الذي شبب بزينب أخت الحجاج ولما ظفر به عفا عنه. وغير هذين كثير.
وليس يعنيني الآن أن أستقصي أحاديث هؤلاء، ولكني أعرض لأبيات تتصل بالحجاج وتلك هي:
إن تنصفونا آل مروان نقترب ... إليكم وإلا فأذنوا ببعاد
فإن لنا عنكم مزاحاً ومرحلا ... بعيس إلى ريح الفلاة صوادي
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد
فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء أنها (لمالك أبن الريب) وكذلك ذكر المبرد في كتابه (الكامل جـ1 ص 301 طبعة المكتبة التجارية. والبيت الثالث من شواهد النحويين وقد أجمعوا في كتب النحو والشواهد أنها لمالك هذا. ولكن المعروف أن هذا الشاعر مات في عهد معاوية وكان في بعث (سعيد بن عثمان بن عفان) إلى خراسان وقد مات في الطريق ورثى نفسه بقصيدته اليائية المشهورة - وهو أول من رثى نفسه - فليست الأبيات له إذن فلمن هي؟
جاء في (معجم البلدان لياقوت الحموي جـ3ص304 الطبعة الأولى) أنها للبرج بن خنزير التميمي، قال: وكان الحجاج قد ألزمه البعث إلى المهلب لقتال الأزارقة فهرب منه إلى الشام وقال. . . الأبيات:
وقد رضى الشيخ المرصفي رحمة الله عليه هذا الإسناد وشنع على المبرد (رغبة الأمل ج 5 ص 27) ولكن صاحب الحماسة نسبها إلى (الفرزدق) جاء ذلك في جميع الطبعات التي بين أيدينا لحماسة أبي تمام، وقد ارتضى بعض أساتذتنا هذا
فلمن هذه الأبيات؟ لعلنا نظفر بجواب ممن عنده تحقيق هذه المسألة
علي محمد حسن
كلية اللغة العربية
الثاني والآخر
قرأت في العدد 67 من مجلة الثقافة مقالاً بعنوان: (حديث أمس) للأستاذ أحمد أمين جاء فيه:(357/83)
قال أحدنا: جزءاً من العقد الفريد، وآخر: جزءاً من الأغاني وثالث: نهج البلاغة، ورابع: مقدمة ابن خلدون
والمعروف في اللغة أنه لا يسوغ أن تقول آخر إلا إذا كان هو الأخير، فلا تقفي بعد ذلك بأعداد أخرى؛ وأن الواجب أن تقول: قال أول وثان وثالث وآخر إذا لم يبق إلا واحد بعد ثالث، أو إن شئت قلت (رابع)
وأحسبك لم تنس استدراكهم على من قال: ربيع الثاني وجمادي الثانية بأن الصواب ربيع الآخر وجمادي الآخرة ما دام ليس هناك ثالث ورابع؛ وعندي أن هفوة ربيع الثاني. . . أهون من قولنا: قال أول وقال آخر وقال ثالث. . .
(الفشن)
م. م. إبراهيم(357/84)
العدد 358 - بتاريخ: 13 - 05 - 1940(/)
رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد
بمناسبة ذكراه الثالثة
ذكرتُ بذكرَى الرافعي وعداً درجت الأيام عليه ولم أوفّ به. ذلك أن أذكر لقراء الرسالة الرأي الصريح المجرد لصاحب (السفود) و (تحت راية القرآن) في خصميه العظيمين طه والعقاد. وفي ظني أن تسجيل هذا الرأي قد يصحح ما شاع في أجواء الأدب من نقد مسه الهوى وحكم أفسدته الخصومة.
فإن الرافعي رحمة الله عليه كان من أبصر الناس بِصَرف الكلام وأقدرهم على نقده؛ ولكن تعقبه للأدباء الأحياء قلما كان يبرأ من مجاملة الصداقة أو منافسة الحرفة. فإذا أردت استنباط رأيه الحر من غوره البعيد لا يتيسر ذلك منه إلا في الخلوة حين يأمن الأذن الخصيمة والقلم المسجل
جلسنا معاً ذات يوم من أيام الإسكندرية على قهوة (أتينيوس) بعد غداء ضاحك هنئ على مائدة صديقنا المرحوم فليكس فارس. وكان الرافعي برد الله ضريحه شديد الحساسة بالجمال قوي الرغبة في اللذة؛ ولكنه كان يطلبها من طريق المحال أو الحلال فتعييه. كان يتمنى أن يكون كأصحاب الجنة: يصبو من غير فجور وينتشي من غير إثم. فلما أعجزه الدرَك أغلق فؤاده من دون نفسه؛ ثم فتح للجمال عينيه وأطلق في نعيمه لسانه، فلا يدع معنى من معاني اللهو ولا لوناً من ألوان العيش إلا صرَّف الكلام فيه وأدار الرأي عليه
كان حديث الرافعي على المقهى الأنيق الوادع أفانين من النكات والأفاكيه يدور أكثرها على سكرات الجمال في الكرنيش، وسطوات الشباب على الشاطئ، وحسرات الحرمان فيما بين ذلك. ثم توافدت زمر المصطافين على المقهى، فأخذ يتحفظ في الحديث ويخافت به حتى رده مرغماً إلى الأدب؛ فسألني كيف أكتب ومتى أكتب وماذا أشرب حين أكتب. فلما أجبته أني لا أفكر إلا أول الكتابة، ولا أكتب إلا آخر الوقت، ولا أدخن التبغ ولا أشرب القهوة ولا أكركر الشيشة، عجب كيفتواتي القريحة على هذه الحال الكليلة، وذكر لي ما يتملق به قريحته من المطاعم والمشارب والعقاقير، ثم روي لي الأعاجيب مما يُلقى عليه إلقاء في النوم، وما يلهَمه إلهاماً في اليقظة، وعزا ذلك إلى قوة إلهية ترفده وتسنده. فقلت له ضاحكاً: وهل تعتقد أن من إلهام هذه القوة تلك الفصول المقذعة التي كتبتها في(358/1)
النقد؟ فأجاب بلهجته الطفلية الحاسمة:
أما ما كتبته (على السفود) فأكثره رجس من عمل الشيطان، وأما ما أدخلته (تحت راية القرآن) فكله إلهام من روح الله
فقلت له، أو بالحري كتبت، لأن مناقلة الحديث كانت لصممه تحريرية مني وشفوية منه:
أتستطيع في هذه المناسبة يا صاحب (تاريخ آداب العرب) أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتُجمل لي رأيك الخالص في طه والعقاد؟
فأجاب الرافعي وعلى محياه الوردي سيما المعترف المقر:
- أما لك فأقول الحق. وما دمت لا أكتبه فلا أبالي أن تنشره:
إن طه عجيب التكوين جليل المواهب. وهو مدين بنبوغه لتوقد ذهنه ودقة حسه وقوة ذاكرته ولباقة حديثه ومزايا عاهته. ولو أنه انتهى كما بدأ لكان اليوم أحد عباقرة الدنيا. ولكنه بلغ المنزلة المرجوة قبل الأوان لأسباب غير طبيعية، فأعفى طبعه واطمأن إلى منصبه المضمون ومجده المكتسب
علمه علم الأديب يأخذ من كل شئ بطرَف، وأدبه أدب الصحفي تصرفه السرعة عن الإجادة، وأسلوبه أسلوب الوادي المنحدر يشتد جريانه ويقل عمقه
ذهنه لمًاع الذكاء ولكنه لا ينفذ، وقريحته واسعة الحيلة ولكنها لا تخلق. لذلك تجده مغسول الكلام لا أثر فيه لروعة الفن ولا لبراعة الفكرة. ولكنه قوي الشخصية جياش الحركة عذب السياق جميل العرض. وهو أشبه الناس بمهندس العرض في بيوت التجارة، يعرض البضائع في البترينات منسقة على نظام يملك البصر، ولكنها تظل بعد التنسيق كما كانت قبل التنسيق ملك غيره. وأحسبه إذا تنفس به العمر على هذه الحال يعود رجلاً له رأي مسموع في التأديب، ولكن ليس له أثر خالد في الأدب.
ويلوح لي أن طه تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ، ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل
أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه: أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب، ولكنه يَنْفِس عليَّ قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان(358/2)
وأحترمه لأنه أديب قد استملك أداة الأدب، وباحث قد استكمل عدة البحث. قَصرَ عمره وجهده على القراءة والكتابة فلا ينفك بين كتاب وقلم. ومن آفة الذين يديمون النظر في كلام الناس أنهم يفقدون استقلال الفكر وابتكار القريحة، وليس كذلك العقاد؛ فإن رأيه لقوة عقله وسلامة طبعه يظل متميزاً عن رأي الكتاب مهيمناً عليه؛ يؤيده أو يفنده، ولكنه لا يسمح له أن يذوب فيه أو يتأثر به
أسلوب العقاد أسلوب الأديب الحكيم، تبرز فيه الفكرة الدقيقة في مجتلى من الفن الرفيع، فيجمع بقوة تفكيره ودقة تعبيره طَرَفيْ البلاغة. والعقاد مخلص لفنه فلا يخرج للناس ما لا يرضاه. فهو لذلك أبعد الأدباء عن استغلال شهرته واستخدام إمضائه
فقلت له وأنا أختم الورقة التي أحدثه عليها: هيهات يا صديقي أن يخلص رأيك من هواك. إن رأيك في الأستاذ العقاد رجوع إلى الحق، ولكن رأيك في الدكتور طه إمعان في الباطل!
أحمد حسن الزيات(358/3)
في ذكرى الرافعي
طريقته في تأليف كتبه
للأستاذ محمد سعيد العريان
قلت عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له؛ فقد أملى عليّ أكثر من مائة مقالة كنتُ شاهدَه فيها إذ يُلَقَّى الوحيَ، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه.
وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفْتُ عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضوع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدِّي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.
وطريقة الكتابة غير طريقة التأليف؛ أعني أن الطريقة لإعداد مقالة أو فصل أدبي من مثل (رسائل الأحزان) أو (السحاب الأحمر) أو (المساكين) - غيرُ الطريقة في إعداد كتاب مثل (تاريخ آداب العرب)؛ فإن الشأن بين هذين مختلف باختلاف موضوعهما؛ ذلك أن في كل نفس معانيها التي تعِّبر بها عن الحب والبغض والقطيعة وما إليها من خلجات الوجدان أو مدركات الحس، بأسلوبها وعلى مقدارها؛ فما يحتاج الأديب لتصويرها وإبرازها إلى شئ غير الأداة الطبيعية التي يؤديها بها إلى الناس كلاماً مقروءاً يصل نفساً بنفس وينقلها من خطرة قلب إلى إدراك حس. أما تأليف الكتب العلمية فله سبيل غير هذه، لأنه يقوم على الجمع والتفريق، وعلى النقد والتصفح، وعلى الاستقراء والملاحظة.
وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين وأيان اجتمع لمؤلف هذا الكتاب هذا القدْرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألّف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
وظل هذا السؤال قائماً في نفسي زمناً، وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شئ بعد شئ في صفحات متفرقة من كتب عدة يُنسى آخرها أولها من تباعد الزمان بينها،(358/4)
وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه. وكان ذلك يزيدني عجباً وحيرة؛ فإنه ليس من الطبيعي أن يعرف إنسان كل من يراه في طريقه من الناس بحيث يتهيأ له أن ينسب بعضهم إلى بعض ويعرف القريب منهم والجنيب بما بينهم من تشابه في الخلقة؛ ولقد يكون ممكناً أن يجلس أخَوان بإزائي فأعرف ما بينهما من النسب بالمشابهة والفراسة، ولكن هيهات أن أهتدي إلى ذلك لو رأيتهما متفرقين على تباعد الزمان وانقطاعالصلة. من مثل ذلك كان عجبي وحيرتي
. . . وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ؛ ثم عزوت ذلك إلي ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقاتٌ قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبتُ إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في هذا الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته!
ثم قرأت له بحثه في (الرواية والرواة)؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهما من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد. . .
أما الحقيقة التي عرفتها بعد، فما أزال في شك منها وإن كان برهانها ماثلاً لعيني؛ ولكنه شك المتعجب الذي يفجأه ما لم يكن يتوقع. . .
منذ بضعة أشهر وكل إلي القيام على تصحيح بعض مؤلفات الرافعي التي تطبعها الآن إحدى دور النشر الكبرى في القاهرة؛ فأخذت أهبتي للعمل. . .
. . . وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقاً مركومة وكتباً تستند إلى الحيطان؛ أريد بذلك أن أبحث فيها عما يكون هناك من مستدركات على بعض الكتب المطبوعة، فأزيدها عليها؛ وأبحث عن (أصول) الكتب التي لم تطبع بعد، فأرتب فصولها وأعدها للطبع. وفتحت أدراج الدولاب، فرأيت وعرفت السر. . .
رحمه الله!
ذلك جهد لا يقوى على مثله جند سليمان ولكنه قَويَ عليه وحده، ثم مات وخلَّفه شاهداً على(358/5)
ما بذل في حياته لخير هذه الأمة فلم يلق من يعرف يده!
وإلى القارئ أصف ما عثرت عليه:
يعرف قراء العربية أن كل كتب المراجع في لغتنا ليس لها فهارس تعين الباحث على التماس ما يريده منها في أقصر وقت، إلا بضع كتب من المطبوعات الحديثة؛ فالأغاني، والأمالي، والعقد الفريد، والكامل، والعمدة، والخزانة، والحيوان والبيان والتبيين، وكتب الطبقات، وحتى كتب الفهارس والتراجم، ليس لها فهارس يمكن الاعتماد عليها عند البحث؛ فمن أصاب منها غرضاً فعن طريق المصادفة والاتفاق، أو بعد المطاولة وضياع الزمن؛ وحسبي أن أذكر أنني ذات مرة أنفقت ليلة كاملة في البحث عن كلمة في البيان والتبيين ثم لم أعثر بها فطويته على سأم وملالة؛ فلما كنت بعد أيام، وقد فات عليّ الغرض الذي كنت أقصد، فتحت الكتاب عرضاً فإذا الكلمة التي كنت أريدها أمامي. . .
هذه الحقيقة يعرفها كل من عانى مشقة البحث في هذه الكتب؛ فهي كتب للقراءة المجرّدة لا للبحث والتنقيب العلمي عرف الرافعي ذلك فاتخذ له طريقاً. . .
وكان أول ما صنع أن انتخب كل الكتب التي يعينه أمرها فيما يمهد له من البحث، فقرأها كلها قراءة درس؛ وهي كتب ليست بالقليلة، وحسب القارئ أن يعرف أن كل فصل في كتاب تاريخ آداب العرب للرافعي قد اعتمد فيه على عشر مراجع من المطولات أو يزيد، ليدرك من ذلك كم كتاباً قرأ قبل أن يؤلف كتابه الذي ذكرت. . .
قلت إن الرافعي انتخب طائفة من الكتب يرجو أن تعنيه على البحث فقرأها كلها، أعني نَفَضَها نَفْضاً بحيث لم يفُتْه منها معنى يتصل بموضوعه
ثم شرع يعمل، فكتب لكل كتاب مما قرأ ملخصاً يضم المجلدات الكثيرة في كراسة أو كراسات؛ يرجو أن تغنيه عن أصولها المطولة
ثم عاد إلى هذه الملخصات فرتب أجزائها ترتيباً يضم القريب إلى القريب بحيث يجد طلبته عند النظرة الأولى من غير أن يتعب في تقليب الأوراق
ثم كانت الخطوة الرابعة فزاوج بين ملخصات الكتب المختلفة يضم الأشباه منها إلى الأشباه
ثم كتب. . .
ثم عاد إلى المكتوب فقرأه قراءة الباحث: يزاوج بين رأيٍ ورأي ليخرج منهما رأي ثالث.(358/6)
واجتمعت له من ذلك المقدماتُ التي تبلغ به النتيجة. . .
ثم كانت المرحلة الأخيرة هي التهذيب والصقل الفني، من صناعة البيان وتحكيك الألفاظ وتجميل المعاني وتزيين الأسلوب
سبع مراحل بين البدء والنهاية. . . ثم خرج الكتاب لقارئه ليسائل نفسه في عجب: أين وأيان اجتمع لمؤلفه ذلك القدرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
سؤال كنت أسأله نفسي قبل أن أرى وأعرف وأضع يدي على تلك الأوراق التي كانت في درج مكتبه فتكشف لي السر. .
بين يديَّ الآن الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، أرجو أن أفرغ منه ليكون في أيدي القراء بعد أيام؛ وهو كتاب ألفه في سنة 1911 أو قبل ذلك، ثم شغلته شئون الحياة عن إخراجه فخلَّفه أوراقاً مصفرّة يكاد يبليها التقادم. . . في هذا الكتاب وجدت مفتاح السر، وسيقرؤه قراؤه بعد أيام فيعرفون في بعض فصوله أين بدأ مما انتهى وعند أي مرحلةٍ وقف. . . ثم يذكرون مؤلفه فيترّحمون عليه. . .
. . . وفي مكتبته كتاب آخر أرجو أن يعينني الله عليه ما أعانني على هذا الكتاب. وهناك غير ذلك كراسات عدة وأضابير مطوية. تلك هي الفهارس التي كتبها ثم استكتبها. . ولكنها - فيما تبدو لي - ألسنةٌ خُرْس
قلت كانت المرحلة الأولى في تأليفه أنه اختار طائفة من الكتب. . . وأقول إن أول ما اختار من ذلك كتب التراجم؛ مثل الفهرست لابن النديم، ووفيات الأعيان، ونحوهما
وطريقته في التحصيل من هذه الكتب، أن يقرأ الكتاب ما بين دفتيه؛ ثم يكتب ملخصه بحيث يشمل من أسماء أهل الفنون الأدبية وامتياز كل منهم، مثل الشعراء، والخطباء، والكتاب، والرواة؛ ثم أسماء الكتب، وموضوعها، فنون العلم، ومعارضات العلماء بعضهم لبعض؛ ثم الطرائف الأدبية التي تشير إلى معنى يتصل بشيء من موضوعه. وفي كتب التراجم من هذه الطرائف ما ليس في كتاب
وأستطيع أن أقول جازماً: أن الرافعي أعتمد على كتب التراجم في الجمع لكتابه (تاريخ آداب العرب) أكثر مما أعتمد على الكتب الخالصة للأدب؛ وكان اتجاهه إلى ذلك سبباً في(358/7)
توفيقه إلى ما لم يوفق إليه غيره في موضوعه
ويذكِّرني اعتدادُه بكتب التراجم في هذا الشأن، ما ذكرته في كتابي (حياة الرافعي) عن استمداده منها أكثر ما كان يكتب لقراء الرسالة من قصص لم ينسج على منوالها كاتب من قبله ولا من بعده؛ فكأن هذه الكتب كانت عوناً كبيراً له على ما أبدع في الأدب بنوعيه: الإنشائي والوصفي
لست أشك في أن طريقة الرافعي هذه كانت ذات فائدة كبيرة، ولكنها كانت حقيقة بأن تكون أكثر جدوى وفائدة لو أن هذه الملخصات والفهارس التي صنعها ليستعين بها كانت على غير النظام الذي وضع، ليمكن انتفاع غيره بها؛ فلو أنه عني بأن تكون تلك الفهارس كاملة وعامة، لكان بذلك قد كمل نقصاً في تلك الكتب التي أخذ عنها وزادها فائدة ولكنه - رحمه الله - لم يكن له غاية من صنع هذه الفهارس إلا الاستعانة بها على الجمع لكتابه، فبلغت به ما أراد، ثم بطل عملها!
وقد يسأل سائل: كيف تهيأ للرافعي الزمن الذي قرأ فيه تلك الكتب التي أخذ عنها ولخصها، ثم ألف منها كتابه؟
وهو سؤال لا أجد جوابه، على أنه مما يزيدني دهشة أن الرافعي قد بدأ يعد لكتابه تاريخ آداب العرب في سنة 1909 وفرغ منه - بأجزائه الثلاثة - في سنة 1911؛ فأنظر ما عسى أن تتسع له سنتان من عمر فتى لم يتجاوز الثلاثين وهو أب وزوج وله عمل في الحكومة يشغل نصف نهاره؟
وقد قال لي قائل مرة وقد جاء ذكر الجزء الأول من تاريخ آداب العرب: إنه كتاب يتحدث عن كل شئ إلا عن آداب العرب!
قلت: قد يكون ذلك رأيك ورأي طائفة معك، ولكنه على كل حال كتابٌ يغني عن مائة كتاب؛ وأسأل معلِّميك: من ألف في تاريخ آداب العرب قبل الرافعي؟
رحمه الله بما قدم لهذه الأمة وأجزلَ ثوابه
محمد سعيد العريان(358/8)
من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
(للأستاذ محمد كرد علي مذكرات تتناول مشاهداته وتاريخ حياته من يوم وعى لنفسه، وقد تحدث فيها كثيراً عن مصر ورجالات مصر، ويسرنا أن نقدم إلى قرائنا هذه الصفحة منها.)
أخلاق القضاة
لم أرَ فيما رأيتُ من أنواع العداوات أشد من تعادي المشايخ، ولا أكثر
من غمط بعضهم حق بعض، ولا أعظم من تكالبهم على حُطام الدنيا،
ولا أشد تهالكا منهم على أبواب الأمراء والحكام. ولقد رُويت لي عنهم
روايات ما كنت أصدقها لولا أن روايتها ممن لم يعرفوا الغيبة
والنميمة. ولما أخذت أتعرف إلى الرجال رأيت ما هالني، وآلمني أن
كان من يُطلب منهم الصدق هم من أول الكاذبين، ومن تفترض فيهم
الأمانة هم في مقدمة الخائنين؛ وأيقنت أن القليل منهم عرفوا الكرامة
وعزة النفس. وهم هم جعلوا مسلكهم بضعتهم علامة ضَعَة وصَغار،
وكان علامة شرف وفخار. وأُصيبوا بغرور وزهو ظنوا معهما أن
سلطانهم القديم على الملوك، فمن دونهم، يبقى لهم بهذا الجهل وهذا
الفساد
قلت يوماً لعالم درس تاريخ الإسلام درس تدبر، وعرف استخراج عبره: (أما كان في العصور الماضية قضاة جاهلون فاسقون سارقون، فكتب الأدب تتعرض لذكر كثير مما كان يتهمون به أليس ما روي عنهم صحيح أم صنعوه للنكتة؟) فأجاب: أكثر ما روي في سيرة القضاة قديماً صحيح، والجهل وسوء الخلق لا ينقطع دابرهما من الأرض، ولكن إذا فرضنا أنه كان في المملكة الإسلامية ألف قاض في القرون الغابرة، وألف مثلهم في هذه الأيام، فإن الألف السابقين كان فيهم عشرة فاسدون لا يصلحون، أما الألف اللاحقون فالفاسدون منهم(358/9)
يعدون بالعشرات بل بالمئات. وأظن السلطان بيلديرم بايزيد العثماني هو الذي جمع قضاة مملكته لما ثبت له قلة دينهم وتلاعبهم بالحكومة وأمر بقتلهم كلهم؛ فلما حقت عليهم كلمة العذاب لجئوا إلى أحد حاشيته وندمائه ورشوه بمبلغ من المال (وداوني بالتي كانت هي الداء)، فذهب إلى السلطان لابساً ألبسة السفر، فسأله السلطان عن الداعي إلى اكتسائه هذه الكسوة؛ فقال: إنه ذاهب صاحب القسطنطينية - وكانت يومئذ بأيدي الروم - ليأتي من عنده بقسيسين يتولون القضاء في بلاد السلطان. فضحك هذا وعفا عن القضاة على ألا يعودوا إلى سالف سيرتهم القبيحة
ومازالت حال القضاة في تدهور العصر بعد العصر حتى كانوا هم السبب الأعظم في إدخال قوانين الغرب على الدولة العثمانية والحكومتين العربية والتونسية لكثرة ما أساءوا إلى الشرع الإسلامي وعبثوا بأصوله وفروعه، فكانت المحاكم الشرعية بؤرة فساد، وأحكامها سلسلة من الخلل والعلل، فأكرهت أوربا الدولة على قبول قوانينها، ظناً منها أن الفساد آت من الشريعة، وما العيب إلا من جهل المنفذين لأحكامها وفساد أخلاقهم. وقد شاهدنا تحسناً ظاهراً في قضاة الشرع لما أنشأت الدولة مكتب النواب في الآستانة وكان المتخرجون على أساتذته إلى الاستقامة والعلم أكثر ممن سبقوهم بكثير. ومثل ذلك شاهدنا القضاء في مصر يتولاه اليوم الأخيار وكان في القرن الماضي يتولاه الأغمار والأشرار. بحثت سيرة من أهمني أمرهم من القضاة فقلَّ جداً من اقتنعت بذمته منهم، ومن نعده مستقيماً قد لا يتعفف عن قبول الهدايا من أرباب المصالح
قصة لطيفة وقعت لقاض من أهل دمشق كان في دومة من الغوطة، وكان مضحاكا خفيف الروح يحفظ كثيراً من النوادر والفكاهات، وهذا جل رأس ماله في القضاء على ما يظهر. أتاه ذات يوم رجل اسمه محمد عبد النافع أحد ظرفاء دومة بكتاب يقول له فيه إن الله خلقه بغير إرادته، وأنى به إلى هذا العالم ولم يستشره، وزين له أن يتزوج ففعل، ورزقه أولاداً ليقربهم عيني والديهم فكانوا علة إفلاس والدهم وشقاء والدتهم، وإن فقره يزيد كلما زاد عدد أولاده؛ فهو لذلك يتلمس من القاضي أن يجلب إلى محكمته العادلة المدعي عليه وهو الله سبحانه وتعالى ليتقاضى معه؛ فرأى القاضي أن صاحب الدعوى من أصحابْ النكتة، فانتظر حتى أنجز أرباب الأشغال مراجعاتهم وأغلق باب المحكمة ولم يترك فيها غير(358/10)
الموظفين والقائم مقام، وطلب المدعي وهو والحاضرون يصطنعون الجدِّ، فسأله عن دعواه على الحق تعالى، فقال إن دعواه مكتوبة في القصة التي قدمها. فقال القاضي للمدعي بعد أخذ ورد قليل: هل تسقط دعواك يا شيخ إذا أُعطيت من مال الله خمس ليرات عثمانية وكيس طحين؟ قال: أفعل. قال: القاضي أنا سائلك سؤالاً تجيبني عليه بصراحة.
فقال: الأمر لسيدي. فقال القاضي: جاء هذه البلدة قضاة كثيرون قبلي فَلِمَ لم تتقدم إليهم بهذه الشكوى لينصفوك ممن تدعي عليه سبحانه وتعالى؟ فقال: لم يكن القضاة الذين يقدمون لتولي القضاء في بلدنا مثلك، كانوا يخافون منه. فصفق الحاضرون تصفيقاً شديداً استحساناً لهذا الجواب. وربما قال القاضي في سره والله لصادق؛ فأنا أعلم من نفسي أن معظم القضاة لعهدنا لا يخافون الله، هم لصوص على رؤوسهم عمائم بيضاء، وإن طعامهم ولباسهم من أموال اليتامى والأيامى. وهكذا كان هذا القاضي يقول لزوجته مفاخراً، وما أشك أنه من قضاة النار. . .
هزل مصر
ومنها من فصل عنوانه (هزل مصر):
. . . في مصر اليوم عدة جماعات ومجتمعات تظفر في بعض حواشيها بأفراد ممتازين يختلفون إلى المقاهي ويزهدون في الاجتماع في بيوتهم، وكذلك الحال في بلاد الشام، وكانت فيها الأندية الخاصة أو (البعاكيك) في كل حيّ من أحياء المدن والقرى الكبيرة. ولي جماعة في بار اللواء أمام إدارة جريدة الأهرام بالقاهرة، وهم بقايا صالحة من أرباب الثقافة العالية والوطنية الحقة الصامتة، ومنهم صديقي القديم الأمير محمد بك علي المهندس، وقد وقع لي، وأنا أسير معه في بعض الشوارع، وأمه سودانية وهو أسود البشرة محمود الصفات خدم السياسة المصرية بما يخدمها به الرجل الشريف أعواماً طويلة وما طلب على عمله لوطنه مكافأة ولا طمع في مظهر من المظاهر التي يطمع فيها المتجرون بالوطنية
وقع لي أن لاقيت على الجادة صديقاً لي آخر اسمه صالح أفندي السوداني وهو أسود أيضاً بلون محمد بك علي، وهو من أرباب الأقلام ومن المخلصين في خدمة مصر فقلت لهما: خطرت ببالي الآن قصة وقعت لي في بلدي وأنا في صدر الشباب، كان لنا جار وهو أخي من الرضاع اسمه رشيد الهبل من أبناء البيوتات القديمة وقد خلف له أهله ثروة جيدة،(358/11)
وكان أسود اللون قاتمه مثلكما، ولكما المثل الأعلى، فكنا يومئذ نركب الخيل وعنده وعند والدي منها عدة نمتطي بعضها عند الأصيل وتخرج إلى المنتزهات بين البساتين. فقال لي والدي يوماً: إنك يا بُنيَّ تثبت كل يوم حسن ذوقك؛ أما رأيت في هذه المدينة الكبيرة أجمل طلعة من جارنا ابن الهبل تصحبه إلى نزهتك؟ ودعا لي بالتوفيق والغبطة! والتفت إلى الصديقين وقلت لهما من باب مطابقة الحديث للترجمة: أليس قول والدي يصدق علي الآن؟ ولا شك أن الناس هنا أدق شعوراً فيضحكون إذ يرونني بينكما. فضحكنا ضحكاً كثيراً. . . وتالله إني لأفضل هذين الأسودين بما فيهما من صفات غُرّ على كثيرين من البيض أصحاب الصحائف السود.
محمد كرد علي(358/12)
خواطر يثيرها سائل
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 3 -
سنة الله - التحرر من التاريخ - الطفولة موضع أمل - عصر العمل - شرود النساك - عالم الأجسام - فلنعش هنا - معنى العبادة - الدين ابتهاج لا كآبة - دعوة الأغنياء للدين - الحياة لعب ولهو - جناية الدولة على حياة الروح
لا يزال أكثر الناس يجهل سنة الله واتجاه إرادته في الطبيعة على الرغم من كثرة عدد العلماء الطبيعيين، ولا يزال كثير من الأمم يأبى أن يبني الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية كما بنى الله الطبيعة بقوانين لا تخطئ ولا تستثنى ولا تهمل، مع أن الحل الوحيد الموفق السعيد لجميع المشكلات هو أن يبني الفرد حياته وتبني الجماعة حياتها كما بنى الله الحياة العامة على الحرص الدقيق واليقظة التامة والعلم الشامل والقوة القاهرة والتصميم النافذ والاستيعاب الكامل للجزيئات والتوزيع العادل للقوى والعناصر؛ فبرزت في هذا التناسق والانسجام والجمال
ومع هذا الجهل الفاضح من الناس (لسنة الله) نجدهم في غاية الجرأة إذ يقدمون على محاكمة الله بعقولهم الصغيرة المحدودة التي لم تعرفه بعد ولم تعرف اتجاه إرادته الظاهر في الطبيعة
إن الله احتجب عنا فلن ندركه بأبصارنا إذ لا قدرة ولا طاقة لنا على ذلك. ولكنه وضع أمامنا (خريطة) الكون مفصلة واضحة لنرى فيها تخطيطه وأسلوبه في إيجاد الحياة وتنظيمها والقيام عليها
وقد وضع الله في الإنسان قوة أشبه بمرآة تنطبع فيها جميع صور الطبيعة ونظمها وهي (العقل)، وكان من المحتم لو سارت التربية سيرها الطبيعي أن ينتقل سنة الله في الطبيعة إلى تلك القوة وينطبع فيها فتحفظه وتتنبه إليه دائماً وتسير بإرشاده في بناء الحياة الإنسانية. ولكن قوة (الاختيار) التي في الإنسان من جهة وحبه (لاختبار) كل أفق (واستطلاع) كل شئ في الحياة هما السبب في عدم تقيده بما يوحي إليه أسلوب الله، وفي خلقه لنفسه جواً صناعياً جعله يبتعد بالتدريج عن الطبيعة التي هي كتاب الله إليه وصورة(358/13)
من علمه تعالى واتجاه إرادته
وشئ آخر غير (الاختيار) وحب الاستطلاع والاختبار يؤثر في إدراك الإنسان وعقله تأثيراً رديئاً. . . شئ هو كل شئ. . . هو التاريخ المسطور في الصحف الموروثة وأدمغة العجائز والشيوخ الذين هم قناطر وجسور دائمة تعبر عليها وراثات من الجاهليات الأولى متحدرة في الدماء والأعصاب والألسنة هي آثار من المحاولات الأولى المغلوطة التي حاولها الإنسان لإدراك الله وإدراك اتجاهه في الطبيعية
إن خمائر التاريخ السيئة التي تعوقنا عن رؤية الحق الصريح إنها جعلتنا أناسً صناعيين لا طبيعيين. . . فلا يزال في التاريخ كثير من الأمراض والظلمات التي كنا فيها قبل أن نشب عن الطوق وندرك الرشد، إنه من اكبر أسلحة الشر لمقاومة تقدم الإنسانية. . . إنه يربينا بما كان يربي عليه الأولون من العواطف والأفكار المغلوطة، ومن العجيب أن الاحتفاظ بخرافات التاريخ وجد له شرعة عصرية تحلله بحجة الإبقاء على (التقاليد) حتى الدين العقلي الطبيعي وهو الإسلام لم يستطيع أن يمحو مصائب التاريخ ومواريثه السيئة من الأمم التي تدين به فدخل كثير من الناس فيه من غير أن يغتسلوا غسلاً تاماً من مواريث الوثنيات والأباطيل واكتفوا بتغيير عنوان حياتهم العقلية القلبية من غير أن يخلعوا ما وراء العناوين، ولو ذهبت أتقصى بقايا الوثنيات في ديار الإسلام وفي أفكار المسلمين لطال بي المقال، وحسبي أن أحيل كل قارئ على علمه بما يجرى، وإذا كان هذا ديار الإسلام فما بالك بما في ديار غيره. . . وقد انحدرت إلينا هذه المواريث سائرة مع أصول الدين جنباً لجنب ولم تنتبه إلى ازدواج شخصياتنا تبعاً لذلك، وإني أتخيل جيلاً من الأطفال ربي بأيدي حكماء تحرروا من كل باطل واسترشدوا بأسلوب الطبيعة وسلامة الفطرة ولم يأخذوا الأفكار العامة عن الحياة والدين من التاريخ والبيئة الملوثة. . أتخيل ذلك فتسطع أمامي في هذه الأرض أنوار من الجنة الموعودة في السماء. . .
ولم يستطع نبي أن يتلقى الوحي عن الله إلا بعد هذا التجرد من التاريخ. . . إن النبوة في مبتدأها تجرد من كل شئ موروث ثم! إيغال في الوصول إلى أصول الحياة، ثم رؤية يد الله وهي تضع هذه الأصول وتحفظها، ثم سماع الله بعد ذلك. . .
والطفولة هي موضع أمل الإصلاح. . . ولكن هل تترك الإنسانية المصلحين يبنون(358/14)
مستقبلها؟ هذا سؤال قبله سؤال آخر: هل هي تدرك المصلحين وتعرفهم؟ نعم تدركهم ولكنها تحسدهم؛ لأن الغرائز السفلى وقوى الشر دائماً تسلط الحسد ليكون طليعة في الدفاع عنها وبقاء وجودها. .
قلوب الأنبياء والحكماء كقلوب الأطفال. . . لأنهم يرتدون دائماً إلى مبادئ الطبيعة وأوليات الحياة البسيطة التي لم تلتو مع ميراث النفاق الاجتماعي والإثم الصناعي. فهم دائماً ينظرون بفرحة وبهجة إلى الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكل شئ. . . وكل شئ. وكأنهم في ابتداء حياة جديدة كل يوم بل كل ساعة. . . وتترقى نظرتهم بترقي إدراكهم حتى ينتهي بهم الأمر إلى أن ينظروا إلى الوجود نظرة خالق الوجود! نظرة وراءها وصاية كل شئ واهتمام به وحرص على استمرار نفاذ قوانين الحق على سنة الله وطريقته
قد كان من الواجب على الإنسان أن يقلد أسلوب الله منذ وجوده. وأسلوبه يتمثل في العمل والصمت الدائم. . . ولكن الإنسان أخذ يلهو ويعبث ويتكلم! وفرح بالكلام وقضى في علوم الكلام دهراً طويلاً من عمره، حتى جاء العصر العملي الذي لا نزال في فجره وبواكيره. وهذا العصر العملي كثير البركات على الإنسان، إذ كشف له عن كثير من أبواب كنوز الطبيعة ومفاتيحها. وكان من أول الواجبات بعد هذا العصر أن يشرع الإنسان في تعديل غرائزه السفلي وتهذيبها (وتطويرها) حتى لا تشغله بسفالاتها القديمة وصراخها الصبياني
وإني لأعجب من العلماء الطبيعيين الذين كشفوا عن كثير من الأسرار العملية في الطبيعة، ثم استمروا بعد ذلك خاضعين للغرائز السفلى ومواريث التاريخ الجاهلي! كما أعجب من النساك والعباد الذين يتنسكون ويتركون الجهاد للحياة العملية والاندماج في موجاتها!
إن الله بنّاء بنى السماء والأرض والجبال. . . وصانع صنع جسام النبات والحيوان. . . وسقَّاءٌ يسوق السحاب الثقال. . . وزراع يخرج نبات كل شئ، ومعلم هدى كل شئ إلى طبيعته. . . وفنان طرَّز حواشي الوجود، وصبغ الخدود، وزركش الأرض بالورود، ورقق أنفاس الرياح، ونشر العطر الفياح، ورقرق الأنهار، وجلا النهر، وزين الظلام بالمصابيح الوضاء. . .
(فالجمال هو توقيع الله على الأشياء)!(358/15)
فكيف يأبى النساك أن يعملوا للحياة عمل الله؟!
إنهم لم يعرفوه! فلو عرفوه لساروا على أسلوبه، ولأقاموا أسواق الحياة عامرة. . . لأنه خلقهم ليعمروها لا ليتركوها غامرة صامتة صمت الخراب والقبور. . .
إن حياة التأمل في الله بدون عمل قليلة المحصول جالبة للخبال (ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا)
الأجسام! الأجسام! هي أداة الحياة في الدنيا، فيجب أن نحيا بها حياة كاملة، ولا نعطلها في البحث وراء العالم الخفي. . . يجب أن نخرجها إخراجاً جميلاً قوياً فإنها محاريب من محاريب الطبيعة أيضاً. . . بل يكاد يكون الجسم الإنساني الجميل المكتمل أجمل شئ في الوجود. . .
لعل النساك يحرمون أنفسهم هنا لينالوا ما هناك؟. . . كلا! ليس وجود الآخرة معناه ألا نحيا هنا حياة طيبة بقدر ما تسمح به طبيعة الحياة الدنيا. . . إن الآلام هي سبب الكفر والجرائم التي تحرم من جنة السماء فلنحاربها ولنمحها إذا استطعنا لنضمن الرضا عن الحياة والرضا عن الله
لماذا ننشد نعيم الآخرة بشقاء الدنيا؟! ألا يجوز الجمع بينهما؟ بلى! وإلا فالحياة مأساة!
ويقيني أن صلاح الدنيا صلاح للآخرة
إن الدين لم يكلفنا بعمل أشق من الموت في سبيل الله وما معنى الموت في سبيل الله؟ أنه الموت لتكون كلمات الله هي العليا. ولن تكون كلماته كذلك إلا إذا سار الإنسان على أسلوب الله في الطبيعة فضمن سلامة الحياة من إجرام الغرائز السفلى وظلمها، فكأنه أشق عمل ديني فرضه الله وسيلة لإصلاح الدنيا. فصلاح الدنيا هو المطلوب الأول لأننا نحيا حياتنا هذه قبل حياتنا الأخرى
يقول النساك المعتزلون للحياة: إنهم يطلبون وجه الله بالعزلة. . . ولكن وجه الله الحقيقي لا يرى. . . وفي الحديث: (إن الله احتجب عن الأنظار، وإن الملأ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم). ذلك قول قالته أعظم نبوة رأتها الأرض، وعليه طابع جلالها وعمقها وصدق تجربتها في البحث عن وجه الله
ولكن صور وجه الله تظهر جلية رائعة في الطبيعة وفي آفاق الحياة الإنسانية، فعلينا أن(358/16)
نبحث فيها عن الله وأسراره. وما خلقنا بالأجسام إلا لنعرفه في عالم الأجسام. . .
علينا أن نلبس الحياة لبساً واسعاً شاملاً وأن نحسها في كل شئ إحساساً عميقاً. وتلك هي حقيقة عبادتنا. فالدين هو الإحساس بالحياة إحساساً دائماً يكون معه الفكر في الله مبدع الحياة. وبهذا أجد تفسير (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وبهذا التفسير تتبين غاية الخالق من خلق الناس متحققة واضحة جلية. أليس كذلك أيها الأخ البيروتي أو ليس كذلك أيها الأخ الآخر (ح. م)؟
فالإحساس الصادق بالحياة والعمل بمقتضى هذا الإحساس هو عبادة الله. وعلى هذا تكون كل حياة الإنسان في الأرض عبادة. . . حتى خدمته لنفسه وشعوره بلذاته المحللة وكشفه العلمي وعمله للرزق ما دام وراء كل أولئك فكر في الله وتنبه إلى سر إيجاده للحياة
وتبتدئ العبادة حين يحس الإنسان أنه دخل هذه الحياة مكرهاً من غير إرادة، فصبر على ما فيها من آلام ومشقات حتى يتوفى الله نفسه من جسده. . فالمنتحر كافر لأنه لم يتحمل آلام التجربة والاختبار في هذه الرحلة الأرضية التي لابد أن يكون وراءها غاية عقلية عند الذي دعانا إليها وحملنا عليها. المنتحر شخص وهبه الله الحياة فردها في وجهه. فما دمت قد شعرت أني لست أنا الذي خلق نفسي ودفع بها إلى هذا البيت الهائل العظيم فصبرت وانتظرت وفكرت في صاحبه دائماً فأنا عابد لله؛ لأنني صرت طائعاً مع أبناء الحياة، ومواكب الطبيعة التي تسير أمام عصا القهر طائعة ساجدة
والفرق بين أعظم القديسين وأعظم الكافرين هو اتجاه الفكر والنية إلى رب الحياة في كل عمل وفي كل وقت. . . فالقديس كل أعمال حياته مسبوقة باتجاهات ونيات منظور فيها إلى رب الحياة. . . والكافر كل حياته غفلات يأخذ بعضها برقاب بعض فلا يفيق منها إلا عند الموت. مع أنه حين يدخل متحفاً أو بيتاً جميلاً يسرع فكره إلى السؤال عمن بناه أو نظمه. . .
لقد أفسدنا المعاني الدينية بأخذها تقليداً من دون فكر وروح وإحساس بها وبتلقينها للأحداث قبل أوان تفتحها في أرواحهم وعقولهم بمناسباتها. فحسبنا العبادة هي أداء رسوم الصلوات والزكوات والصوم وغيرها. . . كلا! إن العبادة هي الإحساس الصادق بالحياة والشعور الملازم بالله والفكر فيه، وفي أسلوبه وتقليد أعماله في الطبيعة من أول الوعي للحياة إلى(358/17)
أن تحين سكرة الموت. . . وأما الصلوات وما وراءها مما يسمى عبادات، فهي فيض النفس بتلك المشاعر والأحاسيس والأفكار فيضاً يتمثل ويتشكل ويظهر في عالم الأجسام بعد امتلاء الروح. . .
والدليل على ذلك أن هذه الأعمال تكون باطلة إذا خلت من التوجه والنية. . . فكأنها مواقف (استعراض) لأجسام الذين تمثلت فيهم الحقيقة الدينية كمواقف استعراض الجنود الذين يجيشون لغاية ما، ولن يعد الجندي بلباسه وشاراته وسماته الظاهرة إلا إذا كان عامر القلب بمعاني الوطنية والغاية التي جند من أجلها.
شئ واحد ينبغي للإنسان أن يحرص عليه، حتى يحقق الغاية من خلقه: هو أن يحيى رب هذه الحياة بتحية بسيطة قبل أي عمل أو متاع، ومع كل ألم. . .
فإذا استطاعت التربية في بيوتنا ومدارسنا أن تجعل هذه الخاطرة الصغيرة عادة ملازمة للإنسان فقد قام الدين وأقيم أساسه في النفس، ثم تأتي سائر رسومه وأشكاله بعد ذلك فيضاً نفسياً وفعلاً اختيارياً
وإن إدراكنا لله في القرن العشرين يجب أن يكون أوسع منه عند جماهير الناس في القرون السالفة. وهذا منوط بالتربية، والنشأة الطبيعية تحت التأثير المباشر للطبيعة أقل ضرراً وإفساداً لنفس الطفل من التربية المغلوطة التي فيها مواريث ومقاييس فاسدة
والدين يجب أن يعلم على أنه بهجة وفرح بالحياة التي أتاحت لنا أن نعرف الله في هذه الرحلة السعيدة التي دعانا إليها على الزورق الأرضي
ولشد ما يغيظ ويؤلم أن ترى حياة التدين عند أكثر الناس ملازمة للكآبة والضعف والحزن والفقر!. . . وسوء الطريقة من دعوة الأغنياء والأقوياء للدين، هي التي حرمتهم منه وحرمته منهم، حتى صار معلوماً عند الناس أن عبادة الله لا تكون من قوة ولا غنى، وإنما تكون من الفقر والضعف الذي لا يملك على الأرض صرفاُ ولا نصراً. وعدم التفريق بين ما لابد منه في الدين لأنه ضروري وبين ما منه بد لأنه كمالي هو مما جنى على حياة التدين بعدم انتشارها بين الأغنياء والأقوياء
ثم إن مفاجأة الأغنياء والأقوياء بألحان الكآبة والحزن والموت والقبر وجهنم، وغمرهم بكثرة التكليفات التي لا يقوم بها إلا الورعون، هي التي جعلت نفوسهم تضيق بهذه القيود(358/18)
القاسية التي تحبسهم عن حياة المتاع الحلال والحرام الذي لم يبين لهم سبب معقول لتحريمه إلا الخوف من عذاب جهنم. والدين إذا لم يبن على الفكر والتعليل أو شك أن ينهار بناؤه، حتى في نفوس الدعاة إليه. وخصوصاً إذا كان ديناً يهيمن على شئون الدنيا ويقيم لها حدوداً كالإسلام
أمن الحق أن يوجه فكر الإنسان دائماً إلى الموت على أنه هو المطلوب الأول من الحياة؟
وهل من الحق أن نجعل المثل الأعلى للحياة الدينية هو التفرغ لما يسمى عند الناس بالعبادات؟
قال الغزالي: (واعلم أن العلم غذاء والدين دواء، فمن جعل الدواء غذاؤه مرض. . .)
وقول الغزالي هنا قول فصل، لأنه قول خبير في هذا المقام ومن قواعد الدعوة الإسلامية الأولى أن العامة والجماهير ينبغي ألا يحملوا على الورع والزهد والتزمت. . .
والقرآن يعترف بسلطان الحياة على النفوس ويقول: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). ويقول: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد). ويكرر هذا المعنى في غير موضع. فلماذا نريد نحن أن نفرض للحياة صورة عقلية كلها جد مؤلم مستمر وصرامة. ونريد أن نحمل الناس عليها، مع أن العقل والشرع والتجربة الأزلية تقرر أن هذا مستحيل؟ وهل كل ما في الحياة إلا تكوين وتخريب كلعب الأطفال؟ وهل الرجال والنساء إلا أطفال كبار يلعبون في الحياة لعبها المعهود بالجمع والطرح؟
إننا نصنع من طين الأرض وموادها الميتة آلات تسعى وتطير وترى وتسمع. . . ثم نخربها بالاستعمال والامتهان ونكون غيرها وهكذا. .
إننا نشقى في جمع المال والاقتناء والاستكثار ثم نترك كل هذا لغيرنا يعبث فيه ويبدده. أليس هذا عبثاً أو شيئاً أشبه بالعبث في نتائجه؟ ولكننا محمولون على هذا من الطبيعة ولن نملك لأنفسنا غيره، ورجال الدين مثلنا مع أننا نعلم ما تقول الحياة وما قال القرآن عن الدنيا من أنها (متاع الغرور)
فلماذا لا ننظر إلى الحياة على حقيقتها هذه ثم لا نتشاءم من كثرة ظواهر الشرور فيها،(358/19)
حتى لا يحملنا التشاؤم على اليأس وترك الكفاح، ثم نحاول أن نتلطف في الدخول على الطبيعة البشرية اللاهية اللاعبة فنقنعها بواجبات الجد والعمل في الأوقات القليلة التي لم يطلب الله في غيرها من الإنسان أن يؤدي عملاً؟
وكما تلطفت التربية في الدخول على طبيعة الأطفال، فعلمتهم مبادئ العلوم، ودربتهم على مبادئ الأخلاق عن طريق اللعب من غير شعور، ينبغي أن تفعل مثل ذلك مع الأطفال لكبار: الرجال والنساء. . . وتلك هي رسالة رجال الروح. . .
ولكن الدولة قد جنت على الحياة الروحية أكبر جناية حين أباحت الانتساب إلى الدين لمن لا تؤهله عقيلته، ولا ثقافته، ولا تكوينه الجسمي أن يكون قائداً من قواد الروح، وعنواناً جذاباً للدين. . . وإلى الآن لم يتيقظ كبار رجال الروح إلى ضرورة وضع حد لهذه الحالة مع أنهم يدرسون في علوم العقائد أن الله لم يرسل رسولاً إلا بعد الانتقاء والاصطفاء، وأنه لا بد أن يتحلى بالصدق والأمانة والتبليغ والفطانة والخلو من العيوب المنفرة. . .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة فقد كان ذكياً قوياً جميلاً لطيف الروح دمث الأخلاق رحب النفس نظيف الجسم والثوب يمشط شعره ويعطر ثيابه ويخضب لحيته
ولقد عاش رسول الله بجسده عيشة رحبة كما عاش بروحه فسابق وصارع وركب وحارب ولبس الدروع واقتني السيوف والخيل وأكل من الطيبات وتمتع بالنساء، وأمر بالهرولة في السعي إظهاراً للقوة، واستعرض الجنود. . . ولذلك خضع لقوانين الأجسام ولم يشرد على المجتمع هائماً ولم يعش منطوياً على نفسه يأكل خواطره وتأكله خواطره
فكذابون أفاكون هم الذين يزعمون أن الله لا يريد أجسامنا، إنه ما خلق أرواحنا إلا فيها ولم نعرفه إلا من نوافذها وحواسها وهي أدوات علومنا وإحساسنا بالحياة، وهل نرى في الحياة غير الأجسام. . . إن حياة الروح الخالص لا تكون في الأرض إلا كلمعات البرق
لقد ضاع الحق من المسلمين لما أهملوا قوانين عالم الأجسام والتفتوا إلى عالم البدوات والأماني والأحلام والكلام. فضاعت القوة لما ضاع الحق فهما صنوان متلازمان: فالحق قوة، والقوة حق!
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(358/20)
الفقه الإسلامي ورعاية الصالح العام
للأستاذ محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
(الفقه الإسلامي) مستنبط من الشريعة الإسلامية وهذه الشريعة تمتاز بأنها شريعة الفطرة، وشريعة العقل، وشريعة الرحمة:
فهي تعترف بالحقائق، ولا تحاول الخروج على السنن الكونية ولا تصطدم بالعلم، ولا تضيق صدراً بالإصلاح، ولا تكلف الناس ما ليس في استطاعتهم!
ذلك بعض ما كانت به الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وجعل لها هذا الاعتبار العام، ولم يكن فقهها معه شخصياً ولا موضعياً
وليس معنى هذه الصلاحية أن كل جزئية من جزيئات الفقه التي استنبطت لا تقبل التغيير ولا التعديل، فإن ما صلح للأولين لا يعقل أن يكون هو بعينه، وفي جميع جزيئاته، ما يصلح للآخرين ذلك أن شريعة العقل والرحمة لا تجهل أن الأحوال دائماً في تغير، والدنيا في تقلب، ولكل قوم عادة وعرف
ولو كان هذا هو المعنى المقصود من قولهم: (إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان)، لوقعنا منه في حرج عظيم، وتكليف لا يحتمل
أيجوز مثلاً أن نرجع بالمساجد إلى حالتها الأولى، فنجردها من الفرش والبسط، ونكتفي بأن نفرشها بالرمل أو الحصباء، لأن سنة السلف في مساجدهم كانت كذلك؟
أيجوز مثلاُ أن نلزم القاضي بأن يكون له في المسألة الواحدة قضاء واحد من غير تفرقه بين أحوال المتقاضين وبيئاتهم؟
لقد سمعت أن قاضياً شرعياً عُرضت عليه قضية أهان الزوج فيها زوجته بألفاظ جارحة - وهما زوجان من وسط راق - فطلبت الزوجة التفريق، فقضى لها به القاضي
فهل يجوز للقاضي أن يقضي بمثل ذلك في قضية يكون الزوجان فيها من وسط قد ألف ذلك فيه، بل ألف فيه ما هو أشد منه كالضرب مثلاً؟
أيجوز لنا مثلاً أن نلزم وزارة الدفاع أن تلبس جنودها العمامة البيضاء تحقيقاً للخبر الذي يروون: (تعمموا فإن الشياطين لا تتعمم)؟(358/22)
إن هذا وما يماثله هو الحرج الذي لا يرضى الله به ولا يرضى به رسوله، ولا تقول به شريعة العقل والرحمة!
يقول أبن القيم (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، وكل مسالة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل!)
فالمعنى إذن في صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، أن الشريعة قد بنيت أحكامها على رعاية المصالح، ولما كانت المصالح تختلف باختلاف الناس، وتتكيف بتكيف الظروف والبيئات، وتتغير بتغير العوائد، اعترفت الشريعة بذلك ففتحت باب الاجتهاد وأباحت للناس أن يستنبط أولو الرأي منهم ما يصلح لهم، وينهض بهم في حدود ما رسمت وبينت
وآية ذلك أن الشريعة الإسلامية تركت كثيراً من الفروع من غير نص على أحكامها، وأنها تعني - قبل كل شئ - بالأصول العامة والمبادئ الأساسية، دون التفاصيل والجزيئات!
وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها. وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)
فهذه الأشياء هي موضع اجتهاد المجتهدين، وقوله (فلا تبحثوا عنها) أي فلا تطلبوا فيها نصّاً فتحرجوا أنفسكم. هذا معنى قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تَسْألوا عن أشياء إنْ تُبْد لكم تسؤكم، وإن تسألوا عنها حينَ يُنزَّل القرآن تبد لكم، عفا الله عنها، والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
وليس اعتبار الظروف والأحوال، ورعاية الصالح العام، في الفقه والأحكام، بالشيء المستحدث، فقد وجد منذ وجد التشريع، وكان حيث كان الفقه والاجتهاد
وإننا نسوق أمثلة من أحكام الرسول، صلوات الله عليه، وأمثلة من أحكام الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء والأمراء
1 - في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشاً أهمهم أمر المخزومية التي(358/23)
سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله؟ وهل يجترئ عليه إلا أسامة؟ فلما كلمه أسامة قال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!)
2 - وروي أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو
فهذان حكمان لرسول صلى الله عليه وسلم في شئ واحد هو الحد: تراه في الأول يصر على إقامته، ولا يقبل تعطيله، مع أن السارق امرأة من أكبر القبائل وأشرف البيوت، ومع أن أمرها أهم قريشاً وأزعجهم، ومع أن الشفيع صاحب من أحب أصحابه إليه!
وتراه في الثاني ينهى أن تقطع الأيدي في الغزو، فهل كان إصراره الأولى لأن أمراً كهذا لو دخلته الشفاعة، وقبلت فيه الوساطة، وفرق بين الشريف والوضيع، لضاعت الحكمة المقصودة فيه، وبطلت الغاية المرجوة منه!
وهل كان نهيه في الثانية إلا خشية أن يترتب عليه ما هو أضر على المسلمين، وأبغض إلى الله، وهو لحوق المقطوع بالعدو حمية وغضباً. ولكن التشديد الأولى، والتسامح في الثانية، يدعو إليهما أمر واحد وإن اختلفا ظاهراً، وهو الحرص على أمور المسلمين، أن يفضي إليها الخلل، أو يلحقها الاضطراب والفساد.
وقد روى مثل ذلك عن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم:
1 - قال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عتبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟
فهل ترى فهم حذيفة، ونصيحته للمسلمين حين فهم ونصح إلا فقها تملية السياسية الرشيدة، والنظر الصحيح؟
2 - وشبيه بهذا ما روى من أن سعد بن أبي وقاص كان قائد المسلمين يوم القاسية، فأتى بأبي محجن، وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً على وثاقيا!
ثم قال لامرأة سعد أطلقيني، ولك عليَّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد،(358/24)
فإن قتلت استرحمتم مني. فحلت وثاقه، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، وكانت بسعد يومئذ جراحه فلم يخرج، ثم أخذ أبو محجن رمحاً وخرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك! لما يرون من صنيعه، وجعل سعد يقول وهو يرقب المعركة: الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد!! فلما هزم العدو رجع أبو محجن فوضع رجليه في القيد، وقصت امرأة سعد على سعد ما كان من الأمر، فقال سعد: والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى هذا البلاء للمسلمين، فخلى سبيله! فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد فأطهر منها، فأما إذ أبطلته عني فو الله لا أشربها أبداً
قال في أعلام الموقعين (إن سعداً قد اتبع في ذلك سنة الله تعالى فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين، وجهاده وبذل نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد، لأن ما أتى به من هذه الحسنات غمر هذه السيئة الواحدة، لا سيما وقد شام فيه مخايل التوبة النصوح وقت القتال، إذ لا يظن بمسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله، وهو يرى الموت
وأيضاً فهو بتسليمه نفسه، ووضع رجليه في القيد اختياراً قد استحق أن يوهب له حده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: يا رسول الله، أصبت حداً فأقمه علي، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: فاذهب فإن الله قد غفر لك حدك!)
وهذا هو الفقه!
3 - ولقد كان عمر بن الخطاب، وهو في الفقه والعلم من هو، يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن أبا بكر كان يعطيهم، وأن الله يقول: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم. . . الآية) ولكنه مع ذلك كله لا يعطيهم، ويقول لهم: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه، وإلا فبيننا وبينكم السيف!
فهو قد علل الإعطاء بالمصلحة، إذ كان الإسلام بحاجة إلى استرضاء هؤلاء وتأليف قلوبهم، فلما ارتفعت هذه الحاجة بعزة الإسلام، لم يبق إلى استمرار الحكم من سبيل
4 - ولقد ولى زياد بن أبيه إمارة البصرة من قبل معاوية، فوجدها وكراً من أوكار الفساد، وموطناً من مواطن الفجور، فخطب فيهم خطبته (البتراء) التي كان بها أول من أعلن(358/25)
الأحكام العرفية في الإسلام فقال: (وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم أو تستقيم لي قناتكم. . . فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. . . وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه. . . وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن غرق قوماً غرقناه، ومن أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفناه حياً)
وقد سكت معاوية عن ذلك فلم يعلم أنه راجعه فيه، فهل كان هذا الفعل من زياد، وهذا السكوت عليه من معاوية ألا اجتهاداً وسياسة، استباحا بهما إحداث ما لم يكن من الأحكام وفي مثل هذا يقول الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور
وإنك لتجد في فقه المذاهب كثيراً مما علق الحكم فيه على العادة والعرف، واعتبر فيه تغير الزمان
1 - يقول المالكية: إن المرأة إذا مات عنها زوجها يستحب لها أن تلبس السواد زمناً، رعاية لحقه ووفاء له، ثم يقولون: إلا إذا كان السواد زينة قوم البياض حدادهم، فإن حدادها عليه حينئذ لبس البياض!
2 - إن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من إقط؛ وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة. فأما أهل بلد قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك. فإن كان قوتهم من غير الحبوب: كاللبن واللحم والسمك؛ أخرجوا فطرتهم من قوتهم كائناً ما كان، وهذا قول جمهور العلماء
وقد اجتهد علماء الأحناف إلى أبعد من ذلك، فنظروا إلى العلة التي من أجلها فرضت الزكاة في هذا اليوم، وهي الترفيه عن الفقير وإغناؤه عن المسالة، فأجازوا إخراج قدرها من المال، لأنه أنفع له وأيسر لسد خلته!
3 - وكثيراً ما تجد في كتب الحنفية قولهم هذا: تغير عصر وأوان، لا تغير حجة وبرهان. يقولون هذا تعليلاً لاختلاف المروي عن أمامهم أو أحد أصحابه في المسألة الواحدة(358/26)
فالمسألة إذن مفروغ منها، والأمر فيها بين واضح، وأساسها المصلحة التي جعلها الله أساساً لكل شئ!
ولقد جنى على الشريعة الإسلامية حملتها في بعض ما مضى من الزمان، فأظهروها للناس بمظهر الشريعة الجامدة في أحكامها، التي يضيق صدرها بما يحدث للناس من نظم، أو يرون الأخذ به من أسباب، ولم يحاولوا أن يدرسوا هذه النظم والأسباب ليتبينوا أمرهما، فإن وجدوا خيراً وصلاحاً فإن الله لا يأبى الخير والصلاح، ولا بد أن يكون في الشريعة السمحة منفذ إليهما، وإن كانت الأخرى أنذروا قومهم، وأقنعوهم بالضرر فيما هم عليه مقبلون، أو به آخذون
لم يفعلوا ذلك ولكنهم اكتفوا بالصياح والشغب على الناس وتنكبوا طريق أهل العلم في الإقناع أو الاقتناع، والشغبُ والصياح لا يجديان شيئاً في قضايا العلم، ولا يصلحان أداة له في هذا الزمان!
على الأزهر الحديث إذن أن يرأب ما أثأت يد الغفلات إذا أراد أن ينظر الناس إلى الفقه فيما يأخذون به من تشريع، ويسنون من قانون
على الأزهر الحديث أن يلبي مطالب الزمن، وأن يعرف مواضع الحاجة القومية فيجتهد في وضع حلول من الفقه الواضح الجيد لهذه المشاكل التي تعرض للناس في حياتهم الاجتماعية: في بيوتهم، وتجارتهم، واقتصادهم، وقضائهم، وعقوباتهم!
عليه أن ينظر فيما جد من الأقضية والأحداث والنظم، فيعرض كل ذلك على الفقه ليعرف الوجوه التي كانت بها مخالفة له، والوجوه التي يمكن بها أن توافقه أو يقنع الناس بأنها أشياء في غيرها غنى عنها وعوض منها
وهانحن أولاء نشهد طلائع على يد طائفة من مفكري الأزهر وبقيادة شيخه المصلح العظيم
ولن يمضي زمان طويل حتى يكثر فينا هذا الصنف من الفقهاء، المنتجين المجددين، وحتى يسحب الزمان ذيل العفاء على (فقهاء بيزنطة) الجامدين!
محمد محمد المدني(358/27)
في الاجتماع اللغوي
نشأة مراكز اللغة
للدكتور علي عبد الواحد وافي
يمتاز الإنسان بصدد التعبير عن بقية الفصائل الحيوانية بأمرين: أحدهما اللغة الصوتية، وثانيهما المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة (مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة، مركز الكلمات المرئية. . . الخ) فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أية فصيلة حيوانية أخرى حتى الفصائل العليا من القردة نفسها
فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني
وقد درسنا أول هذين الموضوعين في المقال السابق، وسنعالج ثانيهما في هذا المقال
اختلف الباحثون اختلافاً كبيراً في نشأة مراكز اللغة في الفصيلة الإنسانية
فالقائلون باستقلال النوع الإنساني في نشأته عن الأنواع الحيوانية الأخرى يذهبون إلى أنه قد خلق مزوداً بهذه المراكز كما خلق مزوداً بخصائصه الأخرى كاعتدال القامة وإدراك المعاني الكلية. . . وما إلى ذلك. ويرون أن هذه المراكز كانت في مبدأ الخلق ساذجة قاصرة؛ ثم ارتقت في بعض الشعوب حتى وصلت إلى درجة كبيرة في الدقة والنضج؛ على حين أنها جمدت في شعوب أخرى فلم تتزحزح كثيراً عن الحالة الساذجة التي خلقت عليها. ويرجع الفضل في ارتقائها إلى عوامل كثيرة منها كثرة استخدامها في وظائفها وما تمرن عليه من عادات مكتسبة واتساع الحضارة الإنسانية وارتقاء التفكير. . . وهلم جرا. فشأن مراكز اللغة في ذلك شأن أعضاء الحس وأعضاء الحركة في الجسم الإنساني: تخلق مزودة بالقدرة على القيام بوظائفها، وتظل قابلة للارتقاء في هذه الناحية ما أتيحت لها الوسائل المواتية، فإن لم يتح لها ذلك قصرت عن القيام بوظائفها أو جمدت على الحالة التي كانت عليها في نشأتها الأولى
وأما القائلون بمذهب الارتقاء وتفرع الإنسان عن غيره من الفصائل الحيوانية، فيرون أن الفضل في نشأة هذه المراكز عند الإنسان يرجع إلى الظروف التي أحاطت به في مبدأ نشأته، وإلى الأمور التي ألجأته إليها مقتضيات حياته، وبخاصة ما يتصل منها بشؤون(358/28)
دفاعه عن نفسه. وقد اختلفوا في تصوير هذه النشأة على الرغم من اتفاقهم على الأسس السابق ذكرها. وأشهر نظرياتهم بهذا الصدد نظرية دارون التي تتلخص في أن الإنسان كان في الأصل من الفصائل المتسلقة الأشجار؛ ثم اضطرته ظروف قاهرة إلى العيش على الأرض، حيث تعرض لغارات الحيوانات القوية وسطوها عليه. فاستخدم في مبدأ الأمر في مقاومتها أنيابه وأعضاء جسمه كما كان يفعل من قبل وكما تفعل أفراد فصيلته. ولكن هذه الوسيلة كانت تضطره إلى الارتماء في أحضان عدوه فتعرض حياته الخطر. فهدته غريزة المحافظة على الحياة إلى وسيلة أخرى تدفع عنه عدوان الحيوان بدون أن تضطره إلى الاصطدام به. وذلك بأن يقذف عليه عن بعد قطعاً من حجارة أو خشب أو معدن، أو بأن يمسك بطرف عصا ويدفعه عنه أو يضربه بطرفها الآخر. وقد كان لهذا الأسلوب الجديد أثران كبيران في حياة الإنسان:
أحدهما أنه يضطره إلى الوقوف على رجلين اثنين في أثناء دفاعه عن نفسه. ومن تكرار هذه الوقفة أخذت قامته تعتدل شيئاً فشيئاً حتى استوى القسم الأعلى من جسمه مع أطرافه السفلى، وأخذت عادة المشي على أربع تضعف بالتدريج حتى انقرضت (وإن كانت تظهر في بعض مراحل الطفولة الإنسانية وفقاً لقوانين الوراثة النوعية التي تقضي بأن يجتاز الطفل في سبيله من الطفولة إلى الرجولة نفس المراحل التي اجتازها النوع في سبيله من الحيوانية إلى الإنسانية ومن الوحشية إلى الحضارة)
وثانيهما (وهو الذي يهمنا في موضوعنا) أن هذا الأسلوب الدفاعي قد أعفى الإنسان من استخدام فكه وأسنانه في الدفاع عن نفسه؛ فتعطلت هذه الأعضاء عن القيام بجزء كبير من وظيفتها ونجم عن ذلك تقلص العضلات والعظام الصدغية التي تتحرك مع الفم؛ وترتب على هذا التقلص أن اتسع مجال النمو للجمجمة، فزاد حجمها عما كان عليه؛ وباتساع حجم الجمجمة اتسع مجال النمو للمخ، فزاد حجمه ونشأت به مراكز جديدة لم تكن به من قبل، من أهمها مراكز اللغة التي نحن بصدد الكلام عنها
ولتأييد هذا الأثر الأخير، قام العلامة أنتوني بتجربة على عدد من الجراء (الكلاب الصغيرة)؛ وذلك بأن استأصل جزءاً من عضلاتها وعظامها الصدغية، وتتبع نمو جماجمها بعد هذه العملية؛ فتبين له أنها أخذت تتسع أكثر من المعتاد.(358/29)
وقد تصدى كثير من العلماء المحدثين للتحري عن هذه الحقائق، فثبت لهم فسادها من نواح كثيرة لا يهمنا منها الآن إلا الناحية المتعلقة بنشأة مراكز اللغة. فقد ظهر لهم بهذا الصدد أن تعطيل الفك والأسنان، وإن نجم عنه اتساع في الجمجمة، لا يترتب عليه مطلقاً اتساع في حجم المخ أو اختلاف في تعاريجه أو شكل تكونه. والتجربة التي قام بها أنتوني تدل هي نفسها على صحة ذلك. فقد ظهر له أن جماجم الجراء قد انحسرت عن أمخاخها، بدليل أن الآثار التي تنطبع عليها من ملاصقتها للمخ قد انمحت. فاتساع الجمجمة الناجم عن تقلص عضلات الصدغ وعظامه لا يتبعه إذن اتساع في حجم المخ أو نشأة مراكز جديدة كما يزعم دارون
وكثيراً ما تتسع الجمجمة عند بعض الناس اتساعاً غير عادي لسبب آخر غير تقلص عضلات الصدغ وعظامه، ولكن لم يحدث مطلقا في حالة من حالات هذا الاتساع أن زاد حجم المخ أو تغيرت صورته. وعلى العكس من ذلك نمو المخ نفسه، فإنه يرغم الجمجمة على الاتساع ويشكلها بالشكل الذي يتفق مع نموه. فإن قاومته بأن كان عظم اليافوخ (حيث يتلقى عظم مقدم الرأس بعظم مؤخره، وهو الذي يكون ليناً في الصبي) قد اشتد قبل أوانه، تغلب على مقاومتها، وشق لنفسه طريقاً على أي وجه. فأحياناً يدفعها إلى الأمام فينشأ الشخص بارز الجبهة؛ وأحياناً يدفعها إلى الخلف فينشأ الشخص أحدب الرأس؛ وأحياناً يدفعها إلى أعلى فينشأ مُسَنِّم الرأس؛ وأحياناً يدفعها من ناحيتين أو أكثر فينشأ مُدَنَّخ الرأس. وهكذا فالطريق الطبيعي للارتقاء - إن كان ثمة ارتقاء - هو أن يتسع المخ أولاً وتوجد فيه مراكز لم تكن موجودة من قبل، ويتبع ذلك اتساع في الجمجمة، لا أن تتسع الجمجمة أولاً ويتبعها اتساع المخ كما يقول دارون ومن نحا نحوه
على أن الارتقائيين لم يكونوا في حاجة إلى هذه الفروض التعسفية لتعليل نشأة مراكز اللغة بطريقة تتفق مع مبادئهم. فقد كان في إمكانهم أن يذهبوا إلى أن هذه المراكز لم تنشأ من العدم، بل كانت نتيجة تطور لمراكز قديمة أو لأجزاء من مراكز قديمة. كان في إمكانهم مثلاً أن يذهبوا إلى أن جزءاً من مراكز الحركة الخاصة بعضلات الوجه قد تخصص في حركة أعضاء النطق، ومع تقادم الزمن وكثرة مزاولته لهذه الوظيفة تشكل بالشكل الذي يتفق معها واستقل عن غيره وأخذ يسير في سبيل الارتقاء حتى وصل إلى(358/30)
الحالة التي هو عليها الآن، كان في إمكانهم أن يقولوا هذا بصدد مراكز الكلام ويقولوا مثله بصدد المراكز اللغوية الأخرى، فيتقوا معظم ما وجه إلى فروضهم السابقة من اعتراضات، ويكون مذهبهم أدنى إلى القبول وأكثر اتفاقاً مع حقائق الأمور، وذلك أنه بالموازنة بين مخ الإنسان وأمخاخ الحيوانات القريبة منه، يظهر أن مراكزه اللغوية - على فرض أنها لم تكن موجودة في أصل خلقته - كانت نتيجة تشكيل جديد لبعض المراكز الموجودة في أمخاخ هذه الحيوانات.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السوربون(358/31)
الأزهر والحياة العامة
للأستاذ محمود الشرقاوي
كان مفيداً وقيما ذلك الحديث الذي أفاض به صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي (للرسالة) منذ أسبوعين، واستطاع صاحب (الرسالة) أن يركّزه وأن يلخصه لقرائها في بيان واضح وفكر واضح
وكان قيماً ومفيداً ما كتبه صاحب (الرسالة) في مقاليه عن الأزهر ورجاله وأبنائه وحاله في القديم والجديد وما نرجوه ويرجو منه المسلمون في العصر الحديث
وقد أثار حديث الأستاذ الأكبر وأثار مقالا الأستاذ الزيات مثاراً من المقالات والمناقشات في الرسالة وفي غيرها من الصحف، وكان بعض ما نشر من ذلك فيه كثير من الشطط
وكان من أقوم ما كتب عن ذلك ما نشره صديقنا الدكتور زكي مبارك في مجلة أسبوعية على طريقته من الصيال
وقد حرك في نفسي حديث الأستاذ الأكبر ومقالا الرسالة وما نشر بسببهما من الآراء والمناقشات شوقاً لأن أكتب بعض الملاحظات عسى أن يجد فيها الأستاذ الكبير صاحب الرسالة شيئاً من الحق وشيئاً من الإفادة
ونحن اللذين تعلمنا في الأزهر وقضينا فيه خير الأشطر من شبابنا لا نفتأ نشعر بالحنين إليه ونديم التفكير فيه، مهما تباعد بيننا وبينه الأيام
يكتب الكاتبون وقول القائلون إن الأزهر الحاضر متأخر متخلف عن عصره وعن الحياة الجديدة في العالم، وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير. ويكتب الكاتبون ويقول القائلون يطلبون أن يخرج الأزهر علماء كرجال الدين في أوربا، ثقافة ذهن، واستنارة فكر، وسعة عقل، ومرونة تفكير، ولياقة أداء ودعوة، وأن يكون طلبته على شاكلة ما يكون أندادهم في بلاد الغرب تهيؤاً واستعداداً
وهؤلاء الذين يقولون ذلك لاشك في أنهم مخلصون في أمانيهم، ولا شك في أن الأزهر لن يقوم بما يجب عليه في حياة مصر وتقدمها، وفي حياة الشرق وتقدمه، ولن يساهم بنصيبه وقسطه في توجيه الحياة الروحية والدينية والخلقية في الشرق (وأوشك أن أقول في العالم كله) - إلا إذا كان علماؤه كما يكتب الكاتبون، ويتمنى المتمنون، وكان طلبته كما يكتب(358/32)
الكاتبون ويتمنى المتمنون
وقد روى عالم من أكبر علماء الأزهر كلمة للمغفور له الملك فؤاد هي نبراس ما يكتبه هؤلاء ولا نشك في صوابهم فيه
روى أن الملك فؤاد حدثه بأنه يريد أن يرى علماء الأزهر كأندادهم رجال الدين في أوربا، وأن هذه أمنية من أعز أمانيه
ولكن هؤلاء الكاتبين والباحثين ينسون أن الأمنية شئ والحقيقة شئ. ويفوتهم أن المشتهي المرغوب والمتمني المطلوب شئ والأمر الواقع الذي لا مناص منه شئ
فالأزهر ليس كجامعة اللاهوت في أوربا، وعلماء الأزهر ليسوا كرجال الدين فيها، وطلبته ليسو كطلبة الجامعات أو الدراسات الدينية فيها. ولكن هذا لا دليل فيه على أن الأزهر رجعي وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير
فإن هؤلاء الباحثين يقيسون الأزهر ورجاله وأهله على قياس أشباههم في بلاد الغرب، ويقارنون بينهم وبين رجال الدين فيه؛ ولا شك في أن هذا القياس شطط وأنه بعيد عن الحكمة وعن الصواب
فالحياة المصرية والحياة الشرقية كلها بعيدة عن الحياة الغربية: الحياة العقلية والحياة الثقافية والحياة الأدبية وكل نوع ولون من أنواع الحيوات وألوانها وشكولها، شتان بين الشرق والغرب فيها
ومن الشطط والبعد عن الإنصاف أن نفصل بين الأزهر وبين أنواع الحياة المصرية الشرقية وألوانها وأن نقارن بينه وحده وبين أوربا. بل الإنصاف يقتضينا أن نقارن بين الأزهر وبين غيره في مصر، وأن نوازن بين الحياة العقلية والحياة الذهنية والحياة الأدبية فيه، وبين هذه الحيوات في مصر
والذين يقيمون الميزان بين الأزهر وبين أوربا نقول لهم: هل يرضيكم أن نقيم الميزان بين الجامعة المصرية وجامعات أوربا؟
وأن نقيم الميزان بين المدارس في مصر والمدارس في أوربا؟ وأن نقيم الميزان بين الحياة الأدبية والذهنية والثقافية ي مصر في أي مظهر من مظاهر نشاطها وبين نظائرها وأشباهها في أوربا؟(358/33)
ليقل لنا الدكتور زكي مبارك، وقد خبر الجامعة والتعليم في المدارس ويعرف كلمة الحق: هل رضي عن شئ من مظاهر الحياة العقلية الأدبية والتعليمية في هذه أو تلك؟ وليقم لنا الميزان بين هذه الجامعة وهذه المدارس، أو ليقم لنا رجال الجامعة أنفسهم والمنافحون عنها والمستطيلون بها الميزان بين الجامعة المصرية والمدارس المصرية وبين جامعات أوربا ومدارسها، ليقيموا لنا ميزان العدل وقسطاس الحق ثم ليدلونا أيها الراجح وأيها المرجوح
فالأزهر يجب أن يحدد مكانه وأن يوزن نشاطه وأن تقوم المقارنة بينه وبين غيره في مصر، لأنه جزء منها ولا يستطيع أن يسير وحده ولا أن يتقدم وحده ولا أن يسبق في جيش من المتخلفين، والحياة الاجتماعية كعربة ذات عجلات أربع، الأزهر واحدة منها، ولا يمكن أن تسير عجلة من العربة فتسبق، ولو كان ذلك لما استقامت العربة في سير ولا حركة، أو هي كالكائن الحي لا يمكن أن يسبق منه عضو عضواً في النماء والحياة، وإلا كان الكائن الحي كله منتهياً إلى الهلاك والموت أو للتشويه والنقص.
فإذا أقمنا بعد ذلك الميزان بين الأزهر وبين غيره في مصر والشرق، وإذا وازنا بين الحياة الثقافية والذهنية والتعليمية فيه وبين ذلك كله في غير الأزهر من المعاهد في مصر والشرق؛ فعند ذلك يستقيم الميزان ولا نكون قد بعدنا عن الشريعة الإنصاف؛ وعند ذلك أيضاً لا نظن أن الأزهر كفته تشيل، ولا أن كفة غيره تميل، ولا أن يكون غيره الراجح وأنه المرجوح.
ومن الإنصاف أيضاً أن نقارن بين الأزهر الجديد وبين الأزهر في الماضي، حتى القريب منه، وقد أشار الشيخ الأكبر إلى هذه الملاحظة في حديثه للرسالة وفي غيره، وهي مقارنة لا تحتاج إلى كثير من الكلام
ومن العنت أن نهمل التراث الزمني والتقاليد القاسية عندما نتكلم عن تطور معهد هو بطبيعته ركن الأركان في التقاليد، بل هو الركيزة التي تثبت فيها الحياة العامة كلها فلا تنحرف ولا يجرفها التيار القوي من مغريات التجديد والاندفاع
ولا نريد بعد ذلك أن نقول إن الأزهر عظيم عظيم، ولا إنه يقوم بواجبه، ولا إن التفكير فيه والحياة الذهنية فيه والتعليم فيه مما تغتبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير. لا نقول ذلك ولا شيئاً منه؛ ولكنا نقول إلى جانب هذا إن الجامعة المصرية(358/34)
والمدارس الحكومية، وإن الحياة الذهنية والحياة العقلية والحياة الأدبية في مصر والشرق، ليست مما تغبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير ما دام هذا الحال، ونريد أن نتمنى بعد ذلك ما تمناه الملك فؤاد لرجال الأزهر ومساواتهم بأندادهم رجال الدين في أوربا، ونزيد على أمانيه التمني بأن تستوي الحياة المصرية كلها والحياة الشرقية، وأن يتساوى الشعب المصري والشرق بهذه الأمم ذوات السيادة في الغرب وأن نكون لهم أنداداً في حياتنا كلها وفي نشاطنا كله
وفي حديث الأستاذ الأكبر و (تصحيح) صديقنا الدكتور زكي مبارك له، موضوع آخر نترك الكلام عنه إلى عدد قادم من (الرسالة) فقد طال بنا اليوم الحديث.
محمود الشرقاوي
عالم من الأزهر(358/35)
من وراء المنظار
صاحب الديوان المجد
مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات؛ فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله هذا على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لابد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رايته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شئ غير ذلك؛ وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في إثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون
وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلاً، أحس كأنما عليه مكروه من مكاره الزمن فيلقاه متأففاً متبرماً، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد الزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!
دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي - لست أدري أيهما الصواب - يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات؛ فحاولت أن أستوقفه مترفقاً، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إلي معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه!
ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، ومرت اللحظات ثقالاً طوالاً ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلاً، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها ولكنه لم يأخذ منها شيئاً ولا وضع شيئاً، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحداً من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواء!
واعترضت طريقة إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية،
وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك. . . حتى أشاح بوجهه عني مقطباً قائلاً في تبرم وضيق (عن إذنك دقيقة يا أفندم). . . ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني(358/36)
ما دمت هناك كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضاً إلا بعد الجلاء!
وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتفت إلي فضلاً عن أن يحادثني؛ ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل الساعات!
وجاء أخيراً فاستوى على كرسيه وفتح دفتراً كبيراً وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجدوي في وقت واحد ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره أن فلاناً وفلاناً من الرؤساء استفهموا عنه، فأجاب متكلفاً عدم المبالاة أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في (الأرشيف) و (المستخدمين) و (الحسابات) وتحت وفوق باحثاً عن أوراق تتصل بما في يديه من المسائل
وظللت ساكتاً لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي الجاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتهجم له صاحب الديوان ولم يعبأ به، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجراً ونهض واقفاً يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلاً، وقد تطايرت الأقلام من مكامنها، وسال المداد من المخابر، وتناثرت الأوراق، وزلزلت الدفاتر، وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعبارته المألوفة: (يا أفندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يا أفندي. . . أما شئ غريب والله. روح اشتكي زي ما أنت عاوز. . . هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرتك تفلقنا؟)
ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيت إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، وقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ أن رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان قد رضيت من الغنيمة الإياب؟
(عين)(358/37)
في سبيل الأزهر
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
أعتقد أني لا أتجاوز الحقيقة حين أقول إن كلمات الأستاذ الزيات تنزل برداً وسلاماً على قلوب المخلصين للأزهر؛ وإنهم يرون فيها بريقاً من النور يضئ لهم سبيل الإصلاح فيما يبتغون للأزهر من إصلاح.
وللرسالة في الأمة المصرية وفي الشرق الإسلامي جميعاً مكانتها السامية الممتازة التي تجعل لكل ما تعالج من موضوعات أهمية خاصة، لا يستطيع أحد معها ألا يعطيها ما هي حقيقة به من التقدير والعناية
لذلك كانت دعوتها لإصلاح الأزهر جديرة بألا تمر كغيرها من دعوات الإصلاح، وكانت جديرة بأن يتجاوب صداها في أجواء الأزهر مدوياً عالياً، فيردده رجاله عارضين صوراً من أدوائه راجين أن تعالج علاجاً ناجعاً، حتى تنحسر عنه ولا تنتقل عدواها إلى أبنائه الناشئين.
الأزهر من غير شك محتاج إلى الإصلاح في كثير من نواحيه، والأزهريون الآن متطلعون إلى من يداوي ما يحسون به من علل ليست من صنيعهم ولا يد لهم فيها، وإنما انحدرت إليهم مع الزمن ميراثاً ثقيلاً؛ وما دامت النفوس مستعدة والنيات خالصة فسيأتي اليوم الذي ينفض فيه الأزهر عن نفسه كل ما يشوه جماله أو يسئ رسالته
وإن من البشائر التي تطمئن على نجاح هذا السعي ونفاذ هذه الدعوة إلى القلوب، اشتراك الأزهريين أنفسهم في معالجة هذه العيوب ومحاولة التخلص منها؛ ولن يقدر أحد على إصلاح الأزهر كما يقدر عليه أبناء الأزهر؛ فقد حاولت ذلك حكومات فيما مضى فلم يتأت لها ما تأتى لابنه البار (محمد عبده) ولم يقدر أحد على ما قدر عليه في هذا الشأن مع ما وضع في سبيله من عراقيل وما أرجف به عليه من ترهات وأكاذيب؛ لأن دعوة الحق لابد أن تجد سميعاً ولا بد أن تتغلغل في النفوس وأن ينصرها - من حيث لا يشعر - أولئك الذين يعملون جاهدين على كيدها والصد عنها، ودعوات الإصلاح يخدمها خصومها كما يخدمها أنصارها
وها قد أصبح يؤمن بمبادئ الأستاذ الإمام ويتتبع مناهجه، ويدل بذلك حتى صار من فخر(358/39)
الرجل في الأزهر الآن أن ينتسب إلى الأستاذ الإمام تلميذاً أو مسترشداً أو صديقاً، بعد أن كان في حياته هدفاً لسهام الطاعنين ونبال الحاقدين.
وفي يد الأزهر الآن فرصة ثمينة لا يسوغ له أن يضيعها أو يهمل استغلالها، هي قيام الإمام الثاني الأستاذ المراغي على رياسته وتوجيهه، ومن ورائه في ذلك طائفة من المخلصين للأزهر المقتنعين بفكرة الإصلاح قرأت خطبه وأحاديثه ودرستها دراسة فاحصة ممعنة فاتخذت لنفسها وجهة الخير منها، وحرصت أن تهتدي إلى طريق النجاح بها. ولست أحب أن أسمي هؤلاء كما سماهم الأستاذ الزيات (شباب المراغي) فإن روح المراغي لم تكن قاصرة على التأثير في شباب فحسب، وإنها لأشد قوة وأبعد أثراً من ذلك فقد أثرت فعلاً في شيوخ قد جاوزوا عهد الشباب وخلفوه، فأجدر بنا أن نسمي هؤلاء وهؤلاء (مدرسة المراغي)
ولسنا نلقي هذا الكلام على عواهنه فإن الأستاذ المراغي حينما خطأ خطوته الجريئة في إصلاح بعض القوانين المتصلة بالأحوال الشخصية وقف في طريقه إذ ذاك كثير من العلماء، وعلى رأسهم عالمان فاضلان ألفا رسالة ذكرا فيها أنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة التي أجمعت عليها الأمة؛ فهل تدري أيها القارئ أنهما الآن يعملان عضوين بارزين في لجنة الأحوال الشخصية التي لا تقف فيما تختار عند المذاهب الأربعة! أليس هذا أثراً لروح المراغي واستجابة لرجة الإصلاح التي يستوي عندها الشيب والشباب؟
هذه المدرسة الصالحة يعلق عليها الأزهر الحديث آمالاً جساماً وتنتظر منها الأمة نهضة قوية تساير نهضتها في كل نواحي التقدم؛ تنتظر منها أن تخرج للناس كتباً واضحة الأسلوب جديدة المعنى خالية من التعقيد والغموض، وأن نفهم الجو المحيط بها فهماً صحيحاً فلا تكتفي بالعيش في ظلال كتب تمثل عصوراً خلت، ربما كانت هذه الكتب صالحة لها موفية بحاجتها، وهي الآن عاجزة عن حل المشاكل التي تعترض الناس في معاملاتهم ونظم حياتهم؛ تنتظر منها اشتراكاً فعلياً في توجيه الثقافة القومية في البلاد، في الأحاديث التي تذاع، والمقالات التي تنشر، والمحاضرات التي تلقى، وفي تعليم الشعب وإرشاده بأسلوب لا يجافي روح العصر الذي نعيش فيه؟ فقد مضى عهد الجمود والوقوف(358/40)
عند النصوص من غير مراعاة لروحها وظروف أحوالها والعوامل التي أثرت فيها، تنتظر منها كذلك أن تبين بالعمل لا بالقول أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان حتى ينخلع من أذهان الواهمين ما اعتقدوه من تنافر الدين مع ألوان الحضارة ومجافاته أساليب الرقي العلمي والفكري
إن الأمة تضع الأزهر في مكان القيادة منها، أو هي ترجو ذلك فيه؛ فليعرف هذه المنزلة وليحرص عليها، وليعمل على الاحتفاظ بها، ولا يمتعض رجاله من كلمة الحق تقال في صراحة سافرة على منبر عام أو خاص، فإنها إنما بإخلاص لمصلحة الأزهر وخيره، والإبقاء على منزلته ومكانته
إن النفور من دعوة الإصلاح، والهرب من مواجهة العلل وإغماض العين ولوى العنق سياسة غير صالحة في هذا العصر، وإنه لا يكفي أن تقنع في نفسك بأنك خير الناس ليعتقد الناس فيك هذا، ولكن يجب أن تبرهن لهم عملياً على ذلك وتشعرهم بأنك تحس بإحساسهم وتفكر في حل مشكلاتهم، ولعلنا ننتفع بما أرشد إليه أستاذنا الأكبر في خطابه الأخير من قوله: (إني أرحب بالنقد البريء، وأنصح لكم ألا تضيق به صدوركم، فإن كان حقاً فاشكروا الناقد وأعملوا على الخلاص من الخصال التي كانت سبب النقد، وإن كان غير حق فادفعوه بالحسنى وأظهروا براءتكم مما وجه إليكم)
لقد كان للأزهر فيما مضى موقف سلبي فيما يتصل بتنظيم الفقه وتحويره وتعديله للانتفاع به في القانون والتشريع؛ ومازال هذا الموقف السلبي وصمة في تاريخ الأزهر، تغمض العين منها على قذى موجع، وتنطوي الأحشاء منها على ألم ممض؛ ولقد كان من أثر هذا الموقف المعيب الذي حرص أصحابه عليه (تورعاً) فيما زعموه أو فيما زعم لهم بعض الناس، أن تحاكم المسلمون إلى غير شريعتهم، وألزموا بغير قوانينهم، وهو ما نأسف له جميعاً؛ فهل يكون موقف العلماء اليوم كموقف أسلافهم بالأمس؟ أو هم مستعدون لإصلاح هذا الخطأ وإقناع الناس بأن الشريعة الإسلامية السمحة غير عاجزة عن مسايرة المدنية في أجلى مظاهرها، وإدراك غاية الإصلاح الاجتماعي وتلبية حاجاته ومطالبه، فيصدروا في فقههم عن هذه الروح التي لا تغفل ما جدّ للناس من نظم ومعاملات؟
إن اليوم الذي يخرج فيه العلماء للناس بهذه الفقه النافع لهو النصر الذي يتمناه المسلمون(358/41)
جميعاً؛ وهو اليوم الذي يصل فيه الأزهر - كما يقول الأستاذ المراغي - إلى الغاية التي يرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس
وكم نرجو أن يتحقق ذلك في هذا العهد المبارك لنمحو من الأذهان موقف السلبيين، وليشهد التاريخ أن الأزهر في عصر فاروق غيره في عصر إسماعيل، وأنه على عهد المراغي غيره كذلك على عهود من سبقه من الشيوخ
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة(358/42)
إذا شبت الحرب في البحر الأبيض
للأستاذ فوزي الشتوي
خطوة متوقعة
لا تعتبر الخطوة التي اتخذتها الأميرالية البريطانية بإخلاء البحر الأبيض المتوسط من سفنها التجارية خطوة مفاجئة، فقد تنبأ رجال البحرية منذ سنين بأن خطة إنجلترا إذا اشتعلت الحرب لن تخرج عن ثلاث وسائل
أولها - إغلاق البحر الأبيض المتوسط إغلاقاً تاماً ومنع الملاحة فيه، على أن تترك بعض السفن الحربية الخفيفة للدفاع عن شواطئ البلاد الموالية للحلفاء.
ثانياً - أن تسير الملاحة في طريقها الطبيعي، على أن تقسم حماية طرق الملاحة بين الأسطولين البريطاني والفرنسي، فيتولى الأسطول البريطاني حماية الجزء الشرقي، ويتولى الأسطول الفرنسي حماية الجزء الغربي
وثالثاً - الالتجاء إلى خطة وسط، وهي تقضي بإخلاء البحر الأبيض من الأساطيل التجارية وحدها، مع إغلاق جبل طارق وقنال السويس وعدن في البحر الأحمر، وتوجيه قوات الحلفاء إلى القضاء على القوات المعادية
ويظهر من التدابير التي اتخذتها إنجلترا أخيراً أنها ستنفِّذ إحدى الخطتين الأولى أو الثالثة؛ فإذا طال أمد الحرب أخليت جزيرة مالطة؛ فإن قربها من مواقع إيطاليا الحربية مع صغر مساحتها بجعلها قاعدة جيدة للهجوم
اتفاقات سرية
ونظرة واحدة إلى خريطة البحر الأبيض المتوسط والمواقع الحربية التي تسيطر عليها الدول المتحاربة تبين خطورة الموقف وما يكفله الصراع لتأمين مواصلاته من تضحيات غالية، فلإنجلترا وفرنسا مواقع بحرية كثيرة انتثرت في أخطر مواقعه ممتدة من شرقه إلى غربه، ومن جنوبه إلى شماله، بحيث يتيسر لقوات هذه الجهات التحكم في جميع طرق الملاحة، فضلاً عن سيطرة إنجلترا على أبوابه في جبل طارق وفي قنال السويس. أضف إلى ذلك ما يقال عن وجود اتفاقات سرية تضع موانئ الدول المحايدة تحت تصرف الحلفاء(358/43)
أما إيطاليا فطبيعة موقعها الجغرافي تشطر البحر الأبيض إلى شطرين: الجزء الشرقي والجزء الغربي. والقسم الأخير شديد الخطورة نظراً لكثرة مواقع إيطاليا البحرية عليه، ولأن شواطئها تكون جزءاً منه يمتد من ميناء جنوة بطول الساحل الإيطالي حتى جزيرة صقلية إلى جزيرة بنتلاريا التي تقف في وسط المضيق فتتحكم في طرق الملاحة
تونس
ولا يضايق هذا الخط إلا شاطئ الإفريقي في تونس، وقد أنشأت عليه فرنسا ميناء بيزرت؛ ولعل هذا الوضع يوضح خطورة مطالبة إيطاليا بتونس التي تجعل خطها مقفلاً لو تيسر لها الاستيلاء عليه، ويساعد هذا الخط المواقع البحرية التي أنشئت على جزيرة سردينيا الإيطالية، فلا يقتصر تهديده على مواصلات البحر الأبيض بين شرقه وغربه، بل يتعدى إلى تهديد خطوط المواصلات بين فرنسا ومستعمراتها في أفريقيا
وهذه المواصلات هامة جداً في نظر فرنسا، لأنها الطريق القصير لنقل قوات المستعمرات إلى فرنسا لتغذية قوات خطماجينو، ولم تغفل فرنسا خطورة مواقع القواعد الإيطالية، فأعدت في قورسيقا مينائين خطيرين لهما من حصانتهما ما يكفل إفساد الخطط الإيطالية. وقد اشتغل فيما أمهر المهندسين الفرنسيين، حتى جعلوهما من أمنع المواقع؛ وما زالت أسرار دفاعهما وهجومهما سراً محظوظاً في صدور منشئيهما؛ ولم تتح زيارة بعض مواقعهما إلا لصحافي واحد لم يخرج من زيارته لهما إلا ببعض معلومات زهيدة وصور شائعة.
ولا يسع الباحث أن يتجاهل موقف أسبانيا في هذا الصراع فإن حكومتها الحالية وليدة الأطماع الدكتاتورية في إيطاليا وألمانيا ولها جزر الباليار التي قيل أثناء الحرب الأهلية الأسبانية إن إيطاليا أعدتها لقطع مواصلات فرنسا مع مستعمراتها؛ فإذا انحازت إلى جانب الدكتاتورية، فإن الخط يتضخم، على أنه لن يحد من نشاط الحلفاء، فيسهل تحويل طرق الملاحة إلى المحيط. ولن تستطيع القوات المعادية أن تقترب من الشواطئ الإفريقية لخطورة المواقع البحرية التي أنشئت عليها بطول الساحل من المرسى الكبير إلى بيزرت.
الحصر الاقتصادي(358/44)
ولاشك أن الحلفاء سيتخذون إقفال البحر الأبيض وسيلتهم لتجثو الدولة المعادية على ركبتيها؛ وأول نتائج هذا الإقفال عزل إيطاليا عن مستعمراتها في شرق أفريقيا وفي شمالها؛ وبهذا الحصر تخسر إيطاليا 86 ? من ملاحتها خسارة لا يمكن الاستعاضة عنها، لأنها لا تملك شواطئ على غير البحر الأبيض، بينما تتمتع فرنسا بشواطئها على خليج بسكاي، وعلى بحر الشمال
وعدد البواخر التجارية التي تصل أو تغادر إنجلترا يومياً 815 سفينة، متوسط حمولة كل منها ثلاثة آلاف طن يخترق منها البحر الأبيض 57 سفينة فقط يحول طريقها إلى رأس الرجاء الصالح. وتخسر فرنسا 20 ? من بترولها الذي تستورده من العراق، ولكن خسارة إيطاليا في هذا المادة الأساسية للحرب خسارة فادحة. فهي تستورد من العراق 70 ? من البترول الذي تستهلكه وهو يرد إليها عن طريق جزئه الشرقي ومركزها فيه أضعف من مركزها في الجزء الغربي، فليس لها فيه إلا خط مشاغب يبدأ من جزيرة ليروس في جزر الدودكانيز، وينتهي في طبرق. وقد أعدت هذه الموانئ لتكون قواعد جوية للطائرات وقواعد بحرية للغواصات
ولكن هذين الموقعين مهددان بمواقع الحلفاء وخصوصاً من جزيرة قبرص، التي فاقت جزر الدودكانيز في صلاحيتها للاستعدادات العسكرية من مطارات برية وبحرية ومن قواعد للأساطيل البحرية. وهي لا تبعد عن جزر الدودكانيز إلا 220 ميلاً تقطعها قاذفات القنابل في أقل من ساعة
قبرص والإسكندرية
ولميناء حيفا أهمية خاصة في نظر الحلفاء، ففيها تنتهي أنابيب البترول العراقي، ولكن طبيعة أرضها لم تعدها لتكون ميناء حربياً جيداً. فاتخذت الاحتياطات للدفاع عنها من قبرص والإسكندرية فبعدهما عنها قصير، وهي تمثل الزاوية الثالثة من مثلث ضلعه من قبرص إلى الإسكندرية يواجه الخطر الأجنبي.
وإذا نشبت الحرب فإنه ينتظر أن تصبح الإسكندرية قاعدة الأسطول البريطاني، فإن جزيرة مالطة لا تصلح في رأي الخبراء البحريين لحرب طويلة الأمد، وإن كانت في أول(358/45)
الحرب تتخذ كقاعدة خطيرة للهجوم على مواقع الدولة المعادية، فهي لا تبعد عن صقلية إلا عشرين دقيقة بالطائرات. وأكبر عيوبها ضيق مينائها مما لا يساعد على الحركات البحرية
ويختلف رجال البحر ورجال السياسة إزاء إخلاء هذه الجزيرة، فيدعى فريق أن إخلاءها يحط من هيبة إنجلترا في نظر حلفائها، ويرى الفريق الآخر أن إخلاءها هو الخطوة الأولى لنصر محقق، وخصوصاً إذا تم هذا الإخلاء من بدء الصراع، لأن التجاء الأسطول إليها يجعله في مركز حرج ويعرضه للهجمات المعادية، ويرون الاستعاضة عنها بميناء الإسكندرية التي تعتبر أصلح، ولا سيما بعد التحصينات التي أضيفت إليها.
كوروفو والادرياتيك
وقد يظن البعض أن بحر الإدرياتيك يصبح بحيرة إيطاليا الحصينة، وخصوصاً بعد ما استولت على ألبانيا، فقبضت بذلك، على مدخله من الجانبين، ولكنه يقال إنه توجد اتفاقات سرية مع يوجوسلافيا واليونان تقضي بوضع موانيهما تحت تصرف أساطيل الحلفاء، ومعنى ذلك سهولة مهاجمة سواحل إيطاليا المكشوفة من الغرب، كما يسهل على موانئ فرنسا مهاجمة شواطئها الشرقية من تولون ومرسيليا وأجاكسيو وغيرها. أضف إلى ذلك وجود جزيرة كورفو القريبة من هذا المدخل، وبواسطتها يسهل حصر أسطول الإدرياتيك الإيطالي.
ويجمع الرجال العسكريون على أن دخول إيطاليا الحرب بفتح الطريق أما قوات الحلفاء لمواجهة قوات ألمانيا، سواء من إيطاليا أو من يوجوسلافيا، إذ يهاجمون النمسا من المقاطعة المعروفة باسم سلوفانيا وحصون ألمانيا من ناحيتها أضعف منها في أي مكان آخر. أضف إلى ذلك أنه يتيسر لهم جعل حصارهم الاقتصادي فعالاً؛ فإن إيطاليا ودول البلقان هي أكبر ممول لألمانيا، والغالب أن يجر دخول إيطاليا الحرب إلى حرب عامة تحرم المحور من خاماته سواء كانت حربية أم مدنية فتجوع بطون الرجال، ويبطل عمل الأدوات من مدافع وطائرات ومدرعات
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(358/46)
ريفية!
عَرَّافَةُ الزَّهْر. . .
(السنبلة)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سَمِعْتُ مِنْ سُنْبُلَةِ القَمْحِ
أُنْشُودَةً تَبْكِي عَلَى السَّفْحِ
لاَ دَمْعُهَا دَمْعِي! وَلا نَوْحي
مِمَّا أذَابَتْ فِيهِ حُزْنَ الحُقُولْ
وَأَتْرَعَتْهُ مِنْ شُجُونِ الأَصِيلْ
فَغَابَ فِي أَوْتَارِها وَانْطَوَى
حَفِيفَ أحْلاَمِ بَوادِي الهَوَى
اسْتَلَّ نَارَ الشَّوْقِ مِنْ جُرْحى ... وَبَعْثَر الآهَاتِ فَوْقَ السُّهُولْ!
فَقُلْتُ: يَا مَخْضُوبَةَ الرَّأْسِ
بِذَائِبٍ مِنْ وَجْنَةِ الشَّمْسِ
يا خَمْرَةً مَخْبُولَةَ الكَأْسِ
دَارَتْ عَلَى الدُنْيَا بِعَذْبِ الرَّحِيقِْ
وَخَلَّفَتْ عَاصِرَهَا فِي الطَّرِيقْ!
عَلاَمَ تْبكيِنَ؟ أَلِلْبَاِئسِ. . .
غَارِسِكِ المُسْتَضْعَفِ التّاعِسِ؟
أَمْ قَدْ نَقَلْتِ الشَّجْوَ عَنْ نْفسِي ... وَشَجْوَهَا كالبَحْرِ طَامٍ عَمِيقْ!
قَالَتْ ولَمْ تَسْمَعْ صَدَىَ شِعْرِي:
إِنِي هُنَا عَرَافَّة الزَّهْرِ
أبْحَثُ في الكُثْبَان عَنْ سِرِّ
أَشْتَقْتُ بِهِ الفَلاحَ كَفُّ الغُيُوبْ(358/48)
وَهَا أَنَا يَطْوِى حَيَاتِي المَشِيبْ
وَلَمْ أَزَلْ أَبْحَثُ عَنْ حِكْمَتِه!
عَلامَ بَاري الخُلْد في جَنَّتِهْ
يأتِي لَهَا عُريَانَ فِي الفَجْرِ ... وَيَرْتَدِي ألاكْفَانَ عِنْدَ المَغِيبْ
-(358/49)
سمفونية شعرية
مع الماضي. . .
إنني أحلم وحلمي هو الماضي. . .
// لازلت أذكرك ووراءك موسيقى آتية من مكان لا أراه. . . أدواح متباعدة، وأرض
مخضوضرة. وليس هناك إلا أنا وهذه الموسيقى، وخيالك بارزاً من الماضي إليَّ!
أين ليالينا والظلام. . .
إن صدرك ما زال يضطرب، والهواء البارد يرطب وجهك وعنقك؛ وصوتك الخافت
اللاهث يردد أنشودة الحب في الليل
إنني أحلم وحلمي هو الماضي
لقد عشنا معاً، أياماً وليالي. . .
كنت معي: شعرك المرسل يرف علي، ويداك الدقيقتان تبحثان عن لا شئ
آه. . . .
رأيتك في ثوبك الأبيض ذات أمسية بعيدة؛ وكنت صامتة مجهدة، وكان في صمتك نداء
يوم مقبل
وجاء اليوم بطيئاً كخطى العذارى. وكنت لا تتكلمين، فأخذت بيدك وسرنا جنباً إلى جنب
حيث لا أدري. ولم أسألك إلى أين. لقد كنت حالماً أسبح خلف الضباب. إلى أين كنت ذاهبة يا ساحرة؟ كنت مشغولاً بك عن كل شئ
جلسنا نسترجع حلماً حلمناه منذ أزمان
وتحت المصباح الخامد وصدرك إليَّ سألتك: أتحبينني؟ فقلت: نعم
وفي أذنيَّ المفعمتين بألحان الغاب وأنات السواقي، استطاعت كلمتك أن تحيا هادئة
واضحة كماء البحيرة وسط الشجر الأَلفّ
(م. وهبة)(358/50)
الأدب في الأسبوع
نجوى الرافعي
أيها العزيز!
(في القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفنَى وفي القَلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنسى)
هكذا قلت (وعواطفي تشيِّع الميت الحبيب مطرقة صامتة) واليوم ماذا أقول؟ أما إنك لتعلم - أيها الحبيب - أن الذي بيني وبينك دنيا تمشي الأحزان في أرجائها نائحة باكية. . . لستُ أكفر بأنعم الله عليَّ أو عليك. . .، كلا، كلا!! لقد ذهبتَ إلى ربك راضياً مرضياً فرحاً بلقائه، مؤمناً بما زَّين في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابي بعدكَ،. . . لأفقِد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب،. . . . لأتلدَّدَ هاهنا وهاهنا حائراً أنظر بمن أثق،. . . لأجدَ حَرَّةَ القلب وكَمد الروح وألمَ الفكر من حبي وصداقتي،. . . لأسير في أوديةِ من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأتألمّ وحدي. . . لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني،. . .
ذهبتَ وبقيتُ. . . لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق لأنهم يريدون ذلك. . . لأُجيد مهنة الكذب على القلب لأنهم يجيدون ذلك،. . . . لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحب والبغض، لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَداتهم،. . . لأفْنِيَ بقائي في معانيهم المتوحشة إذ كانوا هكذا يتعايشون،. . . لأحطم بيدي بنيان الله الذي أَمرنا بحياطته، وأتعبد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتها أيديهم المدنسة القذرة،. . . لأجنِي الثمار المرّة التي لا تحلو أبداً ولكنهم يقولون لي: هذا ثَمَرٌ حُلْوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟
ذهبت - أيها الحبيب - وبقيت. . .، في الحياة التي أولها لذةٌ وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمر حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريد أن تسلبَ القلبَ براءةَ الطفولة لنملأه إثماً وخداعاً وشهوةً. . . بقيتُ على الحياة في الأرض التي تميد وترجف وتحتدم من تحتي، لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسبب إلى السماء. . . بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجدبة لا أجد مائي ولا تربتي. . . ولا من يزرَعُني. . .(358/51)
شدَّ ما اختلفتْ عليَّ أحداث الحياة من بعدِكَ أيها الحبيب!
كنتُ أشكو إليك ما أُلاقي من ظمأ الروح الهائمة، وهي تطوف بحسراتها على ينابيع الحياة لا تنتهي ولا تستطيع أن ترِدَ. . . كنتُ أبثّك كأحزاني وهي جالسةٌ توقِد النارَ على نفسي وتؤرِّثها بأفكاري القلقة التي لا تهدأ ولا تنقطع. . . كنتُ أشكو إليك آلامَ الشَّوْكِ الذي تنْبِتُهُ في قلبيَ الشكوك العاملةُ الناصبة التي جعلتْ همَّها تعذيبي بالحيرة والخوفِ والحرمان. . . والحقيقة المؤلمة أيضاً. . . كنتُ أجدكَ حين ينبغي أن أجدَك، لأقول لك ما يجب عليَّ أن أقول. . .
شدَّ ما اختلفتْ علي أحداثُ الحياة من بعدك أيها الحبيب! وهاأنذا أريد أن أجدَ بعدكَ من أضعُ في يديه الرفيقتين هذه الجروح الدامية النابضة التي أسمِّيها قلبي. . . أريد أن أضع أفكاري التائهة في بيداءِ الظنون المغفرة، بحيثُ تجدُ مَن يتولى أمر إرشادها إلى رَوضَة اليقين الناضرة. . . أريد أن أجدَ مَلْجئ المؤمن حين تطارِدُني من الظنِّ صعاليكه الكافرة. . . أريد أن أعرف لذَّة الصداقة والحبِّ حين لا أجدُ من الحياة إلاَّ آلام صداقتي وحبي. . أريد. . أُريدُ!. . . أُريدُ مَنْ أقول له: ها أنذا بعذابي وضَعفي وخُضوُعي؛ فيقول: وها أنذا بصبري وقوَّتي وحبي لك. . أُريد من أقولُ له: هذه جروحي التي تَنْفُثُ الدمَ لا ترقأُ ولا تستريحُ ولا تبرأ إلا على وعي من دَمِها؛ فيقول لي: وهذا طِبِّي الذي يحسمُ هذا الدم لتستريحَ وتبرأَ من أَلم النزيف، يا بنيَّ. . .!
(يا بني. . . .) هذه طفولتي، أريد من يحنو علي بها حنو الأم على صغيرها الذي هو كل أشواقها الرقيقة من قلب نبيل رقيق. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يمسح بها أحزاني التي حيَّرت بصري لأعرف من بعد طريق رجولتي التي تريد أن تعمل وأن تسير وأن تصل إلى سر أشواقها البعيدة الجميلة. . . (يا بنيَّ. . .)، هذه طفولتي، أريد من يعرف أني طفل وديع حين أؤوب من كدي وكدحي، فيتلقاني بين ذراعيه إلى قلبه لأشعر بحنان من الروح يطفئ غُلتي، ويرسل في أعصابي ريها من الحب، الحب الذي هو فجر الحياة بنعومته ورقته وطهره، الحب الذي يرد القلب الظامئ زُهرة تتفتح في جو من النور والندى والشباب. . . (يا بني،) من يقولها لي يضع في نبض أحرفها نبض الحب. . .
أين أنت أيها الحبيب؟ كنتَ أخي وصديقي ومن أستودعه سر قلبي المعذب في تنور الحياة(358/52)
المتوحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى من جرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبي عذاباً ضعفاً من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سداً يصف ما وراءه من أشواقي ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحي. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتي بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . .
الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي
أنظر إلي - أيها الحبيب - من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضيءٍ حيٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعيني هذه الظلمات التي تعتبرك بين يدي في مد عيني. . . انظر إليَّ - أيها الحبيب - وأسكبْ في قلبي وروعي حقيقة الإيمان الحيّ الذي لا يموت. . . أنظر إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضاً في مشيمة من الكره والعنت وآلام المخاض وأمشاجٍ من الدم يشخب من حولها ويتضرجُ ويقبحُ بعضه في بعض
ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفس على النفْس! أنت هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يوماً بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنت هناكَ وأنا هنا، بينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثروتي التي أنا بها أنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . .
(ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقدكِ - أيها الحبيب - ولكني فقدتُ نفسي)
ذكرى الرافعي(358/53)
لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعي. أعرفهُ أدبياً شاعراً فيلسوفاً. . . رجلاً قد انصرف بهمّه إلى الأدب والفكر يجيدُ فيما ما يجيد، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلاً حتى أقول إني أعِي للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره مالا يعرفه غيري، كلا لست أدعي ما ليس عندي ولكني كنت أبداً معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبداً يحوطني بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفني. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفني ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أُحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقِّصر أحد ممن توجبُ عليه الصداقة بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأني لا أستطيع ولا أطيقُ. فما زالت كلما ذكرتُ الرافعي - وقد مضت سنوات - أجد لذعةَ حُزن في قلبي تُرسل آلامها في كلّ سابحة من دَمِي
ولكن الله لم يُخلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويحسن النظر فيه، فهيأ له الأخ (محمد سعيد العريان) يردُّ - بوفائه لذكرى الرافعي - كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائه وتلامذته والمتبعيه. فقد بادر (سعيد) بعد وفاة الرافعي، فأنشأ يحث الناس أخباره ما دق منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل التي يتكون منها تاريخ الرافعي، والتي كانت تعمل في إنشاء أدبه وتوجيه بيانه. وفتح (الزيات) باب القول في الرافعي له وعليه حتى اجتمعت من ذلك طائفةٌ من القول صالحةٌ لدراسة أدب الرافعي دراسة جيّدة لمن ينصبُ نفسه لها. ولكن الأخ (سعيد) لم يرض أن يقنع بما كتب هو عن الرافعي وجمعه في كتابه الذي طبعه بعد وسماه (حياة الرافعي)، فدأب على إظهار ما لم يظهر من آثار الرافعي قديمها وحديثها، وقد كان آخر جهد بذله في ذلك سعيه لإنقاذ مؤلفات الرافعي كلها من الضياع. فانتدب لجمعها وتصحيحها ومراجعتا وطبعها بعد ذلك سلسلة واحدة تقوم بنشرها (المكتبة التجارية) وقد كاد يفرغ من طبع أكثرها، وأنا أعلم أن بين يديه الآن كتاباً من كتب الرافعي التي لم يتمها وكان أصولاً مبعثرة رديئة الخط كثيرة الإضطراب، وهي أصول الجزء الثالث من كتابه الجليل (تاريخ آداب العرب) واستخراج هذا الجزء وحده دون سائر كتب الرافعي يعد عملاً عظيماً ووفاء نبيلاً لرجل هو كسائر الأدباء: حياته حياة أدبه، فإذا مات لم يجد في هذا الشرق الغافل من ينفخ الحياة في آثاره الأدبية مرة أخرى(358/54)
إن هذا التراث الذي خلفه الرافعي للأدب العربي، قد جعله الله أمانة بين يدي (سعيد) فهو يؤدي اليوم إلى الناس هذه الأمانة وافية كاملة لم ينتقص منها شئ - إلا شيئاً يعجزه أن يهتدي إليه أو يقع عليه، وغداً يجد الناس بين أيديهم كل ما كتبه الرافعي حاضراً لم يضيع شئ منه وكذلك يجد من يريد سبيله إلى معرفة الرافعي من قريب وتقديره والحكم إما له وإما عليه
مصر المريضة
ألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل بك، أستاذ علم الصحة بكلية الطب، في المؤتمر الحادي عشر للمجمع المصري للثقافة العلمي - محاضرة هي تصوير للآلام التي تعانيها الصحة في مصر، وتمثيل للحقائق المؤلمة المخيفة التي تعمل عملها في هدم البناء الصحي للأبدان المصرية. وقد نشر صديقي الأستاذ (فؤاد صروف) قسماً من هذه المحاضرة في مقتطف مايو سنة 1940، فأخذتها وقرأتها وأنا أرجف بالرعب والفزع لما مثل لعيني من تلك الحقائق البشعة الشنيعة، وهي على بشاعتها وشناعتها متفشية منتشرة تغزو مصر من جميع نواحيها غزواً مهلكاً مبيراً، ثم لا تجد من يرده عنها من الجنود المجندة المقالة التي هي كل صناعة الطب وأسباب صناعته
لقد عمد الدكتور الوكيل إلى الإحصاء الصحي في مصر، فبان منه أن البلاد إذا لم تتدارك أمر الصحة بأوثق العزم وأحكم التدبير وأسرع العمل، فسوف تنتهي إلى فناء محقق يأكل القوة المصرية كما تأكل النار يبس الهشيم. ونحن في فاتحة عصر رهيب قد بدأ بالحرب المجتاحة، تأتي معها الأوبئة والأمراض وتجر في أذيالها أوبئة أخرى وقحطاً ومجاعة - إلا أن يشاء الله - والعالم كله يخشى ويتأهب ويستعد، فهل عمدتْ مصر إلى جعل الوقاية الصحية تدبيراً ممتداً مع أسوأ الفروض التي يمكن أن توحي بفرضها أوهامنا ومخاوفنا وتشاؤمنا من الأيام المحاربة والأيام التي تلْقي عن عواتقها أوزار الحرب بعد أن تأكل القوة بعضها بعضاً في ميادين البغي والقتال؟
يقول الدكتور الوكيل: (ونحن إذا رجعنا إلى نسبة الوفيات العامة سنة 1937 في مصر وثلاثين دولة أخرى في مختلف القارّات متدرجين من الأسوأ إلى الأفضل، اتضح لنا أن مصر في رأس هذه القائمة؛ ومن هذه البلدان: الهند واليونان وبلغاريا وفلسطين). . . لا،(358/55)
بل أكثر من ذلك، وهو أن الإحصاء دلالة على أن الأطفال هم 55. 8 ? من مجموع الموتى، وأن هذه النسبة في صعود متواصل حتى في هذا العهد الذي نحن فيه. بل انظر إلى الأصل فالدكتور الوكيل يقول: إنا إذا أخذنا الأمراض المتفشية كالبلهارسيا والأنكلستوما والرمد والسل والأمراض العقلية والملاريا والتيفوس والتيفود والدفتيريا والأنفلونزا الحادة والحمرة وغيرها، ثم جمعنا بعضها إلى بعض مرضاً مرضاً كانت ما يربو على 50 مليون مرض، فإذا وزعت هذه الملايين على المصريين أصاب كل شخص ثلاثة أمراض في وقت واحد
وهذه النتيجة المؤلمة قد أفضت إلى هذه الغاية باهتمام القائمين على أمر الصحة والتعليم بالحضر دون الريف، وبالذي كان من طغيان الجهل واستبداد الفقر بطبقات الشعب التي يتكون منها السواد الأعظم. وقد وضع الدكتور الوكيل مشروعه لمكافحة هذه الحالة، فهل يمكن أن تكون الوزارات المختصة قد عرفت حق مصر فهبت إلى القيام بواجبها في الدفاع عن البلاد لإنقاذها من براثن هذه الأعداء المتعادية المتحالفة على قتال الروح والحياة في الشعب المصري؟ ذلك ظننا، والله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
محمود محمد شاكر(358/56)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
3 - من النقاد
الأستاذ بيرم التونسي:
كل ما يكتبه رائع، ولكن أروع ما يكتبه هو النقد، وقد كنت أقرأ للأستاذ بيرم فأحسبه كتبه بعد كراهية عقلية لما ينقده، واقتناع فكري أو خيالي بأن هذا الأمر الذي ينقده قائم على أخطاء يجب أن تزال حتى لا ينهض عليها من الأخطاء ما سيتدعي النقد. فلما لقيت الأستاذ بيرم رأيت فيه أنه يكره بقلبه كراهية التحريم كل هذه الأمور والشخوص التي ينقدها، وقد يعلم القارئ أن كثيراً جداً من نقد بيرم منصب على الرجال الذين يسميهم (خناشير) تذكيراً بغيضاً بخشونتهم وتبشيعاً لها وانتصاراً منها لرقة الأنوثة ودلالها. . . قد يعلم القارئ هذا. . . فهل يعلم القارئ أني رأيت الرجل هكذا حقاً يكره الرجال ويستثقل ظلهم ولا يكاد يطيق صحبتهم، ويمقت من يقول إن فيهم حسناً وإن في عشرتهم راحة. وهو لذلك يفر من الناس فراراً ويستخفي في الشارب العامة في زواياها على نواصي الشوارع المائجة ويجلس مغمض العينين ولكنه يرى. . . وهو يرى من ثقب في إحدى عينيه - لعلها اليمنى - ولا أدري كيف انثقب وإن كنت أراه تجويفاً استدار في ملتقى الجفنين منهما فراغ هو نصف الدائرة. . . وكلما مر في الطريق رجال هرب الأستاذ بإنسان عينه من وراء الثقب فلم يرهم، فإذا مر في الطريق غير الرجال تألق الإنسان من وراء الثقب وارتعد
ومن هذا الثقب يرى الأستاذ بيرم كل شئ، ولعل هذا هو السر في أنه يرى أبعد وأعمق مما يرى الناس، فهو كعدسة الميكروسكوب تجمع الأشعة للعين في مستقيم واحد حيزه مجموع وهدفه دقيق. . .
وكما أن بصر الأستاذ بيرم مكرسكوب، فإن بصيرته ميكروسكوب أيضاً. . . فضاح لا(358/57)
يغيب عنه إلا ما يشاء الله أن يخفيه وإذا شاء الله أن يخفي على الأستاذ بيرم شيئاً حفز فيه قوة انتباهه، فيستيقظ في نفسه سوء الظن بما يسمع ويرى، فيخطئ الحكم. . . وسبحان الذي لا يغفل ولا يخطئ.
الأستاذ محمد الههياوي:
أعوذ بالله من غضب الله ومن غضبه. هو صاحب القلم الذي كان سعد زغلول ينتظر قوله فيه أسبوعاً بعد أسبوع، ليطمئن على كيانه أسبوعاً بعد أسبوع. فكما كان سعد أزهرياً فناناً عبقرياً؛ فالأستاذ الههياوي أزهري فنان عبقري، كانت وقفاته من سعد كوقفات سعد، وكانت كلماته في سعد من الرواج مثل كلمات سعد؛ فلعله كان أشد الناس حزناً على وفاة سعد، إذ فقد الههياوي بوفاته قريعه وضريبه الذي كان يستنبع من زعامته مادة فنه، والذي كان يستخلص بالبراعة والحدة من كلامه وفعاله أهدافاً لهجومه ونقده. بل لعله كان أشد الناس حباً لسعد وقتما كان يبدو للناس أنه أشد الناس مضياً في خصومته وعداوته، فأنا لا أستطيع أن أتصور فناناً عبقرياً يمقت فناناً عبقرياً، والنبي كان يطلب للإسلام أن يعزه الله بعمر، فلم يكن سعد أيضاً يكره ناقده.
الدكتور طه:
ويا لطول شقائي بالدكتور طه! الناقد الجبار الذي لم يستطع أن ينقذني أنا! كنت أنقش وأنا في العباسية الثانوية على أركان كراساتي وكتبي أربعة أسماء. . . نقشتها على كل كراسة وعلى كل كتاب هي: (مصر. سعد. طه حسين. سيد درويش) وكان أساتذة اللغة العربية في العباسية الثانوية ينهونني عن الدكتور طه والكفر، فكنت أثور وأعرض نفسي لسخطهم وعقابهم ما لم تنقذني شفاعة من أحد الأساتذة الثلاثة المستنيرين الذين يحبون معي الدكتور طه وهم: محمود مرعي، ومصطفى السقا، وأحمد الشايب. وسماني زملائي في الثانوية باسمه من فرط ما كنت أقلده في تفكيره وأسلوبه. وأحسب نفسي لا أزال إلى اليوم مطبوعاً بطابعه. ولما كنت في كلية الآداب كنت أضع على عيني منظاراً أسود إمعاناً مني في (الطحسنة). وفي معهد التربية كان زملائي وبعض أساتذتي يجلسونني إليهم ويطلبون مني أن أحدثهم أي حديث وأنا الدكتور طه. . . وعندما كان الأستاذ الههياوي مشرفاً علي في(358/58)
أول عهدي بالكتابة كان يقول لي: إني أخاف عليك أن تكون نسخة ممسوخة من الدكتور طه. وعاب علي الأستاذ الزيات يوماً أنني أفقد توازني أحياناً فيما أكتب للرسالة فأضمحل وأذوب ويتبلور من بقاياي بعد ذلك طيف من الدكتور طه يكتب هو ويقول ما يريد
والدكتور طه الذي غزاني هذا الغزو لا أدري كيف لم يشعر بي، وكيف لم يعطني من نفسه ولو عشر ما احتل من نفسي. . . كلما أقبلت عليه صدني، وكل ما قيل له عني فيه صدقه. . . وإلا فأي شئ كان يبغضه فيّ. . . لقد كان من أثر ذلك أني تابعته بالذي تعلمته منه. . . الصد بهجر، والنكران بخدش
وأين أنا من أستاذي الذي إذا كره أمراً حرض الناس عليه حتى إذا رآهم أجمعوا على كراهيته معه، عاد هو فكره أن يكون معهم في إجماعهم فراح يعلن حبه لهذا الأمر ويحرض للناس على حبه حتى يعودوا إلى حبه معه، فيعود هو فيكرهه ويحرضهم على كراهيته. . . وهكذا
4 - من الفلاسفة
لطفي السيد باشا:
هذا الفيلسوف شرد عن نفسه بالفلسفة فلا هو يعرف أنه يعيش في مصر وإنما هو يحسب أنه يعيش في أثينا، ولا هو يعرف أن الزمن دار ودار حتى وصل التاريخ إلى القرن العشرين بعد الميلاد وإنما هو يحسب أن العصر لا يزال عصر سقراط وأرسطو
رشح نفسه يوماً لانتخاب الجمعية التشريعية وقال للناخبين إنه رجل ديمقراطي. فسمع بذلك منافسه الفلاح فقال للناخبين: وأنا رجل مسلم. فسأل الناخبون منافس الباشا: وهل الديمقراطي غير المسلم فقال لهم: الديمقراطي كالماسوني، مبادئه الإخاء والمساواة بين المسلمين والنصارى واليهود، والرجل والمرأة، والسيد والخادم والكبير والصغير، والعالم والجاهل، والقادر والعاجز، والسليم والأجرب. . . وغير ذلك وذلك أنه يمنح لكل إنسان أن يكون حراً في حدود القانون، فالذي لا يصلي حر، والذي لا يصوم حر، والذي يسكر حر، والذي يفعل ويفعل حر مادام القانون محفوظاً لم يمس. . . وقانوننا في الأصل فرنساوي
وزار لطفي السيد باشا دائرته الانتخابية، فسأله الناخبون: هل حقاً أنت ديمقراطي؟ فقال(358/59)
لهم: نعم. فسألوه: أمساواة وإخاء وحرية كالماسون؟ فقال لهم تماماً ولا فرق! فسألوه: والمسلم كالمجوسي؟ فقال لهم: سواء بسواء! فسألوه: والمرأة كالرجل، والسكران كالصاحي؟ فقال لهم: أمام القانون لا كبير ولا صغير. . والسكران ما لم يؤذ أحداً حر في نفسه. . . فقالوا له: عال. . . إن فلاناً يتهاون في الصلاة فلا يؤديها فقال لهم: هو حر. . . فقالوا له: إنا نعوذ بالله من (ديمقراطكم). . لكم دينكم ولنا دين!. . .
وفاز الفلاح منافس الفيلسوف في الانتخاب. أما الفيلسوف المفكر فإنه لم يفز، وكان عيبه عند ناخبيه أنه ديمقراطي!
فهل الذي لا يعرف كيف يتفاهم مع ناخبيه فيلسوف؟
إنه فيلسوف ولكنه لا يعيش في هذا البلد ولا في هذا العصر
الأستاذ شهاب:
هو عبد السلام بن حسنين بن شهاب بن أبي شامة البشبيشي، واصل الدراسة في الأزهر الشريف حتى أشرف على امتحان العالمية فتكاسل عنه. والتحق بفرقة تمثيلية يؤلف لها الأغاني والأناشيد وكان جمهور هذه الفرقة خليطاً من الناس ذوي المشارب المتباينة والأذواق المختلفة، فكانوا جميعاً يجودون ما يرضون عنه فيما كانوا يسمعون. ثم شارك حلاقاً في صالون، لعبا برأس ماله في (اليانصيب) فلم تصبهما ثروة، فالتقطه واحد من أصحاب المجلات الأسبوعية كان يدير تجارة إلى جانب المجلة فعمل الأستاذ شهاب في تجارة وفي المجلة حتى رأى صاحبه يسلمه يوماً لواحد آخر من أصحاب المجلات الأسبوعية، ولم يعلم أنه باعه له المال إلا بعد زمن طويل، وانتقل من المجلة القديمة إلى المجلة الجديدة يكتب فيها شعراً وزجلاً ونثراً مما يعيه الشعب ويفهمه ويتلذذ به وهو ماكث في (الإدارة) لا يخرج منها، ويعمل ويأكل وينام على المكتب. . . ثم طرأ له أن يخرج يوماً فخرج وغاب فلم يعد، فدار صاحب المجلة يبحث عنه في الأقسام والمستشفيات وهو متلهف عليه يقول: يا عالم إنه لا يعرف الطرق ولا الشوارع ولكنه كان قد عرف الطرق والشوارع ومن بينها شارع الأمير قدادار، وهو الطريق إلى دار الهلال التي يعمل فيها الآن محرراً لإحدى المجلات التي تصدرها، يكتبها بعد أن يجمع له المندوبون معلوماتهم، ومن أولها إلى آخرها(358/60)
وهو أزهد من رأيت في الجاه والشهرة، وأقدر من رأيت في الحكم على النفوس، وأقوى من رأيت في إقامة الحق إذا أراد إقامته، وفي إزهاقه إذا أراد إزهاقه، وأشد من رأيت استسهالاً للعبث بعقول الناس، فهو يبدأ يقص عليك القصة، فلا تلبث بعد أن يقطع معك مرحلة طويلة فيها أن تفيق فتجد نفسك قد سمعت كلاماً كثيراً مرتبطة أجزاؤه بعضها إلى بعض، ولكنه ذاهب إلى حيث لا تدري؛ فإذا أحببت أن تعود أدراجك إلى بدايته لم تعرف كيف تروح معه ولا كيف تجئ
يشترط عليه الأستاذ إميل بك زيدان إذا أراد أن يحادثه في أمر أن يمتنع عن مناقشته فيه، لا لشيء، إلا لأنه جرب مرات ومرات أن مناقشة الأستاذ شهاب تنتهي عادة بأن تقر دار الهلال نقيض ما تريده، وما تكون قد أعدت العدة له
من آرائه أن مصر ستظل هكذا في انتظار زعيم لابد أن يكون دينياً، وأن اللحم سيد الطعام، وأن أسعد الناس هم سكان التكايا؛ وأن الأستاذ محمود حسن إسماعيل شاعر قبطي بدليل الرهبان والصلبان والأجراس التي ترن في شعره كثيراً، وأن طلبة كلية التجارة يجب عليهم أن يقضوا مدة التمرين في المذبح وعند أبي ظريفة وغيره من تجار الفول، على أن لا تزيد مدة التمرين هذه على ثلاثة شهور يعطى الطلبة بعدها دبلوم التجارة ليغزوا هذين الميدانين من ميادين التجارة القومية الرابحة ربحاً مؤكداً ومركباً أيضاً؛ وغير ذلك له آراء كثيرة كم اختلستها منه نشرتها منسوبة إليه في (الرسالة)، فأعجبت من قرأها
حفني محمود بك:
هو أيضاً عجيب في تفهمه للناس وإدراك تكوينهم النفساني وهو يثأر للناس بعلمه هذا من الأشرار الذين يفتكون بهم. ولا تأخذ عند هذا الثأر رحمة ولا شفقة، وجمهور من الناس يحسبون (حفني بك) مهذاراً ماجناً، وهم يروون حوادثه على أنها نوع من العبث والمزاح، وقد اصطنع بعض المتظرفين أسلوبه في السخرية من الناس، ولكنهم لم يحرصوا على ما يحرص عليه هو وهو أن ترمي كل نكتة من نكاته إلى معنى حق، وأنه لا يمكن أن يصيب بمزاحه ضعيفاً أو مسالماً، وأنه لا يؤذي به إلا من هو جدير بالأذى. . .
كان غني من أغنيائنا في أوربا في شهر يوليو. وهذا الغني صاحب ذمة واسعة
تقدم منه حفني بك وهو في بار اللواء وقدم إليه ورقة من ذوات الخمسة الجنيهات وهو(358/61)
يقول له: أشكرك كل الشكر يا سعادة البك. هذه وهي الجنيهات الخمسة التي أقرضتني إياها في عيد فرنسا في كازينو سان استفانو. فقبل الغني الورقة وهو يقول: العفو العفو!. . . من غير أن يفكر في أن عيد فرنسا لا يكون إلا في 14 يوليو، وأنه كان في أوربا في ذلك الوقت، فلم يكن من الممكن أن يلقى حفني بك في سان استفانو ولا أن يقرضه شيئاً. . .
تلك كانت ضربة قضى بها حفني بك على المسكين من غير شك. . . ولكن أليس هذا المسكين جديراً بهذه الضربة. . . إنه على أي حال لم يتألم منها ولم يشك وجعها. فنفس كهذه لا يقتلها السم إذا نقع معه قرش لا جنيهات خمسة
الأستاذ محمود بسيوني:
صاحب البطاقة السهلة التي يستطيع أن ينالها منه كل قاصد تقديماً وتوصيةً. وصاحب الصدر الرحب الذي يفتحه لكل من يريد أن يرتمي في أحضانه. ولكن كم من الناس يستطيع أن يقول إن بطاقة بسيوني بك نفعته أوأن وساطته قضت له حاجة؟
هذا رجل كاهن. استطاع أن ينجح في المحاماة إلى أبعد حدود النجاح لأنه استطاع أن يتغلغل ي نفوس الفلاحين إلى أبعد حدود التغلغل. . . رآهم يحبون الرجل الطيب فكان أطيب رجل، ورآهم يأمنون الرجل الصالح فكان أصلح رجل
رأيته يوماً يدخل بنك مصر ومعه عميل من الريف، فلم يصعد به السلم إلى المكتب الذي كانا يقصدانه، وإنما طاف به في بهو (البنك) طوفة متأنية متريثة، أخذت أعصاب الرجل الريفي تتفكك فيها وتنحل رويداً رويداً من أثر الروعة التي كانت تشع عليه من جدران البنك. . . فلما تم له هذا أخذه وصعد به إلى حيث كانا يقصدان؛ وقد آمن الرجل إيماناً بأن بنك مصر هو خير من ألف بنك
وهذه من غير شك أطيب دعاية وأكرم خدمة يؤديها محام وطني لعميله الوطني وللبنك الوطني ولإحساسه الوطني أيضاً. . .
عزيز أحمد فهمي(358/62)
من هنا ومن هناك
أركان الحرب محور الدفاع الوطني
(عن مجلة (لموا الفرنسية))
يظن الكثيرون أن مهمة أركان الجيش محصورة في رسم خطط المعارك وإصدار الأوامر لقَّواد الجيوش، ويتساءلون دهشين: (بأية وسيلة أو أعجوبة يتلقى قوَّادنا في المكان المحدود والساعة المعينة القوات المستمدة والكميات المطلوبة من الذخائر والمؤن والملابس وسائر المعدات الحربية؟)
من المعلوم أن شعب فرنسا يعمل بأسره في سبيل الجنود الذين يحاربون من أجله، ومن المجهول تلك القوة الخفية التي تُعدُّ وتنظم الجنود وتجهّز وتوزّع المعدات الحربية. وقد لا يخطر للكثيرين أن تلك القوة مصدرها أركان الجيش التي تتخذ باريس قاعدتها ووزارة الحربية مركزها. وإذا جاز لنا أن نشبّه القوى العسكرية بالجسم البشري، فالجنرال غملان يمثّل الرأس وأركان الحرب تمثّل القلب وإذا كان القلب هو مصدر الحياة في الجسم والمحرك الدائم الحركة الذي إن توقف لحظة شلَّت كل الأعضاء حتى الرأس نفسه، فأركان الحرب هي مبعث كل قوة ومصدر كل تنظيم في الجهاز العسكري
لدى أركان الجيش جيش صغير من الكتّاب يعمل نهاراً وليلاً في ساعات معينة بإدارة بضع مئات من الضباط والاختصاصيين المسؤولين، وفي مكتب رئيس أركان حرب الخرائط الحربية والخطط العسكرية والمعلومات الوافية التي تنبئ دائماً عن مواقف الجيوش في ساحات القتال وعما لديها من الذخائر والمؤن وغير ذلك مما يطول شرحه
ولنذكر الآن شيئاً مما تبذله أركان الحرب في إعداد المعدات الحربية. فمن المعلوم أن في فرنسا بضعة آلاف من المصانع الحربية يعمل فيها مليون عامل وعاملة، وقد كان نتاج هذه المصانع في الحرب الكبرى يفوق نتاج أية دولة من الدول المحاربة والمحايدة، وعلى رغم احتلال ألمانيا لمقاطعاتنا الصناعية في الشمال فقد كنا نمدّ حلفائنا بما يعوزهم من المعدات. فإذا طلبت القيادة من أركان الجيش مثلاً بضعة آلاف من لوالب مدفع 75 فما هي إلا دقائق معدودة حتى يباشر تجهيزها في المصانع، وفي أقل من يومين تتسلم أركان الجيش الطلب وترسله إلى القيادة. ولكن إذا روعيت هذه الدقة في الحرب الحاضرة التي لم يعرف جنودنا(358/63)
فيها حتى الآن المعارك الحامية والإنسحابات القاهرة فكيف تراعي في مثل تلك الأيام التاريخية الحرجة حين انسحبت جنودنا من شارلروا أمام الزحف الألماني ووقت أن هجم الألمان على باريس وبلغوا كمبيان وسان كنتن؟ لقد خبر جيشنا الساعات المشؤومة التي كانت تهدد فرنسا بالهوان ولكن تنظيمه العجيب كان يفوق كل ارتباك وتشويش. إن تقهقر الجيش يعني وقوع ألوف من الأسرى ومئات من المدافع في حوزة العدو، إخلاء مراكز للمدفعيات والطيارات، إهمال المستشفيات والنقالات، وأخيراً ترك كل شئ أمام العدو المطارد. ومع ذلك كان جنودنا الذين شهدوا مثل هذه المآسي يعلمون جيداً أن وراءهم مدافع جديدة جاهزة بدل المفقودة وكميات هائلة من الذخائر والمؤن عوض المتروكة
وقد أطروا كثيراً التنظيم الألماني وأركان الحرب الألماني، ولكن ذلك كان فوق الواقع. ولماذا لا يحق لنا أن نعجب بالتنظيم الفرنسي الذي برهن في أشد المواقف حرجاً على دراية وحسن إدارة نادرتين؟
ومن مهام أركان الجيش تعهد طرق المواصلات والعناية بأسرى الحرب من جنود ومدنيين. أما المهمات الكبرى، فهي تموين الجيش وكفى بها عبئاً ثقيلاً يقتضي الجهد الكبير والعمل المتواصل، فإن تموين خمسة أو ستة ملايين رجل منتشرين في مئات من الكيلومترات لمن أشق الأمور وأعقدها
وقد تستعظم المهمات المذكورة مع أننا لم نأت إلا على شئ منها ولم نذكر إلا بعض ما يفرض على أركان الجيش من الواجبات.
من السهل أن نطلع على ما يقال ويجري عندنا وما تصدره أرضنا وتخرجه مصانعنا، ولكن علينا في زمن الحرب أن نعرف أيضاً ما يقال ويجري عند الآخرين من أعداء ومحايدين وما تغله أرضهم وما تنتجه مصانعهم، فكل حركة حربية يتوقف نجاحها غالباً على معرفة الحالة الاقتصادية والمعنوية في بلاد العدو. من ذلك أن الهجومين الظافرين على بلغاريا وتركيا في الحرب الماضية لم يفلحا لولا التعليمات التي تلقتها من أركان الجيش، ومنها عرف أن ليس في طاقة الجيش البلغاري أن يواجه حملة عنيفة، وأن الشعب البلغاري قد سئم الحرب.
وعلى مكتب أركان الجيش أن يقدم تعليمات دقيقة عن الحالات المعنوية والاقتصادية(358/64)
والحربية في بلاد الأعداء، وأن يطالع الصحف الأجنبية ويستخلص منها ما يفيد القيادة العليا ووزارة الخارجية، ثم يدرس أساليب التنظيم الحربي عند الدول الأجنبية ويستطلع مستحدثاتها الحربية. ومن شؤون هذا المكتب إيفاد البعثات إلى الخارج ونقل البريد والاتصال الدائم بأركان جيوش الدول المحالفة والمحايدة وغير ذلك مما لا نذكره اجتزاء
وهناك مكتب آخر من مصلحته تقديم التعليمات السرية عما يجري في بلاد العدو، وهو الذي أفادنا في الحرب الماضية أن القروض الألمانية والنمساوية منيت بالفشل وإن تكن حكومتا برلين وفينا أذاعتا نجاحهما الباهر. ومن مصلحته أيضاً الإفادة من نتائج الحصار ودرس الوسائل التي تضعف العدو
ومن المهام الخطيرة المفروضة على أركان الجيش نقل الجيوش وكلنا يذكر النظام التام الذي تم فيه نقل جيوشنا سواء في أغسطس من سنة 1914 أو في سبتمبر من هذه السنة. فلا اضطراب، ولا فوضى ولا تشويش. وقد أدت سككنا الحربية خدمات جليلة، وكانت من أهم أسباب انتصارنا في الحرب الفائتة. ومنها توزيع الرسائل على جنودنا سواء في فرنسا أو في الخارج. ولكي يتصور القارئ مشقة هذه المهمة نقول إن ما يرسله جنودنا من الرسائل وما يرسل إليهم يملأ ثلاث مركبات
إن ما ذكرناه ليس إلا صورة مصغرة للخدمات الكبيرة والمهمات الخطيرة التي يؤديها أركان جيشنا محور الدفاع الوطني وقلبه النابض
ممتلكات إنجلترا
(عن مجلة (العصبة))
من الأقوال الشائعة أن الشمس لا تغيب عن أملاك إنجلترا. وتلك حقيقة ليس فيها أقل مبالغة، فأني توجهت تر لبريطانيا العظمى علماً مرفوعاً ومدفعاً منصوباً وسفينة جارية. محطات حربية في أهم وأمنع المواقع، قواعد تجارية منتشرة في كل صقع، ممتلكات ومستعمرات لا تقل مساحتها عن خمسة وثلاثين مليون كيلو متر مربع، عمارات من السفن الحربية والتجارية تغشى البحار ليل نهار. هذا هو المشهد الأول من عظمة الإمبراطورية البريطانية.
يخفق العلم البريطاني في أوربا على: إنجلترا، إيرلندا، مالطة، جبل طارق(358/65)
وفي أمريكا على: كندا، الأرض الجديدة، لبرادور، أرخبيل برموداس في الأطلانطيكي، أرخبيل باهاما في الأطلانطيكي جزر برلافنتو، جزر سوتوفنتو، جزيرة جاميكا، جزيرة باربادس، جزيرة ترينداد، جزيرة تاباكو، هوندوراس البريطانية، غيانا البريطانية، جزائر فلكلان وجورجيا في الأطلانطيكي الجنوبي
وفي أفريقيا على: الاتحاد الإفريقي الجنوبي، روديسيا الجنوبية، تانغانيكا، أوغندا، زنجبار، كينيا، الصومال الإنجليزي، السودان الإنجليزي المصري، غامبيا، الشاطئ الذهبي، توغو (قسم منها)، جزيرة سانتا هيلانة، جزيرة إسنسيون، جزر سيشل، جزر موريشاس، جزيرة سوقطرا، سيراليون
وفي آسيا على: الهند، سيلان، قبرص، فلسطين، شرق الأردن، عدن ونواحيها، سنغافورة، ملَقة، هونغ كونغ، بورينو الشمالية، ساراوك، بروني، واي هاي واي، البحرين اندمان ونيكوبار
وفي الأقيانوسية على: أستراليا، زيلاندة الجديدة، فيجي، غينيا الجديدة، بابو، سلمون، تونغا، ساموا الغربية، نورو وغيرها من جزائر الباسيفيكي العديدة
35 مليون كيلو متر مربع تتدفق خيراتها على الجزر البريطانية وخمسمائة مليون نفس يمتثلون لأحكام السلطة الإنجليزية.
وقد بلغ التوسع البريطاني أشده في القرنين الأخيرين؛ ففي سنة 1800 كانت مساحة الإمبراطورية البريطانية 3. 883. 320 كيلومترا مربعاً فبلغت سنة 1919 نحو 35. 467. 656 كيلو متراُ وعدد سكانها 475 مليون نفس.
تبلغ مساحة كندا وحدها نحو تسعة ملايين كيلو متراً مربعة يسكنها نحو عشرة ملايين نفس، وهي تشغل المرتبة الثالثة في العالم بما تغله أراضيها من الحنطة، وقد استخرجت في سنة 1936 نحو 116 طناً من الذهب و 77 ألف طن من النيكل.
والاتحاد الإفريقي الجنوبي مساحته 1. 225. 000 كيلومتر مربع وعدد سكانه 8 ملايين، وهو موطن الذهب فقد استخرج منه في سنة 1936 نحو 352 ألف كيلو. وأستراليا ومساحتها نحو 8 ملايين كيلومترا مربعة بقدر عدد مواشيها بنحو 120 مليوناً استغلت في سنة 1936 أكثر من 450 ألف طن من الصوف. والهند ومساحتها نحو 5 ملايين كيلومتر(358/66)
مربعة وعدد سكانها 350 مليوناً أنتجت في سنة 1936 ما يزيد على 57 مليون طن من الأرز وهي الأولى بين كل بلدان العالم بمحصول الأرز.
وأنتجت أيضاً في تلك السنة 4 ملايين طن من السكر و10 ملايين طن حنطة ومليون طن من القطن ومليوني طن من الخيش أي 99 في المائة من محصول العالم كله، وفي الهند من البقر ما يقدر بمائة وخمسين مليوناً.(358/67)
البريد الأدبي
وحي الرسالة
تفضل كاتب العربية الأستاذ الجليل عباس محمود العقاد فلخص في هذا الكتاب البليغ رأيه القيم في كتاب (وحي الرسالة). وإنا لننشره شاكرين للناقد الكبير جميل رأيه في الكتاب وصاحبه:
أخي الكاتب البليغ الزيات
وحي رسالتك أصدق ما قرأت في الكتابة العربية الحديثة من مصداق لرأي القائلين: إن الرجل هو الأسلوب
فأنت أسلوبك وأسلوبك أنت: إتقان واستحياء وسلاسة، صُوِّرت في عالم الخلق فكانت إنساناً، وُصورتْ في عالم الفكر فكانت وحي الرسالة
إتقان صيغة في غير ظهور ولا ادعاء، يوشك من يتبينه أن يلمسه ليعرف موضع الجودة فيه، كما يلمس المسّوم النسيج المتين الذي وعى المتانة سراً من أسرار منواله وخلا من الزخرف والبريق، لأن إتقان تلك الصيغة كإتقان هذا النسيج، في حقيقتها وليس على مرآها، وعلى صفحة محياها دون سواها
واستحياء يخفى مزاياه ولا يفوته شئ بأن يخفيها، لأنها أثبت من أن يحجبها الإخفاء
وسلاسة تطوع العصي وتملك الزمام في الوعر والسهل على السواء. فإن ما تصف من ألم نفساني يلهب مراق الحشا ويَبْده الضعف الإنساني بأقصى ما يطيق وفوق ما يطيق، لكالذي تصف من ألم يباشر الفكر قبل أن يباشر اللحم والدم، ويحسب من قضايا الرأي كما يحسب من قضايا الفؤاد إتقان واستحياء في المعنى لا في اللفظ وحده، وفي موضوع الكتابة لا في بنيانها وتركيبها وكفى، وعلى السيماء وفي الطوية سواء
وتلك هي الأساليب التي تضاف إلى لغة العرب فيقال معنى إنساني في كلام عربي، ولا يرتد المعنى إلى بني الإنسان حيث كانوا ثم لا يبقى منه للعربية ما تحرص عليه
وحي رسالتك في كتاب أحمد
والسلام عليك وعلى من اتبع هداه
عباس محمود العقاد(358/68)
مصر الحلوة
تحت هذا العنوان الجميل جمع الكاتب الفرنسي الكبير جان لوجول رئيس تحرير البورص إجبسيان طائفة من الفصول الفرنسية الرائعة القصيرة كان قد نشرها متفرقة في مدى عشر سنين. وهي صور صادقة للحياة المصرية في شتى مظاهرها ومناظرها وأحداثها وعاداتها، رسمها قلم فنانٌ صَنَاع وجد إلهامه في حب مصر وأهل مصر، وقصد بعرضها في هذه الألوان الجميلة أن يوثق بها التعارف والتآلف بين الصديقتين القديمتين فرنسا ومصر في هذا العهد الذي قضى فيه إلغاء الامتيازات وما سيعقبه من إلغاء المحاكم المختلطة أن يعيش المصري والأجنبي عيشة أهل الوطن الواحد لا تفرق بينهما فوارق السياسة والاجتماع.
وقارئ هذا الكتاب القيم يستطيع أن يقول على الجملة إن مسيو لوجول من الكتاب الأجانب القلائل الذين فهموا مصر وعرفوا كيف يُفهمونها من يجهلونها بأسلوب يشرق فيه الحب والصدق والإخلاص
مصر المزدهرة '
وذلك عنوان آخر جعلته الكاتبة الفرنسية الشاعرة (فلنتين دي سان بوان) حفيدة (لامرتين) لمجموعة من المقالات الممتعة قصدت بها تصوير مصر الجديدة في عهدها الفاروقي المبارك تصويراً دقيقاً يجلوها في أوضاعها المختلفة من اجتماعية واقتصادية وفكرية ودينية وأدبية وفنية. وقد آثرت أن تكل هذا التصوير لمن كان لهم يد في التجديد والإحياء من المصريين وبعض الأجانب، فاستكتبت أكثر من أربعين رجلاً من سراة الكاتبين والمفكرين ونشرت آراءهم وصورهم في هذا الكتاب الأنيق بعد أن زينت صدره بطاقة من الشعر الفرنسي الرفيع قدمتها إلى صاحبي الجلالة الملك والملكة. وهذا الكتاب كسابقه دعاية وتعريف لمصر الناهضة. وهما فوق ذلك نموذج نريد من الفن العالي في التحرير والتصوير والطبع، ودليل جديد على اعتراف الأدب الفرنسي بالجميل لوادي النيل.
حول الأزهر
أعيذ الرسالة وصاحبها أن يكونا كأصحاب صحف أخرى عرفت بأنها تنشر الخطأ في الدين ولا تنشر الصواب وتنشر الطعن ولا تنشر الرد وأعيذها مرة أخرى وقد تعرضت(358/69)
لنشر بحوث دينية أو علمية أن يفوتها فيما تنشر مغمز من قول أو فلتة من لسان ولا تعلق عليه كما هو شأن الصحف الراقية بعلمها الجمّ ومعرفتها القيمة، فهي غنية بمعرفتها عن اتخاذ أخصائيين لها في هذه الشئون
جاء في كلمة الأستاذ المدني حول الأزهر أن مدح أحد الشيوخ لقوله إن الشيطان إنما هو قوة الشر المنبثة في العالم وأخذ يدبج لهذا الشيخ الثناء، ويكيل له الإعجاب، وينتقد الذين انتقدوه في القول وحمل عليهم وقال كان من حق الأزهريين جميعاً أن يقابلوا هذا الرأي العجيب الذي يوافق الدين والعلم الحديث بالإعجاب إلى آخر ما قال من لون من القول كان الأولى بمن يكتب النزوع عن مثله في التحدث عن الفريقين
ومن الأسف أن الأستاذ المدني وصاحبه إن كان لا زال مصمماً على ما قال مخطئان كل الخطأ في الدين وفي العلم الحديث معاً. وما العلم الحديث ومسائل لا تعرف إلا عن الوحي؟
ذلك لأن الجن والشياطين والملائكة والجنة والنار حقائق إسلامية لا تعرف إلا من طريق الوحي، وليست مجالاً للرأي ولا للعلم الحديث في شئ، ولا هي ضارة بالعلم الحديث في شئ أيضاً، فهمها العرب الذين نزل القرآن الكريم بلسانهم مؤمنهم وكافرهم كما عناها القرآن وأرادها. وهذه أوليات مسلمة في الإسلام في قسم الغيب الذي يجب الإيمان به كما جاء وليس للبحث العلمي إليه من سبيل، ومنها الإيمان بالبعث والحشر والنشر وصورة ما تكون عليه تلك الشئون، ولا يطلب في ثبوت ذلك إلا صحة الدليل النقلي من كتاب أو سنة صحيحة. فالتحكك بخلق جدل وخلافات دينية في موضوعات دينية ليست موضع جدل، هو فضول من القول وشغل للقراء بغير ما يليق بالكاتب الأمين أن يشغلهم به
وأولى بمن يتكلم باسم الدين في الناس أني شغلهم بالنواحي العملية منه ويبعدهم عن الجدليات، لأن الدين نفسه ينهى عن الجدل والمنازعات كما ينهي عن المنكرات. وفي النواحي العملية الإسلامية ما يشغل ألف كاتب وكاتب أعماراً طويلة، لأن هداية الناس وجملهم على العمل بالدين في شئونهم اليومية والاجتماعية، وتحليهم بأخلاقه واحترامهم لمبادئه وآدابه، وخصوصاً بعد أن رأوا إله الحضارة الحديثة والمدنية الجافة قد سقط، وأنه آن الأوان لسلطان الإسلام الحق ومبادئه العادلة أن يسود وأن يقود العالم مرة أخرى مديدة إلى حياة السعادة والهناءة والأمن على النفوس، وأن ينقذهم من دبلوماسيات هذا العصر(358/70)
ويكبح جماح العلم الحديث فلا يستعمل إلا في خير الإنسانية، فلا بد للعلم الحديث من دين يكبح جماحه، ولا بد للدول من أن تعترف بالإله الحق الذي سخر لهم الطبيعة وأنزل لهم الشريعة وأنذرهم من آلاف السنين في كتبه المقدسة بما صدقه التاريخ وبما هو حاصل اليوم وواقع على رؤوسهم
فعلى رجال الدين الإسلامي أن يثبتوا في مراكزهم ولا يتزحزحوا عنه بالتأويل والتحوير إرضاء لعدوهم فالعاقبة لهم إن كانوا مؤمنين حقاً بدينهم. . . والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
محمد عبد السلام القباني
المدرس بكلية الشريعة
تعقيب على مآخذ
1 - ذكر الأستاذ القطان كلاماً حول لفظي تعبان وظمآن فقال إن تعبان تمنع من الصرف، لأن مؤنثه تعبانة ولا يمنع من الصرف إلا ما كان مؤنثه على وزن فعلى وكان زائد الألف والنون. نعم إن القاعدة مسلمة، ولكن هل وردت كلمة تعبان في كتب اللغة أم هي كلمة عامية والعربي غيرها. أجمع أساس البلاغة وتاج اللغة والقاموس وشرحه وأقرب الموارد واللسان والصحاح على أنه يقال: هو تعب ومتعب ولم يقولوا تعبان. إلا أن المنجد ذكر هو تعب وتعبان، ولا ندري من أي مصدر استقاها. من هذا يتبين لنا أن تعبان ساقطة من أساسها على الأصح لأنها لو كانت موجودة في اللغة لذكرها الأشموني مع الأربعة عشر لفظاً التي مؤنثها فعلانة وإذن نأخذها على الدكتور زكي مبارك غلطة لغوية. أما ظمآن فقد ورد في القاموس ظمآن وظمآنة، وفي أقرب الموارد هي ظمأى وظمآنة. أما في اللسان وتاج اللغة والصحاح فهي ظمأى، وما دامت قد وردت ظمآنة في بعض أمهات الكتب يصح قول الدكتور محمد عوض لم يزل ظمآناً.
2 - الأبيات الحائرة: يذكر الأديب علي محمد حسن أن كتب النحو والشواهد أجمعت على أن الأبيات الحائرة لمالك بن الريب، ولا أدري أين هذه الكتب التي أجمعت على أنها له؛ فإن كتب النحو والشواهد أجمعت على أنها للفرزدق. ففي حاشية الصبان على الأشموني(358/71)
نقلاً عن التصريح، وفي فرائد القلائد في مختصر الشواهد لمحمود العيني أنها للفرزدق. وقد ارتضى ذلك الأستاذ أحمد زكي صفوت في كتابه الكامل في النحو، والأستاذ الشيخ محمد محي الدين في شرحه على ابن عقيل. أما في شرحه على الأشموني فقد ذكر ما ذكره العيني ثم أورد رواية ياقوت في معجم البلدان. والذي يرجح أنها للفرزدق عدة أمور (1) إن ما ذكره أبن قتيبة في الشعر والشعراء، والمبرد في الكامل من أنها لمالك بن الريب خطأ محض، إذ أن مالكاً مات في زمن معاوية ولم يدرك الحجاج (2) شبه الإجماع من كتب النحو والشواهد على أنها للفرزدق (3) إن رواية أبي تمام أقوى من رواية ياقوت التي تنسبها للبرج بن خنزير، إذ أن أبا تمام توفي سنة 231هـ، فهو أقرب إلى الفرزدق المتوفى سنة 114هـ من ياقوت المتوفى سنة 626هـ. ولم نجد كتاباً آخر ينسبها للبرج غير ياقوت (4) إن البيتين الآتيين من القصيدة نفسها:
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف ... كما كان عبداً من عبيد إياد
زمان هو العبد المقر بذله ... يراوح صبيان القرى ويغادي
بالفرزدق ألصق لما له من اعتزاز وتيه وذكر للآباء والأجداد، ولكثرة مناوشاته مع الولاة بل مع الخليفة أحياناً.
3 - الآخر والثاني: يأخذ الأستاذ م. م. إبراهيم على الأستاذ أحمد أمين قوله: قال أحدنا: جزءاً من العقد الفريد، وآخر: جزءاً من الأغاني وثالث الخ. . . ثم يقول: والمعروف في اللغة أنه لا يسوغ أن تقول آخر إلا إذا كان هو الأخير فلا تقفي بعد ذلك بأعداد أخرى الخ. . وأظن الأستاذ قد خلط بين آخر بكسر الخاء ضد أول وآخَر بفتحها بمعنى غير أو واحد. كما أحسب أنه لم يعرف أنها ربيع الآخر وجمادي الآخرة بكسر الخاء فيهما، ولو كانت بالفتح لقالوا: جمادي الآخرى مؤنث الآخر بالفتح لأن الآخرة مؤنث الآخر بالكسر. فاللغة إذن لا تمنع أن يقال جاء رجل وغيره وثالث ورابع.
عبد الستار أحمد فراج(358/72)
القصص
عاصفة القدر
للمرحوم مصطفى صادق الرافعي
(عثر في أوراق المرحوم الرافعي على أقصوصة نحسبها لم تنشر، فوجدنا من حسن المناسبة أن ننشرها في يوم ذكراه)
على شاطئ النيل في إقليم (الغربية) من هذا البر قرية ليس فيها من جبل ولكن روح الجبل في رجل من أهلها، فإذا أنت اعتبرته بالرجال قوة وضعفاً رأيته ينهض فيهم بمنكبيه نهضة الجبل فيما حوله، وهو بطل القرية ولواء كل معركة تنشب فيها بين فتيانها وبين فتيان القرى المتناثرة حولها، ولا تزال هذه المعارك بين شبان القرى كأنها من حركة الدم الحر الفاتح المتوارث فيهم من أجيال بعيدة ينحدر من جيل إلى جيل وفيه تلك القطرات الثائرة التي كانت تغلي وتفور، وهي كعهدها لا تزال تفور وتغلي، ويلقبون هذا الرجل الشديد (بالجمل) لما يعرفونه من جسامة خلقه وصبره على الشدائد واحتماله فيها وكونه مع ذلك سلس القياد سليم الفطرة رقيق الطبع، على أنه أبطش ذي يدين إن ثار ثائره، وله إيمان قوي يستمسك به كما يتماسك الجبل بعنصره الصخري، إلا أنه يخلطه ببعض الخرافات؛ إذ لا بد له من بعض الجرائم الشريفة التي يحمل عليها فرط القوة والمروءة في مثله مع مثله. وليس في تلك القرية من بحر غير أن فيها شاباً أعنف طيشاً وعتواً من الموجة على بحرها في يوم ريح عاتية، حلو المنظر لكنه مر الطعم، صافي الوجه لكن له غوراً بعيداً من الدهاء والخبث، وهو ابن العمدة البلدة وواحد أبويه والوارث من دنياهما العريضة يبسط يديه على خمسمائة فدان، وقد أفسدته النعمة، وأهانته عزته على أهله، ولو اجتمعت حسنتان لتخرج منهما سيئة من السيئات بأسلوب من الأساليب لما وسعها إلا أسلوب نشأته من أبويه الطيبين، تعلم وهو يعرف أنه لا حاجة به إلى، فجعلت تلفظه المدارس واحدة بعد واحدة كأنه نواة ثمرة إنسانية، فإذا قيل في ذلك قال إن خمسمائة فدان لا تسعها مدرسة. . . وذهب إلى فرنسا يطلب العلم الذي استعصى عليه مصر، فأرهف ذلك العلم. . . خياله وصقل حسه، ورجع من باريس رقيق الحاشية خنثاً متظرفاً لا يصلح شرقياً ولا غربياً.
