وبلاشيت وأشياليني في الذرة المتهيجة تحت تأثير الأشعة الكونية قد انتهت لحقيقة تجريبية في أن كتلة هذه الذرات المتهيجة تحت تأثير الأشعة الكونية تعادل كتلتها في حالتها الأولى. وقد تبيّن خلال هذه التجارب أن هنالك خطوطاً مزدوجة أحدها منحرف لليمين والآخر لليسار، أعني أن أحدهما موجب والثاني سالب، وتبين من مباحثهم أن الخط الموجب هو صنو للإلكترون نظراً لأن الخط السالب هو الإلكترون نفسه، وأن كتلة الدقيقة الموجبة معادلة لكتلة الدقيقة السالبة، فكأن البوزيتون صنو الإلكترون وليس البروتون هو صنوه
ونحن نعلم من نظرية (نيلز بوهر) العالم الدانمركي أن النوية في الذرة تعادل كتلتها كتلة الذرة وأنها مكونة من بروتونات، غير أن الميكانيكا الموجبة وتجارب (دمبستر). بينت أن البروتون لم يخرج عن كونه موجة كهربائية ولكنها ليست مركزة في قلب الذرة كما ارتأى (دي بروجلي) وإنما هي موزعة توزيعاً رياضياً في كرة الذرة الداخلي
هذه الحقيقة التي تنسجم مع المبادئ النظرية في الفوزيقا الحديثة لها ما يسندها في عالم التجربة، وقد كان لي علم 1933 فكرة في أن كرة الذرة الداخلية متوزعة فيها الشحنة الموجبة توزيعاً رياضياً، وأن هذه الشحن تتجمع في بعض النقط، وهذه النقط هي الإلكترونات الموجبة أو البوزيتونات حسب الاصطلاح الحديث
وفي مستهل عام 1938 حملت أنباء التجارب العلمية الحديثة أن البروفسور سكوبلزن قد نجح في تخليص بيروتونات من تيار من البوزيترونات تحت ضغط عال، فإذا صح هذا، فسيكون معنا في الذرة لبنتان أساسيتان - الإلكترون والبوزيتون وهكذا يتحقق معنا الغرض القديم الذي قلت به منذ خمس سنوات في مذكرتي إلى معهد الطبيعيات الروسي، وهي أن الذرة مكونة من موجتين: ذات شحنة موجبة وذات شحنة سالبة، وأن هاتين الموجتين في توزيعهما الرياضي في عالم الذرة يخلْقان لنا ذلك الشيء الذي نصرف إليه اصطلاح الذرة
إسماعيل أحمد أدهم(366/61)
البريد الأدبي
بين الدكتور زكي مبارك وصديق له
رأيت في الرسالة الغراء كلمة وفاء ورثاء يفي بها الدكتور مبارك لفرنسا، ويرثو لما أصابها. وجميل بالرجل أن يكون وفياً رقيق القلب، ولا سيما في مثل موقف فرنسا ونكبتها التي حلت بها من انحلال الأخلاق واللهو واللعب مكان الرجولة والتضحية، كما قال المارشال بيتان، وهذا من أعظم مواضع الرثاء والأسف
وقد أعجبني من صديقي مبارك أنه متفق مع الجميع في التأثر والألم لما أصاب مدينة النور (باريس الجميلة) فإن لكل متعلم في باريز عهداً لا ينسى ذكراه. وللمدينة الخالدة (باريس) فضل على كثير من الشرقيين والغربيين لا تبلو جدته
غير أني رأيت الدكتور يرد على صديق عاتبه في الإفراط بمحبة فرنسا، بينما فرنسا الدولة المستعمرة التي أرهق استعمارها عشرات الملايين وإخوان زكي مبارك
ورأيت الرد خلط بين أمرين كان يجب التفريق بينهما
الأول: فرنسا العالمة مبعث النور والحرية ومهد الاختراعات
الثاني: فرنسا المستعمرة بكل ما في معاني الاستعمار من استبداد وفي الحالة الأولى يجب على كل إنسان أن يحب فرنسا ويرثى لنكبتها
وفي الثانية على كل حر في العالم وكل من ذاق استعباد فرنسا في مستعمراتها ألا يجزع لما حل بها
نعم، إن الشماتة لا تليق بالرجال ولكن حب الانتقام، ولا سيما في المظلوم من الغرائز البشرية التي اعترفت بها الشرائع والقوانين، وهي صفات إذا فقدتها الجماعات والأمم أصابها هذا الانحلال. . .
فالإنسانية تتألم لفرنسا والحرية تبكيها، والأمم التي أصابها ظلم فرنسا تصمت أمام انهيار السياسة الفرنسية، وتعد انهيارها نذيراً لكل أمة تظلم الإنسانية أيّاً كان مذهبها وملتها
فالأولى بالصديق مبارك أن يفرق بين فرنسا وفرنسا؛ وعندها ينصف نفسه وينصف من يعتب عليه
(صديق)(366/62)
من الأستاذ القاياتي إلى الدكتور عزام
أرسل الأستاذ السيد حسن القاياتي إلى الدكتور عبد الوهاب عزام هذين البيتين على أثر قراءته كتاب (رحلات):
طعنت لتصلح لب المقيم ... وعدت لتكتب رأي الحكيم
بيانك والشرق أغلاهما ... جمال الجديد ونبل القديم
حسن القاياتي
المقنع لأبي عمر والداني
أبو عمر وعثمان بن سعيد الداني الأندلسي عصري ابن حزم المتوفى سنة (444) إمام من أئمة علم القرآن، وله فيه تصانيف كثيرة منها (التيسير)، وهو اليوم أقدم مرجع للبحث في القراءات السبع. وكتابه (المقنع) أقدم مرجع في رسم القرآن وكتابته، و (النقط) في نقطه وإشاراته، وكان بعض المستشرقين قد نشره ونشرت ترجمته إلى اللسان الفرنسي - فأعاد الأستاذ المحقق الشيخ محمد أحمد دهمان نشره مقابلاً على ثلاث نسخ مخطوطة قديمة بتحقيق وعناية وطبعه على ورق جيد جداً، قلما يطبع على مثله كتاب، فلما بلغ إلى المقدمة أعدها وهي تبلغ ثلث الكتاب (الكتاب مع فهارسه يقع في 180 صفحة) لم يجد في السوق من هذا الورق وكره تشويه الكتاب بتنويع ورقه فأرجأ نشرها إلى طبعة أخرى، ولعله ينشرها في الرسالة مستقلة أو مختصرة
والأستاذ (دهمان) مؤسس مكتب الدراسات الإسلامية في دمشق، وقد نشر كتباً قيمة منها: (كتاب النشر في القراءات العشر) - وهو أول من نشره - و (البدع والنهي عنها) لابن وضاح وهو أقدم كتاب في موضوعه، و (سنن الدرامي) وغيرها
ونحن نشكر للأستاذ جهده وننبه المشتغلين بهذا الفن إلى صدور هذا الكتاب القيم
(ع. ط)
للتاريخ - لماذا هزمت فرنسا؟
أذاع المارشال بيتان البيان الآتي:(366/63)
أيها الفرنسيون في فرنسا وفيما وراء البحار، أخاطبكم اليوم لأوضح لكم الأسباب التي دعتنا إلى عقد اتفاقيتي الهدنة الأول مع ألمانيا منذ ثلاثة أيام والثانية مع إيطاليا أمس
إن الأمر الذي يجب التنويه به قبل كل شيء هو الوهم الخادع الذي بنت عليه فرنسا وحلفاؤها آمالهم بشأن قواتهم العسكرية الحقيقية وأثر السلاح الاقتصادي وحرية البحار والحصار والموارد التي كانوا يستطيعون الحصول عليها. فاليوم - كما في الأمس - لا تكسب الحرب بواسطة الذهب والمواد الأولية فقط. إن النصر يتوقف على القوات والمعدات وكيفية استخدامهما. وقد دلت الحوادث على أن ألمانيا كانت متفوقة في هذا الميدان في مايو سنة 1940 تفوقاً ساحقاً كنا لا نستطيع أن نواجهه عند ما دارت رحى المعركة إلا بعبارات التشجيع والأمل
وقد انتهت معركة الفلندر بتسليم الجيش البلجيكي وسط القتال ومحاصرة الفرق الإنجليزية والفرنسية. وقد قاتلت هذه الفرق الأخيرة قتال الأبطال، وكانت مؤلفة من خيرة قوات جيشنا. وبالرغم من مقدرتها لم نتمكن من إنقاذ جانب من رجالها إلا بالتخلي عن معداتها. ودارت المعركة الثانية على نهري الأين والسوم، وللثبات في هذا الخط قاتلت 60 فرقة فرنسية لا تحميها التحصينات ولا تؤيدها الدبابات - تقريباً 150 فرقة ألمانية من فرق المشاة و11 فرقة من الفرق المصفحة. فاخترق العدو خطوطنا في بعضة أيام، وجعل قواتنا أربعة أجزاء واجتاح القسم الأكبر من الأراضي الفرنسية، وكانت ألمانيا في حكم المنتصرة عندما دخلت إيطاليا الحرب، وأقامت ضد فرنسا جبهة جديدة صمد لها جيش الألب. وعندئذ اتخذ نزوح اللاجئين شكلا يفوق ما يتصوره العقل، فقد انضمت عشرة ملايين من الفرنسيين إلى مليون ونصف مليون من البلجيكيين وأخذوا يتدفقون على مؤخرة جبهتنا في أحوال اختل فيها النظام وسادها بؤس لا يوصف
وابتداء من 15 يونيه اجتاز العدو نهر اللوار وانتشر في بقية أنحاء فرنسا. فأمام مثل هذه المحنة كان يجب أن تكف مقاومة الجيش، وكان على الحكومة أن تختار بين أحد أمرين: إما البقاء في مكانها أو مغادرة البلاد. فتداولت في الأمر وقررت البقاء في فرنسا للمحافظة على وحدة شعبنا وتمثيله أمام العدو، ذلك لأنها رأت أن وأجبها في مثل هذه الأحوال يقضي بالحصول على هدنة مقبولة باستثارة روح الشرف والعقل لدى العدو. وقد عقدت الهدنة(366/64)
وانتهى القتال. وفي يوم الحداد الوطني هذا تتجه أفكاري إلى جميع القتلى، وإلى جميع أولئك الذين تألموا في أجسادهم وعواطفهم من جراء هذه الحرب. إن تضحيتهم قد احتفظت بسمو علم فرنسا وطهارته فهم لا يزالون أحياء في ذكرياتنا وقلوبنا
أما الشروط التي اضطررنا إلى قبولها فهي قاسية. فسيحتل جزء كبير من أراضينا مؤقتاً وتقيم ألمانيا حاميات في شمال بلادنا وغربه من بحيرة جنيف حتى تور ثم على طول الساحل من تور، حتى جبال البيرينيه. ويجب أن تسرح جيوشنا وأن تسلم معداتنا وتحصيناتنا وأن يجرد أسطولنا من سلاحه في موانينا. وستجرد القواعد البحرية من سلاحها في البحر الأبيض المتوسط
أما الشرف فلا يزال سليما. فلن يستخدم أحد طائراتنا ولا أسطولنا. ونحن نحتفظ بالوحدات البرية والبحرية اللازمة للمحافظة على النظام في فرنسا ومستعمراتها، وستظل الحكومة حرة ولي يدير شؤون فرنسا إلا الفرنسيون
لقد كنتم على استعداد لمواصلة القتال - إني أعلم ذلك - ولكن الحرب كانت لا محالة خاسرة في فرنسا
لا تنتظروا كثيراً من الدولة فهي لا تستطيع أن تعطي إلا ما تتلقاه. اعتمدوا في الوقت الحاضر على أنفسكم وفي المستقبل على الأبناء الذي ستربونهم؛ وعلينا أن نجدد فرنسا، فأظهروها للعالم وهي ترقب خصمها وتعمل في هدوء وكرامة. لقد أتت الهزيمة من الانحلال فدمرت روح الملذات واللهو ما شيدته روح التضحية، فإني أدعوكم قبل كل شيء أن تنهضوا بأخلاقكم. أيها الفرنسيون، إنكم لقادرون، وإني أقسم لكم أنكم سوف ترون فرنسا جديدة تنبعث من حرارة إيمانكم
رد الجنرال دي جول على بيتان
قال الجنرال دي جول في إذاعة له رداً على بيان المرشال بيتان:
(في ساعات الخجل والغضب هذه، يجب أن يرتفع صوت واحد للرد عليك
(لقد ضربت فرنسا بقوات العدو الميكانيكية، فإذا كانت فرنسا لا تملك هذه القوات الميكانيكية، فغلطة من هذه؟
(لقد كنت ترأس هيئاتنا الحربية بعد انتهاء الحرب في عام 1918، وكنت قائداً عاماً حتى(366/65)
1932، وكنت وزيراً للحربية في عام 1935، وكنت أكبر شخصياتنا العسكرية. ولكنك لم تطلب أبداً إدخال الإصلاح اللازم لهذا النظام البالي
إن قبول العبودية لم يكن يتطلب بطل فردون، بل أي إنسان كان يستطيع عمل هذا. إنك رفضت موارد الإمبراطورية البريطانية والمساعدة الأمريكية الكبيرة، وقد لعبت لعبة فاشلة وألقيت بالأوراق وكأنه لم يبق في أيدينا أية ورقة نافعة
كيف تنتظر من فرنسا النهوض مرة أخرى وهي تحت أحذية الألمان الثقيلة وأحذية الرقص الإيطالية؟
(ألا إن فرنسا ستنهض مرة أخرى في الحرية والنصر
(إن أسلحتنا منضمة إلى أسلحة حلفائنا ستعود بالنصر، وسنعيد خلق فرنسا. . .)(366/66)
القصص
جندي مرابط
للأستاذ محمد سعيد العريان
(راجح! حبيبي! أرجوك. . . إن العدوّ لا يرحم، ولا يعفو؛ فلا ترمِ بنفسك إليه. . . احرص على حياتك من أجلي يا حبيبي! عِش لي، أْوْلا، فاقتلني وأسدل بيديك أجفاني قبل أن أرى فيك مصارعَ أهلي وأهلك يا راجح!)
كانت (بدرية) تتحدث إلى فتاها وقد أمسكت بيديه، ورفعت إليه عينين مخضلّتين بالدمع وفي صوتها نبرة يأس وأسى. كانت موقنة بأنه لن يستمع إليها، ولن يجيب؛ ولكن جذوة الحب التي تؤج في صدرها كانت تبعث في نفسها إثارةً من الرجاء! واستمع إليها الفتى صامتاً وفي قلبه عواطف تصطرع، وفي رأسه خواطر تموج وتتدافع؛ وأوشك أن ينتكث عزمه، حين التقت عيناه بعينيها الدامعتين وأحسّ شَدَّ يديها على يديه كأنما تخشى أن يفر إلى أجله قبل أن تُقلى إليه كلمة الوداع!
وبرز القمر من خلل أعذاق النخيل، فألقى شعاعه على وجه الفتى والفتاة جالسين مجلسهما على مقربة من مضارب الحيِّ، وقد سكن كل شيء منهما ومما حولهما، إلا قلباً يجف وأنفاساً تتردّد. . .
وثابت إلى الفتى نفسه حين أذكرتْه صاحبته مصارع أهلها وأهله؛ لقد كان موشكا أن يخور وتضعف عزيمته، ولكن ذكرى أهلها، وأهله. . . ووطنه. . . قد ردّته إلى رأيه، فأفلت من يدي صاحبته ووقف، وهتف:
(نعم. . . ولكنَّ دم آبائي يا بدرية، ودم أبيك، وشرف الوطن. . . يناديني؛ لقد أقسمتُ أن أنتقم أو أموت، وسأنتقم، أو أموت. . . ويومئذ ألقى آبائي، وآباءك، رافع الرأس فخوراً بما بذلت لأهلي ووطني، من دمي. . .!)
وراح يدبّ على رمال الصحراء، تحت ضوء القمر، وبندقيته على كتفيه؛ لم يحاول أن ينظر إلى وراء فيودْع الفتاة التي كان كلَّ شيء في دنياها وكانت؛ ومضى ليجيب داعي الوطن!
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، حين زحفت الجنود المغيرة من مربضها الذي ترابط فيه(366/67)
منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال لتعيد مملكة الرومان في جوف الصحراء وتنشىّ لها عرشها من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون. . .
واصطرعت قوتان، أما إحداهما فكانت تملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بالله، والإيمان بالوطن. . . وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابة سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون!
وانتبه الفتى والفتاة من سكرتهما وحيدين قد فقدت أباها وفقد أباه وعمه؛ فأقسم من يومئذ قسمه وأبرم عزمه. . .
. . . وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه!
لم تهدأ ثائرة البادية حين خيل للفتاح المغير أنْ قد غَلب وتسلط، ولكن جمرات تحت الضلوع تبص بصيصها ثم تختفي، ولا تخبو
وقاد (راجح) فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة؛ فما يمر به وليٌّ ولا عدوٌّ إلا عرَّفه نفسه وحيَّره بين عاقبتيْه. . .
وشَرِىَ أمرُ الفتى وعزّ جنده، ووفدت إليه الوفود من أبنا البدو وأفلاذ الصحراء مذعنة لأمره مطيعة، وعقدوا له اللواء؛ وحار العدو حيرته فما عرف سبيلاً إليه ولا منجاة منه، وإن له العدد والقوة والعتاد!
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية!
وبّث العدوّ سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غِرّته، وراحت الدبابات تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطيارات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتَّبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح؛ وكان ما لابد أن يكون، وأمعن العدوّ قتلاً ومُثله حتى بلغ مبلغه؛ وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطونُ الأرض أشلاءَ وجماجم. . .
وحلقت طيارات الجيش الظافر ترسل تحيتها إلى القرى المغلوبة قذائف من جماجم بنيها الشهداء؛ وليس الحدادَ شعب بأسره؛ وأحدثت (بدرية) على فتاها كما أحدِّت على أبيها(366/68)
وأهلها من قبل!
وفي بيت من الشَّعر إلى جانب الصحراء في غرب الإسكندرية، رأيت بدرية منذ ثلاث سنين. . .
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة، فإنها لتغدو عليّ وتروح كل يوم لحاجتها بين السوق والبيت؟ فأراها. . .
لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب قد ضربن خيامهن هناك؛ ولكن مرآها كان يثير في نفسي فضولاً عجيباً؛ فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها؛ فأتبعها عيني حتى تغيب. . .
كانت بزيَّها، وعينيها، وشفتيها المطبقتين أبداً على ابتسامتها العابسة - تماثلاً صامتاً يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت؛ وكان لها جمال، وفي عينيها وداعة، وعلى جبينها طهر؛ وعلى أنها فيما تبدو لمن يراها جاوزت الأربعين فقد كان لها روح الطفل وخفته
. . . وعرفتُ خبرها من بعد، فأعظمتُ وفاءها، ورثيت لها.
لقد مضت بضع عشر سنة، منذ تلك الليلة التي خلَّفها راجح ومضى لأمره، يحاول أن يثأر لقومه؛ ولكنها ما تزال بعدُ كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ أيام. لم يزدها مرُّ السنين وحادثاتُ الليالي، وفراقُ الوطن، إلا وفاءً لذكراه
وجَلَتْ عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تُتبعه عينيها وهو ماض لأمره تلفُّه ريح الصحراء في الليل القر!
وقنعتْ بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع! ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج، ولم تخلع الحداد! ونسيتْ ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه! وتأيَّمت العذراء ولما تخلعْ أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها حين دوّتْ صفارةُ الإنذار لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهلها ليأخذوا أهبتهم للكفاح؛ وأشرق الصبح وقد هجر المدينةَ نصفُ أهلها فراراً من الموت؛ فحملتْ بدرية متاعها ومضتْ مع الناس تلتمس سبيلاً إلى النجاة!(366/69)
يا رحمتا للمسكينة مما يطاردها من أحداث الليالي!
وأعياها السير، فحطَتْ متاعها عن كاهلها وجلست تستريح على حيد الطريق، حين مر بها فوجٌ من الجند فمدّتْ عينيها تنظر. . .
ونظرتْ، فعرفت، فهتفت. . .
ولكن هتافها تلاشى في ضجة الناس وزحمة الطريق؛ ومضى الجند ومضت تعدو في آثارهم وتركت متاعها تتقاذفه أقدام السابلة. . .
وانقطع بها الطريق فما بلغتْ ولا بلغ صوتها إلى من يَسمع، وكأنما كانت تنادي مُناديً من التاريخ يفصلها منه بضعة عشر عاماً من عمر الزمان!
وهامت المسكينة على وجهها ذاهلة لا تكاد تعي شيئاً مما ترى أو تسمع، ليس لها هدف فيما تسعى ولا غاية إلى ما تسير!
وأعيتْ بعد جهد فسقطت في الطريق لا حسٌّ ولا حركة ولا حياة؛ ثم أفاقت لتسأل نفسها ويسألها الناس فلا تجد الجواب!
وتتابعت على عينيها ذكريات الماضي يوماً يوماً منذ كانت حتى صارت؛ ونظرت يمنة ويسرة، ثم انطلقتْ تعدو. . .!
وعرفتْ بعد لأي أين تقصد، فمضت في طريقها. . .
. . . والتقى في خيمة الضابط المشرف على فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء شخصان لم يلتقيا منذ بعض عشرة سنة، أما أحدهما ففتاة في الأربعين قد تقنعت بلفاع أسود حائل، وعليها ثوب أسود مرقوع، وترف على شفتيها ابتسامة لم تنفرج عن مثلها شفتاها منذ سنين. وأما الآخر فرجل أشمط مخدّد الوجه في جبينه شجّة ملمومة، يلبس حلة عسكرية وعلى رأسه طربوش بدوي غليظ يكبس أذنيه ويتدلى زره على قفاه. . .
وقالت الفتاة: راجح!. . .
وغصت بريقها وتسابقت بوادرها على خديها!
وقال الرجل: لم أكن أظن يا بدرية!
وكان الضابط جالساً إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع وينظر ويبتسم ابتسامة الغبطة والرضا!(366/70)
وعادة بدرية تقول: راجح. . .!
وربت راجح على كتفيها وهو يبتسم، وقال: لا تخشى بعد اليوم شيئاً يا بدرية؛ لن نفترق بعد؛ لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، فنعود أعزَّة إلى الوطن الذي أكرهنا على هجرانه، ويومئذ. . .
وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعت أماني عاشت بها حيناً وعاش فتاها؛ وسرحا بأفكارهما إلى بعيد؛ إلى حيث كانا يلتقيان كل مساء تحت ضوء القمر في ظلال النخيل القائمة على مقربة من بيوت الحي، يتساقيان ويتناجيان نجوى الشباب؛ وابتسم، وابتسمتْ. . .
ودوى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نَوبتهم في العمل؛ فهب راجح واقفاً ومضى إلى واجبه، تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسانٌ يخافِت بالنجوى والدعاء!
محمد سعيد العريان(366/71)
العدد 367 - بتاريخ: 15 - 07 - 1940(/)
لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
للأستاذ عباس محمود العقاد
لم نخدع أنفسنا حتى خدعنا الأوربيون عنها فانخدعنا!
ثم صدقنا أننا أهل عاطفة ولسنا أهل عقل، وأننا أهل خيال ولسنا أهل حس، وأننا أهل روح ولسنا أهل مادة، وأننا لذلك مخفقون
وأنا مع الذين يقولون: إننا لسنا أهل عقل ولا أهل حس ولا أهل مادة، ولكني لست ممن يقولون: إن هذه (الليسية) توجب لنا نقيضها وتعطينا ما يقابلها، فنصبح أغنياء في الروح لمجرد أننا فقراء في المادة، ونصبح نفَّاذين في الخيال لمجرد أننا محجوبون عن الحس، ونصبح و (العاطفة) فياضة من نفوسنا لمجرد أننا مستريحون من العقل أو واقفون منه عند ينبوع جديب
فجائز جداً أننا لا عاطفيون ولا عقليون، ولا روحيون ولا ماديون، ولا خياليون ولا حسيون؛ وأننا على نصيب نزر من جميع هذه الصفات لا تستلزم القلة في إحداها كثرة في نقيضها، لأن الصفات الإنسانية لا تمشيِ عدلين عدلين متلازمين يعلو أحدهما حيث يهبط الآخر ضربة لازب. بل قد ينعدم العدلان والبعير معهما في كثير من الأحيان. . .!
واليقين عندي أننا منذ زمن طويل فقراء في العاطفة محتاجون إليها أشد من حاجتنا إلى العقل والعلم والحكمة وسائر مشتقاتها.
وكان هذا رأيي يوم ناقشني فيه فقيد العراق الأكبر جميل صدقي الزهاوي المصلح الحكيم، وكان - رحمه الله - يسألني: بماذا عبر لندنبرج المحيط الأطلسي: أبا العقل أم بالعاطفة؟ فأجيبه: (بالعاطفة). . . فإن العاطفة لا العقل هي التي أركبته الطيارة بعد أن فرغ العقل من تركيبها في المصنع وتركها حديدة لا تتحرك ولا تأتي بالفلق إلا أن تقدم بها عاطفة مجازفة لا تبالي العقل ولا تحفل السلامة
والذي كان يسمعه رحمه الله يقسم حسبة الطيارة إلى كومين: كوم العاطفة وكوم العقل، يخيل إليه أننا نحن الشرقيين قد ظفرنا منها بكل ما فيها من عاطفة وهمة وطموح ومغامرة واستطلاع، ولم يبق منها للغربيين غير حفنة من مسامير ومطارق وأرقام، هي التي يرتع فيها العقل ما يشاء!(367/1)
والآفة كلها من أوربا نفسها
فقبل اتصال أوربا بالشرق لم يقل أحد من الشرقيين إن الشرقيين أهل أحلام وخيالات، وإنهم من رجال العاطفة وغيرهم من رجال العقل والواقع
ولكن الأوربيين وصفونا هذه الصفة فاغتررنا بها ومضينا فيها، ولا سند لها على الأرجح أقوى من ألف ليلة وليلة وما جرى مجراها من القصص والنوادر، وهي كما نعلم ليست (بالخيال) في أي سمة من سماته ولكنها (واقع) مع إيقاف التنفيذ كما يقولون في لغة القانون! أوهي أحلام الجائع في سوق الطعام، لا فرق بينها وبين الواقع إلا أن يستطيع الأكل فعلاً، وهو عاجز عن الأكل لأن الأكل غير موجود!
فالخيال المزعوم عند الشرقيين هو (واقع ناقص) لا يحسب له فضل الواقع، ولا يحسب له فضل الخيال
ولو كان خيالاً حقاً لكان ابتكاراً وخلقاً وسعياً إلى عالم جديد ولم يكن واقعاً في كل شيء إلا في أنه غير موجود
فنحن واقعيون مفرطون في الواقعية
وكل الفرق بيننا وبين الأوربيين أن الأوربيين واقعيون يجدون المائدة التي يأكلونها، ولكننا نحن واقعيون نمضغ مائدة من الهواء. . . ومن الخطأ جد الخطأ أن نسمَّي من أجل ذلك خياليين أو حالمين
أخياليون وحالمون لأننا نعيش في عالم ألف ليلة وليلة؟ فما عالم ألف ليلة وليلة إذن؟ عالم قصور وموائد وكنوز وفتيات حسان. . . عالم واقع ملموس تراه العيون وتذوقه الأفواه إلا أنه لا ينال، وليس هذا هو الخيال
بل الخيال هو فكرة يبيع الإنسان في سبيلها متاع الدنيا وكنوز الأرض وبهرج الحياة
أو هو مثل أعلى لا تعرفه شهرزاد، ولا يتبعه صائغ البصرة، ولا تراه في ديوان من دواوين تلك القصص التي هي وسوق الرقيق سيان
وبودنا ألف ود لو يعظم نصيب الشرق من هذا الخيال
وقريب من هذا اعتقادنا أننا نحن المشارقة أهل السماحة والبر لأننا لا نصول ولا نجول، أو لا نصنع اليوم السلاح الذي نصول به ونجول!(367/2)
فماذا يوم كنا نصنعه، أو يوم كان سلاحنا الذي نصل إليه كفيلاً بالنصر على أعدائنا وعلى العزل المستضعفين من جيراننا؟
كنا نتغنى بالسيف كما تتغنَّ أمة قط بسلاح، وكنا نعيب (رذيلة) السلم كما يعيبون اليوم رذيلة الكفاح
ولعل الأموال التي بذلت في الخير بين الغربيين لا تقل عن الأموال التي بذلت فيه بين الشرقيين. ولعل جهودهم فيه لا تقل عن جهودنا، وثمرات أعمالهم فيه لا تقل عن ثمرات أعمالنا، وعلامات البر في عصرنا الحديث لا تقل عن علاماته في سائر العصور
فالإنسان إنسان حيث كان
ذلك أصدق ميزان للخلائق الإنسانية في كل أمة وفي كل أوان
وأحرى بنا فيما نعتقد أن ننجو بعقولنا من أحلام الأوربيين التي أفرغوها علينا لا من أحلامنا نحن فليست لنا بحمد الله أحلام من القوة بحيث تتقاضانا النجاة منها
إن أناساً من هؤلاء الأوربيين أفزعتهم بلادهم في القرن الثاني عشر وما بعده فحلموا بالشرق كما يحلم آكل الأفيون بما يراه في غيبوبة الخدر والجمود، وتحلوه صفات ليست فمنه وليس منها فأعجب الشرقيون بما كتبوه
أو أن أولئك الكتاب الأوربيين قد تخيلوا أبطالهم من الشرقيين كما نتخيل الأبطال الذي ننحلهم في الروايات شمائل نتمنى أن نراها في عالم الحس فيعيينا طِلابها
أما الواقع فلا
الواقع أننا نحن الشرقيين لسنا عاطفيين ولسنا مأخوذين بالروح ولا مفتقرين إلى من يسوق لنا المواعظ بالإقبال على المادة والانصراف كما يقولون عن الخيال. ونحن أفرح من طفل بالدرهم وأعجز من طفل عن كسبه في سوق الابتكار
أنحن أهل خيال؟
سمع الله منكم أيها القوم!
لقد عشنا عصرنا الحديث نضرب المثل (بالجرسون) الرومي في الحرص على المليمات، ولو رأينا معاهده في بلاده وفي بلادنا لعرفنا مَن صاحب الحرص ومن صاحب الأريحية وإن اختلفت العوارض والأشكال(367/3)
وربما ألقينا بقطعة اللحم من الفم لنزدرد قطعة اللحم التي في الماء. . .!
أخيال هذا؟
كلا! ولا النحاس الذي يستحيل ذهباً ولا الصفقة التي يدركها الصعود في سوق القطن فتفتح الكنز كله بعد اليوم
ما في شيء من هذا خيال وإنما هو كله واقع العاجزين
وبعد فنحن في عصر اضطراب الثقافات وارتجاج الأخلاق والمزايا لا جرم يخطر لنا أن ننظر فيما يصلح وفيما لا يصلح، وفيما تعز به النفوس وفيما تهون؛ وأن نسأل أنفسنا ماذا نأخذ وماذا ندع مما يتمخض عنه عراك الأمم والدولات
فلنكن على يقين سواء كنا من طلاب الحرية أو طلاب القوة أن النخوة مطلب لا غنى عنه في الحالتين وأننا محتاجون إليه، وأن الخيال عدة لا محيص عنها في المعسكرين، وأننا نحن الشرقيين عزل منها، وأن أمة من الأمم لن تصاب في سلمها ولا في حربها بمصاب هو أفدح عليها وأقبح بها من مصاب الانحصار في واقعها، لأن الانحصار في الواقع خلة حيوانية وليس بخلة إنسانية، وكلما ضاق أفق النفس عز عليها أن تخرج من الواقع القريب إذا أرادت الخروج منه، ولا مناص لها أن تريد ذلك في بعض حالاتها
تريد ذلك لتعلو على أثرتها ولتعلو على ضنكها ولتعلو على حاضرها في انتظار مستقبلها أو مستقبل بني قومها، وتريده لتشعر بأن الواقع الذي هي فيه دون الواقع الذي تبغيه
وهذا هو الخيال الذي يرتفع بالنفس عن واقعها
أما الخيال الذي هو ظل اللحم في الماء فذلك هو الواقع مشوباً بالعجز والغفلة
وأما (الواقعية) التي يقولون إنهم ينقذون الشرق بها ويردون الشرق من أحلامه إليها فحذار حذار منها. . . هي داء الشرقيين أجمعين، وإنهم لأئمة الواقعيين بين العالمين.
عباس محمود العقاد(367/4)
في ظلال الذكريات
أحمد الله إليك!
للدكتور زكي مبارك
في شهر يولية سنة 1928 تلقيت وأنا في باريس خطاباً من الأستاذ الدكتور طه حسين بك جاءت فيه عبارة: (أحمد الله إليك)؛ فالتفت ذهني إلى هذه العبارة، لأنها لم تكن من العبارات المألوفة في رسائله إليَّ، وقلت لنفسي: من أين وصل هذا التعبير إلى الدكتور طه حسين وهو في هذه الأيام يعيش في جيرار يير؟
وصح عندي بعد التأمل أن الدكتور طه قد يكن مشغولاً بمراجعات متصلة بالسيرة النبوية، لأن عبارة (أحمد الله إليك) تكثر في الرسائل المأثورة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء
وبعد أعوام أخرج الدكتور طه كتابه (على هامش السيرة) وتفضل فأهداني نسخة ممهورة بعبارة كريمة من عبارات الإهداء، وكنت حينئذ أحرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ، فرأيت أن أتحدث عنه إلى قرائي بعناية تحملهم على اقتناء ذلك الكتاب، تحقيقاً للتضامن بين المؤلفين
فماذا قلت؟ قلت: إن الدكتور طه يجيد أعظم الإجادة حين يتروى في التأليف، وكتابه الجديد أثرٌ من آثاره الجيدة في تروّيه، فهو مشغول بموضوعه منذ سنة 1928، وإن لم يقل ذلك، فقد كتب إليَّ خطاباً في شهر يولية من تلك السنة يقول فيه: (أحمد الله إليك)، وقد فهمت من هذه العبارة أنه كان مشغولاً بدراسات متصلة بالسيرة النبوية، وكذلك عرفت أن الظن قد يبلغ درجة اليقين، وقد يقوم مقام المعاينة عند صدق الإحساس
فكيف استقبل الدكتور طه هذا التقريظ الطريف؟
مضى يقول: هذا اختراع جديد من اختراعات زكي مبارك في الأسمار والأحاديث، فليس من المعقول أن أكتب إليه خطاباً أقول فيه (أحمد الله إليك)، وهي ليست من عبارات هذا الجيل!
ولقيني بعد ذلك، فجدد استغرابه من العبارة التي نسبتها إليه؛ فقلت: إنها حق؛ فقال: إنها من المستحيلات!
ومضيت أبحث عن ذلك الخطاب، فلم أهتد إليه، لأن الدنيا كانت أسرفت في اللجاجة(367/5)
واللدَد، فنقلتني من أحوال إلى أحوال، وبعثرَتْ ما كنت أحرص عليه من رسائل الأهل والأصدقاء، وعَدَتْ على مكتبتي بالقلب والإعلال، فلم يبق أمل في الوصول إلى نص الخطاب المنشود
ثم أخذت أتحدث في مقالاتي ومؤلفاتي عن أشياء وقعت بيني وبين الدكتور طه حسين، فكان إذا سئل عن بعض تلك الأشياء أجاب بأنها اختراع من نوع (أحمد الله إليك)!!
ومنذ أيام مضيت لمقابلة سعادة الأستاذ الجليل الدكتور السنهوري بك وفي يدي نسخة مهدأة إليه من كتاب (الأسمار والأحاديث) فوجدت الدكتور طه بك هناك، وسألني السنهوري بك عن بعض أغراض الكتاب، فقلت: فيه أقوال فاه بها الدكتور طه ولم ينشرها، فنشرتها بالنيابة عنه على نحو ما كان يصنع أفلاطون مع سقراط!
واللطف الملحوظ في هذه العبارة لم يمنع الدكتور طه من أن يقول: لا بد أن تكون اختراعات من طراز (أحمد الله إليك)
وسألني السنهوري بك عن القصة فأجملتها في كلمات قصار فراراً من الدخول في جدل جديد مع الدكتور طه حسين، فقال وهو يبتسم: يجب أن يكون الخطاب صحيحاً ما دمت تحدثت عنه في البلاغ!
فقلت: وإن وجدت أصل الخطاب؟
فقال الدكتور طه: إن وجدته فسيكون بخطك؟
فقلت: وإن كان بخط (توفيق)؟
فقال: هذا مستحيل!
فقلت: وهل عندك مانع من أي تحمد الله إليَّ؟
فقال: أنا أحمد الله في كل وقت، ولكني لا أذكر أني حمدته إليك!
ثم انصرفت وقد اطمأن مَن حضروا هذا الحوار إلى أني أتزّيد على الناس حين أشاء
أين ذلك الخطاب؟ وأين أنا من سنة 1928 وقد شرَّقتُ وغربت، وانتقلت من دار إلى دار، وبعثرت أوراقي مئات المرات؟
أما تسمح المقادير بأن أصل إلى ذلك الخطاب ليعرف الدكتور طه حسين أني لم أتزيد عليه؟(367/6)
إلى يا أوراقي، إليَّ، إلىَّ، فقد طالَ عهدكِ بالحجاب، واشتقتُ إليك أشد الاشتياق!
ورجعت إلى تلك الأوراق، الأوراق التي سبقت هجرتي إلى بغداد، رجعت إليها في حذر وخوف، لأنها تذكرني بعهود سيطول عليها بكائي إن فكرت في أيامها الطيبات
فماذا رأيت؟
رأيت ألوفاً من أطياف الشباب، الشباب الذي أبليته في الدرس بلا ترفق ولا استبقاء
ورأيت قصائد منسية كنت نظمتها أيام كنت أومن بأن الدنيا أهل لأن يعيش فيها الرجل وهو مُرهَف الحس خفاق الفؤاد
ورأيت رسائل مهجورة أملتْها قلوبٌ خوافق لا أعرف مصيرها اليوم، ولا أدري مكانها بين الحياة أو الموت
ورأيت مواعيد وفيتُ منها بما وفيت، وأخلفتُ منها ما أخلفت، يوم كانت الدنيا تسمح بأن أتخيَّر من المواعيد ما أشاء. ومن أخصب تخيَّر. فيا زمن الخصب أين أنت؟ وكيف ألقاك؟
ورأيت صوراً غالية كادت تُبليها الأنفاس والمدامع، لطول ما عانت من لوعتي وأساي، قبل أن يروضني الدهر على اصطناع الصبر الجميل:
وإن أَكُ عن ليلَى سلوتُ فإنما ... تسليتُ عن يأس ولم أسلُ عن صبر
ورأيت خطابات لا تستحق الحفظ، لأن أصحابها ضيعوا العهد، وأخلفوا الميعاد
وقد مزَّقتُ تلك الخطابات شر ممزَّق، ثم رجعت فجمعت أوصالها بترفق وتلطف، لأني تخيلتها جُثثاً هوامد لأرواح قتلها الغدر والجحود، ولا يباح التمثيل بجثث الأموات
ورأيت رسائل من هند، فعرفت أن بلائي بها قديم العهد، وكنت أحسب هواها أين أَمس!
ورأيت ما دلني على أن فلاناً كان ينزعج حين تخلو حياته من وجهي يوماً أو بعض يوم، وقد صار إلى ما صار إليه، فلا ألقاه إلا بعد استئذان
فيا فلان، كيف حالك، فلست أنت الذي أراه حين أستأذن في الدخول عليك، وإنما هو خيالك، خيال الصديق العزيز الذي كنت أعهد، وما هو خيالك؟ إنما هو الهيكل الذي أحتل روحك اللطيف بغير حق، فأين أنت يا صديقي لأقدم إليك تحية الوجد والشوق؟ أين أنت، فما تخيلتُ فجيعتي فيك إلا طار صوابي؟!
ورأيت عناوين محفوظة لأحباب أوفياء، فأين أولئك الأحباب لأكتب لأحدهم خطاباً أقول(367/7)
فيه: (أحمد الله إليك)؟
ومن يضمن بقاء تلك العناوين، وخرائطُ البلاد تُغَيَّر من يوم إلى يوم؟ وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بأن تأخذ المواعيد في القطارات لعام أو عامين ثم تفي بتلك المواعيد كما كنا نصنع؟
هي دنيا قد تولتْ ... فعلى الدنيا السلامْ
إليّ يا أوراقي، إليّ، فقد بقيت مآرب يعزْ عليَّ أن تضيع
وما هذه الأشياء؟ ما هذه الأشياء؟ وبأي حق حفظتها في أصْوِنة الأوراق؟
هذهِ كسرات من آنية مصدوعة، فما تاريخ تلك الآنية؟
أسندتُ رأسي بيديّ وفكرت عساني أذكر ذلك التاريخ
ثم تذكرت بعد لأي أني كنت ذهبت إلى الهافر لأشهد الاحتفال بعيد (العنصرة) هنالك في سنة 1927 ونفدت نقودي فرجعت إلى باريس بدون أن أشتري شيئاً من طرائف ذلك الثغر الجميل
وسألتني ربة البيت الذي كنت أقيم فيه عن رحلتي إلى الهاقر فذكرتُ أني متوجع لأن النقود خانتني فلم أشتر شيئاً من طرائف تلك المدينة، فنظرت إليَّ ابنتها بطرف غضيض وهي تقول: سأعوِّض عليك ما ضاع منك، ثم أتحفتني بزهرية جميلة كانت اشترتها من هناك
وانصدعت الزهرية بعد أحايين فجمعت كِسراتها وضممتها إلى ما أحفظ من رسائل ذلك العهد، فهي اليوم روح من أرواح تلك الذكريات
فما أخبار صاحبة الزهرية؟ وكيف حال طرفها الغضيض؟
أفي الحق أن باريس عانت مخاوف الحرب وإطفاء الأنوار بالليل، ثم انتهتْ بها الخطوب إلى الاشتمال بأثواب الحِدَاد؟
متى نلتقي وفي جيبي كسرات تلك الزهرية التي عاشت بين أوراقي وهي مصونة في مدة زادت على أربعة عشر عاماً؟
متى نلتقي لتحدثني وأحدثها عما صنع الزمان بأحلامها وأحلامي؟ وهل أعرفها حين أراها أو تعرفني حين تراني بلا بشير بالتلاقي؟
عندي صورتها وعندها صورتي، ولكن أين نحن مما كنا عليه سنة 1927 وقد تبدلنا(367/8)
أحوالاً بأحوال؟ ومن ذا الذي لا يتغير، يا ربة الطف الغضيض؟!
أنا بخير وعافية، وإن صنع الدهر ما صنع، فكيف أنتِ؟ ومتى تعود ليالينا بمطالع الأقمار في باريس؟ ومتى نعود سيرتنا الأولى، سيرة الأطفال الذي يرضَون ويَغضبون في اللحظة الواحد عشر مرات؟
حدثيني منى أردّ إليك أصداع الزهرية ومعها أصداع قلبي، القلب الذي أخذ عنك درس الثقة بالقلوب، فلم يعرف بعدك غير الأسف على حُسن الثقة بالقلوب؟!
كنت نسيت أني أخذت الدرس عن طفلة، وكذلك يندم من يأخذ الدروس عن الأطفال!
ولكن أين خطاب الدكتور طه حسين؟ وأين عبارة (أحمد الله إليك)؟
إن أسفاري في البحث عن هذا الخطاب ستطول، وقد لا أصل إليه أبداً، وما قيمة التعلق بتاريخ قديم تنكَّر له عارفوه؟ وما الفائدة في رَجْع هذا الدكتور إلى حسابٍ تمتْ تصفيته منذ أعوام طوال؟ وهل أقدر على بعث الأموات من الذكريات؟ تلك معجزة صحّت لبعض الأنبياء ولن تعود، فليقل الدكتور طه إني افتريت عليه وليُسرف في اتهامي كيف شاء، فحسبي من الطمأنينة أن أعرف أني كنت من الصادقين
ولكن ما هذه الخريطة؟ ولأي سبب حفظتها في أوراقي؟
هي خريطة لمقبرة بير لاشيز في باريس
فكيف عرفتُ تلك المقبرة وكيف احتفظتُ بالخريطة فنقلتها من باريس إلى مصر الجديدة بلطف ورفق لأرجع إلى درس معالمها حين أريد؟
كنت في درس المسيو (تونلا) أستاذ الأدب الألماني بالسوربون، وكانت دروس هذا الرجل تستهويني كل الاستهواء، فقد كانت تنقلني إلى آفاق من الفكر لا أصل إلى مثلها في صحبة رجل سواه، وفي دروس هذا الرجل عرفت سيدة ألمانية لم تكن مع زوجها على وفاق، وكانت فيما حدثتني من شواعر برلين، وكانت ملامحها وشمائلها تشهد بأنها على صلة وثيقة بشياطين الشعر الجميل. ويظهر أن الزوجية قيدٌ لا يستريح إليه بعض هذا النوع من الجنس اللطيف.
ولم يكن للشاعرة بُدٌّ من رجل تشكو إليه جهالة زوجها الغبيّ البليد، فهدتها الفِراسة إلي أن أذنيّ أصلح الآذان للترحيب باغتياب الأغبياء والبُلَداء، وكذلك أخذتْ تصبّ في أذني(367/9)
شكايات هي أعذب وأخطر من صهباء الرُّضاب
كنت أعرف أن الغِيبة من الكبائر، وأن السامع شريك القائل في الإثم، ولكني نسيت الأدب مع الشرع، لأن تلك الكبيرة كانت تساق إلى أذني في لغة فرنسية ملحونة، وأنا أعبد اللحن في اللغة الفرنسية إذا صدر عن الألمانيات الملاح، وهل في الدنيا لغة أحلى وأعذب من لغة باريس حين تمضغها ظبية من برلين؟
واتفق في تلك الأيام أني كنت مشغول الفكر والقلب بدرس طوائف من الشعراء العشَّاق منهم ألفريد دي ميسَّيه، وقد كُتِب في تاريخ هواه عشراتٌ من المؤلفات الجياد، فحدثتني النفس بأن أحجّ إلى قبر ميسَّيه مع تلك الألمانية الحسناء، لأذوق حلاوة النجوى في رحاب ذلك (الشهيد)
وكذلك مضينا إلى مقبرة بير لاشيز في صباح يومٍ مَطير لا يَدفع غيومه الثقال غير ما في قلوبنا من صفاء
وأسرع البواب فقدَّم إلينا خريطة المقبرة بثلاثة فرنكات، ولم يكن بدٌّ من الاهتداء بالخريطة، لأن تلك المقبرة فيها ألوف من المقابر، ولن نصل إلى قبر ميسيه بغير دليل
وماذا تقول الخريطة؟
إنها لا تعيِّن غير أسماء العلماء والشعراء والكتاب والمجاهدين، وهي أسماء معدودات، فأين أسماء المجهولين والمنسيين بتلك المقبرة الفيحاء؟
أولئك أقوامٌ دفنوا همومهم في صدورهم فلم يتحدث عنهم شاعرٌ ولا كاتبٌ ولا خطيب
أولئك أقوام كانوا أحجاراً في بناء الوطنية الفرنسية، ولو كانوا من أصغر الطبقات، فكيف نسيهم الناس فلم يُحفظ لهم في الخريطة مكان؟
تلك حظوظ من يعملون وهم صامتون، وقد يكون فيهم من أدى لوطنه خدمة منسية، وقد يكون فيهم من حفظ العهد لإخوانه الناسين، وقد يكون فيهم من شرب من رحيق الوجود أكثر مما شرب كبار الشعراء
وما هي إلا لحظات حتى التفتتْ رفيقتي فرأت عينيّ مغرورقتين بالدمع، ورأتني لا أطيق الجواب من فرط الحزن والذهول
وصَوّبت الرفيقة بصرها إلى ما صوّبتُ إليه بصري فرأتني أحدِّق في لوحة رُقِمت هذه(367/10)
العبارة الصارخة:
فرنسا! تذكري!! -
وهي عبارة مسطورة فوق قبر رجل استشهد في الدفاع عن الألزاس أيام حرب السبعين
فقالت: وماذا يهمك من هذه العبارة؟
فأجبت: أشتهي أن أوجِّه مثل هذه العبارة إلى وطني
وكنت في صبيحة ذلك اليوم تلقيتُ من مصر خطاباً يشهد بأن وطني لا يحفظ الجميل؟ فما هو ذلك الخطاب؟
هو خطابٌ له تاريخ يضيق عنه هذا الحديث
وفي طريقنا إلى قبر ميسيه مررنا بقبر حوله أحواض من الأزهار، فأخذتْ رفيقتي تجمع الزهر الذي تساقط على الأرض. ونظرتُ فرأيتُ أحد الحراس يراقبها من بعد، ثم انقض كالصاعقة يسألها عما جَنَتْ يداها، فأجابت: هذه أزهار ذوابل أسقطتها العواصف. فانصرف الحارس وهو مُجلّل بالخجل والكسوف!
ثم وصلنا بعد لأْي إلى قبر ميسيه وبجانبه تمثال الشاعر وهو كهلٌ لا تنطق معارف وجهه بأنه كان حُلم الغانيات في باريس
أما شجرة الصفصاف التي أوصى الشاعر بأن تُغرس بجانب قبره فقد رأيتها في صُفرة الموت
ثم قضينا بقية اليوم في تدوين ما كُتِبَ فوق القبور لأقارنه وحين تسنح الفرص بما يُكتب فوق المقابر المصرية، وهو مقال لم أكتبه بعد، وقد كان في بالي حين زرت مقابر الكرخ ومقابر بغداد
والكاتب قد يُجيل فكره في الموضوع الواحد عدداً من السنين
أين خطاب الدكتور طه؟ أين؟ أين؟
ولكن ما الموجب للحرص على خطاب صديق لم تصحّ لي صداقته غير عشرة أعوام كانت أقصر من عشرة دقائق؟
وماذا يهمني من أن يعرف أني لم أتحدث عنه بغير الصدق ولم تبق لذكراه في قلبي غير أطلال؟(367/11)
هذا الصديق يهمني جداً، لأنه لم يعرف بعد فراقي كيف يكون صدق الإخاء
هذا الصديق يهمني جداً، لأنني خلقت منه عدواً عظيماً، وأنا أتخيَّر أعدائي كما أتخيَّر أصدقائي. ولكن أين الخطاب؟
هذه أوراق وأوراق وأوراق. هذه مئات من الرسائل التي تشهد بأني كنت على صلات مع أرواح جاذبتُها زمناً أطراف المحبة والعتاب
رباه! متى تعود أيامي؟ متى تعود؟!
ثم تشاء الأقدار أن أجد الخطاب المنشود، وبخط (توفيق) الذي صار من أيام دكتوراً في الحقوق من الجامعة المصرية
تشاء الأقدار أن أجد الخطاب الذي يقول:
(أحمد الله إليك على ما أنت فيه من رضاً بالإقامة في باريس، وأتمنَّى لك المزيد من هذا الرضا، كما أتمنى أن تنتفع بأيامك فر فرنسا إلى أبعد حدّ ممكن، وتقبَّل من السيدة ومني تحية خالصاً وشكراً جميلاً)
وتاريخ الخطاب 26 يولية سنة 1928
وقد ابتسمتُ حين وجدت (تحية خالصاً) فهي غلطٌ من (توفيق) لا من الدكتور، إلا أن يكون لها وجه ضعيف!
ثم ماذا؟
ثم تشاء الأقدار أن أجد خطاباً للدكتور طه كتبه إليّ من الإسكندرية، وفيه يقول:
(صديقي العزيز الدكتور زكي مبارك
أنا مَدين لكٌ بشُكر كثير: فقد قرأت كتابيك وتسلمتُ السَّفرين اللذين تفضَّلت بإرسالهما إليّ. ولست أدري كيف أشكر لك عنايتك بفلسفة ابن خلدون، وأنا مقتنعٌ فيما بيني وبين نفسي بأنها لا تستحق هذه الغاية. ومع ذلك فسأشتري (المقطم) منذ اليوم لأقرأ ما تكتُب لأنك أنت الذي سيكتبه لا لأني أنا موضوعه. وكل ما أرجوه لك أن تصدر فيما تكتبه عن الحرية الصادقة القاسية، لا عن الإخاء والمودة اللذين يدفعان في كثير من الأحيان إلى شيء من الرفق لا يخلو من إثم. وأنا أعيذ أصدقائي من أن يتورطوا من أجلي في إثم الإسراف في البِرِّ، كما أكره أن يتورطوا في إثم العقوق. وقد كنت أحب أن يقف كتابي عند هذا الحد،(367/12)
ولكن الله يأبى إلا أن يضاعف دَيْني لك حتى يتجاوز قدرتي على الأداء، فأنا أريد أن تتكلف السعي إلى إدارة السياسة حيث تلقي صديقنا المرصفي وتطلب منه أصول الجزء الثاني من حديث الأربعاء فقد كلفته أن يجمعها لك، وأشكرك إن دفعتها إلى مصطفى أفندي محمد ليبدأ في طبعها. وأنا أرجو أن تكون بخير مطمئن النفس، وأن تكتب إلى في شيء من الإطالة والحرية، فإن كتبك وأحاديثك تقع في نفسي دائماً موقعاً حسناً. وليس لدي الآن ما يشغلني عن قراءة كتبك. فأنا أقضي من بقي من أيام الراحة في قراءة متفرقة لا نظام لها ولا نفع فيها، وأرجو أن أراك بخير حين أعود إلى القاهرة في الأسبوع الأول من الشهر المقبل، إن شاء الله، وتقبل تحيتي الخالصة)
طه حسين
وتاريخ هذا الخطاب (2 أغسطس سنة 1925)
وفيه غلطة نحوية وقعت من (توفيق) لأنه أساء النقل عن الدكتور، كما كان يتفق له في بعض الأحيان
فإن قيل: وكيف أمكن بعد ذلك الوداد الوثيق أن تَفسُد العلائق بيني وبين الدكتور طه حسين، فإني أجيب بأن لله حكمه فيما وقع بيني وبين هذا الصديق
لم يكن لي بدٌّ من خصومة أتخذ منها فرصة لتوجيه الجمهور إلى الحقائق الأدبية، وكذلك خاصمتُ عدداً من رجال الأدب، كان أظهرهم الدكتور طه حسين
وأنا اليوم في حياد، أو غير محارب، وهما حالتان متقاربتان، فمتى أخلق خصومات جديدة أذكى بها نار الأدب من جديد؟
أنا حاضرٌ للخصومة، على شرط أن أجد خصماً في مثل مواهب الدكتور طه حسين، فما أرضى بمنازلة الشادين في الأدب من الذين لم يأخذوا زادهم الأدبي إلا من قراءة الهوامش بالجرائد والمجلات
يا دكتور طه
إن كنت أنكرت أن تحمد الله إليّ فخطابك تحت يدي أقدمه إليك حين تشاء، فإن لم تحمد الله إليَّ فأنا أحمد إليك!
وإن أذن الله بانقشاع ظلمات الحرب فستراني حيث تحب أو حيث تكره بأبحاث طوال(367/13)
عراض تعود على الأدب بأجزل النفع، وتملأ مسامع الزمان
والله يحفظك للخصم الذي يتمنى لك دوام العافية والتوفيق
زكي مبارك(367/14)
البلهبذ
للأستاذ حسن السندوبي
للأمير شكيب أرسلان كتاب قيم وضعه حديثاً عن (شوقي) وجعله تذكاراً لصداقة أربعين سنة. وقد حفل بالطريف من المعلومات، والجليل من الموضوعات، كما رد فيه كثيراً من الحقائق التاريخية التي غمرتها الحوادث، وأبعدتها عن أصولها الكوارث، في العصر الحديث. فكان كتاباً فريداً في بابه ككل ما يعرض له الأمير من أبحاث وشؤون، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالعالم الإسلامي والعربي في بقاع الأرض
وقعت لي نسخة من هذا الكتاب القيم فعنيت بقراءته عنايتي بكل ما تجود به قريحة الأمير ويسيل به قلمه الكريم. ولي منذ الصبا ولع شديد بتتبع آثاره، واستيعاب أفكاره، واقتطاف أزهاره، فله عندي منزلة من الحب قوامها الاحترام
وبينما أردد نظري في صحائف هذا الكتاب استوقفني قوله وهو يقارن بين سينية البحتري التي يصف بها إيوان كسرى، وبين سينية شوقي التي يعارضه بها، عند قول البحتري:
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس
من مدام تقولها هي نجم ... أضوأ الليل أو مجاجة شمس
وتراها إذا أجدت سروراً ... وارتياحاً للشارب المتحسى
أفرغت في الزجاج من كل قلب ... فهي محبوبة إلى كل نفس
وتوهمت أن كسرى أبرو ... يز معاطي والبُلُهْبُذَ أنسى
قال الأمير: ما اهتديت إلى الآن إلى معنى (البلهبذ) الذي هو لفظ فارسي فيما يظهر
فلما رأيت ذلك دهشت وأكبرت ذكاء الأمير وفطنته عن أن يفوتهما المعنى من هذا اللفظ. ولا سيما بعد أن وضعه البحتري في مكان لا يحتمل لبساً ولا إبهاماً. فالبحتري يذهب به خياله إلى أن كسرى يعاطيه الخمر والبلهبذ يؤانسه بصوته الرخيم. إذن فالبلهبذ كان من ندماء كسرى ذوي التطريب والتغريد، ومن الذين يحبون مجالس الشراب، وينعشون محافل المنادمة بأصواتهم الحسنة، وأنغامهم العذبة، فالبلهبذ على هذا كان المغني الخاص لكسرى، والمطرب المغرد في مجلس شرابه
ولقد أذكر بهذا أن الشيخ الشنقيطي اللغوي الكبير قال قصيدة في رحلته إلى الأندلس،(367/15)
وصف فيها الباخرة وصفاً سلبياً إلى أن قال فيها:
لا تحسبن عراب الخيل تشبهها ... ولا المهملج شبديزاً ولا عدسا
ثم علق على هذا البيت بقوله: إن شبديز فرس كسرى المشهور. كان من خصائص كسرى أبرويز أن الناس لم يروا أحداً في زمانه قط أمد منه قامة ولا أتم ألواحاً ولا أوفر جسامة ولا أبرع جمالاً منه، فكان لا يحمله إلا فرسه شبديز، وكان في الأفراس ككسرى في الناس، يضرب به المثل في عظم الخَلق وكرم الخُلق وجمع شرائط العتق. ولما مات شبديز لم يجسر أحد على نعيه إلى كسرى، فضمن صاحب الدواب (للفلهيد) المغني مالاً وسأله أن يعرض لأبرويز بموت شبديز!
فقال - وهو يغنيه بمجلسه -: (شبديز لا يسعى ولا يرعى ولا ينام)
فقال أبرويز: (قد مات إذن)!
فقال الفلهيد: (من الملك سمعت)
وليس من شك في أن (البلهبذ) في بيت البحتري هو نفسه (الفلهيد) في رواية الشنقيطي، وعليه يجب تصحيح رواية الشنقيطي بقول البحتري. والظاهر أن الشنقيطي نقل روايته عن كتاب أعمل فيه الناسخ يد المسخ والتحريف والتصحيف، ولم يفطن لها الشيخ ولم يتكلف تحقيق صحتها إذ لم تكن الفارسية من شأنه، ولا خفاء أن النقلة عن اللغات الفارسية والسريانية والعبرية وغيرها من اللغات القديمة طالما وضعوا (الفاء) في مكان (الباء)، كما عكسوا ذلك. وكثيراً ما أعجموا الدال وأهملوا الذال، وهكذا في المتشابه من الحروف. وهذا كثير غامر فيما وصل إلينا من آثار السلف
على أنني لم أرد بذلك نقد الأمير أو الغض من عالي منزلته وراسخ علمه، فهذا ما لم يخطر لي ببال، وإنما أردت الإيماء إلى شيء لا أشك في أنه مر كثيراً بالأمير أثناء مطالعاته ولكنه سها عنه عند إيراده بيت البحتري. والكمال لله وحده
حسن السندوبي(367/16)
الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
عرضنا في المقال السابق نظرية تقسيم الأسرة البشرية إلى أجناس رئيسية، والمميزات الجسمية العامة لكل منها. وقلنا: إن وجود هذه الفروق الجسمية بين الأجناس لا يستلزم بالضرورة وجود فروق عقلية بينها، فقد يتساوى اثنان في نسبة الذكاء، ويختلفان في الصفات الجسمية الجنسية بأن يكون أحدهما زنجياً والآخر أوربياً (قوقازياً)
والتاريخ والواقع يثبتان أن النقاوة الجنسية لا توجد إلا بين جماعات منعزلة بحكم الطبيعة أو الاجتماع. فأمريكا خليط من كل الأجناس، وآسيا الصغرى تواردت عليها أجناس مختلفة. ومصر غزاها الهكسوس والفرس والإغريق والرومان والعرب والترك والفرنسيون، وامتزجت هذه الدماء قليلاً أو كثيراً بدم السكان الأصليين. وإذاً، فقد انمحت إلى حد ما خواص الأجناس البشرية الرئيسية، ولم يعد لعلماء النفس مجال للبحث العلمي التجريبي على أساس الجنسية، اللهم إلا بين بعض الجماعات التي لا تزال تحتفظ بنقاوتها نسبياً كزنوج أمريكا والهنود الحمر
تعرض الأستاذ وَدْوِرْث بإيجاز لموضوع الفروق الذكائية بين الأجناس في كتابه: (دراسة الحياة العقلية). وكان في كل ما كتبه عن هذا الموضوع حريصاً حرص العلماء المدققين. وهو يحدثنا أن تجارب (أجريت) في ولاية (أُكلاهوما) بأمريكا الشمالية على تلاميذ المدارس الأولية الريفية ببعض المدن الصغيرة. وكان هؤلاء التلاميذ يمثلون ثلاثة أنواع جنسية وهي: هنود حمر خلَّص، وأمريكيون خلص، وخليط من الدمين الهندي الأحمر والأمريكي. وقد اختبُرَ ذكاء ثلاثمائة تلميذ من النوع الأول، وأربعمائة من النوع الثاني، وثلاثمائة من النوع الثالث. واستعملت في هذه التجارب (المقاييس الجمعية) النتيجة ما يأتي:
الهنود الحمر الخلَّص: متوسط نسبة الذكاء 73
الأمريكان الخلص: متوسط نسبة الذكاء 100
الخليط منهما: متوسط نسبة الذكاء 91
والمتأمل في هذه النتيجة يرى أن نسبة ذكاء الهنود الحمر الخلص أقل بكثير من نسبة(367/17)
الأمريكان الخلص، الذين يمثلون مزيجاً من الأجناس الأوربية أو الجنس القوقازي. كما يرى أيضاً أن نسبة ذكاء الخليط من الجنسين هي نسبة وسط بين النسبتين السابقتين. فإذا علمنا أن البيئة المدرسية لهؤلاء التلاميذ واحدة جاز أن نستنبط أن هذا الفرق في نسبتي الذكاء بين الهنود الحمر وبين الأمريكان الخلَّص إنما يعزى للفرق الجنسي، والأستاذ يقول في حيطة: (على أنه يجب أن نذكر في نفس الوقت أن هذه المقاييس إنما تناسب ثقافة التلاميذ الأمريكان الخلص، ولذلك فالهنود الحمر يجدونها غريبة عليهم. هذا والتلاميذ الخليط أكثر تأثراً بالثقافة الأمريكية من الهنود الحمر) وليس معنى هذه النتيجة أن كل فرد من أفراد الهنود الحمر أقل ذكاء من كل أمريكي، فالنتيجة تشير إلى متوسط فقط، وعلى هذا قد يوجد من بين الهنود الحمر الخلص من هو أكثر ذكاء من الأمريكان الخلص
وثمة تجارب أجريت على بعض الأطفال الزنوج في جنوب الولايات المتحدة وأسفرت عن أن متوسط نسبة ذكائهم هو 75. وفي مدنية ناشفيل في شمال الولايات المتحدة أجريت تجارب أخرى على بعض الأطفال الزنوج، وكان متوسط نسبة ذكائهم يعادل 85 ولهذا الفرق بين نسبة ذكاء الزنوج في الجنوب والزنوج في الشمال مغزاه. فإن زنوج الشمال أصلهم من الزنوج سكان جنوب الولايات المتحدة وإنما هاجروا إلى الشمال لأنهم أكثر طموحاً وأقوى استعداداً على التكيف باختلاف البيئات من الزنوج الذين آثروا الإقامة في الجنوب. وهذا يدل على أنهم أذكى من الزنوج المقيمين، ويفسر ما أظهرته التجارب من زيادة نسبة ذكائهم. ونعود فنسمع الأستاذ ودورث يعلق على نتيجة هذه التجارب بقوله: (إن ذلك الضعف الواضح في نسبة ذكاء الأطفال الزنوج يمكن أن يعزى إلى الجنس، أو إلى بيئتهم الثقافية الأولى غير المنشطة، أو إلى خطأ في الاختبارات نفسها. ولم نصل حتى الآن إلى رأي جازم يعزو ضعف الذكاء إلى واحد بعينه من هذه العوامل الثلاثة)
تطورت كلمة (الجنسية) حتى أصبحت تستعمل في الوقت الحاضر - كما في جواز السفر مثلاً - بمعنى النسبة إلى الوطن السياسي الذي ينتمي إليه الفرد، أو ما يقابل الكلمة الفرنسية وهذه الكلمة مأخوذة من كلمة بمعنى أمة أو جماعة سياسية خاضعة لنظام حكم واحد مقرر، على حين أن كلمة (الجنسية) العربية مأخوذة من (الجنس) التي يقابلها في الفرنسية ومن هذه المقارنة يظهر التساهل في استعمال كلمة (الجنسية) بالمعنى السياسي(367/18)
في اللغة العربية، ودقة استعمال كلمة أو ما يشبهها في اللغات الأوربية. ولعل سبب هذا التساهل في استعمل كلمة (الجنسية) هو أن الأصل أن الأمة أو الوحدة السياسية إنما كانت تتكون من أفراد ينتمون إلى جنس واحد، فأطلق العام وهو الجنس على الخاص وهو الأمة مجازاً. وإلا فقد تتكون الأمة من عدة أجناس مختلفة كما ذكرنا
ذهب علماء النفس خطوة أبعد من بحث الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية الرئيسية، فقد رأوا أن الأمة الواحدة - ولو أنها تتكون من أجناس مختلفة - قد تحمل طابعاً خاصاً يميزها عن غيرها جسمياً وعقلياً وخلقياً. ذلك لأن وحدة الأمة السياسية إذا طالت عليها المدة. واستقر السكان، وقل الطارئون عليهم من الأمم الأخرى، وربطتهم لغة واحدة، وثقافة واحدة، وخضعوا لظروف مشتركة، فإن هؤلاء السكان مختلفي الأجناس - كما في مصر وأسبانيا مثلاً - يمتزج بعضهم ببعض بالتزاوج فتختلط الدماء، ويتكون من أمشاجها المتباينة نوع جديد ودم جديد، نتيجة لهذا الاختلاط المستمر الكثير الذي قد يتغلب فيه جنس خاص ويسود. وبهذا تمتاز الأمة - بمرور الزمن وتعاقب أجيالها - بخواص جسمية وعقلية وخلقية قد تختلف عن خواص غيرها من الأمم وتختلف أيضاً عن خواصها هي قبل هذا الامتزاج والانسجام الجنسي (وقد حدث هذا الاختلاط الجنسي والامتزاج بالضبط في كل الوحدات السياسية والأمم التي على ظهر البسيطة الآن. فكلها من غير استثناء نتيجة امتزاج عناصر جنسية مختلفة. وكل واحدة منها تكاد تصل إلى المرحلة التي تتميز فيها بخصائص أُمِّيَّة (نسبة إلى الأمة) تجعل منها طرازاً جنسياً جديداً، كأسبانيا، وإيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وأمريكا. وترتيب الأمم هكذا إنما هو وفق لتطورها التاريخي وتكوينها الجنسي. ولو أن هذه الأمم استمرت على ما هي عليه الآن بضعة آلاف من السنين من غير امتزاج بأي عنصر آخر من الخارج لتَكوَّن من كل منها جنس جديد)
ولا نريد أن نتعرض هنا للفروق الجسمية بين الأمم لأنها موضوع يطول شرحه من غير جدوى، ولأنها تستدعي دراسة كل أمة أو وحدة سياسية على انفراد، ومعرفة الخواص الجسمية والعضوية التي تمتاز بها. وإنما يهمنا أن نذكر بعش التجارب التي أجريت لمعرفة الفروق الذكائية بين بعض الأمم. وهنا يجدر بي أن أشير مؤكداً أن نتائج هذه التجارب ليست نهاية أو قاطعة لأنها ما زالت في مرحلة النظريات، فهناك صعوبات كثيرة تحول(367/19)
دون الوصول إلى النتائج النهائية، منها تعذر وجود (عينات) ممثلة تمثيلاً صحيحاً لأفراد الأمم التي ندرس ذكاءها، ومنها صعوبة وجود الاختبارات التي تلائم في لغتها ووضعها عقليات الأمم المختلفة. وفيما يلي نتائج لتجارب أجريت في أمريكا في مقاطعة ماساشوستز على أطفال ولدوا بها، وآباؤهم من أمم أوربية مختلفة، وقد هاجروا إلى أمريكا طلباً للرزق. وهي تدل على متوسط نسبة الذكاء لأطفال كل أمة
أطفال آباؤهم من السويد
متوسط نسبة الذكاء 102
أطفال آباؤهم إنجلترا
متوسط نسبة الذكاء 101
أطفال آباؤهم يهود
متوسط نسبة الذكاء 100
أطفال آباؤهم ألمان
متوسط نسبة الذكاء 99
أطفال آباؤهم أمريكان
متوسط نسبة الذكاء 98
أطفال آباؤهم لتوانيون
متوسط نسبة الذكاء 97
أطفال آباؤهم أيرلنديون
متوسط نسبة الذكاء 96
أطفال آباؤهم سلاف
متوسط نسبة الذكاء 90
أطفال آباؤهم إغريق
متوسط نسبة الذكاء 88
أطفال آباؤهم إيطاليون
متوسط نسبة الذكاء 86(367/20)
أطفال آباؤهم من كندا الفرنسية
متوسط نسبة الذكاء 85
أطفال آباؤهم برتغاليون
متوسط نسبة الذكاء 83
ويقول الأستاذ ودورث الذي اقتبسنا من كتابه هذه الأرقام (وهذه النتائج يجب ألا تؤخذ على أنها تدل قطعاً على الفروق الموجودة بين ذكاء الأمم التي يمثلها المختبرون. لأن أسباب الهجرة لها اثر في اختيار نوع من الناس دون الآخر. فالإنجليز والسويديون جاءوا في الغالب من طبقة مثقفة يبحثون عن أعمال تحتاج لثقافة أعلى من ثقافة تلك الأعمال التي ينشدها الإيطاليون أو البرتغال)
وقد حاول علماء النفس التغلب على صعوبة اللغة في اختبارات الذكاء فاستخدموا (اختبار الرسم المقنن) لمعرفة نسبة الذكاء عند أفراد يمثلون أمماً مختلفة. وهذه هي النتيجة:
أطفال آباؤهم يهود
متوسط نسبة الذكاء 106
أطفال آباؤهم من اسكندنافيا
متوسط نسبة الذكاء 105
أطفال آباؤهم صينيون
متوسط نسبة الذكاء 103
أطفال آباؤهم أمريكان
متوسط نسبة الذكاء 100
أطفال آباؤهم يابانيون
متوسط نسبة الذكاء 100
أطفال آباؤهم ألمان
متوسط نسبة الذكاء 99
أطفال آباؤهم أرمن
متوسط نسبة الذكاء 92(367/21)
أطفال آباؤهم إيطاليون
متوسط نسبة الذكاء 88
أطفال آباؤهم مكسيكيون
متوسط نسبة الذكاء 87
أطفال آباؤهم هنود حمر
متوسط نسبة الذكاء 86
أطفال آباؤهم زنوج
متوسط نسبة الذكاء 83
هذه نبذ عامة عن الفروق الذكائية بين بعض الأمم، وهي نتيجة تجارب ما زالت موضع بحث ونظر، وسنعود لتحقيقها في مقالات قادمة إن شاء الله.
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(367/22)
أخوك أم الذئب. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
أجل!! هذا هو العالم المغرور الذي ظن خير الظن بمدنيته، وأثنى عليها ثناء الأم على عذرائها، ونفض عليها من تحاسين الخيال فنوناً كذُنابَي الطاووس، وأدار عليها مجامر الندِّ والمندل والعود من عطر الشهوات واللذات، وأحاطها بالعبقرية العلمية التي توجد في كل شيء شيئاً جديداً يدخل على العقل إبليساً صغيراً ليُضل عن سبيل الحق، ويضع في الثمرة حلاوة تلذ ونشوة تسكر، ثم زاد فأعطى المادة المتبدلة الفانية تدليساً يجعلها في فتنة الرأي ثابتة خالدة ثم غلا فجعل النفس تطلق أهواءها جميعاً لتحرز من لذات الحياة كفايتها، إن كان لأهواء النفس كفاية
هذا العالم المغرور يقف اليوم في فئتين التقتا للقتال في سبيل الأهواء الغالبة والشهوات المستحكمة. وفي هذا القتال تنكشف لمن أبصر حقيقة هذه المدنية، وحقيقة أغراضها التي عملت لها وعمدت إليها، وحقيقة الروح التي يتعامل بها الاجتماع الإنساني الذي تعيش به هذه المدنية الأوربية التي تنكر من الحياة وتعرف وتدعي لنفسها إسقاط ما أنكرت وإقرار ما عرفت
وفي كل يوم تتجدد أحداث الحرب، فتتجدد معها أساليب الغرائز الوحشية المصبوغة رحمتها بأصباغ الافتراس، وفي كل يوم يخلع الوحش عن مخالبه ذلك المخمل الناعم الذي دسها فيه، ويهجم بطبائعه على فريسته ليعين بذلك أنه هو الوحش: قانونه المنفعة، وشرفه المنفعة، وصداقته المنفعة، وأدبه المنفعة، ودينه المنفعة. فهو لا ينفك من منفعته في مثل السعار إذا أخذ الوحش فاستكلب فهاج فطغى، لا يهدأ حتى يطفئ هذا السعارَ ما يشفيه أو يرده أو يقدعه، وهو لا يرعى في ذلك حرمة، ولا يكفه شرف:
وكان كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
وقبيح بنا - نحن الشرقيين - أن نغمض أعيننا عن النظر إلى هذه المدنية التي أخذت تنهار تحت قصف المدافع وهد القنابل وزلازل الحرب، وأن ننام عن مستقبل أيامنا، وألا ننفض هذه المدنية نفضاً لنأخذ منها وندع، ولنعرف سوء ما تركت أنيابها في جسم أوطاننا، ونتبين حقيقة النفوس المسمومة التي أصبحت في الشرق فاشية تعمل على إدماجه في(367/23)
حضارة غريبة عنه، لا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتاً وإرهاقاً وغروراً
إن رؤوساً من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم، فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوّاً في الأرض واستكباراً، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟
إن الشرق لا يؤتي ولا يغلب إلا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولاً قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقاً آخر، وقلوباً انبتت من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقاً محفوفاً بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضي به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت حوله
لقد لقينا بهؤلاء العنت حين استحكم لهم أمر الناس فتسلطوا عليهم بالرأي وأسبابه، فخلعوا بسوء آرائهم على الشرق ليلاً من الاختلاف لا يبصر فيه ذو عينين إلا سواداً يختفي إذ يستبين. وكانوا له قادة فاعتسفوا به كل مضلة مهلكة تسل من قلب المؤمن إيمانه، وتزيد ذا الريبة موجاً على موجه. فما كتب الله أن يدفع مكر هؤلاء بقوم جِردوا أنفسهم للحق، رأوا أن يلبسوا للناس لباساً من النفاق يترقون به إلى التلبيس عليهم بما حذقوا من المداورة، وما دربوا عليه من فتن الرأي، وما أحسنوا من حيلة المحتال بالقول الذي يفضي من لينه إلى قرارة القلوب، حتى إذا استوى فيها لفها لف الإعصار، واحتوشها من أرجائها، ثم انتفض فيها انتفاض الضرمة على هبة الريح في هشيم يابس.
وقد أقبلت اليوم على الشرق أيام تتظاهر فيها الأقدار على أن تسلم إليه قيادة مدنيته الجديدة بعد طول الابتلاء وجفاء الحرمان، وجاءت مع هذه الأيام فتنٌ يُخشى أن تضرب أولّه بآخره حتى لا يقومُ شيءٌ هو قائمٌ، ولا يبقى من أعلام الماضي إلا آثار التاريخ التي تقف(367/24)
شواهد على ما مضى وآيات لما يستقبل. فإذا كان ذلك، فإن الحكمة والحزم والجِد أن نميز الخبيث من الطيب، وأن نختار لأنفسنا قبل البدء، وأن يلي منا أمر القيادة من هو حق صاحبها والقائم عليها والمحسن لتصريفها وتدبيرها وسياستها، وإلا انفلتت من أيدينا حبال الجمهور المتحفز، فانتشر على وجوهه وتفرق، وكأن ما كان لم يكن، وكأن الفرصة قد عرضت لنا لتدع في قلوبنا بعد ذلك حسرة لا تزال تلذع بالذكرى.
إن أكثر هؤلاء الذين وصفنا قد وجدناهم يمدون أعناقهم يتطاولون مرة أخرى للوقوف في مقدمة الطلائع الشرقية، ورأوا - من أجل ذلك - أن يماسحوا الرأي العام على بعض أهوائه وعلى طائفة من أغراضه، ليستمر لهم ذلك المكان الذي حازوه من قبل، وليكونوا في الشرق الجديد ما كانوا في أيامه السالفة. فهم يبدون له ما لا يعتقدون عليه نياتهم، ويحدثونه حديث من طب لمن حب، وهم كانوا قبلُ أعانوا عليه، إذ أفسدوا صالح أعماله بالآثم من أعمالهم وآرائهم، وهم كانوا عليه حرباً، إذ نزعوا من يديه سلاح القتال في سبيل حريته واستقلاله وانفراده بخصائصه التي ورثها وخص بها، وعمل الجيل بعد الجيل في تنقيتها له تنقية المدَرة من بين الحَب
ليس اليوم أوان يترك الشرق عنانه في الأيدي التي لعبت به وغررت، ولا هو يوم التهاون في القليل لأنه قليل، ولا هو يوم إحسان الظن بمن يحتال للظفر بحسن الظن، ولكنه اليوم الذي يتفلت فيه من كل ضلالة وعبث، ومن كل مرتفق للنفع متشرف للمصلحة، ومن كل سبب من أسباب التدمير. فإذا فعل ذلك، وأعطى كل ذي حق حقه، وامتاز المجرمون، وخلص له المخلصون واستعان بحرية اختياره على إقرار الناس في مواضعهم وعلى مراتبهم، فيومئذ يجد القدرة على انتزاع حريته من أنياب الغاصبين، ويصيب مهاد الطريق إلى الغاية التي ينظر إليها بآماله وأشواقه نظرة العامل لا نظرة الحالم المتخيل
وأخوف ما نخافه هو ما أوتي هؤلاء من الرفق واللين وحسن المجاملة، وأنهم قد أحكموا معرفة الأسباب التي بها يأخذون بأيدي الناس وعقولهم، وأنهم قد أوتوا نصيباً من الصيت يتغلب بهم على ما يعترضهم أو يردهم، وأن الناس أسرع اتباعاً لما ألفوا وحنيناً إليه، وأن البلبلة التي تأتي مع الحروب وتمتد في أذيالها، تدع الناس حيرى غرقى يتلمسون في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى(367/25)
اختيار الأصلح في كل شيء شيئاً يتعلقون به، فإذا لم نأخذ من الآن في جد من الأمر، ولم نصرف جهودنا إلى اختيار الأصلح في كل شيء، فما بد من أن تنجلي العمايات بعد عن الدنيا لتطبق علينا عماية مصفقة كالظلام المصمت. ويومئذ نرتد على أعقابنا حسرى عناة كأسوأ ما مر بنا من زمن، وتضيع الفرصة السانحة ونحن غرقى في بحر طام قد نزح عنا شاطئه بعد الدنو
فعلينا الآن أن نثق بأنفسنا غاية الثقة، لأن الثقة بالنفس هي جيش الحرية، وأن نشك كل الشك في أصحاب الرأي ومن يتعرضون للإمارة عليه، لأن الشك في هؤلاء هو حارس الحرية، وأن نشتد في مطاردة الضلال والعبث، لأن هذه الشدة هي سلاح الحق وسلاح الحرية. فإذا غلب علينا التهاون في شيء من ذلك، فإنها ثغرة تتدفق منها على الشرق مرة أخرى ضلالات وفتن كقطع الليل المظلم، ويعجز أهله عن حمل أعباء الحضارة الجديدة التي اختارهم الله مرة أخرى للعمل عليها والقيام بها. فما بد من أن ينفض الشرقي بعينيه ورأيه كل بارقة وكل غمام، مخافة أن تنزل الصواعق عليه من حيث ظن الغيث
ليس في الشرق قوّى تضارع تلك القوى الهائلة التي صبت من الحديد والنار وأسرار الكون، وليس فيه ذلك الغنى غنى الاستبداد والجبروت والسياسة، وليس فيه ذلك الجمهور العظيم من العقل العامل لإيجاد القوة في كل شيء لاستخلاص المنافع من كل شيء، ولكن هذا الشرق لا يزال يحتفظ بأعظم قوة تخضع كل هذه الأشياء لسلطانها الذي ينال النصر ما تعاون ولم يتفرق. وتلك هي قوة الروح، وقوة الخلق، وقوة الاستمرار إلى النهاية مصابرة لا ذلاَّ، وإيماناً لا عناداً، وتسليماً لا غفلة. فعلينا أن نعرف فضائلنا التي توارثناها، وأن ننفي عنها ما خالطها من خبث الجهالات القديمة التي تراكمت عليه فقعدت به أزماناً طوالاً، حتى استرخى نائماً والناس يقظى
إن الشرق إذا خلص من شر النفايات الطافية على سطحه، وإذا وثق بسلطان الروح السامية التي لا تذل، وإذا نهج النهج لا يتهيب، فما بدٌّ من أن يحوز من القوة ما يضارع قوة المدنية الأوربية المتهالكة، وأن يجعل في هذه القوة من النظام الروحي النبيل ما يرد كل غائلة ويمنعها كل عدوان، ويرفع الإنسانية درجات في طريقها إلى السماء. وهذه أيَّامٌ فيها عِبَرٌ كثيرةٌ لمن يعتبر، فإن حقائق المدنية الأوربية تستعلن كلها في هذه الرجة العظيمة(367/26)
التي ترجف بالعالم ساعة بعد ساعة
ولكن علينا أن نثق، وعلينا أن نشك، فإذا رفعت الثقة أسباب الشك، فإن الخير كله آت على طول الجهاد وترك التهاون وعلى استجادة العمل ومرابطة النفس عليه، وعلى الأناة دون العجلة، فإن الفرس الصغير يكبر على التعهد حتى يؤتى الثمرة، ومن استعان بأسباب الحق أُعين، ولا يهلك الناس إلا من هيبة أو تهور
محمود محمد شاكر(367/27)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
سكون الميادين البرية
سألني بعض القراء من أيام عن مدى التغير الذي حل بالموقف العسكري منذ تسليم فنسا (وهل يضعف تسليمها إنجلترا أم يقويها؟) وردنا على هذا السؤال بنعم ولا؛ فهذا التسليم يضعفها ويقويها، كما ترتبت عليه نتائج لها خطورتها. فبعد ما كانت نهاية الحرب رهن معركة برية وانهزام بري، يعقبه انحلال ألمانيا السريع، لم يبق تسليم فرنسا من مجال يؤدي إلى هذا الغرض، وتبعاً لذلك يرى بعض العسكريين أن الحرب قد تطول فيمتد زمنها إلى عدة سنوات
أما الأسباب التي يستندون إليها لإطالة الحرب فهي:
أولاً: سكون القوات البرية، فلم يعد من صلة مباشرة بين قوات إنجلترا وقوات المحور في أوربا، فلا توجد منطقة تعتبر معاركها حاسمة وتقرر النصر والهزيمة، فإن السلاح الجوي وحده ليس كفيلاً باحتلال البلاد، ويقتصر عمله على إضعاف الروح المعنوية في الشعوب، وعلى تدمير المرافق الحيوية التي تغذي الجيوش.
ثانياً: اتساع موارد دولتي المحور، مما يتيح لهما إطالة زمن الحرب، فهما تسيطران الآن على جميع موارد أوربا من صناعية وغذائية، ونضوب هذه الموارد ليس من الأمور اليسيرة؛ فموارد بلدان أوربا عظيمة، وبهذه البلدان أكبر مصانع العالم، وضعفها الوحيد، هو حاجاتها إلى بعض المواد الأولية التي تستورد من أمريكا أو من المستعمرات كالقطن والمطاط والبترول وغيرها من المعادن التي تدخل في صناعة الطائرات والذخائر.
موطن قوة ألمانيا
وإذا كان اختفاء الميادين البرية من الحرب الحالية يطيل الحرب، فإنه قد قوى مركز إنجلترا قوة لا يستهان بها وجعلها حصناً منيعاً، فإن استعداد ألمانيا البري والجوي استعداد لم يسبق للعالم أن رأى شبيهاً له، فهي تمتاز بمعدات برية سلم قادة الحلفاء أنفسهم بأنها معدات ساحقة. ومن حسن حظ إنجلترا أنها جزيرة لا تستطيع ألمانيا أن تنقل إليها هذه(367/28)
المعدات فبطل عملها. فالموقف الحالي إذن وفر على إنجلترا الاصطدام بنقط ألمانيا القوية، وأتاح لها تدميرها شيئاً فشيئاً، كما أتاح لها الوفرة من الزمن إذ تستطيع أن تعد ما يضارعها ويفوقها
حكم تسليم فرنسا على قوات ألمانيا البرية بالنوم، ولم يبق لها إلا القوة الجوية، وهي تفوق القوة الجوية البريطانية من الناحية العددية، ولكنها في الوقت نفسه تعتبر أضعف من القوة الجوية البريطانية إذا نظرنا إلى مجال كل من القوتين ومدى تأثيرهما. ونستخلص هذه النتيجة من ثلاثة عوامل:
1 - اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان
2 - صغر رقعة الجزر البريطانية
3 - استعداد إنجلترا للدفاع الجوي
فأما اتساع رقعة الأراضي التي يحتلها الألمان، فتستطيع إدراكه من نظرة واحدة نلقيها على خريطة أوربا فنرى المساحة العظيمة التي يضطر الألمان للدفاع عنها، وصغر الرقعة التي يدافع عنها الإنجليز. وفيما يلي بيان تقريبي لمساحات هذه الأراضي التي يحتم موقف ألمانيا العسكري الدفاع عنها
الدولة
مساحتها بالميل المربع
ألمانيا
185. 998
النمسا
32. 000
دانزج
745
تشيكوسلوفاكيا
40. 865
بولندا (الألمانية)(367/29)
70. 000 (؟)
بلجيكا
11. 752
هولندا
12. 582
دنمرك
16. 570
النرويج
124. 964
فرنسا (المحتلة)
141. 972 (؟)
إيطاليا
119. 744
ألبانيا
10. 600
المجموع
767. 784
ويقابل هذه مساحة الجزر البريطانية وهي 115. 338 ميلاً مربعاً. أي أن مساحة الأراضي التي تدافع عنها دولتا المحور ستة أمثال مساحة الجزر البريطانية. فلتساوي قوات الدولتين الجوية يجب أن تكون قوات ألمانيا ستة أمثال قوات إنجلترا وهذا يخالف الواقع
سلاح الطيران
فقد كان مجموع الطائرات الألمانية في سبتمبر سنة 1939 22 ألف طائرة يضاف إليها سلاح الطيران الإيطالي وعدد طائراته خمسة آلاف طائرة. وكان عدد الطائرات البريطانية في ذلك الوقت 17 ألف طائرة يضاف إليها ما اجتلبته من الولايات المتحدة وكان مجموعه(367/30)
إلى الشهر الماضي 2500 طائرة، وقد تدرج هذا المجموع في النمو تدرجاً مطرداً بفضل نشاط المصانع الإنجليزية حتى أصبح التفوق العددي لدولتي المحور تفوقاً غير مذكور
ولا ننسى في هذا المجال جرأة الطيارين البريطانيين وحسن مرانهم، مما يتيح للسلاح البريطاني التفوق الفني على السلاحين الألماني والإيطالي، مما ألقى الرعب في قلوب الطيارين النازيين ودفع بإذاعة برلين إلى الشكوى من قسوة الإغارات البريطانية على ألمانيا
أما العامل الثالث وهو استعداد الجزر البريطانية للدفاع الجوي، فقد ثبت أن الطائرات الألمانية تجد صعوبة كبيرة في مهاجمة إنجلترا وخصوصاً المرافق العسكرية فيها؛ فلندن مثلاً تحاط بسور من المناطيد الجوية التي ترتفع إلى طبقات الجو العليا وتهبط منها أسلاك متينة مشدودة إلى الأرض، فإذا حاولت الطائرات اختراق هذا السور فإنها تصطدم بالأسلاك وتتحطم، فإذا أرادت التحليق فوق المناطيد، استحال عليها ذلك نظراً لتخلخل الهواء في تلك المناطق وقلة الأكسيجين اللازم للجسم، فيموت الطيار قبل أن يصل إلى ارتفاعها
وأفاد تسليم فرنسا من جهة أخرى، فإن معدات الدفاع ضد الغارات الجوية من طائرات مطاردة ومدافع مضادة للطائرات بعدما كانت موزعة في فرنسا للدفاع عن القوات والبلاد الفرنسية عادت إلى الجزر البريطانية وتركزت في رقعتها الصغيرة لاستقبال الطائرات المعادية، فازداد عددها وأصبح مجموع النيران التي تقابل بها الطائرات المغيرة أكثر مما كان قبلاً، ففشلت الطائرات الألمانية في الوصول إلى أهدافها
ولسنا في حاجة إلى تكرار القول بأن قوات بريطانيا البرية أصبحت الآن مركزة في الجزر البريطانية لاستقبال ما قد يرسله هتلر من قواته إليها مما يضمن لها التفوق على ما قد تنقله الطائرات، أو ما قد يفلت من حصار الأسطول البحري، إذا تيسر لبعض السفن الإفلات
وكان من نتيجة تسليم فرنسا زيادة أعباء الأسطول البريطاني واتساع مساحة المناطق المحصورة بحرياً، فبعدما كانت مناطق الحصر قاصرة على بحر الشمال مرتكزة إلى القواعد الفرنسية، شملت جميع سواحل أوربا مرتكزة على جبل طارق، وهي مهمة قاسية خبر الأسطول البريطاني تنفيذها في تاريخ إنجلترا وحروبها الطويلة(367/31)
لأسباب عائلية
وكنا نأمل أن تنضم قوات المستعمرات الفرنسية إلى الجانب البريطاني، ولكن يظهر أن حال الفرنسيين تغيرت، وأن دعاة الهزيمة في فرنسا غلبوا على ما في القواد الفرنسيين من وطنية وحب للحرية؛ فأعلنت قوات الجزائر وتونس وسوريا تسليمها لأسباب مضحكة، فقال الجنرال ميتلهوزر إن له عائلة في ستراسبورج فهو يخشى إذا استمر على القتال أن تضطهد، فهو على رأي أحد القراء الكرام: يقف القتال (لأسباب عائلية)
فهذا السبب يدعو إلى الضحك، وشر البلية ما يضحك، فهل هؤلاء قادة؟ ألم يكن في استطاعته أن يستقيل بدل أن يقول مثل هذا اللغة؟
في المستعمرات
وخسرت إنجلترا في المستعمرات الفرنسية القوات المقاتلة في تونس والجزائر، فإن وجودها كان عاملاً له أثره في القتال في ليبيا، لأنها كانت تضطر القوات الإيطالية هناك إلى القتال في جبهتين، فتقاتل من الغرب القوات الفرنسية، ومن الشرق القوات البريطانية؛ ولكنها الآن تستطيع أن توجه جهودها إلى الميدان الشرقي وحده. وأدى تسليم قوات سوريا ولبنان إلى فائدة تلك البلاد، فاتفقت تركيا والعراق على استقلاها، وهي بشرى حسنة للأقطار الشرقية. أما في الصومال الفرنسي فقد رفضت القوات الفرنسية وقف القتال، ولهذا القرار أثره، فإن جيبوتي هي المدخل البحري المتصل بالحبشة
وتنبأنا منذ توقيع الهدنة أن الأسطول البحري الفرنسي سيخير بين شيئين، فإما أن ينضم إلى الأسطول البريطاني في كفاحه وإما أن يغرقه، وقد تحقق ما تنبأنا بوقوعه، فعند ما عارض قادة الأسطول الفرنسي الطلبات البريطانية وجهت الوحدات الإنجليزية نيرانها إليه فأغرقت بعض قطعه ودَّمرت قطعاً أخرى حتى أصبح استعمالها متعذراً، إذا قدر لها أن تقع في أيدي الأعداء
موقف حازم
وأعجب العالم بحزم الحكومة البريطانية في هذا الموقف، إذ ضمنت بتصرفها حرمان دولتي المحور من أسطول بحري كبير، يفوق في استعداده وعدد قطعه الأسطول الإيطالي؛(367/32)
فلو وقع هذا الأسطول في يد هتلر وموسوليني لسببا لإنجلترا كثيراً من المتاعب سواء في البحر الأبيض أو في المحيطات، إذ تستغل قطعه في أعمال القرصنة، ولا عبرة بما وعدا به من عدم استعماله، فإنهما يدفعان بفرنسا الآن إلى إعلان الحرب على إنجلترا مستغلين ضعف وزارة بتان
ولا ندري بالضبط مدى التهديد الذي يوجهه النازيون إلى قادة الفرنسيين، ولا مدى الوعود المعسولة التي يمنونهم بها، ولكنه مما لا شك فيه أن الوزارة الفرنسية واقعة تحت ضغط شديد يفقدها حرية التفكير والعمل. ويقال إن الألمان يهددون الفرنسيين بنسف مدن كاملة إذا لم تنفذ الهدنة تنفيذاً دقيقاً، وإذا لم يخضع الفرنسيون لجميع طلباتهم، ومثل هذه الوحشية ليست بعيدة عن الألمان
في البلقان
كتبنا في مقالنا الماضي في حركة الروسيا في رومانيا، واستنتجنا منها أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تتقيد فيها بدولتي المحور ولا بالحلفاء، مستغلة الظروف الحالية، وأنها تتجه في سياستها إلى الاستيلاء على بترول أوربا وتقوية مركزها العسكري. فالروسيا مشتركة في المؤامرة الديكتاتورية على الدول الديمقراطية، ولكنه اشتراك ظاهري كما يبدو لنا، الغرض منه حصولها على أهدافها على حساب غيرها، دون أن تكلف نفسها خسائر حربية. وقد تم حتى الآن كما نرى نصف المؤامرة ولم يظهر بين المتآمرين خلاف كبير أو تعارض في المصالح، وبدأنا نشعر بأن تحقيق مؤامرتهم على وشك أن يفشل، لأن الروسيا هددت باستيلائها على بساربيا وشمال بكوفينيا مصالح دولتي المحور في البلقان. فإن المدى الذي تهدده الروسيا لا يمكن أن يكون داخل نطاق المؤامرة، فالتسليم به بمثابة تسليم رقبة دولتي المحور للروسيا الشيوعية التي تخالفهما في المبادئ والمصالح، والتي طالما نعتوها بأقبح النعوت.
في أحضان النازية
وظل الشك يخالجنا في موقفها في الفترة الماضية، ولكن حوادث رومانيا الأخيرة أزالته، وأكدت لنا أن علاقاتها بهما ليست صافية، وأن حركاتها ليست متفقاً عليها كما يتوهم(367/33)
البعض. فبعد استيلائها على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينيا يذاع أن وزارتها أعيد تشكيلها وأن بعض أعضائها من حزب الحرس الحديدي، وهو حزب نازي المبادئ والميول، ثم يعلن أيضاً أنها ارتمت في أحضان ألمانيا
وليس لهذا الموقف إلا تفسير واحد، وهو أن رومانيا تطلب حماية ألمانيا من الروسيا، فليست بسارابيا وبكوفنيا إذن هما كل ما تريده الروسيا، بل إن رومانيا تشعر بأن جعبة الروسيا لم تفرغ فهي تسعى وراء شواطئها الساحلية ومنابع بترولها، وإذا قبلت ألمانيا شرط الحماية فهي تقبل تبعاً لذلك موقف معارضة الروسيا، وتلوح لها بأنها تعارض تحقيق مطامعها، ومعنى ذلك انهيار جزء كبير من المؤامرة الدكتاتورية
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(367/34)
تفاريق الحياة
للأستاذ إيليا أبو ماضي
إذا جدَّفت جوزيت على التجديف بالنار
وإن أحببت عيرت من الجارة والجار
وإن قامرت أو راهنت في النادي أو الدار
فأنت الخاطئ الآثم عند الناس والباري
وإن تسكر لكي تنسى هموماً ذات أوقار
خسرت الدين والدنيا ولم تربح سوى العار
وإن قلت إذنْ فالعيش أوزارٌ بأوزار
وإنَّ الموت أشهى لي إذا لم أقض أوطارى
وأسرعت إلى السيف أو السم أو النار
لكي تخرج من دنيا ذووها غير أحرار
فهذا المنكر الأعظم في سر وإضمار
إذنْ فاحيا ومتْ كالناس عبداً غير مختار
إيليا أبو ماضي(367/35)
أغنية حزينة!
(مهداة إلى شاعر الحب والجمال (علي محمود طه))
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
دنا الليل، وما الليل سوى أطياف آلامي!
دنا الليل، وما الليل سوى أشباح أيامي!
دنا الليل، وما الليل سوى يأسي وأوهامي!
فهاتي خمرة اليأس ... وهيا أترعي كأسي
وعبي منه يا نفسي ... ولا تبكي ولا تأسي
فما يومي سوى أمسي
دنوت الآن يا ليلى فأيقظت كآباتي!
ورعت فؤاديَ الغافي وهيجت جراحاتي!
وأترعت بخمر الوحشة الخرساء كاساتي!
وأطلقت بأفق الروح أشباح خيالاتي!
أتسمع أيها الليل صدى شجوي وأناتي!
أتبصر أيها الليل سكوني وارتعاشاتي؟
أتبصر في محيايَ تهاويل التعاسات؟
شكوت إليك يا ليلى فما أجدت شكاياتي!
فعدت أعلل النفس، فلم تنفع تعلاتي!
فهاتي خمرة اليأس ... وهيا أترعي كأسي
وعبي منه يا نفسي ... ولا تبكي ولا تأسي
فما يومي سوى أمسي
زرعت الحب والأحلام في بستان أيامي
وقمت الليل أرويه بماء سحابيَ الهامي
وأعزف عنده فرحاً على القيثار أنغامي
وقلت: (إذا أتى الفجر بنور منه بسام(367/36)
سألقي الحقل - وافرحا - يرف بزهره النامي)
فلما أقبل الفجر يفيض بنوره السامي
رأيت الشوك في حقلي يماثل أسهم الرامي!
فعدت لكوخيَ النائي بقلب حائر دامي!
أوقع لحن حرماني، وأحزاني، وأسقامي!
فهاتي خمرة اليأس ... وهيا أترعي كأسي
وعبي منه يا نفسي ... ولا تبكي ولا تأسي
فما يومي سوى أمسي
(دمنهور)
إبراهيم محمد نجا(367/37)
هكذا الدهر. . .
للأديب بدوي سليمان
نُحْ مَعي يا شاكي الأيْ ... كِ فقد صوَّح روضي:
خبتْ الشعلة في رو ... حي وقد أطفأ وَمْضي
فرْعك الغض سيذوي ... مثلما قد كان غَضِّي
فانعه من قبل أن ... يُدْركه الصيف بأرضي
كل من طال به العَيْ ... شُ فلا بد سيمضي
زمرٌ في إثر أخرى ... لاحقاتٍ إثرَ بعضِ
بدوي سليمان(367/38)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
. . . وعندنا فنانات أيضاً
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
السيدة روز اليوسف
جاء عليها يوم كانت فيه الممثلة الأولى في مصر، وجاء عليها يوم بعد ذلك كانت فيه الصحافية الأولى في مصر، وهي لا تزال إلى اليوم تحتل مكانها الملحوظ في عالم الصحافة
أظهر ما فيها طيبة قلبها، حتى ليعدها الإنسان بلهاء؛ فهي بعد الوقت الطويل الذي انغمست فيه بين أهل الفن والصحافة، وما أدراك ما أهل الفن والصحافة، وما نعومتهم وما دهاؤهم، مع طول ما جربت هؤلاء وقارفت عشرتهم وقارفوا عشرتها؛ فإنها لا تزال إلى اليوم على استعداد لأن ترحب بكل من قال لها (إني صديق)، وبكل من قال لها (إني صادق)، على شرط ألا يقول لها هذا تصريحاً، فإنه لو فعل ذلك لشكت فيه
تتعرف إليها الساعة، فتراها انطلقت إليك بروحها كلها غير متحفظة وغير متريثة، فإذا كنت ابن حلال قدَّرت هذه البراءة وصنت لها رجاءها فيك. أما الجاحدون فيخدعونها ويجمعون من حولها الرزق والشهرة، حتى إذا شبعوا هجروها، وريما آذوها
وهي لا تزال صابرة سليمة النية، والله يسلمها من كل كرب ومن كل ضائقة
أنشأت منذ سنوات صحيفة يومية تطاولت إلى مقام الأهرام وقد تصدت بصحيفتها هذه لأزمة كانت مستحكمة في البلد، فكانت من أقوى الأسباب التي حطمت هذه الأزمة، ولكن هذه الأزمة كانت العامل القوي الوحيد الذي حطم صحيفة روز اليوسف
ولكن السيد روز اليوسف لم تتحطم، وإنما رعاها الله بضعفها وسلامة نيتها
السيدة فاطمة رشدي
ليلى، كيلوباترا، سمير اميس، النسر الصغير، غادة الكاميليا، نجف، إيميلى
كل هذه أدوار أشبعتها فاطمة رشدي حياة، مع أني أستطيع أن أراهن بكل (السجائر) التي(367/39)
معي على أنها لم تدرك من أسرار هذه الأدوار إلا أيسر الإدراك، ولم تلم بدقائقها النفسية إلا أهون الإلمام
فكيف إذن كانت تجيد فاطمة رشدي هذه الأدوار، وكيف كانت توفق فيها التوفيق الكبير؟
إنها كانت تجيد وكانت توفق، لأنها كانت تتصور وكانت تحس، ولأنها كانت تبني بخيالها نماذج لهذه الشخصيات التي كانت تمثلها، فكان طبعها السليم يهديها إلى أصدق النماذج مشابهة لهذه الشخصيات، فكانت تمثل كما لو كانت رأت اللواتي تمثلهن
ولكنها على الدوام كانت تنفذ بروحها إلى أرواح بطلاتها، فإذا بالشخصية المسرحية التي كانت فاطمة رشدي تتقمصها، لا يزال فيها من فاطمة رشدي نفسها، حركات قاهرية عذبة، وإشارات بلدية لذيذة، وتنهدات وتكسرات نعرفها نحن في مصر وفي هذه الأيام ولكني لا أظن أن كليوباترا، وسميراميس، وليلى، وغيرهن من بطلات فاطمة رشدي قد عرفنها. . .
وتلاشى هذا العيب من فاطمة رشدي وتمثيلها حين ظهرت في فلم العزيمة، فقد أخرجت في هذا الفلم دور فتاة قاهرية بلدية فانطلقت في التمثيل على أساس من سجيتها وعلى عون من ذكائها وبراعتها، فتساند فنها بعضه إلى بعض واكتمل لها النجاح على نحو متألق رائع
الآنسة نبوية موسى
مربية تحترمها الأسر احتراماً كبيراً، وتعترف لها وزارة المعارف بجلال العبء الذي تحمله على عاتقيها
وكاتبة قصدت فيما تكتبه من مذكراتها لأخطر ما يمكن أن يكتب فيه المربي، وتعرضت فيه لخفايا يتهرب أشجع الكتاب من التعرض لها مع أن أمرها معروف، وخطرها ظاهر، ونتائجها بينة، وعلاجها أمر تفتقر إليه بيئات التعليم وغيرها من البيئات افتقاراً ملحاً عنيفاً، ومع هذا فنحن نتعامى عنها على قسوة ما يترتب عليها
فإذا لم يكن للآنسة نبوية موسى غير مالها من فضل الشجاعة الأدبية التي دفعتها إلى معالجة هذا الموضوع، واحتمال ما قد ينشأ عن ذلك من سخف القول لكفاها هذا فخراً، فإن هذا الموضوع لم يتعرض له حتى اليوم في مصر من الكتاب المعاصرين رجل.
السيدة بديعة مصابني(367/40)
لها ابتسامة لا أدري كم تجهد أعصابها. حاولت أن أقلدها فيها مراراً، فكنت أضحك أنا من نفسي قبل أن يضحك الذي كنت أتصنع هذه الابتسامة معه
ولكن بديعة مرنت على هذه الابتسامة، واعتادها الجمهور منها وأصبحت لها أمارة وعلامة
هي مديرة مدبرة تحسب الحساب، وترتب النتائج على الأسباب، وتأخذ عملها بالحزم والجد، وهي لذلك تنجح وتواصل العمل
وهي أيضاً فيلسوفة صاحبة حكمة. أرادت الرقابة أن تمنعها عن أغنية (لا والنبي يا عبده) فضحكت وقالت: إذا منعت هذه الأغنية عندي فسيغنيها الشعب في الطرقات والبيوت لأنها (نشيدنا القومي. . .!)
في هذا التعبير قسوة من غير شك. وفيه لطمة لحشمتنا. ولكن بديعة على أي حال صدقت، فالأغنية راجت رواجاً لم ترج مثله أغنية أخرى منذ (يا عزيز عيني) و (زوروني كل سنة مرة)!
الآنسة روحية خالد
كانت وهي في فرقة رمسيس كالعصفورة، وربما كان التحاقها بالفرقة القومية من العوائق التي عرقلت نموها الفني، فهي تشعر اليوم بأنها موظفة حكومة، تقبض مرتبها آخر كل شهر، فهي لا تحاول الاستزادة من الإجادة في عملها، وإنما التفتت إلى الاستزادة من دواعي راحتها
لا ريب في أن استعدادها الفني جارف، ولكن منذا الذي سيتعهدها في الفرقة القومية؟ إن العمل في هذه الفرقة يسير على نمط عجيب، فلكل رواية مخرج، وكل مخرج ينتقي من الممثلين والممثلات من يرى صلاحهم لروايته وأدوارها، وأغلب ما يهتم المخرجون في الفرقة القومية بالمناظر والملابس والإضاءة. أما أرواح الأشخاص الذين يظهرونهم على المسرح فأمر يتركه المخرجون للمثلين؛ والممثلون أنفسهم يحبون من المخرجين هذا، والمخرجون أنفسهم راضون عن أنفسهم في هذا، وعلى هذا الأساس فإن ممثلة ناشئة مثل روحية خالد سيقف تقدمها الفني عند المرحلة التي انتهت إليها وقتما فارقت فرقة رمسيس حيث كان الأستاذ يوسف وهبي يعلمها بإخلاصه لفرقته ونفسه كل ما يعلم من تجاربه(367/41)
واطلاعه
ويوسف وهبي - على الأقل - أكبر سناً من المخرجين في الفرقة القومية وأغلبهم تلاميذه. . .
السيدة خديجة حافظ
أخت السيدة بهيجة حافظ. وخديجة الكبرى
موسيقية كأختها، ولكنها ليست ممثلة، لا اعرف من أخبارها اليوم شيئاً، ولكني أذكر لها (تانجو أورينتال) وضعته منذ عشرين سنة تقريباً، وكنت أسمعه وأنا صغير فيخفق له قلبي غراماً وحباً، وحناناً ووداعة. . .
ولا أزال أترنم بهذا اللحن إلى اليوم كلما هفت نفسي إلى ذلك العهد.
السيدة بهيجة حافظ
هي أيضاً موسيقية ممتازة، وموسيقاها عندي أحب من تمثيلها. لها قطعة أسمها (أنت) أعوذ بالله من الآلام التي تتدفق فيها.
متوثبة. ذات آمال فنية عريضة، ولكن هناك عائقاً شديداً يحول بينها وبين تحقيق هذه الآمال، إن هي تخطته فقد يسهل عليها جداً أن تتخطى بقية العوائق. . .
ذلك أنها لا تنسى في أي لحظة من اللحظات أن أباها كان باشا، وأنها بذلك من طبقة غير طبقة هؤلاء الممثلين وهؤلاء الممثلات، وهؤلاء الموسيقيين وهؤلاء الموسيقيات
وفكرة الأرستقراطية هذه كفيلة بتحطيم الفن ونسفه في أي نفس مهما تأصل فيها الفن ومهما تمكن منها. . .
السيدة زينب صدقي
وهذه لم يكن أبوها (باشا) ولا غير ذلك من حملة الألقاب، ومع هذا فهي تحب أن تظهر بمظهر الأرستقراطية، وتحب من دعاتها دائماً أن يقولوا عنها إنها أرستقراطية. وقد تأثر كثيرون من الناس بهذه الدعاية وأنا من بينهم، وكانت نتيجة هذا التأثر عندي أني حسبتها أرستقراطية حقاً وقريبة من الأرستقراطية فنفرت منها ونفرت من فنها
أقول هذا، وأقول أيضاً إلى جانبه إني كثيراً ما كنت أنسى هذه الدعاية وأنا أشاهد زينب(367/42)
في تمثيلها فكنت أهتز لها وأعجب بها
فإذا كانت تريد أن تبرأ من عتمة الجمود التي نسبها إليها دعاتها فلتطالبهم بأن يكفوا عن دعايتهم الخاطئة
الآنسة أسمهان
إذا لم يكف عنها أخوها الأستاذ فريد الأطرش، وإذا لم تبدأ منذ اليوم بالبحث عن ملحن يربي مواهبها، فإنها بعد ثلاثة أعوام أو أربعة على الأكثر ستتحول إلى مغنية (ميكانيكية) بسمعها الناس بآذانهم بينما قلوبهم منصرفة عنها وعما تغنيه. . .
كل عمل في الدنيا يقبل (الشركة) و (المساهمة) إلا الفن
السيدة زوزو الحكيم
فيها الشاعرية والأسى اللذان أراهما في (كاي فرانسيس) وعلى الرغم من أنها قضت وقتاً طويلاً على المسرح المصري فإني لا أزال أنتظر لها دوراً يشبعها ويشبع معها الذين يثقون بها
والفرص مقبلة، وفي الله الأمل
أظنها في الفرقة القومية، وأظنها لهذا فقط لا تزال مغمورة. . . ولكن أين تذهب، وفي أي فرقة أخرى تعمل، وحال المسرح كما نعرف!. . .
الآنسة فردوس حسن
فيها ميل ظاهر إلى المرح واللعب والضحك، لست أدرى إذا كان طبعاً فيها أو درعاً لها، ولكنها به على أي حال تستطيع أن تكون في طليعة ممثلات الكوميدي، وإنها لكذلك ولو لم تتح لها فرصة التخصص
السيدة نرجس شوقي
لم نعد نشمع عنها شيئاً في هذه الأيام، ولست أدري أين هي ولا ماذا تصنع، ولكني لا أنسى أنها كانت (المونولوجيست) المصرية الوحيدة الرشيقة الخفيفة، التي كانت ترتجل مواقفها وحركاتها وإشاراتها على المسرح ارتجالاً، معبرة بذلك عما تلقيه أنفذ التعبير وأبلغه؛ كما كانت المرحومة امتثال فوزي(367/43)
لم ترق كثيراً في عملها من الناحية المادية، لأنها فنانة كانت تعتمد على فنها وحده كما كانت تعتمد على الله في حفظ حياتها يوم كانت (بهلوانة) في سرك تقفز في الفضاء قفزات ثمن الغلطة في إحداها كارثة أقل ما فيها من شر هو تحطيم العظام وتكسير الضلوع
هي
التي ربت أذني، وعيني، وقلبي، وعقلي، ولساني، وقلمي، والتي غذت روحي ونفسي
والتي تسلمتني من فاطمة بنت حواء وآدم التي احتضنتني بعد ما احتضنت أبي من قبلي. . .
والتي رفعتني، وخفضتني، وقومتني وعوجتني، وألهبتني وأثلجتني، وأروتني وأظمأَتني، وأصلحتني وأتلفتني، وعلمتني وخبلتني. . .
سألتها أن تقرأ الفاتحة معي للسودانية التي فتحت لله منذ الطفولة نفسي
ولنا جميعاً من الله الرضا والرحمة
ولكن. . . من الذي سيترجم لها هذا، وكيف ستقرأ الفاتحة؟
عزيز أحمد فهمي(367/44)
رسالة العلم
تأملات:
في مملكة الحيوان
للأستاذ محمود الدسوقي
في إحدى السنين التي كان خلو الذهن فيها ظاهرة بادية في الشعوب، وأشغاله ظاهرة تبدو على الحكومات، والتي كانت فيها الطبيعة آمنة، وكان الناس من نحوها آمنين مطمئنين - في إحدى هاته السنين زرت أوربا، وأوربا كعادتها جمة النشاط، منصرفة إلى التجديد، والطبيعة باسمة حالمة يفيض قلبها بالحب وتزخر على جوانبها الأماني، فلم يرعني شيء كالألفة القائمة بين الحيوان والإنسان تقليداً ترعاه التربية العامة، ولا يغفل إلا بمقدار
وقد كان بيني وبين الطير والحيوان حديث ما أعذبه، فلم يكن في الجو ما يقصى الطير عن شجره والحيوان عن مأمنه. والطير والحيوان أحب الرفاق إلى الإنسان إذا أعوزته الرفاق، فهما أحفظ لسره، وأبقى على عهده، وأطوع لإرادته، ما دام كل شيء يجري معهما على سجيته
لم اقصد إليهما كما فعل التاجر هورن، فأقتحم عليهما الغاب والآجام، فأنا أعرف بالحدود من ألا أقف عند حد. بل إني حاولت أن أجتمع بهما وأنا آمن، وهما عديما الحيلة عديما الأذى. وهل في غير حدائق الحيوان ينشد المرء مثل هذا اللقاء؟ وإنه لمتعة للنفس، وفرصة للنظر والدرس، وساعة للتحصيل لا تجلب السآمة
وقد كنت أغشى حديقة الجيزة فيما مضى من الزمان، فإذا الظاهرة التي تسترعي انتباه من يعنيه الانتباه إلى علاقات المخلوق الطليق بالمخلوق الحبيس هي اضطهاد وتحفظ، اضطهاد من الزوار الذين لا ينون عن مضايقة الطير والحيوان كل في قفصه، وتحفظ من الطير والحيوان، إذ هو لا يقترب إلا حذراً، ولا يبتعد إلا متوجساً
وغشيت في تلك السنة التي ألمعت إليها إحدى حدائق أوربا العامة المترامية الأطراف التي يضل فيها السائر من دون خريطة، وتسعف فيها المركبات من كلت قدماه قلت: غشيت تلك الحديقة، فإذا الكلفة التي ألفنا أن تكون في حديقة عامة بين الطليقين من الإنسان والحيوان(367/45)
مرفوعة، وإذا ألفه معقودة بين المخلوقات تجعل من الحديقة سفينة أخرى لنوح عليه السلام. وقد لفت نظري عند جزع شجرة أطفال دون العاشرة (وسنجاب) في أعلى الشجرة، والسنجاب حيوان خفيف الروح، تملكه بالإحسان والدعابة، لكن قبضك الريح كقبضك عليه. وقد ناداه طفل بالاسم الذي آثره به فأحس في الحال أنه المعني بالنداء، فدلف من فرع إلى فرع، ووقف عند متناول اليد، فمد إليه الطفل يده بالغذاء غير باغ، فتناول (السنجاب) حاجته منه وارتد. وجعلت طفلة تستهويه بشيء جديد، وتناديه كذلك باسم جديد، فإذا السنجاب دالف على عادته، مؤدٍّ مهمته، والأطفال بين ضاحك وباذل ومتحبب (والسنجاب) في تلك الأسرة الصغيرة ابنها المدلل العزيز
ولقد خطرت لي فكرة التحدث إلى السنجاب ما دام من سجاحة الخلق بهذا القدر فحاولت أن أختلي بأخ له بعيداً من مجمع الأطفال إذ كنت قد نسيت فنونهم من قديم، وإني إلى ذلك لأتحاشى أن يذكروني بهذا الفنون؛ فكان أن لقيت سنجاباً فدعوته إلى ناحية فتطلع إليَّ ولم يزد إذ كانت يدي خالية مما يطمع فيه، وانطلق ليستروح طيب الشمائل من غيري
والعصافير فطينة أليفة في تلك الحديقة تتصيد المارة. وكثير من الناس يطوفون بالحدائق العامة وفي ميزانياتهم رصيد محترم للطير والحيوان. فالحب دائماً على أكفهم لا يبذرونه، ولكن يقع الطير عليه فيلتقطه غير هياب. وقد لقيت غير بعيد عصفوراً جاثماً على فرع شجرة، فما إن اقترب منه عابر سبيل باسطاً يده بالنذر اليسير حتى هبط على يده والتقط الحب في لمح البصر ثم عاود الجثوم، وعاود المار الكرة وعاودها العصفور، حتى إذا خرجت يد العابر من هذه المعاودة وهي خالية إذا بالعصفور يميل يمنة ويسرة، ويصل بين ذنبه ورأسه، ولا أدري أكان يبغي بما فعل أن يرد الحسنة بعشرة أمثالها أم كان يبغي المزيد
وجلست في حديقة للحيوان غشيتها بعد ذلك بأيام على مشرب أستريح. وعلى كثرة أقفاص الحديقة وحظائرها، والمواطن التي أنشئت فيها على غرار الطبيعة، ليحس فيها الطير والحيوان أنه في بيته - كنت أجد الطاووس يخطر في طرقاتها ومماشيها مع الزوار جنباً إلى جنب أو معترضاً طريقهم، وكنت ألقى الدجاج الزاهي الألوان البديع الريش يسرح بين الناس في طلب الرزق. وليس في هذا ما يستحق الذكر، لكن حين جلست إلى مائدة المقهى(367/46)
أقبل على الدجاج في رهطه ومعه طائفة من الديكة الرومية أحاط بي جميعها في انتظار ما يكون. وكان أن طلبت فنجاناً من القهوة يعيد إلى رأسي بعض ما انتهب التعب، فأدرك الدجاج أن ليس ما يطلبه عندي فلا فطيراً رأى ولا كعكا، ولا قارطيس مما يحمل المحسنون؛ ولم يشأ أن ينصرف مع ذلك عني فلعله خشي أن أتهمه بالنفعية أو لعله لم يكن قد يئس بعد من كرمي وأنا رجل غريب لا علم لي بتقاليد الحديقة
واستأنفت المطاف في الحديقة ووقفت أمام حيوان صغير لطيف يشبه النمس ويدي في جيبي، فتبعها بنظره شأن المترقب حتى إذا خرجت وألفاها فارغة رماني بنظرة لم يفتني ما فيها من ازدراء.
تعرف الحرية القيود جد المعرفة، وقد لا تعرف غير القيود؟ فليس ثمة إباحة إلا ولها شرط. وقد كنا إلى عهد قريب نسرف في تقييد حرية الطير والحيوان في حديقة الجيزة، ثم احتذت مثال حدائق الحيوان في الغرب في كثير؛ لكنا لا نرى فيها ما رأيت حين تابعت المسير في الحديقة الأوربية من قطعان الحمير التي لا تعرف الحظائر أو تعرفها ولا تحتاج إليها. ولعل من الخير أن تترك الحمير تسرح في الحدائق وتمرح على هواها فقد ترتفع من هذا قيمتها ويرتفع سعر ذكائها المشهور، فهي تحسن جرش السكر فوق ما تجيد من طحن الفول ومضغ التبن وحصد البرسيم، وهي تعرف كيف تعترض سبيلك لتنال بغيتها منك، وكيف تدفع ظهرك بأشفارها لتلفتك إليها. وقد تسير في الحديقة في حاشية طيعة من البرازين تتبعك كظلك إلى حيث تشاء في داخل الحديقة طبعاً إذا كنت رجلاً كريماً، وكان السكر بعض ما عندك
والحيوانات جميعاً حبيبة إليّ، لأنها على الفطرة، وفطرتها سليمة لم تتلف على نقيض الإنسان الذي تستنفذ فيه المدنية هذا الزخر الطبيعي، وفصيلة القط أجمل الحيوانات طراً، لأن لها شخصية قوية، ولأنها قادرة على النضال، ولأن كل حركة من حركاتها جذابة فيها ظرف كثير. وهذه الفصيلة بالذات هي التي يخشاها الإنسان لأنه يتوجس منها الشر ولأنها في يقينه غادرة خائنة وقد لا تكون أغدر من الإنسان ولا أخون، وهنا نتساءل لماذا نحبو بالعطف غير هذه الفصيلة من طير وحيوان ونأباه على الوحش الذي ينتمي إليها، والجواب الذي تنتظره مني أيها القارئ غير الجواب الذي أعده لك، فليس كون هذه الوحوش تفترس(367/47)
في جوعها سائر المخلوقات هو الذي يحبس عنها عطفنا وإلا فما الذي لا يفعله زعيم المخلوقات الإنسان العاقل النبيل في جوعه؟ وإنه ليقال إن الإنسان ليفترس أخاه الإنسان في مسة الجوع الجنونية حين تجنح به سفينة إلى شاطئ قفر أو تتحطم به في البحر
إن المرء ليتوجس من الوحش ويتوقع دائماً أذاه لأنه كثيراً ما يغفل من حسابه حساسية الحيوان في حالات كدره. فقد يقربه بشيء من الملاطفة فلا يجني إلا عكس ما ينبغي أن تثمر الملاطفة، وكذلك يفعل الإنسان حين ينحرف مزاجه ويضيق صدره. أفلا يضيق هو أيضاً ذرعاً بالتربيتة على كتفه والمسحة الرفيقة على خده وأحياناً بالكلمة اللينة؟ فالحيوان والإنسان في هذا سواء وإن اختلفا في المظهر وطريقة الأداء أو إن شئت فقل أدب السلوك. فالنمر والأسد والسنور تدهم في استيائها ملاطفها بعضة دامية؛ والإنسان يجبه ملاطفه في فترة كدره بكلمة نابية أو دفعة غير لطيفة سواء في ذلك الرشيد وغير الرشيد، وصغار الحيوان والإنسان وحدها هي التي لا تملك في تلك الحالة أذى لكنها تطيق الملاطفة على مضض. فالغدر والغش والخيانة صفات يشترك فيها الحيوان والإنسان، غير أنها تصدر من الأول عن ضرورة غالباً ويرتجلها الثاني في أغلب الأحيان. والطبيعة التي سلحت الوحوش الضارية بأنياب أنفذ من السنان وأحد من الخنجر لا يمكن أن تتطلب منها ما تتطلب من أسنان اللبن، ولا أن تجعل مهمة الحوافر والأظلاف كمهمة المخالب والأظفار. ولولا أن للثور قرنين ما فكر في النطح، ولولا أن للحية سماً زعافاً للزمت الأجحار؛ لكن للمخلوقات جميعاً - والإنسان على رأسها - أوقات صفاء وفترات كدر؛ فالنمر الذي يفترس الإنسان وهو يطلب الصيد قد يمسح خده في كمك ويطيق أن تربت على جلده في ساعة الرضا. بقي أن تعلم متى يكون راضياً ومتى تكون غمضة عينه ورقدته الساكنة على كدر. وكذلك هدأة الإنسان كثيراً ما تكون خطراً أي خطر، وكثيراً ما تنطوي على أسوأ المفاجآت؛ وهذا على فهمك الإنسان وجهلك الحيوان
إن القلق الذي يساور بعض أكلة اللحوم غريب مُسَلٍّ، والغريزة التي تحرك صغارها أعجب وأغرب، فقد مررت بقط السرفال المستوحش في حديقة حيوان الجيزة، فألفيت وجبته من اللحم النيئ بين فكيه وهو مقبل مدبر، يساوره القلق الدائم من مزاحم ينجم له من بطن الأرض، أو لعله كان يأمل أن يتاح له من القفص مخرج فيفلت بوجبته إلى حيث(367/48)
يأمن الانزعاج
وتربض النمرة تتناول مخصصاتها وهي لا تقل عن صدر ثور ويأبى لها حنان الأم إلا أن تنزل عن ضلع للصغار وهي ثلاثة ذكر وأنثيان فينقض الذكر على الضلع يحاول نهشه فلا يعدو جهده سلوخاً رفيعة ينسرها بشق الأنفس، وتجتمع عليه أختاه تحاولان صرفه عن هذا الجشع وحب الذات، فينهرهما ويلطمهما بمخلبه فتبتعدان تعويان. لقد آثر بغريزته هذا الجهد على الرضاع الهين، وترك اللبن لأختيه، وأعمل هو أسنان اللبن في الضلع وحده بلا شريك
وهناك ظاهرة ملحوظة هي الشبه بين الإنسان والحيوان في المنطقة الواحدة، وللمناخ وطبيعة الأرض وظروف الحياة أثرها البالغ في إحداث هذا الشبه بلا مراء. فقد مررت بالدب الأسود والدب الأبيض في وقت كان السلام يسود فيه ربوع العالم فلم أفطن إذ ذاك إلى شيء، ودارت رحى الحرب بين الروسيا وفنلندة، فإذا بالدبين ماثلان أمامي أفطن هذه المرة إلى ما بينهما من فرق وأعمد إلى المقابلة، الدب الأسود أو الدب الروسي يحاول أن يعض قضبان القفص فيعض يده، فيئن ويتأوه ولا يبرح موضعه، وإنما يدور في باطنه حول نفسه في ضجر وبرم شديدين، لا ينقطع له تأوه ولا أنين. والدب الأبيض أو دب الشمال أنيق، سامي المظهر، رشيق الخطو، يدور في قفصه في خطى ثابتة متزنة، ويلتمس المخرج في كل مكان، فإذا عز لم ييأس ولم يحاول أن يقبع نهباً للقنوط كجاره الروسي
كذلك الببغاوات شريكة الإنسان في البيان والمكان، تغري بالمقابلة، فحظها في حدائق الحيوان كحظ مناطق الانتداب تستمتع بقسط كبير من الحرية، وترسف مع ذلك في القيود
و (البوم) محببة إلى الحكماء تشبههم في رصانتهم وتحفظهم وتعاليهم واستصغار شأن من عداهم، والانصراف عن التفكير في المادة إلى التفكير فيما وراء المادة. وهي كالحكماء لا تلفيها في مجلسها إلا صامتة، اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، تطيل التأمل والنظر
هذا قليل من كثير مما يعرض للمرء من أمور الحيوان. وقد نكون تناولناه في شيء كثير من العجلة وقليل من التعمق، والأناة والغوص من صفات العلماء، ولسنا في هذه العجالة منهم(367/49)
محمود الدسوقي(367/50)
البريد الأدبي
مصطلح التاريخ
تفضل الصديق الكبير الدكتور أسد رستم أستاذ التاريخ في جامعة بيروت الأميركية فأهدى إلى كتابه الجديد (مصطلح التاريخ) (المثودولوجية)، وهو أول كتاب في موضوعه في اللغة العربية، وقد نحا فيه المؤلف إلى تطبيق هذا العلم الجديد على قواعد (مصطلح الحديث) واستعمال طرائقه، فكان هذا الكتاب تلخيصاً وافياً لمصطلح المحدثين، فضلاً عن أنه ينقل إلى العربية علماً جديداً، وكان عمله فيه سنة حسنة يكون من نتائجها وصل نهضتنا الجديدة بنهضة أجدادنا، وإقامة بنائنا الحاضر على أساس متين مما بنوا؛ وقد بحث فيه المؤلف في التقميش (أي جمع الأصول) والعلوم الموصلة (ويعنى بها وسائل المؤرخ) ونقد الأصول (وهو باب طويل يشتمل على فصول) وتنظيم العمل، وتفسير النص، ثم بحث في العدالة والضبط، وتكلم بإسهاب عن سبق علماء الحديث في هذا المضمار، وإثبات الحقائق المفردة، والربط والتأليف، والاجتهاد، والتعليل والإيضاح، والعرض.
وأنا مع إدراكي جلالة هذا البحث من الناحية العلمية الخالصة ومن الناحية التوجيهية، وفضله في نشر (مصطلح الحديث)، وبيان ما وفق إليه رجاله - لا أستطيع أن أنقد الكتاب أو أحكم عليه، لأني لست من رجال هذا الفن؛ وأنا أشكر لصديقي الدكتور رستم هديته، وآمل أن يتولى بعض زملائه (أساتذة التاريخ في جامعة القاهرة) الكلام على هذا الكتاب في الرسالة وأن يسارع إلى اقتنائه المشتغلون بالتاريخ
علي الطنطاوي
1 - لجنة لفهرسة المخطوطات في المكتبة الظاهرية
عقد في دار الكتب الظاهرية بدمشق اجتماع حضره بعض أعضاء المجمع العلمي العربي، ورئيس المطبوعات الفرنسية وبعض حملة الشهادات الأجنبية، لتلخيص المخطوطات الثمينة العربية التي ترقد تحت الغبار فوق قبر الملك الظاهر. وقد حضر الاجتماع الأستاذ أنور أفندي حاتم الدكتور في الآداب الفرنسية، لاطلاعه الواسع على المخطوطات العربية، كما حضرته الآنسة فلك طرزي، والأستاذ يوسف أفندي العش حامل أجازة صف الكتب(367/51)
وتنظيمها من باريس. فنرجو لهذه اللجنة التوفيق الباهر لما سيبذله أعضاؤها الأعلام من خدمات
2 - أصحاب العاهات ونوادرهم
تقوم نخبة من الأساتذة الأدباء بجمع أخبار أصحاب العاهات ونكاتهم. وقد توفر لديها قسم كبير منها. على أنها لم تعثر إلا على القليل من أخبار العوران ومُلحهم. فمن كان لديه شيء منها فليتفضل بنشره أو بالإشارة إليه على صفحات الرسالة، أو بإرساله إليَّ وله الشكر الجزيل
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
برناردشو بعد بلوغه الثانية والثمانين
كتبت بعض الصحف الإنجليزية أن جورج برناردشو اعتزل كتابة المسرحيات بعد بلوغه الثانية والثمانين من عمره فكذب هو هذه الإشاعة وكتب يقول:
(إنني سكير مدمن من أسرة مدمنة، ولكن بينما أسرتي قد قنعت بالكحول فإني ترديت في شيء أردأ من جنون السكر هو جنون العمل
إني لأشعر بتعس لا حد له إذا انقطع عملي. إني لأحس بصداع خفي بعد سكرة كل شهر، وقد عاهدت نفسي على تحريرها منه وقررت بيني وبينها ألا أشتغل بعد الغداء، وأن أشتغل ساعتين فقط في اليوم؛ ولكن هذا كان عبثاً فكل يوم جديد يأتي بإغراء جديد وشهوة جديدة؛ وفي كل رمة يشتد بي الشوق ويستأثر بي الحنين؛ وأنا أفزع من البطالة أكثر مما أفزع من أي شيء في العالم. . .)
الإمبراطورية العربية
نشر أحد الكتاب الأوربيين سلسلة مقالات في إحدى الصحف الأمريكية عن (الإمبراطورية العربية) و (حلم العرب الأكبر) خلاصتها أن الناطقين بالضاد يحلمون بتأسيس إمبراطورية عربية عظيمة تضم شمل العرب وتجعل منهم إمبراطورية كبيرة تواجه العالم الغربي(367/52)
مواجهة الند للند
وقد نشر الكاتب قائمة بأسماء هذه الأمم وعدد سكانها ننشرها فيما يلي، ونلاحظ أن بعض الأرقام الخاصة بعدد السكان أقل من العدد الحقيقي، ويرجع ذلك إلى أنها مأخوذة من إحصاءات قديمة:
الأمة
عدد السكان
مراكش الفرنسية
6. 000. 000
مراكش الإسبانية
800. 000
الجزائر
7. 500. 000
تونس
2. 500. 000
ليبيا
750. 000
مصر
15. 000. 000
الحجاز ونجد
5. 000. 000
العراق
3. 500. 000
اليمن
6. 500. 000
سوريا(367/53)
3. 000. 000
لبنان
900. 000
فلسطين
1. 500. 000
شرق الأردن
300. 000
الكويت
50. 000
جزائر البحرين
120. 000
قطر
150. 000
عمان
500. 000
عدن وحضرموت
500. 000
المجموع
54. 607. 000
مؤلف كتاب المقنع
تفضل الصديق الكريم الأستاذ الشيخ محمد أحمد دهمان فقدّم لي نسخة من كتاب المقنع في مرسوم كلمات القرآن الذي نشره بعد أن صححه وعلق عليه وحققه حسب عادته في جميع ما ينشر من كتب، ومؤلف الكتاب هو الإمام أبو عمرو عثمان ابن سعيد الداني المتوبي سنة 444هـ وألحق به رسالة في النقط والتشكيل تتمة للكتاب للمؤلف نفسه. ولقد كنت أطالع أمس فصلاً في كتاب (ألف باء) للإمام يوسف بم محمد البلوي فرأيته يذكر كتاب(367/54)
المقنع ويعزوه إلى الإمام أبي عمرو المقري وينتقل عن الكتاب فصلاً في نقاط المصاحف هو نفس الفصل الموجود في كتاب الداني، فكان ذلك باعثاً على الشك في أسم المؤلف. فأنا أشكر للصديق الكريم هديته، وأرجو منه إيضاح هذه الناحية وله مزيد الشكر
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
الجمعية الملكية للدراسات التاريخية
أقر مجلس الوزراء المرسوم الخاص بإنشاء الجمعية الملكية للدراسات التاريخية، وهو مكون من عشرين مادة تتلخص فيما يلي:
تنشأ بمدينة القاهرة جمعية تاريخية تسمى (الجمعية الملكية للدراسات التاريخية) ويكون غرضها تنظيم الدراسات المتعلقة بالتاريخ وتشجيعها، وخاصة التاريخ المصري من نواحيه المختلفة
ولتحقيق أغراض الجمعية:
1 - تقوم بجمع الأوراق والمذكرات الرسمية وغير الرسمية الخاصة بالتاريخ المصري في مصر والخارج وتنسيقها ووضع فهرس عام للمؤلفات والمطبوعات ذات الاتصال بتاريخ مصر، وعمل مصورات لمصر في عهودها المختلفة ومعجمات تاريخية للمدن والآثار والوقائع الحربية والرجال الذين امتازوا في مختلف نواحي الحياة المصرية
2 - تنشر مؤلفات وأبحاثاً في الأغراض السابقة وتصدر مجلة دولية تتضمن مباحثها ونواحي نشاطها
3 - تبذل المساعدات المادية لتشجيع البحث التاريخي والرحلات المتعلقة بالدراسات التاريخية
4 - تنظم في مصر مؤتمرات ومعارض، وتشترك في مثل هذه المؤتمرات والمعارض في الخارج
5 - تنظم محاضرات ومناقشات في موضوعات تاريخية
عبد الله بن المبارك في كتاب (فجر الإسلام)(367/55)
جاء في كتاب فجر الإسلام ص 260 في صدد الكلام عن الوضاعين في الحديث: (وبعضهم كان سليم النية بجمع كل ما أتاه على أنه صحيح وهو في ذاته صادق فيحدث بكل ما سمع فيأخذه الناس عنه مخدوعين بصدقه كالذي قيل في عبد الله بن المبارك؛ فقد قيل: إنه ثقة صدوق اللسان، ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) وجاء في هامش الكتاب أن هذا القول في عبد الله بن المبارك وارد في صحيح مسلم
وهنا أخطأ المؤلف في موضعين، الأول: أن الوضّاع في الحديث هو من ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً لم يقله، أما سليم النية الذي يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح وهو في ذاته صادق، فهذا رجل ذو غفلة لا يدخل تحت الوضاعين بحال من الأحوال، فحشره بينهم كما صنع الأستاذ أحمد أمين خطأ بيِّن
الثاني: أنه جعل عبد الله بن المبارك من المحدثين ذوي الغفلة الذين يحدثون بكل ما سمعوه من غير تمييز بين الصحيح والموضوع والغث والسمين؛ واستدل لذلك بالعبارة التي نقلها عن مسلم. وعبد الله بن المبارك من أوائل المحدثين الذين عنوا بنقد الرجال ولم يرووا إلا عن الثقات من الشيوخ، وفي مقدمة صحيح مسلم أمثلة متعددة لعنايته بالنقد وبلائه الحسن فيه. وفي تذكرة الحفاظ للذهبي: (عن إبراهيم بن اسحق قال سمعت ابن المبارك يقول: حملت عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف منهم)، فرجل يسقط من شيوخه ثلاثة أرباعهم لا يروي عنهم لا يصح أن يقال فيه إنه يجمع كل ما أتاه على أنه صحيح. ومن هنا أجمع الأئمة ونقاد الحديث على إمامته وجلالة قدره، يعلم ذلك من يرجع إلى كتب الرجال. أما العبارة التي نقلها عن مسلم فهي محرفة تحريفاً شنيعاً وأصلها كما في جميع النسخ المطبوعة من صحيح مسلم: (حدثني قهزاز قال: سمعت وهباً يقول عن سفيان عن ابن المبارك قال: (بقية) صدوق اللسان ولكنه يأخذ عمن أقبل وأدبر) فالكلام عن بقية وهو بقية بن الوليد المحدث الحمصي المشهور، والمتكلِّم عنه هو عبد الله بن المبارك. وبقية هذا مشهور بما ذكره عنه ابن المبارك، ففي مسلم بعد هذه العبارة بقليل (عن أبي إسحق الفزار): اكتب عن بقية ما روى عن المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين. ونقل الذهبي عن ابن المبارك نفسه أنه كان يقول في بقية: إنه يدلس عن قوم ضعفاء ويروي عمن دب ودرج. فانظر بعد ذلك هل الأستاذ أحمد أمين قرأ عبارة مسلم(367/56)
بنفسه فأخطأ في فهمها ونقلها وبنى عليها هذا الرأي الخاطئ في رجل كعبد الله بن المبارك؟ أم هنالك شيء آخر؟!
مصطفى حسن السباعي
ذكرى سيد العاشقين
نشرت إحدى المجلات الأسبوعية المصورة فصلاً عنوانه: (ضريح سلطان العاشقين) قالت فيه ما خلاصته:
لعل الكثير من المصريين - إن لم تقل كلهم - لا يعلم أن ضريح الشاعر العظيم عمر بن الفارض موجود في جبل المقطم بالقاهرة قريباً من جامع الجيوشي المعروف في هذا المكان
وذكرت المجلة أن مندوباً لها ذهب إلى هناك فعلم أن المرحومة الأميرة جميلة إسماعيل أرادت قبل وفاتها أن تبني لها ضريحاً فوق الجبل، ولما اختارت المكان لذلك، وجدت أن ضريح ابن القارض مجاور لهذا المكان، فأمرت بتجديده وتشييده، حتى صار عنواناً على الروعة والجلال!
ومن الطريف أن جميع الذين يزورون هذا الضريح من العاشقين والمحترقين بنيران الصبابة، وهناك يشكون إلى إمامهم ما يلقونه في سبيل الحب والهيام، ويرددون ما يحفظون من أشعاره ويكتبونها على جدران الضريح، ويوقعون ذلك بأسمائهم الصريحة
ولا ينسى بعض المستشرقين الهابطين القاهرة أن يزوروا الضريح وينشئوا عنه الأحاديث، ويأخذوا له مختلف الصور. . .
وقد رجت المجلة في نهاية المقال (أن يعني الأدباء والموسيقيون بالعمل على إحياء ذكرى ذلك الشاعر المتصوف)
فيا ترى، هل تجاب هذه الدعوة الطيبة، وهل يعمل أدباؤنا وموسيقيونا، على تحقيقها، فيقضون الواجب عليهم نحو هذا الشاعر الذي خلق أناشيد الغرام، وأنغام العشق والصبابة؟
لقد أحببت الإشارة إلى هذا الموضوع في مجلة (الرسالة) الغراء لأنها مجلة الآداب والفنون، وهي أسير من غيرها بين أهل الفن والأدب. قد يقال إن الحرب تلفتنا عن الاهتمام بمسائل الأدب وشئون الروح والفن، ولكن الواجب أن يعنى بهذه المسائل في مثل(367/57)
تلك الظروف وأمام تلك القلقلات العالمية لنلفت الناس ولو بعض اللفت عن أحاديث المدفع وأخبار القنبلة والطيارة، وقد ذكر أستاذي الدكتور زكي مبارك أنه كثيراً ما احتفل بذكرى الكتاب والأدباء في ميادين القتال نفسها. . .! فيا ترى. . . هل نشهد عناية من أهل الأدب ورجال الوفاء بهذا الشاعر العاشق المتصوف؟ وهل نراهم يخصون ضريحه - بعد أن عرفوه - بالزيارة والحديث؟!
أحمد جمعة الشرباصي(367/58)
القَصَصُ
حلم ساعة
للأستاذ نجيب محفوظ
من عجيب الأمور أننا قد نحيا الحياة سعيدة نخالها طويلة في حلم قصير الأجل. وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان، فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته، كان يوماً أو بعض يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحَلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاز به عالم الزمان والمكان. ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد، على نحو بالغ في القسوة والوحشية. . . كيف كان ذلك؟!. . .
كان اليوم السعيد يوم الخميس، وكان الأستاذ بهاء الدين علما عائداً من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغدد الصماء؛ وكان يسير في ميدان الإسماعيلية متفكراً في يتلك الأدوات الإنسانية العجيبة المسيطرة على الفرد أيما تسطير، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يحولوا الطيب إلى شرير، والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي، والرياضي إلى شاعر. وكيف يفسرون أخيلة جيتة وأحلام شيلي بعصاراتها المتدفقة في الدم؟. . . وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار، فهي مادة عمله ومادة حياته معاً. وفي الواقع يندر أن تجد بين الشباب المعيدين بكلية العلوم من يناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحرصه على تحصيله
وكأنما أرهقه القعود والسكون - في أثناء إلقاء المحاضرة - فأحس بارتياح إلى المشي واعتزم السير على قدميه إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خطى وئيدة يدخن لفافة من التبغ ويجتر أفكاره وتأملاته في لذة ويسر، وصادف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العدو، فتوقف بحذر ووجل وتراجع خطوة على عجل، وتوقفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار ثم مضت في سبيلها حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة وكأنها تحاول تذكرة ولا تدري كيف، ثم أدركت ما في نظرها إليه هكذا من(367/59)
الغرابة، فأدارت رأسها عنه وما روت غلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الطريق، فأدرك من أول وهلة أن صورته اشتبهت عليها وعلت لذلك فمه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة - وكان جاوزها بأمتار - فرآها تتابعه بنظرتها تعلو وجهها آي الحيرة والغرابة. فغمرته موجة انفعال مضطرب لذيذ وتعثر بأذيال الارتباك والحيرة. ثم تحركت السيارة مندفعة في الاتجاه الذي يسير فيها وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلل زجاج النافذة بنظرة تحير بماذا يصفها. . . ودية! حنون؟. . . حتى باعدت بينهما المسافة. . .
وعجب الأستاذ أيما عجب، على أن عجبه كان شيئاً يسيراً إلى ما أحس به ساعتئذ من ثورة الوجدان، وكانت الفتاة شابة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقين، فاتنة القسمات، يزين وجهها عينان زرقاوان لنظرتهما وقع السحر في الحواس والقلب والأعصاب. فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعر بنشوة رائعة، ثم لسعته حسرة أليمة، حسرة محروم طال عهده بالحرمان وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس، لأن تفانيه في طلب العلم لم يدع له وقتاً لشيء سواه، ولعيبين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدا على نفسه، إذ كان يترامى إلى أذنيه أنه ثقيل الظل، وكان إلى هذا عيباً حصوراً لا يكاد يبين، فلم يكن في وسعه قط أن يحسن خطاب فتاة فضلاً عن أن يغازلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحسان. وإلى ما يشبه الخوف منهن. وحز لذلك الألم في نفسه وسكب في قلبه امتعاضاً ومرارة، فتبدى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهداً طويلاً يائساً بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوف إلى النساء والحقد عليهن. فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف ولكنه ارتواء كالظمأ وندى أشد حرقة من الجفاف. فتحير وتعجب وتساءل وهو يقلب كفيه: ترى ما خطب هذه الفتاة؟. . . وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهيام والحنو المتجمدة في قرارة نفسه؟. . . إنه لا يعرفها على وجه اليقين ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضاً، فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم، ولعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟!. . . ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض وقد(367/60)
انشغل عن الغدد والكيمياء جميعاً. . .
وكان في عزمه أول الأمر أن يعود إلى بيته فيستمع إلى المذياع ساعة ويطالع ساعة قبل النوم. ولكن عافت نفسه ذلك ومضى ويضرب في الأرض على غير هدى تاركا محرك خياله للخواطر السعيدة والأحلام اللذيذة والأوهام المخدرة حتى أعياه التعب وتعناه المشي؛ وكان سرى عنه بعض الشيء وأخذ يفيق من أثر النظرة، فاتجه إلى قهوة روجينا وجالس بعض صحبه حتى شارفت الساعة التاسعة. ثم خطر له أن يقضي سهرة المساء في سينما رويال - وكان قليلاً ما يجذبه مزاجه إلى ذلك - فسار بلا تردد إلى السينما وابتاع التذكرة. وكان يكره الانتظار جالساً فدلف إلى الصور المعلقة بالردهة الخارجية وقلب فيها عينيه، ثم أولاها ظهره ملالاً وأرسل بناظريه إلى مدخل السينما يشاهد جمهور الداخلين. فرأى سيارة فخمة تقف أمام مدخل السينما، وفتح بابها ونزلت منها سيدة بدينة بادية النعمة والثراء تبعتها على الأثر فتاة حسناء انخلع لرؤيتها قلبه في صدره وأحس بفرح عجيب تمازجه دهشة، فلم تتحول عنها عيناه. وفاته في ذهوله أن يرى ضابط بوليس شاب يبرز من الباب الثاني للسيارة ويدور حولها بسرعة ويلحق بالسيدة والفتاة. وانعطف رأس الفتاة إليه - وكانت فتاته دون سواها - كأنما جذبتها قوة بصره المشوق فالتقت عيناهما، ولاح على محياها الجميل الاهتمام والدهشة ورقت نظرتها بالحنان الذي حيره وفتنه منذ حين. فتبعها في خطى مضطربة ملبياً نداء وقوة عاتية. وصعدت الفتاة مع الصاعدين إلى الطابق الثاني فوقف في الردهة يتابعها بعينيه. ورآها قبل أن يغيبها عن ناظريه منعطف السلم تلقي عليه نظرة أخرى. . . يالها من نظرة. . . فاستخفه طرب جنوبي عذب لا يتأتى لغير الموسيقى وصفه. واندفع إلى الداخل لا يلوي على شيء، فلما اطمأن به مقعده مضى يصعد نظره في (الألواج والبناوير) باحثاً عن الوجه الحبيب ذي النظرة الفاتنة الحنون. حتى وجد ضالته في (البنوار) رقم (3)، وكانت تتقدم السيدة لقامتها الهيفاء. والتقت نظرتها بوجهه هذه المرة أيضاً، وكأنها كانت تتوقع أن تجده مجداً في العثور عليها فارتسم على شفتيها القرمزيتين شبه ابتسامة أضاء لها وجهها بنور بهي. وجلست وهي ترنو إليه بعينيها فبدت وهي تنحني قليلاً وكأنها تحنو عليه. وأنقذه من سعادته، التي لا تحتمل، انطفاء الأنوار وانهماك الشاشة في عرض أخبار الدنيا. . . كان قلقاً مجنوناً إلى غير حد، فرحاً سعيداً بغير حساب، يشعر(367/61)
برغبة عنيفة لا يدري ماكنهها إلى القتال أو الرقص أو الصياح أو البكاء، وتندت أهدابه بدمعة أحس بتفجرها من أضلعه. كان بمعنى آخر عاشقاً يتلقى قلبه لأول مرة أمواج الحب الكهربائية الغامضة غموض الأثير. وأغمض عينيه في الظلام وهو يتنهد في ارتياح وغبطة مستسلماً للذة الأحلام. وتساءل في استسلامه السعيد: ترى ما الذي ساقه هذا المساء إلى السينما ولم يكن أعد نفسه لذاك؟. . . إن كل شيء يبدو وكأنه يؤكد أن القدر يرسم خطة رائعة بدأها في شارع قصر النيل وما زال ينسج فصولها في سينما رويال. نعم إنه لم يرها عبثاً، ولن تلتق عيناهما مصادفة؛ كلا، ولم يأت إلى السينما اتفاقاً. ولكن الحب يخلق الحوادث والظروف، وإلا فما معنى هذه الحلقة المتقنة؟! وما معنى هذه النظرة الحنون العذبة التي دل تكرارها على أنها مقصودة!؟ أليس هذا الذي يسمونه الحب من أول نظرة؟. . . بلى، هو هو. . . ويشهد عليه قلبه ومشاعره ونظرتها الفتانة النافذة التي لن يمحى أثرها من نفسه. كيف حدث هذا. . . هل كان القدر في قسوته عليه وازوراره عنه يدخر له هذه المفاجأة السعيدة وهو لا يدري؟. . وهل وُجدت أخيراً من لا تستثقل ظله كما يستثقله كثير من الناس. . . ومن تتعرف نفسه بالنظرة الملهمة لا بتغرير الألفاظ وسحر البيان؟. . . كم سخط على الدنيا ظلماً؛ وكم أدان القدر جهلاً. . . والساعة الساعة ينتهي الجفاء وتتبدد الوحشة، ويندى قلبه المحروم ويرطب قلبه اليابس. وفكر الأستاذ بهاء الدين مع ذلك في أمور غاية في الأهمية والجد تناولت حاضره ومستقبله، ولم يفته أن يحسب حساب الوسيلة إلى التعرف والخطبة، ولا فاته - في تلك الساعة - أن يقدر المهر ويحدد تاريخاً للزواج السعيد. . .
ولم يحس بالوقت كالسعداء. وجعل يتأمل بعين مخيلته الوجه النضير والنظرة النافذة إلى القلوب، مستسلماً للأحلام استسلام الحران إلى برد النسيم حتى ظن أن أشهى الأماني دانية لا تكلفه إلا أن يمد يده فيقطفها في يسر واطمئنان
وانتهت الشاشة من عرض فصولها الأولى، وأضيئت الأنوار، ففتح عينيه وكأنه يصحو من نوم سعيد. وصعد رأسه إلى (البنوار) رقم 3، فرأى فتاته في أجمل صورة ترمقه بنظرتها الفاتنة كأنما كانت تنتظر انقشاع الظلمة مثله، ورآها تميل برأسها نحو السيدة البدينة - التي تدل الظواهر على أنها أمها - وتهمس في أذنها، ثم شاهد السيدة تنظر إلى أسفل(367/62)
باحثة بعينيها حتى استقرتا عليه. . . فارتبك وتعجب وتساءل ترى لماذا تدل أمها عليه؟. . . على أن عجبه ازداد إلى غير حد، لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتحادث شخصاً لا يرى سوى أعلى طربوشه. ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه وكان ضابط البوليس. فلم يستطع أن يديم النظر إلى أعلى وأدار رأسه إلى الأمام. ولكنه تذكر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فرقته في الخديوية، وأنه يدعى علي سالم، وأنه كان مبرزاً في الألعاب الرياضية، وظن أنه أخو الفتاة، ولكنه تحير في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة، وفيما عسى أن تكون حدثتهما به عنه. . . وغلبه الشوق وحب الاستطلاع فرفع بصره إلى (البنوار) مرة أخرى فرأى الوجوه الثلاثة محدقة فيه. وخيل إليه أن زميله القديم يحييه، فلم يصدق بصره وظل جامداً لا يتحرك، فأعاد الضابط تحيته برفع يده إلى رأسه ورد عليه الأستاذ التحية مرتبكا، وشاهده يدعوه أن يصعد إليه، فخفق قلبه خفقة عنيفة وقام واقفاً وقد لفته الدهشة والارتباك، وغادر المكان في ذهول شديد، وصعد السلم والتقى بصاحبه عند مدخل (البنوار) واستقبله هذا استقبالاً ودياً وشد على يده بحرارة - ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك - ثم أوسع له وهو يقول هامساً: (تعال أقدمك إلى أهلي، ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة. وقال الضابط يقدمها له وهو يشير بيده:
(حرم الأميرالاي محمد جبر بك. الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي)
ثم التفت إليه وقدمه لهما مكتفياً بذكر اسمه وزمالته القديمة لأنه كان يجهل حاضره. ودوت كلمة (خطيبتي) في أذنه دوياً مزعجاً أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعاً وسكب مكانها خيبة مرة، فجلس كما طلب إليه ذاهلاً مرتبكاً قانطاً عاجزاً العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله، وكانت السيدة ترحب به وتشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته ولكنه لم يدر مما قالا شيئاً، واكتفى بانتزاع ابتسامة مغتصبة من شفتيه يرد بها عليهم رداً صامتاً كئيباً. وكان يتخبط في حيرة عمياء، لا يدري لماذا دلت الفتاة عليه، ولا كيف دعاه زميله، ولا لأي سبب عرفه بهما وعرفهما به. . . ولاحت منه نظرة إلى الفتاة، فوجدها تبتسم إليه ابتسامة حزينة، فشعر بامتعاض، ووجه عينيه إلى أمها كأنما يفر منها فراراً، فرأى المرأة ترنو إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، فازدادت دهشته وبدا عليه الانزعاج، والتفت إلى(367/63)
صاحبه متسائلاً متحيراً. ودق الجرس في تلك اللحظة منذراً بإطفاء الأنوار، فقام الشاب واقفاً وأحنى رأسه محيِّياً، ودعته السيد إلى زيارة البيت، فوعدها قائلاً: (إن شاء الله) وهو لا يعني ما يقول. وغادر (البنوار) ولحق به صاحبه، وكان يدرك ما يقوم بنفسه من الدهشة والانزعاج، فقال له وهو يشد على يده مودعاً:
(إني آسف جداًّ على ما أحدثته دعوتي لك من الارتباك والانزعاج، وحقيقة المسألة أنك تشبه شبهاً عجيباً ابناً شاباً فقدته هذا الأسرة منذ عامين. ولعل هذا يفسر لك كل شيء أيها الصديق. . . . . .)
وهبط السلم في خطى بطيئة جدا. وكان يتوقف كل درجتين ويتأمل فيما أمامه بعينين لا تريان شيئاً، وعلت شفتيه الشاحبتين ابتسامة هازئة مريرة وقد بدا له كل شيء كريهاً كئيباً تعافه النفس. . . . . .
نجيب محفوظ(367/64)
نهاية التنكر
بقلم استيفن ليكوك
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان رئيس البوليس السري جالساً إلى مكتبه، وأمامه وجوه مستعارة وشوارب ومناظير مستعارة كذلك مختلفة الأشكال فهو في أقل من ثانية يستطيع التنكر
ووضع قليلاً من مسحوق أبيض في كوب من الماء وتجرعه، وفي هذه اللحظة طرق باب حجرته طارق، فخبأ المسحوق في درج مكتبه ووضع على شفته العليا شارباً أسود، وأذن للطارق بأن يدخل، ولكنه لما رآه وتبين أنه سكرتيره أعاد الشارب إلى مكانه وهو يقول:
- أهذا أنت؟ ماذا لديك من الأخبار؟
فأجابه سكرتيره:
- عندي مسألة في نهاية الغموض وفي نهاية الأهمية لعلاقتها بدولة أجنبية، ويخشى إذا لم يستطع البوليس حلها أن تنشب حرب طاحنة
قال رئيس البوليس السري:
- وهل تكون المسألة بهذه الدرجة من الأهمية ويعجز بوليس لندن عن حلها؟ قل لي، هل تتعلق بالبرلمان أم الوزارة أم ماذا؟ فأجابه سكرتيره: (هي تتعلق بمن لا نكاد نجرؤ على النطق بأسمائهم ولها مساس بالسياسة الدولية وأخشى أن تحدث بشأنها حرب عالمية)
قال رئيس البوليس: (إذن فأخبرني بما عندك من التفاصيل)
فأجابه السكرتير: (لقد اختطف البرنس ورتمبرج)
وقف رئيس البوليس السري منزعجاً وقال: (لقد سمعت كثيراً عن هذا الأمير وأعتقد أنه من أسرة البوربون. إنك محق بلا شك فإن وراء اختطاف الأمراء أمراً شديد الخطورة)
فأخرج السكرتير من جيبه رسالة برقية وقدمها لرئيسه وهو يقول: (هذه رسالة رئيس البوليس في باريس)
فتناولها وقرأها وهذا نصها: (لقد اختطف البرنس ورتمبرج والأرجح أنه نقل إلى لندن. يجب أن يعاد إلى باريس قبل يوم المعرض. الجائزة ألف جنيه)
قال الرئيس: (لابد أن يكون المعرض دولياً ولا بد أن يكون لاشتراك البرنس فيه مغزى(367/65)
سياسي، فهم لذلك يختطفونه. أكتب برقية في الحال إلى باريس طالباً وصفاً دقيقاً للبرنس)
فأحنى السكرتير رأسه وخرج. وفي اللحظة نفسها طرق الباب طارق ولكنه دخل بغير استئذان
ولما التفت رئيس البوليس كان الزائر قد توسط الغرفة. ولما عرفه وقف مذعوراً وقال:
- رئيس الوزارة الإنكليزية! ما الذي تأمرون به يا صاحب الدولة؟ أظنكم جئتم من أجل البرنس ورتمبرج؟
قال رئيس الوزارة: (كيف عرفتم؟ لقد أتيت من أجل هذا السبب فابحثوا عن الأمير ولكم جائزة غير التي تعرضها فرنسا ولكن أهم من العثور عليه ومن إعادته ألا يمس أحد شعره أو أذنيه فإنه لا فائدة من إعادته إذا قص شعره أو قطعت أذناه)
دارت رأس الشرطي ولم يكد يفهم معنى لهذا التحذير. ولكنه أجاب على وجه التأكيد: (يا صاحب الدولة سيعاد دون أن يمس بسوء)
وهنا طرق الباب ودخل زائر آخر بغير استئذان، وهو كبير البطن عليه عباءة حمراء، فاشتد انزعاج رئيس البوليس ووقف وهو يقول: (رئيس أساقفة كونتريرى! تفضلوا بالجلوس يا صاحب النيافة. . . لابد أن يكون مجيئكم من أجل البرنس ورتمبرج؟)
فأشار رئيس الأساقفة على نفسه إشارة الصليب، ولم يسره كثيراً أن يعرف رجل البوليس السري الأمر الذي جاء من أجله كأنه من المشتغلين بالسحر. وقال: (نعم لقد جئت من أجله لأن أختي مهتمة أشد الاهتمام بالعثور عليه، فقد راهنت عليه بعشرة آلاف جنيه. على أن أهم من وجوده في نظرها ألا يقص شعره ولا تشوه خلقته ولا تزال العلامات الخاصة به. . .)
أظهر رئيس البوليس اهتماماً شديداً لمّا سمع أن الكونتس داسليغ أخت رئيس الأساقفة مهتمة بالبرنس ووعد بأن يبذل كل عنايته. وفي الحال دق الباب مرة ثانية ودخلت الكونتس فابتدرها رئيس البوليس بقوله: (. . . وأنت أيضاً أتيت من أجل البرنس ورتمبرج؟)
فقالت: (لقد اختطف هذا الكلب المسكين وأنا مهتمة به أشد الاهتمام)
ارتاع رئيس البوليس من ذكر كلمة (كلب) ولكنه تذكر أنها دوقة تحاول إنقاذ حياة أمير فلا(367/66)
بد أن تكون العلاقة بينهما علاقة حب، وقد يكون من مقتضيات هذه العلاقة في بعض الأحيان أن تصف المحبة حبيبها بأنه كلب. وقال ليتعرف كنه العلاقة بينهما: (هل أنت تحلفين به كثيراً؟)
قالت بلهجة التعجب: أحفل به؟ إنني ربيته
فغير رئيس البوليس السري رأيه في الحال وقام بروعه أنه ابنها وليس حبيبها كما كان يظن. وقالت الكونتس: (وفضلاً عن ذلك فإني راهنت عليه بمبلغ عشرة آلاف جنيه، ولكن أحذرك من أن يقصوا شعره أو يغيروا شيئاً من صفاته)
كان رئيس البوليس لا يزال في حيرته من كون هذه الدوقة أماً لأمير من أمراء البوربون، ولكن كل شيء محتمل في الحياة وأدرك أن المؤامرة لابد أن تكون كبيرة الأهمية لأن في نجاحها كشفاً لأسرار خطيرة بين الأسرة المالكة
وخرج رئيس الوزارة ورئيس الأساقفة وأخته معاً. وبعد لحظات من خروجهم تلقى رئيس البوليس برقية من باريس بصفات الأمير المفقود، فلم تزده هذه البرقية إلا ارتباكا، وفيها أن جسمه طويل وإن شعره أسود كثيف وأن أذنيه طويلتان وأن وصوته عميق
قال لسكرتيره: (قل لي بالله كيف يمكن أن نهتدي إليه، وهذه صفاته كلها مبهمة؟)
وقبل أن يجيب السكرتير على سؤال الرئيس وردت برقية من باريس لم تزدهما إلا ارتباكا، وفيها أن أهم صفة بارزة للبرنس ورتمبرج أن في وسط ظهره خصلة بيضاء من الشعر
قال الرئيس: (على كل حال يجب أن نبحث عنه على أساس هذه الصفات، ولا بد أن يكون الأمير شاباً أولاً، لأن الدوقة دعته كلباً، وثانياً لأنها ربته فلنبحث عنه في مجتمعات الشبان.
وتنكر رئيس البوليس وبدأ بحثه
وفي الأربعة الأيام التالية زار كل مكان من لندن ودخل كل مشرب وكل مكان عام. وكان في بعض المشارب يدخل متنكراً في زي بحار، وفي البعض الآخر يدخل متنكراً في زي جندي، وفي غيرها يتنكر في زي قسيس، وفي غيرها يتنكر في زي أجنبي ولم يعباً أحد به، ولم تسفر مباحثه عن نتيجة
وألقى القبض على رجلين لاعتقاد أن كلا منهما هو الأمير، ولكن أطلق سراحهما في الحال(367/67)
لما ثبت من أنهما سواه
واستأنف رئيس البوليس السري مباحثه وزار بعد منتصف الليل سراً منزل رئيس الوزارة وفحصه غرفة غرفة، وزار بيت رئيس الأساقفة وبيت الدوقة، وهناك وجد ما حل الألغاز التي كانت مستعصية على كل طرق الحل. . . وجد صورة معلقة على الحائط، وقد كتب تحتها اسم الأمير ورتمبرج، ولكن الصورة كانت مع الأسف صورة كلب حقيقي، وقد توافرت فيه كل العلامات التي ذكرت في برقيتي باريس
صاح رئيس البوليس بسكرتيره: إن البرنس ليس إلا كلباً
ثم هرع كلاهما إلى خارج المنزل والسكرتير يقول لرئيسه: (ألم تصرح لنا الدوقة بأنه كلب؟. . . على أن كل الصفات لم تكن لتنطبق إلا على الكلاب. . . أليس في وسط ظهره خصلة من الشعر الأبيض بين شعره الأسود؟ أليس يراد قبل المعرض؟ أليس هو موضع المراهنة؟)
وفي اليوم التالي ذهبا إلى الدوقة فوجداها على أشد حالات الانزعاج وقالت: (هل علمتما؟ لقد عرفنا مكانه ووجدناهم قد قصوا شعره وقطعوا أذنيه وغيروا علاماته التي كان ينتظر أن ينال بواسطتها الجائزة الأولى، وقد ضاع المبلغ الكبير الذي راهنت به عليه)
قال رئيس البوليس السري:
- لا تحزني يا سيدتي فإني سأحصل على الجائزة الأولى فأتنكر وفقاً للوصف الذي وصل إلينا في شكل كلب فأحصل على تلك الجائزة. إنني سأحضر المعرض فأربح الرهان، ومن أمهر مني في التنكر؟!
وفي الليلة التالية أرسل رئيس البوليس السري إلى باريس متنكراً في شكل كلب تنطبق عليه جميع العلامات المميزة للبرنس ورتمبرج
قال كل من في المعرض: (ما أجمل هذا الكلب وما أذكاه!) وكان الشبه شديد الإحكام بينه وبين الكلب المفقود ونال الجائزة الأولى. ولكنه فاته مع الأسف أن يحصل لنفسه على رخصة كلاب من بلدية باريس فلم يكد يخرج من المعرض حتى التقطته عربة الكلاب فأعدم عصر ذلك اليوم
على أن هذه النهاية بالطبع ليست ضرورية في صلب القصة وإنما هي عرضية يجب أن(367/68)
تذكر على أثر نجاحه في نيل الجائزة
عبد اللطيف النشار(367/69)
العدد 368 - بتاريخ: 22 - 07 - 1940(/)
بين المهاجرين والأنصار
كان من أثر الفزّعة الشديدة التي نالت الناس من الغارات الجوية الإيطالية أن لجأ سكان العاصمة والثغور، إلى القرى والعزب والكفور، يلتمسون الأمن في ظل الريف الوريف، وينشدون الهدوء في حِضن الطبيعة المشْبل
وكان الطيار الذي يحلق ذات صبح من هذه الأصباح المضطربة، في سماء مصر المشرقة المخوفة، يرى الطرق الرئيسية تسيل بحاملات الأنفس وناقلات المتاع بين القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبور سعيد، فلا يجد نوعاً ولا شكلاً من عربات النقل أو الركوب التي تسيرها الأحصنة الحيوانية أو الميكانيكية إلا جُمع لهذه الهجرة التي لم تر مثلها مصر في ماضيها الطويل!
هذه سلاسل من عربات النقل تجرها الخيل أو الحمير فتسير على يمين الطريق وئيدة الكرِّ تقعقع عجلاتها مخنوقةً في التراب، وتجلجل أجراسها خافتة في الجو من ثقل ما تحمل من الأثاث و (الكرار) والماعون. . .
وهذه قوافل من اللوريات المكشوفة والمغطاة موقرةً بالأثاث الفخم والرياش الثمين، تهتلك دُروجاً في وسط الطريق المترِب فتثير غماماً من الغبار الخانق يحجب وراءها الأشخاص والأشياء إلى مسافة بعيدة
وهذه أرتال السيارات المملوكة أو المأجورة تَشْرَق بمن فيها من النساء والرجال والأطفال، وهي تنتقل من الوسط إلى الشمال، لتخطف طريقها من الكميونات العنيدة
ولدى كل نقطة من (نقط المرور)، وعلى كل رأس من رءوس الجسور، طوائف من القرويين والقرويات، يُلوِّحون بالفواكه والمرطبات، فلا يكاد المهاجرون المفزَّعون يحسونهم، لتوزع قلوبهم بين أهوال الحرب المتوقعة، ومخاوف الحياة الجديدة
أشرقت القرى العوابس بألوف من ناشئة النعيم المدني ذوي الوجوه الرفافة والأطراف الناعمة والطرر المصفوفة والبنائق المفوّفة والطرابيش القانية؛ وألوف من نابتة المطبخ الحضري ذوي الوجوه المطهمة واللغاديد الضخمة والبطون الشحيمة والجسوم الرهلة؛ وازدانت الأكواخ والمصاطب وحواشي البرك وحفافي السكك برواد الكنتننتال والكرسال وسان جِمس؛ واعترى القرى بادئ الأمر من التزابل والانزواء ما يتعرى القروية إذا رأت أحد الأفندية على حين فجأة. ثم أدرك القروين أنهم ملاذ هؤلاء الضيوف فاستشعروا قليلاً(368/1)
من الجرأة، فخالطوهم وباسطوهم حتى ارتفعت الكلفة بين أهل المهجر وأصحاب الدار، وأصبح بينهم من التعاون والألفة ما كان بين المهاجرين والأنصار
وفي سقيفة من شجر الصفصاف وحطب القطن، بين تل من تلال السماد الطري، ومستنقع من آسن الماء الوَحِل، جلس ذات يوم جماعة من المهاجرين بعد شهر من الهجرة وقد حف من حولهم رجال القرية بين مضطجع فوق الحصا، ومحتبٍ بحضيض التل، ومستند إلى جذع الشجرة. وكان كل رجل من هذه الجماعة قد نال من جسمه الشحوب، وشاع في نفسه السأم، وانتشر على جبينه الأبلج حَبَر البراغيث والبعوض، فهو يتكلم من غير شهوة الكلام، ويجيب من غير تفكير في الجواب، ثم يذهل ذهول شارب الأفيون فلا كلمة ولا حركة. ولكن الشيخ السنطاوي، وهو رجل أزهري الثقافة سليط اللسان جرئ القلب، أراد أن يشفي صدور الفلاحين من هؤلاء المترفين الذي سلبوهم نعمة الله وراحة الدنيا وحق الحياة؛ فقال في خبثه المعهود يسأل أحدهم وهو من الملاك الغِلاظ المتأبهين:
- لعلك سعيد يا بك بجمال الطبيعة وبهجة الحقول وصفاء الهواء وهدوء القرية!
ولم يكد الشيخ يتم حتى تحرك ساكن القوم، ثم جاشت حركتهم حتى فارت على ألسنتهم خليطاً من الكلام فيه الضجر والسخر والملام والسب، قالوا:
- أين الجمال وهذه المزابل والزرائب والخرائب والبرك تقذي الأعين؟ وأين البهجة وهذه الأجسام الضاوية والثياب البالية والمساكن التي في بطنها الوحل وعلى ظهرها الروث تقبض الأنفس؟ وأين الصفاء وهذه الدور المنتنة والأزقة القذرة والمراحيض المكظومة تسمم الأبدان؟ وأين الهدوء وطنين البعوض والذباب، وتجاوب الكلاب والذئاب، ونقيق الضفادع، ونهيق الحمير، وصراخ الأطفال، تؤلف جوقة من الموسيقى الشيطانية تحطم الأعصاب؟
إن القرية الأوربية خميلة من خمائل الفردوس فيها متعة الحس والعقل والجسم؛ وكان الظن بالقرية المصرية أن تكون قريبة الشبه بتلك. فلما رأيناها أنكرنا أن يكون سكانها من الناس، لأنهم يأكلون ما تعافه الكلاب في المدن، ويشربون ما لا يجوز أن نغسل به الأقدام في المدن، ويعانون من مختلف الأمراض في القرية الواحدة، ما لا يجتمع مثله إلا في المستشفيات المتعددة. فنحن بهجرتنا إلى القرية قد فررنا من موت متوقع إلى موت محقق.(368/2)
لذلك عقدنا العزم على أن نعود إلى القاهرة؛ فإن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات
فما كان جواب الشيخ والذين معه إلا أن قالوا بلسان واحد: الحمد لله الذي أراكم بعد العمى، وأنطقكم بعد البكم! لقد خطبنا حتى نشف الريق، وكتبنا حتى جف الحبر، فلم تصدقوا أنكم عمرتم المدينة وخربتم القرية، وأبطرتم الباشا وأفقرتم الفلاح، واتخذتم من عرقنا ودمنا أفناناً من لذائذ البطن أعلاه وأسفله، حتى ضوينا وسمنتم، وفزعنا وأمنتم، وكانت بلية كل أولئك على الإنتاج والدفاع!
ثم افترقوا، هؤلاء ساخطون، وأولئك قانطون! فعسى أن يلتقي هذا السخط وذلك القنوط عند معالي وزير الشؤون الاجتماعية!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(368/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الكتيبة الأدبية - دمياط والمنصورة - اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة - يا ليل يا عين، ثم يا ليل يا عين، وللأستاذ فكري أباظة أن يقول ما يشاء!
الكتيبة الأدبية
في اليوم الثالث من شهر يونية قدَّمتُ إلى وزير المعارف السابق معالي النقراشي باشا اقتراحاً أدعو فيه إلى تأليف (كَتيبة أدبية) من رجال المعارف يتطوع فيها المدرسون والمفتشون، وتكون مهمتهم تقوية الروح القومي وحراسة العزيمة الوطنية من عدوان الأراجيف، بما ينشرون على صفحات الجرائد والمجلات، وبما يذيعون من خطب ومحاضرات. ثم قلت:
(ولي مَطلبٌ أوجهه إليك: وهو أن تدعو رجال الأقلام من وقت إلى وقت، لتشير عليهم بما تراه في تسديد العزائم الوطنية، ولتشعرهم بأن الدولة ترى أن القلم من أدوات الجهاد)
وقد أشَّر النقراشي باشا على هذا الاقتراح بعبارة كريمة من عبارات التأييد والتشجيع
ومضيت أفكر في تكوين تلك الكتيبة على مَهَل، ولكني سارعتُ فنشرت في المقطم والأهرام مقالات حماسية في نطاق الغرض الذي دعوت إليه، راجياً أن يكون في ذلك تمهيد لتكوين (الكتيبة الأديب) وتذكيرٌ لأهل الأدب بواجبهم في هذا الميدان
في الأسبوع الماضي وجه الأستاذ أحمد أمين دعوة إلى الكتَّاب على صفحات (الأهرام) يقول فيها إنه يرجو من أرباب الأقلام أن يتناولوا بعض المشكلات الحاضرة بالدرس فيتحدثوا عن الهجرة إلى الريف، وتنظيم الشؤون الاقتصادية بما يضمن السلامة من القلقة التي تحدثها الحرب، إلى آخر ما نص عليه من المسائل التي تستوجب الدرس، فردَّ عليه الدكتور طه حسين في اليوم التالي بمقال صرح فيه بأن الجرائد تحت رقابة الأحكام العرفية، وأن الكاتب لا يملك من الحرية ما يساعد على درس تلك المشكلات بصراحة، وعدّ السكوت تضحية! فعجب الأستاذ توفيق الحكيم من ذلك وكتب يقول: إنه لم يكن يعرف قبل اليوم أن السكوت من التضحيات. فوخزه الدكتور طه وخزة أليمة جاء فيها أنه يدعو إلى الأدب الرخيص في حين أن الأستاذ أحمد أمين كان يدعو إلى الأدب الثمين! وانزعج(368/4)
الأستاذ توفيق الحكيم فكتب يرجو الدكتور طه أن يعد الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرفيع، لأنها على كل حال مما يدعو إليه الواجب في هذه الظروف!
أولئك كتّابنا الأماجد، وهم قومٌ يمزحون في غير أوقات المزاح!
فالأستاذ أحمد أمين في يده مجلة أسبوعية وكان يقدر على معالجة تلك الشؤون منذ اليوم الذي نعب فيه نفير الحرب، وقد كان مفهوماً أن الحرب لن تترك مصر بلا إيذاء، فما الذي قهره على السكوت إلى اليوم، إلا أن يكون تذكر فجأة أن الدنيا فيها أشياء غير الحديث عن أدب المعدة وأدب الروح
وأحمد أمين الغيور على الريف هو نفسه أحمد أمين الذي صرح في إحدى مقالاته بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالميكروبات في الريف، وذلك إيحاءٌ أثيمٌ سيَلقى عليه (أطيب الجزاء) بعد حين
أفي الحق أن الريف ليس فيه غير الميكروبات، وكيف أمكن إذاً أن تعيش كل تلك الخلائق في الريف؟ وكيف عاش آباؤنا وأجدادنا جميع تلك العصور الطوال؟
تلك وسوسة سخيفة لا تبلبل غير المتحذلقين. ولو أنصف أحمد أمين نفسه وقلمه لقال إننا فرطنا كثيراً في حق الريف، ومن الواجب أن ننتهز هذه الفرصة لنرجع إليه بالتحسين والتجميل، عساه ينسينا ما تعودناه من القرار الراكد في الحواضر أيام الصيف
والدكتور طه حسين أمره عَجَب: فهو يدَّعي أن الرقابة لا تسمح له بشيء، ويدافع عن كسله بأن البرلمان يلجأ في بعض الأحايين إلى عقد جلسات سرية، فمن حقه أن ينتظر إلى أن تنتهي الحرب ويستطيع الكتاب أن يقولوا ما يشاءون!
ومن الذي يضطر الدكتور طه إلى الوقوف عند درس المسائل التي لا يعرض لمثلها البرلمان إلا في جلسات سرية؟
أتكون كل مشكلاتنا القومية من اقتصادية واجتماعية وسياسية مشكلات لا يتحدث عنها الناس إلا في الخفاء؟
أيؤمن الدكتور طه بأن من المحرَّم عليه أن يتحدَّث في الشؤون التي تصور مستقبلنا بين أمم الشرق وأمم الغرب؟
أيعتقد أن الحديث عما نفترض لمصر من المصاير الاجتماعية والاقتصادية بعد الحرب أمر(368/5)
قد يستوجب الوقوف أمام المحكمة العسكرية؟
وما هذه الذي يدَّعيه الدكتور طه حين يقول بأن الكتابة في تقوية الروح الوطني من الأدب الرخيص؟ ومن الذي أوحى إليه هذه الحكمة (الغالية)؟ وعمن أخذ القول بأن الحديث في تقوية الروح الوطني هو المقصود بالحديث المعاد الذي نهى عنه الحكماء؟
لقد دافَعَ توفيق الحكيم عن هذه القضية، ولكن توفيق الحكيم رجلٌ قصيرٌ ونحيل ولا يَقدر أبداً على صدْ غارات طه حسين
للدكتور طه أن ينسحب من الميدان بحجة أنه مشغول بشواغل أدبية تصرفه عن الحرب وأخبار الحرب وما يجب على مصر أيام الحرب. ولو قال ذلك لكان له عذرٌ مقبول، فالدولة تُطالب كل رجل بالتفرغ لما يصلُح له من الأعمال، والأديب الذي يُشغل بالأدب الصَّرف أيام الحرب هو أيضاً من المجاهدين، لأن الجهاد في سبيل الوطن له ميادين مختلفات، منها ميدان الأدب الصرف الذي يُنسى صاحبه أنه يعيش في غَمَرات الحرب. وقد اتفق للدكتور طه في أحيان كثيرة أن يتناسى المكاره القومية ليتفرغ لعلمه الأدبي بالجامعة المصرية، فما لامَهُ على ذلك لائم، ولا اتّهمه أحد بالجبن عن الاستجابة لنداء الواجب الوطني، لأن الوطن يعرف أن المتفرِّغ للأدب الصِّرف هو أيضاً جنديٌ في الميدان، وإن لم يحمل السلاح ويتقدم للقتال
ولكن الدكتور طه يأبى إلا أن يقع في خطيئتين: خطيئة الدعوة إلى السكوت عن درس المشكلات القومية إلى أن تنتهي الحرب، وخطيئة السخرية من الكتابة في تقوية الروح الوطني بحجة أنها من الأدب الرخيص!
ألاَ يَفتح الله عليك مرةً واحدة يا دكتور طه فتكتب مقالاً واحداً يَسلَم من إثم المغالطة والتلبيس؟
بقيت حكاية توفيق الحكيم، الكاتب الذي يجمع بين الظَّرف والضَّعف، وأنا أقترح أن يُمحَى اسم هذا الكاتب من سِجِلْ الوطنية المصرية
هذا كاتبٌ خفيف الروح في بعض نواحيه، ولكن روحه يَثقُل جدَّا حين يتحامل على القومية المصرية، وحين يتوهم أنه من المصلحين، ومن خلفاء قاسم أمين!
وما ظنّكم بكاتب يزعم أن الفكر لا يساوره في مصر، وإنما يساوره حين ينتقل إلى(368/6)
الهضاب السويسرية أو الفرنسية؟
العفو، يا سيد المِلاح!
فمصر يا أخي فيها منادح للفكر والبيان، وهي بشهادتك قد عزَّت على عُدوان الغرب وطغيان الشرق، وقد عجزت المصائب والويلات عن قتل مواهبها الذاتية، فكيف يجوز لك أن تسخر منها أقبح السخرية في بعض مؤلفاتك وأنت تعجز عن الرد على كاتب مثل طه حسين؟
أما بعد فأنا ما زلت أدعو إلى تأليف كَتِيبة أدبية تجرِّد ألسنتها وأقلامها لتقوية الروح الوطني لتحوِّل الوطنية إلى عقيدة راسخة لا تزعزعها النوازل والخطوب
وفي الأدب الصِّرف نفسه يتسع المجال لتأييد العقيدة الوطنية، فالشاعر الذي يتغنَّى بجمال الليل حين يتموَّج نور القمر فوق صفحات النيل هو شاعر وطنيّ؛ والكاتب الذي يتأنق في وصف ملاعب القاهرة والإسكندرية ودمياط هو كاتب وطنيّ. والباحث الذي لا يَعنيه غير درس مشكلات التعليم هو باحثٌ وطنيّ. واللاعب الذي يقضي أوقاته في التأهب للاشتراك في مباراة رياضية هو لاعبٌ وطنيّ. والتاجر الذي يُغلق أذنيه عن الحوادث اليومية ليتفرغ لمصاعبه التجارية هو تاجر وطنيّ. وطه حسين وأحمد أمين وتوفيق الحكيم يستطيعون أن يكونوا من الوطنيين إذا قَصَروا جهودهم على ما يحسنون من الأعمال
المهمُّ يا بني آدم أن تعاونوا على إيقاظ الروح الوطني في أية ناحية من نواحيه، وأن يكون لكم شأن في تحرير البلاد من قيود الركود والخمود
دمياط والمنصورة
وهَتف سائل يقول: ما الذي أوجبَ أن نرى في مؤلفاتك ومقالاتك إشارات رقيقة إلى دمياط؟
وأجيب بأني لم أزُر دمياط إلى اليوم، ولكني مُوَكل بالحديث عن البقاع الكريمة من وطني، فدمياط من ثغورنا البواسم وكان لها مقامٌ محمود في صدَّ الغارات الصليبية. وما تزال دمياط مرجع طوائف كثيرة من كرائم الأفئدة والقلوب، ولن أنسى أبداً طغيان البحر والنيل حول دمياط حيثُ غرِق الروح الشفَّاف الذي أوحى إلى خاطري بعض القصائد الجياد
وأخونا الزيات يقيم اليوم بالمنصورة ليتقي الغارات الجوية، وأنا والله في خوف عليه، وما(368/7)
أخاف الميكروبات التي يخافها أحمد أمين، وإنما أخاف على الزيات غارات العيون، العيون الفواتك التي تصاول الآمنين والغافلين، فتحوِّل أرواحهم إلى أقباس أقسى وأعنف من طغيان السعير
وكيف يذوق العذاب من ترحمه المقادير فلا تدلّه على الطريق إلى المنصورة أو دمياط؟
ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك سمكة من سمكات النهر الذي أعرف وتعرف، وإلا فانتظر قدومي إليك لأشاطرك النشوة بغناء الملاحين في غفوات الليل
ولكن هل عندكم ملاح تذكر أغاريده بأغاريد الملاح الذي سمعته مرة وهو يَصدَح فوق متْن النيل في الأقصر بهذا النشيد:
فايتْ على جِسر النيل
قابَلوني اثنين حلوين
آخذ مِين وأسيِّب مين، يا بُويْ!
وحدثتنا الجرائد بأن النيل يهدر بعنف في أعالي السودان، فانتظرني عندك لأرى معك بعد شهر واحد كيف يَسهُل صيد السمك فوق ذلك الشط بأيسر عناء
أتخاف الحرب؟ لا تخف، فأعمار الأشقياء باقية!
وإن عشنا فسنقضي بقية العمر في التغريد فوق أفتان الجمال
ارجع إلينا، يا أحمد، قبل أن تعضك السمكات بشط المنصورة فقد عرفتُ بالتجربة أنها افتك من سمكات شط العرب. حرسَك الله وَحَماك!
أمَن الإثم هُتافي بالجَمالْ ... في بلاد كلُّ ما فيها جميلْ
لو بعيني نظر الملاحي وجالْ ... لرأى الفتنة في كل سبيل
اكحلوا عين الزمان بمرود الحياة
أنتم تسمعون أن الدنيا كلها في حرب، أليس كذلك!
بَلَى! ولكن الحياة لها مطالب روحية وعقلية تنسي الناس أحياناً مخاطر الحرب، والرجل الضعيف هو الذي تقهره الظروف على أن يكون ريشة في مهبْ الخطوب. أما الرجل القوي فتصطدم به المصاعب كما تصطدم الموجة العالية بالصخرة العاتية
لقد قَذيتْ عين الزمان فاكحلوها بمرود الحياة. . . كونوا أحياء في كل وقت، واحذروا(368/8)
أقوال المرجفين الذين يزعمون أن الدنيا لم يبق فيها مجال لطرب الأفئدة وجُموح القلوب
لا تصدقوا الأستاذ فكري أباظة حين يحدثكم في المذياع عن عجبه من أن تعجز أعوام الحرب عن قتل تغريده (يا ليل يا عين) فهذا الأستاذ نفسه لم ينقطع عن الغناء وإن كان صوته (أرخم) الأصوات!
هذه الحرب التي تعانون بلاءها من قرب أو من بعد هي أيضاً شهوة إنسانية أو حيوانية كسائر الشهوات، والمحرومون من حب الدنيا ومن الهيام بما فيها من نعيم لا يصلحون أبداً للتمرس بالمخاطر في ميادين القتال
يجب أن تبقى حواسكم كلها سليمة، حتى حاسة الذوق وحاسة الجمال، لأن هذه الحواس هي (الجوارح) التي تصولون بها في ميدان الوجود. وهل يصلُح إنسان للتفكير في المنافع القومية حين يُشَل تفكيره في المنافع الذاتية؟
الجنديّ لا يصلح أبداً للاستماتة في الدفاع عن الوطن إلا إذا كانت له فيه مآرب وأهواء، أما الجندي الفارغ الرأس والقلب من المطالب الذاتية فهو أداةٌ عاطلة لا نفع فيها ولا غناء
زادكم الأول هو مطامعكم، وزادكم الثاني هو مطامعكم، وزادكم الثالث هو مطامعكم، وأزوادكم الأصلية والفرعية هي مطامعكم، فلا تعيشوا في دنياكم بلا أطماع لئلا تنعدم قدرتكم على الجهاد
لا تصدِّقوا الذين ينهونكم عن الابتسام للدنيا والوجود
لا تصدَّقوا من يزعمون أن مَرَح النفوس في أيام الحرب من نُذَر الفناء
الدنيا لكم ولسائر المزوّدين بالحيوية والأريحية والجذل والابتهاج
فما سكوتُ الشعراء وما سكوتُ المغنّين عن التغريد فوق أفنان الجَمال؟ وما الموجب للدعوة الأثيمة التي تريد أن تحوّل دنيانا إلى ملاطم ومتاحات؟
عزائمكم وأرواحكم وقلوبكم هي الذخائر الباقية، وهي أسلحتُكم في مقارعة الخطوب، فلا تُضعفوها باستماع الأراجيف، ولا توهنوها بالخضوع لخداع الأباطيل
ودَّ أعداؤكم لو تنقلبون إلى أشباح بلا عواطف ولا أحاسيس
فاحذروا الفتنة، فتنة الدعوة إلى تسريح الأماني والآمال
واعلموا أن الرجل الحق هو الذي يعيش في كل وقت بعواطف الأقطاب من الأحياء.(368/9)
زكي مبارك(368/10)
5 - إلى أرض النبوة
للأستاذ علي الطنطاوي
قرأتَ في المقالة الماضية وصفاً للصحراء ليلها ونهارها وشدتها إذا اشتدت ولينها إن لانت، على أنها تختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب، فليلها للحب، ونهارها حرب، حرب مع الشمس اللاهبة والرمال المشتعلة، والضلال والموت، وحرب مع الناس؛ فإذا أدركك المساء، ولا يدرك مساءها إلا كل بطل صبار قوي متين، تفتح للحب قلبك، فأحسست فيه بشوق إلى الهيام كشوق الظمآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها ملكك، فأنت منها في روضة وغدير، تعانق بدرها إن لم تجد من تعانقه، وتسامر نجمها إن أعوزك من تسامره، ويقبل عارضيك نسيمها الرخي الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة. . .
