وحي ساعة أو يوم أو أسبوع؟
هو يخدع نفسه، أو يخدع قراءه، ليقول إنه يأتي بالعجب العجاب في لحظة أو لحظات
والحق أنه رجل ممتحن بنفسه وبالدنيا وبالناس، فأدبه الذي ينشره اليوم قد يكون صدى لتجاريبه منذ أكثر من ثلاثين سنة، والكاتب لا يعرف أين هو من حاضره وماضيه لأنه مشدود إلى قافلة الوجود.
يقول الزيات إنه كان يكتب مقالاته هذه في أصيل السبت من كل أسبوع، فهل يذكر أحد أنه كان يستطيع رؤية الزيات ولو بالتليفون في أصائل تلك السبوت؟
كان الزيات يخلو إلى قلمه خلوة صوفية، وكان في لحظات الخلوة إلى قلمه يكره الاتصال بمن في الوجود من أهل وأبناء وأصدقاء(385/9)
فما الذي كان يصنع الزيات في تلك الخلوة؟
كان ينظر إلى معضلات المجتمع بقلب راضته الأفراح والأتراح على فهم ما للوجود وما عليه من محاسن وعيوب
والمزية الأصيلة للزيات أنه يخلو بنفسه وإن كان محفوفاً بالرفاق في لحظة صفاء. ولن أنسى أبداً أننا كنا نقضي سهراتٍ كوامل ونحن في أودية بعيدة، وإن كنا في مكان واحد، فلم أكن منه ولم يكن مني، لأن عالم الفكر غير عالم الشهود، ولأن الإقامة في ظرف المكان لا تمنع القلب المتحرك من التجول في آفاق العقول والقلوب والأحاسيس.
وهذه الظاهرة الروحية تفسر الهدوء (الظاهر) في كتاب (وحي الرسالة) فالكاتب يوهم قراءه أن حياته خلت من الابتلاء بالدنيا والناس، وأنه يخاطبهم من شرفة عالية لا تعرف ما يقع في (الشوارع) من انحطاط وانزلاق.
والواقع غير ذلك
والواقع أن الزيات (يعيش) في دنيا العصر الحديث، فتجاريبه ليست تجاريب من يعبر الطريق بلا وعي ولا إحساس، وإنما هي تجاريب من له في كل (شارع) دار وجيران. ويا ويل من كان له في هذه الدنيا دار وجيران، ولو أعتزل في حدود الصحراء!
الزيات أديب له مجلة أسبوعية، ومعنى هذا أنه يعرف الناس من جميع الجناس، ومعناه أيضاً أنه مسئول أمام من يباشرون تلك المجلة من عمال ومراسلين ومحررين؛ ثم معناه أنه مسئول أمام العقليات المختلفات في مصر وفي الأقطار العربية؛ وذلك يوجب أن يواجه الدنيا بعقل يقظ وقلب حساس.
فإن لم تتفق التجارب الصحيحة لمثل هذا الرجل فلمن تتفق؟
ومن الذي يفهم بلايا المجتمع إذا عز فهمها على مثل هذا الكاتب الأسيف للدنيا والناس؟
وهل يملك الزيات في (خلوته الفنية) قدرة الاستهانة بزيارة رفيقة يمن بها طفل كريم لا يعرف أن الأديب له خلوات؟
فما معنى ذلك؟
معناه أن الزيات رجل مسئول ولو أغلق بابه بألوف الأقفال وفي هذا ما يكفي للحكم بأن موقفه في فهم المجتمع موقف الأصيل لا موقف الدخيل.(385/10)
فهل يفهم طلبة السنة التوجيهية هذه المعاني؟
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد النص على أن الأدباء الذين ظهروا في هذا العهد لم يكونوا لاعبين ولا مازحين، وإن توهم من لا يفهم أن في أدبهم ميلاً إلى اللعب والمزاح في بعض الأحيان.
إن أدب المصريين في هذا العصر هو الفيصل بين عهدين: عهد الأدب الوادع الذي كان يعيش أهله في رعاية الوزراء والأمراء والملوك، وعهد الأدب المكافح الذي يعيش أربابه في رعاية مواهبهم الذاتية، فهم في الأغلب موظفون أو مدرسون أو صحفيون، ومن أجل هذا صح القول بأن أكثر أدباء مصر في هذا العصر رجال أعمال.
وهذه الحال أضرت من جانب ونفعت من جوانب: أضرت حين أيأست الأديب من الأريحية التي كان يعيش في ظلالها أدباؤنا القدماء، ونفعت حين قهرت الأديب على الإيمان بأنه لم يُخلق إلا ليكون قوة فعالة في بناء المجتمع الجديد. وكذلك عاش الأديب مرفوع الرأس، ولو اشترك بقلمه في خدمة الأحزاب السياسية، لأنه في جميع أحواله عضو نافع في المجتمع، ولأن موقفه من الأحزاب قد يكون موقف الهداية لا موقف الخدمة. وأضاع الله من ينسى أن رجال السياسة يدينون لرجال القلم أثقل الدين؛ فبفضل الأقلام صار عندنا سياسة وسياسيون، ولو كره بعض الجاحدين!
والذي يهمني هو دعوة الطلبة إلى التعمق في فهم المؤلفات التي أحدثهم عنها في هذه المقالات، فهي مؤلفات متصلة بحياة المجتمع أوثق اتصال. وهي حين تعبر عن تألم أصحابها من المجتمع أو ارتياحهم إلى المجتمع سجل صادق لما في الحية الاجتماعية من قوة وضعف وتحليق وإسفاف.
فإن نظر الطلبة إلى (وحي الرسالة) هذه النظرة رأوا فيه غير ما كانوا ينتظرون؛ فهو ليس روائع لفظية أو بيانية، وإنما هو تعبير عن الآم وآمال يحسها أبناء الجيل الجديد، حين تصح لهم مواجهة ما يعتلج في صدورهم من آلام وآمال
والزيات لا يتكلم وحده عن تلك المعضلات، وإنما يتم تصوير هذا العصر بتعقب ما ظهر فيه من رسائل وقصائد ومؤلفات، وذلك ما قصد إليه من وضعوا مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية.(385/11)
وسننظر كيف ينتفع أولئك الطلبة بهذا المشروع المفيد.
اختبار سهل
قال الزيات في مقدمة (وحي الرسالة) إنه أعقب كل فصل بذكر اليوم الذي كتب فيه، ولكنه مع ذلك أهمل تاريخ بعض الفصول، فما هي تلك الفصول؟ ولآي سبب أغفل التأريخ؟
وأرخ فصلاً بالتاريخ الهجري وكان يجب أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي، وأرخ فصولاً بالتاريخ الميلادي، وكان يجب أن تؤرخ بالتاريخ الهجري، فما ذلك الفصل، وما تلك الفصول؟ وفي أي المواضع يكون من الحتم أن ينص على تاريخ الهجرة أو تاريخ الميلاد؟
واهم فصل هو ما كتبه المؤلف (في الجمال) وقد وقع في هذا الفصل غلطتان مطبعيتان: الأولى تنافي المعنى، والثانية تنافي السياق، فما هاتان الغلطتان؟
أنا أنتظر من أحد طلبة السنة التوجيهية جواباً عن السؤال الأخير لأشير إلى اسمه في مجلة الرسالة إشارة تزيده ثقة بما فطر علية من فهم والعقل
وفي مقال الزيات (في الجمال) فكرة منحرفة بعض الانحراف، فما هي تلك الفكرة؟
والزيات (في الجمال) تلاقي في بعض مناحيه بكاتب معاصر، فمن هو ذلك الكاتب؟
وما شواهد الأغراب والاجتهاد في هذا المقال وقد احتفل الكاتب فحبره في أربعة أسابيع؟ والزيات متأثر في مناحيه الفنية والذوقية بمؤلف فرنسي مشهور تفرد أحد كتبه بالذيوع حتى طبع اكثر من مائة مرة، فمن هو ذلك المؤلف؟
(يستعلم الطلبة من مدرسي الفلسفة بالسنة التوجيهية) وذلك الكتاب الذائع قد ظهر أثره في مقدمة كتاب لأحد أدباء العصر في مصر، فمن ذلك الأديب؟ وما ذلك الكتاب؟
غرة الكتاب
أهم فصل في كتاب (وحي الرسالة) هو ما كتب الزيات (في الجمال) وهو فصل يقع في ثلاث عشر صفحة، وقد ضمنه ملاحظاته الأساسية على فكرة الجمال وما يحف بها من مشكلات ومعضلات
والزيات لم يبتكر كل هذا الفصل النفيس، وإنما تجرد عن نفسه وأسبغ على الفكرة أثوابا (موضوعية) ليحولها إلى موضوع (كلاسيك) له قواعد وأصول، وهو مع ذلك من(385/12)
المبتكرين في أكثر نواحي هذا الموضوع الدقيق، فما هو الجمال أو ما هي أهم عناصر الجمال في نظر هذا الكاتب؟
لا أريد أن أحد من حرية الطلبة في البحث والأستقصاء؛ ولكني أعتقد أن من الواجب أدلهم على أن الكاتب قد أستشهد بآراء عربية وأفرنجية، ولا يمكن للطالب أن يدرك هذا الموضوع بصفة جدية إلا إذا رجع إلى مصادر ذلك الاستشهاد، فما هي تلك المصادر في مؤلفات العرب واليونان والرومان؟ وما هي الصور والرسوم التي تشرح الفكرة مع أن ثمنها لا يزيد على بضعة قروش؟ (يستعلم الطلبة من مدرسي الأدب والفلسفة بالسنة التوجيهية)
ثم ماذا؟
ثم أقول أني أنتظر أن يكون في طلبة السنة التوجيهية مئات يظفرون بالفوز في مسابقة الجامعة المصرية
ولو شئت لقلت أني أطلعت على كثير من أجوبة الطلبة عن أسئلة امتحانات النقل والامتحان العمومية فلم أجد ما يرضيني، لان اكثر الطلبة يحفظون ولا يفهمون، ولا قيمة للحفظ إذا انعدم الفهم، فنحن نريد أن يكون أبناؤنا رجالاً يسمعون ويعقلون، لا ببغاوات تحكي ما تسمع بلا إحساس ولا أدراك
إذا استطاع طلبة السنة التوجيهية أن ينجحوا جميعاً في المسابقة بتفوق مرموق، وأن يقهروا الدولة على قبولهم بكليات الجامعة المصرية بالمجان، فسيكون هذا التفوق غرة في تاريخ مصر الحديث.
إن الدولة أمكنتكم من ناصيتها المالية، يا طلبة السنة التوجيهية، فعلموها كيف تهرب من التعرض لذكائكم الموروث، فما كنتم ولن تكونوا إلا أزكى نبات في أخصب أرض، وفي رعاية أصفى سماء.
أنا معكم والله معنا، ونحن بالصدق والعزم أقوى من وزارة المعارف ومن الجامعة المصرية.
وإلى الأسبوع المقبل في تشريح كتاب حافظ عفيفي باشا. فلكتابه مذاق خاص، لأنه يقدم صوراً من أفق بعيد هو بلاد الإنجليز.(385/13)
زكي مبارك(385/14)
جيل وجيل!
للأستاذ محمود البشبيشي
من الأجيال ما يطويه الزمن تبعاً لقانون الحياة، ولكنة يطوي الزمن تبعاً لقانون الفكر، فلا يذهب الزمن إلا بأهله، ويذهب فكر أهله في الزمن كل مذهب! والذي يطيل في عمر الأجيال برغم فنائها، ويقصر في عمرها وهي على قيد الحياة، وهو قوة الروح فيها، وحيوية الفكرة في مجموع أفرادها
. . . هذا ما أوحاه إلى حديث بيني وبين ولدي (حسين) وهو شاب له نظرته الخاصة في نثره وشعره، لا يعترف بنظرة غيره إلا بمقدار ما فيها من صلات تربطها بفكرته وبصدق المنطق والعقل. . .
. . . تناقشنا، فكنت أنا وحججي أمثل جيلاً مضى، أو أوشك أن يمضي، يحاول أن يحرج ويقنع ويصلح جيلاً جديداً تجسم في نفس ولدي وفكره. . . وكان هو مؤمناً كل الإيمان بقوله، وإذا وجد الأيمان تفتحت أكمام الحياة والغاية عن ثغور النجاح باسمة جميلة. . .
. . . وحاولت أن أفهمه أن البقاء للقوي، وأن الذي لا يحصن نفسه، ولا يتخذ الأهبة للقاء الشرور والأفراح معاً لا يستطيع أن يقف على قدميه طويلاً، واضطرب أمام النسيم العابر قبل العاصفة الشديدة، وجار عليه كل من أتصف بالقوة وتحصن بها. . . شخص كهذا يقطع مسافة عمره كما يقطعها الحيوان والنبات، لا يسلم من اعتداء القوي والضعيف!. . .
حاولت أن أفهمه هذا فقال: إذن فأنت ترى أن البقاء للقوي، وان الذي لا يتصف بالقوة مثله كمثل النبات والحيوان الضعيف، وظاهر قولك من حكمك على النبات بالضعف أن الإنسان يزرعه ليقلعه! وهذا ما يحدث. . . ولكني لا أرى ضعف النبات كما تراه أنت ضعفاً بمعناه الذي هو ضد القوة، بل أراه قوة البقاء في النبات! فالقوة عندي ليست تلك التي يقع تحت صفاتها التدمير والجور والشدة، وإنما هي قوة الروح فقط!
. . . وهذا الضعف في النبات هو أسمى درجات قوة الروح، فأنت لا تقتلع النبات إلا بعد تمام أكتماله، أي بعد تمام قوة الروح فيه، فتستفيد منه ذلك غذاء وبناء للأجسام، وهذه الفائدة هي قوة الروح في النبات، فهو لا يفنى لضعفه، إنما ليكون حياة أخرى ويجدد بناء آخر، الفضل فيه لقوة روحه الكامنة في عناصره. . .(385/15)
هكذا النبات، وفلسفة الطبيعة في النبات، يضعف ليخلق قوة، ويفنى ليجدد حياة. . . وليت الإنسان كذلك. . .
- لقد أصبت في ذلك يا بني، ولكن الذي يصلح للنبات قد لا يصلح للإنسان، والذي تراه أنت فلسفة في طبيعة النبات قد لا تعترف به العقول البشرية - لا لضعف فيه - وإنما لأن هذه العقول قد اختلط بها من صفات الحياة القبيحة الكثير، فامتزج بها الطمع، ودفعها إلى حب السيطرة على أشياء الغير، فكانت العداوة، وكانت البغضاء، وشعر الإنسان بأن لا أمان من جانب أخيه الإنسان، وصار كل فرد إذا صادق ونسج ثوب الوفاء، نسج بجواره ثوب الرياء؛ وإذا أخذ العدة لحسن اللقاء، أخذ الأهبة لدواعي الفراق، فاضطربت الحياة. . . لهذه الأسباب يصعب تطبيق فكرتك على حياة الإنسان، ويصدق منطقها في حياة النبات، لأن الطبيعة عادلة في تصرفاتها، فلم نر نباتاً اعتدى على نبات، فظهر في زمن نبات آخر. كل شيء يسير في الطبيعة وفي منطقه عدل وحكمة، فللقمح ميعاد، وللقطن ميعاد، ولا يصلح الأول في زمن الثاني. وهكذا سائر النبات. . . فهل الإنسانية كذلك؟ لو كانت كذلك ما واشتعلت يا بني اليوم النيران، واضطرب ميزان الحياة، وذهبت الرحمة من القلوب
فقال: ليس معنى هذا أن الفكرة غير صائبة، وأن فلسفة الطبيعة فيها نقص، بل لعل ذلك يثبت ضلال الإنسانية وتحكم شهواتها في ميولها ونزعاتها الفكرية.
- هذا حق يا بني، ولكن ما فرط الناس في أمور دنياهم والإنسانية والروابط الدينية، إلا منذ أن فرطوا في شخصيتهم وأخلاقهم، فأصبحوا لا يحكمهم شعور حي، ولا يقيد شرورهم رحمة، وأساء تقديرهم للأشياء، فعبدوا الكم، وابتعدوا عن الكيف! ونشأ فيهم اختلاف الطبقات، فقدروا الغنى بالمال، والفقر بقلته، ما أبعد القوم عن الصواب. . . ما أبعدهم!
ورب فقير له من عزة نفسه ثروة تسجد أمامها جبابرة السنين. . . ورب غني تمر به الأيام كما تمر على الجماد لا تشعر به لأنه فقير الروح!
- أنت ترى يا والدي أن سبب انحدار الإنسانية هو التفريط في أمور الدنيا والدين. . . وأنا أرى أن السبب هو فساد التأمل في أفرادها واختلاطه بحب الذات، فأصبح الإنسان لا يرى الشيء حسناً إلا إذا كان له نصيب من حسنه!. . . ولكن هناك تأملات نقية وتأملات(385/16)
ساقطة. . . وأكبر الظن أن سر اضطراب الإنسانية اليوم هو تغلب التأملات الساقطة التي غلب عليها حب الذات. . . ولابد للحياة من تأمل. . . إما في غاية الحياة ومثلها العليا الإنسانية، وإما في الخلاص من قيود الحياة ومثلها الإنسانية العليا. وفرق بين التأمل الأول والتأمل الثاني
يصل بك الأول إلى الغاية - إذا صدقت فيه - ولم تأخذ في ظنون الأمور بيقينها. وهذا النوع كان موجوداً في أيام طفرة الإسلام الأولى، أيام كان تأمل الرسول الكريم يتغلغل في المسلمين جميعاً. . . ما أحوج الإنسانية اليوم إلى هذا التأمل، فإنه إذا وجد في أمة بعث فيها روحاً يجعلها لا تصل بين شريرها ومجاهدها الصادق إلا مقدار ما يُصلح الثاني من أمر الأول، ولا تحث على جوار النقائض إلا بمقدار ما يُشعر الحَسنُ القبيح بأن فيه قبحاً!!
- إذن أنت ترى يا بني أن الإنسانية اليوم تأملت، ولكن في الخلاص من قيود الحياة وثقل مُثلها الإنسانية وتبعاتها. . . هذا حق يا بني، فإن الفضائل اليوم أصبحت قيود الحياة، لأن الإنسان قد غرق في الشهوات وحب الذات، ولأن نفسه قد فسدت فرأى الشرور فضائل!!
وما هذه الحرب الضروس غير صورة لفساد تأمله. . . لقد صبغت الحرب يا بني كل شيء في الحياة بصبغة سوداء، وظاهرها الخوف وباطنها الموت والدمار، فدعنا من فلسفة تقودنا إليها، وعرج بنا على ناحية أخرى. . . فقد عرفت منك أن التأمل أساس الحياة، وأن هناك تأملاً في غاية الحياة ومثلها، وتأملاً في الخلاص من غاية الحياة ومثلها وتبعاتها، وأن الجيل يفسد بفساد تأمله، كما قلت لي إن القوة هي قوة الروح، وإن الضعف والفناء قد يكونان قوة، والفناء يجدد حياة. . . عرفت كل هذا فأحسست أن الجيل الحديث. - متجسماً في روحك وفكرك - يختلف كل الاختلاف عن جيلنا الذي ذهب بعضه وبقى بعضه! وأدركت أن الأجيال تتأثر بالفكرة التي تتولد فيها وتمتاز بها، ولكني لا أزال أشعر بامتياز جيلنا بالقوة والهيبة والشهامة. . . أحس فيه الهيبة الفطرية التي تتجلى في رهبة الابن لوالده والتلميذ لأستاذه، وكل الناس أمام رجل الدين. ولا زالت أشعر بامتيازه بسعة المعارف والمدارك وقوة الصبر والمجالدة. ولعل الدكتور زكي مبارك على حق في ثورته على شباب الأدب اليوم، وقلة صبرهم واضطلاعهم. . .
فقال: هذا حديث آخر أحب أن أطلعك على خواطري فيه، فهنا خزان ماء صناعي يُزود(385/17)
بالماء في كل وقت، وهناك نبع سيال له من طبيعته مدد لا ينقطع، فأيهما تراه أنفع وأفضل؟ إن الأدباء كذلك: فيهم من استفاد علمه وأدبه في كثرة الاطلاع، فهو مقيد بألفاظ محفوظة، وأفكار مسبوقة، وإذا جاء منه الجديد جاء بعد عناء. وفيهم من فطر على دقة الحس وسهولة الطبع، فهو يغرف من بحر متماوج بين وجدانه وعقله. كل أفكاره جديدة لأن شعوره الفطري يتجدد، ومن هؤلاء الفلاسفة من الشعراء والكتاب، وقد يكون بعض الشباب اليوم من النوع الثاني.
- هذا حق يا ولدي، ولكنك لا تستطيع إنكار فضل الكثير منا، فقد كشفنا لكم ظلمة الطريق وقدنا القافلة وسط تيارات من الشدة والظلم، حتى وصلنا بكم إلى النور، وحتى استطاع الابن منكم أن يجادل الوالد ويناقشه! واضطر الوالد أن يقبل منه النقد لأنه هو الذي هداه إلى سبيله!
- حقاً أنا وغيري لا نستطيع إنكار قدرة الأستاذ الزيات على حسن الصياغة ودقة المعنى وعبقرية الفكرة، وسهولة الدكتور زكي مبارك وجمال عبارته الفني الذي يخيل إلي أنه ينسجها من روحه ودمه، وتسلسل الدكتور طه حسين واختصاصه بأسلوب رائع، ومنطق الأستاذ أحمد أمين وحرصه على الفكرة، لا أستطيع أن أنكر هؤلاء جميعاً وغير هؤلاء لأني أبحث عن الحق، كما أني لا أستطيع أن أنسى الرافعي وسحر الرافعي وشوقي وحافظ والزهاوي، لا أستطيع أن أنكر فضلهم، كما أحب ألا ينكر منا النابغ. . . فقد كان منا الشابي وشقيقي الراحل؛ ولم يزل فينا صالح جودت، والعطار، ومحمود إسماعيل، ومختار الوكيل، والعوضي الوكيل. ولم يزل فينا الذي يقول:
قد عصرتُ الفؤاد خمرة وجد ... وسكبت العصير في شفتيك
فسكرنا من الغرام وجُنتَّ ... نشوةُ الحب من سنا عينيك
قبلات الهوى صلاةُ محب ... قيَّد الحبُّ أصغريهِ عليك!
والذي يقول
داعبت ثغرها بثغري وقالت ... دائماً أنت في ابتسام وفنَّ
قلت لا غرو لو تبسم ثغري ... مذُ رأى القلب في الضلوع يغني
ومنا الذي يقول:(385/18)
لا تهابي الفناء روحي يوماً ... إنما المرء لا محالة مودي!
وأضحكي واسخري فدهرك يجري ... ضاحكاً ساخراً لتلك اللحود!
ثم فينا الذي يقول:
فسيري بي يا ربة الآمي إلى السدره
فإني ضقت بالإنسان لما أفسد الفطره
ألا يا ليتني همت كما هامت به فكره
ولم ألق إلى الأرض كياناً سجنه بَشره
وأخيراً ما أجمل أن يتناقش جيل وجيل! وما أروع حديث الأب لولده والولد لوالده! إن في مثل هذا الحديث صلة روحية تسعد الآباء، وتشرح صدر الأبناء، وتخلق في نفوسهم صفة الاعتماد على النفس واستقلال الشخصية.
محمود البشبيشي
حاشية: كل ما جاء على لسان ولدي (حسين حسني محمود
البشبيشي) فهو من فكره ويكاد يكون في ألفاظه.(385/19)
السنوسيون
للأستاذ حسين جعفر
السنوسيون هم طائفة من الإخوان المسلمين تعتقد بولاية السنوسي. ومؤسس هذه الطائفة هو السيد محمد بن علي ابن السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المهاجري، ويسمى عادة الشيخ السنوسي أو السنوسي الكبير. ولد بالقرب من مستاجانم ببلاد الجزائر، وأطلق عليه أسم السنوسي تيمناً بولي من أولياء الله موجود قبره بالقرب من تلمسان. وتاريخ ميلاده غير معروف بالضبط، والمصادر المختلفة ذكرت السنين: 1791، 1792، 1796، 1803 ميلادية
وهو ينتمي إلى قبيلة ولد سيدي عبد الله، ويتصل نسبه بالسيدة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينما كان صغيراً قضى بضع سنوات في فاس حيث درس التوحيد والفقه الإسلامي. ولما بلغ الثلاثين غادر مراكش في رحلة إلى المناطق الصحراوية الواقعة في بلاد الجزائر، داعياً إلى إصلاح العقيدة والإيمان، ومن الجزائر رحل إلى تونس ومراكش فالتف حوله كثير من المريدين والأتباع.
ثم ذهب إلى القاهرة حيث عارضه علماء الأزهر الشريف وعدوه مبدعاً في أحكام الدين، فغادر مصر إلى مكة وهناك أتصل بسيدي محمد بن إدريس الفاسي زعيم الطريقة القادرية المراكشية. ولما توفي سيد محمد بن إدريس الفاسي أصبح السنوسي رئيساً لأحد فرعي طريقة القادرية. وقد أسس أولى زواياه في سنة 1835 في أبو قبيس قريباً من مكة، وأثناء إقامته بشبه جزيرة العرب أتصل بالوهابين، وكان لهذا الاتصال أثر محسوس في النظر إليه بعين الشك والارتياب من علماء مكة. وفي مكة نفسها أكتسب السنوسي أكبر وأقوى عضد في شخص محمد شريف أمير واداي الذي تولى ملكها في سنة 1838 وهي أقوى إمارة إسلامية في وسط السودان. وحينما وجد السنوسي معارضة قوية في مكة غادرها في سنة 1843 إلى برقة وهناك بالجبل الأخضر أسس الزاوية البيضاء بالقرب من بلدة درنة. وكان على اتصال دائم ووثيق بجميع المغاربة، وأيده كثير من الأتباع الطرابلسيين والمراكشيين.
وكانت الحكومة العثمانية الحاكمة لطرابلس في ذلك العهد تنظر إلى انتشار نفوذ السنوسية(385/20)
بعين غير عين الاستحسان. ومن الجائر أن انتقال السنوسي في سنة 1855 إلى جغبوب وهي واحة صغيرة في الشمال الغربي من واحة سيوة على خط عرض 30 كان لرغبته في تجنب الاحتكاك بالأتراك. وهناك في جغبوب توفي إلى رحمة الله في سنة 1859 أو سنة 1860 وخلف ولدين: الأكبر محمد شريف، سمي كذلك تيمناً باسم سلطان واداي ولد سنة 1844، والثاني المهدي ولد سنة 1845. وقد خلفه في زعامة الإخوان المهدي. ويقال إن الولد الأصغر أظهر ذكاء وكفاية أكثر من أخيه، ولذلك قرر الوالد أن يختبرهما؛ وأمام جميع الإخوان في جغبوب أمر ولديه بتسلق نخلتين عظيمتي الارتفاع وسألهما باسم الله ورسوله أن يقفزا إلى الأرض، فقفز المهدي في الحال ولم يصب بسوء في حين رفض الأكبر. وإلى المهدي الذي لم يخش أن ينفذ إرادة الله انتقلت ولاية العهد التي كانت من نصيب الأكبر. ويظهر أن محمداً قبل مصيره هذا بلا تذمر، وقد تولى القضاء والتشريع في زاوية الإخوان تحت رياسة أخيه إلى أن توفي إلى رحمة الله في سنة 1895.
السنوسي المهدي
كان عمر السنوسي المهدي حين خلف والده أربعة عشر عاماً ومع ذلك كان يتمتع بجميع ما كان يتصف به والده من الشهرة والحكمة والعلم. وقد فاتنا أن نذكر أن الأمير محمد شريف سلطان واداي توفي سنة 1858، وخلفه السلطان علي الذي حكم حتى سنة 1874 والسلطان يوسف وتولى الحكم حتى سنة 1898 وكلاهما كان مخلصاً في أتباع تعاليم السنوسية. وفي عهد السنوسي المهدي انتشرت تعاليم السنوسية من فارس إلى دمشق ومن القسطنطينية حتى الهند. وكان للطريقة في الحجاز أتباع عديدون، وفي معظم هذه الأنحاء احتلت السنوسية مركزاً قوياً يفوق كثيراً من الطرق الإسلامية الأخرى. أما في بلاد النيجر وهي تقع شمال بلاد نيجريا فلم تنل السنوسية نجاحاً، ذلك لأن مسلمي هذه البلاد ما كانوا يعترفون إلا بسلطة سلطان سوكوتو، ولكن الحال كان مختلفاً في الصحراء الشرقية وفي أواسط السودان، فإنه من حدود مصر الغربية جنوبي دارفور ووادي وبرنو، وغرباً إلى بيلما ومرزوق، وشمالاً إلى شواطئ طرابلس كان السنوسي المهدي أقوى شخصية وكان له من النفوذ ما يجعله الحاكم الفعلي، ولذلك كانت الواحات المنتشرة في صحراء ليبيا تحتل وتزرع بواسطة السنوسسيين؛ وازدهرت التجارة مع طرابلس وبنى غازي واستقر النظام(385/21)
والأمن بين البدو الرحل قاطني الصحراء.
وبالرغم من أن والده سماه المهدي فإنه لا يوجد أقل دليل على أنه أدعى أنه المهدي المنتظر ولو أن أتباعه يعتقدون فيه ذلك.
وحينما قام محمد أحمد الدنقلاوي بثورته على المصريين في شرق السودان وادعى أنه المهدي المنتظر قلق السنوسي وأرسل وفداً عن طريق وادي إلى محمد أحمد فوصل الوفد إلى معسكره في سنة 1883 بعد سقوط مدينة الأبيض بوقت قليل. ونترك هنا للسير ريجنالد ونجت وصف ما حدث كما جاء بكتابه عن المهدية والسودان المصري الذي ظهر سنة 1891.
كان وفد السنوسي مشبعاً بتعاليم السنوسية الدينية والأخلاقية فراع الوفد المذابح والخراب البادي حول محمد أحمد أينما حل، وكان الوفد يشعر بأن هداية العالم بواسطة المهدي المنتظر تكون بتأثيره في الغير كي يحيا الناس حياة صحيحة معتدلة عمادها العمل الشريف والاعتماد على النفس. وقد شاطر السنوسي المهدي وفده هذا الشعور وقرر قطع كل صلة بالمهدي السوداني بالرغم من أن محمد أحمد أرسل إليه مرتين ليقبل أن يكون أحد خلفائه الأربعة، رامياً بذلك أن يكسب تأييد السنوسي ذي التأثير العظيم على المصريين، ولكن ظلت رسالتاه بلا رد. وفي الوقت نفسه حذر أهالي واداي وبرنو والبلاد المجاورة بأن ينفضوا أيديهم من كل ما له علاقة بأمور السودان. ويجب ألا يخفي أن الثورة التي حدثت في سنة 1888 وسنة 1889 في دارفور ضد الخليفة عبد الله التعايشي كانت تدار باسم السنوسي.
اشتباك السنوسية مع الفرنسيين
قلق الأتراك من ازدياد شهرة الشيخ السنوسي مرة أخرى. وقد لاحظ السلطان عبد الحميد الثاني أن سلطة الشيخ في كثير من أجزاء طرابلس وبنغازي أعظم من سلطة الحكام العثمانيين. ففي سنة 1889 زار الشيخ السنوسي في جغبوب حاكم بنغازي التركي على راس بعض قواته. وكان هذا الحادث سبباً في ترك الشيخ لجغبوب ونقل مركزه إلى الجوف في واحة الكفرة، وهو مكان بعيد بعداً كافياً يجعله في مأمن من أي هجوم مفاجئ
وحوالي هذا الوقت بدا خطر جديد على السنوسية، وهو أن الفرنسيين كانوا يزحفون من(385/22)
الكونغو متجهين إلى حدود مملكة واداي الغربية والجنوبية. وقد رأى السنوسي في سنة 1898 أن يجمع في اتحاد واحد جميع البلاد المهددة من الزحف الفرنسي، ولذلك فكر في التحالف مع رايح الزبير وسلطان بجرمي ولم يكونا من أتباع السنوسية، ولذلك كان سعيه بلا نتيجة.
وفي واداي كان خلف السلطان يوسف وهو السلطان إبرهيم الذي تولي الملك سنة 1898 يهمل نصائح الشيخ، متشجعاً في ذلك بهزيمة الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان. وكان رد السنوسي على هذا أن حرم على أهالي واداي تدخين التبغ وشرب المريسة (البيرة الوطنية) فأرسل السلطان إبراهيم إلى السنوسي بأن شعبه يحارب ويموت في سبيل المريسة، وأنهم قد ينبذون تعاليم السنوسية ليشربوها. وكان السنوسي المهدي حكيماً في تنازله عن رأيه، معلناً أن الله أجاب على صلاته بأنه جل شأنه قبل أن يستثني أهالي واداي من هذا التحريم. ولما توفي السلطان إبرهيم سنة 1900 وقع خلفاؤه تحت سلطان السنوسي المهدي مرة أخرى
وفي سنة 1900 غادر السنوسي واحة الكفرة إلى دار جوران على الحدود الغربية من سلطنة واداي، وهناك في جيرو على قمة التل الصخري أنشأ زاوية وحصنها تحصيناً قوياً رامياً بذلك أن يصد أو على الأقل يعوق تقدم الفرنسيين الذين قتلوا - في نفس هذه السنة - رابح الزبير في معركة واحتلوا بلاد بجرمي. ورأى الشيخ أيضاً أن يمنع الفرنسيين من احتلال قانيم وهي بلاد تقع في الشمال الشرقي من بحيرة تشاد على الحدود الصحراوية. وبذلك للمرة الأولى بدأ احتكاك السنوسية بالقوات الأوربية.
وقد كان هناك اعتقاد بين بعض الرحالة الفرنسيين والإنجليز أن السنوسيين ربما يعلنون حرب الجهاد وأنهم بذلك ينالون مساعدة جميع المسلمين في شمال وغرب أفريقيا، وهذا الاعتقاد كان بعضه مؤسساً على تعاليم السنوسية ذاتها والبعض الآخر على التخيلات المبالغ فيها من قوة السنوسيين.
وكان عدد محاربي السنوسية الذين يدينون بالطاعة للسنوسي مباشرة عدة آلاف قليلة. ولذلك كان السنوسي يعتمد على سلطته الروحية وتأثيره في هؤلاء الذين قبلوا تعاليمه بأن يأتمروا بما يريد ويستدل من تاريخ السنوسي الثاني على أنهما كانا دائماً في صف المدافع.(385/23)
والسنوسي المهدي في تعرضه للفرنسيين لم يكن في الحقيقة يقوم بحرب هجومية، وقد أضعف مركزه أنه لم يجتمع تحت إمرته من القبائل عدد عظيم.
فاخذ يحارب في قانيم مع أتباعه من البدو متلقياً مساعدات قليلة كان يقوم بها أهالي هذه المدينة، وفي أثناء ذلك أنشأ زاوية في بيرعلالي، وهي ملتقي تجارة طرابلس بالبلاد الموجودة حول بحيرة تشاد، وحصنها تحصيناً قوياً واستؤنفت الحرب واستمرت ما يزيد على السنة، وبعد قتال شديد سقطت بير علالي في يد الفرنسيين في يناير سنة 1902.
وقد تأثر السنوسي المهدي بهذه الهزيمة ومات بعدها بقليل في 30 مايو سنة 1902 في جيرو ودفن في زاوية التاج ولكن البدو يعتقدون حتى الآن بأنه ما زال حياً وأنه غادرهم في مهمة سرية
وكان أبناء المهدي السنوسي صغاراً قاصرين، فانتقلت زعامة الإخوان إلى أبن أخيه السيد أحمد الشريف وهو رجل طموح ذو مقدرة فائقة ولكن تعوزه حكمة من سلفوه. وأستمر سيدي أحمد في سياسة عمه وهي مقاومة الفرنسيين، ولكن رغم جهوده وبعد كفاح طويل دام من سنة 1904 حتى 1911 سقطت واداي في أيديهم، وبذلك أنهار سلطان السنوسية في أواسط السودان.
وكان السنوسيون يحتفظون لمصر وللسلطات البريطانية فيها بأجمل الود. ولما رأى سيدي أحمد نشاط الفرنسيين أستحسن الانتقال إلى الجوف في واحة الكفرة. وهناك وعلى واحات أخرى في صحراء ليبيا كان السيد المطلق، ولم يكن لاعتراف فرنسا بأن الصحراء واقعة في دائرة النفوذ البريطاني أي أهمية لديه
وكان عدد أتباعه في مصر دائماً في ازدياد، وفي الإسكندرية كان يعيش السيد محمد الإدريسي أكبر أبناء المهدي السنوسي وسط أملاكه مستقبلاً أتباع السنوسية من جميع أنحاء البلاد.
(البقية في العدد القادم)
حسين جعفر
المهندس الزراعي(385/24)
عراك في معترك
أي معترك!
فصل في الرمزية
للأستاذ زكي طليمات
في مقالينا السابقين، دفعنا تهماً مصنوعة لا تقوم على حجج علمية، كما كشفنا عن مغالطات صريحة متعمدة لم يجد الأستاذ محمد متولي سواها مطية للرد علينا، ليوهم نفسه ويوهم القارئ العابر أنه سود ثلاث صفحات تلمع ببهرج الجدل الفلسفي
فعلنا هذا بعد أن جعلنا دبر آذاننا سباباً ومهاترات لفظية من جانبه تقيم الحجة على أن الأستاذ متولي لم ينزل إلى موضوعية النقد فيما نحن بصدده، بل أنحرف إلى أطراف الموضوع يشدها ويشدها، متخذاً منها أرجوحة تطوحت به إلى فضاء ما كنا نحب أن نراه يشغل فراغه!
حول الرمزية الفنية
وإذا قلنا إن متولي لا يريد أن يفهم ما نكتب، أو هو يفهمه ثم يتجاهله، لما قررنا غير الواقع!! وآية ما نذهب إليه - وقد سقنا قبل ذلك آيات بينات - أننا قررنا، فيما سبق أن كتبناه رداً على مقاله الأولى، أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية، وأيدنا ذلك بقولة من كلام (ريبو) نفسه، مرجع متولي الأوحد في كل جدل، ثم شفعنا ذلك بتعليق آخر وارد في نفس الكتاب (صفحة 169 - 171)، وهو تأييد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان أن طلع علينا متولي بما زاده إمعاناً في خطئه وفي حيرته، ومرد هذا أن متولي هو أول من أسمى الرمزية الميتافيزيتية، أو رمزية ما وراء الطبيعة، أو الرمزية الفلسفية عند (ريبو)، باسم (الرمزية الفنية) وهانحن أولاء نسجل جملته التي وجهها إلى الدكتور بشر فارس: (ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي كما يقول ريبو). أسمى متولي هذه التسمية عن عدم تثبت أو عن قصد مرسوم - أيهما لا أدري - فلما جاريناه تساهلاً في هذه التسمية التي هي وليدة مخيلته المبتدعة وليست وليدة(385/26)
مخيلة (ريبو)، وناقشناه على هذا الأساس ليفهمنا ويتبعنا، مدللين على أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية لينفي عن مسرحية (مفرق الطريق) طابع الرمزية الأصيل، قام يتهمنا بما أخذناه عليه، وكأنه يأبى أن ينزل إلى حق أو حجة أو برهان. . .
ولكننا أوتينا الصبر والجلد، وهانحن أولاء نقدم فصلاً (في الرمزية) كما أرادها (ريبو) محاولته وليس كما أرادها الأستاذ متولي في مقاليه السابقين، وسنسوق في عرض هذا الفصل الأخطاء التي تورط فيها متولي عفواً أو عمداً.
المخيلة في رأي ريبو
يقسم (ريبو) المخيلة قسمين رئيسيين عامين كلاهما إزاء الآخر مكان الماء من النار.
1 - القسم الأول، وأسماه (ريبو) المخيلة المصورة وخاصيته وضوح الصور الجزئية وتحددها، وقربها من الإدراك، وإيهامها بأنها حقائق، وتداخل بعضها في بعض لصلات بينها موضوعية، قابلة للتعيين بدقة، ومن ضروب هذه المخيلة: مخيلة المثال والمهندس والشاعر الوصفي، وبعض أرباب العلوم والصناعات.
2 - والقسم الثاني؛ وأطلق عليه ريبو أسم (المخيلة السيالة) وخاصيته التقريب بين صور جزئية غامضة ملتبسة فياضة، ويكون هذا التقريب على هوى الاستعداد الشعوري من غير قاعدة ولغير سبب منطقي. ومن ضروب هذه المخيلة: أحلام اليقظة، وجولان الفكر، وتلفيق القصص، وبعض التصورات الدينية، وبعض ألوان الفن، مثل فن الرمزية ولا سيما (الأدب الرمزي) الذي كان في عصر (ريبو) حين صدور كتابه، أي قبل عام 1900
ويذهب (ريبو) بعد ذلك إلى أن للمخيلة أنواعاً أخرى أقل عموماً من القسمين السابقين. منها (المخيلة الصوفية). وفي رأي (ريبو) أن هذه المخيلة الصوفية تمت بسبب إلى (المخيلة السيالة) ولا سيما في شكلها الشعوري، وإن كانت لها خصائصها، وهنا يحلل (ريبو) هذه المخيلة، ويميزها عن المخيلة الدينية والمخيلة الفلسفية.
ذلك هو مجمل مذهب (ريبو) في المخيلة على أقسامها وضروبها. والآن نرجع إلى ما كتبه الأستاذ متولي في الرمزية، ونراجع استشهاداته لنتبين مدى فهمه ومقدار أمانته وهو يستند إلى كتاب مطبوع متدوال. وفيما سنورده أقوال جديدة وأخرى سبق أن رددنا بها أخطاء(385/27)
الأستاذ متولي في مقالاته السابقة، وقد آثرنا تكرارها لترد متراصة في صعيد واحد مع هذا الفصل، بعد إيفائها حقها من الشرح والبيان:
1 - ظن متولي أن الرمزية في توطئة مفرق الطريق محض صوفية، فخاطب صاحب المسرحية قائلا: (ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو)).
والى القارئ نص (ريبو) ص 196س8 - 11 عن التفريق بين الرمزية الدينية، ورمزية ما وراء الطبيعة أو الفلسفية: (إن الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو الدين فإنها تعتمد على عنصرين أساسين: هما التخيل والشعور، وإذا اتجهت نحو الفلسفة أو ما وراء الطبيعة فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن) فالقارئ يرى من معارضة حديث متولي بنص (ريبو) أن الناقد اعتسف الكلام إذ نسب إلى ما يسميه هو (الرمزية الفنية) ما خص به (ريبو) (الرمزية الصوفية) المتجهة نحو ما وراء الطبيعة أو الفلسفة. هذا، وأما العنصر الذي خص به (ريبو) (المخيلة السيالة) فهو الاضطراب (راجع كتاب (ريبو) المذكور ص 171س10 - 12). وقد تقدم أن (المخيلة السيالة) هي التي تتمثل في فن الرمزيين
' وهذا الفن - ومعظم كلام (ريبو) عليه في ناحية الأدب - وثمة إشارة إلى ناحية التصوير - يصبح بجرة قلم من الأستاذ متولي يحمل أسم (الرمزية الفنية)!!؟
وللقارئ أن يتأمل كيف خلط متولي الرمزية الصوفية بالرمزية في الأدب والتصوير فجعلهما شيئاً واحداً، هذا في حين أنهما عند (ريبو) منفصلان أساساً وتقع كل منهما في باب مستقل عن الآخر
هذا والمتمعن ذو النظرة العلمية السليمة في توطئة (مفرق الطريق) يلحظ أن (الاضطراب) هو من أساس الإنشاء الفني فيما نريد أن نقرره (راجع مثلاً القسم الخاص بالرقص في التوطئة المذكورة).
2 - يعود الأستاذ متولي إلى الرمزية الصوفية التي في التوطئة الفنية البليغة فيقول مخاطباً صاحب المسرحية: (ألم تحدثنا بهذا أيضاً مع أنه وصف للتخيل الصوفي الذي(385/28)
يؤلف بين السطور الباطنة المبهجة ويستخرج منها رموزاً يستعملها كما هي بعكس الرمز في الفن الذي يحصل من (تحليل الصور) والحركات والألوان؟).
وإلى القارئ نص (ريبو) (ص187 س17 - 30)
(إن مصدر طرافة المخيلة الصوفية أنها تحول الصور المعينة إلى صور فتستعملها على أنها كذلك لا كما هي، ونوع تعبير المخيلة الصوفية لابد له من أن يكون تركيباً.
وتختلف الرمزية الصوفية - بسبب هذا النوع وبالأدوات التي تستخدمها - عن المخيلة الشعورية
التي وصفتها آنفاً (السيالة) وعن المخيلة الإحساسية (يعني المصورة) التي (تستخدم) الصور والحركات والألوان على أنها لها قيم خاصة)
فالقارئ يرى أن متولي عكس الكلام وقلب الحقائق، إذ نسب إلى (المخيلة السيالة) ما نسبه (ريبو) إلى (المخيلة المصورة) من أن الصور والحركات والألوان (تستخدم) لديها، (لا تحلل كما توهم متولي في الترجمة!) على أن لها قيما خاصة، وقد تقدم بالقارئ أن (المخيلة السيالة) ضد (المخيلة المصورة) وهانحن أولاء نسجل نص (ريبو) في التفرقة بين هاتين المخيلتين كما هو وارد في الكتاب المذكور ص 163س1 - 2، ص 165س4
' , , '
3 - ويقول الأستاذ متولي: (ثم ما رأيك في أن (ريبو) يقصد بالرمز في الفن أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد بينما أنت).
وإلى القارئ نص ريبو (ص170) عند الكلام على أساليب الكتاب الرمزيين الذين يعمدون إلى الإيحاء في التعبير ويترجمون بالألفاظ عن اضطراباتهم أكثر مما يترجمون عن تمثلاتهم: (الأسلوب الأول أن تُستعمل الألفاظ الجارية مع تبديل مدلولاتها المتعارفة، أو أن يؤلف بينها بحيث تفقد معانيها المحددة، وأما الأسلوب الثاني فاستعمال ألفاظ جديدة أو ألفاظ مهجورة، وأما الأسلوب الثالث - وهو الأقطع هنا - فإن تجعل للألفاظ قيمة اضطرابية فحسب).
فأنت ترى أن السيد متولي أستشهد بجزء من كلام (ريبو) ليؤيد نظره المغرض، وإلا فكيف يبرر وقوفه عند الشطر الأول من الأسلوب الأول لكتاب الرمزيين، ثم تركه الشطر الثاني(385/29)
من هذا الأسلوب، ثم الأسلوبيين الآخرين؟!
سبب هذا الترك المتعمد، ثم هذه الترجمة البتراء، أنه جاء في توطئة (مفرق الطريق) أن مؤلفها يبعد الرمز عن التشبيه والكتابة ومختلف ضروب المجاز - وهو ما قصد إليه (ريبو) في الشطر الأول من الأسلوب الأول - وعلى ذلك فقد زين اعتساف النقد المغرض لمتولي أن يسقط من كلام (ريبو) ما لا يصح أن يكون عكازاً له!!
4 - وهناك خلط آخر، والعجب ممنوع مقدماً. . .
وقف القارئ في عرضنا لمذهب (ريبو) على أن ريبو يدخل تحت (المخيلة السيالة) بعض التصورات الدينية وبعض ألوان الفن. ويشرح ريبو كيف تدخل هذه وتلك تحت المخيلة المذكورة. وقد عني بأن يفصل بينهما في السياق، فجاء كلامه على كل منهما قائماً بذاته (أنظر صفحة 166 - 171) ثم إنه ضرب مثلاً على التصورات الدينية المخيلة الهندية التي تعمل عن طريق الرمز فتمثل الآلهة بعدة أرؤس وأذرع وأرجل لتدل على الفطنة والعزة اللتين لا حد لهما.
وهذا الأسلوب في التمثيل والتعبير معروف، وهو الرمز بشيء إلى شيء آخر، وهو أولي فطري، ولا صلة - من حيث الجوهر - بالرمزية في الأدب (والتصوير)، وهي الرمزية التي ضربها ريبو مثلاً على بعض ألوان الفن كما مر بالقارئ. وقد شرح ريبو هذه الرمزية، وبين أغراضها وطرائقها على حسب مظهرها ومخبرها قبل عام 1900، فدل على أنها تقصد إلى الإيحاء فتبسط الإبهام على الأشخاص والأشياء حتى إنها تطلقها من قيود الزمان والمكان، وربما لم يعين الأشخاص بأسماء فيقال: (هو) و (هي). . . (ص169)
ذلك مجمل حديث (ريبو). . . أفيدري القارئ ماذا صنع السيد متولي؟ خلط رمزية المخيلة الهندية - وهي من باب الرمز بشيء حسي إلى معنوي - بالرمزية في الأدب التي تطلب الإيحاء من باب بسط الإبهام!! ودليل ذلك أنه أستشهد بهذه وبتلك، وهو يتكلم على ما يسميه (الرمزية في الفن) عند ريبو فجعل مصدرها واحداً، أي (فن الرمزيين) ليأخذ على صاحب المسرحية أنه الرمزية في توطئته تعدل عن الرمز بشيء إلى شيء آخر، إلى (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده)!!(385/30)
والآن ألا يصح أن نقول لمتولي - وقد أخذ علينا مزهواً متطاوساً أننا لا نحمل شهادة ماجستير - إننا نحمد الله على هذا المكروه الجميل ما دام لم يسلمنا إلى ما هو غير جميل، وأن نهمس في أذنه بأن الألقاب العلمية، مهما كبرت، فإنها لا تخلق الرجل المخلص والأديب الحق، وأن هذه الألقاب إنما تزهي بحاملها، وإلا فهي تيجان من ورق على رؤوس من خشب!!
أعتقد أن هذا تساؤل مشروع، ما دام (الصديق) محمد متولي لم يتعوذ باللًه وبالفن من التكلف لما لا يحسن والعجب بما يحسن، ولم يتعوذ بالأدب من السلاطة والهذر!
زكي طليمات(385/31)
من وراء المنظار
صاحب السلطان
حملني من لا أطيق مخالفته من ذوي قرباي على مصاحبته لزيارة ذلك الذي أنعته بصاحب السلطان، فبلغنا داره وقد متع النهار أول أيام العيد. . .
واستقبلنا صاحب السلطان لدى مدخل حجرته، ونظرت - وهو يمد يده للسلام - إلى وجهه المنتفخ المتورد، فإذا الذي يكون ابتساماً على غير وجهه من الوجوه لم يكن على وجهه إلا شبه ابتسام. وطاف برأسي خيال: ذلك أنه لا يبتسم قط إلا حين يضطره العيد إلى مثل ذلك النوع من الابتسام الذي بدا على وجهه كما يبدو الشيء في غير موضعه وجلسنا فأتممنا حلقة من الزبائن كانوا بين يدي صاحب السلطان قبل مقدمنا، ودرت بعيني أو على الأصح درت بمنظاري في نواحي الحجرة الفسيحة فعجبت لأول وهلة أن رأيت كل شيء حولي تشيع فيه الحمرة، فالبسط حمراء لا أثر فيها لنقش، والأرائك حمراء، والستائر حمراء، ونقوش الجدر حمراء.
واستقرت عيناي على وجه صاحب الدار ونظرت إلى شاربيه الغليظين المرهفين فوق شفته الضخمة وتحت أنفه الذي حرت فيه، والذي لا أزال منه في حيرة أهو الذي زاد الشاربين رهبة أم هما اللذان زاداه غلظاً وفخامة! ولست أدري لم قرنت وأنا أنظر إليه تلك الحمرة التي شاعت حولي في كل شيء بلون الدم وكان الأحرى ونحن في العيد أن أقرنها بلون الورد! ولكن هيهات أن يتعلق خيالي بالورد وأنا أنظر إلى تلك السحنة والأحاديث التي سمعتها عن صاحبها تتواثب إلى ذاكرتي في نشاط عجيب وتتداعى صورة إلى صورة كلما بدت منه حركة أو أرتسم على محياه معنى. . . ولو أن الورد الجني كان في تلك الحجرة ساعتئذ لما رأيت في الورد نفسه إلا لون الدم!
واسند صاحب السلطان ظهره إلى المقعد فظهر بطنه المتكرش أعظم ضخامة، ونزل بذقنه حتى مست صدره فبدت لغاديده أعظم هولاً، وتكلم فإذا صوت كأنه صوت الطبل إذا نقر ينبعث في الحجرة وفيه على نكره صلف، فهو يتضخم مرة في الحنجرة، ويبدو مرة أخرى كأنه ينبعث من الأنف وتسبقه في كل مرة غمغمة يربد معها وجهه ويبدو الشر في عينيه كأنما يتهيأ لما أعتاده في غير ذلك الوقت من سباب وينصت من في الحلقة وكأن أكثرهم(385/32)
من فرط اهتمامهم كأنهم يستمعون إلى من يتلو عليهم حكم الإعدام، اللهم إلا حين كان يشرق وجهه قليلاً إذ يزهي بما يتلو عليهم من غالي الحكم فيبتسمون ابتسامات عريضة، ويتنافسون في عبارات الموافقة والإطراء والإعجاب وإن لم يفقهوا شيئاً من حكمه الغوالي!
وتقاطر المزارعون والفلاحون للسلام على (البك) فكان يخلع الرجل منهم نعليه عند عتبة الحجرة ويسير حافياً على البساط الأحمر كأنما يخطو على نطع ليضرب عنقه: ففي وجهه من معاني الفزع ما لم يخفف منه إلا تذكره أن اليوم يوم عيد، فإذا بلغ إلى حيث يتكئ البك، ومد إليه البك أطراف أصابعه تناولها وانكب عليها فلثمها ورجع خطوتين دون أن يدير ظهره، ومشي إلى الباب فلبس حذاءه وكأنه ألقي عن كاهله عبئاً أي عبء.
وكان البك ينظر إلى كثيرين منهم نظرات ذات معنى فكأنما يذكر هذا بما بقي عليه من الإيجار، وكأنما يتوعد هذا حتى ينتهي العيد، وكأنما يستنجز غيره ما وعد، وكأنما يقول بعينيه لآخر إنه لولا العيد لما سمح له بالدخول عليه؛ إلى غير ذلك من المعاني التي كانت توحيها إلى نظرات هذا المتجبر المتكبر.
وازدادت الحلقة واتسعت إذ أنظم إليها من يجرءون على مجالسة البك أو من يستطيعون ذلك في العيد على الأقل؛ وكان يسلم على كل قادم ما له من مكانة ولو في عرف الناس، فهو مقتنع بما تنطوي عليه تحياته من معاني الشرف، ولذلك فهو ضنين بها عن الابتذال فلا يجود منها حتى في العيد إلا بمقدار
وأدار صاحب السلطان الحديث إلى الحرب، كأنه وقد رأى في زائريه بعض المطربشين يريد أن يبرهن للجميع على أنه وإن كان من غير أبناء المدارس إلا أنه يعلم من أمور الدنيا ما يغيب أكثره عن الكاتبين القارئين.
وبدأ بألمانيا وأنطلق يتحدث وأنا أعاني في كتمان الضحك ما أعاني وأتمنى أن يجود البك بنكتة من سخيف نكاته لأفرغ في جلبة الحلقة ما بنفسي من ضحك مكتوم كم خشيت أن ينطلق على رغمي فأكون موضع استنكار الجالسين
ومالي حيله في أن أصور للقارئ كلامه وحسبك مما أذكره أنه كان يتحدث عن (هتلر) كما يسميه كما لو كان يتحدث عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة وعنتر بن شداد وإضرابهم من المغاوير(385/33)
ويحرص إليك أشد الحرص ويتوخى الدقة إذا تحدث عن أقطار الأرض وإن كانت سويسرا وسوريا عنده شيئاً واحداً وأن كانت كندا لتتاخم الهند، وإن كانت دوله البلقان لمن أعظم دول الأرض، وإن كانت استراليا لتقع جهة السودان، وإن كان جبل طارق لذات ثروة عظيمة وبخاصة في القمح والقطن، وذات خطر يحسب له ألف حساب، إلى غير ذلك من الأدلة على سعه علمه بجغرافية هذا الكوكب
ولن يقل علمه بالتاريخ عن علمه بالجغرافيه، يتجلى ذلك في سبب تفضيله هتلر على نابليون، فنابليون كان يحارب منذ أكثر من خمسمائة سنه فكانت أمامه أمم ضعيفة، أما (هتلر) فإنه يحارب إنجلترا التي ملكت العالم وسادت البحار
ويحاول إلبك أن يتكلم العربية كما يفعل المتعلمون، فيأتي بضروب من القافات لم يسبقه فيها سابق ولن يلحقه لاحق إن شاء الله. فالقسطول الإنجليزي قسطول هائل، وقيران دولة صديقة لنا. . . إلى غيرها مما أخشى إن ذكرته أن يحمل على المبالغة
وينتقل صاحب السلطان إلى المباهاة بجاهه فيما يذهب فيه من ضروب الحديث؛ فيصف كيف يقف له سعادة المدير إذا دخل عليه؛ ويذكر من شملهم بعطفه فعينهم في وظائف مشيراً إلى أنه إنما فعل ذلك لا يقصد غير البر والإحسان؛ ويفخر بمن يزور داره من الحكام ومن وجوده البلاد. ويقص الأقاصيص عن خوف رجال الشرطة منه، وآخر ما حدث له معهم أنهم ما كادوا يعلمون أن الحمير (المسلوخة) التي قبضوا عليها منذ يومين ملك له حتى أطلقوا سراحها معتذرين!! وأنهم عاجزون عن أن يقبضوا على رجل من رجال عزبته إلا بأمره؛ وبدهي أنهم متى عجزوا عن الحمير كانوا عن الرجال أعجز
وتكلم عن الفلاحين، وناهيك بحديثه عن الفلاحين، فله في ذلك من جوامع الكلم ومن أصول الاجتماع ما يعجب ويطرب؛ خذ مثالاً لذلك قوله: (اضرب الفلاح على رأسه تأكل خيره)؛ وقوله: (الفلاح جنس ما يستهلش النعمة)، و (الفلاح يخاف ولا يختشي). ولقد كان يذكر هذه العبارات في لهجة الخبير الواثق الذي لا يقبل فيها جدلاً؛ وهل كان في الجالسين من يجرؤ على جداله؟!
وتداعت الصور في ذهني وهو يتحدث عن الفلاحين، فتذكرت منظره وهو بين المزارع تركض به دابته وخلفه فلاح يجري والعرق يقطر من جبينه وأنه ليلهث كما يلهث الكلب.(385/34)
وتذكرت أني رأيته يركل رجلاً توسل إليه أن يترك له بضعة قروش بقية إيجار لضيق ذات يده، ركلة قلبته على ظهره. وتذكرت أنه أمر بجماعة من الفلاحين فطاف بهم أعوانه القرية عراة بعد أن ألقيت ملابسهم في النار لأنهم اعترضوا سيارة قريب له على غير علم كانت قد دهمت جاموسة لأحدهم. وتذكرت أنه ما من فلاح يستطيع أن يحجز الماء ليصرفه إلى حقله حتى تروي أرض البك كلها وإن تركت أرضه هو قاحلة جرداء
وحمل البك حملة قاسية على ما يسمونه الحرية ورد إليها أسباب جميع الجرائم ولعن العصر وسخافاته وترحم على الأيام الماضية أيام لم يكن يسمع أحد بحرية وانتخاب (ولا كلام فارغ زي ده) ونسي أنه كان نائباً مرتين!
وانصرفنا من لدنه وأنا أقول في نفسي إذا كان مثل هذا يتصدى للنيابة عن أولئك الفلاحين، وإذا كان يفكر هذا التفكير في العصر، فياضيعة العلم ويا خيبة الآمال.
الخفيف
فيض الخاطر
قرأ الأستاذ أحمد الزين كتاب (فيض الخاطر) للأستاذ أحمد
أمين فأعجب به وحياه بهذه الآبيات:
قد سحرت النهى بسحر مبين ... فاتق الله يا يراع (أمين)
وسلبت القراء أفضل ما أو ... دعه الله في سليل الطين
وعجيبُ لسارق حَدُه الشر ... عيَ فينا تقبيل تلك اليمين
جنة في يراعك الخصب تُؤتي ... أُكلها طيب الجني كل حين
قلم لم يقده في الطرس إلا ... رفع شك أو اجتلاب يقين
ما جرى مرة بغل ولا تبصر ... يوماً بحده من طعين
ويميناً لو أنهم أنصفوه ... كتبوا فيضه بماء العيون
-(385/35)
الملق. . .
للأستاذ الشاعر الرواية أحمد الزين
يا لِسَانَ الْحَقَّ لاَ تَنْطَلِقِِ ... فازَ بالحُظْوَةِ أَهْلُ المَلَق
عَلِّموناَ يا أُولِي الحُظوَةِ مَا ... قَدْ عَلِمْتُمْ مِنْ طِلاَء الْخُلُق
وامْنَحُوناَ ذَلِكَ الصَّبْغَ الّذِي ... يُظْهِرُ الْحُسْنَ وَيُخْفِي مَا بَقي
أَوْ فدُلُونا على صُنَّاعِهِ ... نَجْتَلِبْهُ بِبَقاياَ الرَّمَق
أَيُّ صِبغٍ ذَاكَ مَا أَعجَبَهْ ... صَادِقُ الْغِشِّ وَإٍنْ لَمْ يَصْدُق
ألْبَسَ الشَّمْسَ ظَلاَماً دَامِساً ... وَكَسَا الظُّلْمَةَ شَمْسَ المَشْرق
عَلَّمُونَا نَصِفُ الَمرَْء بِمَا ... لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُنَافِقْ يَنْفُق
يَمْنَحُ الْفِطْنَةَ أَغْبَى خَلْقِهِ ... وَالذّكَاَء المحضَ رَأْسَ الأَحْمَق
إِنْ سَمِعْنَا نَاهِقاً قُلْنَا لَهُ ... إِيهِ يا مَعْبَدُ بالصَّبِّ أرْفُق
لا تَقُلْ أَفْنَيْتُ عْمرِي دَائِباً ... وَبَذَلْتُ الْجُهْدَ جُهْدَ المُرْهَق
لَيْسَ لِلدَّائِبِ حَظٌ بَيْنَهُمْ ... لاَ وَلاَ الْجُهْدَ سَبيلُ المُرْتَقي
تَزِنُ الْعُمْرَ وَعُمْرَاً مِثْلَهُ ... لْحظَةُ تَبْذُلُها في المَلقَ
فاسْتَبْقِهَا فُرْصَةً إِنْ سَنَحَتْ ... إنما الفُرْصَةُ لِلْمُسْتَبق
لا تَقُلْ سُهْدِي وَجُهْدِي عُدَّتي ... إنما الْجُهْد عَتاد الأَخْرَق
إِيهِ يا عِلْمِيَ عُدْ جَهْلاً عَسَى ... يَنْهَضُ الجَهْلُ بِحَظٍّ مُوثَق
يا ذَكَائِي عُدْ غَبَاءً أَسْتَرِحْ ... بِغَبائِي مِنْ شَقَاءٍ مُطْبِق
كَمْ كِفَايَاتٍ نَفَاهَا قَوْمُهَا ... وَجُهُودٍ أُلْقِيَتْ في الطُّرُق
وُضِعَتْ في مَوْطِئ النَّعلِ وَلَوْ ... أَنصَفُوهَا وُضِعَتْ في الْحَدَق
فَأْتِ عَليَائَهُمُ مِنْ بَابِهَا ... لا تُضِعْ عُمْرَكَ بَيْنَ الوَرَق
لمْ أَكُنْ في نَعْتِهِمْ مخْتَلِقاً ... لَعْنَةُ اللهِ عَلَى المُخْتَلِق
عَلمُونَا إنَّنَا في بَلَدٍ ... فِيهِ مَنْ لمْ يَتَمَلَّقْ يُمْلِق
أَوْدَعُونَا فَلَكُمْ دُنْيَا الْغِنَي ... إِنما نَحْيَا بدُنْيَا الْخُلُق!
أحمد الزين(385/36)
الحب. . . .
للأستاذ فؤاد بليبل
الْحُب أَسْعَدَني وَالحُبُّ أَشْقَاني ... أَبْكى وَأَضَحْكُ مِنْهُ اليَوْمَ في آنِ
وَيْلِي عَلَيْهِ وَوَيْلِيِ مِنْهُ مِنْ أَلَمٍ ... عَذبٍ وَآسٍٍ شَفَي نَفْسي فأَضناني
طغَى عَلَى القَلبِ عرْبيداً فَقُلْتُ لَهُ ... يَا حُب رِفْقاً بهذا الْخَافِقِ المْعاني
فِيكَ الشِّفَاءُ ومِنْكَ الدَّاءُ أَجْمَعُهُ ... كَفَاكَ أَنْكَ أَنْتَ الهادِمُ الْباني
حَتَّامَ تُخمِدُ من وَجْدي وَتُشْعِلُهُ ... وِتْلْتَقي فيك أَفرَاحي بأحْزَاني
يَا مَنهلاً ظلَّ يَرْويني وَيُعْطِشُني ... رحماكَ رِفقاً بِراوٍ مِنْكَ عَطْشان
قالوا هُوَ البُعْدُ قَدْ يُنْسِيكَ لوْعَتَهُ ... وَكُلَّمَا زَادَ بُعْدي زادَ تَحْنَاني
أَبْغي السُّلُوَّ ولا أَبْغيهِ وا أسفا ... قلبٌ تنازعَهُ في الحبِّ ضِدَّانِ
وللصَّبابةِ أحكامُ رَضيتَ بها ... ما كانَ أسعدني فيها وأشقاني
أُحِبُّ لِلحُبِّ لا أبْغي به غَرضاً ... لو كانَ يَرْحَمُ أَحْشائي وأجْفاني
أنا الوَفِيُّ وَعَهْدِي لا يُغَيِّرُهُ ... بُعْدُ المَزَارِ وَعَذلُ العاذِلِ الشاني
فإِنْ أَرَدْتِ دَليلاً فاسْألي أرَقى ... سُهْدِي دَليلي ودَمعي خيْرُ برهان
يا من أُحِبُّ وأَخشى أن أُسَمِّيها ... لا يُثنِّيني عنكِ اليومَ من ثان
فلا تقولي فتىً لُبْنَانُ مَوْطِنُهُُ ... هَلِ الْكِنَانَةُ كانَتْ غيرَ لُبنان
إنْ يَنْبُ بي وَطَنٌ نفسي الفِداءُ لهُ ... لم يَنْبُ بي في رُباها مَوْطِنٌ ثان
يا جارَةَ النِّيلِ ما أهْلوكِ لوْ عَلِمُوا ... إلا رِفاقي وَإخواني وأعواني
يَمَّمْتُهُمْ فإِذا بي منهم وإذا ... بالرَّبع رَبْعي وبالأوطان أوطاني
أنا الغريبُ بآرائي وَرَوْعَتِها ... وَصِدقِ قَوْلي وأشعاري وألحاني
أنَا الغَريبُ بُروحي بَيْنَ منْ جَعَلوا ... لِلْحبِّ مَعْنىً وَضيعاً غيرَ رُوحاني
أنا الغريبُ غريبُ الدار في وَطني ... ما بَيْنَ أَهْلي وأحْبابي وأخداني
يا مُنْيَةَ الرُّوحِ حَسْبي في هَوَاكَ ضَنيً ... رُدِّي عَلَى الْجَفنِ صَوْبَ المَدْمَعِ القاني
رُدِّي عَلَىَّ شبابي وارْحَمِي كَبداً ... غَادَرْتِها نَهْبَ آلامٍ وَأَشْجَان
صِلِي مُعَنَّاكِ لا تَخشَىْ عَوَاذِلَهُ ... قَوْلُ الْعَوَاذِلِ مَوْسُومُ بِبُهْتَان(385/38)
لا تَحْرِمِينِيهِ عَطْفاً عَزَّ مَطْلَبُهُ ... كَفَى بنَفْسي شَقَاَء طُولُ حِرماني
أَنْ يُنكِرِ الأَهْلُ وَالْخلاَّنُ مَوْقِفناً ... لا الأَهْلُ أهلي ولا الْخلاَّنُ خلاَّني
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل(385/39)
رسالة الفن
بعد دنانير
عودي فاصحي يا أم كلثوم
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أم كلثوم. عبد الله أباظة. عبد الحليم محمود. زكريا أحمد. محمد القصبجي. رياض السنباطي. أحمد رامي. أحمد بدر خان. عباس فارس. سليمان نجيب. . .