. . . وليس في تلك القرية غابة كن فيها عذراء تلتف من جسمها في رداء الجمال الطبيعي(358/73)
الرائع، ولها نفس أشد وعورة مما تنطوي الغابة عليه، ففي ظاهرها الرونق الذي يفتن فيجذب إليها، وفي باطنها القوة التي تلتوي فتدفع عنها؛ وهي ابنة عم (الجمل) واسمها (خضراء)؛ وكأن فيها زهو خضرة الربيع، ولم تكن تعشق إلا القوة، فما يزيِّن لها ن الرجال إلا ابن عمها، وهي شديدة الإعجاب به وإنما إعجاب المرأة برجل من الرجال مفتاح من مفاتيح قلبها
وكانت (خضراء) جاهلة كنساء القرى، بيد أنها تلميذة بارعة لطبيعة التي نشأت فيها وزاولت أعمالها، فهي بذلك أقوى نفساً وأشد مراساً من الفتيات المتعلمات؛ إذ اتخذت شكلاً ثابتاً من أشكال الحياة، والحياة هي صنعتها هذه الصنعة وأقامتها على هذه الهيئة على حين أن المتعلمات يمضين أيام النشأة وسن الغريزة في التلقي عن الألفاظ والكتب، وفي توهم الصور المختلفة للاجتماع دون مباشرتها، وفي توقي أعمال الحياة بدلاً من مخالطتها، فيؤول ذلك منهن إلى قوة في التخيل قلما ترضى الحقيقة الإنسانية المؤلمة حين تصادمها يوماً، وتتم الواحدة منهن ولكن باعتبار أنها تمت تلميذة للمدرسة، لا امرأة للحياة بما فيها مما يعجب وما لا يعجب
وكانت خضراء أشبه بدودة النهار تفتح أجفانها على أشعة الفجر كل يوم، ولا تزال نهارها في دأب وعمل، فنفي ذلك عن أخلاقها ما يجلبه السكون من الخمول والميل إلى العبث والدعابة، وحصلت لها من الحياة حقيقة عرفت منها أن المرأة عامل من أكبر العوامل في النظام الإنساني عليه أن يصبر على الكد والتعب إذا أراد أن يظهر بطبيعته الحقيقة لا بطبيعته المزورة المصنوعة؛ ورأت الرجل يستأثر بجلائل الأعمال ولا يترك للمرأة إلا كما يترك عقرب الساعات لعقرب الثواني في الرقعة التي تجمعهما، فهذا الصغير لا يبرح يضطرب في (دائرته الضيقة) يهتز من جزء إلى جزء، حتى إذا أتم الدقيقة في ستين هزة كاملة ذهب الأول بفضلها كلها وخطأ بها خطوة واحدة. ثم يعود المستضعف المسكين إلى مثل عمله، ولا يزال هذا دأبهما وإن أكثرهما عملاً وتعباً هو أقلهما قيمة وظهوراً. ولكن هذا الضعيف المغبون لم ينله ما ناله إلا من كونه هو وحده الذي بني في هذا النظام على فضيلة الصبر والدقة ليكون أساساً للآخر. فعرفت (خضراء) كيف تقيد طبيعتها من تلقاء نفسها وتقرها على الصبر والرضا والسكون إلى حظها الطبيعي والاغتباط به، إذا كان(358/74)
فضل الرجل على المرأة ليس في كونه أكثر منها فضلاً الرجل على المرأة في كونه أكثر منها فضلاً أو أسباب فضل، بل في كونها هي أكثر منه حباً وتسامحاً وصبراً وإيثاراً؛ ففضائلها لحقيقة هي التي جعلته الأفضل، كما تجوع الأم لتطعم ابنها
ورآها ابن العمدة، ولما تمض أيام على رجوعه من أوربا، وقد عبث هناك بضع سنين، وكان عهده بالفتاة صغيرة، فوثبت إلى نفسه في وثبة واحدة، ورأى شباباً وجمالاً وروعة زينتها في قلبه وسولت له مطمعاً من المطامع وجعلته يرى ما يرى بمعنى ويفهم منه ما يفهم بمعنى غيره
وكانت حين رآها واقفة على النيل تملأ جرتها مع النساء من نوعها وهن يتعابثن ويتضاحكن، كأن لخصب الأرض في أرواحهن أثراً بادياً، فإذا ما أقبلن على النهر لشأن من شؤونهن تندت روح الماء على ذلك الأثر فاهتز واهتزت المرأة به؛ فإن كانت ذات مسحة من جمال رأيت لها رفيفاً كرفيف الزهرة حين يمسحها الندى، وذهبت لتموج في جسمها، وقد حسرت عن ذراعيها، ولمس الماء دمها الجداب، فأرسل فيه تياراً من العافية والنشاط يتصل منها بقلب من يراها إن هو كان شاعراً يحس؛ فإن كانت روح الرجل ظمأى ورأى المرأة على هذه الهيئة، فما أحبه أن يشرب منها بعينيه شرباً يجد له في قلبه نشوة كنشوة الخمر. . . وكذلك وقعت الفتاة من نفس هذا الفتى، فزينها له الخبث الذي فيه أضعاف ما زينها له الجمال الذي فيها، وقذفها القدر إلى قلبه ليخرج من هذا القلب تاريخ جريمة، فوقف يتأملها بعين أحد من آلة التصوير لا تفوتها حركة، وسلط عليها فكرة وذوقه، وأيقظ لها في نفسه المعاني الراقدة، فنصبت في قلبه عدة تماثيل الجمال تجسّدت في كل واحد منها على شكل كأنما أفرغت فيه إفراغاً
وكانت نفس ابن العمدة من النفوس الخيالية المتوثبة، إذ قامت من نشأتها أن تطلب فتجاب، وتأمر فتطاع، وتشتهي فتجد، وكأنهما خلق إلا ليستعبد قلبي والديه، وكانا ساذجين لا يعرفان من علم التربية إلا أن للحكومة مدارس للتربية، وموسرين لا يفهمان من معنى الحاجة في هذه الدنيا إلا أنها الحاجة إلى المال، ومنقطعين من النسل إلا منه، فكأنه لم يولد لهما بل هما قد ولدا له. . . فله الأمر عليهما من كونه لا أمر لهما عليه، وبذلك أسرفا له من فضائل الرقة والحنان والإشفاق وما إليها، وهي في نفسها فضائل ولكن متى أسرف بها(358/75)
الآباء على أولادهم لم تنشئ في أولادهم إلا ما يكون من أضدادها، كالشجر يفرط عليه الري فلا يحدث فيه إلا اليبس والذوى، وإنما أنت تسقيه الموت ما دمت ترويه بمقدار من هواك لا بمقدار حاجته
ونشأ الفتى في أحوال اجتماعية مختلفة جعلت من أخص طباعه تمويه نفسه على الناس، والتباهي بالغنى والتنبُّل بالأصدقاء. والحاشية من وزرائه وعماله، والتهيؤ بالثياب والأزياء، فانصرف باطنه إلى تجميل ظاهره، وردَّ ظاهره على باطنه بالشهوات والدنايا وأعانه على ذلك أنه جميل فاتن خلقت صورته (للصفحة الحساسة) من قلوب النساء. وذلك ملك عظيم لم يكن أبوه الرجل الطيب منه إلا كما يكون وزير مالية الدولة. . . ولما أرسل إلى باريس وقع منها في بلد عجيب كأنه خيال متخيل، لا يؤمه رجل في الدنيا من كامل أو ناقص، وعالم أو جاهل، وشريف أو ساقط، إلا رأى فيه ما يملأ كل مداخل نفسه ومخارجها، فلو قامت مدينة من أحلام النفوس الإنسانية في خيرها وشرها، وطهرها وفجورها، واختلالها ونظمها، لكانت هي باريس. وانقطع الشاب هناك إلى نفسه وإلى صور نفسه من أصدقاء السوء، فلا أهل فيلزموه الفضيلة ولا إخوان فيردوه إلى الرأي، ولا خلق متين فيعتصم به، ولا نفس مرة فيفئ إليها ولا فقر. . . فيحد له حدوداً في الشهوات يقف عندها. وما هو إلا خيال متوقد ومزاج مشبوب وتربية مدللة وطبع جرئ ومال يمر في إنفاقه، ومن ورائه أب غني مخدوع كأنه في يد أبنه كرة الخيط: كلما جذب منها مدت له مدا، ثم ما هنالك من فنون الجمال ومتع اللذات وأسباب اللهو مما يتناهى إليه فساد الفاسد وما هو في ذاته كأنه عقوبة مستأصلة للأخلاق الطبية فكان الشيطان الباريسيُّ. . . من هذا المسكين سمعه وبصرة ورجله ويده يوجهه حيث شاء. وبالجملة فقد ذهب ليدرس فدرس ما شاء ورجع أستاذاً في كل علوم النفس المختلة الطائشة وفنونها، وأضاف إلى هذه وتلك كلمات يلوي بها لسانه من علوم وأقاويل ليس فيها إلا ما يدل الحاذق على أن هذا الشاب لم يفلح قط في مدرسة فلما وقعت (خضراء) منه ذلك الموقع وأخذت مأخذها في نفسه، اعتدها نزوة من نزواته، فما بمثله أن يحب مثلها ولا هي كفايته في شئ، إلا أن تكون لهو ساعة من ساعاته، أو حادثة تجري فيها حال من أحواله الغرامية. وحسبها امرأة ليس لقلبها أبواب تمتنع على مثله، فقدر أن غناه وفقرها يقتلعان باباً، وعلمه وجهلها(358/76)
يحطمان باباً آخر، وجماله وحده يضع ما يبقى من الأقفال عما بقي من الأبواب، وكان يحسب أن جمال المرأة من المرأة كالحلية من بائعها فكل من ملك ثمنها فليس بينه وبينها إلا هذا الثمن؛ ولكن الأيام جعلت تأتي وتمر وهو لا يزيد على أن يعرض لها وهي ترميه من صدورها كل يوم بداعية من دواعي الهوى، وكان لا يجد نفسه قوة أن يزيدها على النظر شيئاً، وترك لوجهه وثيابه ونظراته وغناه أن تصل بين قلبه وقلبها بسبب، فلم ينل طائلاً وتمادي في حبه واستولت عليه فكرة غمرته بهذه المرأة، أما هي فأشعرتها غريزتها بما في قلبه منها وكانت مسماة، لأبن عمها، فكانت تتحاشى هذا الشاب وتحذره حذراً شديداً، وتتوهم أن الناس يحصون عليها النظرة والالتفاتة ويحصون عليه من مثلهما، ووقع في نفسها أن لهذا الرجل شأناً غير شأن الرجال الآخرين، فهم لا يستطيعون معها حيلة وهو يستطيعها بغناه ومنزلته
وكان للرجل خادم داهية قد تخرج في مجالس القضاء. . . من كثرة ما حكم عليه في تزوير واحتيال وغش وادعاء وإنكار ونحوها، وقد استخلصه لنفسه واتخذه مؤنسا ورفيقاً وجعله دسيساً إلى شهواته السافلة، كان يسميه فيما بينه (إبليس) فلما أراد أن يرميها به قال يا سيدي هذه قضية احتيال عليها، فإذا دخل ابن عمها خصماً في الدعوى كانت قضية احتيال على عمري أنا! قال: ويحك أيها الأبله! فأين دهاؤك ومكرك؟ وإنما أرسلك إلى امرأة فقيرة عيشها كفافها، وأنت تعدها وتمنيها وتبذل عني ماشئت، ومتى أطعمتها في المال فإن هذا المال سيوجد ملا يوجَد في مكان فيشرى ما لا يشرى ويبيع ما لا يباع قال (إبليس): نعم يا سيدي وكذلك هو، ولكن خوف العار يطرد حب المال. قال: فأنت إذن لا تقبل. قال: ولا أرفض. . .
قال الشاب: قاتلك الله لقد فهمت سأشتريها منك بثمنين أحدهما لك والآخر لها، ولكن أخبرني كيف تصنع معها ومن أين تبلغ إليها؟ قال (إبليس): لما كنت بالسجن عرفت لصاً فاتكاً أعيا قومه خبثاً وشراً، وهذا السجن يحسبه الناس عقاباً وردعاً ومنهاة عن الإثم على أنه المدرسة التي تنشئها الحكومة بنفسها لتلقِّي علوم الجريمة من كبار أساتذتها، إذ لا يمكن أن يجتمع كبارهم في مكان من الأرض إلا فيه. فالسجن طريقة من طرق حل المشكلة الإنسانية ولكنه هو نفسه يحدث للإنسانية مشكلة لا تحل. قال الفتى: ويحك! أين يذهب(358/77)
بك؟ إنما أرسلك إلى المرأة لا إلى السجن. قال: نعم ترسلني أنت إليها ولكن لا يعلم إلا الله أين يرسلني أبن عمها، إلى السجن أم إلى المستشفى. . . فاسمع يا سيدي، كان من نصائح أستاذي في ذلك السجن أن الحيلة على رجل ينبغي لإحكامها أن يكون في بعض أسبابها امرأة، والكيد لامرأة يجب أن يكون في بعض وسائله رجل. . . صه. انظر! انظر! فالتفت الشاب فإذا (الجمل) مقبل يتكفأ في مشيته، وكان غليظاً، فإذا خطأ شدَّ على الأرض بقدميه، وتكدس بعضه في بعض، وكان منطلقاً وقتئذ إلى بعض مذاهبه، فلما حاذاهما قال السلام عليكم. فردا جميعاً؛ ورمى ابنَ العمدة بنظرة ثم مضى لوجهه. فلم يجاوز غير بعيد حتى بلغه صوت الشاب يناديه: يا فلان! فانكفأ إليه: فقال له الشاب: لقد بعُد عهدك بالقوة على ما أرى. قال فما ذاك؟ قال: أما بلغك أن فلاناً في هذه القرية التي تجاورنا، سيقترن بزوجته بعد أيام. وأنت تعرف الموقعة التي كانت بين بلدنا وتلك البلدة يوم عرس فلان في السنة الماضية، وكيف اندفعوا على أهل بلدنا وحطموا فيهم تلك الحطمة الشديدة، ولولا أنت أدركتهم ورميتهم بنفسك حتى دفعتهم عن الناس وسقتهم أمامك سوق النعاج، لكانت بلدنا اليوم أذل البلاد، ولاستطالوا علينا بأنهم غلبونا. ولقد حدثني صاحبي هذا كيف تلقيت بهراوتك يومئذ خمساً وعشرين هراوة فأطرتها كلها في جولتك وهزمت أصحابها بعد أن أحاطوا بك وتكابُّواعليك؛ فأنت فخر بلدنا وصاحب زعامتها، وما أرى لك إلا أن تنتهز هذه الفرصة وتسرع الوثبة إليهم برجالك فتجزيهم في أرضهم صنيعاً بصنيع مثله
فهز الجمل كتفيه العريضتين وقال: بل سأنتظرهم في يوم عرسي بابنة عمي. . . قال الشاب: أبلغت؟ ما أرى فإنك لتخافهم! قال: لا أخافهم ولكن أخاف الحكومة أن تؤخر يوم زواجي. . . سنة أو سنتين. قال الفتى: فإن عملك هذا لا يشد من نفوس رجالنا، ولا بد أن أولئك سينتظرونكم ويعدون لكم؛ فإذا لم تناجزوهم في بلدهم عدوها عليكم هزيمة من الهزائم وكأنهم ضربوكم بلا ضرب
قال الجمل: هم لا يعرفون معنى الضرب بلا ضرب لأنهم رجال، والذي يضرب بلا ضرب لا يكون رجلاً. . . والسلام عليكم. . . ثم انطلق. فلما أبعد قال الشاب: لقد بدأت الحرب ولابد لي أن أحطم هذا الفلاح اللعين، ولقد عرفت الآن من وجهه أن عينه عليّ، ولست أشك في أن بنت عمه لا تمتنع بقوتها بل بقوته، ولولا معرفتي أنه من انحطاط(358/78)
الغريزة كالوحش في الدفاع عن أنثاه لـ. . .
قال (إبليس): لقد تأملت القصة فرأيت أنه لا سبيل لك إلى الفتاة؛ فإذا هو وصل إلى امرأته قطعت أنت بهذه الخطوة نصف الطريق إليها. . . وستبلو هي من غلظته وخشونة طبعه ما يسهل لك أن تعلمها قيمة ظرفك ورقتك؛ وستجد من سوء معاملته وقبح تسلطه ما يفتح قلبها لمن يأتيها من قِبل الرفق واللين؛ وستصيب عنده من ضيق المعيشة وقلتها ويبسها ما يُفهمها معنى العيش الحلو الخضر الذي تعرضه عليها ثم أنه لابد مبتليها بغيرته العمياء بعد ما عرف من حبك إياها، والغيرة منك هي توجد بينهما دائماً ويتنبه المرأة إليك كلما كرهت من رجلها شيئاً لا ترضاه
ولم تكن إلا مدة يسيرة، حتى أهديت المرأة إلى زوجها، وإنما تعجل الزفاف ليأتي له أن ينصب يده القوية حجاباً بينهما وبين هذا المفتون، وليكتسب من القانون حقاً لم يكن من قبل إذا هو مد هذه اليد وعصر في قبضتها تلك الرقبة التي تتطلع إلى امرأته، ورأى الشاب أن هذه الحال لا تعتدل به وبخصمه معاً، وكانت الغيرة تأكل من قلبه أكلاً، وكان يعرض للمرأة كلما خرجت بمكتلها إلى السوق أو بجرتها إلى الماء، لأنه حينئذ يكون في الطريق الذي لا يملكه أحد. . . فكانت إذا رأته لم تزد على ما يكون منها إذا هي أبصرت حماراً يمد عينه إليها. فعمد إلى امرأة مغنية تزف العرائس، وهي التي زفت (الخضراء)، فأكرمها وأتحفها وسألها أن تسعفه ببعض ما تحتال به، وأن تكون سبيله إلى المرأة؛ وتحمل عليها (بإبليسه) حتى استوثق منها، فكانت تتحدث عنه أمام (خضراء)، وتستجرّ بذلك أن تلفتها إلى نعمته وجماله، ولكن المرأة أغلظت لها وسبتها وحذرتها أن تعود إلى مثل كلامها، قالت لها آخر ما قالت: وأعلمي أنني لو دُفعت إلى طريقين، وكان لابد من أحدهما، ثم كان أحدهما، حصاه الدنانير وهو الطريق العار، الآخر حصباؤه الجمر، ويفضي إلى الشرف إذن لتنزهت أن أدنس نعلي بالذهب ولنثرت لحم قدمي على الجمر نثراً.
وأما الحب فلا يبقى حباً أبداً، فإما فاز فبرد ورجع سلواً، وإما خاب فاضطرم وتحول إلى حقد ونقمة؛ وكذلك انفجر الشاب غيظاً، ووجد على الخيبة موجدة شديدة، وأخذ يدير رأيه، ففتقت له الحيلة أن يقتل الرجل الشهم بشهامته، والمرأة العفيفة بعفتها، فواطئ إبليسه على أن يدفع إلى تلك المغنية منديلاً من الحرير - عقد طرفه على دينار من الذهب - تلقيه في(358/79)
صندوق (خضراء) وتدسه في طي من أطواء ثيابها، فذهبت المرأة ومازالت (بخضراء) تستصلحها وتعتذر إليها حتى استلت ضغينة قلبها، ثم سألتها أن تأتيها (بالعيش والملح) لتصيب كلتاهما منه وتتحرم بحرمته، فلما نهضت تأتيها أسرعت الخبيثة إلى الصندوق فدست المنديل في أبعد مواضعه وأخفاها، وكان مندى بالعطر لينم على نفسه إذا لم ينم أحد عليه؛ ثم رجعت بما فعلت إلى الشاب فأطلق خادمه يهمس لبعض أصدقاء الجمل أنه رأى اليوم في يد (خضراء) ديناراً ذهباً على ندرة الذهب وعزته، فجعل هذا الدينار يطير من نفس إلى نفس بقوة الذهب الذي فيه والحب الذي أعطاه والجمال الذي أخذه، ثم انتهى إلى الجمل فكأنما حمله وطار به إلى داره كالمجنون، وقد حمى دمه الحر وجاش جأشه العنيف، ولم تكن امرأته في الدار، فنثر ما في الصندوق وما كادت تفعمه رائحة العطر حتى نفخ الشيطان به نفخة الغضب الكافر، ثم عثر على المنديل ورأى بصيص الدينار فدارت به الأرض وأيقن أن العار قد طرق بابه وأن الباب قد فتح له؛ ثم رد نفسه على مكروهها ورد معها كل شئ إلى موضعه، وتلفف رأيه على جريمتين وخرج وروحه تصرخ من ضربة بمنديل وهو الذي كانت تتهاوى عليه الضربات القاتلة تهشم منه ولا يتأوه
وذكر أن (حماته) أثنت من عهد قريب على أبن العمدة ووصفته بالرقة والغنى، فوجه إليها أن تأتي فتبيت عند امرأته لأنه على سفر، وكان كالأعمى في ضلالته لا يرى الأشياء إلا كما يتخيلها في نفسه دون ما هي في نفسها، فسألته زوجته: أين أزمعت وما تبغي من سفرك وكم تلبث عنا؟ فكأنه سمعها تقول: ارحل إلى مكان بعيد وغب عنا زمناً طويلاً فبنا إلى غيابك حاجة شديدة، وكاد يبطش بها ولكنه كاتم صدره اللوعة وذكر اسم جهة بعيدة ومضى ولانكسار يعرف فيه
فزع الناس بعد أيام في جوف الليل فإذا بيت الجمل يحترق من أرضه وسمائه واقتحموه فإذا المرأة وأمها فحمتان، وانطلقت أسرار الألسنة وقبض على الرجل في بلدة أخرى، وتولى ابن العمدة توجيه البينة عليه، وشهد الشهود على الدينار، وشهد الدينار على النار، وأنكر (الجمل) ولم يقصر في إقامة الحجة، ودافع عن امرأته وبالغ في أمانتها وعفتها، وشهد أنه لا يعلم عليها من سوء وأنها أطهر النساء وأبرهن، ثم كان الحكم أن قضى عليه بالموت شنقاً(358/80)
فلما كان يوم إنفاذ الحكم سئل الرجل: هل من شئ تريده؟ فطلب دخينة فقدمها له قيم السجن فأشعلها ونفخ من دخانها نفخة ثم أخذ يتكلم وعمره يفنى مع الدخينة نفساً في نفس، وعاد هذا الدخان المتطاير كأنه سحاب يسبح فيه الوحي بين حدود الدنيا وحدود الآخرة. قال المسكين: لم أتعلم، ولو تعلمت ما وقفت هنا، ولكن ربما كنت خرجت نذلاً كبعض المتعلمين الذين يعيشون أشرافاً وفيهم أرواح القتلة واللصوص.
لم أقر لأحد بجريمتي خشية أن تذكر كلمة العار مع أسمي، وآثرت أن أموت بالشنق على أن أحيا ويموت اسمي بالعار
ولكني سأعترف الآن أمامكم، وأنتم الساعة على قبري فكونوا كالملائكة: لا يشهدون بما عرفوا إلا عند الله وحده
أعترف أني قتلت زوجتي وأمها، وقد تقولون إنه ليس من عمل الرجل أن يقتل امرأة فضلاً عن اثنتين. إنني رجل سأشنق؛ أما النساء فلا يشنقن وإنما يُرسلن الرجال إلى المشنقة. . لم أر أبي إذ تركني طفلاً، ولكن يقال إنه كان رجلاً، فأنا رجل وأبن رجل ولم يذلني رجل قط؛ ولكن لو خلق الله قوة مائة جبار في جسم رجل واحد لأذلته امرأة
إنه ليس من شيمة الرجل أن يقتل النساء؛ ولكن المرأة تذل الرجل ذلاً يهون عليه قتل نفسه فكيف لا يهوِّن عليه قتلها؟ علموا المتعلمين ليصيروا في الشرف والأمانة والعفة كرجل جاهل مثلي، لا يرى للحياة كلها قيمة إذا كان فيها معنى العار، ويقدم عنقه للمشنقة حتى لا ينكس رأسه للذل
أصلحوا القانون الذي يحكم بالموت شنقاً ويزهق الأرواح الكبيرة في حين تغلبه الأرواح الصغيرة بحيلها الدنيئة
ومع ذلك سألقي الله وهو يعلم سريرتي إن كنت بريئاً أو مجرماً
قيم السجن: ستلقاه طاهراً
السجين: أريتم مني خلق سوء. . . .؟ أتعتقد علي ذنباً مدة سجني؟
القيم: كلنا راضون عنك
السجين: هذا مثل من أخلاقي والحمد الله على أن آخر كلمة أسمعها من إنسان على الأرض كلمة الرضا(358/81)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمداً رسول الله
نظرت ريشة من زغب العصفور إلى النجوم فحسبتها ريشاً متناثراً، فامتطت العاصفة وقالت: إلى السماء، ودارت بها العاصفة ما شاء الله أن تدور ثم رمت بها حيث وقعت لم تبال في موضع نفع أو ضير. فأقبلت الريشة تتسخط وتزعم أنها فوضى ثائرة لا حكمة في خلقه، وأن الرياح بعثرة في نظام العالم. . . وكان إلى جانبها شجرة تهتز ولا تطير. . . فلما وعت مقالتها أقبلت عليها فقالت: أيتها الريشة! إن الرياح لا تكون بعثرة في نظام العالم إلا إذا كان العالم ريشاً كله
مصطفى صادق الرافعي
-(358/82)
الشيطان ذو الأجنحة
إن لسكان جزيرة سيلان أسطورة مقدسة تخبر بالشعر عن تاريخ سيلان مدة تزيد عن أربعة وعشرين جيلاً. ويستنتج من هذه الأسطورة أن الجزيرة التي زارها بوذا مراراً كي ينشر فيها تعاليمه بنفسه مرت بعهود من الرفاهية لم تعرف مثلها إلى لك الوقت، ومن المحتمل أن يكون سكانها اكثر عدداً من الآن، فآثار الهياكل الكثيرة والبحيرات الاصطناعية التي أهملوها لا تزال برهاناً على ذلك.
ولا داعي للبحث بعيداً جداً عن أسباب نقص عدد السكان فالجزيرة المباركة قد اجتاحها مراراً المرض الوبائي بقساوة فإن أهالي الجزيرة وكذلك أيضاً البرتغاليين الذين احتلوها في الجيل السادس عشر والهولانديين الذين طردوا هؤلاء وأخيراً الإنجليز الذين ملكوا بعد ذلك سيلان قد قاسوا كثيراً من تفشي هذا الوباء، وقد نشر الهولانديون أيضاً سنة 1642 خريطة عن سيلان وقد تركت مناطق كاملة بيضاء مع أنه لم يكن المقصود من ذلك أنها أراض مجهولة إذ كان الإنسان يقرأ على هذه البقع البيضاء هذه الكلمات التي لا تدع مجالاً للشك جهات أفقرها المرض.
ففي سنة 238 مسيحية على عهد (دهامابو) قد اجتاحت الحميات والأمراض هذه المناطق وأهلكت السكان على ما يؤكده الرواة بدرجة، أنهم عجزوا عن أن يزرعوا الأرز وقد نتج عن ذلك مجاعة طويلة المدى فنسوا هذه البلية إلى حين الشيطان ذي الجوانح وسعوا إلى لتجنبه بواسطة الرقص حسب الطقوس الدينية ولكن الرواة يؤكدون أن سكان سيلان لم يجدوا السعادة مع ذلك طالما أن الشيطان ذو الأجنحة السوداء لم يقتل بعد.
وقد قامت الحكومة الإنجليزية بمحاربة بعوض الملاريا بنشاط كبير في سيلان يمكن الإنسان أن يأمن الآن بعد ثمانية عشر جيلاً بأن الساعة قد حانت أخيراً كي يرى نهاية حكم الشيطان ذي الجوانح كما يقول الرواة. وقد بنوا أيضاً مستشفيات كثيرة. وفي بحر هذه السنوات الأخيرة عندما عمت الملاريا بشكل وبائي قد وزعوا مراراً ألوف الجرامات من الكينا خلال ستة أشهر إما على سبيل الوقاية وإما على سبيل التداوي، والطريقة التي تصفها لجنة الملاريا في جمعية الأمم تلخص في تطبيق العلاج السريع بالكينا أي مقدار جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام يومياً مدة خمسة أو سبعة أيام وهي سلاح قوي لشعب يجند بأكمله ضد الشيطان ذي الأجنحة وتوصى على سبيل الوقاية بأخذ 450(358/83)
ملجرام من الكينا يومياً طول مدة موسم الحميات.(358/84)
العدد 359 - بتاريخ: 20 - 05 - 1940(/)
مصطفى كامل
بعد ثلث قرن
بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله
كل شيء في مصر ينسى بعد حين كما قال شوقي وليست مصر بدعاً من الأمم في ذلك. فإن الرجل أو العمل لا ينطبع ذكره في الذهن إلا إذا كان ندى الصوت قوي الأثر. ومصر في عهدها القريب إنما كانت تجري في خلاء من التاريخ لا يكاد يظهر فيه إلا فقاعة تنفجر أو ومضة تنطفئ. وليس لهذه أو تلك من الأثر ما يملأ الشعور ويشغل الذاكرة
على أن السائر في الصحراء مهما ضعف وعيه واشتدت غفلته لا بد أن يذكر المنار الذي دله على الطريق، والواحة التي أعادته إلى الحياة. وهيهات أن تعرض القلوب عن ذكر محمد علي ومصطفى كامل وسعد. وإذا جاز للزمن العابث أن ينال من رجل الدولة أو بطل الثورة فإن مصطفى كاملاً يظل على تراخي الحقب أنوط بالقلب وأعلق بالذاكرة. ذلك لأن زعامته كانت أشبه بالنبوة في تهيئة الفطرة وثبات العقيدة وعصمة النفس واختيار القدر. وهو الزعيم الوحيد الذي لم تلده الظروف، ولم تبعثه المطامع: لم تلده الظروف لأن مصر كانت في إبان حداثته قد استأمنت إلى الجهل والاحتلال فنامت في ظلها نومة الضاجع الأبله. وكانت دعوة الأفغاني قد جمعت من ومضات الأذهان النيرة شعلة أضاءت جانب الطريق فسلكه العرابيون؛ ولكنهم لم يكادوا يبعدون حتى أدركهم الظلام في التل الكبير. فلا يصح في العقل إذن أن نقول إن مصطفى كان أثراً للأفغاني وعرابي، كما نقول أن سعداً بعد عبقريته كان أثراً لهؤلاء الثلاثة. إنما أرسل المصطفى على فترة من رسل الوطنية. وكان إرهاصة وهو في المدرسة الثانوية أن الوزير علي مبارك باشا زار مدرسته يوماً فسأله فيمن سأل من التلاميذ: ماذا اعتزم أن يعمل بعد الشهادة؟ فأجابه مصطفى اليافع في خطاب طويل: (إن أرفع الرجال شأناً من يحرر بلاده. وسأكون أنا ذلك المحرر الذي يكتب ويخطب حتى ترفع الأغلال عن عنق مصر). وكان إرهاصه وهو في مدرسة الحقوق أن أنشأ مجلة سماها (المدرسة) أشرقت فيها نفسه الكريمة إشراقة النفس الزعيمة، فتهافت على ضوئه طلاب المدارس العليا يؤيدون دعوته ويرددون كلمته ويترسمون خطاه، حتى نال إجازة الحقوق ففرغ لرسالته وخلص لوطنه. وحينئذ رأيناه يكتب إلى أمه الروحية مدام(359/1)
جوليت آدم يقول: (إنني لا أزال صغيراً، ولكن لي آمالاً كباراً. أريد أن أوقظ في مصر الشيخة مصر الفتاة. هم يقولون أن وطني لا وجود له؛ وأنا أقول إنه موجود بدليل ما أشعر له في نفسي من الحب الشديد الذي سيتغلب على كل حب سواه سأنفق في سبيله كل قواي، وأفديه بشبابي، وأجعل حياتي وقفاً عليه. . .)
ثم اضطرمت في ذلك الجسد الناحل روح الله ففار فورة الجبارين، وثبت ثبات الرسل، وقام في وحدة النبي وإيمان الشهيد يجاهد الإشراك بالوطن والكفران بالأمة، ويقارع بالحجج الثائرة الملزمة طغيان المحتل، وأمته يومئذ علة العلل ودولة الدول!
ومصفى لم تبعثه المطامع، لأنه أدرك وهو في طراءة الشباب زعامة الأمة وثقة العرش ورضى الخلافة وخصومة المحتل، وكان في مقدوره إذا شاء أن يستغل هذه القوى العظيمة في سبيل الثراء والحكم، ولكنه زهد في ذلك كله زهادة الحكيم، فعاش للمبدأ والفكرة، ومات للقدرة والعبرة
وهل أدل على نزاهة مصطفى ونبل نفسه من نبوه على عباس وانحرافه عنه حين رآه يستيئس ويستكين بعد الاتفاق الودي الذي أبرم بين إنجلترا وفرنسا سنة 1904؟ لقد كان في مسايرة الخديوية ومياسرة الاحتلال ما شاء الطامع من جاه وألقاب وسطوة وثروة. ولكن مصطفى كان يريد أن يقود لا أن يسود، ويطلب أن يخدم لا أن يحكم. والزعيم الحق هو الذي يدافع عن أمته ولا يحاول أن يحكمها. لأنه متى حكمها أدركته حقارة الإنسان فاستطال وترفع وفاش وطاش حتى يصعب عليه أن يوفق بين رغائب نفسه وبين مطالب الناس!
وهكذا قضى الصدق في الجهاد والإخلاص للمبدأ على مصطفى العليل الواهن أن يحرك ساكن شعبه بوجيب قلبه، ويذكي خمود جيله بحرارة دمه، ويضيء ظلام وطنه بوميض روحه؛ ثم يموت رضوان الله عليه ميتة الأنبياء، لا (عمائر) تحجب سماء المدن، ولا (دوائر) تشغل أرض القرى
لو أن زعيمنا الخالد كان قد سعى ما سعى لينال كرسياً في (وزارة) أو مكتباً في (شركة) لما أقمنا له هذا التمثال بعد ثلث قرن؛ فإن الزعيم الذي يجعل همه السياسي أن ينتفخ لغدوده وجيبه لا يمكن أن يعيش في ذاكرة الناس هذا العمر. ولكن مصطفى عاش كأصغرنا وسعى كأقدرنا ومات كأفقرنا، فكان حقاً علينا أن نقيم تمثاله رمزاً للوطنية التي لا تتاجر،(359/2)
والوطني الذي لا يداجى، والزعيم الذي لا يخون
أحمد حسن الزيات(359/3)
الورق الأزرق
للأستاذ عباس محمود العقاد
إلى الورق!
إلى الورق مرة أخرى!
فلا وسيلة غيره على ما يظهر لحفظ النور ولو أطبق الديجور، وأحاط بالدور ظلام كظلام القبور
وقديماً عرف الناس الورق الذي يحفظ النور للعقول والسرائر وهاهم أولاء يعرفون الورق الذي يحفظ النور للعيون، حين يصبح النور خطراً من أكبر الأخطار
وهل كان النور قط إلا خطراً من أكبر الأخطار، وهدفاً للشياطين والفجار، وللجهلاء والأغرار، ولكل من يكره الإبصار، لأنه مخلوق لعالم العماية، غريب في عالم الأبصار؟!
من الذي ضربوه لأنه في الظلام؟ ومن الذي تركوه لأنه في النور؟
إن الذي في الظلام لآمن مستور
وأن الذي هو هدف الرماة في الحرب والسلم وفي الأرض والهواء وفي الغيبة والحضور، لهو الذي في النور في هذه العصور وفي جميع العصور
وما صنعت (وقاية المدنيين) في أيامنا هذه إلا أن كشفت السر (للجمهور)، وهو أغنى الأسرار عن الكشف وأحقها بالظهور.
والأمر هين بحمد الله: لفة من الورق الأزرق أو لفتان أو لفات ثلاث، والنور محفوظ لعينيك من وراء الحجرات، محجوب عن طيارات الخيال وطيارات الواقع. . . لا سمحت بها السماء، ولا اتسع لها الفضاء
وإني لأحمد الله على تجارب الوقاية، لأنها خليقة أن تحبب الاعتكاف إلى أكثر الناس، وإن كان بعض الناس ليخافون العزلة أشد من خوفهم أخطار التجارب والغارات
ونحن المصريين محتاجون إلى تجربة الاعتكاف، لأننا من أقل الأمم طاقة به وصبراً عليه. وما ظنك بمصري يمكث في بيته ثلاثة أيام لا يريمه ولا يبرم بمكثه فيه؟ ذلك في رأي نفسه شهيد أعجب في استشهاده من ماكسويني وصبره عن الطعام ستين يوماً أو تزيد!!(359/4)
والاستقلال بالنفس نعمة من نعم الأخلاق نود لو وفر منها حظ هذه الأمة في بداية استقلالها وفي تجاربها التي تجربها لحماية حوزتها ورد العادية عنها
لأن الرجل الذي يعيش بين الجماهير ولا ينعم بالوقت إلا وهو غارق في غمارها مدفوع في تيارها هو رجل ضائع في الزحام، أو صفر لا ينفرد عما جاوره من الأرقام، أو هو شخصية بغير استقلال وبغير حدود، كأنه يأخذ حياته على المشاع ولا يأخذها مستقلة معروفة الحدود والأقسام
فمن الواجب أن يستطيع الإنسان الاعتكاف في بيته والاعتكاف في شخصه، وأن يكون مالكاً لزمام نفسه ولا يكون مملوكاً لزحام المجالس وضجة الرائحين والغادين على المشاع
وأعجب ما يلحظ في هذا الباب أن الأمم التي تعرف العزلة وتطيق الانفراد هي أصلح الأمم للاجتماع وأقدرها على سياسة الناس
ونقول أعجب ما يلحظ ولا نعني إلا العجب في الظاهر دون الحقيقة الواقعة، وإلا فاستقلال النفس ضمان الحرص على الحقوق وأن يكون لكل حده الذي يقف عنده ولا يخطو وراءه، وأن يضن بحريته ولا يجور على حرية غيره، وتلك هي أكرم صفات الاجتماع والمقارنة، وهي هي لبابها صفة الاستقلال والقدرة على الانفراد
وفي العصر الحديث مخترعات كثيرة تعين على العزلة من يشاء أن يعان عليها
فالكتاب والصحيفة جليسان أنيسان، والمذياع ينقل العالم إلى البيت فينفي الوحشة ويعود من يصغي إليه أن ينفرد وأن يقنع بالقليل من الجلساء، ثم هذه التجارب التي نجرب بها قوة نفوسنا وقوة مدافعنا: أليس فيها معين على الاستقلال من غير ناحية الحرب والأهبة للدفاع؟
بلى! فإنها لتنقل الوحشة إلى الطريق أو إلى المجالس العامة، فينفر منها من تعود الأنس فيها وعز عليه أن يصيبه بمعزل عنها
وتعلمنا أن نركن إلى نفوسنا، وأن نغوص في أعماق ضمائرنا وأن نجد فيها ذخيرة تغنينا وتشبعنا فلا نشكو الخلو في الخلوة، ولا نبحث عن القوة في كل مكان إلا المكان الذي ننفرد فيه
ولعلنا إذ نتعود الخلوة ينتهي بنا الأمر أن نحسبها خلوة اطمئنان إلى النفس والأقربين، لا خلوة الخوف من العدو المغير والفزع مما يضمره الفضاء أو القضاء(359/5)
فمن الناس من يذكرون الغارات فيبالغون في الحذر والحيطة ويظنون أن الدنيا كلها خطر ذو عيون وأقدام، وأن القنابل تبحث عنهم في كل مكان
ومنهم من يذكرون الغارات فيبالغون في التواكل ويقولون كما يقول المتواكلون في أوربا: إن يكن أسمك مكتوباً على قنبلة فلا فائدة من الوقاية ولا أمل في النجاة
ومنهم قوام بين ذلك لا ينزعجون ولا يهملون، ولكنهم (يعقلون ويتوكلون) أو يحسبون الحساب وهم مطمئنون، لأنهم فرغوا من واجب الاحتراس فلم يبقى إلا واجب الاطمئنان
فالإهمال لا يليق بكرامة الإنسان ولا بالمزايا الآدمية، لأنه أشبه بصفات الحيوان السائم الذي لا يدري ما يضره وما ينفعه ولا يتصرف في مقاومة الحوادث التي تهدده واجتناب الهلاك الذي يفرض عليه اجتنابه
أما المبالغة في الاحتراس والوسواس فهي الجبن الذميم بعينه؛ وليس بين الصفات التي تشين الإنسان اقبح من صفة الجبان
ولقد دلت التجارب في أوربا على فائدة لهذه التجارب غير الفائدة المقصود منها، وهي نقص الجرائم والسرقات في هذه الأوقات خلافاً لما كان مظنوناً في البداية
وعللوا نقص الجرائم والسرقات بأمور كثيرة نشترك في بعضها وتنفرد الأقطار الغربية ببعضها الذي لا نجاريها فيه، والحمد لله مرة أخرى
فمن هذه الأمور كثرة الحراس ورجال الأمن القائمين بالتجربة في الطرقات
ومنها شكوك اللصوص إذ يميزون في أوقات السلم بين البيت النائم والبيت اليقظان ولكنهم يعجزون عن تمييز هذا وذاك متى تساوى الظلام في جميع الأنحاء
ومنها - ولعله أهمها في أوربا وأضعفها عندنا - أن السراق يصعب عليهم الهرب بالسيارات بعد اقتراف الجريمة لتقييد حركة السيارات وتشديد الرقابة عليها
ولا ندري علام تسفر التجربة في بلادنا ولم يبلغ لصوصنا بحمد الله مبلغ اللصوص الموسرين الذين يعتمدون على الهرب في السيارات، ولا يزالون يهربون على الأقدام كما كانوا يهربون قبل ألف عام، في ظلام كان يخيم على الأيقاظ والنيام، في أيام الحرب أو أيام السلام؟
والذاكرون للحرب الماضية في بلادنا لا ينسون حوادث النشالين بالليل والنهار، وقلما سلم(359/6)
منهم إنسان
ولعلهم أول من اخترع من زمرة اللصوص رد الأمانات إلى أصحابها متى استغنوا عنها. . .!
فقد كانوا يأخذون لأنفسهم الورق النفيس ثم يلقون بالمحفظة أو الكيس في صناديق البريد، فيعود ما فيه من المحفوظات إلى أصحابه، ولعله أنفس لديهم من النقود
إلا مرة واحدة - أو مرة واحدة على ما نعلم نحن - أخذوا فيها المحفظة كلها وليس فيها نقود ولا ورق أنفس من النقود
وذاك أن صديقاً لنا أديباً خرج يوماً من عند المصور وفي جيبه محفظة - أو غلاف من الورق على الأصح - فيه أثنتا عشرة صورة شمسية لا تنفع أحداً غيره
قال لنا: سأذهب إلى مكتب البريد القريب فلا شك عندي في رجعتها
ولكنه ذهب وعاود الذهاب والمحفظة الذاهبة لا تعود
فحار في أمر هؤلاء اللصوص، وسأل موظف البريد مرة وقد كان من الظرفاء: (عجبي لهم ما بالهم لا يردون هذه الصور التي لا قيمة لها عندهم وهم يردون الوثائق والسفاتج والأسانيد التي قد تشترى وتباع؟)
قال موظف البريد متظاهراً بالدهشة: (أتقول لا قيمة لها عندهم يا أستاذ؟ كيف هذا؟ إنهم لو وزعوها على زملائهم لأراحوا أنفسهم على الأقل من اثنتي عشرة محاولة أخرى بغير فائدة!
وهذه من طرائف النشالين في الحرب الماضية، ولكن طرائف النشالين خاصة ليست بالتي يستحب فيها التكرار أو التي تؤمن في جميع التجارب. فلا نخال أن أحداً سيتفقدها في الحرب الحاضرة، أو يلوم الحكومة على وقاية المدنيين منها!
بدأت أكتب هذا المقال من وراء الورق الأزرق الذي يحجب السماء وفيه شبه منها
ثم فتحت النافذة فإذا السماء تشاركنا في التجربة من طرفيها فهي كالمدنيين تحجب ضياءها، وهي كالمغيرين ترسل غبارها وحصباءها
قلت: الحمد لله مرة أخرى!
إذا اشتركت السماء في التجربة فلا خوف مما يرسله الفضاء، وعسى أن تمضي التجربة(359/7)
وهذه الغارات الوهمية أقصى ما نعانيه في بلادنا، فتظل في حرز من الغارات الحقة إلى يوم السلام.
عباس محمود العقاد(359/8)
في سبيل الأزهر أيضاً
فائدة الأربعاء
للأستاذ محمد محمد المدني
أعتقد أن (الرسالة) لم تأت فيما مضى من تاريخها بمثل هذا العنوان، ولولا أن أدخل في الحكومة بعض الغيب - كما يقول الجاحظ - لزعمت أنها لن تأتي بمثله في مستقبل عمرها الطويل!
وأعتقد أيضاً أن كل معنى من المعاني التي يحتملها هذا التركيب سيرد على الذهن إلا معنى واحداً: هو معناه المقصود!
(الأربعاء)، يا سيدي القاريء، هو اليوم الخامس من أيام الأسبوع كما تعلم؛ أما الذي لا تعلمه - ولم أكن أنا أيضاً أعلمه - حتى علمته بالأمس القريب، فهو أن لهذا اليوم فائدة، وأن هذه الفائدة هي موضوع تحقيق علمي من الطراز الأول، لا يقوم به رجل من عامة العلماء، أو من صغار رجال الأزهر، ولكن يقوم به عالم خطير وفيلسوف كبير قد عرف بأنه فيلسوف الإسلام والمسلمين، وتبوأ مقعده من جماعة كبار العلماء منذ زمن طويل!
وهي لهذا جديرة بأن نجعل منها مقال اليوم، فنشغل بها قراء (الرسالة) هذا الأسبوع، كما اشتغل بها في الأسبوع الماضي قراء مجلة أخرى حين نشر البحث فيها باحثه الجليل!
كتب كاتب من (قنا) إلى الشيخ الكبير قال:
(إن كثيراً من أهل قنا وضواحيها وغيرها من البلدان، خصوصاً بعض أهالي جرجا، قد اعتادوا أن يقوموا بعمل فائدة تسمى: (فائدة الأربعاء)، وميعادها قبل الظهر بساعة تقريباً في اليوم المذكور من كل أسبوع بضريح سيدي عبد الرحيم القنوي رضي الله عنه؛ والجميع - يا صاحب الفضيلة - يعتقدون نفعها ويرجون بركتها، وهي مجربة بين الآلاف المؤلفة من المسلمين.
وإلى فضيلتكم كيفية هذه الفائدة:
(يذهب من أراد قضاء حاجة (هكذا)، أو تفريج كربة في اليوم والوقت المذكورين سالفاً، ويجلس في ضريح سيدي عبد الله القرشي - وهو على مسافة قريبة من ضريح سيدي عبد الرحيم (رضي الله عنهما) - ويكون على وضوء، ثم يقرأ سورة يس مرة أو ثلاث مرات،(359/9)
بنية قضاء الحاجة، أو تفريج الكربة، وبعد ذلك يخرج من الضريح، ثم يصلي ركعتين لله تعالى بنية قضاء الحاجة أيضاً، وهو عاري الرأس، في مكان متوسط بين الضريحين، وبعد تمام هاتين الركعتين يأخذ عمامته في يده وحذائه تحت إبطه، ويتوجه إلى ضريح سيدي عبد الرحيم، ثم يتجه إلى القبلة، ويدعو بالدعاء الآتي عاري الرأس أيضاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، وبأبينا آدم، وأمنا حواء، وما تناسل بينهما من الأنبياء والمرسلين، والأولياء والصالحين، وبعبدك هذا سيدي عبد الرحيم، أن تقضي حاجتي، وهي كذا. . .)
قال السائل: ولكن ظهر في هذه الأيام عالم من المتصدين للوعظ والإرشاد، ينكر هذه الفائدة قائلا: إن هذه الفائدة لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين. ولقد حدثت فتنة كبيرة بسبب ذلك بين المعتقدين لها، وبين العالم المذكور، لذلك رأيت أنا ولفيف من إخواني المسلمين أن نلجأ إلى فضيلتكم لتفتونا في هذه الفائدة لنكون على بصيرة منها لما نعهده فيكم من العلم، والحرص على نفع المسلمين، وتعريفهم أمور دينهم الخ)
هذه هي القضية! فماذا قال فيها (أبو حسن!)؟
قال - نفع الله الناس بعلمه -:
(الجواب عما سألت عنه من فائدة يوم الأربعاء، أن ذلك جائز لا شك فيه، بل هو مرجو البركة، وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول. ولست أدري: أي شيء في ذلك؟ وهل فيه إلا عدة أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه؟ ولا شك أن المساجد محل الرحمات والبركات، والتوسل بالأولياء والصالحين جائز لا شيء فيه، وقد ورد الأمر به، وفي الحديث عن عثمان بن حنيف وأظنهم يعرفون!) ولست أدري من هم الذين يظنهم مولانا؟؟
ولعله يريد الواعظ المسكين الذي يشير إليه صاحب السؤال!
قال الشيخ: وتوسل عمر بالعباس، ولو كان الأمر على ما ظن هؤلاء ما صح أن يقول عمر: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس، والمتوسل طالب من الله، مستشفع إليه بأحبابه فلا معنى لتلك الترهات، لأن لهم منزلة عند الله، وسيشفعون بمقتضاها في الآخرة، والأولياء أحياء عند ربهم يرزقون، ومن اعتقد أن من ينتقل من الدنيا يلتحق بالعدم فهو(359/10)
مكذب أو جاهل بما ورد في ذلك من المتواترات. . . الخ. . . الخ
ثم قال بارك الله للمسلمين في حياته:
(وبعد، فلست أدري لماذا لا يشنون الغارة على المنكرات في المجمع عليها؟ وما أجدرنا أن نخاطبهم بقول الشاعر:
أفتتركون المنكرات سَبَهلَلاً؟ ... وتحاسبون على اقتراف الذَّرَّةِ
أفتصلحون البيت من شرفاته؟ ... ما أنتمُ إلا كأهل الكوفةِ الخ
عفواً، يا قراء الرسالة وصبراً، فإنما أردت أن أهدي إليكم طرفة من الطرف التي وعدتكم بها يوم كتبت مقالي الأول (في سبيل الأزهر) وقد أبى الله إلا أن تجيء هذه الطرفة من حيث لا أحتسب، على يد أستاذ مبرز من جماعة كبار العلماء في الأزهر الشريف!
ولست أريد أن أنقد هذه الفتوى، لأني رجل من صغار العلماء، وليس من الأدب الذي درجنا عليه وأخذنا به أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير. وفي منصب الإفتاء رجل علاّمة ثَبَت محقق، هو صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم، يعرفه الناس فقيهاً جيد الفقه، وبصيراً بما يتناول منه؛ وعند جهينة الخبر اليقين!
ولكني أقتصر فيما يتعلق بهذه الفتوى على تسجيل بعض (الظواهر) واستجلاء بعض (الغوامض)
السؤال الذي بنيت عليه الفتوى يعرض المسألة على أنها عقيدة لإقليم من أقاليم مصر العليا، ويذكر أنها أمر من أمور الدين وأنه حدثت بسببها فتنة كبيرة بين عالم واعظ وبين معتقديها: هم يتمسكون بما يعلمون منها، وهو يقول لهم: لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفائه الراشدين
فكيف عالجت الفتوى هذه النواحي:
إنها أقرت المعتقدين على ما يعتقدون، فذكرت لهم أن هذا جائز لا شك فيه، واستدللت على ذلك بأن هذه العملية ما هي إلا مركبة من أمور بعضها جائز، وبعضها مندوب إليه، وأن التوسل على هذا النحو وغيره مأمور به في الحديث
أما ما يخص العالم الواعظ منها فهو قول الشيخ: (وبركة الأولياء لا ينكرها إلا مخذول) و (أظنهم يعرفون!) و (لا معنى لتلك الترهات) و (ومن اعتقد كذا فهو مكذب أو جاهل بما(359/11)
تواتر. . . الخ)
وتخرج الفتوى بعد ذلك عن نطاق ما هي فيه، فتنكر على الناس أن يتعلقوا بصغائر الأمور دون كبارها، وأن يتركوا المنكرات المجمع عليها (سبهللاً) ويحاسبون على اقتراف الذرة. الخ
هذا ما أردت أن أسجله من ظواهر الفتوى. ويجب أن يفهم هنا أنه لا شان لي بالتوسل بالأولياء جائز أو غير جائز، ولا بأنه قد أمر به في الحديث أو لم يؤمر به في الحديث
ولا شأن لي بحياة الأولياء عند ربهم، ولا بكيفيتها، ولا بنوع العمل الذي يدخل في قدرتهم بعد موتهم، أو الذي لا يدخل لا شأن لي بشيء من ذلك كله، فقد تكلم فيه الناس كثيراً وللشيخ فيه جولات، ولخصومه جولات! كما للشيخ في حياة الأرواح وعجائب الأرواح جولات، ولا نحب أن نشغل بشيء من ذلك قراء الرسالة
ولكني أتساءل: أيكفي أن يكون شيء مركباً من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه ليكون حقيقة معترفاً بها من الشرع؟ حتى لو لفق ملفق بين عدة مندوبات وعدة واجبات أو جائزات، وأنشأ من ذلك عبادة يلتزمها ويتقرب إلى الله بها على وضع خاص لما كان في ذلك ملوماً؟
ثم ما هي المسائل التي هي منكرات مجمع عليها، وقد تركت من غير بيان حتى صارت (سبهللا) بهذا التعبير الظريف؟
وما الموازنة بين هذه المسائل المعروفة التي أجمع الناس على تحريمها، والمسائل التي شغف كثير من الناس أن يلبسوها ثوب الدين وما هي من الدين؟
وإني لأتوجه بعد ذلك إلى أستاذنا الكبير الشيخ محمد عبد اللطيف دراز مفتش الوعظ والإرشاد لأساله: ماذا فعل الله بهذا الواعظ المسكين الذي أنكر (فائدة الأربعاء)، وأثار عليه الشيخ هذه الحرب الشعواء؟ أتركته إدارة الوعظ بين هؤلاء القوم محصوراً لعلهم يقضون عليه، أو يسيئون إليه. أم أنقذت المسلمين في قنا وضواحي قنا منه إن كانت تعتقد أنه شر ووبال؟
أما بعد:
فإني أقول لأصدقائي وشيوخي الذين أثارتهم كلمتي السابقة، فعلقوا عليها قولاً وكتابة بأقوال(359/12)
وألوان شتى من (التعليقات): إني أحب الأزهر كحبكم، وأنا فيما اعتقد أشد له حباً، ولكني أكره هذا اللون من ال. . . ولا أقول كما قلت في المرة السابقة من التسكع العلمي، ولكني أقول: من (التلطف العلمي!)
في الوقت الذي يشتغل العالم فيه بحرب عامة، أقامت الدول وأقعدتها، ويوشك لظاها أن يأتي على الأخضر واليابس من الأموال والأنفس والثمرات
لا تشغلوا الناس بهذا النوع من الأبحاث في الوقت الذي يستمعون فيه كل يوم إلى أخبار الطائرات التي تمخر عباب الجو، والمظلات الواقية التي تتساقط بها الجنود جيوشاً من السماء!
إننا نسمع ذلك، ونسمع من ورائه أحاديث الناس فينا، وأقوالهم عنا، فهل يجوز مع هذا وذاك أن تشغل الناس (بحديث الأربعاء)؟
استغفر الله العظيم! فإن (حديث الأربعاء) عنوان قديم لكاتب لا أحبه، كان يتحدث فيه عن الأدب والأدباء، وإنما أردت أن أقول: (فائدة الأربعاء) فنسيت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره!
وعلى ذكر الشيطان، أهمس في أذن الذين ما زالوا يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بأمره: لست صاحب الموضوع، وإن صاحبه لمعروف لكم غير مجهول، فناقشوه صرحاء، ولا تجعلوني بينكم وبينه ترساً إن كنتم تجدون
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(359/13)
نابليون الأديب
للأستاذ صلاح الدين المنجد
حدثوا أن نابليون كان يرنو ذات يوم إلى البحر الساجي في (سنت هيلين)، يفكر في أمره: كيف صفق له النصر، وابتسمت له الدنيا، وكيف خانه الزمن فأودى به إلى هذه الجزيرة الغرقى وسط البحار. . . فابتسم وصاح: إن حياتي لرواية رائعة، ما كان ضرني لو كتبتها
على أن نابليون إن لم يسجل هذه الرواية بنفسه، فقد سجلها التاريخ، وحفظها الناس فأكبروا منه ذلك الجبروت الطاغي وتلك العزة الرفيعة. وكأن نابليون أراد أن يجمع إلى خلود البطولة والعظمة، خلود الأدب والفن، فود لو يكتب مؤلف
ولقد ذهب (سانت بوف) شيخ النقد في فرنسة، إلى أن نابليون كان أكبر أديب عرفه عصره. واحتج لذلك بروائع خطبه التي كانت تنعش الأمل الذاوي، وتحيي القلب اليائس.
ألم يغر جنوده العراة بكنوز إيطاليا ومحاسنها؟ ألم يكلم الهرم ويجعل القرون تنظر إلى أشبال فرنسة الفاتحين. . . ألم يسكب الحياة في نفوس فرسانه، هناك في سهول أوسترليتز. . .؟ فلقد كانت فصاحة لسانه وبلاغة بيانه تؤثران في كل قلب، وتنفذان إلى كل روح؛ والفصاحة والبلاغة بنتا الأدب البكر الجميل
ولقد ذهب (جاك بانفيل) الكاتب الفرنسي الكبير إلى ما ذهب إليه (سانت بوف) من قبل. ورجع ذلك إلى أن آل بونابرت كانوا ذوي بلاغة تخلب ومنطق يغري، وأن قلوبهم كانت ترف إلى الفنون والآداب. ولعل ذلك آت من أصلهم الفلورنسي القديم - وفلورنسة كانت مهد الآداب في حقبة من الزمن -، ومن أبيهم شارل بونابرت الشاعر الأديب. فلما تسنموا العروش كانوا من حماة الآداب ومشجعي الأدباء. فلقد شجع جوزيف بونابرت ولويس بونابرت ولوسيان بونابرت حملة الأقلام، وإن كانوا وجهوها وجهة خاصة وسخروها لتوطيد سلطانهم. على أن نابليون وحده كان ذا موهبة قصصية رائعة. فقد كانت أفكاره تتدفق ويومض كالبرق، مليء بالصور الأخاذة والتعابير الراقصة والألوان البارعة
ولقد كان ميل نابليون إلى الأدب يحبب إلى نفسه كل رقيق لطيف. فقد كانت تؤثر فيه الموسيقى الناعمة، وتهزه أشعار (أوسيان) الحالمة، وتعجبه مآسي (كورنيل) المترعة بالفخار المفعمة بالبطولة، ويطرب (لهوليز الجديدة)؛ ويقول عنها: (إن هذا الكتاب سيبقى(359/14)
إلى الأبد كتاب الشباب. ولقد قرأته وعمري تسع سنوات فإطار لبي وأذهلني. . .)
وكانوا يقولون: إن لنابليون خيالاً جبارا، وإنه كان يختلق الأقاصيص المرعبة، أقاصيص الجان والشياطين، والمغامرات والبطولات؛ يسمعها رفقاءه في الليل، أو زوجه وأولاده في ليالي الشتاء.
وقد عثر في ثنايا الأوراق التي كتبها في صباه، والتي أودعها بعد واترلو الكاردينال فيش أقاصيص ثلاث نشرت في عام 1895 في فلورنسة تحت عنوان (نابليون المجهول) وقد كتبها عام 1789 عندما كان ضابطاً في (أوكسون).
أما القصتان الأولى والثانية، فقد قبسهما من التاريخين العربي والإنكليزي. أما الثالثة، فهي من تأليفه، وفيها يصور كورسيكياً شيخاً فر مع ابنة له إلى جزيرة مصخرة تناطحها الأمواج هرباً من ظلم (قوم) ذبحوا أبناءه وذويه.
وتصرمت أعوام. . . وإذا بالعالم البولوني سيزيمون اسكيناري يخرج للناس قصة كتبها نابليون في عام 1795 عنوانها (كليسون وأوجيني): لها صفات القصة الوصفية التحليلية وفيها حقيقة يشوبها خيال، وهي أشبه بما يكتبه الأدباء أول عهدهم بالكتابة
كتب نابليون هذه القصة وهو يتخطى الخامسة والعشرين من عمره، أوحاها إليه حبه لفتاة أسمها وهي الفتاة التي عرف بها الحب الأول. وكان قد رآها في مارسيليا، إذ أتي إليها بعد أن ذاع اسمه في حصار (طولون) فأحبها. وكان دقيق العود جميلاً، فألهب خيال هذه الفتاة بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر، وكلامه المتدفق كالماء، اللاهب كالنار؛ وأسكرها بأقاصيصه الحلوة، وأطربها بأشعار أوسيان الذائعة. وتحابا. . .
ولم يطل بقاء نابليون في مارسيليا، فاضطر إلى السفر إلى باريس، تاركاً حبيبته الصغيرة وحدها. وما وطأت قدماه باريس حتى أرسل إليها رسالة فيها الشوق والحب والحنين، ولكن أهلها منعوها من الكتابة إليه. فاضطرب نابليون لصمت الحبيبة الصغيرة، فكتب لها كتاباً يصور لها فيه باريس الفاتنة ليثير شوقها إليها. ولكنها صمتت أيضا فكتب يقول:
(إن الحياة حلم رقيق لا يلبث أن يذوب كالضباب. إنني أشعر وأنا أكتب الآن بهياج في عواطفي ما شعرت بمثله قبل هذا اليوم. ولئن طال هجرها لأقتلن نفسي، ولأرمين بهذا الجسم تحت عجلات العربات. . .)(359/15)
ثم عاوده الحنين فكتب إليها مرة أخرى، ولكنها لم تحفل به وأعرضت عنه. عندئذ ضاق ذرعاً. . . فكتب لنا قصته هذه، وقص على الناس نبأه ونبأ (أوجيني) الغادرة، وكيف نشأ وترعرع، وكيف أحب وكيف خان الحبيب، وسمى نفسه (كليسون) وحول قليلاً وحور
لقد كتب في قصته: (ولد كليسون للحرب والنزال، وكان يعلم سير القواد وهو ما يزال صبياً، وكان يحب أن يتفقه في فن القتال مذ كان في المدرسة يافعاً، على حين كان رفقاؤه يفتشون عن الفتيات يلهون بهن. فلما قارب السن التي تؤهله للقتال، أقبل على الجندية مسرعاً. فبرع في أمورها، وناداه النصر، فذاع في الشعب اسمه، ونظر إليه الوطن كبطل من أعز أبطاله، ولكن روحه كانت ما تزال ظمأى للنصر والخلود، ولقد كانوا يسمون طموحه كبرياء، وقوة إرادته شدة، وكان ينظر إلى نفسه البكر فيتأمل فيها، فيرى أنه أبعد الناس عن الحب.
فلقد كان له خيال مشبوب، وقلب ملتهب، وعقل راجح، ولكن فكره كان (بارداً) لا يسعفه بالخاطرة البارعة والنادرة والفريدة فدفعه ذلك إلى الملل من دلال الفتيات والابتعاد عن التلطف والتظرف، وعم تزوير الجمل واللعب بالكلمات لينال رضاهن وعطفهن
(وكان يحب أن يشرد في الغابات الخضراء، لا يحفل بالتعب ولا يخشى العناء، ليبتعد عن جنون البشرية وانحطاط أهلها
(وكان يستسلم إلى أمانيه، ويصغي إلى همس فؤاده، فيخلد إلى العزلة، وينظر إلى الليل الحزين الهادئ المزدان بأشعة القمر، ويستمع إلى صوت الطبيعة الخفي، حتى إذا تنفس الصبح، عاد حزيناً سادراً لينال قسطاً من الراحة التي ظمئ لها
(وكان يعجب باختلاف ألوان الطبيعة، يهتز لميلاد النهار، ويطرب لغروب الشمس، ويصفق لأغاريد العصافير، وخرير المياه، ورفيف السهول. وكان ينفق الساعات في تأملاته هذه في أعماق الغاب. . .
(على أن ميوله هذه أفهمته أنه بعيد عن الحرب وفنها، وعن الدمار وأصوله. وكان يخيل إليه أن تهذيب الشعوب وإسعادها خير من قتالها وقتلها. . . ولكنه كان يسعى إلى التخلص من هذه الفكرة التي لم تطرب نفسه لها
(وفي هذه الفترة يلقى كليسون أوجيني مع ترب لها اسمها (إميليا) فعرفهما. وكانت إميليا(359/16)
كقطعة من الموسيقى الفرنسية ينصت الناس إليها بشوق، أما أوجيني فكانت كأغرودة العندليب أو كقطعة من موسيقى (بازيللو) الإيطالي لا تعجب بها إلا النفوس الرقيقة الحساسة. . .
(ولقد كانت إميليا توحي الحب بجمالها، أما أوجيني فكانت تعجب الرجل القوي الذي لا يحب تحت سلطان الدلال والذوق، ولكنه يحب لأنه يشعر بأنه بحاجة إلى الحب. . .
(ومسح فؤاد كليسون - الذي اعتاد النصر والمغامرات - هواه مسحة جميلة، وأكسبه قوة وصلابة. . . فعلمت أوجيني أن عليها أن تتصل بهذا الرجل العظيم، ليذيقها السعادة الخالدة. فيكتب لها الخلود
(وتزف أوجيني إلى كليسون، ويرزقان أولاداً، وبنتاً اسمها (صوفيا)، وكانت أوجيني زوجة غيوراً، تخشى شر الفتيات أن يغرين زوجها. . . ولقد غضبت عليه يوماً، وانفجرت باكية تقول: إذا كنت تريد أن تصدف عن حبي فخذ بهذه اليد التي كانت تداعب حبيبتك - حياتي. . . ولكن نابليون يهدئ روعها، ويقسم لها ليبقين على العهد، وليحفظن الود
(. . . ويضطر إلى الرحيل ليقود كتيبته إلى المعركة. . . فيترك أوجيني تنتحب وتذرف الدمع، ويحرز نصراً بعد نصر، وينال شهرة بعد شهرة، وكانت زوجه ترسل الرسائل إليه كل يوم، ولكنه كان لا يعبأ برسائلها، ويحاول أن ينساها، فيرسل إليها (بييرفيل) الضابط الجميل الذي كان في فجر حياته، يفتش عن فتاة يودعها قلبه، فأحبته، وكان الحب (باسم الصداقة)، ثم ما لبثت أن نسيت حبيبها الأول كليسون، وانقطعت عن الكتابة إليه.
ويذكر كليسون حبه وهواه يوماً. . . فيحن. . . ويشتد به الحنين. . . ويرى أن فتوره قد جنى عليه، فيداخل اليأس قلبه، ويقرر الانتحار، ولكنه يرسل إليها رسالة يودعها بها ويقول:
(وداعاً أيتها الحبيبة التي قضيت معها أجمل أيامي. . . لقد ذقت بين ذراعيك السعادة المسكرة، ارتشفت لذات الحياة وأطايبها ترى ماذا يبقى لأيامي المقبلة غير الملل والضجر؟. . . لقد ذقت وأنا في السادسة والعشرين من عمري اللذات الفانية. . . ولكنك أذقتني بحبك الشعور العذب بالحياة. . . إن هذه الذكرى لتمزق قلبي. . . أتستطيعين العيش سعيدة دون أن تفكري أبداً في أمر كليسون البائس؟. . . قبِّلي أولادي يا أوجيني. .(359/17)
قبليهم. . . ولا تجعلي إليهم روح أبيهم الملتهبة المتأججة، لئلا يكونوا مثله ضحايا الرجال وضحايا النصر والحب. . .
ويرسل الكتاب إليها. . . ويقود الكتيبة بعزم، وإذا به يسقط إلى الأرض (مثخناً بالجراح. . . ويموت)
تلك هي القصة الرائعة التي كتبها نابليون وهو في نعومة صباه. وفيها نجد بلاغة تخلب، وصوراً تغري، وقسوة ترعب، وحناناً يهز ولو أن هذا البطل لم يسلك طريق الحرب، لكان له في الأدب روائع وفرائد. . . ولكان أدبه كالربيع الضاحك، فيه زهور وعطور، وفيه جمال وصفاء، وفيه نغمات وقبلات.
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(359/18)
مصطفى كامل بمناسبة تمثال
له وجدان. . .!
للسيدة وداد صادق عنبر
حضرتني اليوم حاضرة من الخواطر المستمدة من فيض عاطفة لها دافع قوي، وذلك لأنني استلهمتها ميراثاً عن أبي الراحل؛ وكأنني منها في صدد واجب مقدس ألقته علي فجاءت كتحية قصيرة للزعيم الخالد مصطفى كامل باشا بمناسبة إزاحة الستار عن تمثاله.
فإذا كان قد قيل بالأمس إن الأبوة في هوى الأبناء، فإني أعود فأنم ذلك القول بأن النبوة أيضاً في هوى الآباء.
فإلى الزعيم الخالد أرسل هذه الكلمات، إلى صديق أبي العزيز أرسلها تحية خالصة:
على روحك الطاهرة التي ترسل نور العظمة يشعُّ في عين كل مصري عرف ما لمصطفى من أيادٍ على الوطن
على وجدانك الحي، وكم من حيٍّ ليس له وجدان، أو ميت مات وجدانه قبل موته
على ذلك القلب الذي طالما نبض بحب مصر
على طيفك الذي كان أمناً للوطن وعصمه
وقلمك الذي ما أسال إلا كل حجى وحكمة
عليك أيها المثل الأعلى الذي جاهد حتى بلى في جهاده سلام هذه الأمة وأبنائها
أي مصطفى. . .
هذا هو الوطن الذي كان كل أملك النهوض به أبداً في مراقي التقدم درجات حيَّا أصبحت أنت كل ذكره ميتاً
وهذه هي الأمة التي ألقت أعباءها على عاتقك بالأمس تحمل ذكراك في قلبها اليوم
وما هذا وتلك إلا شهود فضلك وشواهد إخلاصك
وهكذا كنت واليوم ذكراك تكون. . .
وهكذا ظللت تكافح وتجادل، حتى إذا استنفدك الكفاح، ولم يدع من قوتك الجدال، هويت في أرض الميدان. فإذا كانت حياتك عظمة للموتى، فإن موتك أيضاً عظمة للأحياء
ولكن، أين هم الذين يقدرون فضل المجاهد وحق المناضل الناهض برقي أمته المدافع؟؟(359/19)
وأخيراً، أجيب نفسي: كيف أتساءل وهم كثيرون؟
هاهم أولاء يقفون أمام تمثالك مهللين مكبرين بعد وفاتك بأعوامٍ عدة. . . . . .
وهاهو أولاء يسيرون في الشارع الذي أطلق عليه اسمك العظيم بعد اختفائه سنين طوالاً
أجل، لقد عرفوك وذكروك وعظموك بتلك الأكاليل المعقودة من الحمد على مفرقك عرفاناً لفضلك وإقراراً لمجهودك. وهاهم أولاء يهرعون إلى التمثال لينثروا حوله آيات الذكرى الطيبة
يا مصطفى:
حسبك فخراً أنك يوم ظهرت لم يكن في مصر سوى مصطفى واحد. . .
ثم حسبك أنك نبغت حين كانت مصر تضرب من اليأس في ظلمات بعضها فوق بعض، وقد تظاهر عليها عنت السياسة وفقدان العون وخذلان القدر؛ فكنت الأمل الساطع الذي محا هذه الظلمات فصيرها نوراً من المجد والإسعاد. وكانت القوة الهادية السارية على ذلك الضعف الذي زال. بل وكان عملك بعد ذلك نظاماً دار عليه فلك التاريخ المصري دورة جديدة
فما كان أنشط كاهلك وما كان أثقل ما عليه من الأعباء، وما كان أشق المهمة التي سهلها عليك مضاء عزيمتك وقوة ثباتك بل ما كان أقصر المدة وأبعد المدى
ثم حسبك فخراً يا مصطفى أن كل مصري كاد يكون مصطفى في عقيدته
وحسبك أن مبادئك ملء النفوس وذكراك مقترنة بتاريخ مصرنا العزيزة
وإذا كنا اليوم نرى ثمرة الجهاد دانية فحري بنا ألا ننسى من غرسها وتعهدها بالسقيا حتى أينعت الأثمار. ونحن بعد قد قطعنا وهي بأيدينا شوطاً بعيداً متفائلين ببشراها التي يعتذر لنا بها الدهر في كل حين
يا مصطفى:
الآن وقد آن لك أن تعود إلينا لا حيَّا تقام لاستقباله المواكب وتنظم لتحيته الكواكب. بلى ولكن لتعود تمثالاً ومثالاً أعلى لمجاهد في سبيل وطنه
الآن وقد عدت إلينا - وشتان بين العودتين - عدت إلينا مثلا حياً وفكراً دائماً
فإليك تحية الوطنيين(359/20)
إليك أيتها القوة الوطنية التي رفعت رأس مصر عالياً
إلى العزيمة المصرية التي أضحى بها مجد الوطنيين حالياً
إلى المقدام البصير الذي أغلى قدر وطنه فأمسى في الأقدار غالياً
إليك أيها المجاهد تحية أمتك أولاً وآخراً
وإنك لحي دائماً بذكراك - حي بآثارك - حي في وطنك الذي يبكيك وتاريخه الذي يذكرك ويناجيك - حي بمواقف الصدق التي وقفتها ووطنيتك الصادقة وجهودك التي ضحيت لوطنك بها وبذلتها
فليحي ذكرك الذي لم يكد يخرجك لنا من الدنيا جسداً هامداً حتى أرجعك إلينا فكراً خالداً
ولتحي ذكراك حياة تكافئ جهادك المضني في سبيل الحياة
وداد صادق عنبر(359/21)
مقارنة
في سبيل إصلاح الأزهر
للأستاذ محمد يوسف موسى
لست في حاجة للقول بان الأستاذ الجليل الزيات قد أحسن كثيراً بفتح باب مسألة إصلاح أزهر؛ فتلك صيحة يدرك مداها البعيد وأثرها الكبير الأزهريون أنفسهم والذين يلابسونهم ويغشون أنديتهم ومجالسهم. وكان من آثارها الظاهرة ما قرأناه من كلمات ثائرة على الماضي وما ضم بين أطوائه، وأخرى هادئة رزينة يمد صاحبها بصره قبل أن ينقل قدمه عالماً أنه لا جديد لمن لا قديم له، ولا مجد لمن يتنكر لماضيه كله. ولعل أهم ما لفت النظر واسترعى الانتباه خاصَّا بهذا الأمر في عدد الرسالة الماضي رقم 358 كلمة الأستاذ المعروف محمود الشرقاوي. فقد تناول الموضوع بأناة ورفق شأنه في أمره كله ونظر إلى الأزهر باعتباره وحدة من وحدات الثقافة العالية في مصر والعالم الإسلامي، وذلك شأن الباحث الذي لا يغفل عند بحثه الظروف والملابسات وسائر العوامل البيئية
ليس منا من لا يرجو مخلصاً أن يكون الأزهريون، طلاباً وعلماءً، مُثُلاً عالية لما يجب أن يكون عليه رجل الدين الذي يعرف واجبه ويؤديه كاملاً، لا يرجو عليه جزاءً ولا شكوراً إلا إرضاء ضميره وإحساسه بأنه رجل يحترم ما فيه من الإنسانية والرجولة. وليس منا من لا يعترف - ولو بينه وبين نفسه - بأنه دون الوصول لهذا عقبات ليس من السهل تذليلها في هذه الأيام، لعوامل لا يخفى أمدها، إلا إذا عمل كل فرد منا - بتكميل نفسه - على أن يكون من عمال الإصلاح في ظاهر أمره وخافيه قبل أن ينادي به: فيساير النهضة العلمية، ويعرف أبواب المكاتب الخاصة والعامة، ويتعرف أحوال إخوانه المسلمين والشرقيين ليحس آلامهم ويفهم آمالهم؛ وبكلمة واحدة يعيش في هذا العصر لا في العصر الخوالي وحدها. بذلك يستطيع أن يضع لبنه في بناء الأزهر الجديد على ما يود المصلحون الغيورون
ولكن هل أمن العدل أن ننعى على الأزهر وحده تخلفه أو تريثه في طريق الإصلاح، وأن نقارن بينه وحده وبين أمثاله من جامعات أوربا فنخلع عليه ثوباً قاتماً بغيضاً يصرف عنه النفوس؟ من الحق كما يقول الأستاذ الشرقاوي إن أردنا أن نقارن بين الأزهر وجامعات(359/22)
أوربا، ألا ننسى أنه في مصر التي لم تبلغ بعد شأو أوربا في كثير من النواحي الاجتماعية والثقافية، كما لم يبلغ متزعمو الحركة الفكرية هنا مبلغ رجالات العلم والفكر هناك. وإني سأكتفي اليوم بذكر مثال واحد لعل فيه عظة وعبرة، ولعله يكون حجزة دون من يود بجدع الأنف أن يمحى الأزهر من الوجود فلا يصبح له ذكر إلا في التاريخ
عندما كنت بباريس في الصيف الماضي رأيت أن أتصل ببعض علمائها النابهين في الدراسات الإسلامية الفلسفية، فبدأت بالأستاذ ماسَّينْيون وهو من نعلم علماً ومكانة هناك ومن يفخر كبار خريجي جامعة باريس بالأخذ عنه والاتصال به. تفضل واستقبلني في مكتبه الخاص بمنزله، وأعطاني من وقته الثمين أكثر من ساعتين ضاعتا في حديث علمي رفيع ونصح وتوجيه وإرشاد بينما طلابه العديدون وعارفو فضله في الانتظار، وخرجت على أن أعود مرات أخرى. وما كان أشد عجبي في صباح اليوم التالي حين أخبر أن هذا الأستاذ الجليل جاء برد لي الزيارة! أي والله سيدي القارئ إني لا أمزح ولا أتزيد؛ فقد جاء الأستاذ ماسينيون للنزل المتواضع الذي كنت فيه، ولم يمض على زيارتي له يوم وليلة، شاكراً تفضلي - كما قال - بزيارتي له! وأهدي إلي عدداً من مجلة علمية تعني بالدراسات الشرقية والفلسفية الإسلامية تضمن الكثير من بحوثه
لم أصل بعد لما أريد، فهاك بقية الحديث: رأيت بعد هذا، أو رأى رفيق سوري كان معي، أن أسعى لزيارة الدكتور طه حسين بك رجاء أن أصيب من فضله وتوجيهه ما يساعدني في دراستي، ولم يثنني عن الرغبة في الاتصال بالأستاذ الكبير ما أعلمه من العداء بين الأزهر وبينه، وهو عداء ليس من صالح الأزهر ولا الجامعة أن يدوم
اتصلت إذا بالمنزل الفخم الذي كان مقيماً به بالتليفون فقيل لي إنه ليس موجوداً وكان ذلك قبل الظهر. عاودت الاتصال بعده فقيل إنه على المائدة. وأخيراً اتصلت مدة ثالثة ورجوت محدثي أن يبلغ حضرة الدكتور رجائي أن يتفضل باستقبالي في الوقت الذي يحدده، وتركت له رقم تليفون المنزل الذي كنت مقيماً به. وهأنذا لا لأزل أنتظر الرد من المواطن الجليل!
أرأيت إذا، قارئي العزيز أنه قبل أن تطلب من الأزهر أن يكون كأمثاله من جامعات أوربا، يجب أن نطلب من كبار رجالنا وخاصة الذين عرفوا أوربا وتخرجوا في جامعاتها،(359/23)
أن يكونوا كرجالاتها!
ذلك خاطر أوحى إليَّ به كلمة الأخ الجليل محمود الشرقاوي. على أني أرى أن ذلك ليس معناه ألا نطالب بإصلاح الأزهر؛ بل على الضد من هذا أعتقد أن الأمر جد، وأن الأزهر في حاجة ماسة للإصلاح، وأنه واجب ديني ووطني أن يساهم كل قادر في هذا السبيل برأيه وجهده. إن الأزهر إن تخلف طويلاً عن القافلة تناساه الناس وطواه الزمن فصار من أحداث التاريخ، وحينئذ لا قدر الله يذهب آخر مجد من أمجاد مصر التالدة ويضيع المعقل المنيع الباقي للإسلام، والله يهدينا طريق الرشاد
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(359/24)
أسلوب الرافعي وطريقته في كتابته
للأستاذ محمود أبو رية
حمد الناس للرسالة الغراء جميل وفائها لصديقها المغفورة له (مصطفى صادق الرافعي) وشكروا لها احتفاءها بذكراه الثالثة فكتبت بمناسبتها ما كتبت، ولا ريب في أن صنيعها هذا مع إمام من أئمة الأدب إنما هو وفاء للأدب الذي وقفت نفسها على حياطته والقيام عليه
ولقد كان مما كتب في هذه الذكرى مقال بليغ لصديقنا الأستاذ سعيد العريان كان مما جاء فيه أنه قال عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعه أن يعرفه، وأن ذلك مبين في كتاب (حياة الرافعي) وفي الحق أن ما ذكره صديقنا سعيد صحيح لا ريب فيه، ولكن ذلك لم يكن شأن شيخنا الرافعي من يوم أن أمسك القلم للكتابة؛ وإنما كان ذلك في منتصف سنة 1932 فحسب، ذلك أنه لما كتب مقال (فلسفة الأدب) في صيف هذا العام أخذ يسأل أهل البصر بالأدب عن قيمة هذا المقال وبالغ في السؤال، ولما سألته عن سر اهتمامه بمعرفة آراء الأدباء فيه أجابني بخطاب تاريخه 26 يولية سنة 1932 قال:
(إنما اهتممت بمعرفة الرأي في مقال فلسفة الأدب لأني كتبته بطريقة لم تتفق لي من قبل في غيره، فإني لما أردت كتابته بعد كتابة فصل ابن الرومي انتكست فجعلت أدون ما خطر لي وقتاً بعد وقت ثم أخرجت المقالة من هذه الخواطر واختصرت كثيراً ولم أزد شيئاً. وهذه هي الطريقة التي يكتب بها كبار العلماء في أوربا، ولكن الوقت يسمعهم ولا يسعنا)
من ذلك يتبين أن الطريقة التي بينها صديقنا الأستاذ سعيد في كتابه (حياة الرافعي) عن كتابة الرافعي لمقالاته إنما كانت في صيف سنة 1932 فحسب، وكان مقال (فلسفة الأدب) أول ما كتبه بهذه الطريقة
ولقد رأيت بمناسبة القول في طريقة كتابة شيخنا الرافعي وأسلوبه أن أوافي قراء الرسالة بما قاله هو عن أسلوبه عندما سأله العالم الجليل يعقوب صروف: لم لا يكتب بلغة سهلة يفهمها كل الناس كما كتب في (تاريخ آداب العرب)
(. . . تمنيتم لو جريت في إنشائي كله مجرى أسلوبي في (تاريخ آداب العرب) ومقالاتي الأخرى، ولوددت والله أن أرفه عن نفسي، وأطرح عني الكد فيما عالجته من أسلوب: حديث القمر والمساكين ورسائل الأحزان والسحاب الأحمر؛ ولكني أجدني كالمسخر في(359/25)
ذلك لقوة تساورني في أوقاتها وتهب عليّ كالريح من سكون وركود، فلم أفكر قط في كتاب من هذه الكتب، ولكن تقع الحادثة، فيجئ بها الكتاب، ثم أرى من بعد صوته وتعلق المتأدبين به ما لم أكن أقدر بعضه وتنتهي إلى آراء مشيخة الأدب وطلابه؛ فإذا هم لا يعدلون بهذا الأسلوب شيئاً في نسقه وألفاظه ومعانيه، ثم لا يعيبه إلا من قصر عنه وشق عليه النزوع فيه وكابر في الإقرار بعجزه، فذهب يلتمس المعاذير والمعايب، وأخذ في ذلك مأخذ فرعون إذ جاءته امرأة فقيرة كانت هي وأطفالها يعيشون على دَرَّ (عنزة) لهم، فماتت، فأقبلت المسكينة بها على هذا الذي يدعي الألوهية ويقول أنا ربكم الأعلى وسألته أن يحييها، فاعتذر بأن في السموات أعمالاً كثيرة أكبر من العنزة. . .
أرى المتأدبين يعرفون لهذا الأسلوب ما يعرفه رجال التربية والتعليم من أساليب إنشاء التصوير وإرهاف الذهن وتدقيق الخيال وقوة الطبع اللغوي وصقله وإدارة الحس عليه. ثم هم يقولون إن موضعه من هذا الكلام الخنث المتهالك الذي ترمي به الأقلام المريضة في هذا العصر موضع الفحولة التي لا بد منها في الخليقة لإيجاد القوة التي لا تكون إلا بالفحولة وإشعار الهيبة التي لا تكون إلا بالقوة. فنحن في زمن كل كاتب فيه قادر على أن يرسل مداده، يمطر وحلاً لغوياً، حتى كل من يعرف القراءة هو كاتب إن صحح أو أفسد، وإن أصاب أو أخطأ، وإن أخذ اللغة والكتابة عن معجماتها ودواوينها ومدارسها، أو أخذها من الروايات والجرائد والأسواق
يقولون هذا ويضيفون إليه أن الفصاحة العربية كادت تنقطع أمثلتها العليا، وأنه لم يعد يكمل أحد في صناعة الكلام وأن زمننا هذا حين ينقلب إلى مرآة التاريخ فينظر فيها، سيرى وجهه متورماً مخدشاً مضمداً ملفوفاً بالجرائد. . . وليس عليه سِمَة جمال ولا فيه من الأدب منظر قوة، وأن اللغة أصبحت أشبه بالبيت المتداعي الذي يريد أن ينقض لا تسمع من أهله ولا من جيرانه ولا من السابلة في طريقة إلا (هدوا هدوا إلى الأساس)
عَلمِ الله يا سيدي الشيخ أني ما كنت أصبر على مصيبة البلاغة. . . لولا ثقتي بأجرها ولولا استئناسي إلى المعزين فيها، وهم جمهور أهل الأدب إلا قليلاً يعزيني بأسلوب آخر يضحكني أحياناً
أما هذا الذي يسمونه غموضاً وتدقيقاً فما أنا بصاحبه ولا العامل فيه، ولكنه طور من أطوار(359/26)
الزمن لا بد أن يسبق نهضته التجديد كما سبقها من قبل. فلقد كانوا يصفون به سيدي شعراء العربية قاطبة أبا تمام والمتنبي، حتى قالوا في أبي تمتم إنه أفسد الكلام وأحاله وعقده بتعمله وصناعته، وإنه أتعب الناس حتى صار استخرج معانياً باباً منفرداً في الأدب ينتسب إليه طائفة من العلماء، وإن أعرابياً سمع قصيدته التي مطلعها: طَلَلَ الجميع. فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا افهمها، فإما أن يكون قائلها اشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وهذه شهادة بأنه اشعر من جميع الناس ولا ريب إذ يستحيل أن يصح الشق الآخر. ثم كان جمع من كبار الرواة يتعصبون عليه كابن الأعرابي والرياشي وغيرهما، بل قد بلغ من تعصب الرياشي عليه وعلى البحتري أن قلَّت نسخ ديوانهما بالبصرة في زمنه لزهد الناس فيهما. ولقي المتنبي شرا مما لقي أستاذه ومثله الأعلى الذي يقلده ويحتذي عليه! ومع ذلك انحدر الشعر كله في طريقتهما إلى عصرنا هذا
ولقد كان المتنبي خَمُلَ اسمه ومُحي من لوح الزمن لو كان يعيب البلاغة عيب يكون معها. فقد قال فيه الإمام العسكري: لا أعرف أحداً كان يتتبع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي، فإنه ضمن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئاً منها. قلنا ولكن جميع عيوب الكلام (بهذا الحصر) لم تزد على أن كانت من أقوى الأسباب في تخليد حسنات الرجل
إن أرفع منازل البلاغة العربية، كما قالوا، أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ولا يبلغ هذه المنزلة أحد فيحكمها ويعطيها حقها من التمييز إلا جعلته الأقدار وسيلة من وسائل حفظ البلاغة يتسلم الزمن ويسلم، بل قل بالألفاظ الصريحة المكشوفة: يتسلم لغة القرآن ويسلمها. فأما أسلوب واحد وطريقة واحدة فهذا في قوة كل كاتب على تفاوت فيه، ولن يكون الرجل حق رجل إلا إذا كان له مع الظرف واللين والدماثة حديداً من العضلات وفولاذاً من العظام، فإن لم يكن إلا اللين محضاً والاسترسال خالصاً فهذا أصلحك الله شيء سَّمه ما شئت إلا أن تقول إنه رجولة. فإذا لم يبلغ كل الناس ولا أكثرهم هذه المنزلة فذلك أخرى أن يعد في محاسن من يبلغها لا في معايبه
ألا لا يحسبن أحد أن الفصاحة العربية هالكة بحياة طائفة من مرّضى القلوب كهؤلاء الكتاب الذين يعملون جهدهم في إفسادهم، فهم مهما كثروا تنتظرهم قبور بعددهم. وفي هذه(359/27)
البلاغة العربية خاصة ينبغ الكاتب الواحد في عصر من عصور الضعف. فإذا ألف كاتب يتساقطن حوله، وإذا الكاتب كان سنة من سنن الكون تضرب ضرباتها بالقضاء والقدر)
هذا هو قول شيخنا الرافعي من خطة عن أسلوبه وطريقته في كتابته نقلته للرسالة وهي أحق به ليعرف الناس هذه الطريقة من قوله هو ويكونوا على بينة من ذلك. ولعل فيما نقلناه إيضاحاً لناحية من دراسة أسلوبه وبياناً لجانب من ترجمته رحمه الله.
محمود أبو ريه(359/28)
رسالة كلية الشريعة
إلى الأستاذ الأكبر
دعوة الإصلاح تنقلب في الناهضين عملاً وفي الجامدين جدلاً. وفي هذه الرسالة وفيما تقرأه في بعض الصحف لفقهاء بيزنطة مصداق ذلك.
(الرسالة)
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي
السلام عليكم ورحمة الله وبعد فإن أبناءكم طلبة كلية الشريعة الذين يعيشون في ظلال عهدكم السعيد قد تدبروا فيما يتصلون به من حياتهم العلمية وعلاقتهم العملية فاتفقوا على أن يتشرفوا برفع هذه الرسالة لفضيلتكم. يا صاحب الفضيلة - في عصركم الذهبي الذي تبذلون فيه مجهوداً جباراً في نفض غبار الخمول والكسل عن وجه الأزهر ليستطيع أن يطل برأسه على حياة العامة فيستأنف رسالته ويؤدي أمانته على الوجه الذي ينبغي له، نرى في الوقت نفسه أن جهوداً من جانب آخر تتضافر على الحيلولة بين الأزهر وبين رسالته وإبعاده عن الحياة العامة بشتى الوسائل ومختلف الطرق فتارة بتحصين دار العلوم وأخرى بإنشاء معهد للدراسات الإسلامية، ولا يبعد أن نسمع بفكرة أخرى هي إنشاء قسم للوعظ والإرشاد بإحدى كليات الجامعة، كما سبق العمل على تحقيق ذلك لولا عناية فضيلتكم، وطوراً بالعمل على إقصاء كلية الشريعة عن القضاء في الأحوال الشخصية وهي البقية الباقية من التشريع الإسلامي وإحلال كلية الحقوق محلها بحجة توحيد القضاء، وطوراً بإنشاء عدة إدارات للشؤون الاجتماعية وحرمان الأزهر من إدارة للشؤون الدينية تكون مهمتها توجيه ثقافة الأمة من هذه الناحية مع أن الدين هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة أمة هي حاضرة الإسلام والمسلمين، ومن وراء العمل على إبعاد الأزهر عن نواحي الحياة العملية نرى حملة صحفية تنادي بوجوب التخلص من نفوذ رجال الدين؛ وفيما بين جهودكم التي تبذلون والمناوءات التي بها يقومون ضد الأزهر، نرى أن الأزهر نفسه قابع في داره ماض في طريقته القديمة التي تضعف صلته بالحياة العملية. أما هذه الجراثيم الفاتكة التي تنخر في عظامه، وأما هذه السهام القاتلة التي توجه إلى قلبه، وأما الكشف عن أسرار التشريع الإسلامي وإقناع الأمة بصلاحيته لسعادة المجتمع حتى نستطيع(359/29)
حماية الأمة من نفثات الإباحيين وتحصين الأزهر من معاول الهدامين؛ فكل هذا لا يخطر بمخيلة أحد من الأزهريين، اللهم إلا بعض صيحات نسمعها في سماء الجمعيات ودور المحاضرات وعلى أثير الإذاعة تنادي بالخروج من هذا الجمود؛ وتحرير الفقه الإسلامي من هذه الأغلال والقيود التي شوهت جماله وحالت بين الناس وبين معرفة مزاياه
في هذا الوقت الذي تتردد فيه فكرة الرجوع إلى التشريع الإسلامي تهب طائفة أخرى من الإباحيين اللادينيين لمناهضة هذه الفكرة والعمل على إماتتها
أمام هذا الصراع الذي تندلع نيرانه بين فكرتين خطيرتين: فكرة الرجوع إلى أحضان التشريع الإسلامي والتفيء بظلاله، وفكرة التمادي في ارتشاف السموم الحضارة الغربية والاندفاع في تياراتها لا نستطيع نحن طلبة كلية الشريعة أن نقف في مهب هذه العواطف والنزعات موقف المتفرج أو الخائف المتهيب، وبهذا النزاع المحتدم يتعلق مصير الإسلام وهو مصيرنا. فما أحرانا بعد أن دوى في سمعنا من قلبكم الطاهر صوت الإسلام الوديع، وعصفت في رأسنا نخوة الفقه الإسلامي الصريع، أن نتيمم ساحتكم وأنتم قلب الإسلام الخافق ولسانه الناطق وعنوان نهضتنا ومعقد آمالنا لتضموا إلى برنامجنا الدراسي برنامجاً ثقافياً يمشي مع روح العصر ويساير النهضة حتى نقوى على خوض معارك الحياة الجادة وننهض بالفقه الإسلامي إلى مستواه الحق
يا صاحب الفضيلة:
1 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن يسترد الفقه الإسلامي شبابه ويستأنف ماضيه
2 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إنقاذ الأمة من مخالب القانون الوضعي ببيان فشله في قمع المجرمين والجناة
3 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب إقناع الأمة بأن الفقه الإسلامي هو دواء هذه الأمة المنكودة وبلسم جراحاتها.
4 - على عاتق كلية الشريعة وحدها يجب أن تخفق للفقه الإسلامي القلوب وتهفو له النفوس وتنحني له الرؤوس
5 - على عاتق كلية الشريعة أخيراً يجب أن يبسط الفقه الإسلامي جناحيه على جميع(359/30)
مناحي الحياة التشريعية ويمد يديه في كل ناحية تقنينية
هذه هي التركة المثقلة بالديون التي خلفها لنا الأقدمون، وهذه هي المسؤوليات الجسام التي يجب أن تقوم بها كلية الشريعة خير قيام؛ وهل هناك من يضطلع بهذه الأعباء إلا كلية الشريعة التي أنشأتموها لتقوم بهذه المهمة وسط هذه الزوابع والأعاصير، ولكنها بحالتها الراهنة لا تستطيع النهوض بهذه الأعباء، وذلك لما يأتي: -
أولاً: إن دراستها للتشريع الإسلامي دراسة بعيدة عن روح التشريع وبيان أسراره في كل باب من أبوابه
ثانياً: قصر دراستها للفقه الإسلامي في صورة تمثل حوادث وأحوال أناس خلقوا وعاشوا في عصر غير عصرنا وزمان غير زماننا، وعدم استعانتها في دراستها بأساليب العرض العلمي الحديث
ثالثاً: عدم قيامها بدراسة القانون الوضعي
لذلك كان طبيعياً أن تشعر كلية الشريعة ببعد الشقة بينها وبين الأمة، بينما تتهيأ شقيقتاها عن طريق الوعظ واللغة لأخذ نصيبها في الحياة؛ وإلا فأين منا الفقيه الذي يستطيع كما تذكرون فضيلتكم أن يحل مشاكل العصر وأين منا الذي يستطيع أن يسير على نهج فضيلتكم في التفكير فينتج إنتاجكم في القضاء والتشريع؟
يا صاحب الفضيلة:
لعل الساعة تكون قد حانت لوضع حد لهذا النقص في دراستنا بتحقيق هذين المطلبين في أوائل العام الدراسي القادم وهما المطلبان اللذان نرى أنهما وحي من وحي روحكم وأمنية من أسمى أمانيكم
المطلب الأول: أن ينتظم برنامجنا الدراسي إلقاء سلسلة من المحاضرات الأسبوعية في موضوعات لها صلة بدراستنا وبمشاكل الأمة، تكشف لنا القناع عن كنوز الفقه الإسلامي الغني بأعظم الثروات وأحدث المبادئ ووجه صلاحيته لإنقاذ الأمة من براثن الفوضى التي تعاني آلامها في جميع مناحي الأجتماعية، والسياسية والمالية، على ضوء الحوادث المتجددة والنظريات الحديثة، على أن يقوم بتنظيم هذه المحاضرات وإلقائها أكفاء نابهون من العلماء الذين لهم جولات في هذه الأبحاث ووقفوا على أسرار التشريع، واحسنوا(359/31)
عرضها، وعلى عيوب المجتمع، ووضعوا علاجها.
المطلب الثاني: بعث فكرة دراسة القانون الوضعي مقارناً بالقانون الشرعي
بإجابة هاتين الرغبتين تستطيع كلية الشريعة أن تظهر نشاطها في دائرة أبعد مدى وأوسع أفقاً، فنشارك الأمة في تشريعها وتقنينها بعد أن تظهر الفقه الإسلامي قانوناً محكماً يعالج مشاكلنا الحاضرة. فبالرغبة الأولى يمكن الوصول إلى النتائج الآتية:
أولاً: إقناع الأمة وعلى رأسها المتقننون الوضعيون بأن التشريع الإسلامي هو العلاج الوحيد الذي يشف النفوس من عللها، ويقي الجماعات من أمراضها، وما أجدرنا بإحراز هذا النصر في مصر بعد أن أحرزه الأزهر في لاهاي
ثانياً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع تطبيق أحكام التشريع على كل ما جد من الحوادث والمعاملات التي لا تنتهي. وبالرغبة الثانية يمهد لنا الطريق للوصول للنتائج الآتية:
أولاً: معرفة العلل المختلفة للمجتمع المصري والوقوف على موطن الضعف في القانون الوضعي وكيف حاول المقنن المصري وضع العلاج فلم يفلح فنستطيع أن نضع يد الأمة على مصدر دهائها ومعين دوائها ونصف لها من التشريع الإسلامي علاجها على ضوء الظروف والبيئة المحيطة بها
ثانياً: نستطيع أن نحسن صوغ التشريع الإسلامي وتنسيقه، فمن المسلم به أن جمال الصيغة وحسن الترتيب لهما دخل كبير في إقبال الأمة على أحكام الشريعة وتعرف نواحي الفضل فيها. ولو أن سلفنا القريب قدر ما في هذا من خير وصاغ تلك الأحكام في الثوب الذي يلفت الأنظار إليها، ويتمشى مع طرق العرض الحديث لما وصلنا إلى هذا المصير المؤلم
ثالثاً: بتحقيق هذه الرغبة تستطيع كلية الشريعة أن تثبت أهليتها للنهوض بأعباء الحياة التشريعية وأن تشعر الأمة بحاجتها إليها وعدم الاستغناء عنها
مما تقدم يتبين أن تحقيق هذين المطلبين يمكن كلية الشريعة من الاضطلاع برسالتها التي فرضها الله عليها فتشتق من عناصر الفناء التي تحيط بها خلوداً وتتخذ من خصومها جنوداً وتشق طريقها في الحياة وهي أقوى يقيناً وأصلب عوداً
لهذا رفعنا رسالتنا إلى ساحتكم وكلنا أمل في أنها ستجد العناية من فضيلتكم وستظفر(359/32)
بالرضا من جانبكم، لأنها ثمرة من ثمرات غرسكم وبريق من نور قلبكم. أبقاكم الله للإسلام ذخراً وللأزهر فخراً.
(الرسالة): علمنا أن الأستاذ الأكبر قد وعد بتحقيق المطلب
الأول. أما المطلب الثاني فوعد فضيلته بمفاوضة ولاة الأمور
في فتح أبواب كلية الحقوق أمام من يجيد الفرنسية من حملة
الشهادة العالية من كلية الشريعة.(359/33)
إلى أخي الطنطاوي
ولكنها دمشق!. . .
للأستاذ شكري فيصل
(سيلمح القراء في هذه الكلمة بعض النواحي الشخصية. . ولكنهم سيجدون صورة من صور الصراع النبيل القوى في الحياة. . . وليس أحق من الدكتور (زكي مبارك): شيخ المصاولات والمطاولات في عالم الأدب، بهذه القطعة. . . فليتقبلها في معتكفه الهادئ. . . على طرف الصحراء)
(شكري)
أخي الأستاذ علي:
الآن أرسلت يدُي بعد أن مسحت بهما دمعتين اثنتين غشيتا عيني وانحدرتا على خدي كقطرات الندى الناعم حين يترقرق على أوراق الزهر الرفاف في ربيع الغوطة الفاتن. . . ولقد أخذت القلم لأكتب لك، وأنا لا أدري أي شيء كانت هاتان الدمعتان. . . أكانتا تطفئان نار الوله والحنين، أم ترثيان لوضع البلد المسكين، أم تترجمان عن فرحة القلب بالأمل المؤيد والنصر المبين؟ وهل كنت أملك إلا هاتين الدمعتين، وإلا هذا القلم أفزع إليه كلما عبث بي الشوق، أو ماجت بي الذكرى، أو استثارني الحب
لقد قرأت زفرتك هذه التي سطرتها بدم قلبك الفائر، وعزم شبابك المضطرم؛ فبعثت في نفسي عالماً كبيراً. . . بكل ذكرياته وأحاديثه. . . ما كان أشد حرصي على أن أدفنه وأنطوي عليه؛ وأثارت في ذهني صور الماضي البعيد بكل ما كان يصطرع فيه من آمال، ويفيض فيه من خواطر. . . ونعمت حيناً بهذا الجو العبق الذي فنيت به، وعشت معك من جديد ساعات تقلبت فيها مع الزمن الدائر، وجريت مع الأيام المتعاقبة، وقرأت هذه الصفحات المشرقة التي خططتها بيديك في كتاب الحياة، وعاودت قراءتها وانغمست في نعيمها حيناً وفي شقائها أحياناً. . . ومضيت مع فرحتها مرة، ومع شكاتها مرات، وخرجت وفي قلبي يقين، وعلى شفتي ابتسامة، وفي عيني بريق من الأمل الضاحك
لقد عرفتَني ناشئاً حين كنت أسير مع أخيك بين المدرسة والبيت. . . صغيرين وادعين. .(359/34)
لا نعرف آلام الحياة، ولا نفقه مصاعب الدنيا، ولا ندرك من هذا العالم إلا جنة المدرسة ونعيم التلميذة وصفاء القلب. . . فكنت تلقانا بالرعاية، وتصلنا بالعطف، وتفيض علينا ألوانا من الحنان. . . فعرفتُ فيك الأخ البر، وقد حرمتْني الحياة من نعيم الأخوة. . . وأفضيت إليك ذات يوم بكل ما في نفسي. . . بكل ما يموج فيها وما يضطرب عليها. فكنتَ بعدُ كثير السؤال عني إن غبت، كثير العناية بي إن حضرت، واقترنت صورة أخيك في ذهنك إلى صورتي فجعلت منهما إنساناً واحداً تضمر له أنبل الشعور وأصدق العاطفة. . . ثم كانت إرادة الله فانصرفت أنت إلى بغداد، ومضى هو إلى باريس، وسعيت أنا إلى القاهرة. وبقي (ناجي) وحده في دمشق يرعى فيها عهود الصبا ومراتع الأنس، ويمدنا منها بالروح والريحان
وفي خلال هذه السنوات كنت أتعرف إلى نفسك الكبيرة وكان يتفتح لي منها آفاق وعوالم، ولقد أكبرت فيك هذا الجلد وهذا الصبر. . فما بالك تشكو اليوم، وتنفث هذه الشكاة على حين احتملت من قبلُ الأهوال والمشقات، ضاحك السن، منطلق الوجه، لا تأبه ولا تهتم؟ ولكن سامح الله قاسيون، وهذه السهول المنطلقة عند قدميه يدغدغها النسيم فقد شجتك واستثارتك. . .
. . . وهل كانت الأولى هذه العماية عن الأدب، وهذا الإهمال للعلم، وتلك الرعاية للجهلاء؟ وهل كنت تأمل من هؤلاء الذين عاشوا في الظلام أن يدركوا النور، وأن يفتحوا عيونهم له، وأن يغفلوا عن الوحي (الأرض) الذي يسيرهم في كل ناحية، ويمضي بهم في كل اتجاه؟ وماذا كان حديثك لنا حين كنت تبعث فينا حمية الأدب، وعقيدة العلم، إلا أننا سنصادف غداً في معترك الحياة هذا الإنكار وهذا الجحود. وأنه يجب علينا أن نصبر عليه ونصمد له ونمضي في مقاومته، وأننا سنحمل في أيدينا مشاعل الدعوة الكبرى التي تريدنا دمشق أن ننهض بها، وستصيب النار المقدسة من أجسامنا فتكوى أكفنا وتنثر الشر على أجسادنا وتنالنا بما تنال به جنودها المخلصين من الامتحان والابتلاء. . . فلا يجب علينا أن نتخلى عنها، لأنها دعوة الحق والصدق والخير تريد أن تنبعث من جديد في دمشق لتعم الدنيا، وتبهر العالم
إن دنيا الأديب لن تخلو من أنماط من الجحود. . . هكذا قلت لنا. . . وإن رسالته لتصادف(359/35)
ألواناً من الصعوبات، وأصنافاً من المشقات، حتى لكأن الله قد أراد له أن تصهره الشدائد، وأن يصقله الحرمان حتى يكون إنساناً آخر في إحساسه المرهف وشعوره النبيل، وعواطفه المتدفقة
وهل تخلو حياة الأدباء من هذا الصراع العنيف بين النور المتدفق الثر، وبين الجهالة الكابية المعتمة؟ وماذا يريدون منك حين يحولون بينك وبين العدل، ويحاولون أن يقصروك على منصب (الأستاذ المعاون) إلا أن يصرفوك عن الدعوة النبيلة التي قدحت شررها، وأثرت نارها، ونشرتها في كل قلب؟!. . .
نحن لم نخلق لهؤلاء البغاث، وسيذهب أولئك الذين يتخذون منقار النسر وجناحه ومخلبه. وستبقى رسالة دمشق الغالية، وسنتحمل الأذى، وسنذوق مرارة الحرمان اليوم، لنبلغ حلاوة الظفر غداً. وثق أنك لست وحدك في هذا الاضطهاد والحرمان، ولكنها سبيل مرسوم، وسهم مسموم، يقذفون به عباد الله الذين لا يستطيعون هز الرؤوس للممالأة! وحتى الظهور للنفاق، وإلا فما تقول يا سيدي وماذا يقول الناس عنا نحن هنا؟ يبعثون بنا إلى القاهرة: أروع بلدان الشرق وأزخرها بالحياة والنشاط لنمثل مدينة من أكرم المدن، وأمة من أنبل الأمم، ثم يبخلون أن يسووا بيننا وبين البعثات الأخرى التي يوفدونها إلى باريس وغير باريس؛ فيقدمون لنا المرتب - والحياء يعقل لساني عن أن أقولها - جزءاً من خمسة أجزاء من مرتب عضو البعثة. . . كأن القاهرة بلد آخر غير باريس. . . وكأن الطلبة يأكلون هناك ويصومون هنا. . . أجل!. . . ولم لا يصومون؟. . . في جوار الأزهر، وعلى مقربة من سيدنا الحسين ليتضاعف ثوابهم، ويجزل أجرهم؟. . .
وأحسب أن الحرمان سيمتد بك وبإخوانك؛ فما يؤذي هؤلاء في الدنيا أكثر من الصراحة والحق. . . ولكنك لن تني عن (رسالتك)، ولن تتخلى عنها. . . وإذا لم تجد في جماعات الوزارة، ورجالات الديوان، من يمتَّ إليك بسبب، أو ينهض معك في حق. . . فتك إرادة الله أن تكون صفحتك في كتاب الحياة بريئة، إلا من نصرته وتأييده. . . لقد اقتحمت الحياة، وصارعت أمواجها طفلاً ليس معك إلا والدتك عليها رحمة الله. . . ولقد حملت أخواتك على كتفيك في هذا الخصم الهائل، وتعرضت لألوان من الشدة ومن النكد، حتى صعدت بهم إلى هذه المنازل السامية التي ينزلونها. . . وأصبحت بين هاتين المرحلتين ما(359/36)
لا يعلمه إلا الله. . . وإلا هذا العدد اليسير من إخوانك، وتقلبت بين بيروت وبغداد والقاهرة. . . وحفظ لك الناس صورة بارعة تحوطها هالات الإعجاب والإكبار والتقدير، فليهنك هذا. . . وليهنك أنك ساهمت في كل مشروع، وأنك تقدمت لكل عمل منذ كنت يافعاً في الثانوية، وشاباً في الحقوق، وقائداً وخطيباً في لهب الثورة وجحيم الاضطرابات. . . فتاريخك - مع هذه الحفنة الصادقة من الشباب - أبعد من أن تحده بهذه الحدود الضيقة من الوزارة والديوان، وما عليك أن تلقي اليوم هذا الضيقة، وهذا التجاهل. . . فذلك تأريث لعزتك، وإيقاد لشعلتك
أما الشهادات. . . هذه الأوراق السحرية التي يحملونها حين يترجمون نصاً لابن المقنع، أو يميزون بين مضارع (قال)، ومضارع (وعد). . . ويعودون بعدها من أهل العربية. . . فهي ليست أكثر من أن تكون بمثابة (الشيك) على (خزانة الحكومة). . . ولكنها لن تكون قط السبيل إلى قلوب الناس وضمير الزمن وسجل الخلود. . .
لن تظلمك دمشق هذه المدينة الصابرة الوفية. . . ولن تجزيك عن البر بالنكر، وعن الإحسان بالإساءة، فلقد خلدت منها كل صور الجمال، ومواطن الجلال، ومجال العظمة. . . ولقد نشرت على الناس صورتها الرائعة في مآدنها المتألقة، وقبابها الناهضة، ومساجدها المترعة بالنور والفيض، وبساتينها الملأى بالحسن والجمال. . . وغوطتها الضاحكة على رغم هذا الزمن العابس. . . وإن ما تلقاه الآن من أوضاع، وتجده من أذى، لا يتصل بدمشق ولكنه محمول عليها. . . فدمشق مخلصة نبيلة. . . آوت من قبل ألوان البشر، وآلاف العلماء، وفتحت صدرها للناس من كل مكان، تلقاهم بالتحية الضاحكة، وترعاهم بالود الخالص، وتنزلهم منها منزلة الولد والصاحب والرئيس!. . . ولن تنسى أبناءها لأنهم كل ما أبقيت لها يد الزمان الغادر. . . إن قلبها ليرعاهم ويحوطهم، ويهتز لهم هزة الحب. ولئن عميت طائفة عن هؤلاء الأبناء، وعن هذا النور ينسكب من وجوههم وقلوبهم؛ فإن طوائف وطوائف أخرى تتطلع إليهم بأعناقها. . . وإنها لتنظم لهم من حبات القلوب، وأزهار الربيع، وأغصان الغار، تاج الحب. . . وإنها لتوقع لهم مع نسمات الأصائل التي تزخر بالعبق نشيد الإعجاب. وإن أصوات المآذن التي تنادي: الله أكبر، الله أكبر، خمس مرات في اليوم، إنما تنبعث من أعماق قلب هذه المدينة لتهيب بهؤلاء الأبناء أن يمضوا(359/37)
قدماً في دعوتهم وجهادهم لخلاصها من مفاتن الباطل والضلالات
لقد هدأ الليل، وسكن الناس. . . وأخذت أستشعر لهذه النسمات بعض القسوة. . . وليس من حوالي إلا حديث القمر، وهمسات النجوم. . . أحملها كل حنيني لك، وللأخوان السامرين، وللجادة الخامسة. . . وللغوطة الزهراء
. . . وألف تحية وسلام يا دمشق الحبيبة الوفية
(القاهرة)
شكري فيصل(359/38)
تأملات
للأستاذ محمود الدسوقي
خابت آمالي إلى اليوم مرات، فكانت مرة تذهب بقطعة من نفسي. وأمس تلقيت الدرس الذي لم يكن مفر من تلقيه، فالحقائق تؤلم وتصدم وتدمى في بعض الأحيان، لكن فيها شفاء للنفس بعد حين، وقد تركتني صدمة الأمس صريعاً بين التي أحببتها حتى العبادة، والتي وددتها حتى الحب؛ وجرح مصاب الأمس كبريائي، وعفرني بالتراب، وأطلعني على الخفي الذي عز إلى الآن على الأوهام
أنت يا فتاتي قاسية لأنك قديسة، رحمة مع ذلك لأنك من بنات حواء، وقد تركتك بالأمس لا أعلم، أإلى تلاق أم تطغى كبريائي على حبي فيكون الفراق، والفراق مرُّ أمرُّ منه أن نلتقي بعد الآن
لقد حاولت جهدك أن تكوني مهذبة معي إلى غاية حدود التهذيب، لكنك لم تحاولي مرة أن تكوني لطيفة
كان وجهك كقطعة من المرمر؛ ناعم الملمس بارده، وكان مثله تتخلله تلك المعاني الكامنة فيه، ولا يدلني على شيء يهديني إلى الصواب. شئت به الإنذار فكان، وشئت به الإخطار فكان؛ ثم حاولت أن أتلمس في معنى من معانيه غرائز، فألفيته فيه، لكني لم أنته إليه، فبيني وبينه ذلك السطح المتجمد من العاطفة الجائشة فيما يليه
هذا هو فن المرأة التي لم تتعلم ضبط النفس من أمها حواء، وإنما تعلمه من غباوة الأبناء، أبناء أبيها آدم، وقد كنت معها غبياً إلى حد، ذكياً إلى حد؛ لكن الخرق يعلق بالحكيم، ولا تذهب الحكمة بالخوف العالق
ترى لو رأيتك اليوم ما أنا فاعل؟ أكبر الظن أني سأحاول أن أكون فظاً، فلا أغدو أن أكون متهالكاً ضعيفاً، وسوف تعود المياه فيما أتوقع إلى مجاريها، وأعاود خرقي، وتعاودين دروسك، ولن أفوز يوماً برضاك المحض، ولن أعود أبداً بجفاك المحض، وهذا مبعث تعاستي وهنائي
حاولت بالأمس، وإني لمنصرف عنك مطرق الرأس، أن أرفع فيك عيني، وفكرت في تحيتك فلم أفعل، وكنت أنت متغافلة عني تأملين بقائي ولا تحاولين استبقائي حتى تواريت.(359/39)
وقد تواريت وأنا معتزم الرحيل إلى غير رجعة فلم يصبح الصباح حتى كان حديث النفس إلى ختام، وكانت مشيئتي قد تبلورت في عزم أكيد
حذار يا فتاتي أن تظهري اليوم أو غداً فإني قاس مع نفسي رحيم معك، وأحب أن تفسحي لي الوقت ليقوى التصميم، ولا أعلم ما أنا فاعل ولكني أعلم ما أريد، والقطعة شر مفض أحياناً إلى الخير، وهو خير سوف أشتريه غالباً، فأنكر فيه نفسي، وأتنكر لماضي حبي المنكوب. وقد ذهبت آمالي فيك إلى الهوة التي يتردى فيها المحزون لتضيف إلى تجاريبهم في أنفسهم تجاريب أخرى بالسماع. وإنها في هذه الهوة لتبقى وقد حاولت يأساً قاتلاً، كالقمح اليانع قد جف واسود من عصف الريح
وإذا جاز للعاصفة أن تهدأ فقد جاز لنفسي أن تستكن وأن تعود فتثور كما هو بالعاصفة خليق. وقد عصفت تجاربي بأحلامي غير مرة فلم تفني فيها إلا هذه المرة، وكنت أجمع ما تفرق منها كل مرة لأعاود حبي في أسر شديد، فاليوم يضيق به الأنف ويضيق به الصدر، ولا يجد متنفساً إلا في أن يأكل النفس التي غذته وأشبعته حتى بات المنهوم
إنه جارف، وإنه ليحطم، وإنه ليخلف ما تخلف العاصفة من أثر بعد عين، فهو الحب اليأس وهو الحب المحروم
محمود الدسوقي(359/40)
رسالة الشعر
رجال ونساء
للأستاذ علي محمود طه
للشاعر المهندس الأستاذ (علي محمود طه) ملحمة شعرية تقع في نحو أربعمائة بيت من الشعر لم تنشر بعد. عنوانها (البعث الأول) يدور الحوار فيها بين شاعر وملك وأرواح حوريات في انتظار البعث. أما موضوع الحوار فهو الفن وأثره في العلاقة بين الرجل والمرأة، وما أثر الغريزة فيه، وكيف تلهم الأرواح قبل حلولها في أطيافها الميل إلى الشر أو الخير. وننشر فيما يلي هذا الحديث الذي يسوقه الشاعر على لسان الأرواح)
بليتيس:
هو الحسنُ فنَّانُنا العبقريُّ ... هو الحبُّ سلطانُنا القاهرُ
ممثلهم لُعْبَةٌ في يديهِ ... ومثَّالهم إِصْبَعٌ فاجرُ
وألحانهم من فحيحِ العروق ... يُرَجِّعها الوتر الساخرُ
ورسَّامُهم صَنَمٌ مُبْصِرٌ ... فإِن جُمِعوا فهمُ الشاعرُ
قلوبٌ مُدَلَّهةٌ بالجمال ... ترى فيه معبودَها المُلْهَما
هو الرجلُ القلبُ، لا غيره ... فأَوْدعْنَهُ القَبَسَ المضرما
أَنْمِنَ به الشَّرسَ المستخفَّ ... وأيقظنَ فيه الفتى المغرما
إذا ما اقتحمتنَّ هذا السياجَ ... فقد خضع الكونُ واستسلما
سافر:
ولكنْ حَذَارِ ففي طبعنا ... ليانٌ يسمُّونه بالوداعه
وفيهم جراءةُ مستأسدٍ ... تَحدَّى المنيةَ باسمِ الشجاعه
بليتيس:
وَهْمِتِ فذلك هَزْلُ الرجال ... وفَنٌّ أجزنا عليهم خداعه
نُذيب به صُلْبَ أعصابهم ... وفي رِقّةِ العود سرُّ المناعه
سافو:
أطلنا الأحاديثَ عن عالمٍ ... مُلثَّمةٍ أرضُه بالخفاءْ(359/41)
جعلناه مطمحَ أحلامنا ... كأنّا شقينا بسُكنى السماءْ
طوانا على حُبِّهِ شاعِرٌ ... كثيرُ المجانةِ نزرُ الحياءْ
أثار الملائكَ في قدسها ... وأوقع في سحرهِ الأبرياءْ
بليتيس:
عجبتُ له كيف جاز السماَء ... وغرَّرَ بالملأ الطاهر؟
أيمرحُ في الكون شيطانُه ... بلا وازعٍ وبلا زاجر
دعي الوَهم سافو ولا تَحْقِري ... بليتس معجزةَ الشاعر
فما نتقيهِ بحيَّاتِنا ... إذا هو ألقى عصا الساحر!
ناييس:
بليتيسُ هَلْ هو ذاك الخيالُ ... المُجَنَّحُ بين حواشي الغيومْ
عَشِيَّةَ صاح بأترابنا ... وقد أخطأته قِيسِيُّ الرجومْ
وقيلَ لنا مَلَكٌ عاشِقٌ ... يُسرِّي الهمومَ ببنتِ الكرومْ
يجوبُ السماَء إذا ما انتشى ... يُعَرْبدُ بين خدورِ النجومْ
بليتيس:
أعاجيبُ شَتَّى لهذا الفتى ... وأعجبُ منها الذي تذكرينْ
كأنَّ أحاديثَه بيننا ... أساطيرُ آلهةٍ غابرينْ
إِذا كان للشعر هذا الصيالُ ... فوا رحمتا للجمال الغبينْ!
وَدِدْتُ لو أنيَ في إِثره ... درجتُ على الأرض في الدارجينْ
سافو:
أتغوين بالشعر شيطانَه؟ ... خياليةٌ أنتِ أم شاعره!
بليتيس:
بل الشعرُ آسرُهُ المستبدُّ ... فيا ليتَ لي روحَه الآسره
ويا ليتَ لي وثباتِ الخيالِ ... وقوةَ أربابِه القاهره
لصيَّرتُهُ مِثْلَةً في الحياةِ ... وسُخرية البعثِ في الآخره
ناييس:(359/42)
صفى لي بِلِيتيسُ هذا الأملْ ... وماذا ابتدعتِ له من حِيَلْ؟
بليتيس:
أُدَلِّهُ هذا الفتى بالجمالِ ... وأُسْمِعُه من رقيق الغزلْ
وأورثه جُنَّةً بالرحيقِ ... وأَحْرِمُه رَشَفَاتِ القُبَلْ
إِلى أنْ تُحَرَّقَ أعصابُه ... ويصرَعه طائفٌ من خَبَلْ
وأحفرُ بعد الردى قبرَه ... هناك على قِمَّةِ الهاويه
وأغرس في قلبهِ زهرةً ... من الشرِّ ريَّانةً ناديه
سَقَتْها سمومُ شرايينه ... ورفَّتْ بها روحُه العاتيه
تخفُّ إليها قلوبُ الرجال ... وترجع بالشوكةِ الداميه
إذا جَنَّها الليلُ لاحتْ به ... كعينٍ من الَّلهَبِ المضطرمْ
تثور الشياطينُ من عطرها ... كمجمرِة الكاهن الملتثمْ
إذا استافَها الرَّجُلُ العبقريُّ ... تحَوَّل كالحيوان الوخِمْ
تصيحُ البلاهةُ من حوله ... فينظر كالصَّنَمِ المبتسم!
تاييس:
هبي الشعرَ أولاكِ من مُلكه ... سماَء الألُوهةِ ذات البروجْ
ونصَّ المعاني على جانبيكِ ... فمنها السُّرى وإليكِ العروجْ
فما تصنعينَ إذا ما بُعِثْتِ ... واحدةً من بنات الزنوجْ!
ألم تسمعي قِصَّةَ السامريِّ ... وما صَنَع القومُ بعد الخروجْ؟
نبا منطقُ الوحي عن سمعهم ... وخفَّ عليهِ رنينُ الطربْ
ومَدُّوا العيونَ إلى دُميةٍ ... تَمَثَّلُ في حيوانٍ عَجَبْ
ترامي بأحضانهِ غادةٌ ... أفادَ صباها شبوبَ الَّلهَبْ
جنونُ الحياةِ وأهواؤها ... أنوثَتُها وبريقُ الذّهَبْ!!
فأينَ من القوم سحرُ البيانِ ... وصيحةُ موسى قُبَيْلَ الوداعْ؟
هُمُ الناسُ لا يعشقون الخيالَ ... إِذا لمْ يكنْ حافزاً للطِماعْ
همُ الناسُ لا يعبدون الجمالَ ... إذا لم يكنْ نَهْزةً للمتاعْ(359/43)
همُ الناسُ لا يألفونَ الحياةَ ... إذا لم تكنْ مَعْرِضاً للخداعْ!
سافو:
تماثيلُهُ بعضُ أجسامنا ... وقد صاغها العبقريُّ الصَّنَاع
ولوحاتُهُ صُوَرُ العارياتِ ... إذا مَزَّقَ الفنُّ عنها القناع
أبا الشعر - تُغوينَ هذا الفتى؟ ... وَهِمْتِ إذنْ - وجهلتِ الطباع!
أليستْ له صبوةُ الآدميِّ ... وشهوةُ تلك الذئابِ الجياع؟
بليتيس:
رجعتُ لنفسي فلا تغضبا ... وكُفَّا العتابَ ولا تسْهِبا
لقد رُعْتماني بهذا المزاحِ ... وأبدعتما نبأً مُغْرِبا
سَرَتْ بيَ من ذكرهِ رعدةٌ ... كأني لبستُ به الغيهبا
أتاييسُ ما كنتُ بِنْتَ الزنوجِ ... ولا شِمْتُ أُمّاً بهم أو أبا!!
تاييس:
وَصَمْتِ الخليقةَ في بعثهم ... كأنّهُمُ الحدَثُ المنكرُ
وما أخطأ الطيفُ ألوانَه ... ولكنَّه القبَسُ الأحمر
أبوهم كما زعموا آدمٌ ... وأفئدةٌ بالهوى تَشْعُرُ
لهم نارهم في أقاص الدُّجى ... وأبياتُهم في أعالي الكهوفْ
ورقصٌ يُمَثِّلُ قَلْبَ الحياةِ ... إذا ما استُخِفَّ بنقرِ الدفوفْ
ونايٌ يُقسِّمُ فيه الربيعُ ... ويسكبُ شجوَ الليالي الهتوفْ
وسحرُ الطبيعةِ في عُرْيها ... إذا هَتَكَ الفجرُ عنها الشفوقْ
تتَفَرَّدَ فّنهُمُ بالخلود ... وصيغَ بفطرتهم واتّسَمْ
يعيش جديداً بأرواحهم ... وإن عاش فيهم بروح القدَمْ
له بأس (مانا) وإيحاؤه ... إذا اضطربتْ رُوحُه بالألم
وَرِقّة (هاوايَ) في شدْوها ... إذا جاشَ خاطرُها بالنَّغَمْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من فنهم ... سموُّ اللظى وعتوُّ الجبالْ
ألا فلْيَكُنْ لكِ من سحرهم ... فنونٌ تُعَطِّلُ سحرَ الخيالْ(359/44)
ألا فلْيَكُنْ لكِ من نارهم ... وشاحُ مُؤَلهَّةٍ بالجمالْ
إلى الأرضِ فانتقمي للنساءِ ... وكوني بها محِنةً للرجالْ!!
علي محمود طه(359/45)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
5 - من الموسيقيين
مصطفى بك رضا
الفنان المصري الوحيد الذي له تمثال منصوب في معهد رسمي من معاهد الحكومة. فهل الحكومة تسمع من الموسيقى ما لا نسمعه نحن الرعية؟ وهل سمعت الحكومة فيما سمعت من هذه الموسيقى شيئاً لمصطفى بك رضا لم تستطع أن تمسك نفسها معه دون أن تقيم له تمثالاً في حياته مع أن هذا أمر شاذ جداً يكاد يكون منقطع النظر. . . فإذا كان الأمر كذلك فأين هي يا حكومة هذه الموسيقى التي ينتسب مصطفى بك رضا إلى الفن بها؟ ألم يكن الأجدر بها أن تكون أول ما تكون في ذلك المعهد الرسمي الذي أقيم تمثال مصطفى بك رضا فيه؟ ليس في ذلك المعهد شيء من مصطفى بك رضا إلا التمثال، فهل هذا التمثال يغني في وقت من الليل أو النهار لا يعرفه أحد غير الحكومة، فتذهب إليه في ذلك الوقت تسمع غناءه في استخفاء ضناً منها به أن تختلس آذان الشعب منه آهة، أو تنال أفئدة الشعب منه تنهيدة؟ فهنيئاً إذن للحكومة!. . .
أو قل هنيئاً لمصطفى بك رضا، وأعلم أنه كما استطاع لنفسه أن يقيم تمثالاً في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية من غير أن يكون له في الموسيقى إلا أنه يعرف أن يعزف بعض المحفوظات على القانون. . . فإنه يستطيع كذلك أن يقيم لك تمثالاً في كلية الآداب مثلاً إذا ثبت لديه أنك تفك الخط فقط لا أكثر ولا أقل. . . فإذا كانت لك رغبة كهذه فها هو ذا عندك ملء الدنيا كلها فاتفق معه على الأسلوب، إنك تجده فيما بين المعهد، ومحطة الإذاعة، ووزارة الأوقاف، ومسجد السيدة نفسية. . . ومهما ينصحك بشيء فاعمل بنصائحه حتى لو رأيت نفسك ستضحي في البدء بالقليل أو الكثير، فالرجل لا يتجه إلا إلى شيء واحد، وهو أن الآخرة خير ربحاً وأبقى كسباً(359/46)
الأستاذ عبد الوهاب
مسكين هو مع مصطفى بك رضا. كلما رأى موسيقاه تملأ البلد، ويغنيها الناس هنا وهناك، ورأى الحكومة مع هذا كله تنكره فلا تنزع من معهد الموسيقى تمثال مصطفى بك رضا لتقيم مكانه تمثاله هو، أو تقيم له تمثالاً مع تمثال مصطفى بك رضا - كلما رأى هذه الحال ضاق ذرعاً وعجب للموازين التي يوزن بها الناس في هذا البلد
ولقد اهتدى أخيراً إلى فكرة نفذها فارتاح بعدها واطمأن، لأنه ساوى بها مصطفى بك رضا، بل إنه وصل بها إلى حيث لا يستطيع مصطفى بك رضا أن يصل بتمثاله، ذلك أن الأستاذ عبد الوهاب أقام لنفسه تمثالاً نصفياً، ثم صوره بالسينما ولصقه في أوائل فيلم يوم سعيد فهو يعرض على الناس كلما عرض الفيلم، والفيلم كما تعرف يسافر داخل القطر وخارج القطر، فيراه الناس هنا وهناك، بينما تمثال مصطفى بك رضا لا يراه إلا الذين يزورون المعهد الموسيقي فقط
صحيح أن الناس يرون الأستاذ عبد الوهاب نفسه في الفيلم ويسمعونه، وأنه لا لزوم مع هذا إلى التمثال؟ ولكنه تنافس الموسيقيين في تشجيع إخوانهم النحاتين!
الدكتور الحفني
هو موسيقي من نوعي أنا، ولكنه يعلم ما لا أعلم عن تاريخ الموسيقى، وآلاتها، وأسمائها، وشتى شئونها، وهو يشبهني من حيث أنه لا ينتج شيئاً منها، وإن كان يكثر من الحديث عنها إكثاراً نال به الدكتور فيها من ألمانيا لا من هنا. . . من ألمانيا
6 - من الشعراء
الأستاذ محمد الأسمر
كان ترتيبه الأول بين حضرات الشعراء الذين تقدموا لمسابقة الأناشيد الحماسية التي عقدتها وزارة الدفاع، فنال الجائزة السنية
الأستاذ أحمد رامي
في يوم من الأيام قال في أغنية الأستاذ عبد الوهاب:(359/47)
تعالى نفن نفسينا غراماً ... ونخلد بين آلهة الفنون
أرتل فيك أشعاري وأصغى ... إلى ترجيعك العذب الحنون
. . . فكان شاعراً رائعاً، وهو اليوم يقول في أغنية للأستاذ عبد الوهاب أيضاً:
تنزل وادي وتطلع كوبري!
تحود مرة وبعدين دوغري!
يا وابور. . .
. . . أحترف! نجاه الله ورده شاعراً رائعاً. . . أو فليبقه الله هكذا فإن الشعر عذاب! أو فليدع الله هو بما يشاء!
الأستاذ محمود إسماعيل
الشاعر الذي لا يزال مصرياً والذي أدعوه إلى أن يغزو بإحساسه ثم بشعره نفوس الناس حتى يكون شاعراً إنسانياً. وإني وإن كنت أدعوه إلى هذا فإني أطلب منه ما يتعبه فهو لا يخالط الناس إلا ليسخر منهم، لأنه يعتقد أن الناس لا يتعارفون إلا ليسخر بعضهم من بعض، فلو ظل على هذا لظل شعره بعيداً عن الناس الذين لا يعاشرهم بنفسه فلا تشعر بهم نفسه ولا يدركهم شعره
فهل عقد العزم على أن يبقى هكذا شاعر القمح والثور والشادوف وعينيها وشفتيها وما يشبه هذا؟
إن عليه أن يدرب نفسه منذ الآن على أن تحب الناس وحياتهم رغم ما فيها؛ فهذا الذي فيها هو موضوع الشعر وموحِي أخلده، وهو شاعر
الدكتور إبراهيم ناجي
لم يكن هذا الشاعر يستطيع إلا أن يكون فناناً على أي وجه من الوجوه وفي أي فن من الفنون، فله نفس تضطرب بالبهجة والرحمة والحب، فهو على العكس من صاحبه محمود. . . بذل نفسه لكل ما حسن عنده، وإنه ليحسن عنده كل ما يرى، فهو في شعره: إما محب هاتف للحسن، وإما محب راث للحسن إذا مسه الأذى
7 - من الرسامين(359/48)
الأستاذ عبد السلام الشريف
عقله له أسلوب، ويده لها أسلوب؛ وأسلوب عقله يؤدي بفنه إلى مسرح العواطف الإخلاص والوداعة والرضا؛ وأغرب ما فيه هو الرضا، فهو لا يسخط على ما أعتاد أهل الفن أن يسخطوا عليه. له رسم صور الدنيا أما ذات طفلين ترضع أحدهما دون الآخر، فالراضع يرضع هادئاً لا يشغله شيء إلا الرضاعة، والآخر متبرم بهذا، ولكنه لا يزيد في تبرمه على أن يمط شفتيه. . . فلو كان الحقد يعرف قلب الأستاذ الشريف، لكان قد صبه نقمة في وجه من هذه الوجوه الثلاثة، ولكنه نثرها جميعاً بوداعة ورضا وإخلاص للحق، فالدنيا حين ترضع من ترضع من أبنائها، وحين تغفل من تغفل منهم، لا تفعل ذلك عن ميل إلى الجريمة أو الظلم وإنما هي أم، والطفل الذي يرضع. . . يرضع وهو لا يقصد أن يظلم أخاه الذي أهملته أمه، والطفل المهمل نفسه كان عند الأستاذ الشريف حكيماً يمط شفتيه إذا أهمل، صابراً راضياً مؤملاً أن يشبع أخوه وأن تعطف عليه بعد ذلك أمه
هذا هو أسلوبه العقلي
أما يده، فسريعة رشيقة خفيفة، لا ثرثرة في خطوطها ولا زحمة؛ وإنما هي أقواس تجري بها يده على الورق فتضع الحدود اللازمة لحصر الفكرة التي تريد أن تؤديها، وهو بعد ذلك يترك الناظر إلى رسومه يكمل من خياله ما كره هو أن يفصله، فيرغم بتفصيله إياه قارئه أو الناظر في صورة على أن ينحصر معه
8 - من الخطباء
الأستاذ فكري أباظة
يغيظني من هذا الرجل تبعثره، ولست أدري متى يوحد نفسه ويتجه بمواهبه إلى هدف واحد؟ هو الآن محام، وصحفي، ونائب، وهو فوق ذلك كله - كما قلت عنه مرة - أباظة؛ يتعهد بالدعاية لكل أباظة من أهله العاملين في الحياة المصرية العامة
والشيء الذي لا أشك فيه هو أن أعظم ما وهِبَهُ الأستاذ فكري هو قدرته على الخطابة، فإن له شخصية محببة ترتاح إليها النفس، وان صوتاً مدوياً تهتف له الأرض، وإن له عقلاً جارياً يسعفه بالفكرة، فان قصر عنها أسعفه بالنكتة، وإن له لساناً ليناً يطاوعه ويتدفق بأمره(359/49)
فلا يتعثر ولا يتوقف، وإن له إلى جانب هذا كله قلباً يكدس عليه الأستاذ فكري أثقالاً وأثقالاً من آماله المشتتة المبعثرة، ومع ذلك فإنه لا يزال ينبض تحتها حياً
الأستاذ مكرم باشا
خطيب الجماهير بلا منازع. أول ما يعمد إليه إذا وقف الخطابة هو أن يسكر سامعيه ليقول لهم بعد ذلك ما يريد، وهو يجد عنده من خمر البيان أو سحره ما يذهب بالعقول ما لم تكن راكزة ركوز الأهرام، وهو لا يدع مواقفه الخطابية للصدفة، وإنما هو يعد لها العدة إعداداً، فيكتب خطبة وينمقها، ويقطعها، ويلحنها، ويقوم أمام الناس فيلقيها فإذا هم عواصف وقتما يريد لهم أن يكونوا عواصف، وإذا هم نسائم وقتما يريد منهم أن يكونوا نسائم
الأستاذ توفيق دياب
مسرحي إلى حد كبير في خطابته. . . سمعته يوماً في مسرح البلفدير في الإسكندرية يرثى سعداً عقب وفاته، فرايته يقوم وهو بالمعطف و (التلفيعة) يشكو للجمهور المرض وعجزه عن القول، ثم تحمس قليلاً حزناً على سعد فانطلق يقول ويقول حتى فرض الجمهور أن الدم جرى في عروق الأستاذ فملأها حرارة وهنا خلع الأستاذ (التلفيعة) ومضى وحماسته تزداد، حتى استثقل الناس المعطف عليه فخلعه هو أيضاً، ثم زاد فخلع الطربوش، ثم أخذ يقفز بعد أن خف في المسرح ويضرب أرضه برجله، وأثاثه بيده حتى هم بأن يختم الخطبة فخفف من حماسته قليلاً ووضع الطربوش على رأسه، ثم خفف منها قليلاً وارتدى المعطف، ثم فتر فلف (التلفيعة) على عنقه، ثم تعيا وتراخى فما جلس حتى كان يشكو المرض في نهاية خطبته كما كان يشكوه في بدايتها، فكان ختاماً فنياً مسرحياً كما رأيت، وباهراً كما رأى الجمهور
9 - من المعلمين
الأستاذ إبراهيم مصطفى
أستاذ النحو بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. هذا المعلم وهب نفسه للنحو، وهو يحب النحو الذي أودعه نفسه لتلامذته فإذا هم يتلقونه نحواً حياً فيه روح، ولا ريب أن هذه أعجوبة من الأعاجيب، فقد كان النحو ولا يزال من أثقل علوم العربية وفنونها على النفس، ولكن(359/50)
الأستاذ إبراهيم مصطفى يحببه إلى النفس، لأنه لا يرجمها به رجماً، وإنما يدسه عليها دساً، فهو يعرف أن اللغة العربية مخلوق حي تطورت به الحياة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من اختلاف اللهجات وتميز كل لهجة من هذه اللهجات بميزة خاصة أو بميزات. وهو يدع هذا حتى يمسك بطرف عربي في نفوس تلامذته، ثم لا يلبث يتابع بهم مسالك هذا الطرف مرتداً إلى الأصل العربي حتى يجد تلامذته لأشد عقد النحو تعقيداً، حلاً ميسراً تهديه إليهم لغة الخطاب المتداولة الآن
ولا يمكن أن يطمع معلم للنحو في أكثر من هذا، وفي أن يؤمن من يتعلم على يديه بأن النحو العربي هو الموسيقى المنطقية للذوق العربي.
عزيز احمد فهمي(359/51)
رسالة العلم
في عالم الأمواج
للدكتور محمد محمود غالي
سبر العلماء لمراحل الإشعاع - طول الموجة وعدد الذبذبات - من الموجات اللاسلكية إلى الأشعة النافذة - أشعة الموت - الأشعة السينية وعمل (لاويه) - الضوء والكهرباء وأنواع كونية واحدة
حدثنا القارئ عن الموجات الكهربائية التي نستخدمها في الاستماع إلى الإذاعة اللاسلكية، وعن الموجات الضوئية التي نرى بها صورة الأشياء وذكرنا عقيدة (هرتز من أنها أمواج واحدة لا يتميز فريق منها عن الآخر إلا باختلاف أطوالها، فهي كأهل مدينة كبيرة بينهم من هو طويل القامة ومن هو قصيرها؛ كلهم من البشر ويمثلون جنساً واحداً ولكن يتحتم أن يوجد بينهم الطويل والقصير
ونذكر الآن أنه كان للمصادفة شأن هام في كشف (هرتز) لوحدة هذه الأمواج، ذلك أنه أراد أن يعرف ما إذا كانت للأمواج الكهربائية خواص الأمواج الضوئية كخاصية الانعكاس مثلاً، وتصادف أنه استخدم أمواجاً قصيرة طول موجتها بضعة أمتار فكان هذا الاختيار سبباً في نجاح تجاربه وفي نجاح نظريته الضوئية في الكهرباء، إننا لا نستطيع اليوم أن نعكس أمواج الراديو على مرآة لسبب واحد هو عدم استطاعتنا أن نصنع مرآة كبيرة تتناسب وأطوال الأمواج التي نستخدمها الآن، ولم نستخدم في الإذاعة الأمواج القصيرة إلا في العهد الأخير، وهي الأمواج التي أمكن عكسها بواسطة شبكة سلكية بدل المرآة، وليس ثمة شك في أن اختيار (هرتز) لنوع معين من الأمواج كان توفيقاً نحمد الظروف عليه، فقد تقدمت بذلك العلوم خطوة كبرى إلى الأمام
ولا نود أن نذكر للقارئ كلمة أمواج دون أن يتابعنا في المعنى المراد من هذه الكلمة ونعيد عليه أن الأمواج التي نعرفها في الظواهر المختلفة تنقسم إلى أمواج طولية وأمواج مستعرضة، وتعتبر الأمواج الضوئية والأمواج الكهربائية من النوع الأخير فهي أمواج مستعرضة، ومعنى ذلك أن الذبذبات تحدث عمودية على الخط الضوئي أو الكهربائي الواصل من المنبع إلى مكان وصول الشعاع، ويسمون طول الموجة المسافة الواقعة بين(359/52)
قمتين للأوضاع المختلفة التي تأخذها نقطتان تتذبذبان على هذا الخط، ويحسن بالقارئ لكي يتخيل طول الموجة أن يتصور تلك الأمواج التي تحدث على سطح الماء فإنها هي أيضاً من النوع المستعرض، وطول الموجة بالتعريف هو المسافة الواقعة بين قمة الماء عند مكان معين والقمة التي تليها، وهذه المسافة في حالة أمواج الماء تبلغ مثلاً متراً أو أثنين ولكنها تبلغ في الأمواج الكهربائية الطويلة من 200 إلى 2000 متر وفق طول الموجة التي تتخيرها محطة الإذاعة
وينبغي ونحن نتكلم عن طول الموجة أن نذكر للقارئ شيئاً عما يسمونه عدد الذبذبات. فثمة علاقة بين سرعة الضوء وطول موجته وعدد الذبذبات الحادثة، ذلك أن سرعة الضوء تساوي عدد الذبذبات مضروباً في طول الموجة فبمعرفة سرعة الضوء يمكننا إيجاد عدد الذبذبات إذا عرفنا طول الموجة أو نعرف طول الموجة من عدد الذبذبات، وما يقال عن الضوء يقال عن الكهرباء لأننا نعرف أن سرعتهما واحدة
فإذا رمزنا بالحرف ع لسرعة الضوء وم لطول الموجة وز للفترة التي تستغرقها الذبذبة الواحدة
فإن السرعة ع=زم
وإذا رمزنا بالحرف ن للتردد أي لعدد الذبذبات الحادثة في
الثانية الواحدة فإنه من الواضح أن ن=ز1
أي أن ع=م ن
ومعنى ذلك أن سرعة الضوء أو الكهرباء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات في الثانية
وعلى ذلك، فإننا نميز الظواهر الضوئية والكهربائية على السواء إما من طول الموجة أو من عدد الذبذبات الحادثة في وحدة الزمن وهي الثانية، ويبلغ عدد الذبذبات في حالة الأمواج الطويلة المستخدمة في الراديو الملايين في الثانية الواحدة، ويزيد هذا العدد وفق القانون المتقدم كلما كانت الأمواج قصيرة
أما الأمواج الضوئية فتختلف في أطوالها وبالتالي في عدد(359/53)
ذبذباتها عن الأمواج الكهربائية رغم تماثل طبيعتها، فبينما
تبلغ أطوال الأخيرة في كثير من الأمواج التي نستمع
بواسطتها للإذاعة بضعة كيلو مترات ويبلغ وترددها الملايين،
فإن أمواج الضوء المرئي تختلف أطوالها من 100008 من
المليمتر للضوء الأحمر إلى 100004 من المليمتر الضوء
البنفسجي ويبلغ ترددها ألتريليونات من الذبذبات في الثانية
الواحدة
ومن السهل على القارئ أن يحسب عدد الذبذبات الحادثة عند
نقطة معينة من شعاع مرئي معتبر بين الأشعة الحمراء
والأشعة البنفسجية وليكن طول موجة هذا الشعاع 100006
من المليمتر ويمثل في الواقع اللون الأصفر المائل إلى
البرتقالي
فمن المعروف مما تقدم أن سرعة الضوء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات أي أن عدد الذبذبات يساوي سرعة الضوء مقسوماً على طول الموجة
ولكن سرعة الضوء تساوي 300 ألف كيلو متر في الثانية أي تساوي:
300. 000 1000 1000مليمتر
ومن ثمَّ يكون عدد الذبذبات يساوي 300. 000 1000 1000
مقسوماً على 100006 أي يساوي 500 مليون المليون من
الذبذبات في الثانية(359/54)
وإن نظرنا إلى مجموعة الأشعة التي نعرفها الآن الكهربائية كانت أم ضوئية لوجدنا أن أسهل مراحلها في الدراسة هو الأشعة المرئية التي ذكرنا أطوال أمواجها، ولقد استخدم (نيوتن) وغيره أبسط الأجهزة ليقوم بتحليل أشعة الشمس أو عكسها أو كسرها، وتسنى له بابسط الوسائل أن يجوب هذه الدار من مراحل الإشعاع، وزودنا باستخدام أشعة الشمس وبثقب كان في نافذة معمله ومنشور من الزجاج ينصف علم الضوئيات الذي نعرفه اليوم، ولكن لم تكن معرفة ما بعد الأشعة المرئية وما قبلها من الإشعاع بالشيء الهين إذ تطلب ذلك أبحاثاً طويلة ما زالت قائمة حتى اليوم، ولا يتسع هذا المجال لنذكر الوسائل الطبيعية المختلفة والأجهزة المعقدة التي استخدمها الإنسان للتوصل إلى معرفة مراحل الإشعاع المختلفة، فمادة الكوارتز حلت محل الزجاج كما حل اللوح الفوتغرافي والترمومتر وغيره من الوسائل محل العين لمعرفة وجود الأشعة، وكان لهذه الأجهزة شأن كبير في الكشف عن مراحل الإشعاع وقياس سلسلة الأمواج المختلفة التي تبدأ من أشعة الراديو التي تجهلها حواسنا وتنتهي بالأشعة النافذة أو الكونية التي لا تشعر بها هذه الحواس رغم مقدرتها على اختراق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص، وهكذا كشف العلماء عن مراحل الإشعاع التي تقع في منتصفها هذه المنطقة المحدودة، والضيقة من الأشعة المرئية، وهكذا تعرف العلماء على أنواع الإشعاع لمختلف الأمواج كما عرفوا أن سرعة الأشعة الكهربائية هي سرعة الأشعة الضوئية، وأن طبيعة الشعاعين واحدة
على أننا نقسم الأشعة التي نعرفها في الكون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من الأشعة غير المرئية تبدأ من الأمواج الهرتزية أو اللاسلكية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء
القسم الثاني الأشعة المرئية وتبدأ بالأشعة الحمراء وتنتهي بالأشعة البنفسجية
القسم الثالث: وهو الطرف الآخر من الأمواج غير المرئية وتبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتنتهي على حد ما بلغنا إليه اليوم بالأشعة النافذة والأشعة الكونية، وهي أغرب ما نعرفه من الإشعاعات
ولم يكن التعرف على مراحل الإشعاع نتيجة لتتبع منتظم لأطوال الأمواج المختلفة والبحث عن الأطوال غير المعروفة بين الأطوال التي نعرفها، لأن سبيل تقدير هذه الأطوال وقياس(359/55)
التردد سبيل وعر ألجأ العلماء في كل مرحلة إلى فن خاص يختلف عن الفن المتبع في المرحلة القريبة منها. إنما كان التعرف على الإشعاع سابقاً في العادة لدراسة خواص الإشعاع من طول موجته أو تردده أو خواصه الطبيعية، وكان التعرف على الإشعاع في كثير من الأحيان نتيجة لمصادفات علمية موفقة، وقد ضربنا للقارئ مثلاً بكشف (بكارل) لأشعة الإيرانيوم، ولولا أنه ترك غير عامد قطعة من الإيرانيوم في أحد أدراج مكتبه على لوح فوتغرافي، ولولا أنه لاحظ بعد ذلك على هذا اللوح أثر مطبوعاً يدل على شكل هذه القطعة من الإيرانيون لتعذرت على الإنسان معرفة هذه المرحلة من الإشعاع المادي، ولما كشف الإنسان بعده إشعاع الراديوم العجيب
وليس المجال هنا لنعرف خواص الإشعاع المختلفة، وما زال الإنسان دائباً وراء توسع معارفه في استخدام الأشعة في أغراضه، ففي الناحية الأولى ومن الأشعة غير المرئية التي تبدأ من الأمواج الهرتزية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء استخدام الإنسان مرحلة من هذه الأشعة في الإذاعة، وهو ما زال يسعى لمعرفة المرحلة الأخرى من هذه الأشعة، وقد عثرنا في كتاب لريشنباخ على أن الأشعة التي طول موجاتها من ثلاثة أمتار إلى خمسة تقتل بعض الحيوانات الصغيرة كالفيران وبعض الحشرات، ولاشك في أن ثمة أبحاث موجودة خاصة بهذا الموضوع لم تتح لنا فرصة الاطلاع عليها. ولعل هذه الملاحظة الخاصة بالحيوان والحشرات سبب جعل فريقاً من الناس يتحدث أحياناً عن استخدام الإنسان يوماً لما يسمونه الأشعة القاتلة التي أطلق عليها البعض أشعة أو أشعة الموت، وليس في هذا الحديث إذن من سخف شديد ما دام أن هناك مرحلة من مراحل الإشعاع لها هذا الأثر على الحيوان الصغير، ومع ذلك فإننا لا نعرف حتى الآن أشعة قاتلة للإنسان سهلة الوجود والاستخدام، وهو الكائن الذي تخترقه في النهار يتبعه الليل كل أنواع الأشعة من أشعة الراديو الطويلة التي يبلغ طول موجاتها بضعة كيلو مترات إلى أشعة الشمس المرئية وغير المرئية إلى الأشعة الكونية الخارقة، وطول موجاتها أجزاء من ملايين ملايين المليمترات، ويعيش الإنسان تحت كل هذه الأنواع من الإشعاعات المختلفة، يروح جيئة وذهاباً، ينعم بالشباب بعد الطفولة، ويتألم من الشيخوخة بعد الرجولة، ويأخذ قسطاً وافراً من الحياة يلجأ خلالها إلى هذه الأشعة في مراحلها المختلفة يستخدمها في الإذاعة وفي نقل(359/56)
الصور الفوتغرافية باللاسلكي وفي التليفزيون، ونأمل أن نستخدمها بطريقة عملية قريباً فيما نسميه (التحليل عن بعد)، بل يستخدمها الإنسان في العلاج دون أن يناله في كل ذلك أثر مميت، ولو أننا صعدنا اليوم الدرج إلى عيادة أحد الأطباء المشتغلين بالأشعة وفي جسمنا ألم فإنه يستطيع بين لحظة وأخرى أن يعطينا صورة واضحة لجزء دفين من أجسامنا وذلك باستخدام مرحلة من مراحل الأشعة التي لا نراها بالعين، وهي الأشعة السينية
فيمكننا أن نرى مثلاً حصوة في الكلى يجب استئصالها أو نعلم مثلاً أن وراء هذا الضرس خراجاً هو سبب مباشر لورم معين، وهكذا أخذ بعض الكشوف العلمية الكبرى مرحلته التجارية، فأصبح له أجهزة تباع في الأسواق يستخدمها الإخصائيون، وأصبحت بذلك نفعاً للبشر
ولقد كانت معرفة أطوال الأمواج من المسائل العلمية في كثير العويصة في كثير من هذه المراحل، وأننا نذكر للقارئ على سبيل المثال كيف عرف العلماء طول موجة الأشعة السينية المتقدمة؛ فلقد كانت ظاهرة الحيود الضوئية التي سبق أن تحدثنا عنها، والتي قامت دليلاً على أن الضوء ظاهرة موجية، بل قامت دليلاً على النظرية الحدَيثَّة، من الظواهر التي استخدمها الباحثون لمعرفة أطوال الأمواج الضوئية في جزء هام من مراحل الإشعاع، على أن هذه الظاهرة بذاتها لم تعد تصلح سبيلاً لدراسة الأشعة السينية، إذ أن أطوال أمواج هذه الأشعة من الصغر بحيث أن أية فتحة نعمد إلى صنعها في معاملنا مهما صَغرَت تعتبر كبيرة بنسبة موجة الأشعة السينية، فلا تصلح لترى بواسطتها ظاهرة الحيود اللازمة لنا لدراسة هذه الأشعة
ولكن العالم الكبير (ماكس لاويه) استطاع أن يعرف بهذه الظاهرة طول الموجة السينية، ويحصل على أشكال بديعة ناتجة من ظاهرة الحيود المتقدمة، مستخدماً فيها تلك الأشعة، وذلك باللجوء إلى البلورات، فهذه تتكون في الواقع من جزيئات موضوعة في ترتيب خاص، ومرصوصة بطريقة يوجد بينها هذه الثقوب الصغيرة التي لا نستطيع بوسائلنا الحصول على ثقوب في صِغرها، وهي فتحات تصلح مصادفة لاستخدام الأشعة السينية، وبذلك كان يجمع (لاويه) الأشعة السينية بعد احتراقها البلورة ويجعلها تقع على لوح(359/57)
فوتغرافي فتُحْدِث فيه بقَعاً سوداء منظمة تنظيماً عجيباً وجميلاً. ولقد كنا نود أن نعطي للقارئ إحدى هذه الصور البديعة فلم نعثر على واحدة منها اليوم؛ وبدراسة رياضية عميقة استنتج (لاويه) طول موجة الأشعة السينية التي لا تراها العين والتي لا تحدث ظاهرة الحيود في تجاربنا العادية
وإذا كانت أطوال أمواج الأشعة السينية من المجموعة التي نعتبرها قصيرة القامة، فإن أطوال أمواج أشعة الراديوم أقصر منها بكثير؛ وليس المجال هنا لنذكر الطرق المختلفة لتحديد هذه الأمواج وتحديد التردد
على أن أقصر الأمواج هو ما نصادفه في الأشعة الكونية أو الخارقة، وقد سبق أن تحدثنا عنها بإسهاب، وهذه تصل إلينا من جهات من الكون لا نعرفها وبسبب عمليات طبيعية لا نعرف الأصل فيها، وهذه الجهات بعيدة بلا شك كل البعد عن مجموعتنا الشمسية، إذ لا علاقة هناك بين شدة هذه الأشعة وبين وضع الأرض بالنسبة للشمس، فأمريكا تلقي منها بقدر ما نلقاه في اللحظة ذاتها في رابعة النهار، ويبلغ طول موجتها واحداً على تريليون من المليمتر
وهكذا تمتد مجموعة التموجات فتشمل كلها مجموعة واحدة كهربائية كانت هذه التموجات أو ضوئية، ولا تشعر أجسامنا ولا تلمح عيوننا إلا جزءاً يسيراً منها، بينما امتدت أجهزتنا وامتد ذكاء الإنسان للكشف عن هذه السلسة غير المحدودة من طرفي الإشعاع والأمواج، الأمواج الطويلة في طرف والقصيرة في الطرف الآخر
لقد طوح بنا الحديث في مراحل الإشعاع بعيداً عن مسائل كان في برنامجنا أن نذكرها للقارئ اليوم، ولكن الحديث ذاته يسوقنا إلى موضوعات أخرى، بعضها من صميم الخيال، وبعضها في أعماق الحقيقة، وعن هذه المسائل سيكون حديثنا القادم
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية.
ليسانس العلوم الحرة.(359/58)
دبلوم المهندسخانه(359/59)
البريد الأدبي
جوائز (مصطفى كامل) المالية
1 - المباراة الأدبية:
لمناسبة إزاحة الستار عن تمثال المغفور له مصطفى كامل باشا تبرع
حضرة الأستاذ محمد محمود جلال بك نائب بني مزار وعضو اللجنة
الإدارية للحزب الوطني بمبلغ ثلاثين جنيهاً تعطي مكافأة لمن يحوز
قصب السبق في مباراة أدبية موضوعها: (جهود مصطفى كامل في
نواحي النشاط الإنشائي القومي ونجاحه في التعليم والاقتصاد
والاجتماع وعلاقة ذلك بدعوته الوطنية)
وفيما يلي شروط المباراة:
1 - أن يكون المشترك شاباً مصرياً لا تزيد سنه على ثلاثين سنة
2 - ألا تزيد الكتابة في موضوع المباراة على عشرة صفحات من القطع الكبير
3 - أن تقدم الموضوعات إلى لجنة المباراة المؤلفة من حضرات: أنطوان الجميل بك، وعبد الرحمن الرافعي بك، والأستاذ فكري أباظة، والأستاذ محمود العمري، في مدة ثلاثة أشهر من اليوم إلى 14 أغسطس سنة 1940 وتعلن اللجنة أسم الفائز في المباراة بعد شهرين من الموعد المذكور
وقد أودع الأستاذ جلال بك قيمة الجائزة وقدرها ثلاثون جنيهاً لدى الأستاذ أنطوان الجميل بك بشيك على بنك مصر
2 - جائزة كلية الحقوق:
وخصص الأستاذ جلال أيضاً جائزة سنوية قيمتها عشرة جنيهات تسمى (جائزة مصطفى كامل) تمنح كل عام لأول ناجحي الليسانس في الدور الأول لكلية الحقوق، وهي الكلية التي بدأ بها الفقيد دراسته العليا. وأرسل إلى حضرة عميد الكلية خطاباً بذلك، وأرفق به صورة الاعتماد الذي خصصه ببنك مصر عن قيمة الجائزة وبموجبه يصرف المبلغ في شهر من(359/60)
كل عام. فورد إليه كتاب شكر رقيق من حضرة العميد مع قبول هذه الجائزة الكريمة.
3 - جائزة كلية تولوز:
وتبرع أيضاً بمبلغ ألفي فرنك لأول الفائزين في العام الحالي بكلية الحقوق بتولوز، وهي الكلية التي أتم فيها الفقيد دراسته ونال منها شهادة الليسانس سنة 1894 وكتب بذلك خطاباً إلى وزير فرنسا المفوض في مصر وأرفق به قيمة الجائزة فتلقى كتاباً من سعادة الوزير المفوض بقبول الجائزة وشكره على هذه المبرة
افتتاح المعرض الرابع لرابطة الفنانين المصريين
افتتح معالي محمود فهمي النقراشي باشا وزير المعارف، في الساعة العاشرة والنصف من صباح الخميس الماضي، المعرض الرابع لرابطة الفنانين المصريين بحضور الأساتذة حسن فائق بك، ومحمد فهيم بك وأحمد شفيق زاهر بك وحسين فريد بك والمسيو جورج ريمون ومحمد حسن وسيد يوسف وأعضاء الرابطة
وقد أقيم هذا المعرض بالدور الأول من السراي الصغرى في أرض المعارض التابعة للجمعية الزراعية الملكية، وعرض فيه أعضاء الرابطة حوالي مائة لوحة فنية رائعة بين تصوير، وأعمال خزف، وتماثيل. وقد جمعت هذه اللوحات ألوناً شتى من الاتجاهات الفنية ومثلت في مجموعها فكرة الجمال كما عبرت عن المشاعر المألوفة في الحياة المصرية. هذا وسيظل المعرض مفتوحاً حتى آخر هذا الشهر يومياً من العاشرة صباحاً إلى الواحدة بعد الظهر، ومن الرابعة إلى الثامنة مساء
جراحة الأسنان في المغرب
قرأت بمجلة الرسالة الغراء في العدد (350) نبأ اختراع جديد في طب الأسنان نشرته المجلة الطبية الأمريكية، وملخصه أن طبيب أسنان وفق بطريقة خاصة من اختراعه إلى إعادة الأسنان الفاسدة إلى افكاك مرضاه بعد خلعها وإصلاحها إلى آخر ما هناك
وقد أسفت كل الأسف أن يسبق طبيب مغربي متواضع إلى مثل هذا الاختراع منذ نحو أربعين سنة ثم لا يجد من أمته ولا من غير أمته من ينوه باسمه، ويفتخر بعبقريته، وبديع خبره على أمم الشرق والغرب(359/61)
حدثني الشيخ الجليل الثقة السيد عبد الكريم الدباغ قال: كان السيد عبد السلام الدرعاوي من الأطباء النطاسيين المهرة عندنا بفاس قبل عهد الحماية بسنين، وكان يشتغل بالتجارة ولا يتقاضى أجراً على التطبيب والتمريض كجميع أطباء المغرب، إذ كان عاراً أي عاراً أن يكون للمادة نصيب في مهنة الأطباء الذين يحتسبون أجورهم في سبيل الله. ومن ثم كان إخلاص الأطباء المغاربة في مهنتهم من أشد العوامل في تفوقهم ونجاحهم
قال محدثي: والطبيب عبد السلام الدرعاوي لم يدرس الطب في كلية باريس الطبية، وإنما أخذه عن أشياخ هذا العلم هنا. ومع بساطة الأعشاب والعقاقير التي كان يستعملها في أدويته كنت تجده في علاج كل داء كأحسن ما يكون الطبيب حين يكون اختصاصياً فيه
قلت: وما شواهد عبقرية هذا الطبيب في جراحة الأسنان مثلاً؟
قال: لقد سقطت بها على خبير، وحسبك من ذلك أن تسمع هذه القصة: كانت لي أخت فتاة سقطت صباح يوم من شرفة الجناح الأعلى إلى عرصة المنزل فانهشمت عظامها أو كادت، وانخلعت أسنانها وانتثرت، ولم يعد أحدنا يخطر له في بال أنها ستعيش ساعة أو ساعتين. وأسرعنا فأوصينا بصنع التابوت، ثم نادينا الطبيب عبد السلام لننظر رأيه في الفتاة المتردية، وبعد لحظات كان الطبيب قد أحضر أدويته، وجاء فجردها ودهنها بدهان من فوق إلى تحت، ثم أخذ كل سن من أسنانها فأعادها إلى التجويف (بطريقة خاصة من اختراعه) لم يحتج معها إلى جبيرة من الذهب قط. ثم وصف لنا طريقة تمريضها ووقايتها
ثم قال محدثي: واقسم لك يميناً صادقاً لقد عاد للفتاة كامل صحتها بعد أيام قلائل، أما أسنانها فيكفي أنها لا تزال حتى الآن صلبة متماسكة وقد أصبحت الفتاة أم فتيات.
ونريد أن نثبت هنا أن بعض ابتكارات الغرب إن هي إلا بعث جديد لنتاج عباقرة الشرق من غابر التاريخ. وأن بعضاً منها له أصول وأسس في تاريخ الشرق نعلمها حيناً ونجهلها أحياناً
فما عسانا نصنع بعد هذا وقد حكم الدهر الظلوم بأن تطمس معالمنا وتعفي مآثرنا بين ظلمات الجهل وغمرات الجمود؟
(فاس)
أدريس الكناني(359/62)
للتحقيق
تردد كتب الأدب ومذكرات تاريخه قصة عن الشاعر الطائي أبي تمام، وخلاصتها أنه وقف ذات يوم يمدح الخليفة بقصيدة كان منها قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف، في ذكاء إياس
فاعترض عليه أبو يوسف الكندي الفيلسوف وقال: الخليفة فوق من وصفت، وما زدت على أن شبهت الأمير بأجلاف العرب فأطرق أبو تمام ثم قال على البديهة:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
فأعجب به الخليفة وقال لوزيره: أعطه ما يطلب، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأن الدم بدا في عينيه من حدة الفكر، ومن كان هذا حاله فهو لا يعيش أكثر من هذه المدة. فطلب أبو تمام الموصل فأعطيت له ولم ينقض عليه أربعون يوماً إلا ومات!
ذلك هو مجمل القصة، وقد اعتمدها كل المؤلفين في الأدب في عصرنا هذا، ولكني وجدت صاحب الوفيات - الجزء الرابع ص29 طبعة الحلبي - يقول عنها ما نصه: (وهذه القصة لا صحة لها أصلاً)، وقال ابن خلكان أيضاً عنها: (وقد تتبعتها وحققت صورة ولايته - يعني أبا تمام - للموصل فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب ولاه بريد الموصل. فأقام بها أقل من سنتين ثم مات بها. والذي يدل على أن القصة ليست صحيحة أن هذه القصيدة ليست في أحد من الخلفاء، بل مدح بها أحمد بن المعتصم وقيل أحمد بن المأمون، ولم يل واحد منهما الخلافة). المصدر السابق ص30، وغلط ابن خلكان أبا الفوارس المعروف بالحيص بيص وابن دحية، إذ رويا ما يجعل لهذه القصة نصيباً من الحقيقة! فما هي كلمة أدبائنا في هذا الموضوع؟
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
حول خواطر يثيرها سائل(359/63)
سرتنا هذه المقالات التي يكتبها الأستاذ عبد المنعم خلاف ويوالي نشرها في مجلة الرسالة؛ إلا أنه قد استوقف نظري وأنا أقرأ مقاله الأخير قوله (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الغناء وشاهد الرقص وسمح به في المسجد)، وهذا القول على إطلاقه فيه شيء، إذ الظاهر من الغناء هو ما نعرفه وما نسمعه، وهذا لا يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرضاه قط ولم يجز إلا الغناء العفيف في زفاف العروس (إن الأنصار فيهم غزل فلو بعثهم معها من يقول أتيناكم فحيانا وحياكم) وأذن في اللعب بالطبول، وغير ذلك في أيام العيد للصغار من الشبان والفتيات. مر عياض الأشعري بالأنبار في يوم عيد فقال: ما لي لا أراهم يقلسون، فإنه من السنة (التقليس أن يقعد الجواري والفتيات على أفواه الطرق يلعبون بالطبل وغير ذلك) وسمع الحداء بالشعر النبيل السامي (اللهم لولا أنت ما اهتدينا) وكان البراء بن مالك حسن الصوت وكان يرجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكان عمر بن الخطاب إذا سمع الحادي قال: لا تعرض بذكر النساء. كما أن كلمة الرقص لا يفهم منها في هذا الزمن إلا ما يعرف في دور اللهو والحانات، وحاشا أن يشهد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يسمح به لأي إنسان في الخارج بله المسجد، وإنما الرقص الذي سمح به هو الرقص الحربي الذي كان من الأحباش حين قدموا المدينة. والرقص الحربي يعرفه العرب إلى الآن في بلاد الحجاز بسيوفهم وسلاحهم مما يشعل في النفس الحمية ويبث فيها الشجاعة، ولا أعرف الأستاذ عبد المنعم خلاف إلا يريد هذا
عبد الستار أحمد فراج
حادث عجيب! نداء إلى الأطباء العلماء
إلى كل طبيب يعتقد أن مهنته مهنة بحث وفحص وتضحية وإيثار، أسوق مأساة فتاة في ميعة الصبا وزهرة العمر. . . فتاة رزئت فجأة في جمالها وشبابها بنكبة (اللحية) الكثة والشارب الغزير. . . ويا ليت هذه النكبة قد اقتصرت على الوجه فحسب، فإن الشعر قد نبت في صدرها فشوه نعومته وأنوثته!!