أشهد لقد نقْت ليالي الصحراء نفسي، وصفّتها، وعلمتها الشعور بجمال القبح وأنس الوحشة وأغاني الصمت، فعرفتْ جمال الكون، فأوصلها إلى معرفة كمال المكوّن، كما صهرت أنهار الصحراء عزيمتي فألقت عن نفسي أوضار الخوف والجبن والضعف والتردد، وأشعرتها عظمة الطبيعة وقوتها، فشعرت بعظمة الطابع، ولم أكن أعدم النظر في الأفاق الواسعة، ولا حرمت التحديق في المناظر البعيدة، وإني لأبصر من شباك داري دمشق كلها وغوطتها والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيء فأرى فيها نهاية الجمال والرواء، ولكني لا أرى فيها طهر الصحراء ولا صفاءها. الصحراء مبسوطة مكشوفة كالرجل الصريح الشريف ظاهرها كباطنها لا تخفي سراً، ولا تبطن دون ما تظهر أمراً. . . ليست كالمدن ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المزهرة المخضرّة، وتحت تلك السقوف المزخرفة والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكذب والنفاق والحسد
إن الله حرم الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار، ولكنه عاضها عن ذلك ما هو أحلى وأسمى: جمال الصدق وبهاء الصراحة، وسناء الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عبابه، وما فيها إلا برك وغدران قليلة الماء غير دائمة ولا باقية، ولكنها على ذلك أجل من(368/11)
النيل، وأجمل من الفرات لأنها في. . . الصحراء!
لست أستطيع أن أترجم لك عمّا لليالي الصحراء من معنى في نفسي، لأن لغة الألسنة لا تترجم عن القلوب. ويا ليتني أقدر أن أصف لك تلك الكائنات الخفية التي تعيش في ليالي الصحراء فتخاطب القلوب بما لا تنقله الأقلام
واشهدوا عليّ أني أوثر الصحراء على كل مظاهر الطبيعة المطبوعة، إلا الأودية والجبال، فإن للجبال السامقة ذات الصخور المائلة كالجبابرة لا تبلغ هامها النسور ولا العقبان، ولا يسكنها إلا الثلج الأبيض. . . والأودية العميقة التي لا يبلغ قرارتها إلا الشلال المتحدر من أعالي الجبال، ولا يعيش فيها إلا السواقي الحائرة التي تهيم على وجهها ذاهلة لا تصحو إلا على جرجرة أمواج البحر الذي يفتح فاه لابتلاعها. . . وإن في التواء الوادي حتى يضيع الطريق فيه، وفي اختفاء الشِّعب الضيق خلال الصخور، وفي ضلال الساقية بين الحشائش والحجارة، لمعنى من معاني المجهول لا ألقاه في الصحراء المكشوفة العارية؛ ولكن للصحراء سحرها وجمالها وإني لأفضلها على السهول والبساتين. . .
سلكنا بعد القُريّات مهامه وفلوات لا يعرف لها أول ولا آخر. ولا أدري ولا يدري أحد ممن كان معنا أين موقعها على المصوّر الجغرافي. وكنا كلما زدنا إيغالاً في الصحراء زادت بنا بعداً عن مظاهر الحياة، حتى أحسسنا كأن قد ودّعنا هذا العالم، وكأن دمشق وبغداد والقاهرة صور شعرية تخطر على البال ويدركها الخيال ولكن الواقع خلوٌ منها، واسترحنا من هموم الاجتماع ومشاغل السياسة وأعباء الفكر واستسلمنا إلى المقادير، فغدا شعورنا بالحياة كشعور من يرى في نومه أنه سائر على وجه الريح، أو مضطجع على صفحة الماء يحمله إلى حيث يشاء، فإما أن يغرق وإما أن يبلغ ما يريد، ولكنه على الحالين راضٍ قانع لا يشكو ولا يتبرم
وكان همنا الأكبر أن نتأمل الأرض أو ننظر في الفضاء لنأمن عثرة السيارة وننجو من الضلال، وما في البرية علامة يهتدي بها إلا النجوم، فعرفت بذلك معنى قوله تعالى: (وبالنجم هم يهتدون). وعرفت سرّ اعتماد العرب عليها في تحديد مواقع البلدان حتى أن الشاعر المحتضر ليسرّه أن سرى سهيلاً لأنه يذكره بلاده وأرضه. . .
وكنا نمر على الأرض المتماسكة الصلبة فنحمد الله عليها ونسرع. ثم نمر على القاع،(368/12)
والقاع في عرف البدو أرض طينية كان فيها غدير من المطر فجف وترك فيها شقوقاً وغادرها مستوية كالطبق، ويسمى القاع في بادية الشام (على طريق بغداد) طليحة. . . ونمر على مسيل قد جرف الماء ترابه وأبقى فيه حجارة كباراً وصغاراً، وهو والشعب شر ما نمر عليه، والشعب في عرفهم أرض فيها رمل قليل هشّ ونبات صحراوي. . . أو نصعد رابة أو تلة، وامتدت هذه المرحلة (من القريات إلى تبوك) أربع ليال، مررنا فيها على مياه من مياه العرب، وهي آبار منتنة خبيثة الطعم واللون والرائحة، تضع المنديل بين فمك ومائها فتلقي عليه مثال الوحل أو ما هو أخبث، تسمى غطى والعيساوية والفجر، ولم نصادف في هذه المرحلة ماء غير ذلك. . .
ولا تسألني أين هذه المياه، ولا تطلب إليَّ تحديداً ولا يقيناً فلست أعرف ذلك، وإنما أعرف أننا تركنا وادي سرحان عن شمائلنا وسرنا قِبَل الجنوب حتى لاحت لنا عن اليمين جبال عالية، فأممناها حتى إذا اقتربنا منها سرنا بحذائها على أرض ما رأينا أعجب منها، فهي أرض سوية متسعة مشينا في طرفها تسعين كيلاً، فيها حجارة سود دقائق مرصوفة رصفاً كأنها أرض ميدان واسع في مدينة كبيرة فرشت وثبتت بالمداحل، وهم يسمونها (بسيطة) بصيغة التصغير، وسلوا أهل الجغرافيا يعرفوكم موضعها على المصور، حتى وجدنا ثغرة في الجبل فدخلنا منها، فإذا نحن في واد ما رأيت في عمري مكاناً أوحش منه، وكلما أبعدنا فيه ازدادت وحشتنا، ولم يكن حولنا إلا الصخور والتلاع والفلل الشامخة، والوادي يتشعب بنا ويتفرع، ونحن منفردون بين ذلك كله، وطال الوادي حتى أمسى علينا المساء فبتنا به، ولم ندر أننا ضالون حتى أصبحنا غداة الغد، فخالط قلوبنا الرعب من أن تكون خاتمة مطافنا أن ندفن في بقعة لا يمر فيها إنسان ونحرم قبراً يستوقف السالكين، ويستجديهم دعوة صالحة. وكانت ساعة يأس أحيت في نفوسنا الماضي الذي ظننا أنا نسيناه فتلفتنا بالقلوب إلى دمشق فإذا نحن منها على مسيرة سبع ليال بالسيارة، ولكن ما إليها من سبيل، فجعل كل منا يذكر أهله وأحبابه، ويتخيل ماذا يحل بهم من بعده، ويتصور بردي يجري زاخراً دفاعاً ونحن نكاد نموت عطشاً لأن الماء الذي معنا قد شح ونفد إلا الأقل منه احتسبه الأقوياء منا، وبلغت المسألة مبلغ التنازع على الحياة، ولم يبق إلا الأثرة الشنيعة أو الإيثار البالغ. وحار الدليل وأظهر حيرته حين لم يعد مكان لإخفائها. وكان يدع السيارة في قعر(368/13)
الوادي ويصعد قمم الصخور ينظر فلا يرى شيئاً، فيعود فيسير بنا على غير هدى، حتى نظر مرة وكان ذلك في مساء اليوم الثاني لدخولنا وادي الموت هذا. . . فلمح جبلاً فهلل وكبّر وقال: وصلنا. . . هذا شَرَوْري!
وشروري جبل قريب من تبوك أظن أن (ياقوت) قد ذكره. فسرنا إلى الليل وشروري مكانه عند الأفق لا يدنو ولا يريم، فنزلنا للمبيت. . . وعاودنا السير من الصباح فاختفى الجبل وهبطنا إلى جوف الأرض حتى وصلنا إلى موضع رأينا فيه جبلاً عظيماً يسد الوادي فتشاورنا فلم نجد بداً من صعوده بالسيارات وما تحمل من الأثقال، فجعلنا نصعد وندور ونحتال على الارتقاء حتى إذا بلغنا القمة بعد مخاوف ومتاعب لا ينفع معها وصف. نظرنا تحت أرجلنا، فإذا في الحضيض الأوهد البعيد فضاء فسيح كالبحر، في وسطه سواد، كأنه باخرة ماخرة، فقال الدليل مشيراً إليه. هذه تبوك!
علي الطنطاوي(368/14)
يوم البعث. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
إن أحدنا لتستبد به في بعض عمره فترات يجد فيها الحياة قد وقفت في دمه كالجدار المصمت لا تميل ولا تنثني ولا تتحول، ويجد النفس متماوتة لا ترف رفة واحدة تشعر العقل أن الحي الذي فيه لا يزال حياً يعمل، ويجد الدنيا كأنها بساط ممدود يمشي فيه بعينيه، ولكن البساط لا يمنحه حركة من هموده وسكونه وانعدام الحياة ذات الإشعاع فيه. ويتمنى أحدنا يومئذ أن تحل بأيامه قارعة تملأ عليه الزمن ضجيجاً ونزاعاً، وعسى أن يتحول كل ما يجده من الفتور إلى نشاط ويقظة وخفة تبعث ميت نفسه من رمس الحياة الخاملة
وهذا العارض إذا ألم جعل الأيام مقعدة تزحف في زمانه زحفاً بطيئاً مرهقاً كأنها أمسكت على مرفأ الحياة بسلسلة ربوض، ويجعل الحي يعيش في كذب وباطل وفراغ من الروح، أي في حيرة وقلق وملل، فإذا حار وقلق ومل، جاءت أعماله كلها جسداً لا ينبض نبض الحياة، وكذلك يختلف ما بين الحي وعمله، ويقف أحدهما من الآخر موقف المثَّال العاجز من تمثاله، يقول له: أين أنا فيك أيها التمثال الغبي؟ فيجيبه الصامت البغيض: أين أنت في نفسك أيها الأحمق؟
الحياة هي حركة الروح في العمل، فإذا خلا العمل، فلم تتمثل في كل أحنائه حركة الروح العاملة، فذلك دليل على أن الروح مضروبة بالموت أو ما يشبهه، وأنها قد فقدت شرطها ونعتها وحقيقتها، وأنها إن عاشت على ذلك فستعيش في قبر منصوب عليها في تمثال إنسان. وإذا بلغ الإنسان ذلك أريقت كل إنسانيته على أيامه المقفرة فلا يثمر، فإن يثمر فما يطيب له ثمر، وإنما هو حسَك وأشواك وحطب وكل ما لا نفع فيه إلا أذىً وبلاء عليه وعلى الناس
وكما يكون ذلك أمر الفرد الواحد، يكون هو أمر الأمة من الناس، والجيل من الأمم، فإن الفرد هو خلاصة الجماعة وأصل الجماعة. فالأمة تصاب بمثل الفترة التي يصاب بها الواحد منها، ولا يمنع ذلك أن يكون في بعضها ما يخرج على ضرورة هذا العارض من الفتور الذي وصفناه. وعندئذ تتمنى الأمة أن تنزل القارعة لتهز الجو الذي تعيش فيه هزة(368/15)
مدوية مجلجلة، ترمي في سمع أبنائها الصوت الموقظ الذي يفزع عليه النائم ينفض عن نفسه الخمول والأحلام الهائمة والأماني الباطلة المكذوبة
وقد عاش الشرق من قرون طويلة وهو يجد الحياة من حوله فاترة ساكنة بليدة ميتة الظلال عليه، وجاء بعض أبنائه من سراديب الفكر البعيدة يصرخون ليوقظوا الأحياء الذين ضرب على آذانهم بالأسداد، وغشاهم النعاس عجزاً وذلاً ومهانة، ولكن هؤلاء رجعوا وارتدوا، ولم يسمع الناس، وإنما سمعوا هم صدى أصواتهم وهي تتردد في قفر خراب موحش
أما اليوم الذي نحن فيه، فقد جاءت الشرق القارعة التي حلت بديار الناس وبدياره، وهو يسمع صليل صواعقها بأعصابه كلها لا بآذانه وحدها، وهو يفيق من نومة طويلة على ما لا عهد له بمثله. فهل يحق لنا أن نؤمل أن هذا الصليل المفزع سيجعل الشرق يلمُّ ما تشعث من حياته ليستقبل حياته الجديدة قد جمع قواه للنهضة والوثبة والانقضاض على أوثان المظالم القديمة التي نصبت فعبدها من عبد ممن خشعوا وذلوا، وطمعوا في رحمة الطواغيت فما نالوا - على أوهامهم - إلا فُتاتاً من موائد هذه الطواغيت المتوحشة المستبدة الطاغية؟
إن الشرق اليوم يجب أن يسأل سؤالاً واحداً يكون جوابه عملاً صارماً نافذاً لا يرعوي دون غايته، وهذا السؤال هو أول سؤال ينتزع إنسانية الحي من الموت الفادح، إذا كان الدافع إليه هو رغبة النفس في تحقيق إرادتها تحقيقاً لا يبطل. من أنا؟ هذا هو السؤال؛ فإذا أخذ الشرق يسأل يحاول أن يصل إلى حقيقته المضمرة في تاريخه، فهذا بدء النصر على الأيام الخاملة التي غط غطيطه في كهوفها المظلمة
ولكن البحث عن الحقيقة هو أبداً أروع شيء وأخوف شيء؛ فإن السائل شاك حائر، فإذا لم يستعن في حيرته بالسداد في الرأي وطول التقليب وحسن الاختيار وبالله التوفيق، فإن السؤال سوف ينزع به وينبث عليه ويأخذه ويدعه حتى تتحطم قوته على جبل شامخ قد انغرست فيه أشواك صخرية من الحصى المسنون، ويرجع مجرَّحاً تدمى جروحه، يتألم ويتوجع ويشتكي قد أعياه الصبر على الذي يلقاه من أوجاعه
فحاجتنا في البحث عن الحقائق التي يتطلبها هذا السؤال أن نتدرع بقوة اليقين مما نحن مقبلون عليه من مجاهله ومنكراته، وأن نستجيش للنفس كل ما يزعها ويكفها عن الشك(368/16)
والتردد، وأن نقبل على دراسة أنفسنا بفضيلة المتعلم المتواضع، لا برذيلة المتعالم المتشامخ، فإن بلاء التعلم والدرس هو كبرياء الحمقى وغرور ذوي العناد والمكابرة
والأمر كله الآن بيد الشعب أفراداً أفراداً، فإن العادة المستقبحة في هذا الشرق أنه يكل كل أمره إلى حكوماته التي أثبتت بوجودها إلى اليوم أنه لا وجود لها في حقيقة الحياة الشرقية. فالحكومات لا تستطيع أن تضع في روح الشعب هذا الإلهام الإلهي السامي الذي يشرق نوره على الإنسانية فيجلي لها طريقها، وينفي عنها خبثها، ويغسلها بأضوائه المنهلة من أعراض البلادة وجراثيم التفاني والانقراض
ليس لشرقي أو عربيٍّ بعد اليوم أن يقف مستكيناً يقول لحكومته: افعلي من أجلي يا حكومتي العزيزة!! بل يجب أن تكون كلمته: اعملي يا حكومتي فإذا أسأت فأنا الذي سيصحح أخطاء أعمالك الرديئة! ويجعل كل أحد منا همه سامياً إلى غاية، وأمله معقوداً بغرض، ويبيت ليله ونهاره يتَدارَس في نفسه وفي أهله وفي عشيرته وفي شعبه، وفي التاريخ النبيل، وفي التراث المجيد - حقيقة ما يجب أن يتعرَّفه من شُعَب هذا السؤال الواحد: من أنا؟؟
والدعوة الجديدة إلى اليقظة الشرقية والعربية والإسلامية يجب أن تقوم على إثارة الشعب كله ليسأل كل أحد نفسه هذا السؤال: من أنا؟ فالعالم والأديب والشاعر والفيلسوف والعامل والصانع وأعضاء الأمة على اختلاف منازعهم ونوازعهم يجب أن يشعروا في قلوبهم بحاجتهم إلى هذا السؤال، وأنهم موكلون به لا يهدءون، وأنهم دائماً في طريقهم إلى جمع الحقائق للجواب عن هذا السؤال الواحد
أما قيام الدعوة على البحث عن طرق الإصلاح وأساليب الإصلاح وتحقيق ذلك بالطرق العلمية. . . إلى آخر ما يقال في هذا الباب من القول، فما يجدي على الأمة شيئاً إلا ما أجدى قديم ما رددوه ولاكوه ومضغوه من الآراء التي عانوا وضعها، فلما وضعوها ماتت في المهد. وليس يمنع البحث عن مثل هذه الأشياء أن نكون أول ما نكون سباقين إلى الأصل الذي يجب أن تقوم عليه هذه الأشياء كلها
إن الأمم لا يُصلحها مشروع ولا أسلوب من الحكم، ولا بابٌ من الإصلاح، وإنما يحييها أن يكون كل فرد فيها دليلاً - بما فيه من الحركة النفسية - على أن الحياة التي يعيشها هي(368/17)
إثباتٌ لوجوده. ولا يثبت الوجود للحيّ إلا بقدرته على الاحتفاظ بشخصيته، ولا يحتفظ المرء بشخصيته إلا أن يكون قد استوعب فهم ما يستطيع من حقيقة هذه الشخصية، وهو لا يفهم هذه الشخصية إلا أن تكون كل أفكاره منتبهة لتحليل كل شيء يعرض له، وذلك حين يكون كل همه في البحث عن أشياء هذا السؤال الواحد: من أنا؟
فإذا استطعنا في هذه الساعة الهائلة من تاريخ العالم وتاريخ الإنسانية أن نجعل طبقات الشعوب الشرقية تثور ثورتها على الفتور والجهل والغباء والبلادة وقلة الاحتفال بالحياة، وأن نجعل سلاح الثورة على أحسنه وأجوده وأمضاه في هذا السؤال، فقام كل أحد يسأل بمن أنا؟ فتجديد الحياة في الشرق حقيقةٌ لا مناص للعالم بعدها من الاعتراف بأنها واجبة الوجود على الأرض. وأما إذا انطلقت مع أحلام النوم وفلسفة الأحلام، وجعلنا نلبس مُسُوح العلماء والمفكرين، وجلابيب الوقار والسمت. . . أي البلادة! فقد هلك على أيدينا من كان حقه علينا أن نجعل هذه الأيدي خدماً في حاجاته ومرافقه
إن من الهراء أن تأتي مجلس قوم من بلداء المهندسين قد اختلفوا في الأرض: هل تصلح لوضع الأساس أو لا تصلح؟ فتحدثهم أنت أن الرأي أن يتحولوا إلى مكان آخر من صفته ومن نعته. . . مما يصلح عليه البناء! فإن هؤلاء إذا بدءوا أمرهم بالاختلاف على ما يجدون عنه مندوحة، فاعلم أنه لا فلاح لهم، وإنما الرأي أن تتحول أنت عن هؤلاء البلداء إلى من تجد عنده من الانبعاث إلى العمل ما لا يجد معه وقتاً يضيعه في ترجيح بعض ما يختلف عليه على بعض آخر
فالطريق الآن إلى الحياة الجديدة أن يتحول الشرق عن أصحاب الاختلاف والمنابذة وعلم الآراء التي يضرب بعضها وجوه بعض تناقضاً وتبايناً وافتراقاً، وأن يصغي إلى حنين النفوس المتألمة التي تحن وتئن من أشواقها، فيتجاوب حنينها نغماً روحياً فيه حركة الحياة، وحرارة الوجد، وأضواء الأمل. وعندئذ يستجيب القلب للقلب، وتستمد الروح من الروح، وتثور الأشواق الخالدة في القلوب الطامحة والأرواح السامية، وبذلك تستحث الحياة الحياة إلى الغاية التي يرمي إليها الشرق بأبصاره من تاريخه ومن وراء التاريخ
إن عمل العامل في أول الطريق غير عمله في آخره، فنحن سوف نبدأ - وسنبدأ بإذن الله -، فعملنا الآن هو إنقاذ أرواح الملايين من الموت ومن الفتور ومن الكسل، وليس عملنا(368/18)
أن نضع لأسس العلمية أو السياسية أو الأدبية لأرواح موات لا حركة فيها ولا انبعاث لها. وما جدوى علم لا روح فيه؟ أو سياسة لا نشاط فيها؟ أو أدب لا قلب له؟
إن عمل من يريد أن يعمل اليوم هو أن ينفخ في صور جديد يكون صوته فزعاً جديداً مع الفزع الأكبر الذي نحن فيه، حتى تنبعث الأمم الشرقية من أجداثها ثائرة حثيثة قد احتشدت في ساحة الجهاد تلمع قسماتها بذلك اللهيب المتضرم الذي يتوقد بالأشواق، وتلمح نظراتها لمحاً بالشعاع الظامئ المتوهج بالأماني المرهقة المتسعرة، وتتجلى في كل عضو منها تلك القوة المعروفة في العضلات المفتولة، يخيل لمبصرها أنها تكاد تنفجر من ضغط الدم في أنهارها وأعصابها لولا ما يمسكها من جلدة البدن
يومئذ يكون جواب الشرق عن سؤاله: من أنا؟ عملاً صامتاً لا يتكلم، لأنه لا يضيع أيامه في إسماع الزمن الأصم أساطيره الباطلة التي يرويها عن أحلام البلادة والجهل والخمول.
محمود محمد شاكر(368/19)
الفروق السيكولوجية بين الأمم
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق الذكائية
في سنة 1928 دعت وزارة المعارف المصرية الدكتور كلاباريد أستاذ علم النفس بجامعة جنيف لدراسة حال التعليم في مصر ومعرفة مواضع النقص فيه، واقتراح الإصلاحات الضرورية للمناهج وطرق التدريس ونظام المدارس على أسس من التربية وعلم النفس. وكان مما قام به الأستاذ هو إجراء بحوث اختبارية في الذكاء على طوائف من التلاميذ في جميع مراحل التعليم لمعرفة مستوى ذكاء التلميذ المصري واتجاه نموه العقلي. وقد أجرى الأستاذ فعلاً عدة تجارب - بمساعدة عدد من الأساتذة المصريين - لقياس الذكاء، واستخدم أنواعاً مختلفة من المقاييس من بينها مقياس الدكتور بالارد. وكان هذا المقياس قد جرب في إنجلترا وفي البلجيك وقُنِّن. ولكن الأستاذ أدخل عليه بعض التعديلات ليناسب الناشئة المصرية. وقد أظهرت النتائج التي أسفرت عنها اختبارات الذكاء أن مستوى الذكاء عند التلاميذ المصريين - ما عدا البنات اللواتي تتراوح أعمارهن بين الثامنة والعاشرة - أقل بكثير من مستوى الذكاء عند التلاميذ البلجيك والإنجليز
وقد استرعت هذه النتيجة انتباه الدكتور واهتمامه، فجعلته يحاول معرفة هذا التأخر الذكائي، فذهب يفرض له فروضاً، وشرع في درسها، وكان من بين الفروض التي افترضها ورفضها أن سبب هذا النقص هو انحطاط في فطرة الطفل المصري. وهو يقول في تقريره: (هذا وليس في الأسباب ما يحدو بنا إلى الاستناد إلى الغباوة الفطرية كخصيصة في الطفل المصري، لأننا إذا راعينا النتائج الفردية، ولم نقتصر على المتوسطات وحدها، فإنا واجدون في جميع أدوار أعمار الأطفال طائفة من نتائج اختبارهم أحسن ما تكون. وفي هذا ما لا يبرر الاستناد إلى الانحطاط الفطري) ثم هو يذهب فيبحث فروضاً أخرى ويرى (أن تأثير الوسط المحيط هو ما يصح الاستناد إليه في كثير من الوثوق والتأكد لتعليل ذلك الانحطاط. فقد دل عدد كبير من البحوث التي أجريت على أن مستوى عقل الطفل يترتب إلى حد ما على الوسط الاجتماعي الذي يمت إليه بصلة ما، وعلى وسطه العائلي الخاص أيضاً. وبدهي أن الأطفال الذين في أسرة مثقفة يعلو مستواهم(368/20)
على مستوى غيرهم) نعم يعود الدكتور فيؤكد أن الوسط تقع عليه إلى حد كبير مسئولية رداءة النتائج العامة التي وصل إليها في اختبار ذكاء الطفل المصري، ومقارنتها بذكاء الطفل الأوربي، ويشير إلى سبب آخر من أسباب الانحطاط الذكائي خاص بالتجارب التي أجراها، ويقول: (إن نصف النتائج التي حصلنا عليها عن أطفال وشبان من تلاميذ المدارس الأولية والفنية أو مدارس المعلمين الأولية، أي من وسط اجتماعي متواضع. وقد قلنا إن نتائجهم أحط بكثير من نتائج المدارس الابتدائية والثانوية باعتبار التساوي في السن بينهم جميعاً، وأنها كانت لهذا السبب باعثاً على هبوط المتوسط العام. ولا شك في أن ما أبدته اختباراتنا من نقص النمو العقلي يعزى في بعضه إلى هذه الحال. والواقع أن الأطفال والشبان المصريين من الطبقات الدنيا تنقصهم الأسباب المنشطة للعقل، والبواعث التي تستثير دفين الذكاء، كما تنقصهم لتفتيق أذهانهم تلك الفرص التي كثيراً ما تستح للأطفال الصغار الأوربيين في حياتهم)
ساهم الأستاذ القباني بنصيب وافر في إجراء الاختبارات التي قام بها الدكتور كلاباريد ومراجعة نتائجها، ولكنه لم يقتنع بصحة هذه النتائج، لأنه كان شاكا في صلاحية مقياس بالارد لاختبار ذكاء التلاميذ المصريين، للاختلاف الكبير بين البيئة المادية والاجتماعية المصرية وغيرها من البيئات الأوربية، وهذا ما يجعل الأسئلة التي يختبر بها ذكاء التلاميذ الإنجليز أو البلجيك لا تناسب بالضرورة التلاميذ المصريين. من أجل هذا اتجهت عناية الأستاذ لدراسة الذكاء المصري، فأجرى عدة بحوث كانت أغراضها: التحقق من صلاحية كل سؤال من أسئلة بالارد لاختبار الذكاء في مصر، وحذف الأسئلة التي يثبت عدم صلاحيتها وإضافة أسئلة غيرها لتكوين مقياس مصري للذكاء، وإجراء هذا المقياس الأخير على تلاميذ المدارس الابتدائية ومن في مستواهم للوقوف على حقيقة عقليتهم. وقد نجح الأستاذ في تحقيق هذه الأغراض، وكأنه بعمله هذا أراد أن يختار من التلاميذ المصريين من تشابه بيئته - المدرسية والاجتماعية إلى حد ما - بيئة التلاميذ الأوربيين، حتى تكون المقارنة بين متوسط الذكاء المصري والذكاء الأوربي مقارنة عادلة. وقد كشفت اختبارات الأستاذ عن متوسط لذكاء تلاميذ المدارس الابتدائية أرقى من ذلك الذي وصل إليه كلاباريد، كما أيدت اختباراته نظرية تأثير الوسط في الذكاء، فقد وجد أن المدارس التي(368/21)
يغلب على تلاميذها أن يكونوا من أوساط اجتماعية راقية تتفوق في الذكاء في كل عمر على المدارس التي يغلب إلى تلاميذها أن يكونوا من أوساط اجتماعية متواضعة، وأن الفرق بين ذكاء هذين النوعين من المدارس ليس كبيراً إذا قيس بالفرق بين متوسط ذكاء كل منهما ومتوسط ذكاء المدارس الأولية
رأينا إذاً كيف تتعسر المقارنة بين متوسط ذكاء أمة ومتوسط ذكاء أمة أخرى لاختلاف البيئات، هذا الاختلاف الذي له أثره في تنشيط الذكاء الفطري وشحذه، ولصعوبة إيجاد (عينات) ممثلة كل التمثيل لأفراد الأمة وأوساطها المختلفة تجري عليها اختبارات الذكاء. وعلماء النفس يدركون هذا التعسر ويُقرّونه، ولكنهم بالرغم من ذلك حاولوا التغلب عليه ودراسة الفروق الذكائية بين الأمم، فالتجارب التي أجريت في الولايات المتحدة لقياس ذكاء الزنوج ومقارنته بذكاء الأمريكيين البيض أسفرت عن أن الزنوج أقل ذكاء من الأمريكيين في كل المقاييس التي تتطلب حل معضلات معنوية مجردة بينما يقربون من الأمريكيين أو يشابهونهم في الذكاء الذي يحتاج إليه في حل المعضلات العملية أو المحسوسة، كما تدل على ذلك نتائج المقاييس العملية ومما لا جدال فيه أن القدرة على التفكير المعنوي المجرد والحكم تتأثر إلى حد كبير بالتربية والثقافة العامة، ونوع العمل الذي يقوم به الفرد. ومهما يكن السبب - وراثياً أو بيئياً - فالحقيقة الواقعة هي أن الزنوج أحط ذكاء كجماعة من الأمريكان البيض
في أثناء الحرب الكبرى الماضية قيس ذكاء أفراد الجيش الأمريكي، وكان بينهم جماعات ذوو جنسيات أوربية مختلفة: إنجلترا، وهولانديون، ودنماركيون، وإيطاليون الخ. وقد استغل علماء النفس نتائج اختبارات الذكاء في معرفة ما إذا كانت هناك فروق ذكائية بين الأمم الأوربية ممثلة في جماعات الجيش الأمريكي. درست النتائج دراسات إحصائية مطولة، وكان ترتيب الأمم ترتيباً تنازلياً بحسب الذكاء هو:
(1) إنجلترا (2) اسكوتلندا (3) هولندا (4) كندا (5) ألمانيا (6) الدانمراك (7) السويد (8) النرويج (9) ايرلندا (10) النمسا (11) تركيا (12) الروسيا (13) البلجيك (14) اليونان (15) إيطاليا (16) بولندا
والمتأمل في هذا الترتيب يرى أن سكان الأقطار الأوربية الشمالية (الجنس الشمالي) أذكى(368/22)
من سكان الأقطار الأوربية الوسطى (الجنس الألبي) وهؤلاء أذكى من سكان أقطار البحر الأبيض المتوسط. وقد وجِّهت انتقادات كثيرة لهذه النتيجة السابقة، أهمها هو أن هذا الترتيب لا يصح أن يؤخذ على أنه ترتيب الذكاء الفكري عند هذه الأمم. وهذا انتقاد وجيه، ولكن أقل ما يدل عليه هذا الترتيب هو مقدار تأثير التربية المدرسية والثقافة الاجتماعية في إظهار ذكاء الأمم
وثمة اختبارات أخرى أجريت على صبيان ولدوا في الولايات المتحدة وآباؤهم من جنسيات مختلفة، وكانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والنصف وبين الثامنة عشرة. وكان هؤلاء الصبيان يتعلمون في المدارس العامة وقد بلغ عدد من اختبر ذكاؤهم 5504 تلميذ، وكانت تربيتهم المدرسية متشابهة بصفة عامة، كما كانوا يعيشون في بيئات متجاورة ومتقاربة الثقافة. وكانوا جميعاً يعرفون اللغة الإنجليزية بجانب لغتهم الأصلية. وقد رتبت نتيجة ذكائهم ترتيباً تنازلياً، فكان الترتيب كما يأتي:
اليهود البولنديون، السويديون، الإنجليز، اليهود الروس، الألمان، اللتوانيون، الأيرلنديون، الكنديون البريطانيون، الروس الخلص، البولنديون الخلص، الإغريق، الإيطاليون، الكنديون الفرنسيون، البرتغاليون. وسأترك للقارئ المقارنة بين هذه النتيجة ونتيجة الاختبارات السابقة لها
هذا وخلاصة القول هي أن علماء النفس متفقون على أن الاختبارات التي أجريت حتى الآن تدل على وجود فروق ذكائية بين الأمم المختلفة. ولكنهم مختلفون في سبب هذه الفروق؟ أهي فطرية جنسية، أم بيئية ثقافية، أم هما معا؟ والجمهور على الرأي الأخير.
عبد العزيز عبد المجيد(368/23)
لمح وجيزة عن
كتاب الديارات
لأبي الحسين علي بن محمد الشابشتي
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . وبعد فهذا كتاب جليل، حوى ما طَرُف من أخبار الأدباء وما لَطُف من سِيَر الشعراء وما فُقد من أحاديث الندامى وأفاكيه الأمراء في العصر العباسي الأول، سمّاه صاحبه (كتاب الديارات)، وجعلها سبيلاً إلى سرد ما حفظه من أخبار أهل الأدب وطرائفهم؛ فجمع فيه ما لا تجده في غيره من الكتب. فهو مؤلّف ثمين جدير بأن ينوّه به ويكتب عنه
كيف عثرنا عليه
عنيت منذ زمن طويل بدراسة أثر الأديار في الأدب العربي، فقد كان أهل بغداد يعيشون في عالم مِلؤه الهدوء والسلام، ساجين في النعيم، غارقين في اللذائذَ واللهو والمجون. وكانت الديارات من المواطن التي يحلو فيها الغناء والشراب، وتصفو بها القلوب والنفوس. وكان يرتادها خلعاء الشباب ومترفو الناس، ومُجّان الأمراء والشعراء؛ يجدون فيها ما تشتهي الأنفس من خمر ولذة وجمال. وكان أهل هذه الدايارت يرحبون بالطُرَّاق: يهشون لهم ويأنسون بهم، ويعطونهم من أنفسهم وأموالهم ما يشتهون، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويوجهوهم وجهة كلها فتون ومجون وإغراء، فكان الشعراء ومن اتبعهم يهتزون لمرأى الراح والريحان والبيض الحسان، فيجيش في صدورهم الشعر، ولكنه شعر رقيق فيه صفاء وملؤه أنغام، وصفوا فيه الدير والديار، والقسَّان والغلمان، والعذارى والمتبتلات، والصليب والناقوس، والخمر والنديم، والمسوح والصلاة. فقد وجدوا في هذه الأديار عالماً جديداً فيه بشر وانطلاق وسرور وحبور وسع الأخيلة وأبهج النفوس
وقد أورد ياقوت في معجمه طرفاً من الأشعار التي قالها روَّاد تلك المواطن. وقد نقل عن (الشابشتي) مؤلف هذا الكتاب كثيراً. ثم جمعت ما ذكره صاحب مسالك الأبصار في الديارات وأهلها، ووددت لو أقع على نسخة من كتاب الشابشتي، حتى زرت مكتبة المجمع العلمي العربي بدمشق، وعثرت فيها على نسخة فوتغرافية له، أخذت عن نسخة مصورة(368/24)
أخرى من الخزانة التيمورية. وكان أحمد تيمور باشا قد أرسل فصوّرها عن نسخة خطية فريدة موجودة في خزانة برلين تحت رقم (1100)
قرأت الكتاب فأغرتني طريقته ونوادره وأخباره، وما ضم من أحاديث مفقودة وأشعار رقيقة مجهولة، وتراجم شعراء جمعوا بين الرقة والعذوبة فأتوا بشعر منه المطرب ومنه الراقص، فنسخت الكتاب، وعزمت على تحقيقه وفهرسته وشرحه وجمع ما ضاع منه وحفظته الكتب الأخرى، وبدأت العمل منذ شهور وشهور، ووضعت للأديار مخطَّطاَ يبيّن مكان كل منها. على أنى لاقيت في تحقيقه العناء والبلاء، ولا يعرف الجهد إلا من يعانيه، ولن يمضي إلا القليل - إن شاء الله - حتى يكون الكتاب جاهزاً
أول من نوه بالكتاب
وأول من نقل عن هذا الكتاب ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 عدداً خاصاً من مجلة (المشرق) الكاثوليكية في بيروت عن (الديارات النصرانية في الإسلام)، فنقل عنه نقولاً كثيرة وبحث في الديارات ونشأتها وأهلها. ولكنه لم يتجرد في بحثه عن تعصب وافتراء، شأنه في مباحثه التي يديرها حول النصرانية وأهلها وأمورهم في الإسلام. على أنه نوّه بالكتاب وقال عنه: إنه جدير بالخدمة وجدير بالتحقيق
وصف الكتاب
والكتاب يقع في (135) صفحة فوتغرافية، كل صفحة ضمت صفحتين من صفحات الكتاب الأصلية، فيكون عددها إذن (270) صفحة، في كل صفحة - على الغالب - خمسة عشر سطراً، وقد كتبت بخط شديد الشبه بالنسخي، مضبوط قليل الأخطاء، أسقطت منه الهمزات، كما أسقطت منه (التعقيبة) في كثير من الصفحات، وما وضع منها فهو بخط يختلف عن خط الناسخ. وقد سقطت من أوله أوراق كثيرة فيها ذكر ديارات الشام. على أن في ياقوت ومسالك الأبصار نقولاً عن الشابشتي تتعلق بها
أما الصفحة الأولى منه فلم يظهر فيها إلا:
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد(368/25)
ثم يلي ذلك جمل مضطربة سقطت بعض كلماتها، وحروف وأرقام، ثم يبتدأ الكتاب بما يلي:
(الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه بباب الشَّماسيَّة. وموقعه أحسنُ موقع. . . وهو نَرِهٌ كثير البساتين والأشجار. . . الخ)
وفي آخر صفحة منه:
(تمَّ كتاب الديارات بحمد الله وعونه وقوته وحسن توفيقه. ووافق الفراغ منه في ليلة صباحها يوم الخميس السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلثين وستماية).
(كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله عبد الحليم بن محمد ابن عبد الوهاب بن أحمد بن عربي الدمشقي، المعروف جده بالنحوي. وهو يسأل الله أن يغفر ذنوبه ويستر عيوبه. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين).
نسخ الكتاب
وفي دار الكتب المصرية نسخة مخطوطة من هذا الكتاب. وقد أخبرني صديقي الأستاذ شكري فيصل بأنها رديئة قليلة الضبط لا يستطيع المحقق أن يعتمد عليها. وكنت أخبرت بذلك صديقي الجليل سيد النثر الأستاذ أحمد حسن الزيات بغية أن يعلمني شيئاً عن الكتاب، ولكنه تكرم فطلب أن (أنشر فصلاً منه وأن أكتب كلمة عنه) فخصصت هذه الكلمة بالرسالة، ومن أحق من الرسالة بهذه البشرى وهذه المباحث؟
وقد ذكر الأستاذ حبيب الزيات في رسالته (الديارات النصرانية في الإسلام):
(إنه كان من هذا الكتاب نسخة ثمينة مزوقة وقف عليها شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي في القرن العاشر للهجرة (عن ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر لابن طولون الحنفي، رقم 1422 من الخزانة التيمورية) ولا يخفى ما فاتنا بفقدها من الفائدة الجُلَّي، لإمكان دلالة ما فيها من الصور والأشكال على رسوم الديارات وضروب أبنيتها) (الديارات النصرانية: مقدمة)
فالكتاب إذن قيم ذو شأن لما جمع وحوى. ترى من هو مؤلفه الشابشتي. . .؟
والشابشتي هذا نديم بارع وأديب فاضل، ولاّه العزيز صاحب مصر خزانة كتبه، ولعله(368/26)
ألف هذا الكتاب وهو قائم عليها، وله تآليف كثيرة ضاع أكثرها، منها (اليسر بعد العسر) نهج فيه نهج القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) وما ندري أيهما أخذ عن صاحبه نهجه فقد كانا معاصرين ولكن توفي القاضي التنوخي قبل الشابشتي بأربع سنوات (توفي الشابشتي سنة 388 هجرية، وتوفي القاضي سنة 384) والمرجح أن الشابشتي أخذ عن التنوخي
طريقة الكتاب
قلنا إن المؤلف قد جعل الديارات سبيلاً إلى ذكر أخبار الشعراء والأمراء، فهو يذكر الدير وموقعه وما يحده وما يتصف به، ثم يذكر من زاره من الشعراء، ثم يستطرد إلى الشاعر فيورد ما قاله في الدير من شعر، ثم يتنقل إلى سرد أخباره، فإن كان الزائر من الندامى ذكر الخلفاء الذين نادمهم واستطرد إلى ذكر بعض نوادرهم، وإن كان من الأمراء ذكر بذخه وترفه ومجونه ولهوه ولك ما يتصل بحياته الخاصة بسبب، وهو بطريقته هذه قد ترجم لكثير من الشعراء والندماء والمغنين والولاة والخلعاء والأمراء والخلفاء وما بنوه من قصور وما أقاموه من حفلات وما أنفقوه من أموال. وفي الكتاب فصل فريد لم أعثر عليه في كتب الأدب وهو وصف حفلة أقامها المتوكل لأعذار المعتز وهو في منتهى الطرافة، وسننشره إن شاء الله في العدد القادم:
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(368/27)
من عجائب الاجتهاد. . .!
(لناقد أديب)
منذ عامين رأى الدكتور بشر فارس أن يخرج للناس مسرحية رمزية يثبت بها اتجاهاً جديداً في عالم القصص الرمزي
وبعد التحصيل والروية والاجتهاد، كما يقول الدكتور الفاضل في مستهل توطئته، صنع هذه القصة أو المسرحية الرمزية وعنوانها (مفرق الطريق) وقال في تبيين موضوعها وتوضيح فكرتها: إنه مفرق طريق ينحدر يساراً إلى ظلمة، حيث الشعور، ويمتد يميناً مناراً في صعود مثلوجة، حيث العقل. وفي هذا المفرق الصراع بين العقل والشعور، فإما أن ينتصر الشعور فينحدر المرء في ظلمة تحترق عندها النفس، وإما أن ينتهي الصراع بانتصار العقل فيسلك المرء في صعود مثلوجة يحيا عندها بنجوة من الاحتراق. ثم يقول (على ما هو مبين في رسم الغلاف)
ورسم الغلاف هذا صورة رمزية أيضاً من تصميم المؤلف نفسه، تمثل جبلاً عالياً ذا قمة مغطاة بالثلوج، ومنحدراً ينتهي إلى غور مظلم يتضرم بحرارة الحياة
ومنذ اثنتي عشرة سنة أنشأ الأستاذ عباس محمود العقاد قصيدة رمزية في ديوانه صفحة (206) عنوانها: (القمة الباردة) حيث يعيش العقل متجرداً من الشعور في عالم ثلجي لا يشعر فيه بحياة
ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن الفكرة التي جعلها الأستاذ العقاد لباب موضوعه، والموضوع الذي بنى عليه قصيدته هما نفس الفكرة وذات الموضوع الماثلتان في مسرحية بشر فارس!
ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد هذه أن يقول العقاد في مقدمة قصيدته: (إن الحي لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة). فيقدم بشر فارس لمسرحيته بنفس المعنى ويقول بلسان صورة من صنع الشعور: بيني وبين بصرك صلة اليقظة والإحساس بالوجود. ويقول عن رسم من صنع العقل: أفلا تقبض صدرك البرودة المنسابة فيه؟
ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تكون (القمة الباردة) في قصيدة العقاد هي(368/28)
(الصعود المثلوجة) في المسرحية ص 14، وأن يكون الطريق الذي يسلكه العقل في الصعود المثلوجة مُناراً، لأن القمة الباردة في قصيدة العقاد لا تعرف اختلاف الليل والنهار
هنالك لا الشمس دوَّارة ... ولا الأرض ناقصة زائدة
وأن تكون (القمة الباردة التي تعلوها الثلوج و (ثلوج الذرى) التي (تفتر عندها الحياة) والتي (لا يشعر عندها بحياة) كما كتب العقاد في قصيدته - هي في مسرحية بشر فارس (الآن أعيش في الثلج ص 25) و (إنما أحيا والثلج من حولي ص 25) و (إنما حياتي في الثلج ص 27) و (بيني وبينك الثلج لا يبرح قائما ص27) و (أحرقته وهو يثلجني ص 36) و (سيثلج بعضي بعضاً منذ الآن ص 37) فهذه مسرحيته طمرتها القمة الباردة بثلوجها كما قدمنا في هذه الكلمة
ومن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن تدور هذه المسرحية حول الفكرة التي تدور حولها القصيدة وأن يكون ختام المسرحية والقصيدة واحداً لا تباين ولا خوف؛ فإذا دعا العقاد إلى النزول من هذه القمة والانحدار إلى الغور المتضرم بحرارة الحياة
إلى الغور!! أما ثلوج الذرى ... فلا خير فيها ولا فائدة
ختم بشر فارس مسرحيته أيضاً بالدعوة إلى النزول من الصعود المثلوجة بقوله: (خذا هذا الطريق، الذي لا نور فيه، الذي ينحدر)
من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد أن يقع هذا كله، وأن تأتي عجائب أخر في التحصيل والروية والاجتهاد أيضاً من قصيدة للشاعر علي محمود طه عنوانها (قلبي) (ديوان الملاح التائه طبعه عام 1934). في ختام هذه القصيدة يصف الشاعر الصراع بين القلب والعقل أو الشعور والعقل فيقول مخاطباً قلبه:
ووشيت حين أخبَّك الليلُ ... متمرداً تجتاحك النارُ
وبدا صراعك أنت والعقلُ ... ولأنّتما بحرٌ وإعصارُ
ما بين سلمكما وحربكما ... كونٌ يبين ويختفي كونُ
وبينمّا الدنيا وحسبكما ... دنيا يقيم بناءها الفنُّ
فيجيء الدكتور بشر فارس في عام 1938 ليقول في هذا المعنى (يلتقي العقل والشعور فيتجاذبان المرء، ولكل منهما حظه من القوة والغلبة، وأما الجانب المظلم فحيث يقهر(368/29)
الشعور العقل، فينحدر المرء وقد عمى رشده إلى غاية تحترق عندها النفس الخ. . .)
فتجاذب الشعور والعقل القوة والغلبة هو في قصيدة علي محمود طه (وبدا صراعك أنت والعقل)
والقلبُ الذي أجَنَّهُ الليلُ في القصيدة هو (الشعور في الجانب المظلم)، والقلب الذي يجتاحه النار في قصيدة علي محمود طه هو النفس التي تحترق في مسرحية بشر فارس. وهكذا ترى هذا الصراع الذي يبدو محدداً بخطوطه، مصوراً بألوانه، في قصيدة الشاعر، منقولاً بإطاره في مسرحية الكاتب،
كما رأيت القمة الباردة فكرة وموضوعاً ماثلة بذاتها في المسرحية وتوطئتها حتى بعض العبارات ودلالاتها وإن اختلفت لفظاً وتركيباً، وكأن يقول الأستاذ العقاد: (التي لا يشعر عندها بحياة)
فيقول الدكتور بشر: (يعوزه لهب الحياة)
وبعد فهذه مسرحية رمزية من فصل واحد صفحاتها مردودة وألفاظها معدودة، لم يبق منها لكاتبها التحرير سوى زهرة تضوع، ونهر يهدر، وإضافات تائهة في منعطفات الروح ومثاني المادة (كذا)، وراقصة متشنجة تكِنى بالتلوِّي والتوتر (كذا) وتغرف بذراعيها طرائف من الهواء (كذا)، وغير إنسان أبله يعوي مقلداً الكلاب (كذا)، ثم كلب مسكين يتهمه المؤلف بامتصاص القصب!! (كذا)
وهذا ولا شك كما قلناه وأثبتناه وأعدناه من عجائب التحصيل والروية والاجتهاد في زمن اصطناع المسرحيات الرمزية من قصائد الشعراء.
(ناقد أديب)(368/30)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
المؤامرة
يرى كثير من الناس أن الصراع الحالي مؤامرة سياسية عسكرية نظمتها الدول الدكتاتورية بمهارة وإتقان منذ سنوات، ويرون أيضاً أنها تسير بخطوات متزنة، فلم يطرأ عليها حتى الآن خلل يستحق الذكر. أما رأس هذه المناورة فألمانيا، وأطرافها إيطاليا والروسيا واليابان وأسبانيا
ويستدلون على ذلك بتسلسل عدة حوادث أدت إلى انهيار فرنسا، وإذا صادفها النجاح إلى النهاية فقد تؤدي إلى انهيار إنجلترا أيضاً. فقد وضعت فرنسا سياستها عقب الحرب الكبرى على تطويق ألمانيا بالدول الصغيرة التي تعتمد على ولائها لفرنسا مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبلجيكا
فعمدت ألمانيا من جانبها إلى تحطيم هذا النطاق، فنجحت رغم معارضة خططها لما كان معروفاً من قبل لخطط إيطاليا والروسيا؛ فكانت الأولى تحرص على استقلال النمسا، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلالها؛ وكانت الثانية تشتهي من زمن طويل أن تحصل على مرافئ حرة على بحر الشمال، ومع ذلك سمحت لألمانيا باحتلال النرويج
وأخيراً، دخلت إيطاليا الحرب تنفيذاً لاتفاقات موسوليني وهتلر، عندما كانت فرنسا في النزع الأخير، وبعد ما أفادت ألمانيا بموقفها غير المحارب فائدة كبيرة
الفرص المناسبة
ومعنى هذا أن دول المؤامرة - في عرفهم - تنفذ الجزء الخاص بها عندما تتوفر ظروف خاصة، كما حدث مع إيطاليا التي يعتبرون دخولها الحرب بمثابة بدء الجزء الخاص بإنجلترا، وبمثابة عامل يمنعها من وقف القتال إذا أرادت عقب تسليم فرنسا؛ فلن ترضى بريطانيا مثلاً أن تتجاوز عن حقها في البحر الأبيض وهو طريقها الطبيعي إلى إمبراطوريتها إذا طالبت إيطاليا ببعض هذه الحقوق، وهذا ما كان منتظراً لو استكانت بريطانيا لأعدائها(368/31)
أما متى تدخل الدولة التالية ومن تكون فهذا أمر رهن الظروف، وإن كان بعضهم يرجح أن تكون أسبانيا، فلدول المحور فيها نفوذ كبير، بل إن حكومتها الحالية تدين لدولتي المحور بالبقاء. ولأسبانيا أهمية خاصة إذ يسهل من أراضيها سواء في أسبانيا أو في مراكش الأسبانية من كوتا ضرب جبل طارق، وإطلاق سراح الأسطول الإيطالي ليوالي أعماله في البحار، وينقل الجنود لمهاجمة إنجلترا. ولعل انتظار هذا الظرف هو السبب في هرب الأسطول الإيطالي من مواجهة الأسطول البريطاني
الصخرة
ويعتبر جبل طارق أقوى حصون العالم وأمنعها، فهو لسان دقيق من الصخور المرتفعة ينساب من الشاطئ الأوربي، ولا يتجاوز طوله ثلاثة أميال وعرضه ميلاً واحداً، وهو متصل بجنوب أسبانيا برقبة ضيقة من الأرض السهلة. وفي شمال الصخرة من جهة أسبانيا سهل يمتد ربع ميل به خطوط الدفاع البريطانية، ويليه الأرض المحايدة وهي رملية تمتد 1500 ياردة بطول الأرض وعرضها يختلف من 900 - 1800 ياردة، وفي نهايتها مدينة لالينيا الأسبانية
وترتفع الصخرة من الناحية الأسبانية عمودياً، ثم تتدرج إلى ناحية البحر، وارتفاع أقصى قممها 1400 قدم فوق سطح البحر. كان سطح الصخرة في أول الأمر مكوناً من الرمال والصخور في أوضاع غير منتظمة، ولكن أعمال الهندسة تناولته فبنت فيه طرقاً دائرية من الأسمنت المسلح يتجمع فها ماء الأمطار وينساب إلى أحواض عظيمة لحفظه. وبهذه الطريقة حلت معضلة ماء الشرب، وأصبح خلو الصخرة من الأنهار أو الآبار أمراً لا أهمية له
واستغلت الصخرة نفسها فعملت فيها عدة أنفاق عسكرية يوصل أحدها بين البحر الأبيض والمحيط، كما جهزت بالمدافع والحصون والمخابئ. وشيد على الشاطئ الغربي للصخرة ميناء بديع يرجع عهده إلى القرن الثامن عشر، وله شهرة تاريخية يمجدها الإنجليز فهو أول ميناء رست فيها السفينة (فكتوري) وهي تحمل جثمان (نلسن) عقب موقعة الطرف الأغر التي دمر فيها الأسطول الفرنسي، ومنها أذيع النبأ في جميع أنحاء الإمبراطورية، ومساحة المنطقة المائية لهذا الميناء 440 فداناً مربعاً، وأطول أرصفتها 851 قدماً(368/32)
منذ قرنين
وبلغ عدد سكان جبل طارق سنة 1931: 21. 372 نسمة لا يحق لأحدهم امتلاك قطعة من أرضها، بل يعيش فيها الجميع بتصاريح خاصة من حاكم المنطقة، ويتضمن هذا العدد العسكريين منهم والمدنيين
بدأت سيطرة إنجلترا عليها سنة 1704، وحاولت فرنسا وإسبانيا نزعها منها، ولكن جميع الجهود التي بذلت لم تأت بأية نتيجة. ففي سنة 1779 حاصرتها الدولتان، وكان عدد الجنود البريطانية ثلاثة آلاف جندي يقابلهم 17 ألف جندي فرنسي وإسباني، واستمر الحصار ستة أشهر خسر فيها المهاجمان عشرة آلاف مقاتل مقابل 400 بريطاني، وتوالى عليها الحصار في هذه الحرب مدة ثلاث سنوات وسبعة شهور ولكنها ظلت أمنع حصون العالم
ولا نستطيع أن نتكهن من الآن عن المصير الذي تواجهه فقد صقلت الأسلحة الحديثة إلى حد بعيد، وأصبح من السهل قذفها بقنابل المدافع من كوتا في الساحل الأفريقي، فهي لا تبعد عنه إلا 12 ميلاً، كما يمكن ضربها من أسبانيا؛ فإذا حاولت دولتا المحور مهاجمتها فسنرى لجبل طارق تاريخاً جديداً، فقد جهزه الإنجليز بأحدث الأسلحة وأبعدها مرمى، واستعدوا لجميع الظروف من تخزين مؤن وذخائر مما يجعل اقتناصها أمراً بعيد التحقيق
ومنذ سنة 1783 لم تحاول أية دولة دخلت الحرب من إنجلترا أن تطمع في مهاجمة جبل طارق أو تنازع بريطانيا العظمى السيادة فيه. ولهذه الصخرة أهمية ممتازة وخصوصاً في الحرب الحالية. في مفتاح البحر الأبيض المتوسط، ويتحتم على كل سفينة تحاول دخول هذا البحر المرور في مياها الساحلية لضيق المسافة بين الشاطئين الأفريقي والأوربي. فإذا حاولت العصيان فإنها تتعرض لقنابل مدافع الصخرة المركزة في أماكن حصينة
حلقة الحصر
ويؤدي جبل طارق في هذه الحرب مهمتين:
الأولى: حبس الأسطول الإيطالي في حوض البحر الأبيض فيتعذر عليه الخروج إلى المحيط لعرقلة الملاحة البحرية، فإن رجال البحرية الإيطالية يعرفون مقدرة الأسطول(368/33)
البريطاني فلا يفكرون في الاشتباك معه في معركة بحرية، وظهر هذا التصرف واضحاً عندما التقى الأسطولان في البحر الأبيض فلجأ أسطول إيطاليا إلى الهرب
والثانية: حصر إيطاليا وتعطيل تجارتها فيستحيل على سفنها أن تنقل إليها المواد الخام أو الأغذية اللازمة لسكانها. ولجبل طارق ميزة أخرى أشرنا إليها في مقالنا السابق، فهو القاعدة التي تكمل حلقة الحصر البحري على ألمانيا، وبهذا أصبحت دولتا المحور محصورتين في حلقة مقفلة، فإن نشاط الأسطول الإيطالي محصور في غرب البحر الأبيض، أما في شرقه فلبريطانيا سيادة كاملة عليه. أضف إلى ذلك قنال السويس وهو يعزل إيطاليا عزلاً تاماً عن مستعمراتها في شرق أفريقيا
وبهذا الوضع يتيسر لبريطانيا السيطرة البحرية التامة على المحيط الأطلنطي، فلا توجد فيه أساطيل تنازعها سيادته بعدما أصيب الأسطول الألماني بخسائر فادحة في النرويج جعلته مشلول الحركة
فإذا انتقلنا إلى باقي أطرا المؤامرة وهي الروسيا واليابان فقد وضحنا في مقالاتنا السابقة أن الروسيا تتبع سياسة خاصة لا تهتم فيها إلا بتحقيق أغراضها، وإن هذه السياسة لا تلبث أن تفصم العلاقات التي بين هذه الدول، فضلاً عن عداوتها واصطدام مصالحها بمصالح اليابان في الشرق الأقصى
بين الروسيا واليابان
فالروسيا تعتبر الصين وآسيا من مناطق نفوذها، واليابان تعتبرهما من مناطق نفوذها، وهي التي أصدرت المبدأ القائل: (آسيا للأسيويين) فإذا تجاوزنا اختلافهما في المبادئ إذ الروسيا بلشفية تسعى لبلشفة العالم، واليابان ملكية وللإمبراطور فيها نفوذ الآلهة، وإذا اقتصر بحثنا على اصطدام مصالحهما تبين لنا أن اتفاقهما متعذر
فإذا قلنا إن ما حدث بين الروسيا وألمانيا يمكن أن يحدث بين الروسيا واليابان وجدنا أن القياس متعذر، فإن المناوشات لا تكاد تنقطع بين قوات الفريقين، فحدودهما متجاورة وبحارهما واحدة، بل إن بعض البحار التي في شمال الجزر اليابانية والتي تحيط الأملاك الروسية فيها مصالح رئيسية لليابان؛ فهي مورد رزق لعدد كبير من صيادي السمك اليابانيين، ومصدر صناعات كبيرة في اليابان، وفي هذه البحار يتقابل الفريقان ويتناوشان.(368/34)
فهذا الاختلاف البارز في علاقات الدولتين يفسر لنا الجزع الذي بدأ في أوساطهما عند ما ظهرت مساعي إنجلترا للاتفاق معهما، فكل منهما تخشى الأخرى ولا تريد أن تقوي جبهتها بالانحياز إلى جانب قوي يستطيع أن يفض خلافاتها، ومن ثم يعتبر اشتراكهما في المؤامرة الدكتاتورية اشتراك المصلحة فحسب، فإذا تيسر لإنجلترا تحقيق هذه المصالح، وهو في استطاعتها بما لها من نفوذ في الشرق فلا يوجد ما يستدعي استمرار المؤامرة ولا سيما أن الروسيا واليابان تطمئنان إلى التوسع البريطاني أكثر مما تطمئنان إلى التوسع النازي، فقد خبرا الأول وعرفا ميوله ووسائله، ولكن الثاني مجهول. وإن رجحت فيه كفة الخيانة والغدر، فالاتفاق مع إنجلترا خير من الاتفاق مع ألمانيا، لأنه اتفاق مأمون العاقبة
السياسة تعمل
أما كيف يتم هذا الاتفاق وعلى حساب أية دولة فهذا أمر ليس في استطاعة الباحث أن يجيب عليه، فقد دخلت الحرب الآن في فترة تعمل فيها السياسة والمعاهدات أكثر مما تفعل القوة العسكرية. فالحرب الآن حرب حياة أو موت تكثر فيها المقامرات، وتكثر فيها المعاهدات السرية الوقتية التي تعمل المعجزات
فمعنى أن إنجلترا تسعى لفض منازعات اليابان مع الصين أنها رأت في سكون هذا النضال مصلحة تريد استغلالها، فساستها ليسوا من الغفلة بحيث يفضون مشاكل اليابان في الصين إذا اعرفوا أن اشتراكها في مؤامرة ألمانيا وإيطاليا ما زال معقول التنفيذ
وتعرف إنجلترا ما بين الروسيا واليابان، فتلويحها بالاتفاق مع إحداهما إضعاف للمؤامرة النازية، وإنذار للأخرى، ولا سيما لما بينها وبين أمريكا من اتفاق على إنقاذ العالم من شرور النازية وأطماعها، وخصوصاً لما بين اليابان وأمريكا من اختلافات قد تؤدي إلى الحرب بينهما
واتفاق الحلفاء مع الروسيا مع ملاحظة سياستها الحالية التي تسعى إلى الحصول على أغراضها كلما سنحت الفرصة سواء كانت هذه الأغراض ضمن الاتفاق أو خارجة عنه كما شاهدنا في تصرفاتها مع ألمانيا - اتفاق لا يطمئن إليه الحلفاء. فللروسيا أطماع كبيرة في تركيا، فسياستها في جميع مراحل الحكم من قيصري وشيوعي كانت مبنية على الاستيلاء على مداخل البحر الأسود في البسفور والدردنيل، فإنه يلاحظ إذا نظرنا إلى خريطتها أنه(368/35)
رغم الرقعة الواسعة التي تشغلها في القارتين الأسيوية والأوربية، يلاحظ أن منافذها البحرية الهامة محصورة وتحت تصرف غيرها من الدول، أو معطلة في جزء من السنة
الروسيا تنتظر
فموانيها في بحر البلطيق تقفل أثناء الشتاء بفعل تجمد الماء، وكذلك موانيها في البحر الأبيض الشمالي بعيدة قليلة الأهمية. ويلاحظ في موانيها في البحر الأسود أن منفذها إلى البحار الواسعة تحت سيطرة تركيا، فهي تسعى للاستيلاء على البسفور والدردنيل ليكون منفذها إلى البحر الأبيض المتوسط حراً، ولتأمن الاعتداء على سواحلها في البحر الأسود من اعتداء أساطيل الدول البحرية، فإنها إذا سيطرت على هذين الجزأين أصبحت سيدة البحر الأسود وهددت البحر الأبيض المتوسط
ومن يتتبع سياسة الروسيا يشاهد أنها توفر قواتها إلى وقت تستطيع فيه استغلالها في ظروف أكثر ملاءمة، فقد احتلت نصيبها من بولندا ورومانيا دون أن تبذل أي مجهود حربي يؤثر على الجيش السوفياتي
فهي في الغالب تنتظر أن تنهك الدول المحاربة ثم تبدأ بنشر الدعوة البلشفية بين الأمم، مستندة إلى قوة الحديد والنار، ولعل هذا مما يدعو الدول الأخرى إلى التفكير في ذلك المصير إذ يهدد الخطر الشيوعي الدول المنتصرة والمنهزمة، ولا شك أن ساسة الدول فكروا في هذا المصير طويلاً وقدروا له العلاج اللازم
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(368/36)
سبحي معي. . .!
أنا يا أختُ شاعرٌ قسَت الدن ... يا عليه فعاشَ فيها شقيا
وأنا ابن الخيالِ والفنَّ والحبِّ ... نمتْني السماء روحاً بهيا
فتعالَيْ نعزفْ على العودِ لحناً ... يدع الكونَ مستهاماً زكيا
سبِّحي سبِّحي مَعي للذي أَوْ ... دَعَ قلبيْنا حبَّنا العْذريا
يسمع الله يا حبيبةَ قلْبي ... لحبيبيْن ينشدان سويا
أنتِ أسكرتني وأنسيْت قلبي ... كرُباتٍ تركْنَ فيه دويا
أنت فتَّحت في عيونِيَ آفا ... قي وأبصَرْتني جمالاً خفيا
أنت أجرَيْت جدوَلي بعد أن كا ... نَ حبيساً مغلفاً منسيا
أنت أذهلْتني فسِرْتُ وما أدْ ... ري على كونِيَ المنوَّر شيا
أنت عودتني احتقار الأناسِيِّ ... وأحلَلْتني مكاناً عليا
فتساميتُ عن وجودي وغَنِّيْ ... تُ غناَءً مخلداً سحريا
أنت أرقصْتِ حَوْلَ روحي أغاري ... دَ فصارَتْ دنيايَ لحناً شجيا
أنت أسمْعتني من الغيْب أصوا ... تاً وهمساً محبباً علويا
أنت صيرتني طروباً يغني ... ذاهلا عن حياته قدسيا
فاسمعيني يا أختُ في عشك السَّا ... جي وروِّي فؤادَك العبقريا
ألهميني أغانيَ الوتر الشَّا ... كي ومدِّي شعاعَك الكوكبيا
واسكبي النورَ صافياً في عيوني ... وافتحي قلْبي الرحيبَ الصبيا
واخلُقيني كما خلقْتكِ في فنِّ ... يَ وخلَّدْتُ حسْنكِ الأبديا
العناياتُ أبدعتْكِ لأنْغا ... مي وشَعْري فجئتِ سحراً شهيا
فاصطفيني كما اصطفيتك قلباً ... صافياً، زاهراً، طهوراً، نقيا
واتركيني في حضنك الشاّعر الحا ... ني وليداً مدللا قمريا
حوله ترقصُ الملائِكُ نشوى ... وتغني الأقدار لحناً سنيا
طهرتني السماءُ حتى تمنَّيْ ... تُ لَوَانَّ الوجودَ مثلي نقيا
ورعتْني الغيوبُ فانسابَ قلبي ... جدولاً، ناغماً، رقيقاً، نديا
إيه من تلْهم الأناشيدَ كالعْط ... رِ تعالَيْ نسكرْ على الكونِ هيا(368/37)
أنت للفنِّ صاغَكِ الله يا روح ... ي فلا تمنعي عن الفن ريا
وأنا الفنَّانُ الذي يَهتْف الطي ... ر حواليه حين يسري هَنيا
وتغني الأمواجُ سكرى من الشَّوْ ... ق وتلهو على الضفاف مليا
وتفوحُ الأزهار حتى يُرى الكوْ ... ن نسيماً معطراً عبهْريا
هكذا جئْنا للحياة. . فلِمْ لا ... نتغنَّى على الحياةِ سويا؟
عبد العليم عيسى(368/38)
رباه. . .
يا طلعةَ النورِ في ظلَماء أحزاني! ... يا بسمةَ الأمنِ في أمواج حرماني!
يا هَدأَةَ الروح في أهوال عاصفةٍ ... يا نغمةَ الطُّهْرِ في سرِّي وإعلاني!
يا شُعلةَ الخير في صدريِ مؤَجَّجةً ... ويا صدى الحقِّ في أحناء وجداني!
ربَّاهُ صوتُكَ في الأعماق رَجَّعَةُ ... قلبي الضعيفُ بترتيلٍ وألحانِ
رباه هذا كياني رمزُ مقدرةٍ ... يَضجُّ بالحمدِ والتسبيح للباني
رباهُ إنَّ لهيباً ثائراً أبداً ... أذكى دمائي بوقدٍ ليس بالفاني
رباهُ منك اقتبستُ الشعرَ مؤتلقاً ... بكلِّ معنىً رفيع القدرِ فتَّانِ
رباهُ لولا جمالٌ منك مطلعُهُ ... يوحي البدائع لم أهْمِمْ بتبيانِ
رباهُ طَهَّرْ فؤادي أن يُلِمَّ به ... إثمُ الضلالةِ من إغواءِ شيطانِ
رباهُ إن سبيلي شائِكٌ وَعِرٌ ... فاشدُدْ قوايَ بلطفٍ منك معوانِ
وافتَحْ لروحِيَ آفاقاً مُزَوَّقةً ... من الخيالِ بأضواءٍ وألوان
واسكبْ عليها نَدى الآمالِ ممتزجاً ... بنشوةِ الحسنِ من أعطافِ نَيسانِ
وانثرْ ورودَ الأماني في بواكرها ... على ربيع صِبايَ الضاحك الهاني
رباهُ هذي صلاةُ الشعر حاملَةً ... نجوى يقيني وتقديسي وإيماني
ما قيمةُ الشعرِ إن لم ينتظمْ سُوَراً ... تدعو إلى الحقِّ ماكرَّ الجديدانٍ
(العراق - العمارة)
أنور خليل(368/39)
رسالة الفن
طبق الأصل
معركة. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
نشبت في الأسبوع الماضي على صفحات (الأهرام) معركة بين فريق من كبار الكتاب المصريين، كان مثار الخلاف فيها أن بعضهم أراد أو تمنى أن يعالج مفكرونا وأصحاب القلم عندنا شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والقومية والحربية وغيرها من شئوننا الفقيرة إلى التفكير والتدبير، بينما رأى البعض الآخر أن هذا الوقت العصيب الذي نجتازه ليس أنسب الأوقات لمعالجة هذه الشئون التي لا ريب تحتاج في دراساتها إلى أعصاب مستريحة وعقول مطمئنة. وأين هي اليوم هذه الأعصاب التي لا تتحفز في اليوم الواحد مرات لا مرة واحدة، والني لا تشرئب إلى الغيب تريد أن تستخلص منه الحادثات وما يتبعها من النتائج، وما هي مستخلصة شيئاً إلا هذا الجهد الذي يبذله. وهذا الشرود الذي تعانيه. وأين هي اليوم هذه العقول التي تستطيع أن تتلقط مادة الفكر ومادة النطق في خلال هذه المفاجآت المنهارة على الناس من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون. . .
هذه كانت معركة الأسبوع الماضي
وستنشب في الأسبوع المقبل معركة أخرى بين هؤلاء الكتاب الكبار وسيدخلها غيرهم، وقد جاءتني أنباؤها، واطلعت على ما أعد هؤلاء الكتاب لها من وسائل الهجوم وعدد الدفاع فآثرت أن أستعجل الزمن وأن أطلع قرائي على ما أطلعتني عليه الصدف، أو الملائكة
ما قل ودل
لما كنت في باريس، في المرة الأخيرة، ألقى صديقي الأستاذ مارسيل دوديه محاضرة قيمة في دار جمعية (الشمس والقمر والنجوم) كان أهم ما جاء فيها قوله المأثور: (إن الإنسانية يجب عليها أن تفكر منذ الآن في البحث عن وطن جديد غير الأرض تكون نسبة الأكسجين في مناخه أقل من نسبته في مناخ كوكبنا هذا، فإنه لا شيء يساعد على إشعال النفوس بالغيرة والحقد والغيظ مثلما يساعد الأكسجين على ذلك). . . وقد أثبت الأستاذ(368/40)
مارسيل دوديه نظريته هذه بصور كثيرة عرضها بالفانوس السحري كما أنه قام أمام النظارة بعدة تجارب أجراها على الأرانب والجرذان وعلى نوع خاص من الحشرات لا يوجد مثله في مصر ويوجد منه كثير في فرنسا وسامه اللاتيني (سانكا مانكا هوساروم) وقد دلت كل التجارب التي ألقاها الأستاذ مارسيل دوديه على أن نظريته صحيحة كل الصحة، ولكن الحرب لم تمهله حتى يتم أبحاثه فقد فوجئ بصفارات الإنذار وهو في معمله. ولست أدري ماذا حدث له بعد ذلك وإن كنت آسفاً كل الأسف على أن بحثاً جليلاً كهذا وئد وهو في طفولته. . .
أ. . .
البحث مستمر
كتب صديقنا الأستاذ الصاوي يقول: إنه كان في باريس حين ألقى العلامة الفرنسي الجليل الأستاذ مارسيل دوديه محاضرته الخالدة عن (المسكن الجديد) وهو الكوكب الذي كان هذا العلامة الفذ يريد أن ينقل الجنس البشري إليه فراراً من الأكسجين الأرضي الذي يشعل في النفوس الغيرة والحقد والغيظ فيسبب بها الحروب والويلات والأهوال. . .
والحقيقة هي غير ما قال الأستاذ الصاوي، فأنا الذي كنت في باريس في ذلك الوقت، وأنا وحدي الذي حضرت هذه المحاضرة القيمة، ولقد رويت ما استقيته منها للأستاذ الصاوي عندما قابلته في اليوم التالي في مطعم (سان سوسي) حيث قال لي إنه هبط باريس منذ ساعتين فقط، وما كنت أظن الأمانة العلمية تهون على الأستاذ الصاوي إلى حد أن ينسب لنفسه الاستماع إلى ما لم يسمعه، وادعاء العلم بما لم يأخذه بنفسه على أهله
وإني استحلف الأستاذ الصاوي بالضفدعة التي أكلناها معاً في ذلك اليوم أن يعود إلى الحق فينسب الفضل إلى أهله وذويه
على أنه لا يهمني كثيراً أو قليلاً أن يأخذ عني الأستاذ الصاوي هذا الذي أخذه، فكم أخذت مني معلومات نسبها الآخذون إلى أنفسهم وهي لي أنا تعلمتها في رأسي هذا الذي أحمله فوق كتفي والذي كدت أنوء بأثقال العلم التي احتواها.
ومع هذا فإني سعيد. ومن أسعد من العالم الذي يرى علمه يتفشى في الناس، ويروج(368/41)
ويذيع؟
هذه كلمة عاجلة أردت بها أن أضع الحق في نصابه، وكفاني الحق وكيلا.
زكي مبارك
(حاشية):
نسيت أن أقول إنه بلغني أن الأستاذ مارسيل دوديه لا يزال مستمراً في أبحاثه.
موضوع للتفكير
كثر اللغظ في هذه الأيام حول موضوع الهجرة من الكرة الأرضية إلى كرة أخرى من هذه الأكر المنثورة في الفضاء. الواقع أنه موضوع جدير بالتفكير، وإن ظهر لنا اليوم أنه قد يكون بعيد الحدوث. ولكن كل الاختراعات التي حققها العلم في هذا العصر كانت في العصور السابقة أحلاماً اعتبرها الناس إذ ذاك بعيدة الحدوث
والذي يراجع التواريخ ويقلب الكتب يجد أن رجال الآداب والفنون عادة هم الذين يسبقون رجال العلم في تخيل هذه الأحلام، ويجئ رجال العلم بعدهم فيحققونها
والأستاذ مارسيل دوديه رجل من كبار الأدباء والفنانين والمفكرين لا في باريس وحدها، وإنما في أوربا كلها، وهو شيخ تجاوز التسعين من العمر، وقد كان هو أول من فكر في اختراع الدبابات، وإن لم يكن تفكيره قد اتجه إليها مباشرة، ففي نهاية الربع الثالث من القرن الماضي كتب الأستاذ مارسيل دوديه قصة (السلحفاة الحديد) ونشرها في جريدة (العقل الجديد). فاستغل العلماء هذه الفكرة واخترعوا بها الدبابة
وعلى هذا الأساس أستطيع أن أدعو الأدباء والكتاب والفنانين والمفكرين المصريين إلى أن يسرحوا في عالموت الخيال ما استطاعوا عسى أن يوفق أحدهم إلى فكرة يمكن تحقيقها مادياً. وعندئذ يكون لمصر فخر المهاجرة بالبشرية من هذا الكوكب الذي قضى ربك أن ترتفع فيه نسبة الأكسجين ارتفاعاً يسبب الحروب والكوارث
فما رأى الكتاب عموماً؟ وما رأى أخي طه على الخصوص؟
أحمد أمين
أوهام(368/42)
لست أدري كيف جاز على الأستاذ أحمد أمين أن هناك أستاذاً في باريس اسمه مارسيل دوديه، وأن هذا الأستاذ عضو في جمعية اسمها جمعية الشمس والقمر والنجوم، وأن هذا الأستاذ ألقى في هذه الجمعية محاضرة عن الأكسجين في الأرض والأكسجين في الأرض والأكسجين في السماء، وأن هذه المحاضرة خرج منها السامعون أو السامع الواحد الذي يؤكد أنه سمعها ورأى فيها صوراً بالفانوس السحري وتجارب على الأرنب والجرذان، وعلى تلك الحشرة العجيبة التي اسمها (سانكا مانكا هوساروم). . . بفكرة هي أن الناس يستطيعون أن يعيشوا في أرض غير هذه الأرض وفي جو غير هذا الجو. . . مع أن قصة هذه المحاضرة كلها من أولها إلى آخرها ليست إلا مزاحاً أراد به صديق عابث أن يلهو مع الدكتور زكي مبارك الطيب القلب السليم النية، فقدمه إلى شاب من هواة التمثيل في باريس، بعد أن تنكر هذا الشاب في زي شيخ من العلماء الطاعنين في السن. وقد اختلق هذا الشاب الماجن الساخر كل ما حسبه الدكتور زكي مبارك حقاً، وألقى عليه المحاضرة الساخرة في نادي التمثيل الذي ينتسب إليه، وقد حسبه الدكتور المبارك جمعية علمية يعمل أعضاؤها على هجرة الأرض وسكنى السماء. . .
وقد كنت أربأ بصديقي الأستاذ أحمد أمين عن تصديق مثل هذه الأشياء، ولكن يظهر أن الذين قالوا: إن لكل عالم هفوة لم يكونوا كاذبين.
طه حسين
ولكني مسرور
بعد أن فضح أستاذنا الدكتور طه حسين ذلك الشاب الفرنسي الخبيث الذمي ادعى أنه أستاذ علامة، وأن اسمه مارسيل دوديه، وأنه يبحث عن سعادة البشرية واطمئنان الإنسانية، فحملني الخبيث على تصديقه والإيمان به. . .
بعد هذه الفضيحة، قد يحسب القراء أنني أريد السفر إلى باريس الآن لأبحث عن هذا الشاب وأخنقه وأشرب من دمه. . .
ولكن لا. . .
فما هذا والله إلا من ظرف باريس، ولطف باريس(368/43)
وإنك لا يمكن أن تجد هذه الدعابة العذبة الحلوة الشهية إلا في باريس
رعاك الله يا باريس، وجدد شبابك، وأعاد لك البهجة والحبور، ولتمزحي معي بعد ذلك كيف شئت. . .
يا باريس. . .
زكي مبارك
وأخيراً
تيقظت من تأملاتي العميقة التي يسبح فيها فكري في سماء الفن البنفسجية المتماوجة الأضواء، على صوت شاب من جماهير المعجبين بي الذين يضايقونني بزياراتهم وأسئلتهم التي يوجهونها إليّ بالتليفون وبالبريد، وبالتلغراف أحياناً، ظناً منهم أنني ما دمت مفكراً وفناناً وفيلسوفاً فإنني أستطيع أن أصغي إلى أسئلتهم وأن أجيب عنها مع أنني أتعب نفسي كثيراً في عملية الإصغاء والفهم، فعقلي الطائر وراء الحقائق المتراقصة فيما بعد آفاق الإدراك لا يستطيع أن يغوص إلى حيث تدب المخلوقات العادية على أرض العقل الناعس المتهدل
تيقظت على صوت ذلك المعجب وهو يسألني رأيي في مسألة الأستاذ مارسيل دوديه؛ فطلبت منه أن يقصها عليّ بمنتهى الإيجاز حتى أستطيع أن أحصرها فلا تفلت منها شاردة ولا واردة، فلما فرغ منها طلبت منه أن يعطيني مهلة يوماً أو يومين حتى أفكر في هذا الموضوع
وبعد طول التفكير نتأت في عقلي فكر جديدة، وهي: لماذا لا نتخلص من هذه الأبدان التي تحتاج إلى الأكسجين والهيدروجين وسائر هذه المواد التي تحجب عنها أنوار الأفراح المقامة في السماء؟
وأخيراً اعتزمت أن أبدأ بهذه التجربة. . .
وكما طلبت من ذلك الشاب المعجب بي أن يمهلني فأمهلني حتى اهتديت إلى هذه الفكرة، فإني أطلب من القراء أن يمهلوني هم أيضاً حتى أهتدي إلى الطريقة التي يمكن بها أن نتخلص من أجسامنا الكثيفة(368/44)
توفيق الحكيم
. . . وهذه (هدنة) تقف عندها المعركة
(عزيز أحمد فهمي)(368/45)
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة
جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
الباعث على نشوء مشكلة جابر
نحن الآن أمام شخصية فذة، ذلك لأن (جابراً) هو شخصية العلم، لا في العصور الوسطى الإسلامية فقط، ولكنه شخصية العلم في القرون الوسطى الأوربية.
ومنذ عام 1922، احتلَّت مشكلة جابر بن حيان الصدر والمكانة الأولى بين أهم المسائل التي عالجها العلماء المستشرقون في أوربا بوجه عام وفي ألمانيا بنوع خاص
ويمكن أن نقول: إن من أهم الأسباب لنشوء مشكلة جابر بن حيان وجود عدد معين من الكتب الكيميائية اللاتينية التي ينسب أصل تأليفها العربي لجابر بن حيان العربي المسلم
وهذه الكتب تعرف في الأدب اللاتيني الكيميائي بالأسماء الآتية
1.
2.
3.
4.
ولعل أهم باعث على الشك في صحة نسبة هذه الكتب لجابر بن حيان، هو هذه اللغة الواضحة، وذلك الأسلوب الجميل، وهذا العرض المنسجم الطلي، وغير ذلك من ظواهر الوضوح الفكري التي كتبت بها هذه الكتب. ذلك في حين أن التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية الأخرى كانت في لاتينية مضطربة وأسلوب مشوه قبيح، ولهذا السبب خُيِّل لبعض العلماء المستشرقين غموض أصل هذه التراجم وأنها مدخولة على جابر بن حيان
ولكي نعرض المشكلة عرضاً حسناً، ونضعها في وضعها الصحيح يجب أن نعرضها على شكل أسئلة نحاول أن نجاوب عليها، فإذا استطعنا ذلك سهل علينا إصدار الحكم الصحيح(368/46)
في هذه المشكلة، فنتساءل:
أولاً: هل يمكن أن تكون الكتب الكيميائية التي عرفت في الأدب الكيميائي في القرون الوسطى تحت اسم من أصل أوربي؟
ثانياً: إذا لم تكن هذه الكتب من أصل لاتيني فهل يمكن أن تكون ذات أصل عربي؟
ثالثاً: هل حقاً أن هذه الكتب كتبها جابر بن حيان العربي المسلم؟
رابعاً: إذا كان كذلك، فمن هو جابر إذن؟
ولكن في عرضنا للمشكلة، لن نعرض لها جزءًا جزءًا، ولكن سنعرضها ككل، وبعد ذلك نناقش ما وصلنا إليه من نتائج
شخصية جابر بن حيان
جابر بن حيان من تلك الشخصيات التي عاشت في صدر الإسلام، وكلنا يعرف أن أهم ميزة يمتاز بها رجال هذا العصر هي العقلية الجامعة العامة، وأعني بها تلك التي يطلق عليها وجابر خير من كان يمثل هذه العقلية، إذ أنه جمع بين العلم والأدب، وكان فيلسوفاً ومتكلما شيعياً، وكيميائياً، ومنطقياً، وإماماً للشيعة، وطبيباً، وإذا عرفنا شيئاً عما يذكره (الفهرست) من مؤلفاته أمكننا أن نتصور على أي شكل وصورة كانت عقلية جابر
فنحن نجد في (الفهرست) إلى جانب ما يذكره له من كتب الكيمياء وهي حوالي 250 كتاباً، نجد كذلك 300 كتاب في الفلسفة و 500 في الرد على الفلاسفة، و1300 في العلوم الآلية والحيل ومثيلها في عدد الحروب، و 500 ونيفاً في الطب، وعدداً كبيراً من الكتب في علوم التنجيم والفلك والسحر والتعويذ والعلم الإلهي
ونحن لا نذهب إلى القول بصحة ما جاء في هذا الثبت، فقد يكون ابن النديم قد فهم (الرسالة) على أنها كتاب أو أراد التهويل، ولكن الذي يعنينا هنا أن ابن النديم يريد أن يصور لنا عقلية جابر بن حيان على أنها عقلية جبارة
أصول الترجمة اللاتينية لمؤلفات جابر
ليس من شك في أن اتحاد شخصية التي يقول بعض المؤرخين إنها الشخصية اللاتينية المؤلفة للكتب السابق ذكرها مع شخصية جابر بن حيان - يكون عديم القيمة إذا كانت(368/47)
نسبة المؤلفات اللاتينية لجابر محض انتحال، وفي نفس الوقت تقدم البرهنة على ذلك مفتاحاً لمصادر هذه المؤلفات. وفي اختبارنا إياها كي نرى هل هناك احتمال يمكن أن يدل على أصلها العربي يتحتم علينا أن ندرس الكتب العربية لجابر بن حيان التي وصلت إلى أوربا؛ ولكن الأهم من هذا كله هو أن ندرس محتويات هذه الكتب الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها
فكتاب (الجمع) الذي يعد بحق أعظم وأهم مؤلفات جابر كلها، قسم إلى كتابين: الكتاب الأول مقسم إلى أربعة أبواب؛ والثاني إلى ثلاثة:
فأما الباب الأول من الكتاب الأول فإن المؤلف يعالج فيه الصعوبات التي يقابلها الكيميائي في تحضير الإكسير. وفي الباب الثاني يدحض جابر براهين وأقوال أعداء الصنعة وخصومها. واختص الباب الثالث بمناقشة خصائص عناصر الكبريت والزرنيخ والزئبق التي منها تتكون المعادن في نظر جابر بن حيان. ويبين في الباب الرابع الكيفيات التي بها تعالج المعادن والكحول والتبر ووصف التجارب الخاصة بكل معدن؛ ثم تحدث بعد ذلك عن العناصر الهامة والأجهزة اللازمة لكل تجربة
وفي الباب الأول من الكتاب الثاني عالج تحضير الكحول وبعض المعادن، ثم في الباب الثاني ذكر عدداً من الوصفات الطبية لا بأس بها، وفي الباب الثالث ذكر بعض التجارب التي لا تحتاج إلى شرح طويل
وسنقتصر هنا على ملخص هذا الكتاب لأهميته ولإحرازه قصب السبق على الثلاثة الآخرين، إذ أن هذا الكتاب أخذ منزلة إنجيل الكيمياء في العصور الوسطى فضلاً عن أنه نشر مرات باللاتينية منذ العصور الوسطى حتى الآن
مناقشة آراء المستشرقين في جابر ومؤلفاته
ولقد عَزّ على بعض المستشرقين أن يوجد مثل هذا المفكر الجليل الشأن، في الشرق خاصة وفي الإسلام عامة؛ فأخذوا يبتدعون أساليب الشك، ويحاولون بمعاول الهدم أن ينالوا من جابر بن حيان، ولكن هل قُدر لهم النجاح فيما أرادوا؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه!
وضروري جداً، لمن كان في سبيل بحث كبحثنا هذا، أن يؤرخ تأريخاً بسيطاً لحركة(368/48)
الاستشراق العلمي
كانت دراسة المستشرقين للناحية العلمية في العالم الإسلامي عديمة القيمة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر؛ ولكن منذ خمس وعشرين سنة ظهرت حركة جديدة في محيط الاستشراق لتبيّن أصول العلم العربي الذي يوجد بين طيات تلك المخطوطات العربية العديدة الموجودة في دور الكتب الشرقية والغربية، والتي يرجع الفضل في نشر بعضها إلى: برجستراسر وبراون وتكاتش وسوتر ومسبيرو
وهناك مدارس كثيرة من تلك التي اختصت بالكيمياء والطب والفلك والرياضة والطبيعة والفلسفة صبغت نفسها في نفس الوقت بصبغة استشراقية، نذكر من هؤلاء: رسكا وودمان وستشو وكروس وبلستر وسرطون ورينو وغيرهم
تقرير الأستاذ شميدر
الأستاذ شميدر له صولة وجولة في تاريخ الكيمياء، وبطبيعة الحال اتصل بحثه بمشكلة جابر بن حيان ومؤلفاته، ونحن نقتطف بعض عبارات مما كتبه:
قال: إن أشهر الكتاب العرب الذي عالجوا الصنعة (أي الكيمياء) هو جابر بن حيان الذي عاش حسب تقدير ليوافريكانس في القرن الثاني الهجري، ويمكن أن يقال بالدقة في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد. وليس ثمة عربي قبل جابر استطاع أن يكتب مثل ما كتب جابر. وليس ثمة عربي بعده استطاع أن يصل إلى مثل ما وصل إليه جابر، الأمر الذي ترتب عليه أن أطلق على جابر بن حيان في التراجم اللاتينية اسم (ملك العرب)، وإنه ليظهر لي غريباً وبعيد الاحتمال أن أولى محاولات التأليف في موضوع معين في شعب من الشعوب قد تبلغ هذه المرتبة من الناحية العلمية، ولكن المشكلة زال ما كان يعتريها من غموض بفضل استكشاف ليوافريكانس الذي ذهب إلى القول بأن جابر لا يمت إلى العرب بصلة، وإنما هو منحدر من سلالة إغريقية. فلقد عاش جابر في إشبيلية بأسبانيا حيت ألم بكل فروع الفلسفة اليونانية العربية، وربما يكون جابر هذا هو الذي أنشأ الجامعة العربية هناك، أو على الأقل يمكن أن يعتبر مؤسس مدرسة فلسفية انتشر تلاميذها في القارات الثلاث، وأخذوا ينشرون العلم باسم جابر بن حيان. ولما كانت كل مؤلفات جابر بالعربية فإنه اكتسب لنفسه الجنسية العربية وكذلك اكتسبها لعلمه(368/49)
ولكن إذا أنعمنا النظر في هذا الرأي الذي يأخذ به الأستاذ شميدر وجدناه مليئاً بالأغلاط التاريخية، وذلك أن جابراً لم يذهب إلى إشبيلية، وما عاش بها قط، إنما عاش متنقلاً في بلاد المشرق بين الكوفة وبغداد، وأن جميع كتب التاريخ العربية تثبت لنا ذلك بشكل قاطع، هذا أولاً، وثانياً: إذا كان صحيحاً ما يقول به شميدر من أن جابراً معتنق جديد للدين الإسلامي، فما هو اسم جابر الأصلي؟ ولمَ لَمْ تذكر في كتب التاريخ هذه الحقيقة؟ وهبني سلمت بصحة ما يقول به شميدر فكيف يمكن التوفيق بين ما يقول به وبين ما تقول به كتب التاريخ الصريحة من أن جابراً تولى إمامة الشيعة، بعد موت جعفر الصادق، وهم على ما هم عليه من تطرف وغلو شديدين في الدين الإسلامي؟
وهذا كله لا يسعنا إلا أن نرفض ما يقول به الأستاذ شميدر
تقرير الأستاذ مايرهوف
يرى الأستاذ مايرهوف أن تلك الكتب التي تنسب لجابر هي في ذاتها مشكلة، إذ كيف يتيسر أن نفهم أن رجلاً عاش في القرن الثامن وله كل هذا الاطلاع على الأدب اليوناني الكيميائي؟ ولكن يظهر أن هذه المؤلفات من أعمال جمعية في القرن العاشر من الميلاد أي القرن الرابع الهجري شبيهة بتلك التي أطلقت على نفسها (إخوان الصفاء). وأسماء المؤلفين اليونان هي التي تذكر فقط أعمال جابر الطبية، ولكن النصوص بعيدة عن أصحاب هذه الأسماء جد البعد، وتدل على روح مدرسية صريحة، ففي حين أنه قليلاً ما يأتي ذكر الأعلام السريانية والهندية، نجد كثيراً ما وردت الأعلام الفارسية. . . وعلى أية حال فمن المشكوك فيه أن نعدها الحلقة الأخيرة من سلسلة تقدم علمي امتد من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الإسلامي
ولكن رأى مايرهوف لا يعدو أن يكون تقريراً ساذجاً، فالأستاذ رسكا يقول: إن المسألة لا يمكن أن تفسر هذا التفسير البسيط الساذج من أن أعمال جابر بن حيان إنما هي أعمال مدرسة استمرت عدة قرون
ولكن، فلنتوسع قليلاً في مناقشة ما يذهب إليه مايرهوف: فمايرهوف يبني أساس برهانه على أنه لا يمكن لجابر أن تكون له هذه المعرفة الواسعة المدى بالكيمياء، وهو الذي عاش في القرن الثامن للميلاد، ولكن أنسى الأستاذ مايرهوف وهو الفطن اللبيب الذي بحث في(368/50)
الأصول التي استقى منها الإسلام العلم وبين بكل وضوح وجلاء أنه ما أتى القرن الثاني من هجرة الرسول، أي القرن الثامن من الميلاد، حتى كان لدى المسلمين معرفة حسنة بل جيدة بالعلوم، وخاصة الطبيعية منها التي كانت لدى الفرس والسريان والهنود والمصريين واليونان
ولكن يمكن أن نلتمس له عُذراً إذا عرفنا أن المدة بين رأيه الأول ورأيه الثاني تقرب من ثماني سنوات. فإذا كان مايرهوف سنة 1937 يهدم الأساس الذي بنى عليه مايرهوف تقريره سنة 1930 فلا يسعنا إلا أن نرفض النتيجة المترتبة على رأيه الأول، وهي أن أعمال جابر من أعمال مدرسة امتدت حوالي ثلاثة قرون
(يتبع)
أحمد زكي صالح(368/51)
البريد الأدبي
إلى الدكتور زكي مبارك
قرأنا حنقين مقالك الذي تبكي فيه بلدة آثرت صلة هواك بملاهيها وحبك لمعاهدها على صلتك بإخوانك الذين جرّعهم أبناء النور الصاب، وأوردوهم شرّ مورد، صلة الدم واللسان والإسلام ما كان لك أن تنساها
ولولا أن الفم فيه ماء، لعاتبتك عتاباً يتحدث به الركبان.
ولكن يشفع لك ما قدمت إلينا من جميل، وما أسلفت من إحسان
وإن يكن القول الذي ساء واحداً ... فأقوالك اللائي سررن ألوف
وأرجو ألا يمنع الأستاذ الزيات من نشر هذه الكلمة أنه شريكك فيما أعاتبك عليه وألوم. .
والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته
(دمشق)
علي الطنطاوي
(الرسالة):
كان الأستاذ الطنطاوي حرياً أن يفرق بين فرنسا السياسية المستعمرة وفرنسا الأدبية المتمدنة، فأنه لو فعل ذلك لوافقنا على أن فرنسا الروحية هي الوطن الفكري لكل أديب.
أصحاب العاهات ونوادرهم
ذكر الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد الماضي من الرسالة أن نخبة من أدباء دمشق عنوا بجمع أخبار أصحاب العاهات ونوادرهم وأنهم لم يعثروا إلا على القليل من أخبار العور وملحهم. ويسرني أن أرشد هذه اللجنة الموقرة إلى كتاب يفيدها في هذا الموضوع، وهو (الشعور بالعور) للعلامة صلاح الدين خليل ابن أيبك الصفدي، وهو كتاب جامع في أخبار العور من صحابة وتابعين وعلماء وأدباء، وهو على مثال كتابه في العميان المسمى (نكتُ الهميان في نكتِ العُميان). والشعور بالعور من الكتب التي نقلها المرحوم أحمد زكي باشا بالتصوير الشمسي عن مخطوط في بعض مكاتب الأستانة. وهو يوجد الآن في(368/52)
خزانته الزكية بدار الكتب المصرية. وعسى أن يجده الأستاذ في مكاتب دمشق الخاصة أو العامة فإنه فريد في بابه.
محمود حسن زناتي
أمين الخزانة الزكية سابقا
(الرسالة):
جاءنا مثل هذا البيان من الأديب رشاد عبد المطلب، وقد زاد على ما قال الأستاذ الزناتي أن من هذا الكتاب نسخة خطية في الخزانة الخالدية في القدس، وأن للصفدي كتابا في العمش وآخر في الحدبان ذكرهما السخاوي في كتابه (الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ).
دعاء: شيئاً لله يا مرسي!
يا أبا العباس لقد كنت تقياً، وقد كنت ولياً، وإن لك عند الله كرامة، وهو مجيبك إذا دعوته، فهلا دعوته اليوم للإسكندرية!
لقد دعا الشيخ المراغي للقاهرة فادع أنت للبلد الذي أسكنك الله إياه كما دعا إبراهيم للبلد الآمن، الذي أمنه الله بدعائه
قل يا رب صن الإسكندرية من شر عبادك، كما صانت الإسكندرية عبادك من شر بلادهم، فكم جاءها من فقير، وكم جاءها من يائس، وكم جاءها من مؤمل، وكم جاءها من مجاهد، وكم جاءها من عالم، وكم جاءها من عابد، وكم جاءها وكم جاءها. جاءوها من هنا وجاءوها من هناك، ففتحت لهم جميعاً ذراعيها، وأحسنت وفادتهم، وآخت بينهم، وحنت عليهم أماً رؤوماً، وعلمتهم، وشدت أزرهم، وصرفتهم من كتمة الغل إلى براح الرجاء، وطهرتهم من وخامة الحقد لما كوتهم بالملح. . . فصنها يا رب صنها فما كانت تتوقع من إنسان غدراً، وما قدمت يداها سيئة، وما انطوت نفسها على ضغينة. . .
ليس في الإسكندرية جبن يا رب وليست فيها ذلة، وأنت أعلم بمن فيها من عبادك الذين يصارعون التحجر في الصحراء والتجبر في البحر والتناحر في التجارة. . . أيكون هؤلاء جبناء أنذالاً أذلة، أم هم الأحرار الكرام الأعزة. . .؟ إنهم الأحرار الكرام الأعزة يا رب، إذا هبط لهم العدو وصادمهم وجهاً لوجه، وفرداً لفرد؛ أما أن يتحجب فوق السحاب ويقذف(368/53)
بالنار وهو فوق، فالأسود يا رب تحرقها النار إذا انقذفت عليها من فوق. . . فصن اللهم الإسكندرية
وإذا كانت الإسكندرية قد فسقت يوماً عن أمرك يا رب حين تولتها المرأة كيلوباترة فقد أنزلت بعد ذلك عليها من غضبك ونقمتك ما ردها لصوابها فتابت إليك يا رب وأنابت واحتملت عن مصر بعد ذلك ويلات الحروب المتوالية، وهجمات الطامعين المتعاقبة. فهلا تبت عليها بذلك فغفرت لها الهينات من سيئاتها، وما سيئاتها إلا مجون الطيش وعبث الخفة، وهي بريئة بعد ذلك من الطغيان، بريئة من الكفر. . . وهي لا تزال إلى اليوم تخشاك وتخافك، إن أذنبت استغفرتك، وإن زلت استنجدتك، فإن استمرأت الخطيئة، واستغرقت فيها ذكرتك، وإن في الأدنس من أحيائها صلاة لك، ومسجداً تهوي إليه أفئدة الأشقياء المحرومين، أو أسماعهم أو أنظارهم، فما يلبثون حتى يقولوا وهم في سكرة الرجس: اللهم يا رب. . . يرجونك ويسألونك الهدى. . .
يا رب. . .
. . . قل لربك هذا يا مرسي، وقل من عندك ما هو خير
(عزيز)
عطف ملكي كريم
رفعت إلى السدة الملكية العالية نسخة من كتابي الجديد (بين صديقين) فكان من فضل حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، أن تلقيت كتاباً كريماً من ديوان كبير الأمناء، أتشرف بنشره في مجلتنا (الرسالة) الغراء، ونصه:
حضرة المحترم الشيخ أحمد جمعة الشرباصي:
أتشرف بإبلاغ حضرتكم الشكر السامي، على النسخة التي قدمتموها إلى (حضرة صاحب الجلالة الملك) من كتابكم (بين صديقين)
وتقبلوا وافر الاحترام
كبير الأمناء
تحريراً في 9 يوليو سنة 1940(368/54)
عنه: أحمد محمد حسنين
إمضاء
وإني لأبتهل إلى الله العليّ القادر أن يؤيد مُلك الفاروق وأن يعز دولته، وأن يحفظه قائداً للشباب وقدوة للملوك!. . .
(البجلات)
أحمد جمعة الشرباصي
الشيخ الأكبر
يطلق كثير من المسلمين لقب (الشيخ الأكبر) على الشيخ محي الدين العربي اعتقاداً منهم بولايته ومنزلته عند الله؛ وضريحه في دمشق محطّ للمئات منهم كل يوم يطوفون حوله ويتمسحون به تبركاً وربما دعاه بعضهم لقضاء حوائجه بدلاً من أن يدعو الله. وإذا أنكر هذا عليهم منكر اتهموه بالزندقة، وقد أحببت أن أعرض للقراء بعض ما يقول هذا الرجل، وأن أترك لهم الحكم في (ولايته)
قال في كتاب اليواقيت والجواهر: اعلم أن عدد الأنبياء والمرسلين من بني آدم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، كما ورد الحديث (!) ولا بد من هذا العدد في الأولياء في كل عصر وقد يزيدون. وقد جمع الله بيني وبين جميع أنبيائه في واقعة صحيحة حتى لم يبق منهم أحد إلا وعرفته، وكذلك جمعني على من هو أقدامهم من الأولياء فرأيتهم وعرفتهم كلهم. وقال: رأيت في كشفي جميع الأنبياء والمرسلين، وأممهم مشاهدة على من كان منهم ومن يكون إلى يوم القيامة أظهرهم الحق تعالى في صعيد واحد! قال: وصاحبت منهم غير محمد صلى الله عليه وسلم جماعة منهم الخليل عليه السلام قرأت عليه القرآن كله باستدعائه ذلك مني فكان يبكي عند كل موضع ذكره الله تعالى فيه من القرآن وحصل لي منه خشوع عظيم. وأما موسى عليه السلام فأعطاني علم الكشف والإفصاح عن الأمور وعلم تقليب الليل والنهار. وأما هود عليه السلام فأخبرني بمسألة كانت وقعت في الوجود وما علمتها إلا منه. وأما عيسى عليه السلام فثبت على يديه أول دخولي في طريق القوم.
وقال في الفتوحات (الباب الثالث والسبعين): ما اجتمعت بأحد من الأنبياء أكثر من عيسى(368/55)
عليه السلام، وكنت كلما اجتمعت به دعا لي بالثبات حياً وميتاً، وكان يقول لي: يا حبيبي! وقال فيه (الباب الخامس والستين): قد شاهدت في واقعة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وشاهدت جميع الأنبياء وأشهدني الله تعالى جميع المؤمنين بهم، حتى ما بقي منهم أحد لا من كان ولا من يكون إلى يوم القيامة، وعرفت خاصهم وعامهم، وعرفت جميع السعداء الذي كانوا في ظهر آدم وعددهم، فلا يخفى عليَّ الآن منهم أحد من أهل الجنة ولا من أهل النار، لكن لم يعطني الله تعالى معرفة عدد أهل النار لكثرتهم. ويقول فيه (الباب الثامن والتسعين) فإن قلت. فهل اطلع أحد من الأولياء على عدد الحوادث التي كتبها القلم الأعلى في اللوح إلى يوم القيامة؟ فالجواب نعم ومائة نعم! وأنا ممن أطلعه الله على ذلك. فإن قيل لكم: فكم عدد ما سطر في اللوح من آيات الكتب الإلهية؟ فالجواب: عدد ما سطر في اللوح من الآيات التي أنزلت على الرسل: مائتا ألف آية وتسع وستون ألف آية ومائتا آية!!
فما رأى سادتنا العلماء في هذا الولي العظيم والشيخ الأكبر؟
(دمشق)
ن. ط
حديث صحيح
جاء في كتاب (فجر الإسلام) ص 267: أن البخاري على جليل قدره ودقيق بحثه اثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية على أنها غير صحيحة. واستشهد لذلك بحديث: (لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة) اهـ
هذا الحديث أخرجه البخاري كاملاً في باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء من كتاب الصلاة، ونصه: عن عبد الله بن عمر قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام النبي (ص) فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد. فوهل الناس في مقلة رسول الله عليه السلام إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة؛ وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض يريد أنها تخرم ذلك القرن. ورواه مختصراً - على عادته من تجزئة الحديث في مواضع متعددة - في باب السمر من كتاب العلم، ونصه كما نقله(368/56)
الأستاذ أحمد أمين. وفي هذا المقام نبه الشراح - ابن حجر والقسطلاني والكرماني - على أنه جزء حديث، وأنه ذكر كاملاً في باب السمر في الفقه، وأنه مقيد بقيد (اليوم). ورواه مسلم من طرق متعددة إحداها عن جابر انه عليه الصلاة والسلام قال لهم قبل وفاته بشهر: (ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ). وقد نص النووي وغيره على أن هذا الحديث علم من أعلام النبوة إذ أخبر فيه بأن كل نفس كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة، وكان الأمر كذلك، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ولا إخبار عن فناء الدنيا بعد مائة سنة كما فهمه الأستاذ أحمد أمين. وقال ابن حجر بعد شرح الحديث المذكور: (وكذلك وقع بالاستقراء فكان آخر من ضبط أمره ممن كان موجوداً حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة وقد أجمع أهل الحديث على أنه كان آخر الصحابة موتاً، وغاية ما قيل فيه أنه بقي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقالة النبي صلى عليه وسلم). فكيف أقدم الأستاذ على الحكم بوضع هذا الحديث، وهو كما رأيت من أخبار الرسول التي وقعت كما أخبر!
وقد عدَّ الأستاذ في آخر فصل الحديث مراجع ذكر في مقدمتها فتح الباري والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم فإن كان قد اطلع على روايات الحديث، وما كتبه الشراح، فكيف حكم بكذبه، وإن كان لم يطلع إلا على الجزء المختصر من متن البخاري فكيف عدَّ تلك الشروح من مراجع بحثه؟!
مصطفى حسني السباعي
في الكلمة الماضية جاء لفظ (قهزار) وصوابه (فهزاذي). (والفزار) وصوابه (الفزازي).
-(368/57)
القصص
عودة الماضي
للأستاذ محمد سعيد العريان
خلَتْ (هُدَى) إلى نفسها تتدبّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ كانت تشعر أنها قادمة على أمر ذي بال، وأَنها الساعةَ في مرحلةٍ بين مرحلتين من حياتها، وثَمّةَ طريقان عليها أن تختار أيَّهما تسلك؛ فإما إلى سعادةِ تُنسيها الماضي بما فيه من لذة ونشوة وسحر، وإما. . .
ولكنها لا تعرف السعادةَ إلا ما كانت فيه قَبل؛ فما هذا الجديد الذي يحاول أهلها أن يزيَّنوه لها ويحملوها عليه؟
الزواج! والبيت! والأسرة!
ما أجمل هذه الأسماء وألطفَ موقعَها من قلب كل فتاة! ولكن ما بال (هدَى) إذ تسمعها الساعةَ كأنما تَخِزها وخزَ السنان، فما تطرق أُذنَها إلا فارغةً من معناها أو معدولاً بها عنه، فليس لها في نفسها إلا معاني القلق والوحشة والحرمان!
أتراها وقد جاوزت العشرين لم تفكر في الزواج والبيت والأسرة قبل اليوم؟ بلى! ولكن. . .، ولو أن أحداً غير أبيها وأمها ألقى إليها هذه الكلمات قبْل، لكان لها معنى حقيقٌ بأن يسرَّها ويملأها سعادة ومرحاً؛ أعني لو أنه هو. . . ولكن، أين هو؟ وهل يدري. . .؟
وطارت خواطرها سريعاً إلى (ماجد) وتمثلتْه جالساً مجلسَه ينتظرها لموعدها الذي طالما التقيا فيه منذ سنواتِ. . . يتلفْت ويمدْ عينيه يَتنورَّها قادمةً من بعيد، فيلقاها مبتسماً ويبسط لها يمينه!
آه: ماذا تُراه يفعل حين يبلغه النبأ، فيعرف أن (هدى) لن توافيه لموعده منذ اليوم، ولن تلقاه، ولن يراها؛ لأن حياةً جديدة قد باعدت بينهما فلا سبيل إلى اللقاء!
ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، وتدحرجت على خذها عبره؛ أَّمحى خياله من خيالها، ثم عاد، ورأته - كما نظرتْ في مرآتها - عابساً مقطِّباً، في جبينه ذلة المخذول وفي عينيه ذبول السهر ولهفة الحرمان!
وغلبتْها نفسُها فأرسلت عينيها، وأطرقتْ، وأصابعُها تعبث بمنديل بللته الدموع!
ورن جرس المِسرَّةَ، فهبْت واقفة كأنها من رنين الجرس على ميعاد، ثم ذكرتْ موقفَها،(368/58)
فقمعتْ في صدرها رغبة تختلج وعادت إلى مجلسها. لا ينبغي أن يسمع (ماجد) صوتها في المسرة بعد اليوم!
لم يَحسب ماجد وهدى حساباً لهذا اليوم من قبل، لوم يدُر في خاطر واحد منهما لحظة أن هذه الساعة آتية؛ لقد كانا من الحب في سكرة ذاهلة لا تدع لهما سبيلاً إلى الفكر والتدبير وتَوَقُّع ما لم يقع بعد. . . وفجأة تغيْر الموقف وكان ما لا بد أن يكون؛ وطرق الباب طارق مجهول يطلب يد هدى. . .
. . . وسأل أبوها وتقصَّى أمرَه، فرضِيَه لفتاته، ولكنه تلبِّث حتى يسمع رأيها، وسألها فلم تُجب، وفزعت إلى خلوتها تتدبَّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وتبكي. . .
أكانت تبكي حُباً لماجد أم شفقة عليه؟ مَن يدري؟ ولكنها ظلت تبكي؛ وماذا تملك أن تفعل غير البكاء؟
أتُراه يعرف؟ يا ليت. . .! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعةَ يطلب يدها! إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان. . .!
ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها؛ فَمَن له بأن يعرف؟ مَن له بأنه لن يرى هُدى بعدُ، ولن تراه؟
. . . أم تراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطبَ المجهول بما لَه من سَابقةٍ قريبة؛ فما مَنَعَه من ذلك قبلُ لو أنه كان يريد؟
. . . ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيّها إلى أبيها؛ لقد حاولتْ في هذه الأيام أشياءً كثيرة ولكن محاولاتها جميعاً لم تستطيع أن تحمل فتاها على ما أرادتْ؛ ليت شعري أكان ذلك منه غباءً أم تغابياً؟
ولم تَجد الفتاةُ سبيلاً إلى الخلاص بعد، فرضيتْ!
لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهدٍ جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة؛ فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به، فقد ضلَّتْ وأَثِمتْ وبذلتْ ما لا تملك لمن لا يملك - فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا(368/59)
تدع سبباً يذكّرها به إلا أبعدته وعفَّتْ آثاره؛ فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء من معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذْرَتْ رمادها، وحتى المخدع الذي كان يُلمّ بها طيفُه إذ تأوي إليه، لم تَدَعه في موضعه؛ والصورة التي تصوّرتها يوماً لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها -، لم تُبقِ عليها؛ والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاولْ أن تمسك سمّاعتها بعدُ مرةً واحدة لتنادي أحداً أو تجيب نداء. . .
ولكن هدى مع كل ما فعلتْ وما غيِّرتْ من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورِقْبة، تخشى يوماً يستيقظ فيه ذلك الشبحُ الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويُزِلّها!
وتركتْ ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان؛ وجلست في مُصَلاَّها ورفعتْ يدين ضارعتين إلى الله تدعو: (يا ربّ! هذه طاقتي فيما أملك؛ فجنَّبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!)
ولما حُدِّد يومُ العُرس بعد أيام، رَجَتْ أباها وخطيبَها أن يَنْسآ الأجل؛ فما تريد أن تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعاً!. . .
وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأتْ فتىً يستحق الحبَّ لو أنها تملكه؛ فمنحته الاحترام والطاعة!
وكثر لقاؤها خطيبَها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديثُ فنوناً، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه؛ ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضَتْ من حياءِ، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!
أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط!
لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع سرّاً أطلَّ عليه من عينيها حين نظرتْ ونظر، فلم ترقأ دمعتُها ليلتئذ!
ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولتْ أن تقول شيئاً ثم أمسكتْ؛ قلد خُيِّل للمسكينة أنها تستطيع أن تَتَخفّف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحتْ به بين يديه؛ ولكنها لم تقدر، فسكتتْ على ألم!(368/60)
وراحت الأيام تدنيهما قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفساً لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنواً من الإخلاص والوفاء والرجولة؛ فمنحته الإعجاب إلى الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت؛ فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها، وأتست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبتْ زوجها إلى داره، والتقيا روحاً وجسداً وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضى؛ فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل وراح زوجها يبذل لها، ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرَّد ألحانه. ومضى عام، وصار الاثنان ثلاثة؛ واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق - كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفَّف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خالٍ على شط النيل حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها. وانبعث الماضي إنساناً حياً يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من سِنيه لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت؛ وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار بسمات على الشفاه تختلج وتناجياً في العيون تتلاحظ؛ وهتف ماجد في هَمس: هُدى!
وهمَّتْ هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صورٌ وذكريات، وخيل إليها أن أصواتاً كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، وأفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: ماما! ماما! أنا سبقتك!
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلةٍ منذ سنوات - كانت في تلك الليلة؛ وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ وشعرت كما شعرت مرة من قبل، أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها(368/61)
الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها؛ ولكنها هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!
ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال. . .
ومدت أمه إليه يداً فضمته إلى صدرها وانحنت عليه وراحت تبكي بلا دموع!
(يا ولدي!. . .)
ولم تتم حديثها! ترى بماذا كانت تريد أن تحدث طفلها؟ أتراها كانت تريد أن تتخفف من ثقل يئودها فتفضي إليه بالسر الذي عجزت من الإفضاء به إلى أبيه. . .
وذكرت الرجل الذي وضع أمانيه بين يديها وأخلص لها؛ لقد منحته من نفسها الاحترام والطاعة حين عجزت أن تمنحه الحب؛ ولقد خُيل إليها في فترة من حياتها أنها تحبه؛ فما بالها اليوم قد صبأت حين ذكرت ذلك الماضي الذي كانت تظنه قد غاب في مَدْرَجة النسيان؟
وتعاقبت الأيام، وهُدى من داء قلبها في همٍّ واصب، والزوج يرى ويحس ولا يكاد يدري، والطفل يذبل ويذوي عوده؛ إذ كانت أمه في شغل عنه بما تصارع في نفسها مِن هم!
وعاد الزوج إلى الدار ذات مساء ومعه ضيف. . . وكان الماضي طيفاً يُلمّ فعاد ضيفاً يزور!
واستقبلته هدى بشعور بين الأنس والوحشة، واتخذت مجلسها بإزاء الرجلين اللذين فرض عليها القدر أن تكون منهما بين شِقَّي مقصَ لا يجتمعان إلا على فرقة وشتات!
ونهض الزوج لبعض شأنه، فهمَّت أن تلحقه حين ناداها ماجد، ونظر إليها ونظرتْ؛ وكان في عينيه نظرة ضارعةٌ، وفي عينيها نظرةُ تساؤل، وتحركت شفتاه هامساً: (هدى! لقد التقينا أخيراً. . .)
وفي نبرة صارمة متكبرة أجابته ووجهها إلى الباب: (خيرٌ ألا تعود. . .!)
ولما خلت إلى نفسها بعدُ ومَثَلَتْ صورته في خيالها، كان رجلاً لآخر غير مَن كان؛ بلى، إنها كانت تحبه، وكانت تحفظ له في أعماقها أجملَ الذكرى، ولكنها لم تعرفه على حقيقته إلا الساعة؛ لقد كانت له يوماً بقلبها وعواطفها تحفظ له غَيْبَه ومَشْهده؛ فما له يحاول اليومَ أن يكون له منها غَيْب ومشهد؟ أتراه لم يصحب زوجها إلى داره إلا ليقول لها في همس:(368/62)
(هدى! لقد التقينا أخيراً. . .) أم تراه يحاول أن يُزِلَّها بالمكر والخديعة لتمنحه في غفلةٍ من زوجها بعضَ ما لا تملك!
ونبذتْهُ مذ عرفتْه وسقط من حسابها، وتحطم التمثالُ الجميل الذي أقامتْه في قلبها تقدْسه وتتعبّد له؛ ومحت كلمةٌ من شفتيه ما لم تمحه السنون من ذكريات الماضي فصار هباءً وعاد كما بدا!
ووازنتْ بين رجلٍ ورجل فشالت موازينُ ورجعتْ موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها فبعد لأيّ ما أبصرتْ، وعرفتْ. . .
. . . وشيعه زوجها إلى الباب وقفل إليها كأنه عائد من سفر طويل، ودفنت وجهها في صدره لتذرف آخر دمعةٍ على الماضي الذي ذهب ولن يعود؛ ورفعت إليه عينين مخضلَّتين بالدمع وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلمها سقف.
وكأنما كان قلبها في سجنٍ فحطّم أقفالَه وانطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخاً جديداً في صفحة بيضاء!
محمد سعيد العريان(368/63)
العدد 369 - بتاريخ: 29 - 07 - 1940(/)
تقديم السنين
(على طريقة المقامات)
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت ونحن نقدم الساعة: غير هذا التقديم كنت أريد. فنحن لم نقدم الساعات ولكننا سمينا الحادية عشر ثانية عشرة وانتهينا عند هذا التبديل، وإن هي إلا أسماء!
وإنما التقديم الحقيقي بعنائه أن تتقدم الساعة في الزمان، فيصبح ما سيكون فيها وقد كان
فمن ركب الطيارة من القاهرة يصبح (على جناح السرعة) وهو في الإسكندرية
ومن أخذ في قراءة فصل من كتاب يصبح وقد فرغ من القراءة ووعى ما قرأ، أو في كتابة مقال يصبح وقد فرغ من كتابته كأنه قد جهد له طوال الدقائق الستين من تلك الساعة.
ومن غلبه الغضب يصبح وقد سرى عنه، أو من اطمأنت نفسه بالغبطة يصبح وقد تهيأت نفسه لغبطة جديدة
فهكذا يكون تقديم الساعات، أو هكذا يكون التقديم في الزمان
ثم قلت وقد سنح لي الخاطر وتمثلت الأمنية: أمن أجل ساعة واحدة تريد هذه الخارقة؟ كلا، هذا إسراف في التمني وافتيات على الخوارق. وساعة واحدة لا تستحق هذا الإسراف ولا هذا الافتيات. فما أيسر انتظارها على المتشوف، وما أسهل إغفالها أو نسيانها على المستطلع! إنما يستحق هذا الأمنية تقديم سنين لا تقديم ساعات، فمن لنا بمن يقدم الزمان في مجاهل المستقبل عشر سنين؟ ومن لنا بمن يميط هذا الحجاب الكثيف لعيون المتلهفين ونفوس المترقبين؟
عشر سنين فإذا الغد أمس والمجهول معلوم
عشر سنين فإذا الحرب الحاضرة وقد سماها الكاتبون حرباً ماضية، وإذا الناس قد عرفوا الغالب والمغلوب، وكشفوا الغشاوة عما وراء هذا الستار المضروب، من غبار الوقائع وعثيْر الحروب
عشر سنين فإذا بلاد قد طويت وبلاد قد نشرت، وإذا أعلام قد برزت وأعلام قد اندثرت، وإذا مذاهب من الإصلاح أو من الإفساد قد جربها المجربون، فمنهم راضون ومنهم ساخطون، ومنهم من يحكم على أصحابها بالحكمة ومن يحكم عليهم بالجنون؟(369/1)
وفي مصر كم ذا يحدث في عشر سنين؟
وكم جاهل بحاضرة اليوم يصبح وهو من علم الغد وبعد الغد على أتم اليقين
عشر سنين!
فمن ذا الذي يدير لنا لوالب الزمان عشر سنين؟!
قال الراوي: وكأنما كانت أمنيتي هذه أمنية مرقوبة في العالم المجهول، فما سنحت في خاطري حتى تكشفت لبصيرتي ساحة فسيحة كأرحب ما تكون الساحات، مكظوظة باللوالب والتروس، مزحومة بالمحركين والمحركات؛ وعلى مقابض تلك اللوالب مردة أشداء، ظهر عليهم السأم ولا أقول ظهر عليهم الإعياء، وكبيرهم الذي يقبض على أكبر اللوالب يسألني سؤال العارفين: أأنت المقترح علينا تقديم الزمان عشر سنين؟
قلت: نعم. وأن شئت فعشرين أو خمسين!
قال: على رسلك. فما أجبت إلى الصغير حتى تطلب العظيم، فهل أنت وحدك طالب هذا التقديم؟
قلت: احسبني وحدي، فما زاد الأمر على أمنية في خلدي
قال: جزاك الله الحسنى، فليس أحب إلينا من إجابة ما تتمنى، فقد سئمنا والله وبرمنا، وشقت علينا الإدارة والدوران، وتاقت نفوسنا إلى اختزال واختزان، على شكل من الأشكال ولون من الألوان
إلا أنك وحيد. وماذا تغني أمنية الوحيد بين العدد العديد؟ فهلا ضممت إليك جمعاً من الطلاب، وحشداً من الزملاء والصحاب، فنسأل لك ولهم ونطمع إذن في أن نجاب؟
قال الراوي: ولم يكن أيسر عليَّ من جمع الألوف والمئين، ممن يشتهون تقديم السنين، فخرجت فناديت: إلينا يا طلاب الغيب المكنون، الذين يودون لو يعرفون ما أضمرت للدنيا سنة ألف وتسعمائة وخمسين، ففي لمحة واحدة تبصرونها اليوم فيما تبصرون، وتسمعونها اليوم فيما تسمعون. فما أتممتها حتى كان معي في الساحة الكبرى ملايين من ورائهم ملايين، يوشك أن يضيق بهم المكان، فلا تدور المحركات ولا يتحرك المحركون. وقلت لصاحب اللولب الكبير: دونك اللوالب فأدارها، فهؤلاء هم الراغبون المؤيدون
فنظر إليّ كالمنهمك وهو يقول: لوالبي فأديرها؟! أهكذا بغير شرط وبغير قبول؟(369/2)
فاستغربت مقاله، وأعدت عليه سؤاله: بغير شرط وبغير قبول؟ فماذا تشترطون؟ وماذا وقد وصلنا إلى الساحة الكبرى يحول بيننا وبين الوصول إلى الغد المأمول؟
قال: الشرط معقول، والشرح لا يطول. . .!
قلت: هات ما عندك، فقد يهون الشرط المعلوم في سبيل الغيب المجهول
قال: إن هذه السنين تحسب من أعمار الناظرين
قلت: كيف؟ ألا تبين؟
قال: بلى، وإليكم البيان. فمن أباه فلينصرف ومن ارتضاه فليبق في هذا المكان
أيها المستطلعون والمستطلعات: إذا دارت اللوالب فمن بقى له من العمر خمس سنوات، فهو إذن مطوي في غياهب القبور منذ خمس سنوات، ومن بقى له من العمر اثنتا عشرة سنة فغايته بعد إدارة اللوالب سنتان، أو عشر مجرمات فهو ميت عند بداية الدوران
ثم نظر إليهم كما ينظر دلال المزاد، ونادى فيهم: أقابلون؟ (أنضبط) اللوالب على الميعاد؟
فما أتمها أو كاد، حتى خلا المكان إلا من خمسة أفراد: صاحب الأمنية، وفيلسوف، ومخترع، وفنان، ورجل من الزهاد
قال الراوي: فعجب أصحاب اللوالب من هذا الحشد الصاخب، والجيش اللاجب، ما بين زائغ ورائغ وهارب، وطفقوا يعجبون من قلة من يعيش للمعرفة والحكمة، وكثرة من يعيش للنفس واللقمة، وشاقهم أن يسألوا أولئك الخمسة ما بالهم قد طاب لهم المقام، فلم يتفرقوا مع الزحام؟
ومال صاحب اللولب على الفيلسوف يسأله: ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: إذا جمعت خلاصة العمر في لمحة فما أنا من الخاسرين
وسأل المخترع: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: إذا حكيت لوالب الزمن فقد عفيت على المخترعين، وقبضت على زمام القرون، فإني إذن لمن الخالدين
وسأل الفنان: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: لعلي أستخلص زبدة البقاء، من هذه السنين الجوفاء، فأصونها في رمز ثمين، أو تمثال مبين(369/3)
وسأل الزاهد: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟
قال: لأن تذهب بي أقدام الزمن خير من أن تذهب بي هذه القدم الواهنة وهذا القلب الحزين
وسألهم جميعاً: ومن أدراكم وقد دارت اللوالب أنكم ستعيشون ولا تذهبون مع الغابرين؟
قالوا: هذا الذي نسألك عنه
قال: وهذا الذي أجهل سره
ثم عاد سائلاً: فهل قبلتم ما يكون وقد جهلتم أين تذهبون، يوم يدور دولاب السنين، وتطلع على الدنيا ستة تسعمائة وخمسين؟
فتلفتوا ثم تفلتوا
وانجلى الحشد الحاشد، عن شبح جامد، كأنه الجسد الهامد، لا يقارب ولا يباعد
. . . اذهب أيها الزاهد، أو أقعد حيث أنت قاعد، فما دارت طاحون من أجل واحد، فتدور من أجلك دواليب الزمن الخالد والأبد الآبد
قال الراوي: وإذا صدقتم هذه المقامة، فلا تقديم للسنين حتى القيامة، وعلى الله السلامة!. . .
عباس محمود العقاد(369/4)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
إليك أعتذر، أيها الغزالي، فما كنت أحسب أن السياسة ستجني علينا كما جنت عليك - حصار مزعج! - اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل - عواطف نبيلة من شعب نبيل
إليك أعتذر، أيها الغزالي!
في سنة 1922 كنت أقضي أكثر الوقت في تحرير كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكان ذلك في أعقاب أعوام شداد واجهت بها نار الثورة المصرية، واكتوت يدي بلهب الجدل والصيال حول المطالب الوطنية، فأثر ذلك في عقلي وتفكيري إلى أبعد الحدود، وحملني ذلك التأثير على السخرية من اعتزال الغزالي للمجتمع السياسي وابتعاده عن الضجيج الذي كانت تثيره الحروب الصليبية في ذلك الحين
ثم مرت أعوام راضني فيها الدهر بعد الجموح، فعرفت أن الغزالي لم يكن من الجبناء، وإنما كان من الحكماء
وهل أخطأ أبن خلدون حين نهى العلماء عن الاشتغال بالسياسة؟ وهل أخطأ محمد عبده حين استعاذ بالله من مادة: ساس يسوس؟
دلوني على رجل واحد غمس يده في السياسة ثم سلم من الأقاويل والأراجيف؟
لا بأس من تجريح الرجل الآثم، ولكني أستطيع أن أذكر عدداً من الرجال أهينوا في السياسة بغير حق. وأعجب من ذلك أن أستطيع الإشارة إلى عدد من الرجال أهينوا بسبب الانسحاب من ميدان السياسة، فهي عقرب تلسع بلا تمييز بين الغويِّ والرشيد
إن أقطاب السياسة في مصر هم عيون الأمة من الوجهة القومية، وهم أيضاً من الأقطاب في ميادين العلم والأدب والذكاء، ولكن ما نصيب الأديب من الاستفادة بعقول هؤلاء الزعماء؟
الريبة تلاحقك إن فكرت في زيارة هذا الزعيم أو ذاك، والشبهات تحيط بك إن رأيت أن تزود عقلك بمعرفة أهل زمانك فتزور الأندية السياسية من وقت إلى وقت، وسمعتك غرض رجيم لأهل الظنون إن طاب لك أن تحفظ الأدب مع أقطاب عصرك فتؤدي واجب التهنئة أو واجب العزاء في بعض الظروف(369/5)
لك أن تجالس الفارغين من أحلاس القهوات، وليس لك أن تظفر بمجالسة رجل كبير له منزلة سياسية، فإن فعلت فأنت وصولي ينتظر الجزاء القريب أو البعيد
أليس هذا هو الواقع في هذه البلاد؟
بأي حق يحرم الأديب في مصر من التعرف الصحيح إلى من يسيطرون على السياسية المصرية؟
وعمن يأخذ معاني التفكير في مصاير الأمور الوطنية إذا حرم التزود بأفكار أولئك الرجال؟
لو اتصل أدباؤنا بالزعماء لوجدوا لأدبهم آفاقاً أوسع من الآفاق التي يعرفون، الآفاق المحدودة التي لا تمتع غير البصر الكليل، الآفاق المزدحمة بأهل العقم والنضوب من الأشباح التي تغدو وتروح وليس لها زاد غير مضغ الحديث المعاد من فتات الزور والبهتان
كيف يجوز لأديب أن يقول إنه عاش في هذا العصر مع أنه لم يعرف أحداً من أمثال مصطفى النحاس ومحمد محمود وعلي ماهر وحلمي عيسى وعلي الشمسي وعبد الفتاح يحيى ومحمود النقراشي ومحمد هيكل ومصطفى عبد الرزاق وحسن صبري وعبد الرحمن عزام وحافظ رمضان ولطفي السيد وأحمد ماهر ومكرم عبيد وصبري أبو علم ونجيب الهلالي ومحمود بسيوني، ومن إلى هؤلاء من الوزراء والنواب والشيوخ، فإنما نريد التمثيل لا الاستقصاء؟
الأديب الذي لا يعرف أمثال هؤلاء معرفة صحيحة ليس بأهل لمعرفة روح العصر الذي يعيش فيه، وهو أيضاً أكذب الكاذبين حين يدعي أنه أثر في عصره تأثيراً قوياً أو ضعيفاً، فما يمكن لأديب أن يكون من أصحاب السلطة الأدبية إلا حين يستطيع بلسانه أو بقلمه أن يوجه المسيطرون على مصاير البلاد إلى غاية سامية أو مطلب شريف
ثم ماذا؟
ثم تقع البشاعة التي تشهد آثارها في كثير من الأحايين فالزعماء ناس كسائر الناس، وعندهم أوقات يزجونها بالسمر والحديث، فماذا يصنعون وقد غاب عن ناديهم كبار الأدباء؟
يلتفتون فيرون أنديتهم قد اكتظت بأهل اللغو والفضول من الذين يؤذيهم أن يكون لرجل من(369/6)
أهل الأدب أديم صحيح، وعندئذ يصح عند الزعماء أن دنيا الأدب دنيا حقد غيظ وليس فيها مجال للفكر الثاقب والرأي الرشيد، فيكتفون بالزاد الخبيث الذي يقدمه إليهم الأفاكون من أشباه الأدباء. قاتلهم الله أنى يؤفكون:
سعد زغلول أعز أدب مصطفى المنفلوطي
وعبد الخالق ثروت أعز أدب طه حسين
ومحمد عبده أعز أدب حافظ إبراهيم
فهل تعرفون بعد هذه الأسماء أن زعيماً مصرياً عاون على خلق الفرص لأديب جديد؟
وكيف نصل إلى التعاون المنشود والعوائق تقوم من الجانبين؟
فالأدباء ينفرون من الاتصال برجال السياسة خوفاً من تهمة الوصولية
والساسة لا يعرفون من الأدب إلا أنه وسيلة للدعايات الحزبية وبين خوف أولئك وغرض هؤلاء تضيع الفرص على الأدب الصحيح الذي يمثل ما في المجتمع من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل.
أما بعد فالأدب في خطر، لأن أصحابه في عزلة عن الساسة، والساسة يملكون أكثر الوسائل في توجيه المجتمع، لأن الحاكم يملك في اليوم الواحد ما لا يملك الأديب في الأعوام الطوال
فإن كنتم في ريب مما أقول فتذكروا حوادث التاريخ، فقد كان الناس منذ أقدم العصور يعرفون أن الأدب لا بد له من سناد ليؤدي واجبه على الوجه الصحيح، وسناد الأدب هو الدولة، والدولة هي الساسة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسن القول هو التوجيه الذي يصدر عن كبار الأدباء
أليس من العجب أن يكون قدماء اليونان أعقل منا وبيننا وبينهم أجيال وأجيال؟
ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني القديم غنياً بالحديث عن سياسة الأمم والشعوب، كذلك كان الأدب العربي في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، فلما خمدت جذوة العرب تخاذل الأدب وترك الحديث عن السياسة العالية ليتحدث عن المنافسة بين الربيع والخريف، وليكثر القول في الألغاز وخصائص الأيام والأسابيع
أين ما دعوت إليه ألف مرة من خلق الصلات الروحية والذوقية والقومية بين الساسة(369/7)
والأدباء؟
إن طالت هذه الجفوة بين هاتين الطائفتين فسيكون مصير الأدب من أقبح المصاير، فسيحصر وهو راغم في الحديث عن مشكلات الحاجة خدوجة والمعلم مشحوت!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل سعد زغلول ليلة الحادث الذي خرج به الجيش المصري من السودان ليخلق منه قصة أروع من قصة الزوج الذي خانته زوجته الحسناء؟!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل علي ماهر في الليلة التي مات فيها جلالة الملك فؤاد ليصور عواطف الوزراء في قلقلات التاريخ؟
وأين؟ وأين؟
تلك أيام خلت، فليستعد الأدباء لفهم هذا القول، فقد ينفعهم في الأيام المقبلات
حصار مزعج
ويمكن بعد هذا أن ندرك بوضوح أن الأدباء يعانون ضرباً من الحصار المزعج، فهم بعيدون عن الأوساط السياسة خوفاً من تهمة الوصولية، وهم بعيدون من الأجواء الشعبية خوفاً من تهمة الإسفاف، وهم بعيدون من الأوساط الفنية خوفاً من تهمة النزق والطيش، فقد شاع صدقاً أو كذباً أن الفنانين لهم بدوات تخرج عن الوقار في بعض الأحيان
نحن إذاً في حصار. ومع ذلك يطلب منا أن نصف جميع طبقات المجتمع، وأن يكون أدبنا صورة صحيحة لما يثور في ضمير المجتمع من عواطف وآمال
وأنا أشهد على نفسي بالمرض من هذه الناحية، فأنا أجانب رجال السياسة مجانبة مقصودة، لأني أتوهم أن اتصالي برجال السياسة قد يصورني أمام الجمهور بصورة من يطلب الصيد. وقد حاولت إبراء نفسي من هذا المرض فلم أفلح، وكان من آثار هذه العلة أن تمضي الأعوام ولا أنتفع بمحادثة زعيم أنقل عنه وينقل عني، فعندنا بالتأكيد آراء وأفكار قد تنفع الزعماء بعض النفع، وقد توجههم إلى التعصب للأدب الرفيع، وهو في حاجة إلى عصبية قوية ترفع ما يعترض طريقه من عقبات وأشواك
وقد أزعجت قراء الرسالة مرات كثيرة باقتراح لم أجد من يصغي إليه، وهو أن يكون للأدباء مكان في الحفلات الرسمية، فجميع الطوائف تمر في خواطر رجال الدولة عند المناسبات الخطيرة ولا ينسى غير الأدباء. وإلا فأين الأديب الذي دعي بصفته الأدبية إلى(369/8)
حضور إحدى الحفلات في قصر عابدين أو قصر الزعفران؟
ويزيد الحرج حين يكون الأديب موظفاً، فهو لا يدعى لأية حفلة رسمية إلا حين يصل إلى درجة مالية تضيفه إلى طبقات الأعيان، والعياذ بالذوق!
والدرجات المالية للموظفين هي الميزان في كثير من الشؤون، ولا سيما شئون التشريف. ويكاد يكون من المستحيل أن يمر الموظف في خاطر أية جهة رسمية إلا بعد أن يصل مرتبه إلى كيت وكيت، ولو كان من أقطاب الأدب والبيان
وكان المأمون أن يعتدل الميزان في وزارة مثل وزارة المعارف وقد تولى شؤونها وزراء من رجال الأدب أمثال: محمد علي علوية، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمد حسين هيكل. ولكن الأمور ظلت تسير في طريقها القديم، فلم يستفد الأدب شيئاً من الوزراء الأدباء، وإن كنت أذكر بالخير الكثير أن بعض هؤلاء راعى منزلتي الأدبية فتناسى أني تطاولت عليه في إحدى المجلات!
قد يقال: إن الدولة تفتح باباً من الشر حين تفكر في الاعتراف الرسمي بالقيمة الأدبية، فكل إنسان يدعي أنه أديب، وأن له حقاً في حضور الحفلات الرسمية!
وأجيب بأن الأدب لم يعد فوضى كما كان في الأزمان الخوالي، فالجمهور يكاد يتفق على الإعجاب بأفراد معدودين هم عنده الطبقة الأولى من الأدباء، وهو كذلك يعرف من هم رجال الطبقة الثانية ومن هم رجال الطبقة الثالثة، فما الذي يمنع من أن يكون في ذهن الدولة صورة لأدباء الطبقة الأولى لتفكر في دعوتهم إلى الحفلات الرسمية، كما تفكر في دعوة من يمثلون بعض الجوانب من حياة المجتمع؟
أليس من العجيب أن يشهد الحفلات الرسمية بعض المجهولين من موظفي السفارات والقنصليات، ثم يحرم رجال الأقلام من شهود تلك الحفلات، ولهم فيها زاد نفيس هو تذوق ما في المجتمع العالي من دقائق تعود على القلم بأجزل النفع؟
إن وزير المعارف اليوم هو صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا، وقد سألت عنه زملائي بالمعارف فأكدوا لي أنه الدكتور هيكل، الأديب المشهور الذي كان يحامي عن الأدب وأهله في جريدة السياسة، وأجمعوا على أنه هو بعينه صاحب كتاب (ثورة الأدب)
والحق أن وزيرنا الجديد فيه مشابه من الدكتور هيكل، وإن كنت أخشى ألا يكون إياه، فمن(369/9)
واجبي نحو الأدب الذي أتشرف بالانتساب إليه أن أطلب من الوزير الذي يشبه الدكتور هيكل أن يتفضل فيخص الأدب بنظرة من نظراته الثواقب، ونحن بكل تواضع نقترح أن يكون لكبار الأدباء بعض ما لكبار العلماء من منازل التشريف. فإن كان العلماء - وهم اصطلاحاً رجال الدين - أولى منا بالرعاية لأنهم من أهل الآخرة، فنحن أحق بالعطف العاجل لئلا يكتب علينا الحرمان في الدارين!
وليكن مفهوماً جداً أني أقول هذا الكلام وأنا أتوهم أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل، فإن ثبت أن زملائي بوزارة المعارف خدعوني وأن هيكل باشا شخص غير الدكتور هيكل، فأنا أعتذر لمعالي الوزير عن هذه الكلمات الجافية، وأرجوه أن يثق بأني برئ من الأدب والأدباء!
لو صح أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل لكانت فرصة ذهبية لنصرة الأدب الرفيع، فقد نغريه بالوعود فنزعم أن أهل الأدب يحفظون الجميل، وأنهم لن ينسوا فضله في إعزاز الشخصية الأدبية بالديار المصرية
اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل!
عواطف نبيلة من شعب نبيل
في صباح اليوم السادس عشر من حزيران تلقيت إشارة تليفونية من وزارة الخارجية المصرية تسألني عن اسمي الكامل وعن منصبي بوزارة المعارف، وأردت أن اعرف الموجب لهذه الأسئلة المفاجئة، فقيل: إن أجوبتها ستقدم إلى قصر جلالة الملك تمهيداً لوسام سأتلقاه من حكومة العراق
وفي صباح اليوم الخامس عشر من تموز تلقيت برقية من الصديق الكريم السيد عبد القادر أحمد الموظف بمديرية الدعاية في بغداد يهنئني بوسام الرافدين
ومعنى تلك الإشارة وهذه البرقية أنني خطرت في بال أهل الصدق والوفاء من أقطاب بغداد
وأنا مع ذلك لا أعد (وسام الرافدين) تحية شخصية، وإنما أعده رمزاً لتوكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق، وقد جاهدت في ذلك جهاد الصادقين
وإذا كان الله أراد أن أتشرف بعضوية نادي القلم العراقي، وأن أتشرف بعضوية نادي(369/10)
المثنى، وأن أتشرف بهدية من جلالة الملك غازي الأول، وأن أتشرف بحمل وسام الرافدين، فإن الله تباركت أسماؤه خصني بمزية جليلة هي وسام الود الصحيح الذي شرفني به الشعب العراقي، الشعب النبيل الذي قيدني في هواه بقيود متينة من شرف الحب وكرم الإخاء
وإذا قيل إن العراق يجزيني وفاء بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص فأنا أقول إني سأقضي دهري كله مديناً للعراق. ولن أستطيع أداء ما للعراق في عنقي من ديون، ولو بذلت دمي وروحي في حب العراق وأهل العراق
ومن واجبي في هذا المقام أن أقدم واجب التحية لحضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، الرجل العظيم القلب والروح، وقد عرفته معرفة صحيحة في جلال شخصيته الذاتية قبل أن يضاف إليها جلال الوصاية على عرش العراق، ثم زرته بعد ذلك فلم أره زاد إلا كرماً إلى كرم، وصفاء إلى صفاء، وكذلك تكون المعادن الكريمة لعظماء الرجال
ومن واجبي أيضاً أن اقدم التحية لفخامة رئيس الوزراء ومعالي وزير المعارف، وفخامة وزير الخارجية وسعادة رئيس الديوان الملكي في بغداد، راجياً أن يكون عهد جلالة الملك فيصل الثاني من العهود البواسم في بلاد الرافدين، بلاد دجلة والفرات
المرء كثير بأخيه، ولي في العراق أخوة يعدون بالألوف فلله الحمد وعليه الثناء.
زكي مبارك(369/11)
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 1 -
امتلأت الصحف بحديث الطابور الخامس، وتناقلت الألسنة خبرهم، وتحدث الوزراء والقواد يحذرون الأمم منهم. والمقصود بالطابور الخامس تلك الفئة التي تظهر أو تستتر في أمة من الأمم المشتبكة في حرب مع أخرى، فتوالى الأعداء، أو تعمل على خذلان قومها بنشر الأراجيف وإذاعة الأخبار الكاذبة أو الضارة عن ضعف قومهم، وقوة أعدائهم، أو عن نتائج الحرب بما لا يفيد أبناء وطنهم، أو أنهم مسوقون إليها خدمة لمطامع أمة أخرى تحت شعار المحالفات، ومبادئ الشرف، والدفاع عن مبادئ الديمقراطية
وقد يكون عملهم إرشاد الجند الفاتحين إلى مواطن الضعف في البلد المغزو وإلى ما يدبر من خطط ترد كيد العدو وتصد زحفه
وشاعت هذه الكلمة أخيراً وصفاً لأعوان هتلر في النرويج وفي هولندا وبلجيكا، وفي فرنسا نفسها وجد هذا النوع من الناس فكان سبب نكبتها، وعاملا من أكبر العوامل في هزيمتها، ففني رجالها وضاع استقلالها، ووطئ الألمان بلادها يحكمون في أرضها وديارها وأموالها، ويغيرون على نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبدلون دستورها وحكومتها، ويفعلون بها ما يشاءون
والغريب أن هتلر ينفي وجود أعوان له مأجورين في بلد من البلاد التي غزاها، ويقول إن وجود هذا الطابور الخامس في البلاد المفتوحة راجع إلى فساد النظم في تلك البلاد ورغبة فريق من أبنائها في الاستعانة به على إصلاح الأحوال لتكون كألمانيا قوة واتحاداً
والحق الذي لا مرية فيه أن في كل أمة من الأمم - القديمة منها والحديثة حتى ألمانيا نفسها - اختلافاً في الرأي، ودعاة لمذاهب سياسية تخالف مذهب أمتهم، وغيرة من الطبقة الحاكمة وتشيعاً لنظم اقتصادية أو اجتماعية غير السائدة في بلادهم. وهذه الاختلافات تضعف وتقوى تبعاً للعوامل التي تساعد على قوتها أو ضعفها؛ فإذا كانت الأمة متحدة(369/12)
الجنس، متشابهة البيئة قوية الأخلاق، مرباة على حب الوطن والتفاني في سبيله، وكانت الحكومة قوية يقظة كانت جماعة الطابور الخامس محدودة العدد قليلة الأثر ضعيفة النشاط.
وخير مثال لذلك إنجلترا التي أخذت حكومتها بالشدة أنصار الفاشست فيها، وقبضت على زعيمهم سير (أزوولد موزلي) هو وزوجه واعتقلت من تشك في أمرهم من رعايا الأعداء كذلك
أما الدول، أمثال تشيكوسلوفاكيا التي اختلفت عناصرها، وهولندا التي ضمت عدداً غير قليل من أنصار النازي داخل حدودها، وفرنسا التي تشعبت أهواء الناس ومذاهبهم فيها، فقد قضى هتلر على استقلالها، وأصابها بنكبة الهزيمة، وألبسها ذل الاحتلال وفقدان الاستقلال
وقد كان لمثل هذه الجماعة وجود ونشاط في عهد النبي (ص) وعني القرآن بأمرهم، وكشف أسرارهم، وحذر النبي منهم، ونزلت السور تنبئه بما في قلوبهم، وسماهم (المنافقين) وخصهم بسورة من سوره، وتحدث عنهم في غيرها من السور الكريمة تارة يصفهم وصفاً عاماً، وتارة يذكر مواقفهم في ظرف من الظروف التي أحاطت بالنبي، وأحياناً يأمره أن يتخذ منهم موقفاً خاصاً، أو يحرضه على إنزال نوع من الأذى بهم
وكان ظهورها وعملها والقضاء عليها بعد الهجرة بالمدينة وما حولها، وكان القائمون بها هم اليهود من بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير. وكان هناك رءوس للضلال من الأوس والخزرج أمثال عبد الله بن أبي بن سلول
وكانت هاتان القبيلتان الأوس والخزرج في حرب دائمة قبل الإسلام وبعده إلى ما قبيل الهجرة. كانت الخزرج أكثر عدداً، ففكرت الأوس في محالفة قريش عليهم، وأرسلوا لذلك رسلاً إلى مكة، فلما علم الرسول بأمرهم - وكان قد يئس من قريش أو كاد، وأخذ يعرض نفسه ودينه على القبائل وفي مواسم الحج - دعاهم إلى خير مما جاءوا له، ودعاهم إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده، فأبوا ثم عادوا إلى يثرب
عقب انصراف الوفد من مكة إلى المدينة حدثت موقعة (يوم بعاث) بين الأوس والخزرج، وانتصرت الأوس. وفي الموسم الذي تلا يوم بعاث أقبل جماعة من الخزرج إلى مكة للحج، فدعاهم الرسول إلى الإسلام، فآمنوا من فورهم، وكانوا من قبل يسمعون بقرب(369/13)
ظهور نبي في بلاد العرب. ثم أخبروا الرسول بما في المدينة من تنازع وشحناء، ورجوا أن يصلح الله أمر يثرب على يديه، ولما عادوا إلى قومهم ذكروا لهم حديث الرسول والإسلام، فلم تبق دار في يثرب إلا وفيها حديث عن الرسول وعن الإسلام
وفي موسم الحج الذي قبل الهجرة بايع النبي قوم آخرون من أهل يثرب وتسمى بيعة العقبة الثانية أو بيعة النساء، وأرسل النبي معهم مصعب بن عمير يعلمهم الدين. فأسلم على يديه كثير من أشراف يثرب منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، ودعا سعد عشيرته إلى الإسلام أو يقاطعهم فأسلموا جميعاً
وفي عام الهجرة جاءه من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأقسم سيدهم البراء بن معرور فقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا. ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: إن بيننا وبين الرجال (يعني يهود المدينة) حبالاً وإنا قاطعوها. وأعرب عن خوفه منهم إذا تركهم لليهود بعد أن يظهره الله على أعدائه، ففهم النبي الكريم مراده، وتبسم وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم. يعني أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم
علمت قريش بما كان فأرسلت وفداً منها إلى منازل الحجاج من أهل يثرب، وأخبروهم بما حدث، وقالوا إنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فحلف نفر من مشركي يثرب أنه لم يكن شيء من هذا، وكانوا صادقين لأنهم لم يعلموا بما كان في الليلة السابقة. وقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول، وهو رأس النفاق فيما بعد: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا، وما علمته. فانصرفوا عنه وأخيراً تأكد لدى قريش ما كان من بيعة العقبة الثالثة، ولكن بعد أن نفر الناس من منىً وفاتهم أهل يثرب
كان إسلام أهل المدينة نصراً للإسلام والمسلمين، وكان فرصة طيبة لأصحاب النبي في مكة، فقد وجدوا مهاجراً جديداً يفرون إليه بدينهم ويقيمون بمنأى من أذى قريش في حماية إخوان لهم في الدين، وجعل الله المدينة دار أمن لهم يلجئون إليها؛ فخرجوا مهاجرين إرسالاً، نساء ورجالاً، إلا من حيل بينه وبين الهجرة من المستضعفين
خافت قريش تلك الحركة ورأوا فيها خطراً يتهددهم، وصمموا على أن يحولوا بين النبي(369/14)
وبين دعوته بكل ما وسعهم من قوة وحيلة، واجتمعوا للتشاور في دار الندوة، وتشاوروا في واحدة من ثلاث كما حدث القرآن الكريم بذلك في سورة الأنفال: (وإذ مكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقر رأيهم على قتله، وذلك بأن يجمعوا من كل قبيلة شاباً فتياً نسيباً، ويعطوه سيفاً صارماً، ثم يقف هؤلاء الفتيان على بابه ليلاً، ويضربوه ضربة رجل واحد وهو خارج لصلاة الفجر فيتفرق دمه في القبائل، ويرى بنو عبد مناف أن لا قدرة لهم على حرب جميع القبائل، فيرضون بالدية
أخبر الله الرسول بما كان وأمره بالهجرة، فذهب إلى أبي بكر الصديق - وكان من قبل يمنعه حتى يأذن الله لهما - وأخبره الخبر وأعد الرواحل والدليل. وفي الليلة الموعودة التي عينتها قريش لتنفيذ مكرها أمر النبي علياً أن يبيت في فراشه لئلا يرتاب أحد في وجوده، وخرج النبي من بيته في آخر الليل وهو يقرأ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، فألقى الله النوم على الفتيان، وأخذ النبي الكريم حفنة من تراب رمى بها في وجوههم وهو يقول: شاهت الوجوه
ثم ذهب إلى أبي بكر، وسارا حتى وصلا إلى غار ثور بأسفل مكة، واختفيا فيه ثلاثة أيام حتى انقطع رجال قريش عن طلبهما، ثم جاء الدليل وخادم وركبوا جميعاً وساروا في طريق المدينة حتى وصلا إلى (قباء) في اليوم الثامن من ربيع الأول لثلاث وخمسين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم. وذلك في اليوم العشرين من سبتمبر سنة 622 من ميلاد المسيح
أقام النبي بقباء أربعة أيام وأسس مسجد قباء، ثم ارتحل إلى المدينة يحيط به أنصاره من أهل يثرب، وكان كلما مر بقبيلة ناداه رئيسها أن ينزل عندهم، وأخذ بخطام ناقته، ولكنه كان يقول: دعوها فإنها مأمورة. ومشت الناقة حتى جاءت إلى موضع مسجده الآن فبركت، ثم قامت وبركت، فنزل النبي ووضع الرحل عند أبي أيوب الأنصاري واشترى مكان المسجد والدور التي بناها له ولزوجاته
ومن ذلك اليوم تبدأ حياة جديدة تختلف عن حياة مكة له ولأصحابه ولأهل المدينة أنفسهم، وبدأت عوامل النفاق تبدو، وتحركت العداوة والبغضاء في نفوس المنافقين، ولقي النبي من مكرهم وسوء أعمالهم ومؤامراتهم هم واليهود شيئاً حتى أراحه الله منهم جميعاُ(369/15)
وذلك هو موضوع الحديث التالي إن شاء الله
عبد الرزاق إبراهيم حميدة(369/16)
محنة باريس
بمناسبة ذكرى عيد الحرية 14 - يوليو سنة 1940
للأستاذ علي محمود طه
سألوني عن بياني وقصدي ... أسَفاً. . . باريس! قد ماتَ نشيدي!
شهدَ الحبُّ ذكرناكِ ولمْ ... أنسَ نجواكِ ولم أخفرْ عهودي
أنا لا أنسى لياليَّ على ... روضكِ الرفاف بالزهر النضيد
ثمر الفكر ومَجْنَى نُورهِ ... ومراحُ العينِ والقلبِ العميد
خطرةٌ عابرةٌ عدتُ بها ... عودةَ العوَّاص بالدرِّ الفريد
فاعذري المِزْهرَ في كفِّي إذا ... أخرسَتْهُ ضَجَّةُ الرُّزْءِ الشديد
يوم قالوا جلَّل القيدُ يداً ... حطمتْ بالأمس أصفادَ العبيد
حملتْ مِشْعَلَ حُرِّيَّاتهم ... في شُراةٍ من شباب المجد صِيد
كيف يا باريس بالله هوى ... ذلك النجمُ من الأفق البعيد؟
إن يَنَلْ منكِ المغيرون فما ... فتحوا غيرَ تخومٍ وحدود!
لستِ بنياناً، ولا أرضاً، ولا ... غابَ آسادٍ، ولا جنَّةَ غيد
أنت معنى عالمُ الفكر به ... يتحدَّى قبضةَ الباغي المريد
كعبةَ الأحرار! هذى محنةٌ ... راعتِ الأحرارَ في أكرمِ عيد
صُرِعَ النورُ به وانحسرتْ ... جبهةُ الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليلُ، ومِنْ أهوالِه ... أَنْ تُرَىْ بين ظلامٍ وقيود
أين من فِرساي أفقٌ ضاحك ... مشرقٌ عن أمل الشَّعبِ السعيد
وعلى كلِّ طريقٍ موكبٌ ... صادحُ الأبواق خفَّاقُ البنود
لكأني اليوم ألقَى مأتماً ... وأرى الكُنكُرْدَ كالقبر الحريد
حالَ شدوُ الماءِ في أحواضهِ ... نَفْثَةَ الغرقى ببحرٍ من صديد
وقفتْ مصر به صامتةً ... تتقرَّى الغيب، طلَّسْمَ الوجود
غلبَتْها حكمةُ الدَّهْرِ ولو ... نطقت لَم تأتِ بالمعنى الرديد
ساحةَ الباستيل! حانَ الملتقَى ... وتعالتْ صرخةُ الفجر الوليد(369/17)
أين أبطالكِ؟ ماذا! أتُرى ... ضربَ الليلُ عليهم بالوصيد؟
أغمدوا أسيافهم؟ وَيْحَ! وما ... عوَّدوا أسيافَهم حبسَ الغمود
ويحهم قد شيَّعوا أعيادهم ... بين عصفِ النار أو قصفِ الحديد
فوق أرضٍ صُبِغَتْ من دمهم ... وتحدَّثْ كلَّ جبَّارٍ عنيد
فوق أحجاركِ صرعى أمسهم ... فلذاتٌ كَتَبَتْ سِفْرَ الخلود
فاذكريهم بالذي مَرَّ بهم ... وأقرئي تاريخهم، ثم أعيدي!
أيها العائدُ من غاراتهِ ... راقداً تحت قبابِ (الأنفَليد)
تلك راياتُك، فانظرْ! أَتَرى ... من سيوفٍ تحتها أو من جنود؟
أين من برلين أو آفاقها ... جيشُك الظافُر بالحشْدِ البديد
تطأُ الأرضَ إلى مَشْرِقها ... موغلاً في أَثَرِ الدُّبِّ الشريد
لفرنسا هِمَّةٌ لا تنثني ... أَمَشَتْ في النارِ أم تحت الجليد
بالقليلِ الجمعِ من أبنائها ... تنزعُ النصرَ من الجمع العديد
أممٌ ترسُفُ في أحقادها ... دِنْتَها بالصفح والصنع الحميد
لم تسيِّرْ فوقها دبَّابةً ... أو تباغِتْها بطيرٍ من حديد
يقتلُ الولدان والشِّيبَ ولا ... يرحمُ المرضَى وربَّاتِ المهود
شَرَفُ الحرب كما لُقِّنتَه ... ملتقَى سيفين في ظلِّ البنود
فاعذِر اليوم فرنسا إنَّها ... وثقتْ بالعهد في دنيا الجحود
قَرَعَتْ للنصرِ كأساً! ويحها! ... صَرَعَتْهَا خمرةُ النصر التليد!
رَقَدَتْ عن غدِها وانتبهتْ ... حيث لا ينفعُ صحوٌ من رقود
أسفرتْ سِدَّان عن مأساتها ... وتهاوى حجرُ الحصن المشيد
ثَغْرةٌ أُنْفِذَ منها خنجرٌ ... قد تَلَقَّتهُ على حزِّ الوريد
شهدَ المجدُ لها باسلةً ... خُضِّبتْ بالدم من نحرٍ وجيد
فابعثِ العزَّةَ من تاريخها ... وتألَّقْ بسناهُ من جديد
واطلَعِ اليوم عليها سيرةً ... وكن الشاعرَ واهتفْ بالقصيد:
. . . أيُّها الفاتحُ لا يغررْكَ ما ... سِرْتَ فيهِ من حصونٍ وسدود(369/18)
لكَ فيَّ العِبرةُ المثلى فلا ... تأمنِ الزلةَ في أوجِ الصعود!
رُّبة النور سلاماً كلما ... هتفَ الشِّعرُ بماضيك المجيد
لكِ في كلِّ خيالٍ صورةٌ ... بَرِئَتْ من وصمةِ العصر الجديد
غير ذكري يرجعُ الفكرُ بها ... لليالٍ من عصورِ الظلم سُود
لَهفَ نفسي لدمشقٍ ولمنْ ... خرَّ فيها من جريحٍ وشهيد
من شواظٍ يقذفُ الموتَ على ... رُكَّعٍ في ساحةِ الله سجود
فأنا الشرقيُّ لا أنسى الذي ... حاقَ من حكمكِ بالشَّرقِ العتيد
المساواةُ التي أعلنتِها ... أعلَنتْهُ بنذير ووعيد
والإخاءُ الحرُّ ما كان سوى ... مدفعٍ يرمي بُمرْدٍ ومبيد
وطِني الروحيُّ، إن أغضَبْ لهُ ... فلآباءٍ كرامٍ وجدود
وتراثٍ خالدٍ من أدَبٍ ... أنا فاديهِ بروحي ووجودي
كفَرتْ ثورتُكِ الكبرى بهِ ... وهوَ المحسنُ يُجْزَى بالكنود
سار بالإسلام نوراً، وهَدَى ... بسنا عيسى خُطى الحقِّ الطريد
النبيُّون همو ثوِّارهُ ... حاملو الشُّعلة، أعداءُ القيود
فخذي بالحقِّ والرُّوح الذي ... هزَّ بالثورة أركانَ الوجود
وابعثيها ثورةً أخرى فما ... يعرفُ الأحرارُ معنى للجمود!
(رأس البر)
علي محمود طه(369/19)
من وحي الحرب
وداعاً. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
بين هذه الزعازع التي تلف العالم في ثورتها، وهذه العواصف التي تصعق الأمم في شدتها، وهذه النزوة الطائشة التي تبتلع الشعوب في احتدامها. . . وقفت أن أهتف بك: وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
وانسرب بك القطار إلى الريف الجميل، إلى حيث تنعمين بالهدوء والراحة، إلى حيث تجدين لذة الأمان والطمأنينة؛ وخلفتني ألوح لك بمنديل أبيض قائلاً: وداعاً، يا زوجتي، وداعاً!. . .
ووجدت فقدك، فغمرتني لجة من الخواطر السود، وأنا في مكاني أشهد القطار وهو يتوارى خلف الأفق. . . ثم عرتني نكسة الفراق، فتراءت لي من خلالها أنانيتك، وأنت تسدلين عليها - في ساعة الوداع - سجفاً من عبرات خادعة كاذبة، هي صورة من قلب المرأة الفارغ
ورجعت أتخبط في أرجاء الأرض، وقد لعج الحزن فؤادي؛ تضيق نفسي بالوحدة، ويتحرق قلبي بالوحشة
ودخلت الدار وحدي فأحسست مقتها إلى وخيل إلي أنها تكاد تلفظني لأنني غريب عنها وهي غريبة عني. لقد امتدت حماقتك إلى أثاثك فحملته - من قبل - إلى دار أبيك
ورحت أطوف في أنحاء الدار فما أجد بعض آثارك، فعلمت أنك أردت أن تمسحي تاريخك من عمري وألفيت كتبي وحدها تناديني فجلست إليها ألتمس السلوة
آه لو ألقيت إليك السلم فقذفت بكتبي حيث طوحت أنت بأثاثك، إذن لاستشعرت فقدك مرتين
إن حرصك على حاجاتك انتزع منها الحياة فهي لُقى في ناحية من دار، أما اعتزازي بكتبي فما انفك يبعث فيها الحياة
لا جرم، قد انخذلت أوصالك وانخلع قلبك، أول ما دوت صفارة الإنذار، فانبعثت تبحثين(369/20)
عن نفسك وقد تبعثرت في صلصلة الصوت
ثم تطاير الحمم من فوهات المدافع يزلزل الأرض والقلب في وقت معاً، فاندفعت تصرخين، وأنا أهدئ من روعك فما أصنع شيئاً
وهالني ما رأيت فتركت لك الخيرة من أمرك لأنني أشفقت عليك، فآثرت الرحيل
لا بأس، فقد خشيت أن يبلغك بعض غضب الإنسان الوحشي الذي لا يفترس - حين تتأجج حيوانيته - بالناب والظفر، بل بالقنبلة والمدفع والرصاصة و. . . مما لا يسمع ولا يرى ولا. . . ولا يعي
وغرك شبابك الغض وجمالك الخلاب وأملك الباسم، فضننت بها جميعاً أن تكون طعمة لثورة الإنسان
وحرصت الحرص الذي ينزع بالمرأة دائماً إلى أن تنسى كل شيء إلا أن تكون عالة تتدلل
وتركتني من ورائك جندياً في الميدان، أحمل عبء نفسي وعبء عملي وعبء الدار وعبء الفزع الأكبر الذي يتهددني، وأنت بين أهلك لا تحتملين شيئاً من كلف الحياة
هذا، يا عزيزتي، هو الإخلاص الذي تغنيت به زماناً فانخدعت له؛ والآن - حين مرج الأمر - تبعثر في دوي الصيحة الكبرى
إن المرأة، يا سيدتي، معمل تفريخ فحسب، فإن هي عجزت عن أن تكونه فقد تعطلت وظيفتها، وبطل عملها في الحياة
وأنا عشت معك عمراً من عمري، أصفيك محض الود، وأحبوك خالص العطف، على حين قد لبثت سنين أنتظر. . . غير أنك كنت جرداء قاحلة لم تتفتح حياتك الجافة عن نبتة واحدة أستمتع فيها بنور الحياة الجميلة، فما ضاقت بك داري ولا غصت بك أيامي. . .
يا عجباً! لقد نسيت أنك كنت وأني. . . ففزعت عني أحوج ما أكون إليك، وطرت بعلمك الجاهل وعقلك المأفون، وفي رأيي أن المرأة المتعلمة العاقلة ليست في الميدان أماً لطفل فحسب، بل هي أم ذلك الجندي الذي تعركه الحادثات وتصعقه النوازل، وهي. . . وهي. . . رأب صدعه، ولكنك عجزت عن أن تكوني واحدة منهن
وثقلت عليك أيامي وأحلامي معاً فانفلت إلى أهلك، ولكن جشعك الوضيع كان يبعث بك إلي أول كل شهر لتحبطي حجتك الواهية وتفندي رأيك الخاوي(369/21)
لا ضير، يا سيدتي، فإن طرفي النقيض لا يتلاقيان إلا في شرع امرأة
في الريف، أخذ عقلك الفج يفتن في الزينة والتطرية و. . . تباهين بها فتيات من أهلك هي دونك لأنك أنت زوجي
ورحت تتبذلين في دار الاحتشام، وتنفثين عطرك الذكي بين الحظائر والزرب، وتتأنقين في ربى الطبيعة الساذجة، وتنشرين ثراك في بلاد المتربة والفقر، ونسيت أنك تؤرثين نار الحقد في قلب الفلاح المسكين، وتبذرين غراس الطمع في وطن القناعة والرضا
بالله لقد عجزت عن أن تلدي طفلاً فرحت تلدين في مأساة الحياة مهزلة تسخر منك
فهجرت المدينة والمدنية ما تبرح تتوثب في دمك وتتناثر حواليك سموماً تلتهم قلب الريف الطاهر النقي
آه، لقد خفت أن تمر يدك الغضة الناعمة على جنة الريف النضيرة فتذرها جحيما تتسعر
فذهبت إليك أخفف من غلوائك وأسكن من حدتك فابتسمت في فتور وقد طمت بك شيطانيتك التي لا ترعوي
وآدني أن أرزح تحت حماقتك وجهلك وغباوتك وأنانيتك فأسدلت على أيامك ستراً، ثم انطويت وأنا أهتف بك: وداعاً، يا عزيزتي، وداعاً!
وشملني ظلام الدار وظلام الحياة وأنا ما أزال في فرحة العمر وربيع الشباب، فانطلقت أفتش عن قبس من نور
لا تحزني يا زوجتي، فأنت. . . أنت دفعتني
وتلمست، فإذا فتاة في ريق العمر ونزوة الشباب، تبذك جمالاً وفتنة، وتفوقك علماً وأدباً، وتعجزك حسباً وثراء. . . وتلاقينا على ميعاد
ووصلت حبلاً بحبل، ونعمت، من بعدك، بالحياة بعد إذ أمضني ملمسها الخشن
واطمأنت نفسي إليها واطمأنت هي
وجلسنا في خلوة، ثم. . . ثم دوت صفارة الإنذار، فانخذلت أوصالها وانخلع قلبها، وانبعثت تبحث عن نفسها وقد تبعثرت في صلصلة الصوت
وانكشفت لي عن امرأة مثل من أعرف: امرأة فيها روح الثعلب أو شيطانة في مسلاخ امرأة(369/22)
فطرحتها جانباً وانطلقت وأنا أهتف بها: وداعاً، يا عزيزتي وداعاً!
(مشتهر)
كامل محمود حبيب(369/23)
من ثنايا (كتاب الديارات) للشابشتي
يوم من أيام المتوكل
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . ذكر (عبيد الله بن أحمد) بن خرداذبه أن المتوكل أنفق على الأبنية التي بناها وهي: بركوارا، والشاة، والعروس، والبركة، والمختار، والجوسق، والجعفري، والبديع، والصبيح، والمليح، والسندان، والقصر، والجامع، والقلاية، والبرج، وقصر المتوكلية، والبهو، واللؤلؤة. . . مائتي ألف ألف وأربعة وسبعين ألف ألف درهم ومن العين ألف ألف دينار؛ (ف) فتكون قيمة الورق بصرف الوقت مع ما فيه من العين ثلاثة عشر ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار
قال (المؤلف): شرب المتوكل يوماً في بركوارا فقال لندمائه: أرأيتم إن لم تكن أيام الورد لا نعمل نحن شاذ كلاه؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين لا يكون الشاذ كلاه إلا بالورد، فقال: بلى، ادعوا إلى عبيد الله بن يحيى، فحضر، فقال (له المتوكل): تقدم بأن تضرب لي دراهم، (زنة) كل درهم حبتان. قال: كم المقدار يا أمير المؤمنين؟ قال: خمسة ألف ألف درهم. فتقدم عبيد الله في ضربها فضربت وعرفه الخبر فقال: اصبغ منها الحمرة والصفرة والسواد، واترك بعضها على حاله. ثم تقدم إلى الخدم والحاشية - وكانوا سبعمائة - بأن يعد كل واحد منهم قباء جديداً وقلنسوة على خلاف لون الآخر وقلنسوة ففعلوا. ثم عمد إلى يوم تحركت فيه الريح فنصبت له قبة لها أربعون باباً فاصطبح فيها، والندماء حوله، ولبس الخدم الكسوة التي أعدها، وأمر بنثر الدراهم كما ينثر الورد؛ فنثرت أولاً أولاً؛ فكانت الريح تحمل الدراهم فتقف بين السماء والأرض كما يقف الورد فكان (هذا اليوم) من أحسن أيام المتوكل وأظرفها، وكان البرج من أحسن أبنيته فجعل فيه صوراً عظاماً من الذهب والفضة، وبركة عظيمة جعل فرشها - ظاهرها وباطنها - صفائح الفضة، وجعل عليها شجرة ذهب فيها كل طائر يصوت ويصفر، مكللة بالجواهر وسماها طوبى؛ وعمل له سرير من الذهب كبير، عليه صورتا سبعين عظيمين ودرج عليها صور السباع والنسور وغير ذلك، على ما يوصف به سرير سليمان بن داود عليهما السلام؛ وجعل حيطان القصر من داخل وخارج ملبسة بالفسيفساء والرخام المذهب فبلغت النفقة على هذا القصر ألف(369/24)
ألف وسبعمائة ألف دينار. وجلس (المتوكل) فيه (يوماً) على سرير الذهب وعليه ثياب الوشي المنقشة وأمر ألا يدخل عليه أحد إلا في ثياب وشي منسوجة أو (ثياب) ديباج ظاهرة، وكان جلوسه فيه سنة تسع وثلاثين ومائتين. ثم دعا بالطعام وحضر الندماء وسائر المغنين والملهين وأكل الناس، ورام النوم فما تهيأ له، فقال له الفتح يا مولاي ليس هذا يوم نوم، فجلس للشرب. فلما كان الليل رام النوم فما أمكنه، فدعا بدهن بنفسج فجعل منه شيء على رأسه وتنشقه فلم ينفعه، فمكث ثلاثة أيام بلياليها لم ينم، ثم حم حمى حادة فانتقل إلى الهاروني قصر أخيه الواثق فأقام به ستة أشهر عليلاً وأمر بهدم البرج وضرب تلك الحلي عيناً
(انتهى)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(369/25)
في الأدب الإنجليزي
دراسة شاعر قصصي
للأستاذ أحمد الطاهر
لنتخلف عن قافلة الزمان، ولنرجع إلى الوراء خمسة قرون أو ستة، ونحط الرحال في لندن، ونتخير أحد فنادقها، وليكن فندق (تابارد) في حي (سوث وارك). وما كنا لنهبط لندن في غير الربيع، فالأشجار وارقة غيناء تلتف أفنانها وتتلاقى خصلاتها وترف ظلالها، وهي لا تزال ملمة لم يحن وقت أثمارها وإن بكر بعضها، فما يزال الثمر أكماماً ونوراً، والطير يدوي في الأرض ويدوم في السماء، ثم يدف ولا يزال يواتر ذلك أبابيل ووحداناً تشدو بين إرنان شجي، وهزج دقيق، وترجيع شهي
يطرأ على الفندق جماعات من الناس مثنى وثلاث، يلقون عصا التسيار، وقد بدا على وجوههم أن تحلل بهم السفر فأعياهم: فيهم الرجال الأشداء، وفيهم النساء الضعيفات. ولكن لا يكاد أن يلتئم جمعهم حتى يشيع في وجوههم البشر، وتنطق قسماتهم بالسرور، ثم تغريهم كثرتهم فتنسيهم النصب والتعب، ثم يغرقون في اللهو والعبث؛ إن رأيتهم حسبتهم أطفالا قد استخفهم الفارح وازدهاهم الطرب
هذا خليط من الناس فيهم الطغام والهباء، وفيهم السادة والأحباء. أما هذا الرجل الأنيق البدين فهو أحد الفرسان، كمي جسور، مغوار مشهور؛ وأما هذا الذي وراءه فهو سيد من سادة الريف لعله صاحب القرية أو ذو الشأن فيها؛ وهذا الزري الضامر النحيف قس قد قنع بالكتاب عن فاخر الثياب، يلبس الأسمال والأخلاق، ويعلم الحكمة والأخلاق؛ وهذا الذي يرفل في الديباج الأحمر طبيب يلهج لسانه بالحمد والثناء، حين يذكر أيام الطاعون والوباء، إذا امتحنت المدينة عامين تعاون فيهما على الناس الطاعون والطبيب: ذلك يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وهذه الفتاة الناعمة الرقيقة راهبة من الرهبان، تتكلم الفرنسية بلهجة ظريفة سليمة، ولكنها لا تفهم لغة باريس؛ وحسبك أنها تعلمت الفرنسية في بلاد الإنجليز! أما الذي خلفها فراهب متعبد غير متأبد، لا يتذمم مع رهبنته من اقتناء الخيل والخروج للصيد، وهو ليس بالرجعي الذي يلزم القديم، بل هو مجدد كأهل هذا الزمان، لا يحبس روحه في القوس والصومعة، ولا عقله في الكتب والصحائف، ولا يكد بدنه بالزرع(369/26)
والحصاد، إنما همه في الحياة أن ينمي اثنين: كلب صيده ولحم بدنه. وبجواره شماس خبير بأهل المدينة ونواديهم وحاناتهم وخاناتهم، قد وهب جمال الصوت وحسن التوقيع والبداهة في المداعبة الحلوة والمحارزة المرة. وهذا رجل من عامة ذوي الأملاك مرح طروب يشغله في الحياة شيئان: الطعام المريء والخمر العتيق. وهذا كاتب قد ملأ رأسه من اكسفورد لا فرق بينه وبين جواده: كلاهما هزيل ناحل ما أغني عنه علمه وما وعى، فهو لا يزال حائراً يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً، حتى إذا يسر له صديق هرع إلى المكاتب يلقي إليها بالمال، ويعود منها مثقلاً بأحمال؛ وهذه ربة دار امرأة صناع قد أبلت في عمرها خمسة أزواج أوردتهم جميعاً موارد العذاب، ولا تزال تتربص بسادس فهي تنصب للزوج شركا من الحب الزائف والود المصطنع حتى يقع فيه فترديه، وهذا نجار وهذا صباغ، وهذا فلاح، وهذا حباك، وهذا نجاد
كل أولئك الذين رأيت لهم قبلة واحدة هي الحج إلى بيت الشهيد توماس في كانتربري. فبيته مثابة المؤمنين ومقصد المخلصين
ولعلي قد أنسيت أن أحدثك عن صاحب الفندق فهو رجل حلو الفكاهة رقيق الحاشية يرى أن الحج ركن من أركان الدين، حكمة شرعته أنه سبب رزقه ومورد الخير له، وهو لا يدخر وسعاً في إيناس الحجيج وتيسير السبل لهم. وقد تراءى له أن يحج هذا العام فما فصلوا عن الخان حتى بدا له أن يجد سبيلاُ للترفيه عنهم ودرء أوصاب السفر، قال: يا قوم نحن ثلاثون فعلى كل واحد منا أن يقص على إخوانه قصتين في الذهاب ومثلهما في الإياب، فمن فازت قصته بالإعجاب فله عشاء في فندقي يدفع ثمنه بقية الصحاب
ولست أدري هل كانوا جميعاً قد قصوا ما قضي عليهم، ولكنني أعلم أن رجلاً منهم قد وعى ما سمع من القصص أو هو أجرى على أفواه الحجيج قصصاً تخيلها وأسماها (قصص كنتر بري)!
هذا الرجل هو (جوفري شوسر) أبو الشعراء الإنجليز وزعيم قصصيهم
ولقد أدرك القراء أن وصف الحجاج والفندق ووصف المدينة في الربيع، وكل ما قرءوا من أول هذا المقال، إنما هو مقدمة قصص (كنتر بري) للشاعر الذي ندرسه، نقلتها عنه في(369/27)
أمانة ووفاء، لنتبين أسلوبه، وندرس حياته وآراءه، وما تأثرت به كتاباته من آراء غيره ومما أحاط به من ظروف وأحداث كان لها الأثر في تفكيره وبيانه
فالشاعر كما ترون خلال هذه السطور القليلة التي قرأتم والتي أرجو أن أوفق للمزيد منها في مقال آخر، لا يحاول أن يبسط سلطانه على عقل القارئ ولا يختار موضوعاً اجتماعياً بعينه ليدلي فيه برأي قوي عنيف يفزع به القارئ أو يجذبه إليه، ولكنه يعمد إلى الحقائق المجردة والمشاهد المألوفة فيدعها تسيطر على عقله هو ثم يصفها لك كما أثرت في نفسه وكما يراها هو، فلا يلبث القارئ أن يؤخذ بالصورة التي رسمها له، ويتأثر بالعوامل التي تأثر بها الشاعر، فيرى بعين الشاعر ويفهم بعقل الشاعر في غير عناء ولا كلفة. وإنك لتدرك بعد هذا أن شاعرنا قوي السلطان على قرائه، ولكنه لا يقسرهم طاعته، شديد التأثير فيهم ولكنه لا يسلط عليهم قوته، وإنما هم القراء الذين يهرعون (لبضاعته) ويخضعون لطاعته والتأثير به. قال فيه أحد المترجمين له: (لم تكن هناك أخيلة قد ألقى عليها الشعراء ضوءاً يمكنه أن يختار منها ويقتبس، ولكنها كان يفحص الأشياء في حدود ضيقة لنفسه وبنفسه حتى يستطيع وصفها وصفاً لا يفترق عن صنعة المثال، فوصفه للطبيعة يشعرك بهبوب الريح ورطوبة الثرى وبرودة الجو)
وأحسب أن مما ساعده على هذه القوة الوادعة وهذه السطوة الهادئة أسلوبه التهكمي وسخريته الحلوة المرة إن جاز هذا التعبير، فأسلوبه حلو يستسيغه القارئ ولا يستطيع أن يعبس له، بل لا يسعه إلا أن يضحك منه ويتأثر به؛ وهو مر لأنه يكشف عن العيب الذي يريد الشاعر الكشف عنه، فيريك منه أبشع صورة وأشدها إيلاماً للنفس. أنظر إليه حين يصف أطباء عصره كيف يضحكك من وصفهم، وكيف يؤلمك من جشعهم وما نال الناس منهم ومن الطاعون: فطيبيه الذي يصف رجل يلهج لسانه بالحمد والثناء حين يذكر أيام الوباء، وهو والطاعون إذ اجتمعا على المدينة أفنياها، هذا يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وانظر إليه حين يصف المرأة المزواج يعبر عن ذلك بأنها (أبلت) في عمرها خمسة أزواج، ثم يدعها ويسخر من الرجال الذين يقعون في حبائلها. . .
ولعلك لمحت فيما قرأت له أن أكثر سخريته وأشدها منصب على رجال الدين من قساوسة وشمامسة ورهبان؛ ونحن نبادر قبل أن نعرض لهذا البحث - إن أتيح لنا أن نعرض له -(369/28)
فنقول إنه متأثر في هذا بعاملين: أولهما حال رجال الدين في ذلك العصر وما كان بينهم وبين الملوك والأمراء من تحاسد وتباغض وتنازع في السلطان، والملوك والأمراء هم أرباب الفضل والنعمى على شاعرنا؛ وثانيهما خضوعه في هذا وفي غير هذا لما تأثر به في آرائه وأسلوبه من كتابات الشاعر الإيطالي بترارك وغيره من شعراء الطليان الغابرين وكتابهم
ولد هذا الشاعر في لندن منذ نحو ستمائة سنة. وقليل ما عرف عن فجر حياته، بل لم يسمع اسمه في لندن إلا عندما كان موظفاً في بلاط الدوقة كلارنس التي كانت زوج ابن إدوارد الثالث
وكان شوسر لا يزال شاباً في طراءة السن، ثم انخرط في سلك الجندية وحارب في حروب فرنسا المعروفة بحروب مائة العام. قيل إن الفرنسيين أسروه وطلبوا له الفداء ويهظوا واشتطوا على أهله وصحبه في الفدية، فاكتتبت أولئك في جمعها وساهم الملك بماله في ذلك. ولما عاد إلى بلاده استخدمه الملك خاصة له وأصبح له في الأسرة المالكة منزلة محترمة. فكان موضع الثقة في السفارات، والرسول المجتبى في الملمات. سافر إلى فرنسا وإلى إيطاليا فحذق اللغتين وقرأ شعرهم ولقي شعرائهما. وشغل بعد هذا مراكز حكومية كإدارة المكوس وعضوية مجلس الشورى ورياسة المقاطعات، ولا تزال جامعتا اكسفورد وكمبردج تتنازعان بنوة هذا الشاعر
ولعله لا يتعاظمنا أمر فقره في أخريات حياته، فهذا شأن الكثيرين من الكتاب والشعراء حتى اليوم، ولعل هذا هو ما أوحى إليه وصف الكاتب بقوله: (ما أغنى عنه علمه وما وعى - حائر يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته، ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً) لعله كان يصف نفسه، فكذلك كان شاعرنا، عاش على قليل من المال رتبه له هنري الرابع ابن صديقه جون أوف جونت، واتخذ له مسكناً في وستمنستر في بقعة منها يشغلها الآن جزء من كنيسة وستمستر المعروفة ببيعة هنري السابع ومات بها عام 1400م ودفن في زاوية الشعراء من هذه الكنيسة. وكان أول شاعر نال هذا الشرف
ولنا عود إن شاء الله إلى قصصه وآثاره.
(الإسكندرية)(369/29)
الصاغ أحمد طاهر(369/30)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
أي الصلح يريد؟
عرض هتلر في حديثه إلى مجلس الريشستاغ الألماني إلى موضوع الصلح مع إنجلترا، فأبدى استعداده للدخول في مفاوضاته؛ ولكن أي صلح يريد هتلر؟ ولماذا يبدي استعداده اليوم بعد مضي شهر على تسليم فرنسا؟ الحقيقة أن هتلر لا يريد الصلح، وهو لم يكن في يوم من أيام حياته من مريدي السلام؛ بل هو في حالة حرب دائمة، فإذا كانت ألفاظ السلام على شفتيه، فعقله وقلبه يعملان للحرب، فصلحه وسلامه يقومان على الغدر والخيانة واستغلال الفرص للقضاء على سلام غيره
فتاريخ هتلر مملوء بالصفحات السوداء من تغرير، وخيانة، وغدر، وخديعة؛ ولم يتورع في تصرفاته عن استعمال أسلحة القتل والجريمة، فعندما أراد ضم النمسا دفع رجاله لاغتيال دلفوس زعيمها، فلما خاب مسعاه في المرة الأولى كرره في المرة الثانية، إلى أن تمكنوا من قتله، وعندئذ بدا هتلر على حقيقته زعيماً للمجرمين، فحمى القتلة، بل وزاد أن مجد ذكراهم لأول مرة في تاريخ الإنسانية، فوضع على قبور من اقتصت منهم العدالة أكاليل الزهر، وأقام نصب التخليد. فيالها من أكاليل ويالها من نصب!