هؤلاء جميعاً ومعهم غيرهم تعاونوا في إخراج (دنانير). وهؤلاء وغيرهم الذين معهم، جميعاً، من جبابرة الفن في مصر، سواء منهم الذين يغذون الفن بالمال، وسواء منهم الذين يغذون الفن بالفكر والجهد، وسواء منهم الذين يغذونه بالشعور والحس
ومع يقيني بهذا، واعترافي به، فإني أريد أن أقول إن فلم (دنانير) الذي تعاون فيه هؤلاء كلهم ومعهم وغيرهم. . . فلم فاشل ميت! فكم من القراء يا ترى سيصدق قولي هذا ويعترف لي بالحق فيه؟ وكم منهم سيقول: (أسكت المفتون عن عبد الوهاب فاندار على أم كلثوم!).
فليقل من يريد ما يشاء أن يقول، فأنا مرتاح إلى حكمي هذا، كما أني أضمن مع صوتي فيه صوتين أثنين على الأقل، هما الصوتان الصارخان في انكتام، المنبعثان من صدري عبد الله أباظة بك والأستاذ عبد الحليم محمود المنفقين على الفلم والمغذيانه بالمال. فقد كانا من غير شك يؤملان في ربح كبير يدره عليهما هذا الفلم ليبعث في نفسيهما بعده التشجع على إخراج غيره وغيره تحقيقاً لما ينزعان إليه من النهوض (بصناعة السينما) على اعتبار أنها صناعة مصرية ناشئة، وعلى رجاء فيها لو نمت وترعرعت وازدهرت أن تنمو معها الفنون الجميلة جميعاً في مصر وأن تترعرع وأن تزدهر، فالسينما هي المعرض الحي الباقي المتنقل الحفيظ على إنتاج الروح من أدب، وتمثيل، وموسيقى، وغناء، وتصوير، وزخرفة، وهندسة، وتزيين، ورقص، وإخراج وغير ذلك. . . وكلما راج هذا المعرض راجت بضائعه، وكلما راجت بضائعه أنتعش تجارها من أصحاب الفنون المختلفة، وكلما أنتعش هؤلاء سرى الانتعاش من أرواحهم إلى أرواح جماهيرهم، وكلما شعرت أرواح(385/40)
الجماهير بفرحة الفن ونشوته انتفضت أعصابها وارتعشت فيها الحياة، وعندئذ يرجى من هذه الجماهير الخير وعندئذ تراها الدنيا وهي شعوب مقبلة على حياة العمل والحركة والتوثب والسمو
وعندنا المثل على هذا. . . أمريكا فابرز ما في صناعاتها السينما، وأبرز ما في أخلاقها النشاط الذي يكاد يكون جنوناً
. . . هذه من غير شك آمال كانت تخفق بها نفس عبد الله أباظة بك ونفس الأستاذ عبد الحليم محمود، ونزوعاً إلى تحقيقها أنفقنا ما أنفقنا في إخراج هذا الفلم، والذي أنفقناه لابد أن يكون مبلغاً ضخماً جداً من المال، فمناظر الفلم وأثاثه ورياشه وملابسه كلها مما يقصم الظهر إعداده وتجهيزه، وأجر المؤلف وأجر المخرج وأجور الممثلين وإن كانت تقل بكثير عن أمثالها مما يدفع لزملائهم في الخارج فهي من غير شك كانت في مجموعها مبلغاً لا يستهان به، وأجور الملحنين هي وحدها لا أستطيع أن أقول إنها كانت شيئاً مذكوراً فهؤلاء وحدهم هم المظلومون الذين يعطون مادة الغناء للأفلام الغنائية التي ترتكز على الغناء أول ما ترتكز
ضحت شركة أفلام الشرق ما ضحت في سبيل دنانير، وجمعت لأم كلثوم كل القوى التي حسبتها كفيلة بإبلاغ الفلم إلى درجة الكمال التي تتوق إليها، فإلى أي حد أدت كل قوة من هذه القوى واجبها، وحملت أمانة القسط المعهود إليها به؟
وقبل أن أقول كلمتي الهزيلة في هذه القوى وفي أم كلثوم من فوقها يجب أن أذكر لشركة أفلام الشرق تضحية أخرى غير التضحية المالية، بذلتها راضية عن حب وكرامة لتوفر لأم كلثوم كل أسباب الراحة والاطمئنان في العمل، تلك التضحية هي أنها أخضعت إرادتها لإرادة أم كلثوم في اختيار هذه القوى التي ساندتها وعاونتها، اللهم إلا واحداً فقط تشبث به عبد الله اباظة بك وهو زكريا أحمد فقد كان على خلاف مع أم كلثوم، واباظة بك هو الذي ذلل هذا الخلاف وأزاله. . .
أم كلثوم أولاً
والآن. . . ما الذي حدث لآم كلثوم حتى أنها استحالت في نظري من فنانة تشبع النفس إشباعاً مريحاً إلى هذه الجديدة التي حين سيطرت على عمل فني كبير مثل (دنانير) خرج(385/41)
من تحت يدها وهو فاشل ميت مع وفرة المال الذي بذل فيه وطواعية المعاونين الذين عاونوها فيه. . .؟
لابد أن يكون قد حدث لأم كلثوم شيء وأصاب نفسها وقعد على روحها؟ فما هذا الذي حدث؟ وما هي دلائله؟!
الكاميرا صاحبة العين النافذة تقول لنا ما الذي حدث!
قالت لنا الكاميرا إن أم كلثوم اغترت، وإن إحساسها ركد، وإن بدنها طغى على روحها، وإنها استمرت التكلف والتصنع حتى نضبت سجيتها وجفت عواطفها؛ فانحرمت من الفرح تبعاً للذي أرادته من الامتناع على الألم. وقد قالت لنا الكاميرا أيضاً إن أم كلثوم - لها الله - قد تحجرت.
أما غرور أم كلثوم فشيء رأيته شائعاً في الفلم ولكني لم أستطيع أن أطبق على عنقه متلبساً بحادثة، لأجره وأقفه أمام الأنظار وهو عريان. فللذين يريدون أن يروه أقول إن عليهم أن يشاهدوا الفلم ليتحسسوه فقد يلمسونه.
وأما ركود الحس فقد قبضت عليه متلبساً بحادثة، وقد ظهر على أم كلثوم في موقفها مع الخليفة حين كانت تستعطفه على جعفر فما بدا في هذا الاستعطاف إحساس بجعفر ولا بها ولا بالخليفة.
وإنما الذي بدا منها في هذا الموقف اهتزازات وغمزات بالكتفين وهمزات في الصوت لا يمكن أن تصدر من موجع يستعطف لمنكوب؛ وإنما هي قد تصدر من جارية تغري مولاها إذا هجرها وأما طغيان البدن فظاهر في هذا الموقف أيضاً لأنه مصاحب لركود الحس؛ فكل من ركد حسه طغى عليه بدنه، وهو ظاهر كذلك في مواقف أم كلثوم الغنائية جميعها. فقد كانت تغني وتحرص على أن تضم شفتيها وتصغر فمها فلا تفتحه مهما تطلب الغناء أن تفتحه، كأنما كانت تخشى أن يرى الناس فمها واسعاً وكأنما كانت تخشى أن يرى الناس شفتيها غليظتين؛ مع أن أهل الفراسة يقولون إن الفم الواسع والشفاه الغليظة من لوازم الغناء، لأنهما عضوان من الأعضاء التي يتكون منها جهازه البدني
ولأن أم كلثوم قد فعلت فعلتها هذه، فقد كانت الألحان تخرج من بين شفتيها مخنوقة مصفاة الدم مجهدة الروح، ولو كنت أنا زكريا أحمد لطالبت أم كلثوم بتعويض كبير، لأنها خنقت(385/42)
لي لحن (بكره السفر) - على الأقل - فهو لحن كان من حقه أن يذيع في مصر من أقصاها إلى أقصاها اليوم لو أن أم كلثوم أرسلته حياً نابضاً كما أعطى لها. . .
وليس (بكره السفر) وحده هو اللحن الذي قتلته أم كلثوم، وإنما هي سامحها الله قد قتلت ألحان الفلم جميعاً، فبعضها مات موتاً، وبعضها أغمى عليه، وبعضها أصيب برضوض وعاهات
أما التكلف والتصنع فقد سجلته الكاميرا على أم كلثوم في هذا الذي رأيته، كما سجلته مع هذا في كل موقف من مواقف الفيلم تبسمت أم كلثوم فيه. . . فابتساماتها لم تكن إلا هذه الابتسامة الجامدة التي عرفت بها السيدة بديعة مصابني.
لقد كانت هذه الفتاة من عامين فقط حقيقة كالحلم الذي يطوف بروح القديس، فأصبحت اليوم حلماً كالحقيقة التي لا تطوف بروح القديس. . .
أختاه. . . لا تقولي ما لهذا الولد يتصدى لنفسي؟ فإني لا أعرف سبيلاً إلى نقد الفن إلا نقد النفس، لأني لا أعرف الفن إلا على أنه ثمرة النفس، ولست أعرف هذا من كتاب قرأته، ولا من (هبسلنتي) ولا من (شرونتسكي)، وإنما عرفته منك ومن غيرك ممن أتلقى غذاء روحي عنهم.
فأفهميني، واسمعي كلامي، وعودي واصحي. . .
وإلى اللقاء. . . إذا شئت.
المؤلف
هو الأستاذ أحمد رامي. . . والأستاذ أحمد رامي لا يؤلف شيئاً في هذه الأيام إلا إذا طلب منه هذا الشيء.
وأظنه لا يستطيع أن يقول إنه يدخر في نفسه أفكاراً وأحاسيس يرسلها حين يطلب منه ويؤلف، وهو لو قال ذلك لما صدقه أحد، لأن فلم دنانير لا يزال معروضاً على الناس وقصته هاهي ذي أمامنا حوادث هادئة متتابعة ومناقشات متتالية ليس فيها مفاجأة واحدة تصدم الفكر العادي مما يمكن أن يقال إنها من مذخرات كاتب فنان. . .
وقد نبلع للأستاذ رامي هذا كله إزاء أبيات قليلة من الشعر أفلتت منه حية إلى حد ما، كما أننا قد نقبل هذا كله لأن الناس اتفقوا فيما بينهم يأساً وقنوطاً على أن هذه الأفلام الغنائية لا(385/43)
يرجى فيها الموضوع ولا يقصد فيها إلى الاستمتاع بالأدب. . . ومع أني لا أحب أن أخذ بهذا فإني آخذ به إرضاء للأستاذ رامي.
الإخراج
إذا كان الإخراج هو التنسيق والتزيين والترتيب فإن الأستاذ أحمد بدر خان قد وفق في دنانير إلى إدراك هذا كله.
أما إذا كان الإخراج هو نفخ الروح في التمثيل والممثلين، فإن الأستاذ أحمد بدر خان لم يوفق إلى شيء منه، وكان طبيعياً ألا يوفق الأستاذ إلى شيء منه لأنه إنما اختير لإخراج هذا الفلم اعتماداً على أنه رجل هادئ الطبع يرضي من يعمل معهم قبل أن يرضي نفسه. وعلى هذا الأساس نستطيع أن نعتبر كل ممثل في هذا الفلم مسئولاً عن نفسه وعن تمثيله.
التمثيل
عباس فارس. . . قلت إنه يجود، وقد جود دور الخليفة وإن كان أستهله استهلالاً بدا إنجليزياً في المشية والجلسة ولإشارات والحركات، وقد ساعدته على هذا الموسيقى التي وضعها الأستاذ الشجاعي لهذا الاستهلال، فقد كانت هي أيضاً موسيقى إفرنجية بحتة لو أغمض الإنسان عينيه وأستمع إليها لذكر فرانسوا الأول، أو فردريك الأكبر، أو شارلمان، أو ملك من الملوك إلا هرون الرشيد العربي. . .
سليمان نجيب. . . قد يؤلمه أن أقول إني أراه في التمثيل كما أرى إخواننا من طلبة الجامعة أعضاء فرقها التمثيلية. ولكن هذا رأيي، ولم يكن لرأيي في يوم من الأيام قيمة تؤثر على مكانة إنسان ما. . .
عمر وصفي. . . كان عظيماً في دوره القصير. دور أبي دنانير
فؤاد شفيق. . . كان مكتوفاً في دور أبي نواس. أراد أن يمثل شيئاً ولكن المؤلف أقعده.
التلحين
(بكرة السفر) هو غرة الألحان في هذا الفلم. فهو لحن حي راقص منساب سلس مطرب ثم إنه قبل هذا وذاك لحن شرقي. وهو من ألحان زكريا.
(قولي لطيفك ينثني) غنته أم كلثوم ثلاث مرات بثلاث تلاحين، وهذا تحد فني لا يجرؤ(385/44)
عليه إلا زكريا أحمد.
(لحن العيد) من ألحان السنباطي الحلوة لولا أنه بعيد عن روح عصر الرشيد. (لحن النبع) من ألحان القصبجي التي أعتاد أن يملأها هندسة وتفكيراً يستعيض بهما عن العاطفة التي اختطفت منه. . .
إني أعتذر
وأخيرا. . . لابد لي من أن أعتذر عن هذا النقد القاسي، فأنا أعلم أن الذي يقرأه من غير أن يشاهد الفلم، ويكون ممن يصدقونني، سيحكم على الفلم - بحكمي. . .
ولذلك أبادر فأقول: إن فلم دنانير لا يزال في طليعة أفلام الدرجة الأولى التي أخرجت في مصر، وإنه يستحق أن يشاهد مرتين وثلاثاً وأربعاً. . . وإن الذي يشاهده لا ريب سيخرج منه بمتعة ومتعة ومتعة. ولكنني إذ أقف أمامه هذه الوقفة المنكرة أرجو أن يصادف كلامي آذاناً مصغية، وقلوباً واعية، فإذا تحقق هذا انتفت من أعمالنا الفنية هذه العيوب التي أعيبها وأحب الخلاص منها.
وقد كنت أستطيع أن آمالي هذا الفلم بكلام يرضى أصحابه ولكنني أعلم انهم في غير حاجة إلى الممالقة، فهم ليسوا صغاراً، وليسوا ضعافاً، وليسوا فقراء إلى مثلي. . . بل ربما كنت أنا الفقير إليهم، أغناني الله عنهم. . .
وعلى هذا فإني أهدي إليهم تهنئتي القلبية الصادقة، كما أؤكد لهم أن (الرسالة) ليست مسئولة معي عن هذه القسوة، وكما أعيد عليهم قولا قالته (الرسالة) يوماً نقدت فيه (جندول) الأستاذ عبد الوهاب، وهو أنه في أغلب الظن ليس كثير من النقاد ينضم إلي في رأيي. . .
عزيز أحمد فهمي(385/45)
البريد الأدبي
أغلاط نحوية وصرفية
قرأت في (الرسالة) كلمة للأستاذ محمد عبد الغني حسن عن استهانة الجمهور بقواعد اللغة العربية، وقد ضرب الأمثال بما يقع من الأغلاط النحوية والصرفية في الإعلانات، وتلطف فقدم إلي تلك الأمثال (هدية متواضعة) لأطبْ لها ونظائرها في المدارس الأجنبية، كأن إنشاء الإعلانات بالعربية مقصور على المتخرجين في تلك المدارس!
وأجيب بأن الأستاذ قد أشتط في تصور لغة الإعلانات، فمن القبيح حقاً أن ينصب جمع المذكر السالم وملاحقاته بالواو فيقال (ثلاثون) في مكان (ثلاثين) كالذي وقع في الإعلان الذي نص عليه، لكن من الواجب أن نتسامح حين نرى الإعلان يقول:
(نظراً لكونه صنف جيد)
فنصبُ كلمة (صنف) في خبر الكون من الدقائق النحوية، وهي لا تُطلب من موظف صغير في مخزن بنزيون أو مخزن سمعان، وكيف وهي من الألغاز عند طلبة الأزهر الشريف؟
ولو أن الأستاذ تأمل لعرف أن الموظف الذي نصب ثلاثين بالواو لم يقصد إلا الإفصاح، فهو يسمع الناس جميعاً يقولون ثلاثين، ومن هنا صح عنده أنها لا تكون منحاة إلا إن كانت (ثلاثون) لأنه يتوهم أن العامي هو الذي يسير على ألسنة الناس!
ومثل ذلك ما وقع في الإعلان عن رواية سينمائية أسمها:
(الرجل ذو الوجهان)
وما رسمها الخطاط كذلك إلا لتوهمه أن (الوجهين) عامية لأن الجمهور لا ينطقها في لغة التخاطب إلا بهذه الصورة في جميع الأحوال.
والحق أننا نسرف في محاسبة الناس على الأغلاط النحوية والصرفية، ولو أنصفنا لعرفنا أن التمكن من النحو والصرف لا يتيسر لجميع الناس. وإلى هذا الصديق أسوق العبرة الآتية:
كان من عادتي حين يتحدث رجل مسئول في الإذاعة اللاسلكية أن استمع وبيدي قلم وأمامي قرطاس لأسجل ما يقع في الحديث المذاع من الأغلاط النحوية والصرفية، ثم(385/46)
أطلب المتحدث بالتليفون فأنبهه إلى تلك الأغلاط برفق، إن كان من الأصدقاء أو أشير إليها في مقالاتي إن كان (أيضاً) من (الأصدقاء).
ثم اتفق أن أذاع الأستاذ الدمرداش مراقب الامتحانات بوزارة المعارف حديثاً عن رحلة في (وادي دجلة) شرقي المقطم فاستمعت وبيدي قلم وأمامي قرطاس، وما زلت أعد الأغلاط النحوية والصرفية حتى مللت، مع أني أصبر الرجال على المكاره وأقدرهم على تحمل الأرزاء.
فكيف كانت حالي بعد ذلك؟
هل تراني نفضت يدي من الثقة بكفاية الأستاذ الدمرداش مراقب الامتحانات بوزارة المعارف؟
وكيف وهو رجل فاضل بشهادة الجميع؟
لم يتغير رأيي في الأستاذ الدمرداش من حيث أنه موظف كبير يؤدي واجبه بنشاط ملحوظ، وإنما اكتفيت بإضافته إلى من تصعب عليهم مراعاة قواعد اللغة العربية في الخطابة والحديث وهل أدعى الأستاذ الدمرداش أنه من أقطاب الأدب العربي حتى نحاسبه على الخطأ في النحو والصرف؟
يكفي أن يستطيع مثل هذا الرجل الفاضل أن يؤدي أغراضه بعبارة واضحة جلية، وإن خلت من الدقة في التعبير، لأن الدقة في التعبير لا تطلب ولا تنتظر إلا من أعيان البيان، ومن كان في مثل عقله لا يدعي ما لا يطيق.
قد يقال إن من حق التلامذة أن يطلبوا التغاضي عما يقع في أجوبتهم من أغلاط يقع في مثلها مراقب الامتحانات بوزارة المعارف.
وأجيب بأن هذا اعتراض مردود، فالأستاذ الدمرداش بعُد عهده بقواعد النحو والصرف، ولا يُطلب فيمن كان في مثل حاله غير الوصول إلى الغرض بأسلوب مفهوم وإن كان غير دقيق.
ولم يكن الأستاذ الدمرداش أول من حار بين الخطأ والصواب، وإنما اتخذت الشاهد مما وقع في حديثه الجميل، لأنه رجل تهمه الدقة في كثير من الشؤون، ولأنه بحكم وظيفته العالية يسره - أو لا يؤذيه - أن يكون النقد صدقاً في صدق(385/47)
أما بعد فهل يكون اعتذاري عن الأستاذ الدمرداش إيذاناً باني أبيح حرية الخطأ في النحو والصرف؟ هيهات هيهات، فلن يكون جميع المخطئين في منزلة هذا الرجل المفضال!
زكي مبارك
الانتحار
سيدي الأستاذ الجليل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء:
يبالغ بعض الكتاب مبالغة غير معقولة في التنويه بما بين الانتحار وبين المشاعر السامية من صلات، حتى لقد قال أحد الشعراء العصريين:
وحدثت نفسه عيسى بقتلهما ... وكاد أحمد يقضي غير مذكور
وفي أعداد الصحف الأخيرة رسائل لكثيرين من الأدباء ينظرون فيها إلى الانتحار كأنه بعض فضائل المنتحر، وذلك بمناسبة انتحار أدبيين من أدباء الإسكندرية شملتهما رحمة الله.
ولقد نشرت كبرى الصحف اليومية أن أحدهما لم يمت منتحراً بل كان يجرب مسدسه فانطلق. والقول منسوب إلى رجال من أسرته في الذروة العليا من المجتمع المصري الكريم.
وسواء أكان ذلك أم كان غيره فإن الفاضل فاضل والنابه نابه بسبب أعماله وأقواله الطيبة لا بسبب انتحاره، والانتحار إن كان سبباً للإشفاق والرثاء، فما يصلح أن يكون سبباً للإعجاب ولا يجوز اعتباره عذراً عاذراً
ينسب إلى أحد الحكماء قول أظن الحكمة في عكسه. وهذا القول هو أن الناس لا يموتون بل ينتحرون، وهو يعني أن الموت الطبيعي إنما يكون نتيجة لخطأ
وأحسب القول الصحيح أن المنتحرين لا ينتحرون بل يموتون، لأن الانتحار لا يقع إلا والمرء مسلوب الحيوية فاقد التدبير فهو في حكم الميت حين اختار لنفسه الموت
على أن العرف لا يقف عند هذا الحد من تقديره، وبعض القوانين تنظر إليه نظرة أقسى
ومهما تكن النظرة إليه فإن التغاضي عن استنكاره يوشك أن يكون أذى لطائفة يبلغ بها العجز مبلغ التفكير في الانتحار(385/48)
للكاتب في نجواه أن يجامل أفراداً ولكن عليه ألا ينسى أن المقال المنشور موجه إلى سواد القراء لا إلى نفر من الأصدقاء والأهلين، وأن المقال المنشور يجب أن يصف شعور الكاتب نفسه نحو الحياة لا شعور من فارقوا الحياة نحوها
فإلى الذين قرءوا كلمة الأديب عبد العزيز سالم في العدد الأخير من الرسالة بعنوان (الأدب والانتحار) تلك الكلمة التي تعقد العلة بين الأدب وبين الانتحار وتحذر الأدباء من هذا المصير، إليهم أقول:
يا شاكياً عنت الدنيا وقسوتها ... دع لي الشقاء ودع لي فسحة الأجل
وإليهم أقول:
لو مدَّ عمر الكون في عمري ... لرميت هذا العمر بالقصر
وإليهم أقول:
انشق نسائمها فلم يك راحل=عنها لينتشق النسيم عليلا
أسأل الله أن يطيل أعمارهم وعمري وأن يهبنا التدبير للخروج من المآزق من غير هذا الطريق، ولا أسأل الله رد القضاء ولكني أسأله اللطف فيه
عبد اللطيف النشار
إلى الأستاذ النشار
إن العبارة التي تعود العامة أن يعبروا بها حين يريدون وصف السكران بأنه شديد السكر وهي قولهم (سكران طينة) قد وردت أيضاً في كتاب (شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل) لشهاب الدين الخفاجي
قال في الكتاب المذكور ص 126 ما يأتي:
(سكران طينة) تقوله لمن سكر سكراً شديداً كأنه لوقوعه في الطين، ومن ملح المعمار قوله:
وجرةٍ أبرزوها ... والروح فيها كمينة
شممت طينةَ فيها ... فرُحت سكران طينة
وقد قالوا: الطين غالية السكارى. . . الخ.
آنسة(385/49)
سناء محمد
بين الكتاب والقراء
أخذ بعض القراء على الدكتور عبد الوهاب عزام أنه حين روى هذا البيت في مقالة أخلاق القرآن:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
نسبه إلى (أبي الطيب) ويرى أن الصواب أن ينسب إلى (المتنبي)
وأخذ قارئان آخران على صاحب مقال (شعر الزواج) أنه نسب البيتين الآتيين:
تقول التي من بينها خف محملي ... عزيز علينا أن نراك تسير. الخ
إلى (الحسن بن هانئ) والصواب أنهما (لأبي نؤاس)
وتحب (الرسالة) أن تذكر للقراء الأفاضل أن (أبا الطيب) هو (المتنبي). وأن (أبا الحسن بن هانئ) هو (أبو نؤاس).
دار الثقافة بالسودان
جاء في جريدة (المؤتمر) السودانية ما يأتي:
افتتحت أبواب دار الثقافة بالخرطوم ليجتمع بها السوداني والمصري والبريطاني جنباً لجنب يتناظرون ويبحثون في العلوم والفنون والآداب، وينهلون من بحر مكتبة ضافية بالمراجع العلمية في شتى ما وصل إليه الفكر الإنساني من المعارف
وحكومة السودان كانت حريصة كل الحرص لنشر الثقافة العامة عن طريق هذه الدار، وما زال أعضاء هذه الدار يواصلون محاضراتهم - منذ أن أنشئت - في مختلف الشؤون التي تهم الرجل المثقف. والدار فوق ذلك يراد بها أن تكون حلقة اتصال ثلاثي بين إنجلترا ومصر والسودان، أو إن شئت فقل محور ثلاثي ولكن للتعاون الثقافي وخلق التفاهم بين عناصر قد يكون من الخير لها جميعاً أن تتفاهم فكرياً حتى يأتي اليوم الذي تتفاهم فيه على أمور حيوية أخرى، ونحن نأمل أن يكون قريباً إن شاء الله
وكثيراً ما سمعنا همسات وكلمات لا ينقص بعضها الصراحة نشرت في الجرائد اليومية عن هذه الدار وعن الأغراض التي أنشئت من أجلها، ولست أرى معنى للتخوف والتردد(385/50)
في كل أمر جديد إذا اقتنعنا بأننا أفراداً أو جماعة لا يمكن أن يغرر بنا أو نساق سوق البهائم ما دمنا مدفوعين برأي وعقيدة!
لكن هناك مسألة أراها جديرة بالذكر والتعقيب تلك المسألة هي خوف بعض الناس على (ثقافتنا التقليدية) أن تطغى عليها تيارات أخرى غريبة عنا في وسط لا تتكافأ فيه عناصر المحور الثلاثي، ومع احترامي لهذا الرأي فلست أرى وجهاً لهذا التخوف للسبب الآتي:
تقوم دعائم الثقافة السودانية على أسس عربية إسلامية وهذا هو الوضع الطبيعي لبناء الثقافة في قطر كالسودان يدين بالإسلام ويمت إلى العروبة بوشائج الدم والرحم - والإسلام كما يعرف الناس جميعاً هو عقيدة وحضارة معاً ولا يمكن لأي حضارة أخرى مهما بلغ سلطانها واجتمع نفوذها أن تطغى معالم الحضارة الإسلامية - والثقافة في رأينا تمثل جوانب عامة من النواحي العقلية والنفسية وأساليب العيش والتفكير التي تفرضها عادة الحضارة على الناس
ولست أريد هنا أن أتعرض لمن يتوهمون بأن السودانيين والشرقيين عامة يمكن أن يتخذوا الثقافة الغربية ثقافة عالمية تشمل الشرق والغرب وتقرب أوجه النظر بين الشعوب والأجناس المختلفة، ذلك وهم ساد بعض العقول فظنت أنه حقيقة وأنكرت ميراث الناس واختلاف بيئاتهم ونزعات عقولهم ومناط تفكيرهم وما لهذه العوامل من الأثر الفعال في خلق الثقافة العامة وتوجيهها في الطريق الطبيعي الذي تسلكه
إن ثقافة هذا الشعب عربية إسلامية، وهذه الثقافة قد كتب لها البقاء والتغلب لأن من خصائصها أنها تأخذ وتعطي في وقت معاً فهي لا تأبى الأساليب الجديدة والأفكار والمبتكرات والاتجاهات بل تأخذ هذه كلها ثم تصهرها في قوالبها الخاصة وتزيل عنها عوامل الضعف والفساد مما لا يتمشى مع روحها العام ثم تعيدها مرة ثانية وهي حرة خالصة عميمة النفع سليمة الأصل.
لهذا لا خوف على (ثقافتنا التقليدية) من هذا الاختلاط ما دمنا مدفوعين بعقيدة، وهذه العقيدة هي أننا أبناء أمة ناشئة تريد أن تبني مجدها على ميراثها العربي الإسلامي، وأن لا تتخلى عن مثقال ذرة من هذا الميراث الذي يأخذ ويعطي بطريقته الخاصة، والذي غالب الزمن فغلبه، وما زال حياً باقياً وسيظل كذلك ما دامت في الدنيا حياة(385/51)
حول تفسير بيتين
قرأت في الرسالة الغراء أن الأستاذ السعيد جمعة رأى لزاماً عليه أن يتقدم لتفسير هذين البيتين
بذكر الله تزدادُ الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل منه (حالاً) ... فإن الشمس ليس لها غروب
والتفسير الذي تقدم به مقطوع الاتصال بالمعنى المطلوب. والذي أراه أن لرجال التصوف نظرات عكسية تقلب الحقائق المعلومة إلى حقائق أخرى عليا لا يدركها غير أهلها. فالشاعر يشير إلى علمه بعيوب بشريته ومساقط نفسه ويرى أن مقام العزة الإلهية أجل وأعلى وأرفع من أن يتلوث بذكر لسان غير منزه عن فحش القول ويرى أن جرأته على ذكر العظمة القدسية وهو في دائرة عيوبه النفسية ذنب، وهذا المعنى العكسي ينبعث من مقام تنزيه الألوهية عن الحاجة إلى التنزيه
أما الشطر الثاني فليس المراد به ذكر اللسان الذي يترك القلوب مطموسة والبصائر مغلقة. وإنما المراد به وصف (الحال) في أرفع مقامات الشهود حيث يكون الذكر نفسه حجاباً للذاكر عن مذكورة.
وهذا ما يشير إليه في البيت الثاني بأنه راسخ القدم في (الحال) الشهود الرفيع الشأن كما تشهد الشمس عياناً فتستغني بشهود ذاتها عن ذكر أسمها. وهو في مقام شهوده لا يشهد في ذاته غير أنه عين شمس الوجود فشمسه ليس لها غروب. ويشير الأستاذ السعيد جمعه إلى هيام رجال التصوف باللغز والرمز وأنهم يشيرون بمثل قولهم (معبودكم تحت قدمي) و (ما في الجبة غير الله) إلى مذهبهم في الحلول. وما هي حيلتنا مع من يتهمنا بما لا يعلم. فأهل الحقيقة ليس لهم مذهب يسمى (الحلول) لأن (الحلول) يستلزم الظرفية بقولك (حل في كذا) وهذه الظرفية باطلة فلا يشهدون في الوجود غير الله إذ لا غيرية ولا أثنينية، فهو الله الظاهر والباطن إلّه واحد لو كنتم تعلمون.
أحمد فهمي الباجوري
جريدة الواجب في عامها الخامس عشر(385/52)
دخلت جريدة الواجب التي تصدر عن المنصورة لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ أحمد جاد جمعة في عامها الخامس عشر وبالرغم من تلك الأزمة التي انتابت الصحف بسبب ما وصلت إليه حالة الورق، ستظهر الواجب على عهدها صباح الاثنين من كل أسبوع في ثوب قشيب بالألوان والصور مدبجة بأقلام مجموعة من كبار الكتاب والأدباء.(385/53)
القصص
أمنية تحققت. . .!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت (سمية) جالسة إلى مكتبها في الغرفة العليا من إدارة (شركة المبيعات الوطنية) وبين يديها الآلة الكاتبة تنقر عليها بأصابعها وهي تترنح وتهتز في مرح ونشوة كأنما توقع لحناً موسيقياً تناجي به أمنية عزيزة من أمنيات الشباب، وكان على شفتيها ابتسامة راضية كأنها من الأمل الذي تأمله على ميعاد؛ وإنها لجالسة مجلسها ذلك منذ ساعات لم ترفع رأسها ولم تبرح مقعدها، ولكن في وجنتيها حمرة ناضرة كأنما هي عائدة لساعتها من مجلس قصف وشراب؛ وكان في السماء برق ورعد ومطر، ولكن في قلبها هدوء الثقة وروح الاطمئنان.
وفرغت (سمية) من نقش الرسالة التي بين يديها، فكفت أصابعها عن الحركة وراحت تخلص الورقة من بين أضراس الآلة الكاتبة وهي تغني في صوت هامس أغنية من أغنيات الهوى والشباب. ثم نظرت في ساعتها وهمت أن تنهض لميعاد الغداء؛ ودق الجرس، وهبت سمية واقفة لترد تحية المدير الشاب، ثم استأذنت ومضت معجلة إلى مثواها حيث تتوقع أن يكون أخوها في انتظارها لموعده على الغداء. . .
لقد كانت سمية سعيدة بحياتها على ما فيها من نَصَب وجهد ورزق محدود؛ إذ كان لها نفس راضية قنوع، لا تتطلع إلى ما لا تملك، ولا تعرف من أيامها غير اليوم الذي تعيش فيه؛ فلا هي تذكر ماضياً تأسى عليه، ولا غداً تتشوق إليه؛ فوجدت سعادة الرضا حين فقدت سعادة المال ورفاهة الغنى، وتعوضت من شيء بشيء.
على أنها لم تكن كذلك في ماضيها؛ فقد كان أبوها رجلاً من رجال المال، وكان له جاه وصيت وشفاعة، ولكنها لم تدركه حين أدركته إلا شيخاً حُطمة قد لبسه الدهر فأخلقه وذهب بماله وجاهه، فلم يترك لها حين آن أوانه إلا حطاماً من الذكريات، وخلفها وأخاها وحيدين فقيرين تتدافع بهما أمواج الحياة من شاطئ إلى شاطئ غُثاء من غثاء البحر أو زبداً طافياً على الماء!
على أن من كرم الله على سمية أنها لم تفتح عينيها للحياة إلا على نور ذبالة توشك أن تنطفئ؛ وباكرها اليُتم والفقر قبل أن تذوق سعادة الاجتماع ورفاهة الغنى؛ فلم تشعر بمرارة(385/54)
لما صارت إليه، إذ كانت لم تشعر قبل بما كانت فيه؛ وتناولت الحياة كما عرضت لها. . .
وراحت سمية وأخوها يسعيان لرزقهما في رضاً واطمئنان، كما يسعى كل ساعٍ إلى رزقه في غير تبرم ولا سخط؛ ووجد أخوها عملاً في مصرف من مصارف المال يضمن له الكفاف؟ واستخدمتها شركة المبيعات الوطنية كاتبة حاسبة لقاء أجرٍ معلوم يقوم بحاجتها ويفضل؛ وزادها شعورها بأنها كاسبة مأجورة - وإنها لفتاة - زهواً وسعادة واعتداداً بنفسها. ولم يكن هيناً أن تجد فتاة مثل سمية عملاً ففي مثل الشركة التي استخدمتها؛ لولا أنها ابنة أبيها وأنه كان، وكانت له على شركة المبيعات الوطنية أياد تتقضيها الوفاء، فاستخدمت سمية عطفاً عليها وعرفاناً بأيادي أبيها، ولكنها لم تكن تدري، وكان أكثر من تعرف عطفاً عليها وتشجيعاً لها المدير الشاب (شفيق)
. . . إن غداً يوم العيد؛ هذه أسراب الفتيات يزحمن الطريق ويملأ السيارات العامة ومراكب الترام، رائحات غاديات من متجر إلى متجر ينتقين ثياب العيد؛ وهذه أفواج الشباب يخطرون في مرح ونشوة على أرصفة الشوارع وعلى أبواب المتاجر يتأهبون لاستقبال العيد؛ وهؤلاء آباء وأمهات، وصبيان وبنات، في عيونهم نظرات البشر، وعلى قسماتهم آيات المسرة؛ وسمية بين هؤلاء وأولئك لا تلقى بالاً إلى أحد منهم، مُسرعة عجلى إلى مثواه حيث تتوقع أن تلقى أخاها في انتظارها لموعده على الغداء. . .
لقد أوشك شهر أن ينتهي ولم تجلس معه مرة واحدة إلى المائدة، فإن مواقيتهما لمختلفة، وإن عملها في المكتب ليقتضيها أن ترابط هناك كل ليلة إلى لمساء؛ فلا تلقى أخاها إلا رائحاً إلى فراشه، أو غادياً على عمله في الصباح وهو عجلان؛ ولكن غداً يوم العيد؛ فما أحرى أن تفرغ له قليلاً ويفرغ لها وأن تعد له المائدة التي يشتهيهاً، وأن يجلس إليها ساعة وتجلس إليه!
وهيأت سمية المائدة وجلست تنتظر، وأُذنها إلى كل خفقهِ نعل على سُلم الدار تترقب مطلعه. . . وسرحتْ عينيها على المائدة بين ألوان الطعام فاستشعرت الرضا؛ إنها لمائدة حافلة؛ ولكن أين أخوها؟ إنه لم يحضر بعدُ وقد مضى على موعده ساعة. . . وسمعتُ طرقاً على الباب فخفتُ إليه؛ وكان الطارق ساعي المصرف يُؤذنها أن أخاها لن يحضر لموعده، لآن عمله هناك يشغله اليوم عن مشاركتها في مائدة العيد!(385/55)
وأغلت سمية الباب ودخلت الدار وحيده؛ ووقفت في الشرفة برهة تنظر عيدها وعيد الناس؛ وكان في الشرفات المقابلة رجال ونساء، وبنون وبنات؛ وهتفت: يا أخي! الله لك ولي. . .!
بًلى، لم تكن سمية من بنات جيلها؛ ولكن في أعرقها من دمٍ أُمها حواء؛ وألقى الشيطانُ في قلبها أمنيه. . .
وعز عليها أن يكون غداً عيد الناس جميعاً ولا عيد لها، فتمنت، وكانت متواضعة في أمنيتها. . . فلم تبلغ بها المنى أن تكون مثلَ فلانة وفلانة ممن رأت وعرفت، ولم تتسامَ إلى الأمل بأن تكون من ذوات الغنى والجاه والدلال، ولم تنس الحقيقة التي تعيش فيها فتأمل أن تتغير حياتها من حال إلى حال؛ ولكنها تمنت. . . تمنت على الله الذي يهب للناس سعادة العمر أن يذيقها حلاوة هذه السعادة حيناً ثم. . . ثم يسلبها. . .
ورفعت يديها إلى الله داعيه: يا رب! لا أريدها ألا مذاقاً أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك. . .!
وأومضتْ في حواشي الأفق بارقة من نور، ثم خبت. . .
وسمعت سمية طرقاً على الباب، فأسرعتْ إليه لترى. . .
(شفيق. . .!)
وظل المدير الشاب واقفاً بالباب وعلى شفتيه ابتسامه مستحية وفي عينيه رجاء، وهَمسه: أتأذنين يا سمية!
وأذنت له، فدخل ودخل وراءه ساعيه يحمل إلى سمية هدية العيد؛ وقال الفتى وقد اطمأن به المجلس: سمية، لعل زيارتي لا تسوءك يا آنسه! لقد طالما راودتني نفسي فنهنهتها، ثم هاأنذا وتضرَّجتْ وجنتاها من حياء ثم أطرقت، واستطرد شفيق: ولعلي إذا اخترتُ هذه الليلة لأزورك هنا، أن يكون رجائي مقبولاً لديك. . . انظري إليَّ. . . ولا يضيقْ صدرك بي يا آنسة؛ إن عليَّ لك حقاَ، ولعلني أستطيع أن أصارحك في يوم قريب؛ أما اليوم. . .
وخفق قلب سمية وترادفتْ أنفاسها؛ وأحس الفتى خجلها فلم يثقل، وتهيأ للنهوض، وتواعدا على اللقاء!
وتمتمت الفتاة شاكرة وفي عينيها دموع للتأثر!(385/56)
وخلت سمية إلى نفسها تفكر. . . وخرج الفتى يفكر. . .
أما هي فتبدَّلتْ نفسها منذ الساعة واستغرقها حُلم عميق، فراحت تعرض ماضيها وحاضرها وما تأمل أن يكون في غد، وذاقت أول ما ذاقت من طعم السعادة معنى القلق. . .!
وأما هو فقد خفَّت نفسه وحلقت في سماواتها وأحس شعور الراحة والرّضا والاطمئنان، فمضى يدبر أمره، أطيب ما يكون نفساً بما فعل وبما يريد أن يفعل من أجل الفتاة التي رفعه أبوها وهيأ له سبيل الغنى والجاه والرياسة، فإنه ليحس بأن له عليه ديناُ ثقيلاً يقتضيه الوفاء لابنته!
واسترسلت الفتاة في أحلامها. . .!
لقد شعرت منذ زارها شفيق وأهدى إليها هديته شعوراً لم يكن لها به عهد، فراحت تذكر ماضيها منذ رأته أول مرة، ثم كيف كانت بعد؛ ومضت تعلِّ وتفسِّر وتستنبط وتستشف حجاب الغد. هذه الابتسامة التي كان يلقاها بها كل صباح، وتلك النظرة التي يوِّدعها بها كل مساء، وذلك الإحسان في المعاملة، وهذا السخاء في المكافأة، وهذه الهدية في ليلة العيد. . . إنها آيات بينات، وإنها لتزعم لنفسها أنها تعرف دلالئلها؛ بل إنها لتحاول الليلة أن تقنع نفسها أن ذلك الشعور الذي تشعره منذ قريب، ليس جديداً عليها، ولكنه سر يستعلن، وضمير يتكشف، وحب كان يستره الحياء فانكشف عنه حجابه؛ بلى إنها لتحبه حباً صريحاً رسخت جذوره على الأيام في أعماق قلبها إلى أبانه! هكذا قالت لنفسها قبل أن تأوي إلى فراشها لتتم في منامها الحلم اللذيذ الذي بدأته في يقظتها. . .!
. . . وقال شفيق لنفسه وهو في طريقه إلى داره: حسن! لقد فعلت اليوم شيئا ولكن عليَّ أشياء؛ إن روح أبيها لتتمثَّل لي لتذكرني بواجبي أن أكون لها كما كان أبوها لي. زهرة غضة لفحتها أعاصير الحياة الهوج فاقتلعتها من منبتها إلى حيث ألقتها دامية على الشوك فلم تشك حظها ولم تتسخَّط، ما أحراها وأًحر بي أن أذيقها طعم السعادة التي حُرمتها، وأن يكون لها عيدُ مثل عيد الناس!. . . هؤلاء الفتيات اللاتي يغدون ويرحن مع أزواجهن أو آبائهن يحملان هدايا العيد ويرفلن في مطارف الشباب وإيراد السعادة، لسن أولى بما يتمتعن من سمية. . .! دينُ طالما هممتُ بالوفاء به، ثم نهنهت نفسي حذر أن أجرح كبرياءها إن مددت إليها بالإحسان يداً؛ ولكنه دين الحي للميت، لا حل منه ولا براءة، وقد(385/57)
استأذنتها فأذنتْ. . .
وراح شفيق لموعده صبيحة يوم العيد؛ وخرجا معاً يرودان مغاني الشباب ومجالي الأنس والمسرة ذراعاً إلى ذراع، وفي كل قلب حديثه ونجواه. . .
عاطفتان من أسمى ما غرس الله في قلوب البشر؛ أما قلبُ فيخفق بالحب وسعادة الآمل؛ وأما قلب آخر فتغمره سعادة الرضا وتملؤه عاطفة أسمى وأنبل؛ وأن في الحياة لما هو أسمى من الحب وأنبل. . .
وشعر كلاهما أن الله يظلهما بجناحي رحمته حين تحققت لكل منهما أمنيته. . .
ومضت الأيام بها وبه سعيدين لا يكاد يشغلهما عن أمرهما شيء؛ والشباب يجدد لسمية كل يوم مناها ويوقظ أحلامها وهي نائمة؛ ثم استيقظت فجأة. . .
وغدا عليها شفيق ذات صباح ينبئها. . .
. . . كانت سمية قد ذاقت في أيام قلائل من ألوان السعادة ما لم تتوقع أن يتهيأ لها في عمر مديد، ونالت - بمعونة صديقها - حظوة ورياسة في العمل الذي تتولاه لا تتسنى لمثلها بعد سنين من المثابرة والدأب، وزاد أجرها زيادة مرموقة تهيئ لمثلها العيش الرغد في أمان وثقة بالمستقبل؛ ولكن الغد السعيد الذي كان يتخايل لها في أحلامها ويقظتها، وتتنوره على البعد قريباً قريباً دون مد ذراع - كان يشغلها عن الشعور بما هي فيه؛ فلم تكن من كانت، فتاه تعيش ليومها بلا ماض تأسى عليه ولا أمل تتشوق إليه؛ وهل يعيش العاشق إلا في أحد يوميه: أمسه وغده؟. . . ولكن هذا الغد الذي كانت تتوهم أنها تنظر إليه - حين تنظر - من وراء ستر رقيق، لم يكن إلا صورة في إطار ليس وراءه إلا الحائط الصلب، على حين كانت تظن أنها بالغة إليه بين صبح ومساء؛ ومدت يدها تهتك الستر لترى، فإذا الإطار الذي يمسك الصورة الخادعة يردها إلى حقيقة دنياها فيوقظها من أحلامها. . .
. . . وقال لها شفيق: أنت مدعوه غداً يا صديقتي إلى حفل زفافي. . .! وفغرت الفتاة فاها مدهوشة وهتفت: (حفل زفافك!)
إذن فهو لم يكن يحبها، ففيم كانت هذه العناية بها؟. . . وعرفت بعد لأي، فسكتت؛ ثم خلت إلى نفسها فأرسلتْ عينيها أسفاً وندامة!
نعم، إنها لم تخسر شيئاً، ولكنها فقدت الأمل الذي عاشت له أياماً من حياتها كانت كفيلة بأن(385/58)
تنشئها خلقاً آخر؛ ولم يخدعها صديقها أو يزور لها الحقيقه، ولكنها هي خدعتْ نفسها فباءت بالخسران والحسرة!
قلبان كانا يخفقان لمعنيين متباعدين لم يتكاشفا معنى لمعنى، ألقى الشيطان بينهما أمنية فرقت بينهما على حين كان يرجى بقاء الوداد؛ ما ذنبها؟ وما ذنبه؟ ذلك حكم القدر!
وعادت سمية وحيدة إلى مثواها، كعادتها يوم كانت، ولكنها اليوم فتاة غير من كانت!
لقد نالت كثيراً مما كانت تتمنى، وحظيت من حظ الحياة بما لم تكن تأمل، ولكن. . .
وذكرت موقفها ذات ليلة، يوم رفعت يديها إلى الله داعية: (يا رب! لا أريدها إلا مذاقاً أعرف به كيف يعيش السعداء من خلقك. . .!)
هكذا كانت دعوتها، فهل كان شيء غير ما أرادت؟
لقد استجاب الله دعاءها، فأذاقها من ألوان السعادة ما لم تكن تتوقع، وزادها على ما أرادت؛ ولكنها لم تكسب شيئاً. . .
لقد باعت الغالي بالخسيس، يوم باعت سعادة الرضا بسعادة الأمل. . .!
محمد سعيد العريان(385/59)
العدد 386 - بتاريخ: 25 - 11 - 1940(/)
إنجلترا هي المثل
قال شوقي: (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت). . . فقال تشرشل: صدق وإنجلترا هي المثل! وكأنه حين قال: (فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا). . . قال بيتان: صدق وفرنسا هي المثل!
ولكن الذي يضع القاعدة بالقول لا يستوي هو ومن يطبقها بالفعل؛ وشتان بين من يطبقها على وجه السلب بين من يطبقها على وجه الإيجاب!
إن تحريك اللسان في الفم أسهل على المرء من تقليب اليد في العمل. وإن رجل التجربة والخبرة، أصلح للحياة من رجل النظر والفكرة. وإن تنشئة الفرد على حب الفضيلة أدخل في إمكان المربي من بناء الأمة على أساس الخلق. . . ذلك لأن تهذيب النفس عمل البيئة والقدوة والعادة، وتهذيب الجنس أثر الانتخاب الطبيعي والدهر الطويل. ومن الكثير الغالب أن تجد واحداً تصلح فيه كل عريزة، ولكن من القليل النادر أن تجد فيه كل واحد. ولعلك لا تجد في عمر الإنسانية شعباً سلم جمعه بسلامة آحاده غير الشعب العربي في الماضي والشعب الإنجليزي في الحاضر. ومرجع ذلك فيما نظن إلى انعزال العرب في الصحراء، وانعزال الإنجليز في البحر، والعزلة في مثل هذه الحال تنفي خبث الاختلاط عن مزايا العنصر الأصيلة فتنضج وتخلص كما ينضج الدر اليتم في قاع البحر، ويخلص الحجر الكريم في جوف الأرض. فلما خرج العرب للفتح، ثم خرج الإنجليز للاستعمار، ضيع بنو الصحراء خصيصتهم لأنهم انماعوا في الشعوب الأخرى بالمصاهرة، وحفظ بنو الماء مزيتهم لأنهم انقبضوا عن الناس وترفعوا عن الأجناس فظلوا في عزلة
كان الناس يقولون أن إنجلترا أدركتها أعراض الهرم من دوام النعيم وطول السلامة، ويعجبون مع ذلك أن تملك سدس العالم وتستمكن فيه، والإنكليز في كل أرض قله، ووسائلهم في تملق القلوب ومداهنة النفوس قاصره، والتمويه والخداع والاستغفال والمصادفة والحظ عوامل قد تساعد على الغلب، ولكن فعلها لا يجوز على كل الناس ولا يدوم على طول الزمن. فلم يبق إلا أن يكون في هذا الشعب العجيب سر من أسرار الطبيعة تنبجس عنه حياته الدفاقه الخلاقة كما تنبجس الحيوات الدنيوية بمظاهرها وآثارها عن الروح المجهول
فلما أخذت العالم هذه الرجفة النازية ووقعت إنجلترا بقوتها وسطوتها وثروتها ووجودها في سمير المحنه، استعلن في حلك الخطوب ذلك السر فإذا هو الخلق، ولا شيء غير الخلق.(386/1)
ولم تسفر الأيام عن أصدق من هذا المثل الإنجليزي الحاضر لقدرة الخلق العظيم على حياطة الدولة ووقاية الأمة وخلق المعجزة التي تحيل القنوط أملاً والضعف قوه
كانت أوربا في العام المنصرم من طول ما هولت عليها الهتلرية الباغية قد وقفت صفوفاً متلاصقة متلاحقة من الشباب والحديد والنار ترابط على الحدود لشياطين الصليب الآعقف؛ وكانت إنكلترا من وراء البحر تمدها بالمال والرجال والأسلحة لا تدخر لجزرها شيئاً منها، ولا تكاد تخطر على بالها أن العدو سيجد من بين هذه الصفوف المرصوصة ثغره يقتحمها ليرميها عنها. ولكن هتلر هجم على أخلاق أوربا قبل أن يهجم على جيوشها؛ فهتك أستار الدول بالجواسيس، وبلبل عقائد الناس بالدعاية، وشرى ضمائر الساسة بالمنى، وبث في دخيلة كل أمه دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحميه في كل رأس، حتى تركوا القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم أرسلوا على هياكلهم النخرة الجوفاء الدبابات كما ترسل على هشيم الحنطة آلة الحصاد. فلم تك إلا أيام تضيق عن فناء القطيع بالوباء السريع، حتى استكان الضعيف، واستخذى القوي، وانبسط ظلام النازية، على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً لأحياء وقبوراً للموتى، ووقفت إنجلترا وحدها أمام أوربا الصارعة المصروعة، وقد فرغ لها الطاغيتان وسلطا عليها في الغرب والشرق، وفي الجو والبحر، كل ما ادخراه وارصداه من آلات الدمار والبوار في بضع سنين
كانت خطتها في الدفاع قائمة في أكثر ميادين البر على عاتق فرنسا؛ فلما وهى هذا العاتق ونحل سقطت هذه الخطة على خلاء. فكانت على إنجلترا بعد نكبة جيشها في الشمال وانهيار حليفتها المفاجئ أن تجدد العدة وتسد الخلل وتدفع الموت الهاجم على أرضها ونيلها من الجهات الأربع؛ وكل ذلك كان يقتضي أن يكون لها في كل أرض جيش، وفي كل بحر أسطول، وفي كل سماء أسراب. فلو أنها استجابت لهذه الجدود العواثر ونكلت نكول فرنسا لما خالف ذلك منطق الحوادث
ولكن هنا ظهرت المعجزة، وما المعجزة إلا خلق هذا الشعب المختار! تجرد هذا الشعب عن فرديته، ونزل عن حريته وثروته، وجعل مُلكه وجهده وروحه في يد تشرشل ينفقها حيث يشاء وكيف يشاء؛ وانكب هو على العمل الدائب ليل نهار، لا تعوقه الأخطار ولا(386/2)
تضعضعه الكوارث، حتى رأيناه في أقل من خمسة أشهر يفسد على الفوهرر خطة الغزو، ويفوت على الدتشى فرصة الهجوم، ويشد على أنفاس أوربا بالحصر، ويلجئ الطغاة العتاة إلى استجداء المعونة من الأقل، وابتغاء النصرة من الأذل! ذلك ولم نسمع خلال هذا الصراع الجبار وذلك الخطر الموئس أن جنديا عبث، أو قائداً خان، أو وزيرأً غش، أو حزباً نفس على حزب ما نسميه نحن نعمه الحكم
إن الله أمد الإنجليز بجيوش لا تقهر من الصدق والصبر والثقة بالنفس والإيمان بالله والحرية والديمقراطية والإمبراطورية
فيا ليتنا حين حالفناهم على السياسة والدفاع، حالفناهم كذلك على الآداب والخلق! لقد كنا بأخلاق القرآن قدوة للأقوياء، فأصبحنا وا أسفاه بضلالات الأذهان عبرة للضعفاء!
أحمد حسن الزيات(386/3)
أخلاق القرآن
الصدق
للدكتور عبد الوهاب عزام
الصدق هو الإبانة عن الحق، والإخبار بالواقع. وبه يستقيم التفاهم بين الناس، ويكون التناصح والتعاون، وتسجل الحقائق والوقائع؛ وبدونه يصير تخاطب الناس غشاً، وتفاهمهم باطلاً، وتعاونهم محالاً
يتخاطب الناس ليخبر بعضهم بعضاً عن حقائق واقعة في العالم أو في أنفسهم، أو ليبين بعضهم لبعض عن أمل يأمله، ورأي في بلوغ هذا الأمل. فإن كان الكلام غير مبين عن الحق فهو تضليل يسير أعمال الناس على ضلال، وهو غش يؤدي إلى للتفريق بين الناس لا التعاون
ثم الكذب يجر بعضه بعضاً لأنه لا مكان له بين حقائق العالم فُيضطر الكاذب إلى أن يغير حقائق كثيرة ليخيل كذبه على السامع وليلائم بين ما أخبر به وبين حقائق تخالفه. فإذا قال قائل: قابلت فلاناً أمس في مكان كذا، فقيل له إن فلاناً لم يكن أمس في هذا المكان أضطر إلى أن يقول جاء إليه ثم سافر. وإن قيل إن هذا المكان لم يكن الذهاب إليه أمس ممكناً أدعى من الأباطيل ما يوهم أن الذهاب إليه قد أمكنه، ولم يكن بد من سلسلة من الأكاذيب يربط بها كلامه بالوقائع المعروفة بين الناس
وعلى قدر ما في كلام الناس من صدق توافق أعمالهم حقائق هذا العالم فتنجح، وعلى قدر الكذب تبعد الأعمال من الحقائق فتخيب. . .
وقد أجمعت أخلاق الأمم وشرائعها على الدعوة إلى الصدق، والنهي عن الكذب ووكّدت تجارب الناس ما عرفوا في الصدق من خير، وما رأوا في الكذب من شر. وهل كان التخاذل بين الناس والتنافر والتحارب والضلال إلا بضروب من الكذب والغش والخديعة؟ وهل ذهب كثير من أعمال الناس ضياعاً وكثير من أقوالهم هباء إلا بالكذب ونتائجه؟
والقرآن الكريم، وهو ترجمان الدين الحق والدعوة الصادقة، يؤكد الدعوة إلى الصدق ويشيد بذكر الصادقين، ويشتد في النهي عن الكذب ويلعن الكاذبين. كررت هذا آياته، ودارت عليه دعواته(386/4)
والصدق، فيما يتبينه قارئ القرآن، يكون في القول والفعل؛ فكما يصدق الإنسان بالإنباء عن الحق يصدق بتأدية الواجب المرجو منه. فمن أوفى بعهده، ومن ثبت في نصرة الحق الذي يدعوا إليه، ومن قام في الخير المقام الذي يجدرُ به، فقد صدقت أفعاله ووافقت ما ينتظر منه في معترك الحياة
وقد عدد القرآن خلالاً من البر كالصدق والوفاء بالعهد والصبر في الشدة وختم الآية بقوله: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون.) فسمي هذه الأعمال صدقاً
ويقول القرآن الكريم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) ويقول: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق وأجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً)
مدخل الصدق ومخرج الصدق أن يدخل الله الإنسان في كل الأمور إدخالاً صادقاً ملابساً للحق والخير، وأن يخرجه من الأمور كلها كذلك إخراجاً مقارناً للحق والخير، فيجعل تصرفه في الأمور كلها كما يجب عليه ويرجى منه، في غير رياء ولا تزوير ولا تضليل ولا غش ولا خداع
وقال القرآن في جزاء المؤمنين والمتقين: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) وقال: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فقدم الصدق يراد بها المسعى الصادق الذي يدخر عند الله جزاؤه، أو المقام المحمود عند الله تعالى، ومقعد الصدق المنزلة التي تفي بما استحقوا من ثواب
والكذب فيما يفهم من الآيات القرآنية يكون كذب الأقوال وكذب الأفعال كذلك. فمن فعل غير ما يقضيه حاله فهو كاذب، ومن حشر نفسه في غير زمرته فقد كذب، ومن اتخذ غير شارته فقد كذب، ومن قعد عن نصرة الحق وهو قادر فهو في مقام الكاذبين، ومن فر عما يلزمه الثبات له أو الدفع عنه فقد كذبت دعواه ومظهره، فان هوْلاء جميعا قد وعدت أحوالهم واْخلفت اْفعالهم، وقد حكى القران الكريم وعن قوم آمنوا بالرسل ثم دعوا إلى الارتداء، اْنهم قالوا:
(قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها). فقد سموا الرجوع إلى الباطل بعد ان استبانت دلائل الحق، كذباً على الله. وقريب من هذا قوله في قصه يوسف:(386/5)
(وجاءوا على قميصه بدم كذب)
وحسبنا هذا بياناً لوصف القرآن الأفعال بالصدق والكذب كما توصف الأقوال
والقرآن الكريم يأمر بالصدق في كل صُوره، وينهى عن الكذب في جميع أشكاله؛ وكفى بقوله: (أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
واشتد القرآن في تقبيح الكذب ولعن الكاذبين؛ وجعل الكاذب أظلم الناس، ووصفه أشنع الأوصاف
قال: (فمن أظلم ممن أفتري على الله الكذب أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون.). وقال: ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنه الله على الظالمين). وقال: (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه؟ أليس في جهنم مثوى للكافرين. والذي جاء بالصدق وصدَّق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين، ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون). وقال: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة. أليس في جهنم مثوى للمتكبرين). وقال: (انظر كيف يفترون الله الكذب. وكفى به إثما ًمبيناً)
وبين القرآن أن الكذب يمنع صاحبه الهدى، ويجور به عن القصد. وكيف يهتدي الكذاب وهو يتعمد طمس الحق، والعدول عن الرشد؟ إنما يهدي الله من أخلص قوله وفعله وتحرى الحق جهده غير مائل مع الهوى، ولا سائر مع الباطل , قال: (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار). وقال: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب)
وقد بالغ القرآن في عقاب بعض الكذبة فجعل كلامهم مظنة الكذب دائماً وأهدر شهادتهم. وتلكم عقوبة المفترى على النساء الصالحات، قال: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون). وقال: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)
بل أمر القرآن بالتثبيت وحذر من الظن الكاذب وجعله إثماً فقال: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)؛ ونهى عن مظان الكذب والخطأ فقال (ولا تقف ما ليس لك به علم إن(386/6)
السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) وكذلك بين القرآن أن عاقبة الكذب أن يمرد الإنسان على مخالفة الصدق ومجانبة الحق، حتى يستقر النفاق في قلبه قال (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون)
وكثيراً ما يقرن القرآن الكريم الصبر بالصدق، وهما من منبج واحد، هما من المرؤة والكرامة والأنفة والشجاعة التي تقول الحق غير مباليه، وتصبر على الشدائد غير مستخذيه
الصدق في القول والفعل خلق يبين عن صفاء النفس وخلوصها وصراحتها وحبها الحق، وميلها عن الباطل، ونفورها من المداجاة والمراءاة والنفاق والخداع، خلق يأبى التكلف والتصنع ويربأ عن المذلة والخنوع، خلق ينطق بالإباء والشجاعة، وحب الخير للناس، وتحكيم قوانين الله فيما بينه وبينهم لا يبغي صاحبه عن هذه القوانين حولا، ولا يرضى لمنفعة نفسه الاحتيال لإخفاء الحقائق، والتماس غيرها من الوسائل المخترعة المزورة
وذلكم هدى القرآن وشرعه الإسلام، وسيرة المسلمين الأولين نطقت به مآثرهم في الحرب والسلم وفي معامله العدو والصديق. كانوا في أقوالهم وأفعالهم حرباً على الباطل والبغي والكذب، فكانت سيرهم مثلاً من الحق الصريح الذي لا يشوبه رياء ولا مداراة ولا مداجاة، فجزاهم الله بصدقهم أن مكن لهم في الأرض وملكهم أزمة الأمم يسوسونها بعدل الله ابتغاء مرضاه الله كما قال: (ليجزي الصادقين بصدقهم)
وتلكم أيها المسلمون الأسوة الحسنه فاجعلوها نصب أعينكم واتخذوها هديا في رضاكم وغضبكم، ومنشطكم ومكرهكم، وحربكم وسلمكم، وشدتكم ورخائكم. فإنما هي قانون الله وهدى القرآن وصدق الإسلام وميراث السلف الصالح، وذخر الخلف الطامح
(يا أيها الذين آمنوا أتقو الله وكونوا مع الصادقين) صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام(386/7)
مسابقة الجامعة المصرية
لطلبة ألسنه التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
الإنجليز في بلادهم
كتب إلي أحد الزملاء يقول إنه كان ينتظر أن أكتب كلمه أنقد بها الطريقة التي اختيرت بها كتب المسابقة، وأجيب بأن هذا يعطل المشروع بعض التعطيل، وهو مع ذلك لن يغير الواقع، فلن تعدل الوزارة مشروع المسابقة في هذه ألسنه، ولن تلتفت إلى انصراف فريق من الطلبة عن بعض تلك المؤلفات، فلم يبق إلا أن نؤجل الكلام عن نقد طريقة الاختيار، وأن نمضي في هذه الدراسات إلى آخرالشوط، تحقيقاً للغرض الذي رمينا إليه وهو توجيه أولئك الطلاب.
وحديث اليوم عن كتاب (الإنجليز في بلادهم) لمعالي الأستاذ حافظ عفيفي باشا، فمن المؤلف؟ وما غرضه من تحبير تلك الفصول الطوال؟
نشر هذا الكتاب سنة 1935. أما مواده فقد جمعت بين سنة 1931 وسنة 1933، وكان هذا الرجل سفير المصري في لندن، فهدته فطرته السليمة إلى التفكير في تعريف المصريين بالإنجليز، (الإنجليز في بلادهم) لئلا يعترض معترض بما يضاف إلى الإنجليز خارج تلك البلاد، وكذلك كان التوفيق حليف المؤلف حتى في العنوان
لا أجد ما أقوله في حافظ عفيفي بعد الذي قلته في كتاب (الأسمار والأحاديث) ولكن يجب النص على أن حافظ عفيفي من الشخصيات الدبلوماسية التي تتجه إليها الأنظار من حين إلى حين، وكتابه عن (الإنجليز في بلادهم) صوره من صور الدبلوماسية، ولكن بمعناها الحق، لا بمعناها المألوف، فهو يريد أن نعرف الإنجليز في محاسنهم التي خلا وصفها من الترفق والتلطف، وفي مساويهم التي سلم وصفها من التزيد والافتراء.