كانت تظن أنها ستتحول كما تحولت غيرها، وكانت تعتقد أن هذا الشعر بداءة لهذه المرحلة، مرحلة التغيير والتبديل، فذهبت إلى بعض المشهورين المعروفين من الأطباء(359/64)
تعرض أمرها وتبسط شكوكها وتأمل أن تجد الشفاء العاجل أو الآجل مما هي فيه من هم واصب. فحار الطب ولم يصل إلى العلاج المنشود
فهل عند الأطباء تعليل لهذا الحادث الشاذ وعلاج له؟؟
محمد السيد المويلحي
جمع مشكاة
ورد في القرآن الكريم ذكر (المشكاة) وهي (الطاقة) أو (النافذة). وقد بحثت عن جمعها فلم أعثر عليه بعد مراجعة عدة معاجم وتفاسير فهل لكم أن تفيدونا بذلك.
(م. س)
(الرسالة): لم يرد السماع بمجمع مشكاة، فلم يبق إلا القياس
وهو: مشاك أو مشكيات
جريدة الوفاق
دخلت زميلتنا (الوفاق) في عامها الثالث عشر من عمرها الطويل الحفل، وهي أقوى ما تكون إيماناً بجهادها الموفق واطمئناناً إلى نجاحها المطرد. فنرجو لها دوام التوفيق واطراد التقدم حتى تبلغ الصحافة الإقليمية بها وبأمثالها الغاية المرجوة.(359/65)
رسالة النقد
في ليالي الملاح التائه
للشاعرة الفلسطينية الآنسة (دنانير)
شعر صافٍ صفاء الجدول النمير تنعكس فيه صورة نفس الشاعر، فتحس إذ تقرؤه بروح صاحبه تتغلغل في كل لفظة من ألفاظه، وتشعر بدمه يسري في كل بيت من أبياته. فإذا أنت تقرأ نفساً حية تتمثل في قصيدة، وإذا الشاعر يسمو بروحك معه إلى دنيا شعرية علوية تفيض بالجمال والجلال حتى لتنسى ما يحيط بك، وقد ملأت قلبك تلك الأخيلة البديعة التي ملأت قلب الشاعر، وأثر فيك ذلك الإلهام الذي صدر عن حسه المرهف الرقيق. وهذا هو الشعر، متى كان القلب منبعه فالقلوب مصبه. وذلك هو شعر الأستاذ علي محمود في ديوانيه (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) وهذا الأخير هو موضوعنا الآن.
يهدي الشاعر شعره إلى الذين أطالوا التأمل في أسرار الكون، وأرهقهم التيه في مجاهل الحياة، وإلى العائدين بأنس أحلامهم إلى وحشة مضاجعهم بين اللهفة والحنين. وفي هذا الإهداء نستطيع أن نلمس تلك الروح النبيلة الهائمة وتلك النفس الرقيقة الشاعرة التي لا يفتر حنينها، نفس الأستاذ علي محمود طه.
أول ما يطالعك الديوان به هو تلك القصيدة التي شرق ذكرها وغرب. ومن منا لم يسمع بأغنية الجندول التي اوحتها إلى الشاعر زيارته لمدينة فينسيا أثناء احتفال الفينيسين بليالي الكرنفال؟ ولعل من اللغو أن أذكر هنا هذه القصيدة لشهرتها البعيدة وذيوع صيتها
اثر في نفس الشاعر طوافة في أقطار الغرب، ونحن نسمع صدى هذا التأثير يتردد في قصائده التي يصف فيها ما شاهده هناك، أو بالأحرى التي يصف فيها تأثير تلك المشاهد في نفسه الصافية وخياله الخصب. نقرأ مثلاً: (بحيرة كومو)، أو (الجندول) أو (خمرة نهر الرين)؛ فإذا روح الشاعر وحسه وقلبه كل أولئك مذاب في قصائده يظهرك على مدى تأثير ذلك الطواف فيه. يقول في قصيدة عنوانها (خمرة نهر الرين):
كنز أحلامك يا شا ... عر في هذا المكان
سحر أنغامك طوا ... ف بهاتيك المغاني
فجر أيامك رفا ... ف على هذى المجاني(359/66)
أيها الشاعر، هذا الر ... ين فاصدح بالأغاني
كل حيّ وجماد هاهنا ... هاتف يدعو الحبيب المحسنا
يا أخا الروح دعا الشوق بنا ... اسقنا من خمرة الرين اسقنا
وكأني بالشاعر يرى كل تلك المفاتن تتصدى له بسحرها وجمالها فلا يسعه إلا أن يتساءل في هذه البيات كأنه لا يصدق عينيه فيما تريان:
عالم الفتنة يا شاعر ... أم دنيا الخيال
أمروج علقت بي ... ن سحاب وجبال
ضحكت بين قصور ... كأساطير الليالي
ثم ينثني، وقد رأى أن نهر الرين بجمال جناته وجلال قصوره إنما هو الجنة؛ فيهتف:
هذه الجنة فانظر ... أي سحر وجمال
ويحس أن الطبيعة قد أخذت بسحر تلك الليالي، كما أخذت نفسه، حتى أنصت الغاب، وأصغى النهر؛ ويرى بعين الشاعر التي ترى ما لا يراه الناس أن هذه الليلة الشعرية على ضفاف نهر الرين قد أسكرت الدجى، وجعلت النجوم بعض الندماء، فيقول:
ليلة فوق ضفاف الن ... هر حلم الشعراء
أليالي الشرق يا شا ... عر أم عرس السماء
الدجى سكران والأن ... جم بعض الندماء
أنصت الغاب وأصغي الن ... هر من صخر وماء
فاسمع الآن البشير المعلنا ... حانت الليلة، والفجر دنا
فاملأ الأقداح من هذا الجنى ... واسقنا من خمرة الرين اسقنا
ثم يقول لصديقته (فتاة برن) التي التقى بها في هذا الجو الشعري، فنذوق في قوله حلاوة تلك اللحظات السحرية في النفس الشاعرة، ومرارة الأسى على ما فات:
يا ابنة الآر حديث ال ... أمس ما أعذب ذكره
كان حلماً أن نرى الر ... ين وأن نشرب خمره
وشربنا فسكرنا ... وأفقنا بعد سكره
ووقفنا لوداع ... وافترقنا بعد نظره(359/67)
أين أنت الآن أم أين أنا ... ضربت أيدي الليالي بيننا
غير صوت طاف كالحلم بنا ... اسقنا من خمرة الرين اسقنا
أي حسرة وأي لهفة تجدها في هذا التساؤل الذي تكاد كل لفظة من ألفاظه تقطر بدمعة مذابة من قلب الشاعر الفياض بالحنين والشوق:
أين أنت الآن أم أين أنا؟ ... ضربت أيدي الليالي بيننا
نقرأ هذه القصيدة أو قصيدة (بحيرة كومو) أو (الجندول) فتتمثل في أخيلتنا مفاتن الغرب، وإن لم نرها، من مناظر الطبيعة إلى ليالي الأنس والبهجة، إلى مرح الشباب والصبى، ونحس بتأثير تلك المباهج في تلك الروح الرقيقة وذلك القلب الذي يهيم بحب الجمال أينما كان، في الماء والسماء، في القصور والرياض، في المرأة، سواء كانت سامية أو آرية أو غير هذه وتلك. فالشاعر موكل بالجمال يتبعه، يملأ عينيه ومشاعره وقلبه منه ليتغنى به في كل قصيدة من قصائده
هذا وتجيل الطرف في (ليالي الملاح التائه) هنا وهناك فتقرأ له مثلاً (سيراناد مصرية) أو قصيدته التي عنوانها (هي) أو (حلم ليلة) أو (إلى راقصة) وغير هذا مما في الديوان من الشعر الغزلي، فترى أن المرأة قد شغلت حيزاً كبيراً من قلب الشاعر وفكره وإحساسه فأوحت إليه بأرق الشعر، الحزين حيناً، الباسم حيناً آخر. فالمرأة قد أذاقت الملاح التائه أفانين من حلوها ومرها، وكل هذا يتجلى لنا في شعره الغزليّ
وهناك قصيدته في مصرع ربان حاملة الطائرات كوريجس التي أغرقتها غواصة ألمانية في أوائل الحرب الحالية. يسمع الشاعر بتلك النفس الكبيرة التي آثرت الموت على الحياة. يسمع بما كان من تضحية الكابتن ربان السفينة الغارقة إذ جاد بنفسه. والجواد بالنفس أقصى غاية الجود، فتوحي تلك البطولة النادرة إلى الشاعر بقصيدة من عيون الشعر يبدؤها بقوله مخاطباً الربان:
يا قاهر الموت كم للنفس أسرار ... ذل الحديد لها واستخذت النار
وأشفق البحر منها وهو طاغية ... عات على ضربات الصخر جبار
وكأني بالشاعر هنا يظهر الناس على ضعف الطبيعة مع جبروتها أمام عظمة النفس الإنسانية، تلك العظمة التي تتجلى في تضحيتها وعاطفتها. . . ثم يقول معرضاً بالغواصة(359/68)
التي أغرقت السفينة:
رماك في جنبات اليم محترب ... خافي المقاتل عند الروع فرار
نرصدتك مراميه ولو وقعت ... عليه عيناك لم تنقذه أقدار
يدب في مسبح الحيتان منسرباً ... والغور داج وصدر البحر موّار
كدودة الأرض نور الشمس يقتلها ... وكم بها قُتلت في الروض أزهار
وفي هذا البيت الأخير تشبيه بلغ منتهى الجمال والروعة، لم نسمع بمثله قبل الشاعر علي محمود طه
ويذهب الشاعر في فنون القول كل مذهب، واصفاً ذلك الموقف النبيل الرائع، حيث يلقي الربان بقبعته إلى البحر إجلالاً للموت. كل هذا في أبيات تفيض بالشاعرية التي تسري في دم الشاعر إلى أن يقول:
يا عاشق البحر حدث عن مفاتنه ... كم في لياليه للعشاق أسمار
ما ليلة الصيف فيه ما روايتها ... فالصيف خمر وألحان وأشعار
إذا النسائم من آفاقه انحدرت ... وضّو أت من كوى الظلماء أنوار
وأقبلت عاريات من غلائلها ... عرائس من بنات الجن أبكار
شغل الربابنة السارين من قدمٍ ... تجلى بهن عشيات وأسحار
يترعن كأسك من خمر معتقة ... البحر كهف لها والدهر خمار
وأنت عنهن مشغول بجارية ... كأن أجراسها في الأذن قيثار
انظر إلى هذه التورية المحببة في ذكره الجارية:
صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها ... ورنحتها من الأشواق أسفار
وبعد هذا يأتي الملاح التائه بأجمل وأعجب ما يوحيه الخيال الخصب إلى شاعر. فيخرج عما ألف الشعراء أن يقولوه من استمطار الرحمة على الميت أو ما مثل ذلك ويطلع علينا بقوله:
نزلتما البحر قبراً حين ضمكما ... رفت عليه من المرجان أشجار
تالله، لا يقرأ المرء هذا دون أن يقف عنده متأملاً مأخوذ اللب بسحر هذا الخيال الشعري. رفت عليه من المرجان أشجار(359/69)
ونقرأ له قصيدة في موسيقية عمياء، وإذا بالشاعر، دأبه في نظمه، قد ذوب نفسه وحسه في قصيدته الجميلة، متألماً لتلك الصبية، أو الزهرة التي زواها الدهر لم تسعد من الإشراق باللمح فيقول لها مثلاً:
إليك الكون فاشتفى ... جمال الكون باللمس
خذي الأزهار في كفي ... ك فالأشواك في نفسيِ
ويمضي الشاعر في القصيدة على أروع ما يوحي به الشعور بالألم، إلى أن يقول لها:
عرفت الحب يا حوا ... ء أم ما زال مجهولاً
ألمَّا تحملي قلباً ... على الأشواق مجبولاً
صفيه، صفيه فرحاناً ... ومحزوناً ومخبولاً
وكيف أحسَّ باللوع ... ة عند النظرة الأولى
ومن آدمك المحبو ... ب أو ما صورة الصب
لقد ألهمت والإلهام ... يا حواء في القلب
هو القلب هو الحب ... وما الدنيا لدى الحب
سوى المكشوفة الأسر ... ار والمهتوكة الحجب
هذا وليس في وسعي الآن أن أحيط بكل ما في ديوان الشاعر من قصائد متنوعة الموضوعات. ولكنك أن أجلت طرفك في ليالي الملاح التائه وجدت الشعر بكل ما تضمنته هذه الكلمة من معنى. تقرأ القصيدة فترى القوة تسندها من أي ناحية جئتها، وترى الرقة تبلغ نهايتها حتى تشف عن تلك النفس الهائمة في عوالم الجمال والشعر والخيال. وترى الخواطر والمعاني الدقيقة وقد صبغها الشاعر بصبغة من فنه الرفيع وعبر عنها بأسلوبه الشعر الخاص، حتى لتكاد اللفظة الواحدة بحلاوة جرسها وسحر وقعها في النفس تقول لك: أنا لست كلمة من الكلمات ولكنني نغمة من الأنغام. حتى إذا روّيت نفسك من هذه الشاعرية المتدفقة بأروع الشعر وارقه رفعت عينيك الفياضتين بالنشوة وقد آمنت معي بأن الطبيعة التي قالت للشاعر الفرنسي لامرتين (سر في طرقك، ما أنبه شأنك، إنه رآك) تعود اليوم فتقول مثلا هذا للشاعر العربي المصري علي محمود طه
(دنانير)(359/70)
القصص
من آداب الصين الحديثة
قصة الراعي المحزنة
للكاتب الصيني قوموجو
- 1 -
استقدمتني إلى كوريا من وراء البحار على بعد آلاف الأميال، واستقبلتني تلك الأرواح العلية لجبال كُنج كنج الشامخة الكثيرة القمم، فلما وصلت إلى كوريا نزلت في قرية صغيرة على سفح كنج كنج مشرفة على البحر الياباني اسمها (حي الأرواح والأولياء) وكان في القرية بضعة عشر كوخا مواجهة للبحر متكئة على الجبل، ليست قديمة متهدمة ولا حديثة مزدانة، وكان أمام كل بيت بستان جميل تتسلق على جدرانه الفروع ذات الأزهار الناضرة لزكية، وتبدو من بين المنازل والحدائق أشجار عالية، وكانت تحوط القرية غابات كثيفة من الصنوبر؛ وثمة أراض قليلة على مقربة من القرية كانت مفروشة ببساط من شجيرات القمح والشعير، وكان يجري في خلال الغابة الواقعة في الجنوب الغربي من القرية نهر يسمى نهر الغناء، يتجمع من السيول المنحدرة من قمم كنج كنج وله صوت حزين غاضب وهو يسير صوب البحر الياباني
ارتاب أهل القرية في أمري حينما بلغتها وظنوا أنني صيني مزيف فلم يرضوا أن أنزل عندهم. غير أن سيدة كريمة في أقصى القرية أشفقت عليَّ بعدما سمعت كلامي وعرفت قصدي وأنني بعيد عن أهلي وأقاربي فأذنت لي بالنزول عندها، وآنست وحشتي بكلمات وجدت لها برد الراحة بعد التعب الذي لقيت في سفري الطويل الشاق. وكانت السيدة بوذية تعيش في وحدة تصوم وتصلي وقد جاوزت الخمسين من عمرها، وكان على الباب شعر منثور مكتوب على ورق أبيض؛ كما هي عادة الكوريين؛ فلما دخلت الباب وجدت فضاء مسوراً مزيناً ببعض الأشجار والأزهار ومنزلاً مكوناً من ردهة واسعة على جانبيها حجرتان، وللردهة باب جانبي ينفذ إلى المزارع التي خلف المنزل والتي تظهر لمن يراها كأنها متصلة بجبل كنج كنج، وكانت في وسط الردهة منضدة عالية عليها تمثال بوذا من(359/72)
الحجر الثمين. ودعتني السيدة الكريمة إلى النزول في الغرفة اليمنى، ولم يكن بها إلا سرير ونافذة مملوءة بالغبار كأن لم يسكنها أحد من زمن بعيد
مر بي أسبوع مرور الطيف وأنا في بيت هذه السيدة الكريمة، وكنت أخرج كل يوم للنزهة في الجبال وزيارة الآثار الشهيرة من الصباح إلى المساء لا تعوقني الشمس ولا المطر ووطئت جميع القمم إلا قمة واحدة، وقد انطبعت في ذهني جميع المناظر الجبلية الجميلة الجذابة لا تفارقني لحظة فإذا أغمضت عيني برزت لخيالي كما تبرز الصور على الشاشة الفضية. على أني لم أكن أملك من قوة الكتابة أو التصوير ما يسمح لي أن أصف هذه المناظر الخلابة أو أصفها واحدة واحدة فأهدي صورها لجميع إخواني وأصدقائي كي يتمتعوا بمشاهدتها
- 2 -
جلست على حافة بئر عميق على القمة الأخيرة ناظراً إلى الجبال التي تسبح في السحاب والدخان على ضوء الشمس التي آذنت بالزوال، فرأيتها شامخة ساكنة كشيخ ورع يحيط به عالم متحرك فانبعثت عاطفتي بتلك المناظر الجميلة سابحة كالطير في الجو متمتعة بالطبيعة، سكرى بما اشتملت عليه من الجمال، وإذا غناء حزين من فتاة في سفح الجبل قد انبعث إلي بين هبات الرياح ونفحات الرياحين فأيقظني، فأصغيت إليه فإذا هو:
تستقبلني الشمس حينما أطلع،
وهي تشيعني حينما أنزل،
للشمس بعد الغروب موعدٌ للطلوع
لكن الراعي ليس له وقت للرجوع.
ثغاء الغنم،
صوتٌ حزين فزع!
إنها تشتاق إليك، ألا تعرف أيها الراعي؟!
انقطع الغناء وثغت صغار الغنم بأصوات حزينة وقد اختلطت بأصوات الأجراس الضئيلة التي لا تكاد تسمع
إن الأجراس في رقاب الغنم(359/73)
معلقة كلها بيديك الكريمتين؛
لكن الحبل الذي يمسكها يكاد ينقطع وتوشك أن تقع،
والذي علقها قد ذهب وليس له وقت للرجوع.
ثغاء الغنم،
صوت حزين فزع!
إنها تشتاق إليك، ألا تعرف أيها الراعي؟!
أخذ الغناء يبتعد شيئاً فشيئاً ويتضاءل صوته في مسمعي، ولكن تأثيره في نفسي كان عجيباً يبعث في العين الدموع
لست بمعدومة المقص،
أقص به صوف الغنم؛
ولكن عليه أثر مقصك المحبوب،
إذا ذهب ذهبتْ روحي وحياتي!
لست بمعدومة الرباط،
أربط به جرساً في رقاب الغنم؛
ولكن أنتظر وقت انقطاعه،
فأذهب إلى جانب المحبوب!
فلما سمعت هذا الغناء انحدرت دموعي من غير أن اشعر، ثم وقفت على قمة الجبل تحت شجرة الصنوبر ونظرت إلى السفح فإذا قطيع من الغنم لا يزيد على بضع عشرة غنيمة ترعاه فتاة صغيرة وتسير به في ضوء الشمس الغاربة ذاهبة على مهل نحو المدينة؛ وكان على رأس الفتاة لفاع أخضر يفيض على يديها، ويبدو تحته لباس آخر أحمر؛ وفي رجليها حذاء من النسيج وهي تسير بقطيعها مغنية منشدة مبتعدة عني شيئاً فشيئاً:
غنمي، غنمي!
لا تخافي ولا تحزني!
إنه لا يجترئ حيوان مفترس أن يقترب منك ما دامت موجودة معك.
فإن جاء،(359/74)
قاتلناه حتى نموت فيفعل بنا بعدُ ما يشاء.
غنمي، غنمي!
ارجعي إلى البيت معي!
وخفت الصوت حتى تلاشى، وغربت الشمس، واحتجبت الفتاة عن عيني وراء الجبل، وكنت غريقاً في نهر من الدموع. ولبثت واقفاً تحت الشجرة مدة لا أعرف قدرها، والجبال كأنها نائمة، وقد تلألأت النجوم في السماء وبرز الهلال من شرقي البحر
- 3 -
ألا تعرف أنها ابنة السيد مين الشريف، أيها الضيف الكريم؟
جلست مع مضيفتي الكريمة خارج الردهة نتجاذب الأحاديث وقصصت عليها ما رأيته في النهار فأخبرتني باسم تلك الراعية الصغيرة
- إن كانت شريفة من بيت شريف فلماذا ترعى الغنم بنفسها هنالك؟
يظهر أن سؤالي هذا حرك في قلب السيدة الكريمة شيئاً كامناً فصمتت برهة وهي تحدق في القمر في وسط السماء ونظرت إليها فإذا عيناها مغروقتان بالدمع، فندمت على ذلك السؤال الذي ضاقت به مضيفتي، وذهب بي الفكر مذاهبه. ثم تحولت إليَّ مضيفتي الكريمة وقد جفت دموعها وقالت:
- كان في نفسي ألا أذكر شيئاً من ذلك الماضي الأليم المحزن، لكنني لا أطيق أن أكتم عنك. غير أن الحديث طويل متشعب فلا أدري من أين ابتدئه؟ وأردفت:
- لم تولد هذه الفتاة الشريفة هنا، في هذه القرية، لقد كانت تسكن في الشارع الرئيس في العاصمة منذ عشر سنوات، وكأن أبوها وزيراً في الحكومة، ثم ترك الوزارة وغادر العاصمة هو وأسرته ليقيموا هنا؛ وإنما كان ذلك حين عرف أن بعض الخونة في الحكومة اتفقوا مع دولة أجنبية ذات مطامع، ولم يسمع الملك شكواه ولم يجبه إلى ما طلب من إعدام هؤلاء الخونة ليصون استقلال البلاد وسيادتها ويوطد سلامتها وحريتها
وكانت زوجته الأولى قد ماتت منذ ست عشرة سنة، ولم يرزق من زوجته الثانية ولداً ولا بنتاً، وكانت الفتاة في الخامسة من عمرها حين ماتت أمها، وكان أبوها يحبها حباً جمَّاً، فعهد إليَّ أن أقوم بخدمتها، وذلك عمل نتوارثه في أسرتنا من زمان في خدمة تلك الأسرة،(359/75)
وكان زوجي شيخو خادماً له أيضاً، وكان لنا ولد. . .
استمرت السيدة في الحديث وقد شاب صوتها رنة حزن، والبكاء يغالبها: وكان ابني اسمه يين وهو الاسم الذي سماه به سيدنا أبو الفتاة وكان يحبه كثيراً ويناديه دائماً (يا بني يين)، وكان أكبر من الفتاة بسنة واحدة فكانت تدعوه أخاها الأكبر، وكان أبني يتجاوز فيدعوها أخته الصغيرة أيضاً، وكان كلاهما يحب الأخر كأنهما أخوان شقيقان
وكانت زوجته الثانية السيدة لي من الأسرة الشريفة أيضاً، وقد درست في اليابان وهي صغيرة، ثم سافرت إلى نيويورك ولندن وباريس وفينا بعد تخرجها في اليابان فقضت أكثر أيامها في الخارج. ولما رجعت إلى البلاد وهي في الثانية والعشرين من عمرها، طلبت أسرتها إلى السيد مين وقد مرت على وفاة زوجته الأولى ثلاث سنوات أن يتزوجها. وكانت ذات شخصية بارزة في العاصمة، معروفة في المجتمع باسم الفتاة الحديثة. تصور أيها الضيف الكريم كيف يمكن سيدة متعلمة لطيفة نشيطة حديثة العهد بالزواج مثل هذه السيدة أن تحيا هنا هذه الحياة القروية الخشنة؟!
أنتقل السيد مين إلى هنا، ونزل في معبد في تلك المدينة، واعتكف فيه لا يهتم بالشؤون السياسية والاجتماعية، وامرني أنا وزوجي أن نسكن هنا في القرية لضيق المعبد، واستبقى ابني يين معه حيث يقيم، واشترى له قطيعاً من الغنم يرعاه، وكان ابني في الثانية عشرة من عمره يرعى الغنم بين الجبال في الأيام التي لا تمطر فيها السماء، وفي بعض الأحيان كانت تصحبه الفتاة، وكثيراً ما كان يضلان، فنخرج للبحث عنهما حتى نجدهما في سلام وسرور.
أذكر أنهما مرة لم يرجعا إلى المعبد حتى منتصف الليل، وظن السيد مين أنهما في منزلنا، فبعث إلينا يستفسر عنهما، فجزعنا وخفنا أن يكون قد أصابهما شر وأسرعنا نبحث عنهما هنا وهناك، فلما وصلنا إلى جبل كنج كنج البحري رأينا القطيع على بعد نائماً على الشاطئ، وقد اتكأ ولدي على صخرة كبيرة، ونامت الفتاة متكئة على كتفه وقد استغرقا في نوم عميق، وكانت الليلة مقمرة، كهذه الليلة، والقمر ينشر ضوءه على الأرض والبحر تتجاوب أمواجه، فكانا في مهد الطبيعة الكبير. إنني لن أنسى ما حييت تلك المناظر الجميلة التي رايتها ليلتئذ(359/76)
وكان ابني يين يعالج بعض التمرينات الرياضية في المعبد مع الرهبان في الأيام الممطرة، فلا يخرج ليرعى الغنم، وكان يقرأ ويكتب مع الفتاة عند أبيها كل ليلة. وهكذا مرت أربع سنوات ولم يحدث شيء. وبلغ ابني ست عشرة سنة من العمر، وبلغت الفتاة خمس عشرة، وكان السيد مين يقول دائماً: سأذهب بهما إلى المدينة لتزداد معلوماتهما. . . أواه! أن إرادة الله فوق إرادة الإنسان، فقد حدث في تلك السنة. . . . . .
وأمسكت السيدة وأخذت تبكي بكاء مراً شعرت معه برجفة وتوقعت أن نكبة شديدة قد أصابت هذه الأسرة، وكان القمر في تلك اللحظة محجوباً بسحاب كثيف فزادنا ذلك شعوراً بالحزن والكآبة ولم أجرؤ على السؤال عما حدث، وانتظرت حتى عادت السيدة إلى نفسها وقالت والدموع في عينيها:
(فقد قتله أبوه. . . قتله أبوه في تلك السنة!. . .)
ثم عادت السيدة إلى البكاء، فلم يلبث أن وقع حزنها في قلبي وملكني ألم شديد، وكنت أود أن أجد كلاماً أعزيها به فلم يطاوعني لساني فوقفت وقدمت إليها فنجانا من الشاي فأخذته وجرعت منه جرعات ثم قالت:
(القصة طويلة جداً فلآت بكتاب أبني الأخير تقرؤه، ثم أخبرك بالخاتمة)
- 4 -
كان قد مضى من الليل نصفه والجو بارد، فدخلنا الغرفة وجلسنا على الأرض الخشبية كما هي عادة الكوريين، وجاءتني السيدة بكتاب ابنها فأخذت أقرأه تحت ضوء المصباح الضعيف:
أمي المحبوبة:
لقد عثرت برسالة كانت بجانب الحظيرة عندما رجعت من المرعى. يظهر أن هذه الرسالة كانت سقطت من أبي، وأخذت أقرؤها لأنها كانت مفتوحة، أواه! أمي! ليتني لم أقرؤها فقد جزعت عندما قرأتها وطار لبي!
لقد عزمت على أن أنقذ سيدنا وأختي وأبي، لأني لا أريد أن يرتكب أبي تلك الجريمة الشائعة فيصير مذنباً عظيماً، وأظنه الآن في المعبد فإني لم أجده بعد البحث الطويل. أمي! إني أعتقد أن هذا السر إذا شاع فإنه سيكون له شأن. إنه أمر لا يهم أبي وحده لذلك(359/77)
سأمضي لأبحث عنه في الليل وأراقبه، وسأحاول أن أمنعه عن ارتكاب ذلك الجرم العظيم وأقنعه أن ذلك عمل سيئ
أمي المحبوبة:
إن خذلني الحظ وقدَّر لي أن أموت فلا تحزني، فإنه خير لرجل أن يموت حراً من أن يبيع حريته وبلاده للأجانب. . . ولقد ضاق الوقت فلا يسعني أن أكتب أكثر من هذا. فإذا قرأت الرسالة السرية التي عثرت عليها فأحرقيها قبل أن يراها أحد وإذا حمَّ القضاء فيّ فأرجو أن تقدمي نسختين من يومياتي المحفوظة في الدرج إلى أختي المحبوبة!
ولدك (يين)
الرسالة السرية
شيخو. . .
تعال إلى المعبد هذه الليلة وسأساعدك على دخول الحجرة، فإذا أمكننا أن نبطش بهم جميعاً كان خيراً. خذ هذه الورقة التي فيها شِعره الثائر المثير، واذهب بها إلى المعسكر، واعترف بما فعلت، فسيكون في ذلك نجاتك ورقيك! أحذر ولا تنس!
(في 16 يونية)
السيدة (لي)
الشمس
من نظم السيد (مين)
ما أحمى الشمس النارية! ... قد أحرقت زرع أراضينا الخصبة
جف التراب ومات الزرع ... فافتخرت الشمس النارية
ليتني أجد سهم يي ... فأرميك به حتى تسقطي في أعماق البحار
وليتني أجد سيف يان ... فاقطعك به حتى تموتي وراء الجبال
لكن السهم والسيف ليسا معي ... وإنما أذرف الدم من عيني دموعاً على الجبال
ما أطول النهار! فمتى يحين الليل؟ ... ومتى الهدوء والنهاية؟(359/78)
انتظرتني السيدة الكريمة حتى أتممت قراءتها كتاباً كتاباً ثم قالت لي بصوت هادئ حزين:
- لعلك قد عرفت القصة بوضوح أيها الضيف الكريم؛ فقد مات أبني الوحيد في تلك الليلة المشئومة، ليلة 16 يونية. وقد جاءنا في ظهر اليوم التالي راهب صغير وقدم لزوجي رسالة، فخرج من فوره، وكنت أظن سيدنا استدعاه لأمر مهم فإذا به يعود بعد منتصف الليل متعباً سكران، ثم لم يلبث أن جاء طارق يطرق بابنا، فلما فتحته وجدت اثنين من الرهبان فصاحا قائلين:
- واحزنا أيتها السيدة الكريمة! لقد قتل ابنك الكريم!
فلما سمعت كلمتهما أخذتني رعدة شديدة. وخرج زوجي فجأة من الغرفة كأنه قد سمع ما أخبراني به، وصاح قائلاً:
- أواه! لقد غلطت في القتل! لقد غلطت في القتل! ثم خرج من الباب مسرعاً!
وذهبت إلى المعبد عَدْواً، فلما دخلت الحجرة التي ينام فيها ولدي، وجدت على مكتبه رسالة مكتوباً فيها: (إلى أمي المحبوبة من ولدها يين). فأخذتها ووضعتها في جيبي، وأسرعت إلى المكان الذي يزدحم فيه الناس حول القتيل، فرأيت ابني يين مخضباً وجهه بالدماء وقد سكن قلبه وبرد حسه، فسقطت على الأرض مغشياً عليَّ
ولما افقت من الإغماء وجدت السماء صافية والشمس ساطعة، ظننت أني كنت في حلم مخيف، وحدقت فيما حولي فوجدتني نائمة في حجرة الفتاة الصغيرة، ووجدتها ساكتة بجانبي؛ ولما رأتني قد أفقت أحنت جسمها وأخذت تعزيني، فازداد بذلك حزني وبكائي، وبكت الفتاة معي
وبعد قليل دخل السيد مين وزوجته السيدة لي وقال لي السيد: (يجب أن ندفن ولدنا يين؛ فلماذا لم يظهر أبوه إلى الآن؟)
لما سمعت ذلك عرفت أن زوجي لم يجئ إلى المعبد قط، ثم تذكرت الكتاب الذي تركه ابني على مكتبه فطلبت من الفتاة أن تخرجه من جيبي وتقدمه إلى والدها ليقرأه؛ فما كاد يتناوله حتى سقط من يده كتاب آخر، هو الكتاب السري الذي كتبته السيدة لي إلى زوجي، فلما رأته السيدة لي خرجت مسرعة وأخذ السيد يقرأ كتاب ابني، وخرجت الفتاة الصغيرة فقدرت أنها ذهبت لتأخذ اليوميات من درج المكتب. وقرأ السيد الكتاب السري فازداد(359/79)
غضباً على غضب وسكت برهة ثم انفجر باكياً وصاح يقول: (ولدي يين، ولدي يين! لقد كنت أرجو أن أراك رجلاً حتى تجاهد في سبيل وطنك، لكنك قد مت من أجلي وأجل فتاتي آه! آه! أين أجد بعدك لذة الحياة؟!. . .
ودخلت الفتاة الصغيرة مسرعة وهي تقول في ذعر: إن السيدة لي قد أزهقت نفسها وانتحرت في غرفة يين. . .
خَفَتَ ضوء المصباح لقلة الزيت، فقامت السيدة الكريمة فغمرته بالزيت ثم رجعت لتتم حديثها:
قبر ابني يين، والسيدة لي، كلاهما في المعبد، وقد قضيت أسبوعاً هناك مريضة. ولم أسمع خبراً عن زوجي منذ تلك الليلة فلا أدري أهو حي أم ميت! وكنت أود أن أبقى في المعبد بعد ذهاب زوجي وأخدم السيد مين وفتاته، لكنه رفض وترهب، وبقيت الفتاة وحدها تخدم والدها وترعى الغنم التي كان يرعاها أبني من قبل. . . ذلك سبب ما سألتني يا بني. . .
أليست فتاة مسكينة أيها الضيف الكريم؟ وكثيراً ما تلقاني فتقول لي: إن الغنم بعد ما فارقها راعيها امتنعت عن الأكل وقد نفق أكثرها هزالاً، وكلما مات واحد منها بكته الفتاة بكاء شديداً وأقامت له قبراً بجانب قبر ابني؛ فلذلك لا أظن ابني يين يشعر بالوحشة والانفراد، ولن يشعر بهما أبداً!
- 5 -
أمسيت أتقلب على السرير بعد ما سمعت قصة السيدة مضيفتي فلم أنم إلا بعد ساعات. ولما أغمضت عيني رأيت كأني قد ذهبت إلى ذلك المعبد الرهيب، ورأيت ذلك القبر المكتوب على حجره (قبر الفتى يين) ورأيت حوله قبور الغنم ورأيت أيضاً تلك الفتاة التي رايتها في النهار فوق الجبال جاثية أمام القبر تدعو لصاحبه
ثم لم يلبث أن تحول منظر القبور إلى مسرح جميل في وسطه فتى وفتاة عاريان يرقصان ويغنيان وحولهما قطيع من الغنم واقف وقفة الناس يرقص معهما ويغني، وثمة كثير من الأسد والنمور وصنوف من الحيوان. . . وفجأة أبصرت إنساناً يدنو، وفي يده سيف قاطع، يهم أن يقتل به الفتى فأخذت عليه الطريق فأهوى علي ثم استيقظت، ولما هدأت نفسي وزال اضطرابي جلست في فراشي أترقب مطلع الصبح حتى أستعد للسفر؛ فما لي طاقةٌ(359/80)
بعدُ على البقاء في هذا المكان!
المترجم أبو بكر هوغانجين(359/81)
عنان
للأستاذ مراد الكرداني
كن أربع غيد عذارى فاتنات ناعمات يتحدثن ويسمرن في مجلس خامستهن، وقد جئن يهنئها بخطبتها وكن أخص صواحبها
قالت حورية - وهي غرة صغيرة، خفيفة الظل - تخاطب العروس: فعلِتها يا عنان؟
فابتسمت عنان بفمها وعينيها ابتسامة أشرق بهاؤها وقالت في حياء وفرح: العقبى لكن جميعاً
فاندفعت ثريا - وهي ضاحكة تحب عنان وتؤثرها - تقول وتضحك: تلك حال الدنيا يا عنان. . . وكلنا لها، فضحكن جميعاً ضحكاً حلواً مُرِنَّا كالغنم الأغن. فإجابتها عنان:
- هذا عزاء يقال للمسكين الذي يبتليه الله بك يا خرقاء. . . ثم لما صفا المجلس من هَذَر ثريا ومجونها أقبلن على عنان ورجونها في شغف أن تحدثهن كيف أتم الله نعمته عليها. فبدأت تقص عليهن وقلبها يقفز من الفرح، فتسَّاقط الألفاظ من فمها الصغير مبتورة ضائعاً نصفها في شهقة خفيفة ما كانت تقوى أن تخفيها من فرط ما تحس به من سرور وفرح. . . ولم تفت حالها ثريا فقالت: ما هذا يا عنان؟! اثبتي لو رآك خطيبك لطمع فيك ولا استثمر لنفسه تلك الفرحة التي تفيض من عينيك فَذَلَّكِ وخضَّعك. . . أنت فرحة أكثر من اللازم كل جارحة فيك تهتز حتى كلامك يخرج مهتزاً مدغوماً. . . انظرن قلبها كيف يرقص من خلال عينيها، ووجهها كيف يضحك كله كأن قد انتخبت نائبة في مجلس النواب أو سفيرة لبلادها!! خفضي عليك يا عنان فهو رجل. . . رجل لا أقل ولا أكثر. . .
فقالت عنان في نشوة ظاهرة وإيمان صادق:
- اسكتي يا مجنونة اسكتي. . . حين ذهب عنكن الرجل، وحين تبيَّنُتن أنه جاد ولن يرجع، رُحُتن تنشدن السلوى عنه في السفارة والنيابة. . . والله لو أنا أبوك لبحثت أنت عنه في النواب ثم خرجت به. ما كان أجمل أن يبحث هو عنك. . . أما أنا فلقد ظفرت برجل يا ثريا
فناصرت هدى - وكانت قد عنَّست - رأي عنان
-. . . في زمن عز فيه الرجال يا ثريا(359/82)
وكانت حورية قد تركتهن يصطخبن كما يحلو لهن، وأعملت أسنانها في الطبق المثقل باللذيذ من الحلوى، حتى إذا أتت عليه رفعت رأسها وقالت لعنان، ولا تزال تمضغ وتتمطق:
- أوَ يكون في ليلة العرس عشاء؟ لعله عشاء كامل مسمن، لا أن ندور لنلْتقم من كل صنف لقمة، كأنما جئنا لنتسلّف أو لنتقصى أنواع الطعام!
فالتفتت لها ثريا ودارتْ عينُها لما رأت الطبق فارغاً، ثم نهضتْ فضربتها وجعلت تدسُّ لها الطبق فارغاً في فيها تريدُها أن تمضغه هو الآخر. فانفجرن جميعاً ضاحكات، ونهضتْ عنانُ فعوضتهن وأجزلت
قالت هدى لعنان وكانت أشغَفهن بسماع الحديث:
- حدثينا كيف ظفرت برجلك ولا تلْتفتي للمجنونة ولا للمنهومة. . .
فقالت عنان:
- والله إن الأمر يا هدى عجبٌ من العجب، لعله لا يصدق أو لعله هَيَّن نادر، ولكنه وقع لي على أي حال. . . كان جالساً بجواري في مركبة عامة لا أعرفه ولا يعرفني، فَلَفَتَ فيَّ فقبَّلني في زحمة الناس وعلى عيونهم! ثم تبعني لما نزلت. . ثم جاء فخطبني!
فشُدْهن كلهن، وشاع فيهن حنين خفيف، وثارت فيهن أنوثتهن المحرومة والمنتظرة. . . فأصْغَين إليها وأقبلن عليها وهي تفصَّل ما أجملت:
- كنت أترقب السيارة الصاعدة إلى (مصر الجديدة) وكانت الزَّحمة بالغة، وتدافع الناس على باب الدرجة الأولى. فهداني ربي أن أدلف إليها عن طريق الدرجة الثانية، ولكني - وقد استويت راكبة - عجزت أن أبلغها، فوقفت أهتز وأتدافع وسط الرجال. فتضاغط الجالسون إلى يساري ووسعِوني، فجلستُ خامسة في مقعد يسع أربعة وكان هو إلى يساري يتأملني ويختلسني بأطراف عينيه. أفجأه فيغض، ثم يعود فأعود. . . ولما شعرتُ بدقَّ قلبه. إذ كان جسمه لصق جسمي تركته فلم ألفِتْ فيه. . . ثم بدا له أن يرسل عينيه في الطريق من ناحيتي في نفس اللحظة التي بدا لي فيها أن أرسل عيني أنا الأخرى من ناحيته. فَرَفَّ شفتي بشفتيه! وتلاقت عينانا في نظرة داهشة ثم عاتبة وغاضبة. وكانت قبلة ضاعت حلاوتها في حَرةَّ الخجل التي تنفَّثَتْ فيَّ فأطرقت مضطربة محمومة(359/83)
لم أدر ما حدث بعد ذلك ولكنه خبرَّني. قال وهو يعيد الذكرى على سمعي:
. . . لم أستطع أن أواجه أعين الناس. وحنقت على نفسي أشد الحنق، وأحسست أن الدم قد تصعد وفـ. . .
وأمسكت عنان عن حديثها بغتة لأنهن لفتن نحو الباب ففوجئن - ما عدا عنان - برجل يقتحم عليهن فألفينه شاباً موفور الشباب رائع الرجولة، فجأت رجولته أنوثتهن فتمنَّيْنَه، وثار عليهن نقصهن فغبطن عنان التي وجدت كمالها
ونهضت تقدمه لهن وتقدمهن له، فرحب وهو يبتسم ويجلس جنب عنان جلسة يزحمها بها، كأنما يعاود على فؤاد منها ذكرى اللقاء الأول والقبلة الأولى. فتضاحكن من ظرفه ومن جِلسته ثم اندفع هو مستطرداً كأنه الذي كان يتحدث:
- لقد حنقت على نفسي وأحسست الدم. . .
فشرعت فيه عنان عينيها، فغضَّ، فقال:
- من غير إذن. . .! ثم من أدراك أنهن يسمعن لك؟
فقال: من التوفيق وحسن الحظ أنني أقبلت حين بدأ الحديث يكون عني، أعني في شأني، فأنت التي يجب أن تنأذني، لأن الذي حنق هو أنا، ودمي أنا - لا دمك أنت - هو الذي تصعد في وجهي وفي قنة رأسي فجعل يخزني كأن إبراً تتوالى على صفحة وجهي وفي هامتي، فجعلت أتحسس مواضع الوخز وأنا مطرق لا أجسر أن أرفع، ولكني عدت فاختلستها - وهي مطرقة مثلي - فرأيت الوجه الجميل قد تورد كله. ثم تجمع ورده وزكا في الخدين فوهجا وأضاءا. فسلبتني روعة حياءها قسوة حيائي. فلم أعد أحفل بالناس، إذ لم يعد في وسع عيني ولا في أقطار نفسي سواها
ثم تكشفت على فؤادي من عينيها - لحظة شرعتهماُ فيَّ - فتنة جديدة أشد وأروع كانتا مسبلتين فنجلتهما في، فكأنما - والله - سلت الأهدات الطَّوال المشرَعة في كبدي فسيَّلتها!
لم أستطع أن أحتمل أكثر من ذلك. فهامستها - من غير وعي وأنا لا أعرفها - أن من الأوفق أن ننزل. . .
فقطعت عنان حديثها قائلة في تتايه ودلال:
- كنت وإياها كوسيط مسحور يصرفه المنوم كيف شاء - فقال أأذنت لك أن تقاطعيني.(359/84)
اسكتي. فهذا حديث كبار فبسمن جميعاً وعاد يقول:
- نزلنا ولم يبلغ واحد منا وإنما هربنا من فضول الناس. لم ندر كيف، ولم تدر هي كيف أطاعتني. فكلانا ذاهل غائب فتى يقبل فتاة لا تعرفه ولا يعرفها في جمع الناس وعلى عيونهم ثم ينهضان معاً. . . إن هذا لشيء عظيم!
ولبثنا وقوفاً زماناً ثم جمعت بدد ذهني قليلاً حين دار في أذني سبابها خفيفاً حلواً يتندى على فؤادي كحبات الماء على جبين محموم.
وقلت: إنها غلطة يا آنسة وإنها - ولا يد لي فيها - لأحب إلى نفسي من عملي كله
فعبس فمها. . . فمها فقط. . . عبسة أشهد ما رأيت أحلى ولا أروح منها، وعاد سبابها العذب يتوثب حول شفتيها ثم يتسامى إلى قلبي نغماً قصيراً رقيقاً يحمل في وهن رقته قوة فتائه. . . فابتسمت ثريا وقالت:
- مرحى. مرحى. هذا منطق عاشق يسمع بقلبه سباب حبيبه نغماً كحباب الكأس ما تسمو واحدة حتى يعالجها فناؤها الكامن فيها
فأمن على تشبيهها واستطرد عليه يقول: أي والله يا. . . ونسي فأدركته عنان قائلة. . . يا ثريا
- أي والله يا ثريا إنه لكذلك على فؤادي كان يوقظ حنينه ولا يشبعه! ولكنه لم يكن سباباً. أنه - يا آنسة - غضبةُ جمال شق عليه أن يمتهن على أعين الناس
وكانت إفاقتي على حلو سبابها ردة على جمال جديد تجلى على فؤادي من قوامها المعتدل سحرتني وحيرتني فلم أدر أياً أطيل فيه النظر ولا أياً أقصر عنه. . . كانت فتنة مجسدة، وكنت من فمها وحده بين ثلاث متن: أكبرها وأقتلها أنني قبلت هذا الفم وأوسطها أنني نعمت به حين عبس فبدا بشفتيه - العليا على السفلى - كفراشة حمراء قانية بسطت جناحيها الصغيرين ثم نامت على لفة وردة تترشف رحيقها. . . وأنني سحرت حين ترسل على فؤادي منه نغم حبيب. وأهونها - وتلك من عجائب القلب - أنني فزت بعد ذلك برضاه. . . إنه حلو فاتن حين يرضى، وإنه لأحلى وأفتن حين يعبس
فضحكت ثريا وقالت:
- الأمر بيدك. . . اغنم لنفسك الأحلى!(359/85)
فقال وهو يبتسم: هذه أنانية يا آنسة!
وقالت عنان تُتم الحديث من حيث قطعتْه ثريا:
-. . . وفرغَ سبابي فَمدَّ إليَّ يده في ضراعة وقال لي:
- إنه خطأ هين، وإني لمصلحٌ ما كان بجمال ما سيكون، ولذلك لن اعتذر، وعاد هو يتم لها:
-. . . قلتُ لها: ولذلك لن أعتذر؛ فعقدت حاجبيها وتغَضَّبَتْ بعينيها، ولكنها ابتسمت على رغمها ابتسامة كانت تمنعهاُ جهدها وتخفيها، ففهم قلبي معاني قلبها، وناجت روحها روحي، وانسرقتْ حواسها بجملتها على غفلة منها فألقت في حواسي رسالة فرحتُ بها فاتَّزنت واطمأن قلبي
وجاءت سيارة فقفزت إلى الدرجة الأولى لتواصل طريقها وقفزت أنا في الدرجة الثانية، ولما نزلتْ هي نزلت أنا وتحاشيتها وعرفت من بُعدٍ منزلها. . . ثم. . . ثم اقتحمت على أبيها فأسعدني وأسعدها
فبسمت عنان ابتسامة أشرقت في قلب خطيبها هذه المرة، وقالت في دلال وتخابث: في (وأسعدها) بحثٌ وكلام
فأخذ وجهها بين يديه وقَبَّلها على مرآي منهن قبلة عاجلة وهو يقول:
- لا كلام ولا حديث لقد ظفرت بالدنيا يوم ظفرت بك يا عنان وخرج يجري فائزاً بقبضة يدها تهوى على ظهره جزاء ما فعل
- أما هن - كان الله لهن - فقد تخاجلن وتضاحكن.
ثم نظر بعضهن إلى بعض، وقمن لينصرفن. فقالت لهن والدنيا لا تسعها: إنه خفيف الظل وأنا أعبده
فقالت ثريا:
- إنه رجلٌ يُتَمَّنى يا عنان، وإنه لحقيق أن يحبَّ ويعبد، لو كنتُ مكانك. . .
وعَىَّ على المسكينة أن تزيد. فَجَرَّتْ هدى وزاملْتها وأرسلتا - حين صارتا في الطريق - زفرة حارة، وزادت هدى أن عبرة فرَّت منها برغمها
وقالت ثريا:(359/86)
- تعالي يا هدى سنركب الدرجة الثانية من سيارة مزحومة وبعداً - منذ اليوم - لسيارتي وللدرجة الأولى. . . ولتحرص كل منا أن تجلس - منذ اليوم أيضاً - خامسة في مقعد يسع أربعة. . . لعل وعسى. . .
مراد الكرداني(359/87)
العدد 360 - بتاريخ: 27 - 05 - 1940(/)
الفكر والحرب. . .
قال الأستاذ (دومينيك) في تحليله البليغ للكتاب القيم الذي ألفه السير (نيفل هندرسون) سفير إنجلترا في برلين بعنوان (سنتان عند هتلر):
(إن المتمدنين الذين يعيشون في هذا القرن بإنسانية القرن التاسع عشر ومسيحيته ليقضون من الدهش إذ يرون هذا (الهتلر) يرجع بالعالم إلى عهود الجاهلية القيصرية فيحمل أتباعه على أن يعتقدوا أن الله قد حل به وأن ألمانيا قد تجسدت فيه. وإن المفكرين ليفزعون في وسط هذه الزعازع الهوج إلى الله جزعين أن يرتكس للفكر والحضارة في مهاوي البربرية الأولى).
وقال المستر (سمنر ولز) في خطبته الختامية بالمؤتمر العلمي للأمم الأمريكية:
(ليس من الصعب أن نتنبأ بنكسة القرون الوسطى في بلد أصبح التفكير الحر مستحيلاً فيه. وأي أمل يبقى للإخلاف بعد هذا الطغيان الذي موَّه الباطل على الناس حتى اعتقدوا أنه الحق؟). ثم دعا الولايات المتحدة إلى أن تذود عن المدنية التي تدين لها بأكثر مما تنعم به.
وقال صديقنا الأستاذ (الحكيم) في (الأهرام):
(إن نذير الدمار المسلط على شؤون الفكر والروح كفيل بأن ينهض برجال الفكر والأدب للدفاع بأقلامهم وقلوبهم عن حضارة ساهم أسلافهم في وضع أحجارها الأولى).
وكلام هؤلاء السادة على اختلاف الموطن والمذهب ترجمة لطائفة من المعاني الخداعة التي قدمها الإنسان الحديث فأقام عليها ثقافة المدرسة، وراض بها نفسية المجتمع، وجعل منها خصائص لحيوانيته تميزه في زعمه على الإنسان القديم والوحش الآبد. وليس في منطق الطبع أن يكون أثر الفكر دائماً من الخير المحض ما دام مصدره الإنسان وهو يفسد ويصلح ويخبث ويطيب تبعاً لوحي غريزته وخضوعاً لهوى منفعته. أليس الفكر والأدب والعلم والمدنية التي يدعو الأساتذة الكتاب إلى النضج عنها هي نفسها التي جعلت ألمانيا الهتلرية جحيما يستعر باللظى والغاز والحمم، فزلزل الأرض من القطب إلى القطب، ورمى الدنيا جمعاء بغاشية من الموت الوحِيِّ والقلق المميت؟
لو لم تعتمد النازية على المفكر الألماني القوي الخصيب لما استطاع ناسك (برجوف) أن يفجأ العالم الآمن بأهوال من الشر ينكرها الشيطان، وأساليب من الموت يجهلها الموت
إن الفكر الفعال في الأرض لا ينفك عنه قصور الإنسان وضلاله، فهو عاجز عن هداية(360/1)
الناس ما لم يهده الله بنوره. ولا يجرؤ المسكين أبن آدم على أن يزعم أنه استطاع بفكره أن يحل مشكلاته بالمفاوضة، ويقسم أرزاقه بالعدل، ويثق علاقته بالمودة، ويضع لدنياه أنظمة ثابتة تكفل له السعادة الخالصة والسلام الدائم
وإن الأدب المحرك لهوى النفوس لم يستطع الإنسان الأثِر أن يسمو به على الأهواء النفسية والأغراض الحزبية والأطماع القومية؛ فظل في كل أمة خاضعاً لمنهاج المدرسة وسياسة الدولة وطبيعة الشعب لا يتجاوز حدود المكان ولا فصول الزمن، فكان عاملاً من أشد عوامل العصبية والوحشية والفرقة
وإن العلم الذي ناط به العقل كشف أسرار الكون لفهم الحياة، وتسخير قوى الطبيعة لخير الناس، جافاه الضمير فاستبد به الشر وراح يستعديه على نتائج الخير وآثار الصلاح، فرماها بآلات البوار والدمار من طائر يقذف الشهب وسائر يطلق السموم وزاحف يرسل اللهب!
وإن المدنية التي عمرت بها الأرض، وتمت عليها الأنفس، وزخر بها النعيم، وتبجح بازدهارها الإنسان، قد سطت عليها المادة القاسية فسلبتها الروح وحرمتها القلب، فوقعت الجفوة بينها وبين الدين، وانقطع السبب بينها وبين الحب؛ فتشتت الآلاف، وتباعدت القُرْبى، وتشعبت الحاجات، وتنافست المطامع، وتكاشفت الأحقاد، واضطرب الناس في سبل الكدح، وألهبتهم حوافز الهم، حتى عجزوا بخلقتهم وطبيعتهم عن مسايرة الحضارة فسعوا بالطائرات، وعملوا بالآلات، ونظروا بالتلسكوب وسمعوا بالمكرفون، وضاقت عليهم الأرض برحبها فضربوا في الآفاق، واختصموا على ديار المستضعفين فحكموا بينهم السلاح فكانت هذه المدنية المادية أشبه بسعير الآخرة تنضج الجلود ولا تزهق الأنفس ليستمر الاضطراب ويتجدد العذاب ويدوم للطبيعة الخداعة هذا الثوب الأنيق الموشى بفضل هذا الإنسان الأحمق الذي يعمل ولا يعرف لماذا، ويسرع ولا يدري إلى أين!
هذا الفكر العاجز، وهذا الأدب القاصر، وهذا العلم المجرم، وهذه المدنية الفاجرة، لا تستحق الاحتفاظ بها ولا الذياد عنها يا زملاءنا الأعزة. لقد أشتد بأسها وعظم سلطانها في ألمانيا (الراقية) فولدت الهتلرية بوحشيتها وعصبيتها وبلاياها؛ وإن من الخير للإنسانية أن تذهب هذه العقلية مع الهتلرية إلى غير رجعة(360/2)
إن الفكر الذي نريده هو الفكر المدبر النفاذ الذي يشرق في جوانبه نور الله فلا يشت به ائتلاف ولا يضل عليه سائر. وإن المدنية التي نرجوها هي المدنية الإنسانية التي ينبث في طواياها روح الله فلا يولد بها شقي ولا ينجم فيها ثائر
إن شمس المدنية الصحيحة قد أشرقت من الشرق ثم غربت في الغرب، ولا بد أن يدور الفلك فتعود إلى مطلعها لتشرق على العالم من جديد!
أحمد حسن الزيات(360/3)
سيكولوجية الأديب
للدكتور إبراهيم ناجي
في هذا الموضوع ناحية شخصية طريفة، وطرافتها تغريني بالثرثرة؛ فإني لا أرى الآن موضوعاً علمياً، وإنما أرى أمامي شخوصاً وأسماء وصنوفاً من النفسيات تكون مجموعة مسلية فخمة. ومع ذلك، فسأتنكب هذا الجانب البديع، وأتكلم كلاماً علمياً سيكولوجياً تكون فائدته أعم وأوقع
أجل، من أهم الموضوعات الاجتماعية مسألة: (سيكولوجية الأديب)
ولما كان الأدب فرعاً من الفن، كان الكلام الصحيح هو عن سيكولوجية الفنان. ومقال اليوم يتناول سيكولوجية الفنان المصري، لأن للفنان المصري طابعاً خاصاً به لا تجده في غير مصر، وللثقافة الفنية في مصر طرقا لا تجدها في غيرها من البلاد
ولمَّا كان الجسم والنفس وحدة متماسكة، فإن أمراضهما متصلة، وإن كانت في الجسم أعضاء تتأثر أكثر من غيرها. وفوق ذلك، فإن للأدباء المصريين أمراضاً خاصة بهم وحدهم.
نبدأ الآن بالتحدث عن نفسية الأديب المصري:
الأديب المصري يندر أن يكون رجلاً طبيعياً، فإننا إذا نظرنا إلى الحياة وتعريفها، ثم إلى الأدب وتعريفه وخصائصه، تبين صحة ما نقول
ما هي الحياة؟
أصدق تعريف لها أنها تفاعل بين عوامل خارجية تتكون من البيئة والظروف والعادات والتقاليد؛ وعوامل داخلية تتكون من العناصر التي بتفاعلها وتطورها وتماسكها أدت إلى المجموعة التي اصطلحنا على تسميتها (بالشخصية). الحياة (ميزانية) بين دخل وخرج. الحياة موازنة بين قوتين وملائمة بين دافعين، وكل ما يعتري الحياة من اعوجاج أو شذوذ، أصله اضطراب في ميزان التفاعل، وأصل ذلك الاضطراب اختلال في عنصر من العناصر الداخلية أو الخارجية
وإذا سَّلمنا أن الدوافع الخارجية متساوية بالنسبة لنا جميعاً، سَّلمنا كذلك أن الاختلال أكثره داخلي أي في ذواتنا، وفي صميم أنفسنا. ولنراجع الآن أهم العناصر الداخلية في النفس(360/4)
بوجه عام، ثم نراجعها في نفس الأديب المصري بوجه خاص
أهم العناصر الداخلية التي تكون (الذات) هي (العادة) و (الجنس)
ويدخل تحت حكم العادة ما نسميه (بالخُلق). ولا يخفى أن التربية (عادة)، فخلقنا وتربيتنا أخيراً هما ما اعتدناه وصار طبيعة ثانية. ويدخل في بناء الشخصية - بعد العادة - مواهب موروثة أو فطرية كالذاكرة والخيال والذكاء
ويتكئ ذلك كله على الغرائز الفطرية التي هي واحدة في جميع البشر، وإنما يختلف عملها بمقدار ما أطلقنا منها وما كبتنا.
وأما (الجنس) فيساوي (الحب) ويجب ألا يفهم من ذلك اللفظ حب الشهوة، وإنما الحب على طول خطه المبتدئ بالوالدين المنتقل إلى المجتمع المنتهي بالزواج
ولعل ترتيب الأمور بأهميتها يكون على الوجه الآتي: الوراثة، العادة، الحب
إني أعطي الوراثة المكان الأول لكي أؤكد أن هناك ذكاء مكتسباً موروثاً، وآخر نحصل عليه بالمران. الأول عميق (عمودي) والثاني (سطحي)
ولا جدال في أن الأدب يورث، والمواهب الأدبية كالخيال، والموسيقية وغيرهما، مواهب تورث أي تولد ولا تصنع
والأدب تنبت جذوره وعناصره في الطفولة. فمن المألوف أن الطفل ينام على اللحن الموسيقي، ويستأنس بالغناء، ويحب القصة الخيالية، وقد يؤلفها هو نفسه
فالواقع أن الأديب طفل لم يكبر. والأديب الصحيح من له خصائص الطفل، في فرحته بالأشياء، وسذاجته، وتهلله، وضحكته، وخياله، وفرحه وابتهاجه بالموسيقى. والتربية الأدبية الصحيحة، هي التي ترمي إلى شيئين: تربية الحواس، فإن حدة الحواس هي الوسيلة التي بها يستعين الأديب على التقاط الصور وتذوق الأشياء. والشيء الثاني جو الحرية الذي فيه تترعرع شجرة الذات، وتتغذى تلك الحواس النشطة المتقدة
والأديب المصري محروم من الأمرين. ففي المنزل وفي المدرسة لا يجد من يتعهد تلك الحواس بالتغذية، وفي المنزل يجد التربية قائمة على الزواجر والنواهي، وقتل حرية الاستطلاع التي هي أهم خصائص الأديب. وفي المدرسة يجد سلسلة من (الكليشهات) التعليمية التي تقتل المواهب وتقبرها وتدفن شجرة الحرية دفناً! وكما ذكرت، عندنا أديب(360/5)
بالسليقة، وأديب بالاكتساب
أما الأول فيمر على تلك الأدوار ونفسه تشعر بالضيم، وتنطوي نفسه على ثورة مكتومة. والثاني يتلقى تلك الأخطاء، ويبتلعها بسهولة، ويصل إلى عتبة المستقبل رجلاً عادياً يتميز عن غيره من الناس بقليل من المواهب الكلامية والبيانية وشيء من الحقد على العباقرة وأرباب النبوغ
ونتكلم الآن على مسألة (الحب) لما لها من الأهمية البالغة في حياة الديب، ولما لها من الشأن في مصر خاصة
الحب في تعريف بلاتو وفي تعريف البيولوجيا (شطْر يبحث عن شطره الآخر الذي كان لاصقاً به ومكملاً فانفصل. . .)
فالبيولوجيا تقرر أن المخلوق كان في البدء وحدة ثم شُطر، وكان الشطران في المبدأ على جذع واحد وكانا متساويين، فلم يلبثا أن تميزا على الجذع ثم انفصلا، ثم قضى الله عليهما أن يبحث كل عن الآخر. . . في سن المراهقة حيث تنشط الغدد وتتأجج الحواس وتتطلع النفس باحثة عن شطرها الضائع
وهذا الوقت هو أزمة الأزمات. وهو عندنا في مصر - خاصة - عهدٌ خطر، ومع الأسف يقل فيه الإرشاد وتندر الصراحة الواجبة، مع أنه العهد الذي يبدأ فيه نضج الأديب، وتزدهر مواهب الفنان وتتفتح
فإن النفس التي تتطلع إلى مثلها الأعلى، أي إلى توأمها من الجنس الآخر، قد تجده، فإن وجدته قد لا تظفر به، أو قد تظفر وتنتهي الرواية، أو لا تجده، فتتحول إلى خَلق شيء على مثاله، أو التغني بالحنين إليه، أو رسمه على القماش أو الحجر، وهكذا. أو تكون الأزمة النفسية من الشدة بحيث تحدث اضطراباً نفسياً كبيراً، فإما يكون هذا الاضطراب تحدياً واعتداءً، أو تخاذلاً وانطواءً، وإما أبعد من ذلك، وهو الجنون. فنحن الأطباء نعرف ما هو جنون المراهقة ونفهم أسبابه وعلته
قلت إن هذا العهد في مصر أخطر العهود على الشاب الأديب
فإما أن يكون أديباً عبقرياً، فطامته الكبرى أن مثله الأعلى غير موجود أو مستحيل، وكارثته الأخرى أنه إذا وجد خياله المنشود، يخفق في الحصول عليه أولاً، لأنه ضال لا(360/6)
يعرف الطريق العملي إلى ذلك، وثانياً لأنه شديد الحساسية متناه في الاعتزاز بكرامته فيفر بها حتى من وجه الحبيب! أما الأديب (المصنوع) فهو قد ركب في (القالب) الخطأ وقبله وانصب فيه، ومحنته أولاً في (التركيب) الذي ركب فيه، وثانياً في الحقد المتأصل في نفس صغيرة بالفطرة وبالتربية، وثالثاً فيما يحاوله لبلوغ مرتبة العبقرية والعبقرية منحة من السماء
هذا فيما يختص بالعناصر الداخلية أو كما يسميه الدكتور جوردون صاحب كتاب (العصبي وأصدقاؤه) (ضغط الظروف) فهو الذي باصطدامه مع تلك العوامل التي ذكرناها يسبب المرض العصبي، وذلك الاصطدام منشؤه عند العبقري عظم الفرق بينه وبين البيئة، وعند الأديب المصنوع الفرق بين ما يتعاطاه وما يحاول أن يصل إليه
هذا موجز لمرضى الأدباء مرضاً نفسياً، أما أمراضهم الجسمية فمسببة عن اضطراب ذواتهم وقلقلة حياتهم. فهم قوم مسرفون في التفكير، ينامون قليلاً ويأكلون قليلاً - وأكثر الأدباء فقراء! وشذوذهم يدعوهم إلى تناول أطعمة شاذة، وقد يستعينون بالمنبهات على إدمان العمل ووفرة الإنتاج
وهم في مصر قليلو الرياضة، ولذلك يمرضون بالكبد والمعدة وأكثرهم يأتوننا شاكين من اضطراب القلب، وليس في قلوبهم مرض. وإنما منشأ علتهم فرط ذكائهم واطلاعهم فهم يقلبون كتب الطب فيفهمونها نصف فهم، ثم يتحسسون قلوبهم وأكبادهم ويتخيلون في المرض كما يتخيلون في الأدب.
إبراهيم ناجي(360/7)
الأزهر والحياة العامة
مالك والجاحظ في العصر الحديث
للأستاذ محمود الشرقاوي
يقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي في حديثه مع الرسالة: (بين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روي عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من الكتب؛ وفي خزائننا ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا نرى إلا فراغاً يثير الظنون ويغري بالأزهر التهم)
ثم يتعجب الشيخ الأكبر كما يتعجب بعده الدكتور زكي مبارك متسائلاً: لماذا لا يظهر في العصر الحديث مشرِّع مثل الإمام مالك أو أديب مثل الجاحظ. . .؟
وهذه هي المسألة التي وعدنا قراء (الرسالة) أن نبحثها في ختام مقالنا الأول
صحيح ما يقوله الشيخ الأكبر من توفر ما روي عن الرسول من الأحاديث وما روي عن الأئمة وعن الفقهاء، وتوفر ما في خزائننا مما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر. صحيح كل هذا ونحن أميز عن جميع العصور حتى عن عصر مالك وعصر الجاحظ في توفر هذه المصادر كلها والمراجع كلها والكتب كلها وفي سهولة الوصول إليها والبحث فيها
ولكن توفر هذه المراجع والمصادر والكتب يبرز من بيننا إماماً كمالك ولا أديباً كالجاحظ. وليس من العجب ألا يبرز
ليست الكتب وحدها ولا المراجع ولا الأصول هي التي تنشئ الأديب ولا هي التي تبرز العبقري، بل هناك أسباب أخرى يمكن أن نذكر منها البيئة العلمية والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية في العصر الذي ينشأ فيه العالم أو ينشأ فيه الأديب
فهل نستطيع أن نزعم أن البيئة العلمية التي نشأ فيها مالك والتي تكوَّن فيها تفكيره وتم نضوجه العقلي، أو تلك البيئة التي نشأ فيها الجاحظ، وتكون فيها تفكيره، وتم نضوجه الأدبي. هل نستطيع أن نزعم أن هذه البيئة أو تلك شبيهة بما نحن فيه الآن أو قريبة منها!؟
كانت الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في عصر مالك والجاحظ تفور بالنشاط بل(360/8)
بالعنف، وتضطرب بالحياة القوية المتجددة. وكانت الأحداث السياسية والحربية والاجتماعية تجيء في كل يوم بجديد. وكانت الأمة الإسلامية أو الأمة العربية في عصر مالك والجاحظ هي صاحبة السيادة والسلطان المطلق على العالم كله (عالم ذلك العصر)، وكانت حضارات الأمم القديمة العريقة وأموالها وآثارها العقلية والأدبية تنحدر كالسيل في نهر الحياة الإسلامية أو العربية ويملأ ضفافها بالنشاط والحركة والحيوية. وكان المجتمع الإسلامي أو العربي في عصر مالك والجاحظ يشعر بأنه صاحب السيادة على ما سواه من المجتمعات، صاحب السيادة الذهنية والعقلية والأدبية. بل لم يكن يجد أمامه نداً من المجتمعات يمكن أن يقارن به أو يوزن إلى جانبه أو تقام بينه وبينه المفاضلة والترجيح، لأن الأمة الإسلامية أو العربية كانت لذلك العهد صاحبة السيادة السياسية والحربية وما سواهما من السيادات ولم تكن تجد أمامها من توزن سيادته بسيادتها أو تقام بينها وبينه المفاضلة والترجيح
وفي هذه البيئة وفي ظل هذه السيادة التي يشعر بها المجتمع وتشعر بها الدولة لأنها حقيقة واقعة. نشأ مالك والجاحظ فكانت لهما سيادة الذهن وسيادة الفكر والأدب والفن
وهذه الأشياء كلها: البيئة العلمية، والوسط الاجتماعي، ومستوى الحياة الذهنية، وشعور المجتمع بالسيادة أو بالهوان، ومكان الدولة من القوة والضعف؛ كل أولئك أشياء ليست هينة الشأن في تكوين الأديب والعالم وفي تبريزه وحدة ذهنه وقيمة إنتاجه.
وبالمقارنة بين هذه الأشياء على عصر مالك والجاحظ وبينها في مصر والشرق على عصرنا هذا نستطيع أن نضع علماءنا وأدباءنا حيث يكون موضعهم الطبيعي
ولعل من المفيد أن نذكر هنا قول أبن دريد في مقصورته:
وكل قِرن ناجم في زمن ... فهو شبيه زمنٍ فيه بدا
وقد نجم مالك ونجم الجاحظ في زمن كانت السيادة فيه لدولتهم ودينهم ومجتمعهم فكانوا شبيهين بزمنهم، ونجم علماؤنا وأدباؤنا في زمن فهم شبيهون به
ولا عجب في ذلك ولا غرابة
ولكنا ننتقل من ذلك إلى مسألة أخرى نلخصها في هذه الأسئلة وفي الإجابات عليها:
ما هي القيمة الحقيقية لمالك والجاحظ؟ وهل لا نجد في عصر غير عصريهما من تكون(360/9)
قيمته مثل قيمتهم؟ وهل لا نجد في عصرنا هذا من يقرن إليهما ويوزن بميزانهما؟
أما مالك فهو إمام مشرع نافذ البصيرة والذكاء في فهم المسائل وفي التشريع، ولكنا نستطيع أن نجد له نداً بل أنداداً كثيرين في هذه الصفات كلها. وفي مسائل كثيرة نجد علماء متأخرين يناقشون مذهب مالك أو غيره من المذاهب ويفَّندون رأيه في مسألة أو في مسائل. ثم يقتنع الباحث المنصف بأن رأيهم أرجح من رأي مالك وأن فهمهم لهذه المسألة أو المسائل أدق من فهمه
ونستطيع أن نجد كثيراً من هذا في مطالعاتنا لعلم الأصول وأن يجده غيرنا كذلك
ونجد في عصرنا هذا علماء يناقشون في مذهب مالك وفي غيره من مذاهب الأئمة ويفندون رأيه في مسألة أو في مسائل، ويكون رأيهم فيها أرجح من رأي مالك، وفهمهم لها أدق وأصدق من فهمه
في الأحاديث الدينية التي أذاعها الأستاذ الأكبر، وفي دروسه التي ألقاها منذ سنين، وفي أحكامه قبل ذلك في القضاء آراء ومسائل خرج فيها عن رأي مالك وأبي حنيفة وناقشها وأقنع سامعيه وقارئيه بصواب رأيه على رأيهم. وكان فهمه لهذه المسائل أدق وأصدق من فهم مالك وأبي حنيفة.
ونقرأ ونسمع لعلماء معاصرين آراء يخالفون بها هذا أو ذاك من الأئمة ومن الفحول، ثم نجد من الإنصاف أن نقرهم وأن نشهد بأنهم أدق فهماً وأصدق رأياً من هذا وذاك من الأئمة والفحول ولو خالفوا مالكا
ثم نقول بعد ذلك في الجاحظ مثل قولنا في مالك بفارق بسيط ولكنه ضروري. فإذا أردنا أن نضع الجاحظ وغيره من فحول الأدب القديم حيث يستحقون من تاريخنا الأدبي والثقافي، يجب أن نلاحظ الفرق بين (الأديب) في العصور القديمة وبين (الأديب) في عصرنا هذا، وأن نلاحظ الفرق بين (الأدب) في تلك العصور وبين الأدب في عصرنا هذا
فالأدب عند العرب في عصر الجاحظ وفي غيره من العصور (وإلى عهد قريب) كان أدب حفظ وجمع ورواية. وكان الأديب يوزن قدره ويلحظ مكانه نقدر ما يحفظ من الشعر، ومن غريب الرواية، ومن كلام السلف والأعراب، ومن شعر الشعراء. وكان أكبر ما يمدح به الأديب أن يقال فيه أنه (بحر علم) و (خزانة أدب) وإن صدره (وعي علوم الأوائل(360/10)
والأواخر) إلى غير هذه النعوت التي تدور كلها حول محور الرواية والحفظ والجمع والاستيعاب
فإذا نظرنا إلى الجاحظ وإلى من هو أقل من الجاحظ مكاناً فإنا لا نجد في عصرنا من يشابهه أو يقاربه، ولا نريد أن نجده. والأدب والشعر ورواية الغريب التي هي بضاعة الجاحظ وغيره من فحول الأدب السوالف (إذا نظرنا إلى الأدب هذه النظرة) هذه البضاعة لا تساوي شيئاً، ولا نأسف لأنا لا نجد في عصرنا من يوزن بالجاحظ فيها. فعندنا خزائن الكتب أرحب وأوسع وأصدق وأيسر من صدر الجاحظ ومن روايته
أما الآن، فنحن ننظر إلى الأدب على أنه فن قائم على قواعد وأصول، وعلى أنه أسلوب وفكرة، أو على أنه أسلوب فقط. نحن ننظر إلى الأدب على أنه شيء من هذا أو هذا كله، أو على أنه شيء غير هذا وذاك. ولكنه مهما يكن، فليس هو الجمع والحفظ والاستيعاب والرواية للغريب والشعر. فإذا وزنا أدب الجاحظ بهذا الميزان الجديد للأدب، فقد خف وزنه ولم يبق منفرداً ولا فذاً منقطع النظير والأقران في عصرنا
فمقدار الثقافة التي كان يتميز بها الجاحظ ونوع هذه الثقافة لا وزن له ولا قيمة في عصرنا. وتلميذ في الأزهر أو في مدرسة ثانوية يعرف من الجغرافيا ومن حقائق التاريخ ومن علوم الطبيعة أكثر وأصدق مما نجد في كتب الجاحظ من الحيوان إلى البيان والتبيين. بل يعرف من ذلك ومن حقائق العلوم أكثر وأصدق مما يعرف أدباء العرب جميعاً في جميع العصور، وليس ذلك عيباً فيهم، فقد كانوا يعرفون أكبر قسط وأصدق قسط من علوم عصرهم ومعارفه
وليس مطلوباً منهم أكثر من ذلك، ولكنه لا يجعلهم أعظم شأناً، ولا أكبر مكاناً من كاتب متوسط في عصرنا
وأما أسلوب الجاحظ وبصره بالأدب على قواعده التي أشرنا إليها منذ قليل، فهو الذي يصح أن نقيم له وزناً وأن نقارن بينه فيه وبين كتابنا وأدباءنا المعاصرين. وهذه المقارنة نرجو أن يسمح لنا فضيلة الأستاذ الأكبر، وأن يسمح لنا صديقنا الدكتور زكي مبارك، إذ نقول أنها لن تخرج بنا إلى النتيجة التي توافقنا عليها. فالجاحظ وغير الجاحظ من فحول الأدب القديم نستطيع أن نجد لهم شبيهاً وقريناً في عصرنا هذا.(360/11)
نستطيع أن نجد من يشبه الجاحظ في فهمه للمسائل الأدبية وفي بصيرته بالأدب والشعر وفي (الذوق الأدبي)، وأن نجد من يشبه الجاحظ أو يبرز عليه في النقد الأدبي؛ ولا أقدِّم على ذلك دليلاً سوى تصحيح زكي مبارك نفسه لكتاب زهر الآداب وتعليقاته وتصويباته الأدبية والتاريخية عليه وعلى غيره من الكتب ورسالته عن كتاب الأم ونسبته للشافعي
وكذلك نستطيع أن نقول ذلك عن أسلوب الجاحظ وعن أساليب عدة من فحول الأدب القديم، لا نستثني من ذلك سوى أصحاب المقامات كالحريري والزمخشري.
وأسلوب الشيخ المراغي في الكتابة والخطابة، وأسلوب الزيات في (الرسالة)، وأساليب غيرهما من الباحثين والأدباء والمفكرين في عصرنا، نستطيع أن نقيم الميزان بينها وبين أسلوب الجاحظ وغير الجاحظ من أهل القديم. وقد نجد بالموازنة أننا خير منهم. وليس لهم إلا أن الزمن تقدم بهم فارتفعت بهم قداسة التاريخ
محمود الشرقاوي(360/12)
الأسماء تعلل
للدكتور مأمون عبد السلام
(وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة)
(قرآن كريم)
لكل كائن أسم يعرف به. هكذا جرت طبيعة الخلق، وهكذا ستكون إلى أن يشاء الله. فمعنى كلمة آدم، الرجل، لأنه أول رجل خلقه الله، كما أن حواء أول امرأة خلقت. وقد أنجبت قابيل لأنها اقتنته رجلاً من عند الله. وسمى الله أبرام إبراهيم لأنه سيكون أباً لجمهور من الأمم. ودعا ساراى زوجة أبينا الخليل سارة لأنه سيسر بها قلبه، وسمى أبنه منها أسحق لأن إبراهيم عليه السلام سقط على وجهه وضحك لأن الله أخبره بأنه سيولد له منها ولد وهي ابنة تسعين سنة. وقد قالت سارة عندما ولدته: (صنع الله إليَّ ضحكاً كل من يسمع بي يضحك) لذلك سمي اسحق من الضحك. وسمي يعقوب بذلك لأنه كان توأماً لعيسوه، فخرج بعده وهو قابض بعقبه. هذه هي رواية التوراة في تعليل أسماء الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
فأسماء الأعلام في الأصل إذن لها تعليل ومعنى. وقد جرت عادة بني الإنسان في كافة أنحاء الأرض أن يتبعوا قواعد في تسمية أبنائهم تكاد تكون واحدة. فتراهم ينسبون أسماءهم إلى معبوداتهم، وإلى الملائكة والرسل والأنبياء والقديسين وأسماء الملوك والفاتحين، وأصحاب الشهرة ممن خلدوا ذكرهم. فكان قدماء المصريين مثلاً يسمون أبناءهم بالإضافة إلى آلهتهم مثل رعمسيس، وتوت عنخ أمون، وإخناتون. وكان العرب في جاهليتهم يسمونهم بعبد مناة وعبد العزى. ويسمي أهل الكتاب أولادهم بأسماء الرسل أولى العزم والنبيين كنوح، إبراهيم، يونس، عيسى، محمد. وبأسماء الملائكة مثل جبريل وميخائيل. وقد ورد في الأثر: خير الأسماء ما عبد وما حمد. لذلك يكثر في أسماء المسلمين عبد الله، عبد الرحمن، عبد الغفار، وغير ذلك من الإضافة إلى أسماء الله الحسنى، كما يكثر فيهم محمد، محمود، أحمد، حامد، حماد، حمدين.
ومن الأسماء ما يكثر محلياً بالنسبة لولي أو قديس محلي، فترى أسم عواد منتشراً في(360/13)
مديرية القليوبية، وعبد الرحيم في قنا، لوجود قبري هذين القطبين فيهما، كما يكثر أسم موسى في جنوب سينا
وكانت عادة العرب وغيرهم من الأمم قديماً أن يختاروا للذكور من أولادهم أسماء تشعر أعداءهم بالشدة والبأس والقوة والشجاعة لتتلقى الرعب في قلوبهم. فمن أسماء العرب معارك، محارب، حرب، شجاع، صنديد، شديد، دهشان، غضبان، هراس، تاعب، وحش، منصور، ولهذه الأسماء ما يقابلها عند الفرنجة مثل جيرالد، سافيدج، فكتور
كما أنهم يسمونهم بأسماء الحيوانات التي يعجبون بها لصفات يحمدونها فيها كالشجاعة والمكر والمثابرة، فترى كثيراً من المصريين والعرب يسمون الوحش، الوحيش، السبع، الضبع، النمر، الفهد، الذئب، الفيل، الجحش، الجدي، العجل، العجيل، الجمل، الحلوف، البغل، القرد، الفار. كما أن منهم من أسمه ثعلب، نمس، نميس، بعرور، قطه، بقر، بهايم، جربوعه، علوش، وهو الذئب أو أبن آوى بلغة بني حمير، ومنهم من أسمه البدن وهو الماعز الجبلي
ويسمي كثير من سكان السواحل المصرية بأسماء الأسماك مثل: قرموط، شلباية، شال، زقزوق، كركور، شوبار، طومار، سحلول، حوت
كما أن منهم من يسمي بأسماء الطيور مثل الدقيش وهو نوع من الطير أغبر أريقط، وقد يكون الدقنوش المعروف بمصر. ومن الأسماء المعروفة بمصر حدايه، صقر، عصفور، شحرور، هدهد، غراب، فراخ، زرزور، بلبل، غر، ديك، بطة
ومنهم من يسمي بأسماء الحشرات والدبيب فهناك أشخاص يسمون نحلة، دبور، جعران، خنفس، برغوث، بقة، حنش، حنيش، حية
ومن الناس من يسمون بأسماء النباتات، فمنهم من يتخذ أسماء الحبوب مثل عائلات قمحة وشعير وذرة. ومنهم من يسمي بأسماء الخضر مثل: فلفل، قوطة، كوسة، جزر، فقوسة، بطيخة، بقلة. ومنهم من يسمي بأسماء الأشجار والفاكهة والنقل مثل: نخلة، شمروخ، خوخة، زيتون، لوزة، بندق، حب الرمان، برقوق، تفاحة، برتقالة، وردة، فله. أو يسمون بأسماء الحشائش والنباتات الصحراوية مثل: زريبح، شيحة، حنظل، حطب، زعتر، زعيتر، حشيش(360/14)
ومن الناس من يغلب عليه لقب لصفة بارزة أو شهرة ذائعة فيصبح اسماً يتوارثه أولاده، فهناك من يسمون: النطاح، العفش، النتن، الدكر، الزفر، العبيط، اللطخ، الظايط، الجميص، الأقرع، الأعور، الهاكع، الأجرب، السعران، الأطرش، الأعسر، الأحدب، الجارم، الحلو، الخشن، الناعم، الفللي، الدهل، الأهبل، المكهرب، العجوز، السايح، العقدة، السيد، العبد، البربري، المملوك، المعتوق. كما أن منهم من يسمي ناعس، نعسان، مهلهل، غناجة، غندر، غندور، عشقوتي
ومنهم من يأخذ أسم عيب جسماني أو إفراز مثل حدبة وقتب وبربور
ومن الناس من يكون لأسمه غرض صوفي خالص يدل على الزهد كأن يسمي الرجل أبنه زعلوك، عاكف، مغيب، الماحي، الضعيف، الخفيف، الذليل، الناقص، العريان، القشلان؛ ومنهم من يسمى باسم حنفي، مالكي، شافعي
ومن غريب أسماء الأشخاص ما يدل على مأكول، فهناك أشخاص يسمون باسم بصل، عجوة، عجور، كشك، ملوخية، سكر، قشطة، عسل، كعك، قراقيش، برغل، مش، لبن، لبنة. كما أن بعضهم يأخذ لأولاده أسماء الجمادات مثل: خشبة، لوح، قنديل، مصباح، فانوس، غربال، الدلو، الغلق، الزق، الصحن، زلط، صخر، شقرف، الدرس، الدرع، الزير، طبق، قلة، مغراف، دبشة، طوبة. ومنهم من يسمي بشيء يلبس مثل: الطرحة؛ أو يسمى بنفيس الأشياء: كذهب، مرجان، ألماس، زمرد، لؤلؤ
ومنهم من يسمي بأسماء الأيام والشهور وفصول السنة مثل: خميس، جمعة، محرم، رجب، شعبان، رمضان، ربيع، شتا. ومنهم من يسمي: مطر، غيث، سحاب؛ كما أن منهم من لأسمه علاقة بالنور والنار والكواكب مثل: شعلان، لهلوبة، أتون، محروقي، محروق، محاريق، نور، أنور، نوار، نور الظلام، شمس، قمر، نجم، ثريا، زهرة
ومنهم من يسمي بأسماء آلات القتال مثل دبوس وخشت وسيف وبمبة
ويدل كثير من ألقاب العائلات على أصل مواطنها الأولى مثل الشامي والمغربي، الفرنسي، التركي، السوداني، الحبشي، الهندي، كما أن منها ما يشعر بحرفة أو صناعة أو وظيفة أو مركز اجتماعي خاص كالجعيدي، الطبال، الزمر، الحمار، القلفطي، المراكبي، العربجي، النشار، الحداد، النحاس، النجار، الصباغ، الصايغ، الصبان، الخادم، الجمال، السحار،(360/15)
السحرتي، الحانوتي، الغرابلي، الصيرفي، الزيات، الدهان، البستاني، الجنايني، الحاجب، الشوا، التراس، السبحاوي، البهلوان، النشوقاتي، الفسخاني، الكنفاني، المستكاوي، المسلكاتي، الشبكشي، الرماح، السخري، الهجان، الكحكي، الحمصاني، القماش، العسكري، الحرامي، السقا، الجزار، الفولي، الفوال، القزاز. ومن الأسماء طحان، عجان، خباز، زبال. ومنهم الزلباني، السلالي، السكاكيني، الحناوي، القمص، القسيس، الجندي، العمدة، الشيخ، الأفندي، البيه، الباشا الأمير، البرنس، مزارع
ويختار كثير من الناس غريب الأسماء لأبنائهم ليطيلوا بذلك أعمارهم ويدفعوا العين عنهم؛ فمن أمثلة ذلك: فندي، فانتي، دقدق، تهته، شكعه، حكشه، خنجر (بضم الخاء والجيم)، بلبع، درع (بتشديد الراء)، سنكحلو، زملوط، زعطوط، شحوت، شحات، حتحوت، شنن، جعلص، كعبلها، بخاطرها، زعزوع، جعيصة، الجعيص، سحبل، معيط، عاشور، دحروج، عميرة، دعبس، زعير، زعرب، زعربان، شلتوت، حمروش، حبروك، نونو، بنونه، شرشومة، بحبح، شولح، حتاتة، كانش، بصيص، تلكم، بالي، بابي، حيدة، حيدرة، حزنبل، بظاظة، دقدوقة، صلع (بتشديد الصاد واللام)، سلطح، حنبوط، كرشة، دلدل، عيطة، كعويرة، كشلة، الدكش، الدكس، شلضم، ضمضم، مدبح، زقلط، بعلط، فلوسة، حرحش، زغلة، شمردن، طعواش، خلطخ، لاغا، صوصي، سنون، الميت، طبل، سبل (بضم الطاء واسين وتشديد الباء المفتوحة)، قزامل، لهيطة، الزقم
ومن الأسماء ما هو مركب مثال ذلك: عائلات ميتكيس، قصير الذيل، نقر الطين، سبع الليل، هب الريح، سيف النصر.
ومن أسماء الغانيات: ست من نده، ست الدار، أدوب أنا (أسم بنت بالواحة البحرية)، قدم خير
وكثير من الأسماء كنيات كنى بها أصحابها في الأصل لصفة خاصة. ومن أمثلة ذلك: أبو شادوف، أبو قورة، أبو لبدة، أبو طاقية، أبو الروس، أبو الريش، أبو الغيط، أبو وردة، أبو كرش، أبو سنه، أبو دراع، أبو اصبع، أبو حجر، أبو جبل، أبو لقمه، أبو قلطه، أبو دهينه، أبو شبانه، أبو زهرة، أبو ريشة، أبو الني، أبو شنب، أبو شنب فضة، أبو هيف، أبو حصيرة، أبو ليفه، أبو لحاف، أبو اخربها، أبو غنجة، أبو قاعود، أبو طاحون، أبو طحين،(360/16)
أبو جازية، أبو سحلى، أبو دراز، أبو رمح، أبو سيف، أبو شجر، أبو دومة، أبو دوح. ومنهم من يكنى بأسماء أولاده مثل: أبو حسين، أبو ليله، أبو نفيسة، أبو زهرة، أبو ظريفة،
ومن الأسماء ما هو مثنى لأسم علم مثل: محمدين، حمدين، حسانين، بكرين
ولا تظن أيها القارئ الكريم أن المصريين منفردون وحدهم بهذه التسمية، فهناك ما يماثل هذه الأسماء في كافة ممالك الأرض بلغات أصحابها مما يدل على أن العقل البشري يفكر على نمط واحد مهما بعدت الشقة واتسعت المسافة.
مأمون عبد السلام
عضو نادي الصيد الملكي
ووكيل قسم أمراض النباتات(360/17)
كتاب الأغاني
للأستاذ حسن خطاب الوكيل
طبع كتاب الأغاني بالمطبعة الأميرية في عشرين جزءاً تنتهي بأخبار عمارة بن عقيل الخطفي. ومنذ خمسين عاماً ظهر في عالم المطبوعات الجزء الحادي والعشرون من هذا الكتاب المستطاب. قام بنشره وطبعه المستشرق رودلف الأمريكي في مدينة ليدن سنة 1888، وحدث في سنة 1926 أن أديباً فاضلاً ونبيلاً من النبلاء رغب إلى دار الكتب المصرية في أن تقوم بطبع الأغاني على نفقته، فلما همت بتنفيذ هذه الرغبة النافعة لم تعترف بالجزء الزائد على العشرين للأسباب الآتية:
1 - أنه لم يصدره ناشره بمقدمة يبين فيها أصل النسخة التي نشره عنها ولا في أي المكتبات عثر على هذه الزيادة
2 - أن أسلوبه ضعيف لا يشبه أسلوب أبي الفرج في العشرين جزءاً المتقدمة
3 - أنه يشرح في كثير من الأحيان الألفاظ الغريبة التي ترد في أبيات الشعر، وهي طريقة غير معهودة في الكتاب. فالجزء الأول مثلاً على كثرة ما فيه من الألفاظ الغريبة لم يشرح منها إلا القليل النادر، وقد لا يعدو ما شرح في هذا الجزء من هذا القبيل أربع أو خمس كلمات
4 - أنه في هذا الجزء يشرح أحياناً المعاني التركيبية لبعض الأبيات، ولم نعهد مثل ذلك في الأجزاء الماضية
5 - أنه يكتب كثيراً كلمة - صوت - على شعر لم يغن فيه، وطريقة الكتاب إلا تكتب هذه الكلمة إلا على الشعر الذي يتحدث بعدُ أنه وقع فيه غناء. . . الخ
ونحن نسلم بأن (رودلف) قد قصر في أنه لم يصدره بمقدمة وأنه لم يذكر في أي المكتبات عثر على هذا الجزء. . . الخ، ولكن هذا لا يكون حجة في أنه ليس من الكتاب إذ كل هذه الاعتبارات إنما هي مجرد ملاحظات غير محدودة، ولا تنهض دليلاً على أن الجزء ليس من الكتاب، ومن المحتمل أن يكون لكتاب الأغاني بقية لم تظهر بعد، أو تناولتها أيدي الضياع. وهاهو ذا ياقوت يتحدث إلينا في كتابه معجم الأدباء عن الأغاني ويؤيد قولنا هذا حيث يقول: (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به، وطالعته مراراً، وكتبت منه نسخة بخطي(360/18)
في عشر مجلدات، ونقلت منه إلى كتابي المرسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه كقوله في أخبار أبي العتاهية - وقد طالت أخباره هاهنا، وسنذكر خبره مع عقبة في موضع آخر ولم يفعل. وقال في موضع آخر - أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدمت - ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك. والأصوات المائة هي تسع وتسعون. وما أظن إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان قد غلب عليه والله أعلم)
هذا كلام ياقوت، ومنه يحتمل أن الكتاب له بقية محتملة أو هو قد سقط منه شيء لطول العهد، وعليه فلا يبعد أن يكون الجزء المتحدث عنه هو منه، وهاهو ذا الإمام الجليل أبن منظور صاحب لسان العرب ينقل عن الجزء الحادي والعشرين في مختصره مختار الأغاني في الأخبار والتهاني منذ ستمائة عام مضت على مختصره هذا حديثاً طريفاً عن إسحاق الموصلي وغلامه زياد لم تذكر بعد إلا في الجزء الحادي والعشرين.
حديث إسحاق وزياد
إسحاق الموصلي من مشاهير الأدباء وأهل الغناء، وأخباره في كتاب الأغاني قد لا يخلو منها جزء منه، وله حكاية ظريفة وأشعار ظريفة في غلام له أسمه زياد لم تذكر إلا في الجزء الحادي والعشرين من الكتاب، وهذه الحكاية هي عماد بحثنا في أن الجزء المشار إليه هو من الكتاب، لأننا وجدنا العلامة أبن منظور نقلها عنه واختصرها منه
جاء في أول الجزء الحادي والعشرين طبع ليدن والذي ادعاه رودلف ما نصه:
خليلي هيا نصطبح بسواد ... ونرو قلوباً هامهن صواد
وقولا لساقينا زياد يرقها ... فقد هز بعض القوم سقي زياد
الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر - خبر إسحاق مع غلامه زياد - هذا الشعر يقوله إسحاق في غلام له مملوك خلاسي يقال له زياد، كان مولداً في مولدي المدينة فصيحاً ظريفاً فجعله ساقيه وذكره هو وغيره في شعره، فمن ذكره من الشعراء دعبل وله يقول: أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال: كان زياد الذي يذكره إسحاق في عدة مواضع منها قوله: وقولا لساقينا زياد برقها) نظيف السقي لبقا. فقال فيه دعبل:(360/19)
يقول زياد قف بصحبك مرة ... على الربع مالي والوقوف على الربع
صوت
أدرها على فقد الحبيب فربما ... شربت على نأى الأحبة والفجع
فما بلغتني الكأس إلا شربتها ... وإلا سقيت الأرض كأساً من الدمع
غنى في البيت الثاني والثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس ابن عبد الله بن طاهر لحناً من خفيف الثقيل الأول بالبنصر. قال أبو الحسن: وقد قيل إن هذين البيتين (يعني خليلي هيا نصطبح بسواد) للأخطل. أخبرني علي بن سليمان قال حدثني أبي قال: قال لي جعفر بن معروف الكاتب (وكان قد جاوز مائة سنة) لقد شهدت إسحاق يوماً في مجلس أنس وهو يتغنى هذا الصوت (خليلي هيا نصطبح بسواد) وغلامه زياد جالس على مسورة يسقي وهو يومئذ غلام أمرد أصفر رقيق البدن حلو الوجه، ولا أحد يراجعه ولا أحد يستطيع يقول له زدني ولا انقصني. أخبرني علي بن صالح بن هيثم الأنباري. قال حدثني احمد بن الهيثم (يعني جد أبي رحمه الله) قال: كنت ذات يوم جالساً في منزلي (بسر من رأى) وعندي إخوان لي، وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه منها علي. فجاءني الغلام يوماً وعندي أصدقاء لي فقال لي: إسحاق بن إبراهيم الموصلي في الباب فقلت له: قل له ويلك: يدخل أو في الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق. فذهب الغلام وبادرت أسعى في إثره حتى تلقيته فدخل وجلس منبسطاً آنساً فعرضنا عليه ما عندنا فأجاب إلى الشرب فأحضرناه نبيذاً مشمساً فشرب منه، ثم قال: أتحبون أن أغنيكم قلنا: أي والله أطال الله بقاءك إنا نحب ذلك قال: فلم لم تسألوني؟ قلنا: هبنك والله قال: فلا تفعلوا ثم دعا بعود فأحضرناه فاندفع فغنانا فشربنا وطربنا فلما فرغ قال: أحسنت أم لا؟ فقلنا: بلى والله جعلنا الله فداءك لقد أحسنت قال: فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت قلنا الهيبة والله لك قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون إن المغني يجب أن يقال له عن، ويجب أن يقال له إذا غنى أحسنت قال: ثم غنانا صوته (خليلي هيا نصطبح بسواد) قلنا له يا أبا محمد من هو زياد الذي غنيته قال: هو غلامي الواقف بالباب أدعوه يا غلمان، فأدخل إلينا، فإذا هو غلام خلاسي قيمته عشرون ديناراً أو نحوها فأمسكنا عنه فقال: أتسألونني عنه فأعرفكم إياه ويخرج كما دخل وقد سمعتم شعري فيه وغنائي. أشهدكم أنه حر لوجه الله وإني زوجته(360/20)
أمتي فلانة فأعينوه على أمره قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم أخرجناها له من أموالنا. أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال: حدثني أبي قال توفي زياد غلام إسحاق الذي يقول فيه. وقولا لساقينا زياد يرقها، فقال إسحاق يرثيه:
فقدنا زياداً بعد طول صحبة (كذا) ... فلا زال يسقي الغيث قبر زياد
ستبكيك كأساً لم تجد من يديرها ... وظمآن يستبطي الزجاجة صاد
أخبرني عمي قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال اصطبح محمد الأمين ذات يوم وأمر بالتوجيه إلى إسحاق فوجه إليه عدة رسل كلهم لا يصادفه حتى جاء أحدهم به فدخل منتشياً ومحمد مغضب فقال له: أين كنت ويلك. قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطاً فركبت إلى بعض المتنزهات فاستطبت الموضع وأقمت فيه وسقاني زياد فذكرت أبياتاً للأخطل وهو يسقيني فدار لي فيها لحن حسن وقد جئتك به فتبسم ثم قال هات فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط، فغناه
صوت
إذا ما زياد علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل زهواً كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير
قال بل على أبيك. قبح الله فعلك. فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك وأمر له بألف دينار - الشعر في هذين البيتين للأخطل والغناء لإسحاق رمل بالبنصر - ورواية شعر الأخطل: إذا ما نديمي علني ثم علني، وإنما غيره إسحاق إذا ما زياد
هذه هي حكاية إسحاق التي لم توجد إلا في الجزء الحادي والعشرين من الأغاني وهي التي أقرها ابن منظور في مختصره ونقلها عنه. فهل بعد هذه الأبيات الأكيدة لقائل أن يقول إنه ليس من الكتاب في شيء!
حسن خطاب الوكيل(360/21)
الأزهر وتفسير القرآن الكريم
للأستاذ محمود حسن منصور
المدرس بكلية الشريعة
لسنا بحاجة إلى القول بأن القرآن الكريم هو دستور الدين والدنيا، وأنه ينبوع الشريعة الصافي الذي يصدر عنه كل ناظر في التشريع، أو متعرض للأحكام أو منتفع بما فيه من التعاليم والآداب
لسنا بحاجة إلى أن نقول ذلك فقد فرغ الناس منه، وآمنوا عن يقين به، وما تزال الحوادث تؤيده، والأيام تعززه وتزيده قوة في النفوس، ومتانة في القلوب
ولسنا نريد أن ننكر على المفسرين الأولين للقرآن الكريم جهودهم الجبارة، ومحاولاتهم الكبيرة، وعنايتهم بتفسير هذا الكتاب الكريم، وخدمته من نواحي الفقه والبلاغة والإعراب، وغير ذلك مما تعرضوا له في تفاسيرهم، فلا شك أنهم أتوا من ذلك بما يفرضه عليهم واجبهم نحو دينهم وعلومهم، ولغة قومهم وكتاب ربهم، فأدوا رسالتهم وأبروا ذمتهم أمام الله والناس
ولو أن باحثاً عنى بأن يستعرض هذه الأسفار المختلفة، وأن يزنها بما توزن به الجهود العلمية والإنتاجات القومية لوجد من ذلك ما يملأ نفسه روعة ويملأ قلبه إعجاباً، ولجرى لسانه بألفاظ الثناء على هؤلاء العلماء، ولجزاهم عن دينهم وأمتهم خير الجزاء
كل ذلك حق لا ريب فيه تحدثت به آثارهم، وآمن به كل من تأنى له النظر في كتبهم، والبحث في مؤلفاتهم، كما آمن به علماء الأزهر
ولكنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ولا يستطيع إخواننا من العلماء ولا شيوخنا منهم أن ينكروا أن لهذه التفاسير عيوباً قد إحسها الناس من زمن طويل. وقد ازداد إدراكهم لها في ذلك العصر الذي تغيرت فيه طرق الإقناع، وتنوعت أساليب البحث والتفكير، وتهيأ للعقل فيه نوع من النضوج لاشتغاله بالعلوم الكثيرة، ونظرة في الثقافات المختلفة. فمن هذه العيوب:
أولاً: تفشي الإسرائيليات في هذه الكتب المشهورة، كما تتفشى الأوباء المهلكة حتى تجد الكثير من الآيات قد صنعت لها القصص، ودبرت لها الخرافات، فأصبح الناظر في هذه(360/22)
الكتب مشغولاً بتنحيتها عن طريقه وإزالتها عن سبيله إن كان من العلماء، ومهدوا بأن تغزوه هذه الخرافات الباطلة في قرارة نفسه وصميم عقيدته، إن كان من العامة، وذلك هو السر فيما نشاهده من صعوبة مهمة العلماء المفكرين في توضيح هداية القرآن على وجهها الصحيح، وإيصالها سليمة إلى نفوس الناس
ثانياً: تخصص كثير من هذه الكتب في نواح من التفسير هي في نفسها صالحة وقيمة وطيبة ومحتاج إليها. فهذا تفسير يهتم بالنحو والإعراب، وهذا تفسير يعنى ببيان وجوه البلاغة والإعجاز، وهذا تفسير جعل مهمته التوفيق بين آيات القرآن ومذاهب الفقهاء
وقلما تجد تفسيراً يفسر القرآن على نحو يشعرك بمقصده السامي، وغرضه النبيل من غرس العقائد الصحيحة السهلة التي لا تقيد فيها ولا غموض، وتبين الأحكام الناصعة الواضحة التي لا تشديد فيها ولا تعسف، وعرض التربية القرآنية الروحية والعقلية عرضاً عرضاً كريماً يتفق مع ما للقرآن من قيمة ذاتية وباعتباره كتاباً إلهياً خالداً صادراً عن الله الذي يعلم السر في السموات والأرض
ثالثاً: اندفاع كثير من المفسرين بدافع الرغبة في تأييد مذاهبهم وتوطيد عقائدهم وآرائهم إلى تخريج القرآن على آراء أصحاب المذاهب والمعتقدات، ولو كان في ذلك الإخلال بالنظم والخروج به عن الأساليب العربية المألوفة، والنزول به إلى أدنى درجات الكلام
فتراهم يقولون مذهب أهل السنة كذا، فيجب أن تؤول الآية لتطابق هذا المذهب، ومذهب الحقيقة كذا، فيجب أن تفهم الآية على نحو يبعدها من هذا المذهب، وهذه الآية تتفق الحقيقة مع مذهب الحنفية وتخالف مذهب المالكية، وهكذا، كأن القرآن إنما أنزله الله على حساب أهل المذاهب والمعتقدات الصحيحة والباطلة على حد سواء، وكأنه إنما جعل ليقاس على المذاهب لا لتقاس المذاهب عليه
4 - هذا إلى ما تراه وتشعر به من غموض بعض التفاسير في العبارة، وتكلفها في تحميل الآيات ما لا تحمل من المعاني، وقصورها عن مجاراة العرض الحديث الذي أصبح له أهمية كبرى في نظر العلماء والباحثين، والقراء والمنتفعين
هذه عيوب نسمح لأنفسنا بأن نصفها بالخطر، ولا نظن أننا نبالغ إذا قلنا إنها نوع من الصد عن كتاب الله(360/23)
وعلماء الأزهر قادرون على تلافي هذه العيوب، يستطيعون الاضطلاع بمهمة إصلاحها وذودها عن كتاب الله، وتخليصه من براثنها، وهم مطالبون بذلك بحكم عملهم، وطبيعة دراستهم، ولن تغفر لهم الأمة أي نوع من أنواع التقصير مهما قيل في تبريره من الأعذار
فأين الأثر الذي سيتحدث التاريخ عنه إلى الأجيال المقبلة عن عمل رجال الأزهر في هذه الناحية؟ أين التفسير الذي يلائم عقول العصر ولا يتصادم مع حقائق العلم، ولا يفرض في الناس الذين يطلب إليهم أن يتقبلوه هذه السذاجة العقلية التي تفرضها فيهم تلك الكتب حين تقول في تفسير قوله تعالى:
(إلا إبليس كان من الجن) إن الملائكة قد اشتبكوا في حرب مع الشياطين كانت لهم مواقع، وقد انجلت معركة من هذه المعارك عن إبليس أسيراً وهو صغير، فأخذه الملائكة، ونشؤه نشأتهم وخرجوه في دائرتهم، فكانت النتيجة أن خاطبه الله خطابهم، وكلفه تكليفهم في كل الآيات الواردة في أمر الملائكة بالسجود لآدم
ولا نفرض في الناس هذه العقول التي تستسيغ الإمعان في التخيل والإسراف في مجاراة الأوهام حين تعرض عليهم قصة من ألذ ما يتخيل، ومن أبعد ما يتصور حصوله، وأشبه ما يكون بما يعرف بحكايات (أم الغول) تعرض هذا عن تفسير قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. . .)
فتحدثك بأن شداد بن عاد سمع بالجنة وبنائها وما فيها فهب لبناء مدينة إرم في صحراء اليمن، وذلك بعد أن دانت له الملوك، وتم له ملك الدنيا. ولما كان يريد أن تضارع الجنة إرم أو تضاربها، بناها من ذهب وفضة وياقوت وو. . . ثم يخبرك بما كان بعد تمام بنائها الذي استمر ثلاثمائة سنة، وما كان من أمر عبد الله ابن قلابة معها، وما كان من حديث كعب مع معاوية في شأنها
ويطول بي الحديث إذا عرضت لك غير هذا من تلك الخرافات والخيالات التي ملئت بها كتب المفسرين المشهورة
فإذا كانت الأمة قد أحست حاجتها الماسة إلى وضع معجم لغوي بسيط أو وسيط فكلفت بذلك مجمع اللغة الملكي، فهو يحشد له قوته ويعد له عدته، وسيخرج به على الناس إما قريباً أو بعيداً، فالأمة أيضاً بحاجة إلى من يسد مثل هذه الثغرة في التفسير، فيكون لها(360/24)
تفسير يرتضيه العلماء وتتداوله الأيدي، ويحصل الناس منه على ما يبتغون من تفهم هداية القرآن واجتلاء محاسنه، والانتفاع بتعاليمه ومبادئه
وللإمام المراغي في ذلك ما يصلح بحق أن يكون نموذجاً يحتذي ومبدأ يتبع، ظهر به على الأمة في دروسه الدينية، فقد تناول الآيات التي شرحها من جميع نواحيها الجديرة بالنظر، فجلا معانيها وراض صعابها، وكشف عن محاسنها وهدايتها، وذلل مشكلاتها العلمية فأخرجها سائغة سهلة سليمة متقبلة، وعرضها عرضاً يشرح النفس ويصل إلى القلم. إلا أن للأستاذ الإمام المراغي من مهام منصبه الخطير ما يشغله عن موالاة ذلك
إن اليوم يقوم فيه العلماء بهذا العمل الجليل هو اليوم الذي يثبتون فيه للأمة عملياً جدارتهم برسالتهم التي يحملون، والذي يدفعون به عن أنفسهم تلك السهام المصوبة إليهم من أصدقائهم وخصومهم
فإن لا يكن هذا فلا أقل من أن يختار من تلك الكتب أكثرها نفعاً وأدناها إلى الصلاح فيتقدم له من يعلق عليه بما يميز طيبه من خبيثه، ويبين صالحه من فاسده، وينبه على ما فيه من أخطاء علمية أو خرافات باطلة، ويضمن ذلك التعليق القول في الناحية أو النواحي التي تتضمنها الآية وغفل عنها المفسر
وبذلك يبقى الأصل وينتفع الناس بما فيه من علم نافع ويتقون شر ما فيه من خرافات وأوهام تفسد دينهم، وتضعف يقينهم.
إن التبعة الملقاة على علماء الأزهر خطيرة، والمسؤولية التي عليهم أمام الله والناس عظيمة، وواجبهم نحو كتاب الله غير هين، وذلك أقل مجهود يبرئون به ذممهم، ويخدمون به دينهم وأمتهم
أما أن نكتفي بالقول بأنا أعلم الناس وكتبنا خير الكتب، ودراستنا أجود الدراسات، فهذا ما لا تلقى به التبعة، ولا تنتفع به الأمة. فالعمل العمل إن كنتم جادين
محمود حسن منصور(360/25)
العروب في العراق
للأستاذ ميخائيل عواد
في المؤلفات التاريخية والبلدانية نواح متعددة ما زال يعتورها شيء كثير من الغموض، يعود بعض أسبابه إلى تساهل أصحاب تلك المؤلفات في تدوين الأخبار تدويناً يفي بالمرام ويدفع الشك، كأن يورد المؤلف أخباراً أو أوصافاً دون أن يتقصاها، لاعتقاده أنها من الأمور المعروفة التي لا تحتاج إلى الشرح والتدليل
من ذلك ما صادفناه لدى بحثنا في نوع من الطواحين القديمة، التي كانت تسمى (العروب) وقد شاعت كثيراً في العراق والجزيرة وبعض ما يجاورهما من البلدان. وكان البدء في استعمالها يرجع إلى ما قبل العصور الإسلامية، ثم رافقت هذه العصور عدة مراحل حتى أدركت القرن السادس للهجرة، فقل عددها لتواتر النكبات عليها وخف استعمالها فلم يبق منها إلا آحاد مبعثرة في الفراتين وبعض ما يتشعب منهما.
وقد أمكننا حين تتبعنا المراجع العربية القديمة الوقوف على بعض ما يوضح شيئاً من أمرها.
العروب في معاجم اللغة
لم يدر بخلد أحد من أصحاب المعاجم القديمة خاصة تحقيق منشأ كلمة عروب، إنما كان اتفاقهم على تعريفها فقط
فقد جاء في (تاج العروس) أن (العربات: سفن كانت بدجلة، النهر المعروف، واحدتها عربة)
وما ورد في (لسان العرب لابن منظور) لا يتعدى ما ذكره التاج
وزاد صاحب القاموس عليهما في تعريفها بأنها: سفن (رواكد) كانت في دجلة
وقال في مادة عربة إنها: (النهر الشديد الجري) وقوله هذا يتفق وما ذكره من كان قبله أي صاحب الصحاح
هذا جل ما ورد في المعاجم القديمة بشأنها، وأما المعاجم الجديدة منها، فقد رأينا أن ما ذكره (محيط المحيط) و (البستان) و (أقرب الموارد)، لا يتعدى التعريف المذكور في المعاجم القديمة(360/26)
وأحسن المعاجم الجديدة التي أعطت للكلمة ما تستحقه من العناية والدقة هو (المعجم المساعد)؛ فقد جاء بأنباء جلية من منشأ كلمة العروب؛ فهو يقول: (العربة: بمعنى الرحى، إرَمِية وتسمى (أسونا)؛ ومنها أخذها عوام الموصل فقالوا أسناية)
وقال في مكان آخر: الأسناية: بفتح الهمزة، وقد تكسر؛ هي بالصابئية (أسنايا)، وهي رحى الماء يحرك آلتها أجنحة، وكثيراً ما كانت تقام في جوار الفراتين أو ما يتشعب منهما، وهذه الكلمة من أصل عربي، من سنيت الدابة: استسقى عليها)
ومما قاله أيضاً: ويحتمل أن تكون (عربة) معربة من هي في الرومية
وما يحسن ذكره في هذا الموضوع ما قاله صاحب التاج: (الفيلخ كصيقل، وهي الرحى أو إحدى رحى الماء واليد السفلى منهما، ومنه قوله: ودرنا كما دارت على القطب فيلخ)
وقد جمعت عربة على عربات وعرب، وجمعت الأخيرة على عروب وزان قلوب، وهي جمع الجمع
العروب في كتب وصاف البلدان
قد يكون الرحالة بن حوقل هو الوحيد بين قدماء الكتبة الذين تكلفوا بتفصيل هذه الطواحين بقوله: (. . . وكان بالموصل في وسط دجلة مطاحن تعرف بالعروب، يقل نظيرها في كثير من الأرض، لأنها قائمة في وسط ماء شديد الجرية، موثقة بالسلاسل الحديد، في كل عربة منها أربعة أحجار، ويطحن كل حجرين في اليوم والليلة خمسين وقراً. وهذه العروب من الخشب والحديد، وربما دخل فيها شيء من الساج. وكانت بلد، المدينة التي عن سبعة فراسخ منها عروب كثيرة دارت أعمالاً وجهازاً إلى العراق فلم يبق منها شؤم ابن حمدان ولا من أهلها باقية)
ثم تطرق إلى الكلام عن العروب في غير مدينة الموصل، قال: (وبمدينة الحديثة منها عدد تعمل في وسط دجلة، وقد ملك بنو حمدان متاعها حسب ما ذكرته من حال الموصل وسائر ديار ربيعه، وارتفاعها نحو خمسين ألف دينار، وكان بالفرات الرقة (وقلعة جعبر) ما لا يداني هذه العروب ولا ككثرتها، وبمدينة تفليس في الكر منها شيء به تقوم أقوات أهل تفليس، وهي دونها في الفخم والعظم، وبتكريت وعكبرا والبردان منها شيء باق. ولم تبق بركة بني حمدان بالموصل إلا ستة أو سبعة منها (كذا. والصواب ست أو سبع)، وليس(360/27)
ببغداد شيء منها)
ثم عاد إلى ذكر العروب في تفليس أثناء كلامه على هذه المدينة فقال: (تفليس. . . وهي على نهر الكر ولها فيه عروب يطحن فيها الحنطة كما تطحن عروب الموصل والرقة وغيرها في الدجلة والفرات)
وأشار ياقوت إلى العروب قائلاً: (العربات ومفردها عربة، وهي بلغة أهل الجزيرة: السفينة تعمل فيها رحى في وسط الماء الجاري مثل دجلة والفرات والخابور، يديرها شدة جريه، وهي مولدة فيما أحسب)
وتطرق القزويني إلى ذكرها بقوله: (. . . وأهل الموصل انتفعوا بدجلة انتفاعاً كثيراً مثل شق القناة منها ونصب النواعير على الماء، يديرها الماء بنفسه، ونصب العربات، وهي الطواحين التي يديرها الماء في وسط دجلة في سفينة وتنقل من موضع إلى موضع)
العروب في كتب التاريخ والأدب
لعل أول نبأ بلغنا عن العروب في المراجع التاريخية، هو ما ذكره الشابشتي في كتابه (الديارات) لدى كلامه على دير ماجرجس، والدير الأعلى
قال في الأول: (هذا الدير بالمزرفة (قرية كبيرة فوق بغداد على دجلة بينها وبين بغداد ثلاث فراسخ، وهي قريبة من قطربل) وهو أحد الديارات والمواضع المقصودة. والمتنزهون من أهل بغداد يخرجون إليه دائماً في السميريات لقربه وطيبه، وهو على شاطئ دجلة. والعروب بين يديه، والبساتين محدقة به. . .)
وفي الثاني: هذا الدير بالموصل، يطل على دجلة والعروب، وهو دير كبير عامر. . .
وفي حوادث سنة 363هـ حين استيلاء بختيار بن معز الدولة ابن بويه على الموصل، يذكر ابن الأثير في (الكامل) ما نصه:
(. . . فسار (بختيار) عن بغداد، ووصل الموصل تاسع عشر ربيع الآخر ونزل بالدير الأعلى، وكان أبو تغلب بن حمدان قد سار عن الموصل لما قرب منه بختيار، وقصد سنجار وكسر العروب، وأخلى الموصل من كل ميرة
وهذه الرواية توافق ما نقله القلقشندي عن نسخة كتاب كتبه أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بن بويه إلى المطيع لله عند فتح الموصل، وهزيمة أبي تغلب بن حمدان - فقد قال:(360/28)
(وكان انهزامه (أبي تغلب) بعد أن فعل الفعل السخيف، وكادنا الكيد الضعيف، بأن أغرق سفن الموصل وعدوتها، وأحرق جسرها واستذم أهلها. . .)
وأورد الخفاجي في شفاء الغليل ما ذكره ياقوت، ومما زاد عليه قوله: (. . . وأنا لا أدري هل المركب المسمى عربة أخذ من هذا، أو هو غير عربي وهو الظاهر)
وجاء في حاشيته - لنصر الهوريني المعتنى بطبعه - قائلاً:
(من معاني العربة في اللغة: النهر الشديد الجرية، ففي هذا الإطلاق تجوز)
وقد أشار إليها الخوارزمي في مفاتيح العلوم بقوله: (العربة طاحونة تنصب في سفينة وجمعها عرب)
ومما ورد في ديوان الأدب للفارابي قوله: (لعروبة دوار، أي ماء تدار به)
الخلاصة
نخرج من هذا المقال إلى أن هذه الطواحين كانت تقوم على سفن متجاورة يتخللها مضايق ينحبس فيها ماء النهر، وقد نصبت فيها دواليب ذات عنفات؛ تدور بتأثير الماء الشديد الجرية وتقوم هذه الدواليب بتدوير دواليب أخرى متصلة بالضرائر أي أحجار الطواحين.
ويؤيد هذا ما ذكرته مجلة (لغة العرب) أن العربة هي الرحى التي تكون في السفينة في الماء، ليطحن بها القمح أو يعصر بها البزر أو يستخرج بها الزيت؛ ولها دولاب، وللدولاب زعنفات يضربها الماء فتدير الرحى، وهي بالإفرنجية
لا شك أن تلك السفن كانت كبيرة بحيث تستوعب المقادير العظيمة والحبوب، وقد كانت الشبارات والزبازب والسميريات وغيرها من وسائل النقل النهرية وقتذاك في ذهاب وإياب، تقوم بنقل الناس مع أوقارهم إلى هذه العروب. ولا غرو إن كان دجلة والفرات عند جريهما بين يدي تلك البلدان الشهيرة بهذه العروب؛ يزدحمان بهذه السفن ويزخران بحركتها المتواصلة.
(بغداد)
ميخائيل عواد(360/29)
من وراء المنظار
صاحب الديوان المتمرد
لست أدري أثورة روحه أعظم من ذكاء عقله، أم أن ذكاء عقله أرجح
كفه من ثورة روحه؟ فهو أن أردت فيه كلمة حق ذكي ملتمع الذكاء،
ثائر ملتهب الثورة، وهو فتى في ربيع الحياة لم يعد فيما أظن الثالثة
والعشرين من عمره
رأيته أول ما رأيته هادئاً كالطفل الذي يحلم أحلام نفسه الغريرة، ولكني لم ألبث أن وقعت منه على ثائر تأكل ثورته أعصابه وتحرق دمه في غير هوادة ولا إبطاء. على أنني رأيت من عذوبة روحه مع ذلك ما جعلني أعجب كيف يجتمع مثل هذا التمرد الصاخب ومثل هذا الظرف الفكه في نفس واحدة! وإن أسارير وجهه لتتشكل بما يجري في نسفه فتكون صفحة محياه كسماء (أمشير) لا تصفو حتى تتجهم، ولا تتجهم حتى تنقشع من رقعتها الغيوم. دنوت منه ألتمس حل مسألة عنده، وما أكثر ما تدفعني المسائل دفعاً إلى أصحاب الديوان! وما يثقل شيء على نفسي مثل أن التمس معروفاً عند صاحب ديوان كبيراً كان أو صغيراً صديقاً كان أو لا يربطني به سبب من معرفة، وأنا وإن كتبت عن أصحاب الديوان ما أكتب وأنا مطمئن في حجرتي ولدي مكتبي، ليركبني الخوف ويتملكني الحياء وتأخذني الربكة من جميع أقطاري كلما دخلت حجرة أحدهم لأحادثه في أمر جل أو هان، حتى لو كان لتحية. وسبب ذلك لا يزال مجهولاً عندي، ولن يزداد على الأيام إلا غموضاً وخفاء!
وأقبل على صاحب الديوان هاشاً مرحباً، وترك أوراقه كلها جانباً، وأخذ يستمع ألي. ولم أكد أستعيد توازني أو أسترد مواقف دفاعي كما يقول المتحدثون عن الحرب في هذه الأيام، حتى قطع علي الكلام ومال بالحديث عن مجراه ودفعه في شؤون كثيرة لا علاقة لها ألبته بما جئته من أجله. وأخذ يتحدث ثم يتحدث، وكل حديثه شكوى، وهو لا يكاد يقع على أمر حتى يطير عنه إلى غيره - لا يعني متى يطير ولا أين يقع - فللمحسوبية نصيب من حملاته، ولعدم إخلاص الناس في أعمالهم بعض سهام لومه، وللحرب القائمة والمسئولين عنها جانب من غضبه، ولفوضى الأخلاق قدر كبير من صخبه، ولتقلب الجو قسط من(360/30)
تهكمه تجلت فيه براعة مقارنته بين أخلاقنا وطبيعة جونا؛ وللفن والأدب والتعليم وغيرها من الأمور مما لا يسعنا حصره، كثير من غمزاته والتفاتات ذهنه. . . كل أولئك وأنا مصغ أسلم على طول الخط بكل ما يقول، لا أخالفه ولا أراجعه عله يفرغ فالتمس السبيل إلى موضوعي من جديد، ولكن ثورته كانت كالسيل الجارف لا يلوى على شيء. . . وكان يدخل أثناء الحديث كثير من الخدم، فيقدمون إليه أوراقاً، فيأخذها ويضعها على غيرها من الأضابير دون أن ينظر فيها، فإذا أشار أحدهم إلى أن فيها ما تستعجل الإجابة عنه صرفه بقوله: (قل له حالاً. . . دقيقة واحدة). ثم عاد إلى حديثه، فجرى فيه على غير تحبس أو ملل
وجاء بعض زملائه يستعجلونه أوراقاً، وكان يلتفت بعضهم ألي قائلاً: (لا مؤاخذة يا بيه) كأنما كنت أنا سبب ما يشكون من عطلة، وهو منصرف عنهم بحديثه لا يزيد على أن ستمهل من يستعجله منهم دقيقة؛ ثم يستأنف حديثه وهو أنشط وأهدأ بالاً مما كان! وانتهزت فرصة فعبرت له عن اعتذاري، وقد غالطت نفسي ونسبت إلي أنا السبب في ضياع هذا الوقت كله، وفهم صاحب الديوان إشارتي، فابتسم وقال: (لا. . . العفو يا أخي، لازم كلامي لم يتشرف برضاك). . . ونفيت ذلك بكل ما أملك من معاني التأكيد ومضيت أثني على حديثه بكل ما وسعني من عبارات الثناء، فاطمأن قليلاً، وسكت هنيهة ثم قال: (أنت عاوز الحق؟ الواحد هو بيشتغل على قدر القرشين بتوعهم) ولم أستطع أن أرد على ذلك القول الذي يتضمن السكوت عليه نوعاً من الاشتراك في الأخذ بما يدعو إليه، وما كان سكوتي إلا لأعود إلى موضوعي، وقد عقدت العزم على أن أعود إليه بأي ثمن
وبلغت ثورته أقصاها إذ تداعت إليه من هذا الكلام قصة الأقدمية، فراح يشكو في ألم واضطراب من أن الترقي بالأقدمية معناه أن يتساوى المجدد والمتكاسل والذكي والغبي والكفء والعاجز. فالمسألة مسألة زمن فحسب، ومتى مرت الأيام صار الموظف بحكم الزمن وحده كفؤاً مهما كان من عجزه وتقصيره. فما معنى أن يجهد المرء نفسه إلا أن يكون (عبيطاً) وهو لا يدري (عبطه)؟ وضرب المثل بنفسه: فهو يحمل شهادة عالية ورئيسه من حملة الابتدائية. وضحك صاحب الديوان وقال: (يعني أبدأ جحشاً ثم يمر الزمن فأصبح حماراً، وعند ذلك أصير أهلاً للرقي)(360/31)
وكان موعد انصراف أصحاب الديوان قد حان فنهض ومد ألي يده ضاحكاً وهو يعبر عن أسفه لأن الوقت لم يتسع لموضوعي ويدعوني للحضور مرة أخرى.
الخفيف(360/32)
في سبيل الأزهر أيضاً
الصراحة لغة الحق
للأستاذ حامد عوني
لقد عودنا الأستاذ النابه صاحب الرسالة الغراء في مطالع رسالته المشرقة أن يميط لنا اللثام عن وجه الحقيقة، وأن يسمعنا من حين لآخر صيحة الحق في غير مواربة ولا مراءاة، وذلك ما دعاني أن أتقدم إليه بكلمة هي وليدة هذا المبدأ الكريم رجاء أن يفسح لها مكانها من رسالته كما فسح لغيرها من صيحات الحق وله بعد ذلك شكر الله والناس
كان العرب - وهم في جاهليتهم الجهلاء - قوماً شبوا في أحضان البداوة الجامحة، ونشأوا في كنف العيش الجاف والحياة الشاردة، وكانوا إلى ذلك لا يدينون بغير القول الصراح، واللفظ المحسور اللثام، لا يعرفون فيه زيفاً أو مراوغة، ولا في أدائه عبثاً أو مهاودة حسبما تمليه عليهم طبيعة البادية، وتوحي به الشهامة العربية
وعلى هذا المنوال من القول نسج الإسلام رايته، وعلى غراره أدى رسالته، فعمت دعوته جميع الأرجاء
وهكذا كان القول الصريح في قديم العهد وحديثه مظهراً واضحاً في أكثر الأمر من مظاهر الحق، ومخباراً صحيحاً لصدق لغضبة له والذياد عنه، ودليلاً ناصعاً على قوة الأيمان به وفناء العقيدة فيه، ومحك صدق للبطولة والشهامة
ولكن - والأسف يحز في الأحشاء - درج أناس على أن يساوموا في الحق، وشبوا يستمرئون حياة المداراة والمصانعة، ويستسيغون مخزاة التواري عن وجه الحقيقة السافرة. فإذا ما استعدت الحقيقة أحدنا على المساومين فيها فأعداها، وأهابت به أن ينافح عنها فأجابها؛ قالوا: هذا باطل من القول وزور، وقالوا: هذا دفع لم يقصد به وجه الحق، وقالوا: غير ذلك مما أوحت به حفائظ الصدور لا لسبب - شهد الله - سوى التجرد لمواجهة الواقع الملموس، والجهر بما لم نستطع الهمس به، والإقرار في صراحة بما أعوزتنا الشجاعة فيه
إذا لم يتهيأ لنا - ونحن نعاني كمين الألم الصارخ - أن نضع أيدينا على الداء جزعنا أن نرى أحدنا يتوجع لنا، ويستصرخ الأساة لتضميد جراحنا. ومن ذا إذاً يرسل الآهة مدوية غير نفثة المصدور، وزفرة المكروب؟ وأي منا لم يقع في شرك هذا البلاء وتمني الخلاص(360/33)
منه؟
ما كان لنا (علم الله) أن نستخذى أمام الحق ونتوارى عن الواقع المحس ما دمنا في البلية سواء
هذا لعمري موطن ضعف صحبنا منذ عهد بعيد. نحس بالألم ونتضور له ونحن مع ذلك نؤثر أن نستسلم للداء على أن نجأر بالشكاية منه والتخلص من شره. يا للعجب! متى نشجع فنثور على هذا الداء، ونطهر نفوسنا من أوضاره، ونكاشف العقول بويلاته فتتمكن يد الإصلاح من تعرف مواطن العلة فتضع الهناء مواضع النقب؟
قد يبدو لأحدنا أن في استقصاء بعض الداء وعرضه داعية للشماتة، ومثاراً للمتحفزين للوثبة، والقاعدين بكل مرصد؛ فنقول له: على هينتك. مرحباً بهذا الإشمات وأهلاً بهذه الإثارة؛ فكلاهما عامل من عوامل الإصلاح، وحافز من حوافز الأخذ بأسباب التقصي من العيب، والتبري النقص. وهاهي ذي معاهد العلم في مختلف الممالك لن تجد من بينها ما لا يشكو من عيب في بعض نواحيه مهما سمت مناهج التعليم فيه.
فليس من العيب إذاً أن نكشف عن أدوائنا بغية العمل على استئصالها أو تخفيف ويلاتها. إنما العيب والعار، بل ومن الخطر أن نرحب بالداء ونتحضن به ونطوي عليه كشحاً وهو لا يألونا عنتاً، ولا ينى أن يسومنا إرهاقاً، وقد قالوا: (من كتم الطبيب داءه هلك)
وبعد، فخير لنا أن نكون صرحاء فيما نقول، أحراراً فيما نرى، بواسل في مواجهة الحقائق فلا نستخذى ولا نستبطن ولا نرائي ولا نصانع فتلك صفات لا يعترف بها دين. ولا يقرها عرف، ولا يتسم بها فاضل.
وإذا أعوزنا المثل الأعلى للرأي الحر والموقف الصريح الحازم فلنلتمسه في (ساعة الأستاذ الزيات مع الأستاذ الأكبر) ففيها المثل الكامل والقدرة الصالحة
هذا ونحمد الله سبحانه أن وجد في صفوفنا من برز إلى الميدان، ورفع الصوت عالياً في حزم واتزان. وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حالنا؛ فالصراحة سيف لا يرتفع الحق إلا على شباته، ومرآة لا تتكشف الحقيقة إلا على شعاعها.
(مصر الجديدة)
حامد عوني(360/34)
المدرس بمعهد القاهرة(360/35)
مسكن الفلاح
للأستاذ عباس قطر مصطفى
أستاذ هندسة الريف بمدرسة الزراعة بمشتهر
المصريون سليلة بنائية، وآثارهم في العمارة والإنشاء قبلة أنظار عناصر البشر المختلفة. . . هي فتنة العلم والفن، تكشف عن سحر عظمة مصر في زمن مضى وتولى. . . إنها توقظ الكبرياء القومية في قلوبنا وتحي الآمال في نفوسنا
حقاً قد كانوا يوجهون الجزء الأكبر من مجهودهم الإنشائي نحو القبور والمعابد لاعتقادهم البعث والنشور. . . ولكن. . . لم يكن لأدق بل ولأبسط شئون الحياة أن تجد سبيلاً للهروب من بحثهم ودراستهم وتنفيذهم. . . لذلك لم يفتهم أن كانوا العنصر البشري الأول الذي اكتشف مباني الريف من سكن ومخازن وحظائر للمواشي ومعامل للتفريخ الصناعي. . . بل وعمل على التطور بها إلى حد يشعرنا بالعظمة ويدعونا للإعجاب
لنقصر موضوعنا الآن على مسكن الفلاح. . . ولنر أولاً ماذا فعل أجدادنا به، وما هو عليه الآن، ثم ما نحن به فاعلون
أولاً - نشوء المسكن وتطوره:
فكر المصري الفطري الأول في ضرورة الاحتماء بمأوى له، فكان يجمع قطعاً من المواد الصلبة (كالأحجار وقطع الطين الجافة) على الأرض فوق بعضها البعض بشكل مخروط مفرطح ينام خلفها ليلاً لتحجب عنه تأثير هبوب الرياح
ثم وجد أنه من الأوفق أن ينام داخل هذا المأوى، واستحال عليه ذلك بهذه المواد التي يستعملها لتعذر تجويفها مع احتفاظها بالتوازن وما لبث أن قادته عقليته إلى استبدال مثل هذه المواد بمادة أخرى لينة تشبه ما يصنع منه مأوى الأعراب الآن. وبذلك تكون أول شكل للخيمة. . . ركز رأسها على فرع شجرة وشد جوانبها إلى الأرض بالحبال والأوتاد، وجعل لها باباً في اتجاه هبوب الريح
وكان تأثير هبوب الريح في هذه الحال العبث بمأواه هذا، فوضع حاجزاً من القصب أمام فتحة الباب ليكسر من حدة هذا الهبوب. تغلب بذلك على مقاومة الريح، ولكن أطفاله وحيواناته الأليفة كانت تخرج من المأوى وتضل الطريق، فعمد إلى هذا الحاجز فجعله(360/36)
سياجاً يحوط مأواه من الجهات الأربع وجعل فيه باباً للدخول والخروج.
أراد بعد ذلك أن يستغل الفضاء بين محيط السياج وبين محيط مأواه لغرض توسيعه فشد بالحبال جوانب الخيمة رأساً إلى جوانب السياج بعد استبدال مادته الضعيفة بأخرى أقوى منها وهي الطين.
ثم نزع غطاء المأوى الرخو واستبدله بآخر صلب فجعله قصباً وأحطاباً ترتكز من وسطها على جذع شجرة فصار أشبه شيء (بالعرشة) بذلك أتخذ المأوى أول شكل عادي مألوف لسكن الفلاح الحالي.
وهذان شكلان آخران أيضاً لمسكن فلاح مُحَسن، منقول أحدهما عن نموذج موجود بالمتحف المصري، والآخر عن نموذج موجود بالمتحف البريطاني. ويتركب الأول من غرفتين وحوش مكشوف به سلم يؤدي إلى السقف. وللسطح ثلاثة حيطان، تعلوها تغطية ترتكز على عمود من برعم اللوتس مبني فوق الحائط الذي يفصل الغرفتين عن الحوش.
ويتكون الثاني من حوش مكشوف يطل عليه باب غرفة ونافذتها المحلاة بعمود من زهرة اللوتس، وإلى اليسار بوابة بالمتحف البريطاني مفتوحة تؤدي إلى سلم ينحصر بين الغرفة وحائط الحوش، ويصل إلى سقفها حيث يوجد مقعد صغير له فتحة صغيرة أيضاً بمثابة نافذة لها.
ثانياً - حاله الآن:
وصل مسكن الفلاح على أيدي أجدادنا ومنذ آلاف السنين إلى هذه الحال، فما هي التحسينات التي أدخلت عليه منذ هذا الأمد السحيق؟!. . . إذا استثنينا النادر - وليس للنادر حكم - فاللهم لا لشيء. . .!!
المسكن الحالي للفلاح رديء بأوسع ما في هذه الصفة من معنى. ليس وافياً بالغرض المنشأ من أجله. لا تجد فيه أعمالاً صحية مناسبة للريف لتوفير السبل المعقولة للتهوية والإضاءة والتدفئة والنظافة والتصريف. فغدت صحة الفلاح تبعاً لذلك عرضة لكل مرض. ولم يراع في هندسته الترتيب والتنسيق المناسب للريف، فغدا كتلة جامدة من الفوضى والتشويش لا تساعد على رفع المستوى الاجتماعي لساكنه، بل هي لا تساعد إطلاقاً على تكوين أي مستوى اجتماعي(360/37)
ثالثاً - ما يجب أن يكون عليه مسكن الفلاح:
لندع الآن دراسة تفاصيل المسكن الحالي للفلاح لنرى بإيجاز ما يجب أن يكون عليه مستقبلاً؛ وسيكون ذلك من تلقاء ذاته نقداً وافياً لأي مسكن حالي
(أ) من حيث الوضع
يجوز بناء مسكن الفلاح منعزلاً عن مسكن جاره زيادة في قوة التهوية والإضاءة؛ والأغلب بناء المساكن متلاصقة بهيئة صفوف توفيراً لمساحات الأرض وتكاليف الإنشاء، اتجاهها (بحري - قبلي) حتى تتسلط أشعة الشمس على المسكن طيلة اليوم
(ب) من حيث مادة البناء
استعمل قدماء المصريين غنيهم وفقيرهم (الطوب الأخضر) في جميع مرافقهم الدنيوية لملاءمته لجو مصر، ولكونه موصلاً رديئاً للحرارة، ولسهولة الحصول عليه ورخص تكاليف البناء به، كما نستعمله الآن، وتستعمله أيضاً بعض الولايات الأمريكية
وفي الواقع يصح استعمال الطوب الأخضر كمادة بنائية للحيطان في الوجه القبلي وأغلب بقاع الوجه البحري لندورة الأمطار بشرط التأكد منه والعمل على عدم تأثير الرطوبة الأرضية فيها. بل ويمكننا القول مع شيء من الجرأة بجواز تعميم البناء بالطوب الأخضر حتى في شمال الدلتا بشرط عمل (رفرفة) مناسبة للأسقف و (لدروة) حائط الحوش مع تغطيتها (بدكة) جيدة للريف من خراسانة الجير والحمرة، وبشرط طلاء الحوائط بمونة جربتها بنفسي وهي (مونة) الجير والساس والتي ألح في طلاء جميع مساكن الفلاحين على الأقل بها في أية بقعة. فهي نظيفة قوية لا تحتاج إلى الترميم مثل (مونة) الطين ولا تمتص الرطوبة الموجودة في الجو ولا تسمح كالطلاء بالطين ببقاء وتوالد البق والبراغيث على سطحه الخشن وبين الشقوق الدقيقة فيه خصوصاً أن البراغيث وسيلة لنقل الطاعون
هذا وتكون أرضية الغرف من (دكة) خراسانة الجير والحمرة أيضاً بارتفاع 15 سم عن سطح الأرض
ولا يفوتنا ونحن في صدد الكلام عن مادة البناء أن نعنى بانتخاب أنواع الأخشاب المصرية الصالحة لأعمال الإنشاء الهندسية، وبالعمل على الإكثار منها لنعتمد عليها في عمل الأسقف(360/38)
والنوافذ والأبواب ليعتمد الريف على الأقل على مواده الخاصة من جهة، ولزيادة التوفير من جهة أخرى، خصوصاً والأحوال الدولية المضطربة تعوق دون وصول الكفاية منها بثمن يتناسب مع سياسة الاقتصاد في الريف
(ج) من حيث الفكرة المعمارية
بتركيب المسكن العادي للفلاح الذي له زوجة وطفلان أو ثلاثة من غرفتين، ويجوز إضافة غرفة أخرى إذا كان عدد أفراد الأسرة أكثر من ذلك. وأبعاد الغرفة حوالي 3. 5 متر في الاتجاهات الثلاثة، بها باب ونافذة صحية واحدة على الأقل، وأمامها حوش له باب عمومي نصفه مغطى بمضلة تحتها مرحاض (يجوز استعماله حماماً)، ونصفه الآخر مكشوف
ولا مانع من الوجهة الهندسية الإنشائية من وضع حظيرة المواشي التابعة له بمسكنه. والشكل يبين قطاعاً أفقياً لأحد النماذج الاقتصادية، والتي هي وسط بين النوع المتصل والنوع المنفصل
(د) من حيث السياسة الصحية
(1) التهوية الطبيعية:
يجب وجود نافذة واحدة على الأقل في كل غرفة يكون الجزء
السفلي منها قريباً ما أمكن من الأرضية (حوالي 1 متر)
لدخول الهواء النقي إلى الغرفة ويكون الجزء العلوي منها
قريباً ما أمكن من السقف (حوالي 12 متر) لخروج الهواء
الفاسد من الغرفة إذ أن الثاني أخف في الوزن من الأول، ولا
مانع من رفع مستوى نافذة الغرفة الكبيرة بعض الشيء؛ وذلك
لقربها من نافذة الغرفة الكبيرة للمسكن المجاور. وهذه الطريقة
تجدد من تلقاء نفسها هواء الغرفة بانتظام وبصفة مستديمة(360/39)
(2) التدفئة:
تزود إحدى الغرفتين ولتكن الغرفة (2) بفرن عرضه حوالي 2 متر فتحته من الحوش للنظافة وهذا فضلاً عن استخدامه في (الخبز) وفي مرافق المسكن الحيوية الأخرى، يمكن تزويده بفرعين من مواسير الفخار المتين محكمة الاتصال، أحدهما فتحته من الخارج ويمر (بالشاروقة) إلى أعلى حيث تكون فتحته الأخرى في الحائط داخل الغرفة، ويركب على كل من الفتحتين قرص ثابت مثقوب بشكل خاص، وآخر خلفه يتحرك بمقبض صغير مثقوب أيضاً بنفس النظام، ويمكن بواسطتهما إغلاق الفتحة في غير وقت الاستعمال. وبمرور الهواء الخارجي خلال هذا الفرع ترتفع درجة حرارته بمروره داخل الماسورة في الشاروقة ثم يدخل الغرفة دافئاً. وبذلك يمكن تدفئة هواء الغرفة شتاء إلى الدرجة المطلوبة وبطريقة صحية
أما الفرع الآخر من المواسير فله شعبتان: أولاهما في الشاروقة أيضاً، وتنتشران داخل سقف الفرن أفقياً حتى نهايته حيث تتجمعان إلى شعبة واحدة تتجه رأسياً إلى أعلى حيث فتحتها خارج الغرفة مركب عليها مثل القرصين السابقين. ويخرج من هذه الفتحة دخان الفرن. وبهذه الوسيلة يمكننا تدفئة سطح الفرن أيضاً للنوم عليه شتاءً
ولا يفوتنا ونحن عند هذه النقطة أن نعمل على عدم وجود الأحطاب والقصب وما أشبه ذلك داخل المسكن أو على السطح منعاً للخسارة في الأنفس والمتاع. وما حريق شباس وغيره منا ببعيد.
(3) الإمداد بالمياه:
يجب تزويد مجموعة المساكن بمياه صالحة للشرب وأبسط طريقة للريف صهريج عال نوعاً تملؤه مضخة، له عدة مواسير متجهة إلى أسفل مركب عليها صنابير يأخذ الفلاحون منها كفايتهم. وإذا أردنا الكمال توصل المياه إلى كل مسكن بفرع واحد مركب عليه صنبور وصمام لحجز المياه
على أن تختبر هذه المياه قبل استعمالها بالتحليل للتأكد من صلاحيتها للاستعمال
ويختار موضع تركيب المضخة في طريق المياه الجوفية إلى مجموعة المساكن، وعلى(360/40)
مسافة منها لا يقل بعدها عن 200 متر حتى لا تتلوث بمياه تصريف خزانات المساكن أو السوائل التي تتشربها التربة من حظائر المواشي وما أشبه ذلك
4 - تصريف الفضلات:
لما لم يكن بد من تصريف فضلات السكان فأن اصح طريقة استعمال خزان التحليل
توجد في الفضلات بكتريا ومكروبات متنوعة منها أنواع مفيدة لأغراض تحليل المادة العضوية، وهذه تعيش في شروط غير هوائية؛ فيجب إذاً توفير هذا الوسط لها ليتم التحليل من جهة وتتكاثر هذه الأنواع وتبيد الأنواع الأخرى الضارة من جهة أخرى وهي غالباً لا تعيش إلا تحت شروط هوائية، لذلك يجب وضع تصميم الخزان بحيث يكون سطح السائل فيه قريباً ما أمكن من سقفه
ويعمل هذا الخزان من خراسانة السمنت ليبقى أمد الدهر سليماً جيداً. ويجوز عمله بالطوب الأحمر البلدي على سبيل الاقتصاد مع تغطيته بطلاء من (مونة) السمنت والرمل. وتصمم سعة الخزان على أساس أن كل فرد يخصه منها ثلاثة أعشار المتر المكعب. وأقل أبعاد ممكنة له هي بالتقريب: طول 2 متر وعرض 1 متر وارتفاع 1 متر وتكفي سعته لتصريف فضلات أسرة مكونة من 6 أشخاص
تدخل الفضلات إلى الخزان بميل حوالي 2 سم للمتر فوق القاع بحوالي 45 سم حتى لا تضطرب الفضلات الموجودة ولترسب الفضلات الداخلة على القاع حتى تتحلل
وعلى بعد حوالي 30 سم أسفل سطح السائل في الخزان يوجد السائل الذي تم تحليل المواد العضوية الموجودة به، وعند هذا البعد تركب أنبوبة التصريف ويمتد من الخزان في حفرة تحت سطح الأرض بأي نظام هندسي أنابيب فخار لتصريف المياه الخارجة من الخزان في التربة. وهذه الأنابيب موضوعة بجوار بعضها البعض بدون لحام، وبميل خفيف جداً لا يزيد على نصف سنتيمتر، للمتر ولا يقل طولها عن 15 متراً، ويزداد 2 , 5 متر بزيادة كل شخص عن الستة. وتصرف هذه الأنابيب مياهها عند أطرافها وعند مواضع الاتصال؛ ويجب أن تكون التربة التي تصرف فيها غير متماسكة. والأطوال السابقة للأنابيب تعتبر أكثر من اللازم إذا كانت التربة مفككة جداً ويجب أن تضاعف إذا كانت الأرض طينية متماسكة(360/41)
أما المواد الصلبة التي ترسب نهائياً في القاع، فعبارة عن
مركبات معدنية فقط لا يزيد ارتفاعها سنوياً عن 43 سم،
ولهذا السبب ربما لا يطول عمر صاحب الدار ليرى في حياته
تنظيف مثل هذا الخزان مرة واحدة
أما حظيرة المواشي، فالعادة المتبعة إلى الآن أن تترك الحيوانات لتبول وتتبرز على التراب كوسيلة اقتصادية لتحضير سماد بلدي. والواقع أن جسم الحيوان يكون دائماً أبداً ملوثاً بهذه الفضلات لرقاده عليها. ويسبب ذلك المرض ونقل العدوى خصوصاً إذا كانت المواشي حلوباً كما هو الحال غالباً في مسكن الفلاح
هذا علاوة على تصاعد الغازات الكريهة الرائحة وغاز النوشادر وثاني أكسيد الكربون وتوالد بكتريا التيتانوس وغرغرينا الغاز في الفضلات، كذلك توالد البعوض والذباب، وفي ذلك أيضاً خطر بليغ على الجهاز التنفسي والجسم والعين
ومن الغريب أن هذه الطريقة لا تنتج سماداً بلدياً جيداً لكثرة فقد المادة العضوية بشتى الأسباب
فمن الوجهة الصحية إذاً يجب عزل الماشية عن مسكن الفلاح وترتيب حظيرة بشكل خاص لمواشي الفلاحين بحيث تكون في أمان تام كماشية المالك، وتكون كل ماشية تحت سيطرة صاحبها فقط
وعلى سبيل ذكر الشيء بالشيء نرى أن الفكرة الاجتماعية تأتي فتدعم الفكرة الصحية في وجوب عزل المواشي، لأن الفلاح بمعيشته دائماً في مسكن واحد مع الماشية يتدهور مستواه الاجتماعي والخلقي كثيراً، فهو لا يستحي مثلاً من التبول أو التبرز أو الاستحمام علناً أمام أي جنس أو عدد كان من عابري السبيل علاوة على بطأ فهمه وضيق مداركه وعدم تحليله لمسائل الجرائم تحليلاً إنسانياً معقولاً
(هـ) من حيث استغلال الفضلات
من المسلم به أن ملايين الأطنان من السماد يمكن استخراجها من فضلات الإنسان والماشية(360/42)
في الريف
وهناك الطرق الكثيرة المتنوعة لذلك مما لا يخفى على أحد: أهمها طريقة العالم لعمل سماد الأصطبل، والطريقة الهولندية لعمل سماد من فضلات الإنسان وكناسة المسكن
وبما أن البول يحتوي على الأزوت في صورة يوريا وغيرها؛ وبما أن نسبتها فيه كبيرة جداً، وبما أنها سهلة التحول إلى كربونات نوشادر لذلك فالقيمة السمادية له عالية وتساوي بالتقريب القيمة السمادية الآزوتية الكيماوية. فهي تتحلل في ظرف أسبوعين فقط بنسبة 80 - 90 %. إذاً فالبول الطازج يمكن استعماله مباشرة لسرعة هذا التحول. هذا علاوة على التأثير الجيد الذي يعادل تأثير الأسمدة الكيماوية للعناصر الأخرى السمادية الموجودة في البول كالبوتاسا وحمض الفوسفوريك
لهذا السبب يمكن تصريف بول المواشي كلها الموجودة في عزبة مثلاً، وكذلك بول الإنسان حيث يحفظ في خزانات مانعة لنفاذ السوائل لا يتسرب إليها الهواء وذلك بإحكام تغطيتها أو بإضافة زيت وسخ مثلاً إلى سطحه فلا يحصل فقد في الأزوت الموجود به بالتحلل والتطاير. ويستعمل البول بعد ذلك في تسميد الحقل في وقت يكون فيه خالياً من أي سماد لمنع تحويل أزوت البول إلى أزوت بروتين
أما براز الإنسان في هذه الحال، وكذلك روث المواشي وما عساه أن يوجد من قش الحبوب، والبقول، أو عروش الخضراوات وأوراق الأذرة الجافة أو مصاصة القصب وما أشبه ذلك على حسب النوع والكمية الموجودة بكثرة في المنطقة، فيمكن عمل سماد جيد منها على طريقة خاصة من طرق العالم
وإذا أعددنا للفلاح الصغير قطعة أرض صغيرة مبلطة جيداً أو ذات (دكة) جيدة فإنها تكون بمثابة صندوق التوفير له، إذ يمكنه بذلك أن يحول العلف التالف وبقايا الطعام وكناسة المسكن وغير ذلك من الفضلات المهملة إلى سماد صالح للاستعمال بعد حوالي 4 أشهر خصوصاً للحدائق وحقول الخضراوات
وبعد فمشكلة مسكن الفلاح مشكلة حالية ملحة من مشكلات الفلاح المصري نرجو تذليل صعابها أمامه. . . وما كفاحنا في سبيل الأمة أيام السلم بأقل شأناً من كفاحنا في سبيلها أيام الحرب.(360/43)
عباس قطر مصطفى(360/44)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
بين الديمقراطية والديكتاتورية
إلى أي طريق تساق البشرية؟ وهل قدر أن تسود الديمقراطية، أو تسيطر الديكتاتورية؟ وهل يستطيع العالم بعد ما ذاق طعم الحرية وتعود جني ثمارها وتطبع بأخلاقها، أن يتخلى عنها تحت ضغط الحديد والنار؟ إن التاريخ البشري حافل بقصص المجاهدين في سبيل حرية الفكر، مملوء بأحاديث الضحايا الذين فضلوا الموت على أن يتنازلوا عن مبدئهم
فإذا ذكرنا أن الحرية كانت في مهدها في تلك العهود، وذكرنا أيضاً أن الناس ظلوا أجيالاً طويلة ورقابهم تحت السيف أدركنا أن الديمقراطية تنتصر حتماً مهما طال عهد النضال وتأكد لنا أن الدكتاتورية لن تسيطر إلا إذا عبدت طريقها على رمم الديمقراطيين. فالحرب الآن نضال بين مبدأ الهمجية ومبدأ الإنسانية!
مأساة تتكرر
وإذا كانت جيوش ألمانيا الآن قد تقدمت فإنها تعيد ما حدث في سنة 1914 عندما ما وصلت على بعد 70 ميلاً من باريس وجيوش الحلفاء لم تصب بعد بخسائر كبيرة، بل هي تتقهر بانتظام بكامل قواتها حتى تسنح الفرصة الملائمة، وحتى تضعف عدة الهجوم الألماني وتتوزع قواته؛ فإنه يلاحظ في هذا الهجوم عدة أوجه: أولها أن قوات الحلفاء تتجمع بينما قوات الألمان تتوزع. وقوات الألمان في مناطق ثائرة تريد الخلاص، بينما قوات الحلفاء في مناطق موالية تعمل للدفاع وثاني هذه الأوجه اتساع جبهة القتال الألمانية وتخلخل قواتها، فخلف جيوشها في فرنسا قوات معادية كبيرة في بلجيكا فحكومة بلجيكا. مازالت قائمة في ديارها تعتمد على جيوش بلجيكا وبريطانيا وفرنسا، ومعاركها لم تنته بعد لتقرر سلامة النتوء الألماني الذي يمتد من لونجوي إلى أميان ووجهته موانئ بحر الشمال. ويفهم من تغيير القيادة الفرنسية تغيراً جوهرياً في الخطط العسكرية، كما يفهم من تصريحات رئيس وزراء فرنسا وإنجلترا أن الحلفاء صمموا على النضال إلى النهاية حتى يضمنوا النصر. وهذا مؤكد بفضل اتساع مواردها المالية، وغنى الإمبراطوريتين(360/45)
الإنجليزية والفرنسية واتساع رقعتيهما
اختلاف الخطط
وتقدم الجيوش الألمانية الحالي لا يدل على نصر أو خذلان لأي الجانبين، بل يرجع في حد ذاته إلى اختلاف فن القتال عند المتحاربين وتقديرهما للرجال والخسائر. فبينما ألمانياً لا تتقيد بكثرة الضحايا وتقدم للميدان أعداداً كبيرة منها، تحرض إنجلترا وفرنسا على أن يكون عدد الضحايا أقل ما يمكن. بل إنه يبدو للمطلع أن قيادة الحلفاء تقدر قيمة الموقع الذي تدافع عنه أو تحتله وما يتكلف من خسائر؛ ثم تقدر مكسبها أو خسارتها. وعلى هذا الأساس تقرر خططها، وغالباً ما يعز عليها الضحايا فتوفرهم لفرصة أوفق وأقل ضحايا
وإذا عدنا إلى حوادث الحرب العظمى ووسائل الهجوم الألماني أمكننا أن ندرك مبلغ حرص القوتين المتحاربتين على سلامة رجالهما، ففي هجوم الألمان على خط كونديه - مونز - بينش، كانت قوات المشاة تتقدم في جماعات غفيرة متراصة يسهل حصدها بالمدافع السريعة الطلقات أو البنادق، حتى قال جنود الجيش البريطاني التي كانت تتولى الدفاع عن هذا الخط بقيادة الجنرال فرانش: (إنه كان يكفي أن تطلق البندقية في أي اتجاه فنضمن استقرار الرصاصة في جسم أحد الجنود الألمان)
هذا بعكس خطط الهجوم الإنجليزي أو الفرنسي، إذ يتقدم الجنود في خطوط رفيعة بين كل جندي والآخر متران تقريباً، فيطيش عدد كبير من الطلقات ويقل عدد الضحايا إلى أقل نسبة ممكنة. وحقيقة أن هجوم قوات الحلفاء يحرز النصر بعد مدة أطول، بينما يعطي هجوم الألمان نتائج سريعة، ولكن بخسائر فادحة؛ وهذا ما يحدث الآن. فلكي ينتصر الجيش الألماني في موقعه يجب أن تكون قواته ضعف قوات أعدائه فتتغلب عليه بالكثرة العددية
أخطاء خطيرة
وارتكبت في الموقعة الحالية عدة أخطاء كبيرة استغلها الجيش الألماني أحسن استغلال. فقد قررت قيادة الجيوش البلجيكية أن تخلي خط دفاعها الممتد على الحدود في منطقة أردن إلى حصن لييج، وأن تبدأ عملياتها الحربية في خط الدفاع الثاني على نهر الموز، وهو نهر(360/46)
سريع الجريان وذلك ليتاح لها الاستفادة من نجدات جيوش الحلفاء. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان فإن القيادة الألمانية هاجمت بلجيكا من جبهتين الأولى من لكسمبورج إلى منطقة أردن وكانت هذه الجبهة كما قلنا خالية من الجنود المدافعة. والثانية اجتاحت مقاطعة لامبرج الهولندية واستولت على ماسترخت ومنها اتخذت شكل مروحة فاتحة بعضها غرباً، واتجه البعض الآخر جنوباً في حوض نهر الموز وأرضه سهلة. وكان هذا مقدراً لدى القيادة البلجيكية على أن يستمر الجيش الألماني على الشاطئ الشرقي للنهر ويتعذر عليه المرور بفضل القوات التي ترابط على شاطئه الغربي بعد نسف الجسور المقامة على النهر
ولكن خطا ثانياً أفسد هذا التدبير فلم تنسف الجسور وتمكنت الجنود الألمانية من اجتيازها لأسباب لم يكشف عنها بعد. ولكن هذا الخطأ كان على جانب كبير من الخطورة إذا أصبح هذا الخط عديم الفائدة مما اضطر قوات الحلفاء إلى التراجع إلى خطوط خلفية أقل مقاومة فساعد ذلك جيوش الألمان على مهاجمة فرنسا بقوات كبيرة
ولنسف الجسور في حالة وقف الهجوم أهمية كبيرة. إذ يتعذر بعد نسفها على الجيوش المهاجمة أن تنقل قواتها ويصبح النهر فاصلاً بين القوتين. وبينما يكون المدافعون محصنين خلف الحصون الطبيعية أو الصناعية يكون الجنود المهاجمون مكشوفين لنيران القوات المدافعة وخصوصاً إذا أرادوا اجتياز النهر لإنشاء الجسور العسكرية لمرور قواتهم
ولنقدر أهمية نسف الجسور نذكر أن عدة أوسمة رفيعة تمنح للأفراد الذين ينجحون في نسفها. وفي الحرب الماضية منحت ستة أوسمة تقريباً من (صليب فيكتوريا) لمختلف الرتب العسكرية من الجنود إلى الضباط اعترافاً بما أدوه من خدمات بنسف الجسور في جبهة كونديه بنش، وهذا الوسام هو أرفع الأوسمة العسكرية البريطانية، ولم يحصل عليه إلا عدد قليل
بين حربين
والخطة الألمانية الحالية لا تختلف كثيراً عن الخطة التي نفذت سنة 1914، ووضعت قواعدها في أواخر القرن الماضي. فهي تتكون من اجتياح هولندا في مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام؛ ثم اجتياح بلجيكا للوصول إلى سهول فرنسا الشمالية عن طريق حوض نهر الموز: وهو سهل منبسط قليل العقبات الطبيعية التي تعتبر عقبة في سبيل تقدم الجيوش. أضف(360/47)
إلى ذلك أن الحصون الفرنسية في تلك المنطقة اضعف منها على حدود ألمانيا، فعلى الحدود الفرنسية البلجيكية كانت تقوم حصون متفرقة أقل مقاومة من خط ماجينو الذي ينتهي عند لونجوي
وتختلف خطة ألمانيا الحالية عن خطتها سنة 1914 في اجتياحها لهولندا لغرضين عسكريين: الأول اتخاذ قواعد برية وبحرية وجوية تقرب بينها وبين إنجلترا، والثاني لتأمن على جيوشها هجوم قوات الحلفاء من هولندا
فالمسافة بين شواطئ هولندا وإنجلترا قصيرة لا تتجاوز 150 ميلاً تقطعها الطائرات في أقل من ساعة، كما تتخذ موانيها قواعد للغواصات، وبهذا يتيسر لها استغلال أسطولها الجوي على أحسن وجه. وتتجه القوات الألمانية إلى الغرب للاستيلاء على موانئ فرنسا على المانش لقطع المواصلات بين فرنسا وإنجلترا ليتعذر نقل القوات البريطانية إلى فرنسا
انهيار مفاجئ
ويبدو لنا أن خطط الحلفاء الجديدة قد نجحت فتيسر لها وقف التقدم الألماني، بل إنها تمكنت من طرد القوات الألمانية من بعض المناطق التي سبق أن استولت عليها. ولعل هذا يوضح السبب في التجاء الألمان إلى إنزال بعض جنود المظلات الواقية خلف خطوط القتال لتؤدي مهمة قطاع الطرق؛ فتعتدي على المدنيين لبث الرعب فيهم، ولتخلق لقيادة الحلفاء بعض المتاعب التي تصرفها عن العناية بجبهة القتال. ولكننا نعتقد أن هذه الوسيلة فاشلة مقدماً، فقد عرفت وسائلها واستعدت لها البلاد، ونظمت قوات خاصة لتطهير هذه الآفات الكثيرة النفقات التي إن تحملها موارد ألمانيا الاقتصادية فترة من الزمن فلن تتحملها فترة أخرى
فإن جندي المظلات الواقية يتكلف بضع مئات من الجنيهات. فوزن المظلة الواقية وحدها 12 رطلاً من الحرير الطبيعي يضاف إليها نفقات معداته من دراجة بخارية ومدفع سريع الطلقات وأنصار سريين يشترون بالمال من داخل البلاد. فكل هذه النفقات لا تتحملها الموارد الألمانية. ولهذا يتردد كثير من خبراء الحرب في اعتبار الخطوات التي اتخذتها ألمانيا خطوات موفقة، بل يقول بعضهم إن حوادث سنة 1914 تتكرر في هذه الحرب إذ(360/48)
تفوز في أكثر الميادين العسكرية ثم تتحطم دفعة واحدة في الميدان الاقتصادي ولا تجد الموارد اللازمة لإمداد جيشها
ولعل القارئ يذكر ما أصاب المالية الألمانية من إفلاس عقب الحرب الماضية، إذ هبطت قيمة المارك الألماني فلم يساور ثمن الحبر الذي طبع به حتى اضطرت إلى إلغائها في آخر الأمر فإن ألمانيا تلجأ إلى طبع الأوراق المالية دون أن يكون لها الرصيد المعدني الكافي الذي يحفظ لهذه الأوراق قيمتها في السوق
هل هو تعديل؟
ويرى بعض المفكرين من كثرة اعتداء ألمانيا على الدول الصغيرة المجاورة لها تعديلاً لخططها الاقتصادية الحربية. فهي في عرفهم تحصل على موارد البلاد المحايدة آناً بالتهديد وآناً بالاجتياح فإن الرعب الذي يستولي على دول البلقان يجعلها تقدم لألمانيا كل ما تطلب منها اتقاء لشرها. وقد ازداد رعب هذه الدول نتيجة لتقدم الألمان في فرنسا وبلجيكا فأصبحت أقل مقاومة وأكثر ليونة تحت الضغط الألماني
وكلما قصرت الموارد في ألمانيا اجتاحت دولة لتحصل على مواردها ونقدها. ولكن من المشكوك فيه أن تظل الدول التي تجتاحها بقرة حلوباً بسبب تدمير الجيوش للمرافق العامة أثناء انسحابها، ولان أكثرها الآن يحفظ رصيد نقده في أماكن بعيدة عن الخطر مثل أمريكا التي تحتفظ فيها أكثر الدول بأموال كبيرة
أمريكا تفزع
وكشفت حركات ألمانيا الأخيرة عن عدة مشاكل دولية قد تؤدي إلى اشتراك عدة دول في الحرب. فإن اعتداءات النازية المتكررة أفزعت الأمريكيين، وبعدما كانوا يقصرون أبحاثهم على خير الوسائل لمساعدة الحلفاء بالعتاد الحربي، تبدلت النغمة وظهرت أصوات في مجلس الشيوخ الأمريكي وفي الصحف تطالب علناً بوجوب اشتراك أميركا في الحرب
فالأمريكيون يرون أن النازية مظهر من مظاهر الوحشية والهمجية ويرون أن انتصارها هدم للمدنية الحالية وقضاء على الديمقراطية يرجع بالإنسانية آلاف السنين، حيت كان يخضع المجموع للفرد، ويتحكم السيف في رقاب الناس بدلاً من المنطق والعقل.(360/49)
والأمريكيون أكثر شعوب الأرض تمسكاً بالحرية ومبادئها؛ وهم مستعدون دائماً لبذل دمائهم في سبيلها
وسيطرة النازية على أوربا معناها عندهم تهديد لحريتهم، ولا سيما بعد ما تكشفت عدة دسائس نازية ترمي إلى الاستيلاء على أمريكا بوسائل الدعاية وإثارة الحرب الداخلية. هذا فضلاً عن اشتراك الولايات المتحدة وكندا في حدود واحدة، ثم قرب جزيرة جرينلند من الشواطئ الأمريكية مما يسهل اتخاذها قواعد عسكرية. فاعتزال أمريكا لمشاكل أوربا نظرية لا تقرها العقلية الأميركية الآن
جيوش الشرق
ويحتفظ الحلفاء في الشرق بقوات كبيرة انتظاراً لما قد تولده أطماع ألمانيا وغيرها من الدول الدكتاتورية في البلقان. فإن إيطاليا والروسيا لم توضحا بعد موقفهما وتلوحان آنا بالحرب وأخرى بالحياد، فهذه النغمة تفقد الحلفاء ناحية التركيز التي تستفيد منها ألمانيا. فبينما هي تركز أكثر قواتها في الجهة الغربية تتوزع قوات الحلفاء في مصر وسوريا وفلسطين وتونس والجبهة الغربية
وتعمل الخطط الألمانية للقتال في جبهة واحدة فقط، ولكن الواجب على الحلفاء أن يشغلوها في أكثر من ميدان حتى تتوزع قواتها فيخف الضغط عن الجبهة الغربية وتقع ألمانيا في المأزق الذي تتحاشاه
فوزي الشتوي(360/50)
رسالة الشعر
لحن. . .