الاختطاف الدولي
وعندما أراد أن يضم إلى بلاده مناطق السوديت توطئة لوضع تشيكوسلوفاكيا تحت سيطرته تبع نفس الوسائل، ولكن بطرق أخرى؛ فبدل أن يقتل اختطف، فاستدرج الرئيس هاشا بحجة المفاوضة، فلما وصل إلى ألمانيا أحاطه بالحرس المسلح، وألقى إليه بشروطه، على أنها شروط لا تقبل المفاوضة؛ فلما رفضها، برزت المسدسات من مناطق الرجال، وحيل بين هاشا والنجاة وجعلت شروط الصلح شروط الفدية، مذكراً بمصير (شوشنج) وما يعانيه من آلام الأسر، وعذاب رجال الجستابو
وعبثا حاول هاشا الخلاص من التهديد أو الإكراه إلى أن نفد احتماله وأغمى عليه مرات، ولكن الأطباء المعدين في حجرة مجاورة كانوا يسعفونه بالعلاج حتى يتمكن من إمضاء(369/31)
الاتفاق؛ وبعد ساعات من الاضطهاد المتواصل خارت قوى الشيخ فسلم الفدية وأمضى الاتفاق
فأي فرق بين هتلر وعصابات الاختطاف والسرقة؛ فالأول يقتل الزعماء ليتخلص من عزيمتهم، ومن منافستهم، ليسلب بلادهم حريتها، وليبعث الرعب في قلوب غيرهم؛ والآخرون يقتلون منافسيهم وغرماءهم ليسلبوهم أموالهم؛ والأول يختطف رؤساء الدول مستغلاً قواعد المعاملات الدولية، ويجعلهم رهينة ترهب وترغب، إلى أن يكرهوا على تسليم الفدية؛ والآخرون يخطفون الأثرياء طمعاً في فدية يحصلون عليها من ذويهم
أي فرق بين هاتين العصابتين؟ وإذا كانت الأمة لا تسمح لمثل هذه الطائفة بالعيش، وتسلط عليها رجال الأمن للقضاء عليهم، فهل يحق للعالم أن يترك هتلر يقتل الزعماء ويختطف الساسة تحت ستار السلام؟
وإذا أردنا أن نذكر تصريحات هتلر ووعوده مع بولندا والدانمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا، ضاق نطاق المقال، وأعدنا على القارئ سيراً مؤلمة
وشعر هتلر بأن النصر بعيد، وأن الهزيمة أقرب منه، فأراد أن يهرب من مصيره، ولوح للعالم بالسلام، ولكن العالم يعلم ما يخبئ لهم هذا السلام، فإن هي إلا فترة من الزمن يبث فيها رجال الطابور الخامس في إنجلترا فينشرون الرعب والخيانة بين رجالها، وإن هي إلا فترة من الزمن يستعد فيها هتلر بقوات تمكنه من غزو إنجلترا حتى يبدأ الحرب الفعلية من جديد، وهذا هو السلام الذي يريده هتلر
ولم الآن. . .؟ إن الشهر الذي انقضى منذ توقيع الهدنة الفرنسية لم يمض عبثاً، فقد خبر فيه هتلر قواته، وشاهد نتائج إغاراته على إنجلترا، فعرف أن بريطانيا العظمى بعيدة المنال، وأن سلاح العنف لن يصل به إلى غرضه، فعاد إلى سلاح الخديعة ليوهم أنصار السلام بأنه ملاك، وليحمل إنجلترا تبعة استمرار الحرب، فيشتد عضد أنصار الهزيمة فيها، وتسري في الرأي العام لهجة الصلح، ولكن هيهات! ففي تاريخ إنجلترا كله ما يدل على أنها إذا عزمت على أمر فلا مفر منه إلى النهاية
وهي خلة فرضتها عليها الظروف، فهي تبدأ الحرب متراخية ضعيفة، ولكنها لا تلبث أن تحشد جهودها، وتوجه قوتها إلى الغرض المنشود، وهي تتكلف في هذا التحول كثيراً من(369/32)
الخسائر المادية والأدبية مما يعز عليها أن تتخلى عنه وهي في منتصف الطريق
سياسة الإمبراطورية
فهي تضع خطة نضالها على حرب طويلة الأجل، تكون في نهايتها أقوى منها في أولها، وقد فرضت عليها سياستها الإمبراطورية هذا السبيل حتى لا ترهق شعوبها بالاستعدادات الحربية في زمني الحرب والسلم، وتكتفي بالسيطرة على جميع المواد في زمن الحرب؛ وغني عن القول أن مواردها تنمو في فترة السلم نمواً كبيراً بفضل تقدم العمران، وأن شعوبها إذا أحست بالخطر ضحت في سبيله، حرصاً على رفاهيتها من أن تهددها دولة أخرى؛ وعلى هذا الأساس تدخل الميدان واثقة من قوة عزيمة رجالها، واثقة من اتساع مواردها
عرف هتلر كل هذا واختبره، ولهذا السبب يعرض الصلح الآن. فخير له أن يحل مشاكله وهو قوي من أن يحلها وهو ضعيف، فالحالة الأولى تتيح له التهديد بالرفض أما الثانية فلا يسعه فيها إلا القبول، فقد أدرك الآن أن خطة الحرب الخاطفة التي بنى عليها سياسة انتصاره يرجح فشلها على نجاحها
في الشرق الأقصى
وثمة ميدان آخر بدأت الحياة تدب فيه، وبدأ الناس يتكهنون بما يجري فيه، فسألني عدة أصدقاء ما هو الموقف في الشرق الأقصى؟ ماذا ينتظر أن يجد فيه من الأحداث السياسية والعسكرية؟
فهناك أمريكا واليابان والروسيا والصين؛ وهناك أيضاً أملاك لهولندا وقد احتل بلادها الألمان، وأملاك لفرنسا وقد سيطر على فرنسا النازيون، فانقطعت الصلة العسكرية بين هذه الممتلكات وبين أمها، بحيث يتعذر عليها وحدها الوقوف أمام غزو ياباني سياسي أو عسكري
والموقف في الشرق الأقصى دقيق لا يتيح للباحث أن يقطع فيه برأي، وأمريكا هناك هي القطب الرحى، وهي أقدر دولة على حفظ التوازن والسلم ولو إلى حين. وقد ناقشنا في مقالنا الماضي ناحية من العلاقات وتضارب المصالح بين الروسيا واليابان(369/33)
ونناقش الآن موقف أمريكا في هذا المجال، فإن كانت مصالحها في أوربا لا تدفعها إلى دخول الحرب والاقتصار على إمداد إنجلترا بالعتاد الحربي فإن مصالحها في الشرق الأقصى رغم اتساع المحيط الهادي تدفعها إلى الاحتفاظ فيه بالتوازن الدولي بجميع الوسائل ومنها الحرب
المصالح الأميركية
فقد تضاعفت تجارتها في الصين قبل حربها مع اليابان حتى بلغت ستة أمثال ما كانت عليه، فأصبحت 250 مليون دولار؛ فإذا اعتبر هذا المبلغ بسيطاً بالنسبة لأمريكا، فإن زيادته المطردة وتضاعفه في فترة قصيرة مما يبعث كبير الأمل في نفوس الأمريكيين ولا سيما أن الصين بدأت تأخذ بأساليب الحضارة الحديثة من صناعية وزراعية
واستيلاء الروسيا أو اليابان على الصين يقضي على التجارة الأمريكية فيها، ويهدد أميركا ودولها بالغزو، فبنت أمريكا سياستها في الشرق الأقصى على ألا تكون لإحداهما فيه إمبراطورية واسعة تضم إليها الصين، ومن ثم يسهل عليها الاستيلاء على الجزر الواقعة في المحيط الهادي وأهمها الفلبين وهاواي، وعندئذ يتاح لها أن تغزو أية دولة شرق المحيط الهادي، وتتخذها قاعدة لتهديد الولايات المتحدة تهديداً مباشراً
ومن سياسة أميركا في الشرق أيضاً أن تثبت أقدام الدول الأوربية فيه، حتى لا تكون مهمة حفظ التوازن واصطدام المصالح قاصرة عليها، فعندما اشتدت حركة الحصار الياباني على تيانتسين، واتخذ اليابانيون مع البريطانيين وسائل قاسية تدخلت أميركا وهددت اليابان بقطع العلاقات التجارية
ولتهرب اليابان من المسئولية الدولية بنت سياستها على المكر والدهاء، فألفت حكومة صورية في منشوكو لتنفذ بها سياستها؛ فعلى حكومة منشوكو أن تزرع وعلى اليابان أن تجني الثمر ناضجاً، فمنطقة شنغهاي مثلاً منطقة دولية موزعة على الدول، فتلبس حكومة منشوكو قفاز اليابان وتطالب الدول بإخلائها، فإذا احتجت الدول إلى اليابان على أنها المحرك الأصلي قالت إنها غير مسئولة عن تصرفات حكومة أخرى مستقلة
أمريكا تعمل(369/34)
ولهذا برزت في الدوائر الأمريكية فكرة تضع اليابان في وسط المعضلة، فتخطر بأن كل حركة أو عمل ينفذ من جانب حكومة منشوكو تعتبر اليابان مسئولة عنه، وتتخذ قبلها العقوبات أو التصرفات اللازمة
أما هذه التصرفات فهي:
1 - عرقلة التجارة اليابانية في أمريكا وهي أكبر عملائها، فتفرض الضرائب على الواردات اليابان
2 - عرقلة مساعي الصين في اليابان وإفساد خططها
ويؤيد هذين التصرفين الموقف الدولي الحاضر وحالة الحرب الناشبة في الميدان الأوربي والميدان الصيني، وقد نتجت عنه ثلاثة عوامل
ا - تعتمد اليابان على التجارة الأمريكية، فلم يبق لها من أسواق سواها
ب - ضعف اليابان نتيجة لحربها مع الصين وصعوبة تخلصها من هذه الحرب
ج - ضرورة احتفاظها بقوات بحرية وبرية كبيرة لتدافع عن ممتلكاتها إذا نشبت الحرب بينها وبين إنجلترا
ولا تعتمد أمريكا على اليابان اعتماداً كبيراً في تجارتها، فالأقطار الأمريكية من أغنى أقطار العالم، وهي البلاد الوحيدة التي تستطيع الاستغناء عن الدول الأخرى لاتساع رقعتها وتوفر خاماتها
وقلنا في مقالنا السابق أن مساعي إنجلترا للصلح بين الصين واليابان على وشك النجاح، ومعنى هذا إضعاف هذه العوامل وخصوصاً العامل الثاني، ولكنه يلاحظ أن صلح الصين واليابان لا يعيد للأخيرة ما فقدته من عتاد وقوات حربية، ولكنه يعطي لهذه البقعة السلام، وهو ما ترجوه الدول ذات المصالح فيها، حتى تعود تجارتها واطمئنانها إلى سابق عهدهما
وهناك عامل آخر يحبذ وقف القتال بين الصين واليابان، فالخطر الأكبر هو أن تسيطر الروسيا على الصين، وهذه نتيجة طبيعية لاستمرار الحرب، فإن أمل الصين في الانتصار ضعيف نظراً لتفوق اليابان العسكري وموقعها الجغرافي الحصين، فهي جزيرة كإنجلترا؛ فكل أمل الصين هو وقف الزحف الياباني أو إخلاء بعض المناطق الصينية المحتلة
وبعض المقاطعات الصينية خاضعة للنفوذ السوفياتي، فإذا طالت الحرب وتخلت قوات هذه(369/35)
المقاطعات فيها، فإن النفوذ السوفياتي ينتشر في الصين كلها، ويتدحرج من السلطة العسكرية إلى السلطة المدنية، وتصبح الصين بلاداً بلشفية، أو بعبارة أوضح تتكون الإمبراطورية الشرقية بزعامة الروسيا، وهو الخطر الذي تخشاه دول أمريكا وأوربا
وتخيف هذه النتيجة اليابان، لأنها إذا تحققت قضت على جميع أحلامها في الصين، وحققت أحلام الروسيا، وهو خطر يهدد جزر اليابان نفسها إذ توضع الأراضي الصينية تحت تصرف الروسيا، أو تصبح جزءاً منها كما حدث في ليتوانيا واستونيا ولتفيا، فقد بدأ النفوذ الروسي فيها صغيراً، ثم تدرج إلى أن أعلنت انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي
فمن مصلحة اليابان إذن أن تضع حداً لحربها مع الصين اتقاء لشر الروسيا، ولا سيما أن فقر الصين مرعى خصيب للمبادئ الشيوعية ومنها تنتقل العدوى إلى اليابان، فمستوى المعيشة فيها ليس أكثر ارتفاعاً منه في الصين، ولا يبعد اليابانيين عن الشيوعية إلا بعض المعتقدات الدينية والتقاليد التي لا تلبث أن تنهار أمام شظف العيش وغريزة حفظ النفس
ولهذا فلا يستبعد أن يكون الصلح بين اليابان والصين صلحاً شريفاً يقبله الطرفان ويحفظ كرامة المتحاربين.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(369/36)
رسالة الفن
تأملات:
لتقليد والتمثيل
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
عندنا عامل فقير مرح، فجأته ثروة ضخمة، فانكب على إنفاقها، فأصابته أمراض وعلل، فانقلب صاحب هم وغم ولم يجد خلاصاً من همه وغمه إلا أن يفر من ثروته
هذا الرجل نريد أن نمثله فكيف نمثله؟
الممثلون ينقسمون حيال هذا الرجل - كما ينقسمون حيال غيره - إلى قسمين: قسم يقول لك: أنا إذا أردت أن أمثل دوراً كهذا فإني أبحث بين الناس أو في ذاكرتي عن رجل يشبهه أكون قد رأيته أو أكون قادراً على رؤيته، ثم أدرس هذا الشبيه في فقره ومرحه فأرى أثر الفقر فيه، وتأثيره في صوته، وفي مشيته، وفي حديثه، وفي إصغائه، وفي إشاراته، وفي إقباله على الناس، وفي تركه للناس. . . وما يفعله الفقر بعد ذلك كله في نفسه، ثم أدرسه بعد ذلك في مرحه، ثم أدرسه بعد ذلك إذا اغتنى، فإذا رأيته يبذر القرش في طعام، فهو سيبذر الجنيه في طعام أيضاً إذا أتاه جنيه، وإذا رأيته يبذر القرش في زينة، فهو سيبذر الجنيه أيضاً في زينة، وإن اختلفت زينة القرش عن زينة الجنيه؛ ثم أدرسه بعد ذلك وهو مريض معتل، فأراه إذا كان يصير ويحتمل أو يتبرم ويتململ؛ ثم أدرسه بعد ذلك في همه وغمه، فأراه كيف يشكو أو كيف يكتم الشكوى، وأراه لمن يشكو إذا شكا، ألكل من هب ودب أمامه، أم لعاقل ترجى عنده النصيحة، وأراه بعد ذلك كيف يقطع الرأي فيما يهمه ويغمه، أيتردد طويلاً أم قصيراً أم يبت في الأمر بالفكرة الأولى، أم يستقصي ما يتوارد إلى ذهنه من الأفكار، أم يستسلم فلا يفكر؛ ثم أدرسه في آخر الأمر وهو فار هارب من همه وغمه، وأراه كيف يكون حين يشعر بالنجاة، أراضياً مرتاحاً، أم ساخطاً، أم مشتاقاً إلى الرجوع إلى النكد عندما يذكر أن هذا النكد كان فيه مال، وكانت فيه ثروة فإذا درست هذا كله وإذا رأيته استطعت بعد ذلك أن أمثله وأنا أضمن أن أخرجه صورة طبيعية صادقة رائعة. . .(369/37)
هذا كلام يقوله ممثل من القسم الأول، أما الممثل من القسم الثاني فيقول: (ومالي أنا أجري وراء الناس، أو أجري وراء الأشباح في ذكراي؟ أنا سأفرض أني هذا العامل الفقير وسأرى أي أثر يؤثر هذا العمل في النفس وفي الجسم: أهو يعطي صحة أو يعطي سقماً، أهو يورث الهدوء أم يبعث في الأعصاب الفزع، أهو ينشط العقل أم يعلمه النوم والكسل. . . فإذا علمت أي شيء يصنعه هذا العمل بالعامل استطعت أن أعود إلى نفسي أنا فأراها كيف تكون عندما تنطبق عليها الأوصاف المترتبة عن هذا العمل، وليس علي بعد ذلك إلا أن ألزم نفسي في اتخاذ هذه الأوصاف وأنا أمثل هذا الدور، فإذا فرغت من هذا الأساس رجعت إلى نفسي مرة أخرى فرأيتها في الفقر ورأيتها في المرح، ورأيتها حين تبذر وتسرف كيف تلقي المال وكيف تنسقه إذا كانت بهذه الأوصاف الجيدة، ثم أرى نفسي بعد ذلك كيف أهتم وكيف أغتم، وكيف أفر من الهم ومن الغم. . .
فإذا رأيت هذا كله وإذا درسته استطعت بعد ذلك أن أمثله وأنا أضمن أن أخرج الدور لك صورة طبيعية صادقة رائعة
وتسمع أنت كلام الممثل الأول، وكلام هذا الممثل الثاني، وتريد أن ترى أيهما الأضمن طريقاً، وأيهما ألأمكن فناً، أهذا الذي يتلقط مادة فنه من صورها الطبيعية، أم هذا الذي ينفخ نفسه في الطبيعة فيخرجها مخلوقاً جديداً؟
فإذا طلبت من هذين الممثلين أن يمثلا هذا الدور، رأيت الممثل الأول يسرع إلى الإجادة، فلا يحتاج إلى تدريب، وإن احتاج فإلى تدريب قصير يتمكن بعده من الدور تمكناً ملحوظاً
أما الممثل الثاني فإنك تراه يتسكع نحو الإجادة تسكعاً، ولكنه كلما أصاب تصوير حالة ما استمسك بها، وراح يبحث عن غيرها، فكلما طال تدربه على الدور وانشغاله به زاد إتقانه له واندماجه فيه، على العكس من الممثل الأول الذي يقف في الإجادة والإتقان عند حد خاص، هو الذي رآه في الطبيعة ونقل عنه.
وليس هذا وحده هو الفرق بين هذين الممثلين، فثمة فرق آخر كبير، ذلك أنك تجد في الممثل الأول الذي يأخذ عن الصور الطبيعية ملامح هذه الصور الطبيعية ولا ترى ملامحه هو، كما أنك ترى النفوس هذه الصور الطبيعية ولا ترى نفسه هو؛ أما الممثل الثاني فإنك ترى ملامحه ونفسه في الدور، فكأنه هو قد انصرف عن التمثيل فعلاً واشتغل عاملاً(369/38)
وافتقر، وحدث له وحدث. . .
فأي واحد من هذين الممثلين أمكن فناً من صاحبه؟
أغلب الممثلين المجيدين في الغرب من النوع الأول، وقليلون جداً فيهم الذين من النوع الثاني وأذكر منهم شارلي شابلن
وأغلب الممثلين المجيدين عندنا هنا من النوع الأول أيضاً، وقليلون جداً فيهم الذين من النوع الثاني وأذكر منهم نجيب الريحاني
ولعل القارئ يلحظ أن شارلي شابلن منذ استتب اخذ يتباطأ في إخراج الروايات ولم يعد يلاحق بعضها ببعض، كما أن نجيب الريحاني قد أخذ هو أيضاً يتباطأ ولم يعد يخرج في العام الواحد أكثر من روايتين
ولعل القارئ يعرف أن شارلي ونجيب يقضيان ما بين الرواية السابقة والرواية المقبلة تهيؤاُ وتربصاً، وإن كان شارلي يستمتع بحرية أوسع بكثير جداً من الحرية التي يستمتع بها الريحاني
وشارلي ونجيب لا يتشابهان في هذا فقط، وإنما هما يتشابهان أيضاً في أن كلا منهما يؤلف رواياته لنفسه، ويعلم ممثليها بنفسه، ثم إن كلا منهما يضم حوله مجموعة من الممثلين لا يكاد الجمهور يعرفها إلا حوله هو، فإذا بعدت عنه ثقل التمثيل عليها وثقلت عليه، زد على ذلك أن شارلي شابلن بدأ أخيراً يضع الموسيقى التي تصاحب التمثيل في رواياته، وقد سبقه الريحاني إلى هذا وإن لم يكن قد سبقه بنفسه، فزكريا أحمد الملحن الكبير الذي اختصه الريحاني برواياته يقول إنه تعلم من الريحاني ألواناً من الموسيقى شرحها له معاني فنفذها هو بالنغم
فهل هناك علاقة بين أوجه الشبه هذه، وبين الطريقة التي يسلكها هذان الممثلان في فنهما؟ وهل نستطيع أن نقول إن هذه الطريقة هي التي ارتقت بهذين الممثلين حتى ميزتمها هذا التمييز على الممثلين المجيدين؟
الواقع أن هناك علاقة وصلة بين هذه الطريقة وبين هذا التمكن الفني الذي وصل إليه كل من الأستاذين شارلي شابلن ونجيب الريحاني
فنحن إذا رجعنا إلى طريقة التمثيل الأولى رأيناها أقرب إلى ما تمارسه القردة من التقليد،(369/39)
فالقرد كلما رأى حركة قلدها، وكلما رأى حالة نفسية تتضح على صاحبها أثراً جسمانياً بادياً تصنع هذا الأثر الجسماني البادي وإن لم يقدر على أن يقنع الناظر إليه بأن نفسه من الداخل قد تحولت إلى هذه الحال التي من عادتها أن تنضح بهذا الأثر، ولكن الممثل الذي من نوع شارلي ونجيب أصدق تصويراً للنفس الإنسانية في حالاتها المختلفة، وإن كان يتقيد في هذا التصوير بطبيعة نفسه هو تاركا ما عداها من النفوس، ونفسه مهما كانت غنية ومهما كانت سهلة طيعة فهي نفس مفردة واحدة بينا الحياة فيها ملايين الملايين من النفوس والصور. . .
وهذا عيب قد يؤخذ على هذا النوع من الممثلين، ولكنه في الحقيقة غير عيب، وإنما هو فضيلة. فكل نفس إنسانية في حقيقتها المجردة لا تفترق في شيء عن غيرها من النفوس، وإنما تختلف النفوس بعضها عن بعض تبعاً لمؤثرات عارضة بعضها موروث وبعضها مكتسب، وبعضها تمكن، وبعضها لا يزال مزعزعاً، وهكذا، والفنان الذي يتخذ الحق طريقة إلى الفن يبدأ أول ما يبدأ بمراقبة نفسه وبمتابعة فضائلها ورذائلها، ثم يعكف على توطيد الفضائل، ومكافحة الرذائل، فإذا لم ينجح حيال شر من شرور نفسه لم يخفه عن الناس، وإنما أعلنه مع ما يعلن من نفسه فيعرف عن الناس أسراره ودخائله وشروره وآثامه وعيوبه وأخطاءه ومساويه ورذائله، وهو أول من يعرفها من الناس، وهو أول من يكرهها وإن استسلم لها وعجز حيناً عنها، ولكنه لا يزال يتربص بها الفرص ويرجو النجاة منها ويطلب من الحق أن يعينه على هذه النجاة. . .
وهذه نزعة من نزعات التصوف، وهي انطلاقة جريئة نحو الحق، وهي وحدها التي تمكن صاحبها من الإلمام بنفسه والإحاطة بما فيها، فإذا بالذي فيها كنز لا يفنى، ككل كنز في كل نفس، غير أن هذا كنز مفتوح لم تتكدس عليه الأكاذيب والأباطيل
فليس عجيباً بعد هذا أن تتاح صحبة من الفنون الجميلة للفنان الذي نفسه هي هذه النفس، فيكون أديباً وممثلاً ومغنياً وراقصاً ومعلماً وغير ذلك
وإذا كان القرد يقلد وينجح في التقليد نجاحاً خفيف الروح بهيج الظل لأنه يتطلع إلى غيره، فإن للإنسان أن يكون فناناً إذا تطلع إلى نفسه وهي أقرب إليه من غيره.
عزيز أحمد فهمي(369/40)
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة
جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
تقرير الأستاذ برتلو
وبرتلو هذا هو أول من تعرض لبحث مشكلة جابر بن حيان على منهج علمي منظم، وذلك في ثنايا عرضه لتاريخ الكيمياء في كتابه حيث يعرض برتلو منهجه قائلاً: (ولكي تجزئ هذه المشاكل العسيرة، ونعين بها مشاكل كتب جابر بن حيان، التي تعانيها هذه المرحلة العلمية، فإن الدراسة المباشرة للنصوص أو للتراجم اللاتينية تفيدنا أكثر إفادة، ولكن هذه الدراسة النقدية لا تكفينا تماماً، إذ أنه يبدو لي أنه من الضروري أن نستعين بدراسة المؤلفات العربية نفسها، وأن نقارنها بالنصوص اللاتينية المعروف أنها ترجمة لها. ولكن في ركاب الدهر، ولكن يوجد بعضها في المكاتب الأوربية مثل ليدن وباريس، وإن نشر هذه المخطوطات من الضرورة بمكان كبير، حتى تتم الدراسة المقارنة ذات الأثر الفعال في تاريخ العلوم. وحتى يتيسر لنا أن نضع تاريخ الكيمياء في وضعه الصحيح)
ثم بعد أن برتلو كتب جابر بن حيان التي لا يشك في أنها من تصنيفه يقول:
يسمح لنا تحليل هذه الكتب بأن نكون الفكرة العامة لمميزات جابر، وأن نتبين كيف أن هذا الكتب ترتبط ارتباطاً مباشراً مع عدد معين من الأفكار والآراء والنظريات التي تبسط في التراجم اللاتينية للكتب العربية مثل كتب أفلاطون وأرسطو والرازي وابن سينا وغيرها من الآراء والنظريات التي انتقلت عن طريق الكيمياء العربية إلى الكيمياء اللاتينية في القرن الرابع عشر من الميلاد. وفي حركة النقل هذه ظهرت قيمة جابر بن حيان وكيف عُد أستاذ الكيمياء في الإسلام
ويمكن أن ترد بعض هذه النظريات إلى أصول يونانية، ولكن الأعمال العربية لجابر تختلف تماماً من حيث عرض الأفكار وأسلوب البحث ومنهجه أو إثبات الظواهر ووضوح النظريات عن تلك الكتب التي ألفها منتحل اسم جابر - ليس فقط في أن الظواهر(369/42)
الجديدة التي يشرحها هذا المؤلف كانت مجهولة تماماً عند العرب بل إنه من المستحيل أن نجد في المؤلفات التي تحمل اسم جابر في اللاتينية صفحة حتى ولا فقرة يمكن أن تعتبر ترجمة لنص عربي
ولكن هذا لا يمكن أن يقلل من شأن الكيمياء العربية التي أثارت تاريخ العلوم إثارة كبيرة إذ أنه عن طريقها أمكن معرفة تاريخ الكيمياء عند المصريين واليونان ثم في بيزنطة وعند السريان، ثم عند العرب أنفسهم
ثم أن كتاب ال لا يحتوي أي دليل يشير إلى أصله العربي سواء في منهجه أو في حقائقه أو في كلماته أو الأشخاص المذكورين فيه، ولا في الخرافات الإسلامية التي هو خلو منها تماماً
وليس شكي في أن كتاب السوما قد أُلف قبل القرن التاسع بأقل من شكي في أنه لا يوجد ثمة أصل عربي هو ترجمة له في مثل هذا التنظيم البديع وتلك الإبانة الوافية. إذ أن مؤلفات جابر العربية وأبحاث ابن سينا لا يمكن أن تملي علينا التسليم بان كتاب السوما ترجم عن أصل عربي
ونحن لا ننكر أن بعض العبارات قد اقتبست من مؤلفات جابر العربي، الذي لا زال وجوده. ولكن على الرغم من ذلك لا نستطيع أن نقول بإمكان أن يكون مؤلف هذا السفر الجليل عربياً مسلماً، إنما الافتراض الذي يبدو لي معقولاً هو أن مؤلفاً لاتينياً لا زال مجهولاً لنا تماماً كتب هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن الثالث عشر من الميلاد ونسبه إلى جابر كما فعل الكيميائيون اليونان في مصر الذين وضعوا اسم ديمقريطس على مؤلفاتهم لديمقريطس كي تشتهر وكما فعل الكيميائيون السريان في نحلهم مؤلفاتهم لديمقرطيس كذلك
وقصارى القول إذن أن المؤلف اللاتيني - (المدعي الجابرية) قد احتل مكانة سامية في العالم الكيميائي بفضل وضوح منهج الـ وبامتيازها عن غيرها من المؤلفات العربية البحتة حتى صار هذا المؤلف في القرن الرابع عشر من الميلاد أساس الدراسة الكيميائية في العالم أجمع، ولكن نسبة هذا الكتاب للعرب أنفسهم أفسد كل تاريخ العلم لمنحه لهم هذه القدرة العلمية الإيجابية التي ما وجدت لديهم يوماً ما)(369/43)
مناقشة تقرير برتلو
يرى الأستاذ برتلو أن وضوح كتاب السوما وأسلوبه وتنظيم أبوابه وقوة نظرياته ومنهجه الخاص تكفل لهذا السفر الخروج عن دائرة التأليف الإسلامية، والدخول في دائرة التأليف اللاتينية، ولكن لم لا يكون جابر هو الذي كتب هذا المؤلف، بالعربية طبعاً، في أخريات حياته، بعد أن اكتمل له حظ كبير من المعونة العلمية ومن الآراء والنظريات السابقة له؟ ولكن هبني سلمت بأن جابراً لا يعرف التنظيم في مؤلفاته، وهذا بعيد جداً، فلم لا يكون هذا التنظيم وذلك الأسلوب اللذان ركز عليهما برتلو نقده الطويل، من عمل المترجم؟ وكل ما هنالك أن هذا السفر الكيميائي كان حظه أوفر من حظ غيره من الكتب، إذ وهب مترجماً ميالاً للأدب، ضليعاً في لغته، فاهماً تمام الفهم ما هو في سبيل ترجمته. وأؤكد أن هذه الأمور لو توافرت في أي مترجم لخرجت الترجمة وهي تضارع الأصل في وضوح الفكرة وجمال العرض
فالأساس الذي يعتمد عليه برتلو في نقده كتب جابر بن حيان أساس خاطئ، حظ الشك فيه راجح على حظ اليقين. ونحن نكتفي بان نسأل سؤالين:
أليس من اليقين القاطع أن أعمال جابر العربية التي في متناول أيدينا تدل على نبوغ وعبقرية؟؟ ولم لا تكون هذه الكتب اللاتينية الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها في بدء المقال، قد ترجمت عن أعمال أخرى لجابر بن حيان؟
أما السؤال الأول فإن برتلو يسلم بأن الكتب العربية لجابر ابن حيان تدل على نبوغ وعبقرية
ولقد لاحظ الأستاذ رسكا خليفة برتلو في الاهتمام بمشكلة جابر بن حيان، أن عملين من المؤلفات التي نشرها برتلو إنما تدل على سمو وامتياز، وعلى عقلية نامية نابغة
أما السؤال الثاني: فإن إجابة برتلو عليه كما سبق أن بينا، لا تلزم الباحث بضرورة الاقتناع برأيه
وعلى ذلك فإن القول بأن هناك أسباباً وجيهة جعلت كيمائياً لاتينياً ينسب أعماله لجابر ين حيان لشهرته التي لم تأت فقط عن طريق التراجم العرضية كمذكراته ورسائله، إنما كذلك عن طريق التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية لجابر بن حيان الدالة على نبوغ(369/44)
وعبقرية، والتي أكثرها أهمية بدون شك هو كتاب السبعين الذي نشره برتلو وهوداس في سنة 1903 حسب مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس
ولما كان من المستحيل أن يكون لدينا رأي جازم في مستوى الأسلوب العلمي في ذلك الوقت فإنه ليس من الممكن أن نسلم بأن كتبا كتبت على أسس جديدة غير الأسس القديمة ليست من أعمال جابر بن حيان
ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأى برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك
ونحن لا نكتفي هنا ببيان استحالة صحة رأي برتلو من الناحية الأسلوبية فقط، إنما كذلك تحت أيدينا من النصوص ما يثبت قطعاً أن رأي برتلو في معالجته لمشكلة جابر بن حيان من الناحية الموضوعية خاطئ كل الخطأ كذلك
والآن فلنقارن بعض النصوص اللاتينية التي يذهب برتلو أن جابراً لم يفطن إلى معانيها، أو إلى التجارب التي تشرحها، ببعض النصوص المسلم بأنها من عمل جابر بن حيان، من جميع العلماء المستشرقين:
أولاً: كتاب الاستتمام، هذا الكتاب ذكر في الفهرست لابن النديم، ويذهب المستشرقون إلى أن هذا الكتاب، أعني ترجمة باللاتينية التي نقلت بدورها إلى الإنجليزية تحت عنوان إنما هي منسوبة إلى جابر بن حيان انتحالا، التي لم يحاول العرب التفكير فيها. ونحن الآن نقتطف نصاً من هذه الترجمة اللاتينية ونصاً آخر من كتاب لجابر بن حيان بالعربية وهو (الإيضاح) وترى بعد ذلك هل حقاً يوجد تباعد بين الفكرتين؟
يقول كتاب ما ترجمته (تتركب جميع المعادن من أصل واحد هو الكبريت سواء كان نقياً أم لم يكن)
ويقول كتاب (الإيضاح) (مخطوط بدار الكتب بالقاهرة): (تتكون جميع الأجسام المعدنية في جوهرها من الكبريت الممتزج مع الزئبق. . . وإنها إن يختلف بعضها عن بعض فما ذلك إلا لسبب اختلاف خواصها العرضية) فأين إذن هذا التباعد بين النظريتين؟
ثانياً: كتاب السوما أي الجمع:(369/45)
ولعل هذا البرهان الذي سنسوقه الآن هو الذي سيضع المشكلة في وضعها الصحيح، فمقدمة الكتاب اللاتيني ترجمت عن العربية، إذ جاء فيها ما ترجمته (إن ما ذكر غير كامل في كتبنا السابقة قد أكملناه في كتابنا هذا)
وهذا ما يتفق تماماً وملاحظات جابر وتعليقاته في أنه قد فرق براهينه في كتب مختلفة. وهو قد قال: (إن البحث ينبغي أن يعمل بالشكل الذي يوافق الطبيعة)؛ كما يذكر أن الكيميائي يريد أن يقلد الطبيعة بوسائل مصطنعة. كما يذكر أيضاً أن الكيميائي ينبغي أن يكون مجتهداً في عمله مواظباً على الوصول إلى نتيجة نهائية، وألا يسلم لنتائج سريعة وظواهر خداعة
ففي كتاب الجمع أتى ذكر عملية التكليس في الفصل الرابع عشر؛ فبالرغم من أن التعاليم والأوصاف التي أعطاها جابر اللاتيني في وصفه لجهات التجربة وخطوات العمل فيها تتفق تماماً مع تلك التي قال بها جابر بن حيان في كتاب الخواص، الذي لا يشك أحد أنه من عمل جابر، فإن الأستاذ برتلو يعترف بأن عملية التكليس هذه لا نطير لها في الكتب العربية، ولكن من حسن الحظ، أو من سوئه، لا أدري، أن جابر بن حيان قد أفرد كتاباً لهذا الموضوع فقط هو كتاب (التكليس)، ولا يشك أحد أنه من عمل جابر بن حيان
فلنقارن النصوص، ونتركها تتكلم:
جاء في كتاب الجمع في النص اللاتيني ما ترجمته: (التكليس هو تأكسد المادة بواسطة التسخين، وذلك أنه يسلب الماء والرطوبة منها فتتجمع أجزاؤها، والسبب في ذلك هو أن تجفيف الكبريت وتلوينه وإفساده يمكن أن تمنع بواسطة التسخين، ولكن هذا المنع يختلف باختلاف الأشياء المتكلسة إذ أن الأجسام تكلس كما تكلس الأرواح، ولكن رغم ذلك توجد بعض الأشياء الخارجة عن طبقة هذه وتلك. . .)
(وكل معدن يكلس بطريقة تختلف عن الطريقة التي يكلس بها معدن آخر، ذلك لأنه يوجد بعض المعادن النقية الصافية بطبعها وفي هذه الحالة يكون الغرض من التكليس هو تحويل المعدن إلى مسحوق نهائي. أضف إلى هذا كله أن الحقيقة القائمة بأنه إذا طرقت الفضة حتى صارت صفائح رقيقة ثم سخنت بعد ذلك في درجة الحرارة الملائمة يمكن سحقها بعد ذلك مباشرة كالزجاج تماماً، ثم إذا صهرت مع البورق ترجع ثانياً إلى حالتها الأولى أي(369/46)
على صورة سبائك غير مطروقة). أقول إن هذه الحقيقة إنما وجدت في كتاب الخواص قبل غيره من الكتب، وهو كتاب لا يمكن أن يتطرق شك إلى أنه من عمل جابر بن حيان
وآية ذلك كله أن محتويات الكتب اللاتينية لها شبيه في محتويات الكتب العربية إن لم نقل إنها هي نفسها، وهو القول الأقرب إلى الحقيقة والصواب
(يتبع)
أحمد زكي صالح(369/47)
البريد الأدبي
الحزن على باريس
قرأت ما نشر في (الرسالة) بإمضاء (صديق) وما نشر بإمضاء الأستاذ علي الطنطاوي، وكذلك قرأت ما نشر في جريدة (الدستور) بإمضاء الأستاذ محمود محمد شاكر، والأستاذ محمود حسن إسماعيل، وما نشر في جريدة (منبر الشرق) بإمضاء الأستاذ أحمد جمعة الشرباصي، وسمعت الملام من بعض الأصدقاء، وذلك كله كان تعقيباً على المقال الذي نشرته في (الرسالة) بعد سقوط باريس تحت أيدي الألمان
ويظهر أن أولئك الأصدقاء تناسوا أني حددت فكرتي بأوضح بيان حين قلت: إني جزعت على مصير فرنسا الروحية لا فرنسا السياسية، فقد حاربت الاستعمار بقلمي أعواماً طويلة، وقمت بحملة قلمية ضد فرنسا وأنا في باريس بمناسبة الحوادث التي أريد بها تنصير البربر، وخطوت خطوات في أندية باريس لصد ذلك العدوان
فما الموجب للقول بأني أتوجع لأمة صنعت ما صنعت في الشرق، وقد وضحت غرضي تمام التوضيح؟ وما الموجب لأن يتفضل كاتب كبير مثل الأستاذ المازني فيغمز جميع من توجعوا لباريس بمقال لاذع من مقالاته القيمة في البلاغ؟
أيجوز أن يقع حادث مثل سقوط باريس ولا يتوجع له روح الأديب؟
وكيف جاز إذاً لكبار شعرائنا أن يتوجعوا للأمم التي آذتها الزلازل من أمثال الطليان واليابان؟
وما قيمة الأديب إن لم يتأثر بالحوادث الخطيرة في هذا الوجود
ما قيمة الأديب إن لم يتوجع لمصاب العدو كما يتوجع لمصاب الصديق؟
في تاريخنا الإسلامي نقطة بيضاء هي ما صنع صلاح الدين حين جزع لمرض عدوه وهو ملك نصراني قاد جيشاً لمحاربة المسلمين في فورة الحروب الصليبية، فقد سجل التاريخ أنه اهتم بمداواة ذلك الملك النصراني، وكانت مكرمة مأثورة من مكرمات صلاح الدين
فكيف يعاب علينا أن نجزع لنكبة الفرنسيين ولو صح أنهم في جميع أحوالهم أعداء؟
وأقول للمرة الأولى بعد الألف إنني لا أصدر فيما أكتب إلا عن وحي القلب والضمير، ومن الصعب أن ألتفت إلى النصائح الثمينة التي يوجهها الأصدقاء من حين إلى حين،(369/48)
والخطأ المبتكر هو عندي أفضل من الصواب المنقول
وهل كان من الكثير أن اكتب مقالاً في التوجع لما صارت إليه باريس؟
تلك والله إحدى الأعاجيب، ومن الخير أن تقع في دنيانا أعاجيب، فقد عرفت أن في الدنيا ناساً يرون الشماتة من كرم الأخلاق. . . عفا الله عنهم وهداني!
زكي مبارك
حول العتب والبيان
كتب الأستاذ علي الطنطاوي في العدد الصادر أول يولية سنة 1940 كلمة عن أدب دمشق، وأنها - أي دمشق - (ضائعة بين مصر ولبنان، فلا هي ترتضي مذهب لبنان في الأدب ولا مصر تلقي لها بالاً وتحفل بها) فعجبت من مساق هذا الرأي ورضا الكاتب عنه، فأنا أربأ بدمشق الخالدة، بلد العلم والثقافة، ومثابة الشعر والجمال، أن تكون متبعة في أدبها لا متبعة، مقلدة لا مبدعة، راجية في أدبها الاقتداء لا السيادة، وذلك على الرغم من سماتها السادرة، وطوابعها الحائرة، وما يعتور أدبها من قلق ووجوم وفتور. إن دمشق الشام لها كيان أدبي مرموق، وفيها أهل معرفة وثقافة، فينبغي أن تفرض أدبها فرضاً، وأن تسم آثاره بمياسم خاصة تميزها من غيرها، وتكون دليلاً عليها
قد تكون مصر الأدبية والعلمية بحكم أهلها الكرام وجيرانها الخلصاء، لا تعبأ بأدب الأقطار العربية التي تعتز بها وتؤمن بزعامتها، فقد سبق لكثير من أهل هذه الأمصار أن عتب على مصر العزيزة لتفريطها في الحديث عن ثقافة الإخوان والجيران، ورعاية الإعجاب الذي يحسه نحوها كل أديب ومتأدب في هذه الديار، على أن مما يسكن نأمة العتب أن قادة الأدب في مصر وكتابه الفضلاء كالدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور طه حسين، والأستاذ سعيد العريان، يعترفون بهذا التفريط في حق من يولونهم هذه المودة الصريحة والثقة الغالية اللتين تتجليان في أقوال العاتبين وأفعالهم، وإن المجال ليضيق الآن عن تعداد ما كتب أولئك المصريون الفضلاء، وترداد ما أعلنوا بصدد العتاب والاعتراف
والواقع أن على مصر الناهضة تبعات ثقالاً وأن لها رسالات أشتاتاً، فهي آخذة في توحيد الشعور والتفكير، جاهدة في سبيل الحرية والتعاون والمعاش، متلاقية بأمصار العرب(369/49)
والإسلام تحت راية القرآن وفي حمى الفصحى والجوار، ولسوف تقيض لها الأيام أن ترى ألوان الأدب في كل بلد من بلاد الشام وتلمس مبلغ قوته أو ضعفه فتتعاون والإخوان على ازدهار الحياة الأدبية عندنا إن كانت متينة مشرقة، أو على تغذيتها وتقويتها إن كانت كامدة موهونة.
أما العتب الذي وجهه الأستاذ الطنطاوي بشأن منشورات دمشق العلمية والأدبية وإهمال الكتاب المصريين واجب نقدها والإشارة إليها، فمن ذلك النوع المعاتب على نية خالصة بريئة ولوجه الأدب فحسب
ولو أنصفنا لقلنا إن أكثر تلك المؤلفات التي أومأ إليها الأديب الفاضل كتبت عنها (الرسالة) و (الثقافة) الكريمتان، وقد نشرنا من بعضها فصولاً طوالاً. ولعل قارئ المجلتين يتذكر ما سبق إذاعته عنها، وأما كتب أساتذة الجامعة السورية من طبية صحية وحقوقية قانونية، فليس من اختصاص أهل الأدب وكتاب النقد في مصر أن يلموا بها ويكشفوا عن محاسنها ومساويها، فإذا كان ثمة عتب من أجلها فينبغي أن يوجه إلى أنداد أولئك الأساتذة من علماء القانون والطب في مصر
ومن الحق أن نعترف أن مجلات مصر الكبريات كالمقتطف والهلال والرسالة والثقافة تشير في كثير من الأحيان إلى ما يرد عليها من آثار القلم في بلاد العرب وإن تكن إشارتها محدودة ضئيلة، على أنها لا تحجم أحيانا عن نشر دراسات مفصلة لتلك الآثار
على أن هنالك كتباً قيمة صدرت عن دمشق تجاوز عن ذكرها الأستاذ الطنطاوي سهواً ونسياناً، وكان يجدر بها ألا تحرم إعجابه وتنويهه بها، فقد اقتصر على ذكر طائفة معينة من المؤلفات الدمشقية طالما أشاد بها وأكبر أصحابها، فرأيت من العدل أن آتي على ذكر ما يحضرني من الكتب التي لم يشر إليها الكاتب العاتب، منها:
ديوان التقي: للأستاذ أديب التقي
الزراعة العلمية: للأمير مصطفى الشهابي
فن القصص عند الجاحظ: لمحمد المبارك
الحجاج: لإبراهيم الكيلاني
آرائي ومشاعري: لفلك طرازي(369/50)
أخطاؤنا في الصحف والدواوين: لصلاح سعدي
غزل البحتري: لياسين الحموي
صريع الغواني وجرير: لجميل سلطان. . . وغيرها. . .
وأما كتب الأستاذ محمد كرد علي فإنها في مصر تكاد تكون أشهر وأذيع منها في ديار الشام، ومؤلفاته الحديثة المطبوعة فيها من مآثر (لجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر) مما ينطق ألسنة الشاميين بالشكر والإعجاب.
(دمشق)
وداد سكاكيني
من عجائب الاجتهاد
قرأت البحث القيم المنشور في عدد الرسالة الأخير تحت هذا العنوان عن مسرحية الدكتور بشر فارس واقتباسه موضوعها وفكرتها من قصيدة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد (القمة الباردة) ومن أبيات للأستاذ علي محمود طه من قصيدة (قلبي) المنشورة في ديوانه (الملاح التائه) فوجدت في هذا البحث هدى للمطلعين. وقد لاحظت خطأ مطبعياً في صدر أول بيت من أبيات الشاعر علي محمود طه أرى تصحيحه كما هو مثبت في ديوانه بالنص الآتي:
وصرختَ حينَ أجنَّك الليلُ ... متمرداً تجتاحكَ النارُ
ولاشك أن هذا النقد القوي الدقيق هو من مقومات حياتنا الأدبية
سالم العطار
مدرس ثانوي
إلى علماء التاريخ
لما كنت في كركوك من مدن العراق وجدت البلد قسمين: المدينة الجديدة وهي في السهل وبحذائها (مدينة النفط) والمدينة القديمة ويدعونها القلعة لأنها قائمة على قلعة عالية منشأة على هضبة مصنوعة وحولها خندق ولها أبواب. أما سورها فلم أجد منه إلا بقية لا يكاد(369/51)
يتبينها الناظر، فلما خرجت منها متوجهاً إلى دمشق عن طريق الهلال الخصيب مررت بإربل (ويسمونها اليوم أربيل) فوجدت فيها قلعة مثل قلعة كركوك ولكنها أكبر وأظهر وأبقى أثراً وحولها خندق عميق وفيها بيوت سراة القوم والسوق المسجد الجامع. ثم بلغت الموصل فوجدت فيها قلعة مثلها ولم أستطع أن أراها، ثم دخلت حلب فوجدت قلعتها على مثال القلاع التي ذكرت غير أنها مبنية بالصخر وهي أكمل وأجمل، وحيال بابها جسر يجتاز عليه الخندق كجسور قلاع القرون الوسطى. ثم أتيت حماة فوجدت فيها وفي حمص قلعتين على هذا الشكل فاستوقفني هذا الخط من القلاع وأحببت أن أعرف تاريخه فرجعت إلى (ياقوت) وغيره وسألت من أعرف من المشتغلين بفن التاريخ فلم يشف لي أحد منهم غلة، فعرضت السؤال على قراء الرسالة راجياً ممن له معرفة بالجواب نشره فيها، لأستفيد منه أنا وغيري ممن لم ينقطع للتاريخ ومباحثه
(دمشق)
(سائل)
قصتان والفكرة واحدة
منذ أشهر قرأت للأستاذ محمد سعيد العريان قصة (من أدباء الجيل) بالرسالة العدد (345) ولقد أعجبت هذه القصة كل من قرأها لقوة فكرتها وروعة أسلوبها، ولكني بعد انتهائي من قراءتها أخذت أشعر باني قرأت مثل هذه القصة من قبل. ثم تذكرت أني قرأتها في العدد الخاص ب (أحسن القصص) من مجلة (كل شيء والدنيا)، ولقد أفضيت بما يجيش في نفسي لبعض الأصدقاء، ولكن كان جواب أحدهم: يجوز أن يكون الأستاذ العريان نشرها من قبل وعلى ذلك يكون المؤلف واحداً. فكان جوابي: نعم يجوز
واليوم بينما أنظم مكتبتي - المتواضعة - عثرت على مجلة (كل شيء والدنيا) العدد (498) الأربعاء 22 مايو 1935. ولقد تصفحت هذا العدد، فوجدت القصة التي هي بيت القصيد للأستاذ (محمد أبو طائلة) وعنوانها (الشهرة) ولقد قرأت هذه القصة مرة أخرى، فوجدت أن فكرة هذه القصة هي بلحمها ودمها فكرة قصة (من أدباء الجيل) وإن اختلف الأسلوب والعنوان وبعض الحوادث الثانوية(369/52)
هذا ولست أقصد من وراء قولي هذا أن أعتبر هذا الاتحاد في الفكرة من السرقات الأدبية. كلا. . . فإني أحترم أدب الأستاذ (العريان) وأنزهه عن ذلك. وإنما أعتبر اتحاد الفكرة في القصتين من توارد الخواطر. والذي دعاني إلى تسجيل هذه الكلمة هنا هو أني أريد بأن أضع الحق في نصابه، وحتى تكون للأدب (كما قال الدكتور زكي مبارك) رقابة أدبية، تراقب الإنتاج الأدبي الجديد وتزنه تميزان الحق والعدل. ومن العدل أن نقول إن الأستاذين (أبو طائلة والعريان) كتبا قصتيهما فأجادا. ولكن الفضل الأكبر للسابق لأن الفكرة واحدة.
(دمنهور)
حسين الحوني
ارتجال المصادر
ذكر الأديب السيد ميخائيل عواد العراقي في ثنايا حواشيه على مقالة (العروب في العراق) في العدد الستين بعد الثلاثمائة من الرسالة النيرة، أن للسيد حبيب الزيات مقالة نفيسة في مجلة (لغة العرب) (5 (1927) 461 - 465) بعنوان: (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) وقد رجعنا إلى مجلة لغة العرب، وبحثنا عن هذه المقالة فلم نجدها، كما فتشنا في مجموعة المجلة المحفوظة في المجمع العلمي فلم نرها. فهل للأديب السيد عواد أن يزيدنا من الإيضاح، ويعلمنا مكان المقالة بالضبط؟
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
استفهام
وقع نظري في مقالة الأستاذ محمود شاكر في العدد 364 على قوله: (وجعل يقتطف منها حيث أراد) فكان من الحتم علي - وأنا من المعجبين بأسلوبه ولغته واطلاعه - أن أسأله هل يسوغ استعمال (اقتطف) ومعجمات اللغة كاللسان والأساس والقاموس والنهاية والمصباح لم تذكر غير (قطف)؛ على أنها نصت على استعمال (قبس واقتبس)
وإذا كان استعمال (اقتطف) من الخطأ الذي لا يجوزه القياس ولا السماع فقد قال العلامة(369/53)
ابن الأثير في المثل السائر: (ليس الفاضل من لا يغلط، بل الفاضل من يعد غلطه)
رشاد عبد المطلب
انتحار الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
روت الصحف أن الدكتور إسماعيل أحمد أدهم الباحث المعروف قد انتحر غرقاً في البحر الأبيض في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الماضي يأساً من الحياة وزهداً فيها. وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين، ويطلب إحراقها وأن يشرح رأسه
والدكتور أدهم أعزب في الثامنة والعشرين من عمره ينتسب إلى أصل تركي، ولم يكن له عمل أو وظيفة، بل كان يعول في الحياة على إيراد منزل يمتلكه بالإسكندرية. وقد كان يميل في بحوثه إلى الفلسفة اللادينية
مصير المبادئ في فرنسا
تعجبني هذه الروح التي بدت في الشرق على أثر انهيار فرنسا ورددت صداها مجلة الرسالة الغراء في مقالات الأساتذة: الزيات، وزكي مبارك، وصديق، هذه الروح التي التفتت إلى الشرق لترى ماذا أصابه من فرنسا المنهزمة
صحيح أننا إذا أردنا أن نحكم على أمة عظيمة مثل فرنسا لا يمكننا ذلك إلا إذا عشنا في فرنسا نفسها وفي مستعمراتها لنرى كيف تتصرف في كل من البلادين. وعند ذلك نستطيع أن نحكم، وعند ذلك نستطيع أن نعلل هزيمتها تعليلاً منطقياً صحيحاً. ولو عاش الدكتور زكي مبارك في مستعمرات فرنسا كما عاش في باريس لعرف أن الحرية التي تحمل رايتها فرنسا، وأن الديمقراطية التي حاربت الألمان من أجلها هي أفكار قد سعدت بها فرنسا يوم كانت تؤمن بها أشد الإيمان وشقيت بها يوم أصبح إيمانها بها ضعيفاً وأصبحت عندها كتقاليد لا كمبادئ. . .
لقد علل المريشال بيتان هزيمة فرنسا بالضعف الخلقي الذي أصابها بعد الحرب العظمى والذي صحبه انحلال في المبادئ التي ورثها الفرنسيون عن الثورة الفرنسية الكبرى(369/54)
وآمنوا بها، فلا الحرية بقي لها المعنى السامي الذي عرفها به الذين أعلنوا (حقوق الإنسان) ولا الديمقراطية نفذت في فرنسا كمبادئ سامية يدين بها الشعب والزعماء والأحزاب. ولكن فرنسا - بعد الحرب العظمى - تسترت تحت هذه الكلمات: (الحرية، الديمقراطية، العدل) ولم تعمل بها كمبادئ ولكن كأفكار فقط
وهذا سر ما نرى من أنها ما كادت تسلم لأعدائها حتى محت من دستورها كلمات (الإخاء، الحرية، المساواة) وأخذت تعمل على تغيير دستورها ونظام الحكم فيها، وما كان للحرية والديمقراطية اللتين يؤمن بهما شعب عظيم من أن ينهار بهذه السرعة
وإذا كانت فرنسا تمثل ركناً عظيما من أركان الديمقراطية فكيف تفسر الاتفاق بين سياستها وسياسة إيطاليا الفاشستية مثلاً: إن الفكرة التي أوحت إلى إيطاليا الفاشستية أن تقذف بزعماء العرب في طرابلس من الطيارات هي التي أوحت إلى فرنسا الديمقراطية - وفي عهد الجبهة الشعبية - أن تجرد على قرية من قرى المغرب الأقصى سرباً من الطيارات ليهدمها على أهلها لأنهم طالبوا بحقوق حيوية لهم كعدم صرف مياههم التي يستغلونها في الشرب والسقي إلى المعمرين الفرنسيين
والفكرة التي أوحت إلى هتلر أن يسجن شوشنج زعيم النمسا في قصر عظيم من قصور فيينا لأنه عارض في استعمار بلاده، هي التي أوحت إلى فرنسا أن ترسل الزعيم علال الفاس إلى (ليبرفيل) - مقبرة الرجل الأبيض - ليستنشق من هوائها العذب الموت الزؤام، لأنه عارض في سياسة القمع والإرهاب التي يساس بها المغرب الأقصى
الحق أننا يجب أن ننتبه إلى ما جرى في الشرق فإنه قد يكشف لنا عن أسرار الحوادث الجسام التي تجري في الغرب
(ع ك)(369/55)
القصص
زينوبيا
للأستاذ محمد محمد مصطفى
(لا تزال أطلال مدينة (تدمر) قائمة بالقرب من دمشق ينقب
فيها العلماء عن الآثار، وقد حكمت هذه المدينة من سنة 267
إلى 272 بعد الميلاد فتاة تدعى (زينوبيا) فاتنة عنيدة شديدة
المراس لاقى منها الرومانيون الأهوال، وقصتها ممتعة شائقة)
- مولاتي. . . مولاتي. . . أين مولاتي؟
- ما ورائك يا مرندا؟
- إنه بيلنوس يا مولاتي. . . تالله لقد رأيته بعيني هاتين. أنصتوا. . . ألا تسمعون قرع الطبول؟. . . لقد عاد بيلنوس من مصر على رأس جيشه الظافر
- لئن كان ذلك حقاً فلن يضع أحد سواك على رأسه الغار
ودنت كتائب الجيش من المدينة فقامت (تدمر) بأسرها تحيي الظافرين، وغص قصر الملكة بزرافات الشعب ترقب عود الفاتحين. . .
وتحدج الملكة بنظرها قائدها بيلنوس وقد نال منه الونى، وبدا عليه الوهن لفرط ما بذل في دحر الرومان، فتهتف: يا ابنة ناديوس ضعي على رأسه الغار
ويفتر ثغر مرندا لهذا الشرف ويهتز له قلبها وتطوق رأسه بالغار، وتسأله في خفر: كيف وجدت مصر؟
- لقد عاث فيها الرومان الطغاة وأنزلوا بها الهوان، فانقضت جيوشي عليهم فروعتهم وملأتهم رعباً وتساقط جنودهم تحت أقدام فرساننا كالذباب واندفعت وراء فلولهم حتى انجلى آخر روماني عن أرض وادي النيل
وتبسم الملكة فيميد لابتسامتها قلبه، وتقول له: لقد أعجبت بما جندلت من جنود العدو مشاة وفرسانا، وقد وليتك أرض مصر فكن بأهلها رحيما، وأعلم أن بها أناسا يكنزون المال(369/56)
وآخرين لا يجدون إلى القوت سبيلاً، فخذ من غنيهم وأعط فقيرهم، فإن أبوا فخذ رقابهم من أموالهم بديلاً، فإن جئتك زائرة لا أجد فيها معوزاً ولا ذليلاً
واهتز جسم القائد وشحب لونه شحوباً عظيما وتمتم في صوت خافت:
- أفيكون جزائي بلائي وما أكنه لك من بالغ الوجد إقصائي؟ فتدرك مرماه وتهمس له مؤنبة:
- ما رأيت أشد منك هولاً الحرب وأوهى جلداً أمام النساء
فتفصد جبينه عرقاً ولوى عنانه وانسل بين جموع الجنود
أخذ الكرى بأجفان الجنود إلا بيلنوس، فقد أمضه السهد، ورانت على نفسه الأحزان، فانطرح على الرمال يؤرقه الشوق إلى وجه مليكته التي أرسلته إلى مصر وهو الذي كان يستمد السعادة من النظر إلى عينيها
وفي ذات ليلة هاجه إليها الوجد، فجلس يقلب في السماء عينيه السادرتين، وذكر أنها تنعم الآن بالحياة، لا يخطر اسمه على بالها ولا تفكر إلا في شن الغارات على ممتلكات الرومان، أما قلبها فلن تهبه له ولا لسواه لأنها تهيمن عليه وتخضعه لإرادة من فولاذ
وأحاط به اليأس، فقام يمشي كسير النفس جريح القلب، ذاهلاً، لا يشعر إلا بألمه. وفي منعطف الطريق رأى سائلا، فتحسس جيوبه ليعطيه شيئاً فلم يجد، وأراد قتل الوقت فسأل السائل عمن يكون، فتكلم السائل أو تحدثت الفتاة التي تمد يدها في الطريق، فكأنما كانت تسكب في روحه نغما موسيقياً يسحره ويسلبه. وقالت: إنها رومانية فقدت ذويها في الحرب، فلبست مسوح الرهبان، ووقفت تستندي الأكف لتطعم أبناء جلدتها الجائعين
ويشفق بيلنوس لهذا الجمال يهصره برد الليل ويقبره الدير، ويأسى لهذه الفتنة يدب فيها الذبول، وهذه العيون ينطفئ فيها البريق، وتراه (دورا) مقبلاً عليها بنفسه وبقلبه، فتسكن إلى حديثه، وتنصت له بسمعها وقلبها، حتى إذا ما كشف عن نفسه وعلمت فيه المبدد لجيوش وطنها القاتل لذويها ثارت نفسها سخطاً عليه
نحن في القصر الإمبراطوري بروما وقد جلس الإمبراطور أورليان على عرشه يحف به الجلال، ونراه يستبطئ قدوم شخص دعاه فيزلزل البهو بصوته الجهوري:
- أين مارسيوس؟(369/57)
- هوذا أنا يا مولاي
وترى فتى مديد القامة يهش الإمبراطور لقدومه ويبش ويسأله عما إذا كانت السفن قد أعدت للرحيل، فيجيب: نعم، فيقول: ألم يصل بعد أوكتاف، فينبئه أنه وصل الآن وأن الراهبة ستعمل بمشيئة الإمبراطور
- حسن. ستكون أنت إذاً يا مارسيوس على رأس الجيش المغير على أرض تدمر، وعليك أعتمد في محو هذه المملكة، وعليك أن تولي وجهك إذا ما حالفك النصر شطر مصر، ولدى دورا أوامري المشددة بإقصاء القائد بيلنوس عن مركز رياسة جيشه
- ما لي أرى وجه الحبيبة كالحاً كالظلام؟
- قد تركني حبك يا بيلنوس نهباً بين نداء القلب ونداء الدير، ولي الآن شهور انقطعت فيها عن جمع الإحسان لأنعم بقربك وتراني أذوب كمداً كلما ذكرت أهلي الذين جندلوا في الحرب، ولم يبق منهم غير شقيقي الذي لاذ ببطن الصحراء وركب النيل إلى بلاد النوبة
- جعلت فداك، فما تشائين؟
- أريد اللحاق به فما يهتأ لي عيش بدونه
- وأنا يا دورا. . . أفتتركين هذا الحب يعبث بقلبي لا ينفعني طب ولا رقي؟
- فلم لا ترافقني في رحلتي نبحث عنه ونعود به فأعيش بينكما؟؟
- ومصر يا دورا؟
- ليقم عليها لبيد بن عبد الله حتى تعود
ونجحت دورا في إقصاء القائد عن جيشه، وتوغلت به في ذرا الهضاب وبين النجود والوهود تسأل الغادين والرائحين عن شقيقها المزعوم، وشغله هواها عن ملكته وجيشها الذي ائتمنته عليه.
أبحر مارسيوس وألقت سفنه مراسيها، ووثب جنوده إلى شاطئ (تدمر) كأنهم موج يتلوه موج، وساح جيشه في أرض تدمر كأنه الطوفان، وأفل نجم زينوبيا فلم تصمد لهجومهم العنيف
وصعدت الملكة إلى مخدعها حيث كانت خادمتها تمسح عن سيفها ودرعها دماء الأعداء
وتهالكت على مقعد وقد بدا على وجهه الجميل الغضب فزادها جمالاً وتمتمت: كيف يكون(369/58)
هذا يا رب؟
أين أنت يا بيلنوس. . . يا خائن؟
تا لله لو رأيته لأجعلن جسده طعاماً للنسور
واقترب مارسيوس من القصر الملكي وملكه العجب لهذا الفردوس وهذا الدوح المحيط بقصرها الممرد المنيف. وما كاد يطأ وصيد البهو حتى رأى زينوبيا جالسة على عرشها وقوراً
وسمرت قدماه وقد شدهته هذه الفتنة، وسبته عيناها الفيروزيتان، وراعه جمالها فزلزل كيانه وانعقد لسانه فما كاد يبين
ووقر في قلبه أن هذا الجسد الفتان سيكون هدفاً للسهام إن أرسلها أسيرة حرب إلى روما
وهتفت نفسه: ماذا أفيد من دك هذا العرش وموت هذه الفتاة؟
ودنا منها متوسلاً إليها أن تفر من وجهه إلى حيث يحلو لها المقام
واستضحكت زينوبيا وقالت:
- أما وقد ثل عرشي واجتاحت جيوش الرومان بلادي فليس لي رغبة في الحياة
وحملق فيها مارسيوس وأخذ يعبث بيده في قوسه وسهامه ورأسه يفور كبركان أوشك أن ينفجر
قال وهو يرسف في إسار سحرها:
- لاشك أنني أخطأت بلقائك يا زينوبيا بعد ما انتهى إلي من فعل سحرك بمن يراك، ولقد غلبني هواك فما أستطيع إرسالك إلى روما ليعجل الإمبراطور أورليان بك إلى الموت
- أتخاف الموت أيها الشاب؟
- كنت لا أخافه قبل أن أراك، أما الآن فقد تبدل الحال وأحببت الحياة لأنك معنى كبير من معانيها
- إنك تجيد الغزل إلى حد ما. . . ولكن قلبي منيع لم يتطرق إليه يوماً عبث الحب وسفاسف العشق التي أودت بقائدي الخائن بيلنوس الذي شغفته الرومانية حباً، وتوغلت به في الجبال، فلم يعثر عليه رسولي ولا سمع استغاثتي
أفعل ما توحي به إليك وطنيتك وما أمرك به إمبراطورك أيها الشاب فتكسب احترامي(369/59)
وتقدير مواطنيك
فما سمع منها ذلك حتى هب لونه وتفصد جبينه عرقاً، حتى لقد ظنت الملكة أن فالجاً قد عالجه، واقتلع قدميه اقتلاعاً حتى دنا منها وسلك يديها البضتين في سلسلة من ذهب
وحالف النصر مارسيوس فاجتاح مصر وثأر لمواطنيه، وغدرت (دورا) ببيلنوس فأسلمته إلى مارسيوس
وهبت روما تستقبل من عجلت بفناء فلذات أكبادها أعواماً تلي أعواماً، وكان الناس يؤذونها بما يرمونها به من فاحش القول وبذئ الفعال؛ على أنها كانت وسط هذا الضجيج رافعة الرأس هادئة البال، فكانت في محفتها ملكة لم يغير من أبهتها ما لاقته من هوان، فإذا ما بلغوا بها السجن ألقوها في قبو منه يعاف النوم فيه الكلاب. . .
قال الإمبراطور في مجلس الأعيان:
- سأرمي بها للأسود في ملعب الأولمبياد لتخف لوعة المحزون على ولده من شعبي
فضج المجلس بالاستحسان، واسترسل الإمبراطور:
- سيكون يوم موتها عيداً تقام فيها الصلوات للآلهة شكراً، وسأضع بيدي هاتين الغار على رأس مارسيوس العظيم!
وعجل مارسيوس العودة إلى روما إذ دعاه إمبراطوره. ولما علم بالعزم على طرح زينوبيا فريسة للأسود اشتد وجيب قلبه، حتى خيل إليه أن صوت هذا الوجيب قد طغى على أصوات الجماهير التي تزخر بها جوانب الطرق. وكان يبسم للشعب وقلبه، يقطر كمداً. وقبله الإمبراطور فأحس كأن عقرباً قد لدغته، ووضع على رأسه الغار فشعر كأن ناراً توضع على جبينه. . .
وأحنى مارسيوس هامته حتى كادت تلامس الأرض، وطلب إذن الإمبراطور له بالكلام فأذن:
- خدمت مولاي ثلاثين عاماً أو تزيد لم ألتمس فيها شيئاً ولي الآن حاجة. . .
فقاطعه الإمبراطور:
- كل خزائن الدولة وهن رغبتك
- ليس لي بها حاجة(369/60)
- فما حاجتك؟
- حياة زينوبيا
فتجهم وجه الإمبراطور وتمتم:
- هي ملك الشعب وقد خرجت من يدي
ووقعت الكلمات على قلب مارسيوس فدكته بين ضلوعه، ومشى مستأنيا والناس من ورائه ذاهلون، وسقط في فراشه يقبض بأصابعه على بطنه فيكاد يفريها، ويشد شعره فيكاد يقتلعه، وينتابه اليأس فيومئ إلى بعض أنصاره لإنقاذها فيصرع حرس السجن منهم كثيراً ومن يبق يبتلعه السجن
وجلس الإمبراطور في الحفل الهائل يضحك حيناً ويشير حيناً إلى الأسود التي تزأر في ساحة الملعب، فيتردد صدى أصواتها في جنبات القصور، وغص الأولمبياد بمن جاء من القرى والحضر ليرى المشهد المروع
ويؤتى بالملكة إلى ساحة الموت فتقترب منها الأسود في بطء كأنها ترهب ترهب هذا الجمال وتدوي أصواتها كالرعد فيغشى على النساء ويخفى بعضهن عيونهن بأيديهن، وكلما ضاقت المسافة جفت الحلوق وذهبت الألوان حتى الإمبراطور لم يملك نفسه فتهف: (يا لهذا الجمال!)
ووقفت الملكة يتدلى شعرها الأسود اللامع على كتفيها العاجيتين تنظر إلى الأسود لا تجفل ولا تفزع كأنها مقبلة منها على صديق، فإذا لم يبق بينها وبين أول أسد إلا عشرون متراً رأته يقفز وبين عينيه سهم رائش نفذ في رأسه وراح يتخبط في الأرض، وذعر الأسود فتفرقوا شذراً. وبسرعة خاطفة سقط مارسيوس إلى جانب الملكة، وأخذ يذود عنها الأسود بالسيف، ويدفع زينوبيا إلى الوراء حتى إذا اقتربت من الحاجز رفعها أنصاره. . . وتراجع المنقذ ليلحق بها فأنشب فيه أسد جريح أظفاره وراح يعمل فيه
صرخ الإمبراطور: أليس لك رغبة ننفذها يا مارسيوس؟
فهتف بما وسعته قوته: زينوبيا
محمد محمد مصطفى(369/61)
العدد 370 - بتاريخ: 05 - 08 - 1940(/)
نهاية أديب. . .
في الساعة السابعة من مساء يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من شهر يولية، لفظ البحر على ساحل (جليم) بالإسكندرية جثة كانت في رونق العمر. وإن بدا على محاسرها مسحةٌ من شفوف الهم وشحوب الألم. لم يكد يلقيها الموج الصاخب المتعاقب بالرمل المستوي المنضوح حتى أخذتها عيون الحرس الساحلي، فظنوها لأول وهلة ضحية من ضحايا الحرب الإنجليزية الإيطالية في هذا البحر المسجور العذاب والموت؛ ولكنهم علموا من بذلة الغرق ومعطفه وسلامة بدنه أنه مدني سقط في البحر أو ألقي فيه. فلما فتشه رجال الشرطة ليكشفوا عن هويته عثروا في جيب معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يقول فيه:
(إنه قتل نفسه بالغرق يأساً من الدنيا وزهادة في العيش، ويوصي بأن يحرق جسده ويشرَّح رأسه)
إذن هو رجل من رجال الفكر والرأي، جعل للحياة مثلاً لم يحققه فهو يجتويها، ورأى في العقيدة رأياً لم يرقه فهو لا يرتضيها، واعتقد أن في مخه عبقرية فهو يرجو أن يظهر بالتشريح خافيها.
فهل تدري من هو؟
هو الدكتور (إسماعيل أحمد أدهم) عضو أكاديمية العلوم الروسية، ووكيل المعهد الروسي للدراسات الإسلامية، كما كان يخبر عن نفسه؛ وهو صاحب المقالات العلمية والنقدية في الرسالة والمقتطف، ومنشط الحركة الأدبية في الإسكندرية وجمعية الثقافة. نَجَله أبوان مختلفان: تركيٌّ وروسية، ثم غُذي في يفاعته بثقافة البحر الأسود، فتأثر بنفسية الترك الجمهورية، وعقلية الروس الشيوعية. وتزوج أبوه مرة أخرى من مصرية فعاش معه في الإسكندرية حيناً من الدهر تعلم فيه العربية. ثم ترك له بعد موته بيتاً صغيراً كان يعيش على أجرته هو وأخته عيش الكفاف الضيَّق. واعتراه داء السل فكان يراوغه بالسكنى في جفاف (أبو قير)، ولكنه كان مضطراً إلى أن يشق طريقه في زحمة الحياة بسن القلم: فكتب وألف وحاضر وناظر، حتى كان له في كل كتاب رأي، وعلى كل مسألة اعتراض، ومع كل كاتب موقف. وأعانه على هذا الجهد العظيم قريحةٌ طيعة وبصيرة ناقدة وعزيمة نافذة وطبع عمول؛ ومع ذلك ظل في عزلة عن القلوب المؤاسية أو المشجعة من جمهرة القراء وقادة الأدب، لأن نشأته اللادينية، ونزعته العلمية، وطبعه الجرىء الحر، وأسلوبه الجاف(370/1)
القلق، كانت تجعل لسطوره ظلالاً من الإلحاد والمادية والغثاثة تبغّضها إلى صاحب الدين وصاحب الفن. ثم وصل أسبابه ببعض ذوي القلم النابه فاستخدموه فيما لا يكسبه المودة والعطف. وجابه قوماً من المتصوفة وطلاب العلم بوقاح الرأي في الدين فآذوه في بدنه وسمعته. ووجد رضَى نفسه وراحة عقله في تسليط الطبيعة على العقيدة وتحكيم الفلسفة في الشعور، فساءت ظنون الناس فيه، وأُرهفت الألسن عليه، حتى عجز أن يعيش على ثمرات فكره.
وكان المرحوم إسماعيل أدهم عفيف النفس يتقنع بميسور الرزق، ويتكرم عن طلب المعونة ولو كانت جزاء على عمله. وكان مرضه الدخيل المزمن يقتضي وفرة الغذاء وجودة الهواء وراحة الجسد، ولكنه كان لا يجد الكفاف لضيق مضطربه، ولا ينال الدعة والجمام لقوة عزمه؛ فتظاهر عليه الداء والشقاء والإباء واليأس من روْح الله حتى زلزلت هذه المحن في نفسه الثقة، وأذهبت عن قلبه السكينة.
ونُكبت الإسكندرية الجميلة بالغارات الجوية الإيطالية، فجلا أكثر الساكنين عن الثغر المروَّع، فأقفرت المنازل حتى منزل أدهم وهو مرتزقه الوحيد، فلم يكن بد من هذه النهاية المخزنة التي انتهى إليها هذا الأديب البائس.
كان الدكتور أدهم - غفر الله له - شديد الذكاء أصيل العقل رياضي الفكر واسع الثقافة لا يؤمن إلا بالعلم والمنطق. وقد أضاف إلى ثروة الأدب العربي الحديث جهداً مهما اختلفت الآراء فيه فإن له قيمته. وكان من الممكن أن يعيش في ظلال أدبه رخي البال مكفول الرزق لو أنه وصل ما بينه وبين الله. ولكنه خضع لسلطان طبيعته ونشأته فعالج الموضوعات الإسلامية معالجة الملحد المخلص الذي يجد سعادته في الكفر ورسالته في التكفير. ولو أنه خادع الناس عن عقيدته كما يفعل بعض الأكياس من الأدباء، لأدرك السلام في الأرض وإن لم يدركه في السماء؛ ولكنه كان أشبه بشهداء الكفر الذين يجدون اللذة في الألم، ويبتغون الخلاص في الموت!
رحم الله الدكتور أدهم! حسب أن أرقام العلم واقيسة المنطق هل كل شيء في تقدير المعلوم واكتناه المجهول، فاعتمد في أدبه على العقل القعيد الذي يرى ولا يطير، واتكأ في فلسفته على الفرض البعيد الذي يطير ولا يرى، وتحامل في مُعتقده على الضمير البليد الذي خبا(370/2)
وَهجُه بين فتور الخيال وخمود العاطفة. ثم غره أن معارضة الدين سبيل من سبل الشهرة فأوغل فيها بعنف حتى انقطع في صحراء الحياة عن الله والناس! فهو لا يملك النور الذي يضئ ظلمة القلب، ولا الرجاء الذي يخفف وطأة الكرب، ولا الحب الذي يؤنس وحشة الطريق. وحكم القدر على السائر في الظلام والوحدة أن ينزلق من صخرة الحرمان إلى لجة العدم؛ وهناك لا يدركه إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء وشملت كل شخص!
إن الأدب الملحد قد يعيش في الغرب لأن الظلام يمدْه الظلام، ولكنه لا يستطيع أن يعيش في الشرق لأن الظلام ينسخه النور!
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(370/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
موجة صوفية تثيرها رحلة الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى سنتريس - بين القناطر الخيرية وسدة الهندية - خطاب ضائع - ثمرة شهية من ثمار المطابع.
موجة صوفية
في عصرية الاثنين (2271940) تَوجَّه جماعة من الأصفياء
إلى سنتريس، وفيهم المسيو دي كومنين والمسيو جوزيه
كانيري والدكتور إبراهاميان والمسيو بولْدريني والموسيقار
محمد عبد الوهاب وسِربٌ من كرائم الفرنسيات.
ولم تكن تلك القافلة تحتاج إلى دليل فقد شرَّفتْ سنتريس بزياراتها مرات كثيرة، ولا سيما مدام دي كومنين التي تأنس كل الأنس بزيارة سنتريس، والتي تُعَدُّ زيارتها لداري من مواسم الفرح عند أبنائي.
إنما يحتاج إلى الدليل ذلك الموسيقارُ السابح في لُجج الأحلام محمد عبد الوهاب، وكذلك أُتيحت الفرصة لأن يترفق فيدعوني لمرافقته في طريقنا إلى سنتريس.
وماذا أستفيد من مرافقة عبد الوهاب؟
وهل يُفيق هذا الحالم حتى يعرف رفيقه في الطريق؟
ابتدأ صاحياً في المرحلة الأولى، فسأل عن منازل الكتْاب المصريين وعن مبلغ تأثيرهم في مصر والشرق، وما كدنا ننتهي من الكلام عن طه حسين والزيات والعقاد وتوفيق الحكيم حتى أسلم خياله لأحلام أوابد لا يَقْنُصها غير القلب الذي راضه الحب على التمرُّس بملاحقة أبكار المعاني. ومحمد عبد الوهاب قنّاص أحلام وألباب، وإن كان أرقّ من الزهر المطلول.
ونظرتُ إليه في غيبوبته الروحية فرأيته يُغمغم بأجراس صوتيه لا تُبِين عن لفظ مُعيَّن أو غرض محدود.(370/4)
وفي لمحة من لمحات الوجد تمثَّلتْ لي شفتان ورديتان لو سبَّح لله بهما مسبَّحٌ لكان فيهما غَناءٌ عن تسبيح كل ما حوَى الملكوت من أرواح وأشباح.
أَيصير عبد الوهاب إلى مثل هذا الحُسن الفاتن كلما نقله الخيال إلى عالم الروح؟
ثم انتبه بغتة، وقد وخزَته به نظراتي فقال: أتزور سنتريس في كل أسبوع؟
فقلت: وما الذي يهمك من ذلك؟
فأجاب: إن هذا إن صح قد يفسِّر نزعتك الصوفية، فما شعرتُ بمثل هذه الأقباس الروحية إلا في هذا الطريق الذي يصل بالأفئدة إلى سنتريس.
وما كاد يُتم هذه الجملة حتى هوَى إلى الغيبوبة من جديد، وحتى عُدتُ إلى التأمل في أسارير ذلك الوجه الذي خلق ليكون مَصدَر هداية ومبعَث فُتُون.
وبعد لحظات كانت أقصر من ومضة القلب بالتشوق إلى موعد غرام وصلنا إلى القناطر الخيرية، ثم وقفنا عند قنطرة الرَّيْاح المنوفي لننتظر سيارات الأصفياء قبل أن تُغذَّ السير إلى سنتريس. وهناك وجدنا على غير موعد جماعة من الشبان الفنانين يترنمون بأغاريد عبد الوهاب، وهم ينتظرون وفود القمر لمصافحة النيل؟
ثم وصل الأصدقاء الفرنسيون فطربوا لذلك المنظر الجذاب، وسرّهم أن يكون في مصر فنَّان يرى طلائع فنه في مكان يتوجه إليه على غير ميعاد.
ودخلنا سنتريس والشمس تجنح للغروب والناس يرجعون إلى دورهم وفي أيديهم مقاود المال الناطق، وتلك طلائع نعيم تكون أوفر ما تكون في سنتريس: فأخصبُ أقاليم مصر هو إقليم المنوفية، وأخضب مراكز المنوفية هو مركز أشمون، وأخضب البلاد في مركز أشمون هو سنتريس، وأخضب بقاع سنتريس هو ما ورثته عن أبى وجدي، وأجمل دار في سنتريس هي دار شاعر سنتريس.
فإن ضاق بعض الناس صدراً بهذا الازدهاء، فليذكر أني تحدثت عن الريف وجمال الريف قبل أن تُخلَق وزارة الشؤون الاجتماعية بأعوام طوال. يضاف إلى ذلك أن بلدي أجمل البلاد حقّاً وصدقاً، وهو الشاهد على أن مصر موطن الخيرات والثمرات ومهد الأفئدة والعقول. ولو قلت: إن بلدي يفوق جميع البلاد من الوجهة العلمية لكنت أصدق الصادقين.
ثم جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث مع الأهل والأصدقاء، وقد ذاع في أرجاء البلد أن عبد(370/5)
الوهاب حضر ومعه عوده الحنّان فأقبلوا يتسابقون لتزويد أفئدتهم بأطايب البواكير من أغاريد الخلود.
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان: فقد قيل إن في سنتريس مغنين يغنُّون أصوات عبد الوهاب بأطيب وأوقع مما يغنيها عبد الوهاب.
وتَنَادى أولئك المغنّون ليَباروا مطرب الأمراء والملوك، وليروضوه على الاقتناع بأن التواضع خُلُقٌ جميل، فانسحب من الميدان قبل انتهاء السهرة ليرجع إلى القاهرة بحجة أن عنده موعداً في منتصف الليل!
وعند باب الحديقة سأل عبد الوهاب عن العود ليكون رفيقه في الإياب، ثم سارت به السيارة وهو يترنم بقول أحد الشعراء:
تنظُر الساعةَ من حينٍ لحين ... ليت شعري ما الذي يستعجُلكْ
إن هذا الوصل أحلاُم سِنينْ ... فاتق الحب وَدَع ما يَشغَلُك
وانصرف جمهور المعجبين بالموسيقار عبد الوهاب وبقيتُ مع الضيوف الأعزاء نتحدث عن الآداب والفنون، ونسمع مداعبات من كان في السهرة من الجنِّيات.
ومضينا نواجه النيل وقد طلع القمر وطاب النسيم فرأينا طوائف من أدباء سنتريس يَسمُرون هناك كما كنت أسُمر مع أصفيائي قبل أن يصنع الدهر بقلبي ما صنع، وقبل أن أُحرَم من قضاء ليالي الصيف في سنتريس، فما ذقت طعماً للحياة الهادئة منذ قضت الأيام بألا أزور سنتريس إلا كما يزور طيف الخيال.
ثم هتف هاتفٌ بأن الليل قد انتصف وآن أوان الرحيل عن سنتريس
وفي القناطر الخيرية وقفنا مرة ثانية نشهد صراع الأمواج في قنطرة الريّاح المنوفي، فأخذتُ المسيو كانري من يده، واقتربت به من معركة تلك الأمواج.
ثم وَثب القلب وهو يسأل: أين الموعد، موعد فلانة، الموعد الذي عقدتْه فوق (سَدَّة الهندية) منذ أكثر من عامين؟
فأجبتُ: تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب!
وتلفتُّ إلى المسيو كانري وأنا أقول: ألا يكون النوم في ضيافة هذه الأمواج الصواخب أطيب من النوم في الغُرف المغلقة النوافذ؟(370/6)
فأجاب: ذلك نعيمٌ خاصٌّ بأهل الرق.
فقلت: ومن أجل هذا النعيم يوصي بعض الفلاسفة بأن تكون مدافنهم في ثنايا الأمواج.
ثم رجعنا إلى القاهرة لنأنس بالعيش الرَّتيب من جديد.
فإن سألتموني: أين كنا؟
فأنا أجيب: كنا في رحلة صوفية، وكان معنا عقل دي كومنين وبلاغة كانري وعُذوبة عبد الوهاب، وكانت معنا أشياء، فلا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تزدكم أسفاً على الحرمان من أطايب الوجود. . . وهل كانت تلك الأشياء إلا القلوب الأواهل بأرواح الصفاء؟
خطاب ضائع
كان صديقنا الأستاذ صادق عنبر - طيب الله ثراه! - قد نشر في مجلة (النهضة النسائية) سنة 1927 خطابات غرامية قال إنه وجدها مُلقاة في الطريق، وصحَّ عندي يومئذ أنه ابتدع تلك الخطابات، فكتبتُ إليه من باريس أهنئه على ذلك البِدع الطريف، فأجاب بأنه لم يبتدع تلك الخطابات، وإنما وجدها مصادفةً في شارع الدواوين وهو ذاهب إلى جريدة الأهرام، ولم أصدِّقه فيما ادعاه فتعقبتُه في جريدة البلاغ بمقال لاذع بدَّد ما كان بيني وبينه من وداد.
ثم تشاء الأقدار أن تصحح رأيي في ذلك الصديق المظلوم فقد وجدت أن أيضاً خطاباً ضائعاً، وجدته في شارع فؤاد وأنا ذاهب للسَّمَر مع الأستاذ (وحيد بك الأيوبي) في قهوة السلام بميدان إبراهيم، وأطلعتُ عليه جماعة مت الفضلاء الذين صادفتهم هناك.
وإلى القارئ فقرات من ذلك الخطاب الضائع، ستَر الله كاتبه وهداه!:
(تعاتبين؟ تعاتبين؟ وما الموجب للعتاب وقد صدَّ قلبٌ عن قلب، وزهد روح في روح؟!
ومن تعاتبين، يا شقية، وقد انتهى عهد العتاب، ولم يبق من الذكريات غير أطلال؟
لا أراك الآن إلا حجراً أصم أبكم، لا يسمع ولا يتكلم، وإن كنتِ تحسنين زُخرفَ القول حين تكتبين إليّ من حين إلى حين. . .
وتقترحين أن أزورك في مدينة. . . فهل تظنين أني أطرب لزيارة مدائن الأموات؟
تلك غمرة من غمرات الكرب عانيتها حين توهمتك إنسانة لها وعي وإحساس، ثم لطف الله فأفقت، وما كنت احسبني أفيق(370/7)
كان غرامي نزوة من نزوات الطيش، وقد عقلت، والحمد لله على نعمة العقل!
أمثلُكِ يُزارُ بوحيٍ من القلب، وأنتِ رسمٌ من الرسوم الهوامد، وقد انتهى عهد البكاء على الرسوم والطلول؟
ما أبكي عليك، يا شقية، وإنما أبكي على النعيم الذي ذهب منذ اليوم الذي انزاحت فيه الغشاوة عن قلبي
كنت توهمت أني عشقت، وكانت الدنيا لا تسعني كلما خطر في البال أني أملك قلب امرأة لها في دولة الحسن تاريخ
ثم انجابت ظلمات الغواية فرأيتك مخلوقة من خزف، مخلوقة غبية بليدة حرمتها الأقدار نعمة القهم لسرائر الأرواح والقلوب.
خرجتُ من هواكِ كما دخلتُ، فما أمدَّني هواكِ بقصيدة رشيقة ولا مقال بليغ. والأديب لا يعشق ليقال إنه عشق، وإنما يعشق الأديب ليطلع على الآفاق المجهولة من ضمائر الوجود. وأنت أنت، أنت الأنثى الغبية البليدة التي لا ينتفع الأديب من صحبتها بشيء، إلا أن يصير اسمه إعلاناً عن جمالها المظنون، وأنت والله جميلة، ولكن جمالك لا يزيد عن جمال التماثيل!
إنما أبكي على نفسي، فقد كنت احسبني أهلاً لغرام أقوى وأعنف من الغرام الذي عانيت، ثم عرفت مع الأسف الموجع أنني شغلت قلبي بإنسانة ضعيفة لا تقدر على نقل القلب من مكان إلى مكان. فمتى تزحزح من مكانك يا قلبي؟ ومتى تعرف أن الهدى ليس أكرم عنصراً من الضلال؟
لا تكتبي إليّ بعد اليوم، يا شقية، فقلبك أصغر من قلبي، ولم تكوني إلا طفلة نضجت قبل الأوان فتوهمتْ أنها قادرة على مساورة الرجال)
تلك فقرات من ذلك الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد.
فهل رأيتم أسخف من كاتب هذا الخطاب؟
الدنيا في حرب وشقاء وبلاء، فكيف يجوز أن يكون فيها من يعشق ويلتاع؟
وفي قهوة بالميرا بمصر الجديدة صادفت الدكتور مشرَّفة بك عميد كلية العلوم فعرضت عليه هذا الخطاب على أنه نموذج من السفاهه والحُمق فابتسم، وقال: العواطف من القُوى(370/8)
الأساسية في حياة الإنسان، ولا بُدَّ لتلك القوى من غذاء. واستطرد فحدثني أنه طرب حين رجع إلى معاهد الطفولة بدمياط، يوم كان يتقرب إلى الله بتقبيل ضريح الشيخ مظلوم!
العواطف تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول؟
هذه فلسفة لم أسمع بها من قبل
فإن صحت هذه الفلسفة فهي سِنادٌ لكاتب الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد
الدنيا في حرب، فلا تصدَّقوا الدكتور مشرَّفة، وإن كان عميد كلية العلوم، واقضوا أوقاتكم كلها في متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العِجاف!
ثمرة شهية من ثمار المطابع
اليوم عرفت أن الأستاذ محمود بك تيمور وأخاه المرحوم محمد بك تيمور ورثا فنّ القَصَص عن أبيهما العظيم أحمد باشا تيمور.
أقول هذا وقد فرغت من قراءة كتاب نفيس اسمه (أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر) تحدث فيه تيمور باشا عن جماعة من الشعراء والعلماء والأعيان بأسلوب هو القَصَص الحق، أو هو أحسنُ القَصَص، إذا صح الاستئناس بعبارة القرآن المجيد.
كتابٌ كله أقاصيص، ولكنه حقائق، وله جاذبية تجعله فوق القَصَص المعطَّر بأنفاس الخيال.
في هذا الكتاب أربعة وعشرون ترجمة لبستْ جميعاً ثوب الصدق في حدود ما وصل إلى المؤلف من أخبار مَن ترجم لهم. ومن المؤكد أن هذا الكتاب يسدّ فراغاً في تصوير بعض معالم العهد الذي عاش فيه المؤلف، ففيه أخبار سياسية وأدبية واجتماعية لم يتحدث عنها أحد من قبل هذه الدقة وبهذا التفصيل.
ونحن نأسف على أن لم يُكتَب لتيمور باشا أن يقف جهوده على هذا اللون من التاريخ، فلو أن الله كان وفقه إلى ذلك لأتى بالأعاجيب في تسجيل الحوادث وترجمة الرجال.
وقد التزم تيمور باشا في هذا الكتاب التواريخ الهجرية أو كاد، والتزم العبارات القديمة في وصف بعض الأشياء، فالعِزبة هي الضَّيعة، والجنيه هو الدنيار، ودخول الإنجليز مدينة القاهرة كان يوم الخميس مستهلّ ذي القِعدة سنة 1299. وتلك من لوازم تيمور باشا الذي(370/9)
كان يريد أن يجعلنا عرباً ومسلمين في جميع الشؤون، أحسن الله إليه بقدر ما أحسن إلى العروبة والإسلام!
وتيمور باشا في كتابه يجسِّم الحسنات ويتغافل عن السيئات. وإذا قهره التاريخ على تسجيل سيئة أحاطها بعبارة من عبارات التشكيك، أو أعتذر عنها بلطف ورفق، حتى ليمكن الحكم بأن الرجل أراد أن يكون كتابه من كتب الأخلاق الصِّحاح. وكيف لا يكون مراده كذلك وقد شهد عارفوه وشهدت آثاره بأنه كان من أرباب القلوب.
ولا تجد في هذا الكتاب عبارة تشير إلى أن تيمور باشا كان يرتب ويصنف ويؤلف، فهي أحاديث بعضها برقاب بعض في يسر وسهولة واتساق، وذلك شاهد القدرة على التعبير الخالي من التكلف والافتعال.
وقد أكثر تيمور باشا من الترحم على من ترجم لهم، فعليه رحمة الله، وعلي الهراوي رحمة الله، وعلى عبد المطلب رحمة الله، فقد كانا يريانه إماماً في الأدب واللغة والتاريخ، ولهما في البكاء عليه قصائد جياد.
زكي مبارك(370/10)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة الفؤاد الأول
انتقال اللغة من السلف إلى الخلف: التطور الجبري؛ مظاهره
في لغة الحديث ولغة الكتابة
تتأثر اللغة في تطورها وارتقائها بعوامل كثير يرجع أهمها إلى أربعة طوائف:
(إحداها) انتقال اللغة من السلف إلى الخلف
(وثانيتها) تأثر اللغة بلغة أخرى
(وثالثتها) عوامل اجتماعية نفسية وطبيعية، كحضارة الأمة ونظمها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها، وثقافتها واتجاهاتها الفكرية، ومناحي وجدانها ونزوعها، وبيئتها الجغرافية. . وما إلى ذلك.
(ورابعتها) عوامل أدبية، تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة، وما تبذله معاهد التعليم والمجامع اللغوية وما إليها في سبيل حمايتها والارتقاء بها.
وسنعالج بإجمال في هذه الكلمة الطائفة الأولى من هذه العوامل، مرجئين الكلام عن العوامل الأخرى إلى المقالات التالية
على الرغم من أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر، وبخاصة مظاهر الصوت.
ويرجع جزء يسير من نواحي هذا الاختلاف إلى أمور خاصة مقصورة على بعض الأفراد كالعيوب الصوتية التي يصاب بها بعض الناس، وضعف السمع، واختلال أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك؛ وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها، تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتختفي بموتهم.
أما معظم نواحي هذا الاختلاف وأكبرها أثراً في تطور اللغة فترجع إلى أمور عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة ويمتازون بها عن أفراد الطبقة السابقة لهم، كالارتقاء(370/11)
الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية (لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها) والارتقاء الطبيعي للظواهر النفسية (فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور مطرد، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق. ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة) والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما ولا يقطن لها الكبار لدقتها وخفائها أو يهلون إصلاحها ولا يعنون بالقضاء عليها. فالفروق اللغوية الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم.
ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية لا اختيارية للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها أو تغيير ما تؤدي إليه.
ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص. فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها. . .، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقاً وفي وضع طرق ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لجن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل الذي تريدها على السير فيه سنن التطور والاتقاء الطبيعيين.
حقاً إنه يمكن أحياناً التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمناً طويلاً على أصولها القديمة أو ما يقرب منها؛ ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلاً صحيحاً حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيراً مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة، لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلاً. فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية. هذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة؛ وما عليه الحال الآن في مصر وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة في هذه الممالك.(370/12)
على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو؛ ولا تبقى إلا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال. فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتم تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالة مفرداتها ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتستلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعها، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة. وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال.
فما أشبه لغة الكتابة الجامدة، في حالات كهذه، بجبل ثلج ثابت على سطح البحر؛ ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج من تحته. فهمها طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستوراً تحت هذا الجيل الجامد من مظاهر النشاط والحياة: (سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا).
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(370/13)
الحضارة المتبرجة
للأستاذ محمود محمد شاكر
أعطيت هذه الحضارة الأوربية الحديثة أعظم روح من الفن كان في الأرض من لدن آدم إلى يوم الناس هذا. وهذه الروح الفنية - على سموِّها في بعض نواحيها إلى غاية ما يتسامى إليه الخيال الفني - تتساقط وتتدنى وتنحدر من جوانبها إلى أدنأ ما يبتذل من الفن العامي المثير لأشأم الغرائز الحيوانية في الإنسان. وبهذه الرُّوح الفنية عالجت الحضارة الأوربية مشكلة الحياة السريعة الدائبة المثقلة بأعباء العمل، فاتخذت لكل مَلَل راحة واستجماماً بلغت بهما غاية اللذة الفنية، تلك اللذة التي تجعل الأعصاب المجهدة إذا أوت إليها كأنما تأوي إلى بيت ذي رونق وزخرف وعطر وضوء يغمغم ألحاناً من الفن الموسيقي، فإذا بلغته استنامت بإجهادها على حشايا الخز والديباج، نعومة وليناً ترسل في الأعصاب لذة تمسح الجهد حتى يسكن ويخف ثم يتبدد.
وكانت المرأة هي فنَّ الفنِّ للإنسانية، وهي الشاطئ الوادع لبحر الحياة المتموج، وكانت الظل الرطيب في بيداء موقدة تحت أشعة الشمس المحرقة، وكانت هي السكن للقلب المسافر دائماً في طلب أسباب العيش والحياة. فجاء فن المدنية الحديثة فجعل الشاطئ بحراً آخر يموج موجاً فنياً مغرياً يجعل السباحة المجهدة فيه ضرباً من الراحة، وتركت الظل الرطيب حرارة مستعرة تحرق، ولكنها تحرق بلذة، وفرشت السكن حتى مدته طريقاً بعيداً مترامياً يسافر فيه القلب سفراً بعيداً في أحلام وفتنة وجديد لا يتقادم.
وبدأت المرأة بدأها لتجعل الحضارة فناً جديداً من تجميل الحياة للمكدودين. ثم جاءت الحرب الماضية، فخرجت المرأة من وطيسها المتوقد قد استوت ولذَّت وطابت، وتجدّدت عقلاً وروحاً وجمالاً، وشاركت أسباب الحضارة في إيجاد حل جديد لمشكلة الإنسان العامل المنطلق في أعماله بسرعة وكدٍّ وإرهاق وعناء، فاتخذت فن العقل السامي عبداً تصرِّفه في إنشاء لذات الحياة إنشاءً عبقرياً تخشع لسطانه النفس خشوعاً راضياً، ثم تمشى في جنّاته: تأْبى أن تجد راحتها إلا راحة فيها ذلك السحر الناعم الرقيق الفاتن، الذي يصنعه بنان مؤنث يقول للأشياء: كوني جميلة، فتكون.
وأعطت العين للمرأة أشواقها المستبدة، وزَينت المرأة للعين متاعها المتجدد، فاستيقظت(370/14)
الغرائز كلها من هزة الأشواق وحب الاستمتاع، وانحدرتْ في دم الرجل قطرات الفتنة المؤنَّثة، وسطعت في كيانه كله نفحات العطر المعربد، وألقت المرأة ظلها على كل شيء ألواناً تتخايل بالفن المنسَّق البديع، وصبغتْ كل شيء في حلاوة أنوثتها، حتى لم يبق للرجولة ولا للإنسانية هوىً في الحياة إلا وهو من المرأة وإلى المرأة وفي سبيل المرأة.
وصارت المرأة هي المحور الذي تدور عليه الإنسانية في تلك الشهوات الضارية التي تنزع منازعها في حياة الإنسان باقتدار وقسر، وسار العالم كله على ذلك حتى ما يُحس ذو شعور أنه يعمل من أجل المرأة، مع أنه ما يعمل عامل إلا من أجلها. فهو في نشوة متصلة لا تنقطع في عمله، لأن الغرائز المنتشية هي التي تحكم وتصرّف، وبذلك لم يبق له من الفكر ما يستطيع به في هذا الأمر أن يتبين حقيقة التيار المسكر الذي يتدافع به في حياته.
أصبحت الحضارة الأوربية بعد ذلك فناً جميلاً يتوالى فيه زخرف الحسن مبعثراً ومنتظماً، لأن الأعمال كلها قد احتملتها إرادة واحدة، هي إرادة جعل الحياة أجمل مما هي لتكون أمتع للعين والقلب والنفس والغريزة، ومع إسقاط مطالب الروح السامية المتحررة من استعباد الشهوات.
ومن عجيب تصريف القدر في الحياة أن يجعل أعظم شيء فيها هو أقل الأشياء حظاً من الحياة، فالروح التي هي أعظم ما وجد في الحياة، ترجع في غمرة اللذات والشهوات وأمواج الغريزة الطاغية، أقل ما وجد في الحياة، حتى ما يكون لها نصيب منها إلا ذلك الجو الأغبر القائم في عزلة موحشة، بعيدة عن تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدة في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد لحركة، وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة التي تتحول في نار الشهوات رماداً بعد توقد واشتعال.
فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتد بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي(370/15)
ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل.
وجاء اشتراك المرأة اشتراكاً عملياً في الحياة الأوربية العامة ليقذف الروح بعيداً عن عزلتها، ويدني غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسطان الأشواق وحدها دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائماً أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعم ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقي من العنت والقسوة والمشقة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحراراً في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل كما تترفع عن بغي السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكم طبقة في طبقة كما تأبى ثورة طبقة على طبقة.
ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخَلق الجميل الفتان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرّد، فقام النظام كله على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه وتلك الدولة الصغيرة التي تسمى البيت، بل هو يعمل ليجد أولاً تلك اللذة الحاكمة الممتعة التي يستمتع بها في ظل تلك الدولة العظيمة التي تسمى المرأة.
وإذا بدأت الطبقة العاملة من الشعب تجد حوافز أعمالها في شيء بعينه، كانت كل أعماله من الأدنى إلى الأعلى لا تجد في أعمالها إلا هذا الحافز الواحد، وإذا تشابهت الحوافز تشابهت الغايات، وما يفترق هذا عن ذاك إلا بأن لكل شيء أسلوباً، ومهما اختلفت الأساليب في هذا فلن تختلف في الدلالة إلا بمقدار الأصل العملي الذي يوجب هذا الاختلاف.
والمكان الذي نصت عليه عروس النفس الإنسانية في هذه المدنية الحديثة، وهو الحافز وهو الغاية، ولذلك تجد هذه المدنية قد تبرجت لأبنائها تبرج الفن العبقري الحافل بأسباب التحكم المستمر في أعمال كل حي. ولما كانت هذه الحوافز على تعددها إنما هي في(370/16)
الحقيقة اختصاص فردي لكل واحد من الناس - لأن اللذة لا تقبل الشركة والتعدد - ولكل اختصاص عيب هو الأثرة، والإصرار على التفرد، ومعاندة الناس بعضهم بعضاً في سبيل هذا التفرد - وقع التضارب والتعادي والانتقاض في كل عمل، وصار ما يبني لا يكاد يتم حتى يلقاه ما يهدمه، وبذلك كان نظام هذه الحضارة مع روعة ما يبنى يقابله نظام آخر في الهدم والتدمير، يخيف هذا بقدر ما يروع ذاك.
ولولا هذا التبرج الفاجر في هذه المدنية، ولولا هذه الشهوات التي انطلقت ترشف من مسكرات الفن المتبرج، ولولا هذه الغرائز الجامحة في طلب السيطرة لإدراك غاية اللذة، لما كان النظام الاقتصادي الحاضر في هذه المدنية هكذا مهدِّماً مستعبداً مستأثراً باغياً، ولما تعاندت القوى الدولية هذا التعاند الذي أفضى بالعالم إلى الحرب الماضية ثم إلى هذه الحرب المتلهبة من حولنا اليوم؛ وذلك في مدى خمسة وعشرين عاماً، لم يستجمع العالم خلالها قوته، ول يتألف ما تفرق، إلا ليضيع قوته مرة أخرى ويتفرّق.
إن الحضارة في هذه السنوات التي تبعث الحرب الماضية كانت ترفه عن المكدودين بالعمل ترفيهها الحُلو الغني المتبرّج لتعطي القُوى العاملة نشاطاً جديداً من النشوة، أي من الحالة التي يفقد فيها العقل والروح قدرتهما على التحكم في نظام الحياة. وأقدمت المرأة الأوربية إقدامَها الجريء فجلبت زينتها من كل خيال ومن كل فن ومن كل سحر، لتعين الحضارة على الحياة والبقاء في هذا الجوّ الذي اختارته وعملت له. وكان هذا الإقدام ضرورة طبيعية للمقدمات التي سبقت عصر الحرب الماضية، ثم للحرب نفسها. فإن المرأة التي فقدت زوجها، والفتاة التي أضلت حبيبها، والبنت التي أضاعتْ قَيِّمها من أب أو أخٍ أو عمٍ،. . . وبقيت في موج الحياة حَيرى متلَدّدة، لم تجد بدَّاً من الإقدام على الطريق المجهول بجرأة واندفاع وتهور، فلما أوضعتْ في الطريق المجهول وأسرعت خطاها جرى العالم وراءها يطالبها؛ فلم تجد بدّاً من أن تأخذ منه أكثر ما تستطيع لتجتلب لزينتها أحسن ما تستطيع، وتطارد الصيدُ للصائد في كل وجه حتى اصطدام العالم كله هذا الاصطدام الهائل الذي لا يدري إلى أين ينتهي ولا كيف ينتهي.
وستخرج المرأة من هذه الحرب أيضاً كثيرة فاتنة حائرة لا تجد أباها ولا زوجها ولا أخاها ولا حبيبها، وستكون في عينيها تلك النظرة الحزينة الضارعة التي تقول لك: أنقذني!(370/17)
أنقذني!! أنا وحدي، لا أجد من يعولني! وسينظر العالم الجديد إلى هذه المرأة بالرحمة والعطف والحنان، كما نظر للّواتي كنّ بعد الحرب الماضية. وستعمل المرأة يومئذ لتكتسب الرجل في كل وجه، ثم لا تلبث أن توجد من بقايا العالم المتحطم سحراً جديداً لمدنية ساحرة، وبذلك يرتد العالم إلى النظام الاقتصادي الفاجر المبني على اللذة وطلبها والبحث عنها، فتكون أنظمته كلها قائمة على الاستبداد والفجور في الاستبداد.
ويومئذ يبدأ تحقيق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة وما يكون في أعقاب الدهر، إذ (يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)، وحتى (ترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به). وما يكون ذلك إلا يوم يتحقق للحياة المعنى الفني المحض الذي لا يعرف قاعدة اجتماعية يحرص على تحقيقها للاجتماع، والذي يرى الحرية انطلاقاً من قيد الأخلاق التي تقسره على مصلحة الجامعة دون لذة الفرد، وتتبرج الحياة تبرجاً هائلاً يجعل العقل غريزة جديدة تشتهي، والروح خلقاً منبوذاً حائراً يطوف على هذه الفتن كما يطوف الصعلوك على مائدة ملكية. ويومئذ يرفع العلم لأنه سيُستعبَدُ في إيجاد اللذات، وتفارقه الروح النبيلة التي لا يكون العلم إلا بها علماً، ولا يبقى في الأرض إلا الجهل الأحمق الذي لا يعرف إلا السيطرة بحماقة، والأثرة بكلب، وتكون المرأة هـ علم الحياة الجديدة الذي يمزق الرجولة القليلة في جذب الشهوات العنيفة، ويغرق الفضيلة في طوفان المتعة الجميلة التي تبعث في الأعصاب المجهدة نشوة مسكرة.
محمود محمد شاكر(370/18)
محل الحضارة العربية
للدكتور جواد علي
هل هنالك حضارة عالمية اشترك في تكوينها جميع أفراد البشر على اختلاف إشكالهم وأجناسهم؟ أم هل هنالك حضارات مختلفة لكل حضارة ميزة وعقلية تمثل عقلية الجيل أو الأمة؟ أم هل هنالك حضارة واحدة تغذي العالم كله وتشع عليه كما تشع الشمس على الأرض؟ تلك نظريات مختلفة تمثل نزعات علمية وسياسية متضاربة وغايات متباينة. غير أن الرأي السائد اليوم بيم جمهور المؤرخين ومنقبي تأريخ الحضارة هو أن هنالك تفاوتاً بين البشر، كما أن هنالك تفاوتاً بين الحيوان أو النبات، وأن الحضارة التي هي إنتاج البشر العقلي تختلف لذلك تبعاً لاختلاف المجموعات البشرية، وهذه النظرية على طرفي نقيض مع نظرية (1744 - 1803)، ونظرية التطور التاريخي للفيلسوف (1770 - 1831)، ونظرية (الإنسانيين) وأتباع الكنيسة من المؤرخين.
والمسألة لم تقف عند هذا الحد مع ذلك بين أصحاب نظرية تعدد الحضارات، إذ أن من بين هؤلاء من يدين بفكرة تأثر الحضارات بعضها ببعض، كما هي نظرية الفيلسوف الألماني - مؤسس (دار الحكمة) في مدينة الألمانية والمستشرق وجمهور من المستشرقين، كما أن هناك مثل الفيلسوف من يقول بتعدد الحضارات مع وجود نفسية خاصة لكل حضارة، أو استقلال تام كما هو رأي الفيلسوف
أما أصحاب فكرة وجود حضارة واحدة هي سبب هذا التطور العالمي والتقدم البشري المطرد فهم أصحاب العواطف المتطرفون من الأوربيين كالفرنسي رينان في محاضراته التي ألقاها في عام 1883 في كتابه تاريخ الحضارة السامية وكرافر كوبينو والنازيين الألمان وفاشست إيطاليا. ولكن معظم أصحاب هذه النظرية هم أناس ليسوا ذوي اختصاص في الموضوع ولا دراسة ناتجة عن استقراء علمي محدود، بل هم من ذوي الطريقة الفلسفية العامة التي تحاول الإلمام بكل شيء وتضع القوانين حسب وقواعد رأتها صالحة لذلك. والحضارة العربية في نظر هؤلاء حضارة سطحية ظاهرية أنتجتها عقلية آرية ومنابع يونانية فارسية هندية غوطية. وحيثما وجد الإنسان ظاهرة من ظواهر الحضارة في البلاد العربية فلا بد من إرجاعها على عقلية آرية وإنتاج غير سامي. ودوزنبرك الدكتاتور(370/19)
النازي للشؤون الثقافية الذي لم يسلم إلا بالزخارف المعروفة باسم يحاول الحط من قدر هذه، فيجعلها تمثل عقلية ساذجة لا غير.
غير أن النظريات لا قيمة لها أبداً إن لم تدعم بالنصوص والبراهين، كما أن الاستشهاد بحادثة أو رواية لا يتخذ حجة للحكم به على أمة. وإني أستطيع أن أجعل من الأمة الجرمانية أمة همجية بربرية مادية خاملة لم تنهض إلا أخيراً، كان يحاول زعماؤها إيقاظها، بالاستناد إلى النصوص الجرمانية نفسها المجموعة في المصادر والمنابع عن التأريخ الجرماني. ويستطيع كل مؤرخ أن يفعل ذلك في تاريخ أي أمة كانت ولا سيما إن كانت أمة ضعيفة في وقته منحطة. وأستطيع أن أقول إن الأمة العربية لو كانت في الوقت الحاضر قوية لكانت النظرية على العكس تماماً. وفي المصادر والنقوش الأثرية ما يبرهن على أن وضع حدود وحواجز بين حضارة وحضارة ومحاولة عزل الحضارات بعضها عن بعض أمر غير ممكن. حتى في المسائل الروحية تتأثر الأمم بعضها ببعض. فمحاولة كتابة تاريخ أوربي فقط لا تنجح تماماً إن لم يتطرق المؤرخ في بحثه إلى الحضارة الإسلامية، كما أن محاولة كتابة تاريخ عربي مجرد عن ذكر أي تأثير للحضارة الغربية محاولة فاشلة غير علمية.
ولو درس التاريخ العربي كما يدرس التاريخ بجميع فروعه في الجامعات لأوربية، أو لو انصرف المؤرخون إلى دراسة النصوص الأوربية على العلاقات بين أوربا والشرق الأدنى لتغيرت نظرية أصحاب العزلة تماماً. وهناك مؤثرات أثرت تأثيراً شديداً من جانب العرب ليست في الحياة المادية بل في الحياة الروحية الأوربية التي هي من أصعب الأشياء لما بين العقليتين من فروق. ومن أمثلة ذلك الشعر في القرون الوسطى وظهور نوع جديد منه هو الشعر الغزلي على الطريقة الشرقية والروايات العربية والتصوف الذي أطلق عليه اسم (التصوف الألماني) وكان زعماؤه يجيدون اللغة العربية ودرسوا وترجموا الكتب إلى اللغة اللاتينية.
وقد غير كثير من أصحاب نظرية (الشرق شرق والغرب غرب) نظريتهم حين توغلوا في البلاد العربية وجابوا البلاد الأفريقية، وتوصل بعضهم إلى أن الحضارة العربية تعود إلى الحضارة الأوربية لا الحضارة الأسيوية، وأن السيد أمير علي المسلم الهندي أقرب جداً إلى(370/20)
أوربا عقلاً وثقافة من الفيلسوف طاغور الأسيوي فكراً وعقلاً. كما لاحظ الأوربيون الذين ذهبوا إلى السودان وأعالي النيل أن التفاهم مع المصريين المسلمين كان يزداد يوماً فيوماً كلما تقرب هؤلاء من العالم الأسود، وكذلك كان الحال في نواحي أفريقية الأخرى. كما لاحظ المستشرقون أن اللغات الهندية الأوربية تتقارب مع السامية جداً بالنظر إلى اللغة السودانية أو لغة البانتو مثلاً. وقد ظهر أن الأتراك أقرب إلى أوربا عقلياً من اليابان، مع أن اليابان هي في مدنيتها أوربية محضة، ولكنها في حضارتها أسيوية محضة، وقد جعلوا سبب ذلك تأثير الحضارة الإسلامية. وأغرب من ذلك هو أن القبائل الأفريقية أو قبائل الهند الهولندية حينما تسلم تسرع إلى لبس الملابس وإلى التقرب من الأوربيين أكثر من الوثنيين الابتدائيين. وهذه المسألة كانت من أهم المسائل التي درستها الحكومة الألمانية قبل الحرب لتعيين سياستها تجاه الإسلام.
يرجع بيكر ذلك إلى الأصول التي تتألف منها كل من الحضارتين الأوربية والعربية، فبينما نجد الحضارة اليونانية الرومانية والحضارة المسيحية والحياة اليومية الأوربية هي الأسس التي تكون الحضارة الأوربية نرى الحضارة العربية متأثرة بالعاملين الأولين مضافاً إليهما العقلية السامية الخاصة، وهذا هو سبب التقارب الموجود بين الحضارتين ولكن ذلك لا يعني أن الحضارة العربية مشتقة أو هي جزء من الحضارة الأوربية، بل هي وسيلة بين الحضارة الأوربية والحضارة الأسيوية لها مميزاتها الخاصة ومثلها العليا، ونظرتها العالمية.
هنالك حضارة كما أن هنالك مدنية، ومن الخطأ عدم التفريق بينهما، كما أن من الخطأ تفضيل حضارة على حضارة بصورة مطلقة دون قيد أو شرط، إذ أن كل الحضارة تمثل نفسية خاصة هي وليدة عوامل مختلفة، ومن الخطأ كذلك أن تتكلم عن حضارة أوربية بصورة عامة، إذ أن بين شعوب أوربا من البون الشاسع كما في شعوب البلقان ما لا يسوغ لنا إطلاق هذا التعبير. كما أن من الخطأ نكران الحضارات الأخرى، ولدينا أمثلة من الحياة اليومية لا تنكر.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(370/21)
للنقد الخالص
من عجائب الفهم. . .؟!
للأستاذ زكي طليمات
مفتش شؤون التمثيل بوزارة المعارف
للنقد الأدبي اليوم في مصر حركة ونشاط، وكأن الأدب في مصر، وقد تأثر بالهزة العنيفة التي أنزلتها الحرب القائمة بالنظم والأوضاع في حياة العالم بأسره. يختلج اليوم اختلاجات عنيفة ويتحوى وينقبض شأن كل كائن يتهيأ لحركة عنيفة، أو يتحفز لوثبة قادمة.
والحرب والنقد شيء واحد، فالحرب - كما قرر بعض علماء الاجتماع - وقفة تقفها الإنسانية تراجع فيها نظمها وما كانت عليه، لتتدارك ما (تضخم) من طفيلات المذاهب، وتفتح عروقها لتتفصد بما طغى عليها من الأوشاب والفضول، والنقد في طبيعته ووسائله ومقاصده لا يختلف عن هذا.
وقيام هذه الحركة النقدية في مصر اليوم جدير بالاهتمام حري بالتأمل، يبعث الارتياح في نفس كل تواق إلى أن يرى الأدب في مصر يقتحم مناطق جديدة من النشاط الذهني، ويعمل على أن يتخلص من علله وأمراضه. فالنقد شاهد على حيوية الأدب، وفيه ما ينهض دليلاً على أن الذهن يتطلع، ويؤمل، ويراجع، ويتبصر، وينصب الميزان الصحيح.
وآخر ما قرأناه في هذا الموضوع نقد بعنوان (من عجائب الاجتهاد) بإمضاء (ناقد أديب)، تناول في نقده هذا مسرحية (مفرق الطريق) للدكتور بشر فارس.
و (مفرق الطريق) مسرحية أخرجها مؤلفها إلى الناس منذ عامين قدوَّت في عالم التأليف المصري دوَّيا واسعاً، دفع الأقلام إلى تناولها بين مادح ومستغرب، وكانت (الرسالة) الغراء معرضاً لما دبجته هذه الأقلام، وقد كان لي سهم في الكتابة عن هذه المسرحية، فبسطت دقائقها، وكشفت عن مفاتنها الحفية، وبينت أصالتها في الرمزية المستحدثة، وقررت جدتها في عالم التأليف المصري للمسرحية.
قرأت نقد (الناقد الأديب) وكان أول ما عجبت له أن يخرج ذلك المقال متأخراً، بعد أن مضى على ظهور المسرحية أكثر من عامين، وبعد أن خبت النار التي اشتعلت حولها.(370/23)
عجبت لهذا ثم عجبت لما هو آخذ من هذا. . . مما يصح أن يقف القارئ عليه خلال مطالعة مقالي هذا ليشاطرني عجبي، ولينتهي إلى ما انتهيت إليه.
يزعم (الناقد الأديب) أن الفكرة التي تقوم عليها (مفرق الطريق) توافق في جوهرها فكرة فلسفية أوردها (الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد) في قصيدة له عنوانها (القمة الباردة) ويحاول تأييد زعمه هذا بإيراد جمل وألفاظ غير مفهومة، مقتطعة عمداً من المقدمة التي قدم بها الأستاذ العقاد قصيدته، ومن التوطئة التي مهَّد بها الدكتور بشر فارس لمسرحيته، عبارات ملتقطة في تعسف واقتضاب يجعلها تحتمل وجوهاً من التأويل اللفظي فقط، قد ينغلق معها المعنى الصريح، فتنبعث شكوك القارئ. وكأن (الناقد الأديب) ينسى أو هو يتناسى أنه لا يجوز الحكم في قضية بإيراد بعض ألفاظها المنسلخة عن قصد مرسوم.
ما هي الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها قصيدة القمة الباردة؟
إلى القارئ نص تقديم القصيدة كما أورده الأستاذ العقاد:
(للجبال قمة باردة تعلوها الثلوج، وللمعرفة كذلك قمة باردة تفتر عندها الحياة. فإذا نظر الإنسان إلى حقائق الأشياء لم ير شيئاً ولم يشعر بشيء، لأن حقيقتها كلها ذرات ترجع إلى حركة متشابهة في كل ذرة، فخير له ألا ينظر إلى الحقائق كل النظر، ولا يعرض عن الظواهر كل الإعراض، لأن الحيَّ لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة، فإذا تجاوز ذلك فقد ارتفع من المعرفة إلى قمتها الباردة التي لا يشعر فيها بحياة)
وجاءت القصيدة بعد ذلك، وأبياتها في وصف هذه القمة:
هنالك لا الشمسُ دوّارَةٌ ... ولا الأرض ناقصةٌ زائدة
ويا بؤس فانٍ يرى ما بدا ... من الكون بالنظرة الخالدة
فذلك رب بلا قدرة ... وحَيٌّ له جثة هامدة
إلى الغور، أمّا ثلوج الذري ... فلا خير فيها ولا فائدة
والمقصود بثلوج الذرى: حياة الفكر المجرد، والمقصود بالغور حياة الفكر العملي
وهكذا نرى أن القصيدة، تقديماً وشعراً، ما هي إلا عرض وتحليل لمذهب من مذاهب المعرفة. ومسألة المعرفة تتعلق بالفلسفة العامة أو ما وراء الطبيعة، بل إن هذا المذهب(370/24)
الفلسفي بالذات هو مذهب مشهور وصاحبه الفيلسوف الألماني (كانت الذي قيد الوصول إلى اليقين بنظرية (النسبية أو (المقيسة) القائمة على تحديد إدراك العالم الخارجي، وهو ينفي أن تستطيع الحواس إدراك العالم الخارجي، وهو ينفي أن تستطيع الحواس إدراك الأمور المطلقة أو الحقائق في ذاتها، فالمعرفة في نظر (كانت نسبية وظاهرة، قوامها الفهم أو البديهة، وأدواتها الحواس؛ فالفكر يُلبس المعرفة شكلها دون المادة، وأما المادة نفسها فهي فوق إدراكنا وإن كانت موجودة حقاً.
وهذا ما فسره الأستاذ العقاد بالذات في مقدمته بقوله: (لأن الحي لا يعرف الدنيا إلا بالظواهر التي تقع عليها الحواس وتدركها البديهة)!
وأما ما وراء ذلك من طلب المعرفة - وطريقة الكفر المجرد الخالص من فعل الحواس - فيلقي بالمرء في قمة لا متسع فيها لعمل الفكر، خارجة عن الحياة (لا الشمس هنالك دوَّارة، ولا الأرض ناقصة زائدة) فإذا المرء: (ربٌ بلا قدرة، وحيّ له جثة هامدة)
وخير للمرء أن ينزل إلى الغور، أي إلى الأخذ بظواهر الدنيا ليستطيع أن يلمسها ويدركها، فيحيا على قدر ما ركب فيه من إدراك وفهم.
هذا ما أراد قوله أستاذنا الكبير العقاد، وهو من أحسن الشعر وأجوده وأبعده معنى.
وبين هذا المذهب وما نزع إليه في بعض مسرحياته (هنريك إبسن) زعيم المسرحية الحديثة وشائج قربى ونسب، ومن درس (إبسن) يعرف (قممه المثلوجة) أو قممه الباردة.
ولا لوم ولا تثريب على أستاذنا العقاد أن يورد قصيدة من شعره تحمل في طياتها نزعات فلسفيه لمدرسة معروفة. فليس كل شاعر أو أديب مهما نبه ذكره وعلا شأنه بصاحب مدرسة في الفلسفة والأدب الذي تجفوه لمسات المذاهب الفلسفية الرفيعة هزيل في كيانه قريب في معانيه. وإنه لأمر مقبول - بل وواجب - أن يعتنق الكاتب والفنان مذهباً من المذاهب الفلسفية الرفيعة؛ وهذه هي حالة كبار الأدباء في أوربا، فالكاتب ويلز من الآخذين بفلسفة النشوء والارتقاء كما بيِّن ذلك الأستاذ (على أدهم) في عدد قريب من أعداد (الثقافة)؛ و (بيراندللو) متأثر بأعمال (فرويد) وكذلك (ليوتورمان) و (أندريه جيد)
ولنر الآن ماذا أراد أن يقرره بشر فارس في مسرحية: (مفرق الطريق)
تقوم هذه المسرحية على معالجة حالة نفسية غامضة، أو على تعقيد نفس كما يقول علماء(370/25)
النفس اليوم، مُفادُها: المرأة التي يجذبها الحب وتخاف منه، والرجل الذي يريد الحب ولا يعرف قدره، ثم الرجل الذي يريده ولا يستحقه. وهذه قضية من قضايا النفس البشرية، لا علاقة لها بالمسائل الفلسفية الصرفة اللاحقة بنظرية المعرفة واليقين، وما يدخل في باب ما وراء الطبيعة الذي أورده الأستاذ العقاد في قصيدته، ومرده إلى فلسفة (كانت)
والمذهب الذي نزع إليه بشر فارس في مسرحيته، قد بسطه في توطئة مسرحيته بسطاً محكماً، إذ قرر أنه آخذ بالطريقة الرمزية فلسفة وأدباً وفناً، فقال في صحيفة 6: (وليست الرمزية ههنا بموقوفة على الرمز بشيء إلى شيء آخر، ولكنها فوق هذا استنباط ما وراء الحس من المحسوس، وإبراز المضمر، وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق، المتواضع عليه، المختلق اختلافاً يكد أذهاننا، طلباً للعالم الحقيقي الذي نضطرب فيه، رضينا أو لم نرض، عالم الوجدان المشرق والنشاط الكامن والجماد المتأهب للتحرك، إلى ما يجري بينها من العلاقات الغريبة والإضافات التائهة في منعطفات الروح ومثاني المادة، يشترك في كشفها الإحساس الدفين والإدراك الصرف والتخيل المنسرح)
فالمذهب الفلسفي عند بشر فارس غير المذهب الفلسفي عند الأستاذ العقاد.
(العقاد) مذهبه النزول إلى ظواهر الدنيا والاطمئنان إليها من غير أن يهمل الحقائق كل الإهمال، و (بشر فارس) مذهبه الاعتماد على البصيرة والإحساس الدقيق والإدراك الصرف مع إهمال ظواهر العالم وطلب خفاياه وبواطنه، وهذا من المذهب الباطني أو التصوفي، وهو مذهب معروف عند أفلاطون وبلوطنيوس والمتصوفة على أشكالها، وقد أحكم أمره أخيراً الفيلسوف الفرنسي (برجسون وأيدته تجارب عدد من العلماء والأطباء فيما يتعلق بالعقل الباطن. وقد أسهبت في تبين هذا المذهب في المناقشة التي دارت بيني وبين بشر فارس نفسه في (الرسالة) منذ عامين.
وقد أحدثت آراء (برجسون) بدورها تيارات واسعة تأثر بها كثير من الكتاب، وأحدثت نوعاً من أنواع الشعر الرمزي في فرنسا.
فأين بصيرة (برجسون) التي أخذ عنها بشر فارس في معالجته قضية من قضايا النفس البشرية، وذلك في مسرحية (مفرق الطريق)، من المسائل الفلسفية الصرفة اللاحقة بنظرية المعرفة واليقين للفيلسوف (كانت التي تأثر بها الأستاذ العقاد في قصيدته (القمة الباردة)؟(370/26)
إذن يكون حقاً من عجائب الفهم أن يتهم (الناقد الأديب) بشر فارس بأنه أخذ مسرحيته هذه من تلك القصيدة.
ويكون أيضاً من عجائب الفهم ومدهشاته أن يلج (الناقد الأديب) في اتهامه هذا، محاولاً أن يقيم الشواهد على ما ذهب إليه، فإذا هو يتعسف، بل هو يغالط ولا يبالي أن يحرف المسائل عن مواضعها، فقال إن في قصيدة العقاد يعيش العقل متجرداً من الشعور في عالم ثلجي لا يشعر فيه بحياة. فأين ورد هذا في قصيدة العقاد وتقديمها؟؟
كذلك أورد (الناقد الأديب) ألفاظاً كالعقل والشعور والثلج، وقد غاب عن ذهنه أن الثلج عند (العقاد) رمز إلى ابتعاد المرء عن ظواهر الدنيا وتقربه من الحقائق وتمسكه بالفكر المجرد. هذا في حين أن (الثلج) عند بشر فارس، رمز إلى خلاص النفس من ألم الإحساس البشري.
وتورط (الناقد الأديب) فيما هو أدهى من هذا، وهو يحاول أن يقرب مسرحية (مفرق الطريق) من قصيدة (القمة الباردة) للعقاد فنسب تصميم رسم غلاف المسرحية إلى بشر فارس نفسه، والواقع أن صاحبة الرسم فنانة باريسية اسمها (سوزان جوفروا) كما هو موضح في الصفحة الأولى من المسرحية المطبوعة. وقد شرح المؤلف وضع المسرح في (التبيين) الذي صنعه للمسرحية (ص 140) مشيراً إلى رمز الغلاف، ولم ترد في تبيينه كلمة (قمة) ولا (غور)
بعد هذا يأتي اتهام آخر له وزن فيقول (الأديب الناقد) إن الصراع (بين العقل والشعور) وهو مما ورد في مسرحية بشر فارس، منقول بإطاره من قصيدة للشاعر علي محمود طه المهندس عنوانها (قلبي)
والرد على هذا أن الصراع بين العقل والشعور حقيقة من حقائق النفس البشرية، فهي عامة ومبذولة لكل كاتب، وما نعرف كاتباً أو شاعراً - إلا فيما ندر - لم يبن على هذه الفكر بعض مؤلفاته. وإلى القارئ أعمال (راسين) الفرنسي و (شكسبير) مثلاً شاهدة على ذلك. وما (الشاعر المهندس) إلا واحد ممن أخذوا بهذه الفكرة العامة. وستبقى هذه الفكرة، كما كانت دائماً، معيناً بأخذ منه الكتاب ما دامت النفس البشرية لم تتغير، وما دام الكتاب يعنون بتسجيل خفايا هذه النفس.(370/27)
وإن صح ما ذهب إليه (الناقد الأديب) في هذا الصدد، يكون الأستاذ الكبير توفيق الحكيم الذي أقام مسرحيته الرفيعة (شهرزاد) على فكرة الصراع بين المادة والروح قد سلخ هذه الفكرة ممن سبقه إليها في الأدب العالمي ويكون الحال كذلك في مسرحيات (إبسن وشكسبير وبيراندللو) الذي أقاموا مؤلفاتهم على حقائق النفس البشرية.
إن المعاني والفكر والمتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس فهي دوارة في نفس الجاهل والسوقي، والمتعلم والأديب، وإنما العبرة بطرائق معالجتها وبالكسى التي تضفي عليها من حيث حسن التأليف وجودة التركيب والابتداع، والنفس المبتكرة الخلاق، وهنا مجال التفاوت بإبراز الشخصية الكاملة المستقلة؟ ومن هنا يتأتى الخلود الذي يتوج أعمال الشعراء والكتاب والفنانين.
زكي طليمات(370/28)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
البلقان
تجتاز الحرب الآن فترة هدنة قصيرة، تنتظر فيها الأداة الحربية نتيجة المباحثات السياسية، فهي فترة صراع عقلي قاس، يتناول خريطة العالم بأجمعها، فالمباحثات السياسية دائرة في روما وبرلين وطوكيو ولندن وموسكو ووشنجطن، وتتناول موضوعاتها مستقبل الدول في العالم القديم والجديد.
ولكن أبرز هذه المباحثات وأكثرها جذباً لأنظار العالم ما يدور حول البلقان، تلك البقعة التي تنبأ لها العالم قبل أن تنشب الحرب بأنها ستكون مسرح نضال عنيف؛ ودامت الحرب عشرة شهور والبلقان تترقب ما تكشف عنه الأيام والحوادث. فهل تكشف الحوادث الأخيرة عن مصير (نصف دستة) من الدول؟ وهل ينتقل ميدان الحرب إليها أم تتولاها يد الاتفاقات السياسية بالبتر والترقيع؟
هذه أسئلة لا تسهل الإجابة عنها، فالسياسة تلد كل غريب، والمناورات الحربية تخلق المتناقضات، ولا نستطيع أن نجزم إذا كانت المناورات السياسية الحالية مناورات عسكرية يقصد بها شغل الرأي العام عن حركة عسكرية تعد، أم أنها مباحثات سياسية فعلاً؛ فالحرب الآن لا تقتصر على البندقية والمدفع ولكنها تمتد إلى الحالة المعنوية للشعوب.
نصيب الأسد
وعلى أية حال، فالبلقان الآن في كفه القدر، تتطاحن من أجلها دول أوربا الدكتاتورية علناً، وإن كانت تذيع في الوقت نفسه أنها متفقة كل الاتفاق، وقد تتفق سياسياً كما قالت الأنباء البرقية ولكنه سيكون اتفاق الإكراه، لأن الروسيا سواء اتفقت أم لم تتفق ستخرج من الغنيمة (بنصيب الأسد)، وستضطر إيطاليا إلى ابتلاع أمانيها والتخلي عن أطماعها التي طالما رددها موسوليني، وسترغم ألمانيا على نسيان وعودها. فالموقف الآن غير ما كان من سنة، فقد رق الآن قناع ستالين وبانت من خلفه أنياب أقسى مما كان موسوليني وهتلر يظنان، وأصبح لروسيا وحدها تقرير مصير تلك الدول.(370/29)
أما إنجلترا فيبدو للناس أنها تتفرج، وربما كان هذا صحيحاً، فالانتظار في مثل هذه الأحوال أصلح من التسرع، لتكشف كل من هذه الدول عن نياتها، حتى يتاح لإنجلترا أن تعمل، وعندئذ تضرب ضربتها في الصميم؛ فقد تأخرت دول البلقان في العمل، وكما نادى ساسة الإنجليز باتحاد تلك الدول، ولكنها ظنت سلامها في الحياد وتمسكت به، إلى أن حانت اللحظة التي صار الحياد فيها انتحاراً، وأصبح اتحادها قليل القيمة، بعد زوال القوة العسكرية الفرنسية من الميدان، وبعدما فرغ الجيش الألماني من أعمال البرية، واستتب له الأمر في ميدان أوربا الغربي، فأصبح جزء كبير من وحداته مطلق السراح.
وبرغم الأحداث الأخيرة ما زالت مصالح إنجلترا في البلقان راجحة، وما زالت تركيا واليونان مواليتين لها، ووقفت يوجوسلافيا صامتة.
رنين النقود
وما كادت الروسيا تستولي على بسارابيا وشمال بكوفينيا حتى هبت (بلغاريا) و (هنغاريا) تطالبان بنصيبهما؛ الأولى تطالب بترانسلفانيا، والثانية تطالب بدوبروجة؛ فقد صبرتا طويلاً وضحتها كثيراً، وهما في معاملاتهما تحدوهما غاية واحدة تنطبق على مثل بلغاري يقول: (إن أحب الموسيقى إليَّ هو رنين النقود التي تملأ كيسي)
فهل ملأت معاملات ألمانيا مع هاتين الدولتين في الفترة الماضية كيسهما نقوداً؟ الحقيقة أن الفترة الماضية كانت فترة تضحية من جانب الدولتين، فكانتا تقدمان لألمانيا محصولات بلادهما مقابل بعض المنتجات الألمانية الناقصة أو القليلة القيمة، وكانتا ترسلان إليها المواد الغذائية وتستوردان مدافع تنقصها الذخيرة، وآلات كاتبة أو أدوات تصوير، فقد تحفظت ألمانيا في تسليح هاتين الدولتين حتى لا تكونا خطراً يهددها إذا حانت ساعة الفصل.
وهاهما تان الآن تطالبان بالثمن، ولا شك أن الفترة الحالية أحسن فترة تتاح لهاتين الدولتين لمواجهة ألمانيا التي من مصلحتها أن يستقر السلام في مخزن مئونتها في البلقان، فرومانيا متأثرة بصدمة الروسيا وألمانيا تريد التفرغ لإنجلترا ولا تريد شغل نفسها في ميدانين، والروسيا متحفزة لتنفيذ خططها غير مقيدة باتفاق أو تعهد إلا مصلحتها الخاصة.
وتنتهز الروسيا - كما شاهدنا حتى الآن - الفرص للعمل فتترك الدول تتطاحن حتى إذا قررت عملاً سبقتها إلى الحصول على ما تريد وتضعها أمام الأمر الواقع، وأهم أغراض(370/30)
الروسيا في البلقان أولاً: الاستيلاء على آبار البترول في رومانيا، وثانياً: الوصول إلى مضيقي البوسفور والدردنيل كما قلنا من قبل، ونجاحها في الحصول على هذه الأغراض رهن بالظروف التي تعدها الدول المتطاحنة.
نصيب إيطاليا
وانحط مركز إيطاليا في التطاحن الحالي، فبعد أن كان لها صوت مسموع ومركز محترم في البلقان أصبحت كلمتها ثانوية ومن قبيل الاستشارة فحسب، إذ أصبحت تابعة لهتلر تستمد من خططه خطهها، واضطرتها ظروف الحرب الحالية إلى الخضوع للخطط الألمانية خضوعاً تاماً.
وقبل أن تنغمر إيطاليا في سياسة المحور كانت ذات أطماع كبيرة، ولم يكن استيلاؤها على ألبانيا إلا خطوة لاعتبارها هي من دول البلقان، فمن ألبانيا فتح أمامها الطريق إلى بلاد اليونان ويوجوسلافيا، فضلاً عن أنها أتمت سيطرتها على بحر الأديارتيك ووضعت منافذ يوجوسلافيا البحرية تحت سطلتها، فإن مضيق أترنتو لا يتجاوز طوله40 ميلاً يسهل أقفاله بالألغام أو السيطرة على منبع مائه بالمدافع الساحلية.
ويرجع اهتمام إيطاليا بالبلقان على ما قبل الحرب الماضية، فكانت المنافسة بينها وبين الإمبراطورية على أشدها في البلقان وخصوصاً في ألبانيا؛ فأنشأت كل منهما عدة مدارس لنشر ثقافتها في تلك البلاد، وكانتا تتنافسان في جذب الطلبة إلى معاهدهما فتقدمان لهما الملابس والغذاء مجاناً، وكانت كل منهما تحرص على عدم إغضاب الطلبة وتوقيع العقوبة القاسية عليهم حتى لا ينتقلوا إلى مدارس الأخرى.
ولسياسة إيطاليا القديمة يفضلها البلقانيون على ألمانيا ولكن ضعف إيطاليا الحالي واعتمادها على ألمانيا دفعا بالدول البلقانية إلى الارتماء في أحضان ألمانيا لحمايتهم من أطماع الروسيين.
ولا نستطيع أن نجزم الآن بما سينتج من المحادثات الدبلوماسية التي تدور الآن، ولكنه من الواضح أن الدولتين اللتين تسعيان لسيطرتهما على دول البلقان هما الروسيا وألمانيا، فرومانيا تستغيث بألمانيا وتقدم لها فروض الطاعة، وتسير لها التجارة أملاً في حمايتها، ولإيجاد مصالح قوية تحتم على ألمانيا الدفاع عنها.(370/31)
ولا نعتقد أن أنباء الاتفاق الأخير بين رومانيا من ناحية والمجر وبلغاريا من الناحية الأخرى على إعطاء الدولتين الأخيرتين بعض ما تطمعان فيه في رومانيا اتفاقاً نهائياً، فهو كما يبدو لنا مجرد تهدئة أعصاب لا يلبث أن يمحى عندما تضع الحرب أوزارها، لأن معناه أن تخرج ألمانيا من البلقان صفر اليدين وهذا ما لا ترضاه، إذ من الراجح أن تكون يوجوسلافيا من نصيب إيطاليا بحكم قربها منها ولطول سواحلها على بحر الإدرياتيك مما يهدد سيادة إيطاليا البحرية في الصميم؛ والغالب أن تنقض ألمانيا هذه الاتفاقات عندما تسنح لها الفرصة لتحقق أطماعها في البلقان سواء بالسيطرة التجارية أو العسكرية.
فرنسا تعتنق الهتلرية
نعم فرنسا التي كانت تدين منذ عهد الثورة الفرنسية بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، تقبر الآن الحرية والمساواة والإخاء لتقلد الهتلرية، فينادي قادتها بالديكتاتورية ويدعون إلى ترك المبادئ التي طالما كانت تضئ للعالم سبل المدينة والتقدم، لترجع إلى مبادئ القبيلة، لتقدس الأسرة بعدما كانت تقدس العالمية، وتعمل للفرد بعدما كانت تعمل للعالم، فتنكمش مثلها العليا من التعميم إلى التخصيص، وتنحصر أفكارها فبعد ما كانت تقود العالم بآراء مفكريها، ومبادئ أهلها، تزول عنها الصبغة الدولية لتحل محلها صبغة الأسرة.
وسبقتها ألمانيا في هذا السبيل من قبل، وفي مثل ظروف الهزيمة واليأس التي تعانيها فرنسا الآن، ولكن ألمانيا في عهد غليوم الثاني كانت أقرب إلى الدكتاتورية منها إلى الديمقراطية؛ تكونت في عهد ولهلم الأول وبسمارك دولة حديثة العهد لم تتم وحدتها إلا بعد حرب الأمم، فلم يتعاقب على وحدتها جيلان حينما حلت بها كارثة الحرب العظمى، ولم يشعر أهلها حتى ذلك الوقت بثقل وطأة النظام الفردي، فلم يقدموا المبادئ الديمقراطية ما قدمت فرنسا من ضحايا، ولم يحطموا من مظاهر الظلم والجور ما حطم الفرنسيون في سجن الباستيل، ولم تمر بهم خطوات التقلب من الملكية المطلقة، إلى حكومة الإدارة، إلى الإمبراطورية إلى الجمهورية.
لم تتقلب ألمانيا المتحدة في تجارب أنوع الحكم من جمهورية وإمبراطورية كما تقلبت فرنسا، فلم يتول حكم ألمانيا إلا عاهلان فتيسر لو لهلم الأول بناء وحدتها، وجاء غليوم الثاني فكان نكبة عليها، وظل الاتحاد الجرماني طول عهده بالحياة في ظل الحرب(370/32)
وللاحتفاظ بالوحدة، ولم يفكر أهله تفكيراً جدياً في نظام الحكم الملائم.
تقليد غير موفق
فهل ينطبق هذا على فرنسا التي عاشت القرون الطويلة متحدة تجرب ألوان الحكم من فردية مطلقة، إلى فردية مقيدة، إلى حكومة شعبية؟ وهل يستطيع الفرنسي أن ينزع من قلبه حب الحرية ليعيش مقيد الحرية، محصور التفكير، تعد عليه أنفاسه وتفرض عليه تصرفاته كما يريد هتلر ونصيره بتان؟
كلا. إن حب الحرية في دم كل فرنسي، فإذا شغلته النكبة الحالية عن مبادئه، فلن يلبث أن يعود إلى رشده ويذكر حريته عندما تستقر الحال، فالصدمة الحالية لن تسلب الفرنسي الحقوق التي سطرها بدمه، فهو الآن في نوبة من الغيبوبة التي تزول عندما تزول الصدمة.
وهذه المظاهر التي أعلنها المارشال بتان إنما هي تقليد أعمى يخالف الثقافة الفرنسية، ويتنافر مع طريقة المعيشة الفرنسية، ولعل الدافع للمارشال بتان على هذا التقليد ما يراه من تشابه بين حال فرنسا الآن وحال ألمانيا عقب الحرب الكبرى، من انهيار استقلال أمته وتغير أقيسة المعيشة فيها؛ فإذا كانت هذه نظرته، فقد فاته ما بين الشعبين من اختلاف في التقدير والحالة العامة.
فقد خرجت ألمانيا من الحرب الكبرى بعد نضال دام أربع سنوات أكل الأخضر واليابس؛ فأنهكت موارد البلاد حتى عم الجوع وتضخم النقد حتى فقد قيمته الشرائية، وأصبحت ألمانيا في حالة إفلاس، وانتشرت البطالة والشيوعية بين الشعب، فلم يجد الناس عملاً يكتسبون الرزق من ورائه، وظهرت الفتن والثورات.
تشغيل العاطلين
في هذه الظروف برز هتلر فوزع الوعود ما وسعه الكلام، وما سمحت به الاستعارات؛ وكان الشعب في حالة اضطراب، لا يصدق أنه خسر الحرب بعدما بذل من جهد ومال، فقال لهم: ما جذبهم إليه إذ اتهم اليهود بأنهم سبب خسارة الحرب بما نسجوا من دسائس ومؤامرات.(370/33)
وزاد على ذلك أن استدرج الشعب فجعل من حزبه مكتباً لتشغيل العاطلين، وعلى هذا الأساس بنى حزبه، متوسلاً إلى تحقيق برنامجه باضطهاد اليهود وفصلهم وإحلال الألمان محلهم، وبتكوين فرق مقاتلة تحمي المصانع الكبيرة من جهة، وتكره أصحاب الأعمال على إطاعته من جهة ثانية.
فهل هذه حال فرنسا الآن؟ هل عمت البطالة فرنسا وانهار نقدها وجاع أهلها؟ إن فترة الحرب كانت قصيرة فلم تمهد لهذه الأحداث؛ وفرنسا دولة قليلة السكان لم يشك أهلها كما شكى العالم من أزمة البطالة الحادة في السنوات الماضية.
استقرار الحكم
فليس للشعب الفرنسي من الأسباب ما يدفعه إلى كره مبادئه والسخط عليها، وإذا كانت هناك أخطاء فهي أخطاء القادة من أمثال بتان؛ أضف إلى ذلك أن نصر ألمانيا لم يتم، وما زالت إنجلترا في الميدان، وما زال دي جول يمثل الشعب الفرنسي، وفي نصر إنجلترا خلاص فرنسا من كارثتها الحالية.
فتجربة بيتان تجربة وقتية لن تلبث أن تزول، لأنها لا تقوم على أسس صحيحة، ولم يبلغ يأس الشعب الفرنسي حده ليترك مبادئه السامية ويشايع الهتلرية؛ وإن كانت هناك أخطاء في عدم استقرار الحكم.
فليحاول هتلر أن يقلب رجال الحكم ويضع مكانهم رجالاً نازيين، وليحاول بيتان أن يجاريه في تنفيذ هذه السياسة ما وسعته المجاراة فإن فرنسا لم تصدم الصدمات التي تنسي شعبها حبه للحرية والمبادئ التي ضحى من أجلها.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(370/34)
من نار الوطن
يا (مصر). . .
. . . يا أنشودة الدنيا!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
ناداكِ مَجْدُكِ فاسْتَجيبي! ... واْمشي لهُ فَوْقَ اللَّهيبِ!
وَتَجَشَّمِي لِعُلاَهُ نِيرانَ الشَّدَائِدِ والْخُطوبِ
وَثِبي لَهُ أَيَّانَ شَا ... َء، وَلَوْ عَلَى كَبِدِ الْغُيُوبِ
صَفَّا مِنَ الأَبْطالِ يَزْ ... حَفُ تَحْتَ أَلْوِيَةِ الْقُلُوبِ
نَشْوَانَ يَهْزَاُ بالْمَنا ... يا الْحُمْرِ في الْيَوْمِ الْعصِيبِ
وَيُزَلْزِلُ الْأيام إِنْ ... لَقِيْتَهُ عَادِيَةُ الْكُرُوبِ. . .
هُبِّي كَطَاِغَية الرِّيا ... حِ، وَثَوْرَة الْبَحْرِ الْغَضُوبِ
يا (مِصْرُ) قَدْ دَوَّى النَّفِي ... رُعَلَى ضِفاَقِكِ فاسْتَجِيبي
واسْتَنْهِضي النُّوَّامَ في ... زَمَنِ التَّحَفُّزِ والوُثوبِ
زَمَنٍ نَرَى الدُّنيا بهِ ... سَبَّاحَةً بِدَمٍ صَبيبِ
والدَّهْرَ مِثْلَ سَريرَةٍ ... نَاَءتْ بِأَعْبَاءِ الذُّنوبِ
غَشِّتْ عَلَى أَرْجَائِها ... ظُلمُ التَّشَكُّكِ والرُّيوبِ
والشَّرُّ، والْقَلَقُ المُفَزِّ ... عُ لِلْمَضَاجَعَ وَالْجُنُوبِ!
والأرْضَ مِثْلَ سفِينَةٍ ... رَعْنَاَء في يَمٍْ قَطوبِ
حَيْرَى تَضَلِّلها الرِّيا ... حُ عن الْمَسَالِكِ والدُّرُوبِ
في الشَّرْق، في الْغَرب الْمُرَوَّ ... ع، في الشَّمال، وفي الْجَنوبِ
لَيْلٌ تَرصَّدَ أُفْقَها الدَّا ... جِي بإِعْصارٍ رَهِيبِ
ورَديً يَقولُ لها: أَثِمْ ... تِ فأَقْبِلي عِنْدِي وَتُوبي
هاتي الدَّمَ الْمَسْفُوكَ مِ ... نْكِ وَأَتْرِعي قَدَحي وَكُوبي!
فَمضَتْ تَحبَّطُ في الْقَتا ... مِ بِحَيْرِة الطَّفْل الْغَريبِ(370/35)
رُبَّانُها (عِزْريلُ) فان ... ظرْ هَوْلَ مَصْرَعِها الْعَجِيبِ!
يا (مِصْرُ) حَوْلَكٍ مِرْجَلٌ ال ... آفَاقِ مُضْطرِمُ الشُّبوبِ
ريحُ الحُروب عليه في الدُّن ... يَا مُجَلْجلَةُ الْهُبوبِ
مَعْتُوهَةُ الْخُطواتِ تَعْ ... صِفُ بالخَصيبِ وَبالْجَديبِ
هَبَّتْ وَشَمْسُ الْعَصْرِ في ... سِرْبالِ بَهْجَتْها القَشيبِ
فإذا بها أَشْلاَءُ لَ ... يْل فاجِعِ الرُّؤْيا كَئِيبِ
حَفَرَتْ له قبْرَ الحضا ... رَةِ فِتْنَةُ الْعَقل الْمَريبِ!!
يا (مِصْرُ) يا أُنشودَةَ الدُّ ... نيا وَأُغْنِيَةَ الشُّعوبِ
يا أم أبطال الفُتُو ... نِ وَأُمَّ أَبْطال الْحُروبِ
يا أَرْغُنَ التَّارِيخِ، يا ... نَغَما مِنَ السِّحْرِ الْمَهِيبِ
يا جَنَّةً تَهْتَزُّ بال ... أسْرار بَيْنَ شَذىً وَطِيبِ
مَنْ كلِّ مُعْجِزَةٍ يَنُو ... ءُ بَوحْيَها قَلَمُ الْغُيُوبِ
وَتَمِيلُ عَنْها حَكْمَةُ الْكُ ... هَّانِ شَلاََّء الدَّبيبِ. . .
وَالسَّحْرَ تُفْزِعُهُ طَلا ... سِمُها فَيُمْعِنُ في الْهُروبٍ
وَالشَّمْسُ تخْشَعُ في ثَرا ... ها في الشُّروقِ وفي الغُروبِ
آثارُ قَوْمِ أذهلوا الدُّ ... نيا بفَنِّهِمُ العَجِيبِ
وَبما أَفاءُوا من ظِلا ... لِ الْمُلْكِ وَالْمَجْدِ الرَّحِيبِ
وَبما بَنَوْا لِلنِّيل مِنْ ... عِزٍّ بِمَوْجَتِهِ خَضيبِ. . .
النِّيلُ! مِرْآةُ النُّجو ... مِ وَكهْفُ عَالَمِها الرَّهِيبِ!
بَلْ قِصَّةُ الشَّمْسِ التي ... تَسْلُو بها شَجَنَ الْمَشِيبِ
وَتُذيبُ أَحْزان الأشَّع ... ةِ فَوْقَها عِنْدَ الْمَغِيبِ. . .
وَقَصِيدةُ الشَّرْقِ الْمُعَطَّ ... رَةُ المطَهِّرَةُ الطُّيوبِ
جَمعَتْ عَلَى أَنْغامِها ... شَتَّى مُنَّى وَأَسَى قُلُوبِ
وَتَنَفَّسَتْ بالحُبِّ بَيْ ... نَ شَذَى رُبىً وَهَوَى شُعُوبِ
النِّيلُ! غَابُ الفاتِحي ... نَ الصَّيدِ غِيلانِ الحُروبِ!(370/36)
يا خَيْلَ (رَمْسيسَ) اصْهَلِي ... وَبِجَيْشِكِ العاتي أَهِيبِي
قُومِي اذكُري أَهْوَالَ جُنْ ... دِكِ فَوْقَ نيرانَ السُّهوُبِ. . .
يا سَيْف (إبراهيم) عَدْ ... فَوْقَ الْحِمَى أَمْضَي خَطِيبِ
فالْيَوْم يَوْمُكَ يا حَدِ ... يدُ، وَيَوْمُ فُرْسَانْ اللَّهيبِ
يَوْمُ الْجِبَالْ الزَّاحِفا ... تِ مِنَ المَنَاياَ وَالْكُرَوبِ
يَوْمٌ جَهَنَّمُ لَوْ رَأَتْ ... هُ لَرَاعَها هَوْلُ الْوَجِيبِ. . .
فَقَفِي لَهُ يا (مِصْرُ) واصْ ... طَرِعي بِأَْرزَاءِ الْخُطُوبِ
ضُمِّي يَدَيْكِ عَلَى الْجِرَا ... حِ وَأَلِّفِي بَيْنَ الْقُلُوبِ!
وامْشي عَلَى الْبَأُسَاءِ سَا ... خِرَةً بِأَهْوالِ الْحُرُوبِ
وامْضي. . . فَتَاجُكِ في السَّم ... اءِ مَنَارَةُ الْوَطَنِ الْحَبيبِ
يا كَعْبَةَ الأَحْرَارِ رَنَّ ... هُتّافُ شَاعِرِكِ الطَّرُوبِ
(وَدَعَاكِ مَجْدُكِ فاسْتَجِيبي ... وامْشي لَهُ فَوْقَ اللَّهيبِ)
(يا (مِصْرُ) يا أُنْشوُدَةَ الدُّنْ ... ياَ وَأُغْنِيَةَ الشُّعُوبِ!!)
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل
مراقبة الثقافة - بالمعارف(370/37)
هذا العالم المجنون
للأستاذ يوسف أسعد
إلى السَّلم يُدعى فلا يسمعُ ... ويُعطي الكثير فلا يقنعُ
وتأبى سياستُه أن تعفَّ ... ففي كل غنمٍ لها مطمع
تدبُّ دبيب الكرى في الجفون ... ومن خلفها عقرب تلسع
وتصحو على الدَّم ظمأى إليه ... وبالدَّم تحلم إذ تهجع
فلا قيمة عندها للعهود ... ولا رحمة بالورى تشفع
ومن ألفِت نفسه الموبقات ... فهيهات عن غيّه يرجع
لذا كان عدّته في الحياة ... وشاغلَه (التنك) والمِدفع
فللحرب أزواجها الأمهات ... وأرحامهنَّ وما تدفَع
وللحرب ما يُنتج الزارعون ... وللحرب ما يُخرج المصنع
ومن بعدُ فليُنكب الأبرياء ... وتُنتزَع الهامُ والأذرع
ويكتسح الخوف دُور الأمان ... فلا يستقرُّ بها مضجع
علا الأرضَ في الجوّ فوق الخضم ... ومن تحت أسلحةٌ شُرَّع
جنونٌ فشا في جميع الجهات ... فلم يخلُ من شرِّهِ موضع
وما ضاقت الأرض بالساكنين ... ولا غاض من رزقها منبع
ولو سبر الناس غور الأمور ... لما فاتهم أيُّها الأنفع
ولكنها نزوةُ الفاتحين ... طغى جارفاً سيلُها المترَع
فظيع من الناس سفك الدماء ... وإصرارهم حدَث أفظع
وشرُّ الخلائق حوت يعبُّ ... من البحر عبِّا ولا ينقع
وأفقدهم للشعور بصير ... يمرُّ على الدَّم لا يخشع
فيا مذكياً نارها في الضلوع ... وما لك في نارها إصبع
إذا شَبع الوَحشُ عفَّت يداه ... وبالضدِّ وحشك إذ يشبع
ستدري فظاعة ما قد جنيت ... متى سكن العاصف الزعزع
(المنصورة)(370/38)
يوسف أسعد(370/39)
البلبل
(مهداة إلى نجيّ (البلبل) الأستاذ حسين عفيف)
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
بَلُبُلَ الوادي اسْتَفِقْ فالدِّ ... يكُ قد نَبَّهَ فَجْرَكْ
الربيعُ الطّلْقُ قد آ ... بِ وما بارَحْتَ وَكْرَك
والرِّياضُ الغِينُ قد أطْ ... لَعْنَ للفِتنةِ زَهْرَك
وحَمامَاتُ الحِمَى ين ... قلْنَ للأَنسامِ شِعْرَك
والنسيمُ العَذْبُ قد أف ... شى إلى العالَمِ سِرَّك
عِطْرُكَ الحُبُّ. . . فَصُبَّ ال ... آن في الأرواحِ عِطْرَك!
بلبلَ الوادي تنَبَّهْ. . .! ... لِمَ لا تُطْرِبُ صُبْحَك؟
قُمْ إلى الدَّوْحِ وَغَرِّدْ ... فَلَكَمْ هَدْهَدْتَ دَوْحَك
قمْ إليه فَخُيوطُ الشم ... سِ قد داهَمْنَ صَرْحَك
غَرِّد الآن فقد أَسْ ... لَمْتَ للأَصداءِ نَوْحَك
بَلَسَمُ الأيام يا بل ... بلُ قد مَرْهَمَ جُرْحَك
فعَلاَمَ الصمتُ والحزْ ... نُ ووجهُ الأرضِ يَضْحَك؟
الربيعُ الطّلْقُ قد آ ... بَ، ولَكِنِّي مَهِيضُ
لم يَضِقْ وَكْرِي وقد ضا ... ق بيَ الكَوْنُ العريض
جَدْوَلً الرحمةِ فيه ... أَوْشَكَ الآن يَغيض
نَضَبَتْ فيه الأماني ... بعد أن كانت تَفيض
إنَّ في الوَكْرِ هَناءا ... تٍ يُلاشيها النُّهوض
أنا إن غَرَّدْتُ أو نَوَّ ... حْتَ لن يَغْنَي القَريض
الربيعُ الطّلْقُ قد آ ... بَ فَمَنْ لي بربيعي؟!
بَسَماَتُ النُّورِ في عَيْ ... نَيَّ وارَتْها دموعي
وظِلاَلُ الراحةِ السَّمْ ... حَةِ مالت عن رُبوعي
وَنَهاة الطير قد غَصَّ ... تْ بِمُهْرَاقِ النَّجيعِ(370/40)
فدعوني صامتاً أَدْ ... فِنُ فِي الصَّمْتِ نزوعي
ما الربيعُ الحقُّ إلاّ ... جَفَقاَتٌ فِي الضُّلوعِ!
حسن كامل الصيرفي(370/41)
رسالة الفن
متفرقات
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
من أيام الفاروق
احتفلت مصر يوم الاثنين الماضي بالعيد الدستوري للملك فاروق
وللملك فارق فضل على الفنون الجميلة فيما له من أفضال على سائر نواحي الحياة في مصر. ومن أنصع أياديه البيض على الفن تشجيعه للتمثيل والشعر تشجيعاً ملحوظاً رائعاً.
وإني أسجل بالفخر لجلالته عدة حوادث لها دلالاتها المسعدة التي تنتعش بها نفوس الفنانين.
أما الحادثة الأولى فقد كانت يوم وقف الفاروق في مقصورته بعد ختام الفصل الأخير من رواية (لو كنت حيلوة) التي مثلتها أمام جلالته فرقة الريحاني في دار الأوبرا، فقال جلالته لشعب الريحاني الذي هو من شعبه: (أرجو أن تكونوا جميعاً قد أفدتم من هذه الرواية ما يجب أن يفاد منها). . .
وقد كانت هذه الرواية تصور أخلاق نظار الأوقاف، وبلايا المستحقين في الأوقاف، كما كانت تعرض إلى جانب هذا ألواناً من الدس الشنيع والتآمر الخاطئ في ثوب مكروه بغيض. . .
فكان لكلام جلالته على أثر هذه الرواية معنى، وكان من هذا المعنى أن جلالته يحب من شعبه أن يعدل إذا حكم، وأن يزن الحق بقسطاس الله، وألا يطلب الحق إلا طلباً صريحاً لأن الحق لا يطلب إلا صراحة، والدس والتآمر للزور.
وكان لهذه الحادثة بعد ذلك معنى آخر، وهو إعجاب جلالته بفرقة الريحاني، وهي الفرقة التي ظلت تعمل السنوات الطوال في صبر واجتهاد كانت تنتزع يهما صفوة المصريين نفراً نفراً وهم متحرجون من الاعتراف بالتفوق الفني (لكشكش) لا لشيء يحرجهم إلا أنه (كشكش) وليس (عطيلا) ولا (هملت)
ولكن بعد كلمة الملك رفع (كشكش) رأسه بالحق(370/42)
وأما الحادثة الثانية فقد كانت تمثل فيها فرقة أنصار التمثيل والسينما رواية نسيت اسمها ولكن أذكر أن موضوعها كان يدور حول الصدق، وأن أبطالها التزموا الصدق فيها يوماً من أيام المسرح. . . وبين فصلين من فصول هذه الرواية تشرف الأستاذ سليمان نجيب بالمثول بين يدي الملك فسأله جلالته: (هل تستطيع أن تقول لي وأنت بطل من أبطال الصدق اليوم من هو الذي يصلح لأن يحكم مصر؟) فأجاب الأستاذ سليمان نجيب بقوله: (هو الرجل الذي تختارونه جلالتكم). . . وهي إجابة مؤدبة من الأستاذ سليمان نجيب، ولكن جلالة الملك كان غير شك يريد في ساعة الصدق هذه أن يسمع رأي رجل من الرجال المنتسبين إلى الفن، والفن هو أصدق الصادقين، وقد شرفه الملك بتوجيه هذا السؤال إليه ولكن ممثل الفن الذي تلقى هذا السؤال كان مؤدباً.
وأما الحادثة الثالثة فقد كانت في حفلة من حفلات الجمعية الخيرية، وقد ألقى في هذه الحفلة الشاعر النابغة محمود حسن إسماعيل قصيدة، فدعاه جلالته إلى مقصورته وحياه ولاطفه، وكان محمود إذ ذاك لا يزال يتسلق المجد بمشقة وتعب، فلما ظهر بإعجاب المليك به قفز إلى القمة ولم يعد شاعر في مصر يستطيع اليوم أن يطاوله.
من هذه الحوادث تستطيع أن نقول إن لجلالة الفاروق فضلاً على الفن فيما له من أفضال، فهو راعيه وهو موئله.
الدكتور أدهم
اللهم ارحم الدكتور أدهم، فقد كان يريد أن يعرفك، وكان يريد أن يصل إليك، ولكنه ضل الطريق، وكفاه شقاء أنه قتل نفسه حين ضل.
وقصة الدكتور أدهم مأساة قد يحسن عندها الصمت الحزين ولكني أوثر أن أقول فيها كلمة لأنها فرصة مناسبة - وإن كانت مؤلمة - يمكن أن تقال فيها كلمة من كلمات الإيمان والرضا.
مما هو ملحوظ أن أغلب الذين ينتحرون علماء ومفكرون يجرهم العلم والتفكير إلى الإلحاد.
ومما هو ملحوظ كذلك أن أغلب الفنانين يشقون في حياتهم شقاء مريراً ومع هذا فهم لا ينتحرون وإنما يصبرون، ويعيشون، ويحتملون ولا يشكون.(370/43)
ومما هو معروف ثابت إلى جانب هذا وذاك أن الموت ضد الحياة، وأنه لا حي يطلب لنفسه الموت.
هذه الحقائق كل منها مرئي على انفراد، فإذا أطلقنا بعضها على بعض استطعنا أن نقول إن الفن يورث الإيمان والحياة، وإن من العلم ما قتل كما يقول الأستاذ بشارة الخوري.
فلماذا؟
الواقع أن هذا يرجع إلى أن الفنان يرى بالتجربة أنه لا ينتج شيئاً يروقه هو ويعجبه إلا على عجز منه، لا تدبير له فيه ولا إرادة. ومن هذا يتعلم الفنان أنه في هذه الدنيا مرزوق يعطيه الله ما يريد، ومحروم يمنع الله عنه ما يشاء. وبهذا العلم يعيش الفنان ويصبر ويشيخ وهو يرجو السعادة وينتظرها، بل إنه لينعمن بالسعادة في أرذل أوقات الشقاء، تلك الأوقات التي يراها الناس شقاء، والتي يستشف الفنان فيها من لطف الله وكرمه وإحسانه ما لا يستشف غيره ممن ربطوا عقولهم على صنوف خاصة من الحاجات والنعم فهم لا يرون غيرها، ولا يرضون من غيرها، بينما الحياة المجردة نعمة.
أما رجال العقل والفكر - العقل الأوربي والفكر الأمريكاني - فأولئك الذين يكرهون الحياة لأنهم يحرصون تفكيرهم في نوع خاص من الحقائق المجردة يريدون أن يعوها وعياً منطقياً معقولاً بينما هي أعز من أن ينالها هذا الوعي، وبينما هي تتطلب ممن يحب أن يصل إليها أن يعزز عقله إذا ارتقى بخلق مرتق، وبأفعال مرتقية، وبحياة ينسجم فيها الارتقاء الإنساني من كل نواحيه. وبهذا فقط تستطيع النفس أن تصل إلى الحقائق العليا.
والعجيب أننا حين نحدث أصحاب العقل والفكر هؤلاء بمثل هذا الحديث يقولون لنا: وما دخل الأخلاق والعبادات التي لا نعدها إلا شعوذات في الوصول إلى الحقائق المجردة؛ وأذكى ذكي منهم يسألنا قائلاً: هل يلزم أن أكون رجلاً فاضلاً كي أعرف أن المغناطيس يجذب الحديد، وأن الأرض تدور دورة كاملة في اليوم، وأن لها قمراً واحداً بينما لزحل أو عطارد أكثر من قمر. . .؟!
وجوابنا على هذا الذكي الأذكى هو أن الشر إذا لم يكن يؤذي نفس صانعه فإنه يؤذي نفس من يقع عليه، فهو إذن شيء تكرهه النفس، وهو إذن عدو لها، فيجب على النفس التي تريد أن تعرف نفسها أن تتخلص أولاً من هذا الذي تكرهه، عدوها الكامن فيها. . .(370/44)
وبعدئذ حين تعرف النفس نفسها. . . وترى نفسها. . . تستطيع أن تسأل: من أين هي؟ وإلى أين هي؟ وستعرف أنها من الله وأنها إليه راجعة، كما عرف ذلك كل مؤمن، وكل فنان ألهمه الله فنه. وبعد أن تعرف النفس نفسها تستطيع أن تعرف غيرها. . .
رحم الله الدكتور أدهم مرة أخرى
وإني أعود فأنتهز هذه الفرصة لأنصح شبابنا الحائر وراء المعرفة بألا يغتر بعقله، وبأن يعتمد في المعرفة على خلقه كما يعتمد على تفكيره.
اللهم وفقنا جميعاً، واللهم ارحمنا جميعاً. . . يا أرحم الراحمين يا رب. . . هداك
هل هو انتقام؟
الأستاذ عزيز عيد من أشد الناس صبراً على المكاره، فهو في أوقات المحنة لا يشكو، ولا يكفر بالله، ولا يتملق أحداً، وإنما ينتظر، ويظل ينتظر حتى يأتيه فرج الله من حيت لا يحتسب أو من حيث يحتسب.
ولكن ليس معنى هذا أننا إذا كنا نملك إسعاد الأستاذ عزيز عيد أن نمسك عنه ما نستطيع أن نقدمه إليه لا لشيء إلا لأنه قوي النفس صلب الكرامة.
لقد سمعت أن الأستاذ عزيزاً يفكر في أن يؤلف فرقة صغيرة يمثل بها في الاستراحات التي تتخلل الروايات في دور السينما.
وهذا عمل كان يقوم به الفقير حسن بك، كما كانت تقوم به فرقة الحلو البهلوانية وغيرها، وإذا أقبل الأستاذ عزيز عيد على عمل كهذا فإنه لن يقوم به إلا لأنه رأى مجال الفن قد ضاق عنه.
فهل صحيح أن مجال الفن قد ضاق في مصر عن عزيز عيد، وفي مصر فرقة قومية ترعاها الحكومة وتنفق عليها؟
إن هذا يكون صحيحاً إذا كان أقل فرد من أفراد هذه الفرقة له دراية فنية، وتجربة مسرحية تفوق ما للأستاذ عيد
فهل تستطيع الفرقة القوية أن تدعي هذا؟
إن كل ما يعيب الأستاذ عزيز عيد هو شدة طموحه الفني، فهو لم يخرج من الفرقة القومية في هذه المرة إلا لأنهم عهدوا إليه بإخراج (مجنون ليلى) فأراد أن يكرمها، وطلب من(370/45)
الفرقة أن تنفق عليها نفقات رأتها هي باهظة فأمسكت عن إنفاقها.
ولقد كان من الممكن أن تقف المسألة عند هذا الحد، ولكنهم شاءوا في الفرقة القومية أن يشعلوا عزيزاً فلم يعتذروا له بالفقر وإنما سخفوا فكرته، فتحمس هو لها، فاتسعت شقة الخلاف بينهما، فانفصل الأستاذ عن عمله
وإني أتجه الآن بهذه الكلمة للشاعر الفنان الأستاذ خليل بك مطران. ولا أريد أن أزيد. . .
عزيز أحمد فهمي
-(370/46)
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة
جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
تقرير الأستاذ رسكا
يتساءل الأستاذ رسكا: كيف وأين نظمت وألفت هذه الكتب المنسوبة إلى جابر؟ هل هي أعمال فرد واحد أم من أعمال مدرسة؟ هل حدث تأليفها وتطوره وتقدمها في مدى وقت قصير أم انتشر على بساط قرن كامل؟ كل هذه أسئلة لا زالت أجوبتها غامضة، بل قل لا زالت غارقة في بحر من الغموض والإبهام.
وتلك النصوص التي نشرت بإشراف الأستاذ هوداس لا تكفي تماماً كي نصدر حكما صحيحاً على مميزات أدب جابر بن حيان الكيميائي.
ويجب أن أعترف أن (كتاب الرحمة) بمحاوراته المضحكة بين جابر بم حيان وجعفر الصادق ما هو في الحقيقة إلا قصة ملفقة، و (كتاب الملك) يفشي سر نفسه بنفسه حينما يرجع أصله إلى جعفر الصادق، وبعض النتائج يمكن استنتاجها في شأن (كتاب الموازين) لأنه عنوانات بعض أعمال أرسطو في المنطق التي ابتدأت معرفة العالم الإسلامي لها بعد أواخر القرن التاسع من الميلاد. ولكن إذا سلمنا بصحة نقد هذه الكتب الثلاثة، فهل يؤثر هذا بقليل أو كثير في المشكلة ككل؟ وبالأحرى هل يمكن أن نفصل المؤلفات الكيميائية مسلمين بأنها من عمل جابر عن قائمة الفهرست الثانية؟ أليس من المعقول أن مؤلف الكتب الكيميائية ينتمي إلى زمن وإلى بيئة مدرسية يختلفان كل الاختلاف عن هؤلاء الذين ألفوا الكتب الطبية والفنية والرياضية والإلهية؟
من الجلي الواضح أن ذلك الذي يستطيع الأخذ بيدنا إنما هو البحث خلال المخطوطات التي عثر عليها أخيراً، وإني لموفق إذ استطعت الحصول بمساعدة الأستاذ ماكس مايرهف لا على صورة للنصوص العربية للسبعين كتاباً التي ذكرها ابن النديم فحسب، بل أيضاً على بعض النصوص غير المعروفة ككتاب (السموم) و (الملك النوعي) وغيرها من(370/47)
المؤلفات التي جمعت لأجل (مجمع برلين للدراسات الطبيعية)
وهذه المؤلفات قد فتحت مدى أوسع في الأبحاث في هذا الموضوع لم يتحقق من قبل، فكتاب السموم أصبح اليوم أمنع من أن ينال هجوم، وهو يبين مقدار معرفة جابر الطبية، أما الفصول المتعددة من كتاب (الخواص النوعية) فيمكن النظر إليها على أنها مقتطفات من كتب مختلفة المقرر أن جابر كتبها في هذا الموضوع، ويمكن أن نقول إن كثيراً من البحث والاجتهاد يحتاج إليه ذلك الذي يريد الكشف عن حقيقة هذه المؤلفات والإجابة على السؤال الآتي: كيف جاءت مؤلفي هذه الكتب فكرة نسبة هذه المؤلفات إلى الإمام جعفر الصادق أو تلميذه المدعى جابر. . . نقول إن الإجابة على هذا السؤال تقهقرت كثيراً. . .
وأولى الملاحظات التي يمكن استفادتها من نتائج أبحاث مجمع برلين في النصوص العديدة هي: أن ارتباط الحقائق المختصة بالكيمياء وعلم البحث عن الصنائع والطب لازم كما هو نفسه ولكنه لا يعين ولا يقدر الغرض الأخير لهذا الأدب؛ إذ أن كل التفاصيل العلمية إنما تتحرك في اتجاه مذهبي واحد، وأن المتأخرين هم الذين أعطوها المعنى والتحقيق. والسبب الفلسفي هو نقطة البدء في هذه المؤلفات كلها، وهذا السبب الفلسفي إنما ترجع إليه قيمتها، وكثيراً ما كان يتكرر بشكل يقيني في هذه الأعمال أن العلم لا يمكن أن يكون إلا إذا كانت هناك نظرية خاصة يضعها نصب عينيه. وهذه المشكلة تمت لأول وهلة لمشكلة السببية. وتبعاً لذلك فإن مفهوم (الميزان) الذي يعد من أهم مميزات مؤلفات جابر بن حيان، ونظرية الخصائص النوعية للأشياء المتعلقة بمدى التحول الكيميائي يعتمدان على أسس عددية دقيقة.
وربما لا يبدو هذا في الكيمياء الحديثة شيئاً يذكر، ولكن العجيب حقاً هو ذلك التيار الذي واظب عليه العقل البشري، واجتهاده في تبيان أن القانون الطبيعي إنما يعتمد في أساسه على أسس عددية ثابتة. ونحن أصبحنا اليوم، بعد هذه الأبحاث، نعتقد أنه نجح تماماً فيما كان يصبو إليه؛ فإن قانون الأعداد هذا في نظر جابر بن حيان يضع كل شيء في الوضع الحقيقي له في العالم.
ودراسة بعض النصوص التي ذكرت آنفاً تقودنا خطوة أخرى نحو الغرض الفلسفي للبحث لهذه الأعمال. أقول إن هذه الدراسة تقودنا خطوة أخرى حين تطلعنا على الصلات(370/48)
والعلاقات بين هذا الغرض الفلسفي وبين النظريات الجابرية في العلم الإلهي التي هي الغرض الفلسفي وبين النظريات الحقيقية لهذا الأدب الجابري.
فالنظريات العلمية التي احتوت عليها هذه المؤلفات قيل إنها ليست شيئاً آخر غير معلومات محمد (صلى الله عليه وسلم) و (علي ابن أبي طالب) وأستاذ جابر (جعفر الصادق)، وهذه الخرافة تذهب إلى حد أنها تفسر بعض نصوص القرآن على ضوء الكيمياء كما ينسب لعلي بعض المحاضرات في موضوعات كيميائية، وفي بعض هذه النصوص يظهر بعض المذاهب التي تتفق تماماً وما تقول به فرقة الإسماعيلية من الناحيتين الفلسفية والعملية، ومن ثنايا أفكار هذه المدرسة الدينية التي رئيسها وإمامها وأستاذها الإمام جعفر، يمكن أن يفهم المعنى الكامن في نظريات جابر ابن حيان، وهذه الحقيقة تثبت عرضاً أي في كل هذه المؤلفات إنما ترجع أصولها إلى النصف الأخير من القرن التاسع أو النصف الأول من القرن العاشر للميلاد أي القرنين الثالث والرابع من الهجرة، أو قل في ذلك بلغ فيه الإسلام الذروة في هضم الفكر اليوناني، وهكذا يمكن أن ترد تلك الثروة العلمية والفكرية التي توجد في مؤلفات جابر بن حيان.
مناقشة رأي الأستاذ رسكا
الأستاذ رسكا في نقده لكتب جابر الثلاثة: الرحمة، الملك، الموازين، لا يحتاج لكثير عناية لتنفيذه، إذ أن رسكا يتناول الموضوع من ناحية سلبية بحتة، مثل الأستاذ رسكا في ذلك كمثل اثنين يتحاوران، بعد أن عرض أحدهما رأيه قال له الآخر كلا إنك مخطئ وتركه ومضى في طريقه، فهو لم يبين له لماذا هو مخطئ وما هو صواب هذا الخطأ، كذا الحال في نقد رسكا لهذه المؤلفات الثلاثة، فهو يقول إنها ليست لجابر بن حيان، فهل ينتظر منا الأستاذ رسكا أن نحني هاماتنا لرأيه سامعين طائعين مختارين؟ وحتى هبني سلّمت بصحة هذا النقد الضعيف فأي قيمة تكون له في إخراج هذه الكتب الثلاثة عن دائرة مؤلفات جابر الكيميائية وهي تبلغ سبعين مؤلفاً؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأستاذ رسكا في القسم الثاني من كلامه ينحو نحو الجدليين، إذ أنه يلتجئ إلى أسلوبهم وأعني بذلك أسلوب (المعقول وغير المعقول).
إن الأستاذ رسكا عالم له أسلوب العلماء وطبعهم وروحهم ونحن لذلك نسمو به عن أسلوب(370/49)
الجدل، إذ أن العلم ليس أمامه معقول وغير معقول، إنما أمامه حقائق يسلم بها، أو لا يسلم بها، حقائق يبرهن على وجودها أو يبرهن على عدم وجودها، فالقول بأنه من المعقول أن تفصل كتب جابر الكيميائية عن غيرها قضية كاذبة علمياً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: هل نسى الأستاذ رسكا أن التفكير الإسلامي كان في هذه المرحلة الزمانية أو الفكرية تفكيراً عاماً شاملاً أي تفكير وأن التخصص في التفكير وفي البحث لم يعرف في الإسلام إلا بعد ذلك بقرن من الزمان على الأقل؟؟
أما القسم الثالث من رأيه وهو تفسير الانتحال لجابر بن حيان فهو تستعيره من أبحاث مجمع برلين، وسنتركه الآن ونعرض هذه الصورة بشكل أوسع لدى الأستاذ ب كراوس الذي كان مساعداً بهذا المجمع إذ ذاك.
رأي الأستاذ كرواس
يرى الأستاذ كراوس أن هذا الأدب العظيم يبين لنا كل ما درس في الإسلام من العلم اليوناني لا يمكن أن يكون بأية حال من عمل مؤلف واحد، ولا يمكن كذلك أن يصعد إلى النصف الثاني من القرن الثاني من الهجرة، إذ أن جميع الظواهر التاريخية تدلنا على أن هذا الشكل كان من إنتاج أخريات القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع.
وإن كتابات جابر بن حيان لتضع لنا بادئ ذي بدء أساس مشكلة دينية تاريخية، فكما أن الكيميائين القدماء قد اتجهوا إلى الأجنوزية المسيحية كذلك جابر يقدم في مؤلفاته العلمية أجنوزية الإسلام، ولم تكن آراء جابر ابن حيان كتلك الآراء الساذجة الأولية التي وجدت في محيط الشيعة في القرن الثاني من الهجرة، إنما كانت أقرب إلى تلك التي كان يتردد صداها في محيط غلاة الشيعة في القرن الثالث من هجرة الرسول. وهذه الآراء كانت ذات صبغة سياسية وثورية خطيرة عرضت الإسلام نفسه للخطر، إذ أن جابراً أعلن قرب قيام الإمام المنتظر الذي سيبطل حكم الإسلام ويحل محل القرآن نور العلم والفلسفة الإغريقيين، وكان محل عرض هذه الآراء هو نظريات جابر في مؤلفاته حيث عرض هذا الوحي الروحي الخالص الجديد والذي أوحى به الأئمة العلويون.
ووجهة نظر جابر بن حيان في العلم الإلهي تقترب من القرامطة الذين ابتدءوا يلعبون دورهم في العالم الإسلامي منذ سنة 260 هـ. ودرجات العلم مقسمة عنده نفس التقسيم(370/50)
الموجود عند القرامطة والإسماعيلية.
ونظرية امتداد الأمامية قد تقدمت بنفس الخطوات التي تقدمت بها الأمامية، فالأماميون يقسمون تاريخ العالم من حيث الوحي إلى مراحل سبع يكون آخرها بعث الإمام الجابري، وعلى ذلك فإن الأئمة الذي تبعوا علياً، حتى الإمام القائم الجديد يكون عددهن سبعة وعلى التوالي: الحسن والحسين ومحمد بين الحنفية وعلى بن الحسين بن محمد الباقر وجعفر الصادق وإسماعيل الإمام المنتظر أو القائم. ونحن نلاحظ أن جابراً في تعداده للائمة على عكس القرامطة والإسماعيلية لم يعتبر علياً إماماً من هؤلاء السبعة، وأن هذا السانيت، الذي يسمو عن الناتيك هو الذي يكون به تجسد الأئمة السبعة الأرضي، وفي هذه النظرية يقترب جابر من تلك التي يقول بها النصيرية الذين يعتقدون أن هناك ثلاثة أقانيم: (ع) أي علي، (م) أي محمد (س) أي سليمان، والسين في نظر جابر سابقة ومتقدمة على الميم، وفي هذا المذهب يسمى الإمام جعفر (بالإمام المجيد) أو (اليتيم) الذي له تفضيل على مباشر علي (ع) كما أن له الحظوة على (م)، (س). وهنا يقبل جابر القول بنظرية التجسد والتناسخ والأدوار، والإكرار، والنسخ، والفسخ، والمسخ.
وإن جابراً ليعلن على رؤس الأشهاد أن عمله إنما هو وحي أستاذه جعفر الصادق، وإلى هذا (المنبع من الحكمة) ترجع كل معرفة جابر، وما هو إلا جامع ومعلق على مؤلفات أستاذه. وربما كان ذلك راجعاً إلى أن جابراً نفسه يأتي في التسلسل الديني في مرتبة تلي مرتبة جعفر الصادق مباشرة، أضف إلى ذلك بعض أساتذته مثل حاربي حميرات، أرهون الحمار، جعفر البرمكي،. ولكن نحن نرى أن كل هذه التأكيدات ما هي إلا افتراءات باطلة إذ أنها متناقضة تماماً مع ما كتبه جابر نفسه في مؤلفاته. وعلى ذلك فإن تلميذ جعفر الصادق المسمى جابر بن حيان يظهر أنه محض اختراع، ونحن ندرك تماماً لماذا تنسب كتب كهذه إلى الإمام جعفر الصادق الذي يعتبر في الأدب الشيعي خير مصدر للعلم اليوناني وخاصة للعلوم السحرية ولعلم الفلك، أضف إلى هذا كله أن جعفر هذا والد الإمام السابع إسماعيل الذي نص على ظهوره في هذه المؤلفات.
ويشير الفهرست إلى بعض الشك الذي يخالج نفراً من الشيعة المعاصرين لأحد أصحابه في صحة نسب هذه الكتب لمؤلفها، وثمة رجل آخر هو أبو سليمان السجستاني المنطقي، يذكر(370/51)
في كتابه (التعليقات) ملاحظة يستنتج منها أنه هو نسفه يعرف المؤلف الحقيقي للكتب التي تنسب لجابر بن حيان، ويسمى أبو سليمان باسم الحسن بن النقاد الموصلي، ولكن على رغم هذه الرواية فإننا نعتقد أن مؤلفات جابر لا يمكن أن تكون من إنتاج رجل واحد رغم تطور التفكير المنسجم فيها. ونحن نعتقد كذلك أن هذا التفكير لم يصل إلى هذا الحد الذي وصل إليه إلا في سنة 330هـ.
(البقية في العدد القادم)
أحمد زكي صالح(370/52)
البريد الأدبي
1 - اقتطف!
قرأت سؤال الأخ الفاضل (رشاد عبد المطلب)، وكنت أرجو أن أكون مخطئاً، كي أقرَّ له بخطأ ما جاء في قولي: (وجعل يقتطف منها حيث أراد)، وذلك لحسن أدبه، ولطف سياقه.
والقول في (اقتطف) إنها خطأ، وإنها لم ترد في كتب اللغة: كاللسان والأساس والقاموس والنهاية والمصباح. . . إلى آخر هذه الجملة - قول قديم، قد ذهب إليه المتأخرون من فضلاء المشتغلين باللغة في عصرنا وما قبله بقليل.
ولو لم يرد هذا الحرف في اللغة لوجب أن يوجد للغة وجوباً بيانياً من عدة وجوه، وليس هذا موضع تفصيل ذلك ولا هذا أوانه. وأنا لا أستطيع الآن أن أقف في الطريق لأتلفت إلى ما ورائي مما قد مضى زمنه. وإذ كان لابد من إقامة الدليل على صواب هذا الحرف، من شاهد عربي، فنحن نأتي به، وذلك من قول نابغة بني شيبان (عبد الله بن مخارق):
تسبي القلوب بوجه لا كِفاء له ... كالبدر تَمَّ جمالاً حين ينتصف
تحت الخمار لها جَثْل تعكِّفه ... مثل العثاكيل سوداً حين تقتطف
لها صحيفة وجه يستضاء به ... لم يعل ظاهرها بثر ولا كلف
وفي قديم الشِّعر من الرجز ما أحفظه ولا أُثبت موضعه: (يقتطِفْنَ الهاما) يصف السيوفَ. وبيت النابغة كافٍ في الدلالة والشهادة، وأدع ما وراء ذلك لمن يجعل همِّه اقتناص الكلمات الهاربة من معاجم اللغة.
وما دمنا في ذكر شاهد من شعر نابغة بني شيبان، نقول: إن أبا الفرج الأصفهاني زعم أنه نصرانيٌّ، لأنه زعم أنه وجده في شعره يحلف بالإنجيل والرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى، وذلك كله وهمٌ فاسدٌ، استغرّ به صاحب شعراء النصرانية لويس شيخو اليسوعيّ، فاحتمله فيمن احتمل من شعراء العربية، وشعر النابغة ليس فيه حرفٌ واحدٌ مما زعم أبو الفرج.
هذا، وأبوه (مخارق بن مسليم الشيبانيّ) صحابيٌّ جليلٌ روى له أحمد بن حنبل في مسنده ج 5 ص 29، والنسائي ج 7 ص 113، وروى عبد الله (هذا الشاعر) وأخوه (قابوس بن مخارق) عن أبيهما. وكان عبد الله يكثر رواية الحديث، ثم انصرف إلى الشِّعر، وله في(370/53)
انصرافه إلى الشِّعر خبرٌ.
2 - باريس!
قرأت في عدد الرسالة الماضي كلمة يذكرني فيها صديقنا الأخ (زكي مبارك) ويزعم أنه قرأ في (الدستور) كلمة بإمضائي، عدها هو تعقيباً على المقال الذي نشره في (الرسالة) بعد سقوط باريس تحت أيدي الألمان.
ولو أحسن الدكتور زكي مبارك فأخرجني من عداد من ذكر لكفى نفسه مؤونة الفكر في أني أتعقب كلامه. ولو كان ما قاله الدكتور زكي صحيحاً لكان للسان مقال غير الذي قلت. والذي كتبته كان حديثاً عاماً لم أرد به أحداً يعينه وخاصته، وكثير غير الدكتور بكى باريس وناح، فكيف يريد أن يخص نفسه دون سائر من أعول على هذه المدينة؟
وإذن فسائر ما جاء في كلمة الدكتور زكي ليس يعنيني، ولا هو مما أستطيع أن أشتغل به، والمذهب الذي يجري فيه الدكتور غير مذهبنا، وبينهما من الفرق ما يوجب عليَّ أن أصرف خطابه - في هذا المكان من الرسالة - إلى من شاء غيري. وللدكتور مني تحية، وعليه سلام.
محمود محمد شاكر
ملاحظات علمية
1 - كثيراً ما أجد فيما أقرأ من المباحث التاريخية مطاعن في بني أمية منقولة عن المسعودي، وينسى هؤلاء الباحثون (ومنهم من هو عميد كلية أو أستاذ في جامعة) أن المسعودي على جلالة قدره ورفعة مكانه بين المؤرخين لا يحتج به في مثل ذلك، لأنه شيعي متهم ببغض الأمويين والطعن فيهم. وقد نص على شيعيته الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء في رسالته أصل الشيعة وأصولها؛ كما أنه لا تقبل رواية السني المتصعب في الطعن على الشيعة، وهذا معروف عند العلماء.
2 - ذكر الأستاذ أحمد أمين في فجر الإسلام (ص 248) دليلاً على كثرة الوضع في الحديث أن البخاري اختار كتابه الصحيح وفيه سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مكررة من ستمائة ألف حديث كانت متداولة في عصره.(370/54)
وهذا الدليل مردود من وجوه:
أولها - أن البخاري لم يستوعب الصحيح كله في كتابه، وروى عنه أنه قال: ما أدخلت في كتابي إلا ما صح وتركت من الصحاح لملال الطول، وقد استدرك الحاكم أبو عبد الله على الصحيحين شيئاً كثيراً تكلم في بعضه وسلم أكثره.
ثانيها - أنهم كانوا يعدون الحديث الواحد حديثين إذا كان له سندان وروى من طريقين؛ ومن هنا جاءت هذه الأعداد الكبيرة. ذكر ذلك ابن الصلاح.
ثالثها - أنهم كانوا يدرجون تحت أسم الحديث آثار الصحابة والتابعين. ذكره أبن الصلاح أيضاً.
علي الطنطاوي
رأي الأستاذ أحمد أمين في واضع علم النحو
المعروف بين جمهور النحاة أن واضع النحو هو أبو الأسود الدؤلي، ولكن دائرة المعارف الإسلامية تخالف جمهور النحاة في ذلك، وترى أنه ليس حقاً ما يقال من أن أبا السود الدؤلي واضع أصول النحو العربي (دائرة المعارف الإسلامية ج 1 ص 307) وقد ذكر صديقي الأستاذ محمد طنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية في كتابه نشأة النحو (ص 11) أن الأستاذ أحمد أمين أراد أن يوفق بين الرأيين، وأن يلتمس وجهاً لنسبة وضع النحو إلى أبي الأسود الدؤلي، فقال في كتابه ضحى الإسلام (ج 3 ص 286 وما بعدها): ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط، وهو أنه ابتكر شكل المصحف، وواضح أن هذه خطوة أولية في سبيل النحو، تتمشى مع قانون النشوء، وممكن أن تأتي من أبي الأسود، وواضح كذلك أن هذا يلفت النظر إلى النحو فعمل أبي الأسود يسلم إلى التفكير في الإعراب، ووضع القواعد له. . . وأن هذه الأمور لما توسع العلماء فيها بعد، وسموا كلامهم نحواً، سحبوا اسم النحو على ما كان قبل من أبي الأسود، وقالوا إنه واضع النحو، للشبه في الأساس بين ما صنع وما صنعوا وربما لم يكن هو يعرف النحو بتاتاً، ثم رأى بعد كلام طويل أن واضع النحو الذي نعرفه إنما هو الخليل بن أحمد.(370/55)
وكأني بالأستاذ أحمد أمين قد خيل إليه أنه أتى في هذا الرأي الأخير بالقول الفصل في واضع علم النحو، مع أن الأمر قد اشتبه عليه في ذلك اشتباهاً ظاهراً، لأن أصل الخلاف في واضع علم النحو إنما هو في أصوله الأولى، لا في هذا النحو الذي نعرفه؛ لأنه لا يمكن أن يختلف أحد في أن هذا النحو الذي نعرفه يرجع إلى كتاب سيبويه، وقد أخذ سيبويه كتابه عن الخليل ابن أحمد، بل قيل إن هذا الكتاب للخليل لا لسيبويه، فليس بشيء بعد هذا أن يقال إن الخليل واضع هذا النحو.
وقد ذكر الأستاذ محمد طنطاوي في كتبه نشأة النحو (ص 20) أن عيسى بن عمر الثقفي - وهو من الطبقة الثانية والخليل من الطبقة الثالثة - ألف كتابين في النحو: أحدهما مبسوط سماه الجامع، والآخر مختصر سماه الإكمال، وأن الخليل قال في إطرائهما:
ذهب النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
ويؤخذ من هذا أن اسم النحو كان معروفاً قبل الخليل، وأن كتباً جامعة ألفت فيه قبله، فكيف يقتضب الأستاذ أحمد أمين ذلك كله؟
(عالم)
قصتان والفكرة واحدة
قرأت في العدد الماضي من الرسالة كلمة بهذا العنوان الأديب حسين الحوفي بدمنهور، يقول فيها: إن فكرة قصتي (من أدباء الجيل) المنشورة بالعدد 345 من الرسالة تشبه قصة الأستاذ محمد أبو طائلة عنوانها (الشهرة) نشرت بالعدد 498 من مجلة كل شيء والدنيا (وإن اختلف الأسلوب والعنوان وبعض الحوادث الثانوية)
وأحسب أنه مما يهم قراء الرسالة أن يعرفوا أنني لم يكن لي حظ قراءة تلك القصة المشار إليها حتى اليوم، وقد تكون الفكرة في القصتين واحدة - كما يقول الكاتب - أو لا تكون؛ ولكن ذلك لا يطعن في عمل أدبيٍّ لم أستلهمه إلا من وجداني الخاص لحادثة بعينها قد يكون مثلها مما مر على الأستاذ أبو طائلة في بعض أيامه، فألهمه فكرة قصته وألهمني. وإذ كان الأمر على ما زعمتُ - وعلى ما يؤكد الكاتب من احترامه لأدبي وتنزيهه عن الانتحال -(370/56)
فإني أحسب أن ذلك خارجٌ عن نطاق ما يسميه (الرقابة الأدبية)، ولا معنى معه للحديث عن السابق والمسبوق.
وثمة بديهية أخرى يعرفها كل من عالج فن القصة دراسةً أو عملاً، هي أن الفكرة الواقعية في القصة غيرُ القصة نفسِها؛ وخاصة حين تكون فكرتها منتزعة من الحياة العامة التي يحسها كل من يتصل بها من أبناء الجيل. ولا حاجة بي إلى تعداد الحوادث التي تقع كل يوم في حياتنا الأدبية العامة مما يصلح أن يكون كل منها موضوعاً لمثل قصة (من أدباء الجيل). وأدع تفصيل ذلك لموضعه من كتاب (الأدب المنحول) الذي أُرجئ نشره حتى تأذن الرقابة الأدبية العامة!
محمد سعيد العريان
من الشعر المنسي لحافظ
(لما أخرجت وزارة المعارف ديوان المرحوم حافظ إبراهيم، لاحظ كثير من الأدباء أن قصائد عدة للشاعر الكبير نسيت فلم تدرج في هذا الديوان؛ وقد نشر بعضهم شيئاً من هذه القصائد في الرسالة الغراء، ويسرني ونحن في الذكرى الثامنة لحافظ أن أذكر للقراء مقطوعة من شعره في وصف الطيارة لم تنشر في ديوانه)
قال رحمه الله:
يجري بسايحة تش ... قُّ سبيلها شقَّ الإزار
وتكاد تقدح في الأثي ... ر فيستحيل إلى شرار
مثل الشهاب انقضًّ في ... آثار عفريت وطار
فإذا علت فكدعوة المُ ... ضْطَر تخترق السِّتار
وإذا هَوَتْ فكما هَوَتْ ... أنثى العُقاب على الهزار
وتُسِفُّ آنة، وآ ... ونة يحيد بها ازورار
فيخالها الرائون قد ... قرَّت، وليس بها قرار
لَعِبَ الجواد أقلَّ لَيْ ... ثاً من قُضاعة، أو نزار
أو كالقَلوب من الحما ... ئم فوق ملعبه استطار(370/57)
وكأنها في الأفق حي ... ن يميل ميزان النهار
والشمس تلقي فوقها ... حلل اصفرار واحمرار
مَلَك تَمثله لنا السي ... ما فيأخذنا انبهار
(البجلات)
أحمد جمعة الشرباصي
الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
روت الصحف المصرية - كخبر تافه - موت فقيد العلم والأدب الدكتور إسماعيل أدهم الكاتب الناقد المعروف نجل أحمد بك أدهم الضابط التركي وحفيد أدهم باشا وزير المعارف التركية سابقاً.
وقد عرفه قراء (الرسالة) شارحاً لنظرية النسبية لأينشتين، ومساجلاً للمرحوم فليكس فارس عن الشرق والغرب، وأخيراً مناقشاً للدكتور بشر فارس في كتابه (أبحاث عربية) كما طالع له قراء (الرسالة) بعض أبحاث متفرقة آخرها (عام الفيل) الذي اشتغل بالرد عليه الأستاذ عبد المتعال الصعيدي.
ويغلب على أبحاثه الصبغة العلمية الجافة، فإذا أضيف إلى ذلك ضعف بيانه العربي عرفنا جهل الكثيرين بعلمه وأدبه، لأنه لم يكن له أسلوب جزل يخلق المحبين، إذ أن الناس بطبيعتهم يصدقون عن الحقائق الجافة التي لا يموهها الخيال، لذلك كان محرر مجلة المقتطف يراجعه راجياً فيما يكتبه لها زيادة الإيضاح، وكان يشكو لي من ذلك الدكتور أدهم. ومن هذه الناحية أيضاً حيث موطن ضعفه، كان يغزوه الأستاذان فليكس وبشر في مساجلاتهما معه.