و (دبلوماسية) حافظ عفيفي طراز جديد، لأنها تقوم على أساس التعارف الصحيح، وتنأى عن شوائب المصانعة والدهاء؛ ولهذا الطراز من الدبلوماسية عيوب، لأنه يعوق صاحبه في كثير من الأحايين، ولكن العواقب الحميدة لن تكون إلا من نصيب الدبلوماسية القائمة(386/8)
على المصارحة فيما جل ودق من شؤون السياسة وشؤون الاقتصاد، ومن هنا جاز أن تقع في كتاب حافظ عفيفي عبارات لا يقولها رجل كان سفيرنا في إنجلترا بالأمس وقد يكون سفيرنا عندها في الغد، كالذي وقع حين نص على (أن إنجلترا لم تدخل ميدان الاستعمار لإغراض إنسانية كتمدين الشعوب المتأخرة ولا لفائدة المهاجرين الأوربيين بل سعياً وراء الريح من الاتجار في محاصيل المستعمرات والحصول على ما تحتاج إليه من المواد الأولية، وإيجاد حموله لأسطولها التجاري وسوق لتصريف محصولاتها ومصنوعاتها). وكالذي وقع منه حين أيد هذا الحكم بالقوانين التي أصدرتها إنجلترا، القوانين القاضية باحتكارها للتجاره الخارجية للمستعمرات بالنسبة لأهم المحاصيل، وتحريم تصدير الدخان والسكر والقطن الخام والأصباغ الطبيعية والنحاس ومواد بناء السفن على المستعمرات، والقوانين القاضية بتحريم نقل ما يصدر عن المستعمرات أو يرد إليها على السفن الإنجليزيه، وبعض القوانين التي كانت تحرم على المستعمرات إنشاء بعض الصناعات التي قد تنافس الصناعات الإنجليزية، كصناعة الحديد مثلا؛ وبعض القوانين التي كانت تحرم على المستعمرات تصدير بعض المصنوعات التي تزاحم المصنوعات الإنجليزية
فهذا كلام لا يقوله دبلوماسي (مصقول)، وإنما يقوله دبلوماسي (صريح) والصراحة عيب جميل، ان جازت مجاراة الزمن المقلوب في عدها من العيوب!
ما هو الغرض من هذا الكتاب؟
حافظ عفيفي لم يبتكر هذا الفن من التأليف، وإنما سار في طريق مسلوك عبده الأوربيون من أجيال طوال، فالأدب الفرنسي مثلا فيه عشرات من المؤلفات الجياد لتعريف الفرنسيين بحيوات الإنجليز والألمان والطليان والروس، وأهل مصر والشرق العربي يعرفون الكتاب الذي نقله فتحي زغلول عن الفرنسية منذ أكثر من ربع قرن عن (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) وهو كتاب له نظائر وأشباه قد تصل إلى المئات إذا راعينا النشرات الطويلة والقصيرة التي أريد بها تعريف الفرنسيين بأهم أمم الشرق والغرب. . . ومؤرخو الأدب الفرنسي أم يفتهم أن ينصوا على التطور الذي صار إليه أدبهم بعد ذيوع كتاب مدام دي ستال عن الألمان
حافظ عفيفي لم يبتكر من الوجهة العالمية، وإنما ابتكر من الوجهة المصرية، فهو أظهر(386/9)
سفير مصري تعقب البلد الذي عاش فيه بالاستقراء والاستقصاء.
ومن الواضح أن في أدباء مصر رجالاً قدموا لبلادهم خدمات من هذا النوع، ولكن السفير يملك ما لا يملك الأديب من نواصي الوثائق والأسانيد، وله أفق يختلف بعض الاختلاف عن أفق الأديب، والمسئولية التي يحسبها السفير قد تجعله أدق من الأديب في الحكم على خصائص الممالك والشعوب
فهل يكون حافظ عفيفي قدوه لسفرائنا في أقطار الشرق والغرب؟ وهل ننتظر إلى أن تضاف إلى الأدب العربي ثروات من هذا الفن الطريف، فنعرف من كل سفير بعض ما عرفنا حافظ عفيفي؟
النظرة المصرية
إلى هنا عرف القارئ أن حافظ عفيفي يريد ضرب الأمثال، فأين نجد النضرة المصرية في كتاب هذا الباحث الحصيف؟
في كلام المؤلف عن الطبقات كلام ينفع أهل مصر، وهو الكلام الذي ينص على ألازمه الزراعية في بلاد الإنجليز. وفي كلامه عن الدستور البريطاني أحاديث تنفعنا أجزل النفع، وهي الأحاديث التي تشهد بقوه (التماسك الإنجليزي) وأريدُ بالتماسك القدوة الذاتي على مقاومة أسباب الضعف والانحلال، فللتقاليد الدستورية في نظر جميع الساسة البريطانيين احترام القانون (يرعاها الجميع حتى تحل محلها حقوق أخرى تكون أوفى منها في تأييد سلطه الأمة)، وتلك التقاليد تتغير دائماً مع الزمن، ولكنها تتغير في سكينه وهدوء. . . وسلطة البرلمان تستند إلى شخصية النواب ثم إلى التقاليد السياسية والسوابق أكثر مما تستند إلى المسطور من القوانين. . . والحركات الشعبية التي قامت في بريطانيا إنما كانت ترمي في أكثر الأحيان إلى رغبة الشعب في التمتع بحقوق الانتخاب أكثر مما كانت ترمي إلى زيادة سلطة البرلمان. . . ولم يحصل في إنجلترا أن يناط بفريق من المشرعين أو بهيئة نيابية مهمة تحرير دستور شامل يرغم على قبوله حاكم مستبد، ويكون فاصلاً بين عهد الاستبداد وعهد الحرية. . . ومع أنه لا يوجد في الدستور البريطاني نص يمنع الملك من حق الرفض لإمضاء إي قانون يقره البرلمان ولا يوافق عليه الملك، فإنه لم يستعمل ملك بريطاني هذا الحق من عهد الملكة آن. . . ومع أنه لا يوجد نص مكتوب في أي(386/10)
قانون دستوري يحدد مسئوليه الوزارة أمام مجلس النواب ويرغمها على الاستقالة إذا لم تنل ثقته، فمبدأ مسئولية الوزارة محترم كل الاحترام. . . ومع أنه لا يوجد نص دستوري يمنع الملك من رياسة مجلس الوزراء فقد روعيت سابقه وقعت في عهد جورج الأول وكان ألمانيا يجهل الإنجليزية، ولم تر فائدة من رياسته لمجلس الوزراء
وهنا أرجو طلبه السنة التوجيهية أن يقرءوا ما كتب في هذا الكتاب عن (الدستور البريطاني) قراءه فهم ونقد واستقصاء، لأن المجال يضيق عن تشريحه في هذا الحديث، والمهم هو ربط ما جاء في هذا الفصل بما درسه الطلبة في مرحله الثقافة العامة عن التربية الوطنية، فإن فعلوا - وسيفعلون - كان من السهل أن يدركوا مرامي المؤلف في هذه الشؤون
وأقول بصراحة إن المؤلف يهمه أن يبين قيمة الشخصية الإنجليزية من ناحية التماسك السياسي والاجتماعي، فأحوال إنجلترا تتغير من وضع إلى وضع، ولكن في هدوء وطمأنينة وثبات، ولولا ملكة التماسك لاستحال على شعب كان أفراده لا يزيدون على ثلاثة ملايين أن يملك شرف الاستقلال في آماد ترجع إلى عشرة قرون
وينبغي للطالب أن يقرن ما كتب عن الدستور البريطاني بما كتب عن الإمبراطورية البريطانية. فأقدم مستعمرة ظفرت بحقوق الاستقلال الذاتي هي المستعمرة التي وجد فيها سكان بريطانيون، ومعنى ذلك أن الإنجليزي ينقل مبادئه في الحرية إلى أي وطن ينتقل إليه، كما ينقل معه عقيدته الدينية. . . ومن فصول هذا الكتاب نعرف أن الإنجليزي حين يغترب لا ينسى خصائصه الذاتية، ونعرف أنه بطيء في التطور إلى حد الجمود، والبطء في التطور هو ما اسميه التماسك، لأن التطور السريع لا يخلو من ثورة على الشخصية الذاتية، وما يقال عن (البرود) الإنجليزي هو من ذلك، فالإنجليزي بارد أي بطيء التحول، وكذلك كان العرب سادة حين نعموا بمثل هذا (البرود) فكانوا في رياض الأندلس (متطبعين) بطباع أرباب الشيح والقيصوم، وكانت أخيلة الجزيرة العربية هي المثال في التشبيهات والاستعارات والكنايات، حتى صح لبعض الغافلين أن يقول أن العرب لم يتطورا في كثير أو قليل، وإنهم ظلوا مشدودين إلى وطنهم الأصيل
وقد قلت مرة أو مرات (إن العرب كانوا إنجليز زمانهم) ومعنى ذلك أنهم كانوا أوفياء(386/11)
لخصائصهم الذاتية، فكانوا يتكلمون كما كان يتكلم آباؤهم الأقدمون، وكانوا ينقلون المصحف والمسجد إلى كل أرض، كما ينقل الإنجليز الكنيسة والإنجيل إلى كل أرض. ولو كان التطور الشامل أداة من أدوات النفع لترك العرب قرآنهم في الأندلس، وترك الإنجليز إنجيلهم في الهند، فلم يبق إلا الاعتراف بأن التطور الشامل من صور الانحلال، وإن كان في نظر الغافلين من صور التحرر والاستقلال!
من كتاب حافظ عفيفي نعرف أن الإنجليز تطوروا تطوراً ملحوظاً، ومن كتابه نعرف أنهم ظلوا برغم ذلك التطور الملحوظ إنجليزاً أقحاحاً، فما معنى ذلك؟ معناه أن الرجل الأصيل يحفظ خصائصه الذاتية وإن قهرته الظروف على التنقل من حال إلى أحوال
ومن كتاب حافظ عفيفي نعرف أن الإنجليز يلوحون دائماً بفكرة العدل - وما يهمني في هذا المقام تحقيق الغرض من هذا التلويح - وطواف الأذهان حول فكرة العدل له مدلول، فهو يشهد بأن الإنجليز يهمهم دائماً أن تكون سمعتهم بمنجى من الأقاويل والأراجيف، فكل مشكلة خليقة بأن تعقد لها لجنة أو لجان، وكل ثورة أهل بأن يطب لها بالترفق والاستبقاء، ومن هنا كان الإنجليز أساتذة الأمم في فن (الدعاية) وعنهم تعلم الطليان والألمان. وفن الدعاية يراد به (تحديد الموقف) وموقف إنجلترا في دعواها هو دائماً موقف المصلح المظلوم، وهي سياسة تدل على براعة أولئك الناس في التخلص من مواطن الشبهات. والسياسي الحق هو الذي يهتف في كل لحظة بأنه من الأبرياء، براءة الذئب من دم أبن يعقوب، وإن كان أعرف المخلوقات بمصدر العدوان على ذلك الشهيد!
فإن نظر طلبة السنة التوجيهية إلى كتاب حافظ عفيفي، كما نظرت إليه، عرفوا منه أشياء وأشياء، ولم يفهم غرض المؤلف فيما طواه بفضل براعته الفائقة من دقائق الشؤون، والسياسيون يطوون أغراضهم في بعض الأحيان!
أسلوب المؤلف
هو أسلوب علمي يخلو خلواً تاماً من التحسين والتجميل، ويمتاز بالوضوح والجلاء، وقد تقع فيه ألفاظ تحتاج إلى تعديل، كأن يقول (الجمعية الإنجليزية) وهو يريد (المجتمع الإنجليزي) وقد يقع في تعابيره شيء من الغموض، كأن يقول: (ولم يترتب على عدم وجود نصوص محدودة لسلطة مجلس النواب الإنجليزي تحديد في الواقع لسلطته)، فهذه(386/12)
العبارة تحتاج إلى تأمل قليل، ومن واجب الكاتب أن يجعل تعبيره أوضح من أن يحوج القارئ إلى تأمل ما يريد.
والذي ينظر في كتاب حافظ عفيفي لا يشعر أنه أجنبي يكتب عن الإنجليز، فقد ملك المؤلف ناصية الموضوع بحيث يظن القارئ أنه ينظر في كتاب ألفه أحد أبناء تلك البلاد، ومع ذلك نلمح في مواطن قليلة أن المؤلف أستأسر للمراجع، كأن يذكر عدد الجرائد في إنجلترا سنة 1828 وسنة 1886 وسنة 1909، وكان المنتظر أن يذكر عدد الجرائد في الوقت الذي ألف فيه الكتاب، ولكنه فيما نرجع وقف عند أحد المراجع التي نشرت من قبل ولم يشغل نفسه بتحديد ما جد في تطور الصحافة بعد ذلك الحين
توجيهات
ينقسم كتاب حافظ عفيفي إلى ستة ابواب، وتنقسم الأبواب إلى فصول، فضلاً عما فيه من مقدمات تشتمل على محصول نفيس. ولن يستطيع الطالب أن يقول إنه استفاد من مراجعة هذا الكتاب إلا إذا جمع لنفسه خلاصة وافية لما كتب المؤلف عن تاريخ الحياة الدستورية، وما قاله عن السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وما فصل من الحديث عن الصحافة والأحزاب، وحرية التجارة والحماية الجمركية، وما شرح من أحوال الميزانية ونظام البنوك، وما دون من أغراض التعليم وأنظمة الجامعات، وما قيد من خصائص القضاء وأنواع المحاكم ومجالس التشريع، وما تعرض له في سرد أطوار الإمبراطورية البريطانية
تلك ملامح هذا الكتاب، أما جوهر المحصول فهو ثمين إلى أبعد الحدود، وهو مع ذلك سهل المنال على الطالب الذي أجتاز مرحلة الثقافة العامة بوعي وإدراك
ولكن كيف يجمع الطالب لنفسه تلك الخلاصة الوافية؟ لنفرض أنه شرع في الباب الخاص بتكوين الرأي العام فقرأ الفصل الأول عن الصحافة الإنجليزية، فماذا يفيد حين يقرأ هذا الفصل؟
يفيد تطور الصحافة الإنجليزية من أول ظهورها إلى اليوم مع ملاحظة ما مر بها من تطورات مذهبية واقتصادية، ثم يقيد انتقالها من أيدي الأفراد إلى أيدي الشركات مع بيان السبب في هذا الانتقال، ثم يقيد عدد تلك الشركات، ثم يقف وقفة طويلة عند الكلام عن المنافسة بين الجرائد الشعبية وجرائد الآراء ثم يلتفت التفاته خاصة إلى ما أصيبت به(386/13)
شركة الديلي هرالد، ثم يتعقب ما ابتليت به الصحافة الإنجليزية من الانحطاط بسبب الانحدار إلى استغلال أهواء القراء، ثم يقيد الأخطار التي تعرضت لها السياسة الإنجليزية بسبب طغيان الجرائد الشعبية، ثم يقيد ما صنع فضلاء الإنجليز في تأمين جريدة (التيمس) وجريدة (الإيكونوميست) من جشع الجماعات التجارية، ثم يقيد الصلة بين الحكومة والصحافة ومراكز الصحفيين في تلك البلاد، ثم يقيد ما مر بالصحافة الإنجليزية من متاعب الجهاد في سبيل الظفر بحرية الرأي، ثم يقيد ما للصحافة في إنجلترا من أندية ومدارس (مع الفهم الصحيح لعناصر هذا الفصل الدقيق) ولنفرض أيضاً أنه قرأ الفصل الثاني عن الأحزاب الإنجليزية، فماذا يقيد وهو يقرأ هذا الفصل؟
من واجب الطالب أن يعرف الغرض الذي أنشئت من أجله الأحزاب في بلاد الإنجليز، وأن يعرف الفرق بين دعاية مصلحة الوطن ومنفعة الحزب، وأن يدرك كيف صارت الأحزاب في إنجلترا من الضروريات، وأن يقيد التاريخ الذي نشأ فيه النظام الحزبي بتلك البلاد
وهنا سؤال أو أسئلة:
ظهر في فرنسا كتاب لمؤلف معروف، فما أسم الكتاب؟ وما أسم المؤلف؟ وكيف أختصم الأحرار والمحافظون حول ذلك الكتاب؟ ومن الباحث الذي أتخذ منه دعامة لنظرية الأحرار؟ ومن الباحث الذي أتخذ منه دعامة لنظرية المحافظين؟ وما جوهر الخلاف حول فكرة ذلك المؤلف؟ وما السبب في وصف المحافظين بالجمود؟ وكيف حُرموا الظفر بالحكم زمناً غير قليل؟ ومن المفكر الذي أنتشل المحافظين من ذلك الجمود؟ وكيف ظهر حزب العمال؟ وما هي الفلسفة التي أوجبت ظهور هذا الحزب؟ ومن هو المفكر الذي خلق هذه النزعة؟ ومن أتباعه في بلاد الإنجليز؟ وكيف كان حظ العمال حين واجهوا الجمهور الإنجليزي أول مرة؟ وكيف تخوف بعض الكتاب من أتساع شقة الخلاف بين تلك الأحزاب؟ وكيف نجت إنجلترا من عدوان الاشتراكية؟ وما هي الأسباب التي قضت بأن يكون الاشتراكيون الإنجليز أقرب إلى المحافظة والاعتدال؟ ومن أشهر الرجال في حزب العمال وحزب الأحرار وحزب المحافظين؟ ومن الرجل الذي خرج على حزبه في إحدى ساعات الحرج فأصابه بضعضعة لم يسلم منها إلى اليوم؟ وما مسلك الإنجليزي الشريف(386/14)
حين يختلف مع الحزب الذي ينتسب إليه؟ وما أخلاق الإنجليز في مصاولاتهم الحزبية؟
فإذا ألم الطالب بهذه المشكلات كان من واجبه أن يدرك كيف يختلف الأحزاب حول السياسة الخارجية، والسياسة الإمبراطورية، والسياسة الاقتصادية والاجتماعية، وأن يعرف كيف تتكون لجان الأحزاب، وكيف تسيطر على الجمهور للظفر في ميادين الانتخابات
كلمة ختامية
قرأت كتاب حافظ عفيفي في ثلاث سهرات، ولم أجد في استيعابه أي عناء، لأنه مفصل أجمل تفصيل وبأوضح أسلوب، ولكن يخيل إلي أن الطلبة لن يدركوا مراميه في مثل الوقت الذي راجعته فيه، لأني على أرجح الأقوال سبقتهم إلى الدنيا بأعوام قصار أو طوال، وللتجارب تأثير في إدراك أمثال هذه الشؤون
فإلى أساتذة السنة التوجيهية أسوق الاقتراحات الآتية:
أولاً: يجب (إن أمكن) أن يحضروا مع تلاميذهم بعض جلسات مجلس النواب ومجلس الشيوخ ليمكنوهم من تصور الحياة الدستورية، وإلا فمن واجبهم أن يقرأوا معهم بعض (المضابط) التي تسجلها (الوقائع المصرية)
ثانياً - من السهل جداً أن يحضروا مع تلاميذهم بعض جلسات المحاكم الأهلية والشرعية ليعطوهم فكرة واضحة عن نظام القضاء
ثالثاً - ليس من الصعب أن يزورا مع تلاميذهم بعض البنوك ليروضوهم على تصور المعضلات الاقتصادية
رابعاً - من واجب المدرسين أن يطلعوا تلاميذهم على ألوان الصحافة وأنظمة الأحزاب ليعلموهم كيف تساس الجماهير في مختلف البلاد
خامساً - في أسبوع واحد يستطيع المدرسون أن يزوروا مع تلاميذهم معاهد التعليم في مراحله المختلفات، ليطلعوهم على الأساليب المعروفة في تكوين الأذواق والعقول
سادساً، وسابعاً، وثامناً، وتاسعاً. . . (؟!) إلى آخر الاقتراحات التي يراد بها أن يفهم المدرسون أن سطور الكتاب منقولة عن سطور الوجود، وأن المدرس الحق هو الذي ينقل تلاميذه إلى آفاق المشاهدة والعيان، ليهديهم سبيل الفهم الصحيح
وعندئذ لن يكون من الصعب أن يقرأ الطلبة كتاب حافظ عفيفي في حدود طاقتهم الفكرية(386/15)
والعقلية وأن يخرجوا منه بمحصول يرضى عنه أساتذة الجامعة المصرية، وسبحان من لو شاء لجعل أولئك الطلاب طلائع الهداية للجيل الجديد
زكي مبارك(386/16)
في الاجتماع اللغوي
اللهجات الاجتماعية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تنشعب أحياناً لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم: فيكون ثمت مثلاً لهجة للطبقة الأستقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للبرادين، وسادسة للنجارين. . . وهلم جراً.
ويطلق علماء الاجتماع اللغوي على هذا النوع من اللهجات الاجتماعية تمييزاً لها عن اللهجات المحلية التي كانت موضوع حديثنا في المقال السابق
ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين الطبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم وتستأثر بقسط كبير من إنتباهم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعتهم وأعمالهم. . وهلم جراً فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها؛ فلا تلبث أن تنشعب اللهجة العامة إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ. . . وما إلى ذلك. وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيداً في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي أنشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخوانها، حتى تكاد تصبح لغة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها: كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين وبعض طبقات العمال ,(386/17)
ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافاً عن الأصل الذي أنشعبت منه، وبعداً عن المستوى العامل لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية
ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة بل تسير في نفس السبيل الارتقائي الذي تسير فيه (اللهجات المحلية)؛ فيتسع نطاقها باتساع شئون الناطقين باتساع شئون الناطقين بها، ومبلغ نشاطهم واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات، ويتواضعون عليه من عبارات، ويقتبسونه عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تركيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحلية بالطبقات الناطقة بها؛ فلهجات العمال والمجرمين بفرنسا تختلف بعد الحرب العظمى أختلافاً بيناً عما كانت عليه قبل ذلك؛ وتختلف في القرن العشرين أختلافاً كبيراً عما كانت عليه مثلاً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولا أدل على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها بتلك اللهجات في القرن الخامس عشر الشاعر الفرنسي فرنسوا فيلون لم يستطع بعد في العصر الحاضر حل جميع رموزها وفهم مدلولاتها
وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيراً كبيراً فتستعير منها هذه اللغة كثيراً من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أو حرفة وما إلى ذلك. فلغة المحادثة العادية بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية وبخاصة لهجات العمال والمجرمين
ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها من بعض تميزاً واضحاً في المدن الكبيرة حيث يتكاتف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف، وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات كنيويورك ولندن وباريس وبرلين في العصر(386/18)
الحاضر وكبغداد في العصر العباسي
وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه باللهجات الحرفية (نسبة إلى الحرفة)، وهي التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرفة الواحدة كالبرادين والنجارين والبحارة. . . وهلم جرا. وتتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزاً كبيراً في المناطق التي يسود فيها (نظام الطوائف) كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفاً على أفرادها لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها: كما هو الحال في كثير من بلاد الهند، على حين أنه في الأمم الحديثة التي قضى فيها على نظام الطوائف، فأصبحت الحرف حظاً مشاعاً بين جميع أفراد السكان، يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل، إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض، ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات.
هذا، وقد خيل إلى بعض الباحثين أن (اللهجات الاجتماعية) لا تنشا من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقاً، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة والواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها أرتجالاً، وتابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة؛ ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم.
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً؛ بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشر بين طبقات فقيرة جاهلة منحطة المدارك ضعيفة التفكير، لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين. . . وهلم جراً
والحق أن (اللهجات الاجتماعية) لا تختلف في نشأتها عن (اللهجات المحلية) التي تكلمنا عنها في المقال السابق. . . كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده؛ وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث من مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي في نشأة(386/19)
(اللهجات المحلية) يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص. . على حين أن السبب الرئيسي في نشأة (اللهجات الاجتماعية) يرجع اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد وما يكتنف كل طبقة منها من شئون، وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة
غير أننا قد نعثر أحياناً في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقاً في لغة البلد ولا في اللغات الأجنبية. ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعاً من بعض الأفراد وانتشرت عن طريق التقليد. ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة على لهجات الطبقات الراقية، ولا تبدو إلا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد، أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية. غير الغالب أن ينالها مع تقادم الزمن كثير من التحريف والتغير فتبعد بعداً كبيراً عن الأصل الذي أخذت منه. وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال. ولعل هذا هو ما حدا ببعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع
علي عبد الواحد داني
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(386/20)
كتب لم أقرأها
(شتاء في بلاد العرب)
للأستاذ عبد اللطيف النشار
قد يظهر غداً من يترجم هذا الكتاب، وقد يظهر من يكتب عنه بعد الفراغ من قراءته، فلك أن تقول: لم يكتب عنه هذا الذي لم يقرأه؟
والجواب أنه ما من يوم إلا والصحف والإنجليزية تتحدث عن مؤلفات تعد بالمئات وفيها عشرات تهمنا. وقد يمر العام تلو العام ولا تظهر في لغتنا ترجمة لأحدها، ولا كتابة وافية عن ثلاثة أو أربعة منها. وليس بمتسع عمر كاتب لقراءة كل كتاب يقرأ عنه في غير لغته ويتمنى أن تظهر له ترجمة في لغته لما يتوسمه فيما كتب عنه من أهمية عند ذويه
وعن هذا الكتاب (شتاء في بلاد العرب) نشرت مقالتان في عدد 18 نوفمبر سنة 1940 من جريدة الأجبشان غازيت. أما إحداهما فهي افتتاحية الجريدة لمحررها بعنوان (الشرق والغرب) وأما الثانية ففي صحيفة (الكتب) بقلم المستر آرثر بنفولد
أما والكتاب يشغل من جريدة واحدة في عدد واحد خمسة أعمدة طوال، وأما وهو عن العرب، وأما وهو واحد من عشرات تهمنا كلها موضوعاتها فلا أرى بدا من اقتراح أقترحه على أدبائنا. هو تلخيص ما يكتب عن كتب تهمنا ليكون هذا التلخيص تعريفاً بالجديد في الأدب الغربي مما يهم العرب، ولمن شاء أن يزيد فضله؛ وغير مجحود فضل السابق وإن بزه اللاحق، وغير مغموط فضل المشير وإن لم يأت بالكثير
الكتاب من وضع الآنسة فريا ستارك - طبعة موراي. وهو يصف حياتها واثنتين من زميلاتها في حضرموت في فترة الشتاء الذي وقع بين عامي 1937 - 38
أما إحدى الثلاث الأوانس فعالمة في علم الآثار، وأما الثانية فعالمة في علم طبقات الأرض، وأما الثالثة وهي المؤلفة فأديبة ذات شهرة خاصة بجمال الأسلوب وروعة البيان؛ ولها كتب أخرى قبل هذا الكتاب
ويظهر من كتابة الكاتبين أن أداة البيان ضرورية جداً في كتاب مثل هذا يتضمن شطر كبير منه وصف الطبيعة الدائمة التغير في الصحراء، ووصف الحياة بين الرمال وبين الصخور في عزلة عن الناس وفي أجواء وأحوال مغايرة لما ألفه من يكتب هذا الوصف(386/21)
وقد أقتبس المستر آرثر بنفولد فقرات كثيرات من هذا الكتاب للاستشهاد بها على تمكنها من ناصية اللغة والقدرة على الوصف
فإذا ما تخطينا هذا إلى ما هو أشبه بأن يهمنا وجدنا محرر الجريدة يقتبس الفقرة الآتية من مقدمة الكتاب بقلم السير كينان كورنواليس:
(والعربي إذا عومل كما ينبغي أن يعامل على أساس المساواة والمودة نيل منه خير ما يمكن أن ينال. أما إذا أحس بالتعالي عليه أو الانصراف عنه أو الميل إلى التحكم فيه، فلن ينال منه من يعامله كذلك إلا بما هو أهله. والعربي أكثر حساسية من الرجل العادي؛ فهو سريع اللمحة للدقيق، سريع الاستجابة للود والمحبة. وقد زادت وضوحاً أمامنا قيمة الصلات الشخصية والصداقات مع أهل الشرق الأوسط، كما وضح للجميع أذى الصلف والتعالي. وليس الإنكليزي العادي بالرجل المسرف في إظهار مشاعره نحو أبناء الشعوب الأخرى؛ ولكن الذي يقرأ كتاب الآنسة ستارك يتعرف الفوارق بين ما ينبغي وما لا ينبغي فيفيد من ذلك)
ويقتبس المستر بنفولد من صلب الكتاب فقرات يؤخذ منها فقرات أن في قبائل حضرموت سيادة دينية لرجال من قريش يقال لأحدهم (منصب). وهي تصف (المنصب) هذا بأن الناس يقبلون يده، وأنه مهيب الطلعة، يضع على رأسه عمامة خضراء، وأن سلطانه يتجاوز النفوذ الروحي؛ فهو يفرض ضرائب على الرؤوس، ويستولي على مواشي الذين يتأخرون عن دفع الضريبة حتى يؤدوها
وتقول المؤلفة إن الخطوة الأولى من خطوات الشرقي في سبيل الانحدار والسقوط هي تذمر من عوائده الموروثة، لأنه لن يستطيع أحد في تلك البلاد أن يشعر بالسعادة إلا إذا حرص على عوائدها واقتنع بها. . . إنه متى جنح إلى مثل الذي يجنح إليه الغربي من وسائل الراحة والرفاهية بدت له شدة فقره وصعوبة وسائله في الحياة وتراخي ففقد قوته الروحية، وفقد اعتداده بأهمية القوة الروحية في هذه الحياة
وتقول الكاتبة في وصف المرأة العربية إنها تحتفظ في شيخوختها بالجمال والهداة والعذوبة، ولا تظهر على وجهها تلك التجاعيد التي تظهر على وجه المرأة الغربية، وأحسب هذا نتيجة لنظام الاحتشام القاسي الذي يمنع اختلاف المشاعر المحدثة لتلك(386/22)
التجاعيد. وإذا كان لدى المرأة الغربية من ضبط النفس ما تقهر به تلك المشاعر، فلدى العربية مما فطرت عليه من الجد ما يذلل مشاعرها التي تراد في الغرب لتذليلها قوة ضبط النفس. ومثل العربية في ذلك كمثل الراهبات اللواتي قلما تظهر على وجوههن في الشيخوخة تلك التجاعيد، واللواتي يحتفظن بالوسامة رغم الشيخوخة، ويحتفظن بعلائم الاطمئنان والراحة
وفي الكتاب أقاصيص ونوادر يسرد منها مقرظة قول الكاتبة:
إن قاضي المدينة أخبرها بأنه سيفتتح دكاناً، وإن غرضه من ذلك تمضيه الوقت
قالت في دهشة: وماذا تبيع به؟ فقال: إن رأيه لم يستقر على شيء. ثم أخرج من جيبه أوراقاً وقال إنه لم يعد من مشروعه غير ما تضمنته هذه الأوراق من قصيدة سيعلقها على باب الدكان تحية للزبائن
وسواء أكان هذا القول من جانبها جداً أم هو هزل يراد به تجسيم محبة العرب للشعر في الكتاب هزلاً ولا شك فيه يراد به لفت نظر الغربيين، فمن ذلك ما زعمته من اعتياد الرجل في حضرموت أن يتزوج خمسين زوجة. وفيه إغراق في الوهم فمن ذلك زعمها أن حاكماً من حكام حضرموت أشترى ألف جارية من الصومال، فلما نقلن في سفن إلى البلاد العربية أتضح أنهن حوامل جميعاً وأنهن تركن في مكان ما من الصحراء حتى يضعن فتنشأ جيل من الناس بهذا المكان لا يشبهون العرب بل تدل ألوان بشرتهم وشكل شعرهم على أنهم من نسل صومالي
وتصف الكاتبة اعتقاد الأهلين بالجن وبالسحر وتنصف علماء الدين فتقول: إنهم ينكرون هذا كله، وتقول: إن مهر العروس هناك لا يجوز أن يزيد على أربعة عشر دولاراً ولكن تكاليف حفلة العرس لا تقل عن ستين دولاراً وتروي عن رجل عرفته أسمه السيد علوي أن نفقات زواجه بلغت ثلاثمائة دولار، وانه تزوج بدافع الحب، وأنه يعتقد إن زواج الحب هو الزواج الصالح وأنه لذلك لن يعدد الزوجات
هذا بعض ما وصف به الكتاب، ولعل فيه ما يكفي للتعريف به أو للاستزادة من التعريف
وأحسب أن في الكتابة عما لم أقرأه معتمداً على ما قرأت عنه ما لا تقل جدواه عن كتابتي عن كتاب قرأته إلى من لم يقرأوه، كلا الأمرين تعريف لمن شاء أن يعرف، وفي مجال(386/23)
البحث متسع للمستزيد
عبد اللطيف النشار(386/24)
السنوسيون
للأستاذ حسين جعفر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
غزو مصر:
خضع سيدي أحمد الشريف للحركة الإسلامية التي أحياها عبد الحميد الثاني سلطان تركيا وأستمر فيها خليفته. وذلك أدت السنوسية مساعدات مادية قوية للأتراك حينما غزا الطليان طرابلس الغرب سنة 1911، ولما اضطر الأتراك إلى الاعتراف بالهزيمة أستمر سيدي أحمد في حربه ضد الطليان في حربه ضد الطليان يساعده بعض الجنود التركية الذين ظلوا في البلاد - خلافاً لما قضت به معاهدة لوزان - وفي ابتداء الحرب العظمى الماضية لم يكن للإيطاليين غير جزء ضيق من الشاطئ، وكان السنوسيون حكاماً على داخل البلاد، وقد عرضت شروط للاتفاق بين الإيطاليين وسيدي أحمد في النصف الأخير من سنة 1914 وكاد يتم الاتفاق لولا أن السيد أحمد رفض أن يقبل مركز (باي) تحت الحماية وما جاء ربيع سنة 1915 إلا وكان السنوسيون يهاجمون المواني الموجودة تحت يد الطليان
وحوالي هذا الوقت تمكن عدد من الضباط الأتراك والألمان الذين يتكلمون العربية من الهرب إلى داخل البلاد، وبواسطة العروض المختلفة والتملق أمكنهم أن يؤثروا على سيدي أحمد - على كره منه - فيعلن حرب الجهاد ويغزو حدود مصر الغربية. وكان سيدي أحمد متردداً ولم يكن تردده هذا خافياً على الإنجليز في مصر. ولذلك أرسلوا في نوفمبر سنة 1915 أبن عمه السيد محمد بن إدريس من الإسكندرية ليتفق معه على أن يتخلص من مستشاريه الأتراك في مقابل مبلغ من المال، ولكن كان الوقت قد فات لأن سيدي أحمد كان مثقلاً بالأموال والأسلحة التركية والألمانية
وفي نهاية سنة 1915 غزا سيدي أحمد حدود مصر الغربية بجيش عدده خمسة آلاف مقاتل على أكثر تقدير مع عدد من الجند الأتراك يبلغون الألف عداً. وكان الخطر الحقيقي في أن أي نجاح يناله السنوسيون قد يدفع البدو المقيمين على حدود مصر الغربية وفي داخل البلاد نفسها إلى الثورة(386/25)
وبسب الاستعدادات الاحتياطية التي قام بها الجنرال السير جون مكسويل - قائد الجيوش البريطانية في مصر إذ ذك - فشل السنوسيون في إحراز أي انتصار. ولم يأت فبراير سنة 1917 حتى هزم سيدي أحمد هزيمة تامة فتقهقر إلى واحة جغبوب. ويظهر أن عدم نجاح هذا الغزو أثبت بصورة جلية أن طريقة السنوسية لم تكن ذات قوة سياسية أو روحية كما تصور الناس من قبل
وقد بذل الألمان والأتراك جهدهم في استخدام قوة السنوسي الروحية لإحداث اضطرابات في جهات غير مصر ففي السودان أمكنهم أن يؤثروا على السلطان على دينار سلطان دارفور ليثور ولكنه هزم هزيمة قاطعة بقوة مصرية تحت قيادة الماجور ب. ف كيلي في مايو سنة 1916
ولم يكن للسنوسي في باقي أنحاء السودان المصري الإنجليزي إلا أتباع قلائل، فإذا ابتعدنا غرباً متجهين نحو بحيرة تشاد نجد هناك أيضاً بعض الاضطرابات ولكن الفرنسيين في تقدمهم نحو الشمال من بلدة كانين واحتلالهم الحدود الصحراوية واستيلائهم على عين جالاكا - في إقليم بوركو وهي قاعدة السنوسي الجنوبية - في سنة 1913، كل هذا مع بعض المراكز الفرنسية الأخرى كونت حاجزاً دفاعياً ضد غارات السنوسي. أما في المناطق الداخلية من طرابلس فقد كان سلطان السنوسي قوياُ أضطر الطليان معه إلى الانسحاب نحو الشاطيء، وكان سيدي محمد العبيد وهو شقيق السنوسي يحكم فزان حتى مدينة فزان صيف سنة 1917
العلاقات مع الطليان
لم يوافق سيدي محمد الإدريسي وبعض رؤساء الجنوبيين على غزو سيدي أحمد لمصر، وكان سيدي محمد من طول إقامته بمصر قد أكتسب معلومات عن الأحوال التي كانت تعوز سيدي أحمد، والإدريس رجل مسالم بطبيعته. وقد عقدت الحكومتان الإيطالية والإنجليزية معه اتفاقاً في سنة 1917، وأقر شيوخ الطريقة سيدي محمد الإدريس على أن يكون السنوسي الأكبر. وفي أغسطس سنة 1918 وجد سيدي أحمد المقهور والمخلوع أن من الأفضل له أن يغادر طرابلس، فغادرها على ظهر غواصة ألمانية من مصراطة إلى تركيا مع استمرار ادعائه أنه رأس الطريقة(386/26)
وفي سنة 1919 أرسل الإدريس أخاه رضا في بعثة إلى روما وبواسطة اتفاق عقد في نوفمبر سنة 1920 أعترف الإدريس بسيادة الطليان وأعطى لقب أمير وجعل وراثياً في ذريته مع استمرار سلطته على واحات الكفرة وجغبوب وجالو وأدجيلة وجديبة. واستمرت العلاقات السلمية مدة من الوقت ولكن الإيطاليين تحت حكم الفاشيست وجدوا موقفهم هذا متعباً، وكان لديهم أدلة تثبت أن الإدريس كان يشجع الثوار في طرابلس الذين عرضوا عليه أن يكون زعيمهم وأميرهم. ففي أوائل سنة 1923 أعلنت حكومة الفاشيست أن الاتفاق السابق مع السنوسي يخل بكرامة الحكومة ولذلك فهي تنقضه. ولذلك أنسحب الإدريسي في يناير من تلك السنة إلى مصر وظل هناك والظاهر أنه لم يفقد أي سلطان روحي له على الناس وأعلن أتباعه أن السلطان الروحي أهم بكثير من السلطان الزمني. أما في شمال طرابلس فقد ظلت المقاومة السنوسية للطليان تحت زعامة الشيخ رضا وكانت بطبيعتها حرب عصابات
وقد حسن الطليان مركزهم في مقاومة النشاط السنوسي بواسطة اتفاقهم مع مصر في 6 ديسمبر سنة 1925 وقد منحهم الاتفاق واحة جغبوب على أن تكون الحدود جنوب هذا المكان على خط عرض 25 درجة. وبذلك أدخلت واحة الكفرة ضمن الحدود الطرابلسية. واحتلت جغبوب بواسطة الإيطاليين في فبراير سنة 1926 بلا معارضة - وهي بالنسبة للسنوسيين مدينة مقدسة إذ أنها تضم جثمان مؤسس الطريقة السنوسية وكذلك تحتوي على زاوية لتعليم الإخوان
وفي سنة 1927 قام الإيطاليون في شمال طرابلس بحملة منظمة كانت نتيجتها تسليم سيدي رضا في 3 يناير سنة 1928 فنفى إلى صقلية. وفي ربيع نفس السنة احتلت واحة جالو وبعض واحات أخرى واستمرت الأعمال الحربية ضد رجال القبائل بشدة حتى ما جاءت سنة 1929 إلا وكانت واحة الكفرة هي الباقية للسنوسيين
تعاليم الطريقة:
من المحتمل أن عدد الإخوان السنوسيين. ليس كبيراً ولكن لهم أتباعاً ومريدين في كثير من البلاد، وفي حين نجد كثيراً من طرق الصوفيين بلا أساس وبغير ضابط مع تداخل في السياسة تداخلاً غير مجد - نجد السنوسيين شغلوا مركزاً واضحاً ومؤثرا في السياسة، وكل(386/27)
رائدهم في ذلك أحياء الإيمان وتعاليم الإسلام الأول. ويمكن اعتبار الطريقة مقتبسة من الحركة الوهابية. ويفهم من المصادر التي يمكن الاعتماد عليها أن الطريقة ليست عديمة الأساس، وأنها كذلك ليست محافظة بل مجددة. وهي قليلة الأسرار بالنسبة إلى غيرها من طرق الإخوان المسلمين، واستعمال التبغ والقهوة محرم ولكن الشاي مسموح به، وكذلك لبس الملابس. الرفيعة وفي حين أنهم يعترفون بأنهم على المذهب المالكي فإن علماء القاهرة كثيراً ما كتبوا عن انحراف السنوسيين عن الإيمان الصحيح، ومعظم الاتهامات تنحصر في أنهم فسروا القرآن الكريم والسنة بدون الاعتماد على مصادر معترف بها، ولذلك يعتبر العلماء المصريون أن السنوسيين ينشئون بذلك مذهباً جديداً لا طريقة جديدة في العبادة وهم في ذلك يُشبهون الوهابيين خصوصاً في دقة أتباعهم لنصوص الدين
وبصرف النظر عن التعاليم الدينية نجد أن عملهم الرئيسي - وذلك قبل احتكاكهم بنشاط القوات الأوربية الاستعمارية - الغرض منه الاستعمار وتشجيع التجارة، وقد حفروا الآبار ووزعوا الواحات وانشئوا أماكن للاستراحة على طول طريق القوافل ورحبوا بالتجار من طرابلس وبرنو وواداي ودارفور. كل هذا دونه الكتاب الإسلاميون ووكالات الفرنسيين والإنجليز في تقاريرهم
والسنوسيون كانوا على اتصال دائم بالإدارة المصرية في واحة سيوه، ولسنين عديدة خلت كان ممثل السنوسي على وفاق تام مع السلطات المصرية، وإخلاص السنوسيين لرسالتهم لا شك فيه. وأتباع الطريقة خارج المناطق المجاورة لمركزهم من أوساط عالية على نقيض الطرق الإسلامية الأخرى، ووكلاء الطريقة في البلاد أشخاص معروفون أغنياء متعلمون تعليماً جيداً وخصوصاً في فقه الإسلام وهم عادة على وفاق تام مع حكام البلاد التي يعيشون فيها، وهؤلاء الوكلاء يقومون عادة برحلات سنوية إلى الزوايا المختلفة الموضوعة تحت إشرافهم شارحين لأتباعهم تعاليم السنوسية
حسين جعفر
المهندس الزراعي(386/28)
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 3 -
المحاورة خيالية بين الفيلسوف أفلاطون وبين أحد المربين
الإنجليز. وقد دارت في المقالين السابقين حول نظام التربية
في إنجلترا والغاية منها، تلك الغاية التي يوضحها المربي
بأنها إعداد الفرد ليشترك في الحكومة الديمقراطية بطريق
انتحاب رجال الحكم، وأعضاء المجالس النيابية وهذه التربية
- كما يقول المربي الإنجليزي - تجربة في الحكم الذاتي، أي
حكم الشعب نفسه بنفسه. ويرى أفلاطون أن تربية الشعب
عامة محدودة ولا تكفي لأقداره على الأشراف على تصرفات
الحكومة، وسياستها الداخلية والخارجية. ولكن المربي يقرر
أن نظام التربية في إنجلترا يسمح لكل فرد أن ينال خبرة
مهنية فنية، وأن يصيب من الثقافة العامة ما يمكنه من معرفة
شئون السياسة العامة للأمة. والفرص متاحة تؤهله مواهبه
الطبيعية لأي نوع من أنواع التعليم أوليا كان ثانوياً أو
جامعياً. وهنا يقترح أفلاطون أن تترك مقاليد الحكم للجامعيين،(386/29)
وحملة الشهادات العليا، لما هم عليه من ثقافة فلسفية وعلمية.
بيد أن المربي لا يشاركه الرأي. ويقول: إن الحياة جامعة
الجامعات، وأبواب المناصب مفتوحة لكل من تزكية كفايته
وخيرته لأيها، سواء أكان من أبناء الجامعات أم من غيرهم.
أفلاطون: لا شك أنك ستجد ضرورياً أن تفرق بين نوع التربية الملائم للرجال المسئولين، وذوي التبعات الوطنية، وبين نوع التربية الملائم للصناع والعمال. فتربية الأول هي تربية ثقافية عالية، بينما تربية الآخرين تربية فنية مهنية.
المربي: أنا لا أومن بهذا الرأي. إننا نعتقد في بلادنا أن كل فرد يجب أن ينال نصيباً آخر من التربية غير تلك التربية الآلية التي تعده للمهنة أو الصنعة، لأن كل الأفراد قد منحوا صفة البشرية، وصفة التعقل والإدراك، ولهم قوى كامنة يمكن أن تتقبل الثقافة والحكمة. ولهذا يجب أن ينال كل فرد إلى تربيته المهنية تربية ثقافية عامة.
أفلاطون: ولكن أتسمحون بهذه التربية الثقافية العامة للموهوبين وغير الموهوبين على السواء؟
المربي: كلا هذا مستحيل، أولاً لأن السواد الأعظم من تلاميذ المدارس يكتفون بالتعلم إلى نهاية المرحلة الأولية، أعنى إلى سن الرابعة عشرة؛ وثانياً لأنه ليس كل الأفراد صالحين للتعليم الجامعي.
أفلاطون: إنني موافقك على هذا بكل قواي. إن الطبقة قلية الذكاء من أبناء الشعب والتي أسميها العامة في (مدينتي الفاضلة)، لا تفهم الفلسفة ولا تتمتع بها والأفراد القلائل منها الذين يتذوقون طعم الفلسفة يخدعهم أول أفاك يقابلون، أو متطبب، أو متدين محتال يستولي على قلوبهم بعبارات الدين الخلابة. إن ذوق العامة يميل دائماً إلى الدون من كل شيء. ولا يفرق بين التكحل والكحل، ولا بين الحقيقة والخيال. وهذا هو ما دعاني لأن أحظر على العامة دراسة الحقائق والعلوم الفلسفية، وأن أقصرهم على الأساطير، وأحاجي الآلهة، والأقاصيص الخيالية. تلك الأشياء التي أسميها (الأكاذيب النبيلة)، والتي يجب على(386/30)
الحكومة أن تهيئها للعامة لترضي رغبتهم الملحة في التثقيف والتنوير، ولتمدهم بشيء يتحدثون عنه وتلوكه ألسنتهم، حينما يجلسون ليقتلوا أوقات فراغهم. ولقد سمعت بأمة مجاورة لكم قد عملت وزارة للدعاية وتنوير العامة. وكم أفعم هذا الخبر قلبي سروراً، لأنه يدل على أن من بين أعضاء حكومة الأمة من يقدرون الأخطار التي تنجم ترك العامة يطمعون أخلاط الثقافات والآداب والموسيقى لا فرق بين غثها وسمينها، فتؤثر هذه الأخلاط في نفوسهم، وتحملهم على الثورة وسوء النظام
المربي: أحسب أنك لا تمتاز كثيراً عن الفاشستي! كيف تحل هذا النوع من الدعاية الحكومية التي يقصد بها استرقاق عقول الناس، وحقنهم بالأكاذيب، والأخبار المموهة؟ إن هذا لهو القضاء النهائي على الحرية
أفلاطون: وهل يتمتع حقاً أبناء شعبك بالحرية؟ أليسوا هم أيضاً أرقاء للأكاذيب والأخبار الفجة التي يطالعونها كل يوم في الصحف، وفي السينما، وفي القصص الروائية، ويسمعونها من الخطباء في الأندية والنقابات؟
المربي: يجب أن أعترف بكراهيتي لهذا النوع البخس من الصحف اليومية التجارية، ولهذا النوع الدون من إنتاج السينما. ولكن لا تنس أن الإنجليزي حرمها كانت الحال ليختار لنفسه، فهو ليس مجبراً لأن ينصت لجانب واحد من الدعاية، بل له أن يسمع كل الآراء والقضايا، ويكون هو بعد ذلك حكمه الخاص
أفلاطون: لا تتعجل في نتائجك. أنت تقول: إنه حر الاختيار فكيف يتسنى له هذا إذا لم يكن عنده مقياس للاختيار، ولم يكن له المحك الذي يميز به الزيف من الصحيح؟ من المؤكد أنه لا يستطيع الاختيار. ولذلك فهو زائغ الفكر متحيراً، قد بهرته أسراب الخيالات التي تطن في أذنيه طنين النحل، حتى لا يدري أواقف هو رأسه أم على قدميه. صحيح إن سماع أخلاط من الأخبار المموهة أكثر إمتاعاً من سماع خلط واحد، ولكني لا أستطيع أن أفهم لم تدعي أن الفرد في الحال الأولى حر ليختار وفي الحال الثانية رقيق يقبل كل ما يسمع. إن حقيقة الأمر هي أنه ما دام الفرد لا يستطيع التمييز بين الزيف والصحيح فليس بحر، سواء أكان هذا الفرد إنجليزياً أم ألمانياً أم أثنياً
ولذلك فإنني حينما أفكر نظام التربية القائم عندكم، والذي تقولون عنه إنه تجربة في الحكم(386/31)
الذاتي لا أجد شيئا من هذا الحكم الذاتي المزعوم، لأن هذه التربية التي تبالغ في حمدها لا تجعل العامة أحراراً، ولكنها تبعث على الغرور والادعاء في نفس متلقيها. والنتيجة هي أن هؤلاء العامة الذين تلقوا هذه التربية قد أصبحوا أكثر تعرضاً لخطر تجار الثقافة والمعارف، وأعني بهم أولئك الدجالين الذين يخدعون العامة بمقالاتهم الطنانة وإعلاناتهم الثقافية لابتزاز المال، لا من أيدي الصناع والعمال، بل من أنصاف المتعلمين. والدليل على قولي هذا بسيط. فلو كانت تربيتكم صحيحة حقاً لما ظل في بلادكم هذا النوع من تجار الثقافة، بل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت فهاجروا إلى بلاد أخرى. أما وهم لا يزالون بين ظهرانيكم فهذا دليل على أن التربية القائمة عندكم لا تكون المناعة الكافية ضد تجار الدين والثقافة والعلوم
وشبيه هذا ما يحصل في ميدان السياسة. فالجمهور لا يستطيع طبعاً أن يفكر في شئون السياسة تفكيراً سليماً. وهو يظن زعماً أن تربيته قد كونت منه سياسياً مفكراً، هذا الظن الذي يجعله أكثر خضوعاً لأنواع الدعاية والإعلان السياسي. ويخيل إلى أن كل صانع أو عامل نال شيئاً من التربية العامة الأولية يعتقد أنه قدير على الفصل في الأمور التي ليس له فيها تجربة أو معرفة
إنك تدرك معي الآن أنه من السهل على أي خطيب من خطباء السياسة مليء الجيب وحاد اللسان، أن يخرج على الناس بمشروعات ضخمة يخدع بها أنصاف المتعلمين، فيرضي فيهم الميول الطائشة، ويستولي على مشاعرهم بإثارة عاطفة الادعاء فيهم ولقد حدثت عن أنواع السفسطائين الذين يحتالون باسم الثقافة والعرفان، والذين يعيشون بينكم ناعمي البال. وأعتقد أنك لا تستطيع أن تنكر أن هؤلاء إنما يرتعون في أموال المتعلمين من أبناء جنسك. على أن هذه الحال إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النفس البشرية لا تخضع دائماً للحقائق والمعارف الصحيحة التي تقدم لها في المدارس والمعاهد، وإنما تجنح إلى شيء آخر: إلى الخيال والكرامات، والمعجزات. وتقبل - كلما سنحت لها الفرصة - الخرافات والخزعبلات، بدلاً من أن تتقيد بقوانين العلم وأسس المعرفة الصحيحة. وذلك لآن الحقائق ليست حلوة المذاق دائماً، وليس لها تلك الجاذبية التي للدعاوى الخادعة
من أجل هذا كله أرى لزاماً عليكم أن تكونوا حذرين فيما تعملون لأجل سعادة أمتكم(386/32)
وصلاحها. لأن التربية المحدودة تجعل الفرد يخدع نفسه بنفسه، ويظن أن المعارف أمر سهل المنال، وأن أبوابها مفتحة لكل من قرأ كتاباً أو سمع محاضرة
وهذا ينطبق أيضاً على الديمقراطية عندكم. فإنني أخشى أن تكون هي الدكتاتورية التي تكرهونها، ولكن في ثوب الديمقراطية، فيخدع العامة بما يقول مروجوها
وفي ظني أن قادة الرأي عندكم ليسوا أحراراً أيضاً فيما يقولون ويفعلون فمحررو الصحف، وواضعو الأفلام، والخطباء، ورجال السياسة، والناشرون، كل أولئك ليسوا أحراراً يعملون ما يشاءون، ولكنهم خاضعون لميول العامة وذوقهم، حريصون أن يقدموا لهم ما تستسيغ حلوقهم
المربي: لقد تحقق ظني فيك، فقد حسبتك فاشستياً من طليعة حديثك. والآن أصبح الحسبان، يقيناً فأنت لا حرمة عندك للجماعة البشرية، وليس في قلبك حدب عليها ولا حب لها. أنت تريد أن تسيطر على كل فرد، وأن تجعله يعتقد ما تعتقد. وإنني أؤكد لك من الآن أنك لن تجد من يعطف عليك في بلادنا ولا من يشاركك الرأي
أفلاطون: أن ما تقول لجائز، ولكن أعلم أني غير راغب في إخفاء الحق رغبة مني في عطف أهل بلادك على، ومع هذا لا أعتقد أنهم سيكرهونني كما تفكر، إنهم أعقل مما تظن
المربي: إن ما أستطيع استنباطه من حديثك هذا هو أنك تريدنا أن نرجع إلى الوراء، إلى الزمن القديم، زمن جهالة العامة وحكم طبقة الأقلية الخاصة، زمن مدارس أولاد الأعيان
أفلاطون: كلا. أنا لا أريدكم أن ترجعوا إلى الوراء، وإلى الزمن القديم. لأن الرجوع للوراء مستحيل، ولكني أحب أن أذكرك أنه ليس من الضروري أن يكون القديم فاسداً والجديد صالحاً، فقديماً - وقبل الحكم الديقراطي، وقبل التعليم العام - كان شعبكم مكوناً من طبقتين: طبقة الأرستقراط، وطبقة العامة. ولم يكن ثمت ضير. وكان العامة صناعاً وعمالاً وزراعاً وكانوا مسرورين راضين بأعمالهم ومنهم، قادرين عليها وكانوا سعداء قانعين بحياتهم، بالرغم من أنهم لم يتمتعوا بنظام التربية العامة الحالي. وقد تركوا شئون الدولة للأعيان والأرستقراط، وكانوا يؤمنون بالتعليم، الديني، وكل ما يتعلق بالفضيلة والخطيئة والحياة الآخرة، وهل لي أن أذكرك أيضاً أن ذلك الزمن القديم هو الذي بنت فيه بريطانيا إمبراطوريتها، وأنتجت النابغين من رجال الفن ورجال الأدب الذين يحق لها أن تفخر بهم؟(386/33)
وكان ولاة الأمور في ذلك الوقت ذوي بصر واتزان وحكمة، عليمين بالتبعات الشاقة الملقاة عليهم، وكان الشعب مطمئناً إلى أن السياسة الحكيمة للأمة لا يحسنها إلا الأرستقراط ورجال الدين
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(386/34)
يا عروسي. . . في قبرها
(لقد تعجلنا يوم الزفاف. . وتعجل القدر فزفها إلى قبرها. . .
ولم تلبس ثوب عرسها)
للأستاذ علي متولي السيد
. . . منذ أربعة شهور تحقق الحلم الذي أملناه. . . ودنت أو كادت - تلك الأماني التي طالما ترقبناها. . . ووضعت يد في يد. . . وسأل سائل وأجاب مجيب. . . وأخذنا الميثاق. . . وتعاقدنا أمام الله والناس. . . ثم أنفض المجلس وارفض السامر وخلا المكان إلا مني وإلا منك. . . ونظرات الحياء ترمقيني بها في سحر وفتنة. . . والابتسامة البنفسجية الرائعة تحدثيني بها في خجل ومتعة. . . رويداً رويداً ترفع الكلفة بيننا. . . فتنطلقين تحدثيني وأنطلق. . . ونظل زمناً من الزمن بعيدين عن العالم وما فيه. . . الدنيا تبكي ونحن نضحك والعام كله يقف على أسنة الحراب وألسنة اللهب ونحن في نشوة الفرح نرشف عذب الهوى وفي غمرة الحب نسقي بكأس الأمل ونهزج سوياً بأغرودة السعادة. . . وطيور السماء فوقنا تبارك بالنشيد الباسم حبنا الموفق. . . وهمسات الأهل والصحب حولنا تؤيد بالدعاء الصادق عهدنا المقدس. . . ونحن في حلم الهناء نتعجل يوم الهناء. . . فننطلق معاً إلى القاهرة نعد معدات العرس. . . ونختلف ونتفق. . . وأوثر اللون الأحمر وتفضلين اللون الأخضر، ونفتن في اختيار الأثاث نقلبه على شتى وجوهه ونطرق من أجله كل معرض نزاوج بين ذوق وذوق. . . ونرسم معاً - في أنفسنا - حجرة النوم وحجرة الاستقبال وموضع هذا في هذه ومكان هذا في تلك، ثم نعود وقد أعددنا كل شيء ولم تبق إلا أيام قليلة نسعد بعدها بالزواج الموفق الهنيء. . .
. . . ثم تدفعني بعض أسباب الحياة لأسافر سفراً قصيراً، وأعودك بعد العودة، وقد حملت لك باقة من زهرات البنفسج التي تحبين وتعشقين. . . فأجدك طريحة الفراش، وأنظرك فأراك ساهمة واجمة، وأتأمل عينيك فأرى فيهما دمعة حائرة تترجرج. . . وأسألك ما بك؟ فتشكين إلى بذات الجنب. . . وأهدئ جزعك، وأنهنه شكواك وأكتم في نفسي الألم البالغ، وأتعمل الهدوء لأشعرك بأنها نكسة خفيفة. . . ونذهب إلى الطبيب ليفحصك. . . فيهون(386/35)
الأمر على نفسك وعلى نفسي. ويعطيك دواء حسبنا فيه الشفاء. . . وخلناه جميعاً سحابة صيف سريعاً تنكشف. ولكن المرض يلح، ولكن العلة تزداد. . . ولكن اللون الأحمر الطبيعي الجميل الذي يزين وجهك يتحول إلى صفرة باهتة فيها معنى الموت. . . ولكن عينيك النجلاوين يشوبهما تلون غريب يشعر الناظر إليه بمعنى الفناء
. . . وأقضي الليل مسهداً إلى جانبك مؤرق القلب والفكر مفتوح العين أرمق عينيك الساجيتين فأسمع من نظرتهما معنى الذبول، وأرنو إلى فمك النائم فيهزني صمته بنشيد الموت. وأجدك تحملين يدك بجهد وتمدينها إلي متثاقلة لأضعها بين يدي كما كنت تفعلين. . . وكأنك تطلبين مني اليوم عهداً جديداً على الوفاء. . .
ثم. . . ثم. . . ثم ما زالت يدك بين يدي تزلزلني شهقتك الطويلة وتسلمين الروح لبارئها. . . وتنتقلين سريعا ً - ونحن معاً - من دار إلى دار. . .
يا عروساً لم تلبس ثوب عرسها. . .
إنها دارك. . . وقد زيناها معاً. . . فهي محرمة على غيرك. . . وسأقضي ما بقي من العمر فيها وحدي. . . أرتل - خاشعاً - في محرابها صلوات الهوى الطاهر اعف والحب الملائكي النبيل
هاهو ذا رسمك يا عروسي يطالعني صباح مساء وكأنك أنبته عنك ليكون شاهداً على إن نكثت بالعهد ولعبت بالميثاق. . .
هاهو ذا رسمك يا حبيبتي معي دائماً. . . لن أقبله. . . لن أضمه إلى صدري. . . وكيف؟! وقد تعاهدنا على أن نعيش في الحرمان حتى يوم الزفاف، وضننا على أنفسنا حتى بالقبل البريئة. . . وكنا يهود الهوى فالخزائن ملآى. . . وما بها حلال لنا، والرقباء غفل ولكننا كنا البخلاء تدخر كل لذة وكل متعة ليوم الزفاف. . . يوم نعب كما نشاء في عش الزوجية الجميل. . .
يا عروسي. . . في سمائها!
لقد شئنا. . . وشاء الله. . . فما نملك من أمرنا شيئاً، وإن رحلتك إلى هنا ختامها. وأما شوطي فما زال فيه بقية. . . سأقطعها وفياً لعهدك صائناً حبك. . . مقدساً ذكرك. . . ولن أكون في هذا إلا راداً لك بعض حقك، مؤدياً لك يسيراً من دينك. . .(386/36)
يا عروساً. . . زفت إلى قبرها. . .!
لقد كنا نتعجل الزفاف، نحشى أن يجرفنا تيار الحرب فنذهب في غباره. . . وكم أعددنا الهدايا الرقيقة الضاحكة نفاجئ بها صحبنا تعجلنا يا عزيزتي. . . وتعجل القدر. . . فاختطفك الحمام وأثواب العرس ما زالت تحاك. ووسائد الفراش ما زالت تنجد. وضمك القبر قبل أن يضمك الحبيب، وأعلام الفرح الخضراء نكسناها في يومك الرهيب. . . والبطاقات الوردية الجميلة التي أعددناها للمدعوين جللناها بالسواد، ونعياك بها للمشيعين والمعزين
يا عروسي. . . في جوار ربها. . .!
وداعاً. . . وداعاً. . . إلى لقاء. . .
علي متولي السيد(386/37)
من وراء المنظار
صاحب السلطان الزائف
ليس لديه من دواعي السلطان غير رتبة البك، أما المال فحظه الحقيقي
منه قد لا يسلكه حتى في أمثالنا من عباد الله القانعين المتواضعين؛
ومع ذلك فقد توافى له من البأس والسلطان ما يندر أن يتوافى لغيره
من ذوي الثراء العميم والحسب القديم. وأتفق له في غير مشقة من
وسائل جمع المال ما لو أنفق لسواه من أهل الكدح والجد لعد عندهم
من أنعم الله التي ينسى معها كل عنت ويهون في سبيلها كل نصب. .
. وهو والحق يقال أحد أفراد أسرة فيها من رزق حظاً عظيماً من
الثراء وإن لم تكن كغيرها من الأسر الكبيرة القائمة حولها معرقة في
الفضل والحسب
كان يتداخلني العجب كلما ترامى إلى شيء من أنبائه، حتى لقد تاقت نفسي آخر الأمر إلى رؤيته كما كانت تتوق وهي غريزة إلى رؤية الغول ولكن على بعد وفي مأمن من أظفاره وأنيابه، وكما قد تتوق اليوم إلى رؤية الدتشي مثلاً وغيره من غيلان الإنسانية رؤية آمنة في غير الورق أو السينما! ولقد تميل النفس إلى رؤية ما تكره كما تميل إلى رؤية ما تحب وهذه من عجائب غرائزها!
وتحققت لي رؤيته أخيراً في قريتنا وهي ملتقى عدد من القرى بينها قرية ذلك الآمر الناهي. وكان ساعة رأيته يجلس في حاشية من (محا سيبه) أمام مقهى من المقاهي على الطريق العام، وهو لا يحلو له الجلوس إلا حيث يراه الغادون والرائحون، فما يراه أحد من ذوي المكانة إلا أقبل عليه مرحباً مسلماً، وما من صاحب حاجة إلا ويشكو إليه حاجته ويلتمس عنده طلبته
وجلست غير بعيد أنظر إليه في جلبابه الفياض وقد دفع طربوشه إلى مؤخر رأسه، واتكأ على عصاه تحت إبطه، وشمخ بأنفه، ورفع رأسه إلى آخر ما يسمح به وضع طربوشه(386/38)
الذي ضللت أتوقع من حين إلى حين سقوطه وراء ظهره حتى رأيته يهوى ولكن ليرفعه أحد الجالسين في أقل من ارتداد الطرف، وقد تزاحم عليه نفر منهم بطمع كل واحد أن يحظى بشرف إزالة ما علق به من التراب بكم جلبابه
وجاء الندلُ مذ رأوه فأحنوا جباههم ورفعوا أيديهم يحيون (سعادة البك) في ابتسام واحتشام، ودارت أقداح الشاي والقهوة على الجالسين؛ وكان لا يني البك عن طلبها لكل قادم في لهجة كريمة حازمة
وشكا البك من غبار الطريق، وسأل محنقاً: ماذا يصنع المجلس القروي إذا؟ ووعد أن يتحدث في ذلك إلى المأمور فسيلقاه في المركز غداً. . . وإذ جاء ذكر المأمور تقدم رجل في يده عريضة وهو يقول: (يا سعادة البك الله يخليك. . .) وقطع عليه سعادة البك كلامه متسائلاً: ألم تنته مسألته بعد؟ ثم تناول منه ورقته ودمسها في جيبه وصرفه طالباً إليه أن يقابله عند باب المركز صباح الغد، وما لبثت العرائض أن تزاحمت على جيب البك. . . فهذا يرجوا أن يكون خفيراً، وذلك يطمع أن يعين فراشاً، وفلان يرجو نقل أبنه إلى بلد قريب، وآخر يستعجله ما وعد في أمره، وهو يكرر لهم جميعاً وعوده مؤكداً مستمهلاً إلى أمد قريب. . .
وتسلل أحد جلسائه إلى هؤلاء فتحدث إلى كل منهم على انفراد برهة، ثم عاد إلى حيث يجلس سيده وفي جيبه هو أيضاً ورق ولكن من نوع آخر!