للأستاذ أمجد الطرابلسي
في فمي لحنٌ ولكنْ لا أغنَّي ... وإذا غَنَّيْتُ، من يفهمني؟
أنتَ لا تَسْطيعُ أن تسمعَ لحني ... وأخاف الكون أن يسمعني
يا حبيبي! كلماّ جئتُ الخميلة ... أتوارى في حناياها الظلّيلة
فرنتْ زَنبقةٌ ... نحوي جميلة
أو سمعتُ الطيرَ في الأغصان غنَّى ... طَرباً يَنْزِلها غصناً فغصنا
شاقني أن أسْمِعَ الأطيارَ لحنا
ثم أمضي والأسى يغمرني. . .
أنت لا تستطيع أن تسمعَ لحني ... فلمن - غيرك - قيثاري وفنَّي؟
كلماّ هِمْتُ على الشاطئ وحدي ... ورأيت الموجَ في جزرٍ ومدَّ
هاجتِ الوَحْدَةُ آلامي ووجدي
فذكرتُ اللَّيْلَ، والأنجمُ ترنو ... والهوى في الشَّطَّ والبحرُ يُرِنَّ
فهفا في قلبي ... النشوانِ لحنُ
ثم أمضى والدجى يشملني. . .
أنت لا تسمعني حين أُغَنَّي ... يا حبيبي! فَلِمَنْ أعزف لحني؟
يا حبيبي! كلماّ رُدْتُ الشَّعابا ... كَشَفَ العُلَّيْقُ عن أمْسِي حِجابا
فَأُحَيَّيهِ ذهاباً وإيابا
وأرَى أثمارَهُ ترنو إليَّا ... فإذا أدخلت في الشَّوكِ يَدَيّا
لاحت الذكرى فَغَشَّتْ مُقْلَتَيَّا
فتحاملتُ وآثرتُ الْمُضيَّا
كلُّ ما حولِيَ يَسْتَنْشِدُنِي
غَيْرَ أَنَّي إن تكنْ أُقصِيِتَ عنيّ ... يا حبيبي! فأنا لستُ أُغَنّي
في فمي لحنٌ ولكن لا أُغَنَّي ... وإذا غَنَّيْتُ، من يفهمني؟(360/51)
أنتَ لا تستطيعُ أن تسمعَ لحني ... وأخاف الكون أن يسمعني!
(باريس)
أمجد الطرابلسي(360/52)
من وراء الستار
ليلة الزفاف
للأستاذ إبراهيم العريض
حفَّتْ بها النِسْوَةُ في جلْوةٍ ... زيَّنَها الحبُّ لأسْحَارِهِ
كلُّ لسانٍ سالَ في غُنَّةٍ ... يلْهجُ بالنُّعْمَى إلى جاره
هُنَّ عَصافيرُ الهوى كلماّ ... نوَّرَ زغْرَدْنَ لنُوَّاره
في غرفةٍ تُدْنِي مرايا على ... سُدَّتِها الفارِهَ للفاره
ضاحكةِ الأنوارِ. . . لولا الذي ... يدُخَّنُ العودُ عَلَىَ ناره
وفاحَ منه أرَجٌ ناعِمٌ ... أثْقَلَ جفْنَيْها بأَسْراره
كأنما زفَّ ربيعُ الصَّبا ... لأَنسها أحْسَنَ أَزْهاره
وطافَ أتراب لها أرْبَعٌ ... بالدُّفَّ، يوحِيني بأخْباره
يعْطْفنَ للنَقْرَةِ صدرْاً. . . وكم ... فزَّ به ما تَحْتَ أزْراره
يُظْهِرْنَ باللَّمْحَةِ في الرقص ما ... حالت أمورٌ دونَ إظهاره
من شاهَدَ الطاوُوسَ يختالُ في ... ألوانه. . . لِبَعْضِ أوْطاره
وكانَ في كُرْسِيَّهِ جنْبَها ... حقيقةً قامتْ إزاَء الخيالْ
ينُازِعُ الطرْفَ - فلا ينتهي ... إلا إليها - رغْمَ طُولِ المِطال
وهل تمَلُّ العَيْنُ من مَشْهدٍ ... باركهُ في الُخْلْدِ ربُّ الَجمال
فَتْنسِجُ الأنوارُ مِن عيْنِه ... خُيوطَها في سُدفاتِ الظِلال
وهْيَ عَلَى إطْراقِها لا تَني ... تُصَعَّدُ الأنفاسَ وسْطَ الحِجال
تَكادُ لا تُبْصِرُ من حَوْلها ... شيئاً سوى إحْساسِها بالجلال
وجيَء بالوَرْدِ فمَدَّتْ له ... من بينها واحِدةً في دَلال
فمسَّها مسَّا رفيقاً، وفي ... ناظِرهِ البرَّاق عْينُ السُؤال
وارْفضَّ من جرَّاءِ إِشْفاقِهِ ... جبينُ كلٍّ منهما باللآل
حتى إذا أمْطَرَها فِضَّةً ... على الوصيفاتِ فعمّ النَوال
قُمْنَ إلى الأزهار ينْثُرنْهَا ... وهنَّ ينشِدْنَ نشيدَ الوصَالْ:(360/53)
نشيد الوصال
(يا طائر ألبان عَلَى بأنه ... قد حفَّكَ الرَّوْضُ برَيْحانِهِ
فضاحِكِ الأيامَ في ظِلَّهِ ... ما دامَ يعْلوكَ بأفنانه
لِلْحُسْنِ مِرآةٌ. . أتَرْضَى بانْ ... يُصْدِئها الدمْعُ بِتَهتانه
فداعِبِ الُبرْعُم حتى إذا ... تفتَّقَتْ أوراقُه. . . دانه
ونادِمِ البُلبُلَ ما دامَ في ... نشوِته يُفْضِي بِأَلّحانه
فخْيرُ يوْمَيْك الذي ينقضي ... عرْبدَةً ما بين نُدْمانه
هَيْهات! ما دامتْ لِذي سَكْرَةٍ ... سَكْرَتُه إلا بإِدْمانه
لا تَطْوِ بالصَّمْتِ ربيعَ الصَّبا ... فلَيْسَتِ العَوْدَةُ من شانه
عمَّا قليلٍ ينمحي كلُّ ما ... تراهُ من ثابِتِ ألْوانه
أعِنْدَكَ الجامُ ولا تقْتِني ... حرارة من ضَوْءِ نيرانه
فَما الليالي في سنِين الصبا ... إلا دُخانُ النَدَّ في حانة)
وعِنْدَ ما أتَممْنَ إنشادَهُ ... وفُزْنَ من ثَغْرَيْهمِا بابِتسَامْ
وقُمْنَ صفَّينِ لِيَعْرِضْنَهَا ... فنانةُ تُغْرِي بحُسْنِ القِوام
توسَّطَتْهُنَّ على غِرَّةٍ ... كَشُعلةٍ تلْعَبُ وسْطَ الظلام
في حُلّةٍ خَضراَء نمَّت على ... ما تحتَها من بشْرَةٍ كالرُّخام
ناهِدةَ الثدْييْنِ. . . تعلوهُما ... جوْهَرةٌ زانتْهمُا كالْوِسام
وَرْدِيَّةَ البطْنِ. . . سِوَى ظلَّةٍ ... وارَتْ عن العين بقايا الحزام
فلم تزَلْ تلْوِي يديها على ... صورةِ غُصْنٍ مالَ ثم استقام
تُزاوجُ اَلْخطْوَ على هينة ... وتارةً تحْجِلُ حجل الَحمام
وكلماَّ دارَتْ بمنديِلها ... ظلَّ كَمَوْجٍ حوْلها في الْتِطام
والعِرْسُ يُلْقِي نحْوَها طرْفَهُ ... فَيَرْشِفُ الصهباَء من غير جام
حتَّى أرتْهُ كيْفَ تُطْوَى الحشا ... للرَّعْشِة الكُبْرَى كمِسْكِ الختام
وانتبذتْ تدعوُ شريكاتها ... أن يُترَكَ المغْنَى لِعُشَّاقِهِ
فسِرْنَ في آثارها زُمْرَةً ... وهنَّ يبْسَمَنَ لإطْرَاقه(360/54)
حتَّى تسلَّلْنَ جميعاً. . . ولم ... يبْقَ رقيبٌ غيْرَ خلاّقه
وانتدَبتْ للبابِ إنْسَانةٌ ... لِتُحْكَمِ الستْرَ بإِغلاقه
فغُودرَ النَّجْمُ إلى نفِسهِ ... يسْبح في ظُلْمَةِ آفاقه
ومدَّ يُمناه إلى شَعْرِها ... يُمِرُّها في طيبِ أعْراقه
مُسْتنشِقاً جُمَّتها كلماَّ ... أنفاسُه ضاقَتْ بأشْواقه
ولم يَزَلْ يَعْطفِهُا رْيثمَا ... أنْزَلَتِ الرَّأْسَ على ساقه
واسْتقبلَتْهُ بمُحَيّا بدا ... كالوَرْسِ في حالةِ إشفاقه
مضطِربَ اَلْجفنِ حياءً له ... مُغرَوْرقَ العَيْن لإشراقه
فنالَ ما يشعُرهُ قلْبُها ... صَداه في أعمقِ أعماقه
وضمَّها مثنى إلى صدْرِه ... ضمَّةَ من يَخْشَى عليها هواهْ
فاكتنفَتها غيْمةُ الحبَّ لا ... تُبْصِرُ في عالَمهِا ما عداه
وأذْنُها فوْقَ حناياهُ لا ... تَسْمَعُ في الدقَّاتِ إلا صداه
وهَكَذا ظلَّ. . . بِمِنِدْيِلِه ... يمْسحُ عن وجْنَتها ما شجاه
وهامِساً في سمْعِها بِعْضَهُ ... وبعضه عند تلاقي الشفاه
(مالكِ - يا خَوْلَةُ - تْبكينَ في ... ليْلِه أُنْسٍ رجَحَتْ بالحياة؟
ناشدْتُكِ اللهِ الذي ضمَّنا ... إلى حياةٍ باركَتْها يداه
إلاّ نفَضْتِ اَلْجفْنَ عن دَمْعِه ... لِتَسْتِطيِعي أنْ تَرَىْ ما أراه
وشاطِري قلبيَ إحساسَه ... لنرْفَعَ الروح معاً في صلاه
أنتِ من الحبَّ جناني. . . فلو ... دُفِعْتُ عنها لَطواني لظاه
ما أرْخصَ العالمَ في ناظِري ... مادُمْتِ قد حقّقتِ أغْلَى مُناه)
ومرَّ بالثغْرِ على جَفْنها ... فأَرْخَتِ الجفْنَ على مائِهِ
وداعَبتْ أنفاَسُهُ خصْلَةً ... من شَعرِها قامت لإغرائه
فأعرضَتْ في خَفَرٍ حيثُ لمَ ... تقْوَ على منْظرِ إفلاَئه
وأشرقَتْ في فَمِهَا بَسْمَةٌ ... كالفجْرِ في مطلعِ أضوائه
ورنَّ في أعْطافِه صْوتُها ... كالماء يجري فوق حصْبائه(360/55)
(مالِكُ! ما رُوحي سِوَىِ مِعْزَف ... بين يَدَيْ باعثِ أصْدائه
لا أحَدٌ - حاشاك - أعْنُو له ... إلا الذي يُدْعَى لأسمائه
دُونك قلبي خالِصاً. . فهْوَ إنْ ... يَبْذُلْ فمِنْ كل سُوَيْدائه
لا خيْرَ بَعدكَ في لؤُلؤُ ... إنْ لم تفُزْ أَنتَ بلأْلائه
إن تَرَ دمْعي سائِلا فهْوَ لا ... يُنْبِئَ إلا عن هوىً تائه
رَضِيتُ ما تشِعُّهُ في الدُّجى ... يا كوْكباً في أوْجِ إسْرَائه)
ثمَّ أدارَتْ مبْسِماً ضاحِكاً ... كالوَرْدِ في أوَّل إفضائه
يفَتَرُّ لِلقُبْلِة في وجْهِه ... فَضمَّها شوْقاً لأِحشائه
(البحرين)
إبراهيم العريض(360/56)
رسالة الفن
بعد الاستئذان
استنجللينا!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- مسكين أخي أصيب بحب ابنة الجيران فهو لا يأكل ولا ينام، وقد حاولت كثيراً أن أجعله يفهم الحب لغواً وطيشاً وخيالاً، ولكني فشلت، وظل يقول إنه يشعر بوجع صحيح في قلبه وإنه لن يبرأ منه حتى ينال ابنة الجيران وهو ما يزال عند أبيه في البيت بين العيال
- عندي دواء أخيك!
- والنبي؟
- لا أقسم بفائدته لأني لم أجربه ولكني أكاد أومن بأنه نافع. . .
- نجربه نحن. . . ما هو؟
- خذي مسماراً، وضعيه في النار حتى يحمر، ثم انخسي به صدر أخيك فوق قلبه. . .
- نخستك النار في أحشائك. . . تريد أن تقتل الولد؟!
- ما كان الكي قاتلاً يوماً. العرب وأهل الصعيد جميعاً يعالجون أدواءهم به، وانظري إليهم تريهم أشد العالمين صحة، وأقواهم أبداناً وأرواحاً. . .
- ولكنهم يكوون أبدانهم عندما يصيب المرض أبدانهم، لا عندما تبرح بهم العواطف، ولا عندما تصيبهن الهموم. كان فيهم من جن بحب ليلى، قيس، لم ينخسوه بمسمار ولم يطعموه الحر
- صحيح أنهم قعدوا عن علاج قيس وأمثاله، وقد أقعدهم عنه وقوفهم بعلمهم عند حد رضوا به هم، ولكن هذا لا يجبرنا على أن نقف نحن أيضاً عند هذا الحد ارتضوه من العلم فلنا أن نمضي فيه ما دام طريقه مفتوحاً. . . لقد أخذ العالم صناعة الورق عن الفراعنة، فهل وقف العالم في صناعة الورق عند ورق الفراعنة، وأبى أن يمضى فيها لأن أهلها الذين أوجدوها قعدوا بها عند حد؟!
- طيب! فإلى أين تريد أن تمضي أنت بخزعبلاتك هذى؟(360/57)
- لا أعلم. ولكن لك أن تسألي من أين أريد أن أبدأ. . . فهذا وحده ما أستطيع أن أجيبك عنه!
- ابدأ أينما تبدأ، ولكني أرجوك أن تنتهي إلى شيء يقره العقل. . .
- وما العقل؟ أظنه يحسن بنا أن نتفق عليه، وعما يصلح لأن يكون موضوع إقراره، حتى إذا ما وقفنا عند رأي لم نختلف عليه؛ فتقولين: إنه غير معقول؛ وأقول أنا: إنه معقول؟!
- ولكن هذه حكاية جديدة، بل هي حكاية قديمة جداً فيما أظن. . . ألم تعرف إلى الآن العقل ما هو؟
- ومن عرف!
- الناس جميعاً. . . اللهم إلا أولئك الذين لا يزالون يسألون عنه
- كان يخيَّل إلىّ أن هؤلاء الذين يسألون عنه هم الذين عرفوه مرة مرات ويريدون أن يعرفوه دائماً. . .
- ما هذا الكلام؟ الشيء إذا عرف مرة عرف دائماً
- إلا العقل. . . فهو حين يعرف العقل يكون عارفاً ومعروفاً في الوقت نفسه، وهذا يستلزم أن ينشق العقل على نفسه، أو أن يتداخل في نفسه، أو أن ينتفض عن نفسه لمحة، ثم يعود إلى نفسه، فإذا عاد إلى نفسه عاد عقلاً هو الذي كان قبل أن تحدث له حادثة المعرفة هذه، ولم يكن هو قبل هذه الحادثة يعرف شيئاً عن نفسه. . .
- هذا فرض يحتاج إلى إثبات
- إذن، أثبتيه أنت
- وأنا مالي؟ هل أنا الذي فرضته؟. . .
- ولكن، ألا ترينه معقولاً؟
- ومن كلام المجانين ما هو معقول
- فليسوا مجانين، أو هم ساعة ما يقولون الكلام المعقول لا يكونون مجانين. . . وما داموا يكونون مجانين أحياناً، وغير مجانين أحياناً فهم إذن كبقية الناس، فما من إنسان إلا ويحيد عن العقل وحكمه في كثير. . . فإما أن يكون الناس على هذا مجانين جميعاً، وإما يكونوا عقلاء جميعاً، وإما أن يكونوا جميعاً في حالة ثالثة يصيبون فيها الحكمة حيناً ويخطئونها(360/58)
حيناً، وهذا ما قدمته لك من أن العقل شيء إذا اهتدى إليه مرة لم يكن معنى ذلك أنه قد ربط وأنه لن يشرد ويتيه في وديان النسيان
- وقد قبلت أنا هذا الرأي وسأدعك تقول ما تشاء على أساس أنه لا عقل ولا جنون
- وأنا لا أرضى بهذا، فالعقل شيء موجود بلا ريب، وكل رأى لا يوافق العقل لن يكون إلا خبلاً، وأنا لا أحب ابنة الجيران مثل أخيك حتى اسمح لنفسي أن أسايرك فيما تريدين أن تعربدي فيه من الحديث وأنت مترنحة الفكر. . .
فماذا تريد مني أن أصنع؟
- أريد منك شيئاً لا بد أن أطلبه من نفسي كذلك حتى نكون نحن الاثنين عاقلين فنستطيع أن نتفاهم. خذي هذا الخيط وهذه الإبرة وهذا الثوب وخيطيه، وأما أنا فسأرسم في هذه الورقة دائرة، سأجعل نصف قطرها عشرة سنتيمترات، وسأقسم محيطها إلى عشرة أقسام وسأجعل في كل قسم منها وتراً، وسأجعل كل وتر من هذه الأوتار قاعدة لمثلث رأسه مركز الدائرة، ثم سأرسم في كل مثلث دائرة يمس محيطها أضلاعه الثلاث ثم سأجعل كل نقطة من نقط التماس هذه رأساً لزاوية من زوايا مثلث آخر سأرسمه داخل كل دائرة من هذه الدوائر الصغار. . . خذي. . . إبدائي. . . وهأنذا سأبدأ معك ولنتحدث. . .
- ما شاء الله! ولن أكون عاقلة حتى أخيط لك الثوب، ولن تكون أنت عاقلاً حتى ترسم بيت جحا هذا الذي وصفته. . .
- نعم. . . مثلما كان يفعل الكردينال دي ريشلييه. . .
- رحمه الله. . . هو أيضاً كان يخيط الأثواب ويرسم المثلثات والدوائر. . .
- بل كان يجمع على مكتبه جيشاً من القطط لا يفتأ يحادثهن في المشكلات التي تعرض له ويسألهن حلها ويتملقهن استجداء لحلول معضلات ومشكلاته من عندهن، فهو يمسح هذه ويداهن تلك، ويهز بأصابعه شوارب ذاك، ويهرش بأظافره رأس هذا. . . ولا يزال هكذا حتى ينفلق عقله أو ينبلج، فينكشف له عقله ويرى الحكمة. . . إنه يشغل نفسه بعملتين عقليتين: أولاهما المعضلة التي يروم حلها، والثانية مناوشة القطط، وهو لم يكن يفعل هذا إلا لكي ينتفض عقله على نفسه ثم ينطبق مرة أخرى فإذا به في هذه الانتفاضة قد ومضت فيه شرارة من نوره هو، هي ما كان يبحث عنه ليسير على هدية. . . ألم ترى مطلقاً أناساً(360/59)
يتشاغلون في أشد مواقف التفكير حرجاً برسم الخطوط، أو بضرب الأرض، أو بفك الأزرار وإعادتها ثم فكها وإعادتها أو بحك جباههم أو بأي مشغلة يتشاغلون بها أثناء ما هم يفكرون فيما يحرجهم؟. . . كل هؤلاء مثل الكردينال دي ريشلييه، فهلا تحبين أنت أن تكوني مثله؟. . .
- ولكن الكردينال كان رجلاً هرماً لا أظنني كنت أحبه إذا رأيته. . . أفلا تعرف مثلاً آخر أرشق من الكردينال دي ريشلييه. . .
- فلتكوني مثل جاري كوبر. . . ألم تشاهديه في (مستر ديدز الشاذ)؟
- شاهدته. واتهموه بأنه (استنجللينا)
- فأثبت لهم أن كل الناس (استنجللينا) خذي الثوب خيطيه لعل جاري كوبر يراك فيعجب بك فيكون يوم سعدك. . .
- وأين أنا منه، وهو في هوليود وأنا في القاهرة. . . هات الثوب هات وأمري لله، وابدأ أنت في الرسم كما تشاء، وقل ما تريد. . .
- وهو كذلك. . . ولكن في أي شيء كنا نريد أن نتحدث. . . لقد نسيت. . .
- أظنك كنت تريد أن تعالج حب أخي لابنة الجيران بأن تكويه فوق قلبه بمسمار محمي في النار. . .
- صحيح، وكنت أنت تنكرين هذا، وكان إنكارك يعتمد على اعتراض قوي هو أن الحب عاطفة وليس مرضاً بدنياً حتى يعالج بدنياً صرفاً. . . أليس كذلك؟
- بلى. . .
- أما كنت تستطيعين أن تقولي شيئاً غير (بلى) هذه فإني لا أحبها. . . على أي حال هي مسألة ذوق، وعلاجها هي أيضاً مسمار محمي في النار تنخسين به لسانك فلا تعودين إلى النطق بها وبأمثالها
- ما أحد لسانه في حاجة إلى الكي غيرك. . .
- إذن فقد آمنت بالنظرية؟!
- لا يا سيدي. . . سحبتها. . .
- حسن. . . اسمي. . . ألا ترينه معقولاً أن تكون كل علة بدنية ظاهرة لعلة نفسية. . .(360/60)
ثم ألا ترين أنه إذا كان الأمر كذلك فإنه يكون فيه توكيد لصلة البدن بالنفس
- ليس لي شأن بهذا التوكيد، وإنما أريد منك ولو بعض الأمثلة التي تستطيع أن تتخذها عوناً لك على إثبات ما تقول. . .
- لا بأس. . . من تظنينه تصيبه التخمة إلا من أصابه الجشع والدناءة؟ ومن تظنينه يصاب بالمرض الخبيث إلا الذي خبثت نفسه وانقاد لخبثها؟ ومن تظنينه يصاب بالعرج إلا المشاء في الظلال وفي الظلمة؟ لست أريد أن أمضي معك إلى أكثر من هذا إلا أن أقول لك إن هذا الحكم يسمح لكثير من الأفراد والحوادث أن يشذوا عنه. ولكن هذا لا يعنينا، فشذوذ الحوادث والأفراد يحتاج إلى تأمل خاص في كل فرد وفي كل حادثة على أن يكون هذا الدرس بعد اليأس من انطباق القاعدة العامة. . .
- طيب، وبعد هذا؟
- ما دمنا قد اتفقنا على هذا فقد سهل الأمر. والعرب، وأهل الصعيد - وهم منهم - عرفوا لكل داء دواء مكمنه في أعصاب الإنسان أين هو، وهم يكوون هذا المكمن بالنار فتطهر الأعصاب من رذيلتها وضعفها، ويزول المرض، وهم بهذا قد فتحوا لنا الطريق كما قلت لك، وعلى علماء النفس وأطباء هذه الأيام أن يتابعوا السير في هذا الطريق، وعلى الخصوص بعد أن قال قائل منهم إن مخ الإنسان ينقسم إلى مراكز عقلية، لكل مركز منها عمل خاص، فهذا للتذكر، وهذا للحساب، وهذا للاستنباط، وهكذا، ولست أدري لماذا لا يفكرون حين يصيب المرض مركزاً من هذه المراكز في أن يكووه ليطهروه وينقذوه، وليس ضرورياً في أن يكون الكي بالنار، فعندهم من وسائل الكي ما هو أشفق من النار وأرحم، وإن كانت النار أبلغ منه وأفعل، ثم مالنا نفرض أن كل مراكز العقل مجتمعة في المخ، ولماذا لا يكون بعضها في أعصاب أخرى غير المخ تلتف فيها الروح بالجسم أو تلامسها كما يلامس محيط هذه الدائرة زوايا هذا المثلث في هذه النقط الثلاث. . فإذا جاز أن يكون هذا، فلماذا لا يكون في القلب مركز الحب وهاهو ذا أخوك يقول لك إن قلبه يوجعه وجعاً مادياً حقاً. . . انخسيه بمسمار، أو إذا شئت أن تترأفي به فأحمي له (دبوساً). . .
- يا شيطان أخاف عليه أن يموت. . .(360/61)
- لن يموت، فعمر الشقي بقي، وإنما سيحدث بإذن الله أن يخرج أذى الحب من ثقب المسمار أو الدبوس، آهات، وشعراً، أو غناء ندباً وبكاء، ثم ينتهي الأمر ويبرأ أخوك من الحب، ولي بعد ذلك الحلاوة. . .
- هي هذه الحلاوة التي راح عقلك فيها. . .
عزيز أحمد فهمي(360/62)
القصص
قصة واقعية
إنه أخي. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تحمل قطرات الماء إلى وجوه المارة وثيابهم، فتغمض عيونهم، وهم يسيرون على حيد الطريق في حذر ورقبة خشية أن تزلق أقدامهم فيتدحرجوا في الوحل، والسيارات منطلقة براكبيها من ذوي اليسار والنعمة، فتقذف عجلاتها رشاش الماء على جانبيها فيصيب وجوه الناس وأرديتهم، لا يكادون يدفعون عن أنفسهم شيئاً مما تقذفهم به الأرض أو تنالهم به السماء
وكان الليل في أوله. . .
وفي مُنْعطَف يُفضي إلى أربعة بيوت في حي (شبرا) كان فتى دون الثلاثين واقفاً تحت السماء وقفة مرتقب وعيناه معلقتان بنافذة مغلقة، لا يزيد على أن يرفع ليها عينيه حيناً، وإلى الطريق العام حينماً آخر، وهو واقف، والساعات تمضي، والمطر ينهمر، والريح تلطم وجهه بقطرات الماء، وفي يده ورقة مطوية. . .
وكان بوابو البيوت الأربعة مجتمعين وراء أحد الأبواب، وبين أيديهم نار يصطلونها وهم يسمرون، وكان لكل أسرة من سكان البيوت الأربعة حظ من حديثهم وسمرهم؛ وهل يجتمع مثل هؤلاء إلا لمثل ذاك؟ وكانوا في غفلة عن الفتى، والفتى عنهم في غفلة. . .
وطال الانتظار بالفتى ونال منه البرد القارص، ونفذ الماء من ثيابه إلى جسده، وكان شعره الأشعث يقطر ماء على جبينه؛ فلم يتنبه إلا من بعد هذه الشرفة التي تلقي ظلالها على جانب من الطريق، فأوى إلى ظلها يحتمي من المطر والريح في هذه الليلة الباردة. . .
. . . لولا ثيابه الحائلة، ونظراته الضارعة، وذلك الفتور في عينيه، وهذا الشحوب في وجنتيه، ولولا هذه اللحية التي لم يمسها حدّ الموس منذ أيام - لحسبه من يراه عاشقاً قد أضّله هواه فأخرجه في هذا الجو العاصف، يرجو موعداً أو يتزود بنضرة. . . ولكن على وجهه سمات ليس مثلها في وجوه العشاق!(360/63)
ولكن. . . ما هذه الورقة المطوية في يده. . . فلعله رسول. . .!
وأخذته عيون البوابين وهم في حلقتهم يصطلون ويسمرون، فتهامسوا وضحكوا؛ وأحس الفتى وقع نظراتهم، فاستحيا، ثم تغافل ولوى عنقه. . .
لم يكن ذلك موقفه الأول. لقد طالما وقف (حسّان) هذا الموقف من قبل، وطالما أمتدّ به الانتظار في هذا المنعطف ساعات؛ حتى إذا ما انفتحت النافذة المرموقة أسرع إلى الباب وصعد، أو كتب ورقة في حاجته فبعث بها مع البواب
من أجل ذلك كان مألوفاً لسكان الحي أن يروه في موقفه ذاك، وأن يسكتوا، ولكن أحداً منهم لم يحاول أن يعرف ما وراء هذا الموقف من سر. ولكن بواب البيت كان يعرف فأسر النبأ إلى صفوته من بوّابي الحيّ. . .
وهجست الهواجس في ضمائر سكان البيوت الأربعة، فكان لكل واحد مع أهله حديث. . . وتناثرت الإشاعات ثم اجتمعت، فإذا على ألسنة السكان جميعاً خبر واحد: هو أن للسيدة فلانة سرًّا تحاول أن تخفيه إلا عن الفتى وعن البواب. . .
. . . لو وقف (حسان) مثل هذا الموقف كل يوم مرات في غير هذا المنعطف ما أحس به أحد ولا سأل عن خبره سائل. كم فتى، وكم فتاة، وكم رجلاً، وكم امرأة - يمشون كل يوم، ويقفون، ويتواعدون، ويتلاقون على أعين الناس في الشوارع الحافلة، ثم يودع بعضهم بعضا ويمضي لوجهه؛ فلا يثير أحد منهم فضول عابر ولا يسأل عن خبره سائل. ولكن هنا، في هذا المنعطف الذي يُغْلق بابُه على بيوت أربعه قد تعارف سكانها فرداً فرداً فلا يكاد يخفى على أحدهم خبر جاره - هنا في هذا المنعطف كان وقوف حسان مثار فضول ومبعث ريبة
ولم يكن حسان عاشقاً ولا رسولاً ولكنه أخو السيدة فلانة زوج الطبيب فلان. . .
هل يصدق أحد؟ ولكنها الحقيقة. . .
هذه السيدة التي يراها من في أبهتها كأنها أميرة، أخت هذا الفتى البأس الشريد الذي يقف كل يوم هذا الموقف ساعات، تحت المطر الهاطل، وفي مهب الريح السافية، وفي أتون الشمس المحرقة يترقب، ينتظر اللحظة المناسبة ليكتب إليها فيعود له البواب فيضع في يده بضعة دراهم؛ ثم يمضي، ليعود بعد يوم، أو بعد ساعات فيقف موقفه يترقب، وفي يده(360/64)
ورقة مطوية. . . . .
ماذا كان حسان في أوليته وماذا صار؟
لقد نشأ في بيت رفيع العماد عالي الذرا، ثم كان له ولأخته ما خلف أبوهما من ثروة ومال، وكان تلميذاً في المدرسة يوم مات أبوه، وكانت أخته مسمّاة على الفتى الذي صار له من بعد. . .
. . . وآلتْ ثروة أبيه جميعاً إليه، وإنها لثروة. وهجر الفتى مدرسته ومضى على وجهه يبيع اللذات ويشتريها، ونصب الشيطان له حبائله من الفراغ والشباب والمال. . .
وانتقلت أخته إلى دار زوجها وخلفت قصر أبيها بما فيه، ولكن قصر أبيه كان أضيق من أن يتسع له، فأغلق بابه ومضى ينتقل بين أندية اللهو ومجالي الهوى ومسارح الشباب، وبسط يده على موائد الشراب والقمار، وتقاذفته الأقدارُ قَدَرٌ إلى قدر، وأغمض عينيه وسبح في أوهامه، وطارت به أمانيه ثم سقطت؛ وفتح عينيه فإذا هو وحيد شريد صفر اليدين من المال والصحاب. . .
وذكر أخته بعد سنين من القطيعة، فراح يشكوا إليها؛ ودمعت عينا السيدة رثاء لأخيها وشفقة عليه؛ ثم ذهبت إلى صوانها ففتحته وعادت له بما تملك. . .
وخرج الفتى من مجلس أخته برأس مال صالح لو أنه أراد. . . وكان يريد، ولكنه رأى أن يودَّع ماضيه بليلة ساهرة من ليالي الهوى والشباب، ثم يُصبح. . . . . .
وأصبح. . . وعاد كما بدأ. . .
واستمرت الكرة تتدحرج. . .
وعاد حسان إلى أخته بعد شهر، وقال لها وقالت له؛ ونهضت إلى صوانها ثم عادت فارغة اليد. . . وعاد زوجها من عمله، والتقى الثلاثة لقاء الأهل بعد فراق طويل. . .
وأسرت الزوجة حديثاً إلى زوجها، وباحت بما باحتْ وكتمت ما كتمت. . . وأخذ الثلاثة في حديث طويل. . .
. . . وقال الزوج:. . . نعم، مني المال وعليك العمل، إنها تجارة رابحة، وإنك بها لخليق أن تبلغ الغنى في سنوات، لو أنك. . .
وتعاهدا على الإخلاص والصدق، ووثقا عقد الشركة بالأيمان ودفع الزوج المال، وخرج(360/65)
حسان لأمره. . . ولمَ يعد. . . . . .
لولا الشهامة والبُقْيَا لكانت الفاصمة بين الزوجين، ولولا دموع السيدة. . .
وهمَّ الطبيبُ أن يرفع أمره إلى القضاء، ثم سكت؛ وماذا يردٌ عليه القضاء من ماله وإن غريمه مفلسٌ لا يجد رمقه. . .؟
وصبر على غيظ، وسكتتْ زوجه على حسرة وألم!. . .
وضاقت بالفتى أيامه، فعاد يتذكر أخته. . . وسعى إلى بابها وسأل، وكان زوجها في الدار، فتوارى الفتى يترقب، وطوى ورقة مكتوبة ودفعها إلى البواب. . . وصار هذا شأنهما من بعد. . .
وكان يقصدها كلما ضاق به أمره، ليس بين المرة والمرة إلا أيام، فتعطف عليه أخته وتنيله؛ ثم تقاربت مواعيده حتى صار له راتب مفروض في كل يوم. وبَصُر به الطبيب مرة وهو خارج فأخصى كأن لم يرى. وتجرأ الفتى من بعد فاستعلن، وراح يطرق الباب حين يشاء من ليل أو نهار يطلب ما يطلب، وترادفت مطالبه. . .
وضاق صدر الزوج ونفذ احتماله، فتصبرَّ. . . ثم علم من شئون حسان ما لم يكن يعلم، فغضب لنفسه. . .
لقد يكون من المحتمل أن يلقى الرجل ذا حاجة فيدفع إليه بعض ما يستعين به، ولقد يؤثره على نفسه بما يمنحه؛ ولكن منذا تطيب نفسه بأن يكون ما يدفع إلى ذي حاجة من ماله وسيلة إلى اللهو الحرام؟
هكذا قال الطبيب لنفسه فثارت ثائرته. إنه يشقى ما يشقى في تحصيل هذا المال، ليسعد به وليسعد غيره؛ لا لينفقه حسان على موائد الشراب والقمار!
وتحدث إلى زوجته بما في نفسه وإن كلماته لترتجف من الغضب، واستمعتْ زوجته إليه مطرقة، ثم خلَتْ إلى نفسها لتبكي. . .
ولم يكفُ حسان ولم تحرمه أخته، وعاد الأمر بينها وبين أخيها سراً كما بدأ، واستمرا المرعى فكشف الحجاب. . . وكان ما تنيله معروفاً ونافلة فعاد ضريبة مفروضة، وتكررت مطالبه وكثر مطلوبه، وألح إلحاح الجابي على مدين مماطل. . .
وتعود سكان الحي أن يروه كل يوم مرة أو مرات في موقفه ذاك ذليلاً ناكس الرأس،(360/66)
وعينيه إلى النافذة أو إلى الباب، حتى إذا أمكنته الفرصة وثب فكان على باب أخته، فحيناً يكون الأمر بينهما تشكياً واعتذاراً، وحينًا يكون تهديداً وصخباً وضجة، وهمَّ بأخته مرة يحاول أن يضربها لتعطيه. . تعطيه من مال زوجها ما يعينه على ثمن الشراب وتكاليف الشباب، ثم يتركها لأحزانها ويمضي لهواه. . .
وضاقت به أخته كما ضاق به زوجها من قبل. . .!
وقالت له مرة وفي عينيها دموع: حسان، ليتني كنت أستطيع، ولكني لا أطيق أن أخون زوجي في ماله، وإني لأستطيع أن أعطيك ما تستعين به على العيش، ولكن لا أعطيك للشراب وللقمار!
وضحك الفتى ساخراً وقال: الشراب والقمار! تريدين أن ترَّبيني؟. . . إذن فأنت لا تمنعين المال عني للعجز والحاجة ولكنك تحاولين تأديبي. . .؟
وبرقت عيناه وأطلت منهما نفس شريرة، فتراجعت أخته مذعورة تطلب الحماية في متاع الدار، ووثب عليها فصرخت. . . ثم خرج راضياً. . .!
وطال حديث الناس عن السيدة المصونة، وقالوا ما قالوا، وتناولتها الرّيب والظنون؛ وبلغها ما يقال الناس فزادت هماً على هم. . .
وأوصتْ البواب أن يردَّه إذا رآه وأن يحول بينها وبينه، وكانت في حال من الغضب خيَّلت إليها أنها تستطيع أن تنسى أن لها أخاً. . .
. . وجاء الفتى إلى موعده، وكان زوجها في الدار. . .
كان المطر ينهمر، والريح العاصف تلطم الوجوه بقطرات المطر، وعجلات السيارات في سرعتها تقذف رشاش الماء إلى وجوه الناس وثيابهم. . . والفتى في موقفه لا يحس برد الليل، ينتظر غفلة ليصعد إلى أخته
وكفَّ المطر، وهدأت الريح، وانفتح الباب وخرج الطبيب لبعض عمله؛ فتسلل حسان إلى الدار. . .
ومضت لحظات قبل أن يسمع البواب من يناديه، فصعد؛ وقالت السيدة في غضب وثورة: ألم أطلب إليك. . . ألم آمرك أن تمنعه. . .؟
وأطاع البواب فهمَّ بالفتى ليطرده، ونشبت معركة. . .(360/67)
وكنت خارجاً لبعض شأني أخذ عيني هذا المنظر. . .
وكان شرطي يسوق الفتى وقد اجتمع عليه البوابون الأربعة والفتى يتوسل، ودخلت في الزحام أريد أن أعرف، وكانت عينا حسان إلى النافذة، وثمة سيدة تنظر. . .
ورأيت الفتى الذي أخذتْه عيناي من قبل مرات، وكان يبكي وينظر إلى النافذة. . . وكانت السيدة تبكي له. . .
وقال البواب: لقد أمرتني. . . أمرتني أن أدعو له الشرطة، إنه لا يكف عن مضايقتنا ليل نهار. . .
وقال الفتى بذله: اسألها يا سدي إنها. . . إنها لا تريد. . .
وقالت السيدة وصوتها يقطر أسى: دَعُوه. . .!
وغضبتُ وثارتْ غيرتي. . وذهبتْ نفسي مذاهب من الريبة وسوء الظن، وأطل الفضول من نوافذ البيوت الأربعة. . . وتوقع الجيران أن يشهدوا فضيحة. . . وظنوا الظنون. . .
وعاد الفتى يتوسل، والبواب يتشدد، ويد الشرطي في عنق الفتى وعيناه إلى هناك. . . وعادت السيدة تقول في ضراعة: دعوه أرجو أن تتركه يا سيدي؛ إنه. . . إنه أخي. . .!
وأغلقتْ النوافذ المفتوحة، وتوارت الرؤوس المطلة، ومضى الشرطي والبواب بالفتى؛ وجلس الجيران يتهامسون؛ وكانت سيدة تجلس وراء النافذة وحدها، في وجهها أظفار دامية وفي عينيها على الذي أدماها دموع. . .
محمد سعيد العريان(360/68)
البريد الأدبي
(وحي الرسالة)
أخي الأستاذ الزيات
إليك أقدم أطيب الثناء على الهدية النفيسة التي تفضلتَ بها على أخيك وهي المجلد الأول من (وحي الرسالة)، وهو مجموعة لمحات من بوارق فكرك الوثّاب الذي ترى به روح الشرق وعقل الغرب حين تشاء، بفضل ما وهبك الله من البصر بأسرار البلاغة العربية والثقافة الفرنسية، وتلك هِبة لا يتمتع بها من كتاب العصر إلا الأقلون
ويمتاز كتابك بميزة أصيلة هي تصويره لأكثر ما يحيط بهذا العصر من مشكلات عقلية، ومعضلات ذوقية، فهو سِجِلٌ صادق لحوادث عاناها المجتمع واضطرم لها روحك الأمين
وما عاودتُ النظر في كتابك إلا تفزّعتُ إشفاقاً عليك، فهو يشهد بأنك شديد الإحساس بالوجود. والذي يصف المجتمع وهو في مثل حالك يستأهل الإشفاق، إنه يعاني البلاء بمنحه المجتمع وهو يحمل روح المصلح. ولا يعزّيني إلا الشعور بأن الذين يشفقون في الطب لأمراض المجتمع هم في حقيقة الأمر من أعظم السعداء، وأنت في الطليعة بين كتابنا المصلحين، وإنك لعزيزُ علينا أيها الشقيُّ السعيد
وهذا وقد قال بعض الناس إنك كاتب متأنق، وذلك باطل يراد به حق، فالكتابة الرفعية فنٌّ جميل لا ينفع فيه الارتجال. ولا تحسب أنك خدعتنا حين قلت إن مجموعة (وحي الرسالة) لم تكن إلا ومضات يلمح بها الفكر من أسبوع إلى أسبوع، فالكاتب الحق لا يعرف عفو الخاطر وإن أحب أن يوصف بذلك وإنما ينقل إلى سنان القلم لواعج عاناها الفكر والروح في أعوام طوال. وهو كالشجرة التي تختزن ثمارها إلى أن يحين الموسم المنشود. فلا تحاول التعتب على من يصفك بالتأنق، لأن التأنق من صور الاهتمام، والاهتمام عملية جراحية تنقل الأفكار من عالم المعاني إلى عالم الشهود
أما بعد فأنا أرجو أن يسبغ الله عليك أثواب العافية وأن يجعل لمؤلفاتك حظاً من القبول تنسى به آلامك في خدمة الأدب الرفيع، إن جاز في دنيانا الحاضرة أن ينال المؤلفون المتفوقون بعض الجزاء. . . والله يحفظك للصديق الذي يعطف على جهودك أصدق العطف:(360/69)
زكي مبارك
تحري الصدق في النقد
أخي الكريم الأستاذ الزيات:
تحية خالصة وعرفاناً بمكانة (الرسالة) في عالم الأدب الرفيع والنقد الشريف
والصدق - وهو من أخص صفاتك التي عرفتها فيك منذ عشرين عاماً أو تزيد - أول شرط من شروط النقد الشريف فإذا رأيت قلماً ينحرف عنه وهو يكتب في مجلتك، أسِفْت أسفين - أحدهما للعيب في ذاته، والآخر لأنه يقع في مجلة الرسالة، وهي علينا عزيزة؟
أقول كلمتي هذه على أثر ما قرأته في عددها الأخير الذي صدر في اليوم العشرين من مايو - لناقد يوازن بين الموسيقى في مصر وبين الشعراء، وبين الخطباء، وبين المعلمين، وبين الرسامين - وفصله هذا لاحق لسابق تناول فيه المفاضلة بين طوائف أخرى ممن يسميهم الفنانين بلغ عددها أربعة لأنه يبدأ مقاله الذي يعنيني فيه ما يعنيني - بالرقم (5) - وهو رقم الموسيقيين في سجله الشامل
ونحن نغبط الأستاذ الناقد على ما وهبه الله من قدرة خارقة على أن ينصب نفسه حكماً بين الأخصائيين من رجال هذه الفنون المختلفة التي بلغ عددها تسعة (حتى الآن)، ولعله لم يفرغ بعد من قضائه العالي في أشتات أخرى من الفنون، وأشتات آخرين من الفنانين
هذا فضل من الله يؤتيه من يشاء. أو هو فضول من الدعوى الطويلة العريضة التي أصبحت مرضاً في كثير ممن يحملون الأقلام ولا يحملون ما يضبطها ويكف غلواءها من الإفهام
ولست أعرض لسخرية هذا الناقد ولا لحكمه لي أو عليَ بين الخطباء. فليس يهمني أن (يقال خطيب)، وإنما يهمني أن أكون صاحب فكرة نافعة أحاول بثها في العقول أو عاطفة طيبة أحاول غرسها في النفوس
بل أعرض لشيء واحد - ذلك قول الناقد إنه سمعني يوماً في مسرح البلفدير في الإسكندرية أرثي سعداً عقب وفاته
تلك هي (الواقعة!) التي بنى عليها الناقد حكمه(360/70)
وإذن فليسمع الأستاذ تكذيبي الصريح لهذه (الواقعة). فإني لم أتشرف برثاء سعد قط في الإسكندرية. ولم أتشرف برثاء سعد قط إلا في القاهرة بعد مرور العام الأول على وفاته، وكان ذلك في حفل تاريخي عظيم أقيم له سرادق مترامي الأطراف في جوار بيت الأمة
وإلا فليتفضل الناقد فيدلنا على شاهد واحد آخر غير شخصه يؤيد قوله إن سعداً رثى في الإسكندرية في مسرح البلفدير، وإن توفيق دياب حضر أو خطب
أما بعد، فإن رجلاً اشتغل بالتحدث إلى الجمهور منذ سنة 1916 إلى سنة 1940، وكانت آخر محاضراته ألقاها في كلية العلوم منذ شهرين، وأخرى ألقاها في دار الشبان المسلمين منذ شهر، فنهض للتعقيب على المحاضرة الأولى معالي إبراهيم عبد الهادي بك، وحضرة الدكتور منصور فهمي بك بما يأبى التواضع مجرد الإشارة إليه لولا سخرية هذا الساخر
ونهض للتعقيب على المحاضرة الثانية أستاذ جليل من أساتذة دار العلوم، وغيره من أساتذة الكليات الأزهرية بتحيات مباركات وتقدير مشكور. إن رجلاً هذا شأنه يقول فيه قائل: (إنه مسرحي إلى حد كبير في خطابته)، ويقيم حجته على صحة زعمه (بواقعة) مختلقة من جذورها لجدير به أن يبدي هذا الأسف، لا لخسارة تعيب شخصه، ولكن لخسارة تعيب الصدق والنقد الشريف
محمد توفيق دياب
حول الدكتور الحفني
كتب زميلي وصديقي الأستاذ عزيز كلمة عن الدكتور الحفني ظلم فيها الرجل لأنه لا يعرفه ولا يعرف عنه شيئاً إلا ما يشيعه عنه أعداؤه!! فالحفني موسيقي بكل ما في هذه الكلمة من معان، والحفني منتج مخترع في فنه ولعل الأستاذ عزيز لا يعلم عنه أنه قد وفق إلى ما لم يوفق إليه غيره من موسيقى الغرب فأخرج للموسيقى العربية (فلوت الحفني) المتمم للأرباع والذي أثار دهشة وفرحاً، والذي قدره جلالة الملك فأمر - حفظه الله - بضمه إلى الموسيقى الملكية. .
وقد أخرج الحفني أيضاً (الكورية) النحاسية وأخضعها للأرباع العربية. . . وكل هذا مسجل ومعترف به من أرقى الأوساط الموسيقية. . . وهو الآن بسبيل اختراع جديد سيتمه(360/71)
قريباً، وسيكون له من الضجة ما يحمل الأستاذ الصديق على الاعتذار - أو على الأقل - على فهم الرجل!!
محمد السيد المويلحي
تقويم عن نشر التعليم والثقافة في مصر
عزمت وزارة المعارف على إنشاء تقويم سنوي يتضمن بياناً مفصلاً عما يبذل من الجهود في سبيل نشر العلم والثقافة في مصر والمعاونة على انتشارهما في الأقطار الشرقية، وما هنالك من الصلات بينهما وبين المعاهد المعتنية بالتعليم في جميع الأقطار
وقد رأت الوزارة أن تخصص في هذا التقويم مكاناً بارزاً للجامعة الأزهرية لما لها من الأثر العظيم في هذه الناحية، فكتبت إليها تطلب موافاتها ببيان واف عن مختلف جهودها الثقافية، على أن يشمل ذلك عدد المدارس والمعاهد التي يؤهل لها الأزهر وعدد التلاميذ والطلبة، ومد الدراسة في كل معهد أو مدرسة، والدرجات والشهادات التي يمنحها، وعدد الفرق والأقسام والأساتذة في كل نوع من المعاهد مع ذكر أسماء رؤسائها ورؤساء أقسامها وأساتذتها، مع بيان عن مكتبة الأزهر، ثم عن الجهد الذي تبذله في سبيل نشر الثقافة الإسلامية خارج الديار المصرية وبالجملة كل ما ترى إدارة المعاهد وجاهة نشره من البيانات في هذا التقويم
هذا وستخصص الوزارة جزءاً آخر لجهود جامعة فؤاد الأول، مع نشر بيان واف عن كلياتها وأقسامها وأغراضها الثقافية
إحصاء الطلبة في مدارس سورية
ثبت أن عدد الطلاب في سنة 1939 إلى 1940 في البلاد السورية 42808 تلاميذ موزعين على 358 مدرسة، و16919 تلميذة موزعات على 91 مدرسة ثانوية للإناث. وقد كان عام 1938 - 1939 (38870) تلميذاً و15483 تلميذة، فتكون زيادة الطلاب بين العام المنصرم والعام الحاضر 5374 طالباً وطالبة ومما هو جدير بالذكر أنه في عام 1924 كان يوجد 212 مدرسة للبنين تضم 16045 تلميذاً و51 مدرسة للبنات تضم 3926 تلميذة(360/72)
فيلاحظ الزيادة المحسوسة التي تزيد على الأضعاف خلال 15 عاماً مما يدل على إقبال الناس على العلم والثقافة
وقد رفعت مديرية المعارف العامة ذلك التقرير عن الإحصاءات إلى عصبة الأمم عن طريق دائرة المعارف في المفوضية العليا
جمعية المعلمين تعد كتاباً عن القاهرة
بدأت جمعية المعلمين العليا المشمولة بالرعاية الملكية في تأليف اللجان الفنية من بين أعضائها وهي اللجان التي ستتولى وضع مؤلف عن القاهرة يتضمن بحوثاً تعالج النواحي في تاريخ العاصمة المصرية، وذلك لمناسبة الاحتفال بالعيد الألفي لها
وستجتمع هذه اللجان اليوم لتحديد عدد الصفحات التي يحتاج إليها كل بحث، حتى يتيسر لكل منها البدء في عملها
قصة أبي تمام
في البريد الأدبي للعدد الأخير من الرسالة طلبٌ من الأديب أحمد جمعه الشرباصي موجه إلى الأدباء للتحقيق في قصة قول أبي تمام: (إقدام عمرو في سماحة حاتم)، وارتجاله: (لا تنكروا ضربي له من دونه - مثلاً. . .). وهل قيلت أمام الخليفة أو أحمد ابن المعتصم أو أحمد بن المأمون، وقد ذكر الأديب الشرباصي ما يفيد: أن القصة لا صحة لها أصلاً ناسباً في ذلك أقوالاً لابن خلكان، وزاعماً أيضاً أن كتب الأدب ومذ كراته وكل المؤلفين في عصرنا هذا اعتمدوا أنها قيلت أمام الخليفة، فأعجب به الخليفة وقال لوزيره: أعطه ما يطلب. . . فطلب أبو تمام الموصل. . . الخ
وأبادر فأقول: إن المؤلفين وكتب الأدب ومذكراته لم يعتمدوا القصة - كما رواها -، وإنما ذكروا أنه امتدح أحمد بن المعتصم أو أحمد بن المأمون بقصيدة سينية؛ فلما انتهى إلى قوله: (إقدام عمرو. . .)، قال له الكندي الفيلسوف: الأمير فوق ما وصفت فأطرق ثم رفع رأسه وأنشد: (لا تنكروا ضربي. . .)
ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين فعجبوا من سرعة فطنته ولما خرج قال الكندي هذا الفتى يموت قريباً) ذكر ذلك أبو بكر الصولي في كتاب أخبار أبي تمام بعد(360/73)
ذلك (وقد روى هذا على خلاف ما ذكرته وليس بشيء والصحيح هو هذا وقد تتبعتها صورة ولايته الموصل فلم أجد سوى أن الحسن بن سهل ولاه بريد الموصل) هذا ما نقله ابن خلكان بنصه. كما أن تغليط الحيص بيص وابن دحية إنما هو من الصولي. فالذي تتبعها إذن وغلطهما ليس ابن خلكان كما فهم خطأ الأديب الشرباصي. أما ما قاله ابن خلكان فهو (رأيت الناس يطبقون على أنه مدح الخليفة، وأن الخليفة أعجب به وقال لوزيره: أعطه ما يطلب فإنه يعيش أكثر من أربعين يوماً فطلب الموصل. ثم قال: وهذه القصة لا صحة لها أصلاً. وأورد بعد ذلك تحقيق الصولي، فنفىُ صحة القصة من ابن خلكان والصولي منصبٌ على تولية أبي تمام الموصل وإنشاده القصيدة في الخليفة. ولم يذكر البستاني في دائرة المعارف إلا ما صححه الصولي، وهو المشهور في كتب الأدب. وحينئذ من هو الذي قيلت فيه القصيدة؟ الواقع أن ذلك أمر تحقيقه سهل ميسور! فإننا لو رجعنا إلى ديوان أبي تمام لعرفنا أن القصيدة ليست في الخليفة وإنما هي في أحمد بن المعتصم، وهو ابن الخليفة المعتصم الذي اتصل به أبو تمام ونال جوائزه في ذلك الوقت وفيها يقول:
هدأت على تأميل (أحمد) همتي ... وأطاف تقليدي به وقياسي
فالبيت نص في الممدوح اسمه أحمد؛ أما ما ذكر من أنها قد تكون قيلت في أحمد بن المأمون فليس بشي ذلك لأن أبا تمام المتوفى سنة 231هـ ـ قالها في أواخر حياته؛ والذي يكون في مجلسه الفيلسوف الكندي في هذا العهد ويقال له في القصيدة نفسها: (يا ابن الخلائف من بني العباس) هو أبن الخليفة أحمد بن المعتصم لا أحمد بن المأمون المتوفى أبوه سنة 218هـ وبشيء من التحقيق كذلك، نرى أن نسبتها إلى الخليفة في بعض الكتب إنما هي من سهو النساخ فربما كانت كما يأتي: (إن أبا تمام امتدح ابن الخليفة المعتصم بقصيدة سينية) فسقطت لفظة (ابن) وصار الكلام (امتدح الخليفة المعتصم. . .) وهذا مما يؤكد أيضاً أنها قيلت في أحمد بن المعتصم لا أحمد بن المأمون. وللنساخ من أمثال ذلك كثير.
عبد الستار أحمد فراج(360/74)
الكتب
عبقرية الشريف الرضي
تأليف الدكتور زكي مبارك
بقلم الأستاذ محمد هارون الحلو
لأستاذنا الدكتور زكي مبارك قلب يزخر بالفتوة وينبض بالعافية على رغم ما فيه من هوى مكتوم ولواعج مضطربة، وقد يلازم هذا الشذوذ والتناقض كثيراً من الأدباء ورجال الحكمة
وقد يكون ذلك لقدرتهم على الشكوى والأنين والتلهي أحياناً بالفلسفة أو التفلسف في تشريح العواطف والوجدانيات!
وهو يعيش في أودية الفن، الفن الروحي، ويهيم أبداً في ملكوت الخيال ولهذا كانت جل بحوثه من تيه عبقر، ومن همسات الشياطين!
والدكتور زكي مبارك له في البحث يكاد يستقل بها عن غيره من أعلام الأدب والكتاب الأبيناء فهو حين يكتب لا يعدو أن يكون مترجماً لأشرف العواطف وأنبل الغرائز البشرية بصورة واضحة لا غموض فيها ولا تلبيس
تنطلق عنه الفكرة مستقلة، تشرق في آفاقها الحقيقة وتلتمع في أقطارها صورة تلك الروح التي انبثقت عنها تلك الفكرة، فهو إذا بحث كان (فسيولوجياً) في بحثه، فناناً في أسلوبه، تلمح في مأثورة قوة الانفعال ومدى خصوبة القريحة؛ ويستوقفك في تضاعيف بحوثه الطلية رشاقة الأسلوب وتأنق المعنى ووضوح الفكرة وتريب المعاني وحسن السبك. . . وغير ذلك من الصفات التي أعطت أدبه لوناً خاصاً يمتاز به عن غيره، كما أنه ينفرد بين أدبائنا بجرأته، وهو يعتمد في ذلك على مواهبه وثقته بنفسه؛ فهو يتوفر أبداً على نصرة فكرته، لا يتقهقر ولا يتأخر
وكان له من نشوة الظَّفر ما يدل به كثيراً على خصومه، وكثيراً ما يعتد بنفسه شأن المتثبت المتمكن القوي الإيمان؛ فإذا أراد أن يعرض بخصم أو يمازح صديقاً؛ فهو ذو درية بأساليب الكيد وطرق الممازحة والمؤاخذة الأليمة والنيل من خصومه ومن أصدقائه أيضاً!
وثمَّة خلَّةٌ تكاد تكون من لوازم ذلك الأديب الكبير، وهي صبرُه في البحث وقوة روحه في(360/75)
استقصاء المعاني في الموضوعات التي يطرقها
ولقد كان وفاء زكي مبارك أبرز صفاته الشخصية، فهو يذهبُ إلى العراق ليرفدَ أهلها من معينه السائغ؛ فلو أنك أيها القارئ قد اطَّلعت على ذلك السَّفر النفيس (عبقرية الشريف الرضيّ) لَجازَ لك أن تقول ما قاله أحد أدباء بغداد حينما قرأ ذلك الكتاب: (إن نثر زكي مبارك له روعة تفوق شعر الشريف الرضي في بعض الأحيان)
لا يمكنني أن اصف ذلك السَّفر الذي أقامه الدكتور زكي مبارك نصباً خالداً للشريف الرضي بقدر ما كتب هو عنه في مقدمته إذ يقول: (إن القلم جرى فيه بأسلوب ما أحسبني سُبقت إليه في شرح أغراض الشعراء، حتى كدت أتوهم أني طفتُ بأودية لم تعرفها الملائكة، ولا الشياطين)
ومن اعتداده بمؤلفه وتعريضه بغيره من المؤلفات ما يقوله أيضاً في سياق حديثه عن الشريف: (سيرى قراء هذا الكتاب أني جعلت الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي، وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب. ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتاباً مثل هذا الكتاب!)
وله العذر فيما يقول فكتابه عن الشريف وعبقرية، ضرب من السحر لم يشرع في الكتابة من قبل ولم يأت على طريقة الأدباء بعد، فهو توجيه جديد في الدراسات الأدبية حيث يقف المؤلف من الشاعر موقف الصديق من الصديق، ويحصى عليه ويحصى له ويتحدث إلينا بإخلاص وأمانة، ويسجل رأيه الخاص في كل ما يعرض له، فالكتاب حافل بآراء جديدة وفلسفة فريدة
ولقد امتزج روح المؤلف بروح الشريف، وتأثر به أعمق التأثر وانتقل معه إلى عصره الذي كان يعيش فيه، وأحبه حباً عنيفاً، حتى أصبح يزكي خلاله مسرفاً في التمدح بأفضاله، فإذا مر بهفوة له فإنه يرفق به ويشفق عليه شأن ما يحدث عادة بين الخلصان من الأصحاب والأصدقاء
ولقد أربي البحث في هذا الكتاب - وهو يقع في جزأين كبيرين - على عشرين باباً، احتفل فيها المؤلف بكل باكورة من بواكير الشريف العبقري، وعالج موضوعات دقيقة(360/76)
عميقة لها أكبر الأثير في توجيه الشريف في حياته
ولقد أجاد المؤلف وأفاد في الحديث عن (أعوام البؤس في حياة الشريف) و (العلا والمعالي في قصائده) و (صلة الشريف بحياة خلفاء بني العباس) وهي من موضوعات الجزء الأول
كما أنه برع في الكتابة عن (غراميات الشريف) و (عفافه) و (حجازيات الشريف) وغير ذلك من النواحي والاتجاهات العميقة التي ضرب فيها فكر المؤلف وخياله بسهم وافر، فنفذ إلى مكنونات وطريف كان لها أثر كبير في إخراج هذه السفر على آنق أسلوب وارفع خيال، حتى حقَّ للدكتور زكي مبارك أن يستهل الكتاب بتعليقه على قول الشريف:
أنا النضار الذي يُضَنُّ به ... لو قلُّبتني يمينُ منتقدِ
بعبارته: اشهدْ أنك وجدْتَ المنتقد أيها النُّضار.
هذه كلمة قد عنَّ لي أن أكتبها وفاءً للأدب في شخص الدكتور (زكي مبارك) مؤلف عبقرية الشريف جزاه الله عن الأدب خيراً
محمد هارون الحلو
قصص العلماء والمخترعين
تأليف الأستاذ محمد عاطف البرقوقي
المفتش بوزارة المعارف
تحفزنا الرغبة في تشجيع الآداب العلمية إلى التنويه بهذا الكتاب الجليل، وهو باب من الأدب جديد يعني بتبسيط حقائق العلم في أسلوب أدبي يحبب إلى قارئه أن يقرأه فيجد لذة القراءة وفائدة التحصيل العلمي في وقت معاً؛ ومؤلفه حقيق بأن يبلغ بكتابه هذا المبلغ من الحرص على الفائدتين، فهو قد نشأ نشأة أدبية في ظلال أبيه الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب البيان، وصهره الأديب الكبير المرحوم مصطفى صادق الرافعي؛ وهو إلى ذلك عالم قد تخصص في مادته العلمية في مصر والخارج، وعليه التفتيش على دروس الطبيعة في مدارس الحكومة - فاجتمع له بذلك الفضل من طرفيه
ونحن ننشر فيما يلي فصلاً من هذا الكتاب الممتع برهاناً على ما قدمنا من وصفه:
اخترع التلغراف(360/77)
سنة التطور والارتقاء
لداروين العظيم مذهبه الشهير الذي يقول بسنة التطور والارتقاء، حتى رد الإنسان إلى أصل من القردة، وهذا الرأي لا يسري على الكائنات فحسب، بل إنه في رأيي يمتد إلى الاختراعات أيضاً، فكل اختراع يظهر أولاً ناقصاً مشوهاً، ولكنه يتحسس ويرقى بالجهود المتتابعة التي يبذلها العلماء، والأمثلة على ذلك عديدة، فها هي ذي الكهربية بدأت ساكنة فتطورت إلى متحركة محدثة التيار الكهربي؛ وهذه أبحاث فراداي النظرية، تتطور إلى أعظم المخترعات العلمية، ويحاول العلماء نقل الإشارات كما في التلغراف، فينجحون فيما بعد في نقل الكلمات كما في التلفون، وينجحون في اختراع التلغراف والتلفون السلكيين، فتؤدي أبحاثهم وجهودهم إلى اختراع التلغراف والتلفون اللاسلكيين، وهكذا سنة التطور والاتقاء في الاختراعات، ولن تجد لهذه السنة تبديلاً. ويحكى عن فرادي العظيم (ص55) أنه كان مرة يقوم بإجراء تجربة كهربائية في الجمعية الملكية بلندن أمام بعض المشاهدين والمشاهدات. وبعد ما أتم إجراءها وشرحها انبرت له إحدى السيدات وسألته: (يا مستر فرادي. هل يمكنك أن تخبرني ما فائدة؟) فأجابها على الفور ذلك الجواب المقنع المناسب: (وهل تستطيعين أن تخبريني عن فائدة الطفل ساعة ولادته؟) فأسقط في يدها ولم تحر جواباً
نشأة التلغراف
والتلغراف كان مطمح الآمال، وغاية العلماء منذ نشأة الكهربية، ففي عهد سكونها، وبعد أن كشف جراي ودي فاي (ص16) أن من الأجسام ما هو موصل وما هو غير موصل حاول بعضهم مد عدد من الأسلاك بعدد الحروف الهجائية، وهي تسعه وعشرون في اللغة الإنجليزية كل سلك فيها يقابل حرفاً من تلك الحروف فإذا أريد إرسال إشارة تلغرافية لكلمة معينة دلكت أطراف الأسلاك الدالة على حروف هذه الكلمة على التوالي، فتشحن هذه الأسلاك بالكهربائية فتجذب إليها في مكان الاستقبال كرات صغيرة من نخاع البيلسان فيؤلف المستقبل منها الكلمة المرسلة، وقد أخفقت هذه الطريقة كما أخفقت محاولات أخرى لما قام في طريقها من صعوبات: كبطء سير الإشارة أو ضعفها عن أن تصل إلى مسافات(360/78)
بعيدة، ولكن الاتجاه الصحيح قد بدأ سنة 1821، بعد أن كشف أورستد (ص37) التأثير المغنطيسي للتيار الكهربائي، إذا اقترح أمبير (ص41) عقب ذلك) وفي نفس سنة 1821 استغلال هذا الكشف الجديد لتطبيقه في التغلراف. ومن ذلك استطاع جاوس العالم الطبيعي الألماني وفبر (أستاذ الطبيعة في جامعة جوتنجن) سنة 1833 من إقامة أول خط تلغرافي في العالم بين المرصد وقسم الطبيعة في هذه الجامعة، وكانت المسافة بين المكانين 9000 قدم، وقد اشترك يوسف هنري الأمريكي (ص71) في أبحاث التلغراف، وهو الذي اقترح استعمال المغنطيس الكهربائي الذي له الفضل في تحسينه ورأى أن يوضع أمام قطبيه قطعة حديد تمس حافظة، فإذا وصل التيار إلى ملف المغنطيس الكهربائي انجذبت إليه الحافظة وحدث صوت في (دقته) واقترح شتاينهيل الألماني بعد دراسة عميقة أنه يمكن استعمال الأرض موصلاً بدلاً من إقامة سلك آخر لإتمام الدائرة الكهربائية وقد أعلن ذلك إلى أكاديمية العلوم بجوتنجن سنة 1838، وقد حاول هويتستون في إنجلترا أيضاً الوصول إلى اختراع التلغراف، ولكن النصر الأخير والفوز الأعظم جاء على يد موريس الأمريكي
مورس
ومن ذا الذي لم يسمع بموريس؟ أو من ذا الذي لم يسمع (بالنقطة) و (الشرطة) اللتين أتخذهما موريس نظاماً وجعل منهما رموزاً للحروف الأبجدية والأرقام وغيرها، فجعل حرف الألف من نقطة وشرطة، والباء من شرطة وثلاث نقط، ورقم الخمسة خمس نقط وهكذا. إننا نسمع دقات التلغراف في مكانها كأنها تنادي باسم موريس آنا الليل وأطراف النهار
وقد بدأ موريس حياته فناناً، بل وفناناً عظيماً، ويكفيه فخراً في هذا المضمار أنه الذي أسس أكاديمية الرسم الأهلية في نيويورك، وقد تلقى أصول دراسة هذا الفن في أوربا، وأثناء عودته إلى بلاده سنة 1832، خطرت له أول خاطرة في التلغراف، وتمكن من بناء أول تلغراف عقب ذلك في نفس السنة، ولكنه كان يعوزه المال اللازم لبنايته وعرضه على الناس، واضطر إلى الانتظار ولكنه في الوقت نفسه كان يعمل على إدخال التحسينات في تركيبه، حتى أوفى على الغاية من الإتقان، وتسنى له أن يعرضه على الناس سنة 1837(360/79)
في جامعة نيويورك، وأرسل أمامهم الإشارات التلغرافية مسافة 1700 قدم ونجح نجاحاً أثار الإعجاب، فمنحه مجلس الأمة الأمريكي مبلغ 30. 000 ريال، فأنشأ أول خط تلغرافي تجاري سنة 1844 بين واشنجتن وبليتمور
ذاع صيت موريس، واشتهرت فكرته، فذاع تلغرافه في إنجلترا وأوربا وأمريكا، وأتقن إتقاناً عظيماً في بضع سنوات حتى صار في الإمكان إرسال الرسائل التلغرافية مسافة مئات الأميال سنة 1850
جيوفاني فركا يحدثنا عن الملاريا
عندما يقرع الجرس من جديد للقطيع في السكون العميق تهرب العصافير دون ضجة والراعي نفسه الأصفر من الأصفر من الحمى والأبيض من الغبار يفتح جفونه الوارمة برهة ويرفع الرأس في ظل الخيزرانات اليابسة. لأن الملاريا هنا تدخل في الخيزران الذي تأكله فالملاريا تفاجئ السكان بغتة على الطريق المقفرة وتفاجئهم أمام باب البيوت المحرقة بالشمس مرتجفين منم الحمى تحت ملابسهم الواسعة مع الغطاء على الرأس.
والآن قد أنقلب كل شيء فتحت سماء إيطاليا أقوياء البنية وهم لا يشكون الآن من مرض الملاريا. وهي السكينا التي سمحت بهذا التغيير السكينا الدواء المعروف منذ سنة 1630 فلجنة الملاريا بجمعية الأمم التي تكرس نفسها خصوصاً لدرس المسائل المتعلقة بالملاريا تنصح لدرء هذا المرض بأخذ 400 ملليجرام يومياً من السكينا طوال موسم الحميات وإذا كان أصيب الإنسان بالمرض فالدواء الموصوف يلخص في علاج سريع المدة فيكفي أخذ جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام من السكينا كل يوم مدة خمسة أو سبعة أيام ولا داعي للمعالجة التكميلية ففي حالة الانتكاس يمكن تطبيق العلاج ذاته.(360/80)
العدد 361 - بتاريخ: 03 - 06 - 1940(/)
الخصومة الأدبية في الشرق
للأستاذ عباس محمود العقاد
كتب كثير من الأدباء في الخصومة التي حدثت بيني وبين الرافعي، أو بيني وبين شوقي رحمهما الله، فلم أجد فيما كتبوه مدعاة إلى التعقيب أو المناقشة، وآثرت السكوت عليه.
وقرأت للأستاذ الصديق صاحب الرسالة مقالاً عن رأي الرافعي فيّ وفي الدكتور طه حسين، فرأيت فيما رواه عن الرافعي رحمه الله مذهباً من الخصومة الأدبية يتبعه كثيرون في الشرق خاصة، ويأباه كثيرون ولا سيما في البلاد الغربية. فكتبت هذا المقال لأبين به خطتي في خصومة الأدب أو خصومة الرأي على الإجمال، وألمع به إلى موضع الاستقامة وموضع الانحراف فيما قيل حول هذا الموضوع.
وكنت أعلم أن الرافعي يقول عني أحياناً غير ما يكتب. روى ذلك الأديب الكبير محمد السباعي، ورواه صديقنا الكاتب المبين الأستاذ البرقوقي صاحب البيان، وكله في جملته يوافق ما رواه الأستاذ الزيات في مقال الرسالة؛ ومنه حرص الرافعي على كتمان هذه الشهادة!
ولم هذا الاختلاف بين السر والجهر، أو بين القول الخاص والقول العام؟
هذا هو أيضاً موضع الاختلاف بين خطتي في الخصومة الأدبية والخطة التي كان يؤثرها الرافعي وبعض الأدباء.
فأنا أقول الرأي بلهجة وأقوله بلهجة أخرى، وهذا قصارى ما أستبيح من الفرق بين الرضى والغضب والصداقة والخصومة.
أما الرأي في لبابه فلا يتغير ولا يتناقض، ولا يسعني أن أجهر بغير ما أكتم، وإن كنت لا أدين نفسي بنفخ الأبواق ودق الطبول تعظيماً لمن هجّيراه أن يتناولني بالتصفير.
روى صديقنا الزيات عن الرافعي أنه قال: (أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب؛ ولكنه ينفسّ علي قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان).
وهذا كلام فيه صواب وفيه خطأ. ونستطيع أن نتفق على موقعه من الصواب وموقعه من الخطأ إذا توخينا الإنصاف.(361/1)
فماذا كان رأيي الذي كتبته في الرافعي وأدبه؟
إنني كتبت عنه مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية للمنشئين.
وقلت إلى جانب ذلك أنني أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس.
فهل كان في وسعي أن أرى في أدب الرافعي غير هذا الرأي أو أشهد له غير هذه الشهادة؟
كان في وسعي نعم أن أقولها بلهجة غير التي كتب بها عني وكتبت بها عنه.
ولكن هل كان في وسعي بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وأبن سينا وكان وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعي من كبار المناطقة مع حسباني إياه من كبار المنشئين؟
هبنا توافينا على المودة ولم نفترق في الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التي كان رحمه الله يستكثر منها ويمعن في الاتكاء عليها، وهي لا تحتمل الاتكاء؟
فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأنني أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانت وابن سينا وهيوم.
ومن الذي يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل من الذي يستطيع أن يدحض الأمثلة التي ذكرتها ورددت إليها إنكاري عليه ملكة البحث الفلسفي والمنطق الصحيح؟
فمثل من تلك الأمثلة قول الأستاذ في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب إن الحيوان لا ينطق من اللغة الإنسانية إلا بما فيه معنى الطعام (وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً).
فقلت له إن كلمة الخبز بالألمانية تقابلها ألف كلمة في لغات الناس كافة تؤدي معنى الخبز وتختلف في لفظها أبعد اختلاف، وعلى هذا يجوز أن ينطق الكلب بكل كلمة تجري على لسان الآدمي لأن اختلاف الكلمات في لغة واحدة ليس بأصعب على الحيوان من اختلاف ألف كلمة بمعنى الخبز في جميع اللغات.
فهل هذا قياس صحيح؟ وهل هذا بحث في أسرار اللغات؟
وقلت له أن كلمة (سمك) تؤدي معنى الطعام، ولكن السين والميم والكاف تدخل في(361/2)
اصطلاح المهندسين والفلكيين. فلماذا لا ينطق الكلب بلغة الرياضة العليا كما ينطق بلغة الطعام؟
ومثل آخر من تلك الأمثلة أنه تعرض لرأي ابن الراوندي في إعجاز القرآن إذ يقول: (إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن، فقال: الدليل على صدق بطليموس أو أقليدس أن أقليدس أدعى أن الخلق يعجزون أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت؟).
تعرض الرافعي لكلام ابن الراوندي، فماذا قال في الرد عليه؟. . . إنه لم يكشف المغالطة الظاهرة فيه وهي أن أقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع كتاباً آخر أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز يشمله كما يشمل الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلاً له غير فضل الاهتداء إلى الحقائق الموجودة قبله والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى من معاني الإيجاد.
لم يكتشف الرافعي هذه المغالطة الظاهرة، بل راح يقول: (لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط. وإلا فأين كتاب من كتاب، وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على وصفه كما يطرد القياس عليه في قولنا: كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟).
كذلك خيل إلى الرافعي (رحمه الله) أنه رد على ابن الراوندي وما زاد على أنه وصفه بأنه حمار. فمن شاء أن يحسب هذا قياساً فليفعل وله حكمه على عقله. أما أن يحكم على العقول جميعاً بأن نقيس الآراء كما يقيسها، فذلك هو الشذوذ.
وقد نذكر هنا المثل الثالث والرابع والخامس والأمثلة الكثيرة لو كنا نريد الإحصاء والاستقصاء، ولكننا نريد التدليل ولا نبغي غيره. وفيما تقدم الكفاية.
فالذي قلته في أدب الرافعي هو الذي اعتقدته، بل هو الذي لا أقدر على اعتقاد رأي غيره(361/3)
إلا أن أنسى كل ما عرفت من كتب البحث والقياس.
والذي قلته في قياس الرافعي لا يقدر الصديق على أن ينفيه أو يقول بنقيضه؛ إلا أن تكون الصداقة على غير الحق والإنصاف ولو قنع مني الرافعي بأن أشهد له بالبلاغة وأن أنقد قياسه وبحثه على النحو الذي تقدم لما كانت خصومة ولا كان جدال.
ولكنه أعتد رأيي فيه تجاهلاً وقلة إنصاف، وزاد فاعتده من العداوة ورصد له ما يرصد للأعداء. وهذا هو أصل الخلاف.
أما ما قيل ولا يزال يقال عن الخصومة الأدبية بيني وبين شوقي رحمه الله فبودي مرة أن أقرأ كاتباً واحداً يقول: (إنك نقدت الشاعر في (كذا) وإن (كذا) هذه خطأ أقيم عليه الدليل، وهذا هو الدليل).
بودي أن أقرأ هذا لكاتب واحد من الذين يخالفونني في الرأي وينهجون في النقد غير النقد الذي أنتحيه.
ولكنهم جميعاً لا يزيدون على الصياح والاستهوال ثم الصياح والاستهوال: يا خلق الله الحقونا. . . يا خلق الله أسمعوا وأعجبوا. . . يا خلق الله تعالوا فانظروا من يقول أن شوقيا ليس بشاعر عظيم.
وهذا كل ما يقال، وهذا كل ما يعاد، ولا مناقشة لرأي ولا استشهاد بمثال.
ومنهم من يقولَّني ما لم أقل ويخرج صارخاً على خلق الله ليزعم أنني عظمت الشعراء جميعاً إلا شوقَّيا وحده، فقد خصصته بقلة التعظيم أكذلك حصل؟. . . لا. كذلك لم يحصل!
وكل ما هنالك أنني يحق لي أن آكل الجميز الجيد وأن أعيب التفاح الذي يعاب. والجميز بعد ذلك هو الجميز، والتفاح هو التفاح!
وأعجب العجب أن يبلغ الادعاء بهؤلاء أن يغلقوا كل باب للرأي غير رأيهم فلا يخالفهم أحد إلا إذا كان تأويل المخالفة الوحيد تِرَة شخصية أو قلة إنصاف!
ولو أنهم طلبوا الحقيقة لسهل عليهم أن يعرفوا أن طريقتنا تباين طريقة شوقي، وأن اختلاف المقاييس بيننا وبينه معقول وطبيعي ومردود إلى أسبابه التي لا نغضي عنها لو أردنا الإغضاء.
وأن ترة شخصية بيننا وبين شوقي لم تكن على حال من الأحوال. وليس في مقدور أحد أن(361/4)
يذكر سبباً لها لو اتجهت ظنونه إليها.
فكل ما قلناه في أدب شوقي فهو رأينا الذي أعتقدناه، ولا نحب أن يشير أحد إلى اللهجة التي قلنا بها، فإن بيان أسبابها وتسويغ موقعها لا يعسران علينا، ولا يخفيان على من يعلم أو يريد أن يعلم. . . فالإيجاز في هذه الإشارة أولى من الإفاضة فيها.
وبعد فالخصومة الأدبية لها مذهبان: مذهب الإيمان بالفضل وإخفائه على عمد، ومذهب الرأي الذي يتفق عليه الأصدقاء والخصوم وإن اختلفا في لهجة الأداء وعبارة الثناء.
وهذا هو مذهبنا الذي ندين به ونجري عليه في كل ما اختصمنا فيه. . . وعلى الذين يرموننا بقلة الإنصاف أن يرونا مبلغ إنصافهم لنا، إن كانوا. . . منصفين!
عباس محمود العقاد(361/5)
حركات الإصلاح الإسلامية
أزمة إسلامية؟
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الإسلامية من جامعة برلين ومدرس
بكلية الشريعة
أيوجد حقاً ما يسمى أزمة إسلامية؟ وهل صحيح أن الإسلام يجتاز في هذا العصر مرحلة اجتماعية خطيرة، وأنه يقف الآن عند نقطة فاصلة ويمر بدور حاسم في تاريخه، وسيبرهن على استحقاقه البقاء والخلود إذا مر بها صحيحاً سليماً؟
كانت هذه الأسئلة تتردد في نفسي وتضطرب وكنت أعالج منها ضيقاً وحرجاً عندما كنت أقرأ هذه الرسالة الصغيرة (الأزمة الإسلامية) للأستاذ ريشارد هرتمان
ترى هل أحسن المسلمون بهذه الأزمة التي لم تنل بالطبع عقيدتهم القوية وإيمانهم الصحيح الخالص، أجل. ولكنها نالت أمراً عزيزاً لديهم. نالت حياتهم في أشكالها المختلفة ومست قوانينهم وشريعتهم ونظمهم الاجتماعية، وأصبح المسلم مضطرباً في حياته تتقاذفه أمواج شتى من حضارة جديدة وأفكار حرة وتقاليد موروثة ودين راسخ، لا يجد التوفيق بين ذلك كله سهلاً ميسوراً، وهكذا فإن المسلمين في جميع البلدان الإسلامية يعانون أزمة وشدة تكاد تودي بحياتهم وقد أودت بها فعلاً في بعض البلاد.
لاشك أن الناس لا يقرؤون التاريخ الحديث للإسلام، أو كأنهم لا يفكرون فيه كتلة تضم المسلمين في أقطار الأرض، فهم يغمضون أعينهم عما حصل وما يحصل في تركيا وبلاد الهند الإسلاميتين من حركات وثورات، بل وما يحصل بين سمعهم وبصرهم في مصر حيث الحياة قلقة والنفوس ثائرة والإسلام ينقبض في عقر داره يوماً عن يوم، وحيث سلطان الشريعة الإسلامية ضعيف. أترى أن هذا لا يستحق النظر الجد والتفكير العميق، أو أنه يكفي الصراخ والعويل كلما خرج خارج من أفراد أو دول؟
حقاً أن رجال الأزهر وهم الذين يمثلون جبهة الدفاع عن الإسلام والذود عن حياضه بما عرفوا به من علم صحيح وفكر مستقيم هم وحدهم الذين شعروا بهذا الخطر الداهم الذي(361/6)
يهدد حياة المسلمين، وهم الذين أدركوا المنحدر الذي قد ينحدرون إليه، فهبوا يؤدون رسالتهم التاريخية في شجاعة وصبر، مضحين في سبيل هذا الواجب بهنائهم وسعادتهم غير مبالين بما يقف في طريقهم من صعاب لا يثنيهم عن عزمهم ما يبيته لهم الخصوم، ولا يصدهم عن مهمتهم ما يرميهم به ضعاف الإيمان، وهم من أجل ذلك في أزمة شديدة قاسية مضطربة نفوسهم وحياتهم أيما اضطراب.
في رسالة الأستاذ هرتمان بيان شامل دقيق لحركات المصلحين الذين تنوعت بهم طرق الإصلاح، واختلفت لديهم سبل التجديد تبعاً للثقافات المختلفة التي عرفوها والبيئات التي اتصلوا بها، فمنهم من رأى الرجوع إلى القديم والتمسك بالإسلام الأول، ومنهم من رأى الأخذ بالجديد كله، ومنهم من سلك سبيل التوفيق. وعلى هذا يدور البحث في هذه الرسالة القيمة التي سدت فراغاً كبيراً في الأبحاث الإسلامية الحديثة. والأستاذ هرتمان عالم هادئ الطبع اتصلت به أثناء دراستي ببرلين فعرفته يمتاز عن غيره ممن بحث في العلوم الإسلامية بنضوج الفكرة، والرجوع إلى الحق إذا ظهر له، لا يصدر حكمه إلا بعد تريث وترو في رفق وأدب. وهاأنذا أعرض عليك فصولاً من هذا البحث:
- 1 -
يقول الأستاذ: قلما تجد بين الأديان الكبيرة ديناً ينفذ إلى حياة معتنقيه كلها فردية كانت أم اجتماعية مثل الإسلام. ذلك أنه من وقت النبي والخلفاء أخذت السلطة الدينية فيه شكل الدولة السياسي، وبقي عدم التفريق بين أمور الدين وأمور الدولة - على الأقل في المبدأ - قائماً إلى الوقت الحاضر. وهكذا أليس الدين كل شيء ثوب التشريع والفقه، وقد طور عمل القرون المتوالية هذا الفقه إلى بناء هائل منظم لكل أنواع المعاملات والعلاقات الإنسانية تنظيماً دقيقاً، وأصبحت القوانين كلها ذات ثوب ديني تبعاً لهذا المبدأ الذي لا يفرق بين أمور الدين وأمور السياسة.
حقاً إن مثل هذا القانون قد تكون فيه قوة مادام حياً جديداً موافقاً للعصر المعمول به فيه، ولكن هذا كان إلى حد محدود، فإنه في أثناء تطوره لم يكن نافذاً معمولاً به على الإطلاق، لأنه في الحقيقة لم يكن من عمل الدولة وأعضائها، ولكنه كان عملاً للمؤلفين. وأخيراً عندما اقتنع الناس بأنه تجب متابعة الخلف للسلف الأول في كل أمر، وأن كان ما فصل فيه(361/7)
السلف الصالح مرة في وقت يجب أن ترتبط به الأمة الإسلامية في كل الأوقات. لما حصل هذا الفقه المحدد لكل حياة المسلمين في ثوبه الديني المقدس خطراً مهدداً يقف أمام كل إصلاح.
ولم يشعر أحد بهذا الخطر ولم يكن حاداً ظاهراً ما دام العالم الإسلامي على قمة الثقافة. كان هذا في العصور الوسطى، وكانت الحياة المسيحية إذ ذاك تشبه إلى حد ما، حيث كانت حياة المسيحيين تحت سلطان الكنيسة، وكانت هناك ثقافة ومدنية مسيحية كما كانت هناك ثقافة ومدنية إسلامية وكلاهما بالرغم من تخالفهما في العقيدة كانا متقاربين، ونشأ ومن ورائهما ثقافة وثنية. وبينما كان الدين في الغرب يرجع إلى الوراء وتضيق حدوده أثناء مرحلة التطور من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وتحل محل المدنية المسيحية للعصور الوسطى مدنية وطنية - بقي الإسلام سائراً في طريقه القديم القائم على الدين - ومن هنا كانت الثغرة بين الشرق والغرب واسعة، وبقى للشرق وللغرب كل له لغته الخاصة إلى يومنا هذا.
وأخيراً نوقشت مسائل التاريخ، وفتح المسلمون أعينهم على وضع المدنية الإسلامية للقرون الوسطى إزاء المدنية الحديثة. فماذا كانت النتيجة؟
إن العالم الإسلامي يف الآن عند نقطة فاصلة، فهو في أزمة، فهل قطع الإسلام - الذي يظهر مرتبطاً بالعصور الوسطى - كل شوطه وأتم القيام بدوره؟ وهل هذا المرض الباقي إلى الآن من الإسلام نفسه؟ أو أن الإسلام كدين متفق مع الإصلاح الحديث؟ وهل يستطيع الإسلام أن يتخلص من تأخر العصور الوسطى التي ارتبطت به؟ وهل هو في نفسه صالح وقادر على التطور؟
على جواب هذه الأسئلة يتوقف كيان الإسلام كدين، بل حتى في الأمور السياسية والاقتصادية بالنسبة لمستقبل الشعوب الإسلامية.
ولقد كانت مسألة عدم استطاعة الإسلام لإصلاح حقيقي، وعدم صلاحيته للتقدم، عقيدة سائدة عند الغربيين منذ عشرات السنين، ولم تكن هذه العقيدة سائدة عند (أهل التبشير)، وفي أوساط المبشرين الذين لا يفهمون عن الإسلام إلا صورة ناقصة جداً وغير صحيحة، بل أن الأمر تعدى إلى بعض مؤرخي الأديان مثل رينان الذي كان يقول: إن الإسلام عدو(361/8)
للعلم. بل قد تعدى إلى بعض السياسيين العارفين بشئون العالم الإسلامي مثل اللورد كرومر الذي حكم على الإسلام حكماً قاسياً حين قال: إن إصلاح الإسلام يخرج الإسلام عن أصله
ونحن لا ننكر أن ما قيل من أن الإسلام عدو للإصلاح وليس ملائماً للأفكار الحديثة، قد يكون له بعض الأسباب، ولكنا هنا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعرض لأحوال غير مفهومة لعوام المسلمين الذين أثبتت الملاحظات شيئاً من تعصبهم.
فإن ذلك كله لا يرجع إلى الدين الإسلامي نفسه، بل إلى العناصر والبيئات التي حل فيها، أو إلى ما انتشر بين الناس من أن الإسلام ليس إلا تكراراً لليهودية والمسيحية، فمثل هذه الأشياء قد تكون موانع للإصلاح، ولكنها على أقصى حد أمور تبعية شكلية وليست أموراً أصلية. وأنه من البعد عن موضوع البحث أن نتكلم عن هذه الظواهر الشعبية في الإسلام، التي هي عبارة عن توفيقات بين تعاليم الدين وبين ما هو متأصل قديم في الشعوب من إفهام ضعيفة وأخرى ساذجة. ولكي يحكم الإنسان على جماعة دينية لا بد له من أن يحكم على مبادئها الصحيحة، وفي الإسلام يجب علينا أن نفهم مبادئه بكل وضوح، وأن نستبعد عنه ما ارتبط به من إفهام العوام، وحينئذ فقط يكون صحيحاً سليماً.
ولسنا في حاجة اليوم - لكي نفهم الإسلام في أطواره التاريخية - أن نقرر أنه لا يجوز لنا أن نرجع مباشرة إلى صحاب الرسالة (ص) كما نعرفه تاريخياً، فإن جاز لنا ذلك فإن الأمور تكون في غاية البساطة، لأنه ليس من شك أن النبي - الذي لم يكن نبياً فقط بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، بل كان سياسياً يدير أمور الدولة - كان في الحقيقة واسع الأفق في دعوته ويحسب للأمور حسابها. وجوابه المعروف: (أعقلها وتوكل) كلام له مغزاه، ويجب أن لا ننساه في مجرى التطورات الأخيرة في الإسلام.
ولكن الواقع أن الرجوع إلى ما كان عليه الرسول فقط لا يعرفه الإسلام التاريخي على ما هو عليه كجزء من حقيقته الصحيحة، فإن الإسلام كما يعتقد أهل السنة ليس إلا نتيجة لتطور طويل كثير التقلب. ذلك أنه لم يكن الإسلام في عهد الرسول إلا إيماناً سهلاً وقوانين للحياة بسيطة. وعندما انتشر بهذه السرعة الفائقة في بلاد ذات ثقافات مختلفة غير التي كانت في مهده الأول، دعا الأمر إلى تحوير وتشكيل. وهكذا تم للإسلام إضافة أشياء إليه أثناء امتزاجه بالتراث العقلي الذي كان عند سكان الأمم المفتوحة. حتى أمور العقائد التي(361/9)
بقيت بعد كفاح شديد مقصورة على مبادئ قليلة خضعت لجولات واسعة حرة من الشرح والتفسير. وكان أكثر شيء توسعاً وازدياداً هو تنظيم أمور الحياة أو بعبارة أخرى الفقه والقانون.
ولكن هذا الفقه الإسلامي الذي كان في نوعه دينياً سياسياً وثقافياً، والذي كان منذ اللحظة الأولى أمراً لا يقبل التغيير، أقفل نهائياً وختم في نهاية القرن الثالث الهجري تقريباً، فوقف نشاط حركة دينية سياسية ثقافية نشيطة سنلم بأسبابها في المقال الآتي.
علي حسن عبد القادر(361/10)
إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
حين تصل هذه المقالة إلى الرسالة، يكون الركب الذي خرج من دمشق منذ أسبوعين يؤم الحجاز قد شارف المدينة إن شاء الله. وهو أول ركب من الزوار يسير على الطريق الذي كشفناه، وفيه قريب من ثلاثمائة رجل وامرأة، ووصوله سالماً إلى المدينة، وذلك بفضل الله مؤكد، هو الثمرة الأولى لرحلتنا الكشفية التي رحلناها في ربيع 1935. ولقد كان أول ما خطر على بالي دعيت إليها وضع كتاب عنها، فكنت أتأبط دفتري دائماً، فلا نسلك طريقاً، ولا نقطع وادياً، ولا نرى جبلاً، إلا كتبت اسمه وصفته، وطبيعة أرضه، ولا يمر على قوم إلا سألت عن أنسابهم وأحوالهم، ووصفت مساكنهم، وذكرت ما عرفت من عاداتهم، وسمعت من لغاتهم؛ ولا بتنا ليلة إلا ذكرت كيف حططنا الأحمال، وكيف نهضنا للارتحال؛ ولا أرى منظراً، أو أشهد مشهداً، إلا ذكرت أثره في نفسي، وما أثار فيها من عاطفة، أو هاج من ذكرى، على ضبط في الأرقام، وتحر في جمع الأخبار، وتوثق من صدق الراوي وخبرته، حتى إذا دنونا من المدينة وأوفى الكتاب على الكمال، وقارب النهاية، امتدت إليه يد لا يعلمها إلا الله فذهبت به، فأيست منه وأهملته، وجعلت لا أكتب شيئاً، ولا أدون خبراً، إلا ما كان في طريق العودة فهو مكتوب عندي، وما كتبت من المقالات في مجلة الرسالة وغيرها.
وعدت إلى دمشق فانغمست في عملي، ثم ضرب الدهر ضرباته فسافرت إلى العراق أولاً وثانياً، وعملت سنة في لبنان أدرس فيها، وحسبتني نسيت الرحلة ونسيها الناس، حتى كان هذا الشهر وحقق الله ما ذهبنا إليه، ورأت دمشق اليوم الموعود، فسافرت أول قافلة من الزوار، وألح على الأصدقاء، وأعادوا الطلب مني أن أنشر وصف تلك الرحلة، فأجبت مكرهاً ونفضت ذهني، فكتبت ما بقي عالقاً به وجعلت غرضي أن أدون ما رأيت وما سمعت، وأسجل ما أحسست به وشعرت، من غير أن أعمد إلى كتاب من كتب التاريخ أو(361/11)
رحلة من الرحلات، فآخذ منها الفصول والأخبار والأرقام، وأن أعرض على القارئ صورة من الحياة البدوية، إذا هي لم تكن محيطة شاملة، ولم تكن كافية وافية، فهي صحيحة ثابتة، ليست متخيلة ولا مبالغاً فيها، فإن أحسنت فلله الحمد، وإن أسأت فالذنب على من سرق (دفتري) عفا الله عنه وسامحه
وبعد، فهذه رحلة كشفية سلخنا فيها شهرين اثنين وقطعنا فيها خمسة آلاف كيل في الصحراء. . . وركبنا فيها من الأهوال ورأينا من العذاب ما لو سردناه وفصلناه لكان أشبه شيء بالأساطير.
ولم تكن هذه الرحلة من أجل التسلية أو النظر في عجائب المخلوقات وغرائب البلدان، ولا للكسب والتجارة، ولا لشيء مما يرحل أفراد الناس من أجله عادة، بل كانت لمصلحة عامة، وغاية اجتماعية، تعود على بلاد الشام وأرض الحجاز بالخيرات الجمة والفوائد الكثيرة، هي فتح طريق للسيارات بين دمشق والمدينة يسهل على الناس أمر الحج ويرغبهم في أدائه ويوفر عليهم صحتهم ومالهم. ولم تكن هذه الرحلة رحلة واحد يهتم به أهله وأصحابه، ولا جماعة يعنى بهم أقرباؤهم وذووهم، ولكنها رحلة وفد من وجوه الشاميين وسراتهم وتجارهم. وكان الشاميون جميعاً يتبعونهم بأفكارهم ويرافقونهم بقلوبهم وينتظرون البرقيات منهم ويتسقطون أخيارهم، فإذا انقطعت أياماً انتشر القلق وساد الذعر وهاجت الجرائد، وأقبل الناس يسألون عن أبنائهم وإخوانهم. . . فتهتم لذلك حكومة الشام ومملكة الحجاز، ثم لا ينقطع القلق ولا تسكن النفوس حتى يعرف خبر الوفد وتجيء منه برقية أو رسالة.
وكان أول عهدي بهذه الرحلة أن لقيني الشيخ ياسين الرواف المعتمد السابق للملكة العربية السعودية في دمشق، فقال لي: لقد عزمنا على اختراق الصحراء إلى المدينة، نكشف طريقاً للزوار برياً، فهل لك في مرافقتنا؟
قلت: نعم، ومضيت في سبيلي وأنا أراها أمنية من الأماني وأعلم أن بضاعتنا إنما هي الكلام، وأن الوفد لن يسافر، والطريق لن يفتح، ولذلك قلت نعم، وأجبته إلى السفر. وهل كان يسعني أن أقول له غير ذلك؟ تصور بالله مسلماً يستقبل البيت خمس مرات كل يوم، ويحن إلى هاتيك المعاهد، ويرى زيارته منيته ومبتغاه، وعربياً يحب الصحراء ويعرف(361/12)
أخبارها، ويحفظ آدابها، ثم يدعى إلى قطع الصحراء وزيارة الحرم، هل يقول لا؟ هل يرفض الوقوف أمام الحجرة الشريفة، والقيام في الروضة، والصلاة حيال الكعبة، والشرب من زمزم، والسعي بين الصفا والمروة، وزيارة هاتيك البقاع المباركة التي ولد فيها الإسلام ودرج، وعاش فيها سيد العالم صلى الله عليه وسلم، ويأبى أن يخالط العرب في أرضهم، ويعرفهم في ديارهم، ويرى عياناً ما كان يقرأ خبره في الكتب، ويعرف أخباره على السماع؟
ولقد كنت أعلم أن هذه الرحلة جراءة على الموت واقتحام للخطر، وهجوم على الصحراء الهائلة التي طالما ابتلعت من أمم وأبادت من جيوش، ولكن ذلك كله يرغبني في الرحلة ويحببها إلي، لما ركب في طبعي من حب المغامرة والإقدام، ولأنها درس من دروس الحياة لا أجده كل يوم، هذا الدرس الذي من فصوله الصبر والجرأة والحزم والعزم والوحدة والنظام، يحتاج إليه كل شاب ينشاً في بلاد ليس فيها نظام عسكري كالبلاد الشامية؛ وأن الشبان الذين ولدوا في الحرب العامة أو قبلها بقليل قد فقدوا لطول ما نشأوا على النعم وتقلبوا في الترف طرفاً من الرجولة، وغدوا لما وجدوا من السلامة وفقدوا من المصاعب يميلون إلى التطري والتأنث، ويخشون الخروج من المدن ويهابون الحياة في الريف؛ حتى أن إخواننا من المعلمين إذا أمر أحدهم بالانتقال إلى قرية من القرى فكأنما أمر بالانتقال إلى جهنم. وما ذلك لسوء عيش القرى فليس في القرى إلا صحة الأجسام وصفاء النفوس وجلاء النظر وراحة الفكر، بل لأنه لا يجد في القرية (قهوة) ندياً فاسد الهواء مسدود الأبواب، يجتمع فيه مائتان أو ثلاثمائة على نفخ الدخان، وقرع النرد، وحديث كأنفه ما يكون من الحديث، ونكات كأثقل ما يكون من النكات - ولو أن الشباب ألفوا المغامرة وركوب الأهوال، لما كان من ذلك شيء ومرت أيام ثم لقيني الأستاذ الرواف كرة أخرى فقال لي: هلم فقد تقرر موعد السفر.
فأسقط في يدي ووقعت بين مشكلتين: مشكلة الوعد، ومشكلة الوظيفة. فلا أنا أستطيع أن أضحي بوظيفتي ومنها معاشي ومعاش أسرتي، ولا أنا أستطيع أن أخلف وعدي. ولو أني وعدت غير الشيخ ياسين لهان الأمر، ولكن الرجل نجدي سلفي لا يعرف من كلمة نعم إلا أنها وعد مبرم لا يحله إلا الموت؛ فاخترت الوفاء ولو خسرت الوظيفة وقلت له: أنا(361/13)
حاضر!
ثم يسر الله فسمحت لي الوزارة بالسفر، وذهبت أعد الجواز. وجعلنا كلما أزمعنا السفر، وودعنا الأهل والأصحاب، عرضت لنا الموانع، فأخرتنا حتى ضجرنا واستحيينا من الناس لكثرة ما نعزم ثم نقعد، وكان أكثرنا قد أقلع عن حلق لحيته ليوفرها، ويجمع منها لحية كبيرة، لما ظنوه أن الرجل هناك بلحيته، فكلما كان أطول لحية كان أعلى مقاماً. . . فكانوا يأسفون عليها ويضنون بها على الخلق، ويستحيون أن يواجهوا الناس بها، لأن هذا الزمان جعل المعروف من السنة منكراً يستحيا منه، والمنكر من البدعة معروفاً يفتخر به. ولبثنا على ذلك أياماً، ثم عزمنا العزمة الأخيرة، فبيتنا ثقلنا في المرأب (الكاراج) حتى نغدو مسافرين. فلما حملناه ورآه أصحابنا وجيراننا جاءوا يودعوننا الوداع السابع ونحن لا ندري أهو الوداع حقاً، أم سنقيم بعده أياماً وليالي أم لا نسافر أبداً.
كنا في المرأب مع الفجر، وجعلنا ننتظر حتى تطلع الشمس، وكان الضحى، وأذن الظهر، وكان العصر، فأيسنا، وهممنا بالانصراف ولكن السيارات حضرت، وتحقق الرحيل، وكانت أربعاً من طراز (البويك) وواحدة من (الناش). وقد رفعوا على السيارة الأولى علماً سعودياً، وعلقوا في صدرها لوحة كتبوا فيها (الوفد السوري لاكتشاف طريق الحج البري). وسرنا وسار وراءنا المودعون في قطار من السيارات الكبيرة ما له آخر يعرف، حتى لقد ظننت أنهم لم يدعوا في البلد سيارة إلا استاقوها، واخترق الموكب مهللاً مكبراً تهتز له الأرض. . .
ولم أكن قد أيقنت بالسفر إلا في تلك اللحظة. فلما تصورتني كيف أفارق أهلي وموطني، وأطوح بنفسي في هذه الصحراء المخيفة، استعبرت. وكنت أطل على بردى، وهو يجري زاخراً فأنامله، فأجده أحلى في عيني مما كان، وأحب إلى نفسي، وعز علي أن أفارقه، واستفاقت في ذهني مئات من الذكريات، وكرت على حياتي كلها كأنها (فلم) أراه، فأبصرت في كل بقعة من دمشق، وكل طريق من طرقها قسما من حياتي. . . وهل حياة المرء إلا في قلوب أصدقائه، ووجوه أصحابه، وجوانب داره، ومشاهد بلده؛ فإذا فارق أهله، وغادر بلده، إلى بلد لا يعرفه، وأهل لا يألفهم، فكأنما مات نصف ميتة. ومن أجل ذلك كانت الهجرة جهاداً في سبيل الله، ذلك لأنها لون من ألوان الموت، ولكن صاحبها ميت(361/14)
يعيش ليتألم، والميت مات فاستراح.
واستغرقت في هذه الأفكار فما صحوت إلا والموكب قد بلغ (بوابة الله) ووقف في ظاهر دمشق، ولم يعد موكباً وإنما صار طوفاناً من البشر، ولجاً طامياً من الناس، وكان من ثقله يزحف زحفاً، ويكبر فيزلزل الأرض، ويهتف فيشق عنان السماء، فلما بلغ (البوابة) وقف للوداع. . .
(لها بقايا)
علي الطنطاوي(361/15)
النقد الرخيص
للأستاذ محمد محمد المدني
لا شك أن النقد أمر لا بد منه في قضايا العلم والبحث، وأنه ما دامت العقول المفكرة، والأقلام الكاتبة، فلا بد أيضاً من الآراء المتضاربة!
ذلك أن الناس يختلفون فيما يصدرون عنه اختلافاً شديداً تبعاً لاختلاف حظوظهم من العلم والعقل والتفكير ودرجة التأثر (بالعرف الطائفي) و (البيئة الخاصة):
هذا كاتب يستطيع - حين يعالج موضوعاً من الموضوعات - أن يخلص للحق فيه أكثر من إخلاصه لأي شيء سواه، فتراه يخلع ما عسى أن يكون له من آراء كونها لنفسه باعتباره عضواً في بيئة خاصة، أو متأثراً بظروف معينة، بل كونتها له هذه الظروف وتلك البيئة من حيث لا يشعر؛ فإذا خلع هذه الآراء وتحلل منها - ولو مؤقتاً - ولم يجعل لها سلطاناً على تفكيره، ولا أثراً في طريقة بحثه، استطاع أن يصل إلى النتيجة التي يبتغيها وهو أبعد من مزالق الخطأ، وآمن من مواقع الهوى!
أما إذا فرض الكاتب على نفسه ثقافة معينة أياً كانت قيمتها فسلم بقضاياها، واطمأن إلى عرفها، واستراح إلى أحكامها، ثم تناول ما يريد من بحث على هذا الأساس؛ فقلما يصاحبه التوفيق أو يصادفه النجاح، لأنه إذا صادفه في أثناء بحثه ما يخالف هذه القضايا التي آمن بها واطمأن مقدماً إليها، نفر منه وضاق صدراً به فاضطرب لذلك ميزان تفكيره واختل معيار منطقه!
ولا تجد شيئاً أضر على العلم، ولا أسوأ أثراً في العقل، ولا أشد إفساداً للرأي، من التعصب وإدخال (الطائفية) في محال البحث والنقاش. ذلك أن العلم والعقل والرأي ليست وقفاً على طائفة من الناس دون طائفة، وليس أحد أولى بأن يزعمها لنفسه من أحد، وليس لمنصف أن يحكم فيها عرفاً دون عرف، أو ثقافة دون ثقافة، وإلا خرج من دائرتها، وتحلل من منطقها!
ومن هنا يأتي النقد، ومن هنا أيضاً تختلف قيمته، فيكون بعضه غالياً ثميناً، وبعضه مبتذلاً رخيصاً. وتختلف كيفيته، فيكون بعضه هادئاً نزيهاً، وبعضه هائجاً سفيهاً! وكل ذلك بحسب اختلاف معينه الذي فاض عنه، أو إنائه الذي نضح به!(361/16)
ففي ناحية التفكير الرشيد، والعقل المتزن، والعلم الموثوق به، تجد النقد الهادئ، والرأي السديد، والأسلوب الراقي، واللفظ المهذب! وفي ناحية التفكير القاصر، والأفق المحدود، والعلم الذي هو أشبه بالجهل، تجد النقد الهائج، والرأي الفطير، والأسلوب الوضيع، واللفظ البذيء!
ولهذا وذاك أمثلة فيما يطلع به الناقدون على الكاتبين من نقد أو اعتراض، وفيما تجري به حركاتهم وألسنتهم من فعل أو قول.
ولو شئنا لمثلنا هنا بما نعرف فلا سودت وجوه، وابيضت وجوه! ولكنا نعرف أن الموازنة على هذا النحو تؤلم نفوساً لا نحب لها أن تألم، وتقض مضاجع عزيزاً علينا أن تقض، فحسبنا أن نجعل على ذلك علامة يلمح بها ما نريد أن نفضحه، من (النقد الرخيص)
إذا أردت، أيها القارئ الكريم، أن تعرف قيمة النقد فانظر إليه فإن وجدت صاحبه يبحث في الجوهر واللباب، دون العرض والقشور، ويطيق أن يشرح بالحق صدراً، ويعترف به جهراً، في أسلوب عفيف، ولفظ مهذب، فذلك هو (النقد الثمين)
وإن رأيت صاحبه يشغل الناس بغير الحديث، ويهرب من مواجهة الحق، ولا يكرم قلمه أن يسيل بالألفاظ النابية، والكلم الجافية، كأن يرمي الذي ينقده بالجهل، وسوء النية، والملق، والضعف، والعقوق، والفسوق، وغير ذلك من الأوصاف، فاعلم بأن هذا هو (النقد الرخيص)
وإنما كان كذلك لأنه لم صاحبه جهداً، ولم يتقاضه تفكيراً ولا تعباً، فقصاراه أن يكون مجموعة من القول السيئ لزت في قرن، ثم قذف بها صاحبها في وجوه الناس، فأبت إلا أن تعود إليه لتلتصق به!
وقد عني القرآن الكريم بأن يرسم للناس طريق الأدب في هذا المجال واضحاً، وأن يضرب فيه الأمثال، والله بكل شيء عليم! (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)
(ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء. تؤتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة(361/17)
كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)
(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)
وينبغي على كل حال أن يغتبط الكاتب ذو الفكرة بما يتطاير حوله من سهام النقد، أو يثور عليه من غبار الاعتراض، فإن ذلك دليل واضح على أن فكرته قد وضعت موضع النظر، وأنها جديرة بالأخذ والرد والمناقشة والجدال
أما الفكر الهزيلة الساقطة فهي التي تولد فلا يحس بميلادها أحد، وتموت فلا يشعر بفقدها أحد، وصاحبها في الحالين مغمورٌ مغمور!
وينبغي أيضاً أن يكون الكاتب - مع اغتباطه بما يرى من الاهتمام بفكرته - مترفعاً محتفظاً بمستواه، فلا يغريه إخلاصه للفكرة، وتفانيه الذود عنها، بأن ينازل غير الأنداد، فيجادل فيها الوضيع كما يجادل الرفيع، ويناقش الجاهل كما يناقش العالم، ويعامل المكابر المعاند بما يعامل به المستوضح المتثبت، ويسوى بين (النقد الرخيص) و (النقد الثمين) فإن في الناس من يجعل ذلك حيلة، ويتخذ منه وسيلة، ليطير ذكره ويذيع اسمه. فليحذر الكاتب هذا النوع من الناقدين وليفوتوا عليهم قصدهم، ويعكسوا - بإهمالهم - غرضهم!
وفي مثل ذلك يقول بشار بن برد: (هجوت جريراً فأعرض عني واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس)
وقد اعتذر مسلم بن الوليد عما ترك من هجاء دعبل الخزاعي بأنه ليس كفئاً لهجائه، وأن عرضه أدنى من أن يهجى، فهو يتركه لهذا الغرض الدقيق. قال:
أما الهجاء فدق عرضك دونه ... والمدح عنك كما علمت جليل
فاذهب فأنت طليق عرضك إنه ... عرض عززت به وأنت ذليل!
وكما ينبغي للكاتب أن يحتفظ بمثلها للمنبر الذي أشرف على الناس منه، فإذا كتب كاتب في (الرسالة) مثلاً فعليه ألا يشوه جمالها بما يرد فيها على (النقد الرخيص) ينشر في غيرها
تلك شرعة النقد والكتابة عندي، وأنا أولى بأن أطبقها على كل من نقدني فأسرف
فيأيها الذين نقدتم فأسرفتم، ويأيها الذين نبا بكم القلم حين كتبتم: اذهبوا جميعاً فأنتم الطلقاء!(361/18)
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة(361/19)
كفاءة هتلر الخطابية
للأستاذ عباس محمود العقاد
(يصدر في هذا الأسبوع كتاب جديد لصديقنا الأستاذ الجليل
عباس محمود العقاد عنوانه (هتلر في الميزان)، وهو دراسة
تحليلية مستفيضة لهذا الطاغية الشاذ بلغت مائتين وأربعين
صفحة في خمسة فصول وعشرات من الموضوعات شملت
نواحي هذه الشخصية التي بلبلت العالم وزلزلت الأرض.
ويسرنا أن نبادر فنقدم إلى قراء الرسالة هذه الصفحات من هذا
الكتاب القيم لنعجل لهم بعضاً من لذاته، ونعرض عليهم وجهاً
من طريقته)
في كل شهرة خطابية منافذ للمبالغة والإطناب لا بد منها في كل زمان، وفي زماننا الحاضر خاصة
ومنافذ المبالغة والإطناب هذه تأتي من مصادر متعددة: بعضها بريء وبعضها متهم، ومنها المقصود المدبر، ومنها الذي يحدث على غير قصد وتدبير
فأول مصادر المبالغة والإطناب جمهور السامعين، وهم كدأب الجماهير يحبون أن يتأثروا وأن يخلقوا لأنفسهم دواعي الحماسة والمغالاة، وأن ينوموا أذهانهم تنويماً يسهل لهم أن يعتقدوا ما يحبون اعتقاده، وأن ينساقوا في موجة من الشعور لا تطيق الحدود، ولا تقف دون الإعجاب الكامل. لأن الوقوف عند حد من الحدود المعقولة يفسد الحماسة، وليس إفساد الحماسة مما تطيقه الجماهير.
وهي، أي الجماهير، طبقات من هذه الخليقة: ترتفع أو تهبط، وتعتدل أو تجمح مع الشطط، على حسب موقفها من الخطيب وموضوع الخطابة.
فإذا كان موضوع الخطابة نعرة قومية أو شهوة عدائية يشترك فيها الخطيب والسامعون،(361/20)
فالجمهور في هذه الحالة على استعداد للحماسة والإطناب بغير مقدرة كبيرة في الخطيب.
وإذا كان السامعون مرؤوسين لذلك الخطيب، أو أتباعاً متشيعين لحزبه، يكرهون الغض منه لأنهم يحسبونه غضاً منهم، ويحبون إكباره لأن كبره منسوب إليهم، فهم إذن أكثر استعداد للحماسة والإطناب.
وإن كانوا فوق هذا صغاراً ناشئين يفورون بحرارة السن الباكرة فأحرى بهم وهم جماعات وجماهير أن يستسلموا لما يسمعون، وألا يجشموا الخطيب معجزة الإبداع، ليستجيش بها قلوباً هي من قبل ذلك لا تهدأ من الجيشان.
فأدنى الجماهير إلى التسليم هو جمهور صبية ناشئين يصغون إلى زعيم يفخرون به فخر العصبية، ويسمعون منه صيحة الكبرياء الوطنية. . . وهذا هو جمهور هتلر في جميع المواقف، إلا القليل الذي لا يذكر.
وقد شهد الناس في مصر مجامع يحتشد لها السامعون زرافات زرافات من جميع الطوائف والأسنان، ليسمعوا كلاماً يعلمونه ويحفظونه، من خطيب لا يعجب السامع بصوته ولا بإيمانه. . . بغية الاجتماع في الواقع لا بغية الاستماع
ثم تتكرر الدعوة ويتكرر الإقبال ويتكرر التصفيق الذي لا باعث إلا الرغبة في شيء يثير الشعور ويدفع السآمة و (يبرر) للجمهور وجوده وسعيه وانتظاره، ويربحه من الحكم على (وجوده) بالفناء. والفناء كربة إلى كل موجود، جمهوراً كان أو غير جمهور!
وفي وسعنا أن نشهد كل يوم حشداً من الناس يبذلون من مالهم ليستمعوا إلى ممثل مضحك مشهور في دور من الأدوار.
فما هو إلا أن يلفظ الكلمة الأولى حتى ينفجر السامعون بالضحك والقهقهة. وربما سأل أحدهم جاره: ماذا قال؟ بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين!
فالمصدر الأول للمبالغة والإطناب في شهرة الخطباء هو أبرأ المصادر وأخلاها من الغش وفساد الذمة، وهو دفاع الجمهور عن وجوده حيث انتظم له وجود.
والمصدر الثاني وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير: وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار
فإن الصحيفة الإخبارية لتتعمد التهويل والإغراق في وصف حادثة لا تستحق الالتفاف(361/21)
إليها. لأنها تريد من القراء أن يلتفتوا؛ وتعيش من التفاتهم إلى ما تكتب. لا من تعويدهم أن يهملوا الأخبار التي تستحق الإهمال
والكاتب الذي يسافر ألف ميل لينقل خطبة يلقيها أحد الزعماء في يوم مشهود مرتقب المصير من المغرب إلى المشرق قد يفقد وظيفته إذا قنع بما دون السحر والإعجاز في وصف ما سمع وما رأى، وما لبث الناس ينتظرونه ويتكهنون به متشوقين متلهفين!
وقد تتفق الرواية الأمينة في الصحيفة الرصينة فيقرأها العارف المسئول ويعرض عنها طالب المناظر والعناوين، ممن ينظرون إلى مسرح السياسة كما ينظرون إلى مسرح التمثيل، وهم جمهرة القراء والنظارة في كل مكان، فيتواتر النبأ المبالغ فيه، وينقطع النبأ الذي يحرص على الصدق والأناة، وينتهي الأمر برواج الكذب والتلفيق، وبالشك في الصدق والأمانة.
فمبالغة السامعين ومبالغة الرواة ملازمتان لكل شهرة سياسية في كل زمان ولا سيما زماننا الحاضر: زمان النشر والإذاعة، وزمان التشوف إلى الجدة والغرابة ودفع الملل والسآمة.
ويأتي بعد المبالغة السامعين ومبالغة الرواة مصدر آخر من مصادر التهويل في الشهرة الخطابية قائم على النية السيئة والخطة المرسومة، ونعني نه مصدر الدعوة المسخرة والأقوال المأجورة، وهو سلاح يعتمد عليه النازيون خاصة فوق اعتمادهم على سلاح الميدان وجميع هذه المبالغات قد بلغت في تعظيم شهرة الزعيم النازي أقصى ما يتاح لشهرة أن تبلغ على الإطلاق: فاهتمام النازيين بالدعوة المسخرة قد جاوز كل اهتمام وجمهورهم أقرب الجماهير إلى التسليم والاستسلام، وحملة الأقلام ما فتئوا عدة أعوام يتنافسون في إشباع نهمة القراء بين جميع الأقوام.
فمن الطبيعي إذن أن تكون حقيقة هتلر الخطابية أقل كثيراً من شهرته التي أذاعها الدعاة والصحفيون والسامعون من أتباعه ومريديه، وأن يدخل في حساب شهرته كثير من المبالغة والاختراع و (الإخراج).
ونحن في عصر نسمع فيه الخطباء ونراهم على بعد، ونحكم على المتكلم في برلين أو موسكو أو واشنطن حكم راء وسامع، فما على المذياع ولا على الصور المتحركة من بعيد.
وقد رأينا هتلر وسمعناه(361/22)
فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر؛ وأنه لا يعد من طبقة الخطباء الذين يخاطبون كل جمهور ويتكلمون في كل قضية ويروضون عصى الأسماع، ولا تخاله يحسن القول بضع لحظات في موضوع غير الموضوع الذي يقلبه منذ عشرين سنة، أو بين أناس غير الذين يوافقونه في الجملة، ولا يخالفونه - إن خالفوه - إلا في التفصيل.
فليس هو في إفاضة بريان، ولا في بادرة لويد جورج، ولا في مهابة سعد زغلول.
ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرر دوره حتى حفظه ووعاه ووقع فريسة له فلا يقدر على تبديله
تخيله مثلاً غير غاضب، أو غير متكلم في مظالم ألمانيا المزعومة، أو غير مطمئن إلى آذان سامعيه
وتخيله واقفاً في لندن أو في موسكو أو في القاهرة يفاجئ السامعين على غير معرفة باسمه، ولا عهد بموضوع كلامه
إنه إذن ضائع لا محالة
وعيبه الأكبر أنه لا يقنع ولا يقيم الدليل، وأنه ما خرج قط على عادة واحدة تتردد في جميع مواقفه وموضوعاته، وهي إثارة الحفائظ وإضرام الكراهية ومواجهة السامعين من جانب الشعور المتفق عليه بينه وبينهم. . . وفيم اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟
ومرجع هذه العادة عنده إلى علل كثيرة: بعضها أصيل عالق بطبعه؛ وبعضها حديث طارئ عليه من حوادث حياته وعصره فالحديث الطارئ عليه هو هذا الذي ذكرناه؛ وهو أنه تعود في أيامه الأخيرة على الأقل أن يخاطب أناساً لا يحاسبونه ولا يجسرون على حسابه، ولعلهم لا يريدون أن يحاسبوه لاتفاق الشعور بينه وبينهم.
والأصل العالق بطبعه أنه فقير في العاطفة الشخصية، غني في العاطفة الشعبية أي العاطفة التي تربط بين الفرد والجماهير والعاطفة الشخصية هي التي تربي المساجلة والمحادثة، ومواجهة العقل للعقل، والنفس للنفس، والإصغاء في موضع الإصغاء، والإثبات بالحجة في موضع الإثبات.(361/23)
فالرجل المفطور على عاطفة يساجل بها العواطف، وفكرة يقابل بها الأفكار، يقول ويسمع، ويستميل الفرد بالوسائل التي يستمال بها الأفراد، مرة بالإيحاء، ومرة بالدليل، ومرة بالشرح المفهوم؛ وفي كل مرة بتبادل الثقة والاعتراف بحق المناقشة والاعتراض.
أما الرجل الذي نضبت نفسه من جانب العاطفة الفردية، والذي ليس عنده ما يتبادل به مودة بمودة أو فهماً بفهم أو خاطراً بخاطر، والذي انقطعت جميع الوشائج بينه وبين إخوانه من أبناء آدم إلا الوشيجة التي تكون بين الواحد والألوف أو بين الداعية ولجمهور - فذلك رجل محدود القدرة على التحدث والتفاهم وعلى الإصغاء والإقناع، محتوم عليه أن يجد جمهوراً يستمع له ويكتفي منه بالاستماع، أو أن يتخيل نفسه قائماً بين جمهور وإن كان في مجلسه أفراد قليلون.
لهذا اشتهر هتلر بالتدفق في أحاديث السياسة ساعة بعد ساعة دون أن يقف أو يتمهل أو يسأم التكرار. فأن لم يتدفق في أحاديث السياسة، فهو بين حكاية نادرة أو إعادة ملحة مطروقة أو سرد تاريخ قديم؛ فإن لم يكن هذا ولا ذاك، فليس في مجلسه إلا السكوت والوجوم.
فهتلر الفرد (معدوم)
أما هتلر الموجود، فهو البوق الذي ينفخ في الجماهير أو يردد صدى الجماهير.
وانظر إلى صوره وهو في مواقف التفاهم والتحادث تر أمامك صوراً فاترة باهتة تنطق بالتكلف ونقص الحياة وتبعث في نفس ناظرها الريبة والنفور.
أما الصور التي يحيى فيها وتلبسه الحركة والشدة، فهي الصور التي ينقطع فيها التفاهم ويثور فيها الغضب وتتأجج فيها البغضاء.
وماذا ترى في هذه الصور؟
إن الخطباء الحماسيين جميعاً ليغضبون، وأنهم جميعاً ليحركون الغضب في الجماهير.
إلا أن الفرق بين غضب وغضب لفرق عظيم، وإن الاختلاف بين حماسة وحماسة ليفوق الاختلاف بين القوة والمرض، وبين الجلال والهوان
رأينا سعد زغلول وهو غاضب في خطبه، فرأينا غضباً كأنه السيف يصول به الفارس على قرنه، ويعرف كيف يصول(361/24)
ورأينا هتلر وهو غاضب في خطبه، فماذا رأينا؟ رأينا غضباً كأنه الدمل المفتوح بنفس عن ضغينة كامنة كأنها القيح المحبوس، فهو فرصة للألم والتذاذ الألم في وقت واحد، وهو علاج للتنفيس عن داء، وليس بالسيف في أيدي الأقوياء
هو نوبة مصروع وليس بوثبة صارع.
وهو منظر تزور منه العيون، وليس بمنظر تود العيون أن تمتلئ منه
وهو رقصة الهمجي في حومة الدم أمام أوثان النقمة والتشفي، وليس برقصة الفارس في حومة البرجاس
وقد جمعنا في هذه الصفحات صوراً عدة لهتلر وهو يخطب، أو وهو يغضب، لأنه في الحقيقة قلما يخطب إلا ليغضب. فأية صورة من تلك الصور يا ترى يستطيع القارئ أن يكتب تحتها مثلاً: (هذه صورة هتلر يزأر أو يزمجر؟)
إن هذا الكلام ليكتتب تحت صور كثيرة لمصطفى كمال أو لسعد زغلول، ولكن هتلر - على عنايته بصوره واتخاذه رساماً خاصاً يتبعه في جميع المحافل ويوزع في أقطار العالم ألوف الصور بل عشرات الألوف منها - لا توجد له صورة واحدة تخيل إلى الناظر هيئة الأسد المزمجر أو الأسد الغاضب، وكلها بلا استثناء مما يصح أن يكتب القارئ تحته: (هتلر يعوي) أو هتلر (يلطم). . . ولا جناح عليه
ومن المعقول أن رجلاً كهذا يحب حلقات الخطابة التي يتزين فيها لشياطين غروره وحقده كما تتزين المرأة المجنونة لشياطين الزار، ويستريح فيها الهياج والتهييج كما تستريح تلك المرأة لصرعة الرقص وجلبة الطبل ورؤية الذبائح وهي تتخبط في الدماء.
ومن المعقول جداً أن يكره مواقف المفاوضة والتفاهم لأنها تلطمه على عجزه وتكشف له عن خواء طبعه، وتخرجه منها وهو في رأي نفسه أقل من حوله. . . إلا أن يلجأ إلى التهديد بالحرب كما يفعل في معظم أحاديثه، فهو إذن في موقف الإملاء وليس في موقف المفاوضة والإقناع.
وقد سجلت كلماته في المفاوضات التي دارت بينه وبين سفراء الدول ورؤساء الحكومات، فإذا هي عبرة العبر وأضحوكة الأضاحيك لا يكون فيها إلا ممثلاً يراوغ، أو مهدداً يتوعد، أو منكراً لما يقال على طريقة الأطفال والنساء الجاهلات: إني أنكر هذا لأني أنكر هذا،(361/25)
ولا مزيد. . .
ناقشه مستر شامبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية في الشروط التي فرضها على حكومة براغ، وأوجب عليها فيها أن تخلي الأرض المطلوبة وأن تبدأ الإخلاء في الساعة الثامنة من صباح السادس والعشرين من شهر سبتمبر (1938) وأن تتمه عند انتهاء اليوم الثامن والعشرين
فقال له مستر شامبرلن إن هذا إملاء (إنذار نهائي) بغير حرب، وبغير هزيمة على أمة قبلت المطالب وقبلت الاحتلال
واختار شامبرلن كلمة (إملاء) عمداً لأن هتلر يذكرها كلما ذكر معاهدات الصلح ومعاهدة فرساي على الخصوص، ويعتبرها موجباً لفسخ تلك المعاهدات
فما زاد هتلر على أن قال: (كلا. ليس هو إملاء). وأشار إلى رأس الورقة قائلاً: (أنظر. . . إن الورقة مكتوب عليها كلمة مذكورة. .)
وهو كلام يقال للابسي القمصان في ساحة الخطابة فيقبلونه ويسيغونه، ولكنه لا يقال في مفاوضات وزراء وسفراء
فالخطابة هي الميدان التي يغلب فيه هتلر بهذا الأسلوب، ولن يغلب به في ميدان آخر
وقد حذق من الخطابة ما يحدق بالمرانة ومساعدة السامعين المستعدين للإصغاء والتصديق وأهمه تدفق الكلام وسهولة التعبير.
ولم تزوده الطبيعة من أدوات الخطابة الفطرية إلا بزاد واحد وهو انقطاع الصلة النفسية بينه وبين الأفراد واضطراره من أجل ذلك إلى مواجهة الجماهير للشعور بالحياة ونشاط الإحساس.
ومتى نشطت نفسه ودبت الحركة إلى ذهنه فلا يندر أن يلهمه الموقف بعض الخواطر البارعة التي يمثل بها أعداءه في صورة مزرية، أو صورة تستفز السخط والامتعاض، وكلها من ولائد الكراهية وليس فيها صورة واحدة وليدة عطف أو عناية بالآخرين.
ويختلف الناقدون في صوته اختلافاً لا يتبين الحقيقة فيه من يسمع الصوت منقولاً بالمذياع، وهو ينقل بعض الأصوات على أصلها ويعرض بعضها للتحريف وبعضها للتحسين.
فمن الناقدين من يعيبون على صوته خشونة تصك الآذان، ويقولون إنه أجرى العملية(361/26)
الجراحية في حنجرته لإصلاح هذا العيب ومنهم من يعجب بما في صوته من العمق ورنة التجويف، ويعده من أصلح الأصوات الخطابية لنقل الشعور الجارف والتهويل على السامعين.
وسواء كان العيب الذي يعيبه أولئك الناقدون صحيحاً أو غير صحيح فالمهم في صفات الأصوات التي تؤلف بالتكرار، وأن يكون لها طابع ولون معروف، وعندئذ قد يصبح العيب حلية مرغوباً فيها مع النجاح والتوفيق.
عباس محمود العقاد(361/27)
من أدب الحرب
جبان يصف معركة
للأستاذ محمود الدسوقي
(هذه القصة تصوير صادق لما يعتلج في نفس الجندي في
غمرة الحرب، وما يقع في سمعه وتحت بصره من هول
وكرب، يفقدانه شجاعته أحياناً، ويشحذان عزيمته أحياناً
أخرى؛ فأما أن يهرب كما يفعل راوي هذه القصة، وأما أن
يؤدي واجب الوطن على الوجه الأكمل كما فعل رفاق له.
وهذه الصورة بعض ما وقع في أوائل حرب السنوات السبع
التي شن غاراتها فردريك الأكبر ملك بروسيا على ماريا
تيريزا إمبراطورة النمسا وحليفاتها فرنسا وروسيا والسويد
وأسبانيا والريخ الألماني في سنة 1756، وكانت سجالاً في
الغالب بينه وبين أعداؤه)
قال البروسي الفار:
وأخيراً في الثاني والعشرين من سبتمبر (1756) أعلن النفير وتلقينا الأمر المسير، فسرت الحركة في كل شيء، ونقض في بضع دقائق معسكر واسع مترامي الأطراف كالمدينة العظيمة تجوبه في ساعات. وشددنا الرحال وتأهبنا للمسير، وصدر الأمر بالتقدم وانحدرنا إلى الوادي، وأقمنا عند برنا جسراً وشققنا فوق المدينة قبالة معسكر السكسونيين طريقاً ينتهي أحد طرفيه بباب برنا. وكان الكثيرون من أسرى السكسونيين يصعدون منه إلى الجبل متنزهين أربعة أربعة، ويلقون على امتداد الطريق الطويل شتماً وتعريضاً لاذعاً لا(361/28)
مفر لهم من سماعه. وكان بعضهم يقبل من تلك الناحية حزيناً مطرق الرأس، وآخرون يقبلون عليهم سيماء التحدي والقسوة، وفرق غير هؤلاء وأولئك تعلو وجوههم ابتسامة تأبى أن تترك للبروسيين الساخرين ديناً بلا سداد. في ذلك اليوم قطعنا قطعة أخرى من الطريق وعسكرنا في ليلينشتاين
وفي الثالث والعشرين كلف آلاينا بحماية عربات المؤن. وفي الرابع والعشرين قمنا بزحف مضاد، وبلغنا ليلاً وفي الضباب مكاناً لا يعلمه إلا الله. وفي الخامس والعشرين استأنفنا المسير مبكرين وقطعنا إلى أوسيج أربعة أميال، وهنا أقمنا إلى التاسع والعشرين نخرج كل يوم للاستطلاع، وتهاجمنا غالباً في أثناء القيام بهذه المهام جنود الإمبراطورة، أو يدهمنا من كمين وابل من الرصاص فيسقط غير واحد قتيلاً، ويتخلف جرحى كثيرون. فإذا ما صوبت مدفعيتنا بضعة مدافع نحو الكامنين ولى العدو الأدبار. ولم تكن هذه المصادفات تخيفني فسرعان ما ألفتها، فكنت أقول لنفسي: إذا ما دام الأمر على هذا المنوال لا يكون علينا منه ضير يذكر. وفي الثلاثين عاودنا الزحف طيلة النهار فلم نصل إلا ليلاً إلى جبل لا يعرفه منا أحد، ولا يدري من أمره من هم على شاكلتي إلا ما يدري الضرير. وتلقينا في تلك الأثناء أمراً بألا نقيم هنا خياماً وألا نلقي بنادقنا، بل نظل متأهبين على قدم وساق، إذ كان العدو على مقربة منا. فلما أصبح الصباح رأينا وسمعنا أخيراً ما كان يجري تحتنا في الوادي من ومض وقصف شديدين. وفي تلك الليلة المزعجة فر كثيرون من الصفوف وفي جملة من فروا الأخ باخمان. ولم تكن الفرصة قد سنحت لي بعد، وإن كنت إلى ذلك الحين لم يزايلني الاطمئنان.
واصطففنا في الصباح الباكر لننحدر من واد صغير ضيق إلى الوادي الكبير؛ ولم نكن نستطيع تمييز الأشياء من كثافة الضباب. فلما بلغنا السهل أخيراً وتقدمنا إلى الجيش الكبير كنا نزحف في ثلاث كتائب. واستبنا من خلال الضباب المنتشر كالسحاب جنود العدو في هضبة فوق مدينة لوبوستس في بوهيميا وكانوا من فرسان الإمبراطورة. أما مشاتها فلم تقع أعيننا عليهم إذ كانوا يرابطون في المدينة. وفي الساعة السادسة قصفت المدافع من كتيبتنا الأمامية كما قصفت بطاريات الإمبراطورة قصفاً من شدته أن كانت قنابلها تصل إلى آلاينا، وكان في الكتيبة الوسطى. وكنت إلى ذلك الحين أمني النفس بالهرب، فلما وقعت(361/29)
الواقعة عز علي الهرب وانسدت في وجهي المسالك جميعاً. وكنا نزحف في تلك الأثناء بلا انقطاع، فلم تلبث شجاعتي أن زايلتني، وكنت خليقاً أن أتسلل إلى بطن الأرض. ذلك أن خوفاً كالذي كان يتملكني كان يخلع على وجهي شحوب الموت، وكان يقرأ على سائر الوجوه حتى وجوه أولئك الذين عهدتهم مرحين لا يبالون. وكانت قناني الشراب الفارغة - ولكل جندي منها واحدة - تتطاير تحت وقع القنابل، فإن أغلبنا كان قد أتى
على آخر جرعة في قنينته واستمد منها شجاعته في ذلك اليوم؛ أما الغد فقد لا تكون به حاجة إليها. وتقدمنا الآن إلى مرمى المدافع إذ كان علينا أن نتبادل الموقف وكتيبتنا الأمامية. فيا هول ما شهدت! كانت كتل الحديد تئز فوق رؤوسنا، وتقع تارة أمامنا وتارة تنفذ إلى الأرض خلفنا، فيتطاير اليابس والأخضر والكلأ والحجر؟ وتدهمنا أحياناً فتمزق أجسامنا وتذرو أعضاءنا كما تذرو الهشيم الرياح. ولم نكن نبصر قدامنا إلا فرسان العدو تأتي بمختلف الحركات، فتارة تستعرض وتارة تستدير، وآناً تؤلف مثلثاً وآونة مربعاً تنتظم فيه. وتقدمت فرساننا أيضاً وكرت على العدو. فياله من وابل من الضربات يسقط مقعقعاً، ويمض خاطفاً! ولم تمض ربع ساعة حتى ارتدت فرساننا مدحورة وقد هزمها النمسويون وتعقبوها حتى مرمى مدافعنا. وهذا مشهد ما أجدر المرء بأن يشهده! خيول يعلق فرسانها في الركاب، وأخرى تجر أحشاءها على الأرض. وكنا ي تلك الأثناء ما نزال تحت نيران العدو حتى بلغت الساعة الحادية عشرة وجناحنا الأيسر لم يطلق رصاصة، على حين كان الأيمن يخوض المعركة ويصلاها.
وظن الكثيرون أنه لا بد من الهجوم حيث يرابط جند الإمبراطورة. ولم أكن إذ ذاك جزوعاً كما كنت من قبل، وإن كانت عفاريت الجيشين لم تفتأ تقتل عن كثب والميدان مغطى بالقتلى والجرحى. وإذ ينتصف النهار أو يكاد صدر الأمر إلى آلاينا واثنين معه بالارتداد، فقلنا لعله إلى المعسكر فنكفي القتال!
وصعدنا مرتفعات الكروم بخطى حثيثة ونفوس مستبشرة، وملأنا قلانسنا من دوالي الكرم وأكلنا من أعنابها هنيئاً، ولم يخطر لي ولمن هم إلى جانبي سوء على بال، وإن كنا ما زلنا نرى من القمة إخواننا في المعمة تحت النار والدخان، ونسمع قصفاً مرعباً فلا ندري على التحقيق لمن كتب النصر. وكان قوادنا يقودوننا في تلك الأثناء مصعدين في الجبل، ممعنين(361/30)
في التصعيد إلى قمة شق في صخرها ممر ضيق. فلما بلغت طليعتنا القمة سمعنا الرصاص يطلق إطلاقاً مرعباً. فحزرنا آنئذ جلية الخبر، فإن بضعة آلاف من جنود الإمبراطورة قد كانوا تلقوا الأمر بالصعود إلى الجبل في الجانب الآخر لينقضوا على جيشنا من خلف، فاتصل الخبر بقوادنا فكان أن ارتددنا نحن لنسبقهم ونفسد تدبيرهم، ولو قد تأخرنا بضع دقائق لبلغوا القمة قبلنا ولكنا من الخاسرين. ونشبت مجزرة لا توصف قبل أن نتمكن من إقصاء البندوريين عن الغابة. وتكبدت مقدمتنا خسائر فادحة وانقضت مؤخرتنا لنجدتها حتى تم لنا احتلال القمة. وكانت جثث القتلى وأجسام الجرحى تؤلف تلاً تحت أقدامنا تتعثر فيه. وسرنا في أعقاب البندوريين نجليهم عن مرتفعات الكروم درجة درجة ونقفز خلفهم من صخرة إلى صخرة حتى بلغنا السهل. وأطبق البروسيون الأصليون والبراندنبرجيون على البندوريين كالجن، وكنت أنا حين حمى الوطيس كمن به مس لا يجد الخوف أو الذعر إلى قلبي سبيلاً، فأطلقت طلقاتي في الستين في شوط واحد، حتى إذا أتيت عليها سخنت بندقيتي وباتت في يدي كالجمر؛ فذهبت أجرها من نطاقها، واحسبني في تلك الأثناء لم ألق إلى جانبي نفساً حية إذ كان الكل قد هرعوا إلى الهواء الطلق. واتخذ البندوريون مراكزهم ثانية فوق السهل قبالة لوبوستس على مقربة من الماء، وجعلوا يطلقون بنادقهم مستبسلين على مرتفعات الكروم حتى عض غير واحد قدامي وإلى جانبي في الكلأ. وكان البروسيون والبندوريون يختلط بعضهم ببعض في كل مكان، فمن وجد من الآخرين لا يزال يتحرك ضرب بالكرنافة على أم ناصيته أو طعن بالسنان. واستؤنف القتال بالسهل. ولكن أني لامرئ أن يصف ما حدث والدخان والبخار يتصاعدان من لوبوستيس، والهد والرعد يصمان الآذان، والسماء والأرض تكادان تنطبقان!
أنى لامرئ أن يصف ذلك الفزع المتواصل لمئات الطبول وذلك العزف الذي يمزق القلوب أو يشدد العزائم من موسيقى الميدان المختلفة الألوان، وتلك الصيحات المنبعثة من كثير من القواد، والزمجرة المرعدة من مساعديهم، وتلك الاستغاثة وذلك الاستصراخ المتصاعدين من آلاف مؤلفة من ضحايا اليوم الأشقياء المدوسين بالأقدام أنصاف الموتى! لقد كان هذا كله يذهل الحواس وكانت الساعة الثالثة ولوبوستيس تحت النيران وجنود مقدمتنا يطبقون على البندوريين كالأسود الكاسرة، فيقفز مئات كثيرة منهم إلى الماء والمدينة نفسها مسرح(361/31)
للفتك والطعان. في هذه اللحظة لم أكن في الطليعة، بل كنت في المؤخرة لا أزال على جبل الكروم، بينا الكثيرون غيري كما أسلفت القول يقفزون في حمية من درجة في الجبل إلى درجة يبادرون إلى نجدة الإخوان. وإذ كنت لا أزال فوق المرتفع أطل على السهل، كما لو منت أطلع في جو حالك مرعد يتساقط فيه البرد، قلت لنفسي: هذا أوانك قد آن؛ أو قال لي على الأصح الملك الذي كان يحرضني: أركن إلى الفرار!
فتلفت من حولي فإذا كل شيء أمامي نار ودخان وبخار، ومن خلفي جنود كثيرون ما يزالون يهرعون للانقضاض على العدو، وعن يميني جيشان كبيران على أتم الأهبة للقتال، وعن شمالي مرتفعات الكروم وأدغال وغابات، وهنا وههنا بضعة من البروسيين والبندوريين والهوسار قد أربى قتلاهم على جرحاهم، فقلت: هنا! هنا! في هذا الجانب وإلا استحال الأمر علي فتسللت يسرة أخافت أول الأمر في مشيتي أخترق الدوالي. وكان بعض البروسيين لا يزالون يمرون بي مسرعين، فكانوا يقولون لي: عجل! عجل! أيها الأخ فالفوز لنا! أما أنا فلم أحر جواباً بل تصنعت قليلاً أني جريح، وواصلت السير أرتعش من الخوف ما في ذلك شك. وإذ أبتعد في تلك الأثناء حتى لا قبل لأحد برؤيتي ضاعفت من خطوي وأمعنت في سيري وغزرت فيه، وأنا أتلفت يمنة ويسرة كالصياد. وتطلعت من بعيد لآخر مرة في حياتي إلى حصاد الموت وحومة الفناء؛ ثم أطلقت ساقي للريح بجانب الغابة، وكانت ملأى بقتلى الهوسار والبندوريين وجثث الخيل، وعدوت عدواً سريعاً إلى النهر، ووقفت عنده. فإذا بضعة من جند الإمبراطورة المصابين الذين تسللوا مثلي من المعركة يصوبون ألي بنادقهم عندما أبصروني ويعاودون إلى التسديد مرتين أخريين غير عابئين ببندقيتي التي طرحتها، وبقلنسوتي التي كنت ألوح بها وأشير الإشارة المألوفة. على أنهم لم يطلقوا النار، فاعتزمت أن أعدوا إليهم ولو لم أفعل لكانوا أحرياء بأن يطلقوا علي النار كما علمت بعد ذاك. ولما جئتهم وقلت لهم إني فار من الجيش، أخذوا مني بندقيتي، ووعدوني بأن يردوها لي فيما بعد. . . لكن الذي استحوذ عليها لم يلبث أن اختفى بها على الأثر؛ واقتادوني إلى القرية التالية وكانت تبعد ساعة كاملة من لوبوستيس؛ وكانت لنا من خلال ذلك جولة في الماء وليس من نقالة سوى زورق واحد، وصراخ الرجال وعويل النساء والأطفال يرتفع كلاهما إلى أجواز الفضاء، فكل يريد أن يعبر أولاً خوفاً من(361/32)
البروسين، وكلهم يتصورونهم جد قريبين، أو لعلهم بثيابهم عالقون، ولم أكن في جملة المتأخرين بل قفزت إلى وسط زمرة من النساء، ولولا أن الملاح قذف بالبعض إلى خارج الزورق لبتنا من المغرقين، وكان في الضفة الأخرى مخفر بندوري رئيسي قادني إليه من رافقوني فتلقاني ذوو الشوارب الشقراء تلقياً حسناً، وقدموا إلي التبغ والشراب على الرغم من عجزنا البادي عن التفاهم، وأنفذوا معي صحبه إلى ليتميرتز فيما أظن، حيث قضيت ليلى بين بضعة من أبناء بوهيميا، وأنا غير آمن بينهم على رأسي. لكنه قد كان بلغ معي جهد النهار ومحنته مبلغاً دار منه رأسي فكانت هذه هي النقطة الهامة آخر ما فكرت فيه.
وفي الصباح وكان الثاني من أكتوبر نقلت إلى بودين حيث مركز القيادة الإمبراطورية العامة. وهناك التقيت بمائتي بروسي كلهم هارب على طريقته، وفي جملتهم صاحبي باخمان. ولشد ما ابتهجنا باللقاء على حين غفلة وفرحنا بالنجاة والحرية. وطفقنا نتحدث ونهلل كأننا بالبيت نصطلي، ونذكر زبداً من الإخوان وعبيداً، ونتساءل أين هما يا ترى؟
وسمح لنا بالتجوال في المعسكر، ووقف الضباط والجنود حولنا زمراً يستزيدوننا من الحديث عن أشياء لا ندريها. وعرف بعضنا كيف يستميل مضيفه بالمداهنة واختراع مئات الأكاذيب عن البروسيين حطاً من قدرهم وتقليلاً من شأنهم
وكان بين جنود الإمبراطورة من هم على هذه الشاكلة فيشاً وغلواً، فزعم أقصر قزم فيهم أنه حمل أطول براندنبرجي على الفرار، واقتادوني بعد ذلك إلى قرابة خمسين أسيراً من فرسان بروسيا فكان منظراً أليماً! فإن أحداً منهم لم يسلم من جرح أو مجل. وقد تهشم وجهه كله، وبعضهم قد أصيب في رقبته أو أذنه أو كتفه أو فخذه. وقد كانوا جميعاً يتأوهون ويئنون. وكم حمد الله أولئك البائسون أن جنبنا هذا المصير مصيرهم! وكم حمدنا نحن الله على ذلك وأثنينا عيه! وقضينا الليل في المعسكر ثم نقد كل منا (دوكات) لسفره، ثم بعثوا بنا إلى قرية بوهيمية حيث غفونا قليلاً؛ ثم رحلنا إلى (براغ) في اليوم التالي.
وهنا توزعنا وتزودنا بالجوازات كل ستة أو عشرة أو أثنى عشر معاً ما داموا يتبعون طريقاً واحداً. وكنا خليطاً عجيباً من السويسريين والشوابيين والسكسونيين والبفاريين وأبناء التيرول والوبلش والفرنسيين والبولاكيين والأتراك. وكانت براغ ترتعد خوفاً من البروسيين ويستولي عليهم رعب لا مثيل له. وكان أهلها قد علموا بنتيجة معركة(361/33)
لوبوسيتس وأيقنوا أن الظافر لا بد أن يكون على الأبواب. وهناك أيضاً أحاطت بنا زمر الجنود والأهالي لنقص عليهم ما ينتويه البروسون؛ فكان بعضنا يطمئن تلك الأرانب الجازعة، وبعضنا يجد مسرته في إرعابهم وفي القول بأن العدو قريب المزار وإنه محنق كالشيطان.
محمود الدسوقي(361/34)
في سبيل إصلاح الأزهر
للأستاذ محمد يوسف موسى
حمد الأزهريون، ومن يعنيهم أن يسير هذا المعهد الجليل في الجادة المستقيمة، للأستاذ الكريم الزيات أن يخصص لمسألة إصلاحه شيئاً غير قليل من عنايته، وأن يوسع للكاتبين فيها جانباً من رسالته، رجاء أن نصل آخر الشوط إلى تحديد الغاية وتمهيد الطريق وتعيين الوسيلة. ولكني - ويشاركني فيما أخافه كثيرون - أخشى أن يلتوي علينا الأمر، وأن ننحرف عن الطريق، فيختلط علينا الرأي، ويفوت الغرض، وننتهي وقد صرنا أكثر مما نحن شيعاً وأحزاباً.
لهذا رأيت أن أكتب هذه الكلمة الأخيرة وأنصرف بعدها إلى غير ذلك من شئون
إنما ينجح الطبيب إذا صدق مريضه القول ومحض له الرأي وصارحه بدائه على جليته. وإنما ينتفع المريض متى وثق بطبيبه، وأيقن بمرضه، ووقف على خطورته، وأحسن بحاجته للعلاج. لهذا كان واجب الطبيب أن يعالن المريض بالداء وأن يباديه به؛ لكن في لغة لا تدعو لليأس، ولهجة لا تميت الأمل، حتى لا يكون كمن ينفض يديه صار في الاحتضار
من أجل ذلك كان لا بد من في رأيي لمن يدعو للإصلاح من أن يتأنى له ويلتمس له الوسائل ويستكثر له الأعوان، وألا ينفر أحداً ممن إليهم يساق الحديث ويطلب الخير. ذلك أقرب أن تصادف الدعوة قبولاً، والكلام سميعاً، وأعون على بلوغ الأرب وأهدى لنيل الوطر. على أن الألم للمرض قد يكون بالغاً، وفورة النفس قد تكون قوية، فيند القلم أحياناً، ويشتط أحياناً، وهنا نلتمس للداعي سبيل العذر من خلوص النية ونبل القصد، ما دام لا يجعل دعوته ذريعة إلى حاجة وسبيلاً إلى مراد.
ومهما يكن فلست ممن يرضون أن تتكشف المعركة القائمة الآن عن بضع مقالات لا تعدو أن تكون كصرخة اللهفان وركضة الفرس، أو مهلة النفس وحسو الطائر. أرجو أن ننتهي منها وقد وضحت الغاية، وارتسمت الخطة، واتحدت القلوب والعزائم، وتواصى الجميع على ما فيه الخير للمعهد الذي نشرف بالانتساب له، وتوحدت الجهود للسير للأمام عملياً. ولعل من أجدى أسباب الإصلاح التي يجب أن نبدأ بها فيما أرى أن يكون - كما قلت من(361/35)
في كلمة سابقة - وكذا الواحد منا قبل كل شيء تكميل نفسه في خلقه وعمله حتى يصير مثالاً عالياً لطلابه؛ يلهب عواطفهم ويسدد خطاهم، ويشركهم في خير ما يقرأ ويدفعهم للمطالعة والبحث والاتصال بالحياة العلمية الجادة التي لا تحد بالكتاب المقرر والمنهاج المرسوم! بذلك يوجههم وجهة الخير في غير عناء ويحتذونه في غير تعمل. ثم يضيف لهذا أن يتآزر مع نفر ممن يقاسمونه الآلام والآمال فيكونوا جبهة تعمل في غير ملل أو إعلان لبعث مجد الإسلام العلمي وما طواه الزمن من مؤلفات العلماء الأعلام في القرون قبل تغلب العجمة وانغلاق التعابير
وقبل هذا وذاك يكون رجلاً لا سلطان عليه لغير ضميره، ولا سبيل للحزبية والهوى فيما يأخذ ويدع، ولا يجامل على حساب المصلحة العامة، ولا يتحزب مع وضوح الحق. بذلك نجد الإصلاح المرجو يسير الملتمس داني التناول.
وقديماً قالوا: من برى القوس رمى، ومن قدح النار اصطلى. وإلا إن كان قصارانا ثورة صحفية من فترة لأخرى دون أخذ بالعمل المنتج تعذر علينا الإصلاح وتأتي مقتربه واعتاص ذلوله
بقيت كلمة ويتم الحديث؛ هي ملاحظة صغيرة على الإشارة التي جاءت في (رسالة كلية الشريعة للأستاذ الأكبر) إلى معهد الدراسات الإسلامية. إن هذه الإشارة تفهم أن هذا المعهد يزاحم الأزهر في بعض ما نصب له نفسه من مهام، وأظن أن هذا ليس من الحق في شيء؛ فهو على ما عرفت - من طول ترددي عليه وانتفاعي به انتفاعاً كبير الأثر - قسم من مكتبة الجامعة العامة، جمعت فيه المؤلفات الخاصة بالعلوم والدراسات الإسلامية بوجه عام، سواء أكان باللغة العربية أو بغيرها.
يرى الزائر له إذا أراد أن يبحث فيلسوفاً، كالفارابي مثلاً، مؤلفاته المطبوعة بمصر وغير مصر، وقدراً كبيراً صالحاً مما كتب عنه بالعربية أو غيرها من اللغات. ذلك ما يزيد على أربعين مجلداً لجماعة من المستشرقين الفرنسيين، فيها تعريف واسع بالمخطوطات الإسلامية الموجودة بمكتبة باريس العامة، وعرض لبعض نصوصها، وإلى فهارس المطبوعات والمخطوطات الإسلامية الموجودة بالمكتبات العامة بمصر وأوربا، إلى كل هذا وما إليه منظم موضوع على حبل الذراع لمن يريد؛ حتى إن الباحث وهو جالس إلى إحدى(361/36)
المناضد في بهوه الرحب، بين تلك الذخائر العلمية الإسلامية يشعر أنه لا يكاد ينقصه شيء في سبيل الوصول لما يريد من بحث وتحقيق.
أين هذا من مكتبة الأزهر التي لم أستطيع ولا يستطيع غيري أن ينتفع بشيء منها ما دامت على ما هي عليه من ضيق مكان، ونقص موظفين، وإهمال وعدم رعاية!
وكيف يعاب ذلك العمل الجليل، وينظر إليه النظر الشزر، على غير معرفة به، بدل أن نشكر من كان له الفضل في إنشائه! أقول هذا عن علم؛ لأني لا أعلم أن أحداً من الأزهريين - حتى شباب المدرسين - تردد على هذا المعهد للانتفاع به، رغم دعوتي له وبعثي عليه، إجابة لرغبة حضرات الموظفين الثقات القائمين بشئونه.
لو أن إخواننا الذين اشتركوا في صياغة (رسالة كلية الشريعة للأستاذ الأكبر) عنوا بالتعرف إلى ذلك المعهد الذي يؤدي الآن خدمة لا يؤديها غيره، لما أشاروا إليه إشارة من يجب ويكره عن غير علم. ولعل منهم من كان ولا يزال في أشد الحاجة له لتحضير ما يطلب من بحوث ومحاضرات علمية في الامتحانات!
وبعد فلعّلى وفقت بعض الشيء فيما نحن بسبيله، والله المستعان.
محمد يوسف موسى
مدرس بكلية أصول الدين(361/37)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
مفاجأة. . . ولكن
كانت أبرز حوادث الأسبوع الماضي حادثة تسليم الجيش البلجيكي بأمر ملكه. وكانت الحادثة مفاجأة لم يتوقعها العالم، بل لم تدر قيادة جيوش فرنسا وإنجلترا من أمرها شيئاً. فهي مفاجأة لم يقل وقعها على نفوس القراء من المفاجآت الهتلرية. واختلفت الناس في تقديرها، فمن قائل إنها نوبة يأس استولت على الملك ليوبولد في ساعة فزع واضطراب أعصاب، ولا سيما بعد ما والى الجيش الألماني هجومه في الليل، فلم يخلد إلى الراحة كالمعتاد. ومن قائل إنها خيانة صريحة ارتكبها الملك بالاتفاق مع الألمان.
ومن فريق ثالث يقول: كانت خطوة متوقعه سار فيها الملك ليوبولد الثالث على مثال قرار قيادة الجيش الهولندي عندما أمرت جيوشها بوضع السلاح
وليس لنا أن تقرر الدوافع لهذه الخطوة، فعلمها كما قال المستر تشرشل رئيس الوزراء البريطانية عند الملك وحده، ولا يجدر بنا الحكم على فعلته الآن، ولكن هذه الخطوة ترينا ظاهرتين مختلفتين في أخلاق شعبين عظيمين. فبينما الشعب الفرنسي يقابلها بمرارة وغضب ظهرا في حديث المسيو رينو، قابلها الشعب البريطاني ببرود وثبات ظهر في حديث رئيس الوزارة البريطانية
والبرود والثبات في قيادة الجيوش من أكبر وسائل تحقيق النصر، فهما خلتان كبيرتان للاحتفاظ بالعقل والمنطق. وأذكر أن الجنرال فرانش قائد الجيوش البريطانية في فرنسا سنة 1914 لم يجد كلمة يمدح بها أحد قواده في أحد المعارك ابغ من أنه كان مثال البرود والسكينة في تلقي الأنباء وإصدار الأوامر
بين تسليمين
ويختلف موقف تسليم الجيوش البلجيكية الآن عن تسليم الجيوش الهولندية اختلافاً بيناً. فقد كان الجيش الهولندي يقاتل وحده ولا تحتل معه قوات الحلفاء مواقع تشد أزره أو يشد أزرها. ولم تكن المعركة حامية لم يقرر مصيرها بعد هي الحال مع جيوش الحلفاء في(361/38)
الشمال. ولم يكن قرار هولندا لا يؤثر إلا على موقف جيوشها وحدها، وهذا أمر لهم وحدهم حق تقريره. بينما انسحاب القوات البلجيكية من مواقعها قد أخلى ثغرات واسعة في صفوف القوات المتحالفة.
فإذا عرفنا أن من تقاليد الجيوش البريطانية والفرنسية ألا تلقي السلاح تبين لنا مقدار الخطأ الفادح الذي جره إلقاء الجيش البلجيكي لسلاحه. وإذا كان ثمة خطأ يسند إلى الملك ليوبولد، فلأنه لم ينذر قيادة الحلفاء بالخطوة التي اعتزمها لتتخذ من التدابير ما يربأ الصدع الذي يحدثه انسحاب قواته.
بين المساء والصباح
أضعف إلى ذلك ما وافتنا به تلغرافات صباح يوم الثلاثاء من أنباء تهلل لها وجه الناس بالبشر والأمل، فقد وصلت جيوش الحلفاء إلى بابوم، وهي تقع في منتصف النتوء الألماني بين حوض نهر السوم ومدينة أراس. ومعنى هذا أن جيوش الحلفاء تمكنت من الضغط على رقبة النتوء الألماني الممتد من هذا المكان إلى سواحل البحر. ولو تيسر لها أن تصل خطوطها بين جيشي الشمال والجنوب من هذه الناحية لسهل عليها أن تحصر هذه القوات وتعزلها عن قواعد تموينها، وبالتالي تقض عليها قضاء مبرماً.
وذهب بعض الناس إلى أن هذه الخطوة معناها انتصار الحلفاء وبدء الخاتمة. فقد سحبت ألمانيا كثيراً من قواتها من خط سيجفويد ومن على الحدود السويسرية لتعزيز أماكنها كما أيدت مواقعها بقوات ميكانيكية هائلة هي في الواقع صفوة القوات الألمانية التي أعدت الخطيرة الحاسمة. ويدلنا هذا على أن احتياطي القوات الهتلرية قد نفذ فاعتمدت على قوات رئيسية
وقد رأيت كثيراً من الناس يضعون دبابيس كبيرة في هذا الموضع ويضغطونها بشدة على خرطهم كأنها مسامير توضع في نعش الجيش الألماني، ثم يوصلونها بمواقع الحلفاء بخيوط خضراء رمزاً للسلام يسود العالم. ولكن ما كادت تلغرافات الصباح تصل بنبأ تسليم الجيش البلجيكي حتى وجم محررو الجرائد، ووقفوا أمام خرطهم مترددين أين يضعون دبابيسهم، وكيف يفهمون الموقف على ضوء الحوادث الأخيرة
وأنعش خطاب المستر تشرشل وتصريحات وزراء بلجيكا كثيراً من الأفئدة فعادت لها ثقتها(361/39)
بالنصر. وإن كان كثيرون قد قدروا أن يطول أمد الحرب. بل قال عضهم إنه خير يأتي من الشر، فتتركز قوات الحلفاء في فرنسا ويستقر القتال في ميدان واحد بدل تشعبه في عدة ميادين، وتقل خطوط مواصلات الحلفاء، وتعود الحرب إلى جبهة واحدة بدل جبهتين فقد كانت بلجيكا عبثاً على الحلفاء.
سياستان
وإذا قارنا بين الحرب الحالية والحرب الماضية وجدنا وجوه الشبه في أسسها واحدة. فألمانيا تبدأ الحرب بقوة هائلة تضعف على مر الأيام تبعاً لقلة مواردها واستعداها، بينما يبدأ الحلفاء حربهم بقوات قليلة تكبر كلما طال بها الأمد. فخلف إنجلترا وفرنسا إمبراطوريتان واسعتان تقدمان لهما الإمداد الذي تصقله الأيام وتزيد إنتاجه
فقد بدأت ألمانيا استعدادها لهذه الحرب منذ تولي هتلر الحكم سنة 1933. فأخضع جميع موارد ألمانيا لهذه اللحظة. بينما بدأ الحلفاء استعدادهم من سنة 1938. واتخذت الخطوات الحاسمة لهذا الاستعداد في الأسبوع الماضي عند ما وضعت الأفراد والمصالح رهن الاستعداد العسكري. ولعل البعض يرى في هذه الحركة تمهلاً من الخلفاء. إلا أن من يدرس مشروعاتهم واستعدادهم وسياستهم لرفاهية شعوبهم يقدر خطورة هذه الخطوة الأخيرة ومدى ما تدره على الأداة الحربية من تحسين
فالحلفاء يضعون خططهم ويعدونها لوقت الحاجة حتى إذا احتاج إليها الأمر نفذت في الحال. ولو عدنا بالذاكرة إلى بدء اشتعال الحرب، وشاهدنا ما فعله الحلفاء في تنظيم وزارة الحرب الاقتصادية عندما نفذ الحصر البحري رأينا مدى دقتهم في وضع مشروعاتهم.
ففي 24 ساعة كان الحصر البحري على ألمانيا نافذاً، وفي 24 ساعة تقدم ممثلو إنجلترا السياسيين إلى الدول المحايدة بقوائم تبين حاجة كل منهم من الخامات المسموح لها بالمرور من الحصر البحري والتي لا تترك لهم فائضاً يمكن لألمانيا أن تعتمد عليه. لو رجعنا إلى هذه الحوادث استطعنا أن ندرك كيف يسير المشروع الجديد وكيف يدعم إعداد الحلفاء العسكري.
كيف تساعدهم(361/40)
ولا تفوتنا أن نذكر في هذا السبيل الولايات المتحدة وما تعده لتموين الخلفاء. فإن الخطوات التي اتخذت حتى الآن لا تتجاوز أن تكون مناضلة لإقرار مبدأ المساعدة وعلى أية صورة يكون. وقد ينتهي بدخولهم الحرب بقوات حربية، وليس بعتاد حربي فقط. وهي لم تقدم إلى الحلفاء مساعدة جدية حتى الآن بل أن مصانعها تستعد لمواجهة الحالة، ولم يتعد إمدادها عدداً قليلاً من الطائرات. ومن يعرف براعة الأمريكيين في تنظيم أعمالهم، وتشغيل مصانعهم لإنتاج كميات وفيرة، يدرك مدى السيل الذي يصل إلى الحلفاء كل فترة قصيرة
والغالب أن يستقر الموقف الحالي في البلجيك على شيئين: فأما أن ينسحب الحلفاء ويخلوا البلجيك وينقلوا قواتهم إلى فرنسا عن طريق البحر، وإما أن يستقروا في هذا الميدان بعد أن يمدوا قواتهم هناك بقوات جديدة على أن تكون صلاتهم عن طريق البحر. واعتقد من سير الأمور حتى كتابة هذه السطور أن الحلفاء ينسحبون من بلجيكا ويحولون ضرباتهم من فرنسا حيث أعدوا خطوط قتال قوية تسهل عليهم الاحتفاظ بمراكزهم إلى أن تتحطم ألمانيا اقتصادياً أو عسكرياً.
الخطوة التالية
أما في الميدان فإن جنود الحلفاء في حالة حسنة وفي موقف عسكري قوي يعملون على تطهيره من القوات المعادية. ولا يمكننا أن نجرم بخطوة ألمانيا التالية بعد استقرارها في الميدان الشمالي في البلجيك: هل تهاجم الجبهة الفرنسوية الشمالية الممتدة على نهر السوم إلى لونجوي؟ أم تهاجم فرنسا باحتراق حدود سويسرا؟ أم تتجه اتجاهاً آخر للاستيلاء على موارد جديدة بالهجوم على البلقان؟
فالواضح من الاستقرار الأخير في جبهة فرنسا الشمالية أن قتالها يطول وهذا مالا تحتمله الموارد الألمانية. فإذا هاجمت فرنسا باختراق سويسرا عن طريق مقاطعة بازل فلا ينتظر أن تصيب فيها من التقدم ما أصابته في بلجيكا، لأن الحلفاء لن يلدغوا من حجر مرتين. أما في البلقان فقد أعلنت الروسيا حرصها على الاحتفاظ بالحالة الراهنة هناك وإلا فإنها تحارب المعتدي. ولهذه فينتظر أن ترى فترة هدوء ونضال سياسي لتحويلها عن رأيها، وإن كنت أعتقد أنه ليس من مصلحة ألمانيا أن تشتبك في جبهتين كما قلت في مقالي(361/41)
السابق.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(361/42)
رسالة الشعر
أنت وأنا. . .
للأستاذ أمجد الطرابلسي
إما رأيتِ الليلةَ الحالكة ... تجلو دجاها البرقةُ الساطعة
والطفلةَ المُشْرِقَةَ الضاحكة ... تُحزنُها لُعْبَتُها الضائعة
فإنني الليلةُ يا بَرقتي
وإنني الطفلةُ يا لعبتي
يا فرحتي أنتِ ويا دمعتي!
إن تجدي الناسكَ في دَيْرِهِ ... تهزُّهُ نغمةُ أرْغُنَّهِ
والفاجرَ العِربيدَ في سُكْرِهِ ... تُرْعِشُهُ النَّظْرَةُ مِنْ دَنَّهِ
فإِنني الناسكُ يا نغمتي
وإنني السكرانُ يا خمرتي
يا سقري أنتِ ويا جَنَّتي!
إما رأيت الشاعرَ السادرا ... يقدسُ الحسنَ على سُبْحَتِهْ
والأهوجَ المضطرمَ الفائِرا ... تُهيَّجُ الأجسادُ من نَهْمَتِهْ
فإنني الشاعرُ يا سبحتي
وإنني الأهوجُ يا نهمتي
يا جسدي أنتِ ويا فكرتي!