وعرفه قراء المقتطف من أبحاثه المتوالية التي كان يوالي نشرها فيها، آخرها دراسته طيلة هذا العام لخليل بك مطران. وهي دراسة لا يسلك فيها طريقة التراجم المعروفة، بل الدراسة التمحيصية الاستقرائية على الطريقة الاستشراقية، لذلك كانت فريدة في العربية، وعدها بعض المستشرقين ثروة أدبية، وقال فيها الرافعي: (دراسة لا اشك لحظة في أنها لو وجهت وجهة صحيحة لقومت النقد العربي) وقال فيها بشر فارس (دراسة تعتمد على(370/58)
الاستقراء والتثبت أكثر مما تعتمد على الظن والتخمين) وقال فيها سلامه موسى. (لو أردنا أن نجازي فناناً لحق لنا أن نجازي الدكتور أدهم بأكرم مما يجازي به عالم فنان) ومما أذكره أن الدكتور أدهم كتب غير مرة في المجلة الجديدة التي كان يصدرها الأستاذ سلامه موسى، وعرَّفه الدكتور أبو شادي بأنه أكثر من شخصية، ومما أعرفه أنه كان من أول المكتشفين لشخصيته العظيمة، فشجعه على المضي في أبحاثه وأفسح له صدر مجلاته التي كان يصدرها، رغم تطرف رأيه وحرية فكره حرية غير معهودة في حياتنا الأدبية، ومن أهم ما نشره رسالته (لماذا أنا ملحد) التي رد عليها الدكتور أبو شادي برسالته (لماذا أنا مؤمن)، والتي شغلت الكثيرين من رجال الدين وقتاً غير يسير. ونشرت لأول مرة في مجلة (الإمام)، قم أفردت في كتاب، وذلك عمل ينطوي على جرأة كبيرة من المؤلف والناشر، لأن الرسالة صودرت عقب تداولها. وأول كتاب أصدره في مصر هو كتابه (مصادر التاريخ الإسلامي) الذي صودر بمرسوم ملكي من جلالة الملك فؤاد، وهو آخر مرسوم صدر من جلالته قبل وفاته. ومن هنا يعرف أن حياته الأدبية كانت قصيرة إلا أنها كانت ملأى بنشاط جدير بالإكبار والتقدير، فقد كان يعتكف الأيام المتوالية حتى ينتهي من وضع كتاب، أو إخراج بحث، أو يستوعب عدة مؤلفات قراءة ودراسة؛ ومن نتاج ذلك الاعتكاف كتابه (الأنساب العربية)، وكتابه (الزهاوي الشاعر). وقد اهتم الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة (الحديث) السورية بدراسات أدهم فرحب بها واصدر بها أعداداً ممتازة، كدراسته للدكتور طه حسين، والشاعر التركي عبد الحق حامد، وأخيراً الأستاذ توفيق الحكيم، ومن أظرف ما يروى بهذه المناسبة أنه كان مختلفاً مع صاحب الترجمة على مولده، إذ كان توفيق الحكيم يذكر أن مولده في عام 1898، ولكن أدهم يصر على أنه ولد في عام 1903؛ ومما يدهش القارئ إيراد أدهم لأدلة منطقية لا يملك الإنسان معها إلا أن يسلم بخطأ توفيق الحكيم نفسه في معرفة مولده.
وكانت إدارة (الحديث) تستعد لإخراج عدد خاص بدراسته لميخائيل نعيمة، كما كانت تستعد إدارة المقتطف لإخراج دراسته لخليل مطران لتهديها إلى مشتركيها هذا العام، ولا أدري ماذا تم فيها، وإن كنت أعرف أن المؤلف كان يستعجلها في إخراج كتابه قبل وفاته، لأنه كان يريد أخذ نسخة معه إلى أوربا، إذ كان يعتزم السفر بعد تغير الموقف الدولي؛(370/59)
واشتدت الرقابة عليه لشبهات لا محل لها من الصحة، إذ أنه كان في أيام السلم يرسل بعض أبحاثه لتذاع من محطة باري العربية، كما أنه كان ينشر بعض أبحاثه في مجلة (المستشرقين الألمانية) منها نقده لكتاب حياة محمد، وقد أشار إلى ذلك النقد الدكتور هيكل في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه بعد أن أغفل اسمه.
ولما لم يتمكن من السفر والهروب من قفص الرقابة ضاقت به الحياة فودعها ومضى.
(لنا عودة)
عبد الحفيظ نصار(370/60)
القصص
رجلان وامرأتان
للأستاذ محمد سعيد العريان
لم يكن من طبيعتها الزهو والمباهاة، ولكنها تشعر الليلةَ بين لِداتها وصواحبها أنها قد بلغت مرتبةً من حقها أن تُزْهي بها وتفتخر؛ إنها خطيبة (سامي)، وهذا خاتم الخطبة في إصبعها يزهو ويتألَّق شعاعه؛ وأي صواحبها لم تعرف (سامي) أو تسمح به، وإنه من الشهرة وذيوع الصيت حديثُ كل فتىً ونجوى كل فتاة!
وراحت (رشيدة) تخطر بين رفيقاتها تتقبل التهاني وتوزّع الابتسامات مغتبطةً سعيدة، لا تكاد تستقر على مقعد من خفة الفرح ونشوة المسرة. . .
. . . ثم انفضَّ السامر وخلت (رشيدة) إلى نفسها تحلم بما كان وبما يكون، وتتهيأ لليوم السعيد المنتظَر!
فتى في ربيع العمر، لم يفتنه الشباب ولم يبطره الغنى، تنوَّر أملاً بعيداً فمضى يشق الطريق إليه في عزم وقوة، وبلغ؛ وبرز اسمه في الطليعة من أدباء الجيل ولم يزل في أول الطريق، وذاع اسمه كما ينفذ شعاع الصبح فتكتحل كلُّ عين من نوره ويصحو كل نعسان؛ وشدَت القمارِيّ بأغانيه في الرياض، وهتفتْ بها العذاري، وتغنَّى الفِتيان. . .
. . . ودُق الجرس ذات مساء في دار رشيدة، وجاء سامي يخطبها. . .، وتوافد لِداتها وصواحبها يهنئنها ويتمَّنين لها. . .
. . . وراحتْ تتخيَّل نفسها إلى جانبه يمشيان ذراعاً إلى ذراع تحدِّثه ويصغي لها، والناس تهتف باسمها واسمه، والعيون تتبعهما حيث يتنقلان من روضٍ إلى روضٍ في طريق مفروش بالزهر، والأصابع تشير إليهما في همس: أئنه لَهُوَ، وإنها. . .
ولذَّها الحُلمُ السعيد، فطارت بغير جناح تحلّق في وادي المنى سكرَى!
وتابعتْ على عينيها صُور؛ وأفاقتْ من سكرتها مذعورة لصورةٍ عَرَضَتْ؛ وتخيَّلتْه يحفّ به فتياتٌ يسألْنه ويجيب وفي عيونهن معانٍ وفي عينيه معنى؛ ولذعتها نار الغيرة وساورها القلق، وراحت تسأل نفسها: أتُراه - وهو مَن هو - لم يفتح قلبَه لفتاة قبلها ولن يفتحه؟ فكيف، ومِن أين لها، وإن اسمه لحديثٌ على الشفاه ونجوى في القلوب!. . . أم تراه يخلص(370/61)
لها فلا يغلبها على قلبه أحد؟
وابيضّتْ ذؤابة الليل وما تزال أحلامُ اليقظة تُراوح بيم جنبيها في الفراش!
ومضت ليال، وأَنِستْ رشيدةُ إلى فتاها وأَنِس بها؛ وتتابع اللقاء بينهما في الحلم حيناً وفي اليقظة؛ وتكاشفَا نفساً لنفس فاطمأنَّت وزال ما كان يساورها مِن هم، واسترسلت في أحلام السعادة والمجد، وهي تحصي ما بقي من أيامها حتى يكون لها.
وجاء اليوم الموعود وزُفَّتْ رشيدةُ إلى سامي. . .
(يا هَنَاها!)
ذاك حديث كل صواحبها؛ أفتراها كانت تسمع ما يتحدَّثن؟
أما هو فكان من شأنه في شغل عما يتحدث الناس؛ لقد وجد الاستقرار والراحة منذ وجد رشيدة؛ فانصرف إلى غايته دائباً لا يشغله من شئون الحياة إلا فنُّه والأمل الذي يتتوّره على مبعدة.
وأما هي. . . أين هي من أحلامها التي كانت تداعبها في اليقظة وُتِلمُّ بها في المنام؟
هذا عام مضى منذ دخل سامي في حياتها وشاركته في داره؛ فماذا تحقق من أمانيها وماذا بقي؟ وماذا يجدي عليها صيتُه ومجدُه وشهرته وإنها لحبيسة الدار لا تتحدث إلى أحد ولا يتحدث إليها أحد؛ وزوجها الذي خلق لها دنيا عريضة من الأوهام والأماني حبيسٌ في غرفته مكبٌّ على أوراقه ودفاتره!
هذه الصحف التي تتحدث عنه، وهذه الكتب التي تصدر باسمه، وهذه الجماعات التي تدعو دعوته وتُشيد به. . . كل هذه أوهام وخداع وتلبيس على الحقيقة. لقد حسبتْ يوماً أنها ستكون أسعدَ زوجةٍ فيمن تعرف من صواحبها؛ لأن هذه أوهام المكتوبة كانت تُخيَّل لها وتخدعها عن الحقيقة؛ أما اليوم، وا أسفا!
إنه ليحبها وإنها. . . نعم، لقد كانت تحبه؛ ما في ذلك شك؛ أما اليوم. . . آه! ليتها تستطيع أن تقول. . . ليتها تستطيع أن تعرف. . .!
إنها لتحس في بعض الأحايين أنها تكرهه، شوقاً إليه!. . . ليت شعري، ما الحب؟ وما البغض؟. . . أهُما معنيان متناقضان أم هما اسمان لمعنى؟
وما الحقيقة؟ أهي شيء واحدٌ أم شيئان، ولونٌ واحدٌ أم ألوان؟(370/62)
إنه هو هو، وإنها هي هي؛ لم يتغيَّر شيءٌ منها ولم يتغيَّر شيءٌ منه؛ ولم يَزَلْ هو كلَّ شيء في حياتها ولم تزَلْ؛ وهذه الأشياء التي كانت تحببه إليها يوماً هي هي التي تيغَّضه إليها اليوم.
إن الباطل الصُّراح أحبُّ إلى النفس من الحقيقة المتلوِّنة!
واحتوشتها الأفكار فلم تعرف ماذا تأخذ وماذا تدع؛ فأطرقت، وأرسلت عينيها؛ وكان سامي في غرفتي يكتب ويؤلف!
. . . وفرغ من موضوعه بعد هدأة من الليل، فرفع أوراقه بين عينيه والمصباح وراح يقرأ، وأعجبه عمله؛ فهتف: رشيدة، تعالي اسمعي!
وماذا يجدي عليه رضا الناس إن لم ترض رشيدة؟ ولكن رشيدة كانت مطوية على نفسها في الفراش تبكي؛ ودنا منها، فجفَّفتْ دموعها واعتلًّتْ؛ وجلس على حافة الفراش محزوناً أسوان يسألها عن علتها؛ وما كانت علتها غيره!
وطوى أوراقه صامتاً، وأوى إلى الفراش منكسراً ذليلاً؛ وأصبح كما يصبح كل يوم وكما أمسى؛ وأصبحت كما أمستْ!
وجاءت صديقتها (سعاد) لزيارتها؛ وما زارتها في بيت زوجها قط؛ وخلت رشيدة إلى صديقة صباها تحدثها وتستمع إليها، وخلا سامي إلى نفسه يعمل. . .
وقالت سعاد: وإني لأسمع عنك وأعرف، فيسرني هناؤك. . . وإنك لحقيقة أن تسعدي بسامي. . .!
وابتسمت رشيدة وسكتت!
ونهضت الزائرةُ فشيَّعتها صديقتها على ميعاد
وذهبتْ رشيدة لتردَ الزيارة لصاحبتها؛ ولقيتْها سعادُ في غلائلَ وشفوفٍ وَجلْوةِ عروس، وأحسنتْ استقبالها؛ ثم وَدَعَتْها لحظة لتِسرَّ إلى زوجها حديثاً وعادت، وأحست رشيدة أن صديقتها في شغل؛ فأوجزت، وسألتها: أرجو ألا يكون في زيارتي ما يشغلك عن شيء!
وابتسمت سعاد وأجابت: ليس شيئاً ذا بال؛ كنا علي أن نشاهد رواية في السينما، فطلبتُ إليه أن يذهب وحده إذا أراد! لقد شاهدناها مرة منذ يومين!
وغمغمت رشيدة بكلام، ثم أطرقت؛ أتراها كانت تحدَّث نفسها أو تحدِّثُ مضيفتها، وماذا(370/63)
همَّتْ أن تقول؟
وخفَّفتْ فنهضتْ، وفي قلبها حسرة، وفي صدرها غيرة، وفي رأسها فكر!
وقالت سعاد لزوجها وقد ذهبت رشيدة: (زوجة ساميّ!)
واستطردت: (إنها صديقتي منذ الطفولة! ألا تقرأ له؟ قل لي: لماذا لا تحاول أنت. . .؟ إن له مستقبلاً عظيما! لقد بَلغ. . . هل سمعْت. . وله جاهٌ وشفاعة. . . إنني ورشيدة صديقتان، لم نفترق منذ كنا، حتى تزوَّجتْ، وخطبّها على غفلة. . .!)
. . . وأدارتْ رشيدةُ مفتاح المذياع وجلستْ مرتفقةَ إليه تنتظر؛ إن زوجها هناك؛ وما بها شوق إلى أن تستمع إليه، لولا أن صوته في المذياع يردُّها لحظاتٍ إلى ماضيها، أيام كانت في بيت أبيها مُسَّماة عليه؛ تلك أيام خَلَتْ؛ وكان صوته يلذها ويبعث فيها نشوة. . . أوه! أين اليقظة من الحلم؟ أَكُتِبَ علينا ألا نرى السعادة إلا طيفاً في المنام أو حُلماً في اليقظة؟
وتَسرِّحت رشيدةُ في أوهامها. . .
. . . وكأنما أحسّ سامي من رشيدة فتوراً وانقباضاً، فأهمَّه ما أحسّ، وراح يحاول أن يصلح ما بينه وبينها، وعطف عليها يسألها في رقة: ماذا بك يا رشيدة؟
وانفجرت رشيدة غاضبة ضاخبة، وكشفت الحجاب، ونفضت عليه ما تكظم من الغيظ منذ عام؛ وطأطأ رأسه يوازن ويقدّر ويحكم؛ وبدت له الحقيقة سافرة وانكشف عنها غطاؤها؛ وآثرها بالرَّضا فقدَّم لها معاذيرَه!
وتغيَّر سامي منذ اليوم، فأغلق دار كتبه واقبل على زوجته؛ وفي المساء كانا يمشيان ذراعاً إلى ذارع في الطريق على أعين الناس؛ وصحبها إلى السيما، وسهرا معاً في الأوبرا، وتعشَّى معها في مطعم؛ وراقصها على نغمات الموسيقى في الحديقة، وعاد معها إلى الدار مخمورا قبيل الصباح!
وعرف سامي منذ الليلة أن في الحياة ألواناً من اللذة لم يذقها بعدُ وقد أوشك شبابهُ؛ فاشتهى وتمنَّى. . .
وفاءت رشيدةُ إلى الرضا وسَرَّتها حياتها الجديدة فطلبت المزيد!
وكانا يمشيان على ضفاف النيل حين اعترض سبيلهما سربُ من الحسان. وقالت إحداهنّ وأومأت إلى سامي: أئنه لَهُو!(370/64)
فأحنى رأسه مبتسما وأتبعها عينيه؛ وأغضتْ زوجتُه!
ولم تجد رشيدة من نفسها في الليلة التالية رغبة في الخروج؛ فخلفها في الدار ومضى وحده؛ وأشرقت الشمس قبل أن يعود، وهَّمت زوجته أن تتكلم فتركها وما تريد ومضى إلى فراشه. . .
وعرف عنوانَه من لم يكن يعرف من عشاق أدبه؛ فكثر زائروه وزائراته؛ وراح يقتضي الناسَ ثمنَ إعجابهم بفنه لذائذَ وشهوات. . .
وتدحرجت الكرةُ على المنحدر المائل واستمرتْ تهوي. . .
. . . وجاءت سعاد لتزور صديقتها، وقالت: أين سامي؟ منذ بعيد لم نسمع ولم نقرأ. . .!
وابتسمت رشيدةُ وسكتتْ؛ شأنها في يوم مضى؛ ثم أطرقت وعضت على شفتيها تحاول أن تحبس زفرة ألم!
ونهضتْ الزائرة وخلت رشيدة إلى نفسها تبكي؛ وَخيِّلتْ لما أمانيها أنه هناك، في غرفته، يكتب ويؤلف، وأنه يوشك أن يفرع من موضوعه فيهتف بها: رشيدة! تعالي اسمعي! كما كان في ليلة منذ ليال!. . . ولكنه لم يفعل، لأنه ليس هناك!. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . ثم استيقظت وهي مرتفقة إلى المذياع، ورنّ صوته في مسمعيها قادماً من بعيد، صوت ندي رطب، يتحدث في وداعة ولين. لم يكن حديثه إليها، ولكنها وجدت بَرْدَه على قلبها، فدمعتْ عيناها فرحانة؛ وهتفت: سامي! عُدْ إليْ!
ولم يسمع نداءها، ولكن خاتمة حديثه في المذياع كان جواب النداء. . .
محمد سعيد العريان(370/65)
العدد 371 - بتاريخ: 12 - 08 - 1940(/)
تأخر السنين
للأستاذ عباس محمود العقاد
أما تأخير السنين فهو الرجوع بها إلى الوراء
يكون الرجل مثلا في سنة أربعين. فيرجع إلى سنة عشر، أو يكون في القرن العشرين فيرجع إلى القرن الأول، أو يكون في أيام التاريخ فيرجع إلى ما قبل التاريخ.
ولذلك ثلاث وصفات على طريقة المعجزات، ووصفة واحدة على طريقة العجزة أبناء الفناء.
فالوصفة الأولى على طريقة المعجزات أن تقبض على دولاب الزمن فتديره إلى الأمام أو إلى الوراء حين تشاء وكيفما تشاء. ولا بد قبل ذلك من معركة فاصلة بين المرء وبين الزمن ينكسر فيها الزمن فيلقي بدواليبه ومقاليده ومفاتيحه ثم يلوذ بالفرار.
وأنا قد حاربت الزمن في معارك شتى، ولكني لم أصل معه إلى المعركة الحاسمة، ولا علمت بمستودع الدواليب والمفاتيح. فليس في الوصفة الأولى رجاء.
والوصفة الثانية على طريقة المعجزات هي وصفة أينشتين في بعض الفروض الرياضية والألغاز (النسبية)
وذلك أن أشعة الأرض تصل إلى بعض الكواكب في مائة سنة، وإلى بعضها في ألف أو ألوف.
فمن صعد إلى كوكب من تلك الكواكب، ورصد أشعة الأرض على أسلوب من أساليب الصور المتحركة، فهنالك يرى اليوم نابليون أو حروب فردريك الكبير أو حروب هنيبال لا تزال في البرامج ولا تزال تجري على حقيقتها كما كانت تجري في هذه الأرض منذ كذا من السنين.
وبيني وبين هذه الوصفة أن أصعد إلى الكواكب بأسرع من صعود الشعاع إليه، أو أن أصعد إلى الكواكب على جناح فرض من الفروض الرياضية في مثل لمح البصر أو خطرة الخيال.
فإذا جاء اليوم الذي يطير فيه الإنسان على أجنحة الفروض فهنالك نؤخر الزمان الأرضي كما نشاء، ولكننا نصعد إلى الكواكب فنجد فيها الحاضر حاضراً لا يقبل التأخير.(371/1)
والوصفة الثالثة على طريقة المعجزات هي وصفة على لسان (أولاد البلد) فيما يتحدثون به عن فعل الحبوب والعقاقير
فقد زعموا أن حبوباً تعيد الشباب، وان الحبة منها ترد من يتناولها عشر سنين، وأن رجلاً بالغ في التصابي فتناول خمس حبات فعاد رضيعاً على كفوف بناته وأبنائه.
وصيدلية هذه الحبوب لا تدين بمذهب الأمريكان في حب الدعوة والإعلان، فما اهتديت إلى مكانها حتى الساعة، ولعلها تدين بتأخير المكان.
فدعونا إذن من الوصفات الثلاث على طريقة المعجزات وهلموا بنا إلى وصفة العجزة من أبناء الفناء
ووصفة العجزة من أبناء الفناء هي كتب التاريخ، أو هي الصحافة التاريخية على التعبير الصحيح فيما نحن فيه
فإذا رجعت إلى سجلات الصحف فأمامك حوادث الأيام يوماً بعد يوم، وخبر بعد خبر، وفي وسعك أن تقفز إلى الوراء مائة سنة أو اكثر من مائة حسب تواريخ الصحف التي تقرأها، دون أن تتجشم المرانة على براعة القفز إلى الوراء.
ومن سجلات الصحافة القيمة سجل يجمع فصول (التيمس) الافتتاحية في جلائل الأحداث من سنة ألف وثمانمائة إلى ما قبل اليوم بثلاث سنوات.
ففي أي يوم من أيام تلك الأحداث تريد أن تجلس إلى قهوتك وتفتح صحيفتك وتأتمر بأمر الفضول، فتستطلع الغيب عن الحادث المجهول؟
معركة ترافلجار أو الطرف الأغر؟ معركة واترلو؟ تسليم نابليون؟ موت نابليون؟ أحاديث العلماء والجهلاء عن الاختراع الجديد المسمى بالتلفون؟
أنت لا تعلم شيئاً من هذه الأشياء، ولكنك تفتح الصحيفة لتقرأ آخر الأنباء.
7 نوفمبر سنة 1805 - يوم ترافلجار
(في مكان آخر من عدد اليوم نص التقرير الرسمي عن المعركة البحرية التي انتهت بأحسم انتصار ظفرت به الفطنة والبسالة البريطانيتان. وهو انتصار على ما فيه من العظمة والمجد قد اشتريناه بثمن غال، وكفى دليلاً على شيوع هذه العقيدة ورسوخها في الأذهان ذلك الحزن البالغ العميم الذي قوبل به موت اللورد نلسون. فلم يكن للنصر صدى الحماسة(371/2)
والطرب الذي تردد به كل نصر في معاركنا البحرية السابقة، وليس في البلاد فرد لا يرى أن حياة بطل النيل أنفس جداً من أن تقوم بعشرين سفينة فرنسية وإسبانية بين ضائعة ومأسورة، فلا مظاهرات فرح شعبي ولا أصداء نشوة قومية صحبت هذا الحادث الخطير. وإنما ظهر شعور الأمانة والرجولة في نفوس الأمة كما ينبغي أن يظهر: رضى عميق بانتصار سلاحهم المحبوب، وحزن خالص أليم كحزن المرء في أسرته على البطل الصريع وتقدم ثماني سنوات فأنت في انتظار الأخبار عن معركة (واترلو) وهي تتوالى متناقضة متفرقة، يقول بعضها بانتصار نابليون ويقول بعضها بانتصار الحلفاء. وتروي عن ولنجتون كلمته المشهورة: (ما رأيت كاليوم غباءً في سبيل النصر، ولا رأيت كاليوم اقتراباً من الهزيمة)
وتقدم أياماً أخرى فإذا بنابليون أسير لم تتحقق أنباء أسره، وإذا بالناس مختلفون هل يجوز الحكم عليه في محكمة دولية؟ هل يسلم إلى ملك فرنسا ليعقد له محكمة فرنسية؟ هل يحاسب على من قتل من الأسرى والسجناء في غير ميدان القتال؟
ثم تحقق نبأ الأسر وجيء بالأسير إلى الشواطئ الإنجليزية، وانعقد مجلس الوزراء للبحث في مصيره. فهل تعلم ماذا قرر مجلس الوزراء؟. . . كلا. . . أنت لا تعلم ذلك في أثناء انعقاده ولكنك تقلب الصفحة فتعلم بالقرار.
وتستمع فإذا الصبية في الطرقات ينادون ينفي نابليون إلى جزيرة القديسة هيلانة، وإذا بالتيمس تقول بعد السفر به إلى تلك الجزيرة:
(ألان نحسبنا على يقين أننا سنفرغ من شأن نابليون بونابرت فلا نعود إلى ذكره إلا أن نتخذ منه مثالاً لكل جريمة عبرة للآخرين. ولئن كانت يد الإنسان قد رفقت به في جزاء آثامه فلا يفهمن من هذا أنه نجا من كل عقاب غير هذا العقاب. وما ندري بأي عقيدة من العقائد يدين الآن. فقد جهر بالإلحاد مرة وبالإسلام مرة أخرى وبالكثلكة مرة ثالثة حسبما لاح له من بوادر المصلحة في كل حين، وكان على ما رزق من الملكات العظيمة والنشاط والدائب عريقاً في الخسة، تلك العراقة التي لا يبالي معها أي ضرب من ضروب الغش والرياء تزجيه لمآربه في غير خجل من افتضاح أمره أو عواقب خداعه ما دام قد نفذ إلى مراده. ولكنه - إن لم يكن إنساناً - فله لا محالة وقد أوى إلى العزلة والفراغ عقيدة يركن(371/3)
إليها وتلعج في ضميره مضيض الألم ووجع الندم مما اقترف من المساوئ والشناعات)
وتقدم ست سنوات فأنت تقرأ نعي نابليون كما تقرأ الذكرى المنسية قد انبعثت من قبور النسيان.
وعلى هذا الشاكلة يرجع المدبرون إلى الماضي من طريق الصحافة، وهي طريق معبدة يهتدي إلى معالمها كل عابر سبيل
فإن لم تعجبك طريق الصحافة فللشعر والأدب طر يقمها إلى كل ماض وإن لم تكن بالطريق المعبدة لجميع العابرين.
ومن مصادفات الأيام أنهم احتفلوا في يونيو الماضي بانقضاء مائة عام على مولد الشاعر الإنجليزي الكبير توماس هاردي صاحب قصيدة (العواهل) أو قصيدة نابليون.
وظهرت الصحف الأدبية وفيها شذرات من تلك الملحمة الفخمة كأنما تقال في هذه الأيام، ومن أجل هذه الحرب، وعلى نغمات الحوادث العالمية التي تصلصل الآن في الآذان.
وأي وصاة في حروب نابليون لا يوصي بها في الحرب الحاضرة؟
قال هاردي على لسان ولنجتون وقد سئل في اليوم المرهوب بماذا توصي إذا وقعت في حومة الوغى؟
قال هاردي أو قال ولنجتون: (بالثبات إلى أقصى مداه. . . فحيثما بقي في الميدان رجل واحد على قدم عرجاء في حقيبته رصاصة واحدة فلينته في النهاية كما انتهيت)
ولكن نابليون هو الذي انتهى فوقف بلسان الشاعر يقول: (الآن كل شيء ضاع. . . فيا ساعات الأرض جميعاً دقي لسلطاني دقة الختام)
ووقف الزمن يقول لذلك السلطان المخذول: (ما أمثالك من الرجال الذين يخوضون غمار الدنيا محدثين فيها الأحداث مقلبين السعود والنحوس إلا حشرات على صفحة الأجيال كحشرات النبات على صفحة الأوراق، ينشرون ما تطوي أخاديد التراب)
أترانا على هذا النهج قد رجعنا في طريق الماضي، وأفلحنا في تأخير السنين؟
كلا، بل نحن فيما أرجو قد تقدمنا أمام الزمن، ونظرنا إلى المستقبل، ورأينا على صخور القديسة هيلانة مكان ضيف جديد!
عباس محمود العقاد(371/4)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
العمر الضائع بين المداراة والرياء - الأندية الصحفية - نادي المعارف - الإذاعة اللاسلكية - إذاعة وزارة المعارف.
العمر الضائع
هو عمري وأعمار أكثر الأدباء في الشرق، فأعمارنا تضيع بين المداراة والرياء، ومن أجل هذا يقل في أدبنا ذلك الجوهر النفيس: جوهر الصراحة والصدق. ومن أجل هذا أيضاً يقل السائلون عنا والراغبون فينا، لأنهم يعرفون أنهم لن يطلعوا على أفق جديد من آفاق القلوب والعقول حين يقرءون ما نطالعهم به من حين إلى حين.
أقول هذا وقد وأدت صفحتين كتبتهما بالأمس، صفحتين صورت بهما من عزفت من الوزراء وتصويراً يعين بعض الملامح من تاريخ العصر الحديث.
ومن أعجب العجب أن نعجز عن قول الصدق، حتى في الأحوال التي يكون فيها ذلك الصدق خيراً محضاً، لأن الجمهور الذي نعاصره يتأذى من الصدق الذي يسر أكثر مما يتأذى من الصدق الذي يسوء. وإنما كان الأمر كذلك لأن هذا الجمهور لا يرضيه أن يكون الصدق وسيلة لتوكيد بعض الحقوق التي غنمها بعض الناس بصدق الجهاد.
ويجب أن نسجل أن النوابغ في الشرق لهذا العهد لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه بفضل تشجيع الجمهور أو تشجيع الوزراء والأمراء، فما نبغ نابغٌ في الشرق لهذا العهد إلا بقوة ذاتية حَمَته وعصمتْه من كيد المخذِّلين والمعوِّقين، فهم كالأشجار التي تنبت في الصحراء ثم تصير بواسق برغم الظمأ والأعاصير.
وهنا تظهر العلل الأساسية لغضب الجمهور من الصدق الذي ينفع، هنا يظهر السبب في أن الفضل أصبح من أكبر الذنوب، لأنه من صور الانتصار على الجمهور، والمنتصر لا يقابَل بغير الموجِدة والغيظ. وهل كانت شماتة الناس بالمغلوبين إلا تعبيراً عن هواهم الدفين في أن تدول دولة القوة والتفوق؟
فالذين يغضبون من الصدق المؤذي لا يغضبون لمن آذيت، وإنما يغضبون عليك، لأنك ملكت من القدرة أكثر مما يملكون، وكانوا يتمنّون لو كان إليهم المرجع في القدرة على(371/6)
الإيذاء. والذين يغضبون من الصدق النافع يُعبِّرون بغضبهم عن علة خفية هي بغض الخير للناس، ويزيد ألمهم كلما تذكروا أن جودك بالكلمة الطيبة قد ينفعك. وهذا يشرح أسباب حرصهم على تزييف المجاملات بحجة أنها من وسائل النفع، كأنه لا يجوز أن يقصد الرجل بمجاملة النافعين من الرجال غاية شريفة هي رفع العوائق من طريقه والاتسام بسمة التلطف والترفق والذوق.
وكنت قلت في حديث سلَف إنه يجب على الأديب أن يتعرف إلى من يعاصر من الوزراء والزعماء ليساعد على توجيه الحياة الاجتماعية وليكون له مكان في تسديد خطوات الجيل، فرأى بعض الصحفيين أن يقول إني أشرت إلى أسماء كان أكثرها من وزراء المعارف السابقين واللاحقين.
فما معنى ذلك؟ معناه أني أٌلاطف قوماً قد أحتاج إلى معونتهم في بعض الأحيان!
والذي قال هذا الكلام صديق، وقد نشره في جريدة هي أيضاً صديق. نسأل الله الحماية من الأصدقاء!
وأقول بعبارة صريحة إني غير راض عن نفسي، لأن جوانب الهجوم لها الحظ الأوفر من أدبي، وذلك باب من الشجاعة بالتأكيد، وهو يعرِّضني لكثير من ألوان المكاره والمتاعب، ولكن هناك شجاعة أعظم من هذه الشجاعة، وهي التي تنبعث عن القدرة على كلمة الإنصاف والتأييد في المواطن التي يحتاج فيها من نعاصرهم إلى الجهر بكلمة الإنصاف والتأييد.
فأنا حين أهجم على رجل أقيم الشاهد على الزهد في المنافع الشخصية، وقد تلقى كلمات الإعجاب بلا حساب. وهذا المذهب لا يضمن الخلوص من هوى النفس.
وأنا حين أتردد في إزجاء كلمة الصدق لمن تنفعهم كلمة الصدق إنما أخدم نفسي بإبعادها عن المواطن التي قد أُتهم فيها بالتزلف؛ وهذا رأيي جبن بشع لأنه من صور الخوف من تزيُّد الناس، ولا يخاف تقوُّل المرجفين إلا الجبان.
وخلاصة القول أنه يجب أن ندرس نفوسنا دراسة عميقة لنعرف إلى أي حد نتأثر بالجمهور في غضبه ورضاه، فهذا الجمهور كالطفل المدلل، ورأيه أضعف من هواه، ولا يخضع الرجل في تفكيره إلى هوى الجمهور إلا حين يكتب عليه الخذلان.(371/7)
الأندية الصحفية
يظهر أن الحرب الحاضرة سيكون لها تأثير في مصاير الأندية الأدبية: ذلك بأن الظلام الذي يغمر شوارع القاهرة في هذه الليالي قد أضاع بهجة القهوات، وصرف روادها إلى أماكن جديدة هي إدارات الصحف والمجلات.
فقهوة نيويار بميدان إبراهيم لم تعد أمسياتها ملتقى السامرين من أهل العلم والأدب والذوق، وكذلك صارت قهوة السلام بذلك الميدان مجفوة من روادها بعض الجفاء، ومشرب سيسل جفاه أصدقاؤه الأقدمون، وقهوة ريجينا صد عنها من كانوا يجعلونها ندوة الصيف. . . وهكذا صار من العسير أن نجد الفرصة للأنس برؤية بعض الإخوان على غير ميعاد في تلك القهوات كلما جذبنا الشوق إلى أطايب الأسمار والأحاديث.
ومع ذلك عوضنا الله خيراً، فقد انتقلت تلك الأندية إلى إدارات الصحف، وصار من السهل أن نجد من نحب من الإخوان حين نريد، ولكن ما خصائص تلك الأندية الصحفية؟
أرجو أن تسنح فرصة قريبة لتفصيل الكلام عما يقع في إدارات الصحف والمجلات من العناية بتعقب أخبار الآداب والفنون.
نادي المعارف
وما أريد (نادي المعارف) في بغداد الذي يلتقي فيه جمهور المعلمين كل مساء، وإنما أريد النادي الذي أنشأناه بوزارة المعارف في المنطقة الشمالية من الديوان.
ونواة هذا النادي كانت بمكتب تفتيش اللغة العربية، وكان وقوده من المجادلات النحوية والصرفية واللغوية، ثم انتقل إلى البهو الفسيح الذي يجتمع فيه كاتمو أسرار الوزير والوكيلين، إن صح أن لوزارة المعارف أسراراً لا تذاع!
هو ناد مبعثر، ولكنه جذاب، لأنه يجمع أشتات الألوان ولأن أعضاءه جميعاً من أهل البصر بالأدب الرفيع، وإن كان فيهم من لا يقرأ المجلات الأدبية إلا بالمجان، وحجتهم أن وزارة المعارف لا تشترك في بعض المجلات الأدبية إلا لتوفر على موظفيها من الأدباء بضعة قروش في كل أسبوع، وهي حجة من الوجاهة بمكان!
وليس لهذا النادي مواعيد، فأنا أذهب إليه حين يخف ضجيج الجدل بمكتب تفتيش اللغة(371/8)
العربية، وعبد الرحمن صدقي يخف إليه حين يحتاج إلى استعارة جريدة أو مجلة من أحد الرفاق، وعلي أدهم يقر في مكانه إلى أن تنزل عليه نازلة من بعض من يسألون عن مصاير الأدب حين تصطلح الحيتان في بحر الشمال، وسيد نوفل يتلبث ويتمكث إلى أن يجئ من يحدثه عن مدارج البلاغة في غياهب التاريخ.
وسيقوى هذا النادي بعد البشاشة التي شاعت بوجه الأستاذ فريد أبو حديد، وقد تطيب الدنيا فينضم إلى نادينا فريق من الذين كانوا يظنون أن جو وزارة المعارف لا يساعد على خلق الروح الأدبي، لأن وزارة المعارف فيما يزعمون ليس لها أثر مذكور في تشجيع الأدباء.
وزارة المعارف؟ ذلك هو اسمها، والأسماء لا تعلل، كما كان يقال. وإلا فكيف جاز. . .
لقد إنساني الشيطان ما كنت احب أن أقول!
الإذاعة اللاسلكية
لا تنقطع أصوات الاعتراض على ضعف مناهج الإذاعة اللاسلكية، ولا يكون من المغالاة أن نقول إن في الناس من نسي أن في مصر إذاعة تواجه الجمهور بالطيبات من الأحاديث الأدبية والعلمية والاجتماعية، فصار من المألوف أن تلقى في محطة الإذاعة بعض المحاضرات الجيدة بدون أن يتنبه لها جمهور المتشوقين.
فما علة هذا النقص؟
لا ترجع العلة إلى ضعف من يسيطرون على محطة الإذاعة، وفيهم أدباء فضلاء، من أمثال فلان وفلان وفلان، وإنما ترجع العلة إلى كسل أولئك الأدباء الفضلاء.
ولكن كيف؟
لم يتفق للمشرفين على محطة الإذاعة أن يفكروا في الانتفاع بمواهب الأدباء الكبار انتفاعاً يشهد بأنهم يحرصون على تزويد الجمهور بأطيب ما في مصر من ثمرات العقول والقلوب والأذواق، وإنما يقبع المشرفون على المحطة في مكاتبهم لفحص ما يرد عليهم من طلبات الشادين والمبتدئين من الذين لا يعرفهم الجمهور أول مرة إلا عن طريق المذياع.
من حق محطة الإذاعة أن تشجع بعض المبتدئين، ومن حقها أن ترفع إصر الخمول عن بعض الخاملين، ولكن هذه النية الطيبة ستعود عليها بالضرر البليغ، وسيكون حالها كحال المجلات التي تسقط جدرانها فوق رءوس من تشجع من التلاميذ.(371/9)
ويظهر أن محطة الإذاعة تنسى أن لها جماهير في أقطار الشرق، وأن تلك الجماهير لا تنظر بعيون الارتياح إلى عنايتها بتدريب المبتدئين، وتشجيع الخاملين.
أكتب هذا وقد سمعت أن المشرفين على محطة الإذاعة أقسموا بالله جهد أيمانهم ليغلقن آذانهم عن كلمات النصح، حتى لا يقال إنهم ضعفاء تخيفهم أسواط النقد الأدبي.
وأنا أحترم هذا النوع من الشجاعة، وأرجو أن يعرفوا أني يائس من آذانهم كل اليأس، وما حملني على تسطير هذه الكلمة إلا الرغبة في أن تعرف جماهير الأمم العربية أن مصر بخير وعافية، وأن محصول محطة الإذاعة لا يمثل ما في مصر من حيوات القلوب والعقول.
إذاعة وزارة المعارف
زعموا أن وزارة المعارف نظمت دروساً للراسبين في امتحانات الثقافة العامة وامتحانات القسم الخاص
وما يهمني إلا الدروس الخاصة باللغة العربية، لأنها تصور مواهب المدرسين بالمدارس الثانوية. وأنا أقترح أن تسجل تلك الدروس لنستطيع مؤاخذة أصحابها حين نشاء، فبعض من يلقون تلك الدروس يقعون في اللحن الفاحش، ويسقطون في تفسير النصوص سقطات لا يتردى فيها العلماء، فإن اعتذروا بأن بعض من يفسرون القرآن عن طريق المذياع يقعون في أغلاط أبشع من أغلاطهم فذلك هو العذر الذي قيل إنه أقبح من الذنب!
ولو تفضلت محطة الإذاعة فسجلت طوائف من الأحاديث لاستطاع النقد الأدبي أن يطوق بعض أصحابها بأطواق من حديد.
ولكن متى تصنع وهي تزعم أن ليس في الإمكان أبدع مما كان؟! ومع ذلك يعاب علينا أن نثور من وقت إلى وقت، كأن من الواجب أن نفرح بكل ما يصدر عن أبناء الوطن الغالي!
أيكون من حق بعض الناس أن يصدعونا باللحن والخطأ في جميع الأوقات، ولا يكون من حقنا أن نعرك آذانهم في بعض الأوقات؟
سنزجي أيام هذا الصيف بتعقب أولئك (الفضلاء) إلى أن يصدر الأمر بأن محطة الإذاعة محطة حكومية وأن توجيهها إلى السداد من الممنوعات. فمتى يصدر ذلك الأمر ليعرف الجمهور أن سكوت النقد الأدبي عن محطة الإذاعة ليس، إلا فنا من الطاعة لا ولي الأمر(371/10)
منا؟
عفا الله عمن حرضوني على هذا النقد اللاذع من القارئين والقارئات والسامعين والسامعات، وإن كان تحريضهم شاهداً على أن في مصر ناساً يقرءون ويسمعون! وهل من القليل أن يكون في مصر من يرجو أن تفرض (الرقابة الأدبية) على من يكتبون ويخطبون؟
زكي مبارك(371/11)
إلى الباكين على فرنسا
مقتول يبكي على قاتله!
وفي غير الحب. . .!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
عجيب هذا التفريق والتمييز بين فرنسا السياسية وفرنسا الأدبية والروحية - إن كان لها روح - من أقلام طائفة من كتابنا، بينما فرنسا لا تفرق بين الإسلام والعروبة السياسيين والإسلام والعروبة الروحيين!
أصحيح أنه في مواريثنا ولا في أفكارنا ولا في إنسانيتنا شيء ذو قيمة يستحق الإبقاء عليه والاحتفال به وإمداده بعوامل النمو والحياة؟
وإلا فما بال فرنسا في كل ديار العرب والإسلام التي وقعت تحت سلطانها السياسي أو الأدبي تكيد للإسلام والعروبة وتحاول تجريد أهلها من القوة والمقومات والجنسية واللغة والدين؟
لو فرقت فرنسا وهي القوية بين شخصيتنا السياسية وشخصيتنا الروحية والأدبية ما كان في ذلك خطر عليها مثل الخطر الذي على أممكم الضعيفة أيها الكاتب من هذا التفريق الذي تفرقون.
(إن أول الشر استظراف الأشرار) تلك مقالة صحيحة في علم الأخلاق. وانتم استظرفتم أعدائكم أعداء الحرية والحق الذين زعموا أنهم أول من أعلن حقوق الإنسان، ومددتم أعينكم إلى ما عندهم من زينة الحياة وأعجبتم بجمال اليد التي تضربكم بالسيف وتأخذ منكم أقواتكم وأرزاقكم وغلات أرضكم ومجهود عمالكم وجنودكم لتصنع من كل أولئك أدوات زينتها ووسائل ترفها، وتقيم بها أسواق فنونها وأنسها وبهجتها ومعارض قوتها، ثم لا تذكر هي فقركم وعيلتكم وحرمانكم وضعتكم وهوانكم وجهلكم حين تذكرون أنتم باريس التي قام بنيانها على أنقاضكم وفنونها على أطلال هداكم.
إنكم أخطأتم فهم وضع الإنسان في الحياة ونسيتم الوضع القدسي الذي وضعه فيه الإسلام، وكان هذا الخطأ وهذا النسيان السبب الأول في تنازلكم الكاملة عن حقوق حياتكم وحقوق(371/12)
حياة الآخرين من عباد الله واغتفاركم لفرنسا جناياتها السياسية على صميم الحياة الإنسانية في ملايين عدة من أرواح الإنسان في مقابل تمتعكم بترفها العقلي والأدبي وألوان فنونها التي لم تغن عنها شيئاً غداة نكبتها الكبرى تحت أقدام الألمان.
لقد أنذرتكم الأقدار في سقوط فرنسا بأن هذا الترف العقلي والبدني الذي فتنتم به وأعجبتم بعدوكم له ونسيتم حقوق نفوسكم ونفوس أبناء عمومتكم ودينكم من أجله - إن هو إلا فقاقيع صابون جميلة براقة تنفجر لأقل نسمة تلامسها.
الأدب والفلسفة والفن في فرنسا زور وبهتان وهذيان، لأنه لم يرفع النفس الفرنسية إلى درجة الوصاية الرشيدة على ميراث الفضائل الإنسانية، ولم يجعلها نفساً رحيبة سمحة مع من اغتصبت حرياتهم وحقوقهم بل لم يجعلها نفساً سمحة مع ذاتها هي. وأكبر الدليل على ذلك تلك الأسس الاقتصادية الفاسدة والبراكين الداخلية والانحلال والتفكك الذي انتهى بها إلى نهايتها العجيبة.
لو حكموا الناس حكم الإبقاء والاستحياء لا الإبادة والإفناء والإهدار والتحقير والحرمان من نور العلم وهدى الدين لقلنا خلفاء في الأرض يعمرونها وينمون مواردها ويحترمون إنسانها كما يسمنون حيوانها، ولكنهم لم يفعلوا هذا بل جشعوا وهم الأغنياء، وحرموا المحكومين العلم وهم العلماء، ولم يحاولوا رفع النفوس الإنسانية، بل على الضد كادوا لها ودسوا سموم الضعف والفساد إليها، فليس لنا أن نقول إن لهم روحاً تحب وسياسة تكره لأن التفريق بين الفضيلة والسياسة إلى هذا الحد الفاحش لا يستقيم في معرض انتحال الأعذار وتلمس المنادح إلا إذا حرفنا القلب الإنساني عن موضعه الإلهي. . . ليس لنا أن نقول فيهم غير نتيجة أعمالهم.
إن هذا التفريق بين السلوك السياسي والسلوك الروحي قد صار أمره عجباً من أعاجيب الحياة الأوربية! وقد بات خطراً على الحياة الإنسانية الشخصية لأنه تسرب إلى موازين الحكم على الأفراد فهم يحترمون الذكي ويقدرونه ولو كان شيطاناً شريراً مفسداً ويقولون هناك حياة خاصة يحل للإنسان فيها ما يحرم عليه في الحياة العامة. . . حتى تعددت الشخصيات بين ازدواج وتثليث وتربيع إلى ما لا نهاية. . . وبات الإنسان بهذا متعدد النواحي تصطرع فيه الأضداد وتحترب المتناقضات.(371/13)
هذا كذب وتدليس على الطبيعة والفطرة كما أرادهما الله فاحذروه! (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. . .) إن الحياة الشخصية إذا تكن بريئة نظيفة معتصمة بعروة الحق الواحد الذي لا يتعدد فهيهات أن تصفو لها وبها الحياة العامة. فإن النوازع النفسية هي الروافد للأفكار والأعمال. وأن الحق لا يعترف بسلطان الهوى (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض) فلا غفران من الحق لنسيانكم آلامكم وآلام أبناء جنسيتكم ودينكم في الجزائر وتونس ومراكش الذين جعلتهم فرنسا أمكم الروحية متخلفين عن قافلة الحياة العالمة العادلة بمائة وخمسين سنة. . .
إنهم ضربوا مدينتكم دمشق ظئر الإسلام الفاضلة الأصيلة العمرة بآثار مجدكم - بالمدافع في الثورة السورية الكبرى؛ ومع ذلك لم يبك عليها منهم باك، ولم يرث لها قلب راث. . فلماذا تبكون أنتم على باريس حينما جرعتها الأقدار غصص القصاص العادل والثأر لكم ولغيركم من عبيد الله المستضعفين؟!
ليست هذه شماتة، ولكنها أيضاً ليست صوفية بلهاء في الوطنية والجنسية، ترحم الجاني وتبكيه يوم ينزل به قصاص العدالة التي قامت بها السموات والأرض.
أجل، ليست ضعفاً وفسولة من (مقتول يبكي على قاتله. . .) وفي غير الحب!
إلا إذا تحررتم من أعدائكم، ولكن ما دمتم تحت النعال فلا تمسحوها وتجملوها بأيديكم. . . وما دامت النصال تنوشكم فلا تحدوها وتشحذوها وتسددوا السواعد التي تضربكم بها. . . وتسديدها هو أن تتغنوا بأي مجد لمن بها تجنوا عليكم ما داموا مصرين على تعذيبكم بمجدهم
ذلك هو منطق الطبيعة الصحيحة المزاح البريئة من التدليس وخديعة الضعف والعجز ونسيان القدر الضروري اللازم من الوحشية لكل إنسان يحرص على الكرامة الإنسانية التي لا تساوي الحياة تكاليفها إذا جردت منها. . .
هذا كلام يساق لمن يعتقد أن عالم الفكر والفن والأدب هو العالم الأصيل في حياة النفس الإنسانية، وأن ما عداه فهو على هامشها؛ وعلى هذا الأساس، إذا لم يؤثر هذا العالم الرفيع في النفس ويوجهها للخير، ويجعل حياتها وحدة متناسقة بريئة من التناقض، فلا جدال في أنه قد قام على أساس فاسد يجب تعديله وتصحيحه وعدم اللجاجة في الدفاع عنه.(371/14)
أما من يظنون أن الأدب والفن حديث بدواة ونزوات وعربدات وألاعيب ذكاء مسجلة تسجيلاً جميلاً ببيان براق يسحر النفس ويخيل إليها أخيلة الأحلام المنفصلة عن حياة الواقع في السياسة والمعاملة. . . فهؤلاء سيظل الأدب والفن بهم في درجة متخلفة أمام جماهير الإنسانية الحكيمة الواقعية عن درجات صناعة الأحذية ودبغ الجلود وكنس الطرق. . .
وسيظلون عائشين على هامش الحياة منظوراً إليهم من الناس على أنهم يحيون في نطاق عالم آخر مملوء بالشذوذ والعقم والفراغ والحيرة والخيبة وعلك الكلام ومضغ الأحاديث والاكتفاء من الحياة بأيسر ما فيها وأهونه. . .
عبد المنعم خلاف
(القاهرة)(371/15)
تعليق على:
(فائدة الأربعاء!)
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه كلمة صغيرة من باب ما نشره الأستاذ في (فائدة الأربعاء)، وما أفتى فيها ذلك (العالم الكبير) الذي أولع - غفر الله له - بتبرير كل ما تفعل العامة، والاستدلال عليه، والدفاع عنه، ولو كان خطأ محضاً، ولو كان ظاهراً فيه الخروج على مبدأ التوحيد الذي جاء به الإسلام نقياً واضحاً، دأبه في ذلك دأب زميله الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله رحمة واسعة، فإنه كان على علمه وأدبه يذب عن عقائد العامة، ويسخر للدفاع عنها قلمه البليغ، ويناضل عنها ويهجو العلماء المصلحين بالقصائد الطوال، حتى أنه تطاول على علامة العصر السيد رشيد رضا، وعلى شيخه مربي الجيل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنهما.
وسبب ذلك كله ابتغاء الخطوة عند العامة، والرغبة في نيل احترامها وتقديرها، وإلا فكيف يخفى على مثل الشيخ يوسف النبهاني والشيخ يوسف الدجوي، وهما هما في سعة العلم، وبلاغة القلم، وحدة الخاطر، أن الذي يدعو إليه السلفيون من لدن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا والشيخ جمال القاسمي - أن الذي يدعون إليه إنما هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافات، وطرح الأحكام والاجتهادية التي لم يرد فيها نص ولم يبق إليها من حاجة، وليس على شيء من ذلك رد، ولا للجدال فيه مجال؟
وكيف يخفى على عالم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنعه ما كان يقاسي من آلام المرض الذي قبض فيه من أن يبين أن الله لعن قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - وأن المسلمين أمسوا اليوم، وما مسجد من مساجدهم إلا وفيه قبر أو أقيم على قبر، وأكثر هذه القبور لم تصح نسبته إلى صاحبه. هذا مسجد دمشق الكبير، من يستطيع أن يثبت أن القبر الذي فيه هو قبر سيدنا يحيى عليه السلام، وقبر سيدنا الحسين في القاهرة من يثبت أنه فيه مع أن رأسه في المشهد المعروف باسمه في مسجد دمشق وجسده في كربلاء؟ وكيف يكون في بيروت مقام سيدنا يحيى وليس في هذا المقام قبر ولا شبهه؟ ولكنهم كرهوا أن يكونوا(371/16)
بمنجاة من مخالفة الحديث، فأقاموا هذا المقام على غير شيء. . . وما الفرق بين وجود القبر وعدمه ونحن تعتقد أنه لا يضر ولا ينفع؟ وكيف يخفى على عالم أن في الحديث الصحيح الذي رواه علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ألا يدع صنماً إلا كسره، ولا قبراً إلا سواه بالأرض؟ فما بالهم أحرص الناس على تشييد القبور وتعظيمها والوقوف بأعتابها؟ وهل يفعلون ذلك إلا استرضاء للعامة وابتغاء الخطوة عندها؟ فأين إذن أمانة العلم وكرامة العالم، وأين إرث الرسول؟
وأغرب من ذلك وأبعده عن الحق أن من العلماء من يستدل على الخرافة بأحاديث لا أصل لها إرضاءً للعامة. حدث من أسابيع أن قدم دمشق عالم تركي من علماء إسكندرون، فدخل المسجد فرأى حلقة نبيلة فجلس فيها، وكان المدرس من علماء دمشق المعدودين الذين يقرؤون بين العشاءين، فسمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج كل ليلة من قبره بلحمه ودمه فيدور دورة في الأرض يرى فيها كل شيء ثم يعود إلى قبره. فقال له الشيخ التركي: من أين جئت بهذا؟ فأظهر المدرس الغضب وصرخ: ألمثلي يقال من أين؟ إذا شئت أن تتعلم فتعال إلي في داري أعلمك. فجاءه في داره، فبحث ونقب ثم أتاه بحديث ليس له سند معروف. فقال له: هذا حديث موضوع، فقال المدرس: لا بل هو صحيح، وصرفه من داره. فلما كان الغد دخل الشيخ التركي المسجد ومعه طائفة من الكتب المعتبرة التي تنص على أنه حديث موضوع، فكان جواب الشيخ أن صرخ: نحن ما عندنا وهابية. . نحن ما عندنا وهابية. . نحن من أحباء الرسول. وكرر ذلك حتى جمع عليه العامة فكادوا يبطشون به.
وأشد غرابة من هذه القصة ما أسمعه كل جمعة على كثير من منابر دمشق، من التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره. وما أدري كيف يكون حياً في قبره الحي عندنا هو الذي يأكل ويشرب ويتنفس؟ فهل هو صلى الله عليه وسلم حي في قبره بهذا المعنى؟ وإذا كان حياً فكيف نعتقد أنه مات سنة كذا، وكيف قام من بعده أبو بكر وعمر ومئات الخلفاء؟ وإذا ثبت أنه قد عاش كما يعيش الناس ومات كما يموتون فكيف يكون حياً في قبره إلا أن تكون حياة روحية برزخية لا نفهم ما هي؟ ولا ندرك صلتها بحياتنا الأرضية؟(371/17)
أما إنه لا بد من تصحيح عقيدة المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم. والصحيح أنه ليس بشراً كسائر البشر أو فيلسوفاً أو مصلحاً فحسب، كما يريد أن يصوره بعض المستشرقين وأذيالهم من الملاحدة الذين تخرجوا على أيديهم فجاءوا منكرين للوحي، لا يرون فرقاً بين النبي وبين العلماء المصلحين، ويزعمون أن الإسلام إنما خرج من رأس محمد وقلبه.
وليس فوق البشر، كما يتصوره بعض المسلمين القائلين بخرافة حياته في قبره، وعلمه بكل شيء، وقدرته بعد موته على النفع والضرر.
ولكنه بشر مثلنا بنص القرآن، وإنما يمتاز بالعصمة وبالوحي، وبقيامه بالتبليغ عن الله، وقد انقطع الوحي والتبليغ بموته، فمن ادعى أنه رآه صلى الله عليه وآله وسلم في نومه فأمره بكذا أو نهاه عن كذا، يكون إما مجنوناً أو معتقداً نقص الشريعة، أو متلاعباً بالدين. . ومن حسب أنه يمدحه بمثل قوله:
يا أكرم الرسل مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحوادث العمم
فهو على ضلال، لأنه يمدحه بما يهدم التوحيد من أساسه. وإذا كان كفار قريش الذين سماهم الله مشركين وأوجب قتالهم، يدعون الله مخلصين إذا ركبوا في الفلك، ورأوا الشدة، فماذا يكون هذا الرجل الذي يحيق به الحادث العمم فلا يجد من يلوذ به إلا الرسول؟ وينسى الله؟ ونحن نعلم أن النفي والاستثناء من طرق القصر ولذلك كانت كلمة التوحيد لا إله إلا الله؟
وماذا نقول للعلماء الذين يفهمون هذا الأمر الواضح، ثم يقرؤون هذا البيت عند سماعه لأن العامة تعتقد به وتقدسه؟
وماذا نقول للعلماء الذين يحضرون الموالد وأشباهها فيسمعون المغني يتغزل بالرسول، ويذكر الوصال، أي والله، والعين والفم وهاتيك الوقاحات، ويسكتون خوفاً من العامة؟
والذين يجلسون في حفلات الرقص التي تسمى ذكراً، ولا ينكرونها وهم يعرفون بطلانها خوفاً من العامة؟
يا سادتنا العلماء الأعلام، إننا لا نحتاج إلى علم، فإن عندكم منه ما يزيد على الحاجة، ولكنا نحتاج (ولا مؤاخذة) إلى إخلاص وإلى جرأة، وإلى تحرر من التعبد لجماهير الناس، وتخلص من الخضوع للعامة، فإذا وصلتم إلى ذلك لم نختلف ولم نتجادل، لأن المسألة ترد(371/18)
إلى الدليل وأنتم أعرف به منا.
إننا نشكو أموراً كثيرة، وأنتم تعرفون دواءها ولكنكم تخافون العامة. . .
منها العقيدة بالقبور، وسؤال أهلها، والتوجه إليها، وهي عقيدة لا يعرفها الإسلام، بل يعرفها اليونان الأقدمون ويسمونها عبادة الأبطال. ومن شاء فليرجع إلى كتاب تاريخ الحضارة لشارل سينوبوس الذي عربه أستاذنا كرد علي بك وليقابل بين العقيدتين وليقل لي: أماهما من جنس واحد؟
ومنها مسألة السفور، هذه المسألة الاجتماعية الخطرة، التي تعد من الأدواء المعضلة، والعلماء واقفون منها شر موقف، وبيان ذلك أن النساء يمشين نحو السفور بل الحسور والتهتك والعلماء ساكتون لا يعالجون المسألة ولا يحسنون علاجها، فإن تصدي لها مصلح فأحب أن يجد لها دواء، كالسفور الشرعي المحتشم مثلاً - أثاروا عليه العامة، وخطبوا به على المنابر، واتهموه بأنه سفوري مفسد، فإذا كف عن بحثه الإصلاحي عادوا إلى نومهم وتركوا حبل التهتك على غاربه. . . فلا هم يصلحون ولا هم يتركون الناس يصلحون، وأظنهم لا يفكرون في الإصلاح تفكيراً جدياً، وإنما يبتغون الخطوة عند العامة.
ومنها مسألة الطرق الصوفية وما فيها من منكرات.
ومنها خرافات المتصوفة وضلالاتهم كالقول بوحدة الوجود، والقطبانية، وأهل الديوان.
ومنها مسألة المذاهب الفقهية والاجتهاد، والكلام فيها يحتاج إلى فصل بل إلى فصول طوال.
ومنها الرد على الشبه التي يوردها المستشرقون وأمثالهم.
فمن لهذا المسائل إلا أنتم يا سادتنا العلماء؟ من يعالجها؟ من يدرسها؟ كيف تدرسونها وأنتم تحرصون على رضا العامة أكثر من الحقيقة؟
هذه هي المسألة يأيها الأستاذ المدني، ليست محصورة في فائدة الأربعاء ولا فائدة الخميس! فسل إخوانك علماء الأزهر ما هو جوابهم عليها وقل لي، ولك الشكر وعليك السلام.
علي الطنطاوي(371/19)
من وحي الحرب
يا سيدي. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
(تلقى أحدهم أبيض بضاً، يملخ في الباطل ملخا، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه؛ يقول: هاأنذا فأمروني. قد عرفناك فمقتك الله ومقتك الصالحون) الحسن البصري
أهلاً بك، ياسيدي، وسهلاً!
الآن أشرق ظلام القرية بنور وجهك البهي، فافتح أمامي بابك المغلق وقلبك الموصد، ودعني أجلس إليك ساعة أبثك هماً من همي، وأشكو إليك شجناً من شجوني؛ فأنا عبدك وخادمك منذ أن كان أبوك وأبي. . .
دعني أجتلي طلعتك الوضاحة علها تزحزح عن صدري بعض ما قدحه
لطالما طلبت إليك أن تسكن إلينا يوماً أو بعض يوم لتنفث فينا الحياة، فرميتني بالنظرة الشزراء والكلمة القاسية، تشعرني خيبة الرجاء وضيعة الأمل.
وتصرمت سنوات، يا سيدي. والآن، جزى الله الشدائد كل خير، فهي أرسلتك إلينا لتسكن القرية وترى. . فأهلاً بك، يا سيدي، وسهلاً.
ماذا، يا سيدي، ماذا؟
ماذا وراء هذه السحابة السوداء التي تظلل وجهك الصبوح؟
وماذا وراء هذا الفتور الذي يفعم جنبات حياتك؟ وماذا وراء هذه النظرة الفاترة الحائرة وهذه الإطراقة الطويلة الصامتة؟
إنك تأخذ وتذر في صمت، وتجادل وتناقش في ملل، وتأمر وتنهي في تكسر، وتعمل وتدع في ضيق؛ فماذا. . . ماذاأصابك يا سيدي؟
أفتضيق نفسك بهذا الفضاء المنفسح وهو مسرح القلب ومراحه، وتنزعج أذنك من خرير ماء الغدير المنساب خلال الوادي وهو النغم الساحر توقعه الطبيعة على قيثارتها الإلهية؛ ويرتد طرفك دون هذا البساط السندسي الجميل في ضجر وهو روح الجنة على الأرض؛ وينغلق صدرك دون هذا الهواء النقي وهو معنى من معاني الشباب الدائم؛ وتتململ وأنت في ثوبك الفضفاض وهو يشعرك بحلاوة الحرية؟(371/20)
لا جرم، فأنت لا تجد هنا بهجة الروح، ولا هوى النفس ولا نور العين، ولا. . . ولا شفاء القلب.
غير أنك، يا سيدي، حللت أهلاً
برغمك هبطت بيننا لتعيش عمراً من عمرك، فهل ترسل نفسك على سجيتها لتشعر ببعض ما أقاسي؛ فأنا الفلاح الصغير الفقير، أكابد شدة الحياة، وشظف العيش، وذلة الإهمال وحيرة الضياع.
منذ سنوات، وأنت تقسو علي، فتنتزع مني قوت عيالي ومساك روحي في غير رحمة ولا شفقة، لتشبع رغبات المدينة الجامحة وحاجات الحضارة المزورة، وأنا أحمل ثقل ظلمك في صبر لأنك أنت سيدي.
منذ سنوات، وأنا أقف بباب قصرك ساعات (كالشحاذ) أطمع أن أفوز بكلمة، فلا أجد السبيل إليك، لأن حاجزاً من الرفاق يحول بينك وبيني.
واندفعت في سبيلك، فركبك الدين؛ وأنا أنادي، فلا يبلغك صوتي الضئيل، لأن فنوناً من الشهوات تشغلك عني
ومرت الأيام، وقصر أبيك المشيد في الضيعة يتداعى رويدا رويداً، وأنا أناشدك أن تمنحه فضل مالك، فأعرضت عني في أنفة وكبرياء؛ وشمخت بأنفك، فقلت: يا سيدي، إن الغيب مستور، ومن يدري، لعلك تحتاج إليه في وقت ما. فقلت: هيه، أيها الغبي، أفتبتغي أن أسكن القرية وأنا هو أنا. . . فسكت وفي قلبي حسرات على أن ينهد هذا الجمال الرائع.
لقد تأنق أبوك فيه، فكان فناً من الفن، وكان مشرق العز ومهبط النعيم؛ فلما سيطرت عليه اطرحته، وطرت إلى بلاد تسميها أنت بلاد النور، تضيف إلى جهلك جهلاً آخر، وتركتنا هنا نتكفأ في بلاد الظلام والفاقة.
إن الذي دفعك إلى هناك هو العلم الذي يعلم الجهل، وهو العقل الذي يعلم الجنون.
والآن جئت، يا ابن القرية، برغمك لتتردى في قرار مكين وثارت بك سورة السلطان فرحت تتسخط على هذا الجهل الشامل، ونسيت يوم أن ذهبت أستجدي جاهك عل ابني يجد مكاناً في المدرسة، فهررت في وأنت تقول: حتى انتم. . . حتى أنتم أيها الفلاحون، تريدون أن تتعلموا. . .؟ فرجعت والخيبة تشيع في جنبات نفسي.(371/21)
فهل يسرك الآن هذا الجهل الذي تفهق به القرية؟
أتحس في قرارة نفسك أنني إنسان مثلك؟ كلا
بل أنت كنت خاوياً ونفخت في إهابك الرتبة وسما بك اللقب هذا اللقب غرسته بد الكبرياء، وسقته نزوة الخنزوانة، وتعهدته ثورة النعرة.
هو النبتة اللئيمة التي خلقتها أيام الاستعباد، وترعرعت في حضن الاستبداد.
هو القيد البغيض والغل القمل.
هو العصا السحرية التي تخضع لها الأعناق، وتتملقها الألسن، وتهفو نحوها الرغبات، وترنو إليها الأبصار، وينفتح أمامها الباب المغلق، ويذل لها القلب المتغطرس، و. . .
واللقب هو سيما الخسف والهوان، وعلامة الغشم والحيف، فمتى. . . متى الخلاص؟
لا تلمني، يا سيدي، فاللقب هو عدوي الذي أفرق منه: لأنه بعث فيك العظمة والكبر، وعلمني الصغار والضعة، ونفث فيك الغطرسة والعجب، وأوحى إلي بالاستكانة والاستخذاء، وسما بك إلى الخيلاء والصلف، وانحط بي إلى التصاغر والخنوع. وهو فتح أمامك مغاليق الحكومة وأوصدها في وجهي، وهون عليك أمر الرزق وأعضله عليّ، والآن لك الحياة ورماني منها في مهمة حزن.
فلا تلمني إن أنا مقته من جماع قلبي.
ولكنك أنت، يا سيدي، حللت بيننا أهلاً.
تعال معي، يا سيدي، نجلس هناك على الحصباء تحت الظل الوارف، إلى جانب الساقية. تعال علك تجد في نواح الساقية وأنين الثور وشكواي أنا الفلاح برداً يطفئ ثورتك.
تعال واشهدني وأنا بين الطين والماء، بين الفأس والمحصدة، بين الساقية والطنبور، بين أرجاء أرضك التي تسعد بمحصولها، أسهر الليل وأقوم النهار، أعني النفس لتجد أنت لذتك. تعال عل قلبك يتفتح لي فألمس بعض عطفك.
تعال واقترب مني. لا تخش جسمي القذر ولا ثيابي الرثة الوضيعة.
تعال، انزل عن كبريائك ساعة واجلس إلي وذق طعامي ونم إلى جانبي، ولا تأنف ولا تمتعض ولا تدع الحسرة تنسرب إلى قلبك فأنت رجل عظيم تستطيع أن تصنع شيئاً.
ثم تعال إلى داري وتأمل أهي خير أم حظيرة البهائم؟(371/22)
إن شيئاً من هذا لا يؤلمني بقدر ما آلمني أن أراك تشكو الريف وتضيق بالقرية وتفزع عن ضيعتك التي تغل عليك الآلاف
ولكنك الآن، يا سيدي، حللت هنا أهلاً.
هذا هو وطن الشدة فاحبه بعض رعايتك، وهيئ منه في شتائك لصيفك، ولا تدع صعرك يطغى على عقلك.
إن الريف يمرح بك ويبسم لمقدمك ويتلقاك بين ذراعيه في فرحة، فليكن له منك حسن الجزاء.
لقد تفتق ذهنك، وأنت بيننا، عن ألف مشروع ومشروع، ورأيتك تمسك بالقلم - تارة - ترسم على القرطاس، وتمسك بالعصا - تارة أخرى - تخط على الثرى، فهل تعمل أم هو الرخاء يمحو آثار الشدة، فتنطلق - بعد - على سننك يجرفك الترف الذي أفسدك وأفسدنا.
وأنت - أيتها الحرب - وعاك الله وأدامك لأنك علمت سيدي أن له داراً وأهلاً وضيعة يطمئن إليهم ساعة من زمان، وأنت أزحت الغشاوة التي كانت تحجب بصره عني، وأنت. . . وأنت. . .
فرعاك الله - أيتها الحرب - وأدامك
(مشتهر)
كامل محمود حبيب(371/23)
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 2 -
أهل الكتاب
أعمالهم في السلم: التشكيك في الدين، محاولة فتنة المؤمنين، تحريف كتابهم إذا كان فيه ما ينفع المؤمنين، محاولة التفريق بين الأوس والخزرج.
قدمنا في المقال السابق كيف اضطر الرسول الكريم إلى الهجرة من مكة إلى المدينة، وكيف يسر الله له أسباب هذه الهجرة الشريفة بدخول كثير من أهل المدينة، وبخاصة أشرافها، في دين الله، فكانوا عزاً للإسلام، ولمن هاجر إليهم من مسلمي مكة، وعندهم استراح المسلمون المهاجرون من أذى قريش، وتهيأت لهم الفرصة في يثرب ليقتصوا من الذين أخرجوهم من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. واستمر النضال بين المسلمين ومن تخلف عن الدين الجديد إلى أن ظهر الإسلام في جزيرة العرب على الدين كله.
ولكن انتصار المسلمين على قريش خاصة وعلى بقية المشركين عامة، لم يكن أمراً سهلاً؛ فقد كان العدو الخارجي قوياً، وكانت جماعة الطابور الخامس في المدينة وما حولها خطراً شديداً، إذ كانت تخفي عداوتها وتبدي مودتها وتتربص بالمؤمنين الدوائر وتعين عليهم إن سرا وإن جهرا كل من يغير على المدينة أو يريد بالإسلام سوءاً.
ولما كان عدد المسلمين كثيراً بالمدينة، وكان النبي الكريم أكبر عامل في حياة يثرب، وله الرأي الأعلى في إدارتها وحربها وسلمها ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، كان لا بد من استخفاء جماعة الطابور الخامس في المدينة، وكان لا بد لها من إظهار الإسلام، أو الارتباط بالرسول بعهود وثيقة أن تنصره وتشد أزره ولا تعين عليه مغيراً، حتى تسنح الفرصة لإظهار الكفر أو لتقض العهد، وحينئذ تسارع هذه الجماعة في الكفر وتخلف النبي ما وعدته.
وأهم طوائف هذه الجماعة - جماعة الطابور الخامس - هم أهل الكتاب والمنافقون من(371/24)
أهل المدينة وممن حولها من الأعراب، ويكاد اليهود يكونون وحدهم دعامة الطابور الخامس من أهل الكتاب، ولنبدأ بحديثهم:
اليهود
كان اليهود في بدء الإسلام ينزلون بالمدينة وما حولها، وكانت لهم سيطرة ونفوذ في المدينة قبل الإسلام، وبخاصة من الناحية الروحية، وكانوا يتلون كتابهم ويرون فيه أن رسولاً من غيرهم قرب ظهوره. وكانت صفاته عندهم تدل على أن (النبيَّ الأميَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأُمرُهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويُحِلُّ لهم الطيباتِ ويُحَرِّمُ عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصْرَهم والأغلال التي كانت عليهم) هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، العربي القرشي، الذي ظهر بمكة وأخرجه قومه منها، وهاجر إلى المدينة؛ (فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين). وكان الذي دفعهم إلى الكفر به هو حسدهم له وغيرتهم من أن يكون خاتم الرسل رجلاً من غير اليهود، فقال الله فيهم: (بِئسمَا اشترَوْا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزلَ اللهُ بَغْياً أن يُنزَّلَ اللهُ من فضله على من يشاءُ من عباده، فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذابٌ مهين)
موقف اليهود من الرسول في السلم
كانت لليهود مواقف بعد الهجرة لا تمت إلى الشرف بسبب سواء ذلك في السلم أو الحرب، والذي يعنينا اليوم هو موقفهم في السلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بعد وصوله إلى المدينة وأذهب الله به ما كان بين الأوس والخزرج من عداوة، وكان من أول ما عمله أن عاهد اليهود على أن يعيش وإياهم في أمن لا ينصر أحدهم عدواً على الآخر، ومن عهده لهم: (وإن من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم) ولكن الحوادث التي سنقدمها تدل على أنهم لم يوفوا بعهدهم، بل أخذوا يحاربون الرسول الذي أقرهم على دينهم وأموالهم، وأخذوا يحاربون دينه بوسائل شتى.
ومن تلك الوسائل التي اتبعوها طريقة التشكيك في الدين، وذلك أنهم كانوا يؤمنون حتى يطمئن إليهم المسلمون ثم يرتدون كفاراً، كي يظن المسلمون بدين الرسول ظنونا، ويقولوا(371/25)
ما كفر هؤلاء وهم على بينة من أمر الأديان إلا لعلة. ففضح الله هذه اللعبة الخطرة إذ يقول: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون)
وكانوا (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا) عاتبين على من يخبر المؤمنين منهم بصفات الرسول في التوراة: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليُحاجُّوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟)
وكانوا يرسلون طائفة منهم إلى الرسول بعد أن يسمعوها أحكام التوراة محرفة، ويوصون تلك الطائفة ألا تقبل من التعاليم والأحكام إلا ما يوافق أهواء مرسليهم سواء وافقت الحق أو خالفته.
وكانوا يتحاكمون إليه، لا رغبة في حكومته العادلة، ولكن رجاء أن يحابيهم فيحكم بما يوافق هواهم، ثم ينقلبون عليه، ويشيعون عنه السوء من أجل هذه الحكومة: روى أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر، وهما محصنان، وحدهما الرجم في التوراة. فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقالوا لهم: إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا. فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فنزل قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب، سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم من بعد مواضعه، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا) وأمر الله نبيه الكريم أن يحكم بينهم بالقسط أو يعرض عنهم، وبين له أنهم احتكموا إليه هرباً من حكم كتابهم، فقال له: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟ ثم يتولون من بعد ذلك، وما أولئك بالمؤمنين) ثم حذره أمرهم فقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهوائهم، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)
وكان علمهم بدين موسى سبباً في مغالطات منطقية سخيفة يريدون بها أن يبطلوا دين محمد، وأن يصرفوا العرب عنه؛ فمحمد يقول لقومه عن الإسلام: (مِلّة أبيكم إبراهيم) وهم يقولون إن إبراهيم كان يهودياً، وهو أبو العرب فواجب على أتباع محمد أن يتبعوا اليهودية التي هي دين إبراهيم، لا أن يتبعوا الإسلام، فنفى الله وصفهم لإبراهيم باليهودية في قوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين) ثم(371/26)
وبخهم على هذه المغالطة بقوله: (يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده، أفلا تعقلون؟)
وبلغت بهم الجرأة أنهم أرادوا تهويد جماعة من كبار الصحابة منهم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر ومعاذ بن جبل، ولكن الله عصمهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يُضُّلونكم وما يُضلُّون إلا أنفسهم وما يشعرون)
وكان في التوراة آيات تدل على صفات محمد وفضله، وكان فيها أحكام توافق القرآن ولا توافق هواهم، فعمدوا إلى تحريفها ليبطلوا حجة المسلمين وبرهانهم على رسالة محمد من هذه الناحية، وكان على رأس هذه الطائفة المحرفة كعب بن الأشرف، ومالك ابن الصيف، وحيي بن أخطب، وهم الذين قال الله فيهم: وإن منهم لفريقاً يَلوُون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وكانوا يحاولون التفريق بين الأنصار من الأوس والخزرج بتذكيرهم بحروب الجاهلية، والعداوة التي كانت بين القبيلتين ومحاها الإسلام: قيل مَرَّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه تحدثهم وتألفهم، فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، ففعل الشاب ما أمر به، فتنازع القوم عند ذلك، وقالوا: السلاح السلاح. فبلغ النبي عليه السلام، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين. فنزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هُدىَ إلى صراط مستقيم، يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوناً)
تلك خلاصة أعمالهم في السلم وتتجلى في أنهم كانوا يريدون فتنة المسلمين عن دينهم بطريق التشكيك أو المغالطة أو التحريف، وكانوا يودون التفريق بين المؤمنين بإثارة أحقاد(371/27)
الجاهلية، فكان الله لهم بالمرصاد يكشف حيلهم، يفضح أسرارهم، وينهى عن مودتهم، ويبين مبلغ عداوتهم، فقال فيهم: لنجدَنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. وقال تهديداً لهم: (يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فتردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولاً)
أما موقفهم في الحرب، ومحاولتهم هدم الإسلام بالسيف والقتل فهو موضوع الحديث التالي إن شاء الله.
(القاهرة)
عبد الرزاق إبراهيم حميدة(371/28)
نجوى!
في غدير السُّكون. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
تَعَاَليْ تَذبْ في غَديرِ السُّكونِ ... وَنَخْرِقْ أَسانا عَلَى ضِفَّتِهْ
تَعَاَليْ نَكُنْ صَمْتَةً في دُجاهُ ... وَذِكْرَى هَديرٍ على مَوْجَتِه
تَعَاَليْ نَسِرْ في جِنازِ الغُروبِ ... شُعاعاتِ ثُكْلٍ على صَفْحَتِه
تَعَاَليْ. . . فَإنا بَقايا لهيبٍ ... حَشا الدَّهْرِ يَفزَعُ منْ وَقْدَتِه
فما نَبْتَغي مِنْ رَمادِ الزَّمانِ؟ ... ومِنْ لَغَطِ النَّاسِ في ضَجَّتِه؟
حَضِيضٌ حَياةُ الوَرَى كُلُّها ... وإثْمٌ يَهيمُونَ في لوثَتِه
فطيرِي بِنا عَنْ سَماواتِهم ... إلى أُفُقٍ هِمْتُ في عُزْلَتِه
بَرِي الحَواشِي كقَلْب النُّجُوم ... وكالمَلكِ الطفِّل فيِ غَفْوَتِه
عَفِيفُ اَلْخَيالِ كأَني بهِ ... تَهادَيْتِ وَالفَجْر في رَبْوَتهِ
تَعَاَليْ فَإنِّي سئمتُ الحَياةَ ... وَعِفْتُ الشَّبابَ على نَضْرَتهِ
تُطِلُّ بِعُشِّي نُجُومُ السَّماء ... جِرَاحَا توَلْوِلُ في ظُلمَتِهِ
وَيُلقي حَوَالَيْهِ لَيْلُ الوْجودِ ... خُطَا مَارِدٍ لَجَّ في ثَورَتِه
وَقَلبِي بِهِ وَتَرَدٌ وَتَرٌ أَشْعَلَتْ ... خَيَالَ السُّكُونِ رُؤَى نَغْمَتِه
تَعالَيْ نَعِبْ في تَهاوِيِلِهِ ... وَنَفْنَى مَعَ الصَّمْتِ في نَشوَتِه
محمود حسن إسماعيل
مراقبة الثقافة - بالمعارف(371/29)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
اضطراب سياسي
أبرز بقاع النشاط السياسي الآن الشرق الأقصى والبلقان، فهما المنطقتان الوحيدتان التي لألمانيا فيهما مجال للمناورات، فهي تحاول في البقعة الأولى أن تضم اليابان إلى صفها لتربك بريطانيا العظمى في الميدان الشرقي، ولتوزع أسطولها للدفاع عن ممتلكاتها في آسيا والمحيط الهادي، وتحاول في البلقان أن يستتب السلام مؤقتاً بأي ثمن.
أما أمريكا فمعروف أمرها، ومعروف أن تأييدها لبريطانيا العظمى أقوى من أن تضعفه المناورات السياسية؛ فأمريكا تعتبر إنجلترا وأسطولها خط دفاعها الأول، فانهيارها يعرض أمريكا للخطر، وإذا كانت تحرص على حفظ قوة إنجلترا البحرية في المحيط الأطلنطي، فإنها تحرص أيضاً على ألا تنتقص هذه القوة بانتقالها إلى المحيط الهادي لتواجه اليابان.
وحاولت إنجلترا بقفل طريق بورما، ومنع توريد الأسلحة إلى الصين أن ترضي اليابان وتضع حد لنزاعهما، ولكن الحزب العسكري في اليابان ثار فأعلن رؤساؤه عدم رضاهم عن الحكومة فاستقالت ليشكل غيرها على هواه، وكانت باكورة أعمال تلك الوزارة أن قبضت على بعض الرعايا الإنجليز مما أثار الحكومة البريطانية، ووقف عقبة في سبيل مفاوضات إنجلترا واليابان.
انقلاب عسكري
ولعل السر في هذا الانقلاب الياباني عقلية حزبها العسكري الذي يصبو إلى السيطرة على جميع آسيا، فهو يريد التخلص من منافسة إنجلترا لليابان اعتماداً على قوته، وقد أنبأتنا البرقيات أن حركة الحزب العسكري لا يقرها قادة اليابان البحريون الذين يعرفون مدى قوة الأسطولين البريطاني والأمريكي، وهم يعرفون أن الحرب مع إنجلترا وأمريكا صدام بين قوات بحرية أكثر منه بين قوات برية، فإن تردد أمريكا في دخول الحرب ينتهي بمجرد أن تدخلها اليابان، ويتولى أسطولها وقواتها العبء الأكبر من الحرب في الشرق الأقصى.
وتدل حركة اليابان الأخيرة على الوسائل التي تلجأ إليها ألمانيا لتحبط حركات إنجلترا(371/30)
وخصوصاً إذا أضفنا إليها ما أذاعه مدير قسم الأبحاث السرية في أمريكا عن عمل الجواسيس ومحاولتهم إفساد خطط الدفاع الأمريكية بتدمير الطائرات بوضع الرمل في محركاتها، أو بنسف المنشآت العامة وتسميم المياه، وغير ذلك من الوسائل التي يرتكبها الجواسيس.
الروح الوطنية
أما في البلقان فقد تطورت الحوادث الأخيرة تطوراً كبيراُ نشك إذا كان هتلر نفسه توقعه، فإنه كان يعتمد اعتماداً كبيراً على تأييد رجال الحرس الحديدي لمشروعاته، فلما ظهرت نياته بالموافقة على ضم جزء من ترانسلفانيا إلى المجر تمرد رجال الحرس الحديدي وتكاتفت طبقات الشعب وزعماؤه، فأعلنوا توحيد صفوفهم بزعامة مانيو زعيم الفلاحين، وقالوا إنهم يفضلون أن تضم بلادهم إلى الروسيا على أن تقتطعها المجر أو بلغاريا.
فإذا لم يتمكن النازيون من إيجاد صدع بين أحزاب رومانيا فإن ضم أحد أجزائها إلى دولة أخرى يتعذر حتى إذا وافقت الحكومة الرومانية على هذا الضم بإكراه ألمانيا، لأن الشعب في هذه الحالة يثور، وتجد الحكومة الرومانية نفسها في مركز ضعيف، وكل حكومة تفضل في مثل هذه الحالات أن تقاتل على أن تسلم، ولا سيما أن المجر وبلغاريا ليستا من القوة حتى تتمكنا من إكراه رومانيا على تلبية طلباتهما، فرومانيا هي أقوى دولة في البلطيق فلديها أقوى جيش، وأقوى سلاح طيران، وكانت تعرف أطماع هذه الدول من قبل فأعدت العدة لصد عدوانها.
واتحاد كلمة زعمائها وتمسك شعوبها وخصوصاً سكان الأجزاء التي يراد ضمها إلى الدولتين الأخريين - عقبة كبيرة في سبيل تحقيق السلام الذي ينشده هتلر في البلقان ويضع خططه في مركز حرج؛ أضف إلى ذلك ظهور الخلاف بين ألمانيا والروسيا على ألسنة الساسة الرومانيين بعد رجوعهم من مقابلة هتلر؛ فقد كثر الكلام أخيراً عن الخطر الشيوعي وعن مساعي ألمانيا لوقفه؛ فهل تكشف حوادث البلقان الأخيرة نقاب الزعيمين اللذين يتظاهران بالصفاء والاتفاق رغم تنافر طباعهما واختلاف ميولهما وأطماعهما؟ هذا ما تكشف عنه الأيام قريباً.
دروس الحرب(371/31)
ولا يقتصر الاضطراب على أوربا والدول المتحاربة وحدها بل يشمل الأرض بأجمعها، فمهما تباعدت حدود الدول عن ميدان الخطر فهي تشعر به في مناورات جاراتها للاستيلاء على بعض أجزائها حرصاً على فائدة عسكرية، وهي تحمسه فيما أصاب تجارتها من كساد، وما أصاب أهلها من ضيق في العيش تبعاً للرقابة على الصادر والوارد.
فلا يقتصر الحصر الإنجليزي البحري على الدول المتحاربة، بل يتعداها إلى الدول المحايدة البعيدة؛ فلكيلا تحصل ألمانيا على الواردات يجب أن تمنع الدول الأخرى من تصدير منتجاتها إلى ألمانيا؛ وهذه الفترة من الفترات التي يشعر فيها العالم أجمع بما بين دولة من رباط وثيق؛ وهي ليست التجربة الأولى من نوعها ولكن لها أشباهاً في الحروب الماضية، وإن كان العالم قد خبر أقسى تلك الدروس في الحرب الماضية عندما فرض نفس الحصر على تجارة ألمانيا.
وتكرار هذا الدرس من شانه أن يوحد بين أمم العالم، ويجعلها تتنازل عن عصبيتها، فتوحد قانونها وتجعل له من القوة ما للقوانين المحلية التي تقيد مطامع الأفراد وتنظم معاملاتهم على أساس العدل والمنفعة المتبادلة في ظل السلام، وإذا كان الأفراد قد شعروا بوجوب احترام قوانين الدولة فإن أمثال النضال الحالي والنضال السابق هي خير معلم للدول لتشعر نفس الشعور وتحترم القوانين الدولية؛ وقد فشلت عصبة الأمم في العهد الماضي في تحقيق هذه الوحدة لأن الدول لم تكن أعدت الإعداد الكافي من الناحية العقلية، ولأن بقايا النظم القديمة وأطماعها أثرت في نفسية الشعوب.
ولسنا نعني أن هذه الحرب ستكون الحد الفاصل للمنازعات الدولية، وأن العالم سيصبح إذا انتهت دولة واحدة ينظم معاملاتها قانون واحد، ولكننا نرى النضال الحالي وما جره من مصائب يضع أحد أحجار ذلك الاتحاد؛ ففكرة اتحاد دولي عالمي ليست بنت اليوم نودي بها من زمن طويل وكان أول حاكم دولي أراد إحياءها بصورة جدية اسكندر قيصر الروسيا فوضع في سبتمبر سنة 1851 أسس اتحاد مقدس يحكم الدول على ضوء التعاليم المسيحية ولكن مشروعه قبر لأسباب كثيرة.
جغرافية الحرب(371/32)
وكما تعطينا هذه الحرب فكرة واضحة عن ارتباط مصالح العالم بعضها ببعض، فإنها تعطينا دروساً أخرى في الجغرافيا، فقارن بين معلوماتك عن بلدان العالم الآن وبين معلوماتك عنها قبل الحرب، تجد أنها تضاعفت عدة مرات، دون أن يكرهك أستاذ على دراستها، ودون أن يضطرك امتحان إلى مذاكرتها.
وعلمتك هذه الحرب كثيراً من المميزات الإقليمية للبلاد من جبال وأنهار وسهول، وما تضمه أرضها من ثروة معدنية وزراعية، وما أتصف به أهلها من قدرة على تحمل شظف العيش ومرارة القتال، كما عرفت مدى حاجات الدول بعضها إلى بعض.
ثورة صناعية
والحرب ثورة صناعية تحفز الحكومات والمخترعين على ابتكار معدات جديدة في الميدانين المدني والعسكري، فكلاهما مكمل للآخر، ولا نستطيع أن نضع حداً فاصلاً بينهما، فالجندي يحتاج إلى وسائل مدنية وعسكرية، فيجب العناية بطعامه وصحته وملابسه ووسائل راحته، كما يجب العناية بإعداده وإمداده بأدوات القتال.
ومن أمثلة تقدم المخترعات (الطيران) فإن ما وصل إليه من طول مدى الطيران وقوة الحمولة يدلان على ما فعلته فيه الحرب، فلم نعرف من قبل أن الطائرة تحمل أربعين جندياً بمعداتهم كما هي الحال الآن، ورحلات سلاح الطيران في إغاراتها على ألمانيا وعودتها دون توقف؛ هذا تقدم كبير يربحه العالم من الحرب عندما تضع أوزارها، ومثله كثير في الطب والصناعة والزراعة.
وليس معنى هذا أننا من مؤيدي الحروب فإن المصائب التي تحل بالعالم من قتل الأنفس وتدمير البلاد وانتشار الأمراض، تفوق بمراحل هذه المكاسب الزهيدة التي يصل إليها العلم أثناء السلم بعد فترة أطول من الزمن، فتقدم العالم مطرد سواء في السلم أو في الحرب إلا أن فترة الحرب انقلاب وسرعة.
الخسائر والأرباح
وهي فترة انقلاب ضرورية إلى أن تصفو الضمائر وتقتنع العقول بأن الحرب مهما أكسبت من أسلاب وغنائم، فلن توازي ما يخسر العالم من أموال ومن أروح، وبلغ عدد القتلى(371/33)
والجرحى في الحرب الماضية 21 مليون نفس، وتكلفت 67. 598 مليون جنيه؛ وبديهي أن هذه الأنفس والأموال لو وضعت تحت تصرف العلماء والمخترعين لأنتجوا أضعاف ما أنتجت الحرب من تقدم.
وهاهي ذي الحرب الحالية تنفق عليها إنجلترا وحدها 52 مليون جنيه في الأسبوع الواحد؛ فإذا قلنا إن ألمانيا نتفق نصف هذا المبلغ عرفنا كم تتكلف الحرب من أموال تضاف إليها خسارة الأرواح وكساد بعض نواحي الحياة المدنية مما لا تتلائم طبيعته وطبيعة الحرب.
ولا يسعنا أن نقول إن الفنون والعلوم توقف تماماً، ولكنها تتحول إلى الناحية العسكرية، فيشتغل القصصيون بالقصص العسكرية، ويرسم الفنانون الصور العسكرية، وتتحول العقول الهادئة إلى عقول مدمرة عملها شحذ عزائم أهلها؛ فكل أديب أو فنان لا يعمل الآن من أجل الحرب يموت جوعاً، ولا يتيسر له إبراز إنتاجه لأنه يعيش في وادي غير وادي الناس ويفكر فيما لا يفكر فيه الناس، ويبتدع ما لا يقره الناس.
فالقتال إحدى الغرائز الإنسانية، صقلتها القوانين والنظم، وكبتت في الفرد، ولكنها ما زالت بارزة في الجماعة، فإلى أن يتاح للجماعة أن تكبت هذه الغريزة وتحولها إلى غريزة أصلح، فإن الحرب لن تزول.
وإذا كانت الحكومات وفقت في ضبطها عند الأفراد، فمصيرها غامض عند الأمم لاختلاف أمزجتها وميولها اختلافاً بيناً وإن كانت نهايتها المحتومة عندما تعقل الدول.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(371/34)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
لم يبق ريب في أن من أعظم الأسباب في سقوط الدولة الفرنسية الترف.
اعترف بذلك الباحثون والكتاب ورجال السياسة، قال بيتان رئيس الوزارة الفرنسية:
(لقد دمرت روح الانغماس في الملذات ما شيدته روح التضحية، أصلحوا من أخلاقكم ودعوا الترف والملذات، وأقبلوا على العمل بصبر وتضحية)
ليس في ذلك كله شك، إنما الشك فيما أعرضه على نظر القراء: أيمكن للأمة تجنب الترف، أم أن الترف أمر لازم يتبع الغنى والثروة، والزهد والحرمان يتبع الفقر والإملاق، فالأمم الغنية حتما تنغمس في الترف والنعيم، والأمم الفقيرة تكون بمنجاة منهما، ولذلك لا يفل حدها، وتبقى لها قوة الصبر والمجالدة؟
حوادث التاريخ تنبئنا أن المذهب الثاني هو الحق فإذا صح هذا كان الوجود مقسماً قسمة عادلة؛ فما خسره الفرد من ذات يده ربحه من ذات نفسه، وما ربحه من نفسه خسره من ذات يده، أي أن الفقير المعدم وإن خسر المال يربح قوة العزم والقدرة على المقاومة، فهو يخسر الكنوز في المال، ويربح الكنوز في الأخلاق والقوى، والغني القادر - وإن كسب المال - يخسر القوة والقدرة على المقاومة فهو يكسب كنوز المال ويخسر كنوز الخلق والقوة والنفس.
عدل في القسمة، وكنوز بدل كنوز، بل ربما كان حظ الفقراء أوفر من هذه القسمة، فإن الكنوز النفسية أثمن من كنوز الذهب والفضة بما لا يقدر.
وإذا صح ذلك أيضاً كان التاريخ متشابهاً، وهو يتكون من دورات رحوية، لا تبدأ حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تبدأ
فأمة تتغلب على أمة، فتغصبها خيراتها، وتتمتع بهذه الخيرات دونها، فإذا فتحت عليها كنوز الأرض، وانغمست في النعيم، ضعفت شوكتها، ولانت قناتها، وتغلب عليها من هم أقوى منها، ممن لم يفسدهم الغنى والترف والنعيم، وممن ازدادوا حصانة بالفقر والإقلال.
محمد عرفة(371/35)
يا شاعر. . .!
أيها الشاعر قُمْ وال ... عَبْ على تلك الحقولِ
وتنقَّلْ بين هاتي ... كَ السَّواقي والنخيل
طَلَعَ الفجرُ على الوا ... دي طروباً والسهول
فلماذا. . . لا تغِّني ... غنوةَ الفجرِ الجميل؟!
أتْرك الغرْفةَ يا ... شاعرُ واسبح في الفضاء
نَسَجَ الفجرُ على الكوْ ... نِِ جَلاَبيبَ الصفاء
والشعاعُ السَّمْحُ صلَّي ... في خشوع للسماء
فلماذا. . . أنتَ لا تخ ... لعُ أشجانَ المساء؟!
أََذَّنَ الفجرُ. . . فقمْ يا ... شاعر الحبِّ وغَنِّ
صوتُك المطرابُ يا ... شاعرُ فنٌّ أي فن
شد أوْتارَك واسْكب ... ها أغاريدَ تهنَّي
واجمع الطيرَ حوالَي ... كَ وأَسعِدْها بلحن
جئتَ يا شاعرُ للري ... ف فلِمْ لاَ نتهنَّي؟!
هذه التُّرعة كانتْ ... في صباكَ الحلوِ لحنا
طالما سرْتَ عليها ... في صفاءٍ تتغنى
والعذارى رائحاتٍ ... غادياتٍ تتثنى
ذلك الجدولُ يا ... شاعر كم غنَّى طروبا
والأزاهيرُ عَلَيهِ ... تملأ الوَادي طيوبا
وصَبَايا الحقلِ يرْقصْ ... ن صباحاً وغروبا
شاديات غْنوةَ القط ... ن فيطربْن القلوبا
هذه يا شَاعِرَ الحبِّ ... مغانيكَ الحبيَبهْ
عصرَ الله عَليْها ... حسْنه الباهي وطيَبه
وكسَاها بُرْدَةً سح ... ريَّة النُّور عجيبه
كم تنعْمتَ عليها ... والمنى منكَ قريبه
أيها الشاعرُ قمْ وامر ... حْ على تلك القناةِ(371/36)
أنت كم نحتَ وفجَّر ... تَ ينابيعَ الشكاة!
فرصَةٌ حانتْ فخْذها ... طرباً قبل الفوات
إن للشَّاعِرِ دون النا ... سِ بخساً في الحياة!
عبد العليم عيسى(371/37)
على قيثارتي. . .
لحن اليأس. . .!
اتركوني. . . . لشجوني! ... وليأسى المظلم!
ودعوني. . . . وسفيني! ... لرياح العدم!
قد شربت الكأس ما أبقيت في كأسيَ شيا!
وطويت الأمل المجروح في صدريَ طيا!
وبعثت اليأس في قلبي فعاد اليوم حيا!
آه! قد أصبحت في دنياي حيرانَ شقيا!
زورقي ضلله الليلُ وأعشى ناظريا!
ورياح الموت تدنو، توسع الخطو إليا!
فاتركوني. . . . لشجوني! ... وليأسي المظلم!
ودعوني. . . . وسفيني! ... لرياح العدم!
إنني أحيا كما يحيا الشريد الهائم!
لست أدري أين أمضي؟ كل أفق مظلم!
عصر اليأس فؤادي والحنين المبهم!
فهو في خديّ - واقلباه! - دمع ودم!
وهو في أنفاسيَ الحرَّى لهيب مضرم!
وهو في القيثار لحن شاع فيه الألم!
فاتركوني. . . . لشجوني! ... وليأسي المظلم!
ودعوني. . . . وسفيني! ... لرياح العدم!
ها أنا أطفأت مصباحي، وحطمت قناتي!
ها أنا شيعت أحلامي إلى وادي الممات!
ها أنا ألقيت قيثاريَ في تلك الفلاة!
ها أنا أمضي إلى قبري سريع الخطوات!
لا تقولوا: واهن القلب ضعيف العزمات!(371/38)
ماتت الآمال في قلبي فما معنى حياتي!
فاتركوني. . . . لشجوني! ... وليأسي المظلم!
ودعوني. . . . وسفيني! ... لرياح العدم!
(دمنهور)
إبراهيم محمد نجا
الشاعر الحائر(371/39)
رسالة الفن
كأنها ذكرى:
أستاذها يوحي لها
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
في المرقص، جئن يتبارين، لتفوز المجيدة منهن بالعمل. فقد كن راقصات معطلات، وقد أعلن المرقص عن يوم قريب حدده ليبدأ فيه العمل بأبطال وبطلات جدد.
وكان يومنا هذا اليوم المختار لانتقاء الراقصات المتهافتات على هذا المجال الجديد الطلى.
وراحت كل واحدة منهن تعرض أبهى ما عندها، وأحيي ما عندها، وأشد ما عندها أخذاً، وأقواه أسراً، وأحلاه فجوراً، وأشهاه فتكا.
وكلما كانت واحدة منهن تفزع من جولتها كانت تجلس إلى جانب أخواتها اللائي فرغن لتشاهد أخواتها اللائي يتتابعن على الحلبة يذوبن أنفسهن حركات ونظرات وتشععاً. فمن أساءت حيينها، ومن أحسنت حيينها أيضاً.
وكانت صاحبة المرقص هي والأستاذ جالسين في ركن يتذوقان كل راقصة من هؤلاء كما يمضغ الأهتم التفاحة، يمصها مصاً في تريث وفي تأن، فما تفوته من حلاوتها ولا من نكهتها نسمة.
حتى انطلقت عذراء لترقص
كان الرقص ملهاتها في المدرسة، وكانت تتشرف به، وكانت تمنح عليه الجوائز دون أن تفكر في أنها ستستنجده العيش، ولكن أباها لما مات، وأمها المنهوكة ترملت، وأخوتها الصغار تيتموا، لم تجد مفراً من أن تعرض في السوق نفسها في أفضح ما تكون نفسها، ألماً وفرحاً، راحة وتعباً، رغبة وإعراضاً، تماسكا وتحطما. . . لتكون راقصة.
عذراء، لا يزال منها الحياء، انطلقت بين الأستار والأنوار، ونهشات الأنظار، فانعقدت، عقلها راح. انصدمت فوقفت، وتدلت، فتساقطت، ولو أنها عصرت ألمها دمعاً لما اختنقت، ولكنها ضعفت فلم تقو حتى على أن تبكي.
هذه. . . تريد أن تكون راقصة. من الذين رأوها من تألم، ومنهم من ضحك، ولكنهم جميعاً(371/40)
أسرعوا إليها، وحملها بعضهم، وأمرت صاحبة المرقص أن يذهب بها إلى حجرة ما تسعف فيها ثم تأخذ ملابسها وتمضي، فذهبوا بها، وعادوا عنها إلى ما كانوا فيه، ولكن صاحبة المرقص ألفت نفسها في ركنها قد طال مكثها وحدها، لم يرجع الأستاذ لها فسألت عنه فعلمت أنه لا يزال عند البنت التي أغمي عليها.
وكان وقت الراحة قد جاء فقامت السيدة إلى الأستاذ لتراه ماذا يصنع عند تلك البنت.
فلما جاءتهما وجدته يقول لها: (هذه الأنوار أنوار، فإذا كنت تكرهينها أطفأناها، وهذه الأستار أستار قطع من القماش مدلاة بحبال ومرسوم عليها صور وأشكال، فإذا لم تكن تعجبك رفعناها، وهؤلاء الناس الذين ينظرون إليك ناس مثلي أنا ومثلك أنت ومثل كل الذين عرفتهم وعرفوك، فإذا كنت تبغضينهم طردناهم. . . أيرضيك هذا؟ ولكن لماذا يرضيك؟ أما كنت ترقصين في المدرسة أمام أنوار وأستار وأنظار؟ هذه كتلك، فلم التخاذل هنا والشيطنة هناك؟ قومي. . . أعيدي الكرة. . . فإني أضمن لك في الرقص مستقبلاً قريباً ربما لم يكن أتيح مثله لراقصة من قبل. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشوكولاته!. . .)
ومصت العجوز المتصابية صاحبة المرقص شفتيها عجباً واستهزاء وقالت: اسمعي الكلام يا روحي وقومي أرينا البشائر وأشهدينا الفتح. . . يا لله يا ماما، وهاك أيضاً من عندي شوكولاته.
وأصرت الصغيرة على أنها تكره الرقص، وتنفر منه وتخشاه وتضرب عنه. . . وجمعت أشياءها في حقيبتها وتمتمت بكلمات شكر مما تحفظه وترويه بدون أن تتدبره أو تفكر فيه، واستأذنت لنمضي، ولكن الأستاذ وقف في طريقها وأقسم ليحبسنها، فلا تخرج إلا إلى الأنوار والأستار والأنظار.
الرجل أحبها، هذا المغمور في متابع الهوى، المنغمس ليله ونهاره بين أذرع الغيد، المنطبق بروحه على أرواحهن، المتقبل بحواسه نفثاتهن وصرخاتهن وهمهماتهن وغليانهن. . . هذا العليم الخبير، الغني الوفير الصيد إذا أراد صيداً، كان يزهد في كل ما كان يرى، لأنه لم يكن يرى إلا صنعة هو أستاذها. . . أما هذه فقد رأى فيها أشياء أخرى، ولم يكن ينقصها إلا هذه الصنعة الني هو أستاذها، رآها الراقصة التي ظل يحلم بها ليحبها وليعلمها(371/41)
ولترقص له فتلهبه، وتلهمه، فيعود يوحي لها. . . الأخريات لم يقبلن على الرقص إلا حين أردن أن يسفكنه ذهباً، وهذه حين أرادت العيش من الرقص استعصى عليها واستعصت عليه. . . الأخريات عيونهن مفتحة وأرواحهن غائبة، وهذه عيناها محتشمتان مغضوضتان، وروحها هي العاصفة. . .
هذه هي الفنانة الراقصة
قالت صاحبة المرقص للأستاذ (ما دامت الآنسة مصرة على الذهاب فدعها تذهب، وإني أصدقها النصح وأؤكد لها أنها غير مخلوقة لهذه الحياة الصاخبة التي نحياها، وأنه من الخير لها أن تعمل في متجر أو مصنع فهو أليق بها وأوفق لها). . .
فما عارضت هذا الآنسة وإنما هزت رأسها. وقالت: (شكراً، وإن هذا ما اعتزمته، ثم شكراً للأستاذ فقد كان رؤوفاً رقيقاً)
فضحك الأستاذ وقال: (إذا خرجت فأنا معك)
وترك عمله وخرج معها، وصحبها إلى بيتها، فاستقبلته أمها وإخوتها وكانوا ينتظرون عودتها في اشتياق وإشفاق، وكانوا يرجحون أن تزف إليه خبر فوزها في المباراة واضطلاعها بالعمل، فلما دخلت هي والأستاذ أسرعت إليها وسألتها: (ما الخبر؟) فأسرع الأستاذ بالإجابة قائلاً: (إن هي إلا سنة، إن لم تكن بعدها ابنتكم هذه سيدة الراقصات فإني لست إياي). . . فقالت الأم: (على الله، ولكن أما اتفقتم معها لتعمل عندكم هذه السنة؟) فقال الأستاذ: (سأعمل معها أنا). . .
وأخذ الأستاذ بعد ذلك يهرج مع الصغار ويعابثهم ويضحك معهم ويلعب، ثم أولم لنفسه وليمة عندهم فآكلهم وشاربهم ومازحهم، وما غادرهم حتى كان قد أشاع في نفوسهم جميعاً الفرح، والأمل، والإيمان بأن رضواناً من الله قد انساق إليهم. . . .
إلا الراقصة فقد كانت تسايرهم بما يبدو فرحاً وأملاً وإيماناً، ولكن نفسها كان فيها غير هذا يأس وقنوط وظلمات ووحشة. وكان الأستاذ يحس هذا كله ولكنه لم يكن يعبأ به ولا يخاف منه على صغيرته فقد كان يعد هذا كله من علامات التوفيق الذي كان يتوقعه.
وانتهت زيارة اليوم، وعاد إلى الزيارة في الغد وقال لها: (أما رأيت فروجاً يخرج من بيضة؟) فقالت: (رأيت) فقال لها: (وكيف رأيته؟) فقالت له: (هكذا رأيته، بمنقاره ينقب(371/42)
البيضة وهو فيها، فإذا انفتحت فيها ثغرة أطل برأسه منها، فإذا رأى الدنيا أمامه نظر إليها عن يمينه وعن يساره، ثم إذا حلت له الدنيا عاد إلى البيضة، فإذا كره الحبسة فيها عاد فنقبها، حتى يتسع له فيها مخرجه منها، فينطلق من محبسه، جرياً، وقفزاً، لا ينظر إلى مثواه القديم، وإنما ينساه، وينجذب إلى أمه، يعرف أنها أمه، وهكذا يخرج الكتكوت من البيضة) فقال لها الأستاذ: (لو أنك انتبهت إلى نفسك وأنت تقصين عليَّ هذه القصة، لعلمت أنك قد ابتدعت رقصة، هي رقصة بريئة طاهرة ترضيك وتوافقك، وقد أخذتها أنا الآن عنك، وسأعود إليك بها غداً، مقسمة، منظمة، منغمة، مزيداً عليها تزاويق من عندي على الأصل الذي كان عندك، فإلى اللقاء غداً. . .
وفي الغد عاد الأستاذ بالراقصة. . . وليس في البيت أنوار ولا أستار ولا أنظار إلا أمها وإخوتها، وهؤلاء جميعاً يفيض من أعينهم الحب والإعجاب والتشجيع. . . فرقصت وأحسنت
فلما رآها أحسنت قال لها: (الآن تستطيعين أن تقصدي المرقص، وأن تتحدي الراقصات فيه بهذه الرقصة، فإذا كنت ستشعرين بشيء من التهيب أو شيء من الوجل فإني سأقف على قرب منك تجاه عينيك، فانظري إلي، وأرقصي لي، ولا ينشغل بالك بمن هم حولك، وانسيهم، وازعمي لنفسك أني سألتك ثانية كيف يخرج الكتكوت من البيضة وأنك تجيبين عن سؤالي هذا رقصاً. . . يا لله يا ماما. . . وهاك الشكوكولاته. . .
اضطربت قليلاً، ولكنها قامت معه.
ولم يكن باقياً على موعد البدء في العمل إلا يوم، ولم يكن عند صاحبة المرقص من الصبر ما تحتمل به اختبار راقصة جديدة بعد ما أعدت برنامجها واطمأنت لم نظمت به عملها. . . ولكن تحمس الأستاذ، وإصراره، وأيمانه التي كان يقسم يؤكد بها نجاح راقصته. . . كل هذا حمل العجوز على أن ترضخ وأن تصبر وأن ترى. . . فرأت عجباً. . . فناً رشيقاً بريئاً حلواً مبعوثاً من نفس بكر خالصة صادقة ساذجة ذكية ناصعة، موشى بحلي صاغتها روح هذا الأستاذ العارف المدرك الدقيق المتأنق. . .
فرضخت العجوز واعترفت. . .
وبدأت الراقصة العمل. . . ونجحت في الليلة الثانية، وواصلت النجاح بعد النجاح، وبدلت(371/43)
الرقصات رقصة بعد رقصة، وتفتحت نفسها بعد ما كانت مظلمة معتمة وبارحها اليأس، وتبدل قنوطها فرحاً ومرحاً وبهجة وإيمانا ورضى. . .
ولكنها لم تنتبه إلى الأستاذ، لم يكن تطلق إليه روحها إلا وقتما كان يعلمها، ووقتما كان يقف لها على بعد أو قرب لترقص له. . . أما في غير هذين الوقتين فقد كانت تنشغل بالدنيا، وبما فيها، وبمن فيها. . . كلما قال لها واحد من الناس كلمة إعجاب صدقت أنها كلمة إعجاب، وما بالها لا تصدقها والأستاذ نفسه معجب بها. . . كان عليها أن تسأل نفسها: هل هؤلاء الذين يبدون الإعجاب بها يعرفون أين موطن الحسن فيها، وما مبلغ هذا الحسن وما مبعثه. . . ولكنها لم تفكر في شيء من هذا، ولكنها تلقت إعجاب الأستاذ، وحسبت أن الناس كلهم مثله، ثم راحت تحسب بعد ذلك فيهم ميزات ليست فيه هو، فهذا غني، وهذا وجيه، وهذا شباب، وهذا صحة، وهذا اسم، وهذا مجد، وهذا ظرف، وهذا تودد، وهذا هدايا، وهذا ولائم. . . وهذا وهذا. . .
أما الأستاذ فإنه لم يزد عندها على أن يكون معلمها وهدف فنها. . .
لم تفكر في أنه يحبها. انفرد بها يوماً وقال لها كلاماً كثيراً دس فيه أنه يحبها فسمعتها منه كما كانت تسمع منه كل شيء: حقيقة تتلقاها خالصة، وتستغلها. فلم يعد يعيدها
ومرت السنة.
وكان اسمها قد لمع. ولم يعد أحد يجهلها. الجمهور يتهافت عليها، والصحافة تتلقف أخبارها، ولمراقص تتنافس لتتعاقد معها. وهي ناعمة راضية. . .
والأستاذ عاشق يكتم العشق، وصار راض بأن تكون تلميذته الموفقة إن لم تكن له أكثر من ذلك.
وأقاموا لها حفلة يكرمونها. وانحشدت الدنيا في هذا الحفلة: العشاق، والهواة، والمعجبون، والمتطفلون، والزملاء، والأستاذ. . .
وألقيت الخطب، والقصائد، ونثرت الزهور والرياحين، وطالبوها برقصة (الكتكوت) فقال لها الأستاذ: (لا ترقصي) فقالت: (عجباً! ولماذا؟ لا بد أن أرقص، هؤلاء جميعاً جاءوا ليكرموني فلا أقل من أن أكرمهم برقصة. . . وهي بعد ذلك وقبل ذلك رقصتك التي علمتني إياها، ثم إني أريد أن أرقص)(371/44)
- إذا كنت تريدين أن ترقصي فهيا إلى البيت أرقصيها بين أمك وأخوتك، وإني أذهب معك.
- وهؤلاء الناس؟
- هؤلاء الناس ليسوا شيئاً. إنهم ناس! بشر لا أكثر ولا أقل.
- وأنت ألست من الناس؟ ألست من هؤلاء البشر. . . هذه غيرة وغرور.
- قد تكون غيرة، ولكن أين منها الغرور؟ أنسيت أنك حتى الأمس لم ترقصي إلا لي. . .
- ومنذ اليوم سأرقص للناس لا أريدك أن تقف في طريقي.
-. . . أوروفوار!
. . . ولم تستغرق هذا التهامس إلا دقائق قليلة مرت بسرعة. . . ثم أشارت بعدها إلى العزاف فبدءوا اللحن، واعتدلت الرقص. . . وبدأت. . . وأخذت تطرد من مخيلتها صورة هاتين العينين اللتين اعتادت أن تسيل بفنها فيهما. . . وأخذت تسفك فنها في الفضاء وتنثره على عيون منها البلهاء، ومنها المتلصصة، ومنها السفاحة الخاطئة. . .
اضطربت المسكينة. وعاودتها تلك الرجفة التي دهمتها في ليلة المباراة الأولى، فسقطت كما سقطت إذ ذاك. وانقلبت حفلة التكريم إلى مأساة حملوها إلى البيت، وأرقدوها في الفراش، وتسللوا وتركوها بين أمها وإخوتها، ومعها مندوب من المرقص ليقف على خدمتها ريثما يطمئن على صحتها. . . ولكنها ظلت في غيبوبة تائهة. . . ولم تفق وإن كانت تردد نداءها للأستاذ.
ولم يكن أحد قد علم بشيء مما دار بينهما، فلم تر أمها إلا عجباً في انقطاع أستاذها عنها، فأرسلت إليه تستدعيه، ولكن الرسول عاد يقول لها أن الأستاذ مريض هو أيضاً وإن لم يكن طريح الفراش. فعادت وأرسلت إليه فجاءها. . .
دخل إلى تلميذته المريضة متثاقلاً من تعبه، محطماً من تلك اللطمة التي تلقاها إذ اعتبرته واحداً من الناس، من هؤلاء الناس.
جلس إلى جانبها، ومد يده فأمسك بيدها، ففتحت عينيها فلما رأته قالت له بصوت متكسر:
- سامحني يا أستاذ
- إنك لم تسيئي إلي، فليس ما حدث إلا قضاء الله، وأنا الذي أرجو أن تسامحيني أنت.(371/45)
- إذن فقبلني. . .
فقبلها. . . ولكن في جبينها، ومكث عندها ما مكث ثم مضى ولكنه لم يمض إلى بيته، ولم يعرف بعد ذلك أحد إلى أين مضى ثم أذيع أنه مات.
أما هي. . . فقد انهارت بعد ذلك وأصبحت راقصة كبقية الراقصات. . .
غير أنها كانت تسكر أحياناً، وتمعن في السكر، وعندئذ كانت إذا رقصت نظرت إلى فضاء ما.
وعندئذ كانت تلم بها أطياف من المجد القديم، وعندئذ كان يتهامس المقربون منها والذين عرفوا قصتها قائلين: (أستاذها يوحي لها)
عزيز أحمد فهمي(371/46)
رسالة العلم
الوضع الحقيقي لمشكلة جابر بن حيان
للأستاذ أحمد زكي صالح
(تتمة)
مناقشة رأي الأستاذ كراوس
الأستاذ كراوس حيران بين أمرين: أولهما أنه يريد أن يثبت أن جابراً إنما عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع من الهجرة، والأمر الثاني هو البرهنة على عدم وجود هذه الشخصية العلمية الإسلامية التي تسمى جابر بن حيان؛ ولكن هل تأنى له أن يصل إلى نتيجة أحسن مما وصل إليه أساتذته وغيره من المستشرقين؟
هذا ما نرى الجواب عليه فيما يلي:
يريد الأستاذ كراوس أن يبين أولاً أن جابراً إن كان له وجود فهو إنما عاش في النصف الثاني من القرن الثالث وأوائل الرابع الهجري، معتمداً في ذلك على الدراسة المقارنة، فهو أولاً يقارن آراء جابر الكلامية الشيعية بآراء غيره من رجال الفرق الشيعية الأخرى، ويخرج من هذه الدراسة المقارنة بأن آراء جابر بن حيان إنما تشابه وتماثل آراء القرامطة والإسماعيلية اللتين ابتدأتا تلعبان دورهما منذ سنة 260هـ أي في النصف الثاني من القرن الثالث، ولكن نحن نسلم بكل ما جاء في هذه الدراسة المقارنة بين الآراء الكلامية والفلسفية لجابر بن حيان، وبين تلك التي قالت بها فرقتا الإسماعيلية والقرامطة، ولكن الذي لا يمكن التسليم به هو أن وجود هذا التشابه بين الآراء يصح دليلاً على أن جابر معاصراً لهما، بل الأقرب إلى العقل أن جابراً وضع أسس النظريات الكلامية والفلسفية والإلهية التي توسعت فيها فيما بعد الإسماعيلية والقرامطة.
ومن الجلي الواضح لدى كل من درس علم الكلام أن فرق الشيعة كانت أنشط الفرق الإسلامية حركة، وكانت أولى من أسس المذاهب الدينية على أسس فلسفية، حتى أن البعض ينسب فلسفة خاصة لعلي بن أبي طالب.
وعلى هذا فنحن لا نسلم برأي الأستاذ كراوس، وهو أن جابراً عاش في أواخر القرن(371/47)
الثالث وأوائل الرابع من الهجرة، وعلى ذلك فنحن ننتقل إلى مناقشة رأيه الثاني، وهو عدم وجود شخصية جابر بن حيان، وأن المؤلفات المنحولة لجابر بن حيان، إنما هي من أعمال مدرسة في القرن الرابع للهجرة.
يقول الأستاذ رسكا: (إن المسألة لا يمكن أن تفسر هذا التفسير البسيط الساذج وهو أنها أعمال مدرسة استمرت عدة قرون). ولكن يظهر أن الأستاذ كراوس أخذ بشطر من هذا التفسير على الأقل، إذا أنه فسرها على أنها من أعمال مدرسة وجدت في القرن الرابع، ولكن هذا التفسير كذلك ينطبق عليه قول رسكا من أنه تفسير بسيط ساذج، ونحن نسأل الأستاذ كراوس: هل يمكن لهذا التفكير المنسجم المطرد أن يكون تفكير أفراد كثيرين؟
نحن نفهم من المدرسة عدة أشخاص معتنقين مذهباً واحداً واضعين نصب أعينهم أغراضاً واحدة يعلمون على تحقيقها، يقسمون العمل فيما بينهم فلا يخرجون كتاباً إلا إذا بحث ومحص من كل الوجوه كما هو حال (إخوان الصفاء)، ولكن هل نلاحظ هذا في أعمال جابر بن حيان؟؟ كلا فكثيراً ما عاد جابر في مؤلفاته يشرح بعض النظريات التي سبق أن قال بها ويكمل بعض الآراء التي وصل إليها. أضف إلى هذا أن تفكير جابر بن حيان لا يدل على تفكير مدرسي ولا يمكن بأية حال أن يدل على ذلك، إذا أن شخصية جابر تظهر في جميع مؤلفاته على السواء بنفس الروح وبمظهر واحد وأسلوب فذ. على عكس التفكير المدرسي فإنه إما أن يكون خلواً من الروح المميزة له على الإطلاق أي يتلاشى الفرد في الجماعة، وهذا بعيد جداً عن مؤلفات جابر، أو أن تظهر فيه شخصية الأفراد المؤلفين فتختلف روح العمل والإنتاج تبعاً لكل كاتب، وهذا ما لا نجده في مؤلفات جابر.
جابر الحقيقي
بعد ذلك تخرج بالنتائج الآتية:
أولاً: إن كلمة في الكتب اللاتينية قد استعملت ترجمة لاسم جابر العربي.
ثانياً: إنه وجد فعلاً شخص عربي كيميائي مسلم هو جابر ابن حيان.
ثالثاً: إن الكتب الكيميائية العربية لهذا المؤلف قد نقلت إلى اللاتينية في القرنين الثاني والثالث عشر من الميلاد.
رابعاً: كثير ما كان المترجم اللاتيني يستعيض عن الترجمة الحرفية للكتب العربية بترجمة(371/48)
مع تصرف.
خامساً: قسطاس الأصل العربي للكتب المفقودة، يحب أن يكون عن طريق البحث في المحتويات أولاً وفي الأسلوب ثانياً.
من هو جابر أذن؟
قال ابن النديم: (هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي، واختلف الناس في أمره: فقالت الشيعة إنه من كبارهم وأحد الأبواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق رضي الله عنه، وكان من أهل الكوفة. وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم. وله في المنطق والفلسفة مصنفات. وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرياسة انتهت إليه في عصره وأن أمره كان مكتوماً، وزعموا أنه كان يتنقل في البلدان ولا يستقر في بلد خوفاً من السلطان على نفسه، وقيل إنه من جملة البرامكة وكان منقطعاً إلى جعفر بن يحيى، فمن زعم هذا قال إنه عني بسيده جعفر بن يحيى البرمكي وقالت الشيعة إنما عني جعفر الصادق. . .
(وقال جماعة من أهل العلم وأكابر الوراقين إن هذا الرجل يعني جابراً، لا أصل له ولا حقيقية، وبعضهم قال إنه ما صنف، إن كان له حقيقية، إلا كتاب الرحمة وإن هذه المصنفات صنفها الناس ونحلوه إياها، وأنا أقول إن رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب فيصنف كتاباً يحتوي على ألفي ورقة، يتعب قريحته وفكره لإخراجه ويتعب يده وجسمه لنسخه ثم يخلد لغيره إما موجوداً أو معدوماً ضرب من الجهل، وإن ذلك لا يستمر على أحد، ولا يدخل تحته من تحلى ساعة واحدة بالعلم، وأي فائدة في هذا وأي عائدة؟ والرجل له حقيقة وأمره أظهر وأشهر وتصنيفاته أعظم وأكثر، ولهذا الرجل كتب في مذاهب الشيعة أنا أوردها في مواضعها، وكتب في معاني شتى من العلوم قد ذكرتها في مواضع من الكتاب، وقد قيل إن أصله من خراسان والرازي يقول في كتبه المؤلفة في الصنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان)
وقال القفطي: (جابر بن حيان الصوفي الكوفي كان متقدماً في العلوم الطبيعية بارعاً في صناعة الكيمياء وله تآليف كثيرة ومصنفات مشهورة، وكان مع هذا مشرفاً على كثير من علوم الفلسفة ومتقلداً للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام.(371/49)
وذكر محمد سعيد السرقسطي المعروف بابن المشاط الإصطرلابي الأندلسي أنه رأى لجابر بن حيان بمدينة مصر تأليفاً في عمل الإسطرلاب يتضمن ألف مسألة لا نظير لها)
ونحن إذا سلمنا بوجهة نظر ابن النديم؛ فإننا نستطيع أن ننسق من جديد ما يقوله (الفهرست)، وأن نعيد مبنى هيكل حياة جابر بن حيان؛ فإذا كان جعفر الصادق الذي عاش من 699 - 765م أي 89 - 155هـ هو أول أصدقاء جابر ومعلميه، فإن تاريخ ميلاد هذا الأخير حوالي سنة 730م أي حولي 120هـ وهكذا يمكن أن يكون قد ارتبط، وهو في سن الستين أو السبعين، بعلاقة ما مع البرامكة. ولا يجد الجلداكي ثمة غرابة في أن يكون لجابر نشاط أدبي عظيم لأغراض علمية وفلسفية وإلهية.
والبرهان على حياة جابر وتنظيمها أثبت في كتاب الجلداكي (البرهان في أسرار علم الميزان). جاء في هذا المخطوط: الأستاذ الكبير جابر بن حيان ولد في الكوفة، وهو من قبيلة أسد فهو طوسي الأصل صوفي المذهب، تتلمذ في صباه على حرابي حميرات أحد المعمرين. ويذكر لنا جابر أن حميرات هذا قد عاش أربعمائة سنة؛ أي أنه ولد في سنة 200 قبل الهجرة وعاش حتى حكم هارون الرشيد، أي أنه مات سنة 170هـ تقريباً. وعن هذا المعمر أخذ جابر العلم في صباه؛ ثم رحل إلى حيث يوجد الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وتتلمذ عليه وصار بعده إماماً. ثم اتصل بعد ذلك بالبرامكة ومارس تحت ظلهم الكثير من التجارب، وعن طريق جعفر البرمكي اتصل اتصالاً مباشراً بهارون الرشيد وأهدي إليه الكثير من كتبه.
وعلى هذا الأساس فإن جابراً بعد أستاذاً للكيمياء. ومما ساعده على ذلك أنه أحضر في أيامه الكثير من المؤلفات الكيميائية اليونانية من بيزنطة إلى بلاط الخليفة في بغداد. أضف إلى ذلك أن جابراً نفسه قد انهمك في الفلسفة حيناً من الزمن ثم مات وله من العمر تسعون عاماً أي حوالي سنة 210هـ أي 820م. بعد تصنيفه لثلاث آلاف رسالة وكتاب.
الخواص العلمية لكيمياء جابر
كان بن حيان أول من فطن إلى الناحية التجريبية الخالصة في الكيمياء، وبهذه الوسيلة تيسر له أن يأخذ بيد هذا العلم الناشئ في ناحيتيه النظرية والعلمية، ويمكن أن نتتبع أثر جابر هذا في الكيمياء وكيميائي أوربا.(371/50)
فمن الناحية العلمية يصف لنا جابر طرق التبخير، والتكوير والترشيح، والذوبان والتعطير والتبلور! كما وصف أيضاً الكثير من طرق التحضير الكيميائي، كالزنجفر وأكسيد الخارصين، كما عرف تماماً كيف يحضر حامضا الكبريتيك والأزوتيك، وحجر السنب، والقلوي والسلمونيك وملح اليارود.
ولقد اقتبست اللاتينية عن العربية بفضل مؤلفات جابر ابن حيان الكيميائية بعض الاصطلاحات الكيميائية التي لا زالت تستعمل في اللغة الأوربية مثل البوتقة والأنييق والتوتيا التي هي أكسيد الخارصين، والقلوي والرجار الذي هو كبريت الخارصين.
الأسس العامة التي قامت عليها كيمياء جابر
بينا كيف أن كيمياء جابر إنما تقوم على أسس تجريبية؛ ويرى الأستاذ كراوس أن كيمياء جابر مؤسسة كذلك على أسس فلسفية، ويقرر أن هذه النظرية الفلسفية قد اقتبست إلى حد كبير من طبيعة أرسطو، وجابر نفسه يعيد ذكر الكثير من عبارات أرسطو كما يذكر بعض فقرات وتعليقات على: الإسكندر الأفروديسي، وطيمسطس وسمبليكيوس ونورفوريوس وغيرهم. وكذلك ترى في مؤلفات جابر ذكراً لمؤلفات أفلاطون وبقراط وجالينوس وأقليدس وبطليموس وأرشميدس، وبين هؤلاء المؤلفين الكثيرون ممن لم تفقد أصول مؤلفاتهم اليونانية، وبالدراسة المقارنة أثبت أنه ليس هناك مؤلف كيميائي في الإسلام على معرفة واسعة النطاق بالأدب العلمي القديم، ومؤلفاته لها صبغة دوائر المعارف إلا جابر بن حيان ومؤلفاته، هذه المؤلفات التي تقرب من أن تكون دائرة معارف إسلامية تعبر عن معارف عصره تماماً. وأساس العلم الجابري هو الميزان، وهو في نفس الوقت الذي يبين لنا وحدة العلم الجابري، ونحن كي نستطيع فهم هذا الأساس وهذه الوحدة، يجب أن نعدد المعاني المختلفة لهذا الميزان:
أولاُ - الوزن النوعي.
ثانياً - وزن الكيميائيين القدماء الذي يحدد امتزاج العناصر بعضها ببعض.
ثالثاً - ميزان الحروف: كان يرى أن حروف اللغة العربية على صلة بالخواص الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة والجفاف، وهو يرى أن ميزان الحروف هذا لا ينطبق على عالم ما تحت القمر فقط إنما كذلك على الكائنات الميتافيزيقية مثل العقل الروح والمادة(371/51)
والمكان والزمان.
رابعاً: والميزان هو المبدأ الميتافيزيقي للواحدية العلمية ويظهر هنا أن تصور أفلاطون للواحد لا يمكن أن يكون إلا ذا أثر.
خامساً: وأخيراً فإن الميزان يتفرع عن تفسير مجازي طويل لآيات القران عن ميزان الحكم في العالم الآخر، وهذا هو ما يوجد إجنوزية الإسلام التي حاول جابر أن يربط بها مذهبه في الدين.
أثر جابر في الدراسات الكيميائية
جابر في نظر كيميائي الإسلام أستاذ الصنعة الأكبر، ولقد ترك جابر أثراً ليس من السهل الإقلال من شأنه، ونكتفي بأن نشير إلى أنه من خيرة تلاميذ مدرسة جابر بن حيان في الكيمياء: الخرقي، ابن عياض المصري الإخميمي، وذو النون المصري، وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي، ومسيلمة بن أحمد الماجريطي، والطغرائي وأبن وحشية، والإكميمي المصري، وأبو القردان النصيبي (؟)
أما في العالم الأوربي فأغلب أعمال جابر الكيميائية إن لم تكن كلها مترجمة إلى اللاتينية مطبوعة في المجموعات التالية:
1.
2.
3.
4.
وهذه التراجم اللاتينية تنقسم إلى قسمين:
قسم أخذ بمنهج الترجمة الحرفية فخرج غير متين الأسلوب ولا قوي التركيب. وقسم أخذ فيه بمنهج الترجمة مع تصرف فجمع فيه بين دقة التعبير العلمي وبين متانة الأسلوب الأدبي، وبين وضوح الفكر ورونق التنسيق وجمال التقسيم.
وهذه التراجم اللاتينية لكيمياء جابر إنما سادت التفكير الأوربي العلمي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر حينما عرفت كتب جابر العلمية، وإن كان بعض المغرضين قد انتهزوا فرصة فقد الأصول العربية لهذه التراجم اللاتينية وضياعها، فحاولوا أن يخرجوا بهذه(371/52)
التراجم عن دائرة الفكر العربي الإسلامي، فإن هذه المحاولات مقضي عليها بالفشل، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على قيمة هذه المؤلفات وعظيم تأثيرها على الفكر اللاتيني في القرون الوسطى.
وإني لا أعدو أن أكون مقرراً للواقع حين أقول إن كيمياء جابر يمكن أن نعدها إلى حد ما أساساً للكيمياء الحديثة؛ وذلك لأن التراجم اللاتينية لأعمال جابر بن حيان طبعت في القرن السادس عشر، ثم أعيد طبعها في القرن الثامن عشر، ولا بد لهذه الأعمال العظيمة أن تؤثر في عقليات المفكرين سواء أكان هذا التأثير من ناحية سلبية أم من ناحية إيجابية أم هو بين السلب والإيجاب.
هذه هي مشكلة جابر بن حيان في وضعها الصحيح، وبهذا تكون قد أزحنا بعض العبء الثقيل الذي يبهظ أعناقنا نحن دارسي التراث الإسلامي، وفقنا الله جميعاً لإحياء هذا التراث الخالد.
(تم البحث)
أحمد زكي صالح
-(371/53)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ الشاعر علي محمود طه
قرأنا بإعجاب كبير ديوان (ليالي الملاح التائه)، وفي مطالعتنا لمقدمات القصائد مررنا بمقدمة القصيدة التي عنوانها (خمرة نهر الرين) وقد جاء فيها:
(يتفرد نهر الرين بجنات أعنابه، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية، ذلك النهر الذي ينبع من سويسرا ويمر بين فرنسا وألمانيا ويخترق هولندة حتى مصبه في بحر الشمال. وقد تغنى بجماله وفتنته شعراء مبدعون، احتفل الأدب بآثارهم ومنهم الشاعر الإنجليزي جون كيتس الذي أودع قصائده الأخيرة إلى محبوبته أرخم ما غناه عشاق نهر الرين. . .)
واعتماداً على ما نعلمه من دراستنا لأخبار الشاعر المبدع جون كيتس وأشعاره لا نجد في ديوانه كله أية قطعة تغنى فيها بنهر الرين مباشرة أو عرضاً، وليس في قصائده المعروفة إلى محبوبته (فاني براون) أي تغن بنهر الرين.
وزيادة في الإيضاح نذكر أن الشاعر المذكور لم يترك إنجلترا في حياته إلا مرة واحدة، وذلك في عام 1820 تلبية لدعوة الشاعر (شلي) الذي كان في إيطاليا في تلك السنة. وكانت الطريق التي سلكها (كيتس) بحرية. ومنذ اليوم الذي ترك فيه إنكلترا حتى وفاته بعد ذلك بزمن يسير لم يقل غير قصيدة واحدة وهي مشهورة في الأدب الإنكليزي بعنوان (النجم الساطع) إلى (فاني براون)، وليس فيها إشارة إلى النهر المذكور الذي لم تقدر له رؤيته في حياته.
أما الشاعر الإنكليزي الذي تغنى بنهر الرين فهو (اللورد بيرون) في قصيدته الطويلة وذلك في المقاطع (46 - 55) من الفصل الثالث؛ وهي من أجمل ما قيل في التغني بجمال نهر الرين وعظمته.
وختاماً تقبل أستاذي هذه الملاحظة، وليس يقل من شأن شاعر الحب والجمال (جون كيتس) ألا يتغنى بجمال نهر الرين وكفاه ما تغنى به. ودم للمعجب.
علي كمال
حول أخي إسماعيل أدهم(371/54)
قرأت جل ما كتب في المجلات والجرائد المصرية خاصاً بأخي المرحوم (إسماعيل أحمد أدهم) وقد رأيت أن بعض الكتاب قد وقعوا في بعض الأخطاء، ورأيت من الواجب أن أنبه إلى تلك الأخطاء إحقاقاً للحقيقة، وخدمة للتاريخ.
ولقد كتب صديقي الأستاذ (عبد الحفيظ نصار) مقالاً في العدد الأخير من مجلة (الرسالة) فوقع في بعض الأخطاء منها أنه ذكر أخي إسماعيل حفيد أدهم باشا كان وزير المعارف التركية سابقاً. والحق أن إبراهيم أدهم باشا كان وزيراً للمعارف المصرية - أي مدير المدارس المصرية - على عهد ساكن الجنان المغفور له (محمد علي الكبير) وخلفه العظيم الخديو (إسماعيل)
وقد أشار إلى هذا الأستاذ الأديب (صديق شيبوب) في المقال المنشور له في جريدة البصير بتاريخ (2 أغسطس 940) نقلاً عما كتبه المرحوم علي باشا مبارك في خططه.
وذكر الأستاذ نصار أن أخي نشر أبحاثاً متفرقة في الرسالة كان آخرها بحثه عن (عام الفيل) والحقيقة أن آخر مقال له فيها هو (الذرة وبناؤها الكهربائي)
وذكر أيضاً أن أول كتاب صدر له في مصر (مصادر التاريخ الإسلامي) والصواب (من مصادر التاريخ الإسلامي) وقد صودر - كما أذكر - بقرار من مجلس الوزراء وليس بمرسوم ملكي كما قال الأستاذ.
وقال أيضاً إن له كتاباً اسمه (الأنساب العربية) والصواب (علم الأنساب العربية) وقد نشرته مجلة (الحديث) الحلبية
هذا، ولي عودة - إن شاء الله - لتصحيح أخطاء بعض الكتاب.
(الإسكندرية)
إبراهيم أحمد أدهم
مأخذ طائش
قال الأديب أحمد جمعة الشرباصي: لما أخرجت وزارة المعارف ديوان المرحوم حافظ إبراهيم لم تنشر به عدة قصائد له، وذكر مقطوعة من شعره في وصف الطيارة لم تنشر بديوانه وهي:(371/55)
يجري بسابحة تشق ... سبيلها شق الإزار
والحقيقة أنها موجودة بالجزء الثاني صفحة 77 في استقبال الطيار العثماني فتحي بك، وكانت طائرته قد سقطت به ومات قبل إتمام رحلته إلى مصر، فرأى حافظ من الوفاء نشر هذه القصيدة بعد موته لتكون له حياً وميتاً. فهل اطلع الأديب الشرباصي على الديوان؟
أحمد حسين حسنين
تصحيح بيت في ديوان (حافظ) بمناسبة ذكراه
إلى حضرات الأساتذة المحترمين الذين ضبطوا وصححوا ديوان شاعر النيل (أحمد حافظ إبراهيم) رحمه الله
جاء في الجزء الثاني من الديوان مطلع قصيدة (تصريح 28 فبراير):
مالي أرى الأكمامَ لا تُفَتِّحُ ... والروضُ لا يزهو ولا يُنفِّحُ
وذلك بتشديد الكلمة الأخيرة من صدر البيت ومثلها من عجز البيت، وعلى هذا فوزن البيت لا يستقيم مطلقاً مع وزن القصيدة. إذا فالأصح أن يكون بيت المطلع بلا تشديد هكذا:
مالي أرى الأكمامَ لا تَفتَحُ ... والروض لا يزهو ولا يَنفَحُ
هذا ما خطر لي لدى مطالعتي ديوان حافظ بجزئيه منذ أمد بعيد، وقد سجلت هذا الخاطر. . . والآن بمناسبة ذكرى هذا الشاعر العربي العظيم أعرض ملاحظتي المتواضعة على البيت المذكور أمام الأساتذة المصححين للديوان ليقولوا كلمتهم، وكذلك أعرضها لقراء الرسالة ليتدبروها جيداً ويُبدوا آراءهم فيها، ولله أسأل أن يهدينا إلى الصواب.
(العراق - العمارة)
أنور خليل
نؤت بالحمل وناء بي
نشر الأستاذ الطنطاوي في العدد (362) مقالاً جاء فيه تلك العبارة:
(. . . وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل. . .). وقد أشار في الهامش إلى أن هذا هو التعبير الصحيح رغم شيوع عكسه، وهذه الإشارة إن أفادت شيئاً،(371/56)
فإنما هي تفيد أن تعكس خطأ.
وقد قرأت في كتاب الأمالي ما نصه: (يقال: نؤت بالحمل أنوء به نوْءا، إذا نهضت به، وناء بي الحمل ينوء بي نوءا، إذا جعلني أنهض به) اهـ
وقد دفعني ما قرأته في الأمالي إلى أن أرجع إلى القاموس، فأدهشني أن كلا الكتابين متفق، وذلك بعد أن أرجعت البصر فيهما مرات، وهاك الدليل: يقول القاموس في مادة (ناءَ): (ناء نوْءَا وتنْواءَ): نهض بجهد ومشقة، و (ناء بالجمل) نهض به مثقلاً، و (ناء به الحمل): أثقله وأماله كأناءه) اهـ
ولو تلمسنا وجاهة كل من التعبيرين، لوجدنا أن قولنا نؤت بالحمل أوجه بكثير من قولنا ناء بي الحمل، والتعبير نفسه ينطق بذلك فما رأي الأستاذ الطنطاوي؟؟
(كفر المياسرة)
عوض عوض الدحة
مغالطات
أستاذي الكبير الزيات
قرأت للأخ الأديب أحمد جمعة كلمة في الثقافة عدد 83 حول ترجمة لابن الفارض في كتاب (تاريخ الأدب العربي) إذ نقل منه هذه العبارة:
ومن أشهر شعره - يعني ابن الفارض - تائيتاه الكبرى والصغرى، تبلغ الأولى 600 بيت، والثانية 103 أبيات، وقد استوعبتا أغراض الصوفيين وأسرارهم ولا يقرأهما إلا من رزق الصبر والجلد إلى حل تلك الرموز، يقول في مطلع الكبرى:
نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت
تذكرني العهد القديم لأنها ... حديثة عهد من أهَيل مودتي
نقل هذه العبارة، وقال إن فيها عدة أخطاء:
1 - في عدد أبيات التائية الكبرى، فهي ليست 600 بل 779 بيتاً كما عدها بنفسه مراراً.
2 - إن التائية الكبرى ليست مبدوءة بما ذكرتم من قول ابن الفارض:
(نعم بالصبا قلبي صبا. . .) البيتين(371/57)
3 - في إتيانكم بالبيتين متعاقبين والحقيقة أن البيت الثاني (تذكرني العهد القديم. . .) الخ جاء في التائية الصغرى - لا الكبرى - بعد أربعة أبيات. . . الخ، وأنا أعجب للأخ أحمد جمعة، كيف جشم نفسه هذا الجهد الكبير، والأمر أسهل مما يعتقد؟؟
أما عن عدد الأبيات فقد صدق أستاذنا الزيات، فلقد رجعت إلى طبعات ديوان ابن الفارض المختلفة، فوجدت اختلافاً كبيراً في عدد الأبيات، أبيات هذه القصيدة. فبعض الطبعات ذكرت هذه القصيدة في نحو 600 بيت، وعلى هذه الطبعة اعتمد أستاذنا الزيات في كتابه (تاريخ الأدب العربي) صفحة 229 من الطبعة الخامسة كما ذكرت، وصفحة 352 من الطبعة السادسة وكذلك اعتمد عليها أيضاً الدكتور زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي جـ 1 ص130 حيث يقول: (ولا يسع من يهتم بدرس ابن الفارض أن يغفل التائية الكبرى، وهي نحو ستمائة بيت، وقد نظمها تحت وحي صوفي. الخ). وطبعة أخرى ذكرت هذه القصيدة نفسها في 758 بيت، وطبعة ثالثة ذكرت هذه القصيدة أيضاً في 762 بيت، وأحمد جمعة يقول إنها تبلغ 779 بيتاً كما عدها بنفسه مرات فلا يصح له بعد ذلك أن يخطئ الأستاذ في عدد الأبيات قبل التثبت في حين أنه أخذ بأكثر هذه الطبعات دقة وعناية.
هذه واحدة. وأما الثانية: فأنا معه فيها، إذ أن التائية الكبرى مبدوءة بقول ابن الفارض:
سقتني حُميَّا الحب مقلتي ... وكأسي محيا من عن الحسن جلَّت
فأوهمت صحبي أن شرب شرابهم ... به سُرَّ سرىِّ في انتشائي بنظرة
ولعله يرى معي أن هذا لا يعد خطأ، وإنما هو سهو، وكان الأجدر به أن يعطيه اسمه الصحيح. . .! وأما الثالثة: فهي مغالطة صريحة ولا تجدر بطالب الحقيقة والناقد المنصف.
ألم يقل أستاذنا: (يقول في مطلع الكبرى: (نعم بالصبا قلبي صبا. . .) البيتين؟ أليس البيت الثاني: (تذكرني العهد القديم. . .) الخ خامس أبيات القصيدة؟ وهل أن الإتيان ببيتين متعاقبين يدل على أنهما كذلك في أصل القصيدة؟؟
اسمع يا أخي كلمة الحق: كان يكفيك أن تقول: (وقع سهو في كتاب (تاريخ الأدب العربي) حين ذكر مطلع التائية الصغرى، على أنها الكبرى.). إنك لو فعلت ذلك لكنت من(371/58)
المقسطين.
عبد الحفيظ أبو السعود
إلى الدكتور زكي مبارك
لا ضَيْرَ أن يلحق التأخير تهنئتي ... ما العِبرةُ إلا بالخواتيمِ
كمثل فعلك: مجهودٌ وتضحيةٌ ... يتوَّجان بتقدير وتكريم
أن الوسام الذي أُعطيته ثقةٌ ... للرافدين وحقٌ غير مهضوم
سفارةٌ لك في الأقطار يحمدها ... ساعٍ يؤلف ما بين الأقاليم
مِزاج أكؤسها من كوثرٍ شَبِمٍ ... ووِرد أنهارها من عذب تسنيم
الفكر والقلم المفتول ساعِدُهُ ... قد أولياها بمشبوبٍ ومضروم
فانهض (مباركُ) للجُلَّى بلا وَهَنٍ ... ما كان مقتحِم الجُلَّى بمهزوم
واقبل كأصدق ما هُنِّئتَ تَهنئةً ... ممن قصائدُه وحي الحواميم
عامر محمد بحيري
استدارك
سقطت عبارة من مقال (من عجائب الفهم. . .؟) المنشورة بالعدد 370 صفحة 1259 عند السطر 26، وهاهي ذي:
(وقد بينت أن الحياة عن الأستاذ العقاد في قصيدته هي النزول إلى ظواهر الدنيا للاتصال بها وإدراكها، وليست الحساسية النفسية كالتألم والفرح وسائر حركات النفس)
الإمام أبو هريرة في كتاب (فجر الإسلام)
تحدث الأستاذ أحمد أمين في كتاب فجر الإسلام عن أبي هريرة كما تحدث عنه (جولدزيهر) وأمثاله، ومما قاله: (والحنفية يتركون حديثه أحياناً إذا عارض القياس كما فعلوا في حديث المصراة، فقد روي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم من ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) قالوا: (أبو هريرة غير فقيه، وهذا الحديث(371/59)
مخالف للأقيسة بأسرها، فإن حلب اللبن تعد وضمان التعدي يكون بالمثل أو القيمة والصاع من التمر ليس بواحد منهما)، اهـ (ص269)
كلامه هذا يفهم شيئين: الأول أن الحنفية يقدمون القياس على حديث أبي هريرة إذا عارضه. الثاني أنهم يرونه غير فقيه؛ ونسبة الأمرين إليهم نسبة غير صحيحة. أما في تعارض الخبر والقياس فالإمام وصاحباه وجمهور الحنفية على أن الخبر مقدم على القياس مطلقاً سواء كان الراوي فقيهاً أو لا، وذهب فجر الإسلام - واختاره ابن أبان وأبو زيد - إلى أن الراوي إن كان فقيهاً قدِّم خبره على القياس مطلقاً، وإن كان غير فقيه قدم خبره أيضاً على القياس إلا إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي؛ وبهذا تبين أن الحنفية لا يقولون بتقديم القياس على الخبر ومن ذهب منهم إلى تقديمه عند انسداد باب الرأي يعممه في كل خبر راوية غير فقيه لا بخصوص أبي هريرة وأما أن أبا هريرة غير فقيه، فهذا لم يقل به غير فجر الإسلام وصاحبيه المذكورين، وقد شنع الحنفية عليهم قولهم هذا وردوه أبلغ رد كما هو معلوم لمن يطالع أصولهم، فنسبه القول بذلك إليهم نسبة باطلة.
ولك أن تتساءل كيف نسل الأستاذ إلى الحنفية كل هذا وهم منه براء؟ والجواب أنه قد اعتمد في كتابه فصل الحديث في فجر الإسلام على (مسلم الثبوت وشرحه)، أكثر من أي كتاب آخر، وشارح المسلم لما تعرض لقول فخر الإسلام موافقيه وأبان عن وجهة نظرهم قال: (ومثلوا لذلك بحديث المصراة، وهو ما روى أن رسول الله الخ الحديث. قالوا أبو هريرة غير فقيه وهذا الحديث مخالف للأقيسة كلها إلى أن قال: وفيه تأمل ظاهر فإن أبا هريرة فقيه مجتهد لا شك في فقاهته الخ. . .). ولا يخفى أن الضمير في قالوا راجع إلى فخر الإسلام ومن وافقه، ولكن الأستاذ أحمد أمين حول الضمير إلى الحنفية، ونسب قول فخر الإسلام إليهم، ولا أدي كيف تغاضى عن سياق الكلام، وكيف تغاضى عن اعتراض الشارح على القول بعدم فقاهة أبي هريرة، وكيف تغاضى عما في كتب الأصول من النص على فقه أبي هريرة والرد على فخر الإسلام ومن تابعه في قولهم ذاك؟
وصفوة القول أن ما نسبه الأستاذ إلى الحنفية في هذه المسألة غير صحيح وإنما هو لفخر الإسلام لم يوافقه عليه غير اثنين، وهو قول مردود من الحنفية أنفسهم.
مصطفى حسني السباعي(371/60)
القصص
عقيدة الشيطان
عن الإنجليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
في العهد الذي كان فيه السيد المسيح والقديس بطرس يمشيان على الأرض مرّا بحداد اتفق مع الشيطان على أن يكون عبداً له إذا استطاع الشيطان أن يجعله في مدى سبعة أعوام سيداً على جميع الحدادين. وقد وقع الحداد والشيطان على وثيقة بهذا المعنى، ومن أجل هذا السبب علق الحداد على باب حانوته لوحة كتب عليها (سيد الحدادين)
ولما رأى المسيح هذه اللوحة ذهب إلى الرجل وسأله: (من أنت؟) فأجابه الحداد: (اقرأ اللوحة التي على الباب وإذا كنت لا تستطيع القراءة فانتظر حتى يمر بك من يعينك على فهمها. وقبل أن يجيبه المسيح جاء رجل على ظهر جواد وطلب إلى الحداد أن يضع حدوة في رجل جواده فقال المسيح للحداد: (أتأذن لي في أن أقوم بهذا العمل بالنيابة عنك؟)
قال الحداد: (جرب وإذا أسأت وضع الحدوة فإني سأعيد وضعها). فوضع المسيح قدمي الجواد فوق الفرن ونفخ في النار. وبدلاً من أن تحترق أقدام الجواد أصبحت مسكوة بطبقة لامعة معدنية وانتعلت بحدوات متينة، فدهش الحداد وقال للمسيح: (أنت حداد بارع)
وفي هذا الحين جاءت أم الحداد لتخبر أبنها بأن الطعام الغداء قد أعد ولتدعوه إلى تناوله، فتأهب الحداد للذهاب معها. وطلب إلى المسيح أن ينتظره وهو وصاحبه بالحانوت حتى يعود. فأذن له بذلك. ونظر المسيح إلى وجه أم الحداد فألفاها مجعدة الجلد عجوزاً شوهاء، فحملها ووضعها في الفرن فأصبحت فتاة جميلة. وأخذها ابنها وذهب معها إلى المنزل وهو ضاحك مسرور. وكانت كلمته للمسيح: (على الرغم من أني كتبت على لوحة حانوتي أن سيد الحدادين، فإن المرء ما عاش قابل للتعليم ولم أر قبلك حداداً يعيد العجائز فتيات)
ولما عاد الحداد بعد الغداء كان المسيح والقديس بطرس ينتظرانه. وجاء رجل على ظهر جواد ليطمر أقدام جواده فأراد الحداد أن يجرب الطريقة التي رأى المسيح يعمل بها ووضع أقدام الجواد على الفرن؛ فكانت النتيجة كما ينتظرها كل إنسان، واحترقت أرجل الجواد.(371/62)
وفي الحال مرت عجوز فقال الحداد: (إذا أنا لم أفلح في إحدى الأعجوبتين فقد افلح في الأخرى) وقاد العجوز إلى النار وهي تستغيث وهو يقول: (سأعيدك فتاة جميلة ولن أطلب منك أجراً على ذلك. تعالي إلى الموقد)
وحملها إلى الموقد وهي تصرخ من الألم فنظر الحداد إلى المسيح وقال: (ليس في العالم ما هو أدعى إلى الخجل) فقال المسيح: (ما هو الذي يخجلك؟)
قال الحداد: (الشيطان هو الذي من حقه أن يخجل فإنه لم يف بوعده لي ولم يجعلني سيداً للحدادين مع أنه هو الذي كتب اللوحة التي على الباب)
فقال المسيح: (هبني أستطيع أن أحقق لك ثلاث أمان فماذا تريد تحقيقه من أمانيك؟)
قال الحداد: (أريد أن يكون لي نفوذ على كل من آمره بأن تسلق شجرة الكمثرى التي أمام الحانوت، فلا يستطيع أن يخالفني ولا يستطيع أن ينزل إلا إذا أمرته، فهذه أمنية؛ والأمنية الثانية أنني كلما أمرت إنساناً بأن يجلس في حانوتي فلا يستطيع الامتناع ولا يستطيع القيام إلا إذا أمرته، والأمنية الثالثة أن من آمره بالجلوس في كيس نقودي يضمر حتى أضعه في الكيس ولا يخرج إلا إذا أخرجته)
قال القديس بطرس: (هذه أمان حمقاء وقد كان عليك أن تتمنى محبة الله ورحمته)
فقال الحداد: (إنني لا أجرؤ على تمني أمنية كبيرة مثل هذه)
وعند ذلك ودعه المسيح والقديس بطرس وانصرفا، وأجابه المسيح إلى أمانيه
وانقضت الأيام سراعاً فتمت السنوات السبع المتفق عليها بين الحداد وبين الشيطان، وجاء الشيطان يتقاضاه الشرط وبدأ بأن سلم إليه مسماراً مكسوراً ليصنع له رأساً. فقال الحداد: (سأفعل ولكنك على ما يظهر متعب من طول المسافة التي قطعتها إليّ ومن الجوع، فتسلق هذه الشجرة ريثما تأكل من ثمرها وتستريح وأكون في هذه الفترة قد صنعت رأس المسمار)
فتسلق الشيطان الشجرة والكنه وجد نفسه عاجزاً عن النزول؛ وأخذ الحداد يضحك منه ويقول: (إن رأس المسمار ستستغرق منه أربعة أعوام). فتوسل إليه الشيطان أن يأذن له فلم يقبل إلا عندما وعده الشيطان بأن يذهب عنه فلا يعود إلا بعد أربعة أعوام. فأذن له على هذا الشرط. وانطلق الشيطان وبعد أربعة أعوام أخرى عاد الشيطان فقال: (لقد غبت(371/63)
أربعة أعوام ولابد أن تكون قد فرغت من رأس المسمار)
فأجابه الحداد: (لقد صنعته ولكنك مع ذلك أتيت مبكراً فهو لا يزال محتاجاً إلى السن، فاجلس في هذا المقعد حتى أفرغ من سنها)
فجلس الشيطان، ولكنه عاد فأدرك أنه لا يستطيع القيام، وأخذ يتوسل إلى الحداد، وهذا يختلق له المعاذير، وأخيراً وعده بألا يعود قبل أربعة أعوام أخرى يكون الحداد في أثنائها قد فرغ من سنه المسمار
مضت أربعة أعوام أخرى وجاء الشيطان فقال له الحداد: سأذهب معك الآن حيث تريد، ولكني أريد أن ألقي عليك سؤالاً واحداً وهو: هل صحيح ما يقولون من أن الشيطان يستطيع أن يضمر جسمه إلى أي حجم يريد؟ فقال الشيطان: هذه حقيقة لا تحتمل الشك.
فطلب إليه الحداد أن يضمر حتى يدخل كيس نقوده، وأن يستمر في الكيس حتى لا تسرق أمواله مدة السفر، ففعل الشيطان ذلك.
وما صار الشيطان في داخل الكيس، ألقى الحداد بالكيس في الفرن، فصاح الشيطان: هل أنت مجنون؟ لماذا تلقي بالكيس في النار وأنا فيه؟
قال الحداد: إنني أريد أن أعيد صنعه بحيث تضيق فتحاته، وهاهو ذا قد احمارَّ والمثل يقول: لا تضرب الضربة إلا إذا حمى حديدك، ثم أهوى بالمطرقة فوق الكيس، فتوسل إليه الشيطان أن يتركه على ألا يعود إليه مدى الحياة.
وتركه الشيطان، ولكن الحداد ندم وقال: (إذا فاتتني الجنة الآن وقد سدت دوني أبواب النار بما فعلته مع الشيطان؛ فسوف أصير في الآخرة بغير مأوى. وكان الأفضل أن أظل مصاحباً للشيطان ليكون لي مسكن في النار إن فاتني في الجنة المسكن). وعزم على أن يتابع السير حتى يعثر على الشيطان فيسترضيه، حتى لا يكون في الآخرة من المتشردين. فلما صار في مفترق الطرق بين الحنة وبين النار. لقي خياطاً وسأله إلى أين يريد الذهاب، فقال الخياط: (إنني أبحث عن الجنة)
قال الحداد: (إذن فطريقي غير طريقك وسأذهب لأبحث عن النار وذلك لأني عرفت صاحب الأمر فيها منذ عهد الشباب)
وتفرقا فذهب كل في طريقه، وكان الحداد سريع المشية طويل الخطوة، فوصل بعد مدة(371/64)
وجيزة إلى باب النار، وطلب إلى بوابها أن يخبر الشيطان بأن رجلاً ينتظر بالباب.
وقال الشيطان للبواب: (اذهب فاسأله من هو؟) فقال الحداد: (قل له إني صاحب الكيس وسيعرفني. وتوسل إليه أن يأمر بدخولي لأني في تعب شديد فقد ظللت أشتغل إلى الظهر وبدأت السير بعد ذلك)
فلما عرف الشيطان من هو الزائر أمر البواب بأن يغلق أبواب الجحيم التسعة ويحكم الرتاج (فإن هذا الرجل إن دخل الجحيم فسيزيد أهلها شقاء)
قال الحداد في نفسه: (لا فائدة من التسكع هنا فسأذهب وأجرب الجنة)
وعاد إلى المكان الذي ترك عنده الخياط وتبع الطريق الذي سار فيه فلحق به ساعة كان القديس بطرس يفتح أبواب الجنة ولكن أبواب الجنة ضيقة لا تسمح إلا بدخول الرجل الهزيل الجسم فتردد الحداد ثم قال في نفسه: (لا ينبغي أن أضيع الوقت)
وفي اللحظة التي كان الخياط فيها يدخل من الباب ضرب الحداد بمطرقته الدلفة المتحركة من ذلك الباب
ولست أعرف إذا كان الحداد لم يدخل من الفرجة التي أنشأها بمطرقته في سور الجنة ففي أي طريق سلك. . .
عبد اللطيف النشار(371/65)
العدد 372 - بتاريخ: 19 - 08 - 1940(/)
خواطر مهاجر. . .
تفيَّأ كعادته كل يوم ظلال الكافورة الغيناء من قهوته المختارة على شاطئ النيل الجميل في (المنصورة) بلد الشعر والسحر والجمال والفتنة. وكان مجلسه تحت هذه الدوحة الفينانة أشبه بالعش الناعم قد احتضنه النهر وحنَت عليه الغصون وتنفَّس فوقه الماء بالنسيم الرطب فأصبح للحس الشاعر قطعة من رياض عدْن، أو بقعة من بقاع عبقر! فإذا أضفت إلى جمال المكان وبهجة المنظر، أنس الصديق المخلص، ورقة الجليس المهذَّب، وبشاشة الوجوه النامة عن الود، وعطف القلوب المتآخية في الأدب - جمعتَ في ذهنك صورة مقاربة للحياة الروحية الوادعة التي يحياها هذا المهاجر في زمن روعت الحرب فيه معالم الأرض ومجاهلها حتى ما كان ممتنعاً منها على شرور الإنسان منذ الأبد كأجواء السماء وأثباج البحر وقفار البيد!
مال ميزان النهار وأوشكت جمهرة النادين من الأهلين والمهاجرين أن تنصرف عن مناضد القهوة الحافلة، فلم يبق إلا جماعة هنا وجماعة هناك من الذاهبين إلى (رأس البر) أو الآيبين منها، جلسوا يستروحون من عناء السفر ليستأنفوه بعد الظهيرة؛ وسكت النداء عن النُّدُل فجلسوا يرفهون عن أقدامهم على أبواب القهوة؛ وانقطع الرجاء بمساحي الأحذية وبائعي اليانصيب ومحترفي السؤال فناموا متربصين على إفريز الطريق؛ وهمدت الأصوات والحركات حول المهاجر فاتجه بعينه وقلبه إلى النهر الخالد وقد ظمئ شاطئاه ونشَّ مجراه حتى سحب الملاحون قواربهم على قاعه. هنالك رأى زمر القرويين الوافدين على السوق يملئون الزوارق في المعبَر الذي لم يتغيَّر منذ رآه وهو طفل، فأتبعهم نظرَه الحالم حتى صعدوا درَج الموردة وانسابوا بعصيهم وإخراجهم في شارع فاروق. فلما مروا به على قرب رأى لهم صوراً غير التي عهدها لآبائهم وهو يافع: كان الغالب إلى آبائهم الجسامة والوسامة والسذاجة والصحة؛ وكان بين أبدانهم الوثيقة ولحاهم المرسلة وثيابهم الفضفاضة وعمائمهم الضخمة تناسق عجيب يملأ النفوس مهابة وروعة؛ فإذا حادثتم في شيء من الأشياء، أو عاملتهم في أمر من الأمور، وجدت صفاء القلب مشرقاً في الحديث، وأثر الدين ظاهراً في المعاملة. وكنت تخالط سوادهم أو آحادهم فلا ترى إلا عفة في القول، وصراحة في الفعل، وقناعة بقسمة القدر، ومواساة في محن الدهر، ونية صادقة في أن تكون القرية للكل، والكل للقرية.(372/1)
ذلك لأن الزورق كان أكثر من الناس، والرضا كان أوسع من الهمِّ، والأمل كان أطول من الحياة!
زِدْ على ذلك أن أولئك الآباء السُّعداء ما كانوا يعرفون عداوة الانتخاب ولا دعاية الأحزاب ولا مكاره السياسة ولا تهاويل الحرب؛ إلا ما كان يقع في أسماعهم الحين بعد الحين من أخبار الحروب بين العثمانلي والمسكوف!
أما فلاحو اليوم فهم كما يراهم ضئال الأجسام قصار القدود مبذوءو الهيئة، يتبيّن الناظر في وجوههم لوائح المرض، وعلى مظاهرهم دلائل الفقر؛ ثم يتمثلهم وهم في طواقيهم الحقيرة وجلابيبهم القصيرة، مسوخاً من تشويه الطبيعة ينسجم فيها خبث الطوية مع قبح الصورة!
لم يرث قروي اليوم عن قروي الأمس إلا الجهل. أما سلامة الصدر وسماحة النفس وعفة الطُّعمة، فيقولون إنها ارتفعت مع البركة من أرض القرية. فالفلاح يكدح ولا ينجح، ويسعى ولا يبلغ. لأن عدد الناس زاد إلى الضعف، وموارده هو ظلت على الضيق؛ وتشوَّفت نفسه إلى متاع الدنيا ويده من محصول عمله أو ملكه صِفْر لشره المرابي وطمع المالك، فاضطر إلى أن يساعد الجهل بالحيلة، ويرفد الحلال بالحرام، ويمزج الطيب بالخبيث؛ وذلك يأخذ من راحته وصحته وخلقه ودينه ما لا يعوضه طب الطبيب ولا وعظ الواعظ.
والفلاح لإخفاقه الغالب وحرمانه المتصل ينفِس على الناجح ويحقد على الغني. ولعله يعاني من حُمَّى الحسد أضعاف ما يعاني من تبريح العلة!
ولقد ركبه الغرور باستفحال الجهل فيه، وألهبه الطمع بإلحاح الحرمان عليه. والجهل إذا طغى خيَّل لصاحبه أنه العلم؛ والحرمان إذا استمر زيَّف في ذهن المحروم معنى الحياة، والشر إذا دأب على معاندة الطبع أفسد في نفس الشرير صلاح الفطرة. فالفلاح الزور ويعتقده الحق، ويفعل المنكر ويظنه المعروف، ويعمل مع الطبيعة في استثمار الأرض ولا يتفق معها، ويعتمد على الله في اكتساب الرزق ولا يتصل به!
والفلاح التام الجهل كالحضري الناقص العلم، كلاهما ضحية من ضحايا الانتقال الاجتماعي في هذا العصر؛ لأن القروي المغرور يحاول أن يكون مدنيِّا، والمدني المفتون يريد أن يكون أرستقراطيِّا، فيقعد بهذا وذاك فشل القدرة دون الغاية، فيعيشان عيش المسيخ المشيَّأ لا يصلح أن يكون في نسيج الكون لحُمةً ولا سَداة.(372/2)
هذا الفلاح المزيف لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره؛ إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه. فإن صاحب الذوق يبني الدار الجميلة ويخط الحديقة البهيجة؛ أما فاقده فخليق به أن يجعل القصر زريبة والبستان مزبلة. ووسيلة إصلاح الفلاح التعليم ولا شك. ولكن التعليم وسيلة بطيئة وإن كانت مضمونة. فإذا أردتم سرعة الإصلاح فلم لا تجربون مع التعليم أن تجعلوا مكان العُمَد (كنستبلات) تكون لهم عجرفة الترك وعقلية الإنجليز؟ إن هؤلاء خلقاء أن يُعلموا الفلاح الجاهل بالفعل كيف يعيش؟
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(372/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الأستاذ سلامة موسى يتجنى على الأدب العربي - من واجب كل مصري أن يعطف على العروبة والإسلام لأنهما سناد مصر في الشرق - أدوات مدرسية - السوريون في مكاره الاغتراب - الخوف أنفع من الأمان.
درس ينفع
يظهر أن فصل الصيف تعوَّد الجدل والعناد؛ ففي الصيف الماضي كانت جناية الأستاذ أحمد أمين على الأدب العربي، وقد وأدنا تلك الجناية وهي في المهد. وفي هذا الصيف يتجنى الأستاذ سلامة موسى على الأدب العربي، فهل يكون من الواجب أن نوجه إليه التفاتة ترده إلى الصواب؟
ونذكر أولاً أن الأستاذ سلامة موسى صديق عزيز، وأنا لا أتخلى عن أصدقائي، ولا أذكرهم بغير الجميل.
ونذكر ثانياً أن هذه شنشنة نعرفها من أخزم، فقد وقعت بيني وبين الأستاذ سلامة موسى مناوشات كثيرة على صفحات البلاغ يوم كنا زميلين نتحارب بالأقلام ونتصافح بالقلوب.
والحق أن الأستاذ سلامة موسى له على أهل الأدب حقوق، فهو رجلٌ بنَّاء، وإن غلبت عليه الشهرة بحب الهدم، وقد يكون أقدر أدباء اليوم على مسايرة ما يجدّ من التطورات في الأدب الحديث، فهو لذلك صديقٌ روحيٌّ لأكثر أدباء هذا الجيل.
ثم أدخل في صميم الموضوع فأقول:
تحدث الأستاذ سلامة موسى في مقال نشره بجملة اللطائف عن الجهود الأدبية لجماعة من أدباء مصر هم: طه حسين والعقاد والزيات وزكي مبارك.
وهو يرى أن هؤلاء الأباء (لهم هموم ثقافية لا يمكن أن تحرك قراءنا وتحيلهم إلى مكافحين يجاهدون أو يجتهدون لخدمة الأمة، لأنهم في حقيقتهم وشعورهم متفرجون مستمتعون لأنهم يعالجون العاديّات العربية التي تدرس للذة والاستمتاع وليس للمغزى والكفاح)
ذلك كلام الأستاذ سلامة موسى، وهو كلامٌ برَّاق يُزيغ بصائر القارئين، فمن الواجب أن تنقضه من الأساس قبل أن يفعل فعله في القلوب والعقول.(372/4)
وماذا يريد هذا الصديق أن يقول؟ إن كان يريد القول بأننا لم نلتفت إلى ما في عصرنا من ثقافات ومعارف وفنون فقد أخطأ كل الخطأ، وانحرف عن الصواب أشد الانحراف.
فالدكتور طه حسين الذي شغل نفسه بدرس عصر النبوة والعصر الأموي والعصر العباسي وتحدث عن المعري والمتنبي هو ذاته طه حسين الذي شغل نفسه بدرس طوائف من الآثار الجميلة للأدب الفرنسي الحديث، وهو ذاته طه حسين الذي التفت إلى مستقبل الثقافة في مصر فنشر عنها كتاباً في جزأين، فمن التجني أن يقال إن مثل هذا الرجل لا يعرف غير الهيام بأودية العصور الخوالي.
والأستاذ عباس محمود العقاد الذي شغل نفسه بدرس أشعار ابن الرومي، ومن إليه من أعيان الشعراء القدماء هو ذاته عباس العقاد الذي شغل نفسه بدرس جماعات من المفكرين الذين سيطروا على العقل الأوربي الحديث؛ وهو نفسه عباس محمود العقاد الذي ساير التطورات السياسية في مصر بذهن ثاقب وقلم وثّاب؛ وهو عينه عباس العقاد الذي ترجم لشعراء مصر في الجيل الجديد، فمن التعسف أن يقال إن مثل هذا الباحث لا يعرف غير الاشتغال بالعاديّات الأدبية.
والأستاذ أحمد حسن الزيات الذي اهتم بتأريخ الأدب العربي، والذي عنَّى نفسه بنقد كتاب ألف ليلة وليلة، والذي يحرص أشد الحرص إلى إحياء ما اندثر من آثار القدماء، وهو نفسه أحمد حسن الزيات الذي جاهد أصدق الجهاد في نقل الغُرر من آيات الأدب الفرنسي الحديث، وهو عينه أحمد حسن الزيات الذي عالج المشكلات الاجتماعية بأسلوب يشهد بأنه مجروح القلب من أزمات هذا الجيل. فكيف يقال إن مثل هذا الكاتب لا يعرف غير الطواف برسوم العهود السوالف؟
بقي الكلام عن الدكتور زكي مبارك وهو رجلٌ أُدرك أسرار أدبه بعض الإدراك لأن اسمه يشابه اسمي.
وأعترف بأني أوغلت في دراسة الأدب القديم كل الإيغال، ولكن عذري في ذلك مقبول، فقد أفهمني جماعة منهم الأستاذ سلامة أني قضيت عشرين سنة في الحياة الجامعية، وأن من الواجب أن أقيم الدليل على أني أصلح لأستاذية الأدب العربي والفلسفة الإسلامية، وكذلك خصصت الأدب والفلسفة بجهود لا ينكر قيمتها أحدٌ من المنصفين. . . وهل فسد الزمان(372/5)
حتى أحتاج إلى الاعتذار عن الأعوام الطوال التي قضيتها في تأليف (الأخلاق عند الغزالي) و (النثر الفني) و (التصوف الإسلامي) و (الموازنة بين الشعراء) و (عبقرية الشريف الرضي)؟
وإلى من أعتذر؟ إلى الأستاذ سلامة موسى الذي أعجب بهذه المؤلفات كل الإعجاب!!
وأنا مع ذلك لم أنس نصيبي من معالجة معضلات العصر الحديث، وقد سجّل الأستاذ سلامة موسى في (المجلة الجديدة) أنه كان يجدرُ بالدكتور زكي مبارك أن يجمع مقالاته التعليمية في كتاب خاصّ لتكون نبراساً يهتدي به المعلمون.
وقد زكَّيت عن الأعوام التي قضيتها في فرنسا بكتاب (ذكريات باريس) وهو كتابٌ يشهد بأني عشت في فرنسا وأنا حادَّ البصر، وافر الذكاء، وهو كتاب يصوّر كثيراً من أزمات فرنسا في هذا الجيل.
والعام الذي قضيته في بغداد صورتُ به في كتاب (ليلى المرضية في العراق) أعظم المعضلات التي تعانيها فلسطين وسورية ولبنان ومصر والعراق؛ ولو أن الأستاذ سلامة موسى قرأ كتاب ليلى لعجب من أن يستطيع الرجل في عام واحد أن يدرك سرائر هذه البلاد، مع أنه كان موظفاً مسئولاً يحضّر في كل أسبوع نحو اثني عشر درساً لفتيان ناضجين هم طلبة دار المعلمين العالية في بغداد.
لا يهمني أن أدفع الاتهام الموجَّه إليّ العقاد والزيات وطه حسين، فلي ولهم أقلام تدفع ما يوجّه إلينا من العدوان بأيسر مجهود حين يشتجر القتال.
وإنما يهمني أن أدفع الشر عن الأدب العربي، فهو ليس أدباً ميتاً، كما يتوهم بعض الناس، وإنما هو أدب يتوثب من قيض القوة والحيوية، وبفضل الأدب العربي بقيت الذاتية الشرقية إلى اليوم، ولولا الأدب العربي لكان الأستاذ سلامة موسى في أيامه هذه كاتباً يرطن في لغة الأرمن أو لغة اليونان!
ومن محاسن الأستاذ سلامة موسى أنه وطنيٌ صادق الوطنية، ومن هذه الناحية أغزوه بلا رفق.
فمصر التي يحبها أصدق الحب لم تَسُد في الشرق إلا بقوتين عظيمتين: هما اللغة العربية والشريعة الإسلامية.(372/6)
وهل من القليل أن تأخذ بلاد العرب ثقافتها العربية عن مصر؟ هل من القليل أن يأخذ وطن الرسول معارفهُ الدينية عن مصر؟ هل من القليل أن تكون مصر هي البلد الذي صارت العربية لغته القومية الوحيدة وصار الإسلام هو دين الأكثرية الساحقة من أبنائه الأوفياء؟
قد يكون سلامة موسى في دينه أصدق مني في ديني - والله أعلم بالسرائر - ولكن من المؤكد أني أصدق منه في الوطنية، فأنا أحرص على اللغة العربية والإسلام خدمةً لوطني، وأنا أغض النظر عن هفوات كثير لرجال الدين، لأنهم على أي حال من الشواهد على أن وطني له سلطة روحية. وقد تطوع المسلمون في مصر لمعاونة الأحباش أيام محنتهم بعدوان الطليان لغرض وطني الشعور بأن الكنيسة القبطية لها سلطانٌ روحيٌ على عقائد الأحباش.
فهل يغار الأستاذ (سلامة موسى) على الأزهر الشريف كما أغار على الكنيسة القبطية؟ وهل يحب المسلمين كما أحب الأقباط؟
استغفر الله واستغفر الوطن، فالأستاذ سلامة موسى بحق وصدق من أكرم أصدقاء العروبة والإسلام، لأنه بالفعل من مشاهير الكتاب في اللغة العربية.
وإنما أعيب على سلامة موسى أن يكون أقل وطنية من مكرم عبيد الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب ليكون من أفصح الخطباء باللغة العربية.
وإنما أعيب عليه هذا لأني أكره أن يكون السياسي أصدق وطنية من الأديب.
ولنفرض جدلاً أن طه حسين والعقاد والزيات وزكي مبارك لا يشتغلون بغير دراسة الأدب العربي القديم، فما العيب في ذلك؟
وهل من الكثير أن يكون منا عشرة أو عشرون أو ثلاثون يقضون أعمارهم في دراسة ماضي اللغة العربية، وهي اللغة القومية في مصر منذ ثلاثة عشر قرناً؟ وهل تعاب فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بأن فيها مئات من الباحثين لا يهتمون بغير درس الذخائر من الأدب القديم عند اليونان والرومان؟
وما رأي الأستاذ سلامة موسى في التوراة والإنجيل وهما من النصوص العتيقة بلا جدال؟
هل يرى أن الاهتمام بدرس التوراة والإنجيل من العبث السخيف بحجة أنهما لا يمثلان(372/7)
معضلات العصر الحديث؟
وهل يرى أن نحرق جميع ما حفظ الزمن الشحيح من تراث المصريين القدماء؟
الأستاذ سلامة موسى رجل مثقف، فهو يدرك أن العقل الإنساني يتطلع إلى فهم جميع الآثار الإنسانية، وإن قَدُم عهدها في التاريخ. فهل يوجِّه ثورته إلى العرب لأنهم عرب؟
إن كان ذلك فلينتظر، فقد ارجع إليه بعد أيام ومعي وثيقة تشهد بأنه عربيّ الأصل، وفي العرب نصارى ويهود ومسلمون لأن العروبة هي مصدر هذه الديانات الثلاث.
الدنيا كلها تجتمع، ونحن نفترق، مع أننا أحوج من سائر العالمين إلى الائتلاف، والعرب والمسلمون في جميع بقاع الأرض يرون مصر مشرق الأنوار العربية والإسلامية، وأخونا سلامة موسى يريد أن ينزع عن رأس مصر هذا التاج المرموق.
ولو كان سلامة موسى من أرباب المآرب المادية لعذرناه، وقلنا إنه رجل ينتفع من مؤازرة خصوم العروبة والإسلام، ولكن سلامة موسى رجلٌ عفيف القلب والجيب، ولن يترك لأطفاله غير ما ورث عن أبويه الكريمين، فكيف يستبيح أن يسيء إلى سمعة مصر العربية والإسلامية بلا جزاء؟
سلامة موسى من أعز أصدقائي
فهل أرجو أني يراعى خاطر صديقه الأمين حين يتحدث عن صلة مصر بالشؤون العربية والإسلامية؟
إلى صديقي سلامة أُوجِّه هذا الرجاء، ففي الدنيا مكاره تشغلني وتشغله عن مكايدة الصديق للصديق.
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعاً إلى سواء السبيل، فإني أو إياه لعلى هدىً أو في ضلال مبين.
أدوات مدرسية!
كان المألوف في مثل هذه الأيام أن ينص أصحاب المدارس فيما ينشرون من إعلانات على ما تمتاز به مدارسهم من جمال الموقع، وكثرة المختبرات وأهلية المدرسين، وحسن النتائج.
ولكن الزمان يأتي بالأعاجيب، فلأول مرة في تاريخ مصر تقول إحدى المدارس في إعلاناتها إنها مزوّدة بمخبأ طويل عريض يؤوي مئات التلاميذ!(372/8)
هي محنة جديدة لم تخلُ أخبارها من جديد، والله الحفيظ أبَعدَ الحديث عما في المدارس من أفنية وملاعب يجيء الحديث عما في المدارس من مخابئ وسراديب؟
وأنا مع هذا أرحّب بهذه الشدائد، فالأمم لا تضعُف إلا حين يسود فيها الأمان، والأمن نعمةٌ عظيمة جدّاً، ولكنه يغري بالطمأنينة وهي ضربٌ من السكون، والسكون نذير الخمود.
السوريون في مكاره الاغتراب
وهنا تسنح الفرصة للجواب عن سؤال وجَّهه إلينا الأستاذ محمد حلمي وقد لا حظَ أن السوري المسلم والسوري المسيحي يختلفان في النشاط وفي الحظوظ حين يهاجران إلى أحد البلاد العربية؛ مع أنهما انحدرا من بلد واحد ومن جنس واحد، ثم سأل: أيرجع ذلك إلى فروق خفية بين العقلية الإسلامية والعقلية النصرانية؟
وأجيب بأن ذلك لا يرجع إلى فروق ظاهرة أو خفية بين الديانتين، وكيف والإسلام دين جهاد، وهو يدعو أبناءه إلى الكسب والمعاش والاضطراب في بقاع الأرض، على حين تدعو المسيحية أبناءها إلى الزهد في المنافع الدنيوية والتطلع إلى المصاير المأمولة في رحاب السماء؟
إنما برجع السبب إلى أن السوري المسلم حين يفد على أحد البلاد العربية يندمج بسرعة في البيئات الإسلامية بسبب اتحاد الدين: فتنزل عنه وحشة الاغتراب، ويذهب عنه الخوف، ولا يشعر بالحاجة إلى التسلح بالمال، وهو عماد المغتربين.
أما السوري المسيحي فيشعر بأنه بعيد بعض البعد عن المجتمع وهو مجتمع إسلامي، وبذلك تقوى فيه القدرة على الكفاح في سبيل الحياة ليعوِّض ما فاته من الأنس الذي يوجبه اتحاد الدين.
ويظهر هذا لجيَّا حين نتمثل حالة السوري الذي يهاجر إلى أمريكا وهو مسيحي، فإنه في أمريكا أقوى في أي بلد عربي، لأن البلد العربي يوافقه في اللغة وإن خالفه في الدين، أما أمريكا فتخالفه من جميع النواحي وإن وافقته أحياناً قليلة في النحلة المذهبية، وكذلك نرى السوري المسيحي في أمريكا أقوى من أخيه في الشرق بسبب ما يعانيه هنالك من قسوة الاغتراب.
ولن يطول اختلاف الحظوظ بين السوري المسلم والسوري المسيحي في البلاد العربية،(372/9)
لأن التسامح الديني يزداد من يوم إلى يوم، لأن العروبة تقوى من يوم إلى يوم، وبذلك ينعدم شعور السوري المسيحي بأنه في الشرق غريب، فلا يصل النهار بالليل مكافحاً في سبيل المعاش، اكتفاءً بالأنس الذي يجده من مشاركة الجمهور في العواطف والآمال.
فمن ارتاب في هذا التفسير الفلسفي لهذه الظاهرة الاجتماعية فلينظر حالي في دنياي: فهذا النشاط الذي حيَّرتُ به الناس يرجع مصدره إلى الخوف، وإنما أخاف لأني أشعر بالغربة في وطني ولوفرة ما خلق قلمي من الضغائن والحقود.
اللهم أدِمْ علينا نعمة الخوف فهو أنفع من الأمان، ونسألك اللهم أن توالي فضلك فتهبنا القدرة العارمة على وأد ذلك الخوف، كما نسألك أن ترزقنا الخوف منك حتى لا يكون في أنسنا برعايتك العالية ما يحمل على سوء الأدب مع عبادك، ولله الحمد وعليك الثناء
زكي مبارك(372/10)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
يعجب قوم أشد العجب من هذه الأمم المتحاربة، ويرون أنهم أصيبوا بنوبة جنونية، أو بخذلان لم يكونوا ليصلوا إليه إلا بغضب من الله وخزي من الشيطان؛ وإلا فبأي حجة يسفك بعضهم دماء بعض، ويحشدون قوى الطبيعة للقتل والتدمير؟ ألم يكونوا في حياة كلها لين وكلها رفاهية؟ ألم يكونوا سعداء في ظلال الأمن؟ ألم تفتح عليهم بركات السماء، وتدرَّ لهم خيرات الأرض؟
لم تكن لذة من اللذائذ إلا وهي في متناول أيديهم؛ ولم تكن سعادة إلا وهي طوع بنانهم، فتكوا الجنة مريدين، ودخلوا النار عامدين، وهاهم أولاء يصلوْن بحرِّها، ويلفح وجوههم لهب سعيرها.
وفي الحق أن الحجة قائمة والبرهان قوي، لو أن الناس جميعاً يفكرون هذا التفكير ويصدرون عن مبدأ واحد، ويؤمون غاية واحدة.
لكن الواقع أن الناس يصدرون في هذه المشكلة عن مبدأين متناقضين؛ فنظر كل فريق إلى الحياة نظراً يخالف نظر الآخر، وخيل إلى كل واحد أن الآخر مجنون لا يعرف صالحه، ولا يدرك حظه. . .
هذان المبدآن هما: إرادة الحياة، وإرادة القوة: فمن الناس ومن الأمم من يريد من دنياه هذه الحياة، يبغيها ويتوخاها ويحافظ عليها كيفما كانت وكيفما وقعت.
ومن الناس ومن الأمم من يريد من دنياه القوة، فهو يؤثر أن يكون قوياً في الحياة، ولا يعبأ بالحياة إن فقد القوة، وبطن الأرض خير له من ظهرها إذا لم يكن قوياً؛ فإذا رأى مريدو الحياة مريدي القوة يأكلون ويشربون وينعمون، ثم هم يتركون هذا النعيم، ويحلّون أبدانهم لتمزيق القنابل، وإحراق النيران، عابوهم وزروا على أفكارهم ورموهم بالعته والجنون.
وإذا رأى مريدو القوة مريدي الحياة راضين بالحياة غير عابثين بالقوة، خالوهم كلاباً طوقت أعناقهم بالذهب، أو موتى في أكفان من حرير.
فليكف مريدو الحياة عن تفنيد مريدي القوة، وليكفكفوا عبراتهم على من مات منهم، فلعلهم أولى ممن مات بهذه العبرات، وإذا فكروا في لومهم وتفنيدهم فليذكروا قول المتنبي:(372/11)
لا يعجبن مَضيما حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن
محمد عرفة(372/12)
من عجائب الاجتهاد!
(لناقد أديب)
قرأت كلمة الأستاذ زكي طليمات في الذود عن مسرحية مفرق الطريق، فسرني والله إعجاب الكاتب بهذه المسرحية، وتسجيله هذا الإعجاب لثالث مرة. وليس أدعي إلى السرور من أن تكون آثار أدبائنا موضع هذا الاهتمام من كتابنا الناقدين، وان يدور الإعجاب بينهم مدار الأنخاب، فتنتفي الشكوك وتختفي الظنون ولا يكون هناك محل لعجائب الفهم أو عجائب الاجتهاد!
ومن الخير أن يكون لي نصيب من هذه الأنخاب، فأسجل إعجابي بالأستاذ طليمات؛ وفيما ذكره عن كانت وبرجسن وإبسن وغيرهم دليل على احتشاده للدفاع عن المسرحية أو عن رأيه الأول فيها.
والأدباء الذين يعرضون للنقد لا يتناولونه من الجانب الهين، ولكنهم لا يسعون إلى التعقيد أيضاً، فإنهم يذكرون مع الأستاذ طليمات أن قصيدة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في القمة الباردة ترجع إلى أصول من فلسفة (كانت) في المعرفة. يذكر الأدباء هذا ويذكرون أن أداة (كانت) في الوصول إلى حقائق الأشياء وما وراء الطبيعة هي (الشيء في ذاته) ويذكرون أيضاً أن فلسفة (برجسن) في المعرفة وحقائق الأشياء وما وراء الطبيعة تستعين بالبصيرة
فالمعرفة والوصول إلى حقائق الأشياء وما وراء الطبيعة غاية مشتركة، وإن اختلفت الوسيلة أو الأداة، وليست كما هي في مسرحية مفرق الطريق، هذه الأخيلة الذاوية أو الوجدان الكابي أو الصور المضطربة وإن ظنها البعض من مذاهب التصوف كما يقول الأستاذ ليروي في بحوثه الأخيرة وتعريفه لفلسفة برجسن. والإلمام بالفلسفات شيء، والتطبيق شيء آخر؛ فلو ذهبنا في التطبيق والمنطق لوجدنا أن هذه المسرحية تقوم على أشياء من هنا ومن هناك؛ فهي من (كانت)، وهي من (برجسن)، وهي من (إبسن)، وهي من أشياء أخرى لم يتحدث عنها النقاد ولا المؤلف، لأنه يمضي بينها على غير هدى، ولأن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد لا بد أن تخلق عجيبة في عالم الفلسفات، وسبحان من يجمع العالم في واحد. هذه الأشياء الأخرى التي تحدثت عنها فلسفة قديمة يقضي مذهبها(372/13)
أنه لا يحق لنا أن تستدل على وجود الكائنات بحياتنا الخارجية، وأن العقل الفردي لا يثبت أي شيء خارج نطاق طائفة متلاحقة من الأحاسيس والتصورات والفكرات إلا إذا كانت في نفوسنا؛ فالموجودات لا وجود لها إلا بنا.
يقول بهذا جماعة السوليبزم ويقول به مؤلف المسرحية ص21: (إن الأشياء لا وجود لها إلا بنا)؛ ولا أغض من جهد المؤلف إذا قلت إن مسرحيته (تخريمة) في الفلسفات وتصنيف من حشو التأليف، فمن عجائب الفهم حقاً أن يتظنن بي الكاتب الفاضل وأن يخدعه إعجابه فيمضي إلى تعريف المذاهب الفلسفية وما بين الأستاذ العقاد ومؤلف المسرحية من فروق فيها؛ والأمر لا يحتاج إلى كل هذا العناء لأني لم أتناول غير جانب الاقتباس؛ والأستاذ زكي طليمات يقرر في ختام مقاله أن لا بأس في ذلك، وأن المعاني والأفكار أشياء مبذولة للناس.
وأنا لا أريد أن أخدع القراء بحديثي أو تخدعني الفلسفات بحديثها عما أسلفت البرهان عليه. فأنا لم أختر للمسرحية الرمزية هذه الصعود المثلوجة ولا الطريق المنار يمضي فيه العقل صاعداً؛ وأنا لم أختر هذا المنحدر المظلم يمضى فيه الشعور هابطاً؛ وأنا لم أخترع صراعاً بين قلب يحترق في الظلمة، وعقل يريد أن يمضي في صعوده المثلوجة وطريقه المنار ليحيا في هدوء وعمق وصفاء البحر؛ وأنا لم أدع في ختام المسرحية دعوة الأستاذ العقاد في ختام قصيدته إلى النزول والانحدار - لم أختر لهذه المسرحية كل هذه الأشياء، وإنما اختارها المؤلف نفسه، وتكلم عنها في تبيينه، فرأيت فيها قصيدة القمة الباردة وبيتين من قصيدة (قلبي). . .!
ولقد عملت هذه الأشياء عملها في نفس وعقل الفنانة الباريسية (سوزان جوفروا) فكانت الصورة المزدان بها غلاف المسرحية، وإذا الصورة جبل تغطي قمته الثلوج، ومفرق طريق تقوم فيه شجرة جرداء قد شظف عودها أو (فترت عندها الحياة)، وطريق منار ينتهي بين الثلوج إلى هذه القمة، ومنحدر يمضي في الظلام إلى أدنى الجبل حيث مشاهد الحياة وضرامها. هذا ما فهمته الآنسة الفنانة من المسرحية، صورته بريشتها رمزاً، فكون هذا الرسم من تصميمها وليس من عمل المؤلف دليل على صحة رأيي وليس دليلاً على غيره.(372/14)
ولكن الأستاذ طليمات يقول في كلمته (وقد شرح المؤلف وضع المسرح في التبيين الذي صنعه للمسرحية ص140 مشيراً إلى رمز الغلاف، ولم ترد في تبيينه كلمة (قمة) ولا (غور) ورأى بعد الذي ذكرته أن الأمر لا يتطلب هذا التعريف، فبماذا تنتهي صعود مثلوجة على جانب جبل؟ ألا تنتهي (بقمة)! وإلى أين ينتهي منحدر على سفح جبل؟ ألا ينتهي إلى (غور)! فالقمم والأغوار يملأ حديثها الأدب العربي والآداب الأخرى، ولا يقابل القمة في الصعود والارتفاع غير الغور في الهبوط والانحدار.