ولاح ضابط الشرطة مقبلاً فأفسح الجالسون له مكاناً قبل وصوله، وأقبل فسلم على البك في اهتمام عظيم لا تفلته عبارة من عبارات الترحيب ولا يفوته شيء مما يحفظ من التحيات يشفعها جميعاً بألقاب التعظيم والتبجيل؛ وبدا لي أنه ضابط ذكي إذا كان يزيد في ترحابه وتحياته كلما رأى أثرها الطيب على قسمات البك، وقل في الضباط من لا يتقن هذا التهويل في مناسبة كهذه، فهو لا يكلفهم شيئاً، أما ما يعود عليهم منها فأقل ما يرجونه أن يكف عنهم أمثال صاحب السلطان هذا ألسنتهم عند أولى الأمر إن لم يجودوا عليهم بالثناء والإطراء بل وبالشفاعة والرجاء إذا اقتضى الحال شفاعة أو رجاء
وأرتاح البك إلى حضور الضابط فانطلق يتحدث عن مقابلاته التي ضاق بها ذرعاً، فحسبه أن قابل فلاناً وفلاناً من الوزراء في أسبوع أكثر من ثلاث مرات، أما مقابلاته للمدير فأكثر(386/39)
من أن يحصرها عد؛ ثم يمسك البك قليلاً ويعود فيقسم بحياة أبيه وقد تصنع الغضب أنه لولا ابتغاء وجه الله لما رضى بأن يسود وجهه من أجل الناس على مثل تلك الحال الأليمة
وتعلق منظاري بمرآه فما يكاد يتحول عنه؛ وذكرت ما ترامى إلي قبل من أنبائه وصدقت ما كنت أحمله قبل رؤيته على المبالغة؛ فهذا الرجل جدير حقاً أن يذهب بنفسه، كما علمت وقد توسلت به بغي معروفة، فيرجو لها من بيدهم الأمر ألا يحول الشرطة بينها وبين ما تأتيه من الفجور في أحد الموالد، لا لشيء إلا ليثبت جاهه في ساحة المولد. . . وهذا الرجل جدير بأن يوهم أغرار الناس بأنه قادر حتى على أن يحول بينهم وبين العدالة، وإلا فكيف ذهب يتوسل إليه، كما قد علمت علماً لا يداخله شك، من كانت تهمتهم جريمة القتل؟ وهذا الرجل جدير حقاً بأن يفهم كل من له به صلة بأن جاهه لا يقف عند الخفراء والفراشين وإنما يتعدى هؤلاء إلى العمد وإلى من هم أكبر خطراً من العمد من جماعة الموظفين. . . وهذا الرجل جدير بأن يحتجز سيارات النقل عند مدخل قنطرة على حدود قريته فلا تمر إلا أن تدفع قدراً معيناً من المال، وأخيراً هذا الرجل جدير بأن يصب نقمته على من يشاء وأن يختص بنعمته من يشاء، وله في مجال النقم حديث طويل أراه نقمة بالغة أن أوذي به أنفس القراء
أما زرعه إذا حان وقت الزرع وأما حصاده إذا أراد الحصاد فحدث عنهما ولا حرج، فأهل قريته جميعاً لا يسألونه على جهودهم أجراً إلا الرضاء. . . على أن حظه من الزرع والحصاد لا يتطلب عظيم مشقة لقلة ما يمتلك من الأرض إلا إذا شاء له جاهه فأستجر أرضاً من أصحابها وزرعها في نظير أجر لا يحظى بمثله غيره من الناس
وحمدت الله أن لم تقع علي عين البك فلقد كنت منه كالجن أراه من حيث لا يراني، فما لي طاقة بأن أتلقى منه نظرات الكبرياء والاحتقار التي رأيته يشيع بها كل فرد ممن يسميهم المتعلمين سواء من سلم عليه منهم أو من أعرض عنه، وكان لا يفوته أن يسأل عمن يعرض عنه ثم يذكر آباءهم متسائلا ً - وإنه ليعلم - تساؤل الساخر المستطيل، وهو يرد إلى هذا الصنف ممن يسمون المتعلمين في القرى كل أسباب الفساد والرذيلة، ولست أدري ماذا كان عسياً أن يحدث بيني وبينه إذا أخذتني عيناه فنظر إلي وهو لا يعرفني هاتيك النظرات؟ على أنه لم يفطن إلى مكاني وكفى الله المؤمنين القتال!(386/40)
وأرسل البك في طلب سيارة فحضرت، ووقف السائق حتى نهض البك للركوب فخف به جلساؤه، ونادى أحد الندل ووضع يده في جيبه، ولكن الندل أسرع قائلاً: (الحساب خالص يا سعادة البك) وأشار إلى أحد الحاضرين وتظاهر هذا بالحياء وشكره البك واتخذ مكانه في السيارة بعد أن سلم على مودعيه، وركب معه من يستصحبهم من أهل قريته
وانطلقت السيارة تحمل ذلك الوجيه العظيم ومن عجيب أمره أنه على عظمته التي رأيت لا يملك سيارة ولكن كل سيارة في هذه الجهة ملك له، فهي جميعاً رهن إشارته، ولن يعدم أن يجد (الحساب خالص) إذا أتخذ إحداها على يد رجل ممن يصحبونه وهو غالباً لا يتخذ سيارة إلا إذا أحضرها له صاحب حاجة يرجو قضاءها على يديه؛ فإن أتخذ سيارة في أمر خاص به وركبها وحده فهو لا يمسك الأجر عن صاحبها إلا إذا سهى، وقليلاً ما يسهو لأنه قل أن يتخذ سيارة وحده
وبعد، فأمثال هذا العظيم في الريف غير قليلين، ولكنا نقول على رغم ذلك: إننا في عهد العرفان والنور، وليت شعري إذا كان هذا عهد النور، فكيف كانت الحال في عهد الظلام، وكيف تكون حالنا غداً إذا نحن أغمضنا العيون عما يشين، ولم نتلمس السبل للخلاص منه؟
الخفيف(386/41)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
هل تنتصر اليونان
هل يتاح للأمة اليونانية النصر في صراعها الحالي مع إيطاليا؟ أو هل يتاح لها على الأقل أن تحتفظ باستقلالها من العدوان الفاشستي؟ سؤالان لا أكاد أجلس في مجتمع حتى أسمعهما، فأسمع أحاديث المتشائمين والمتفائلين، وأسمع حججاً تبرر التشاؤم والتفاؤل، وأسمع مقارنات تدل على الحيرة والتردد في الأخذ برأي قاطع؛ ويرى كثيرون أن مأساة الحرب الروسية الفلندية تتكرر بين إيطاليا واليونان
ومن الواجب أن يقف الباحث لحظة أما هذه الأسئلة الدقيقة، فيستعرض موقف الدول الأربع مما يسمي الناحية العسكرية بما تضم من استعدادات عسكرية، والقرب أو البعد من البلاد الحليفة والمؤيدة، وسهولة صلتها بها أو صعوبتها، وانشغال الدول المعتدية بالحرب في ميادين أخرى
فبين إيطاليا وروسيا كثير من وجوه الاتفاق، وبينهما أيضاً كثير من وجوه الاختلاف ولا يسعنا إلا أن نرجح فيها كفة اليونان؛ وبين فلندا واليونان كثير من وجوه الاتفاق والاختلاف أيضاً؛ ولكن الاختلاف في مصلحة اليونان أيضاً
فعدد سكان الروسيا 185 مليون، وعدد سكان فلندا ثلاثة ملايين؛ وعدد سكان إيطاليا 40 مليوناً وعدد سكان اليونان ثمانية ملايين. كانت الروسيا تحارب فلندا وحدها أما إيطاليا فتحارب إنجلترا في مصر وفي شرق أفريقيا، ثم اشتبكت بالحرب مع اليونان.
فلندا واليونان
حقيقة إن الروح المعنوية في فلندا كانت عالية، فباع جنودها أرواحهم بيع السماح، ووفقوا في أول أمرهم توفيقاً كبيراً وهو ما نرى مثيله عند اليونان وإن كانت اليونان تمتاز بعدد أوفر من الرجال تستطيع أن تضعه في ميدان القتال، فلا شك أن عدد المجندين الذين يمكن الانتفاع بهم في ثمانية ملايين يزيد على ضعفي العدد الذي يستطاع تقديمه من ثلاثة ملايين فقط(386/42)
وأن اليونان تمتاز - في وضعها الجغرافي - بميزة عظيمة، فميدانها قريب من الميدان الشرقي؛ ومواصلاتها معه سهلة لا تعترضها صعوبات تمنع من إمدادها بالمساعدات العسكرية السريعة، وتجهيز جيوشها الباسلة بالعتاد الحربي الذي كان نقصه السبب الأساسي في هزيمة فلندا التي تعذر إمدادها بالذخائر والجنود لصعوبة مواصلاتها مع إنجلترا، ولعدم وجود مرا فيء لها على بحر الشمال، ولمعارضة النرويج أثناء الحرب الفلندية في السماح للجنود المحالفة بالمرور في أرضها، فكانت هذه المعارضة وحدها عاملاً كافياً لحبس المساعدة عن فلندا
أما في اليونان، فالجزء الشرقي في البحر الأبيض المتوسط يقع تحت السيطرة الكاملة للأسطول البريطاني، ويقع في منتصفه تقريباً جزيرة كريت اليونانية التي احتلتها القوات البريطانية، واتخذت منها قواعد حربية لإفساد خطط إيطاليا، ولإمداد اليونان بما يستطاع تقدمه من الرجال والمعدات، وإذا كانت بريطانيا قصرت معونتها لليونان على المعونة البحرية والجوية الآن فالغرض من هذا الاحتفاظ بقوتها البرية في ميادين أكثر أهمية وهو الميدان المصري الذي يعتبر تعزيزه تهديداً قوياً يشتت شمل القوات الإيطالية ولا يسمح لها بتوجيه ضربتها الحاسمة إلى اليونان
من ألبانيا
وقع في إيطاليا صعوبة أخرى فهي تهاجم اليونان من ألبانيا، ونظرة واحدة في خريطة البحر الأبيض تبين الفاصل البحري بين إيطاليا وألبانيا، وتبين أن طريق الإمدادات الإيطالية يجب أن يعبر البحر، فيسهل على أسلحة الطيران تهديده من جزيرة كورفو أو من غيرها، فضلاً عما يحتاج إليه النقل البحري من وقت واستعداد يفوق النقل البري؛ أضف إلى ذلك أن ألبانيا من الدول المحتلة التي تسعى للخلاص من الفاشست، فإذا كان أهلها لا يستطيعون الثروة بضغط الحديد والنار، فإنهم يكفون يد المساعدة للقوات الإيطالية على الأقل
والحوادث العسكرية في اليونان تشابه إلى أمد بعيد مثيلتها في فلندا، ففي الحرب الفلندية أحرز الفلنديون عدة انتصارات حربية، وأوقعوا بالشيوعيين خسائر فادحة حتى أعجب العالم ببسالة ذلك الشعب الصغير، إلا أن الحظ أو الموقع الجغرافي للمدن السوفياتية لم(386/43)
يسعفهم بقدر ما أسعف زملاءهم اليونان، فلم يستيسر لهم الإحداق بمراكز الهجوم الروسية كما أتيح لليونان الإحداق بكوريتزا مركز الزحف الإيطالي
فإذا قدر لليونانيين الاستيلاء على هذه المدينة التي تقع في الميدان المتوسط للزحف الإيطالي تيسر لهم إحباط جانب كبير من خطط الغزو الإيطالي لبلادهم، أو وقفوا الزحف الإيطالي مدة طويلة وأنقذوا سالونيك التي تقع على إحدى الطرق المتفرعة من هذه المدينة كما يهددون طرق المواصلات الإيطالية في الجهتين الشمالية الممتدة إلى فلورينا في الجبهة الممتدة إلى الشاطيء في جبال أبيروس
ولو وفق الزحف الإيطالي في الوصول إلى سالونيك لتيسر له أن يشطر بلاد اليونان إلى قسمين ولأصبحت مقاطعة تراقية اليونانية لقمة سائغة سهلة الهضم، كما يتاح لإيطاليا الحصول على قواعد بحرية وجوية تعزز مركزها في جزر الدوديكانيز فتستطيع منهما أن تهدد القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط وتسيطر على بحر أيجة بأجمعه وعلى منطقة المضايق
الصمت التركي
وأثبتت الساسة الترك في حوادث اليونان الأخيرة مبلغ خبرتهم كرجال عسكريين وساسة حكماء بابتعادهم الحالي عن الاشتراك الفعلي في الحرب مع ولائهم لقضية الديمقراطية والمدنية. فإن صمتهم الحالي أفعل وأجدى، وهم بصمتهم يقدمون إلى اليونان مساعدة أجل من مساعدتهم المادية فيكرهون طرف المحور الآخر (ألمانيا) على الوقوف موقف المتفرج
فلو تقدمت الجيوش التركية في تراقية لمساعدة اليونان لاستولت ألمانيا على بلغاريا ومنها تهاجم اليونان ومنطقة المضايق في الدردنيل والبسفور. إلا أن تركيا وفرت قوتها لفترة أكثر مناسبة فأصابت طائرين بحجر واحد، فصانت مصالحها أولاً، واضطرت ألمانيا إلى الانتظار وفوتت عليها فترة كانت ترجوها، حتى يتيسر لها الزحف إلى الشرق حيث منابع البترول في العراق وإيران، ثم تهديد قنال السويس
فاحتفاظ الجيوش التركية بمواقعها وانتظارها لخطط المحور الأصلية التي يستبعد - كما يرى بعض الساسة والعسكريين - أن تكون اليونان واحدة أساسية منها، ينذر بفشل تحقيق هذه الخطط. فالجندي التركي خبير ببلاده متمرن على وعورة أرضها ورداءة جو جبالها(386/44)
بعكس الجندي الألماني أو الإيطالي. أضف إلى ذلك ما يتكلفه اجتياز منطقة المضايق من أوربا التركية إلى أوربا الآسيوية من ضحايا عسكرية تزيد خطورة كلما زادت القوات الحامية لها في الاستعداد، وخصوصاً إن ألمانيا أو إيطاليا لا تملك القوات البحرية التي تستطيع أن تمهد للاستيلاء على هذه المناطق
وشعرت إيطاليا في الأسابيع الماضية بخطورة المقاومة اليونانية فغيرت القيادة هناك، ورأى القائد الجديد أن يسحب الجنود الإيطالية من مواقعها ليبدأ خطة جديدة تعيد لإيطاليا كرامتها العسكرية، وهذا يدل على مقدار الخسارة التي منيت بها الجيوش الإيطالية حتى أقتنع القائد فشل الخطط السابقة وفضل أن يبدأ حركاته من جديد دون أن يسيل لعابه من أجل المواقع التي تحتلها قواته
والخلاصة أن ظروف القتال في اليونان تختلف عن مثيلتها في فلندا وتبعث على التفاؤل أكثر مما تبعث على التشاؤم. وإذا كانت بريطانيا لم تمدها بالرجال فليس معنى هذا ضعف الأمل في نجاح اليونان بل ربما تجد القيادة البريطانية أنه سابق لأوانه الآن
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(386/45)
بين أثينا وبين روما
للأستاذ عبد اللطيف النشار
بين (أثينا) وبين (روما) ... تغوص بالفكر أم تطير؟
في ظلمات بِقاعِ يمٍّ ... ليس بها ذَرَّة تنير
تختنق العين في دجاها ... والنفس والروح والضمير
فتلك (روما) التي يباهي ... بمجدها جيلها الأخير
ضخامة ما لها رواء ... ينكرها الحس والشعور
يا زهرة ما لها عبير ... في ظلك الضيقُ والنفور
يا زمناً لم يزل يدور ... مبدأ روما هو المصير
شعب ضعيف يسير كرها ... كما يرى حاكم كبير
هيهات هيهات يا أثينا ... لن تقبلي الحكم إذ يجور
دنيا من الحسن يا أثينا ... لا برحت شمسها تنير
يريد إطفاءها غشوم ... هذا لعمري هو الغرور
قد عاش حراً ومات حراً ... ذلكمو الشاكر الصبور
وأرث سقراط في حجاه ... تعجز عن كيده الدهور
في الحرب والسلم يا أثينا ... تشرق في جوك البدور
فيك بشير بكل ما لم ... يأت بمصر له بشير
لو لم تكن مصر لي بلاداً ... لقلت في أرضك النشور
لبيك لبيك يا أثينا ... أسمعني صوتُك الجهير
ما جن (بيرون) في هواها ... لكنه شاعر بصير
طلع الفجر. . .
للأستاذ أمين عزت الهجين
طلع الفجر يا حبيبي وغنى الط ... ير بين الغصون لحن الصباح
فاصح يا حلو، قد صحا الور ... د وطاف النسيم بالأقداح(386/46)
خمرة هوت الغصون فمالت ... تتناجى تناجِيَ الأرواح
هاهو الغصن على الغصن يميلْ
والفراشات جرت بين الحقول
وحلت جلستنا تحت النخيل
هاهي الأزهار حولي ابتسمت ... ذكرتني بك فاشتقت إليك
فتعال إن روحي ظمئت ... والكؤوس وامتلأت بين يديك
أيها الساحر ماذا فعلتْ ... بفؤادي مقلتاك
صفق القلب وروحي سكرت ... حينما لاح بهاك
وهموم العيش يا بدري ومَضَت ... كلها عند لقاك
يا حبيبي كتب الله لنا ... أن تُقضى في الهوى أعمارنا
فتعال إنه يوم الهنا ... يا حبيبي. . . . . .
هاهي الأطيار تشدو حولنا ... وتغني للروابي حبنا
أنت دنياي ودنياك أنا ... يا حبيبي. . . . . .
ساعة في العمر تقضيها معي ... لا أبالي بعدها ماذا يكون
فإذا ما حان يوماً مصرعي ... وبدت في الأفق أطياف المنون
سوف لا أذكر إلا قبلة ... منك توجتَ بها هذا الجبين
ما أكذب الأحلام
للأستاذ فؤاد بليبل
لاَ الحُبُّ عَادَ وَلاَ جَمَالُكِ دَامَا ... فَعَلاَمَ أشْقَي في هَوَاكُ عَلامَا؟
أَغْرَيْتِنِي بِالمَالِ حَتَّى خِلُتني ... نِلْتُ المَرَامَ وما قَضَيتُ مَراما
خَاب الرَّجَاءُ فَيَا لَشَقْوَةِ شَاعِر ... ضَلَّ الحِسَاب وَأخْطَأَ الأرْقاما
وَقَفَ الحياةَ عَلَى الدُّمَى مُتَجَرِّداَ ... مِنْ قَلْبِهِ وَتَعَشَّقَ الأصْنَاما
وَمَضَى يُخَادِعُ نَفْسَهُ في وَصْلِهِ ... مَنِ لا يُحِبُّ وَهَجْرِهِ الآراما
أغْرَتْكِ مِنْهُ صَبْوَةٌ كَذَّابَةٌ ... فحسبتِهِ بِهَوَاكِ جُنَّ هُيَاما(386/47)
وَسَبَتْكِ رِقَّتُهُ وَعَذْبُ بَيَانِهِ ... فَظَنَنْتِهِ أرْعَى الأنَامِ ذِماماً
هَلْ كانَ حُبُّكِ غَيْرَ طَيْفٍ عابرٍ ... نَادى الغُرورُ بهِ فَزَارَ لِماما
حُلْمٌ مِنَ الأحْلاَمِ مرَّ بخَاطِري ... يَوْماً وأجْفَلَ مُعْرِضاً أعْواما
حُلٌم تَوَسْمتُ المسرَّةَ وَالرِّضا ... فيه، فكانَ كآبةً وَخِصَاما
حُلْمٌ، رَجَوتُ به الشِّفاَء وَلم أكُنْ ... لا أظُنَّ أن الَّداَء كانَ عقاما
حُلْمٌ، نَعَمْ حُلْمٌ تَصَرَّمَ وانْقَضَتْ ... أوْهَامُهُ، ما أكذَبَ الأحْلاَما
أغْنِيَّةُ الحُبِّ الذي ألهَمْتني ... أسْرَارَه، فَنَظَمْتُهَا أنغاماً
ماتَتْ عَلَى شفَتَيَّ حَتىَّ أصْبَحَتْ ... أنْاتِ حُزْنٍ تَبْعَثُ الآلاما
يا خَيْبَةَ الآمالِ كيفَ تَصَرَّمَتَ ... لم تشفِ جُرْحاً، أو تبلَّ أوَاما
خِلْتُ السَّعَادَةَ فِي غَنَاكِ حَقِيقةً ... وَطلبتُهَا، فَوَجَدْتُها أوْهَاما
والمالُ! ساَء المالَ! كم مِنْ شاعِر ... لَمَحَ الرَّدَى بِبَرِيِقِه فَتَعَامَى
ليسَ السَّعَادَةُ أنْ تعِيشَ عَلَى الِقلَى ... إنَّ السَّعَادَةَ أن تَموت غَرَاماً(386/48)
البريد الأدبي
كتب لم أقرأها
تفضلت الآنسة سناء محمد فأرشدتني إلى مرجع قيم لموضوع كنت قد ألممت به في كلمة لي نشرتها الرسالة. أما المرجع فهو شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، وأما موضوعي فيتعلق بالكلمات العامية. وسيرى القارئ أي فضل أسدته إلي الآنسة حين نبهتني في رفق ولين إلى وجوب البحث في المراجع قبل تناول ما يتصل بها من الموضوعات
على أني إن شكرت لها هذا الفضل فإنها قد أوحت إلي بخاطر سأظل معترفاً لها بالعجز عن الشكر عليه. وهذا الخاطر هو أن أنشر كتاباً عنوانه (كتب لم أقرأها)
أقسم إنه لعنوان رائع. . . ولئن وفق كاتب إلى الإتقان في وضع كتاب كهذا فهو بالغ به الذروة في عالم التأليف! ألا يتاح له بث مشاعره كلها نحو المجهول؟ (كتب لم أقرأها). . . إنها لملايين وإن لدى الكاتب من الشوق إلى بعضها ومن العلم بشيء عن البعض، ومن الأوهام والجهالات عن أكثرها، ما تتسع له طوال الأعمار وطوال الأسفار
وفي غير هذا المكان من الرسالة كلمة عن أحد الكتب التي لم أقرأها، ويبين منه أسلوبي في تناول هذا الموضوع فلن أغرب وإن لم أعجب، ولن أتبع طريقاً غير مألوف بل سأتحدث عن كتب قرأت عنها في لغة أخرى وهي مكتوبة عنا ونحن أحوج إلى قراءتها
فإلى التي أوحت إلي بهذا الخاطر أهدى هذا المقال وما يتبعه تحت عنوانه - إن أفسحت الرسالة صدرها لهذه الرسائل
وإلى الرسالة وإليها أهدي خالص التحية.
عبد اللطيف النشار
حول الحرب والشعر
يؤسفني أنني أغضبت الأستاذ العقاد بملاحظات متواضعة على ترجمته لقصيدة سهول الفلاندر المشهورة للشاعر الكندي جون ماك كراي
وإذا كان الأستاذ تفضل فأسعفني بالنص الإنجليزي من كتاب (بعد عشرين عاماً) الذي(386/49)
أعتمد عليه في كتابه مقاله، فإنني أهدي إليه النص الإنجليزي من مقال الأديب الأمريكي المشهور برنهارد راجز وهو في مجلة نيويورك تيمس يناير سنة 1938والنص هكذا
, - ,
وترجمة هكذا (ولما أدرك محرر البنش ما في القصيدة من جمال نشرها في حروف كبيرة لا تستعملها الصحيفة إلا في المناسبات العظيمة) وهذا الكلام هو ما قلناه بعينه في خطابنا المنشور بالرسالة في صلب مقال الأستاذ للعقاد
أما ترجمة كلمة بالعنان فلا زلت أخالف الأستاذ العقاد فيها لأنه كان الأصح أن يقول:
خذوا بأيديكم عنان النضال مع الأعداء
أيدينا المتخاذلة ألقت إليكم (بالشعلة)
فارفعوها أنتم أنفسكم عالية
أما ترجمته بقوله: (كنا أحياء وكنا نحيا) فهو تكرار لا وجود في الأصل كما قلتُ
وأما ذكر الجملة الشرطية في ترجمة الأستاذ بقوله (ارفعوها ولو بقيت في أيديكم) فهو شرط لم يرد في الأصل
بقيت نصيحة الأستاذ المخلصة لي بأن (أتعلم قبل أن أتهجم) وهي نصيحة سأعمل بها، وأجد من الشرف دائماً أن يكون الإنسان محتاجاً إلى العلم في كل لحظة وعليه منا ألف تحية وسلام.
محمد عبد الغني حسن
تقسيم الجيش الحديث
تنشر هذا التقسيم لنساعد القارئ على فهم المصطلحات العسكرية التي ترد في البرقيات اليومية، وهي لا تكاد تختلف في مختلف الجيوش
مجموعة جيوش جيشان فأكثر
فأكثر
فأكثر
الفرقة جيش صغير كامل العدة (1)(386/50)
أو ثلاثة (2)
الآلاي كتيبتان أو ثلاث أو أربع
أربعة أو ستة مدافع بمعداتها
الكتيبة (مشاة) 3 أو 4 أو 5 سريات
الكتيبة 3 أو 4 أو 5 سريات
أو 4 فصائل
سرية خيالية أو 4 فصائل
أو 4 جماعات
الجماعة (الصنف) أصغر وحدة عسكرية
إلى الأستاذ الباجوري
1 - شرحنا البيتين يا أخي شرحاً أيدتنا به كتب التصوف التي بأيدينا ووافقنا عليه أديبان في العدد 383، وإليك اليوم بعض أقوال الصوفية لتكون الحجة:
قال الشاعر:
(بذكر الله تزداد الذنوب ... وتحتجب البصائر والقلوب)
(وترك الذكر أفضل منه (حالاً) ... فإن الشمس ليس لها غروب)
والشطر الأول من البيت الأول يفسره قول الجنيد: (من قال (الله) عن غير مشاهدة فقد افترى)، وقول الشاعر:
(وذكر يعزي النفس عنها لأنه ... لها متلف من حيث تدري ولا يدري)
ويقول ثالث: (. . . معناه أن التقرب إليه بالأعمال تفرقة). وسخر شاعر من (الذاكرين) فقال:
(هبني أراعيك بالأذكار ملتمساً ... ما يبتغيه ذوو التلوين بالغير)
ويفسر الشطر الأخير منه، ويبين كيف الذكر باللسان (يحجب البصائر ويغلف القلوب) قول القائل: (إنما يحجب العبد عن مشاهدة مولاه (أوصافه))
وفي البيت الثاني أنتقل الشاعر من الذكر اللفظي إلى الترغيب في الحال الذي هو الغيبوبة عن هذا الوجود، والاتصال بالله تعالي مباشرة، وإلى هذا يشير (محمد بن إسحاق) في(386/51)
كتابه (التعرف لمذهب أهل التصوف) قال: (فكأن جمعي به فرقني عني فيكون حالة الوصل هو أن يكون الله عز وجل مصرفي، فلا أكون أنا في أفعالي، فهو الله لا أنا، كما قال لنبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وهذا لسان الحال ولسان العلم. . . الخ) ويشير إليه أيضاً بقوله: (يكون فانياً عن أوصافه باقياً بأوصاف الحق) والحال هذا هو الذي يفسرونه أحياناً بالمعرفة الحقة: (المعرفة إذا وردت على السر ضاق السر عن حملها كالشمس يمنع شعاعها من إدراك نهايتها وجوهرها)
وهنا أحب أن أقول للأديب (الباجوري) إنه ذكر أن (أصحاب البصائر والقلوب حال)، وليس الأمر كذلك، وإلا لما اضطر إلى النص في البيت الثاني على (الحال)، ولاكتفي بدلا عنه بالضمير
2 - نحن لم نتهمكم بما لا تعلمونه يا سيدي، وأنت وإن كنت صوفياً لا تقول (بالحلول) إلا أن غيرك من السادة آمن به وقال عنه بل وأستشهد في سبيله، وصنف له الكتب. وما (الظرفية) التي تتحدث عنها إلا السلاح الذي يشهره أعداء الصوفية في وجوههم، ولنقرأ معاً بعض ما نقلوه وقالوه عن مذهبهم في (الحلول)
نقلوا عن أبن عمر أنه قال: (كنا (نتراءى الله) في ذلك (المكان) يعني الطواف) ونقلوا قول محمد بن واسع: (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه)، ونقلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (كنت له سمعاً وبصراً ويداً في يسمع وبي يبصر)، كل هذا نقلوه ليقولوه: (من أدعى شيئاً من ملكه - وهو ما سكن في الليل والنهار - من خطرة وحركة أنها له، أو به، أو إليه أو منه فقد جاذب القبضة، وأوهن العزة) وليقول الجنيد: (هو العارف والمعروف)، وليقولوا ما تقدم: (فهو الله تعالى لا أنا فيكون (المعبود والعبد))
وبعد كل هذا أحيل الأديب على الدكتور زكي مبارك الذي دون في كتابه (التصوف) ما يقرب من نحو سبعين صفحة في تحليل هذا المذهب - مذهب الحلول - وهو يفاخر بأنه استطاع أن يحصره
السعيد جمعة
بين الرسالة والكتاب(386/52)
كَثُر ما يرد على الرسالة مقالات وملاحظات لأسماء مستعارة فلا نستطيع نشرها لأن كتابها الأفاضل ينسون أن يذكروا أسمائهم الحقيقية بجانب أسمائهم الاصطلاحية ثم يلوموننا على إغفال النشر. وقد رجوناهم من قبل ألا يقفونا موقف المحرج بين رغباتهم الأدبية وبين واجباتنا الصحفية، ولا بأس أن تكرر اليوم هذا الرجاء.
حول كتاب
كنت أتصفح عرضاً كتاب (شرح المحفوظات والنصوص العربية) للمدارس الثانوية (الجزء الثاني - الطبعة الرابعة)، فاستوقفني شرح المؤلفين شرح لبيت المتنبي:
ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا
فقد جاء في شرحه: (لو فرض أن إنساناً يخلد حياً لكان هذا الإنسان من الجبناء الذين يفرون من مواقف الخطر على النفوس دون الشجعان الذين يحافظون على كرامتهم وشرفهم في أحرج المواقف التي تعرضهم للهلاك. والواقع أن كل نفس ذائقة الموت متى حل أجلها)
ورأيت أن شرح البيت على الصورة المتقدمة لا ينطبق على معناه. والذي يدل عليه البيت هو أنه لو كان هناك خلود وان الإنسان يبقى حياً مهما أمتد به العمر لا يموت موته طبيعية لكان بالغ الطيش وعين الحماقة ومنتهى الظلال أن يكون شجاعاً يواجه الموت مختاراً. ولكن لما كان الموت مصير كل حي فإن في التشبث بالحياة والتنحي عما يمليه الواجب مذلة وهوناً. ويتم هذا المعنى البيت الذي سبق البيت المذكور والبيت الذي تلاه
وقد عن لي أن أطلع على شرح ديوان المتنبي للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي فرأيته قد أورد شرحاً للبيت ما يلي:
(لو كانت الحياة باقية لكان الشجاع الذي يتعرض للقتل أضل الناس؛ يعني أن الحياة لا تبقى وإن جبن الإنسان ولزم عقر داره وحرص على البقاء، ثم أكد هذا بالبيت التالي
ولعله لا يسوء الأساتذة الشارحين هذا التعليق ودافعي عليه وجه الحق وحدَه
محمود أحمد وصيف
أمة التوحيد تتحد
سيدي الأستاذ صاحب الرسالة الغراء(386/53)
كان لافتتاحيتكم البليغة في العدد 384 تعليقاً على ما نشرته الأهرام عن مشروع تحالف بين الدول العربية رنة استحسان عظيمة في الأوساط كلها لأنها عبرت عما يتمناه كل مسلم وعربي من لم شمل العربية والمسلمين وجمع كلمتهم وتوحيد قوتهم حتى يتألف منهم حلف يستطاع الانتفاع به في هذه الظروف المدلهمة
وفي الأهرام الصادرة في 7 الجاري خلاصة لخطبة العرش التي ألقاها سمو الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق يوم 5 الجاري وقد جاء فيها: (إن الأحوال العالمية لم تزل تتطور تطوراً خطيراً يدعوا إلى أشد اليقظة والانتباه إلا أنه مما يستدعي ارتياحنا أن تكون حكومتنا ساهرة على مصالح البلاد واضعة نصب عينيها صيانة سلامة المملكة باتخاذها كل التدابير الممكنة، كما أنها لا تنفك عن مواصلة الجهود في سبيل ما تصبو إليه الأقطار العربية المجاورة من الأماني القومية. أما علاقتنا الحسنة مع المملكتين الشقيقتين العربية السعودية واليمن وكذلك مع جارتينا العزيزتين تركيا وإيران فتزداد وثوقاً ولا سيما في الظروف العصيبة هذه)
وللعراق فضل كبير في سبيل توحيد كلمة العرب منذ ما تبوأ مقعده بين الدول المستقلة ومنذ بدأ بعقد أواصر الإخاء والمودة مع جارته وأولاها المملكة العربية السعودية وكان بينهما جفاء شديد فعقد معها محالفة ثم عقد مثلها مع دولة اليمن وشرق الأردن، ثم دخل العراق في حلف سعد آباد فعقد أواصر الإخاء مع جاراته كلها، ولم يقتصر على ذلك بل سعى في بلاده وفي لندن وباريس وتركيا لخدمة فلسطين وسوريا
إن أول نواة كان لها أفعل الأثر في كيان العرب هو عمل جلالة الملك فيصل - رحمه الله - مؤسس مملكة العراق إذ سعى سعيه المشكور للاجتماع بجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ذلك الاجتماع التاريخي على ظهر باخرة بريطانية، فقد أظهر الرجولة الملك فيصل في كل تضحية في سبيل نسيان العداء، وتأسيس وحدة عربية قوية فعلت فعلها، والعمل على ما فيه خير العرب والمسلمين، وهاهو ذا خطاب العرش في عهد جلالة الملك فيصل الثاني حفيد مؤسس العراق يشير إلى خدمة العروبة في هذه الظروف المدلهمة وهو صادق في إشارته
فإذا تحققت الوحدة العربية والإسلامية كان العراق أفعل الأثر في هذا المضمار العظيم.(386/54)
وسيدي الأستاذ الزيات من أعلم الناس بفضل العراق على البعثات العربية في بلاده وكيف يرسل البعثات العسكرية والعلمية والعملية إلى جاراته مثل اليمن والمملكة العربية السعودية للخدمة الفعالة في الأقطار الشقيقة. وهذه كلها مقدمات لوحدة عربية عملية سريعة.
نسأل الله أن يحقق للعرب والمسلمين وحدة تزيدهم قوة وأن يتولانا بلطفه وكرمه وينقذنا مما حولنا، إنه خير مسئول.
(القاهرة)
محي الدين رضا(386/55)
القصص
هل كان حلماً
عن الفرنسية
أحبتها إلى حد الجنون! ولماذا يحب الإنسان؟. . . لماذا يجب؟ ما أغرب الحالة التي يصير إليها من لا يريد أن يرى غير امرأة واحدة ولا يفكر إلا في فكرة واحدة ولا يضمر إلا رغبة واحدة ولا ينطق إلا باسم واحد يخرج من أعماق نفسه متدفقاً كالماء من الينبوع ولا يزال يعيده في وحدته كأنه بعض الصلوات والأدعية!
سأخبرك بقصتنا وهي قصة لجميع المحبين، فإن للحب سيرة واحدة. . . قابلتها فأحببتها وبقيت عاماً كاملاً أعيش في حنانها ورحمتها. . . بين ذراعيها وثوبها. في كلماتها ونظراتها وكنت مغموراً في كل ما يصدر عنها فلم أعد أعرف الليل من النهار، ولا الحياة من الموت، ولا هل كنت في الأرض أم في مكان آخر
ثم ماتت ولكن كيف؟
لست أدري، لم أعد أذكر!
جاءت مبتلة الثياب في ليلة ممطرة، وفي اليوم التالي أصيبت بالسعال، ثم اشتدت الحالة بعد أسبوع فلزمت الفراش. ولست أدري ماذا حدث في خلال هذه المدة أن الطبيب كان يأتي ويكتب ورقة وينصرف. . . وكانت امرأة في المنزل تحضر الدواء وتسقيها. وكانت يداها حارتين وجبينها يكاد يحترق. وعيناها تسطعان في حزن. وكنت أكلمها فتجيب، ولكنني لا أعي ماذا كنا نقول. . . لقد نسيت كل شيء! كل شيء. . . كل شيء! وماتت وأنا لا أزال أتصور شهيقها الخافت الضعيف
وقالت الخادم إنها عرفت كل شيء. . . فأما أنا ففقدت إدراكي؛ ثم رأيت القسيس يوجه الخطاب إلى ويقول: (خليلتك. . .)؛ فخطر لي أنه يريد إهانتها، ولأنها قد ماتت فما ينبغي أن يشير أحد إلى ما كان بيني وبينها، ولذلك طردت القسيس. . . وجاء رجل في غاية الشفقة واللطف فكلمتي عنها كلاماً أجرى دموعي
واستشاروني في أمر الجنازة ولكني لا أدرك كلمة مما قالوه، وإن كنت أتذكر شكل الصندوق وصوت الفؤوس، وحينما فتحوا القبر، عفوك اللهم ورضاك!(386/56)
(دفنوها! نعم دفنوها! هي في القبر. . . وجاء صواحبها وهربت، ولم أزل أجري من طريق إلى طريق. وفي اليوم التالي بدأت السياحة. . .
وفي الأمس رجعت إلى باريس، ولما رأيت غرفتنا القديمة وسريرنا وأثاثنا وكل شيء يبقى من الحياة إنسانية بعد الموت، لما رأيت ذلك أصابتني نوبة جديدة من الحزن حتى كدت أفتح النافذة وألقى بنفسي منها
ولما لم يكن في وسعي البقاء بين تلك الجدران التي كانت تضمها فقد حملت قبعتي أريد الخروج، فلما وصلت إلى الردهة رأيت مرآة طويلة كانت وضعتها هناك لتصلح من هندامها وهي خارجة فوقفت أمام المرآة وكدت أرى صورتها مطبوعة عليها
وقفت أرتعش ونظري معقود بتلك الصفحة الصقلية العميقة المصنوعة من البلور في تلك المرآة التي كانت تحتويها. وشعرت بأنني أحب هذه المرآة فلمستها ووجدتها باردة. ما أوجع الذكرى أيتها المرآة المحزنة، المرآة المحرقة، المرآة المفزعة التي جعلتني أقاسي كل هذه الآلام!
سعيد من يستطيع أن ينسى كل ما انطبع على صفحة المرآة وكل من مر بها وكل من نظر إلى نفسه فيها. لقد كان الوجه الذي يرتسم عليها هو وجه الحبيبة الراحلة. فما أشد ما أعاني
خرجت من المنزل من غير رغبة ولا مقصد، وظللت أمشي حتى وجدت نفسي بين المقابر، وجدت قبرها البسيط وعليه صليب صغير من المرمر قد نقش عليه (أحبت وماتت)
هاهي ذي هناك ولكن جسمها أصبح بالياً، فما أكبر المصاب، بكيت هنالك ورأسي منحن على القبر، وظللت واقفاً مدة طويلة حتى أظلم الليل؛ ثم قامت بذهني رغبة جنونية غريبة رغبة المحب اليائس؛ أردت أن أقضي الليل كله باكياً لدى القبر وخشيت أن يروني فيطردوني فماذا أفعل؟
ابتعدت عن القبر وظللت أمشي في مدينة الأموات وما أضيقها بالقياس إلى مدن الأحياء! ثم ما أكثر الموتى وأقل الأحياء بالقياس إليهم! نحن نحب المنازل العالية والطرق المتسعة، ونحب أن نشرب الماء من ينابيعه والخمر من كرومها، ونأكل مما تنبت الأرض، ولكن ليس للموتى شيء غير أن الأرض تأكلهم كما أكلوا نيتها(386/57)
وعند نهاية المقابر وجدت أجداثاً قديمة تكاد الأرض تعلوها وقد بلي ما عليها من الصلبان والأحجار وامتنع زوارها، وعند هذه الأجداث وجدت أشجاراً كثيفة وحديقة صغيرة جميلة تبعث الحزن لأن أعوادها تستمد الغذاء من لحوم الموتى
ولم يكن في هذا المكان أحد غيري فاختبأت وراء شجرة كثيفة متشبثاً بالثمامة كما يفعل الغرقى
ولما أشتد ظلام الليل تركت مكاني ومشيت بخفة وبطء حريصاً على ألا يسمعني أحد وإن كان المكان خالياً إلا من الموتى؛ وظللت أمشي مسافة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها فبسطت يدي وصرت أتلمس بها كل قبر فلم أهتد إليه. وكنت أمشي كما يمشي العميان فعثرت مراراً بقطع من الصلبان والأحجار والحدائد وبأسلاك معدنية كانت في وقت من الأوقات تلتف حولها أزاهر الأكاليل، وصرت أقرأ أسماء الموتى المنقوشة على قبورهم. فما هذه الليلة؟ ما هذه الليلة الرهيبة! لقد كادت تنقضي ولم أهتدي إلى القبر
ولم يكن في السماء قمر ولا نجوم وكنت خائفاً في هذه الممرات الضيقة بين صفوف القبور. . . القبور القبور، ولا شيء غير القبور. . .! عن يميني وعن يساري وأمامي وحولي قبور. . . جلست على أحدها لأني لم أعد أستطيع موالاة السير، وكنت اسمع دقات قلبي، وكنت أسمع صوتاً آخر يشبه ذلك الصوت. . . ما هو؟ جلبة ضعيفة قد اختلطت فيها الأصوات، فهل كانت في رأسي من التعب أم كانت تحت التراب الممتلئ بالرمم؟
نظرت حولي ولكنني لم أتبين كم ساعة قضيت. وكنت كالمشلول من كثرة الخوف والانزعاج، وكدت أصرخ، بل كدت أموت
ثم تخيلت فجأة أن قطعة الرخام التي جلست فوقها قد بدأت تتحرك، وانتقلت منها إلى التي يجنبها، ورأيت القبر الذي تركته قد أنفتح وظهر الميت الذي كان به ولم يكن غير عظام عارية من اللحم وكان هو الذي يدفع غطاء قبره ليفتحه
نظرت إلى السم المنقوش على القبر فرأيت هذه الكتابة: (هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين، وكان محباً لأسرته رحيما شريفاً)
وقرأ الميت أيضاً هذه الجملة، ثم أخذ من العظم قطعة حديدة الطرف، وصار يمحو هذا النقش بعناية حتى طمسه ونظر بثقبي عينيه الأجوفين، وكتب بقطعة العظم الباقية بين(386/58)
إصبعيه:
(هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين وقد عجل بوفاة أبيه عقوقاً منه وشرهاً إلى الميراث، وأشقى زوجته وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق كل ما استطاع أن يسرقه ثم مات منكوداً)
لما فرغ الميت من هذه الكتابة وقف بغير حراك ونظر إلى ما كتبه، ونظرت أنا فرأيت كل من في المقابر قد فتحوا قبورهم ومحوا الأكاذيب التي كتبها أقاربهم عليها وأثبتوا الحقائق بدلها ووجدت أكثرهم من أهل الحقد والدناءة والرياء والكذب والخداع والحسد، وقد ارتكبوا أبشع الآثام. وقد كان منقوشاً على قبورهم أنهم أبرياء بررة وزوجات أمينات وأبناء رحماء وبنات طاهرات وتجار شرفاء
وظننت أنها قد كتبت شيئاً على قبرها، فجريت غير خائف بين صفوف الموتى عرفتها وإن لم أنظر إلى وجهها بل كانت معرفتي لغطاء القبر الذي كان منقوشاً عليه: (أحبت وماتت) فرأيتها تمحو ذلك وتكتب: (خرجت يوماً لكي تخون حبيبها فأصابها البرد ومرضت فماتت)
ويظهر أنهم وجدوني في اليوم التالي بجانب القبر في حالة إغماء.
(ع. ا)(386/59)
المسرح والسينما
في الفرقة القومية
تسنى لي أن أستمع إلى الألحان التي وضعها الأستاذ عباس يونس لرواية القضاء والقدر فقلت: كيف لم تتح الفرقة القومية من قبل لهذا الشاب أن يبرز هذه الكفاية الموءودة بعد ما انتهى إلى أن تأريخه الموسيقى يشهد له بالتفوق
إن العمق في الموسيقى يحببها إلى ذوى الأفئدة النابضة من الناس، ولسنا نقصد بالعمق عمق المستنقع الراكد العفن، ولكنا نعني به عمق المحيط وعمق الفجر وعمق الليل، فمن الناس من يعجب بائتلاق في راد الضحى، وهو لا يدرك الجمال الخافت في اهتزاز السحر بين جوانح الظلماء
وعباس يونس فنان عميق أتمنى أن يستمع إليه الصديق الأستاذ عزيز أحمد فهمي فهو أقدر مني على تحليل فنه وعلى التسرب بإحساسه إلى أغوار موسيقاه. وليس يسعني هنا إلا أن أحمد للأستاذ الشاعر خليل مطران بك الأخذ بيد هذا المغني راجياً كل الرجاء وملحاً كل الإلحاح في إعطائه الفرص الكافية لإظهار مواهبه الغريزة فقد تجمع له الإلهام والطبيعة الفنية والأداة
السينما المحلية
كثرت في هذه الأيام الأفلام المصرية التي في سبيلها إلى الظهور، فشركة تلحمي تعد فلم (انتصار الشباب) لفريد الأطرش وإسمهان. وستديو لاما يعمل في فلم (صلاح الدين الأيوبي) وآسيا داغر وتوجو مزارحي وكثيرون غيرهما يواصلون العمل في أفلام عديدة تتراوح بين القوة والضعف. وإنا لنكبر هذه الروح التي تحفز أصحاب الشركات إلى الإنتاج، وخاصة في حالة الحرب؛ ولكنا نأسف كل الأسف حين نصطدم بحقيقة مؤلمة، وهي أنهم ينتجون لأن السينما صناعة رابحة تدر عليهم من المال ما ينسيهم جلال الفن السينمي ودقته؛ فتخرج أفلامهم إلى الناس عرجاء مشوهة، ولو توخوا العناية لخدموا الفن وخدموا أنفسهم، وإنا لفي انتظار المشاهدة. . .
عند بديعة(386/60)
أقامت السيدة (بديعة مصابنى) حفلة للصحافيين كعادتها السنوية عرضت فيها فرقتها مجهوداً طيباً من تمثيل ورقص وغناء وقد دلت بذلك على مقدار ما بذلته من تضحية لإقامة المسرح الدائر ولاستكمال عناصر فنية قوية يرجع إليها نجاحها الدائم.
أخبار هوليود
* سيظهر الممثل نلسن أيدي في ثلاثة أفلام موسيقية كبيرة، وهي: (قرصان النيومون)، (تزوجت ملاكاً)، بعد ما صادف نجاحاً منقطع النظير في فلم (بالاليكا)
* سيعود الكوكب شارلز وونجر في فلم (نيلي كيلي الصغيرة)، وهذا الفلم من إنتاج آرثر فريد منتج فلم (مائة فتاة وميكي واحد)، ومن إخراج نورمان نورج. وسيشترك في هذا الفلم جودي جارلاند والكوكب الراقص جورج مارفي الذي سنراه قريباً في (أنشودة برودواي لعام 1940) ودوجلاس ماكفيل كوكب قصة (مائة فتاة وميكي واحد)
* يسرنا أن نزف إلى رواد السينما نبأ رجوع النجمة هيلين جيروم إيدي إلى حلبة العمل؛ وهي صاحبة الشهرة الواسعة أيام السينما الصامتة فستظهر في رواية
عبد الرحمن الخميسي(386/61)
العدد 387 - بتاريخ: 02 - 12 - 1940(/)
حكمة الأقاصيص
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت فصولاً كثيرة في التفرقة بين الفلسفات الاجتماعية والسياسية فلا أذكر أنني قرأت في سطور معدودة تفرقة أظرف وأفكه من التفرقة التي تمثلها لنا قصة البقرتين الأمريكية التي نلخصها فيما يلي:
فالاشتراكية هي أن تكون لك بقرتان فتعطي جارك إحداهما. والشيوعية أن تكون لك بقرتان فتأخذهما منك الحكومة كلتيهما وتعطيك من اللبن ما تحسب أنك في حاجة إليه
والفاشية أن تكون لك بقرتان فتبقى البقرتين عندك وترسل اللبن إلى الحكومة.
والنازية أن تكون لك بقرتان فتأتي الحكومة فتأخذك أنت وتأخذ معك البقرتين.
والإصلاح الأمريكي الجديد على طريقة روزفلت أن تكون لك بقرتان فتصطاد الحكومة إحداهما وتحلب الثانية وتريق لبنها على التراب!
والديمقراطية أن تكون لك بقرتان ملكا فتؤدي ثمنها مرة أخرى على التقسيط ضرائب وإتاوات
و (الرأسمالية) أن تكون لك بقرتان فتبيع إحداهما وتشتري بثمنها ثوراً وتنتج منهما عجولاً وبقيرات
وفي هذه القصة من المبالغة ما في معظم الفكاهات والصور الهزلية، ولكن أين هي السطور القليلة التي تفرق بين الفلسفات السبع تفرقة أقرب إلى الفهم وحسن المقابلة من هذه التفرقة الفكاهية؟ وأين هو الجد الذي يسلم من المبالغة كل السلامة على إرادة من صاحبه أو على غير إرادة؟
ويبدو لنا أن المباحث الحديثة أحوج ما تكون إلى كتاب يعالجها على أسلوب القصة الأمريكية، وإننا نحن الشرقيين أولى بإخراج هذا الكتاب لأننا حذقنا فن القصة الحكيمة من عصور بعيدة، ولأننا قليلو الصبر على دراسة المطولات في هذه الموضوعات
والظاهر أن بلاد كليلة ودمنة - ونعني بها الهند - تأبى أن يفوتها نصيبها من هذا الواجب الحديث، وأن الأستاذ الفاضل عبده الزيات قد اهتدى إلى كتاب من قبيل الكتاب الذي نقترحه على العالم الشرقي، حين ترجم إلى العربية (حكايات من الهند) يجتمع لها ما نبغيه(387/1)
من حسن التقريب وحسن الفكاهة وحسن الإيجاز
فكتاب (حكايات من الهند) ثروة لا تقل في جوهرها عن الثروة الغالية التي ربحها العالم من كتاب كليلة ودمنة، وأنفس ما فيه تلك البساطة التي قد تصغر من شأنه في نظر السطحيين وهي هي مزيته الكبرى وغايته القصوى، بل غاية جميع الحكماء من تبسيط المركبات وتسهيل المعضلات. . . أليس المقصود بهذه الحكمة القصصية أن تمثل لنا الحقائق العويصة في صورة البدهيات التي لا تحتاج إلى بينة ولا إطالة بيان؟
إليك مثلاً قصة الرجل الذي ترك لأبنائه الثلاثة بطيخة يحتفظون بها فظن أحدهم أنه يحتفظ بتراث أبيه إذا أبقاها عندهم حتى تفسد وتفسد ما حولها، وظن الثاني أنه يحتفظ به إذا باعها واشترى غيرها، وظن الثالث أنه يحتفظ بذلك التراث أجمل احتفاظ إذا أنتفع ببذور البطيخة ولم يحرص على قشورها وفضولها
أليست هذه معضلة التجديد في أوضح صورة وأبسطها؟ أليس المحتفظون بالبطيخة حتى تفسد ويفسد ما حولها هم الجامدين الغافلين؟ أليس الذين يبيعونها ويشترون غيرها هم المجددين الذين يستبدلون جديداً بقديم ولكنهم يقطعون الصلة بين هذا وذاك؟ أليس زارعو البذور هم المجددين الصالحين الذين يصونون تراث الآباء ويضاعفونه ولا يخسرون طرافة الجديد في كل موسم؟ أليست هذه حكمة يسيرة عسيرة تستدني النجم البعيد فإذا هو في متناول اليدين؟
ولقد حكى المؤلف حكايته ثم عقب عليها بمغزاها فزاد الحكاية الصغيرة توضيحاً على توضيح حين قال: (. . . أما الاحتفاظ بالبطيخة الفاسدة حتى يأتي الدود عليها جميعاً فمجلبة للسخرية والأمراض ومضيعة للبطيخة. . . وأما رميها برمتها والاعتياض منها بجديدة نبتاعها فتبديد لتراث أبينا وللنقود التي نؤديها في ثمن هذه وأثمان غيرها، هذا إلى أن كل ما نشتريه لابد أن يجري
عليه من الفساد مثل ما جرى على بطيختنا. إن التجديد هو ملاك الحياة والتقدم بيد أن جديد ينبغي أن يتولد من بذور الماضي)
وذلك فيما نعتقد فصل الخطاب في مسألة التجديد.
ولقد رأيت في حياتي ألف مصداق لـ (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم)، ورأيت(387/2)
مرات أننا لو أطلعنا على الغيب لاخترنا الواقع، ولكني لا أحسب أن قصة صغيرة تقرب هذه الحقيقة البعيدة كما قربتها قصة المؤلف الهندي التي جعل عنوانها (لم كان الصخر صلباً؟) وروي فيها أن حجاراً تعب من صلابة الصخر، فتمنى على الله لو أصبح هذا الصخر الصلب رخواً كالزبد والعجين، فلما أستجيب دعاؤه قطع في يوم واحد أضعاف أضعاف ما كان يقطع في أيامه السابقة، ولكن الصخر بار وكسد، لأن الناس استغنوا عن البناء به وأعرضوا عن شرائه؛ وعاد الحجار يقول: (رب! إنك لأعلم أين الخير لعبادك، فاغفر لي دعوتي ورد الصخر صلباً ثقيلاً كما برأته أول مرة).
ويعرض المؤلف مزية الصلابة ومزية الرخاوة في معرض آخر حين يروي عن الصخر أنه تكبر على الطينة القريبة منه، فشمخ بأنفه عليها وقال لها: (أنا صلب نظيف جميل حمول قوي. أما أنت فرخوة قذرة متداعية قبيحة ضعيفة. . .).
فلم تنكر الطينة شيئاً من مزاياه ولا شيئاً من عيوبها، ولكنها أجابته قائلة: (إني لأنمي الحبوب والخضر التي يعيش عليها كل حي، فماذا تنمي أنت؟ إن قوتك عقيمة، وأما ضعفي فمثمر)
وكثير ما يستفاد من أمثال هذه المقابلات والمسجلات، كلما عرفنا أن ننقلها من كبار المشكلات وصعاب المعضلات.
كنت في سيارة من سيارات الأجرة فخطر للسائق أن يختصر الطريق فينحرف إلى الشمال مقاطعاً في بعض الميادين الصغيرة بدلاً من الاستقامة على طريقه إلى الأمام.
وفرق المسافة مائتا متر على أكبر تقدير.
ولكنه حسب فرق المسافة بالمتر وأهمل كل حساب آخر، لأن السيارات كانت مقبلة تتري من الجهة الأخرى، فكانت تعبره واجدة بعد واحدة وهو واقف في مكانه، وحاول أن يرجع فإذا هو قد سد المجاز على من خلفه واستعصى عليه الرجوع، ثم تحول المرور وهو في الانتظار حيث كان، ولو مضى من أول الأمر قدماً لوصل من جانب التطويل قبل أن يصل من جانب الاختصار!
هذا السائق لم يخطئ في مسألة علمية أو مسألة سياسية أو عقدة من عقد البحث والفلسفة، ولكنه أخطأ في العمل الذي يعمله كل يوم وينقطع له دون سائر الأعمال.(387/3)
ولكنه مع هذا قد يشكو ظلم الأرزاق ويرشح نفشه لمهام الدولة التي يظفر بها المجددون ولا يذوده عنها إلا غفلة الحظوظ. وأنه لمثل واحد من أمثلة خالدة قلما يخلوا منها زمن.
وما أكثر ما ذكرت من هذه الأمثلة وأنا أقرأ في الكتاب قصة الوزير والخادم!
خادم سمعه الملك يوماً يقول: (إن هذا العصر عصر ظالم، فأنا أعمل طول اليوم ثم لا أنقد إلا سبع روبيات في الشهر، والوزير الذي يركب السيارات ويضيع وقته في الكسل يقبض ألفين من الروبيات).
فأمتحنه الملك باستطلاع أمر مسافر قادم على بعد، فذهب مرة ليسأل عن أسم ذلك المسافر، وثانية ليسأل عن إقليمه، وثالثة ليسأل عن المكان الذي قدم منه، ورابعة ليسأل عن الوجهة التي يقصدها، وخامسة ليسأل عن المرحلة التي يقف فيها، وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة ليسأل عن غرضه وعمن يلقاه وعن موعد اللقاء إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يذكرها إلا إذا أمليت عليه
ثم بعث بالوزير مستطلعاً فعاد بالخبر كله في لحظة قصيرة وأجمل ما علم في مقال وجيز. فاستدار الملك إلى خادمه وقال له: (أرأيت أن ما كلفك تسع رحلات مضنية وخمس ساعات قد كلف الوزير نصف ساعة ورحلة واحدة؟ لعلك تتعلم الآن لماذا تقبض سبع روبيات في الشهر ويقبض الوزير ألفين. . .)
ومن السهل أن يقال إن من الوزراء من يخطئ خطأ الخادم ومن الخدم من يصيب إصابة الوزير، ولكن الحقيقة الباقية بعد هذا أن من الناس من يعمل في رحلة واحدة ونصف ساعة ما يعمله غيره في تسع رحلات وخمس ساعات، وإن الظلم كل الظلم أن يتساوى هذا وذاك.
وقد أشتمل الكتاب على نيف ومائة قصة من هذا الطراز، ما أظنها أهملت مسألة عصرية أو خلت إحداها من عبرة سهلة عصية، وكلها زاد قراءة سائغ لمن درس تلك المسائل في مراجعها ولمن يكتفي منها بهذه الأشباه المخيلة والعبر الممثلة، وهم أكثر من الكفاية في بلادنا.
عباس محمود العقاد(387/4)
مسابقة الجامعة المصرية
لطلبة السنة التوجيهية
للدكتور زكي مبارك
- 4 -
على هامش التاريخ المصري القديم
كلمة اليوم عن كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم) لسعادة الأستاذ عبد القادر حمزة باشا، وهو كتاب يقع في أربعين ومائتي صفحة بالقطع المتوسط، وبه كثير من الصور والرسوم التي توضح ملامح ذلك التاريخ.
الأسلوب
أسلوب عبد القادر حمزة أسلوب فريد بين أساليب الكتاب في هذا العصر، وهو في غاية من الجمال، وإن لم يذكرك بأنه جميل، لأن الصنعة فيه أخفى من الخفاء.
وعبد القادر حمزة يقيم تعبيره على قواعد المنطق، فالتعبير عنده مقدمات تصل إلى نتائج، ولا تمر صفحة مما يكتب بدون أن تلمس فيها وضوح الحجة ونصاعة البرهان.
وعبد القادر حر الفكر إلى أبعد الحدود، وما صحبه رجل إلا عجب من الشجاعة التي يمتاز بها عقله والوثاب، مع القدرة الغريبة على ضبط النفس، ومع المهارة في تقديم الحجج (على أقساط)
ليتسع له المجال في تشريح المعاني والأغراض.
ومن هنا كان عبد القادر عدواً خطراً حين يعادي، لأنه لا يحاول الإجهاز على خصمه بمقال أو مقالين، وإنما ينوشه برفق ودهاء من يوم إلى يوم ومن أسبوع إلى أسبوع، ثم يظل يراوحه ويغاديه إلى أن يأتي على مركزه من الأساس.
بين العلم والسياسة
قد يقال إن هذا أسلوب عبد القادر في مقالاته السياسية، لا في أبحاثه العلمية.
ونجيب بأن عبد القادر هو هو في جميع الأحوال، فعبد القادر لم يفكر في درس التاريخ(387/5)
المصري القديم إلا في سنة 1924، فماذا صنع في هذه الأعوام القصار ليكون من أقطاب المؤلفين في ذلك التاريخ؟
عمد الرجل إلى طائفة من المعضلات الأساسية فدرسها بتعمق واستقصاء، ثم خرج من ذلك الدرس بمحصول يحسده عليه الأخصائيون، وقد تمر أعوام وأعوام قبل أن تظفر اللغة العربية بكتاب يضارع كتابه في دقة العبارة ونفاسة الاستطراد.
حشو اللوزينج
وحشو اللوزينج في تعبير كتاب القرن الرابع يُضرب مثلاً للشيء يكون حشوه أجود من قشره، ومن أشهره قول عوف بن محلم:
إن الثمانين - وبُلِّغتَها!! - ... قد أحوجتْ سمعي إلى ترجمان
فعبارة (وبلغها!!) حشو، ولكنها أجمل من المحشو، لأنها غاية في الرفق والحنان.
وكذلك ينقسم كتاب عبد القادر حمزة إلى حشو ومحشو، فالحشو هو الهامش، والمحشو هو الأصل، ولم أجد كتاباً يكون فيه الهامش أغزر من الأصل قبل أن أعرف كتاب عبد القادر الذي أغرم بحشو اللوزنيج بعد التفات النقاد إليه بعشرة قرون
فأرجو الطلبة أن يلتفتوا إلى هامش هذا الكتاب أكثر من التفاتهم إلى الأصل، لأن عبد القادر جرى في الهوامش على فطرته الأصلية من التعقب والاستقصاء فأتى بالأعاجيب.
وهل برع عبد القادر إلا في الهوامش؟
إن هذا الرجل يحارب بالأخبار المنثورة أعنف مما يحارب بالمقالات الطوال، وهو قد نقل أسلوبه في الصحافة إلى أسلوبه في التأليف، فليراع الطلبة هذا الفن الدقيق.
شاهد
قلت إن عبد القادر يصل إلى غرضه بترفق وتلطف، فما شواهد ذلك؟
إليكم الشاهد الأول:
قال أبن عبد الحكم: (لما فتح عمرو بن العاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل بؤونة. فقالوا: أيها الأمير! أن لنيلنا سنة لا يجري إلا بها. فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها(387/6)
وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو: هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا بؤونه وأبيب ومسرى وهو لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء، فلما رأى عمرو ذلك كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك. فكتب إليه عمر: (أن قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها في النيل إذا أتاك كتابي) فلما قدم الكتاب على عمرو فتح البطاقة فإذا فيها: (من عبد الله أمير المؤمنين إلى نيل مصر؛ أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب بيوم وقد تهيأ أهل مصر للجلاء، لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه تعالى ستة عشر ذراعاً في ليلة وقطع السوء عن أهل مصر في تلك السنة).
فماذا صنع عبد القادر حمزة في تفنيد هذه الأسطورة البلهاء وقد انتقلت من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل حتى احتلت بعض الكتب المدرسية بالمدارس الثانوية، وحتى دخلت في منهج الاحتفال بوفاء النيل بصورة رمزية؟
أخذ عبد القادر يدور ويدور حتى صير هذه الأسطورة أضعف من وهم الخيال
ولكن كيف؟
هل فزع إلى المنطق فقرر أن من المستحيل أن يتوقف فيضان النيل على عروس تُلقى إليه؟ هل سارع فاستغرب قول أبن عبد الحكم إن النيل توقف ثلاثة أشهر عن موعده الموقوت وفي ذلك هلاك لأهل هذه البلاد؟ هل أنكر أن يكون لبطاقة عمر أبن الخطاب قوة الموهوم من آثار التمائم والتعاويذ؟
لو أن المؤلف اكتفى بهذه المحاولات لوصل إلى الغاية في نقص ذلك الحكم السخيف، ولكنه رأى الرجوع إلى المأثور عن المصريين القدماء فلم يجد لهذه الخرافة سنداً تعتمد عليه، فلو كان لها أصل لسُجلت في بعض ما سُجل من أخبار الفيضان، ولو كان لها أصل لعد فقدان عروس النيل سبباً في بعض ما أصاب مصر من مجاعات، ولو كان لها أصل لذكرت في (نشيد النيل) وهو نشيد قد استوفى خصائص هذا النهر العظيم وتحدث عما أطاف به من أوهام وأضاليل، ولو كان لها أصل لذكرت عروس النيل بين الهدايا التي كانت تقدم إليه(387/7)
في الحفلات، فلم يبق إلا أن تكون خرافة خلقها وهم القُصاص، ثم تبعهم ابن عبد الحكم بلا تمحيص ولا تحقيق
سؤال
من حق طلبة السنة التوجيهية أن يوجهوا إلى سعادة عبد القادر حمزة باشا هذا السؤال:
كيف نشأت هذه الخرافة وهي من المستحيلات؟
وأتطوع بالإجابة عن هذا الصديق فأقول:
يشهد كتاب الأستاذ نفسه بأن النيل كان يلقى فيه قرطاس من البردي يُدعى فيه النيل إلى أن يفيض، وكان الكهنة يزعمون أن للكتابة التي في ذلك القرطاس قوة سحرية
فذلك القرطاس هو الأصل لبطاقة عمر بن الخطاب، والأساطير يستقي بعضها من بعض
بقيت عروس النيل، فما أصل تلك العروس؟
يشهد كتاب الأستاذ نفسه بأنه كان يُتقرب إلى النيل بذبح عجل أبيض، ومن السهل أن نقول إن الذبيح كان بقرة بيضاء يعبر عنها مجازاً بالجارية الحسناء، وفي بعض تعابير الفرنسيين توصف البقرة بأنها
ويؤيد هذا التعليل أن المصريين القدماء لم يعبدوا البقرة إلا لأنهم رأوا فيها مخايل من حنان المرأة المفطورة على الطاعة والسجاحة والصفاء.
شاهد ثان
والشاهد الثاني على منطق الأستاذ عبد القادر باشا هو تحديده لمركز هيرودوت، فهذا المؤرخ اليوناني هو الحجة على مصر في تاريخها القديم، وما عرفت مصر القديمة في شرق ولا غرب بأكثر مما عرفت عن طريق هيرودوت.
فما الذي قال عبد القادر باشا في ذلك المؤرخ (الأمين)؟
لقد قتله بكلمة واحدة حين قرر أنه لم يزر مصر في عهد إشراقها وإنما زارها في عهد الأفول، فكان مثله مثل من يأخذ السيرة النبوية عن سدنة الكعبة في هذا الجيل، وهم لا يعرفون من سيرة الرسول غير أطياف تصور عن طريق الرمز الواهم ما كان عليه الرسول من عظمة وجلال.(387/8)
شاهد ثالث
تحدث عبد القادر باشا عن (السذاجة المصرية) في تقدير ما للشهور والأيام من غرائب وأماثيل.