إن تجدي المبتهلَ المؤمنا ... يصبوا إلى (الحورَّيةِ) الطاهرة
والماجنَ المُسْتَهْتِرَ الأرعنا ... يستعذبُ السمَّ من العاهرة
فإِنني المبتهلُ المؤمنُ
وإنني المستهتر الأرعنُ
دَليلَتي أنتِ وحورَّيتي!
(باريس)(361/43)
أمجد الطرابلسي(361/44)
وهفا قلبي إليك
للشاعرة الفلسطينية الآنسة (دنانير)
لحتَ في أفق حياتي المظلمِ ... لمحة من نورْ
بدَّدتْ آونةً يا ملهمي ... ذلك الديجورْ
وهفا قلبي إلِيكْ
شيّقاً يحنو عليك
يرتجي الزلَفى لديك
لا تخيبْ يا حبيبي ما رجاه ... قلبيَ المفتونْ
لا، ولا ترجعْه من دنيا هواه ... رِجعه المغبون
يا خلًّيا من عذابي شدَّ ما ... كنت شغلي
ليتني سؤالكَ أصبحتُ كم ... أنت سؤُلي
حرتُ مما أنت فيه
بين إقبال وتيه
آه يا من أرتجيه
كل همي منك، حتام أراكْ ... غافلاً عني؟
وبقلبي من تباريح هواكْ ... علةٌ تضني
أيها المرسل لي في وحشتي ... مؤنساً قلبي
هجتَ لي الحبَّ، فكانت سلوتي ... نعمة الحب
أنت دنيا من فنون
تملأُ الدنيا فتون
كيف لا تسبى العيون
هاك قلبي، لا تدعْه يا مناه ... هائماً حائر
راعهِ، لا يهوِ من عليا سماه ... إِنه شاعر
(فلسطين)
(دنانير)(361/45)
من اللهب!
للأديب عبد العليم عيسى
بكيت فلاموني. . . وما حيلتي إذا ... بكيت وفي وآلامي
علام تلمون الجريح على البكا ... أما كان أحرى أن تلوموا يد الرامي
نشأت فلم أنعم بصدر يضمني ... إليه. . . فضمتني جروحي وأسقامي
كأنيَ لم أخلقْ لنعماىَ إنما ... خلقتُ لأحيا بكياً طول أيامي
حياتي إعصارٌ عنيف وضجة ... وعصف من البلوى يعكر أحلامي
هنا في فؤادي صرخة كم حسبتها ... هنا في طريقي يعزفُ الهول قدامي
تجمعت الأخطارُ حولي. . . فخلتُها ... من الرعب جنَّا عاصفاً تحتَ إقدامي
أنا الشاعرُ الشادي أغاريد حزنه ... ومن حزَني المشبوب نبغي وإلهامي
أسيتُ على قلبي فكم عقد الأسى ... به مأنماً يُذكى هواني وإيلامي
كتمتُ الذي عندي فلستُ بصارخ ... وأين الذي يحنو على قلبيَ الظامي؟
طربتم لأنغام الصفاء فما الذي ... يضركمُ لو تطربون لأنغامي!
أنا راقصٌ عرسكمْ غير أنني ... غريبٌ بعيدٌ عن صفائي وإنعامي
ألاحينُ عودي باكيات على المدَى ... فلن تسمعوا مني سوى لحنيَ الدامي
(دمياط)
عبد العليم عيسى(361/47)
عبادة الأصنام
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أيُّها الُمخْلِصُ الْعِبَادَةَ للصًّخْ ... رِ تحَصًّنْ مِنْ مَوْجَةِ الإلَحاْدِ!
فَغَداً تَفْقِدُ الشُّعورَ وَتحَيْاَ ... كَجَمادٍ مُسَخَّرٍ لجمادِ
صَنَمٌ صامِتٌ من اَلْحجَرِ الصَّلْ ... دِ لَخَيْرٌ من ناَطِق بالفسادِ
إنْ تَكُنْ نائماً عَلَى ظُلَمِ اَلْجهْ ... لِ رَضيِاًّ بِعيِشَةِ الزُّهَّادِ
فأَناَ ناَئمٌ عَلَى كَتِفِ النُّو ... رِ وَلكِنْ بِظُلْمَةٍ في الفُؤَادِ
صَنَمي يقتلُ الْعقِيدةَ وَالْفِكْ ... رَ وَيَحْيى عِبَادَةَ الأجسادِ
إنْ تَكُنْ مُطْلَقَ الْعَقيِدةِ يا صا ... حِ فإني مُقَيَّدٌ في اعْتِقادِي
مَلْجَإي السَّجْنُ إنْ دَعَوْتُ إلى اَلْح ... قَّ مَسُوقاً في مَوْكِبٍ الأصْفادِ
الوشاياتُ والدسائسُ والزُعْ ... بُ سِلاَحٌ في وَجْهِ كلَّ انتقادِ
وَهُبوطُ الأحْرَارِ مِنْ مِنْبَرِ اَلْح ... قَّ صُعُودٌ لِمِنْبَرِ اَلْجلاَّدِ
لَيْسَ إيمانُناَ عَقِيدَةَ تَفْكيِ ... رٍ، وَلكِنَّهُ هَوَى اسْتِبْدَادِ
شُعْلَةُ النَّارِ في يَدَيَّ قَرَابِي ... نُ لِفَرْدٍ مُسْتَهْزِئَ بالسَّوَادِ
وَصَلاَتي لهُ دُعاءٌ إلى اَلْحرْ ... بِ وَإِشْعالُ ناَرِهَا في البِلاَدِ
وَانتهاَكٌ لِحُرْمَةِ الجارِ إشْبَا ... عَ نَهيمٍ لِشهْوَةِ اسِتِعْبِادِ
أَزْرَعُ الشَّرَّ حَيْثُما سِرْتُ تُجْنَي ... مِنْ ثَرَاهُ طَوَالِعُ الأحْقادِ
وَغَدِي مُبْهَمٌ وَرِجْلِيَ تَنقَاَ ... دُ إلى حَيْثُ مَصْرَعِ الأحْفادِ
التَّماَثِيلُ وَالبُطُولَةُ وَالْمَجْدُ ... دَعَاوَي مَوْصُولَةُ الإنشادِ
نَغَمٌ يَسْحَرُ الضّحًايا فَتنْسَا ... قُ إلى الَموْتِ جاِئعاَتٍ صَوَادِي
وَالَجْماهِيرُ كالَحْمِيرِ مَطايا ... للزَّعاماتِ لَيَّناَتُ الْقِيَادِ. . .
حسن كامل الصيرفي(361/48)
من وحي الربيع الأحمر
قوس قزح. . .
للأديب حسن أحمد باكثير
أي جسرٍ صيغ من ذوب الضياء ... يعبر الزرقاء من أفقٍ لأفقٍ
عبقري الحسن سحري الرواء ... مشرق يستأسر الطرف برفق
أصراطٌ مُدّ في عرض السماء ... لعبور الجن في غرب وشرق
أم مجازٌ يرتقيه الأتقياء ... نحو كونٍ خلف هذا الكون صدق
أي حسن فاتنٍ عذب بنوره
أي سحر عبقري في سفوره
ليتنا نحَظى جميعاً بعبوره
نحو كون جاثم خلف ستوره
وارف الظل بهيجٍ بزهوره
نقطع العمر به فوق قصوره
نرشف الأفراح من صفو نميره
ونصيب الأنس في حسو خموره
ونرى النشوة في لثم ثغوره
إن هذا الكون ضقنا بشروره
وزهقنا من أباطيل أموره
وسئمنا وبرمنا بغروره
وطوى أحلامنا جور نسوره
وكوى أحشاءنا بطش نموره
وشجى أكبادنا مرأى قبوره
خلَّنا يا جَسر نحظَى بعبورك ... نحو كون ساطع خلف ستورك
يُذهب الآلام والآثام عنا والشرور
حسن أحمد باكثير(361/49)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
10 - من الصحافيين
عبد القادر حمزة باشا
كان للحركة الوطنية في مصر لسان وقلم، أما اللسان فكان لسعد زغلول، وأما القلم فكان في يد عبد القادر حمزة. وقد قضى صاحب اللسان، وظل صاحب القلم يكتب، ولكن ظهرت عليه نوازع جديدة أخذت تتزايد وتتزايد حتى أصبحت أوجه الشبه بين آثار هذا القلم اليوم وبين آثاره في البدء قليلة وغامضة. . . ذلك أن الأستاذ عبد القادر حمزة باشا جنح إلى العقل والمنطق جنوحاً كاد يقطع بينه وبين الجمهور الذي رباه هو، والذي فتح هو عيونه على الحقائق
طار الأستاذ عبد القادر باشا عن مستوى الصحافيين السياسيين وتحكمت فيه استقامة الفكر والأمانة عليه، حتى هان عنده الرواج الشعبي فلم يعد يجري وراء القراء، وآثر أن يوجه القول لمن يريد أن يسمع وأن يفهم؛ وقد تجلت التجربة على أنه يقول ما يجب أن يسمع وأن يفهم. فقد كان هو أول من نادى بوجوب تأليف الوزارة القومية منذ المناوشات الأولى في الحرب الحبشية، فأنكرت البلد رأيه حتى ألفت الجبهة الوطنية بعد أن تحولت المناوشات الحبشية إلى حرب ضروس؛ وحين لم تجد مصر وإنجلترا بداً من تنفيذ فكرته هو، أو الفكرة التي آمن بها وتحمس وانفرد زمناً بالدعوة إليها.
الأستاذ طاهر الطناحي
العمود الفقري في دار الهلال. رباه على الصحافة الأستاذ أميل بك زيدان، فأنشأه أعجوبة بين الصحافيين. الجمهور لا يعرفه كثيراً لأنه لا يوقع المقاولات إلا قليلاً؛ وذاك إذا كتب، فليس عمله أن يكتب، وإنما عمله أن يستكتب أولئك الأقذاذ الذين تطالع دار الهلال قراءها(361/51)
بنفثات أقلامهم، ومن هؤلاء يكون ملوك في بعض الأحايين، وهذه مهمة خطيرة.
زد على ذلك أنه يجمع أعصى المعلومات والبيانات والإحصاءات والصور التي أتقنت دار الهلال فتنة الجمهور بها
للأستاذ طاهر الطناحي هذا المجهود الجبار وينافسه في دار الهلال زميل له هو الأستاذ يوسف أنكونا من غير أن يبذل مجهوداً جباراً، ولكنه يعطي الدار أفكاراً، فهو متخصص في البحث عن أسباب رواج المجلات يستقصيها ويوفرها في مجلة (الاثنين) التي يدير تحريرها، فله في هذا الأسبوع (يا نصيب)، وفي الأسبوع المقبل (مسابقة)، وفي تاليه حملة مصورة منظمة على موطن من مواطن الضعف في الحياة المصرية، وفي الأسبوع الرابع عدد خاص بمسألة من المسائل التي تشغل بال الجمهور، وفي الأسبوع الخامس هدية رائعة، وفي الأسبوع السادس صور تؤخذ للجمهور من قراء المجلة وهي في أيديهم فمن وجد صورته جائزة، وفي الأسبوع السابع باب يفتح في المجلة يتوسط للقراء في الحكومة، ويوظفهم إذا استطاع. . .
أعجوبة هو أيضاً هذا الصحافي الذي لا يعرفه الجمهور. وهو شاب وعمله الأول المحاماة في المختلط، ولست أدري كيف غاب هذا الصحافي الناجح هو وزميله عن الذين اختاروا المدرسين لمعهد الصحافة!
الأستاذ كريم ثابت
أول من اخترع لنا حكاية أن هذا الوزير يستيقظ في السادسة صباحاً ويفطر فولاً وبيضاً مسلوقاً، ويدخن سبعاً وثلاثين سيجارة في اليوم، وأنه يفضل السترة أم صفين من الأزرار على أم الصف الواحد، وأن عنده قطعة اسمها فلة يتفاهم معها بالعربية والفرنسية، وأنه يسقي ضيوفه كراوية ولا يقدم القهوة إلا لمن يطلبها، وأنه يقرأ إلا إذا جلس فاتكأ بذراعه اليسرى على المسند ووضع رجله اليسرى على رجله اليمين، وأنه إذا نام أغمض عينيه، وإذا تكلم حرك لسانه، وإذا مشى هز ذراعيه. . .
الأستاذ عبد المنعم حسن
لا بد أن يصل بإذن الله إلى ما يصبو إليه من مجد صحافي. فهو يقفز من أوربا إلى(361/52)
أفريقية إلى آسيا بحثاً عن تحقيقات يسوقها لقرائه في أحرج الظروف وأسوأ الأحوال. وهذه جهود لا يقوم من الصحافيين المصريين إلا هو والأستاذ محمود أبو الفتح، ولا أذكر غيرهما.
الأستاذ مصطفى أمين
من أسهل الكتاب المصريين هضماً؛ وعلى هذه الميزة فيه فهو بأبي إلا أن يكون مخبراً يغذي فضول القراء بينما هو يستطيع مالا يستطيعه المخبرون من الترويج عن القراء وإنعاشهم. المادة تغريه، ولكني أرجو أن يغريه بالتخصص في الكتابة مغر آخر ذو تأثير ينقذه. . .
11 - من المقرئين
الأستاذ محمود صبح
إذا قرأ القرآن مثل معانيه على قدر طاقته بالإلقاء والتنغيم. ولولا أن لكنه تركية تدركه أحياناً لشدة تأثره بالذوق التركي في الموسيقى لما كان في قراءته عيب، وهو حساس مرهف الأعصاب. متدفق سيال النفس ينفذ إلى سامعه ويجرفه معه
ولكن عقله ملتو. أقولها على ما فيها من شدة فلعله يراجع نفسه إليها فيراها حقاً فيعود إلى قراءة القرآن، ويكف عن أدواره وطقاطيقه التي ثبت له أنه لن يجد من يغنيها له غيره لما في تلحينها من التعقيد، ولما يحتاج إليه إلقاؤها من الفتوة الغنائية. . . وإن كان لا بد له من التلحين فليقنع بالموشحات فهو الأهل لها.
الأستاذ على محمود
عنده ثروة موسيقية هائلة حفظها عن المغنين والمقرئين القدامى فهو يختزن لنفسه من فن الحمولي، ومحمد عثمان، وسيد رويش وسلامه حجازي، ومحمد سالم العجوز، وأبو العلا محمد، والمناخلي وغيرهم، وهو في قراءته يعرض هؤلاء جميعاً وغيرهم، فإذا تجلى الله عليه قرأ القرآن أو أنشد (المولد) بما يفتح الله به عليه من فن روحه هو؛ فعندئذ تسمع صوتاً عالياً من غير شك فيرفعك وينخفض فيضعك، ونساب فيملؤك، فإذا هدأ عنك زفرت وارتحت إذا رد لك السلطان على ترديد أنفاسك بعد ما كان هذا السلطان معه.(361/53)
الأستاذ محمد رفعت
المقرئ الوديع الذي يزف القرآن إلى النفس (متمسكناً) فما تملك النفس إلا أن تحن له وأن تلين. . .
الأستاذ عبد الفتاح الشعشاعي
فيه من الموسيقى أكثر مما فيه من التمثيل، وفي موسيقاه من الطرب أكثر مما فيها من غيره، وكثيراً ما يخرج بسامعيه عن وقارهم وإن لم يخرج هو عن وقاره. لعله لو غنى القصائد عرض لنا فقيد الموسيقى العربية الكبير الشيخ أبو العلا محمد.
لست أدري لماذا لا يجرب هذه التجربة، ولست أدري لماذا لا تشجعه على ذلك صديقته أم كلثوم بأن تسمعه في قصيدة ثم تغنيها منسوبة إليه!
12 - من المحدثين
الدكتور محجوب ثابت
هذا رجل ضحى بنفسه في سبيل إشباع رغبته في الكلام. له ماض وطني ملحوظ، وجهاد لا يمكن أن ينكر، ثم إن له علماً واسعاً واطلاعاً متشعباً، وله بعد ذلك آراء وأفكار لا يزال يغذي بها المجتمع المصري، ولا يزال هذا المجتمع يأخذها عنه، ومع هذا كله فنصيبه من الجزاء الوطني قليل. فأغلب الذين خدموا بالمناصب والألقاب والأرزاق، ولكنه كان بين القلائل المهملين على كثير ما يتردد ذكره على الألسنة، وعلى كثرة ما يتردد شخصه بين الناس. . . فلماذا؟
لقد أطيب الدكتور محجوب بهذا (التأخر) لأنه كثير الكلام، ولأنه يخلط الجد بالهزل، ولأنه لا يعرف مَنِ من الناس يصلح لأن يخاطبه الإنسان بالنكتة، ومن منهم لا يصلح لذلك، ومن من الناس يستطيع أن يستخلص من النكتة الحكمة، ومن منهم لا يستطيع ذلك. . . لقد اعتبر المصريون الدكتور محجوب فكاهة من الفكاهات، حتى في أشد مواقفه جداً يضحكون منه. . . وهم معذورون. . . فهو يتحمس لفكرته بعواطفه وأعصابه وجوارحه وشاربيه ولحيته، بينما يكفيه أن يتحمس لهما بعقله ولسانه، وإنهما لجديران بأن يخضعا له اقتناع الناس. . .(361/54)
لست أدري إذا كان الدكتور محجوب يستطيع وهو في سنه اليوم أن يعدل نفسه أو أنه لم يعد يستطيع ذلك، ولكني على أي حال لم أيأس منه، ولا أزال أنتظر له خيراً. . .
الشيخ عبد الحميد النحاس
وإذا كان الدكتور محجوب ثابت محدث المثقفين من الطلبة ومن هم أكبر منهم سناً وعلماً ودراية من أهل المدن، فإن الشيخ عبد الحميد النحاس يعتبر محدث الأقاليم. وهو الصحافي الوحيد الذي يتقاضى من المعلنين أجوراً للإعلانات في جريدته التي لا تصدر على أساس أنه ينشر هذه الإعلانات شفوياً في مجالس والمجتمعات.
وله طوفات في الريف المصري. . . يخرج من مديرية إلى مديرية، ومن مركز إلى مركز، ومن بلد إلى بلد تقام له الولائم، ويجتمع له الناس، وتعقد المجالس ليتحدث فيها، وليقول ما يقول. . .
وهو يقول في كل موضوع كلاماً يلذ للريفيين أن يسمعوه، ويبلغ إعجابهم به إلى أن يحملوه على الأعناق وأن يهتفوا له كأنه غاز أو فاتح. . .
الشيخ عبد العزيز البشري
وهذا محدث الطبقة الراقية. وحديثه شيق سلس جذاب، حاضر الذهن، سريع الخاطر، لاذع النكتة، رائق البال. وهو إلى جانب ما يتقن من فن الحديث يتقن الكتابة أيضاً، وكتابته فيها من أحاديثه، فأحلاها ذكرياته ووصفه لمن قابلهم من الناس، ونقده لما رآه فيهم من العيب، وتسجيله لما وجده فيهم من الحسنات.
ردان
في العدد السابق من الرسالة طالع القراء الاعتراضين اللذين شرفني بهما كل من الأستاذين توفيق دياب ومحمد المويلحي بخصوص ما كتبته في هذه السلسة عن أولهما وعن الدكتور الخفي.
أما الأستاذ توفيق دياب كفاني الأستاذ محمد محمود دوارة الرد عليه بما يجده القارئ في (البريد الأدبي) من الرسالة هذا الأسبوع
وأما الأستاذ محمد السيد المويلحي فقد قال إني بخست الدكتور الحفني حقه إذ أنكرت عليه(361/55)
إنتاجه في الموسيقى بينما هو - فيما يقول الأستاذ المويلحي - قد اخترع آلتين موسيقيتين هما فلوت الحفني والكورية النحاسية.
وردي على هذا هو أن اختراع الآلات الموسيقية من عمل علماء الطبيعة لا الفنانين الموسيقيين، ولا غير
على أني فيما قد جاملت الدكتور الحفني بعض المجاملة إذ قلت إنه موسيقي من نوعي، وأنا لا أعتقد أنني إذا شبهت إنساناً بنفسي حططت من قدره. . . هذا اعتقادي أنا. . .
عزيز أحمد فهمي(361/56)
رسالة العلم
حرب ونضال
تأملات في مجاهل الكون
للدكتور محمد محمود غالي
عندما اندلعت ألسنة الحرب في سبتمبر الماضي كتبنا مقالاً في (الرسالة) تحت عنوان (فلنستمر)، اعتزمنا فيه مواصلة الكتابة رغم مجابهة العالم لمحنة قاسية لم يعهدها من قبل، ورجونا ألا تصرفنا الحوادث عن أداء المهمة، وليست الكتابة بالأمر الذي يستطيع الإنسان المضي فيه وهو مشغول الفكر مضطرب البال، وإنما لهدوء النفس والنزوع إلى الكتابة أثرهما الواضح في النجاح والقدرة على التسطير. فالكتابة لا تُقصد لذاتها، وإنما تقصد لما ترمي إليه؛ وإن الذي تُترَكُ له صحيفة ليملأها، يجب أن يكون أهلاً لأن يفيد القراء، وإلا فليترك المجال لمن هو أقدر على أن يكون أكثر فائدة لهؤلاء الذين يهبون بعض أوقاتهم للمطالعة.
ولقد خصَّصَتْ (الرسالة) صفحة لمباحث علمية توخينا أن نخط فيها هيكل الكون، وحاولنا أن نلفت النظر إلى ما فيه من تنافس؛ ووالينا كتابة هذه المقالات العديدة التي نسرد فيها قصة التقدم، فقطعنا في ذلك شوطاً بعيداً، واستعرضنا للقارئ بعضاً من الخطوات العلمية الكبرى التي توصل إليها العلماء في العهد الأخير، وفيها ما له علاقة بتقدم الإنسان في حاضره ومستقبله.
وقد تابعنا هذا الاستعراض وفق تفكيرنا، فطغت مسائل أخرى عُنينا بشرحها أكثر من غيرها، إذ كان لبعضها علينا اثر خاص، وللبعض الآخر في اعتقادنا سهم في محور التقدم، ولا شك في أنه كان لما تعلمناه عن قصد أو غير قصد، وما طالعناه عن رغبة أو مصادفة أثر في هذا التكييف.
وما كنت أعتقد أن الحوادث في العالم الغربي الذي عنه ندرس وعلى ضوء مؤلفاته نتكون تتطور بهذه السرعة الخاطفة، وما كنت أعتقد أن سرعتها هذه تؤثر على نفس في الأسبوع الماضي هذا التأثير الذي سلبني في تلك الآونة الصفات التي تجعل منى شخصاً مفيداً(361/57)
للقارئ، لذلك تنحيت عن عمد ريثما تهدأ النفس ويستقر الفكر فأستطيع أن أتابع السير في هذه السطور. ولئن أسرعنا في كبح جماع النفس عن الاسترسال فيما يسوقها إلى الاضطراب ويدفع بها إلى الوجوم؛ فإننا نطلب من القارئ أن ينحو بنفسه هذا النحو، وقد يكون له متابعة هذه السطور التي نستعرض فيها الناحية الإيجابية من عمل الإنسان خير عزاء عن الناحية السلبية التي يندفع إليها فريق من البشر، وهي الناحية التي يستقي القارئ أنباءها في الصحف اليومية، عندئذ وكلما مر أسبوع يتصفح الرسالة ساعة يطالع فيها شيئاً غير الذي تغلب على نفسه في يومياته وتملك الكثير من أوقاته، هنا يرى في قصة العلوم وفي سير الفلسفة، في تطور التفكير وفي تقدم الإنسان، في ازدهار الميراث وارتقاء المعرفة، أن الدنيا ما زالت بخير، وأن الإنسان ما زال حياً يتوارث المعرفة ويعمل على تقدمها على كر الأيام.
فلنستمر إذن في عملنا وليستمر الذين يتابعون كتاباتنا في مطالعة هذه العجالات التي نعالج بين ثناياها طرفاً من عظمة الإنسان كمخلوق راق لا كمخلوق تعس، والتي يتجدد بها الأمل فضلاً عما فيها من غراء للنفس. ولا ريب في أن المحنة ستنتهي يوماً وأن الإنسان سواء أكان من أهل ألمانيا أو من أهل فرنسا وإنجلترا سيدرك أن من خطل الرأي محاربة أخيه الإنسان، وأن النضال بالكلام خير من النضال بالحديد والنار فيطرح هذه الآلات التي لا تترك وراءها إلا أشلاء تتناثر وأجساداً تتحول قبل الأوان، ونفوساً أشفَّها الحزن، وقلوباً مزقها اليأس، بل ويدرك أن توجيه الإنسانية صوب مدارج الرقى أولى من الرجوع بها القهقري
ولو أن السلطات تركزت يوماً في أيدي العلماء لانتظمت الحياة في نسق يكفل سعادة البشر، ولزال إلى الأبد كابوس هذه المجازر البشرية، ولو أن ما أنفق على التسلح صرف في رقي العلم ورفاهية الإنسان لرأينا قبل أن نترك الحياة أو تتركنا مدنية أرقى من التي ننعم بها، ولعهدنا وسائل للعيش تختلف جد الاختلاف عما نعهده اليوم. فلنستمر إذن في عملنا ولنتقدم نحو غايتنا مهما عاودتنا لحظات من الاضطراب، فلا اضطراب لم يعقبه استقرار، ولا حرب لم يعقبها سلم، ولا عمل سلبي مهما طال لم يتله عمل إيجابي. ولنكن جميعاً معاول بناء لا معاول هدم، بذلك نعاون في بناء صرح المعرفة ونضيف إلى هيكل(361/58)
الحضارة.
ولقد تركت عن عمد الجرائد اليوم لاتصل بالقارئ وتغلَّبت على نفسي بالاستماع إلى قطع موسيقية، وكان في (غابة فِيِناًّ لستراوس)، وفي (الرابسودي المجرية) لملحنها (ليسْتْ) ما استحثني على الكتابة وشدد قواي على التفكير، وستكون غايتي اليوم أن أرفه عن القارئ بكلمة من نسيج الخيال، ولكنه خيال جائز، خيال له اتصال بالموضوعات الأخيرة التي تعرضنا لها.
عندما نتصفح أنباء المعارك الدامية بين البشر ندرس ناحية من صفات الإنسان الذي تطورت حالته على هذه الأرض من مخلوق عاجز عن القيام بتافه الأمور إلى مخلوق يستخدم ذكاءه في ضرورة مرة وفي نفعه أخرى. ثمة عقيدة بأن هذا المخلوق هو أرقى المخلوقات طرا لأنه سما على كل ما يدب على وجه الأرض بذكائه ومقدرته
وإن جاز لنا أن نعتقد أنه المخلوق الوحيد من نوعه في الكون لتوافر اشتراطات طبيعية عديدة لاءمت وجوه على النحو الذي هو عليه لا يمكن أن تتوافر كاملة على غير هذه الأرض، فلا يجوز لنا أن نحزم باستحالة وجود مخلوقات أخرى على الكواكب لها صفات تختلف عن صفات الإنسان هذه الأرض.
إنما يُجيز المنطق إن لم يُحتمَّ على الباحث ألا ينفي وجود كائنات أخرى غيرنا على الكواكب ما دام الكون يشمل ملايين الكواكب السيارة، وما دام بين هذه الكواكب حتماً ما تسمح معه الظروف الطبيعية بإمكان وجود نوع من الحياة يشبه حياتنا، أو نوع آخر من الحياة يختلف عنها؛ على أن المنطق يدلنا أيضاً أنه لا يجوز لنا أن نعتقد بوجود أوجه شبه شديدة بيننا وبين هذه المخلوقات. وإذا كانت الأحوال الطبيعية الملائمة على سطح الأرض رغم تقاربها لم تكن كافية ليظهر في نوع الإنسان رجال من شكل واحد، فما أبلغ الفارق عندما تختلف الأحول الطبيعية بين ما في الأرض وما في غيرها من الكواكب وبالتالي بين سكان الأرض وغيرنا من الأحياء خارجاً عنها؟، وإذا كان الرجل الجاري أو الصبي الذي تنسم نسيم جاوه أو الصين يختلف كثيراً عن الرجل المصري أو العراقي الذي يتنسم نسيم مصر أو العراق، والذي تذوَّق ماء النيل أو الُفرات، ويختلف هذا وذاك عن الفرنسي مثلاً، فما عسى أن يكون الفارق إن تحقق لنا ما يكون عليه مخلوق راق يعيش في كوكب آخر(361/59)
غير كوكبنا وفي مجموعة شمسية غير مجموعتنا؟
ونحن في هذا تسوقنا فكرة الإشعاع إلى تصورات ينبغي التأمل فيها عندما نجيز لأنفسنا التحدث عن مثل هذه المخلوقات التي نعتقد أن وجدودها أقرب إلى الحقيقة منه إلى الخيال.
ذكرنا في مقالاتنا الأخيرة أن الكون زاخرٌ بمختَلَف الإشعاعات التي لا تراها عين الإنسان ولا تشعر بها حواسه، وأن الضوء والكهرباء نوع واحد من الإشعاع، وإننا لا نرى من الأشعة إلا شيئاً طفيفاً إزاء ما لا نراه. ذلك لأننا خلقنا بحيث لا نرى من الكون إلا يسيراً من مكوناته العديدة الممتدة بعيدة عن حواسنا.
ولو أن كائنا غير الإنسان تكونت عنده حاسة النظر بطريقة يرى الأشياء بطولها وبعرضها، ولكن لا يستطيع أن يدرك منها ارتفاعها (هذا النوع من الكائنات يجوز وجوده أو هو موجود فعلاً)، فإن صور الأشياء تختلف عند هذا الكائن عن صورها عندنا، فإذا أمتد نظره من عَلٍ إلى مركبة ترام رأي هذه المركبة مستطيلاً يسير بين خطين يمثلان حدَّي الطريق الذي تسير فيه، ورأى (الكمساري) والسائق دائرتين إحداهما مجاورة لأحد أضلاعه والثانية تتنقل على حافته طوراً تقترب من ضلعه الأعلى وتارة تقترب من ضلعه الأسفل، ويرى الجمهور دوائر كثيرة متواصلة في صفوف متوازية داخل هذا المستطيل المتنقل.
إن هذا الكائن المسكين لا يستطيع أن يرانا على حقيقتنا، فلا تطلبنَّ إليه، وهو لا يرى من مركبه الترام إلا هذا المستطيل المتنقل، أن يستوعب ما فيها من مادة الخشب أو يذهب في الفكر إلى أكثر منذ لك فيفهم ما يحمله الخشب من أجهزة الكهرباء أو يفهم خواص أو ماهية هذه الظاهرة
ثمة ثلاثة مراحل في التطور أمام هذا المخلوق:
الأولى: وهي التي وصل إليها فعلاً أن يرى الأشياء بمساقطها فيرى في المركبات هذه المستطيلات المتحركة.
الثانية: أن يدرك هذه المركبات بارتفاعها ويستوعب أيضاً مادتها.
الثالثة: وهي اصعب المراحل، أن يدرك أعجب ما في تركيبها فيفهم أننا نستخدم فيها ظاهرة عجيبة هي ظاهرة الكهرباء فيعلم بذلك أمراً خافياً عن تركيبها الظاهري، أمراً(361/60)
يجعل لها شيئاً شبيهاً بالحياة إن صح أن الحركة من أهم مميزات الحياة.
نقف الآن عند هذا الحد من المقال، وما قصدنا من هذه السطور إلا لتكون مقدمة للمقال القادم
إنما نترك للقارئ فرصة يتأمل فيها لماذا اخترنا هذا النوع من المخلوقات العجيب الذي لا يرى من مركبات الترام إلا مستطيلات تتنقل في الطرقات التي يراها خطوطاً ممتدة في المدينة، ولا يرى من جمهور الراكبين وهو ينظر إليهم من مستو عال إلى دوائر متراصة في صفوف متوازية، ولا يرى من (الكمساري) إلا دائرة تتنقل على حافة هذا المستطيل.
ولم يكن مقالنا اليوم بالموضوع الذي يشق على فهم، ويحتاج إلى طرف يسير من المقدمة العلمية، أفكان لموسيقي (ستراوس) و (ليست) سبب لكي ننحو هذا التحو من التأمل؟ ربما كان لذلك اثر؛ ولكن مما لا ريب فيه أننا كنا في حاجة إلى هذه النغمات نستمع إليها بعد ما نملك النفس من الاضطراب المتوالي في الأيام الأخيرة، ولا شك في أن القارئ كان هو أيضاً في حاجة إلى هذا النوع من الترفيه عن النفس وتسكين الخاطر.
وإلى المقال القادم، فإننا في حاجة إلى هذا المخلوق العجيب لكي نشرح موضوعاً يلتمع في الذهن ويجول في الفكر.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانه(361/61)
البريد الأدبي
أندريه موروا يبحث عن شخصية جديدة
يبحث الكاتب الفرنسي أندريه موروا عن شخصية جديدة على غرار شخصية (كولونيل برامبل) التي ابتدعها أثناء الحرب الماضية وسجلها في كتابه المعروف (صمت الكولونيل برامبل).
ولقد زار موروا أخيراً أحد مراكز التدريب بسلاح الطيران الملكي في إنجلترا، وكان قد دعي لإلقاء خطبة على عدد كبير من طلبة الطيران. فقال: (لامراء أن يكون الكولونيل الأول قد ناهز السبعين من عمره، وأنا اليوم عن حفيده. وسيكون بحثي عنه هذه المرة في سلاح الطيران الملكي. ولا شبهة عندي في أن الصفات التي جعلت من الشيخ ضابطاً ممتازاً ستجعل من الحفيد ضابطاً ناجحاً. فهل لي أن ألتمس منكم المعونة على العثور عليه؟)
والمسيو موروا ملحق بالقيادة البريطانية العامة في فرنسا، كما كان في الحرب الماضية. وقد بذل جهداً جباراً ليسهل على الفرنسيين فهم الإنجليز وتقديرهم. ونال المسيو موروا وسام (ك. ب. أ) في عام 1938، وهو يحمل وسام اللجيون دونير كما هو حاصل على درجات الشرف من جامعات اكسفورد، وادنبره، وسانت اندروز
ومن مؤلفاته المعروفة: (آريل - أو حياة الشاعر شيللي) و (دزرائيلي) و (بيرون) و (فولتير) و (الملك ادوارد وعصره) و (ديكنز) و (تاريخ لإنجلترا).
المعاهد الأجنبية في مصر
يبلغ عدد المعاهد الأجنبية في مصر 400 معهد، منها 185 معهداً فرنسياً، و64 معهداً إيطالياً، و62 معهداً يونانياً، و42 معهداً إنجليزياً، و38 معهداً أمريكياً، وأربعة معاهد ألمانية، ومعهدان روسيان، ومعهدان هولانديان، ومعهد سويري وآخر سويدي.
ويبلغ عدد المعاهد التي أسست لأغراض دينية 307 أي 76 % من مجموعها، ومنها 163 لفرنسا، و45 لإيطاليا، و35 لليونان، و24 لإنجلترا، و35 لأمريكا، ومعهدان لألمانيا، ومعهدان لهولندا، ومعهد للسويد
ويبلغ عدد التلاميذ الملحقين بهذه المعاهد 75. 392 تلميذاً وتلميذة، منهم 10. 915 من(361/62)
التلاميذ والتلميذات المسلمين، و6934 من اليهود، والباقي من المسيحيين والأقباط.
ويبلغ عدد المعاهد التي ليس بها مسلمون 103، وقد لوحظ أن أكثر المدارس الأجنبية غير الدينية ليس بها تلاميذ مسلمون
المعاهد الفرنسية
يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 34. 508 منهم 6214 من المسلمين أي بنسبة 18 %. ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 26، وأقل من 100 تلميذ 65، وأقل من 200 تلميذاً 121، وأكثر من 500 تلميذ 13، وأكثر من ألف معهداً واحداً.
المعاهد الإيطالية
يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 12. 769 منهم 1804 من المسلمين أي بنسبة 14 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً إثنين، وأقل من 100 تلميذ 20، وأقل من 200 تلميذ 36، وأكثر من 500 تلميذ معهدين.
المعاهد اليونانية
يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 12. 313 منهم 160 فقط من المسلمين أي بنسبة 1 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 16، وأقل من 100 تلميذ 28، وأقل من 200 تلميذ 41، وأكثر من 500 تلميذ 5، وأكثر من ألف معهداً واحداً.
المعاهد الإنجليزية
يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 6091 منهم 645 من المسلمين أي بنسبة 15 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها اقل من 50 تلميذاً 9، وأقل من 100 تلميذ 22، وأقل من 200 تلميذ 33، واكثر من 500 تلميذ معهداً واحداً.
المعاهد الأمريكية
يبلغ عدد التلاميذ بهذه المعاهد 7697 وإن كانت أقل عدداً من المعاهد الإنجليزية منهم 1655 من المسلمين أي بنسبة 21 %، ويبلغ عدد المعاهد التي بها أقل من 50 تلميذاً 9، وأقل من 100 تلميذ 12، وأقل من 200 تلميذ 19، وأكثر من 500 معهداً واحداً.(361/63)
المعاهد الأخرى
يبلغ عدد التلاميذ بالمعاهد الألمانية 517 منهم 131 من المسلمين، أي بنسبة 25 %، وهذه المعاهد الأربعة موزعة بين القاهرة والإسكندرية وأسوان
ويبلغ عدد التلاميذ بالمعاهد الهولندية 250 منهم 122 من المسلمين، والمعهدان الهولنديان في مديرية الفليوبية
ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهد السويسري في الإسكندرية 70 تلميذاً منهم ثلاثة من المسلمين.
ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهد السويدي 59 منهم 4 من المسلمين وهذا المعهد في مديرية الدقهلية.
ويبلغ عدد التلاميذ بالمعهدين الروسيين 1118 تلميذاً منهم 177 من المسلمين.
إلى الأستاذ عباس محمود العقاد
عزيزي الأستاذ الزيات
يسرني أن أنقل إليكم ما لمسته في أجواء الأدب عندنا من ارتياحها إلى مقالكم البليغ الشائق عن (رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد)، وتشوقها إلى الاستزادة في تسجيل هذه الأحاديث الطريفة التي يتناقلها كبار الأدباء في مجالسهم الودية الخالصة حيث تتجرد النفوس من ملابسات الخصومة، وتبرأ من نزوات الضغينة، وتتخفف من أحقادها الطارئة وبدواتها العارضة. . .
وفي الحق أنك كنت ظريفاً لبقاً في حديثك مع الرافعي فقد استطعت - في شيء من مكر الصحفي - أن تستدرج الرجل وتستخرج من فمه - في غفلة من غرائزه النائمة - هذا الحكم السديد الرشيد في أدب الأستاذ العقاد. وهنا أحب أن أوجه سؤالاً إلى الأستاذ الكبير العقاد أظنه يتردد على لسان كل قارئ عربي مثقف.
قد رأيت يا سيدي الأستاذ أن الرافعي قد استطاع أن ينسى الماضي بأحقاده وضغائنه فاعترف لصديقه الزيات أن كتابه (على السفود) لم يكن وحياً من الله وإنما كان رجساً من عمل الشيطان. ولم يقف اعترافه عند هذا الحد بل عمد إلى تحليل مذاهبك الأدبية بنزاهة عجيبة.(361/64)
فهل لنا أن نأمل منك أن تحدثنا بفصل تنشره في الرسالة عن رأيك الصحيح الصريح في أدب الأستاذ الرافعي فتنصف هذا الأدب من أن يتهجم عليه أولئك الذين ارتجلوا حرفة الأدب ارتجالاً وانتحلوها انتحالاً. . . إن جمهرة القراء عندنا لتستشرف نفوسها جميعاً إلى علالة منك تبل بها الصدى؛ وحديثك الصحيح الصريح في أدب الرافعي هي العلالة التي يرتقبونها من زمان بعيد فهل يتحقق هذا الرجاء؟ وهل تصدق هذه الأمنية؟
إنا لمنتظرون. . .
(حمص)
عبد القادر جنيدي
رأي الأستاذ الشاعر (أبو شبكة) في ليالي الملاح التائه
هذا شاعر أحبه، وقد زاد حبي له منذ أن أقصى لقب مهنته عن أسمه الشعري، فلعهد خلا كان يدعي (علي محمود طه المهندس) فتذمرت من هذا اللقب في معرض حديث لي عن شعراء مصر، وهمست في مسمع الشاعر أن كلمة (مهندس) تنفرَّ أذني الموسيقية بما تنطوي عليه من الخطوط والمنعرجات، وتشبكني بقضبان وحبال لا أطيقها. وكأنه يحبني هو أيضاً ويحترم أذني الموسيقية، فارتفع بين ليلة وضحاها من (علي محمود طه المهندس) إلى (علي محمود طه).
وعلى محمود طه من أجمل شعراء مصر. فالجمال مزروع في جميع قصائد، حتى في (أفراح الوادي) منها. ولكم تمنيت لو أفرغ مجموعته الأخيرة (ليالي الملاَّح التائه) من قصائد (أفراح الوادي) وأبقى هذه الأخيرة لمجموعة أخرى يوعيها ما يعرض لخاطره من أسباب التهاني والرثاء. . .
أستهل الشاعر مجموعته ب (أغنية الجندول وقد تكون هذه القصيدة أشعر ما في (ليالي الملاح التائه) وأجمل وأطرب، وكفى. . . لا أعلم ما بي. . . أتراني متبرماً هذه الليلة؟
فتعريف الشاعر لقصيدته الساحرة هذه بأنها (تغريدة الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب) لا يعلي مقامها في نظري. فعبد الوهاب يغرد لمن هب ودب من الشعراء فضلاً عن أنه لا يشرف شاعراً كعلي محمود طه.(361/65)
أما أعمق قصائد (ليالي الملاح التائه) فهي ولا شك قصيدة (كاس الخيَّام) فقد قدر الشاعر في قصيدته هذه على التسلل إلى خوابي نيسابور فشرب من الخمرة التي أسكرت عمر الخيام، ورأى في هذه الخمرة ما لم يره الدهماء من الناس:
قصة الزهد التي غنوا لها ... عللتهم بالسراب الخادع
نشوة الشاعر ما أجملها ... هي مفتاح الخلود الضائع
لقد سكر من خمرة الشاعر فجاء بشعر روحاني من نسيجه، وغمرك بجو سري يدرك بالحس إذا أرهف وعمق، ويحملك - على غير هوى منك - إلى نعيم من الحياة لن تقدر لك متعة فيه إذا لم تكن شاعراً في أعماقك
كأس الخيَّام هي الحياة كما يجب أم يكون، فيها الخمرة الخالدة، هذه الخمرة التي فقدها الشعراء:
أيها الخالد في الدنيا غراماً ... أين نيسابور والروض الأنيق
أين معشوقك إبريقاً وجاما ... هل حطمت الكأس أم جف الرحيق؟
وكأني بالشاعر قد فرغ الشعراء من حوله، يقول لهؤلاء: (الكرمة ما تزال خضراء، والمرأة ما تزال جميلة، والطبيعة لم تخل عن عهدها، فلمَ خثر فيكم الحس وجف الرواء؟ أتراكم ضللتم طريق الخمارة المحيية؟)
كلما لألأ في الشرق السنا ... دقت الباب الأكف الناحله
أيها الخمار قم وافتح لنا ... واسقنا قبل رحيل القافلة
لزوال الحياة وأوهامها اللذيذة في هاتين الكلمتين: (رحيل القافلة)، وقعه في نفسي كتلك (الكوكو) من مطوقة الخيام على طاق كسرى.
وقد لا تشيع فيك الكآبة مما في (ليالي الملاح التائه)، حتى تشيع فيك غمرة من الطرب، ويلتقي هذا الطرب وتلك الكآبة في مزبح يلطف في نفسك ويخلق حولك جواً يوحي إليك شوقاً وحسرة، وشوقاً إلى متع الحياة، وحسرة على زوالها
ها هم العشاق قد هبوا إلى الوادي خفافا
أقبلوا كالضوء أطيافاً وأحلاماً لطافا
ملأوا الشاطئ همساً والبساتين هتافا(361/66)
الصبا والحسن والحب هنا ... يا حبيبي هذه الدنيا لنا
فاملأ الكأس على شدو المنى ... واسقنا من خمرة الرين، اسقنا
أجل، أيها الشاعر، إن الدنيا للشعراء ما بقي الحب في قلوبهم المكشوف
الياس أبو شبكه
تصويب
سيدي الأستاذ البليغ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة: تحية وسلاماً. وبعد فقد رأيت في العدد (354) من مجلتكم الغراء تصويباً جاء في صفحة البريد الأدبي بقلم الفاضل (محي الدين إسماعيل) من البصرة يصح فيه قول أستاذنا الطنطاوي: (يستقري رمال الدأماء) الذي جاء في مقاله بالعدد الممتاز. وقد استرعت هذه الكلمة نظري بشكل خاص لأن هذا المعنى المبتكر في الأدب العربي كان قد استوقفني أيضاً حين قراءتي المقال منذ بضعة أسابيع. ولكني لم أكتب لعل الأستاذ يعود فيبين مرماه في هذا التعبير. ولكنه لم يفعل، والظاهر أنه أدرك أن هذا الأمر بيَّن لا يحتاج إلى بيان. فأحببت بعد أن أعود إلى الموضوع - بإذنكم - وأنوَّه عنه بكلمتين مخافة أن يخطئ في فهمه بعض القراء كما حدث لصديقنا الأديب البصري
لم يقصد الكاتب الصحراء (بالدأماء)، وإنما كان يعني البحر الحقيقي، ومن المعلوم أن رمال البحر لا تقل عن رمال الصحراء واستقراؤها أصعب. لذا كان التشبيه بها أبلغ، ووجدوها في القمر لا يمنع ذلك، ولا أزال أذكر جيداً ذينك المثلين المشهورين في الأدب التركي: (أكثر من رمال البحر) و (في البحر الرمال وعنده الأموال)
(بغداد)
فيصل صبيح نشأت
علاج الفتاة المنكوبة
حضرة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة الرسالة الغراء
تحية واحتراماً وبعد، فقد كتب الأستاذ المويلحي بالرسالة أخيراً يستنجد بأهل المعرفة لفتاة(361/67)
نكبت بلحية كثة للبحث عن علاج لهذه النكبة البدنية، وفيما يلي ما يعرف عن الموضوع:
المعروف أن هرمون الغدة القشرية فوق الكلى له تأثير كبير في خلق مميزات الرجولة المتعددة، وما نكبت به الفتاة وما يحتمل أن يبدو عليها من مظاهر في أخرى في المستقبل يعود إلى نشاط هذه الغدة الزائدة، وهذا النشاط عادة يعلل عادة بوجود أورام في الغدة تسبب هذا الهياج، وعلاج الحالة جراحي باستئصال الورم، ولا تمس الغدة لأن في استئصالها الموت في التو واللحظة.
وتصاب المرأة في سن اليأس بشارب خفيف ومرجعه هو ضعيف المبيض في سن اليأس، وهذه الحالة متداركة بالعلاج لهرمونات المبيض.
ويلاحظ العلامة أن الغدة الدرقية غدة نسائية، أي أنها تكبر حجماً عند النساء عن الرجال، وقد يكون نشاط الرجل أكثر من المرأة راجع إلى كبر الغدد الأدرينالية (مجموع الغدد فوق الكلى) التي تعتبر غدد النشاط الإنساني عند الرجال.
كامل يوسف
عضو المعهد الفلسفي البريطاني بلندن
حول نقد
حضرة الأستاذ الفاضل صاحب الرسالة:
الأستاذ عزيز فهمي أخطأ في روايته عن خطبة الأستاذ توفيق دياب خطأ طفيفاً لا يمس لب الموضوع حين ذكر أن خطبة البلفير كانت في رثاء سعد، بينما هي لم تكن إلا لتأييد مرشحي الوفد بالإسكندرية.
وقد كنت من شهود الحفلة التي وصفها الأستاذ عزيز، ولا تزال ماثلة في ذاكرتي وذاكرة كل من حضر تلك الحفلة الانتخابية، وأظن أن الأساتذة،: ممدوح بك رياض وعبد الفتاح الطويل وحسن سرور كانوا من شهود هذه الحفلة. . .
(السويس)
محمد محمود دواره(361/68)
آدم
حضرة الأستاذ صاحب الرسالة
تحية. . . وبعد فقد قرأت في العدد 360 من الرسالة الغراء مقال (الأسماء تعلل) للأستاذ مأمون عبد السلام، وهو في الحقيقة بحث قيم ودراسة ممتعه تعتبر خلاصة لتاريخ وضع الأسماء ومعانيها. ولقد أقام الكاتب الدليل على أنه الأسماء تعلل. وبذلك هدم النظرية القائلة بأن (الأسماء لا تعلل) غير أني أعتقد أن الكاتب أخطأ في علة تسمية (آدم) إذ قال: (. . . فمعنى كلمة (آدم) الرجل لأنه أول رجل خلقه الله) والصواب عندي هو أن (آدم) سمى بهذا الاسم لأنه خلق من أديم الأرض - أي من قديمها - هذا ما أعتقده والسلام على الأستاذ
(ح. ح)(361/69)
الكتب
وحي الرسالة
فصول في الأدب والنقد والسياسة والاجتماع
(480 ص من قطع الثمن. مطبعة الرسالة 1940. القاهرة
الثمن 25 قرشاً)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذا كتاب جديد تظفر به المكتبة العربية في هذه الأيام أخرجه للناس الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة.
والزيات - كما يعرفه قراء الأدب العربي - من أعلام النهضة الأدبية الحديثة، ومن قادة البيان الصحيح. اشتغل زمناً بالتعليم ثم انقطع للصحافة الأدبية الخالصة، فكانت له مجلة (الرسالة) وهي سجل الأدب وديوان العرب اليوم
وقد جمع الزيات بعض مقالاته الافتتاحية التي كتبها في الرسالة على مدى ثمانية أعوام في كتاب، لأنها في مجموعة أدل على الغرض والفكرة وأعم فائدة منها وهي متناثرة على صفحات الرسالة. ونظراً لأن هذه المقالات من وحي رسالته، لهذا جاءت تسميتها (بوحي الرسالة).
وهي فصول متناثرة يتنازعها الأدب الصرف والفكرة الاجتماعية المصلحة والنظرة النقدية الصائبة. وهي كلها بعد ذلك تفيض من أصل أدبي وتاريخي من شخصية الكاتب متخذة لوناً خاصاً. والزيات أديب فنان، يحسن إبراز الحياة التي في الأشياء بالفكرة التي تنطوي عليها، وبالعاطفة التي تحملها في طياتها، وبالخيال الذي تحتوي عليه. ومن هنا تجد التنوع في جمال كتابة الزيات التي تتوازن فيها الفكرة مع العاطفة مع الخيال، والتي تتناسب كلها مع صناعة فنية بارعة تفرغ كل هذه الأشياء في صورة أدبية وقالب فني محكم. والحق أن الزيات هو الأديب العربي الوحيد بين كتاب اللغة العربية اليوم الذي تميزت في ذهنه مدلولات ألفاظ فعرف دقائقها وأدرك الأسرار العربية المحيطة بها، ومن هنا تراه يلبس(361/70)
فكرته وإحساسه وخياله اللفظة الخاصة بها، التي تعطي لونها من لغة الكلام.
ويستهل هذا الكتاب بفصل مستفيض عن الجمال، ترى الكاتب بأسلوب المنشئ البليغ يعرض لماهية الجمال، ولغلبة الأصل الفني في نفس الكاتب نجده يبتعد عن مناقضات الفلاسفة وعلماء الجمال (البديع) فالجمال عنده يقوم على القوة والوفرة والذكاء، وينشئ في الذهن فكرة سامية، ويبعث في النفس إحساساً وشعوراً صادقاً، ويثير الخيال ويحرك التصوير. وهو تبسيط في شرح هذه المبادئ تبسط الأديب الفنان الذي لا يعنيه الأسباب قدر ما يعنيه الكنه والروح، وينتهي من بحثه إلى نتائج مهما نازعته في أمرها، فلا يمكنك أن تنكر عليه بعد ذلك صفة العمق في الفكرة والدقة في التصوير والصدق في التعبير. ثم هنالك فصل عن الرافعي يعتبر من خير الفصول الأدبية التي كشفت عن عبقرية هذا الأديب الذي لا نشك لحظة في أنه سيخلد ما بقيت العربية وبقي إنسان يعرفها. وفي هذا الفصل يبين الزيات خصائص أدب الرافعي في قصد واعتدال، فالفكرة مبسوطة بقدر، والتعبير نازل تماماً على قدر المعنى.
والحقيقة أن الزيات قد خلف في مدرسة البيان العربي المرحوم الرافعي، وهما على ما بينهما من اختلاف في الطبع وتباين في المزاج وتفاوت في الثقافة إلا أن قوة الفن وحركة الذهن تجمعهما. وإن كان ذهن الزيات يختلف عن ذهن صاحبه من جهة الصفاء وعدم انقطاع الصلة بينه وبين عقل الناس. فمعانيه مفهومة وهي ذات أصل دقيق من الفكر. وفكر الزيات ملتقى العقلين العربي والغربي، العربي في جلالته وروعته، والغربي في عظمته وترتيبه وانتظامه ودقته.
وجملة القول أن هذا الكتاب من خير الكتب التي تمسك على الناشئة أسلوبهم وتميل بتعبيرهم إلى البيان الصحيح، ومن هنا كان جديراً بالتقدير، إذ يقف أمام عوامل المجمة والتضعضع الطاغية على أقلام الناشئين من كتاب اليوم.
(أدهم)(361/71)
وجيدة
قصة للأستاذ شعبان فهمي
(276 صفحة من القطع الصغير. مطبعة صلاح الدين
الإسكندرية 1940. الثمن 8 قروش مصرية)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه قصة جديدة هي باكورة آثار الأستاذ شعبان فهمي، وهو أديب مصري شاب. أقام بفرنسا فترة من الزمن، فاتصلت به الأسباب بالجهود الفنية القصصية الكبرى هناك، فكان من ذلك أن اتجهت قابلياته الأدبية اتجاهاً قصصياً. تظهر فيما له من براعة في السرد وحبك الحوادث، وهذه القصة على الرغم مما فيها من العيوب الفنية تعتبر النموذج الأول للقصة المصرية الواقعية، وهي في الوقت نفسه باكورة طيبة للارتفاع بشأن القصة الطويلة في مصر. وهي على الرغم مما فيها قوية في روحها، تمتاز بانفراج عنصر الحياة التي فيها واتساعها، ولكن الحشد الكثير للوقائع والتفاصيل، ثم الاقتصاد في الوصف والتحليل للوقائع الرئيسية وللمواقف المهمة، ألقى على جوّها شيئاً من الضعف والفكرة التي تمسك على هذه القصة أسبابها متوافقة الأجزاء، فيها تناظر وانسجام. فهذا منير حمدي شاب مصري يستقبل الإسكندرية بعد غيبة سنتين في فرنسا يدرس فيها الحقوق فلا ترى وصفاً للمشهد العام للإسكندرية من البحر ولا تحليلاً مسهباً للمشاعر التي استولت على نفس الشاب، وإنما تجد الكاتب يطوي الموقف بسرعة معتنياً بوصف تفاصيل لم تكن لازمة ليدنيك أخيراً من خاتمة المشهد المؤلم، وهو لقاء منير حمدي لوالده بعد غيبته، وهو على سرير الاحتضار، ويصبح الفتى بعد وفاة والده موضع العناية والرعاية من عمه الذي يجب أن يظهر له عنايته ورعايته بأن يشجعه على المضي في دراسته حتى يستطيع أن يتزوج ابنته سنية، ويعلن منير الخير لبعض معارفه، فتنتهي إلى سمع سنية التي تثور لأنه لم يحدث أن أخذ رأيها في مسألة زواجها منه. غير أنها تظهر بعد ذلك تحفظاً واقتصاداً معه، والفتى في تقلب من الحال تتنازعه إغراء الفتيات وقلبه متفتح لإغرائهن وفي يوم ومنير بصحبة (سنية) ابنة عمه في مرقص، يحدث أن يتوعك مزاجها وتصاب بدوار؛ فيخرج(361/72)
مندفعاً ليجلب لها قرص (أسبرين) من صيدلية، ولكنه لا يحس بنفسه إلا وهو في مفترق الطرق حيث سيارات تمر وعربات تجري وترام قادم، فيجري ويغيب على الدنيا، ويصحو ليجد نفسه في المستشفى وسنية إلى جواره. ويشعر بألم في طرق قدمه اليمنى فيلق نظرة فلا يجد سوى قدم واحدة، أما الأخرى فقد بترت. وتتغير العلاقة بين سنية ومنير، فسنية ترى أنها مسؤولة عما أصاب ابن عمها منير، ويزيح منها إحساس العطف والحدب كبرياءها فتنكشف لها ما تكنه له من حب في أعماقها. غير أن منير يحمل هذا الحب على شفقتها عليه فلا يشجعها في حبها له ويميل عنها، وإن كان في صميمه يميل إليها. وهكذا يتغير الموقف في القصة. وفي هذا التغيير الذي أحدثه الكاتب ما يدل على براعة فنية غير أن منير تحت تأثير كبريائه يحاول أن ينسى سنية. وينساها بالانغمار في شخصية وجيدة التي تحدب عليه وتعطف. ويسافر منير مع وجيدة إلى باريس ليكمل علومه، وهنا يعقد عليها زواجه تحت تأثير ثورة من ثورات كبريائه أمام حب سنية له التي كتبت إليه تشكو تباريح غرامها له. والقصة في جزئها الأخير تفقد اتزانها وتناظرها الفكري، إذ تزيح وجيدة شخصية سنية من جو القصة وتحتلها؛ ولو كان الكاتب أتخذ من وجيدة شخصية عارضة تجيء لتحدث التواؤم بين منير وسنية، حيث ينزاح عن منير كبريائه وعن سنية شعورها بالمسؤولية فيما أصابه، ويبدو حبهما لبعض خالصاً، فإن القصة كانت تتخذ وصفاً أدق للكمال؛ ومن هنا يمكن اعتبار استهلال القصة أبرع ما فيها من جهة الفكرة المتسقة المسيطرة عليها.
وفي القصة مفارقات عجيبة، فبينما تجد أن شخصيتي منير وسنية متميزتان، تجد شخصية وجيدة عادية، رغم ما حاول الكاتب أن يبسطه عليها من الإبهام. وهي برغم عادية شخصيتها ترتبط بشخص منير المتميز الذي ينفصل عن شخصية سنية المتميزة. ولا شك أن هذه المفارقة نتيجة ميل المؤلف مع الفكرة الرومانتيكية حيث الخروج على القواعد الكلاسيكية في القصة. كما وأنه من الملاحظ على شخصية منير اضطرابها وضعفها، فهو لا يقدر على إثارة حب المرأة له إلا عن طريق إثارة شفقتها عليه، وهو في الوقت نفسه ثائر لكبريائه، وفي هذا الاضطراب تقوم شخصيته التي تخلق أعمال القصة بالتداخل مع الشخوص التي تقابله. غير أن الكاتب تمكن من إيجاد الموازنة بين شخصية منير(361/73)
وشخصية وجيدة بتداخل سنية بخطاب ترسله إلى منير تبثه حبها له. فتثور كبرياؤه ويرضى بالزواج من وجيدة. وفي ظله ما يجد راحته النفسية حيث حاجته للمرأة، لم تكن لزوجته فحسب، تشغل منه مكان النصف المكمل، بل كانت حاجته للمرأة كزوجة وأم تشغل منه مركز الأنثى من الرجل، لا مركز الأم من وليدها حيث تحدب عليه. ووجيدة بشخصيتها فيها ما يشبع هذه النواحي من نفس الفتى، وفي هذا سر تغلب دورها في القصة على دور سنية.
أما المميزات الفنية في القصة فتظهر في قوة السرد، وسرعة الحركة، والحشد للحوادث والوقائع، وهذا يعطي القصة ما فيها من حياة، غير أنها حياة عادية لا تميز فيها - وشرط من شروط القصص المتميز - ولعل البساطة في حياتها تعود إلى أن الكاتب يأخذ الأمور بالهوادة والملاينة، ويتبسط مع الحوادث برفق وبطء، مقيداً بالواقع المبذول للحس. ومن هنا فقصته نموذج طيب لما تكون عليه القصة المصرية الأصلية. وهي من هنا تحمل أذهاننا إلى جو أقاصيص محمود تيمور. هذا والكاتب على جانب من الاقتدار في رسم شخوص قصة من حركاتها وسكناتها. وهو يكتفي بتعريف الشخص بميزاته الداخلية دون أن يحاول تكملتها بتكوينه الخارجي. وهذا يرجع لضعف الأصل التصويري عنده. وهو بدوره عائد لبساطة الخيال
والبساطة والسهولة هي أبرز ما يميز أسلوب القصة، وإن كان للكاتب بعد ذلك قدرة على مسك أجزاء القصة وربطها ببعض وسلسلة حوادثها بحيث يتولد بعضها من البعض، غير أنها قدرة لا تتعدى محاكاة الواقع. ولعل هذا نقطة من نقط الضعف فيها إذا أردنا البروز والتميز القصصي، وسبب من أسباب نجاحها إذا وقفنا عند حد الواقع واعتبرنا القصة محاكاة للواقع المبذول للحس.
وهنا موضع الافتراق في النظر لهذه القصة من ناحية فنيتها. . . ويستحسن أن يتلو القارئ فصلاً قيماً كتبه الناقد الأديب صديق شيبوب (البصير 19 أبريل سنة 1940)، فهو فصل انتقادي جدير بالعناية، وهو يكمل ما جاء في كلامنا عن هذه القصة من أراء ومطالعات.
(أدهم)(361/74)
القصص
قصة أم
للكاتب الدانمركي (أندرسن)
(عالج أندرسن القصة الرمزية فبرع بها إلى حد بعيد. وقد
لاقت أقاصيصه ومؤلفاته أنصاراً ومعجبين لا يكاد يحصيهم
العدد، وترجمت مؤلفاته إلى كثير من اللغات، فتناقلتها الأيدي
وانكب عليها الأدباء والمتأدبون يقرأونها ويدرسونها، وما
يزدادون - على كر الأيام ومر الليالي - إلا إعجاباً وافتتاناً.
و (قصة أم) من أحسن أقاصيصه وأكثرها روعة وجمالاً؛ تصور عاطفة الأم المتوقدة، وحنانها المشبوب، وحبها الذي لا يدانيه حب.)
كانت الأم جالسة إلى جانب ابنها الطفل متجهمة الوجه مقطبة الأسارير، يبدو على محياها الحزن بأجلى معانيه وأوضح صوره لقد كانت تهاب الردى أن يمد إليه يمينه فينتزعه من بين أحضانها. أما الطفل الصغير، فقد كان شديد الشحوب كثير الاصفرار، وعيناه الصغيرتان كانتا مغلقتين بهدوء ودعة، كان يتنفس ولكن بجهد وعناء؛ وقد يتنفس ملء رئتيه ويبعث مع أنفاسه أصواتاً غريبة، حتى ليخال الناظر إليه أنه ينتحب بحسرة وألم. غير أن مرأى الأم الحزينة كان يدعو للشفقة والرحمة أكثر مما يدعو لذلك منظر الطفل المحتضر ها هو الباب يطرق. . . ثم يدخل منه رجل في خريف حياته يرتدي معطفاً من جلد الفرس الكثير الدفء، وحق له أن يرتدي مثل هذا المعطف؛ فإن الفصل فصل شتاء، والبرد برد قارس. وفي خارج المنزل كانت الثلوج تجلل كل شيء، والجليد يحجب عن الأنظار كل موطئ، والرياح الهوج تزفر وتئن، حتى لكأنها توشك أن تمزق الوجوه.
كان الزائر المسكين يرتعش من البرد ويرتجف، وبما أن الطفل قد أغمض جفنيه ليغفى بضع دقائق، فقد ارتأت الأم أن ضع للعجوز إبريقاً من الجعة صغيراً ليدفئ به جسمه، ويطرد البرد من كيانه؛ فلما قامت الأم إلى ذلك دنا العجوز من سرير الطفل وأخذ يهزه(361/75)
برفق. . . وعادت الأم بعد حين، فتناولت كرسياً مفكك الأجزاء مضطرب القوائم، ودنت به من مكان العجوز. وأمسكت يد الطفل الصغيرة بين راحتها وأخذت تتأمله بحب وحنان، بينما كان الطفل المريض يتنفس بجهد أكبر وعناء أشد والتفتت الأم على حين بغتة إلى الرجل العجوز وقالت له تحدثه:
- ألا تعتقد أنه سينجو وأفوز به؟. . . إن الله رؤوف بعباده وهو لن يفجعني فيه أبداً. . . أليس كذلك؟. . .
أما العجوز (المسكين!) فقد كان ملاك الموت نفسه. وقد هز رأسه هزة واحدة كان فيها جواب النفي أو الإيجاب
وأحنت الأم رأسها ونظرت إلى الأرض بعينين أفعمهما الدمع السخين، وسالت العبرات منهما على الوجنتين
وشعرت فجأة بثقل في رأسها، ونعاس في جفنيها. لقد طوت ثلاث ليال كاملات لم تذق للكرى طعماً. وهنا أخذ النعاس يداعب جفنيها، فأغفت دقيقة واحدة فحسب. . . ثم استيقظت وهي ترتجف من البرد وترتعش. وألقت حولها نظرات حائرة، وصاحت بخوف وذعر:
- ما هذا؟. . .
لقد ذهب الرجل. . . والطفل الصغير لم يكن في سريره. . . إذاً لقد أختطفه العجوز ومضى به
وفي أحد أركان الغرفة كانت الساعة التي أكل الدهر عليها وشرب، تحدث أصواتاً متمازجة مختلطة؛ وكانت تروسها تصرُّ وتزمجر، وسقط على حين غرة رقاصها الرصاصي الثقيل، ثم هدأت كل حركة، ولم يعد يسمع أي صوت. . .
لقد وقفت الساعة عن الدوران
وخرجت الأم المسكينة إلى الطريق تنشد طفلها العزيز وتناديه وهناك بين الثلوج كانت تجلس امرأة عجوز ترتدي الثياب السود الطويلة؛ فما أن رأت المرأة الأم حتى هتفت بها:
- إن ملاك الموت قد دخل دارك، ولقد رأيته خارجاً منها وهو يحمل ابنك الطفل، لقد ذهب بسرعة البرق وهو لا يعيد قط ما سلبه(361/76)
فقالت لها الأم بتوسل وتضرع:
- ولكن أخبريني بربك من أين ذهب، وإلى أية ناحية أتجه. أتوسل إليك أن تخبريني بذلك، وسألحقن به وأجده
فأجابتها ذات الثياب السود:
- إنني أعرف الطريق التي سلكها، ولكني قبل أن أرشدك إليها أريد أن تنشديني كل الأغاني التي كنت تنشدينها ابنك الطفل. إنني أحبها كثيراً، وأحب صوتك العذب أيضاً. إنني أنا (الليل) ولطالما سمعتك وأنت تنشدين، ورأيت عبراتك تفيض على وجنتيك وأنت تغنين
- سأنشدك إياها بأجمعها، ولكن في غير هذا الوقت، فلا تعيقيني الآن عن اللحاق بولدي والفوز به.
فاعتصم (الليل) إزاء هذا الجواب بالسكوت ولم يحر جواباً.
للموت الأم حينذاك يديها وأخذت تذرف الدمع السخين. ثم شرعت تنشد أغانيها الواحدة تلو الأخرى. إن أغانيها كثيرة، ولكن الدموع التي ذرفتها كانت أكثر من عدد الأغاني كلها وعندما نفذت الأغاني وانتهت الأم من الإنشاد، رفع (الليل) رأسه إليها وقال:
- اذهبي يميناً في غابة الصنوبر المظلمة، فمن هنا لاذ (الموت) بالفرار ومعه ابنك العزيز
فأسرعت الأم إلى الغابة وصارت تغذ الخطايا فيها؛ وما كادت تتنصفها حتى تشعب الطريق فلم تدر أي سبيل تسلك. ونظرت حولها فوجدت عوسجاً من الشوك، ذهب برد الشتاء وجليده بأزاهيره وأوراقه، وجعل أغصانه تتدلى في الهواء وحدها.
فدنت منه وقالت:
- ألم تر الموت حاملاً ولدي؟
فأجابها العوسج بقوله:
- أجل لقد رأيته، ولكني لن أرشدك إلى الطريق التي سلكها إلا بشرط. ذلك أن تدنيني - أولاً - من صدرك كي أصيب بعض الدفء لأني أوشك أن أجمد وافني من شدة البرد، أكاد أصبح قطعة من جليد.
وأدنت العوسج منها، وضغطته على صدرها لتنيله مبتغاه من الدفء، وتذيب عنه الجليد(361/77)
المتجمد بحرَّ صدرها، فنفذ الشوك إلى لحمها، وسال الدم القاني من صدرها بغزارة، ونزف منها بكثرة؛ فنبت للعوسج أوراق طرية خضر، وجللت الأزاهير الناضرة عروقه وفروعه في تلك الليلة الشديدة البرودة من فصل الشتاء. . .
ولكم في صدور الأمهات الحزانى من نار تستعرُّ ولهيب يتأجج ثم أرشدها العوسج إلى الطريق التي يجب أن تسلكها. . .
ووصلت بعد حين إلى شاطئ بحيرة لا سفينة فيها ولا قارب، ولم تكن البحيرة من التجمد بحيث يسهل المرور عليها دون أن يغوص فيها المرء أو يتكسر جليدها، كما أنها كانت شديدة العمق؛ فلم يكن من الممكن أن تقطعها الأم خوضاً. وكان لا بد لها من أن تصل إلى الضفة المقابلة أن كانت راغبة في الحصول على ابنها.
وثار الحب في صدرها والحنين؛ فارتمت على الأرض لترى إذا كان مقدورها أن تبتلع ماء البحيرة كله!. . . فكان هذا ضرباً من التفكير العقيم؛ ولكنها فكرت في أن الله رحمة منه وشفقة لا بد من أن يحدث لها معجزة تمكَّنها من اجتياز البحيرة. فقالت لها البحيرة حينذاك:
- ولكن لا. . . إن هذا لن يكون أبداً. . . كوني أكثر عقلاً وأبعد نظراً، وفكري فيما إذا كان في الإمكان أن نتراضى ونتفق. أصغي إلى ما سأقول:
أحب أن يكون في أعماقي جواهر ولآلئ، وعيناك هاتان لهما بريق وضياء وسحر وبهاء أكثر من الدر الكريم نفسه الذي لم أملكه قط في ماضيات أيامي، فإن شئت فاذرفي الدمع سخيناً وأكثري من البكاء كثيراً، فإذا ما فعلت فإن عينيك ستخرجان من محجريهما، وحينذاك أقودك إلى ملجأ النبات الكبير على الشاطئ الآخر، وملجأ النبات هذا هو مقر الموت أيضاً. . . الموت يحصد الأزهار والأشجار، وكل زهرة أو شجرة فيه رمز لحياة إنسان
فأجابتها الأم بحرقة والتياع:
- أفلا أجود بهما في سبيل استرداد ولدي؟
من كان يحسب أنه مازال في مآقيها دموع؟ ولكنها ذرفت الدموع السخين بحرقة والتياع لم تعرفها قبلاً وخرجت عيناها من محجريهما، وذهبتا إلى البحيرة حيث استقرتا في قاعها؛(361/78)
وانقلبتا إلى لؤلؤتين غاليتين لم تحز قط مثلهما ملكة من الملكات.
ورفعتها البحيرة حينذاك، كما لو كانت في أرجوحة، وبحركة موجه واحدة نقلها إلى شاطئها المقابل حيث يقوم هناك بناء كبير فخم، يجاوز طوله مساحة فرسخ كامل. ولم يكن ليقدر على تمييزه من بعد أحد: أهو جبل بمغاوره وغاياته أم هو بناء للفن والجمال؟
غير أن الأم المسكينة لم تستطيع أن ترى مما حولها شيئاً، لأنها جادت بعينيها في سبيل ولدها
وهنا علا صوت الأم وقالت بيأس شديد وألم مرير:
- ولكن كيف أعرف الآن الموت الذي انتزع مني ولدي واختطفه من بين يدي؟
فأجابتها امرأة عجوز كانت تتمشى هناك جيئة وذهوباً، وتحرس الملجأ وترعى الأزاهير والأشجار:
- إن الموت لم يأت بعد. . . ولكن كيف وصلتِ هذا المكان؟ وأي طريق سلكت؟ بل من الذي أعانك على الوصول إلى هنا؟
- إن الله عز شأنه هو الذي أغاثني وأعانني على ذلك. . . إنه رؤوف رحيم. وأنت أيتها العجوز سترأفين بي وتشفقين علىُّ. أخبريني أين أستطيع أن أجد مهجة نفسي وفلذة كبدي الغالية؟
فقالت العجوز:
- ولكن لا أعرف ابنك، وأنت - كما أرى - كفيفة البصر. وقد ذبل في هذه الليلة كثير من الأزهار والأشجار والنبات؛ وسيأتي الموت بعد قليل كي يقتلعها من الملجأ. وأنت تعلمين دون ريب أن لكل كائن بشري في العالم شجرة أو زهرة في هذا المكان تمثل حياته وصفاته، وهي تموت عندما تحين منيته والمرء حين ينظر إلى هذه النباتات يحسبها من النباتات العادية التي لا قيمة لها ولا شأن يذكر. ولكن عندما يلمس إحداها يشعر للحال بوجيب قلب وخفقات فؤاد. . .
تعالي معي إلى الملجأ وجسي تلك الأزهار والنباتات، فلعلك تهتدين إلى خفقات قلب ولدك. . . وماذا تعطيني إذا أرشدتك إلى ما يجب عليك صنعه أيضاً؟. . .
فإجابتها الأم المسكينة بحزن وألم:(361/79)
- لم يعد لدي شيء أمنحك إياه، ولكني سأبحث لك عن شيء يدخل إلى نفسك الغبطة والسرور؛ ولو كان ذلك من أقصى الأرض.
ولكني لست بحاجة إلى شيء من خارج هذا المكان أعطيني شعرك الطويل الأثيث؛ وأنت تعلمين دون ريب أنه جميل ساحر. إنه يعجبني كثيراً وسأستبدله بشعري الأشيب.
فقالت لها الأم:
- أما ترومين شيئاً غير هذا؟ إنه لأمر سهل! هاك. . إنني أمنحك إياه بملء إرادتي وكامل رغبتي.
ثم اقتلعت شعورها الجميلة - التي كانت زينة شبابها الغض وصباها الناضر - واستبدلتها بشعر العجوز، وهو قصير شديد القصر، أبيض ناصح البياض.
واقتادتها العجوز من يدها. . . ثم دخلتا إلى الملجأ الكبير، حيث كانت أجمل النباتات وأكثرها نضارة، تنمو بشكل باقات متراصة. وكان يرى تحت أجراس بلورية أجمل أزهار السوسن وألطفها، وإلى جانبها أزهار الفاؤيا المنتفخة. وكان يوجد أيضاً نباتات مائية شديدة النضار، وأخرى ذابلة أو شبه ذابلة، وكانت جذورها محاطة بالأفاعي الرُّقط. وغير بعيد كانت أشجار النخيل الباسقة قائمة هناك، وإلى جانبها أشجار السنديان والدلب. وفي مكان آخر كانت تنزوي حديقة البقدونس والسعتر وبقية البقول الأخرى، التي هي رمز العنصر النافع للحياة. وكان يوجد عدا ذلك شجيرات ولكنها كبيرة وضعت في أوان ضيقة، وهي في أوانيها هذه وكأنها على وشك الانفجار. وكان يرى أيضاً زهيرات صغيرة رديئة في بعض الأواني الصينية تحيط بها أزهار البابونج، وقد اعتنى بها كل الاعتناء. كل هذا كان يمثل حياة البشر الذين ما زالوا حتى الساعة أحياء يرزقون، يقطنون الكرة الأرضية من بلاد الصين إلى جزيرة غرونلاندا.
وأرادت العجوز أن نشرح لها كل هاتيك النظم والترتيبات الخفية، غير أن الأم رفضت ذلك وأبت أن تصغي إلى مقالتها، وطلبت من العجوز أن تقودها إلى كل نبت صغيرة طري العود. وأخذت الوالدة المسكينة تشم كل واحد من هذه النباتات بأنفها وتجسه بيدها، لتحس نبضات قلبه وخفقات فؤاده. وبعد أن جست المئات والآلاف، تمكنت من معرفة دقات قلب ولدها، وما أن عرفتها حتى صاحت بفرح وابتهاج:(361/80)
- (إنه هو. . .)
ومدت يدها إلى نبت صغير تهدلت أوراقه، وبدا عليه الذبول بأجلى معانيه وأوضح صوره فصاحت بها العجوز قائلة:
- حذار أن تلمسيه، وابقي هنا أن يؤوب الموت - ولن يطول غيابه - وامنعيه من أن يقطف هذا النبت، وهدديه باقتلاع جميع الأزهار المحيطة به إن هو فعل ذلك، وسيخشاك ويرهب جانبك، لأنه مسؤول عنها أمام الخالق العظيم، ولا يجوز لنبت ما أن ينزع من مكانه قبل يأمره الله بذلك.
وفي هذه اللحظة هبت ريح عاصفة شديدة البرودة، فتنبأت الأم بأن الموت يدنو ويقترب
ووصل الموت بعد يسير من الوقت، فلما رأى الأم نظر إليها شزراً وقال لها بغيظ:
- كيف تمكنت من الوصول إلى هنا، ومن أرشدك إلى الطريق؟ وسبقتني أيضاً؟ ماذا صنعت؟ وكيف وصلت؟
واكتفت الأم المسكينة بهذا الجواب المقتضب:
- (إنني أم. .)
ومد الموت يده الطويلة العقفاء إلى النبت الصغير؛ ولكن الأم أحاطته بيديها، وضغطتهما في حرص شديد واعتناء زائد حذراً من أن ترضَّه أو تلحق ببعض أجزائه الدقيقة أذى. فنفخ الموت على يدي الوالدة المسكينة فشعرت بهما تسقطان خائرتين. وكانت نفخة الموت هذه أشد برودة من رياح أكثر فصول الشتاء برداً وزمهريراً.
وقال لها الموت:
- إنك لا تستطيعين معاكستي في شيء.
- ولكن الله تعالى أقوى منك واشد بأساً.
- أجل. وأنا لا أفعل إلا ما يأمرني به. . . إنني مُزارعه! إن هذه النباتات والأشجار والشجيرات عندما لا تجد سعادتها وهناءها في هذا المكان أقتلعها لأغرسها من جديد في حدائق أجمل وأروع، وجنة الخلد الكبيرة إحدى هذه الحدائق، إنها أمكنة مجهولة ولا أستطيع أن أخبرك بما يجري هناك.
وعادت ألأم فصاحت من قلب جريح ونفس مكلومة:(361/81)
الرحمة! الشفقة!. . . لا تقتلع غصن ولدي بعد أن وجدته وأخذت تتوسل وتتضرع، وتنتحب وتتحسر، غير أن الموت لم يصغ إلى بكائها ونحيبها ولمُ يعر صنيعها اهتمامه أو انتباهه.
وقبضت الأم حينذاك على زهرتين ناضرتين والتفتت إلى الموت وقالت له مهددة:
- أنظر. . . إنني سأقطفهما مع جميع الأزهار التي تحيط بهما وسأتلفها كلها. إنك تدفع بي إلى اليأس المرير.
فصاح بها الموت:
- لا تجذبيهما!. . . لا تتلفيهما!. . . تزعمين أنك تعيسة شقية وفي نفسك رغبة في سحق قلب والدة أخرى؟. . .
- قلب والدة أخرى؟
قالت المسكينة هذا وخلَّت الأزهار من يدها حالاً
فقال لها الموت حينذاك:
- خذي عينيك، إنهما تبرقان وتلمعان بصفاء ووداعة أكثر من الوقت الذي أخرجتهما فيه من البحيرة. لم أكن أعرف أنهما تخصانك. خذيهما وانظري بهما إلى أعماق هذه البئر، فستريك ما كدت أن تهدميه فيما لو اقتلعت هذه الأزاهير، وسترين في انعكاسات الماء الخط المقسوم لكل من هاتين الزهرتين يمر أمامك كالسراب، وستريك أيضاً الحظ المقسوم لابنك فيما لو كتبت له الحياة.
وانحنت الأم على البئر فرأت صوراً من السعادة الضاحكة وألواحاً من البشر والسرور. ثم مرت بعد ذاك مشاهد مخيفة من البؤس والحزن والكآبة. وقال الموت معلقاً على ذلك:
- هذا وذاك كله من صنع الله ومشيئته
فأجابت الأم بحزن وغم:
- ولكني لم أتمكن من تميزها ما كان مقدراً لولدي. . .
فقال لها الموت:
- لن أخبرك بشيء من ذلك؛ غير أني سأعيد مشهده أمام ناظريك ثانية بين جميع الصور والألواح التي مرت أمامك الآن؛ وقد رأيت دون ريب ما كان ابنك ينتظر في الدنيا.(361/82)
فجثت على ركبتيها وهي مضطربة حيرى، وأخذت تصيح:
- أتوسل إليك. . . قل لي أكان هذا الخط المخيف مقدراً له؟ ولكن لا. . . أليس كذلك؟ تكلم. . . ألا تريد أن تجيب؟ آه. . . وقطعاً للشك خذه. . . كي لا يعرض نفسه للخطر، وكي لا يجابه مصائب وكوارث كالتي رأيت. إنني أكن من الحب لهذا الطفل العزيز - البريء من كل جرم، والبعيد عن كل إثم - أكثر مما أكن لنفسي. خذه. . . وليبق الحزن والأسى لي وحدي. اذهب به إلى عالم السماء والخلود. . . وانس الدموع الغزار التي سكبتها، والتضرعات الحارة التي توجهت بها إليك. . . إنس كل ما بدر مني من صنيع أو قول.
فقال لها الموت:
- ولكني لا أفهم مبتغاك!. . . أتريدين استرداد ولدك؟ أم تريدين أن آخذه إلى المكان المجهول الذي لا أستطيع أن أحدثك عنه؟
فجثت الأم حينذاك على ركبتيها ورفعت يديها، وجأرت إلى الله بدعائها:
- (رباه! لا تصغ إلىّ إذا التمست في أعماق نفسي ما يخالف إرادتك وينافي مشيئتك اللتين هما من أجل صالحنا ونفعاً أبداً. لا تصغ إلىّ ولا تستجب مني يا رباه. . .)
وسقط رأسها بهدوء وبطء على صدرها، وغرقت في لجة من الحزن العميق والغم الشديد.
ودنا الموت من النبت الجميل الصغير واقتلعه. . . وذهب به إلى الحديقة ليغرسه فيها. . .
(دمشق)
ترجمة
عبد الغني العطري(361/83)
العدد 362 - بتاريخ: 10 - 06 - 1940(/)
من مزايا عصر السرعة!
الحرب بين أمس واليوم
يقول الأغرار من الناس إن السرعة الخاطفة عبقرية هذا العصر ومزيته. فمن لم يجرِ مرَّ على ظهره المتأخر وغيَّر في وجهه المتقدم. وواجب السرعة أن تعمل ولا تستريح، وتفكر ولا تتأمل، وتأكل ولا تتذوق، وتنام ولا تحلم، وتموت ولا تمرض. ونحن نقول لهم إن السرعة ليست عبقرية ولا مزية؛ وإنما هي مس من الجنون أصاب العالم منذ اخترعت الآلة. ذلك أن الآلة مخلوق أرضي جهزه العلم بعشرات الأعضاء ليس بينها اللسان ولا القلب ولا العقل ولا الروح، فهي تلد ولا ترأم ما تلد، وتعمل ولا تضمن ما تعمل؛ وهي تكون للشر كما تكون للخير، وتنتج للموت كما تنتج للحياة. وطبيعة الآلة سرعة الحركة ووفرة الإنتاج؛ فلم تكد تسيطر على مجاري العمل في أقطار الأرض حتى دفعت العالم دفعاً عنيفاً إلى الإهتلاك والاستهلاك والتسابق والتنافس والإصطراع والكدح، فهو دأب لا يفتر، ونصب لا يستروح، ونهم لا يشبع، وعراك لا ينقطع. ولئن سألت المتبجحين بعصر السرعة على العُصر الخوالي كيف يجد الجسم راحته في هذا الاضطراب الدائم، وأين يلتمس القلب سعادته في هذا الجحيم المستعر؛ وماذا أدرك راكب السيارة أو الطيارة أكثر مما أدرك صاحب الجمل والحمار وراكب الحنطور والقطار، لا تسمع منهم غير جواب أشعب حين أجرى الصبيان إلى الوليمة خادعاً بالحيلة، ثم جرى هو معهم مخدوعاً بالوهم!
هذه هي الحرب التي عرفها العالم منذ خلق الله آدم وإبليس قد انقلبت في عصر السرعة آلية لا تعتمد على فضائل النفس ولا على خصائص الروح، وإنما تعتمد على سرعة الدواليب في الطيارة والسيارة والدبابة والدراجة والغواصة والبارجة. فأصبح الفرق بين الآلة والسيف في حصد الأرواح كالفرق بين الماكينة والمنجل في حصد الحنطة!
إن معركة الفلندر التي شبت بين الألمان والحلفاء أهلكت في أيامها المعدودة من الأنفس والأموال أكثر مما أهلكت حرب البلوبوينز التي نشبت ثمانياً وعشرين سنة بين أسبرطة وأثينا، والحروب الميدية التي اشتبكت أربعين سنة بين الفرس والإغريق، وحرب البسوس التي اضطرمت أربعين عاماً بين بكر وتغلب، والحروب الصليبية الثمان التي ظل ضرمها يحتدم ويخبو قرناً وثلاثة أرباع القرن بين الغرب المسيحي والشرق المسلم!(362/1)
اشتعلت هذه الحروب بين المدن أو بين القبائل أو بين الأمم قبل أن يوضع القانون الدولي وتُنشأ عصبة الأمم، ومع ذلك تكشَّف عجاجها الأقتم عن خلال مشرقة من الفتوة والبطولة والنبل والإيثار والوفاء والتضحية كانت للأدب الإنساني الخالد مصدراً لا ينقطع رفده ولا يفتُر وحيه.
وكانت الحروب الإسلامية على الأخص في الفتوح أو الفتن تجري على سَنن مستقيم من الدين والخلق والأدب لا تزيغ عنه. فالقلوب التي تجيش بالغل لا تلبث أن تخشع للصلاة، والألسنة التي ترتجز بالحماسة لا تنسى أن تتناشد بالأدب. وما ظنك بجيش يفرض عليه دينه أن يؤدي الصلاة جماعة في المعركة؟ أتراه حريَّا أن يجاوز الحد إذا قاتل، أو يجانب الوفاء إذا عاهد؟ وما رأيك في جيشين يتهادنان ساعة ليحكم فارس بين رجلين اختلفا في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكان الحكم من جيش والمختلفان من جيش آخر؟
لقد رووا أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصارا إليه، فقال: لا أقول فيهما شيئاً، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطرى بن الفجاءة. فأتيا فوقفا حيال المعسكر، فدعواه فخرج يجر رمحه وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله، فقالا: نحب أن تخبرنا ثم تنصرف إلى ما تريد. فقال: من يقول:
وطوى القيادُ مع الطراد بطونَها ... طي التِّجار بحضرموت برودا
قالا: جرير. قال: هو أشعرهما!
فقل لي بربك: أين تلك الحرب التي كان يبرز فيها رجل لرجل فيتقاولان ويتصاولان على مسمع ومرأى من الجمعين المتقابلين، حتى إذا حميت الصدور واحمرت الحَدق حمل بعضهم على بعض فيُقتل نفر ويجرح نفر - من هذه الحرب الميكانيكية التي يقف فيها المليون حيال المليون فتغشاهم ظُلل من السماء ترسل الشهب والصواعق، وتكر عليهم قُلل من الحديد تقذف اللهب والقنابل! ثم يُرعد الجو والبر والبحر بآلات الموت والدمار ساعة من الليل أو النهار، فإذا بك لا ترى بعد ذلك عشرات من البلدان عمرتها الحضارة في دهر، ولا ألوفاً من الشبان نشأتهم المدنية في جيل!
لقد أتخذ الفرس يوم القادسية دبابات من الفيلة هولوا بها على المسلمين بعض الوقت، ولكن(362/2)
العرب لم يلبثوا أن أصابوا مقاتلها في الخراطيم فمسحها الشهداء بالسيوف، فانقلبت الفيلة إلى أهلها فعجنتهم بأرجلها وهي مولية. ولكن دبابات هتلر كضمير هتلر لا تحس الوخز ولا تحفل الصدام ولا تبالي العاقبة؛ فهي تهجم هجوم الجراد الجهنمي على النبي العميم، فلا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. فإذا أضفت إلى ذلك الويل أن الذين أوقدوا نار هذه الحرب حلوا أنفسهم من روابط الدين والخلق والقانون والعرف والشرف، أدركت مبلغ ما تعانيه الإنسانية اليوم من يأجوج ومأجوج في أمة بسمرك ونيتشه وغليوم وهتلر!
ليت للعالم يا رباه كرَّةً إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان، ومدنية القلب واللسان، لينجو من هذا العلم الذي يدمر ما يعمر، ويخلص من هذه الحضارة التي تأكل ما تلد!
أحمد حسن الزيات(362/3)
هزل مصر والشام
من مذكرات الأستاذ محمد كرد علي
تشهد في مصر ما تشهده في الممالك الكبرى من مظاهر الحياة ففيها الجدِّ على أتم حالاته، وفيها الهزلُ على غاية من الإتقان. ويُطربني جِدِّها وهزلها. وأنا في مصر مصريَّ، وما أنا بمصريَّ. فلئن تخطتني جنسيتها، فما حرمتني الفطرة مشاركة أهلها في عواطفهم وشعورهم وكثير من أطوارهم. كانت إقامتي في مصر منقطعة، فلم أر أن أعرض لسياستها إلا بقدر معلوم، وما عنيت العناية اللازمة بالوقوف على تراجم أهلها، وتوخيت أن أعرف مجملات عنهم، وذلك لتشعب أطراف موضوع لا يبَّرز فيه إلا من تمحض له وأنقطع إليه. وأحتاج على الأكثر أن أعرف من رجال مصر تراجم العلماء والأدباء، أما تراجم السياسيين وغيرهم فشرح يطول.
من الطبيعي أن يتآلف المتشاكلون في الفكر والثقافة، وفي القاهرة من ذلك ضروب وألوان، ولا يصعب كثيراً على النازل عليهم أن يصل إلى الطبقات المنوعة إذا كان إدلاؤه مهرة ما دام المصريون معروفون بهذا الظرف وهذا اللطف. وبعض سكان عاصمتها كأهل العواصم في الغالب تصدُّهم متاعب الحياة فيها عن الافتكار فيما يفكر فيه الناس في العادة، من مثل الوفاء وتعهد الصاحب، فيصْدُق عليهم أنهم من الطبقة التي لا يسرُّها من حضر ولا يسوئها من غاب، أو أن هذا من خلق عدم المبالاة المتأصل في بعض إفرادهم.
مصر من البلدان التي يعيش فيها الغريب خمسين سنة ولا يفتأ كل حين يقع فيها على شيء جديد، ويظفر بموضوع طريف ما كان له به عهد بالأمس. عرفت صديقي وحيد بك الأيوبي، وهو وأنا في مَيعَة الشباب، وكان من أبناء الأعيان المفكرين المثقفين. وتفارقنا زمناً ثم التقينا قبل اثنتي عشرة سنة، وإذا به رئيس جمعية جهرية سماها اسماً غريباً (البُعكوكة)، وبُعْكوكة الناس مجتمعهم على ما في القاموس. وكانت هذه البعكوكة تلتئم كل ليلة في قهوة متواضعة من منعطفات شارع إبراهيم باشا، ثم انتقلت إلى قهوة السلام (كافيه دي لابيه) في نفس الشارع. ويبدأ اجتماع أعضائها من بعد العشاء، وينصرفون بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين أحياناً. وتتألف من محامين وأطباء ونواب وموظفين ورؤساء دواوين ومؤلفين وصحافيين وأعيان أصحاب أطيان موسرين وغيرهم، ولا يقل(362/4)
المواظبون منهم عن ثلاثين رجلاً، ما فيهم إلا الممتاز بأدبه وفضله. فإذا اجتمعوا تجردوا عن مظاهرهم، وكانت اجتماعاتهم للمرح والتنادر وسماع الأخبار. ويجاهرون بأن بعكوكتهم فوق الأحزاب وفوق السياسة، ولا غاية لهم إلا الضحك والإضحاك. والرئيس وحيد بك الأيوبي، ونائب الرئيس إدوارد بك قصيري من أكبر المحامين في مصر.
هؤلاء الجماعة من العاملين في الحياة، فإذا انتَدوْا كل ليلة - وقد يزورهم في بعكوكتهم إخوان لهم من حين إلى آخر - فللترويح عن نفوسهم، وللخوض في لهو الحديث. ولك أن تصف جماعة البعكوكة بأنهم مجدُّون في أوقات الجد، هزَّالون في أوقات الهزّل، ويا ما أُحَيْلي اجتماعاتهم، وأوقع في الأذن أصوات مجادلاتهم. وشرفني الرئيس بعَدِّي في جملتهم، وأمرني أن أنشئ بعكوكات أو بعاكيك في بلاد الشرق. فصدعت بأمره؛ وأنشأت في داري بعكوكة يختلف إليها أخلص الأصدقاء، ولكن خُلاَّني بعاككة دمشق إذا شابهوا إخواني بعاككة القاهرة في دراساتهم وثقافاتهم، فلن يشاركوهم بخفة أرواحهم وتنكيتهم.
بلاد الشام سهلية جبلية معتدلة يغلب الانقباض على أهلها، وبلاد مصر سهلية حارَّة يغلب المرح والطرب على أهلها.
ولله ما يجري في هذه البعكوكة المصرية، فإن كل أعضائها والرئيس على رأسهم يصطنعون المرح ويلتمسون الضحك، وناهيك بجمعية فيها مثل الدكتور محجوب بك ثابت المشهور بعلمه وخفة روحه وحضور نكتته. وأذكر أني عدت من الشام في بعض السنين، وكنت متلهفاً شوقاً إلى أخواني البعكوكيين فقصدت إلى البعكوكة لأستطلع طِلع أحوالهم، فرأيت بعضهم مكتئباً، والرئيس مقطباً، فسألت عن السبب فقيل لي: إن الرئيس مصاب بضعف بعض الأعصاب، والأعضاء في حزن من جراء ذلك، وكل منهم يكد قريحته ويستوحي علمه لإيجاد علاج يُعيدُ إلى الأستاذ نشاطه وصحته، ويتنافسون في هذا الشأن، ولا تنافس وزراء السلطان إبراهيم العثماني في إيجاد مقو لضعفه، مع الفارق بين أعضاء البعكوكة وأعضاء وزارة الفاجر إبراهيم. وفي الحقيقة أن أعضاء البعكوكة كانوا يجدون في شفاء رئيسهم مخافة أن يصاب المرؤوسون بمثل ما أصيب به رئيسهم، ولا تسل عما ذكر خلال تلك الأيام من نكات وحكايات وأشعاراً وآثار، وأكثرها مما يضحك الثكلى، ويسلي الحزين، ألتُزِم فيه جانب الأدب، ورعاية آداب الاجتماع.(362/5)
رجعت إلى الشام وكتبت كتابين مطولين في فترة قصيرة إلى الرئيس، أذكر له بعض ما فتح الله عليَّ من أدوية لدائه. فلما قرأهما الرئيس على الأعضاء تجددَّت لهم عناية بمداواته، وبقى القوم يهتمون لذلك سنة لا تخلو ليلة من الإلماع إلى سير مرض الرئيس وإلى ما ظهر من الأدوية وإلى ما وفقوا لمعرفته من طلاسم وادعية إلى غير ذلك مما ينجع في شفائه. والرئيس يشكو وهم يخففون عنه آلامه ويسلّونه. ولما عدت في الشتاء التالي إلى القاهرة سألت الرئيس عن حاله فضحك وقال: وأنت أيضاً صَدَّقت ما زعمته لكم؟ إني أدعيت هذه الدعوى لأُضحككم، وقد حصل المقصود من هذه الفِريْة فضحكتم بها حولاً كاملاً، وأنا بحمد الله ليس لي ما أشكو منه مما ذكرته لكم، فعجبت وأكبرت صفات الرجل وحبه لمرؤوسيه، كما كنت أعجب بكرمه على كل بائس مُمْلِق، وقلت له: إن انتسابي إلى بعكوكته أحب إلى نفسي من كل لَقب لُقِّبْت به، ومن كل مجمع علمي شرفني بعضويته، فمع جماعته السَّلْوَى والسرور، ومع أولئك كَدَّ الذهن وكرب الجد.
يكتب رئيس البعكوكة الحين بعد الآخر في جريدة الأهرام قطعاً لطيفة في اللغة والأدب والسياسة. وجاء البرق ذات يوم ينقل كلام أحد رجال السياسة ويقول: إن الإنجليز يرابطون بجيشهم في مصر لحماية الاستقلال؛ ومن الغد كتب الرئيس بضعة أسطر في الأهرام يُكَبِرُ هذه العناية بأمر مصر ويقول: إن عندنا الآن إذاً احتلال واستقلال، فماذا نسميهما؟ نسميهما (الاحتقلال) أخذ من الأول حرفين ومن الثاني ثلاثة. وسأله مكاتب التيمس في القاهرة: وماذا نسمي ذلك بالإفرنجية؟ فقال على البديهة: مأخوذة من الاحتلال والاستقلال. وكثر السائلون للرئيس عن هذا الاسم الجديد وعما إذا كان له أصل في اللغة وهنئوه على توفيقه للعثور على هذه اللفظة الجميلة. وعبثاً حاول أن يقنعهم أنها لفظة وضعها وضعاً؛ وما كان بعضهم يرضيهم إلا أن يكون وجدها في معجمات اللغة.
ورئيسنا يعطف على كل من يعدُّه الناس ثقيل الظلِّ، فإذا سمع بمن هذه حاله أحتضنه وبره. وقد يصحب أحد الصعاليك المعدمين إلى مطعم الكونتيننتال يغدِّيه أو يعشِّيه. وقد أعترض عليه مرة نائب رئيس البعكوكة إدوارد بك القصيري قائلاً له: إن فلاناً في حاجة إلى (بنطلون) وأنت تنفق عليه في الوجبة الواحدة ما يزيد على الخمسين أو الستين قرشاً صحيحاً. أعطه ثلاثين قرشاً يشتر بها بنطلوناً بعشرين والعشرة ينفقها على عياله. فأجابه(362/6)
الرئيس: سبحان الله يا إدوارد بك! ألا تعلم أني إذا عاونته على ابتياع بنطلون جديد أكون قد غيرت معالمه وأبدلت شكله؟ وأظن الرئيس يقصد باستصحاب الفقراء إلى مطاعم الأغنياء ليقول لهؤلاء بلسان الحال إنه لا قيمة لما تتعاظمون به من البذْل، وأن الفقير قد يشاطرهم هناءهم ببذل عَرَض قليل.
وعقل رئيس البعكوكة، والحق يقال، ليس من العقول المحدودة، بل عقله مبتكر مبتدع، فقد أصدر في صباه ثلاث جرائد في وقت واحد بأسماء مختلفة، ومديرين ومحررين مختلفين، جعلها كلها لمقاومة الاحتلال، وأقام لها كتاباً ومراسلين ومحررين، وكان يصدرها في أوقات مختلفة. وليس لها كلها إدارة غير جيب الرئيس وقمطره يكتبها أو أكثرها، وينشرها على أنها ثلاث جرائد مختلفة الوضع والطبع، متحدة المنزع والغاية. ولم تُكشف هذه اللعبة إلا بعد مدة طويلة. وله من هذه الألعاب أشياء تَسر ولا تَضر يَضحك منها ويُضحك.
كان الشيخ طاهر الجزائري كثيراً ما يحدثنا بأخبار الدكتور حسين عودة نزيل صيدا، يُلقيها علينا ممزوجة بهزل وغير خالية من جد. فامتلأت الرؤوس بأخبار صاحبه، وود كل واحد منا لو يطير إلى صيدا فيتعرف إلى هذا الطبيب. وما كتب لأحد من جماعتنا أن يقوم بهذا الغرض قبل صاحب هذه المفكرات. فإني قصدت إلى صيدا لألقي فيها جامعَ شتات الفضائل بلدَّينا حسين عودة، فأبلَّ غليلَ شوقي إلى رؤيته.
وأريد أن يُعرْف من هو الدكتور عودة. ولد الدكتور في دمشق، والتحق في صباه بمدرسة القصر العيني في القاهرة لأخذ الطب، فرسب لشدة ذكائه عدة سنين، وما زال يرسب في صَفِّه حتى جاء مصر الأمير عبد القادر الحسني الجزائري يوم فتح قسم من ترعة السويس سنة 1863. وقد رجاه أهل حسين عودة أن يكلم الخديوي إسماعيل ليسهل على أبنهم أخذ شهادة الطب. فصدر الأمر بمنحه شهادته فأغتبط وأختار السكنى في صيدا زاهداً في سكنى بلدته الأصلية لئلا يكون موضع سخرية عند الهزالين من أهل دمشق، لأن خلقته وقيافته تضحكان حقيقة، فهو مجدور، في عينه شتر، وفي رجله عرج. ووفاء لمدرسته لم يرض أن يخلع بزتها طول عمره؛ فكان إذا بلى المعطف، وقد كتب على أزراره (تلميذ القصر العيني) أوصى على معطف جديد من نمطه، وذلك كل عشر سنين مرة، ورفع الأزرار عن المعطف القديم، وأناطها بالبذلة الجديدة، يذكر الناس بأنه خريج كريم، من ذلك المعهد(362/7)
العظيم.
كانت هدايا الدكتور تتري إلى صديقه الشيخ طاهر الجزائري بدمشق يحملها المكار كل مدة من عاصمة الفينيقيين إلى عاصمة الأمويين. أتدرون ما كانت تلك الهدايا النفيسة؟ كانت قصاصات من جرائد مصرية وسورية قديمة وحديثة، أقدمها لا يزيد على بضعة أشهر، وعمر أحدثها شهر واحد فقط. وكان يقطع من كل جريدة ما راقه، ويجمع الباقي ويضعه في كيس نظيف أبيض، ويخيطه جيداً حتى لا تمتد الأيدي إلى السرقة منه. وقد أتحفني المُهدي إليه مرة بكمية منها. فلما رأيتها قديمة استعفيت من أخذ حصتي في الدفعة الثانية، وأحببت أن أخص بها من يحبون الجرائد ولو كانت قديمة بالية.
كان الدكتور حسين عودة مولعاً بالحشائش، ويطب مرضاه بها على الدوام، وقد ملأ المجلات الطبية في عصره بفوائدها، فأول ما وقعت عيني عليه في داره مجموعات عظيمة من هذه الحشائش مرتبة مصففة مجففة، جعلت على مناضد ومقاعد، وكتبت أسماؤها عليها مثل ما ترون من نوعها في متاحف النباتات ومعارضها، وألقيت نظري على الحائط فإذا به عال جداً لا يقل علوه عن أثني عشر متراً، فسألته ولم هذا الحائط شاهق إلى هذه الدرجة؟ فقال: لأن النظر إلى البحر يؤذيني، ويحمل الكرب إلى قلبي، ولذلك أقمت هذا السور ليحول دون نظري وما يكره.
كان الدكتور يطب الأغنياء في بيوتهم بقرش واحد، فإذا زاروه في عيادته أخذ منهم ربع قرش (متاليك)، أما الفقير فإن قصده أو ذهب هو إليه بنفسه، لا يقبض منه شيئاً، ويعطيه ثمن الدواء، والدواء بالطبع بعض تلك الحشائش. ولذلك يُعَّد الدكتور عودة من أبر الأطباء بيمينه التي أقسمها يوم خرج من المدرسة الطبية إلى مدرسة الحياة. وسرت مع الدكتور في أسواق صيدا وضاحيتها فرأيت أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساءهم، أطفالهم وبناتهم، يعرفون الدكتور ويعظمونه، ويسألونه في الطريق علاج أسقامهم، ويدعون له بطول العمر.
ودّعت الدكتور وقد شفيت النفس من المتعة به ثلاثة أيام، وكنت نازلاً في الطبقة الثالثة من فندق المطران، فقيل لي بعد الغروب بثلاث أو أربع ساعات: إن الدكتور آت لزيارتك، فعجبت وخففت لأتلقاه على السلم وقلت له: لماذا تصدْع نفسك يا سيدي، وقد ودَّع كلٌ منا(362/8)
صاحبه في النهار؟ فقال: هذا واجب أقوم به، فشكرت له أدبه وتفضله. ورأيته في هذه الزيارة الليلية يحمل نبوتاً أطول منه وفانوساً صغيراً، ويلبس في رجليه قبقاباً عالياً. فسألته بأدب: لم يلبس القبقاب والوقت صيف؟ فأجابني بما معناه: إن دبابات الأرض كثيرة، ولا يأمن الساري في الليل من شرها، فلكي يكون بمأمن من قرصها يحمل هذا المصباح يستصبح به عله يراها قبل أن تصل إليه؛ فإذا اقتربت منه ضربها بالعصا، وإذا حاولت الصعود إليه تعذر عليها الصعود إذ يقتلها قبل أن تصل إلى رجله، وكان في قوله جاداً، وكان جداً كله، وهذا وجه لطافته.
ومن جملة جدِّه أنه كان يعتقد أنه يعيش العمر الطبيعي، والعمر الطبيعي عنده مائة وخمس وثلاثون سنة، أو مائة وأربعون لا أدري، ولما كان هو على غاية من التقوى ولم يسيء استعمال قوته قط، فإنه بالغ بحول الله هذا العمر لا محالة. أما هو فعاش في هذا الأمل اللطيف نحو تسعين سنة. ومن أخبار جدّه، وهو معتقد بما يقول ويفعل ما حدث له مرة، وهو يتنزه على شاطئ البحر مع صاحبه الشيخ طاهر، وقد لحق بهما أحد الطلبة، وكان هذا لا يخلو من جذب على ما يظهر. وبعد مضي أربع ساعات على اجتماعه إليهما ألتفت إلى الدكتور وقال له: يا سيدي الدكتور أرجو ألا يكون في حضوري ما ينغص عليك خلوتك إلى الشيخ. فأجابه الدكتور بدون توقف: يا بني نحن لم نحس أنك معنا، وأنا في شاغل عنك، نحن الآن ندبر أمر ثلاثمائة مليون من المسلمين، وهكذا كان وما شاء الله كان.
محمد كرد علي(362/9)
حركات الإصلاح الإسلامية
2 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة برلين
ومدرس بكلية الشريعة
هكذا نرى أن التشريع الإسلامي هو محور الدائرة التي تدور حولها حركات الإصلاح والتجديد في الإسلام، والباب الذي ينفذ منه المصلحون لتجديد الحياة الإسلامية تجديداً عملياً، وأن مسألة كون الإسلام قابلاً للإصلاح والتجديد والرجوع به شاباً قوياً إنما تقوم على مسألة أخرى: وهي هل من الممكن التخلص من أشكال قديمة جامدة في الفقه الإسلامي؟
وإذا ما أردنا أن نحدد البحث تحديداً أدق لنتعرف العامل الأول الذي أملى على المصلحين إصلاحهم وجرهم إلى التفكير في ذلك فلا يسعنا في حدود المؤرخ الديني أن نفكر أن ذلك يرجع إلى الأصل المعروف (الإجماع) ذلك الأصل الذي صبغ الفقه الإسلامي بما لم يصبغه به غيره، ودعم به أهل السنة وجهات نظرهم تدعيماً لم يقبل النقض. وهو في حقيقة الأمر المفتاح الذي نفهم به تطورات الإسلام في علاقاته المختلفة في العقائد والتشريع والسياسة، فما تقبلته الأمة حقاً وصدقاً فهو حق وصدق، وما لا فلا؛ ويكون صحيحاً فقط في الشكل الذي يعطيه له الإجماع، حتى تفسير القرآن الكريم والسنة يكون صحيحاً منه ما يقابله إجماع الأمة، والعقائد - تلك التي خضعت لكفاح قاس في أول الأمر - أصبح موافقاً للدين منها ما ختم عليه الإجماع بخاتمه النهائي. وهؤلاء الرجال وهذه الكتب تعتبر إمامتها إذا أعتبر هذه الإمامة إجماع المسلمين. وهكذا نرى أن الإجماع قد لعب دوراً هاماً في الإسلام بما لم يقم به مبدأ مثله. ومن المعروف أن هذا الإجماع لم يأت نتيجة اجتماع منظم، وإنما كانت دائرته أول الأمر الإحساس الجمعي والرأي العام وصوت الأمة.
وقد حاول العلماء حدّه زماناً ومكاناً أوردّه إلى إجماع الصحابة أو علماء السلف من أهل المدينة أو الحرمين؛ ولكن هذه المحاولات شيء ومظاهره المختلفة التي رأيت شيء آخر.(362/10)
وأهم من هذا هو أن الإجماع الذي حقق في الماضي قوة التعادل ومطابقة العصر ليس بعيداً أن يكون نواة قوة لمكافحة الجمود والنفوذ الشخصي إذا ما أستغل استغلالاً مرضياً وهو ما نتركه للمستقبل.
وقد يظهر غريباً إذا قلنا إن عوامل التجديد قد أظهرتها وحددتها طريقة أهل السنة نفسها، ذلك أن طريقة أصول الفقه إن تكن لا خلاف فيها في أوساط أهل السنة، فقد وجد من العلماء المفكرين من لم يقبل البقاء بعيداً عن دائرة الاجتهاد. وظهر له أن التقليد والتمسك بمذهب بعينه أمر لا يحتمل، وعند ذلك حدد هؤلاء العلماء من أول الأمر - شعروا أم لم يشعروا - دائرة هذا الأصل الخطير - أعني أصل الإجماع - وضيقوا من نتائجه. فالإمام الغزالي نادى بالاجتهاد وكثير ممن جاء بعده فعلوا ذلك أيضاً مثل أبن تيمية والسيوطي. وقد أستند المصلحون من ناحية أخرى في مناهضتهم للإجماع إلى أن تحديده بقى وقتاً طويلاً مجالاً للأخذ والرد حتى استطاع آخر الأمر أن يأخذ هذا المحيط الواسع الذي انتهى إليه.
وقد جاهد الحنابلة من بين المذاهب الأربعة جهاداً كبيراً في سبيل الاجتهاد لأجل مصلحة السنة نفسها التي عرفوا بأحيائها. فأبن تيمية وتلميذه أبن القيم استعملا هذا السلاح ضد البدع الكثيرة المنتشرة. وقامت على هديهم وفي روحهم حركة الوهابية بجزيرة العرب أثناء القرن الثامن عشر الذين حاربوا البدع وأزالوها من البلاد المقدسة، وتعاليم محمد بن عبد الوهاب مؤسس هذه الحركة متفقة تماماً مع تعاليم أبن تيمية، فقد كان يدعو إلى التمسك بالدين في الشكل الذي كان عليه في حياة النبي وصحابته، وكان غرضه الرجوع إلى الإسلام، في الصدر الأول، وذلك إنما يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما. وإذا ما أتهمه خصومه بأنه مخالف للإجماع حدد سلطان الإجماع وحصره مخالفاً في ذلك جمهور أهل السنة. ولا يخفى أن هذه البدع التي حاربها بشدة وعدها كفراً كانت في الواقع مقبولة بإجماع المسلمين.
وقد بلغت درجة الكفاح أشدها عندما أتهم أبن تيمية والوهابيون بأنهم خارجون عن الدين وعلى جماعة المسلمين وتعاليم أهل السنة السائدة. ولكن الوهابيين وقفوا في مكانهم ثابتين متمسكين بمذهب الإمام أحمد. وكما أن مرّ الأيام قد خفف من الحكم على أبن تيمية، فكذلك(362/11)
أخذ كثير من المسلمين بعد زوال الخطر الوهابي يغيرون من رأيهم في هؤلاء العرب المهاجمين.
ولم تنته آثار حركة الوهابيين بسقوطهم السياسي وهدم عاصمتهم الرياض سنة 1818، وذلك أن تعاليمهم وآراءهم بقيت منتشرة في الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 ضموا إليهم بلاد العرب وأصبح قائدهم الملك عبد العزيز بن سعود الزعيم المعترف به في البلاد المقدسة.
وإذا كان رجوعهم لم يقابل بشدة كما قوبل به منذ مائة عام، وإذا كانوا لم يرفضوا بقوة إزاء تيارات التجديد الحديث، فإنهم مع ذلك لم يتركوا تعاليمهم، وأصبح القول بخروجهم عن الدين غير موجود الآن عند جمهور أهل السنة.
وأهم من هذا كله في هذه الكلمة الإجمالية، هو أن هذه الحركة الوهابية أخذت تدب في أثناء القرن التاسع عشر إلى بلاد إسلامية أخرى، وعلى الأخص بلاد الهند ومصر، ومن بين كل هذا قد أحدثت دعوتهم بالرجوع إلى الإسلام الأصلي الخالص وترك البدع التي حدثت بعد ذلك، والبعد عن تعقيدات الفقهاء ومماحكاتهم، قد أحدثت هذه الدعوة تذكيراً للمسلمين ومفكريهم الذين لم يريدوا معاداة أي حركة إصلاحية في الإسلام.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن الحركة الوهابية كان لها أهمية كبيرة بعيدة الأثر في هذه الحركات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت أخيراً، وإن يكن الاتصال بينها وبين هذه الحركات غير مباشر وغير واضح كل الوضوح. ومن هنا يجب أن نحسب لها حسابها في الكلام على هذه الحركات التي سنلم بها بعد إن شاء الله.
علي حسن عبد القادر(362/12)
إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
تركنا الموكب، وقد وقف في ظاهر دمشق، حول قبة (العسالي)، وقد ملأت وفود المودعين تلك الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقُمت أشكرهم باسم الراحلين وأودعهم، وأشرح الغرض من هذه الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى الغيب، فزاد شحوبها الموقف رهبة وجلالاً، وأقبل الناس علينا يودعوننا؛ فلم تكن ترى إلا عناقاً أو تقبيلاً وإخلاصاً متجلياً، وحباً وعطفاً، فلم يبق من الناس من لم تسل عبراته. . .
وإن أنس لا أنس مشهد لحفيد زكي آغا سكر من وجوه الميدانيين، ورفيقنا في سفرنا، وقد تعلق به لا يريد فراقه، ويبكي فيبكينا؛ فما كان أبلغ من بكاء الطفل الحفيد، إلا بكاء الجد الشيخ، وما تركه حتى انتزعوه منه انتزاعاً، وإن صوته ليرن في آذاننا ينادي: جدي جدي.
وغادرنا دمشق، وكان الليل قد أسدل ستائره على الكون، وما زلنا ننأى عن هذه الجموع الهاتفة لنا، الداعية بالتوفيق والنجاح، ونبتعد عن هذا الحشد، حتى أبتلع صوته الليل وطواه سكونه، وغلب سواد الجمع في سواده الشامل، ولم يبق من حولنا إلا السهول الفيح. . .
وكان صمت بليغ، فلم ينبس واحد منا، واستسلمنا جميعاً إلى عواطفنا وأحلامنا، وقد هاجها موقف الوداع، وأثارها هذا المستقبل المجهول الذي نقدم عليه، وهذه الصحراء المرعبة التي نسعى إليها، وهذه البقاع المقدسة التي نقصدها. وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنملأ العين بمرأى أضواء (المهاجرين)، وهي تسطع على نفوسنا المظلمة، كما تسطع النجوم الهادية في الليلة الداجية، على الضال الحائر؛ ولم نكن ندري، أنعود إليها فنراها كرة أخرى، أم ستأكلنا الصحراء فيكون ذلك آخر العهد بها؟ وكنا نحدق فيها لننقش صورتها في نفوسنا، حتى نأنس بها في ليالي البعاد، ونذكر فيها آخر آية من آيات دمشق (البلد الحبيب).(362/13)
وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل وكانت تحمل فوق طعامنا والشراب الفرش والخيام، والقدور والطباق، ومائتي (صفيحة) بنزين، وعدداً هائلاً من آلات السيارة وأدواتها، وراديو (رادْ) وغير ذلك مما نسيته الآن، فكنا نعوّذها بالله، ونرجو لها التوفيق، وليس فينا من يتحدث أو يتكلم إلا قائلاً كلمة، وسامعاً جواباً، ثم يرجع الصمت حتى طلعت علينا أضواء أذرعات (درعاً) قصبة حوران. . .
بلغنا أذرعات (درعاً) عقب العشاء. فلبثنا فيها ريثما نظروا في جواز سفرنا وريثما صلينا. وأذرعات اليوم بليدة جميلة ذات قسمين - قسم جديد منظم بني على المحطة، وقسم قديم ينأى عنه قليلاً - وفيها سوق كبيرة، وأبنية جديدة، وهي قديمة ذكرتها العرب في أشعارها لأنها - كما قال ياقوت - لم تزل من بلادها في الإسلام وقبله، وأنشد لبعض الأعراب:
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى ... بنجد على ذي حاجة مدنف بعدا
وذكرها أمرؤ القيس، وعد ياقوت جماعة من العلماء خرجوا منها، وليس فيها الآن من العلماء أحد (فيما نعلم) يذكر. وعالم حوران وفقيهها اليوم الشيخ التقي الصالح الشيخ الطيبي الدمشقي وهو فوق التسعين، وهو بقية السلف الصالح - وفارقنا أذرعات نسير شرقاً إلى بصرى بعدما هتفنا بآل المقداد أعيان وجوهها ننبئهم بوصولنا، فلم نبلغ نصف الطريق إلى بصرى حتى رأينا أضواء كثيرة ومصابيح تجيء وتروح، فعجبنا أن يكون في البرية مثلها، ودنونا منها فإذا هي أضواء المستقبلين الكرام، هجروا مضاجعهم وأقبلوا يتلقوننا من نصف الطريق. فحيونا ومشوا بين أيدينا يهزجون الأهازيج البدوية حتى بلغنا بصرى.
ولبصرى ذكر في التاريخ مستفيض، ومجد مؤثل، وفيها كثير من آثار الماضي، ولم أكن قد دخلتها من قبل، فما أستطعه رؤيتها في الظلام، ولم ألمح من آثارها إلا صفين من الأعمدة الضخمة، قائمين عند مدخل البلد، على طرفي الطريق الذي سلكناه إلى منزل آل المقداد حيث رأينا الكرم الذي لا كرم بعده.
وبصرى مذكورة في الشعر قديماً وحديثاً، ولكنهم لم يذكروها إلا ليذكروا نجداً، ويعلموا شوقهم إليها، وكأنهم لم يروا فيها ولا في الغوطة ولا في وادي بردى ما ينسيهم تلال نجد(362/14)
ورماله، وذلك من حكمة الله فإنه لولا حب الوطن ما سكن البلد القفار! فمن قولهم فيها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا ... رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
إذا ما وصلتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولا له ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
ولبثنا فيها إلى موهن من الليل ثم خرجنا يصحبنا دليل من أهلها ليسير بنا إلى (قريات الملح) القرية التابعة لأبن سعود من غير أن نمر على المخفر الإنكليزي في (الأزرق) لأننا لم نستأذن من القنصل الإنكليزي لنمر على بلد من بلادنا. . . وكان أسم الدليل الحاج نمر، وقد زعموه خبيراً بالطرقات، عارفاً بالأرض، خرْيتاً حاذقاً، فتوكلنا على الله، ثم على هذا الدليل الحاذق!
سرنا إلى الجنوب، نخبط في ظلام الليل، لا نتبع جادة مسلوكة، ولا طريقاً واضحاً، يقودنا الحاج نمر. ويا ليت أسمه الحاج غراب، فقد أضلنا، كما (قد ضل من كانت الغربان تهديه). . . حتى بلغنا قرية كبيرة أسمها (أم الجمال) فيها بنيان كثير، وأزقة وطرقات، وفيها برج عال قديم، ولكنها مهجورة منذ قرون. . . ليس فيها ديْار ولا نافخ نار، وهي موحشة في رأد الضحى فكيف بها في الليلة الظلماء؟ فما كان من صاحبنا الحاج غراب إلا أن دير به وغثت نفسه وجعل من الدوار والغثيان يقيئ وفقد رشده، فصبرنا عليه حتى أفاق فسألناه عن أمره، فإذا هو لم يركب في عمره سيارة قط ولذلك دار رأسه، فعالجناه حتى بريء فلما رأى الطريق مختلطاً عليه، فأمرنا بالوقوف في هذه البليدة الموحشة التي لا يسكنها إلا الجن. . . وذهب في سيارة يكشف لنا الطريق، فانتظرناه إلى الفجر فلم يرجع، وكانت ليلة ما أذكر أني رأيت مثلها برداً، ونحن في العراء فأحسست والله كأن عظامي ترتجف من البرد، وبلغ منا النعاس وما نطيق أن ننام، وأين وكيف ننام؟
فلما طلع النهار، وتعارفت الوجوه، رأينا الحاج غراب على بعد خمسين متراً منا، وإذا المحترم ينتظر أن نأتي إليه. . .
وأردنا على الإسراع قبل أن يبصرنا بعض أعوان المستر كلوب، ملك البادية المسمى (أبو حنيك) لأن رصاصة كانت قد أصابت حنكه فتركت فيه أثراً. وسألناه، هل يعرف الطريق أم يخبط بنا خبط أعشى، فعجب من سؤالنا وأكد لنا أنه يعرف البلاد كلها شبراً شبراً، وأنه(362/15)
سلك هذه الطرق بعدد شعر رأسه، فاطمأننا وسرنا معه، وكانت الشمس قد طلعت، وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
فاطمأننا وسرنا معه، فصعد بنا جبلاً وعراً فيه أحجار وحفر، فسرنا فيه ساعة كاملة وهو لا يزداد إلا وعورة، فقلنا له: ويحك يا هذا، إلى أين تمشي بنا؟ قال: إن علينا أن نجاوز هذه الوعرة، كي نبلغ قريات الملح من غير طريق الأزرق فقلت له: ويحك، هذا والله البلاء الأزرق والموت الأحمر. وأنه ليوشك إذا أوغلنا في هذه الوعور ألا نخرج منها، فعد بنا ولو إلى الأزرق، فماذا في الأزرق إلا الجزاء النقدي؟
واختلفت الآراء وتجادل القوم، ثم اتفقوا على العودة، فعاد بنا الدليل من حيث جاء، حتى إذا هبطنا الجبل سار بنا في طريق معبدة فسرنا فيها، ثم سرنا وهي لا تنتهي حتى كاد النهار يزول، ثم وجدنا مركزاً من مراكز البترول فيه ضابط إنكليزي، فسألناه: إلى أين تؤدي هذه الطريق؟ فقال: إلى العراق، وقد اقتربتم من الحدود.
فوثب أصحابنا على الدليل يوسعونه سباً وشتماً على أن طوَّح بهم حتى كاد يهلكهم بجهله، وهو صابر ساكت لا ينطق بحرف، فتركه القوم وائتمروا بينهم فقال قائل منهم: أني لأعرف طريقاً في الحرة يصل بنا إلى القريات، وقد جزته فوجدته سهلاً. فقالوا له: سر بنا إليه، فمال بهم ذات اليمين، ثم دار دورة فإذا نحن في حرة من أصعب الحرار واسعة ممتدة الجوانب ملتوية مفروشة بحجارة سوداء لماعة، كأنما قد صبَّ عليها الزيت، حادة الجوانب كأنها السكاكين، فلما بلغنا وسط الحرة رأينا الجادة متروكة مهملة قد تخربت وغطتها الحجارة، فكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لنمشي؛ وكنا إذا بلغنا هضبة لم تقوَّ السيارة على تسنمها نزلنا فربطنا السيارات بالحبال فجررناها بأكتافنا واحدة واحدة كما تجر الدابة الحرون، واستمر بنا ذلك إلى الغروب، وامتدت بنا هذه الطريق تسعين كيلاً رأينا فيها الموت مما تعبنا، ولم نقف إلا ساعة أكلنا فيها وصلّينا، فلما أن غابت الشمس يّسر الله لنا الخروج من هذه الحرة؛ فلما خرجنا منها إذا نحن حيال قصر الأزرق ليس بيننا وبينه إلا أربعة أكيال أو أقل منها؛ وكان إلى يسارنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء، فلم نجد بدّاً من دخولها، فدخلناها مكرهين تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتعتدل حتى أظلم الليل، وبلغنا قاعاً مستوياً فوقفنا وأنخنا للمبيت؛ وكنا حين انتهينا إلى الأزرق بعد(362/16)
كل هذا الأذى كله، كالذي (فرّ من الموت وفي الموت وقع)!
(لها بقايا)
علي الطنطاوي(362/17)
إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
جلست وصاحبي تحت جنح من الليل كأنه باز أسود قد طوى أفقاً من السماء في كهف من جناحه. وطمس هذا الليل الدامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجه صاحبي كلما سكن ظاهره واطمأن. . . وبقيت نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقد بأفكارها المشتعلة، وترسل لهيبها يتلألأ على محياه ويتموج. وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوية، يثير النفس ثم يجثم عليها متثاقلاً بوطأته، فلا هو يجعلنا نثور فيخف ما نجد من ثقلته، ولا هو يتركنا نهدأ.
وبقي صاحبي صامتاً لا يتكلم، ولكني كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر. أما إني ما رأيته - أو قل ما أحسسته - كاليوم. لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط. لقد رحمته حتى كدت مرات أقوم إليه أضع يدي على رأسه، أقول: ذلك مما يخفض عنه بعض ما يغتلي فيه من سعير الفكر. ولكني كنت أهاب أن أشعره أني قد نفذت إلى بعض أسراره التي يريد كتمانها. فسكت معه ساعة أحتال في خواطري لفض هذه الإغلاق التي يضربها على ضمير نفسه، فلست أشك أن بعض الحديث إذا أشتكى خفف وأراح.
لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصمت بيني وبينه في ظل هذا الليل الأسود كان هو مفتاح هذه الأقفال الكثيرة. وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمني وهذا الليل سرّاً من القدر.
ثم سكت سكتة ظننت معها أن أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها. لقد كان يجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبى عليه إلا أن يتكلم. كان نزاعاً هائلاً بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين متكافئتين؛ لقد أثبته ذلك حتى كاد يتمزق. أني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد.(362/18)
ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه:
لست أدري!! لست أدري!!
لقد سمعت لكلماته في أذني صليلاً كما يصل الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب. لقد بغتني بصليلها حتى نسيت أفكاري فيه منذ أول الليل. ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه وأردت أن أحتال للتخفيف عنه ما استطعت، فقلت: وكأني أعلم خبئ ما يشير إليه:
كلنا ليس يدري. وهذه هي الحياة. إنك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضاً. إن الشك هو أعظم أعمال النفس الإنسانية، فإذا ما أبتُلى به الإنسان فهو بين نهايتين: بين أن يهتدي فيلحق بالذروة فيستوي على عرش من عروش الحكمة، وبين أن يضل ويتزايل فيتدهْدى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم. وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي! رُفعت الأقلام وجفَّت الكتب.
لقد رأيت شرارتين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأني اقتدحت بكلماتي من النار التي تكمن في تلك الصخرة الفكرية الململمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين. . .
ثم رأيته يرتد مرة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكني كنت أشعر به وهو يلين ويتخشع من كل ناحية. لقد كان هذا الصديق قاسياً عنيفاً، ولكنه كان رقيقاً أيضاً. وكان صبوراً، ولكنه ربما استكان للجزع. وكان مستوحشاً آبداً، ولكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة. وكان راسخاً شامخاً وطيد الإيمان، ولكني كنت أنفذ إليه أحياناً فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره:
لست أدري! ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر. . .
ثم سكت وسكن، ولكنه أقبل علي وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول:
. . . كانا صغيرين، وكانت أيامهما الصغيرة لا تدرك معنى النظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل. وهكذا نسيهما الزمن في معبده الآمن، ثم انتبه يوماً فزفر بينهما زفرة(362/19)
واحدة فتفرقا. لم يدركا يومئذ شيئاً من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النفس بالتأمل واللهفة والحنين، بل نظرا ثم توادعا ثم افترقا ثم نسيا. أو هكذا كان، ولكنه لم يكن في الحقيقة نسياناً، بل كان عملاً من أعمال القدر الغامضة، كان تعبئة للأحداث العظيمة التي تتهيأ فتصنع النفس الإنسانية صنعة جديدة لقد عرفت ذلك فيما بعد. وتسحبت حواشي الحياة بينهما، حتى رقت أيامهما الأولى ثم جعلت ترق حتى استحارت أحلاماً من الذكرى المبهمة ترف على القلب رفيف النسمات: لا ترى بل تحس، ولا تمسك ولكنها تلقي عطرها في القلب وتمضي. نعم لقد نامت العواطف الناضرة الصغيرة في مهد النسيان، ولكنها كانت تنمو أيضاً في جو هذا المهد
ومشى الزمن بينهما يقيم سدوداً وأسواراً من السنين وأحداثها، وكما كبرا وامتدا من أيام العمر، كبرت السماء التي تظلهما وترامت آفاقها، واستحالت الأيام الصغيرة الأولى أشباحاً ضامرة لا تكاد تبين من دقتها وخفائها
ثم فجئهما القدر فتلاقيا بعد دهر طويل كما يتلاقى نجمان في ظلمة الليل، يتناظران لمحة وشعاعاً من بعيد لبعيد. هكذا عرفت.
لقد كان هو يحس في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء، أن الفلك قد دار دورته في القدر، وأن القوة المسخرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكد حتى لمح له شعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه وكأنما يقول: أقبل. . . هلم إلي. . . هأنذا. . . هأنذا!
ولم يلبث أن أتم هذا الفلك دورته، فإذا هما يتناسمان في جو عطر تنفح من أرادنه أنفاس الأيام الصغيرة الأولى. . . أيام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلب وتتفتح، كما تنمو الزهرة في أكمامها تحت السحر في مهد الفجر بين روح وشعاع وندى
واجتمعا. . . فإذا هي غادة مضيئة تزهر. لكأن الزمن اختطفها كل هذا الدهر وتسلل بها في بعض مصانعه العجيبة، وجعل يجهد جهده بأنامله النابغة الدقيقة، فهو يجلوها ويصقلها حتى إذا فرغ من فنه الذي اختفى لها به، ردها إليه ينبوعاً من النور الضاحك المرح يترقرق لعينيه ممثلاً في صورتها. . . لقد شبت الصغيرة، ولكن شبابها كان رقة وحناناً في أنوثتها، واستوت فكان استواؤها دقة في فن من جمالها، ونمت نمواً وضاحاً، وكأنما كان يغذوها نور الكواكب ويرضعها روح الزهر. . . لقد وجدها وهي تضوع وتتلألأ من جميع(362/20)
نواحيها. . . لقد كان يخيل إليه أن النسيم من حولها يطوف بها متعبداً خاشعاً ثم يسعى إليه حاملاً نفحة من نفحات الجنة. فكان يحس دائماً أن جوها ينتقل إليه فينفذ إلى قلبه، فيقعد هناك يتمتم يحدثه بأخبارها أو يصف له منها ما يوعب هذا القلب الحزين افتتاناً ولوعة وحنيناً
لقد شبت الصغيرة. . .، فنضت عنها كل مطارف الطفولة، وتجلت جلوة العروس في زينة من الصبى والشباب. لقد خلعت كل قديمها، ولكن شيئاً واحداً بقي كما هو، لا بل بقي أقوى مما كان وأصفى. تلك هي روحها، الروح القوية الآسرة المتسلطة. تغير كل شيء إلا عيونها التي تشف عن هذه الروح التي لا تتغير. فالنظرة الباسمة الخاطفة التي كانت تخضع بها تمرد ذلك الصبي العارم الصغير، هي هي النظرة الباسمة الخاطفة التي هجمت منه على الرجل فأضاء وميضها له الطريق، وحبسته بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معاً. . .
ثم نحى صاحبي بصره إلى قطع من الليل جاثم من عن يمينه وأطال النظر في جوفه. ثم خيل إلي أنه قد جعل يصغي إلى همس الليل، ويتسمع وسوسته الخافتة إلى رمال الصحراء، وبقي زماناً لا يكاد يتحرك، ثم انتفض في مكانه انتفاضة خفيفة - ما رأيتها ولكن رعدتها جرت في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها
ثم عاد ألي يتنهد ويقول:
هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . .
وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عن دون خبره، وأردت أن استفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول:
أما هو - يا صاحبي! - فقد كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. .
فانقض علي بصوته يقول:
كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك لا تعجل عليه إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملني على(362/21)
ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي
إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقي من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صواه وعفت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبداً إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو!! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق!!
سكت صاحبي قليلاً وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيداً. . . كذلك كانت هي كما وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلاً ضرباً متوقداً ثائراً عنيفاً، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبداً أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوي على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه. ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحياناً بارقاً ساطعاً يتدارك ويتلهب، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها. . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مراراً أن نظرته هذه إنما تكوي من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسلع النار على الجسد
لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان - مع كل هذا الذي وصفت لك إنساناً وديعاً رقيقاً. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنوناً حزيناً، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر - فيمن رأيت من الناس - من هو أبعد منه مذهباً في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضاً، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غمر يختدعه عن نفسه كل أحد،(362/22)
ولكنه ليس كذلك. نعم، لقد كان هشا أحياناً بين يدي من يتناوله. . . فإذا أخذ بالاعتناف والقسر، انقلب الذي فيه ضارباً لا يطيق ولا يطاق
هكذا كان أول ما تلاقيا. . .
ثم صمت صاحبي، وخيل إلي أنه يضحك. لقد كان يخافت من ضحكه، كأنما هو يسخر، ورجع إلي بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلت في نعته؟ كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي. . .!! نعم، ربما كان ذلك صحيحاً من بعض وجوهه، ولكني على يقين من أنك لا تكاد تعرف وجه الحق في تأويل هذا الوصف. لا بأس ومع ذلك، فأي هذا الناس ليس مجنوناً على الحقيقة من بعض نواحيه؟ إنك لو جهدت فتتبعت تاريخ الإنسانية كله لم يخلص لك من أصحاب العقل الكامل إلا أفذاذ قلائل. ومع ذلك، فليس أحد من هؤلاء الأفذاذ قد نجا من قذف الناس إياه بالجنون. ألا فخبرني أي الأنبياء - وهم فضائل الإنسانية الكاملة - بريء أن يقول فيه أهله وعشيرته: (إن هو إلا رجل به جنة) أو (ساحر) أو (مجنون)؟
إن من أعظم حقائق الحياة الدنيا أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة العقل، أي أنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه! و. . .
وصدع السكون صوت صفير الغارة الجوية، فانتزع صاحبي ثم قال:
- أليس هذا هو صوت جنون سكان العالم؟ أليس كذلك؟
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر(362/23)
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
(تتمة)
يأتي مصدرنا الثاني من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. ففي سنة 1884م قدم إلياس قدسي (وهو سوري) إلى مؤتمر المستشرقين الدولي نتائج بحثه في السنة الفائتة عن طوائف (دمشق) ويجب اعتبار هذا البحث مصدراً تاريخياً وإن كان حديث العهد، لأن معظم ما يصفه قد اختفى دون أن يدرس ثانية.
يخبرنا قدسي أنه كان على رأس جميع طوائف المدينة (شيخ المشايخ) وكان هذا المنصب وراثياً في عائلة خاصة، ولا يمكن انتخابه أو إقالته أو استبداله بشخص آخر. وكان دوره قابلاً للانتهاء إما بوفاته أو باستقالته (ويكون ذلك أحياناً بتأثير السلطان) وقد كان في زمن أقدم الحاكم الأعلى في جميع شؤون الطوائف. ويحدث المحدثون أن سلطته (أي شيخ المشايخ) كانت في زمن ما واسعة جداً تمتد حتى إلى حق الحكم بالموت. وعلى كل فقد احتفظ لزمن طويل بحق سجن أو تقييد رجال الحرفة أو ضربهم بالسياط. وكان يعيش على وقف وراثي. وقد أنقصت سلطته إلى حد كبير بعد (التنظيمات) أي الإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر وأصبح مركزه رتبة شرف فقط. وكان شيخ المشايخ في زمن بحث قدسي عالماً كبيراً ولكنه يجهل تماماً جميع الحرف. وكان عمله الوحيد المصادقة على تعيين رؤساء الطوائف الذين يعينهم الأساتذة
ويظهر أن رتبة شيخ المشايخ كانت مختصة بدمشق فقط إذ لا يوجد لها أثر في أية مدينة أخرى. لم يكن باستطاعة شيخ المشايخ حضور جميع اجتماعات الطوائف شخصياً. لذلك كان يرسل موظفاً خاصاً يسمى (النقيب) في حالة وجود اجتماع لترقية بعض الأعضاء إلى صناع أو أساتذة أو لأي شيء يخص المجموع، وعندما كانت وظيفة شيخ المشايخ مهمة وذات نفوذ كان له عدة نقباء. لكن قدسي وجد نقيباً واحداً (زمن بحثه) له معرفة بالحرف وبشؤون الطوائف وهي الصفة التي كانت تنقص الشيخ.(362/24)
ويلي شيخ المشايخ - شيخ الحرفة - ينتخبه أكبر أعضاء النقابة من بين أبرع ماهري الحرفة، ولم تكن تتبع أية قاعدة في الأولوية سواء أكان ذلك من جهة السن أم طول زمن العضوية فقد يكون الشيخ، وقد كان كذلك في كثير من الحالات، شاباً حدثاً، بل كان يطلب فيه أن يكون فاضل الأخلاق، عاملاً ماهراً محترماً بين رجال الطائفة قادراً على تمثيلهم أمام السلطان. كان منصب الشيخ وراثياً في بعض الطوائف، ولكنه خاضع دائماً لمصادقة المنتجين. ويعين الشيخ لكبر سنه، ويمكن استبداله إن وجد أنه غير جدير بمنصبه. وكانت واجباته: دعوة الاجتماعات وترأسها، وملاحظة المحافظة على مستوى الطائفة، ومعاقبة مخالفي قواعد الحرفة، وتنظيم شئون العمل (وكان هذا يفوض إلى الأساتذة)، والإجازة إلى درجة صانع أو أستاذ، وأن يكون رأس الطائفة المسئول في كل العلاقات مع الحكومة. أما فيما يخص انتخاب الشيخ فقد لاحظ قدسي أنه لم يكن ينتخب بالأكثرية، فعند خلو كرسي الرئاسة يجتمع الأساتذة المتقدمون، ويتناقشون في المرشحين القابلين للانتخاب فإن لم يتفقوا على شيء يعين شيخ المشايخ شيخاً على كل حال. ثم يثبت شيخ المشايخ الشيخ الجديد في حفلة خاصة. كان للشيخ مساعد يسمى شاويش، وعلاقته بالشيخ كعلاقة النقيب بشيخ المشايخ مع هذا الفرق الهام وهو أنه بينما كان النقيب يعين بواسطة شيخ المشايخ كان الشاويش لا يعين إلا بموافقة المنتجين. ولم تكن للشاويش سلطة خاصة. بل كان ممثلاً، وضابط تنفيذ لشيخ الحرفة. ويخبرنا قدسي أن منصب شاويش قديم جداً ولكن الاسم حديث
يشتغل المبتدئ من غير أجرة لعدة سنوات حتى يصل إلى سن الرجولة، وتصبح له مهارة في الحرفة (على كل كان البعض ينال أجراً أسبوعياً زهيداً حسب ما يستحق). ثم يصبح بعد ذلك صانعاً، فإذا لم يتقن حرفته ويتقدم إلى أستاذ بقيت أجوره واطئة ومنع من الاشتغال لحسابه الخاص
كان الصناع في زمن قدسي يشكلون هيكل الطائفة، وكانوا أكثرية عظيمة. ويخبرنا أنهم كانوا حافظي سر الطائفة وناقلي أسرارها ما يليهم
ثم يمضي قدسي في وصف مطول لحفلات الإجازة. يدخل في ذلك اليمين بالمحافظة على أسرار الطائفة والصنع الجيد، وكذا الرسوم والقوانين المتقنة التي تنظم كل مظهر من(362/25)
مظاهر حياة رجال الطائفة مع كل العلاقات والإشارات المعمول بها. وأخيراً يشير قدسي إلى التشابه بين هذه الحركة وبين الماسونية الحرة في أوربا متسائلاً عما إذا كانت هناك علاقة بين الاثنين
يكفي ذكر الملاحظات عن الطوائف المصرية حيال هذا الوقت لنتبين بعض الاختلاف فشيخ المشايخ غير معروف هنا. وإنما نجد الطوائف تحت رئيس البوليس. . . كان لرئيس الطائفة (ويدعى هنا شيخ الطائفة) سلطة نظارة العمال وتسوية الخلافات فيما يتعلق بمهنهم ومعاقبة المخطئين وكان يدعو مجلساً من المختارين (نواب رئيس الطائفة) عند الضروريات يشكل محكمة قضاء لرجال الطائفة. ولم تكن توجد درجة صانع، بل كان المبتدئ عند إجازته يرفع إلى منزل اسطي أو أستاذ رأساً. وكان يطلب منه صنع شيء نموذجي
ويهمنا بصورة خاصة معرفة أنه كان في طوائف القاهرة نوع من أنواع التأمين ضد البطالة والمرض يتعاون في ذلك جميع الأعضاء
لم تستطع كل هذه التشكيلات التي دامت دون تغير تقريباً حتى القرن التاسع عشر، وأحياناً حتى القرن العشرين مقاومة هزة الفتح الأوربي، ففي كل محاولة في البلاد الإسلامية أخذت طرق الإنتاج القديمة تفسح المجال لطرق جديدة، وهكذا بدأت الطوائف تنحل. وتحولت هذه التشكيلات في أغلب الأحيان إلى اتحادات النوع الأوربي كما اشتركت بعض نقابات تونسية وسورية، ومن الهند الصينية الهولندية في اتحادات العمال الدولية، وهناك نقابات أخرى في دور انتقالي
بقي علينا أن نذكر ناحية غريبة من حياة الطوائف الإسلامية (أي ما يعرف بالطوائف الوضعية)، فمن أزمان متقدمة نجد في البلاد الإسلامية طوائف منظمة كاملة في مراسيمها ونظمها وتقاليدها من نوع آخر من الحرف كاللصوص وقطاع الطرق فكانت (لبني ساسان) أو (نهابي القاهرة) المنظمين سطوة عظيمة لمدة طويلة. وفي دور الفوضى في عصر الخليفة العباسي المقتفي 1106 - 1136م سيطرت طوائف اللصوص في بغداد على هذه المدينة وهذه الطوائف التي لم تكن لها دون شك أية علاقة بطوائف الصناع الحقيقية ساعدت على حط سمعة هذه الطوائف؛ وكانت يتخذها أعداء الطوائف وسائل للتهجم عليها(362/26)
ما هي النتائج العامة التي تستخلص من هذا العرض للطوائف الإسلامية؟ يظهر لي أننا نستطيع أن نستخلص أربع خصائص تميز تنظيمات النقابات الإسلامية من تنظيمات النقابات الأوربية كما يلي:
أولاً: على العكس من النقابات الأوربية التي ظهرت لخدمة عامة معترف بها ولها امتيازاتها وتدار من قبل السلطات العامة للأمير أو البلدية أو الملك نشأت النقابات الإسلامية من تلقاء نفسها، من الشعب، وتكونت لا إجابة لحاجة الدولة، بل إجابة لحاجات كتل العمال أنفسهم، كما أن النقابات الإسلامية اتخذت، خلال فترة قصيرة، إما عداوة مكشوفة للدولة، وإما عدم ثقة. وقوبل ذلك بالمثل من قبل السلطات العامة سياسية أو دينية. ويظهر مدى هذا الشعور ضد السلطات الحاكمة من بروزه المفاجئ في القرن العشرين في الدور الهام الذي لعبته النقابات في الثورة الإيرانية، ومن التطور المريع للنقابات الإسلامية إلى كتلة ثورية في الهند الصينية. وفي الرابطة القوية بين هذه النقابات وبين الشيوعية الأوربية. ولا ينقص قيمة هذا الاستنتاج منح بعض الأمراء السنيين وضعاً مقيداً للنقابات للحصول على تأييدها كما لا ينفي وجود خلافات في بعض الأحيان بين الحكام الأوربيين والنقابات كون هذه المؤسسات أميرية
ثانياً: تنتج الخاصة الثانية لحياة النقابات الإسلامية أولا مما ذكرناه الآن، وثانياً من حالة طرق الإنتاج التي لم تتغير في الأراضي الإسلامية منذ القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر. فلا يوجد في تاريخ النقابات الإسلامية ما يماثل الازدهار العظيم في النقابات الأوربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، الذي انتهى بانقسام هذه النقابات إلى سادة وصناع: (طبقتين مختلفتين ومتعاديتين). وفي ارتفاع السادة السياسي والاقتصادي العظيم، وفي تنظيم نقابات خاصة للصناع كسلاح في نضال الطبقات العنيف الذي نتج. أما في الإسلام، فقد بقي الأستاذ والسيد والصانع والمبتدئ طبقة واحدة في المجتمع على اتصال شخصي قريب فرتبة الصانع وهي مؤقتة وانتقالية دائماً، وفي أكثر الأحيان غير موجودة، لم تتطور أبداً إلى منزلة اجتماعية دون أمل في الارتقاء إلى رتبة أستاذ، فالنقابة الإسلامية لخلوها من التفريق الاجتماعي الداخلي الذي يقسم النقابة الأوربية، حافظت على خاصتها التي انطبعت بها عندما ظهرت في القرنين العاشر والحادي عشر، وهي المساواة(362/27)
بين أفرادها كطبقة في المجتمع في شكلها الخاص كثورة العمال ضد ارتفاع الرأسمالية الاقتصادية والتجارية عندئذ.
ثالثاً: والميزة الثالثة في الطوائف الإسلامية: هي كونها تضم أفراداً من مختلف الطوائف فبينما أبعدت الطوائف الأوربية من صفوفها حتى المسيحيين المختلفي المذاهب، نجد الطوائف الإسلامية مفتوحة لليهودي والمسيحي والمسلم على السواء، بينما تجد بعض الطوائف الإسلامية تسودها الأغلبية الغير مسلمة
رابعاً - وختاماً يجب أن نلاحظ أهمية الحياة الداخلية الروحية في النقابات الإسلامية، فعلى العكس من الطوائف الأوربية لم تكن النقابة الإسلامية تشكيلاً مهنياً فقط فمذ أن كانت النقابة تشكل جزءاً من نظام الدعاية الإسماعيلية حتى الوقت الحاضر احتفظت هذه النقابات دائماً بمثلها المتأصلة فيها وقوانينها الأخلاقية والأدبية التي كانت تدرس لكل المبتدئين في نفس الوقت الذي تعلم فيه الحرفة.
عبد العزيز الدوري
(الرسالة): عالج الأستاذ برنارد موضوع الطوائف الإسلامية علاجاً حساً، ولكن ضعف المترجم وجهله ببعض المصطلحات التاريخية أصابا بشيء من التفكك والغموض.(362/28)
من نواحي المجتمع
بين مفتش وموظف
للأستاذ محمود محمد سويلم
حدثني من أثق به أيام مقامي (بمنفلوط) أن مفتشاً تردد على موظف حتى أضجره وضايقه، وكان ضرورياً أن يقصر الموظف أو تقصر يده عن إجابة رغبات رئيسه الذي لا تكاد تنتهي له زيارة حتى تبدأ أخرى، فأحس المفتش بهذا التقصير وكبر عليه وصوره له شيطانه بصورة مثيرة فأضمر الشر لصاحبه؛ وانطبعت دخيلة نفسه على محياه فقرأ الموظف المسكين هذه الآيات الصامتة التي تفصح في غير عبارة عما انطوت عليه نفس رئيسه من ضغينة لا يدري إلا الله مداها، وكأنه في موقفه هذا جهد نفسه على أن يخفي ما ألم بها فيقابل رئيسه بشيء من المداراة والابتسام المتكلف. وكيف يتهيأ ذلك لنفس ساذجة لم تألف هذا التلون ولم تعتد هذا النفاق؟ فلم يفلح في هذه المحاولة وظهر على وجهه من العبوس ما ظهر على وجه رئيسه، فتهاجرا وتدابرا ووجد الشيطان الفرصة سانحة فأغرى كلاً بصاحبه؛ فكتب المفتش والموظف إلى الرياسة جميعاً
فماذا كتبا
قال محدثي: لقد طلب المفتش عزل الموظف لأسباب أبداها
يا الله! ألم يقدر هذا المفتش مآل أسرة تحيا في ظلال عيش آمن إن لم يكن ناعماً ولا مترفاً، يريد نقلها إلى بؤس الحياة
ألم يقدر وهو المؤمن بالله واليوم الآخر موقفه بين يدي جبار الأرض والسموات موقف الظالم والمظلوم (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)؟ نعم لم يقدر شيئاً من ذلك؟ لماذا؟
أما الموظف فما عسى أن يكتب وهو لا يطمع في انتصاره على رئيسه، ولو كان محقاً، ولا في السلامة من شره وإن قام بأعباء وظيفته على خير حال؟
لكنه برغم ذلك أبى إلا أن يكون جريئاً وإلا أن يقابل الشر بالشر فكتب إلى الجهة نفسها يقول:
(إما أن تزيدوا في مرتبي حتى يكفيني والمفتش جميعاً، وإما أن تزيدوا في مرتب المفتش(362/29)
حتى يعف)
نتيجة محزنة ومأساة مروعة في الأخلاق وفي الفضيلة
لقد كان من عادة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يبعث مندوباً إلى عماله الذين تمولوا على حساب العمل فيقاسمهم أموالهم مناصفة ليأخذ نصفها فيضعه في بيت مال المسلمين فاتفق له مرة أن أرسل مندوباً إلى كبير من ولاته لهذا الغرض، وكان هذا الوالي داهية، فحاول أن يخدع مندوب الخليفة كي يتغاضى عن بعض المال، فأمر بإعداد مائدة من أشهى الأطعمة وأفخر الألوان؛ فلما مدت المائدة ورأى مندوب الخليفة ألوان الطعام أدرك على الفور أنها خدعة، فثارت ثائرته، وقال للوالي في صراحة الحق وشجاعة الإيمان: أكل ضيف تقدم له مثل هذا؟ والله لا آكل من طعامك شيئاً. هات ما لك أقاسمك إياه!. . . فلم ير الوالي بداً من الخضوع للأمر. ونعود فنقول ما قال الأول:
فأين الثريا وأين الثرى ... وأين الحسام من المنجل؟
نعم شتان بين من هذبهم الإسلام فزكى نفوسهم وطهر جوارحهم، وأشربت قلوبهم محبته، فلا سلطان إلا سلطان الله، ولا فكر إلا في دين الله، ولا عمل إلا بوحي الله الذي أرسل به رسوله. . وبين من تملكت المادة نفوسهم، وطرفت الدنيا عيونهم، ولعبت الشهوات بقلوبهم وعقولهم
ماذا ينتظر الرئيس من مرؤوسة؟ أينتظر منه أداء مهمته على الوجه الأكمل ليرضى ربه وضميره والناس ويأكل رزق الله الذي أفاض عليه حلالاً طيباً، أم ينتظر منه أن يحسن الملق والدهان والسير في الركاب. . . وإن ترك أعمال وظيفته جانباً وأكل مال الدولة سحتاً حراماً
محمود محمد سويلم
واعظ سمالوط(362/30)
كتاب رسوم دار الخلافة
لهلال بن المحسن الصابئ
للأستاذ ميخائيل عواد
استوطن بغداد في صدر الدولة العباسية فئة نحلتها الصابئية، نزحت إليها من حران والرقة المشتهرتين بمنازل الصابئة. تلك الفئة هي آل زهرون وأنسابهم آل قرة.
أصابت هذه الجماعة الصابئية في بغداد نصيباً وافراً من العلم والأدب والطب، فمهرت في كلياتها وجزئياتها، ودفعتها فطنتها وتوقد ذكائها إلى تقلد جلائل الأعمال بخدمة خلفاء بني العباس وأمرائهم ووزرائهم، فسار ذكرها في الآفاق، وكان عليها العماد لطائفة من الأعمال التي قامت بها خير قيام.
ومما زاد في علو شأن هذه الأسرة أن جماعة من أفرادها خلفوا مؤلفات جليلة في بحوث نافعة كالأدب والتاريخ والطب والفلك وغيرها. وسيكون مدار كلامنا على أحد أعلام هذه الأسرة وهو: (هلال بن محسن الصابئ).
مولده ونشأته
هو أبو الحسين (وقيل أبو الحسن) هلال بن المحسن ابن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون ابن حيون الصابئ الحراني، لقب بالرئيس، كان مولده ببغداد في شوال سنة تسع وخمسين وثلثمائة للهجرة، ونشأ بها وكان أبوه المحسن صابئياً، وأمه أخت ثابت بن سنان بن قرة الطبائعي المؤرخ الشهير. وقد أسلم هلال في أواخر أيامه، وحسن إسلامه. ويعد أول أبناء بيته الذي ترك نحلته القديمة ليسلم
تغلغل هلال في دار الخلافة العباسية ببغداد، فعرف نواحيها ورسومها وأسرارها، وبرع في آداب الخلفاء ومجالستهم حتى فاق جده إبراهيم؛ ذاك الذي خنق التسعين في خدمتهم. وتولى هلال أموراً عديدة منها ديوان الإنشاء، وعين حيناً كاتباً لأسرار فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف الذي ترك له مبلغاً كبيراً من المال عند وفاته، غير أن هلالاً امتنع عن التصرف فيه، لأنه كان يتقاضى ما يمكنه من العيش من الدولة فترك الإرث لأبنه غرس النعمة.(362/31)
اشتهر هلال بتاريخه، كما اشتهر جده إبراهيم برسائله. وقد أدرجه القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) في سجل من اشتهر بتدوين التاريخ. فهو يبتدئ بذكر الطبري، وينتقل إلى ذكر أحمد بن أبي طاهر وولده عبيد الله فالفرغاني، إلى أن قال: (فإن قرنت به (أي كتاب التاريخ لثابت بن سنان) كتاب الفرغاني الذي ذيل به كتاب الطبري فنعم الفعل تفعله، فإن في كتاب الفرغاني بسطاً أكثر من كتاب ثابت في بعض الأماكن، ثم كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة (أي قبل وفاته بسنة واحدة)، ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من إحكام الأمور والاطلاع على أسرار الدول، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع، وتولى هو الإنشاء أيضاً، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد بن هلال، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة بقليل، وقصر في آخر الكتاب لمانع منعه الله أعلم به. . .)
ثم شهد له مرة أخرى حيث قال: (ولولاهما (ثابت وهلال) لجهل شيء كثير من التاريخ. . .)
وهذا السخاوي نجده يذكر هلالا في ثبت من ألف في التاريخ العام، ثم يعود إليه ثانية فيذكره ضمن من اشتهر في كتابة تواريخ الوزراء
سمع هلال قبل أن يسلم جماعة من مشاهير النحاة وتأدب بهم، منهم: أبو علي الفارسي النحوي، وعلي بن عيسى الرماني، وأبو بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز. فنبغ في علمه وأدبه حيث قال فيه سبط ابن الجوزي: (. . . كان هلال من الفصحاء وله الكلام الفصيح والنثر المليح)
اشتهر بالصدق والأمانة، كما شهد له بهذا فريق من مشاهير الكتبة. منهم الخطيب البغدادي الذي كان معاصراً له قال فيه: (. . . كان هلال ثقة صدوقاً). وذكره آخرون بكل ثناء وتقدير في مناسبات مختلفة: كياقوت الحموي، وابن أبي أصيبعة وابن عبد الحق، والسخاوي، وحاجي خليفة، وغيرهم. . .
توفي هلال ليلة الخميس سابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين للهجرة عن تسع وثمانين سنة. قال فيه ابنه: (توفي والدي الرئيس أبو الحسين هلال. . . فانتفض السؤدد بمصابه،(362/32)
وانثلم الفضل بذهابه)
وتوفي هلال عن بعض الولد، أخصهم بالذكر أبو الحسن محمد (غرس النعمة) رزقه سنة 416 للهجرة بعيد انتقاله إلى الإسلام حيث قال عن نفسه في قصة إسلامه: إن النبي (ص) قال له في المرة الثانية: وتحقيق رؤياك إياي أن زوجتك حامل بغلام، فإذا وضعته فسمه محمداً. فكان كما قال. ولد له ذكر فسماه محمداً. وكناه أبا الحسن. وكان هذا الأمر من جملة ما رآه هلال في منام ومجيء النبي (ص) إليه ثلاث مرات يدعوه بها إلى الإسلام.
نشأ محمد غرس النعمة في كنف أبيه وفي رعايته، فأخذ عنه العلم والأدب فنبع فيهما. وقضى بعض الزمن في دار الإنشاء للخليفة القائم. قال سبط ابن الجوزي في أول حوادث سنة 448: (من أول هذه السنة ابتدأ أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ الكاتب، ويسمى غرس النعمة تاريخه وذيله على تاريخ أبيه هلال، وزعم أن تاريخ أبيه انتهى إلى هذه السنة). وصنف كتباً أخرى نفيسة كان مصيرها الضياع
وكانت وفاة محمد غرس النعمة سنة ثمانين وأربعمائة، فزال مجد بيته بموته
وضع هلال طائفة من الكتب الجليلة في بحوث منوعة، سطت على أغلبها يد الزمن العاتية، فلم يسلم منها إلا النذر اليسير
وقد اقتصرت المراجع القديمة على ذكر بعض مؤلفاته فإن ابن خلكان يقول: (. . . ورأيت له تصنيفاً جمع فيه حكايات مستملحة وأخباراً نادرة. وسماه كتاب الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والإحسان، وهو مجلد واحد، ولا أعلم هل صنف سواه أم لا. . .)
وذكر هذا الكتاب ياقوت الحموي قال: (. . . وصنف (هلال) كتاب الأماثل والأعيان. . . جمع فيه أخباراً وحكايات مستطرفة مما حكي عن الأعيان والأكابر، وهو كتاب ممتع. ومما يستحسن من تلك الأخبار، قال: حدث القاضي أبو الحسين عبد الله بن عياش (عباس الأصل) أن رجلاً انصلت عطلته وانقطعت مدته. . .)
وقد جاء باسم (الأعيان والأمثال) في كتاب بدائع البدائه لعلي بن ظافر الأزدي المصري
أولاً - قلنا: هذا الكتاب هو تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، وهو تكملة لتآليف الصولي والجهشياري، ولم يبق لنا منه إلا البداءة التي نشرت، حيث أن تراجم بعض الوزراء قد فقدت. ذكر فيه أخبار وزراء بني العباس وشرح أحوالهم ومجاري أمورهم. ابتدأه بأخبار(362/33)
أبي الحسن علي بن محمد بن موسى بن الفرات نشره المستشرق الإنكليزي آمدروز (بيروت مطبعة الآباء اليسوعيين، سنة 1904) ووضع له مقدمة وملاحظات باللغة الإنكليزية في نحو 40 صفحة، وفهرساً لأسماء الرجال وآخر لأسماء الأماكن. وفي أوله نبذة في ترجمة هلال الصابئ ومؤلفاته، نقل أغلبها عن سبط بن الجوزي، وورقتان بالفتغرافية في جانب من ترجمة أبي إسحاق الصابئ
ثانياً - كتاب التاريخ: ذيل فيه تاريخ خاله ثابت بن سنان - كما صرح بذلك القفطي في تاريخ الحكماء ص110 - ويحتوي على الحوادث التي وقعت من سنة 360 - 447هـ. والقطعة التي نشرت تحوي حوادث السنوات (389 - 393هـ) وإن الأخبار الصادقة في هذه القطعة لخير برهان على نفاسة الكتاب. نشره أيضاً آمدروز مع تحفة الأمراء بعنوان: (الجزء الثامن من كتاب التاريخ) (ص366 - 484)
ثالثاً - غرر البلاغة في الرسائل: وهي مقتطفات من رسائله الخاصة به. ذكره القلقشندي حين كلامه على نسخ الأيمان المتعلقة بالخلفاء، واقتطف منه نسخة يمين
رابعاً - كتاب الرسالة عن الملوك والوزراء: وهو مجموع رسائله الرسمية، وتذكرنا رسائل جده أبي إسحاق إبراهيم الصابئ
خامساً - كتاب أخبار بغداد: وهو تاريخ جليل لمدينة بغداد يشهد بذلك ما نقله ياقوت عنه في معجمه البلداني
سادساً - كتاب مآثر أهله: وهو تاريخ لأهل بيته. ولا شك أنه حوى معلومات طريفة عمن نبغ من أهله في مختلف النواحي العلمية والأدبية والسياسية
سابعاً - كتاب الكتاب: وهو تأليف يخص كتبة الأسرار والظاهر أنه على غرار مصنف الصولي واسمه كاسمه
ثامناً - كتاب السياسة: لم يصل إلينا منه شيء
تاسعاً - كتاب رسوم دار الخلافة: وهو الذي نعني بتحريره وتعليق حواشيه ونشره
وقبل البدء في وصف هذه المخطوطة نقول: إن مؤلفات هلال هي تسعة، عرف منها حتى الآن: (1) تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء، (2) قطعة من كتاب التاريخ، (3) رسوم دار الخلافة.(362/34)
وصف شامل لمخطوطة رسوم دار الخلافة
1 - عثر عليها في دار الكتب الأزهرية بالقاهرة، وهي خالية من الرقم
2 - عنوانها مثبت بمفرده على الصفحة الأولى وبالصورة التالية: (رسوم دار الخلافة تأليف أبي الحسين هلال بن المحسن ابن إبراهيم الصابئ)
3 - تشتمل المخطوطة على 203 صحائف في كل منها بين 8 - 14 سطراً
4 - كتابتها يغلب على نوعها الخط الديواني، صعب القراءة وقد استعمل الناسخ لألفاظ الأعداد كتابة ديوانية أيضاً لكنها في منتهى الغرابة، إذ يصعب حلها وقراءتها، وقد يحار بين يديها الكثير من النساخ والكتاب، حتى من تضلع من قراءة المخطوطات المغلقة.