وأريد أن اقف هنا قليلاً، وأقف عند كلام من تبيين المؤلف، ففي مفرق الطريق هذا يتصارع العقل والشعور، فإذا انتصر العقل فقد مضى صاعداً بين الثلوج، وإلى أين؟ أليس لهذا الصعود من غاية، أو ليس لهذا الطريق المنار من نهاية، أليست هي القمة الباردة أو ثلوج الذرى؟
ويقول الكاتب الأديب إن الثلج عند بشر فارس رمز إلى خلاص النفس من ألم الإحساس البشري، وهذا التفسير جزء من كل، لأنه إذا انعدم الشعور بالألم فقد انعدم أيضاً الشعور باللذة، هو انعدام الإحساس إطلاقاً بخلجات الحياة، وهو العقل المجرد في فلسفة (كانت)، لأن انعدام الشعور معناه أن لا قلب هنا، وإنما يوجد عقل موغل في طريق المعرفة، فالمؤلف قد أخذ لنفسه من قصيدة العقاد ما رآه موائماً لموضوعه، ملائماً لصور المسرحية. ولا يعني الكلام شيئاً حين نقول إن المسرحية تدور حول قضايا النفس البشرية، فإن العقل له أثره الظاهر في هذه القضايا، وسبق الكلام على ذلك في مستهل هذه الكلمة، وفي حديث فلسفات
وووأخيراً فإني لم أتناول هذه المسرحية إلا من جانب واحد، هو جانب الاقتباس، ولم أبد فيها رأياً كما أبداه الكثيرون ومنهم الأستاذ طليمات، ولم أتعرض لهذه الرمزية في المصنوعة بعد التحصيل والروية والاجتهاد؛ والأصل في الرمزية أن تنشأ مع النفس وفي التفكير، لأنها التعبير عما وراء الطبيعة، أو ما وراء أفق الشعور، بما تعجز الألفاظ عن إبانته والإفصاح عنه؛ فإذا كان التعبير مستطاعاً، وإذا كانت الألفاظ قادرة أن تؤدي معاني النفس وخطرات العقل في يسر وإيضاح، فلا موجب إذن لهذا الاصطناع.
ولم أر في المسرحية إلا حواراً عادياً، ومعاني لا ترتفع عن أفق الشعور، وصوراً من(372/15)
الأحاسيس لا تضيق بها الألفاظ، وإشارات لا تجد اللغة عسراً في الإبانة عنها وهي في سعة، لم أجد شيئاً غير هذا، ولكني وجدت أديباً يؤلف ليقال عنه إنه رمزي.
نشأت الرمزية مع النفس ولم تصنع، نشأت في الأدب كما نشأت الواقعية والبار ناسية وغيرها، ومحال أن يكون في استطاعة الكاتب أن يكتب، وأن يكون مجال الإشراق والطلاقة مهيأ له، فيغمض ويبهم ويظلم، ويسعى إلى الرموز والكفايات عمداً وكدِّا، لا اضطراراً ولا فنِّا فيفقد طلاقته الفنية، وإشراقه الوجداني، كما صنع مؤلف مسرحية مفرق الطريق. بينما الطريق أمامه عريض ومتسع وممتد إلى غايات كثيرة في المسرحية الرمزية، وفي استحداث التشابيه والأغراب فيها كما شاء مع لطف الإشارة ورشاقة التخلص؛ وهذا الغموض الذي يلقي ظلاله أحياناً فيبهر ويسحر، وخصوصاً إذا كانت القضية هي قضية القلب والعقل بين امرأة ورجل!، ولا أنسى حديث الرمزية عن المقبرة البحرية للشاعر الفرنسي بول فاليري، وقد ذهب إليه جماعة من النقاد والكتاب يستوضحونه ما استغلق عليهم من معاني هذه القصيدة الرمزية وكلماتها، فكان جوابه لهم أنه لا يملك إيضاحاً ولا إبانة أكثر مما عبر عنه من الكلمات والعبارات في قصيدته.
وهأنذا قد خلصت من ضباب هذا الإبهام أو الإيهام، وما أراني إلا كهذا الإنجليزي الذي كان يسمع عن أشباح هائلة تظهر في الضباب كل صباح، فلما كان ذات يوم نُضبٍّ رأى في طريقه عن بعد شبحاً يروع منظره، وكان كلما اقترب منه تضاءل هذا الشبح حتى إذا ما التقى به لم يكن غير إنسان عادي، عرف في وجهه أحد معارفه!!
ولقد مشيت وسط هذا الضباب وبين حديث الفلسفات إلى مسرحية (مفرق الطريق)، فلما دنوت منها وتبينت سماتها واستظهرت دقائقها، لم أجد شيئاً يروع ويعجب، وإنما رأيت شيئاً عادياً كالذي رآه ذلك الإنجليزي.
(ناقد أديب)(372/16)
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 3 -
أهل الكتاب
أعمالهم والحرب معهم: إجلاء بني قينقاع وبني النضير.
انتقاض بني قريظة في غزوة الخندق. غزو خيبر
نتحدث اليوم عن عداوة اليهود المسلحة بعد دسائسهم وكيدهم للرسول ولدينه ولأصحابه في أوقات السلم:
كان من أول ما فعله الرسول بالمدينة أن عاهد اليهود، وأقرهم على دينهم وأموالهم. ومن عهده لهم كما تقدم: وإن من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وما كان بينهم من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله ورسوله.
غير أن هذا العهد الذي يوحد بينهم في السلم والحرب، ويقضي عليهم بالتناصر وبالعيش معاً في أمن وراحة، لم يكن مرعيَّا إلا من جانب محمد. أما اليهود فلم يرعوه إلا مضطرين؛ فإذا سنحت الفرصة تحللوا منه، ورأوا نقضه فرضاً عيهم، (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيلٌ) ومن أمثلة تسترهم على المغيرين ونقضهم بذلك عهدهم للرسول أن أبا سفيان كان قد حلف بعد هزيمة قريش في بدر ألا يمس طيباً حتى يغزو محمداً، ثم خرج لذلك في مائتي راكب من قريش يود لو يصيب من المسلمين دماً أو مغنماً، ونزل على بني النضير المعاهدين لرسول الله؛ وعرفوا غايته، وكان الواجب يقضي عليهم أن يخبروا محمداً بذلك، ولكنهم لم يفعلوا. وسار أبو سفيان حتى نزل ناحية يقال لها (العريض) فحرق نخلها وقتل اثنين من الأنصار، وأحس المسلمون بأمر أبي سفيان فخرجوا للقائه ففر فتعقبوه، فألقى هو ومن معه زادهم في الطريق، وكان من السويق فسميت الغزوة غزوة السويق.(372/17)
بنو قينقاع
ثم إن يهود بني قينقاع - وهم أول من جاهر بنقض العهد من اليهود - أظهروا ما خفي في نفوسهم بعد بدر، وهددوا الرسول، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، نزلوا في آخرها على حكم حليفهم عبد الله بن أبي، فحكم أن يجلوا عن المدينة، فخرجوا منها إلى أذرعات بالشام.
بنو النضير
ثم جاء دور بني النضير، فإن النبي ذهب إليهم يستقرضهم دية قتيلين مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو يحسبهما مشركين، فأظهروا حسن استعدادهم لإجابة طلبة. ولكنهم ائتمروا به ليقتلوه، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة، وأراد أن يقليها على رأس النبي من أعلى الجدار الذي كان مستنداً إليه، فأمسك الله يده، وأخبر رسوله بكيدهم وسلطه عليهم، وفي ذلك يقول الله: (يا أيها آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ هَمَّ قومٌ أن يبسُطوا إليكم أيدَيهم فكَفَّ أيدَيهمْ عنكم)
ويقال إنهم كانوا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر المسلمون في بدر قالوا هو الرسول الذي نعته في التوراة؛ فلما هُزم المسلمون في (أُحد) ارتاب اليهود ونكثوا عهدهم، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً، وتلك محالفة تجعلهم خطراً عظيماً على المسلمين لأنهم من المدينة، وفي استطاعتهم التجسس لقريش على المسلمين، وإرشادهم إلى مواطن الضعف في الجيش الإسلامي، وأحسن الأوقات للهجوم، وغير ذلك من أعمال الطابور الخامس.
عرف النبي الكريم بأمر هؤلاء القوم ونياتهم، وسلطه الله عليهم فصبحهم بالكتائب ودعاهم إلى الخروج من المدينة، فقالوا: الموت أحب إلينا. وتنادوا بالحرب، فحاصرهم النبي؛ ويقال إنهم استمهلوه عشرة أيام يتجهزون فيها للخروج، وفي تلك الفترة أرسل إليهم المنافقون أنهم ناصروهم إن قاتلهم المسلمون، وأنهم سيخرجون معهم إن أُخرِجوا. فتحصنوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، ولكن الحصار اشتد عليهم، وقعد المنافقون عن نصرتهم وقذف الله الرعب في قلوبهم؛ وطلبوا الصلح، فأبى الرسول إلا الجلاء، فجلوا إلى الشام: إلى أريحا وأذرعات، وجلا آل حيي بن أخطب إلى خيبر.(372/18)
ونزل في هذا الجلاء والمفئ الذي ظفر به المسلمون، والمنافقين الذي غروا اليهود أكثر سورة الحشر: (هو الذي أخرجَ الذي كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يَخْرُجوا، وظنوا أنهم مانِعتُهِمِ حُصُونهُمْ من الله. فأناهم الله من حيث لم يَحْتسِبوا، وقَذَف في قلوبهم الرعبَ. يُخْربون بُيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار). ثم بين سبب ما حل بهم وما أعده لهم من عذاب النار فقال: (ذلك بأنهم شاقُّوا اللهَ ورسولَهُ ومن يُشَاقِّ الله فإن الله شديد العقاب)
أما المنافقون الذين وعدوا اليهود النصر فحديثهم في هذه السورة قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخْرِجتُمْ لَنَخْرُجَنْ معكم، ولا نُطيعُ فيكم أحداً أبداً، وإن قوتلتم لَنَنُصرنَّكم، والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم لَيُوَلُّنَّ الأدبار)
ثم بين حالهم من اليهود وخذلانهم لهم فقال: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالِديْنِ فيها، وذلك جزاء الظالمين)
الأحزاب
لم يترك اليهود فكرة الانتقام من محمد لحظة واحدة، وقد هداهم تفكيرهم إلى أن خير وسيلة للانتقام منه هي تخريب الأحزاب عليه واستئصاله هو ومن معه من المسلمين، فخرج بعض من نزل خيبر من بني النضير إلى مكة، وحالفوا قريشاً عليه، ودعوهم إلى حربه؛ فقالت قريش: يا معشر يهود، أنتم أهل الكتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منا، وهو أقرب منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى وأولى بالحق منه. وذلك افتراء على محمد وكذب على الله وعلى التوراة، ولكن الحقد أضلهم أو لعلهم رأوا الغاية التي يرجونها، وهي استئصال المسلمين، تبرر الوسيلة، ولو كانت الكفر بكتابهم وربهم.
ثم ساروا إلى غطفان فأعدوها لحرب النبي، وخرجت قريش وغطفان يريدون المدينة؛ فلما علم النبي بخبرهم استشار أصحابه في الوسيلة التي يتقي بها تلك الأحزاب العظيمة(372/19)
والجموع المحشودة لاستئصاله. فأشار عليه المسلمون أن يحفر خندقاً في الناحية المخوفة من المدينة، فقبل ولم يكن للعرب عهد به؛ فلما وصلوا حجز بينهم الخندق. ولكن هل اكتفى اليهود بتلك الجموع وحدها؟ إن لهم في المدينة إخواناً في الدين يصح استغلالهم ليكون خطرهم على المؤمنين شديداً، أولئك هم بنو قريظة.
بنو قريظة
هذب حي بن أخطب إلى سعد بن كعب سيد بني قريظة، وصاحب عهدهم، وكان بين سعد وبين النبي عهد أن ينصره إذا حورب كما تقدم، وأن يكون معه على من دهم يثرب، فأغلق سعد بن كعب الباب دون حي، ولكنه استجاب أخيراً لدعوته، ونقض عهده، وانضم إلى الأحزاب، وسمع النبي بذلك فأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف بني قريظة وأرسل معه سعد ابن عبادة سيد الخزرج ليعلما له صدق الخبر، وكان أمر بني قريظة يهمه أكثر مما يهمه أمر الأحزاب، لأن بني قريظة في بلده لا يفصل بينه وبينهم خندق ولا غيره، وخيانتهم في هذا الوقت الحرج تؤثر أثراً بالغاً في جيشه.
ولما بلغ الرسولان بني قريظة وجداهم على أخبث حال من الغدر والخيانة، نالوا من رسول الله بألسنتهم ونقضوا عهدهم، وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد. فشاتمهم سعد بن معاذ؛ فقال له سعد بن عبادة: إن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم عادا إلى رسول الله وأخبراه بما عليه القوم فعظم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديدا.
وأقام المسلمون على ذلك الحال من الخوف والحذر بضعا وعشرين ليلة، ثم قبض الله لهم نعيم ابن مسعود الأشجعي فجاء النبي مسلماً، وقال له إني أريد مساعدتك وإني رجل واحد؛ فقال له الرسول: خذَّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة، فاستطاع بحسن حيلته تدبيره أن يوقع الفرقة بين الأحزاب. وأرسل الله على هؤلاء ريحاً اقتلعت خيامهم، فعادوا إلى بلادهم من غير حرب، وفي ذلك كله يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها الذين آمنوا اذْكُروا نعمةَ اللهِ عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وُجنُودًا لم تَرَوْها، وكان الهُ بما تعملونَ بصيرا، إذ جَاءُكم مِنْ فوقِكم) وهم بنو قريظة، (ومن أَسْفلَ منكم) وهم الأحزاب، (وإذْ زَاغتِ الأبصارُ وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظُّنونَا. هنالِك ابتُليَ المؤمنون(372/20)
وزلزلوا زلزالاً شديداً)
أليس عمل بني قريظة من أخبث الغدر، وأخطر الأعمال؟ وأي فرق بينهم وبين جماعة النازي من الطابور الخامس في تشكوسلوفاكيا وهولندا والنرويج؟ وماذا يكون جزاؤهم من الرسول بعد أن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وأعانوا العدو على حليفهم في أشد الأوقات حرجاً؟ لابد من التخلص منهم سريعاً. ولهذا أمر الرسول المسلمين بعد انصراف الأحزاب ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة. وذهب إليهم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله الرعب في قلوبهم وطلبوا الصلح، فقال رسول الله: تنزلون على حكمي؟ فطلبوا أن يحكم فيهم حليفهم (سعد بن معاذ) سيد الأوس، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، ثم نفذ القتل في سوق من أسواق المدينة. وفي عاقبة بني قريظة يقول الله في سورة الأحزاب: (وأنزَلَ الذينَ ظاهروهمْ من أهلِ الكتابِ من صَياصِيهِمْ، وقذفَ في قلوبهمُ الرُّعبَ، فريقاً تقتُلون وتأسِرون فريقاً، وأورثكم أرَضهُم ودِيارَهم وأموالَهم وأرضاً لم تَطئُوها، وكان الله على كل شيء قديرا)
لم يبق من أهل الكتاب - اليهود - إلا أهل خيبر، فرأى الرسول أن يأخذ بالأحوط وأن يستريح منهم بقوة السلاح،. فسار إليهم بعد صلح الحديبية ونزل بساحتهم وحاصرهم فامتنعوا بحصونهم، فشدد المسلمون عليهم الحصار حتى استولوا على حصونهم واحداً بعد الآخر، وطلبوا الصلح، فصالحهم على نصف ما تغله أرضهم على أن تبقى في أيديهم، وللمسلمين أن يخرجوهم منها إذا شاءوا. ثم صالح أهل فدك على مثل ما صالح عليه أهل خيبر.
من هذا نرى أن جماعة الطابور الخامس من أهل الكتاب هم اليهود، وقد قدمنا عملهم في السلم في المقال السابق، أما عملهم في الحرب فهو - كما في هذا المقال - أنهم كانوا ينقضون العهود في أشد الأوقات حرجاً، ويخونون الله ورسوله عندما يكون المسلمون في أشد الاطمئنان إليهم، وفي أعظم الحاجة إلى نصرتهم أو حيادهم، وأنهم دبروا قتل النبي في حين أمنه إليهم وثقته بعودهم.
بقي من الطابور الخامس في القرآن المنافقون وحديثنا عنهم قريب إن شاء الله.
(القاهرة)(372/21)
عبد الرزاق إبراهيم حميدة(372/22)
نحن وفرنسا
باكون وشامتون
للأستاذ نجيب محمد البهبيتي
قرأت مقال صديقي الأستاذ (عبد المنعم خلاف) الأخير في مجلة (الرسالة). ولقد حمدت له انفعاله لما قاساه إخوان لنا في الدين وأقرباء منا في الدم؛ ولكني أخذت عليه أن هذا الانفعال قد ساقه إلى نوع من الشماتة المؤذية، وإلى نظرة ظالمة في الحكم على أمة لم تبد عيوبها ولم تتضح زلاتها إلا بعد أن حطمتها القوة.
لا مكابرة يا عبد المنعم في أن الحكم الفرنسي في المستعمرات كان صارماً، ولا ريب في أن أسلوب حكام المستعمرات في القضاء على كل ما يمكن أن يصبح بذرة مبشرة بالنمو المؤدي للانفصال عن جسم الإمبراطورية - كان هداماً، وأن محاولات إدماج الممتلكات قد تغلغلت إلى الروح بعد وضع اليد على الجسد، ولكنك نسيت أشياء أخرى، نسيت أن الساسة ليسوا هم الأمة، وإن كانوا يعملون دائماً باسمها، وأن مجموع المحكومين لا يصل إليهم كثير من تفاصيل وسائل الحكام، وما يصلهم منها يصلهم ممزوجاً بالدعاية، مقروناً بأسباب فيها كثير من إسدال ستار صفيق على الحقائق التي يعرفها الساسة ولا يعرفها غيرها.
فهذه الأساليب في الحكم لا تمثل الأمة الفرنسية، ولو خوطبت فيها لأبدى كثير من الناس سخطهم ونفورهم منها؛ ولقد عاشرت الفرنسيين عن كثب وعرفت فيهم المغالاة في تقدير حرية الرأي، ورأيتهم يسمعون بآذانهم ما يقال في ذمهم في كثير من التسامح وسعة الصدر. ولو علمت أن أبناء أحط المستعمرات الفرنسية يعاملون في فرنسا نفسها معاملة الفرنسيين أنفسهم، يستوون معهم أمام القانون، كما يساوونهم في المعاملة وفي القدر الذي يلفونه من احترام الناس أو احتقارهم في غير تفريق بين الألوان والأجناس؛ لو علمت هذا لعجبت ولأدركت شيئاً من الأشياء التي تجعل كل أجنبي ينزل فرنسا يشعر بأن هذا البلد وطن ثان له. ولو عرفت بعد هذا أن فرنسا كانت مأوى جميع اللاجئين السياسيين من كل صنف ومن كل لون، وأن باريس وحدها كانت تؤوي نحو مليون من غير الفرنسيين لزاد عجبك، ولأدركت بعض الأسباب التي تدفع بمن ينتصرون اليوم لفرنسا إلى الانتصار لها على(372/23)
الرغم مما يعلمون عن مساوئ حكمها في مستعمراتها، لأنهم يعرفون أن هذا النوع من الحكم إنما يسأل عنه فريق من أبنائها لم يستطيعوا أن يطبقوا هذه المناهج من الحكم على الأجانب في أرضهم لما يعرفونه من نفور أبنائها بطبعهم من الاستبداد.
والحكم في كل أمة من الأمم يكاد يتعاقب عليه أبناء طبقة من الطبقات في الجيل الواحد حتى ليصبح أشبه شيء بالحرفة تصطنعها هذه الفئة وتعرف بها فلا تكاد تخرج عنها، وتجدها تتوارث تقاليدها حتى ليصبح تطبيق هذه المناهج والقواعد أشبه بدورة ميكانيكية تؤخذ بها الأجيال المتعاقبة في كثير من أدوار التاريخ. وليس لك أن تطالب الشعوب في مجموعها بالنظر في أعمال الحكام، ذلك النظر الفاحص القائم على الدرس، لأن دون هذه الدراسة العامة ما يشبه الاستحالة العملية؛ وتيار الحياة البشرية، والقدر المتاح لكل فرد من القدرة على تحصيل عيشه وعلمه الأشياء يخضع دائماً لحاجاته ومواهبه؛ فليس لإنسان أن يسأل أمة من الأمم مهما بلغت ثقافة أبنائها: لماذا لم تعرفوا عن حكم حكامكم لكم ولغيركم ما يجعلكم في حل من إقصائهم عن الحكم إذا ما أساءوا السيرة لأنهم إنما يعلمون الأشياء في نطاق وسائل تحصيل الأخبار المتاح لهم؟
ومع هذا كله فإني لست لأبرئ الفرنسيين من أخطاء الحكم التي اقترفها حكامهم في الأراضي التي نزلوها، ولست أعصم هذه الأمة من الزلل، ولكني أتحدث الآن وفي نفسي ذكرى ماثلة لذلك التسامح الذي كنت أشهده بينهم في كل نواحي الحياة، وذلك النفور الثائر الذي كنت أراه منهم حين يحس أحدهم ظلماً يقع عليه أو على غيره. ولا زلت أشعر بتلك الطيبة الفياضة فيهم. لا زلت أذكر هذا وأنظر على ضوئه إلى الأشياء، ثم أحكم وإن كنت لا أزال أدع في جانب من نفسي مجالاً للضعف البشري، ولتلك الحاسة الحيوانية التي تأخذ بخناق الإنسان مهما ارتقى ومهما سما حين تهيج بنفسه غريزة الإحراز أو غريزة التملك.
فهؤلاء القوم في استعمارهم، وفي محاولاتهم الإدماج المادي والروحي للأمم التي كانوا يحكمونها، إنما كانوا مقلدين لغيرهم، وإن كانوا أفرطوا في التقليد. كانوا يقلدون في هذا أمة عزيزة علينا. ولا أظنك تجهل من أقصد؛ فإن العرب قد طووا تحت جناح الدين كل الأمم التي حكموها، وكان الدين يأمرهم بهذا ويأمرهم بالتسوية بين أبنائه. ولكن عوامل الضعف البشري والدين إنما نزل لتهذيبها أخذت تقوى على الأيام فاستيقظت العصبية، وانبعثت(372/24)
الفوارق الجنسية، رغم ما سعى إليه الدين من إزالتها. وعاد البشر بشراً يمزقون عنهم ذلك الثوب الملائكي الذي رسمه لهم المثل الأعلى للدين الكريم. وانقلبت تلك الحياة الرتيبة التي كان يحياها المسلمون إلى حياة مضطربة صاخبة تطاحن فيها الأجناس تطاحناً أدى إلى انحطام الأمويين أولاً ثم البرامكة وغيرهم بعد ذلك. لا أريد أن أطيل في هذا فقد تعلم منه ما أعلم، وإنما ذكرت لك ما ذكرت عن طريق المثل. فالبشر هم البشر؛ وما الأديان وما تلك المدنيات إلا خطوات في طريق تقدم الإنسان الخلقي والمثالي يحقق كل منها على الأيام قدراً يتفاوت قوة وضعفاً، ولكنه من غير شك خطوة في طريق الكمال المجهول الذي تشرئب إليه الإنسانية وتطمح إلى بلوغه يوماً.
ولو كنا نحن الحاكمين لما حكمه الفرنسيون لما كنا خيراً منهم، فإن مبدأ حكم الأمم في ذاته مأزق يجر إلى مآزق.
لذلك قد يكون من الخير أن نترك هذه الناحية من نواحي أخلاق الأمم، وهذا الوجه من وجوه مدنياتها، لأنهم يتساوون فيه جميعاً، إلى غيره من صور المدنية لتعلم كم تركت هذه الأمة في تراث البشرية، وكم رسمت لها عن طريقي النظر والعمل من سبل لبلوغ غاياتها من الكمال والمثُل.
ويظهر أنني لست في هذا مبتدعاً ولا مبتكراً، ولكنه الطريق الفطري الذي يندفع إليه كل الناس بغرائزهم في الحكم على الأمم التي تركت أثراً في التاريخ. وليس أدل عليه من ذلك الشعور العميق من الحزن القائم الذي أحس به الناس حين كانوا يقرءون كل يوم خبراً عما كان ينزل بفرنسا. ولم يقم بهذه الحركة الشامتة وهي الحملة على فرنسا إلا قوم يخيل إليّ يا عبد المنعم أنهم لم يتبينوا حق التبين ما يجري في نفوسهم، ويخيل إليّ أن بعضهم لم يكتب ما كتب مخلصاً لفكرة أو مؤمناً بحقيقة.
إن الفرنسيون قد قادوا الأمم قيادة عملية إلى تحقيق قسط ضخم من الرخاء النفسي الذي تستمتع به الإنسانية اليوم. ولم تكن الثورة الفرنسية التي سالت فيها دماء فرنسا بغزارة إلا إحدى المحاولات الجبارة لدفع طبقة من الطبقات إلى الاعتراف بحقوق الإنسان، بعد أن عاش غالب البشر عبيداً يلهو أقلهم بآلام أكثرهم، ويسخر مجهوداتهم لترفه. وقد تكون هذه النعمة التي تستمتع بها أنت وأستمتع بها أنا من الحياة والتفكير الحر اليوم أثراً من آثار(372/25)
جهادهم ونضالهم. فهلا رأيت في هذا شيئاً يسيل من عينيك دمعة حرى على نكبتهم؟
هل ترى لأمة أخرى في التاريخ الحديث مثل هذا الفضل؟ إن الإنجليز كانوا يستمتعون قبل الفرنسيون بنوع من الحكم الدستوري الحر لم تستمتع به أمة أخرى، وقد ثاروا على ملوكهم قبل الثورة الفرنسية مرات حتى استخلصوا من بين أنيابهم حقوقهم، فهل سمعت عنهم قبل الثورة الفرنسية أنهم طالبوا الأمم غير أمتهم بهذه الحقوق المقدسة؟ لم تسمع لهم في هذا صوتاً، ولكن الفرنسيين يوم حصلوا على هذه الحقوق قاموا يدعون بها ويبشرون ويضجون، وكأني بسيل دمائهم يفيض على الدنيا فيوقظ النفوس الراقدة، وينبه الأمم إلى حقوقها.
هذا شيء من تراث النفس الفرنسية؛ أما ثمرات عبقريتها في حضارتنا المادية فقد تعلمها خيراً مني. فتقدم الإنسان الآلي قام بقسط من خَلقه العقل الفرنسي؛ ورقي الطب كان أكثره على أيدي الفرنسيين، وتلك الثروة الهائلة من الإنتاج الأدبي الرقيق هي من ثمار العقل الفرنسي.
كم وددت لو أتيح لكل من هؤلاء الشامتين بفرنسا أن يحيا فيها زمناً لينظر كيف يعمل الناس في صمت، وكيف يعملون كالنحل دائبين، كأنما العمل الدائم الدائب فيهم موهبة مخلوقة وغريزة متوارثة. لو رأيت هذا مثلي لأدركت حقاً أن بعض الأمم تعيش كما تعيش الطفيليات عبئاً على غيرها.
لو شهدت متاحفهم، وتلك اللوحات التي تصور بألوانها وظلالها جمال النفس وحلاوة الروح، لأدركت أنك أمام أمة ممتازة لا تملك إلا أن تحبها، لأن الإنسان بفطرته يحب ما يمتاز وما يعطيه فكرة عن أسمى ما في كيانه.
ولو شهدت معي في فرساي (قاعة الوقائع) ورأيت سلسلة الانتصارات التي أحرزها هؤلاء الناس في ماضيهم، وأحسست بما تتركه هذه الصورة في نفسك من تاريخ هذه الأمة وفي نفس الطفل وفي تربيته، لوقفت على شيء من عظمة هذه النفس وعبقريتها.
وبعد فإن سقوط الأمم لهواً من اللهو، ولا تسلية يزجي بها الوقت، ولكنه حادث جليل تخضع النفوس له إجلالاً وتخشع القلوب منه رهبة؛ فإذا كانت الأمة المحطمة قد تركت في حياة الناس أثراً، وفاضت عليهم من نور روحها شعاعاً، فهي أولى يومئذ بأن تسكب في(372/26)
سبيلها الدموع ولو كانت عدواً؛ فما أنبل أن تخشع في حضرة عدوك يوم يسقط صريعاً عند قدميك!
نجيب محمد البهبيتي(372/27)
السير جمس جينز
أمير الفلك في القرن العشرين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يستطيع أحد من الذين يعنون بالعلوم الطبيعية والفلكية تبسيط بحوثها إلا إذا كان مالكا لناصيتها ضليعاً في اللغة واقفاً على أسرارها. فليس من السهل تقديم الموضوعات العويصة في قالب خال من التعقيد والغموض، كما أنه ليس من السهل أيضاً وضع النظريات والقوانين الكونية وما يتصل بها من ظواهر وحركات في أسلوب يستسيغه أصحاب الثقافة العامة وجمهور المتعلمين.
قد يتمكن الفلكي من أن يكتب مقالاً في النظام الشمسي لأمثاله من الذين يهتمون بالفلك والطبيعة، وقد لا يجد في ذلك صعوبة أو مشقة، ولكن إذا أراد أن يكتب للناس وللذين لا يعرفون شيئاً في الفلك، فهنا يجابه صعوبة وعناء في تقريب هذا البحث إلى أذهان القراء وجعله في متناول أفهامهم، وليس من الهين التغلب على هذا العناء وتلك الصعوبة.
ولهذا، فقليلون هم الذين يوفقون في عرض بحوث العلوم الدقيقة والعويصة (كالفلك والرياضيات والطبيعيات) في لغة سلسلة سهلة المأخذ بعيدة عن الغموض والإبهام.
ولقد امتاز السير جيمس جينز في هذه الناحية فبرز على غيره من علماء هذا العصر. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه أول من استطاع أن يقرب بحوث الفلك إلى الأذهان، وأول من حبب الناس في الفلك وموضوعاته.
وضع العلماء كثيراً من المؤلفات الفلكية التي تتناول النظام الشمسي والنجوم وحركاتها وما يجري في الكون من ظواهر.
ولكن هذه الكتب خاصة بطبقة الذين يدرسون الفلك أو الذين يهتمون به، لا يجد فيها غيرهم متاعاً أو لذة. وجاء في هذا القرن السير جينز وخط طريقاً جديداً مبتكراً في التأليف فأخرج كتباً فلكية وجد فيها الناس على مختلف ميولهم العلمية متاعاً ولذة وطرافة وفائدة، فكثر الإقبال عليها وذاع صيته ودعته الإذاعات اللاسلكية لتحقيق رغبة الجمهور في إذاعة أحاديث فلكية لاقت كل الإقبال وجرى على طريقته بعض العلماء فحاولوا أن يبسطوا العلوم الطبيعية فوفقوا في ذلك بعض التوفيق، ولكن لم يصلوا إلى درجته من حيث(372/28)
العرض والسلاسة. . .
ولد جينز في لندن 1877 وتعلم في جامعة كمبردج وحصل في أثناء دراسته على جوائز علمية عديدة.
درّس الرياضة التطبيقية مدة في جامعة كمبردج، وكان أستاذاً للرياضيات في جامعة برنستون.
وفي سنة 1919 عين سكرتيراً للجمعية الملكية.
إن السير جينز رياضي من الطبقة الأولى، وقد استطاع أن يسخر الرياضيات في العلوم الفلكية والطبيعية وخرج بنتائج رائعة لم يسبق إليها. أتى ببراهين رياضية لنظريات (حركة الغازات ولقانون ماكسويل في سرعة الذرات.
وأوجد معادلة حسب منها الطاقة التي تصدر عن الأجسام السوداء.
بحث في الإشعاع والكهارب، واستعمل القوانين الرياضية في الفلك فوصل إلى نظريات مبتكرة زادت في ثروة العلم الحديث زيادة أدت إلى تقدم الفلك وما يتصل به من فروع الطبيعة.
بيّن جينز أن نظرية (لابلاس) في النظام الشمسي غير صحيحة، وأتى ببحوث جديدة في النجوم ونشوئها وفي الجاذبية وما إليها. كتب في النجوم المزدوجة وفي أصل السدم اللولبية. وله نظريات جديدة في ألوان النجوم وأقدارها، وفي الأقزام البيضاء والمردة الحمراء والطاقة النجومية ونشوء النظام الشمسي والكوني ومولد السدائم وجفولها. وله آراء مبتكرة في عمر الكون واتساعه. ولهذه البحوث والآراء الأثر الكبير في تقدم علم الفلك الحديث. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن الفلك (في هذا العصر) قائم على مآثر جينز وعلى جمعه بين الفلك والطبيعة والرياضة، فلولا هذا الجمع لما توصل إلى هذه النتائج الباهرة لتي توصل إليها.
إن مآثر جينز لا تزال (وستبقى) منهلاً ينهل منه العلماء من مختلف الأقطار. ولا تجد كتاباً حديثاً في الفلك يخلو من نتائج جينز كما أنك لا تجد مؤلفاً لا يعتمد على آرائه ونظرياته ونتائج تجاربه وأرصاده وحساباته في الموضوعات الفلكية والطبيعية.
ألّف جينز في الغازات وفي النظريات الرياضية التي تتعلق بالكهرباء والمغناطيس ووضع(372/29)
كتاباً في مسائل الديناميكا السماوية وله بحوث وآراء في الإشعاع ونظرية الكم وأيضاً عنى بوضع الكتب الفلكية ككتاب (العالم حولنا) وكتاب (النجوم في مسالكها) وغيرهما.
وقد بسط في هذه الكتب خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث في الكون وأنظمته والقوانين التي تسيطر عليه وما يتصل بها من نظريات النسبية والإشعاع والطاقة. وقد لاقت إقبالاً منقطع النظير، وبلغ متوسط المبيع منها كل يوم إبان ظهورها فوق الألف. تناول فيها بحوث النظام الشمسي والكون، وهل هو محدود أو غير محدود، متمدد أو منقبض. وكذلك تناول تركيب الذرات وتولدها وانحلالها والنجوم وما يتعلق بها من أقدار وألوان وحرارة وعدد وحركات. وحين وضع كتبه هذه فرض أن القراء ليس لديهم معرفة علمية سابقة، ولهذا عمل على عرضها في أسلوب استهوى به المتعلمين والمثقفين، وتمكن بذلك من إطلاع الناس على شيء من سحر علم الفلك الحديث وعلى شيء من عجائب الكون.
وفي مقدمة أحد كتبه (وهو كتاب النجوم في مسالكها) - وكان قد أذاع بحوثه في إذاعة لندن - ورد ما يلي: (. . . والكتاب الذي بيدك يحتوي على هذه الأحاديث متوسعاً فيها إلى ضعف طولها الأصلي. ولا تزال في أسلوبها ولغتها كالأحاديث اللاسلكية - بسيطة لا تكلف فيها ولا صعوبة فنية، فالكتاب لا طموح فيه إذ لم يقصد به سوى أن يكون مقدمة لأوفر العلوم حظاً من الشعر. مقدمة سهلة مقبولة غير مثقلة بالجد. . .) أي غير مثقلة بالمعادلات والحسابات.
وهكذا سار في بعض كتبه (التي وضعها للناس) والتي قصد منها وقف جمهور المتعلمين على خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث من أسرار وروائع وأعاجيب. وقد يلذ للسامع أن آتى له على نموذج من كتابات جينز الفلكية، ولعله من المستحسن أن أروي قصتين، إحداهما في نشوء الكون، والثانية في تكوين النظام الشمسي.
لقد علل نشوء السدائم ومولدها تعليلاً لم يسبق إليه ركب منه قصة ممتعة أخاذة سماها: (قصة نشوء الكون). وقد رجع إليها فلكيو العالم واعتمدوا عليها في بحوثهم، وهي كما يلي: (. . . سنبدأ عند مبدأ الزمن حين كانت جميع الذرات المقدر لها أن تكوّن الشمس والنجوم والأرض والسيارات وأجسامكم وأجسامي وأيضاً جميع الشعاع الذي انصب من الشمس والنجوم منذ ذلك الحين. سنبدأ حين كان ذلك كله مختلطاً بعضه ببعض ومكوّناً كتلة من(372/30)
الغاز فوضى تملأ الفضاء كله. ولما كانت جاذبية كل قطعة صغيرة من الغاز تؤثر في جميع القطع الأخرى فإن تيارات تنشأ بالتدريج. وأينما أحدثت هذه التيارات تدمعاً طفيفاً من الغاز ازدادت قوة الجاذبية، فأخذ كل من هذه المتجمعات الصغيرة يجذب نحوه مقداراً آخر من الغاز. إن الطبيعة تتصرف طبقاً لقانون (من كان يملك شيئاً أعطى زيادة)؛ فالقطع الناجحة من الغاز تنمو إلى تكاثفات ضخمة تزداد باستمرار على حساب القطع الخائبة حتى تبتلعها في النهاية. وكما اتخذت الأرض والشمس والسيارات أشكالاً منتظمة تحت تأثير الجاذبية، فإن هذه التكاثفات تبدأ الآن تتخذ أشكالاً منتظمة فتكوّن ما قد سميناه سدائم منتظمة الشكل. وتأتي التيارات الغاوية التي أوجدت هذه السدائم فتحملها الآن على الدوران، فلا تكون كرية الشكل تماماً بل يكون شكلها في مبدأ الأمر كالبرتقالة مثل أرضنا الدوارة. وكلما ضمرت تغيرت أشكالها باستمرار، وازداد تفرطحها ازدياداً مطرداً. ثم نعود فنرى الغاز الذي عند حوافها الخارجية يتكاثف إلى مدائن نجومية تكون عند ولادتها مفرطحة وتظل مفرطحة بسبب دورانها. . .)
ثم يأتي إلى قصة تكوين النظام الشمسي، وهي كما يلي: (. . . يقترب من شمسنا نجم اقتراباً لم يسبق لأي نجم آخر قط أن اقتربه؛ فينشئ فيه من قبل - مدوداً كجبال عظيمة غازي ناري تسير فوق سطح الشمس. وأخيراً يزداد اقتراب النجم الثاني من الشمس بحيث لو كان شخص واقفاً على سطحها لبدا له ذلك النجم مالئاً جزءاً كبيراً من السماء، وبينا هو يقترب هكذا تصير قوة جاذبيته من العظم بحيث تنتزع قمة الموجة المدّية من الشمس وتتكاثف ذاتها قطرات. هذه القطرات هي السيارات والأرض واحد من أصغرها، وهي في أول الأمر تكون كتلة فوضى من غاز ناري لكنها تأخذ تبرد فيستحيل وسطها إلى سائل، ثم تصير بمرور الزمن إلى درجة من البرودة تتكون معها قشرة صلبة على سطحها، ثم بعد ذلك إذا ما ازدادت برودتها يبدو على هذه القشرة الصلبة ظاهرة جديدة عجيبة: تأخذ طوائف من الذرات تتحد فتكون هيئات منظمة متماسكة من النوع الذي لمّا نعرف شيئاً عن طبيعته ولا عن الطريق التي ظهر بها أول مرة في الوجود سميناه بالحياة. . .)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(372/31)
6 - إلى أرض النبوة!
للأستاذ علي الطنطاوي
أبصرنا الشمس وهي تغيب في آخر السهل، ورأينا سواد الليل يمتد حيال الأفق الشرقي، ونحن لا نزال في أعالي الجبال المطلة على تبوك، والفضاء الأرحب الذي يحيط بها فتنازعنا الرأي واختلفنا: أنبيت مكاننا فنهبط تبوك مصبحين، أم نصبر على ما نجد من السغب واللغب، ولا نبالي الليل وظلمته، ونتّم طريقنا إليها، فننام فيها نوم الآمن. . . وطال الخلاف ولم يكن علينا أمير منا، مع أن ذلك من السنة، واليمن والبركة فيه. فقطعتْ سيارتنا كل قول حين أخذت طريقها هابطة، وتبعتها السيارات بلا جدال، وكان ضوء السيارات وهي فوق الجبل متوجهة إلى تبوك يبدو قوياً منظوراً، وكان أمير تبوك على علم بقدومنا، فبعث إلينا بسيارته تستقبلنا وتهدينا، فعرفناها بضوئها، فتبعناها حتى بلغت بنا السهل، ثم أوصلتنا البلد، وقد كاد ينتصف الليل. . .
وصلنا البلد على حال لم نكن نملك معها ملاحظة ولا نظراً، ولقد شغلنا ما نجد من الجوع والتعب عن أن نبصر المدينة، أو نرى مسالكها، وما عرفت إلا الدار التي أنزلونا فيها، وليست داراً كالتي عرفنا في القريات، ولكن بناء حضري واسع منظم، مبني على طراز فني مقبول، ذو ردهات وغرف وأبهاء، فأدخلونا بهواً فيه، مفروشاً بالبسط والوسائد و (الطراريح). استقبلنا فيه الأمير (السديري) وهو شاب مهذب، على غاية من اللطف والنبل والرقة ودقة الملاحظة، وقد علمت أنه من أنسباء جلالة الإمام (عبد العزيز) أعزه الله. فلما استقر بنا المقام ووجدنا بعض الراحة، أحببت أن أقوم فأجول في القصر، فلما خرجت من البهو عرض لي أحد العبيد وهم كثر في القصر، فقال لي: من هنا. فتبعته وأنا لا أدري إلى أين يسير بي، حتى انتهى إلى باب، فأشار إليه وتخلَّى عنه، فدخلت، فإذا أنا في حمَّام ما ظننت أني ألقى مثله في دمشق، له ظاهر وباطن، وفيه الماء البارد والحار والرشَّاش (الدوش) والمناشف معلقة والصابون مهيأ، فدهشت وفرحت فرحاً ما أفرح مثله لو أعطيت مائة دينار، مع أني لم أرها قط ولم تحتوها يدي إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة. . . فعدت فاستخرجت من حقيبتي ثوباً نظيفاً، ولم أرض لثيابي التي كانت عليّ إلا بيت النار - أحرقتها وأبيك - ودخلت الحمام وأنا أنظر إلى الباب أخشى أن ينزل علي من يشاطرني(372/33)
في هذه النعمة أو ينغّصها عليّ فلا أهنأ بها، وأقبلت أصبّ على جسمي من الماء الحار فأحسّ له بعد هذا التعب بما تحس الأرض اليابسة هطل عليها المطر. . حتى إذا انتهيت عدت إلى أصحابي بوجه متورد، وثياب نظيفة. فجنّ جنونهم عجباً ودهشة، ولكن وجود الأمير أمسك ألسنتهم؛ فلما جلست أفضيت إلى جاري بالأمر فتسلل من مكانه إلى الحمام، وما زالوا يذهبون واحداً بعد واحد حتى اغتسلوا جميعاً. وكان إعداد الحمام أول ما شهدنا من لطف الأمير السديري - أمير المدينة المنورة الآن - وتهذيبه. . .
فلما انتهوا وكان الهزيع الأخير من الليل دعينا إلى المائدة، وكان فيها الخروف (المعهود) برأسه. . . ولكن حوله ألواناً من الخضر كالفاصولياء والباذنجان والطماطم موضوعة في أطباق صغار، وعلى المائدة الملاعق لمن شاء، فجلس الأمير وجلسنا، وأكلنا أكل من لا يخشى البشم!
ولم نفق إلا في ضحى الغد، فأفطرنا ورأينا البلد، فإذا الدار التي نزلناها مستشفى كبير كان العثمانيون قد أقاموه عندما مدّ الخط الحجازي، وأمامه رحبة واسعة جداً، ويقابله من آخر الرحبة المحطة العظيمة، وبينهما على يسار من يقف على باب المستشفى ويستقبل المحطة بساتين النخيل تتخللها البلدة، وهي ستون بيتاً، فيها مسجد كمسجد القريات، وفيها قصر الإمارة؛ والبساتين تسقى من عيون ثلاث بارك الله فيها إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم، على ما هو مقرر في كتب المغازي.
هذه هي تبوك ومن حولها الصحراء وهي نصف طريق المدينة.
ذهبنا نزور الأمير في قصره الزيارة الرسمية، فدخلنا منزلاً صغيراً جدرانه من الطين، لا يختلف عن منازل الفلاحين في القرى الفقيرة من قرى الشام، فصعدنا درجاً ضيقاً ملتوياً إلى ردهة صغيرة تطل على أرض الدار، ولها داربزين من خشب عادي ليس فيه زخرفة ولم يَعله صبغ، قم ولجنا غرفة ضيقة لم تكد تسعنا في صدرها مكتب صغير، وليس فيها إلا مقاعد من الخشب وكان الأمير وراء مكتبه فنهض لاستقبالنا بلطفه الذي وصفت.
وكنت قد أبصرت على الدرج وفي أرض الدار، وفي الردهة العالية عدداً عديداً من العبيد، فعجبت من كثرتهم ولم أدر ما عملهم، فلما قال الأمير بصوت منخفض: قْهَوَة. سمعت العبد الذي يقوم على رأسه يقول بصوت ارفع: قهوة، فيقول الذي على الباب: قهوة. فيصرخ(372/34)
الذي في الردهة: قهوة. فينقلها الذي على الدرج، ثم الذين في أرض الدار، حتى يبلغ الصوت صانع القهوة. وكانت تلك عادتهم ولكما لم نكن نعرفها، فما راعنا ونحن نسلم على الأمير ونتحدث إلا ستون قهوة. . . قهوة. . . بأصوات كالصوت الذي ذكره ربنا في القرآن، تخرج متعاقبة متلاحقة كصراخ الجن، لا يفهم منها شيء. فلم ندر ماذا حدث، وعملت المفاجأة عملها في نفوسنا، فمنا من صاح، ومنا من ابتدر الباب، ومنا من سقط على الأرض، ومنا من وضع يده على سلاحه. . . وكان الأمير مبتسما مسروراً من هذه الدعابة. . .
وليس كثيراً أن نحمل في سبيل القهوة هذا الفزع، فإن للقهوة عند العرب اليوم من الشأن ما يقل معه كل تعب ينال من أجلها، ولها عندهم قواعد قوانين لا معدل عنها ولا ترخيص فيها، فمن قوانينها أن البن يدق بالهاون دقاً حتى يسمعه الضيفان فيهرعوا إليها، ولا يجوز أن يطحن طحناً لأن ذلك من اللؤم، وأنهم يتخذون لها أواني كثيرة يصبون القهوة من إناء إلى آخر ليصفوها ويرققوها، ويسمون كل دلّة من هذه الدلال باسم، فهذه العروسة، وهذه الأم. . . ولقد رأيت عند أمير تبوك أكثر من عشرة أوان (دلال) كلها مملوءة، والساقي يحبها حباً شديداً، ويراها في معدلة أولاده. . .
وهم يخلطونها بحب الهيل، ويضعون قطعة من الليف في فم الدّلة تقوم مقام المصفاة، فإذا نضجت القهوة قام الساقي فأخذ الإناء باليسرى وقدم الفناجين باليمنى، ويرون تقديمها باليسرى كما يفعل الشاميون إهانة للضيف قد تجر إلى سفك الدم والعياذ بالله تعالى. . . فيأخذ الضيف الفنجان بيمينه فيشربه ويدفعه إليه، فلا يزال يصب فيه حتى يهزه الضيف ثلاث هزات علامة على أنه قد اكتفى ولا يصبون في كل مرة إلا رشفة واحدة لا تكاد تستر قعر الفنجان وعندهم أن هذا من الإكرام، وإذ ملأ الساقي فنجان أحدهم كان ذلك احتقاراً له. ويبدأ الساقي ممن على يمينه ثم يعطي من يليه، وإذا هو تخطى واحداً فقد أهانه إهانة بالغة لا يصبر عليها إذا كان شريفاً، وإذا اكتفى الضيف ولم يأخذ الفنجان بعد أن يصبَّه الساقي وجب على الساقي أن يشربه هو أو يريقه على الأرض ولو كان على الأرض بساط قيم أو سجاد ثمين، ولا يدفعه إلى الذي بعده. . .
هذا جانب من قوانين القهوة، وللقهوة عند العرب شأن كبير فقد يستغني البدوي عن الطعام(372/35)
والماء، ولكنه لا يستغني عن القهوة ولا يعدل بها شيئاً، وقد يميل عن الطريق مسيرة يوم ليشربها. وقد حدثنا أستاذنا شكري الشربجي، وقد كان على رأس فرقة عسكرية من العرب أيام الملك حسين رحمه الله: أنه افتقد جنده في ساعة حرجة فلم يجدهم، فلما عادوا سألهم، فحبروه أنهم افتقدوا القهوة فذهبوا ليشربوها؛ فقال: في مثل هذه الساعة تهتمون بالقهوة؟ قالوا: والله يا بيك نتقهوى ولو كان في خشم الأسد.
وللعرب بالقهوة اهتمام عظيم حتى أنهم من اهتمامهم بها نحتوا من اسمها فعلاً هو تقهوى يتقهوى تقهوياً، وتوسعوا في معنى هذا الفعل حتى شمل الشاهي والطعام يؤكل في الصباح فهم يقولون (أُقلط تقهوى) أي تفضل اشرب القهوة أو اشرب الشاهي أو كل. . . وقد يقولون اتقهوى شاهي. . .
هذه هي القهوة، وهي لذيذة نافعة لا يقوم مقامها شيء في إراحة الجسم بعد التعب الشديد والسير في الصحراء تحت الشمس المحرقة، وقد جربنا ذلك بأنفسنا. أما الشاهي - اعتنى النجدي منه - فسمّ ناقع يشرب فيه شاربه المرض والحمّى. ذلك أنهم يأخذون الشاي الأحمر فيغلونه على النار، ثم يغلونه حتى يصير أسود مثل دم الغزال - على حد تعبيرهم - ويشربون منه كؤوساً كثيرة، ولو أنك كنت في ضيافة أمير أو شيخ من مشايخ البدو لم يمر عليك دقيقتان لا يقدم لك فيهما قهوة أو شاهي ولا تفتأ تسمع الأمير أو الشيخ يصفق وينادي:
قهوة. شاهي. شاهي. قهوة، فتصور مجلساً على هذه الحال يمتد ساعتين أو ثلاثاً.
تلك هي القوة. وذلك مبلغ غرامهم بها. . .
(لها بقايا)
علي الطنطاوي(372/36)
رسالة الشعر
نجوى!
أيُّها الْحائر. . .؟!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سَأَلَتْنِي: لِمَ إِطْرَا ... قُكَ في ظِلِّ السُّكونِ؟
أَيُّها الصَّامِتُ كالنَّغْ ... مَةِ في الْعُودِ الْحَزِينِ!
أَيُّها الْحَائِرُ كالزَّوْ ... رَقِ في بَحْرِ السِّنِينِ!
أَيُّها الذَّابِلُ كالآ ... هَةِ في الْجُرْحِ الدَّفينِ!
أَيُّها الْجَاثِمُ كالشَّكِّ ... بِوَاحاتِ الْيَقِينِ!
أَيُّها الْخَفَّاقُ كالرِّعْ ... شةِ في الْقَلْبِ الطَّعينِ!
عُمْرُكَ الْمَشْدَوهُ وَلَّى ... في التَّشَكِّي والأنينِ
وَغَدَا نَايكَ مَشْنَو ... قَ الأغاني والرَّنينِ
دَفَنَتْهُ الْجِنُّ في صَحْ ... رَاَء ظَلْماَء الجبِينِ
وَشْوَشَتْ في صَمْتِهاَ الوَا ... جِمِ أَشْبَاحُ الظُّنُونِ
وَمَشَى فيها زَمَانُ النَّا ... سِ مَنْهُوبَ الْعُيُونِ
دَوَّخَ التِّيهُ خُطاه ... فَارَّتمى تَحْت الدُّجُونِ. . .
قُلْتُ: يا سِرَّ عَذَا ... بي وَشَقَائِي وَشُجُوني
يا صَدىً زَلْزَلَ أَحْ ... لاَمِي وَصَفْوي وَسُكُوني
وَمَشى ناراً عَلَى نِي ... رَان شَوْقِي وَحَنِيني!
يَا هَوَي عُمْري وَدُنْيا ... سَكَرَاتي وَجُنُوني
يَا رُؤَى صَمْتِي وَأَحْلاَ ... مَ زَمَانِي وَفُتُوني
يا أَسَى رُوحي وإلهْا ... مِي وَشِعْرِي وَفُنوني. . .
اتْرُكيني لِفَنَائِي. . . ... وَإِذَا شِئْتِ ابْعَثينِي
أنا إِعْصَارٌ مِنَ اللَّهْ ... فة مَشْبوب الْحَنينِ(372/37)
فانْشُري ظِلَّكِ في قَفْ ... رِ زَماني وَارْحَمِيني!(372/38)
من اللهب
أنا الباكي. . .!
للأديب عبد العليم عيسى
خيُوط النُّورِ جِلْبابي ... وَعِطْر الزهْر أنفَاسِي
وَصَوْتُ البلْبلِ الحنَّا ... نِ مِنْ صَوْتي وَإِحْسَاسي
وقيثَارَةُ أَحْلاَمِيَ ... لم تُحبَكْ لِفنَّانِ
نَماهَا اللهُ للْحُبِّ ... وَأَشْعَارِي وَأَلْحاني
ولكنْ لم أزل نهباً لأشْجاني
وَآلاَمِي وَأَتْعَابي وحرماني
رِياضُ النَّاسِ لاَ تْن ... بتُ غير الورْدِ أَلْوَاناَ
بها الطيْر يُغنِّي غُنْ ... وَةَ الأَفْرَاحِ سَكراناَ
وَبُسْتَانيَ لاَ ينْ ... بتُ غيرَ العوْسَج النامي
عَلَيْهِ تَسْرَحُ الغِرْبا ... نُ في صَفْوٍ وَإِنْعَام
فَياَ ضَيْعَةَ آمالي وأحْلاَمي
ويا خَيْبَةَ حَظِّي فَوْقَ أيامي
أَنَا الشَّاكي. . . ولكن أَي ... نَ مَنْ يَسْمَعُ شكْوَايا
أَنَا الباكي. . . ولكن أَي ... نَ من يَنْفُضُ بَلْوَايا
لَقَدْ رَقَّتْ إلى النَّاسِ ... حَنَايا قلبيَ الآسي
فَسَلْ قلبيَ كم رّقَّ ... لهُ قَلْبٌ من النَّاسِ؟!
وكم شَعَّتْ على دُنيايَ أَعْرَاسي
وَأَفْرَاحي ولذَّاتي وإيناسي؟!
(المياسرة - دقهلية)
عبد العليم عيسى(372/39)
من جحيم القيود
البلبل السجين!
للأديب إبراهيم محمد نجا
وبلبل سجنوه فهْو مكتئب ... بادي التفجيع لا ينفك ينتحب!
في قلبه الغض أحزان مبرَّحة ... وفي جوانحه الآلام تصطخب!
وبين جنبيه جرح غير ملتئم ... وفي جناحيه كسر ليس ينشعب!
يعيش في فقص عيش الأسير فلا ... زهر جميل ولا غصن ولا عُشُب!
يعيش في قفص كلُّ القيود به ... وحوله قامت الأستار والحجب!
يحن للهو، لكن أين معلبه؟ ... وهل يكون بسجن ضيق لعب؟
ينام كل خليّ وهْو في شُغُل ... وهل ينام شجي القلب مضطرب؟
ويذرف الدمع من قلب يفيض به ... فدمعه الغيث لولا أنه لهب!
ويرسل اللحن أنات مقطّعةً ... يلفها في ثنايا موجه الصخب!
يأتي الربيع ولا أفقٌ يطير به ... ولا رياض على أفنانها يثب!
ولا أليف له في الدوح يلثمه ... إن هاجه غزل أو هزه طرب!
ماتت أمانيه، والدنيا مغردة ... والزهر يرقص والأغصان تأتشب
وكيف يسعد محبوس على ظمأ ... والماء من حوله يجري وينسكب؟
ألا خلاصَ له مما يكابده؟ ... فقد برت جسمه الأشجان والنوب
ألا خلاص فهذا السجن يخنقه ... وذلك القيد في رجليه يلتهب!
وهاهي النار: نار اليأس تحرقه ... وهاهو الموت منه اليوم يقترب!
هذا فؤاديَ قد مثلت عيشته ... ولم أبالغ فأين العطف والحدَب؟
يعيش في قفص عيش الأسير فلا ... زهر جميل ولا غصن ولا عشب!
يعيش في قفص كل القيود به ... وحوله قامت الأستار والحجب!
وا رحمتاه له! طال الحنين به ... إلى حبيب بوكر الحب يرتقب
فأطلِقوه، فإن الحب يمنحه ... ما ليس يمنحه التلقين والكتب؟
(دمنهور)(372/40)
إبراهيم محمد نجا(372/41)
رسالة الفن
من أي فن؟
فكر يفكر تفكيراً
فهو إذن مفكر
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أردت أن أكيد لصاحبتي فجعلت إليها (حمار الحكيم) وقلت لها: (أقرئي هذا الكتاب وستجدين فيع فصلاً يذكر المرأة المصرية بما أحب أن أعرف رأيك فيه) وقد كنت أعلم أن صاحبتي لن يسرها شيء مما أريدها أن تقرأه، فقد نال (حمار الحكيم) من المرأة المصرية نيلاً موجعاً، وقد كنت أعلم أيضاً أن صاحبتي طويلة اللسان لا تسكت على الضيم ولا الأذى، وانتظرت بعد أن تفرغ صاحبتي من القراءة أن استمتع بثورة من ثوراتها التي تشنها على خصومها، وكل ثوراتها حريفة تنفح النفس وتوقظ العقل.
كنت أنتظر ثورة ما، مهما تكن فإنها ثورة لا نظام لها ولا خطة ولا هدف محدد. ولكن الذي حدث شيء لم أكن أتوقعه، فقد كتبت لي بنت حواء فصلاً هو هادئ حقاً ولكنه مسمم نفثت فيه المرتورة كل ما احتبس في نفسها من الغل الذي ظل صاحب الحمار يلهبه ويشعله في نفوس بنات حواء منذ انطلق يكتب. . . وعلى ما في هذا الفصل من السم، فإن فيه لذة، وإني لذلك أعرضه على القراء لعل فيهم صديقاً للأستاذ توفيق الحكيم ينقذه من بين براثن هذه (الغولة) العاتية التي ترى بعينيها الحمراوين ما لا نراه نحن بعيوننا البريئة السالمة. . .
قالت وقانا الله شر أقوالها:
(يا حضرة الرجل
لا تحية ولا سلام. أول ما قرأت في هديتك هو هذا الكلام المطبوع على الشريط من الورق الذي لف به الأستاذ توفيق وبأمثاله نسخ كتابه. وهذا الكلام هو بنصه: (الأمة الحية) هي الأمة التي يبقي فيها (الفكر) قائماً بوظيفته و (الإنتاج الفكري) مستمراً على الرغم من نوازل العلل والخطوب والأهوال. . . ثم علامة استفهام، ونقطتان. . . فقلت في نفسي:(372/42)
لابد أن تكون في هذا الكتاب فكرة يلفت الأستاذ الحكيم النظر إليها بهذا الكلام، ولابد أن تكون هذه الفكرة من الجلال بحيث تعتبر من علامات الحياة في أمتنا المصرية أو أمتنا العربية التي استمر واحد من مفكريها الكبار (ينتج) على الرغم من نوازل العلل أولاً، ومن الخطوب ثانياً، ومن الأهوال ثالثاً، ومن علامة الاستفهام والنقطتين بعد ذلك. كله. . . ولكني لما قرأت الكتاب لم أجد فيه من هذا كله إلا ما سأذكره لك يا حضرة الرجل وهو بعيد كل البعد عن نوازل العلل والخطوب الأهوال وما إلى ذلك.
على أني أسمي هذا الكتاب كتاباً تجوزاً. فأنا اعرف الكتاب كلاماً متجهاً إلى قصد معين يستطيع الإنسان أن يلخصه في جملة مفيدة إذا فرغ من قراءته، ولكن (حمار الحكيم) هذا كلام لا يستطيع أحد أن يلخصه لأنه مجموعة من الحكايات كل منها مستقل بذاته يمكنك أن تقرأها من الآخر إلى الأول كما يمكنك أن تقرأها من الأول إلى الآخر فلا تشعر إن كانت اضطربت أو ارتبكت، ثم إني لا أستطيع أن أسمي هذا الكلام قصة لأنه كما رأيت مجموعة حكايات، ولأنه يتخلله إلى جانب ذلك مقالات صغيرة، وبحوث تاريخية تشعر بأن الأستاذ الحكيم تصيدها تصيداً وضمنها الكتاب غصباً حتى تضخم الكتاب وكبر.
وإن لي ملحوظة أخرى على ضخامة الكتاب وكبر حجمه لا أحب أن أغفلها، وهي أن الورق الذي اختير فطبع عليه هذا الكتاب ورق غليظ، الورقة منه سمكها سمك أربع ورقات من الورق العادي، زد على ذلك الفراغ الذي بين كل سطر من هذا الكتاب يتسع لسطر كان يمكن أن يوضع بين السطرين فيقل حجم الكتاب كثيراً، وهذا شيء يظهر أن مؤلف الكتاب لا يستحسنه لسببين: أحدهما مادي والآخر أدبي، أما السبب المادي فهو أن الكتاب الضخم يباع بسعر أعلى من السعر الذي يباع به الكتاب النحيف، وأما السبب الأدبي فهو أن الكتاب الضخم يغتصب احترام القارئ أكثر مما يغتصبه الكتاب النحيف صحيح أن هذه ملحوظة ماكرة ولكن الذي دبرها هو الأمكر ممن لحظها. والذي دبرها هو الذي دبر معها عنوان الكتاب فجعله هذا العنوان الجذاب الذي يغري الجمهور بالتهافت على الكتاب، فالحمار (شخصية فنية) يحب الناس أن يعرفوا آراء الكتاب المحدثين فيها، ونظرتهم إليها، كما اطلعوا على أقوال القدماء فيها وتعليقاتهم عليها، والأستاذ توفيق الحكيم معتبر من هؤلاء المفكرين، وقد شوقني عنوانه فعلاً إلى قراءة الكتاب ولكني لم أجد في(372/43)
الكتاب شيئاً عن الحمار الفني، وإنما وجدت أن الأستاذ اشترى جحشاً في القاهرة ثم صحبه إلى الريف فتركه يموت هناك جوعاً لأنه لم يجد حمارة ترضعه، ولذلك أبيح لنفسي بأن أتهم الأستاذ بأنه استدرج القراء إلى كتابه بخدعة هي أبلغ من خدع النساء جميعاً.
وكما دبر الأستاذ الحكيم هذه الخدعة في العنوان فقد حاك خدعة أخرى نصب شباكها في بقاع عديدة متفرقة من الكتاب، تلك أنه ما فتئ يلح على القارئ بين كل صفحة وأخرى بترديده القول بأنه مفكر، وبأنه يفكر، وبأنه فكر، وبأنه سيفكر؛ حتى خفت على نفسي وأنا المتيقظة له بأن أقتنع بأنه يفكر حقاً مع أنه لم يدلني على هذا بدليل واحد غير قوله: إني أستغرق في تأملاتي، وإن ذهني يمتلئ بالمعاني والأفكار، وإني. . . وإني. . . وقد كنت أحب من غير شك أن أعرف في أي شيء يفكر الأستاذ كل هذا التفكير، ولكن لم اقف في طول الكتاب وعرضه على شيء غير هذه الأقول، اللهم إلا قوله في مرة من هذه المرات: والمعاني، إذا كانت هناك معان تذوب قبل أن تبلغ ذهني. فقلت في نفسي: لعل أفكار الأستاذ كلها من هذا النوع، فهو يفكر فيها طويلاً، ولكنها تذوب منه قبل أن يمسكها، فهو معذور إذن إذا عجز عن أن يعرضها على قرائه.
ولننتقل بعد ذلك إلى الكتاب أو القصة، ولنقف فيها وقفات عاجلة لنرى فيها مواطن البراعة في هذا الكتاب الذي يكيد للنساء والذي كنت تريد أن تكيد لي به. وفي سبيل هذا لابد أن نهمل الحمار فهو بطل محشور في القصة حشراً ليستعار اسمه عنواناً لها لغرابته وطرافته لا أكثر ولا أقل.
أما بطل القصة الحقيقي فهو الأستاذ توفيق الحكيم نفسه الكاتب الذي جاءه مخرج فرنسي ليضع له حوار قصة ريفية مصرية، وكان موسم (الإنتاج الفكري) لهذا الكاتب قد انتهى، فاعتذر للمخرج بذلك مؤكداً له أنه لا يستطيع أن ينتج إلا في (الموسم فقط) كأنما الفكر فول أو قطن أو مشمش، فأغراه المخرج بالمال وصحبه إلى الريف ليهيئ له الجو، ومع ذلك فإنه قعد عن صنع الحوار واضطر في آخر الأمر إلى أن يلجأ إلى اعتذار جديد، وهو أن الكاتب الحق لا يستطيع أن يكتب للسينما، لأن الكاتب الحق الذي مثل الأستاذ توفيق الحكيم لا يصنع كلاماً لأشخاص، وإنما هو يصنع أشخاصاً يتكلمون.
هذا هو صلب الحكاية التي أوردها الأستاذ في هذا الباب(372/44)
وأنا أعلم من هذه الحكاية شيئاً لم يورده الأستاذ في هذا الباب وإن كان حدث في الحكاية. ذلك أنه بعيد كل البعد عن إتقان الحوار الريفي، ودليلي على ذلك أن الأستاذ عرض في الكتاب لمواقف أجرى فيها الحديث بين بعض أبناء الريف فما كان يزيد على جملة أو جملتين، ثم يقف الحوار الريفي بعدهما ويسترسل يكتب بلغته الغريبة الفصحى راويا بقلمه ما كان يريد أن يرويه أبناء الريف بألسنتهم، ومثال ذلك قصة المعلم ملطي التي رواها واحد من الفلاحين للأستاذ وقال له فيها إن قتيلاً قتل في الحجرة التي أعدت له. فقد مهد الأستاذ لهذه القصة بحوار بينه وبين ذلك الفلاح، فلما جاء الفرح ليروي القصة خطفها الأستاذ منه ورواها هو، وما من سبب عندي دعاه إلى ذلك إلا شعوره بالتعب من الكتابة بلغة الريف. وقد ظهر هذا التعب للمخرج - وإن لم يرد الأستاذ ذلك - فعدل عنه وعهد بكتابة هذا الحوار إلى الأستاذ محمود بيرم التونسي وقد قطع فيه الأستاذ بيرم شوطاً بعيداً وإن لم يؤلف كتاباً أو حماراً يروي فيه قصة ذلك السيناريو.
وليس هذا التعب عجيباً من الأستاذ توفيق فهو كاتب لم ينس الناس أن أحب صورة كان يحب من الناس أن يتصوروه بها هو صورة ذلك القاعد في البرج العاجي تحت ضوء المصباح الأخضر يسمع الاسطوانات الألمانية والفرنسية، ويقرأ الكتب الغربية، ويسرح بعد ذلك بين سحابات الفكر الذي لا أعلم ما هو ولا كيف تكون سحاباته. . . والواقع أن الأستاذ الحكيم من هذا النوع حقاً فهو متأثر بالقراءة بعيد عن الدنيا، وآية تأثره بالكتابة الغربية والصور الأوربية هو قوله عن نفسه في (الحمار): (فما أنا في الحقيقة دائماً سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد)، وهذه صورة روسية؛ ثم قوله على لسان واحد الفلاحين تصوره يناجي محبوبته: (إني لست ملاحاً، ولكنك لو كنت شاطئاً في بحر من البحار النائية لنشرت في الحال شراعي وانطلقت أجوب إليك البحار)، وهذه صورة إنجليزية أحس الأستاذ أنها إنجليزية فجعل المخرج وهو أحد أبطال قصته يعلق عليها بقوله: ذاك حوار من شكسبير. . .
ومع أن الأستاذ يدعي أنه من أصحاب الفكر والتأمل، ومع أني أعترف له أنه من أهل الوحدة الذين يحبون الانفراد بأنفسهم، فإني لا أظنه من أولئك المتصوفين الذين يريد أن يتصوره الناس منهم؛ فهو يقول عن نفسه: (إني لا أملك صفة من تلك الصفات التي تجذب(372/45)
الناس إليّ أو تغريهم بصحبتي، فإذا أنفقت الوقت بحثاً وتنقيباً في أرجاء نفسي الموحشة المقفرة فإنما يدفعني إلى ذلك الأمل في أن أستكشف في بعض شعابها معدناً نفيساً له شيء من البريق) فهذه صورة صبيانية للتأمل والتفكير، فالذين يستغرقون في التأمل في أنفسهم إنما يجدون فيها ما يغنيهم عن الاختلاط بالناس، فهي ليست نفوساً مقفرة موحشة، وإنما هي نفوس غنية ملأى بالحياة، وبما في الحياة من خير ومن شر، ملأى بالعواطف والنزعات على اختلاف ألوانها، ملأى بالعزائم، ملأى بالمآسي، ملأى بالأفراح. . . ثم إن أولئك الذين يعمدون إلى أنفسهم ليستخلصوا منها العلم لا يأخذهم مطلقاً البريق، ولا يطلبون مطلقاً ما هو لماع. . . فكل ما يطلبونه هو المفيد النافع الذي يستطيعون باستغلاله وتنميته أن يربوا إنسانيتهم. . . ولكن الأستاذ يظن الفنانين (مخابيل) ويظن أنه إذا أدعى الخبل اعتبره الناس فناناً، وإنه يدعي الخبل في أكثر من موضع في هذا الكتاب، فهو إذا كان في مجتمع نام، وهو إذا عهد إليه بعمل أهمله، وهو إذا كان في سيارته لم يعرف أين هو ولا متى خرج من بيته ولا متى يعود إليه، وهو حين يسمو جداً جداً في الفن يحادث بائع الذرة وكناس الجهة متبسطاً متواضعاً، وهذه أعمال تصدر عن الناس عفواً فلا يذكرونها، وتصدر عن الفنانين دوماً فلا يعلقون عليها، ولكن الذين يهتمون بها هم الهواة، وهؤلاء الهواة يحبون أن يقال عنهم إنهم مبعثرون، وإنهم متواضعون، وإنهم وإنهم. . . لأنهم يظنون أن الفن هو هذا، أو أن هذا هو أهم ما في الفن.
والآن تعال إلى هذه الدعوى العجيبة التي يدعيها الأستاذ إذ يقول إن الكاتب الحق لا يستطيع أن يكتب للسينما. . . وقل لي ما رأيك في شكسبير، وهيجو، وشو، ومارك توين، وتولستوي، وغير هؤلاء من الكتاب الذين أخرجت السينما آثارهم الفنية ووصلت بها إلى قمة المجد الفني. . . أليس هؤلاء كتاباً حقيقيين مساوين للأستاذ توفيق الحكيم؟. . . إنه يفر من هذا المأزق ويقول إن الكاتب الحق هو الذي يتجه إلى الكليات ولا يتجه إلى الجزئيات، فهو الذي يضع أشخاصاً يتكلمون، لا كلاماً لأشخاص. وأنا لا أدري هل الخياط الحق هو الذي يستطيع أن يصنع الأزياء للناس، أو هو ذلك الذي يصنع الناس للأزياء. إني موقنة أنه الأول، لأن الثاني هو الله سبحانه وتعالى وحده.
وأخيراً أختم خطابي هذا بالرد على ما يطعن به الأستاذ الحكيم المرأة المصرية إذ يقول(372/46)
إنها (حريم) لا أكثر ولا أقل، بينما الفن والشعر والأدب قد علم المرأة الأوربية ماذا تقول وماذا تفعل إذا أحبت. ولا يزيد ردي على هذا عن أن أقول له: إن الحب شيء لا يتعلمه الناس من الكتب ولا من الشعر ولا من الفن ولا من الأدب، وإنما هو الذي يعلم الناس هذا جميعاً، وهو موجود في مصر كما أنه موجود في سرنديب، وقد بعث في مصر من الشعر والأدب ما أعجب لتغافل الأستاذ عنه، فما كنت أحسبه ينسى هذا المواليا المصرة وهذا (الواو) المصري، وتلك الأغاني التي تنبعث من أصفى النفوس في أصفى القول وأبلغه وأصدقه. . . صحيح أن أدبنا وفننا ليس فيهما من أدلة الثقافة شيء كثير، ولكن الحب لا يحتاج إلى ثقافة في العبير عنه. . .
خبط الهواع الباب جلت الحبيب جاني
تاريك يا باب كداب تتهز بالعاني
. . . وليس الغرام وحده ما يصوره الأدب الشعبي المصري، وإنما هو يصور سائر ألوان الحياة المصرية، ففيه ملاحم، وفيه معارك، وفيه قضايا، وفيه بطولات، وفيه وفيه، ولعلك أنت يا حضرة الرجل تعرف مما فيه مثلما أعرف، ولعلك تكتب فيه قريباً فترفع عنه هذه التهمة الباطلة التي يتهمه بها الأستاذ الحكيم الذي يعيش في البرج العاجي تحت المصباح الأخضر. . . هنيئاً له. . .)
هذا هو الفصل الذي أرسلته إليَّ صديقتي، وأنا لا اشك مطلقاً في أن الذي أملاه عليها هو غيظها من الأستاذ الحكيم لأنه يخاصمها ويخاصم بنات جنسها جميعاً. . . ولكنني أيضاً لا اشك مطلقاً في أن كلامها واضح الصدق فيه.
وهي صديقتي، ولا أحب أن أخسرها في سبيل الأستاذ الحكيم؛ فإذا كان للأستاذ أصدقاء، فليردوا عليهم هم. . . أما أنا (فموافقون)!. . .
عزيز أحمد فهمي(372/47)
رسالة العلم
الأحياء في غير الأرض
هذه حدودنا فما حدود الغير؟
للدكتور محمد محمود غالي
الدهشة في تمييز الأشياء بالعين - تشابه رؤية الأشياء والاستماع للإذاعة - مملكتانا الحيوانية والنباتية بين ملايين الممالك الأخرى في الكون - جولات بين النجم القطبي ومجموعة ذنب الدجاجة - الحياة جائزة على غير الأرض.
تطل من النافذة فترى النيل عن يمينك ينساب مجراه في هذا الوادي منذ آلاف السنين وترى داراً عن يسارك يسكنها أهلها منذ أعوام طويلة، وتميز بالعين ذلك المجرى من تلك الدار، وقد اعتدنا ألا ندهش من هذه المقدرة على التمييز الذي تقوم به مداركنا في كل لحظات حياتنا، في يقظتنا وفي سباتنا، فعندما يقع ناظري على ابني أميزه عن ابنتي فإنني لا أفكر لحظة في أن هذه العملية، من تمييز النهر من الدار والابنة من الابن، من الأمور العجيبة التي تتصل بالحياة وما تحمل في طياتها من أسرار في التكوين.
إننا نميز الأشخاص بالعين باختلاف هؤلاء الأشخاص في الملامح، أو بالأذن باختلافهم في الصوت. هذا لصوته خشونة معينة، وهذه لصوتها نعومة تتفق مع خصائص جنسها وأنوثتها، وما هي عليه من ريعان الصبا، وهكذا نميز ما نراه وما نسمعه بحواسنا المختلفة التي تكونت أصولها فينا منذ أن كنا مادة حية تختلف عن المادة عادمة الحياة.
إنما أود أن ألفت النظر إلى أن إدراكنا لما تراه أو نسمعه أصبح من الأمور المألوفة التي لا نعجب لها، فنحن لا نفكر، ونحن نميز الأشياء أو المخلوقات. إن عملية التمييز تحمل في طياتها أموراً هي من أعجب ما نعرفه في الكون ولا نفكر أن في حاسة اللمس عمليات دقيقة وعديدة، وأن عدد الأعصاب الموجودة في الجلد والمتصلة بالمخ، والتي مهمتها نقل ما يحدث عند ملامسة الجلد إلى المخ - تبلغ في أجسامنا بضعة الملايين، ومع ذلك فثمة ظواهر أخرى نعجب لها رغم أنها أبسط في مصدرها أو في تفاصيلها من أجهزة اللمس الدقيقة والعديدة المتقدمة.(372/48)
إنك تستمع للإذاعة اللاسكلية مثلا، ويعتذر المذيع عن خطأ وقع فيه وهو يطالع الأنباء فتسمع اعتذاره، فإذا طوى الورقة التي أمامه، أو وقعت من على النضد الذي هي عليه سمعت حفيف الورقة وهو يطويها وصوتها وهي تصطدم بالأرض، وكأنك معه رغم بعده عنك، فقد يكون المذيع في أمريكا وتكون أنت في القاهرة، وكأنكما تتحدان في المكان وإن اختلف وجودكما في الزمان، وإنك في كل ذلك تعجب أشد العجب لهذه المسألة التي تتلخص في أنك تسمع كل ما يحدث داخل عرفة الإذاعة مهما بعدت، إن تحرك بندول الساعة فيها سمعته وكأنه على مكتبك، وأنت تعجب من ذلك، ولا تعجب عندما ترى النيل وترى الدار المجاورة له فتميز بينهما دون أن تعجب من إتمام هذه العملية التي تتلخص في أنك رأيت النيل والدار وأدركت فارقاً بينهما، وعند ظني أنه يجب أن يكون للأمرين: سماع الإذاعة ورؤية الدار، الدرجة ذاتها من العجب.
أن يصبح وجود الدار في الكون الأثيري - حادثاً يعدل من شأن هذه التموجات الأثيرية حولها، فنرى الدار بما أحدثه وجودها من تعديل في كون خلا من قبل منها، فنراها بما ترسله أو بما ينعكس عليها من إشعاع، ونراها بألوانها المختلفة التي تصل العين والتي يعين كل لون منها عدداً معيناً من الذبذبات التي تصل إلينا في أزمنة متتابعة ومن مواقع مختلفة، كل يمثل لوناً معيناً وموضعاً مستقلاً، وتصل كل هذه الذبذبات المختلفة في عددها وفي طول أمواجها إلى العين، وبالتالي يصل أثرها تباعاً إلى المخ، فينشأ عن هذا الإحساس بالدر وألوانها وحدودها مع تبين موضعها. إن هذه أمور كلها تدعو إلى الإعجاب.
أن تحدث الأمواج الصوتية من المذيع أمواجاً كهربائية، نتيجة لاجتهادنا الشخصي، وأن تكون هذه الأمواج الكهربائية ضمن سلسلة الأمواج الضوئية المتقدمة، نتيجة للوضع الطبيعي في الكون، وأن تصل هذه الأمواج إلينا، مهما ابتعدنا عنها ما دمنا موجودين على ظهر ذلك الكوكب الصغير الذي يجذبنا إليه كما يجذب هذه الأمواج، كل هذه أمور لا يجوز أن تعتبرها أعجب من المسألة السابقة.
فالاستماع للإذاعة أو رؤية الدار أو غير ذلك مظاهر في الكون متشابهة، والمذياع جهاز أقل تعقيداً من العين، وأعظم ما في الأمر من دهشة، هو ما يحدثه وجود هذا الجسم الذي(372/49)
نسميه الدار من نتوء في هذا الكون، ومن حدث موجي يؤثر في أحد هذه الأجهزة وهو العين، بقدر ما أحدثه الجسم من نتوء واتساع.
ولا يعجبن القارئ كثيراً من عظم السرعة التي يقطع بها الضوء أو الكهرباء المسافات الكونية (للظاهرتين كما قدمنا في مقالات سابقة سرعة واحدة تقرب من 300 ألف كيلو متر في الثانية) لأننا اعتدنا أن نسمي الشيء عظيماً إذا كان عظيماً بالنسبة لنا، وما اعتدناه من خطوات متثاقلة وبطيئة لا شيء بجانب خطوات الضوء السريعة، ولكنا لسنا كل شيء في الكون ومن الحكمة ألا ننظر إلى الأشياء دائماً بالمقاييس التي اعتدناها، وقد لا نكون في الكون إلا نوعاً من المخلوقات بين بلايين المخلوقات الأخرى، وقد لا تكون مملكتانا الحيوانية والنباتية إلا مملكتين اثنتين بين ملايين الممالك الأخرى في الكون؛ وتختلف هذه الممالك عنا في الشبه وفي المميزات أو الخواص وقد لا نكون إلا مخلوقاً واحداً من هذه البلايين من المخلوقات. لنا درجة في الإحساس لا نتعداها؛ فنحن نستطيع أن نرى الدار ونميزها من النيل، كما نستطيع أن نرى الأشخاص فنميز الواحد منهم من الآخر، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ما بلغته الحواس عند الغير، وأننا نستمع للإذاعة اللاسلكية، بفضل عمل الإنسان، ولا يفترق موضوع رؤيتنا للدار عن موضوع استماعنا للإذاعة إلا أننا نرى الدار بحواسنا بطريقة مباشرة، ونستمع لاسلكياً للبعيد بأجهزة بسيطة، هي صنع أدينا وثمرة تفكيرنا، وهي مهما بلغت لا تزيد في طبيعة حواسنا أو قوتها وإن كانت تعاون في محيط عملها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نعرف اليوم ما يستطيع أن يعمله أو يستنبطه غيرنا من المخلوقات.
لماذا تميل إلى الاعتقاد بأننا الوحيدون في الكون؟ لماذا لا تكون هذه الدرجة من الإحساس وهذا المبلغ من المعرفة مراتب أولى فيما قد يحتويه الكون المنتشر من مراتب أخرى، وصلت إليها مخلوقات عديدة تعيش في ظروف غير التي نعيش فيها، ولها درجة في الحواس تختلف عن حواسنا، ولها حالة من المعرفة تختلف عن معارفنا؟
جُل بنظرك في السماء في ليلة من تلك الليالي التي لا ترى فيها القمر، وانظر إلى المريخ والمشتري والأول أصغر من الأرض قليلاً، والثاني يكبرها بألف وخمسمائة مرة، وهما في مجموعتنا الشمسية؛ فهما والأرض أبناء أم واحدة (الشمس) لا يبرحان مداريهما حولها، ثم(372/50)
ارفع البصر إلى حيث ترى مجموعة الدب الأكبر أو السبعة النجوم كما يُسمهيا الكثيرون، وهي مجموعة من النجوم لا تمت لشمسنا بأي صلة قريبة، بل هي بعيدة عن جد البعد. فبينما تبتعد الشمس عنا بمقدار ثمان دقائق ضوئية (أي يصل ضوء الشمس إلينا في ثمان دقائق) تبتعد هذه المجموعة عنا بمقدار يزيد في بعضها عن 200 سنة ضوئية، وأنظر ملياً إلى أخفض نجمين في هذه المجموعة واذهب إلى يمينك بنظرك مسافة تبلغ سبعة أضعاف المسافة بين هذين النجمين الخفيضين تر النجم القطبي ويبتعد عنا حوالي 70 سنة ضوئية، ويعين لنا جهة الشمال، وما الشمال إلا كلمة اصطلاحية لا تدل إلا على أمر اتفاقي، وهو الجهة التي يحددها لنا هذا النجم الذي نعتبره ثابتاً بالنسبة إلينا وبالنسبة للأحقاب التي يحيا فيها الجنس البشري، وإن كان أبعد الأشياء إلى الثبات بالنسبة لمجموع الكون، وبالنسبة لأحقاب أطول بكثير من ملايين السنين التي عاشها ويعيشها الإنسان، ومع ذلك فكل ما نراه من النجوم بعيداً عنا ثابت إلى حد ما بالنسبة لنا، وحركتنا حول أنفسنا وحول الشمس هي التي تجعلنا نرى تغييراً ظاهراً في مركز هذه النجوم، وما الشمال وتحديده بالنجم القطبي إلا اختيار كان يصح أن يقع على غيره من النجوم، فهو اتفاق يشبه اتفاقنا على أن اليوم 24 ساعة وأن الساعة ستون دقيقة. فقد كان يصح أن نعتبر اليوم عشر ساعات والساعة مائة دقيقة، وعندي أن اتفاقاً كهذا أقرب إلى منطق الأرقام عن اتفاق الأربعة والعشرين قسما السالفة الذكر ,
ثم جل بنظرك بعد ذلك بعيداً من النجم القطبي وجهة اليمين أيضاً تر (دنيب العظيم ويسمونه بالعربية الشعرة اليمانية في مجموعة ذنب الدجاجة تصطدم فوتوناته بشبكة العين بعد تسع سنوات ضوئية، وهي رحلة عظيمة بالنسبة إلينا ولكنها صغيرة في الكون المحدود، وإذا تركت هذه المجموعة القريبة رأيت مجموعات أخرى تبتعد عنا بآلاف وملايين من السنين الضوئية وساعدنا المنظار على رؤيتها.
إن هذه الفوتونات الضوئية التي تصل إليك الآن مسافرة من بعض هذه المجموعات قد بدأت رحلتها ولا شك قبل حروب نابليون، وقبل فتوحات الإسكندر بل وقبل مدنية المصريين، وشاءت الظروف ألا تصطدم طوال رحلتها بأي شيء تتعثر فيه وإلا كنا لا نرى هذه النجوم التي تبعث لنا أضواءها.(372/51)
وأنت في نظرك إلى هذا النجم أو إلى غيره، وفي استطلاعك السماء ليلاً، تستطيع أن تُمَيِّز بين ما يسميه العلماء نجوماً وبين ما يسمونه كواكب سيارة، فضوء الأولى يتألق وتتغير شدته على العين، وضوء الثانية ناصع ثابت كضوء القمر، ووسط كل هذه العوالم نميز بسهولة كوكب المريخ، ذلك الكوكب الذي تشبه حالته إلى حد كبير حالة الأرض، والذي هو واحد من التسعة الكواكب التي تكون مجموعتنا الشمسية، نراه ينحدر في آخر الليل قليلاً قليلاً، ويتغير لونه على العين كما يتغير لون الشمس أو القمر عند غروبهما، حتى يتوارى عنا، أو بالأحرى حتى نتوارى نحن عنه.
وهكذا تنتقل العين من كوكب إلى آخر، من المريخ إلى المشتري، من كوكب أصغر من الأرض إلى آخر أكبر منها ومن شمس إلى أخرى، من واحدة أصغر من الشمس إلى شمس تكبرها آلاف المرات، بل من مجموعة نجمية كمجموعة المجرة التي تحوي ملايين الشموس والكواكب والتي تعد شمسنا واحدة منها إلى غيرها من المجموعات.
ويساعدك المنظار الفلكي في تجولك هذا. بحيث أنه إذا أمكنك أن ترى بالعين المجردة أكثر من ألفي نجم في نصف السماء التي تعلوك ويرى ساكن البرازيل عدداً مماثلاً في النصف الجنوبي الذي لا نراه، فإنك تستطيع أن تعين بالمنظار في السنتيمتر المربع الواحد آلافاً من هذه النجوم التي لكثير منها كواكب يشبه بضعها بلا شك كوكبنا الأرضي الذي نعيش عليه.
وفي أثناء ذلك نفكر أن لكثير من هذه النجوم التي تعد بالملايين سيارات تابعة لها، وتدور حولها وحول نفسها، ونفكر أنه لا بد لبعضها على كثرتها ظروف تشبه الظروف الطبيعية للأرض، أو تختلف عنها بما لا يتعارض مع نوع آخر من الحياة ونتساءل هل من حياة على هذه الكواكب؟ ولماذا تختص الأرض بالحياة؛ وما هي إلا ذرة من قطرة في محيط في الكون؟
وإذا كانت الأرض وما عليها تعتبر بالنسبة لما نعرفه عن الكون أصغر من حبة رمل بين رمال الصحاري الشاسعة وأقل من قطرة ماء مياه المحيط جميعها، فماذا تسكن الأحياء هذه القطرة بالذات وتخلو جميع القطرات منها؟
هذا سؤال لا يمكن للإنسان إذا اتبع منطقاً سليماً أن يجيب عليه بالنفي، وعند ظني أن(372/52)
الحياة جائزة على غير الأرض؛ فإن لم توجد في أحد كواكب مجموعتنا الشمسية، فلا أقل من أن توجد في كواكب أخرى تنتسب إلى غير هذه الشمس.
إما أن يكون بين حياتنا وحياة غرينا صلة فهو ما زال بعيداً جد البعد عن أن يكون من الموضوعات العلمية التي نتناولها بالبحث بالطريقة ذاتها التي نتناول بها مسألة احتمال وجود الحياة.
إنما ذكرنا للقارئ العين، وذكّرناه بما تنطوي عليه عملية رؤية الدار أو النيل من دهشة، وعرجنا على المذياع عند ذكرنا للحواس وفعلها، ثم صعَّدنا النظر مع القارئ إلى السماء نتأملها ونتجول في ربوعها، وتركنا حيناً ذلك المخلوق الذي تكلمنا عنه في مقال سابق والذي لا يرى من عربة الترام إلا مستطيلاً ينتقل في الطرقات، ولا يرى من الكمساري إلا دائرة تنزلق على حافة المستطيل ويرى من الركاب إلا دوائر متراصة في صفوف متوازية، ذلك أننا لسنا في حاجة إلى هذا المخلوق المسكين وحده، وإنما في حاجة أيضاً إلى التذكير بالعين وفعلها العجيب وإلى النظر إلى السماء وتأمل ما فيها من ملايين النجوم والكواكب لنذكر للقارئ موضوعاً قلنا إنه يلتمع في الذهن ويدور بالخاطر، وهو موضوع خاص بما عسى أن نفترضه أو نتخيله من صفات لغيرنا من الأحياء على الكواكب، وقد قادتنا إلى هذا الموضوع الذي يخرجنا قليلاً عن الدقة العلمية، مقالاتنا الأخيرة عن الاشعاع، ولم يكن في نيتنا يوماً أن نتجه هذا الاتجاه، ولكننا سنعود مع القارئ بعد المقال القادم إلى دراسة العلاقة بين المادة والضوء ليقف معنا على أحدث ما يعرفه العلماء اليوم عن الكون.
(يتبع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(372/53)
البريد الأدبي
قصيدة خمرة نهر الرين
قرأتُ الملاحظة الدقيقة المنشورة في بريد الرسالة الأدبي للأستاذ الأديب علي كمال. ويبدو أن الأستاذ محق فيما ذهب إليه، فليس في المراجع الأدبية الخاصة بحياة جون كيتس ولا في رسائله إلى شقيقه أو حبيبته (فاني براوني) ما يشير إلى مرور الشاعر بنهر الرين في خلال رحلته إلى إيطاليا، ولكن توجد في قصيدتين أو ثلاث له إشارات إلى نهر الرين، ومنها القصيدة الآتية: (تعاليْ بنا أيتها الحبيبة نحلق بأجنحة السعادة بعيداً، فإن السكون قد ضرب على الكون وما من سامع أو راء الآن، لقد صرعت القومَ خمرةُ نهر الرين واستبدت بهم نشوتها، فهي من رقادك، واطرحي الخوف وتعاليْ فإني قد أفردتُ لك منزلاً بين مروج الجنوب)
ولعل الشاعر علي محمود طه أراد الإشارة إلى ذلك في مقدمة قصيدته.
السيد رأفت
حول كتاب (المقنع) للداني
كتب الأستاذ ناجي الطنطاوي في العدد (367) من الرسالة الغراء يسأل الأستاذ المحقق الشيخ محمد دهمان أن يجلو عليه الشك الذي وقع فيه لاختلاف لقب مؤلف (المقنع) أبي عمرو الداني، ذاهباً إلى أن (البلوى) في (ألف بائه) قد سماه (المقري). والحقيقة أن (المقري) مخففة عن (المقرئ) وهو لقب كانوا يلقبون به من انتهت إليه رياسة الإقراء في عصره. وقد عثرت في مكتبة أبي - شيخ المقرئين في الشام - عليه الرحمة والبركات والرضوان، على نسخة خطيّة لكتاب (المقنع) المذكور وفيها يقول المؤلف:
(قال أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقري) وليس (المغربي) كما اثبت الأستاذ دهمان. وقرأت أيضاً في نسخة خطية لكتاب اسمه (مواقف القرآن) للداني نفسه، وجدتها في مكتبتنا، وقد كتبت سنة الخمسين بعد الألف، ما يلي:
(قال أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقري الداني)
فيكون المقري إذن لقباً للداني.(372/54)
ووجدت في كتاب (غاية النهاية في طبقات القراء) للعالم العلامة محمد بن الجزري ما يلي:
أبو عمرو الداني: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر، أبو عمرو الداني الأموي مولاهم، القرطبي، الإمام العلامة الحافظ أستاذ الأستاذين وشيخ مشايخ المقرئين. . . قدم (دانيه) واستوطنها فنسب إليها، وله تآليف حسان. . . منها كتاب (المقنع في رسم المصحف) وكتاب (المحكم في النقط) وكتاب (المحتوى في القراآت الشواذ) و. . . (غيرها. . .) وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة - طبقات القراء ج1 ص2091، طبعة برجستراسر والخامجي. اهـ
على أن عمل الأستاذ دهمان يستحق كل شكر وثناء.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
1 - كتب ضائعة للمرحوم إسماعيل أدهم
قرأت في الأهرام ما كتبه الأستاذ الصحافي العجوز عن شقيقي المرحوم إسماعيل أحمد أدهم، وطالعت كذلك ما كتبه في الأهرام أيضاً الدكتور عبد الغني مصباح تعليقاً على مقال الأستاذ الصحافي العجوز. وقد أشار الدكتور مصباح في معرض كلامه إلى أثر من آثار أخي الفكرية، ألا وهو كتاب تحليلي عن (ابن الهيثم) العالم الرياضي الكبير.
وأزيد على هذا أن أخي الفقيد كان عثر على ثلاثة مخطوطات لم يسبق نشرها، وهذه المخطوطات لابن الهيثم، وكان أخي يشتغل قبيل وفاته في إعداد هذه المخطوطات للنشر، ويعدها للطبع، ورأيته يكتب هوامش لهذه المخطوطات ويعلق عليها، وأذكر أن من بين المخطوطات مخطوطاً عنوانه (الأثر الظاهر في أوجه القمر) أو شيء من هذا القبيل.
وكان الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة الحديث الحلبية يعتزم إصدار مخطوط أو أكثر في مجلته، كما أن أخي حدثني بأنه سيتفق مع بعض الهيئات أو لجان النشر في شأن هذه المخطوطات. ولأخي الفقيد مخطوطات لم يطبعها، وهي كتب علمية رياضية، ومباحث تاريخية، ودراسات أدبية؛ فمن كتبه العلمية الرياضية كتابه (نظرية النسبية الخصوصية)، وكان قد نشر جانباً من هذا الكتاب في مجلة (الرسالة) في أواخر سنة 1935 وأوائل سنة(372/55)
1936.
كما أن له كتاباً آخر اسماه (مبادئ الطبيعيَّات النظرية الحديثة) ويقع هذا الكتاب في نحو 320 صفحة من القطع الكبير وهناك كتاب ثالث بعنوان (نظرية النسبية وقيمتها العلمية) ويقع في مجلدين. هذا عدا مقالات رياضية مبعثرة هنا وهناك في شتى المجلات العربية. ولشقيقي المرحوم إسماعيل دراسة للشاعر المجيد الأستاذ خليل شيبوب، ودراسة أخرى للفيلسوف المتصوف اللبناني الأستاذ ميخائيل نعيمة، رفيق جبران.
وله من المباحث التاريخية كتاب (حياة محمد ونشأة الإسلام) ويقع في ستة أجزاء كبار، وفي نحو ثلاثة آلاف صفحة من القطع الكبير. ومباحث أخرى كان ينشرها في الصحف منها سلسلة من المباحث كان يكتبها في جريدة (البصير) خلال شهري أغسطس وسبتمبر سنة 1937 عنوانها (الصلات بين الإسرائيليين والعرب منذ أقدم العصور حتى الآن) وقد نقلت هذا المبحث جريدة الشمس القاهرية. وكذلك له قصة ترجمها عن الكاتب التركي المشهور رفيق بك خالد عنوانها (ابنة يزيد) وقد نشر نحو ثلثي القصة في مجلة الحديث، والثلث الأخير كان ترجمه وأرسله لمحرر المجلة، ولكنه ضاع في البريد ما بين الإسكندرية وحلب، ولعلي أستطيع أن أقوم بترجمة ما بقي من القصة. أو يقوم الأستاذ سامي الكيالي بذلك، لأن القصة ستخرج في كتاب.
وله غير ما ذكرت كتب أخرى لم تعها الذاكرة التي وهنت إزاء هذه الفاجعة الأليمة، وبعض هذه الكتب في النشوء والارتقاء، وبعضها في الفلسفة، وبعضها في النقد وغير ذلك.
ومن المهم أن أقول إن هذه الكتب كلها ضائعة أو في حكم الضائعة، لأن أخي - رحمه الله وغفر له - نقل جميع آثاره وكل مكتبه بعد تصفيتها إلى مكان لا أزال أجهله حتى ألان، ولعله أودع هذه الكتب عند بعض أصحابه.
وأخيراً لي كلمة وهي أن بعض الناس وجدوا في وفاة أخي فرصة ليتحدثوا بألوان من القول، وأصناف من الكلام. وكثير منهم يهرفون بما لا يعرفون، وبعضهم يتحدث في أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وهم في هذا لا يراعون حرمة الموت - الذي هو مصير كل حي - ولا يخشعون أمام جلاله.(372/56)
2 - تصويب
قرأت المقال البليغ الذي دبجته براعة الكاتب الكبير الأستاذ الزيات عن أخي الفقيد تحت عنوان (نهاية أديب) وقد لاحظت أن الأستاذ وقع في بعض الأخطاء، وكم كنت أود ألا يكون مثل هذا المقال البليغ محتاجاً إلى تصويب.
ذكر الأستاذ أن والدي - رحمه الله - تزوج من روسية ثم من مصرية بعد ذلك، والصواب أن والدي لم يتزوج من روسية ولا من مصرية.
وقال بعد ذلك: (ونكبت الإسكندرية الجميلة بالغارات الجوية الإيطالية فجلا أكثر الساكنين عن الثغر المروع، فأقفرت المنازل حتى منزل أدهم) والحقيقة أن منزلنا لم يخل من سكانه، وهو اليوم آهل بقاطنيه إلا شقة واحدة.
وعلى الأستاذ مني أزكى التحيات
(الإسكندرية)
إبراهيم أحمد أدهم
حدثني المرحوم أدهم أن أباه تزوج في مصر، وكان بين أولاد الزوجين الأولى والأخرى نزاع على ميراث فغلب على ظني أن الزوجة الثانية مصرية. أما خلو المنزل من ساكنيه فهي رواية قادم من الإسكندرية يزعم أن بينه وبين الفقيد معرفة.
(الزيات)
مسابقة الأدب العربي لطلاب السنة التوجيهية
اقترح معالي وزير المعارف إقامة مسابقة بين طلاب السنة التوجيهية في الأدب العربي. وقد خوطبت الجامعة في صدد المساهمة بمنح الفائزين مجانية كاملة أو نصف مجانية بكلياتها. وننشر فيما يلي قرار الوزارة في موضوعات المسابقة.
يمتحن المشتركون في المسابقة في الكتب الآتية:
أولاً: يمتحن الطلبة تحريرياً في الكتابين الآتيين:
(1) ديوان إسماعيل صبري للمرحوم إسماعيل صبري باشا(372/57)
(2) تحرير المرأة للمرحوم قاسم بك أمين
ثانياً: يمتحن الطلبة شفوياً في ثلاثة كتب (على حسب اختيار الطالب) من الكتب الآتية:
(1) الإنجليز في بلادهم للدكتور حافظ عفيفي باشا
(2) رحلة أحمد حسنين لأحمد حسنين باشا
(3) الأيام (الجزء الأول) للدكتور طه حسين بك
(4) مطالعات في الكتب للأستاذ عباس العقاد
(5) فيض الخاطر للأستاذ أحمد أمين
(6) وحي الرسالة للأستاذ أحمد حسن الزيات
(7) أهل الكهف للأستاذ توفيق الحكيم
(8) مختارات للأستاذ عبد العزيز البشري
(9) المنتخبات الجزء الأول لسعادة أحمد لطفي السيد باشا
وسيكون الامتحان في موضوعات حول هذه الكتب وفق بيان ستذيعه الوزارة على المدارس. وتضم درجة الناجحين في الامتحانين التحريري والشفوي إلى درجة اللغة العربية في امتحان شهادة الدراسة الثانوية القسم الخاص سنة 1941، ويرتب الطلبة في الامتحان وفق مجموع هذه الدرجات الثلاث، ولا يدخل هذا الترتيب إلا الناجحون في امتحان القسم الخاص. وستكون الجوائز التي تعكي للناجحين في هذه المسابقة كما يأتي:
للثلاثة الأول - مجانية كاملة بجامعة فؤاد الأول، (وموضوع تقريرها معروض على مجلس الجامعة) و20 جنيهاً لكل منهم. للثلاثة الذين يلونهم - نصف مجانية فؤاد الأول (وموضوع تقريرها معروض على مجلس الجامعة) و15 جنيهاً لكل منهم. للأربعة عشر طالباً التالين - 10 جنيهات لكل منهم.
وستكون المجانية في الجامعة مقتصرة على الطلبة الذين يستوفون الشروط للدخول في إحدى الكليات.
ويباح الدخول في هذه المسابقة لجميع الطلبة المقيدين في السنة المدرسية 1940 - 1941 بفرقة السنة الخامسة التوجيهية بالمدارس الأميرية والمدارس الحرة الخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، ويكلف الطلبة الراغبون في دخول هذه المسابقة بشراء الكتب على نفقتهم(372/58)
الخاصة وعليهم أن يقدموا طلباتهم إلى مراقبة الامتحانات بوزارة المعارف على الاستمارة الخاصة (ويمكن الحصول عليها من إحدى المدارس الثانوية الأميرية) في ميعاد غايته أول نوفمبر سنة 1940.(372/59)
القصص
قصة واقعية
آخر الطريق
للأستاذ محمد سعيد العريان
على الضفة اليمنى من (بحر شبين) كان يقوم القصر الأبيض، كما يسميه أهل القرية والقرى المجاورة؛ وهو بيت مبني على طراز بيوت المدن، تفصل بينه وبين الطريق العام حديقة كبيرة تحنو على حوافيها أشجار ذات ظلال وأريج.
في هذا القصر كان يقيم (عبد الرحمن بك) وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء، له ماض مجيد ووقائع مشهورة؛ فلما أسَنَّ وقعَد، هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتاً ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر البيض في عز وجاه ومتعة.
وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهرم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرَّب من طباعهم وعاداتهم المأثورة؛ فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة؛ فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.
. . . لم يكن في القرية كلها، وفي القرى المجاورة، فتّى أعزُّ على أهله وعلى جيرانه من (عايد) بن عبد الرحمن بك؛ فإنه لفتى ريّان العود، ناضر الشباب، فيه دمائه الحَضَريَّ المتبَدِّي وشهامة القروي المتحِّضر، وإنه لوحيد أبيه وصاحب أمرِه، وأبوة سيِّد القرية العزيز الممتَّع.
وكان (عابد) في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عيناً لعين، فوقع من نفسها ووقعتْ من نفسه؛ وكان جالساً في خُصٍّ إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرَّت بن لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذاً، ومضت على وجهها مغضية من حياء، وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ. . .
لم يكن أبو (أمينة) من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر؛ ولا كان يملك قصراً ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعت أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قِيادَه. . .(372/60)
ولما التقيا بعدُ على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرتْ إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عبرة؛ ودنا منها ومد إليها يداً وامتدَّت يداها إليه ترُدُّه، وهمستْ: (عابد!) وبرقت قطراتُ الدمع بين أهدابها؛ وتحدثتْ عينان إلى عينين؟ وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين يتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناة في طريقهما بين الحقول، يهم أن يعنها وتهم أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابت! وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها، واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرِّح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلّف دور القرويين ويلفُّها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!
كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس، أنه سيِّد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال؛ ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه؛ أتراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟
أمينة. . .؟ من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كن من خدم القصر الأبيض؟ نعم وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خَوَلاً وبطانة، إنه لسيد من يليه من الفلاحين ولكنه عبد وسيده، وإنه ليملك داراً وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد. . .
كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبين موقفه، وتمنى لو كان واحداً من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته، ولم يكن السيد العاجز. وبكت الفتاة حين تبينت موقفها وأعجزها أن تتمنى!
وقالت له: (سيدي. . .!)
وشد على يديها فلم يدعها تتمم، وقال: (أمينة. . .! ناديني باسمي يا حبيبتي! لست. . .)
ومال رأس على كتف، وامتزح الدمع بالدمع، وَتَرَوَّتْ الشفاهُ الظمأى، وتلاحقت أنفاس مبهورة؛ وهمت أن تقول، وهمّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف، وتساءل قلب(372/61)
وأجاب قلب، وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام، وهبَّتْ نسمة ندية فالتقى غصنان ثم افترقا، وتهامست زهرتان ثم أمسكتا، وأطلّت عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، وازدحمت العيون على فروج الخباء تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر؛ وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل، ثم عاد فاستتر؛ وكان على الغصن قمْريةٌ تغني، وكان غناؤها خفقات قلبين يتهامسان.
. . . وقام يودِّعها وقامتْ، وأبتعها عينيه حتى واراها الظلام ثم قَفل وفي قلبه نجوى وفي عينيه بريق، وعلى شفتيه مَذَاق، وفي أذنيه رنين!
وتتابعت لياليهما حافلة بأسباب الهناء والمسرة في غفلة من العيون، لم يطلع على سرهما أحد إلا النجم والزهر وغِرِّيدة الشجر وطابت له الحياة وطابت لها، لولا حديث بينه وبين نفسه يؤرقه كلما جن الليل، ولولا وساوسها!
وأجمع رأيه على أمر؛ وكأنما كان المسكين يتعجَّل آخرةَ هنائه حين بدا له أن يكشف صدره لأمه ويستعينها. . .
وقالت أمه وفي عينيها دهشة وفي وجهها غضب: (أمينة! وأنت لها يا عابد!)
وهتف الفتى في يأس: (أمِّي!)
ولكن أمه لم تجب، وأجابه أبوه؛ هل رأيت قطُّ قائداً في هيئته العسكرية قافلاً من معركة بنصف جنوده!
كذلك كان موقف عبد الرحمن بك من ولده في ذلك اليوم؛ وطأطأ الفتى رأسه يستمع إلى أبيه يحكم عليه باليأس والحرمان! ثم سقط على كرسيه باكياً ومضى أبوه إلى غرفته.
ولم يلتق عابد وأمينة منذ اليوم، وافترقا بلا وداع وما افترقا قطُّ إلا على ميعاد! ولزم الفتى غرفتَه مطويّاً على آلامه، لا يرى أحداً ولا يراه أحد؛ على حين كان ثلاثة نفر يعنيهم من أمره ما يشغلهم ليلَ نهار. . .
أما واحدةٌ فكان لها كل يوم مَغْدىً ومراح في مواعيدَ رتيبةٍ إلى شجرة الصفصاف القائمة على حافة الغدير، تتروّح عندها رَوْحَ الماضي في خفقة الغصن ورفة الزهر وأرج النسيم، ثم تروح وحيدةً دامعة العين!
وأما اثنان فرجلٌ وامرأة في خريف الحياة يتشاوران في أمر وحيدهما الذي يوشك أن يُضّله(372/62)
الحب عن رشاده فيهوي إلى عار الأبدّ!
أربعة أشقياء لو شاءوا لاستقامت لهم الحياة واستقاموا لها فسَعِدوا، وضعتْهم التقاليدُ بين شِقَّي رحىً طحون تشوك أن تحطمهم حطمة الموت فلا نجاة!
وضاق الفتى لنفسه وضاقت به، ولم يطق الصبر بعد، فأجمع أن يكون سيد نفسه فلا يسمع لقول أحد، وأعلن العصيان!
وتهالك أبوه في مقعده وطأطأ رأسه وجاشت نفسه بآلامه، وتحيرت دمعتان في عيني الرجل الذي لم يبك قط، ووقف الفتى رافع الرأس وفي عينيه بريق الإرادة الصارمة، ونظرت أمه إليه فأطالت النظر، ثم هتفت بضراعة: (عابد!)
وظل الفتى صامتاً لا تطرف عيناه، فلو أن القدر يتحدث بلسان أمه ما ثناه عما اعتزم!
وبلعت أمه ريقها وابتسمت، وأشرقت في وجهها مسحة هدوء ظاهر؛ ثم أردفت: (أجاد أنت يا عابد؟)
وضحك الفتى ساخراً، وأجاب: (نعم، ولا بد. . .!)
ووقفت الأم، ثم تقدمت في خطوات ثابتة حتى وضعت يدها على كتفه، وقالت في لهجة الأمر والثقة: (ذلك حقك يا عابد، ولكن. . . ولكنك لن تفعل!)
وابتعد الفتى مغضباً وهو يقول: (بل إنني سأفعل، سأفعل؛ سأتزوجها ولو. . .)
وقاطعته أمه: (. . . ولو كانت أختَك. . . . . .!)
وسكت عابد وجحظت عيناه مدهوشاً؛ واسترسلت أمه: (. . . بلى؛ أنها أختك يا عابد؛ لقد رضعتها من ثدي واحدة دهراً طويلاً يا بنيَّ من طفولتك؛ أتراك تريد أن تتزوج أختك يا عابد. . . .؟!)
ودار رأسُ الفتى وأوشك أن يسقط، وتهاوى على كرسيه لا يكاد يعي، وغَشَّى عينيه الدمع. . .
وبدأ منذ اليوم تاريخ جديد، أما الفتى فراح يعالج نفسه بالصمت والوحدة لعله أن ينسى؛ ولكن صورتها ما برحت تتخايل لعينيه في فنون؛ لقد استطاع أن يقهر نفسه على السلوان ويسومها الرِّضا؛ ولكنه لم يستطع أن يتصامّ عن تأنيب الضمير ووخز الندم كلما تذكّر أن أمينة أختُه، وأنه نال منها ما لا ينال الأخ من أخته وترك لها خِزي الدهر وعار الأبد؛ فلا(372/63)
كان لها منه حِفاظُ الأخ ولا وفاء الحبيب!
هذا واحد؛ أما الأب والأم فراحا يدبران أمرهما قبل أن ينتفض غزلهما، وإنهما ليحسان حيناً بعد حين آلاماً مُرةً من قسوة ما نال وحيدهما العزيز المرجوّ؛ فذهبا يعدان العدة لتزويجه قبل أن ينتكس ويعاوده مرضُه!
وأما هي، أما هي فكانت بين مَغْداها ومراحها كل يوم إلى شجرة الصفصاف ما تزال تأمل أملاً، أملاً يلوح ويخفي كما يتراءى القمر بين قطع السحاب، ولكنه أمل يمسك عليها نفسها. . . وبلغها النبأ أخيراً وعرفتْ أن فتاها يوشك أن يتزوج؛ وارتكضت أحشاؤها تنبئها نبأ آخر. . .
وكانت القرية ساطعة الأنوار احتفالاً بعرس عابد، حين كانت أمينة تدرع الظلماء في طريق لا تعرف له غاية!
وأصبحت القرية بعد ليلة ساهرة تبحث عن أمينة فلم يعرف لها خبر؛ ولكن سرها ظل مكتوماً لم يطلع عليه أحد؛ لأن الثلاثة الذين يعرفونه لم يكن يسرهم أن يعرفه أحد!
وراح أبوها وذوو قرابتها يتقصَّصون الخبر ويتبعون الأثر؛ فلم يبلغوا إلى غاية؛ وذهب الناس في الحدْس مذاهب، ولكن أحداً منهم لم يبلغ من سوء الظن أن يتهم أمينة تنال من شرفها؛ إذ كانت عندهم فوق الظنون والريب؛ فاتهموا بها وَحْشَ الفلاة ومَوْجَ البحر ولم يتهموها؛ وأقاموا لها مأتماً وقرءوا لها القرآن!
وسمع عابد النبأ فعرف ما كان، وأقام مأتمها في قلبه ولم يزل صدى أغاني العرس في أذنيه!
لم يسعد عابد بزواجه كما رجا أهلهُ، ولم ينس؛ وعاش كما قٌدِّر له، بين حُطام الأمل، ولوعة الذكرى، ولذْع الندم؛ صباحٌ ومساء، ونجم ينير ونجم يغور، والحياة هي الحياة إلا ما تُجدِّ له الذكرى من الألم وعذاب القلب ووخز الضمير!
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، وما يزال عابد كعهده يوم كان؛ لم يغيِّره الشيبُ الباكرُ شيئاً ولم تقوَ الأيام أن تمحو آلامه؛ على أنه اليوم يعيش منفرداً في القصر الأبيض كما عاش منفرداً بآلامه منذ سنين؛ وقد آل إليه القصر والمزرعة بعد وفاة أبيه وأمه، وعقمت زوجُه فلم تقدر أن تمنحه الولد، كما عقمت من قبل فلم تقدر أن تمنحه الحب؛ وعاش وعاشت كما(372/64)
يعيش الضيف في غير أهله، فليس بينهما شابكة من حب ترِّفه عنه، ولا رابطة من أمل تقرِّ بها إليه؛ فلولا هذه الخادمة الصغيرة التي ترعاه وتلبِي نداءه وتبسم له لكانت حياته جحيما لا طاقة عليها ولا صبر معها؛ وقد اصطفاها عابد لخدمته الخاصة منذ بعيد؛ فليس لها من عمل في القصر إلا خدمته والترفيه عنه وليس لأحد غيره عليها حق.
وكانت (زهيرة) الخادمة حقيقة بهذه المكانة من سيدها؛ فكانت صَموتاً مطيعة لا تسبق إلى عمل في غير وقته ولا تؤخره وكأنما صنعت لها روحها ابتسامتها الدائمة، فلا تُرى إلا ضاحكة السن، تطِلْ من عينيها نفس صريحة فيها بريق الإخلاص والحب تنشر حولها جوّاً من الرضا والطمأنينة!
لم يكن ذلك شعورَ عابد وحده، ولكنه كان شعور الكافة من أصدقائه القليلين الذين يزورونه في قصره؛ على أن أحداً منهم لم يبلغ به حُسْنُ الرأي في (زهيرة) أكثر من هذا الحدّ؛ بل إنها كانت موضع التهمة في أمانتها عند بعض خدم القصر. فكثيراً ما اختفت أشياء من أشياء سيدها لم تكن تبلغ إليها يد غير يد زهيرة؛ ولكن سيدها كان من حسن الظن بها بحيث تنال منه ما تشاء لو أنها أرادت؛ فكيف يتهمها بمنديل أو خاتم أو صورة تختفي ولو شاءت لمدت يديها من المال إلى ما تريد؟
وبلغت (زهير) سن الشباب ونضجت أنوثتها، وكان لها جمال خَلق إلى جمال العثْرة وحسن الخلق؛ وخلا عابد إلى بعض صحابته يوماً يُسِرْ إليه حديثاً؛ وأجفل صاحبه مذعوراً وهو يقول: (وتفعلها يا عابد؟)
وسكت عابد، ولكن نفسه كانت تحدثه حديَثها. . .
ولما خلا عابد إلى نفسه أطلق العنان لأفكاره وسرح. . .
(وماذا عليه لو تزوَّجَها؟ وماذا يهمه حديث الناس؟)
هكذا راح يسأل نفسه في خلوته؛ لقد أحب عابد فتاته؛ ذلك شعور يحسه في نفسه إحساساً لم يحس مثله منذ بضع عشرة سنة فماله وللناس؟ وماذا يضطره إلى أن يصانعهم ليشتري رضاهم بسعادة نفسه؟ أو ليس يكفيه ما بذل من شبابه وراحة قلبه من أجل الناس؟
ودعا عابد فتاته فلبَّت ووقفت بين يديه صامته تنتظر ما يأمر؛ ونظر الرجل إليها نظرة جمعتْ له الزمانَ في لحظة فكر؛ وكأنما خيل إليه أنه قد رجع القهقري إلى ماضيه مع(372/65)
أمينة يوم كان وكانت، وراحت الذكريات يمدّ بعضها بعضاً فتنشئ له أملاً وتبعث فيه نشوة؛ ووقف، وأراح على كتفها يداً ترتجف، وقال لها: (أمينة! أتقبلينني. . .!)
ورفعت إليه عينين فيهما حنان وحب، ثم أطرقتْ؛ وقالت: (سيدي!)
وكما سمعها مرة منذ بضع عشرة سنة من فم أمينة - طرقت مسمعيه الساعة؛ واستطردتْ: (لستُ لك يا سيدي، ولست لنفسي؛ إنني خادمتك!)
وانفلتت من بين يديه وذهبتْ. ومضت أيام قبل أن يعود إلى الحديث معها، وقالت: (سيدي!) وضمها إليه وهو يقول: (ناديني باسمي يا زهيرة؛ إنه أحبُّ إليّ!)
قالت: (ولكن لك اسماً آخر أحب إليّ؛ لقد أنبأتني أمي. . .!)
قال عابد: (أمك؟. . .)
قالت: (نعم، إنها أمي. . . أمينة؛ لقد أنبأتني أمس؛ لم أكن أعرف قبلها أن لي أباً، ولكني كنت أعرفه، وأحبه. . .!) وهوّتْ بين ذراعيه باكية!
وفي كوخٍ منفردٍ على حدود العمران، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، كان اثنان جالسين يتحدثان في همس، وثّمِّة فتاة على مقربة تصغي إليهما في شوق ولهفة، تحاول أن تعرف قصةً بدأتْ قبل أن تولَد ولم تنته إلى نهايتها بعد. . .
. . . وقال عابد: (إذن فلم ترضْعني أمُّكِ كما زعموا؟)
قالت: (ومن أين لها وقد ماتتْ أمي قبل أن يُبْنَى القصر الأبيض، ومن أين لك؟ لقد خلفتني أمي قبل أن أتم الرضاع فلم ألقم ثدياً بعدها قطّ، وجاءت بك سيدتي وأنت غلام تسابق الفَراش بين نوَّار الحقل، وكنتُ أدعوك سيدي!)
فابتسم عابد وقال: (ولكنك لن تدعيني بهذا الاسم بعد؟)
ومال رأس على كتف، وامتزج دمع بدمع، وتروَّت شفاهٌ ظمأى؛ وتلاحقت أنفاس مبهورة، وهمت أن تقول، وهمَّ أن يجيب، وماتت الكلمات على شفاه ترتجف؛ وتساءل قلب وأجاب قلب؛ وتلاشى الوجود بينهما فلا شيء هناك إلا اثنين يتناجيان بلا كلام. وهبت نسمة ندية فالتقى غصنان، وتهامست زهرتان، وأطلَّتْ عينان من فرجة السحاب تختلسان النظر، وازدحمت العيون على فروج الخباء تنظر؛ ثم انقشع السحاب وبرز القمر؛ وانكشف السر المختبئ في ضمير الليل. . .(372/66)
واتخذا طريقهما إلى شجرة الصفصاف يجددان العهد ويبعثان الذكرى، مشيا صامتين يتبعهما ظلهما، ويتبادلان لمسة باليد كلما همَّتْ أن تجتاز قناة في طريقها بين الحقول، يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ وعاد الماضي كما بدأ؛ وتعاهدا لا يفترقان حتى يبلغا آخر الطريق؛ وعادى البهجة إلى القصر الأبيض، ورفَّ النور من شرفاته.
محمد سعيد العريان(372/67)
العدد 373 - بتاريخ: 26 - 08 - 1940(/)
الإصلاح. . .!
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثر في هذه الأيام حديث الريف وإصلاح الريف لكثرة الرائفين من الحضريين الذين رهبوا الغارات في المدن فالتمسوا الأمان في القرى، ثم هربوا من أمان القرية إلى مخاوف المدينة، وهم الرابحون!
ومنذ عام أو قرابة عام سمعنا من يسأل: (أليس الأجدى على الفلاح أن تطعمه وترفه عنه بهذه الأموال التي تنفقها على تعليمه إلزاماً وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف)؟
وقال لي زميل في مجلس النواب ممن يملكون عشرات الألوف من الأفدنة وقد رأى اهتمام فريق من النواب بنشر التعليم: (ما هذا التعليم الإلزامي الذي تحسبونه خيرا وبركة على الفلاحين؟ إن هؤلاء الفتيان الذين ينتشرون في القرى لتعليم أبنائها لا يعلمونهم إلا الحذلقة وفتنة البطالة. . . وأقسم ما عرفت أنا أن للجورب حمالة إلا من هؤلاء الفارغين المتبطلين الذين يقضون الساعات في التصدي للغاديات الرائحات. . . ثم تنظر إلى أبن الفلاح فلا تراه قد أفاد منهم إلا الشوق إلى اليوم الذي يغدو فيه مثلهم لابس رباط في الرقبة وحمالة في الساق)!
قال لي الفلاح الكبير ذلك وهو يرى أن حمالة الجورب هي رمز الفساد الذي ينقله (هؤلاء الأولاد إلى أهل البلاد)
وأنا لا أقول إن التعليم الإلزامي هو التعليم المنشود للفلاح، ولا أقول إنه هو التعليم الذي يفسده ويشغله من المصالح والصالحات، ولكني أقول إن الإصلاح كله عبث ما لم يبدأ بإصلاح العقول والأذواق، وإن إرادة المصلح وحدها لن تحقق له ما يريده من الخير ما لم تقترن بإرادة المحتاجين إلى الإصلاح
عرض لي ما دعاني إلى البحث الطويل من ماء الشرب في الريف: كم من المساقي المرشحة أقامتها الحكومات المتعاقبة هناك؟ وكم منها أفاد وماذا أفاد؟ وكم من الفلاحين تعود النظافة في العيش بما تعوده من شرب الماء النظيف والاستحمام بالماء النظيف؟
فعلمت المضحكات المبكيات
كان المظنون أن المسقى المرشح لا يقام في القرية حتى يتهافت عليه أهلها وتتسابق القرى(373/1)
من أهل الجيرة القريبة إلى المطالبة بمثله فينتشر في أنحاء القرى قاطبة خلال أشهر معدودات، أو خلال سنوات على الأكثر إذا لم يسعف الماء
كان هذا هو المظنون وكان عجيباً ألا يكون
إلا أن العجيب هو الذي حدث ولم يعجب له أحد، وغير العجيب هو الذي دق عن الأفهام
شاع بين جمهرة من أهل الريف أن الماء النظيف ماء لا خير فيه ولا دسم فيه فهو مضعف للرجال. . .!
أما الماء الذي فيه الخير والدسم فهو الماء العكر الذي يجلب البركة إلى الأرض فتنبت ويجلب البركة إلى أصلاب الرجال فينبتون
وسألت غير واحد من الثقاة فأكدوا لي ما سمعت، وقال لي أحدهم إنه وقف بنفسه على طريق الماء المرشح فرأى الفتيات يتخطينه إلى مساقي الماء العكر وهي بعيدة من دورهن، وسألهن ما عيب هذا الماء النظيف؟ أليس أصلح للشرب وأسوغ في المذاق؟
قال: فتضاحكن وملن بعيونهن وهن يقلن: ولكنه رديء!
قال فسألتهن: وما رداءته؟
فلم يزدن على أن قالت إحداهن: أنا عارفة؟ كلهم يقولون إنه رديء وإنه يهد الحيل
ثم علم بعد الاستيضاح ما هذه الرداءة وما هذا الحيل الذي يهده ذلك الماء المسكين!
أيها المصلح الغيور دونك فأصلح!
ولكن قل لنا بحقك ماذا أنت مصلح في الريف: مضخات الماء أو تلك العقول في رؤوس الرجال والنساء؟!
وأرى أن سوء الفهم آفة يبتلى الفلاح من قبلها بأعظم البلاء، ولكنها دون الآفة الكبرى في الضرر والإيذاء، وهي فيما نعتقد سوء الظن والمبادرة إلى تصديق قالة السوء
يستقرئك الفلاح رسالة فتقرأها له بغير جزاء، ولا يخطر ببالك أن في الأمر ما يدعو إلى إساءة ظن أو تشكك في صواب القراءة
ثم ترقبه فتراه قد حمل الرسالة إلى ثان وثالث يستعيد قراءتها ليوقن أنك لم تخدعه ولم تهزأ به، وأن القراء جميعاً مخلصون لأنهم متفقون
ويسألك الطريق فتهديه، ثم يمضي خطوات فإذا هو قد أستوقف غيرك ليعيد عليه السؤال(373/2)
وهكذا في كل ما يسمع من النصائح ويتلقى من الإرشاد ولو لم يكن ثمة قط سبب للريبة والتردد في التصديق
هذا الظن السيئ حائل دون الثقة بالمصلحين وحائل دون النجاح في الإصلاح. فليس من اليسير أن تدخل في روع فلاح جاهل أن إنساناً من الناس يعّني نفسه ويطيل همه بإسداء الخير إلى إنسان آخر، ولكنه يسير كل اليسر أن تقنعه بنية السوء واتهام المقاصد والسهر على الكيد والخديعة
فإذا قيل مثلاً إن الماء النظيف يضعف الرجال، وقيل بعد ذلك إن إضعاف الرجال مقصود في سياسة من السياسات الخفية التي يدبرها بعض الأجانب، فقد ضمنت للإشاعة سرعة السريان وسرعة الإصغاء والقبول. وإذا حاولت بعد ذلك أن تنفي هذا الهراء فها هنا الصعوبة جد الصعوبة في استرعاء الآذان والأذهان، مع الكائدين بأجر معلوم. . . وإلا فما يفيدك؟ وماذا يعود عليك؟ ولماذا تشغل بالك بتبرئة أولئك الكائدين الذين لا شك في أنهم كائدون؟ أليس للناس عقول؟ أليس التواطؤ بادياً لكل ذي عينين؟. . . بلى. . وما من حاجة بعد هذا الوضوح إلى دليل! ومن النقائض الظاهرة أن هذا الفلاح الذي يستريب هذا الريب بالمصلحين يقع فريسة هينة سهلة المقاد لكل دجال أو مشعوذ يدعي له من الدعاوى ما يوجب الاتهام ويثير الشكوك
لماذا؟
أفي الأمر تناقض بين ذلك الحذر وهذا الاستسلام؟
كلا. . . لا تناقض إلا في الظاهر دون الحقيقة، لأن الحرص هو العلة الغالبة في كلتا الحالتين
فالحرص الذي يشكك الفلاح الجاهل في المصلحين هو الحرص الذي يخيل إليه أن الدجال قادر على تعويذه وتعويذ أبنائه وماشيته وغلاته بالرقى والعزائم والطلاسم والدعوات
والحرص الذي يوحي إليه أن أحداً من الناس لا يعّني نفسه ولا يطيل همه من أجل أحد آخر لا قرابة بينهما ولا مودة، هو هو الحرص الذي يوحي إليه أن الدراويش ومصطنعي التقوى يفعلون الخير لأنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة، وهي تجارة غير خاسرة ولا بائرة، وكثيرا ما يتفق أن (المتدروش) من هؤلاء يظهر له الزهد في ماله وما عسى أن(373/3)
يكافئه به من زاد أو مؤنةً، ثم يتسلل إلى جيبه أو خزانته من سراديب الغش والملق والمراوغة بعد الظفر بطمأنينته والنفاذ إلى مكامن سره ومواطن ضعفه وجشعه
فالآفتان الكبريان الرابضتان في طريق الإصلاح هما سوء الظن وسوء الفهم، وكلاهما حجاب حائل بين الناصحين والمنصوحين
وليس العائق كله من جانب القادرين على النفع فإن العاجزين عن الانتفاع يقيمون في وجه الإصلاح عائقا لا يجدي فيه الإقناع ولا الإرغام؛ وماذا يصنع القادرون على النفع بمن لا يريدون نفعاً أو بمن يريدونه ولكنهم يخطئون السبيل إليه، ويصرون على الخطأ ولا يستمعون إلى من يعالج هذا الإصرار بالبيان والبرهان، بل يسرعون إلى اتهامه هو في أكثر الأحيان؟
وما نبغي بهذا أن نيأس أو أن ننفض الأيدي من هذا الواجب الذي لا يعفينا منه عذر ولا تعلة. فالإصلاح فرض لا يرفعه عن الكواهل أنه عسير، بل لعل هذا العسر مما يوجبه ويستحث العزائم على النهوض بتكاليفه وأوقاره
ولكننا نبغي الدلالة إلى مواضع الصعوبة ومواضع التقصير، ونعتقد أن المزيد من التفاهم والتقريب بين الحضريين والريفيين، والمزيد من المثابرة عل إزجاء الأمثلة المحسوسة والبينات المقنعة، والمزيد من الدقة في اختيار الوعاظ والمرشدين، والمزيد من التعليم والتهذيب - خليق كله أن يروض ما جمع ويذلل ما استعصى من العيوب والآفات، ويغرينا بالرجاء أننا صنعنا شيئا بما بذلنا من الجهود ولم نضيعها كلها سدى كما يلوح لبعض المتشائمين
وأصاب صديقنا الأستاذ صاحب الرسالة حين قال: (إن هذا الفلاح لا يصلحه تنظيم قريته ولا تجميل داره. إنما يصلحه تربية ذوقه وإرهاف حسه)
نعم، فأنت إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري ورائك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد
عباس محمود العقاد(373/4)
بعض مآثر سعد زغلول
للدكتور زكي مبارك
أمتاز سعد باشا - طيب الله ثراه! - بميزات كثيرة جداً منها غزارة العلم وفصاحة اللسان وقوة الشخصية، وكانت له مآثر كثيرة جداً، منها المآثر الآتية:
أولاً - استطاع سعد بشخصيته العاتية أن يغزو ملايين القلوب بالحب والبغض، فأحبه ناس إلى حد الجنون وأبغضه ناس إلى حد الحمق: ومن عجيب أمره أن الذين أحبوه كانوا صادقين والذين أبغضوه كانوا صادقين، وكانت الوطنية الصحيحة مصدر العواطف التي تفجرت في قلوب أصدقائه وأعاديه. وما أذكر أني عرفت أحداً يبغض سعد باشا حسداً، لأن سعداً كان أهلاً للعظمة، وما كان يخطر في بال أحد أن سعداً ينال من سموّ المكانة ما لا يستحق، وإنما أبغضه مبغضوه وطنيةً كما أحبه محبوه وطنيةً، وقد جُنّ أحد أعدائه فأطلق عليه الرصاص، كما جُنّ أحد محبيه فودَّع العقل إلى غير رجعة يوم مات
وقد كنت في مطلع الحركة الوطنية من أنصار سعد، ثم تمردت عليه تمرداً عنيفاً، فكتبتُ، في الهجوم عليه ما كتبت وقلت ما قلت وأنا موقن بأني أخدم وطني بمحاربة ذلك الرجل المسيطر الجبار، ولم يصدني عنه إلا الإتلاف الذي نعمتْ به مصر في سنة 1926. فلما قضى نحبه بعد ذلك عرفت أني فقدت باباً من أبواب الثروة الروحية هو المعاداة في سبيل الوطن بلا ترفق ولا استبقاء
ماذا أريد أن أقول؟
أريد أن أقول إن سعداً قد استطاع إيقاظ الأفئدة المصرية فلم يعيش أحدٌ في عهده بلا روح ثائر أو قلبٍ خفّاق
كان المصريون لعهد سعد متحزِّبين بحماسة وصدق، ولم يكن فيهم رجلٌ واحد يواجه الشؤون الوطنية بلا اكتراث. فكان لأصدقائه جميعاً ولأعدائه جميعاً أقباس روحانية تشهد بأنهم لمبادئهم أوفياء. وأنصار الوفد وخصوم الوفد من الذين لهم في هذه الأيام قوة ذاتية قد تخرجوا جميعاً في مدرسة الحب ومدرسة البغض لعهد سعد، وكذلك نفع الرجل أعداءه كما نفع أصدقاءه، وبهذا صح القول بأنه أجج الجمرات التي صهرت أرواح الجيل الجديد.
ثانياً - اتفق لسعد أن يؤدي اللغة العربية خدمة عظيمة لا يتنبه لقيمتها إلا من يعرف ما(373/6)
كانت تتعرض له لغة العرب بعد الحرب الماضية
كان الأدعياء كُثروا، وكانت بدعة القول بأن العناية بالأسلوب ليست إلا حذلقة لا تليق بأبناء العصر الحديث، وكانت هناك فتنة يَنجُم قَرنها من وقت إلى وقت، وهي فتنة الرجم بأن اللغة الفصيحة لغة أجنبية وأن اللغة العامّية هي لغة المصريين. وقد وُئدتْ تلك البلايا وهي في المهد بفضل سعد، ولكن كيف؟
كان سعد من أبناء الجيل الماضي، وهو جيل سليم، ويشهد بسلامته وعافيته ما نهض به من جلائل الأعمال، فذلك الجيل هو بطل الثورة على الظلم والاستبداد، وذلك الجيل هو الذي قاومَ طغيان الغرب على الشرق، وذلك الجيل هو الذي عاونَ على قوة الشخصية القومية، وذلك الجيل هو الذي خلق مُنشَئات عظيمة منها الجامعة المصرية
من ذلك الجيل السليم كان سعد، وكان ذلك الجيل يؤمن بأن اللغة العربية هي أكرم ذخائرنا الوطنية، وكان يرى أن متانة الأسلوب هي العنصر الأول من عناصر البيان
وكذلك يفهم من لم يكن يفهم كيف كان سعد يُعنِّى نفسه ويعذِّبها في سبيل الظفر بالأسلوب الرصين
هل تذكرون كيف كان سعد ينظم خطاباته الرسمية وهو يتوجه إلى جلالة ملك مصر أو إلى الأمة أو إلى النواب والشيوخ؟ لو صح القول بأن الجهد الشاقْ يقصِّر الأجل لقلت إن عناية سعد باشا بالأسلوب قد نهبت من عمره نحو عشر سنين، وإلا فكيف جاز أن يموت قبل أن يصل إلى السن التي يموت فيها رجلٌ في مثل هامته العالية وبُنيانه المتين؟
إن اهتمام سعد بالأسلوب خلق في القلوب فكرة الحرص على كرامة اللغة العربية، وكان ذلك بداية انهيار جيش الأدعياء، من الذين كانوا يرون أن من السهل أن يكون الشخص أديباً بدون أن ينفق من عمره سَنةً واحدة في الإطلاع على ذخائر اللغة العربية. ومن حظ مصر أنْ كان خصوم سعد باشا يرون هذا الرأي، فكانت جريدة السياسة وجريدة اللواء وجريدة الأخبار تحارب جرائد الوفد بأسلوب ظل أثرها باقيا إلى هذه الأيام
وماضي سعد باشا في صباه يوم كان محرراً في (الوقائع المصرية) يشهد بأنه كان من الذين يستهويهم القول الجزل والتعبير المصنوع، وقد لزمتْه هذه الخصلة طول حياته فكان يرى البلاغة ضرباً من الفن الجميل لا يصل إليه الرجل إلا بعد أن يتمرَّس بأساليب(373/7)
الفطاحل من القدماء
وكان سعد خطيباً من الطراز الأول بشهادة الأكثرين، وقد حضرت له خطبتين إحداهما في بيت البكري بعد رجوعه من باريس عقب انفضاض مؤتمر الصلح، والثانية في مصر الجديدة أيام ثورته عل المرحوم عدلي يكن، ثم حضرت له خطبة ثالثة في مجلس الشيوخ يوم احتل الإنجليز الجمارك بعد مقتل السردار في سنة 1924، وفي هذه الخطب الثلاث لم أصدِّق أن منزلته الخطابية تساوي شهرته الشعبية، ومع هذا لا يمكن التغاضي عن سعد الخطيب، فقد كان أقدر الناس على خلق الانقلابات، وخطبته بشبرا أيام (وزارة الثقة) هي مصدر التقلبات السياسية التي ظلت تقلقل حياة مصر إلى هذا اليوم. وعلى الرغم من أنه لم يرضني خطيباً فما أزال أذكر كيف كان يخرج الحروف بأصوات ونبرات هي الشاهد على أنه كان في الخطابة من الفنانين
ثم حضرت خطبه مرة رابعة وخامسة فلم يتحسن رأيي فيه، فهل كان للعداوة السياسية تأثير في حكمي على ذلك الخطيب الذي بهر الجماهير زمناً غير قليل؟
المهمْ أن نسجل أن سعد باشا عاون معاونة جدية على صيانة اللغة العربية من عبث الجاهلين بأسلوب الأدب وأسرار البيان
ثالثاً - ترفق سعد بالتقاليد حتى ليمكن الحكم بأنه كان يكره الانقلابات الاجتماعية، وهو الذي صدنا عن لبس القبعات سنة 1927، ولولا مقاومته ومقاومة الأمير عمر طوسن لجرينا في الطريق الذي جرى فيه الأتراك. وهذه المسألة تبدو في صورة المسائل الشكلية، ولكن لها جذوراً أعمق من ذلك، فلو أننا كنا جارينا الأتراك في ترك الطرابيش لكان من الجائز أن نجاريهم في كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، ولكان من الجائز أن نسايرهم في اضطهاد رجال الدين، وهذا وذاك من الأغلاط التي وقع فيها الأتراك مجذوبين بتيار الانقلاب
كان سعد من المحافظين ولم يكن من الرجعيين، وكان على محافظته حر الفكر إلى أبعد الحدود، وهو الذي مَدَّ يده فنزع نقاب امرأة وقفت تخطب بين يديه، لأنه شعر بأن منطق العصر لا يقبل أن تُلقي المرأة خطبة وهي في حراسة النقاب
رابعاً - كان الجو في أيام سعد مشبَعاً بهواء ثقيل هو الدعوة إلى عزلة مصر عن الأقطار(373/8)
العربية والإسلامية، وقد أنتبه سعد إلى خطر ذلك الهواء فصدَّه بحزم وعنف. ولما وقع الزلزال بفلسطين في صيف سنة 1927 تبرع سعد بمائة جنيه لمنكوبي الزلزال وتبرع المرحوم عوض بك عريان المهدي بتسعة وتسعين جنيهاً فكانت نكتة لطيفة من نكت الذوق. وعواطف سعد من الوجهة العربية والإسلامية كانت عواطف الزعيم الذي يؤمن بأن العروبة والإسلام هما سند مصر في الشرق
خامساً - كان سعد أقوى نصير للمواهب الأدبية، وكان ينظر إلى القلم نظر الخوف والرجاء، ولم يكن يجيد المتعة الروحية إلا في محاورة أهل الفكر والبيان
كان سعد يحب أنصاره من الكتّاب فيقرِّبهم ويشجِّعهم، وكان يبغض خصومه من الكتّاب بغضاً شديداً، فلا يأوي إلى فراشه إلا بعد أن يطمئن إلى أنه سيقرأ في غده ما ينقض تحاملهم عليه، وكان يتقدم بنفسه من حين إلى حين فيخوض غمار المعارك القلمية بإمضاء مستعار ليشفي صدره من المتطاولين على مقامه الجليل
سادساً - كان سعد من أرباب القلوب، وتتجلى عظمة سعد من هذه الناحية إذا تذكرنا كيف نسى ما كان بينه وبين خصومه من الأحقاد السُّود بعد إذ منّ الله بنعمة الائتلاف، فقد كان سعد يبكي لفراق عدلي يكن وعبد الخالق ثروت، وكان صدقه في مودة هذين الخصمين من أكرم ما صدر عن قلبه السليم
سابعاً - كان لسعد فضلٌ عظيم في تقوية الشخصية الحزبية، وهي أساسٌ لجميع الأعمال الوطنية، حين تَحسُن النيات، وتصفو الضمائر، وتطيب القلوب
كان سعد رئيس الأمة، ولكنه لم ينس أبداً أنه رئيس الوفد، فكان يجاهد في تقوية ذاتيته الحزبية بعزيمة قهَّارة وقلب صوَّال، وهو الذي رفض السماح لأحد أنصار الوفد بالاعتراض على الحكومة الوفدية في مجلس النواب
وهنا ندرك أن سعداً كان يعرف قيمة المبادئ، وما كانت تجوز عليه الحيلة الطريفة التي تقول بالتفرقة بين المبادئ والأشخاص، والتي تبيح للرجل أن يخرج على حزبه بحجة أنه من أنصار الحق! ومعنى هذا الكلام أن الرجل يجب عليه أن ينصر حزبه ظالماً أو مظلوماً، وأن يؤازره في جميع الأحوال، ولو أعتقد أنه على ضلال
وبهذا الحزم الصارم نجح سعد، ولعله كان يفهم جيداً أن العضو في الحزب كالجنديّ في(373/9)
الكتيبة، فما يجوز له أن يتحدث في تعديل خطط القتال
أما بعد، فهذه لمحات من مآثر سعد، وما أريد بها التكفير عن الأعوام التي قضيتها في الهجوم عليه، فما كان لي من غاية ولا غرض في ذلك الهجوم شببتُ ناره في جريدة الأفكار وجريدة المحروسة وجريدة اللواء؛ وإنما كنت جندياً من جنود الحزب الوطني، وكنا نرى صادقين أن هدم سعد من أوجب الفروض
فإن قيل إن جهادنا في تحطيم سعد قد ذهب أدراج الرياح، فأنا أجيب بأن هذا من حظ مصر ومن حظ الحزب الوطني، لأن الحزب الوطني يسره أن يكون في مصر رجال ترضى عنهم الأمة وتقيم لهم التماثيل
الحزب الوطني ينتظر خصوماً من طراز سعد، خصوماً أقوياء لا تهدمهم معاول الحق، وما أعظم الرجل الذي تعجز عن هدمه معاول الحق!
وهل كان عبد العزيز جاويش على خطأ في محاربة سعد زغلول؟
وهل كان مصطفى الشوربجي آثماً في تفنيد المطالب الوفدية؟
إن انتصار الوفد في عهد سعد وفي عهد النحاس لن ينسينا مبادئنا، ونحن مع ذلك نرحب بانتصار الوفد ونرجو أن يطول بيننا النزاع والشقاق، لأننا نؤمن بأن السلام ضرب من الموت
كانت لنا مبادئ وكانت لنا ميادين قتال
فمتى يرجع ذلك العهد، العهد الذي كنا نشتجر فيه حول المقاصد الوطنية ونحن في غياهب الاعتقال؟
أيقضَى علينا أن نعيش في أمان فلا نعرف غير مصاولة الكاتبين والباحثين؟
ولكن لا بأس، فما كان النقد الأدبي إلا خدمة وطنية، لأن الأدب هو سفير مصر في الشرق
وسلام الله عل شهداء الوطنية في جميع الصفوف.
زكي مبارك(373/10)
خواطر في الحرب
عبرة الزمن
للأستاذ محمد عرفة
انجحْ في الحياة ولا تفشل، وتوخَّ أسباب النجاح، وتوقَّ أسباب الفشل، فإنك إن تنجح عدَّ الناس ذنوبك حسنات، وإن تفشل عدَّ الناس محاسنك مساوئ
هذه فرنسا كانت في رأي كثير من الناس أم المدنيات، وما من حضارة إلا وهي مقتبسة منها، وما من خير إلا إليها مرجعة؛ فلما أجتاحها الألمان، وسقطت تحت كلكل القوة، انقلب مدح الناس ذماً؛ والفضائل التي كانوا يعدونها لها صارت رذائل. . .
كانت ترى أن يربي الفرد لنفسه، ولا يرون أن يربي الفرد ولا يعطي للدولة إلا ما فضل عنه، فكانوا يرون ذلك معها، ولا يرون أن يربي الفرد للأمة كما يرى الألمان
وكانت ترى الحرية في أوج مداها، فكانوا يرون ذلك معها ولا يرون أن أناساً قد تفسدهم الحرية كما تصلح قوماً آخرين
وكانت ترى إشباع الشهوات، والأخذ بأكبر قسط من ملذات الحياة، فكانوا يرددون هذا، ويرون أن الأخذ بضد ذلك سجن للحرية، وشقاء للنفس والمجتمع
وكانت ترى تضييق حدود النسل، فكانوا يرون أن الحق معها وأن المرء لم يخلق ليكون عاملاً غير مأجور لأولاده وأسرته
وكانت وكانوا إلى ما شاء الله من هذه الآراء. فلما هزمت في الحياة صار هذا الجلال صغاراً، وذلك النور ظلاماً، وانقلبت كل هذه المحاسن والمحامد آثاماً وعيوباً في أقل من طرفة عين.
ما هذا الذي بدَّل الحسن، وشوّه ذاك الجمال، وأحال الأمور إلى أضدادها؟. . . إنه الفشل، وقاتل الله الفشل
والناس من يلق خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأمّ المخطئ الهبل
محمد عرفة(373/11)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤئها
تأثير اللغة باللغات الأخرى: تبادل المفردات بين اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب
عالجنا في المقال السابق عاملاً من عوامل تطور اللغة، وهو انتقالها من السلف إلى الخلف، وسندرس في هذا المقال عاملاً آخر من هذه العوامل وهو تأثر اللغة باللغات الأخرى
من المقرر أن أي احتكاك يحدث بين لغتين أو بين لهجتين - أيَّا كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة - يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى
ولما كان من المتعذر أن تظل لغة بمأمنٍ من الاحتكاك بلغة أخرى، لذلك كانت كل لغة من لغات العالم عرضة للتطور المطرد عن هذا الطريق
وأهم ناحية يظهر فيها هذا التأثر هي الناحية المتعلقة بالمفردات. ففي هذه الناحية على الأخص تنشط حركة التبادل بين اللغات، ويكثر اقتباسها بعضها من بعض: وقد تذهب بعض اللغات بعيداً في هذا السبيل، فتقتبس معظم مفرداتها أو قسماً كبيراً منها عن غيرها: كما فعلت التركية مع الفارسية والعربية، والسريانية مع اليونانية، والفارسية مع العربية. . . وهلم جرا.
وأما القواعد وأساليب الصوت فلا تنتقل في الغالب من لغة إلى أخرى إلا بعد صراع طويل بين اللغتين؛ ويكون انتقالها إيذاناً بقرب زوال اللغة التي انتقلت إليها واندماجها في اللغة التي انتقلت منها
ولهذا تخضع في الغالب الكلمات المقتبسة للأساليب الصوتية في اللغة التي اقتبستها، فينالها كثير من التحريف في أصواتها وطريقة نطقها، وتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة. فالكلمات التي أخذتها العربية مثلاً عن الفارسية واليونانية قد صبغ معظمها بصبغة(373/12)
اللسان العربي حتى بعد كثيراً عن أصله. ومن ثم نرى الكلمة الواحدة قد تنتقل من لغة إلى عدة لغات، فتتشكل في كل لغة بالشكل الذي يتفق مع أساليبها الصوتية ومناهج نطقها، حتى لتبدو في كل لغة منها غريبة عن نظائرها في اللغات الأخرى. فالكلمات العربية مثلاً التي انتقلت إلى اللغات الأوربية قد تمثلت في كل لغة منها بصورة تختلف اختلافاً غير يسير عن صورتها في غيرها
وكثيراً ما ينال معنى الكلمة نفسه تغيير أو تحريف عند انتقالها من لغة إلى لغة أو من لهجة إلى أخرى: فقد يخصص معناها العام ويقصر على بعض ما يدل عليه؛ وقد يعمم مدلولها الخاص؛ وقد تستعمل في غير ما وضعت له العلاقة ما بين المعنيين؛ وقد تنحط إلى درجة وضيعة في الاستعمال فتصبح من فحش الكلام وهجره؛ وقد تسمو إلى منزلة راقية فتعتبر من نبيل القول ومصطفاه. . . وهلم جرا
ويختلف مبلغ ما تأخذه لغة عن أخرى باختلاف العلاقات التي تربط الشعبين وما يتاح لهما من فرص الاحتكاك المادي والثقافي. فكلما قويت العلاقات التي تربط أحدهما بالآخر، وكثرت فرص احتكاكهما، نشطت بينهما حرمة التبادل اللغوي ولذلك تبلغ هذه الحركة أقصى شدتها حينما يسكن الشعبان منطقة واحدة أو منطقتين متجاورتين؛ فالإنجليزية قد أخذت عن النورماندية أكثر مما أخذته عن أية لغة أخرى؛ لأن الغزاة من النورمانديين قد أستقر بهم المقام في نفس بلاد الإنجليز المغلوبين. واللاتينية قد اقتبست من الإغريقية أكثر مما اقتبسته من أية لغة أخرى؛ وذلك لتجاور منطقتيهما وشدة الامتزاج بين الشعبين الناطقين بهما. ولهذا السبب نفسه بلغت حركة التبادل اللغوي أقصى شدتها بين العربية والفارسية والتركية. وما اقتبسته ألمانية سويسرا من اللغة الفرنسية لا يذكر بجانبه ما اقتبسته منها ألمانية النمسا مثلاً؛ وذلك لأن القسم الألماني اللغة في سويسرا متاخم للقسم الفرنسي اللغة ولشدة الاحتكاك بين سكان القسمين، على حين أن النمسا غير متاخمة لمنطقة فرنسية اللسان. وقد تسرب إلى لغة رومانيا عدد كبير من مفردات الشعبتين الصقلبية والمجرية، على حين أن أخواتها اللاتينية الأصل (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية) لم تكد تتأثر بهذين اللسانين؛ وذلك لأن رومانيا قد انعزلت عن أخواتها اللاتينية وأحاط بها من جميع جهاتها أمم صقلبية اللسان أو مجرية(373/13)
والمفردات التي تقتبسها لغة عن غيرها من اللغات يتصل معظمها بأمور قد اختص بها أهل هذه اللغات، أو برّزوا فيها، أو امتازوا بإنتاجها أو كثرة استخدامها. . . وهلم جرا. فمعظم ما انتقل إلى العربية من المفردات الفارسية واليونانية يتصل بنواح مادية أو فكرية امتاز بها الفرس واليونان وأخذها عنهم العرب. ويتألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية عن النورماندية من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام؛ وذلك لأن النورمانديين كانوا يفوقون الإنجليز كثيراً في هاتين الناحيتين، فغزرت مفرداتهما في لغتهم بينما قل ورودها في لغة الإنجليز القديمة. وقد انتقل إلى اليونانية، ومنها إلى اللاتينية، كثير من الكلمات الفينيقية المتصلة بشئون الملاحة والبحرية؛ وذلك لأن الفينيقيين قد سبقوا غيرهم من الشعوب في هذا المضمار. وانتقل إلى اللاتينية كثير من الكلمات الإغريقية المتعلقة بالمصطلحات الفلسفية والدينية؛ وذلك لبراعة الإغريق في ميدان الفلسفة، ولأن الدين المسيحي قد أنتشر بفضلهم في شرق الإمبراطورية الرومانية ووسطها. وقد أخذت اللغات الجرمانية عن اللاتينية كثيراً من المفردات المتصلة بالقضاء والتشريع ونظم الاجتماع والسياسة. . . وما إليها، وذلك لأن الرومان كانوا مبرزين في جميع هذه الشئون، ولهذا السبب نفسه انتقل إلى الفرنسية كثير من الكلمات الجرمانية المتصلة بشئون الحرب نفسها، ومنها كلمة الحرب من الكلمات الإيطالية المتعلقة بالموسيقى وآلاتها والفنون الجميلة؛ وانتقل إلى معظم اللغات الأوربية وغيرها المفردات الإنجليزية المتصلة بالألعاب الرياضية، والمفردات الفرنسية المتعلقة بالأزياء وألوان الطعام
ومن أجل ذلك تنتقل مع المنتجات الزراعية والصناعية أسماؤها في لغة المناطق التي ظهرت فيها لأول مرة أو اشتهرت بإنتاجها أو تصدر منها في الغالب، فتنتشر عن هذا الطريق في لغات البلاد الأخرى. فكلمة الشاي قد انتقلت إلى معظم لغات العالم من لغة جزر ماليزيا التي كانت المصدر الأول لهذه المادة ((شاي) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ)، وكذلك كلمة الطباق؛ فقد انتقلت إلى معظم اللغات الإنسانية من لغة السكان الأصليين لأمريكا حيث كشفت هذه المادة لأول مرة ((طباق) في العربية في الفرنسية في الإنجليزية. . . الخ).
وعن هذا الطريق انتقل إلى اللغات الأوربية كثير من الكلمات العربية الدالة على منتجات(373/14)
زراعية أو صناعية: كالليمون الموصلي (وهو نسيج خاص ينسب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل قصب السكر المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج ينسب إلى دمشق)
في الإنجليزية , , , , , , , , , , , ,
وفي الفرنسية , , , , , , , , , , , ,
علي عبد الواحد وافي
دكتور في الآداب من جامعة السربون(373/15)
أوراق مبعثرة
من ظلال الهوى
(مهداة إلى الدكتور زكي مبارك)
للأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . قلت لها ونحن نمشي على رَوْدٍ بين الكروم: (ماذا تريدين يا نشْوى. . . وماذا تودين؟ أتريدين ثوباً مذهباً يلمع، أم طيباً ناعشاً يسطع، أم تودين سماع الأقاصيص الناعمة التي ترقص لها البطولة، ويغني في ثناياها الحب. . . أم يهفو قلبك إلى أحاديث الغزل، وتتلمظ شفتاك لخمر القبل. . .؟)
قالت: (لا. . . ولكني أريد فتى يكون لي وحدي؛ يموج قلبه بحبي، وتصفقُ روحه لجمالي. . . ولا يرى في الوجود سواي
ما نفعُ الثوبِ اللامع إذا كان الحبيب الذي يراه لا يسكر لمرآه. . .
وما غناءُ الأقاصيص والأحاديث إذا كان القلب الذي ينظمها لا يتدفق بالحنين ولا يغني للحياة. . .
نعم متى جاء الحبيبُ. . . جاء كل شيء. . .!
ثم انعطفت تقطف أوراق كرمة نعسى. . . فقلت لها:
ألستُ فتاك الذي تودين. . .؟
قالت: لا. . .
قلت: بلى. . . أنت تحبينني يا نشوى. . . اذكري الدمعَ الذي ذرفته من أجلي، إذ مستني الحمى فأصبحت ساهماً واجماً. . . واذكري الفرحَ الذي يطل من نظراتك، ويلهبُ أعطافكِ وقسماتك إذا ما لقيتني. لا تنكري يا نشوى. . . أرأيت تهيامي بكِ وتحناني إليك فجئت تدلين وتعبثين. . .؟ أرودي في مشيتك. . . وتعالي إلى أحضان هذه الأعشاب، أسمعك النشيد الذي نظمته أصيل الأمس.
فقفزت فوق كرمة متراخية، وارتمت بين أوراقها، وجلست أنا أمامها، وأنشدتها قصيدتي التي أولها:(373/16)
يا سادراً هيمان ... يبكي ولا يصحو
وكان الدمُّ الدفّاق في خديها، والفرحُ الراقص على وجْنتْيها، يكسبانها وضاءة ونضارة، فاقتربتْ مني، واستراح رأسُها على صدري، وسرحت بصرها في جنبات السهل الساجي تحت أقدامنا فحنوت عليها، وضممتها إلى صدري، كما تضم الأم وليدها، وراحت شفتاي تسكبان على سحرها حنيناً لازعاً وحباً ناعماً، وشعوراً مُترعاً بالحماسة واللذة والفرح
ما أروعَ لياليك أيها الحب!
لقد كانت ليلة نديانة بالقُبل نشوانة بالغزل، وكان يخيل إلينا أن الحبَّ الذي جمعَ قلبيْنا بالمودّة، ورُوحينا بالوئام، يجوبُ السفوح، ويرف في أشعة القمر الصبوح، ويخلع على الدنيا السناء والبهاء. وكان القمرُ كالأمير الغُرانق الجميل، حفُّت به الغيومُ البيضُ لترقصَ أمامه عرايا بدلال وفتور. . . وكان بريق أشعته على قمم الجبل فتنير تلك السنديانات الهاربة نحو السماء، ثم تزحف نحونا بهدوء لتسمعَ أناشيدَ الهوى وترى جنون الصبا؛ حتى غمرتنا، وطفَتْ على المحاني والرُّبى فحسبنا أننا في بحيرة من الأنوار السُّمر والفاترة، وأن الكرمات زوارق سكرى، وأننا غريقان في الّلجج، تائهان فوقَ الثبج، نتلمسُ الشاطئ فلا نجده، ونتقرّبُ من الضفَّة فلا نلقاها. . .!
وسمعنا الشلاَّلَ يغني لنا، وانتشر العبيرُ حولنا، وضحك السهلُ والجبلُ لمرآنا، ورفعتْ الصخورُ رؤوسَها لترانا. . . وسكرنا سكرَيْن: سكرَ هوى وسكرَ جمال. . .
بوركتَ أيُّها الجبلُ القائمُ كالفارسِ الأسمرِ الجميل. . .!
لقد قال لي بالأمس وأنا أرتو إليه في شحوب الأصيل: (لقد حفظت ذكرى الحبيبة بين صخوري، وجاء البشر يرتع فوق جذوري، وتمايلت الأعاشيب على صدري، وتزاحمت الأزاهير لتطرز سفوحي، وغنت الرعاة باسم فتاتك في متوع الأصابيح وسجوّ الأماسيّ
لقد حفظت ذكراها. . . لأن تلك الدموع التي ذرفتها أصبحت منبت الأزاهير، ولأن تلك القبلات التي غنت برنينها النسيمات أضحت ينبوعاً للأغاريد، ولأن حنين الشفاه ونجوى القلوب عادت أناشيد الرعاة!)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(373/17)
قصة كتاب الديارات
للشابشتي
للأستاذ كوركيس عواد
إن كان لكل شيء قصة، فلكتاب الديارات للشابشتي قصة، أرويها فيما يلي، وذلك على أثر المقال الذي نشره عنه الأستاذ صلاح الدين المنجد، في العدد 368 من الرسالة الغراء: لقد رغبت في نشر (كتاب الديارات) للشابشتي، منذ سبع سنوات، حينما أخرجت للناس في سنة 1934 كتابي المسمى (أثر قديم في العراق: دير الربان هرمزد) القائم بجوار الموصل. فقد كان صاحب المعالي (يوسف غنيمة)، نبهني حينذاك إلى أهمية كتاب الشابشتي، بالمقدمة التي وضعها لكتابي المذكور. فازدادت رغبتي فيه يوماً بعد يوم، وقد مضت سنة ونصف سنة منذ اختمرت عندي فكرة نشره. فأقدمت على العمل بعد أن أعددت له عدته، ليكون ما أقوم به على الوجه العلمي الذي يستحقه هذا الكتاب الجليل، ويرتضيه أرباب البحث من الأدباء والمؤرخين
وكتاب الديارات للشابشتي لم يبقَ منه اليوم سوى نسخة وحيدة في خزانة برلين برقم (8321). وأن تحرينا وجه التدقيق قلنا أن هذه النسخة البرلينية ما هي إلا قسم من الكتاب الأصلي، فهي مخرومة من أولها بمقدار لا يمكن معه معرفة عدد أوراقه الذاهبة، كما أنها ناقصة من وسطها بعض النقصان. على أن كافة النسخ المعروفة اليوم لكتاب الديارات، سواء المصورة منها والمخطوطة، مصدرها هذه النسخة الفريدة التي كتبت سنة 631 هـ. فهي، ولا مراء، أمهن جميعاً، ولولاها لكانت خسارة الأدب فادحة
أما حصولي على نسخة هذا الكتاب، فكان على يد العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، فإنه في إحدى كينُوناته في مصر وذلك في سنة 1938، حصل على النسخة المصورة التي كانت بيد المستشرق الدكتور أ. فيشر وكان قد صورها قبل حرب سنة 1914 ليتولى طبعها هو بنفسه، لكن لما تعددت أشغاله وأحب أن يقدِّم على طبع كتاب الديارات معجمه الملحق بمعاجم لغويي العرب، دفع النسخة المصورة إلى الأب المذكور، لعلمه أنه قد عزم على طبعه. وبعد ذلك نقل الأب نفسه وبقلمه نسخة ثانية معتمدة، فصارت النسخة بهذا نسختين. ثم لما توافرت شغالة ناط بي نشر الكتاب بعد أن علم مبلغ رغبتي في ذلك، فدفع(373/19)
إلي نسختيه المذكورتين، قبل سنة ونصف سنة، فاعتمدت عليها في كتابة نسخة ثالثة بيدي، كانت عنايتي بنقلها وضبطها تفوق حدود الوصف، ثم أعدت مع الشكر النسختين المصوَّرة والخطية إلى صاحبهما. وأكببت بعد ذلك على دراسة نسختي، واجتهدت بروية دقيقة في ضبط ألفاظها وتحقيق ما فيها من أعلام الأشخاص والمواقع والشؤون العمرانية والأخبار التاريخية والروايات الأدبية والأشعار وما إلى ذلك. وأفرغتُ كنانة وسعي في الرجوع إلى عشرات من الكتب العربية وكنت قد خصصت بضع ساعات من كل يوم، مدة سنة وبعض أخرى، لخدمة هذا الكتاب، وتصحيحه، والتعليق عليه بما لا مزيد عليه من العناية به
وقد وجدت من الخير لهذا الكتاب أن أعود إلى المؤلفات الأرمَنية أيضاً، وقد مكنتني معرفتي لهذه اللغة من الوقوف على عدد منها أربى على الثلاثين، وكلها ذات مساس بموضوع الديارات؛ والحق أنني خرجت منها بفوائد جليلة. ورأيت من الضروري الرجوع إلى طائفة صالحة من المؤلفات الإفرنجية فضلاً عن المؤلفات العربية الحديثة
وكان الأب أنستاس، قد سّلم نسخته المكتوبة، بعد انتساخي عليها نسخة، إلى صديقنا المحقِّق الدكتور مصطفى جواد، ليطَّلع على هذا الكتاب، ويقّيد في أثناء مطالعته له ما يعنّ له من الملاحظات والتصويبات على هوامش النسخة. فطالعها الدكتور مطالعة مدققة، وذلك شأنه في كل ما يطالع، فصحح في أغلاطها، وكشف وجه الصواب عن تحريفاتها، وقوَّم ما أناد منها على أيدي النسَّاخ، كما حقق أموراً جمَّة من أعلامها، وحل كثيراً من مغلقاتها. وقد سمح لي كل منهما بنقل هذه الملاحظات الثمينة، لأنهما يرقبان الكتاب ويأملان أن يخرج في أتم ما يمكن من الإتقان. وقد نقلت تلك الملاحظات شاكراً فضلهما، وأدخلت كل واحدة منها مقرونة باسم صاحبها الدكتور مصطفى، في محلها من حواشي الكتاب
فأنت راء أن كتاب الديارات للشابشتي، قد انتقل بعد كل هذه الجهود من عالم إلى عالم، وأضحت أخباره ومروياته مدعومة بما يؤيدها من الأسانيد الواردة في المراجع القديمة الأخرى، وقد أضفتُ إلى الكتاب ملحقات جمّة، في أحدها معلومات طريفة بتلك الديارات الساقطة تراجمها من مخطوطة برلين، وذلك بعد أن ثبت لي لزوم اشتمال الأصل عليها. كما وضعتُ ملحقاً ثانياً مطولاً، يكون (مستدركاً) على الشابشتي، وفيه أخبار الديارات التي لم يتطرق إلى ذكرها، وبينها ما هو من الخطورة الأثرية والتاريخية والأدبية بمكان رفيع.(373/20)
ويلي ذلك ملحقات أخرى عمرانية وتاريخية وبلدانية أضرب عن ذكرها الآن صفحاً قصداً إلى الاختصار. وأخيراً جعلت (الفهارس) المتنوعة، وكلها في غاية الضبط، بحيث تكشف عن مكونات الكتاب المختلفة، وتيسِّر للقارئ مراجعة مضموناته. وكان قصدي من كل ذلك، أن يكون كتاب الشابشتي، مع المستدرك الذي وضعتُهُ عليه وسائر الملحقات والتعاليق، أتمّ وأوفى كتاب للديارات
وقد أنهيتُ عملي قبل أشهر، ونويتُ إذ ذاك عرض الكتاب على الطبع؛ غير أنه قد صدمني غلاء الورق وكثرة النفقات، وهما أمران ناشئان عن قسوة الأحوال الحاضرة، فاضطررت إلى تأجيل نشره إلى فرصة ثانية
هذا ولعل من القراء من يتذكرون أنه مرت في هذه المجلة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر (أنظر الرسالة (العدد360) حاشية 3 من الصفحة 895 ب) إشارة صريحة تذكر أنني عازم على إخراج هذا الكنز من مدفنه. ثم إن عندنا في العراق عدداً كبيراً من المؤرخين والأدباء وأولى البحث يعلمون الشيء الكثير من أمر اشتغالي بتحقيقه والعناية به
وفي هذا اليوم وصل إليّ العدد 368 من الرسالة الغراء، وإذا فيه مقالة وجيزة للأستاذ صلاح الدين المنجد، وعنوانها (كتاب الديارات) للشابشتي. فاستبشرتُ بها واندفعت إلى مطالعتها حرصاً مني على الوقوف على كل ما من شأنه أن يكشف لي شيئاً جديداً من أمر هذا الكتاب أو مؤلفه. غير أنني وإن لم أخرج منها بما كنت أنتظر ولا بأقل من ذلك، قد سرني منها أن كاتبها ينوي نشر هذا الكتاب بعد أن ظلَّ مدفونا في زوايا الخزائن، كما سرني أنه سينشر منه نبذة في العدد القادم من الرسالة الغراء
وأن من طريف الاتفاقات أن يُقدم باحثان عل نشر كتاب واحد، دون أن يعلم أحدهما بما يعمله الآخر، وهذا سيكون من مصلحة الثقافة، وهل ذلك إلا دليل واضح عل خطورة ذلك الصنف الجليل وأهميته البالغة، التي أغرت أثنين بخدمته وإعداده للنشر؟ فإن كان الأمر على ما ذكر، فما عسى أن يمنعني عن نشر الكتاب بالوجه الذي رسمتُهُ لنفسي، سواء أعَمِلَ غيري على نشره أم لا. هذا وأني موقن أن ما بذلته من العناية وطول البحث في سبيل هذا المؤلف يتطلب مني ألا أهمل نشره، بل لا أتردد في ذلك مهما كان من الأمر، ما دامت غايتي من ذلك كله خدمة العلم لذاته. ثم إن ملاحظات عنَّت لي في أثناء مطالعتي(373/21)
لمقال الأستاذ المنجد، أرجو أن يتغاضى عن بياني لها هنا، جلاء للحقيقة وحباً للفائدة
أولاً: ذكر أن نسخة المجمع العلمي العربي بدمشق مصورة على نسخة أحمد تيمور باشا، المصورة على نسخة خطية فريدة في خزانة برلين برقم 1100، والصواب أنها برقم 8321 كما يلاحظ في قائمة مخطوطات برلين العربية
ثانياً: وقال أيضاً: (وأول من نقل عن هذا الكتاب (يقصد كتاب الديارات)، ونوه به هو السيد حبيب الزيات، فقد أخرج للناس في تموز من عام 1935 (كذا، والصواب عام 1938) عدداً خاصاً من مجلة الشرق الكاثوليكية في بيروت عن الديارات النصرانية في الإسلام، فنقل عنه نقولاً كثيرة.) قلنا: الذي نعلمه يخالف ذلك كثيراً؛ فقد تتبعنا من نَقَلَ عن هذا الكتاب من المعاصرين، وتعقبنا نقولهم، فوجدنا أن أقدمهم في النقل المستشرق السويسري متز المتوفى سنة 1917؛ فقد اقتبس فقرات عديدة منه في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، ولقد أحصينا في الجزء الأول فقط الذي نقله إلى العربية الأستاذ محمد عبد الهادي أبو ريدة تسعة عشر موضعا اقتبس فيها من كتاب الديارات
وتلاه المستشرق الألماني سخاو فنشر سنة 1919 بالألمانية رسالة ثمينة تقع في 43 صفحة من القطع الكبير، عنوانها (كتاب الديارات للشابشتي). فيها هذا الكتاب، كما أتى على خلاصة بحوثه، ثم ترجم منه نبذاً مختلفة، بينها تلك الحفلة العباسية الرائعة التي جرت في قصر بركوارا في سامراء في عهد المتوكل الخليفة العباسي
وتلاهما الأستاذ المحقق حبيب زيات فنقل من كتاب الديارات هذا، سنة 1927، فقرتين في بحثه المعنون (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) المنشور في مجلة لغة العرب (5 (1927) ص461 - 465). ثم نقل عنه ثانية سنة 1928 نقولاً كثيرة في بحثه النفيس (نقد كتاب الديارات الوارد في الجزء الأول من مسالك الأبصار) المنشور في لغة العرب أيضاً (6 (1928) ص322 - 342). وفعل ثالثة سنة 1935، فنقل منه كتابه (الصليب في الإسلام) مرتين، وكان آخر نقوله عن الشابشتي ما أورده في كتابه القيم (الديارات النصرانية في الإسلام) وهي التي أشار إليها الأديب المنجد بكونها أقدم النقول التي وقف عليها!(373/22)
ولنا أن نضيف إلى ما ذكرنا، تلك الفقرات الكثيرة التي نقلها الأستاذ محمد كامل حسين في كتابه (في الأدب المصري الإسلامي)
إن كان الشيء بالشيء يذكر، فنقول إن هناك جهوداً مختلفةُ بذلتْ في سبيل إخراج هذا الكتاب إلى حيز النشر. أقدمها يعود إلى همة المستشرق هير حسبما أشار إلى ذلك البحاثة لسترنج في حاشية الصفحة 211 في كتابه وكان قد سبق له في سنة 1899 أن وصف هذا الكنز الثمين في بحث له في الخطورة التاريخية والبلدانية لمعجم ياقوت الحموي. وعلى ما يظهر لنا لم يوفق المذكور لنشره حينذاك، لأسباب لا أعلمها
ثم تلتها جهود المستشرق سخاو في نشر رسالته المنوه بها آنفاً. فقد عرف بها كتاب الديارات للعلماء ومتتبعي الآثار القديمة العربية، ووقفهم على خلاصة مضموناته، غير أنه لم ينشر الأصل بكماله
وكان المستشرق فيشر قد عزم - على ما أخبرني به الأب أنستاس - على نشر هذا الكتاب أيضاً وسبقتْ منا الإشارة إلى ذلك؛ غير أنه عدل عن ذلك للأسباب التي ذكرناها في صدر كلامنا
هذا ولدينا في هذا الشأن تفاصيل أخرى كثيرة نرجئ نشرها إلى المقدمة المسهب فيها التي صدّرنا بها هذا المؤلَّف النفيس
ثالثاً: قال الأستاذ المنجد ما نصه: (ووضعتُ للأديار مخططاً يبين مكان كل منها. . .)
قلنا: إن في هذا القول شيئاً كثيراً من التجوّز، إن لم نقل من الإدعاء! فإن كتاب الديارات للشابشتي يتناول - بحسب النسخة الوحيدة البرلينية - أخبار خمسة وخمسين ديراً. منها: ثمانية وثلاثون في العراق، وثلاثة في سوريا ومثلها في فلسطين، وثلاثة أخرى في تركية، والباقي وهو ثمانية في مصر. ومعلوم أن أغلب هذه الديارات عراقية
فأنا مع تتبعي لموضوع الديارات، منذ أكثر من عشر سنين، وكوني امرأً عراقياً لا يدع الفرصة تفوته دون الوقوف على ما يتعلق بشؤون بلاده من الوجهات الأثرية والتاريخية والبلدانية. . . أزيد على ذلك أني أحد موظفي دار الآثار القديمة في العراق، وهذه الدار أولى من غيرها بتعقب أمثال هذه المواقع الأثرية، بل هي صاحبة الدراية بها. . . نعم، مع كل ذلك، لم أستطع بعد الجهد تعيين (المواقع الحقيقية) إلا لعشر ديارات عراقية من تلك(373/23)
الثماني والثلاثين التي تكلم عليها الشابشتي! أما ما تبقى منها، فلا أثر لها البتة اليوم، كما لا يمكن الاهتداء إلى مواقعها وتعيينها بصورة علمية خططية مضبوطة يصح الركون إليها. وبعد هذا لا ندري كيف أمكن للأستاذ المنجد أن يضع (مخططا يبين مكان كل منها)؟
رابعاً: لم يشر البتة إلى الاختلاف الواقع في تعيين سنة وفاة الشابشتي. فبينما نرى أن ابن خلكان (وفيات الأعيان 1: 481 بولاق) يقول أن وفاته كانت سنة 388هـ إذ نجد ياقوتاً الحموي (معجم الأدباء 6: 407 طبعة مرجليوث) يقول أنه مات سنة 399 هـ. والفرق، كما لا يخفى، ظاهر بين هذين التاريخين ولا يصح السكوت عنه
هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقني في القريب العاجل إلى إخراج هذا المصنف الجليل، الذي هو جدير بكل عناية وأهل لكل خدمة علمية، ومن الله الفلاح.
(بغداد)
كوركيس عواد(373/24)
بين الفهم والاجتهاد
المعاني شائعة ولا تجوز الملكية فيها
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
كتب ناقد أديب في الرسالة الغراء مقالاً عنوانه من عجائب الاجتهاد، يسجل فيها بعض المعاني التي أخذها الدكتور بشر فارس لمسرحيته من ديوان الأستاذ العقاد، وديوان الشاعر الأستاذ علي محمود طه المهندس
وهذا الاتهام - وأعني اتهام الشعراء بالسرقة والأخذ - قديم منذ اللحظة التي نشأت فيها حركة النقد الأدبي. وهي حركة ترجع إلى العصر العباسي حينما استطاع الذوق الأدبي أن يتكون. ومن أبطال هذه الحركة الآمدي صاحب الموازنة وأبن رشيق صاحب العمدة وقدامة بن جعفر نقد النثر ونقد الشعر وغيرهم
ولما استوت عوم البلاغة ووضعت لها قواعد والأصول، استطاع النقد الأدبي أن يجد فيها مستنداً يستند إليه. وأفردت فصول خاصة بالمعاني والسرقات الشعرية
والواقع أنه من الصعب أن يستقصى المعنى الواحد ويُتتبع ويرد إلى مخترعه أو مفتض عذرته. وقد حاول هذه المحاولة أبو هلال العسكري في كتابه ديوان المعاني، ونجح - إلى حد ما - في جمع المعاني الواحدة في سمط واحد مع التدرج في استعمالها، ووجوه الحسن في هذا الاستعمال وهل كان الآخذُ مفضِلاً على المأخوذ منه أم مساوياً أم مقصراً عن بلوغ شأوه
واشتط بعض البلاغيين في هذا الباب فوضعوا للسرقات الشعرية أسماء كثيرة كالمسخ والسلخ والسلخ والنسخ وغيرها. وكأنهم - سامحهم الله - جعلوا أسبقية الزمان سببا في الاتهام. فالشاعر التالي يعد في نظرهم آخذاً أو سارقاً إذا اتفق له معنى مما يكون قد اتفق لشاعر سابق. وقد يكون الشاعر المتهم بالأخذ أو السرقة أو السطو - أو ما شئت أن تسميه - بريئاً من ذلك كله. وقد يكون للمصادفة وحدها فضل اتفاق الخاطرين وورودهما على معنى واحد
ومثل الذي يقال في الشعر يقال في النثر؛ فمن الظلم أن يتهم دانتي صاحب الكوميديا الإلهية بالسطو على رسالة الغفران للمعري لاتفاقهما في كثير من الأفكار وأسلوب التحليق(373/25)
في السماوات، كما أنه من الظلم أن يتهم قصصي بالسرقة من قصصي آخر لمجرد اتفاق الفكر بين الكاتبين
نعم في الأدب العربي كما في أدب كل أمة جماعة من اللصوص الذين يحبون أن ينسب دائماً فضل غيرهم إليهم. وهذا النوع من اللصوصية جريء كل الجرأة، لأنه لا يستحي ولا يخشى النقد إذا ما ضبط. . . ولكن الغالب في هذا النوع أنه يتوارى متى كشف الناس أمره وتبين للناقدين زيفه
وهذا النوع لا يعنينا أن نكتب عنه لأنه لا يستحق الكتابة قدر استحقاقه العقاب. أما ما نقصد إليه فهو هذه المعاني الزاخرة المشتركة بين النفوس الإنسانية التي تعد بالملايين. . . هذه المعاني التي تدور على بعض النفوس، وتشترك في بعض الخواطر، ويعتلج بها بعض الصدور، فإذا ما سجلها بعضهم بالكتابة سمعت صيحات عالية تنادي أن هذه سرقة، وأن هذا المعنى لفلان دون فلان
وليس غريباً أن يتفق الشاعران أو الكاتبان في الفكرة الواحدة أو أن يقع في بعض النفوس ما يقع في البعض الآخر. وهذا النبع العظيم من التفكير الإنساني لابد أن يجد له مسيلاً في نفوس كثيرة متشابهة. فكثيراً ما نرى بعض الناس في أحاديثهم الخاصة تتفق أفكارهم الخاصة في لحظة معينة بذاتها. كأنما ألهم كل منهما الرأي إلهاماً
وكثيراً ما نسمع بين المتحادثين هذه العبارة المألوفة (عمرك أطول من عمري) وهي عبارة لا نحاول أن نثبت بها قضية نذهب إليها؛ وإنما نسوقها فقط لنبرهن بها على ما يجري بين المتخاطبين من توافق في الأفكار أو الألفاظ، كما يقع في كثير من الأحيان
والسرقة هنا أمر عظيم وحادث جليل؛ والاتهام بها ليس من السهولة بحيث يستطيع توافق الأفكار أن يؤيده. أما سرقة الماديات فمن السهل إثباتها وإقامة الدليل عليها، لأنها في أبسط تعبير انتقال شيء من يد مالكه إلى يد مغتصبه. فملكية المالك هنا ظاهرة واضحة مشهود عليها بألف دليل ودليل. . . واغتصاب السارق لها واضح ظاهر مشهود عليه بألف دليل ودليل
أما ملكية الأفكار فمن الصعب إثباتها لوقوع الفكر دائماً على الشيوع لا على الاختصاص. والذين يضيقون علينا سبل التفكير والإنتاج والاجتهاد إنما يضيقون على أنفسهم، لأنهم في(373/26)
كثير من الأحوال غرضٌ يُرمَى كما يَرمْون. والواقع أن السرقة - بمعنى اتفاق الأفكار - موجود في كل نفس، لأن كل نفس بشرية يجري عليها الإحساس والعواطف والانفعالات وهي أمور مشتركة في الإنسانية جميعاً
وقد يكون وقع في مسرحية بشر فارس من الأفكار ما وقع في إحدى قصائد العقاد، وليس في ذلك مطعن على بشر ولا مفخر للعقاد
وقد وقع أكثر من هذا للفحول من كتاب الغرب فلم ينقص ذلك من مقامهم العلمي أو الأدبي، ولم يحجم التاريخ عن وضعهم في أماكنهم الصحيحة من سجل الخالدين. ولعلك تعجب إذا علمت أن موليير القصصي الفرنسي العظيم اتُّهم - في حياته - بالسطو على قصص غيره من المعاصرين والسابقين، فكان رده اعترافاً منه بالسرقة إذ يقول: (أنني وجدت شيئاً نافعاً فلا أحجم عن أخذه للانتفاع به). كما كان (تشسترتون) زعيم الحركة الرجعية في إنجلترا في العصر الحديث يُتَّهَم من برنارد شو وويلز بالسطو عل معاني الصغار من كتاب الصحافة البريطانية
والعقاد في شعره وفي كتابته غني بالمعاني، إلا أن هذا الغنى لم يكن ميراثاً خاصاً به؛ فهو ولا شك قرأ كثيراً وأفاد كثيراً مما قرأ. ولا شك أن رأسه يزدحم بكثير من المعاني التي تعرض له في مطالعته.
فليس ينقص من قدر العقاد أنه يشترك في كثير من معانيه مع كثير غيره من كتاب الإنسانية الذين يحسون إحساسه، ويتأثرون تأثيره
وعبد الرحمن شكري يعترف في مقال له بمقتطف مايو 1939 بأنه كان يحتذي شعراء الصنعة العباسية. فما قال منصف إنه سارق، ولكن قال المنصفون إنه متأثر. ولم يعب عليه المرحوم حافظ إبراهيم هذا التأثر (الاحتذاء) وهذه المعارضة بل أثنى عليهما. ولما سافر شكري إلى إنجلترا كان احتذاؤه الشعر الإنكليزي في توليد الموضوعات الجديدة لا في أساليبه
على أن الشاعر أو الكاتب لا يستغني في إنتاجه عن التأثر - المقصود وغير المقصود - بما يقرؤه، ولا يسلم من ذلك التأثر فحل من الشعراء أو مبرز من الكتاب. فالأستاذ أحمد حسن الزيات قد تأثر في مقاله (بين المهاجرين والأنصار) (الرسالة عدد 368) بفكرة(373/27)
الأستاذ أحمد أمين في مقال سابق بالثقافة. فأحمد أمين يصرح بأن الموت بالقنابل في القاهرة أفضل من الموت بالمكروبات في الريف، والزيات يجري على لسان المهاجرين هذه العبارة (إن الموت بالشظايا على دفعة، أخف من الموت بالجراثيم على دفعات)
وقد يكون - والعلم عند علام الغيوب - أن الزيات لم يطلع على مقال أحمد أمين المنشور بالثقافة.
والشاعر علي محمود طه قد تأثر في قصيدته محنة باريس المنشورة بالرسالة عدد (369) بمقال للدكتور طه حسين بك في الثقافة عنوانه باريس (عدد 77) فالدكتور طه حسين بك يقول: (ليست باريس رقعة من الأرض)، والشاعر علي محمود طه يقول مخاطباً باريس:
لست بنياناً ولا أرضاً ولا ... غاب آساد ولا جنة غيد
هذه كلمة أحببت أن أقولها بمناسبة كلمتين نشرتا في الرسالة بعنوانين هما (من عجائب الاجتهاد) و (من عجائب الفهم). وما أود أن أغمط بها فضل ذي فضل؛ وإنما هي كلمة حق لعلها تضع حدّاً لأمور ليس من مصلحة الأدب كتمانها والسلام.
(المنصورة)
محمد عبد الغني حسن(373/28)
السيد محمد رشيد رضا
بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته
للأستاذ محمود أبو رية
من حق شيخنا الإمام السيد محمد رشيد رضا علينا أن نؤدي بعض ما يجب له من التنويه بفضله، والإشادة بذكره ما أتيحت لنا الفرص وما واتتنا المناسبات. وكذلك من الحق على الرسالة الغراء وقد حملت علم العربية في لغتها ودينها أن تتحفى بهذا الإمام الجليل فتخصه بجانب من عنايتها، وتجعل لآرائه نصيباً من صفحاتها، ومن أولى بهذه الحفاوة منها وهي أحق بها وأهلها؟
هذا ما يجب علينا وعلى الرسالة، لأن هذا الحجة الثبت ليس من كبار علماء عصره فحسب، وإنما هو ولا ريب من كبار أئمة الإسلام على مد عصره، خدم دينه وأمته بما لم يخدمها أحد قبله منذ قرون طويلة، وخلف آثاراً خالدة في دراسة الدين الإسلامي لم يكتب قلم عالم من قبل مثلها - ونحن نعرف ما نقول - وفسر كتاب الله تفسيراً هو معجزته في هذا العصر. إذ لكل عصر تفسير يكشف لأهله عما فيه من أسرار رائعة وآيات بينة حتى تظل حجة الله قائمة ومعجزة رسوله دائمة؛ ونحن فيما نكتب عنه اليوم لا نحاول أن تترجم له ترجمة تحليلية مفصلة تحيط بنواحي عبقريته وتنفذ إلى أقطار إمامته؛ فإن ذلك يحتاج إلى مؤلف كبير برأسه نرجو أن نوفق فيه ويعيننا الله عليه؛ وإنما ننشر بمناسبة مرور خمسة أعوام على وفاته صفحة من تاريخه تصور ناحية من فضله وتظهر قبساً من أعماله يضيء جانباً من عمله
نبت شيخنا الجليل ونشأ في قرية (القلمون) من قرى الشام؛ ولما قرأ القرآن والخط وقواعد الحساب أُدخل معاهد العلم بمدينة (طرابلس)، وبعد أن أتم الدراسة فيها على ما يجري عليه نظام التدريب في هذه المعاهد واستوفى كل العلوم الدينية والأدبية على أكابر شيوخ الدين والأدب فيها هاجر إلى مصر فجاءها في رجب سنة 1315عالماً دارساً. وكان الذي ساقه إلى الهجرة إلى مصر أن آنس في نفسه أنه يستطيع خدمة دينه وأمته بما أوتي من حدة الفؤاد واستقامة الفكر وما وهب من قوة الإرادة وكمال الاستعداد، وأن ذلك غير مستطاع في بلاده إذ كانت يومئذ بين ماضغي الظلم التركي، وقال رحمه الله في ذلك:(373/29)
(فعزمت على الاتصال بالسيد جمال الدين لتكميل نفسي بالحكمة والجهاد في خدمة الملة، فلما توفاه الله تعالى إليه وأشتهر أن السياسة الحميدية هي التي قضت عليه ضاقت عليّ المملكة العثمانية بما رحبت وعزمت على الهجرة إلى مصر لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم، وكان أعظم ما أرجوه من الاستفادة في مصر الوقوف على ما استفاده الشيخ محمد عبده من الحكمة والخبرة وخطة الإصلاح التي استفادها من صحبة السيد جمال الدين، وأن أعمل معه وبإرشاده في هذا الجو الحر)
وقد أتصل بالأستاذ الإمام محمد عبده من أول يوم هبط فيه مصر وكان معه كما قال رحمه الله: (كاللازم والملزوم اللذين لا ينفك أحدهما عن الآخر) يستزيد من علمه، ويستضيء بحكمته إلى أن صار ترجمان أفكاره والمعبر عن آرائه، ولم يلبث قليلاً في حياته الجديدة حتى أخذ نفسه بما جاء من أجله، فأنشأ مجلة (المنار) وصدر أول عدد منها في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة 1315 وقد جعل غرضها الأول:
(الحث على تربية البنات والبنين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطرق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شهدت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفراً وإلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذل والمهانة تواضعاً، والخشوع للظلم والاستسلام للضم رضى وتسليماً، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً الخ)
كان الذي يرمي إليه شيخنا المحدث الفقيه ويدأب عليه في عمله هو (الإصلاح الديني والاجتماعي وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وفي كل عصر)
وكان رأيه الذي لا ينفك يجاهر به من يوم أن أنشأ فيه مجلته أن الدعوة إلى هذا الإصلاح لا تكون إلا (بهداية الكتاب والسنة، لأنهما مشتملان على كل ما نحتاج إليه لأجل الهداية(373/30)
والنهضة الاجتماعية)
وهذه الطريقة في الإصلاح هي التي وضع أساسها موقظ الشرق السيد جمال الدين، وعممها تلميذه الأكبر الأستاذ الإمام محمد عبده رحمهما الله؛ ثم جاء شيخ الإسلام السيد رشيد فرفع قوائمها وأتم بنائها، ولولاه لأندك هذا الأساس وغطاه تراب النسيان. . .
ولم يكن ما دعا إليه شيخنا رحمه الله سهلاً ولا طريقة ميسرة، وبخاصة في مثل الزمن الذي ظهرت فيه دعوته، فقد وجد في سبيله ما يجده المصلحون في أممهم من العنت والأذى، فحورب من نواح متعددة لا يصمد لمثلها إلا كل مصلح قوي، وشجاع كمي. وقد بيّن رحمه الله تلك النواحي التي عادت المنار فقال:
(عاداه المرتزقون بالخرافات والبدع من أهل الطريق وغيرهم، وعاداه علماء الجمود، وعاداه النفوذ الاستعماري الدولي، وعاداه دعاة التغير والتفريج الإلحادي) وقبل ذلك عادته الدولة العثمانية من أول ظهوره وآذته في أهله ببلاده
وكان الذي أثار عليه أعاصير هذه العداوات لتزعزع من أركانه، وتهدم من بنيانه، أن كان لا يألو جهداً في الدعوة إلى حرية الفكر، والاستقلال في فهم العلم الذي لا ينال العلم الصحيح بدونه، وترك التقليد وعدم التقيد بمذهب من المذاهب لأن التقيد بالمذاهب يدعو إلى التعصب لها؛ والتعصب، هو مفض إلى التباغض، ينافي الوحدة الإسلامية، ويخالف نصوص القرآن. وكان هو العالم الوحيد بعد عصر الأئمة المجتهدين الذي يجاهر بأنه لا يقلد في عقائده ولا في عبادته أحداً من الأئمة، فكان لا يعبد إلا الله ولا يعبده إلا بما أمر، وإذا تنازع مع أحد في شيء لا يرد التنازع إلى أحد من الأئمة والمشايخ وإنما كان يرده إلى الله والرسول أي إلى الكتاب والسنة. ولقد كان أشد الناس عداوة له دجاجلة القبوريين من الشيوخ الرسميين الجامدين ومن يتبع نعيقهم من الإمعات الجاهلين الذين هم بلاء الأمم وأرزاء الشعوب
وإذا كان الكلام عن نواحي الإصلاح التي ضرب فيها شيخنا السيد رشيد متعددة والحديث عنها يحتاج إلى مقالات طويلة ودراسة مستفيضة كما أبنَّا من قبل، فإنا نقصر كلامنا اليوم من ترجمته على ما سعى في سبيل إصلاح الأزهر وتجديد الدين الإسلامي. وما انتحينا هذا النحو إلا لمناسبة حركة الإصلاح القائمة بهذا المعهد اليوم، ولأن مجلة الرسالة الغراء(373/31)
قد جعلت تجديد الدين من أهم أغراضها، وجرت الأقلام بهذا الأمر على صفحاتها لعل فيما نذكره تبصرة للمصلحين ومعيناً للمجددين
ولا يفوتنا أن نذكر أن الذي دعا شيخنا رحمه الله إلى ذلك أن وجد هذا المعهد الكبير لا يدرس فيه الدين وعلومه كما يجب أن تكون الدراسة الحق بل كان (التقصير في دراسة الإسلام فيه أمر ظاهر) كما بين ذلك أبلغ بيان أديب العربية الكبير (محمد إسعاف النشاشيبي) في كتابه النفيس الممتع (الإسلام الصحيح)
ولقد كان أول نقد صريح وجهه (المنار) إلى علماء الأزهر الذي صدر في شهر شعبان سنة 1316 عن بدعة احتفالهم بمولد الإمام الشافعي الذي يسمونه (الكنسة) إذ كانوا يكنسون قبة الضريح ويقسمون كناستها بينهم للتبرك بها ويكون نصيب كل واحد منهم في هذه الكناسة بمقدار درجته العلمية، وكذلك كانوا ينقلون العمامة التي على المقام من رأس عالم إلى رأس آخر ليستزيدوا من البركات ويستكثروا من النفحات. ورحم الله شيخنا المحدث اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي فقد سحت قريحته بقصيدة رائعة في هاتين العبادتين الوثنيتين اللتين يقترفهما علماؤنا مصابيح الظلام، وأئمة الهدى الأعلام؛ ولو كان المجال ذا سعة لأوردنا هنا هذه القصيدة العصماء، ليعجب القراء بها، ويتندروا بما جاء فيها وكان أول انتقاد على علماء الأزهر أن أحد أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهو الشيخ أحمد الرفاعي كان يجادل يوماً الأستاذ الإمام محمد عبده في أمر علم السنة وتعليمها، فكان مما قال هذا الشيخ: (إن علم السنة لا حاجة إليه، ولا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل (الواجب) الأخذ بكلام الفقهاء، ومن يترك فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف فهو زنديق)!