ومن رأي هذا الباحث أن ما قيل عن الأيام والشهور في عهد رمسيس الثاني لا يزيد عما يقال في عهد فاروق الأول، فهي هنا وهناك صور لأوهام العوام الجهلاء، وليست حجة على العقل الصحيح لأهل هذه البلاد، فما يقال عن يوم 5 طوبة في عهد رمسيس الثاني شبيه بما يقال عن يوم 5 طوبة في عهد فاروق الأول. ومعنى ذلك أن العوام لهم آفاق غير آفاق الخواص، وإلا فمن الذي يصدق أن أهل مصر في هذه الأيام يبنون أحكامهم المعاشية على ما يرد في مثل تقويم (طوالع الملوك)؟
شاهد رابع
وفي هذا الشاهد تظهر القوة المنطقية لهذا المؤلف الحصيف، فالمدنية المصرية هي أقدم المدنيات في التاريخ، وآثار المصريين هي أقوى وأنفس وأثمن ما أثر عن القدماء في جميع المماليك والشعوب؛ وقد دامت المدنية المصرية القديمة أكثر من أربعين قرناً في وقت لم يكن فيه لغير مصر سلطان ملحوظ في المشرق أو في المغرب، فهل كان يمكن للمصريين أن يتفقوا على العالم القديم بلا علم وبلا أخلاق؟
وكيف كان يمكن للمصريين أن يسودوا إذا صح أنهم صح أنهم كانوا جهلاء؟؟
وكيف يجوز عليهم الجهل وقد خلفوا آثاراً فنية وأدبية هي الغاية في براعة الأذواق ورجاجة العقول؟
وهل من الجائز عقلاً أن تقام الأهرام في بلد لا يعرف أهله قيمة النظام وقيمة التطلع إلى الخلود؟
وهل يستطيع إنسان موهوب أن ينكر أن آثار الأقصر هي أثمن ما خلفت الإنسانية في عهدها القديم، إن صح أنها استطاعت خلق ما يفوق تلك الآثار في العهد الحديث؟
وبأي قوة سحرية جاز لتلك البقعة النائية أن تكون عروش القرون الخوالي؟
لقد شغلت نفسي بأسرار تلك البقعة من الوجهة الطبيعية، فلم أجدها تنتج غير اللحوم(387/9)
والبقول، فهل يكون سر التفوق في غزارة اللحوم والبقول؟
إن كان ذلك، فكيف انقضى عهد العظمة (الأقصرية) بعد ذلك التاريخ؟
وكيف انتقل مجد مصر من الجنوب إلى الشمال؟
تلك أسئلة توجه إلى الأستاذ عبد القادر حمزة، فهل يجيب؟
أما أنا، فأقول: كان المصريون تحصنوا بالأقصر ليسلموا من عدوان الوافدين من جهة الشمال، وبذلك حصروا نشاطهم الفني والاقتصادي في (كعبة) الأقصر، كما حصر العرب نشاطهم الفني والاقتصادي في (كعبة) الحجاز، والتاريخ هو التاريخ، وإن تلونت الأشعة والظلال.
عراقة المدنية المصرية
شغل المؤلف نفسه بالتدليل على عراقة المدنية المصرية، وهي أقدم مدنية عرفها التاريخ، ولا ينافسها في القدم غير حضارة الكلدان في وادي الفرات
وعلى الطالب أن يقرأ ما كتب المؤلف في هذا الموضوع بعناية وتدقيق، ولكن يجب قبل ذلك أن يعرف الأصل الذي استوجب عراقة المدنية المصرية، وذلك الأصل هو النيل، فالنيل هو النهر الثاني في العالم بعد المسيسيبي من حيث القوة، ولكنه النهر الأول في العالم من حيث المدنية، فهو اقدم نهر قامت على شواطئه كبريات المدائن، وأقدم نهر نُظمت فيه الملاحة واتخذت مياهه مطايا لخدمة الاقتصاد، وهو كذلك أقدم نهر أوحى إلى أهله عرائس الشعر والخيال.
فإذا تمثل الطالب هذا المعنى كان عليه أن يذكر أن المصريين أسبق الأمم إلى حفر الآبار، لأن أرض مصر لينة جداً، ولأن الماء مخزون في جميع البقاع بهذه البلاد، وقد يوجد في سفوح الجبال، وهذا وذاك يشرحان السبب في تعلق المصريين بواديهم أشد التعلق، حتى صاروا مثلاً في بغض الهجرة والارتحال.
أقول هذا لأؤيد حجة الأستاذ عبد القادر حمزة في قوله بأن المدنية المصرية بنت مصر لا بنت شعب آخر، ولو قال إنها نبت مصر لكان التعبير أظرف، لأن المدنية المصرية نشأت في خصائصها الأصلية وكأنها من عمل الطبيعة لا من عمل الناس
والمشكلة هي درس مسألة السبق إلى المدنية، فهل كان السبق للمصريين أم للكلدانيين؟(387/10)
ولكن كيف خلقت هذه المشكلة؟ خلقها التشابه بين المدنية المصرية والمدنية الكلدانية في كثير من الشؤون. فهل يدل هذا التشابه على النقل؟ أم يكون شاهداً على تبادل الصلات الأدبية والاقتصادية بين هذين الشعبين العريقين؟
هنا تظهر قوة عبد القادر حمزة في التعمق والاستقصاء فقد وصل بالمنطق وبشواهد التاريخ إلى أن المصريين سبقوا الكلدانيين إلى الحضارة والمدنية ولم يترك الموضوع إلا بعد أن صيره غاية في الوضوح والجلاء.
التقويم المصري
وفي كتاب عبد القادر قضية من أغرب القضايا الإنسانية، وهي قضية التقويم، فقد كان العالم كله يعتمد في تقسيم الزمن على الدورة القمرية، وهو تقسيم مقبول ولكنه غير دقيق، لأنه لا يصلح قاعدة لتعيين مواسم البذر والحصاد.
وكذلك كان المصريون أول المتحولين عن التقويم القمري إلى التقويم الشمسي، وقد قسموا السنة إلى ثلاثة فصول، كل فصل منها أربعة أشهر، وهي فصل الفيضان وفصل البذر وفصل الحصاد.
والتقويم المصري هو التقويم الذي حمله يوليوس قيصر من مصر إلى روما، وهو التقويم الذي عدله مجمع الكرادلة تعديلاً طفيفاً في سنة 1582 ثم صار تقويم العالم كله إلى اليوم.
وإذا تذكرنا أن التقويم المصري كان موجوداً إلى سنة 4238 قبل الميلاد، أي قبل حكم الملك مينا بأكثر من ألف سنة، أدركنا فضل مصر في السبق إلى دقة الحساب.
وفيما كتب عبد القادر عن هذا الموضوع عن هذا الموضوع صفحات جديرة بالدرس والتعقيب، فليس من القليل أن نكون دنا أمم الشرق والغرب بذلك التقويم الدقيق.
معركة عقلية
هي المعركة بين الكنيسة وعلم الآثار المصرية، وهي المعركة التي انتهت بانهزام الكنيسة ورجوعها صاغرة إلى أن تفسر التوراة تفسيراً جديداً لتسلم من التصادم مع الآثار المصرية.
فما سبب تلك المعركة؟ ومن الرجل الذي درس البروج المصرية ثم انتهى من درسها إلى(387/11)
القول بأن الحضارة المصرية ترجع إلى أبعد من خمسة عشر ألفاً من السنين؟ وما الذي قال العلماء المرافقون لبونابارت؟ وما هو البرج الذي نقل إلى فرنسا فبلبل الأفكار الأوربية؟ ومن هو الشاب الفرنسي الذي أدى لمصر أعظم خدمة تاريخية ثم حمله الخوف من سلطان الكنيسة على المواربة في قضية البروج؟ ومن هو العالم الذي قرر أن الثقة بالمسيح لا تمنع من مسايرة الحقائق العلمية؟ وعلى أي أساس بررت الكنيسة خروجها على حرفية العهد القديم لتصح النظرية المصرية في قدم الوجود؟
عقيدة الحساب بعد الموت
ذلك بحث نفيس كتبه عبد القادر في أيام صفاء، فما تفاصيل هذا البحث؟
لهذا البحث عناصر كثيرة، ولكني أرجو أن يفكر الطلبة في الموازنة بين الأخيلة اليونانية ليعرفوا كيف استطاع المؤلف أن يقيم البراهين السواطع على أن المصريين سبقوا اليونان إلى تصور عقيدة الحساب بعد الممات بما يدل على فهمهم لفكرة العدل.
ودرس هذا البحثُ يعين على فهم البحث الذي يليه وهو تأثير المدنية المصرية في المدنية اليونانية وتعيين ما أقتبس وميروس من أساطير المصريين
وهذان البحثان يهمان كل مصري يحب أن يعرف مركز وطنه في التاريخ، فقد استطاعت أرض يونان أن تزعم أنها أثقب فكراً من وطن النيل، وساعد على تأييد هذا الزعم أن كان العرب سفراء العقل اليوناني في الممالك الأسيوية والأوربية، في أوقات لم يملك فيها المصريون أدوات النقض لمزاعم اليونان.
لمحة من التحقيق
المصريون هم أساتذة اليونان القدماء باعتراف الجميع، ولكن العقل المصري كان غفا بعد أن تعب من اليقظة التي هدمت أعصابه في عشرات الأجيال؛ ثم كانت صحوة العقل اليوناني بعد ذلك، وهي الصحوة التي عرفها العرب يوم عزموا على (إحياء) المطمور من آثار القدماء. فمن طاب له أن يزعم أن مصر تعيش بعقلية يونانية فسيقهره المنطق الحق على الاعتراف بأن اليونان لم تؤد إلى مصر إلا بعض ما بعض ما تلقت من علمها الأصيل في العصور الخوالي، ولا بد يوماً أن ترد الودائع، ولو كره كهنة دلف وسَدنة(387/12)
أنوللون!
قصة الغريق
هي قصة أوحت ما أوحت إلى الآداب العربية والآداب الإنجليزية، فكيف كان ذلك؟
الطلبة هم المسئولون عن مراجعة هذا الفصل النفيس، وعما كتب المؤلف في الاستشهاد بآيات التوراة لتبرير ما جاء فيه من تكرير وترجيع.
رسائل مصرية وفلسطينية وسورية
هو بحث شائق لا يحتاج إلى من يدل عليه، وهو يشرح وسائل قدماء المصريين في تسجيل الرسائل واللوائح والقوانين.
الصور، الصور، الصور
بهذا الكتاب صور فنية نقلت عن المعابد والهياكل والقبور، وهي تحتاج إلى درسٍ خاص، فهل ينظر إليها الطلبة نظرة فحص وتأمل وتدقيق؟
لو كنت أملك الوقت لكتبت أملك الوقت لكتبت عن هذه الصور صفحة أو صفحتين أو صفحات، فهي أروع ما حُفظ من آثار القدماء، ولو كنت أملك المال لدعوت جميع طلبة السنة التوجيهية إلى رحلة فنية نتعرف بها إلى آثار مصر في الشمال والجنوب
فلم يبق إلا أن أوجه أنظارهم إلى أن هذه الصور ستكون حتماً مما تفكر فيه لجنة الامتحان، فقد سمعت أن في أساتذة الجامعة المصرية قوماً يهتمون بالفنون!
ثم اكتفى بهذا القدر في توجيه الطلبة إلى فهم كتاب (على هامش التاريخ المصري القديم)
زكي مبارك(387/13)
نفسية المرأة الحديثة
مقتبسة من آراء العلامة (يونج)
للدكتور محمد حسني ولاية
لا شيء يضر طبيعة المرأة نفسياً أكثر من قيامها بأعمال الرجال. ولما كانت طبيعة الإنسان مشتملة على عنصري الأنوثة والذكورة معاً، فإن الرجل يستطيع أن يعيش بالمرأة التي في نفسه، كما أن المرأة بدورها تستطيع أن تحيا بالرجل الكائن في طبيعتها، وفي ذلك ما يقيد ذاتية الشخص الأساسية ويقضي عليها. فلا بد للرجل من أن يعيش كرجل، ولا بد للمرأة من أن تعيش كامرأة
إن تصرفات المرأة وانفعالاتها لا تتأنى من عقلها الباطن مباشرة، بل هي من خصائص طبيعتها الأنثوية، فليست انفعالاتها ساذجة، ولكنها ترمي إلى غرض لا تصرح به.
إن ما يصدر من الآراء عن عقل المرأة الباطن يسير بها في طريق شاذة، فهذه الآراء تنتحل
صفة الصدق والواقعية ما دامت لم توضع رهن الانتقاد الواعي.
وهي تشبه تصرفات الرجل في غموضها إلى حد ما، كما أنها تشبهها في عدم وصولها إلى العقل الواعي غالباً، وعلى ذلك يندر أن ندرك ألوانها على حقيقتها
إن الافتراضات والأفكار المنتمية إلى العقل الباطن لهي ألد عدو للمرأة، وذلك لأنها قد تنمو وتكبر في شكل هوى شيطاني يستقبح الرجال ويحنق جاذبية المرأة وأنوثتها، وينتهي مثل هذا الاتجاه إلى انفصام عميق في الذاتية أو بعبارة أخرى إلى عصبية. على أنه ليس من الضروري أن يصل الأمر إلى هذه الخاتمة، لأن تلوين عقلية المرأة بالذكورة يؤدي في حد ذاته إلى نتائج سيئة غير العصبية. فقد تكون مثل هذه المرأة زميلة طيبة للرجل ولكنها لن تشق طريقها إلى مشاعره وعواطفه، وهذا من قبيل تفاعل دفاعي ضد طابع الجنسية الذكرية.
إن كل ما حرم على المرأة في العصور الخالية قد تجمع الآن وتمخض عن حدوث عمليات تعويض نفسي، ورسل هذه العمليات هن كاتمات السر والمختزلات والمشتغلات بالأزياء، وهن اللاتي يقوضن أركان الزواج باتباعهن ملايين من الطرق الخفية وليست رغبة أولئك(387/14)
النساء موجهة إلى مناصبة العلاقات الجنسية والمجازفات الغرامية العداء، بل محاربة الزواج هي غايتهن، فهن يرمين إلى مطاردة المرأة المتزوجة، ولكن بوسائل غامضة هادئة عنيدة تعمل كالسحر مثل عين الثعبان الجامدة.
فما هو موقف المرأة المتزوجة من هذا؟. . . لا ريب في أنها تتعلق بالفكرة القديمة التي تلقي اللوم على عاتق الرجل والتي تتضمن استطاعة الإنسان أن يصنع الحب بمحض اختياره، وأنها على أساس هذه التصورات الجاهدة تنطوي على نفسها في جو من الغيرة. على أن هناك أثراً أعمق من هذا، فما من امرأة تستطيع أن تتفادى أثر الحافز الذي يعمل في الخفاء في ذلك الجو الذي ربما غمرتها به. . . أختها مثلاً. . . ذلك الجو القاسي الذي لم تعش فيه بعد وحينئذ يستبد بالمرأة المتزوجة ريب في أمر الزواج.
أن إمكان منع الحمل قد مهد السبيل للمرأة غير المتزوجة لأن تحيا حياة تشبه الزواج، بل هو قد أصبح ذا أهمية للنساء المتزوجات. ولكن التخلص من حوافز نفسية عظيمة متعلقة بإنجاب الأطفال يؤدي إلى حدوث اضطراب في التوازن العقلي؛ فالطاقة التي لا تجد هدفاً واعياً تقوي العقل الباطن وتسبب الشك وعدم الاطمئنان.
ينطوي الزواج في عرف المرأة على علاقة مطلقة لا تربطها بالزوج فحسب، بل بالأطفال والأقارب، فإذا كان الرجل مستحوذاً على المرأة ضاق بهذا الإطلاق ذرعاً لأنه يجدها موزعة بين أطفالها والأقارب وبين نفسه. ولما كان أكثر الرجال عمياً في غرامهم بزوجاتهم فإنهم يعتقدون أنهم ملكوا نواصي زوجاتهم واستحوذوا عليهن كلية
وترى المرأة أن الزواج علاقة روحية، وأن المسألة الجنسية ليست سوى عامل ثانوي مرتبط بالزواج.
وكما ابتدأت المرأة في نهاية القرن التاسع عشر تنحاز إلى الذكورة فقد انحاز الرجل بدوره في شيء من التردد إلى الأنوثة.
المرأة أغنى نفسية من الرجل، فهو يقتنع في أكثر نزعاته بالمنطق فقط، ويعاف ما ينضوي نفسياً تحت لواء العقل الباطن لأنه لا يعبأ إلا بالواقع، ولا يعني بالبدوات والمشاعر التي لا تنطبق على الواقع.
أما بالنسبة للمرأة فإن أكثر ما يهمها معرفته ماهية شعور الرجل إزاء أمر أكثر من فهمها(387/15)
الأمر نفسه. وكل ما يعده الرجل سفاسف وترهات ينال اهتماماً خاصاً من ناحية المرأة، وإن كثيراً مما يمكن رؤيته بوضوح في المرأة لا يمثل في الرجل إلا عملية ضئيلة غامضة لا يرغب غالباً في أن يعبر عنها.
حملت الظروف المرأة على أن تتحكم في شيء من الذكورة، وهذا هو الشيء الوحيد الذي ينقذها من البقاء في أنوثة عتيقة غريزة. أما الرجل فيضطر لأن ينشئ في نفسه بعض صفات أنثوية وهذا واجب عليه نحو نفسه لا قبل له بأن يتفاداه ما لم يفضل أن يتعثر خلف المرأة في شكل طفلي بائس لأنه مستهدف لخطر سيطرة المرأة عليه.
يرى رجل اليوم أن الزواج الحديث حافل بالمشاكل وترى المرأة الحديثة أن زواج القرون الوسطى لم يعد زواجاً مثالياً، فالذكورة التي اكتسبتها المرأة تجعلها ترفض أن تقول: (إنه سيكون سيدي) فالذكورة تعني أنها تعرف هدفها فهي تعمل كل ما هو ضروري لإصابته.
واكتسب الرجل بدوره أنوثة في نفسه بعد بذل مجهود ليس بالقليل وعلى حساب الكثير من الألم الذي عاناه. وهو لن يفرط فيما اكتسب لاقتناعه بأهميته.
إذا نظرنا عن بعد إلى الرجل الحديث والمرأة الحديثة تبادر إلى ذهننا أنهما لا شك ناجحان في زواجهما، ولكننا إذا رأيناهما عن كثب بدا لنا الأمر على النقيض لأن زواجهما إنما ينطوي على كفاح جديد، فكل ما تريد أن تفعله المرأة كصدى لإرادة وعيها الحديث النشأة لإيلام الرجل، كما أن المشاعر التي يستكشفها الرجل في نفسه ليست مناسبة للمرأة، فهما يريان أن ما استكشفاه في نفسيها حديثاً يمثل الجانب الوضيع من كل منهما؛ ذلك لأن ذكورة المرأة لا تقل ضعة عن أنوثة الرجل. ولكننا من ناحية أخرى نرى أن في المجموعة التي نسميها (الشخصية) ناحية غامضة، فلابد أن يكون الرجل القوي ضعيفاً من جانب ما وأن يكون الرجل الذكي غبياً من ناحية ما حتى يمكن للمرأة أن تعيرهما الثقة، فالمرأة تحب ضعف الرجل القوي أكثر من قوته، وغباوة الرجل الذكي أكثر من ذكائه.
إن حب المرأة يلتمس الرجل كله كوحدة. . . ليس الجانب الذكرى منه فحسب بل ذلك الشيء الذي ينافي الذكورة فيه أيضاً وليس حب المرأة بعاطفة مجردة بل هو رغبة حيوية تخلو أحياناً من العاطفة، وقد تدفع المرأة أحياناً إلى التضحية بنفسها. والرجل الذي تغمره المرأة بمثل هذا الحب لا يستطيع أن يتجاهل الشطر الوضيع من نفسه إذ ليس في مقدوره(387/16)
أن يواجه المرأة إلا به وأن يكون مغموساً في قرارة نفسه.
وليست قرارة الإنسان متشابهة فحسب بل متكافئة مع طبيعة الإنسان الأبدية التي تربط كل الإنسانية التي تمثلها صورة الحياة البشرية في أعاليها وأعماقها المشتركة بيننا جميعاً، فنحن لن نكون أشخاصاً مختلفين في قرارة نفوسنا بل ندرك الروابط المشتركة التي تربط الإنسانية جمعاء. وفي هذه الأعماق نطرح الفوارق الاجتماعية السطحية من شخصياتنا.
ونصل إلى أساس المشاكل التي تعرض لنا في حياة اليوم. وهذه المشاكل تمثل الحقيقة الواقعة، لأنني هنا أشعر وأعرف أني واحد من كثيرين وأن ما يحدوني يحدو الكثيرين. إننا في ناحية قوتنا مستقلين ومنفردين بحيث يمكننا تشكيل مصيرنا بما نريد، ولكننا في ناحية ضعفنا بعضنا معتمد على البعض الآخر ومرتبط به، وهنا يمثل كل منا آلة في يد القضاء، فليس الفرد هنا هو الذي يحكم بل هي الإرادة البشرية.
ينطوي معنى الحياة الحقيقي على اكتساب الشخص قوة على التغلب العزلة الشخصية والابتعاد عن الأنانية في سبيل اشتراك فعال في حل المعضلات الحديثة.
فإذا أرخت امرأة اليوم تماسك الزواج واعية أو غير واعية ومستقلة استقلالاً روحياً أو اقتصادياً فإن هذا لا يأتي بدافع الرغبة الشخصية ولكن بدافع الرغبة الحيوية ذات القوة المسيطرة المستقرة في أعماق البشر التي تتخذ من المرأة الفردية آلة لها
يمثل الزواج قيمة اجتماعية أدبية لا نزاع فيها، وليس الحط من هذه القيمة إلا من قبيل الفوضى. إن عدم تكامل الإنسانية ليس إلا نشوزاً يقطع انسجام نغمات مثلنا، ومن سوء الحظ أننا لا نعيش في دنيا التي نريدها بل في دنيا الواقع حيث يتناحر الطيب والخبيث ويهدم أحدهما الآخر، وحيث لا تستطيع الأيدي البيضاء التي خلقت للابتكار والإنشاء تفادي التلوث بالدنس. . . وكلما أستجد شيء عرضة للنقد ومحط للريبة فهناك دائماً من يؤكد لنا وسط عاصفة من التصفيق أن لا شيء حدث وأن كل شيء يسير في نظام
وإذا نفذت أبصارنا إلى كثير من لزيجات ألفينا بها كثيراً من أعراض ضعف خفي يتمخض عن مشاكل زوجية تشمل كل تصرفات الزوجة (والزوجة فقط) التي لا يمكن احتمالها كالعصبية والخيانة الزوجية.
إن أولئك الذين يرون أنفسهم غير مضطرين إلى مجاراة ميول العهد الحديث يعتقدون في(387/17)
مثال الزوجية ويعتنقونه، وعندما يتهدم مثال الإنسان دون أن يحل محله شيء أفضل منه فإن الخسارة لا تعوض، ولذا تظل المرأة مترددة سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة فهي لا تجسر على العصيان بكل قلبها وإنما تظل في حيرة لقد أصبح الزواج أحسن حل وكل من لم يدخل في حظيرته عليه أن ينحني على أخطائه.
لم يعد الزواج سهلاً بالنسبة للمرأة الحديثة. ما دامت هناك فقرات قانونية تشرح ماهية الخيانة الزوجية فإن المرأة لابد أن تظل متخبطة في شباك الشك.
ويصح أن نتساءل (هل تعرف الفقرات التشريعية ما هي الخيانة الزوجية. . . وهل تعريفها لها هو الشكل النهائي الأبدي الصادق؟) فمن الناحية النفسية - وهي الناحية التي تعني امرأة - ترى في هذه الفقرات تشكيلة هازلة كما هو الحال في كل ما يصطنعه الرجل لوضع قوانين تتعلق بمسائل الحب.
وكثيراً ما يتعدى المؤمنون بالقانون حدود قوانينهم بما اتسموا به من غباوة، أو بالخنوع لإغراء المرأة أو لمجرد الرذيلة المختلطة بنفوسهم. وإن المرأة الحديثة لتتساءل عما إذا كانت تنتمي إلى هذه الفصيلة. . . أما من الناحية التقليدية فهي بلا ريب منتمية إليها. وعليها أن تفكر في ذلك لاستجلاء الحقيقة حتى تتهدم أصنام الاحترام التي نصبت في نفسها.
فما معنى أن يكون الإنسان محترماً. . . أمعنى هذا أن يلبس قناعاً مثالياً يستر به حقيقته عن الناس. . . أمعناه أن يكون خادعاً. . . إن الطيبة ليست خدعة، ولكن عندما يحبس الاحترام الروح. . . تلك الروح الحقيقية المقدسة لا يصبح الإنسان إلا ذلك الشيء الذي وصفه المسيح بأنه (القبر الأبيض).
لقد أصبحت المرأة الحديثة على بينة من الحقيقة التي لا نزاع فيها. . . إنها تستطيع أن تبلغ الأسمى والأحسن في مجال الحب فقط؛ وإن هذه المعرفة تحدوها للوصول إلى نتيجة أخرى هي أن الحب أبعد وأسمى من القانون. وإن احترامها الشخصي ليضيق حينئذ بنفسه ذرعاً. ولكن هناك ميلاً غريزياً يوفق بين تفاعلها والرأي العام هذا أهون الشرين. أما أهول الشرين فهو أن يسري هذا الرأي أيضاً في دمها. وهو يبدو لها كصوت داخلي يبعثه الضمير وكقوة كامنة تقفها عند حدها(387/18)
إنها لم تكن قط واعية للحقيقة المنطوية. على أن أعمق ما تملكه في ذاتها يمكن أن يجعلها تصطدم بالتاريخ؛ ولا ريب في أن هذا الاصطدام يبدو لها مستهجناً وغير منتظر. ولكن أين هي التي فهمت واستوعبت جيداً هذا التاريخ كحقيقة واقعة فليس هذا موجوداً في المجلات الضخمة ولكنه يعيش في الدماء
وما دامت المرأة تحيا حياة الماضي فهي لن تصطدم بالتاريخ ولكن يندر أن تنحرف المرأة عن ميل ثقافي سيطر على التاريخ. والآن نرى أن ترددها أصبح مفهوماً لأنها إذا خضعت لقانون الحب وقعت في هاوية الألم والشك والحيرة، وتعثرت بين عاملين كبيرين: الجمود التاريخي والقوة الإلهية المبتدعة.
ففي النهاية لا تجد حلاَّ سوى أن تنبذ الجمود التاريخي، وحينئذ يتعين عليها أن تبتدع لنفسها تاريخاً جديداً أو أن تتعلق بالتاريخ وتخضع له. ولكنها لا تستطيع أن تبتدع تاريخاً حديثاً ما لم تجرؤ على المخاطرة بكل شيء لتحقيق غرضها ولو ضحت بنفسها، لأن موضوع التجربة هو ذاتها التي تنتهي بها إلى نهاية مريرة. وهي عند هذا الحد لا ترى حياتها خلفاً لسلف بل تبدأ حياتها هنا. وهذا بمثابة تعبير ثقافي موروث يرمي إلى إيجاد شكل إنساني أتم، وإلى إيجاد معنى للحياة، وإلى نبذ انتحاء الإنسان ناحية واحدة من الحياة، وإلى تطليق حياة عزيزة محضة
إن المرأة تعي الآن أن الحب وحده هو الذي يمنحها قوامها، وأن الرجل الآن يستطيع أن يدرك أن الروح فقط هي التي تمنح حياته أسمى معانيها. وكل من المرأة والرجل يسعى إلى علاقة نفسية تربطه بالجنس الآخر، فالحب في حاجة إلى الروح والروح في حاجة إلى الحب.
إنها تشعر الآن بأنه لم يعد في الزواج طمأنينة ولا استقرار حقيقي؛ فأي معنى سام يحمله إخلاصها إذا كانت تشعر بأنها مكبلة بأغلال الشهوة التي ترمي إلى اقتنائها اقتناء قانونياً يحبس روحها. هناك إخلاص أهم من هذا يلوح لها، إخلاص للروح والحب، إخلاص يقوى على غزو الضعف الإنساني وعدم نضوجه ليقضي عليه. وربما تستطيع الوقوف على أن ما هو ضعيف وغير ناضج ليس إلا فوضى مؤلمة أو طريقاً محوطاً بالقلق، وأنه يستطاع تفسير ما استكشفته تفسيراً مزدوجاً تبعاً لطبيعته المشكوك فيها(387/19)
وهناك في هذه التطورات طريق يؤدي إلى الإنسانية العتيقة التي تهوي إلى مستنقع العقل الباطن، طريق تؤدي إلى هدم الشخصية والقضاء عليها
إن الإنسان الذي يستطيع أن يحتفظ بما اكتسبه هو الذي يستطيع أن يختبر لأول مرة معنى الذات، وحينئذ يستطيع أن يغوص في نفسه حتى يبلغ الإنسان الفطري المستقر فيه
فكيف يستطيع أن يحرر الإنسان نفسه من ذلك الإنسان الفطري المتغلغل في أعماقه. . . كيف يستطيع أن يقيم قنطرة تربط ذاته بالإنسان الناضج؟
كلما أنكر الإنسان ذاته واكتسب الفضائل العليا، كان بعيداً عن ذلك الإنسان الفطري.
إن كلمة الإنسان ذات الرنين الجميل لا تعني في أساسها شيئاً جميلاً أو فاضلاً أو ذكياً ولكنها تعني دركات منحطة من هذه الصفات. إن الكفاح والخوف الذي يراودنا عندما نحاول الانفصال عن الإنسان الفطري يبين لنا أن قوة جاذبية عالمنا السفلي (أي العقل الباطن) ما زالت هائلة، هذه القوة التي لا يمكن إنكارها وإذا أنكرناها فإن هذا لا يعني الخلاص منها
لا يستطيع أحد أن يبدأ حياته بالحاضر ولكنه ينمو إليه رويداً رويداً، ومن لم يكن له ماض فليس له حاضر. فالإنسان الصغير لا يقوى على ابتكار الثقافات، فهو لا يملك شيئاً من المعرفة سوى أنه موجود، وإن العمر الناضج الذي عبر منتصف الحياة هو الذي يخلق الثقافات
مزقت بربرية الحرب الجهنمية روح أوربا. . . وفي الوقت الذي تعكف فيه أيدي الرجال على إصلاح الخراب الخارجي تبدأ المرأة بدافع من سريرتها العمل على التئام جروح البشر الداخلية بتأسيس العلاقات النفسانية البشرية على أساس وطيد، ولا شيء يحول بينها وبين تحقيق أهدافها أكثر من الزواج التقليدي. . . زواج العصور الوسطى. . . ولن تتأسس تلك العلاقات على أساس عرفي ما لم تتعطر بشذى الحرية
المرأة الحديثة في حاجة إلى وعي أوسع مدى حتى تتعرف هدفها وحتى لا تكون آلة الطبيعة العمياء. إن وسيلة المرأة هي وسيلة الطبيعة التي تعمل بطرق غير مباشرة بدون أن ترمي إلى هدف ظاهري، وأن يكون الهدف موروثاً في سريرتها. على أن هذه الطرق الملتوية التي تنتهجها المرأة خطرة، فعبثاً تحاول أن تصل بها إلى أهدافها(387/20)
إن على عاتق المرأة واجباً ثقافياً كبيراً ربما كان مستهل عصر جديد
محمد حسني ولاية(387/21)
في مجالس الأدب. . .
بين كاتب وشاعر وخطيب
تثبت هذه الدعاية الأدبية المستطرفة من أسمار ندوة (الأهرام) حيث يجتمع في بعض الأمسيات فريق من أصحاب الرأي وأهل الأدب في مكتب الأديب الكبير الأستاذ (أنطون الجميل بك) فيتناولون شتى الأحاديث بروح الجد تارة والتسلية تارة أخرى. وقد تساءل الأستاذ الخطيب (توفيق دياب) عن وحي الشاعر (علي محمود طه) وكيف طال اختفاؤه وسكوته في هذه الأيام وبدأ بنظم قصيدة على لسان الشاعر في هذا المعنى استهلها بالشطر الأول من مطلعها، وأتم الجميل بك شطره الثاني، وأملى الشاعر البيت الثاني ثم ترسل ثلاثتهم في النظم حتى أتمها صاحب الوحي المفتقد
يا وحيَ شعري أين أنتْ ... في أيِّ زاويةٍ رَكَنْتْ؟
هل رُحْتَ في إغماءه ... أم بالمخدِّرِ قد حُقِنْت؟
أم نمت، أم نام الزما ... نُ، أم اعتُقِلت أم إنسجنت؟
أم خِفْتَ من قلم الرقيـ ... ب فما أشرتَ وما أبنت؟
أم هل سقاك (كزوزةً) ... أم هل سقاك (البرمننت)
أم قد شربتَ زجاجةً ... من صنع بار (الكونتننت)
أم في خزانةِ (صالح) ... تركوكَ سهواً فاختُزِنْت
أم في البنوك لأزمةٍ ... حَلَّتْ بأهلكَ قد رُهِنْت
أم ذاك جندولُ الحبيـ ... بِ إلى لياليه حننت
وإلى عروس البحر هْمِـ ... تَ وفي شواطئها كمنت
أم زُغْتَ يوم الانتخا ... ب ولستَ عضوَ (البرلمنت)
لم تَدْرِ ما نال الرئيـ ... سُ أكان صوتاً أم (كَرَنت)
أنكرت ضَجَّةَ معشرٍ ... لم ينصفوكَ وقد غُبِنْت
أم طِرْتَ في جوِّ الحليـ ... فةِ منجداً أبطالَ (كِنْت)
يا وحيُ كم من غارةٍ ... شعواَء فيها قد شننت
أم ثُرْتَ للحقِّ الطعـ ... ينِ وبالبطولةِ قد فُتِنْت(387/22)
فسللتَ سيفَ مدافعٍ ... عن (كالماس) أو (كُرِنْت)
يا وحيَ شعري ما سكو ... تك في الخطوب ألا حزنت!
أفقدت رشدك أم شعـ ... ورك بالحياة؟ إذن جُنِنْت!
عشرون يوماً جاوز التقـ ... ديرُ فيها ما ظننت
عشرون يوماً أنفق الطلـ ... يان فيها كلَّ (سَنْت)
عشرون يوماً والبوا ... رجُ مائلات في (تَرَنْت)
والجيش مرتَّدٌ يولـ ... ول كلُّ جندي كبنت
يا وحي شعري مذ نأ ... يتَ وَهَي بياني أو وهنت
بعد القصائدِ كالقلا ... ع مُشَيَّدَاتٍ (بالسمنت)
من كلِّ بيتٍ مشرق ... يُزري بقصر (اللابرنت)
أمسيتُ بعدك كلَّ قا ... فيةٍ نطقتُ بها لحنت
يا وحيَ شعري هل أُسِرْتَ ... وأنت تهجم أم طُعِنْت
أم غصتَ في لجج البحا ... ر وفي مجاهلها دُفِنْت
أبكي عليك بكاَء (لا مرتـ ... ين) قبراً في (سُرَنت)
يا وحيَ شعري أين أنت ... في أي زاويةٍ ركنتِ؟!(387/23)
محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 4 -
التربية في كل الأمم وسيلة لإعداد الحكام والمحكومين. ويساير نظام التربية دائماً نظم الحكم القائم. ولما كان نظام الحكم ديمقراطيا في إنجلترا كانت الغاية من التربية فيها أن يعرف الفرد كيف يساهم بنصيبه في الحكم الديمقراطي، أو الحكم الذاتي؛ أي حكم الشعب نفسه بنفسه. وقد أظهر أفلاطون - فيما سبق نشره من محاورته - شكه في أن نوع التعليم الذي يتلقاه الشعب في المدارس الأولية كاف لا مكان الفرد من الاشتراك في الحكم الديمقراطي بانتخابه ممثله النيابي، والاشراف على سياسة الحكومة. ويرى أن يترك أمر الحكم نهائيا للجامعيين الذين هم خيرة أبناء الأمة ثقافة. والمربي الإنجليزي لا يشاركه هذا الرأي، لأنه يقصر الحكم على الطبقة المتعلمة من أبناء الأرستقراط. وفي هذا رجوع إلى الوراء بنظام الحكم إلى العهد القديم الذي كان رجال الحكم فيه هم أولئك الذين تخرجوا في مدارس أولاد الأعيان. وهنا يبدأ أفلاطون هذا الجزء الأخير من محاورته.
ومدارس أولاد الأعيان هذه أقدم مؤسسات التعليم الإنجليزية. وهي طراز من مدارس التعليم الثانوي ومن أشهرها أيتون وهارو. ولا يدخلها إلا أبناء المثرين لكثرة نفقاتها. وفيها تخرج عدد كبير من قادة الرأي، والساسة الإنجليز، وأغلب أعضاء حزب المحافظين. وبالرغم من فضلها التاريخي في نهضة إنجلترا نجد الآن من يقول بعدم صلاحيتها في عصر الديمقراطية.
أفلاطون: لقد ذكرت في حديثك السابق مدارس أولاد الأعيان، وإن ما سمعته عنها يجعلني أوقن أنها كانت يوماً ما ذات آثار جليلة. فقد كانت تأخذ الناشئة من أبناء الأرستقراط، وتبعدهم عن نفوذ الأسرة، وتقدم إليهم نوعاً من التربية السليمة في الأخلاق، وآداب اللغة، والتمارين البدنية والألعاب، من غير أن تحاول تنمية الناحية العقلية الفلسفية عندهم. وبهذا غرست في نفوسهم حب الطاعة، والإخلاص لتقاليد البلاد واحترامها، وصاغت منهم نماذج(387/24)
صالحة لتكون حكاماً أمناء وجنود أشداء، عقدوا النية على صياغة دستور البلاد، وحماية نظام الحكم فيها، والدفاع عنه ضد أي تغيير. وبإبعاد الناشئة هكذا عن نفوذ الأسرة لم تفسد تكوينهم العواطف المائعة التي يسرف الآباء في إحاطة أبنائهم بها، ولا شواغل المال والفقر التي هي دائماً حديث الأسرة. فعاشوا في أماكن جميلة، واكتسبوا بمعاشرة بعضهم لبعض واشتراكهم في الحياة المدرسية صفات الرجولة النبيلة التي خلقت منهم خداماً لوطن مطيعين وقضاة أو حكاماً أو إداريين نزيهين، رائدهم العدل والحق
وهذا النوع من المعاهد وما يليه من الجامعات أحسبه جديراً بالصيانة والبقاء. ولو كنت أعرف أنه من المجدي حث شخص مثلك لنصحتكم أن تجعلوا نظام هذه المعاهد جزءاً من نظام تربيتكم الحديثة، ولكن يمنعني من حثي هذا اعتقادي أن هذه المعاهد لم تبلغ في تطورها درجة الكمال. وذلك لأسباب حيوية ثلاثة: السبب الأول هو أن أبناء مدارس أولاد الأعيان لم يتخرجوا فيها على فلاسفة، ولكن على أفراد لا يمتازون كثيراً عنهم. ونتيجة هذا أنهم حينما أصبح زمام الحكم بأيديهم لم يستطيعوا توجيه جمهور الشعب من عمال وصناع وتجار التوجيه الصحيح الصالح. ذلك لأن عصر الاختراع العلمي العملي قد أتاح لهذه الطبقة من الشعب أن تجمع القناطير المقنطرة من الثروة بمجهود قليل. ولم يكن عند طبقة الحكام وولاة الأمر من قوة التعقل وفلسفة الحكم ما يجعلهم يتداركون ما حدث من نمو حب المال في نفوس الشعب وروح الطمع والجشع المادي وسرت هذه العدوى لطبقة الحكام أنفسهم، بل لرجال الدين فلم يحاربوا هذه الميول، وأصبحوا خاضعين لها بدلاً من خضوعهم لنداء العقل والحكمة. وإنني أعتقد أن ما اتصف به حكامكم من أخلاق كريمة طاهرة خفف كثيراً من حدة المطامع المادية الاستعمارية. وكثيراً ما قضت أخلاقهم الكريمة على أسوأ ما في هذه المطامع من آثار. وإنني أصدقك النصح أنه لن يمكنكم أن تعيشوا آمنين، وأن تبقوا على ثراء شعبكم إلا إذا حرمتم ملكية الأرض والشركات ورءوس الأموال على حكامكم وأصبحوا هم عقلاء وذوي عزيمة قوية يلجمون بها غريزة حب المال والكسب. والسبب الثاني هو أن هذه المدارس كانت ولا تزال غير خاضع لإدارة الحكومة، ومقصورة على هذه الجماعة الغنية من الشعب التي لها من وفرة المال ما تنفقه بسخاء على تعليم أبنائها. وربما لم تكن هناك فائدة من خضوع هذه المدارس لإدارة الحكومة في الوقت(387/25)
الذي كان فيه رجال الحكومة أنفسهم من الأعيان ورجال المصارف وأغنياء التجار وإضرابهم. أما الآن والحكومة شعبية، وليس من الضروري أن يكون أفرادها من الأغنياء فإن هذه المدارس يجب أن تكون حكومية لا خاصة، وأن تفتح أبوابها لكل من تؤهله مواهبه للتعلم فيها من أبناء الشعب. والسبب الثالث هو أن جامعاتكم لم تدرك تماماً المهمة الإلهية التي نصبها الله من أجلها، لأنها وهي تحرج الرءوس المفكرة في الدولة لم تصن خريجيها عن المطامع المادية وشهوة المال. والنتيجة هي أن رجال الحكم من أبنائها بدلاً من أن يخضعوا المادة لمبادئهم خضعوا لها.
من كل ما ذكرته تستطيع أن تعرف أي أنواع الإصلاح أريد إدخاله على نظام التربية. يجب ان تبدءوا من القمة فتصلحوا من الجامعات حتى تنتج نوع الحكام الذي تحتاج إليه بلادكم. ولست أزعم أن هذا سهل التحقيق. إن العلماء ولو أنهم يتمشدقون دائماً باسمي، ويذكرونني بالإعجاب والثناء، لم يفهمون جيداً، ولم يفهموا الغاية (من أكاديمي) التي أسستها حتى لقد حرفوا معنى عبارة (التفكير الأكاديمي)، فأصبحت تدل على كل تفكير عقلي لا يمت للحياة العلمية بسبب. وأنا أعرف بالطبع إلى أي حد يكره فلاسفة هذا العصر وعلماؤه الحياة الحالية المحيطة بهم ويحتقرونها، وهم لا يريدون في الوقت نفسه أن يعترفوا أنهم طلقوا هذا النوع من الحياة لا لسبب إلا لأنهم عجزوا عن إقناع ولاة الأمر والمشرفين على شئون الأمة بمبادئهم الفلسفية السامية. ولابد أن تتفق معي أنه لا فائدة من هؤلاء الفلاسفة العلماء، لا لشعبهم ولا للعالم إلا إذا اعتقدوا أن هذا العالم يجب أن يحكم بمبادئ العقل والحكمة التي يدافعون عنها. وأظن أن هذا بعيد الحصول، لأن العلماء والأساتذة الذين يتمتعون بحياة مريحة، ورزق مضمون، وهم مطمئنون لآرائهم وفلسفتهم الشخصية، ليسوا مستعدين إلا قليلاً أن يخاطروا بكل هذه المزايا في سبيل إعانة غيرهم. لهذا ستظل جامعاتكم في الغالب قانعة بوظيفتها، وهي تخريج رجال يخدمون العالم ولا ينتقدونه، فرحين بالقدر اليسير من المعارف التي ينتجونها والعلم الذي يخدمونه وبالعبارات الشفهية التي يفوهون به في محاضراتهم وأحاديثهم عن المثل العليا للحرية العلمية والعدالة العالمية.
وفي هذه الحال يجب عليك أن تفعل كما فعلت أنا، فتؤسس معاهد تنافس هذه المعاهد(387/26)
العلمية ودور التربية القائمة الآن، جاعلاً غايتك خدمة الحقيقة، والحقيقة فقط، معلناً أن الحقيقة واحدة لا تتغير في كل زمان ومكان ولكل فرد. وسوف تتهم بالتحيز والتعصب، وأنك تفسد عقول الشباب بتعاليمك، وتحطم المثل العليا للمبادئ العلمية الصحيحة فلا تصغ لهذه التهم واذكر أن الرجل العالم إذا لم يكن أيضاً رجل عمل فليس جديراً أن ينسب إلى أسرة العلماء الأكاديميين، ولتكن الدراسة في جامعتك شاملة للبحوث العلمية وللدربة والمران لمباشرة الإيالة واكتب على باب جامعتك هذا الشعار (يجب أن يكون الحكم للعلم فقط). ومتى ثبتت هذه العقيدة في قلبك فلن يزعجك ما تتهم به من التحيز أو التعصب، ومن إفساد عقول الناشئة، لأنك ستعرف جيداً أن كل حقيقة جديدة يتهمها الناس بالزيف، وأن اسم العدالة أداة تستخدم لإخضاع المصلحين للنظام القائم. وهناك تغيير آخر يجب أن يدخل على عقائد طلابك، إنهم في هذه السن كرام النفوس، بيض القلوب، يعتقدون بسذاجة أن الحقيقة والحكمة يمكن أن تسودا بطبيعتهما على القوة والحيلة! وبهذا ينزلون ميدان الحياة غير مسلحين ليغزو العالم. وسرعان ما يسفر النضال عن رضوخ في الرأس، وانخداع في التفكير، وحينئذ يظهر لهم أن الشر الذي يعيش ويترعرع في القوة عدو لا تمكن ملاينته بالكلمة الطيبة والعاطفة النبيلة، بل يجب أن يضرب ويصفع حتى يخضع ويصفد في الأغلال، وبهذا لا يستطيع النهوض مرة أخرى. وهذا الدرس يجب أن يتلقاه طلبتك كل يوم في جامعتك الجديدة، كما يجب أن يكتب فوق مدخل الجامعة شعار آخر وهو (لن يدخل هذه الجامع محب للسلم) ثم ذكر طلبتك دائماً أن حكم العقل لم يستطيع ولم يفلح أن يسود البشر ولو مرة واحدة في التاريخ باللين والرفق. ولهذا وجب على الفيلسوف أن يكون مستعداً لمواجهة خصومه بقوة وعزيمة أشد من قوتهم وعزيمتهم. وأنا أنصح للفيلسوف أن يدرع بالقوة،
لأني أعلم أن مبادئه ستكون دائماً عرضة لبعض الناس، على عكس المبادئ الأخرى التي يروجها أعداء الفلسفة من حقائق مموهة يخدعون بها غيرهم. ولهذا يجب أن يسلح الفيلسوف نفسه بكل أنواع القوة والشدة حتى يروض شهوات الشر المادية الجامحة فتخضع لحكم المعرفة. دع طلبتك إذاً يعلموا أنهم إذا أرادوا أن ينقذوا بلادهم من الخراب فعليهم ألا يجعلوا روح السلم تسيطر على نفوسهم، بل يجب أن يألفوا نظام الجندية، وأن يدربوا على(387/27)
الروح العسكرية، تلك الروح لا تقشعر من سفك الدماء في سبيل المصلحة العامة
ومتى ثبتت أركان جامعتك وأصبحت تشرف على شئون الدولة فوجه عنايتك بعد ذلك للمدارس، وهنا يجب ألا تزعجك أخطار مبادئ الفاشستية أو الاشتراكية الوطنية التي ذكرتها أنت في حوارك معي. فأنت توافق على أنه حتى الحكومات السيئة لها بعض الحسنات، وستسر وتعجب حينما تعرف أن ألمانيا وإيطاليا قد اتخذنا كثيراً من تقاليد بلادك وعاداتها، ولا سيما نظام مدارس أولاد الأعيان عندكم، ولكن بشيء من التهذيب يناسب حاجات الوقت الحاضر. وأعتقد أن هذا الخبر سيجعلك أكثر تعلقاً بهذه المدارس فتبقيها كركن قوي للتعليم عندكم في المستقبل، وستقبل عليها مفتحاً أبوابها، معلناً أنها أصلح المعاهد لاعداد القادة السياسيين. فاختر لها حينئذ من بين أطفال الشعب أكثرهم قابلية لتحمل تبعة القيادة السياسية. أما البقية من أطفال الشعب فأعد لهم المدارس الفنية، الصناعية والزراعية والتجارية، حيث يتعلمون المهن التي يصلحون لها. ولما كانت هذه الطبقة من أطفال الشعب ليست بذات خطر فلا داعي لأن يعيشوا في المدارس بل اتركهم يعيشوا في المدارس، ويحضروا للدروس بالنهار فقط. أما أولئك الذين اخترتهم لمدارس أولاد الأعيان فخذهم بتربية صارمة، وامنعهم من رؤية ذويهم إلا في أيام الأعياد والإجازات العامة، وصير هذه المدارس في نظامها الرياضي البدني وفي بساطتها كمدارس إسبارطة القيمة، وخل تلاميذ هذه المدارس يخدمون أنفسهم بأنفسهم، فلا فراشين ولا فراشات، ولا مشرفين ولا ممرضات، ولا أي فرد من هؤلاء الذين يحوطون الأولاد بالعناية والعطف، ويغرسون في نفوسهم النعومة والرقة التي تضعف من خشونة تكوينهم. واجعل التعليم في هذه المدارس للبنين والبنات معاً من غير تميز، ذاكراً دائماً أن غايتك هي إعداد شعب من الجنود والإداريين، لا هذا النوع من الجنتلمان ولا من الجنس اللطيف ذي الغيد والرقة الذي يتخرج في مدارسكم الآن ويجب أن يكون النظام شديداً قاسياً يمرن العقل والجسم معاً على الدقة والطاعة والإتقان، ويكون في ذوق التلاميذ الإعجاب بما هو بسيط ومتين من مظاهر الجمال التي لا يشين الجندي التحلي بها ومن أجل هذا يجب أن يتعلموا مبادئ الحساب والعلوم، وأن يدرسوا اللغة هذا إلى معرفة خير منتجات آدابكم وموسيقاكم، وأنواع الرياضة والألعاب العسكرية(387/28)
ومتى فعلت هذا وجدت أنه من السهل حل معضلة التربية، التربية العامة لطبقة الشعب التي من أجلها عقدنا هذه المحاورة. وإذا علمت أن طبقة الشعب هذه غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها أدركت أنه من الضروري أن تنمي فيها روح الخضوع والطاعة للحكام. وما دام من غير الممكن أن تعيد نفوذ الكنيسة الذي ربي هذه الروح في الماضي، فلابد إذاً أن تكبت كل الكبت المذاهب الدينية المختلفة السائدة الآن في بلادك والتي لا يفتأ بعضها يحارب بعضاً، وأن توجد أنت ديناً سياسياً من عندك يقضي بالإعدام على كل من يؤيد غير مذهباً الديني. ولن تستطيع أن تفعل هذا إلا إذا كان لك الإشراف المطلق على النشر والطباعة وعلى الإذاعة وكل وسائل الإعلان، وتسن إلى جانب هذا قانوناً يحظر تعليم أفكار أو مبادئ - كتابة أو شفهياً - من غير ترخيص من الحكومة، وإلا فالعقوبة الإعدام. فإذا ما فعلت كل هذا كان لك أن تأخذ الشعب بأي نوع من التربية تشاء، بشرط أن تتأكد أن هذا النوع الذي تختاره من التربية لا يشمل شيئاً من الحقائق أو العلوم، ولكنه مجموعة أكاذيب نبيلة تلائم أولئك الذين لا تسمو بهم عقولهم إلى مرتبة إدراك الحكمة الصحيحة ومعرفة الله.
المربي: شكراً جزيلاً على اقتراحاتك، وليس عندي من شك أنها تتفق ومبادئ حزب جديد نشأ عندنا يسمى الحزب الفاشستي فعليك برئيسه.
أفلاطون: لم أتشرف بعد بمعرفة رئيس هذا الحزب، فإذا كانت اقتراحاتي تروقه، فسأعمل على لقائه
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(387/29)
إلى جمهرة أهل الأدب
للأستاذ إسماعيل مظهر
أوجه هذه الكلمة إلى جمهرة أهل الأدب في مصر والأقطار العربية على صفحات الرسالة إقراراً لحق يجب أن يُقر، ورداً لعادية ينبغي أن ترد، وتأييداً لدستور العرف المرعي بين الأدباء والناشرين وأصحاب الصحف على مختلف أنواعها
فقد نشرت مجلة الثقافة الغراء بحوثاً لحضرة الأب أنستانس ماري الكرملي نقداً على كتاب الذخيرة الذي نشره حضرة الأستاذ الدكتور جورجي صبحي بك الطبيب المصري المعروف، فتناول حضرة الأب ما شاء له علمه وبحثه أن يتناول من تصويبات في الكتاب، وحشا نقده وتصويبه بعبارات نال بها من حضرة الدكتور صبحي بك أشد النيل وأسف فيها شر إسفاف، فقد جاء نقده العبارات الآتية:
1 - وهذا هو الجهل المركب الذي لا تركيب بعده وإن اجتمع جهلة العالم كله (العدد 81 ص 37 من الثقافة)
2 - حقيقة أني لا أفهم كيف أن مثل هذا الطبيب حصل على شهادته وكيف يجاز له أن يكون أستاذاً مساعداً في الطب في الكلية المصرية وطبيباً معالجاً في القصر العيني وأستاذاً للغة القبطية والدهماوية (الديموطيقية) إلى آخر ألقابه العديدة (العدد 82 ص 40 من الثقافة).
3 - لما اتضح أن هذا التصنيف (يعني كتاب الذخيرة) ليس لثابت بن قرة، وبان بالعكس أن واضعه قليل البضاعة في علم العربية، والكاتب قبطي من أهل المائة السابعة أو الثامنة للهجرة لجهله الألفاظ الطبية وتشويهه لها، وجهله الأحكام اللغوية ومسخه لها مسخاً شنيعاً، لم يبق ذريعة لإصلاح هذه الأضرار المتنوعة إلا جمع النسخ المطبوعة - وتبلغ الألف عداً صادقاً - وإحراقها وإزالتها من عالم الوجود صيانة لشرف ثابت بن قرة، وشرف الجامعة المصرية التي فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها لأنها سعت ببعثها في الدنيا، مروجة إفساد العربية، وباثة الألفاظ المشوهة، وصيانة أيضاً لشرف الدكتور جورجي صبحي الذي خسر كل ثقة من صدور عارفيه، إذا اشتهر عنه أنه لا يفهم ذرواً في العربية ولا يحسن الإنجليزية، ويسئ النقل من لغة إلى لغة، ومثل هذا الأمر في طبيب طامة(387/30)
عظيمة لا تقدر نتائجها الوخيمة (العدد 84 ص 40 من الثقافة)
4 - لو كنت وزيراً للمعارف في الديار المصرية لحكمت في أول يوم أتولى فيه الوزارة على الدكتور جورجي صبحي أن يؤدي جنيهاً مصرياً عن كل صفحة من صفحات هذه المذكرة المنسوبة ظلماً وكذباً إلى ثابت بن قرة. ولما كانت هذه الصفحات 186 في اللغة العربية و42 في اللغة الإنجليزية، فيكون مجموع ما يؤدي 228 جنيهاً، ويزاد على ذلك حبسه يوماً واحداً عن كل صفحة أيضاً، فيسجن 228 يوماً. فهذا أقل ما يستحقه هذا الرجل حتى لا يدفعه الغرور إلى نشر كتاب طبي آخر على هذا المثال المشوه ضناً بحياة الناس، وصوناً للغة الضاد، وتأديباً لمن يجرؤ على مجاراة هذا الدكتور في نشر الكتب وتشويهها تشويهاً شنيعاً فظيعاً، يكره في عيون الناس اللغة العربية والطب والعلماء على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم، لأن نتائج مثل هذا العمل السيئ إهلاك الناس أولاً وإفساد لسانهم ثانياً، ودفعهم إلى المباهاة بأضرار الخلق ثالثاً.
صاننا الله من هذه الشرور العظام الجسام، ووفقنا لخير الناس من خواص وعوام (العدد 84 ص 40 من الثقافة)
هذا طرف مما جاء في نقد الأب أنستاس الذي نشرته مجلة الثقافة الغراء. ولقد اتفق أني كنت عالماً بأن حضرة الأب سينتقد الكتاب، وأن لهذا النقد تاريخاً قديماً ووقائع ينبغي أن يعرفها أهل الأدب ليظهروا بنشرها على لون من ألوان الأدب في هذا العصر، وليعرفوا شيئاً من العوامل التي تختفي وراء كثير من النقود التي ينشرها حضرة الأب أنستاس في مختلف المناسبات فكتبت نقداً لما نشر حضرة الأب أنستاس وخصصت به مجلة الثقافة الغراء كالعرف السائر، وأرسلت النقد مع كتاب إلى حضرة الأستاذ أحمد أمين محررها. ولقد أرسلت النقد في الثامن والعشرين من أكتوبر فرد إلي في التاسع من نوفمبر مع كتاب من حضرة محرر الثقافة الغراء نصه الآتي:
(جاءنا مقالكم والذي دعانا لنشر مقال الأب أنستاس ما فيه من تصحيح علمي يسوغ لنا نشره. ولكن مقالكم - مع قيمته - معظمه تعريض بالأب أنستاس من غير مناقشة علمية فإذا سمحتم باختيار مقتطفات منه نشرناها وإلا فنحن معتذرون.)
أحمد أمين(387/31)
ولقد توقعت أن نقدي سوف لا ينشر في الثقافة وكان السبب الأول لهذا أني وجهت بعض اللوم لحضرة الأستاذ أحمد أمين لأنه نشر في مجلته ألفاظاً وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور جورجي صبحي وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها، ولأنه قبل أن ترمى الجامعة المصرية التي هو أحد أساتذتها وعميد كلية الآداب فيها بأنها فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها، وأنها تروج إفساد اللغة العربية وأنها تثبت الألفاظ المشبوهة!!
ولئن كبر على حضرة الأستاذ أحمد أمين أن يوجه إليه هذا النقد من كاتب، وعسر على نفسه أن ينشر هذا اللوم في الثقافة، فما كان أجدره أن يهذب نقد الأب ويطلب منه أن يرفع منه تلك الأقوال الثقيلة الجارحة، ولكنه قد أجاز نشر كلمات الأب ورضى بأن يحكم على زميل له في الجامعة أن يدفع غرامة مالية وأن يسجن تلقاء نشره كتاباً قديماً مشوه الأصل، فكيف لا يرضى لنفسه أن يلام وأن يوخز وخزة واحدة تلقاء ألف وخزة نال بها من أستاذ زميل له في الجامعة؟
وبأي حق يطلب الأستاذ مني ألا أعرض بالأب أنستاس ما دام قد أجاز للأب نفسه أن يعرض برجل من أفذاذ المصريين؟ أحرام علينا أن نعرض بالأب، حلال للأب وللأستاذ أحمد أمين أن يعرضا بالدكتور صبحي؟ ومن ذا الذي أعطى حضرتيهما هذا الحق وجعلهما فوق التعريض واللوم ما دام قد أجازاه لنفسيهما؟
فإلى جمهرة أهل الأدب عامة وإلى حضرة الأستاذ محرر الرسالة خاصة، أحتكم وأطلب الحكم، وآمل أن أنصف وأن ينصف معي الدكتور صبحي بك فينشر نقدي في الرسالة في العدد الذي يتلو العدد الذي تنشر فيه هذه الكلمة إحقاقاً لحق لا ينكره علي وعلى الدكتور صبحي إلا جرئ على حقوق الناس
إسماعيل مظهر(387/32)
من وراء المنظار
مصري من الخارج
عرفته قبل أن يسافر ولقيته بعد عودته من الخارج، وأشهد لقد آمنت إيماناً لن يكون بعده جحود بما للخارج من عظمة، وتعاظمني ما بيننا نحن الشرقيين من بون في الحضارة وبين سادتنا الغربيين، حتى لقد أوشك يتملكني اليأس من أي إصلاح لحالنا، إلا أن نرسل جميعاً عالمنا قبل جاهلنا وكبيرنا قبل صغيرنا - اللهم خلا من سلف له أن سافر - بعثة واحدة في وقت واحد إلى بلاد الغرب لعود بعدها كأهل تلك البلاد لنا ثقافتهم ولنا ذوقهم ولنا أسلوبهم فيما يأتون من ضروب التفكير والأعمال ما جل وما هان
ولا يحملن القاري كلامي على اللهو والمبالغة، فالأمر أجل وأخطر من أن يسمح بشيء من هذا، ولو أنه رأى ذلك الذي أتحدث عنه، كما رأيته قبل سفره وبعد أوبته، لأيقن أني جاد كل الجد مقتصد غاية القصد فيما أقول، وحسبك أنه اغترب زمناً ثم عاد إلى وطنه العزيز وهو شخص آخر قد تغير تغيراً جوهرياً من جميع نواحيه إلا ناحية واحدة ستعلم نبأها بعد حين؛ وقد تم له ذلك على صورة أرى من الميسور معها على أن أصدق أن لماء التاميز وغيره من أنهار انجلترة فعلاً سحرياً، فما هو أن ينزل المرء فيه، أو أن يغترف منه غرفة فحسب، حتى يصبح مهما كانت جنسيته، بل إنه ليصبح وإن لم تك له جنسية إلا تلك الحلقة المفقودة التي لفقها خيال العلماء، إنجليزي المظهر والجوهر والخلق!
ما ذهب صاحبنا هذا مذهباً في حديث له إلا جعل غايته تلميحاً أو تصريحاً أن يلقي في روع السامع أنه كان في انجلترة، وأنه بذاك فوق مستوى من لم يتواف له مثل حظه مهما تكن مكانته؛ وكيف يكون لمن لم يحظ بذلك مكانة في نفسه على أية صورة من الصور؟ كذلك يعتقد ذلك الأستاذ الذي يتندر تلاميذه فيما أعلم من عبثهم أنهم يحصون عليه إشاراته إلى ذلك الشرف في دروسه، وإن أحدهم ليراهن صاحبه على درس يأمل أن ينسى فيه الأستاذ ذكر ذلك، ولكنه يخسر كل مرة، حتى لتحدثه نفسه أخيراً أن يذهب إلى أستاذه فيتوسل إليه أن ينسى مرة واحدة وله ما شاء بعدها من الإذعان والمودة!
وكيف ينسى الأستاذ، وإن هذا الأمر ليجري في نفسه مجرى النفس في رئتيه لا يكاد يستغني عنه لحظة؟ وأول ما يستطيل به عليك - إذا اغتررت بنفسك فطاولته، وأول ما(387/33)
يشتكي به إليك إذا اطمأن إليك فأفضي إليك بهمه على الرغم مما يتقلب فيه من نعمة أنه رجل وليعذرني القارئ إذا ذكرت عبارته كما يوردها، فإني لأخشى ألا يؤدي تعريبها ما يريد من معنى، فيضيف بذلك إلى أدلة جهلي عنده دليلاً آخر، ولا تنسى أن من لم يذهبوا إلى الخارج هم عنده جميعاً جهلاء أدعياء!
وهو لا يسمح أن تكون كفايته موضع شبهة من أحد رئيساً كان أو مرؤوساً، وإنه ليخطئ الخطأ في جدله لا يختلف اثنان في أنه خطأ، ومع ذلك فإنك لتزحزح الجبل الراسخ من موضعه ولا تزحزحه هو عن موقفه بأية وسيلة من الوسائل؛ ويظل في مكانه لا ينحرف قيد شعرة، ولن تزداد أنت بمحاولتك عنده إلا أنك تمعن في المكابرة وتسرف في الحمق وتبالغ في الغفلة؛ وإنه لن يؤمن أنه يخطئ إلا إذا كان أحداً ممن اغتربوا ولو إلى قبرص!
وليته يقف عند هذا الحد، فإنه ليقحم نفسه في كل جدال فيستمع لحظة حتى إذا قرر أحد المتكلمين أمراً جابهه بأنه يقرر الخطأ قائلاً: (لا، هذا خطأ) يقولها في غير مراعاة منه لأي وضع من أوضاع الذوق، ثم يزيدك نكداً بأن يسمعك نصف عبارته الإنجليزية ونصفها بالعربية، ولقد يستكثر النصف على العربية أحياناً فلا يأتي منها إلا ببعض ألفاظ؛ ويمعن في الكيد لك فيستدل على رأيه بما قرأ من كتب يذكر أسماءها، والله يعلم نصيب كل منها من الوجود! ولن يذكر فيما يستدل به من الكتب اسم كتاب عربي. وكيف يفعل هذا وهو لا يتورع أن يقول في صراحة إنه يضن بريال من ماله على شراء أي كتاب عربي بينما يدفع جنيهاً كاملاً ثمناً لأي كتاب إفرنجي؟!
إذا صرفت النظر عن طربوشه وسحنته فأنت منه - إذا تبقى بعد ذلك شيء - حيال إنجليزي لا حيال مصري؛ فسرواله وحلته وحذائه كلها إنجليزية اللون والتفصيل، وغليونه إنجليزي الوضع والهيئة والحجم، وأسلوبه في تفريغ ذلك الغليون بدقة على كعب حذائه وفي حشوه وإشعاله أسلوب إنجليزي على رغمي ورغم غيري من الذين ينكرون عليه كفايته، لأن الغيرة تملأ نفوسهم والحقد يوغر صدورهم.
وإنه ليدق الأرض دقاً بحذائه الغليظ إذا مشى، ويومئ برأسه مع كل دقة إيماءة الكبرياء، فيكون في ذلك إنجليزياً أكثر من الإنجليز أنفسهم؛ وهو يكمل بذلك أدلته على أنه قد صار أحد هؤلاء الإنجليز الذين أخذ عنهم؛ وإني لن يسعني مع هذا إلا أن أسلم له بأنه حقاً، وإلا(387/34)
ثمة من فرق بينه وبين من يشتبه بهم؟
ويسيطر على سلوكه خيال إنجليزيته سيطرة عظيمة عند علماء النفس تأويلها؛ أما أنا فعملي عمل المصور الخبيث، فأراه إذا تكلم الإنجليزية مثلاً - وقل أن يتكلم غيرها - يلعب بفكيه لعباً لن أستطيع أن أنكر ما فيه من مهارة، وإلا كنت مكابراً حقاً. وأراه يلعب دور الملحن أيضاً فهو لا يقنع بالمبالغة في إمالة ما يتطلب الإمالة من الحروف، ولا بتفخيم بعض الألفاظ وترقيق البعض، ولا بمد أواخر كلمات واختطاف أواخر كلمات غيرها، ولا بالإتيان بغنة هنا وشنشنة هناك، ولا هناك، ولا بقلقلة لسانه فيما يقابل (الراء) عندنا من الحروف ليخرجه بعد حشره بين وسط اللسان وسقف الفم. . . لا يقنع بذلك كله وإنما يحاول أن يكون صوته كصوت الإنجليز فلا يتسق له وا أسفاه إلا خليط من اللغط والمواء يحمل أشد المحتشمين على الضحك. ولقد رأيت أحد الإنجليز يستمع إليه وهم أهل كياسة ودماثة، فلم يتمالك نفسه من الضحك فحجب وجهه بورقة في يده وضحك ملء نفسه ثم عاد يحاول في جهد الاحتشام والوقار. . .