5 - المخطوطة حافلة بالكلمات المغلقة، قليلة التنقيط، خالية من الحركات وعلامات الوقف. وهذه النواقص وغيرها جعلت كثير من الكلمات تقرأ على غير وجه واحد
6 - في بعض مواطنها شيء من الخرم، كما أن الأرضة لعبت لعبها فاستساغت أكل بعض المواضع فغاب رسمها
7 - وردت كلمة (رحمة الله عليه) 46مرة، فكتبت 45 مرة بالتاء المربوطة أو المعقودة
8 - استعمل المؤلف كثيراً من الكلمات الفارسية التي شاع استعمالها في الدولة العباسية، وكان قد ألفها الناس وجرت على ألسنتهم، وغالب هذه الكلمات هي أسماء لآلات الحرب، وطائفة من أسماء اللباس والطعام
9 - جاء في الصفحة (203) وهي الأخيرة العبارات التالية:
(عورض به الأصل بخط المصنف وصح والحمد لله رب العالمين) وأعقبها: (الحمد لله وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما وحسبنا الله ونعم الوكيل)، ويتلوهما ما نصه: (كان الفراغ من نسخه يوم الثلاثاء التاسع من رجب سنة خمس وخمسين وأربعمائة من الأصل بخط الأستاذ أبي الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم رحمه الله) اهـ
وهذا النص يبين لنا قدمها، وكانت استنسخت عن نسخة المؤلف بعد وفاته بسبع سنوات، وعلى ما بدا لنا، فإن هذه النسخة فريدة، لأن فهارس المخطوطات العربية في خزائن كتب أوربة والشرق لم تشر إلى وجودها فيها
يتقوم الكتاب من تسعة عشر فصلاً عدا المقدمة والخاتمة وهي كما يلي:(362/35)
(الصفحة2 - 8) المقدمة، (8 - 37) ذكر أحوال الدار العزيزة (دار الخلافة)، (38 - 98) آداب الخدمة، (98 - 109) قوانين الحجابة ورسومها، (109 - 117) من الرسم أن يزم الناس فلا يسمع لهم صوت ولا لغط، (118 - 124) آداب مسايرة الخلفاء في المواكب، (127 - 133) خلع التقليد والتشريف والمنادمة، (133 - 137) ما يحلف به الخليفة عند التقليد والتشريف بالتكنية واللقب، (137 - 144) رسوم المكاتبات عند الخلفاء في صدورها وعنواناتها والأدعية فيها وما يعاد منها في أواخرها، (144 - 148) خطاب الخلفاء قي الكتب والأدعية، (148 - 151) رسوم الكتب عند الخلفاء، (152 - 171) الدعاء للمكاتبين عن الخلفاء وما كان الرسم أولاً جارياً به وانتهى أخيراً إليه، (171 - 174) الانتساب إلى مولى أمير المؤمنين، (174 - 177) ما يذكر في أواخر الكتب. . . (177 - 179) الطروس التي يكتب فيها إلى الخلفاء وعنهم؛ والخرائط التي تحمل الكتب صادرة وواردة، (192 - 194) ضرب الطبل في أوقات الصلوات، (194 - 196) خطب النكاح، (196 - 203) خاتمة الكتاب
ويؤخذ من كلام هلال في مقدمة الكتاب وخاتمته أنه ألفه في زمن الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وأنه استفاد كثيراً من خبرة جده إبراهيم في مثل هذه الشؤون التي ينطوي عليها الكتاب
(بغداد)
ميخائيل عواد(362/36)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
التاريخ يسجل
لم يشهد التاريخ انسحاباً موقفاً مثل انسحاب قوات الحلفاء من بلجيكا، ولم يشهد التاريخ أيضاً تقهقراً أكسب القوات المتراجعة روحاً معنوية كالذي كسبته جنود الحلفاء في معركة الفلاندر. فقد عملت الحوادث على إرسال موجة شديدة من اليأس والتشاؤم في صدور العسكريين، حتى رأى بعضهم أن الانسحاب لا يتم إلا بمعجزة. وهانحن أولاء نرى المعجزة تتم، ونرى جنود الحلفاء في بلادهم بعد ما تسلحوا بعزم جديد وروح جديدة هي الاستخفاف بالقوة العسكرية الألمانية
فخبرها جنود الحلفاء وهي في أحسن أحوالها وأقوى مواقعها بينما كانوا هم في أسوأ أحوالهم، وأحوج موقف يمكن أن يوضع فيه جيش. إذ يفاجئون بانسحاب القوات البلجيكية التي كانت تحتل مواقع هامة؛ ويؤدي إلقاؤها لسلاحها إلى كشف ظهر قوات الحلفاء. فإذا هي تسعى لضم جموعها، وإذا هزمتها محققة.
ومع هذا، فعزيمتها لا تلين، وأملها في النجاة لا يضعف، وصبرها على أهوال القتال لا يتضعضع. فلم يفت في عضدها القتال المستمر عشرين يوماً ليل نهار. ولم يوهن من قوتها وروحها المعنوية انقلاب المآل من حال إلى حال. فأي عزيمة وأي صبر احتمال سلحت بها قيادة الحلفاء جيوشها؟ لا شك أن القيادة الرشيدة كانت عاملاً فعالاً في إقرار هذه الروح في الجنود، ولا شك أيضاً أن أخلاقاً قوية ساعدت القيادة على تحقيق أغراضها والوصول إلى أهدافها. لقد خسر الحلفاء هذه المعركة بالخيانة، ولكنهم كسبوا نصراً عسكرياً وتعلموا كيف يواجهون الألمان ليحرزوا النصر النهائي
الشجاعة تفوز
أما عوامل اليأس من إنقاذ هذه القوات فكانت كثيرة أهمها:
1 - تسليم الجيش البلجيكي
2 - إغلاق طريق الانسحاب لضيق البقعة الأرضية فلم يبق إلا منفذ البحر مع وعورة(362/37)
مسالكه
وتم استسلام الجيش البلجيكي في ظروف غريبة شاذة، فبينما كانت قوات الحلفاء تواصل قتالها يلقي ملك البلجيك سلاحه دون إخطار، ويضع جيوش الحلفاء في مأزق حرج. فقد كانت قواته تقاتل في مراكز رئيسية كانت جيوش الحلفاء لها بمثابة احتياطي يسد العجز الذي يطرأ على بعض نقطها
ولهذا توزعت فرق الحلفاء بين القوات البلجيكية، فلما ألقت هذه السلاح انعدم الترابط بين قوات فرنسا وإنجلترا. ووجدت نفسها محاصرة بقوات ألمانية تحتل مواقع الجيش لبلجيكي الذي كان بالأمس ظهيرها وعمادها.
ثمن الخيانة
لقد تورعنا في مقالنا الماضي عن التصريح بأن عمل ملك البلجيك كان خيانة مقصودة؛ أما الآن فإننا إزاء ما عرف من تصرفاته قبل التسليم وبعده، وعن الثمن الذي تقاضاه لا نجد مفراً من التصريح بما أخفينا. فقد خان القوات التي آزرته خيانة أدت إلى قلب الموقف العسكري انقلاباً كبيراً أفسد جزءاً هاماً من خطط الحلفاء.
أما الثمن الذي تقاضاه ليوبولد الثالث فهو حكم بلجيكا وهولندا والمناطق المحتلة من شمال فرنسا. وليته تقاضى هذا الأجر حراً أو بشرط الاستقلال، ولكنه يتقاضاه وسيف هتلر مصلت على رأسه، فبعدما ما كان ملكاً مستقلاً شريفاً أصبح تابعاً خائناً لقضية الديمقراطية بزعامة هتلر
ضيق الميدان
ننتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية، وهي ضيق مجال الانسحاب فقد كانت جيوش الحلفاء تقاتل في رقعة صغيرة من الأرض يليها البحر. فكان مجال التراجع ضيقاً لا يعطي للقوات المنسحبة الميدان الكافي لإنشاء خطوط قتال جديدة. ولم يكن هناك مفر من إخلاء الميدان والاستعانة بالأساطيل البحرية لنقل الجنود، وهي مهمة شاقة محفوفة بالأخطار تستلزم تجمع القوات في بقاع صغيرة. فيسهل الفتك بالقوات سواء بالطائرات أو بالمدافع البعيدة المرمى.(362/38)
ومن مبادئ العلوم العسكرية ألا تتجمع القوات بأعداد كبيرة في بقعة محدودة حتى لا تكون هدفاً سهلاً لطائرات العدو وتكون خسائرها كبيرة، ولكن تحقيق هذا المبدأ لم يكن سهلاً في هذه الحال ولا سيما بعد أغلق بعض الموانئ بإغراق بعض السفن المحملة بالأسمنت فيها فسدت مسالكها وتعذرت الملاحة فاضطر الحلفاء إلى الاعتماد على ميناء دنكرك وحده
القوة الكامنة
وتيسر تذليل هذه العقبة بتعاون وحدات الطيران والبحرية في إبعاد قوات العدو وتدمير خطوط مواصلاته. فوجهت إنجلترا عدداً هائلاً من سفنها الحربية والمدنية، وعبأت جميع قواتها البحرية من سفن صيد ونوادي تجديف وغيرها لنقل الجنود وحمايتهم. فتم الانسحاب بنجاح كبير وخسائر قليلة مني الألمان بأضعافها. ودلت هذه الحركة على ما في الأمة الإنجليزية من قوة كامنة تظهر في وقت الشدة
واستغل الحلفاء طبيعة الأرض حول ميناء دنكرك لإبعاد قوات الألمان عنها فغمروا الأراضي في شمالها وجنوبها بماء البحر واضطرت قوات الألمان إلى وقف تقدمها خلف حواجز الماء، بينما ترك الطريق التقهقر مفتوحاً من الشرق لقوات الحلفاء التي استمرت في قتالها أثناء انسحابها النظامي. فليس معنى الانسحاب ترك الميدان دفعة واحدة؛ بل إنه يتناول عدة حركات عسكرية. فبينما يهاجم جزء من القوات الجيوش المعادية يتراجع الجزء الآخر وهو يحمي مؤخرة القوات المقاتلة؛ وهكذا يستمر الحال فيتيح الفرصة للجزء الأكبر من القوات للوصول إلى أهدافها.
وفي الحرب الماضية
وإذا عدنا إلى سنة 1914 حين انسحبت الحملة البريطانية من خط بنش كونديه إلى جنوب نهر المارون نجد المجال الواسع الذي كان أمام تلك القوات، إذ كان ميدانها عريضاً تحمي جانبيه قوات فرنسية ولا تقلقه قوات الطيران كما هي الحال الآن. فكانت القوات تتراجع بنظامها العادي دون أن تلجأ إلى التجمع ودون أن تكون هدفاً صالحاً؛ واعتبرت حركة انسحاب الجنرال فرانش عملاً عسكرياً بارعاً نظراً لكثرة القوات التي كان يحاربها
وفي الانسحاب الأخير توفر للألمان الكثرة العادية العددية واستغلال الطائرات والموقف(362/39)
الحربي الممتاز. يضاف إلى ذلك ضيق مجال تراجع الحلفاء واقتصارهم على إنزال قواتهم من ميناء واحد تتعذر فيه الحركات البحرية لسببين: ضيق مدخله، وعوامل المد والجزر، وهما يستلزمان براعة كبيرة في القبض على دفة السفن
ولا تعتبر موقعه الفلاندر نصراً كبيراً للألمان، لأن قوات الحلفاء خرجت منها سليمة ولم تخسر إلا 20 % منها، وهذه القوات ستعود إلى ميدان القتال في فرنسا بعد أن تأخذ قسطها من الراحة. ولا تعتبر الموقعة حاسمة إلا إذا انتهت بتشتيت شمل قواتها على الأقل أو إبادتهم وهذا ما لم يحدث في معركة الفلاندر بل بالعكس أن الجنود الإنجليزية والفرنسية عرفت أثناءها فقط الضعف في القوات الألمانية بحركاتها العسكرية الحديثة وستستغل هذا الضعف في المواقع المقبلة. وكفى أن يؤمن الجندي بأنه أبسل وأقوى من عدوه ليقهره. وشعرت ألمانيا بفشلها فأسرعت في صباح يوم الخميس بتوجيه هجومها إلى جبهة السوم لتحصل على ما فقدته في الفلاندر. والمعروف أن معركة الفلاندر أتاحت لقوات السوم أن تحصن مواقعها
وإيطاليا؟!
من الواجب أن نناقش مسألة حربية ذات أهمية خاصة بالنسبة لنا، وهي مسألة دخول إيطاليا الحرب. فقد أصبح من المقطوع به اشتراكها فيها. ولكن هل من مصلحة إيطاليا أولاً والمحور ثانياً اشتراكها فيها؟ هذا سؤال لا يتردد الخبراء العسكريون في الإيجاب عنه بالسلب. فليس من مصلحتهما لا من الناحية العسكرية ولا من الناحية الاقتصادية أن تلج هذا السبيل
أما من الناحية العسكرية فقد ناقشنا موقف إيطاليا في البحر الأبيض المتوسط في مقال تبعاً لمواقعها العسكرية والقواعد البحرية التي تسيطر عليها. وبقي أن نتكلم عن قواتها العسكرية وموقعها الجغرافي ومقارنة هذه القوات بقوات الحلفاء مع ملاحظة تشتت الإمبراطورية الإيطالية في بقاع يسهل عزلها. فمستعمراتها في شرق أفريقيا محاطة بالممتلكات البريطانية فضلاً عن سهولة قطع مواصلاتها بإيطاليا بإغلاق قنال السويس في الشمال والبحر الأحمر من الجنوب، ثم فرض الرقابة البحرية على خطوط المواصلات البحرية عن طريق راس الرجاء الصالح(362/40)
وفي الشمال توجد تونس وهي محاطة بقوات الحلفاء من جميع جهاتها. والغالب أن يتم الاستيلاء عليها في فترة قصيرة من الزمن. وقد نعود إلى الحديث عن هذا الموضوع في مقال آخر
ومن الناحية الاقتصادية فإن إيطاليا بلد فقير بدأت عمرانها بطيئاً عقب استيلاء الفاشست على كراسي الحكم. وقد استنفذت كثيراً من مواردها في حرب الحبشة وحرب إسبانيا ولم يتح لها الوقت الكافي لاستغلال موارد مستعمراتها الحبشية، بل أن القلاقل ما زالت تنبئ بعدم الاستقرار في الحبشة نظراً لبداوة سكانها، وصعوبة أراضيها، وحاجتها إلى كثير من أوجه الإصلاح والرقي التي تعتبر الحجر الأول للاستغلال المادي
حرب الكلام
وتعتمد الحرب الحالية على عامل جديد هام هو العامل النفسي أو إلقاء الرعب في نفوس المتحاربين والمحايدين على السواء. ووضعت خطط السيطرة على أوربا على أساس ألا تدخل إيطاليا الحرب إلا بعد أن ننتهي ألمانيا من القضاء على دول أوروبا الشمالية والغربية أي بعد أن تنتهي مقاومة فرنسا وإنجلترا. على أن تكون إيطاليا في هذه الأثناء مبعث اضطراب للحلفاء فيقسمون قواتهم، ويتركون منها ما يلزم لمقاومة الاعتداء الإيطالي والتغلب عليه، وهذا هو السر في (تهويشها) الحالي، فهي تهدد بدخول الحرب ويؤلف شبابها المظاهرات ويصيح ساستها أن الساعة قد دنت، فتقف قوات الحلفاء المعبأة على قدم الاستعداد بعيدة عن ميدان القتال الحقيقي في الشمال
وهذه الخطة تضمن للمحور في الوقت نفسه قتال قواتها في ميدان واحد وتجزئه قوات الحلفاء ومقاتليها جزءاً جزءاً بدلاً من تركز مقاومتها في ميدان واحد. فمما لا شك فيه أن قوات الحلفاء متجمعة أقوى بكثير من قوات ألمانيا وإيطاليا، ولكنهما يستفيدان من هذه التجزئة فائدة عظيمة تعدهم بالأمل في النصر، ولكنه أمل بعيد
فإذا دخلت إيطاليا الحرب الآن فإنها تدخلها مكرهة لظروف خارجية طارئة، قد تكون ضغط ألمانيا عليها لشعورها بالحاجة إلى مساعدة جديدة وقوات كاملة، وقد تكون دفاعاً عن هيبتها نتيجة لإغراقها في الدعاية وحرب الكلام، وقد يكون خوفها من نفس حليفتها إذ تقف هي متفرجة بينما تفوز ألمانيا بنصيب الأسد، أو غير ذلك من العوامل التي يصعب(362/41)
الخلاص منها.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(362/42)
رسالة الشعر
يا شبابي. . .!
للأستاذ حسن بك حمدي
يا شبابي يا شبابي ... آه ما آلَمَ فقدكْ
كل حلوٍ صار مرّاً ... ليتني ما ذقت شهدك
يا شبابي يا شبابي ... كيف لا أندب عهدك
كل سهل صار صعباً ... ليتني ما عشتُ بعدك
يا فؤادي يا فؤادي ... كل شيء صار ضدك
أيُّ شيء أي شيء ... يستحق اليوم حْمدَك
لستُ أدري كيف أُجْري ... عبرةً تطفئ وجدك
عدمت عيني بكاها ... فابك يا مسكين وحدك
حسن حمدي(362/43)
في موكب المحرومين
بيداء. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
(الحب يشهد أني إنما أغني لك وحدك يا (بيداء). . . وحسب
قلبي عزاء أن يكون أغنية تبدأ منك ولا تنتهي إلا إليك. . .
أنت يا من أسعدت روحي بنعيم الحرمان!)
(هو)
بَيْدَاءُ!. . . يا لَحْنَ الْ ... هُدَى وَالطُّهْرِ في أَعْماقِ قلبي!
يا سِرَّ أَشْوَاقيِ وَمَعْ ... بَدَ لَهْفَتِي وَمَرَادَ حُبِّي
في صَمْتِكِ الهادِي قلوبَ الْ ... حائرينَ عَبَدْتُ رَبِّي!
أَهْوَاكِ يا بيْداء. . . لَ ... كِنِّي أَخَافُ عَليْكِ جَدْبي!
بيْداءُ!. . . يا مَهْدَ الْهَوَى ال ... عُذْرِيِّ أَهْوَى فيكِ لَيْلَى!
أَناَ لَم أَكُنْ قيْساً وَل ... كِني لقيْسٍ كنتُ ظِلاّ
صَاحَبْتُهُ وَسَبَحْتُ في ... مَلَكُوِتهِ قلباً وعقلاَ
فأخذتُ عنهُ الحبَّ تق ... دِيساً وتضحيةً وَنُبْلاَ
بيْداءُ!. . . يا محْرابَ أَوْ ... هامِي وَإِلْهامي وَقُدْسيِ
شَيَّعْتُ آمالي إِليكِ ... فليتني شيَّعْتُ نفسي
وَنَسيِِتُ عندَكِ يا صَفاَ ... َء الرُّوحِ حِرْمَاني وَتَعْسي
وَحَيِيتُ للِغَدِ مثلما ... أَحْيَا عَلَى الدُّنيا لأمسي
يا مَعْبَدِي!. . . كم فَوْقَ هَ ... ذا التُّرْبِ طال بيَ السّجُودُ
وَالْحُبُّ دُنَيا للِسَّعادَةِ مَا ... لَها أبداً حُدُودُ. . .!
أَناَ إنْ رَجَعْتُ إليْكِ يا ... بيْداءُ طابَ لِيَ الوُجُودُ
لكنَّ ديِنَكِ أَنَّ حِرْمَاني ... مِنَ الأوهامِ جُودُ!(362/44)
بيْداءُ!. . . هأنذا سَكَبْ ... تُ عَلَى ثَرَاكِ دِمَائِيَهْ!
ضَيَّعْتُ عُمْرِي فِيكِ ل ... كِني وَجَدْتُ بَقاَئِيَهْ. . .!
سِرُّ الَحْيَاةِ هو الفَنَا ... ءُ!. . . وَأَنتِ سِرُّ حَيَاتِيَهْ
وَالْجَدْبُ يَبْقَى كالخلودِ ... لَهُ الحياةُ الثانِيَهْ!
أَنافي هَواك مُشَرَّدُ الآ ... مالِ. . . لكِنِّي أُغَنِّي!
جِئْنا إلى هَذا الوُجُودِ ... معاً فكَيْفَ كَبِرْتِ عني؟
تَسَعينَ أوْهامَ الحياةِ ... وفي غَدٍ تَسَعينَ فنِّي!
إن كُنْتُ مِنْكِ فأنتِ يا ... بَيْدَاءُ - لوْ تدْرِينَ - مني!
ما كُنْتِ في ماضيكِ إلاَّ ... فِكْرَةً في الْغَيبِ مِثلْي
أَلْقَتْ بِنَا الأقدارُ في ... الدُّنيا معاً فَوَصَلْتِ قبلي!
وَسَبَقْتِنيِ لمَّا تَنَكَّرَ ... لِلْحَيَاةِ دَميِ وَعَقْلِي. . .
هَلْ كانَ عِلْمُكِ - يا ابنَةَ ... الأحْقابِ - إلا بَعْضَ جَهْلي!
يا مَنْ بَدَأْتِ مِنَ الْفَنَاءِ ... سَتَنْتَهينَ إلي الْخُلُودِ!
صَاَنَتْكِ كَفُّ اللهِ منْ ... بَطْشِ الرَّدَى وَأَذَى اللُّحُودِ
مُتِّعْتِ بالْجَدْبِ الْعَقِيمِ ... وَإِنَّهُ بَدْءُ الوُجودِ!
وَالْعُقْمُ في دنُيا الهوَى ... الْعُذرِيِّ غايةُ كلِّ جُودِ!
هَلْ تَذكُرينَ حياتَنا الْ ... أُولى وصُحْبَةَ مُهْجَتَيْناَ؟
أيَّامَ كانَ الْغَيْبُ يَحْنوُ ... رِقّةً وَهَوىً عليْنا
وَالْعَقلُ طِفلٌ هَدْهَدَتهُ ... أَكُفُّناَ فَسَعى إلَيْنا
وَدَّعْتِهِ وَمَضَيْتِ مُسْ ... رِعَةً، وَسِرْتُ أَناَ الْهُوَيْنَي!
أَدْعُوكِ يا بيْداءُ والأق ... دارُ تَسْخَرُ مِنْ دُعَائي!
أَخُلِقْتُ في واديِكِ لِلأَشْ ... وَاكِ تَشْرَبُ مِنْ دِمَائي؟
أَرْجُو لها الْعَيْشَ السَّعِ ... يدَ وَترْتَجي أبَداً شقائي
دُنيا الطَّمُوحِ! أَناَ الذي ... ضَيَّعْتِ لي دُنيا عزائي!
بيْداءُ! كَمْ يْبنيكِ قَلْبٌ ... طالمَا أحْبَبْتِ هَدْمَهْ!(362/45)
ما كُنْتُ أَخْشَى حَرْبَ هذا ... الدَّهْرِ لكِنْ خِفْتُ سَلْمَهْ
فالْجَدْبُ في دُنيايَ مَعْنيً ... ذُقْتُهُ وَعَرَفْتُ طَعْمَهْ!
هُوَ نِعْمَةُ قَدْ ظَنَّها مَنْ ... لمْ يَسَعْهُ الْحُب نِقْمَهْ!
بيْداءُ!. . . هَأَنذا أَسِيرُ ... مَعَ الحياةِ إلى ترُابي!
وَغَداً سَأَرْوِي يا ابَنةَ ... الأوْهامِ خِصْبَكَ مِنْ يَبَابي
يا للَسَّعَادَةِ في الشَّقَاءِ! ... أَلَيْسَ ما بِكِ بَعْضَ ما بي؟
يَكْفِيكِ يا بيْداءُ أَنَّ مُصَا ... بَ رُوحِكِ مِنْ مُصَابي
بيْداءُ!. . . مَا ذُقتُ السَّعا ... دَةَ في حَيَاتي غَيْرَ مَرّهْ
يَوْمَ الْتَقَيْتُ بها وَكُنَّا ... في ضميرِ الْغَيْبِ فِكرَهْ!
يا لَلْهَوَى مِنْ ذَرَّةٍ قُدْ ... سِيَّةٍ هامَتْ بِذَرَّهْ. . .!
أَنَا للِشَّقَاءِ. . . وَإنَّما ... هِيَ للِسَّعَادَةِ وَالْمَسَرَّهْ!
يا ليْتنِي أَدْرِي بما بيْ ... نِي وَبَيْنَكِ مِنْ سُدُودِ!
أَفَنْيتُ عُمْرِي فيكِ أَجْ ... مَعَهُ لأِطرَحَ مِنْ قُيُودِي
فَعَرَفتُ فيكِ حَقِيقةَ الدُّن ... يا وَفلسفةَ الوجُودِ
لكنَّني لمَّا اهْتَدَيْتُ ... فَقَدْتُ مِنْ وَلَهِي حُدُودِي!
مَنْ عَاشَ لِلْحِرْمَانِ لَم ... يَحْفِلْ بما سَكَبَ السَّحابُ
وَلَقدْ يُصِيبُ المرْءُ في ... الدنيا فيُطرِبُهُ الْعَذَابُ
شَرُّ الْهِدَايَةِ مَا أَضَلَّ ... بِكَ السَّبِيلَ إليْهِ صَابُ
فَتَعالَ يا حِرْمَانُ ليِ. . . ... أَنتَ الحِجَا وَأَناَ التُّرَابُ!
بيْداءُ!. . . يا لَحْنَ الْهُدَى ... وَالطَّهْرِ في أعماقِ قلْبي
يا سِرَّ أَشْوَاقيِ وَمَعْ ... بَدَ لَهْفَتِي وَمَرَادَ حُبيِّ
فيِ صَمْتِكِ الهادِي قُلو ... بَ الحائرينَ عَبَدْتُ رَبِّي
أَهْوَاكِ يا بيْدَاءُ لكِني ... أَخَافُ عَليْكِ جَدْبي!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(362/46)
رسالة الفن
تأملات
التفاحة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- ما هذه الهدية السخيفة التي أرسلتها إلي في خطابك الأخير؟؟
- أصورة (التفاحة) سخيفة؟ أو لا ترى فيها معنى، أو لا تثير فيكَ شيئاً؟ حقاً، إنكَ متأخر
- لماذا لا تقولين إنني شبعان؟
- وهلا يعجب بصورة التفاحة إلا الجياع؟! إنها يا هذا رمز لما لا يؤكل ولا يشرب
- يا للتعقيد! ولأي شيء ترمز التفاحة؟ لقد كنت أحسب إحساساً فنياً الذي بعثك على رسمها، وكنت أحسبك مخلصة في تصورها وتصويرها، ولم يكن يخطر في بال أنك تجعلين منها ستراً تسدلينه على أسرار في نفسك. . .
- ولكنه ستر خفيف شفاف، لا أظنه يحجب السر عن العين. . . إلا إذا كانت عيناً بلهاء تصدق ما ترى
- فهذا الستر إذن كغلالة الحرير التي نتشح بها الإبليسة تزعمها أمام الأتقياء البلهاء حشمة، وتقول بها لكل جارحة من الأعين هأنذا!
- يا للفراسة! هو هذا الذي تقول. . . فهل تستطيع بعد أن عرفت هذا أن تقرأ التفاحة؟. . .
- بل قولي رسم (التفاحة) فإني مع التفاحة لا أستطيع إلا أن آكلها. . .
- فليكن. . . ماذا تقرأ في رسم التفاحة. . .؟
- يجب أن تساعدني بأكثر من هذا. . . فإنك إلى الآن لم تقولي لي من أين أبدا القراءة. . . من اليمين أم من الشمال؟. . .
- يمين ماذا وشمال ماذا؟ ألهذا الرسم يمين وشمال؟ كل ما فيها ألوان. . . حمرة مفردة، وصفرة مفردة، وحمرة وصفرة ممتزجتان: تخف إحداهما في المزج مرة وتثقل مرة، وتخف في ناحية أكثر مما تخف في الأخرى، وتثقل في ناحية أكثرها تثقل في الأخرى. .(362/48)
فهلا يحدثك هذا كله بشيء؟. . .
- انتظري قليلاً، ففي درس القراءة الأول يغفر الهجاء. . . لنبدأ بهذه الحمرة. . . هي لون الدم، وهي لون اللحم، فيها من الحياة، وفيها من الفحش، وفيها أيضاً من النار لذة الدفء وعذاب الحريق، وفيها من الورد شعر، وفيها من الخد صبا، وفيها من الشفاه حنين ونداء. . . وكلام. . .، وفيها من الخجل، وفيها من الغيظ منذ الغيرة إذا استحيت إلى الحنق إذا اضطرم. . . في الحمرة هذا، وقد يكون فيها غيرة. . . فهل هذا يكفي الآن ابتداء أسايرك به. . .
- بداية لا بأس بها. . . فماذا ترى في هذه الصفرة. . .؟
- يا سبحان الله لا أدري لماذا أكره الصفرة. . . لست أرى فيها إلا الموت
- وهل تكره الموت؟ إنه علينا حق
- على العين والرأس نؤديه طائعين ومكرهين مادامت أمك حواء قد اشتهت الكارثة التفاحة. . .
- ليست حواء أمي أنا وحدي فهي أمك أنت أيضاً. . . أما تحب أنت التفاح
- لا أحبه ولا أكرهه، أو أنا أحبه وأكرهه. . .
- لعلك تحب حمرته وتكره صفرته، ما دمت تخاف من الموت. . . ولكن ألست ترى في الصفرة أيضاً لون الذهب. . . أو لون بعض الشعر. . .
- أما الذهب فمشغلة يلاعب العابثون عقول النساء بها وهن يحببنه وهم يحبونه من أجلهن. . . وأما ذلك الشعر الأصفر فلا أكتمك أني أحس فيه بشيء من البرودة لا تنزع نفسي إليه كثيراً. . . وهو عندي كالعيون الزرق والعيون الخضر ربما لاح لي فيها صفاء وبراءة ولكني لا أغفل فيها عن لين ونزف وتكبير وهذه لا تشجع المتعطش إلى الوفاء الراغب في التحكم. . .
- لو أنك تستطيع أن تحفظ على هذى العيون صفاءها وبراءتها، ون تحفظها من نزفها وكبريائها لذقت من وفائها ما يرضيك ولبسطت عليها ما شئت من حكم وسلطة. . . ولكنك كسلان ومثلك جدير به أن يعيش في مصحة يسقيه أطباؤه الحب، ويحقنونه بالراحة والسعادة. . .(362/49)
- الله يسمع منك!
- فأنت معذور حين سخرت من صورة التفاحة
- بل كنت بسيطاً لم أر فيها إلا أنها طعام
- ولي عليك الآن أن تشكرني فقد علمتك أن ترى فيها أكثر من ذلك
- بل إني أرى هذا الذي علمتني إياه شيئاً تستحقين عليه اللعنة لا الشكر. فأنت قد فتكت بعقلي، وأنا أشعر أني سأصبح بعد هذا الذي تعلمته منك إنساناً موسوماً كلما رأيت شيئاً حاولت أن أعرف له معنى من وراء معناه البارز، وهذا أمر سيهديني من غير شك إلى حقائق هي غائبة عني اليوم، ولكنه في الوقت نفسه سيبعثني إلى أوهام وخيالات قد أحسبها حقائق إذ يركن عندها عقلي بينما هي ليست في الحق إلا عوارض. . . فما نجاتي من هذا وأنا لا أحب إلا أن أرسو عند حق أطمئن إليه؟ وقد كنت مرتاحاً يوم كنت راضياً عما كان يواجهني من أبسط الحقائق. . .
- إنما كنت راضياً عن البلاهة
- وكنت أجد فيها كل المتعة. ألست ترين الزنجي الذي إذا رأى التفاحة على الشجرة قطفها ونهشها أسعد حالاً من ذلك المتحضر المترف الذي يراها فيستغرق في النظر إليها هذا الاستغراق الذي تريدينه، ثم يقوم آخر الأمر فيرسمها. . . لماذا يرسمها؟. . . هل هو إذا أتقنها مهما أتقنها استطاع أن يجعلها تفاحة؟. . . والله ليست هذه إلا خيبة!
- بل هو الفن. . .
- فن الضعف. . . وهو كذلك الضعف الذي يأخذ نفس الشاعر حين يلقي محبوبه فيتركه أمامه ويغمض عينيه ليتصوره، أو يقضي معه الساعات ثم يغادره لكي يحلم به، فإذا وافاه في المنام لم يكن بينهما إلا كلام تافه لا يغني ولا يقنع به عاشق من غير الشعراء. . .
- وكل العشاق من غير الشعراء إن نعموا بالحب فنعيمهم به زائل إلى جانب أنه نعيم نازل؛ أما الشعراء فنعيمهم بالحب خالد إلى جانب أنه نعيم سام
- هذا هو الكلام الذي تقوله كل حواء للضعيف المتخاذل من عشاقها تواسيه فتعترف له بأنه صاحب فن، وتسخر منه عند نفسها لا لنقص فيه إلا أنه صاحب فن. . . أو تريدين أنت أن تنكري هذا؟ هل ترضى المرأة عن الرجل الذي إذا أحبها قال فيها كلاماً أو(362/50)
صورها أو تغنى بها، أو لا يكون رضاها إلا عن الرجل الذي إذا احبها مد إليها يده وجرها. . .
- ليست النساء سواء. . .
- بل إنهن سواء. . .
- إذا زعمت أنهن سواء فعليك أيضاً أن تقول إن الرجال سواء. . . ولكنك قلت إنهم ليسوا كذلك وإن منهم من يأكل التفاحة ومنهم من يصورها. . . فكذلك النساء.
- فيهن من تأكل، وفيهن من ترسم؟
- ألم أرسم أنا؟ وهل في رسمي عيب إلا أني أهديته إليك؟ يا ضيعتي معك!. . كنت أحسب الرسم سيبهرك فتقول فيه كلمة طيبة. . . ولكنها توبة من اليوم
- الذنب ذنبك لأنك اخترت لهديتك موضوعاً لا يؤديه الرسم أداء كاملاً. . . فللتفاحة طعم، ولها رائحة، ولها نعومة حسناء؟ وهذا كله يقعد الرسم عن تصويره
- ومن قال لك إني كنت أريد أن أصور شيئاً من هذا. . . إنه لم يكن يدور بخلدي إلا ما توحيه الألوان
- فلماذا لم ترسمي دائرة حمراء ودائرة صفراء ودوائر أخرى فيها أمزجة من اللونين؟
- وهذا ما صنعت، وكل ما في الأمر أني اختصرت الرسم في دائرة واحدة. . .
- وهذا هو الذي بعثني على أن أنكر تفاحتك. فلو أني أحسست بها تفاحة حقه لكنت أعجبت بها، ولكنت قضمتها أيضاً، ولكنها كانت عندما ألقيت عليها النظرة الأولى زوراً وباطلاً، كالقصة الملفقة المتنافرة الحوادث التي يريد ساردها أن يبرئ نفسه من تهمة فلا يؤدي سرده إياها إلا إلى تعزيز الشك في نفس سامعه. . . والآن اسمحي لي أن أسألك سؤالاً. . . هل يقصد كل أولئك الرسامين الذين يرسمون الموز، والطماطم والبطيخ والشمام وسائر الفواكه والخضر إلى معان بعيدة كهذا المعنى البعيد الذي قصدت إليه حين رسمت التفاحة؟
- أظن ذلك
- فما معنى البطيخة؟ وما معنى الخيارة؟
- انتظر حتى أفكر. . .(362/51)
- يخيل إلي أنك ستفكرين طويلاً جداً ولن تهتدي إلى معنى لكل ثمرة. . .
- ولكن التفاحة ليست ثمرة عادية. إن لها قصة قديمة مع الإنسان. . .
- قد تكون هذه القصة هي المبرر الوحيد لاهتمام الرسام بها. أما غير ذلك فلا أظن شيئاً يبرر رسم الثمرات إلا الجوع، فالله خلقها للأكل لا للزينة ولا للتفلسف. . .
- وهل هناك ما يمنع من أن تكون موضعاً للتفلسف ومطلباً للزينة إلى جانب ما هي بغية البطن؟
- لست أرى ما يمنع ذلك، ولكني لا أرى أيضاً ما يدعو إليه
- ألم يرسم الفراعنة القمح؟ لماذا رسموه؟. . . هل كانوا جياعاً وما أكثر القمح في مصر؟
- رسموه تقديساً!
- وأنا أرسم التفاحة تقديساً أيضاً. . .
- أعوذ بالله. . . قد يكون للإنسان عذر إذا قدس القمح فهو غذاؤه الأول. . . ولكن هذه التفاحة التي كان الجحيم فيها وكان العذاب. . . هل تقدسينها؟. . .
- فيها النار وفيها العذاب هذا حق؟ ولكن فيها أيضاً ما ذكرته أنت أولاً. . . فيها الدنيا، ونحن في الدنيا ولا طاقة لنا أن نقفز فيها إلى السماء. . .
- غيرك من الرسامين يستطيع أن يقفز بالتفاحة إلى السماء
- ولكن السماء لم تعد تثمر التفاح. . .
- من قال لك ذلك؟ إن من السماء صفرة التفاحة وحمرتها، ومن السماء فجورها وتقواها
- فكيف كنت تريدني أن أرسمها. . .
- إني أعرف وجهاً هو التفاحة؛ ولو أني رسام لصورته لك ولدفعتك إلى الأيمان به من نظرة واحدة. . .
- وجه من؟
- وجهك أنت. . . ألست ترينه في المرآة. . . ولكن كيف ترينه وأنت لم تنظري إليه يوماً بنفس مفتوحة وإن كنت تنظرين إليه دائماً بالعين المفتوحة. . .
- ماذا تقصد. . .؟
- أصحيح أنك تريدين أن تعرف ماذا أقصد، أو أنك تريدين أن نطيل هذا الحديث لأنه(362/52)
عنك، وعن وجهك، وأنت قليلاً ما تظفرين مني بحديث كهذا. . .
- لا وحياتك. . . فأنت تعرف أنني غبية إلى حد كبير وأني بطيئة الفهم، كما تعرف أنك خائن الحديث لا يسلم كلامك من الظلمة حتى عندما تصدق وعندما تصارح
- سامحك الله! فليس أبشع من هذا إزهاق لاستقامة نيتي وسلامتها. . . الذي أريد أن أقوله يا (مدموازيل ديليش) أنك كلما نظرت إلى وجهك في المرآة بحثت فيه عن علائم الصحة وعلامات الجمال التي تعارف الناس عليها، فأنت تفتشينه تفتيشاً دقيقاً، فإذا أرضاك خرجت به بعد تزيين بسيط، وإلا فأنت تزيدين حتى يكون مكياجاً وتنكراً تطالعين به الناس وفق ما يهوى عيناك. . .
- وهل كنت تريدني أن أرى وجهي بغير عيني. . .
- نعم. كنت أريد أن تريه بعيني أنا، فما كانت تمتد إليه يدك بدهان ولا بمسحوق
- ولكنه عندئذ قد ينم عما أحب أن أخفيه
- بل إن ذلك كان سيحميه دائماً منك، فيلزمك أن تبعدي عنه ما تحبين اليوم أن تخفيه أحياناً. . . كفى عن هذه الخفايا تستغني عن الأحمر والأبيض. . . أزهدي في الرموز تصلىِ في الحق وفي الفن إلى الأصدق والأجمل. . . أقلعي عن التكلمَّ تصلى في الحياة إني ابعد ما ترومين بأسرع مما تظنين. . .
- وماذا أيضاً. . .؟
- خذي صورة التفاحة هذه، فأنا أرفضها شاكراً. . . وأطلب صورة التفاحة الأخرى. . .
- التفاحة لا تستطيع أن تمزج الألوان ولا أن تقبض على الريشة. . .
- ذلك خير وأحب. . . فعلى التفاحة أن تبقى تفاحة. . . ولنطمئن كل الاطمئنان فإبليس حاميها وآدم لا يزال يسيل عليها لعابه
عزيز أحمد فهمي(362/53)
من هنا ومن هناك
الموت ليس نهاية الحياة
(عن مجلة (باريد الإنكليزية))
قد يحدث أحياناً في جلسة خاصة لمناجاة الأرواح، حيث لا يحضر غير الوسيط وشخص آخر أو شخصان، أن روحاً مجهولة تتصل بالوسيط وتطلب منه إبلاغ رسالة أو تحية إلى أحد أقربائها الذين لا يزالون في قيد الحياة؛ وربما تذكر له أيضاً من هي وأين كانت تعيش. وقد يظهر أحياناً أن الروح تعثر على الوسيط مصادفة ثم تعجب لما تشعر به من قدرة على مخاطبته، فتبرهن بجلاء لا يقبل الجدل أنها روح حقيقة لإنسان ميت لا شخصية وهمية من اختلاق العقل الباطن
إن قصة (أرثر فريزر) التي نقصها عليك اقتبسناها من كتاب صدر حديثاً عنوانه: (إلى اللقاء لا وداعاً) تأليف (والتر بليارد) المحلف القضائي والمحافظ السابق لمدينة (شفيلد). أن هذا المؤلف كان يخاطب دائماً روح زوجته المتوفاة فتجيبه هي بلسان الوسيط، بنفس اللهجة التي كانت تتكلم بها في حياتها، وكانت تبرهن له على شخصيتها بالبراهين القاطعة. وكانت وهي على قيد الحياة تهتم بالأبحاث الروحية اهتماماً عظيماً، فكانت بالطبع مطلعة على الانتقادات التي توجه غالباً إلى مناجاة الأرواح، لذا كانت تحاول في كل مرة أن تقدم لزوجها عند مناجاتها براهين لإقناعه لا يمكن دحضها أو الشك فيها، إذ تأتيه بأرواح أشخاص لا يعرفهم هو ولا أحد من الحاضرين.
يحدثنا المؤلف فيقول: بعد أن أدينا التحيات المعتاد وعبارات المجاملة نحو زوارنا الذين هم وراء الغيب، جاءتنا روح غريبة تطلب الإذن منا بالحديث، ثم قالت إنها روح شاب اسمه (أرثرايم):
(مت منذ ثلاث سنوات بمرض ذات الرئة في مستشفى محلي، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة وعشرين عاماً. وكنت أسكن في منزل رقمه 18 (كلايف رود)، وقد تركت حبيبة لي اسمها (مس كارول) وهي تسكن في رقم 229 في (فلينت ستريت)، فأرجو منكم أن تخبروها بأني لست ميتاً وبلغوها عني سلام الحب فأني أظن ذلك يسرىّ عنها، ثم أرجو أن تخبروا والدي بأن أمي معي وهي تهدي إليه تحيتها القلبية. . .)(362/54)
أما أنا فقد اهتممت بالأمر واتصلت في الصباح التالي تلفونياً بالطبيب الذي يدير المستشفى الذي ذكره ورجوته أن يبحث في سجلاته عما إذا كان فيها اسم (أرثرايم)، شاب مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات. فأجاب الطبيب: (لقد مات عندنا رجل ذات الرئة قبل ثلاث سنوات، ولكنه لم يكن شاباً، إذ كان عمره فوق الأربعين. . .) أخذت مني الحيرة في هذا مأخذاً عظيماً، لأني لم أعهد من (الأرواح) قبل ذلك كذباً ولا افتراء. استنجدت بزوجتي طالباً منها التوضيح، فأجابت: (سوف تكتشف السر قريباً) فعزمت عندئذ أن أذهب إلى رقم 18 (كلايف رود) في الطرف الشرقي من المدينة حيث تسكن الطبقة العاملة. فلما بلغت هنالك وجدت ساكن البيت له أسم غير الذي ذكر، وهو كذلك لا يعرف عن صاحب الاسم شيئاً. وبعد أن قضيت طويلاً في البحث والتحقيق رجعت يائساً متعباً
بعد هذا سافرت خارج البلاد في عطلة وعند رجوعي عزمت على إعادة البحث، فقررت أن أزور بين الحبيبة (مس كارول) لعلني أجد لديها بعض الإيضاح. ذكرت عزمي هذا للوسيط فأخبرني بأنه خلال الأيام القلائل الماضية قد سمع لفظة (فريزر) تتكرر على مسمعه مرة بعد أخرى بصوت امرأة أول الأمر ثم بصوت رجل بعد ذلك. إنه لم يسمع غير ذلك ولم يدر ماذا يراد به. ظننت أن ذلك له صلة بالأمر فادخرته في حافظتي إلى حين
ذهبت إلى رقم 229 (فينت ستريت) وطرقت الباب فلما فتح ظهر من ورائه شابة فسألتها: (هل أنت مس كارول؟) فأجابت: نعم
- هل تعرفين شاباً اسمه (أرثرايم؟)
- أنا لم أسمع بهذا الاسم
فانحنيت احتراماً وسألتها سؤالاً آخر: (هل تعرفين (أرثر فريزر))
- ماذا تعني بذلك، وماذا تبتغي منه؟
- حسن! حسبي أن أعرف أنك تعرفين هذا الشخص
- لقد كان حبيبي ولكنه مات بذات الرئة قبل ثلاث سنوات.
وهنا أجهشت الشابة بالبكاء، ثم ذهبت إلى منضدة كانت في وسط الغرفة فألقيت عليها ذراعيها، واعتمدت رأسها بيديها أخذت تعول. أخذت أنا أهدئها، ثم شرعت أحدثها بقصة(362/55)
حبيبها وتحيته لها، فرفعت رأسها قليلاً ثم شرعت تقص عليّ كيف عاشاً معاً حبيبين، ولكنه ذهب أخيراً للحرب في سبيل وطنه، ثم رجع محطما فقضي بقية حياته في المستشفى
إنها مأساة كغيرها من آلاف المآسي التي أنزلتها بنا الحرب ولقد وجدت صعوبة في تفهيم الفتاة كيف استطعت أن آتي لها برسالة من حبيبها المتوفى. ولكني حاولت ذلك جهدي
أرشدتني الشابة إلى دار حبيبها الفقيد الذي يبعد عن دارها مسافة خمس عشرة دقيقة على الأقدام، وإذ ذهبت هناك وجدت رجلاً يكسر خشباً في المطبخ فسألته:
- هل أسمك (فريزر)؟
- نعم
- هل زوجتك ميتة؟
- نعم
- هل فقدت ولداً في الحرب؟
- نعم
- هل كان لولدك حبيبة اسمها (مس كارول)؟
- نعم
وعندئذ تناول صورة شمسية من الجدار وأراني إياها. حقاً كان الرجل ذكياً محترماً في طبقته، وحين أوضحت له غرضي من زيارته، وقصصت عليه حديث ابنه وزوجته التي أرسلت إليه تحية الحب، كنت كأني قد لمست وتراً حساساً من قلبه فقال: (قد قرأت مؤخراً عن السر أرثر كوناتن دويل). وعلى هذا كان الرجل مهيَأً بعض التهيؤ لفهم الحقائق التي أدليت بها إليه
وبعد أن دخنَّا وتحدثنا رجعت إلى داري شاعراً ببعض الاطمئنان لما قمت به في ذلك الصباح، ولكني ما زلت أحس بقية شك في حنايا النفس. كان عليَّ أن أعرف سبب ذلك الخلط في الأسماء، إذ كيف أعطانا الشاب اسم (أرثر ايم) ثم انقلب الاسم بعد ذلك إلى (أرثر فريزر). سألت زوجتي فأجابت بأنها لا تعلم ولسوف تبحث الأمر. . . وبعد لأي جاءتني بالتفسير التالي أنقله بدون تعليق: (إن اسم الشاب هو (أرثر فريزر) ولكنه حين كان يخاطبك جاء رجا آخر يقال له (. . . ايم) فوقف إزاءه. لقد كان هذا الرجل الأخير(362/56)
متحمساً لتلك الصدفة لأنه مات بنفس الداء وفي نفس اليوم ونفس المكان، ولم يكد (أرثر فريزر) ينطق بشطر اسمه الأول حتى تدخل (. . . ايم) في الحديث ونطق بشطر اسمه الثاني، وعلى هذا اكتمل الاسم لديكم كأنه (أرثر ايم) من غير انتباه لما بين الصوتين من اختلاف)
أما أنا فقد اعتبرت هذا الحل ممكناً، ولكني لم أزل أشعر ببعض الحاجة إلى دليل أوضح، ولذلك ذهبت إلى الطبيب في المستشفى مرة أخرى فذكرته بزيارتي الأولى له وقصصت عليه القصة كلها، ثم رجوته أن يرجع مرة ثانية إلى سجله فاستجاب لي وأخذ يبحث، ولكنه سرعان ما تملكته الدهشة حين رأى ما يلي:
الاسمالعمر المرضتاريخ الوفاة
ارثر فريزر23سنة ذات الرئة21 920
جيمس هنري آيم 46سنةذات الرئة 22 920
حقاً إنها شهادة عظيمة، ولكنه لم يزل ثمة شيء ضئيل من التناقض، ذلك أن زوجتي قالت إن الرجلين ماتا في يوم واحد. وقد فسر الطيب ذلك ربما مات في منتصف الليل ومات الآخر بعد نصف ساعة، ولا شك أن زوجتي قد أخبرت بيوم الوفاة لا بساعتها
لقد عجب الطبيب من هذا الأمر لأني لم أكن أعرف قبل ذلك عن هذين الميتين شيئاً
(م)(362/57)
القصص
البعث
للأستاذ محمد سعيد العريان
جلس (أحمد) على مقعد في جانب من غرفتي الخاصة وارتفق بذراعه على المنضد الصغير وراح يفكر. . .
إن بعض الصور التي تتناولها العين في نظرة عابرة قد يكون لها من التأثير في حياة بعض الناس مالا تؤثر الأحداث العظيمة التي تهز العالم. هذا أحمد، شتان ما هو الساعة وما كان منذ ساعات. لقد عاد لتوَّه من السيما حيث كان يشهد رواية عن حياة الأديب الفرنسي الكبير (إميل زولا). . . فأين هو الساعة مما كان قبل ساعات؟
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره. . .
منذ بضع عشرة سنة لم يأل ُأحمد دأباً إلى غاية يستشرف إليها؛ فأين بلغ مما أراد؟ هذه حياته التي يحياها منذ كان، لم يتغير منها شيء يشعره شيئاً من الأمل فيما يستقبل من أيامه؛ ففيمَ كان جهاده ودأبه بذل من أعصابه ومن دمه في بضع عشرة سنة؟
أتراه يستطيع أن يقنع نفسه بأنه قد بلغ شيئاً؛ فأين. . .؟ وتراءت له صورة (سعدية) الفتاة التي وهب لها نفسه ووقف عليها أمانيه، وتذكر من ماضيه القريب ومن ماضيها
لقد تعارفنا منذ سنوات، بل لقد عرفته قبل أن يعرفها، فسعتْ إليه، فالتقيا، فما افترقا بعدها إلا على ميعاد؛ ولكن سعدية اليوم غير ما كانت، لأنه هو هو لم يتغير ولم يزد شيئاً على ما كان يوم عرفته!
أيكون ذلك هو السبب الحق لما بينهما اليومَ من الجفاء والمباعدة؟ ذلك ما ُخيَّل إليه هو حين افترقا لآخر مرة منذ قريب فهجرها وإن في قلبه من الشوق إليها لهيباً يسعر!
لقد كان (أحمد) أديباً موهوباً. إنه ليعرف ذلك من نفسه، وإنه ليؤمن به إيماناً لا سيبل إلى الشك فيه؛ وكان حقيقاً بهذا الإيمان أن يبلغ به المنزلة التي يهدف إليها منذ بدا ليتخذ مكانه بين أدباء الجيل. وكان على إرث من الأدب هيأ له الجو الذي يعنيه على استكمال وسائل الأديب وتحصيل مادته؛ واتخذ طريقه إلى الغاية التي يؤمل. . .(362/58)
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، ولم يألُ دأباً من يومئذ؛ وعرفتْه سعدية مما قرأتْ له، وكانت رسالتها إليه أول الصدى الراجع، وكانت هي أول من عرف من قرائه؛ وتوثقتْ بينهما الصلة، وكانت في أوَّلها إعجاباً بالعقل الجميل فعادت أملاً يأمله وحلماً يتراءى لها. . . ومضى الفتى إلى غايته والحياة تُجِدُّ له في كل يوم أملاً وتوقظ عاطفة!
وكتب وخطب، ونظم وألف، وراح يناضل في جهد الجبابرة ليشق إلى المنزلة التي يتنورَّها من بعيد؛ وقالت له فتاته: (متى أراك يا حبيبي هناك؟) ولم يجبها فتاها، لأن عينيه كانتا تنظران إلى هناك!
ومشيا ذراعاً إلى ذراع بين الحدائق الضاحكة صامتين، أما هي فكانت تبحث بعينيها بين الفروع الراقصة عن زهرة نضرة تقطفها عن أملودها لتجعلها في صدرها زينةً تتيه بها على لذاتها وصواحبها، وأما هو فكان في إطراقه وصمته يتسمَّع نجوى الغصون وهمس الزهر لينظم منها قصيدة ترفَّ رفيفَ الغصن وتنفخ نفخَ الزهر! وطال عليها الطريقُ وما بلغتْ، فقالت: متى يا حبيبي. . .؟ وقال. . . ولم تعَ ما قال ولم يعَ ما قالت؛ وتدابرا ومضى كلٌ منهما لغايته، وراحت تبحث عن الزهر وراح يبحث عن معناه. . . وكان فراق بينهما!
وعاد إلى داره في المساء وما في الدار غير خادمته العجوز، وجلس إلى المائدة ينتظر عَشاءه، وأبطأت الخادم لأن الدار لم يكن فيها عَشاء فتأني به. . . وضحك حين عرف، وعيَّث في جيبه قليلاً ثم امسك، وآثر أن يطوى ليلتَه بلا عشاء؛ فإن ذلك أخلَقُ يَجِمع له نفسَه ويوقظ حسَّه!
وجلس إلى مكتبه لحظات يقرأ بريد المساء؛ وكان بينه رسالةٌ تنفح عطراً، وقرأ. . .
(سيدي. . .
(. . . وإني أرسل إليك تحياتي على البعد. . .
(إنها لحظاتٌ سعيدة حين أقرأ لك فأشعر أني منك على مقربة وأنك مني. . .
(وإنه ليخيل إلي أحياناً وأنك. . .
(إنك لست بعيداً مني؛ أفتُراك تعرفني؟ ولكني أعرفك، و. . . وأحبك!
(ومعذرة. . .!)(362/59)
وابتسم الفتى ثم عبس، وذكر سعدية. . . ثم طوى الرسالة وأودعها غلافها؛ وقال وكأنما يتحدث إلى شخص يجالسه: ليتك تعرفين يا فتاة وليتني أعرف! بل إنني أريد أن تعرفي! إنك تنشدين الزهر ليكون لك زينة تباهين بها في المحافل، وإنني أنشد معناه لأتخذه وحياً أتصل بأسبابه إلى السماء. . . كذلك كانت أختٌ لك من قبل!
ولكنه كان راضياً. . .
لم يبلغ المجدَ الأدبي الذي يناضل له منذ بضع عشرة سنة، ولم يبلغ الغنى، الغنى الذي يكفيه حاجة الحيَّ إلى وسائل الحياة؛ ولكنه كان راضياً، لأنه كان مؤمناً بنفسه، ومؤمناً بغده! ومضى على وجهه. . .
. . . وراح إلى السماء عشيةً يتزود لفنه وأدبه ويستجمَّ، ثم عاد. . .
لقد رأى وسمع وعرف، ونظر إلى نفسه، وحضرته ذكرياته وأمانيه، وراح يحاسب نفسه على ما أدى من عمل وما نال من جزاء، واستغرق في تفكيره. . .
وكان عليه أن يسد الخطبة التي طلبُ إليه أن يذيعها بعد أيام، احتفالاً بذكرى الأديب الراحل فلان؛ ذلك واجب لا يعفيه من إغفاله أن يعتذر؛ فإنه لصديقه، وإن له عليه ديناً يقضيه الوفاء أن يذكره به فيتحدث عنه حديثاً في يوم ذكراه!
وشرع قلمه، وهم أن يعد الخطبة التي ينبغي أن يذيعها عن صديقه الأديب الراحل في يوم ذكراه. واستجمع فكره، وتذكر شيئاً. . .
يا عجبا! ذلك الصديق الذي يهم أن يتحدث عنه، ماذا كان في حياته، وماذا هو اليوم عند الناس؟ لقد عاش حياته يجاهد لأمته ما يجاهد صابراً محتسباً قانعاً بالكفاف، لا يذكره أحدٌ بحق ولا يعرف له بداً. . . فلما غاله الموت - لما غاله الموت فقيراً معدماً بعيد الدار كثير الولد - تدانت الرءوس، واختلجت الشفاه، وسحت العبرات، وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكراه، فإن حديثه اليوم على كل لسان، وإن ذكره في كل قلب. . . كذلك كان حياً وميتاً، فما متاُعه بما صار وما عزاؤه عما كان؟
ماذا؟. . . أليس يعرف الناس للأديب حقه إلا أن يموت؟ ما أغلاه ثمناً للمجد!
وابتسم الفتى ساخراً، ثم سكت، وعاد إلى نفسه يؤامرها. . . وانصرفت نفسه عما هو فيه؛ وتناول حزمهً من الرسائل لم يقرأها بعد، وفض منها رسالة، وقرأ:(362/60)
(سيدي. . .
(. . . فلماذا؟ ولماذا لا نجد في الأمة العربية شعراء وكتاباً ومنشئين كبعض من نقرأ لهم من أدباء أوربا؟)
وطوى أحمد الرسالة وهو يتمم: نعم، لماذا. . .؟ لا لا، إنني أكاد أعرف. . . ولكن، لماذا. . . لماذا لا يزال - مع ذلك - والغنى؟ هذا هو السؤال الذي يحق!
وتذكر الرواية التي شاهدها في السيما منذ ساعات، وتذكر صديقه الذي يهم أن يعد حديثاً عنه ليوم ذكراه. . . وصمت برهة، ثم وقف، وراح إلى المصباح فإطفاء، وقصد إلى فراشه، ولكنه لم ينم. . . واستغرق في تفكير عميق. . . وأحسبرد الراحة على قلبه حين انتهى من تفكيره إلى حد. . .
. . . وأصبح أصدقاء أحمد يسألون عنه فلا يجدونه، ومضت أيام ولا حسُّ ولا خبر، إلا رسالة موجزة تلقاها بعض صحبه، وليس فيها إلا هذه الكلمات:
(إنني ذاهب. . . لقد برمت بدنياي. . . وداعاً يا أصدقائي!)
وجدَّ أصدقاؤه في الطلب فلم يقفوا له على أثر، وظنوا الظنون. . . ثم استيقظوا، حين عثر بعض الرواد في صحراء الجيزة على أشلاء آدمية تكاد تواريها الرمال في قعر هوة سحيقة من هُوى الصحراء. لم يكن ثمة وجه يبين، ولا لسان ينطق، ولا اثر يدل، إلا قميصاً خلقاً قد حال لونه وتمزقت حواشيه، لقد أكل الوحشُ من ذلك الجسد ما أكل وأبلى الرمل ما بقى، فما هو الإعظام نخرة وأنابيب جوفاه وأديم ممزق!
وقال واحد من صحابته: لقد توقعت له هذه الخاتمة منذ بعيد، ويا طالما حذرته من ارتياد الصحراء وحيداً في غبشة الصبح وفي ظلمة الغسق فلم يسمع لي؛ يزعم أنه يجد هناك مهبط الوحي ومنبع العبقرية!
وقال الثاني: وكذلك زعمت لنفسي حين جاءتني رسالته يودعني ويستودعني؛ لم يقع في نفسي إلا أنه ذاهب إلى الصحراء؛ لقد تحدث إلى مرة. . . وكان يتشوف إلى اليوم الذي يفارق فيه دنيا الناس إلى معتزل هادئ على حدود الصحراء يأنس فيه إلى الوحش فلا يرى أحداً من الناس ولا يراه أحد! فلعله. . .!
وقالت الثالث: يرحمه الله! وانحدرت على خده دمعة فجاوبتها أخواتها من عيون أصحابه؛(362/61)
وعزى بعضهم بعضاً؛ ثم انصرفوا يحملون رفات الشاعر الشهيد إلى مثواه؛ وتداعى الناس إلى مأتمه محزونين وإن حديثه ليرطب كل لسان؟
وكتبت اسم أحمد في سجلَّ الراحلين من أدباء الأمة. . . وصاح الصائح في الأمة يدعوها لتخليد ذكرى الأديب الراحل، وطفحت أنهار الصحف الأدبية بالحديث عنه وتمجيد ذكراه!
وانقدت جماعات، وتألفت كتب، وبذل مال؛ وتزاحم الناشرون يزايدون بالمال لشراء مخالفاته الأدبية. . . وجدَّ البُعداءُ من أهله يطلبون نصيبهم في تركته!
ومضى عام قبل أن يحددَّ يوم يقوم فيه الخطباء والشعراء لتأبينه، وكان يوماً مشهوراً. . .
كان المدرج الكبير غاصاً بأهل الأدب، وسروات المدينة، وذي الجاه والرياسة؛ وقد نُصَّتْ في صدره منصةُ عالية عليها كراسي مذهبة، يشرف عليها صورة مكبرة للفقيد العزيز مجللة بالسواد، تطل منها عينان ساخرتان على تلك الجموع الحاشدة؛ وكان في ركن من القاعة فتاة ذات جمال قد انتقبت بنقاب أسود شفيف مبتلٍْ بالدمع، وإلى جانبها فتيات. تلك هي سعدية؛ وجلس في الصف الأخير بضعة فتيان شُعْث غُبْر قد تأبطوا كتباً وصحفاً ومجلاّت قديمة، تدل ثيابهم وهيئتهم على الفقر والقناعة و. . . والعبقرية، وتنطق سِماتُهم وشارات الحداد في وجوههم بأنهم أكثر أهل الحفل إخلاصاً لذكرى صاحبهم الذي مات. . .! أولئك أسرة الفقيد من أهل الأدب!
وكان على الباب بوابون من ذوي اليسار والنعمة، يستقبلون القادمين ويدعون كلا منهم إلى مجلسه يوائمه. وتدلَّت الأنوار ثريات تكشف الشمس وتبهر النظر. وكانت حفلة، لو أحصى ما أنفق في أعدادها لكان حياةً من موت وغنى من مَتْرَبة!
وغصَّ البهو والشرفات بالوافدين على الحفل من أهل الوفاء والأدب؛ وحل الموعد، وصَغَتْ القلوب وأرهفتْ الآداب!
ووقف الخطيبُ الأول يذكر تاريخ الفقيد؛ وكان يلبس حلةً سوداء غالية، وقد أحكم المنظار على عينيه وتدلت سلسلته الذهبية على كتفه، وبَرَق الماس في إصبعه؛ وبدأ يخطب:
(أيها السادة!)
وكان السادة منصتين في لهفة وتأثر. . .
وتتابع الخطباء والشعراء يذكرون ما يذكرون من فضل الفقيد وعبقريته وعلمه وخسارة(362/62)
الأمة بفقده
وقال قائل لصاحبه: (يرحمه الله!)
فقال صاحبه: (أما إنها لخسارة!)
وكان ثمة فتى رث الثياب، مخرَّق النعل، مرسل اللحية، يقتحم الصفوف صفاً صفاً يقصد إلى المنصة التي يتبارى عليها الخطباء. . .
وتأفف الناس وزمَّوا شفاههم استكراهاً وغيظاً، لكنهم صمتوا إجلالاً للحفل، وبلغ الفتى حيث أراد وهم أن يصعد، فاعترضته الأكفّ؛ ولكنه صعد. . .
وأخْذته العيونٌ من كل جانب، وكان يبتسم وفي عينيه سخرية وشماتة!
وفرغ الخطيب من خطبته فتنحى عن موقفه، وتقدم الفتى إلى موضعه، وهمَّ أن يتكلم. . .
وتدافعته الأيدي. . . ونظر إليهم ونظروا إليه. . . وتعارفت وجوه وتناكرت وجوه؛ ووقف الفتى ثابتاً في مكانه، وارتفع صوته يُبثُ جلاجِل نفسه، وهتف:
(أيها السادة. . .!)
وسمعها السادة وقوفاً وأبصارهم إليه، ومضى يقول:
(أشكركم. . .!)
وعرفه من عرف ولم ينكره من جهل، وتدافعوا إليه. . . إنه هو. . . إنه أحمد!
(ذلك يوم البعث ولا ريب): قالها كل مستمع لصاحبه. . . لم يمت أحمد، ولم تأكله وحوش الصحراء، ولم يحمله من حملوا إلى قبره يوم حملوا الرفاتَ المجهول النسب من مجهل الصحراء إلى معلمها؛ ولكنه كان حياً يرزق. كان يهيئ نفسه ليلقي أبلغ خطبة جهر بها خطيب، وأبْين قصيدة نظمها شاعر؛ وابرع سخرية أبدعها أديب؛ فخطب ونظم وسخر. . . واستمع لرأي الناس فيه ميتا حياً، وأسمعهم رأيه. وبلغ المجد الذي أراد، وبلغ ما شاء من الانتقام لنفسه ومن السخرية بالناس! وعاش!
محمد سعيد العريان(362/63)
البريد الأدبي
حول آية إطعام الطعام
حضرة الأستاذ الكريم صاحب مجلة الرسالة الغراء
تحية واحتراماً وبعد:
قرأت في العدد (355) من الرسالة تحت عنوان (العقيدة الساذجة) جواباً لمحمود محمد سويلم واعظ (سمالوط) وهو ينكر نزول (ويطمعون على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) في أهل البيت عليهم السلام وينكر صومهم. ويقول إنها قصة موضوعة؛ ولا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى على قصة هذا شأنها، وأن أقل تأمل في هذه القصة يدل على أنها مصطنعة.
إن إنكاره لم يكن بشيء جديد. فقد سبقه بعض أسلافه من إنكار نزول هذه الآية في أهل البيت عليم السلام، وادعوا بأن السورة مكية. على أنها مدنية وقد ذكرها الرازي في أربعينه، وابن المرتضى، والزمخشري، والقاضي في تفاسيرهم، والفراء في معالمه، والغنوي في شرح مطالعه، والواحدي، وعلي ابن إبراهيم، وأبو حمزة الثمالي، وأحمد الزاهد، والحكاني، وأبو القاسم الحسين (وهو من شيوخ أهل السنة) في كتاب التنزيل. إن تسعة وعشرين سورة مدينة وذكر منها (هل أتى) ولم يذكر خلافاً فيها. وعن عكرمة، وابن المسيب، والحسن بن أبي الحسن البصري، وخطيب دمشق الشافعي والثعلبي. وقد أورد القضية كما هي في التفاسير وذكرها هبة الله المفسر البغدادي في الناسخ والمنسوخ. ومما أنشد في هذا المقام:
أنا مولىً لفتى ... أنزل فيه هل أتى
وقال آخر:
إلى م أُلامُ وحتى متى ... أعنف في حب هذا الفتى
فهل زُوجت فاطمٌ غيره ... وفي غيره هل أتى هل أتى
وقال ديك الجن:
شرفي محبة معشر ... شرفوا بسورة هل أتى
وولاء من في فتكه ... سماه ذو العرش الفتى
ولما علم الله تعالى صدق نياتهم بإيثارهم الطعام المسكين واليتيم والأسير أنزل على نبيه(362/64)
(ص): (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً).
وقال مجاهد وابن جبير والفخر الرازي في تفسيره:
(ذكر الواحدي في كتاب البسيط أن آية ويطعمون الطعام نزلت في على). وروى نزولها في علي رضي الله عنه صاحب الكشاف، وقد ذكر القصة بكاملها. وهكذا رواها العّلامة أبو السعود في تفسيره المطبوع بهامش تفسير الفخر الرازي. وفي كتاب ينابيع المودة (ص93) عن موفق بن أحمد أخرجه بسنده عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، ويطعمون الطعام. . . الخ) مرض الحسنان عليهما السلام فعادهما جدهما صلى الله عليه وسلم. . . وروى القصة أيضاً ونزول (هل أتى) على النبي (ص). وذكرها القاضي البيضاوي في تفسيره، وروح البيان والمسامرة، وفي لباب التأويل في معاني التنزيل للعلامة علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي (المعروف بالخازن) وعلى هامشه الكتاب المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل تأليف العلامة أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي. أما الخازن فقد ذكر عن ابن عباس أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب، ثم ذكر القصة الخ. وقال النسفي: (نزلت في علي وفاطمة وجاريتهما فضة)، وذلك لما مرض الحسنان وعوفيا وقد نذروا صوم ثلاثة أيام، فاستقرض على ثلاثة أصوع من الشعير فطحنته فاطمة كل يوم صاعاً وخبزته. وآثروا بذلك على أنفسهم مسكيناً ويتيما وأسيراً. ولم يذوقوا إلا الماء في الإفطار، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال عبد الباقي الفاروقي العمري:
وسائلٌ هل أتى نص بحق علي ... أجبته (هل أتى) نص بحق علي
وهذا قليل من كثير ذكرناه ليطلع عليه من يقرأ رسالتكم الغراء. ولعل حضرة الواعظ يطلع على كلمتي هذه فيرجع عن رأيه الأول، وفي هذا خدمة للحق
(العراق)
كاظم الشيخ سلمان آل نوح
خطيب الكاظمية
إلى الدكتور علي حسن عبد القادر(362/65)
كان خبراً ساراً في الأوساط الأزهرية أن اشترك في أسرة التحرير بمجلة (الرسالة) الغراء في هذا الأسبوع كاتب أزهري جديد هو الدكتور علي حسن عبد القادر الحاصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية من جامعة برلين، والمدرس بكلية الشريعة الآن، وبكلية أصول الدين من قبل. فأعطى هذا الكاتب مع إخوانه الأساتذة: محمد المدني ومحمد يوسف موسى ومحمد عرفه وعبد الجواد رمضان وغيرهم ممن يحصنون الرسالة بأبحاثهم القيمة، الدليلَ الواضحَ على أن النهضة الأزهرية لم تتمثل في (شباب المراغي) فحسب، بل وفي (رجال المراغي) تمثلت أيضاً بصورة تدعو إلى الإيمان بمستقبل الأزهر السيد!. . .
ولكن أحب أن أوجه إلى الدكتور سؤالاً يدفعني إلى توجيهه الحرص على طلب الحق وذلك أننا سمعنا وقرأنا في غير صحيفة أن الدكتور ألقى منذ حين على فريق من طلبة كلية أصول الدين درساً في (مصطلح الحديث)؛ فعرض خلال هذا الدرس بالتابعي الجليل والمحدث الصادق الإمام (ابن شهاب الزهري) ووصفه بالاختلاق والكذب على رسول الله (ص)، وبأنه كان ممالئاً للأمويين ولذلك اخترع جملة أحاديث تخدم قضيتهم وترفع من شأنهم؛ ومن أمثلة ذلك أن الزهري لما رأى عبد الله بن الزبير يستقل بأمر الحجاز، وأن عبد الملك بن مروان يستولي على بيت المقدس ويرفع في المسجد الأقصى قبة الصخرة ليصرف الحجيج إليه؛ لما رأى الزهري ذلك اخترع أحاديث شتى في فضل بيت المقدس، ومن ذلك قوله على لسان الرسول صلوات الله عليه: (ولا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد مكة، والمسجد الأقصى)!
قال الدكتور ذلك مع إجماع العلماء على أمانة الزهري وصدقه وورعه؛ ومع أن التاريخ يروي أن عبد الملك بن مروان سأل الزهري ذات يوم عن المعنى بقوله تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). فقال الزهري: (هو عبد الله بن أبي ابن سلول) فقال عبد الملك: (لا. بل هو علي بن أبي طالب) فاشتاط الزهري منه غيظاً، وقال له: (لا أبالك!. . . أعلي تفتري أم على الله؟!)
ونحن نرجو الدكتور أن يتفضل بكلمة موضحة في هذا الموضوع وطني أن مجلة (الرسالة) التي تخدم الدين والأزهر لن تضيق بكلمة أو كلمات حول هذا الموضوع الخطير، فهل يجيب سؤلنا الدكتور عبد القادر؟!(362/66)
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
الكتاب المتفرسون في لبنان
استفتت جريدة (الأنباء الأدبية) الفرنسية جميع الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية مستقصية عن الدافع الذي يحدو غير الفرنسيين للكتابة بالفرنسية، وكان بين هؤلاء فرج الله الحايك مؤلف (برجوت) وهاك جوابه:
(تسألونني لماذا آخذ اللغة الفرنسية كأداة للتعبير. وجوابي على ذلك جواب الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وحالتنا هذه خاصة بنا، فنحن لا نستطيع أن نفصل بين محبتنا لفرنسا، وبين تأثيرها الثقافي علينا. فنحن نعيش في وسط فرنسي، فرنسي في روحه ولغته)
(ورغم التباين العميق بين لغتنا الأولى العربية، وبين اللغة الفرنسية، فنحن نهضم هذه إلى درجة أننا أصبحنا نفكر بالفرنسية. إن اللغة العربية غنية جميلة وسائغة، ولكن هذه العقبة القائمة بين اللغة المحكاة واللغة التي نكتبها تولد للسامع نوعاً من التشويش)
ونحن لا يسعنا أمام جواب الأستاذ فرج الله حايك إلا أن نهنئه بهذه المكانة الأدبية التي جعلته كاتباً مرموقاً في لغة أجنبية
إلا أننا نستأذنه بأن نصحح ما جاء في جوابه عن معدل اللبنانيين الذين يفكرون ويكتبون بالفرنسية فهو دون شك لا يؤلف أكثرية كما يقول بل هو عدد محدود جداً ولا سيما بعد النهضة الحديثة التي أوجدتها البكالوريا اللبنانية في معاهد اللبنانية في معاهد التدريس وبين النشء الطالع. هذا مع العلم بأن التفكير والكتابة بالفرنسية شيء ومحبة فرنسا شيء آخر
(الجمهورية البيروتية)
محاضرة في الموسيقى بالمعهد الليلي البريطاني
ألقى الدكتور كيناستون سنل مدير المعهد الليلي البريطاني بالإسكندرية محاضرة في هذا المعهد تحدث فيها عن فن الموسيقى(362/67)
وقد استمع لهذه المحاضرة كثير من محبي هذا الفن وغيرهم من الطلاب، وكان بحث الدكتور في هذا الموضوع دالاً على خبرته واقتداره. وقد عرف الدكتور سنل الموسيقى بأنها فن تأليف الأصوات لإثارة الغبطة في النفس. وقال إنه لما كانت اللغة لا تفي بالتعبير عن العاطفة أحياناً، فإن المرء يعمد إلى إبرازها بإضافة الصوت والحركة إليها
وكان مما قاله عن الموسيقى الأوربية أنها نتجت من تمرين الأفراد على تعرف نظام الجمع بين الأصوات. على أن القليلين من الناس حتى بين ممارسي الموسيقى - يستطيعون تعرف مقام الربع في النغم
أما الموسيقى العربية فقال عنها: إنه ليس فيها شيء من نظام الموسيقى الأوربية من حيث التأليف بين الأصوات، وإنما هي (خط واحد). والأذن العربية مهما قل حسها تستطيع أن تتعرف الأرباع. ويميل الموسيقيون في مصر الآن إلى إدخال بعض التراكيب الموسيقية الأوربية على الموسيقى العربية
وختم المحاضرة بحثه بذكر ما يجب على السامعين في الحفلات الموسيقية من الأمور كالإصغاء للتوقيع وتجنب الحديث وعدم الآتيان بحركات تؤثر في صفاء جو الغناء والموسيقى وجلاء روح الفن
وفاة الأستاذ عبد الحميد بن باديس
نعت أخبار الجزائر الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جماعة العلماء وزعيم الصحفيين والأدباء توفاه الله يوم 8 ربيع الأول الموافق 16 إبريل. وقد كان رحمة الله من رجالات الشرق الأفذاذ نفسية وعلماً وخلقاً
ولد في قسنطينة سنة 1309، وأتم دروسه في الزيتونة، وطوف في بلاد الشرق، ثم عاد إلى وطنه فأنشأ مجلة الشهاب، واجتمع عليه نخبة من الطلبة في الجامع الأخضر (الذي أصبح فيما بعد موئل الثقافة الدينية بالجزائر) فصال وجال في دروسه وخطبه ومقالاته نيفاً وربع قرن يدعو إلى إصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، فأوذي وفتن، ولكنه خرج من فتنته كالتبر لم تزده النار إلا صفاء وإخلاصاً. عند ذلك اتجهت إليه الأنظار في شمال أفريقية، فتبوأ عرش الزعامة في كل مجمع والمحبة في كل قلب
إسماعيل محمد عزمي(362/68)
رأي الأستاذ ميخائيل نعيمه في ليالي الملاح التائه
طالعت في ديوان (ليالي الملاح التائه) شعراً متين الحبك، مشرق اللون، قوي النبرة، مؤمناً بذاته، وطلعت عليَّ منه عاطفة لا تتستر بخيال إصبعها ولا تتلبس غير لباسها. وكنت أود لهذه الشاعرية ألا تغرق في لجج الوطنيات، ولا تفرغ حماستها في كؤوس الخيام، أشكر لك يا أخي هديتك المسلوخة عن قلبك، وأتمنى لقلمك لا تشيخ. . .
تيسير الفقه
كنت أقلب صفحات (وحي الرسالة) للأستاذ الكاتب الكبير صاحب (الرسالة) أعزَّ الله يراعته، فرقعت عيني على ما في أدنى الصفحة التاسعة والعشرين وأعلى الصفحة الثلاثين من كلام جرى بين الإمام الشيخ محمد عبده طيب الله مضجعه وبين شيخ من رجال المحكمة الشرعية. سأله الأستاذ الإمام فيم يشتغل؟ فقال: نعلم النصارى الذين يدخلون الإسلام أركان الدين. فقال له: يكفي أن تقول صل وصم وزك وحج. فقال: ولا بد أن نعلمهم الوضوء. فقال: قل له أغسل وجهك ويدك إلى مرفقيك وامسح رأسك وأغسل رجليك. فقال: ذاك لا يكفي ولا بد أن نعلمه حدود الوجه من أين يبتدئ وإلى أين ينتهي. وقد أجابه الإمام بحدة قائلاً: قل له يغسل وجهه، كل إنسان يعرف حدود وجهه من غير حاجة إلى مساح.
شعرت بعد قراءة هذه الجمل بحاجة الفقه الإسلامي إلى تيسير، وهذا يكون بتأليف كتاب ينطوي على المباحث الفقهية كافة، يستغني به عن كل مطوَّل ونختصر، ويقرر تدريسه في الأزهر وفي سائر البلاد الإسلامية ليكون الفقه مألوفاً للناس على اختلاف معارفهم ومداركهم، وعائشاً مع الثقافات كعلم ثمين وأما أسس التيسير فينمّ عنها التيسير نفسه، ومع ذلك فربد من الإشارة إلى بعض هذه الأسس والطرائق والأشكال:
1 - حذف الزوائد الفقهية من مستحقات وآداب وإساءات (وعلل غير معقولة)
2 - استعمال اصطلاحات جديدة منظمة وإلغاء الاصطلاحات القديمة - فيما إذا تحقق اضطرابها -
3 - الأخذ بأسهل الأحكام وأيسرها للناس. فمثلاً يقضي الحنفية بوجوب الوتر ونقض الدم(362/69)
للوضوء. والشافعية يجعلون الوتر سنة ولا ناقضية للدم؛ فيؤخذ بأحكام الشافعية
ومثلاً يقضي الشافعية بأن الصلاة الإبراهيمية فرض في الصلاة وتركها مبطل للصلاة ويعتبرون مس الرجل للمرأة ناقضاً لوضوئه. والحنفية يجعلون الصلاة الإبراهيمية في الصلاة بسنة لا تبطل بتركها، ولا يرون في مس المرأة نقضاً للوضوء فيؤخذ بأحكام الحنفية
وهذا النماذج المذهبي ضروري للعالم الإسلامي الذي هو وحدة دينية لا تتجزأ، وقد أشرت في كتابي (التشريع الإسلامي) إلى بعض هذه المعاني بشكل فيه نوع وضوح
ولا مانع من مراجعة آراء الظاهرية والزيدية والأباضية وبعض فرق الشيعة للاستفادة من ملاحظتهم والاستنارة بآرائهم
وهذه عملية فيها صلاح للمسلمين كثير؛ فقد أثخنتنا الخلافات أذى وأشبعتنا هو أنا. وأرجو أن أسمع من الأساتذة الذين بحثوا أخيراً في موضع الأزهر وإصلاحه رأيهم في هذا الأمر
(القاهرة)
جلال الحنفي
تخليد ذكرى المرحوم مصطفى صادق الرافعي
رغب بعض حضرات الأدباء والشعراء تأخير يوم الاحتفال
بتخليد ذكرى المغفور له الأستاذ مصطفى صادق الرافعي
وتحقيقاً لرغبتهم قررت لجنة الاحتفال إقامة الساعة السادسة
من مساء الخميس 2061940 بدار مجلس مديرية الغربية
بشارع المدرسة بطنطا. وترجو اللجنة حضراتهم أن يتصلوا
بحضرة سكرتيرها الأستاذ أمين حافظ بطنطا إلى يوم الجمعة
1461940(362/70)
رئيس اللجنة
الدكتور عبد العزيز العجبزي
عضو مجلس الشيوخ
تصويب
جاء في مقال الأستاذ محمد يوسف موسى المنشور في العدد الماضي ثلاث كلمات محرفة وهذا صوابها:
صفحةعمود سطر خطأصواب
938 27وكذا الواحد وَكْدُ الواحد
939 1 12ذلك ما يزيدذلك إلى ما يزيد
939 116إلى كل هذاإلى. . . كل هذا(362/71)
رسالة النقد
تعقيب على تصحيح
للأستاذ محمد محمود رضوان
ذكر الأستاذ عبد القادر المغربي في العدد 356 من الرسالة عدداً كبيراً من المآخذ التي رآها في الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الرب للنويري، ولا يسع كل أديب وباحث إلا أن يحمد للأستاذ تلك الغيرة على تصويب كتاب له قيمته الأدبية كنهاية الأرب خصوصاً وقد وفق إلى حد كبير من تلك التصويبات وإن أخطأه التوفيق أيضاً في كثير منها
وللنويري صاحب نهاية الأرب في قلبي مكانة لم يحتلها أديب غيره من أدباء العصر التركي فهو أحبهم إلي وآثرهم عندي، إذ أن بيني وبينه - فوق إعجاب بمجهوده الجبار في تصنيف موسوعته العظيمة - آصرة الوطن وهي فوق كل آصرة
ولعل من القراء من يذكر مقالي الذي كتبته منذ عامين في جريدة الأهرام عن النويري، ودعوت فيه إلى إحياء ذكرى هذا الأديب المنسي، ونوهت بفضل موسوعته وما أشاد مؤرخو الأدب بها، وكان أن أخرجت دار الكتب المصرية بعد ذلك الجزء الثالث عشر من نهاية الأرب مشكورة، وإن كانت لا تسير في إحياء هذا الكتاب إلا كما تسير السلحفاة
وإذن فقد حق عليّ رأيت الأستاذ المغربي يتسقط الخطأ تسقطاً، ويلتمس الزلل التماساً أن أنافح - بالحق - ما وسعني النفاح عن المؤلف تارة، وعن المصححين أخرى، وهأنذا مورد ما كتب الأستاذ ثم أتبعه نقاشي له
1 - (ص11س21) قوله (ففتحها) صوابه (ففتحهما) إذ أن الضمير يرجع إلى العينين
هذا ما قاله الأستاذ الناقد وأقول: إنه ليس على ذلك التعبير غبار، والعرب كثيراً ما تذكر الاثنين - وخصوصاً إذا كانا لا يكاد أحدهما ينفرد وذلك كالعينين واليدين والرجلين - وتعبر عنهما مرة وبأحدهما مرة، قال الفرزدق:
ولو بخلت يداي به وضنَّت ... لكانْ عليَّ للقدرِ الخيارُ
فقال يداوي، ثم قال ضنت وهو يعني اليدين.
وقال آخر:
وكأن في العينين حبَّ قرنفُل ... أو سنبل كحلت به فانهلَّتِ(362/72)
فقال العينين، ثم قال كحلت فانهلت، وقال بعض المحدثين:
فدتك بعينيها المعالي فإنها ... بمجدك والفضل الشهير كحيل
ومن ثم فتعبير نهاية الأرب صحيح ليس عليه مأخذ. . .
2 - (ص25س14): ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا من يشهد لك بالتوحيد الخ
قال الأستاذ الناقد: فقوله (ونادى إلى ذات اليمين) صوابه (وأوى إلى ذات اليمين) - أي مال ولجأ إلى الجهة اليمين - وأقول: لو أن (نادى) قريبه من (أوى) خطاً، لكان ذلك كلاماً حسناً، أما وبينهما ما بينهما، ففي ذلك التخريج من التعسف ما فيه، على أنه ليس ما يدعو إلى تخطئة نادي وتبدل غيرها بها، ويظهر أن ذكر فعل القول بعد فعل النداء - وهما متقاربان معنى - هو الذي أشكل على الأستاذ، فجعله يفضل الاجتزاء بواحد منهما ويتبدل أوى بنادي، مع ذكر القول بعد النداء كثير سائغ. ورب العالمين يقول (فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى)؛ ويقول (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي). فليس من غضاضة إذن في قول النويري: (ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول. . . الخ). إذا أعربت الجار والمجرور - إلى ذات اليمين - حالاً من الضمير المستتر في نادى
3 - (ص67س11): قوله: (فقال فتى منهم حدث السن) خطأ، وصوابه: (حديث السن)؛ وعبارة المصباح: (يقال للفتى حديث السن، فإن حزفت السن، قلت: حدثً بفتحتين)، أي من دون إضافة حدث إلى السن. . .
وأقول: لا محل لهذه التخطئة، وإن كلام المصباح الذي استشهد به الأستاذ، ليس فيه دلالة قاطعة على أن قولك (حدث السن) خطأ، وإنما يدل على أن قول (حدث) يساوي في معناه قولك (حديث السن)، على أنك لو أضفت (حدث) إلى (السن) إضافة توضيح ما بعدت ولا تجنبت، وكيف وعبارة القاموس تؤيد ما أذهب إليه وهي (ورجل حدث السن وحديثها بين الحداثة والحدوثة فتىُّ) وذلك واضح
4 - (ص127س7): قوله (حتى بلغ بها إلى البحر) صوابه (بلغ بها البحر) من دون حرف الجر لأن فعل البلوغ يتعدى بنفسه
وأقول: لا أدري كيف يمنع الأستاذ تضمين الفعل معنى فعل آخر وهو مطرد على ألسنة الفصحاء وأئمة البيان واللغة، ولست أستشهد بفعل غير الذي معنا - وذلك كثير - ولكني(362/73)
أذكر عبارة وقعتُ عليها في كتاب (فقه اللغة) لأبي منصور الثعالبي أورد فيها الفعل بلغ معدي بإلى، وكأنه ضمنه معنى وصل أو انتهى، والثعالبي هو الثعالبي. قال ص578: (ومثله قوله عز وجل (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) وهم لم يبلغوا إلى أرذل العمر فيردوا إليه)
5 - (ص139س7): (وقيل إن النساء خلون به ليعدلنه لها) يعني أن نسوة المدينة لما بلغهن خبر جفوة يوسف لزليخا امرأة العزيز خلون به ليعدلنه، وقد ضبط فعل (يعدلنه) بدال المهمة المشددة من فعل عدَّله إذا أقامه وسواه. قال الأستاذ المغربي: (إن الأصوب والأليق بالمقام أن تكون (يعذلنه) بالذال المعجمة من العذل على معنى أن النسوة خلون بيوسف وأخذن في عذله ولومه على ما كان من جفوته لسيدته وإنه لا معنى للتعديل والتقويم هنا إذ ليس المقام مقام تربية ولا تقويم، وإنما المقام مقام حب وجفاء)
وأقول: إنه ليس ثم داع لهذا التصويب، وإن الكلمة لا هي يعدَّلنه كما ضبطها الشارحون ولا يعذلنه كما يرى الأستاذ المغربي؛ وإنما هي يَعْدِلْنه بغير تشديد من الفعل الثلاثي عدل بمعنى عَطَفَ، والمعنى أنهن خلون به ليجعلنه يعدل إليها وينعطف، والدليل على ذلك ما يقوله صاحب الأساس في مادة عدل (وعدلته عن طريقه وعدلت الدابة إلى طريقها: عطفتها)؛ وهذا الطريق يعدل إلى مكان كذا. وفي حديث عمر رضي الله عنه: (الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني كما يُعْدَل السهم).
6 - (ص242س2): (فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول) قوله (فحملوه) لعل صوابه (فحملوهما)، أي حملوا كلاًّ من الخضر وموسى وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر، ويشهد لما قلنا قوله بعد (فلما ركبا في السفينة) بألف التثنية أي الخضر وموسى
وأقول: إن ذكر الاثنين ثم إعادة الضمير على أحدهما دون الآخر مما جرى عليه العرب في تعبيرهم كما استشهدت في أول هذه التصحيحات، وخصوصاً إذا كان ثم مسوغ بلاغي أو معنى لهذا الحذف؛ وهذا المسوغ ذكره الأستاذ الناقد نفسه في خلال كلامه، وذلك قوله: (وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر). على أن الحذف باب من أبواب البلاغة المشهورة، فقوله (فحملوه) يتضمن محذوفاً أي (موسى) وذلك مطرد في كثير من كلام العرب وفي كلام الله، ألم تسمع إلى قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)؛ قال(362/74)
بعض المفسرين: (إن الضمير في ينفقونها عائد على الفضة، واستغنى بذلك عن عود الضمير إلى الذهب والفضة معاً للدلالة)
والعرب تخاطب الاثنين أيضاً، ثم تنص على أحدهما دون الآخر فتقول: ما فعلتما يا فلان؟ وفي القرآن (فمن ربكما يا موسى) وأغفل هرون، وفيه (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، خاطب آدم وحواء، ثم نص في إتمام الخطاب على آدم وأغفل حواء، فلا فرق بين عبارة النويري وهذه الشواهد إلا أن هذه للخطاب وتلك للغيبة، وسبب الحذف واحد في الجمع وهو التنويه بالأهم غيبة أو خطاباً
وقريب من هذا - أو عكسه - ما تفعله العرب من نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله تعالى في قصة موسى نفسها (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) مع أن النسيان كان من أحدهما لأنه قال (فإني نسيت الحوت وما إنسانيه إلا الشيطان) وكقوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) وأحدهما عذب والآخر ملح، ثم قال: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب
وهكذا يجد المتأمل في لغة العرب غير قليل من السعة والمرونة لا محل للتزمت فيه. . .
7 - (ص271س5): (قال موسى يا رب بما سمعت دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه قوله: (بما سمعت) لعل صوابه: (كما سمعت) أي اسمع دعائي كما سمعت دعاءه. . .
وأقول: إن في هذه التخطئة غير قليل من التجني على اللغة إذ أن مثل هذا التعبير عند تذوق أساليب العربية وقرأ كلام الله وأحاديث رسوله صحيح سائغ رائع، ولأقرَّب المعنى المراد أستعدي الإعراب فهو رائدنا إلى الصواب. وذلك أن (الباء) في عبارة النويري للسببية و (ما) مصدرية، والمعنى: (يا رب، بسبب سماعك دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه). وذلك كثير في كلام الله وإليك الشواهد:
(أ) قوله تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم
(ب) قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت) أي بنسياني
(ج) قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)
(د) قوله تعالى - وشبيه به عبارة النويري لفظاً، وليس كمثله شيء -: (فأما الذين اسودت(362/75)
وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم
وبعد: ففي تصويبات الأستاذ المغربي - غير ما ناقشت - كثير لا محل له، كتصويبه (المضيق بالمطبق) وهو سجن إبراهيم تحت الأرض مع أن المضيق كما في القاموس هو المكان الضيق. وقد خصصت عبارة النويري بأنه تحت الأرض، وذلك هو المراد ففي كل غناء عن (المطبق) التي يأبى الناقد إلا أن يدسها دساً، وكتصويبه (النحيب بالنحيب) والأولى صحيحة تؤدي المعنى كما اعترف، وكتصويبه (تفوهت بنوهت) والأولى تؤدي المعنى مع زيادة اقتضاها المجاز الخ. . .
(القاهرة)
محمد محمود رمضان
مدرس بالجمالية الأميرية(362/76)
العدد 363 - بتاريخ: 17 - 06 - 1940(/)
العلم المسكين!
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا غضب الإنسان التمس لغضبه هدفاً وإن ارتد إلى نفسه وأحب الناس إليه، لأن الغضب حركة ولا بد للحركه من اتجاه
وهكذا صنع صديقنا الزيات وهو غاضب على الحرب وأدواتها الجهنمية في عصرنا الحديث. فنظر إلى أقرب ما يرميه فإذا هو العلم المسكين: العلم الذي علم الناس أن يصنعوا البركان والإعصار، وأن يسلموا زمامهما للقاذف والطيار!
غضب الأستاذ غضبته تلك فتمنى لو أن للعالم (كرة إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان، ومدنية القلب واللسان، لينجو من هذا العلم الذي يدمر ما يعمر، ويخلص من هذه الحضارة التي تأكل ما تلد)
ولو كر العالم إلى عصر الجمل والحصان وحرب السيف والسنان لما رضى صديقنا الأستاذ، لأن هولاكو وتيمور قد صنعا بالحصان والسنان ما لم يصنع قواد هذا الزمان بالإعصار والبركان، وزادا على ذلك بلاء الطواعين يضيفانها إلى بلاء الطعان، فأين يذهب العلم المسكين مع هذا الإنسان!
كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا
بل ركب سناناً فوق السنان، وأتى معه إلى الميدان بالحيوان. . . وبالجان!
ولو تمثل العلم شخصاً يتكلم لاستغاث من هذا المخلوق الذي شوه جمال كل جميل حتى المعرفة والنور
وهل المعرفة إلا نور؟
وهل يأبى النور أن ينير إذا (اهتدى) به اللص في طريق الشرور؟
وهل يرتفع العلم بالإنسان إلى مكان أرفع وأطيب من فراديس الجنان؟
فماذا صنع في فراديس الجنان؟
سمع وحي الثعبان ولم يستمع إلى وحي الرحمن فويل لهذا الإنسان!
لقد ظهر الاختراع مع العلم فماذا صنع الإنسان قبل أن يخترع في العصر الحديث اختراع العلماء؟(363/1)
اخترع الحصان أداة للكر والفر والطعان!
جاء به من الأجمة والجبل أسلم ما يكون بين فصائل الحيوان، وقذف به إلى الميادين أخطر من النمر والثعبان. . . بل أخطر من المارد والشيطان!
وقبل الحصان حملته قدماه!
وقبل القدمين ركب رأسه وهواه
ولولا رأسه وهواه لما ضاقت به دنياه. . . كان له الله!
أخي الغاضب على الحرب! دع العلم في مكانه منها، فوالله إنه لرحمة بالإنسان حتى مع هذا الشر الذي يتفجر به طبعه ويتدفق به نبعه
إنه لأرحم به من الجهل يوم كان الطاعون يقتل مائة إلى جانب كل قتيل واحد يسقط في حومة القتال، ويوم كان كل واحد بؤرة تجتمع فيها ملايين الملايين من جراثيم الحميات والأهوية الوخيمة لتتفرق بعد ذلك من جبل الأطلس إلى أقصى الصين.
وقد مات في الحرب الأمريكية مائة وثمانون ألفاً في حومة القتال وضعف هؤلاء القتلى ماتوا بالأوبئة والأمراض
وأحصوا في حرب القريم خمسة وعشرين ألفاً من الإنجليز والفرنسيين ماتوا بالرصاصة والسيف، ونيف وتسعين ألفاً ماتوا بطعنة مكروب صغير لا تراها العين ولا يعلم بوجودها المقاتلون. لا بل هذه السرعة التي تنعاها أيها الأخ على العصر الحديث هي التي تعجل بالسلم وقد كان بطيئاً من قبل كالبطء في كل شيء من أشياء الزمن القديم
فأين هي الحرب التي تدوم اليوم ثلاثين سنة كما دامت حرب الثلاثين؟
وأين الحرب التي تعود اليوم في كل موسم كما كانت حروب القبائل البادية تعود في كل مرتبع أو كل مصطاف؟
أما عدد القتلى فما كان أكثره بالأمس، وما أقله اليوم بالقياس إلى عدد الأمم المشتركة في الحروب
لقد مات في حرب جنكيز خان نحو عشرين مليوناً، واشتركت أمم الأرض في الحرب الماضية فكان القتلى فيها أقل من تسعة ملايين
ودارت معركة بين الإنجليز والإيفوسيين في أوائل القرن السادس عشر، فبلغ القتلى من(363/2)
هؤلاء الأخيرين عشرة آلاف، ولم يكن سكان إنجلترا وإيفوسية يومئذ يزيدون على أربعة ملايين
وسر ذلك أن القوة قد اشتدت في سلاح الفتك وسلاح الوقاية على السواء؛ فالمدفع الذي يقتل ألفاً تخيفه طيارة يديرها رجل واحد؛ والأسلحة التي تبذل فيها الأمة ألف مليون يصدها الحصن الذي تبنيه الأمة بمائة مليون، واللغم الذي يودي بالمدرعة العظمى يلقطه وعشرات معه زورق صغير
ولكل شيء آفة من جنسه!
والفضل للعلم الحديث الذي صدم الشر بالشر فوقفا متكافئين، ولو انطلقا بغير رادع لهلكا متسابقين إلى الهلاك
فالحق أننا لنتخيل الدنيا وقد احتشد في جانب منها عشرات الملايين، وترامت بينهم ألوف الجثث وهم بعيدون من المعقمات التي اخترعها العلم والمطهرات التي صنعها العلم ووسائل العلاج التي استنبطها العلم، ثم نتخيل ما وراء ذلك من أوبئة وطواعين، ومن حميات وأدواء، ومن صرعى لا يجدون القبور ولا القابرين، فلا يسعنا إلا أن نغضب كما غضب الأستاذ من الحرب، وإلا نثور كما أثار الأستاذ على البغاة الآثمين، ثم نخالفه بعد ذلك فننادي بالعلم جهد ما نستطيع من نداء: مكانك فينا أيها العلم فلا رحمة لنا في عهد الحصان والسنان، وإنما الرحمة لنا في عهد الإعصار والبركان، ومن يلجم الإعصار والبركان. لأننا إذا رجعنا كرة أخرى لم نفقد الشر الذي يضري بالقتال ويغري بالعدوان، بل فقدنا الضياء الذي يرينا الشر والخير يتصاولان ويتكافآن، أو فقدنا شراً يدفع شراً فلا يبغيان ولا ينطلقان
أذكر كلمة للعالم الكبير (أوليفر لودج) يقول فيها إن خلقة (الميكروبة) مكسب كبير لعالم الحياة، فلو فرطت فيه الدنيا لبقيت عند المادة الصماء، ولم تتجاوزها إلى ما وراءها من عالم الأحياء
وهذا الذي قاله أوليفر لودج حق عظيم
فلو أننا استطعنا أن نتخيل أنفسنا في مطلع الخليقة، وأن نتخيلنا مسؤولين: هنا مادة صماء تبقى أبد الآبدين مادة صماء،(363/3)
وهنا جرثومة حية صغيرة تنمو وتنمو معها الحياة ولكنها لا تؤمن على سائر الأحياء، ولا بد من دواء يطول فيه العناء، فماذا أنتم مؤثرون يا معشر الخلق بين هذا البلاء وذاك الفناء؟
هنا يبدو لنا أن خلقة (الميكروبة) مكسب كبير كما قال (أوليفر لودج) الذي يقدس الجرثومة لأنه يقدس الحياة
وهنا يبدو لنا أن علاج (الميكروبة) مكسب آخر قد ارتقينا به في مراتب الفهم والمعرفة وكبحنا به كثيراً من شرور العجز والجهالة
وعلى هذا النحو تقترن المحنة بكل منحة، ويقترن العناء بكل نماء:
يبكي الطفل حين يولد، ويمرض حين تنبت له أسنان، ويختل ميزانه زمناً حين يدرك المراهقة، ويشقى بالتبعة زمناً حين يخرج من وصاية الأب إلى رشد الرجولة، ويعطي كلما أخذ مادام مرتقياً في مراتب الحياة
فمن يدر ما تشتري (الإنسانية) غداً وقد بذلت الثمن الفادح في الحرب القادمة؟
إنها مشترية شيئاً لعله يجمع بين فضيلة الفطرة وفضيلة الحضارة، وبين مزية الأناة ومزية السرعة، ولعله يفيض على بني الإنسان طمأنينة الواجد الذي يحمي ما يجد فهي خير من طمأنينة المعدم الذي لا يملك ما يفقد، وهي حالة يرضاها صديقنا الأستاذ إذا أغضبته الحروب، أو هي حالة أقرب إلى الإمكان من كرة أخرى إلى عصر الجمل والحصان، وحرب السيف والسنان
عباس محمود العقاد(363/4)
في حياتنا الوجدانية
(مهداة إلى الأستاذ عبد المنعم خلاف. . الكاتب الذي أحب
عالمه الوجداني)
للأستاذ حسين مروة
ما الكرامة وما الشرف؟
ما الحرية وما المجد؟
أسماء فخمة رائعة، ذات أجنحة سحرية عجيبة ننجذب إليها طائعين مسحورين، فتحلق بنا في سموات من الخيال مواجة بالأنوار والألحان والمباهج. . .
أسماء ذات أبعاد ضئيلة، محدودة ناقصة، يكمن في أطوائها سر من الأسرار لا تحده الأبعاد الواسعة، سر يفيض الخير على جوانب الحياة كلها، ويطوف بالنفوس الإنسانية جميعاً فيثير في الضعيف العاجز مجرد الحنين واللهفة والألم، ويحمل القوي القادر على ركوب الأخطار والأهوال والمكاره، وقد ينفخ في الضعيف الحي الطموح قوة تكتسح بذور الضعف، وتصرع عوامل العجز والخنوع والاستسلام. . .
ما هي هذه الأشياء الحبيبة للإنسان تبهره أضواؤها ومباهجها وتشتد لهفته إليها كلما اقترب منها، ويتغنى بوجده بها في سره وجهره، في صحوه وسكره، في كوخه الوضيع وقصره الرفيع، سواء كان غبياً أم ذكياً، ضعيفاً أم قوياً. أكان بادياً في الصحراء القاحلة، أم حاضراً في المدينة العامرة؟ أكان فلاحاً يتصبب عرقه في حقله، أم عالماً يجرب في مخبره وينقب في كتبه؟ ما هذا الهوس المحموم يدفع الإنسان - أفراداً وجماعات - إلى غمرات الموت بين اللظى المستعر والحديد الحاصد، فيندفع راضياً مستعذباً لقيا الشدائد في سبيل ما يدعوه الكرامة والشرف أو في سبيل الحرية ومجد الأوطان، لكأنما هو - حين يلقى الشدائد في هذا السبيل - إنما يلقى أحبة أعزة في ظلال أمن وارف ودعة ظليلة ناعمة. . .؟
ما هي الكرامة والشرف؟
وما هي الحرية والمجد؟
هل هي حقائق ذات قرار في عالم الحس والواقع: العالم الذي نتعرف إلى حقائقه الموجودة(363/5)
بإحدى هذه الأدوات الخمس: العين التي تبصر الألوان والأنوار والظلال، والأذن التي تسمع الأصوات، والفم الذي يذوق الطعم، والأنف الذي يحس الرائحة، واليد التي تلمس الحرارة والبرودة والخشونة والنعومة؟
هل الكرامة والشرف، وهل الحرية والمجد حقيقة من هذه الحقائق المحسوسة في هذا العالم الواقعي الذي لا يعترينا الريب بوجوده؟
كلا: ليست هي شيئاً من هذا كله - كما نعلم جميعاً -
أتكون - إذن - معدومة لا قرار لها في هذا الوجود الواسع؟
أتكون - إذن - غارقة في بحر العدم اللانهائي؟
ولكن: كيف تكون الكرامة والشرف، والحرية والمجد - عدماً من الأعدام وهاهي أضواؤها الباهرة تبهر عيون الشعوب الضعيفة والقوية على السواء، وهاهي أنغامها الصارخة تدفع بالإنسانية اليوم إلى المجزرة الهائلة الطاحنة، وهاهي الدماء البريئة تراق على جوانبها، وقد كانت كذلك من قبل أن يقول الشاعر العربي العظيم:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
وستظل كذلك حتى ينصب ميزان العدل أمام الديان الأعظم. . .
كيف تكون الكرامة والشرف والحرية والمجد عدماً من الأعدام وهي نفسها تلف سبعين مليوناً ونيفاً من العرب بشملة واحدة وهم في رقاع من الأرض متباعدة؛ وهي: هي نفسها تشد الأواصر وتجمع القرابات، وتوحد المشاعر بين شعوب العربية على اختلاف الديار والأحوال. وهي نفسها - كذلك - تدفع ببضعة نفر من هؤلاء الشباب المتحمسين إلى المسرح يمثلون - أمام جمهور عربي متحمس - دوراً من أدوار جهاد العرب المقدس في سبيل الكرامة والشرف وفي سبيل الحرية ومجد الوطن؟
إذن: لا سبيل للشك في أن هذه المعاني الوجدانية السامية ليست هي من الأشياء الغارقة في بحر العدم المطلق، ولا سبيل للشك - إذن - بأنها في قرار مكين من هذا الوجود
نعم: هي موجودة دون شك ولكن. . . ولكن أين يقع محلها في بحر هذا الوجود الأوسع ما دامت لا قرار لها - كما قلنا - في عالم الواقع المحسوس؟
وهنا يبدو لنا سؤال هو مفتاح السر في هذا الموضوع:(363/6)
ترى: أكان الإنسان إنساناً بمجرد هذا الوجود الحسي الواقع وحده؟ إذن فما معنى هذه الإنسانية المتبجحة بأسرارها الخطيرة؟ ما معنى هذه الإنسانية المفضلة - تفضيلاً مطلقاً - على كل شيء وهب نعمة الوجود؟. . . ما معنى هذه الإنسانية المزهوة بعظمتها إذا كان وجودها قائماً على جانب واحد هو الجانب الحسي الواقعي، الجانب المادي دون غيره؟ وأين يمتاز الإنسان - إذن - عن الحيوان الأعجم إذا كان يشاركه في هذا الجانب المادي من الوجود ثم لا يزيد شيئاً بعد ذلك؟
اللهم لا: إن هذا الإنسان العظيم لأرفع شأناً، وأجل خطراً من أن تكون إنسانيته العظيمة قائمة على وجودها المادي مجرداً، لا يسنده جانب آخر من جوانب الوجود. . . لا: ليس الإنسان كائناً حياً وكفى. . . بل إن الإنسان: كائن حي، أعلى، فهو إنسان - إذن - لأنه ذو جانبين اثنين يشارك بأحدهما سائر الكائنات الحية في هذا الوجود، ويتفرد الجانب الآخر واقفاً على قمة الهرم: هرم الحياة
فما هو الجانب الآخر الذي يصعق بالإنسان إلى قمة الهرم؟ هو لون من الوجود أفاضته الطبيعة على هذا الكائن الحي فصار إنساناً، وصار الإنسان سيد الوجود، على الإطلاق
هو لون من الوجود غريب يأبى التعريف والتحديد، لأنه يسمو فوق الحدود وفوق القيود، وإنما نعرفه بمظاهره وأثاره ليس غير
هو الآية الكبرى من آيات الطبيعة جاءت بها لتقيم البرهان على عظمة الخلق والإبداع الإلهي
هو الكوة التي يطل منها الأنبياء والمصلحون على الناس ليغدقوا عليهم أنوار الإيمان والفضيلة والرحمة والعدالة فتتفتح له عيون، وتعشو منه عيون. . .
هو المنظار السحري العجيب الذي يتطلع منه الشعراء، والفنانون الملهمون إلى الوجود، فيكشف لهم أسرار الوجود وخفاياه، ويلون لهم الحياة بألوان من الجمال وألوان من القبح، ويصور لهم الناس صوراً من الملائكة وصوراً من الشياطين، ويخلق لهم عالماً من السعادة يموج بالعطر والنغم، أو عالماً من الشقاء تفح فيه الأفاعي، وتضري الذئاب. . .
هو مصباح الفلاسفة والمثاليين يدورون به في مجاهل الكون وخباياه يبحثون عن الحقائق الكلية المطلقة، ويتغلغلون به إلى مكامن السر المحجب يستكنهون معنى الإرادة العليا فيما(363/7)
وراء المحسوس، أو يسيرون به على الأرض في دنيا المطامع والشهوات يبشرون برسالة الحق والخير والجمال الأسمى
هو العالم الجميل الذي يعيش به المحبون في سبحات من النور تصور لهم كل لمحة من جمال الطبيعة معنى من معاني الحبيبة أو الحبيب
ذلك هو عالم الخيال والذهن والإدراك، أو هو عالم (الوجدان) كما يسميه العلم
فللإنسان - إذن - وجودان لا وجود واحد: هما الوجود الواقعي المحسوس، والوجود الذهني غير المحسوس، أو فلنقل: إن للإنسان حياتين: حياة مادية، وحياة وجدانية، وكلما كانت حياته الوجدانية أوسع أفقاً، وأكثر إشراقاً - كان أقرب إلى الإنسانية الصحيحة أو كان أقرب إلى معنى الكمال الإنساني وكلما ضاق به أفق الحياة الوجدانية ونظر إلى دنياه من نافذة الحياة المادية وحدها - كان أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانية بمفهومها الأعلى، وأقرب ما يكون إلى حقيقة هذا الحيوان الأعجم يشاركه كل المشاركة في ماديته العمياء المجردة، بل قد يفضله الحيوان الأعجم في هذه الناحية المشتركة
وشعور الإنسان بالكرامة والشرف، وشوقه إلى الحرية والمجد - هما المظهر الأسمى لإنسانيته الصحيحة، لأن الشعور بالكرامة والشرف، والشوق إلى الحرية والمجد - هما أقوى مظاهر الحياة الوجدانية، وأدل على خصب الخيال، وسعة آفاق الذهن، وغزارة ينبوع الجمال النفسي، وقوة إشعاع الروح - هذه الأمور التي تنبع رأساً من دنيا الوجدان في حياة هذا الكائن الحي الأعلى. . . الإنسان
ولا فرق في هذا كله بين شعور الإنسان بكرامة نفسه وشرفها، وشوقه إلى حريتها ومجدها، وبين شعوره بكرامة قومه وشرفهم، وشوقه إلى حرية أوطانه ومجدها، بل: لعل هذين أمران متلازمان لا ينفكان كما يبدو لدى النظر العميق
وعلى ضوء هذا التحليل الصادق تعتبر الأمة العربية في مقدمة أمم العالم رسوخاً في الحياة الوجدانية السامية، لأن تاريخا المجيد طافح بآثار قوة الشعور بالكرامة والشرف، وشدة الظمأ إلى الحرية والمجد، وأيامها التاريخية اللامعة حافلة بالأمثال العالية لحب الكرامة والشرف، وحب الحرية والمجد إلى حدود الغلو، وهي حافلة كذلك بالشواهد العجيبة على التضحية والفداء في سبيل هذه المعاني الوجدانية سواء في الماضي والحاضر، وستكون(363/8)
للعرب مثل هذه الشواهد والأمثال في المستقبل - كذلك - حتى ينقذوا كرامتهم من الهوان، وشرفهم من الامتهان، وحتى يدركوا حريتهم الغالية السليب، ويؤثلوا مجدهم الرفيع الذي كاد يصبح خبراً من أخبار الغابرين الداثرين.
(العراق)
حسين مروة(363/9)
إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
- 2 -
قال صاحبي بعد قليل من سكتة صفير الإنذار بالغارة الجوية:
الآن وقد صم صدى هذا النذير البغيض، ومات صوت البومة الدميمة التي قامت تنعق على الموضع الخراب من عقل هذا العالم، فأسرعت الأيدي وتناهضت الأقدام، وخفت الأحياء ليطمروا أشلاء النهار التي كانت مبعثرة في طرقهم وبيوتهم على معركة الليل البهيم، إنهم يدفنون هذه الأشلاء الوهاجة خشية أن تراها عيون العافية من سباع الجو المنقضة بأنياب كرجوم الشياطين. آه يا صديقي! ما أقبح هذا وأفجره. ولكن دعني من هذا، فالآن أعود إليك
لقد مثلت لك بعض صورتها هي وبعض صورته عند أول اللقاء. لم أكشف لك بعد عن حقيقة النفسين وهما تعملان بأسباب من القدر، إن هذه الأسباب التي لا تدري متى أولها، قد أخذت تلتوي عليهما فيما يستقبلان من أيامهما، وثمة بدأ الإشكال، وتراكبت العقد الجديدة على تلك العقدة القديمة التي التبست عليهما في الطفولة، فلست أدري، ولا هما أيضاً يدريان، إلى أين المصير!
لمحها ولمحته في يوم اللقاء الأول، فوقفا طويلاً ينظران. وشخص البصر وكفت العين لا تطرف، وكأن العين قد أرسلت إلى العين رسلاً من أشعتها لتبحث في أعماقها عن معانيها الحائرة التي لم يستقر بعد على قرار مؤمن، تتبين فيه كلتاهما صورة كلماتها القلبية التي تنبض في موج الدم
أما هو، فقد أخذه ما يأخذ الغريق المشفي على هاوية من الهلاك الرطب الندي، ثم يفتح عينيه، فإذا هو ملقى على الشاطئ قد انتشلته من فزع الردى نجاة برحمة من روح الله. ولكنه لا يدري من الذي رده إلى الحياة بعد ملابسة الموت؟ ولا كيف كان؟ ولا أين هو؟ ولا أي مكان هذا؟. . .
وأما هي، فقد أنكرته بادئ اللحظة، ثم انكشف لعينيها الحجاب الكثيف الذي أرخاه الدهر الماضي بين أيامها وأيامه. . .(363/10)
لقد عرفته وأثبتته معرفة، فأقبلت عليه تندفع بقوة الرد المتفلت من شد عشرين عاماً كانت تجاذبها دونه:
أنت، أنت!! أين كنت؟!
آه، لقد نسي المسكين عندئذ أين كان! إنه هنا. . .!
أليس هذا كافياً؟ أليس هذا هو كل شيء؟. . . أما الماضي، أما الحياة التي عملت في بنيانه أعواماً طوالاً كلها جهد وإرهاق. . .، كل ذلك ذهب وباد وأمحى، وكأن اليد التي تمحو ما تشاء وتثبت في تاريخ الإنسان، قد أمرت صفحتها على رقعة أيامه الماضية فغسلتها وطهرتها من سوادها، وردت إليه وإليها صحيفة أيامه بيضاء نقية قد تهيأت أن ينمنم فيها القدر تاريخه الجديد. . . أجل! كان هذا هو الإنذار الأول من القدر لهذا المسكين أنه سينسى معها كل تجاربه في الحياة، وأنها هي التي ستكتب له هذا التاريخ الجديد من القدر خيره وشره
ومضت الأيام الأولى بعد هذا اللقاء البغت على ذكرى حاضرة تصارع وحوش الماضي التي وطئت بأقدامها عهود الصغر وملاعب الطفولة فطمست معالمها ومحت بعض آياتها. جعلت هي تتكلم، وكأنها ذاكرة التاريخ الواعية التي لا تكاد تفلت شيئاً إلا أحصت دقيقة وجليلة. حدثته وذكرته وأعادت عليه زخرف الصبا ووشيه من نسج حديثها، أما هو فبقي صامتاً ينصت لها خاشعاً ضارعاً يسمع صدى الماضي الذي يتكلم في سراديب النفس العميقة الممتدة الذاهبة بأساليبها الغامضة في أقصى غيب الحياة
كيف تدب الحياة في أشياء الطبيعة التي تخيل للناس أوهامهم أنها موات؟ كيف تستيقظ الأرواح النائمة في غار مظلم قد أطبقت على منافذه صخور صم من جبال الزمن؟ كيف تستقبل النفس - التي أحرقها الظمأ المتضرم - شؤبوباً من الغيث يهمي عليها بارداً عذباً زلالاً سائغاً يترقرق؟ كيف وكيف؟ لقد عرف هو كيف يكون ذلك كله حين تكلمت روحها في ثنايا روحه المتغضنة بأحزانها، وحين أخذت تناجيه بالذكرى. . .، ويتحدر في صوتها ذلك اللحن الخالد الذي يتحدر مع الغيث من السماء يناجي الأرض الظامئة المقشعرة المجدبة، فكذلك تهتز وتربو على مد أنغامه التي تفجر في ذرات الثرى كل ينابيع الحياة واستجاشت هذه الساحرة الجميلة التي خرجت عليه من لفائف الغيب المحجب تلك النفس(363/11)
المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبية التي كانت تحيط بنفسه عمراً من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطرباً حائراً يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدا البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المهمة القذف. يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت!! أين كنت؟
اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سوى مؤيداً بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذاً مقدماً لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حاله من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجري في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعاً موسيقياً هفافاً آتياً من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدى يتردد:
أنت، أنت!! أين كنت؟
فتجيبها الروح من أعماقها:
أنا هنا، أنا هنا!! أيتها العزيز!
هكذا بدأ بدؤه وقد نام كل ما فيه وخضع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتر، ثم دبت في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورق شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندي المتروح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد - بعدئذ - برجولته يتوحش، فارتد إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعاً ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الفيل المفقود الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وا رحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر(363/12)
محتوم! رفعت الأقلام وجفت الكتب!
أرأيت إلى ما وصف لك من أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذل أو تتهضم؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئاً غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعاً يلوذ بها خاشعاً متضرعاً، وكل ما بذخ وسما وتعضل فهو يتطامل لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنيناً ولوعة
وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقداً على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما أنهد بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غول الصحراء، وهو هائم على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع
كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك ما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب به وبوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطي النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلاً رائعاً، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالاطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعاً عنيفاً لا رحمة فيه، وهو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيماناً لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطيء وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن
وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائراً في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عنه صديقه، وما صديقه إلا هو وكنت ألمح(363/13)
هذا الجبل وهو يتخلع من أعضاءه التي ينهض عليها ثابتاًُ قاراً متسامياً يهزأ بالتلال القصيرة التي تطمح إليه بأبصارها، وجالت في نفسي أفكار وأسئلة لا جواب لها. يا رب! أهكذا يضمحل الرجل؟ وارتفع صوتي بهذا السؤال غير متعمد لذلك. فما هو إلا أن هب صاحبي من غفوة الفكر التي غشيته، فابتدرني يقول:
نعم، هكذا يضمحل الرجل! وما تريد أنت إلى ذلك؟ إنك دائماً تفجؤني بتمثال يتكلم بأفكاري التي أتكلم بها في غيب نفسي أي شيء هو الرجل؟ هل تستطيع أنت أو من سواك أن يقرر للعقل حقيقة الرجل، وأن يمتهد لفكرته أصلاً لا يزول، فإن يخرج عنهما أو عن أحدهما اختفى في العقل أن يكون رجلاً حق رجل؟ هذا هو الغرور الذي يتهاوى فيه الناس ما داموا ناساً يبغي بعضهم على بعض، فطرة ركبت في سر طبائعهم.
إن هذا ليس اضمحلالاً وضعفاً بالمعنى الذي تتوهم، إنه ليس من قوة في الطبيعة إلا وفوقها قوة تحكمها وتصرفها، وخضوع قوة لقوة أعضل منها ليس يعرف ضعفاً فيمن يخضع، وإنما هو القانون الطبيعي الذي يستقيم به نظام العالم. إنه لا يقال للدوحة الفينانة العظيمة: أيتها المسكينة، لماذا تخضعين لسلطان الفصل الذي تساقط به أوراقك؟ أو لماذا هذا الحنين الدائب إلى قطرات من الغيث، وهذا الجبل أمامك يسفح عليه ماء السيل ثم ينقطع أعواماً فلا يظمأ إليه فيحن كمثل حنينك إلى قطرات من الماء انقطعت بضعة أشهر؟ هذه طبيعة الدوحة، فإذا انقلبت طبيعتها إلى غير هذا الناموس قتلها الظمأ وتركها حطباً يابساً لمن يستوقد
آه أيها الصديق! إنك لن تعرف الحقيقة حتى تستشعر قوة الآلام الملتهبة التي تترك الرجل يتزايل على الشوق والوجد واللوعة كما يتزايل جبل من الفولاذ قد تجوفته نار متضرمة من لهب جهنم. أبغي قليلاً من الماء ثم أحدثك كيف اضمحل الرجل!
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر(363/14)
في سبيل الأزهر أيضاً
فتوى. . . وفتوى. . .
للأستاذ محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
لست أدري: أيغفر لي قراء (الرسالة) الغراء أن أعود بهم مرة ثانية إلى (فائدة الأربعاء) بعد أن كتبت فيها مقالي الأول؟
(وفائدة الأربعاء) في نفسها لا تستحق شيئاً من العناية، ولا تستحق أن نشغل بها قراء (الرسالة) في الحين بعد الحين، وإنما أعود إليها لأنها تمثل ناحية من نواحي التفكير في الأزهر، نبغي أن يتناولها الإصلاح، وأن تحمي منها العقول والأفكار! وقد جد في شأن هذه الفائدة جديد، ومن حق قراء (الرسالة) أن يطلعوا على هذا الجديد، ليتابعوا دعوة الإصلاح في كل خطوة من خطواتها، ويدركوا كل طور من أطوارها!
كان حديثنا الماضي عن (فائدة الأربعاء) تسجيلاً لفتوى غريبة أصدرها عالم جليل من جماعة كبار العلماء. وقرر فيها:
(أن فائدة الأربعاء جائزة لا شك فيها، بل هي مرجوة البركة، وليس فيها إلا عدة أمور بعضها جائز وبعضا مندوب إليه، وأن من يكذب بشيء منها، فهو منكر أو جاهل بما ورد في الدين من المتواترات. . . الخ)
ولم نشأ يومئذ أن نعلق على هذه الفتوى التي كنا أول من لفت الأنظار إليها ودل على مواطن الخطأ فيها، ولكننا اقتصرنا على أن نسجل منها (بعض الظواهر)، ونستجلي (بعض الغوامض)، ثم طلبنا من فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية أن يدل إلى الناس برأيه فيها، وقد علمنا أن فضيلة الأستاذ الكبير قد اهتم بالأمر، وأن فتواه فيه على وشك الصدور إن لم تكن قد صدرت بالفعل قبل أن يصدر هذا العدد من الرسالة
ولكن فتوى أخرى في الموضوع قد صدرت فعلاً، من جهة لها قيمتها العلمية ومكانتها الرسمية، تلك الجهة هي (لجنة الفتوى بالأزهر)؛ التي تتألف من علماء كبار يمثلون(363/15)
المذاهب الأربعة، بينهم اثنان من جماعة كبار العلماء: هما فضيلة الأستاذ الكبير، وكيل الجامع الأزهر، وفضيلة الأستاذ المحقق شيخ السادة المالكية، وبينهم أيضاً مفتشان رسميان يقومان بمهمة التوجيه العلمي والإشراف الفني، في جميع المعاهد الدينية التابعة للأزهر، وقد أصدرت اللجنة فتواها (بالإجماع) الصحيح، الذي هو نتيجة اجتماع في مكان واحد، وتشاور ونقاش ومراجعة وإقناع واقتناع شأن المؤتمرات العلمية التي يطمأن إلى إجماعها، ويؤخذ به!
ونحن نضع هذه الفتوى بين يدي القراء، قبل أن نعقب بما نريد. قالت اللجنة - بعد أن ساقت نص الاستفتاء، وهو لا يخرج عما أثبتناه في مقالنا الأول - ما يأتي:
(هذه الفائدة - وإن احتوت على صلاة، وقراءة قرآن، ودعاء - قد حدد لها ولأجزائها التي تركبت منها زمان ومكان، والتزمت فيها كيفية معينة: يتجه صاحب الحاجة إلى ضريح معين، ويقرأ فيه سورة يس بالنية التي يريدها، ثم يمشي في طريق ضريح آخر، حتى يصل إلى مكان مخصوص بين الضريحين، فيصلي فيه ركعتين وهو حاسر الرأس، ثم يمسك عمامته بإحدى يديه، وحذاءه تحت إبطه، ويتمم شوطه إلى الضريح المقصود، وهو على هذه الحالة، ثم يدعو هناك بدعاء خاص، يتوسل فيه بالأنبياء، وبسيدنا آدم وحواء وصاحب الضريح الثاني، وقد اقترنت هذه العملية في نفوس الناس باعتقاد أنها إذا أديت على هذا الوجه كانت مرجوة النفع، وإذا لم تؤد على هذا الوجه لم يكن لها الأثر المطلوب
وهذه العملية بما قارنها من هذه العقيدة، وبما فيها من الترتيب والالتزامات المذكورة، لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح، وذلك فضلاً عما يصحبها من مظهر لا يتفق وجلال الدين، وروعة العبادة، فهي بدعة منكرة. وإن الابتداع في الدين كما يكون بأحداث عبادة لا أصل لها، يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، فما جعل الشارع له كيفية خاصة، أو حدد له زماناً أو مكاناً كصلاة الجمعة والاستسقاء والحج وجب اتباعه فيما حدده، وما لم يحدد له شيئاً من ذلك، كالنوافل المطلقة كان التحديد فيها ابتداعاً وإحداثاً في الدين، لا يصح عمله ولا ينبغي اعتقاده. أما قراءة القرآن، وصلاة النافلة والتضرع إلى الله في المهمات والكرب من غير التزام شيء مما ذكر، ومع مراعاة الآداب الشرعية، فهي أمور ندب إليها الشرع الشريف، وصحت فيها الأحاديث(363/16)
واللجنة تنصح للمسلمين أن يلتزموا في عقائدهم، وعباداتهم، وتضرعاتهم إلى الله حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، فإن ذلك أسلم لدينهم، وأبعد من مقت الله وغضبه (تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) والله أعلم
هذه هي الفتوى الرسمية التي أصدرتها اللجنة الأزهرية وانعقد عليها إجماعها الصحيح، وهي تناقض الفتوى الأولى التي أصدرها أحد أعضاء جماعة كبار العلماء مناقضة صريحة من وجوه:
1 - الشيخ يقرر أن (فائدة الأربعاء) جائزة لا شك فيها بل هي مرجوة البركة، واللجنة تقرر أنها بدعة منكرة، لم يرد بهاكتاب ولا سنة ولا يشهد بها أصل صحيح
2 - الشيخ يستدل على ما يقرر بأن هذه الفائدة مركبة من أشياء بعضها جائز وبعضها مندوب إليه، وما كان كذلك فهو جائز شرعاً، واللجنة تخالفه لهذا السبب نفسه، وتقرر أن الابتداع في الدين كما يكون بإحداث عبادة لا أصل لها يكون بتحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة التي شرع أصلها، وأن هذا التحديد ابتداع وإحداث في الدين، لا يصح عمله، ولا ينبغي اعتقاده
3 - الشيخ ينصح المسلمين والعلماء خاصة بعدم معارضة هذه الفائدة وأمثالها مما ألف أن يدافع عنه، ويحض عليه، وأن يلتفتوا إلى محاربة المنكرات المجمع عليها التي تركت حتى صارت كما يقول الشيخ (سبهللاً!) واللجنة تنصح المسلمين أن يلتزموا في عقائدهم وعباداتهم حدود ما شرع الله، وألا يزيدوا من عند أنفسهم شيئاً من كيفية أو التزام زمان أو مكان، وإلا كانوا داخلين في قوله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)
وقد قلت من قبل ما قالته اللجنة، ونبهت إلى مواطن الخطأ في فتوى الشيخ الكبير، فبماذا استقبل الجامدون قولي؟ لقد هاجت منهم هوائج، وثارت نفوس ما عرفت الثورة في حياتها لشيء قط، واهتزت لذلك أيد، وتزلزلت أقدام: قالوا: ما لهذا العالم الحدث يعرض للكبار من شيوخه، ويتحدى علمهم؟ وقالوا: ما أخطأ الشيخ الكبير، ولكن أخطأ العالم الصغير!
وقالوا: لا تصبروا على هذا الغلام الخف فيكبر أمره، ويستدرج الناس إلى شر يصيبكم عظيم، ثم هموا بما لم ينالوا وكف الله أيديهم وقذف في قلوبهم الرعب، وكان الله بما(363/17)
يعملون بصيراً!
وأنا أريد الآن أن أقولها كلمة صريحة خالصة، لا أريد بها إلا وجه الله، ولا أبتغي بها مصلحة إلا مصلحة العلم والعقل والدين، ولا أصدر فيها عن روح إلا روح الإخلاص للأزهر الذي يحمل لواء الشريعة المطهرة، بين متربصين به، حاقدين عليه مترقبين أن يكل عما يحمل فيتلقفوه من دونه
يا قوم: إن جماعة كبار العلماء هي (أكاديمية العلوم والمعارف الإسلامية)، فإذا اختلف أعضاؤها هذا الاختلاف، وكانوا في الشيء الواحد على (طرفي نقيض) دل ذلك من غير شك على فساد، ودل ذلك على اضطراب، ودل على أن الموازيين والمقاييس التي يحملها بعض الناس في أيديهم، ليزنوا بها ما حرم الله وما أحل، ويقيسوا عليها الكفر والفسوق والإيمان، موازين أقل ما يقال في شأنها: إنها تنقصها الدقة، وتحتاج إلى (الضبط الصحيح)!
إن (فائدة الأربعاء) قد وزنت بميزانين، تمسك بكليهما أيد من جماعة كبار العلماء، فسجل أحد الميزانين إيجاباً مطلقاً وسجل الثاني سلباً مطلقاً، وقد سمعنا من شيوخنا المنطقيين أن السلب المطلق والإيجاب المطلق لا يجتمعان في مادة واحدة، فلا بد أن يكون أحد الميزانين مختلاً، فنحن باسم العلم والدين نطلب أن يصادر الميزان المختل، وأن يحجر على الناس استعماله، وندعو (جماعة كبار العلماء) أن تصطلح على ميزان صحيح مضبوط، من كتاب الله وسنة رسوله (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان!)
ولكن عفوا فقد نسيت! نسيت إني عالم صغير، ولا يجوز أن يتطاول الصغير إلى مقام الكبير!. فهل من عالم كبير يحمل عني لواء هذه الدعوة فيأخذها بقوة، ويأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها، قبل أن تأخذنا الأحداث، وتأتينا سنة الله في الغافلين؟!
(ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
محمد المدني(363/18)
حركات الإصلاح الإسلامية
3 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الإسلامية من جامعة برلين
ومدرس بكلية الشريعة
تقوم على قمة حركات الإصلاح الحديثة شخصية ليس لها في الواقع دخل أو اتصال مباشر بالحركة الوهابية التي أسلفنا الكلام عنها، وقد وصف الشخصية بحق جولد زيهر (بأنها صورة غريبة ظهرت في الإسلام أثناء القرن التاسع عشر).
ذلك هو جمال الدين الأفغاني (1838 - 1857) (الذي كان فيلسوفاً، وأديباً، خطيباً، صحافياً، وفوق هذا كله كان. . . سياسياً) والذي قال عنه براون في كتابه الثورة الفارسية: (بأنه أثر خالد باق على الأجيال)
ولقد رحل جمال الدين من أفغانستان وجاب العالم الإسلامي وأوربة؛ بل ومن الممكن أيضاً أن يكون قد جاب بلاد أمريكا!
وهو يعتبر - بدون شك - أباً لأفكار الجامعة الإسلامية:
أن لا نخلط بين أغراض هذه الجامعة وبين ما كان يحاوله عبد الحميد من انقلاب في السياسة العملية. ومن الحق أن نقول: إنه كان أول من دعا إلى اتحاد ساسة للمسلمين في وجه أطماع الغرب. ولكنه كان مع ذلك يحس في قرارة نفسه بالحاجة الماسة لبناء جديد من العالم الإسلامي تدخل فيه عناصر حرة، ويقطع ما بينه وبين التقاليد الموروثة من صلات وأواصر. ونظراً إلى أن جمال الدين الأفغاني كان ذا نزعة صحفية، وكانت له وجهة نظر سياسية في الغالب تؤثر فيه، ونظراً إلى أنه لم يكتب كثيراً، فإنه من الصعب أن نحقق تأثير هذه الشخصية الهائلة فيمن حولها. ورغماً مما أثاره في الغرب من ضجيج، فإنه من الصعب أن نستشف دخيلة نفسه ولن يحصل هذا أيضاً، فإننا لا نعرف من أين جاءته هذه الدوافع. بل أنه لم تصلنا تأثيراته في شكل محدد لأن تأثيره كان في الغالب في ثوب المعلم والمحرك أكثر مما هو في ثوب الكاتب؛ ولهذا فإنه من الخير لنا أن نحكم على الثمار التي(363/19)
نضجت على يديه. وهنا يثبت لنا أنه يرجع إليه الفضل في تلاميذه الذين هم كبار رجال الإصلاح وذوو اليد الطولى فيه وهم يشكرون له كل ما عندهم من خير
وعند ظهور جمال الدين الأفغاني كانت تتردد في الهند بعض أصوات، ويدور القول حول إصلاحات آخذة في النهوض في وجهات وأشكال مختلفة، ولكننا لا نعرف بالدقة مدى ارتباط جمال الدين ببدء الحركة في الهند وهل كان له فيها يد أو كان الأمر بالعكس، فهما من ناحية التأثير يتلاقيان معاً عند خطر واحد، وفي العصر الحاضر مع هذا يعتبر جمال الدين عند الشباب في الهند الممهد العظيم للطريق
وكانت تربة الهند في أوائل القرن التاسع عشر قد مهدت من ناحية تأثرها قليلاً أو كثيراً بالوهابية العربية، وكانت الحال في الحقيقة تبدو متفقة معها، ولو أن شكل الحركة الوهابية الشعبية المتحنثة لم تكن هي التي غذت الحركة الهندية الإصلاحية في روحها فإن التجديد في الهند صدرت عن طبقة غير مثقفة تثقيفاً عالياً، وكل ما هنالك أن هذا التقابل بين هذه الحركة والحركة الوهابية يمكن أن تشرحه وتفسره هذه اليقظة التي جاءت من تلك الهزة العنيفة التي صدرت من المركز الإسلامي بالبلاد العربية
وقد ظهرت حركة الإصلاح في الهند للعيان في شكل حركة عقلية على رجال مثل سيد أحمد خان مؤسس مدرسة عليكرة (المتوفى سنة 1898) قديماً، ومن أمثال أمير علي وخودا باخشا حديثاً، وقد تأثر هؤلاء الهنود تأثراً عميقاً بما هو ظاهر ملموس في وطنهم على الأخص من تأخر المسلمين وما أصيبوا به من ضرر بالغ من جراء جمودهم إزاء المدنية الحديثة، وهم على العموم - مخالفون في هذا جمال الدين - لم يندفعوا بدافع سياسي، بل أنهم اعتبروا خضوع الهند للإنجليز أمراً ضرورياً وأمراً مرغوباً فيه لذلك، كما أن حركتهم لم تصدر أولاً وبالذات من أفكار دينية اقتنعوا بها. وكل ما هناك أنهم عرفوا الثقافة الغربية واتصلوا بها، فقاموا بحركتهم تحت تأثير تأخر المسلمين. وإنهم كمسلمين محبين للإسلام - كما أحسوا - كانوا يرون أن الإسلام الصحيح الخالص لا يقف في طريق الثقافة الحديثة بأي شكل، وأنه في الأصل هو الدين الوحيد صديق العلم والتقدم. وعنوا (الإسلام الصحيح) ولم ينكروا أن الإسلام على ما هو عليه في الوقت الحاضر فيه ما بجانب الإصلاح وقد جاء هذا كما قالوا من أن البحث المستقل في مراجع الدين الأصلية(363/20)
- يعنون الاجتهاد - غير جائز، وأن الناس خاضعون للتقليد الأعمى من جراء الإجماع الذي طغى على الإحساس وجعل الفقه جامداً مقيداً، وأن أفكار المتأخرين سويت بتعاليم الرسول
وقد رفضوا الأخذ بأحاديث كثيرة وتمسكوا بشدة بالقرآن الكريم
وقد اعتقد المسلمون بالهند - وليس ذلك بصحيح دائماً من الناحية التاريخية - بالمعتزلة الذين صوروهم بأنهم المفكرون الأحرار واتخذوهم كمثل عليا في التجديد. وسموا أنفسهم أحياناً بطيبة خاطر (بالمعتزلة الحديثة) لأنه فيهم قد ظهرت إلى الحياة أغراض هذه الفرقة الإسلامية الحرة وجهودها
ويظهر من طبيعة الأشياء أنهم أخذوا تعاليم من طريقة هذه المدرسة القديمة مما لم يفكر فيه بعد فمن هذا فكرة (تطور الفقه) التاريخية (فهم - أي المعتزلة - يرون بالنسبة للأعمال الإنسانية أنه لا يوجد قانون دائم وإن النظام الإلهي الذي ينظم سلوك الإنسان نتيجة للتقدم والتطور، وأن الله نظم أوامره ونواهيه في شكل متدرج متطور من القانون)، وقد بحثوا باجتهاد وذكاء في شرح المعاني والأغراض في القرآن والحديث الذي يستعملونه إذا خالف ذلك أفكارهم في سبيل التدليل على أن الإسلام الصحيح يحض على العناية بالعلم بلا قيد ولا شرط ولا يخالف نتائجه، وهنا أظهروا حقاً صورة للإسلام كمثل أعلى.
على أن هذه الطريقة التي استعملها رجال الإصلاح وإن كانت لا تقوى أحياناً على النقد التاريخي، فإنه مما يستحق التقدير حقاً كفاح هؤلاء الرجال في قضية أضاءت في نفوسهم، والمهم في الحكم إنما هو الغاية لا الطريقة، وهي ليست إلا محاولة لتحرير الإسلام من قيود المدنية للقرون الوسطى
والأمر الغريب هنا هو أن الخطوة الأولى لهذه الغاية الجريئة وهي رفض الفقه الإسلامي لم يقم بها على أساس ثابت مأمون ولم تأخذ اهتماماً عمليا؛ ويظهر أن حالة التقوى تمنع من ذلك
ولكن بجانب هذا قد مهد الطريق الآن لفهم التاريخ فهماً واضحاً لتقبل الفكرة التي تقول أن النظم المعتبرة تاريخياً لا يمكن أن تبقى سائدة دائماً، وفي آخر الأمر يكون قد تم الانتصار على مبادئ الضعف، وأكملت على الأقل خطوات خطاها المدافعون الأحرار عن المعارف(363/21)
الدينية
هذه هي كلمة الأستاذ هرتمان عن حركة الإصلاح في الهند، أما حركة الإصلاح بمصر فموعدنا بها المقال الآتي إن شاء الله تعالى
علي حسن عبد القادر(363/22)
التعليم المختلط
للأستاذ رفعة الحنبلي
أجابت الأمم العربية، في الآونة الأخيرة، لنوازع التجديد الأوروبي الحديث من نواح عديدة، سياسية واجتماعية، أدبية وعلمية، فأخذت بالبعض منها وهمت بالبعض الآخر؛ وأبعد هذه النواحي أثراً فيها الناحية العلمية التربوية التي أخذت بها، إذ أنها استبانت طريقها على ضوئها، وبدأت تتمشى حسب أنظمة التعليم الحديثة في معاهدها وكلياتها وجامعاتها، بعد أن بقيت ردحاً من الزمن محافظة على القديم منها، وراحت تتفهم مبادئها السليمة وتتلمس طرقها القويمة، وتزاوج بين القديم منها والحديث إلى أن أسبلت عليها رداء جديداً، وأسبغت عليها لوناً طريفاً، فرضيت به كمبدأ يستحثها على مماشاة النهضات العلمية العالمية، ويدفعها إلى تبوء مركزها الرفيع بين الأمم
وفي الواقع نرى الأمم العربية قد أعدت نفسها إلى الأخذ بهذه المبادئ التربوية - التي اعتكف علماء التربية على دراستها دراسة وافية شاملة، والتفقه فيها تفقهاً عميقاً، طوال سنين عديدة - فأقبلت عليها وسارعت إلى إقرارها، وكان أن تبدلت الأنظمة، وتغيرت الأسس وتلونت المناهج وفقاً للمبادئ التعليمية الحديثة التي تتلاءم مع احتياجات المجتمع وتطور البيئات؛ ومن أهم تلك المبادئ مبدأ التعليم كثر الجدل حوله بين كبار المربين، واحتدم الكلام بين علماء النفس في منافعه ومضاره، فمنهم من أقره ورغب فيه، ومنهم من أنكره وصدف عنه، ولكل منهم أنصاره وأعوانه وحججه وتجاربه
على أن الأمم العربية لم تأخذ بهذا المبدأ - مبدأ التعليم المختلط - في جميع مراحله من ابتدائية وثانوية وجامعية، بل اقتصرت على الدراسات العالية، أو بالأحرى اقتصرت على الدراسة في الجامعة وحسب، ولذا نشاهد ارتياد الفتاة الجامعات دون غيرها
لنتصفح أوجه الرأي المختلف عليه في قضية هذا التعليم المختلط، ولندرس عناصره وعوامله ولنقف على ظاهره وخافيه، ولنرسم خطوطه الكبرى كي نتفهم خصائصه ونستبطن دخائله
إن أول أمة أخذت بالتعليم المختلط هي الأمة الأمريكية، وهو طريقة تعليمية جديدة من مبادئه أن يتلقى الفتيان والفتيات التعليم والتثقيف معاً في معهد واحد وفي وقت واحد، مع(363/23)
مراعاة درجة معارفهم ومستوى معلوماتهم وتفاوت أعمارهم دون النظر إلى الفارق الجنسي، على أن يشرف على هذا التعليم أساتذة من كلا الجنسين
والتعليم المختلط على أنواع ثلاثة: نوع يعرف بالتعليم المطلق أو التام منه تهيئة الطلاب من كلا الجنسين للعلم وإعدادهم للحياة الاجتماعية التي تستدعيها البيئة وتقضي بها الحضارة؛ ونوع آخر يعرف بالمدرسة المختلطة وفيها يجتمع الجنسان في الفصول وحسب؛ والنوع الأخير هو ما يطلق عليه التعليم المختلط المقيد وهدفه تهيئة الطلاب والطالبات للعلم وإعدادهم للحياة الاجتماعية على شرط أن ينظر إلى خصائص هاتين الفئتين من عقلية ونفسية حتى تتلاءم مع استعداد الأفراد من الجنس الواحد وميولهم ورغائبهم ومع بعض الاعتبارات والعوامل مادية كانت أو معنوية
ولتحقيق فكرة التعليم المختلط وجب تحقيقها، في بادئ الأمر، على الأساتذة الذين يشرفون عليها أو بالأحرى وجب أن تكون الهيئة التعليمية - كما يقول الدكتور في كتابه القيم (التعليم المختلط في المدارس الثانوية) - مؤلفة من مربين ومربيات ليتلقى الطلاب، على المعلمات، بعض الدراسات كما تتلمذ الفتيات على بعض المربين
وإذا ما أهملنا الجانب المادي الذي يتحكم في مصير هذه الفكرة تحكماً شديداً، والذي من شأنه أن يدفعها إلى التقدم دفعاً سريعاً، ويدنيها من غايتها المثلى. على نحو ما يذهب إليه بعض علماء التربية، وجدنا أن البعض الآخر يتساءل عما إذا كانت هذه الفكرة تتفق والتطور الطبيعي من حيث القابلية والاستعداد لكل فئة من هاتين الفئتين من الجنسين؟. . . يتعلق جواب هذا التساؤل بدراسة نفسية كل منهما من النواحي التي تتصل اتصالاً وثيقاً بعلم النفس: كتطور الميول، وتباين الرغائب، واختلاف القوى واحتمال التعب وغيره
ولكن هل يصح لنا أن نرد تباين هذه النواحي إلى التربية العائلية وخصائص البيئة ومزايا الفرد، أم أنها تتعلق بالجنس من حيث جنس؟
في الواقع أن هذه النواحي ترجع إلى اختلافات جنسية ذات تأثير يجعل التباين بينهما إلى أبعد حدوده
قلت: إن أول أمة فكرت في هذا النوع من التعليم المختلط هي الأمة الأمريكية، وما أن استهل القرن العشرون حتى فشا هذا النوع في جميع معاهدها من ابتدائية وثانوية وجامعية؛(363/24)
وبلغ عدد المعاهد الثانوية بحسب إحصاء رسمي قامت به حكومة الولايات المتحدة عام 1909 - 11075 عهداً مختلطا يؤمها 921736 طالباً وطالبة تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة منها 919 معهداً خاصاً بالطلاب عدد أفرادها 110725 طالباً؛ مع العلم أن هذا الإحصاء لا يشمل العدد الوفير من المعاهد المختلطة التي تشرف عليها الجمعيات الخيرية والدينية، وبلغ عدد الجامعات في إحصاء آخر 622 جامعة منها 158 جامعة خاصة بالفتيان 129 جامعة خاصة بالفتيات و335 جامعة مختلطة؛ فالفتيات إذن يختلفن في المعاهد الثانوية بنسبة ثمانين في المائة، وهي نسبة جد مرضية أما المدارس الابتدائية فيتردد عليها مئات الألوف من كلا الجنسين على السواء. . .
ولم يقف هذا التجديد عند الأمة الأمريكية فحسب، بل تعدى إلى الأمم الأخرى أشهرها التي تقطن شبه جزيرة اسكندنافية، وكذلك الأمة الفرنسية والألمانية والأسبانية وسواها. واجتاحت موجة هذا التجديد الأمة الإيطالية أيضاً فأصدرت قانوناً في الرابع من شهر حزيران عام 1911 أحالت بموجبه جميع معاهدها إلى معاهد مختلطة، وكذلك دور المعلمين أيضاً حيث كان الانتساب إليها مقصوراً على الطلاب
وأبدلت الحكومة الإنكليزية بدورها منذ مدة غير بعيدة ولأسباب اقتصادية جميع معاهدها الابتدائية والثانوية إلى معاهد مختلفة، إلا أنها قيدت التعليم المختلط بما يختص بالتعليم الثانوي حيث يجتمع الجنسان في بعض المواد وفي المختبرات وعند تناول الطعام على أن يسمح لهما في الاجتماع في الأمسيات التي يقضونها معاً يستمعون إلى محاضرات في شتى العلوم والآداب والفنون
من هذا يتبين لنا أن التعليم المختلط قد فشا بين أكثر الشعوب المتحضرة والأمم المتمدينة وهم الأصقاع الأوربية والأمريكية وتناول بعض الأصقاع الشرقية أيضاً
غير أن هنالك نظريات متباينة، في صدد هذا التعليم، من حيث منافعه ومضاره، أثارها علماء النفس والاجتماع والتربية، اضطربت فيها عناصر مختلفة من القيم، واحتربت فيها مذاهب كثيرة من التفكير فنرى الأستاذ أحد المربين الأمريكيين، لم يتوان عن إبداء رأيه العنيف فيما يتعلق باختلاط الجنسين في معهد واحد، بعد اختبار نيفت مدته على خمسة عشر عاماً. فإذا به يقول: (لمست في المدارس الابتدائية الصداقة العميقة والحب العنيف(363/25)
بين طلابها وطالباتها وقلما تشاهد فتى لا يفزع إلى رفيقة له، حيث يختلفان معاً إلى دور الخيالة (السينما) - على حد تعبير الأستاذ البشري - وإلى المتنزهات العامة، وكثيراً ما تتوافر الهدايا على الطالبات من الأيفاع المحبين، وكثيراً ما تتعدد زيارات الفتيان المولهين للفتيات)
ويقول أيضاً: (أما في المعاهد الثانوية فيكفي أن تصيخ السمع قليلاً لتتأكد أن المحاورة التي يأخذ بها الطالب مع صديقته الطالبة بعيدة أقصى درجات البعد عن حل مسألة جبرية أو إعطاء رأي في قيصر أو إنعام نظر في مذهب من المذاهب الأدبية أو العلمية أو غيرها. . .) وقد لا نستغرب من الفتاة، في هذه الحالة، تغيبها المتواصل عن المعهد أسبوعاً أو أسبوعين بسبب هذه النوازع العاطفية، وبفضل هذه الأحاسيس العنيفة
حمل المربي الكبير العالم على التعليم المختلط، في مرحلة التعليم الثانوي، حملة عنيفة، استند فيها على اختباراته الخاصة التي قام بها طوال أعوام عديدة، إذ أنه يرى الفتى يفقد شيئاً من رجولته، والفتاة شيئاً من أنوثتها، وكذلك يرى أن الخصائص الفردية والمزايا الشخصية، لكل من الجنسين، تنحدران إلى هاوية سحيقة قد لا يسلم من خطرها الفتى أو الفتاة وقد ينتج من هذا الخطر نقص في الزواج في المستقبل القريب أو البعيد، ولا أدل على ذلك من أن معهداً كان يضم بين جدرانه 560 فتاة تأهل منهن أربع وستون منهن اثنتا عشرة فتاة تزوجن زملاءهن في الدراسة
لذلك نجد أن وحملا على التعليم المختلط في هذه المرحلة حملة فيها كثير من العنف والخشونة على الرغم من اعتراف الأول ببعض حسناته؛ وتذهب السيدة إحدى المربيات العالمات مذهب زميليها، وهي بعد تعتقد بأن تأثير التعليم المختلط هو أبقى أثراً على الفتيان منه على الفتيات، فأولاء يحتفظن بأنوثتهن بينما أولئك يفقدون شيئاً من رجولتهم، ودللت على صحة ما ذهبت إليه بما قامت به من الاختبارات في عدة مدارس مختلفة الأنواع، حيث رغبت إلى الطلاب أن يعرفوا لها (الحب)؛ فكانت أجوبة الطلاب الذين لم يختلطوا في يوم من الأيام نتناول الحب الأبوي والحب الأخوي والحب الإنساني وسواه. . . أما أجوبة طلاب المدارس المختلطة فكانت تتضمن الحب الوجداني والحب العاطفي وغيره. . .(363/26)
والواقع الأليم أن الفتاة لا تستطيع أن تحتفظ بأنوثتها في اختلافها إلى المعاهد المختلطة، بل لا بد لها من أن تفقد شيئاً منها كما نوه بذلك العالم بل لماذا لا نذهب إلى أبعد من هذا الحد فنقول أن الفتاة قد تخسر شيئاً من خصائصها وتفقد قليلاً من مزاياها، وقد يتلون قسم من عواطفها ويتبدل كثير من نفسيتها. . . عوامل قد يكون لها أسوأ الأثر ليس على حياتها الحاضرة فحسب بل وعلى مستقبلها أيضاً. فالصداقة التي تتأصل في أطواء نفسها، وهي على مقعد الدراسة تدفعها للتعرف على الفتى من ناحية تتباين والناحية التي تتعرف عليها وهي على غير مقعد الدراسة، أو بعبارة ثانية أنها تتقرب إلى الفتى عن طريق الصداقة لا عن طريق الحب الذي تنشده ليلها ونهارها إذ تفتقر بذلك إلى الرجل المثالي التي تسعى وراءه
وهي إلى ذلك تتأثر إلى أبعد حدود التأثر بمعاشرتها الفتى، فتتغير عقليتها، وتتبدل نفسيتها، وتتلون عواطفها ويتحول طراز معيشتها إلى حد تلتزم فيه تقليد الفتى تقليداً قد يكون تاماً أو لا يكون، في معاملته أو في حديثه أو في خشونته أو في لباسه أو غير ذلك، وهكذا نراها تتسم بمزايا الرجولة التي كثيراً ما تجعل الرجل يصدف عنها ويعزف عن الحياة الزوجية إذا ما فكر في الزواج، وقد يثور الرجل على هذا التطور في أخلاق الفتاة، وعلى هذا التبدل في نفسيتها بعد أن يكون قد قبله ورضي عنه حينما كان طالباً
ونصيب الفتى من هذا التطور في الميول والعادات لا يقل أثراً عن نصيب الفتاة منه، بل ربما كان أبعد مدى فيه منها، فإذا هو مائع الرجولة، أنثوي الأخلاق، فقير الخصائص، فاقد المزايا. .
فالتقارب إذاً بين الفتى والفتاة يحور بعض مزاياه الطبيعية ويضعف بعض خصائصه الجنسية، وإن كانت بعض هذه الخصائص ترتفع وتسمو، وبعض هذه المزايا تنبل وتعلو
على أن بعضاً من العلماء يقولون إن التعليم المختلط هو من أحسن الأنظمة التعليمية الجديدة وأرقاها ابتكرتها عقول جبارة نيرة، فيعترفون بأفضليتها ويقرون بحسناتها ويرتاحون إلى نتائجها على أن يقتصر هذا التعليم على الابتدائي والجامعي، أما التعليم الثانوي، فأشد ما يكون خطراً على أخلاق الناشئة وآدابها، غير أن البعض الآخر يقول بالتعليم المختلط في أدواره الثلاثة: الابتدائية والثانوية والجامعية(363/27)
(البقية في العدد القادم)
رفعة الحنبلي(363/28)
فن يستيقظ
للأديب نوري الراوي
فهم العربي جمال الكون بكل حواسه فأطلقه شعراً يفيض باختلاج حسه القصيَّ، ثم أنفذه نغماً في صميم الليالي الأندلسية البيضاء. . . وعاد فمات في عتمة الغسق التركي، فكانت بقيته اليوم بين حشرجة الماضي ويقظة الحاضر نسيساً في نفس مجروح، ونسمة من نسماته الندية تنطلق اليوم بعد فترة جمام كادت تطمس على خصائصه الأصيلة فتحيلها إلى العدم أو النسيان، ولكن الله الذي حفظ الروح العربية الإسلامية دهوراً طوالاً أراد أن يوقظها في صفوة أبنائها اليوم فكان ما أراد لله
وشهدت العصور الحديثة أكمل القوى في ثورة تشمل الروح والجسد، يدعمها الإيمان ويشدها الحق وتظللها الحرية، فأدركت أن وراء هذه الأنفاس المفهورة نفساً يريد أن يكون لهيباً من جهنم، وشواظاً من بركان
ولكن الزمن الذي اتسع لأمجاد الفن العربي في مختلف عصوره، زحفته المدوية، فطوى بين أثنائه أياماً كانت شجىً في الحلق، ليلبس ثوب هذا اليوم الحديث في صورة من التأريخ. إن وراء المجد الذي كان بالأمس، قوة من المعنى أدارت رحاه، ونواة من الفن حفظت نوعه، فمضى يخط تاريخه في جلال الظافر وكبريائه، حتى دهمته الذئاب الدخيلة! فعبثت بروحانيته كما تعبث الريح بالرمال وأجهزت على فنيته فحطمتها
وبين عصرين من عصور التاريخ، تقلبت فيها الأحداث، وتخبطت فيها الحظوظ، وتعاقبت على صفحاتها الأيام، مني الفن العتيد بخطوب جسام كادت تشرف به على الهلاك. . . ولكنها الروح التي لزمته في صحاري الحجاز ودللته في بلاد المجد المفقود وهدهدت أعطافه على ضفاف بردي والفراتين عادت فاندفقت بين أضلع سادها الهدوء أزماناً. . .
لقد كان الفن العربي يوصل الأمة بمعنى من الجلال يسمو بها عن المدارك الدنيا إلى أجواء أمتع وأمنع حتى إذا ما رفعت أبصارها عن الأرض. . . حتى إذا ما انعتقت من أسر المادة، فهمت الفضيلة؛ فسادت بالرحمة وحاربت بالأيمان. . . وكان هذا سر الخلود
حيثما تكن الأمة من المكانة يكن حبها للفن، لأن النفعيات مطلب من مطالب الحياة الوضيعة التي تعيش لنموت، لا الحياة التي تعيش لتدوم. . . لتخلد. . . لتقول للتأريخ(363/29)
هاأنذا فاكتب. . .
ولكنه الفكر العربي الجبار يبرهن على وجدوه، يبرهن على قوته، يوم يعرف أن للحياة منازع غير ما علمته إياه البهيميةالأولى في الغابات والكهوف!. . . ليكون أستاذاً في تلقين المثل العليا لكل من يلوك اللفظ فلا يقع لسانه إلا على الأكل. . . والنوم. . . واللباس. . .
هنا يقف الفكر الحديث عند حد تنتهي به سياحته، الفكر الحديث الذي يعبد الآلة ويمجد المادة ويستعذب الوقوف أمام الصنم الجبار؛ ليجد أن العربي سبقه في الحياة وسبقه في الفكر وسبقه في التأسيس
برهان واحد من براهين أشتات نقف منه على حياة أجيال ماتت. . . لنكون نحن بقيتها على الأرض نوطن النفس على حمل هذا العبء الذي حمله الجدود أزماناً
في هذا المدى الوسيع الذي يشمل الصين في أقصى الشرق ويقف عند أزباد بحر الظلمات! بذر العربي بذور فنه الأولى، فكان الجامع الأموي في الشام يطاول بمآذنه السماء، وكان المسجد الأقصى يهزأ بالدهر للغلاب، وكانت معجزات الأندلس وعظائم بغداد شاهد على ذلك الخلود. هو الغرس العربي، يثمر رجالاً يمجدون الله، ينتج مآذن تجلجل فوق سامقات رؤوسها كلمة: (الله أكبر). . .
ينتج فناً روحياً لم تسبقه إليه جهالات الأوربيين. . .
هناك في الصحراء. . . الصحراء التي يضيع البصر في مهامه مداها الوسيع، ويسبح الفكر على منكب لجتها السمراء، فما يزال يطفو ويرسب حتى يبلغ محجة تنقطع عندها أسبابه: تمخض الزمن الولود عن دين العلم والفن، فكانت أول بسمة من بسماته الندية ترف على روابي الحجاز وترتعش فوق بطاح الجزيرة، ثم لا تقف عند هذا حتى تفيض على العالم القديم بأسره فتشمله. هنا يبدأ بنا السبيل في سياحة مضنية طويلة، تريد جهداً وأدباً واصطباراً. . .
لقد جاء الإسلام، وفي النفس الجاهلية اعوجاج وعنجهية، فأقام الأول وأغرق الثانية حتى هيأها لأن تتقبل المعاني الجديدة وتستوعبها. فيقودها إلى غاية أبعد منها وأسمى ألا وهي: الفتوح ونشر الرسالة. ولقد كان الفتح أول الأسباب غير المباشرة إلى نضوج الذوق العربي لاختلاط البادية بالمدنية والشمس بالظل وتكوين لون جديد له سمة العيشتين وطابع(363/30)
الحياتين، وكذلك أجزل الفتح المال والمال وسيلة الفن إلى الكمال، حيث أثمر هذا الاختلاط فكانت ثمرته تلك الحضارة الراسخة التي قال عنها بعض الإفرنج: إنها وليدة الحضارتين اليونانية والرومانية وما هي إلا عربية أصيلة الدم؛ لها لفحة الشمس وثورة الرمال التي لا تهدأ ولا تثوب. . .
هنا يدخل الدين بروحانيته في عداد هذه الأسباب التي أسبغت على الفن لوناً من ألوان الجمال الراكد والتأثير العميق. . . الدين الذي ارتقى بمعنويته إلى الله فعرفه، وغار في الأعماق فوقع على أسرار الكون وحقيقة الوجود، ثم تلمس الخلود عن المادة فطاوعته فإذا هي ريازة تبهر العقول، وإذا هي قباب تغرق في اللازورد، وإذا هي جوامع تبقى على الدهر باسم الله. . .
أما النفسية الطليقة. . . النفسية التي تجاذبتها عوامل البيئة الصحراوية المدنية، فرسمت على أديمها صفاء السماء وكدرتها، وخطت على صفحتها هدوء الطبيعة وثورتها، فقد تغنت بلسان حسان، وابن أبي ربيعه، والمتنبي، والمعري، وأبي تمام. فرجعت صدى هذه الأغنيات السنون. . .
ما كان للعربي الأول أن يبرع في فن التصوير ليعبر به عن خوالجه وآماله ومثله، ولكنه تكلم فصدق، وقال فكانت أقواله لوحات ترسم ألوان مشاعره منطلقة، حرة، عارية؛ وهذه وسيلة واحدة يتوسل بها ربيب الصحراء للتعبير عن خوالجه ونزعاته. . . لينقل كل ما يجيش به وجدانه من العواطف إلى أسماع تستلذ هذا الوقع الجميل وتستعذب هذه النغمة المطردة يلونها الزمن من حين إلى حين
على أن هذا الفن العريق الذي تتصل جذوره بأعماق الخيال البدوي كان اسبق وجوداً من بقية الفنون الأخرى
وعلى هذا السبيل الممهد تساوقت الفنون إلى البعث بعد أن كانت تثوي في ركن من أركان العقل البدوي ساكنة سكون البركان الذي يحمل معاني الثورة والاندفاع
لقد كان للطبيعية العربية القابلية الكبيرة على الأحداث والتوليد، وما الشعر إلا صورة من تلك الصور الممتعة التي عرفها العرب باسم (الآداب الرفيعة)، وذلك حينما تركز المجتمع في ظل المدينة وامتزج بعضه ببعضه ليكون هذا الفن الذي نشاهده في قصور الحمراء(363/31)
وبرج الذهب وجنة الريف. . . ليكون هذه الموسيقى الساحرة ترجعها نغمات (بلنسيا)، على أسماع الملايين من أبناء الغرب، وفيها تتجلى الروح العربية الصافية بتأثيرها وعذوبتها وجمالها. .
ومشى الزمن يوسع الخطى؛ فإذا بعبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس يقف على ربوة عالية، يستشرف ملكه المضاع من خلل الهدب الرفاف بالدمع. . . وإذا ذلك الخلود بجنانه وقصوره، وأبهاته ومدارسه، ومحاريبه وجوامعه، يستحيل شيئاً فشيئاً إلى حلم ينطوي كلمح السراب. . . ويهينم الشراع في الفضاء:
ألا انقضى آخر أمل للعرب في الفردوس. . . ثم تبقى تلك الجلائل شاخصة إلى السماء كأنما هي تستغيث بالله. . . حتى يدركها ألأين فتهوى صريعة الزمن العسوف ركاماً يسابق ركاماً. . . ولكن قنابل فرانكو تريد ولا يهمها أن تكون صفحة سوداء في وجه التاريخ.
إن الاتجاه القومي في العراق بادرة من بوادر اليقظة في الأمة العربية فيجب أن يكون له نصيب من الروح كما يجب أن يكون له نصيب من المادة
وهانحن اليوم على وشك الدخول في حياة جديدة مغايرة لتلك الحياة التي تصرمت بين جهل الرعية وظلم السلطان واستبداد الدخيل. وآن للفن أن يستيقظ وينشط فيأخذ مكانه كسبب خطير من أسباب الحضارة الكاملة، وعامل من عوامل النهضة القويمة. . .
ولكن في الشباب من ينكر هذا ولا يرضاه، وفي الشباب من يستخف به ويجتويه. وفي الشباب مراجل تجيش فيها المتناقضات، فلا تعرف فيهم الغاية اليوم إلا وتجدها غيرها التي كانت بالأمس
ولكننا رغم وجود هذه النفوس المتماوتة، سنتم بناء أنشأته الجهود وبنته العزائم وأقامته التضحيات. . .