ثم اخذ المنار يبين لشيوخ الدين أنهم أبعد الناس عن معرفة فن التعليم، وأنهم لا يقرنون العلم بالعمل، وكان يحثهم دائماً على العناية بعلم الأخلاق. ولما وجدهم يصدون عن تعليم العلوم الرياضية والطبيعية، وأن كبارهم يفتون بأن هذه العلوم لا لزوم لها، صاح فيهم: (إن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية التي محور الثروة والقوة لازمة لا مندوحة عنها، ويجب أن تعلم مع الدين) ومما عابه عليهم وآخذهم به أنهم يشاركون العامة في الخرافات والبدع ولا يكتفون بذلك بل يدعون الناس إليها ويحضونهم عليها بما جعلنا ضحكة بين الأمم وسخرية بين(373/32)
الشعوب، ولأن هذه الكلمة لا تحتمل تفصيل القول في جهوده لهذا الإصلاح فإنا نأتي بها مجملة وهي:
1 - استقلال الفكر وحرية العقل في العلم واجتناب تقليد العلماء والكتب فيه
2 - إبطال البدع والخرافات، والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال وروَّجت في المسلمين أسواق الدجل والخرافات. . . ولا سيما بدع الموالد وعبادة القبور والمشاهد وأكبر مفاسدها اشتراك علماء الأزهر فيها وسكوت غير المشتركين فيها عن إنكارها فكانوا بذلك قدوة سيئة للعوام، وفتنة منفرة للمتعلمين عن الإسلام، وحجة للكافرين على المسلمين
3 - الرجوع إلى هداية القرآن العليا وهدى السنة النبوية المثلى في تصحيح العقائد وتزكية الأنفس وتهذيب الأخلاق، والاتباع المحض في العبادات على منهاج السلف الصالح وهو يتوقف على إحياء علوم التفسير والسنة وآثار السلف
4 - إصلاح نظام التربية والتعليم والتصنيف بالأساليب العصرية
5 - إدخال علوم البشر في الجامع الأزهر ومعاهد التعليم التابعة له
6 - إتباع سنة التخصص (أو الاخصاء) في العلوم والفنون
7 - إعادة ثقة الأمة بالعلماء إلى ما كانت عليه في عصور الإسلام الحية
8 - الدفاع عن الإسلام بالرد على الملاحدة ودعاة النصرانية ودحض شبهاتهم
9 - الوعظ والإرشاد العام للمسلمين
10 - الدعوة إلى الإسلام في الشرق والغرب بعد الاستعداد لها
هذه هي خلاصة جهاده رحمه الله في سبيل إصلاح الأزهر وإذا كان رحمه الله قد ذكر في آخر حياته أن كليات الأزهر قد اقتنعت بأكثر ما دعا إليه وأنها ستأخذ به كله واطمأن بذلك فإنا إن شاء الله لمطمئنون كذلك بأن الأزهر سيبلغ المنزلة التي يستأهلها في العالم كله على مد أقطاره ما دام الذي يقبض على زمامه اليوم هو الإمام المراغي وما دام شبابه من حوله يؤيدونه ويتبعون سبيله
وإلى هنا نقف في القول في ترجمة شيخنا المحدث الفقيه السيد محمد رشيد رضا، ولكيلا يرمينا أحد بالغلو فيما تحدثنا به عنه نطرز ما قلنا بعبارة رائعة في وصفه للأستاذ الأكبر(373/33)
شيخ الجامع الأزهر، ذلك الإمام الجليل الموصوف بسعة العلم وبعد النظر ودقة التعبير، نجعلها مسك الختام
قال حفظه الله في خطاب بليغ ألقاه في حفلة تأبينه:
(كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطاً بعلوم القرآن، وقد رزقه الله عقلا راجحاً في فهمه، ومعرفة أسراره وحكمه، واسع الاطلاع على السنة وأقضية الصحابة وآراء العلماء عارفاً بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملماً بما في العالم من بحوث جديدة، وبما يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة ورزق الخير الكثير
وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها، فني في خدمة دينه وجاهد في الله حق جهاده وأوذي في سبيل مبادئه وصبر وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه
كان مبدؤه مبدأ جمع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً بقوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضاً: تخيَّر الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم في مواضع الاجتهاد
وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر؛ فهو رجل سني سلفي يكره التقليد وينادي بالاجتهاد ويراه فرضاً على نفسه وعلى كل من قدر عليه
من الحق أن نعد السيد رشيد من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في إحياء السنة، ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث والقراءة، والتأليف والفتوى والمناظرة؛ ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال الصالحة قام بها احتساباً وأدّاها في سبيل الله
فرحمة الله على السيد رشيد وجزاه الله في الإسلام أحسن ما يجازى به رجل وهب حياته للعلم والدين). ونحن نكرر طلب الرحمة والرضوان من الله تعالى عليه، إنه سميع الدعاء.
(المنصورة)(373/34)
محمود أبو رية(373/35)
ما أشبه الحال هناك بالحال هنا!
الرجوع إلى القرية
للأستاذ بشارة الخوري
أبني أبينا طال نومكمُ ... تشقى النفوس وينعم البدن
لا الحقل يبسم عن معاولكم ... فيه ولا تترنم المهن
ذوت الرياض وماؤكم عَمَمٌ ... وتعطلت من حَليها القنن
وخوت زرائبكم وكان على ... جنباتها يتدفق اللبن
محراثكم صدئ الحديد به ... والفأس ملء عيونها الوسن
عودوا إلى تلك القرى فلقد ... سلختكم عن قلبها المدن
الذكريات على مقادسها ... الأم والأخوات والسكن
قبل الطفولة في ترائبها ... ليت الحياة لبعضها ثمن
تحت الدوالي ملعب بهج ... عند الظهيرة والربى وُكن
فدت العيونُ النجل أجمعها ... عينا تدفق ماؤها الهتن
تأوي الطيور إلى أظلتها ... ويظل يلثم كفها الغصُن
تَرِد الصبايا بالجرار وقد ... عادت على أكتافها المزن
تلك اللبؤات التي عمرت ... بشبولها الأجمات والعُرُن
لبنان لبنان الحبيب خوى ... لا البيت لا البستان لا العطن
خلت المرابط من سوابقها ... وتثاءبت بحبالها الأُنن
الجانيان القاسيان على ... (شيخ الربى) بيروت والسفن
قالوا السياسة قلت هل نبتت ... إلا على لهواتها المحن
قالوا الوظائف قلت هل نحرت ... إلا بها الأخلاق والفطن
قالوا المدارس قلت ثابتة ... خضراء إلا أنها دمن
أين الألوف من الشباب وما ... قبسوه من علم وما خزنوا
ماتوا بعلمهمُ فما طبخوا ... منه ولا طحنوا ولا عجنوا
الأرض أطهر والمحارث من ... عيش على أدرانه الدرن(373/36)
عودوا إلى تلك القرى فعلى ... بسماتها يتمرغ الحَزن
لبنان ما فعل الزمان بنا ... سله أما لحروبه هدن
يغدو عليه بأوجهٍ كلحت ... فمتى ينوّر وجهك الحسنِ(373/37)
يا حبيبي. . .!
للأستاذ أنور خليل
لم تَزلْ فيَّ لِجة الغي ... بِ خيالاً يَتدفَّقْ
لم تزلْ حُلماً على مَه ... دِ شبابي يترَفَّق
لم تزلْ في جانبِ الاف ... قِ سراباً يَترقرَق
فمتى فجرُك ينسا ... بُ وحلمي يَتَحَقَّق؟
من وراءِ الغيبِ نادي ... تُكَ: أَقبلْ وتألَّق!
يا حبيبي أنتَ في رو ... حي وقلبي ودمائي
أنتَ أنشودةُ أشوا ... قي ودنيا كبريائي
أنتَ نايٌ أَبَديُّ الش ... دوِ سحريُّ الغناءِ
نفحةٌ أنتَ من اللّ ... هِ ومن عطرِ السماءِ
يا حبيبي! كم أُنادي ... ك فهل يجدي ندائي؟
صورةٌ منكَ تناجي ... ني على طول الليالي
ومُحيَّا رائعُ الفت ... نةِ وَضّاء الجمالِ
يا حبيبي قد تَعَشَّق ... تُكَ لكن في الخيالِ
لٍيتني ألقاكَ في الأر ... ض على أبهى ِمثالِ!
ليتني. . . أوّهُ لا. . . بل ... إنني أخشى انخذالي!
أنا في أمواج حِرما ... ني، وأَشجاني غَريقُ
في حياةٍ لم يُهَوِّن ... ها خليلٌ أو رَفيق
أنا في دنَيا بها للش ... رِّ سلطانٌ عريق
وبنو الدنيا قطيعٌ ... لِهُوَى الموتِ مَسوق
ضَلَّ راعيهِ وغامَ ال ... أفقُ والتاثَ الطريقُ!
يا حبيبي قيلَ عنِّي: ... بالخيالاتِ غنائي. . .
صَدَقوا إذ لَستُ بدعاً ... بَينَ رَهطِ الشعراءِ
كلنا نَهتِفُ بالْحُبِّ ... ونشدو بالإخَاءِ(373/38)
قد بعثنا مَزامِي ... رَ سلامٍ وصَفاءِ. . .
لَهَفتا!! ضاعَ صَداها ... في ضجيج وازدراءِ!
يا حبيبي آهِ لو أل ... قاكَ إنساناً سَوِياً!
تَتَخَطَّى حُجُبَ الغي ... بِ وتَنْصَبُّ عَليّا. . .
فأرى فيكَ الأماني ... والنعيمَ الأَبديَّا
وَحَياتي تكتَسي من ... كَ جمالا عبقريَّا
يا حبيبي آهِ لو أل ... قاكَ إنساناً سَوِيَّا!(373/39)
الجندي المجهول
(المدرس)
للأستاذ علي شرف الدين
صَلَى حَرَّهَا وَالمْوتُ يَقْظَانُ جَاثِمُ ... وَخَاضَ رَحَاهَا وَالْمَنَايَا حَوَائِمُ
وَكَمْ رَكَزَ الراياتِ في رأْسِ شَامخٍ ... مِنَ المجدِ لم تَنْهَضْ إِلَيْهِ الْقشَاعِم
وَسَجَّلَ ِمنْ خُضْرِ الفُتُوحِ لِسَانُه ... بما قَصَّرتْ عَنْهُ السُّيوفُ الصَّوَارِم
يَرَاعَتُهُ فِيها سِنَانُ قَنَاتِهِ ... وَأَسْفَارُهُ الْغُرُّ الْجِيَادُ الكَرَائِم
وكم فَكَّ عَنْ أَعْنَاقِ جيلٍ مَذَلَّةً ... وَحَرَّرَ شَعْباً أَرْهَقَتْهُ المظَالم
فلمَّا أَفَاَء اللهُ ضَنُّوا بِحَظِّهِ ... وِلَوُّوْا رُءُوساً أَشْرَعَتْها الأَرَاقِم
يقُوُمُ عَلَى أَكتَافِهِ النَّصْرُ بَاهَراً ... وتُخْطِئُهُ أَسْلابُها والْغَنائم
وَيَمْضِي بِحِمْلِ الطَّوْدِ فِي كلِّ أُمَّةٍ ... وَمَا أَحَدٌ مِمَّا يُعَانِيهِ رَاحِم
وَيَهْدِمُ مِنْ أَعْصَابِه لِبنَائِها ... فتَسْمُو به أَرْكانُهَا وَالدَّعَائم
وَيَدْفَعُ عَنْ أَكبَادِهَا جهْدَ نَفْسِهِ ... كما دَافَعَتْ دُونَ الْعَرِينُ الضَّراغِم
وَيُنْشِى لَها الْجِيلَ الأَغَرَّ جَبِينُهُ ... عَلَى مِثْلِهِ في الدَّهْرِ تُبْنَى العَظَائم
فَتىً أَنْشَأَ الأجْيَالَ غَيْرَ مُدَافَعٍ ... وفي كلِّ شَعْبٍ فَضْلُهُ لا يُزَاحَم
تَسيرُ بهِ الأيَّامُ تَرْثِي لِحَظِّهِ ... وَتَنْدُبُهُ في شَجْوِهِنَّ الْحَمَائِم
يُسَاقُ إلى الأِرْهَاقِ والسَّوْطُ خَلْفَه ... وَيَحْمِلُ مُرَّ العَسْفِ والأنْفُ رَاغِم
إذَا ما بكى كَفَّ الوعِيدُ بُكاَءهُ ... وَإِمَّا شكا شدَتْ بِفيِه الشَكائم
جِهادٌ وَلاَ مَجْدٌ وَسْعيٌ كما سَعَى ... إلي الماءِ مَخْدُوعٌ بصَحْرَاَء هَائم
ولوْ أَنَّ عَدْلاً يَشمَلُ الأرْضَ ظِلُّهُ ... لَما باتَ مَظلومٌ عَليْهاَ وظالِم
حَلَفْتُ لأَطْوِي عَهْدهَا غَيْرَ نَادِمٍ ... فما تَرْكُها فيهِ تُعَضُّ الأباهِمُ
وَأَخْلَعُها خَطْماً لأَنفيِ وَمِقْوَداً ... فَلاَ يَقْبَل الأرْسَانَ إلا الْبَهَائم
تَعَاَلى شَبَابي أَن يُرَاضَ إِباؤُهُ ... عَلَى شِرْعَةٍ فيها تُصَكُّ اللَّهازِم
وَإنّا وَإنْ لَمْ تَكتَنِفْنَا نَبَاهَةٌ ... لَتَشْغَلُ بُرْدَيْناَ المُلوكُ الخَضْاَرِم
فَيَا أَيُّهَا المَغْبُونُ والْعَدْلُ شَامِلٌ ... وَياَ أَيُّهَا المَحْرُومُ والخَيْرُ زَاحِم(373/40)
وَمَنْ بَاتَ يُخْفِي في حَنَاياهُ صَارِخاً ... مِنَ الْيَأسِ تَطْوِيه الْحَشَا والْحَيازِم
أَيَاديِكَ بيض يبْهَرُ الشَّمْسَ نُوُرهَا ... وَحَظُّكَ مُسْوَدُّ الْجَوانِبِ قاَتِم
وتَشْقَى بِعَيْشٍ ضيِّقُ الكَفِّ مُجْدِبِ ... وَغَيْرُكَ مُخْضَرُّ الْعَطِيَّةِ نَاعِم
وَنَبْذُل مِنْ نُورِ الْعُيُونِ مُسَهَّدَاً ... وَغَيْرُكَ مِلْء الْجْفنِ وَسْنَان نائم
وَمَا فَاِئزٌ إلاّ الْغَصُوبُ لِحَقِّهِ ... وَمَا خَائِبٌ إلاّ الوَدِيعُ المسَالم
وَمَا شَجَنِي أَنْ كاَنَ حَظُّكَ تاَفِهاً ... فما كلُّ شَيْءٍ في الحياةِ الدَّرَاهِم
وَلكِنْ عُقُوقٌ وَاضطهادٌ حَمَلْتَهُ ... وَإنكاَرُ مَجْهُودٍ وَبؤسٌ مُلاَزِمُ(373/41)
رسالة الفن
ذكريات:
لن أنسى. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لست أدري ما الذي ذكرني الآن بهذا الموقف لشارلي شابلن في رواية البحث عن الذهب تضرب المحبوبة لشارلي موعداً، فيعد العدة له ويزين البيت له بالزهر والورق الملون، ويهيئ مائدة يقدم عليها كل ما يمكن أن يقدمه عاشق فقير مثله لمحبوبة صغيرة مثلها، في صحراء الآسكا التي أرضها ثلج وسمائها ثلج وهوائها ثلج
ولم يكن شارلي يشك مقدار ذرة من الشك في أن محبوبته موافيته راغبة مشوقة كما أنه انتظرها راغباً مشوقاً، ولكن ميعادها أزف، ثم فات، ثم بعد، فيئس شارلي، فاعترته لوثة، فأخذ يقفز في الحجرة ويرقص كما يرقص الطير المذبوح، ولكنه مع هذا كانت تصدر منه حركات تضحك إلى جانب ما تثير في النفس من الوجع
والذي لا أنساه هو أني كنت وأنا أشاهد شارلي في هذا الموقف المضحك وأبكى معاً
وليس هذا الموقف وحده هو الذي استطاع شارلي فيه أن يخبلني هذه الخبلة، وأن يوقظ في نفسي مالا يتفق بعضه مع بعض من الاحساسات والعواطف، وإنما كان له موقف آخر يشبه في رواية أنوار المدينة، فقد كان اعتاد أن يعين صغيرة فقيرة ضريرة تبيع الورد، بأن يشتري منها في كل حين زهرة، وما كان شارلي يحصل على ثمن الزهرة إلا عفواً، أو بعد عسر يطول، ومحرجات تتراكم بعضها فوق بعض، وما كان شارلي يقنع بأن يشتري الزهرة من هذه الفقيرة بالثمن الذي يدفع الناس مثله، وإنما كان قد عوّد صغيرته على أن تأخذ من يده التي عرفتها نفحة تسد الكثير من حاجتها. . .
وفي مرة من المرات التي كان شارلي يطير فيها إلى صغيرته طيراناً ليضع في يدها ما رزقه الله ليأخذ الزهرة - وقعت له واقعة من هذه الوقائع التي تتوالى عليه، فأبكاني أيضاً عندئذ وأضحكني. . .
وبهذين الموقفين آمنت بأن شارلي شابلن هو أعظم الفنانين في الأرض، ولا أقول أعظم(373/42)
الممثلين فقط، وأني أعتقد أنه قد شاهد بنفسه موقفه الأول في (البحث عن الذهب) ثم درسه ثم استخرج منه موقفه الثاني في (أنوار المدينة) فدبره تدبيراً ونسجه نسجاً، ثم حققه تحقيقاً نجح فيه إلى أقصى حدود النجاح. . .
وشارلي شابلن يمتاز بإطلاعه على أسرار النفوس وتمكنه من قوانينها. فهو يضع مواقفه التمثيلية ويعرف ما سيفعله كل منها في نفوس النظارة لا تفوته في ذلك فائتة، وإذا كانت عبقريته هي التي تساعده في غربلة رواياته وتنقيتها من المواقف الباردة المتكلفة وإذا كانت هي التي تهيئ له كمال الدقة في تصوير النزعات الإنسانية وحركات العقل الإنساني في المواقف المختلفة تصويراً يكون مؤلماً أحياناً ويكون مضحكاً في أغلب الأحايين، وإن كان هذا لا يبرئها من معاني الألم والشقاء. . . إذا كانت عبقريته هي التي تهيئ له هذا الكمال وهذه الدقة في تصوير كل عاطفة وكل نزعة وكل حركة من حركات العقل. . . فأي شيء هو الذي يمكنه من أن يصل إلى الكمال والدقة في خلط العواطف المتناقضة بعضها ببعض حتى ليخلط في نفوس الناس البكاء بالضحك فإذا بهم يجنون وهم يشاهدونه
أعبقرية هذه هي أيضاً؟
كلا. وإنما هو الجنون. فشارلي شابلن لابد أن يكون قد جن في حالة من حالات حياته جنوناً ربما لم يكن استغرق إلا ومضة من ومضات الروح تشععت فيها نفس شارلي من ناحيتين متضادتين، فاختبل، إذ أحب وكره في آن واحد، وإذ غضب ورضى في آن واحد، وإذ أحسن وأساء في آن واحد، وإذ حزن وفرح، وإذ تقدم وتأخر، وإذ شبع وجاع، وإذ ثار وهو منهد. . .
وأمثال هذه المواقف والأحوال لا تحدث للناس عامة وإنما هي تحدث للأرهف منهم حساً، وللأذكى منهم عقلاً، ولأشدهم انطلاقاً نحو الحق. وحتى هؤلاء فإنه لا يحدث لهم هذا إلا قليلاً. ولو أنه كثير عليهم أو أطال بهم لفقدوا توازنهم ولاختلط عليهم أمرهم، ولاختل تكييفهم لأنفسهم بحسب الظروف العارضة لهم، ولقعد الجنون بهم عن تذليل المواقف العسرة التي تعترض حياتهم كما يقعد بهم عن الاستمتاع بالمواقف الحلوة التي تتفق لهم.
ويظهر أن هذين الموقفين أغريا نجيب الريحاني بأن يكون له موقف يشبههما. فقد عرض في رواية (حكم قراقوش) نفسه وهو محكوم عليه بالإعدام، ووقت التنفيذ لم يبق عليه إلا(373/43)
دقائق فهو مشفق على نفسه جزع الموت، ولكنه مع هذا يضطر إلى أن يدافع عن نفسه بسرد حقائق مضحكة يعرف النظارة أنها لفقت على هذا المسكين تلفيقاً، وأنه كان يجب عليه أن يدرك هذا من قبل أن تفوت عليه فرصة النجاة
بهذا الموقف أراد الريحاني أن يضحك الجمهور وأن يبكيه في آن واحد، ولكن الذي حدث هو أن الجمهور كان يضحك فقط، ولم يبك منه أحد. ففات على الريحاني بهذا مأربه الفني السامي الذي كان ينشده، ولست أظن الريحاني كان عاجزاً عن الوصول إلى ما وصل إليه شارلي، فإن فيه من صفاء النفس وذكاء العقل وطواعية الروح ما يستطيع أن يحقق به كل الذي يحققه شارلي شابلن، أو أغلبه على الأقل؛ وإني أعتقد أن الريحاني فشل في إدراك هذه الغاية البعيدة لأنه لم يوفق إلى التمهيد الكيس الذي كان يجب عليه أن يأخذ به نفوس النظارة قبل أن يعرض عليهم الموقف، فالذي أذكره هو أن هذا الموقف قد جاء في (حكم قراقوش) عقب موقف آخر كان النظارة فيه منطلقين ضحكاً ومعربدين مرحاً، فلم يكن من السهل بعد ذلك أن ينقلوا من هذا الضحك وهذا المرح ليستقبلوا هذا الموقف المعقد المؤلم المضحك في آن واحد
وعندي أن الريحاني لو أنه نثر في المواقف السابقة لهذا الموقف بعض المؤلمات المتميزة الواضحة ليتخذ منها بعد ذلك قواعد يقيم عليها أعمدة الألم في الموقف المعقد الذي قصد إلى إبرازه. . . أقول لو أن الريحاني فعل هذا، فإنه كان من غير شك يصل إلى ما وصل إليه شارلي، ولو في بعض الليالي التي يمثل فيها (حكم قراقوش) إن لم يكن فيها كلها، فالواقع أن موقفاً معقداً كهذا يرتاح ممثل السينما بعد تسجيله، ويشقى ممثل المسرح كل ليلة في تحقيقه، وهو دائماً معرض للفشل فيه كما معرض للنجاح. . .
ثم إن الكلام نفسه في هذه المواقف مما يدعو إلى تبريدها وتخفيف حدتها والتهوين من عنفها، ولا ريب في أن صمت شارلي هو الذي ساعده على النجاح في هذين الموقفين، كما أن ثرثرة الريحاني في موقف قراقوش هي التي عطلته
ذلك لأنه ليس من السهل أن يهتدي الكاتب أو المؤلف إلى كلمة مجنونة يعبر بها عن حالة مجنونة فيها الألم والراحة معاً إلا أن يكون ذلك الكاتب مجنوناً، أو يكون قد جن في حالة من الأحوال، وروايات الريحاني يكتبها اثنان: الريحاني نفسه وهو يكتفي برسم معانيها لأنه(373/44)
أميل إلى الصمت والتعبير بإطلاق الحس كما يفعل شارلي شابلن. . . ويعاونه الأستاذ بديع خيري وهو الذي يصوغ الكلام له، وهو رجل عاقل جداً لا أظنه جن يوماً حتى يستطيع أن يؤدي مع الكلام وثقله ما يريد الريحاني أن يؤديه على نحو الذي أداه شارلي بالصمت
على أني لم أيأس من أن تتاح للأستاذين المصريين فرصة قريبة في رواية قريبة يقدمان فيها مثل هذه الدرة الفنية العاتية الجبارة، فأنا أعرفهما يهيمان بكل ما هو عات من الفن جبار، وما دمت في معرض الذكريات فإني أسجل مع التقدير ليوسف وهبي دوره في كرسي الاعتراف، فقد كان عليه في هذا الدور أن يتصنع الجنون، وكان أشق ما عليه هو أن يوحي إلى النظارة أنه يتصنع الجنون من غير أن يكون في هذا الوحي شيء يصح أن يقول فيه أحد إنه كان من الممكن أن يلتفت إليه بطل من أبطال الرواية أو بطلة من بطلاتها
وما كان يوسف وهبي إلا لينجح في مثل هذه الرحلة المعقدة من هذا الدور، فهو أقدر ما يكون على الأدوار المعقدة لا الأدوار السهلة. . .
وذلك لأنه في حياته الخاصة لا يحب أن يترك نفسه على سجيته، لكثرة ما لاقى من متاعب في حياته، ولكثرة ما تعرض لأذى الناس وهجماتهم، فهو دائماً منكمش فيما بينه وبين نفسه، مطل على كل إنسان بناحية يعتقد يوسف أنها هي الصالحة لمواجهة هذا الإنسان، وهو بهذا يمثل دائماً، فإذا كان له دور سهل يراد منه فيه أن ينطلق على سجيته لم يجد سجيته، فهو مضطر بعد ذلك إلى أن يبحث عن سجية ما يتظاهر بها، وعندئذ ينكشف يوسف وهبي للعين النافذة ويظهر كأنه ممثل ضعيف، بينما هو يتقمص الأدوار المعقدة التي يعجز عنها كثير من فحول الممثلين ينطلق فيها متدفقاً كأنما يوحي إليه وحي، وكأنما يلهم التمثيل إلهاماً.
والذين شاهدوه في أدواره الأولى التي ظهرت بها فرقة رمسيس أول ما ظهرت لا يستطيعون إلا أن يشهدوا له بأنه ممثل مجيد ممتاز، وإذا كان النقاد في ذلك الحين قد اتهموه بالتهويش فإن هذا (التهويش) لم يكن مطلقاً إلا مبالغة فنية مقبولة استساغها الجمهور وأقبل عليها إقبالاً شديداً
وإني انتهز هذه الفرصة لأسأل يوسف وهبي عن هذه الأدوار لماذا تركها؟(373/45)
يخيل إليّ أن الجواب عندي. وهو أن هذه الأدوار ورواياتها تحتاج إلى تشجيع ورعاية، وإن الحكومة قد خصت بتشجيعها ورعايتها للفرقة القومية وهي مجموعة الممثلين الذين تتلمذوا على يوسف وهبي، أو عاونوه لزمن طويل. . .
وهذه حالة عجيبة فلم تكن تحدث إلا في مصر. فلم يكن معقولاً أن تأخذ الحكومة فرقة من صاحبها ثم تتركه في الميدان يعتمد على الهواة والممثلين المبتدئين، ثم تتركه بعد ذلك من غير تشجيع مادي يعوض عليه ما بذله في تدريب فرقته التي أُخذت منه.
عزيز أحمد فهمي(373/46)
رسالة العلم
الحياة على الكواكب
للدكتور محمد محمود غالي
من طرق التفكير الحديث - أهل المريخ وهندسة إقليدس - حساب الاحتمال والحياة على غير الأرض - سكان الأرض وجرام الراديوم - العثور على شيء يشمل العثور على غيره - من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا - ومن الاحتمال إلى التحتيم
لا يعتقدن القارئ وهو يطالع عنوان هذا المقال أننا نخرج بكتاباتنا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا فليس هذا الذي قد يتبادر إلى ذهنه بصحيح، فإن ما نكتب لا يمكن أن يخرج عما تعلمناه أو تأثرنا به، وعلاجنا لما يَعِنُّ لنا من مسائل يستند إلى العلم التجريبي الذي لا يعتمد إلا على التجارب العلمية التي يستطيع أن يقوم بها الإنسان، أو العلم النظري الصحيح الذي يقبله المنطق السليم، والذي يتفق والعلم التجريبي أو يقترب منه. فإذا أراد أن يُقنعنا باحث بوجود إنسان مماثل لنا في القمر، فإننا نميل إلى مطالبته بأن يرينا في المنظار الفلكي أثراً من عمل هذا المخلوق القمري ما دام قد فرض أنه مماثل لنا، كمنشأة له مثلاً، وإننا نميل إلى ذلك ما دمنا نعرف أن منظارنا الفلكي بلغ حداً من الإتقان يمكن معه أن نرى المنشآت التي من حجم الجامع الأقصى في القدس أو الرفاعي في القاهرة. وإذا أراد باحث آخر أن يقنعنا أن هذه المنشأة التي تصادف أن رأيناها هي صدفة من عمل الطبيعة، وأن القمر، وهو يتقلص تحت عامل البرودة خلال الملايين من السنين التي يبرد فيها، تكيف على سطحه ذلك الشكل الذي يختلط في المنظار بإحدى منشآتنا، وأضاف هذا الباحث أمراً جديداً يدل عليه التحليل الطيفي الذي يثبت خلو أجواء القمر من الهواء ومن الأوكسجين مثلاً، هذا الخلو الذي يقوم دليلاً على عدم إمكان وجود مخلوق شبيه بنا على سطحه، فإن هذا دليل عندنا يرجح الرأي الثاني.
بهذا الروح نتعرض لمثل هذا الموضوع الخاص بمناقشة الحياة على الكواكب، فليس من عملنا أن نشغل صحيفة العلم بغير العلم؛ والعلم عندنا هو البحث عن الحقائق بالطرق العلمية. ومع ذلك فإننا نسخر من هؤلاء الذين فكروا في التعرف على أهل المريخ بأن يرسموا في إحدى صحراواتنا باللهب وبالحجم الكبير البرهان على نظرية فيثاغورس(373/47)
المعروفة التي يبرهنون فيها على أن مساحة المربع المقام على وتر المثلث القائم الزاوية تساوي مجموع مساحتي المربعين المقامين على ضلعيه، بحيث إذا أبصروا بالمنظار الفلكي وبعد فترة كافية، على سطح المريخ الرسم ذاته، كان ذلك برهاناً على أن المريخ مسكون بمخلوقات شبيهة بنا على الأقل في صفة الذكاء، مخلوقات تدرجت بدورها في العلم فعرفت هي أيضاً هندسة إقليدس
إنما نسخر من مثل هذه الوسيلة القاسية، فقد يكون هناك مريخيون، ولكنهم لم يتجهوا في فهم الكون اتجاهنا، ولم يفكروا فيه على طريقتنا، مما قد يجعل فلسفتهم في الحياة لا تتسق مع فلسفتنا، وأغراضهم لا تمت بأية صلة إلى أغراضنا
إنما نذهب في افتراض وجود هؤلاء أو غيرهم مذاهب أخرى متأثرين في ذلك بما يفرضه (حساب الاحتمال) من إمكان وجود مخلوقات غيرنا، وليس عدم وجود أهل للمريخ، إذا قام يوماً برهان على ذلك، بدليل عندنا على عدم وجود أجناس حية أخرى في مجموع الكون، وما المريخ فيه إلا حبة رمل من رمال الصحراوات العديدة؛ إنما تستمد عقيدتنا في وجود الحياة على غير الأرض قوتها من وجودنا وغرابة أمرنا ثم من حساب الاحتمال السالف الذكر، وهو رياضة لا يدل اسمها على ما تعنيه اليوم ولا على ما تقوم به للعلم من خدمات، رياضة يتحتم بواسطتها وقوع مسائل معينة إذا توافرت اشتراطات معينة، ومع ذلك فلسنا في حاجة هنا إلى استعراض علم من أهم العلوم الحديثة، وكل ما نرغب فيه أن يدرك القارئ أننا نقصد من احتمال التعيين؛ وإننا لنستعين في ذلك بمثال سبق أن تقدمنا به في مناسبة أخرى، عندما ذكرنا للقارئ أنه يتحتم أن يموت من أهل القاهرة في كل أسبوع عدد يتراوح بين الخمسمائة والألف مثلاً. هذا حساب محتمل من أرصاد ماضية وطويلة يصبح حساباً حتمياً للشهر الذي نعيش فيه. إن حياتنا وما يكتنفها من غموض، وعظمة الكون واتساعه وعدم استقرار، ووجود الكواكب العديدة، لا حول شمسنا فحسب بل حول ملايين غيرها من الشموس، ووجود جميع الأقدار في المسافات، ثم أتساع نطاق العلم في معرفة خواص الكون ودرجة انتشاره وعظم مسافاته وطول زمنه وعرفة قوة شموسه وكثرتها، والوقوف على حقارة أرضنا التي نلعب فيها دوراً غير ملحوظ، دوراً لا يُؤثر في هذه المجموعة الكبيرة التي تحيط بنا، كل هذا يجعل وجود الحياة على النحو الذي ألفناه أو(373/48)
على نحو آخر في أماكن أخرى في غياب الكون المنتشر - من الأمور الحتمية لا من المسائل الاحتمالية
وأود لو أطمئن إلى أن القارئ قد أدرك غايتنا على النحو الذي قصدناه، ففهم كيف يصبح الاحتمال أمراً حتمياً إذا لم نتعمد الوصول به إلى تعيين دقيق في الموضوع الذي يتناوله الاحتمال؛ ونعيد القول بأننا نستطيع أن نعرف العدد التقريبي لمن سيقضون نحبهم من سكان القاهرة في شهر سبتمبر القادم بمقارنته بشهور سبتمبر من السنين الماضية، وذلك بعمل امتداد رياضي لهذه المسألة البسيطة ولكننا لا نستطيع أن نكتب لوحة عليها أسماء الذين سيموتون. ومهما يكن من الأسباب فإنه من المحال أن يمر شهر سبتمبر القادم ولا يحدث في القاهرة هذا العدد المحتمل من الوفيات
كذلك لو وضعنا جراماً من الراديوم في صندوق متروك في المعمل، فإننا على ثقة بأنه ستخرج منه، بالتفتت الذري والإشعاع الذاتي، آلاف معينة من ملايين الحُبَيبات الراديومية في كل ثانية تمر من الزمن، وإننا على ثقة بتناقص هذا الجرام إلى نصف وزنه بعد مرور ألف وخمسمائة سنة، كما أننا نستطيع أن نعين مقدار ما يخرج يومياً من هذه الوحدات التي لا تعود بحال إلى جسمها الأصلي، ونعرف كيف يتغير هذا المقدار بعد ذلك العهد الطويل وبعد أن يكون قد فقد نصف وزنه أي نصف سكانه، ولكننا لا نستطيع أن نُعيِّن بالذات الوحدات التي شاء لها القدر أن تخرج اليوم من بين بلايين الوحدات التي يحتويها هذا الجرام
هذا الجرام من المادة المشعة يشبه في الواقع الألفي المليون نسمة الذين يسكنون الأرض. إننا واثقون بأن نصفهم سينقرض بعد نصف قرن مثلاً، ولكننا لا نستطيع أن نعين أسماء هؤلاء الذين يشاء لهم القدر أن ينقرضوا في النصف الأول من هذه الحقبة. كذلك الكون، كل شيء يدل على ضرورة وجود الحياة في بعض أنحائه المترامية، ولكننا لا نستطيع أن نعين الأمكنة أو الكواكب بالذات التي عليها الحياة، وعندي أن الذين يريدون أن ينكروا وجود الحياة بأية صورة في الكون المنتشر، الكون الذي عرَّفناه للقارئ وفق (إينشتاين) ووفق (دي ستير) الكون الذي له شكل كرة زائدة ذات حدود مختلفة في المكان والزمان، الكون الذي يكبر وينتفخ يوماً بعد يوم - لا يختلفون عن هؤلاء الذين يحاولون(373/49)
إقناعنا بمرور شهر سبتمبر القادم دون حدوث وفاة شخص واحد في القاهرة. إننا نرد على هؤلاء بقولنا أننا واثقون بوفاة عدد كبير في الشهر القادم لا يمكن أن ينقص عن حد معين، وأننا في هذا ننتقل من مسألة احتماليه إلى مسألة حتمية. إننا واثقون من العدد التقريبي للذين سيفارقوننا، ولكننا عاجزون عن إدراك أسمائهم، ونحن في ذلك نتبع الطريقة ذاتها التي نثق فيها بوجود الحياة على كثير من الكواكب دون أن نعين هذه الكواكب بالذات بين حدوده الفسيحة
ولا تحسَبَّن إذن أنك قد تميزت بحياة تعتقد أنها الوحيدة في الوجود، وأن كل ماعداها موت في موت وجمود في جمود، ولا تعتقدن فيما تعتقد أنك الوحيد في الكون العظيم، تمرح على هذه الأرض بين أشجارها الفيحاء وورودها الجميلة، تتغذى من مملكة نباتية بديعة، وتستمتع بأخرى حيوانية رائعة. إن هذه الحياة لا يمكن أن تختص بها حبة الرمل الحقيرة التي نعيش عليها، وليس ما يمنع أن تتكرر عملية الحياة في غيرها من الحبات العديدة المتناثرة في الكون على هذه الصورة أو على غيرها
ولو خلت الأرض من الإنسان الفخور بذاته المعجب بذكائه لظلت الأشجار والورود والحيوان باقية ما بقيت الشمس؛ فهي تعيش عليها بقدر ما نعيش نحن، وتنعم بفعلها بقدر ما ننعم، وليس ما يمنع أن يكون حول الشموس الأخرى حياة كحياتنا أو تختلف عنها، بل إن كثرة هذه الشموس في الكون المغلق على نفسه تحتم وجود هذه الحياة
ولو أنك دخلت حديقة متسعة بدأ نضوج نوع من الفاكهة فيها، وليكن البرقوق مثلاً، فإنه من غير الممكن أن يكون قد نضج في اللحظة التي تتجول فيها برقوقة واحدة بين ملايين البرقوق الموجود على الشجر، بحيث لو عثرتَ على برقوقة ناضجة فإننا واثقون أنك إذا تجولت كثيراً وجدت غيرها من البرقوق الناضج، ولو أنك بادرتني بقولك إنك وجدت برقوقة واحدة ناضجة لم تجد غيرها فإنني لا أميل إلى تصديقك، أو أعتقد أن حديقتك صغيرة، وأنها لا تحوي سوى بضع شجرات من البرقوق، ولو أنك بادرتني أنك على العكس تمتلك حديقة فسيحة الأرجاء متسعة بحيث لا تكفي أيام عديدة للتجول في أنحائها المختلفة، فإنني واثق إذن أن هذا النضوج قد حدث في أماكن عديدة، وأنك حتما ستعثر على كثير من البرقوق الناضج كلما تجولت في الحديقة(373/50)
كذلك الكون ننظر إلى الحياة فيه لا كعملية محتملة، بل كواقع موجود
وهانحن أولاء ننتقل بالقارئ قليلاً قليلاً، لا من الفيزيقا إلى الميتافيزيقا، وإنما من الفيزيقا إلى النجموفيزيقا، وهي من الموضوعات العلمية الصحيحة التي تتصل بحقائق الكون
وفي هذا نقترب من المخلوق العجيب الذي لا يرى من الترام إلا مستطيلا ومن (الكمساري) إلا دائرة تنتقل على حافة المستطيل، ونقترب من بعض الفروض التي نريد بها أن نضع أنفسنا وجنسنا البشري في جدول المخلوقات في الكون العجيب، وبهذا نقترب من مسائل بدأت في ذهننا كمسائل احتمالية وانتهينا فيها بعد طول التأمل إلى أنها حوادث حتمية. وفي مقالنا القادم نصف كوناً حياً مقفلاً على نفسه، وما نحن في ذلك إلا محاولون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(373/51)
البَريدُ الأدَبيّ
الحركة الأدبية في العاصمة السورية - تعليق ونقد
منذ أسابيع خمسة، قرأنا في بريد الرسالة الأدبي كلمة العتب والبيان التي أطل بها علينا الأستاذ الأديب الشيخ علي الطنطاوي وبها يعتب على أدباء مصر ونقادها لإهمالهم واجب النقد والتقريظ لعشرات المؤلفات التي صدرت في العاصمة الأموية
وبقدر ما سرنا عتب الأستاذ وتذكيره، كان عجبنا بالغاً أشده، ذلك أن الأستاذ غاب عن باله - فيما أعتقد - أنه أنكر على دمشق العزيزة وجود حركة أدبية فيها لذا فنحن نقف اليوم تجاه رأيين متضادين لكاتب فاضل واحد، لا ندري أيهما نصدق، ولا بأيهما نأخذ، فإذا كان الأستاذ ينكر وجود الحركة الأدبية في دمشق، فقد نقض (بعتبه وبيانه) رأيه الأول، إذ كيف يصح أن تنشر دمشق الحبيبة هذا العدد الضخم من الكتب والمؤلفات، ثم يُنكر عليها الأدب؟. . .
بين يديّ الآن عدد الرسالة الأخير ذو الرقم 369 وبه تناقش الأديبةُ الكبيرةُ السيدة وداد سكاكيني بعضَ أقوال الأستاذ الطنطاوي في (عتابه وبيانه).
والسيدة وداد من أديباتنا النوابغ ذوات العواطف الوطنية المرهفة، يدل على ذلك كتابها (الخطرات)، وهي بحكم هذه العاطفة الوطنية المستمرة تأبى أن يقول الطنطاوي عن دمشق إنها (أنها مُتَّبِعة في أدبها لا مُتَّبَعة، مقلدة لا مبدعة) وتقول السيدة وداد:
(إن دمشق الشام لها كيان أدبي مرموق، وفيها أهل معرفة وثقافة، فينبغي أن تفرض أدبها فرضاً، وأن تسم آثاره بمياسم خاصة تميزها من غيرها وتكون دليلاً عليها)، ودمشق العزيزة سيدتي، كما يشاء الواقع والحقيقة، مقلدة متبعة - وأقولها بكثير من الأسف والألم - تتقفى خطوات المصريين، وأبناؤها يقرءون على الدوام آثارهم وينهجون نهجهم. ونحن وإن كنا نعجب بالثقافة المصرية، وبكثير من الأدباء المصريين، ونقر لمصر بالزعامة والتفوق، ولكننا - إلى ذلك - نرغب في استقلال أدبنا وثقافتنا، ونحب أن يكون أدبنا ذا كيان خاص، ومياسم تميزه من غيره، أما أن نفرض أدبنا فرضاً - ولا ندري على أي قطر تريد السيدة أن نفرضه! - فهذا أمر يحتاج يا سيدتي إلى عشرات من السنين، إذ ليس فرض الأدب والثقافة من الأمور الهينة السهلة كما تخالين، ولا سيما لبلد له شأن كشأن(373/52)
دمشق. وبالرغم من ذلك كله فما أعفانا من هذا (الغرض!). ولقد ذكرت يا سيدتي، وذكر الأستاذ الطنطاوي قبلك عددا من الكتب كبيراً، أهمله كتاب مصر ونقادها. ولكن (التواضع) أبى عليكما أن تشيرا إلى مؤلفاتكما!. وإذا كان الطنطاوي قد أشار إلى كتابين من تأليفه بصورة خاطفة. . . فقد أهمل كتابين آخرين ربما كانا من أحسن ما أنتج وهما: (في بلاد العرب) و (من التاريخ الإسلامي) والأول كتاب ثمين ضمنه صاحبه قطعاً بارعة من أدبه، وبه صور ومشاهد طيبة لكثير من بلاد العرب، والثاني مجموعة من القصص، قبس الكاتب موضوعها من التاريخ الإسلامي المجيد؛ وقد أجاد في كثير منها، وهناك كتاب (الخطرات) للسيدة وداد سكاكيني وقد حوى موضوعات في الأدب والاجتماع قيمة، وكما خجلت السيدة وداد من الإشارة إلى (خطراتها) فقد أبت الإشارة إلى مؤلَّف زوجها الصديق الأستاذ زكي المحاسن وهو (النواسي شاعر من عبقر) درس فيه أدب الشاعر الماجن أبو نؤاس وأخرجه للناس في حلة قشيبة وشكل حسن.
وأما كتاب (آرائي ومشاعري) للأديبة النابهة الآنسة فلك طرزي الذي ذكرته السيدة وداد في معرِض التذكير، فقد سبق لكاتب مصري معروف أن نقده وقرَّظه في حينه على صفحات الرسالة الزهراء، فلم تكن ثمة حاجة لذكره، إلا أن تكون الذاكرة قد خانت السيدة وداد في هذه المرة.
هذا ما أردت أن أقوله في معرض التصحيح والتذكير، وللأستاذ الطنطاوي والسيدة وداد أذكى التحية وأطيب السلام.
(دمشق)
عبد الغني العطري
مواعيد البناء المخضوب
قرأت في جريدة الدستور كلمة كريمة لأديب كريم أسمه (إبراهيم) وهو كاتبٌ لم أعرفه من قبلُ، ولكن شمائله تنمّ عليه كما ينمّ الدُّخَان على الجمر المشبوب.
وهذا الكاتب يتوجع للنعيم الذي ضاع بين سَدَّة الهندية والقناطر الخيرية، ثم يُغلَبُ على وقاره فيذكر أن له نعيماً ضاع في ظلال (الجيزة الفيحاء) وأنه تأسَّى بقول أحد المتيمين:(373/53)
(تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب)
ذلك عزاؤك، أيها الزميل، فأين عزائي؟
هل تظن أن (خواطر مهاجر) التي قرأتها في الطريق مرتين حتى كدتُ أصطدم بالجدران ُتلهيني عن (خواطر مهجور) التي أدرتها في خاطري مئات المرات ولم أجرؤ على صبها فوق صفحات القرطاس؟
وهل ترى أن أداوي همومي بالتفكير في بلايا المجتمع كما يصنع جليس (الكافورة الغيناء)؟
وكيف وما حملتُ القلم إلا وثبَ القلم وثبة المسعور وقد تألق أمامه السراب وهو يظن ويتوهم ويخال أني سأكتب إلى الذين لا يصل إليهم خطابي إلا بعد أن يمرّ بثلاثة رقباء، أولهم في القاهرة وثانيهم في فلسطين وثالثهم في. . . (؟)
إن سمح الدهر بيوم العتاب فسأقول وأقول وأقول
وإن ضنّ الدهر بيوم العتاب فسأرسل إلى الغادرين جذوة من جَذَوات قلبي ليعرفوا أن دمي لا يذهب هدَراً في دنيا النفوس الغوادر والقلوب الشِّحاح
بتذكِرة بريد تكاليفُها أربعة فلوس تداوَي جراح
قلبي فهل رأى الناس أبخل من الذين يستكثرون أربعة فلوس على من جاد في هواهم بالعافية والأمان؟
ويزيد بلائي كلما تذكرت أن الخلاص من أسرهم هو رابع المستحيلات، وكانوا أوهموني أن دنيا الوجد لا تعرف المستحيل، يوم كنا نتناجى بنبرات أرقّ وألطف من وسوسة الأزهار في أسحار آذار
ولا تحسبوني نسيت العهد، يا أصفياء روحي، فما الدنيا بدون هواكم إلا هجيرٌ تموت في وقدته رياحين القلوب، كما تموت أعشاب (الموصل) عند قدوم حُزَيران
وآه ثم آه من القلب الذي تعجز الخطوب والصُّروف عن وَأْد ضلاله القديم!
زكي مبارك
حول ارتجال المصادر(373/54)
قرأت الكلمة التي وجهها إليَّ الأستاذ صلاح الدين المنجد في العدد 369 من الرسالة الغراء، تلك الكلمة التي يزعم فيها أنني ارتجلت مصدراً أوردت ذكره في مقالي المعنون (العروب في العراق) المنشور في العدد 360 من الرسالة
إن المصدر المنوّه به هو: (السفن والمراكب في بغداد في عهد العباسيين) للأستاذ حبيب زيّات. وقد رجعت إلى المجلة، فوجدت ما ذكرته في مقالي صحيحاً لا شبهة فيه. وعليه أعود الآن ثانية فأؤكد ما ذكرته هناك من أن المقال منشور في مجلة (لغة العرب)، التي كانت تصدر في بغداد: (5 (1927) 461 - 465)
وإذا كان الأديب المنجد لم يجد تلك الأرقام فإننا نفيده أن الرقم (5) يعني المجلد الخامس من مجلة (لغة العرب) والرقم (1927) يشير إلى سنة صدور ذلك المجلد، والرقمين (461 - 465) يشيران إلى الصحائف التي نشر فيها مقال (السفن والمراكب) المشار إليه في نفس المجلد والسلام.
(بغداد)
ميخائيل عواد
كتاب الشعور بالعور
إلى الأستاذ محمود حسن الزناتي
قرأت الكلمة التي تفضل الأستاذ الزناتي أمين الخزانة الزكية ومحقق كتاب (الفصول والغايات) لأبي العلاء المعري فكتبها عن كتاب (الشعور بالعور) لصلاح الدين خليل أبن أبيك الصفدي الذي جمع فيه أخبار العور من صحابة وتابعين وعلماء وأدباء، وقد طلبناه في مكاتب دمشق الخاصة والعامة فلم نعثر عليه؛ فنحن نشكر للأستاذ إشارته هذه، ونود لو تكرم بتلخيص طرف من ملح الكتاب ونوادره لنقف على بعض ما تضمنه الكتاب
صلاح الدين المنجد
مولد الدكتور إسماعيل أدهم ونسبه
اقتصر الأديب إبراهيم أدهم أخو الدكتور إسماعيل أدهم على أن يخطئ ما قيل عن نسب(373/55)
أخيه من جهة أمه دون أن يذكر الحقيقة. فرأينا أن ننقل في ذلك ما كتبه الدكتور زكي أبو شادي صديق الفقيد عنه في مجلة (أدبي):
(ولد إسماعيل أحمد أدهم في 17 فبراير سنة 1911 بمدينة الإسكندرية من أب تركي وأم ألمانية. أما والده فهو أحمد بك أدهم الأميرالاي في الجيش التركي سابقاً، وجده إسماعيل بك أدهم أستاذ الأدب التركي بجامعة برلين، وجدُّ أبيه إبراهيم أدهم باشا ناظر المعارف المصرية على عهد ساكن الجنان محمد علي باشا، وقد شغل أيضاً من المناصب منصب محافظ القاهرة وناظر الأوقاف وناظر الحربية في مصر. وأما والدته فهي السيدة أيلين فانتهوف كريمة البروفيسور فانتهوف الشهير عضو أكاديمية العلوم البروسية).
نؤت بالحمل وناء بي
بهذا العنوان نشرت الرسالة للأستاذ عوض عوض الدحة كلمة يناقش فيها الأستاذ الطنطاوي حول تعبيرين هما (نؤت بالحمل، ناء بي الحمل) فالأستاذ الطنطاوي يرجح الأخير ويومئ إلى أنه هو الأصح رغم شيوع عكسه، بينما الأستاذ عوض يستملح التعبير الأول ويستدل على هذا بما عثر عليه في بطون المعاجم وأسفار الأدب
وليسمح حضرة الناقد بالانتقال معي إلى خير حَكم، وهو الكتاب المبين فقد ورد فيه حكاية عن قارون في سورة القصص (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي لتُنيء العصبة بثقلها، ومن الواضح أن هذا التعبير أنسب وأوجه ليتحقق المعنى المقصود.
أبو الفضل السباعي ناصف(373/56)
القصص
قصيدة غرام. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأستاذ عبد الغني العطري
غادر القطار مدينة جنوا متجها نحو مرسيليا، ومتقفياً تعرجات الشاطئ الصخري الطويلة، وأخذ يسلك سبيله - بخفة وسرعة ونشاط، كثعبان أسود مخيف - بين اليم والجبل، زاحفاً فوق الشواطئ ذات الرمال الصفر التي تدغدغها الأمواج الصغيرة بخيوط دقيقة لجينية، ثم يدخل - دون تمهل - فوهة النفق الأسود، كما تدخل البهائم في أجحارها، أو الطيور الغَردة في أوكارها
وكان في العربة الأخيرة من القطار، شاب في ريعان صباه، وامرأة أُوتيت من السمن حظاً وفيراً. جلسا متقابلين وجهاً لوجه، دون أن ينطقا بحرف، أو ينبسا ببنت شفة. وكان كلاهما يختلس من صاحبه النظر، بين الفينة والفينة. أما المرأة فكان لها من العمر نحو خمس وعشرين ربيعاً، وكانت جالسة قرب النافذة تمتع ناظريها بمناظر الطبيعة المُرَنِّية وهي إلى ذلك امرأة قروية صلبة العود، قوية البنية، من مقاطعة بييمون الإيطالية، ذات عينين سوداوين، وصدر ناهد جسيم، ووجنتين مكتنزتين باللحم والشحم، وقد ألقت تحت مقعدها الخشبي عدة حُزم ورِزم، واحتفظت فيما بين ركبتيها بسلة
أما هو. . . فقد كان على النحو العشرين من عمره، وكان نحيلاً مهزولاً مسقَّماً بصبغة سمراء قاتمة، وهي من علامات الرجال الذين يعملون في الأرض، خلال فصل الصيف، وفي حر الهاجرة وكان إلى جانبه منديل حوى كل ما ملكت يمينه من (ثروة!) ونشب: حذاء وقميص، وسروال وصدار. وقد أخفى عدا ذلك تحت المقعد أشياء أخرى: مِجرفة ومعولاً، ُربط بعضها إلى بعض بحبل. لقد كان ذاهباً إلى فرنسا ليبحث فيها عن عمل يعتاش من ورائه
أخذت الشمس تتسلق القبة الزرقاء، بخطوات مبتدئة رزينة، وأخذت تقذف من برجها العاجي البعيد وابلاً من أشعتها النارية المستمرة على الشاطئ الهادئ الوديع.(373/57)
كان ذلك في أواخر شهر أيار، وأريج الزهر العطري يعبق في الجو، ويدخل العربات، التي ظلت نوافذها مفتحة، وكان شجر البرتقال والليمون في إبان إزهاره، وأريج زهره الناضر يعبق في الجو ويتطاير مع النسيم برقة وعذوبة وقوة، فيفعم الأنوف، ويملأ الخياشم، ويمتزج برائحة الورد الفواحة العطرة التي كانت تنبت على طول الطريق بكثرة مفرطة كما ينبت العشب أو الكلأ في البساتين وأمام الخرائب المتهدمة، وفي الحقول والمزارع أيضاً.
لقد كانت هذه الورود والأزاهير في المكان الملائم لها على هذا الشاطئ الوديع، وكانت تملأ جو البلدةَ بشذاها الفواح، وأريجها التضوع، حتى أنها تجعل النسيم حلو طيباً كقطعة من حلوى! وليس ذلك ما تصنعه فحسب بل كانت تجعل النسيم شيئاً ألذ من الخمر، ولكنه مسكر كالخمر!
أما القطار فكان يسير الهوينى، كما لو أنه يبغي عامداً أن يطيل مشيته في هذه الحديقة الحالمة؛ وكان يقف بين الآونة والأخرى في المحطات الصغيرة أمام بعض المنازل البيض، ثم يستأنف مسيره الهادئ الواني ثانية بعد أن يصفَّر طويلاً، لم يكن أحد يركب القطار من تلك المحطات، ولم يكن يُرى أحد أيضاً؛ حتى إن المرء ليحسب أن الخليقة ناعسة بأسرها، وأن أحداً لا يجد القوة والنشاط لتغيير موضعه في ذلك الصباح اللاهب من فصل الربيع
وكانت المرأة البدينة تسبل جفنيها بين الآونة والأخرى ثم تفتحها على حين غرة، عندما تشعر بأن السلة التي وضعتها بين قدميها على وشك السقوط، فتمسكها بحركة سريعة نشيطة، وتمد رأسها إلى النافذة، وتمتع ناظريها بمشاهد الكون المرئية، ثم تعود إلى إغماض جفنيها من جديد، وكانت بعض قطرات من العرق تلتمع فوق جبهتها، ثم تتنفس بجهد وعناءٍ، كما لو كانت تعاني ضغطاً شديداً
أما الفتى القروي فقد أحنى رأسه، وأستسلم لنوم عميق لذيذ وعندما كان القطار يغادر محطة صغيرة، استيقظت المرأة على حين غرة ثم أخرجت من سلتها رغيفاً من الخبز وبيضاً مسلوقاً وقارورة من الخمر وأجاصاً جيداً مورَّد الخد وشرعت تأكل
وأستيقظ الشاب فجأة أيضاً على صوت حركاتها الأخيرات وأخذ يرنو إليها ويطيل النظر(373/58)
إلى لقمة تَطعَمها وتذهب بها من بين ركبتيها إلى فمها. ومكث كذلك: مشبك الذراعين، محملق العينين، بارز العارضتين، مغلق الشفتين
وكانت المرأة تَطْعَم غداءها رغبة ملحة ونهَم شديد، وتحسو مع كل لقمة جرعة من صهبائها كي يسوغ طعامها ويسهل عليها ابتلاعه. وكانت تمتنع هنيهة عن طعامها بين الفينة والفينة لتستجم أولاً وترسل نَفَساً طويلاً ثانياً
لقد أتت على كل ما لديها من طعام وشراب، فلم تُبقي شيئاً من الخبز أو البيض أو الأجاص أو الخمر. وما أن انتهت القروية البدينة من غدائها حتى أغمض الفتى جفنيه. ولما شعرت المرأة بالشبع، وامتلاء المعدة، نزعت أزرار ثوبها من عراها، كي تصيب بعض الراحة بعد هذا الشبع المفرط. ونظر إليها الفتى من جديد، ولكنها لم تضطرب من نظراته ولم تقلق، بل ثابرت على فك أزرارها، وكان ضغط نهديها المتوثبين الشديد، يبعد القماش بعضه عن بعض، ويظهر من الفرجة - التي أخذت تتسع - شيئاً من قميصها القطني الأبيض، وقليلاً من بشرتها، ولما وجدت القروية البدنية. ولما وجدت القروية البدينة نفسها أقر عيناً، وأهدأ بالاً، وأكثر راحة وسروراً، رفعت رأسها للفتى، وقالت له تحدثه بالإيطالية:
- لقد بلغت شدة الحر حداً تعسر معه التنفس وضاق
فأجابها الشاب، باللغة نفسها، واللهجة ذاتها:
- إن الطقس حسن، ملائم للسفر والسياحة كل الملائمة والتفتت إليه فسألته:
- أأنت من مدينة بيمون؟
- بل من آستى
- أما أنا فمن كازال
لقد كانا من بلدتين متجاورتين، فآلف ذلك بين قلبيهما، وجمع بين روحيهما، فأخذا يتجاذبان أطراف الأحاديث. تحدثنا طويلاً. . . وطويلاً جداً، عن أمور وأشياء مبتذلة، لا قيمة لها وشأن يذكر؛ أشياء تعيد العامة ذكرها، وتكررها في كل ظرف أو مناسبة. وهي في الحق أقصى ما يصل إليه تفكير هذه الطبقة الضيق. تحدثنا عن البلدة، وعن أخبارها وظرائفها. لقد كان لديهما معلومات مشتركة غزيرة، يعرفها كلاهما بالتفاصيل والدقائق. وأخذا يذكران(373/59)
الأشخاص، ويعددان الأسماء التي يعرفان أصحابها. وكانت أواصر الصداقة والمودة تزداد توثقاً بينهما كلما ذكرا شخصاً جديداً رأياه، أو صحباه، أو عرفاه. وكانت الكلمات تنطلق من ثغريهما بقوة وحماس، وسرعة ونشاط، مع نهاياتها الموسيقية الرنانة، ونغماتها الإيطالية الحلوة. ثم أخذ كلاهما يعرف صاحبه إلى نفسه:
أما المرأة فقد كانت متزوجة ولها من الأولاد ثلاثة تركتهم إلى أختها لترعاهم، وتقوم على خدمتهم، لأنها أخذت تشغل منصب مرضع وفير الربح، لدى سيدة فرنسية في مرسيليا
وأما الفتى الشاب فقد كان يبحث عن شغل، وقد قيل له: إنه سيجد - دون ريب - عملاً في مرسيليا لأنهم يكثرون من البناء والعمار هناك
وما أن بلغا هذا الحد من الحديث حتى اعتصما بالسكوت وأخذت الحرارة تزداد والنهار يَرْمض، وذكاء يشتد سعيرها كلما غذَّت الخطا في تسلق القبة الزرقاء، وكانت أشعة الشمس اللاهبة تسقط على عربات القطار فتزيد في شدة الحر، وتضاعف أواره المتسعر، وأخذت غمامة من الغبار الكثيف تتطاير خلف القطار، وتدخل العربات. وكان أريج زهر البرتقال والورود يزداد تضوعاً وانتشاراً، فيملأ الخياشيم ويفعم الأنوف واستولت على المسافرْين الفتَّيْين من جديد رغبة ملحة في الرقاد، فاستسلما طائعين لسلطان الكرى القاهر
وعدا بعد حين، فنفضا عن عيونهما بقايا النوم، في وقت يوشك أن يكون واحداً. وتضيقت الشمس أخيراً، وأخذت تدنو من البحر، وهي تنير صفحة الماء الأزرق بأشعتها الأرجوانية اللألاءة، فيزداد بريقه ويشتد تألقه والتماعه. وبدأ الهواء الطريُّ الرطب، أخف وطأة، وأقل ضغطاً.
وأخذت المرضع تلهث وكان صدارها مفتوحاً، وخداها مسترخيين، وعيناها كامدتين. . . ثم قالت بصوت ينم عن الإعياء البالغ، وألاين الشديد:
- منذ نهار أمس لم أُدن ثدي من طفل، وهاأنا ذا بسبب ذلك مضطربة الفكر، مشتتة القلب، موزعة الفؤاد، كما لو كنت مقدمة على إغماء شديد
ولم يحر الشاب جواباً، لأنه لم يدر ما يقول، ولا بماذا يجيب واستمرت المرضع في حديثها فقالت:
عندما تملك المرأة لبناً بالقدر الذي أملك، من الواجب عليها أن ترضع ثلاث مرات في(373/60)
النهار، فإن لم تفعل أصيبت بضيق عظيم، وغم شديد، إنني أشعر بعبء ثقيل يرزح فوق صدري، ويكاد يحبس عني الأنفاس، ويحطم مني الضلوع. من الشقاء والتعاسة أن تملك المرأة لبناً بهذه الغزارة والكثرة
فأجابها الفتى بنغمة الموافق الآسف:
- حقاً إنه من الشقاء يا سيدتي. . . إن هذا اللبن يقض مضجعك ويزعجك دون ريب. . .
وفي الحق كانت تبدو على محياها إمارات المرض، ويظهر في عينيها بريق التعب والإعياء. ثم جمجمت في صوت خفيض:
- يكفي أن يضغط المرء ثديي قليلاً كي يتفجر منه اللبن، كما لو كان ماء ينبجس من نبع، حقاً إن هذا منظر مروع، حتى أن المرء لا يكاد يصدقه لمجرد السماع، وفي (كازال) يتقاطر الناس عليّ كي يروا ثدييّ
- أحقاً ذلك؟
- أجل، إن هذا حق، لا غبار عليه، ولا لبس فيه، وسأريكهما، غير إن هذا لا يفيدني في شيء، لأني لن أستطيع أن أفرغ شيئاً من محتوياتهما على هذه الصورة
قالت ذلك وسكتت من جديد
ووصل القطار بعد حين من الوقت، إلى إحدى المحطات، فوقف عن المسير. وكان في المحطة - خلف الحاجز القائم بين القطار والجمهور - امرأة هزيلة الجسم، رثة اللبوس، تحمل بين ذراعيها طفل يبكي
ووقع نظر المرضع على المرأة؛ فقالت بصوت تمثل فيه اللطف والإشفاق والرحمة:
- هذه امرأة يمكنني أن أخفف عنها ما تعاني من ضيق، كما أن الطفل بإمكانه أن يخفف عني هذه الأثقال التي ينوء بها صدري. اسمع يا صديقي لست غنية - لأني أترك منزلي وذوي وابني الأصغر، كي أعمل كمرضع، بعيدة عن الوطن والأهل - ولكني على استعداد لدفع خمسة فرنكات في سبيل الحصول على هذا الطفل وإرضاعه مدة عشر دقائق؛ إن هذا دون ريب بعيد الهدوء والسرور إلى نفسينا. يخيل إلي أني سأبعث من جديد حين أفعل ذلك، وإن الحياة ستسري في عروقي
قالت ذلك، ولجأت إلى أحضان الصمت تعتصم به من جديد وأخذت تمسح بيدها اللاهبة -(373/61)
حيناً بعد حين - جبهتها فيسيل العرق منها ويندى
- ثم قالت بصوت موجع حزين:
- لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك. . . لم أعد أستطيع. . . يخيل إليَّ أني أوشك أن أموت
وبحركة لا شعورية أطلقت الأزرار ثوبها العنان فتفتح كله!
وبدأ ثديها الأيمن للعيان، فكان ضخماً كبيراً ينتهي بحَلَمة سمراء. . . شديدة السمرة. وقالت المرضع المسكينة شاكية متألمة:
- آه يا إلهي! ماذا أصنع؟ ماذا أفعل؟ لم أعد أستطيع!. . . وكان القطار قد عاد لاستئناف المسير بين الأزاهير الفواحة التي تنشر شذاها العبق الذي يشتد تضوعه في الأمسيات الدافئة. وفي بعض الأوقات كان يخيل إلى المرء أن زورق صيد وقف هادئاً فوق صفحة الماء الأزرق الساجي بشراعه الأبيض الساكن، وكانت صورته تنعكس في الأمواج، كما لو أن زورقاً آخر كان في المكان نفسه ولكن باتجاه معاكس، أي رأسه إلى أسفل. . .
ورفع الفتى القروي رأسه إلى المرضع وقال مضطرباً مغمغماً:
- ولكن يا سيدتي. . . يمكنني أن. . . أن أريحك مما تعانين!. . .
فنظرت إليه المرضع بطرف مريض كليل؛ وأجابته بصوت خفيض ذليل:
- أجل. . . إن أردت يا سيدي. إنك تسدي إلي يداً لا أنساها. لم أعد أستطيع الاحتمال أكثر من ذلك! لم أعد أستطيع. . .
وجثا الفتى على ركبتيه أمامها، وانحنت المرضع نحوه مقدمة إلى فمه، بحركة من حركات المرضعات المألوفة لديهن، حَلَمَة ثديها الدكناء. وخلال الحركة التي قامت بها المرضع، والتي أمسكت بها ثديها بيديها، كي تدنيه من الرجل الشاب، ظهر على الحلمة نقطة من اللبن، فأمتصها هذا بسرعة ورغبة ونهَم، وهو يقبض بشفتيه على الثدي الثقيل المنتفخ، كما لو كان يقبض على ثمر شهي!. أو فاكهة طيبة لذيذة. وأخذ الرجل يرضع لبن هذا الثدي بشره ورغبة، ونظام ودقة.
وطوق الشاب بذراعيه خصر المرأة، وأخذ يضغطها كي يدنيها منه أكثر، وكان يتناول لبنه بجرعات متباطئة متزنة ويميل برقبته يمنة ويسرة، كما يفعل الأطفال الرضع على التمام!(373/62)
وفاجأته المرأة بعد حين بقولها:
- يكفي هذا المقدار من هذا الثدي، خذ الآخر الآن وتناول الثدي الآخر بإذعان وطاعة وخضوع. ووضعت المرأة يديها على الشاب، وأخذت ترسل أنفاسها، بهدوء نفس، وانشراح صدر، وهي تنشق عبير الورود والأزهار الممتزج بنسمات الهواء الرقيقة التي كانت حركات القطار تقذف بها إلى العربات. وقالت على حين غرة:
- أعتقد أنه يكفي هذا المقدار الذي ارتضعته
فلم يحر الشاب جواباً، وأستمر يحسو من هذا النبع الذي لا ينضب، مسبلاً جفنيه، كي يشعر بلذة أكبر، وسعادة أعظم
ولكنها أبعدته برفق وهي تقول:
- كفى. . . كفى. . . أشعر بتحسن شديد. إن صنيعك يا سيدي قد أعاد روحي إلى الجسد، وبعثني بعثاً جديداً
وأنتصب الفتى واقفاً، وهو يمسح شفتيه بظاهر كفه. فقالت له المرأة حينذاك، وهي تدخل في ثوبها، ثدييها الكبيرين اللذين ينفخان صدرها:
- حقاً لقد أسديت إلي يا سيدي يداً لن أنساها، أنني أشكر لك هذه المنة، وأحفظ لك هذا الفضل
فأجابها الشاب بغنة فيها امتنان وشكر وعرفان للجميل:
- ولكن عفوك يا سيدتي وغفرانك!. . . أنا الذي يجب علي أن أشكرك من صميم الفؤاد، وسويداء القلب. لقد انقضى علي يومان، يا سيدتي، لم أطعم خلالها شيئاً. . .
(دمشق)
عبد الغني العطري(373/63)
العدد 374 - بتاريخ: 02 - 09 - 1940(/)
خواطر مهاجر. . .
- 2 -
كأنما أقبل فيضان النيل في هذا الموسم متلكئاً منزوراً ليوائم طبع هذا العام في خصومة السلام وعداوة الخير!
وكأنما كانت كل سنة من عُمر الدنيا نشيداً من ملحمة القدَر تتألف أبياته من تفاعيل الخير أو من تفاعيل الشر ليصح منطق الكون فيما ينتج من أفعال الناس ومنطق الطبيعة!
كل شيء من الأشياء قد انحرف اليوم عن وضعه أو خرج عن مداره؛ لأن زلزلة الشر للأرض، وانفجار الدواهي على الناس، لابد أن يحدثا الفساد في كل معنى، ويبعثا الاضطراب في كل ذات. فمن توقع في هذه السنة النازية الجهنمية خيراً أو سكينة كان كمن يتلمس الصلاح في عمل الشيطان، ويتحسس الطرب في لحن الحزن!
يُخيَّل إليَّ وأنا أقرأ أنباء الحرب وأطالعُ أحوالَ الناس أن وشائج الإنسانية قد تقطَّعت بين بني آدم فوقعوا في فَترة منكرة من فترات الوحشية الأولى، فلا وفاء بين الآحاد، ولا ثقة بين الأمم، ولا حِجاز بين النفوس؛ وإنما يعيشون على الترصد والغيلة في فزع لا يغبّ وحذر لا يغفل. فإذا أخلف النيل بعض الإخلاف - وهو في رأي مترجمه (إميل لدّوج) معروف بخصائص الإنسانية العليا من الوفاء والسخاء والعدل - فإن ذلك لا يتنافر مع هذه الفوضى العامة المهلكة التي أصبح فيها الكذب سلاحاً مشروعاً يسمى الدعاية، والغدر سياسة مرسومة تسمى الوقاية، والخيانة خطة مدبرة تسمى الطابور الخامس!
على أن النيل أوفى منذ أيام فطمَي وزخر! ففي ذات بكرة من بكرة المنصورة الغريقة في النور والفتور والهدوء والعطر، رأيت من مشرف القهوة شاطئيه الظامئين قد شرقا من فيضه بدم الحياة أو بذوب النضار فهما يفقهان كما يفقه اليهودي ذو الربو الهرم! وأبصرت الزوارق التي تجر بالأمس على رمال القاع قد غدت على صفحته الذهبية المتموجة أشبه شيء بالحمام الطائر على حقول القمح إذا إستحصدت، أو بالفراش المبثوث على رياض الشقائق إذا توردت. ثم صور لي أن المدينتين المتقابلتين على ضفتي النهر المقدس الخالد قد صغتا إليه بوجوههما وقلوبهما كأنهما تؤديان إليه تحية العرفان، وإلى الله صلاة الشكر! حتى الكافورة بالغت أغصانها الشمالية في التدلي حتى أوشكت أن تقبل أمواجه المسلسلة(374/1)
وهي تنساب في ظلها الظليل شادية بالثراء والغبطة!
حينئذ وجدتني على الرغم منى عانى الوجه له مستغرق الفكر فيه، يتردد في خاطري ما يردده الحيوان والشجر من تقديسه وتمجيده. ثم قر في نفسي أن بيني وبين هذه الشجرة القريبة وذلك الرجل البعيد قرابة شابكة، لأني شعرت أن بيني وبين من يسقيه النيل إخاء من رضاع الماء كما يكون بين الولد والوالد إخاء من رضاع اللبن! ووضح في ذهني الآن معنى ما يقول الناس من أن علاقة الفرد بالأمة هي علاقة الأخوة، وعلاقة الأمة بالوطن هي علاقة الأمومة. وكما يتجه في لحظات الصفاء الروحي فكر الأخ الممنوح إلى أخيه المحروم، اتجه فكرى في هذه الجلوة النفسية إلى ثرانا المكروب وأكبادنا الحرى في صحارينا الشرقية والغربية. فقلت لنفسي وأنا أردد الطرف الساهم في تيار النهر الجارف وداراته المدومة ولججه الفائرة: كيف خف على ضمائر ذوي العلم والرأي في وزارة الأشغال أن يدعوا هذا الفيض الحيوي العظيم يتدفق أربعة أشهر في لهوات النحر الأبيض دون أن يحبسوه بحيلة من حيل الفن الهندسي ليحيوا به موات الناس والأرض! لو كان لمهندسي الري في بلدنا مطمح تُشرف نفوسهم عليه غير أن يكونوا موظفين يسجلون المناسيب ويضبطون المناوبات ويتعهدون الجسور ويترقبون العلاوات، لوصلوا ما انقطع من أبحاث (ولكوكس) و (سرى) حتى يبلغوا بها الغاية التي يكون بعدها كل سها واحة وكل تل غابة. ولكن مهندسينا كسائر أهل الفكر فينا لا يعملون إلا للعيش؛ فإذا ضمنوه هدهدوا كسلهم الرخي اللذيذ على كرسي العمل الدوار في المكتب، أو على كرسي الهضم الهزاز في المنزل!
قالت نفسي وقد ساءها أن اتهم العلماء والمفكرين بقلة الوفاء بعهد الضمير: لعلهم لا يوفون بعهود الوطن والفكر إلا إذا قدمت الأمة إليهم العرائس كما كانت تقدمها إلى النيل من قبل، فقلت لها: لا جرم أن العرائس أو الجوائز هي أقوى الحوافز لقرائح العلماء والأدباء والفنانين، لأنهم خُلقوا لأنفسهم قبل أن يخلقوا للعلم والأدب والفن، فإذا لم يجدوا الجزاء على ما يبذلونه للناس ضنوا به أو أنزروه، ولكن النيل خلق لغيره كما يخلق النبي المرسل والزعيم الملهم؛ فوجوده أن يفيض، وعمله أن يعطي. ومن ذلك كان أصدق خلاله الوفاء والكرم، فهو منذ اتصلت منابعه بعيون السماء، وانشقت مجاريه في صدور الأرض، لا(374/2)
يزال يفي بوعده ويجود برفده على القدر الذي يريده الله لا يملك زيادته ولا نقصه. وما كان الوفاء والسخاء غريزتين في المصري الحر إلا لأنه خلق من غرين نهره الحبيب ومائه. فهو لابد موفٍ بما عاهد عليه وإن تثاقل. والتثاقل مثبط عارض ينشأ من غفوة الضمير أو من كلال الذهن، فمتى نبه الدين الضمير وشحذ العمل الخاطر، عادت النفوس إلى جوهرها الخالص فسخت بما تملك؛ يومئذ لا تجدين عالماً يكسل، ولا غنياً يبخل، ولا سياسياً يكذب، ولا زعيماً يخون، ولا صانعاً يغش، ولا عاملاً يهمل؛ وإنما يجري أبناء النيل على أعراق النيل، ينشئون أطهاراً ويشبون أحراراً ويعملون أخياراً، ثم يذهبون أبراراً كما يذهب هذا النهر العظيم بعد أن يخُصب الجدب ويُنبت الحب ويرفع الحضارة ويقر السلام.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(374/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(عبد الوهاب عزام - ذكرى سعد - بين الدين والوطنية -
سلامة موسى رجل غير موفق - نكتة أدبية - على هامش
التاريخ المصري القديم، لسعادة الأستاذ عبد القادر حمزة باشا)
عبد الوهاب عزام
قلت مرات كثيرة: إن الشجاعة الأدبية لا تقف عند القدرة على أن تقول للمسيء أسأت، وإنما تسمو الشجاعة الأدبية فتصل إلى القدرة على أن تقول للمحسن أحسنت، لأن ذلك يشهد بأن الناقد يملك السيطرة على هوى النفس
وأنا أحب أن أقول كلمة في الدكتور (عبد الوهاب عزام) بعد أن سمعت المحاضرة التي ألقاها في المذياع عن (أخلاق القرآن) فقد بهرتْ بقلبي وعقلي، وأشعرتني بأن من العقوق أن أسكت عن توجيه القراء إلى متابعة هذا الباحث المفضال
وإنما وجب ذلك التوجيه لأن مباحث الدكتور عزام تتسم بالدقة وتخلو من البريق، فهو لا يجذب إليه من القارئين والسامعين غير طلاب المعاني، من الذين يعرفون من قبل أنه باحث على جانب عظيم من الدقة والعمق
فإذا استطعت بهذه الإشارة أن أدل قرائي على فضل هذا الباحث وأن أجذبهم إليه فسيذكرونني بالخير حين ينتفعون بما ينشر من مقالات أو يذيع من محاضرات
شعرت وأنا أسمع محاضرته عن أخلاق القرآن أن القرآن نزل أمس فهو يحدثنا بما نرى وما نسمع من معضلات الوجود، ومع أن الدكتور عزام أضاء روحي بهذا المعنى فما أحسست أنه تكلف أو تعسف أو حاول الظهور بمظهر الغيرة على الشريعة الإسلامية، فهو يُلقي كلاما فطرياً سمحاً لا زخرف فيه ولا تنميق، وهو ينقل إلى سامعيه آيات القرآن في لطف ورفق حتى لتكاد تحسب أنه وجدها مسطورة في صفحة واحدة من صفحات المصحف الشريف.
فإذا أضفنا إلى هذا أن الدكتور عزام رجل أريحي النفس، عذب الفكاهة، مصقول الحديث،(374/4)
حضري الشمائل، أدركنا أنه من أعيان أهل الفضل في هذا الجيل.
ولو شئت لمضيت إلى آخر الشوط فقلت: إن صحبتي لهذا الصديق قد اتصلت بالفكر والروح أكثر من عشرين سنة، وما اذكر أبداً أني أحصيت عليه هفوة واحدة من هفوات الفكر والروح. في الدكتور عبد الوهاب عزام عيب واحد هو الهدوء، ولكنه هدوء الطمأنينة لا هدوء الخمود، فأرجو من القراء ومن المستمعين أن يذكروا أن هذا الرجل لا يكتب أو يتحدث إلا ليواجههم بأشياء من المعاني الصحاح في الأدب والخلق والدين والتاريخ.
ذكرى سعد
من تحصيل الحاصل أن أقول إني لم أكن وفدياً في يوم من الأيام، والوفد يعرف ذلك، ومن أجل هذا كان يتغاضى عما أبثه في مقالاتي من الدعوة إلى مبادئ الحزب الوطني حين كنت أشتغل بالتحرير في الجرائد الوفدية
وكنت أحضر الحفلات التي يقيمها الوفد لذكرى سعد تأييداً للمعنى الجميل الذي تنطوي عليه، ثم هجرت تلك الحفلات بعد أن صارت تقام في مكانين: أحدهما للهيئة الوفدية، وثانيها للهيئة السعدية، تجنباً للظهور بمظهر التحزب لأحد الفريقين، ولي فيهم أصدقاء أعزاء. وفي اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال تقام حفلتان لذكرى سعد، وكان في نيتي أن أحضر هاتين الحفلتين بلا تفريق لأواسي أصدقائي هنا وأصدقائي هناك
فما الذي صدني عن حضور هاتين الحفلتين؟
أذكر السبب فأقول:
لما مرض رفعة النحاس باشا ترفق سعادة الدكتور ماهر باشا ومضى لعيادته، على ما كان بينهما من ضغائن سود ووقفتهما حاقدين أمام محكمة الجنايات.
ولما عوفي النحاس باشا مضى لزيارة من عادوه من الكبراء، واتفق أن لم يجد الدكتور ماهر باشا في داره فترك له بطاقة وانصرف، وإلى هنا أدى النحاس باشا واجبه تأدية صحيحة، ولكنه رأى أنه كان يجب أن يشعر الدكتور ماهر بزيارته لينتظره، فترفق وأخبره بأنه سيزوره مرة ثانية، ثم كان تلاقٍ كريم بين صديقين قديمين فرقت بينهما اللجاجة الحزبية، وهي خلافة المآثم والعيوب.
هذا التصرف نبيل من هذين الرجلين، فهل تعرفون كيف كان تأثير هذا التصرف النبيل(374/5)
في الجرائد الوفدية والسعدية؟ ظل التلاحي على ضرامه بين جريدة المصري وجريدة الدستور، ولسان حالهما يقول:
إذا ما الجُرح رم على فسادٍ ... تبيَّن فيه تقصير الطبيب
فهل يُلام مثلي إذا أضجرته هذه الحال فلم يشترك في الاحتفال بذكرى سعد؟
للسياسة فنون، ومن فنون السياسة أن يكون الرجل أخاً صادقاً لجميع المواطنين، وكذلك تتحول السياسة إلى وطنية صحيحة تكره الهدم والتجريح.
اختلفوا ما طاب لكن الخلاف، يا بني وطني، فالخلاف دليل الحيوية، ثم احذروا العداوة والبغضاء، لأنهما لا يصدران عن أرباب القلوب.
بين الدين والوطنية
يظهر أن مقالي في نقد الأستاذ سلامة موسى لم يُرض جميع القراء، فقد تلقيت خطاباً صدر عن مدينة فارسكور، وهو خطاب لم يخل من تحامل، وإن كانت عبارات كاتبه تشهد بأنه من المطلعين، وكيف لا يكون كذلك وهو (ضبع)؟!
وأنا احرص أشد الحرص على إزالة ما قد يقع بيني وبين قرائي من أسباب الشقاق، لأني طيب القلب إلى أبعد الحدود، وإن قال قوم بأني سأكون من حطب جهنم، لطف الله بهم وهداني! فما الذي كنت قلت في ذلك المقال؟
أذكر أني قلت إن من واجب كل مصري أن يعطف على العروبة والإسلام، لأنهما سناد مصر في الشرق، وأذكر أني قلت إن اهتمام الأستاذ مكرم باشا عبيد بحفظ القرآن هو مظهر من مظاهر الوطنية؛ فجاء كاتب الخطاب من فارسكور يقول:
(أهذه هي مقاييس الوطنية؟) وأقول: نعم، هذه مقاييس الوطنية، بشهادة الأستاذ مكرم باشا عبيد
ولكن كيف؟
ظهر الأستاذ مكرم عبيد على مسرح السياسة سنة 1919 قبل أن يولد كاتب الخطاب من فارسكور، وكنت أنا يومئذ من المكتوين بنار الثورة المصرية؟ فهل يعرف الناس كيف التفتنا إلى مكرم عبيد في ذلك العهد؟
كان مكرم سكرتيراً لأحد المستشارين الإنجليز، ثم اندهش رئيسه من أن يشترك مع(374/6)
الموظفين المضربين، وكان اندهاشه لأنه يعرف أن مكرم عبيد قبطي، ولأنه يتوهم أن الأقباط لا يشاركون المسلمين في الثورة على الاحتلال
ورأى مكرم أن يصحح موقفه أمام رئيسه فكتب إليه خطاباً يشرح فيه كيف استجاز لنفسه أن يضرب مع المضربين، وساق في ذلك خطاباً لأحد القسيسين الأقباط قال فيه: (إذا صح أن الأقلية القبطية ستكون عقبة في طريق الاستقلال فسندعو الأقباط جميعاً إلى الإسلام لتسقط حجة المحتلين)
وقد طبعنا خطاب مكرم عبيد إلى رئيسه الإنجليزي ومضينا فوزعناه على الجماهير لنذكي به روح الوحدة القومية
ثم ماذا؟
ثم نظر مكرم فرأى أن أبويه كانا سمياه (وليم) فاستغنى عن اسمه الأجنبي واكتفى باسمه الوطني، وهو اسم عبي صريح كان علماً لأحد الأقباط الأشراف بهذه البلاد.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم صرح مكرم باشا في خطبة شهيرة بأنه مسلمُ وطناً، وأزهري ثقافةً
فما معنى ذلك يا كاتب الخطاب من فارسكور، عليها أطيب التحيات؟
معناه أن مكرم باشا يرى الإسلام من أكبر عناصر الوطنية المصرية، وأن الثقافة الأزهرية من مظاهر تلك الوطنية
وإنما استحبت لنفسي أن أخوض في هذه الأحاديث الشوائك لأني واثق بأني لن أجد من يتهمني بالتعصب الديني، فأصدقائي الحقيقيون في مصر أكثرهم من الأقباط، ولي بين نصارى الشام والعراق إخوان أوفياء يروني أكرم صاحب وأوفى صديق، وأزاهم من أطيب الذخائر في حياتي، ومن مسالكهم النبيلة أستمد التأييد لهذا الرأي الصريح.
سلامة موسى رجل غير موفق
الأستاذ سلامة موسى صديق عزيز، وقد تحدثت عنه في مقالاتي ومؤلفاتي بما هو له أهل، وقد دفعت عنه قالة السوء حين كنت في العراق، فقد كتب الأديب مشكور الأسدي خطاباً وجهه إليّ في جريدة (الكلام) عن حقيقة سلامة موسى
ثم شاءت المقادير أن تعطل الجريدة قبل أن تنشر جوابي وهو ثناء مستطاب على الصديق(374/7)
الذي كنت أحاربه بقلمي وأصافحه بقلبي
والحق أن الأستاذ سلامة موسى رجل غير موفق، فهو يغمز العروبة والإسلام من وقت إلى وقت بلا موجب معقول، وما ذكرناه بمسلك الأستاذ مكرم عبيد إلا لندله على أن عقلاء الرجال لهم مسالك غير التي يسلك، وهل كان مكرم باشا أول قبطي هدته الفطرة السليمة إلى أن القومية المصرية قومية إسلامية؟
أذكر في هذا المجال الأستاذ وهبي بك مدير المدارس القبطية في الجيل الماضي القريب، فهو الذي عرب أسماء تلاميذ من الأقباط ليرج بهم في غمار المجتمع الإسلامي
وأذكر الأستاذ وهيب بك دوس أحد خطبائنا الكبار، وأحد المتفوقين في الأدب العربي، وأحد العارفين بأسرار الشريعة الإسلامية. أنا المسئول عن حقيقة هذا الثناء، فما رأت عيني أديباً في مثل براعة وهيب دوس، مع استثناء أفراد قلائل يسيطرون على الحياة الأدبية، ويذيعون الثقافة المصرية في الشرق
وأذكر القس إبراهيم لوقا راعي الكنيسة القبطية بمصر الجديدة، وهو الذي اتهمته جريدة المكشوف بأنه ينقل عن بعض قساوسة لبنان، ولو رآه حاسدوه وهو يهدر باللغة الفصيحة لأيقنوا أنه في غنى عن انتهاب الأفكار والآراء.
وأذكر جريدة الإنذار بالمنيا وكنت أحسبها جريدة إسلامية لحرص صاحبها على نشر محاضرات الوعاظ من المسلمين
وخلاصة القول أن جمهور الأقباط في مصر لهم نزعة إسلامية عميقة ترجع إلى صدقهم في الوطنية. وقد كان الأقباط أصهار الرسول، وهي وشيجة يحفظها الكرام من جيل إلى جيل، وكذلك يصنع جميع الأفاضل من الأقباط، إلا رجلاً واحداً يتجنى على الإسلام من حين إلى حين، وهو الأستاذ سلامة موسى على أرجح الأقوال!
نكتة أدبية
قيل إن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كان يلام على اصطفائه للشاعر حافظ إبراهيم، وكان شاعرنا حافظ فيما يذيع المرجفون رقيق الخلق والدين، فقال الشيخ محمد عبده: لقد صحبني حافظ إبراهيم عشرة أعوام فما استطعت أن أهديه ولا استطاع أن يضلني!
وأقول إني صحبت الأستاذ سلامة موسى عشرة أعوام فاستطعت أن أهديه قليلاً، وما(374/8)
استطاع أن يضلني؟
وهل ترجع أيامنا بجريدة البلاغ وكنا شبابنا نضطرم بجذوة الحرية العقلية؟
كنا نجلس في مكتب واحد وجهاً إلى وجه نتساقى حلو الأحاديث ومر المقالات
وهل فر الأستاذ سلامة موسى من وجه ناقد كما فر من وجهي؟
ومع ذلك كان هذا الرجل أول من يتقدم لنصرتي في أيام الشدائد، لأن سلامة رجل والرجال قليل
إليَّ يا صديقي، فما يستطيع الخلاف في الرأي أن يفسد ما بيني وبينك، لأن الصداقة رأي يفوق جميع الآراء، ونحن أولياء الصداقة في هذا الجيل المرتاب.
التاريخ المصري القديم
كنت قلت في العدد الصريح الذي أخرجته مجلة (الاثنين): إن الأستاذ عبد القادر حمزة باشا إمام من أئمة العقل، ولكنه لا يجيد إلا حين يغضب، وقد قلت غضباته منذ عامين
كذلك قلت، ولم أكن أعرف أن عبد القادر باشا سكت عامين ليستعد لإخراج كتابه النفيس (على هامش التاريخ المصري القديم)
فما هذا الكتاب؟
هو تحفة من تحف المنطق والعقل والذوق
هو سلسلة ذهبية تربط حاضر مصر بماضيها في ترافق وتلطف، وتروض المصري على الاقتناع بأنه نشأ في بلد كان المصدر الأصيل لجميع المدنيات
كان ابن العميد يقول: كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً
وكذلك أقول في كتاب عبد القادر حمزة أو كتب عبد القادر حمزة، لأنه له أبحاثاً تاريخية سبقت كتابه الجديد، وهي نماذج حية لقوة الأدب وسيطرة العقل
لا تجد في هذا الكتاب عبارة تشعرك بأن المؤلف يعتسف في تفسير النصوص، أو يحاول إعطاء مصر ما ليست له بأهل، وإنما تشعر بأنه باحث صادق يحاول تبيين ما لمصر من مزايا ذاتية بلا تزبد ولا إسراف
ويظهر من كتاب عبد القادر باشا أن المؤرخين متفقون على أن مصر هي مهد المدنية في التاريخ، وأن هناك آراء في المفاضلة بينها وبين وطن الكلدان الذين كانوا يسكنون أحواض(374/9)
الفرات
معنى ذلك أن الحضارة القديمة مدينة لبلدين اثنين هما مصر والعراق
ومعنى ذلك أيضاً أن المنافسة بين دجلة والفرات والنيل منافسة أزلية، وأن التشابه بين المصريين والعراقيين في الألوان والوجوه ومخارج الحروف له أصول ترجع إلى مئات الأجيال. كنا وكان العراقيون في التاريخ القديم
فمتى نرجع إلى السيطرة على العالم في التاريخ الحديث؟
(لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة)
ولا بد يوماً أن ترد الودائع، ولو طال مطال الزمان.
زكي مبارك(374/10)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
حدثتني من لا أتهمها في الحديث أن زوجها بنى بها قبل الثورة العربية بقليل، وكان صغيراً وقد ترك له والده ضيعة واسعة، فلما كانت الثورة العرابية وهاجر الإسكندريون إلى البلاد التي يضنون فيها الأمن نزح كثير منهم إلى بلده وكان منهم فقراء ومعوزون فرأى حاجاتهم، ففرق فيهم البر الذي أغلته ضيعته حباً ودقيقاً وخبزاً، فدخلت على جارتي وذكرن صغر زوجي وما يستلزمه الصغر من السفه، وأنه فرق غلة العام على المهاجرين فاعذليه في ذلك، فإن لم يصخ فاشكيه إلى أبيك. قالت: فعذلته، فقال: ويك لا أسمع قول العاذلين
فشوكته إلى أبي فقال: يا بنيتي قدري أنك المهاجرة فهل كنت تودين أن يمنع ذوو المعروف عنك معروفهم. أو كنت تودين أن يعطوك الفضل من ما لهم وتحدقين على من لم يعط. يا بنيتي إن هؤلاء المهاجرين من كان آمناً في سربه، معافى في بدنه، واجداً قوت عامه، فكفى عن عذله، فلم يفعل إلا الصواب. هذا رأي أبي فما رأيك أنت؟، فقلت هبي رفقة فقد ضلوا في صحراء موحشة وقد فقدوا ماءهم إلا واحداً قد بقى معه فضل من مائه، أيجوز له أن يمنعه رفقته حتى يهلكوا عطشاً، أم يلزمه أن يعطيهم من فضل مائه ليستعينوا به على قطع الطريق حتى يصلوا إلى العمران؟ قالت: يلزمه ألا يمنعهم ماءه لئلا يهلكوا عطشاً، قلت وهذا ما فعله زوجك. وقد دار الدهر دورته وجاءت هذه الحرب وأضطر بعض أهل المدن إلى الهجرة إلى الريف، وإن منهم صناعاً تركوا صناعتهم، وعمالاً تركوا عملهم؛ فهل من أغنياء الأمة من يكونون لهم كما كان ذلك المحسن العظيم؟ قد كان في الإمكان أن نقول للحكومة افعلي، ولكننا اغتنمناها فرصة ليربى فينا خلق المحبة والإيثار، والكرم والإعطاء وروح التناصر والتعاون
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدع ... صديقك يمشي خلفها غير راكبِ
أنخْها فأردفْه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان للعقاب فعاقب
محمد عرفة(374/11)
إلى الباكين على فرنسا أيضاً
بين أبراج العاج وأكواخ الطين
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أنظر للحياة من أفق بعيد نظرة سكان الأبراج العاجية من الفلاسفة والصوفيين والعلماء المنتهين الراصدين للحياة من بعد، والذين هم في راحة بعالمهم الرحب الذي فيه لكل خطأ تصحيح ولكل إثم غفران. . . وحينئذ فلا علينا إن سقط وطن أو أهينت عقيدة أو هيض جناح قوم أو هضم حق؛ فإن هذه ظواهر أبدية للحرب بين الخير والشر، وهذه هي شئون الدنيا وسير دولابها: (فالكلاب على البقر) والذئاب على الغنم. . .؟
أم ننظر للحياة من قرب نظرة سكان الأكواخ من العبيد والمساكين والمضطهدين الذين يعيشون بغيظ المحروم، وحقد المغصوب، وشعور الذي يجد الحياة مباحة لكل نفس دخلت رحابها، ولكن يد الظلم هي التي قيدتها وضيقتها ووزعتها بموازين مختلة ومعايير قاسطة. . . فلسنا بعد هذه النظرة بمختلفين لشيء من دنيا الظالمين المترفين، ولا بباكين عليها حين تتحطم بعلومها وآدابها وفنونها وتهاويلها وتزاويقها: (فإذا مت ظمأنا فلا نزل القطر)، (وعليّ وعلى أعدائي يا رب)؟
إن الأبراج من طبيعتها العلو، والعلو من طبيعته كشف ما حوله من محيط واسع، وهو دائماً يجعل الأشياء الأرضية صغيرة حساً ومعنى. ومن طبيعته أيضاً البرودة والتجمد. . . ولكن الأكواخ من طبيعتها الالتصاق بقرار الأرض والإحساس بحرارة معترك الحياة فيها، والاختلاط والانبهام والتداخل بين مشاهدها؛ فلا تميز فيها بين كل حق وكل باطل، وكل بر وكل آثم، وخصوصاً فيما يتصل بالعداوات والحزازات
أما والله لو كان الذين يبكون على فرنسا من أمة غير العرب الذين ذاقوا من كيد فرنسا في مختلف بقاعهم وبخاصة شمال أفريقيا، لكان لهم بعض العذر في أن ينظروا لحياة قوميتهم وحياة أعدائها نظرة ساكني الأبراج العاجية الذين لديهم لكل إثم غفران، وعندهم المقدرة على رحمة أعدائهم ومباركة لاعنيهم. . . ولكن هؤلاء الباكين من أمة يضرها ويخونها أن ينظر فريق من أبنائها في غير الأفق الطبيعي الذي يليق بأمثالهم. يضرها أن ينظروا نظرة الباردين الذين ذهبت منهم (الوحشية) التي لابد منها لكل إنسان يحرص على حقه في(374/12)
الحياة الكريمة التي تحفظه حراً لا يستعيد روحه وإن استعبد جسمه
إذاً فلننظر للحياة نظرة المدركين لوضعهم في الحياة، المحرومين من الحرية واجتماع الشمل، بل فلننظر للحياة نظرة المدركين لوضعهم في عين فرنسا نفسها؛ فهي تنظر إلينا كأعداء. . . وإن هذا الإدراك يدعونا دائماً إلى الكفاح لاستكمال سيادتنا ورفع النير الثقيل عن عاتق قوميتنا
ولنحذر من الإسراف في شهوات العقل والتمتع بالترف العقلي والبدني الذي هو لدى أعدائنا حتى لا يصيبنا التخدر والذهول عن وضعيتنا الراهنة، وإن للعقل شهوات تخدر الروح وتقعد بها عن الكفاح للحرية كشهوات البطن والفرج سواء بسواء!
هي في ميزان الأخلاق كالرشوة بالدينار والمرأة والكأس. فكل من خدرته دنيا الغاصبين لحقوق قوميته أو عقيدته فنسى وضعه في أعينهم، ومد عينه إلى ما عندهم من زينة الحياة وأحبهم من أجلها، ونسى مرارة العداوة، ولم يقف في صفوف المألومين من قومه، فهو لا شك مرتش قبض رشوته من شهوات عقله ونفسه.
إننا الآن نشاهد أمماً حرة عالمة مثقفة تحطم حياة أمم أخرى عالمة مثقفة حرة مثلها في سبيل إرضاء ما تعتقده كرامتها وكمال وجودها، ولا تبالي في هذا التحطيم بروح تلك الأمة المحطومة
ولا مواريث ثقافتها ولا متاحفها التي تبين عن (روحها الحلوة) والحاطم والمحطوم من أرق شعوب الأرض وبينهم رحم في التاريخ والجنس والعقيدة. . . ومع ذلك لا يفرقون في حربهم بين السياسة والفضيلة؛ فكيف يطلب من نحن المغيظين المحنقين المحرومين من كل شيء المنظور إلينا كأننا من أفق حيواني دنئ، أن نفرق بين أساليب أعدائنا الاستعمارية وبين روعهم الحلوة وثقافتهم الممتازة التي لم يقدموا لأبناء عقيدتنا وقوميتنا شيئاً منها إلا ما هو بمثابة السروج واللجم التي تمكنهم من ظهورهم؟!
بل أدهى من ذلك وأمر: يضع فلاسفتهم - وهم من سكان الأبراج العاجية التي توحي بسمو النظرة - الخطط لتحديد ما يقدم لأبناء قوميتنا من العلم وما يمنع عنهم: فهذا (غوستاف لوبون) الفيلسوف الفرنسي الذي لم ير العرب مثله إلا قليلاً في دفاعه عنهم وبيانه لتاريخهم وفضائلهم ووقوفه عل أسرار فكرهم وروحهم؛ تراه في كتاب (روح التربية) يعقد فصلاً(374/13)
للبحث في تربية أبناء المستعمرات - ومنهم العرب الذين تحت حكم فرنسا - ينادي فيه بوجوب تحديد ما يقدم لهم من الثقافة بما لا يخرج عن نطاق التعليم الأولي. . .!
فأنت تراه حين تدور مصلحة قومه ووطنه ينزل من برجه العاجي، ويخلع ثوب الفيلسوف المنصف، ويلبس ثوب المستعمر الظالم والوصي الحريص الذي لا يريد للقاصر بلوغ رشده أبداً. . . وبهذا تلتقي نظرة بنظرات ساكني الأكواخ ورجال الشوارع وأرباب المال والأعمال ومحبي استذلال الشعوب من الفرنسيين الذين يعيشون في نطاق المصلحة المادية والأنانية الشعبية ولا ينظرون لمبادئ ثورتهم التي ملئوا الخافقين دعاية لها
والأمة التي يريد (لوبون) تقييد عقولها هي التي أخرجت (أبن خلدون) أبا فلسفة التاريخ والاجتماع اللذين نبغ فيهما (غوستاف). . . فيا للعقوق!
وعلى هذا فلا ضير على ولا جناح ولا ملام حين أطلب من الباكين لما نزل بفرنسا أن يبكوا عليها وحدهم بصوت خفيض لا يسمعه إخواننا العرب الباكون ليل نهار لما ينزل بهم من فرنسا. . . وإلا كان هذا البكاء منا شماتة بالعرب أنفسهم أو تبجحاً بجرح شعورهم الذي يتألم منذ مائة وخمسين سنة غداة احتلت فرنسا ديارهم ولم تسمح لهم بحرية العلم الذي هو وطن الإنسانية جميعها
وهل من الشماتة يا صديقي نجيب أن لأفرح لضعضعة سلطان غاشم جاثم على صدر بني ديني ودمي، لا يسمح لهم أن يتنفسوا أنفاس الحرية ويتمتعوا بالعلم والثقافة والنتاج العقلي الفرنسي الذي فتنك حتى أحببتهم ودافعت عنهم وبكيت لهم؟! وإذا كانت هذه شماتة فكيف يكون الشعور بالوطنية ووحي الدم المتحد؟!
إن كانت هذه شماتة فأنا أول الشامتين! وأنا بها إنسان موزون القوى صحيح الطبيعة، لم تخدرني عن واجباتي صوفية صناعية ومجاملة بلهاء في تغطية مشاعري نحو بني ديني ودمي.
وأنا بها أيضاً بريء من طفولة النظرة إلى ما عند أعداء قومي وديني، ومن الانخداع فيهم، ومن نسيان أول حق يجب أن يراعى، وهو حق الحياة والحرية والعلم
ونحن إذا طاوعنا أنفسنا في الافتنان بما عند الأوربيين من الفن والأدب خيره وشره، وألقينا إليهم السلم، ونسينا أنهم غصبوا حقنا الأول في الوجود، فأولى بنا أن نترك لهم(374/14)
أوطاننا، وننحاز بحضارتنا الروحية التي من شأنها أن تعدل ماديتهم، وتكسر من شرتها وحدتها، إلى الصحارى لننجو بصحة العقائد في الحياة وربها، والقيمة السامية للإنسانية فيها
نعم، وذلك أولى من الفناء فيهم والإعجاب بهم إعجاباً يحملنا على نسيان نظرتهم إلينا، وعلى اغتفار جناياتهم على أرواحنا وعلى كرامتنا
إنهم يا نجيب هم الذين صيرونا كما ترى وكما تنعى (نعيش عليهم كما تعيش الطفيليات عبئاً على غيرها)
وأنك لتذكر أننا سبقنا اليابان في نهضتها المضارعة لنهضتهم الآن، وذلك بقيادة محمد علي ذي العمامة العجراء والجبة القوراء. . . ولكنهم هم الذين اشتركوا في تحطيم نهضتنا لنعيش عالة عليهم. . . فتنتفخ جيوبهم وتمتلئ ديارهم بألوان الترف والنعيم.
إنهم جعلوا همهم أن نكون سيئي الظن بأنفسنا، حتى أوشكنا أن نصدق دعاويهم فينا أننا أحط منهم بحيث لا يمكن أن نرقى إليهم. والله الذي خلق الناس أنواعاً يشهد ويشهد معه أولوا العلم، أن جوهر أبن آدم واحد ولكنها التربية والعلم هما (الحجران السحريان) اللذان يرفعانه إلى أعلى عليين أو يخفضانه إلى أسفل سافلين. . .
حين تكفر فرنسا بأغلى مواريث حضارتها، وهي مبادئ ثورتها، وتعذب الإنسان وهي التي زعمت وزعم لها أبواقها أنها معلنة حقوق الإنسان ووطن الأحرار، فكيف تطلب من يا نجيب أن نصدق فلسفتنا الفردية وأن نعشق روحها الحلوة التي تبين عنها فنونها؟! إنها كفرت بفلسفتها الإجمالية التي لم ترق لها مداداً على ورق بل أراقت لها دماً غزيراً وأزهقت في سبيلها أرواحاً لا عدد لها، وحطمت من أجلها ملكاً كبيراً في ثورة جنونية. . . فكيف تريدوننا أن نبكي على شيء من ميراثها بعد ذلك ولو كان أصفى ما أنتجه العقل وأروع ما أخرجه الفن، ما دامت الفلسفة الفردية والاجتماعية لم تؤثر في نفوس من يحكمون الناس باسمها؟
إذا كفر رسول برسالته فهو دجال مشعوذ لا يؤمن به إلا الحمقى والمغفلون وتابعوا كل ناعق ممن تنزات عقليتهم عن مقام أهل الفكر الذين وكل الله إليهم إدراك وجهة الحياة وإقامة الأحكام بالقسط على الناس. . .(374/15)
إذا كان حقاً ما تقول من أن أبناء جميع المستعمرات يعاملون في فرنسا على قدم المساواة مع الفرنسيين. . . فهل نطلب من أبناء المستعمرات جميعاً أن يرحلوا عن أوطانهم ويسكنوا فرنسا ليحظوا بالحرية والكرامة والعلم والوقوف على قدم المساواة مع الفرنسيين؟ كلا! لن يبيع عرب الجزائر وتونس وطنهم بوطن آخر ولو كان فرنسا إلا إذا باع الفرنسيون وطنهم للألمان لأنهم احتلوه بالقوة والطغيان، وإلا إذا ذهبوا أوزاعاً وأخلاطاً ليسكنوا ألمانيا ويندمجوا فيها وينزلوا عن جنسيتهم ليحظوا بشرف المساواة مع السادة. . .
ويح عقول مثقفينا! بل ويلها! إنها في ظلال وخديعة ما يغنى لها أسف ذوى القلوب البسيطة التي تصدر عن سلامة الفطرة وبراءة الفكرة. . .
وبعد هذا، أنحن الذين (لم يقوموا بهذه الحركة الشامتة وهم متبينون ما يجري في نفوسهم، وأن بعضهم لم يكتب ما كتب مخلصاً لفكرة أو مؤمناً بحقيقة)؟
أنا ما (شهدت متاحف فرنسا ولا تلك اللوحات التي تصور بألوانها وظلالها جمال النفس ولا حلاوة الروح)، ولم أحبب كما تريدني يا نجيب هذه الروح الممتازة. . . إذ لا يمكن أن أحب جلادي قومي ومعطلي روحهم وقواهم وذكائهم الممتاز الذي حفظ شعلة الثقافة والعلم ونماها حتى أسلمها لهذه الأيدي العاقة الجاهلة بسير التاريخ وتقلباته بالدولات والأمم. . . فلا أفتن بالأصباغ والألوان الزاهية وأنسى الحقائق القائمة المعتمة. . .
ولم أشهد كذلك تلك اللوحات التي في (قاعة الوقائع) في فرساي، إذ ينبغي كأن نكون في شغل عنها برؤية الوقائع السود الدائمة والمعارك الظاهرة والخفية التي تشنها فرنسا على قومك في الشرق والغرب: في سوريا وشمال أفريقية. . .
لو سقطت فرنسا تحت أقدام قومي لخشعت في حضرتها (فما أنبل أن تخشع في حضرة عدوك يوم صريعاً تحت قدميك!) كما قلت يا نجيب. . . ولكن فرنسا حطمت وهي لا تزال جاثمة على صدر قومي. . . وقد فرحت لصرعها أملاً في أن يزحزحها قومي عن صدورهم ثم ينهضوا ليؤدوا لها تحية الخشوع التي تراها الأخلاق من النبل
أما الآن وفرنسا لا تزال سجانة في ديار العرب، وإن كانت سجينة في ديارها فكيف تطلب مني أن أبكي عليها وهي لا تزال ثقيلة الوطأة ثقل جثث الأموات. . .؟!(374/16)
أولى بسكان الأبراج العاجية من كتاب العرب أن ينزلوا إلى منطق أهل الأكواخ المكتوين بنار الحياة حين يتحدثون عن قوميتهم وعقيدتهم كما يفعل أمثالهم في جميع الأمم قويها وضعيفها، وأن يتكلموا في هذه الحقبة من تاريخ الأمة العربية بلسان بني قومهم المحكومين المحرومين في أفريقية وأسيا، الذين لم يزوروا باريس أو غيرها ولم يفتنوا بدنياها. . . فإنهم لو تكلموا بلسان غير هذا، لكذبتهم الملايين التي استهلكت فرنسا قواها وتركنها تدخل إلى الحياة وتخرج منها، وهي على جهل وفقر وألم وسخط. وطبيعي أن الإنسان الأفريقي والأسيوي المحكوم بفرنسا هو أولى للناس بالحكم على النفس الفرنسية، لأنه هو الذي احتك بها وخبرها خبرة عملية في مجال وصايتها عليه، وعرف كذب فلسفتها وفنونها وإفلاسها في تهذيب أفضل عمل للإنسان: وهو الرياسة والسياسة
ولن يبالي هذا الإنسان المحكوم أكانت فرنسا حقيقة بلاد الفردوس المفقود في المواساة والعدالة والفن والعلم كما أراد أن يصورها الباكون عليها؛ أم كانت بناء قائماً على براكين اجتماعية وأنانية وتفسخ عائلي وتدليس اقتصادي كما يصورها عارفوها الذين لا يفتنون بالظواهر والقشور، وكما صورتها أحداثها الأخيرة التي رأينا فيها أكبر قائدين فيها كانا يقولان للفرنسيين قبل الهزيمة: (قاتلوا من أجل روح فرنسا!) ينقلبان بين عشية وضحاها بوقين يصبان اللعنات كل يوم على روح فرنسا. . . ويديران دفة الحكم تحت وصاية عدو فرنسا الأبدي إدارة ينظران فيها إلى اتجاهات أنظاره ومواقع رضاه. ولو أنتصر (فيجان) و (بتان) على الألمان لهتفا وهتف معهم الناس (المجد لروح فرنسا. . .)
في جميع الممالك التي أخضعتها ألمانيا من ابتداء الحرب، لم يسر الناس في موكب ألمانيا بمثل ما سار الفرنسيون، بل جميعهم قالوا لألمانيا: دونك فاحكمينا باسمك كما تشائين، ولكننا لن نحكم أنفسنا باسمك وبأسلوبك في الحكم
تلك ظاهرة تبين لنا أن فرنسا لم تكن مؤمنة بروحها، ولم تكن ممتلئة به. بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها ليس لها روح يسيطر على أفرادها ويجعلهم يمثلون مثلاً أعلى يلمس في أغلبيتهم كما يلمس المثل الأعلى الإنجليزي في أغلب الإنجليز. . .
وخير ما نختم به هذا الحديث هو تلك النبذة التحليلية التي نشرها الأستاذ الصاوي صاحب (ما قل ودل) وصديق فرنسا المشهور قال: (وإذا عدنا إلى الفرنسيين - الذين ألقوا سلاحهم(374/17)
- فماذا نجد في تحليل الخلق الفرنسي السياسي كما وصفه الداهية المجري (كورنيس)؟
نجد فرقاً شاسعا بين الخلقين الفرنسي والإنجليزي. فهما طرفا نقيض. ليس الفرنسيون شعب التطور التاريخي البطيء، ولكن شعب التغييرات الثورية الفجائية، شعب شديد التأثر قوي الاندفاع بلا (فرامل) ولا (صواميل). شعب (المأساة) لا (الرواية)، وخط تطوره ليس مستقيماً ولكنه كثير التعرج والمنعطفات. ففي آخر القرن الثامن عشر قلبت الأمة الفرنسية الحكومة الملكية باسم الديمقراطية والحرية، ومع ذلك لم تمض عشر سنوات حتى عادت فرنسا إمبراطورية مطلقة! ثم ارتدت فصارت ملكية محافظة! ثم تحولت إلى ملكية برجوازية حرة! ثم كانت ثورة أخرى ردت الجمهورية الثانية! ثم انقلاب حكومي أعاد للسلطة إمبراطوراً! ثم سقط هذا الإمبراطور في 1870 وعادت فرنسا إلى ما كانت عليه في 1739 إلى الجمهورية! فلا توجد على هذا أمة كفرنسا في اندفاعها وتحولها وانقلابها. . .) ثم قال الصاوي: (هل ترانا نفهم الآن بعض الفهم السر في أن الفرنسيين قد قالوا لهتلر (نعم) وأن الإنجليز قد قالوا (لا)؟
عبد المنعم خلاف(374/18)
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
المنافقون
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
(لم ظهر النفاق في المدينة؟ - رأس المنافقين - أعمالهم
وصفاتهم زمن السلم - إظهار الإسلام وإخفاء الكفر الطعن في
النبي وآله - السعي في التفريق بين المسلمين)
قدمنا في المقال الثاني والثالث أن الجماعة الأولى من الطابور الخامس في القرآن هم اليهود، وذكرنا بتفصيل مقدار خطرهم وضررهم على النبي ودينه وأصحابه، والنوع الثاني أو الجماعة الثانية هم المنافقون:
كان بجانب اليهود جماعة من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب تعمل جهدها سراً وجهراً على إضعاف الإسلام وتود أن يفنى المسلمون وتذهب ريحهم. أولئك هم المنافقون الذين لم يكن لهم وجود وعمل إلا بعد الهجرة، ويقول اللغويون أن النفاق كلمة لم توجد في الجاهلية، وإن القرآن قد جاء بها وصفاً لطائفة تبطن الكفر وتظهر الإيمان رغبة في الاستفادة من مغانم المسلمين، وفراراً من أثر الهزيمة إذا دارت على المؤمنين دائرة الحرب، وأملاً في استئصال النبي ودينه بطريقة مستورة
أما سبب ظهورهم بالمدينة دون مكة، فهو أن النبي قام يدعو إلى دين الله بمكة وهو وحيد، فعارضه أكثر أهلها وبخاصة الأشراف منهم حتى أشراف عشيرته الاقربين، فلم تكن بالذين تخلفوا عنه - وهم أهل الشرف والعزة بمكة - حاجه أن ينافقوا؛ وباعد بينهم وبين الدخول في الإسلام سراعاً خوفهم من ضياع مركزهم الأدبي وسلطانهم القبلي وتمسكهم بما كان عليه آباؤهم من دين وعادات
وكان الأمر على العكس من ذلك بالمدينة، فقد أسلم الكثيرون من سادتها وكبرائها وتبعهم أكثر أهلها، وزاد الإسلام فيها قوة بمن هاجر إليها من السابقين الأولين من المهاجرين،(374/19)
ورَبَا عدد المسلمين فيها من عَدَاهم، فشعر المتخلفون عن الدين الجديد بضعفهم وعدم استطاعتهم المجاهرة بما في قلوبهم، ورأوا أن النفاق أسلم عاقبة وأشد خطراً وأعظم أثراً، ورأوا من الحكمة أن يقولوا: (آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم)، وأن ينتظروا الفرص السانحة لطعن المسلمين كما كان ذلك ممكناً
وكان رأس المنافقين بالمدينة عبد الله بن أُبي بن سلول، وكان شريفاً من أشراف يثرب، يطمع في أن تكون له السيادة والحكم فيها؛ فلما جاء النبي إليها وخضع أهلها لسلطانه ودانوا بمبادئه وعقيدته، ضاعت الفرصة من أبن أُبي، وأحزنه أن يكون ضياع سلطانه المنتظر، وخيبة أمله في السيادة، آتياً من رجل غريب عن يثرب، أخرجه قومه، وشردوا أصحابه في الآفاق. ورأى من الحكمة أن يُدارى، وان يدخل فيما دخل فيه الأكثرون ظاهراً، وإن لم يستطيع أن ينزع من قلبه المرض الخفي الذي ملأه نفاقاً، وسَالَمَ الرسول، وآمن بلسانه وفي نفسه ما فيها، حتى إذا حدث ما يدعو إلى إظهار الكفر سارع فيه ونال من المسلمين بلسانه ومكايده، وخذلهم في الحرب ووقت الشدائد.
وقد بين القرآن صفات المنافقين عامة، وهي صفات تدل عل أنهم كانوا من أشد أنواع الطابور الخامس أذى، وكان منهجهم في السلم أن يظهروا الإيمان، وأن يطعنوا في النبي وآله ويفروا من حكومته، ويرفضونها، وأن يفرقوا بين المؤمنين
أما الأمر الأول، وهو حقيقة نفاقهم فمذكور بتفصيل في الآيات الكريمة: (ومن الناس من يقول آمنّا بالله وباليوم الأخر، وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا. وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً. ولهم عذاب أليم بما كانوا يكسبون. وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء؛ ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون. وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوْا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون). وكانوا إذا جاءوا رسول الله أقسموا أنهم يشهدون أنه مرسل من ربه ليستروا نفاقهم بهذا القسم. وكان أبن أُبيٍّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وكان قوم من المنافقين في مثل صفته، يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم، فنزل قوله تعالى في السورة المسماة باسمهم: (إذا جاءك(374/20)
المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم أنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون. اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدُّوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم أمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون. وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامهم، وإن يقولوا تسمعْ لقولهم كأنهم خشب مسنَّدة، يحسبون كلَّ صيحة عليهم، هم العدوُّ فأحذرْهم قاتلَهم اللهُ أنى يؤفكون)
وأما طعنهم في النبي فكان كثيراً، وكان من الطعن الذي لو ثبت لكان هادئاً للرسالة، وقاضياً على صاحبه، فكانوا يتهمونه بأنه يأخذ بعض المغانم ويستأثر به على غير علم من أصحابه. روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أُصيبَ من المشركين، فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله أخذها، فنزل قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
ولم يسلم آل البيت من مطاعنهم، فقد اشتركوا في حديث الإفك، وادعوا على عائشة أنها خانت النبي، وكان الذي تولى كبر هذا الإفك من المنافقين، وهو أبن أُبي
أما حديث الإفك فهو أن الرسول الكريم كان يأخذ معه بعض نسائه في الغزوات، وكانت عائشة معه في غزوة بني المصطلق، وكانت صغيرة السن، خفيفة الجسم، فنزل الجيش ذات ليلة، ثم ارتحل، وحمل هودج عائشة على جملها، ولم يدر حاملوه إن كانت فيه أم لا.
كان يجيء وراء جيش المؤمنين صفوان بن المعطل يحمل ما يكون قد تخلف من الجيش، فلما رآها غض بصره، وأركبها ناقته، وعاد بها إلى المدينة. فلما مر بابن أُبي قال: من هذه؟ قالوا عائشة. فقال والله ما نجت منه ولا نجا منها، ثم قال: امرأة النبي باتت مع رجل ثم جاء يقودها! وانتشرت مقالته، وسمع النبي الخبر، فأحزنه ذلك أشد الحزن، لأنها كانت أحب نساءه إليه، فهي بنت الصديق صاحبه في الغار، ورفيقه في الهجرة، وهي التي أختارها الله لنبيه، وزوجها له بوحيه. فما هذا؟ سبحانك! هذا بهتان عظيم!
استشار النبي أصحابه في الأمر، فأشار بعضهم بطلاقها، وظن بعضهم خيراً، ولم يشك في طهارة بيت النبوة، ومرضت عائشة زمناً وهي لا تدري من أمر هذا الإفك شيئاً. وحزن أبو بكر أشد الحزن، وحزن المسلمون حزناً عظيماً، وتطرق الشك إلى نفوس بعض الناس. فكيف يكون الموقف إذا تطرق الشك إلى بيت النبوة؟ وما يكون مركز المسلمين، وهم(374/21)
عرب، للعرض عندهم شأن أي شأن؟ وهل يبقى ضعاف الإيمان أتباعاً لمحمد إذا ثبت على زوجته ما رُميت به من زور وبهتان؟ لابد من وحي يبرئها، ويثبت طهارتها، ويلعن من افترى عليها، وبخاصة رئيس العصبة التي جاءت بالإفك، وهو رأس المنافقين، ونزل قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفكِ عُصبةٌ منكم، لا تحسبُوهُ شراً لكم، بل هو خير لكم، لكل امرئٍ منهم ما أكتسب من الإثم، والذي توّلى كبْرَهُ منهم له عذابٌ عظيم) فثبتت عفة عائشة وطهرها، وحد الرسول من جاءوا بالإفك حد القذف، ولعنهم الله في الدنيا والآخرة، إلا الذين تابوا. ورد الله كيد أبن أُبي في نحره، ونجا الإسلام من الفتنة التي أرادها بالطعن في الصديقة بنت الصديق.
وكانوا يأبون الاحتكام إلى النبي وإلى كتابه إلا إذا كان على وفق هواهم. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالَوْا إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسول، رأيتَ المنافقينَ يصدُّونَ عنك صدوداً). وأبى الله أن يقبل منهم إيماناً إلا إذا قبلوا حكومة الرسول عن طيب خاطر. فقال: (فلا َوَرِّبك لا يؤمنون حتى يُحَكِّموك فيما شَجَرَ بينهم، ثم لا يَجِدُوا في أنفسِهم حَرَجاً مما قَضَيْتَ، ويُسَلِّموا تسليماً)
وكانوا يستمعون من المؤمنين ويعرفون أسرارهم وخططهم الحربية، وما في نفوسهم من ثقة بالفوز أو خوف واستشعار، ويذيعون ذلك ويتحدثون به، فيبلغ الأعداء، فيكون في ذلك مفسدة؛ قال الله سبحانه: (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذَاعوا بهِ، ولو رَدُّوه إلى الرسول وإلى أُوِلي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتنبِطونه منهم)
وكان من أسباب نفاقهم أنهم كانوا يودون الربح من وراء هذا النفاق؛ فإن انتصر المؤمنون قاسموهم في الغنائم، وإن انتصر المشركون انحازوا إليهم، وبينوا أن ذلك كان من فضل نفاقهم، وأولئك هم الذين وصفهم الله للنبي الكريم في سورة النساء فقال: (الذين يتربصون بكم، فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيبٌ قالوا ألم نسْتَحْوِذْ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟)
وكانوا (يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعا) ويعدون الذين كفروا من أهل الكتاب أن يكونوا معهم على النبي وأن يخرجوا معهم من المدينة إذا أخرجهم المؤمنون منها، كما بين سبحانه ذلك في سورة الحشر، قال سبحانه:(374/22)
(ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) وهم بنو النضير (لئن أُخرجتم لنَخْرُجَنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم. والله يشهد إنهم لكاذبون) فقد أُخرج بنو النضير من المدينة ولم ينصرهم المنافقون ولم يخرجوا معهم بل بقوا في المدينة يخذلون المؤمنين في الحرب كما خذلوا بني النضير، ويلتمسون المعاذير لقعودهم في الجهاد في سبيل الله كما سيأتي بيانه
وكانوا (لا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالَى، ولا يُنْفقون إلا وهم كارهون)
ولم يسلم النبي من سخطهم عليه في توزيع الصدقات. فكانوا يتهمونه بعدم العدالة في تفريقها إذا لم ينلهم منها شيء (ومنهم من يَلْمِزُكَ في الصدقات. فإن أُعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطون)
وكانوا يتهمون النبي بالغفلة، وأنه يصدف كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، وهم الذين قال الله فيهم: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أُذنٌ، قل أُذنُ خَيْرٍ لكم، يؤمنُ بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)
وكانوا يستمعون آيات الله ويهزءون بها، كما كان يفعل أهل مكة من المشركين. وكانوا يفعلون ذلك عل مسمع من المؤمنين وفي مجالسهم، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم ماداموا على هذا الاستهزاء، وأوعد الكافرين والمنافقين أن يجمعهم في جهنم، وقال للمؤمنين: (وقد نزَّلَ عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم - في الإثم لا في الكفر - إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً)
وكان منهم قوم ماهرون في إخفاء النفاق وستر الكفر إلى درجة عظيمة، فخفي أمرهم حتى على النبي، وهو اللبق الفطن، الذي لا يعدله أحد ذكاء وقوة وفراسة، وشدة فطنة، وخاطبه الله فيهم قائلاً: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم، سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم)
وفي غزوة بني المصطلق أرادوا أن يفرقوا بين المهاجرين والأنصار، وأوعد عبد الله أبن أبي المهاجرين أن يخرجهم من المدينة. وتفصيل ذلك أنه بعد انهزام بني المصطلق بقيادة رئيسهم الحارث بن ضرار عند ماء يقال له (المرْيسيع) في السنة السادسة من الهجرة،(374/23)
تزاحم مهاجرٌ وأنصاري على ماء، فلطم المهاجرُ الأنصاري، وكان هذا حليفاً لأبن أُبي، فلما سمع ابن أُبي الخبر أخذته حمية الجاهلية، وأراد أن يغري الأنصار بالمهاجرين، وقال: والله ما صحبنا محمداً إلا لنلطم! والله ما مثلُنا ومثلُهم إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك. وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. وعنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله. ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، وأما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. فسمع بذلك زيد أبن أرقم وهو حَدَث، فقال له: أنت والله الذليل القليل في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين. فخاف أبن أُبي العاقبة. وأخبر زيدُ رسول الله الخبر، فأراد عمر أن يضرب عنق أبن أبي، فقال رسول الله: إذن ترعد أنف كثيرة بالمدينة. أليست هذه النتيجة التي تحاشاها الرسول هي ما يسعى إليه المنافقون؟ فأقترح عمر أن يقتله رجل من الأنصار. فقال النبي الكريم: فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ثم قال النبي الكريم لعبد الله: أأنت صاحب هذا الكلام؟ فحلف بالله ما قال، وإن زيداً لكاذب. ولكن الله كذبه وصدق زيداً بقوله: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى يَنْفُّضوا ولله خزائن السماوات والأرض، ولكن المنافقين لا يفقهون. يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذَلَّ. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)
هذه أعمال المنافقين ومكايدهم، وغايتهم منها استئصال الإسلام وطرد النبي من المدينة، وتنفير الناس من دينه بإشاعة السوء عنه وعن أهله، وإنشاء ذلك المسجد آخر الأمر ليدبروا فيه دسائسهم، ولكن الله كان لهم بالمرصاد، وانكشفت حقائقهم ونجا المسلمون من شرهم؛ ثم نُهُوا عن مصافاتهم والانخداع بأقوالهم. أما أعمالهم التي رغبوا أن تجر الويلات على المسلمين في الحرب فموعدنا بها العدد القادم.
عبد الرزاق إبراهيم حميدة(374/24)
نجوى!
عاصف مَلال. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سَئِمْتُ مُقامِيَ فَوْقَ الذُّرَا. . . ... فَأَيَّانَ أَمْضِي غَداً يا تُرَى؟!
سَئِمْتُ وَدَوَّى بِقَلْبِي الْمَلاَلُ ... كَمَا عَاصِفُ في الدُّجى زَمْجَرَا
أمَامِي ضَيَابٌ، وَخَلْفِي ضَبَابٌ ... وَأُفْقِيَ غَشَّى عَلَيْهِ الْكَرَى
فَلاَ في السَّمَاءِ أَرَى وَمْضَةً ... تُعَزِّى أَسَايَ، وَلاَ في الثُرَى
وَحَوْلِي حَضِيضٌ، بأَوْحَاِلهِ ... تَخَبَّطَ في اْلإِثْمِ رَكْبُ الْوَرَى
وَحَتَّى ضِفاَفُ الرُّؤَى عِفْتُهَا ... فَمَا في حِماهَا لِرُوحِي سُرَى
وَحَتَّى الْخَيَالُ الّذِي هَزَّني ... وَأَرْعَشَ لِي سِحْرُهُ المِزْهَرَا؛
تَبَرَّمْتُ يا جِنُّ، فامْضِي بهِ ... رُفَاتاً مِنَ الصَّمْتِ لَنْ يُنْشَرَا!
وَمَا عَالَمُ الشِّعْرِ هذَا الْفَسِيحُ ... سِوَى طَيْفِ حُزْنٍ بِعُمْرِي سَرَى
سَئِمتُ! وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ سنَاً ... عَلَى ظُلْمَةِ الرُّوح قَدْ نَوَّرَا
من الحب! أو من فنائي الذي ... يُغَمْغِمُ لِي في سُفُوح الذُّرَا(374/25)
من عجائب الفهم أيضاً!
للأستاذ زكي طليمات
كتب (الناقد الأديب) مقاله الأول في العدد (368) فساق القول من أطرافه، ولم يعرج على المذاهب الفلسفية ألبتة، حتى بما يصح أن يدّعم به اتهاماته ويقوم دعواه، فلم يفطن إلى أن قصيدة الأستاذ العقاد عرض وتحليل لنظرية (كانت) في المعرفة، ولم يرد توطئة (مفرق الطريق) إلى فلسفة ما. ولكن ما أن تحدثنا في الفلسفة، ذلك في الرد على ذلك المقال الأول، وتحدثنا فيها بالقدر الذي لا يثقل على القارئ لننزل الأمور منازلها الصحيحة ونوجه القارئ إلى الحق، حتى أخذ (الناقد الأديب) بأسباب الفلسفة، وحديث الفلسفة متمعج لزج، وله أرض رخوة تنزلج القدم عليها، أو هي تسوخ فيها، فلا تقتلع إلا لتزداد بعد ذلك سوخاً، ما لم يضرب السائر في الدرب الأمين. فساق في مقاله الثاني في العدد (372) أقوالاً وأصدر أحكاماً يغلفها التعسف الواضح، والنقد المتعسف، كما هو معلوم من أسوء النقد، وهو مطية للخطأ.
زعم (الناقد الأديب) في مقاله الأول أن مسرحية (مفرق الطريق) إنما تقوم على الفكرة الفلسفية التي أنشأ عليها الأستاذ العقاد قصيدته (القمة الباردة)؛ فكان أن قررنا في الرد على هذا الزعم - وذلك في مقالنا السابق - أن الأمر غير ذلك، لأن قصيدة (القمة الباردة) تقديماً وشعراً، ما هي إلا عرض وتحليل لمذهب الفيلسوف (كانت) في مسألة المعرفة، والمعرفة هي الفحص عن الصلة بين الذات والموضوع، هذا في حين أن (مفرق الطريق) تعالج حالة نفسية غامضة، معالجة تمت بوسائلها إلى المذهب الباطني الذي أحكم أمره الفيلسوف (برجسون). وهو مذهب يعتمد على البصيرة والإحساس الدفين - لا الدقيق - والإدراك الصرف مع إهمال ظواهر العالم وطلب خفاياه وبواطنه، وأيدت ذلك بالبرهان القاطع، فماذا كان رد (الناقد الأديب) على ذلك الإيضاح؟
لم يدحض ما أيدناه بالبرهان، بل أنه لم يتصد له وجهاً لوجه بل راوغ وداور ليعبر عنه عبراً. فإذا هو يومئ إلى أن قصيدة العقاد في (القمة الباردة) ترجع إلى أصول من فلسفة (كانت)، يصنع ذلك في نفس الوقت الذي يصرح فيه بأن (مفرق الطريق) إنما تقوم على خليط فلسفي، خليط فيه من (كانت) ومن (برجسون) وفيه أيضاً من (إبسن) ومن أشياء(374/26)
أخرى
إذن (فالناقد الأدبي) يعترف مكرهاً بأن مفرق الطريق ليست من (كانت) وحده، أي ليست من العين الفلسفي الذي أغترف منه دون غيره الأستاذ العقاد في قصيدته (القمة الباردة) وهو يعترف بهذا ولكن يتواري في اعترافه وراء أقوال أخرى - هي من الدخان الذي يطلق لينشئ ستراً يمهد لنقلة عاجلة من وضع إلى آخر في غفلة من العين - فيزعم أن (مفرق الطريق) فيها أيضاً من (برجسون) وفيها من (أبسن) يزعم هذا هو لا يدري أن أقواله هذه تناقض ما قاله في مقاله الأول، وأنه ينزل مكرهاً على ما قررناه من أن (مفرق الطريق) تمت إلى فلسفة (برجسون) بل هو يتورط في خطأ جديد، أو يدس اسم (إبسن) في معرض حديثه عن الفلسفات مع (كانت) و (برجسون) في حين أن ليست (لإبسن) مدرسة فلسفية قائمة بمعالمها وحدودها، إذ أن كل ما لهذا المؤلف النرويجي العظيم أسلوبه الخاص في التفكير ومعالجة الشؤون الاجتماعية!
كيف تأنى إذن أن تكون مسرحية (مفرق الطريق) في زعم (الناقد الأديب) من (كانت) مقتبسة من قصيدة العقاد - وهو ما صرح به في مقاله الأول - ثم كيف تأتي أن تكون المسرحية نفسها من (كانت وبرجسون وأبسن) - وذلك في مقاله الثاني - ولما تلبس المسرحية لبوساً غير لبوسها الأول!!
ويمتد بنا التساؤل فنقول: كيف يتأتى أن يجتمع (كانت) و (برجسون) في صعيد واحد، ولكل من الفيلسوفين مذهبه الخاص، ولكل وسائله، وهي لدى كل منهما متغايرة متباينة؟؟ وما دمنا في صدد الفلسفة نرى لزاماً علينا أن ننبه (الناقد الأديب) إلى إقحامه اسم الأستاذ في رده، تهويل محض، لا يؤخذ به من فقه (برجسون). وأغلب الظن أن (الناقد الأديب) ركب هذا الحرج ليوهم بأن مذهب (برجسون) لا صلة له بالمذهب والتصوفي من حيث المنهج، وقد أعتمد في هذه النقطة على (بحوث الأستاذ لوروا الأخيرة عن برجسون). وفي هذه الدعوى انحراف عن الصحة، فقد ورد في الجزء الأول من بحوث الأستاذ لوروا أن البصيرة عند (برجسون) إنما هي انطواء النفس على ذاتها وتوحيد الروح كلها، تواقة إلى المعرفة التأملية. كذلك قرر لوروا (أنه لا يرى شيئاً أشبه بطريقة (برجسون) القائمة على البصيرة والتأمل من طريقة المتصوفة من غير اتحاد تام) وعلل ذلك بقوله: (إن مصدر(374/27)
الشبه كائن في توافق المقصد، وهو الرجوع إلى الأمر المباشر)
ولا يسعنا مع ذلك إلا أن نقرر أن هناك قصداً مرسوماً من جانب (الناقد الأديب) في أن يورد معارض من القول الذي يمت إلى حديث الفلسفة، فيه كثير من الخليط واللبس، أو الخلط المتعمد واللبس المقصود، إرادة صرف الأذهان عن جوهر الموضوع
إذن فنلخص الدعوى في مرحلتنا الأولى لنطالعها في مراحلها التالية:
حاول (الناقد الأديب) في مقاله الأول أن يتهم بشر فارس بأنه أقتبس الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها مسرحية من قصيدة العقاد، فلما رددنا عليه اتهامه قام يناشد الفلسفة أن تمده فلم تواته الفلسفة بشيء. ولما أيقن أنه لم يوفق في إقامة دعوى الاقتباس، خرج علينا بتهويل جديد، مجمله أن ليس في مسرحية (مفرق الطريق) شيء يستحق النظر، وأن المذهب الرمزي في الأدب، وهو المذهب الذي تمت إليه المسرحية، ليس إلا ضباباً كثيفاً من (الإبهام والإبهام) يضفي على الكائنات مسحة من الروعة والهول، ولكن كلما أقترب منها الإنسان تضاءلت هذه الكائنات
أما أن هذه المسرحية ليس فيها ما يستحق النظر فأمر مرده إلى أحد شيئين: إما أن (الناقد الأديب) ينظر إلى المسرحية بعين واحدة ويسمعها بأذن واحدة فهو يصدف عن كل ممكن للحس فيها، وإما أن الفهم لم يواتيه بما يجب أن يواتيه لعله لا نعرفها
وأما أن الرمزية لا تروق الناقد الأديب؛ فهذا شيء يخصه، ولا شأن له بالجودة الذاتية للمسرحية
وختاماً نهمس في أذن الأستاذ (الناقد الأديب):
إلى متى يطول أمر هذا التستر فيما ينشره، ولماذا لا يذيل ما يكتبه باسمه الصريح، وقد نزلنا إليه سافرين غير مقنعين، وتبادلنا أنخاب الرأي في شئون تبعث الرغبة في نفس القارئ على أن يعرف حقيقة الطرف الثاني؟
لهذا نقول للأستاذ (الناقد الأديب)، إننا له في كل ما يريد على شريطة أن يكشف عن وجهه، وإلا فإننا لن ننزل إلى ميدان الرد عليه بعد ذلك.
زكي طليمات(374/28)
7 - إلى أرض النبوة!
للأستاذ علي الطنطاوي
كان أجدادنا الشاميون المتمسكون بالسنة، إذا دخلوا تبوك أخذوا (كما يزعم ابن بطوطة) أسلحتهم، وجردوا سيوفهم وحملوا على المنزل، وضربوا النخيل بسيوفهم. . . يقولون هكذا دخلها رسول الله.
ولو كان أجدادنا (أعقل) من ذلك، لضربوا بسيوف كسيوف خطباء المنابر في مصر، التي وصفها الإمام الرافعي رحمه الله في تلك المقالة (الدماعة)، لتكون آية أخرى على أنهم يفهمون (السنة. . .) كفهم الشيخ الدمشقي الذي خرج مرة من باب الجامع يمشي في الأسواق حافياً ومن وراءه تلامذته يحملون نعالهم بأيديهم، نشراً للسنة. . . وكفهم كثير من المسلمين اليوم!
أما نحن فلم نكن قد تعلمنا هذه البطولة (الدنكشوتية)، فدخلنا تبوك كما يدخل عامة إخواننا من بني آدم بلداً من البلدان ولم نضرب النخل البريء بسيف أبي حية النميري الذي أخذه من وزارة أوقاف مصر لما ولى الخطابة في مساجدها، وإنما ضربنا بأكفنا في قصاع الرز واللحم التي كان يكرمنا بها أمير البلد. ولبثنا في تبوك يومين أنسنا في اليوم الأول واطمأننا وتفيأنا ظلال الأمن والدعة، بعد ما صلينا بشمس الصحراء أياما اكتوينا فيها بنار الجوع والعطش والخوف والتعب فأحببنا تبوك، وتمنينا لو أقمنا فيها الدهر فما فارقناها، وعشنا في كنف أميرها المهذب الكريم العمر كله. . . نعم بيمن نقيبته، ونور طلعته، وخصب مائدته. . . ولكنه لم يأت اليوم الثاني حتى مللناها، ورأينا من ضيقها آخذة بمخانقنا. وقال قائلنا: أهذه تبوك التي طالما شوقنا إليها الدليل، وطالما منانا الوصول إليها، وحط الرحال بفنائها؟ أمن أجل هذه القرية ذات الستين بيتاً حملنا ما حملنا من الأين والعناء؟
لقد جلنا أنحاء (البلدة. . .) ورأينا تخيلها الذي كان يقطعه أجدادنا الأبطال بأسيافهم!! فلم يبقوا منه إلا بمقدار بستان صغير من بساتين البصرة! وزرنا قصر الأمير المبني بالآجر المطلي بالطين، ودخلنا المسجد الذي فرش بالرمل، حتى ليغوص فيه أنف الساجد ويدخل في خياشيمه، ووقفنا على المحطة الخالية الخاوية، فبكينا فيها (السكة) التي أنشأناها بأموالنا، ثم خربناها بأيدينا وأيدي القوم الذين أثاروها بيننا جاهلية جهلاء، فكان لهم(374/29)
ثمارها، وكان أن حرقتنا نارها. . . رأينا ذلك كله فما ثواؤنا في تبوك، وعلام نقيم فيها؟ ألنأكل على مائدة الأمير، ونثقل عليه؟
وتهيأنا للرحيل، لنقطع النصف الثاني من الطريق، وهو النصف الصعب المتعب، الذي وصف أبن بطوطة ومن كان قبله ومن جاء بعده صعوبته وهوله. . . وسرنا متوكلين على الله.
قال أبن بطوطة:
(يرحل الركب من تبوك ويجدون السير ليلاً ونهاراً خوفاً من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر كأنه وادي جهنم أعاذنا الله منها، وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب، فانشقت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها. وكتب ذلك في صخر الوادي ومن هناك ينزلون بركة المعظم وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب، ويجتمع بها ماء المطر وربما جف في بعض السنين).
أما نحن فلم نخش هذه البرية خشية البطوطي، بل وجدناها هينة بالنسبة لما مر علينا قبل تبوك، ولم نعرف شدتها وقسوتها حتى ضربنا فيها أياماً؛ فأدركنا أن أبن بطوطة كان صادقاً.
ولقد كنا خرجنا من دمشق بشيء عظيم من الزاد، وبمائتي صفيحة من البنزين، فنفذ كله قبل تبوك فجددناه فيها، وحملنا ما استطعنا حمله من الماء، وصحبنا دليلاً جديداً (اسمه محمد الأعرج) طويلاً مخيفاً شيطاناً من شياطين البادية، خبرونا أنه له عند الإمام عبد العزيز منزلة دانية، وودعنا الدليل الثاني صلبي الذي حدثتك عنه من قبل
ومن أغرب ما شاهدت في هذه الرحلة، أنه لم أجتمع الدليلان، وكلاهما شيخ قبيلته، طفقا يذكران الماضي، ويستعيد أخباره. ففهمنا أنهما كانا عدويين يتقاتلان ويتغازيان؛ فلما تدينا (أي تبع الشيخ أبن عبد الوهاب مصلح الجزيرة) نبذا ذلك كله، وتمسكا بالأخوة الإسلامية، وألف الله بين قلوبهم بالإسلام كما ألف بين أجدادنا عرب الجاهلية، فرحم الله أبن عبد الوهاب ورضى عنه وعن كل قائم لله بحجة، وداع إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، آمر بالمعروف ناه عن المنكر، ناصر للسنة قامع للبدعة(374/30)
ومشينا وخرجنا من تبوك سبعين كيلاً لم نجد فيها ما نتحدث عنه، أو نشكو منه، فقد كانت الأرض متماسكة شديدة درجت عليها السيارة بسهولة، وكل ما وجدناه فيها من الصعاب ثلاثة شعاب رملية لا يتجاوز عرض الواحد منها كيلاً ونصف كيل، ورياح شديدة خبرنا الدليل أنها لا تكاد تنقطع من ذلك المكان، ثم بلغنا أوائل الجبال، فدخلنا وادياً متسعاً فيه تلال من الرمال، فلم نسر فيه إلا قليلاً حتى كثرت فيه الصخور، وأزداد ارتفاع الجبال من حولنا، وكانت الصخور هرمة بالية مؤلفة من صحائف رقيقة كصحائف الكتاب، تتفتت من مس الأيدي، والوادي ممتلئ بفتاتها، ثم ظهرت في الوادي تلال من الرمل الأحمر الناعم المتموج، لها منظر أخاذ. واستمرت هذه المشاهد من حولنا مسيرة ثلاثين كيلاً، ثم عرضت لنا جبال فيها الصخر الأسود تخالطه بقع حمراء، وصلنا بعدها إلى أرض مستوية تشبه (بسيطة) التي مررنا عليها قبل أن نصل إلى جبال الطبيق في طرقنا إلى تبوك، ثم أمسى علينا المساء في بقعة أسمها (ساح الغزوان) فبتنا فيها، وبينها وبين تبوك (144) كيلاً، سجلها راقم السيارة (الكيلو متراج) ومعنى (ساح الغزوان) عندهم ميدان المعركة. نزلنا نشهد الشمس هي تجر ذيلها الذهبي على الوهاد والنجاد ثم تتوارى وراء الأفق البعيد، فجلسنا نمتع الطرف بمحاسن المساء في الصحراء ونريح النفس إلى سكونها وصفائها حتى إذا لف الكون الظلام أوقدنا النار وأشعلنا المصابيح وفرشنا الفرش، وكنا في أول الرحلة ننصب سرادقاً نبيت فيه فصرنا ننام تحت السماء بين أحدنا والآخر أكثر من عشرين متراً لا نخاف وحشاً ولا نخشى لصاً، فقد أمن الله الجزيرة بابن السعود حتى صار أمنها حديث الناس، وأنعقد عليه إجماع من أم الحجاز أو جال في بواديها، ولقد ترك أصحابنا التجار (وقد كانوا يسيرون على أثرنا بيننا وبينهم مسيرة ثلاثة) سيارة مترعة بالثياب والطعام وكل ما يرغب فيه البدوي، ويسيل لتصوره لعابه، ورجعوا إليها بعد شهر فما وجدوا شعرة منها أزيحت من مكانها على كثرة من مر بها من أعراب! وما أذكر أننا خفنا أو ارتعنا إلا ليلة واحدة نزلنا فيها على طرف واد، وكانت ليلة حالكة السواد فما شعرت إلا الدليل محمداً الأعرج يجر بيدي، فتبعته حتى ابتعدنا عن الرفقة، فأشار إلى جهة رأيت فيها كمثل المصباحين، فارتعت ودنوت منه فقلت: ما هذا؟ فقال وهو غير مكترث ولا مبال: هذا نمر! فنظرت إليه فإذا هو ساكن الطائر، وهادئ الجوارح كأنه حين يقول نمر يقول كلب(374/31)
أو قط، ولم أكن رأيت نمراً من قبل إلا في حديقة الجيزة بالقاهرة. فجفت والله وشعرت من الفزع كأن العقال طار عن رأسي ورجع، وما أنا بالجبان ولا الرعديد، ولقد عرضت لي الضبع مرة، فما رأيت فيها كبير شيء، ولكن النمر في البادية في الليل لا يرى منه إلا عينان كأنهما جمرتان؛ لا، إن هذا مخيف، أما الأعرج فما كان منه إلا أن مد بندقيته وأطلق رصاصها على عيني النمر فأخطئهما وانتقل ضوئهما المرعب إلى جهة أخرى، فماد فأطلق ناره فأخطئه، وأبتعد النمر. . . فالتفت الأعرج ليعود فقلت: ويلك ماذا تصنع؟ فقال: وماذا تريد أن اصنع؟ لقد ذهب! قلت: أفلا أوقظ الركب؟ قال: لا، بل نم أنت أيضاً وتركني الخبيث وذهب فنام وأنا اسمع غطيطه؛ ومرت عليَّ ليلة وأين منها ليلة النابغة؟ كاد يقتلني النعاس، وكلما غفوت توهمت النمر يحملني بين أسنانه كما تحمل الهرة الفأرة، فأفيق مضطرباً أنظر حوالي وأنا أتعوذ حتى طلع الفجر وما أدري كيف طلع! هذه هي ليلة الخوف عندي، فمن سخر من خوفي فأنا اسأل الله أن يريه نمراً في المنام لا في اليقظة لينظر ماذا يكون من أمره. قمنا - على عادتنا - في الغلس فشهدنا طلوع الفجر ونحن نعد الطعام ونهيأ للرحيل، ولقد كنا نسمع بالفجر سماعاً ونقرأ صفته في الكتب، ونعلم أن في الدنيا فجراً كاذباً وفجراً صادقاً ولكنا لم نره عياناً ونعرف صادقه وكاذبه إلا في الصحراء؛ وتركنا ساح الغزوان قبل أن تطل الشمس على الدنيا متوجهين إلى الجنوب. فلم نسر إلا قليلاً حتى كثرت من حولنا الهضاب، فكنا نوالي الصعود والهبوط، واستمر ذلك نحو تسعة أكيال، ثم انقطعت الهضاب وابتدأت القور وهي كالأكم ولكنها مؤلفة من الصخر الأسود، وربما كانت القارة صخرة واحدة عظيمة أشبه شيء بالمخروط الناقص (عند أهل الهندسة)، وكانت هذه القور صخوراً مطبقة هرمة كالتي وصفنا آنفاً، فكنا ندور بالسيارات فيما بينها ونمشي خلالها، وامتدت بنا ستة أكيال، ثم انتهينا إلى سهل مبسوط كالكف سرنا فيه كيلين، ثم عادت الهضاب والقور تتخللها أراضٍ منبسطة وامتد بنا ذلك عشرة أكيال، ثم عرضت لنا حجارة كبيرة ملئت الأرض ولقيت منها السيارات شدة وبلاء، ثم أخذنا بالصعود، نرتقي سفوحاً وعرة صعبة، إلى أن غبنا بين جبلين عاليين صخرهما من ذلك الصخر المطبق الهرم الذي يتفتت، فسرنا خمسة أكيال فانتهينا إلى بقعة قال الدليل إنها ملتقى طريق الجوف (أي دومة الجندل) بطريق المدينة(374/32)
خلفنا طريق الدومة عن شمالنا ووالينا الصعود خمسة وثلاثين كيلاً أخرى، التقينا بعدها بالخط الحديدي، ووقفنا قبالة محطة صنعاء، وهي قائمة وحدها في البادية، وقد نزعت منها أبوابها وشبابيكها ولم يبق منها إلا جدرانها مائلة تستبكي من كان له قلب، وكان في قلبه إيمان. . . وماذا لعمري يجدي البكاء؟
(لها بقايا)
علي الطنطاوي(374/33)
إلى معالي وزير المعارف
التعليم الزراعي
دعوتك لما يراني البلاء ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
فلا تسمعن من الكاشحين ... ولا تعبأن بعجل اليهود
وكن فارقاً بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد
(المتنبي)
مضى ربع قرن والتعليم الزراعي في مصر - عدا الجامعي منه - واقف في مكانه لا يتحرك ولا يتزحزح، ولا يشعر بأن الحوادث حواليه تنطلق إلى غايتها في عنفوان وتشتد إلى غرضها في عزم. أما هو فقد تخلف في سبات عميق لا يخضع لسنة الطبيعة ولا ينزل على حكم التطور. ولشد ما آلمني - حين قدر لي أن أغتمر في غمار هذا النوع من التعليم - أن أجده متفككاً يتداعى من هوان ومن ضعف؛ ولبثت ما لبثت أسوق النفس سوقاً إلى غاية، وأنا أرى وأحمل النفس على الصمت، ثم أنشر رأيي على صحابتي - بين الحين والحين - فلا أجد إلا الجمود الذي نفثه الاستسلام، والخمود الذي ولدته سخرية الرئيس من آراء مرءوسيه والتهكم بها والامتهان لها، نتيجة التزمت والكبرياء. والآن هبت الوزارة، أو بالأحرى مراقبة التعليم الزراعي، تسعى إلى تهذيب هذا النوع من التعليم وتريد إصلاحه، فأردت أن أتغلغل إلى قراره على أستطيع أن أبدي سوءاته أو أن أنفي عنه خبثه، وما لي بعد ذلك إلا أجر العامل المجد أو جزاء الناصح الأمين. والتعليم الزراعي في مصر - عدا الجامعي منه - يتكون من المكاتب الزراعية ومن المدارس المتوسطة، وسأحاول جهدي أن ألم شعث الموضوع في نظرة فاحصة سريعة.
أولاً: المكتب الزراعي
فكرة الإنشاء
نشأت فكرة المكتب الزراعي - أول ما نشأت - سنة 1935، وابتدأ تنفيذ هذه التجربة في(374/34)
سنة 1936. وفي الحق لقد كانت الفكرة جميلة تختلب النظر والقلب معاً وتستحق الثناء والشكر، لأنها تحقق غرضاً سامياً، وتملأ فراغاً استشعرته مصر الزراعية منذ زمان. وهي في لبها ترمي إلى أن تنشئ طائفة من أبناء صغار الزراع تنشئة تتفق والنهضة الحديثة التي قطعت البلاد فيها شوطاً غير قريب، ثم تدس بهم بين آبائهم وأهليهم لينهضوا بهم وليكونوا نواة للعمل العظيم الذي ينتظرهم بعد، وهو اطراح الطرق الزراعية العتيقة والأخذ بالحديث منها. غير أن شيئاً عدل بالغرض عن وجهته الأولى فأصبح يرمي إلى تخريج فئة من أشباه الموظفين والعمال يقومون على إدارة الدوائر والضياع والبساتين. واتخذت التجربة سبيلها في مكتبين ملحقين بمدرستي الزراعة المتوسطة بالمنيا ودمنهور، والتحق بالمكتبين صبيان أتموا التعليم الإلزامي ليتخرجوا بعد سنوات ثلاث
وارتطم المشروع بالصدمة الأولى، بقلة عدد التلاميذ، فكاد يهوي، أو لا أن حكمة القائمين على العمل تداركته ففتحت أبواب المكتبين عل مصاريعها لأبناء الفعلة والعمال والصناع والزراع على السواء، فتم عدد التلاميذ عشرة في كل من المكتبين وسار دولاب العمل. . .
نظام الدراسة ومدتها
الآن حق لأبن الصانع والعامل و. . . أن يلتحق بالمكتب الزراعي ليخرج بعد ثلاث سنوات عاطلاً لا يستطيع أن يجد عملاً أو أن يعين أباه أو أن يفيد وطنه أو يحقق الغرض الذي من أجله أنشئ المكتب. وماذا يفيد الصانع أو العامل أو الزراع نفسه أن يلقى أبنه - وهو شب وترعرع - يغدو إلى المكتب ويروح إلى الدار وهو في حاجة شديدة إليه، فراح كل منهم يحول بين ابنه وبين المكتب؛ فأوشك هذا العمل - وهو جليل - أن يتوارى عن الأنظار لولا أن أدركته حكمة الرؤساء مرة أخرى، فخلوا للتلاميذ أن يحضروا متى شاءوا وان يمتنعوا عن الدراسة متى أرادوا، دون أن يبدى الواحد منهم عذراً، أو أن يحتمل لوماً وتأنيباً، أو أن يؤاخذ أبوه؛ فانطلق التلميذ إلى غيه يهرب حين يلذ له الهرب، ويسكن إلى أمه أو أبيه حين يطيب له ذلك. وهكذا تداعت أبسط مبادئ الأنظمة، وأختل نظام العمل، أنهد الركن الركين في سير الدراسة، ولست أدري، ماذا عسى أن يكون هذا الطفل بعد حين وقد تدرج على ألا يأبه لنظام ولا أن يهتم بميعاد! وأندفع الصبي وأبوه يتغاليان - وقد نام الرقيب - فينطوي العام الدراسي كله ولما يحضر التلميذ غير شهر أو بعض شهر، ثم هو(374/35)
لا يحمل مئونة الاختبار ولا نصب الاستذكار والمطالعة ولا يصبر على قسوة العمل، فهو منقول إلى السنة التالية بدون شرط ولا قيد، وتنقضي السنوات الثلاث فإذا الصبي المتخرج في المكتب جاهل يرتدغ في جهله
وتساهل القانون مرة أخرى وأغضى، فصرح للتلاميذ أن يحضروا دروسهم في أسمال بالية، حفاة عراة الرءوس، تأكلهم الوساخة و. . . على حين أن الصوت قد بح من طول ما نادى بوجوب تنظيف الفلاح وترتيب حياته على نسق، أما هنا فأصبح الإهمال والقذارة قانوناً. . . وانطوت السنون فإذا المكتب كله ينظم على أحد عشر بينهم الناظر وليس بينهم أي مدرس، فمدرسو المكتب هم بعض مدرسي مدرسة الزراعة المتوسطة
ومن غريب ما يروى أن ناظر هذا المكتب كان يقضي يومه لا عمل له إلا أن يكتب الرسائل إلى الوزارة ويستقبل الرسائل منها. ولِمَ؟ لأن الصبية يقضون يومهم في الحقل أو في مدرسة الزراعة المتوسطة، فهناك يشهدون التجارب العملية ويعملون بأيديهم، وهنا يتلقون دروسهم على أساتذتهم
عجيب أن نخطئ فنقول إن التلميذ في هذه السن الصغيرة يستطيع أن يدرك التجارب الزراعية الحديثة، أو أن يطبقها ويقارنها بينها وبين القديمة ليعرف الغث من السمين، وعجيب أن نخطئ - مرة أخرى - فنقول أننا نستطيع أن نهيئ هذا الصبي في ثلاث سنوات ليكون زارعاً من الطراز الأول! وإذن يتراءى لنا - لأول وهلة - قصر مدة الدراسة، فما التلميذ بمستطيع أن يستوعب شيئاً، ولا المدرس بمستطيع أن يحشو ذهنه الغض.
منهاج الدراسة
هذا الصبي الصغير قد تثقف ثقافة أولية بحتة لم يلمس فيها رهقاً ولا عنتاً، وهو حين التحق بالمكتب الزراعي لم يقدر أن يحمل ما لا طاقة له به
هنا، في هذا المكتب، يرزح الصبي تحت ثقل ينوء به، فالعلوم كثيرة متراكبة ومتشابكة، ومواد العلم الواحد أو فرع العلم طويلة مملة، فماذا وراء أن يدرس التلميذ في المكتب - مثلاً - منهجاً طويلاً في مسك الدفتر فيه: اليومية، واليومية الزفرة، والأستاذ، وحساب الأرباح والخسائر، والميزانية، والأوراق المالية و. . . مما يهبط عقل التلميذ ويتركه في(374/36)
حيرة من أمره ويطغي على وقته؟ وماذا وراء أن يتلقن الصبي في مكتبه ما يتلقاه طالب الزراعة المتوسطة سواء بسواء؟ وهكذا نرى المنهاج في كل فروع الدراسة طويلاً ومعقداً ومملاً، حتى منهاج الزراعة نفسها؛ وقد لا يرتبط في كثير من الأحايين بالناحية العملية، وهو إن مت إليها بسبب فلكي يرى التلميذ التجربة مرة واحدة ثم لا يعود؛ في حين أن ما نبتغي هو أن يشهد التجربة ويعملها بيده مرة ومرة ثم لا يبتعد عنها، وأن يعرف أشياء كثيرة عن منتجات الألبان وتربية الماشية ودودة القز والنحل ثم الصناعات الزراعية مما يجهله الزارع أو يهمله أو لا يعترف بفائدته الحيوية والمادية
ثم كيف يأخذ المدرس على عاتقه تدريس مادة لهؤلاء التلاميذ الصغار إن لم يكن بين أيديهم مراجع يرجعون إليها إن أعوزهم الأمر أو خانهم الذاكرة؟ لا ريب أن التلميذ لا يستطيع أن يحفظ ما يلقى عليه وهو كثر؛ والمدرس لا يستطيع أن يرهق التلاميذ بالشراء أو الطبع وهو يعلم أنهم فقراء يجدون مس العوز، وأن المكتب يقوم على تربيتهم مجاناً، بل ويحبوهم بالمأكل والملبس. لابد أن يجد أسهل سبيل يبلغ به غايته، وهو الإملاء
وهنا. . . هنا فقط شغلت الإملاء - دون الشرح - كل وقت الصبي، وانمحى كل مبدأ أو مذهب يرتكن إليه التدريس الفني؛ وإذن ذهب التلميذ يكد ذهنه ليحفظ تجارب وعمليات وأسماء وموضوعات سطرت على القرطاس وعمى بصره عن أن يراها في الحقل. وانتهت الحياة به إلى ما ينتهي إليه كل طالب حين يخرج من مدرسته، لا يتعلم إلا أنه فوق مستوى الفلاح فهو يأبى أن ينزل إليه وهو لا يعرف أن يسمو عنه.
(للموضوع تكملة)
(*)(374/37)
بمناسبة الأربعين
الفكر الهامد
مرثية المرحوم الدكتور أدهم
عَجَّلْتَ رَحْيَلكَ دُونَ أَنْ تَلْقاني ... يا أَطْيَبَ الإخوانِ والخُلاّنِ
ما كنتُ أَحْسَبُ أَنَّ وَعْدَكَ باللقَى ... وَعْدُ الرُّؤَى خُدِعَتْ به العَيْنانِ
نَبَأٌ فُجِعْتُ بهِ، وَأَيَّ فجيعةٍ! ... أَلْقَى عَلَيَّ كَلاَ كِلَ الأحْزانِ
مَا زِلْتُ أَقْرَأُهُ وَأَخْدَعُ ناظِري ... حَتَّى تحطَّمَ في الشجونِ كِيَاني
أنا مَنْ فَقدْتُ بكَ الوفاَء مُجسماً ... وفَقدْتُ بَعدكَ رَاحةَ السُّلوَان
عُمر كَلمَّاعِ الشَّهابِ طَوى الدُّنى ... حتى تعثَّرَ في دُجى الأشجان
لو مُدَّ فيهِ أتى بأروعِ آيةِ ... لكنهُ قدرٌ من الرحمن. . .
لي فيكَ أخلاقٌ كَسيماءِ الضُّحَى ... وشَمائلٌ وردِيةُ الأرْدَانِ
وإباءُ نَفسٍ لم يُطأطأ هَامَةُ ... عَنتُ السَّقامِ وَغَارَةُ الحَدَثان
وذَكاءُ ذِهنٍ كالأشعَّةِ نافِذٌ ... فيما وراَء دَقَائق العِرفانِ
وطُموحُ نفسٍ في تَوَقُّدِ خَاطِر ... وصَفَاءُ فِكرٍ في اتِّقادِ جَنَان
وصَراحَةٌ كالشمسِ تلقي رَأيَها ... حُرّاً بغيرِ تَمَلُّقٍ ودِهان
ما قُلتَ في السِّرِّ الحَصينِ مَقالةً ... غير الذي تُبدِيهِ في الإعلانِ
مَجدٌ بَنيتَ وما انتظَرْتَ تَمامَهُ ... هذا البناءُ. . فأين أين الباني؟
لي فيكَ هاتيكَ الموَاهِبُ كلُّها ... أما العقائدُ فَهي للدَّيَّانِ. . .
في ذِمَّةِ القَدرِ المعَجلِ هِمَّهٌ ... جَبَّارَةٌ في هَيكل مُتَفاني
السُّقمُ ناوَأهُ فما اسْتحذَي لهُ ... والسُّقمُ جَبَّارٌ على الأبدانِ
ضاقتْ بهِ الدُّنيا وضاقَ خِضَمهُّا ... عن ضَمِّ بَحر دائم الفَيَضانِ
لمَّا اقْتَحَمتَ على العقائد بابَها ... وبَسَطْتَ رَأْىَ الباحثِ الحَيْرَانِ
قامتْ عليكَ قيامةُ الدنيا لهُ ... والدِّينُ أثَمنُ ثَروةِ الإنسان
رَأْىٌ رَأيْتَ وللوَرَى هَفَوَاتُهُمْ ... والمرءُ مهما اشتدَّ في النَّزَوان
فهو الضعيفُ أمامُ قُدْرَةِ خالقٍ ... وسِعَتْ جَلالتهُ مَدَى الأكوان(374/38)
وهو الفقيرُ إلى مَرَاحِمِ رَبِّهِ ... ما أحْوَجَ الإنسانَ للغُفرَان!
لوْ ناقَشُوكَ وجَادَلوك بحِكمةٍ ... وهَوَادَةٍ، وتَرَفُّقٍ، وَلَيان
لرَجعتَ عن رَأىٍ تَبيَّنَ خِطؤُهُ ... ونَزلتَ عن دَعْواك بالإذعان
لكنَّهمْ شَنُّوا عليك حروبُهم ... ولقوكَ بالإيذاءِ والعُدوان
ما الشَّكُّ شَكُّكَ إنما هي نَزْعَةٌ ... من عالَمٍ باغٍ على الأديان
وجَدَتْ إلى النَّفْسِ الطَّرِيئةِ مَنْفذاً ... فَتَسَلَّلَتْ منه إلى الوِجدان
والشكُّ سُلطانٌ إذا ماشَيْتَهُ ... سُدَّتْ عليكَ منافذُ الإيمان
والنفسُ في فَجْرِ الشبابِ صَنيعَةٌ ... لجديدِ رأى أو لِسِحْرِ بيان
سَابَقْتَ حَيْنَكَ يَا ضَحِيَّةَ فِرْيَةٍ ... وَأَدَتْ شَبَابَك وهو في الرَّيْعَانِ
هاجت شُعُورَك وَاسْتَثَارَتْ حُرَّةً ... ثارت على القُضْبَان والسَّجَّان
ما ضاق صَدْرُكَ والسَّقامُ تهدُّهُ ... إلاّ بِقَوْلِ منافق أو شَاني
قَوْمٌ أَثَارُوها عَليك نِكايةً ... لِشِفاَءِ ما في النفسِ من أضْغَان
زَعَمُوك داعِيَةً. . وَأَنتَ مُبَرَّأٌ ... عن كلِّ ما زَعَموا من البُهتْان
الْحِقْدُ دَاءُ الشرقِ أعْيَا بُرْؤُهُ ... طِبَّ الأُسَاةِ وَحِكْمَةَ الكُهَّانِ
العبقريةُ من أَذَاهُ جريحةٌ ... في كلِّ مَرْحَلَةٍ، وكلِّ زَمان
مَنْسِيَّةُ الآثارِ، ضائعَةُ الصَّدَى ... مَخذولةَ الأَنصارِ وَالأعوان. . .
جَحَدوُا نُبوغَكَ وَأدَّعَوْهُ خُدْعَةً ... وَالسِّنُّ بُعض وَسَائِلِ النُّكران
ما السِّنُّ مِيزانُ النُّبُوغِ وَإِنما ... هو نِعْمَةٌ تَسْمُو على الأَوْزَانِ
كم في الشيوخ المعْرِقينَ سَذَاجَةٌ ... وَرَجَاحَةٌ في الفِتْيَةِ الشُّبَّان!
خَذَلوك والدنيا إذا لم تُسْقِها ... كأسَ الرِّياءِ جَزَتْكَ بالْخِذلان
من لي بِلَيلاتِ الَمصِيفِ وأُنْسِها ... وظِلاَلِ أيَّامٍ خَلَوِنَ حِسَان
ومَجالِسِ اللهْوِ البريءِ يَزِينُها ... عَقْلُ الحكيمِ وَرَوْعَةُ الفَّنان
وَمَطارِحِ الحُلُم البعيدِ تَرُودُها ... مِنَّا رَغائِبُ في غَدٍ وأماني!
كأسان مِن صَفْوِ المُنَى سُقِيَاهُا ... قَلْبَانِ في الإحساسِ مُؤْتَلِفَانِ
مَرَّتْ ليالي الصيفِ وهي سريعةٌ ... ومضى ربيعُ العُمْرِ دون تَوَان(374/39)
وَتَفرَّقَ الأحبابُ عن أحبابهم ... فإذا الذي كانوا رُؤَى وَسْنَان
طُوِىَ البسَاطُ وغُيِّبَتْ أَحْلاَمُهُ ... فاليَوْمَ لا كأسي ولا نَدْمانى!
حسن كامل الصيرفي(374/40)
من كبرياء الحب!
ويا أنت. . .!
(. . . وهذه يا أنت تحي ة ىعلى الفراق الذي لا لقاء بعده؛
فقد وضعت بيني وبينك سداً ما ينفك قائما حتى أموت. . . .
. . وهنيئاً لي!!)
(هو)
سَئِمْتُ الهناَء فلا تَعْجَبي! ... فَإِنَّ شَقاَء الهوَى مَطْلَبِي!
وَأَحْبَبْتُ فيكِ جَفافَ الحَيَا ... ةِ وَبَطْشَ الْقَضَاءِ فلا تَغْضَبي
وَمَا حَاجَتي لِلَّنعيمِ المقُي ... مِ إذا لم أكُنْ فيهِ بالمتُعْبِ؟
خُلِقْتُ لأَعْشَقَ فيكِ الْبَغي ... ضَ وَأَتَرُكَ ما فيكِ من طَيِّبِ
وَكُلٌّ لهُ مَذْهَبٌ في الْغَرا ... مِ فلا تَسْخَرِي أنْتِ من مَذْهَبي
أَخَذْتُ لِنَفْسِيَ ما تَكرِهَي ... نَ وَمَالِي بالْفاِتنِ المُعْجِبِ؟
وَخَلَّفْتُ للنَّاسِ ما يَشْتَهُو ... نَ وكِم فيك للنَّاس من مَأرَبْ
شَقِيتُ لأُسْعِدَهُمْ بالْجَمَا ... لِ وَلكِنْ سَعِدْتُ فلا تَعْجَبي
فَقُلْتُ: وَدَاعاً زَمَانَ الرَّخا ... ءِ فما هِمْتُ في الْعَيْشِ بالمخصبِ
أُحِبُّ الجَدِيبَ وَرَعْىَ الجَدِي ... بِ فَأُنْزِلُ قَلْبِيَ بالْمُجْدِبِ
فَيَا أَنْتِ! أَيْأَست بي شَاعرِي ... وَحَيَّرْتِ لِي في الدُّجَى كَوْكَبِي
وَهَبْتُكِ لْلِبيدِ أُنْشُوَدةً ... فَمَا كان لَحْنُكِ بالْمُطْرِبِ!
وَأَنتِ تَنَكَّرْتِ لِي بْعدَمَا ... تَغَرَّدْتُ في قَفْرِكِ الْمُلْهَبْ!
تَعِيِشينَ للِجَدْبِ لَكِنَّنِي ... أُرِيدُكِ لِلْوَحْيِ فِي مَوْكِبي!
هَنِيئاً لِيَ الْقُرْبُ لاَ يَرْتَجَى! ... فَبُعْدَكِ إِنْ طَالَ مِنْ مَكْسَبي
وَيَا أَنْتِ! إِنَّي مَلَلْتُ الظَّلاَ ... لَ وَحُبَّكِ هَذَا الذي ظَلَّ بي!
أَسِيرُ بهِ في ضِيَاءِ الحَيَا ... ةِ فَيُلْقِى بِقلْبي إِلى غَيْهَبِ(374/41)
وَأشْدُو لهُ فِي سَمَاءِ الْمُنَى ... فَيَمزُجُ بالْيأْس لي مَشْربي
بَرِئْتُ من الحُبِّ يَا تَوْبَتِي ... فَهَيَّا بِرَبِّكِ عَنِّي اذهَبِي
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(374/42)
هُنا. . .
هُنا يا روض أحلامي ... أذاب العطر أنفاسي
هنا يا نبع إلهامي ... شربتُ صُبابة الكاسِ
هنا قابلتُ حوائي ... على أعشابك الخُضر
وعند الظل والماءِ ... وبين خمائل الزهرِ
هنا كانت أمانينا ... ترفُّ كنفحة الوردِ
هنا كانت تغنينا ... طيورٌ من ربى الخلدِ
ولكن. . . آهِ من دهري ... هوَى بالسوسن الغضّ
وأذوي زهرة العمرِ ... وأخرس بلبل الروض
فوا لهفي عل صوتٍ ... شجيٍّ كان يشجيني
أصابته يد الموت ... فكاد الحزن يبليني
سأبكي والربى تبكي ... معي بفؤادِ مفطور
أبعد الزهر والأيكِ ... يضم القبر عصفوري
(محلة مرحوم)
حامد الشريف(374/43)
قصة الفيتامين
تجربة غذائية عرضية
في ربيع عام 1915 قبيل دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب الماضية ألقت الباخرة البرنس ولهلم الألمانية مرساها أمام الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية. وكانت تعمل هذه الباخرة قبل الحرب في خدمة المسافرين والنقل، فأصبحت بعده تؤدي واجبها في البحرية الألمانية كطراد تجاري وأجري تعديلها تبعاً لذلك فحولت ردهاتها وأبهاؤها إلى مستودعات للذخيرة والوقود ونصبت فوق ظهرها المدافع الضخمة
تغلبت البرنس ولهلم على الكثير من البواخر المعادية واستولت منها بحكم الغلبة على وافر من المواد الغذائية من دقيق وزبد وخبز جاف ولحوم وخضر جافة محفوظة. وبهذا أصبح الذين على ظهرها في سعة ومتعة غارقين فيما استولوا عليه من غذاء
ظهرت بعدئذ على رجالها حالة مرضية لم تكن منتظرة لمثلهم في هذه السعة والوفرة الغذائية، وطرأت على الكثير منهم أعراض مرضية غريبة كنوبات عصبية تصيب البعض، واضطرابات في القلب والتنفس، وتضخم في المفاصل عند البعض الآخر، ووقفت إصابتا كسر في العظام بلا شفاء يرجى رغم العناية والمحاولات التي بذلت في هذا السبيل. وذكرت صورة المرض هذه بالأقصوصة الشائعة حينذاك عن مرض البري بري الذي أصاب رجال المركب الشراعي الذين كان قوام غذائهم المواد المحفوظة. ولكن شتان بين وجهي الشبه في الحالتين ولا سيما أن رجال البرنس ولهلم يتمتعون بغذاء منوع وعلى حساب العدو هانئين بوافر من الدقيق والبسكويت والبطاطس والزبدة وأنواع الجبن حتى البن والشاي كان في متناولهم بلا حساب
ذهبت محاولات طبيب الباخرة وقائدها في علاج المرضى أدراج الرياح حتى امتلأت بهم عيادة الباخرة التي تحولت إلى مستشفى عائم في أمد وجيز. وعندما طوح المرض بمائة وعشرة من ملاحي الباخرة البالغ عددهم خمسمائة لم يجد طبيب الباخرة ولا قائدها بدا من اللجوء إلى أقرب ميناء محايد. وفي 11 أبريل من نفس العام ألقت الباخرة مرساها أمام ميناء نيوبورت نيوز الأمريكي
سرى هذا المرض العجيب إلى الأوساط العلمية الأمريكية مسرى البرق وتقلب على ظهر(374/44)
السفين الكثير من العلماء والأطباء كي يشاهدوا هذه الحالة الشاذة عن قرب ويتبادلوا الآراء، والتعليلات الممكنة، وجاء على لسان بعضهم مرض البري بري الذي سبق ذكره وتعليل أثره في السطو على الأعصاب بكائنات صغيرة حية، وهكذا تضاربت الآراء واختلفت الأفكار حول إمكان انتشار هذا المرض بالعدوى أو غيرها. ولم يهتد طبيب أو مفكر إلى أي نتيجة تفيد الموقف، لأنه ما من أحد حتى هذه السنة كان ليهديه التفكير إلى أنه قد ينقص الغذاء الكثير المتنوع تلك المركبات الدقيقة اللازمة لإتمام عمليات التفاعل الكيميائي في الجسم
كان أسبق الناس في التفكير والتطلع إلى هذا النحو الجديد الفسيولوجي الإنجليزي إذ ذكر في محاضرة له في مؤتمر الطب العالمي الذي عقد في لندن في عام 1913 نتائج تجارب غذائية قام بها في كمبردج على الفيران، وكان قد قدم لها غذاء خاصاً يحتوي عل جميع المواد اللازمة التي يقرها علم التغذية من مواد زلالية ودهنية ونشوية ومعدنية مضبوطة وفي شكل واحد، وبالرغم من هذا نفقت الحيوانات في وقت قصير
ولقد جاءت آراء هوبكنز هذه سابقة لأوانها لأن الأذهان لم تكن لتلفقه وتعي بعد ارتباط تلك التجارب الغذائية بتلكم المواد التي ما زالت مجهولة. ولم تجد زيارات الأطباء والعلماء المرضى نفعاً، وعجز الجميع عن تقديم أية مساعدة فعالة تقي هؤلاء البحارة مصرعهم البطيء المؤلم. وفق بعدئذ الكيميائي النيويوركي ألفرد ماك كان في تتبع آثار النكبة التي حلت برجال الباخرة. وساعده على ذلك قراءة ما تركه هوبكنز عن اختباراته، وبفضل اختباراته الشخصية ودراساته لعلم التغذية ظهر له ما قد ينقصه غذاء هؤلاء المرضى ويقض مضاجعهم. وبمجهود أمكنه الاتصال بطبيب الباخرة، ودعا طاهيها إلى الحديث، فظهر له بالتحري والسؤال انه برغم توفر اللحوم المحفوظة والدقيق ولبن العلب والخضراوات الجافة لم يحصل البحارة المنكودون على فواكه طازجة ولم يتذوقوا خضراً نيئة، عندئذ صاح مظفراً وقال مخاطباً طبيب الباخرة الذي وقف مشدوهاً: لقد سلبت القوة الحيوية الطبيعية من جميع أنواع الغذاء الذي قدم لهؤلاء البحارة التعساء، فاللحوم المجففة والبطاطس قد فقدت أملاحها الفسفورية عند تحضيرها للتعبئة ومعالجتها بماء الأملاح الحمضية لحفظها، كما فقدت الخضراوات قوتها الحيوية بمعالجتها بالقواعد، كما فصل(374/45)
الدقيق من أغلفته ونزع من الأرز قشوره، وبهذا لم تكن التغذية على ظهر السفينة طبيعية مستوفاة متنوعة، ونصح بتغيير قائمة الطعام وإضافة الخضر الطازجة والفواكه الطازجة وعصيرها واللبن الكامل واللحوم غير المحفوظة. تبادل طبيب الباخرة وطاهيها النظرات مستبعدين صحة ما يدلي به هذا الشاب ولكن ما يمنعهم من تجربة ما يقول وقد أعيتهم الحيل، ولتكن محاولة أخيرة عل فيها الشفاء
وبإتباع قائمة الغذاء الجديدة تبد الحال وسرى في المرضى تيار الصحة وظهرت عليهم أعراض الإبلال فهبطت أورام المفاصل وخف ضغط الأعصاب وزحف الذين أقعدهم المرض. وبانقضاء أسبوع واحد على نظام التغذية الجديد الذي أشار به ماك كان غادر مستشفى الباخرة الفوج الأول من المرض، وبمضي أسبوعين وقف المقعدون ومن حل بهم المرض ودب في الجميع دبيب الحياة
لقد كان في المأساة التي حلت برجال الطراد وأودت بأرواح مائة وعشرة من الأنفس المخاطرة القوية أسى وعبرة ومثل واضح لقوم تمنعهم وفرة الغذاء ولا ترف العيش من التعرض لأصناف الهلاك والضعف إذا ما ساب من هذا الغذاء القوة الحيوية الغامضة التي أودعتها الطبيعة إياه، وكم كان جميلاً وطبيعياً من الإنسان الأول الذي عاش على الفطرة ونما مع الطبيعة أن كان يحصن نفسه ضد هذه العوارض إذا أقبلت عليه بمضغ الخضراوات وتبلغ الأعشاب كي يقاسمها بعض ما أودعتها الطبيعة من قوى حية كامنة
أما بعد ذلك وبدافع التطور والمدنية فقلما يفعل الإنسان ما كان يفعله السلف الغابر، بل قد ادعى الأفضلية على الطبيعة فعمل على تهذيب ما تهبنا من غذاء عالجه للحفظ تارة بالتسخين وأخرى بالغلي أو التعقيم أو التمليح أو الغسل بالحوامض والقلويات حتى التكرير والتبييض والتلميع. وبهذه العمليات القاسية أبعد الإنسان من غذائه هذه المواد التابعة التي لم يعرها أي انتباه ما دام يرضي الغذاء الذي يستسيغه ويروقه، والذي يعتقد احتواءه على النسب اللازمة من المواد الغذائية والوحدات الحرارية (الكالوري).
(يتبع)(374/46)
البريد الأدبي
ما أسعد الأشقياء في الحب!
لا أعرف من هو الأستاذ صلاح الدين المنجد الذي يكتب إلى
(الرسالة) من دمشق، ولا أعرف كيف فاتني التعرف إليه وقد زرت
دمشق أربع مرات وشربت فيها أكواب الرحيق
وهل يهمني من أمره أكثر من العرفان بأنه استجاب لدعوة الوجود فهتف بالحب؟
تلك وثيقة روحية تصل بيني وبينه على بعد ما بين القاهرة ودمشق، فإن كنت لم أره بعيني فقد رأيته بقلبي. وإن أخطأ القلب في وزن مزاياه فلا ندم ولا أسف، لأنه على كل حال قد نشأ في رحاب (جيرون) وإن كان في روحه وقلبه أعظم مما قدرت فما ذلك أول حظ يفوتني في دنياي، فقد فاتني الأنس بملاعب الإسكندرية في هذا الصيف، وفاتني النعيم برؤية اللؤلؤ المنثور فوق مرابع دمياط، وحرمتني المقادير نعمة العتب على (عيون المها وراء السواد)
وماذا يريد هذا الأديب من توجيه القول إليّ وهو يتحدث عن ظلال هواه؟
لعله سمع أن في مصر كاتباً فضحه الحب فلم يُعد يبالي أكاذيب اللائمين، وأقاويل العاذلين، فحدثته النفس بأن يوجه إليه القول، والعاشقون رفاق
هو ذلك، يا رفيقي، ولكن دنيا القاهرة غير دنيا دمشق، ورحم الله الشاعر عبد الحليم المصري إذ يقول:
مصرٌ بنا ضاقت فما حالكم ... في قطركم يا شعراء الشآمْ
فأنت في بلدك يهتف بك الشوق فتتذكر بلواك بالحب ثم لا تجد من يعذلك فتقول: هذا كاتب يمزح في أوقات الجد فيتحدث عن الصبابة والوجد في أيام الحرب
وحالي غير حالك، يا رفيقي، فدنيانا في مصر تخضع لخطوب وصروف خلقها الحقد على البلابل العنادل، ليخلو الجو لنعيب البوم، من أن البوم قد انعدم في مصر منذ أجيال طوال، كما انعدمت الثعالب والذئاب، ولم يبقى في بلدنا ما يلهو به الصائد غير تعقب أسراب الظباء في طريق الهرم أو طريق السويس(374/47)
وقد أردت أن أتغنى بأزهار الصباحة في وطني، الوطن الذي لا تقع فيه العيون على غير ما يزيغ البصائر ويضل العقول، فلم أظفر مع طهارة القلب بغير الاصطباح باللوم والاغتباق بالتثريب، مع أن وطني هو الذي أبتدع النشيد المحبوب:
(صيد العصاري يا سَمَك)، ومع أن الجمال في مصر لا يقاس إليه الجمال في أي أرض إلا حين تذكر مسارح الغزلان في الشام وفلسطين ولبنان والعراق
فإن باركتم (الجبل القائم كالفارس الأسمر الجميل) فهي عُلالة تنسون بها أن مصر لها في دولة الحسن سلطان لن يزول، لأنه المحور الذي ترتكز إليه (وحدة الوجود)
كل ما في مصر جميل، ولكن أين الشعراء؟
كان للشعر الوجداني دولة أيام الوزير محمود سامي البارودي بطل القلم والسيف، ثم صار الحديث عن الحب بدعة لا تليق برجل من الوزراء، فأين من يُبلغ أهل مصر أن الحديث عن الحب لم يغض وزير المعارف الأسبق في العراق وهو معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي، على أيامي في صحبته أطيب التحيات؟
لا بد من يومٍ أغر في خدمة وطني، وهو اليوم الذي أهتف فيه بأن مصر هي الوطن الأول للشعر والجمال والفنون
بأي حق يهتف الهاتفون بالحسن في دمشق على حين يخرس الشعراء عن الهتاف بالحسن في القاهرة، وهي بلا جدال عاصمة الشرق؟
أيكون بلدك أجمل من بلدي يا صلاح الدين حتى يصح لي أن أسكت ويجب عليك أن تنطق؟ نهركم هو بَرَدَى الذي يصفق بالرحيق السلسل
وأين بردى من النيل؟ وهل في الدنيا كلها نهر سبق النيل إلى المدنية وإلى الحديث عن أوطار القلوب في الغسق والشفق؟
وهل يكون الفرات في الطغيان أعظم من النيل في الوفاء؟
وهل ترى جمال العراق ينسيني جمال وطني، الوطن الذي أجد الظلم فيه أعذب مذاقاً من العدل، مع الاعتراف بأن شعراء العراق سبقونا إلى وصف النشوة برحيق الوجود؟
وأين الأرض التي تخرج الثمرات أربع مرات في العام الواحد كما تصنع أرض مصر، مصر التي ولد فيها موسى منشأ فيها عيسى وصاهرها محمد، عليهم أفضل الصلوات؟!(374/48)
هي مصر التي تجهل عذابي في هواها، وهي غادر ظلوم
فلا تحسبوا هنداً لها الغدر وحدها ... سجيَّةَ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هندُ
وإن عشت فسأنتقم للوطن الذي يظلمني من الذين يجورون عليه فيزعمون أن للحسن دولة في غير شارع فؤاد بالقاهرة أو طريق فاروق بالإسكندرية أو شارع عباس بمصر الجديدة أو طريق البحر في شبين الكوم أو شارع الحمراء في أسيوط.
زكي مبارك
1 - حول كتاب (الديارات) للشابشتي
ذكرت في تضاعيف الشروح التي علقت بها على مقالتي (يوم من أيام المتوكل) في العدد 269 من (الرسالة)، أن (الشاذ كلاه) معناها (مهرجان التاج) وذلك نقلاً عمن يفقه اللغة الفارسية عندنا. على أنني عثرت في مجلة المجمع العلمي العربي (ص 137 من الجزء الخامس من المجلد الثالث) على مقالة لأحمد تيمور باشا عن الألفاظ العباسية التي ذكرها صاحب (نشوار المحاضرة)، ذهب فيها إلى أن معنى (شاذ) بالفارسية (الفرِح والسرور) وأن معنى (كل)، وأصلها (جل) الورد. فيكون معنى (الشاذ كلى): (نوع من أنواع اللهو كان يعمل سروراً بالورد) وضبطها (شاذ كلي) بألف مقصورة، وما أدري ما الفرق بين (شاذ كلى) و (شاذ كلاه) من حيث انتهاؤها
وما ذهب إليه العلامة تيمور باشا هو أصوب وأقرب. . . مما ذهبت إليه فأثبته إقراراً للصواب.
2 - (أجهل من الكناني)
قرأت في (ثنايا) مقالات الأستاذ علي الطنطاوي - التي يصف فيها رحلته إلى الحجاز وصفاً سهلاً رائعاً - مثلاً أستشهد به وما أدري من أين جاء به. فقد قال: (إن دليلهم كان أجهل من الكناني وأصحابه في اللغة العربية. . .). فهل للأستاذ أن يبين لنا سيرة هذا الكناني، ويدلنا على مصدر هذا المثل، ويجلو لنا الوقائع التي دفعت العرب إلى القول (أجهل من الكناني) فأنا لم أجد فيما بين يدي من كتب من يذكر مثل هذا الاسم وهذا المثل. وله مني الشكر والإعجاب.(374/49)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
إلى الأستاذ صلاح الدين المنجد
سلام الله عليك ورحمته. وبعد فأني الآن مهاجر من القاهرة إلى المنصورة. ولو كنت في القاهرة لما استطعت أن ألخص شيئاً من كتاب (كتاب الشعور بالعور) للصلاح الصفدي لأنه من نفائس دار الكتب المصرية وذخائرها التي حفظتها الدار الآن في مكان حصين صيانة لها من (الغارات الجوية).
وموعدنا إن شاء الله زوال الحالة الحاضرة.
محمود حسن زناتي
أمين الخزانة الزكية
هي كنية الإمام الصادق
جاء في كتاب (نقد النثر) لأبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي في الصفحة السادسة: (وروى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لهشام: يا هشام إن لله حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الحجة الظاهرة فالرسل، وأما الباطنة فالعقل). غير أن الشارحين الدكتورين أو الأستاذين - على التغليب فيهما - طه والعبادي علقا في أسفل الصحيفة المذكورة على كنية (أبي عبد الله) بأنها كنية الحسين بن علي عليهما السلام، والحق أنها كنية الإمام جعفر بن محمد الصادق، إذ نجد الخطاب في هذه الرواية لهشام، وهشام هذا هو أبن الحكم أحد متكلمي الشيعة، وكان معاصراً وتلميذاً للإمام الصادق
على أن ما تحمله الرواية من أسلوب ومن تقسيم للحجة إلى ظاهرة وباطنة ومن بيان حجية العقل، كل هذا مما يلائم العصر الذي عاش فيه الصادق لا العصر الذي عاش فيه الحسين عليه السلام.