وإذا اضطره إلى العربية جانب من عمله جاءك بها في ثوب إنجليزي وتسمعها على لسانه غريبة أكثر عوجا ولكنه في جرسها وإخراجها مما لو جرت على لسان أحد أساتذة إكستر أو لفربول وقد تعلمها منذ أسبوعين!
وهو برم بمجتمعنا وتقاليده، فكل شيء فيه سخيف عنده؛ وإنه ليتعرف لديك في غير تحرج أو استحياء أنه لا يزور ذوي قرباه إلا كل عامين أو ثلاثة لأن صدره يضيق بما يرى بينهم من تقاليد وعادات بالية عتيقة. رجا منه مرة أحد أصدقائه ألا ينسى أمراً من الأمور، فهال الصديق أن يراه يغضب أشد الغضب ثم يصعر خذه ويشمخ بأنفه قائلاً: (أنا أنسى , ?
وليس للفن المصري في رأيه أثر في الوجود، ولا للموسيقى المصرية وقع في النفس، ولا للأدب نصيب من لا حياة، ولا للحياة المصرية كلها وضع من أوضاع الذوق. . .
وبعد فليت هذا الذي يتشبه بالإنجليز هذا التشبه؛ يحاكيهم في غير الحلة والحذاء والغليون واللهجة! نعم ليته ينقل عنهم بعض ما بهروا به العالم من خلفهم، بل ليته علم أن الإنجليز أبعد الناس عن التقليد السخيف لأنهم لا يرون بينه وبين الصعلكة كبير فرق!(387/35)
ليته نقل علمهم وأتقن أسلوب تفكيرهم، ثم اقتنع بهذا الجد وحافظ على مظهر قوميته وروح وطنيته، وإن بعض إخوانه ليعود إلى وطنه وما أغناه ماء التاميز عن ماء النيل، وما إن يرضى بأن يقيم من نفسه دليلاً على شعوره بحقارته!
وما لهذا المتكلف وللعلم وبيده (رخصة) بأنه كفء على الدوام أحسن أو أساء؛ وما به حاجة إلى أن يعمل فهو سابق غيره إن جد وإن أهمل بحكم هذه الوثيقة بل هذه الحجة الدامغة التي تغني عن كل شيء! وإن وثيقته هذه لتذكرني (بصكوك الغفران) التي كانت تبيعها الكنيسة للناس في العصور الوسطى فتغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، أو بما يكون لصوم يوم عاشوراء عند السذج من عامة المسلمين من جزاء في الدنيا والآخرة. . .
وإن إكبار المجتمع لمثل هذا المصري الآتي من الخارج ليجري على أسلوب كأسلوب العوام الذي تراه في مثل قولهم: (فلان متربي في بلاد بره) أو كأسلوب بعض جهلاء الذوات في الجيل المنصرم عندما كانوا يقولون (فلان جي من استنبول)
لقد ذهب الزمن الذي كان يراد فيه وضع هؤلاء القادمين من الخارج مهما يكن من عجزهم موضع التفوق ومات الغرض من ذلك بتيقظ قوميتنا وانبعاث نهضتنا؛ فختام نشهد على أنفسنا بالضعة ونقدح في كفاية معاهدنا وأساتذتنا؟
يا معالي وزير المعارف! لأنت أحد أساطين نهضتنا القومية المباركة، فمن غيرك اليوم يقتلع هذا الداء من أصوله ويقول لمن يعمل: المكافأة على قدر العمل، وقيمة كل امرئ ما يحسن! بذلك تقضي معاليك على عيب من أهم عيوب التعليم في هذا الجيل الذي يرتقب الخير على يديك.
الخفيف
-(387/36)
بواب مصر. . .
السنيور (جرزياني)
بوابَ مصرٍ قف بجنب الباب ... أرأيت في الصحراء غير سراب
حرب ولا مثل الحروب، عجيبة ... دعوى المودة من عِدىً أو شاب
تركتك مصر بموضع ما اختاره ... من قبلُ أقوامٌ ذوو ألباب
سجل أسرت به جنودك طِّيعاً، ... حسناً فعلت بجيشك الغلاب!
فلتبق حيث اخترت في مهجورةٍ ... واسمع صداك جوابَ غير مجاب
يكفي عقاباً للجهول وقوفُه ... في موقف يكفيه كل عقاب
البحر عن يسراك فارشف رشفة ... وانعم بأمواه لديك عِذاب
والرمل عن يمناك فأطعم سائغاً ... ما شِئت بين رُبى وبين هضاب
بابٌ لمصرٍ لم يجادلك امرؤ ... فالزم مكانك فيه كالبواب
عبد اللطيف النشار(387/37)
غَنّ. . .
أيها الشاعرُ قُمْ وانْقُرْ عَلَى ... عودِك الحانِي وَرَدِّدْ أغنياتِكْ
إنما أنتَ شُعَاعْ ... عن قريبٍ يغربُ
وأمانيكَ خداعْ ... وسرَابٌ يكذبُ
اركب الزَّوْرق واسْبَحْ فغداً ... لا ترَى الزَّوْرقَ يجْري ويَهيم
واجمع الطيرَ حواليْك وكنْ ... أوَّل الشادينَ ألحانَ النعيم
وارْتَشِفْ أكوابك السكري ففي ... هذه الأكوابِ صفوٌ مستديم
وابتذِلْ دنيا الجياعْ ... فهي هم يَنهبُ!
وهي عنْف وصِراعْ ... وضَجيجٌ متْعبُ!
موكبُ الدنيا يُغَنِّي لحَنه ... فانَتِظمْ في موكب الدنيا وغَنِّ
العذارَى يتهادين به ... راقصات فيه في صفْو وأمْنِ
قُمْ تَرَنَّمْ، قمْ وسَبِّحْ للهوى ... وانْسَ ما تحمِل من وهم وحزْن
وانهب الحسن المشاعْ ... فقريباً يذهبُ
إنما الدنيا متاعْ ... ونعيمٌ طيبُ
عبد العليم عيسى(387/38)
رسالة الفن
شيء قديم
السلطنة
(مع سلام الله ورحمته وبركاته إلى فضيلة الأستاذ عبد الفتاح
خليفة، مفتش الخط المتصوف بوزارة المعارف العمومية)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
الذين يسمعون الغناء في هذه الأيام معذورون إذا كانوا لا يعرفون ما هي السلطنة، وهم معذورون أيضاً إذا سخروا من ذكرها وحسبوها رقاعة قديمة كان المغنون القدماء يصطنعونها تهريجاً منهم وتحلية لبضاعتهم، وكان الجمهور القديم يحتملها صبراً منه، وتضييعاً لوقته الطويل الرخيص الذي لم يكن ينتفع منه بشيء. . . وهم معذورون في هذا وذاك لأن السلطنة قد انعدمت من عند المغنين في هذه الأيام أو كادت تنعدم. والجمهور اليوم يسمع عنها - إن كان يسمع عنها - فلا يتصورها إلا نوعاً من أنواع التحكم الثقيل الممقوت يفرضه المغني فرضاً على جمهوره تهياً منه ودلالاً واستكباراً، فقد قيل لهذا الجيل إن المغني القديم كان لا يرد إلى المكان الذي سيغني فيه إلا بعد أن تمضي من الليل ساعات. . .
وإنه بعد هذا كان يطلب خمراً أو شيئاً آخر غير الخمر يقلب به دماغه ويغيب به عن وجوده، وإنه بعد ذلك كان يرجو أن إنساناً حلواً يقرب منه ليشاهده وهو يغني، وهو فوق هذا وذاك كان يصر على أن يصحب معه نفراً من الناس لا هم عازفون ولا هم مغنون وإنما هم مستمعون فقط يحبهم ويؤثرهم ويجرهم وراءه من حفلة إلى حفلة، ويجرون هم وراءه من فرح إلى فرح، والواحد منهم يعدل عنده ألفاً من وجهاء الناس الذين يدعون إلى سماعه والذين يجاملونه بالتطيب الرقيق والتشجيع الناعم. . .
وإنه بعد هذا كله لم يكن حضرته يغني إلا إذا تسلطن، وهو لا يتسلطن إلا بعد أن يقضي أفراد تخته زمناً طويلاً في تصليح آلاتهم، وبعد أن يعزفوا بشرفاً، وبعد أن يغنوا توشيحاً،(387/39)
وبعد أن يقسم صاحب العود بعوده تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يتلوه صاحب القانون فيقسم هو أيضاً تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يعقبه صاحب الكمان فيقسم كذلك تقسيمات كثيرة أو قليلة، ربما بعد أن يغني واحد من أفراد التخت أغنية طويلة أو قصيرة، هذا كله وبعد طلوع الروح يبدأ حضرة المغني فيغني، فإذا نشط في غنائه قيل إن حضرته تسلطن
هذه هي الصورة التي يتصورها أهل هذا الجيل عن السلطنة، وهي صورة تنطبق على الحق وعلى الذي كان واقعاً، وإذا كان أهل هذا الجيل الذي نعيش فيه يكرهونها ويسخرون منها ولا يطيقون أن يرزءوا بها فإنما ذلك يرجع إلى أنه قد فاتهم تعليل كل ظاهرة من ظواهر هذه الصورة. . .
ولو أنهم عرفوا لأي سبب كان القدماء يحبون السلطنة من المغنين ويستجدونها منهم استجداء ويتكلفون تهيئتها لهم تكلفاً قد يرهقهم في أغلب الأحيان. . .
لو عرفوا هذا. . . إذن لأسفوا لأنهم قد حرموا اليوم ألذ متعة فنية قضى عليها جيلنا الحديث المتعجل الذي يستمع الناس الغناء فيه وكأنهم راكبون في قطار، يعدون على المغني أغانيه كما يعد ركاب القطار عليه المحطات؛ ويهرعون إليه قبل موعد الستار كما يهرع الركاب إلى القطار قبل موعد القيام، وينفضون عنه بعد الوصلة الأخيرة كما ينفض الركاب من القطار في محطة الوصول. . .
فلا تذوق، ولا استسلام، ولا واحد من المستمعين هؤلاء يتأخذ بالغناء، ولا واحد من المغنين هؤلاء يغزو نفساً من نفوس مستمعيه. . . وإنما هو (سلق بيض) كما يقول عامتنا الحكماء. . .
كان المغني القديم لا يحافظ على ساعة محددة يحضر فيها إلى الحفلة، وإنما كان يجعل موعده ليلة الحفلة بأكملها، فيحضر إليها وقتما يحضر. قد يبكر وقد يتأخر غير متعمد تبكيراً ولا تأخراً وإنما الذي يتعمده هو أنه لا يذهب إلى هؤلاء الناس الذين جاءوا ليستمعوه إلا بعد أن يستوفي راحة بدنه على الأقل، بأي صورة ما من صور الاستجمام تريحه هو.
ثم إذا جاء إلى مكان الحفلة طلب الخمر أو غير الخمر من قالبات الدماغ، لأن الغناء عورة(387/40)
من عورات النفس، لا يسهل على الإنسان أن يكشفها لغيره وهو يقظ منتبه إلا إذا كان فاجراً، فإذا كان فاجراً لم يكن مغنياً، لأن الغناء فن يستلزم في النفس حناناً ورقة ورحمة وشوقاً وأملاً ولهفة ورجاء وحباً وعطفاً ورضا وتضحية، وكل هذه عواطف بعيدة عن نفوس الفجار. . .
فإذا انقلب دماغه واستخفته الخمر وغاب عن رشده وهان عليه أن يفضح نفسه وأن يكشفها عارية للناس، لم يرضه أن يكشفها لكل الناس، وإنما يرضيه أن يتعرى أمام الذي يعجبه هذا العري، والذي يرحم هذا العري، والذي يستجيب لهذا العري، والذي يكشف بالسماع من نفسه مثلما المغني من نفسه بالغناء. . .
وهذا هو الإنسان الحلو الذي كان المغني القديم يطلبه قريباً منه ليشاهده ويغني له، ولينسى به أنه قد تعرى أمام جمهور من الناس
والحلاوة في الإنسان تختلف، ولكل مغن ذوق هو ناشئ عن تكوين نفسه، فكما كانت حلاوة روحه كانت حلاوة مشهده. . .
والناس أجسام هي صور لأرواح محبيهم وعشاقهم. . .
ولا ريب أن هذه حال تشبه أن تكون موقعة بين المغني ومشهده الحلو، والمواقع لابد أن يحضرها شهود، والشهود هؤلاء ليست مهمتهم الحكم على المغني في آخر الليل بأنه انتصر أو بأنه فشل، وإنما مهمتهم أن يرقبوه وأن يرقبوا سامعه، وأن يتابعوهما بالإيحاء والتنبيه والتحريض و (تسجيل النقط) والتحميس والتطيب وغير ذلك من وسائل تفتيح النفس وإرهاف الحس وإشعال الروح. . . وهؤلاء الشهود هم أولئك المستمعون الذين يجرهم المغني وراءه من حفلة إلى حفلة، والذين يجرون وراءه من فرح إلى فرح. وهو يحبهم وهم يحبونه. أما هو فيحبهم لأنه يشعر بأنهم يتلقون خفقات نفسه ووثباتها فلا تضيع منها خفقة في الريح، ولا تذهب منها وثبة إلى العدم، فهم مسكن روحه ومأوى نفسه ونصراؤه المستجيبون له.
وأما هم فيحبونه لأنهم يرونه كأنما هو قائد لهم، إذا أن فكما كانوا يريدون أن يئنوا هم لو أن نفوسهم تفتحت تفتح نفسه، وإذا حن فكما كانوا يريدون أن يحنوا هم لو أن نفوسهم فاضت كما تفيض نفسه، وإذا هم فكما كانوا يريدون أن يهموا هم لو أن نفوسهم فزعت(387/41)
وارتعشت كما تفزع نفسه وترتعش. . . هم من لونه وهو من لونهم ولكنه أشدهم تميزاً في لونه، وأشدهم تمكناً من لونه وأشدهم انطباعاً على هذا اللون. . .
هم جمهوره. . .
فإذا جاء المغني إلى مكان الحفلة أو الموقعة، وتسلح بالخمر واستحضر شهوده، وواجه غريمه الحلو الذي ينتصر له الحاضرون جميعاً، والذي تجندت مع روحه أرواح المئات من المستمعين قاصدة تعزيزه، أو غير قاصدة وإنما تعززه بطبيعة الفضول المنساب منها إلى روح المغني يناوشه ويهاجمه ويقلقه. . .
إذا ما كان هذا استنجدت روح المغني بأرواح أفراد فرقته وهم جيشه، فما تلبث هذه الأرواح حتى تهب له ملبية، ولكنها قبل أن تبدأ الهجوم تستشير فيما بينها إن بالكلام وإن بالصمت عن موضع الضعف الذي يمكنها منه أن تبدأ الغزو فإذا لمست في الغريم ألماً وشجواً أرسلت إليه الحنين (سيكا) وإذا أحست منه استعصاء وصلابة رققته بالحجاز، حتى إذا ما اتفقت على مدخل روحه من أين هو، أرسل المغني وهو القائد أول رائد من رواده يناوش الغريم فإذا هي تقسيمات من الكمان أو القانون، هذه التقسيمات ليست إلا ومضات من الروح تعرض على السامعين وعلى رأسهم السامع المقصود بالذات، وهو كما علمنا من البدء معشوق للمغني بالفعل أو بالقوة، فبينه وبين المغني وأفراد جيشه وشهوده تلاؤم وتعارف مستكنان، وود متحفز للانطلاق، فإذا لم يقو على إطلاقه الرائد الأول بالكمان، استثاره الرائد الثاني بالقانون، فإذا لم يقو عليه هذا أيضاً نكثه الثالث بالعود، ثم كان البشرف كالنفير الذي ينفخ فيه نداء وتحفيزاً، ثم كان التوشيح كالمارش الذي يعزفه الجيش في أول الهجوم، ثم يبدأ المغني بعد ذلك يسدد طعناته طعنة في كل (ليل) يهتف بها، وفي كل (آهة) ولكل ليل معنى يتضمنه نغمها، ولكل آهة رجع مبثوث فيها، وليست هي أشكال صوتية صماء من المعنى والروح كهذه الآهات والليالي التي نسمعها اليوم فلا نعرف إن كان فيها فرح، أو كان فيها يأس، أو كان فيها رضا، أو كان فيها هم أو كان فيها غم
ويبدأ الهدف الحلو يضعف وينساق، ويبدأ المغني يعلو ويتمكن، ويجر الهدف الحلو وراءه تابعاً، ثم تابعاً وأفراد الفرقة والشهود يجذبون هم أيضاً الأتباع أفواجاً أفواجاً. . . حتى يشعر المغني بأنه لم يعد يتحرج ولم يعد يخجل من أن يكشف نفسه لأمة لا لفرد، فكل(387/42)
عيوب نفسه الآن فضائل ما دامت لها أصداء في نفوس الناس جميعاً وما دام هو وحده القادر على نثرها مستطابة مشتهاة. . . لا يقصد منها قضاء الوقت، ولا تحصيل الأجر، فما خلف واحد من هؤلاء ثروة. . .
عندئذ وعندما تكمل له السيطرة على هذا النحو يقال إنه تسلطن، وهو في الحق تسلطن على كل من في حضرته فما ينفذ من سلطنته إنس ولا جان. . . إلا لسلطان
وهذه حال لا يشبهها إلا حال الشيخ أو الأمام مع أتباعه. . .
ولكن أي إمام؟. . . إمام من غير المحترفين. . . قلبه يعرف الله. . .
عزيز احمد فهمي(387/43)
البريد الأدبي
عراك في غير معترك
أرسل إلينا الأستاذ محمد متولي كلمة بعنوان (صورة) يرد بها على الأستاذ زكي طليمات فرأينا أن نقتصر منها على الجملة الآتية إيثاراً لخطة الرسالة من جهة، وإبقاء على ما بين الصديقين من جهة أخرى، والموضوع على كل حال لا يحتمل أكثر مما قيل فيه. قال الأستاذ متولي:
ولقد أقرر أن زكياً يهزل ولا يجد فلا يليق أن نشركه في المسائل العقلية، وإلا أضعنا وقتنا هباء دون أن نصل معه إلى نتيجة، وسأضرب مثلاً بمسألة واحدة مما هو شائع في مناقشاته
1 - قال في رده الأول (وقبل أن ننتقل من هذا نود أن يقف القارئ على آراء علماء اليوم فيما كتبه ريبو) وبعد سطور قال أيضاً إن كلام ريبو (قد أصبح موضع نظر بعد أن بين الفيلسوف الأمريكي المعاصر وليم جيمس) كيت وزيت
2 - وأنكرنا عليه أن يصف جيمس بالمعاصر وقد توفي قبل ريبو بست سنين، فعاد إلى كلمة معاصر يحاول أن يفسر معناها، وأنا شخصياً أعرف هذه الكلمة منذ خمسة عشر عاماً، وقد طالما سمعتها في دروس الجامعة المصرية من أستاذي أبل راي وأندريه لالاند، وكثيراً ما استعملتها بين أيديهما فلم أعرف لها غير معنيين وردا في معجم لاروس، في قوله
- وهذا معناه أن المعاصر هو من يعيش مع غيره في وقت واحد فنقول إن فولتير وفرانكلين كانا معاصرين. كذلك المعاصر هو من يعيش في الوقت الحاضر فنقول معاصرونا
ونحن حيثما ذهبنا مع زكي وبشر لن نجد أكثر من هذين المعنيين لكلمة معاصر - ولنذهب لتروا ضلال الفارسين
(1) ينقل زكي أن قال. ' ' وهو كلام صحيح، لا كما فهمه بشر وزكي، ولكن لأن معناه أن روح العصر هي مجموع الأشياء التي تقبلها جماعة على أنها حقائق في فترة معينة، فما دخل هذا في أن ريبو أحدث من جيمس؟! ربما أراد الفارسان أن يضيفا(387/44)
إلى كلمة معنى لا يعرفه أهل اللغة الفرنسية، وربما يصدران غداً (أمراً عسكرياً) باعتبار أرسطو أو نتشه أو كانت سبنسر أو غيرهم ممن تنفذ تعاليمهم خلال القرون نقول ربما يصدر الفارسان (أمراً عسكرياً) باعتبار أولئك جميعاً معاصرين برغم ما بيننا وبينهم من مئات السنين
(ب) إميل زولا (المتوفى 1903)، وألفونس دوديه (1840 - 1897) وفلوبير (1821 - 1880) وموباسان (1850 - 1893) وشارل بودلير (1821 - 1867)، وفيرهارين (ولد 1855) وفرلين (ولد 1844) ومالارميه (ولد 1842). كل أولئك عاشوا معاً أياماً بعينها، كما هو واضح في تلك التواريخ، فهم معاصرون بنسبة بعضهم إلى بعض، ثم هم يمثلون الفكر الفرنسي في عصر بذاته، والحال هنا كما لو أردنا أن نؤرخ للفكر المصري في هذا العصر، فتحدثنا عن: شوقي والعقاد وحافظ والزيات ومحمد عبده وطه حسين وقاسم أمين ومن إليهم فهؤلاء يمكن أن يمثلوا روح عصر مجتمعين
في أجرومية اللغة الإنكليزية
حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير الرسالة الغراء:
ذكرني تعليق الأستاذ عبد الغني حسن على ترجمة الأستاذ العقاد بحادثين لاثنين من المدرسين أحدهما إنكليزي يدرس العربية، والآخر مصري يدرس الإنكليزية، وكلا الحادثين يدل على أن الاجتهاد والجدة ينشئان نوعاً من (الحنبلية) قد يسفر عن ظرف محض، وإن كانت الحنبلية في أغلب الأحيان لا تسفر عن ذلك
أما المصري الذي كان يدرس الإنكليزية فهو مجتهد مثابر على حفظ القواعد الجديدة عليه حتى كادت تنسيه قواعد لغته. قيل له أعرب كلمة جداً في قولك أحبك جداً، فأجاب على الفور: أحب فعل والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به، وجداً يا أفندم، وجداً. . . جداً إنها ليست وصفاً فهي لا تصف الاسم ولكنها تتمشى مع الفعل
أما الحادث الثاني فهو لمدرس إنكليزي كان يؤدي امتحاناً في وزارة المعارف المصرية وقال له الممتحن أسند فعلاً إلى الضمائر، فأجاب وهو لاجتهاده قد حفظ الضمائر ونسي الأفعال: (أنا مالكش دعوى. أنت مالكش دعوى. أنتم مالكش دعوى. نحن مالكش دعوى. هم مالكش دعوى. هن مالكش دعوى. هي مالكش دعوى. أنتن مالكش دعوى. . .)(387/45)
عبد اللطيف النشار
المجمع العلمي المصري وكتاب الأخلاق
عقد المجمع العلمي المصري جلسته الأولى بعد العطلة الصيفية فألقى حضرة القس بولس سباط أحد أعضائه محاضرة عن كتاب نفيس عنوانه (علل اختلاف الناس في أخلاقهم وسيرهم وشهواتهم واختياراتهم) لقسطا بن لوقا العالم الكبير والطبيب الشهير في القرن التاسع
ذكر القس سباط في هذه المحاضرة أن لقسطا بن لوقا ثلاثة وستين مصنفاً وأن كتابه في الأخلاق أثر ثمين من الآثار العلمية التي تركها لنا العلماء المسيحيون القدماء، وختم المحاضرة بقوله: (أنشر هذا الكتاب راجياً أن يستفيد القارئ بمطالعته ويقدر عبقرية المؤلف وعلمه، فقد وصف قسطا بن لوقا في هذا الكتاب فوراق البشرية وصفاً بديعاً ورسم لنا بخطوط بارزة صورة للنفس الإنسانية يرى كل واحد منا صورة ميوله وشهواته ويلم بأسبابها فيجتهد في تهذيبها بما حباه الله به في القوى العاقلة التي تميز بين الخير والشر والنافع والضار)
عثر القس سباط على مخطوط من هذا الكتاب في مدينة حلب فاهتم بدرسه والتعليق عليه وترجمته إلى اللغة الفرنسية وسيبادر المجمع العلمي المصري قريباً إلى طبعه مع الترجمة فيضيف مأثرة جديدة إلى المآثر العديدة التي من بها على العام العربي.
وفاة السير جوزيف طمسن
توفي السر جوزيف طمسن وهو من كبار علماء الطبيعة في العقد التاسع من سنه
واشتهر السر جوزيف هذا بإعلانه سنة 1897 اكتشاف ما يعرف الآن باسم الإلكترون وهو أصغر ما عرف من أجزاء المادة وأصغر مما كان يعرف باسم الجوهر الفرد.
ولما أذاع اكتشافه هذا في العهد الملكي قول بالشك الممزوج بكثير من السحرية. قال يصف مقابلة خطبته التي أذاع بها في المعهد هذا الاكتشاف:
(فلم يصدق كثيرون وجود هذه الأجسام التي هي أصغر من الجواهر بل إن عالماً طبيعياً مشهوراً قال لي بعد زمان طويل من إلقاء الخطبة إنه ظن أني أسخر بسامعي. فلم يدهشني(387/46)
قوله لأني أنا نفسي كنت أشك في اكتشافي وتعليله)
هل موسى عليه السلام مصري أو عبري؟
نقلت مجلة (الرسالة) الغراء في العدد (383) عن الأستاذ (فرويد) أنه كان يذهب إلى موسى عليه السلام كان مصرياً لا عبرياً، وقد أيد رأيه في ذلك بأن موسى كلمة مصرية بمعنى عبد وذلك كما وردت في كلمة (تحوتمس) بمعنى عبد تحوت، ولكن هذا لا يمكن أن يؤيد رأي الأستاذ فرويد في أن موسى عليه السلام كان مصرياً لا عبرياً، لأنه لا يلزم أن يكون الشخص من أهل لغة من اللغات إذا سمي باسم من أسمائها، وهانحن أولاء الآن نسمى أولادنا بأسماء غير عربية، ومع هذا يبقي أولادنا عرباً ولا تؤثر فيهم هذه التسمية
على أن هناك أمراً أهم من هذا في هذه المسألة، فقد قرأت في بعض الكتب القديمة أن اسم موسى سرياني مركب من كلمتين (مو - و - شا) مو هو الماء بالقبطية، وشا هو الشجر، فعرب وقيل موسى، وإنما سمي به لأنه وجد بين ماء وشجر، ولا شك أن هذا النص صريح في أن كلمة موسى سريانية أو مصرية، ولكنها ليست بمعنى عبد، بل بمعنى ماء وشجر، فبأي الأمرين نأخذ في هذه الكلمة؟ ولا شك أن جواب هذا عند علماء الهيروغليفية، وليس عندنا معشر علماء العربية
عبد المتعال الصعيدي
موسى
ذكر الأستاذ صديق شبيوب أن فرويد قال في كتابه عن (موسى) إنه كان مصرياً مستدلاً على ذلك باسمه لأن كلمة (موسى) مصرية معناها الطفل أو العبد بدليل اسم الملك (تحتمس) أو (تحت موسى) أي عبد (تحوه) فيكون اسم موسى اختزالاً كما نقول بالعربية عبده أو عبد الله والصواب أن كلمة موسى ليست مصرية وليست بمعنى (عبد الله) كما التبس ذلك مرة على الدكتور زكي مبارك عندما قال إن كلمة شنوده بمعنى عبد الله أيضاً. فكلمة عبد الله عند الفراعنة هي (باك) مثل (باك إن أمون) أي عبد الإله أمون وغير ذلك
ولما كان فرعون هو الشخص المؤله على الأرض أمام شعبه فكان على بعض الفراعنة أن يتخذ لنفسه اسماً يثبت به أنه الوارث الشرعي للعرش وأنه من نسل الآلهة ومن هنا أتت(387/47)
كلمة (تحتمس) أي (تحوه مس) المولود من صلب الإله تحوتي إله العلم والحكمة عند قدماء المصريين والأمثلة على ذلك كثيرة، ولذلك أساطير طويلة
أما الرد على الأستاذ بكر هلال فيما يختص بسؤاله عما إذا كان موسى من حاشية الملك الفيلسوف أخن أتون أو غيره فلم يهتد إلى ذلك أحد قط، وكل ما ذكر هو من الحدس وبالاستنتاج ولم تذكر الآثار شيئاً، وكل ما هنالك عن خروج بني إسرائيل من مصر مكتوب على لوح من الجرانيت موجود بالمتحف المصري من عهد الملك منفتاح، ولكن هذا لا يبرر خروجهم في عهد هذا الملك إذ المفروض أنهم خرجوا من مصر قبل ذلك بكثير.
ونرجو الله تعالى أن يوفقنا إلى البحث عن حل لهذه المعضلة التاريخية الدينية قريباً.
محمد صابر
مؤلف كتب الفراعنة
معنى سوى
جاء في كلمة الأستاذ على متولي السيد عدد 386 هذه الجملة:
(نهزج (سوياً) بأغرودة السعادة). . . فقد استعمل (سوياً) بمعنى (معاً). والذي ورد في كتب اللغة أن سوياً بمعنى مستو
جاء في القاموس في مادة (سوى): (ومكان سوى كغني وسي كزي مستوٍ، وسواه تسوية جعله سوياً)، وفي القرآن الكريم: (فتمثل لها بشراً سوياً) أي مستوياً تام الخلق.
فخري الدين غزي
ملاحظة على قصيدة طلع الفجر
قرأت في العدد 386 من (الرسالة) قصيدة عنوانها (طلع الفجر) للأستاذ عزت الهجين، فأعجبني فيها قوة الأسلوب وبراعة التصوير. . . إلا أن كلمة أرى من حق الأدب على أن أبعث بها إلى الرسالة
بدأ الأستاذ قصيدته بلون من الشعر أسبغه على ثلاث أبيات منها، ثم تحول فجأة إلى لون(387/48)
آخر، وإن كان المعنى ما يزال موصولاً. وقد ورد البيت الثاني هكذا:
فاصح يا حلو قد صحا الور - د وطاف النسيم بالأقداح
ولعل صحة البيت:
فاصح يا حلو واستمع قد صار الور - د وطاف النسيم بالأقداح
حتى يستقيم الوزن ولا يختل المعنى. وما عن هذا أتساءل؛ ولكن أما كان يصح للناظم إذ نظم من بحرين مختلفين أن يجعل للأول نصيباً من باقي أبيات القصيدة حتى لا ينتقل القارئ أو السامع من نغم موسيقى إلى نغم آخر من غير وجود آصرة تربط بينهما حتى النهاية؟؟
وقد ورد لحضرته أيضاً: فتعال إن روحي ظمئت (يخاطب حبيبه)، ثم عاد فكرر الكلمة - فتعال - في قوله: (فتعال إنه يوم ألهنا) مما يضطر إلى إشباع اللام حتى يستقيم الوزن، على أن مثل هذا الإشباع لا يجوز إلا في القوافي من القصائد
وبهذه المناسبة أقول إن الرسالة كانت قد نشرت بالعدد 293 قصيدة للأستاذ إيليا أبو ماضي، عنوانها (ابنة الفجر) وقد ورد فيها مثل هذا الإشباع - غير الجائز - لحرف من الحروف فنبهت إليه وعلقت عليه
علي سرور(387/49)
القصص
عبث أرستقراطي
للأستاذ نجيب محفوظ
في ذلك المساء من شهر مارس أزيَّن قصر الوجيه حامد بك عرفان بحلة لألاءة من الأنوار المتموجة ذات الألوان، مدت أسلاكها الكهربائية على سور الحديقة فتعانقت مع الياسمين والبنفسج. وتعلقت بأفرع الأشجار والنخيل، وتوجت بها شجيرات الورود المنتثرة على هيئة أهلة ونجوم. وكان أعجب ما في القصر هو ذاك البهو المتسع الأنيق الذي فرش بفاخر الأثاث وحليت جدرانه وأركانه بروائع الفن من صور وتحف، وترك في وسطه مكان رحب للراقصات والراقصين، أما في صدر المكان فقد امتدت ردهة إلى مقصف حافل، وإلى يمينها فيما يلي الشرفة المطلة على الحديقة احتلت فرقة الموسيقى الإيطالية مكاناً جميلاً. . . وانتشر فيما بين البهو والشرفة والمقصف والحديقة المدعوات والمدعوون الذين لبوا الدعوة للاحتفال بعيد ميلاد كوكو الصغيرة ابنة الوجيه عرفان بك وزوجه أنجي هانم عرفان. . . كانوا يجلسون أزواجاً وجماعات يتجاذبون أطراف الأحاديث حيناً بالعربية وأحياناً بالفرنسية ويتضاحكون بأصوات عالية رقيقة وخشنة وإذا دعت الأنغام قاموا للرقص والعناق. وقد شاع في الجو عطر وأنس وحرارة كأنها أنفاس المودة نفثتها الأعين والشفاه والصدور والأماني الهامسة
وكانت الأحاديث متنوعة، ولكنها تدور في الغالب حول موضوع واحد يتجاذبها كما يتجاذب النور الفراشة، وهو المرأة، ولا يُستثني من ذلك الجماعة التي كان محدثها الأول الأستاذ على الجميل الصحافي المعروف والنائب المحترم، فما خرج الحديث فيها عن الزواج واختيار المرأة الصالحة، وكان النقاش يحتدم بين المتجادلين من الجنسين بصورة عنيفة مضحكة. أما الوجيه نور الدين فكان يتوسط حلقة أخرى يروي فيها ما اتفق من قصص مغامراته الغرامية في العواصم العالمية ذوات الشهرة في الحب والجمال؛ وفي ركن منعزل امتاز وفرة من حوى من الشابات والشبان أقيمت مسابقة سرية لاختيار أقبح امرأة بين المدعوات واتجهت أبصار المحكمات والمحكمين إلى امرأة اتخذت مكانها تحت صورة الفنانة وابنتها (لفيجيه لوبرين)، وكانت عجوزاً إلا أنها تتصابى وتستعير من ألوان الجمال(387/50)
ما تظن أنه يغني عما استرده الدهر من حياة شبابها، فبدت تحت طلاء الأصباغ في هيئة مضحكة، وكانت تتجنب الناس وتقنع بالجلوس منفردة حتى تعود إلى مجالستها ربة الدار أنجي هانم كلما تاقت نفسها إلى الراحة. أما اسمها فدولت هانم وقد راضت نفسها على العزوبة بعد تجربة أربع زيجات غير موفقة، وكادت تيأس من الرجال والحب وقنعت من متاع الدنيا بمضغ الأعراض والخوض فيما تعلم وما لا تعلم من أسرار الناس فصارت معجماً لتواريخ السوء. وكانت في تلك اللحظة التي اختيرت فيها سراً ملكة للقبح. . . تجالس أنجي هانم، وكانت تلوذ بالصمت قسراً بعد أن لم تبق على أحد من الحاضرات والحاضرين، حتى أتيحت لها فرصة جديدة للكلام بحضور الوجيه الأستاذ محمد جلال المحامي وزوجه الحسناء صفية هانم جلال. وكانا يلفتان الأبصار حيثما سارا لثراء الزوج المالك لأربعة آلاف فدان في الصعيد، وجمال الزوجة ورشاقتها، وقد استقبلتهما أنجي هانم بمودة ظاهرة وباطنة، ولما عادت إلى جوار دولت هانم مالت هذه على أذنها وقالت بصوتها الخافت المبحوح:
- يا لهما من زوجين سعيدين جميلين!
فقالت السيدة بحماس:
- الأستاذ جلال شاب يندر أن يوجد نظيره بين الشباب الناجح الثري. . . ألا تعلمين أنه مرشح لكرسي النيابة؟. . . وأما صفية فهي آية للجمال والصفاء. . .
فابتسمت المرأة ابتسامة باهتة وقالت:
- نعم، نعم. . . لا شيء يعيبه إلا أنه يقال إنه قد يتبارز من أجل راقصة، أما إذا استثيرت غيرته الزوجية فقد يغضي. . .
وضاقت أنجي هانم ذرعاً بحديث صاحبتها، فلم تسألها إيضاحاً وتشاغلت عنها بمشاهدة بعض الراقصين، ثم استأذنت لاستقبال بعض صواحبها. . .
وسلم الأستاذ محمد جلال وزوجه على عدد عديد من الأصدقاء والصديقات، ثم اختار أن يجلسا إلى زوجين جميلين مثلهما هما الوجيه طه بك العارف وزوجه الحسناء هدى هانم العارف، وكان الأستاذ جلال يبدي إعجاباً خاصاً نحو السيدة هدى. فلما عزفت الموسيقى دعاها إلى الرقص معه وقبلت بسرور ورقصت زوجه مع طه بك. . .(387/51)
وطرب الجميع طويلاً وشربوا كثيراً، فدارت رؤوس وثرثرت ألسنة كتومة، وفاضت الأحاديث، وامتلأ الجو برنين الضحكات ووميض الابتسامات وإيماءات الغزل، والتقت أعين وتماست أنامل وارتعشت شفاه. . . حتى جاءت تلك الساعة المختارة من الليل فتوسطت المدعوين السيدة أنجي هانم وقالت بصوتها الرخيم:
- اسمحوا لي سيداتي وسادتي أن أقدم إليكم مفاجأة العيد السعيد
وتطلعت الوجوه إليها من كل صوب وتجمع حولها المبعثرون ما بين الشرفة والمقصف ينتظرون فرحين. وبغتة أطفئت الأنوار بغير نذير وساد المكان ظلام دامس دام خمس دقائق ما كان يسمع خلالها سوى همس خافت أو ضحكات مكتومة، ثم أضيئت الأنوار مرة أخرى فرأى القوم منظراً بديعاً. . . مهدا على قوائم أربع طويلة، مسقفاً بستار من حرير على هيئة هرمية، وفيه جلست كوكو متكئة على يديها الصغيرتين في قميص أبيض كأنها وردة بيضاء يانعة، وكانت ترمق الناظرين بعينين دهشتين صغيرتين ينعكس النور على زرقتهما الصافية! فصفق الجميع تصفيقاً رقيقاً وهتفوا باسمها، وقبل الآنسات يدها الصغيرة، ثم قدمت الهدايا النفيسة حول مهدها الجميل، وشمل القوم سرور عظيم فاستأنفوا لهوهم بإرادة أشد نزوعاً للصبا والمسرة. على أن فترة الظلام القصيرة لم تمر بسلام كما توهم الجميع. فقبيلها بدقائق كان الأستاذ محمد جلال يجالس هدى هانم في المقصف وقد دل عبثهما المرح على أنهما ثملان، فلما أطفئت الأنوار لم يتردد الشاب فدنا برأسه منها حتى كادت تمس شفتاه أذنها وهمس قائلاً: (هدى) وارتجفت المرأة كالمذعورة ولم ترد عليه فقال لها همساً وهي تحس بلمس شفتيه لأذنها: (هذه فرصة طيبة. قومي واتبعيني)
وكان بودها لو تتباله كما يقضي الدلال ولكنها خشيت أن يضاء النور بسرعة، فقالت همساً:
- إلى أين؟
- إلى حجرة التدخين في الطابق العلوي!
- قد يفتقدوننا
- وماذا يهم!. . . سيظنون أننا في الشرفة أو في الحديقة أو في المقصف أو هنا أو هناك، وسنعود من طريقين متباعدين. . .(387/52)
وأمسك بكفها وقام واقفاً فقامت بدورها، واتجه نحو السلم وهي تتبعه، وارتقياه بسرعة، فوجدا نفسيهما في ردهة مضاءة بنور بنفسجي هادئ، تطل عليها أبواب متباعدة، فساروا إلى هدفهما ودخلا معاً ثم ردا الباب في سكون، وكان الجو مظلماً شديد الظلمة، ولكنه كان يعرف المكان فانعطفا إلى اليمين وتقدما خطوات، حتى عثرت يده بكنبة كبيرة وثيرة، فجلس وجلست، وتنهد من أعماق صدره، وقبض على كفها فوجدها ترتعش كالمقرورة، فسرت رعشتها إلى قلبه ووجد به غمزاً لم يبرأ منه حتى ضمها إلى صدره بعنف وانهال على وجهها يقبله بشغف وجنون، كم لبثا منفردين؟ إنه لا يدري ولكن المحقق أن تلك الخلوة السعيدة لم تخل مما ينغصها، فقد خيل إليهما أن أقداماً خفيفة كالمحاذرة تدنو من باب الحجرة، فتباعدا قلقين وأرهفا السمع واتجهت أعينهما في الظلام ناحية الباب، وخالا أكثر من هذا أن يداً تعالج الباب بلطف. . . ترى أحق هو أم وهم!؟ ولكن الباب تحرك ونفذ إلى الحجرة شعاع هادئ كروح محتضرة، فاشتد بهما الرعب وودا لو تبتلعهما الأرض، وما لبث أن تسلل شبح في حذر وتبعه آخر، ثم رد الباب إلى ما كان عليه فساد الظلام مرة أخرى، وكان الداخلان شديدي الحذر فلم يبديا حركة، ولم يصدرا أصواتاً، وكأنهما ذابا معاً في الظلمة الجاثمة. . . فسكن ذعر الآخرين وأحسا بشيء من الارتياح بل والطمأنينة، وخطرت لهما فكرة معاً هي أن الضيفين الجديدين مثلهما وأن لا خطر عليهما منهما، وتأكد هذا الظن حين شعرا بهزة تصيب الكنبة فعلما أن صاحبيهما اختار كنبتهما مقعداً لهما أيضاً، وتريث في قلق صار بعد حين ضيقاً وكدراً لأنهما لم يستطيعا أن يأتيا حركة خشية أن يتنبه الآخران فيفزعا، وربما حدث ما لا تحمد عقباه!
أما الجديدان فكانا يظنان نفسيهما في أمان وخلوة فلم يحاذرا إلا مقدار، واستطاع العاشقان أن يسمعا همساً وهمهمة وأن يسمعا الرجل يهانغ صاحبته وهي تهانغه ولم يكتفيا بذلك، بل قال الرجل بصوت استطاع الآخران أن يميزاه: (حبيبتي. . . صفية. . .) وارتجف محمد بك جلال كأنما قطعة من الثلج ألقيت على ظهره، وأحس بارتجاف يد صاحبته في يده. . . كان الصوت صوت طه بك العارف. . . ومن هدى؟ أليست زوجه هو!. . . أي كارثة تجمعت في هذه الحجرة المظلمة! ودق قلبه بعنف وغلى دمه غلياناً كاد يفجر الشرايين في دماغه، ولكنه لبث ساكناً صامتاً وزوجه على قيد ذراع منه في أحضان خليلها! ولم يكن(387/53)
يأسف على عجزه عن تحطيم رأس الرجل - فمثل هذا العمل يثير فضيحة حرية بالقضاء على مستقبله السياسي ومعركة الانتخابات على الأبواب - ولكنه كان مغيظاً محنقاً لأن غريمه لا يدرك في تلك اللحظة أن زوجه بين يديه هو أيضا. . .
وانتظر دقائق كالأجيال، وشعر أخيراً بحركة استدل بها على قيام الرجل وسمعه يقبل زوجه بحرية ويقول لها: (لو تعدل الدنيا. . . فزوجك الغبي ليس أهلاً لك وزوجتي ليست أهلاً لي. ولكن ما العمل؟!). . . ثم تسللا خارجين كما أتيا. . .
وكان الغضب قد أفسد على جلال بك مزاجه فقام هائجاً، وبحث عن سترته حتى عثر عليها وأخذ بيد صاحبته وخرجا في حذر ثم افترقا في الردهة. . .
ولبث ضيق الصدر شديد الكدر ساعة طويلة يلعن طه بك ويلعن زوجه المستهترة ولم تكن هذه أولى خيانتها، ولكنها وقعت على كثب منه بشعة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة فسحقاً لهما!. . . وقام يتمشى في الحديقة فاراً بوجه الممتقع من الأعين جميعاً فؤاده المضطرم. وصح عزمه في تلك اللحظة على أن يسلم قياده لمغامرات الغرام الجنونية غير مبق على شيء ولو أدى الجنون إلى الظهور مع هدى في المجتمعات العامة وميادين السباق. وتملقته هذه الخواطر فأحس بارتياح ومضى يفيق من همومه ويتنبه إلى نفسه فاستطاع عند ذلك أن يشعر بتغير غريب، فعجب لشأنه وتناسى انشغاله، وبحث عن أسباب هذا التغير فوجد يديه تجسان السترة وكأنها أوسع مما كانت. . . ماذا حدث لها؟ يا للعجب. . . إنها أوسع مما يتصور. وخطر له خاطر غريب اضطرب له فؤاده، ولكي يتحقق من وساوسه وضع يده في جيب السترة وأخرج حافظة، لم تكن حافظته، ووجد بها بطاقة مكتوباً عليها (طه بك العارف).
ووضح الأمر، وعاوده القلق والحنق، ولم يكن ثمة خوف من الفضيحة، فسترات بدل السهرة متشابهة، ولكنه كان يشعر بحيرة شديدة ويسائل نفسه: (كيف يمكن أن تتبادل السترتان؟!)
نجيب محفوظ(387/54)
العدد 388 - بتاريخ: 09 - 12 - 1940(/)
الأخلاق وهذه الحرب
جلست ساعة إلى المذياع أقلب مفاتحه على أفواه المذيعين المختلفين في أقطار أوربا المجنونة، فخيل إلى أني انتقلت إلى عالم آخر من خلق الشيطان تقطعت بينه وبين خلق الله وشائج الآدمية؛ فلا الأيدي تستند في أفعالها إلى العدل، ولا الألسن تعتمد في أقوالها على الحق، ولا النيات تتجه في غاياتها إلى الخير؛ وإنما هو زِياط وعياط من الأضاليل السود والأراجيف الحمق والأفاعيل النكْر يحملها الأثير إلى النفوس الآمنة الرِخوة فترتاع، وإلى القلوب المؤمنة الساذجة فتشك، وإلى العقول الراجحة الوزينة فتدهش.
رباه ماذا جرى لأوربا العالمة العاملة المتمدنة حتى انقلب كل كلامها كذباً لا يستحي، وكل سياستها خداعاً لا يستتر، وكل قتالها تدميراً غاشماً أهوج لا يفرق بين المحارب والمسالم، ولا بين الشاكي والأعزل، ولا بين الرجل والطفل، ولا بين الحصن والكنيسة؟!
كانت الحرب في العصور الخوالي نظاماً من البطولة الإنسانية له سننه وآدابه وعرفه: لا يقاتل القوي من ضعف أو قل، ولا ينازل الكميُّ من هان أو ذل، ولا يطعن الفارس خصمه طعنة الغدر، ولا يعطي المتعهد من ذمته عهداً إلا جعله من ورائه دمه وماله. ثم دخلت الحروب في سلطان الدين فنظمها بقيوده وحدوده تنظيمه للشر الذي لا بد منه، حتى غدت سلاحاً من أسلحة الحق يظهر بها على الباطل. ثم انشعب من نظامها المهذب أنظمة أخرى كالفروسية والفتوة والمرابَطة والكشف وما يدخل في بابها مما يقوم على المروءة والشهامة والشجاعة والإيثار والوفاء والعفة. وجرت المدنية الحديثة في تنظيم الحرب على سَنن الدين والخلق، فكفكفت طغيانها بالقوانين، وقللت عدوانها بالعهود، ووقفتها لدى الحدود التي رسمتها الطبيعة للدفاع المشروع والجهاد المقدس.
وفي الوقت الذي طمحت فيه الإنسانية الأوربية إلى قطع أسباب الحرب بالمجالس التحكيمية والمحاكم الدولية والعصبة الأممية، انبعث من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث مسيخان دجالان فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النِّحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في أجواء برلين وروما انتشار الظلام المضِل والغاز الخانق؛ فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه، ورمت النازية والفاشية جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، حتى أصبح أكثر(388/1)
أوربا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء. وأشد ما أصاب العالم من هذه الحرب الغشوم ضياع ما ورثته المدنية من حُر الخلال وكريم الأخلاق، فإنها القبس الإلهي في الإنسان تصدر عنه الألفة والثقة والاطمئنان فيكون لكل كلام معناه ولكل عَقد أثره. ومن المستطاع تجديد ما دُكَّ من البيوت وأغرق من السفن، وتعويض ما أزهق من الأنفس وأُنفق من الأموال؛ ولكن تجديد ما انهار من البناء الأخلاقي وهو عمل الأديان المختلفة والحضارات المتعاقبة على كر الدهور أمر لا تتعلق به طاقة المخلوق.
افتح المذياع على أبواق الدعايات الأوربية واصبِرْ نفسَك على مكاره الفجور قليلاً تسمع الأعاجيب من فحش الكذب وسوء البغي: هذا يتبجح مما أحرق وأغرق، وذاك يتمدح بما راع وأجاع، وذلك يفيش بما أسر وقتل؛ وكل أمة إنما تبدأ الكلام وتختمه بلعن أختها ورميها بما تبرأ هي منه من التزيد والافتراء والخور والدس واستغلال الضعف في الشعوب الصغيرة. وكل شيء تسمعه من المذياع إلا الصدق والحق والرحمة. ومن كلال الحس وبلادة الضمير أن يصك المذيع مسمعيك بأخبار الدمار والبوار في كل أمة وفي كل مدينة وفي كل أسرة وفي كل نفس، ثم يرسل إليك في خلال ذلك أفاكيه الغناء وأفانين الموسيقى، كأنما فناء الشباب وثكل الوالدين وحرمان اليتامى وشقاء الأيامي وخراب الأرض أصبحت من توافه الأمور التي لا تنبه الوجدان ولا تمس القلب!
من كان يصدق قبل انهيار الأخلاق في الأمم الدكتاتورية أن روسيا تحارب بولونيا وفنلندة، وألمانيا تهاجم بلجيكا وهولندة، وإيطاليا تغزو ألبانيا واليونان؛ وكل أمة من هذه الأمم الباغية الثلاث تستطيع أن تحشد من الجنود ما يزيد على عدد السكان في كل فريستين من فرائسها الست!
إن الدكتاتورية تدير هذه الحرب على غير قانون ولا خلق. ومن الصعب على العقل السليم أن يفرض القانون والخلق فيما يعقب هذه الحرب من سلم ويقوم عليها من نظام. وإذا كانت الأخطاء لا يتألف من مجموعها صواب، والآثام لا تنشأ من جملتها براءة، والأباطيل لا ينتج من تعددها حق، فإن نزوَ النازية وفِياش الفاشية لا يمكن أن يؤديا إلى عدل شامل وسلام دائم. ولا يزال في الديمقراطية المجاهدة رجاء الحق المضاع والخلق الصريع، لأن السلطان القائم على دستور الحق، يساعدك على الانتصاف لنفسك منه بمنطق الحق.(388/2)
والنصر مكفول للديمقراطية لا ريب فيه؛ فإن الديمقراطية هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ أما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول!
أحمد حسن الزيات(388/3)
أخلاق القرآن
الصبر
للدكتور عبد الوهاب عزام
الصبر خلق يعصم النفس من اليأس إذا طال بها الطريق إلى غاياتها، ويمنعها من الارتداد إذا سدّت العقبات سبيلها، ويكبر بها عن الجزع إذا نزلت بها من أحداث الزمان نازلة.
في الحياة أعمال شاقة لا يستطيع الاضطلاع بها إلا الصابرون، وفيها غايات بعيدة لا يبلغها إلا من صبر على مشقة الطريق وبعد المدى.
والأخلاق الفاضلة تنأى بصاحبها عن شهواته، وتعلو به عن سفاسفه، وتكبر به على الهوان، وتسوم النفس ضروبا من الصدود عن الهوى، والعفاف عن الشهوة، ولا يتخلق بهذه الأخلاق إلا أهل الصبر. وفي الحياة عقائد حق ومذاهب خيّرة ينفر منها الناس أول عهدهم بها، وينال الدعاةَ إليها السخرية والأذى والألم في النفس والنقص في المال. فلولا الصابرون ما دعا إلى هذه العقائد داع، ولا ذهب هذه المذاهب أحد.
الصبر توطين النفس على المشاق والمكاره، والإباءُ على الخطوب، والاستكبارُ عن الخنوع للمصائب، والثباتُ في الموقف الضنك، والمقام الهائل، أو المسير إلى الغاية المخوفة حتى يستوفي العملُ أطواره، ويبلغ نهايته، ويُنجح الطلب، ويحمد الدأب.
والصابرون رواسي الأمم كلما زلزلتها الخطوب، وسكينتها إذا طارت من الذعر القلوب. إذا طاشت الأحلام في مآزق الحرب صبروا حتى يتبلج النصر، وإذا خارت العزائم في معارك الحياة دأبوا حتى يشرق الحق. والصابرون قادة الأمم إلى الحق والخير والظفر يسلكون إليها الأهوال حين ينكص غيرهم فزعاً، ويستقيمون على الطريق حين يحيد غيرهم بأساً، ويواصلون المسير حين يقف مَن سواهم عجزاً، ويحتملون المكاره حين تنوء بكل عاجز، ويبسمون للمصائب حين تزلزل كل رعديد. هم الذين يصلون مبادئ الأعمال بغاياتها، ومقدماتها بنتائجها وإن شق العمل وطال الطريق. هم الذين ينصرون كل دعوة إلى الحق، وكل مذهب في الخير وإن عظم ما يلقاهم من المحن، وما يعترضهم من المكاره.
ومن الكلام المأثور: الصبر على الطلب عنوان الظفر. والصبر في المحن عنوان الفرج.(388/4)
والصبر هو تجلي النفس الإنسانية في أكمل صفاتها وأشرف درجاتها، تجلي النفس الإنسانية في عظمتها تعتز بقواها، وتستكبر على الأحداث، ولا تبالي الغضب والعنت، ولا تخشى الهلاك حتى تبلغ دعوتها واضحة وتؤدي واجبها كاملاً.
ولست أعرف فضيلة أكد القرآن الدعوة إليها توكيده الدعوة إلى الصبر، إذ كان عماد كل نجاح، وقوام كل جهاد، ونظام كل عمل صالح، وقرين كل خلق فاضل.
الصبر في القرآن قرين الحق لأن الحق لا ينصر إلا بالصبر. قال: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
والصبر قرين العمل الصالح إلا صبر النفس عما يزيَّن لها من الشهوات، وإقامتها على منهاج الفضيلة الذي يحرمها كثيراً مما تودّ. يقول القرآن: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).
وقد جعل القرآن الكريم الصبر وسيلة إلى الإمامة والهداية فمن لم يصبر لم يقوم نفسه، ولم يستطع الدعوة إلى الحق والمسير إليه والجهاد في سبيله، قال: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وقد أعلى درجة الصابرين وأبان فضل الصبر أعظم إبانة إذ قال: (واصبروا إن الله مع الصابرين) وحسبك بمن كان الله تعالى معه يسدد قوله وعمله وينصره، قد ذللت له كل الصعاب وضمن له كل ظفر. إن الله مع الصابرين لأنهم بصبرهم يستجيبون لدعوة الله ويسيرون في سبيله على قوانينه حتى يبلغوا ما وعدهم به، ومن سار في سبيل الله إلى دعوة الله فأحرِ به أن يوقن بالنجاح وأحر به أن ينال النجاح غير منقوص.
وجعل القرآن الصبر وسيلة إلى إدراك آيات الله في خلقه. وهل كشف الباحثون عن الحقائق إلا بالصبر على الطلب والدأب في البحث؟ قال القرآن في أكثر من آية: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور).
وبين القرآن أن الصبر عُدَّة المؤمنين في جهادهم في هذه الحياة إذ قال: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) أمرهم أن يفزعوا إلى الله فيما ينوبهم من النوائب، فيتوجهوا إليه بالصلاة ويصبروا به على المكروه. ونِعمَ هذان عوناً على كل خير.(388/5)
كما جعل الصبر في آخر درجات الفضائل حين عددها في آية البر فقال: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
وبين القرآن أن الله سبحانه يحب الصابرين الذين يثبتون على الشدائد، ولا يهنون لما يحزُ بهم من النوائب: (وكأيِّن من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) وحسبك بمحبة الله نجحاً وفلاحاً وسعادة.
والصبر قوة أعظم من قوة العدد، تغلب به الفئة القليلة الفئة الكثيرة. قال في قصة طالوت وجالوت: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله). وكذلك أمر القرآن المسلمين أن يلقوا عدوهم الأكثر عدداً وهم صابرون، وبشرهم بأن الجماعة منهم تغلب عشر أمثالها بالصبر، وجعل الصبر أكثر من تسعة أمثال العدو غَناء في الحرب. قال في سورة الأنفال: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال. إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
ولما أراد أن يخفف عن المسلمين هذا التكليف أمرهم بأن تلقى الجماعة منهم مثليها فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين). فأقل مراتب الصابرين أن يغلبوا ضعفهم. والحق أن العدد لا يثبت للصبر، وأن كثرة العدد فاشلة إذا خذلها الصبر، وأن قلته ظافرة إذا أيدها الصبر. وربما تغلب الفئة الصابرة مثليها، وربما تغلب عشر أمثال أو مائة مثل. وحوادث التاريخ على ذلك شاهدة.
وأما في غير الحرب فالواحد الصابر يدعو إلى طريقته، ويصبر على دعوته، ويحتمل في سبيلها ما يلقى من عنت وأذى وسخرية حتى يغلب بصبره الأمة الكبيرة ويقودها إلى(388/6)
الخطة التي يدعو إليها.
وأما جزاء الصابرين فالظفر في الدنيا والطمأنينة التي تلقى الشدائد ثابتة راضية ورضا الله تعالى وحسن الثواب في الآخرة. يقول القرآن الكريم: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). وقال: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا). وقال: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) وقال في جزاء الآخرة:
(والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).
وللصوفية من المسلمين تعليم في الصبر وتربية عليه جديران بأهل القرآن الذين استمعوا له واهتدوا بهديه، وقد كانت أقوالهم وأفعالهم أمثلة في الصبر.
يقول الجنيد: الصبر تجرع المرارة من غير تعبيس. وقال ذو النون المصري: الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقال ابن عطاء الله السكندري: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقال أبو عثمان: الصبار الذي عود نفسه الهجوم على المكاره. وقال عمرو بن عثمان: الصبر هو الثبات مع الله تعالى وتلقي بلائه بالرحب والدعة. وقال أبو محمد الجريري: الصبر ألا يفرق بين حال النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما، والتصبر هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة. وقالوا: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيداً، وإن أحياك أحياك عزيزاً.
وقد كانت سيرة الرسول صلوات الله عليه وسير أصحابه والمسلمين من بعدهم امتثالاً لأمر القرآن، وتصديقاً لبشارته، وإكباراً لتربيته، فغلبوا العدد الكثير والخطوب المتزاحمة بإيمانهم وصبرهم، ولم يعسر عليهم مطلب، ولا أملّهم دأب، ولا فاتت عزائمهم غاية، ونالوا جزاء الصابرين في الدنيا طمأنينة وظفراً وغلبة؛ والله ولي جزائهم في الآخرة.
وما كان صبرهم استكانة للمصائب ولكن استخفافاً بها، ولا ذلاَّ للخطوب ولكن كبراً عليها،(388/7)
ولا خنوعاً للقوة ولكن ثباتاً لها، وتصميماً على صدمها، والظفر عليها. يقول القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين).
صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام(388/8)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
المنتخبات للطفي السيد
الدكتور زكي مبارك
- 5 -
المنتخبات - شخصية لطفي السيد - أسرار المنتخبات -
أسلوب لطفي السيد - القول الفصل - وطنية لطفي السيد
حديث اليوم عن الجزء الأول من (المنتخبات) وهو مختار ما نشر في (الجريدة) من 25 إبريل سنة 1908 إلى 5 سبتمبر سنة 1912، بقلم الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة المصرية.
وجامع هذه (المنتخبات) هو الأستاذ إسماعيل مظهر المحرر بالمجمع اللغوي، وهو باحث معروف بالتعمق والاستقصاء، وقد بذل جهوداً محمودة في الصحافة والترجمة والتأليف، فمن العقوق أن تمر هذه المناسبة بدون أن نخصه بكلمة ثناء، وإنه لخليق بكل إعزاز وإجلال، أسبغ الله عليه ثوب العافية، وكتب له دوام التوفيق فيما يعالج من الدراسات الأدبية والعلمية!
ثم أقول إن الأستاذ إسماعيل مظهر أشار بكلمات قصار إلى أنه آثر أن يخرج هذه (المنتخبات) بدون مقدمة (ذلك بأن المؤلف يجل عن أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الأهل) ولم أفهم المراد من (هذا الأهل) ولعله يريد (هذا الجيل)، وللعبارة وجه، ولكنه لا يخرجه عن الإغراب في غير موجب للإغراب.
ويظهر أن هذا الصديق يفهم أن مقدمات المطبوعات لا يراد بها إلا التنويه بأقدار المؤلفين؛ ومن هنا صح عنده أن لطفي السيد غنيُّ عن التعريف، فهو أجلّ من أن يقدم له كاتب من أبناء هذا الجيل.
ولو تأمل لعرف أن المقدمات يراد بها أيضاً شرح أغراض المؤلفين، والنص على مذاهبهم في فهم الحياة وسياسة المجتمع، وبذلك يكون من الواجب أن يقدَّم لمنتخبات لطفي السيد،(388/9)
لأنها تحتاج إلى من يدل على ما فيها من مذاهب وآراء.
يضاف إلى ذلك أن هذا الصديق نصّ على أنه عُنِيَ (بأن يخرج الكتاب مبرئاً من الأوهام) فما تلك (الأوهام) التي يشير إليها بهذا التعبير المريب؟ أيكون تدخَّل في عبارات المؤلف بالحذف والإيصال؟ أيكون طوى بعض الأغراض لأسباب متصلة بتطور أفكار المؤلف، وتبدل ما كان يحرص عليه من أقوال؟
إن كان شيء من ذلك فقد كان من الواجب أن يشير إلى ضروب تلك (الأوهام) لأن لطفي السيد له في الحياة الفكرية تاريخ، ومن كان في مثل مركزه الأدبي فهو جديرُ أن تؤرَّخ تطورات فكره بلا تحسين ولا تجميل.
شخصية لطفي السيد
لا أنكر أني لقيت عنتاً في قراءة هذه المنتخبات، لأن المؤلف لا يصل إلى شرح أغراضه إلا بعسر وعُنف، وإن قيل ما قيل في قدرته على البيان.
ولكن القيمة الصحيحة لأستاذنا لطفي السيد باشا ترجع إلى أنه كان في جميع أدوار حياته (شخصية)، ولو أردت الدقة في وصفه لقلت إنه كان فهذه الكلمة الفرنسية تمثله أصدق تمثيل. . . ألم يقولوا إنه أول كاتب عربي تحدث عن الديموقراطية والديماجوجية؟
كان هذا الرجل ولا يزال قويّ الحواسّ إلى أبعد الحدود، وله في كل مسألة مَلحظُ خاص، وهو يجمع بين البداوة والحضارة فيما يتناول من شؤون الفكر والمعاش. وقد استطاع بقوة الذاتية أن يكون رجلاً مرموق المكانة في آمادٍ طوال، وربما صح القول بأنه أظهر البقية الباقية من الجيل الذي ظهر فيه، ولا يمكن ذلك لرجل غير مزوَّد بالزاد الأصيل من عافية البدن والروح.
وكتابات هذا الرجل لا تصور ما يملك من المواهب، لأن قلمه أضعف من روحه، ولأنه في سريرة نفسه يتهيب المجتمع، وإن اشتهر بالثورة على المجتمع؛ وإنما تظهر قيمة لطفي السيد حين يتحدث إلى أصفيائه بلا تكلف ولا افتعال، فعندئذ يظهر جيداً أنه خليق بما تسامى إليه من التفرد بين رجال العصر بشرح آراء أرسططاليس.
لطفي السيد كاتباً رجلُ هيوب، ولكن لطفي السيد محدثاً رجلُ شجاع، ومن هنا كان تأثيره بالكتابة أضعف من تأثيره بالحديث. . .(388/10)
والحذَر المأثور عن لطفي السيد هو الذي قضى بأن تمرّ ثورته الفكرية بلا صخب ولا ضجيج، كما مرّت ثورة محمد عبده وثورة قاسم أمين.
فكيف أصيب لطفي السيد بمرض الحذَر، وهو مرض يشلّ عزائم الرجال؟
يرجع السبب فيما أفترض إلى أن الرجل بدأ جهاده الأدبي والسياسي في عصر كانت تغلب عليه فورة الأقاويل والأراجيف، فكان مَثَله فيما يكتب مَثَل من يمشي على الشوك. ثم انتقل من التطبع إلى الطبع، فكان آية من آيات الحذر والاحتراس.
وأضرب المَثَل فأقول: أشرف لطفي السيد على الجامعة المصرية في عهدها القديم وعهدها الجديد عشرين عاماً أو تزيد؛ فهل ظهر له في توجيه سياستها العلمية شأنُ خاص، مع أنه في حقيقة الأمر قد أثَّر تأثيراً شديداً في أكثر ما امتازت به من الشؤون؟
تاريخ لطفي السيد في الجامعة المصرية ليس بشيء، وهو مع ذلك كل شيء، وتلك هي النقطة، كما يعبِّر لافونتين!
وقد عرفت بالتجربة أن لطفي السيد من الحكماء، فقد أراد هذا الرجل في ظروف كثيرة أن يغيِّر من أسلوبي في نقد الحياة والمجتمع، ولكنه لم يفلح، لأنني أردت غير ما يريد. أنا أردت ما كان يسميه في شبابه بالحقيقة العارية، وهو أراد ما هدته إليه التجاريب من مصانعة الناس والزمان.
والمهم هو أن أسجل أنك لا ترى لطفي السيد إلا حكيماً في كل شيء. هو صورة صحيحة من صور العقل الصحيح، لأنه أقام حياته على (الاعتدال) فلا يسرف في الحب ولا في البغض، ولا يجهل الوسط بين النشاط والخمود، ولا يغيب عنه أن اليوم له أغداء، وأن ما توجبه الساعة الحاضرة قد يمتد وقته إلى عام أو عامين، فمن السخف أن يقتل الرجل نفسه ليقال إنه أنشطُ الرجال.