إن كان الكلام وسيلة من وسائل الجهاد الأعزل فلا نريده إلا مقروناً بالعمل والدأب، وإن وجد فينا من يئست روحه وتصاغرت معنويته عن إدراك هذه المعاني الجديدة فلا نرضاه باسم العروبة. ولذا حق لنا أن نوجه الخطاب إلى الشباب فنقول:
أيها الشباب العامل: ما جمال الجسم إن لم يعزز بفضائل الروح؟ وما نفع هذه الرؤوس المملوءة بالخيالات إن لم تكن قادرة على ولادة الأعاجيب!(363/32)
أيها الشباب العامل: روضوا نفوسكم على فهم الفن تدركوا جمال الحياة
(بغداد - الرستمية)
نوري الراوي(363/33)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
إزاحة الستار
وأخيراً أزاح موسوليني الستار عن موقف إيطاليا، وأعلن اشتراكها في الحرب، دون أن يذكر سبباً معقولاً يبرر به إسالة الدماء عندما يسجل عليه التاريخ فعلته. فقد كانت شكواه من الحصر البحري الذي حد من النشاط الإيطالي
ويعرف العالم أجمع إلى أي مدى عاونه الحلفاء على تحقيق أغراضه، حتى أصبح موقفه وهو خارج الحرب أشد خطورة على المدنية منه وهو داخلها، إذ كانت مساعداته المادية لألمانيا النازية تتجاوز الحد المعقول
وبالرغم من أن الحلفاء عرضوا عليه التسوية، وأن المفاوضات سارت شوطاً بعيداً لإزالة عقبة الحصر البحري. فإن الأطماع الدكتاتورية ثارت دفعة واحدة، فإذا المفاوضات توقف فجأة دون سبب معقول
أما الأسباب الحقيقة لدخول إيطاليا الحرب فيسهل لمسها في رد الكونت شيانو وزير خارجية إيطاليا إلى سفير فرنسا، إذ قال معناه إن إيطاليا تعلن الحرب تنفيذاً لاتفاق موسوليني وهتلر. إذن فلم يكن الحصر البحري سبب شكوى إيطاليا! ولم يكن الضغط الاقتصادي سبب تمردها على أساليب الحضارة وخروجها على أسس المدنية، بل الأطماع الشخصية الدكتاتورية هي التي جعلت هذين الفردين يلقيان بالعالم في أتون الحرب
إيطاليا لم تتغير
وإيطاليا سنة 1940 هي إيطاليا سنة 1914 لم تتغير أخلاق أهلها أو طرق معاملتهم بتغير نظم الحكم، ولم يتغير حكمهم على الحوادث بتقدمهم في مرافق المدنية. فلم يتحكم في حالتها إلا الطمع والرغبة في الاستعباد. ففي سنة 1914 كانت إيطاليا حليفة لألمانيا والنمسا، وفي سنة 1940 نراها حليفة ألمانيا التي ابتلعت النمسا. وفي سنة 1914 دخلت إيطاليا الحرب بعد تردد طال عشرة أشهر حصلت في أثنائها على معاهدة لندن فخانت من أجلها حليفتيها السابقتين وأعلنت عليهما الحرب. وفي سنة 1940 تكرر إيطاليا نفس الموقف ولكن(363/34)
بصورة أخرى، فتدخل الحرب بعد تردد أستمر تسعة أشهر، وتدخلها في ظروف غريبة لا لتحقق للعالم سلاماً، ولا لتضمن للناس طمأنينة، بل لتزيد في دمار العالم مستغلة الظروف الحرجة لتحاول القضاء على دولة طالما مدت لها يد المعونة، وكانت سبباً في جمع شملها وتحقيق وحدتها واستقلالها
وقد قلنا في مقالنا السابق إن إيطاليا لن تدخل الحرب إلا مكرهة، لضعفها العسكري والاقتصادي. وهانحن نستعرض أمام القارئ مقارنة بين قواتها وقوات الحلفاء في البحر الأبيض الذي يحتم أن يكون عماد القتال فيه على القوات البحرية والجوية أما القوات البرية فليس لها مجال للعمل إلا من جهة فرنسا وليبيا وفي كلا الميدانين ما يقطع بأن قوة إيطاليا البرية ستصادف عقبات كبيرة تحول دون تحقيق أغراضها
عالم عربي
فجبال الألب في فرنسا سد منيع يصعب اختراقه ويسهل الدفاع عنه. وتقع ليبيا بين مصر من الشرق وتونس من الغرب، وليس فيها قوات إيطالية كبيرة، ولذا يسهل الاستيلاء عليها إذا هوجمت من الناحيتين، ولا سيما أن عربها يحفظون لإيطاليا ذكريات أليمة عندما أعملت فيهم قنابل مدافعها ورصاص بنادقها ولها في ذلك قصص منكرة من أعمال الوحشية والهمجية، وما زالت عدة قبائل عند الحدود ساعة الانتقام. وهناك فضلاً عن ذلك صلة الرحم بين سكان ليبيا ومصر وصلة الدين وصلة اللغة، وهي صلات يحرص العربي عليها مهما كلفته من تضحيات. فما إن تبدأ المناوشات حتى تصحو هذه العوامل، فيشعر المسلم بعوامل الدين تناديه، ويحس ابن العم بصلات الدم تمنعه من إهدار دم ابن عمه، فلا تلبث ليبيا أن تخرج من الإمبراطورية الإيطالية لتنضم إلى العالم الإسلامي
هذا في ميدان البحر الأبيض، أما في ميدان شرق أفريقيا فلإيطاليا هناك ثلاث مستعمرات هي الأريتريا والحبشة والصومال الإيطالي، وتحيط بها الممتلكات البريطانية من جميع الجهات، تلك الممتلكات التي استقر فيها نظام الحكم ودانت بالولاء للإمبراطورية البريطانية، بعكس الحالة في الحبشة مثلاً، فهي قريبة العهد بالغزو، ومازال أهلها يقاتلون الإيطاليين في أكثر من بقعة واحدة، ويشنون الغارات على حامياتها كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وهاهو إمبراطور الحبشة يظهر في الميدان ليستغل الفرصة السانحة، وسيمده(363/35)
الحلفاء ولا شك بالعتاد الحربي الكفيل بخلاص بلاده من نير الحكم الإيطالي
الإمبراطورية الإيطالية
وبرغم اتساع رقعة الممتلكات الإيطالية فعدد سكانها قليلون، وهم على درجة كبيرة من التأخر. ويبين الجدول الآتي مساحة كل مستعمرة وعدد سكانها مضافاً إليها إيطاليا نفسها:
أسم البلد
المساحة بالميل المربع
عدد السكان
إيطاليا
119 , 744
43 , 640 , 000
ألبانيا
10 , 600
1 , 000 , 000
ليبيا
406 , 000
1 , 000 , 000
أريتريا
45 , 000
500 , 000
الحبشة
35 , 000
7 , 600 , 000
الصومال
139 , 430
650 , 000(363/36)
المجموع
745 , 774
54 , 390 , 000
هذه هي الإمبراطورية الإيطالية التي لا تلبث الحرب أن تفصلها عن إيطاليا، لا سيما أن أسطول الحلفاء مرابط عند قناة السويس ليمنع وصول القوات الإيطالية بأفريقيا الشرقية الإيطالية وهذا العزل سيؤدي بلا شك إلى خضوع تلك البلاد للحلفاء بعد أن تفنى القوات الإيطالية المرابطة هناك أو تقع في الأسر
ولم تكن هذه العوامل خافية على موسوليني ومستشاريه، ولكنها تدل دلالة واضحة على سوء نيته قبل دول البحر الأبيض فسياسة المحور القضاء على فرنسا وإنجلترا ثم يتحول إلى الدول الصغيرة، فلا تقوى واحدة منها على مقاومة الاستعمار الإيطالي أو الألماني، وعندئذ تتحكم الهمجية في العالم أجمع، ويخضع العالم لانتقام الدكتاتوريين. ولكن هيهات أن يتحقق هذا الأمل، فقوات الحلفاء في فرنسا ما زالت بكامل عددها ومعداتها، ولن يؤثر فيها تقدم الزحف الألماني وتوغله في البلاد
وسواء بقيت باريس بيد الحلفاء أم سقطت في يد الألمان، فسيأتي اليوم الذي تتلقى فيه جيوش ألمانيا الضربة القاطعة، فالعبرة في الحروب ليست في الاستيلاء على المواقع والمدن، ولكن العبرة بالقضاء على الجيوش. وإذا اتخذنا من التاريخ مثلاً، فأمامنا نابليون وحروبه، فقد استولى على أوربا كلها تقريباً. وظلت انتصاراته سنوات طويلة تدوي في آذان العالم. فلما نضبت موارده وحانت الساعة الفاصلة هزم في واترلو هزيمة لم يقم له بعدها من قائمة. وكانت ختام ذلك النزاع الطويل
سواحل مكشوفة
ومن عوامل ضعف إيطاليا انكشاف سواحلها وخلوها من العقبات الطبيعية التي تمنع الاعتداء، فليست البلاد عريضة يتعذر على الطائرات اجتيازها، وليست صخرية أو صحراوية يتعذر على الجيوش عبورها، بل هي سهول ضيقة، تجد فيها القوات مؤونتها بسهولة فضلاً عن قربها من مواقع الحلفاء العسكرية، فلا تبعد روما عن مينائي طولون أو أجاكسيو سوى 200 ميل تقطعها الطائرات الحديثة في 40 دقيقة، ولهذا عجل موسوليني(363/37)
بنقل قيادته منها
وتيسر لإيطاليا في الحرب الماضية أن تجند 5. 500. 000 جندي. وتستطيع الآن أن تجند ثمانية ملايين جندي بفضل النظام الفاشستي. ومجال هذه الجيوش محدود كما رأينا، كما أن الجندي الإيطالي لا يمكن أن يقاس بالجندي الألماني أو الفرنسي أو الإنجليزي، خصوصاً أن معداته أقل بكثير من معدات أقرانه. فإذا أمدته ألمانيا بالعتاد والقيادة كما جاء في التلغرافات برزت عقبه أخرى وهي ضيق موارد الدولتين الدكتاتوريتين، ولا سيما أن ألمانيا وضعت في الموقعة الحالية جميع مواردها أملاً في نصر سريع
القوات الجوية
وتقدر قوات إيطاليا الجوية بخمسة آلاف طائرة أعدت على أساس هجومي وهي أقل متانة من الطائرات الفرنسية أو الإنجليزية، وتستورد 23 ? من معادن طائراتها من الخارج؛ ولم تتقدم صناعة الطائرات هناك في المدة الأخيرة، بل يقول الأخصائيون إن تقدمها بطيء لحاجتها إلى الفنيين والمعادن. وفرض الحصار عليها معناه زيادة هذه الصعوبات. فأنها تفقد ربع إنتاجها بفقد المعادن المستوردة من البلاد الأخرى. ومراكز الطيران الإيطالية موزعة في الحبشة وليبيا وألبانيا، وأنبأتنا التلغرافات أخيراً بتدمير قوات الطيران البريطانية لعدد كبير منها مما يضعف من شأنها، ويقابلها عند الحلفاء 22 ألف طائرة في ازدياد
وفي البحر
ويمتاز الأسطول البحري الإيطالي بسرعة سفنه، وهو أسطول حديث تصل سرعة بعض وحداته إلى 45 عقدة في الساعة أي أكثر من 50 ميلاً، ويقابله في الجانب الآخر زيادة عدد الوحدات البحرية للحلفاء والجدول الآتي يبين وحدات القوتين:
نوع السفن
الحلفاء
إيطاليا
سفن قتال كبيرة
25(363/38)
6
مدرعات ثقيلة
22
7
حاملات طائرات
11
-
مدرعات خفيفة
69
14
مدمرات
230
82
قوارب طوربيد
12
70
غواصات
137
112
المجموع
506
291
وتعمل قيادة الحلفاء البحرية على الاشتباك مع هذا الأسطول في معركة بحرية، ولذا أسرعت ببث الألغام في مدخل بحر الأدرياتيك حتى لا تدع له المجال الالتجاء إليه، فيضطر إلى قتالها، فإذا تيسر إغراق هذا الأسطول أو الخلاص من بعض وحداته كما(363/39)
حدث مع الأسطول الألماني، تم للحلفاء جانب كبير من النصر؛ فبرغم صيحات هتلر وأتباعه بتفوق السلاح الجوي على السلاح البحري؛ فإن موسولسني لم يأخذ برأيه. والدليل على ذلك أنه أنزل إلى البحر في الشهر الماضي سفينتي قتال كبيرتين
وقد مني الأسطول التجاري الإيطالي في اليومين الأولين للحرب بخسائر فادحة فقضي على 40 سفينة منه، بعضها بالانتحار وبعضها الآخر بالأسر. وهذا تصرف غريب من إيطاليا، فبرغم أنها أرادت الحرب وأنها تجد الفرصة لإنقاذ هذه السفن، تركتها في أماكن خطيرة. والأغرب من هذا أن بعض السفن كان في مالطة، وهي تبعد عن صقلية بمسافة بسيطة، ومع هذا تتركها لتؤسر؛ ومن هذه التصرفات يبدو مدى حزم القيادة الإيطالية، ومدى إحكام تصرفاتها الذي ينبئ بان كوارث شديدة ستحل بقواتها
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(363/40)
رسالة الشعر
رجال ونساء
للأستاذ على محمود طه
(ننشر فيما يلي جزءاً ثانياً من ملحمة الشاعر (على محمود طه) وهو يلي الجزء الذي نشرناه منها في عدد سابق من (الرسالة) ويدور الحوار في هذا الفصل الممتع على الفنان الأول، وأثر المرأة في فنه واتجاهاته، وفيه أيضاً حديث مؤثر عن الفنان الأعمى، والأسماء التي يجري الشاعر الحوار على ألسنتها تقع في عالمي الحقيقة والخيال. فهرميس إله الوحي والشعر في الميثولوجيا، وبليتيس الشاعرة الخرافية التي بعثها الكاتب الفرنسي (بيير لويس) على غرار الشاعرة اليونانية اسبازيا. أما تاييس وسافو فأمرهما معروف في القصص والتاريخ)
(الملك وقد عاد في طريقه إلى حيث الحوريات بعد أن ودع روح الفنان على أفق الأرض)
الملك:
سلامَ الملائكِ روحَ الجمالِ
الأرواح:
سلامٌ لهرميس روح الآلهْ
الملك:
أرى وَمْضَةَ الشرَّ في جوَّكنَّ ... وأسمعُ صوتاً كأنَّي أراْه
يلاحقني في رحابِ السماءِ ... ويرتجُّ في مِسمعَّي صداه
(لقد فارقَ البشرُ غُرَّ الوجوهِ ... وشاعَ الذبولُ بوردِ الشفاه!)
الأرواح:
أجلْ أيها الملَكُ المجتَبي ... صدقناكَ فاغفر عذابَ الضميرْ
لقد مرَّ كالطيرِ من قربنا ... فَتى في رعاية ربٍّ خطيرْ
رآنا فأعرَض عنَّا ولمْ ... يُحَيَّ السماَء بروحِ قريرْ(363/41)
تعاظم محتقراً أمرنا ... وأمعن في شَرَّهِ المستطيرْ!
هرميس:
ظلمتنَّ هذا الغلام البريء ... وقد غَضَّ من ناظريهِ الحذَرْ
أَهَلَّ بقلبٍ كفرخِ القطا ... يرفرفُ تحتَ جناحِ القدَرْ
رَآكنَّ فيهِ وحيَّا بهِ ... فلم أدْرِ حاجتَه للنظرْ!
الأرواح:
وكيف تكلَّم قلبُ الفتى ... وما هو إلاْ سليلُ البشرْ؟
هرميس:
هُوَ ابنُ السماءِ ولكنَّه ... من النقصِ تركيبُه والتمامْ
صَنَاعُ الطبيعةِ بلْ صُنْعُها ... فمنها دمامتُهُ والوسامْ
يُسِفُّ إلى حيث لا ينتهي ... ويسمو إلى قمةٍ لا ترُامْ
ويُسْقَى بكأسٍ إلهيةٍ ... مُرَنقةٍ بالهوى والأثامْ
نقيضان شتى فما يستقرُّ ... على غَضَبٍ منها أو رضاءْ
تحدَّى الحياةَ وآلامهَا ... ببأسِ الجبابرةِ الأعلياء
يزيدُ عُتُوًّا على نارها ... ويلمعُ جوهرهُ مِنْ صَفاء
وينشقُّ عن نَضْرةٍ قلبُه ... وإنْ طَمَرَتْهُ ثلوجُ الشتاء
هو القلبُ محتشداً بالمنى ... هو العقلُ متقداً بالذكاء
حَبَتْهُ الألُوهَةُ روحاً يَرىَ ... وينِطقُ عنها بوحي السماء
يَحُسُّ الخيالَ إذا ما سَرىَ ... ويلمسُ ما في ضمِيرِ الخفاء
ويبتدرُ النجمَ في أفقهِ ... فيرشُفُهُ قطرةً من ضِياء
أرَتْهُ السماء أعاجيبها ... وَرَوَّتْهُ من كلَّ فَنٍّ بديعْ
فضنَّ بلألاءِ هذا الجمالِ ... وخافَ على كنزه أن يضيع
أبَى أَن يُبدّدَهُ ناظراه ... فأطبقَ جفنيهَِ ما يستطيع
فإن شارف الأرضَ نادتْ بِه ... فَفَتَّحَ عيناً كعينِ الرَّبيع(363/42)
الفنان الأول
هنالكَ حيث تَشبُّ الحياةُ ... وحيث الوجودُ جنينُ العَدَم
وحيثُ الطبيعةُ جبارةً ... تشقُّ الوهادَ وتبنيِ القِممْ
وحيثُ السعادةُ بنتُ الخيالِ ... ولذَّتُها من معاني الألمَ
وحيث الطريدانِ شجَّا الكؤوسَ ... ومَجاَّ صُبَابَتها من قِدَمْ
رَناَ، والطبيعةُ في حليها ... وحواءُ عاريةٌ كالصَّنَمْ
فمن أين سارَ وأنّى سرَى ... تَصَدَّتْهُ مُقُبِلَةً من أمم
هنا لك أول قلبٍ هفا ... وأولُ صوتٍ شدا بالنَّغَمْ
وأولُ أنمُلَةٍ صوَّرَتْ ... وخطَّتْ عَلَى اللوحِ قبل القلَمْ
فمالكِ حواءُ أغْويِتهِ ... وأعقبِتِه حَسَراتِ النَّدَمْ
لقد كان راعيَكِ المجتَبي ... فأصبحَ راميكِ المتَّهمْ
ولولاكِ ما ذرفت عيُنهُ ... ولا شامَ بارقةً فابتَسمْ
وعاشَ كما كانَ آباؤه ... يُغَنَّي النجوم ويرعى الغنمْ!
الفنان الأعمى
لأجلكِ يَشقى بلمحِ العيونِ ... ويُصْرَعُ بالنظرةِ العابرة
لَوَدَّ إلى الأرْضِ لم يُصِخْ ... أو ارتدَّ بالمقلةِ الحاسرة
وكم من فتًى عزَّها سمُعهُ ... وغصًّ عَلَى رَهَبٍ ناظره
عصاها، فنادتَّ، فلم يَسْتَمِعْ ... فحلَّتْ به لعنةُ الفاجرة!
له محجرانِ على ما وَعَى ... من الألَق الطُّهْر مختومتانْ
ففي عقلهِ حركاتُ الزَّمان ... مُصَوَّرَةً وحدودُ المكان
وفي قلبهِ أعين ثَرَّةٌ ... بها النارُ طاغيةُ العنفوان
وفي كلَّ خاطرةٍ نيزكٌ ... يشقٌ سناهُ حجابَ الزمان
إذا ما هَوَتْ وَرَقَاتُ الخريفِ ... أحسَّ لها وَخَزَاتِ السَّنانْ
وإن سَكَبَتْ زهرةٌ دمعةً ... فمن قلبهِ انحدرتْ دمعتان(363/43)
ومن عَجَبٍ شَدْوُهُ للربيع ... وقد يُخْطيٌ الطيرُ شدوَ الأوان
كقيثارةِ الريح ما لحنُها ... سوى الريحِ في جفوةٍ أو حنانْ
عوالمُ جَيّاشةٌ بالمنى ... ودنيا بأهوائها تضطربْ
من اللانهاية ألوانُها ... مشعشعةٌ بالندى المنسكبْ
ففيها الصباحُ، وفيها المساءُ ... وبينهما الشفق الملتهبْ
تطوف بها صَدَحَاتُ الطروب ... وتسهو بها أنَّةُ المكتئبْ!
على محمود طه(363/44)
رسالة الفن
تأملات
في الأنتراكت
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقضي الأستاذ عزيز عيد في هذه الأيام فترة من حياته تشبه فترة (الأنتراكت) في عمله. وهو لا يقضيها متكاسل العقل راكد الحس، وإنما هو يشغل نفسه فيها بالإقبال على معاشرة حيوان، والتأمل في شعوره وأسلوبه، وتعبيره عن هذا الشعور وطريقته فيه، وما قد يصاحب هذا من تفكير يسير أو كبير
وهذا الحيوان الذي يعاشره الأستاذ عزيز ويدرسه في هذه الأيام كلب اسمه (بوي) وهو يربيه منذ سنوات ويعزه ويحبه حبه لأوفى ربيب كفله
والوقت الذي يقضيه هذان الصديقان الصدوقان معاً لا يختلف في شيء عن الوقت الذي يقضيه كل صديقين صدوقين فهما يجلسان معاً يتسامران، وهما يخرجان معاً يتريضان، وهما يتشاغبان ويتصارعان ويتلاكمان، وهما أيضاً يتصالحان ويتخاصمان، وبتعاتبان ويتقابلان ويتعارضان. . . أما (بوي) فهو مع صاحبه مخلص صادق نقي الإخلاص والصدق، وأما صاحبه فلا يقل عنه إخلاصاً وصدقاً وإنما هو يريد عنه التفاتاً إلى ما بينهما من الإخلاص والصدق، وإلى ما هما فيه من عناء الحياة والأحياء
يجلس الأستاذ عزيز مع صاحبه يحدثه عن آلامه مما فات وعن آماله فيما هو آت، والكلب قاعد ينظر إليه مصغياً منتبهاً إذا رأى صاحبه طرب فقد طرب معه، وإذا رآه أسف فقد يأسف معه حتى يمل الأستاذ عزيز عيد فيستأذن (بوي) في أن ينصرف، أو يرجو (بوي) لينصرف هو، وما أسرع (بوي) إلى أن يطيع وأن يلبي الرجاء كما يلبي النداء
فيه كل معاني الحياة ودلائلها، وليس ينقصه إلا أن يعرف الغريب المعقد منها كي يساوي الإنسان في موقفه فيها خرج يوماً مع صاحبه إلى رياضة في الخلاء على مقربة من طريق القطار، ولم يكن قبل ذلك قد رأى قطاراً. ويروى الأستاذ عزيز هذه القصة فيقول: (سمع (بوي) صوت القطار وهو مقبل من بعيد يصفر ويرعد فبدا عليه الذعر وصاح فيَّ ينبهني(363/45)
كأنما حسبني في غفلة عنه، وكأنما حسبه وحشاً ضارياً جباراً يعدو إلينا ليفتك بنا، وكأنما هالته قوة ذلك الوحش كما هاله ضعفنا جنبه، وكأنما كان بصراخه يريد أن يقول لي: خذ حذرك وأتق هذه النازلة، وأنقذني معك إذا استطعت، فلست بقادر على صده عنه ولا دفعه عن نفسه، حتى ولا عرقلته عنك ريثما تفر. . . لقد كان (بوي) يقول لي هذا كله في صراخه فقلت له: لا تخف يا (بوي) فهذا قطار. . . ورآني (بوي) مطمئناً فاطمأن إذ أدرك أنه لا يمكن أن يملأني هذا الاطمئنان كله لو كان هذا القطار المقبل وحشاً ضارياً مفترساً. ولكن القطار اقترب وضجته تعالت فتوسط (بوي) ما بيني وبين القطار وهاج وجن نباحاً، فاضطررت إلى أن أقف وأن أضمه إلي ريثما يمر القطار، فضممته ونظرت في عينيه أؤكد له الأمان والسلامة، فإذا بعينيه ترسلان إلي نظرة معناها: هاأنذا معك، وإن كنت تراني خائفاً فإنما خوفي عليك أكثر من خوفي على نفسي). . . ويسترسل الأستاذ عزيز في وصف نظرات (بوي) بما لم يصف به نظرات ممثل ولا ممثلة
ويروى الأستاذ عن صاحبه قصة أخرى فيقول: (كان لنا جار وكان لجارنا كلبه، وكان بين بوي وبين هذه الكلبة غزل وغرام لم يرض عنهما الجار، فكان يطرد (بوي) كلما رآه يحوم حول معشوقته، حتى كان يوم ضرب فيه الرجل (بوي) بعصاه ضربة قاسية آلمته ولم يستطيع معها إلا أن يفر هارباً، وليس من عادة (بوي) أن يهرب ولا أن يفر. ومضى الرجل إلى حاله في ذلك اليوم. ولكن بوي كان يعرف مواعيد دخوله وخروجه، فبدأ ينتظره ويتعمد انتظاره ليفجأه يوماً فينهشه نهشاً، ولكن الرجل كان يتقي دائماً هجمات بوي بعصاه يلوح له بها، والعصا أداة كفاح إنسانية يخشاها كل كلب ويعجز حيالها. وشكا لي الجار (بوي)، وقال لي: صحيح إن العصا تقيني هجماته ولكني قد أغفل يوماً عنها فلا اسلم منه، فأرجوك أن نتنبه إليه وأن تمنعه عني، فقلت لجاري: أنت الذي وقفت نفسك هذا الموقف، فقد كان عليك أن تعرف أن لهذا الكلب كرامه، وأنه يعلم تمام العلم أن الذي يعلقنا به هو رغبتنا في حمايته، فإذا ثبت لنا وله ولك أنه عاجز عن حماية نفسه فقد نتخلى عنه وهو يكره هذا، لأنه عاشرنا مدة ما فأحبنا كما رأى أننا نحبه. . . فعليك إذن أن تحمي منه نفسك، لأني لو نهرته عنك بعد الذي كان منك أغراه ذلك بقبول الذل والضيم، وكنت أنا محرضه ودافعه إلى هذا. . . فقال لي الرجل: إن هذا لا يمنعك من أن تحول بين كلبك(363/46)
وبيني. . . وكنت من يومها أنتظر خروج الجار ودخوله مع كلبي لأشغل الكلب عنه ولأمنعه من الفتك به أو الهجوم عليه، وكنت أرى في الكلب تعجباً من موقفي هذا ودهشة لو كان ينطق لعبر لي عنهما بقوله: فيم حيلولتك بيني وبين هذا القاسي، وقد رأيت أنه ضربني ولو رأيت أنا أحداً ضربك لما حلت بينك وبينه وإنما كنت عليه معك؟. . . ثم خطر لي أن أصلح ما بينهما، فانتظرت مرور الرجل يوماً فاستوقفته وناديت (بوي) وأخذت أربت على كتفي الرجل، واربت على كتفي الكلب، وأقول لكل منهما إن الصلح خير، وأقول لكل منهما إن الصفح والعفو من شيم الكرام، وأقول لكل منهما إنه من الممكن أن يتناسيا الماضي وأن يستأنفا الصداقة من جديد، ثم أشرت إلى الرجل فبدأ يمسح للكلب ظهره، فراغ الكلب في أول الأمر رافضاً هذا الصلح، ولكنه لما رآني أستحسنه وأطلبه منه مسح رأسه هو أيضاً في ساق الرجل ثم نظر إلى يقول بنظرته: لقد صفحت عنه لكي ترضى. . .
وتجر هذه القصة إلى ذاكرة الأستاذ عزيز قصة أخرى فيقول: وقد تخاصمت أنا ذات مرة مع بوي، فقد كنا نلعب معاً، ومن عادتنا إذا لعبنا معاً أن أضربه ضرباً خفيفاً وأن يعضني عضَّاً خفيفاً، وأن يسامح كل منا الآخر فيما يناله من ألم الضرب الخفيف أو العض الخفيف، لأن كلا منا يعلم أن هذا مزاح ولعب ولا أكثر، غير أني في تلك المرة برعت في مشاكسة (بوي) حتى اغتاظ غيظاً شديداً فعضني عضة أسالت الدم من إصبعي. . . فرأيت هذا ذنباً لا يمكن أن يغتفر لأني إذا اغتفرته فقد لا يحسبه (بوي) ذنباً، وقد لا يجد بعد ذلك مانعاً من أن يعضني عضة أقوى من هذه العضة، وقد يكون في ذلك ضرر من الخير أن أتقيه وألا أنتظر حتى يحدث فأعالجه. . . فأمسكت في يسراي بكرسي جعلته درعاً، وفي اليمين عصا انهلت على (بوي) ضرباً موجعاً مبرحاً علم الله أن كل ضربة منه كانت تنزل على قلبي قبل أن تنزل على جسمه، ولكني كنت أرى أنه لا مفر من هذا الضرب عقاباً وردعاً. . . وبعدها خاصمت (بوي) وخاصمني (بوي) أيضاً. . . خاصمته: فلم أعد أكلمه، ولم أعد أناديه، ولم أعد أسامره، ولم أعد ألعب معه. وخاصمني: فلم يعد ينتظرني ليلاً، ولم يعد يدنو مني نهاراً، ولم يعد يمس طعامه الذي كان يوضع له. . . وصام هكذا ثلاثة أيام، كان خلالها كلما رآني ألقى إلي نظرة معناها عند من يفهمون النظرات: لا تكلمني، ولا(363/47)
أكلمك، وأنت تعرفني وأنا أعرفك. . . أنت لم تسامحني ولكني سامحتك. . . وكنت أنا أنظر إليه وأقول له بعينيّ: الذنب ذنبك والبادئ أظلم. . . ومع هذا الخصام، وفي عزه وشدته، كنت ألمح (بوي) وأنا أرتدي ملابسي أمام المرآة، يدنو من باب الحجرة مخفياً جسمه كله ويطل إلى بعينيه كمن يريد أن يراني صحيحاً سليماً معافى، وكمن يكفيه أن يراني كذلك. . . وكنت أنا أتغاضى عن نظرته هذه ولا أبدي له التفاتي إليها. . . حتى كان اليوم الثالث، فالتقت أعيننا، فإذا بهذا الذي كان في عينيه يذوب ويتلاشى، وإذا بعينيه تلمعان عوضاً عنه بقوله: أما اكتفيت خصاماً؟! إنه ليس لي أن أبدأك بالصلح فربما كنت لا تزال غاضباً أو مستاء. . .! عندئذ انخذلت أمام هذا الوفاء الصامت، وابتسمت وناديته وقلت: لقد كانت عضة مؤلمة يا (بوي)، وأظنك لا تذكر أني ضربتك قبلها ضربة مؤلمة. . . صحيح أن (بوي) لم يكن ليفهم معاني هذه الكلمات جميعاً مفصلة. . . ولكن (بوي) أدرك من صوتي ومن بريق عيني - كما يدرك دائماً - أي حالة نفسية أنا فيها. . وفي هذه الساعة أدرك (بوي) أني أعاتبه، كما أدرك أن الموقف يقتضيه الاعتذار عما بدر منه، فأطرق برأسه وبعينيه البليغتين إلى الأرض، واقترب مني متباطئاً متذللاً مسترضياً فمسحت له ظهره بيدي، فقبل يدي بلسانه، فعانقته وعانقني وعدنا صديقين حبيبين)
بهذا الوضوح، وبأكثر منه تفصيلاً يتحدث الأستاذ عزيز عيد عن كلبه (بوي)، وهو كلب من ذلك النوع الضخم الذي يسمونه (وولف) والذي كان منه فقيد السينما (رن تن تن)
وليس (بوي) ولا (رن تن تن) بمفردين في الكلاب فهما يدركان مالا يدركه غيرهما من أفراد جنسهما، بل ولا جنس الكلاب بمفرد في الحيوان فهو وحده الذي يشعر بالحياة، والذي يعبر عن شعوره فيها والذي يتفهمها فهماً يسيراً أو فهماً كبيراً، وإنما كل الكلاب مثل (بوي) و (رن تن تن) وكل الحيوانات مثل الكلاب وإن كانت تختلف في أنصبتها من الحياة. وإذا كان الناس متشاغلين عن الحيوانات، فإن لها من الشعراء والفنانين نصراء وأصدقاء يعاشرونها ويتفاهمون معها، ويدرسونها الدراسة الحية القائمة على المعاشرة وتبادل العواطف، وهذه الدراسة أشرف بكثير من تلك الدراسة التي يعمد إليها العلماء مع الحيوان
وقد يعاني الفنانون استهزاءً كبيراً من العامة والمثقفين لهذه النزعة، وهذه النزعة وحدها(363/48)
هي التي ستكشف للبشرية بعد جيل أو أجيال عن حقيقة موقف الإنسان من هذه الأحياء التي شاء الله أن تعيش معه على ظهر هذه الأرض. وإذا كان الإنسان يدعي أن له في هذه الأرض السيادة، فإن عليه أن يستكمل لهذه السيادة شروطها، وأول شرط منها أن ينظر فيما سخره الله له من الخلائق، وأن يفهم طبائعها حتى يستطيع أن يركن إلى كل منها يطلب عنده علماً بما يجهله وبما آتاه الله الحيوان من قوى
وإذا كان الإنسان يرى في بعض الحيوان بأساً وقوة يخشاهما فكل حيوان يرى في الإنسان دهاء وخبثاً يخشاهما هو أيضاً ويمقتهما ويقاسي منهما الأمرين، وعندما يأمن الحيوان جانب الإنسان فإنه من غير شك يوليه بذلك أماناً وصداقة، والإنسان يستغل في نفسه هذا الامتياز منذ القدم، ولقد استأنس به أسوداً وفيلة وطيراً ووحشاً، ولعل القدماء كانوا أحسن عشرة للحيوان منا، فنحن قد غرتنا مدنيتنا وشغلتنا حتى لم نعد نعبأ إلا بأن نكون سادة، ولو كنا الطغاة الجاهلين. . .
عزيز أحمد فهمي(363/49)
البريد الأدبي
قصة الإمام الزهري
شكرت للكاتب الأديب أحمد جمعة الشرباصي الفرصة التي هيأها لي للكلام في مسألة دار حولها قول كثير، ونقلت عني نقلاً غير صحيح، وهي تجريح الإمام ابن شهاب الزهري أثناء محاضراتي بكلية الشريعة الإسلامية. وحقيقة الأمر هو أني كنت أعني في محاضراتي عن تاريخ علم الحديث بتعريف الطلاب طريقة البحث الحديث في نقد الأحاديث، وأضرب لهم في ذلك الأمثال، وكان من هذه الأمثلة ما ذكرته لهم من نقد بعض المستشرقين، وهو جولدزيهر للإمام الزهري وأحاديثه التي رواها في فضائل الشام وبيت المقدس، وخلاصة هذا النقد هو أن الإمام الزهري كانت له صلات وروابط بالبيت الأموي، وأن عبد الملك ابن مروان كان منع الناس من الحج أيام فتنة الزبير، فبنى عبد الملك قبة الصخرة في المسجد الأقصى ليحج الناس إليها، ثم أراد أن يبرر عمله هذا، فوجد في الزهري - ومقامه الديني معروف - آلة لوضع أحاديث مثل الحديث المشهور: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). ولكن رأى هذا المستشرق قد فند بعد ذلك، وخطئ بشدة من المستشرقين أنفسهم الذين رأوا فيه مخالفة تاريخية واضحة. وإليك ما يقوله المستشرق فينسنك في ذلك: (وقد زعم بعضهم - يعني جولدزيهر - وضع حديث (لا تشد الرحال). وهو حديث مذكور في جميع كتب السنة المعتبرة، وذلك لكي يجعل الحج إلى بيت المقدس مثل الحج إلى الكعبة، ولكي يحمي الخليفة عبد الملك في حربه ضد ابن الزبير الثائر عليه بالبلاد المقدسة). ولكن هذا الاتهام لمثل هذا المحدث الكبير تسقطه الأدلة التاريخية، فإن خروج ابن الزبير كان في سنة 14 - 73هـ، والزهري الذي ولد سنة 51هـ أو بعدها كان في هذا الوقت شاباً لا أهمية له، ولم يكن قد بلغ بعد شهرته في الحديث، ومثل هذا الوضع لا يمكن أصلاً أن يكون لأن الإمام الزهري من الرجال الثقات. وكان سعيد بن المسيب الذي روى عنه هذا الحديث لا يزال حياً فإنه توفي سنة 94هـ. وبالطبع كان لا يمكن أن يقبل أن يستعمل اسمه استعمالاً سيئاً، خصوصاً إذا عرفنا أن الزهري ليس هو وحده الذي روى هذا الحديث عن سعيد). هذا هو كلام فينسنك (راجع مجلة المستشرقين الألمانية عدد 93ص23)(363/50)
فهل تراني بعد هذا أشك ذرة في ثقة الإمام الزهري بعد أن شهد له الأصدقاء والأعداء، وتضافرت على إمامته الأبحاث القديمة والأبحاث الحديثة؟ أم ترى أن ما نقل عني قد حرف تحريفاً أبرأ إلى الله منه (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة)
وختاماً لا أجد بداً من الإشارة بهذه المناسبة إلى أن أبحاث المستشرقين تثق ثقة كبيره بالأحاديث النبوية بعد أن خبرتها بكل مقاييس البحث، بل إنها سارت شوطاً كبيراً في الثقة بأحاديث شك فيها علماء الجرح والتعديل المتقدمين، وهي مسألة سأتناولها ببحث خاص في فرصة أخرى إن شاء الله.
علي حسن عبد القادر
استئصال داء الزهري
لم ير العالم عهداً كهذا العهدُ وفق فيه رجال الطب إلى إنقاذ البشرية من عدد كبير من الأمراض العضالة. فقد اكتشفت طريقة جديدة لاستئصال داء الزهري، وهو الذي حير الأطباء قروناً طوالاً، وكان وما برح من أكبر بلايا الجنس البشري. وذلك بمركب الدكتور بول أرليك الكميائي المشهور الذي أعلن أمر اكتشافه منذ ثلاثين سنة مضت، وعالج الأطباء مرضاهم به فلم يكن الشفاء يتم إلا بعد عام أو عامين
أما الذين وفقوا إلى ابتداع طريقة جديدة للمعالجة بهذا المركب ذاته فهم الأطباء هرالدتوماس، ولويس شارغين، ووليام لايفر، وجميعهم من رجال مستشفى (جبل سينا) في نيويورك. وقد جربوا طريقتهم في غضون ست سنوات، في ذلك المستشفى، فجاءت تجاربهم محققة لاعتقادهم بصحة الطريقة التي تقتل جراثيم هذا الداء العياء في خمسة أيام، وتطهر دم المريض به من أدرانها نهائياً. وقد عالجت المستشفيات الأخرى بها تحت معاينة الإخصائيين، فاتضحت صحة ما قيل عنها وأن 85 ? من الذين عولجوا بها طهروا من جراثيم الزهري التي كانت متغلغلة في دمائهم وأنهم أمنوا خطرها أو العدوى بها
أما الباقون الذين تملكهم الداء فأصبح عضالاً فقد استغرقت معالجتهم لاستئصاله بالكلية حوالي الشهرين. ومركب الدكتور أرليك يعرفه الأطباء، وهو فيما يقال يعطي للمريض(363/51)
حقناً على التوالي مدة خمسة أيام بمقدار لم يعلن بعد. ولا تكون هذه الطريقة في متناول الأطباء قبل انقضاء بضع سنوات، كما يقول مكتشفوها الذين لم يوضحوا أسباب هذا التأخير. والمساعي مبذولة الآن لحمل الحكومة الأمريكية على تعميم استعماله ومعالجة جميع المصابين بالزهري، الذين كان عددهم في العام الماضي نحو نصف مليون
غلطة شائعة
قرأت أكثر ما كتبه الناقدون عن الجزء الثاني من كتاب الدكتور طه حسين بك: (على هامش السيرة) الذي صدر منذ أمد بعيد، فلم أجد ناقداً منهم نص على الأخطاء النحوية واللغوية المتكررة التي وقع فيها الدكتور طه. ومن أظهر هذه الأخطاء أنه في عبارة له بالكتاب المذكور يقول: (وما أحسب إلا أن الأيام ستترى) فجعل كلمة (تترى) فعلاً بإدخاله حرف السين الخاص بالأفعال عليها، مع أن هذه الكلمة اسم لا فعل، وإليك الدليل:
قال صاحب القاموس في مادة (الوتر): (وجاءوا تترى وتنوَّن، وأصلها وَتْرَى: متواترين). فلو أن الدكتور قال: (وما أحسب إلا أن الأيام ستمر تترى) لا ستقام تعبيره على سنن العربية، ولكن. . .
ولن أنسى النص على أن كثيرين من ناشئة الكتاب يخطئون في استعمال هذه اللفظة، وهم يحسبونها فعلاً بمعنى (تتَابَع) والصواب ما قدمناه.
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
كتاب جديد لابن حزم الأندلسي
هذه رسالة للإمام ابن حزم في (المفاضلة بين الصحافة) نشرها اليوم على غلاء الورق وصعوبة النشر صديقناً الأستاذ سعيد الأفغاني، فجاءت في نحو مائة صفحة، فقدم لها مقدمة في دراسة حياة ابن حزم دراسة كاملة، وضم إليها ذيلاً يشتمل على تراجم مطولة وفهارس مفصلة لأسماء الأعلام الواردة في الكتاب، فبلغت المقدمة مع الذيل ثلاثمائة صفحة، كلها بحث وتحقيق في لغة سليمة وديباجة صافية. وقد قام بهذا كله على صمت وتوار من الناس، وبعد عن الإدعاء الذي اكتفى به هؤلاء الذين جاءوا بعلم العربية من ديار العجم.(363/52)
والأستاذ الأفغاني أحد أربعة هم بين أدباء الشام الدائبون على العمل (والإنتاج) المثابرون على الكتابة والتأليف والنشر، وهم الأستاذ الجليل العلامة محمد كرد علي بك، والكاتب الأكبر معروف الأرناءوط، والأستاذ الأفغاني، ورابع أستحي أن أسميه. اثنان منهم للبحث والتحقيق والعلم، واثنان للأدب الخالص. هذا ولا بد من عودة إلى الكلام على هذا الكتاب، وإنما عجلنا للأستاذ الشكر كما عجل لنا الهدية.
على الطنطاوي
وفاة عالم جليل
استأثرت يد المنية بالعالم الجليل، شيخ القراء في القطر الشامي المرحوم الشيخ عبد الله المنجد - والد الأستاذ صلاح الدين المنجد. فكانت وفاته فاجعة كبرى اهتزت لها أرجاء دمشق ومشت بشيبها وشبابها في جنازته العظيمة، يتقدمهم سعادة مدير المعارف ورجال التعليم وسماحة رئيس جمعية العلماء وإخوانه العلماء الأجلاء، وقد أبَّنه على القبر بعض أعلام المسلمين
وقد كانت للفقيد منزلة سامية بين المسلمين لما أتصف به من العلم الغزير، ولأنه شيخ القراء والحافظين لكتاب الله عز وجل،
ولما عرف عنه من دماثة الأخلاق ولين الجانب والتواضع والقيام بواجبات العلم، وقد تخرج على يديه طلاب لا يحُصى عددهم كلهم يشهد بفضله وعلمه. وخسارة المسلمين به وبمن سبقه من علماء دمشق الأجلاء لا تعوَّض
أسأل الله أن يلهم آله وذويه جميل الصبر، وأن يوفقني لكتابة فصل عنه في هذه المجلة الغراء، أبيَّن فيه سيرته وفضله ومزاياه
(دمشق)
(ق. ط)
وأسرة (الرسالة) تقدم إلى الأستاذ صلاح الدين المنجد خالص العزاء
المفاضلة بين الصحابة(363/53)
للأستاذ الأديب السيد سعيد الأفغاني همم مشكورة في طبع بعض الكتب القديمة. وآخر ما طبعه رسالة ابن حزم المسماة (المفاضلة بين الصحابة) وهذه الرسالة موجودة برمتها في كتاب (الفصل في الملل والنحل لابن حزم) من الصفحة 111 إلى الصفحة 153 من الجزء الرابع من طبعه الخانجي، وأما الطبعة الثانية فليست تحت يدي لأشير إلى مكان الرسالة منها. فلعل أحد الناسخين (من الناصبة) جردها من كتاب (الفصل) فحسبها بعضهم كتاباً جديداً. وفي الخزانة التيمورية نسخة منها كان الأستاذ كرد علي أخذ صورتها الشمسية. فالجدوى من نشر هذه الرسالة مستقلة هي للطابع لا للباحث.
فضيل سالم المهدي
(الرسالة): لا ندري كيف غفل الكاتب عن الجهد العظيم الذي بذله الأستاذ الأفغاني في التحقيق والتعليق والفهرسة والترجمة حتى أصبح الكتاب بمقدمته وذيله كتابين لا جدوى لأحدهما بغير الآخر. ولو كان يدري الكتاب شروط النشر لعلم أن هذا الكتاب ما كان يفيد الباحث لو لم ينل هذه العناية من الأستاذ سعيد.
حول آية إطعام الطعام
إنها ليد طولى للرسالة تقابلها بالشكر أن أتاحت لنا الاتصال بإخواننا في العراق نبادلهم الرأي ونساجلهم البحث؛ فقد نشرت في عددها الماضي رد الأستاذ الشيخ كاظم سليمان خطيب الكاظمية بالعراق على إنكارنا صحة ما روى الرواة في سبب نزول آية إطعام الطعام من صوم الإمام علي رضي الله عنه إلى آخر ما زعموا. وقد حاولت أن أظفر بدليل في كلام الأستاذ فلم أنل
وغير خاف أن الإمام علي كرم الله وجهه في سابقيته وهجرته وبلائه ومنافخه وعلمه وفضله وفتوحاته وقرابته لا يرفع من شأنه رواية لم تثبت
على أن المفسرين بإزاء هذه القصة فئات منهم من ضرب عنها صفحاً، ومنهم من رواها من غير بحث، ومنهم من نقدها. فقد جاء في تفسير الطبري
(والصواب من القول في ذلك أن يقال إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون. . .). فتراه أرجع ضمير يطعمون إلى الأبرار ولم يشر إلى قصة صوم الإمام(363/54)
أقل إشارة، وقال الخطيب الشربيني بعد أن ساق القصة: (حديث موضوع)
وفي الشهاب علي البيضاوي: (هو حديث موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي، وآثار الوضع عليه ظاهرة لفظاً ومعنى)
وقال الألوس بعد أن ساق القصة: (وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل. . .) إلى آخر عبارة الشهاب السابقة
وقال الفخر الرازي والقول ما قالت حزام: (إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم، ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر، ثم ذكر وعيد الكافر. ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال: (إن الأبرار يشربون)، وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بياناً لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين، فلو جعلناه مختصاً بشخص واحد لفسد نظم السورة. والثاني أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله: إن الأبرار يشربون، ويوفون بالنذر، ويخافون، ويطعمون وهكذا إلى آخر الآيات. فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه، ولكنه أيضاً داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين وكما أنه داخل فيها، فكذلك غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبته) أه. كلام الرازي
أما من نقل القصة من المفسرين بلا بحث فليس في مجرد النقل حجة
ومن العجيب أن ابن عباس الذي رويت عنه هذه القصة من القائلين بأن سورة (الإنسان) مكية نزلت قبل زواج الإمام بالزهراء عليهما السلام، فكيف يصح ما رواه أم كيف يستقيم
محمود محمد سويلم
إلى الأستاذ محمد سعيد العريان
جاء في كتابكم القيم (حياة الرافعي) أن والد فقيدنا الغالي هو الشيخ عبد الرزاق الرافعي؛ فالتبس علي الأمر بعد أن كنت أعلم أن أسم أبيه (صادق) نسبة لما يطلقه على نفسه:(363/55)
(مصطفى صادق الرافعي)
فهل لك في إزالة هذا الالتباس وإيضاح الحقيقة؟ بعد أن تقبل تحية صدق من أخ يقدر فيك - على البعد - الإخلاص والوفاء
(دمشق)
بشير العرف
الأمة الإسلامية ونادي المراسلات الإسلامي
تتكون من العالم الإسلامي الممتد في كل بقعة من بقاع الأرض أمة تخالف في نظامها ومقوماتها الشخصية الأمم، فمن المألوف في كل أمة أن تكون الوحدة بين أفرادها وحدة الدم أو اللغة. لكن الأمة الإسلامية التي تتألف من أجناس متعددة ولغات متباينة، وتقيم في قارات الدنيا الخمس، هذه الأمة تتألف من كل مؤمن صادق الوعد قوي النفس حي الضمير، من كل أمة تربط بين أفرادها العقيدة بدلاً من أن يربط الدم ويوحد بينهما الفكر ما فرقته اللغة
هذه الأمة العظيمة تتلاقى بقلوبها وأبصارها عند كعبة واحدة كل يوم خمس مرات، وتهتف بنداء واحد كل يوم مئات المرات كانت، حفنة من الرجال خرجوا من جوف الصحراء ينشرون كلمة التوحيد، ويرفعون أسم الله قد دانت لشجاعتهم وإيمانهم جبابرة الأرض، وفرضوا على كل الأمم أنبل التقاليد وأفضل الأخلاق وتركوا وراءهم مجداً خالداً باقياً ما بقيت الأرض
إلا أن روح الخمود والتفرقة والجري وراء الأغراض ما فتئت تنخر في عظام هذه الأمة حتى وصلت إلى حالتها الحاضرة من التقهقر والضعف والانحلال؛ هذه الحالة التي تثير في النفوس كوامن الألم وتدفعنا دفعاً إلى أن نفكر في مجدنا التالد وتقاليدنا النبيلة التي يكاد أن يعفى عليها الزمن
إن نادي المراسلات الإسلامي الدولي الذي هو عبارة عن هيأة إسلامية دولية مركزها الرئيسي بالمملكة المصرية يشترك في إدارتها وتنظيمها نخبة من شباب الإسلام في مختلف بلاد العالم يدعو مسلمي الدنيا بأكملها للانضمام إلى عضويته وبذل أقصى الجهد في نشر(363/56)
فكرته ومبادئه والدعاية إلى الانضمام إليه سعياً وراء تحقيق أغراضها التي تألف من أجلها، والتي تقوم على خلق علاقة وطيدة تتناول كل أمور الدنيا والدين بين مسلمين الدنيا بأكملها مهما اختلفت اللغات أو تباينت الأجناس أو بعد المزار
إن الاشتراك في نادي المراسلات الإسلامي الدولي لا يكلف الأعضاء مالاً ولا وقتاً ولا جهداً، ولكنه وسيلة لا تدانيها وسيلة في تحقيق الوحدة الإسلامية وبعث القوى الكامنة في نفوس الأمة الإسلامية
فإلى مسلمي ومسلمات العالم نسوق هذه الدعوة راجين أن تصل إلى كل مسلم، وأن يعمل الجميع على نشرها في جميع أنحاء العالم تقدم طلبات الانضمام وتطلب الاستعلامات بلا أي مقابل من السكرتير العام لنادي المراسلات الإسلامي الدولي صندوق البريد رقم 939 بالقاهرة بمصر.(363/57)
رسالة النقد
ليالي الملاح التائه
للأستاذ الشاعر علي محمود طه
بقلم الأستاذ خليل هنداوي
ليس أحب على النفس التي تحيا في هذا الجو الضيق الذي حل فيه الربيع بمواكبه عابساً يائساً من أن تنطلق في الحياة انطلاقة (الملاح التائه) الذي يخبط على غير هدى، لا غرض له من هذا الخبط إلا أن ينطلق وينطلق! فيضيع عن الشاطئ عبر هذا اليم الذي تلاشى عن عينيه شاطئه، وأصبح يحمل الموج لمن يسأل عنه صدى ألحانه، وفي هذه الألحان شوق غلاب ووجد ملح
حياة هذا (الملاح التائه)، هي ذات حياة ذلك البوهيمي الذي انطلق من قيود الحياة، وراح يطلب لذتها للذتها. إلا أن البوهيمي قريب منا حينما نطلبه؛ أما ذلك (الملاح التائه)، فقد انفصل عنا حتى ضنَّت الأمواج علينا بالإبقاء على آثار زورقه! فنحن نسمع أصداءه، ولكن لا نعرف مصدر تلك الأصداء؛ ونطرب لألحانه المقبلة مع الموج المتهدل، ولكن هذه الألحان تبقى مجهولة الإيحاء!
أين صاحبها؟ وأية موجه تلفُّ الآن زورقه؟ وأي شاطئ مرصَّع تفتح أمام عينيه؟ أذكر أنني تلوت نقداً لديوانه الأول يلوم الشاعر على أنه يهمل مشاهد بلاده، ويمعن في وصف مشاهد غريبة عنه وعن أهله؛ ولكن غرب عن الناقد أن - شاعرنا ملاح تائه - يعبر كل البحور، ويرف ناظره على كل الشواطئ، ويكحل جفنه بأي نوع من الجمال. ومتى انطلق الشاعر من هذه الحدود، ترامى أمام طرفه، لا نهاية فسيحة تبدو عليها حدودنا خطوطاً تكاد تلوح كباقي الوشم إزاء عالمه الفسيح!
وفي (ليالي الملاح التائه) مشاهد غريبة - عن غير هذا الشاعر - توحي إليه عاطفة شديدة الإحساس، لكنها في هذه المرة لا تكاد ترتدي - الإنسانية - رداء حتى يردها إلى الأرض التي انفصلت عنها نوازع فيها الوجد والحنين والاضطراب والكآبة. . . وكل هؤلاء نعم القرين للشاعر! وإذا كان لا بد من النقد، فإنني آخذ على صاحب الليالي حشده لبعض(363/58)
مقطعات ليست من وحي الملاح التائه! وليست أخوات تلك الرعشات التي تأتي متآخية مع رعشات الأمواج! وأولى بمثل هذا الشاعر الصافي أن يتجرد كثيراً من شعر المناسبات. ومن أولى من الملاح التائه بالتجرد من هذا؟ وهو الذي وقف حياته على الشعر الصافي. . .؟
أول الحان (الملاح التائه) أغنية سامية أعدها فتحاً جديداً في عالم الشعر والغناء، هي (أغنية الجندول) التي نظمها خير شاعر ولحنها خير فنان، قد امتزجت فيها عبقرية الشعر وعبقرية الفن، حتى لتحار في هذا الامتزاج الغريب الذي ترك للقطعة قيمة خاصة تذكرنا بالشعر العربي الوجداني، ولعلها تمت بصلة أو صلات إلى الموشحات؛ ولكن تلك الأغنية أصدق عاطفة، وأبعد تأثيراً في النفس، لأن العاطفة المجردة بعثت بها دون أن تترك مجالاً لتغلب الصبغة الكلامية. . . ولعل هذه الأغنية هي أروع أغاني (الملاح التائه) لأنها تصور حياة هذا البوهيمي الذي يعالجه حنينان: حنين إلى مجالي الهوى، وأين تلك المجالي! وحنين إلى أرضه المتواضعة التي يصارعه الشوق إليها. حنينه الأول إلى كأس يتشهى الكرم خمره، وحبيب يتمنى الكأس ثغره. . . هذا الحنين عاوده وأنساه كل شيء. . . وبات من أجله يضيَّع في الأوهام عمره! ولكن الذكرى تناديه، والشوق إلى وطنه يهتف به. . . فيشعر بغربته شعوراً كاملاً، ولا يزيد على شعوره هذا شيئاً
قال من أين وأصغى ورنا ... قلت من مصر غريب ههنا!
هذا البوهيمي نفسه يمر على الخيام فيقف عنده، وهو الذي لا يقف في مكان، وهنالك يرسل لحناً يعد أعمق ما أرسله من ألحانه في لياليه؟ وأنى لنا أن نتمثل هذا البوهيمي الذي أضناه جوب البحار وشق القفار، حتى وقف عند باب هذا الخمار!
كلما لألأ في الشرق السنا ... دقت الباب الأكف الناحلة
أيها الخمار! قم وافتح لنا ... واسقنا قبل رحيل القافلة
وما عسى يسقيه هذا الخمار الذي جمع خمره من كرم غريب عن الكروم وعصرها من عناقيد ترى فيها:
كل عنقود دموع جمدت ... وقلوب فنيت فيها شعاعاً
ما احتواها الفجر إلا اتقدت ... جمرة تذكو حنيناً والتياعاً(363/59)
وبعد السكر يناجي الخيام بمثل ما عاوده في حياته، وفي هذه النجوى صعود شاعر:
صرخت آلامه في كوبه ... فهوى يثأر من آلامه
إنما البعث الذي تشدو به ... يقظة المفجوع في أحلامه!
لله ما أروع هذا البعث؟ ولكن حسبه تعزيه:
. . . . . . . . . أنا سنحيا ... في غد، مثل حياة الزهر
وسنطوي الأبد المجهول طيا ... بُعددَ الأطياف شتىَّ الصور
حسبها تعزية أن نحملها ... بأناشيد الصباح المنتظر
ونشق الأرض عن وجه السما ... حيث نور الشمس أو ضوء القمر
ربما جددَّ أو هاج لنا ... نبأً، أو قصةً من حبنا
نوح ورفاء، أرنَّت حولنا ... أو صدى قبره مرت بنا
في الديوان شعر كثير، وخطوات تدل على قلب شاعر: وللشاعر قدرة عظيمة بنقل الحوادث الخاصة بروح إنسانية كما فعل في قصيدة (مصرع الربان). ولعل بين هذا الربان وهذا الملاح نسباً. هذا الربان هو الكابتن (ماكيج جونس) ربان حاملة الطائرات كوراجيوس التي أغرقتها غواصة ألمانية في بدء الحرب الحاضرة، فآثر الموت غريقاً مع سفينته على الحياة بعدها. ولما بلغ الماء هامته، ألقى بقبعته على الموج إجلالاً للموت وإكباراً للبحر الذي حمله حياً وضمه ميتًا! ولم يجد الشاعر في هذه الحادثة مهرباً من وصف ذلك العدو الخافي المقاتل. . . وهو وصف دانٍ جداً من وصف شوقي للغواصة. وما أدنى المشابهة حين يقول:
رماك في جنبات اليم محترب ... خافي المقاتل عند الروع فرار
ترصدتك مراميه ولو وقعت ... عليه عيناك لم تنقذه أقدار
وأبدعْ بتلك الصورة التي خلدها الشاعر
وغاب كل مشيدٍ غير قبعة ... ذكرى من الشرف العالي وتذكار
ألقيتها، فتلقَّى الموج معقدها ... كما تلقَّي جبين الفاتح الغار
وهذه قصيدة وليدة البحر، لو لم يقع عليها الملاح التائه أثناء تطوافه لم يلقها، لكن الباعث عليها يختلف عن جملة البواعث الأخرى، لأنه باعث الحياة التي تهتز بانفجار، وتأبى(363/60)
الحياة إلا فجاءة واقتحام أخطار
شعر فيه جميع عناصر الشعر!
زودَّينا من مثل هذا الشعر يا مصر!
وهل الشعر إلا نشوة علوية وشعاع كأس لم يقبَّلها فم؟!
خليل هنداوي(363/61)
القصص
الرجل الذي لا يقاوم
للأستاذ نجيب محفوظ
في تلك اللحظة التي لا تنسى حين وجه المأذون سؤاله الفاتن إلى صابر أفندي عبد الخالق: (هل تقبل نكاحها؟). ثم عطفه إلى الآنسة حياة الخضيري قائلاً: (هل تقبلين نكاحه؟). في تلك اللحظة التي لا تنسى تنهد قلبان ارتياحاً وغبطة بعد أن احترقا شوقاً وجوى عشرة أعوام تساوي مائة عام مما تعدون. وقد لهجت الألسن بالخبر السعيد أكثر مما ألفت أن تلهج بنبأ زواج. لأن الحب الذي آلف بين هذين الشخصين عشرة أعوام طوال كان ذاع أمره، وجرى مجرى الأمثال ذكره، فغدا نادرة يطرب لها الكواعب ويستدفئ بها العجائز في أحياء غمرة والسكاكيني والظاهر وغيرها من الأحياء القريبة التي شاهدت من آياته ما تهتز له النفوس وتخفق القلوب. وقد طغى هذا الحب واستبد. فهزأ بالكبرياء، وأزال الفوارق واستأداهما ما يطيقان وما لا يطيقان من التصبر والتجلد والإخلاص والوفاء، فأدياها إليه عن طيب خاطر، وقدما على مذبحه القرابين عاماً بعد عام. أما حياة فهي كريمة السيد شلبي الخضيري تاجر الأخشاب ذي الثروة الواسعة والجاه العريض، والمكانة الملحوظة في أسواق التجارة وميادين السياسة والحياة النيابية، وكانت إلى هذا حسناء في مقتبل العمر مشهوداً لها بالجمال الفائق والرشاقة الفاتنة. وأما صابر فمن أسرة فقيرة من عامة الشعب، ارتقت به مدرسة الصنائع إلى وظيفة مهندس كهربائي بمصلحة الميكانيكا بمرتب ستة جنيهات. فوهبته قلبها وجمالها وصدقته المودة والإخلاص، وأعرضت وفاء له عن عشاق ملحين عنيدين، ورفضت أيادي شبان ذوي حسب ونسب وجاه، منهم طبيب وجيه، وضابط بوليس يعبث شريطه الأحمر بالأفئدة. فلم تطع سوى قلبها العاشق المفتون. وحافظ هو من ناحيته على عهدها، وأخلص لها الحب، وليس هذا بالشيء الذي يستهان به في مثل عصرنا هذا. وتحمل في سبيلها أذى كثيراً دأب والدها على توجيهه إليه قبل أن يسلمه اليأس من إذعان كريمته إلى قبوله. وفوق هذا، فلم يكن مما يجذبه إليها جاذب الطمع في مال أو جاه أو ترق، فكان حبه خالصاً نقياً. على أنه لم يعرف عنه مع ذلك أنه كان يغض الطرف قط عن حسان السكاكيني أو الظاهر، وما كان يستطيع ذلك، ولكن الحق الذي لا(363/62)
مراء فيه أنه احتفظ بقلبه وحبه لها دون بنات حواء جميعاً. . . وشاء الحب أن يختم ألم السنين بهذا الزواج. فقال أناس: إنه إذا كان الحب قد حكم أن يدعوهما دواماً إلى حدائق القبة وبساتين غمرة، فالزواج لا شك محتبسهما في بيته إلى الأبد، وأنه لن يرى بعد ذاك اليوم صابر أفندي إلا حين ذهابه إلى مصلحة الميكانيكا والكهرباء، أو عند أوبته منها. وصدقت فراستهم، ولكن شهراً واحداً رؤى الشاب بعده ذات مساء يغشى قهوة كان دائم التردد عليها أيام عزوبته، وقد نفخت فيه الحياة الجديدة نضارة وسعادة، فبدأ أنيقاً جميلاً، فلم يدهش لذلك رفاقه وتلقوه فرحين. . . فمضى يغيب حيناً ويعاود أحياناً، ثم اختفى ردحاً طويلاً فظنوا جميعاً أنه آثر هدوء البيت على ضجيج القهوة، ولكن واحداً ممن يتطوعون لإذاعة الأخبار قال إنه يراه كل مساء يجلس أمام (صالون الكمال) في شارع قمر لا يبرح مكانه حتى يغلق (الصالون) أبوابه حوالي الساعة العاشرة. فوقع القول من النفوس موقع الدهشة وتساءلوا عما يغري صاحبهم بتجنبهم وملازمة صالون الكمال. وكان بينهم خبثاء متطفلون فلم يهدأ لهم بال حتى أرسلوا رسولاً منهم يستطلع الخبر. وعاد الرسول بما هو أدعى إلى الدهشة، والإنكار قال: إن صابر عبد الخالق يسعى وراء حب جديد، وإن التي شغفته حباً هذه المرة معلمة بروضة الأطفال تقيم بشقة في العمارة رقم 10 بشارع البستان المواجه لصالون الكمال. . .
كيف أمكن أن يحدث هذا التحول الغريب؟ هل خبا الحب الذي صمد للشدائد عشر سنوات بهذه السرعة؟. . . ترى هل خنقه الملل في شهر وبعض شهر؟. . . أم بددته الخيبة وانقشاع الأوهام؟. . . وكيف مكن أن ينزع قلبه إلى امرأة أخرى بهذه السهولة بعد أن تعود على حب زوجة ذاك الدهر الطويل؟!
قبل أن نجيب على هذه الأسئلة ينبغي أن نعرف أكثر مما عرفنا إلى الآن من هو صابر عبد الخالق؟
هو شاب في الثلاثين له فضائله وله رذائله مثل جميع الناس. فمن فضائله احترامه لنفسه وحرصه على كرامته ومحافظته على آداب البيئة وتقاليدها المتوارثة، وإن كان يشوب حماسه لهذه الفضائل ضيق آفاقه وانحصار ذهنه وضحل ثقافته مما يجعله ينحدر في كثير من الأحايين إلى الصلف والتعصب. وأما رذائله فهي أدنى إلى الفكاهة منها إلى الشر(363/63)
وتدور جميعها حول الغرور، والغرور الموجه إلى مزاياه الجسمانية قبل كل شيء. نعم لا أنكر أنه عظيم الثقة بمواهبه العقلية وقدرته الفنية كمهندس قليل النظير، ولكن تيهه بحسنه واعتداده بجماله يفوقان كل تقدير. وليس ثمة شك في أنه يحظى بقسط من الوسامة والجمال فقد خلق الله له عينين سوداويين يظلهما حاجبان مقرونان، وأنفاً مستقيماً. ولكن عجبه فاق حسنه كثيراً وغلب أثره على فعاله وأقواله، وكان أمراً ملحوظاً لدى رفاقه منذ الصغر فاستبقوا إلى العبث به تارة بإطراء جماله، وتارة بإبداء إشفاقهم على الحسان من وقعه وفعله. فما خطر له على بال أنهم يهزأون به؛ وازداد عجباً وما عتم أن غدا عجبه داء لا شفاء منه. ولذلك كان احب الأشياء إلى نفسه أن يقف أمام المرآة يطالع صورته المحبوبة وقوامه الرشيق ويطيل النظر إلى عينيه الدعجا وبين ثغره المليح المفتر عن ابتسامة وضاءة، المكلل بشارب (كلارك جابل). كما كان أشق الأمور على نفسه أن يسعى إلى اقتناء بذلة يلف بها حسنه وشبابه. فما كان يطمئن ذوقه حتى يطوف بمحلات القاهرة التجارية جميعاً فاحصاً مفاضلاً بين الأصناف والألوان، ومتى وفق إلى اختيار لون منها واجه متاعب التفصيل، وتجاذبت عقله المودات الحديثة، أنهكت قواه البروفات المتتابعة؛ ثم يمضي في تخيُّر القميص الموافق للبذلة، ورباط الرقبة الملائم للقميص، والمنديل الموائم لرباط الرقبة، ولا ينسى - إتماماً للتناسق العام - الحذاء والجورب المناسبين. كان متأنقاً شديد الحساسية إلى حد الإرهاق. فكان الكواء يوجه إلى ثيابه عناية لا يوجهها لثياب أحد من زبائنه الآخرين. ويحلف الحلاق أنه يلقي في ترجيل شعره وتطرية شاربه من الجهد مالا يلقاه طبيب يتصدى لحاله وضع خطير
لهذا لم يكن عجباً أن يستهين بتضحية زوجة في سبيله، وأن ينكر على القائل قوله: إن إخلاصها له نعمة يحسد عليها. بل كان في أعماقه يعتقد أنه صاحب الفضل وأنها صاحبة الحظ التي يحسدها عليه بنات حواء جميعاً. كيف لا وقد وقف عليها جماله الذي تقتتل عليه أجمل الحسان؟!. . . وقصة حبه الجديد آية على غروره قبل كل شيء. فلم تكن إلا أنه رأى فتاة تعبر شارع السلحدار ذات أصيل فراقه منظرها، لأنها كانت ذات قد رشيق ووجه خمري مستدير رقيق القسمات. يولد تناسقها في النفس اشتياقاً ويؤرث في الصدر حرارة. فتبدي على وجهه الرضا، وهز رأسه طرباً كأنه يتابع لحناً شجياً. وكان إلى جانبه ساعتئذ(363/64)
شاب من معارفه لم يفته ما بدا عليه. فأدنى رأسه من أذنه وقال بلهجة ذات معنى:
- حذار فالنظرة إلى هذه تعقبها حسرة
فأنكر صابر قوله وسأله ببساطة وعيناه تتعقبان الفتاة المجدة في السير:
- ولمه؟
فقال الشاب بخبث:
- لأنها فتاة جد، لا تلوى في سبيلها على شيء ولا تعير المغازلات أدنى التفات. وما تزال تتردد كل صباح وكل مساء ما بين بيتها في شارع البستان وروضة الأطفال بشارع السلحدار مقتحمة أنظار المتطفلين كأنما تحتفظ بقلبها في صندوق مغلق ضائع المفتاح
فساءه هذا الوصف وأحس بمرارة لما آنس فيه من تحد وقال متفلسفاً على قدر عقله:
- قلب أي امرأة في صندوق ضائع المفتاح كما تقول، والعبرة بالرجل الأريب الذي يقدر على الظفر بهذا المفتاح. وهز منكبيه باستهانة وابتسم ابتسامة ساخرة مشبعة بالثقة والطمأنينة، وودع الفتاة التي شارفت نهاية الطريق بنظرة وعيد. ولم يكن يداخله أي شك في قدرته وفنه، ولا تزعزعت ثقته بنفسه قط، ومع ذلك لم يرتح قلبه، ووجد في كلام صاحبه تحدياً صريحاً لا يجوز السكوت عليه؛ وجعل يتساءل في غيظ وحنق: ترى هل يمكن حقاً أن تقتحمه هذه المعلمة إذا تصدى لها. . .؟
هل يستعصي عليه العثور على المفتاح الضائع؟ وتكدر صفوة تلك الليلة. وفي أصيل اليوم الثاني قصد إلى شارع السلحدار، ومن الإنصاف أن نقول إنه لم يدفع بنية يتحرج لها ضمير زوج مخلص مثله، وإنما ساقه انفعال غضب وعاطفة لا نتنكب الحق إذا قلنا إنها علمية إلى درجة ما، لأنها كانت تتشوف إلى التحقيق والتجريب. قصد إذاً إلى شارع السلحدار وانتظر. ثم رآها تبرز من باب المدرسة بقدها الممشوق. فوثب وتحفز حتى إذا صارت منه على مرمى نظرة سدد إليها عينين فاتنتين، ولكنها سارت لا تلوى على شيء كما قال صاحبه، وضاعت النظرة في الفضاء منضمة إلى أسرتها من الأنوار الكونية. فأحس بخيبة وأحنقه جفاؤها السكسوني، فصرَّ على أسنانه وسار في أعقابها. ومضى يشاهد خصرها الدقيق وردفها المستوي ويقول لنفسه متعزياً (لو اصابتها النظرة لذاب جفاؤها كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس). وأرد أن يلفتها إليه، وتنحنح وسعل سعلة(363/65)
مؤدبة، ولكنها لم تبد أدنى اهتمام، فأوسع الخطى حتى حاذاها، وكاد أن يلمس كتفها، فأوسعت الخطى بدورها لتسبقه فاستبقا. وأدركت بلا ريب أن شخصاً يطاردها فالتفتت نحوه بغضب، وكان يتربص للفرصة السعيدة فصوب إليها نظرته المشهورة، فردت عليها بنظرة عنيفة كأنها تقول له: (مكانك يا هذا). وتنحت عن سبيلها منعطفة إلى اليسار ثم انتهت المطاردة بانتهائها إلى العمارة رقم 10 بشارع البستان وتردد أمام العمارة مرتين، ولم يجد بداً من العودة فقفل راجعاً. وكان مهموماً مغتماً كمن يقفل من معركة دامية لا مطاردة غرامية. وما كان يشعر بأي إحساس من أحاسيس الحب أو الفتنة، ولكن كانت تضطرم في قلبه عواطف الكفاح والقتال وبات ليلته وقد صدقت عزيمته على الجهاد إلى النهاية
وتوجه في أصيل غده إلى المكان نفسه - وانتظر حتى رآها تسير نحوه في مشيتها التي تجمع بين الرشاقة والشدة فتبعها على الأثر، وأدرك لأول وهلة أنها لا تجهل تعقبه لها وأنها برمة ضيقة به، ولكنه سار في طريقه غير حافل بتذمرها، لأنه كان عنيداً مثابراً ملحاحاً؛ فكان جزاؤه نظرة أشد من نظرة الأمس. وفي اليوم الذي بعده خرجت عن صمتها بأن قالت له بلهجة خشنة صارمة: (من فضلك بلاش قلة أدب). وفي اليوم الرابع قالت له بنفس اللهجة (شيء بارد). وقالت له في اليوم الخامس وهي تحدجه بنظرة وعيد (إذا لم ترتدع عن هذا السلوك الشائن ناديت الشرطي)، ولما كانا في اليوم السادس لاذت بالصمت يأساً وتجاهلته، ولكنها لم تناد الشرطي، فتنهد ارتياحاً وعد سكوتها فوزاً مبيناً. وأخذته نشوة طرب فسأل لسانه بكلام - وإن يكن مبتذلاً غاية الابتذال، ويحفظه جميع من هم على شاكلته عن ظهر قلب - إلا أنه كان يحسبه من الرقى الغرامية كنظرة عينيه سواء بسواء. قال لها: (يا معجباً بنفسه يا شديد الجفاء بغير سبب. يا تياها بجماله، هل ذنبي أنا أنك جميل ولا نظير لك في الكائنات. وهل جرمي أن لي قلباً يشعر ويهيم بالجمال. أيصح أن تنذريني بالأمس بالشرطي. وهل ينادي الشرطي للعاشقين. . . الشرفاء. . . أمثالي، ومع ذلك نادي الشرطي، بل نادي الموت نفسه فلن أبرح حتى أسمع من الفم الصغير هذا - الذي يحاول خنق ابتسامة بريئة بغير ذنب - ما يدنيني إلى أملي. . .)
ولم يعد يقنع بالمطاردة القصيرة التي تبدأ في شارع السلحدار وتنتهي في شارع البستان،(363/66)
ووجد في موقع صالون الكمال من العمارة رقم 10 ما يشفى شوقه وطمعه. فانضم إلى زبائنه وتودد إلى صاحبه وجعل منه ناديه المفضل على كل مكان
وكان يندفع بادئ الأمر - كما قلنا - بقوة غضب ورغبة في الغلبة. وكان يعتزم أن يقف ويتراجع حين تلين وتراخى. وكان يعود من كل مطاردة - في أول عهده بها - ولا فكر له إلا عنادها وصلفها وغضبه وخنقه. ثم أخذت صور أخرى منها تتسلل بمهارة فائقة إلى مخيلته مثل قدها الرشيق وعنقها الطويل وقسماتها الصغير المتناسبة. ومضت هذه الصور تزحف على وجدانه من سراديب حواسه وتندس إلى زوايا قلبه وهو لاه عنها بحنقه وكفاحه. فغدا يتعرض لها مسوقاً بأشواق وحنين. وملبياً نداء يصعد من أغوار نفسه حتى أقر أخيراً في إشفاق وقلق وذعر أنه يحبها. وأن الداء يبرح به مرة أخرى. وصادف به مرة أخرى. وصادف اكتشافه لحقيقة عواطفه تراخي الفتاة واستلامها فلم يقف ولم يتراجع كما كان اعتزم. بل شد على يديها في حماس دافق واندفعا معاً في سبيل الحب، وفتحت له نفسها وبسطت أمام ناظريته صفحة حياتها البسيطة فعلم فوق ما كان يعلم عنها أنها تعيش مع أمها وخالتها، وأنهما في غير حاجة مادية إليها وقد أكدت له ذلك تأكيداً لم يخف عليه مغزاه. أما هو فأخفى عنها جل نفسه فلم يدر لها بخلد أنه زوج وأنه إلى درجة ما عريس. وكان هذا ما يكدر صفوه وينتزعه من سكرة أحلامه، فمثل الصلة التي بينهما لا يمكن أن تدوم قانعة باللقاء صباح الجمعة بحديقة الوطن بهليوبوليس، ومساء الأحد بسينما ركس. وفضلاً عن ذلك لا يمكنه أن يتغاضى طويلاً عن تلميحها المستمر إلى موضوع الزواج. فلم ير بداً - حرصاً منه على الاحتفاظ بها - من مجاراتها في أحاديثها فما لبث أن جرى ذكر الزواج على لسانيهما وناقشاه على اعتبار أنه النهاية التي تهفو إليها نفساهما
وخطت درية خطوة أخرى فدعته إلى زيارة بيتها لتقدمه إلى أمها وخالتها. وهنالك أسقط في يده لأنه ما كان يستطيع أن يلبي الدعوة ولا كان يدري كيف يرفضها، والاعتذار لا يغني عن حالته طويلاً. فما عسى أن يفعل؟ أيلوذ بالفرار ويختفي من أفقها إلى الأبد؟ قد يبدو هذا الحل ما فيه من نذالة أوفق الحلول، ولكنه لم يستطيع على شدة حرجه أن يأخذ به، لأنه كان انفعالي المزاج لا يزع نفسه عن هوى. وكان في الحق قد غدا مستهاماً بها كلفاً. فألف صورتها وحديثها وإيماءاتها ألفه مازجت روحه وسعادته. فهل يعترف لها(363/67)
بالحقيقة ويسألها المغفرة. . . ولا هذا استطاع لأنه أشفق من أن يأخذهاالارتياع فتنفر من خداعه. أو تيأس منه فينصرف قلبها عنه. واشتدت به الحيرة وساورته الهموم وتشتت عقله بين شعاب مظلمة. وما فتئ يماطل ويسوف. وما يدري كيف يوفق بين هواه الجامع وظروفه القاسية. . . حتى تبرعت المصادفات بالحل الموفق
وكان اليوم الجمعة وقد عاد إلى بيته - وكان يساكن حماه - في الساعة الرابعة مساء. وكان يترنم بأغنية بصوت خافت متناسياً أشجان قلبه إلى حين، وفتح باب شقته في هدوء وهم بالدخول، فوجد نفسه وجهاً لوجه مع الآنسة درية. وخفق قلبه خفقه شديد انخلعت لها ضلوعه، وصاح وهو لا يدري: (أنتِ) ولم تكن أقل منه دهشة، فرددت قوله: (أنتَ) وعند ذاك فقط أدرك أن زوجه تقف إلى جانبها، وإلى يمينها أخوها الصغير (توتو) ممسكاً في يده بكراسة. . . ومرت به لحظة رهيبة أحس بأن الأرض تميد به، ولفه ذهول قهار، فلم يستطيع أن يكتم عواطفه ولا أن يداري افتضاحه، وكانت الزوجة تراقبها بعينين مرتابتين وقد امتقع وجهها وارتعدت شفتاها، ثم ارتسمت على فمها ابتسامة صفراء وسألت المعلمة قائلة بصوت متهدج:
- هل تعرفين زوجي؟
ولم تدر الفتاة بماذا تجيب، وقد دوت في أذنيها كلمة (زوجي) دوياً مزعجاً، فرددت عينيها بين صابر وزوجه ثانية، ثم خفضت عينيها الزائفتين واستولى عليها اليأس والغضب وانفلتت إلى الباب لا تلوى على شيء، ولم تنبس بكلمة ولم تترك وراءها مكاناً لشك أو ارتياب
وكانت الزوجة تشعر بالفتور الذي اعتور علاقتهما وتتحير في تعرف أسبابه، فعلمت أن لها غريمة وأن غريمتها هي معلمة (توتو) الجديدة، فغضبت غضبة نفست عن صدرها الكظيم. ونمت الفضيحة إلى أمها، فاستفحل الخطب، ولم تنته الليلة حتى حمل صابر حقيبته وعاد إلى بيته وحيداً كئيباً. . . ولكن الله سلم؛ ولم يبخل عليه بالغفران القلب الذي صدقه الحب عشرة أعوام فقفل إلى بيت الزوجية تائباً. وتراه الآن إذا ظهر في الطريق يسير متأنقاً مزهواً كعادته، فإذا وقع بصره على وجه نضير أو قد رشيق ابتسم ابتسامة الزهد والكبرياء. فإذا خطر لأحد من صحبه أن يداعبه أو يتحداه ابتدره قائلاً: (حسبي. . .(363/68)
حسبي. . . لا أريد أن أجرح قلوباً بريئة)
نجيب محفوظ(363/69)
العدد 364 - بتاريخ: 24 - 06 - 1940(/)
فرنسا تنهار؟!
سبحانك اللهم مالك الملك وصاحب القدرة! أفي أقل من دورة القمر تخشع باريس محراب الأدب للقوة، وتخضع فرنسا منجم الذهب للمادة؟
أفي أسرع من كسرة بولندة والنرويج وهولندة والبلجيك ينهزم أبسل جيش على الأرض، وتنهدم أرفع أمة بالتاريخ؟
أبعد القارعة الكبرى ونجاة (فوش) من (فون كلوك) بالمعجزة المفاجئة يخلد (بيتان) و (فيجان) إلى الدعة، ويسترسلان إلى النعيم، ويطمئنان إلى الأمن، ويسالمان الأحداث في أفياء (ماجينو). ويهملان الشباب في إفناء (سان سير)، فلا يهتمان بسلاح ولا يفكران في خطة؟
لقد كانت سيدان في جسم الدفاع الفرنسي عرقوب أخيل:
جثا فيها نابليون الثالث أمام بسمارك، فلم يستطع (تيير) و (غمبتا) أن ينقذا شرف فرنسا ويفديا عاصمتها إلا ببذل الألزاس واللورين وخمسة مليارات من حر الذهب. وانخرع فيها جيش (كوراب) فانثغر عندها خط الدفاع الرئيسي فوقعت الكارثة التي لا حيلة ولا نجاة منها. وليس يدري إلا الله ماذا يملي الدكتاتوران على فرنسا الضارعة من شروط الصلح في (فرانكفورت) الثانية.
فكيف غفل القواد الفرنسيون عن هذا الثغر فلم يحصنوه ويؤمنوه؟
لقد قال رئيس الحكومة الفرنسية: إن القيادة ارتكبت أخطاء لا يتصورها العقل، وأشار رئيس الوزارة الإنجليزية إلى تهم لا يرى الوقت ملائماً للإفضاء بها. ونحن نعيذ فرنسا مَثل الوطنية العالية ونموذج العسكرية الرفيعة أن تكون ميداناً لجيش الهتلرية الخامس، فما علم الناس على ضميرها الوطني من سوء؛ وإنما نعتقد أن الديمقراطية دهاها ما دهاها من بطر الغنى وغرور الأمان واعتقاد السلامة. فلو أن الحلفاء يوم صرعوا الأفعى قطعوا ذنبها ورأسها لما تفتحت الجحيم من شياطين النازية الذين زلزلوا الدنيا وبلبلوا العالم. ولكنهم دوخوها وسلخوها وتركوها في فجوة من الأرض تتحوى وتتقوى وتستعد، وانطلقوا في جنتها الفيحاء ينعمون ويقصفون حتى أذهلتهم نشوة الفوز عن كيد الموتور وحنق المقهور، فأغفلوا الحيطة وأهملوا العدة إلى أن انفجرت عليهم السموم من كل وجه. والدولتان الحليفتان قد اعترفتا بهذا الخطأ الذي جر عليهما هذه النكبة. فقد قال المستر تشرشل في(364/1)
خطبته الأخيرة: (لقد انهارت قوى العدو في سنة 1918 فجأة. فشاءت حماقتنا أن نلقيه جانباً ثم نستنيم إلى سكرة الفوز). وقال المرشال بيتان في ندائه الأخير: (بعد انتصارنا على الألمان في سنة 1918 تغلب فينا مرح السرور على روح التضحية، وحرص الناس أن يأخذوا أكثر مما أعطوا، واستشعروا برد الراحة فأراحوا أنفسهم من عناء الجهد)
لذلك لم يكن بالعجيب أن تعقم فرنسا أم الأبطال فلم تنجب في زهاء ربع قرن من القادة العباقر من يخلف جوفر وفوش، فاضطرها الأمر أن تلقي بمقاليدها إلى رجال المدرسة العسكرية القديمة كغاملان وبيتان ممن أوهنت السن العالية عواتقهم فلا يقوون على حمل النجاد
كذلك لم يكن بالعجيب أن يفاجئهم النازيون بالخطط المبتكرة والأسلحة الحديثة، فيقفوا حائرين ذاهلين أمام الدبابات التي تقذف اللهب وتعبر النهر، والطيارات التي تنفض كالصاعقة وترتفع كالقذيفة، فيذهب غاملان ويجيء فيجان، ويستقبل رينو ويتولى بيتان، ولكن القدر القاهر فوق الناس يأبى إلا أن يكفّر المخطئ ويخسر الغافل
ليت شعري ماذا قال الفرنسي الحزين المهان المحطم حين سمع المرشال بيتان يقول ليلة الأمس في أول ندائه: (إننا في قلة من الجنود، وقلة من الأسلحة، وقلة من الحلفاء، ولذلك انهزمنا)
لعله قال: وأين إذن يا مارشالي العزيز السعي الذي سعيته والمال الذي أديته؟ إن فرنسا وإنجلترا ومستعمراتهما يبلغون ستمائة مليون نسمة، فهل يجوز على مثل هذا العدد القلة والضعف لولا أن هناك خطأ من الإنسان أو خذلاناً من الله؟
لقد برهن الفرنسيون في معركتهم الخاسرة أنهم جديرون بمكانتهم من ثبت الشرف وتاريخ البطولة. وما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا في السلم، ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الدكتاتورية التي يعادونها لا تفكر إلا في الحرب ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب
على أن الله عوّد فرنسا العريقة أن يحفظ عليها الشرف إذا شاء أن تخسر المعركة. وبقاء الشرف ضمان لبقاء العزة. والعزة حافز دائب الوخز يدفع إلى الحياة بالموت، ويرفع إلى السيادة بالتضحية(364/2)
ويقيننا أن هذا الصلح الذليل الذي طلبه العسكريون عارض من اليأس أصابهم في حال سيئة. أما سائر الفرنسيين في القارة وفيما وراء البحر فسيختارون المنية إذا خُيِّروا بينها وبين المذلة
إن فرنسا المنكوبة ضحية جديدة لجبروت العلم الفاسد. والعلم الفاسد هو الذي قصدناه بالغضب في مقالنا الذي عقب عليه صديقنا الأستاذ العقاد. وهو الذي عناه المستر تشرشل في بيانه بقوله: (إذا انهزمنا سقط العالم كله في عصر من الظلام سيكون أطول العصور وأشأمها بفضل العلوم الفاسدة)
وفساد العلم أن يضع الإنسان فيه شهواته الدنيا شراً خالصاً لا خير فيه
ورحم الله جان جاك روسو فقد أجهد قريحته في التدليل على أن العلم يفسد الإنسان، ولو تنفس به العمر إلى عهد النازية لأيقن أن الإنسان هو الذي يفسد العلم!
احمد حسن الزيات(364/3)
مدينة النور تعاني ظلام الخطوب
للدكتور زكي مبارك
قُضِيَ الأمر وسقطت باريس بين أيدي الألمان!
فمن كان يستبعد أن تميد الجبال فليعرف اليوم أن الوجود لا يعرف المستحيل. ومن كان يرتاب في (يوم القيامة) يوم (الفَزَع الأكبر) فليتصور الساعة التاريخية التي اعترف فيها الجيش الفرنسي بأنْ لا فائدة من الدفاع عن باريس
ولكن أي جيش؟
هو جيش صام عن النوم والطعام سبعة أيام إلى أن لم يبق من قُواه غير أشلاء، وكان مع ذلك يحب أن يقاتِل إلى أن يبيد وهو يذود عن باريس، ولكنه خاف على ذخائرها الغالية فقرر أنها (مدينة مفتوحة) ومضى يقاتل قتال اليائس المستميت في مواضع لا قِلاع فيها ولا حُصُون
إذاً حقت المخاوف وسقطت باريس، باريس صاحبة الحق على جميع الشعوب بفضل ما علمت الناس أصول الثورة على الظلم والاضطهاد
فإن قال قائل إن باريس هي عاصمة فرنسا الاستعمارية، فليذكر أنه لم يَثُر ثائرٌ على الاستعمار في مَشرق أو في مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب
أقول هذا وقد لامني صديقٌ على التوجع لمصير فرنسا في مقال نشرته بجريدة الأهرام منذ أسابيع، وكانت حجته أن فرنسا صنعتْ في الشرق ما صنعت، وأنه لا يجوز الحزن على أمة تحملها القوة على أن تبغي وتستطيل
وهل كنت أجهل عيوب الأمم الاستعمارية حتى يدلني عليها ذلك الصديق؟
إن الأسد هو الصورة الفظيعة للبطش والفتك والافتراس، ولكن هل يشمت الُحرُّ بالأسد حين يراه في مدارج الضيم والاستذلال؟
ذلك حالي في التوجع لفرنسا الجريحة، وقد حاربتها بقلمي مرات حتى صح لوزير الخارجية الفرنسية أن يعارض في منحي وسام الأكاديمي سنة 1931 وهو سرٌّ لم أذعه قبل اليوم، وما أذيعه الآن إلا ليعرف الصديق المتعتِّب أني لا أهتم بغير المعاني.(364/4)
وقد مُنِحتُ ذلك الوسام بعد ذلك الوسام بعد تلك الجفوة في سنة 1936 فلم أر فيه إلا تحية لرجل يصادق فرنسا صداقة علمية لا سياسية.
ومن كان في مثل وطنيتي فهو فوق الشُّبهات والظنون، والصدق في الوطنية من أشرف الأرزاق
إن الضعيف هو الذي يشْمتُ بالقَويّ حين تزلّ قدماه، فليعرف ذلك من يحس الشماتة بمدينة النور، على عهودها الزواهر أطيب التحيات!
وهل أملك إخفاء حسراتي على ما صارت إليه باريس؟
وهل يستطيع أديبٌ ألمانيُّ أن يُخفى لوعته على مصير تلك المدينة وهو عدوُّ حتى يستطيع أديبُ مصريٌّ أن يخفي لوعته وهو صديق؟
حدثتنا البرقيات أن الجنود الألماني طافوا بشوارع باريس وهي خالية، فأي أديبٍ لا يتفطَّر فيه حُزْناً حين يسمعُ أن شوارع باريس عرفت الهدوء لحظة من زمان؟
هي لفتة من لفتات الدهر الغادر الذي يرى كسوف الشمس وخسوف القمر ضرباً من ضروب المزاح
هي وثبة من وثبات القدر الذي يزلزل الوجود حين يشاء
فمن كانت عنده بقية من الصبر على مكاره الأيام فليتفضل عليَّ بكلمة عزاء لأتناسى أصدقائي في باريس، أصدقاء العهد الجميل يوم كنت طالباً في السوربون، التي صارت اليوم قفراً بياناً لا يطوف بأركانه غير الشامتين من غُلْف القلوب
باسم القوة غُزِيت باريس، وذلك جزاءٌ وِفاق، فليس في باريس مكان إلا وهو نِديُّ للثرى بالدماء المسفوكة في سبيل الحرية، والحرية من أسماء القوة، والرجل الحرُّ لا يرضى الموت بغير السيف، وكذلك تستشهد باريس. فإن استطاع الألمان أن يخمدوا اللهب الذي يتوقد فوق قبر (الجندي المجهول) تحت (قوس النصر) فسيذكرون بعد حين أن تلك الجذوة ستنقلب إلى سعير يفتك بمجامع الأضغان، ويرد الدنيا إلى عهدها القديم يوم كانت دار علوم وآداب وفنون، كما كانت لعهد باريس قبل أن يحولها إلى أشباح لا تملك الجواب بغير الصمت البليغ!
إن لبست باريس أثواب الحداد في سنة 1940 فقد ألبست برلين أثواب الحِداد في سنة(364/5)
1918. والحروب قُصاص، وكما يَدين الفتى يُدان. وهنيئاً لمن يحمل السيف فينتصر في وقائع وينهزم في وقائع، فما الحياة الحق إلا عراك ونضال وقتال
ومن ظنّ ممن يلاقي الحروب بأنْ لا يصاب فقد ظنّ عجزَا
وهل كفت باريس عن الدعوة إلى الحرب حتى تنكر عواقب الحرب؟
في باريس مئات من التماثيل لعظماء الرجال الذين كافحوا في مختلف الميادين، وفي كل خطوة يخطوها زوّار باريس أثرٌ ينطق بأن مدينة النور لا تعرف الحياة في غير الصراع والصيال، فما جَزَعُك يا باريس وأنت صيرت الحرب من شرائع الوجود؟
إن قوة الألمان فيضٌ من قوتك يا باريس، فأنت غرستِ الحقد في صدورهم، وأنت قهرِتهم على أن يتربصوا بك الدوائر عشرين سنة ليلقَوك بأفئدة موتورة لا يشفي غليلها غير الولوغ في دماء الرجال
فبفضلك استطال الألمان يا باريس ولولا خشيتهم مما تملكين من عظمة وجبَرُوت لما وصلوا في التسلح إلى الحد الذي يسمح بأن يقهروك على إلقاء المقاليد
وانهزامُك يا باريس سيكون درساً لأبناء الجيل الجديد، وبه يعرفون أن لا قيمة للاعتماد على التاريخ، وأن لا قيمة للتمدح بالفضائل الإنسانية، فما زال أبناء حواء يخضعون لفطرتهم القديمة يوم كانوا من جيوش الغريزة قبل أن يصيروا من رجال الوجدان
ألم أشهد العجائب في الأعوام التي قضيتها في السوربون؟
كان شبان فرنسا في ذلك العهد يرون الحرب من بقايا الوحشية، ويَتواصَوْن بأن يكونوا أنصاراً للسلام مما تغلبت الظروف، ثم سمعتُ بعد أن فارقت باريس أن أقطاب فرنسا يختلفون حول فكرة التسلح وأن فيهم من يرى أن ترصد جميع أموال الدولة للمنشآت العمرانية والمدنية
وذلك ذنبك يا باريس، فأنت وثقت باعتدال الموازيين قبل أن تستعد فطرة الإنسان الحيوانية للترحيب باعتدال الموازيين
ولو كانت باريس غير باريس لعرف أهلها أن في الدنيا خلائق تعيش بغرائز موروثة عن العهود التي سبقت التاريخ
إن الورد يعتصم بالشوك، فكيف فات باريس أن تعتصم بالسلاح؟(364/6)
تلك هفوة سيكفِّر عنها أبناء الجيل الجديد في باريس يوم تنجلي الغُمَّة بعد أن تضع الحرب أوزارها الثقال
ولكن متى؟
إن انتظار السلام قد يطول!
في أي المحامد والمحاسن والمناقب يفكر الرجل حين يجزع لبلواك يا باريس؟
أيذكر أن مطابعك كانت تخرج نحو سبعين كتاباً في اليوم الواحد؟
أيذكر أن مكاتبكم مرجع لجميع ما أبدعت العقول الإنسانية في القديم والحديث؟
أيذكر أنك صورة الإنسانية، الصورة المجسّمة التي تمثِّل ما تملك الإنسانية من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل؟
أيذكر أنك أرحب ميدان للصراع بين الحلم والجهل، والشك واليقين؟
أيذكر أن معاهدك العلمية والأدبية والفنية كانت النِّبراس لأهل العقول والأفكار والأذواق في أكثر بقاع الأرض، وأن برلين نفسها لم تنجُ من الافتتان بسحرك القهار؟
أيذكر أن النشوة الروحية لا تقع إلا لمن يفتح عينيه على نورك الوهّاج أول مرة؟
وما أسعد من يراك يا باريس أول مرة قبل أن يألف مناظر الفردوس! وهل تحق السلوة لمن يطول عهده بجمالك الفتّان؟
قد ينسى الناس محامدك يا باريس، إلا محمدةً واحدة ستبقى في ذاكرة الخلود
فأعداؤك يا باريس لم يكونوا يجدون الأمن والعافية إلا في ربوعك الضواحك، وما استطاعت المطابع في أي أرض أن تذيع الطعن في فرنسا كما استطاعت مطابع باريس؟ وما شُتِمتْ فرنسا في أي بلد كما شُتِمتْ في باريس!
لم تكن باريس وطناً خالصاً للفرنسيين، وإنما كانت أوطاناً لطوائف من المفكرين والثائرين يفدون إليها من كل فج ويطعنون أهلها إن أرادوا بلا رقيب ولا حسيب
كانت باريس هي المنَفى الأمين لمن تلفظهم حكوماتهم من أصحاب المبادئ والمذاهب، وكانت منتدياتها مجالاً للثائرين على موروث الأفكار والتقاليد من سائر أناء الشعوب
كانت باريس هي الملعب الذي تراض فيه عضلات الأفكار على المُرونة والعُنف
كانت باريس حرباً على أهلها بفضل تلك الحرية، ولكنها كانت تشعر بالأبوة الرحيمة لكل(364/7)
من يلجأ إليها، ولو كان من دعاة الهدم والتخريب
كانت باريس تعرف أن نشر الُمعاد من الأفكار الموروثة لا يحتاج إلى حماية، ففي مقدور كل مخلوق أن يذيع الآراء التقليدية حيث شاء، وكذلك رأت باريس أن تكون حامية الفكر المحرَّر من جميع القيود، وفي رحابها ترعرعت المبادئ الجوامح التي صارت عدة أعدائها من الروس والألمان والطليان
فكيف صِرتِ اليوم يا باريس؟ وكيف تصيرين بعد اليوم؟
أنا أعرف أن جراحك لن تندمل في يوم أو يومين، واللحظة الواحد من آلام الأحرار تُقدَّر بأعوام طوال، فماذا تَنوين وقد قهرك بَغيُ الأعداء على اعتناق مبدأ الحقد الأسود؟
في رحابك اليوم شيوخ وأطفال لا يفتحون عيونهم إلا على ظُلمات من فوقها ظُلمات، فهل تختفي البشاشة الروحية والوجدانية من أدبك الرفيع؟ وهل يَحُلّ النفاق محل الصراحة بعد أن دفعت الأثمان الغالية في عقوبة الترحيب بالرأي الصريح؟
وهل تصيرين مثل موسكو وروما وبرلين في خضوع الأفكار والمذاهب للسلطة العسكرية؟
أنا لا أخاف أن تموت باريس، وإنما أخاف على باريس عادية الجمود
إن أبناء باريس حاولوا تخريبها مرات كثيرة بسبب العداوات الحزبية، ولم يُفلحوا، فكيف يُفلح في تخريبها الأعداء؟ وهل خُلِقتْ باريس للموت، وهي أسطع جذوات الخلود؟
أحب أن أعرف ما الذي ستصير إليه باريس بعد اليوم؟
أحب أن أعرف مصير الحرية الفكرية في هذا الوجود الموبوء بأنفاس المُرائين والمخادعين؟
لم أتفجَّعْ على باريس لقرابة أو جِوار، وإنما أتفجع على باريس لما بيننا وبينها من انساب علمية وروحية، فإليها يرجع الفضل في تخريج من عرفنا من كبار الأدباء والزعماء، وتلك وشائج لا ينساها إلا من ابتلاه الله برذيلة الجحود
سيعضٌّ قومٌ بنان الندم على الشماتة بمدينة النور، يوم يعرفون أن لم يبق في الدنيا مكان تذاع فيه آراء الأحرار بلا تهيب ولا إشفاق بعد خمود باريس
لابُدَّ للفكر من مدينة في مثل صراحة باريس وسماحة باريس، فإلى أين يذهب الفكر وقد ضُرب الحرَج على باريس؟(364/8)
إن الفكر هو أثمن ما غنِمت الإنسانية، وبفضل الفكر الحر عرف الإنسان قيمة الوجود
لابدَّ للعالم المفكِّر من باريس ولو رُفعت فوق ذراها راية الصليب المعقوف!
وهل أُطفأت أنوار أتينا الفكرية بعد أن دحرها الرومان؟
وهل أطفأت أنوار بغداد الفكرية بعد أن غلبها التتار المجرمون؟
وهل استطاع الذين حاربوا القاهرة مئات السنين أن يحجبوا أنوارها عن الشرق؟
المدُن الفكرية لا تموت، وكيف يموت الفكر وهو أطول عمراً من الزمان؟
أما بعد، فهذه كلمة فاض بها قلبٌ يتوجع لأحزان باريس، وطن أساتذتي الاماجد من أمثال مورنية وتونلا وشامار وميشو وديبويه ومَرسية ودبمومبين ولالاند وماسينيوس، وطن المكاتب التي كنت أقضي فيها سهراتي بالمجان حين كان يُعوزني المال لقضاء السهرات في مراتع اللهو والفُتون
هذه كلمة في التفجع لمصير المدينة التي قضيت فيها أطيب الأعوام من شبابي، المدينة التي أوحت إلى قلمي كتاب (ذكريات باريس)
فإن ترجع الأيام بعد الذي مَضى ... بذي الأثْل صيفاً مثل صيفي ومَرْبَعي
شددتُ بأعناق النوى بعد هذه ... مَرائرَ إن جاذبتها لم تقطّع
وسنلتقي يا باريس ولو بعد حين وقد طَبَّ الزمان لجراحك الداميات!
كيف الحال في بُولمْيش يا باريس؟
وكيف الحال في الشانزليزيه؟
وكيف الحال في فرساي وقد قيل فيه ما قيل؟
وكيف الحال في دار المكتبة الأهلية؟
وكيف حال السامرين على شواطئ السين، إن بَقيَ للسمر مجالٌ على شواطئ السين؟
وكيف حال اللاهين واللاعبين بين القصر الكبير والقصر الصغير في الطريق إلى ميدان الانفليد؟
وأين مواعيد الصبابة والوجد في ساحاتك الفيحاء؟
وأين استقبال الغاديات والرائحات في الضحى والأصيل حول مخازن السماريتين؟
وأين صبح الأحد في متحف اللوفر وعصر الأحد في حديقة النَّبات؟(364/9)
وأين الصوت ليرجع العشاق إلى مخادعهم بعد العبث بأزهار البساتين؟
وأين؟ وأين؟ وأين؟
هي دنيا تذوقين من بأساها بعض ما ذقتُ من فراقك الأليم
فيا مَرجع روحي بعد القاهرة وبغداد وِسنتريس، ويا صاحبة الفضل على أكثر ما نظمتُ من قصائد وما نشرتُ من مؤلفات، ويا وطن الجنرال بونال الذي كانت داره مَلاذ عزيمتي، ويا وطن الكولليج دي فرانس ومدرسة اللغات الشرقية والسوربون، ويا وطن الصديق الحميم دي كومنين أقدم إليك أصدق التحيات وأنا واثقُ بنصيبك الأعظم من الخلود
زكي مبارك(364/10)
حركات الإصلاح الإسلامية
4 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
أما حركة التجديد الإسلامية بمصر فقد صدرت عن عوامل وأسباب أخرى غير التي ذكرناها عن حركة الهند، وإن كانت قد سلكت نفس الطريق، وجاءت بنتائج متشابهة. ونحن لا نستطيع أن نجزم بأن الحركة الهندية كان لها أثر في حركة الإصلاح المصرية. وإذا ما تصفحنا ما كتبوه من رسائل وكتب فإنا لا نجد بينهما أي ارتباط. ويظهر لنا واضحاً ما بينهما من فرق إذا عرفنا أن الروح التي سادت الحركة الهندية كانت (روحاً ثقافية) جاءت من التفكير والنظر الذي كان نتيجة اتصال الإسلام بالحضارة الأوربية، وجهودهم الإصلاحية كانت تحت تأثير أوربي، أما الناحية الدينية عندهم فكانت أمراً ثانوياً.
والحركة المصرية كانت، على الضد من هذا، حركة دينية نتيجة تفكير ونظر ديني، وسلكت طريق الإصلاح مستقلة عن أي نفوذ أجنبي، فهي عندما ترفض أعمالاً أو بدعاً لا تردها على أساس أنها (معادية للتمدن والحضارة) بل لأنها (معادية للسلام) مخالفة للقرآن والسنة الصحيحة، كما أن البدع القائمة على الحديث كانت ترد على أساس من علوم النقد الإسلامي في الجرح والتعديل. وهي تهتم من ناحية أخرى بخلقية الإنسان كمسلم وكشرقي، وتكره التقليد الأعمى للأوربيين، وتحذر من أضراره، حريصة جد الحرص على (الخلقية العربية الإسلامية)
وهنا في مصر حيث يقوم منذ قرون الجامع الأزهر، هذا المركز العالمي العظيم للعلوم الإسلامية، والذي كان يسير على طريقة قديمة جامدة، ترتبط حركة الإصلاح باسم الإمام محمد عبدة تلميذ جمال الدين الأفغاني الممتلئ به إعجاباً
وقد كان محمد عبدة من طلاب الأزهر ومن علماء الدين، ثم صادفته أزمات داخلية طويلة حتى عرف جمال الدين أثناء مقامه بمصر فرسم له الطريق الذي سار عليه فيما بعد، وسلكه وسط زعازع ومنازعات داخلية وخارجية انتهت به - مع الارتباط بالحركة العرابية - إلى النفي من مصر. وبعد ذلك وصل إلى مركز الإفتاء ونال اعترافاً عاماً(364/11)
ونفوذاً كبيراً، وكان ولا يزال موضع عداوة قاسية من طبقة المتزمتين الجامدين
وإنه وإن كان فيما انتهى إليه قد صبغ الإصلاح بمصر بلون خاص - مع العلم بأنه كان ضد النفوذ الغربي - فإن الاسم الذي أطلقه عليه جولدزيهر بأنه (ذو ثقافة وهابية) أقرب الأسماء إليه وأولاها به. فمن الحق أن نقرر أن هذا العامل هو الذي يفسر لنا إصلاحات محمد عبدة الدينية التي لا ارتباط بينها وبين الحركة الهندية. وأن ما أسماه جولدزيهر (ثقافة وهابية ليس معناه أم أن هذه الخطة قد جاءته مباشرة من الوهابيين، وإنما غرضه التفريق بين حركة الثقافة في الهند والحركة المصرية التي تسودها العوامل الدينية وترفض ما لا يقره الدين، الأمر الذي لا شك في كونه أثراً جاء من العربية الخالصة
وكان لسان حال مدرسة الإمام محمد عبدة مجلة النار التي يحررها السيد رشيد رضا السوري التي أخذت تنازع في الإجماع المنعقد على المذاهب وتقليدها وتطالب بالاجتهاد على أساس القرآن والسنة. فقد رأت هذه المدرسة، مثل مدرسة الهند، أن الإسلام دين عالمي موافق لكل الشعوب وكل العصور، متفق مع الحضارة، ولكن على شرط ألا يأخذ بمذهب واحد من المذاهب، بل يجب الرجوع إلى القرآن والسنة الصحيحة، فهي ترى مثل الإمام الغزالي الذي صرح بهذه الفكرة منذ ثمانية قرون أن المفتاح لشرح الحالة التي طغت على الإسلام، إنما هو في جمود المذاهب الأربعة وانحصار العلم فيها وحدها، تلك المذاهب المتخالفة، وما فيها من تكرر عتيق، ومماحكات غير نافعة، وما تلاها من فقه المتأخرين، ليست هي الإسلام والدين، وإنما ذلك في القرآن والسنة. وأغلب ما في هذه المذاهب إنما يقوم على الاشتغال بفروع جزئية تتغير بتغير البلاد والأوقات وتخضع للتغيير تبعاً للعلاقات الاجتماعية، ومثل هذا لا يصح أن يسلك به في سلك ديني ثابت لكل زمن غير قابل للأخذ والرد. وكان من أثر هذه المذاهب الاختلافات التي حدثت في الإسلام مما وقف ازدهاره. وهكذا رفضت هذه المدرسة أساس المذاهب الفقهية القائم على (اختلاف أمتي رحمة)، وقالت: إن الأمر بالعكس. وطعنت في صحة هذا الحديث الذي يخالف آيات كثيرة من القرآن.
وقالت أيضاً أن الوحدة والمرونة إنما تكون بالرجوع إلى القرآن والسنة وحدهما حيث توافق الشريعة الحياة في كل وقت وكل حال، وبهذا يمكن الرجوع بالإسلام إلى حالة القوة(364/12)
والشباب
كما رأت هذه المدرسة أن باب الاجتهاد لم يقفل بل إنه مفتوح على مصراعيه لبحث كل المسائل الطارئة. وليس الحكم فيها خاضعاً لحرفية النصوص، بل يجب اعتبار مصلحة العالم الإسلامي أولاً وقبل كل شيء (وليس الشرع محصوراً ي جلود كتب الحنفية). فإذا ما قام الفقه على هاذين الأساسين: الاجتهاد والمصلحة، فإنه يكون صالحاً لكل زمان ومكان، وقابلاً لما تقضى به الضرورة من أمور تدعو إليها المصلحة وموافقة العصر. وحينئذ يمكن الرد على الذين يزعمون أن الفقه الإسلامي إنما هو لزمن خاص ومكان خاص، وليس عاماً لكل الشعوب وفي كل الأوقات
ونظراً لأن الإمام محمد عبدة كانت له شخصية دينية عميقة لأنه كان من مدرسة صوفية، فإن الإصلاح الإسلامي بمصر كان - مخالفاً في هذا الحركة الهندية - يمتاز بأساس من الإيمان والمحافظة وبروح حارة من التقوى. ولما كان يسود الاعتقاد بسمو الوحي ورفعته، جاء الاقتناع القوي بأن العلم والدين عند الفهم الصحيح أخوان لا يختلفان، وعلى هذا الأساس لم يرفض محمد عبدة الأخذ مع الحرية الكاملة بالإصلاح العلمي
حقاً إنه لا يمكن أن يكتم أنه عند ما يحدث في بعض الأحيان خلاف بين العقل والسنة فإنه يجب الأخذ بالأول، بل إنه زيادة على تجب مراعاة حالة الأمة والظروف، فيقدم ذلك على النص الصريح. أما مماحكات الفقهاء فقد رفضت بشدة من محمد عبدة ومدرسته، ووضع بدلاً من ذلك القديم المتفتت جديد مأخوذ من الاجتهاد في الأصول موافق للعلاقات الحاضرة. وفي هذا الطريق سارت هذه المدرسة - مثل الوهابية المعتمدة على ابن تيمية - في رفض الخرافات والبدع، ولكن في الوقت نفسه - موافقة في ذلك للغزالي - حاولت إدخال المبادئ الخلقية والأعمال القلبية في الفقه، مع اقتناع عميق بأن بساطة الإسلام الصحيح التي لم يمسها تغيُّر الأيام تجعله قابلاً لكل حركات التقدم والتطور
ومن هنا نرى أن كلتا الحركتين الهندية والمصرية تنتهيان تقريباً عند غاية واحدة، وهي أن الإسلام عند الرجوع به إلى شكله الأصلي، وعند الأخذ بروحه ولبه، وبعد أن ينقى من الأدران التي لصقت به، ومن جمود العصور المتأخرة، لاشك أنه يصبح موافقاً لطلبات الحياة العصرية. وإذا ما تأملنا قليلاً، فإننا نجد أن الطريق الذي يمكن أن يسلكه الإصلاح(364/13)
الديني من الحركتين سواء.
إلى هنا يقف الأستاذ هرتمان في تأريخه للحركة الإصلاحية في مصر والحكم عليها ولم يتناول بعد الحركة التي تلتها وشخصيتها القوية الجبارة وأسلوبها الحاسم الدقيق. وهو ما سنتناوله تذبيلاً وتعليقاً على هذه الرسالة آخر الأمر.
علي حسن عبد القادر(364/14)
إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
(تتمة)
أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقاً حديداً يلمح لمحاً تحت حواشي الليل، وكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس. وأدام نظره طويلاً إلى الماء وهو يقر شيئاً بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال:
آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بني من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول:
أي دلاة نهل دلاتي!! ... قاتلني وملؤها حياتي!!
كأنها قَلْتٌ من القلات
فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلله دلالاً كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغلة التي يؤرثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر
ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة!
(قاتلتي وملؤها حياتي!!)
إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكلما يكون منها - إذا أرادت - هو سبب من أسباب سلب هذه(364/15)
الحياة سلباً جباراً لا رحمة معه ولا هوادة فيه
إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها - أي من حبها - أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلت كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفخ نفخها على شيء إلا جعلته رماداً أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . .
ثم سكت صاحبي. . .، وخيل أليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه، قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاساً جاهدة ينتزعها انتزاعاً من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدِّمر وتنقضُ بناء الأيام الماضية!
إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاء الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معاً
أقول لنفسي: أيها الصديق البائس! إذا لا تعرف طريقك إلى النسيان؟ لماذا تقف في مقبرة أفكارك دائماً فترتاع وتتألم؟ لماذا لا تحاول أن تسخر من الحياة التي سخرت منك؟ لماذا أنت حائر أيها الصديق؟ وبقيت أتداول الهاجس من أفكاري فيه، حتى شُغِلتُ به عنه. ثم جاءني صوته من بعيد كأنه كان يتكلم في بعض أحلامي تحت النوم:
اسمع. . .! اسمع يا صديقي! لقد كنت أفكِّر في بعض ما شغلني عن تمام حديثي قبلُ. لقد سألتَني وساءلت نفسك: أهكذا يضمحل الرَّجل؟ أما إني لا أستطيعُ أن أضعَ لك اللغة وضعاً جديداً حتى أعبِّر لك عن كل خالجة من خوالج النفس الإنسانية حين تضطرب فتهتز فتطير(364/16)
هزاتها على مساقها ومجراها، ثم تتشعب فتنتشر فتعَمل عَمَل الجيش المحارب في هدم صفوف العدو وتفريقها وبَعْثرة قواها المحتشدِة لِّلقاء احتشادَ البنيان المرصوص بعضه على بعض
نعم. . . لن أستطيع ذلك، ولكني سأصف لك بعض الصفة واستشعر أنت كيف يعمل ذلك في هدم الرجل ويسرع في تدمير رجولته أمام أنوثة طاغية تتحدى وتأخذ سلاحها الذي تتحدى به من رجولة عواطف المحب الذي يَرى أن تعاونَ القلبين بالحب، وصبابة النفس إلى النفس الأخرى، هو تمام رجولته وتمام أنوثتها
كان لقاؤهما تجديداً غريباً في قديم نفسه. . . لقد استطاعت هذه الساحرة الجميلة الفتانة - كما وصفت لك - أن تمحو ماضيه كله، وأن تمزق صحُفَ أيامه المهملة التي كان القَدَر يكتب فيها تاريخه الأول. مزقت هذه الساحرة تلك الصحف، وألقت بها في النار التي أشعلتها في قلبه بالحب. بدأ يحيا بها وبسحرها حياة رائعة فاتنة من أحلام الحب، وجعلت هي. . . وجعلت هي. . . آه يا صديقي! هذا كثير كثر، إن ذكرى ذلك كله تؤلمني. . . إنها تعذبني. . . إنها تخِز قلبي بمثل السنان الحديد يقع وخزاً متتابعاً شديداً يتفجر في نزعه بالدم. . . كيف أستطيع أن أقول لك الآن ما الذي كانت هي تفعل! وماذا أقول لك؟ آه. . . إن أنوثتها، بل رقتها، بل حنانها، بل رحمتها، بل إخلاصها، بل حبها. . . كيف يكون هذا؟ بل ذلك الصوت المنغم الروي الممتلئ صوت الحنين المتعذب. . . صوت القدر الآتي من بعيد بأفراح السعادة. . . صوتها. . . صوتها. . . ذلك الصوت المعبر عن نفسها بألحان تتجاوب وتسري وتموج في كل غيب من غيوب نفسه المتراحبة. . .!
إن كل هذه العواطف التي يرسلها إليه صوتها وهي تتكلم كانت تعبُّ فيها عبابها، حتى يجد الأمواج النفسية تتقاذفه في فرح بعد فرح، ومن سعادة إلى سعادة، ومن حلم إلى حلم، كأنه ماض إلى جنة الخلد في زورق من اللذات الطاهرة الجميلة، تحف به الملائكة تغني لقلبه أناشيد المجد والخلود. . .! إنه سوف يسمو بروحه إلى ذلك الجو الذي يعطِّره النبل، ويفيئه الحب، وينديه الحنان، وتضيئه هي بسنتها المشرقة، وتسبح فيه النجوى أنغاماً حرة تهيم وتتعانق
جعلت أيامه معها تتهدل ثمارها الناضجة المغرية، وجعل يقتطف منها حيث أراد، وجعلت(364/17)
هي تغذوه كل يوم غذاء جديداً هنيئاً يملأ روحه قوة وشباباً وعزماً. وجعل إحساسه بسحرها وفتنتها يغلو به في إيمانه بعبقرية أنوثتها الكاملة الجديدة. أجل. . .، إنها أرسلت في دمه الحياة الجديدة، الحياة التي تجدد فكره في أشياء الدنيا، وتستفزه إلى فرض سلطانه على هذه الأشياء.
وكانت هي تنشئ لعينيه في كل يوم بل في كل ساعة دنيا مائجة من فنها البليغ الذي يعبر عن ضميره تعبيراً بليغاً كبلاغة أنوثتها، فانبثقت في عينيه وفي قلبه ينابيع متفجرة من الأحلام الرقيقة والأماني الطائرة، تلك الأماني التي تتنهد دائماً على قلبه بأنفاس الفجر. . .
امتلأت عيناه الحائرتان بأحلام الشباب، وانبعثت القوة المتلهبة بالرغبة، فهو ينظر ثم يندفع إلى أمانيه يريد أن يختطف من السعادة السانحة سنوح الصيد المستطرد، قبل أن تسبقه إليها أنياب الشقاء والألم والبؤس فتفترس منها وتنهش. إنه يريد أن يظفر بسعادته ليتمتع بالحياة بعض المتاع، ولكن يا صديقي. . .، إن هذه الغريزة المتحكمة في الإنسان وفي أعماله - غريزة التمتع بالحياة - هي التي تذهب بالإنسان في القدر مذهباً بعيداً. . . إنها هي التي تجعل الحياة لعيني كل حي، ولكنها هي هي نفسها التي تعمي المحب فلا يبصر تلك القوة السحيقة التي فغرت له أشداقها وأحدت أنيابها، فلا يزال - إلا أن يعصم الله - يتهاوى فيها ما اندفع به إليها هواه
ولكن كيف كان يملك صاحبي إرادته في البصر؟ إنها كانت تعمل أبداً - وهو لا يستطيع أن يدرك - على أن تبقى حبيبة أحلامه ولو قتلنه. نعم إن بعض ضحكها كان يصفق بدلالها كأن أمواج شبابها تتلاطم فيه وتزخر. شبابها. . .!! شباب امرأة جميلة متكبرة معجبة، شباب أنثى تحب، وتريد أن تبقى أبداً محبوبة يهيم في أوديتها المسحورة من يحبها. ومع ذلك فقد كان يجد لما يلقاه منها فرحاً في نفسه، ونشوة في روحه، وعربدة في دمه، كان كالسكران بحبها لا يستطيع شيئاً ولا يملك إلا أن يخضع لذلك السلطان المرح الظافر المبتسم، السلطان العنيف الذي يقبض على روح المحب بحنان طاغ من روح من يحب
وعلى ذلك فإن هذا الرجل المسكين - على عنقه وصلابته وفحولته - لم يجد بدّاً من أن يسلم لها قياد عواطفه التي تصبو صبواتها إلى أناملها الرخيصة الساحرة. كيف يقاوم(364/18)
الرجل الصب - مهما استصعب والتوى - امرأة مقدسة يحبها، فهو يتصبب بروحه في روحها؟ استسلم لها، ولكنه كان يشعر بعد هذا الاستسلام أن ليس في هذه الدنيا شيء يستطيع أن يقهر إرادته، أو أن يحول بينه وبين ما يرمي إليه من أغراضه وإن بعدت. كان معنى خضوعه لها أنه يستطيع إذن أن يخضع الأشياء كلها لسلطانها. . . ما أعجب هذا الحب! أرأيت إلى ذلك الضرس الفولاذي الصليب المتكبر من الجبل الإنساني في صاحبي ذاك. . .؟ لقد كان يُرَى وهو يذل لهذه الساحرة أيامه وليليه خاشعاً مستكيناً كأنه يهودي منبوذ فقير في غربة متوحشة!
ولكن لا تخطيء معنى الذل في فحوى حديثي، أعرفه صورة أخرى من الكبرياء المأسورة في سجن امرأة محبوبة. إن إحساسه بحبه لها كان ضروباً من فن الروح العاشقة. لم يكن يراها امرأة مجردة يحبها بحرارة القلب الملتهب بالرغبة أو بالحب. كلا، كلا، لقد كان يجدها أحياناً في أوهام عواطفه ومدّها أمّاً فهو يريد من أمومتها المحبوبة أن تمهد له في قلبها تلك العاطفة الوتيرة اللينة من الحنو والعطف. وهو يراها مرة أختاً يلتمس في مس يديها، وفي نبرات صوتها، تلك العاطفة الساكنة ذات الأفياء والظلال، عاطفة الأخت التي تضحي في سبيل أخيها المنكوب، ثم يرقى بها إحساسه فينظرها أخاً مخلصاً يشد أزره إذا انطبقت عليه قحم العيش ومتالف الحياة. ثم إذا هي تارة أخرى روح من الأبوة المسددة، الحازمة المصممة البليغة، لا تزال تجد الرجل مهما أناف به العمر وشمخ ذلك الطفل العابس الغرير الطياش
وهي مع ذلك كله الصديق الذي يحامي عنه إذا تعادت عليه الدنيا بأسرها، الصديق الذي تبقى صداقته تطوف عليه تحرسه وترعاه. أتدري بعد هذا إلى أين تنتهي به هذه الألوان المختلفة من إحساسه بها؟ لقد تنتهي في بعض ساعاته معها أن يراها أستاذة، فهو كأنما يجلس بين يديها ليأخذ عنها روائع الحكمة، ويسألها عن سر الأبدية المحجب بالغيب، ويلقى عندها كل أفكاره المعقدة في الحياة، يلتمس عند حكمتها الخالدة ما تعقد، وأن تمنح أفكاره ذلك الهدوء الفلسفي الذي تسبغه الحكمة العالية على سدنتها وحفاظها
ثم سكن صاحبي وغشيته فترة الحديث إذا تطاول به وامتد ولكنه ما لبث أن أقبل عليّ يندفع: أنظر. . . أنظر الآن كيف يضمحل الرجل. هذا هو في مد عواطفه وهي تفور(364/19)
وتثوَّر بأمواجها في الحب العنيف المتلاطم، ثم إذا هي تطير عن أحلامه وتنفر من مجثمها السحري، وإذا هو منفرد لا يدري كيف كان هذا؟ ولمَ؟ ومن أين؟ وإلى أين. . .؟
إنها ذهبت وتركت الدنيا التي أنشأتها له مشرقةً زاهيةً، ناضرة فإذا هي تطفأ وتخبو وتذبل. إن قوة رجولته قد ذهبت تطلبها عند قبور الذكرى، فكيف لا يضمحلُّ الرجل؟ كيف لا يضمحلُّ؟!
محمود محمد شاكر(364/20)
كنت على وشك أن أتزوج
للأستاذ توفيق الحكيم
(في هذا الأسبوع أخرج صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم كتابه (حمار الحكيم). وهو كتاب قصصي طريف، أخذ أسمه من جحش رضيع اشتراه وأنزله معه فندق (. . . .)، ثم أدار فيه الحديث على اتفاقه مع شركة شربانتيه السينمائية على أن يضع لها حوار قصة مصرية، ثم شقق الحديث وشعبه فتناول الأدب والفن والمرأة والزواج بأسلوبه الفكه الطلي. وفيما يلي فصل قيم من هذا الكتاب يصور قطعة جميلة من حياة الكاتب)
رفع صاحبي رأسه والتفت إليّ فجأة قائلاً:
- ألم يخطر ببالك أن تتزوج؟
فقلت وأنا أحاول التذكر:
- نعم، كنت موشكاً على الزواج منذ عشر سنوات. . . لكن. . .
ثم كررت بفكري راجعاً إلى ذلك العهد وابتسمت، فقد مرت برأسي صورة ما حدث وما ثنى عزمي عن المضي في ذلك الأمر.
كنت ذا عصر راكباً عربة يجرها حصانان، وإلى جانبي أحد المهتمين بشئوني، فرأينا السائق يهوى بسوطه على أحد الجوادين، فمال من الألم على شريكه كأنه يشكو إليه، والتقى رأسا الجوادين كأنهما يتساران. فجعلنا نتحدث في ذلك ونقول: إن مركبة الحياة كذلك لا يهوَّن من أوجاعها غير أن يربط إليها شريكان يشدان عجلاتها ويشجع أحدهما الآخر كلما سلط عليه القدر سوطاً من سياطه. ثم قلنا: من يدري؟ لعل هذا سر ذلك الحظر الذي نراه على مركبة الحياة؟ وعند ذاك أتجه الكلام إليّ، وصارحني من معي بأن مركبة حياتي لا ينبغي بعد اليوم أن أجرها بمفردي. فإنها قد تحمل فوق ما أطيق، وأنا رجل غريب الأطوار قد أسير بها سيراً غير مألوف فأتخبط بها في طرقات غير ممهدة لا أحفل بسوط سائق. بل من يدري لعلي جمحت مرة فأسقطت سائقي في الأوحال، وجعلت أنطلق منفرداً بمركبة بلا نور، أركض بها على غير هدى حتى أرتطم في جدار. . . وانتهى الأمر بصياح ذلك المهتم بشأني:
- لابد من زواجك(364/21)
فقلت له:
- في الحالة الحاضرة. . . وقتي ضيق. . .
فقاطعني صائحاً:
- أترك لي المسألة. . .
ولم يمض شهر حتى وجدت ذلك الشخص الكريم قد خلا بي ووضع في يدي صورة فوتوغرافية لفتاة طريفة وقال لي:
- تعجبك؟
فتأملت الصورة ملياً ثم قلت:
- من أي وجه؟
فصاح بي:
- أعمل معروف لا داعي للفلسفة، إن كان شكلها مناسب؟
- مناسب. . .
- انتهينا. . .
ثم مد يده إليّ وقال:
- وصورتك بسرعة. آخر صورة لك
- الصورة الوحيدة الموجودة عندي هي صورة لجواز السفر
- ما تنفعش؟ قم بنا نعمل لك صورة (جواز) فقط؟
وسحبني من يدي، وذهب بي إلى محل (مصور فوتوغرافي) معروف. فوضعني ذلك المصور أمام لوحة من قماش تمثل ستارة سوداء، وأراد أن ينزع من يدي العصا، ليضع هذه اليد فوق (درابزين) مزيف قد أتى به، فأبيت ذلك عليه، فرد على عصاي، ونظر من معي إلى وقفتي، فلم ترقه، فصاح في المصور:
- هو واقف على إيه؟
فقال المصور:
- على سلم
فصاح به:(364/22)
- وإيه مناسبة السلم والدرابزين! أجعل وقفته في جنينة وحط الورد حواليه، وارفع الستارة المحزنة من جنبه وانصب بدلها خميلة ياسمين أو تكعيبة عنب! بالاختصار مناظر مفرحة. . .
ثم مال على المصور، فأسر في أذنه كلاماً
فتهلل وجه المصور وقال:
- فهمت الطلب
ثم أسرع فأحضر ستائر حمراء ومناظر خضراء وأصص أزهار ورياحين وهو يقول:
- إن شاء الله يحاكي البدر في سماه!
فأردت أن أظهر عجبي لهذه المعجزة إذا صحت، فأسكتني وأوقفني بين المناظر الرائعة والخضرة الزاهرة. . . ودخل هو في شيء يشبه (البطانية) السوداء يغطي جهاز تصويره، ولبث فيه لحظة ثم خرج يصيح:
- واحد. . . اثنين. . . ثلاثة. . . مبروك!
فتركت موقفي وأقبلت على المصور أوصيه:
- الصورة تكون طبيعية. إياك تعمل (رتوش)!
فما شعرت إلا والمتولي شأني قد انتزعني انتزاعاً من بين يديه ودفعني بعيداً، وأقبل على المصور يقول له:
- إياك أن تسمع كلامه!
ثم التفت إليّ قائلاً:
- حد في الدنيا يقول للمصوراتي ما يعملش (رتوش)؟ خصوصاً لحضرتك!
فقلت:
- على كل حال لابد من كوني أطلع على (البروفة) قبل كل شيء.
فقال المصور: إن تجارب الصورة يمكن الاطلاع عليها في صباح اليوم التالي. فغادرناه على أن نعود إليه في الغد. ومضى النهار، وجاء الغد، فانسللت بمفردي إلى حانوت المصور أطلع خفية على تجارب الصورة. فعرضها عليّ، فتأملت وجهي فيها، فلحظت أن شاربيَّ غير متساويين في الطول، وأن شارباً أقصر من شارب، فتباحثنا في علاج ذلك،(364/23)
وقلت له: إن (الرتوش) الوحيدة التي آذن بها هي أن يمد إلى الشارب القصير فيطيله حتى يساوي أخاه. وانصرفت وانتصف النهار، وقابلت بعد ذلك المهتم بشأني، فقصصت عليه ما حدث من أمر الشارب، فما راعني إلا قوله إنه مر هو الآخر بحانوت المصور عقب انصرافي، فلما علم بمسألة الشوارب، أمر المصور أن يزيلها كلها وكفى الله المؤمنين القتال. فما إن سمعت منه ذلك حتى صحت في وجهه:
- يزيلها كلها!
- إيه المانع؟
أنا بشوارب تعملوني من غير شوارب! هذا العمل اسمه تزوير
- يعني لا سمح الله قمنا زورنا في كمبيالة!
- هو التزوير لابد أن يكون في كمبيالات
كان غرض حضرتك أن أهل العروسة يقولوا مقدمين لنا عريس (بشنب وذقن)!
- نقوم نلجأ للغش!
- وأنت فاهم أن صورة العروسة خالية من الغش؟
- شيء عجيب!
- مؤكد شيء مفهوم مقدماً. وفي المستقبل يتضح لك أن ما عملناه أقل مما عملوه بمراحل، أطمئن!
فقلت من فوري:
- الحمد لله اطمأنيت. إذا كان مجرد (الشكل) وضعناه على هذا الأساس، يبقى (الموضوع). . .
فقاطعني:
- لا. . . (الموضوع) مضمون أربعة وعشرين قيراط. ثروتها معروفة وتحرياتنا صحيحة، وأنت حالتك المالية واضحة. . .
- دا كل قصدكم من (الموضوع)؟
- طبعاً. فيه شيء غيره؟
فلم أطق صبراً، فقمت دون أن أجشم نفسي مشقة الجواب وذهبت، وقد ذهبت عنب فكرة(364/24)
الزواج إلى اليوم. ولم يعد شبحها يظهر إلا مقترناً بذكرى هذا الحوار بنصه وألفاظه كما سمعتها، فكانت ذكراه تقصيني من فوري عن المضي في التفكير. فهذه الشركة النبيلة بين روحين تعاهدا على السير جنباً إلى جنب في طريق الحياة الشاقة الطويلة، ما زالت تقام في أغلب الأحيان على هذا النحو المخجل، وإذا صلحت هذه الطريقة لكثير من الناس فهل تصلح لشخص مثلي قد تتأثر حياته الفكرية وإنتاجه الذهني إلى حد كبير بشخصية الشريك. لذلك آثرت السلامة وأحجمت عن المغامرة، خشية الوقوع في غلطة تفسد على الحياة كلها.
ورجعت إلى وحدتي. . . تلك الوحدة الباردة التي تحيط بي من كل جانب فما أنا في الحقيقة دائماً سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد، وضعت داخله يد المصادفة إناء يغلي ويتصاعد منه بخار، هو تلك الأفكار التي تخرج من نافذتي إلى حيث تصل أحياناً إلى جموع الناس. فإذا دخلت امرأة هذا الكوخ فمن يضمن لي ما سوف تلقيه في هذا الإناء وما يتصاعد من جوفه بعد ذلك!. . .
أأنفقت حياتي متنقلاً، تائهاً ليس لي مكان معروف ولا عنوان دائم. فما تركت فندقاً لم أنزله، ولا نزلاً لم أهبطه. حتى ضجرت ذات يوم وتبرمت بهذه الحال واستنكفت أن أعيش هكذا كما تعيش الفكرة الهائمة والروح الحائرة. . . فأردت أن أجرب الحياة المستقرة في مسكن ثابت اخترته في بقعة جميلة من بقاع القاهرة. . . يشرف على النيل، وترى من نوافذه القلعة والأهرام وعنيت بأثاثه، وأعددت فيه مكتباً أنيقاً وخزائن للكتب، واقتنيت سيارة، وأقمت بمفردي وحولي خادم وطاه وسائق. . .
فماذا حدث؟ لم أتجمل الحياة فيه عاماً. فقد كاد الخدم الثلاثة يذهبون البقية الباقية من عقلي، فالخادم النوبي جعل يكسر (اسطواناتي) الثمينة؛ وتحريت أمره فعلمت أنه يتربص بي حتى أخرج في الصباح، فيدير (الجراموفون) ويضع ما يقع في يده من أعمال (بيتهوفن) و (موزار)، ولا يحلو له تنظيف (الباركيه) وطلاؤه إلا على هذه الأنغام.
أما الطاهي فقد كان يبدي الابتكار في ألوانه أول الأمر، ثم قصر وتراخى حتى صار الطعام ضرباً من (الروتين) لا طعم له. فكنت أحياناً أترك المنزل بما عد لي فيه وأذهب إلى مطاعم المدينة. ولقد كان للخدم دائماً طعام غير طعامي، هو في أكثر الأحيان ألذ(364/25)
وأمتع. ولطالما أمرت الطاهي أن يحضر لي مما في قدورهم هم ويحمل كل هذه الألوان التي نسقها تنسيقاً ظاهراً دون أن يضع فيها روحه وقلبه. . .
وليس هذا كل شيء. فقد علمت أن الطاهي يعد على حسابي قدراً كبيراً يقدمه بالأجر إلى بوابي الجيران؛ وأن الخادم يدعو جميع زملائه النوبيين كل عصر عقب انصرافي إلى تناول الشاي.
ولم يدهشني ذلك فإن نفقاتي بمفردي كانت دون أن أدري نفقات أسرة كبيرة مكونة من عشرة أعضاء، وما نبهني إلى ذلك إلا ضيف عابر. على أن كل هذا لم يغضبني كثيراً. إنما الذي أثارني حقاً هو مسمار صغير وجدته يوماً في لون من ألوان الطعام، كدت أزدرده. . . هنالك لم أطق صبراً. وعلمت أن الخدم بلا رقابة هم خطر من الأخطار العامة. . . وما ملكت نفسي عن الصياح فيهم يوماً (والله لأتزوج لكم وأمري إلى الله)
أما السائق فلا يريد أن يصغي إلى رجائي كلما طلبت إليه ألا يسرع. فأنا أبغض السرعة. إنها تمنعني من التفكير، ولطالما أكدت له أني لست متعجلاً شيئاً. ولا شيء في الوجود يستعجلني، فأنا عدو الزمن والوقت، ولم أهمل ساعة قط، فالوقت عندي ليس من ذهب بل من تراب كأجسامنا. . . ولكنه ينطلق بي رغم ذلك، كأنما يريد أن يطرحني في أسرع وقت، ليخلص مني وينصرف إلى شأنه. فكنت أتركه أحياناً يقف منتظراً في جانب الطريق وأسير مفكراً حراً حيث أشاء. ثم أدرك أخيراً أني لا أحب السهر وأني شديد الكسل وأني أكتفي بعبارة أقولها له كل عصر: (أطلع جهة فيها هواء نقي) (فين؟) (أي جهة تختارها)، فيمضي بي حيث يريد هو دون أن أعترض ويقف بي أحياناً حيث يشاء ويقدر أن المناظر جميلة والهواء منعش فلا أتكلم، فإن فكري منصرف دائماً عنه، ما دام لا يسرع بي ولا يقول لي: (تفضل). إلى أن يرى أن الأوان قد آن للتحرك فيقودني إلى حيث أتناول الشاي أو العشاء في الأماكن المعتادة. فإذا أمرته أن يذهب بي إلى السينما. . . فقد عرف ألا يسألني أيها. بل يمضي بي طائفاً على جميع الدور، فيقف أمام كل باب من أبوابها لحظة، فإذا نزلت فقد انتهت مهمته. وإذا لم أنزل فإنه يتحرك إلى غيرها. . . وإذا مر بجميعها فلم أغادر السيارة فإنه يعود بي من تلقاء نفسه إلى المنزل ويقول لي: (تفضل). فأنزل في صمت، وقد شعر بقدر هذه السلطة الواسعة في يده فاستغلها آخر الأمر(364/26)
استغلال الطغاة لحرية الشعب. فكان إذا أراد أن يفرغ من عمله مبكراً أو يخلص إلى شأن من شؤونه طاف بتلك الأماكن طوافاً سريعاً لا يكفي لإيقاظي من تأملاتي أو إخراجي من ترددي، ثم ردني إلى منزلي، ولما تدق التاسعة قائلاً: (تفضل) فأنزل دون أن أنتبه لما حدث. وفطنت ذات ليلة إلى إرادته. وكانت بي رغبة في السهر. فما تمالكت أن ثرت لحريتي المسلوبة وصحت: (أنت غرضك تنومني المغرب! قسماً بالله العظيم ما أنا نازل)
هكذا كان شأني في المسكن الخاص بين أولئك الخدم. وقد لبثت على هذا الحال زمناً اختمرت فيه داخل نفسي جراثيم الثورة الكبرى على هذا النظام فبينت النية ذات ليلة على خلع نير هؤلاء الذين يسمون أنفسهم خدماً لي. فلما كان الصباح أعددت حقائبي، واستدعيت البواب وطلبت إليه أن يبحث عمن يحل محلي في هذا السكن بأثاثه ورياشه. فأتى إلي برجل إنجليزي وزوجته فتركت في عهدتهما كل شيء حتى كتبي، وغادرت ما في البيت من أشياء خصوصية ومن مؤونة حتى زجاجات المياه المعدنية وعلب الجبن والمربة والزبد والبن والشاي والفطائر، وطردت خدمي، واستغنيت عن سيارتي، وانطلقت بمفردي حراً من جديد، أتنقل في الفنادق وأطوف بالشوارع، وأقفز إلى عربات الترام وسيارات الأوتوبيس، وأختلط بالناس، وأمتزج بالجماهير. فأحسست كأن الدم يعود حاراً إلى عروقي. وأن قدمي قد فرحتا بلمس الأرض من جديد، وأن فكري قد عاد إلى انطلاقه ونشاطه، مع السير الحر بالأقدام في كل مكان، وملاحظتي الناس في الطرقات قد أخصبت ذهني الذي حبس طويلاً خلف الزجاج، وجعلت أقف على بائع الذرة وهو يشوي كيزانه على عربته الصغيرة فأحادثه وأباسطه لا يتعجلني سائق ولا تنتظرني سيارة، وأصغي إلى حديثه الطويل في ذلك الليل مع كناس الجهة. فأشترك معهما في الحديث والسمر، ورأيت الكناس يسامر البائع طمعاً في كوز، والبائع لاه عنه لا تخطر له العزومة على بال (فإن الشغل شغل) في عرف التجار، فشريت أنا كوزين أعطيت للكناس واحداً واستبقيت لنفسي الآخر. فدعا لي الكناس الدعوات الصادقات، وجعل يأكل ويقص علي مما عنده من أحاديث العامة البريئة اللذيذة. . .
عرض هذا الشريط كله في رأسي عندما سألني المخرج ذلك السؤال. ولم أجبه بشيء غير تلك الابتسامة التي أثارتها هذه الذكريات. . .(364/27)
توفيق الحكيم(364/28)
3 - إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ على الطنطاوي
تركَنا القراء في (المخفر السعودي) على الحدود. وأشهد أني لم أذق طعم الأنس والاطمئنان مذ فارقت دمشق إلا في هذا المخفر، ومهما نسيت من المشاهد، وأضعت من الذكريات، فلن أنسى تلك الساعة، ولن تضيع من نفسي ذكراها، وإنني لأتخيلها الآن، وقد مر على تلك الزيارة خمس سنين، ولم يبق في يدي منها إلا ما علق بذهني. . . أتخيل تلك الخيمة الشَّعرية الشِّعرية، الجاثمة على ذلك التل العالي، تطل على التلال التي لا يحصيها عد، وقد اتكأت فيها على جنبي، ونظرت إلى أسفل مني فرأيت السلوك الشائكة، فعجبت منها سلكة لا يعبأ بها تفرق الأخ عن أخيه - وتجعل الشعب شعبين - ثم مددت بصري حتى ضل في ثنايا السراب المتألق في وهج الظهيرة؛ ثم بلغ (دمشق)، دار الحبة وثوى الأماني، فهزني الشوق إليها والفجر بها، والأسى عليها لما أصابها. . . ثم رجعت البصر إلى البادية من حولي، فسرَتْ في روحي روحها، فشعرت كان قد صهرتني شمسها، فغدوت كأولئك الذين خرجوا منها جنّاً في النهار، ورهباناً في الليل، وموتاً للظالمين والمبطلين، وحياة للشعوب ورحمة للناس. . . وتمنيت لو كان اليوم إلى اليرموك أو القادسية طريق، حتى أسلكه كما سلكه أجدادي الأمجاد. . . وهيهات أن يكون للشباب الذي أضاع روح الصحراء إلى مثلها طريق. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجئ كل مسلم أسد
وأكلنا من طعام الجند وهو الزبد والرز والتمر، وشربنا من ألبان النياق وما ألذه من شراب. . . وتبادلنا أطيب الحديث فكان بشرهم وحديثهم قرى حلواً كتمرهم، سائغاً كلبنهم. ثم سألونا عن الطريق الذي نسلكه فأشرنا إلى الدليل؛ فحدثوه فوجدوه أجهل بالبادية من (الكناني) وأصحابه بلغة العرب، ووجدوه يضرب بنا على غير هدى ويسير على عشي. فأتمّوا صنيعهم معنا، فبعثوا واحداً منهم يصحبنا إلى (القريات) يرشدنا ويهدينا، وكان هذا(364/29)
الواحد فتى حلواً جميلاً ولكنه على حلاوته وجماله أمضى من السيف الباتر، وكان اسمه (سلامه) فتفاءلنا به خيراً. وكان صلى الله عليه وسلم يتفاءل، وقلت: رافقتنا السلامة إن شاء الله، والحاج غراب صامت لا ينطق. . .
وودعنا القوم الكرام وسرنا نخرق صدر البادية المهولة وأرواحنا معلقة بيد سلامة، وسلامة يشير إلى السائق ويلقي عليه أوامره؛ يمين. شمال. أصعد التل. تجنب الرملة. والسائق يسمع ويطيع، والسيارات تتغلغل بين هذه التلال، ولبثنا على ذلك إلى العصر، عصر اليوم الثاني من أيام الرحلة، فرأينا رملة بيضاء فسيحة لها منظر البحر في سعته وتموجه واستوائه، تملأ العين جمالاً والقلب من خوف سلوكها فزعاً، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه النخيل أو خيال البنيان. فقال سلامه سلّمه الله: (هذه هي القريات)
والرمال التي رأيناها في البادية على نوعين: رمال منبسطة بيضاء دقيقة كالغبار، لا طية بالأرض، يتخللها نبات من نبات الصحراء (وسأصف فيما يأتي من الحديث أنواعاً منها خبرناها) ورمال حمراء حباتها أكبر، وامتدادها أكثر، وهي تلال يأخذ بعضها بأعقاب بعض، تشبهها العين بأمواج البحر، لو كانت تجمد أمواج البحر، وإذا أنت تأملتها وجدتها في حركة دائمة لا تستقر حباتها، وبذلك ينتقل التل العظيم من مكان إلى مكان في الشهر مرة أو الشهرين، ولقد رأينا في عودتنا مناطق كانت سهلة ما فيها حبة رمل، فصارت بعدنا آكاما من الرمال
وهذه الرمال آفة السيارة، وعلتها التي لا دواء لها، فأنها للينها وتهافتها لا تثبت تحت دواليب السيارة، فتغص فيها كما تغوص في الماء، وتلبث فيها كأنما دفنت وهي في الحياة
ولقد لقينا من هذه الرملة عناء تقل في وصفه مبالغات الشعراء. . . غرقت فيها السيارات، ومالها لا تغرق وقد قلت لك إنها رملة كالبحر، أفتمشي سيارة على وجه البحر؟ ولقد لبثنا إلى الليل نزيح الرمل من حول السيارة، ونرفعها رفعاً، ثم ندفعها بعواتقنا دفعاً، ثم نجرها بالحبال، حتى إذا قلنا سارت عادت فغاصت، فلم نقطع الرملة حتى تقطعت أعمارنا، ولم نخرج منها حتى شهدنا أنه لا إله إلا الله!
وقريات الملح قرى ست متقاربة أكبرها قرية (كاف)، ولكنها لا تحوي على نصف سكان (حلبون) أخس قرى الشام ولا تبلغها كبراً وأتساعاً، وهي في غور الأرض، وكان أول ما(364/30)
استقبلنا منها الحصن، وهو الحصن كبير من الحجر الأبيض المسنون، علمت أن الأمير نواف بن النوري بن شعلان هو الذي بناه أيام تسلطه على تلك الديار، منذ خمسة وعشرين سنة، ولم أجد من أستزيده من خبره. . . والقريات اليوم إمارة، وهي مقر الأمير. ومما رأينا في الحكومة السعودية أنهم يسمون كل من يلي مدينة مهما صغرت أميراً، لا فرق في ذلك بين أمير القريات، هذه. . . وبين أمير المدينة المنورة. . .
وكان الأمير يومئذ غائباً في مكة يشهد الموسم، يقوم مقامه أبن أخ له، وهذه العادة فاشية في الحجاز، إذا غاب الأمير أناب عنه ولداً له أو قريباً، وكان نائب الأمير في قرية أخرى من القرى الست، فلم نلقه، ولكنا لم نعدم من يستقبلنا ويكرمنا، وغاية الإكرام (كما رأينا) أن ندخل القصر، وتوقد النار في زاوية البيت الذي جلسنا فيه، ويشعل فيها الغضا هذا الذي يضرب بحره المثل والذي ذكره الشعراء فأكثروا، وكنوا به عن نجد، تهوي الأفئدة منهم، وقد رأيته مراراً فوجدته كثيراً في البادية وهو كالمشمش غير أنه أجمل شكلاً وأدق ورقاً، وهو أشد شجر رأيناه في البادية اخضراراً، أما جمره فكالفحم الحجري ولا مبالغة، وقد عرفه الشاعر حين زعم أنهم (شبوه بين جوانحه وضلوعه)، أما نحن فعرفناه في هذا البيت حين أشعلوه وزادوا في إضرامه حتى بلغ لهيبه السقف، ثم قربونا منه وأجلسونا إلى جانبه، فلما (تقهوينا) ونلنا حظنا من الإكرام البالغ. . . سألونا سيارة تأتي بالأمير، ودعينا إلى دار أخلوها لنا، وكانت دار مفتش الحدود (عبد الرحمن بن زيد) وهي أكبر دار في القريات وأجملها إلا أنها خالية لاشيء فيها، ففرشنا ما كنا نحمل من بسط وفرش وإحرامات ولم أبتئس أنا بخلوها، فقد كان بساطي وإحرامي أحب إلىّ من كل ما يمكن أن يفرشوه فيها. ولما اطمأننا على أمتعتنا وعلى مكان مبيتنا خرجنا نجول في القرية فإذا هي بيوت من الطين قائمة على (شاطئ) الرملة يحف بها قليل وفيها حقول تزرع فيها بعض الخضر، وتسقي من عين جارية وفيرة تقوم بري قسم كبير من الأرض لو كان الأراضي هناك مال وكان هناك أيد مال وكان هناك أيد عاملة تسعى في الأراضي الزراعية وتحسين زراعتها. ويحيط بالبلدة وبساتينها ورملتها صخرة أهرامية هائلة رهيبة المنظر تمتد من حولها كأنها سور إلهي. . . وحياة هذه القرى من الملح الذي يستخرج من السباخ الكثيرة القريبة من البلد، ويصدر إلى حوران وشرقي الأردن(364/31)
بتنا في دارين أبن زيد هذا خير مبيت، وقد جاءونا بالعشاء من قصر الأمير، فلما أصبحنا غدونا عليه، فرأينا شاباً ذكياً ليس بالتعلم ولكن له مشاركة في بعض علوم الدين، ويحفظ شيئاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، تلقاها في مجالس العلم، وتلك سنة حسنة استنها الإمام عبد العزيز حفظه الله. فجعل ليله كله للعلم يأتي مجلسه العلماء فيقرؤون فيه كتاباً، فإذا أتموه شرعوا في غيره، وتكون مناقشات علمية يشترك فيها بنفسه، وقد قلده الأمراء جميعاً في ذلك؛ فمن هنا ما يحفظ هذا الشاب نائب أمير القريات. . .
استقبلنا بنفسه على عتبة الباب ببشر وإيناس، وجلس معنا يحدثنا ونار الغضا تلفح وجوهنا. ولبثنا على ذلك ساعة لم يدع فيها الأمير دقيقة واحدة قَوْلَةَ: قهَوةَ. شاهي. شاهي. قْهَوَة. يدور علينا بها عبد أسود كان شفتيه غطاء ووطاء، وكأن جسمه المحمل، ثم أديرت علينا المجمرة وفيها البخور، وبخور العود، فلم ندر ما نصنع بها؛ ثم وجدنا الأمير يضم عليها طرفي كوفيته أو عباءته حتى يتعشق الطيب ثيابه، ثم يدعها فصنعنا مثله، وانتهى العبد من إدارة المجمرة، فرأيت الأمير ينظر إلينا، فقام الشيخ الرواف وأستأذن، وقمنا معه على أن نجتمع الظهر بالأمير على الغداء. . .
فلما خرجنا، قال الشيخ الرواف: ألم تسمعوا المثل النجدي؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: (إذا دار العود فلا تعود). فعلمت سر نظر الأمير إلينا، وتمنيت لو دخل هذا المثل بلادنا، حتى عرفه الناس؛ ثم ذكرت أن عندنا بحمد الله من لا يفهم بالعود ولا بالعصا ولا يخرج من زيارتك، حتى تخرج غيظاً من جلدك. . .
(لها بقايا)
علي الطنطاوي(364/32)
التعليم المختلط
للأستاذ رفعة الحنبلي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
المحبذون لهذا التعليم يلفتون النظر إلى ظاهرتين اثنتين جديرتين بالاهتمام:
أولاهما أن البيئة والتقاليد والعادات هي عوامل قوية تدفع إحدى الأمم في الأقدام عليه إقداماً تاماً، وتجعل الأمة الثانية تحجم عنه إحجاماً كلياً.
وثانيهما: شخصية المربي التي تقوم بدورها التربوي الرفيع في تعهد الطلبة تعهداً فيه كثير من الحذر واليقظة والرفق واللين تبعدهم عن تسرب المساوئ إليهم - إن كان هنالك مساوئ - وتوجههم نحو المثل الأعلى للحياة الإنسانية الفاضلة؛ هذه الشخصية هي بمثابة الملجأ الأمين من الأخطار التي قد تهدد حياة الطلبة من جراء الاختلاط، ولا تنال الغلبة في هذا الأمر ما لم تتصف بالصفات الحميدة والمبادئ القويمة والخلق القوى والذكاء الحاد والفطنة الملتهبة، كي تتفهم نفسية الطالب ورغائبه وميوله. . .
ولكن أين هؤلاء المربون ينعمون بمثل هذه الصفات جميعاً؟ وأكبر الظن أنهم قليل. . . والقلة ما كانت في يوم ما لتقوم مقام الأكثرية في تأدية رسالة أو إيفاء واجب
يذهب الدكتور إلى أن التعليم المختلط في المعاهد الثانوية يقوي العلاقات الاجتماعية ويمكن الصلات الأدبية، فينشأ الفتى والفتاة في بيئة تختلف عن البيئة الخاصة التي كانا فيها، وإنها لأجدى على الفتى والفتاة من أية بيئة أخرى، إذ يتجه الاثنان في اتجاه خاص هو من مصلحتهما، في الوقت إلى ذلك تضعف في الفتاة تلك الرقة والحياء والدعة، في الوقت الذي يتقوى عندها الشعور النفسي بأنها والرجل سيان في الحقوق والواجبات
وإذا ما تعمقنا في دراسة نفسية كل من الجنسين، وجدنا أن لكل منهما خصائص فردية تختلف في كل منهما عن الآخر جد الاختلاف، على أنها تتحد في الأصل وتختلف في الفروع بمعنى أن للفتى من الوظائف الفردية الخاصة ما للفتاة، على أن هذه الوظائف لم تكن لتمنع كلا منهما من أن يتلقى نوعاً واحداً من التعليم أو أنواعاً مختلفة، فضلاً عن أنهما ذوا قابلية لتعليم خاص. وقد تتباين الاستفادة عند مباشرة الفتاة هذه الوظائف، فتتجه إلى ناحية غير الناحية التي يسير الفتى إليها(364/33)
فهناك إذاً خصائص نفسية نسوية وخصائص نفسية رجولية تمضي بهما إلى غايتيهما؛ ولكن لا بد من التساؤل عما إذا كانت هذه الخصائص المتباينة لها من المزايا ما يساعد على التعليم المختلط أم أنها تقف دونه؟
كثير من علماء النفس يعتمد أن هذه التباين في الخصائص مما يساعد على التعليم مساعدة قوية فعالة، فالفتيات والفتيان ما كان كل منهما ليكتسب مزايا وفضائل الآخر التي يفتقر إليها لو لم تمهد أمامه سبل الاختلاط سواء في المعاهد أو في المجتمعات. ويرى الدكتور أن مراتب التفكير في الرجل هي غيرها في المرأة، والتعليم المختلط يحمل كليهما على الاقتباس عن الآخر ما تحتاج إليه الحياة وما تتطلبه منه البيئة، وبالتالي فإن أفق تفكيرهما ينبسط ويمتد إلى أقصى حدود الانبساط والامتداد. تلك متعة من متع الحياة تتفتح معها النفس لصنوف المؤثرات وشتى ألوان الأحاسيس.
ويعترض البعض الآخر على هذا الرأي بأن الخير كل الخير للمجتمع وللجنسين معاً في ألا تضعف هذه الخصائص النفسية الخاصة - إذ أن في ذلك ما يفقدها، ولو إلى حد ما، شيئاً من حيويتها وفاعليتها - وأن يحتفظ كل منهما أيضاً بمراتب تفكيره لا يتعداها إلى مراتب غيره، فبقدر ما يكون الرجل تام الرجولة والمرأة كاملة تكون الجماعة الإنسانية غنية بالوسائل الفعالة التي من شأنها أن تؤثر في المجتمع وتدنيه من غايته المثلى، فالواجب على المربين أن يؤدبوا الفتى تأديباً يصبح معه، في المستقبل، رجلاً تام الرجولة، وأن يتعهدوا الفتاة تعهداً تمسي بعده كاملة الأنوثة، على ألاّ ينظر إلى المرأة نظرة ضيقة حقير تنال من كرامتها وتحط شأنها بل نظرة رفيعة تدفعها إلى الاستفادة من خصائصها الخاصة
ويعتقد المربي الكبير أن خصائص ومزايا الجنسين هي غريزية بمعنى أنه لا ينالها تغيير ولا يمسها تطور - في جوهرها على الأقل - وهي تخضع لنظام يختلف في كل منهما عن الآخر اختلافاً كلياً؛ ويضرب لذلك مثلاً أن الفتاة تفهم من كلمات الوطنية والشرف والعائلة والشجاعة غير ما يفهمه الفتى منها، فلكل من هذه الكلمات جرّس خاص عند كل منهما، هذا إلى أن الفتى قد لا يتأثر بخصائص ومزايا الجنس النسوي - إن قدر له أن يتأثر - دون أن يزاوج بينها وبين ما بنفسه من مزايا وخصائص
وهناك عيب لمسه الأستاذ بنفسه اختبار طويل. . . هذا العيب يتعلق بالمربي الذي يؤثر(364/34)
فئة من طلابه على فئة ثانية، أو بالأحرى يعطف على طالباته أكثر مما يعطف على طلابه، بل ويتحيف حقوقهم أيضاً، إذ يلمس في الفتاة دماثة الخلق، ونعومة الحديث، وإشراق النفس ورقة الشعور كما يدرك فيها مزية الإذعان والامتثال والخضوع، فتنعم بالعطف والإيناس، وتتمتع بالرفاهة والدعة، فضلاً عن أن التنافس الذي يحصل بين هاتين الفئتين له من التأثير القوي على الفتاة ما يدفعها إلى الانكباب على الدرس حتى تفوز على زملائها وتحوز الدرجة الأولى دون تعميقها في الدراسات وتفقهها في المذاهب، وهذا ما يفقر تكوينها العقلي ويضعف تفكيرها ويفسد تصوراتها، لذلك يقول الأستاذ إن التنافس يجعل التعليم أقرب تناولاً وأدنى منالاً وأكثر سهولة ولكنه أقل عمقاً وأهمية
ويأخذ بعض علماء النفس على التعليم المختلط، في مرحلة التعليم الثانوي، أنه مباءة للفساد، إذ أنه يثير الغريزة الجنسية، فتعصف بالنفس، وتحرك العواطف فتنفعل الأحاسيس، ويفقر الخصائص فتضعف الشخصية؛ وهذا ما يكون خطراً مباشراً على الأخلاق والآداب؛ وقد تكون الفتاة أقرب إلى هذه المؤثرات من زميلها الفتى وأدنى منه إليها
ويرد البعض الآخر على هذه المآخذ المتنوعة بأن الطبيعة الإنسانية تستدعي هذا الاختلاط، وتتطلب هذه النظام لما لها من الأثر القوي في حياة الناشئة، فتوجه العواطف توجيهاً سليماً، وتوحد العلاقات على أساس الثقة المتبادلة، وتمهد السبيل إلى رفعة الأخلاق وتقرب من الزواج. . .
والفتاة نفسها ترغب في هذا الاختلاط إلى حد بعيد، وتتوق نفسها إليه، وتندفع وراءه، فالفتاة كالفتى، يعتلج في أطواء نفسها الحب العنيف، وتتأجج في صدرها الأهواء، ويتفتح قلبها إلى الصداقة، وما عساها بهذه النوازع؟. . . إن حبها لشديد، وغن عواطفها لعنيفة، وإن خيالها لواسع، وإنها لتفتش عن أميرها المنتظر، عن فتاها، قبلة أنظارها ومحط آمالها ورجاء مستقبلها، والتي تأمل أن تكون له زوجة في المستقبل لتنعم بجانبه وتطيب نفسها به، ولكن أين تبحث عنه، وفي أية بيئة تجده، وفي أي وسط تحظى به؟. . .
إنها قد تجد فتاها الجميل، الذكي الفؤاد، الدمث الأخلاق، الكريم الشمائل، في البيئة التي تختلف إليها، وما هي إلا بيئة المعاهد المختلطة التي تدينها من غايتها وتحقق أحلامها وآمالها(364/35)
والفتى، أليس ينشد مصاحبة الفتاة، ويميل إلى معاشرتها ويتمنى صداقتها، إنه ليتلهف إلى اختيار فتاته، وتصبو نفسه إلى الزواج منها ولا سبيل إليها إلا في تلك البيئة المختلطة أيضاً.
ويقول العالم الكبير (إننا نحصل على أحسن النتائج حينما يجتمع الجنسان في معهد واحد إذ نرى الفتى أكثر إقبالاً على العمل وأحسن خلقاً، ونرى الفتاة تؤدي أعمالها في جو طبيعي وبدوافع أرقى وأفضل)
يؤخذ مما تقدم أن الفصل بين الجنسين ليس في مصلحة النشء ولا المجتمع في شيء بل ربما كان سبباً قوياً في تداعي الروابط الاجتماعية وفي تفسخ العلاقات الأدبية
وكما يؤخذ على التعليم الثانوي يؤخذ أيضاً على التعليم الابتدائي ولكن هذا لا يداني الثانوي في الخطر ولا يجاريه في العيوب، وما ينسب إليه من حسنات ينسب إلى الآخر على السواء
أما في صدد التعليم الجامعي فيقول الدكتور الأستاذ بجامعة بروكسل (إن من الواجب ألا نستنتج استنتاجات هزيلة من الملاحظات التي يبديها البعض ممن يقاومون هذا التعليم، وألا نرد التأثيرات السيئة التي تحدث عنه إلى هذا النظام بعينه. أن الوقائع التي نلمسها يومياً في أجواء المعاهد المختلفة تدفعنا إلى الاعتقاد بفساد هذا النظام، وكثيراً ما تتألم الفتاة من مسالك زملائها الطلاب الظرفاء، ذلك المسلك الذي يسبب لهن كثيراً من الأيام، مما يدفع المرء إلى التفكير في إقصاء الفتيات عن التعليم المختلط. . . ولكن لو أنعم هذا البعض الفكر في أسباب هذه الوقائع، لرد دواعيها ومسبباتها إلى نقص في بعض الأنظمة التعليمية الحديثة، أو بالأحرى إلى تخلف الفتاة عن المعاهد الثانوية المختلطة، بل والابتدائية أيضاً. إذ أن ارتياد الفتاة هذه المعاهد، بل والابتدائية منها أيضاً. إذ أن ارتياد الفتاة هذه المعاهد يمكنها من دخول الجامعة بعد أن تكون ماشت الفتى في دوري الطفولة والمراهقة، وهي أشد ما تكون اطمئناناً على نفسها وأخلاقها وآدابها، فتضطرم نفسها بحياة مليئة بالسعادة والهناء والرفاهية والنعيم) لذلك يطلب الأستاذ الكبير ألا يقبل في الجامعات من الفتيات إلا من أتمن دراستهن الابتدائية والثانوية في المعاهد المختلطة
ويرى الأستاذ من شتى الملاحظات التي جمعها أثناء إدارته دار المعلمين في جمهورية(364/36)
بوليفيا الأمريكية أن الفتيان، في اختلافهم إلى تلك الدار، قد تهذبت نفوسهم وأخلاقهم، وصقلت شجاعتهم ورجولتهم، وسمت أخلاقهم وعواطفهم، وجعلتهم اجتماعيين، فإذا بالفتى منهم أنيس الألفة، كريم الشمائل حر الخلال، رفيع التهذيب، أديب المعاملة، أنيق الملبس؛ وإذا بالفتاة قد انتفى عنها الخوف، وتلاشى الجبن، وزال منها الضعف فأصبحت ناعمة بالاستقلال الذاتي، ومتلذذة بالحياة، واثقة من المستقبل فضلاً عن أن كلا منهما يجد في نفسه مزايا تسهل التعاون بينهما فيما بعد
هذه أوجه الرأي المختلف في هذا الموضوع الجليل، وسمنا خطوطه الكبرى رسماً موجزاً وضحنا حسناته وفضائله، وكشفنا عن سيئاته ونقائصه، نلقي بها لدى أرباب العقول النيرة علهم يوازنون بين الرأيين ويرجعون الكفة التي يكون بها الخير للأمة العربية.
(بيروت)
رفعة الحنبلي(364/37)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
فرنسا تسلم؟!
قابل العالم طلب المارشال بتان رئيس وزراء فرنسا لشروط عقد الهدنة بكثير من الحسرة والألم، فقد عقد العالم أمله على المعارك الدائرة في فرنسا لإقرار السلام، وإزاحة كابوس الدكتاتورية ومخاوفها. وظل الجيش الفرنسي يقاتل بعزيمة التي عرف بها إذا دهم وطنه خطر، ولكن الخسائر التي مني بها، والقوات الألمانية هاجمته كانت كبيرة العدد كثيرة العتاد، تجاوزت في كثرتها جميع القتال
ففي سنة 1914 كان عدد الرجال المقدر فنياً للقتال في الميل الواحد عشرة آلاف جندي. ودرس أحد الاقتصاديين العسكريين في سنة 1938 عدد الرجال اللازمين للاشتراك في المعركة، سواء في حالة الهجوم أو الدفاع، فقدر أن جبهة القتال تشمل ميداناً طوله 1000 كيلو متر (600 ميل). وانتهت أبحاثه المبنية على الحساب والفن العسكري إلى أن عدد الرجال اللازم لهذه الجبهة في حالة الهجوم مدة سنة، هو تسعة ملايين جندي تهبط إلى ستة ملايين في حالة الدفاع، أي أن الميل الواحد يحتاج إلى 15 ألف جندي تهبط إلى عشرة آلاف في حالة الدفاع
استخفاف بالأرواح
ودرس هذا الأخصائي العسكري ما تحتاجه الجبهة من سيارات مدرعة ودبابات فقدر للميل الواحد 200 منها طول السنة. ولكن القيادة الألمانية خالفت فنون القتال المألوفة معتمدة على ضربات خاطفة، تقصد من ورائها أن تنهي الحرب في أشهر قلائل، ويؤازرها في ذلك سياستها التي جرت عليها من الاستخفاف بأرواح رعاياها، ووضعها في المرتبة الأخيرة أمل الحصول على أغراضها
فوضعت في جبهة طولها 150 ميلاً مليوني مقاتل و 4000 دبابة يضاف إليها سيارات النقل والجنود الاحتياط، فخص الميل الواحد 13 ألف مقاتل تقريباً، وإذا قسمنا عدد الدبابات على عدد الأميال يظهر قلة عددها، ولكننا لو ذكرنا أن هذه الدبابات لم تتوزع على(364/38)
طول جبهة القتال، بل قصرت عملها في ميادين خاصة، فكانت الوحدة منها تتكون من 200 دبابة لعرفنا قسوة الهجوم الذي وجه إلى القوات الفرنسية، ولوجدنا أن ما قدر له أن يعمل سنة كاملة وضع في الميدان دفعة واحدة
ومعنى هذا أن الحرب إذا طالت سنة احتاجت ألمانيا إلى مثل هذه القوات ثلاثين أو أربعين ضعفاً، وهذا مالا يتيسر لألمانيا تحقيقه لضعف مواردها
ومن هنا يرى الخبراء العسكريون أن حرب ألمانيا مع إنجلترا ستكون وبالاً على النازية، لأن الحرب ستطول بحكم موقع الجزر البريطانية الجغرافي، وبحكم توفر المواد الأولية في إمبراطوريتها الواسعة.