(بغداد)(374/50)
(ع)
كتاب قصص القرآن
ظهرت الطبعة الثانية من كتاب قصص القرآن لبعض الأفاضل من المدرسين بقيادة الأستاذ الأكرم محمد أحمد جاد المولى بك. وقد أُهدي إلي فقرأته فأعجبت به إعجاباً شديداً وحمدت لهؤلاء الأخوان عاطفتهم النبيلة التي حدت بهم إلى إبراز مثل هذا السفر. وأي عمل أنبل من تحبيب القراء - والناشئين منهم خاصة - في قصص الرسل الكرام. وقصص غيرهم ممن ذكرهم القرآن للعبرة والموعظة؟
لقد وفق الكرام الكاتبون في عرض كل قصة مستقلة غير مفرقة، وحالفهم النجاح في معظم القصص من حيث طريقة العرض ومن حيث الأسلوب العربي الخالي من شوائب العجمة، والدقة في العبارات، وتحري الصواب والمعقول من آراء المفسرين وذلك جدير بمن كان مثل الأستاذين علماً وفضلاً وخلقاً
غير أني أرى في الكتاب مآخذ لا تؤثر كثيراً في قيمته وأثره. ومن ذلك أنه خال من مصور تبين الأماكن التي وردت في القصص، ومقدمته خالية من آراء المستشرقين في قصص القرآن، مع أن جاد المولى بك عليم بما في هذه الآراء الغربية من مغالطات، فلِمَ لم يرد عليها وهو خير من يستطيع ذلك؟ وقد خلت المقدمة من ذكر الغاية التي من أجلها وردت في القرآن أنباء الرسل، وهي تثبيت فؤاد النبي، لتكون له أسوة حسنة في إخوانه من رسل الله: (وكلاًّ نقص عليه من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك). ومما بدا لي فيه أن القصة قد تذكر في أكثر من سورة فيكتفي من ذلك بسورة واحدة في الذيل، مثل قصة سيدنا صالح
هذه بعض هفوات قد لا يراها غيري كذلك وأرى تلافيها أولى من تركها، وكفى هذا السفر جودة أن تعد عيوبه
وليقرأ القارئ قصة طالوت مثلاً أو قصة موسى أو عيسى أو شعيب، فسيجد لساناً عربياً مبيناً، وقصصاً مرسلاً محبوباً شائقاً سائغاً وحكمة عالية بالغة، وعبرة لأولي الألباب.
(القاهرة)(374/51)
عبد الرزاق إبراهيم حميدة
حول مقال
سيدي وأستاذي:
جاء في مقالة الدكتور زكي مبارك التي نشرت (بالرسالة) في العدد 370 تحت عنوان (الحديث ذو شجون)، أنه حين عرض على الدكتور مشرفة بك عميد كلية العلوم الخطاب الضائع قال له هذا العميد: العواطف من القوى الأساسية في حياة الإنسان، ولا بد لتلك القوى من غذاء
فقال الدكتور المبارك:
العواطف تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول؟ هذه فلسفة لم أسمع بها من قبل، وأوحى إلى القراء بما يأتي:
الدنيا في حرب فلا تصدقوا الدكتور مشرقة وإن كان عميد كلية العلوم، واقضوا أوقاتكم كلها في متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العجاف
ففهمت من هذا القول أن العواطف تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول، وهذا ما صرح به الدكتور مشرقة وأنكره عليه الدكتور مبارك وحث القراء على عدم تصديقه. وكل ما هنالك أن الغذاء في الأول لم يعين ولم يقصر على نوع، وفي الثاني بينه الدكتور زكي بأنه أخبار الحرب في هذه الأيام
فما هذا الإشكال؟ آمل أن يفسره لنا أستاذنا صاحب الفكرة تفسيراً يطل بنا على مقصده السامي، ويهدينا سواء السبيل، ولا زالت عند حسن ظنه بي، والسلام عليكم ورحمة الله.
(الزيتون)
فوقية كامل
كتاب الشعور بالعور
قرأت في الرسالة عدد (367) كلمة للأستاذ صلاح الدين المنجد من دمشق بعنوان(374/52)
(أصحاب العاهات ونوادرهم) يقول فيها إن نخبة من الأدباء تجمع الآن أخبار أصحاب العاهات ونكاتهم وأنها لم تعثر إلا على القليل من أخبار العوران وملحهم. ويسرني أن أنقل إلى حضرة الأديب المنجد أن في المكتبة الخالدية في بيت المقدس مخطوطاً فريداً اسمه (كتاب الشعور بالعور) تأليف الأستاذ صلاح الدين أبو الصفا بن أيبك بن عبد الله الصفدي الشافعي وهو صاحب كتاب نكت العميان الذي نشره المغفور له العلامة أحمد زكي باشا في مصر سنة 1910
أما المخطوط الذي نحن بصدده فعدد صفحاته 190 وقد كتب سنة 841 للهجرة ونسخ بخط الرقعة بالحبر الأسود وهو يشتمل على ست مقدمات ونتيجة ويقول المؤلف (إنني سميته كتاب الشعور بالعور ورتبته على مقدمات ونتيجة، المقدمة الأولى فيما يتعلق بذلك من اللغة، المقدمة الثانية فيما يتعلق بذلك من حيث التصريف والإعراب، والمقدمة الثالثة فيما يتعلق بحديث الدجال وكونه أعور، والمقدمة الرابعة فيما له بالأعور علاقة من الفقه، والمقدمة الخامسة فيما جاء من الأمثال والنوادر في حق الأعور وغير ذلك، المقدمة السادسة فيما جاء من الشعر في العور والعوران، النتيجة في سرد من كان أعور على حروف المعجم) انتهى. هذا وقد ترجم المؤلف في هذا الباب سيرة سبعة وسبعين أعور
ولد المؤلف سنة 696 هـ وتوفي بدمشق سنة 764 هـ وقد ترجمه السبكي في الجزء السادس صفحة 94 وجاء ذكره في الدرر الكامنة لأبن حجر الجزء الثاني في حرف الخاء صفحة 87. وللمؤلف تأليف كثيرة بعضها مطبوع وبعضها مخطوط ومن أهمها كتاب الوافي بالوفيات وهو لم يطبع.
(بيت المقدس)
أحمد سامح الخالدي(374/53)
القصص
هَّمام
للأستاذ محمد سعيد العريان
(أشكر للآنسة الأدبية (قدرية ف) رأيها في قصة (البعث)
المشورة بالعدد 362 من الرسالة، وأرجو ألا يقع في وهمها
أنني أصف بها أحداً بذاته من أدبائنا، وإن كان موضوعها
يتصل بحياة كثير من أدباء العربية يعرفهم القراء بآثارهم
ويجهلون كثيراً من شئون حياتهم)
عندما يهم قطار الصعيد أن يجتاز النيل من شاطئ إلى شاطئ عند قناطر نجع حمادى في طريقه إلى القاهرة - يرى الراكب عن يمينه قرية صغيرة يطيف بها الجبل الشرقي من ثلاث جهات ثم ينفرج عن سكة متعرجة تصل بين القرية والنهر، وتقوم على جوانبها باسقات النخل حداً فاصلاً بينها وبين الصحراء الشاسعة الممتدة بين النيل والبحر الأحمر
في هذه القرية كان يعيش (هَّمام) يكدح لنفسه ولزوجه عاملاً في مزرعة العمدة، كما يعيش عشرات مثله قانعين من العيش بالكفاف، راضين من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها!
ولكن هَّمام لم يكن من القناعة بحيث يرضى من الحياة بما يرضى سواد الفلاحين الذين يعملون معه أُجراء في مزرعة العمدة؛ فقد كانت له نفس طلعة تتسامى بها أماني جسام؛ وكان من المنزلة عند سيده بحيث يتهيأ له أن يكون أقرب إليه؛ فرأى ألواناً من العيش وفنوناً من اللذة خيلت له ما خيلت من الأوهام وأنشأت في نفسه ما أنشأت من المنى
ولم يكن قد مضى على زواجه (بمسعدة) غير بضعة أشهر حين جلس إليها ذات مساء يحدثها وتستمع إليه:
(مسعدة!. . . وسيكون لنا دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، وسأكون وتكونين. . .!)
واستمعت إليه زوجته فرحانة، وحلقت بجناحيه في وادي المنى، وراحت تعد له عدة(374/54)
الرحيل إلى القاهرة حيث يهاجر ليلتمس الغنى ثم يعود. . .
وخرج همام من القرية يحمل على كتفه خُرجاً فيه زاده ومتاعه حتى بلغ شاطئ النهر، وخلف زوجته في القرية تنتظر
وكان ثمة رمث من جرارٍ مشدودة عنقاً إلى عنق يتأهب لرحلة نهرية إلى القاهرة، فوضع همام متاعه عن كاهله وأتخذه مركباً إلى حيث ينشد أمانيه
وأرسى المركب بعد أيام على ساحل (الفسطاط)، فنزل هما يضرب في شوارع القاهرة ومتاعه على ظهره، حتى انتهى إلى مستقره في غرفة في دار في حي (بولاق) يساكنه فيها بضعة نفر قدموا لمثل غايته من بلاد متفرقة في الصعيد الأعلى فألفت بينهم الغربة وجمعتهم وحدة الأمل. ومضى يلتمس الرزق بساعدٍ قوي وعزم صليب، فلم يلبث أن انضم إلى جماعة من الفعلة في أعمال البناء، يمضي شطر نهاره يحمل مكتل الآجر صاعداً هابطاً على خشب مشدود من أسفل البناء إلى أعلاه ومن أعلاه إلى أسفله، ينضح العرق جبينه ولسانه لا يفتر عن الغناء، يصف أشجان الحبيب النازح إلى أمل يرجوه ومن خلفه حبيب ينتظر؛ فإذا حميت الظهيرة فاء إلى ظل جدار قائم يتناول طعامه لقمة من خبز قديد وملح جريش وماء؛ ثم يستأنف عمله. . .
لم يكن العمل الذي يزاوله همام مما ألِفَ حين كان يعيش بين أهله في القرية المطمئنة في أحضان الجبل الشرقي، ولكنه كان أحب إليه لأنه كان أكثر جدوى عليه. واستطاع أن يجمع من فضل أجرته بعد شهرين جنيهاً وبعض جنيه، أرسل منه ما أرسل إلى زوجته وادخر الباقي لنفسه، ودأب على ذلك من بعد؛ فكان لزوجته من فضل أجرته كل شهر نصيب معلوم، ولصندوق الادخار ما بقى. . . ولما جاءه النبأ أن زوجته قد وضعت، أرسل إليها بهدية وعلاوة تشتري بها كسوة للصبي، ولكنه لم يغفل أن يضع في صندوق الادخار ما يضع كل شهر، رجاء أن يكون له يوماً دار ونخيل، ومزرعة على الساحل إلى جانب مزرعة العمدة، هناك، حيث تنتظر زوجته وأم ولده. . .!
لقد مضى عام منذ هجر همام القرية يسعى إلى الغنى، وأنه هنا وزوجته هناك، وولده؛ أما هو فكان له شأن يشغله عن الفكر والحنين، وأما هي فكان لها أمل تأمله في يوم قريب - يربط على قلبها ويزيل وحشتها، وأما الصبي. . . وماذا يدري الصبي بعد؟(374/55)
وتتابعت الأعوام وشب الغلام، لم ير أباه ولم يره أبوه؛ وماذا يهم الفتى من ذلك وليس بدعاً هناك، وفي كل قرية من قرى الصعيد العشرات من مثل همام نزحوا عن أهلهم وولدانهم يلتمسون مثل ما يسعى له، لا يتواعدون على لقاء ولا يتراءون منذ الشباب إلا على هرم. . .! ومضت بضع سنسن، قبل أن يفكر همام في زيارة زوجته وولده؛ وراحت (مسعدة) تستقبله على شط النيل حيث ترسى به السفينة؛ وقال الفتى لأمه وهو يشير إلى رجال على ظهر المركب: أيهم هو؟ ونظر همام إلى غلمان وقوف على الشاطئ وقال لنفسه: أيهم هو؟. . . ثم التقيا فتعارفا وحن الدم إلى الدم. . .
. . . وعاد الزوجان إلى حديثهما، وعاد همام يقول: (بلى، وسيكون لنا دار ونخيل. . . وسيكون. . .) وهمت المرأة أن تقول شيئاً ثم سكتت، ورفعت إليه عينين فيهما ظمأ وشوق، وفيهما إعجاب وزهو، وأنستها حلاوة اللقاء مرارة الفراق، وعادت الأماني تخيل لها، وحلقت بجناحيه في واديه، وقالت لنفسها هامسة: (سيكون لنا دار ونخيل ومزرعة، وسيكون وأكون. . .) ثم فاءت تنظر إليه وفي عينيها لهفة وحنين!
. . . وقضى همام في القرية أياماً، ثم استأنف رحلته يسعى إلى أمله، وخلفها وخلف ولدين: أما أحدهما فغلام لم يكد يرى أباه حتى فقده، وأما الثاني فإنه لم يره قط، لأنه لا يزال بينه وبين الحياة تسعة أشهر. . .!
لم يكن عبثاً ما تحمل همام من مشقة البعد سنين وما لقي من جهد الحياة؛ فلم يكد يمضي عليه في القاهرة بضع عشرة سنة حتى تغير من حال إلى حال؛ فلم يعد العامل الذي يمضي بياض نهاره حاملاً مكتل الآجر، صاعداً هابطاً على خشب مشدود بين السماء والأرض، ليس له إلا وجبة واحدة من طعام؛ إنه اليوم رجل غير من كان؛ لقد عاد ذلك الثوب الخلق جديداً على جسد ناعم، وعاد البطن الخاوي شبعان ريان من طيب الطعام والشراب، وعادت الغرفة المشتركة بين بضعة نفر يفترشون الأرض شقة ذات أثاث ورياش؛ وعاد الأجير الفقير سيِّداً يجري النفقة على أجرائه وخوله؛ وتلاحقت دراهمه فنتجت وأصبح ذا مال!
وتصرمت بضع سنين لم تره زوجته ولم يرها، أما هي فعاشت هناك صابرة قانعة بما يرسل إليها كل شهر من نفقة، تمسي وتصبح حالمة بالدار النخيل والمزرعة، ويوم تكون(374/56)
ويكون؛ وأما هو، فتبدلت حياته بما تبدل من حال إلى حال، وأجدت له النعماء أماني فأنسته أماني، وعاش لنفسه وماله!
وشب الغلام وأخضر شاربه، ونهدت البنت وكعب ثدياها، وشابت الأم وتخدد لحمها، وما زال شاب قلبها يجد لها أملاً بعد أمل، وينشئ لها في كل مشرق شمس ومغربها حنيناً ولهفة؛ والرجل هناك يبيع ويشتري ويتعوض ويراوح بين جنبيه من فراش إلى فراش!
وفجأةً أظلمت القاهرة بعد نور، وهمدت بعد نشاط، وسكنت بعد حركة، ونعب النذير يوقظ النائم ويحرك الساكن ويبدد الشمل المجتمع ليجمع الشمل المتفرق؛ وكسدت سوق همام بعد نفاق، فأزمع الغريب الإياب!
لم يعد همام في هذه المرة إلى القرية على رمث في البحر تدفعه الريح، ولم يكن على كتفه خرج فيه زاده ومتاعه، ولم تكن رحلته طويلة موحشة تقاس بالليالي والأيام؛ ولكنه عاد في القطار السريع يؤنسه أنيس غير مملول؛ في يمناه حقيبة سفره وفي يسراه زوجته الحضرية المصقولة! وكانت (مسعدة) وولداها ينتظرونه لميعاده،. . . ونظرت امرأة إلى امرأة ثم أغضتا؛ أما واحدة فصبرت وشكرت؛ لقد سلخت شبابها متزوجة ولا زوج لها، فإنها لنعمة أن تظفر اليوم بنصف زوج!. . . وأما الأخرى فخنقت وسخطت؛ لقد كان لها زوج يؤثرها ففقدت نصفه!
وأغلق الباب على رجل وامرأتين؛ وعرفت كل واحدة منهما مكانها من صاحبتها ومن صاحبها؛ أما مسعدة فراحت تتجه إلى صاحبتها وتتعبد لها لتنال رضاها ورضا همام، وأما صاحبتها فراحت تشمخ وتتأمر لتتسلط وتحظى؛ واقتسمت المرأتان الدار فواحدة لها الفراش وواحدة للمهنة والعمل؛ وقالت المرآة لكل منهما: لقد عرفت مكانك؟. . . ولكن أحظاهما كانت اسخط لحظها وأشقى؛ لأنها لم تألف الحياة في القرية ولم ترض الشركة في رجل. . .
وأصبح همام ذات صباح فإذا امرأة واحدة في الدار وقد فرت الأخرى. . . وثارت نخوة الرجل وغضب لعرضه غضبة أهله، فأزمع أمراً؛ وغضب الولد لأبيه وأقسم ليغسلن العار بالدم
. . . وعاد (حمدان) بن همام من القاهرة بعد أيام وسكينة يقطر دماً. . . وأستقبله أبوه(374/57)
مزهوا فخوراً فضمه إليه وقبل جبينه، واستقبلته أمه وأخته. . .
وجلست الأسرة الأربعة مجلسهم لأول مرة، مجلساً لم يجمعهم مثله منذ كانوا على صفاء ومودة، وقالت مسعدة: (همام!)
وكان في عينيها عتاب وفيهما رضاً واطمئنان
وقال همام: (مسعدة! معذرة إليك؛ إنك أنت وحدك. . . وكانت غلطة. . .!)
وابتسمت مسعدة وعاد الشباب يتألق في جبينها بشراً ومسرة، وانبعثت الأماني تحدثها حديثها، وحلقت بجناحين في وادي المنى، وقالت: (. . . ويكون لنا دار ونخيل، ومزرعة!)
وافترت شفتاه وقال: (ذلك أولى لك يا مسعدة وأنت له أهل؛ وهذا المال. . .)
ودق الباب وانقطع الحديث، ودخل الداخل ثم خرج، وخرج وراءه همام وزوجته وأبنته يشيعون حمدان وفي يديه الحديد مسوقاً إلى السجن!
لم يشتر همام داراً ولا نخيلاً، ولا مزرعة على الساحل؛ ولم يبق له من ماله باق، وأنفق ذخيرة العمر ليفتدي ولده من زلة ساعة فلم يُجد عليه!
وعاد همام كما بدا، أجيراً يكدح لنفسه وزوجته وأبنته عاملاً في مزرعة العمدة، قانعاً من العيش بالكفاف، راضياً من متاع الحياة بنعمة الحياة نفسها. . .
وخرج حمدان من السجن بعد عشر سنين لتستقبله أمه الأيم العجوز وحيدة فتصحبه إلى قبر أبيه يترحم عليه، أبوه الذي لم يره إلا مرةً ثم مضى كل منهما لوجهه، كما يلتقي اثنان اتفاقاً في طريق ثم يتدابران فلا لقاء!
محمد سعيد العريان(374/58)
العدد 375 - بتاريخ: 09 - 09 - 1940(/)
تصحيحاً لتاريخ الزعيم
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت نخبة من المقالات التي نشرتها مجلة (الثقافة) الغراء إحياء لذكرى سعد - رحمه الله - في هذه السنة
ولي عناية خاصة بأمثال هذه المقالات، لأنها تتصل بترجمة رجل عظيم أجللته وانعقدت الآصرة بيني وبينه في الجهاد الوطني بضع سنوات فضلاً عن سنين عدة كنا ننظر إليه فيها قبل ذلك نظرة الوثوق والإعجاب، ولأن هذه المقالات تتصل من جهة أخرى بموضوع كتاب ألفته في تاريخ ذلك الرجل العظيم، فيعنيني أن أراجع فيه كل ما عسى أن يصحح رأياً أو واقعة أو خبراً مما ورد في الكتاب لاستدراكه في أوان الاستدراك
ومن المقالات التي اتجه إليها ناظري أول ما أتجه مقال العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين لأنه كتب عن مدرسة القضاء الشرعي وهو أحد الأعلام الذين أنجبتهم تلك المدرسة القصيرة الأجل، الطويلة النفع والذكرى
ولكني عجبت لأنني رأيت الأستاذ ينساق إلى خطأ شائع من الأخطاء الشائعة الكثيرة التي ذاعت عن مدرسة القضاء في بعض الفترات.
وذلك إذ يقول: (. . . لم يرض الخديوي ولا الأزهر عن المشروع، ولمن سعداً أصر وعرض الأمر على مجلس النظار برياسة الخديوي، وعارض في الجلسة من النظار من أوعز إليهم أن يعارضوا، فاتخذ سعد المسألة قضية يترافع فيها كما كان يترافع أيام عهده بالمحاماة، ونسى المجلس ونسى الخديوي وضرب بيده على المائدة كما كان يضرب أمام القضاة، وتخاذل المعارضون ووفق على المشروع الذي كان يحلم ببعضه الشيخ محمد عبده، وتم وفي نفس الخديوي منه شيء بل أشياء، وهمس الخديوي في أذن مصطفى باشا فهمي رئيس مجلس النظار: يظهر أن نسيبك لم ينس المحاماة. . .)
فهذه القضية قد راجت زمناً لأنها تحمل عنصراً من عناصر الرواج بين الجمهور، وسمعتها من مصادر عدة قبل التقائي بسعد وبعد التقائي به في أيام الحركة الوطنية، وهي مع ذلك (مؤلفة) أو مخترعة سمعنا نفيها من سعد نفسه وذكرنا ذلك في مقالنا الذي نشرناه بمجلة (الهلال) الغراء على أثر وفاته، وذكرناه بعد ذلك في كتابنا عن سعد حيث نقول في(375/1)
الصفحة العشرين بعد المائة:
(. . . كان الخديو حريصاً على استبقاء الأزهر في قبضته لإطلاق يديه في اختيار القضاة الشرعيين والإشراف على المجالس الحسبية وما يعهد إليها من محاسبة الأوصياء على التركات والنظار على الأوقاف، ولكنه كان يعارض في إصلاح الأزهر وتمكينه من إعداد القضاة والمعلمين والمحامين على الوجه المطلوب. وقد تعب الشيخ عبده في علاج هذا الإصلاح العسير حتى نفض يديه آخر الأمر واضطر إلى اعتزال منصبه في مجلس الأزهر الأعلى. فلما تصدى سعد لهذه المعضلة العصيبة هاجمته الأغراض والسعايات والعراقيل من كل جانب، فعزم عزمته ونكب عن ذكر العواقب جانباً كعادته حين يتصدى لأمر هو على يقين من صلاحه من وجه الحق فيه، وجاء إلى مجلس الوزراء وهو معول على أمر من أمرين: إما مدرسة القضاء، وإما الاستقالة وهو غير آسف
(قال سعد في بعض أحاديثه عما جرى في تلك الجلسة بينه وبين الخديو: إن الأقاويل اختلفت في المناقشة التي دارت بيني وبين الخديو في ذلك اليوم. فقال أناس: إنني ضربت على المنضدة بيدي وقلت في وجه الخديو: دعني أدافع عن مشروعي! وأن الخديو أجابني حينذاك ساخراً: يظهر أن الباشا لم ينس بعد صناعته القديمة. . . يعني المحاماة، وقال أناس غير ذلك ما يجري مجراه، والصحيح أنني لم أضرب على المنضدة بيدي ولم يعرض الخديو بسابق عملي في المحاماة، وإنما شاهدت في سموه ميلاً ظاهراً إلى رفض المشروع بعد ما شجعني على المضي فيه، ورأيته يأبى على المناقشة والشرح أمام زملائي الوزراء. . .
(قال رحمه الله بفكاهته المعهودة: وكنت قد انتقلت من القضاء إلى الوزارة (بعبلى) فدأبت على الشرح والاستدلال وقلت: أنني أفهم أن المناقشة حرة، وأود أن أعرف المانع من تنفيذ المشروع. ولا أدري أن هذا الكلام يغضب الخديو وينقل وقعة على سمعه. فأحمر وجهه كلون طربوشه، وسمع من أصحابنا الوزراء مني هذه اللهجة فأيقنوا أنني لا أقدم عليها إلا وأنا مؤيد بقوة خفية، ووهموا أن لورد كرومر يريد إنشاء المدرسة على الرغم من جميع العقبات، فأجازوا المشروع بالإجماع وبقى الخديو وحده معارضاً فيه! والحقيقة أن لورد كرومر لم يفاتحني في المسألة إلا بعد أن سمع بما دار بيني وبين الخديو من المستشار(375/2)
المالي، وقد كان يحضر جلسات مجلس الوزراء)
هذه رواية سعد كما سمعناها منه، وثبت لنا مرة أخرى أن أصلح الإشاعات للرواج هي أولاها بحذر المؤرخين
من الذين علموا بتصحيح هذه الإشاعة فيما أذكر كاتب سعد وملازمه في وزارتي المعارف والحقانية فؤاد كمال بك رحمه الله، ولعله أشار إلى ذلك في مذكراته
وقرأت في مقال الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف (أن سعداً وهو في وزارة المعارف قد أضطر في بعض الظروف لمصانعة السياسة التي كانت متحكمة في ذلك الوقت، ومن ذلك ما كان من رأيه الذي دافع عنه خاصاً بالتعليم باللغة العربية، ولكنه في هذا إنما جرى على المثل المأثور: لا تكن صلباً فتكسر ولا ليناً فتصهر)
والذي نعلمه أن سعداً لم ينكر أن التعليم باللغة العربية واجب مطلوب، ولكنه كان يرى أن التعليم باللغة العربية لا يتم ولا يعم قبل تحضير كتبه وإعداد مدرسيه، وهذا رأي متفق عليه لا ضرورة فيه لمصانعة الأقوياء أو لاجتناب الصلابة، وفي وسعنا أن نقول إن قوة الاحتلال كانت تصانع سعداً أضعاف ما كان يصانعها، وكانت تحتمل منه أضعاف ما كان يحتمل منها، وهذا غاية ما يطلب من وزير مصري لم يؤيده في ذلك الوقت برلمان ولم يكن الخديو من الراغبين في بقاءه، ولا سند له إلا ما وقر في نفسه من القوة والصلابة الشكيمة
وقرأت من مقال مكرم عبيد باشا (. . . إن سعداً العظيم كان كسعد الرجل، إذا ما أحس إحساساً فلا توسط في حساسيته المرهفة. إذا ما بكى أو ضحك تشاركه عيناه بالدمع المنسجم - يبكي فيتطاير الدمع كالشرر المستمر، ويضحك فيتساقط الدمع كالماء المنهمر. . . ولا يهولنك أن يبكي سعد العظيم أو سعد الرجل فلعل أجمل آية في الإنجيل هي تلك الآية الحلوة القصيرة: بكى يسوع)
والواقع أن البكاء كان (تعبيراً) قوياً في نفس سعد زغلول لا يدل على ضعف ولا استكانة، ولكنه لم يكن من الانطلاق والمعاودة بحيث يفهم من هذه العبارة. فعلى طول رؤيتي له لا أذكر أن عينيه فاضتا بالدمع الغزير غير مرتين، وأما تناثر الدمع من عينيه حين يطيل الضحك فأمر طبيعي في تركيب العيون يزيده في سعد أنه احتفظ - على خلاف كثير من(375/3)
الشيوخ - بنعمة الضحك القلبي إلى ما قبل وفاته بأيام. وكان رحمه الله يجتنب البكاء ما استطاع ويشيح بنظره عن رؤية الضعفاء الباكين، وقلنا من الكتاب هذا المعنى: (إن هذا المناضل المكافح طوال الحياة لم يكن أبغض إليه من رؤية العنف ولا مشاهدة الحزن والمحزونين. ذهب بعد الإفراج عنه في جبل طارق ليشهد صراع الثيران على الأرض الإسبانية، فلم يطق ما رآه من تعذيب هذه الحيوانات وانصرف بعد فترة وجيزة وهو يتأفف من هذا اللعب الممقوت. وعرف عنه ذووه أنه لا يطيق أن يرى البكاء لأنه يؤذيه ويستبكيه فكان يقول لهم: لا تبكوا أحداً أمامي، وإذا مت فخذوا ثأركم مني ولا تبكوني. ومن عادته ألا يظهر أمام الناس في موقف يخشى فيه من جيشان نفسه وغلبة دموعه، ولهذا لم يستقبل أم المصريين على المرسى في جبل طارق واكتفى بأن ينتظرها في حجرة الاستقبال. . .)
فبكاء سعد في تعبيرات نفسه في أمثال تلك المواقف المعدودة، وكان مع هذا يجتنبها ما استطاع
وجاء في مقال صاحب العزة (فخري عبد النور بك): (ثم ركبنا البحر وعدنا أدراجنا إلى القاهرة، وكان الزعيم الخالد يبدي جلداً وصبراً، وكثيراً ما كان يردد هذا الشطر: لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ. حتى وصلنا إلى بيت الأمة)
والذي أذكره أن سعداً رحمه الله تمثل بذلك الشطر وهو في حجرة مرضه بمسجد وصيف بعد أن روى لي أشياء عن أناس من أنصاره كتموا عنه أموراً كان يود لو يطلعوه عليها، وهذه المناسبة ظاهرة مني معنى الشطر المفهوم
وفي عدد الثقافة مثل على اتفاق الرواية إذا اتفقت الملاحظة الطبيعية كما يلحظها الرواة خالصة من الحواشي والأغراض فقد كتب الكاتب الأمين الأستاذ (كامل سليم بك) عن (حالة الزعيم النفسية) عقب مقتل السردار. فقال مما وعاه في مذكراته: (لقد مرت بسعد وهو زعيم أزمات حادة أقضت مضجعه. ولأذكر على سبيل المثال ما حدث له أيام وزارة زيور باشا التي أُلفت عقب مقتل السردار، فقد ساد البلاد جو خانق كجو الأحكام العرفية، وقبض على الأبرياء وزجوا في السجون لأتفه الشبهات، وفي طليعتهم الدكتور ماهر والأستاذ النقراشي، وكان سعد يحبهما ويثق بهما أخلص حب وأكمل ثقة، وحزن لسجنهما أشد الحزن وأخذ كثيرون من أنصاره ينفضون من حوله أو ينقطعون عن زيارته؛ فدخلت على(375/4)
سعد يوم 30 يوليه سنه 1925 وهو في هذه الحالة النفسية التعسة ووجدته وحده في مكتبه الداخلي في بيت الأمة يطالع كتاباً؛ ولن أنسى ما حييت ما لاحظت عليه من الحزن الأسود والألم الأليم. سألني عن الحالة العامة فحدثته بما أعرف وتعمدت أن أضمن حديثي ما يدعو إلى الأمل والتفاؤل حتى أدخل على قلبه الكبير شيئاً من الطمأنينة والسكينة، فأبتسم ابتسامة فاترة كانت على الألم أدل منها على أي شيء آخر، وقال: (اسمع يا كامل! لقد ألم بالناس هزال شديد، وهو أشد لدى من كانوا أكثر الناس حماسة وأشدهم غيرة، ومن بقى معي منهم موجودون إما أحياء أو تورطاً وإما لعدم وجود وسيلة أخرى، وهي مصيبة ليس لها إلا ربك)
والواقع أنني لم أجد سعداً في حالة من الغم كالحالة التي وجدته عليها في تلك الفترة، ولاحظت ذلك في كتابة تاريخه فقلت: (ما أعرف وقتاً تسرب فيه السأم والتعب إلى بنيته وإلى نفسه كما كان يتسرب أحياناً خلال الفترة من مقتل السردار إلى عودة الحياة النيابية. . . وذات ليلة كان يسأل: ما الذي يبعث القوة في الشعب؟ وكنا ثلاثة على مائدته: محامياً معرفاً والأستاذ عبد القادر حمزة وكاتب هذه السطور، فقال المحامي وظن أنه يرضيه بما قال: يا باشا كلمة منك تبث فيه الحياة الفتية. وأسترسل في مثل هذا الكلام، فنظر إليه سعد هنيهة ثم قال: ما هذا؟ أتريد أن تخطب؟ أتريد أن تتحمس؟ طيب. . . تفضل أخطب وتحمس وانتظر من يسمع
وكانت نفسه برمة جداً بمن يعبثون بهذا الموضوع لأنه كان مهموماً به ولا يطيق الهزل فيه. بل كثيراً ما سمعته يتضجر في تلك الأيام من حب النكتة في الطبيعة المصرية ويقول: لولا أن المصريين يضحكون من زيور وغرائبه لما احتملوا هذا الزمن الطويل)
وبعد فأني أسجل هذه التعقيبات على ما قرأت في فصول الثقافة وفي اعتقادي أن إخواننا الذين احتفلوا بذكرى الزعيم العظيم يرحبون بما فيها من تصحيح لبعض الوقائع والأخبار، إذ كانوا ولا ريب إنما يقصدون إلى تمحيص الحقائق عن ذكراه.
عباس محمود العقاد(375/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
سعد زغلول خطيباً - الخطابة والحديث عند جماعة من رجال
هذا العصر: طه حسين، عبد اللطيف الصوفاني، علي فهمي
كامل، عبد العزيز جاويش، مكرم عبيد، مصطفى النحاس،
محمد حسين هيكل، محمود فهمي النقراشي، محمد محمود،
عبد الخالق ثروت، حافظ عفيفي، طلعت حرب، حلمي عيسى،
عبد الحميد بدوي، علي إبراهيم، نجيب الهلالي، إبراهيم عبد
الهادي، احمد لطفي السيد.
عجب فريق من القراء من حكمنا على الزعيم (سعد زغلول) خطيباً، وهددنا أحد الرفاق الأعزاء بكتابة فصل ينقض به حكمنا من الأساس، وعاتبني بعضهم على ذلك الحكم الصريح فقلت: إنما سجلت إحساسي بصدق، ولا موجب للمواربة في الحكم على خطيب لم تكن الخطابة إلا عنصراً واحداً من عناصر كثيرة تألفت منها قوته الذاتية، فمجده لا يقف عند القول بأنه كان أخطب الخطباء.
وأواجه الموضوع مرة ثانية خدمة للتاريخ الأدبي فأقول:
كان يهمني من عهد بعيد أن أدرس العصر الذي أعيش فيه دراسة صحيحة، وأن أزن المواهب عند من ألاقيهم من أهل الفكر والرأي والبيان، وقد يتفق أحياناً أن أشغل نفسي بدراسة الوجوه والملامح، وربما توغلت فدرست الصلات المجهولة بين ما يُظهر للناس وما يضمرون، فإن رأى بعض القراء خطأ في بعض ما أُصدر من الأحكام الأدبية على أهل هذا الجيل، فلا يرجع ذلك الخطأ إلى المسارعة في الحكم بلا روية، وإنما يرجع إلى أني قد لا أوفق إلى الصواب مع الحرص الشديد على النظر والتدقيق
والحق أني مفتون بنفسي من هذه الناحية، ولا أعترف بأني قد أخطئ إلا تجنباً للوقوع في(375/6)
اللجاجة مع بعض القراء، مع أني أومن بأن الكبر المطبوع أخف روحاً من التواضع المصنوع. وأقول بعبارة صريحة أن التعبير اللساني له فنون، وقد تَدِق الفروق بين تلك الفنون، ثم تَدِق حتى تصبح من العسير أن نضع لها الموازين، ومن هنا ينشأ الخلاف في الحكم على طبقات المتحدثين والخطباء
وأضرب المثل بالفرق بين المحاضر والخطيب، فالمفهوم أن المحاضر والخطابة فنان يقتربان أشد الاقتراب، لأنهما في ظاهر الأمر يرجعان إلى أصل واحد، ومع ذلك نرى القدرة على المحاضرة والخطابة تتفاوت أشد التفاوت عند الرجل الواحد في بعض الأحيان
فالدكتور طه حسين محاضراً يُعد في الطبقة الأولى بين المحاضرين، ولو راعينا أن الدكتور طه لا يستطيع أن يهيئ كلاماً يأخذ بعضه برقاب بعض في دقائق تقارب الستين لجاز الحكم بلا مجاملة بأن الدكتور طه هو المحاضر الأول في هذا الجيل
ومالي لا أقول الحق كل الحق فأصرح بأني لم أشهد في مصر محاضراً يماثل الدكتور طه في جهارة الصوت ونصاعة الأداء؟ ولكن طه حسين خطيباً مخلوق آخر: فهو في الطبقة الحادية والعشرين بين خطباء هذا الزمان، وما سمعت الدكتور طه يخطب إلا أشفقت عليه، فمن العجيب أن الرجل الذي لا يتحبس ولا يتوقف وهو يحاضر قد يتعرض لأبشع ضروب الغي وهو يخطب، فمن أين جاءت هذه الفروق بين الموقفين مع قرب الصلة بين موقف المحاضر وموقف الخطيب؟
أيرجع السبب إلى أن الدكتور طه محدث بارع، والمحاضرة فن من الحديث؟
أم يرجع السبب إلى أن الدكتور طه يجري على فطرته وهو يحاضر فيسلس له القول، ويتكلف وهو يخطب فيمتع (بمزايا) المتكلفين من الفضلاء؟
هذا موضوع يصح للدرس، وهو من الدقة بمكان. وأذكر شاهداً آخر يوضح هذه القضية بعض التوضيح
كانت صحبتي طالت لفقيد الوطنية والدين عبد اللطيف الصوفاني، وكنت أراه أفصح الناس حين يدور الحديث حول المطالب القومية، ثم سنحت فرصة وجب فيها أن يقف ليخطب، فرأيت البون شاسعاً جداً بين الصوفاني المحدث والصوفاني الخطيب، ولعل شاعرنا شوقي راعى هذا المعنى حين قال وهو يرثيه:(375/7)
ما كان قُسَّاً ولا زياداً ... ولا بسحر البيان جاء
لكن إذا قام قال صدقاً ... وجانبَ الزُّور والرياَء
وعرفت خطباء لا يجيدون إلا حين يحفظون خطبهم عن ظهر قلب، ومن هؤلاء المرحوم علي فهمي كامل الذي مات في رثاء شهيد الوطنية محمد فريد
وإنما قضيت بهذا لأني سمعته مرة يخطب نحو ساعتين بلا تلعثم ولا تردد، وكان ذلك في كلية مصطفى كامل في إحدى ذكريات الزعيم الأول، وبعد انفضاض الاحتفال بوقت قصير ظهرت جريدة اللواء وفيها خطبة علي فهمي كامل، فرأيت النص المكتوب عين النص المسموع، بلا تقديم ولا تأخير، وبلا زيادة ولا نقصان
ويؤكد من عرفوا الزعيم الخالد مصطفى كامل أنه كان يحفظ خطبه عن ظهر قلب، ويؤيد هذا خطبته التاريخية على مسرح زيزينيا بالإسكندرية، وهي أعظم خطبه، وبها ختم حياته الخطابية، وأسلوبها يشهد بأنه نظمها نظماً ثم حفظها قبل أن يلقيها على الناس
فكيف كان علي فهمي وهو يتحدث؟
كان أعجوبة الأعاجيب في قوة الأداء، وكان يطبق أسنانه بعنف في المواطن التي تحتاج إلى تأكيد، وكان يحفظ الأرقام مهما بعد عهدها في التاريخ، فلم يكن من الصعب عليه أن يذكر اليوم الذي وقع فيه حادث مأثور في أي عهد من العهود وقد حملته الثقة بالنفس على أن يتقدم للانتخابات في دائرة السيدة زينب منافساً للزعيم سعد زغلول؛ فلما راجعته في ذلك غضب وثار وأعلن أن انتصار سعد عليه أبعد تصوراً من المستحيل!
والمهم هو النص على أن علي فهمي كامل المحدث غير علي فهمي كامل الخطيب، لبعد ما بين الحالتين من العنف واللطف، والفطرة والطبع. ولم أشهد علي كامل يرتجل الخطابة إلا مرة واحدة في نوفمبر سنة 1920 وقد وقف يخطب على قبر محمد فريد وهتف هاتف: يحيا سعد! فاغتاظ الرجل واندفع في تجريح سعد بقوة قهارة فرضت على السامعين أن يلوذا بالصمت والخشوع، في وقت لم يجرؤ فيه أحد على أن يذكر سعداً بغير الجميل
أما الشيخ عبد العزيز جاويش فكان يلقى خطبه بأسلوب المدرس المتمكن، وكان يغلب عليه أن يرد يده إلى أذنه بصورة من يدعو فكرة إلى التجمع، وكان يهتف بكلمة (وَي!) حين يرى المعاني تشرد أمام فكره القناص فترجع إليه وهي أوانس خواضع!(375/8)
وكان الشيخ جاويش حين يتحدث في لحظات الصفاء أحيا من الفتاة البتول، وكان لصوته في أوقات اللطف نبرات عذاب، وكانت له ابتسامة حلوة إلى حد يفوق الوصف، وكان لعينيه بريق جذاب، فإذا غضب فحديثه ونظراته رعد وبرق وصواعق
كنت أدخل عليه في وزارة المعارف بلا استئذان، وكانت الفرص كثيرة لمقابلته، لأنه كان يمكث في مكتبه كل يوم نحو عشر ساعات، فيتغدى في الوزارة كيفما اتفق، ويصلي فيها الظهر والعصر والمغرب، وقد يحلو له الأنس بالواجب فيبقى في الوزارة إلى أن يصلي العشاء
دخلت عليه مرة فوجدت عنده إنساناً منزوياً في إحدى نواحي المكتب ورأيت الشيخ غضبان والشرر يتطاير من عينيه، فسلمت تسليماً مختصراً وجلست
وما هي إلا لحظات حتى انفجر الشيخ كالبركان في وجه ذلك الجليس، فقد صرخ:
(من يتزوج بناتنا إذا جاز لكل شاب مأذون ألا يزور أوربا إلا عاد ومعه زوجة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية؟
إن الأتراك لا يتزوجون بناتنا غطرسة منهم وكبرياء، والمغاربة وهم في مثل حالنا لا يتزوجون بناتنا إلا في قليل من الأحوال
فكيف يجوز لشاب أن يترك بنات وطنه للبوار، وهو يعرف في سريرة نفسه أن الفتاة المصرية معدومة النظائر في الجمال وأدب النفس؟ وما الذي بهرك من الفتاة الأوربية حتى تنسى بها بنت وطنك؟ ومتى يصير أمثالك رجالاً يعتمد عليهم الوطن وقد حرمكم الله نعمة الوطنية؟)
وخرج الشاب وهو آسف. وكانت لحظة صمت توهمت فيها عيني الشيخ جاويش مغرورقتين بالدمع، فطلب فنجان قهوة، ثم تكلف الابتسام، وقال: (لا تؤاخذني، فذلك فتى كان أبوه من أعز أصدقائي، وما كنت أحب أن ينسلخ من وطنه بالزواج من امرأة أجنبية)
ومع أن المسألة فيها نظر، ومع أني كنت أراجع الشيخ في كثير من الشؤون، فقد تخوفت عواقب غضبه إن راجعته في ذلك الشأن الدقيق، ثم انصرفت وقد عرفت أن الشيخ لا يرق ولا يلطف إلا في ساعات الصفاء، وأنه أخطب ما يكون وهو غضبان
أما مكرم باشا عبيد فلم أسمعه يخطب إلا في الحفلات، وهو يحفظ خطبه عن ظهر قلب(375/9)
وقف يخطب في ذكرى 13 نوفمبر أيام الائتلاف، وبعد مدة تزيد على عشر دقائق دخل عدلي باشا يكن ومعه جماعة من الوزراء، فرجع مكرم باشا إلى مطلع الخطبة من جديد فأعادها حرفاً حرفا بلا تغيير ولا تبديل
أما مكرم باشا محدثا فلم أعرفه إلا في لحظات قضيتها معه بشارع ريفولي في باريس سنة 1929، وهو يقبل عليك حين يحدثك إقبال من يهمه أن يظفر بثقتك، فيترفق ويتلطف، ويتنقل من فن إلى فنون، وهو في جميع أحواله خفيف الظل والروح
ولم أسمع مكرم باشا وهو يرتجل لأعرف الفرق بين حاليه في الأداء، ولكن من المؤكد أن حاليه يختلفان بسبب غرامه بالزخرف والتنميق، ومن كان كذلك فأمره في الروية غير أمره في الارتجال
ولم أسمع النقراشي باشا خطيباً، ويقول الذين سمعوه أنه ليس من الخطباء
أما النقراشي المحدث فهو آية في حلاوة التعبير وسلامة المنطق، على شرط أن يكون الحديث في داره لا في وزارة المعارف أو وزارة الداخلية
وهو مرهف العقل حين يتحدث، ولكلامه مذاق خاص لأنه لا يتكلم إلا وهو مبتسم، وقد تعجب حين يحادثك بأن يكون لمثله أعداء، لأنه ينقل أحاديثه عن قلب يفيض بالشهامة والصدق والإخلاص، وإن كَثُر القول بأنه مفطور على العنف والاعتساف
والنحاس باشا خطيباً لا يرضيني، وإن كنت أول من تنبأ بأنه سيكون خليفة سعد، يوم رأيته يصاول زغلول باشا في مجلس النواب، وكنت مضيت مع الأستاذ محمد الههياوي لشهود بعض المواقف المهمة قبل أن يموت سعد بعامين
والعيب في خطبة النحاس باشا يرجع إلى الأداء، لأنه يؤدي المعاني بأسلوب رتيب، ولا يفرق بين مقامات الكلام إلا في قليل من الأحايين، ولو جاز أن نقدم نصيحة لرجل في مثل مركز النحاس باشا لرجوناه أن يرجع إلى باب من أبواب العربية أسمه الوقف!
أما النحاس باشا متحدثاً فهو على جانب عظيم من الجاذبية في أوقات الصفاء، فهو يرسل النكتة المستعذبة بلا تكلف، وهو لكرم طبعه ينسيك أنه من الزعماء، وهو أولاً وآخراً رجل له قلب، على قلة أرباب القلوب في هذا الزمان
فإن تحدث النحاس وهو غضبان فلا تعجب حين يقع منه مالا يرضيك، لأن الغضب يحوله(375/10)
إلى رجل ينكر أن في الدنيا كلاماً يقال وكلاماً لا يقال!
أما موهبة هيكل خطيباً فليست بشيء بالإضافة إلى موهبته في الحديث
يحدثك هيكل باشا وهو (أبن بلد) فتستظرفه إلى أبعد الحدود، لأنه من هذه الناحية موهوب. فإذا خطب وأراد أن يكون (أبن بلد) ضاقت به نفسك، لأن الخطابة لها وقار لا يسمح بالعبارات البلدية، وقد يعدها من الابتذال
ويروعك من هيكل باشا صفاء عينيه حين يتحدث، حتى لتكاد تجزم بأنه الشاب الذي ترفق فأشار في كتابه عن (جان جاك روسو) إلى أنه كان من أهل الفتون يوم كان طالباً في باريس. أما مقام هيكل باشا في الصحافة والتأليف فهو أوضح من أن يحتاج إلى بيان، لأنه في هاتين الناحيتين من أقطاب هذا الجيل.
أما زعيم الدستوريين محمد باشا محمود، فلم أشهده خطيباً إلا مرة واحدة في الخطبة التي قال فيها وهو غضبان:
(نريد أن نعرف لمن الأمر اليوم: ألسعد أم للأمة؟)
وكنت سمعت أنها عرضت قبل إلقائها على الدكتور طه حسين والعهدة على الشخص الذي صحب الدكتور طه أيام سكناه بحي قصر النيل، فهو الذي زعم في جريدة (الإنذار) أن الدكتور طه هو الذي أنشأ تلك الخطبة التاريخية
والذي يرى محمود باشا وهو يتحدث يؤمن بأنه من أفراد الأدباء في اللغة العربية، وكيف لا يكون كذلك وهو من أسلم الناس ذوقاً في الحكم على الأدب القديم والحديث؟
ولم يكن صوت ثروت باشا في الخطابة بالصوت المقبول، كان صوته لوناً من (الصرصعة)، وكان يقرأ خطبه في أوراق مكتوبة بطريقة تشهد بأنه يخشى عادية اللحن والتصحيف
وأعظم خطب ثروت باشا هي خطبته في الرد على معارضيه سنة 1922، وقد صححها المرحوم محمد المرصفي، فشهد التصحيح بأنها استهدفت لطغيان قلمه البليغ
أما ثروت باشا المحدث، فكان من الآيات في عذوبة الروح وقد استطاع بلباقته أن يسيطر سيطرة روحية على الزعيم سعد زغلول قبل رحيله عن هذا الوجود، فلما وقف يرثي سعداً بعد ذلك، قهره القلب الطيب على أن يضيف إلى خطبته سطوراً من الدمع المسكوب(375/11)
ولم أسمع حافظ باشا عفيفي وهو يخطب، أما أسلوبه في الحديث فقد بهر قلبي وعقلي
وطلعت باشا حرب ليس بخطيب ولم يخلق للخطابة، وهو مع ذلك محدث جذاب، وحاله في ذلك يشبه حال الدكتور علي باشا إبراهيم، أو حال عبد الحميد باشا بدوي
ولا أعرف أين يقع مكان نجيب بك الهلالي بين الخطباء، ولكني أعرف أنه محدث ظريف
أما حلمي باشا عيسى، فهو فيض من القوة والفتوة حين يتحدث، وإن كنت لم أرض عن أسلوبه الخطابي حين سمعته في مجلس النواب، ولعل ذلك لأن موقفه كان موقف المقرر لا موقف الخطيب؛ والأستاذ إبراهيم عبد الهادي كان من خطباء الثورة المصرية، وكان يومئذ فصيح اللسان، وكان صدري ينشرح حين أراه على حداثة سنه يتسامى إلى منازل الخطباء القدماء في تخير اللفظ الفخم والمعنى الوهاج، ثم ضاق به صدري حين سمعته يخطب في مسرح الأزبكية بعد الثورة بأعوام، فقد سلك في التحريض على أعضاء الحزب الوطني مسلكاً غير مقبول، ومع ذلك كان يستنفر الجمهور بشواهد من القرآن والحديث!!
وكذلك انصرفت عنه وانصرف عني فلم نكن نتبادل التحيات إذا التقينا مصادفة في الطريق، ثم تعارفنا بعد طول التغاضي حين تلاقينا في المفوضية العراقية منذ أكثر من شهرين فكيف صار إبراهيم عبد الهادي الخطيب؟ أهو كعهدي به قبل عشرين عاماً حين كان يرصع خطبه بالحِكم والأمثال والآيات والأحاديث؟ أم تكون الدنيا راضته على فنون من سرعة القول وبديهة الارتجال؟
يشهد ما أقرأ من خطبه المنشورة أنه لا يفرق كثيراً بين مقامات الكلام: فهو يخطب في مجلس النواب كما يخطب في الحفلات، ومع أن الفرق بين المقامين بعيد. فإن سنحت فرصة لشهوده خطيباً ومتحدثاً فقد أرجع إلى هذا الرأي بشيء من التعديل، ولكن ما أهمية الخطابة والحديث في حيوات الرجال؟
لذلك أهمية عظيمة جداً، فأستاذنا أحمد لطفي السيد باشا مدين لمواهبه في الحديث أولاً وفي الخطابة ثانياً، وأكاد أجزم بأنه يراعي التعبير كما تحدث، ولو كان الحديث أمراً بتقديم القهوة للضيوف، وللحديث عنده ألوان: فهو تارة بالعامية الشرقاوية، وتارة بالفصحى البدوية، تبعاً لاختلاف المقامات، ولهجته البلدية عذبة حلوة تقع من آذان السامعين أجمل موقع، فإذا بدا له أن يعرب فهو أعرابي من مجاهيل البيداء، وهو في حاليه يتكلم بصوت(375/12)
رنان يذكر بألحان يوسف المنيلاوي، إن رضى عن هذا الوصف
ولطفي باشا له تاريخ في الدعوة إلى العامية، ولكنه مع ذلك يكره التبذل والإسفاف في الخطب والمحاضرات، ولو سمعته يخطب لعرفت أن دعوته إلى العامية لم تكن إلا دعابة أراد بها أن يشغل الجمهور عن المناوشات التي كانت تقع بين أرباب الأقلام أيام الصيال بين الجريدة والمؤيد واللواء، فلما جد الجد وصار مديراً للجامعة المصرية أعلن أن اللغة العربية لغة العوام وأنها لا تملك القدرة على التعبير عن أفكار الخواص، وفي حديث أذيع باسمه في مجلة الهلال
أما بعد فأين أنا مما ابتدأت به هذا الحديث كنت أريد أن أشرح كيف اختلفت الآراء في سعد زغلول خطيباً ثم اندفعت إلى شجون من الأحاديث شغلتني عن الموضوع الأصيل، وإن كانت تتصل بي أوثق الاتصال. فإن استطاب القراء هذا الفن من التشريح فسأرجع إليه بعد حين
زكي مبارك(375/13)
أخلاق القرآن
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
أعرض في مقالات قليلة أمهات الأخلاق في القرآن، وكيف بينها الكتاب الكريم وكيف دعا إليها بعد أن أقدم مقدمة وجيزة تبين المقصد الآخر الذي قصد إليه القرآن من تربيته وتعليمه: سئلت عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلوات الله عليه، فقالت: كان خلقه القرآن. فأخلاق القرآن هي التي تجلت في محمد خاتم النبيين وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم من بعد. وإنما يظهر صلاح القانون حين إنفاذه، ويتبين سداد الرأي حين يختبره العمل، ويُعرف رشاد الطريقة حينما تهدي السائرين عليها إلى الغاية المثلى. فإذا أردنا أن نقدر أخلاق القرآن فإنما نتبينها في سيرة من عملوا بالقرآن
كل ما يزدان به تاريخ الإسلام من سير الملوك والولاة والقواد والقضاة والعلماء والصالحين وغيرهم، فهو أخلاق القرآن تتجلى في صور مختلفة. فإن رأيت ملكاً من المسلمين ملك الدنيا ولم تملكه، وسيطر على الأرض ولم تسيطر عليه، فساس عباد الله بعدل الله، وأتعب نفسه لريح رعيته، وراقب فيهم ربه ليله ونهاره، فهذا من أخلاق القرآن. وإن رأيت والياً دخلت الدنيا يده ولم تدخل قلبه وكف يده عن المحارم ولم يأل جهداً في العمل لخير الناس، فهذا من خلق القرآن كذلك. وإن رأيت قائداً يحتقر المهالك، ويقذف بنفسه في المعارك، يفتح البلاد ولا يُعنت العباد، قد ملكت القناعة قلبه ويده، وكفه العدل عن العدوان، فهذا من خلق القرآن في أحد مظاهره. وإن رأيت قاضياً كد عقله في معرفة الحق والتثبيت، وآثر العدل وجانب الجور وأخلص لله فكره وحكمه، وأقض مضجعه عظم التبعة، فذلك من قضاة القرآن. وإن رأيت عالماً توجه إلى الله بفكره، وأدام النظر في ملكوت السماوات والأرض، ودأب في البحث ابتغاء الحق لا يميل مع الهوى ولا يرجو إلا وجه الله فهو من علماء القرآن.
عدل أصحاب السلطان، وجهاد المجاهدين بالحق، وإحسان المحسنين في كل عمل، وطلب الحق والصبر عليه، ودفع الظلم والنفور منه، والاضطلاع بأعباء الحياة، والصبر على المكاره والثبات على الشدائد، كل ذلك من أخلاق القرآن. والخلاصة أن الحياة في أقوى(375/14)
مظاهرها، وأحسن وجوهها، وأعدل سيرها، وأرحم قوانينها، وأجل أعمالها، كل أولئك تقصد إليه أخلاق القرآن.
من يتدبر القرآن يعرف أن القصد الآخر الذي ترمي إليه تربية القرآن هو أن يحرر الإنسان من أهوائه وشهواته، وأن تقوى نفسه بالأخلاق القوية القويمة، وأن يزود عقله بالمعرفة، ثم أن يعمل بهذه النفس المحررة القوية وهذا العقل القويم في معترك الحياة مبتغياً الخير لنفسه وللناس كافة. ذلكم مقصد القرآن فيما يعلم من الأخلاق
يريد القرآن نفساً محررة من الأهواء والشهوات، وسأبين هذا من بعد، ولكني أسارع فأقول هنا: ليس معنى التحرر من الشهوات الحرمان منها؛ فإن القرآن يريد للناس أن يستمتعوا بهذه الحياة، ولا يزوروا عنها ويتجنبوها: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)
القرآن لا يدعو إلى الرهبانية ولا يرضاها، وإنما يدعو الإنسان إلى أن يرمي بنفسه في معارك الحياة مزوداً بالأخلاق القوية الفاضلة، مريداً الخير لنفسه وللناس حتى يعيش راضياً مرضياً. فمن أعتزل معارك الحياة فقد فر من الواجب، وجنح إلى الراحة، وآثر البطالة. وليس تمسكه بالأخلاق الفاضلة بعد هذا إلا كما يتسلح الجندي ثم يترهب في دير. والعبادة الحق في شرعة الإسلام هي الجهاد في هذه الحياة. كل عمران في الأرض، وكل إحسان إلى النفس أو الأقرباء أو الأصدقاء أو عامة الناس أو إلى الحيوان الأعجم؛ كل هذه عبادة يأمر بها الإسلام بل يعدها أفضل العبادات. وقد قال أحد صوفية المسلمين: (ليست الولاية أن يمشي الإنسان على الماء أو يطير في الهواء، ولكنها أن يعمل الإنسان في الأرض فيزرع أو يتجر وينعم بالعيش وهو لا يغفل عن الله طرفة عين) ومن أجل هذا كانت المرابطة في الثغور، أي حماية حدود البلاد، من أفضل العبادات عند المسلمين. وكم يحدثنا التاريخ عن علماء أتقياء أقاموا في الثغور ورابطوا العدو، يرون أن عبادتهم وورعهم لا يغنيان عن هذه الرابطة شيئاً. ولأن المرابطة عبادة سمى الصالحون في بعض(375/15)
البلاد الإسلامية مرابطين وسمى رباطا المكان الذي فيه المتعبدون
إنما يريد القرآن من التحرير من الشهوات أن يسيطر الإنسان على نزعاته فيلائم بينها وبين الحق والخير ويفعل أو يكف حراً بعقله لا عبداً بهواه
مقصد الإسلام الأخير هو تحرير النفس من الأهواء والشهوات وتقويتها بالأخلاق الفاضلة وتحرير العقل من الأهواء كذلك، وتقويته بالمعرفة، ثم العمل بنفس محررة قوية، وعقل حر واسع، في أرجاء هذه الأرض لخير الناس. فأما التحرر من الهوى فقد أمر به القرآن في آيات كثيرة وافتن في الدعوة إليه بأساليب مختلفة. يقول القرآن الكريم: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.) ويقول: (أفرأيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة؟) ويقول: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهوائهم.) ويقول (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.)
أرأيت كيف ينهى القرآن عن الهوى ويعده معطلاً لمعارف الإنسان وعقله وسمعه وبصره ويراه رأس كل ضلالة؟
اشتد القرآن في النهي عن إتباع الأهواء، حتى نهى عن الأخذ بالظن، لأن الإنسان إذا لم يسر على بينة مال به الهوى الخفي وأوحى إليه الظنون المختلفة: فيظن الحق باطلاً، والباطل حقاً، والخير شراً، والشر خيراً، كما ينزع هواه وتميل نفسه. وما أكثر ما نهى القرآن عن الظن، قال: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعد الظن إثم)، وقال: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)، وقال: (ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً). بل بين القرآن أن ضلال الناس ناشئ عن إتباع الظن فقال: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن)
هكذا يشتد القرآن الكريم في الدعوة إلى تحرير النفس والعقل من الأهواء وتبرئتها من الظنون، ليقارب الإنسان الصواب جهده، وتستقيم له طريقة الفكر فطريقة العمل
وأما تقوية النفس وتهذيبها بالأخلاق الفاضلة، فسيأتي بيانه حين نفصل الكلام في الأخلاق التي دعا إليها القرآن. وأما تقوية العقل وتقويمه وتزويده بالمعرفة، فقد دعا القرآن إلى الانتفاع بالعقل والنظر في ملكوت السموات والأرض وجعل الذين لا ينتفعون بعقولهم(375/16)
كالأنعام أو أضل، وقال: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض - أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء - قل سيروا في الأرض فانظروا) ولفت القرآن للناس إلى مظاهر الكون ودعاهم إلى التفكير فيها ليعرفوا أسرارها (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) وكثير في القرآن مثل هذا، وما هذا النظر إلا وسيلة المعرفة، وهل أنتج معارف البشر إلا النظر في ملكوت السموات والأرض؟ ولقد أمر القرآن بالاستزادة من العلم فقال: (وقل ربي زدني علماً)
وأما العمل فهو المقصد الذي يقصد إليه القرآن من تعليم الأخلاق الفاضلة، فالقرآن كما تقدمنا لا يريد رهبانية ولا فراراً من الجهاد ولا خوراً ولا إشفاقاً من الاضطلاع بأعباء الحياة، وإنما يريد العمل والدأب والجهاد. أمر القرآن بالعمل وأشاد بذكر العاملين في آيات كثيرة، وبين أن تدافع الناس سبب لعمران الأرض، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) وبين أن الخير لا يدوم إلا بالدفاع عنه والاجتهاد في حمايته (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره)
ولم يقبل القرآن عذر الأذلاء الذين يعتذرون بالعجز عن العمل أو بتغلب الأقوياء عليهم، وصدهم إياهم عن الخير فقال: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا إليها؟). فهو يدعو إلى الهجرة حيث يستطيع الإنسان العمل (ومن هاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)
ذلكم أجمال الكلام فيما يقصد إليه القرآن من تهذيب النفس وإصلاح الخلق والجهاد في الأرض. وهو الذي بينته أفعال الرسول وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، فقد خلق القرآن الجماعة الفاضلة، وخلقت الجماعة الدولة، وأيدت الدولة الحق والعدل، وسيطرت على الأمم تسموها بعدل الله طوعاً أو كرهاً. ولا تزال دعوة القرآن مسموعة، ولا يزال مثل الناس مضروباً، ولا يزال الأمل معقوداً بأن تحيي هذه الدعوة الأخلاقية الأمم مرة أخرى.(375/17)
لا يزال في هذه الأرض خصب وبركة، ولا يزال في هذا السحاب برق ورعد ومطر، لا تزال في هذه النفوس حياة وفي القلوب خير. وإن مع اليوم غداً وسأبين في المقالات الآتية أمهات الأخلاق في القرآن إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(375/18)
من الأدب الوجداني
(نفثة). . . أخرى!
للأستاذ علي الطنطاوي
توالت عليّ الذكريات، فألقيت كتابي، وأقبلت على ماضيَّ أفتش في حدائقه القاحلة عن وردة اخطأتها رياح الشتاء العاتية، وثلوجه وأمطاره، فتوارت في كنف صخرة، أو في حمى جدار، تكون صورة من الربيع الغابر، فلم أجد إلا رفات الأوراق التي كانت مخضرة زاهية، وهياكل الأشجار العارية التي كانت تلبس من حلل الربيع سندساً وحريراً، وقد خيم عليها الموت، وشملها برده القارس؛ فحولت وجهي شطر المستقبل، فلم ألق إلا ظلاماً فوقه ظلام، ووجدت حاضري راكداً ركود الفناء، ساكناً سكون العدم، فضاق صدري، وأغرقتني في بحرها الهموم، فجعلت أفتش عن رفيق يأخذ بيدي، وصديق أبثه همي، وأشكو إليه بثي، فلم أجد لي صديقاً إلا القراء، أولئك هم أصدقائي الذين لا أعرفهم، ولا أنتفع منهم بشيء، وما لي منهم إلا اعتقادي بأنهم يعطفون عليَّ، ولا يشاركون الحاسدين المؤذين حسدهم إياي وإيذائهم لي، فكتبت إليهم أحدثهم بشكاتي، وأروي لهم ذكرياتي. ولعل هؤلاء القراء يضيقون بحديثي صدراً، ويعرضون عنه ويستثقلونه، ولعل اعتقادي بصداقتهم وهم من الأوهام، غير أنني لا أحب أن أرزأ هذا الوهم، ولا أن أتيقن فساده، لأني أعيش به في دنيا الحقائق المرة. . .
ومن كان مثلي غريباً في بلدته التي يعرف نصف أهلها ويعرفه ثلثاهم، يمشي في المدنية الحافلة بالناس مستوحشاً منفرداً كأنه في صحراء، لا يلقى إلا رجالاً، لا يثني تعدادهم أصابع اليدين يجول في هذه الحلقة المفرغة، لا منفذ له منها ولا مخرج، قد خلت حياته من الفرح والألم، وغدت كالماء الآسن، لا تموج فيه موجة ولا تحركه ريح؛ ومن كان يتمنى أن يجد ما يشغله، ويحرك سواكن نفسه، وما يدفعه إلى الفكر والعمل، ولو كان البلاء النازل، أو الحريق المشبوب، أو النفي أو السجن. . . ومن كان يصبح فلا يدري ماذا يعمل في يومه، وكيف يدفع هذا اليوم، ويمسي فلا يعرف ماذا يصنع في مساءه، وكيف ينام ذلك الليل، ومن يحس بثقل الأفكار على عاتقه، ولكنه لا يجد إلى بثها سبيلاً، ويرى الوقت طويلاً والقوة حاضرة، ولكنه لا يعلم فيم ينفق وقته ويصرف قوته؛ ومن كان منعزلاً مثلي،(375/19)
لا زاهداً في الحياة ولا هرباً من معاركها، ولكن يأساً من مقبل أيامها، وقنوطاً من خيرها، فهو يخلو إلى ذكرياته يتعلل بها ويتمززها، ويحادثها ويناجيها، ويحيا في خيالات ماضيه حين عجز عن الحياة في حقيقة حاضره؛ ومن كان مثلي لا يشكو الفقر في اليد ولا في النفس، ولكن الفقر في العمل؛ ومن كان يجمد بحمد الله من المال ما يكفيه في يومه ويفضل عن حاجته، ولكنه لا يدري ما يكون في غده؛ ومن كانت شكواه فرط الحس، وحدة الشعور، وجحود الناس وكان يشكو دنياه يتقدم فيها الهجين، ويتأخر الجواد الكريم، دنيا فسد فيها كل شيء حتى غدا عقلائها ينتظرون الساعة.
أدرك حقيقة حالي، وفهم مغزى مقالي، ولم يلمني مع اللائمين، ولا كان علي مع العداة الحاسدين. وكم قال لي: ألا تنسى هذا الماضي وتستريح من ذكره؟ ألا تدع المستقبل وتطرح التأمل فيه؟ ألا تعلم أن ما مضى فات والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها؟ فأقول: بلى، إني لأعلم ذلك، ولكن أين السبيل إلى النسيان؟ وإذا أنا نسيت كل شيء، فكيف أنسى أياماً عشتها لم أكن فيها الطائر المقصوص الجناح، ولا الغصن الذي قصفته الرياح، بل كنت أواجه العاصفة أستند إلى الجذع المتين، جذع السنديانة الراسخة، وأطير فوقها بجناحين قويين، فهاض الدهر جناحي، وكسر جذعي، حين أفقدني أمي، وصيرني عرضة للعواصف، وجعلني معها كالريشة لا تستقر على حال من القلق والذعر والاضطراب. . . وكيف أنسى أنه لو عاش أبي العالم الوجيه ذو المرتب الضخم ولم تخترمه المنية شاباً، لاحتمينا به من كيد الحياة، ولنشأنا في ظله كما ينشأ الفرع اللين وسط الدوحة القوية الممتدة الأفنان، ولما اضطررنا إلى مواجهة الدنيا، والتمرس بنكباتها، ومعرفة لؤم أهلها، ونحن فتية صغار، أطهار القلوب، مبرؤون من الذنوب، لا نلبث حتى نتلوث بأوضار الكيد والمكر، ونتلقف مبادئ (علم الحياة. . .) كما يتلقف الصبي المخطئ مبادئ (فن الجريمة) في السجن الأول، فلا يخرج منه حتى يحمل شهادة البكالوريا في الإجرام.
وكيف أنسى ما نثرت من قطع قلبي، وفلذات كبدي، في أرض الله الواسعة التي لا ترعى حق العواطف، ولا تحفظ عهد القلوب، في سفح قاسيون الحبيب، وفي الغوطة الغناء. . .
وفي حرش بيروت الذي يميس صنوبرة ميسان الغيد الحسان، وقد خرجن متبرجات، ينظرن إلى مياه البحر بعيون لها زرقة ماءه، وله سرارها بعد قراره. . . ذلك الحرش. . .(375/20)
لي تحت كل شجرة منه ذكرى لا يدريها إلا الله وقلبي وذلك القلب الذي سلا وقلى. . . وما سلوت ولا قليت، وما أذعت له سراً ولا أفشيت.
وفي طريق صيدا، كم صببت من العواطف، واستودعت من الذكر؟ سلوا تلاميذي طلاب الكلية الشرعية في بيروت، ألم يشهد لنا هذا الطريق أنا كنا خير من مر به من إخوان متوادين، قد جمعت صداقتهم قلوبهم فمزجتها كلها، ثم قسمتها، ثم أعادتها إليهم، فعاشوا جميعاً بقلب واحد، والأصدقاء يعيشون بقلوب شتى.
هؤلاء الأخوان الذي وفيت لهم فوفوا لي، وأحببتهم فأحبوني، ورأيت منهم لما رضيت فيهم ما لو تخيله القصصي الأديب لاستُكثر وعد مبالغة من المبالغات.
وفي العراق كم خلفت من حياتي، وما الحياة إلا خفقات القلوب، وتردد الأنفاس، ومظاهر العواطف.
على طريق الأعظمية، وفي الكرخ الأقصى في حي الجعيفر، وعلى الجسر في الأعظمية، وفي البصرة، وفي كركوك، بقع أعزة علي وقوم أحبة إلي، لولا خوفي من ألا يصدقوني لحلفت لهم أنه لم يطب لي بعدهم عيش، فهل يكتب الله العودة لتلك الليالي، فيجتمع الشمل، ويلتئم الصدع، وتلتقي الذكريات بالآمال؟
إني أسأل الله، فنبئوني، هل مد يده أديب بغداد الأستاذ الأثري، فقال: آمين؟
يقولون لي: انس، ولكن كيف السبيل إلى النسيان؟
وكيف أنسى أيامي في مصر، مصر التي محت صورها السنون من نفسي، فلم يبق منها (ويا أسفي!) إلا صورة ميدان باب الخلق مجازي في غدوي ورواحي، وحديقة الاستئناف التي كنت أتأملها وأنا في المطبعة (السلفية) عند خالي، والتي استودعتها من العواطف عداد أوراقها وأزهارها وحبات ترابها، ودار الكتب التي كان بها الشاعر الكبير حافظ رحمه الله، وشارع محمد علي، والعتبة الخضراء (الضيقة) التي لم تكن تخلو يوماً واحداً من ميت مدعوس، وصورة زقاق حوله أنقاض مهدمة ومنازل حقيرة بالية، كنت أمر به كل يوم في ترام السيدة، في ذهابي إلى دار العلوم وعودتي منها، يسمى شارع الخليج، زعموا أنه صار اليوم شارعاً عظيماً، وصار به بنيان. . . وجسر الزمالك حيث كان يطيب لي الوقوف بازائه كل مساء، أتبع ببصري الشمس الغاربة، علي أرى فيها صورة بلدي دمشق، فلا(375/21)
أرى إلا بريق الشعاع الحاد يتكسر خلال الدموع التي تملأ عيني، دموع ابن العشرين، وقد هاج في نفسه الشوق الذي يسميه لامرتين (مرض السماء) لو كان في السماء أمراض.
وصورة حديقة الجيزة، التي كنت أقضي فيها الساعات الطوال، آنس بوحوشها وهوامها، وصورة بستان إلى جانبها فيه عمال يبنون، قالوا: وقد تم البناء، وصار شيئاً عظيماً يدعى جامعة فؤاد الأول، والله أعلم بصحة ما قالوا.
صدقوني إذا قلت لكم إني آسف على شيء مما صنعت في حياتي أو تركت أسفي على ترك مصر، ولا أطمع في شيء طمعي في العودة إليها والحياة فيها، فهي التي سددت خطواتي في طريق الأدب، وهي التي علمتني، وهي بلد أسرتي، وهي التي جعلتني قبل اثني عشر سنة أكتب وأنشر الفصول في أكرم المجلات، حين كان هؤلاء المحترمون من تلاميذ الشيخ مارسيه على مقاعد المدرسة الابتدائية.
أفليس عجباً أني على حبي لمصر كنت في نظر بعض زملائنا المدرسين المصريين في العراق، عدو المصريين رقم (1)؟ سامح الله زملاءنا هؤلاء، وغفر لهم ما كادوا لي ومكروا بي، وغفر لي ما آذيتهم بلساني السليط!
وكيف أنسى ما أضعت على نفسي من خير، وما عرض لي من فرص فما افترصتها؟
إن من رفاقي في كلية الحقوق من هم اليوم من كبار المحامين الذين يشار إليهم، ومن ينال على وقفة واحدة في المحكمة مائة جنيه في دمشق الفقيرة، فلماذا أعرضت عن المحاماة لم أشتغل بها، وأقبلت على مهنة آخذ فيها خمسة جنيهات على مائة درس ألقيها على أربعين طالباً، يحتاج إسكاتهم وضبطهم إلى شرطيين مسلحين بالبنادق الرشاشة. . .
وإن من رفاقي في الثانوية من هو اليوم ناظر ثانوية كبيرة، وأنا أستاذ معاون، فلماذا درست الحقوق إذا كانت الوزارة لا تعرف أقدار الرجال إلا بما يحملون من شهادات الاختصاص، وكان صاحب اللسانس في الحقوق لا يعد أديباً في نظرها ولو كان شوقي زمانه، أو رافعي أوانه، وترى صاحب اللسانس في الأدب أديباً ولو كان أعيا من باقل، وأجهل من جاهل؟. . . وكيف أنسى أني كنت من عشر سنين أقود طلاب دمشق كلهم، وأغامر بهم في ميادين السياسة، وأني لو شئت لكنت نائباً من زمن طويل. إن الناس لم ينسوا ذلك فكيف أنساه أنا؟ إنهم يعلمون أن في قميصي خطيباً ما يقوم له أحد في باب(375/22)
الارتجال والإثارة، وإيقاظ الهمم وصب الحمم، ولكن من الناس من يعقد الحسد ألسنتهم عن شهادة الحق.
أستغفر الله فما أحب الفخر، ولكني اضطررت فقلت، وهل أسكت إذا سكت الناس عن بيان حقي؟
إن للمظلوم كلمة وهذه إحدى كلماتي، فإن كانت فخراً فقديماً كان الفخر من فنون الأدب العربي، وإلا فهي ذكرى وتاريخ لأخلاق الناس وأطوار المجتمع.
وكيف أنسى أني بين ماضٍ أضعت فرصه ونسيت ذكرياته وفقدت فيه ذخراً من العواطف الجياشة والشعور المضطرم، وحاضر بددت أيامه بالرجوع إلى الماضي، وصرفت بكره وعشاياه في نبش الذكريات والبحث في أطلالها عن الجواهر والكنوز. . . فما كان إلا أن دفنت فيها كنز حياتي وجوهر عمري - ومستقبلاً لم اعد أرجو منه شياً، لأني يئست من أن ينتابني منه خير.
ومن يصدق أني أتمنى لو كنت غبياً جاهلاً عيياً لأستريح وأهنا، لأني وجدت الذكاء يدفع إلى الألم ويؤدي إلى الشقاء؛ وأني لأهمل القراءة عمداً كي أنسى ما علمت فأغدو جاهلاً فلا آلم إن تقدمني الجهال من أمثالي، ولا ألوم الحياة على ظلمها إياي، فلا أستطيع، وأراني مدفوعاً إلى الازدياد من هذا العلم. . . كأن القدر يسوقني بعصاه إلى الاستكثار من القراءة فأزداد بذلك علماً فأزداد بالعلم ألماً حين أرى علمي وبالاً علي وأرى الجهال يسبقونني ويسرقون منزلتي؛ ولو أني استبدلت بإحياء الليالي في المطالعة والدرس وثني الركب بين أيدي العلماء رحلة واحدة إلى (تلك) الديار أعود منها بعد شهرين بشهادة اللغة العربية لم تكتب سطورها بالعربية لكان ذلك خيراً لي وأجدى علي من علوم الأرض كلها لو حصلتها. ولكني كرهت أن أتوكأ في سيري إلى غايتي على غير أدبي، ونزهت نفسي عن أن أجعل عمادي ورقة صار يحملها الغبي والعمي والجاهل واللص الذي يسرق مباحث الناس ويسطو على آثارهم. إن عمادي هذا القلم، وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن يستحقها، وإنه لحطبة مشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم. . .
ولكن ما الفائدة من هذا الكلام؟
ما الفائدة وقد ولى ربيع حياتي، وأدبرت أيامي، واستبدل قلبي بالأصيل المذهب ليلاً حالك(375/23)
السواد؟ لقد شخت حقاً، وصرت كالعجوز الذي حطمه الدهر، وفجعه في أولاده فسيره في مواكب وداعهم الباكية، وما أولادي إلا أماني، وما قبور الأماني إلا القلوب اليائسة.
فيا رحمة الله على تلك الأماني!
يا رحمة الله على الأيام التي كنت فيها غراً مغفلاً أصدق كل خداع كذاب يزعم أن في الدنيا فضيلة وخلقاً وأن قيمة الإنسان بما يملكه منهما. . . لقد خدعني المعلمون والأدباء، فلماذا أخدع تلاميذي؟ لماذا لا أقول لهم: إن المكر والكذب والنفاق هي في شرع الحياة فضائل، فأعدوا قواكم لإصلاح المعوج من شرائعها، أو فانزلوا على حكمها، فخاطبوها بلسانها، وادخلوها من بابها؟
إن المربين والمعلمين سينكرون ذلك ويكبرونه ويرونه إفساداً لعقول الناشئة، فليكن إذن ما يريد المربون والمعلمون!
يا رحمة الله على تلك الأيام ومن يعيدها إلي؟ من يرجع إلي ثقتي بالحب واطمئناني إلى الكتب وسكوني إلى الناس؟
كنت أرى الحب أساس الحياة، عليه قام الكون، وبه استمر الوجود، وكنت أومن به فغدوت لا أومن إلا بالبغض، وصرت أحب أن أبغض، وأبغض أن أحب.
فمن يدلني على مصنف في أساليب البغض حتى أتقنها وأفهمها فأبغض الناس كلهم؟ أبلغ الجفاف في القرائح والجدب في العقول ألا يصنف كتاب واحد في (البغضاء)، وقد ألف السخفاء ألف ألف كتاب في الحب؟
لا، بل من يرشدني إلى الفرار من مهنة الأدب والتخلص من الحب والبغض والعواطف كلها؟ من يحسن إلي فيدعو لي بظهر الغيب أن يصحح الله عزيمتي على ترك الأدب، أو ينقص من شقائي به؟ لقد أعطيت عدة الأديب، ولكن الناس آذوني حتى أهملت عدتي فأسلمتها إلى الصدأ، فأكلها، ففنيت غير مأسوف عليه، لا يأسف الناس لأنهم هم الآلي أفنوها، ولا آسف أنا لأني لم أنل منها خيراً.
فلا يغضب القراء إذا أنا ودعت الأدب بالتحدث عن نفسي، فإنما أرثيها قبل موتها، أرثي مواهبي المعطلة، لقد مت، فدعوني لا تؤذوني بالانتقاد البارد، اذكروا محاسن موتاكم، وإذا لم تكن لهم محاسن فعفوا عن ذكر مساويهم.(375/24)
ولا تنفسوا على أخيكم (نفثة) يزيح بها عن صدره هماً ثقيلاً!
علي الطنطاوي(375/25)
كلمة أخيرة
من عجائب الاجتهاد
(لناقد أديب)
كتبت عن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد في مسرحية مفرق الطريق، فكان من عجائب الفهم الذود عنها بمثل ما كتبه الأستاذ طليمات. وهو يعتذر عن المؤلف بقوله: إن المعاني والفكر المتداولة أشياء يشترك فيها جميع الناس، وإنما العبرة بطرائق معالجتها، إلى آخر ما كتبه في هذا المعنى. وقد حمدنا للأستاذ هذا الرأي لأنه اعتراف مهذب بما كتبناه عن هذه المسرحية المصنوعة من قصائد الشعراء، لولا حديث عن المذاهب الفلسفية موسوم بطريقة المؤلف وأسلوبه في اللف والدوران، رأيت أن من حق القراء علي ألا أخدعهم به عن الموضوع، وألا أخدع نفسي به عما سقت الدليل القاطع عليه من كلام المؤلف نفسه، وكيف أن مسرحية (تخريمة) في الفلسفات وحشو من عفو التأليف.
فلما تحدث الأستاذ الكاتب عن (كانت) و (برجسن) قلت: إن غاية هذين المذهبين في الفلسفة هي الوصول إلى المعرفة وحقائق الأشياء وما وراء الطبيعة، وإن الخلاف بينهما في الأداة أو الوسيلة، فإذا كانت بصيرة (برجسن) قد عملت عملها في المسرحية كما يقول الأستاذ طليمات، فإن القمة الباردة التي تدور حول فلسفة (كانت) قد عملت عملها الواضح في هذا السبيل، وأبرزت أثرها الملموس حتى طمرت المسرحية بثلوجها. وقلت أيضاً إن بصيرة برجسن تستعين بالعقل وليست ضرباً من الهذيان الذي يضطرب في جوانب المسرحية، ودللت على هذا الخلط فعرضت للمؤلف كلاماً بنصه، فإذا هو مذهب فلسفي آخر، وإذا هذه المذاهب الثلاثة تتلاقى على غير هدى وإتقان، ويقوم إلى جانبه رأي آخر يعتذر فيه الكاتب عن المؤلف في اقتباسه صورة الصراع بين العقل والشعور فيشير إلى ذلك وإلى الصراع بين المادة والروح، ويعرض أسماء بيراندللو وإبسن وشكسبير وراسين؛ فرأينا أن نكتفي بواحد من أولئك الأعلام نضمه إلى كانت وبرجسن والسوليزم إرضاء للأستاذ طليمات وتخريجاً لمنطقه؛ فإذا هذا الخليط العجيب مصدر إزعاج للكاتب، وإذا به يتهمنا بما لم نقله إلا إرضاء له وإعجاباً به وهو يتشبث بما يظن فيه النجاة من هذا المضطرب.(375/26)
وجاء الكاتب في مقاله الأول يقول: إننا حاولنا أن نقرب المسرحية من قصيدة العقاد فنسبنا تصميم غلاف المسرحية إلى بشر فارس وهو من صنع فنانة باريسية؛ فقلنا: إن هذا الرأي المعتذر الدليل كل الدليل على صحة ما ذهبنا إليه، لأن الفنانة الباريسية بعد أن قرأت هذه المسرحية العجيبة وهضمتها وتأثرت بها وأرادت إبراز فكرتها مصورة، لم تجد غير قمة باردة منارة، وطريق صاعد بين الصخور ومنحدر إلى غور؛ وإذا قصيدة العقاد مصورة على غلاف المسرحية، وإذا المؤلف في ختام مسرحيته يقول بمثل ما قال به الأستاذ العقاد في ختام قصيدته، وهو يدعو إلى النزول والانحدار وترك هذه الثلوج.
وقد يلذ لحامي المسرحية أن يسوق دعواه بأنه يقرر مذهباً فلسفياً فأنكرنا عليه هذه الدعوى، لأن المسرحية جاءت خليطاً من فلسفات شتى كما أسلفنا القول على ذلك؛ وهكذا أطرد سياق المسرحية في أسلوب من التعسف إلى غير هدف صميم من المذاهب الفلسفية التي أقتحم عليها فظلمها وإن كانت قد تأبت عليه إحدى قضايا النفس البشرية المشتركة بين جميع الأحياء، ولا يستعصي فهمها على الدهاء
هذا من حيث الفكرة! فماذا من ناحية الأسلوب؟
لقد نهج المؤلف نهجاً ساذجاً في الاقتباس: فهو من الجهة الواحدة قد اقتطع الأستاذ العقاد في إيراد فكرته بقصيدة القمة الباردة، فعالج موضوعه على نفس الأسلوب صاعداً إلى القمة المثلوجة وهابطاً إلى الغور المظلم، ولو أنه كان مبدعاً في نهجه لأتخذ سبيلاً آخر وراح يناوح جنبات فكرته بين الشاطئ المؤنس وبين مضارب الصحراء مثلاً! بل إنه أمعن في هذا الاقتباس الغريب المريب فراح يعرض فكرة الصراع بين العقل والقلب على النمط الذي نهجه الشاعر علي محمود طه في قصيدة قلبي إذ صب معانيه في قالب ألفاضها دون أن يصوغها في قالب آخر؛ فهو يعمد إلى قوالب النار والظلمة والاحتراق دون أن يلجأ إلى صيغ جديدة تضفي على فكرته مسحة الأصالة شأن من يمتازون بشخصيتهم الأدبية المستقلة، وفضلاً عن ذلك كله فقد أثقل المؤلف بأسلوبه على مذهب الرمزية، وطغى عليه حتى مسخ طبيعته وشوه فضيلته وأفسد غايته. ذلك أنه تطاول على هذا المذهب إلى حد المواءمة بين المطبوع والمصنوع، ولقد وضحنا أن الأصل في الرمزية أن تنشأ مع النفس وفي التفكير، لأنها التعبير عما وراء الطبيعة، أو ما وراء أفق الشعور بما تعجز الألفاظ(375/27)
عن إبانته والإفصاح عنه، بينما تعالج المسرحية قضية بسيطة ومعاني عادية يجب أن تلتزم مكانها من التعبير المباشر الصريح دون إبهام أو إيهام، وضربنا في ذلك المثل بالمقبرة البحرية. ويمعن الكاتب في التطبيق الأعرج، فيعكس على نفسه الغاية إذ يصعد إلى الثلج مريداً خلاص النفس من ألم الإحساس البشري قياساً على الفكرة التي رمز العقاد إليها بالثلج مريداً (الإدراك المجرد) فأخذنا عليه اعتسافه في التطبيق على (النفس) هكذا إذ يحرمها بطريقة (استبدادية عرفية) حظها المقسوم المحتوم من الشعور باللذة أو الشعور بالحياة.
ذلك شأن المسرحية وشأن المدافع عنها، وقد عز علينا أن يخونه التوفيق في محاولاته العجيبة في نواحيها الأخرى، من ذلك أنه انتهج طريقة المداورة فأسرف على نفسه حين تكلم عن حظ الأدباء من الفلسفة وما يجب أن يأخذوا به أنفسهم، وتلك بديهة لا خلاف عليها، وإن كنا نعجب له بعد ذلك حين أخذ نفسه بالاعتذار عن الأستاذ العقاد قائلاً: (لا لوم ولا تثريب على أستاذنا العقاد أن يورد قصيدة من شعره تحمل في طياتها نزعات فلسفية لمدرسة معروفة) كأنما العقاد قد أتى بهذا ما يعاب، ولكنه الخلط ومجرد الكلام بما لا يجدي في دفع الإقحام.
ويزعم الأستاذ طليمات أننا قلنا إن المذهب الرمزي في الأدب ليس إلا ضباباً كثيفاً من الإبهام والإيهام، وتلك دعوى باطلة مردودة لم نقل بها وإنما هي من بدائع مخيلته، وهو يعود في مقاله الأخير إلى بصيرة برجسن بكلام لا يخفى مغزاه على المشتغلين بالأدب والفلسفة. ولقد عجبت له وايم الحق وهو يشفق (أن تسوخ قدمه) فينكر الفلسفة على (إبسن) بحجة جريئة هي أنه (ليست له مدرسة فلسفية بمعالمها وحدودها) ورحم الله فلسفة الاجتماع!
ولسنا من أصحاب الدعوة السياسية نريد أن نؤلب بها الجماهير أو نقود الدهماء، وإنما نتحدث إلى العقول والقلوب ونسوق الدليل ونأتي بالبرهان، وإنما هو حديث الأدب الخالص الذي يتناول الدرس والاستقراء بالبينات دون الشبهات ويعرض لآثار الأدباء دون ذواتهم
فالذاتية لا اعتبار لها في هذا المجال، وهي لا ترفع من قدر الكاتب إلا بمقدار ما يصيبه(375/28)
القراء في بحثه من الأدب الخالص والفكر الناضج والعلم الصحيح.
ناقد أديب(375/29)
رسالة الشعر
ثلاث عشر حجة
للأستاذ الكبير عباس محمود العقاد
مرَّت بناِ الأيامُ وَثْبَا ... سِلْماً كما شاءت وحَرْبا
لا أحسنَتْ حَرباً، ولا ... في السِّلم، طاب السلُم غِبَّا
ضَمِنَتْ لجيشَيْها مًعا ... غَصْبا كما اشتهيا، وغَلْبا
فإذا الحوادثُ أقبلت ... أو أدبرت، فالْخَلْقُ نُهبَى
ألعامُ من أعوامنا ... يحوى - جزاه الله - حُقْبا
وثلاثَ عَشْرَةَ حِجَّةً ... قلبتْ طِباقَ الأرض قَلْبا
سَلْها عن الدنيا وما ... صنعتْ بها شرقاً وغربا
سَلْها عن الوادي وما ... صنعتْ به دفعاً وجَذْبا
لا ضَيْرَ بالماضي إذا ... دارَ الزمانُ فطاب عُقْبَى
فألاً من الذكرى، وكم ... فألٍ طوَى في الغيب حُجْبا
وهدايةً منها وقد ... تَهديك في الظَّلماء قُطْبا
يا سَعدُ يومك، فاستجب ... قلباً لمن يدعوك قلبا
جرَّد عزيمتك التي ... أغنت عن الصَمصام غَرْبا
وابعث نصيحتك التي ... أغنت من التِّرياق طِبَّا
وانشر فرائدك التي ... أغنت من العِقيان كَسْبا
هذا نذير الشر هَبَّا ... وإلي حَمِى مصرَ اشرأبَّا
وسَرَتْ إلى إِفرِيقِيا ... عَدْوَى الجهالة من أُرُبَّا
طمعوا بَحوْزة أمةٍ ... ظنوا لها الغفَلاتِ دَأْبا
إن قيل لا خطرٌ غفتْ ... عيناً، وتاهت عنه لبَّا
أو قيل لا طمعٌ فلا ... طمع، وقَرَّت مصر سِرْبا
أو قيل يا أمم انهضي ... نهضت وراحت مصر تأبى
تجري المخاوف حولها ... وتخاله الأمن استتبَّا(375/30)
يا سعدُ أنت إمامُها ... فاهتِف بها مَلأً وشَعبا
صدَعَ الشقاقُ صفوفَها ... وجمعتَها بالأمس حِزبا
فاجمع جوانبَ رأيها ... شِعْباً على الْحُسنَى فشِعْبا
قل أنتمو أعلى يداً ... من عابِدِي الإنسان رُهْبَي
ذَلُّوا فلما استرسلوا ... تاهوا بقيد الذل عُجْبا
وإذا أتَوا عددَ الحصى ... فرمالُكم أوفَى وأرْبى
جَدْبٌ من الصحراء أغل ... ى من جَحيمِ الرَّوض تُرْبا
ظمآنْ يشرب كلَّ من ... يُغرى بكم أكلا وشربا
وقل استعدوا واسلكوا ... في مفرِق الحدين دَرْبا
لا تُصْغِروا هَوْلاً ولا ... تستكبروا الأهوال رُعْبا
وتبينوا أين الفري ... قُ الحرُّ فاتخذوه صَحْبا
دارُ الذين سَبَتْهمُ ... حريةٌ - هيهات تُسْبَى
ضِنوا بمصر على العدى ... وعلى الذي يحتال خِبَّا
وحَذَارِ دعوى معشرٍ ... لم يؤمنوا بالحق رَبَّا
لا رحمةً عرفوا ولا ... عرفوا لغير الشر حُبا
القدوةُ العُلْيا لهم ... وحشٌ على العُدوان شَبَا
عقدوا على البغي العُرَى ... تَبَّتْ يَدُ الباغي، وتَبَّا
يا آل مصرَ تذكروا ... سعداً ففي التَّذكار قُرْبَى
إني استعرت بيانه ... فَعلَّى إن قَصَّرْتُ عُتْبَى
إلا اللبابَ، فإنني ... في الرأي ما أخطأت لُبَّا
سعدٌ إذا أمضى مضى ... وإذا دعاه الهول لَبَّى
عباس محمود العقاد(375/31)
نجوى!
مَرْثِيَة زَهْرَة!!
(عثر الشاعر في رسائلها الحزينة على زهرة ذابلة عادت بها
سنين الفرق وهي هامدة مفطورة ينفح رفاتها عطر الفناء!!)
يا ابنَةَ الماضِي وما الماضي سِوَي ... نَعْشِ أَحْلاَمِي إلى الْقَبْرِ يَسِيرُ!
إِنْ يَكُنْ ماتَ بَدُنْيَاِك الهَوى ... فَهْوَ في دُنيايَ لَفْحٌ وَسَعِيرٌ
في دَمِي مِنْهُ عَذابٌ وَجَوَى ... وَعَلَى الأنفاسِ وَجدٌ مُستطيرُ
وَعَلَى أيَّامِيَ السُّودِ فُتورُ ... كالّذي نفضهُ الْموتُ عَليكِ
فاسْأَلي عَنهُ تُناجيكِ الْعطورُ ... إِنْ يَكنْ فيها بَقياتٌ لَديكِ
مَا لأِوراقكِ في الصَّمتِ حَزانى ... ثَاكلاتِ الْعطرِ شَلاَء الرَّفيفِ
غَارقاتٍ في الضَّنى تَبْكِي حَنانا ... وَبكاءُ الصَّمتِ سُلوانُ الضَّعيفِ
أَتُراها نَقلتْ عَنِّي الْهَوَانا؟ ... واسْتعارتْ شَجَنَ الْقلبِ اللَّهيفِ
أَمْ تُراها شَرِبتُ كَأْس الْخَريفِ ... حِينما طَاف بها سَاقي الرِّياحِ؟
حَشرجتْ مِنها وذابتْ في شُفوفٍ ... خَضبتْ أسْتَارَها كَفُّ الْجِراحِ
اذكُري يا زَهْرةَ الذِّكْرَى غَرامِي ... وَهوَ دُنْيايَ وَديني في الحياةِ
يَوْمَ فَتَّحتِ لِصَفْوِي وَابتِسامِي ... وَتَطَهَّرْتِ بِنَارِ الْقُبُلاَتِ
وَانْتَشَى عِطْرُكِ مِنْ سِحرِ اُلْهيامِ ... فَغَدَا أَحْلاَمَ نُسْكٍ في صَلاةٍ
طاهِرَ الأنْفَاسِ عَفَّ النَّفَحَاتِ ... أَيْنَ مِنْهُ رَشْفَةٌ لِلظَّامِئِينْ؟
أَنَا وَالشِّعْرُ وَحُبِّي وِفَتَاتي ... قَدْ حُرِمْنَا كأْسَهُ خَمْسَ سِنِينْ
قد حُرِمْناها! ولم يَبْقَ لَدَيْنا ... غَيْرُ طَيْفٍ مِنْ رُفَاتِ الذِّكريَاتِ
كلَّما أَوْمَا إلى الماضِي بَكَيْنا ... وَدَفَنَّا حَظَّنا في الْعَبَرَاتِ
ثم عُدْنا والْهوى بين يدَيْنا ... كِجِناَز الصَّمْتِ بين الفلَواتِ
عودةَ الْعِطْرِ لتلْكَ الورقاتِ ... هُوَ حيُّ وهي في الأكْفانِ غَرْقَى
فارْقُبِي يا زَهْرَةَ الذِّكْرى مَماتي ... نَضَبتْ روحي وذابَ الْعمْرُ شَوْقاَ!(375/32)
محمود حسن إسماعيل(375/33)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
ذكرنا في كلمة سالفة أن الترف مفسد للأمم وأن التقشف مقوٍ لها، وأن الترف نتيجة طبيعية للغنى، وأن التقشف نتيجة طبيعية للفقر، ونريد الآن أن نعلم لماذا كان الترف مضعفاً للأمة كاسراً لحدها، ولماذا كان التقشف مقوياً لها. لعل ذلك يرجع إلى ما يأتي:
1 - إن المترفين لا يباشرون حاجاتهم بأنفسهم بل يتولاها لهم غيرهم، والعضو الذي لا يعمل يفقد قوته، وربما مات. لذلك تضعف أعضاؤهم وتفتر قوتهم؛ وقد قال بعض العرب: ما وددت أني مكفي المؤونة. قيل له: ولم ذاك؟ قال: أخاف عادة العجز. أما الفقراء فهم لحاجتهم يتولون الأعمال الجالبة للرزق فتقوى بذلك أجسامهم وعقولهم، فحيث ترى قوماً يعملون رأيت السواعد القوية، والصحة والعافية والعقول الخصبة والأفكار المنتجة. وحيث رأيت قوماً مكفي المؤونة رأيت الأجسام الضعيفة والفتور العقلي.
2 - إن المترفين ينغمسون في الشهوات، ويكرهون المشقة، ويخافون الخروج من عيشة الدعة؛ فهم دائماً مخلدون إلى الأرض، لا يرفعون رأساً، ولا يسمون إلى مكرمة؛ فإذا رأوا طريقين: أحدهما شاق وعلى رأسه العزة، والثاني سهل وعلى رأسه الذلة، اختاروا أسهل الطريقين ونفوسهم دائماً تكذبهم وتختار الأسهل، وتزعم أنها اختارت ما فيه الخير؛ فإذا توقفت حياتهم وعزتهم على حرب يخوضونها عللوا نفوسهم بالأماني وسوفوا، فإذا اضطروا إلى خوضها ورأوا طريقاً للنجاة منها ولو بوعود كاذبة يبذلها العدو، صدقوا هذه الوعود وخدعوا أنفسهم. أما غير المترفين فهم لا يبالون الشدائد لأنهم أبناؤها، فإذا رأوا طريقاً للمعالي سلكوه ولو كان فيه الموت جاثماً، وإذا رأوا طريقاً للمخازي نبذوه ولو غرست فيه الورود والرياحين.
من أجل ذلك ترى الذين يخافون عاقبة الترف يكلفون أنفسهم أعمالاً جسدية شاقة لتقوي أبدانهم.
روي أن عمر بن الخطاب قدم إليه فرسه وعليه الركاب فنحاه عن فرسه وكان يقفز من الأرض، فإذا هو على ظهر فرسه، فكأنما خلق عليه.
محمد عرفة(375/34)
رسالة الفن
في الفن والتربية
مدرس الرسم
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لي صديق زرته، فرأيت أبنه يرسم باذنجانة؛ فسألته لماذا يرسمها فقال لي:
- أستعد لامتحان الملحق
- وهل وقعت في الرسم؟
- نعم.
- وحده؟
- وحده.
- مسكين. على أي حال الرسم هين، وتستطيع المثابرة الخفيفة أن تتقنه بالقدر المطلوب منك
- إني أرسم كل يوم مائة باذنجانة، ومائة قلة، ومائة طربوش، ومائة صندوق مفتوح، ومائة صندوق مقفل؛ ومع هذا فإن أبي لم يرض عن رسم واحد مما أرسم، فاصنع في أنت معروفاً، وقل لي كيف أرسم وكيف أتقن الرسم
- ألم يقل لك معلمك الذي كان يعلمك الرسم في المدرسة كيف ترسم؟
- قال كثيراً، ولا زلت أحفظ ما قال حتى إني لأضمن النجاح في الرسم لو أنهم امتحنوني فيه امتحانا شفويا.
- اسمعني ما قال معلمك. . .
- قال يا سيدي: إن الشكل إما أن يكون في مستوى النظر وإما أن يكون فوق مستوى النظر وإما أن يكون تحت مستوى النظر، فإذا كان في مستوى النظر رسمناه مستقيماً، وإذا كان فوق مستوى النظر جعلنا جزءه الأسفل هو القاعدة واتجهنا بخطوطه بعد ذلك إلى نقطة تقع فوق هذه القاعدة وتلتقي فيها هذه الخطوط، وإذا كان الشكل تحت مستوى النظر جعلنا جزءه الأعلى قاعدته واتجهنا بخطوطه بعد ذلك إلى نقطة تقع أسفل هذه القاعدة(375/36)
وتلتقي فيها هذه الخطوط. . .
أرأيت الآن أني أحفظ الرسم عن ظهر قلب. . . وليس هذا فقط. . . وإنما قال لنا أيضاً: إن الضوء إذا كان آتياً من اليمين فإن الظل يكون في الشمال، وإنه إذا كان آتياً من الشمال فإن الظل يكون في اليمين. . . فماذا تريد أكثر من ذلك. . .
- لاشيء. . . وإن معلمك لم يقصر، وكان عليك أن تطبق في رسمك هذه القواعد فتنجح. . .
- صدقني أني أطبقها، ولكني لا أدري لماذا لم أنجح في الرسم. . . لقد كرهته حتى لم أعد أطيق دروسه.
- لماذا؟
- أليس في الدنيا شيء نرسمه غير الباذنجان والطربوش والقلة والصندوق المفتوح والصندوق المقفل. . . كل هذه أشياء ثقيلة الظل مثل صاحبها.
- ومن صاحبها؟
- الأفندي الذي يعلمنا الرسم. يدخل الفصل ومعه المنظور ويضعه أمامنا، ويقول: هو الآن فوق مستوى النظر أو تحت مستوى النظر، والضوء آت من اليمين أو الشمال، فارسموه ثم يبدأ يطوف بنا ليصحح لنا الأشكال السابقة، ويلقي نظرة على الشكل الجديد، وليس عنده غير الضوء والظل ومستوى النظر. . .
- وماذا كنت تريد منه أكثر من ذلك؟
- أنا؟. . . لا ادري، ولكن ابن خالي يقص لي قصصاً لذيذة عن معلم الرسم الذي يعلمهم، يقول لي إنه رجل خفيف العقل، وإنه يضحكهم كثيراً، وإنه يخرج لهم من جيبه لعباً غريبة؛ ويقول لهم: انظروا إليها قليلاً. ثم يقول لهم: أغمضوا أعينكم قليلاً وارسموها بأصابعكم في الهواء وأنتم مغمضون، ثم يقول لهم: افتحوا أعينكم وارسموها بالأقلام على الورق. وقد أصبح ابن خالي الآن يستطيع أن يرسم رسماً حسناً أحسده عليه.
- ولماذا لا تتبع أنت هذه الطريقة. . .
- إنني لم أر هذه اللعب!
- ليست هذه اللعب ضرورية، فأنت تستطيع أن تستبدل بها أي شيء. . . وتستطيع أن(375/37)
تبدأ منذ الآن. . . أنظر إلى هذه الشجرة قليلاً. . . ثم أغمض عينيك. . . أرسمها في الهواء بإصبعك. . . هذا حسن. . . والآن ارسمها على الورق بالقلم. . . عال، عال. . . تكاد تكون هي، أما كان يصح أن تقتبس هذه الطريقة من تلقاء نفسك. . .
- كنت أظنها لا تنفع إلا في اللعب. . .
- لا. . . إنها تنفع في كل شيء، وهي وحدها مفتاح الرسم. . . وانطلق الولد مسروراً لأنه اهتدى إلى مفتاح الرسم، وبقي أبوه معي وقال لي:
- أنا أيضاً كنت ارسب في الرسم لما كنت تلميذاً.
- وأنا أيضاً.
- ولنا وللولد العذر، فالرسم موهبة من الله ولا يصح أن نطالب به كل إنسان، ولست أدري لماذا تصر وزارة المعارف على أن تجعله مادة إجبارية. . .
- صحيح إن الرسم موهبة، ولكن ليس معنى هذا أن تغفل وزارة المعارف تعليمه تلاميذها، وإنما الواجب أن تعلمهم إياه، فالموهوب منهم تنكشف بالتعليم موهبته وتنصقل، وغيره يتمكن بالإرشاد والممارسة من الإقبال عليه في غير كراهية ولا تذمر، وليس هناك شك في أن الرسم يربي الذوق البصري، وليس هناك شك في أن كل مبصر محتاج إلى تربية هذا الذوق في عينيه إن لم يكن للرسم فللملاحظة والإدراك، وتمييز الأشياء، وإدراك المنظورات. . . هذا هو الذي يحمل وزارة المعارف في الدنيا كلها على الاهتمام بالرسم والعناية به. وكل ما في الأمر أننا هنا لا نزال في حاجة إلى معلم الرسم الصحيح، كما أننا لا نزال في حاجة إلى المعلمين الحقيقيين في غير الرسم. . . وقد يؤلمني أن أقول لك إن قليلين جداً من المعلمين هم المولعون بما يعلمون، وإن اكثر المعلمين في مصر يؤدون عملهم على أنه عمل يرتزقون منه لا أكثر ولا أقل. . . وإلا فقل لي كم من معلمي الأدب في مصر أدباء، وكم من معلمي الجغرافيا في مصر غادروا القطر أو المدن التي يعملون فيها، وكم من معلمي الكيمياء في مصر انشغل بتركيب أو تحليل خارج المدرسة، وكم من معلمي الرسم في مصر لهم عمل يعرفه الجمهور أو لا يعرفه. . .
- إن لمعلمي الرسم اتحاداً، وقد قام اتحادهم معرضاً زاره وزير المعارف منذ شهور وأثنى عليه. . .(375/38)
- لم يكن في هذا المعرض إلا أشكال بعضها تحت النظر وبعضها فوق النظر وبعضها في مستواه. ولم يكن المقصود من هذا المعرض إلا أن يلتفت وزير المعارف إلى معلمي الرسم فيرعاهم قليلاً لأنهم في الحقيقة مغبونون ومظلومون أكثر من غيرهم من المعلمين.
- إذن فقد أعجبتك طريقة المعلم الخفيف العقل
- من غير شك، لأنها التدريب الطبيعي للتصور، والتصور هو أول ما يتطلبه الرسم.
- ولكني لا أزال أطمع في أن يرتقي تعليم الرسم عندنا إلى أكثر من هذا، حتى نرى من تلاميذنا اهتماماً بالجمال وإدراكه له كما نرى ذلك في أبناء غيرنا من الأمم.
- أنا لا أشك في أن الاهتمام بالجمال موجود عندنا كما أنه موجود عند كل الناس، ولكن شعبنا لا يزال ينطلق إلى الجمال في مطارحة الطبيعة كلما حن إليه. . . والذي ينقصنا حقاً هو التفكير في اختزان صور من الجمال نفزع إليها كلما اشتقنا لها. . . وقد يكون السبب في امتناعنا عن هذا هو فقرنا وعدم ظهور الفنان المصري الذي يخلد في صورة من الصور منظراً يشتاق المصريون إلى النظر فيه باستمرار. . . وأنا لا أزال اجهل هذا المنظر. . .
- لا أظنه منظراً واحداً هو الذي يجذب المصريين، فكل منظر يصح أن يجذبهم.
- ولم لا؟ ولكني أظنهم لا يزالون في حاجة إلى من يلفتهم إلا مواطن الحسن في المناظر الطبيعية وفي المناظر المرسومة. . . وهذا من عمل معلم الرسم، وهو لا يستطيع أن يؤديه إلا إذا كان فناناً حساساً يتذوق هو نفسه الجمال، ويستطيع هو نفسه أن يعبر عنه، وهذا المعلم هو الذي يجب على وزارة المعارف أن تبحث عنه أو أن تكونه. . . وأظنها قد بدأت تبحث عنه كما أنها قد بدأت تكونه. . . فقد بدأت تأخذ معلمي الرسم لمدارسها من خريجي مدرسة الفنون الجميلة العليا بعد أن تعلمهم أصول التربية في معهد التربية. . .
- وهل تحسن الظن أنت بمدرسة الفنون الجميلة العليا وبمعهد التربية؟
- المدرسة والمعهد فيما أرى يتبعان أضمن الطرق لتخرج الفنانين والمعلمين، غير أنهما يسمحان لكثيرين من غير الفنانين والمعلمين والموهوبين بالانخراط في سلكهما، ويظهر أنهما لا يستطيعان أن يفعلا غير ذلك، لأنهما لو دققا التدقيق المطلوب في الاختيار، فانهما قد لا يقبلان في العام الواحد أكثر من طالب أو طالبين، وعندئذ تواجه البلاد أزمة فنانين(375/39)
ومعلمين لا قبل لها بها. . .
- قد يكون التساهل معقولاً في قبول المعلمين غير الموهوبين لأن البلاد في حاجة إلى عدد كبير منهم، وهذه الحاجة تتجدد وتزيد كل عام، ولكن ما هو العذر في أن تقبل مدرسة الفنون الجميلة العليا شباناً استعدادهم الفني فقير، أو عادي؟
- ذلك لأنها مفتوحة الأبواب، وأنها مادامت كذلك فهي تنفق على نفسها ميزانيتها المربوطة لها، فسواء كثر الطلبة فيها أم انفضوا عنها فهي مضطرة إلى المضي في عملها، ما دام الأمر كذلك فهي تقبل كل عام عدداً ممن يتقدمون إليها حتى لا تغلق أبوابها. . .
- ولما كان مستقبل المدرسة مبهماً وغامضاً فإنه لا يقبل عليها إلا من يئس من غيرها سواء أكان موهوباً أم كان غير موهوب، وهذه طريقة لا تؤدي إلى الخير بأي حال من الأحوال.
- من غير شك. . .
- أو ليست هناك طريقة أخرى يمكن أن تؤدي إلى الخير. .
- إن لم تكن هناك طريقة فمن الممكن استحداثها. . . نحن الآن في المدرسة الابتدائية، ولكل تلميذ من تلاميذ المدرسة ملف، وهذا الملف لا تجد فيه شيئاً عن التلميذ إلا أنه غاب في يوم كذا، وحبس يوم كذا، وتغدى خبزاً قفاراً في يوم كذا. أما أخلاقه، وأما عقله، وأما موهبته فهذه جميعاً أشياء لا تجد لها أثراً في ملفه، بينما لو اهتمت كل مدرسة بكل تلميذ من تلاميذها ودرست أخلاقه وعقله ونفسه، وسجلت من حوادثه وأخباره ما يدل على روحه شهراً فشهراً أو عاماً فعاماً، فإن التلميذ ما يكاد يفرغ من مرحلة التعليم الابتدائي حتى يكون في ملفه صورة ولو غامضة تحدد اتجاهه في الحياة الذي هيأته له طبيعته، فإذا اتبعت هذه الطريقة في المدرسة الثانوية فإنه ما يكاد يفرغ من التعليم الثانوي حتى يكون ملفه ناطقاً بصراحة ووضوح بالعمل الذي لا يصح أن يختار لنفسه غيره. فهذا يثبت الملف أنه سريع الخاطر سليم النطق، قوي الفراسة، صبور، جذاب يرتاح إلى الناس والناس يرتاحون إليه، مرشد بطبيعته إلى ما يراه لا يخفي شيئاً مما يعلم فهو إذن يصلح لأن يكون معلماً، والثاني ذرب اللسان جريء على المغالطة، لبق في إظهار الحق متى يشاء وكتمانه متى يشاء، قوي الحجة. . . فهو إذن يصلح لأن يكون محامياً. . . وهكذا لو اتبعت مدارسنا هذه(375/40)
الطريقة فإنها من غير شك تفلح في تعليم تلاميذنا وتوجههم، ولكن مدارسنا لا تهتم بشيء أكثر من الامتحانات المتوالية ونتائجها، ونسبتها المئوية. . . فقط لا غير
عزيز أحمد فهمي(375/41)
رسالة العلم
قصة الفيتامين
تجربة غذائية عرضية
- 1 -
لقد أثبت قديماً أفذاذ علماء التغذية مثل ليبج وفويت بناء على تجارب صحيحة أن المواد الثلاث الزلالية والدهنية والنشوية، زد عليها الأملاح المعدنية والماء هي مقومات الحياة. فالمواد الزلالية تقوم ببناء الجسم وما يتطلبه من النمو، بينما المواد الدهنية والنشوية تبعث القوة وتدعو للحركة والإنتاج الحيوي عند احتراقها. ونشير في هذه العجالة إلى المجهودات العظيمة الدقيقة التي قام بها فويت في هذا السبيل، والتي أثبت فيها بالوزن مقدار الكميات اللازمة من المواد الغذائية لحفظ الجسم ودولاب الحياة بلا اضطراب، فقدر للشخص العادي الذي يزن 65 كيلو غرام ويقوم بمجهود متوسط مقدار 118 جرام من المواد الزلالية، و 50 جراماً من المواد الدهنية، و 500 جرام من النشويات ككميات يومية ضرورية لحفظ حياته.
بهذا القدر يكتفي علم التغذية في تأدية رسالته ولا يبقى بعدئذ إلا التفكير في جمع هذه المواد الغذائية بالنسب المعينة وإمداد الجسم بها بطريقة ملائمة، ولكن لم يرق هذا بعض المفكرين والمشتغلين بفن التغذية في هذا الوقت، كما استبعدوا حل المشكلة الغذائية بهذه الطريقة الكيميائية السهلة. وكان جوستاف بونج الفسيولوجي الكيميائي أول من حاول تطبيق هذه النظرية، فارتأى أن الحيوانات التي تعيش على المواد الغذائية الطبيعية أكثر صحة وأوفر نشاطاً من مثيلاتها التي يقدم لها الكميات من المواد الغذائية التي أقرها العلماء. ففي سنة 1905 قام بتجارب غذائية على فيران هيأ لها أسباب الغذاء من مواد زلالية ونشوية ودهنية وأملاح معدنية بنسب ثابتة لا ينقصها شيء. فبدأ على الحيوانات الضعف الهزال وتساقط شعرها، واتسخت عيونها اللامعة، وما لبثت طويلاً حتى نفقت.
لم يساور أحداً شك في النتائج التي وصل إليها بونج، بل اتجهت الشكوك نحو طريقة التغذية وإجرائها.(375/42)
أوشك أن يُسدل على هذه النتائج ستار النسيان، وحاول الإنسان أن يدخل في روعه وقتذاك أن لابد هناك من سر عويص الفهم، ولكنه بمضي أربع سنوات على هذه النتائج أي عام 1909 أقدم العالم ستيب على تجارب غذائية لها قيمتها، فهيأ لمجموعة من الفيران غذاء طبيعياً - غير صناعي - عادياً يحتوي على جميع المواد الغذائية اللازمة، قد نُقع قبل تقديمه لها في الكحول والإثير، وانتهت هذه التجربة أيضاً بهلاك الحيوانات.
استنتج ستيب من هذا أن وجود جميع المواد الغذائية الأساسية وحدها لا يكفي لحفظ حياة الحيوان عند غياب مواد أخرى ربما تكون تلك التي تأثرت في تجربته عند معالجة الطعام بنقعه في الكحول. لم تتحسن الحال عن ذي قبل حتى بظهور نتائج ستيب في الميدان بجوار نتائج بونج، وخالج الإنسان الشك حتى امتعض من هذا الاهتمام الزائد الذي يقوم حول تغذية الفيران
اتجه الاهتمام بعد ذلك إلى إجراء هذه التجارب على الحيوانات المنزلية النافعة فقام بابكوك الأمريكي (الذي تتلمذ على يد العالم الجليل ليبج الألماني) بدوره في هذا المضمار. ففي إحدى محطات التجارب الزراعية التابعة لجامعة ماديسون أتى بمجموعتين من الأبقار أطعم أولاها القمح الخالص والثانية الذرة. ففي بحر السنة الأولى ظهر على نتاج المجموعة الأولى الضعف وعدم تهيئتها لأسباب الحياة بينما لم تظهر على أمهاتها أعراض مرضية ذات بال. أما نتاج المجموعة الثانية فلم يلاحظ عليها شيء وكانت صحيحة قوية، فحمل هذا على الاعتقاد بأن الذرة لابد تحتوي على مواد مجهولة تلزم للحياة.
وقد لا تتهيأ لكل عالم هذه الظروف الحسنة التي هُيئت لبابكوك الأمريكي في إجراء تجاربه الكثيرة التكاليف، فاكتفى الكثير من علماء التغذية بتجارب أقل نفقة في البلاد الأخرى، فقام في النرويج البحاثة آرل هولف بإجراء تجاربه على الخنازير، فقدم لها غذاء واحداً لا يتغير من الحبوب النباتية فتأثرت به وظهرت عليها عوارض تضخم المفاصل وإدماء اللثة وسقوط لحمها، ولكنه أضاف بعد ذلك إلى الطعام نفسه بعض الدرنات كالبنجر، فزالت تماماً هذه الأعراض وانعدم ظهورها في الحيوان.
جاءت هذه النتائج مدعمة لبيانات الفسيولوجي هوبكنز الذي سبق ذكره والذي أعد لفيرانه غذاء خاصاً مكوناً من النسب المعروفة اللازمة من المواد الزلالية والدهنية والنشوية النقية(375/43)
مع الأملاح فظهرت عليها الأعراض المرضية التي ما لبثت أن زالت تماماً وبسرعة عندما أضيفت بعض نقط من اللبن إلى غذائها
فتقت هذه النتائج المتعددة الأذهان وشحذت العزائم وضاعفت من الجهود لكشف القناع عن هذا السر الذي بدأ يتهتك حجابه، وذكر فضل السابقين في البحث الذين كاد يسدل عليهم ستار النسيان. وأثبت بعض الباحثين الهولنديين أن بعض الطيور المنزلية كالحمام والدجاج ظهرت عليها أعراض مرضية غريبة عندما كان غذاؤها مقتصراً على حبات الأرز الأبيض وزالت هذه الأعراض بإضافة ردة الأرز.
يمكننا أن نتصور دهشة العالم حينذاك حول هذا (الشيء) الذي صادفه العلماء تارة في الذرة وأخرى في الأعشاب الخضراء أو في الدرنات وحيناً في اللبن وحيناً آخر في ردة الأرز - ولكن شيئاً واحداً بقى راسخاً في الأذهان، وهو أن دولاب الحياة لا يلزمه فقط ليدور للآن من المواد الزلالية والدهنية والنشوية بل يلزمه أيضاً لحفظ دورانه منتظماً وبلا اضطراب مواد غذائية أخرى خاصة ذهبت في التعرف عليها جهود العلماء والباحثين السابقين هباء.
وفي عام 1931 أطلق عالم بولوني يدعى كازمير فونك على هذا الشيء العجيب الذي شخصه بجسم أو مادة كيميائية أو مجموعة مشابهة للزلال أو الدهن أو النشأ لفظ (فيتامين) بدون أن يفكر جدياً فيما سيكون لهذه التسمية بعدئذ من أهمية قصوى؛ وحتى هذه التسمية الخاطئة - من الناحية الكيميائية - لهذا الشيء العجيب لم تفد الموقف كثيراً.
وينقسم لفظ فيتامين إلى شطرين: الأول (فيتا) ومعناه الحياة، ومما لا يختلف عليه اثنان أن هذه المواد هي من أسباب الحياة. أما الشطر الثاني وهو (أمين) فهو يدل على مجموعة من الكربونات العضوية تتركب من الآزوت والإيدروجين، أي مجموعة الأمينات (زيد2) ولم يثبت إلى الآن انتماء هذه الفيتامينات إلى مجموعة الأمينات.
وبرغم التخبط في التسمية ومحاولات الاستدلال على هذا الشيء فقد وضع له الحجر الأساسي، وقامت بعدئذ مجهودات عنيفة وعديدة في المعامل المختلفة في شتى البلاد لكشف سر هذه الفيتامينات، فهويكنز الإنجليزي قد رسم طريق البحث عنها سنة 1913 في مؤتمر الطب بلندن، وخطب ستيب الألماني اتجاه الكشف عنها بالاستدلال بنتائج تجاربه، واستمر(375/44)
البحث وراء الفيتامينات حتى قبيل نشوب الحرب الماضية، وكان من الصعب في البلاد المتحاربة أن يستمر علماؤها وراء الفيتامينات باحثين، وكان أمام علماء الألمان مشكلة نقص الطعام، غير أن الإنجليز والأمريكيين استمروا في أبحاثهم فسبقوا الألمان، ولكن الأخيرين لحقوا بهم، وكان لعلمائهم المبرزين فضل كبير في بعض نواحي الأبحاث وراء الفيتامينات.
(يتبع)(375/45)
الحيوان يتخاطب ويغازل ويحلم
للأستاذ أحمد علي الشحات
لو أنك سرت في مجال الطبيعة تتأمل ودلفت إلى مجموعة من الأشجار الباسقة لراعتك الطيور وهي أزواجاً أزواجا تغني ألحان غرامها، وينصت بعضها إلى بعض على أفنانها. ولو أنك انتقلت من عالم الفكر وسألت أحداً من أهل الذكر: هل للطيور لغة تتخاطب بها وإن لم ندرك كنهها، وإن كانت لها لغة فهل ما نسميه منها من شدو مروي ورجع محكي هو الغزل، وإن كان هناك غزل في الطيور فهل عند سائر الحيوانات غزل؟ لأجابك عالم ممن درسوا طبائع الحيوانات أن لها لغة تتعارف بها، وأن بين الجنسين غزلاً. فأما لغة الحيوانات فقد نسمع بعضها وقد لا نسمع، وتتمثل لك لغة الحيوان بالأصوات المتباينة التي تصدر من الحيوانات حين تعبر عن شعور خاص كرغبتها في الأكل أو خوفها من عدو يهاجمها أو حين تغضب، ويتمثل لك ذلك في الكلب والقط مثلاً، كما يتمثل لك استدعاء الجنس للجنس الآخر في نعيق الضفادع الذي لا يصدر منها إلا في موسم التناسل وحين الرغبة في الإخصاب، وقد أثبت العالم ج. أرثر طومسون من علماء الحيوان أن عند بعض الحيوانات لغة للتفاهم وإن لم تكن بالنطق فهي بالحركات، فقد استنتج أن العناكب تتخاطب باهتزاز الخيوط التي تفرزها والتي تكون منها بيوتها، كما أن النحلة إذا عثرت على رحيق شهي في بعض الأزهار ذهبت تبشر زميلاتها في الخلية بذلك برقصات مخصوصة فتسرع إليها تأخذ نصيبها.
وهناك بعض الطيور كالببغاء والزرزور، وهو طائر يعيش في مصر والشام على شجر التوت، تستطيع أن تنطق ببعض الألفاظ التي نلقنها إياها، ولكن هل تنطقها عن إدراك، وهل تستطيع أن تنطق بجملة بمحض تفكيرها؟ هذا ما نشك فيه، وأغلب الظن أن هذه الطيور (عقلها في أذنيها)، ولكن لما كان في استطاعة مثل هذين الطائرين النطق بألفاظنا فلقد حدا هذا بالعالم يركس أن يحاول تجربة ما إذا كان في استطاعة الحيوانات التي في المرتبة العليا بعد الإنسان أن تتعلم النطق، بألفاظنا، فأجرى تجاربه على الشمبانزي لأنه أيضاً قد حيته الطبيعة جهازاً صوتياً يماثل جهاز الإنسان من حيث الحنجرة والحبال الصوتية، وكذلك لقدرته المشهود بها على التفكير؛ فكان إذا أراد أن يطعمه نطق بلفظ بسيط(375/46)
مثل (يا) أو (كو) ثم يقدم له موزاً.
واستمر يلقنه الدرس أسابيع متتالية، فكان القرد يطير فرحاً حين ينطق أستاذه أمامه، لأنه عرف أن هذا معناه الفوز بالأكل، ولكنه للأسف لم يحاول أن يتعلم النطق ولو استطاع القرد أن يقلد الأصوات كالببغاء أو كما يقلد هو أفعالنا لسمعنا منه العجب نظراً لقدرته على التفكير.
وخلاصة ما تقدم أنه ولو أننا لا نستطيع أن نجعل الحيوانات تنطق بلغتنا إلا أن لها لغة تتعارف بها فيما بينها سواء بالنطق أو بالحركات.
الغزل عند الحيوان
يتجلى الغزل عند الحيوانات بأطرف المعاني وأسماها في الطيور على الأخص حيث الوداعة والحنان ورقة العاطفة، وفي الغالب يبدأ الذكر بالمغازلة إلا في حالات خاصة كما في طائر الذي يعيش في القطب الشمالي حيث الأنثى هي التي تبدأ المغازلة والذكر هو الذي يتدلل.
ومظاهر الغزل عند الطيور عديدة تبعث في مشاهدها البهجة والانشراح. فإن ضاق بك الصدر يوماً أو عافت نفسك الكتاب فسر عنها برؤية ذكر الحمام وهو يبث أنثاه أشجانه وألحانه. أو الطاووس أو الديك الرومي وكل منهما يزهو أمام أنثاه فيبسط ريشه وتنتفخ أوداجه، وكذا في ذكر الغواص وأنثاه حين يسبحان في الماء معاً ويرفعان الرأس ويخفضانه ثم يدفع أحدهما الآخر تحت الماء حيث يسمع لهما صوت أجش صادر منهما. وتقيم بعض الطيور حفلات ترقص وتؤدي الذكور والإناث رقصات جنونية تفعل فعلها في الجنسين وتصرخ صرخات عالية ثم ينفرد كل ذكر بأنثاه.
ومن الطيور ما يألف أحد جنسيها الآخر بحيث يقيمان على عهد الوفاء حتى إذا مات أحدهما فقد يموت الرفيق الآخر كمداً عليه
وتخفت حرارة الألفة بين الجنسين إذا انتقلنا من الطيور إلى الحيوانات الأخرى كالثدييات ولو أن لبعضها مظاهر غزل كما في القطط إلا أنها لا تذكر بجانب الطيور التي قد لا يكون الغرض من غزلها إلا التسامر وازدياد الألفة. وفي الحيوانات ذوات الدم البارد كالتمساح يتلوى الذكر ويقفز في حركات بهلوانية أمام الأنثى ويصيح وينفخ في الماء(375/47)
ويعطره بإفراز ذي رائحة طيبة من غدد جلدية في فكه الأسفل وذيله حتى يجذب الأنثى إليه
وسام أبرص يبدي ارتياحه للأنثى بأن يفتح فمه بأعظم ما يمكنه، وأما في الضفادع فنقيقها هو استدعاء للجنس الآخر. وفي الأسماك ذوات الأشواك الظهرية كثيراً ما تلتحم الذكور بعضها مع بعض أمام الإناث، حتى إذا انتصر أحدها دفع إحدى الإناث أمامه إلى عشه لتضع فيه بيضاً، فتسبح السمكة وخلفها زميلاتها متخذة لنفسها مركز القيادة، ثم تقف فجأة وتقلب نفسها رأسياً بحيث يكون الرأس إلى أسفل فتحاكيها الزميلات ثم تدفع هي الماء فتتفرق الأفراد الأخرى لحظة ثم تجتمع ثانية وتعيد السيرة الأولى إلى أن تصل إلى العش، وهذا معناه في نظر العلماء الغزل عند الأسماك.
وفي النحل تطير الملكة في الجو فيتبعها ذكور الخلية كل يحاول أن يفوز بها، والمنتصر هو أسرع الذكور في اللحاق بها ويلقحها في الجو ثم ترجع الملكة إلى خليتها، وحتى إذا رأت الشغالة وهي التي تقوم بأعباء الخلية أن عملية تلقيح الأنثى قد تمت أخذت تلاطفها وتحتفي بها كأنها عروس، وأما الذكور فلم يعد لها فائدة في الخلية، عندئذ تقوم الشغالة بقتلها وإلقائها خارج الخلية، وأما الذكر الذي فاز فإنه في مقابل انتصاره يسقط ميتاً من الجو بمجرد إتمام تلقيح الملكة، ويسمى طيران الملكة والذكور في الجو (طيرة العروس) ولكنها حفلة عرس ثمنها أرواح جميع الذكور، وهكذا الدنيا تدور!
الحلم عند الحيوانات
قد ينشط العقل والجسم نائم فيوحي بمختلف الأفكار وتمر عليه مختلف الصور، وهذا ما يعبر عنه بالحلم. ولقد شوهدت هذه الظاهرة في الحيوانات العليا كالحصان والكلب والقط وهي في سباتها، فقد يصهل الحصان، وقد يقوم الكلب بحركات تشبه التي يقوم بها في الصيد وهو في اليقظة، بل قد تستطيع أن تجعله يسبح في الأحلام إذا قدمت لكلب صيد وهو نائم قطعاً من الأخشاب أو أعشاب ذات رائحة اعتادها في إحراج الصيد فسرعان ما يخيل إليه أنه في تلك الإحراج فيقوم ببعض حركات الصيد وهو نائم.
أحمد علي الشحات(375/48)
البريد الأدبي
إلى ممثل فرنسا في سورية ولبنان
بعد تقديم واجب التحية أذكر أني علمت أنكم أصدرتم أمراً بمنع مجلة (الرسالة) من دخول البلاد السورية واللبنانية لعبارات ظننتموها تثير البغض على فرنسا في تلك البلاد. ولو كانت مجلة (الرسالة) صحيفة سياسية يهمها أن تصول في المعترك السياسي لعددنا هذا المنع وسيلة تصان بها المصالح الفرنسية في البلاد السورية واللبنانية واتخذنا منه فرصة للهجوم عل فرنسا من جديد.
ولكن الأمر يختلف عما تظنون كل الاختلاف، فمجلة الرسالة صحيفة أسبوعية لخدمة الآداب والعلوم والفنون، وقد حزنت لمحنة فرنسا بست صفحات في عدد واحد: صفحتين بقلم الأستاذ الزيات وأربع صفحات بقلمي، وما خطر في بالنا يومئذ أننا نحزن لفرنسا الاستعمارية، وإنما تصورنا فرنسا التي أنجبت باستير صاحب الفضل في الإنسانية، والتي أنجبت شامبوليون صاحب الفضل على المدنية المصرية، والتي دانت الأدب والعلم بحياة السوربون.
ولم يكن بد لمجلة تعلن حزنها لمحنة فرنسا بست صفحات من السماح لبعض معارضيها بنشر فقرات كانت على خشونتها مما تبيحه المجادلات الأدبية، وقد تولينا الرد على تلك الفقرات بما يبين غرضنا من العطف على فرنسا، ثم نشرت (الرسالة) بعد ذلك مقالاً يفيض بالعطف من أديب عرف بلادكم وهو الأستاذ البهبيتي
فأرجو - حين تطلعون على خطابي هذا - أن تلغوا الأمر الذي أصدرتموه بمنع (الرسالة) من دخول البلاد السورية واللبنانية، وأن تذكروا أن لنا مبادئ إنسانية تصرفنا عن الشواغل المحلية لأن لنا ساسة ينوبون عنا في تدبير تلك الشؤون، وإليهم يرجع الأمر في الاهتمام السياسي بمركز مصر في الشرق.
وأرجو أن تذكروا أيضاً أن بلادكم لم تستوجب العطف من أمثالنا إلا بفضل ما يؤثر من تشجيعها للحرية، ومن أجل ذلك استباحت الرسالة أن تنشر عن بلادكم رأيين مختلفين، وفقاً لما تعلمناه في السوربون من عرض ما للرأي وما عليه. وسبحان من لو شاء لهدانا جميعاً إلى سواء السبيل.(375/50)
زكي مبارك
خريج السربون
وصاحب (ذكريات باريس)
نعم هي كنية الإمام الصادق
إن الأديب البغدادي (ع) لعلى حق فيما كتبه في ص 1400 من العدد 374 من الرسالة الغراء خاصاً بكنية أبي عبد الله المذكورة في الصفحة السادسة من كتاب (نقد النثر) وبأنها للإمام جعفر الصادق وليست للحسين بن علي عليهما السلام كما ذكر سهواً في هامش الصفحة المذكورة.
ولا شك أن حضرته اطلع على طبعة متقدمة من كتاب (نقد النثر) وقع فيها مع الأسف السهو المذكور، ولو رجع إلى الطبعة الحديثة الصادرة عن مطبعة مصر في عام 1939 لوجد ناشري الكتاب قد تداركا هذا السهو فكتبا في هامش الصفحة السادسة تعليقاً على تلك الكنية ما نصه بالحرف الواحد:
(هي هنا كنية الإمام جعفر الصادق، وهو الإمام السادس من أئمة الشيعة الأمامية، والمتوفى عام 147 هـ. وهشام المذكور في المتن هو هشام بن سالم، وكان من وجوه أصحاب الإمام جعفر الصادق - كتاب (فرق الشيعة) للنوبختي ص 66)
(القاهرة)
عبد الحميد العبادي
إلى الأخ الدكتور زكي مبارك
السلام عليكم:
أطلعت اليوم على الكلمة التي كتبت عني في مجلة الرسالة فشكرت لك مرتين: شكرت حسن ظنك وثنائك علي ابتغاء مرضاة الله، وشكرت لك المسارعة إلى إعلان ما يجول في سريرتك إيثاراً للحق، وحرصاً على مجازاة من أحسن في رأيك.(375/51)
وقد تبينت في كلمتك خلقاً من أخلاق القرآن الكريم الذي يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله.)
ثم رأيت أن آداب القرآن تأمرنا أن نشكر من أحسن إلينا بالقول أو الفعل فكتبت هذه الكلمة شاكراً داعياً الله أن يرزقنا السداد والإخلاص في الرأي والقول والعمل والسلام.
عبد الوهاب عزام
ديوان مجنون ليلى
اطلعت أمس على هذا الديوان وقد طبع في مصر سنة 1939، وكتب على غلافه أنه جمع وترتيب عالم زمانه وفريد عصره وأوانه أبي بكر الوالي وأنه بتحقيق وشرح جلال الدين الحلبي، وفي آخره إمضاء أحمد سعد علي من علماء الأزهر تحت اعترافه بأنه صحح بمعرفته.
والديوان في 92 صفحة من القطع الصغير، أكثر ما فيه من الشعر المنسوب إلى المجنون هو لغيره، ومن ذلك ما هو مشهور معروف صاحبه، كقطعة (ألا يا صبا متى هجت من نجد) وهي ليزيد بن الطثرية؛ وقطعة (عجبت لسعى الدهر بيني وبينها) وهي لأبي صخر الهذلي؛ وقطعة (تمتع من شميم عرار نجد) وهي للصمة بن عبد الله القشيري.
ومن ذلك قطعة (ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة) وهي ليحيى بن طالب الحنفي؛ وقطعة (اقرأ على الوشل والسلام وقل له) وهي لأبي القمقام الأسدي؛ وقطعة (بينما نحن بالبلاكت بالقا - ع) وهي لكثرة عزة؛ وقصة بيت (ألا أيها النوام ويحكم هبوا) نسبت إلى جرير وليست له، وروى البيت للمجنون وهو لجميل بثينة
ومن ذلك شعر ضعيف لبعض المتأخرين، ومنه ما تبدو حقيقة لكل ذي عينين، كالقصيدة التي يقول صاحبها:
لعمري ما لاقى جميل بن معمر ... كوجدي بليلي لا ولم يلق مسلم
ولم يلق قابوس وقيس وعروة ... ولم يلفه قبلي فصيح وأعجم
أفيكون قيس هو قائل هذا عن نفسه؟ ومن القطع المنسوبة في الديوان إلى المجنون ما أقطع بأنه ليس له، ولكني لا أذكر الآن صاحبه، كالقصيدة التي يصف فيها أعضاء(375/52)
المحبوبة عضواً فعضواً (ص 32) ومثلها في (ص 26) والقصيدة التي ذكرت فيها قصة الذئب والحمل (وكنت كذئب السوء إذ قال مرة) - (ص 43)، والتي يذكر صاحبها جبل الثلج (؟) ويتغزل باثنتين يسمي إحداهما أم عمرو (ص 47).
أما التحقيق فليس منه الديوان البتة. . . أما الشرح فلا يتجاوز جيده بضعة عشر سطراً أكثرها تفسير كلمة عويصة أو مقابلة بعض الأبيات على الأغاني، أما الضبط (الشكل) فأغلاطه أكثر من أن تحصى وليس يعتد به أصلاً.
والعجيب في الأمر، وأن يكون فيها ثناء على الأستاذ جلال الدين الحلبي وشهادة له بالمقدرة على فهم أغراض المجنون!
علي الطنطاوي
الشعري اليمانية
نقرأ دائماً المقال الذي تدبجه يراعة الدكتور النابغة محمد محمود غالي بلذة وإعجاب، فهو يسبغ على الآراء العلمية الجافة حلة من السهولة والطلاوة والطرافة تسمو بها إلى مرتبة الموضوعات الأدبية الشائعة.
وعلى عادتنا قرأنا له بحثه الأخير (الأحياء في غير الأرض) فوقعنا على العبارة التالية: (ثم جل بنظرك بعد ذلك بعيداً عن النجم القطبي وجهة اليمين تر (دينب العظيم ويسمونه بالعربية (الشعري اليمانية) في مجموعة ذنب الدجاجة تصطدم فوتوناته بشبكة العين بعد تسع سنوات ضوئية. . .)
في هذه العبارة خطأ لا ننكر أن الدكتور وقع فيه على سبيل السهو أو عدم التأكد من المصادر المسئولة؛ فإنه ليخيل للقارئ لأول وهلة أن الكلام يقصد به حقيقة (دنيب فهو قريب من النجم القطبي يقع تقريباً على امتداد الخط الواصل بين صدر النعش في كوكبة بنات نعش الكبرى والنجم القطبي، (وليس من ضرورة - كما أرى - لذكر اليمين أو الشمال) إلا أن هذا النجم لا يسمى بالعربية الشعري اليمانية كما ذكر الدكتور، وإنما هو الردف أو ذنب الدجاجة، إذ هو مجموعة (الدجاجة أو الأوز العراقي وبعده عنا أضعاف البعد الذي ذكره الدكتور فلا يصل إلينا منه النور إلا بعد ستمائة واثنتين وخمسين سنة من(375/53)
وقت مغادرة مصدره.
أما الشعري اليمانية ويقال لها العبور أيضاً فهي نجم في مجموعة (الكلب الأكبر وهذا النجم أقرب إلى القطب الجنوبي منه إلى القطب الشمالي، وهو أسطع النجوم نوراً، ولذا كان من أكثر النجوم شهرة؛ و (تصطدم فوتوناته - حقيقة - بشبكة العين بعد تسع سنوات ضوئية - تقريباً -).
ومن هنا يظن القارئ أن الكلام خاص بالشعري اليمانية وليس بالردف. . .
على أن مثل هذه الهينات لا تغض من قيمة البحث، ولا تقلل من إعجابنا الكثير بالدكتور الكبير.
(الحصن)
خليل السالم
السجع في كتاب النثر الفني
عزيزي الدكتور زكي مبارك
كنت أقرأ كتابك (النثر الفني في القرن الرابع) فوقفت منه في صفحة 25 على العبارة الآتية:
وقد أذكر أنني كنت أحاور المسيو مرسيه في تطور السجع فأخرج رسائل الجاحظ وفيه العبارة: (إن معاوية مع تخلفه عن مراتب أهل السابقة أملي كتاباً إلى رجل فقال فيه: لهو أهون عليَّ من ذرة، أو كلب من كلاب الحرة. ثم قال. امح (من كلاب الحرة) وأكتب (من الكلاب) كأنه كره اتصال الكلام والمزاوجة وما أشبه السجع، ورأى أنه ليس في موضعه).
وكان المسيو مرسيه يظن في هذه العبارة دلالة على أنهم كانوا إذ ذاك لا يستحبون الكلام المسجوع، فوجهت نظره إلى أن لهذه العبارة معنى آخر: ذلك أن السجع فن رقيق، لا يصلح في ذلك المقام وهو مقام تهديد ووعيد. (أهـ كلام الدكتور مبارك)
لم أرتح لهذا التعليل - يا دكتور - من عدم ملاءمة السجع لمقام التهديد، لأن ورقة السجع لا تنسجع مع شدة التهديد. وأني أرى في هذا الموضوع خلاف هذا الرأي لأدلة عقلية، وأخرى نقلية:(375/54)
أما العقلية فلأنا إذا سلمنا برقة السجع لأنه الكلام المقفى، والتقفية نوع من الترديد الموسيقي الذي يخف به الكلام على السمع فالشعر أولى بالرقة من الكلام المسجوع لما في الشعر من الوزن والتقفية. فإذا جعلت السجع غير لائق في مقام التهديد والوعيد كان الشعر أولى بعدم اللياقة في هذا المقام. وهي نتيجة لا يثبتها الأدب العربي المملوء بشعر الحروب وأيام العرب.
وأيضاً فالحماس الذي يكون في مقام الفخر والتحدي هو نوع من الشدة شبيه بتلك الشدة التي تكون في حال التهديد والوعيد. وأنت جد عليم بما تحويه خطب الثورات السياسية التي تشعل نار الحمية، وتوقظ الغيرة الوطنية، من السجع والمزاوجة.
أما الأدلة النقلية ففي طليعتها كتاب الله الكريم وما يحويه من آيات التهديد والإنذار ذات السجع المعجز. كالآيات: (ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفوهم، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين) والآيات (كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون. كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين. ثم لتسألن يومئذ عن النعيم). والقرآن مملوء بشبيه هذه الآيات. وقد ورد في كلام المتقدمين من الكتاب والخطباء كثير من العبارات المسجوعة في مقام الشدة والتهديد. مثال ذلك خطبة زياد بالبصرة حيث قال:
(إن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم).
وقد كتب سيدنا علي إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما في مقام التحذير والتهديد فقال: (إنك إذ تحاولني الأمور وتراجعني السطور، كالمستثقل النائم تكذبه أحلامه، والمتحير القائم يبهظه مقامه، لا يدري أله ما يأتي أم عليه، ولست به غير أنه بك شبيه.
ويقول الحجاج بن يوسف في خطبته لأهل العراق: (ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر. ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية؟ بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عليكم، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقعصتكم الرماح. ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم، بها كانت(375/55)
المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله) والخطبة مملوءة بالتهديد والوعيد والسجع المقبول
فما رأيك في هذا؟
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد
مولد الدكتور إسماعيل أدهم ونسبه
اطلعت على ملاحظتكم المنشورة في العدد رقم 373 من (الرسالة)، وقد يتصل بها وبسيرة الفقيد ما نشرته جريدة (البصير) اليومية التي تصدر عن مدينة الإسكندرية بتواريخ 2 أغسطس و 9 أغسطس و 16 أغسطس و 24 أغسطس الجاري للأستاذ صديق شيبوب ولكاتب هذه السطور وللأستاذ البحيري عبد الرحيم.
والنبذة التي أشرتم إليها مستعدة من بيان للفقيد نفسه، (وقد أشرت إلى ذلك من قبل)، ويعززها ما ذكره في توطئة رسالته التاسعة الموسومة (لماذا أنا ملحد؟) فليرجع إليها جميعاً.
(الإسكندرية)
أحمد زكي أبو شادي
عدد خاص من (الحديث) عن الدكتور أدهم
كتب إلى الأديب السوري المعروف الأستاذ سامي الكيالي صاحب مجلة (الحديث) الحلبية بأنه قرر إصدار عدد خاص من مجلته منتصف سبتمبر عن أخي فقيد العلم والأدب المرحوم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم، وفاءً له وتخليداً لذكراه.
هذا، وسيشير الأستاذ الكيالي في هذا العدد إلى كافة كتب الفقيد، وإلى دراساته الأدبية، وآثاره العلمية، وسينوه بمواهبه ومزاياه.
وسيشترك معه في تحرير هذا العدد نخبة من كبار الأدباء في الشرق العربي، وسيكون العدد حافلاً بالصور الشمسية للفقيد في مختلف أطوار حياته.(375/56)
والمرجو ممن يحب المساهمة في هذا العدد بكتابة شيء عن الفقيد من أصدقاءه ومريديه ومحبي أدبه، أن يبعث ما يكتبه إلى الأستاذ الكيالي (بحلب سورية)، أو يرسل إلي بعنواني: 2 موطش باشا
(الإسكندرية)
إبراهيم أحمد أدهم
جواب سؤال
كتب إلي أديب فاضل من اليمن يسألني عن أسم قائل بيتين من الشعر ذكرهما ولم يكتب إلي بعنوانه لأبعث إليه بالجواب، فرأيت أن أجيبه على صفحات الرسالة الغراء. سألني عن قائل هذين البيتين:
بذكر الله تزداد الذنوبُ ... وتحتجبُ البصائر والقلوبُ
وترك الذكر أفضل منه حالاً ... فإن الشمس لها غروبُ
ففتشت عنهما كثيراً إلى أن عثرت عليهما في ديوان محي الدين أبن عربي الصفحة الرابعة.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
حول مقال (في سبيل الإصلاح)
حضرة المحترم الأديب الأستاذ الكبير صاحب (الرسالة) أطلعت في عدد الرسالة (373) على هذه المقالة للأستاذ العبقري العقاد؛ وإنه ليسرني أن أذكر أنه بحث في هذا الموضوع بحثاً طريفاً شائقاً يستحق التقدير والإعجاب. غير أنه كان الأجدر به ومداد قلمه من بحور الأدب ألا يسوق إلينا فكرة صاحب الأفدنة التي ترمي إلى إصلاح المعلم الإلزامي، لأنه إذا سئل عن العيب الذي يراه لا يجد ما يقوله سوى أنه يعلم النشء التبطل والحذلقة وكيفية وضع حمالة الجورب وإحسان رباط الرقبة، وهلم جرى. فيا ليت شعري ماذا جنى هذا الجندي المجهول حتى يصمه نائب محترم بهذه الوصمات؟(375/57)
أما كفى المعلم الإلزامي فخراً أن لا عيب فيه سوى عنايته بحسن هندامه وأنه الأساس الأول للثقافة؟
(منفيس)
عبد الله عبد التواب(375/58)
القصص
المقامر. . .
للكاتب الروسي ألكسندر بوشكين
ترجمة الأستاذ حلمي مراد
- 1 -
كانت إحدى ليالي الشتاء الطويلة. . . وقد تراجعت فلول الظلام كسيرة، وأقبلت طلائع الفجر الباسم. . . حين ألتف المدعوون إلى مأدبة نلروموف - الملازم في فرقة الحرس - حول مائدة القمار يلعبون الورق ويتبادلون شتى الأحاديث، فقال المضيف وهو يعطي ورقة اللعب لأحد مدعويه:
- كيف حالك هذا المساء يا سورين؟
فرد هذا: (لقد خسرت كالعادة منذ بدأ الحظ يدبر عني، ولكن. . . ماذا ترون في (هرمان) الذي لم يشترك معنا قط في اللعب؟ حقاً، إن أمره لعجيب، فهو يسهر معنا طوال الليل يرقب عجلة الحظ تدور وتدور بيننا مع أنه ما من داع يدفعه إلى ذلك). وهنا تدخل هرمان في الحديث فقال: (الأمر بسيط أيها السادة فاللعبة تعجبني، ولكني لا أود المغامرة في سبيل الكسب، فقد أخسر بعض مالي). وأردف شخص ثالث:
- لا تعجبوا! فهرمان ألماني وقومه معروفون بالميل إلى الاقتصاد، ولكن. . . ألم تلحظوا أن الكونتس أنافيدروفنا لا تلعب قط. . . هذا هو الذي يستحق دهشتنا حقاً، فإن عجوزاً في الثمانين لا تلمس الورق لهي شاذة بالتأكيد.
ثم أطرق تومسكي - وكان هو المتحدث - قليلاً وأستطرد: (ألم تدركوا السبب؟) فأجاب اثنان بصوت واحد:
- كلا، فهل هناك سبب خاص يدعوها لذلك؟
فرد تومسكي بقوله: نعم. . . فأصغوا إلي:
منذ نحو ستين عاماً كانت جدتي (الكونتس أنافيدروفنا) معبودة باريس وموضع إعجاب قاطنيها، حتى أطلق عليها لقب (فينوس الروسية) فأخذ ريشيليو يتودد إليها، ولما يأس من(375/59)
مبادلتها له حباً بحب حاول الانتحار أكثر من مرة وذات ليلة لعبت الورق مع الدوق دورليان وخسرت مبلغاً كبيراً، ولما لم يكن معها المبلغ كله في ذلك الحين فقد حاولت عند عودتها إلى المنزل إقناع زوجها بدفع المبلغ ولكنه أصرر على الرفض متخذاً من إسرافها مبرراً لقراره هذا. وإذ ضاقت به الدنيا طرقت باب الكونت دي سان جرمان الذي قيل أنه ذو موهبة خارقة في كسب المال، ولما جاءها الكونت وحدثته بالمأزق الذي لم تستطيع الخلاص منه قال: (سيدتي: إني على تمام الاستعداد لإعطائك أي مبلغ تطلبين، ولكني لما كنت أعلم عن يقين أنه لن يهدأ لك بال حتى أسترد ما أقرضت، فقد رأيت أنه يحسن بك أن تعاودي اللعب لتربحي ما خسرت) وما أن وصل تومسكي إلى هذا الحد من الحديث حتى كان الجميع متلهفين إلى سماع بقية القصة، فتوقف قليلاً ريثما أشعل غليونه، ثم أستطرد قائلاً: (وأسر الكونت إلى جدتي بضع كلمات يتمنى كل منكم لو سمعها. . . وفي تلك الليلة بعينها عاودت جدتي اللعب على مائدة الدوق دورليان معتذرة عن عدم دفع المبلغ بنا اعتورها من النسيان، وأخذت ثلاث ورقات، راهنت على الأولى فكسبت ثم ضاعفت الرهان على الثانية فكسبت، وكذلك كان حظها حين لعبت الورقة الثالثة. . .) وهنا صاح أحد الضباط مقاطعاً: مجرد حظ! وقال هرمان: يا لها من قصة. بينما سأل ثالث: وهل كانت الورقات مرقومة؟ فأجاب تومسكي:
- كلا، ولكن استمعوا للبقية، فقد كان لجدتي ثلاثة أبناء أحدهم والدي، ومع هذا لم يتمكن أحدهم من استخلاص سر الثلاث الورقات منها حتى الآن. . . والأعجب من ذلك أنها قابلت ذات يوم فيما بعد صديقاً لها قد خسر كل ثروته في ليلة واحدة؛ وحين علمت بالأمر ووجدته غارقاً في اليأس أعطته وريقات ثلاثاً كي يلعب بها بعد أن أخذت منه وعداً قاطعاً بالا يجلس إلى مائدة القمار بعد أن يستعيد ثروته. وفي اليوم التالي عرض الشاب على غريمه أن يلاعبه فقبل، وإذ ذاك بدأت المقامرة بأن راهن الأول على إحدى الورقات بخمسين روبل، فكسب. . . وعندما ترك المائدة الخضراء كان قد أستعاد ضعف ثروته
وتوقف تومسكي عند هذا الحد من حديثه ثم قال:
- هيا بنا إلى النوم أيها الأصدقاء فقد حانت الساعة السادسة.
- 2 -(375/60)
في الوقت الذي كان تومسكي يقص فيه حديث جدته كانت هذه تجلس أمام المرآة لتصلح من هندامها وتستكمل زينتها، فإنها رغم كبر سنها كانت تحرص على حضور جميع المراقص والحفلات باذلة عناية فائقة في اختيار ملابسها حتى أصبح منزلها كعبة الزوار يؤمه أناس من أرقى الطبقات لقضاء بعض الوقت في تسلية ومرح ولكن رغم هذا كانت الكونتس عصبية المزاج شاذة الأطوار، لا تهتم إلا بملذاتها ولا تغفر لوصيفتها (ليزابيتا إيفانوفنا) أصغر هفوة، بل أنها كانت إذا أمرتها بأعداد الشاي انتهرتها على تبذيرها في السكر، وإذا طلبت منها قراءة فصل من كتاب عدتها مسؤولة عن السخف الذي يجري به قلم المؤلف، وإذا خرجت معها في نزهة لامتها على سقوط المطر أو هبوب العواصف، وإذا اصطحبتها لمرقص أقصتها عن مجلسها إلى ركن تظل السكينة منفردة فيه، لا يشاركها أحد حديثاً أو يدعوها لرقصة. ورغم ما امتازت به ليزابيتا من جمال فاقت به سيدتها، بل وكثيرات من النبيلات لم يكن أحد ليلقي إليها نظرة أو يعيرها أي التفات، فثارت كرامتها لذاك الوضع المزري الذي أكتنف حياتها وصارت إذا أشتد بها الألم وعصفت بين جوانحها ريح الهموم، أسلمت عينيها للدمع تذرفه وقلبها للزفرات يرسلها. . . جلست ليزابيتا بعد يومين من مأدبة نلروموف بجوار النافذة تطرز، فحانت منها التفاتة إلى الطريق دون قصد، وإذ ذاك وقع بصرها على ضابط وقف بلا حراك مثبتاً عينيه تجاهها، فغضت من نظرها وعادت للتطريز. . . وما مرت بضع دقائق، حتى أطلت من النافذة بحركة آلية، فإذا الضابط لم يبرح مكانه. . . وكان ردها على هذا أن ابتعدت قليلاً وعادت إلى التطريز إذ لم يكن من عادتها مبادلة الشبان النظرات والبسمات. . . وبعد ساعتين قامت للعناية بشؤون سيدتها فلمحت على الرغم منها ذاك الضابط في مكانه.
بدا لها كل ذلك غريباً فلم تدر كيف تعلله إلى أن عادت بعد الغداء إلى عملها، ولكن الضابط كان قد ذهب فلم تنشغل بالتفكير في أمره. . . ومر يومان غادرت الكونتس بعدها قصرها بصحبة وصيفتها، وما كانت الأولى تتخذ لها مقعداً في العربة حتى أبصرت ليزابيتا الضابط عينه واقفاً عن بعد، وقد التف بمعطف حجب نصف وجهه ولكنه لم يحجب عينيه المتقدتين، فاضطربت الفتاة دون أن تدري لذلك الاضطراب سبباً.
وواظب الضابط على الحضور إلى نفس المكان كل يوم يسدد إليها بصره، فكانت إذا ما(375/61)
رأته انسحبت على الفور والفضول يقتلها وشعور غريب يضطرم في أعماقها بشكل لم يسبق لها أن أحست بمثله. ولم يمض وقت طويل حتى نشأت بين الاثنين صداقة جعلت الفتاة تحس بوجوده حين تجلس إلى النافذة فتحدق فيه بضع لحظات ثم تعود لعملها وقد كست الحمرة وجنتيها، بينما ينصرف الشاب مغتبطاً بتلك اللحظات التي تفضلت بها عليه
. . . ومر أسبوع تبادلت فيه ليزابيتا مع الضابط البسمات البريئة الساذجة، وكان قلبها يخفق كلما رأته وخاصة عندما دخل تومسكي يلتمس من جدته الإذن بأن يقدم لها أحد أصدقائه إذ ظنت الفتاة أن صديقها الضابط هو المعني بالكلام. كان هرمان من أسرة ألمانية أقامت في روسيا فلما مات والده ورث عنه بعض المال ولم يشأ أن يقامر به خوف فقدانه فظل قنوعاً بما يدر عليه من ريع كان يكفيه، بل ويسمح له أحياناً بالإنفاق على أصدقائه إذا خرجوا يتنزهون، ولكنه رغم إحجامه عن المقامرة لم يجد بأساً من قضاء السهرات مع خلانه يراقبهم وهم يلعبون. . . وحين انتهى تومسكي من قصة الوريقات الثلاثة كان الفضول قد تملكه والدهشة قد عقدت لسانه، فلم يكف عن التفكير في محيطها طوال تلك الليلة. . . وفي الليلة التالية خرج يتربص في شارع سانت بطرسبرج وهو يمني نفسه بالتقرب من الكونتس كي تبوح له بسرها، ولا سيما أنها في الثامنة والسبعين من عمرها فموتها متوقع من يوم لآخر. . .
ولم يكن يقطع على هرمان حبل أفكاره أحياناً إلا الشك الذي نسج خيوطه في مخيلته فبات يخشى أن تكون قصة تومسكي دعابة جدت بها قريحته ولكنه ما لبث أن سمع هامساً يهتف في أعماق قلبه مذكراً إياه بأن وريقاته الرابحة هي الاقتصاد والعمل والمثابرة فليقصر جهوده عليها ليتضاعف دخله ويغدو من ذوي اليسار.
مرت هذه الخواطر بذهنه وهو يتنزه إلى أن استرعى نظره قصر تجلت فيه آيات الفن وازدحمت أمامه العربات بعد أن قذفت إليه بمن فيها من رجال وسيدات وضباط وآنسات فمرقوا جميعاً من بابه وسرعان ما احتوتهم قاعاته. . .
اقترب هرمان من الحارس سائلاً عن رب القصر، وما أن رد هذا ناطقاً باسم الكونتس أنافيدروفنا حتى اشتمل هرمان الذهول فهتف في نفسه: (تاالله!؟ إنها جدة تومسكي. . . إنها صاحبة الوريقات الثلاث) ووقف لحظة مشدوهاً ثم خط طريقه إلى المنزل حيث تملكه(375/62)
القلق ففارقه النعاس، ولكنه حين قهره بعد طول عناء أخذت الأشباح تتراقص أمام عينيه. . . رأى المائدة الخضراء تعلوها النقد وأكوام من (الروبلات). . . ورأى نفسه جالساً إليها وقد غمره فيض من الربح زخرت به جيوبه ثم استيقظ متنهداً فإذا كنوزه ليست إلا ثمرة كابوس مضطرب.
خرج إلى الطريق ليزيح تلك الخيالات التي أقضت مضجعه، ولكنه وجد قدميه تقودانه ناحية القصر. . . كان يبدو أن قوة خارقة قد اجتذبته إلى هناك، فوقف يتطلع إلى النافذة وما لبث أن رأى فتاة يزين رأسها شعر أسود متهدل قد أكبت على كتاب تقرؤه أو حرير تطرزه. . . وتحركت الفتاة تجاهه فأخذت عيناه وجهاً جميلاً وعينين نجلاوين يشع منهما بريق خاطف
. . . وفي تلك اللحظة تحدد مصيره وكتب القدر نهايته.
- 3 -
كانت ليزابيتا قد أنهت عملها حين نادتها الكونتس لتؤنس وحدتها في نزهة قصيرة، وبينما كانت تساعد سيدتها على ارتقاء العربة رأت الفتاة ذاك الضابط. . . رأته بجانبها يدس ورقة بين يديها فأخفتها بين طيات قفازها وبدأت تفكر، فلم تر أو تع شيئاً مما مر حولها. وزادتها حيرة وارتباكا أسئلة الكونتس المتوالية التي اكتفت في الرد عليها بأجوبة مقتضبة مما دعا سيدتها إلى القول:
(ماذا بك اليوم؟ فيم تفكرين؟ ألا تسمعينني؟. . . إنني لا زلت أتكلم بوضوح. أليس كذلك؟)
. . . ومرة أخرى لم تصغ ليزابيتا إلى كلامها، وحين عادت إلى حجرتها أقفلت بابها وشرعت تقرأ في الورقة المطوية أرق عبارات الحب التي صيغت في قالب عاطفي، فتملكها شعور من الفرح. . . ولكنها وقفت بعد حين تحدق في الفضاء. لقد كانت هذه أول مرة يحس فيها أحد بوجودها بل ويظل ساعات طويلة في انتظار ابتسامة عذبة يفتر عنها ثغرها، أو نظرة تتجلى بها عيناها. . . فكيف لا ترتبك. . . وأخيراً وبعد لأي كتبت له هذه الكلمات بيد مرتعشة: (أؤمل أن تكون نواياك طيبة نبيلة. . . وإنما يجدر بك أن تعرف أن علاقتنا لا يمكن أن تبدأ عن هذا الطريق. وهاأنا ذي أعيد إليك خطابك راجية ألا تلجئني للندم على تسرعي).(375/63)
ثم قذفت بالرسالة من النافذة فالتقطها الضابط وما أن أتم قراءتها حتى شاع البِشر في قسمات وجهه فبدأ قانعاً بأولى خطوات مغامرته. . .
مضت أيام وأسابيع كان هرمان خلالها يتوسل بمختلف الطرق لإيصال رسائله لمحبوبته. . . كان يكتب تلك الرسائل بعبارات أخاذة لم تستطيع الفتاة مقاومة إغرائها فاضطرت للرد عليها ومبادلة الشاب وداً بود؛ وكان الرد يطول يوماً بعد يوم إلى أن أحتوى ذات يوم هذه الكلمات:
(سيقام مرقص الليلة في دار السفارة وستحضره الكونتس فتمكث هناك حتى الثانية صباحاً، فعليك - إذا أردت مقابلتي - أن تقبع في مكانك حتى تطفئ الأنوار في الساعة الحادية عشرة وإذ ذاك وجه خطواتك نحو باب القصر وادخله بلا تردد لأن الحارس سيكون غارقاً في غطيطه؛ ثم ارتق الدرج بسرعة حتى غرفة الكونتس حيث تجد خلف الأستار بابين يقود الأيمن منهما إلى حجرتي وانتظرني هناك. . .)
وحوالي الساعة العاشرة من ذاك المساء كان هرمان واقفاً أمام القصر ينتظر. . . كانت الليلة رهيبة، والريح تعصف بشدة، والثلج يتساقط بفيض زاخر بينما انبعثت من المصابيح نور خافت، فخلا الطريق من المارة وعم السكون. . مرت لحظات سمع بعدها صوت عجلات العربة يردده الفضاء وهي تبتعد بالكونتس ووصيفتها في طريقهما إلى المرقص. ثم كرت الدقائق وأطفأت الأنوار، فانتظر هرمان بعض الوقت، ومن ثم يمم شطر القصر فعبر بابه وصعد السلم بخفة النمر حتى وصل إلى غرفة الكونتس حيث رأى على ضوء مصباح صغير قطع الأثاث الفاخر منثرة في أرجائها وبضع صور زيتية تزين جدرانها فوقف يتأملها في صمت وسكون وما لبث أن عبر الغرفة إلى الممر الذي تقع في نهايته غرفة الفتاة فولجها وأقفل خلفه الباب فعمها الظلام. . . وجلس ينتظر.
مر الوقت بطيئاً وكان الهدوء ناشراً ظله على القصر ثم دقت الساعة اثنتي عشر دقة وعاد السكون الذي لم يعكره سوى ضربات قلب الشاب تطرق أذنيه. . . وبعد وقت سمع دقة واحدة. . . ثم دقتين. ولم تمض لحظات حتى عادت العربة ترسل صوتها فيشتد خفقان قلبه ويزداد اضطرابه. ولما شعر بخطوات على السلم ركز بصره في ثقب الباب فرأى الكونتس تخلع ملابسها وترفع عن رأسها إكليل الورد والشعر المستعار ثم تجلس إلى مقعد(375/64)
بجوار النافذة تناضل الأرق دون جدوى. رفعت الكونتس رأسها حين سمعت حركة خلفها فرأت رجلاً منتصباً أمامها. . وما لبث هرمان أن قال: (لا تنزعجي يا سيدتي بحق السماء. إني لا أود لك ضرراً وإنما جئت أنشد منك مطلباً هيناً).
نظرت إليه المرأة العجوز وهي صامتة كأنها لا تعي، فأعاد قوله بصوت عال إذ ظنها صماء. ولكنها لم تتحرك فاستطرد يقول: (إنك تملكين أن تسعديني طوال حياتي دون أن يكلفك الأمر شيئاً سوى ثلاث ورقات).
وهنا فهمت الكونتس كل شيء فأجابت على الفور: (أوه. إنها مزحة. . . أقسم لك على ذلك). ولكن صوت هرمان قاطعها بقوله: (كلا يا سيدتي، ألا تذكرين الرجل الذي أعطيتها له فضاعف ثروته).
بدا الاضطراب على وجهها. ولكن هرمان عاود القول: (هلا ذكرت لي ذاك السر. . . لِمَ تحفظينه لأحفادك؟ إنهم في غنى عن مزيد من المال. . . أما أنا فلن تأسفين على إسعادي لأني كفيل بالإنفاق على خير الوجوه. . . هيا بربك تكلمي. . . أفصحي!)
وقف ينتظر الرد وقد عيل صبره، ولما لم تجب انحنى متوسلاً وهو يقول: (ألا تعرفين الرحمة والحب. . . إذا كنت تذكرينهما فإني أستحلفك باسم الأبوة والأمومة وبكل ما تقدسين ألا تخيبي أملي. . . اذكري أنك كبيرة السن وأن أبنائي وأحفادي سيباركون ذكراك).
ولكن الكونتس لم تجب، وحينئذ نهض هرمان واقفاً وسدد غدارة نحوها ثم أردف: (إذا سأضطرك إلى الكلام).
أشتد اضطراب المرأة فاهتز رأسها بقوة، ومدت يديها كأنها تبغي أن تبعد شراً يوشك أن ينقض عليها، ثم تراجعت إلى الوراء بلا حراك.
(هيا لا تكوني كالأطفال. . . إني أمهلك آخر مرة. . . ما هي الورقات الثلاث؟. . .)
ولما لم يسمع رداً أو حركة أمسك هرمان يدها فوجدها قد فارقت الحياة حاملة سرها معها.
- 4 -
حينما دخلت ليزابيتا إلى حجرتها سرها أن لم تجد فيها صديقها الضابط، إذ أن شعوراً من الندم غمرها فأخذت تلوم نفسها على تسرعها في استدعائه. وبينما هي سابحة في بحار(375/65)
الفكر فتح الباب فإذا بهرمان واقفاً تجاهها. فارتعدت الفتاة وقالت: (أين. . . كنت؟)
فرد مطرقاً: (في غرفة الكونتس. . . لقد تركتها منذ لحظة. . . ميتة).
(يا للسماء!! ماذا تقول؟) فاستطرد هرمان: (أخشى أن أكون سبب موتها). ثم جلس بجوار النافذة وشرع يقص عليها أنباء مغامراته، فأدركت أن عبارات الوجد والهيام التي كتبها والساعات الطويلة التي قضاها واقفاً أمام نافذتها لم يُمِلها الحب الصادق بل حب المال. . . المال الذي سيطر على قطب تفكيره فجعله يستخدمها أداة طيعة في يده. . . المال الذي صيره مجرماً أثيماً.
ولم تتمالك الفتاة نفسها منة البكاء في مرارة وألم، ولكنه أخذ يراقبها في سكون دون أن تلين قلبه دموعها التي ذرفتها ولا جمالها الذي زاده الحزن سحراً وفتنة، ولم يلق بالاً إلى موت الكونتس في ذاته، وإنما أحزنه أنها دفنت سرها معها.
وعاد إلى الصمت فلم يتبادلا كلمة ولا نظرة حتى بدت طلائع الفجر فانسحب الضابط من حيث أتى وما لبث أن احتواه الطريق.
- 5 -
مضت أيام ثلاث دخل هرمان بعدها الدير الذي رقدت فيه الكونتس ليؤدي لها واجب الاحترام الأخير. . . ولكن هذا لم يكن قصده الحقيقي، وإنما كان - ككل رجل لم يتسرب إلى قلبه شعاع من الإيمان - شديد التشاؤم والتطير، فخيل إليه أنه لو قصر في أداء هذا الواجب لحلت عليه لعنة روحها واستحق غضبها، وإذ ذاك رأى أن يرضيها من هذا الطريق.
دخل هرمان القاعة فوجد جسدها مسجى على فراش من المخمل الأسود وقد أحاطه خدمها حاملين الشموع. . . وبدأ المكان رهيباً. ولما حان دور الضابط تقدم منها فانحنى قليلاً، وفجأة صور له الوهم أن عيني المرأة تتطلعان إليه وأنهما فتحتا فتطاير منهم الشرر. . . ارتعد هرمان واختلج جسمه ثم ارتمى على من خلفه وقد غمر وجهه الشحوب، وفي نفس اللحظة كانت ليزابيتا في أقصى المكان قد أغمي عليها.
خرج هرمان وقد تملكه الرعب والفزع فتوجه إلى حانة حيث جلس يحتسي كؤوس النبيذ ليرفه عن نفسه المكروبة. ولما حان المساء عاد إلى بيته فاستلقى على الفراش وغرق في(375/66)
نون عميق لم يصح منه إلا والليل يغمر الكون فلا يبدد ظلمته سوى نور القمر المنبعث من النافذة. . . ولم يكد يغسل الكرى عن عينيه حتى أعتدل جالساً ومكث بعض الوقت على تلك الحال، وما لبث أن سمع خطوات شخص يمر بنافذته ويتطلع إلى داخل الغرفة ثم يواصل سيره. . . لم يلحظ الأمر في البداية باهتمام ولكنه أرتعد حين سمع باب منزله يفتح، والممر يردد صوت تلك الخطوات، وأوشكت صرخة أن تفلت منه حين رأى امرأة في ملابس بيضاء منتصبة أمامه. . . عرف فيها الكونتس أنّا فازداد اضطرابه وازداد لعابه بصعوبة إذ سمعها تقول: (لقد جئتك رغم إرادتي لأشكر لك احترامك لذكراي ولأكافئك بذكر الوريقات الرابحة، إنها الثلاثة والسبعة والآس. ولكن أحذر أن تعاود اللعب بعد أن تجمع لنفسك ثروة معقولة. وإذا تزوجت وصيفتي ليزابيتا غفرت لك كل ما بدر منك).
نطقت بهذه الكلمات بين دهشته وذهوله، ثم خرجت من حيث أتت وردد الطريق وقع أقدامها. . .
لبث هرمان مشدوهاً بعض الوقت، ثم اجتاز الغرفة وأيقظ خادمه ولكنه عبثاً حاول أن يعرف منه شيئاً عن الأمر؛ فقد كان هذا مستغرقاً في النوم لحظة أن دخلت الكونتس.
لم يغمض للرجل جفن طوال تلك الليلة، إذ أخذت الأفكار تطارده والأحلام تذكره بالثلاثة والسبعة والآس؛ فحصر مخيلته في البحث عن مكان للمقامرة، وحين علم بنبأ عزم فريق من الأثرياء على الالتفاف حول مائدة القمار بأحد الأندية يمم شطره وريح الأمل تدوي بين جنبيه، وهناك وجد عليه القوم وكبار الضباط يلعبون.
وجلس هرمان يشاركهم، وما لبث حين مر به الدور أن أخذ ورقة وراهن عليها بمبلغ 47 ألف روبل فتركزت حوله الأبصار وأخذ الجميع يتطلعون إليه ثم قال تلروموف وهو يغمغم (لقد فقد الرجل عقله) وتلاه أحد اللاعبين بقوله: (أتسمح لي يا سيدي أن أحذرك مغبة المراهنة على مثل هذا المبلغ الجسيم. . . إنها مغامرة مميتة فنحن لا نراهن عادة على أكثر من مائتي روبل).
ولكن هرمان قال في إصرار: (إني أعلم ذلك فهل تقبلون لعبي أم لا؟) وإذ ذاك قال صاحب النادي: (لا بأس فقد أردنا تنبيهك فقط)(375/67)
وأخرج هرمان من حافظته عدداً من أوراق البنكوت سلمها لمحدثه ثم بدأ اللعب فكشف الورقة التي بيده وكانت الرابحة. سرت موجة من الدهشة بين الحاضرين وتسلم هرمان ما ربح ثم أنصرف تاركاً الخاسرين فريسة الذهول، وفي الليلة التالية عاد إلى اللعب والتأم الجمع حول المائدة الخضراء فقامر الضابط كالليلة السابقة وما أن كشفت الورقة التي بيده وكانت السبعة حتى تبين أنها الرابحة. . . ومرة أخرى جمع أرباحه ولم ينس أن يحيي الحاضرين عند خروجه بانحناءة وابتسامة. ظهر هرمان في الليلة الثالثة والأخيرة، وازدحم حول المائدة أفواج من المتفرجين واللاعبين وقد أشتد بهم الحماس والتشوق ثم بدأ اللعب. . . فأخذ هرمان (الآس) واستعد الكل للحظة الفاصلة فخيم الصمت على أرجاء القاعة. . . ثم أخذ الرئيس الورق بيد مضطربة ودار اللعب برهة ثم تبين أن الورقة الرابحة هي الآس وإذ ذاك كشف هرمان ورقته وهو يكاد يفقد عقله من الفرح والغبطة. . . ولكنه وجدها (دام) (سباتي). . . اشتد به الذهول وزاغت عيناه وتصلبت أطرافه وهو يحدق في الورقة إذ خيل إليه أن (الدام) تفتح عينيها وتغمضها بينما ارتسمت على شفتيها ابتسامة هازئة. . . شعر بالرعب يلجم لسانه فقد كانت (الدام) شديدة الشبه بالكونتس.
- 6 -
وبعد يومين كان زائر مستشفى أبو كوف يقع نظره في إحدى الحجرات على رجل فاقد العقل والشعور، لا يجيب عما يوجه إليه من أسئلة وإنما يظل يتمتم بصوت خافت: (ثلاثة. . . سبعة. . . آس)
حلمي مراد
المحامي(375/68)
العدد 376 - بتاريخ: 16 - 09 - 1940(/)
درس ينفع أبناء هذا الجيل
للدكتور زكي مبارك
يختلف الناس اختلافاً شديداً في قوة الحس ويقظة الروح. والحس والروح جارحتان من أعظم الجوارح الإنسانية، وهما السناد الأعظم للكاتب والشاعر والمفكر والفيلسوف، وبقدر اختلاف هؤلاء في النصيب الموهوب أو المكسوب من هاتين الجارحتين تختلف حظوظهم في السيطرة على أهواء السامعين والقارئين. والذي يقرأ تراجم الأكابر من الكتاب والشعراء والوزراء يرى أنهم كانوا في الأغلب أصحاب شهوات. وهنا يشتبه الأمر على القارئ المبتدئ فيسأل: كيف تجتمع العظمة والشهوة؟ وهل تكون الشهوة من وسائل العظمة؟ ونجيب بأن الخضوع للشهوة عيبٌ نهي عنه الحكماء، والذي يقترف الفجور تشبهاً بما وقع فيه عظماء الرجال هو مخلوقٌ سخيف، ومَثَلهُ مَثَل (فلان) وهو شخصٌ جيّد الخطّ، وقد شهد له بذلك أساتذته يوم كان تلميذاً في المدارس الثانوية، فلما سمح له الدهر بأن يكون أستاذاً في أحد المعاهد العالية، صار يقبِّح خطه عامداً متعمداً ليندرج في زُمرة العلماء، فقد كان سمع أن خطوط العلماء مَضرِب المَثل في القبح والغموض والاعوجاج!
ولا مؤاخذة يا فلان، فأنت تعرف مبلغ حرصي على الجهر بكلمة الحق. ومن هنا أشفق أشد الإشفاق على الشبان الذين يستهينون بالآداب والتقاليد، لأنهم سمعوا أن أعظم الرجال لم يكونوا يقيمون وزناً لمأثور الآداب والتقاليد. والفرق بين الحالين كالفرق بين إناء تملأه فيفيض وإناء يغلي فيفيض. فالرجل العظيم لا يقع - حين يقع - في الخضوع لإحدى الشهوات إلا وهو مغلوب على أمره بقوة الإحساس، وهو لذلك يظل سليم الشخصية الخُلُقية، ولا كذلك الشاب السخيف الذي يخضع للشهوات تشبُّهاً بالعظماء، فإن شخصيته الخُلُقية تنحل أبشع انحلال، لأنه لم يخضع لهواه طاعةً لقوة قهارة من الحس المشبوب، وإنما يخضع لهواه طاعةً لنزعة مرذولة من نزعات التقليد الممقوت.
يضاف إلى ذلك أن الشهوات المنسوبة إلى العظماء يغلب عليها التزوير والاختلاق، لأن واضعيها يرجعون إلى فريقين: فريق الفجرة الذين يهمهم أن يشاع أن الخلُق السليم ليس حجراً أساسياً في بناء العظمة الذاتية، وفريق الحاقدين الذين لا يتورعون عن خَلْق التهم في التشهير بمن يعادون من العظماء. ولو صح أن الشهوات المنسوبة إلى بعض أكابر الرجال(376/1)
حقيقية لوجب القول بأن الأخلاق ليست إلا كلاماً في كلام، وأن الشهرة والجاهُ ينالان بالتحكم والسيطرة كما تُنال بعض الثروات بالغش والتدليس، وذلك قولٌ مردود. والذي يقف في التعرف إلى شخصيات العظماء عند ظواهر الهنوات محكومٌ عليه بالخذلان، لأن العظماء لهم قوىً خُلقية لا يفطن إليها عوام الناس، وتلك القُوى الخفية هي السرّ في نجاح أولئك العظماء، وهي ليست قُوىً عادية من التي يتمدح بمثلها من لا يملكون من المواهب غير الاستقامة وضبط النفس في حدود المبتذل من الشهوات، وإنما هي قوىً عارمة تمكِّن أصحابها من الجهاد بأمن وعافية في مكافحة الضغائن والحقود، والشدائد والخطوب.
وأذكر في هذا المقام ثورة بعض الناس على السيد جمال الدين الأفغاني وقد عابوا عليه أن يجلس في القهوات يوم كان ذلك من العيوب، فأولئك القوم لم يكونوا يرون قوة الخُلُق في غير البعد عن مواطن الشبهات، وفاتهم أن الجلوس على القهوة بالرغم من استهجانه في ذلك الوقت لم يكن في نظر السيد جمال الدين الأفغاني إلا حسنة من الحسنات، لأنه كان فرصة لدرس أحوال الجمهور والوقوف على ما اختلف وائتلف من نوازع الناس.
وأين الجلوس على القهوة من الشمائل الحقيقية لجمال الدين الأفغاني؟ وهل عرف المتألبون عليه لذلك السبب الحقير كيف استطاع بقوته الذاتية أن يكون حديث الوزراء والملوك في الشرق والغرب؟ وكيف استطاع بعظمته الروحية أن يتغلب على مصاعب الفقر والاغتراب؟ وكيف فرض عليه روحه العظيم أن يرفض معونة رفيقيه العظيمين محمد عبده وسعد زغلول وهو خارج خروج الطريد من الديار المصرية؟؟؟
وأذكر أيضاً شيخ الشيوخ محمد عبده فقد ألحّ حاقدوه في اتهامه بترك الصلاة ليجوز لهم الرجم بأنه لا يصلح لتولي الإفتاء، ولو فطن الجمهور إلى أن قالة السوء هي التي منعت الشيخ محمد عبده من الصلاة في العلانية لأدركوا أنه كان يخشى الوقوع في هُوّة الرياء، ولعله كان يريد أن يعرف كيف ينصره علام الغيوب على من يغتابونه ظالمين.
ومن هم أعداء محمد عبده؟ هل كانوا حقيقة من أحلاس المساجد؟ وهل كانوا غاية في الحرص على الصلاة والزكاة والصيام والقيام؟ إنما كانوا طلاب صيد، وكانوا بتجريحه يتقربون إلى إحدى الجهات، فحل عليهم غضب الله، ولم يبق لهم من الغنيمة إلا الإشارة من وقت إلى وقت بأنهم قالوا في ذلك الإمام كيت وكيت. وبعض الناس ينحصر مجده في(376/2)
الشهرة باتهام الأبرياء!
ولو سلَّمنا جدلاً بأن الشيخ محمد عبده كان تارك الصلاة - ورحمة الله على العهد الذي كان فيه ترك الصلاة من العيوب، فقد خفتُ أن تصبح فريضة الصلاة من المجهولات عند أبناء هذا الجيل - لو سلمنا بذلك لكان الأمر عجباً كل العجب، لأن الشيخ محمد عبده كان يملك من القدرة على أهواء النفس ما يمكنه من أن يجود بثلاثة أرباع مرتبه على المعوزين والبائسين من الذين يمنعهم الحياء من إعلان الاحتياج، ولولا شهامة الشاعر عبد المحسن الكاظمي لما تعرضت مكارم الشيخ محمد عبده إلى الافتضاح، فكيف يجوز لرجل يُذلّ ماله هذا الإذلال أن يضعف عن أداء الصلاة وهي من وسائل المرائين في كسب ثقة الجماهير، إلا أن تكون صلته بربه أعظم من أن تحتاج إلى إعلان؟
لقد كان المصلون من الأزهريين يعدون بالألوف في عصر الشيخ محمد عبده، ومع ذلك لم نسمع بأنهم تنازلوا عن شيء من أرغفتهم في مواساة المحتاجين، وإنما سمعنا أن الشيخ محمد عبده مات فقيراً وأن منافسيه ماتوا وهم أغنياء.
وهل فكر أحد في القيمة الصحيحة لرجل يتغلب على الجدب والإمحال في الحياة الأزهرية لعهد مضى عليه أكثر من نصف قرن فيكون الفيصل بين الهمجية والمدنية، ويكون صلة الوصل بين القديم والحديث، ويفسِّر جزأين من القرآن وهو في رياض سويسرا حيث يطيب لسواه أن يأنس بحياة اللهو والفتون؟
هل فكر أحد كيف جاز أن يسيطر محمد عبده على تلاميذه تلك السيطرة العاتية، فيقضي السيد رشيد رضا عمره في شرح آرائه العلمية، وينفق الشيخ مصطفى عبد الرزاق أطيب أوقاته في توضيح مذاهبه الاجتماعية، ويتأثر الشيخ محمد المراغي خطواته في الإصلاح الديني وفي سائر الشؤون حتى صار من العجب أن يكون خط الشيخ المراغي صورة من خط الشيخ محمد عبده مع صعوبة التشابه في الخطوط؟. . . كيف أمكن ذلك أيها الناس؟
ألا يكون ذلك دليلاً على أن الشيخ محمد عبده كان يعيش في حماية حصانة خُلقية لم يدرك أسرارها المتألبون عليه من الزملاء الأغبياء؟
وقد أشرت في الطبعة الثانية من كتاب (عبقرية الشريف الرضي) إلى ما صنع الشيخ المراغي مع علماء الأزهر الشريف، فقد شاع أن الشيخ المراغي نسى علوم الأزهر لبعد(376/3)
عهده بالحياة الأزهرية، فرأى الرجل أن يلقي دروساً علنية في علم الأصول ليريهم أن الذهن الثاقب كالسيف لا يضرُّه طول العهد بالإضمار في غياهب القراب.
وما قيمة العلوم النقلية بجانب العلوم المكتسبة من فهم سرائر المجتمع؟. . . وأين الأزهري الذي يملك القدرة على محاورة مدير الجامعة المصرية في الحفلات كما يقدر الشيخ المراغي على ذلك بسهولة لا تعرف التكلف والافتعال؟
كنا مرة في المفوضية العراقية بالقاهرة، والتقى لطفي باشا بالشيخ المراغي، وأقبل الشيخ رشيد رضا يقول: هذا لطفي باشا مدير الجامعة المدنية، وهذا الشيخ المراغي مدير الجامعة الدينية، والدين فوق المدنية. فابتسم لطفي باشا وقال: هذا حق ما دام الشيخ هنالك. وأجاب الشيخ المراغي: ما دام لطفي باشا في الجامعة المصرية فهي الشقيقة الرءوم للجامعة الأزهرية، وما كان الدين إلا رسول الحضارة والفهم والعقل. ثم تواتر الحديث بين الرجلين في غاية من التلطف والترفق والعطف.
ومن مزايا هذا العصر في مصر أن تكون الجامعة الأزهرية - وهي على الضفة الشرقية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً نحو الغرب، وأن تكون الجامعة المصرية - وهي على الضفة الغربية للنيل - تحت رياسة رجل يتجه أحياناً إلى الشرق.
وبذلك لا يكون من الشر أن يقال إن مصر بلد الغرائب، لأن الغرائب لا تجتمع في مصر إلا وهي صورة من الانسجام المقبول في شرعة الأدب والذوق.
ماذا أريد أن أقول؟ أنا أريد القول بأن الأخلاق الحقيقية للعظماء هي أجل وأدق من أن يفهمها عوام الناس، وما تعلَّق متعلقٌ بهفوة صورية لرجل من الأكابر إلا وهو غافلٌ جهول، فما تسمح قوانين الحياة بأن يسود رجل إلا وهو على جانب من متانة الخُلُق، وسجاحة النفس، ورصانة الطبع، وطهارة القلب، ولو كره المتزلفون إلى المجد بالوصولية والضَّعة والاستخذاء.
دلوني على عظيم واحد أُثِر عنه الانقياد لهواه في صباه.
ما نبغ في الدنيا نابغٌ إلا بعد أن قدم شبابه قُرباناً للمجد. وكان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه). فما بالُ بعض الشبان في مصر أو في غير مصر يعرفون مراتع اللهو قبل الأوان فتزدان بوجوههم مقاصير الملاعب والمراقص، ويكون لصباهم تاريخ في حياة(376/4)
الفتون؟ وما بال بعض الشبان يعرفون سُكْر الخمر وهم على خطر من سكر الشباب؟
أنتم لا تعرفون نعمة الله عليكم، أيها الجهلاء، والجهل هو الشباب في لغة أهل العراق.
من ألفاظ مصر كلمة (الغندرة) والغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون بين الأوائل في الدراسة الابتدائية والثانوية والعالية. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يكون قرة عين لوطنه ولأبويه، ولن يكون كذلك إلا إذا تفوق في جميع الشؤون. الغندرة الحقيقية للشاب هي أن يفوز فوزاً مطلقاً بثقة أساتذته وزملائه بحيث يتقدم إلى معترك الحياة وهو مرفوع الرأس وضَّاح الجبين.
ما بال بعض الشبان يسابقوننا إلى المشارب والملاعب؟
نحن نغشى تلك الأماكن من حين إلى حين لندرس أخلاق الجيل، فلا تكونوا موضوع الدرس، ولا تعرِّضوا سمعتكم لسهام الأقلام، فما يبقى على نوشها أديم صحيح.
إن كان غرّكم أن يتظرف رجلٌ مثلي فيقول إنه دخل الملعب الفلاني أو الحانة الفلانية، فأنا أتحداكم أن تثبتوا أني شربت فنجان قهوة في غير داري قبل أن أظفر بإجازة الدكتوراه أو قبل أن أبلغ الثلاثين.
وما أقوله عن نفسي أقوله عن الأدباء الذين يسيطرون على عقولكم وإفهامكم في هذا العهد. فالدكتور طه حسين في صباه لم يعرف من النعيم غير كرع ماء التين. والأستاذ عباس العقاد لم يعرف في شبابه غير مقارعة الأحاديث في سهرات أسوان، وقد زرته قبل عشرين سنة في دار تواجه المقابر بحيث لا يجد الماء إلا بفضل السقاء. والأستاذ إبراهيم المازني قضى طلائع شبابه في دار جافية لا تعرف الأنس بغير سحالي الصحراء. والأستاذ عبد العزيز البشري شهد على نفسه بأنه كان يتغدى بخمسة ملاليم مع أن أباه كان عمدة حيّ البغالة وكانت إليه مشيخة الأزهر الشريف.
لا تخدعوا، أيها الشبان، بالأدباء الذين يتحدثون عن هواهم الأثيم في باريس، أو غير باريس، فلن يكونوا ألأم مني، ونحن لا نسمح لأحد بأن يكون أحرص منا على الواجب، ولو خطر في البال أن في الشبان من يحاول سبقنا إلى المجد بقوة الكفاح لقطعنا رأسه بلا ترفق، ولو كنت أتوهم أن في أبناء هذا الجيل من يسدّ المسالك في وجهي بالسباق في ميادين الدرس والبحث والتنقيب لطويت عنه هذا النصح، فما أحب أن يكون لي في هذه(376/5)
الميادين خصم أو قريع.
في سنة 1927 خطر للدكتور طه أن يغمز أساتذة اللغة العربية في أحد دروسه بالجامعة المصرية فقال: كيف يجوز لهؤلاء أن يتولوا تدريس الأدب في المدارس الثانوية أو العالية وليس فيهم من تصفح ديوانين اثنين من دواوين الأدب العربي؟! فنهضتُ وقلت: (أرجو استثنائي من هؤلاء، فأنا أحفظ ثلاثين ألف بيت من الشعر العربي وأستطيع إنشادها جميعاً في أي وقت).
فابتسم الدكتور طه وقال: أنا لا أقصد أساتذة الجامعة المصرية. ولم يكن كلامي ضرباً من التحدي المؤقت، وإنما كان حقاً من الحق. وما اكتفيت بالثلاثين ألفا إلا إشفاقاً على طلبة الجامعة، فقد كانت مختارات البارودي من بعض محفوظاتي، وكنت أحفظ دواوين برمتها من الشعر الفرنسي، وقد حفظت معظم كتاب تليماك عن ظهر قلب في سنة 1919 وكان المسيو كليمان حدثني أن أسلوب فنلون هو المطمع بالممتنع. ولم أكن أعرف نظام الجذاذات عند الشروع في تأليف كتاب (الأخلاق عند الغزالي) فكنت أرجع إلى الشواهد في مؤلفات الغزالي بغير احتياج إلى دليل، فقد كانت مؤلفاته مسطورة في ذهني بأبوابها وفصولها وصفحاتها بحيث أجد الشاهد حين أشاء، بلا عناء.
وما استطعت ذلك كله لأن ذاكرتي أقوى من سائر الذاكرات، أو لأني أذكى من سائر الناس، وإنما استطعت ذلك لأني لا أعرف المسامحات في صيف أو شتاء. وما أذكر أبداً أني انقطعت عن الدرس في يوم من أيام المواسم والأعياد، حتى أيام البواخر قرأت فيها أشياء وكتبت أشياء. وهذا بالتأكيد حال كثير من الأدباء في هذا العهد، وقد يكون فيهم من يفوقني في الصبر على مكاره الدرس والتأليف، فليست الحظوظ أو الظروف هي التي جعلت بعض أدبائنا أئمة مرموقين في الأقطار العربية والإسلامية، وإنما هو الكدح الدائم والكفاح الموصول.