أسرار (المنتخبات)
نحن أمام كتاب ممتع يقع في اثنتين وثلاثين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط. وكلمة (ممتع) لها عندي مدلول خاص، فليس المراد أن هذا الكتاب يجذب القارئ إلى مسايرة المؤلف من الألف إلى الياء، هيهات هيهات! فما استطعت استيعاب موادّ هذا الكتاب إلا بمشقة وعناء.(388/11)
وإنما المراد هو وصف هذا الكتاب بجودة المحصول، فهو شاهد على ما يملك المؤلف من قوة الفكر والعقل، وهو شاهد على أن المنطق من أقوى خصائص الرجل الذي شغل نفسه بترجمة أرسططاليس، وهو دليل على حصافة الرجل الذي لم ينس العناية بهندامه في لحظة من اللحظات، ولو كان في قرار الخلوة بعقله الدقيق.
لطفي السيد في كتابه هذا مفكر حصيف، وإن تبذَّل في عرض بعض التوافه من الشؤون: كالحديث عن زينة النساء، والحديث عن عيوب (الانتخابات)، والحديث عن أوهام الفلاحين!
ولكن ما نسميه اليوم (توافه) لم يصر كذلك إلا لكثرة ما خاضت فيه أقلام الكتاب، وقد كان قبل ثلاثين سنة من الأمور ذوات البال.
وبهذا نعرف أن ما نراه اليوم من المبتذل كان قبلاً من الطريف.
قد يقال: وما الذي أوجب أن تثبَت بعض الموضوعات البائدة في (المنتخبات)؟
ونجيب بأن تلك الموضوعات لا يراد بها تعليم أبناء اليوم ما لم يعرفوه، وإنما يراد بها تسجيل بعض مشكلات المجتمع في العهد الذي أثيرت فيه، فهي من أسانيد التاريخ، وللتاريخ ألوان.
ومن هذا الباب ما جاء في كلام المؤلف عن صلة مصر بالدولة العثمانية، وما قصّ من أخبار السوريين المقيمين بمصر، وما تحدث عن رحلاته في بعض بلاد الغرب والشرق؛ فكل أولئك لا يهمّ شبان اليوم إلا من جانب واحد هو التاريخ.
لطفي السيد في كثير من آرائه رجل وسط، ولكنه قد يحلِّق من حين إلى حين تحليق الجوارح، كالذي صنع وهو يتحدث عن أحمد عرابي باشا، فقد سجل أن عرابي ليس وحده المسئول عن الثورة التي انتهت بالاحتلال. وحجة لطفي السيد في هذا الحكم الطريف أنه لم يثبت أن العرابيين قتلوا رجلاً واحداً لأنه تنبأ بسوء الخاتمة وحذَّر من عواقب الثورة. ومعنى ذلك أن الثورة كانت فورة شعبية، فليس من العدل أن يطوَّق بآثامها عرابي حين انتهت بتلك النتيجة السوداء.
وفي (المنتخبات) فصل يبدو لأول نظرة من المبتذلات، لأنه في موضوع مطروق، وهو الكلام عن الثقة بين الناس.(388/12)
ولكن هذا الفصل هو غرة هذه المنتخبات، وليته يضاف إلى مطالعات التلاميذ.
ومن هذه المنتخبات نعرف أن لطفي السيد زار (المدينة المنورة) وكتب عنها فصولاً تعد من الروائع، وكلامه في توديع ولديه يشهد بأن هذا الرجل من أرباب القلوب.
حدَّث ولديه بأنه سيغيب (ثلاثين) يوماً فبكيا، ثم ترفق فأخبرهما أنه سيغيب شهراً واحداً فاستراحا. وتلك دعابة لا تحتاج إلى ما يدل على ما فيها من لطف وظرف.
ولم يفت لطفي السيد عند زيارة المدينة أن يصور شعوره الديني تصويراً هو الغاية في الروعة والجلال.
وقد استطرد فتحدث عن المرأة العربية وعن لغة العرب (في بلاد العرب) حديثاً يشهد بأنه مفطور على التطلع والاستقراء.
وفي المنتخبات فصل عنوانه (أحبوا الجمال تحبوا الحياة) وقد بلغ الغاية في دقة النظر حين قرر أن تقدمنا في الأذواق لا يتناسب مع تقدمنا في العلوم، وهو يشهد بأن وقار بعض الناس ليس إلا صورة من صور الجمود!
وكلامه عن الصداقة كلام نفيس، ولعله استوحى هذا المعنى مما كان بين قاسم أمين وسعد زغلول.
أما كلامه عن الحب العصوف فهو كلام رجل يخاطب عوامّ الناس في صحيفة سيارة، وإن كان صدق حين قرر أن ذلك الحب يفسد الشعوب إذا تخلَّق به جميع الرجال.
وحديثه عن قاسم أمين يدل على إعزازه لحرية العقل والرأي، وفيه عبارة تشهد بأن الخطوب هي التي تؤرث مواهب العبقريين.
وأسفُه على حرمان أهل القاهرة من دخول حديقة الأزبكية بالمجان له مدلول.
وأحاديثه الصوارخ عن الآباء والأمهات والأبناء والبنات تشهد بأن الفكرة الإصلاحية سيطرت على عقله منذ أعوام طوال.
أسلوب لطفي السيد
جاء في المنشور الذي أذاعته مراقبة الامتحانات بوزارة المعارف على نظار المدارس الثانوية أن الطلبة الذين تقدموا لمسابقة الجامعة المصرية سيسألون عن أوصاف الأساليب من قوة وضعف، فما أسلوب لطفي السيد في الجزء الأول من المنتخبات؟(388/13)
هو أسلوب لطفي السيد قبل ثلاثين سنة، وكان في مطلع حياته الأدبية، ولم يكن تمرَّس على (بناء الجمل) بناءً يعزّ على عوادي التصدع والانحلال.
أسلوب لطفي السيد بطيء الحركة إلى حد الجمود، وهو خال من البشاشة البيانية، وليس في كتابه صفحة واحدة تشهد بأن بيانه من وحي الطبع أو فيض الوجدان.
لطفي السيد كاتب متعمل متكلف، وهو يجرجر كلامه بتثاقل وإبطاء، ولولا البوارق الفكرية التي تلمع في كلامه من وقت إلى وقت لعد من المتخلفين.
ومن المؤكد أن أسلوب لطفي السيد قد مَرَن بعد ذلك كثيراً أو قليلاً، وشاعت فيه الحركة والحياة، ولكن من المؤكد أيضاً أن لطفي السيد قد طبع أسلوبه بطابع نفسه من التهيب والاحتراس، والمتخوِّفُ لا يكاد يُبِين.
أقول هذا وأنا مُشفِق، فليس من الذوق أن أستبيح الحكم على أسلوب لطفي السيد بكل ما أطمح إليه من الحرية والصدق، ولكن لطفي السيد أكبر من أن ينتظر كلمات المداهنة والرياء، ومقامه في التاريخ الأدبي الحديث في غنىً عن التلطف المأثور عن بعض تلاميذه الأوفياء.
وضعفُ الحركة والحياة في أسلوب لطفي السيد لا يمنع من الاعتراف بأنه من المشاهير بين أصحاب الأساليب، فقد يكون مقامه بين كتاب القرن الرابع عشر مقام ابن خلدون بين كتاب القرن التاسع، ومعنى ذلك أنه تحرر من الزخرف كما تحرر ابن خلدون، فكان أسلوبه ملحوظ الخصائص بين أساليب معاصريه من أمثال حفني ناصف وعبد العزيز جاويش.
ولطفي السيد له ألفاظ في المنتخبات تحتاج إلى تعريف:
من ذلك كلمة (الدولة) وهي كلمة لا تُذكر بدون تخصيص إلا حين يريد الدولة العثمانية، فعلى الطلبة أن يراعوا ذلك.
و (التعليم الأدنى) في كلام لطفي السيد هو التعليم الأولي والجامعة المصرية في كلامه لا يراد بها الجامعة التي نُقِلتْ ربوعها الأواهل إلى الجيزة الروحاء، وإنما هي (الرابطة المصرية) أو (الآصرة المصرية).
والمجتمع في كلامه هو الجمعية، وعنه نَقَل حافظ عفيفي باشا.(388/14)
وهو يكثر من ألفاظ المناطقة من أمثال (المقول) و (المحكومية) و (المصادقات).
وقد يتسامح في بعض الألفاظ الأوربية، فيساير في نطقها عوامّ الناطقين؛ كأن يقول (اللورد كرومر) والصواب (لورد كرومر) لأن (كرومر) مضاف إلى (لورد) وليس عطف بيان. وتلك غلطة وقع فيها الأستاذ أحمد أمين وهو يقدم ديوان حافظ إبراهيم.
والنعت السببي حيران عند إضافته إلى الموصوف، فقد يُعرَّى من اللام كما وقع في أمثال عبارة (الرجل الفلاح طويل القامة، كبير الرأس، كثيف اللحية) وقد يحلَّى باللام في مثل عبارة (الحديث القليل القيمة).
وقد يغيب وجه الإعراب عن أستاذنا لطفي السيد في بعض الأحايين، كأن ينصب (الصفات) بالفتحة كما ينصب (الذات) وهي غلطة غير مطبعية، وقد يُشكل عليه الرسم الإملائي أحياناً فيرسم ألفاً بعد الواو من (يدعو الرجال) وهو ينسى أن الألف الفارقة لا ترسم إلا بعد واو الجماعة، وتلك دقيقة إملائية تخفى على بعض الناس؛ ولعلها لم تخف إلا على مصحح الكتاب.
وقول (أَلفَتَ) والصواب (لَفَتَ).
ويتعرض للغة أحياناً فيخطئ، كأن يمر بكلمة (التقعر) فيرى استعمالها في الذم غير صحيح، وحجته أن الكميت يقول:
البالغون قُعُور الأمر تروية ... والباسطون أكفّاً غير أصفار
والمتأمل يدرك أن التقعَّر (تفعُّل) وهو من صور التكلف كالتشدّق والتصنّع.
القول الفصل
والقول الفصل أن أسلوب لطفي السيد في المنتخبات هو أسلوبه قبل ثلاثين سنة، يوم كان قليل الاحتفال بالأداء، ويوم كان قليل المحصول من ثروة اللغة العربية، كما صرح هو نفسه بذلك في الصفحة 162.
ويجب وفاءً للحق والتاريخ أن نسجل أن لطفي السيد اهتم بعد ذلك بالتزود من اللغة العربية، حتى جاز له أن يشارك في بعض المحاورات النحوية والبلاغية، وحتى صار بالفعل من أعرف الناس بخصائص الأساليب.
ذكَره الله بكل صالحة، فله علينا فضلُ لن ننساه، ولو طال الزمان.(388/15)
أما بعد فهذا لطفي السيد باشا في أبرز نواحيه، كاتباً ومفكراً ومديراً للجامعة المصرية، ولكن بقيت كلمة يفرضها الواجب رعاية لحق التاريخ.
كنا نسمع في عهد الحداثة أن (حزب الأمة) الذي تعبِّر عنه (الجريدة) يسالم الاحتلال.
فهل في (المنتخبات) ما يؤيد ذلك، وكان لطفي السيد رئيس التحرير لتلك (الجريدة)؟
كان (حزب الأمة) يمثل فكرة الاعتدال، ولكن مقالات لطفي السيد لا تشهد بأنه كان يسالم الاحتلال.
وكيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يقول:
(الديار محتلةُ بأجنبيّ لا هو صريح نقدِّر لشقائنا معه حداً، ولا نحن معه من الرجاء أو من اليأس في إحدى الراحتين)؟
كيف تجوز مسالمة الاحتلال على من يرثي مصطفى كامل أصدق الرثاء، ثم يعلن رأي قاسم أمين في أن وجيعة الشعب لوفاة مصطفى كامل فرصة لإذكاء الروح الوطني؟
كان لطفي السيد من أنصار الاعتدال، ولكنه لم يكن أبداً من المفرِّطين في حق القومية، ومقالاته هي الوثائق الباقية لجهاده في سبيل الحرية والاستقلال.
والناس يشهدون اليوم تمثال مصطفى كامل في أحد الميادين الجميلة بالقاهرة، فمن يبلغهم أن لطفي السيد كان من أوائل الداعين لإقامة ذلك التمثال مع أنه كان من خصوم الرئيس الأول للحزب الوطني؟
لا يؤخذ على لطفي السيد إلا عيب واحدُ: هو أنه لم يستهدف لأي خطر في سبيل حرية الفكر والعقل والوجدان، وبذلك خَلَتْ آثاره من اللهب الذي احترق به المبدعون من أقطاب الفكر والبيان، والسلامة ليست مَغنماً نفيساً في أنظار أكابر الحكماء.
لا يزال لطفي السيد قوة عاتية، فهل يجرِّب الثورة على نفسه مرة واحدة فيخرج من بعض ماله لينشر مجموعة كاملة للمختار من آثاره في الأعوام الخوالي؟
إن أخذ بهذا الرأي فسيحدّد مكانه الصحيح في التاريخ الأدبي الحديث.
وإلا فسيصير إلى ما صرت إليه يوم عققت نصائحه الغالية في مصانعة الناس والزمان.
وإلى أستاذي وصاحب الفضل عليّ، إلى أحمد لطفي السيد باشا مترجم أرسططاليس ومدير الجامعة المصرية، أقدم واجب الثناء، راجياً أن يتناسى ما مرّ بهذا المقال من عبارات لم(388/16)
تكن على خشونتها إلا شاهداً على اتصالي الروحي بعقله الحصيف.
زكي مبارك(388/17)
تعاليم الرجولة
للأستاذ محمد كامل سليم بك
سكرتير مجلس الوزراء
1 - لا تلم غيرك على إهمالك، واحتمل بشجاعة نتائج أعمالك.
2 - الاعتذار ضعف، فلا تعتذر لكائنٍ من كان، ولا سبيلَ إلى تلافي الاعتذار إلا إذا آليتَ ألا ترتكب ما يستدعي الاعتذار منه.
3 - لا تيأس: إذا المرض أصابك، وإذا الحزن دهمك وإذا الإخفاق صدمك، وإذا الصديق خدعك وإذا العدو غلبك، وإذا الحظ نكبك إذ مهما اضطربت الأمور وأظلم الجو فإنك بالصبر والعمل والشجاعة منتصر لا محالة.
4 - لا ترْجُ من اللئيم أن يصفح، ولا من السفيه أن يحلم، ولا من القويِّ أن يستكين. لأنك إن فعلت أرقت ماء وجهك وعدْتَ بخيبة الأمل.
5 - لا تكن متحيزاً لأقربائك، ولا محابياً لأصدقائك، ولا باغياً في خصومتك، ولا طاغياً في رياستك. بل اجعل العدل قائدك، والحزم رائدك، والكرم ملطفاً لشهوتك، والمصلحة العامة على الدوام قِبلتك.
6 - كن شجاعاً تكن صادقاً. فإذا اعتدت الصدق مشت الفضائل كلها في ركابك.
7 - أفعل ما تراه حقاً وعدلاً، ولا تحاول أن تُرْضي الناس جميعاً، لأنك إن حاولت ذلك أسأت إلى نفسك ولم تُرْض أحداً.
8 - أذكر دائماً أن قيمة الأعمال بنتائجها، فحذار أن تأتي عملاً تعرف مقدماً أن له نتيجة ضارة، اللهم إلا إذا أيقنت أن كِفَّة الخير للمصلحة العامة أعلى وأرجح.
9 - إذا كنت تحب الحرية حقاً فلا تحتكرها لنفسك وتنكرها على غيرك.
10 - حذار من لسانك وقلمك إذا كنت غاضباً أو ثائراً بعاطفة قوية فكلاهما يخونك، واعتمادك عليه يجر عليك الندم أو الألم عندما تهدأ وتستقر.(388/18)
كتب لم أقرأها
مؤلفات اللورد دنساني
للأستاذ عبد اللطيف النشار
أما الكتب التي أتحدث عنها اليوم فعشرون كتاباً صفقة واحدة لا أعرف اسم واحد منها ولا عرفت شيئاً عن مؤلفها إلا في هذا الأسبوع حينما نشرت الصحف له صورة ظريفة مع حضرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي في نادي الاتحاد الإنكليزي المصري.
وكانت مناسبة الاحتفاء به في هذا النادي أنه مر بمصر أثناء سفره إلى أثينا حيث يتقلد منصب الأستاذية في الأدب الإنكليزي بالجامعة اليونانية. وكرسي الأدب الإنكليزي في تلك الجامعة يلقب باسم الشاعر الإنكليزي بيرون. فيقال (كرسي بيرون) للأدب الإنكليزي تكريماً لذكرى هذا الشاعر الذي ساهم في تحرير اليونان بقلمه وبسيفه. وما زالت اليونان تحتفظ له بأطيب الذكرى وله في عاصمتها أكبر تمثال فيها.
ولما مرَّ اللورد دنساني بمصر نظم أبياتاً هذه ترجمتها نثراً:
انتظار طويل
(أيها الملوك الأربعة الجالسون في ساحة أبي سمبل متجهين نحو مشرق الشمس، لقد رأيتم الإنسان يطير).
قلت لهم ذلك وخلت أني أسمع جواب ثلاثة منهم أثناء مرورنا أمامهم بالطيارة (أما الرابع فقد كسر عند منتصفه فانشطر شطرين).
(وأحسب جواب الثلاثة:
(نحن لا نلحظ إلا ما كتب له الخلود. نلحظ نهرنا القديم في فيضانه، والشمس في سطوعها، والمطر في إبانه، وكل خالد في تغلبه على زمانه. ورأينا ورأى معنا هذا الرابع قبل أن ينكسر شعاعاً ذهبياً ينبثق من صخرة فيوقظ الروح في بلدنا هذا المقدس وقد أخذ هذا الشعاع الذهبي من زمن فات يتجه نحو الشمال، ونحن منذ ذلك العهد لم نلحظ ما يستحق أن يلحظ).
هذه الأبيات في أصلها ذات جرس ورنين، وهي كل الذي قرأته له عدا حديثاً له مع محرر(388/19)
الغازيت. أما الذي قرأته عنه فهو أنه أديب أيرلندي له مسرحيات ودواوين شعر وأقاصيص وروايات، ويبلغ عدد كتبه العشرين، وأسلوبه من السهل الممتنع. وهو رحالة ومن هواة الصيد، وقد قضى معظم الشباب في الجندية وعمره الآن قد تجاوز الستين.
اشترك في حربين: حرب البوير والحرب العظمى. وجاب أقطار العالم في رحلاته، وقلما استطاع البقاء أمداً طويلاً في مكان.
ومن غريب أمره أنه لا يستطيع مزاولة التأليف راحلاً، ولا الرحلة ولديه موضوع يشغله بالتأليف. ويقول إن حياتيه: الروحية والجثمانية ليستا على ائتلاف، فهو يطلق لكل منهما العنان، حتى إذا فرغ من رحلة له عاد إلى وطنه، فاستجم وترك لخواطره متنفساً من يراعه خلافاً لبعض الكتاب الذين يجمعون الجذاذات في أثناء الرحلات، أو يدونون فيها بعض الخواطر أو المعلومات. وهو يقول في حديثه لمحرر الغازيت: إنه لا يرى في الكتابة واجباً يفرضه المرء على نفسه وينقطع له، وأنه لا يرى للكاتب أن يكتب سواء أكان لديه أفكار أم لم تكن لديه.
وحاول المحرر أن يستدرجه للحديث عن وطنه أيرلندا فأبى أن يخوض في ذلك الحديث. ويعرف القراء أن تلك البلاد لم تشترك مع إنكلترا في حربها الحاضرة؛ ولكن هذا اللورد الذي بقى في أيرلندا حتى شهر أغسطس الماضي قد رحل عنها إلى لندن وتطوع جندياً في الجيش الإقليمي (الجيش المرابط) وعدده في إنكلترا مليون وسبعمائة ألف لعل فيهم الكثير من هذا النوع.
ولما سئل عن رأيه في الحرب قال إن هتلر قد خسرها، لأنه أراد تحطيم روح الشعب البريطاني فأخفق، ولن يستطيع تحطيم تلك الروح بعد ثباتها ستة أسابيع على قنابل الغارات الجوية.
وهو يرى أن الحرب ضرورة لا بد منها كتناول الطعام وشرب الماء ما دام بعض الأمم يسبق البعض في اطراد النمو من ناحيتي الثروة وعدد السكان، فلا مناص من الحرب، لأن الذين تضيق بهم بلادهم لا بد لهم من طلب التوسع فتكون الغزوات وتكون الحروب، ولا يرى في الإمكان تدبير وسيلة للاحتفاظ بالسلام.
قال: (بعد الحرب الماضية اجتمع العقلاء من مختلف الدول في مدينة جنيف وحاولوا إيجاد(388/20)
الوسيلة لمنع الحروب في المستقبل. وأحسب أنهم بعد الحرب الحاضرة سيرسلون عقلاءهم إلى مدينة ما لإيجاد وسيلة لمنع الطعام وسيقولون إنه متعب في إعداده، متعب في هضمه، متعب في تناوله، فلنتدبر في وسيلة تريحنا منه. . . وسينجح هؤلاء الحكماء في محاولتهم منع الطعام بمثل القدر الذي ناله من النجاح من سبقوهم في محاولة منع الحرب. وهو مع رأيه هذا في الحرب يرى أن أذى الحروب أقل من نفعها، ومن نفعها أنها تولد الشجاعة والجرأة والنخوة.
هو متحدث بارع، وقد يدافع عن قضية خاسرة لمجرد الاغتباط بالحرب الكلامية.
ومن رأيه أن حملة الأقلام جميعاً رجال غير عاديين.
قال: وإذا نحن أحصينا من يكتبون وجدناهم قلة ضئيلة بالقياس إلى من لا يكتبون، وهذا وحده سبب كاف لاعتبارهم من الطراز غير طراز الرجل العادي.
هذه بداية تعرفي على المؤلف الذي أدرجت مؤلفاته العشرين في قائمة (كتب لم أقرأها) وليس كل ما في هذه القائمة مندرجاً بالطبع في قائمة (كتب لن أقرأها) فعلى حين أزداد تعرفاً عليه أزيد تعريفاً به.
أو لعل من سبقوا إلى معرفته أن يشركوا أهل لغتهم فيما أفادوه منه.
وبعد كتابة ما تقدم قرأت في جريدة الإجبشيان ميل عدد 28 نوفمبر سنة 1940 أن اللورد دنساني دعي إلى حفلة تكريمية أخرى بنادي الاتحاد الإنكليزي المصري فألقى بها قصة طريفة له عنوانها (بنت رمسيس).
وأنه سيلقي في الأسبوع القادم محاضرة عن الشعر الإنكليزي بالجمعية الملكية الجغرافية، وأرجو أن ألخص القصة والمحاضرة لقراء الرسالة.
عبد اللطيف النشار(388/21)
حول نقد كتاب الذخيرة في علم الطب
للأستاذ إسماعيل مظهر
قرأت في مجلة الثقافة الغراء منظومة من النقود وجهها الأب أنستاس ماري الكرملي إلى صديقي الدكتور جورجي صبحي ناشر كتاب الذخيرة المنسوب في بعض المؤلفات القديمة إلى العلامة الكبير ثابت بن قرة.
ولنشر كتاب الذخيرة تاريخ لو أن حضرة الأب المهذب الرقيق قد علم طرفاً منه إذن لالتمس للدكتور صبحي بعض العذر عن أخطاء وقعت في الكتاب. فقد كان موعد الاحتفال بالعيد المئيني للقصر العيني قد أزف. وحَسُنَ عند صاحب السعادة الدكتور علي إبراهيم باشا أن يُطْبَعَ كتاب (الذخيرة) إحياءً لأثر قديم وتعبيراً عن اتصال ثقافتنا بثقافة أوائلنا وتذكيراً بتراثنا المجيد. وبُدِئ بطبع الكتاب من نسخة سقيمة سيئة الخط محشوة بالتصحيفات قبل موعد الاحتفال بشهر واحد. وما إن حان الموعد حتى كان الكتاب مطبوعاً معداً للنشر. فكان لهذا العامل أثره فيما يكون قد وقع في الكتاب من تصحيفات لا أشك أقل شك في أن أكثرها موجود في النسخة الأصلية؛ وكان من المتعذر مادياً بحثها وتصويبها في مثل هذا الزمن القصير الذي استغرقه طبع الكتاب. وما قولك في أن حضرة الأب اشترى الكتاب في فبراير من سنة 1934 ولم يستطع أن يحقق ما ورده في نقوده من الألفاظ إلا في شهر يوليو من سنة 1940 إذ بدأ بنشر نقوده التي ألمعنا إليها. يدلك هذا على أن تحقيق هذه الألفاظ كان صعباً والرجوعَ إليها في مظانها أمر يستغرق السنين. فللدكتور صبحي على أية حال عذر إن تعذر عليه تحقيق بعض ألفاظ الكتاب وتصحيح عباراته تصحيحاً كاملاً.
ولا أريد أن أتعرض هنا لشيء مما صوب به حضرة الأب بعض أخطاء الكتاب، ولكن أريد أن أنشر حقائق ثابتة لا يتسرب إليها الباطل، عن الدوافع التي دفعت حضرة الأب المحترم إلى نشر نقوده هذه. فإن وراء هذا النقد ماضياً يجب أن يعرف، وله بداية كانت هذه النقود نهايتها. فقد أطلعني الدكتور صبحي بك على كتاب بخط يد الأب المحترم يسأله فيه أجراً على تصحيح الكتاب، وكان الدكتور صبحي بك مريضاً فلم يعر الأمر اهتماماً وشغل بمرضه عن كل ما عداه. واتصل طبيب بالقاهرة بالدكتور صبحي بك يغريه على(388/22)
أن يجيب حضرة الأب إلى طلبه فرفض صبحي بك معتذراً. وإلى هنا تنتهي مقدمات النقد. وكان النشر بمجلة الثقافة نتيجة لهذه المقدمات.
ولعل القراء يعجبون كيف أن رجلاً من رجال الدين المنقطعين عن لهو الحياة الزاهدين فيها، المترهبين في سبيل الله والعلم ينزلق في هذا المنزلق ويزل هذه الزلة ولا حاجة له بمال ولا مطمع له في الدنيا ولا زوجة له ولا ولد؟ نعم إن هذا لباعث على العجب مفض إلى طول التأمل. ولكن ذلك هو الواقع مع الأسف. وما كنت لأتطوع جاهداً في كشف هذا السر العجيب لولا أن حضرة الأب المحترم قد تمادى في الهجوم على رجالات مصر، ومن قبل هاجم الدكتور شرف بك ثم الدكتور أحمد عيسى بك ثم حضرة صاحب العزة أحمد العوامري بك، وغيرهم من كبار رجالنا المشار إليهم بالبنان المكبين على العلم لأجل العلم لا لأجل المال. أولئك الذين أفنوا أعمارهم وأموالهم في الطلب والفحص والتنقيب غير مترقبين من الناس مالاً ولا مستجدين منهم أجراً، عالمين أن أجرهم عند الله أبقى.
لئن كان حضرة الأب قد نشر هذا النقد خدمة للعلم حقيقة فما هي الحاجة التي حملته على أن يطعن حضرة الدكتور صبحي بك في علمه وفي مهنته؟ وإليك بعض أقواله في مجلة الثقافة.
إن هذا لمن أعجب العجب. يتساءل راهب لغوي كيف أن طبيباً مصرياً عظيما، وأستاذاً في كلية الطب، ومن أمهر المشتغلين في القطر المصري بهذه الصناعة: يتساءل كيف حصل على شهادته! ألست تجد أيها القارئ أن مثل هذا الأمر يدل على حفيظة سببها أن هذا الدكتور لم يجُد عليه ببعض المال ليصحح أخطاء كتاب قديم وقف على طبعه؟ كان إذن من الواجب على الذين أعطوا الدكتور صبحي إجازة الطب أن يرسلوه لحضرة الأب أولاً ليجيز لهم أن يعطوه شهادته.
ومن أعجب العجب أيضاً أن يعترف حضرة الأب بأن كتاب الذخيرة (في أصله) مشوه وممسوخ. قال في الثقافة (العدد 84 ص40):
(اتضح أن هذا التصنيف ليس لثابت بن قرة، وبان بالعكس أن واضعه قليل البضاعة بعلم العربية، والكاتب قبطي من أهل المائة السابعة أو الثامنة للهجرة لجهله الألفاظ الطبية وتشويهه لها وجهله الأحكام اللغوية ومسخه لها مسخاً شنيعاً).(388/23)
هذا اعتراف حضرة الأب الصريح يدل على أصل الكتاب، أي الأصل الذي طبع عنه الدكتور صبحي بك. أفلا يصح أن يكون هذا شفيعاً عند حضرة الأب في بضعة أخطاء اضطر الدكتور لإثباتها كما هي مراعاة للأصل المطبوع عنه التماساً لإصدار الكتاب في شهر واحد من الزمان؟
أما أن يخطئ الإنسان فذلك أمر طبيعي، ولكن من غير الطبيعي ومن غير اللائق بالسداد أن يتمنى حضرة الأب أنستاس أن يصبح وزيراً للمعارف في مصر فيفتتح عهده بالحكم بغرامة 228 جنيهاً، وبالحبس 228 يوماً على الدكتور جورجي صبحي جزاء نشره كتاباً به بعض الأخطاء!
ولقد يدعي حضرة الأب أنه لا يخطئ، لأنه لو كان يسلم بأن الخطأ واقع من أبناء آدم لما انزلق في نقده إلى حيث انزلق، ولكني أقول له إنه يخطئ خطأ فاحشاً يتعدى فيه على العلم وعلى الثابت في مظان العلم.
فقد حدث في دورة المجمع اللغوي السادسة أن قام حضرة الأب يدعي دعاوى عريضة فسقط وكبا كما يؤخذ من رد حضرة العلامة الأستاذ فيشر عليه في محضر الجلسة السادسة عشرة من الدورة السادسة. وأنقل هنا نص رد الأستاذ فيشر عليه لأن به من البيان ما لا محل معه لبياني. قال:
(قرأت أمس في محضر الجلسة العاشرة بحث كلمة (موسيقى) (موسيقا) لحضرة الأب أنستاس ماري الكرملي. وقد أعجبنا جميعاً بكثرة معلوماته وذكائه، ولكن لا معصوم من الخطأ إلا نبي. وعليه فإني أعتقد أن حضرة الزميل العلامة قد زَلَّ في بعض مواضع بحثه إذ قال في صدر بحثه: (فأقول إن العرب لم يأخذوا لفظ الموسيقى عن الروم لاتينيين كانوا أم يونانيين، وإنما أخذوها من الإرميين بدليل أنهم يقولون (هنا كلمة إرمية) وتقرأ موسيقى بالياء. والدليل الثاني أن الموسيقار العربية في نفس الإرمية (هنا كلمة إرمية) وتلفظ موسيقاراً. والدليل الثالث أنهم (أي العرب) قالوا مثلهم موسيقاراً. ولم يراع أن كل ما نقل عن اليونانية كان بواسطة الآراميين كما أن كل ما نقل عن اللاتينية قبل فتح العرب لشمال أفريقية كان بواسطة اليونان وعنهم بواسطة الآراميين.
(ولم يراع أن الكلمة الآرامية (. . . . . .) يرجع أصلها إلى الكلمة اللاتينية وأهم من هذا(388/24)
ما وقع فيه من خطأ قائلاً: وأما عرب الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم قالوا: (المزِيقَة) واستشهد على هذا القول ببيت للشماخ أورده كما يأتي:
له زَجَل كأنه صوت حاد ... إذا سَمِع المزِيقة أو زَمِير
ولا أدري من أين نقل هذا البيت. فإنه ورد في ديوان الشماخ طبعة أحمد بن الأمين الشنقيطي صفحة 36 ما يلي:
له زجل تقول أصَوْت حاد ... إذا طلب الوَسِيقة أو زَمِير
(وهذه الرواية صحيحة فإن هذا البيت جاء وصفاً لحمار وحشي في قصيدة للشماخ، ومعناها يتفق مع ما أورده الشنقيطي في الشرح إذ قال: (المعنى أن الحمار الذي يصفه يشبه صوته بأتانة إذا صوت بها صوت حادي الإبل أو صوت مزمار).
(فكذلك لا توجد لكمة المزيقة في شعر الشماخ، ولا توجد في أي شعر آخر ولا في كل العربية.
(وقد ظن حضرة الزميل العلامة، بعد اعتقاده بأن كلمة (المزيقة) قد وردت في شعر الشماخ أن فعل مَرَّق الذي ورد في الشعر القديم بمعنى غَنَّى قد صحف عن مزَّق. وقد قال حضرة العضو الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين في أثناء الجلسة: (لا أوافق حضرة الأب أنستاس على أن لفظتي ممرَّق وتمريق مصحفتان من ممزق وتمزيق. إذ لا دليل على هذا التصحيف الخ).
(وإني متثبت من أنه على حق، فإنه قد وردت في لسان العرب وأساس البلاغة شواهد على فعل مرَّق، وقد بين هذه الشواهد بيت للشاعر (الممزَّق) من قصيدة وردت مرتين في ديوان (المفضليات) - (طبعة تشارلس لايل صحيفة 603)، وفسر الأنباري شارح المفضليات الفعل مرَّق كما يلي):
(ويمرِّق يغني والتمريق الغناء. يقال: قد مرَّق يمرِّق تمريقاً فهو ممرقُ إذا غنى أ. هـ). وورد هذا الفعل أيضاً في كتاب الأغاني (طبعة دار الكتب المصرية في الجزء السابع صحيفة 238) في سياق الكلام كما يلي: قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال: خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال: هذا الشيخ والله راوية. فجلسوا إليّ وأتوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرُّمة فعرفوه وبشعر جرير والفرزدق(388/25)
فعرفوهما؛ ثم أنشدتهم للسيد. . . (أتعرف رسما. . . الخ) ثمانية أبيات؟ قال: فجعلوا يمرِّقون لإنشادي ويطربون، وقالوا: لمن هذا؟ فأعلمتهم. . . فقالوا: هو والله أحد المطبوعين. . . لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله) أ. هـ عبارات الدكتور فيشر.
أيليق بنا يا حضرة الأب المهذب أن نسأل: كيف حصلت على لقب لغوي ما دمت تسقط في مباحث اللغة هذه السقطات الشنيعات، ثم تتدارى بعد ذلك وراء ألفاظ الهجاء لتخيف الناس من لسانك ومن قلمك، ولتستر بذلك خطأك وحذلقتك وتهجمك على اللغة عفو الخاطر، لأنه قيل إنك لغوي، ولأنه جرى بين الناس أنك كذلك؟. . .
وبعد، فإني لا أود أن ألقي القلم قبل أن أفرغ من حضرة الأب المهذب أولاً وآخراً. فإني اتهمته بأنه طلب من الدكتور صبحي مالاً لينتقد كتاب (الذخيرة) سراً ثم يسكت؛ فإذا أبى الدكتور صبحي بك، نشر الأب نقوده متظاهراً بالغيرة على العلم وعلى لغة القرآن: نسأل للغة القرآن منه العافية.
والواقع أن هذه دعوى عليّ إثباتها: فإن الكتاب الذي أرسله حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك يسأله فيه ذلك، قد مُزِّق وألقي به في سلة المهملات مع الأسف الشديد؛ ولو أنه باق، إذن لنشرته بخط يده. ولكن حضرة الأب قد ينسى أن كتاباً آخر يدل دلالة قاطعة على أنه يأخذ المال باسم اللغة والغيرة على اللغة، ولكن بالسباب والشتم. وإني أقتطف من هذا الكتاب عبارات مع حذف الأسماء. فإن أنكر الكتاب نشرته للناس بخط يده. جاء في ذلك الكتاب:
(نعم إن احسانات الدكتور. . . قيدت يدي ورجلي ومنعتني عن أن أهجم عليه هجماتي المعتادة على أصحاب سائر المعاجم، ولما رَدَّ عليَّ رده المعهود وكله سفاسف وجهل شنيع للقواعد العربية والأصول اللغوية، أخذت القلم لأكشف عوراته ثم فكرت في نفسي وقلت أهذا مكافأة من أحسن إليك وأنقذ مجلتك من أن تغلق في تلك السنة للخسارة التي لحقتها. فكسرت القلم وقلت الإقرار بالفضل والإحسان من شيم كرام النفوس، والغض عن الرد خير من الاستسلام للغيظ. وهكذا سكت، ولو لم يكن بِرُّ هذا الرجل وماله بالفضل علي لسحقته سحقاً، لأن ما في. . . من الأوهام والخبط والخلط يسود عين الشمس في رائعتها. والآن أقول إن. . . نصاب في الأدب ولا يقاربه أحد في نصبه، ولكن إذا كانت أموره(388/26)
تجوز على بعض السذج، فإنها لا تجوز على من له أدنى إلمام بالأدب).
ثم يقول حضرة الأب المهذب:
(أتعلمني بمنزلة. . . وأنا أعلم علم اليقين أنه لا يرى في مادة واحدة من مواده إلا أغلاط جمة؟ ومع ذلك أقول ولا أخاف لومة لائم إن أغلاط. . . دون أغلاط. . . فإن هذا الأخير أفسد كل مادة فساداً لا تقوم له قائمة، وليس للرجل أقل اطلاع على اللغة ولا على علم. . . ولا على نقل الألفاظ من الإفرنجية إلى العربية. والآن أجيبك على سؤاليك:
(1 - إني تسامحت كل التسامح في نقد. . . لأنه أحسن إلي. ولم أفعل مثل هذا الفعل في نقد. . . لأنه لا فضل له عليَّ فلم أسامحه لأنه زاد فساد ألفاظ. . . وأوهامه زيادة فاضحة.
(2 - إذا نقدت ثانية. . . أهتكه هتكا من غير أن أستعمل كلمة جارحة كما فعلت مع. . . لأن. . . اشتغل أكثر من. . . وعانى مشقات أعظم. أما لو أردت أن أنزله دركات جهنم لما صعب علي لأنه هيأ لي الوسائل والذرائع لإنزاله في تلك المهاوي) ا. هـ
هذا كلامك يا حضرة الأب عندي بخط يدك أنشره على الناس ليعرف الناس لماذا تكتب وتحت أي تأثير تكتب، فإن لم تسكت نشرته في كراسة مطبوعة بالزنكوغراف، ولو أني بذلك سأسيء إلى أصدقاء هم من دمي وأهلي الذين تتهاتر عليهم بعلمك، وأتحمل في سبيل ذلك حساب ضميري على أن أنزل أسماءهم الشريفة المنزلة التي لم أجد بدونها وسيلة إلى إسكاتك أبد الآبدين.
وتحت يدي أيضاً كتاب آخر أرسلت به إلى صديق لك قديم يدل على مقدار ما تعرف من قدر الصداقة، إن أنكرته نشرته أيضاً.
وبعد فقد يكون في كتاب الذخيرة كل الأوهام التي أشار إليها حضرة الأب المهذب، وقد يكون بعض هذه الأوهام من (حذلقاته) المعروفة فإني لم أعن بتحقيق ما جاء بنقده، فإني ما أردت بهذا الرد إلا أن أقرر واقعاً وأنفي عن رجالنا شبهات يكيلها لهم هذا الرجل كيداً وظلماً. وإني لأعلم أني سأتلقى على يده من الإهانات والسباب ما سوف أتقبله.
وكلمة أخيرة أتوجه بها إلى الأستاذ الفاضل أحمد أمين عميد كلية الآداب ومحرر الثقافة فأسأله: هل من اللائق أن يُوَجَّه على صفحات الثقافة ألفاظ وعبارات كتلك التي وجهها حضرة الأب إلى الدكتور صبحي بك وهو له زميل في الجامعة وأستاذ مثله فيها؟(388/27)
هل يقبل أستاذ أن ترمى الجامعة التي هو أحد أساتذتها وعميد كلية الآداب فيها بأنها فقدت شيئاً كثيراً من حسن سمعتها وأنها تروج إفساد اللغة وأنها تثبت الألفاظ المشوهة؟
إسماعيل مظهر(388/28)
كلمات. . .
تعريف
هذه (كلمات) كنت أكتبها في مجلة أسبوعية أدبية منذ سنوات ست. ثم داومت على كتابتها في جريدة (البلاغ) وفي صفحتها الأدبية والثقافية بعد ذلك بضعاً من السنين.
وهذه (الكلمات) القصيرة التي أرجو أن يشرفني قراء (الرسالة) بقراءتها كل أسبوع لن تجاوز أن تكون نقداً لبيت قديم أو جديد من الشعر، أو إعجاباً ببيت كذلك أو أبيات من الشعر جديد أو قديم، أو نقداً لرأي أو فكرة أو عرَضٍ من أعراض حياتنا الثقافية أو الأدبية، إلى مثل هذه الشؤون الاجتماعية والأدبية التي هي وحي (الرسالة) ورسالتها لمصر والشرق.
كتب صديقنا الدكتور زكي مبارك يعلّق في الرسالة على كلمة الأستاذ محمد عبد الغني حسن بشأن (استهانة الجمهور بقواعد اللغة العربية) على حد تعبير الدكتور مبارك. وكان الموضوع الذي أثار الأستاذ عبد الغني فكتب ما كتب، هو إعلان في صحيفة وجد فيه طائفة من الأغلاط الشائنة.
وإذا كان الأستاذ محمد عبد الغني يثور ويغضب لأغلاط وجدها في كتابة إعلان تجاري حرّره عامل في متجر لم يقرأ سيبويه ولم يعرف ألفية ابن مالك ولا ألفية ابن معطى، وإذا كان الدكتور مبارك يثور ويغضب لأنه وجد صديقاً له من رجال وزارة المعارف يحاضر ويلحن، فإن هذا وذاك - إذا قيس بغيره - ليس مما يغضب ولا مما يثير.
ليستمع صديقنا الدكتور مبارك إلى كثير مما يذاع في الراديو المصري من المحاضرات والأحاديث، فأنه يجد كثيرين من المحدثين وكثيرين من المحاضرين يحرصون الحرص كله على أن يكون نطقهم حين ينطقون الأسماء والأعلام الإفرنجية صحيحاً سليماً، ولا يعنيهم ولا يسوؤهم أن يكون نطقهم للعربي من الأسماء والأعلام عليلاً سقيما. فهم حين ينطقون اسم (بيتان) يحرصون على أن يضموا شفاههم على حرف الباء منه ضماً قوياً ثم يفرجون عنها مسرعة قوية كما يفعل الفرنسيون الأصيلون حين ينطقون به.
وهم حريصون على أن يدغموا في أنوفهم حرف النون في نهايته حتى لا يبين إلا غنة قصيرة مثلاً شبه ضعيفة كما يفعل الأصيلون من الفرنسيين.(388/29)
ولكنهم حين ينطقون اسم محمد أو محمود أو غيرهما من الأسماء والأعلام العربية، لا يحرصون ولا يسيئهم أن يكون نطقهم لها على وجه خاطئ بيّن الخطأ.
وليقرأ صديقنا الدكتور مبارك العدد الأخير من مجلة الراديو المصري فسيجد أنها كتبت اسم الصحابي الجليل (أبا ذر الغفاري) هكذا (أبو زر) (عدد 297 من المجلة)
والراديو المصري هو المجلة الرسمية للإذاعة اللاسلكية المصرية ويشرف على تحريرها كاتب أديب من الطراز الأول هو الأستاذ محمد سعيد لطفي.
ولكن حين كتبت هذا عن المذيعين والمحاضرين وعن المجلة الرسمية للإذاعة المصرية نسيت أننا في مصر كنا إلى سنة واحدة نطبع جداول الجلسات لمجلس وزرائنا باللغة الفرنسية ولا نطبع باللغة العربية. . .!
وبلد هذا مقدار حرصه على لغته في مجلس وزرائه، لا يلام فيه عامل في متجر أو محاضر أو محرر مجلة على اللحن والخطأ. . .!
وأظن صديقنا الدكتور مبارك والأستاذ محمد عبد الغني حسن قد نسيا هذه الحقيقة من قبلي حين كتبا ما كتبا. . .!
(محمود)(388/30)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
الحرب اليونانية ونتائجها
هل تؤدي الحرب اليونانية إلى انتصار قضية الديمقراطية؟ أو بعبارة أوضح هل يكون الميدان اليوناني الألباني ذا أثر كبير في وضع حد للحرب العامة؟ سؤال وجهه إلى أحد القراء، وهو سؤال طالما سمعته في المجالس، فرأيت أن أوضحه للقارئ. فإن انتصار اليونانيين وتقدم قواتهم السريع أمر غريب كما قال ملكهم. ولم يتوقع أحد أن يكون غزو إيطاليا لليونان سهماً قاتلاً يوجه للحركة الفاشستية، فيكشف عن ضعف عجيب في أحد طرفي المحور.
أما النصر النهائي لقضية الديمقراطية في الميدان الألباني فأمره مستبعد، فإن موقع الميدان الألباني الجغرافي لا يسمح بأن يرى العالم مصرع حكم الإرهاب، وإن كان هذا الموقع يعتبر أحد المنافذ القاتلة لحركات المحور العسكرية والسياسية، فقد كشف عن خطأ كبير، وأتاح للإمبراطورية البريطانية الحصول على مواقع كبيرة الخطورة جعلت الأهداف الألمانية والإيطالية أيسر تناولاً مما كانت عليه.
وليتاح لنا فهم الموقف بسهولة يحسن بنا أن نوضح ناحية من نواحي السياسة العسكرية البريطانية؛ فعندما انهارت فرنسا انهارت معها جميع الخطط العسكرية، سواء في الشرق أو في الغرب، وأصبح الدفاع عن الميادين التي تسيطر عليها أمراً متعذراً فضلاً عن اتباع سياسة الهجوم. ولكن هذا الوضع العسير لم يضعف من عزيمة الإنجليز، فرفضوا الصلح الذي عرضه هتلر وصمموا على مواصلة القتال. ولم يتمكن المحور من استغلال هذه الفترة والقضاء على قوات بريطانيا أو إضعافها في ميادينها بفضل الأسطول البريطاني البحري الذي عرقل مواصلات إيطاليا مع ممتلكاتها في أفريقيا ومنع عنها الإمدادات ومنع ألمانيا أيضاً من غزو الجزر البريطانية.
ويمكن القول أن سياسة إنجلترا العسكرية منذ ذلك الوقت إلى الآن هي سياسة استغلال الفرص. وكانت حماقة موسيليني في غزو اليونان فرصة ثمينة، مكنت القوات البريطانية من الحصول على أربع نتائج باهرة تحقق ثلاث منها وما زالت إحداها في دور التحقيق،(388/31)
وإن يكن جزء منها قد تحقق.
الدوديكانيز
وإحدى هذه النتائج الثلاث زوال أهمية جزر (الدودكانيز) كقواعد حربية إيطالية، فإن استيلاء القوات البريطانية على جزيرة كريت والجزر اليونانية القريبة من الدودكانيز عزلها عن قواعد تموينها، وأصبح اتصال إيطاليا بها أمراً شديد الخطر.
واقتراب القواعد يتيح للدوريات سواء كانت بحرية أم جوية مراقبة البحر مراقبة دائمة، وسرعة الاشتباك بالقوافل الإيطالية سواء بقوات تقصدها من الإسكندرية أو كريت أو اليونان، ومن ثم أوصد الطريق في وجه القوافل الإيطالية فضلاً عن سهولة مهاجمة جزر الدودكانيز واحتلالها من الجزر القريبة منها.
وكانت جزر الدودكانيز طرف قواعد الارتكاز التي تكون خطاً بحرياً طرفه الآخر على شواطئ ليبيا الأفريقية، والغرض منه عرقلة الملاحة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض، وفقدان جزر الدودكاينز لأهميتها أو احتلالها يفقد إيطاليا كل سيطرة على الجزء الشرقي لحوض البحر الأبيض المتوسط، أضف إلى ذلك أنها كانت تعتبر إحدى القواعد التي يسهل منها تهديد تركيا في منطقة المضايق وسوريا وفلسطين.
الخسائر العسكرية
ومني المحور أو طرفه الصغير بخسائر عسكرية فادحة لها أثرها في استعدادات إيطاليا في الميادين الأخرى وهي النتيجة الثانية، فلم يكن غزو اليونان نزهة كما ظن موسوليني وأركان حربه، ولكنه كان فاجعة إيطالية، كلفتها عتاداً حربياً ورجالاً وهيبة عسكرية. ولا يتاح لنا الآن أن نكشف الغطاء عن حقيقة هذا الخذلان الإيطالي.
وقالت بعض المصادر إن القوات الإيطالية استعملت في زحفها طرقاً ضيقة محصورة بين الجبال، وكانت قوات يونانية تكمن فيها فلما توغلت الوحدات الإيطالية صبت عليها الجنود اليونانية نارها، وفي الوقت نفسه ثارت بعض القبائل الألبانية وهاجمت مؤخرة الجيوش الإيطالية فتعذر عليها التقدم أو التأخر، واضطر الإيطاليون إلى الهرب بأرواحهم مخلفين عتادهم وذخيرتهم في عملية انسحابهم السريعة.(388/32)
فإذا أضيف هذا العتاد إلى ما أرسلته إنجلترا إلى اليونان من معونة، فإن استرداد الإيطاليين لمواقعهم السابقة يسبب لهم خسائر فادحة لا تتحملها مالية إيطاليا الضعيفة.
ويتبين من خط الزحف اليوناني كما يرى بعض الخبراء العسكريين أن خطة اليونان تعمل على تطويق القوات الإيطالية إذ توالي زحفها إلى الباسان - وهي منطقة ثائرة تؤيد اليونان وتعادي إيطاليا - ومنها إلى تيرانا فالشاطئ؛ فإذا تحققت هذه الخطة فلا يبقى للقوات الإيطالية إلا الانسحاب من ألبانيا.
صدمة سياسية
وثالثة النتائج هي ضياع هيبة المحور السياسية، فإن دول البلقان التي كانت تحرص على إجابة طلباته بدأت الآن ترى في اليونان بارقة أمل في الاحتفاظ بوحدتها، وفي وقف هتلر عند حد، ولاسيما أنها ترى القوات البريطانية والتركية بجوارها، فبلغاريا التي كانت إلى أمد قريب إحدى نصراء المحور قالت له أخيراً: لا. ويوجوسلافيا التي كانت ترى نفسها منعزلة عن العالم لا يتيسر إنجادها إذا دنت الساعة ترى النصير قريباً منها في اليونان وألبانيا.
وأخطأت السياسة الألمانية خطأ كبيراً بما ارتكبه رجالها في رومانيا باسم الحرس الحديدي، فإن جميع الوعود الألمانية لم يكن لها قيمة، وجميع التضحيات التي بذلتها رومانيا بمشورة هتلر لم تنقذ بلادها من الاحتلال واختلال الأمن، فقسمت أرضها بين الروسيا وهنغاريا وبلغاريا، ومع هذا احتل الألمان أرضها، فهل بعد هذا من داع يوجب الاستسلام؟ وإذا كان اغتيال رؤساء الوزارات هو النتيجة، فإن الساسة ليفضلون أن تحتل بلادهم قهراً وأن يموتوا في ميدان القتال على أن تهدر دماؤهم دون ثمن.
الأسطول السجين
والنتيجة الرابعة للحرب اليونانية هي تحكم إنجلترا في مدخل البحر الإدرياتيكي باحتلالها لكورفو وللشاطئ اليوناني الشمالي والألباني الجنوبي. فمنذ احتل الإيطاليون ألبانيا أصبحوا سادة هذا البحر، وزوال سيادتهم عن ألبانيا أو عن جزئها الجنوبي زوال لهذه السيادة، ويتيح للأسطول البريطاني السيطرة على القوات البحرية الإيطالية التي اتخذته قاعدة(388/33)
حصينة لها فتمعنها من الخروج إلى البحر الأبيض بل قد يتيسر له مقاتلتها فيه.
ونقص القوات البحرية الإيطالية معناه إضعاف مواصلاتها في ليبيا وتعريض قواتها فيها إلى الهلاك جوعاً.
مقتل المحور
والبلقان هو مقتل ألمانيا فليس لها من جهته الخطوط الحصينة التي أعدتها على حدودها الفرنسية، فمنه يسهل غزوها. وكان البلقان في بدء الحرب يتكون من دول محايدة لا يبيح العرف الدولي الاعتداء عليها، وبريطانيا تحرص على هذا العرف، ولكن سياسة ألمانيا الأخيرة أدت إلى كشف هذا المقتل، فأصبحت دول البلقان إما محتلة وإما مشتركة مع المحور باستثناء بلغاريا ويوجوسلافيا ولن تتركهما السياسة الألمانية في أمنهما. فإذا أزال المحور إحداهما زال الحائط المحايد، وسهل على القوات الديمقراطية الوصول إلى الاشتباك بالقوات الألمانية نفسها حيث تتم المعارك الحاسمة.
أما الميدان اليوناني فإن أقصى ما يمكن أن يحدث فيه هو طرد إيطاليا من ألبانيا، ويبقى بعد ذلك احتلال إيطاليا نفسها وألمانيا أيضاً وهو متعذر الآن فضلاً عن أن القوات البريطانية لم تبدأ بعد في تنفيذ سياستها الهجومية فما زالت سياستها حتى الآن سياسة استغلال للفرص.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(388/34)
إلى (الملاح التائه)
ما جفاك الإلهامُ يا شاعر الجن ... دول والحبِّ والجمالِ الحبيبِ
كيف يجفو وما رأى مثل قيثا ... رك يا صاح لاعباً بالقلوبِ
هبه يجفو! فأنت وحدك نبع ... عبقري الظلال جَمُّ الطيوبِ
غاب موسى عن قومه فتلقَّى ... كَلِمَ الله من وراء الغيوبِ
ولقد غاب مثلَه فتنظَّرْ ... أيَّ فن يأتيك منه عجيبِ
ثم غرَّد به فإِنا ظماء ... رِيُّنا في غنائك المحبوبِ
دمت يا شاعر الجمال ودامت ... أغنيات الهزار والعندليب
(طنطا)
إبراهيم محمد نجا(388/35)
كما يرانا غيرنا
في الطريق. . .
(عن جريدة (الإجبشيان غازيت) عدد 26 نوفمبر سنة 1940)
لمصر وسائل متعددة لتعليم الأوربيين الصبر، ومعظم الذين أقاموا بها
خمسة أعوام إما أن يكونوا:
1 - قد تعلموا الصبر
2 - أو استكشفوا فن (معلهش)
3 - أو انغمسوا في حمأة مرذولة
4 - أو غادروا البلاد وقد تحطمت أعصابهم
ومن أظرف الوسائل التي يستفاد بها الصبر أن تسير في شوارع القاهرة، وما من مدينة أصلح منها لذلك، لأن الإسكندريين مثلاً قد هداهم بعض الغريب من حيل الأقدار إلى اعتياد المشي على الطوار في غير حاجة إلى المزاحمة بالمناكب، ودفع هذا ومنع ذلك من المارة في الطريق، وبغير أن يضطروا المساير إلى الإلقاء بنفسه تحت عجل السيارة أو الترام أو الدراجة أو تحت أرجل الحمير والخيل والجمال الضالة والثيران. ومعظم أهل القاهرة يسيرون كل خمسة منهم معاً في خطوط متعرجة كالتي يرسم بها الضوء جماعة المصورين على لوحات التصوير، وكأن الرجل متى خرج للمسير في هذه المدينة الغريبة قد نسي أن له غرضاً معيناً من المسير، أو كأنه يغضب إذ يعرف أن للغير من هذا المسير وجهة معينة.
ومن المناظر المألوفة في القاهرة مسير أبوين مع طفل أو اثنين أو خمسة من ذوي الأحجام المتفاوتة يصحبهم خادمان أو ثلاثة يحملون خمسة رؤوس من الخس وستة أعواد من القصب. فإذا ما رأيت جمعاً كهذا فخير ما تصنع أن تقفز من الطوار حتى لا يمر فوقك هذا الحشد الذي تتألف من مجموعه دبابة آدمية. ومن المناظر المألوفة كذلك أن يمر بك أربعة أو خمسة من النوبيين (السفرجية) بيد كل منهم عصا يلوح بها يميناً أو يساراً وارتفاعاً وهبوطاً فإذا ما تخطاك دون أن يصيب رأسك بضربة عصا كان من الطريف أن تبلغ(388/36)
السلطات عن هذا الشذوذ النادر.
ومن المألوف كذلك في شوارع القاهرة أن ترى عشرة من البوابين قد جلسوا على مقاعد مصفوفة على شكل أفقي أو رأسي أو على شكل صليب في منتصف الرصيف، وقد حذقوا فن البصاق في كل اتجاه، ونصيحتنا لكل رجل أو امرأة أو طفل أو طائر إن رأوا منظراً كهذا أن يعودوا إلى منازلهم وأن يؤجلوا المشي في الطريق إلى يوم آخر.
ومن المناظر المألوفة كذلك مشية (العقدة التي لا تنفصم) وهذه المشية تتكون من اثنين من (الأفندية) متوسطي القامة يد كل منهما في يد الآخر وقد تشابكت أصابعهما وهما يسيران في خط متعرج، ولما يعرف العلم أية وسيلة لفك أحدهما عن الآخر. إنهما يسيران على مبدأ الدبابة التي تسير فوق أي شيء أو تحت أي شيء أو تخترق أي شيء. إنهما شديدا التماسك حقاً ومنهما تتكون وحدة ميكانيكية وإن تسميا بأي اسم آخر.
وأخيراً يرى السائر في شوارع القاهرة امرأة يتراوح وزنها بين المائة كيلو والمائة والعشرين يتبعها أربعة أطفال وخادمان وكلب وزنه ثلاثة كيلو جرام، والأطفال الأربعة يبكون، هذا في طلب كعكة وهذا في طلب موز والآخر في طلب عود من القصب أو رأس من الخس أو صفقة من البندق، والأم في انشغالها بالبحث عن (فستان) جديد لا تعنى بمطالب صغارها بل تضرب هذا وتصفع ذلك وتلطم الآخر وهم لا يزدادون إلا صراخاً والكلب يجري من بينهم تحت أرجل المارة ثم يعود.
إن رأيت منظراً كهذا فأسرع بالفرار قبل أن تصيبك من الأم لطمة أو صفعة.
ع(388/37)
من أدب الحرب
أجنحة النمل
ضربُ المدائنِ ويْكَ ما سبَبُهْ؟ ... عجبَ الحكيم وما انقضى عَجبُهْ
المجد لا يُعطيه من يهبه ... كلا، ولا يعطاه مُنْتَهِبُهْ
نبتٌ تزعزع في مواطنه ... ويعيش حيث يُظلَّه حَسَبُهْ
فتيانَ روما ليس ينفعكم ... مجدُ ترفع عنكمُ نسبه
شركاؤكم رفعوكمُ صَعَداً. . . ... جاهٌ معارٌ بَعْدَه صببه
(وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه)
ماء (اللوار) يزيدكم سَغَباً ... لا شهده لكمُ ولا ضَرَبهُ
قد شاء (هتلر) أن يداعبكم ... فأثار ثائر جدكم لعبه
تغدو فرنسا من توابعكم. . .؟ ... هذا المزاح كثيرة شُعبه
لا، بل يجدُّ بكم ليوقعكم. . . ... أنتم، وشارد لبكم، سَلَبُه
ويزيدكم بمزاحه طمعاً ... عجباً، أينفق عندكم كذبه
الشام واليونان ملككمُ ... والنيل أيضاً بعض ما يهبه؟!
جود ولا كالجود. . . ما سببه ... لا خوفه منكم ولا رهبه!
وعجزتمُ عن نصر أنفسكم ... أيكون في أمثالكم رغبه
عودوا بخيلكمُ ورجلكمُ ... كم طامع قد ساء منقلبه
أو فاستمروا إن حلت لكمُ ... كثبان (بقبقَ) أوحلت هُضُبه
في مصر متسع لمقبرة ... للبغي إن لم ينجه هربه
عبد اللطيف النشار(388/38)
من صلواتي:
هُنا محْرابُها. . .!
هُنَا مِحْرَابُهَا!. . . فَاخْشَعْ ... مَعِي لِلْحُسْنِ يَا قَلْبِي!
وَبَارِكْ سِرَّ أَلْحَانِي ... فَهذَا مَعْبَدُ الْحُبِّ
هُنَا وَكْرُ الْهَوَى!. . . كَمْ فِي ... هِ هَدْهَدْنَا أَمَانِينَا!
وَكَمْ في ظِلِّهِ يَا قَلْ ... بُ رَدَّدْنَا أَغَانِينَا
فَيَا ذَاتِي!. . . تَعَالَيْ قَبْ ... لَمَا يَقْضِي مَعِي نَحْبِي
تَعَالَيْ!. . . حُبُّنَا يَا مَهْ ... دَ أَشْوَاقي يُنَادِينَا!
سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْبَاناً ... عَلَى مِحْرَابِكِ الظامِي!
وَصُغْتُ الْحُبَّ أَنْغَاماً ... عَسَى تُرْضِيكِ أَنْغَامِي
فَيَا دُنْيَا تَسَابِيحِي ... فُؤَادِي مِنْكِ مَسْحُورُ
أَنَا الشَّادِي. . . تَغَنَّتْ في ... لَهَاثِي بالْهَوَى الْحُورُ
فَعِيشِي في حِمى حُبِّي ... تَرِفُّ عَلَيْكِ أَحْلامِي
وَيَرْعَاكِ الْهَوَى وَالطُّهْ ... رُ وَالإيمَانُ وَالنُّورُ!
أَنَا الصَّادِي!. . . وَكَمْ رَفَّتْ ... أَغَارِيدِي عَلَى ثَغْرِكْ!
وَكَمْ يَا فِتْنَتِي أَغْفَتْ ... مُنَى نَفْسِي عَلَى صَدْرِكْ!
وَكَمْ ضَمَّ الدُّجى الصَّابي ... عَلَى شَوْقٍ خَيَالَيْنَا
وَطَافَ السِّحْرُ يَا نَبْعَ الْ ... هَوَى الشَّافِي حَوَالَيْنَا
فَيَا دُنْيَايَ!. . . مَاذَا لَوْ ... غَمَرْتِ الرُّوحَ فِي نَهْرِكْ
وَقُلْتِ لَها: مَعِي عِيشِي! ... وَقَرِّي بِالْهَوَى عَيْنا!
تَعَالَيْ يَا هُدَى رُوحِي! ... وَعِيشِي لِلْخُلُوِد مَعِي. . .!
تَعَالَيْ!. . . قَدْ مَضَى أَمَلِي ... لِيَحْيَا فِي دَمِي جَزَعِي. . .
وَمَا يُرْضِيكِ أَنْ تمْضِي ... حَيَاتِي فِي اليَبَابِ سُدَى!
فَهَيَّا نَسْكُبِ الأَشوَا ... قَ فِيَ ثغْرِ الزَّمَانِ هُدَى
وَنَسْقِ الْكَوْنَ بِالأَلْحَا ... نِ حَتّى لاَ يَكادَ يَعِي!(388/39)
وَنَشْرَبْ مِنْ عُبَابِ النُّو ... رِ، قَدْ كِدْنَا نمُوتُ صَدَى!
القاهرة
محمود السيد شعبان(388/40)
وحي السويس
لهفات!
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى رِبِيعي النَّضِيرِ ... أَيْنَ يَمضِي مُطَرَّزاً بِزُهُورِي
وَشَبَابي كالْفَجْرِ غَرَّدَ فِيهِ ... كُلُّ طَيْرٍ مُسْتَيْقِظٍ فِي ضَمِيرِي
وَأَنَا شَاعِرٌ أُصَلِّي لِفَنِّي ... وَفَتَاتِي فِي مَعْبَدِ التَّفكِيرِ
الغُيُومُ الْبَيْضَاءُ يَركضْنَ رَكْضاً ... فِي أَصِيلٍ مُلَوَّنٍ مَسْحُورِ
قُدْرَةُ اللهِ صَوَّرَتْهُ فَجَاشَتْ ... فِي تَهَاوِيلِهِ فُنُونُ الدُّهُورِ
إِنْ هَذَا الأَصِيلَ، وَالأُفُقَ الْحَا ... لِمَ، وَالشَّمْسَ فِي أزرقاقِ الأَثِيرِ
كالْبَسَاتِينِ فِي الفَضَاءِ أَفَادَتْ ... عُمُرَ الوَرْدِ وَانْطِفَاَء الْعَبِير
غَيْرَ أَنّي قَدَّسْتُ أَلوَانَهَا في ... وَجْهِكِ الْمُشْرِقِ الْبَهِيِّ النَّضِيرِ
فَلأَنْتِ الأَصِيلُ وَالليْلُ وَالصُّبْحُ ... وَكَوْنٌ من الرُّؤَى والعُطُورِ
عَالَمٌ أَنْتِ. . . عَالَمٌ مُسْتَقِلّ ... يَسَعُ الْخَلْقَ فِي خَيَالِي الْكَبِير
مَا انْتِشَائي بِحُسْنِ هَذِي الْمَجَالِي ... وَهْوُ بَعْضٌ مِنْ حُسْنِكِ الْمَفْطُورِ
وَابْتِعَادُ الْمَزَارِ يَقْدَحُ فِي صَدْ ... رِي لَهِيباً مِنَ الأسَى الْمَسْعُورِ
آهِ لَوْ كُنْتِ يَا شَقِيقَة رُوحِي ... تَحْتَ جِنْحِي لاَ صُورَةً فِي ضَمِيرِي
نَتَنَاغَى تَحْتَ الْجِبَالِ وَنشْدُو ... كالْعَصَافِيرِ بَيْنَ أَيْكٍ شَجِيرِ
لِلْغُرُوبِ الذَّهِيبِ، لِلْبَحْرِ، لِلأَمْ ... وَاجِ، لِلْحُبِّ، لِلشَّبَابِ الغَرِيرِ
لِلرِّمَالِ الصَّفْرَاءِ لِلجَبَلِ الشَّا ... مِخِ لِلعُشْبِ للدُّجَى المَنْشُورِ
آهِ لوْ كُنْتِ يَا شَقيقَةَ رُوحي ... تَحْتَ جِنْحِي لا صُورَةً في ضَميري
مَالَتِ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ وَأَلْقَتْ ... جِسْمَهَا الدَّامِي في الْقَنَالِ السَّحيرِ
واكْتَسَى الطَّودُ حُلَّةً مِنْ طُيُوفٍ ... غَازَلَتْهَا يَدُ الظَّلامِ المُغيرِ
وَسَرَى في الأجْواءِ رُوحٌ جَلِيلٌ ... شَاعِرِيُّ مِنْ رَهْبَةِ الدَّيْجُورِ
وزَفيفُ الْمَسَاءِ يُمْعِنُ في السَّط ... وعَلَى النًّورِ أو بَقَايَا النُّورِ
والْيَنَابِيعُ ثَجَّهَا اللَّيْلُ سُوداً ... في بِطَاحِ السَّماءِ ثَجَّ الغَدِيرِ
وَأَوَاذِي الظَّلامِ مَرْتَطِمَاتٌ ... في خِضَمّ مِنَ الدُّجَى مَسْجُورِ(388/41)
خَطَرَتْ فِيهِ سُفْن أَيُّوسَ شَتَّى ... بَعْدَ مَا صَاغَها مِنَ الْبِلُّورِ
والسُّكُونُ الْعَميقُ يَبْعَثُ في نَفْ ... سِي حَنِيناً إلى الْبُكاءِ المَرِيرِ
وَأَطَلَّ الْهِلالُ يَغْسلُ بالضُّو ... ءِ جِبَاهَ الآفاقِ حُلْوَ الْفُتُورِ
وَتَدَلَّتْ ضَفَائِرُ الشَّجَرِ الْبَا ... سِقِ في الْفَجْرِ رَاقِصَاتِ الشعُورِ
دَاعَبَتْهَا الأَنْسَامُ فِي هَدْأَةِ اللَّي ... لِ فَهَزَّتْهَا سَكْرَةُ الْمَخْمُورِ
وَانْبَرَى خَافِقِي يُنَادِي نِدَاءً ... عَاليِاً فِي عُمْقِي قَوِيَّ الْهَدِيرِ
آهِ لوْ كُنْتِ يَا شَقِيقَةَ رُوحِي ... تَحْتِ جِنْحِي لاَ صُورَةً فِي ضَمِيرِي
أَنَا يَا أُخْتُ قَدْ تَعَشَّقْتُ أُمَّاً ... فِيكِ تَرْعَاني كالوَلِيدِ الصَّغِيرِ
وتَمَنَّيتُ لَوْ عَلَى صَدْرِكِ النَّا ... هِدِ أَغْفُو إلى صَبَاحِ النشُورِ
لاَ أُبَالِي بِضَجَّةِ الكَوْنِ حَوْلِي ... لاَ وَلاَ أُصْغِي لاصْطِخَابِ الْعُصورِ
فَارْفَعِينِي إلى سَمَائِكِ. . . إني ... فِي حَضِيضٍ مِنَ الْخَنَا وَالْفُجُورِ
واسْمَعِيني فَإِنَّنِي سَأُغَنِّي ... لَكِ لَحْناً مِنْ أَدْمُعي وَزَفِيرِي
آهِ لوْ كُنْتِ يا شَقيقَةَ رُوحِي ... تَحْتَ جِنْحِي لا صُورَةً في ضَميرِي
عبد الرحمن الخميسي(388/42)
رسَالة العِلم
من أمراء العلم
ماكسويل
للأستاذ قدري حافظ طوقان
أليس عجيباً أن يستنبط العالم بعض النظريات عن طريق الأرقام والمعادلات الرياضية؟ أليس مدهشاً أن تتنبأ المعادلات عن بعض الأجرام السماوية قبل أن يراها الفلكيون بالرصد؟
لقد رأى فراداي بعين البصيرة النافذة أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ولكنه لم يثبت ذلك عملياً. وجاء ماكسويل وأتى بالعجب العجاب، إذ لجأ إلى الرياضيات في حل هذه المعضلة: هل هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية؟
وكانت محاولة، ولكنها موفقة، وانتصار عظيم للعلوم الطبيعية والرياضية. فلقد ابتدع معادلات أثبت بها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تحدث الضوء والحرارة، وتسير جميعها بسرعة الضوء وقدرها 186000 ميل في الثانية! فهو بذلك قد وضع أساس الفنون اللاسلكية التي نراها متغلغلة في العمران ومنتشرة في كل مكان.