أما بعد فبأي حق يجوز لطالب العلم أن يجلس في أحد المشارب وفي يده كأس؟
وبأي حق يتسامى الشبان الظرفاء إلى السيطرة الأدبية والعلمية وهم يدفعون مهرها من الكسل والخمود والاعتماد على وساطة الشفعاء؟
من حق كل إنسان أن يتخير مصيره كيف شاء، فلن يكون الناس جميعاً نوابغ وعبقريين.(376/6)
أما طالب العلم فلا يملك هذا الحق، لأن الأمة تفرض عليه أن يكون مضرب المثل في الحرص على الفهم والاجتهاد والتحصيل، وهي لن ترضى منه بالقيمة الصغيرة في مغانمه العلمية، لأن مصر في هذا العهد لم يبق فيها مكان لغير المتفوقين، ولكن أين من يفهم هذه الحقيقة من أبناء هذا الجيل؟
لقد كثرت الشكاية من وقف صفحات الجرائد والمجلات على طائفة معروفة من الباحثين، وكثر تضجر الشباب من طغيان الكهول. وهذا حق، ولكنه سُنّةٌ طبيعية، والأحمق هو الذي يطمع في تبديل نواميس الوجود بالتوسل والرجاء.
وأنا أكشف الستار عن بعض الدسائس الأدبية فأقول:
في مصر اليوم إصرار عنيف على الاستبداد بمغانم الحياة الفكرية، وأولئك المستبدون يصلون النهار بالليل في تزويد عقولهم وإفهامهم بما يجدّ في عالم الآداب والفنون، ولا يمكن زحزحة هؤلاء المستبدين بالتشكي والتوجع، وإنما يزحزحون بمناكب أضخم من مناكبهم، وتلك المناكب هي العقول العاتية التي تأنف من الاكتفاء بالزاد القليل، وترى القناعة من صور الفناء، وقد علَّل أحد الشبان نفسه فقال: سيأتي يوم يموت فيه هؤلاء الكهول ويخلو الميدان.
وهذا أيضاً حق، ولكن خيبة مصر في أبنائها ستكون فظيعة حين يصح أن موت المتفوقين هو الفرصة لتقدم المتخلفين.
إن مصر تنتظر شباناً أقوياء لا يطيف بأذهانهم مثل ذلك الخيال السقيم. مصر تنتظر شباناً يعيشون عيش التبتل والتنسك والاعتكاف في زوايا المدارس والمكاتب. مصر تنتظر شباناً لا يعرفون من أدوات الزينة غير القلم والكتاب. مصر تنتظر شباناً يؤمنون بأن المجد الأدبي لا ينال بالتشهي والتمني، وإنما ينال بالصبر على أقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.
زكي مبارك(376/7)
في الاجتماع اللغوي
تطور اللغة وارتقاؤها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تتأثر اللغة أيما تأثر بحضارة الأمة، ونظمها وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها العقلية، ودرجة ثقافتها، ونظرها إلى الحياة، وأحوال بيئتها الجغرافية، وشئونها الاجتماعية العامة وما إلى ذلك. فكل تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير. ولذلك تعد اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب: فبالوقوف على المراحل التي اجتازتها لغة ما، وعلى ضوء خصائصها في كل مرحلة منها، يمكن استخلاص الأدوار التي مرَّ بها أهلها في مختلف مظاهر حياتهم.
فكلما اتسعت حضارة الأمة وكثرت حاجاتها ومرافق حياتها ورقى تفكيرها، وتهذبت اتجاهاتها النفسية، نهضت لغتها، وسمت أساليبها، وتعددت فيها فنون القول، ودقت معاني مفرداتها القديمة، ودخلت فيها مفردات أخرى عن طريق الوضع والاشتقاق والاقتباس للتعبير عن المسميات والأفكار الجديدة، وهلم جرا. واللغة العربية أصدق شاهد على ما نقول، فقد كان لانتقال العرب من همجية الجاهلية إلى حضارة الإسلام، ومن النطاق العربي الضيق الذي امتازت به مدنيتهم في عصر بين أمية إلى الأفق العالمي الواسع الذي تحولوا إليه في عصر بني العباس، كان لهذين الانتقاليين أجلّ الأثر في نهضة لغتهم ورقي أساليبها، واتساعها لمختلف فنون الأدب، وشتى مسائل العلوم.
وانتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة يهذب لغتها، ويسمو بأساليبها، ويوسع نطاقها، ويزيل ما عسى أن يكون بها من خشونة، ويكسبها مرونة في التعبير والدلالة. وإن موازنة بين حالة اللغة العربية في عهد بداوة العرب قبل الإسلام وحالتها في عهد حضارتهم الإسلامية، أو بين ما كانت عليه عند أهل البادية في عصر ما وما كانت عليه في الحضر في نفس هذا العصر لأصدق برهان على ذلك. وإن البدوي الذي لم يلهمه شيطانه في مدحه للأمير أحسن من قوله:(376/8)
أنت كالكلب في حفاظك للعه ... د وكالتيس في قراع الخطوب
قد استطاعت قريحته بعد أن هذبتها حضارة بغداد أن تجود بمثل قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وما يحدث بين حضارة الأمة ولغتها من توافق وانسجام، يحدث مثله بين لغتها ومظاهر بيئتها الجغرافية. فجميع خصائص الإقليم الطبيعية تنطبع في لغة سكانه. ومن أجل ذلك نشأت فروق كبيرة في مختلف مظاهر اللغة بين سكان المناطق الجبلية وسكان الصحراء وسكان الأودية؛ وبين سكان المناطق الشمالية والوسطى والجنوبية. ومن ثم كذلك نشأت فروق غير يسيرة بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، بل بين لهجات اللغة الواحدة.
ففي كل لغة من لغات الفصيلة السامية مثلاً، تتمثل حالة البيئة التي سكنها الناطقون بها. فالآرامية التي نشأت في الشمال جافة الألفاظ قليلة المفردات، ثقيلة التراكيب، مضطربة القواعد، لا تكاد تواتي الأساليب الشعرية الراقية. والعربية التي نشأت في الجنوب أعذب اللغات السامية ألفاظاً، وأغناها مفردات، وأدقها قواعد، وأكثرها مرونة واتساعاً لمختلف فنون القول. والعبرية التي نشأت في منطقة متوسطة بين هاتين المنطقتين تمثل في رقيها منزلة بين منزلتي الآرامية والعربية؛ فقد فاقت الأولى ولكنها قصرت عن أن تدرك شأو الثانية، فألفاظها وأساليبها تتسع لكثير من مناحي القول؛ ولكن العربية تفوقها في مرونة التعبير والترف اللغوي وسعة الثروة في المفردات، وقواعدها سهلة مضبوطة، ولكنها لا تبلغ في دقتها وتنوعها مبلغ قواعد اللغة العربية. وتظهر هذه الفروق حتى من ناحية الأصوات، فالآرامية حوشية الأصوات، صعبة النطق، تتلقى في كلماتها المقاطع المتنافرة والحروف الساكنة؛ والعربية عذبة الأصوات سهلة النطق خفيفة الوقع على السمع، تقل في كلماتها الحروف غير المتحركة، ولا يكاد يجتمع في مفرداتها ولا في تراكيبها مقاطع متنافرة، ولا يلتقي في ألفاظها ساكنان. والعبرية وسط بين هذه وتلك: فهي لم تصل في سهولة اللفظ إلى درجة العربية ولا في صعوبته إلى درجة الآرامية؛ يتخلل كلماتها حروف المد في نطاق أوسع من الآرامية، وبدرجة تذلّل كثيراً من ظواهر الصعوبة في النطق، ولكن بدون أن تصل في هذه الناحية إلى الشأو الذي وصلت إليه لغت القرآن.
ولهذا السبب نفسه اختلفت اللهجات الإغريقية القديمة. فعلى الرغم من أن بلاد الإغريق(376/9)
كانت تشغل منطقة ضيقة فإن الاختلاف اليسير الذي كان بين أجزاء هذه المنطقة في طبيعتها الجغرافية قد أحدث بين لهجات سكانها فروقاً ذات بال. فاللهجة الدورية مثلاً خشنة الألفاظ، حوشية المخارج، صعبة النطق، ثقيلة الأصوات، على حين أن اللهجة اليونانية رخوة الكلمات، سهلة النطق، عذبة الأصوات، يتخلل كلماتها كثير من حروف المد وأصوات اللين.
ومظاهر النشاط الاقتصادي تطبع اللغة كذلك بطابع خاص في مفرداتها ومعانيها وأساليبها وتراكيبها. ومن ثم اختلفت مظاهر اللغة في الأمم والمناطق تبعاً لاختلافها في نوع الإنتاج، ونظم الاقتصاد، وشؤون الحياة المادية، والمهنة السائدة (الزراعة، الصناعة، التجارة، الصيد، رعي الأغنام. . . الخ). وقد تؤثر هذه المظاهر في أصوات اللغة نفسها. فقد يؤدي نوع العمل الذي يزاوله سكان منطقة ما إلى تشكيل أعضاء نطقهم في صورة خاصة تتأثر بها مخارج الحروف ونبرات الألفاظ ومناهج التطور الصوتي.
واللغة مرآة ينعكس فيها كذلك ما يسير عليه الناطقون بها في شئونهم الاجتماعية العامة، فعقائد الأمة، وتقاليدها، وما تخضع له من مبادئ في نواحي السياسة والتشريع والقضاء، والأخلاق والتربية وحياة الأسرة، وميلها إلى الحرب أو جنوحها إلى السلم، وما تعتنقه من نظم بصدد الموسيقى والنحت والرسم والتصوير والعمارة وسائر أنواع الفنون الجميلة. . . كل ذلك وما إليه يصبغ اللغة بصبغة خاصة في جميع مظاهرها في الأصوات والمفردات والدلالة والقواعد والأساليب. . . وهلم جرا.
وتتشكل اللغة كذلك بالشكل الذي يتفق مع اتجاهات الأمة العامة ومطامحها ونظرها إلى الحياة. فاتجاه الإنجليز مثلاً إلى الناحية العملية قد صبغ لغتهم بصبغة مادية في مفرداتها وتراكيبها؛ حتى إنه ليقال فيها: (دفع زيارة أو تحية أو انتباها) و (أنفق وقته في كيت وكيت) , ,. . . . ' '. بدلاً من (أدى زيارة) و (قدم تحية) و (أبدى انتباهاً) و (قضى وقته في عمل ما).
وما يكون عليه الأفراد من حشمة وأدب في شئونهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض ينبعث صداه في لغتهم ألفاظها وتراكيبها، فاللغة اللاتينية لا تستحيي أن تعبر عن العورات والأمور المستهجنة والأعمال الواجب سترها بعبارات مكشوفة، ولا أن تسميها بأسمائها(376/10)
الصريحة. على حين أن اللغة العربية بعد الإسلام تتلمس أحسن الحيل وأدناها إلى الحشمة والأدب في التعبير عن هذه الشؤون، فتلجأ إلى المجاز في اللفظ وتستبدل الكناية بصريح القول: القبل، الدبر، قارب النساء، لمس امرأته، قضى حاجته. . . الخ، ولقد كان لها بهذا الصدد في ألفاظ القرآن الكريم وعباراته أسوة حسنة: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)؛ (واهجروهن في المضاجع)؛ (لمستم النساء)؛ (وقد أفضى بعضكم إلى بعض)؛ (فاعتزلوا النساء في المحيض)؛ (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة من قبل أن يتماسا). . . وما إلى ذلك من كريم العبارات ونبيل الألفاظ. وما يبدوا في اللغة العربية بهذا الصدد يبدو مثله في اللغات الأوربية الحديثة وخاصةً الشمالية منها، وأكثرها تحرجاً في هذه الناحية اللغة الإنجليزية، فالبطن مثلاً لا يعبر عنه باسمه الصريح بل يطلق عليه في الغالب (أي المعدة) وسراويل الرجل يطلق عليها (أي لا يمكن التعبير عنه)؛ وسراويل المرأة تطلق عليها كلمة معناها الأصلي (الجمع أو التركيب). . وهلم جراً.
وخصائص الأمة العقلية ومميزاتها في الإدراك والوجدان والنزوع، ومدى ثقافتها ومستوى تفكيرها ومنهجه، وتفسيرها لظواهر الكون، وفهمها لما وراء الطبيعة - كل ذلك وما إليه ينبعث كذلك صداه في لغتها. ففي الأمم الأولية الضعيفة التفكير، المنحطة المدارك، تغزر الكلمات الدالة على المحسات والأمور الجزئية، وتنعدم أو تقل الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، وتخلو دلالة المفردات من الدقة والضبط، فيكثر فيها الخلط واللبس والإبهام، وتعرو القواعد أو تكاد تعروا من ظواهر التصريف والاشتقاق وربط عناصر الجملة والعبارة بعضها ببعض، ويضيق متن اللغة فلا يتسع لأكثر من ضروريات الحياة. ومن هذا القبيل الشعوب الصينية: فلغاتها أولية ساذجة في نواحي الألفاظ والدلالة والقواعد، تكفي للتعبير عن ضروريات الحياة، وشئون الصناعة اليدوية، والأدب السهل، والتأمل الضحل؛ ولكنها لا تتسع لعلم ولا لفلسفة ولا لدين بالمعنى الصحيح لهذه الكلمات، حتى إنه لا يوجد فيها اسم للإله؛ ويعبر فيها عن مسائل ما وراء الطبيعة بعبارات ملتوية مبهمة مضطربة الدلالة في أذهان أهلها أنفسهم.
وفي الشعوب السامية القديمة، إذ كان يسود التفكير الديني، وتفسر شؤون الحياة تفسيراً(376/11)
سهلاً، وتنسب جميع الظواهر الطبيعية إلى تدخل الأرواح والآلهة، ويسيطر على المدارك الكسل والخمول، وتنفر الأفكار من البحث العلمي، وترغب عن التأمل الفلسفي - في مثل هذه الشعوب ترى اللغات سهلة المأخذ، ساذجة الدلالة، ضحلة المعاني، قصيرة الجمل، قليلة الروابط: تضع أجزاء الجملة وفقرات العبارة بعضها بجانب بعض، معتمدة في بيان وظيفة الألفاظ والجمل وعلاقة كل منها بما عداه على الذكاء المخاطب وسياق الحديث وترتيب المفردات. . . وما إلى ذلك؛ والروابط التي تشتمل عليها قليلة العدد، غير متنوعة المعنى، يرجع معظمها إلى علامات تدل على العطف وما شاكله. وفي الشعوب الهندية الأوربية حيث ينشط التفكير، ويعمق الإدراك، ويدق البحث، وتتجه العقول إلى التأمل الفلسفي، وتميل إلى تفسير ظواهر الكون والمجتمع الإنساني تفسيراً علمياً يربطها بأسبابها وقوانينها العامة - في مثل هذه الشعوب تكثر في اللغات الألفاظ الدالة على المعاني الكلية، والتراكيب المعبرة عن الحقائق العامة، وتغزر أزمنة الأفعال، وتطول الجمل وتتعدد أجزاؤها، وتتنوع الروابط وتختلف دلالاتها فتتسع للتعبير عن دقيق الوجدان، وعميق الإدراك، وحقائق الفلسفة والعلوم.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون(376/12)
نحن وفرنسا
بين جنات الأرواح
وجحيم الأجساد
للأستاذ نجيب محمد البهبيتي
الصبح ينبلج في صمت عميق، وأعقاب الظلمة تذيبها تلك الأطياف المتهامسة من ضياء شمس لا تزال مختفية تحت الآفاق؛ والبحر من بعيد يهدر هديراً لا ينقطع، ويرغى إرغاء لا يلبث أن يزول بعد أن تزول العاصفة، وبعد أن يسكن اضطرابها. . . وهي لا بد أن تسكن. والنيل عن أيماننا يجري زاخراً عارماً في هدوء ووقار، موكب الدهر الجبار قد أثقلته السنون، وملأته الحكمة والتجربة. هذا النيل لا يزال يجري في نظام كأنه في فيضانه وانقباضه بقدر، أغنية خالدة منسقة قدسية تتجاوب فيها الفواصل، وتتردد في مقاطعها أنغام الحياة والبشر.
ما أشبه هذين بأسلوبين من أساليب التفكير والنظر إلى الأشياء. قوم يثورون وينفعلون وتصطخب نفوسهم بالحلو والمر، وتتأجج صدورهم بالعاطفة، وتفيض الكلمات على ألسنتهم تعبر عن قوة الثورة، وحدة الصخب. . . ولكن الانفعال لا يبقى، ولا يخلد، وهو لا بد زائل بزوال علته، وقد يتجدد مرة أخرى وغيرها كما تتجدد ثورة البحر حين تهتاجه العاصفة، ولكنه لابد أن يخمد. وأصحاب هذا الضرب من التفكير أشبه بالشعراء؛ ولكن الشعراء حين يفعلون ذلك يبينون عن خفية من خفايا النفس، ويكشفون عن صورة من صورها التي لا تتناهى، فهم يضيفون هذا إلى تراث النفس البشرية. ولا يجب أن نتناول قضاياهم على أنها حقائق، وإنما يجب أن ننظر فيها على أنها مرايا لحالات تمر بالنفس عابرة؛ فهي إنما تؤخذ ليستخرج منها علم، ولتوضع على مقتضاها الكليات كما يقول المناطقة.
وقوم آخرون يجرون في وزن الأشياء على قياس، يزنون الصغيرة والكبيرة، ويعرفون أن في وجود حقائق باقية خالدة، وأنها جديرة بالكشف، قمينة بالتنقيب والبحث، ينظرون إلى الأشياء من حيث قيمتها في الوجود، ومن حيث بقائها الحقيقي، ومن حيث خيرها الأبعد لا(376/13)
من حيث خيرها القريب. وهؤلاء لا يأخذ بخناقهم الهوى، ولا يجيبون لداعي الانفعال، وقد يكونون أشد من الطائفة الأولى انفعالاً، وقد تكون نفوسهم أعرق في تأججها وثورتها، وقد يذوبون إشفاقاً وألماً، لما عسى أن يمر به الآخرون مرور العابرين. ولكنهم يعلمون أن الحقائق تطلب لذواتها في غير طويل وقوف عند الآلام والمسرات، ينظرون إلى الأشياء في وقار النيل وانتظام فيضه وانحساره، وفي سكون الصبح واستنارته، قد خلصوا نفوسهم من شوائب الحقد وأدران الشماتة، ونسوا ما لقيت أجسادهم، فسموا بنفوسهم إلى مسالك النجم، وترفعوا عن أوغار الضعة.
كل كائن يستطيع أن يفرح حين يرى عدوه صريعاً تحت أقدامه، فهذه أقرب العواطف وأرخص الأحاسيس، ولكن ليس كل إنسان يستطيع هنا أن يسد بقلبه تلك الثغرة من الفرح وأن يضع يده على موقع ذلك السهم ليخفيه فيه، ثم ينظر إلى عدوه في ألم حقيقي لأن إنساناً قد سقط، ولأن روحاً قد فاضت، ولأن نفساً قد تخلصت من سجون الجسد المغري شيطانه المهلكة شهواته.
هذان أسلوبان من التفكير البشري، ولم أشأ أن أصطنع أولهما، ولكني أصطنع ثانيهما، ولست بهذا متصوفاً، ولست بهذا مرتفعاً فوق الحياة أعيش في برج من العاج، وأحيا في فردوس الأحلام، وأكبر نفسي عن دنيا الواقع بأفراحها وآلامها، فإنما أحسست هذا كله، وعانيت من مره وزقومه أشد ما يعاني بشر، ولكني أدع دائماً في جانب من نفسي بقية من الاتزان والشرف، أضع فيه دائماً مثالاً من مدنيتنا الروحية التي حملها الشرق إلى الوجود أمانة تنوء تحتها نفوس أولي القوة. أضع دائماً نصب عيني ما بشرت به نفوس كرام من آبائنا في كل أطوار التاريخ، وأنابه وفيّ لأهلي وبني جلدتي، آخذ بيدهم إلى المحافظة على أعز ما ورثوه عن ماضيهم، وأقوم ما بشرت به كل الديانات التي نبعت في الشرق، وفاضت على الدنيا خيراً ونعيماً وسعادة. ليس في دين من الديانات التي انبعثت في الشرق دين يطالب بالثأر وإن أمرت كل هذه الأديان بالقصاص، وأجازت إلى جانبه العفو، ونهت عن التمثيل، وكان الغرض من هذا الإصلاح، ولم يكن الانتقام وإلا لما أجازت العفو. ولنا في أخلاقنا، بعد هذا، التي ورثناها عن هؤلاء الأمجاد ما يجعلنا نكبر فوق الضغينة، ونتناول الأشياء تناولاً رحيماً، فيه إباء العفو وكبرياء المتألم الكريم.(376/14)
في هذا ذلك المعنى الخلقي السامي، وفيه أيضاً محاولة للوصول إلى الحقيقة عن طريق العدل، على طريقة الفلاسفة التي لم ترضك؛ وفيه بعد هذا تطهير للنفس من آلام تخلقها الأحقاد، لا يصلى نارها الجيل الحاضر وحده، ولكن يتلظى بها بعد أجيال تأتي، وتقوم بها في النفس قياماً دائماً مثارات الخلاف، ولا يتحقق بها أبداً بين الشرق والغرب وفاق أو لقاء.
تضرب لي يا عبد المنعم مثلاً بما في أوربا اليوم من صراع تتداعى فيه أركان أقدس ما وقر في النفس الإنسانية من مُثُل وأخلاق حاسباً أن من الخير لنا أن نتبعه فنقول: (إننا نشاهد أمماً حرة مثقفة تحطم حياة أمم أخرى عالمة مثقفة حرة في سبيل إرضاء ما تعتقده كرامتها). . . إلى آخر ما قلت.
إن هذا قائم حقاً يا عبد المنعم، ولكن هل تعتقد أن ما تفعله أوربا الآن يجب أن نفعله، وأن ندعو إليه، وأن نعمل في سبيله؟ هل تعتقد أن هذه الأجيال تعيش ربع قرن تحمل بين جنباتها بذور الحقد، وتنميها وتعمل للانتقام من جارتها، تفكر في هذا الليل والنهار، وتقف عليه كل جهودها وتراحي نشاطها، تصوم لتبني آلة الخراب، ثم تدفع بعد هذا بزهرة شبابها ليحطموا غيرهم وليتحطموا، ولتشقى بهم بعدهم أجيال وأجيال - هل تعتقد أن هذه القطعان البشرية التي تساق إلى الجحيم سوقاً في غير رحمة قد عاشت العيشة التي تطمح إليها الدنيا، وأن هذه النفوس قد نالت من احترام أساتذتها وقادتها ما ترضاه أنت لقومك وبني جلدتك؟ وهل يعوض هذه الضحايا التي لا تنتهي أن يستمتع بالحياة من بعدهم قوم آخرون إن صح أن هذا سيكون؟
إن أمماً كثيرة في التاريخ قد نالت مكانتها في الدنيا عن طريق تحقيق المثل العليا، وهذه قد احتفظ لها التاريخ بأمجد الذكر؛ وأمماً أخرى قد أقامت نفسها على حد تعبيرك - على بركان من نوازع الفطرة الأولى فلم تلبث أن انهارت كما ينهار القصر يبنى على الرمل. ذلك أن تلك المثل الأخلاقية لم تأخذ مكانتها في وجودنا إلى الآن إلا لأن التجربة قد خلصتها واصطفتها، وأثبتت أنها كالحجر الكريم انكشفت للباحث بعد طويل العناء، ومكابدة الآلام، من بين أكداس ضخمة لا تحصى من سقطات الناس وإصاباتهم.
فإن أردنا أن نأخذ صفوف الدعاة فلندع إلى الخير، ولننس الانتقام، أما أن تكون فينا(376/15)
الوحشية اللازمة لكل حياة كريمة فذلك ما أخالفك فيه إن كنت تريد الوحشية امتلاء النفس بالحقد على عدوك، والتهليل إذا سقط أو أصيب لأن هذه ليست من شيمنا، وأما إن كانت الرجولة والقوة الجسدية، والابتعاد عن النعومة الناشئة عن الترف، ورد المعتدي فذلك ما أوافقك فيه ولا أوافقك على غيره. ذلك أن رد الباغي شيء، والدعوة إلى الحقد عليه والشماتة به شيء آخر، كما أن تقدير سيئات عدوك لا يجب أن تعرف مواضع قواه كما تعرف مواضع ضعفه؛ أما تصويرك إياه كما يحلو لك، وكما تتمناه، وكما يزينه لك هواك ورغبات نفسك فأمور لم تكن في يوم من الأيام سنة من سنن الشرق، ولا تقليداً من تقاليده.
وإذا كنا الآن نقف نفوسنا موقف المؤرخين من هذه الأمة الجليلة فيجب أن ننتحل صفة الإنصاف، ويجب ألا ننسى أولاً أن الناس إخوان، ويجب ألا ننسى المبدأ الذي سبقنا إلى وضعه الغربيين: وهو أن العقاب ليس معناه الانتقام ولكن غايته الإصلاح؛ وسيكون من هذا لأعدائنا درس إن صح وصفهم بهذا الوصف.
إن لمدنية أوربا وجهين ككل مدنية: وجه مادي ووجه معنوي. أما المادي فهو تلك الصور الظاهرة التي تتكيف فيها سبل العيش ووسائله. وأما الوجه المعنوي فهو الخلاصة المجردة لتلك المبادئ التي تنتظم على مقاييسها العلاقات بين الأمم والأفراد. وهذا الوجه الأخير تجده في تاريخ كل أمة شاملاً لكل مثلها في الأخلاق والشرع ولكل ما عسى أن يكون قد استخلصته عقول أبنائها من أصول علومها وفنونها ومختلف صور حضارتها. وتجد هذا دائماً في عصور اتزان النفس البشرية، وفي فترات اطمئنانها، وفي الأيام التي لا تهتز فيها لحادث جلل: تجده دائماً بحيث يرمي إلى تحقيق الخير المطلق للناس على السواء، في غير نظر إلى أمة دون أخرى؛ أي أنه ينتفي فيه حب الذات والأثرة الفردية أو القومية. فلا تكاد تحس فيه تلك النعرة العنصرية التي إنما تكون دائماً رد فعل لحس الضعف الطارئ على أمة من الأمم لنكبة أصابتها، ونازلة حلت بها فزعزعت من إيمانها بنفسها فهي تحاول التغلب على هذا الضعف، وتقوية نفسها بتلك النفخة تصطنعها وتدعو إليها، وقد تنخدع بصوابها، فتؤمن بأنها حق، وتغلو في الإيمان بها حتى لترفع بها نفسها على هام الشموس. وقد يكون الداعون إلى هذا في الأمة المقهورة الباحثة عن التعويض أتفه الناس ولكنها تستجيب لهم، وتهتدي بهديهم لأن دعوتهم صدى لذلك الحس الفطري الذي يدفع إليه قانون(376/16)
الحياة وحماية الذات.
ولذلك يجب إهمال هذا الوجه الشاذ لأنه عابر في حياة الأمم وإن ترك أثراً إيجابياً في حياة بعض الأجيال، فتبقى الصورة الإنسانية التي تحدثت عنها، وهذه تكون نظرياً سليمة لا غبار عليها، ولكن يأتي دور التطبيق فتتعرض هذه المثل لغوايات الأفراد، وتضطرب بها الأهواء، ويعمل فيها قرب الفرد وبعده من الحيوانية التي لا تزال عنصراً أساسياً في كيانه.
ولقد ضربت لهذا مثلاً في كلمتي السابقة باستيقاظ العصبيات في الإسلام مع نهيه عنها ومع ما حاوله من قتلها ولما يكد يمر على بدء الدعوة نصف قرن، وقلت إن الأمم في هذا سواء، إلا أنها تفترق في ذلك القدر الباقي في نفوس أبنائها من أثر تهذيب تتركه التعاليم، أو يسطره عليها قدم عهد بالحضارة المادية. فإذا كان بعض أبناء الأمة الإسلامية قد أثاروا العصبية فتركت هذه مضاعفاتها في حياة المسلمين وتاريخهم فليس ذلك ذنب الإسلام، ولا ذنب تلك الطبقات منهم التي دعت إلى أسمى المبادئ، وحاولت بها أن ترتفع بالإنسان عن مرتبته الحيوانية فأباه عليه طبعه وارتد إلى حيث كان. ولكننا في الحكم على المسلمين ننسى دائماً سيئات الأجيال التي لم تحسن لنذكر ذلك الإرث الخالد في تاريخ الإنسان (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فالشر عابر والخير باقٍ دائماً، لأنه حقيقة منتزعة من صميم النفس عن طريق التجربة والامتحان.
لهذا قلت لك يا عبد المنعم إننا إن حكمنا على فرنسا فيجب أن نحكم عليها على أساس ما سيبقى من عملها للناس، وما عسى أن تكون تركته من أثر في خطوات الإنسانية في السير إلى غايتها البعيدة. كما أني قلت لك قولاً أساسه الحق يوم فرقت بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، وفعلت هذا بناءً على تجربتي، فقد عشت بين هؤلاء الناس في بلادهم وبلوتهم، فعرفت فيهم سلامة الطوية وحسن المعاملة، والمساواة في عدل اجتماعي لم يكد يتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلا في هذه الأرض التي نكبت. إن مستوى الفرد في فرنسا من كل نواحي حياته كان أرفع منه في أي أمة أخرى. فالتعليم كان إجبارياً حتى السادسة عشرة، والتعليم العالي بالمجان بحيث يقدر عليه كل إنسان أراده، والمحاضرات العلمية في كل مكان وفي كل وقت من أوقات الليل والنهار حتى تصبح ملكاً مباحاً لكل طالب علم أو باحث عن حقيقة، حتى أصبحت فرنسا كلها متعلمة. وكانت بعد هذا حريصة(376/17)
على كل لون من ألوان الحرية. وأنت تعلم أن العلم مع الحرية يترك السبيل دائماً لوضوح الشخصية وحس الذات. ومن هنا تعددت المذاهب وكثرت الآراء حتى لكأن في كل فرد أمة، فكان من طريق الخير نوع من الانفصالية أساسها وضوح النظر واستنارة التفكير. وكان من هذا انهيار فرنسا لا لشيء إلا لأنها تمسكت بمُثُلها وأبت أن تتخلى عنها.
ولست أعرف حتى الآن هل كان الخير في هذا أم أن الخير في ذلك التكتل الحديدي للأمة بحيث لا يحسب فيها حساب لحياة الفرد ولا لحريته ولا لسعادته ولا لعقله. وعندي أنه ما لهذا خلق الناس.
ليس انهيار فرنسا يا عبد المنعم لأنها كانت قائمة على (بركان من التفسخ العائلي) الخ. . . فإنني كنت أعرف في صميم باريس عائلات من المحافظة، بحيث لا تستطيع أنت ولا أستطيع أنا إلا أن نرميها بالرجعية. وما كان عليك لتدرك معنى العائلة الفرنسية إلا أن تعرج قليلاً على بلد من ريف هذه البلاد لتفهم حقاً هل تهدمت العائلة في فرنسا أم لم تتهدم. إن بعض الدعاوى القائمة على الجهل تنتشر أحياناً لسوء الحظ حتى لتصبح أشبه بالمسلَّمات، لأن الجمهور كما قلت لك لا يستطيع تحقيق كل ما يلقى إليه.
إن فرنسا قد هدمت نفسها من حيث أرادت أن تبنيها، فقد أعطت كل ابن من أبنائها حق الحياة كاملاً، وحق القول والفكر كاملاً، والمسئولية الاجتماعية عبء ثقيل على الأفراد. فأصبح دفع الضرائب عندهم ثقيلاً، وأصبح إنفاق مليم واحد على الحرب ومعداتها أمراً يتشاجر من أجله النواب، ويضج منه الشعب، لأن كارثة الحرب الماضية كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ولم يكن أشق على الفرنسي من التفكير في الحرب. كانوا يؤثرون أن تنفق هذه الأموال على التعليم، وعلى رفع مستوى الحياة، على أن تنفق على المدافع. وهذا هو الذي حدا برجال الحرب كبيتان أن يقولوا: (إن الفرنسيين كانوا يطالبون الدولة بأكثر مما يعطونها). ففرنسا هدمت نفسها مؤقتاً لتبني مثلها، وأقول مؤقتاً لأني لا أشك في أنها ستهب في القريب العاجل جداً، فإني لا أعرف أمة يكمن فيها من الحياة ما يكمن في هذه الأمة، ولا أعرف فرداً قد ربي فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربي في الرجل الفرنسي. ولا أعرف جنديَّاً قد ربي على خشونة العيش فهيئ لتقبل طعم الحياة في خيرها وشرها مثل الفرنسي.(376/18)
إن السير في تربية الأمم على هدى المثل الأعلى قد لا يحقق النصر العاجل، ولكنه من غير شك يخلق الصلاحية الحقيقية التي تكفل السيطرة على المستقبل.
أما أن تقول أن بيتان وفيجان قد انقلبا بين عشية وضحاها بوقاً من أبواق هتلر فتلك دعوى قد ينخدع بها البسطاء، ولكن لا ينخدع بها ذوو العقول الذين يدركون أن الكرامة الإنسانية قيمة، وأن الإنسان مهما كان تافهاً لا يسهل عليه أن ينتزع نفسه من ماضيه انتزاعاً، وأن يجرد نفسه من كيانه تجريداً. إن بيتان وفيجان رأيا أن إنقاذ فرنسا وإقالتها من عثرتها سيتحققان عن طريق ما ينتهجان وليس يمنع هذا عمل عامل لإنقاذ فرنسا على طريقته. فبيتان وفيجان يعملان، وديجول يعمل، وكل هذا في سبيل فرنسا.
إن فرنسا قد أصابت وأخطأت، شأن كل عمل إنساني، فليس أقل من أن نلومها على الخطأ ونذكر لها بالشكر والرثاء فضلها ونكبتها، ونحن إذ نفعل هذا نرسخ تقاليدنا، ونتخلق بأخلاقنا ونصطنع مثلنا، ولا نتخلى عن ميراثنا الروحي والحضاري، فضلاً عن أننا نحاول به تهذيب تلك الغرائز الأولية التي تدفع بالإنسان عملياً إلى الانتقام، فهي ليست بحاجة إلى إذكاء ولا تأريث. هذه الدعوة - كما ترى - ليست سهلة، لأنها محاولة للحد من اندفاعات الفطرة الحيوانية، وهذا الحد يغضب الجماهير ويضيق صدورها ويرغمها على السخط. أما مسايرة هذه الغرائز فيها ومجاراة التيار، فمحاولة هينة لاستغلال براءة الجمهور والضحك من أذقانه. وقد يقوى عليها الساسة الذين يحاولون الفائدة العاجلة ولكن لا يقوى عليها أصحاب الخلق الراسخ والإيمان بالحق وهداة الأمم إلى الخير والمثل المحققة للقوة
أما رثاؤك لمثقفينا الذين لم تقدم إليهم أوربا من العلم إلا ما هو بمثابة السروج واللجم فإني أمر به مرور الضاحك ملء شدقيه وآخذه على أنه جهل بأمر جدير بأن يصحح لمدعي علمه. فنحن يا عبد المنعم لم نذهب إلى هناك فتقدم إلينا أنواع من العلم وتمنع عنا أخرى، وإنما الأمر كان كما قلت لك مورداً مباحاً تختار فيه ما تشاء، فتذهب من الأساتذة إلى من تشاء، وتجتنب منهم من تشاء، تتلقى العلم في مدرستك إلى جانب الفرنسي والبولوني والألماني لا يصدك صاد، ولا يمنعك قيد من القيود. ولذلك عدنا لم نسرج ولم نلجم وإن كنا نوشك أن نحس أن هذه السروج واللجم إنما تلزمنا إياها أمتنا العزيزة، بل الصفوة من أبناء هذه الأمة(376/19)
قد يكون هناك ما أريد أن أقوله، ولكني سأتركه لفرصة أخرى؛ وأني ليسري عني أننا جميعاً في هذا نبني حقاً، ونتلمس هدى، وأحرى بنا أن نتلمس هذا من نور القلوب، وصفو النفس، وخلوص السريرة.
(رأس البر)
نجيب محمد البهبيتي(376/20)
عراك في غير معترك
للأستاذ محمد متولي
إن هذا الشجار العنيف الذي يؤلف به صديقانا الدكتور بشر فارس والأستاذ زكي طليمات جبهة تتناحر مع جبهة الشاعر المهندس على محمود طه، هو في نظرنا مما ينطبق عليه المثل المصري: (خناقة على اللحاف).
كتب بشر عن ديوان الشاعر، فغضب الشاعر لبنات قلبه وراح ينظر في ماض الدكتور الأديب حتى وقع على مسرحيته (مفرق الطريق) التي أخرجها منذ ثلاثة أعوام وبعض عام. ثم أخذ يكيل له صاعاً بصاع، ويعدد له من السرقات كما عدد هو له من قبل؛ وحينئذ انبرى رجل المسرح الأستاذ طليمات، ليقوم بنصيبه المعلوم، كما قام بأنصبتهم في هذه المعركة غيره كثيرون.
والحق أن بطلينا كليهما شريفان - لم يسرق بشر فارس، ولا سرق علي محمود طه، فحكاية السرقة غير معقولة إذا نحن تأملنا ماهية الفن وعرفناها.
وقبل أن نبين هذه الماهية، يجب أن نخرج من موضوعنا تلك الفلسفات التي يحكونها عن (كانت) و (برجسون) ومن إليهما، لأنها هنا لا لزوم لها. وأغلب الظن أنهم يحكونها تفلسفاً على القراء.
كأنكم فهمتم يا سادتي أن الفن (فكرة) والحق أن الفن (صورة) أولاً وأخيراً.
إن الأفكار من الأشياء المجردة التي تكون هي بعينها في جميع العقول والإفهام. أما الفن فهو (أسلوب) الفنان في (تصوير) عاطفته (الشخصية) بأدواته الخاصة المختلفة باختلاف الفنون السبعة. الفن هو (الإنسان مضافاً إلى الطبيعة) كما يقول الفيلسوف الإنجليزي بيكون وإذن فكيف يأخذ العقاد الكبير عن (كانت) العظيم - مثلاً - ما دمنا نعتبره شاعراً!؟ والدكتور بشر، كيف يمكن أن (يسرق) من أحدهما إذا كنا نعتقده أنه قدم لنا أثراً فنياً صحيحاً في حدوده؟! ثم الشاعر علي محمود طه الذي غنى له عبد الوهاب فأطرب الناس جميعاً، كيف يمكن أن (يشعر) لغيره؟!
أخرجوا السرقة من حساب الفن، لأنها (سيكولوجيا) لا يمكن أن تكون. وإذا أردتم أن تقدروا صورة فنية فاقصروا القول على نصيبها من (الصدق أو (التعبير) أو - في كلمة(376/21)
واحدة - اقصروه على تقدير نصيبها من (الإيحاء).
إن الأستاذ علي محمود طه رجل فنان بلا شك، لأنه قال (الجندول) فكان (كذوباً). إنه يمثل ذلك الفنان الذي يشعر بالشيء ولا يستطيعه فيتغنى به. هو نفسه يعلم أنه لم يركب تلك (الجندول) التي أرانا إياها في عرض القناة في ذلك الجو السحري في (فينسيا)، ويعلم أنه إن كان رأى تلك السمات الشرقية والشعور الذهبية، فهو لم يذق شيئاً منها، ولم يقل لأحد (خذ) ولا أحد قال له (هات).
هكذا نرى شاعرنا واحداً من أصحاب (بولان) الفنانين الكذابين الذين يصفهم في كتابه (كذب الفن) ' وعلى هذا الأساس يمكن أن ننظر في أشعاره إذا أردنا أن ننقده ونبين قيمته كفنان.
أما صاحبنا الدكتور، فبيننا وبينه حساب قد يكون عليه عسيراً، إذا لم ير حبنا وانعطافنا، وبالتالي صدقنا؛ وقد يراه يسيراً، بل ولطيفاً، إذا هو أدرك سعينا للحق الممكن، وكان ممن تهفو فطرهم السليمة إلى جمال هذا الحق، وهو من أولئك فيما يخيل إلينا.
وعلى أي حال، فالطريق الصحيح عندنا هو أن نسأل: ما قيمة مسرحية (مفرق الطريق) من الناحية الفنية؟
إن الدكتور بشر يقدمها إلينا بصورة صادرة عن (نفسه) ويقدم لها، فيذكر أنه عمد في تأليفها إلى أسلوب الرمزيين في الفن، ثم يحاول أن يضمِّن تقديمه تفسيراً لمذهب هؤلاء الرمزيين، فهل بلغ في هذا غاية تستدعي الرضا؟!
لقد ندعي أنه لم يبلغ غاية يمكن الوقوف عندها، بل يبدو لنا أنه أراد أن يفسر الرموز الفنية فطمسها، وأراد أن يطبق ما (تعلمه) منها فجاءت مسرحيته شيئاً مصنوعاً وناقصاً معاً. أنظر يا دكتور؟
ألست تحدثنا في تقديمك عن (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده بإهمال العالم المتناسق المتواضع عليه المختلق اختلاقاً بكد أذهاننا طلباً للعالم الحقيقي. . . عالم الوجدان المشرق)؟! ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي كما يقول (ريبو) في كتابه '(376/22)
أولم تحدثنا يا دكتور بشيء لا شعوري يطويه الإنسان (في المكان القصيّ من سريرته. . . لا يفصّل ولا يعلل ولكنه يعرض خطفاً. فكأن المنشئ يتوجس كيف تجاوب نفسه جرس الأشياء الخارجية من دون أن يتحمل ترتيبها ولا تأويلها فتعدل عن البسط والتبيين إلى إثبات البرق الذي التوى في السحاب. . .) نقول ألم تحدثنا بهذا أيضاً، مع أنه وصف للتخيل الصوفي الذي يؤلف بين الصور الباطنة المبهجة ويستخرج منها رموزاً يستعملها كما هي، بعكس الرمز في الفن الذي يحصل من تحليل الصور والحركات والألوان؟!
ثم ما رأيك في أن (ريبو) يقصد بالرموز في الفن: (أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد) بينما أنت تقرر في توطئتك أنه بعيد أن يكون الرمز لوناً من التشبيه أو الكناية إلى غير ذلك؟ ما رأيك في هذا، وعلى الأخص، بعد أن خالفت أنت نفسك، فأشعت الكثير من هذه الرموز في مسرحيتك، كقول سميرة (مثلك يحرق ولا يدفئ) وكقولها (بيني وبين الدفء رائحة حريق)؟!
الحق أنه ليس يلزم أن يعرف الأديب فلسفة الفن لكي ينفحنا آثاراً جميلة، بل نحن لا نعرف من الفنانين من كان يعرف هذه الفلسفة غير قليلين من أمثال (تولستوي)، ولهذا نغفر للأستاذ بشر تلك الكبائر التي ساقها في مقدمة مسرحيته، لأننا لم نعرفه فيلسوفاً وإنما عرفناه أديباً.
وإذن فكيف تجد (مفرق الطريق)؟ ما قيمتها الفنية كقطعة رمزية؟
إن (ريبو) فيلسوفنا نفسه، يقرر أن الرمزية في الفن (تستخف بتمثيل العالم الخارجي تمثيلاً صادقاً. . . فإذا الناس والأشياء تمر دون أن تنطبع بزمان أو مكان، ولكنها تمضي وما ندري أين حصلت ولا متى، فلا هي تمت بصلة لأي بلد، ولا هي تمثل عصراً بذاته. . . وقد تمعن في الإبهام فتقول: هو - أو - هي - أو - أحدهم). هذا ما يقرره (ريبو) فهل هو مستوفي في مسرحية بشر؟
(مفرق الطريق) تجري حوادثها في مصر، في أحد شوارعها (أمام صفّ من المنازل المنخفضة على شكل المنازل التي تصاب الآن في الأحياء القديمة). والمؤلف مع أنه يستغرق في الرمزية بتسمية (الأبله) و (هو) إلا أنه لا يلبث أن يضيع هذا التأثير باستعمال اسم (سميرة). وما كان عليه لو سماها (هي) رمزاً كصاحبيها وإبهاماً؟!(376/23)
أولئك الهنود مثلاً. . . تأمل كيف صوروا الذكاء العبقري والقوة البارعة في شكل شخص ذي رءوس كثيرة وأذرع وأرجل عديدة؟ وهؤلاء المصريون أيضاً، تأمل كيف جعلوا لأبي الهول رأس إنسان رمزاً للحكمة إلى جسم أسد رمزاً للبطش؟! حتى إذا تخيلت سميرة والأبله و (هو) وجدتهم ناساً يمثلون ألواناً محلية محددة بزمان ومكان!!
وبعد فيا دكتور؟ ألا ترى الآن مسرحيتك (مطبوخة. . . ولكنها غير ناضجة. . .)؟ وهلا ترى أن المعركة كانت على اللحاف في الواقع؟
مهما يكن رأيك، ومهما تكن آراء أصحابنا، فنحن يسرنا أن نلاقي من يشاء منكم بشرط أن يكون كلامنا (موضوعياً)
محمد متولي
ماجستير في الفلسفة
ومفتش شئون التمثيل بوزارة المعارف(376/24)
على هامش النقد:
بمناسبة ذكرى حافظ
للأستاذ سيد قطب
كان مقدراً أن تنشر هذه الكلمة بمجلة الثقافة، وكنت أعتبر هذا
من جانبي مراعاة للياقة، لأن المقال نقد لبعض آراء الأستاذ
الكبير أحمد أمين في الأدب، فأولى أن ينشر في مجلته.
ولكن (الثقافة) رأت غير هذا الرأي، فلعلي لا أكون مسئولاً عما في نشر هذه الكلمة هنا من مجانبة المجاملة الواجبة.
سيد قطب
منذ أيام قابلني أحد المتأدبين فبادرني بقوله: (أين قصائدك في الحرب وأهوالها؟) فلم أرد أن أجيب الجواب الجدي على هذا السؤال، واكتفيت أن أقول: إنما يتكلم اليوم المدفع والدبابة، فلا حاجة إلى ألسنة الشعراء!
ومنذ سنوات، وأنا أقرأ في الصحف أو أسمع في المجالس، أن الشعر قد مات بموت شوقي وحافظ، لأن شعراء مصر الحاليين لا ينظمون في أحداث مصر ولا يسجلون مناسباتها الهامة في قصائدهم، ولا ينوبون عن الجماهير في تصوير عواطف الجماهير!
وأذكر أنني لم أحفل كثيراً بما قرأته وسمعته من هذا القبيل لأنه - لحسن الحظ - لم يكن يصدر من أناس لهم صفة الإمامة أو سلطة التوجيه، فلم يكن له من الخطر ما يحفز إلى دفعه أو تصحيح الرأي فيه.
وكنت مطمئناً إلى أن المدرسة الحديثة - وعلى رأسها الناقد الكبير الأستاذ العقاد - قد أفلحت في تصحيح الأفكار عن الشعر والشاعر في خلال ثلاثين عاماً لم تفتر فيها عن بذر بذور جديدة لتقدير الأدب والأدباء.
ولكني استمعت إلى كلمة الأستاذ الكبير أحمد أمين عميد كلية الآداب مساء الأمس في ذكرى المرحوم حافظ بك إبراهيم، فأحسست حقيقة بالخطر. وعلى رغم أنني في هذه الأيام(376/25)
مريض مرضاً يقتضي الراحة التامة لم أجد أن خطر المضاعفات المرضية أشد من خطر الفكرة التي بدت في ثنايا كلمة الأستاذ، والدعوة الضمنية التي دعاها لشعراء الجيل، فجعلت أكتب هذه الكلمة على عجل!
ليست أمامي نصوص خطبة الأستاذ الكبير، وإنما أنا على ذكر من فحواها بعد السماع، وهي تتمنى فيما أعتقد أن يقوم بيننا من يخلف شوقي وحافظ في تسجيل أحداث مصر والهتاف بما في نفوس جمهورها، وبلورة أحاسيسه وصياغتها. ولم ينس الأستاذ أن يكون من هذه الأحداث التي لو رآها حافظ لقال فيها: توزيع البترول بالبطاقات. وبدا في كلام الأستاذ ونبرة الأسى على موت حافظ دون أن يخلفه أحد في منزلته هذه، أن هذه المزية تقتضي الأفضلية، وأنها أهم أدوات الشاعر وأفضل اتجاهاته، ولهذا تمنى أن يخلفه في مصر خلف من الشعراء.
وهذه دعوة خطرة. ومنشأ خطرها أن الهاتف بها هو الأستاذ أحمد أمين مؤرخ الأدب وعميد كلية الآداب ورئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر وصاحب مجلة (الثقافة) وهو بهذه الصفات وبماضيه الأدبي وحاضره يملك سلطة التوجيه وله صفة القدوة.
ولا يمنعنا مقام الأستاذ الكبير واحترامنا العميق لشخصه وعلمه، أن نبدي الرأي الذي يقابل رأيه، وأن نرسل بهذا الرأي إلى مجلة الثقافة التي يشرف عليها!
ونحن نقول في جملة واحدة، وفي نفس واحد كذلك: إن هذه دعوة إلى نكسة من نكسات الشعر بعد ما تجاوز مرحلتها في مصر وفي العالم منذ أزمان، ونتمنى على الله ألا خلف شوقي ولا يخلف حافظ - مع احترامنا لذكراهما - خلف من الشعراء في خلة التعبير عن شعور الجماهير وبلورة هذا الشعور، ورصد الشعر للأحداث القومية والعالمية على طريقتهما وطريقة من يقلدونهما في هذا الزمان!
وأحب أن أبادر هنا بالتنبيه إلى أن شخص شوقي وشخص حافظ في ذمة التاريخ وبين يدي الله، أما شعرهما ففي ذمة النقد وبين أيدينا نحن! فليس من العقوق وليس من عدم اللياقة أن نتناول طريقتهما وشعرهما بالنقد، لأننا بحمد الله لا نؤمن بلياقة العوام! ولا بآداب الصالونات!
وعلى وجود الفرق بين حافظ وشوقي في تسجيلهما للأحداث إذا كان حافظ يسجلها لأنه(376/26)
واحد من الجماهير التي تحس بها، ولأن شعور الجماهير كان يتبلور في حسه فينطق به. أما شوقي فكان يسجلها تمشياً مع اتجاه الجماهير، وتوخياً لمهاب الرياح، وتيقظاً لما تتطلبه الأحاسيس العامة.
على وجود الفرق بينهما في هذا، وأفضلية حافظ ولا ريب بالقياس إلى بواعث القول في نفسيهما، وإن فضله شوقي في الأداء واتساع الآفاق في هذا المجال - على وجود هذا الفرق فان كليهما كان يمثل شاعر القبيلة على وضع من الأوضاع.
وشاعر القبيلة الهاتف بأحاسيسها العامة، المسجل لأحداثها الهامة، الذي تفزع إليه في الملمات ليقول، وتتطلع إلى شفتيه لتتلقف منهما ما تحس به ولا تطيق التعبير عنه.
هذا الشاعر على عظم فضله، وجلال (منفعته) لأمته ليس هو الشاعر المثالي الذي تتطلع إليه الآداب الرفيعة ويحفل به تاريخ الفنون.
وإنما هو حلقة بين الشاعر البدائي وشاعر الشخصية المستقلة هذا الذي يرى الكون من خلال نفسه الخاصة ويعرضه علينا فنتلقاه كأنه نموذج منفرد لكون جديد، ونعرضه في متحف الفنون مع زملائه؛ فإذا لدينا أكوان جديدة بعداد الفنانين الذين نستعرضهم، لا صوراً متشابهة من أحاسيس الجمهور في فترة من الفترات.
وشاعر الشخصية هذا قد يعرض لأحداث أمة أو لا يعرض، وقد يتلاقى إحساسه مرة مع إحساس الجماهير أو لا يتلاقى أبداً، ولكنه يبقى مع هذا شاعراً أصيلاً للحياة، في شاعريته غرض مقصود، وللفن في ديوانه نموذج من النماذج النفسية المرموقة. ويبقى في أسوأ حالاته أرفع وأخلد من شاعر القبيلة الذي تلتقي في نفسه وتتبلور أحاسيس الجمهور.
وقد لا ينتفع جيل هذا الشاعر به كما ينتفع بشاعر القبيلة ولكن يجب أن نفهم أن نظرية المنفعة ليست هي المحكمة في أقدار الفنون، وأن الشاعر ليس مطالباً أن (ينفع) جيلاً بذاته من الناس، وشاعر الشخصية لابد نافع ونافع في دائرة أسمى وأوسع وأبعد أثراً من شاعر القبيلة، بما يجلوه من نماذج رفيعة قد لا تطرق أي حدث واضح من الأحداث العامة.
ويجب أن لا ننسى أن شاعراً واحداً من شعراء الشخصية يعلم أمته حب الجمال في أنماطه العالية، إنما يعلمها من معاني الحرية والثورة على الاستعباد أضعاف ما يعلمها شاعر من شعراء القبيلة يناديها كل يوم بتحطيم القيود ورفض الاستعباد.(376/27)
فالنفس الإنسانية لا تتسامى لحب الجمال الطليق، ولا تحس حقيقة هذا الإحساس الرفيع، ثم يبقى فيها ظل للاستعباد أو صبر على بقاء الأغلال، وهي وشيكة حينئذ أن تخلص من الاستعباد الخارجي ومن مساوئ الحكم والاجتماع الداخلي في آن لأنها تسامت بإحساسها وذوقها وكل عنصر داخلي فيها عن مهاوي الذل والفساد.
وقصارى ما يقال في شوقي أو في حافظ - يرحمهما الله - أنهما شاعران ممتازان بالقياس إلى عصرهما، وأنهما أديا الواجب عليهما في حلقات النهضة الأدبية لأنهما شاعران ممتازان بالقياس إلى الشعر في جميع الأزمان.
وإنك لتجردهما من زمانهما وظروفهما فتجردهما من خير ميزاتهما الفنية؛ وليس كذلك شعراء كالمتنبي وابن الرومي والمعري وإضرابهم في الشرق والغرب، لأن هؤلاء من شعراء الشخصية النموذجية، وهذان من شعراء القبيلة العامة.
وليس أدل عندي من اطراد النهضة الأدبية في مصر - مع قلة الأدلة على هذا مع الأسف - من أن أحداً لم يخلف شوقي ولم يخلف حافظ في طريقتهما، لأننا بهذا توقينا النكسة إلى شعراء القبيلة، وإن لم نرتق إلى شعراء الشخصية إلا في عدد نادر جداً من بين شعراء هذا الجيل.
(حلوان)
سيد قطب(376/28)
على هامش الحرب
الطابور الخامس في القرآن
المنافقون
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 5 -
مواقفهم من حروب الرسول: في أحد. في الأحزاب. في
تبوك. إشاعاتهم السيئة عن جيوش المؤمنين. إمهال النبي لهم
عسى الله أن يتوب عليهم. عاقبة المصرين.
وقف المنافقون من حروب النبي موقف المُخذِّل المثبِّط، الجبان الرعديد، الناقض لما عاهد الله عليه، الطامع في المغنم، المقصر عن نصرة الدين. ولقد كان شرهم مستطيراً حقاً. لأن المؤمنين كانوا يركنون إليهم، ويعدونهم من أنصارهم، فإذا الشر أبدى ناجذيه للمؤمنين قعد هؤلاء عن نصرتهم، وشمتوا عند هزيمتهم، وقبضوا أيديهم عن إعانتهم، واعتلوا لذلك بعلل سخيفة مزيفة فَنَصَّ الله على أنها كاذبة، وبين أنهم دعاة الهزيمة، وأنصار العدو، بل زاد على ذلك فاعتبرهم عدواً وقال للرسول فيهم وفي جبنهم (يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون.)
وأي طابور خامس أشد خطراً من المنافقين الذين أحسن المسلمون عشرتهم، وأتمنوهم على أسرارهم وأخلصوهم الود، واتخذوهم بطانة، وأمنوا جانبهم، ولم يحسبوا حساباً لخيانتهم وغدرهم، ولم يضعوا خطة لتوقي شرورهم، فاستعانوا بذلك على إيذائهم، وإنزال الضر بهم، وطعنهم وقت الحرج والانتقاض عليهم عند المحن والشدائد؟
وفي قصصهم يوم أحد، وفي وقعة الأحزاب وتبوك ما يبرهن على أنهم كانوا أَضرَّ على المؤمنين من العدو الخارجي، وأنهم خانوا الله والرسول، ونقضوا الأيمان، رغبة في إبادة المؤمنين، وطمعاً في إزاحة الدين الجديد من بلادهم.
لما انهزم المشركون ببدر فكروا في الثأر من المسلمين، وفي السنة الثالثة للهجرة خرج أبو(376/29)
سفيان في ثلاثة آلاف مقاتل يريد غزو المدينة، فسمع النبي بقدومه، فاستشار أصحابه، فأشار عليه عبد الله بن أبي - وكان رأساً في الأنصار إلا أنه كان يضمر نفاقاً - أن يبقى بالمدينة، وقال له: ما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم. وكان رأي النبي البقاء، لكن قوماً ممن لم يشهدوا بدراً ودُّوا الخروج لينالوا شرفاً مثل شرف الذين شهدوا بدراً. فنزل النبي عند رأيهم ودخل بيته ولبس لامته. فندم هؤلاء على إلحاحهم، وقالوا النبي: إن شئت خرجنا وإن شئت بقينا. فقال: ما كان لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه. وخرج جيش المسلمين، وعلى مقربة من أحد أنخذل ابن أبي بثلث الناس ورجع إلى المدينة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ وهمَّ بنو سلمة من الخروج وبنو حارثة من الأوس أن يفشلوا كذلك تقليداً للعمل السيئ الذين قام به ابن أبي، ولكن الله عصمهم وقال فيهم: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون. والتقى الجمعان بأحد، ودارت الدائرة على قريش أولاً. فلما شغل المؤمنون بجمع الغنائم، وخالف بعض الرماة أمر النبي، وتركوا مكانهم الذي وقفهم فيه، انكشف ظهر المسلمين للعدوّ، وكان على فرسان المشركين خالد بن الوليد، فأتى بفرسانه، وأعمل السيف في رقاب المؤمنين، فاختلط أمرهم، وفر كثير منهم، وثبت النبي وصفوة أصحابه، ونادى في المنهزمين: إلى عباد الله! فعادوا وكشفوا عنه جيش المشركين، ثم تحاجز الفريقان، بعد أن قتل من المسلمين سبعون، منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب.
كان في الجيش قوم من المنافقين لم ينخذلوا مع ابن أبي، فلما رأوا ما حل بالمسلمين ظنوا بالله الظنون، وقالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا، قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. أما الذين لم يشهدوا الحرب، فقد شمتوا بالمؤمنين، وظنوا أن الهزيمة كانت بسبب مخالفة المؤمنين لرأي ابن أبي، وهم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، لو أطاعونا ما قتلوا، قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. ثم بيّن الله أن سبب الهزيمة هو إرادته أن يميز الخبيث من الطيب، وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا. ونهى الله المؤمنين عن اتخاذهم بطانة، وحذرهم أمرهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم، لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتُّم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما(376/30)
تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.
ولما أخرج الرسول يهود بني النضير من المدينة لم تهدأ لهؤلاء ثائرة حتى جمعوا الأحزاب من قريش ومن أطاعها من الأحابيش، ومعهم أسد وغطفان، وساروا إلى المدينة في عشرة آلاف مقاتل يريدون استئصال المؤمنين ودينهم. واستطاع اليهود أن يضموا إلى جانب الأحزاب بني قريظة ويجعلوهم ينقضون عهدهم للنبي، واتقى النبي الأحزاب بالخندق الذي حفره ليحجز الغزاة الفاتحين. أما بنو قريظة فقد حفظ الله المؤمنين من شرهم على الرغم من شدة خطرهم في ذلك الوقت، وأما المنافقون الذين ظنوا أن هزيمة يوم أحد كانت لخروجهم من المدينة إلى عدوهم، فقد قالوا هم والذين في قلوبهم مرض يوم الأحزاب: (ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) وحاولوا أن يصدوا المدافعين ويضعفوا إيمانهم بالنصر لأن العدو كثير العدد، واعتذروا عن الدفاع، وأستأذن بعضهم النبي في الانسحاب إلى بيوتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً. ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، وكان عهد الله مسئولاً. قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمنعون إلا قليلاً. قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة، ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً. قد يعلم الله المعوَّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا). أولئك هم المنافقون الجبناء الذين كانوا يحاولون إضعاف جيش المؤمنين، وتثبيط الجند عن الدفاع والاعتذار بأعذار واهية كاذبة. وهم الذين يقول الله فيهم بعد: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنةٍ حداد) من أجل طمعهم في الغنائم بما لا يتفق مع جبنهم وقعودهم وتثبيطهم غيرهم (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً).
وكان هناك المرجفون في المدينة يؤلفون أخبار السوء عن سرايا رسول الله، فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت، فأي خطر أشد من هذا؟ أليس ذلك قتلاً للروح المعنوية وتنفيراً للناس من الجهاد، وقضَّاً للمستضعفين من حول النبي؟ من أجل هذا هددهم(376/31)
الله وخوفهم، وقال لرسوله الكريم: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً).
فهل انتهى المنافقون بعد هذا التخويف؟ وهل انتهى الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة؟ سنرى من موقفهم في تبوك أنهم لم ينتهوا. وإن كثيراً منهم أخلفوا الله ما وعدوه. وزادهم حلم النبي الكريم ومعاملته لهم على حسب ظاهرهم، وإمهال الله لهم، إمعاناً في النفاق، وكيداً لنبيهم ودينه وأصحابه، واستمر ذلك حتى فتحت مكة، ودانت ثقيف وخضعت الجزيرة العربية، ووجه الرسول جهاده إلى خارجها.
ففي السنة الثامنة وجه جيشه إلى الروم في الشمال، وأمر على الجيش ثلاثة من كبار الصحابة، وأحس النبي الكريم بأنهم قد يقتلون جميعاً، فلما التقت جيوش الروم بالمسلمين عند (مؤتة) قتل قواده الثلاثة كما عينهم، واختار المسلمون بعدهم خالد بن الوليد فأفلح في الانسحاب، ولم يتبعه الروم داخل الجزيرة خشية أن يكون انسحابه مكيدة حربية يجر بها الروم إلى داخل الصحراء ثم يضربهم.
وفي السنة التاسعة للهجرة أراد النبي أن يجهز جيشاً للثأر من الروم، وإتمام ما بدأه في مؤتة. وكان الوقت الذي اختاره للخروج وقتاً شديد الحر، والمسلمون في عسرة من الظهر، وقد طابت الثمار، والناس يحبون البقاء في ثمارهم وظلالهم، وتجهز الجيش، وساهم الصحابة بما يستطيعون لتجهيزه وخرج النبي بجيشهم وركائبهم قليلة حتى كان يعتقب العشرة منهم على بعير، وزادهم قليل حتى اقتسم الثمرة منهم اثنان. وماؤهم أقل حتى نحروا الإبل وشربوا ما في كرشها. وكان العدو كثير العدد، والشُّقة بينهم وبينه بعيدة، والحاجة شديدة إلى كل مساعدة مهما قلَّت. فماذا فعل المنافقون لنجاحها؟
الله يشهد أنهم عملوا جهدهم لإحباطها سواء منهم من خرج في جيش المؤمنين، ومن رضي بالقعود والتخلف عن رسول الله؛ أما الذين رضوا بالقعود فقد رغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله واستبعدوا أن يفلح محمد في هذه المغامرة، وتحدثوا بذلك، وأغروا غيرهم بالقعود، وقالوا لا تنفروا في الحر، وأستاذنوه صلى الله عليه وسلم في التخلف معتذرين بأعذار كاذبة، والحق أنهم جبنوا وبخلوا وكان أملهم ضعيفاً في انتصار المسلمين والفوز(376/32)
بالغنائم، وقد بين الله ذلك في قوله: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصِداً لاتبعوك ولكن بَعُدت عليهم الشقَّة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم. يُهلكون أنفسهم، والله يشهد إنهم لكاذبون) وكان استئذانهم في القعود لارتيابهم وحرصهم على حياتهم وعد اهتمامهم بنصرة دين الله: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم) لعلمه بما في نفوسهم من غلّ وما يدبرون من فتن، وما يحدثون من اضطراب وتفريق في جيش المؤمنين) فثبطهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين)، ثم بين الله نوع الضرر الذي يصيب المسلمين من خروجهم معهم فقال: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأّوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ولأسرعوا بالوشاية والإفساد بينكم، ومع ذلك فقد خرج قوم منهم يتجسسون لمن قعد وهم الذين عناهم الله بقوله: (وفيكم سمَّاعون لهم).
سار الركب في طريقه إلى تبوك (في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق) وفيه بعض المنافقين وصار هؤلاء يسخرون في الطريق من الفكرة التي خرج النبي من أجل تحقيقها، وقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا الرجل! يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها. هيهات هيهات! أليس في هذا القول ما يزلزل قلوب المستضعفين من الجند، ويذهب حرارة الإيمان والثقة بالنصر من قلوب المؤمنين؟ ومتى شاع مثل هذا الضعف، وعدم الثقة في جيش فعليه العفاء. ثم أليس ذلك مصداق قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة)؟
أطلع الله النبي على ما تهامس به أولئك المنافقون الذين خرجوا معه، فقال: احبسوا علي الركب. وأخبرهم بما قالوا، فحلفوا إنهم ما كانوا في شيء من أمره ولا من أمر أصحابه، وأنهم كانوا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصروا على أنفسهم الطريق، وذلك قول الله تعالى: (لئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا، قد كفرتم بعد إيمانكم، إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).
وقد فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، ولمزوا الذين تطوعوا من فقراء المؤمنين بما يملكون لقلة ما قدَّموا، فتكفل القرآن بالاستهزاء منهم وألحقهم بالنساء، لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم هذا الوضع، و (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع على قلوبهم فهم لا(376/33)
يفقهون).
وكان لابد بعد هذا الإمهال وفتح باب التوبة زمناً طويلاً من أن يكشف الله أمرهم ويهتك سترهم، وأن يعاملهم المؤمنون بما يستحقون؛ فنهى الله النبي عن قبولهم في جيشه مرة ثانية. ونهاه عن الصلاة على من يموت منهم والدعاء له فقال: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فأستاذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدوَّاً؛ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين. ولا تُصل على أحدٍ مات منهم أبداً ولا تُقم على قبره؛ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون).
ولم يكن النفاق مقصوراً على المدينة وحدها، بل كان من الأعراب منافقون هم أشجع وأسلم وجهينة وغفار، وهم بحكم بيئتهم وغلظة قلوبهم وبعدهم عن متنزل الوحي (أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله). وكان منهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الله مغرما، ويتربص بالمؤمنين الدوائر، عليهم دائرة السوء. لم يخرجوا إلى تبوك وجاءوا إلى المدينة ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا على الله ورسوله، ولكن منهم من اتخذ (ما يُنفق قربات عند الله وصلوات الرسول، ألا إنها قربةٌ لهم سيدخلهم الله في رحمته)
وما ظن القارئ الكريم بالنادي السياسي الذي بناه بنو غنم ابن عوف لخدمة الدين ظاهراً، ومأوى الخارجين على الرسول، والمدبرين للفتن، والمعادين للمسلمين باطناً، ليضروهم ويفرقوا بينهم، وليأوي إليه من حارب الله ورسوله؟ بئس هذا البناء وبئس بانوه، إنهم ساء ما كانوا يعملون.
أما هذا البناء فهو مسجد الضرار، والذين بنوه هم بنو غنم ابن عوف. يروى أن بني عامر بن عوف لما بنوا مسجد قباء، وهو مسجدٌ أسس على التقوى من أول يوم - بعثوا إلى رسول الله أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم ابن عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام - وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد: (لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلت معهم) فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين - فبنوا مسجداً إلى جانب مسجد قباء. وقالوا للنبي: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه. فقال: (إني على جناح سفر، وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه). فلما قدم من غزوة تبوك سألوه الصلاة في المسجد،(376/34)
أو بعبارة حديثة، سألوه أن يفتتح هذا النادي السياسي المستور الغرض ليكون ذلك أستر لغرضهم وأدهى إلى تقوية مركزهم، وأكثر جاذبية للمسلمين، فنزل قوله تعالى فضيحةً لهم، وبياناً لغايتهم الخفية، إنهم اتخذوا هذا المسجد (ضِراراً وكفرا وتفريقاً بين المؤمنين، وأرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً. لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه). وهذا هو مسجد قباء؛ فأمر النبي أن يهدم المسجد الجديد وأن يتخذ مكانه كُناسة تلقى فيها القمامة. ومات أبو عامر الراهب بالشام، وفسدت الخطة التي دبرها بنو غنم بن عوف (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
وكانت غزوة تبوك حداً فاصلاً بين سياسة المسالمة وسياسة العداوة الصريحة من المسلمين للمنافقين بعد أن هيأ الله لهم الفرصة زمناً طويلاً ليتوبوا، فمنهم من تاب فعفا الله عنه، ومنهم من أصر على كفره، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له جهنم وساءت مصيرا وانتهى عملهم بعد ذلك، واستراح النبي من شرهم وضرهم.
ومن كل ما كتبناه في الموضوع يتبين أن الطابور الخامس في القرآن هم اليهود والمنافقون، وكانت سياستهم ترمي إلى التشكيك في الدين، والطعن في النبي وآله ومحاولة صرف الناس عنه بتجريحه، والأمل في القضاء على دعوته سراً وجهراً بمعاهدته حتى يأمن لهم، ثم نقض هذه العهود وقت الشدة، فكان جزاؤهم ما حل بهم من قتل وتشريد، وما أنزل الله فيهم من طعن وإهانة، وما أعده لهم من عذاب أليم، ثم نصر الله رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، وكان حقاً عليه نصر المؤمنين.
عبد الرزاق إبراهيم حميدة(376/35)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
لقد لعب قانونا الترف والخشونة أعظم دور في هذه الحرب. فمن عرف فتك الترف بالشعوب، وتقويم الخشونة للأخلاق، وساعدته ظروفه على التخلص من الترف، والأخذ بالخشونة، كان له النصر على من لم يوفق لذلك.
هذه ألمانيا ألقت سلاحها في سنة 1919، فشرطت عليها شروط، وفرضت عليها مغارم، ظنت في هذه وتلك أنها مجحفة بها، فأرادت أن تدفع هذا الإجحاف، فلم يكن ما يسعفها إلا قانون الخشونة فلجأت إليه وفرضته على الناس فرضاً.
كان كل كسبها موجهاً إلى تعزيز قوتها، لا إلى رفاهية أبنائها، حتى شاعت فيهم هذه الكلمة: المدفع قبل الزبدة، وكان المرء فيهم يعمل ولا يمل العمل. وكان عليه أن يكسب ما يسد منه بعض الغرامة، وما يعول أسرته، وما يكون منه شراء السلاح وإنماء قوة ألمانيا.
ما كان يستطيع أن يأتي بهذه المعجزات إلا قانون التقشف، فبه وفرت المال الذي أوجد هذه الأسلحة التي لا تنفد، ولو سلط على هذا المال الترف لابتلعه. وبه استطاعت أن تصبر في ميادين الحرب المختلفة حتى كان الجندي يمكث أياماً محاربا لا يذوق فيها النوم ولا الراحة.
وهذه فرنسا لم توفق إلى ما وفقت إليه ألمانيا في الاستعداد لهذه الحرب والأخذ بالخشونة فسلمت في أول مراحلها.
وهذه إنجلترا وإن كانت قد تمتعت بثمر انتصارها في الحرب الماضية، وتباطأت لذلك في الاستعداد عن ألمانيا، ولكنها قد بدأت، ودعت أخلاقها الموروثة التي ولدتها فيها الروح الرياضية المبنية على التقشف، فاستجابت إليها، فلما وقع حمل الحرب على كاهل بريطانيا وحدها لم تنوء به، ووجدت فيها ألمانيا خصماً يساجلها ثباتاً بثبات، ومقاومة بمقاومة.
ولم أسرد ما تقدم للمتعة، ولذة القصص، فما بي لذلك، وإنما بي أن أضع يد قومي على موضع العظة، وأدلهم على موضع العبرة، وأبين لهم الترف، وهدمه للأمم، والخشونة وبناءها للشعوب، فلعلهم تجديهم الموعظة، ويكون منهم الاعتبار.
محمد عرفة(376/36)
رسالة الشعر
من أدب الحرب
محنة فرنسا
للأستاذ محمود غنيم
رحماكَ ربِّ إلام تصلى نارَها؟ ... فنَى العباد ولم تضع أوزارَها
غابت ملائكة السلام وأصبحت ... تذرو أبالسة الجحيم غبارها
قبضت على سكانها يدُ مارد ... جعل الصبيب من الدماء بحارها
رقطاء حول الكون لفَّتْ جسمَها ... فقضت عليه وما قضت أوطارها
في كل وادٍ ثورة مشبوبة ... لا يطفئ البحرُ الخضم شرارها
حتى كأن الأرض من إعيائها ... سكنت وأخطأت النجوم مدارها
كتب الفناء على البرية ويحهم ... ما بالهم يستعجلون دمارها؟
زمر من الأسماك ناطقة إذا ... ما جاعت ازدرد الكبار صغارها
حرب رأيت الجوع بعض سهامها ... فرضت على المتراشقين حصارها
غدت الجبال الشامخات سفينها ... والزاحفات من الحديد مهارها
الزيت والبترول من آلاتها ... والعلم ينفخ إن خبت أكوارها
قد سيَّرت فوق الثرى دبَّابها ... وإلى الكواكب صعَّدت طيارها
ملأت قذائفها المحيط فعكرت ... زبد البحار وكدرت أغوارها
يا بحر ما فعلت مياهك ويحها ... برفات قوم يسكنون قرارها؟
كم لابن آدم في المحيط عجائبا ... قلَّتْ عجائبه الكثيرة جارها
ضجت بنات الماء منه وأوشكت ... تجفو الطيور لأجله أوكارها
يا رُبَّ شعب في حماه وادعٍ ... جرفته لجتها فخاض غمارها
ومحاربين لغيرهم أسلابها ... لكنهم يتحملون خسارها
وذوى عروش طوحت بعروشهم ... وتخطفت من حولها أمصارها
تتطاير التيجان عن أربابها ... كالقِدر ترسل في الفضاء بخارها(376/38)
عبر على مر القرون تشابهت ... حتى أجاد العالم استظهارها
ورواية من عهد ذي القرنين ما ... برح الزمان مردِّداً أدوارها
أو كلما كادت تتم فصولها ... منيت بشيطان يزيح ستارها؟
سائل ضفاف السين كيف استهدفت ... للغزو واقتحم العدا أسوارها؟
خط حسبنا الجن لو طافت به ... ولت أمام حصونه أدبارها
أتُرى فرنسا أطبقت أجفانها ... من خلفه وتجاهلت أخطارها؟
هيهات لا الحصن المنيع أقالها ... كلا ولا الأدب الرفيع أجارها
لا تعدم المرآة كسر زجاجها ... يوماً وإن كان الحديد إطارها
إن المعاقل لا تحصن أهلها ... ما لم تحاكِ طباعُهم أحجارها
قالوا: مهادنة. فقلنا: حبذا ... لو أن هدنتها تقيل عثارها
هيهات ما أرضت بذاك خصومها ... كلا ولا استبقت به أنصارها
ماذا تقول إذا الجدود تعثرت ... وإذا المشيئة أنفذت أقدارها؟
وإذا قضاء الله أحدق بالشرى ... لم تلق آساد الشرى أظفارها
كالوا الملام لها فقلت: تريثوا ... يا قوم والتمسوا لها أعذارها
أو ما كفاها أنها ما سلمت ... حتى روت بدمائها أنهارها؟
إن قيل عار أن تسلم أمة ... نهض الدم المسفوح يغسل عارها
إني لأشفق أن يكون مصيرها ... أزرى بجوهرها وشاب نضارها
ومحا محاسنها فعدن مساوئاً ... وأحال لؤلؤها فصار محارها
من يكبُ لم تعذِره عثرتُه ومن ... ينهضْ تقلدْه الأعادي غارها
والنفس تُعجب بالقوي وإن يكن ... جلادَ تلك النفس أو جزارها
أسألت باريس الجريحةَ ما لها؟ ... سل أهلها هل قوموا منهارها؟
سلها بربك كيف ذل عزيزها ... وتحملت أسد العرين إسارها؟
كيف الغواني والمغاني بعد ما ... طمس المغير بجيشه آثارها؟
بالله هل عاث العدو بأرضها ... وهل استرقَّ ببأسه أحرارها؟
ماذا أصاب مدينة الأزياء هل ... أبلى القتال المستحرُّ إزارها؟(376/39)
هل أظلمت آرادُها ولطالما ... حسد النهار وشمسه أسحارها؟
وهل المخابئ أصبحت مأوى لمن ... كانت مقاصير المسارح دارها؟
راعت أراملها الحروبُ وخلفت ... في حسرة لا تنقضي أبكارَها
من كل نافرة يدق فؤادها ... لم يتقر الظبي الغرير نفارها
نفرت من الحرب الضروس وربما ... كان النفار من الدلال شعارها
ما للتي ألف المزاهر سمعها ... وزئير آلات الوغى وخُوارها؟
حملت هموم الحرب في باريس مَن ... كانت يداها تشكوان سُوارها
كم غبَّرت بدخانها وجهاً إذا ... بصرت به شمس السماء أغارها
سائل عن القبلات أهليها أما ... زالت تحس شفاههم تيارها؟
كيف القلوب الخافقات صبابة ... تفشي مواعيد الدجى أسرارها؟
شهدت خمائلُها مواقع الهوى ... ما حركت من خيفة أطيارها
شتان بين مواقعٍ ومواقعٍ ... كلتاهما تشكو الضلوعُ أوارها
ما كنت يا باريس إلا روضة ... منيت بسائمة رعت أزهارها
أصمى الحضارةَ من رماك فإنما ... قد كان شعبك للبلاد أعارها
وجنت يداه على علوم طالما ... أجريتِ شرعتها وشدتِ جدارها
ما ضرني إن لم أزرها طالباً ... وقد اقتبست ممن زارها؟
باريس أين دمشق أم بغداد هل ... قصَّت عليك رواتها أخبارها؟
المدن مثل الناس في آجالها ... تفنى البلاد إذا قضت أعمارها
محمود غنيم
مدرس بمدرسة فؤاد الأول الثانوية(376/40)
ذكرى الهمشري
للأستاذ مختار الوكيل
طوِيتْ بموتكَ صفحةُ الأحلامِ ... وخبت بفقدكَ شعلة الإلهامِ
لا النهرُ عند الفجرِ يرقصُ عابثاً ... نَزِقا يُسِرُّ خوافتَ الأنغامِ
كلاَّ ولا البدرُ العظيمُ بمسعدٍ ... في الليل مهجةَ حاملِ الآلامِ!
مُنذُ انطلقتَ مع الصباحِ مُسارِعاً ... بجناحِ مشتاقٍ، صريعِ غرام
ونَزعتَ قَيدَ الآدميةِ ساخراً ... مع نِيرهِ، ونَأيتَ دون سلام
عَلمتَني أنَّ الحياةَ رخيصةٌ ... مادام عُقباها شرابُ حمام!
والمجدَ والآمالَ عُلةُ ظامئٍ ... في البيدِ ما يَحظى بِبلِّ أوام!
قد أجدبَ الروضُ النضيرُ وصَوحتْ ... أزهارُهُ وذَوتْ على الأكمام!
والطيرُ شالتْ عنهُ إلا بومةً ... قَبعتْ هناكَ حليفةَ الإظلام
تُحي الأماسي بالنعيبِ فيالها ... من بومةٍ تشدُو بلحنٍ دام!
فَلَعَلَها تبكَيكَ في غَسقِ الدُجى ... وتصوغُ مرثيةً من الأوْهامِ!
ولعلها تأتي بلحنٍ صادقٍ ... وتَفَي بِدَمعٍ في الخُطُوبِ سِجَام
ولرُبَّ لحنٍ عاثرٍ مُتجهمٍ ... يَذرُ النهى نشوى بِغيْر مُدام!
لبَقيتَ حتى في خَفِّي سرائري ... وخَلدتَ حتى في نُهى الأيام
فإذا هَجعتُ فأنتَ في أحْلامِي ... وإذا مَشيتُ فأنتَ أنْتَ أمَامِي!
عَجَبي مِنَ الدُّنيَا! أأنْتَ مع البِلَى ... أمْسَيتَ كَوْمةً أعظُمٍ وحُطَام؟
وَيلُمِّها! ما إن جَلتكَ يَتيمَةً ... في الناس حتى عَاجَلتكَ بِجَام
أسَفي لِفَقدِكَ لا يُعادلُهُ سوى ... سُخرِي من الدُّنيا وَمِن آلآمي!
لا تَجْزعنَّ فَعَن قَريبٍ نَلْتَقي ... في عالمِ النِّسيَانِ والأحْلام!
وهناك أُصْغي للقريض تَصُوغه ... في نَسْجكَ الحُرِّ الرفيعِ السامي
ونَقرُّ لا همٌّ هُناكَ يَؤمُّنا ... مِن عَالمِ الوَيْلاتِ والإجْرَام!
مختار الوكيل(376/41)
رسالة الفن
بالفن إلى الله:
(هاللويا) كما قال داود!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
روح قوية جارفة، وجسم قوي حديد، الروح نزاعة إلى لذتها وسعادتها في أعلى عليين، والجسم نزاع إلى راحته ومتعته في أسفل سافلين، وصاحبهما بهما مسكين، يرتفع وينخفض، و (ينشال) وينحط، ولا يملك أن يستقر، لا في الأرض ولا في السماء، فهو في تخبط دائم ما بين مسمى روحه وما بين مهبط بدنه كأنه مجنون، أو هو مجنون، والفنون جنون. . .
مني على الدنيا السلام
آخر ما غنى في حياته دور (أنا هويت)، وآخر بيت في هذا الدور هو:
ما دمت أنا بهجره ارتضيت ... مني على الدنيا السلام
وراج دور الوداع هذا في الناس، وسمعه أولئك الذين كان يحبهم سيد درويش، ومن بينهم تلك التي ظل يغني لها طول حياته على البعد منها وعلى القرب، فلم يشعر الناس ولم تشعر هي بشيء وراء هذا الكلام، لأنه لم يكن أحد يتوقع الموت السريع لهذا المغني الشاب المملوء صحة والمملوء حياة. . .
إلا هو. . . فقد كان يتوقع الموت وينتظره ويهيئ له نفسه. . . دعا صديقه الأستاذ بديع خيري إلى بيته بعد هذا الدور وقبل وفاته بأيام، وجلس معه في حجرة علقت على أحد جدرانها صورة من صوره، وفيما هما يتحادثان سقطت الصورة المعلقة، فالتفت إليها سيد، ثم التفت إلى صديقه بديع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له صديقه بديع: إن هذا حق، ولكن ما الذي أجرى بهذا الحق لسانك، فقال له سيد: ليس لسقوط هذه الصورة معنى إلا أني سأموت. فقال له بديع: إنك مجنون، وكان بديع يقصد بقوله هذا أن ما جال في ذهن سيد ليس إلا وهماً خيله له الجنون، بينما الحق أن الذي جال في ذهن سيد ليس إلا علماً يكشفه الجنون.(376/42)
آمن سيد بأنه ذاهب، إيمان الجنون، فخف من القاهرة إلى الإسكندرية ليودع ليلاه، وإن كان قد أعلن لنفسه وللناس عزمه على السفر إلى إيطاليا، فهو لم يكن يعرف عن نفسه أنه يعلم الغيب وما كان أحد يعلم الغيب، وإنما هو اضطراب يتلاطم فيه إحساسه بتفكيره، فهو يقول القول أو يعمل العمل منطلقاً وراء شعور كامن في نفسه قد يميزه وقد لا يميزه، فإذا ميزه اطمأن عقله إلى تبريره، وإلا اضطر عقله إلى السعي وراء تبرير ما يطمئن إن حقاً وإن زوراً. . .
بينه وبينها
سيموت وسيسافر إلى إيطاليا. . .
زارها، أو استدعاها، أو التقى بها
- بأي شيء جئت لنا من القاهرة؟ مانجة؟
- لا. . . بل (بأنا هويت)
- سمعته
- وما رأيك؟
- (أنا عشقت) أحسن
- أحسن أو غير أحسن. . . إني انتهيت
- وكيف؟
- سأموت. . . قريباً جداً. وبعدها ستدركين أنك قد خسرت شيئاً كان يجب عليك أن تكرميه عندما كان بين يديك. . . أعوذ بالله منك. . . كل الناس يهتزون ويرتجون لهذه الأغاني التي أذيعها فيهم إلا إياك. . . جامدة كأنك الحجرة، ومع أني أعلم أنك حجرة فإني لا أغني إلا لك أنت وحدك. حقاً هو قضاء الله وقدره، وليس لقضاء الله وقدره رد ولا دافع.
- الكوكايين أفقدك عقلك. . .
- الكوكايين هجرته. . .
- ولكن بعد أن قضى عليك. . .
لم يقض عليّ أحد غيرك. . . إن مت فدمي في يديك، وإنه يتساقط من بين شفتيك. . . لقد(376/43)
شربت منه حتى ارتويت وحتى جفت الحياة فيّ. . .
- مجنون
- ولم أجن إلا بك. . . لو أنك أعطيتني من روحك مثل الذي أخذت من روحي لكنت عشت غير ما عشت، ولكنت غنيت غير ما غنيت. . . ولكن الحمد لله. . . فما في روحك خير، وما كانت مثلك لتلهمني شيئاً. . .
- ولكني ألهمتك
- كلا. . . وإنما ألهمني البعد عنك، والحرمان منك. . . قد كنت أستطيع أن أستبدل بك صنماً، قد كنت أستطيع أن أعشق عوضاً عنك سلحفاة أو ثعباناً. . .
- هل تقول (ثعباناً) يا سيد. . . إنني لم أضرك مع أني كنت أستطيع أن أضرك، وأنت تعرف أني أستطيع أن أضرك يا سيد. . . فهل هذا جزاء الرحمة مني
- إنك لم تكوني تستطيعين لي ضراً، كما أنك لم تكوني تستطيعين لي نفعاً، وربما كنت تستطيعين لي ضراً لو أنك كنت رأيت غيري أحبك. . . ولكن أحداً غيري لم يحبك. . . وإن كان أحد غيري قد أحبك فكما تعرفين الحب عند الناس. . . كلام يقولونه هو التغرير والغش. . . هو الخداع يرمون من ورائه إلى اللهو بك والعبث بجسدك. . . أنت تعرفين هذا، وأنت تعرفين أني وحدي الذي تحدى شرك بخيره، وكذبك بصدقه، وخيانتك بوفائه، ودعارتك بطهره: إن حبي لك كان تكفيراً عما أسأت إلى أهلي ونفسي. سأقف به أمام الله وأقول له يا رب يا من أودعت هذه الأفعى من فنك سحراً غلفته بالموت والسم. . . أنا وحدي من خلقك الذي رأى هذا الحسن وتغنى به. . . فاغفر لي يا رب كل ما ارتكبت من سوء وشر فما هما إلا آثار السم في نفسي.
- يا سيد. . . يا سيد. . . ليست هذه المسرحيات بجائزة عليَّ أنا جازت على الناس طراً. . .
لست (أتمسرح) عليك، وإنما هذه هي روحي. . . هذه هي نفسي. . . ولو لم أكن هكذا طلقاً حياً فيضاً لما استطعت أن أجرف من جرفت من أهل الفن العتاة على رسوخ أقدامهم في الميدان الذي جندلتهم فيه، وعلى ثبوت أشباحهم في الحلبة التي صرعتهم فيها. . . خبريني. . . من منهم استطاع أن يتماسك أمامي. . . من منهم قاومني ولم يفر من(376/44)
طريقي. . . من منهم ارتفع له صوت منذ ارتفع بالغناء صوتي. . . كلهم ذابوا. . . لأنهم هم الذين كانوا يمثلون ويتكلفون ويتصنعون، أما أنا فإن غنيت فإنما أغني من قلبي، وإن تحدثت فإنما أتحدث بروحي. . . أنا الأصل الذي يمثله أولئك وغيرهم. . . وأنت تقولين عني إني أمثل. . . أنا يا هذه سابق جيلي. . . أنا يا هذه ستقدرينني بعد موتي. . . وإني لأشعر بأن الغيب يضمر كاتباً صغيراً سيطرق هذا الدرب الذي طرقته، وسيذوق هذا المر الذي ذقته، وأنه سينصفني منك. . . أنصفه الله من ثعبانه هو أيضاً. . .
- هو؟ من هو؟
- لا أدري!
- مجنون!. . . هل لك في كأس؟!
- هات كأساً وكأساً وهات العود. . . وهات شمة إذا كان عندك. . .
- أما قلت إنك هجرته. . .
- والآن بفضل عطفك وحنانك رددته. . .
. . . وجاءت له بالعود، وبالخمر، وبالكوكايين. . . ودعت له أتباعه وأصدقاءه. . . وجلست إليه وراح هو يغني. . .
وظل يغني. . . ويغني. . . وليلتها مات!
هاللويا
فأي شيء غنى ليلتئذ. . .
غنى (أنا هويت). . .
ولكن كيف غناها؟. . .
غناها كما كان داود يرتل مزاميره. . . كانت روحه تتقلص من بدنه في كل شهقة وفي كل زفرة. . . كان ينتفض فزعاً من دنياه إلى بارئه شكاية، وتسبيحاً. . .
كانت نفسه تصغي إلى النداء الآتي من الغيب في خفوت لا تسمعه الأذن وإن استجابت له الروح. . .
كان يقول لربه: لبيك لبيك يا رب. . . قالها معنى وإحساساً ونغماً وإن لم يفصلها لسانه لفظاً وحرفاً. . .(376/45)
لقد بكته
وبعد أن رحل سيد أدركت الظالمة أنها كانت ظالمة، وأخذت تراجع نفسها وتسائلها: لماذا ظلمته؟ ولماذا حرمته مما كان يطلبه منها على أنها كانت تعطي غيره ممن هم دونه حلاوة وبهاء وروعة ما كان يسعده بعضه لو أنها أعطته بعضه. . .
وأخيراً أدركت السر.
عرفت أنها كانت تغار منه.
قد كانت هي غانية، وقد احترفت العبث بالنفوس وأتقنت هذا العبث، وقد استهوته أول ما استهوته بدمعة ذرفتها من عينها عمداً، وشكوى مدبرة باحت له بها قصداً، لما رأته يتردد على مجلسها مغنياً تتعالى روحه عليها، فما ينظر إليها نظرة الإعجاب المغرضة المتعجلة التي كان يوجهها إليها الناس جميعاً، وإنما كان يراها كما يرى الإنسان الإنسان، ويفتح لها نفسه كما يفتح الصديق نفسه لصديقه. . . وقد رأت في نفسه صورة قديمة لغرام قديم علمت أنه الذي يشغله عنها. . . ورأت هذه الصورة القديمة أحاطها بإطار من الإخلاص والإجلال اشتهت لنفسها مثلهما. . .
فزحفت إليه. . . ولكنها فشلت معه في كل محاولة حاولتها. . . وأخيراً صرعت هذا الجبار بالدمع. . . والدمع آخر سلاح تلجأ إليه المرأة، وهي إن لجأت إليه لم تنس فيه مرارة الذل الذي دفعها إلى حمله. . . فإن أفلحت به في اقتناص فريستها، فالويل بعدئذ لهذه الفريسة فلن ترضى المرأة منها إلا بدمع ودمع ودمع ودمع. . . ولن تعطي هي بهذا الدمع شيئاً لأنها تذكر دائماً أنها سبقت وسفكت قبله دمعاً. . .
هو ثأر!
والجبار يحتمله لأنه يذكر دائماً أن الذي صاده ذل، وكل جبار شديد العطف على كل ملوع بائس. . .
استدرجته إذن بهذا. . . ثم راحت تجمع الناس عليه، فإذا بالناس ينفضون عنها إليه، مع ما كانت تتفنن في لفت الأنظار أو الأسماع إليها في حضور سيد، فإن الأنظار والأسماع والأفئدة كانت تنفر منها إليه فقد وجدت فيه غذاء للأرواح ومتعة. . .
وهكذا أصبح الثأر ثأرين. . .(376/46)
وبعد موته. . . نسبت هي هذين الثأرين، وحز الأسى في نفسها حزاً إذ فقدت الذي آمنت أخيراً بأنه كان خيراً منها ألف مرة وأنه مع هذا كان يحبها كما قال قضاء وقدراً. . .
لـ الفاتحة
(بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. ولا الضالين. آمين. . .)
. . . آية من فن الله الأسمى. هي خير ما يهدي إلى روح الملهم الذي غنى، فأطرب وأشجى، وأضحك وأبكى، وسبح بالهدى فناً، نغماً ولحناً، ما أجهده الفن وما أضنى، وإنما كان وحياً يوحى. تبارك الذي أوحى.
عزيز أحمد فهمي(376/47)
البريد الأدبي
غذاء العواطف والعقول
نشرت الرسالة كلمة للآنسة فوقية كامل في الاعتراض على ما عقَّبنا به على كلمة الدكتور مشرّفة بك: (العواطف من القُوى الأساسية في حياة الإنسانية، وهي تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول) فقد نهينا القراء عن تصديق هذا الكلام، ودعوناهم إلى متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العجاف!
والآنسة فوقية كامل تسأل عن معنى ذلك النهي ومدلول هذه الوصية.
وأجيب بأن ذلك متصل بأحاديث مرّت في الرسالة منذ أسابيع في الرد على من يتوهمون أن الحوادث العمومية تصرف الناس عن شواغلهم الخصوصية، ومن تلك الشواغل نوازع القلب والوجدان.
وعلى ذلك يكون الكلام ورد مورد السخرية من الذين لا يرضيهم إلا أن تكون أيام الحرب ملاطم ومناحات، فلا يهفو قلب في إثر قلب، ولا يظمأ روح إلى روح.
وبهذا يُحلّ الإشكال، والسلام!
زكي مبارك
سرقة أدبية قبيحة
لسنوات مضت كتب الأستاذ الجليل خليل جمعة الطوال من مثقفي شرق الأردن بحثاً على صفحات مجلة الشباب التي كان يصدرها الأستاذ محمود عزمي عن (الشاعر الفارسي والفيلسوف الرياضي عمر بن إبراهيم الخيام) - وقد قدم لبحثه (بتوطئة) استعرض فيها تواريخ الآداب العربية تخلص منها إلى (حياته) و (تاريخ ولادته) و (تصانيفه) و (رباعياته ومن قام على ترجمتها) - وختم بحثه بذكر أسانيد البحث ذاكراً أنه استمده من المصنفات الآتية:
1 - موسوعة العلوم البريطانية ج16 ص786 طبعة 14.
2 - فيتز جرالد
3 - نزهة الأرواح للشهرزوري.(376/48)
4 - تاريخ الحكماء للقفطي.
5 - جامعة التواريخ لرشيد الدين.
6 - '
7 - ديوان عمر الخيام لأحمد صافي النجفي.
8 - ديوان عمر الخيام تعريب أحمد رامي.
ومن العجب العاجب أن هذا البحث الذي عالج فيه كاتبه مصاعب الاطلاع على المصادر السالفة مستنداً كل جملة إلى المصدر الذي استقاها منه يسطو عليه الأستاذ عبد الحميد سامي بيومي كما تنعته مجلة الثقافة فينقله إلى مجلة الثقافة فتنشره له بعددها 86 الصادر في 30 أغسطس سنة 1940 بعنوان عمر بن إبراهيم الخيام حياته وفلسفته!!!. . .
(جرجا)
محمود عساف أبو الشباب
الغناء المصري
سيدي الأستاذ رئيس تحرير الرسالة
بعد التحية. إنني أعتقد أن الأستاذ سيد قطب في مقاله عن الغناء المصري قد ظلم المؤلفين خصوصاً بعد أن نزل إلى ميدان التأليف الغنائي كثير من أقطاب الأدب المصري أمثال شوقي بك والأستاذ رامي وغيرهما. ونظرة واحدة في أغنية (في الليل) من شعر شوقي وفيها البكاء والأنين والنوح والشوق الخ، ترينا أن الذنب في الضعف ليس ذنب المؤلفين. وما يقال عن شوقي بك يقال عن رامي وغيره. وقد أحصيت أكثر من خمسمائة أغنية مصرية قديمة وحديثة ووجدتها إما أنها تحتوي على الضعف الذي ينعيه الأستاذ سيد قطب، أو على إغراء رخيص للميول الجنسية، وقد سبق أن تألفت لجنة من أفاضل الأدباء للعمل على ترقية الأغاني المصرية والسمو بها عن هذا الضعف، وكان من بين أعضائها شاعر اشتهر بميوعة أغانيه التي تنشرها له الصحف الأسبوعية، ولم أجد فيمن ألف من اقترب من شكسبير الذي تعتبر أغاريده المقياس الحي للأغاني ولو أن من القسوة أن نقارن شعراءنا بشكسبير، إلا أن النهوض بالأغاني يجعلنا ننظر النظرة السامية لهذا الشاعر الذي(376/49)
كان إذا اضطرمت عواطفه لا يلجأ للبكاء والنحيب بل كان يخرج من أزماته النفسية رجلاً كامل الرجولة، مما كتب لأغاريده الخلود
إن العلة إذن ليست في التأليف ولا في التلحين، بل هي تتجه لنفسيتنا الخاصة، فقد حتمت الظروف الطبيعية أن تتجاوب النفس المصرية بعاطفتي الفرح والحزن في آن واحد لمسبب واحد، وتأصلت هذه النفسية فينا من أقدم العصور وورثناها عن أسلافنا فأصبحنا مثلهم نجد اللذة فيما يحزن كما في أغانينا المريضة، وقد كشفتُ أثناء إقامتي في صعيد مصر عن سر هذه النفسية المعقدة ونشرت ملخصاً عنها في البلاغ يوم 15 مايو سنة 1933 بعنوان: (ندب النساء في مصر وما يعرف عندنا بالعديد)، وقد ذكرت في هذا البحث أن نغمة الصبا محببة إلى قلوبنا لأنها تميل إلى الحزن، وقد أيد الأستاذ الكبير العقاد هذا الرأي بعد ذلك بسنوات في مقال له عن الجهاد عن (أغاني الزفاف والأفراح) وعلى ذلك يجب ألا نلوم التأليف أو التلحين، لأن هذا الضعف عنصر من عناصر طبيعتنا المصرية، وأرجو أن أتمكن قريباً من نشر بحثي الخاص بهذا الموضوع كاملاً.
(كوم حمادة. بحيرة)
كامل يوسف
عضو بالمعهد البريطاني الفلسفي بلندن
المعاني شائعة، ولا تجوز الملكية فيها
تحت هذا العنوان في عدد من الرسالة مضى كتب الأستاذ محمد عبد الغني حسن مقالاً طريفاً ضمنه دفاعاً حاراً عن طائفة الشاعرين والناثرين ضد غارة جماعة الناقدين الذين يعطلون بنقدهم المواهب المتوثبة والاجتهاد المطرد. فعنده أن المعاني شائعة ولا يجوز أن نعد من يهتدي إلى تسجيل معنى قد سجله من سبقه، ناقلاً، أو سارقاً، أو لصاً؛ بل إن المعاني الإنسانية زاخرة تضطرم بها كل نفس، ويجيش بها كل صدر، وليست وقفاً على طائفة دون أخرى. وهذا حق، فما المعاني إلا وليدة مؤثرات تكاد تتشابه في كل الأعصر والأزمان، والناس هم الناس في كل مكان، فلا مبرر إذن لهذه الغارات إلا إذا كانت السرقات بينات. . .(376/50)
ولكن اقرأ معي هذين البيتين لكبيرين من الشعراء قيلا لغرض واحد ثم انظر ماذا ترى
قال المرحوم أحمد شوقي على لسان (أتوبيس) الكاهن في رواية (كيلوبترا) يخاطب غزاة مصر من الرومان:
قسما ما فتحتمو مصر لكن ... قد فتحتم بها لرومة قبرا
وقال الأستاذ حسن القاياتي يخاطب حفدة الرومان الذين يبغون فتح لوبيا:
وما ملكوها غير نزلة ساعة ... وما القبر مملوكا لمن فيه ينزل
ألا ترى معي يا سيدي أن المعنى واحد في البيتين، وأوشك أن أقول إن أحدهما مأخوذ من الثاني؛ فلمن تعطى الأفضلية في الاهتداء إلى هذا المعنى النبيل، أم تقول إن المعاني شائعة ولا يجوز فيها الملكية والاختصاص وكفى؟
محمود المرسي خميس
حول (الجندول)
سمعنا أغنية (الجندول) مرة أخرى مسجلة على اسطوانات بعدما سمعناها على شريط ماركوني، وكنا نود من الأستاذ عبد الوهاب أن يتلافى - في هذه المرة - الأخطاء التي وقعت منه في المرة الأولى، حتى يعيد إلى هذه القصيدة الجميلة ما أضاعه من معانيها الرائعة. فهاهي ذي الأخطاء تعاد علينا ثانياً كما هي (فسُرى الجندول) كما في ديوان الشاعر بضم السين، يقولها (فسَرى) بالفتح، و (ذهبي الشَّعر) بفتح الشين يقولها (الشِّعر) بالكسر، والمعنى كما هو مفهوم الشَّعر لا الشِّعر، (ويوم أن قابلتَه) بفتح التاء يقولها (قابلتُه) بالضم. ونحن هنا نريد أن نسأل الأستاذ عبد الوهاب عن السبب في تكرير هذه الأخطاء مع أنها ظاهرة، وقد أشار إليها كثير من النقاد؟
محمد السيد شوش
غلطة!
أستاذنا (الدكتور مبارك) مولع بتعقب الأخطاء اللغوية التي يقع فيها كبار الأدباء والكتاب؛ حتى إنه تمنى أن تسجل دروس اللغة العربية التي يلقيها المدرسون المختصون على طلاب المدارس الثانوية بواسطة المذياع. . . حتى يتسنى له أن يحاسب هؤلاء المدرسين على ما(376/51)
يقعون فيه من أخطاء محاسبة المفتش المختص. فلعله أن يكفكف من حدته، ويلتمس لهم العذر إذا نحن نبهناه إلى غلطة مكشوفة وقع فيها وهو من هو، أجل، فقد أورد في كلمته المنشورة بالعدد الفائت من (الرسالة) الغراء هذا البيت:
فلا تحسبوا هنداً لها الغدر وحدها ... سجيةَ نفس، كلُّ غانية هندُ
بفتح تاء سجية! ولا شك أن هذا خطأ والصواب ضمها، وسبب ذلك لا يخفى على مثل الدكتور الفاضل.
إبراهيم محمد نجا
استدراك
سقطت من مقال (من عجائب الفهم أيضاً) للأستاذ زكي طليمات، وذلك في العدد 374 صفحة 1389 فيما بين السطرين السابع والثامن من العمود الثاني، الفقرة الآتية:
(والمسرحية لا تنهض بناحيتها الفلسفية فحسب، بل هناك عناصر أخرى تستند إليها وتستمد منها رونقها وبهاءها. وأهم هذه العناصر بلاغة العرض لحوادثها، وجودة الحبك لمشاهدها، وبراعة الحوار، ومبلغ توفيق الكاتب في تقدير المعلوم واستكناه الغامض مما يجول في أقطار النفس البشرية، وذلك عن طريق شخوص مسرحيته. وأعتقد - وأنا رجل مسرح - أن في مسرحية (مفرق الطريق) لبشر فارس شيئاً كثيراً من هذا).
إلى الأستاذ إبراهيم أدهم
كان لوفاة المرحوم شقيقكم الدكتور إسماعيل أدهم وقع شديد في نفوسنا لما له من اليد الطولى على الأدب العربي.
وإني أرجو من الأخ أن يسمح لي أن أسأله عدة أسئلة إظهاراً لما غمض علينا من حياة الفقيد:
أولاً: هل صحيح أن الدكتور إسماعيل أدهم ذهب إلى روسيا ونال درجة الدكتوراه؟ وإذا كان قد مكث في روسيا فكيف أذنت له الحكومة المصرية بدخول الأراضي المصرية؟ وما هي المدة التي مكثها في الأراضي الروسية؟
ثانياً: هل صحيح أن الدكتور أدهم كان ملماً باللغة الألمانية؛ ولقد أخبرني من أثق به أنه(376/52)
أثناء التحقيق معه بصدد كتابه (لماذا أنا ملحد) تبين أن لم يكن يعرف الألمانية بل ولا الروسية أيضاً، وما هي المدة التي قضاها الفقيد في تركيا؟
ثالثاً: هل ألف الفقيد كتاب (لماذا أنا ملحد) أم ترجمه وعن أي لغة ترجمه؟
هذا ونرجو من الأستاذ الفاضل أن يظهر لنا الحقيقة على صفحات الرسالة الغراء
إبراهيم حسنين البريدي
نؤت بالحمل وناء بي
قرأت ما جاء في عددي الرسالة الغراء 371و373 خاصاً بهذا التركيب (نؤت بالحمل وناء بي) وما أثير حوله. ولقد أحسن الأستاذ أبو الفضل السباعي حين ساق الآية الكريمة: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة) سناداً قوياً يدعم به رأيه في أرجحية التعبير بالشطر الثاني من التركيب (ناء بي الحمل) ومؤيداً بذلك رأي الأستاذ علي الطنطاوي.
وقد رأيت خدمة للعربية أن أورد بعد التقري والجهد ما ذكره (المبرد) خاصاً بهذا التركيب وأمثاله. قال رحمه الله معلقاً على معنى في بيت الفرزدق:
وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رفعت لناري موهناً فأناتي
هكذا الرواية. قال: (رفعت لناري من (المقلوب)، وإنما المراد رفعت له ناري والكلام إذا لم يدخله لبس جاز القلب للاختصار. قال الله عز وجل: (وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة). ومن كلام العرب: إن فلانة لتنوء بها عجيزتها. والمعنى لتنوء بعجيزتها.
وقد سبق إلى هذا القلب كثير من شعراء العرب. أنشد أبو عبيدة للأخطل:
مثل القنافذ هدّاُجون قد بلغت ... نجرانُ أو بلغت سوآتِهم هجرُ
فجعل الفعل للبلدتين على السعة. وأنشد الفرزدق:
غداةَ أحلَّت لابن أصرمَ طعنةً ... حصين عبيطات السدائف والخمر
بنصب طعنة ورفع عبيطات والخمر على ما وصفنا من القلب، غير أن الكسائي أنشده عكس ما أسلفنا، فرفع طعنة ونصب عبيطات رائياً بعدم القلب(376/53)
وعليه فالرواية بكلا الشطرين صحيحة في محض العربية.
محمود مصطفى بدوي(376/54)
الكتب
على هامش التاريخ المصري
لمؤلفه الأستاذ عبد القادر حمزة باشا
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا حكم القارئ على هذا الكتاب من عنوانه ظلمه كما ظلمه مؤلفه الكبير بهذه التسمية.
لأنه يتوهمه شذرات عرضية تعوم حول حواشي التاريخ المصري القديم، ولا تنفذ إلى صميمه أو تخلص إلى متنه، وهو على نقيض ذلك أحرى أن يسمى (من عناصر التاريخ) أو من أسسه، لأنه يلخص الأغراض التي من أجلها يدرس تاريخنا في أدواره المختلفة، ولا يمنع ذلك أن الكتاب لم يسلسل الأدوار من بدايتها المجهولة إلى نهايتها المعروفة، ولم يفصل تراجم الملوك والأسر ملكاً بعد ملك وأسرة بعد أسرة. فهذه كلها أرقام وأقسام، والعبرة بما وراء تلك الأرقام والأقسام
وفي الكتاب فصول عن نشأة الحضارة المصرية وعلاقة الكلدان واليونان بها، وعقائد المصريين في الآلهة والحساب بعد الموت، وما نسميه اليوم البروتوكول أو الآداب السلطانية عند الملوك الأقدمين، ومقتبسات هومير والأدباء الإغريق من الأساطير الفرعونية، وبحث عن التقويم المصري وعن المعارك الحامية التي نشبت بين رجال العلم ورجال الكنيسة في القرن الثامن عشر من جراء الكشوف والآثار التي دلت على قدم وجود الإنسان في وادي النيل وسبقه للأزمان المقررة في عرف رجال الكنيسة ومفسري التوراة بما سنح لهم من وجوه التفسير؛ وكل بحث من هذه البحوث شاف في موضوعه مغن عن مراجعة الأسفار الكثيرة نافذة إلى اللباب المختار.
وللكتاب مزيتان قيمتان بين كتب التاريخ: إحداهما أسلوب رائق بلغ من صفائه وإحكامه وسلاسته أنه يمتع القارئ بالأدب إلى جانب المعرفة التاريخية، وأنه يرسل النضرة في أوراق البردي اليابسة فإذا هو مخضوضر رفاف
والمزية الثانية أن الطريقة التي تناول بها الكاتب القدير موضوعاته طريقة موحية تفتح أمام الفكر أبواب التأمل والنظر ولا تقصره على ما يراه أمامه ماثلاً في الكلمات والسطور.(376/55)
كنت أقرأ فصله عن الخلاف بين رجال العلم ورجال الكنيسة على تاريخ نشأة الإنسان فتحضرني أمثال هذه الخلافات وأسأل هل يعادي هؤلاء الناس العلم أو يعادون الدين وهم يزعمون أنهم نصراؤه والغيورون عليه؟ ففي الحقيقة هم يضيرون الأديان عامة ولا يضيرون العلوم أقل ضير، فلو صدق الناس ما كان رجال الدين يفرضون عليهم تصديقه لشك الناس فيما يفرض عليهم ولم يشكوا في الحقائق العلمية التي لا تقبل الجدل ولا تصبر عليه إلا إلى حين.
وكنت أقرأ تارةً في هذا الفصل وتارةً في ذاك شيئاً عن عادات المصريين في تسجيل المحفوظات أو في التحنيط أو في تدوين المعارف والملاحظات أو في إحصاء السنين والأزمان، فيوحي إليّ ذلك كله معنى جديداً من معاني الفوارق العجيبة بين ثقافة المصريين وثقافة الإغريق
فهاهنا حاسة تاريخية تثبت في النقوش مظاهر الحياة لأنها تثبت كل شيء للحفظ والتذكار والبقاء
وهاهنا حاسة علمية تثبت المظاهر لتنظمها في سلسلة المعارف والمشاهدات الملحوظة
وما سر هذا الفارق بين الثقافتين؟ هل سره امتياز في عقول اليونان أو عجز في عقول المصريين كما يحب الأوربيون أن يقولوا أو كما قالوا في دراسة الحضارات والأجناس؟
كلا. . . بل سره أن المصريين أصحاب تاريخ وولع بالتخليد راجع إلى قدم الكهانة وسيطرتها على المعارف والأفكار، وأن الإغريق لم يشعروا بضرورة التخليد ولا بأعباء الكهانة الموروثة فالتفتوا إلى مظاهر الحياة للعلم، ولم يذهبوا بها مذهب الحفظ والتقديس. ويؤيد هذا أن الأوربيين غلبت فيهم صبغة الكهانة على صبغة المعرفة حين استقر للكهانة بينهم تاريخ طويل.
وتقرأ الكلام عن معاملة الأسرى أو عن عروس النيل أو عن دساتير الحكم فإذا أنت مسترسل مع إيحاء الخواطر إلى حوادث هذه الأيام، وإذا بالزمن الدابر قد دبت في عيدانه اليابسة نضرة الحياة.
مجلدان آخران من قبيل هذا المجلد الأول كفيلان بنقل الزمن القديم في مصر إلى عالم الحياة الحاضرة، فقد كفانا من التاريخ ما يخرجنا من الحياة الحاضرة إلى الزمن القديم.(376/56)
عباس محمود العقاد(376/57)
من الأدب الفرنسي
قصائد وأقاصيص
لصاحب الرسالة
بقلم الأستاذ (عابر سبيل)
تفضل المحرر الأدبي بجريدة الدستور فكتب هذه الكلمة الكريمة:
لم يكد ينقطع الحديث بعد عن كتاب (وحي الرسالة) الذي قدمه لقراء العربية الأديب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات، حتى طلع علينا قلمه الزاخر بفيض جديد من أدبه الرفيع في كتابه الجديد (من الأدب الفرنسي)، وهو مجموعة من فرائد الأدب الفرنسي لأمراء الشعر والنثر في فرنسا الخالدة: (لامرتين، وهوجو، وشاتوبريان، وجي دي موباسان). نقلها الأستاذ من مكانها في قمة الأدب الفرنسي إلى نظيره في قمة الأدب العربي، بأسلوب عربي لا حاجة به إلى التقريظ والإشادة، ولا حاجة لصاحبه إلى كلمة ثناء بعد إذ شهدت كل آثاره الأدبية موضوعة ومعربة، منذ أن عرب (آلام فرتر) إلى اليوم، بأنه يختص في عالم البيان بطريقة لا يشركه فيها كاتب، وطابع لا أثر فيه للتكلف والاجتهاد، وإنما هو طبع أدبي مستوعب لأسرار البلاغة العربية، وذوق موهوب في صياغة الجملة العربية من نثار لفظي متخير بحيث لا تند كلمة في المعنى عن أختها، ولا ينحرف جرسها عن الموسيقى المنسابة في سائر الجمل والتراكيب، وبحيث لا يصدم سمعك نبو في الجرس، ولا يرهق لسانك جسوء في المخرج، ولا يتعب يدك بحث في القاموس عن معنى نافر غريب لكلمة وحشية جافية. وتتضافر كل هذه القوى البيانية لإبراز معنى من المعاني يتلبس بها جميعاً تلبس العطر النافج لأكمام الزهرة الندية، من أية ناحية تلمستها يدهك منها العبير المشبوب. ومعاني (الزيات) في أغلب موضوعاته ومترجماته تهدف دائماً إلى نور الحق والخير، وجمال الحب والرحمة، وسحر الآلام الإنسانية الرفيعة التي تتموج بها قلوب الشعراء والعشاق والبائسين من بني الأرض. ومن يقرأ طرفاً من شجن (رفائيل) وحيرة (فرتر) في معرباته لهاتين القصتين العالميتين، ويجري وراء قلم الزيات في فصوله المتعاقبة منذ أنشأ (الرسالة) وأشرف على تحريرها إلى اليوم يدرك مدى هذه الحقيقة في أدبه سواء في ذلك(376/58)
الموضوع والمعرب. ويكفي أيضاً لإدراكها أن تطالع فصول الكاتب الجديد وتقف على عظمة اتجاه المعرب في اختيار الموضوعات الإنسانية الرائعة التي عالجها الشعراء والكتاب الفرنسيون الذين عرب لهم؛ فالذي يطالع منها قصيدة (الشاعر المحتضر) للامرتين يتمنى من أعماق روحه أن لو كان هو ذلك الشاعر الفاني الذي يودع الدنيا وعلى قيثاره آخر نغم من أنغام الحب والجمال، وعلى قمة عظة السخرية الهائلة بالمجد الذي يفنى العالم جيلاً بعد جيل في سبيله، وما هو إلا لفظة جوفاء مجرودة من كل هذه المعاني الزائفة التي خلعها عليه الإنسان. وقصيدة (المستقبل التي وجهها فيكتور هوجو إلى نابليون عقيب اندحاره في (واترلو) حافلة بأخلد المعاني الإنسانية التي تتفجر بها قلوب الأحرار من الشعراء حيال الطغيان البشري الذي يجره المغترون بالبطولة والعنفوان، المتحكمون في رقاب العالم إشباعاً لشهواتهم وأنانيتهم. . . إلى آخر ما في هذه النفحة الجديدة التي يشاء القدر أن تطلع على الناس في وقت نرى فيه فرنسا مهد الشعر والفن والجمال والحرية أصبحت ميداناً لأكبر صراع في تاريخ البشرية بين الحرية والاستعباد، وفي لحظة يعتكر فيها ضباب الطغيان على أعظم منار في العصر الحديث للفنون والحضارة.
فلا أقل من أن تؤول ظهور هذا القبس الأدبي في ظلام المحن تحية صامتة لفرنسا وصوتاً جديداً يذكر الشرق بفضلها على الأدب الإنساني كله وعلى الأدب العربي بوجه خاص. . . نسأل الله هداية كتابنا إلى مثل هذا المجهود الأدبي العظيم الذي يضم به الزيات يداً جديدة من أياديه الخالدة على الثقافة المصرية والأدب العربي الحديث.
(عابر سبيل)(376/59)
القصص
القديس لا يحار
للأستاذ يحيى حقي
تحلل القديس من قيود الوطن والأهل والأصدقاء ورحل يبلِّغ رسالته للناس، يبين لهم باطل الدنيا ودنس المال، ويدعوهم إلى اللحاق به في هجرته إلى الله وحده، لا يملك شيئاً ولا يستقر بمكان.
وسار وراءه نفر من أتباعه. رجال جاوزوا سن الثورة والاستهتار، خشنوا الجلد والملبس، إذا نزلوا بلداً سهل إيواؤهم وإطعامهم. . . وتشييعهم؛ ولو لم يتبعوه لظلوا أمام بيوتهم يصطلون الشمس طول النهار. ولكن من هذا الشاب الجميل الذي يسير في مؤخرة الموكب مديد القامة عليه سمة النبل، متئد الخطوة كأنه متبوع لا تابع. ما أصفى بياض يديه ورخوصة أنامله، يشد بها حافتي مسوحه فكأنها مشبك من الأحجار الكريمة. . . من يكون؟ ولماذا يسير مطرق الرأس؟
إنه النبيل (ع)، الابن الأصغر لسيد مقاطعة نائية، تربى في كنف العز وعاشر السعداء ولم تقع عينه على بؤس. ولما مات الأب، وورث الابن الأكبر لقبه وضياعه، دعا أخاه المدلّل وقال له:
- لا أطيق أن أصبح مميزاً عنك فأنفرد بالخير كله، ومقامك في قلب أبي الكريم كان فوق مقامي، فإن شئت عشنا سوياً لك مالي، وإن شئت اقتسمنا التركة بالتساوي.
فأطرق النبيل (ع) برأسه، ولم يجب؛ ثم غادر القصر واعتكف في كوخ صغير أياماً طويلة خرج بعدها يعلن لمن حوله أن هاتفاً هتف به بين اليقظة والمنام يدعوه أن التحق بالقديس. فلما ترامى الخبر للناس عدّوها كبرى معجزاته، وأكبروا في النبيل نزوله عن الغنى الواسع والعز العريض، واختياره التكفف وسؤال الناس كسرة الخبز في سبيل الله.
طارت شهرة النبيل بين الناس وتزاحموا حول الموكب لا ليروا القديس، فهم لا يجهلونه، بل ليتطلعوا إلى النبيل الوسيم كيف يبدو في ثياب الراهب. ينصرف الرجال عن الموكب وهم أرضى نفساً وأهنأ بطعامهم وشرابهم. أما الأمهات والجدات فكن يسبحن لله الذي سبقت إرادته فاختار هذا الوليد لحياة كلها حرمان وقسوة وما كان أجدر شبابه بالتمتع(376/60)
واللعب. أما الفتيات فكن إذا رأين يده الناعمة الرخصة فوق المسوح الخشن، وتطلعن إلى وجه الشاب الذي أصبح مناله صعباً بل حراماً، شعرن بقشعريرة تسري في أجسادهن وركعن على الأرض يتمتمن بصلاتهن، ولكن أحداً لم يفلح في أن يرى عينيه. . . لماذا هو مطرق، ولماذا يسير في مؤخرة الموكب ولو شاء لكان في أول الصفوف؟ ليس بينه وبين القديس إلا خطوة واحدة
وفي يوم مر القديس وحاشيته على قصر منيف، فسأل عن صاحبه فقيل له إنه لثري عظيم لا هم له إلا اكتناز المال ولم يسمع عنه في يوم أنه أحسن بدرهم. فعدل القديس عن مواصلة سيره ودخل القصر ليهدم منه للشيطان معقلاً ويظفر بتخليص أرواح ساكنيه. فوجد الثري جالساً أمام مائدته تتكدس عليها الأطباق والأقداح، عن يمينه زوجه، وعن يساره ابنته، وأمامه أولاده، ومن حواليه أتباع وحشم يتطلعون لشفتيه لعلهما تنبسان بأمر
امتلأت الردهة بالأصوات، ولكن الضجة لم تمنع النبيل - ولعل إطراقه ساعده على إجادة السمع - من أن ينتبه لضحكة رقيقة تحاول صاحبتها كتمانها فلا تقوى. . . هل مبعثها سرور أو دهشة؟ أم هي سخرية؟ رفع رأسه فوجد ابنة الثري تتطلع إليه بعيون ندية كلها أضواء. . . ورأى كيف تحتال حتى جاء مقعده إلى جوارها.
وتفجر القديس يلوم، وكأن روحه ترمي بالشرر، ثم يعظ، فكأن قلبه يفيض بالغيث المنهمر، وسحرت بلاغته الحاضرين فتقاربت الوجوه وتشابهت السحن فما يُميز بين السادة والخدم.
واختلت الفتاة بالنبيل وجرى بينهما حديث خافت:
- لو أنك مررت علينا من قبل لخطت لك هذا المسوح على قدّك فإنني أشفق عليك وأنت تتعثر في أذياله، وتتيه ذراعاك في أكمامه، فقل لي بالله عليك كيف تحتمله؟
- لا يكربك الأمر؛ فلست دالفاً إلى مرقص، بل ساعياً إلى رب ينظر إلى القلوب لا إلى الأثواب.
- ويلي إذن! لقد كنت أظن الرقص عبادة؛ فما رقصت مرة إلا شعرت أنني أقرب إلى الله مني في أوقات الفراغ والسأم.
وهنا وجد الشاب نفسه أسير نظرة فاحصة ماكرة، هازئة كلها عطف وفهم، فيها بريق عين النهم وهو جائع مقبل على أشهى أطعمة.(376/61)
جرحه نفوذ النظرة إلى قلبه فانقبض، ولكنه استراح لعلمه أنه لو شاء لكان سلطانه على الفتاة أقوى من سلطانها عليه.
فأجابها قاصداً هدايتها كأنه لم يغضب ولم يبال:
- وما بعد الرقص؟ ألا تفكرين أن كل هذا سراب. وأن هناك موسيقى غير موسيقاكم. اللهم إن كلي آذن لسماع أناشيد التماسيح بحمدك، الصاعدة من الكون، المدوية في الفضاء، فأسألك اللهم أن تجعل من قسمتي سماعها!
- إن الله قد أغدق نعماءه على الكون ولم يحرم منها إنساناً له قلب وبصر، فذهابك الآن تقرع باب الله دليل على أنك عشت إلى اليوم غافلاً عن جماله. وهذا ماضٍ سيقعد لك في مستقبلك وإن جاهدت. خذها عني: إن الله لا يحب من عباده السائل اللحوح اللجوج، ولا من يستعين للوصول إليه بمسبحة طولها أمتار. . .
ثم مالت الفتاة على أذنه تقول:
- هلّم اعترف أنك فهمت أنني أعلم لماذا ارتديت المسوح. أنت طموح، مبدؤك إما الكل وإما العدم. تركت الثروة لأنها نصف. والدنيا لأن كل لذة لك فيها تنقضي، فإذا هي تقصر عن حد تتخيله. وتسير في مؤخرة الصفوف لأنك لست على رأسها. ولو وقفت بين يدي الله لسألته: ما وراءك؟ فتواضعك هو الكبرياء. وزهدك هو غاية الطموح. إنني أعلم أنك نشأت يتيم الأم، ولو عاشت لوجدت في عطفها ما يرطب قلبك، وما أشبهه الآن بصخرة في أعلى الجبل. . . ومع ذلك لم يُفقد الأمل فيك. لقد اخترتك لنفسي، فابق، أنظر إلي، وتمتع بجمالي. ستعلمك قوة حبي كيف تؤمن أولاً بإنسانيتك ليصح إيمانك بعدها بالله. إن لأبي جماعة من مهرة الموسيقيين إذا وقعوا على آلاتهم أرقصوا الجماد، سأجعلهم يعزفون إذا أذن رئيسكم ولا أظنه يرفض وإلا لما كان قديساً - فماذا عليك لو خلعت المسوح وارتديت أبهى الأثواب؛ فقمت إليّ وانحنيت أمامي وتناولت يدي ودار ذراعك حول وسطي وضممتني إلى صدرك، ورقصنا فتمثّلت النغمة في حركاتنا، ثم انفلت عنك وأنا أخبر بك وأنت أدرى بي. . . وسترى أنه لا يزال هناك أمل.
انهد كل شيء من حوله. لو أنه أطاع وسواسه لهوت يده عليها يشدها من شعرها، ويجرها على الأرض. ولداسها بقدميه أو لمال عليها يغمرها بقبلاته. ولكنه خطا خطوة ليس عنها(376/62)
نكوص. ولو نكث لما صدقه من بعد ذلك أحد، ولا صدق هو نفسه. ولقد بقى في أذنه من كلام الفتاة لفظ (الأمل). إنه سيظل حيث هو، جاهداً في طريقه متحملاً ما لا تقوى على تحمله الجبال، آملاً أنه في النهاية سيرى بارقة الرضا في وجه ربه الكريم. . . ولكن الآن! الآن! الحياة كلها أمامه في متناول يده. آلاف الأصوات في تناديه: أقبل! اشرب! إنني عطشى.
وكان القديس لا يزال يعظ، ورويداً رويداً طأطأت الرؤوس على الصدور، وتصاعدت الآهات، وانفجرت الدموع، وركع الجميع أمام القديس، يلثم رداءه من لم يستطع الوصول إلى يديه المرفوعتين نحو السماء.
وترك الثري مائدته ووقف يقول للقديس بصوت يغالبه البكاء:
- أسلمت قيادي إليك. فأنا منذ اليوم من أتباعك، سأترك القصر وما فيه من متاع وما حوله من ضياع، سأترك مخازني، بعتيق شرابها، والحقل بعجيج دوابه سأتبعك كظلك، ولن أكون وحدي، بل سيتبعني أيضاً كل هؤلاء: زوجي وأبنائي وزوجاتهم وبناتي وأزواجهن والأصهار وأبناء العمومة والخؤولة وكل من انتسب إليّ من خدم وحشم وأتباع. أرنا الطريق ونحن في أثرك.
لم يحر القديس جواباً، لم يتعقد جبينه، فهو وضاء منير. ولم يزم شفتيه؛ فابتسامته الجميلة هي هي، ولكنه غائب عن الجمع، نظرته تائهة، لعله يستمع إلى وحي خفي يقول:
- لو تبعوك لخرب القصر وبارت الأرض ونفقت الدواب ومن أين لك إطعامهم وإيواؤهم وإيجاد عمل لهذا الجيش العرمرم. هل سيتكففون الناس مثلك؟
لم ينقص إيمان القديس ذرة، ولم يهتز لحظة، فكيف يكون قديساً إذا بدت له المسائل كما تبدو لبقية الناس متناقضة مضطربة، مضحكة مبكية، لهؤلاء القديسين نظرة تشمل الكون وتفهم الأسرار، فما يبدو عجيباً هو ذات الحكمة، وما يبدو متناقضاً هو عين الاتساق.
قال القديس بصوت كأنه يخرج من كهف عميق:
- يا بنيّ! أحمد الله أن هداك أنت ومن معك للحق. . . على يديّ! إن الطريق الذي تريد أن تسلكه وعر، لا يقوى عليه إلا القديسون أمثالي. فامكث مكانك وأقبل على عملك، واسكن إلى زوجك، وداعب أولادك وبناتك، وأشرف على شؤون خدمك وحشمك، وحقولك(376/63)
وضياعك، وتمتع بأكلك وشربك، على أن تعدني أن تفعل الخير وتذكر الله. تمثله لنفسك في كل لحظة حتى تعلم أن كل ما حولك زائل وأنك ملاق ربك فمحاسبك حساباً لا يضيع فيه مثقال ذرة من خير أو شر.
بدا الوجوم على وجه النبيل وكأنه لم يفهم شيئاً. فاستمر القديس يقول:
- لا تحزن. إنك ستمكث في القصر - في نظرك - ولكنك ستكون مع ذلك من أتباعي. ما قيمة التمسك بالذيل واقتفاء الخطوة، في حين أن الروح متبلد والذهن غائب؟ ستتبعني بروحك. بإيمانك. . . ولك عليّ أنني لن أنساك في يوم. فلن يغيب عنك ندائي بل سأحمل شخصك في قرار قلبي. سأنشئ لك ولأمثالك طريقة خاصة بكم تلتحقون بها فتربطني وإياكم.
وعادت الردهة إلى هرجها ومرجها ودبت فيها روح البهجة ودارت الأطباق والأكواب، وسكن الثري إلى زوجه وداعب أولاده وبناته، ونادى كلبه الأمين فأقعى تحت قدميه.
والتفت النبيل (ع) فوجد الفتاة عن يمينه، والقديس يهم بالانصراف عن يساره. . . ولكن هاتفاً هتف به فإذا هو يتمتم لنفسه:
- نعم! لا تيأس من رحمة الله.
فجمع أطراف مسوحه، وجرى إلى الجمع واتخذ مكانه بينهم، لا في آخر الصفوف هذه المرة، بل وراء القديس كأنه يلوذ به. وتحرك الجمع يرددون وراء القديس قوله:
اتركوا الباطل الزائل واتبعوني!
ووقفت الفتاة صامتة برهة، ثم همست تقول:
- يا له من غر مسكين لم يفهم الوحي. لما نادته رحمة الله أن ابق، فإذا به يولي عنها وينصرف.
ثم ضربت الأرض بقدمها وصفقت تقول:
- موسيقى! رقص!
يحيى حقي(376/64)
العدد 377 - بتاريخ: 23 - 09 - 1940(/)
القدوة والإصلاح
للأستاذ عباس محمود العقاد
رويت في عدد مضى من (الرسالة) كلمة الفلاح الكبير صاحب الأفدنة الكثيرة في (حمالة الجورب) التي عابها على بعض المعلمين الإلزاميين وقال إنه لم يسمع بها إلا من هؤلاء المعلمين.
وقد كتب أديب في (الرسالة) يعقب على تلك الكلمة، ويرى أنه كان الأجدر بكاتب هذه السطور (ألا يسوق إلينا فكرة صاحب الأفدنة التي ترمي إلى إصلاح المعلم الإلزامي، لأنه إذا سئل عن العيب الذي يراه لا يجد ما يقوله سوى أنه يعلم النشء التبطل والحذلقة، وكيفية وضع (حمالة الجورب)، وإحسان رباط الرقبة، وهلم جرا. . .)
وجاءتني رسائل شتى في هذا الصدد ينظر بعض كاتبيها إلى ملاحظة الوجيه الريفي نظرة الفكاهة والسهولة، ويشتد بعضهم في الإنحاء عليها كأنها خطر على التعليم
وعندي أن المعلم الإلزامي هو آخر من يحق له أن يكتم أمثال هذه الملاحظات أو يطلب كتمانها، لأن التعليم الإلزامي في اعتقادي مشتق من اللزوم قبل أن يشتق من الإلزام، فلا يضيره أن ينكره كبير أو صغير حنقاً على حمالة الجورب أو حمالة الحطب!. . . ولا يفهم من اختلاف الآراء في برامجه ومواده وأساليبه أن الخلاف على أصوله وأساسه، وإنما هو في نهاية الأمر خلاف على الفروع والتفصيلات
هذا سبب من الأسباب التي تأبى على المعلم الإلزامي خاصة أن يكتم ملاحظة تساق في معرض الرأي أو في معرض الفكاهة عن هذا التعليم
وسبب آخر أن المعلم الإلزامي مطالب قبل غيره باستطلاع (الحالة العقلية) أو الحالات العقلية التي تتصل بمعيشة الفلاح وأبناء الريف، وهو أحرى أن يستطلع ما يخصه ويخص عمله من تلك الحالات العقلية التي يتصدى لها في تعليمه، قبل أن يتصدى لتعليم الحروف والأرقام وسائر الدروس.
قيل فيما قيل عن التعليم الإلزامي وأشرنا إليه في مقالنا السابق: (أليس الأجدى على الفلاح أن تطعمه وترفه عنه بهذه الأموال التي تنفقها على تعليمه إلزاماً وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف؟)(377/1)
وكان من رأينا في ذلك أنك إذا أعطيت الفلاح ماء نظيفاً وهو جاهل صدف عنه وعافه وآثر عليه الماء العكر لأنه ماء (دسم) يروي الأصلاب كما يروي التراب.
وقلنا (إنك إذا أنشأت فلاحاً سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري وراءك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه لتقصيه عن موارد الماء العكر (بدسمه وخيره) وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد).
ومقطع الرأي في كل إصلاح اجتماعي - كما أحسب - أن القدوة فيه خير أنواع التعليم.
ولكن ممن تأتي القدوة في الريف؟
بعض إخواننا المعنيين بالإصلاح يخيل إليهم أن إقامة الوجهاء الريفيين في قراهم وسيلة ناجعة لتعميم القدوة الحسنة في المعيشة، وتعويد الفلاح الصغير أن يحيا في كوخه حياة الفلاح الكبير في القصور.
وهذا حق لو كان الفلاح الكبير قدوة صالحة في جميع الأحوال، أو لو كان الوجيه في قريته مثلاً يحتذى في نظام المعيشة ومناهج السلوك
لكننا نعلم أن الأمر لا يستقيم على هذا التقدير
ونعلم أن كل فلاح كبير يصلح للقدوة ويتخذ مثالاً حسناً للسلوك فإلى جانبه عشرة يضلون من يقتدي بهم ويأبون أن يتمثل بهم المتمثلون من الفقراء والضعفاء فيما هو من مظاهر (الوجاهة) واليسار
قال لي أحد هؤلاء الوجهاء مرة: لقد فسد الزمان وتغير الناس!
قلت: ولم؟
قال: إنك لا تعرف الآن ابن فلان العظيم من ابن فلان الصعلوك، ولا تميز الفتاة التي يملك أبوها ألف فدان من الفتاة التي يعمل أبوها في دكان أو يعمل في ديوان بين صغار الموظفين الموقوتين. . . هذه تلبس كما تلبس تلك، وهذا يتأنق كما يتأنق ذاك، و (البركة) في التقسيط لا بارك الله فيه
قلت: وما يضيرك من ذاك؟ إن كان فيه ضرر فعلى جيب اللابس لا على جيبك، وإن لم يكن فيه ضرر فهو جمال ونظافة ورواج للقصارين والخائطين(377/2)
فتأفف وأبى أن يقتنع، وظل يقول: إن الأصول أصول، والمقامات (محفوظة) لا ينبغي أن تزول أو تحول.
وسمعنا آخرين من الوجهاء لا يبالون أن يجهروا في غير خجل ولا حرج قائلين: من يخدمنا إذا لبس الفلاح الطربوش أو اغتر بما حصّل في المدرسة الإلزامية من دروس الكتابة والحساب؟ وإذا خدمنا هذا (الأفندي) الجديد فكم يطلب أجراً على الخدمة التي كان يؤديها وهو حاف قانع باللبدة والجلباب الأزرق راض بالخبز القفار
هؤلاء الأغبياء لا يعقلون ما ينفعهم وما يضرهم ولا يدرون عاقبة هذا التفكير الأثيم.
والأنكأ من هذا أن الفلاح الفقير قد يحجم عن الاقتداء بنظافة الأغنياء إذا كانوا من النظفاء، كما يحجم عن شراء السيارة والاستمتاع بالطعام الفاخر واللباس الأنيق.
فتمتنع القدوة من ثم لاعتقاد الغني والفقير معاً أن النظافة والمعيشة الصالحة حق لصاحب المال كحقه في ركوب السيارة الخاصة والإيواء إلى الدار القوراء.
وتقول له كن نظيفاً كفلان بك أو فلان باشا فيستكبر هذا الكلام منك ويقول لك في جد الواثق من صوابه وسداد رأيه: وأين أنا من هذا وذاك؟ ولو استرسل قليلاً لزعم أن النظافة منه أفتيات على حقوق الموسرين وخروج على الأدب الحميد!. . .
نعود إذن فنسأل: ممن تأتي القدوة الصالحة إذا علمنا كما أسلفنا أن القدوة (الشخصية) خير وسائل التعليم في الإصلاح الاجتماعي؟
تأتي من بعض الأغنياء الرحماء العارفين حين يقيمون في الريف إقامة يتصل فيها العطف والود الكريم بينهم وبين الفقراء.
وكم عدد هؤلاء الأغنياء الرحماء العارفين!؟
قليل ولا ريب، والرجاء في ارتقاء معيشة الفلاح الصغير أقرب من الرجاء في زيادة هؤلاء
فأفضل القدوة وأنفعها على هذا ما جاء من قبل المتعلمين الذين يشبهون الفلاح في نشأته فيعمد إلى التشبه بهم غير متحرج ولا معتقد في نفسه أنه يعدو طوره ويخرج من أفقه.
وهنا يأتي دور المعلم الإلزامي في الإصلاح، فيجمع بين الإصلاح بالتعليم والإصلاح بالقدوة السائغة في رأي الفلاح، ويروح في القرية وهو معلم الأبناء والآباء على السواء(377/3)
كن أيها المعلم الإلزامي قدوة لمن حولك، وكن على حال ينظر إليها الفلاح فيحب أن يتشبه بها ويرى بعينه دلائل الخير في محاكاتها، ثم يأنس إلى نصحك بعد ما أنس إلى عملك، فيسمع منك القول ويحمد منك العمل. فأنت بما تهديه وتلقي في روعه مصلح جيل لا تفلح في إصلاحه المدرسة وحدها، ولا الكلام الذي يجري به اللسان أو تنطوي عليه الأوراق.
عباس محمود العقاد(377/4)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
شاعر ينبغ فوق سرير المرض - الملك الشبل - وإذا حييتم
بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها - لا خوف من المستقبل
مع صحة العزائم والقلوب
شاعر ينبغ فوق سرير المرض
مضت سبعة أعوام والأستاذ صالح جودت يحقد عليّ أبشع الحقد لسكوتي عن التنويه بمواهبه الشعرية، وما هدّأ نار الحقد في صدره إلا عرفانه بأني لا أخصه بذلك السكوت وإنما هو مبدأ ارتضيته ودرجت عليه، وذلك المبدأ هو الضن المطلق بتشجيع الناشئين، لأني أعتقد أن كل شيء يجوز فيه التشجيع إلا الأدب والبيان، فالتشجيع هنا مفسدة ولا يقع إلا من (الجماعة) الذين يحتاجون إلى أسندة من الهتاف والتصفيق، والتحدث عنهم بحق وبغير حق في الأندية والقهوات والجرائد والمجلات.
وهذا المبدأ هو الذي فرض على جمهور من شباب هذا الجيل أن ينفضوا من حولي، فما يهمهم أن يذكروني بالجميل في مجلة أو جريدة، لأنهم لا يذكرون أني طوقت أعناقهم بشيء من التشجيع، وأنا غير آسف على ما فاتني من ذلك الحظ الجزيل!
ولو أني استبحت التفريط في الحرص على هذا المبدأ مرة واحدة لاستبحته في معاملة الأستاذ صالح جودت، وهو صديق لا أذكر أنه قصّر في حفظ العهد إلا باتهامي بالسكوت عن التنويه بمواهبه الشعرية، وهو اتهام مردود، لأني لا أذكر أن أشعاره نقلت قلبي من مكان إلى مكان حتى أجشّم نفسي مشقة الدرس لشعره البليغ!
كان صالح جودت يتقاضاني الكلام عن شعره في كل لقاء، وكنت أجيب بأن ذلك سيكون يوم يظفر بدرجة من درجات الجامعة المصرية، لأني أخشى إن شجعته أن ينصرف عن الدرس وينقطع لقرض الشعر ومراسلة الجرائد والمجلات. فلما سمع صالح نصيحتي وظفر بالدرجة المنشودة جاء يذكرني بما كنت وعدت، فهل وفيت بما وعدت؟
حملني الزهد في اجتلاب المودّات على وصل السكوت بالسكوت، كما كنت صنعت في(377/5)
معاملة صاحب (الجندول)
ثم شاءت الأيام أن أسمع أن صالحاً وقذه المرض فلم يعد بهجة الأندية الأدبية، ولم يبق رجاء في التحدث إليه إلا بعد استئذان الطبيب
فإن كنتم سمعتم أن الشعراء وصفوا الدنيا بالخيانة والغدر والعقوق فاعرفوا أن ذلك لم يحق على الدنيا إلا لبغيها الأثيم على مثل هذا الشاعر، وله قلب أطيب وأطهر من قطرات الندى فوق أزهار الربيع
ومرّت ثوانٍ ودقائق وساعات وأيام وليالٍ وأسابيع وأشهر ولم يخرج صالح من سجن المرض، فما أطول شقائي بمحنتك القاسية، أيها الصديق العزيز!
وعلى حين غفلة أسمع أن الفتى الذي لم يُرضني شعره قد نبغ فجأة فوق سرير المرض، فهو الذي يقول في تصوير ما بقي من أوطار هواه في دنياه:
فليرحم الله آمالي وأهوائي ... إني قنعت بهذا المخدَع النائي
بقية العمر أيامٌ تدبٌ على ... صدرٍ تهدَّم إلا بعض أشلاء
أعيشها ناسكاً في ركن صومعةٍ ... قامت على صخرةٍ كالموت صمّاء
يبدو خيال الأماني لي فأطرده ... حتى كأن الأماني بعض أعدائي
ثم يصف عُزلة المستشفى وأحوال ساكنيه فيقول:
أوّاه من عُزلٍة كالسجن مغلقةٍ ... على جراحٍ وآلام وأرزاء
ما هذه اُلجثث الملقاة في سُرُر ... أنصاف موتى على أنصاف أحياء
صُفر الوجوه كأن السقم عفَّرهم ... بحفنةٍ من تراب القبر صفراء
للآه فيهم تراتيلٌ منغَّمةٌ ... تنسابُ من قَصَباِت نصف خرساء
وما لهم من نهار فيه مرحمةٌ ... ولا لهم ليلةٌ ليست بليلاء
ثم يلتفت إلى الممرضة الحسناء - ومن تقاليد المستشفيات أن تكون الممرضات صِباح الوجوه إلى حدّ الفتون ليغرسن بذور الأمل والحياة في صدور المكروبين - يتلفت إلى الممرضة فيقول:
مَن يا ممرَّضتي الحسناء قدَّر لي ... أن ألتقيك بأرضٍ غير حسناء
ماذا أتى بي هنا؟ ما خَطْبُ عافيتي؟ ... وكيف غال شبابي غائل الداء(377/6)
قد كان لي موعدٌ في الصيف مرتقبٌ ... على الشواطئ بين (الرمل) والماء
فما لذا الصيف يمضي بي على جبل ... جَهنّميِّ اللظى في جوف صحراء
وأنتِ. . . هل عطفك المبِقي على رمقي ... عطف المحبين أم عطف الأطباء
إن كان ذاك فيا سعدي ويا فرحي ... أو كان هذا فإني في الأذلاء
الحب يشهد أني يا ممرِّضتي ... ما صدَّني عنك إلا فرط إعيائي
أما بعد فهذه الشاعرية ليست صحوة الموت، يا صالح، وإنما هي الفجر الصادق، وسترجع إلينا بعد أيام وأنت في غاية من عافية البدن والروح.
لم أسأل عنك في علتك، يا صالح، لأني شغلت بك عنك، ولو سألت قلبك لشهد بأن عطفي عليك وأنا بعيد كان أرفق من عطف طبيبك وهو قريب، وأصدق الحديث حديث القلوب.
سترجع إلينا يا صالح، بعد أيام، وسنعيد سهراتنا في أندية القاهرة، وسأسمع لجاجتك في العتاب، وسأقول إن البلبل لا يجيد السجع إلا وهو سجين، لأني عرفتُ شاعراً لم يُجد الشعر إلا وهو عليل.
الملك الشبل
لم أسمع أن جلالة الملك فيصل الثاني يوصف إلا بعبارة (الملك الطّفل) وهي عبارة جافية، فأرجو من الشعراء والكتاب أن يصفوه بعبارة (الملك الشبل) فهي بمقامه أنسب وأليق.
وأذكر بهذه المناسبة أن صاحب المعالي الدكتور محمد حسين هيكل باشا تلطف فدعاني إلى مكتبه ليقدّم إليّ (وسام الرافدين) المهدي إلي من حكومة العراق
وقد وثب قلبي من الفرح والانشراح لقيمة الهدية ولقيمة من أتلقى من يده الهدية، فليس من الميسور في كل وقت أن تكون وزارة المعارف إلى أديب في مثل منزلة الدكتور هيكل باشا، الرجل الذي أفنى شبابه وعافيته في خدمة الدراسات الأدبية والتاريخية، والذي يُعدّ قلبه مثالاً في الطيبة والصفاء.
وقد نظرت في الوسام فرأيته متوّجاً بكلمة (فيصل الأول) فأهلاً وسهلاً ومرحباً بوسام يُحلّى باسم ملك هو الفيصل بين عهدين من عهود العراق: عهد العجمة وعهد الإفصاح، فقد كان فيصل الأول بمذاهبه ومسالكه هو التعبير الصحيح لعواطف العراق في التشوف إلى رجعة المجد العربي في أيام المنصور والرشيد.(377/7)
ومع أن مكاره الأيام ومتاعب النضال لم تُبق في صدري بقية من التأهب للجذل والانشراح فقد سرني أن تشهد جريدة (الوقائع العراقية) بأني ذُكرت بالخير في (إرادة ملكية) يمضيها صاحب السمو الأمير عبد الإله ومعالي السيد صادق البصام وفخامة السيد رشيد عالي الكيلاني، جعلنا الله ممن يرعون العهد ويحفظون الجميل.
وإذا حييتم بتحية. . .
تفضل الزميل الكريم الأستاذ أبو بكر إبراهيم المفتش بوزارة المعارف فأعدّ كلمة لمجلة الرسالة في رد التحية الجميلة التي وجهتها جريدة الهدف البغدادية إلى مصر بإصدار عدد خاص عن أديب مصري كان له نصيب في خدمة الحياة الأدبية في العراق.
ولم يكن بدّ من تلطف هذا الزميل الكريم بردّ هذه التحية الكريمة، فليس في مقدوري أن أرد تحية جريدة الهدف، فذلك امتحان لا أتقدم إليه وأنا طائع، لأني أشعر بالعجز عن وفاء هذا الدين النفيس.
في ذلك العدد الخاص تحدث الأساتذة عبد الحميد حسن الغزالي، وحميد مجيد الهلالي، وعبد المجيد لطفي، وعبد المحسن القصاب، وعبد السلام حلمي، وعبد الله محمد الطائي، وعبد الرحمن البناء، وروبين عوبديا، وصالح البدري، وعبد الرزاق الهلالي. تحدث هؤلاء الأماجد عن صديق العراق زكي مبارك حديثاً هو البرهان الساطع على أن الوداد لا يضيع عند أحرار الرجال.
وقد ذكرت كثيرا ً في الأسباب التي جعلت لي هذا الحظ المرموق في العراق؛ ثم رأيت أن الأسباب كلها تنتهي إلى سبب واحد: هو الصدق. فما تحدثت عن العراق بالجميل إلا وأنا صادق ولا ذكرته بالملام إلا وأنا صادق.
وكيف لا أصدق في حب وطن كاد ينسيني وطني؟
ولو عبّرت عن نفسي تعبيراً صحيحاً لقلت إني لم أستطع أن أتوهم أن مصر والعراق وطنان مختلفان، وما صح عندي أبداً أني كنت غريب الدار في بغداد. . . وكما كان الشريف الرضي يهدد خصومه في العراق بأن له في مصر أصدقاء يستنجد بهم حين يشاء، فأنا أشعر بأن لي في العراق أصدقاء أستنصر بهم حين أشاء، والله سبحانه هو المفزع لأبرار القلوب.(377/8)
وفي اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمة يستعد فريق من الأساتذة المصريين للتوجه لخدمة العلم والأدب في العراق، فأرجو أن يذكروا جميعاً هذه الكلمة الصادقة:
(كما تكون للعراقيين يكونون لك)
فمن أراد أن يظفر بحب أهل العراق فليصدق في حب أهل العراق، وليعرف جيداً أن العلانية قليلة الأهمية، فالمعوّل عليه هو صدق القلوب، فقد كنتُ على جانب من جفاء الطبع حين كنت هناك فما ضرني ذلك بشيء لأن قلبي كان مأهول الجوانب بالصدق في حب أولئك الرجال الصادقين في الحب والبغض، وهم برغم قالة الحجاج أبعد الناس عن الرياء.
ما أذكر أني كلفت نفسي ما لا تطيق في التودد إلى العراقيين وإنما أرسلت نفسي على سجيتها، وعشت في بغداد كما كنت أعيش في القاهرة وفي باريس، وكنت أصادق وأعادي كما أصادق في بلدي وأعادي، فكانت العاقبة ما عرف إخواني في مصر من تواتر العطف عليّ من جميع أهل العراق. والصدق في النصح يستوجب النص على الحقيقة الآتية:
لم أفكر وأنا في العراق إلا في شيء واحد: هو أن أؤدي واجبي تأدية صحيحة لا يؤخذ عليها تقصير أو تفريط، وكنت أشعر في كل لحظة أني مسئول أمام حكومتين: حكومة القاهرة وحكومة بغداد، وأن التهاون في تأدية الواجب يضيّع على مصر مزية عظيمة، هي الثقة بكفاية أبنائها وقدرتهم على النهوض بما ينتدبون له من خدمة العلم والأدب في البلاد العربية.
ويجب أن أسجل أن إخواني العراقيين قد أعانوني على تحقيق هذا الغرض الشريف، فهم الذين خلطوني بأنفسهم، ودعوني إلى الاشتراك في أنديتهم الأدبية والعلمية، وحضوني على المشاركة في توجيه الرأي العام بالمقالات والمحاضرات، حتى استطعت في أشهر معدودات أن أدوّن ألوفاً من الصفحات لم يظهر منها غير ستة مجلدات.
وأعترف بأني كنت أشعر بالغيرة تحزّ في صدري من أربعة رجال سبقوني إلى كسب ثقة أهل العراق، وهم الأساتذة: محمد عبد العزيز سعيد وأحمد حسن الزيات وعبد الرزاق السنهوري وعبد الوهاب عزام، فكان من همي أن أزاحم أولئك الرجال مزاحمة جدية تجعل لي مقام صدق في بلاد الرافدين، وقد وصلت بحُسن النية وبرعاية الله إلى تحقيق ما أردت(377/9)
بلا مشقة ولا عناء.
وأواجه الأمر بصراحة فأقول: إننا لم نصنع شيئاً يزيد على وضع الأساس للمودة الصحيحة بين مصر والعراق، فلست أنتظر من الأستاذة الذين يخلفوننا هنالك أن يحفظوا ما صنعناه؛ فذلك مطلب سهل المنال، وإنما أرجو أن يمضوا في رفع قواعد البناء بحيث لا تمر أعوام طوال قبل أن يصبح من القضايا المقررة أن لفظة الغربة لم يبق لها مدلول في ذهن عراقي يعيش في مصر، أو في ذهن مصري يعيش في العراق.
ولكن ما جزاء من ينتفع بهذا النصح؟ جزاؤه هو الشعور بأنه رجل نافع، والاطمئنان إلى أنه على جانب من قوة الأخلاق، فليس من القليل أن يستطيع الرجل كسب الثقة بوطنه في بلد مثل الحجاز أو فلسطين أو سورية أو لبنان، والثقة لا تنال في أمثال هذه البلاد إلا بالصدق في الوطنية والصدق في الجهاد.
وقد اتفق لي في بعض الأحايين أن أناوش فريقاً من السوريين واللبنانيين فما ضرني ذلك بشيء، لأن من ناوشتهم يعرفون في ضمائر قلوبهم أني سليم القلب، وأني لا أريد إلا جذبهم إلى الانضمام إلى القافلة العربية بلا تلفت إلى دسائس من يهمهم تقسيم الأقطار العربية إلى دويلات يذوق بعضها بأس بعض بلا موجب معقول.
ومن حسن الحظ أن تكون البلاد الشامية في طريق من يسافر من العراق إلى مصر، أو من مصر إلى العراق، فتلك فرصة ذهبية لتوكيد المودة بين الأقطار العربية، وبها نستطيع وأد الدسائس التي تحاك في أحلاك الليالي لتمزيق شمل العرب والمسلمين.
وقد شاءت الظروف أن ترى اليمن والمغرب من البلاد البعيدة لقلة رغبتنا في الهجرة والارتحال، فمتى يجيء اليوم الذي تقهرنا فيه المبادئ على التضحية بالأنفس والأموال في سبيل التعرف إلى الأقطار العربية؟
المصري لا ينتقل من وطنه إلا وهو موظف مطمئن إلى أنه سيجد وظيفته حين يرجع، فمتى يُخلق المصري المجاهد الذي يستهين بجميع المنافع في سبيل المبدأ والعقيدة والرأي؟
كنت أتمنى أن أكون ذلك المصري المنشود، ولكن ماذا أصنع وحولي (أكباد تمشي على الأرض) وليس في شريعة الوطنية أو الدين ما يسمح بهجر تلك الأكباد؟
أنا مقيد بقيود من حرير هي أقسى وأعنف من قيود الحديد، فإن تلطّف الله وقبل أن يكون(377/10)
الجهاد بالقلم مما تنصب له الموازين فلن يكون ذلك أول نعمة يسديها رجل لم يُشرّق أو يغرّب إلا وهو متوكل عليه توكل الواثق بأن الأمر كله إليه وأن له حكمة عالية تجعل الشر على بشاعته لوناً من الخير المستطاب.
لا خوف من المستقبل مع صحة العزائم والقلوب
لم يبق ريب في أن الشرق مقبل على قلقلة تاريخية بسبب عدوان أهل الغرب بعضهم على بعض. وقد شاءت المقادير أن يتأثر الشرق بمصير الغرب لأسباب لا تخفى على اللبيب، وربما جاز القول بأن العالم كله قد ربط برباط وثيق يفرض على من في أقاصي بحر الهند أن يتأثر بما يقع لمن في أقاصي بحر الشمال، فليس من المستغرب أن يرتج الشرق للمجازر التي تقع بين الإنجليز والألمان.
فما واجبنا نحن إزاء هذه الظروف؟ واجبنا أن نذكر أن مبادئنا في تحرير الشرق لن ينالها تعديل ولا تبديل. واجبنا أن نذكر أن جهادنا في سبيل الحرية جهاد قديم، وأننا تسلمنا راية الكفاح من الآباء والأجداد. واجبنا أن نذكر أن الغرب الذي صنع ما صنع لم يفلح فيما تطاول إليه من وأد اللغة العربية والعقيدة الإسلامية.
واجبنا، واجبنا، واجبنا.
ذلك الواجب لا يحتاج إلى تعريف جديد، فهو مسطور الملامح في كل قلب، وله جذور في كل نفس، وله سلطان على كل ضمير، ولا خوف من غياهب المستقبل إذا صحت العزائم والقلوب.
فليقلقل التاريخ كيف شاءت الظروف، وليكن ما يكون بين الإنجليز والألمان، فنحن نحن، والعاقبة للصابرين في ميدان الجهاد. وسيعلم المعتدون على الشرق كيف تنهزم قوتهم المادية أمام قوته الروحية في أمد أقرب مما يظنون.
زكي مبارك(377/11)
2 - أخلاق القرآن
العدل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بينت قبلاً أن القرآن يريد بتعليمه الأخلاقي تحرير الإنسان من أهوائه وشهواته، وتزويد عقله بالمعرفة، ودفعه إلى العمل في معترك الحياة لخيره وخير الناس؛ ووعدت أن أتحدث عن أمهات الأخلاق في القرآن، فاليوم أبدأ الحديث بالعدل:
العدل القرآني هو العدل المطلق الشامل الذي لا يختلف بين زمان وزمان، ومكان ومكان، وأمة وأمة؛ والذي تستوي فيه نفس الإنسان وغيره، ويستوي فيه القريب والبعيد، والصديق والعدو، ويستوي فيه الرضا والغضب، والحب والبغض، والنفع والضرر. هو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه في كل حين وفي كل أرض، وعلى كل حال. يقضي على نفسه بالحق ويقضي لغيره بالحق، ويعطي من يكره بالحق، ويحرم من يحب بالحق، ويعمل العمل فيه ضره إيثاراً للعدل، ويكف عن العمل فيه نفعه إيثاراً للعدل. هو أن يعترف بإحسان غيره ولا يبخس الناس أشياءهم، ويعترف بإساءته، ولا يحب أن يحمد بما لم يفعل وأن ينقاد لرأي غيره حين يتبين له أن الحق، ويسرع الرجوع عن رأيه حين يعرف فيه الباطل.
العدل القرآني أن يصرّف الإنسان أمور نفسه وأمور الناس على قانون لا عوج فيه ولا زيغ ولا استثناء ولا ظلم ولا محاباة، أن يسيّر أعماله على قانون إلهي لا تبديل فيه ولا تحويل، كالقوانين التي تسيّر: الشمس والقمر والنجوم والرياح، وتصرّف العالم كله كما يشاء الله.
يقول القرآن الكريم: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام)، أليس في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن العدل الذي يأمر الله به هو قانون من قوانين الله بثّه في خليقته. فهو قد رفع السماء ووضع الميزان في خليقته، كل شيء مقدّر بقدره، وكل شيء محدود بحدوده، كما قال في آية أخرى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون). وكذلك أمر الله الناس أن تكون أعمالهم في هذه الأرض على هذه الشاكلة لتسقيم(377/12)
أمورهم وتعتدل معايشهم، فليس عدل الله أمراً يسيراً تتصرف فيه الأهواء، وتتلاعب به الشهوات والعصبيات. ليس عدل الله أمراً مما يباع باليسير من متاع الحياة الدنيا، ويهجر للحقير من أهواء النفوس، ولكنه نظام في العالم وفي الاجتماع البشري لا يستقيم شيء فيهما بدونه كما جاء في الحديث الشريف: بالعدل قامت السموات والأرض.
وآية أخرى من القرآن تجعل العدل أول صفات الله التي يقوم بها على خلقه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم). فقد شهد الله وشهد أولوا العلم من عباده أنه تفرد بالألوهية قائماً بالعدل في خلقه.
وآية أخرى تبين أن الله أوحى للناس علمه وشرائعه مع العدل، ليقوموا بالعدل في معايشهم وهو الغاية التي من أجلها أنزلت الشرائع. استمع هذه الآية الكريمة:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وأخرى من الآيات تبين أن أوامر الله وأحكامه قائمة بالصدق والعدل لا تتحول عنهما: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته).
يبين القرآن أن الله جعل العدل نظاماً للعالم، وقياماً للخلق، وأمر به في كثير من آياته، وحث المؤمنين على أن يكون ديدنهم القيام بالعدل بين الناس، والشهادة لله على الناس بالعدل، وأن ينزهوا العدل عن الهوى فلا يميلهم عنه حب ولا كره. قال في سورة النساء: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً.) وقال في سورة المائدة:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)
أمر في الآية الأولى أن يقوموا بالعدل ويشهدوا به الله. ولا يميلوا عنه لمحبة النفس أو الوالدين أو الأقربين. وأمر في الآية الأخرى ألا يميلوا عن العدل مع من يبغضونهم فقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) يعني لا يحملكم بغض قوم على أن تعاملوهم بغير العدل.
وقال في سورة الأنعام:(377/13)
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا تكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
والآيات التي تأمر بالعدل كثيرة حسبنا منها الآية الجامعة: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)
ويشتد القرآن في النهي عن الظلم كما يشتد في الأمر بالعدل ويبين عاقبة الظلم في الأمم بأساليب شتى؛ والظلم في لغة القرآن وضع الأمر في غير موضعه أو الخروج عن الحق. فالمجرم ظالم، والكافر ظالم، والمشرك ظالم، والكاذب ظالم. يقول: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته). ويقول: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم). ويحكي القرآن عن آدم وحواء حين تابا: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وما هذا الظلم إلا مخالفتهما ما أُمرا به.
وعاقبة الظلم هلاك ودمار للفرد والجماعة والأمة. قلّ أن يذكر القرآن هلاك أمة أو بلد إلا بيّن أنها هلكت بظلمها. يقول في سورة الأنبياء: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين). وفي سورة الحج: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة وقصر مشيد). (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير). وفي سورة هود: (تلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
هذا العدل المطلق الذي بينه القرآن وأمر به يقتضي الجزاء الحتم. فكل إنسان مجزيّ بعمله خيراً أو شرّاً. العدل يقتضي أن يميّز الخير من الشر والمحسن من المسيء. يقول القرآن: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) ويقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون) (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون) بل يقرن القرآن الجزاء بخلق السموات والأرض (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
فالجزاء حتم على كل صغيرة وكبيرة وليس للإنسان إلا عمله، ليس في الناس مقربون إلى(377/14)
الله ولا مبعدون عنه إلا بالعمل.
يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى) ويقول في الرد على من زعموا أن لهم مكانة عند الله تخرجهم من هذا القانون العام قانون الجزاء: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب؛ من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً). (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
ومن هذا العدل المطلق والجزاء الحتم أباح القرآن أن يقابل الشر بمثله من غير بغي. قال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله) ويقول: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله) وفي سورة الشورى يوضح هذا أتم إيضاح. يقول في مدح المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم). فمن حق الإنسان أن يردّ البغي عن نفسه في غير عدوان، وأن يلقى السيئة بمثلها وينتصر ممن ظلمه، وله أن يعفو ويصفح إن رأى في العفو خيراً.
ذلكم العدل الذي بثه الله في خليقته، وأمر به عباده، وجعل فيه صلاحهم، وفي تركه دمارهم. فمن شاء الخير لنفسه وللناس فليلزم العدل في كل صغيرة وكبيرة، وليكن كما أمر القرآن قائماً بالقسط شهيداً لله.
إن الأمم تتهافت في النار، وتعود على ما شيّدت بالخراب والدمار، بما فقدت العدل وكفرت به، واتخذت لأنفسها شريعة من الباطل والزور والبغي. يريد المغترون بقواهم أن يسيطروا على الأرض بالباطل، زاعمين أنهم يسيطرون عليها بالحق، لا يرون لغيرهم حقاً، ولا لأطماعهم حداً، ولو أنصف الناس فقاموا في خلق الله بالقسط، وجعلوا الحق شريعة بين الناس، ونبذوا العصبية للباطل، ورفعوا عن أعينهم غشاوة الهوى ما سُخرت عقولهم وعلومهم وصناعاتهم للإهلاك والتدمير، ولما قذفوا بأنفسهم في جهنم وهم يستطيعون أن(377/15)
يعيشوا في جنة على هذه الأرض.
داء الأمم الظلم ودواؤها العدل - العدل الشامل المطلق الذي لا يختلف باختلاف الأزمان والأوطان والشعوب والأديان. إنما يأخذ الله الأمم بجرائرها عسى أن تثوب إلى رشدها وتتبين الطريقة المثلى التي حادت عنها، وإن في ذلك لعبرة.
ويقول القرآن الكريم:
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا يستهزئون. ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون). . . صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام(377/16)
العلاقة بين الجسم والذكاء
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
يقول المثل السائر: (العقل السليم في الجسم السليم). والأمثال تقبل عادة من غير محاولة إثبات. ولكن إلى أي حد يطرد هذا المثل؟ إن الملاحظة تؤيد أن من بين أصحاء الأجسام كثيراً من الأغبياء وضعاف العقول، كما أن من بين ذوي العاهات والمرضى عدداً من العبقريين. وقد عرفت إنجلترا مصرياً كان قد أقعده المرض سنوات طويلة، فعطل من وظائف رجليه ويديه وظهره وأسنانه، ومع هذا كان نشط العقل، يفكر وينتج. كان يُقرأ له في الفراش، وكان يؤلف ويملي، ويقرض الشعر العربي والإنجليزي، ويملي مقالاته باللغتين. وكان لبق المنطق، حاضر الفكرة. وقد لا يكون من الصعب أن نعثر على آخرين أمثال صاحبنا هذا، ولكن الملاحظة العرضية لا تكفي لتحقيق القضايا العلمية. وسأعرض في هذا المقال نتيجة أبحاث العلماء في العلاقة بين الذكاء والجسم.
شغل العلماء من القرن الثامن عشر بمعرفة ما إذا كان من الممكن الحكم على صفات الفرد العقلية من صفاته الجسمية. وقد ظهرت عدة نظريات كانت كلها محاولات لكشف العلاقة بين العقل والجسم. وقد تناولت بحوث العلماء في هذا الصدد الموضوعات الآتية:
1 - شكل الجمجمة وحجمها، وملامح الوجه، وعلاقة كل هذا بالعقل.
2 - قدرة الرئة على التنفس وعلاقة هذه القدرة بالذكاء.
3 - دقة تمييز الحواس المختلفة، ومقدار سرعة إدراكها وعلاقة ذلك بالذكاء.
4 - زمن الرجع (أو رد الفعل) للمؤثرات الحسية الخارجية.
5 - الإفرازات التي تخرج من الغدد الصماء وأثرها في الوظائف العقلية.
6 - العلل الجسمية وأثرها في الإنتاج العقلي والذكاء.
- 1 -
كتب لافاتير السويسري كتاباً عن (الفراسة الوجهية) في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، قال فيه بإمكان الحكم على ذكاء الفرد من تقاطيع وجهه، وشكل الجبهة والأنف وحجم الفك. ومع أن هذه النظرية لاقت أنصاراً حين ظهور الكتاب، ولا يزال لها في العصر الحاضر مؤيدون من عامة القراء؛ فمن المؤكد علمياً أنها نظرية باطلة، لأن مقاييس(377/17)
الذكاء الحديثة المعتمدة لم تثبت وجود علاقة بين تقاطيع الوجه والذكاء، إلا عند البله والمعتوهين.
وفي سنة 1810 ظهرت رسالة لعالمين فرنسيين هما جال واسبورتزهيم تشرح نظرية القيافة الجمجمية وتشير إلى وجود عدد من الملكات العقلية المختلفة كملكة الإدراك، وملكة الحفظ، وملكة التذكر، وملكة العزم الخ، وحصرها في ست وعشرين. ولكل ملكة من هذه الملكات مركز خاص في الدماغ. ويقابل كل مركز من هذه المراكز الدماغية مساحة خاصة في الجمجمة. وكل نمو في مراكز هذه الملكات يقابله نمو في مساحاتها الجمجمية. أي أنه من الممكن معرفة قوى هذه الملكات العقلية بقياس بروز مساحتها الجمجمية. ولم تعمر هذه النظرية طويلاً
وفي أواخر القرن الماضي ظهرت في إيطاليا مدرسة تقول بوجود تلازم إيجابي مطرد بين الصفات الجسمية التشريحية وبين ذكاء الفرد وخُلقه، وزعيم هذه المدرسة هو البروفسور سيزاري الأخصائي في علم الإجرام. وتتلخص نظريته في أنه من الممكن معرفة ضعاف العقول، والبلهاء، وذوي الميول الإجرامية من خلق الرأس وحجمه وتركيبه. فعدم انتظام شكل الجمجمة، وبروز الجبهة، وضيقها، وانخفاضها، وانفطاح الأنف وعرضه، وضيق قوس الحنك وارتفاعه، وعرض الأذنين وكبرهما، وعدم انتظام شكلهما؛ كل هذه دلائل على ضعف عقل الفرد. وكان ممن عنوا بكشف العلاقة بين حجم الرأس والعقل جولتن في إنجلترا وبيتيه في فرنسا، وقد دلت تجاربهما على أن التلازم الإيجابي بين حجم الرأس وذكاء الفرد من القلة بحيث لا يعتمد عليه في معرفة الذكاء
كان لنظرية لمبروزو صدى شديد في المعاهد التي عنيت بدراسة الإجرام وصفات المجرمين؛ ففي سنة 1910 وسنة 1911 أجريت تجارب في السجون الإنجليزية لقياس جماجم المسجونين وبروز جباههم، وأنوفهم، وآذانهم الخ. ثم قورنت نتائج هذه المقاييس التي اتبعت فيها طريقة لمبروزو بسجلات المسجونين، ونتائج اختبار ذكائهم، فانهارت بهذه التجارب نظرية لمبروزو، وامحت من بين النظريات العلمية. وكانت هذه آخر المحاولات التي قصد بها إثبات تلازم بين شكل الجمجمة وحجمها وتقاطيع الوجه وبين الذكاء. وفي هذا يقول الأستاذ (كارل ببرسن) بعد أن أجرى اختبارات على ستة آلاف تلميذ مدرسي(377/18)
وطالب جامعي: (إن التلازم الإيجابي بين مقاييس الجمجمة وبين الذكاء من القلة بحيث لا يعتمد عليه في الحكم على ذكاء الفرد)
- 2 -
وموضوع العلاقة بين القدرة على الشهيق وبين الذكاء قد يظهر غريباً. ولكن أحد الأطباء بمانشستر الدكتور (مامفورد) عنى بهذا الموضوع، فأجرى اختبارات على تلاميذ مدرسة ثانوية وعلى طلبة الجامعة ووجد تلازماً إيجابياً مطرداً بين القدرة على الشهيق العميق واتساع الرئتين، وبين ترتيب التلاميذ في الفصول. فالتلاميذ المتقدمون أقدر على الشهيق العميق والتنفس القوي من التلاميذ المتأخرين. وقد لاحظ الدكتور أيضاً من نتائج الاختبارات أن هذا التلازم الإيجابي يضعف كلما كبر التلاميذ في السن. وقد أبدت نتائج هذه الاختبارات اختبارات شبيهة بها أجريت في كاليفورنيا بواسطة الأستاذ ترمان.
- 3 -
أما دقة التمييز الحسي، وإدراك الفروق الحسية - لمسية أو ذوقية أو شمية أو سمعية أو بصرية - وعلاقة ذلك بالذكاء فيرجعان إلى نظرية البروفسور فنت الألماني، التي كانت تشير إلى أن الحواس هي منافذ العقل، والمدركات الحسية هي التي يتألف منها العقل. ومن الممكن إذاً قياس الذكاء بقياس قدرة الحواس، وقوتها على تمييز المحسوسات المتقاربة. فأجريت تجارب على الحواس استخدمت فيها أجهزة كأجهزة معامل الطبيعة والضوء، بعضها لقياس قوة قبضة اليد، وبعضها لقياس مقدار التمييز اللمسي، وبعضها لقياس القدرة على إدراك الفروق الصغيرة في الأنغام والألوان والظلال. وقد قام بهذه الاختبارات جولتن في إنجلترا وكاتل وثورنديك في أمريكا. وكانت نتيجة هذه الاختبارات أن قدرة التمييز الحسي في الملموسات والمذوقات والمشمومات لا تدل على ذكاء الفرد، وأن لا تلازم بين هذه القدرة والذكاء. فلا فرق في قوة التمييز هذه بين الأطفال والكبار، ولا بين الأغبياء والأذكياء، ولا بين المتحضرين وغيرهم.
والأستاذ اسبيرمان وآخرون يقولون بأن للقدرة على تمييز
النغمات الموسيقية المختلفة أو المتقاربة علاقة بذكاء الفرد،(377/19)
وأن بينهما تلازماً إيجابياً قوياً، فكلما كان الفرد أكثر ذكاء كان
أقدر على تمييز النغمات. وهو يرى (أن الذكاء له109 من
نجاح الفرد في تمييز الأصوات ذات النغمات المتقاربة)
أما العلاقة بين الذكاء وبين حدة النظر والقدرة على تمييز المرئيات المتشابهة، فقد أثبت عدد كبير من الاختبارات بين تلاميذ المدارس أن الأغبياء وضعاف العقول يكثر فيهم ضعف البصر، ولو أن كثيراً ممن يشكون من (قصر النظر) أذكياء ونابغون. وإذا حكمنا بنتيجة الاختبارات التي أجريت قلنا إن بين القدرة على تمييز المرئيات قريبة الشبه وبين الذكاء علاقة قوية وتلازماً إيجابياً. وبهذا يقول أنصار اسبيرمان
- 4 -
من الملاحظ أن الإنسان إذا كان تعباً جسمياً فإن زمن الرجع للمؤثرات الحسية الخارجية عنده يكون أطول من زمن الرجع حين نشاطه. ونحن في أوقات الصباح أسرع رجعاً منا بعد القيام بعمل عضلي طويل. وقد تنبّه علماء النفس لهذه الظاهرة، وحاولوا أن يعرفوا إلى أي حد يرتبط الذكاء بزمن الرجع الحركي للمؤثرات الحسية. وقد اخترعت آلات خاصة تسجل الفرق بين زمن صدور المؤثر الخارجي - عن طريق اللمس أو البصر أو السمع أو الذوق - وزمن رد الفعل. وأجريت اختبارات لأفراد كثيرين لمعرفة ما إذا كانت سرعة الرجع دليلاً على شدة الذكاء، والنتائج التي أسفرت عنها الاختبارات متضاربة بحيث لا يصح الجزم بها نهائياً.
- 5 -
اهتم علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي بدراسة الشخصية وعناصرها، والعوامل الفيزيولوجية التي تؤثر في تكوينها. ومن المدارس السيكلوجية التي لها رأي وجيه في دراسة الشخصية مدرسة أمريكية ترى أن للغدد الصماء أثراً هاماً في تكوين الشخصية بما تفرزه من عصارات تسمى الهرمونات والذكاء عامل من عوامل الشخصية
والهرمونات هذه عصارات ذرية تسير في الدم وتعمل على تنشيط وظائف الأجهزة(377/20)
العضوية المختلفة أو أضعافها، كالجهاز الهضمي والتنفسي والتناسلي والعصبي؛ وبعض هذه الهرمونات يؤثر في المخ ونشاطه. ومن الغدد التي تفرز الهرمونات الغدة الدرقية وموضعها الرقبة. وهي تفرز هرموناً يحتوي على كميات من (اليود) ضرورية لنمو الجسم ونشاطه. ويولد بعض الأطفال وعندهم ضعف في هذه الغدة، ولذلك لا ينمون نمواً طبيعياً، فيظلون أقزام الجسم، ضعاف نمو المخ، أغبياء، بطيئين في أعمالهم. ومعنى هذا أن للهرمون الدرقي أثراً في ذكاء الفرد. وتوجد غدة أخرى اسمها الغدة النخاعية وموضعها قاعدة الدماغ، وتفرز هرموناً يشبه في أثره الهرمون الدرقي، أي أن له أثراً في نمو الجسم ونشاطه وفي نمو العقل ونشاطه.
من أجل هذه الصلة بين العقل والجسم وغدده كان من الضروري لطلبة علم النفس في الجامعات الأوربية والأمريكية أن يدرسوا علم وظائف الأعضاء، والعلاقة بين الوظائف العقلية والوظائف العضوية، كما أصبح من الضروري أن يدرس طلبة الطب قدراً من علم النفس، والحقيقة أن علم الطب وعلم النفس يكمل الواحد منهما الآخر، لأن موضوعهما واحد وهو الإنسان
- 6 -
ولمعرفة علاقة صحة الجسم أو مرضه بالذكاء يجب أن نفرق أولاً بين ما يسمى نسبة الذكاء الثابت عند الفرد وبين نوع الإنتاج وجودته، وقد أجريت عدة تجارب في هذا الموضوع، وكلها تقريباً يؤكد أنه ليس للمرض أو الصحة أثر في نسبة الذكاء الثابت إلا إذا حدثت العلة في سن مبكرة وأصبحت دائمة. وأما العلل الطارئة كتسويس الأسنان، والتهاب اللوزتين، والعمى، والصمم فإنها تضعف من كمية المنتج ونوعه، وإن كانت لا تؤثر في نسبة الذكاء الثابت. ويقول الأستاذ فريمان: (إنه ولو فرضنا أن مرض الجسم أو ضعف نموه لا يؤثر كثيراً في نمو العقل فإنه من الممكن أن يؤثر تأثيراً محسوساً في القدرة الإنتاجية للفرد وفي وظائف مواهبه العقلية، وعل كل حال يجب أن نذكر دائماً أثر المرض وضعف الجسم كلما حاولنا أن نحكم على ذكاء الفرد من مقدار إنتاجه)
أما صاحبنا الذي أشرت إلى ذكائه في طليعة هذا المقال فمن يدرينا لعله لو كان سليماً لكان إنتاجه أكثر وأكمل من إنتاجه أثناء المرض(377/21)
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(377/22)
بين مصر والهند
للأستاذ أبي الحسنات محمد محيي الدين
كلما درسنا تاريخ قدماء المصريين وتاريخ الهنود القدماء،
لاحظنا وجود التشابه بينهما ظاهرة وواضحة. لذلك نورد هذا
البحث عساه يكون موضع إمعان واهتمام لدى علماء مصر
والهند
الديانة المصرية القديمة
تعتمد العقيدة الرسمية عند قدماء المصريين على أسطورة قديمة ترجع إلى ما قبل التاريخ في نسبتها، وهي عقيدة الثالوث المقدس: (1) أوزيريس إله الإنبات والخصوبة أو إله النيل. (2) إيزيس إلهة الحكمة والتشريع. (3) توت إله العلم والتدبير.
ثم عرتها قوانين التحول والتدرج وانتقلت إلى عقيدة التاسوع المقدس بدل الثالوث المقدس وهي ترجع إلى القوى الطبيعية المؤثرة في الكون وهي: (1) الماء. (2) رع (الشمس) (3) سرا (الهواء). (4) تيفينة (القراغ). (5) جيب (الأرض). (6) توت (السماء). (7) أوزيريس (النيل). (8) إيزيس (الأرض الخصبة). (9) سيت (الأرض القاحلة) أو الصحراء (نيفتيس)
وقد أعطى المصريون لهذه الأشياء صفة الألوهية واعتقدوا أيضاً أن هناك ربّاً هو رب الأرباب وأطلقوا عليه اسم (توم)، واستمرت الحال على ذلك حتى جاء عهد (مينا) الأول فأعلن أن الإلهين (حوريس) خليفة (أوزيريس) في الألوهية و (سيت) عمه وخصمه في دعوى الألوهية قد حلاّ في جسده وابتدأ تأليه الملوك (الفراعنة). ولم يستمر الفراعنة موضع القداسة لحلول الإلهين فقط، بل ارتقى فرعون وصار يحل فيه (رع) كبير الآلهة.
ثم تحولت عقيدة الحلول من الملك إلى الأجسام التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذر والأثمار والأحياء التي تمتاز بميزة يعرفها الفلاسفة والكهان، فأحلوا آلهتهم أحياناً في ثور (عجل أبيس) وأحياناً في قط وأحياناً في ثعبان وأحياناً في تمساح.(377/23)
ولقد وصف بعض الكتاب هذه العبادة قال: (على هياكل المعابد سجف منسوجة بالحرير؛ فإذا تقدمت إلى نهاية المعابد لترى التمثال تقدم إليك كاهن في سكينة ووقار وهو يرتل مزاميره فيزيح قليلاً من الستار ليريك الإله، فلا ترى إلا قطاً أو تمساحاً أو ثعباناً أو حيواناً مؤذياً، فكان إله المصريين دابة ملونة على بساط أرجواني)
هذه هي الديانة المصرية القديمة في أدوارها المختلفة وتلك هي أهم عناصر تكوينها. وبجانب هذا نعرض على القارئين الكرام أهم نواحي الديانة الهندية القديمة لنقارن بين الديانتين فنقول:
الديانة الهندية القديمة
تدل الأسفار القديمة والآثار العتيقة التي ترجع نسبتها إلى ما قبل التاريخ على أن قوام الديانة الهندية القديمة هي القوى المؤثرة في الكون وهي الأقانيم الثلاثة المكونة من (1) براهما (الشمس) الإله الخالق للكائنات وهو إله العلم والتدبير، والحكمة والتشريع (2) سيفا (النار) إله القضاء والسحر والفناء (3) فشنو (الأرض) إله الرحمة والخصوبة والسقاية (الكنج وجمنا وبراهما بوترا وغيره من الأنهار المقدسة)، ثم لم يلبثوا أن جسدوها واعتقدوا حلولها في بعض الأجسام فأقاموا التماثيل وعبدوا الأصنام لحلولها فيها فتعددت آلهتهم حتى بلغت ستة وثلاثين من الماء (الأنهار) والهواء والسماء والشمس والأرض الخصبة والقاحلة والأشجار والأثمار وغيرها من الأجرام الأرضية والسماوية فأحلوا آلهتهم في الأحياء التي تتصل بالخصب والإنتاج والبذور والأثمار والأجسام التي لاحظوا فيها ميزة فعبدوا الحيوانات المخيفة المؤذية كتنين مفزع وتمساح هائل مخيف وعبدوا البقر والفيل وهلم جرا.
كل هذه الأشياء قد بلغت إلى درجة الألوهية في نظرهم، لهذا أقاموا لعبادتها معابد وصوامع وزينوها على النمط المبين في وصف الكاتب المؤرخ للمعابد المصرية وهياكلها. واستمرت الحال على ذلك حتى اعتقدوا أن بعض آلهتهم حلت في جسم الإنسان وهو الملك، ومن ثم ابتدأت عقيدة تقديس الملوك أو حلول اللاهوت في الناسوت، ولا تزال هذه العقيدة باقية في كثير من نواحي الهند كبلاد الأراكن وجزيرة برما وتيبارا في شرق البنغال وآسام وغيرها من المناطق التي يدين سكانها بتأليه الملوك. واعتقدوا أيضاً أن هناك إله(377/24)
الآلهة وسموه (آتما)، أي الإله الأكبر
هذه إلمامة موجزة لما في الديانتين القديمتين من التشابه، وهو من الوجهة الدينية، وكذلك الحال من الوجهة الاجتماعية العامة من الأخلاق والآداب والعادات والتقاليد، كما لا يخفى على الباحث المدقق والدارس المحقق
يتساءل الباحث ما هو وجه التشابه بين الديانتين القديمتين؟ وهل كانت هناك بين الأمتين علاقة دينية أو ثقافية أو اجتماعية؟ وهل كانت أسباب المواصلات بينهما متوافرة؟ أم كانت هناك جماعة رحالة طاب لها المقام فاستقرت أم ضاق بها المعاش فانتشرت؟ أم طردها العدو فالتجأت؟ وحملت معها الديانة والمدنية والحضارة والثقافة والتقاليد والعادات وغيرها من المقومات الضرورية للحياة، فعلى هذا أين كان موطنها الأصلي؟ مصر، أم الهند؟ وما الذي دفعها للنزوح إلى ما وراء البحار؟
كل هذه الأسئلة تمر بخاطر الدارس من غير شك، ومفتاحها تصفح التواريخ السيكولوجية للأمتين للبحث عن نفسيتهما وعقليتهما وميزاتهما التي تمثل أصل حضارتهما، وتتبع النقوش في المعابد التي لم يؤثر فيها كر الغداة ومر العشى، وكل ذلك يشير إلى أن في طيات ذلك الدفين لم ينشر بعد من قبره حضارة زاهية اشتركت في تكوينها جميع أفراد هاتين الأمتين بيد أن أكثر تلك الآثار لا تزال مبهمة ولم يبين كنهها، ولا يزال البحث جارياً لكشف ذلك، وقد أخذت الأسباب تتوافر ومادة الاستقراء تتكون بفضل الأجهزة العلمية الحديثة. وهانحن أولاء ندعو علماء مصر والهند للتعاون على هذا الموضوع التاريخي. فهل من مجيب؟
أبو الحسنات محمد محيي الدين
(طاغور) الهندي(377/25)
خواطر في الحرب
للأستاذ محمد عرفة
أخير هذه الحرب القائمة أم شر؟ إن هذا السؤال يبدو غريباً، إذ كيف يمتري أحد في أن هذه الحرب جمعت الرزايا والنكبات ما تقشعر من هوله الأبدان؟ هذه دماء سفكت، وبيوت دمرت، ومئات الآلاف من السكان أصبحوا لا يجدون مأوى يأوون إليه، وهذه أقوات وأرزاق قد سلطت عليها النيران فالتهمتها، وأصبح فريق عظيم لا يجد الطعام. هذه شعوب كانت حرة فاستعبدت، ومن هذه الشعوب شعوب كان في إطلاقها وحريتها مجال فسيح لابتكار ما يفيد المدنية، وفي استعبادها وقيودها الفكرية ما يعطل هذا الإنتاج.
هذه أمور ظاهرة لا تجعل مجالاً للشك في أن الحرب نكبة عالمية، ولكن على الرغم من ذلك أتساءل أخير هي أم شر؟ وأزيد فأقول إنها ربما تكون خيراً، وربما تكون شراً: تكون خيراً إذا رأى المتحاربون ويلات ما صنعت الحرب، وأنه يمكن التخلص منها، إذا علم أسبابها واجتنبت، وأن سببها هو إحلال قانون القوة في الأمم محل قانون العدل.
إذا علم المتحاربون ما في قانون القوة من قدرة على إضرام الحرب وسعوا للتخلص منه، كانت هذه الحرب التي أثمرت هذه الثمرة بركة على الناس. إن من الشعوب التي غلبت على أمرها في هذه الحرب شعوباً كانت تعامل شعوباً أخرى بهذا القانون، فكانت تغزوها، فإذا تغلبت عليها فرضت عليها إرادتها، ثم تمنعها أسباب الرقي العقلي والخلقي، لأنها تخاف إذا هي ترقت في هاتين استنارت وطلبت الخلاص، وربما نالته، وكانت لا تشعر بجرم ما تعمل، لأنها تعمل ذلك في غيرها. وقد دار دولاب الأيام، ووقعت هذه الأمم في قبضة غيرها، وعوملت بقانون القوة، وسقيت بالكأس التي كانت تسقى بها، فوجدت لذلك ألمه، وعندها ربما تدرك سوء ما كانت تفعل مع الأمم الأخرى وتستنكره، فتنكر قانون القوة، وتعرف قانون العدل فيخسر قانون القوة بعض الأنصار، ويكسب قانون العدل ناصراً جديداً. وفي هذا الاحتمال أيضاً خير عظيم، لأنه خطوة واسعة في سبيل السلام.
محمد عرفة(377/26)
مطالعات عابرة
العقل عند المعتزلة
للأستاذ صلاح الدين شريف
المعتزلة من أعلى الفرق الإسلامية تفكيراً وأخصبها إنتاجاً وأبعدها أثراً في فسح آماد الفقه وتقعيده على قواعد من المنطق لم تكن لجدتها مألوفة ولا مقبولة من جمهور فقهاء الإسلام. وهي إلى التزامها جانب الطرافة في التفكير وأخذها النفس بتحكيم العقل الإنساني في تفسير ما تبهّم من معميات الوجود وألاغيز النفس وأسرار العمران البشري، ليست تنجو من إغراق وتطرّف لعلهما كانا لازمة من لوازم النفاح عن العقيدة والوثوق بما يرتئيه العقل من رأي، وما يتأدى إليه التفكير العميق من مبدأ، وما يرتصد له من فكرة. وليس بعجيب البتة أن يسبق رجالها إلى استنباط فكرة (القانون الطبيعي) الذي يستلهم دستوره في التشريع واستنباط الأحكام من وحي العقل الخالص من لوثة الهوى، المصون من نزوة الغريزة؛ وهم الذين تطلّقوا في النظر والبحث من قيود التقليد وتحرروا من اندفاع المجاراة، فلا جرم تتبدى ثمرات قرائحهم في مسوح من الغرابة، ولا يقبل على تناولها جمهور الأمة الإسلامية وقتئذ إلا في كثير من الحذر والشك والتحرج والارتياب!
كانت الحركة الفقهية في مطالع النهضة العامة للمجتمع الإسلامي وفي أواخر عهد الراشدين وطيلة خلافة الأمويين فالعصر الأول من دولة العباسيين، قد اتخذت أسلوباً من النشاط ولوناً من النماء لم يعهده هذا المجتمع من قبل، فكان طبيعياً أن يتأدى بالفقهاء نشاطهم إلى ولوج أحرج مشاكل الفقه، وأكثر موضوعاته جفافاً وعمقاً. وكان حتماً أن تقودهم عقولهم المتلهفة العطشى إلى النظر في فلسفة التشريع والبحث في حقيقة المبادئ والقواعد التي تسير عليها أحكام الله وأحكام الإنسان، ليتخذوا من هذه وتلك دستوراً لا يخطئ في فهم المشيئة الإلهية والحكم على حُسن أو قبح ما يتهدى إليه تفكير الإنسان، وما يطوعه له كسبه الاختياري المركوز في طبيعته من أقوال وأفعال.
فلما اتفق جمهور الأمة الإسلامية على أن مُعرّف حكم الله بعد مجيء الرسل هو الرسول نفسه الذي يتلقى عن طريق الوحي شرع السماء، ويبلغه إلى من بعث إليهم ليؤدي رسالته، ظهر فريقان كبيران من المسلمين حاول كل منهما أن ينفذ بالنظر العميق والذوق السليم إلى(377/27)