كانت معادلات ماكسويل من أعظم الأعمال العلمية التي قام بها عالم، فقد رفعته إلى مصاف العلماء العالميين الذين أدوا للحضارة أجل الخدمات التي قامت عليها الاختراعات العديدة والاكتشافات المختلفة التي تفرعت عن بحوث اللاسلكي.
رأى بعض العلماء أن هناك اضطراباً في فلك أورانوس، وقالوا بوجود قوة تقصيه عن الطريق التي تحددها الحسابات والأرصاد، وأن هذه القوة ليست إلا نتيجة لجذب كوكب غير معروف. وقام الفلكيان (أدمس) الإنكليزي و (الفريه) الفرنسي حوالي منتصف القرن(388/43)
التاسع عشر للميلاد، بالبحث في هذه المسألة فاستطاعا بقوانين الجاذبية والمعادلات الرياضية وحساباتها المعقدة أن يعينا مكان السيار المجهول وأن يحددا موقعه والطريق التي يسير عليها حول الشمس. وقد وجه الفلكيون فيما بعد مراقبهم إلى مكان السيار الجديد (نبتون) فوجدوه في الموضع الذي تنبأت عنه رياضيات أدمس والفريه.
وكذلك تنبأ العلماء عن طريق المعادلات والأرقام عن موقع سيار تاسع جديد أطلقوا عليه اسم (بلوتو
كانت هذه الحوادث واكتشاف الأمواج اللاسلكية من أجل الأعمال التي أقامت الدليل على صحة القوانين الطبيعية والمعادلات الرياضية، وهي من العوامل التي زادت ثقة العلماء بأنفسهم وبمقدرتهم على اكتناه أسرار الكون وروائع الوجود، كما كانت أيضاً من العوامل التي دفعت بالعلوم الطبيعية والرياضية والفلكية خطوات واسعة إلى التقدم والابتكار.
انحدر ماكسويل من عائلة عريقة في سكوتلاندة، وولد في ادنبرغ عام 1831 وتعلم في جامعتها وفي جامعة كمبردج ونال الجوائز التي لا تمنح إلا للمتفوقين. شغل مركز أستاذ في الفلسفة في مدة أربع سنوات، وكذلك أستاذ في الطبيعة والفلك في كلية الملك التابعة لجامعة لندن مدة ثماني سنوات (1860 - 1868) ثم اعتزل التعليم. وفي سنة (1871) تعين أستاذاً للعلوم الطبيعية التجريبية في جامعة كمبردج، وتحت رعايته نشأ معمل كافندش الشهير بنتائج بحوثه وروائع تجاربه. وتوفى في كمبردج عام (1879) أي أنه مات وعمره (49) سنة. وعلى الرغم من هذا العمر القصير، فقد وصل إلى أعلى المراكز العلمية التي يطمح إليها رجال العلم، وكان له مقام خطير بين علماء الفلسفة الطبيعية.
لقد تفتحت مداركه ومواهبه حينما كان في الخامسة عشرة من العمر فنشر رسائل علمية قيمة منها رسالة تبحث في طريقة ميكانيكية لرسم الأشكال الديكارتية البيضوية، وقد قرأها عنه الأستاذ فوربس في جمعية أدنبرغ الملكية.
وفي سن الثانية والعشرين نشر في مجلة هذه الجمعية رسالتين نفيستين تبحث إحداهما في توازن الأجسام المرنة، ويعترف العلماء بأن هذا البحث هو من الموضوعات الهامة التي تناولها ماكسويل، وكان الأساس الذي بنى عليه ابتكاراته فيما بعد.
واعترف معاصروه بفضله وعبقريته فمنحوه جائزة أدمس من كمبردج وذلك على أثر نشر(388/44)
رسالة مبتكرة في حلقات زحل، فقد بين فيها أنها ليست مناطق جامدة أو سائلة وأنها مؤلفة من نيزكان. وكذلك منح جائزة رومفرد من الجمعية الملكية لبحوثه وتجاربه في اللون والألوان الأساسية في الطبيعة. وعنى بنظرية الغازات وحركاتها، وكانت من أهم البحوث التي طرقها، وظهر فيها كعالم جمع بين التجربة والرياضة فقد قدم سنة (1860) إلى مجمع تقدم العلوم البريطاني موضوعاً يتعلق بنظرية (برنوي) القائلة بأن الغازات مؤلفة من دقائق عديدة متحركة في حالة تصادم شديد، فأثبت في هذا الموضوع أن السنتمتر المكعب من الهواء (على درجة عادية) يحدث فيه (8000) مليون اصطدام بين دقائقه. وكذلك كشف قانون توزيع السرعات في ذرات الغازات ويعرف هذا القانون بقانون (ماكسويل).
وألف كتاباً نفيساً في نظرية الحرارة ورسالة قيمة في المادة والحركة واشتهر بتبسيطه بعض البحوث الطبيعية، تشهد بذلك محاضراته التي كان يلقيها أحياناً في مجمع تقدم العلوم البريطاني في (الجزئيات) و (المادة والحركة) و (التلفون) وبحوث أخرى في الغازات ولزوجتها.
درس الرياضيات وجال فيها وغاص في أرقامها ومعادلاتها فرسخت قدمه فيها رسوخاً مكنه من تسخيرها لميادين الطبيعة، وفي ذلك كشف أعظم مكتشفاته، وبلغ درجة جعلته من المقدمين في تاريخ تقدم الاختراع والاكتشاف. لقد فسر (ماكسويل) بحوث فراداي في خطوط القوة رياضياً، وكان من ذلك أن مكَّن العلماء فيما بعد من توسيع نطاق هذه البحوث وتطبيقها في ميادين الاختراع.
رأى في انتظام برادة الحديد خطوطاً في أشكال معينة عند نشرها على ورقة تحتها مغناطيس، دليلاً على وجود قوة مغناطيسية وأن خطوط هذه القوة هي شيء حقيقي أكثر من مجرد تفاعل بين قوتين، ويقول: (. . . ولا يسعنا إلا الظن بأنه حيث توجد هذه الخطوط لا بد من وجود حالة طبيعية أو فعل طبيعي على جانب كاف من الطاقة لإحداث ظاهرة انتظام برادة الحديد. . .) وفوق ذلك فرض ماكسويل أن للتيارات الكهربائية وجوداً مستقلاً في الفضاء والمواد المعزولة، وقد أسند إلى هذه التيارات الخواص التي تسند إلى التيارات الكهربائية التي تجري في دورات كهربائية مقفلة، وعلى ذلك فمن شأن هذه التيارات إحداث حقل مغناطيسي وتيارات بالتأثير بالإفاضة إلى حقلها الكهربائي. . .(388/45)
وضع هذه الفروض أساساً وسخر الأساليب الرياضية، فإذا هو يستنتج وجود الأمواج الكهرطيسية وخرج بالقول إنه (. . . إذا تغيرت قوة (الحقل الكهربائي) تغيراً دورياً في السعة والاتجاه كان لا بد من حدوث موجة كهربائية. . .) وأوضح أنه إذا طبق هذا الأسلوب على الحقل المغناطيسي أمكن إحداث أمواج مغناطيسية، وقال: (إن الموجة الكهربائية يصحبها موجة مغناطيسية، والمغناطيسية يصحبها موجة كهربائية وأن الواحدة لا تحدث إلا والثانية معها، وأثبت أن قوة الحقل الكهربائي عمودية على قوة الحقل المغناطيسي، وأن كلا منهما عمودي على اتجاه التيار. . .) وظهر له أيضاً أن هذه الأمواج مستعرضة تشبه أمواج الضوء وأنها تسير بسرعة الضوء.
ولا يخفى أن هذا الاستنتاج ذو أهمية عظمى وكان له شأن كبير في تقدم اللاسلكي، وقد حمله على القول بأن الضوء قد يكون نوعاً من أنواع الطاقة الكهرطيسية لولا بحوث ماكسويل ومعادلاته لما تقدمت المخاطبات اللاسلكية تقدمها الحاضر، ولما كان في إمكان العلماء أن يملئوا الأجواء بعجيج الأمواج اللاسلكية وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور.
إن ماكسويل من الذين وضعوا الأسس التي يقوم عليها الاختراع في هذا العصر، ومن الذين أنعم الله عليهم بقوى خارقة عملت على ترقية الفكر العلمي وكشفت عن أسرار الطبيعة وغرائبها وأخضعت قواها لمطالب الإنسان، فهو من مفاخر الإنسانية ومن كبار العلماء المقدمين الذين تركوا آثاراً خالدة ومآثر جليلة في ميادين العلوم الطبيعية والرياضية. إن ماكسويل وأضرابه من المستنبطين من أغلى الممتلكات التي تملكها الأمة ويقول هوفر: (. . . إن كل مبلغ من المال مهما يعظم ضئيل إزاء عمل هؤلاء الرجال الذين يملكون قوة الإبداع والتفاني والمثابرة على ترقية الفكر العلمي خطوة خطوة حتى يصلوا به إلى البيوت فينشروا فيها أسباب الصحة والراحة والرفاهة. إننا لا نستطيع أن نقيس ما عملوه لترقية العمران بكل أرباح البنوك في جميع أنحاء المعمورة)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(388/46)
البَريدُ الأدبيّ
حول مسابقة الجامعة المصرية
1 - كنت دعوت طلبة السنة التوجيهية إلى الإجابة عن طوائف من الأسئلة وأنا أوجههم إلى درس كتاب (وحي الرسالة) فأجاب الأديب فوزي مختار منصور الطالب بالمدرسة الخديوية إجابة تدل على فهم وذوق، وإن كان انحرف قليلاً عما رميت إليه من النص على الغلطتين المطبعيتين.
وأنص على الغلطة الأولى فأقول: جاء في كلام الزيات (كان جمال المرأة (داعي) الرغبة خافض الجناح)؛ والغلطة في (داعي) وصوابها (وادع) كما يشهد السّياق. وقد يقول الزيات إنها من القلب المكاني، فما هو القلب المكاني يا تلاميذ السنة التوجيهية؟
أما الغلطة الثانية، ففيها شبهة نحوية، فما تلك الشبهة يا صديقنا العزيز بمدرسة الخديو إسماعيل؟
2 - كنت وجهت إلى الطلبة سؤالاً وأنا أدرس كتاب حافظ عفيفي باشا عن (الإنجليز في بلادهم)، والسؤال خاص بالفيلسوف الفرنسي صاحب العقد الاجتماعي، وقد ظهر أن حافظ عفيفي أخطأ حين قرر أن كتاب روسو شغل عند ظهوره مفكرَين إنجليزيين هما هوبس ولوك. أما وجه الخطأ، فيرجع إلى أن روسُّو لم يكن مفكراً معروفاً إلا بعد ظهور هوبس ولوك بعشرات السنين، فمن المستحيل عقلاً أن يكون كتابه أثَّر في هذين المفكرين.
وإلى الأستاذ شفيق غربال أقدم واجب الثناء.
3 - قال قومٌ: إني بهذه الدراسات عطلت الغرض المقصود من مسابقة الجامعة المصرية، وأجيب بأن هذا المذهب في توجيه الطلبة مألوف في الجامعات، ولا سيما جامعة باريس، وقد أديت امتحاناً من هذا الطراز في أروقة السوربون، فلم أر توجيه الأساتذة ينفع غير الطلبة النجباء.
4 - وقال آخرون: إني غيرت مذهبي في النقد الصريح، وأجيب بأن المقام لا يسمح بغير ما صنعت، لأني وقفت موقف المدرس، وقديما قيل: لكل مقامٍ مقال.
وأنا مع ذلك قلت كل شيء بأسلوب ينفع الطلبة ولا يؤذي المؤلفين.
5 - واعترض أحد الباحثين بأني لم أشر إلى الناشرين، وهو اعتراض وجيه، وأقرر أن(388/48)
ناشر كتاب (فيض الخاطر) هو لجنة الترجمة والتأليف والنشر، وناشر (وحي الرسالة) هو إدارة مجلة (الرسالة)، وناشر (الإنجليز في بلادهم) هو مكتبة النهضة المصرية، وناشر كتاب (التاريخ المصري) هو صاحب (البلاغ)، وناشر (المنتخبات) هو مكتبة الأنجلو المصرية.
وفي الأبحاث الآتية سأنص على أسماء الناشرين، بدون منّ عليهم، لأنهم أصدق أعوان المؤلفين، والله الموفق.
زكي مبارك
سكان المريخ في الشعر العربي القديم
لم يكتف الشاعر أبو العتاهية بالنص على أن في المريخ سكاناً بل هو يصف سكان هذا الكوكب باصفرار الشعر واحمرار الوجوه وزرقة العيون.
قال في وصف والبة الشاعر:
وكأن وجهك حُمْرة رئةٌ ... وكأن رأسك طائر أصفر
فعرفنا من ذلك أنه أحمر الوجه أصفر الشعر
وفي قصيدة أخرى يقول في وصف والبة:
أراك ولدت بالمريخ ... يا ابن سبائك الذهب
فجئت أقيشر الخدين ... أزرق عارم الذنب
ولقد نقر أبا العتاهية على أن هذه المجموعة من الألوان تصف أهل المريخ لأنها صفات الجنس النوردي وهم فيما يقول الألمان أرقى البشر، وسكان المريخ مفروض فيهم أنهم أرقى من سكان الأرض.
ولكن بقيت مسألة أخرى هي عرامة الذنب. فإن صح أن سكان المريخ من ذوي الأذناب العارمة كما يقول أبو العتاهية فإن الجنس الذي يحارب الألمان من أجل سيادته من ذوي الأذناب العارمة كذلك. . . أم ليس ذلك كذلك؟
النشار
حكايات من الهند(388/49)
لصديقنا الأستاذ عبده حسن الزيات ملكة أصيلة في القانون وقريحة بصيرة في الأدب؛ تجلت هذه وتلك فيم بحث من مسائل الفقه والاجتماع، وفيما ترجم من عيون الروايات والقصص. واختياره لما يترجم كاختياره لما يكتب موسوم بطابع الجد والجمال والفائدة. وآخر ما أخرجه إلى قراء العربية (حكايات من الهند) وهي أمثال حكمية كتبها بالإنجليزية الكاتب الهندي (إيار) وأودعها الخلاصة الخالصة لفلسفة الهند وتصوفها وآدابها وأخلاقها وعاداتها؛ ثم جلاها في معرض أخاذ من البلاغة العالية والفن المحكم، فجاءت (بعيدة المغزى على قرب منالها، عميقة القاع على هدوء سطحها، قوية الإيحاء على بساطة مظهرها). ثم ترجمها الأستاذ (عبده الزيات) ترجمة أمينة رصينة جلتها على الوضع الأصيل من سلاسة الأسلوب وسلامة الإيجاز ودقة الأداء. وترجمة هذا النحو من الأمثال القصيرة أشق على المترجم وأدل على براعته، لأنها لقصرها تكره الفضول، ولإيجازها تخشى الغموض، ولبساطتها تنكر التكلف. فإذا لم يتح الله لها قلماً كقلم الأستاذ الزيات رصيناً بطبعه بليغاً بفنه، ذهب الجمال المستسر فيها، وبعدت الغاية المقصودة منها. والكتاب بعد ذلك أنيق الوضع والطبع؛ فنشكر للأستاذ الزيات هذا الجهد النافع. وننصح لقرائنا ألا يفوتهم الأنس بهذه الأقاصيص، فإن في معاريضها متعة وفي مغازيها عبرة.
وفاة الأستاذ محمد مسعود بك
في يوم الاثنين الماضي استأثر الله بالأديب البارع والعالم المحقق والمترجم الصادق الأستاذ محمد مسعود بك عن 69 عاماً أنفقها في رياضة القلم وخدمة الثقافة وتصحيح المعرفة. ففي شبابه حرر (المؤيد) ثم أصدر (المنبر)؛ وفي كهولته ولي إدارة المطبوعات فوجه الصحافة والنشر التوجيه الصالح في الطريق البالغ. وفي شيخوخته عكف على البحوث التاريخية والجغرافية واللغوية، فنشر منها في الصحف الطريف الممتع. وكان في غضون عمره المبارك لا يفتر عن التأليف والتحرير والترجمة حتى ترك للمكتبة العربية ثروة قيمة لا ينقصها إلا الجمع والترتيب والنشر. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض اللغة والأدب منه خير العوض.
موسى عليه السلام(388/50)
نقل الأستاذ (شيبوب) عن العلامة (فرويد) أن موسى كان مصرياً لا عبرياً، وأيد رأيه بأن كلمة (موسى) مصرية بمعنى عبد، وفي العدد 387 من الرسالة سأل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي عن موسى عليه السلام أمصري هو أم عبري، وذكر ما قرأه في بعض الكتب القديمة من أن كلمة (موسى) سريانية مركبة من كلمتين (مو - شا) و (مو) بمعنى ماء، و (شا) بمعنى شجر، فهي بمعنى ماء وشجر، لأنه وجد بين ماء وشجر.
وأنكر الأستاذ محمد صابر أن كلمة (موسى) مصرية وأنها بمعنى عبد، ولكنه لم يذكر رأيه في أصلها.
والحقيقة أن كلمة (موسى) هي اسم مفعول من الفعل (مَشَاهْ) بمعنى انتشل بالعبرية؛ والتوراة تنص على ذلك، ففي سفر الخروج - الإصحاح الثاني ص89 (10) (ودعت اسمه موسى وقالت: إني انتشلته من الماء) (فتقراه شموموشى فتومركي من هاميم مشيتيهو) فموشى بمعنى المنتَشل في العبرية.
وأما أصله فعبري أيضاً يدل على ذلك ما جاء في العهد القديم في سفر الخروج - الإصحاح الثاني (6) (ولما فتحته رأت الولد وإذا هو صبي يبكي، فرقت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين)
وفي القرآن الكريم (. . . فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه). وفي سفر الخروج نجد (11) (فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من اخوته).
كل هذا يقطع بأن (موسى) عليه السلام عبري أصلاً واسماً.
محمود السيد أبو السعود
مجلة الحديث تصدر عدداً خاصاً عن الدكتور أدهم
من شهرين ونصف تقريباً أعلن الأستاذ إبراهيم أدهم شقيق الدكتور إسماعيل أدهم بمجلة الرسالة عن صدور عدد خاص بالفقيد من مجلة الحديث وفاء منها لأحد كبار كتابها الذين خدموا الأدب العربي الحديث بتلقيحه بثمار الفكر الأوربي ونتاج البحث الاستشراقي. وقد دعاني الأستاذ إبراهيم للاشتراك في تحرير هذا العدد كما دعا هو والأستاذ سامي الكيالي -(388/51)
صاحب (الحديث) - الكثيرين من كبار الأدباء والمفكرين في الشرق العربي للمساهمة في ذلك العمل النبيل. وكان المنتظر أن يكون أول المجيبين لتلك الدعوة الأدباء الذين قدّم لهم الفقيد الخدمات الأدبية الخالدة. وهل ينتظر فناننا المصري توفيق الحكيم من يكتب عنه أمثال تلك الدراسة التي كتبها عنه الدكتور أدهم وصدر بها عدد خاص من مجلة الحديث، تلك الدراسة التي لم تخدمه فقط بل خدمت القصة المصرية جمعاء لعرض تاريخ كتابها كمقدمة للكتابة عن الفنان الحائر توفيق الحكيم. ولا يسعني أيضاً إلا أن أعجب من موقف الدكتور طه حسين الذي لم تلفته وفاة الدكتور أدهم لكتابة كلمة وفاء لذكراه التي إن لم تكن خالدة بالنسبة لما قدمه لأدبنا فهي خالدة لما قدمه من دراسة وافية عن الدكتور. وليسمح لي الأستاذ الكبير الزيات بأن أعرض عرضاً سريعاً لمواد ذلك العدد من الحديث. ومجلة الحديث قبل كل شيء مجلة تخدم الفكر الحر وتعمل في نهضة أدبنا الحديث بجد وإخلاص، إلا أن ظروف الحرب قد اضطرتها كما اضطرت غيرها من زميلاتها في الشرق العربي إلى أن تنقص من كمِّها بدون أن يؤثر ذلك على كيفها. وقد ظهر ذلك في العدد الخاص بالدكتور أدهم لمن يعرف الحديث قبل ذلك، وزين العدد بصورة للفقيد وقت تخرجه من جامعة موسكو، كما صدر العدد بكلمات قصيرة لبعض كتاب العربية من أمثال المرحوم الرافعي والأستاذ الزيات والأستاذ سلامة موسى والدكتور أبي شادي. وتأتي بعد ذلك كلمة وافية لمحرر المجلة الأستاذ سامي الكيالي تتبع فيها الفقيد في جميع أدوار حياته كما كتب الأستاذ صديق شيبوب عن ذكرياته مع الدكتور أدهم. وأودع صديق الفقيد الشاعر حسن كامل الصيرفي عصارة قلبه المكلوم قصيدة من أروع شعره الرمزي الطليق الخيال. وقد تناول الأستاذ محمد عبد الغني حسن أسلوب أدهم بالتتبع والنقد. وثم كلمة أخرى للأستاذ السحرتي المحامي. وعداها لا توجد كلمات أخرى لكاتب مصري غير كلمتي عن (أثر الرياضيات في حياة أدهم الفكرية والعملية) لا العلمية كما وقع خطأ في المجلة. وما كنا ننتظر ذلك من أدباء مصر ولا كانت تنتظره مجلة الحديث فقد كاتبني الأستاذ سامي الكيالي متأسفاً (لتقاعسهم) عن أداء الواجب عليهم.
وقد ختم العدد بمقال لشقيق الفقيد تحت عنوان (مع أخي في فترات حياته).
وغير هذه المقالات التي نشرت مقالات أخرى ضاق العدد عن نشرها فاضطر المحرر(388/52)
لتأخيرها إلى الأعداد التالية من الحديث.
(دمنهور)
عبد الحفيظ نصار(388/53)
القَصَصُ
(سانياسي) أو الزاهد
مسرحية رمزية رائعة لشاعر الهند طاغور
ترجمة الأستاذ فخري شهاب السعيدي
- 1 -
((سانياسي) خارج الكهف)
- إني لا أميز بين النُّهُر والليالي، ولا أعرف فارقاً بين الأشهر والسنين، لأن تيار الزمن الذي يتراقص العالم على متن أمواجه تراقص العُصَافةِ والعساليج ساكن لدي. إني في هذا الكهف المظلم وحيد، مغمور في نفسي؛ والليل الأبديّ ساجٍ كبحيرة في جبل خائفة من عمق ذاتها؛ والماء يرشح ويَنْقُطُ من الشقوق، والضفادع القديمة سابحة في البُركِ. فأجلس مترنماً بترانيم العَدم؛ وحدود الكون تتناءى خطّاً إثر خط. أما النجوم فإنها تنطفئ انطفاءَ الشرر المتطاير من سندان الزمن؛ وأما سروري فهو سرورُ الإله (شيفا) الذي يستيقظ بعد دهور يقضّيها في حلمه فيجد نفسه وحيداً في قلب الفناء الذي لا حَدّ له. إني حرّ طليق. إني أنا هو الأحد الصمد العظيم. إني إذ كنتُ عبدَكِ يا أيتها الطبيعة: سَلْطْتِ قلبي على ذاته، وجعلتِهِ يثير حرب الانتحار الشعواءَ في عالمه. وقد أثارتْ فيّ سَورْة الغضب تلك الشهوات التي لا غاية لها غير نهش ذاتها والتهام كل ما يقترب من أفواهها، فركضْتُ ركضَ المجانين في مطاردة ظلي. لقد سقتِني بأسواط ملذاتكِ الخاطفةِ إلى خلاء الشبع، ومشاعر الجوع، وقادَتني دوماً مغرياتُكِ إلى القحط الذي لا انتهاء له حيث انقلب الطعام إلى تراب واستحال الشراب إلى بخار!
وإلى الوقت الذي كان فيه عالمي مُبقعاً بالدموع والرماد أقسمتُ بالانتقام منك يا أيتها السيدة التي لا حَدَّ لمظهرها وتنكّرها. لقد لذْتُ بالظلام، معقل اللامتناهى، وكافحتُ النور الخادع يوماً فيوماً إلى أن فقد جميع سلاحه وارتمى منخذلاً عند قدمي. والآن، وأنا منعتق من رق الخوف والشهوات؛ الآن، وقد زال الغمام وانبعث من عاقلتي نور الطهارة والذكاء. فَلأخرج(388/54)
إلى عالم الأكاذيب ولأجلس على قلبه غير ملموس وبلا حراك.
- 2 -
((سانياسي) على الطريق)
- ما أصغر هذه الأرض وما أضيقها، وما أشد هذه الآفاق ثباتاً في تطويقها! إن مرأى الشجرِ والدور وجميع الأشياء ليضغط على عيني ضغطاً. والنور! إنه مثل قفص في حبسه ظلام الأبدية عن الدخول. والساعات! إنها لتصرخ وتتواثب داخل حواجزها كأنها الطيور إذ تُحبس. ولكن ما لهؤلاء الرجال الصاخبين ينطلقون راكضين ولأي مقصد يِسعون؟ لكأنهم خائفون من أن يضيعوا شيئاً لا تستطيع أيديهم بلوغه!
(تمر زحمة من الناس)
(يدخل شيخ القرية وامرأتان)
المرأة الأولى: يا لله إنك لتضحكني
المرأة الثانية: ولكن من قال إنك عجوز؟
شيخ القرية: إن بعض الحمقى يحكمون على الناس من مظاهرهم.
المرأة الأولى: وا حسرتاه! لقد كنا نرقب مظهرك منذ عهد حداثتنا، وهو باق على ما عهدناه لم يتغير في خلال هذه السنين
شيخ القرية: مثل شمس الضحى
المرأة الأولى: أجل مثل الشمس في رائعة النهار
شيخ القرية: أيتها السيدتان، إن في ذوقكما ميلاً إلى الصرامة في النقد، إنكما تعنيان بتوافه الأمور
المرأة الثانية: دعك من هذا اللغو يا (أناكا) ولنسرع في العودة إلى البيت وإلا ثار ثائر زوجي
المرأة الأولى: أستودعك الله يا سيدي. وأرجو أن تحكم علينا من ظواهرنا فلن نعير ذلك اهتماماً
شيخ القرية: ذلك لأنه لا ذات حقيقية لكما يمكن التحدث عنها غير هذا الظاهر!(388/55)
(يخرجون)
(يدخل ثلاثة قرويون)
القروي الأول: أيشتمني الوغد؟ لَيقْرعنّ سنّ الندم إذا
القروي الثاني: يجب أن يلقن الدرس بليغاً
القروي الأول: الدرس الذي سيتبعه إلى الرمس
القروي الثالث: أجل يا أخي، فلا تنثن عزيمتك ولا تترك له الفرصة السانحة
القروي الثاني: لقد أخذه الغرور والتعاظم
القروي الأول: تعاظم ينتهي به إلى الانفجار
القروي الثالث: إذا نجحت أجنحة النمل كان في ذلك هلاكه
القروي الثاني: وهل أحكمتم لأنفسكم منهاجاً؟
القروي الأول: لا منهجاً واحداً فحسب، بل مئات المناهج سأقلب عالي بيته سافله بمحراثي، وسأطوفه على حمار في المدينة مشهراً به صابغاً وجهه بالصباغ الأبيض والأسود، وسأثير غضب العالم كله عليه و. . .
(ينصرفون)
(يدخل تلميذان)
التلميذ الأول: إني واثق بأن الغلبة في المناظرة إنما كانت للأستاذ (مدهب)
التلميذ الثاني: كلا، بل الأستاذ (جاناردان) هو الذي فاز
الأول: لقد ثبت الأستاذ مدهب على رأيه حتى النهاية وقال بأن الرقة بنت الخشونة
الثاني: ولكن الأستاذ جاناردان قد أتى بالبرهان القاطع على أن الرقة هي أصل الخشونة
الأول: يستحيل ذلك
الثاني: بل هذا أمر واضح كالنهار
الأول: إنما أصل البذور الشجرة
الثاني: بل البذرة هي أصل الشجرة
الأول: ما قولك يا سانياسي؟ أي هذا هو الحق؟ أي هذين الأصل: الرقة أم الخشونة؟
سانياسي: لا هذه ولا تلك(388/56)
الثاني: لا هذه ولا تلك؟ إن في هذا الكفاية
سانياسي: ما الأصل إلا النهاية، وما النهاية غير الأصل. إنها حلقة، وإن من جهلكما ينشأ الخلاف بين الرقة والخشونة.
الأول: الأمر واضح جداً. وما أرى في هذا غير قول أستاذي
الثاني: بل إن هذا لينطبق على تعاليم أستاذي أنا بغير شك
(ينصرفان)
سانياسي: هذه الطيور لواقط كلم، وما سعادتها إلا بالتقاط اللغو الملتوي الذي تملأ به أفواهها.
(تدخل بائعتا زهر)
تغنيان: (تمر الساعات بطيئة؛
وتذوى الأزهار المتفتحة في النور
فتسقط في الظل
وقد خيل إلي أنني سأضفر إكليلاً
في سجسج الصباح لمحبوبي؛
ولكن الصبح يجر ذيوله متثاقلاً،
والزهر على غصونه لا يجد قاطفاً،
لأن حبيب النفس مفقود. . .)
أحد السابلة: ولم هذا الأسف يا عزيزتي؟ إذا ما تهيأت الأكاليل فالأعناق حينئذ متيسرة
إحدى الفتاتين: وكذلك الأرْسان!
الفتاة الثانية: إنك لشجاع مالك دنوت مني هذا الدنو؟!
الرجل: يا فتاتي، شجارك هذا لغير ما داع، فبيني وبينك ما يتسع لمرور فيل.
الفتاة الثانية: أفي الحق هذا؟ أمخوفة أنا بهذا القدر؟ إني ما كنت لآكلكَ لو أنك دنوت مني
(يخرجون ضاحكين)
(يجيء سائل)
السائل: أيها السادة الرحماء، اعطفوا، فلعل الله أن يكتب لكم التوفيق. أعطوني يسيراً من(388/57)
خيركم الوفير.
(يجيء جندي)
الجندي: هيا ابتعد من هنا، أما ترى ابن الوزير قادماً؟
(يخرجان)
سانياسي: هذه ظاهرة النهار. إن الشمس لتستطع وتتوهج، والسماء كأنها طاس من النحاس منكفئة تتقد، وهذه الأرض تزفر بأنفاس حرار فتتراقص الرمال المائجة. كم من مشاهد هذا الإنسان رأيت فهل في استطاعتي أن أتراجع ثانية في صغر هذه المخلوقات لأكون منها؟ كلا، بل أنا طليق لا يعوقني في هذا الكون شيء. إني إنما أعيش في قفر موحش!
(تدخل (فاسنتي) الفتاة وامرأة)
المرأة: ألست ابنة (رافو) يا فتاة؟ عليك أن تبتعدي عن هذه الطريق، ألا تعلمين بأنها مؤدية إلى الهيكل؟
فاسنتي: إني يا سيدتي على الطوار الأبعد منها
المرأة: حسبت أن قد مسك ثوبي. إني حاملة هداياي إلى الآلهة، وأرجو ألا تكون نجِّست
فاسنتي: أؤكد لك أن ثوبك لم يمسسني (تذهب المرأة) إني (فاسنتي) ابنة (رافوا) فهل أدنو منك يا أبت؟
سانياسي: ولم لا يا طفلتي؟
فاسنتي: لأني رجس كما يدعونني؟
سانياسي: ولكنهم جميعاً دنسون. إنهم يتمرغون في تراب الوجود؛ وليس من نقيّ غير من نقَّى ذهنه من هذا الكون، ولكن ماذا بدر منك يا ابنتي؟
فاسنتي - لقد استهزأ أبي الذي اخترمته المنون بقوانينهم وآلهتهم، ولم يكن يقيم شعائرهم
سانياسي - مالك تقفين بعيدة عني؟
فاسنتي - وهل سَتَمُسُّني؟
سانياسي - نعم، لأني لا يمسني في حقيقة الأمر شيء. إني موغل في اللانهاية، إذا شئت أن تجلسي هنا فافعلي.
فاسنتي - (متحسرة) لا تأمرني بمغادرتك إذا ما قربتني مرة منك(388/58)
سانياسي - كَفْكِفي عبراتك يا طفلة، إني أنا سانياسي الذي ليس ينفذ في قلبه شيء من ضغينة ولا هوى، وإذا لم تكوني لي فليس بوسعي أن أطردكِ. إن مَثَلَكِ إذا قيس بي كان كمثل هذه السماء الزرقاء. إني أراك كائنة وغير كائنة - أنت - في نظري
فاسنتي - أبتاه، إني منبوذة من الآلهة والناس على حد سواء
سانياسي - وكذلك أنا، لقد نبذتُ الآلهة والناس
فاسنتي - أليس لكَ أم؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - ولا عندك أب؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - ولا اصطفيْتَ خِلاَّ؟
سانياسي - كلا
فاسنتي - فسأكون معك إذاً. أفلا تغادرني؟
سانياسي - لقد استغنيتُ عن الفراق. في إمكانِكِ أن تظلي بجانبي ومع ذلك فأنت بعيدة عني!
فاسنتي - إني لا أفهمك يا أبتِ! خبرني أليس ثمة ملجأ لي في هذه الدنيا كلها؟
سانياسي - أتريدين ملجأ؟ ألم يبلغْكِ أن هذا العالم هوّة سحيقة لا تنتهي إلى قرار؟ هذه جماهير الخلق خارجة من حفرة اللاشيء في البحث عن ملجأ لها، فإذا هي تدخل في هذا الخواء الفاغر فاه وتضلَّ فيه! وتلك هي أخيلة الأكاذيب ملتفةً من حولكِ تقيم سوق أوهامها؛ وما الأطعمة التي تبيعها سوى الظلال! وإنها بذلك لتخدع جوعَكِ ولكنها لا تُشبِعُكِ، فاخرجي من هنا يا ولدي، اخرجي
فاسنتي - ولكني أراها في هذا العالم سعيدة يا أبتاه! أفلا نستطيع أن ننتبذ من هذه الطريق مكاناً نرقبها منه؟
سانياسي - إن هذه الجماهير لا تعي شيئاً ويا للأسف. إن بصائرها لا تدرك أن هذا الكون إنما هو الموت الأبدي الذي لا انتهاء له؛ إنه ليموت في كل لحظة ومع ذلك فلن ينتهي إلى الغاية. وأما نحن مخلوقات هذا العالم فإنما نحيا وقوام قوَّتنا هذا الموت.(388/59)
فاسنتي - إنك لتملأ نفسي رعباً يا أبتاه!
(يدخل مسافر)
المسافر - هل أستطيع أن أتخذ لي ملجأ بالقرب من هذا المكان؟
سانياسي - يا بني ليس ثمة ملجأ إلا في أعماق نفس الإنسان. فابحث عن هذا وتمسك به إن أردت نجاة
المسافر: ولكني متعب وفي حاجة إلى ملجأ ما
فاسنتي: إن كوخي على مقربة من هذا المكان فهل تجيء معي؟
المسافر: ولكن من عسيت أن تكوني؟
فاسنتي: وهل لا بد لك من معرفتي؟ إنني ابنة رافو
المسافر: بارك الله عليك يا طفلتي؛ غير أني لا أستطيع بقاء
(ينصرف)
(البقية في العدد القادم)
فخري شهاب السعيدي(388/60)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/61)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/62)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/63)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/64)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/65)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/66)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/67)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/68)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/69)
ï» ؟ Error
ظٹظˆطط¯ ط®ط·ط ظپظ‰ ط¹ط±ط¶ ظ‡ط°ظ‡ طظ„طµظپطط©(388/70)
العدد 389 - بتاريخ: 16 - 12 - 1940(/)
القمراء
للأستاذ عباس محمود العقاد
انظر القمر، وارقب الخطر، واسأل القدر!
واذكر قول صديقنا الزيات: (ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به وجه القمر. . . إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة)
واسمع من يقولون: (لقد أوشك القوم أن يخيفونا من الأقمار. . .) فأقول: ومتى خلت الأقمار من الأخطار؟
لقد كان آباؤنا ينتظرون من كل قمر سهماً إلى قلب، واليوم ننتظر من كل قمر قذائف نيران!
إنه تقدُّم الزمن!
وهل تتقدم الأيام، إلا لتظهر القذائف بعد السهام؟!
وتخيلت شاعراً من أصحاب (الاختراعيات) وممن يقرنون بين الاستحداث والطيارات والدبابات، يتغزل فيقول:
قمري رمى بقذيفة من عينه ... وأذابني برصاصه ولجيته
وأطار نومي فانتفضت لأنني ... أنا هالك بحضوره وببينه
فناديت بيني وبين نفسي: الأمان الأمان. الكهوف أسلم من هذا الزمان، والعقول أحوج إلى المخابئ من الأبدان!!
قال بعض الفضلاء من قضاة المصريين: (متى نفهم هؤلاء الغربيين أو يفهمونا؟. . . إنهم يكتبون من الشمال إلى اليمين، ونحن نكتب من اليمين إلى الشمال. وهم يدخلون المعبد فيخلعون القبعة، ونحن ندخل المسجد فنخلع الحذاء. وهم يحبون فيغتبطون ويشكرون، ونحن نحب فنتأوه ونتألم. وهم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر، ونحن نذكر القمر ونؤنث الشمس. وكل أولئك نقيض من نقيض. فمتى نفهم هؤلاء أو يفهمنا هؤلاء؟)
خطرت لي خاطرة ذلك القاضي الفاضل وأنا أذكر الغارات وأقمارها، والأقمار وأخطارها، فعاودني العجب من تذكيرنا القمر وتأنيث الغربيين إياه، وتساءلت: ماذا في القمر من(389/1)
صفات الذكورة وهو مقرون بالحنين والحياء، موصوف بالاتباع والاقتفاء، قليلٌ فيه ساطي المضاء وساطع الضياع، عارض له من المحاق ما يعرض للنساء؟
أهي زلة من زلات البداهة عند الشرقيين؟ أهم المستضعفون للأنوثة لا يفطنون لهذا المعنى الذي فطن له الغربيون؟ أم هو إمعان في البداهة أدركوا به من سطوة المرأة ما لم يدركه مذكرو الشمس ومؤنثو القمر، وأقاموا به ما عكسه أولئك الخاطئون؟
هو على كل حال من مفارقات الشرق والغرب، ولا بد لهما من مفارقات، ولو من طريق المصادفات!
وجاء البريد الإنجليزي الأخير فعاودتني هذه الخاطرة المتجددة كرة أخرى
في إحدى مجلاته مقال جميل للكاتب (ريتشارد ستراود يستوحي به المعاني التي أوحت إلينا مخافة الأقمار، وأن نقرن بينها وبين الغارات والأخطار، ولكنه جرى فيه على سنة التذكير في موضع التأنيث، والغبطة موضع الألم، والكتابة من الشمال في موضع الكتابة من اليمين، فحمد ليالي القمر، وود لو تتعاقب وتتكرر، وحسب أنهم موشكون أن يفتنوا بالأهلة والبدور، وهم أمة فتنت بالشمس من قديم الدهور.
قال إن التخبط في الظلمات إن هو إلا رمز محسوس لتخبط العالم بأسره في ظلمات رأس مخبول، ودماغ جاهل مجهول، فما أجدر الناس أن يحمدوا ليالي القمر كما يحمدون لمحات الصواب بعد غمرات الجنون! وما أحق هذا الكوكب أن يرمز اليوم إلى العقل والرشاد، وقد كان رمز الهيام والفتون!
ثم قال ما فحواه: إن سخرية القدر هي التي حكمت على عصر الكهرباء أن تقفر لياليه من الضياء. . . فمنذ فجر التاريخ والطرقات ما خلت قط من ضياء مصنوع على يدي ابن آدم: انطفأت المشاعل فأضاءت الفتائل، وانطفأت الفتائل فأضاءت مصابيح النفط والزيوت، وانطفأت هذه المصابيح فأضاءت أشعة الكهرباء، فلما بلغنا هذا المدى شاء لنا القدر أن نرجع إلى يوم لا مصباح ولا فتيلة ولا شعلة! واقترن ذلك بضراوة كضراوة السباع، وأصبحنا نبحث عن القمراء كما كانوا يبحثون عنها في عصور الظلمات، وعاد السؤال عن القمر كالسؤال عن الجو: نشيداً مطروقاً في الأحاديث، وتعلة معادة لابتداء الكلام!(389/2)
دع هذا ثم اقلب الصفحة إلى حيث تلمح بين سطور هذا الكاتب لمحة مما في سليقة أمته من روح الفن وحب الجمال
فهؤلاء القوم الذين تتساقط عليهم كِسَف الفضاء صباح مساء، والذين ينظرون إلى السماء فلا يأمنون رجوم الموت وصواعق الأعداء.
هؤلاء القوم تشوقهم ليالي القمر لما تعرض لهم من أشعة وظلال، ومشاهد روعة وجلال، ويقول كاتبهم هذا: (إن المدن والحقول وهي محلاة بالفضة القمرية لتبرز لك كأنها في يوم خلقها الجديد. ولقد قيل: إن هتلر فخور بأن يسلك نفسه مع رجال الفنون. فمن الحق إذن أن نقول إنه أفلح فلاحاً يتجاوز الأوابد من أحلام ريمبران. . . لأن الأشباح والظلال في أحقر الشوارع التي يفعمها الأسى والشجى بالنهار، لتضفي على أعطافها في القمراء جمالاً وهيبة كأفخر ما تلقيه هياكل يونان).
قلت: إن الكاتب الإنجليزي استوحى معاني القمراء على سنة الغبطة في موضع الألم وكتابة الشمال في موضع كتابة اليمين، وأخال أن الأمر فيه اختلاف غير اختلاف الشرق والغرب أو غير اختلاف كيلنج الذي قال إن الشرق شرق والغرب غرب وليس لهما لقاء.
فالمغيرون في إنجلترا ألمان، والمغيرون في مصر طليان، والأولون يغيرون ليل نهار، ولا يقصرون الإغارة على مواعد الأقمار.
أما الطليان فيغيرون في (القمراء)، ويخطئون الأهداف في الظلام والضياء على السواء.
فإذا كان أنس الإنجليز بليالي القمر أعظم من أنسهم بليالي المحاق فلا غرابة في ذاك؛ وإذا عكسنا نحن الأمر فما نحن بمخطئين وإن كنا لنرجو أن يكثر فيها المحبون للأشعة والظلال، إلى جانب المجفلين من الأوجال والأهوال.
وخصلة أخرى في هؤلاء الغربيين أنهم يسبغون خيالاً على كل حقيقة، ثم يستخرجون عبرة من كل نكبة، أو كما يقولون فضيلة من كل ضرورة.
هم لا ينامون مع الغارات المتواليات إلا غراراً، وفي النهزة بعد النهزة على غير موعد محدود ولا وتيرة معروفة.
فهل تركوا هذه الحالة بغير عبرتها؟ وهل أبطئوا في استخراج الفضيلة المشكورة من هذه الضرورة القاهرة؟(389/3)
لا. لم يتركوها ولا أبطئوا في الاستفادة منها. فقد رجع أناس من باحثيهم المتفرغين للملاحظة والدراسة إلى الأصل في النوم المتعاقب بضع ساعات، أو إلى الأصل في زعم الزاعمين أن الرقاد في الفراش ثماني ساعات كل يوم ضرورة لا محيص عنها للإنسان فيما بين الشباب الباكر والكهولة العاملة.
فسألوا: أهذا صحيح؟ ولم يا ترى يكون هذا كذاك؟
وظهر لهم من مجرد السؤال أن هذا الزعم ليس بالحقيقة المقررة، وليس بالرأي المستند إلى أصل وثيق.
فالهرة تنام غفوات غفوات بالليل أو بالنهار، وفصائل شتى من الماشية تنام كما تنام الهرة ولو لم تكن من كوادح الليل.
فما بال الإنسان لا يشبع حاجته إلى النوم على هذا المثال؟
كل ما أوجب النوم المتعاقب من قديم الزمن فإنما هو عادة الإنسان الأول أن يلوذ بالكهوف ويأوي إلى المضجع، لأنه لا يحسن أن يصنع شيئاً غير ذلك قبل اختراع الضياء المصنوع الذي يشبه ضياء النهار.
ولو أنه استطاع في ذلك العهد الدابر أن يعمل بالليل عمله بالنهار لما رسخت فيه عادة الهجوع من مغرب الشمس إلى مشرقها، ولأضاف إلى عمره بتفريق أوقات النوم عشر سنين، وتعوَّد أن ينام ساعة كلما أعياه الكد والكدح ساعات، فإذا هو بعد ذلك مفيق ناشط للعمل من جديد.
ولنرجع إلى الحساب في عصر الحساب.
فإذا صح أن غارات الليل ستعلمنا أن نضيف إلى كل حياة عشر سنين فقد نخرج من الجمع والضرب على أن الأعمار التي كسبها الإنسان أكثر وأغلى من الأعمار التي تضيع الآن!
عباس محمود العقاد(389/4)
مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
(الأيام) لطه حسين
للدكتور زكي مبارك
- 6 -
جواب
دعانا الأديب محمد متولي عوف إلى الإسراع بالكتابة عن (تحرير المرأة) و (ديوان إسماعيل صبري)، وأجيب بأن عند (الرسالة) بحثين جيدين: صدر أولهما عن أحد المفتشين، وصدر ثانيهما عن أحد المدرسين. فإن وجدتُ ما يوجب الكلام عن هذين الكتابين بعد أن تنشر (الرسالة) ما ورد إليها في درس أفكار قاسم أمين وأشعار إسماعيل صبري، فسأعقِّب على ذلك الدرس بما يكمل الصور الأدبية والاجتماعية لموضوعات هذه السلسلة من الدروس، والله هو الموفق.
كتاب (الأيام)
هو قصة واقعية لحياة الدكتور طه حسين في طفولته وصباه، وهو يقع في جزأين لطيفين، بالقِطع الصغير، والمقرر هو الجزء الأول، ولكن النظر في الجزء الثاني واجب، لأنه يكمّل فكرة الطالب عن هذا النوع من القَصص الطريف؛ ويطلب الجزء الأول من لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما الجزء الثاني فيطلب من مكتبة المعارف، وثمن الجزء عشرة قروش.
تاريخ (الأيام)
ولهذه الأيام تاريخ لم يُنشر من قبل، فمن الخير أن نشير إليه في سطور، لأنه تاريخ مجهول، ولأنه يصوّر كيف رجع الدكتور طه إلى ألفاف ماضيه لينشر منه صفحات تسير مسير الأمثال من حيث لا يقصد ولا يريد.
في مطلع الربيع من سنة 1926 ثار الأزهريون وتبعهم فريق من النواب على الدكتور طه حسين لآرائه (في الشعر الجاهلي) واشتدت الثورة ثم اشتدت، حتى كادت تزلزل مكانه في(389/5)
الجامعة المصرية.
كنا في ذلك الوقت صديقين، وكنا نلتقي في كل صباح وفي كل مساء، لإعداد ما نُلقي من الدروس بكلية الآداب، وللنظر في صد الجمهور عن الثورة على آراء أدبية لم تصل إليه إلا وهي محرَّفة بعض التحريف، وإن كان فيها ما يَشُوك رجال الدين.
ظهرت بوادر الثورة في جريدة كوكب الشرق، ثم انتقلت إلى جريدة الأهرام، وكان الشر كل الشر أن تنتقل إلى جريدة الأهرام، لأنها جريدة موسومة بالرزانة والعقل، ولا يُطعن فيها على الرجال إلا حين تصبح أقدارهم أهلاً للتجريح والتزييف.
وقد انزعج الدكتور طه من حملة الأهرام أشد الانزعاج، ولم يعرف كيف يجيب، مع أنه من أقدر الناس على اللجاجة والجدال.
وكان الشيخ محمد عبد المطلب، طيب الله ثراه، بطل الحملة (الأهرامية)، فكتبتُ في الرد عليه مقالاً ضاق به صدر الأستاذ داود بركات - رحمه الله - ورجاني أن أؤجل نشره على أن يقف حملة الشيخ عبد المطلب، فصممت على أن ينشر مقالي، وله بعد ذلك أن يفعل بهجوم الشيخ عبد المطلب ما يشاء!
وظهر مقالي في صدر الأهرام، ورأى فيه الدكتور طه انتصافاً من خصمه العنيد، وشكر صنيعي بكلمات تدل على مبلغ ارتياحه لدفع قالة السوء عن مركزه المهدد في ذلك الحين.
وفي اليوم التالي حدثني الدكتور طه بعبارة حزينة أن مقالي في الدفاع عنه لم يقع من بعض المقامات موقع القبول، لأني مدرس في الجامعة المصرية، ولأن دفاعي عنه يصور الجامعة بصورة الإصرار على ما في الكتاب المغضوب عليه من مذاهب وآراء.
فما تلك المقامات؟
كان الدكتور طه في ذلك الوقت مسنوداً بثلاثة رجال: عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ولطفي السيد. وكان هؤلاء الرجال يريدون أن تمرّ العاصفة بسلام، ولا يتمَّ ذلك إلا إذا سكت طه حسين وأصدقاء طه حسين عن دفع العُدوان بالعدوان.
وكذلك قررت أن أدفع عنه شر خصومه في جريدة المقطم بدون إمضاء لئلا تغضب تلك (المقامات).
وهنا يجيء الشاهد:(389/6)
قضى الدكتور طه بقايا العام الدراسي بحنق وغيظ، فقد كانت الجرائد الوفدية تنوشه في كل وقت، وكانت المجلات الدينية تسوق إليه التهم الجوارح بلا حساب؛ ولا يملك الدفاع عن نفسه بحرفٍ واحد، وهو الرجل العِرِّيض الذي قضى صدر شبابه في التلهي بعداوات الرجال.
فماذا يصنع؟
رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها الفِيح!
وهنالك خطر له أن يُملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين؛ فكانت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل.
وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة 1926 عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكرات عن حداثته، وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العبادي ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس.
وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات، وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف.
وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقصّ عليّ قصته يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنتين، وكيف ضحك اخوته وبكتْ أمه وانزعج أبوه. فعرفت أن تلك المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان.
ثم نَقل الحديث إلى شؤون الجامعة المصرية وإلى المصير المحتوم في مصر لحرية الفكر والرأي، وما نقل الحديث إلى هذا الميدان إلا ليهرب من مكاره تلك الذكريات.
مواهب طه حسين
هذا الرجل موهوب بلا جدال، ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب، فهو يسطَع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأفول.
ترجَم لأبي العلاء فأفلح، ثم ترجَم للمتنبي فأخفق، لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء.
وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة، ثم فتر في الجزء الثاني.(389/7)
والجزء الأول من (هامش السيرة) سِفرٌ نفيس، أما الجزء الثاني فهو أيضاً (سِفرٌ نفيس).
وكان أستاذاً في الجامعة المصرية القديمة، أستاذاً عظيماً، أستاذاً يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين؛ أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.
وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحوّل في مثل ومضة البرق إلى عدوّ مُبِين.
وهو على الرغم من ضعفه عن الاضطلاع بتكاليف المواهب رجلٌ جذَّاب، لأنه معسول الحديث، ولأنه قد يصدُق في الحب وفي البغض، إلا أن تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يصادق ويصالح من يعادي، كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب.
ويشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير، وذلك فنٌّ من الإعلان، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أتنبه إلى أنه ضرير. وكيف أصدِّق دعواه وما رأيت رجلاً أرشق منه في تناول الشؤون التي يتناولها المبصرون؟
كنا نخرج من الجامعة المصرية حين كانت في قصر الزعفران فنثب إلى (المترو) بعد أن يتحرك ولا يشعر أحد بأنني أصاحب رجلاً من المكفوفين.
ومن يصدِّق أني لم أفكر في حلق ذقني بيديّ إلا بعد أن رأيته يحلق ذقنه بيديه؟
وهو يمشي بقامة منصوبة تزري برشاقة الرمح المسنون.
وهو - لتوهمه أنه ضرير - يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه، ومن أجل هذا نراه أعجوبة الأعاجيب في إبراز مخارج الحروف.
ولشعوره بأن لسانه مصدر قوته يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحاً يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يُملي وبما يقول.
وخلاصة القول أن طه حسين هو طه حسين، هو الرجل الذي استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب في هذا الزمان.
ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمي، ولكني واثق بأنه مبصر، وبأنه أستاذ قدير، ومفكر حصيف، وأديب موهوب، وأنا لا أكف قلمي إلا عن الضعفاء.
وما قلت إنه أعمى إلا لأن درس اليوم يوجب ذلك، فليتناس هذه العُنجُهية القلمية، فما كنت(389/8)
ولن أكون إلا أعرف الناس بواجب الذوق.
وإن استطال ناس على الدكتور طه بقواهم البصرية، فلن يستطيعوا الاستطالة عليه بقوى الفهم والذكاء، وإنه لشاهد على أن الله يؤتي الحكمة من يشاء.
أسرار كتاب (الأيام)
حدثني الدكتور طه بك أنه ينتظر رأيي في كتاب (الأيام) عساه يعرف كيف فتن به الناس حتى جاز له أن يترجم إلى عدة لغات في بضع سنين.
وكلام الدكتور طه في هذه القضية ليس من التواضع المصنوع، فمن المحتمل أن تغيب عنه قيمة هذا الكتاب الطريف، لأنه بالنسبة إليه غير طريف، وإنما تظهر طرافته للمبصرين، لأنه يطلعهم على آفاق من حَيَوات العميان قد تكون عند أكثرهم من المجاهيل.
ويزيد في طرافة هذه الاعترافات أن بعضها معيب، فصدورُها من رجل مثل طه حسين يشهد بأنه فنان يقيم فنه على قواعد من الصراحة والصدق، وإلا فما الذي يضطر رجلاً في مثل مركزه إلى أن يعترف بأنه كان في طفولته يجلس من أبيه ومن سُمَّاره مَزْجَر الكلب؟ وما الذي يقهره على التصريح بأنه كان يرى الدنيا بيديه فيعبث بالنعال الموضوعة حول دكة معلم الأطفال، ثم يمعن في تقليبها واختبارها حتى يعرف بالضبط عدد ما فيها من خروق ورقوع؟ وما الذي يحوجه إلى النص على أن ذمته كانت اتسعت كما اتسعت ذمة (العريف)، وأنه كان يرشو ويرتشي بلا تحرج ولا استحياء؟
وكيف يجوز لرجل أن يهجو اخوته، وأن يعرض بجَده وبأبويه، إلا أن يكون رجلاً سما بعقله وفنه عما في المجتمع من تصنع ورياء؟
يشهد طه حسين بأنه كان يستغفل أباه في بعض الظروف، ويشهد بأن المكاره التي عاناها في طفولته وفي صباه أورثته ألواناً من الاضطراب والخبال، فهل تصدر هذه الشهادة عن رجل يستر ضعفه بتناسي ماضيه؟ أم هي حجة على أنه أكبر من أن ينكر ذلك الماضي البغيض؟
طفولة طه حسين كما صورها بنفسه لم تكن طفولة مهذبة الحواشي، ولكن من الذي يزعم أن الأطفال ينشئون مبرَّئين من الهنوات والعيوب؟
الطفل في نشأته ضعيف، وهو لضعفه يداور ويماري ويحتال، فليس من الغريب أن يلجأ(389/9)
طه حسين طفلاً إلى المراوغة والمماراة والاحتيال.
وهنا يظهر صدق طه حسين، فقد حدث عن نفسه أنه كان في طفولته سريع النسيان، وأنه لذلك قاسى مكاره الخجل والكسوف بضع مرات، ولو أنه أخبرنا أنه كان يحفظ كل ما يسمع، وأنه لم ينس أبداً ما كان يحفظ، لما كان في ذلك شبهة من تزيُّد أو إسراف، لأن سرعة الحفظ لا تُستَغرب من العُميان، ولكن طه حسين سما بفنه سمواً هو الغاية في الإخلاص للصراحة والصدق، وهما الدعامة الأصيلة للأدب الرفيع.
طه حسين أعمى، فيما يزعم، وهو كثير المزاعم، والأعمى يرى الدنيا بأذنيه ويديه، أما أذناه فهما طويلتان، وقد حدثنا أنه كان يمدهما مداً ليزيدهما طولاً إلى طول، عساه يستوعب ما يدور حواليه من أقوال وأخبار وأقاصيص. وأما يداه فقد قويت فيهما عضلات اللمس إلى أبعد الحدود، ألم يحدثنا أنه كان يعرف الناس بنعالهم لكثرة تقليبه في النعال؟
وخلاصة القول أن الدكتور طه قد التزم الصدق التزاماً تاماً في كتاب الأيام، وكان من آثار ذلك الصدق أن يأسر جميع من قرءوا مذكراته عن طفولته وصباه، لأن الصدق خُلقُ نفيس، وهو يزيد الأديب جلالاً إلى جلال.
يضاف إلى ذلك أن صدقه يوجب العطف عليه، ويحوّل شانئيه إلى أنصار أوفياء.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أُلاحق الفكرة التي تدور في خاطري عن كتاب الأيام، وهي تنفر وتَشرُد، فمتى أقتنص تلك الفكرة وهي نَفورٌ شرود؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين رجلاً قد نسى أنه مسؤول عن طه حسين طفلاً، فهو يشرِّح أوهامه وآثامه بلا ترفق ولا استبقاء، وهو يتجنى عليه كما يتجنى على خصومه الألدّاء.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يقيم الدليل على أنه يملك السيطرة على هواه حين يريد، وهل من هواه أن يَسخر بماضيه وأن يعترف بأنه كان نفعياً في طفولته وصباه؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد انسلخ عن ماضيه كل الانسلاخ، ولم يعد يخشى أن يقال إن طه حسين الرجل ليس إلا صورة من طه حسين الطفل، وإن بقيت في وجهه وعقله وروحه ندوب من معارك ذلك العهد السحيق.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يدلل ويبرهن على أن الأشجار البواسق لم تكن(389/10)
في الحداثة إلا أعواداً أماليد لا تأمن شر العواصف إلا بالانحناء والسجود.
لعلي أريد القول بأن طه حسين من أساتذة الأخلاق، فهو يقصد إلى إفهام الشبان أن العظيم لم ينشأ عظيما، وإنما عظُم بفضل الصبر على متاعب الجهاد، ومن حق طه حسين أن يتسامى إلى الأستاذية في الأخلاق، وهو بذلك التسامي خليق، فقد سمعت أنه أحرص الناس على رعاية واجبات الوفاء.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يخرج على نفسه مرةً واحدة فيشهد على نفسه بأشياء لا يعترف بها الرجل إلا وهو عارمٌ عَصوف.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد محاكاة جان جاك روسُّو وأناطول فرانس، وقد فاتته صراحة روسُّو وعذوبة فرانس، لأنه طوى أهواءه الجنسية، ولأنه نسى أن الهيام بالجَمال أشرف من الهيام بالنعال.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يُفهمنا أنه طه حسين وتلك خدمة لن ينساها تاريخ الأدب الحديث.
صور المجتمع المصري في كتاب الأيام
كنت قضيت عاماً أو يزيد على استخلاص الصور التي رسمها الشعراني عن مصر في القرن العاشر، وهي الصور التي سجلتُها في كتاب (التصوف الإسلامي) والتي نهبها بعض الناهبين بكلية الآداب، يوم كان كتابي محفوظاً في تلك الكلية وهو مخطوط يأخذ عنه من شاء ما شاء، وعند الله جزائي، فما رُعِيَ لي عهد، ولا حُفظ لي جميل.
واهتمامي بتسجيل صور المجتمع المصري في القرن العاشر وأنا أدرس مؤلفات الشعراني جعلني أحرص الناس على تقييد ما سجل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك من صور المجتمع المصري في القرن الرابع عشر، وهي صورٌ روائع، لأنها منقولة بأمانة ونزاهة وصدق. ويزيد في قيمة هذه الصور أنها أمست على شفا الانقراض، ولو رجع الدكتور طه إلى مسقط رأسه لعرف أنها أسقطت في غيابة التاريخ.
فعلى طلبة السنة التوجيهية أن يتأملوا تلك الصور، وأن يوازنوا بينها وبين ما يعرفون من أوهام العوامّ في الحواضر والأرياف، لأن في بعض أوهام العوام صوراً شعرية، ولأن خرافات اليوم لها نسبٌ صحيح إلى عهد الفراعين. . . وما أحب أن أزيد!(389/11)
انتقال مزعج
تمضى في قراءة (الأيام) وأنت لاهٍ عابث، لأن الكاتب لاهٍ عابث، ثم تصطدم فجأةً بانتقال مزعج، هو الصورة المروعة لإحساس أبويه بقسوة الثُّكل في يوم عيد، وما تكاد تفرغ من الجزع لهذه الصورة حتى يفاجئك بصورة أعنف وأفظع، هي صورة أخيه الذي مات وهو مطعون.
فلو قلتَ إن الصفحات التي صوَّر بها طه حسين أحزانه وأحزان أهله لهاتين الفاجعتين تُعَدّ من أروع ما صوّرت به المآسي الإنسانية لكنت قريباً من الصواب.
وطه حسين في هذه الصفحات كاتبٌ قدير، لأنه يفجِّر الدمع في جوامد الشئون، ولقد هممت بأن أرسل إليه برقية عزاء، مع أن الأعوام التي مضت على هاتين الفاجعتين كادت تشارف الأربعين.
أما حديثه مع ابنته وهو يقص أخبار (أوديب) بعد أن فقأ عينيه، فهو حديثٌ يذيب لفائف القلوب، ومن واجب الدكتور طه نحو القَدَر المكتوب أن يذكر أن الله ترفق به كل الترفق، فجعله رجلاً من أكابر الرجال.
جلسنا مرة نسمُر بداره يوم كان يقيم بمصر الجديدة فأطلعته على خبر لطيف في جريدة (لابورس)، خبر يبشر بأن أحد الأطباء قد اهتدى إلى علاج يرتدّ به العميان مبصرين، فهتفت زوجته: (إن صحَّ ذلك فسأبيع آخر قميص لأردَّ إليك بصرك، يا طه!)
وأغلب الظن أن الدهر سيبخل على الدكتور طه بالعودة المنشودة لنور عينيه، وسيبخل على مدام طه بلذة البيع المنشود لآخر قميص، ولكن العمى لن يمنع الدكتور طه من التبريز في كثير من الميادين.
ولعل لله حكمة فيما وقع، فالدكتور طه هو حجتنا على أن مصر أخصب البلاد، وإلا فأين العميان الذين استطاعوا ما استطاع في هذا الجيل؟ ولولا خوف الإسراف لقلت إنه أشجع من أبي العلاء، لأنه رفض أن يعيش رهين المحبَسين، ولأنه وهو أعمى قد مهَّد السبيل لمئات أو ألوف من المبصرين. وأستغفر الله من الإشارة إلى عَمَى الدكتور طه، فتلك أول إشارة تصدر عن قلمي، ولم تصدُر أبداً عن لساني، وإنما استوجبها البحث، والبحث قد يستبيح ما لا يباح.(389/12)