لماذا استقال رينو
ومن الجدير بنا أن نقف لحظة إزاء ما قبل الظروف التي أعلنت فيها فرنسا طلبها لشروط الهدنة. ففي ساعات قلائل تستقبل وزارة المسيو رينو، وتؤلف وزارة المارشال بتان، وتصبغ بالطابع العسكري، ويشترك فيها جميع قواد القوات الفرنسية من برية وبحرية وجوية. فهل يدل هذا على أن المسيو رينو رفض أن يتولى إصدار قرار طلب شروط الهدنة الخطير؟ وإذا كان هذا صحيحاً فما هي الدوافع لاستقالته ورفضه! هل هي اختلافه في الرأي مع العسكريين؟ أم أنه فضل أن يتلقى الشغب الفرنسي النبأ السيئ من القادة أنفسهم؟
فالشعب الفرنسي معروف بحبه للحرية، معروف بتقاليده الوطنية التي لا تقبل الهزيمة، معروف بتضحياته السامية وبسالته التي لا تقهر، مما يدعو الساسة إلى التردد والامتناع عن إصدار مثل هذه القرارات المؤلمة
ويبدو لنا أن الاختلاف هو في الرأي أيضاً، فقد غضب بعض كبار القواد العسكريين لطلب الهدنة، وطالب الجنرال ديجول الشعب الفرنسي الحر بأن يتصل به في إنجلترا ليواصل القتال، ولينزع عن بلاده ألم الهزيمة، وليخلصها من القيود التي قد يفرضها عليه الأعداء. ورأي هذا القائد له قيمة إذ كان أحد مساعدي المسيو رينو، وكانت له يد في توجيه السياسة العسكرية والاقتصادية
فإذا قبلت فرنسا شروط ألمانيا فلن يعني أن رجال فرنسا ستغادر الميدان، بل أنهم(364/39)
سيواصلون الكفاح. وسيلحق بهم في هجرتهم عد كبير من الفرنسيين الذين لن يطيقوا أن يعيشوا تحت شروط الألمان والذين لن يطيقوا أن يتركوا بلادهم وسيادتها تحت رحمة النازيين. فقد ظلت فرنسا عدة قرون وهي دولة من المرتبة الأولى، ولها صوتها المسموع، ولها إرادتها المحترمة، فهل يقبل شعبها أن يصبح من المرتبة الثالثة، بينما حليفتهم تقاتل في الميدان؟ إن العصبة الفرنسية تقول محال، أو كما قال الجنرال ديجول (إن شعلة المقاومة الفرنسية لن تنطفئ. لن تنطفئ)
مناورة بارعة
ولقد كان اقتراح بريطانيا اتحاد الجمهورية الفرنسية بالإمبراطورية البريطانية مناورة سياسية وعسكرية بارعة، فهي تعطي لفرنسا مضماراً جديداً لاستئناف نشاطها، وتدل على حسن النية والتضامن في السراء والضراء مما يجلب عطف العالم على قضية الحلفاء، ويدل دلالة مادية أن الطمع ليس العامل الحقيقي في هذا القتال، بل هو سعادة العالم. وإلا فما الذي يدفع بريطانيا بإمبراطوريتها العظيمة، لأن تقدم مواردها لإصلاح أضرار فرنسا ولأن تشاركها في مصابها الحالي؟
ولو تم هذا الاتحاد، لكان له أثر عظيم في سياسة العالم المقبلة، ولكان فتحاً جديداً لتكوين اتحاد أوربي عام، يعمل على إقرار السلام، فتزول الأحقاد، وتحد المطامع، ويشعر العالم برباط المصلحة المتبادلة
هتلر بين نارين
وكان هذا التصريح بارعاً كما قلنا وضع ألمانيا بين نارين، فإذا هي غالت في طلبتها من فرنسا فضت فرنسا للصلح واتحدت مع إنجلترا واستمر القتال إن لم يكن في فرنسا ففي المستعمرات، ولمستعمرات فرنسا شأن كبير في معركة البحر الأبيض، ففي تونس والجزائر ومراكش موان وقوات فرنسية لها قيمتها في الجزء الغربي للبحر
ومن الناحية الثانية يفيد عدم غلو ألمانيا في طلباتها، فإذا احتفظت فرنسا بقواتها البحرية والجوية، ولم تضم إلى الدكتاتورية ولزمت الحياد تضمن إنجلترا سيادتها البحرية على القوات الإيطالية، كما تضمن أن تظل القواعد الفرنسية في غرب البحر الأبيض في أيد(364/40)
محايدة تعطف على قضية بريطانيا
ويصعب علينا الآن أن نقدر أثر هذا التصريح، ولكنه يدل على شعور الديمقراطيات بعطف متبادل، ومشاركة في الآلام، أو كما يقول المثل العربي (عند الشدائد تعرف الإخوان) وهل بعد محنة فرنسا الحالية شدة؟
إذا قبلت الشروط
وإذا انسحبت القوات الفرنسية من الميدان، فإن ميدان الحرب يتحول من البر إلى البحر والجو، وهما الميدانان اللذان يمكن أن تشتبك فيهما القوات الديمقراطية مع القوات الدكتاتورية، اللهم إلا إذا حولت ألمانيا قواتها لغزو البلقان، فعندئذ يتغير الموقف تغيراً بسيطاً، ولكن النصر النهائي يتقرر في هذين الميدانين، ولإنجلترا فيهما التفوق العسكري
فشل الحرب الخاطفة
ويتغير موقف ألمانيا قبل إنجلترا فتضطر إلى الانتظار مدة يتاح فيها لأميركا تقديم معاونة جديدة، وإعداد مصانعها الإعداد المنشود، فلا مفر إذن من فشل خطط ألمانيا في الحرب الخاطفة، ولا سيما أن قوات إنجلترا ما زالت سليمة، ففي الجزر البريطانية وحدها مليونا جندي بعضهم جنود نظامية، وبعضهم للدفاع المدني
فإذا عمدت ألمانيا إلى مهاجمتها عن طريق الجو، فإن القوات الجوية ليست عاملاً فعالاً في الاستيلاء على البلدان، بل يجب الاستناد إلى قوات برية، وهنا تبرز معضلة ألمانيا الكبرى. فكيف تنقل قوات تقاتل هذه قوات إنجلترا الكبيرة؟
كيف تغزوا إنجلترا؟؟
أمامها في هذه الحال طريقان: وهما البحر والجو، فإذا سلكت طريق البحر احتاجت إلى أسطول ضخم لحماية السفن من الأسطول البريطاني، وهي لا تملك من السفن الآن ما يضمن لها تحقيق هذه الغاية، فإذا لجأت لحمايتها بالأسطول الجوي، فإن الطائرات البريطانية تنازعها السيطرة على بحرها، ولا سيما لقرب قواعدها وتفوق طائرات القتال البريطانية
فإذا قلنا يمكنها أن تفعل ما فعله الحلفاء في دنكرك عندما أنزلوا قواتهم من منطقة الفلاندر،(364/41)
فإن الموقف متغير لعدة عوامل:
1 - تفوق أسطول إنجلترا البحري
2 - تفوق أسطول إنجلترا الجوي وخصوصاً طائرات القتال
3 - المدافع الساحلية، وهي من القوة بحيث تكفي لصد أساطيل حربية
4 - حقول الألغام المبثوثة حول الشواطئ البريطانية، وهي تحتاج إلى قوات كبيرة لانتشالها
5 - وجود قوات كبيرة في بريطانيا
فهذه العوامل متجمعة تجعل من المستحيل على ألمانيا إنزال قواتها في إنجلترا عن طريق البحر، فضلاً عن أن قوات الحلفاء التي نقلت من دنكرك لم تحمل معها أسلحة تذكر، ومن البديهي أن نقل الرجال أسهل بكثير من نقل الأسلحة
غزو إنجلترا جواً
وناقش أحد رجال إنجلترا العسكريين احتمال غزوا إنجلترا عن طريق الجو على هدى الخطط العسكرية الألمانية، فقال إن ألمانيا تحتاج في هذه الحالة إلى ألف طائرة تسع كل منها أربعين جندياً بمعداتهم من الأسلحة الخفيفة، فتحمل هذه الطائرات حمولتها من الرجال من قواعد قريبة من إنجلترا كميناء كاليه مثلاً، فتهبط الدفعة الأولى بالمضلات الواقعة وتحتل بعض المواقع وخصوصاً المطارات، وتحتفظ بها فترة من الزمن حتى يتاح للطائرات أن تعود بأربعين ألف جندي آخر
وعمل الدفعة الأولى أن تحتفظ بمواقعها إلى أن تأتيها الدفعة الثانية فالثالثة فالرابعة، إلى أن تستقر القوات في مكان يتيسر للطائرات الألمانية الهبوط فيه. ومن ثم يبدأ الغزو الحقيقي للجزر البريطانية
وإذا قلنا إن هذا المشروع مشروع إنجليزي، أدركنا أن الإنجليز أعدو له العدة اللازمة من جنود إقليميين ونظاميين، وأن الألمانيين لن يجدوا الجزر البريطانية لقمة سهلة الهضم، وفضلاً عن هذا فإن الطائرات لا تستطيع حمل الأسلحة الثقيلة من دبابات ومدافع ميدان لتجابه بها المعدات الإنجليزية
بريطانيا وألمانيا(364/42)
أما كيف تقضي بريطانيا على قوات ألمانيا، فلها في ذلك وسيلتان:
1 - الحصر البحري
2 - استغلال فرص القتال
فأما الحصر البحري فأمره معروف، وهو يقضي بمنع المواد عن ألمانيا إلى أن تنهار حياتها الاقتصادية وبالتالي قواتها العسكرية
وأما استغلال فرص القتال فهذا موضوع يعود بنا إلى أيام نابليون، فقد ظلت العداوة قائمة بين فرنسا وإنجلترا من سنة 1803 إلى سنة 1814 استولى أثناءها نابليون على أوربا كلها تقريباً، وكانت انتصاراته المتتابعة تملأ آذان العالم. وكانت إنجلترا تستغل تمرد الدولة المختلفة
فقد فرض نابليون سيطرة أسرته على جميع الممالك من أسبانيا إلى قلب أوربا، وعين اخوته ملوكاً على إيطاليا وأسبانيا، وحالف تركيا والروسيا في أدوار مختلفة، ولكن الدول الأوربية ما لبثت أن تمردت عليه وهاجمته قواتها من جميع الجهات حتى استولت على باريس. وكانت إنجلترا في هذه الأثناء لا تترك له فرصة يستقر فيها، فهاجمته في تركيا، وأسبانيا، وفي البرتغال، وفي بلجيكا إلى أن استنفذت جميع موارده وهزم الهزيمة النهائية في واترلو
ولا يختلف موقف هتلر عن موقف نابليون، فهو يحتل بلاداً نعم أهلها برحيق الحرية، وتأصلت في نفوسهم روح الوطنية، فإذا كبتوا شعورهم تحت ضغط الحديد والنار لحظة، فلن يلبثوا أن يتمردوا لحظات، فتذكر إنجلترا شعورهم وتأخذ بيدهم، وتمهد السبيل للقضاء على الطاغية.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(364/43)
رسالة الشعر
صاحب البعثة الكبرى
(إلى القطيع المشرد التائه، المتمدن الوحشي، السابح في
الدماء. . .)
للأستاذ محمد بهجة الأثري
خَلَتِ الدُّهورُ وأنت أنت الأوحدُ ... ذِكرى مُقَدَّسَةٌ ومجدٌ سَرْمَدُ!
تتضاَءلُ العُظَماءُ عندَك والكُنَى ... وتَحُطُّ شاهقةٌ ويصغُرُ سُؤْدَدُ
كالطَّوْدِ تضربُ في السماءِ شِعافُه ... وعلى قواعِدِهِ المنازلُ ترقُدُ!
قدُسُ النُّبُوَّةِ من يُطاوِلُ سَمْكَهُ ... أو مَنْ يَرُومُ سماَءهُ أو يصعَدُ؟
هي مَظْهَرٌ لله جَلَّ جلالُهُ ... لم يُعْطَها غاوٍ ولا مُتَمَرِّدُ
قد كنتَ صَفَوْةَ خَلَقْهِ فحباكَها ... شَرَفاً. فأنت المُصْطفَى المتفرَّدُ
وَقَفَ الفلاسِفةُ الكبارُ تَخَشُّعاً ... مِنْ دُونِ بابِكَ ظامئينَ لِيَجْتَدُوا
رادُوا الينابيعَ التي فَجَّرْتَهَا ... ماءً وَظِلاً بارداً واسْتَوْرَدُوا
ما كلُّ ماءٍ كالفُرَاتِ مَذَاقُهُ ... كلاً، ولا كلُّ المراعي يُحْمَدُ
كَمْ مِنْ زَعَامَةِ سَيَّدٍ مَحَّصْتُها ... فأني عليها النَّقْدُ لا تَتَجَلُّدُ
يَبْنوُن مَجْدَهُمُ على قَهْرِ الوَرَى ... والَمجْدُ يَبْرَأُ منهُمُ والسُّؤْدَدُ!
ألفَتْحُ عندَهُمُ هَوَي وتَعَسُّفٌ ... ومَمالِكٌ تَهَوِي وأُخرى تخمُدُ
أُسَراءُ أَهْواءِ النُّفُوسِ فَحَمْدُهُمْ ... يومٌ، وأما ذَمُّهُمْ فَمُؤَبَّدُ
لم يَظْهَرُوا إلا لِيَخْفَوْا مِثْلماَ ... تَبْدُو فقاقيعُ السُّيُولِ وتَهْمُدُ
وظَهَرْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ إلا أنها ... تَخْفَى ونورُكَ في الَخْليقةِ سَرْمَدُ!
وبَنيْتَ بالحقَّ المبينِ فلا هَوىً ... يَطْغَى عليكَ ولا منُيً تَتَرَصَّدُ
ألفَتْحُ عِنْدَكَ شِرْعَةٌ وعقيدةٌ ... وأُخُوَّةٌ وتَراحُمٌ وتَوَدُّدُ
دُسْتُوُرُكَ الفُرْقانُ: أَمَّا وَعْظُةُ ... فَهُدَىً، وأَمَّا حُكْمُهُ فَمُسَدَّدُ
عالٍ على الأهْواءِ لا مُتمَلَّقٌ ... أَحَداً ولا مُتَعَسِّفٌ يَتَمَرَّدُ!(364/44)
كالسَّرْحَةِ الغَيْنَاءِ غُصْنٌ مُثْمِرٌ ... وَخَميلَةٌ تَنْدَى وظِلٌّ أَبْرَدُ!
تأْسُو جِراحَ الَخْلْقِ بالْخُلْقِ الذي ... تَروَى الُقلُوبُ به وتَشْفَى الأكْبُدُ
ولَكَ السَّماحَةُ والسَّجاحَةُ والنَّدَى ... وهُدَى النُّبُوَّةِ والفَعالُ الأرْشَدُ
نَسَقُ مِنَ الُخْلُقِ الْعَظِيمِ كأَنَّهُ ... فَلَقُ الصَّبَاحِ وَحُسْنُهُ الْمُتَوَقَّدُ
تدعو إلى أدَبِ الحياةِ وَعِلْمِها ... وَتُنِيرُ دُونَهُمَا السَّبيلَ وَتُرْشِدُ
تَسَعُ الأَناَمَ جَمِيعَهُمْ لَكَ مِلَّةٌ ... غَرّاءُ تَهْدِي العالَميِنَ وَتُسْعِدُ
أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيّةٌ لاَ سِرُّها ... يَخْبُو وَلاَ إشْعَاعُهَا يَتَرَبَّدُ!
يَزْكُو عليها الرُّوحُ فَهْوَ مُنَزَّهُ ... عَمَّا يَشِينُ وَجَوْهَرٌ يَتَوَقّدُ
الوَحْيُ أُسُّ بنائِها العالي الذُّرَا ... وَالْحَقُّ حَائِطُ رُكنِها وَالْمَحْتِدُ
وَالفَتْحُ وَالعُمْرَانُ من آرَابِها ... وَالعَدْلُ والعَيْشُ الرَّخِيُّ الأّرْغَدُ
دُنْيَا أَقَمْتَ عَلَىِ الَعقِيدةِ رُكنَها ... ومن العقائدِ مَا يَشِيدُ وَيُخْلِدُ
هِيَ هَيْكَلٌ فَانٍ، فإنْ حَلَّتْ بِهِ ... رَفَّتْ بها الْحَوْبَاءُ وَهْيَ تَرَأَّدُ
يُنْبُوعُها التوحيدُ: مَشْرَعُ مَائهِ ... لِلْوَارِدِينَ، وَنَبْعُهُ لاَ يَنْفَدُ
جَمُّ الأَيادِي فالأَنَامُ بخَيْرِهِ ... وَبخِصْبِهِ مُتَقَلَّبُونَ وَهُمْ يَدُ
ما الناسُ - لولا البَغْيُ - إلاّ أُمَّةٌ ... وَالدَّينُ - لولا الجهلُ - إلاّ أَوْحَدُ
ما أحْسَنَ َالتَّوْحِيدَ يَجْمَعُ شَمْلَهُمْ ... فَيَعُوَدَ وَهْوَ مُنَظُّمٌ وَمُوَحَّدُ!
بِسَناَهُ أخْرَجْتَ الشُّعُوبَ من العَمَى ... وَهَدَيْتَها لِلنْهْجِ وَهْوَ مُعَبَّدُ
فَاسْتُؤصِلتْ فَوْضَى وقامت دولةٌ ... وخَبَتْ هَيَاكِل وَاسْتَنَارَ الَمسْجِدُ
وَمَشَتْ عَلَىَ يَبَسِ الصَّعِيدِ حِضَارةٌ ... بالْيُمنِ تُشْرِقُ وَالْهَنَاءةِ تَرْغُدُ
إنَّ الجَمالَ خَفِيَّهُ وَجَلِيَّهُ ... إِكسِيرُها وَشُعَاعُها الْمُتَجَسِّدُ!
بُعْداً لِمَفْتُوِنيِنَ لم يُعْرَفْ لَهُمْ ... رَأْىٌ يُجَلُّ وَلاَ مَقَالٌ يُحْمَدُ
نَفَوُا الرِّسالةَ وأرْتأَوْها دَعْوَةً ... زَمَنِيَّةً أَفَلَتْ وَلَيْسَ لها غَدُ
خُصَّتْ بجيلٍ قد مَضَى، وبِحِقْبةٍ ... طُوِيَتْ، وَأَمْرٍ رَثَّ لاَ يتأَبّدُ
خَسِئوا. فما عَرَفَ الحقائقَ ماجِنٌ ... خَلَعَ الِعذَارَ، ولا غَبِىُّ مُلْحِدُ
البِعْثَةُ الكُبرَى حياةٌ لِلْوَرَي ... أَبَدَ الزمانِ وَنِعْمَةٌ تَتَجَدّدُ(364/45)
عَمَّتْ وَلكن قد خُصِصْتَ بفَضْلهِا ... يا آخِراً هُوَ أوَّلٌ مُتَفَرَّدُ!
إنّ الأُلَى زَعَمُوكَ سَيِّدَ قومِهِ ... كَذَبُوا. فإنّكَ لِلْبَريَّةِ سَيِّدُ!
شَمْسٌ، وَهل تختصُّ ناحيةٌ بها ... وَشُعاعُها في كل أُفْقٍ عَسْجَدُ؟!
الْمُرْسَلُون، وأنتَ دِرَّةُ عِقْدِهِمْ ... خُتِمُوا بِسِرِّكَ في الزمانِ وَمُجِّدُوا
أَيّدْتَ دَعْوَتَهُمْ وَصُنْتَ جَلاَلَهُمْ ... فأرَيْتَنَا كيْفَ الإخَاء يُوَطَّدُ!
يا رائِدَ الإصلاح يَلتْمَسِ الْهُدَى ... هذىِ مَنَابِعُهُ، وَهذا الموْرِدُ!
ومن العجائبِ مَعْشَرٌ أَنْجَبْتَهُمْ ... نَبَغُوا بِدِيِنك في العُلَى وَاسْتَمْجَدُوا
من بَعْدِ رَعْيِ الشاءِ قد رَعَوُا الْمَلاَ ... فَانْصَاعَ جَبّارٌ، وَدَانَ مُسَوَّدُ!
أطلَعْتَهُمْ غُرَرَاً بآفاقِ العُلى ... يَمْشِي بنُورِهِمِ الزمانُ وَيسُئِدُ
تَتَخَايَلُ الدُّنيا بِعزَِّةِ مُلكِهِمْ ... وَتكادُ مِنْ فَرَحٍ بهم تَتَمَيَّدُ!
مِنْ مُعْجِزَاتِ الدِّينِ في أخلاقِهِمْ ... خُصُّوا بصُنْع المعجزاتِ وَأُفْرِدُوا
من كلِّ وَضّاحِ الْجَبِينِ كأنه ... يَنْشَقُّ في الظَّلْماءِ عنه الفَرْقَدُ
جَمُّ الجلالِ تَكادُ تَسْتَذْرِي به ... شُمُّ الجبَالِ وَيَتَّقِيهِ الْمُزْبِدُ
يمَشِي بهم للفَتْح يَحْدُو شوقَهُمْ ... دِينٌ يَثوُبُ لآِيِةِ الْمُتَشَدِّدُ
أَذْكيَ عَزَائَمَهُمْ وَأَدْرَي زَنْدهمُ ... فَاسْتَفْتَحُوا سُرَرَ البِلاَدِ وأَبْعَدُوا
نَظَمُوا الممالِكَ بيْنَ قُطْبَيْها، ولو ... وَجَدُوا وَرَاَء البحر أرضاً أوْرَدُوا
في حِقْبَةٍ قَصُرَتْ كأنّ زَمَانَها ... يومُ الوصالِ وَحُسْنُهُ الْمُتَوَرِّدُ!
حَفَلَتْ بآياتِ الجلالِ زواهراً ... يَفْتَنُّ فيها الناظِرُ الْمُتَصَعِّدُ
تلْكَ الحضارَةُ لا مظاهِر زُخْرُفٍ ... تُغْرِي وَباطِنها العذابُ الأَسْوَدُ!
ناَرٌ ولا نورٌ، وَطُغْيَانٌ وَلاَ ... زَجْرٌ، وَأَهْواءٌ وَلاَ مُسْتَرْشَدُ!
يا رَبَّ! أَهْلُ الغَرْبِ جُنَّ جُنُونُهُمْ ... وطَغَى القوِيُّ على الضعيفِ يُعَرْبِدُ
الأرْضُ نَارٌ، والسَّماءُ جَهَنَّمٌ ... والبَحْرُ بُرْ كانٌ يَثُورُ ويُزْبِدُ
لم يَبْقَ شِبْرٌ لم يُصَبْ بَمَجَازِرٍ ... أوْ لا يُراعُ بِمِثْلهِاَ وَيُهَدَّدُ
عزَّ السَّلامُ وأنذرتْ غاراتُهُمْ ... أَنّ الْقِيامَةَ حانَ منها مَوْعِدُ!
يا رَبِّ! والقَوْمُ الْهُداةُ تَعَسَّفُوا ... سُبُلَ العَمايةِ خَلْفَهُمْ وتَوَرَّدُوا(364/46)
هَجَرُوا سَبِيلَكَ ظالمينَ نُفُوسَهُمْ ... فتفكّكَتْ أوصاُلُهم فاسْتعُبِدُوا
سَلَبَ الطّغَامُ دِيارَهمْ وتأسَّدُوا ... وبَغَي اللِّئاَمُ جَلاَء هُمْ وتَوَعَّدُوا
وُهمُ شَتاتٌ: دِيِنُهُمْ مُتَفَرِّقٌ ... سُبُلاً ودُنْياُهمْ شَقَاءٌ أنكَدُ
شِيَعٌ تَطاَعَنُ بينها ومذاهِبٌ ... شَتَّى وأحوالٌ تُقِيمُ وتُقْعِدُ
قومٌ وراَء الغَرْبِ في آثامِهِ ... رَكَضُوا خُيُولَ الموبِقاَتِ وأَطْرَدُوا
وَمُصَرَّعُونَ من الضّلاَلِ كأنما ... أوهامُهُمْ سُمُّ يَدِبُّ ومُرْقِدُ
هِيَ أَزْمَةٌ يا رَبِّ لُطْفُكَ وَحْدَهُ ... يُرْجى لها فَلَعَلَّ لُطْفَكَ يُنْجِدُ
النُّورُ أُطفِئَّ والزعامَةُ أَخْفَقَتْ ... والبَغْيُ طَبَّقَ وَالقَطيعُ مُشَرَّدُ
يا رَبِّ! فَلْيَطْلُعْ (كتابُكَ) بالهدَى ... يا رَبِّ! وَلْيَقمِ النبيُّ (مُحَمّدُ)
(بغداد)
محمد بهجة الأثري(364/47)
رسالة الفن
تأملات:
اللهم احفظنا!
للأستاذ عزيز فهمي
- عينا من هاتان القاسيتان اللتان أخفيت وجههما لتنظر فيهما؟. . . أرني هذه الصورة. . . بيلا لوجوزي؟! دراكولا؟! لم أكن أحسب أن هناك من يجد المتعة في النظر إلى عيني دراكولا. . . مصاص الدماء
- لك الحق! فمن كان مثلك، فإنه لا يستطيع أن يفتح عينيه في عيني دراكولا
- مخيفتان!!
- من غير شك، ولكن لماذا هما مخيفتان وهما، مهما كانتا. . . عينان. . .
- لا أدري، ولكنه يخيل إلي أنني لو قابلت دراكولا، والتقت عيناه بعيني لما استطعت إلا أن أمد له عنقي ليمتص من دمي ما يشاء. . .
- فإذا قابلت لاندرو؟!
- ومن لاندرو؟
- سفاح فرنسي كان يصيد الفتيات والنساء الصغيرات بنظراته، حتى إذا تملكهن انفرد بهن وقتلهن واستولى على حليهن ودفنهن
- يا حفيظ! وكيف كان يصيدهن بعينيه هذا الرجل البغيض المجرم؟. . ماذا كان يجذبهن إليه؟
- شيء مثل الذي في عيني دراكولا، وقد قلت: إنك لو رأيت عيني دراكولا ورأى عينيك لما استطعت إلا أن تسلمي له جيدك هذا المرمر، ليمتص ما شاء من دمك. . .
- وما الذي في عيني دراكولا؟! أرني الصورة. . . أرني. . . قسوة!. . .
- وهل تغري القسوة بالإقبال عليها وبذل الدماء لها؟
- إذن فما الذي في هاتين العينين؟ إنه على أي حال شيء كريه، ومع ثقله على النفس له سيطرة وسيادة وأمر لا مر من طاعته. . .(364/48)
- فبأي الأسماء تسمين هذا؟
- إنهما عينان تطعنان نفس الذي تنظران إليه. . .
- ولكن المطعون لا يزحف إلى طاعنة. . .
- لولا أنهما تؤذيان لقلت إنهما جذابتان
- ولماذا تخلقين التناقض بين الجذب والأذى؟. . . أما يجذب العنكبوت الذبابة وفي انجذابها إليه هلاكها؟ أما يجذب الفسفور الأوكسجين، وفي انجذابه إليه احتراقه؟ إن عيني دراكولا جذابتان ومؤذيتان. . . ولم لا؟!
- إنهما حقاً عجيبتان. . . قل لي ما هما؟
- هاهما تان أمامك. . . انظري إليهما تعرفيهما. . . بل إنك تعرفينهما وتخافينها كما قلت، فماذا تريدين مني أن أقول لك عنهما. . . إني أستحي. . .
- أنت تستحي؟! صحيح مؤدب جداً، تقي جداً، نقي ورع. . .
- انظري إلى عيني. . . عيني أنا؟. . .
- هاأنا ذي نظرت. . . هيه. . . (أخص) عليك! تلعب لي حاجبيك؟!. . . أما إنك مسخرة!
- أأنا المسخرة أم المسخرة أنت؟ أنا نظرت إليك ورقص حاجباي فوق عيني أثناء ما كنت أنظر إليك، فلماذا ضحكت، ولماذا قلت ما قلت؟ الآن حاجبي رقصا؟ هبيه زر كربوشي أرقصته نسمة وأنا أحدثك؟ أفكنت تضحكين؟ أو هبيني نظرت إليك وعبثت بأصابعي و (طقطقتها). . . أفكان هذا يضحك؟
- ولكن تلعيب الحواجب له معنى. . .
- وأين رأيت هذا المعنى؟ في قاموس؟ أم في جامعة أستاذها كشكش؟
- ليس حتما أن تكون كل المعاني التي يدركها الناس مسجلة في كتب وقواميس أو ما يلقي عنه الأستاذ دروساً ومحاضرات في الجامعات. . . بل إن هذا المسجل في الكتب والقواميس، وهذا الذي يلقي في الجامعات والمدارس لهو الأقل من العلم، والبعد عن حاجة الحياة. . .
- أنا معك في هذا. . . والآن قولي لي. . . لماذا أنت إذا نظرت إلى عيني دراكولا خفت(364/49)
منهما ومع هذا الخوف انجذبت إليهما. . . ولماذا أنت إذا نظرت إلى عيني أنا ضحكت ومع هذا الضحك انجذبت عنهما. . . تفرين مما يضحكك وتندفعين إلى ما يخيفك! لماذا؟
- أنا التي أريد أن أعرف السبب، بل إني قبل أن أعرف السبب أريد أن أعرف ما هذا الذي في العيون ينتقل منها إلى العيون الأخر فينقل معه أشياء من النفوس إلى النفوس الأخر. . .
- أما هذه فإشعاعات. . . هي انعكاسات نورانية أو نيرانية تنبعث من نفس إلى نفس عن طريق منافذ النفس والعيون من هذه المنافذ. . .
- وهل غير العيون للنفس منافذ؟
- الفم وإن كان لا ينشط في هذا كثيراً إلا عند النساء والمغنين، واليدان، والجلد. . . وغير ذلك. . وغير ذلك. . .
- دعنا من ذلك فإني أريد أن نبقى الآن في حديث العيون
- قبل أن ادعنا من هذا أقول لك للمرة الألف امسحي هذا الأحمر من فوق شفتيك فإن المعبر فيك عن نفسك يا هذه هو فمك. . . هو الجذاب فيك
- ولا شيء غير فمي؟
- الآن حلا لك أن نترك حديث العيون لنتحدث عن ذاتك الكريمة؟. . . دعينا من هذا وعودي بنا إلى العيون وقولي لي بأي شيء تفسرين ما يفعله النساء في مصر من تبخير اللواتي تصيبهن الأعين منهن؟. . .
- هذه خرافة من خرافات الجاهلات العجائز ليس لها شأن بما نحن فيه
- بل هي علاج مما تعلمه هؤلاء الخبيرات العجائز وهي ليست شيئاً غي ما نحن فيه. . .
ألا تعرفين متى يقولون إن فلانة أصابتها عين؟
- عندما يعتقدون أن حاسدة حسدتها. والذي أعرفه أنا عن الحسد هو أن يتمنى إنسان زوال النعمة عن إنسان آخر، ولكن لست أدري كيف يتصورون أن أمنية خاطئة شريرة كهذه إذا ثارت في نفس إنسان حاسد كان لثورتها هذه أثر حق في المحسود. ولأني أعجز عن تصور هذا أقول إن حديث والحسد والعين خرافة وإن المشتغلات به من الكوديات، والمشتغلين به من مشايخ الزار دجالون بضاعتهم وتجاربهم التي يرونها بين الناس أوهام(364/50)
وأباطيل.
- إنك مخطئة، فالحسد والعين ليسا خرافة، مشايخ الزار و (الكوديات) ليسوا جميعاً دجالين، فمنهم الدجالون حقاً، ولكن منهم أيضاً علماء النفس المتمكنين منه علماً وعملاً وكهانة وسحراً. . . تصوري (بهلواناً). . .
- ماذا؟
- البهلوان الذي يمشي على الحبل ويقفز في الجو من عقدة إلى عقدة، ومن حلقة إلى حلقة. . . ألا تعرفين؟. . . هذا (البهلوان) يقوم بألعابه هذه كل ليلة، وهو لأنه مدرب عليها وحاذقها يوفق فيها دائماً كما يوفق دائماً كل عامل مدرب وكل لاعب مدرب. وإذا نظرت إلى هذا (البهلوان)، وهو يقوم بألعابه هذه ترين أنه يأبى أن يسلم عينيه لنظرات الناس، فهو دائماً متجه بنظره إلى لا شيء، أو إلى عينين يحبهما ويطمئن إلى إيمانهما به؛ أما غير ذلك، فهو يخشى لو أنه تلقي نظرات الناس أن يتلقى فيها نظرات شكاكة ينبعث منها الحذر عليه من الفشل في لعبه، والفشل في لعبه معناه الموت. والذي يخشاه من هذه النظرات الشكاكة، هو أن ينتقل شكهما فيه إلى نفسه، فيشك في نفسه، فيتردد في حركاته، فيختل توازنه في قفزة، أو في همة أو في هبطة، فيضيع، وكما يخشى هذه النظرات الشكاكة يخشى أيضاً النظرات الحاسدة التي ينعكس منها بصراحة تمني زوال هذه البراعة عنه، وهذا شيء يبعث في نفسه قوة تتجه إلى إقناع عقله بأن هذه البراعة لن تزول عنه، هذا إذا كان قوياً، أما إذا كان في نفسه شيء من الضعف، فإنه قد يسائل نفسه: أليس ممكناً أن تزول هذه القوة عني. . .وماذا أصنع إن هي زالت؟!. . . ثم من يدربني إذا كانت قد زالت فعلاً، أو أنها لا تزال باقية؟. . . وهذه الاضطراب وهذا الانشغال يستنفدان كثيراً من قوة (البهلوان) ومن جهده بعد أن كان يتجه بقوته كلها وبجهده كله إلى إتقان ألعابه. . . فلا عجب بعد ذلك إذا هو فشل وهو غارق في هذه الزلزلة، فإذا فشل قالوا أصابته العين والعين أصابته فعلاً، وهم يعالجونه بالتبخير والترنح والفوضي الحركية التي يمارسونها في الزار لأنه بهذا يخدر أعصابه ويكف إرادته عن السيطرة على تفكيره، فيوحون إليه وهو في هذه الحال بأنه مصون، وبأن الله حافظه، وبأن الصلاة على النبي واقيته، وبأنه عن أي سبيل من سبل الاطمئنان قوي قادر بارع له أن يثق بنفسه وألا يعود مطلقاً إلى الشك فيها،(364/51)
وألا يعود مطلقاً إلى الخضوع لنظرة شكاكة أو نظرة حاسدة. . . وكما تصيب العين الإنسان الفرد فإنها أيضاً تصيب الإنسانيين، فهما إذا تحابا وتبادلا الإخلاص والتقيا وهما في حالة من حالات الغموض المريح الذي يسعدان به ورأيا عيناً تنظر إليهما نظرة مستفسرة عن هذا الغموض مصرة مصممة على ألا تفرض فيه خيراً ثار في نفس كل منهما الشك في صاحبه والشك كسر يصيب ما بين المخلصين من ود، وجبره صعب. . . والأصل نظرة تنطبع في عقل المصاب فليزمه الضعف والفشل
- هذا كلام طيب، ولكنه لا يزال بعيداً عن نظرة دراكولا، ونظرة لاندرو، ونظرتك أنت المضحكة السخيفة. . .
- بعد كل هذا اللت والعجن لا أزال بعيداً. . . إن نظراتنا جميعاً: أنا ودراكولا ولاندرو تسأل وتجيب عما تسأل عنه وتطلب وتأخذ الذي تطلبه في أن واحد. . . وكل ما بينها من فرق يعود إلى اختلاف الموضوعات التي تهتم بها. . . فدراكولا ينظر إلى فريسته وهو يقول أنا قوي، وإلى جانب قوله هذا يسأل: وأنت؟ وإلى جانب سؤاله هذا يجيب: ضعيفة. وإلى جانب إجابته هذه يطلب: هات دمك لي فحياتي اثمن من حياتك وأبقى وأشد امتلاء، واظهر وأنفع، وهو إلى جانب ما يطلب هذا يأخذ. . . وهو يأخذ لأن فريسته لا تستطيع أن تكذبه. . . كنظرة القط إلى الفأر؛ فالقط يقول بنظرته للفأر أنا أقوى منك وحياتي أظهر من حياتك وأنت غذائي فتعال إلى لآكلك فأنا جائع، فيقف الفأر، أو لعله يدنو إلى القط بنفسه. . . كلمعة النار أمام الفراشة تقول لها أنا وضاءت لماعة حية ظاهرة متألقة فماذا أنت؟ تعالي إلي واحترقي في لتلمعي لمعة، ولتومضي ومضة ولتكوني لي طعاماً. . . فتأتيها الفراشة مقتنعة. . . هي سيادة وهبتها الطبيعة لمخلوقات تفرضها على مخلوقات ترضى بها. . .
- ولاندرو؟
- لاندور يهتك فريسته بعينه؟ يقول لها: أنا ميال، وأنت ميالة، فتعالي نتعاطف ما نميل إليه. . . لا تكذبي ولا تعرضي فأنت تريدين مثل الذي أريد. . . تعالي. . .
- يا مغيث! وأنت تستعين بتلعيب حاجبيك لعجزك فتضحكين
- ليس هذا لعجزي، وإنما لأفهمك أنه عندي نوع من العبث، لا أجد الجد كله فيه. . .(364/52)
- من خيبتك. . .
- هذه الخيبة أدعوها أنا تسامياً. . . وثقي يا حضرة الدرة المصونة، والجوهرة المكنونة، أنني لو لم أر في هذه الخيبة حسناً وإحساناً، وأني لو عمدت إلى الإصابة بعيني وفمي
- ويديك وجلدك وغير ذلك وغير ذلك. . .
- نعم. . . لكنت وحشاً لا أحب أن أكونه. . .
- اللهم احفظنا. . الآن في عينيك بريق كالذي في عيني دراكولا. . .
- والآن في جيدك حنين يسبح تحت جلده. . . تعالي. . . ولا تقامي لئلا تجمد عيناك ويغلظ جلدك
- يا أمّه!. . .
عزيز أحمد فهمي(364/53)
من هنا ومن هناك
محاكمة بدوية أمام الأمير نوري الشعلان
- السلام على الأمير
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
- أنحن بحضرة النوري بن شعلان؟
- إي بِلله، وأنتم من؟
- نحن من جبل الدروز ووجهتنا الحجاز
- الله محييكم، أنتم ولد عمنا، كيف حال الأطرش (يريد أبا علي مصطفى الأطرش)
- هو بخير، وهذا تحرير منه لكم
- تحرير؟ إيه أبو والله إنك لحافظ العهود وإيش تبغون بالحجاز؟
- نؤدي الفريضة
- الله محييكم، يا نواف، يا ولدي أكرم الضيوف، وتعيدون عندنا إن شاء الله
- العفو يا زين، وقتنا قصير، ويلزم أن نعود بسرعة للشام
- لا لا، تعيدون رمضان عندنا، ومن يوم للثاني قريب، غداً عندنا قضوة (محاكمة) تجي البدو من كل ناح، وبعد غد العيد، وعيدكم مبارك عليكم
- علينا وعليك يالأمير
المحاكمة
المدعي - صبحكم الله بالخير، اليوم يوم الله، اليوم يوم الحق، اليوم يوم اليمين، ابشر يا مذبوح، أحلف يا ذابح، اليوم يوم الله السلام على الأمير، السلام على ابن شعلان، السلام على قاضي العرب
الأمير - وعليكم السلام يا لعرب، الله أكبر، الله أكبر، نغلوا حججكم (أي قدموا براهينكم)
المدعي - يا قاضي بعدل الله. جيتك جدي، وامشي هدي، ومصّلى على الله والنبي. ودىّ (أريد) منك الحق، والحق فوق الكل ولاحق من الله، لنا بذمة هذا - وأشار إلى بدوي آخر - دم. قتل ابني وفقدنا الشاهد، ولزمته اليمين، فإما برئ، وأما قاتل، والقاتل مقتول
الأمير - وإيش اسم غريمكم؟(364/54)
المدعي - جديع ابن سمير
الأمير - انهض يا وليدي، ادفع عن نفسك، أنت شاب، وشيخ الفريق ولزمك الدين (اليمين) إن كنت بريئاً برَّاك الله، وإن كنت قاتلاً قتلك العدل، احلف احلف
المتهم - والله يالنوري، الحق من الله، واليمن وزر، أعفوني منها وأنا أعطي الرجل مية بعير
الأمير - قودوا البعير يالربع، وعفوا الراجل من الدين واحجبوا دم العباد
المدعي - لا لا، نريد اليمن حتى نعرف الصح (الصدق)
المتهم - يالربع، بالله ومحمد رسوله، إني مؤديكم ميئتان بعير وجوزوا عن تحليفي وتعوضوا الله، والذي مات مات، ونحن أقارب وإخوان
الأمير - وإيش عندكم يالعرب؟ ميتان بعير تساوي ألفين جنيه. جوزوا عن الدين، واعقدوا الراية حفار ودفان (أي سماح عن الماضي والحاضر)
- وإيش يا ساير؟ المقتول ابنك، والله فوقك، والخطة قدامك (يريدون بالخطة دائرة يرسمها أحدهم على الأرض ليقف المتهم داخلها ويحلف، ويسمونها خطة سليمان بن داود)
المدعي - والله يالعرب ما أنا بائع دم ابني بجمال، أريد من غريمي دين فأما يكون بريئاً فأطلب من قاتل ولدي، وإما يكون القاتل فأقتله بيدي، (واليمين عندهم فريضة متى فقد الشاهد)
المتهم - يا شيخ، جز عن تحليفي، وخذ البعير، فأنا برئ من دم ابنك، ولو كنت أنا القاتل لما خفت منك، وورائي كما تعلم عرب الشرارات وأنت أخبر بالشرارات وبأسهم
المدعي - جُديع، تتهددني بالشرارات؟ أنسيت من هم الحسن؟ ويوم اللي هزمناكم مثل الغنم الهامل، والله لا أرضى منك بغير اليمن ولو ملكتني كل حلال الشرارات
المتهم - وإيش عليه، أنا أحلف، خطو الخطة، أنا رايح أحلف، أنا على باب الخطة، يا عونة الله أنا رايح أحلف، يا ساير خف الله. يا خوي وخذ البعران وجز عن تحليفي وأنا برئ
المدعي - اليمين اليمين
المتهم - أشهدوا يالعرب، اسمعوا يالربع، أنا بالخطة، وهذه عصاتي وهذه يميني:(364/55)
(وحق هالعود، والرب المعمود، وخطة سليمان بن داود، أنا رميت والله قتل) وأنا بوجه ابن شعلان
(أي أنه هو أطلق النار، والله قتل، وهو بحماية النوري ابن شعلان والحماية عندهم ثلاثون يوماً فقط، وبعدئذ أما أن يدفع جنية القتيل، وإما أن يقتل)
نجيب العسراوي
الأمية في العالم
يؤخذ من دائرة المعارف الإنجليزية الحديثة أن عدد الأميين في مصر 92 في المائة (والصواب: 82)، وفي الهند الإنجليزية 92، وفي الصين 80، وفي سيلان 66، وفي غواتيمالا 65، وفي أسبانيا 63، وفي البرازيل 60، وفي كولومبيا 60، وفي البرتغال 60، وفي شيلي 39، وفي الأورغواي 39، وفي الأرجنتين 37، وفي فنزويلا 37.
وفي الولايات المتحدة وزيلانديا الجديدة وكندا وفرنسا واليابان واستونيا وبلجيكا يتراوح الأميين بين واحد وعشرة في المائة
أما في سويسرا والدانمرك وألمانيا وأسوج ونورج وفنلنديا وهولندا وإنكلترا، فعدد الأميين أقل من واحد في المائة
مستعمرات فرنسا
لفرنسا من الممتلكات ما تبلغ مساحته 12 مليون متر كيلو متر مربع، تضم نحو ستين مليون نفس. ففي أفريقية الشمالية: مراكش، الجزائر، تونس، أفريقية الغربية، وتشمل: السنغال، غينية، الشاطئ العاجي، الدهومي، السودان الفرنسي، موريتانيا، نيجر. وفي أفريقيا الاستوائية: توهاد، أوبنغي شاري، توغو، كمرون، كونغو. ثم جزيرة مدغشقر والصومال الفرنسي، وجزيرة رنيون
وفي أسيا: الهند الفرنسية وتشمل على: بونديشاري شاندر ناغور، يانون، كاريكال، ماهه. والهند الصينية وتشمل على كمبودج، أتام، تونكين، لوس. ثم كونتشو
وفي أمريكا: جزائر سان يسار وميكيلان، جزائر الأنتيل غينيا الفرنسية
وفي الأقيانوسية: جزر كالدونية الجديدة، جزر هبريداس الجديدة وغيرها من الجزر(364/56)
الصغيرة
وإذا جمعنا عدد سكان الممتلكات البريطانية والفرنسية بلغ 600 مليون نفس أي نحو ثلث سكان العالم ومساحتها أيضاً تشغل ثلث سكان العالم ومساحتها أيضاً تشغل ثلث مساحة اليابسة
فون كلوك وسقوط باريس
كان فون كلوك قائد الجيش الألماني الذي زحف إلى باريس في أوائل الحرب الماضية، وكاد يدخلها لولا واقعة المارن التي قطعت أمله. وقد اطلعنا في إحدى الصحف الفرنسية على التصريحات التي فاه بها بعد هزيمته في تلك الواقعة التاريخية، قال:
(أنا لم أضع خطة الزحف إلى باريس كما قيل، إذ لم يخطر على بال أن سقوط العاصمة الفرنسية يؤدي إلى إخضاع فرنسا وإجبارها على التسليم، بل كنت أعتقد أن عزل فرنسا عن حلفائها هو السبيل الوحيد إلى إخضاعها، وأن عزلها لا يتم إلا باحتلال سواحلها
كان الإمبراطور غليوم يحضنا على الزحف المتواصل، لكي نستولي على باريس ونضرب معنويات الحلفاء في الصميم؛ وقد أعد علم ألماني مساحته 400 متر مربع ليرفع على برج أيفل بعد احتلال باريس، وكان الموعد المقرر لدخولها في الثاني من سبتمبر غير أن أعجوبة ظهرت في الجيش الفرنسي أنقذت عاصمته وأبطلت خطتنا، فقد اكتشف طيارونا وكشافتنا أن ذلك الجيش الذي كنا نظنه ممزقاً عاجزاً عن الدفاع قد أعيد تنظيمه بسرعة غريبة واستعاد عزيمته ووقف مكانه وقفة المستقتل الذي يؤثر الموت على التراجع
وما كنا نتوقع قط أن رجالاً يتقهقرون أمامنا عشرة أيام متواصلة يتحولون بين يوم وآخر إلى جلاميد لا تزحزح عن أماكنها. تلك هي العجيبة التي لم يرو مثلها التاريخ الحربي!)
من ذكريات الحرب الماضية - داء فرنسا قديم
كتب مسيو بوانكارية في مذكراته اليومية بتاريخ 13 أغسطس 1914 ما يلي: (عرفت اليوم من الجرائد أن مدافع الألمان ما برحت منذ صباح أمس تضرب بون آمسون. ويظهر أن وزير الحربية يجهل ذلك. وقد ألححت عليه أن ينبِّه باسمه واسمي أركان الحرب إلى إهمالها)(364/57)
وكتب بتاريخ 16 أغسطس: (ما أزال بين الشك والقلق والانتظار فلا أعرف عن الحركات الحربية في جبهة القتال إلا النزر اليسير مما ينقله إليّ الضباط. ولما أشير عليّ بزيارة خطوط النار استشرت وزير الحربية فاستصوب فكرتي، ولكنه رأى من واجبه أن يستشير أولاً أركان الجيش العليا التي لم تر زيارتي في الحالة الحاضرة مناسبة فعدلت عنها ممتثلاً. واراني كأحد أولئك الملوك الكسالى الذين يقضون أيامهم في الخمول والدعة فالجيش اليوم هو صاحب الكلمة العليا ولا مندوحة لي عن السكوت والامتثال)
وفي تلك الثناء جاء كليمنسو رئيس الجمهورية وشكا إليه أن أركان الجيش تخفي اندحار الجيوش الفرنسية وتذيع انتصاراً وهمياً، وأبلغه أن الألمان اسروا طابوراً فرنسياً بأسره ونكلوا بآخر. فقال بوانكارية إنه يجهل كل ذلك، لئن أركان الجيش لا تمده بشيء مما يجري في ميادين القتال، ثم قاتل: (لقد طالبت مراراً فما كنت أُجاب إلا بالسكوت)
وكان موقف فرنسا يزداد حرجاً بين يوم وآخر، فالألمان في بلجيكا كانوا يتقدمون بسرعة، والإنكليز تراجعوا حتى فالنسيان موبوج، والجنرال جوفر أمر جيوشه بالانسحاب. وفي ذلك يقول بوانكاريه في يومياته: (أردت وأنا بعيد عن خطوط القتال أن أسعى إلى (الاتحاد المقدّس) بتأليف وزارة جديدة فصدمتني المنازع الشخصية والمشاكسات السياسية. عن فيفياني (رئيس الوزارة يومئذ) محاط بجيوش من المطامع، وقد ذكر لي في جملة المرشحين للوزارة الجديدة بعض أسماء يستحيل قبولها لأنها تدعو إلى الخجل. عاد إليّ ميلران وصرَّح بأنه لا يقبل وزارة الحربية إلا خوّل حق الاتصال مباشرة بالجيش المحارب)
وأراد أوغانجر وزير البحرية أن يحمل مسيمي على الاستقالة من وزارة الحربية، فتظاهر بالإشفاق على صحته قائلاً له بلجة تجمع بين الجد والدعابة: (إن دلائل الجهد ظاهرة عليك، فأنصح لك نصيحة طبيب أن تترك مهمتك الشاقة التماساً للراحة، وإلا اعترتك السوداء). فوقع هذا الكلام في نفس الجنرال مسمي موقع الرضى، فاستقال من منصبه، وذهب إلى ساحة القتال يقود أحد الجيوش
وذكر بوانكاريه أيضاً في يومياته: (طالب المسيو بريان بوزارة العدل، فتخلى له عنها المسيو بينفيني مارتان مثال الوداعة والإخلاص. وطالب دلكاسه، وهو أكثر تعنتاً من بريان(364/58)
بوزارة الخارجية؛ وقد أسمعني الكلام التالي: (إن لاسمي تأثيراً كبيراً لا يستطيع أحد إنكاره. لقد طالما سفهوا سياسي التي رمت إلى تطويق ألمانيا، ولكنها انتصرت أخيراً. فأنا الذي أوجد الاتفاق مع إنكلترا، وأنا الذي عقد المحالفة مع روسيا. ولا شك أن العالم يتوقع أن يراني في كي دورسي). إن لدلكاسه خدمات وطنية جليلة لا تنكر، وكان خليقاً به ألا يذكرها في ذلك الموقف الحرج الذي كان يتطلب التضحية قبل كل شيء. ولكنه أبي إلا وزارة الخارجية التي كان يديرها بمهارة فائقة المسيو غاستون دومرغ الفرنسي الصادق. وشاء فيفياني إزاء تصلب دلكاسه أن يتنزل له عن رياسة الوزارة، فقال له دومرغ:
- أبقَ في مركزك
فأجاب فيفياني:
- إني أتخلى بملء إرادتي لدلكاسه عن مركزي. ولا بأس أن يعزي ذلك إلى عدم كفايتي؛ ففي الحالة الحاضرة لا يهمني نوع الخدمة ولا مجالها)
وقد أثر فيَّ كلام فيفياني كثيراً إذ دل فيه على شخصية كبيرة وإخلاص وطني بالغ فلم أتمالك أن صافحته معجباً مهنئاً(364/59)
القصص
عُرْس القرية
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت (راجية) تعلم أنها مفارقةٌ المدينة غداً، ما من ذلك بُدّ؛ لقد حاولتْ أن تنسأ الأجل إلى الرحيل فلم تظفر بطائل، وافتنَّت في الاحتجاج لرأيها ما افتَّنت فلم يستمع لها أحد؛ وأجمعت الأسرة أمرها على السفر إلى الريف لتكون بمنجاة من ويلات الحرب. . . حقاً؟ أيكون الريف أبعد من المدينة عن ويلات الحرب؟ هكذا زعم أبوها وأخوها وليس لرأيهما معقِّب. . .
وراشت راجية آخر سهم في كنانتها؛ فاصطنعت؛ العزم والقوة، وتماسكت من ضعف ورخاوة، وقالت: ولكن، يا أبي، إن للوطن عليّ حقاً يقتضيني الرفاء. ليس من المروءة أن أفرَّ والوطن يدعوني إليه. . . ينبغي أن أبقي لأقوم بواجبي في التمريض والإسعاف إذا لم تكن لي طاقة بحمل السلاح للدفاع والمقاومة؛ ينبغي. . .
وقاطعها أبوها: نعم، ينبغي، ولكن واجبك هناك، في القرية؛ إن اخوتك وأخواتك هناك في حاجة إلى التمريض والإسعاف أكثر من جرحى الحرب!
وابتسم ابتسامة عابسة؛ لقد كان يعلم أي فتاة هي في رخاوتها وضعف احتمالها، ولكنه يقاوم حجة بحجة. . .
وصمتت الفتاة برهة وهي تنقل النظر بين أبيها وأخيها وأمها، ثم هَّمتْ أن تتكلم حين ارتفع صوت المذياع يعلن أنباء الحرب في الميدان القريب ثم سكت، وتلاشى الصَّدى في الغرفة المغلقة على أربع أنفس قلقةٍ مضطربة تتنازعها أهواءٌ وعلل وآمال على خشية وحذر ورِقبة. وقال الفتى بعد صمت: لقد بدأت البادئة فما بدُّ من الخاتمة. . .!
وحدَّقت أمه في وجهه مذعورة، وهتفت: صلاح أتعني. . .؟
قال (صلاح): نعم يا أمي إنه فرضٌ عليَّ يجب أن أتهيأ للوفاء به
وأطرق أبوه وشفته تختلج، وعمَّ الجميعٌ الصمت. . . وشعرت راجية لأول مرة أنها بازاء أمر خطير يقتضيها أن تفكر في هدوء وروية. . . وعادت تنظر إلى أبيها وأخيها وفي عينيها سؤال ليس معها جوابه، وأحستْ إحساس المفارِق يودع أحبابه إلى حيث لا يدري(364/60)
متى يكون اللقاء؛ ووجدت حاجتها إلى الدمع فأسرعت إلى خلوتها!
وأغْفَتْ راجيةُ لحظاتٍ واستيقظت ذكرياتُها وأمانيها، فتعاقبتْ عليها الرُّؤى والأحلام، ثم أصبحتْ. . . ونسيتْ ما كان من حديث الأمس ومن خبره؛ فلم تعد تذكر شيئاً إلا أنها مفارقةٌ المدينة بعد قليل لأمرٍ لا تكاد تعرف له وجهاً ولا علة، وأنها لن تذهب إلى السيما بعد اليوم، ولن تلقي أصدقاءها وصديقاتها، ولن تستمع بما كانت تستمع من اللهو حين كانت تخرج كل يوم إلى رياضتها بين حدائق الجيزة والجزيرة ومصر الجديدة، وحضرتْها صورٌ عدة، وانثالتْ عليها ذكريات. . . وذكرتْ. . . إن ثيابها الجديدة ما تزال عند الخيّاط لم تفرغ منها بعد، وقد كانت حقيقةً بأن تفرغ منها منذ أيام، لولا أن راجية كانت تؤثر الروّية في تفصيل ثيابها ريثما ترى أحدث الأزياء فنقيس عليها. ماذا تفعل اليوم؟ أفّ للحرب! لولاها لكانت اليوم - على عادتها في كل سنة - جالسةً تحت الشمسية الظليلة على شاطئ سيدس بشر؛ أو رائحة غادية في معرض زينتها بين كيلوباترا وخليج ستالي؛ ولكن الإسكندرية اليوم منطقةُ حرام، فمن ذا يخاطر بعمره بين الموت الأحمر من أجل ساعة عل شاطئ العريان؟ ومن ذي تحاول أن نشتري بعمرها كلمةَ إعجاب من شاب طائش تستهوية بزِبِّها وزينتها؟
. . . ثم ذكرت القرية. . . ياه! منذ كم لم نذهب راجية إلى القرية؟ القرية التي نَمَتهْا ونَمَتْ أباها وما تزال تغذوهما بخيرها وبِرِّها الدائم على عُنف ما تلقي من العقوق ونكران الجميل!
لقد فارقتْ راجية القرية منذ سنوات بعيدة، لعلها لا تذكرها، أو لعلها تذكرها وتنكرها لئلا يكون ذلك نميمةً على عمرها الذي تحرص على كتمانه. . . ولم تذهب راجيةُ بعد ذلك إلى القرية التي فارقتها طفلة، إلا مرة، مرة واحدة صحبتْ أباها في موسم الحصاد؛ وكانت يومئذً فتاةً في أول صَحْوة الشباب، فما كادت تهبط القرية حتى لمت متاعها للرحيل، ثم لم تعد؛ فكيف يريدونها اليوم أن تهيئ نفسها لإقامة طويلة هناك، لا تدري متى تنتهي وكيف تنتهي؟
وضاق صدر الفتاة، وخيل إليها أن يداً تشد على رقبتها فتمنعها أن تتنفس؛ وكانت أمها في حجرتها تعد حقائب السفر!(364/61)
وأخذت الفتاة زينتها وخرجت لأمر من أمرها، ولم تنس أنة تنظر في صندوق البريد قبل أن تجتاز الباب! وكانت الظهيرة حامية، والشمس تفرش الشوارع من أشعتها الحمراء، وقد خلتْ مركبات التزام إلا من الموظفين العائدين إلى بيوتهم يتأبطون صحفاً وأضابير من أوراق الحكومة، أو يحملون إلى أهليهم من الفاكهة والحلوى، أو من الفجل والجرجير. . .!
واتخذت الفتاة مقعدها في الترام، وثمة عينان تلحظانها من مقعد قريب، وكانت في غفلة بنفسها وما يصطرع في قلبها من ألم. . . هاتان عينان تعرفهما وتعرفانها
ولما همت الفتاة أن تهبط من الترام عند بيت الخياطة، نظرت، فعرفتْ، فقنعت رأسها وتضرجت وجنتاها حياء؛ ثم مضت في طريقها لا تكاد تحملها رجلاها. . .
وأَجَدَّت لها عيناه ذكرى وألماً، وأطاف بها همٌّ جديد. . .
وحاولت الفتاة أن تمحو صورته من خيالها فما أطاقت؛ وكأنما تراءى لها في تلك اللحظة على غير ميعاد ليكون آخرَ ما يصحبها إلى القرية من صور المدينة!
. . . لم يكن (عابد) فتاها الذي تؤمل، ولكنها كانت فتاته؛ لقد كانت تعلم من أمره ما يحسبه هو سراً من سره، فإن له عينين لا تستطيعان الكتمان، تعبِّران عن معنىً لا يبوح به لسانه ولا طاقة له به؛ على أنه لم يستطيع بكل ما طاق من قوة الحب أن يشغلها بأمره، ولا هو حاوله؛ ولكنها كانت تعرفه، وتحس وقع نظراته؛ وكان ذلك حسْبها وحسبه؛ فإنها لُكبرِ نفسها وهي منَ هي وحيث هي - أن ينتهي أملها عنده، وإنها لترى كل يوم من ترى وتسمع ما تسمع، فإن لها في كل يوم أملأ تأمله بالنهار وتحلم به في الليل. . . كان ذلك وهي في المدينة المتراحبة التي لا يغيب نهارها حين تغيب الشمس. . . أين هي غداً من أمانيها؟ وا أسفا! لكأنما ارتكبت إثماً جوزيت عليه بالسجن إلى أجل غير مسمى!
لم تكن راجية تعرف من الفرق بين القرية والمدينة إلا هذه الأضواء الساطعة، وتلك الملاهي الساهرة؛ ثم صديقاتها اللائى تراهن كل يوم ويرينها، ليس لهن من حديث إلا عن الأزياء والسهرات وأخبار الفتيان والفتيات؛ وأنشأت لها هذه الحياةُ التي كانت تحيا أمانيَّ وأحلاماً تراوحها وتفاديها في يقظتها وفي منامها؛ وحين جاءتها (الخاطبة) بأول خاطب يطلب يدها أيقنت أنها من الغاية التي تهدف إليها على مقربة، فراحت تبالغ في الطلب وتشتط في الشرط؛ وحرصت من يومئذ على أن تعرف مالا يعرف إلا القليل عن طبقات(364/62)
الموظفين ودرجات الوظائف وسلالم الترقية لكل طبقة؛ ثم مضتْ تسترسل في أمانيها وحلقت في أفق بعيد؛ وراحت نُتبع عينيها كل منظر، وتُرعِى أذنيها كل نبأ، فاجتمع لها من المعارف بشئون الطبقة العليا من أهل المدينة ما خيَّل إليها أنها أو شكت أن تبلغ. . .
. . . وعلى حين غفلة صلصل الجرس يدعوها إلى الرحيل. . .!
وعادت الأسرة إلى القرية التي هجرتها منذ بضع عشرة سنة تلتمس حياة جديدة بين أنوار المدينة؛ لقد هجروا القرية يوم هجروها أربعةَ نفر، وعادوا إليها ثلاثة، وخلفوا رابعهم هناك مرابطاً ينتظر الآونة التي يدعوه فيها الوطن ليبذل شبابه!
واستيقظن راجية على صياح الديكة من وراء جدار؛ فنهضت من فراشها وفتحت النافذة تستروح روْح النشاط والقوة. . . ومرَّ الراعي بنافذتها يسوق ماشية. . . فما إن رآها حتى طأطأ رأسه وأوفض في السير، ونظرت في أعقابه، ثم ارتدّت عن النافذة. . .
يا لله! وفي القرية كثير من مثل هذا المسكين؟ عظم معروق في ثوب خلق يوشك أن يحطمه عصفُ الريح، يقد ماشية تكاد تنشق شبعاً وَرِيّاً؛ إنه يؤثر مماشيته على نفسه لتعيش فيعيش بها!
ثم تتابعت أفواج الفلاحين سارحين إلى حقولهم يتبعهم ولدانهم، قد أُوقرتْ ظهورهم بما يحملون، ومضى النساء إلى عملهن. . .
ووجدت راجية ما يشغلها، فنسيت شيئاً بشيء. ومر يومها الأول وهي ترى وتوازن وتحكم؛ ولما جلست في المساء على حافة القناة بين رفيقات من بنات يسامرنها ويتحفَّينَ بها، أحستْ في نفسها عاطفة جديدة تنمو شيئاً فشيئاً، ورأت في حديث هؤلاء القرويات روحاً ومعنى غير ما كانت تجد من حديث صواحبها في المدينة. . .
وأشرق القمر عليها وذاب غي ماء القناة شعاعُه، ونظرت إلى صواحبها ونظرن إليها فكأنما سكب القمر على قلبها من شعاعه الطهور فغسله مما فيه؛ وأحست فيضاً من الحنان والحب يغمرها فيدنيها إلى رفيقاتها قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح؛ وذكرت كلمة أبيها:
(نعم يا بنيتي. . . ولكن واجبك هناك. . . إن اخوتك وأخواتك في القرية أحوج إلى التمريض والإسعاف من جرحى الحرب!)
بلى، وإنها لتشعر الساعة بثقل هذا الواجب على عاتقها أكثرَ ما شعرت في حياتها منذ(364/63)
كانت. إن عليها لهؤلاء المساكين حق الإرشاد والمعونة بكل ما تملك يدها من مال وما يملك قلبها من الحب
وتبدلتْ راجية مذ طرقها هذا الشعور الجديد، فعادت فتاة غير من كانت!
وأحبت القريةَ أكثر مما كانت تبغضها، حتى لو أن أحداً راودها أن تعود إلى المدينة لتأبّت، وتزّينتْ لها القريةُ زينةَ عروس؛ فكل ما فيها جميل فاتن!
ومضت أيام، وبعث (صلاح) إلى أبيه:
(أبي!
(. . . وكل شيء هادئ، فليس ثمة خطر مما توقعْتَ أن يكون. . .
(وإني لأخشى أن يكون حياة القرية بحيث لا تطيب لكم فيها الإقامة، فإن رأيت. . .)
وقرأ الأب رسالة ولده فصبأ؛ لقد كان يقدّر - وهو ربيب القرية منذ كان - أنه يستطيع أن يعود إلى ماضيه فيعيش في الريف عاماً أو بعض عام حتى تهدأ العاصفة ويعود السلام والطمأنينة إلى المدينة؛ ولكن. . . هاهو ذا يحسّ السأم والملالة ولما تمض أيام. . .!
واجتمعت الأسرة حول عميدها تفكر وتدبر، وقالت راجية: أبي. . . ولكن المدينة. . .
وقاطعها أبوها: لا يا بنيتي؛ لقد كنا مغالين في تقدير الأمر، وأظن خيراً لنا أن نعود. . .!
ولكن راجية لم تعد إلى المدينة، ولم يعد أبوها، لأن ضيفاً عزيزاً هبط عليهم في القرية فتلبثوا لاستقباله. . .
لقد أجمع (عابد) رأيه على أمر، فكتب إلى الأسرة يستزيرها في القرية، وكان معه صلاح
وتحلق حول المائدة ثلاثة نفر يتشاورون في أمر ذي بال. وقال عابد، وقال صلاح، وقال أبوه؛ وتركوا لراجية أن تقول الكلمة الأخيرة؛ وقالتها، وانتهى النبأ إلى الجيران فتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق
وقال الفتى لفتاته: والأمر لك يا عزيزتي من بعد، فإن شئت كان العرس في المدينة، فإني لأعرف كيف تريدينه أن يكون، وإني ليسرني أن أرضيك. . .
وابتسمت راجية وقالت: شكراً يا عزيزي، ولكن إنني حريصة كل الحرص على أن تكون صديقاتي جميعاً إلى جانبي، هنا، وأن يشاركننا جميعاً في الفرح والمسرة!
قال عابد: يسرني. . . ولكن. . . أترين. . .؟(364/64)
قالت: لا تبعد يا عزيزي! ماذا فهمت؟. . . إن صديقاتي اللاتي أعني لَيُلبِّينَ الدعوة مسرعات ولو كان موعدها غداً!
قال: غداً؟
قالت: نعم، والليلةَ إن أردت، إنهن غير بعيد!
واحتفلت القرية كلها بعرس راجية، لم يتخلف منها أحد!
لم تكن هناك ثريات، ولا أعلام، ولا سرادق منصوب، ولا موسيقى تعزف، ولا مطرب يغني، ولكن رجالاً أربعة كانوا جلوساً إلى نضدٍ صغير في دوار العمدة ينظرون في توزيع خمسين جنيهاً على أهل القرية، احتفالاً بزفاف راجية. أولئك أصدقاؤها وصديقاتها، لم تنس أحداً منهم، ولم يتخلف عن دعوتها أحد!
محمد سعيد العريان(364/65)
العدد 365 - بتاريخ: 01 - 07 - 1940(/)
العلم أو الأدب؟!
للأستاذ عباس محمود العقاد
جاءني من الأديب (عبد القادر دوير) خطاب يسألني فيه أسئلة متعددة عن رأيي في خسارة العالم بفقد أديسون وماركوني، وخسارته بفقد شكسبير وبرناردشو
وعن رأيي فيما هو الأسبق: (العلم أو الأدب؟!) وهل خلق الإنسان بطبيعته عالماً يتجه فكره إلى تهيئة أسباب معيشته، أو خلق بطبيعته أديباً يميل إلى الشعر والفنون؟
ثم يسألني: (ما رأيكم في كلمة الأستاذ أحمد الصاوي المنشورة في الأهرام يوم 17 يونيو التي يناشد الشباب المصري فيها أن يهجر الأدب والشعر وينصرف إلى العلم والاختراع ليكون رجلاً عملياً عاملاً. وختمها بقوله: (اسكتي إذن يا آلهة الشعر لقد ذهب أوانك وتلاشى سلطانك، واخرجي أيتها الأرض شباباً واقعياً قوياً يفل الحديد بالحديد والنار بالنار لا بالقصائد والأشعار)
وقد قال الأديب: (أرجو - إذا تكرمتم بالرد - أن ينشر بحثكم على صفحات مجلة (الرسالة) الحبيبة إلى قلوبنا كل الحب)
وقد رجعت إلى أعداد (الأهرام) منذ السابع عشر من شهر يونيو، فقرأت فيها حوار الأستاذين الصاوي والحكيم عن الشعر والسلاح، وتتبعت ذلك الحوار إلى أن بلغت به: (مربط حمار الحكيم) و (فيران السفينة)؛ وانتهيت منه وأنا أقول: (الحق على أستاذة الإنشاء منذ نيف وأربعين سنة في الديار المصرية. . . فلولا موضوعات المقابلة بين الصيف والشتاء، وبين الذهب والحديد، وبين العلم والمال، وبين العلم والأدب، لما وقع في الأذهان ذلك الخاطر الذي نعود إليه في مصر فترة بعد فترة لنقضي للعلوم على الفنون، أو للفنون على العلوم، أو لنوحي بهذه دون تلك في تثقيف الأمة وتعليم الشباب
فما معنى هذه المقابلة؟
هل النفس الإنسانية صهريج من المعدن يزيد فيه من العلم بمقدار ما ينقص من الأدب؟ هل العلم والأدب ضرتان تلقي إحداهما من الحظوة والزلفى بمقدار ما تلقي صاحبتها من الهجر والإعراض؟ هل الجمع بين العلم والأدب في الأمة الواحدة مستعصٍ أو مستحيل؟
فإن لم يكن شيء من ذلك كما يحسبه الحسابون، فما معنى هذه المقابلات، وماذا نجني من(365/1)
الإزراء بالعلوم محاباة للآداب والفنون، أو من الإزراء بالآداب والفنون محاباة للعلوم
ماذا نجني من هذا وذاك ونحن فقراء في هذا وذاك؟
وماذا أصبنا من الفن والأدب حتى يقال إننا قد شغلنا به عن العلم والاختراع؟ بل ماذا عندنا مما اخترعه الآخرون حتى نبحث في اختراع الجديد، ونزعم أننا لولا الفن والأدب لاخترعنا نحن أيضاً مع المخترعين؟
أما إذا أغضينا عن أنفسنا ونظرنا إلى أحوال غيرنا، بل إلى الأحوال التي دعت إلى كتابة ما كتب في تفضيل السلاح على الشعر، أو تفضيل القوة إلى الذوق، فماذا نحن واجدون؟
نجد أمة غلبت بالدبابات والطيارات وهي لم تخترع الدبابات والطيارات، ونجد أمة لها مهندسون غلبت أمة لها كذلك مهندسون لعلهم أفضل من أولئك المهندسين؟
فالمسألة ليست اختراع الدبابة والطيارة، ولا هي مسألة الهندسة والصناعة، ولكنها مسألة (الباعث النفسي) الذي يكمن وراء علم العلماء واختراع المخترعين وهندسة والمهندسين
وهذا (الباعث النفسي) هو الحقد الذي تأجج في صدور الألمان فجعلهم يطلبون من الدبابة ما لم يطلبه منها أصحابها الأولون
فإن كان رأي الأستاذ (أحمد الصاوي) أن يملأ النفوس بالحقد لأنه صنع من الدبابة ما لم يصنعه منها الاطمئنان والرضى فله رأيه الذي يرتضيه بمعزل عن الشعر والفن، أو بمعزل عن المفاضلة بين المهندسين والشعراء
أما إن كان يريد بما كتب شيئاً غير هذا فليس في المقدمات ما يبنى عليه نتيجة غير تلك النتيجة. وليس في انتصار مقاتل على مقاتل من جديد يمسح ما كتبته الإنسانية إلى الآن، ويخط في مكانة سطوراً أخرى لم يكتبها التاريخ
قال الأستاذ أحمد الصاوي: (. . . المهندس هو الذي جلس أمام لوحه الخشبي ورسم على الورق أقصى ما يخطر بالبال من خيال الأهوال: تصور الموت نفسه أمامه وتحداه بالحديد والنار، فرسم الطيارة ورسم الدبابة ورسم الغواصة، ثم عاد فرسم لكل آلة من هذه عناصر دمار جديدة. فلم يكتف بنوع واحد من الطيارات والدبابات)
(. . . هذه هي رسالة المهندس والكيميائي يعملان جنباً إلى جنب. هذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل. فإلى الشباب المصري الذي يريد الأدب ويتعلق بالقصص ويحب الشعر(365/2)
نقول: استيقظ. لقد دقت ساعة الحقائق، فانصرف إلى العلم بكل قواك. . .)
فهل الهندسة هي التي صنعت هذا الصنيع؟
لو كانت الهندسة هي التي صنعته لكان أولى المهندسين به هم أصحاب الاختراع من الإنجليز والفرنسيين، هم الذين اخترعوا الدبابة وشغلوا بتحسين الطيارة في الوقت الذي أقبل فيه الألمان، على المناطيد من أيام زبلين وخلفاء زبلين
فعند الإنجليز والفرنسيين مهندسون كالمهندسين الذين عند الألمان، بل هم المهندسون السابقون المتفوقون في هذا الميدان
ولكن (البواعث النفسية) هي التي جلست وراء المهندس فأوحت إلى الهندسة في أمة حاقدة ما لم توحه إلى الهندسة في أمة مطمئنة راضية
والبواعث النفسية هي كل شيء
هي الحياة. وكل ما عدا ذلك فهو أدوات وآلات.
والآن وقد ظهرت الدبابات الفخام هل يستطيع قائل أن يقول:
إن قلة الهندسة عند الفرنسيين والإنجليز هي التي أقلت نصيبهم من تلك الدبابات الفخام؟ أو هي التي تمنعهم أن يخترعوا مثلها، أو يخترعوا لها آفة تقضي عليها وتفلها على نحو ما يقولون: إن الحديد يفله الحديد؟
كلا!
ليست قلة الهندسة هي العلة. . . فالهندسة هنا كثير
وإنما العلة (فرصة الوقت) إذا اتسعت أو ضاقت للمخترعين. ولن تكون الهندسة هي الباعث على اغتنام الفرصة المنشودة، وإنما هي البواعث النفسية التي أسلفنا الإشارة إليها، وهي في الحرب والسلم أمضى سلاح
وهل يعلم الأستاذ الصاوي كم من الملايين الثلاثة أو الملايين الأربعة الذين زحفوا على فرنسا من الشباب الألمان يدرسون العلم ويقرءون الهندسة؟ وكم منهم يقرءون القصص والروايات؟
كلهم قراء روايات وقصص كما ظهر من إحصاء الكتب التي كانت ترسل إليهم في الميادين، فإذا طلبوا مع الروايات والقصص كتباً أخرى فذلك هو كتاب هتلر الذي(365/3)
يفرضونه هناك على جميع الشبان، وليس هو بهندسة ولا بعلم واختراع، ولكنه شيء أقرب إلى الأحاجي والأساطير!
فالهندسة ليست مصدر القوة الألمانية
والأدب لم يكن مصدر ضعفهم يوم انهزموا في الحرب الماضية
لا شأن للهندسة والأدب هنا وهناك، بل الشأن كل الشأن للبواعث النفسية، ثم تكون هندسة القوم أو يكون أدب القوم على حسب تلك البواعث من الحركة أو السكون ومن الخير أو الشر ومن الصلاح أو الفساد
ويح الإنسان. . . كم تروعه الضجة وكم تخلبه قعقعة السلاح!
وماذا لو طبقنا رأي الأستاذ الصاوي على العلم نفسه ولا نقول على الفن والأدب والقصة والرواية؟
يوم أن هزمت فرنسا في حرب السبعين كان اسم بسمارك ومولتكه يدوي في كل زاوية من زوايا الأرض، ويجري على كل لسان في المغرب والمشرق
وكان في زاوية من زوايا فرنسا رجل يدعى لويس باستور يكشف جراثيم الأوبئة وأسرار التعقيم، ويعرض نفسه كل لحظة لهلاك لم يتعرض له بسمارك في العمر الطويل
فما رأي الأستاذ أحمد الصاوي في رجل غاضب مثله متحمس مثله ناصح لبنى الإنسان مثله يدخل على الشيخ باستور فيقول:
قم أيها الشيخ الفارغ ولم قواريرك وأنابيبك؟! الوقت وقت نار وحديد وليس وقت ماء وزجاج!
وأين مع ذلك حرب السبعين كلها بما انطلق فيها من المدافع وانصهر فيها من الحديد إلى جانب تلك الأنبوبة التي لم يسمع بها ساكن الحجرة المجاورة في بيت باستور؟
لكنها الضجة التي تروع الإنسان. ويح الإنسان، ثم ويح الإنسان!
ولو سألنا له جزاءه الحق لسألنا له طوفاناً من الطغيان يغرقه إلى آخر الزمان، ويشبعه ما استطاع الشبع من الحدائد والنيران
ولكنه مخلوق غافل، تشفع له نية مصلح أو نفحة فنان.
وقد نعلم رأي الصاويين جميعاً فيما يقولون الآن، إذ نسيت الحرب القائمة، وبقيت صرخة(365/4)
من صرخات النفس الإنسانية، لعلها تنظم اليوم في قصيد أو تثبت في لوحة فنان أسوان
عباس محمود العقاد(365/5)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
الصداقة الروحية - الطلبة والجاموس! - ابن الحمير! - معركة في غير ميدان - حمار الحكيم! - الرفيق قبل الطريق - عشنا وشفنا فقد اكتوينا بنار الحوادث في حربين.
الصداقة الروحية
كانت قسوة الشواغل قضت بأن أُحرَم أُنس الحديث مع قراء (الرسالة) نحو شهرين، وهي شواغل متصلة بخدمة اللغة العربية في آفاق لا يسايرُنا فيها القراء لأنها متصلة بحياة التعليم، وهي حياة لا يُنشر من أخبارها شيء إلا بعد أن يستوثق الباحث من أنه وصل فيها إلى آراء تستحق التسجيل بطريقة علنية، وذلك لا يتيسر إلا بالجهاد العنيف في الأعوام الطوال، كالذي تَيسَّر في الأبحاث التعليمية التي نشرتها في الجزء الثالث من كتاب (ليلى المريضة في العراق) وفي كتاب (البدائع) وكتاب (وحي بغداد)
وأنا بهذا الكلام أعتذر عما قيل من أنني جَنَحتُ إلى الراحة في الأسابيع الماضية، فما كان من ذلك شيء، وإنما حرصتُ على تأدية واجباتي الرسمية تأدية ترفع عن صدري كرب الغيظ من أن يكون في الزملاء مَن هو أحرص مني على تأدية الواجب، فقد قلت مرة على صفحات (الرسالة) إن في وزارة المعارف رجالاً يجري في خواطرهم أنهم ليسوا موظفين، وإنما يدبِّرون ملكهم الخاصّ، وأنا من هؤلاء مكروبٌ مَغيظ، ومع ذلك أتمنى أن يُكثر الله من أمثالهم في الدولة المصرية. والفُرص أمامي لأسبقهم في ميادين الكفاح الصادق حين أشاء
انتهى العام الدراسي بخير، ولم تبق إلا أعمال خفيفة لا تستنفذ الوقت، فما عسى أن أصنع؟
هل أذهب لقضاء الصيف في باريس؟
وكيف وقد انقطع بيني وبينها الطريق؟
هل أمضي لقضاء الصيف في الإسكندرية؟
وكيف وقد انفضت الملاعب حول الشواطئ، وضاعت الفرصة على مواعظ الشيخ أبي العيون؟ وما أسخفَ الحياةَ التي تستقيم استقامة مُطْلقة فلا يثور عليها واعظ، ولا يتطاول في تثريبها عاذل، ولا يَشقَى في تَعقُّبها رقيب!(365/6)
هل أذهب لقضاء الصيف في سنتريس؟
وكيف وهي تضيق عني، وأخشى أن أكدر صفو أهلها بأحاديثي عن معضلات الحياة الدولية؟ وهل تتسع الحياة في الريف لرجل يريد أن يشهد أعنف قَلقلة من قلقلات التاريخ؟
لم يَبق إلا المقام في القاهرة فأقضي صدر النهار في الاستفادة من خِبرة من ألقاهم في وزارة المعارف، ثم أقضي بقايا الوقت في تحبير الكلمات التي ألقى بها القراء من يوم إلى يوم، أو من أسبوع إلى أسبوع، في الجرائد والمجلات
والحقُّ أننا من الفِكْر في كرب، فالحوادث التي نعانيها في هذه الأيام لا تكفي لتغذية مطامعنا الفكرية، فنحن نفزع إلى الأدب لنملأ به فراغ الأرواح والقلوب والأذواق، ومن هنا تفهمون كيف اتفق في أحيان كثيرة أن تقام الحفلات لذكريات الأدباء والمفكرين في ميادين القتال
لا سبيل إلى تخفيف مكاره هذه الأيام (البيض) إلا بالأنس إلى الصداقة الروحية، الصداقة التي يعقدها الأدب بين الكاتب والقارئ، وهي أثمن ذخائر الوجود
وفي ظلال هذا الأمل الجميل أقضي هَجِير هذا الصيف، فأحادث قرائي، وقد رفع بيني وبينهم التكليف، فقد ضقت ذرعاً بما في الدنيا من قيود، واشتقت إلى تنسم هواء الحرية بين صرير القلم وزئير الروح
الطلبة والجاموس!
كنت نشرت مقالاً في المقطم موضوعه (التصوف في الوطنية) سردت فيه بعض الأسباب التي أحب من أجلها وطني، ومن تلك الأسباب أن أرض مصر تصلح للزراعة أربع مرات في العام الواحد، فكتب إليّ حضرة (م. ع. ف) خطاباً يُنكر فيه أن تكون مصر كما وَصَفتُ، ويؤكِّد أن أهل مصر لا يعرفون غير سوء الحال، وأن في مصر آلافاً من الأعيان حُكِم عليهم بالسجن لعجزهم عن سداد المال (؟!) والظاهر في خطاب هذا السيد أنه يتعقب أعمال الحكومة، فقد ذكر أشياء تشهد بأنه يُساير خطوات الحكومة في جميع الميادين، ويتناولها بالثناء والملام على حسب الظروف!
وأقول بصراحة إن الأمة التي تنتظر من الحكومة كل شيء وتطالبها بكل شيء هي أمة في دَوْر الطفولة، والطفل يعتقد أن أباه على كل شيء قدير! وأقول أيضاً إنه ليس من المعقول(365/7)
أن يكون في مصر آلاف من الأعيان حكم عليهم بالسجن للعجز عن سداد الضرائب. وإذا صح ذلك فهو شاهد على أن الأعيان في مصر لا يصلحون لتدبير ما يملكون من الأموال والأطيان
وهذا السيد له منزلة في الصعيد، ولم أصرح باسمه إلا خوفاً عليه من النقد الذي سأسوقه إليه بلا ترفق. فهو يرى من الإسراف أن يكون في الميزانية مال مرصود لجسر شبرا وجسر سمنود، وهو ينكر أن يكون للأوبرا وحمام السباحة في أسيوط نصيب من أموال الميزانية، وهو في النهاية يَعجب من أن تنفق الدولة ثلاثين ألفاً من الجنيهات لتحسين نسل الجاموس مع أن في طلبة الجامعة من عجز عن دفع المصروفات!
تحسين نسل الجاموس؟
يا سلام! يا سلام؟
كيف يليق بحكومة رشيدة أن تفكر في تحسين نسل الجاموس مع أنها تعرف أن بعض طلبة الجامعة عجزوا عن دفع المصروفات الدراسية؟!
ذلك منطق هذا السيد الذي يَشغل مكاناً مرموقاً في الصعيد!
وعُذر هذا السيد أنه قرأ في مجلة (آخر ساعة) كلمة جَرَت مجرى الدعابة، فظنَّ أن من العيب أن يهتم وزير الزراعة بتحسين نسل الجاموس، وهو جاموس!
هو حقيقة جاموس يرعَى البَرسيم ويأكل الفول ويشطح وينطح بلا فهم ولا تمييز، ولكن هذا الجاموس الأعجم هو من صميم الثروة المصرية، والاهتمام به لا يقلَّ خطراً عن الاهتمام بالقطن والقمح والعنب والتين والبطيخ
فكيف يجوز لرجل أن يعدَّ الاهتمام بتحسين نسل الجاموس عيباً من عيوب الحكومة، إلا أن يكون هذا الرجل من الصالحين للسجن بسبب العجز عن تسديد الضرائب؟
المَقتَل الخطير لأهل مصر هو الغرام بالنكتة، ومن هنا جاز أن ينتهزوا الفرصة فيعيبوا على حكومتهم أن تهتم بتحسين نسل الجاموس
ويقول هذا السيد إن اشتغالي بالأدب صرفني عن مواجهة الواقع. وأقول إنه لو اشتغل بالأدب كما اشتغلتُ لقرأ في كتاب البيان والتبيين كلاماً معناه أن أحد العرب قال: لو كان لي ألف بعير فيها بعيرٌ واحد أجرب لقمتُ عليه قيام من لا يملك غيره!(365/8)
ومعنى ذلك أن الاهتمام بالبهائم والأنعام لا يغضَّ من أقدار الرجال، وإنما هو دليل على العناية بأصول الاقتصاد
أيها الغافلون من أهل هذه البلاد
راجعوا وزارة الصناعة والتجارة تخبركم عما نستهلك في كل عام من الواردات المصنوعة من الألبان، وعندئذ تعرفون أنه ليس من العيب أن نهتم بتحسين نسل الجاموس
اللهم ارزقني جاموسة أو جاموستين لأنسى مرارة الإفطار على الشاي الأسود في كل صباح
وأنت أيها الجاموس
هل تحفظ هذا الجميل فتذكر أني دافعت عنك في مجلة الرسالة الغراء؟
لقد ضاع الجميل عند الحيوان الناطق، فهل تحفظه أنت يا جاموس!
وكيف نطالبك بحفظ الجميل، وما حفظنا لك الجميل؟
كانت فِطرة العربيّ في الصحراء ألطف وأصدق، فقد نظم في ناقته أعظم القصائد، أما المصريّ فقد ظلم جاموسته أقبح الظلم ولم يذكرها بغير السخرية والاستهزاء
فهل تكون للبداوة تلك المحاسن وتكون للحضارة هذه العيوب؟
كان الفراعنة أعرفَ الناس بأصول المنافع فعدُّوا البقرة من المعبودات لأنهم رأوها من صُوَر الحنان ولأنهم عرفوا ما يصدُر عنها من الخيرات
والجاموسة أغزر نفعاً من البقرة، ومع ذلك صح لأدبائنا أن يَسخروا من الوزير الذي اهتم بصحتها الغالية!
ولكن لا بأس فنحن في زمن تَغلِب فيه السخرية من المنافع، وهو زمنٌ مقلوب الأوضاع، ولولا ذلك لرُسِمت الجاموسة بجانب الفلاح على ورق (البنكنوت)
لبن الحمير!
ومن جناية النكتة على أهل مصر نُفرتهم من شرب لبن الحمير، مع أنه بشهادة الطب أطيب أنواع الألبان، وهو في أمان من الجراثيم التي يتعرض لها لبن البقر والجاموس
ومن المؤكد أن هذه الكلمة ستفوز بطوائف، من النكت حين تظهر في مجلة الرسالة، كما ظفرت الكلمة التي نشرتُها عن فضائل الحمير في كتاب (ذكريات باريس)(365/9)
والمهمُّ عندي أن يعرف المصريون خيرات بلادهم، وأن يذكروا أن الحمير كانت ولا تزال من أطايب الثروة المصرية، وإليها يرجع الفضل في خدمة الفلاّح الذي يذرفون من أجله دموع التماسيح!
وقد ورد التنويه بالحمار المصري في كتاب الأغاني، وهو أصبر من الحمار الحَسَاوي، المنسوب إلى الحَسَا من بلاد البحرين، وهذه فائدة قد يذكرها بعض من يحفظون الجميل
ولا مؤاخذة يا أرباب الذوق المصقول من أعداء الحيوان!
معركة في غير ميدان
دهش الناس للمعركة الحامية التي ثارت فوق صفحات (الأهرام) بين الصديقين أحمد الصاوي وتوفيق الحكيم حول الفكر والحرب، وقد وقعت في تلك المعركة ألفاظ غلاظ لا يصوِّبها صديق إلى صديق
وخلاصة رأي الصاوي أن زمن الشِّعر قد ولّى وفات ولم تبق إلا دولة الطيارات والدبابات
ويقول الحكيم إن الأمم القوية من الوجهة الحربية هي الأمم القوية من الوجهة الفكرية
والرأيان يلتقيان بكل رفق، فما الموجب للتراشق بالألفاظ الغلاظ؟
وقد فصل الأستاذ سعد اللبان في هذه القضية حين قال: أولئك قوم يتجادلون في البديهيات!
ولعل الأستاذ توفيق الحكيم يعترف اليوم أنى هديته إلى أصل الفكرة حين حاورته في جريدة الأهرام، فقد كان يتوهم أن الفكر منفصل عن الحرب كل الانفصال
لعله يذكر أني قلت وأنا أحاوره:
(إن الحرب الدموية ترجِّ الأذهان والعقول، ولكنها في الأصل من صنيع الأذهان والعقول. والعالم غير مُقْبل على الخراب - كما نقول حين نقرأ أخبار الحرب - وإنما هو مُقْبلٌ على يقظة روحية وعقلية واقتصادية سيعرف مَداها من يشهد تطوّر الوجود في المستقبل القريب، وهو مستقبل نشهد تباشيره منذ اليوم برغم ما نعاني من الضجر والاكتئاب كلما طالعنا أخبار التدمير والتخريب في الصُّبح والظُّهر والمساء
الإنسانية اليوم في حومة هائلة من يقظة الفكر والرأي، فليس القتال نزاعاً بين جنود وجنود، وإنما هو صراع بين آراء وآراء، كما كان في العصور الخوالي نزاعاً بين دِين ودِين، وما تغيرت المعاني وإن تغيرت الأشكال)(365/10)
ذلك ما قلته في الحادي والعشرين من شهر مايو، وهو أصدق من آراء الصاوي والحكيم، على ودهما القديم ألف تحية وألف سلام!
كنت أظنهما صديقين، ثم عرفت - مع الأسف - أنهما من إخوان الزمان:
نعيبُ زماننا والعيبُ فينا ... وما لزماننا عيبٌ سوانا
(حمار الحكيم)
وفي هجوم الصاوي على الحكيم وردت عبارات مقتبسة من كتاب (حمار الحكيم)، وهي عبارات يقول فيها المؤلف: إن الوقت عنده ليس من ذهب، وإنما هو من تراب. ويقول: إنه يخاف من العفاريت
وأقول: إن الصاوي لم يدرك ما في هذه الكلمات من السخرية، السخرية من المجتمع الذي نرى صوره في بعض البيئات، وهي سخرية رأينا صداها في مقال نشره سعادة الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بك في مجلة الصاوي
وقد آن لبني آدم من أهل هذه البلاد أن يفهموا أن المؤلف لا يُسأل هما يَرد في كلامه من العبارات التي يديرها حول نفسه ليتمكن من السخرية بالمجتمع، فقد آذتني جريدة لا أسميها في بلد لا أسميه، لأني قلت في كتاب (ليلى المريضة في العراق):
(أنا رجل لئيم، ويجب أن أستفيد من فساد المجتمع)
فقد قالت تلك الجريدة: كيف يجوز لحكومة رشيدة أن تعتمد على هذا الرجل في تثقيف الشبان، وهو يعترف بأنه لئيم يستفيد من فساد المجتمع؟
وإذا جاز لصديقنا الصاوي أن يؤول كلام صديقه الحكيم بلا فهم لغرضه الصحيح، فقد جاز لي أن أصفح عن ذنوب الجاهلين ممن فاتهم سر التأليف يوم قرءوا كتاب (ليلى المريضة في العراق)
الرفيق قبل الطريق
تلك حكمة عربية أوحتها ظروف الحياة البدوية، فقد كانت المسالك وعرة، ولم يكن للمسافر بدٌّ من رفيق يعينه على متاعب الطريق.
وطريقنا في هذا العهد هو الكتابة والتأليف، والرفيق هو رئيس التحرير، أو القارئ، أو(365/11)
الرقيب في الأيام التي تُفرَض فيها الرقابة على الكتابة والتأليف
ولي في هذه النواحي تجارب، وأستطيع أن أقول إن أعظم من عرفت من رؤساء التحرير هم بعد القادر حمزة وخليل ثابت وأميل زيدان ومحمود أبو الفتح وأحمد حسن الزيات، فهؤلاء نشروا لي مقالات لم يكن يجوز أن تُنْشر لولا إيمانهم بقيمة الحرية الفكرية
ولم أكن أعرف الرقيب الذي كنت أصطدم به يوم كنت رئيس تحرير جريدة الأفكار في سنة 1921 فقد كان يفصل بيني وبينه فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك، طيَّب الله ثراه
أما الرقيب في هذه الأيام فهو الأستاذ محمود عزمي، وأستطيع أن أقول إني كنت أملك نشر ما أشاء بدون تهيب ولا تخوف، لأني كنت أملك الاحتكام إليه حين أريد
وفي الأستاذ محمود عزمي عيب فظيع هو الخضوع للحرية الفكرية، وهو عيب جميل، أكثر الله من أمثاله بين الرقباء!
بَقِي الرقيب الأعظم وهو القارئ
وأستطيع أن أقول إن رقابة القارئ لم تكن رفيقة في أكثر الأحايين، فقد كان يفهم عني غير ما أريد، وكان يراني بعين الحقد والمقت في بعض الأحيان
ومع ذلك بقيتْ صداقتي للقارئ كما كانت، فلم أتحوَّل ولم أتبدَّل، ولم أستبح الرياء لأظفر منه بالإعجاب، لأني أعتقد أن الكاتب الذي يتلمس المواقع من هوى القارئ ليس بكاتب، وإنما هو مأجور، والكاتب المأجور لا يصلح لشيء ولو استمدَّ بيانه من وحي السماء
الكاتب الحق هو الذي لا يخاف ولا يرجو رضاك
الكاتب الحق هو الطبيب الذي لا ينزعج من صُراخ المريض
الكاتب الحق هو الذي يفزع إلى القلم والقرطاس كما يفزع الجائع إلى الطعام والظامئ إلى الشراب
الكاتب الحق هو النهر الذي يحمله الطغيان على الهدير، أو الأسد الذي يحمله الغضب على الزئير
الكاتب الحق لا يعرف قراءه أبداً، وإنما يعرف أنه ينفِّس عن صدره بالتعبير، كما ينفِّس الوجود عن صدره بسعير الحروب(365/12)
فمن كان يظن من القراء أننا اشتقنا إليه فهو مخطئ، فما بنا شوق إلى أحد، إلا أن تَصلُح الدنيا فترجع الأنوار إلى بُولميش في باريس، وشارع فؤاد في القاهرة، وشارع الرشيد في بغداد
أفي الحق أن الدنيا ردَّتني إلى هذا الحد من القسوة والعُنف؟
أفي الحق أني أمسيت لا أهتم بعواطف قرائي؟
هو ذلك، فمنذ أسابيع وأنا جاثمٌ بالدار التي بنيتها على حدود الصحراء
وعن الرمال التي يُلهبها القيظ، يتحرك القلم الذي يُلهبه الغيظ
فإن عشت وعشتم إلى عودة السلام فسيكون لي معكم حديث غير هذا الحديث. ألم تسمعوا أني كنت شاعر الصباحة والجمال؟ ألم تلوموني على عُنف الهيام بالعيون والقدود؟
ذوقوا بأس الحرب يا عُشاق الحرب، ذوقوا بأس البلاء يا عشاق البلاء، فلن أنسى أنكم سَخِرتم مني حين كنت أتغنى بالجمال في أيام السلام!
متى تعود أيامي وأيامكم؟ متى تعود؟ متى تعود؟
عشنا وشفنا
شهدت حربين في حياتي: الحرب الماضية والحرب الحاضرة
فمن كان يعجب من أني قضيت حياتي في حرب فليعرف أني أخذت الوقود لأدبي من سعير هاتين الحربين، ولا يملك الفرار من حوادث زمانه غير المزوَّد بالغفلة والجمود، وما كنت من الغافلين ولا الجامدين
في الحرب الماضية كنت طالباً بالجامعة المصرية، وكانت أملاكي بالقاهرة لا تزيد عن مكتبة صغيرة سارعتُ بنقلها إلى سنتريس ورجعتُ لأشاهد تلك القلقلة التاريخية
وفي هذه الحرب، الحرب التي يقال إنها قد تؤذي مصر بعض الإيذاء، صار لي في مصر الجديدة منافع هي المكتبة التي لا يمكن نقلها إلى سنتريس، فأنا معها إلى أن يقضي القَدَر بما يشاء
وأقسى ما أعانيه هو الفزع الذي يقاسيه جيراني حين تولول صَفَّارة الإنذار بغارة جوّية في أعقاب الليل، فهم ينزعجون ويتواصَون بالنزول إلى السراديب ليأمنوا شر الويل، فأنزعج لانزعاجهم لحظة ثم أُسلم جفوني إلى النوم العميق(365/13)
الحياة ليست غالية جدَّا، يا جيراني، فلا تخافوا ولا تجزعوا فأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في أعماق السراديب!
وما قيمة الحياة وهي دُنيا بحق؟
ألم نشهد فيها غدر الصديق بالصديق، ونوم الحليف عن نصرة الحليف؟
لن أقبل النزول إلى السرداب ولو سقطت السماء فوق الأرض! ولو كان أبنائي في مثل عزيمتي لأبيت عليهم الرحيل إلى مرابع السلامة في سنتريس
وما الذي فاتنا من نعيم الحياة أو بؤس الحياة حتى نحرص عليه؟
أنا باقٍ في داري على حدود الصحراء إلى أن ينفد زاد الموت، والمستميت لا يموت.
زكي مبارك(365/14)
ويلك آمن. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
أيام من الدهر حائرة في أودية الزمن، وساعات تخلع المصائب وتلبسها بين الثانية والثانية، ورعب مظلم خيَّم على الأرض فلا تضيئه إلا شقائق النار وهي تفري الجو ذاهبة وآيبة، وحيرة سابحة فيها عقول البشر لا تدع قراراً لفكر ولا خيال، وسهام نافذة من البلايا تفتق نسج النفس الإنسانية فتقاً رغيباً يتعايا على الراقع والمصلح. . . فياله من بلاء مطبق على العالم إطباق اليوم الصائف يسد بحره منافذ الأنفاس
ما الحياة؟ ما الإنسان؟ ما العقل؟ ما الحضارة؟ إلى أين نسير؟ كيف نعمل؟ لماذا نعيش؟ فيم نتعب؟ تبَّا لكل هذه الضلالات الداجية التي لا يبرق فيها نجم واحد يقول للإنسان: اتبعني، سوف تهتدي!!
هذه هي الحضارة الأوربية الحديثة قد انتهت بالناس إلى خلق هذا الإشكال الدائم الذي لا يحل، وساقت الناس إلى مرّعى من الشك وبئ، كلما ازدادوه غذاء زادهم بلاء، فلا ينتهي من ينتهي إلا إلى هلكة تدع فكرة الحياة خرافة عظيمة قد اتخذت لها أسلوباً تتجلى فيه، فكان أبلغ أسلوب وأفظع أسلوب، هذا الإنسان الذي يحمل من رأسه قنبلة حشوها المادة المتفجرة التي تهلكه وتهلك ما يطيف به أو يقاربه، فلا هو ينتفع بنفسه، ولا ينتفع العالم به
لو سئل إنسان هذا القرن: ما أنت؟ لقال: أنا اللعنة الملعونة التي تشأم نفسها وتشأم من يعترض انصبابها وسيلها. أنا الناب الذي ينقع في الإنسانية سمه حتى تبرد حياتها في عضته. أنا الهالك المهلك، هذه حياتي، وهذا عقلي، وهذه حضارتي، ومن أجل هذا خلقت، وفي سبيله أعيش، وعلى قضائه أعمل. . .!!
ولو نشر اليوم فيلسوف من محبي الحكمة والعاملين عليها الذين أفنوا أعمارهم في طلب الخير والفضيلة والحق والجمال، وجعلوا عملهم هداية الإنسان إلى أسبابها وسلكوا له سبلها، ثم نظر إلى هذه الحقبة من عمر الإنسانية فما تراه قائلاً في صفة الإنسان وما فيه من العون على درَك هذه الحقائق، والتحلي بها في حياته؟ أم تراه يعرف الصورة وينكر المعنى؟
المدنية الأوربية الحديثة هي التي استطاعت أن تنفذ بالعقل في ضمير الحياة تستنبط منه(365/15)
ناموس الحياة التي تدب على الأرض ومع ذلك فهي التي سلبت هذا العقل قدرته على الخضوع للروح لتمده بالنور المشرق الذي يستضئ به في رفع الإنسانية درجة بعد درجة إلى مراتب الملائكة - أي إلى مرتبة الروحانية الصافية التي تنهل أضواؤها على النفس والقلب والروح، فتروى من فيضها، وترث من ذلك نوراً ورحمة وسكينة، وتنبت غرسها الإلهي الذي يجنيه الإنسان هداية وعدلاً وسعادة، فتتضاعف به الحياة حتى يقوى الخير فيها ويضوي الشر
لقد أخفقت هذه المدنية في سعيها لخير الإنسان، وأثبتت بكل دليل أنها مهما تكن أحسنت إلى الإنسانية فلم تحسن مرة واحدة أن تضبط نوازع النفس، وتردها إلى الطريق الواحد الذي ينبغي أن تصدر عنه، حتى تكون كل أعمالها نقية طاهرة متشابهة. ذلك الطريق هو طريق الروح الذي لا يتم لعمل تمام ولا يظفر بخلود أو بقاء، إلا أن يكون فيه مس الروح وطهارة الروح، وقدس الروح
أطلقت هذه المدنية في الدم الإنساني كل ذئاب الشر والرذيلة، فخرجت من مكامنها جائعة قد سلبها الجوع كل إرادة تحملها على بعض الورع الذي يكف منها، فعاثت في إنسانية الإنسان حتى جُنّ، وتنزي في الأرض وحشاً يجعل شريعته المقدسة تنبع أحكامها من معدته، ومن أحكام هذه المعدة ومطالبها، وكذلك انقلب النظام الاجتماعي في العالم من نظام روحي عقلي سام، إلى نظام اقتصادي تجاري ضار، الآكل والمأكول فيه سواء. لأن النية انعقدت في كليهما على الافتراس، وما فرق بينهما إلا فرق القوة التي أعدت هذا للظفر، وأسلمت ذلك إلى العجز، فدفعت به إلى رحى تدور بأسباب من الطغيان والفجور
وما هي شريعة المعدة في هذه المدنية الاقتصادية التجارية؟ هي شريعة السوق التي لا تعرف قيمة الشيء إلا في ميزان من الطلب. فما طُلب فهو الجيد، وما عُمِّيَ على الطالب فهو الرديء الذي لا قيمة له، وكل شيء قائم في جوهره على النزاع الذي لا تسامح فيه، والأمر كله للغلبة: غلبة الأقوى، لا غلبة الأعدل، غلبة الحيلة لا غلبة الصدق، غلبة البراعة لا غلبة الحق
فهذه الشريعة هي شريعة إعزاز القويِّ، لأن القوة تسوِّغه أن يتسلط، وإذلال الضعيف، لأن الضعيف تهالك به أن يتحكم، وليس بين هذين معادلة ولا نصفة، وليس أحدهما من الآخر(365/16)
إلا كالثعبان من العصفور إذا عرض له، فسلط عليه الرعب من عينيه، فينتفض في قبضة أشعتهما المفترسة المسمومة حتى يبرد دمه فلا يستطيع حركة، ولا ينتغش بدنه بذعاءٍ من الحياة. هي الشريعة التي تجعل إنسانها القوي مقبرة لإنسانها الضعيف، فالقوي أبداً آكل قد أرمَّت في نفسه تلك الجيف التي انتهشها وألقى بها في معدته، فتجيفت وتعفنت، وتصاعدت أرواحها المنتنة في حياته، فجعلته متسرِّعاً نفّاذاً كأنما يريد أن يهرب بنفسه من نفسه التي لا يطيق جوها، لأنه جو خانق، تطوف فيه أشباح الفرائس المسكينة التي بطشت بها أنيابه ومخالبه
هذه الحضارة القابرة التي تدنست روحها بالرمم التي ضعفت أن تقاوم القوة، لن تستطيع إلا أن تفسد العالم وتدنسه كما تدنست؛ فإنه محال أن تكون الشريعة مدَّنسة نجسة، وتأتي الناس بخير طاهر مبارك يغسل أدران الإنسانية التي تتجمع عليها يوماً بعد يوم، ولا أن تخرج نفس الإنسان فيها مع الفجر ندية مشرقة رفافة تستقبل بفضائلها أعمال نهارها
إن شريعة إعزاز القويّ وإعلاء الأقوى، وإذلال الضعيف وإسقاط الأضعف، هي الشريعة الحيوانية التي لم تعل إلا بإذلال الروح والعقل وإسقاطهما ونبذهما، هي شريعة البغي والعدوان على الروح بالروح الشيطانية، وعلى العقل بالعقل المتمرد، وكلما استحكم أمرها كانت الإنسانية ذاهبة إلى نبع نجس تنغمس فيه لتصدر عنه أقوى مما وردت - أي أنجس مما وردت
إن الكون لا يصلح إلا على معنى الأقوى والأضعف. هذا حقٌ لا يماري فيه إلا مكابرٌ أو مبطل أو أحمق. ولكن يبقى ذلك العمل الإنسانيّ الذي يثبت للإنسان معاني النبل المنحدرة في روحه من نبل النور الأزليّ الذي بعث الحياة بعثاً في نفسه وفي أعماله، وبهذا العمل وحده يعرف الإنسان معنى السعادة في السراء والضراء، وفيما أرضى وما أسخط، وتكون حاله في الحالين واحدة، وذلك بأن تتسع روحه بالواجب الاجتماعي الروحي الذي يتراحب بإنسانيته في الكون كله، فنقع اللذة منها موقع الألم. وينزل الألم في منزل اللذة، وتمسح النظرة السامية عن الوجود كل الغبار الأرضي الذي يغطي محاسن الحياة وتنير الكلمة ظلمة النفس: الحمد لله فيما سر وما ساء
والعمل الإنساني المستمد روحه من الجزاء الإلهي في الإنسان هو العدل والمساواة، وقد(365/17)
جعلت الحضارة الحديثة معنى العدل والمساواة صدقة يتصدق بها أغنياء قوم على فقرائهم، وأقوياؤهم على ضعفائهم، لا على معنى الصدقة في إخلاصها لله ثم للإنسانية ولكن على معنى التخفف من تعب الغنى وتعب القوة
أما حقيقة العدل والمساواة، فهي عمل الإنسان الأقوى في رفع الإنسان الأضعف إلى مرتبته، فلا يزال هو يرتفع بقوته، ولا يزال الضعيف يسمو معه لأنه معقود الأواصر به. وإذا كان ذلك هو القاعدة فالاجتماع كله سام ذاهب إلى السمو، ولا يكون فيه معنى للطبقات إلا على معنى التدرج، ولا يكون التدرج إلا على تماسك وتواصل، وليس تماسك ولا تواصل إلا على حرص الأعلى على التعلق بالأدنى، وكذلك لا يرتفع شيء من المجتمع لأنه أعطى القدرة على الارتفاع، ولا يسقط الشيء الآخر منه لأنه لم يجد ما يتعلق إذ حرم هذه القدرة أو زويت عنه أسبابها
وقد جعل الإسلام من أول أمره غرضاً للمسلم لا يرضى منه غيره، ورد معنى الإسلام إليه، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقاعدة وقال للناس: اعملوا: فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه أزر بعض. والإيمان لا يعرف الغني والفقر، والقوة والضعف، والمراتب الحيوانية التي طبعتها الطبيعة على تنازع البقاء وغلبة الأقوى، بل هو معنى يوحد الناس حتى ليس لأحد فضل على أحد إلا بقدر منه، وحتى إن العبد المملوك العاجز ليرفعه إيمانه على من ملكه واستبد به واعتقد رقبته بماله، إذا لم يكن هذا المالك قد استحق بإيمانه مرتبة هذا العبد
وفي بعض الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء هداية إلى هذا الأصل، فقد روى عن المعرور بن سويد أنه قال: لقيت أبا ذَرِّ بالربذة، وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببتُ رجلاً، فعيَّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذرّ، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!! إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم
ولا ينتهي عجب متعجب من بلاغته صلى الله عليه وسلم، وكيف ينزل كلامه تنزيلاً في معانيه، تدور بها دورة دائمة لا تنتهي على نظام ثابت لا يتبدل. فقدّم صلى الله عليه وسلم(365/18)
الأخوَّة بين المؤمنين لأنها هي الأصل الذي لا يتم معنى الإيمان ولا معنى الإنسانية إلا به، وردّ على هذه الأخوة ما يوجبه المجتمع من مراتب الناس على الغنى والفقر، والقوة والضعف، ألا وهي الخدمة التي يقوم بها النظام الاجتماعي فقال: (إخوانكم خولكم) ولم يقل: (خَوَلكم إخوانكم)، هذا مع أن أصل الخطاب إلى أبي ذر يتوجه إلى مقصود بذاته، وهو خادمه أو غلامه الذي سبَّه، فكان أول ما يسبق إلى اللسان، وأقرب ما يسرع إليه الوهم، أن يتعين خادمه بالابتداء
ثم انظر كيف قال: (جعلهم الله تحت أيديكم)، (فمن كان أخوه تحت يده)؟ وكيف حرَّر الإنسان من رقبة العبودية القابضة على عنقه، فجعله تحت يده يستظل ويتحرك في هذا الظل، ولم يجعله في يده يتصرف فيه ويقبض عليه ويستذله، فإن شاء حطمتْه قبضتُه. ثم دَرَج على هذا الأسلوب البليغ حرفاً بعد حرف حتى قال: (فإن كلفتموهم فأعينوهم)، وذلك زكاة القوة التي بها ملك المالك، واستخدم المستخدم. فإذ كان المؤمن قد قوي على تكليف ضعيفه أن يعمل، فهو أقوى على أن يشاركه إذا عجز أو قعد به الضعف الذي أصاره إلى أن يرضى أن يخدم نفسه من كان أعلى يداً وأقوى قوة
فهذه هي شريعة الروح الطاهرة التي تتعطر من نواحيها برائحة جنة الخلد؛ فانظر ما بينها وبين شرائع المعدة التي جعلت أحشاءها مقابر للضعفاء تأكل منهم لتتسع بمعنى الجريمة الحيوانية، وتنقبض عن معنى الرحمة الإنسانية الإلهية
فهل يمكن أن يتطهر العالم فيما يستقبل من أيامه على أساس هذا الهدّى النوراني الذي جعل النظام الاجتماعي سموَّا بالإنسان كله على مراتبه كلها؟ هل يمكن أن يفهم العالم حقيقة هذا التطهير التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا قدِّستْ - أي طهِّرت - أمةٌ لا يؤخذُ لضعيفها من قويها)؟
ويلك آمن. . .! إن وعد الله حق
محمود محمد شاكر(365/19)
4 - إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
إن من دأب العادة أنها تضعف الحس، وتذهب بالانتباه. فالغني الذي يلبس الحرير، وينام على السرير، ويركب السيارات، ويملك (العمارات) لا يجد لذلك كله من اللذة ما يجد الفقير المعدم، والبائس المحروم إن نال مثله، والشبعان لا يدرك اللذة التي يتوهمها الجائع، والصحيح لا يعرف لنعمة الصحة قدرها إلا إذا مرض، فلا لذة في الدنيا إلا في التنقل والتبدل، وألاّ تحمد على حال مهما حسنت في ذاتها. وهذا ما أراده الشاعر حين قال:
ولذيذ الحياة ما كان فوضى ... ليس فيه مسيطر أو نظام
من أجل ذلك أحسسنا حين ذهبنا إلى غداء الأمير، ورأينا عادات لم نألفها، وطرائق في الطعام لم نعرفها، بلذة التبدل، والاستمتاع بالجدة، فما كاد يستقر بنا المجلس حتى أقبل العبيد فمدوا سماطاً على الأرض، ووضعوا عليه قصعة هائلة كان يحملها منهم اثنان، وقد ملئت رزاً وألقى فوقه خروف كامل بيديه ورجليه ورأسه، إي والله. . . كأنهم (والله أعلم) خافوا أن نشك فيه فنحسبه دباً أو فيلاً أو قطاً، فأبقوا على الرأس دليلاً قاطعاً على أنه خروف أصيل من أمة الضأن
وكان الخروف مفتوح العينين، ناعس الطرف، فأخذتني الشفقة عليه، وتوهمت أنه ينظر إلينا، وأنه. . . . . . ثم رأيت أن لا مجال للوهم ولا للخيال، وأن الوقت لا يتسع للأدب، لأن القوم أحدقوا بالقصعة وشمروا عن سواعدهم، ونظروا شزراً فعل من يقدم على معركة، فخشيت أن يذهبوا بالرز واللحم، ويبقى لي الخيال والوهم، ومتى أفاد الخيال جائعاً، أو أجدى الأدب على إنسان؟
وكان أصحابنا يدورون بعيونهم يفتشون عن ملعقة أو سكين أو شوكة فما وجدوا شيئاً من ذلك؛ وأبصروا القوم يأخذ أحدهم قبضة من الرز، فيديرها في كفه، ويعصرها، حتى يقطر منها السمن، ويحركها كما يحرك اللاعب الكرة قبل قذفها، حتى إذا اطمأن إلى أنها صارت(365/20)
كالقنبلة، قذف بها في حلقه، فما استقرت بإذن الله إلا في معدته، لا تقف في الفم، ولا تمسها الأسنان. . . وطفق أصحابنا ينظرون إليهم ويعجبون، ثم أقبلوا يأكلون كما يأكلون، ولبثت منتظراً أقول لنفسي وأنا أحاورها لأقنعها: من أين تأكلين إذا لم تجاري وتماشي، وتستعدي لقبول كل ما تأتي به الحال؟ وإني لفي تفكيري، إذ حانت مني التفاتة، فوجدت القصعة قد تكشفت، والخروف المسكين قد تناثر لحمه، وبدت عظامه. . . فمددت يدي آكل كما يأكلون، وقد علمت أن شر طعام خير من الجوع، والرز يتفلت من بين أصابعي، والسمن يملأ كفي، فإذا رفعتها إلى فمي، نقط من مرفقي، ولم يكف القوم ما كانوا قد وضعوا من السمن، بل عمدوا إلى كؤوس يحملونها، فملئوها وصبوا ذلك أمامنا، حتى نستطيع من كثرة الدهن أن نأكل، ولم يكن الرز ليستدير في يدي استدارته في أيديهم، بل كان يدخل بين أصابعي، حتى أضطر إلى إدخالها جميعاً في فمي، وغسل وجهي كله بالسمن. . .
وانقضى الطعام. ولا تسألني: أشبعت أم لم أشبع، كيلا يطول سؤالك كما طال في هذه الرحلة عطشي وجوعي
ثم جاءونا ونحن في مجالسنا بطست عليه مصفاة قد وضعوا فوقها قطعة صابون وإبريق يصبون منه على أيدينا، على نحو ما كان يصنع في دمشق قبل عشرين سنة، ولم تكن تلك طريقتهم في الغسل، وإنما يكون مثلها في مجالس الأمراء والمتحضرين من العرب. أما البدو، فيجزئهم الرمل. وقد بلغنا عن بعض البدو في جهات الشام، أنه إذا كانت وليمة أو غداء كالذي نصف، خرج الضيوف فمسحوا الدهن الذي في أيديهم بباب الخيمة. وعندهم أنه كلما ازداد عليها من الدهن ازداد كرم الرجل وفخاره. . .
ثم خرجنا نجول في البلد، وقد علمت أي شيء هذا البلد فاستقريناه كله في ساعة، ثم دخلنا المسجد، فرأيناه داني السقف قائماً على عمد دقاق من جذوع النخل، جدرانه من الطين، وأرضه مفروشة بالرمل، لا بساط ولا (سجادة) ولا حصير، فسألنا متعجبين، فعجبوا من عجبنا، وأنكروا سؤالنا، وكأنهم استخفونا واستجهلونا، لأن من المقرر عندهم (كما علمنا بعد)، أن هذه هي سنة السلف، وعليها مساجد نجد كله اليوم. وأنا رجل سافي وهابي، ولكنني لست من المتمسكين بحرفية النصوص، ولا ممن يأخذها بلا فكر. وأنا أفهم أن المسجد في الإسلام يستحب فيه الخلو من الزخارف التي تشغل عن الصلاة، وتطلب فيه(365/21)
(البساطة)، ولكن البساطة مردها إلى العرف، وليس مدارها على الرمل والطين. والذي أفهمه أن فرش المسجد بالبسط النظاف، وتحوير جدرانه أو دهنها بلون واحد، واتخاذ مكان فيه للأحذية حتى لا توضع الجباه، ومدافئ للشتاء إذا كان البلد بارداً، ومراوح كهربائية في البلد الحار، وإقامة مكبر للصوت في مثل مسجد دمشق الذي يجتمع فيه اليوم لصلاة الجمعة أكثر من عشرين ألف مصلٍّ. كل هذا لا ينافي سنة (البساطة)، وإن لم يفعله السلف للجهل به أو لعدم الحاجة إليه. ومصيبتنا نحن المسلمين في هذه الأيام أننا لا نعرف التوسط ولا الاعتدال، فمنا من ينطلق وراء عقله وحده لا يتقيد بوحي ولا كتاب، ومنا من بدع العقل والكتاب والسنة ليفكر بعقول من مضى من فقهاء القرن التاسع والعاشر، أو يأخذ من الكتاب والسنة، ولكنه يفهم بالحروف والألفاظ ويدع ما وراءها من المجاز والإشارة والحكمة والمصلحة. . .
عدنا إلى الدار التي منحونا مفتاحها، نتحدث ونسكت، وننام ونفيق، ونقرأ حتى نمل، ونمل فنعود إلى القراءة حتى تصرَّم النهار ونحن نظنه من ثقله شهراً. وقد عرضت مرة في بعض مقالاتي إلى تحليل الحس بالحياة، فكان من رأيي أن الحياة أصعب شيء على الإنسان، وأنه لا يستطيع أن يحملها، فهو يقطعها أبداً بحديث أو مطالعة أو عمل، أو ما هو من ذلك بسبيل، فإذا خلت حياته من شيء يشغلها عادت هماَّ وحملاً ثقيلاً. وكذلك كانت حياتنا ذلك اليوم في (قريات الملح). وكنا قد سألنا الأمير دليلاً، وأقمنا ننتظره حتى جاء، وإذا هو سيد من سادات (الشرارات)، عُمَّار تلك الديرة، والمشيرة صاحبة النفوذ فيها اسمه (صْلَبي)؛ ولي في صفته كلام في أول قصة (أعرابي في حمام) ما زدت فيه على الحقيقة وإن كنت قد أقمت القصة على الخيال؛ فليرجع إليه من شاء ثَمَّة
وقد أبدلنا الله بدرهمنا ديناراً حين صرف عنا الحاج غراباً الجاهل الجامد، الحضريّ الثقيل؛ وجاءنا بهذا الأعرابي الفكه الظريف الذي أخذنا منه فوائد كثيرة ولمسنا في صحبته السلائق العربية لمساً: الذكاء والوفاء والإباء، والمنطق البليغ والذاكرة القوية والجواب الحاضر والصبر والإيثار. وأشهد لقد أحسن إلينا أمير (القريات) حين اختاره لنا، فلما حضر تجددت عزائمنا، فأعددنا ثقلنا، وذهبنا نودع الأمير ونستأنف السفر، وكان أهل البلد مجتمعين حول الدار التي نزلناها، وكأن مجيئنا من الحوادث الكبرى في تاريخ البلد.(365/22)
فمشينا بينهم، ودخلنا الحصن، فوجدنا الأمير قد أعد لنا مجلساً في رحبته، يشرف على الفضاء، ودعانا إلى المبيت، وألحف علينا، وذهب يلتمس إلى إقناعنا الطرق، ونحن نعتذر ونتملص، لا أدري أكان ذلك حياء من الأمير أن نطيل المكث في ضيافته، أم كراهية البقاء في هذه البليدة الساكنة سكون المقبرة، الخالية من كل شيء يشغل أو يسلي، أم حماقة وطيشاً ولعل ذلك هو الأقرب. . . فلما يئس منا عرض علينا العشاء فأبينا واجتزأنا بالشاهي نشربه إذ لم يكن منه بد، وأخرجنا مما كان معنا حلوى من حلويات دمشق التي ملأت شهرتها الآفاق، وعجزت عن صنع مثلها أيدي الطهاة، فعرضنا منها على الأمير فطعمها فأعجبته وقال لنا، إن ما ذاق مثلها، وخير ذلك ألا يذوقها فيعوده مذاقها الترف والنعيم، ويسلبه روح الصحراء
وانتهى المجلس مع الغروب فقمنا إلى الصلاة، ثم استقبلنا البادية القاحلة حيث لا نجد حاشا تبوك والعلا، داراً مأهولة، ولا منزلاً معموراً، ولا نجد إلا الرمال والصخور والشمس الملتهبة، والفضاء الأرحب، حتى نصل بمشيئة الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
سرنا فما جاوزنا غير ساعة حتى أظلم الليل، وتوعرت الأرض، وتعذر المسير، فأمرنا الدليل بالنزول، فنزلنا وجعلنا من عادتنا بعد ذلك ألا نسير إلا نهاراً، وإن اضطرنا إلى مشي الليل اخترنا الإدلاج من آخره إلى المسرى من أوله. . .
وكان نزولنا في أرض رخوة ما ألقينا لها بدلاً، فلما نصبنا الخيمة وبسطنا البسط وقعدنا إذا بها تعصر ماء، وإذا هي سبخة من تلك السباخ التي يستخرج منها الملح، فتفرقنا وأبعدنا رجاء أن نصيب أرضاً خيراً منها فما وجدنا، فاسترجعتا وندمنا على ترك البلد، والسفر ليلاً، والإعراض عن دعوة الأمير، وأمضينا الليل على شر حال، منا من نام وسط الوحل، وما السبخة إلا وحل. فأصبح يشكو الرثية (الروماتزم) أو يحس الأذى في ظهره، ومنا من لبث الليل كله في السيارة لا يستطيع أن يتحرك أو يمد رجله، ولقينا من الشدة ما ذكرنا معه بالخير ليلة (أم الجمال)
رب ليل بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
تبدل عليَّ كل شيء مذ فارقت (القُريَّات)، فلقد كنت قبل أن أصل إليها أفكر فيها وأراها(365/23)
غاية سفري، فصرت أمشي من بعدها لا أعرف لي غاية إلا تبوك، وأين نحن من تبوك حتى نفكر فيها؟ وكيف وبيننا وبينها أيام وليال؟ وكنت آسف على فراق دمشق فصرت لا أفكر فيها إلا لماما، وأحسست كأني منقطع حقاً عن العالم، فلا بشر إلا الرفقة التي أصحبها، وليس إلا الرمل والتلال والسراب مشهد نراه، وكان عملنا كله التدقيق في الأرض، والانتباه إلى الدليل، لنجتنب الخوض في رملة، أو المرور على شِعب، أو الالتقاء بصخرة. ولقد كنت أنظر تارة إلى هواننا إلى الصحراء، وأفاضل بين صغرنا وجلالها، وفنائنا وبقائها، فأحس الصغار، وأشعر بالعجز، ثم أنظر فلا أرى فيها إلا إيانا قد انفردنا بين شرقها والمغرب، وانبسطت تحت أرجلنا وامتدت إلى الأفق البعيد، ونحن نغزوها ونوغل فيها، ونحمل حرها وبردها، ولا نبالي شمسها ولا رملها، فتغمر نفسي القوة، وأرفع رأسي فخاراً، وأتيه زهواً. . .
وكنا نسير النهار كله، سيراً بطيئاً. وما أكثر ما نقف نخرج من سيارة غاصت في الرمل، أو نتحرى خير الطرق، أو ننظر في (الموصلة) لنتبع أبداً الجنوب، وكنا أبداً على استعداد للوثوب من السيارة. فإذا مالت الشمس وأصفرت، نزلنا فنصبنا خيمتنا وأكلنا وشربنا الشاي. . . وأنا أحلف أني على ولعي بجمال الطبيعة، وارتيادي الجبال والأودية، ووقوفي بالعيون والينابيع، ومقامي على الشواطئ وحيال الشلالات، ما رأيت منظراً أجل ولا أجمل ولا أحفل بالعظمة والمتعة كم أماسي الصحراء، حيث تضطجع على تلة من التلال، ثم تمد بصرك إلى الجهات الأربع فلا يحجزه حاجز، ولا يقف في سبيله شيء، فترى الشمس وهي تغيب في الأفق الغربي، وظلال الليل وهو (يشرق) من الأفق الآخر، والنجوم وهن يطلعن في السماء الصافية، وتحس بلطف الليل ورقة نسيمه، كما أحسست بجلال النهار وحدة شمسه، ثم تقوم مع الفجر قوياً نشيطاً، قد قبست من روح الصحراء روحاً جديداً، لتستقبل الحياة بعزم جديد!
علي الطنطاوي(365/24)
خرفة
هذا الإنسان. . . أوجد الحضارات
(السمك والوحش والطير يأكل بعضها بعضا، لأنها حرمت
العدالة، أما الإنسان فقد منحه زيوس إياها وهي خير ما يمنح.
. .)
أما أنا فأقول لكم لم لا يأكل الناس بعضهم بعضاً
في زمان سلف، قديم كل القدم، وفي مكان لا أعرفه تماماً، كان يعيش أبو البشرية آدم وأمها حواء والابن البار هابيل، والابن العاق قابيل
وفي يوم من الأيام، بعد أن مل قابيل العمل وزهدته نفسه، واستصغرته، جلس على مرتفع من الأرض، ومرفقه إلى ركبته، وقد أسند رأسه إلى قبضته الضخمة. جلس قابيل مهموماً قبل أن تخلق الهموم، مفكراً قبل أن يخلق التفكير. لقد مل العمل ومل الحياة، وضاقت الدنيا على سعتها، فلم تعد تحقق شيئاً مما يريد قابيل. هاهو ذا يعمل كل يوم. يذهب في الصباح إلى الأرض يصلحها ويبذر الحب فيها، وإذا أعوزها الماء حمله إليها من أماكن بعيدة، ثم إذا هو رأى حيواناً يعبث بماشية يرعاها أخوه، سعى إليه وأرداه
كل شيء أمام قابيل سهل ميسور. إنه ما حاول يوماً عملاً واستعصى عليه. كل ما يراه خاضع ليده القوية. الأرض تتفتت في يسر وهو يضربها لتفلح. والحيوانات باتت تخاف رؤيته. والأمطار إذا شحت استطاع أن يحمل الماء من أماكن سحيقة دون أن يتعب. . . كل شيء سهل ميسور إذا تناوله قابيل. فأية حياة فارغة هذه؟
وفي تلك اللحظة مر هابيل يسير كعادته دائماً في سكون وبطء، لاهياً عن كل شيء بشيء لا يفهمه أخوه؛ إنه يأخذ الحياة كما وجدت، لا يطلب جديداً ولا يتعب نفسه في هذا الطلب، ولا يحس مللاً كما يحس قابيل
ثم هناك كبش هابيل، لقد قبل عندما قدمه قرباناً، فنزلت النار من السماء والتهمته، بينما لم يرفع زرع قابيل الذي قدم كما رفع كبش أخيه
وبعد! فلابد إذن أن يكون هابيل شيئاً عظيما، فقربانه قد قبل بينما لم يقبل قربان أخيه؛(365/25)
وكلاهما ابن لآدم وحواء. وهو لا يفكر كما يفعل قابيل وإنما هو لاهٍ راضٍ. إنه إنسان آخر غير قابيل، إنه شيء غامض محاط بالسر. . .
وتنهد قابيل تنهدة المحنق وظل يتبع أخاه النظر يسعى إلى الكوخ بجسمه الطويل المعروق والماشية تسعى من أمامه
هذا الإنسان الغريب الغامض لم لا يسبر غوره ويقيس قوته إليه؟
. . . ورويداً رويداً نزل الظلام؛ ورويداً رويداً امتد الزمن به. فقام أخيراً وقد أزمع أمراً
لقد وجد ميداناً جديداً تبرز فيه قوته. ولقد كان الظلام حليفه هذه المرة، لأن قابيل لم يستطع أن يبلغ مأربه إلا في الظلام!
ومضى الليل إلا أقله، وبينما كان آدم وحواء نائمين، وقف قابيل خلف أخيه، ثم رفع يده وهوى بها، فسقط هابيل، دون أن يتهيأ لهذه المفاجأة، لأن أخاه استعان بها كما استعان بالظلام!!
وهكذا استطاع قابيل أن يجرب قوته من جديد وقد نجح في ذلك
وبعد، أفتدرون لم لا يأكل الناس بعضهم بعضاً؟ ذلك لأنهم يجدون ما يأكلون
(م. وهبة)(365/26)
الفروق السيكلوجية بين الأجناس
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
تمهيد
قصدت بهذا التمهيد أن أقدم عجالة عامة عن مشكلة الأجناس البشرية والمفاضلة بينها، وألا أتعرض للبحوث العلمية التي أجريت منذ أواخر القرن الماضي لمعرفة الفروق بين الأجناس. وقصدت أيضاً أن أجعل موضوع اليوم ذا صبغة تاريخية اجتماعية حتى أريح القارئ قليلاً من مطالعة الحقائق العلمية الجافة، ولكنني إن أعفيته هذا الأسبوع من عرض الحقائق العلمية التجريبية فلن أعفيه منها في الأسابيع القادمة
ومشكلة الفروق الجنسية مشكلة قديمة كقدم آدم. لا بل إنها تبدأ به، وبالخلاف بينه وبين إبليس اللعين، فإنه لم يتحرج من إعلان احتقاره للجنس البشري حين أبى أن يسجد لآدم كأمر ربه. فقال الله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين) ومن هذا اليوم ظهر الخلاف بين الجنس الناري والجنس الطيني، وهو خلاف جر مصائب على إبليس ومن تبعه، وعلى آدم وذريته من بعده، ولا يزال مثل هذا الخلاف الجنسي مبعث المحن بين بني آدم أنفسهم
ثم هبط آدم إلى الأرض وتفرق أبناؤه شعوباً وقبائل، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، وبعدت صلتهم بأبيهم الأول، فتنافسوا وتحاسدوا، ووقعت بينهم العداوة والبغضاء، وذهب كل شعب يُدِلُّ بعَدده وعُدده، وحضارته وثقافته، ويفخر على الشعب الآخر، ويعيره قلة العدد وتأخر الحضارة. وكان ما كان مما حفظه لنا التاريخ والكتب المقدسة وما لم يحفظ
أقام بنو إسرائيل في مصر القديمة، وفلحوا الأرض، ورفعوا البنيان، وكثر عددهم، وقوى ساعدهم، وأصبحوا ذوي نفوذ وسلطان. فخشيهم فرعون ومن معه، ونظروا لهم شزراً واحتقاراً (واستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف، ومرروا حياتهم بقسوة، واستعبدوهم واستخدموهم في الطين والّلِبن، وفي كل عمل في الحقل. وكان كل عمل عملوه بتأثير(365/27)
الضغط والعنف. . .) ولم يكن مِرْنفتاح بألين جانباً مع الإسرائيليين من سلفه رمسيس الثاني، فأذاقهم الأمرين لا لسبب إلا لأنهم غير مصريين، ومن جنس أجنبي، حتى إذا بلغ بهم البؤس مبلغه جاءهم موسى بعصاه، فأنقذهم من جناية جنسهم عليهم، ولاقى مرنفتاح حتفه شر لقاء
ثم سار التاريخ سيرته في الشرق والغرب، فظهر الإغريق بحضارتهم وفلسفتهم وآدابهم، تلك الحضارة الإغريقية التي يعزى إليها - وإلى الرومانية أيضاً - فضل النهضة العلمية الأوربية
وحسب الإغريق أنهم شعب مقدس لا يصح أن يتزاوج مع غيره، ولا أن يختلط غيره به. وسموا غيرهم من الشعوب همجياً ووحشياً. ولم يذكروا أن حروفهم الأبجدية إنما كانت عارية فينيقية، وأن مبادئهم الفلسفية نشأت في مصر. فتعصبوا ضد غيرهم من الأجناس، ودعوهم برابرة. وكانت كلمة أو ما ظهرت ظهرت في لغتهم، فأطلقوها على الرومان جيرانهم، لأنهم كانوا من جنس غير جنسهم، ولأن لغتهم اختلفت عن لغتهم، ولأنهم كانوا دونهم في الحضارة والثقافة، ولم تلبث هذه الكلمة أن دخلت اللاتينية فاستعملها الرومان بدورهم، وأطلقوها على الشعوب الأوربية التي كانت تتاخمهم كالصقلب والكلت والجرمان. وهكذا اعتبر الرومان - الذين كانوا يسمون برابرة - كل من لم يدخل ضمن نفوذ الإمبراطورية الرومانية بربرياً لأنه غير متحضر، ولأنه من جنس دون الروماني
لم تكن الحال في بلاد العرب قبل الإسلام بأحسن منها عند الأمم الأخرى، فبالرغم من أن العربي يعتز بجنسه العربي كانت المنافسة بين عرب الجنوب وعرب الشمال تصل إلى العداء والقتال، بل كانت الحروب بين العدنانيين أنفسهم لا تطفأ لها نار. وكان التعصب للقبيلة - التي هي الجنس بمعنى ضيق - من أهم أسباب هذه الحروب. وكان الفرد من البطن يفخر على ابن عمه من البطن الآخر بنبل أسرته وكرم محتده. وظل أثر ذلك إلى الإسلام. وهاهو ذا جرير يهجو نميريا بقوله:
فغض الطرف إنك من نُمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
مع أن كلاباً ونميراً كلاهما ينتمي إلى أصل واحد هو عامر ابن صعصعة الهوازني
ما كان الإسلام دين تعصب أو جنسية. فقد كان الناس فيه سواسية كأسنان المشط. ولم يكن(365/28)
بين المسلمين فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. وقد حافظ الخلفاء الراشدون على هذه المبادئ السامية، فلم ينظروا إلى الشعوب المفتوحة نظرة الغالب القوي، ولم يحطوا من شأن الأجناس التي خضعت لهم. بل لقد كان أول الشروط التي قدمها عمر بن العاص إلى مقوقس مصر هو (إما دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وعليكم ما علينا). غير أن النعرة العصبية القديمة بُعثت في عهد الأمويين الذين اعتقدوا أن العرب هم أفضل الأجناس، وأن لغتهم أرقى اللغات. ونظروا إلى الموالي وأجناسهم نظرة احتقار وازدراء. وكانت هذه سياسة خاطئة أثارت حروباً جدلية شعواء، وكرهت الأجناس غير العربية - ولا سيما الفرس - في حكم الأمويين فأخذوا يتلمسون الفرص للثورة والخروج على الولاة، فانضموا إلى الخوارج والشيعة، وآزروا دعاة بني العباس، فكان لهم النصر
ولم تكن هذه المفاضلة الجنسية بين العرب والفرس فقط، بل كانت بين العرب أنفسهم عدنايين وقحطانيين في الشرق وفي الأندلس. وكانت اليقظة الشعوبية (في بلاد فارس) أيام حكم العباسين، هي التي سهلت وجود تلك الدويلات التي مهدت لزوال الخلافة
وقد أسرف الشعوبيون في الحط من شأن العرب، فرموهم بالتأخر، وأنه لم يكن لهم ملك يجمع سوادهم، ويضم قاصيهم، وينهى سفيههم. ولم تكن لهم قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة، إلا ما كان من الشعر، وقد شاركهم فيه العجم. ورماهم ابن خلدون بالتوحش وتخريب العامر، واستباحة أموال الناس نهباً ومغرماً
وفي أوربا استمرت الحروب الجنسية أثناء القرون الوسطى بين القوط والوندال، وبين الجرمان والغال، وبين السكسون والكلت، وبين الاسكتلنديين والإنجليز. وهذه الحروب وإن كان بعضها للغزو والغنيمة إلا أن الجنسية كانت تشعلها، لأن الجنسية أو العصبية كانت دائماً العامل المشترك بين أفراد الفريقين المتحاربين
وفي أوربا الحديثة شاعت نظرية الجنس الأبيض والأجناس الملونة واعتقد العامة - والمتعلمون أيضاً - أن الأجناس الملونة أحط من الجنس الأبيض في الذكاء والاستعداد الفطري للانتاج، والاستعداد لتلقي الحضارة. ولعل الذي ساعد على انتشار هذه النظرية الحقيقة الماثلة، وهي سيادة الجنس الأبيض الأجناس الملونة
وفي أمريكا - بلاد الديمقراطية - تجد الزنوج في ولايات الجنوب موضع احتقار(365/29)
مواطنيهم البيض، وهذا بالرغم من تفوقهم في الزراعة والصناعة والرياضة
ثم ما هي تلك الحمى الجنسية الطائشة التي عبثت بعقول العلماء والساسة من النازيين فألقوا الكتب ووضعوا القوانين ليثبتوا أن الجنس الآري أو الجرماني هو أفضل الأجناس البشرية، وأن الشعوب السامية - وهي مهبط الوحي ومنبع العرفان - شعوب منحطة لا حضارة لها ولا فن؟
إن هذه الدعاوى المريضة بانحطاط بعض الأجناس وتفوق البعض الآخر، وما ترتب على ذلك من كرب وحرب، ومطاردة وعداء، وما كانت لتستند إلى دليل من العلم أو برهان من التجربة، اللهم إنها السياسة هي التي أحلت ذلك. والسياسة والعلم لا يتفقان. لأن العالم يحترم الحقائق لذاتها، فلا يحابي ولا يتأثر بغاية، فهو في أحكامه موضوعي بينما السياسي ذاتي يضحي بالحقائق العلمية في سبيل مبدئه وغايته. ولذلك لا يكون - ولن يكون - العالم سياسياً إلا إذا طلق العلم
وسنستأنف حكم السياسة السابق على الأجناس أمام قضاة العلم في المقالة القادمة إن شاء الله
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(365/30)
إرادة الطفل
لجان جاك روسو
ترجمة الأستاذ عبد الكريم الناصري
تكفلت في إحدى السنين بتربية طفل (شقي) تعود تنفيذ كل ما يضطرب في عقله الصغير من رغبات، وما يجول في قلبه البريء من أماني، كما تعود أن يحمل غيره على تنفيذها إن لم يستطع هو. وقد عرفت فيه تلك العادة منذ اليوم الأول لتكفلي تربيته، إذ أراد أن يجرب خلقي وذوقي ومجاملتي، فرأى أن ذلك لا يتم له إلا بمضايقتي وتكدير خاطري. وبينما أنا غارق في نومي في منتصف الليلة الأولى، إذا به يستيقظ من نومه ويجلس تحت سريره، ثم يلبس (الروب دي شامبر) ويدعوني، فنهضت وأشعلت الشمعة، وسألته عن أمره وماذا يريد، فلم يطلب شيئاً، ولم يبد سبباً لنهوضه؛ بل عاد إلى سريره واحتواه النوم بعد ربع ساعة، راضياً عن تجربته، مقتنعاً بحسن مجاملتي، مبتهجاً لقوته وسلطانه! وبعد يومين أعاد تلك التجربة بنفس النجاح، أما أنا فلم أبد أية إشارة إلى الضجر، أو علامة على نفاد الصبر، ولكني قلت له حين عانقني عند عودته إلى النوم: (اسمع يا صديقي الصغير. إن هذا حسن جداً منك، ولكن لا تكرره ثانية)
وقد أثارت هذه الكلمة فضوله وهيجت منه حب الاستطلاع وأراد أن يرى كيف أجرؤ على عصيان أوامره السامية. لذلك لم يفته في الليلة التالية أن ينهض في منتصفها ويدعوني. . سألته ماذا يريد. فأجاب إنه لا يستطيع أن ينام. فأبديت أسفي الشديد وسكت. ثم رجاني أن أشعل الشمعة، فاستوضحته السبب، وصمت. عندئذ هب يدور حول الغرفة راكضاً، صائحاً، مغنياً، ضاجاً صاخباً، قالباً المناضد والكراسي، كل ذلك لإزعاجي والانتقام مني. ومع ذلك، فقد نهضت بصمت وسكون، وأشعلت الشمعة، ثم تناولت صاحبي الظريف بيدي، وأدخلته حجرة له مجاورة لحجرتي وتركته هناك بدون ضوء، بعد أن أغلقت الباب عليه بالمفتاح؛ ورجعت إلى فراشي بدون أن أتفوه بكلمة واحدة. ولا حاجة إلى القول بأن الضجة لم تنقطع بسرعة، ولكني أصغيت - بعد هدوئها - فعلمت أنه يرتب فراشه ويستعد للنوم، فاطمئننت وهدأ روعي. ولما كان الصباح دخلت غرفته فرأيته مستلقياً على فراش صغير وغارقاً في نوم عميق(365/31)
ولا تظن أن هذا الطاغية الصغير لم يكن يحسن من أنواع المشاغبة والمشاكسة إلا هذا النوع. كلا، ففي أية ساعة يحلو له الخروج فيها، يجب على المربي المسكين أن يكون مستعداً لاصطحابه - أو بالأحرى لمتابعته والجري وراءه - وكان يُعني عناية فائقة ويحتفل احتفالاً خاصاً باختيار الوقت الذي يكون فيه مربيه منهمكا في أعماله أشد الانهماك، كأنه يريد أن ينتقم منه على الراحة الذي اضطر في الليل إلى تركها له
. . . لذلك لم يفته في اليوم التالي أن يقطع على عملي ويطلب مني أن أصحبه، وأترك ما أنا فيه من عمل بمزيد السرعة. فرفضت، ولكن رفضي لم يزده إلا إلحاحاً وإصراراً. . .
وأخيراً قلت له: كلا! أفهم أني حين أنفذ إرادتك، فإنك تعلمني أن أنفذ إرادتي أيضاً. . . إني لا أريد الخروج! فأجابني على الفور: حسن! فإني خارج وحدي!
قلت: (كما تريد). . ورجعت إلى عملي متغافلاً عنه
. . . أخذ يلبس ملابسه مهموماً لأني لم أنهج سبيله وأسلك مسلكه. ولما انتهى من لبسها حياني تحية الخروج، فرددت التحية، وأراد أن ينذرني الإنذار الأخير، فأخبرني صارخاً بأنه ذاهب إلى آخر الدنيا. فأجبته بأني أتمنى له سفراً سعيداً وعوداً حميداً. . . عند ذاك ازدادت دهشته، وعظمت حيرته، واشتد ارتباكه، وطلب من خادمه أن يتبعه، ولكن الخادم - الذي كنت قد حذرته من مرافقته وتنفيذ أمره هذا - قال إنه لا يملك من الوقت ما يسمح له بمصاحبته، وإنه يراعي مصلحتي وينفذ أوامري قبل أن يعني بمصلحته وأوامره. . .
وكيف يعقل أن نترك طفلاً يخرج وحده وهو يعتقد أن الناس جميعاً مهتمون بأمره، حريصون على إرضائه، مستعدون لخدمته؛ ويظن أن السماء والأرض مكلفتان بصيانته وحمايته. لقد أخذ يشعر بضعفه ويحس بعجزه، ويفهم أنه وحيد وسط أناس لا يعرفونه، ولا يقدرونه، ولا يحفلون به. ويتمثل المخاطر التي سيلاقيها، والعقبات التي ستعترضه في طريقه. . . ومع ذلك فقط ظل يلح في الخروج
. . . نزل الدرج ببطء وذهول. ودخل الشارع، معزياً نفسه بأن ما قد يصيبه من سوء تقع مسئوليته عليّ. وبقيت أنا أراقبه وأتابع حركاته. وّما كاد يتقدم بضع خطوات حتى سمع أصواتاً تتحدث عنه وتصل إلى أذنيه عن يمين وعن شمال
- إلى أين يذهب هذا السيد الجميل وحده؟(365/32)
- إنه تائه يا صديقي. أريد أن أرجو منه الدخول إلى بيتنا
- أنظر يا صاحبي إليه جيداً! ألا ترى أنه (شقي) طرد من بيت أبيه لشقاوته وعناده؟ دعه يذهب إلى حيث يشاء
- حسن! ليصحبه الله! إني خائف عليه من المصير!!. . . .
وما كاد سيدنا المتمرّد يسير ليلاً حتى التقى بطائشين في مثل سنة تقريباً، راحا يغيظانه وينهرانه ويضحكان منه. . . وهكذا، كلما تقدم وجد أصنافا من المربكات وضروباً من المعرقلات. . . لقد وضحت لديه قيمته عند الناس، وعلم أنه وحيدُ مهدوم الحماية محروم السند، ورأى سخرية الناس منه، واحتقارهم له، وأدرك مع الدهشة العظيمة أن عقدة كتفه الثمينة، وحاشية كمَّيْه الذهبية، لمن تنفعاه كثيراً أو قليلاً، ولم تحملا الناس على احترامه وتقديره، أو تضطرهم إلى مراعاة رتبته ومقامه!. . .
وكنت في أثناء ذلك قد أرسلت صديقاً لي لا يعرفه، ورجوته أن يتبعه على ألا يشعر به، فاقتفى أثره مدة، ثم استوقفه وراح يعظه، ويهوّل له خطورة عمله، ووقاحة فعلته، ووخامة عاقبته حتى لان وارتدع، وأحس بالخوف وشعر بالندم، ورجع إليّ مرتبكا مذهولاً خائر العزم مطأطئ الرأس تعلوه صفرةٌ وترهقه ذلة
ولكن يتمم أبوه الدرس، ويجعله قاسياً لا يُنسى، نزل في الدقيقة التي رجع فيها ابنه بحجة الخروج، والتقى به على الدرج؛ وأدرك الطفل أنه لا مناصَ من أن يقول من أين جاء، ولماذا لم أكن معه. . . لقد كان المسكين يود في تلك الدقيقة لو تغور به الأرض وتبتلعه، على أن يجيب على تلك الأسئلة المحرجة. . . ولكن أباه لم يطل في تعنيفه ولومه، بل قال له: (عندما تريد الخروج وحدك، أخبر مربيك. وإن عدت إلى فعلتك التي فعلت فإنك ظالمٌ نفسك - لأني سأعدّك لصاً حقيراً ولن أقبلك ولا أسمح لك بالدخول في بيتي!)
عبد الكريم الناصري(365/33)
مسلمو رومانيا
للأستاذ يوسف ع. ولي شاه
مما يشرح صدر المسلم الناهض أنه إذا أطلق عنان تفكيره في مجال شئونه الاجتماعية يشعر بوجود أخ محبب إليه يجري في عروقه دم يحمل عقيدته؛ فإذا صح هذا الإطلاق يرى أمامه مسلمي العالم، ويبين هذا التخيل بوضوح كيفية انتشار الإسلام في كل بقاع الأرض
فمن نظر إلى خريطة القارة الأوربية مثلاً يلاحظ المسلمين في كل مكان فيها؛ ويرى من الإحصاء أن عددهم يزيد تدريجياً يسار الخط المستقيم الذي ينزل من فنلاندا مخترقاً أوربا الوسطى إلى قرية سنت نجير بأسبانيا
يسر المرء حينما يرى أن مسلمي أوربا قد شاركوا أهلها مدنيتهم وجروا معهم في حياتهم النافعة المتمدينة مع محافظتهم على أصول الإسلام وروح التعاليم الخاصة به. ولكنه يأسف من جهة أخرى، إلى حد كبير، حينما ترى قوماً يريدون أن يهدموا حقوقهم مكتسحين حرية الفرد والجماعة. هذه مسألة تختص بالإمبراطورية الروسية وسنتناول بحثها في دورها
ومن بين هؤلاء الذين رقوا إلى مستوى المدنية الأوربية مسلمو رومانيا الذي يقطنون في منطقة اسمها دوبروجه موضع النزاع طوال عصور التاريخ
لمحة جغرافية عنها
هذه المنطقة المزدهرة التي سكنها الأتراك المسلمون في رومانيا هي أحسن أرض وأوسع باب للحكومة الرومانية، فتحت مصراعيها للعالم الشرقي والغربي معاً، وهذه البقعة قلما يوجد لجمالها الطبيعي ضريب في جهة أخرى من أوربا، على حين أن الشرق لا يعلم عن جمالها كثيراً ولا قليلاً، وهي محاطة من ثلاث جهات بالماء، ومن الجهة الرابعة تتاخمها هضبة كوادري لاتر وغابتها، ومحاطة بمياه الدانوب التي تحمل تحيات البلاد التي تخترقها ابتداء منن منبعها الطبيعي في الغابة السوداء، ومغمورة بمياه الدانوب التي تكسوها هي والبحر معاً لباس الزينة الطبيعية، وتبدو كأنها نجمة نزلت ثم منطقت خصرها ترغب في استقبال كل غريب شحب لون وجهه
أما أهميتها لرومانيا فهي كأهمية جزيرة القريم للإمبراطورية الروسية، تجري بين عشبها(365/34)
الطبيعي الأنهر الصغيرة التي تزيد البلاد جمالاً؛ وهي: طاش آولى، إسلاوا، تايتا، وتليتا. فيها البحيرات الخمس الكبيرة يجمعها مكان واحد مثل: رازيم، غولوويشا، إسمه يكا، سينوية، وكيثوك، وفيها أيضاً بحيرات أخرى: طامش آولى، مامايا، مانغاليا، تكير كول، وهذه الأخيرة بحيرة معدنية تستقبل كل عام عشرات الألوف من الأجانب المرضى يقصدونها للاستشفاء. . . يفصلها عن البحر ممر إيفرويا بلدة جديدة أنشئت على أحدث طراز بشاطئ البحر الأسود للاصطياف فيها
فيها أيضاً جزائر مثل جزائر شاربه له، بوكين، داله رسكا، إيفانه شت، ومه لينوو. أما أهم المدن التي تواجه الأمواج الهائجة للبحر الأسود فهي من الشمال: سولينا، سنت جورج، مامايا، كوستنجة، إيفوريا، طوزلا، منغاليا وبالجيق. ثم تنتهي حدود رومانيا جنوب بلدة ئه كره نه بحوالي ثلاث كيلات
الموارد الطبيعية للبلاد
يستخرج من أرضها الجير ومقره مرادخان وقانارا، والرخام والأحجار المتينة لتشييد الأبنية ومقرها مورفاتلار، طولجا، ماجين إغليتا وإيساقجة
الثروة الزراعية
هي منطقة سهلة معدة للزرع من أولها إلى آخرها، يساعدها المناخ، ككل مكان في أوربا الشرقية الجنوبية، على نمو جميع النباتات. وأكثر ما ينبت فيها من المزروعات القمح، الشعير، الشوفان، الذرة، الدخن، الخردل، الباقلاء، عباد الشمس، الدباء، البنجر، الجزر، الخيار، البطيخ، الشمام، البطاطس، وسائر أنواع الخضروات. ومن كثرة اعتناء السكان بهذه المنطقة قد حالت اليوم إلى حديقة بجانبها بلابل تطرب وتغني لجمالها. ليس هذا نتيجة العمل فقط، بل الفضل يرجع أيضاً إلى تربة هذه المنطقة لأنها ليست إلا امتداد التربة السوداء من سهول كه رسونه ي، جزيرة القريم وآسترخان في روسيا. هذه لتربة لها أكبر فضل في إنماء النباتات، لأنها تحتفظ بالمياه من فصل المطر إلى فصل الجفاف، وهذا الجفاف يعوض قلة المطر في هذا الفصل الأخير
أما الثروة النباتية فنجد الغابات ولا سيما في هضبة كواردي لاثر أي ده لي أرومان كما(365/35)
يسميها الأتراك؛ ونجد الأشجار على اختلاف أنواعها والحشائش التي ترعاها الماشية في جميع أنحاء المنطقة
قيمة الثروة الاقتصادية: يستغل الشعب كل ثروتها، ويديرها ويتصرف فيها كما يشاء يستخرج من كل قسم في دوره مادة أخرى وتباع بثمن يساوي ثلاثة أضعاف ثمن أصله. وتجار البلاد يصدرون كل سنة ملايين من الأطنان إلى خارج القطر من ميناء كوستنجه، لأنه تخزن فيها كل ما يحمل إليها القطار من داخل البلاد والبواخر من الدانوب ومن الأنهر الأخرى
هذه المنطقة التي تلخص البلاد الرومانية في نفسها تبلغ مساحتها 23. 285 كيلومتراً مربعاً، وهي مقسمة إلى شطرين قديم وجديد
وكل شطر من القديم والجديد في دوره مقسم إلى قسمين، أي سنجافين
فدوبروجه القديمة مثلاً لها سنجافان: الأول طولجا، والثاني كوستنجه، وهما في الشمال. ودويروجه الجديدة أيضاً لها سنجافات ولكنهما في الجنوب، الأول كاليافرا، والثاني دوروستور. ومراكز هؤلاء السناجق كالآتي: طولجا مركزه مدينة طولجا، وكوستنجه مركزه مدينة كوستنجة، وكاليافرا مركزه مدينة بازارجعة، ودوروستور مركزه مدينة سلسترة. وهذه مدينة محصنة لها تاريخ مجيد مع الأتراك إذ اشتركوا فيها والجنود المصريون في الدفاع عن هجوم الروسيين عليها
(يتبع)
يوسف. ع. ولي شاه(365/36)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
ماذا بقي لفرنسا
من كان يصدق أن فرنسا تقبل مثل هذه الشروط؟ ومن كان يصدق أن وزارة المارشال بتان العسكرية تعتبر مثل هذه الشروط التي فرضتها ألمانيا على فرنسا شروط صلح شريف؟ ولعله يتيسر لنا أن نقدر فداحة النكبة الفرنسية إذا فرضنا أسوأ الفروض، ثم قارنا بين ذلك الفرض السيئ وبين ما قبلته فرنسا الآن
وأكبر النكبات القومية إطلاقاً هي احتلال أرض الدولة، ونزع السلطة من يد حكومتها. وهذا ما فعلته ألمانيا مع فرنسا. ألم تحتل ثلثي أرضها وجميع شواطئها الغربية
فماذا بقي لفرنسا؟ أهي تلك الرقعة المحدودة المحاطة بجيوش الاحتلال من جميع جهاتها؟ أم هي السلطة التي منحت لوزرائها على أن يعملوا تحت المراقبة الألمانية النازية؟ أم هي المستعمرات التي فصلت عن أمها ولم يبق بينهما من رباط؟ أم هي القيود التي فرضت على الصناعة والتجارة والحرية في القول والعمل؟ ماذا بقي لفرنسا إلا موجة الحزن والأسى وندب الماضي المجيد والكرامة المهدرة؟
أنصار الهزيمة
لقد بكي الكتاب فرنسا ممثلة في باريس ما وسعهم البكاء، وشكوا إلى العالم ما أصاب عاصمة النور والحرية ما وسعتهم الشكوى، ولسنا أنصار هزيمة، ولا شكوى، ولا أنين؛ ولكننا نتعلق بحبال قوية من الأمل، لا بخيوط ضعيفة من الرجاء؛ فلم تضع الحرب أوزارها، ولم يمل العدو شروطه بعد، بل إن الأمر ما زال تحت حكم الجنيه الذهبي، والعزيمة الصادقة
وإذا كانت دعوة أنصار الهزيمة قد طغت على بتان وفيجان ودارلان، فألقوا بسلاحهم، فما زالت دعوة أنصار النصر تطغي إلى دي جول وبلانشار وتشرشل. فالأولون شيوخ من أبناء المدرسة القديمة التي حكم من عزمها الفشل القريب، والأخيرون من أبناء المدرسة الحديثة التي يقوي من عزمها ما تجد في متناول يدها من موارد هائلة تكفي لكسب النصر،(365/37)
وما تجد في دمائها من قوة تحبب إليها الموت على حياة تخسر فيها شرف بلادها وكرامتها
وإذا كان الاحتلال مسلماً بأمره اليوم، ومفروضاً فيه أن يستمر إلى نهاية الحرب؛ فلسنا نجد مبرراً واحداً يتيح لوزارة بتان أن تتخلى عن القتال؛ اللهم إلا إذا كانت شهوة الحكم بضعة شهور، وهي شهوة لا تلبث أن تموت في نفوس أصحابها إذا انقضت ساعة الشهوة وأتت ساعة التفكير في المصير، ولا تلبث هذه الشهوة أيضاً أن تنقلب إلى ندم وتكفير، حيث لا ينفع ندم ولا تكفير
شهوة الحكم
ونستطيع أن ندرك أثر هذه الشهوة في نفس بتان إذا عدنا إلى ماضيه. فقد حصل على مجد كبير، وتمتع باحترام لم يتمتع به فرنسي آخر، فهو البطل الذي احتفظ بفردان في أيدي الفرنسيين طول حرب سنة 1914 فكانت أخطر نتوء في صفوف الجيوش الألمانية، وكانت بمثابة المركز الذي أفسد عليهم سيطرتهم على خطوط مواصلاتهم. فهو رجل عظيم حقاً، ولكن عظمته عسكرية فحسب، فلم يتقلد مناصب الحكم، ولم يكن رئيس وزارة مرة واحدة. أفلا يتوق مثل هذا الشخص إلى أن يربط عظمته العسكرية بعظمة سياسية، ولا سيما وهو في آخر أيامه؟ أولا يتوق مثل هذا الرجل أيضاً إلى تخليد اسمه باشتراكه في هذا الحادث الفريد في تاريخ فرنسا؟ وهو تخليد مؤلم ولكن له مبرراته وخصوصاً في نظر الشيوخ فقد أصيبت الجيوش الفرنسية بخسائر فادحة، وانقضى الأمل في الدفاع عن فرنسا
وهو عذر كاف يرضي الشيوخ. ولكننا واثقون أن بيتان سنة 1914 لو وضع في مكان بيتان سنة 1940 لما قبل هذه الشروط.
فالعزيمة التي ثبتت أربع سنوات وهي ترى بوادر الانحلال من حولها، والعزيمة التي قضت على مائة ألف ألماني في سنة 1914 ترفض رفضا باتا أن تخضع لانحلال يصيبها في ثلاثة أسابيع. ولكن هي الشيخوخة البالية، وحياة الرفاهية التي قضاها بتان في العشرين سنة الماضية بعيداً عن الحياة العسكرية جعلتاه ينظر إلى الموقف الحالي بمناظره الأسود
الرأي العام الأمريكي(365/38)
فالإمبراطورية الفرنسية غنية وما زالت سليمة، والإمبراطورية البريطانية غنية وما زالت سليمة، وأمريكا غنية، وإذا لم تدخل الحرب اليوم فستدخلها غداً؛ فإعداد الشعب الأمريكي للحرب يحتاج إلى سنوات، والشعب الأمريكي الآن مستعد لقبول فكرة الحرب أكثر منه في سنة 1914، وهو لم يدخل الحرب الماضية عقب هزائم الحلفاء الأولى، بل استمر بعيداً عن ميدان القتال سنتين تقريباً، فهل انقضت هذه الفترة ليقطع بتان الأمل؟
والمعروف أن نقطة الضعف في المحور الديكتاتوري هي إيطاليا فإن قوتها العسكرية، ومعداتها الحربية، وصبر جنودها على متاعب القتال، وانكشاف سواحلها لا تقاس بمثلها عند الألمان، ولهذا كان من المقدر أن تصاب قواتها بخسائر فادحة تقضي على مقاومتها نهائياً وترغمها على التخلي عن ميدان القتال
ما خسرته الحرب
أدى تسليم فرنسا إلى تغيير كبير في الموقف، فلو استمرت في الحرب لنقلت قواتها البرية إلى ممتلكاتها في شمال أفريقيا، وهي تقدر بالملايين مما يسهل الاستيلاء على ليبيا وحصر إيطاليا في الشمال وألمانيا في أوربا، وتنفذ سياسة الحصر البحري والمناوشات الحربية البرية والجوية لكما سنحت الظروف إلى أن تنهار قوات المحور؛ وعلى العموم لم يؤد تسليمها إلى تغيير خطير. فقد أعلنت الممتلكات الفرنسية تصميمها على القتال، مخالفة بذلك قرار حكومتها، فإن الجندي الفرنسي يأبى التسليم بمثل هذه الشروط ولا سيما إذا كانت قواته سليمة كما هي الحال في تونس ومراكش وسوريا ولبنان
وخسرت إنجلترا بقبول فرنسا لشروط الصلح شيئاً واحداً، وهو القوات المحاربة الموجودة في فرنسا، ولكن المستعمرات لا تلبث أن تعد قوات غيرها، وقد أعلنت بريطانيا استعدادها لإمدادها بالعتاد الحربي اللازم، ومن مصلحة إنجلترا أن تضم إليها في القتال هذه البقاع من الأرض لتحتفظ بمركزها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فإن الشاطئ الأفريقي في غربه في يد الممتلكات الفرنسية، وضمان موالاته لبريطانيا له أهميته لثلاثة أسباب
أولاً - الاستناد إلى قواعده في تونس والجزائر
ثانيا ً - ضمان حياد طنجة، وهي البقعة المواجهة لجبل طارق وقد احتلتها أسبانيا في المدة(365/39)
الأخيرة بالاتفاق مع فرنسا، وكانت من قبل بقعة محايدة
ثالثاً - تونس، ولها أهمية ممتازة لأن استيلاء إيطاليا عليها معناه شطر البحر الأبيض إلى قسمين، وبالتالي منع المواصلات بين شرق البحر وغربه، أو منع الصلة بين قنال السويس وجبل طارق
الأسطول البحري
ويلي المستعمرات الفرنسية في الأهمية الأسطول البحري الفرنسي، ولم ترد إلينا حتى الآن أخبار عما حل به؛ وإن كان الجنرال دي جول صرح بأنه تلقى وعداً من قادته بمواصلة القتال. والمعروف أن هذا الأسطول لم يكن وحيداً، بل كان موزعاً في عدة أماكن مع الأسطول البريطاني؛ فإذا حاولت قطعه الانسحاب وتنفيذ أوامر حكومة بوردو؛ فإن الأسطول البريطاني يتولى إغراقها حتى لا تكون تحت سيطرة الأعداء
وفي اعتقادنا أن ربابنته لا يقلون وطنية عن الألمان، فإذا كان الألمان قد فضلوا إغراق أسطولهم في حياة سكابافلوا في سنة 1914، عندما شعروا بأنه سيسلم إلى إنجلترا، فإن الفرنسيين لن يتركوه غنيمة سهلة لأعدائهم. ولا شك أنهم يفضلون القتال إلى جوار حلفائهم الإنجليز على إغراقه أو تسليمه؛ ولهذا فمن السهل أن ندرك أنه سينضم إلى الأسطول البريطاني في دفاعه عن قضية الديمقراطية، ولإعادة حرية فرنسا إليها، فإن نصر بريطانيا الآن هو الأمل الوحيد للفرنسيين الأحرار
والأسطول الفرنسي أسطول قوي حديث تمتاز وحداته بسرعتها، كما يمتاز رجاله بفهم دقيق لفنون القتال البحرية. به مدرعات خفيفة لا يوجد ما يماثلها في أساطيل الدول الأخرى، وبه غواصات ضخمة تستطيع تحمل السير في المحيطات؛ ويكفي أن نذكر أن حمولة الغواصة سيركون مثلاً 2880 طناً بينما الغواصات الأخرى قد لا تصل إلى نصف هذه الحمولة
ويتكون الأسطول الفرنسي من القطع الآتية:
سفن قتال. . . . . . . . . . . .
7
حاملات طائرات. . . . . . . . .(365/40)
1
مدرعات ثقيلة. . . . . . . . .
7
مدرعات خفيفة. . . . . . . . .
43
مدمرات. . . . . . . . . . . .
69
غواصات. . . . . . . . . . . .
87
المجموع. . . . . . . . . . . .
214
وعد بالنقض
وأشرنا في مقالنا الماضي إلى المناورة البارعة التي أذاعتها الحكومة البريطانية حينما أعلنت استعدادها لاتحاد الجمهوريتين البريطانية والفرنسية، وقد أنتجت هذه المناورة، فلم يتيسر لمندوبي هتلر أن يعلنوا فرنسا بعزمهم على الاستيلاء على الأسطول الفرنسي، بل اكتفوا بإعلان تجريده من السلاح، كما أعلنوا أنهم سيتركون بعض قطعه للدفاع عن المستعمرات الفرنسية
وبديهي من تتبع الوعود والاتفاقات النازية أن هذا الكلام لا يتجاوز الورق الذي سطر عليه، ولكن الغرض الأساسي منه هو استدراج هذه الوحدات إلى مناطق السيطرة الدكتاتورية، فإذا أصبح في متناول يدهم تلغى قصاصة الورق ويشترك الأسطول في الأعمال الحربية الدكتاتورية، فإن ألمانيا وإيطاليا في أشد الحاجة إلى مثل هذا الأسطول لتعزيز قوتهم البحرية، وليس من المعقول أن تهددهم بريطانيا بأسطولها ويكون تحت سيطرتهم أسطول يتركونه تنفيذاً لاتفاق لا يوجد ما يرغمهم على تنفيذه، ولا سيما أن سوابق هتلر تدل على أنه إذا وعد اليوم وعداً ينقضه غداً ويمكننا أن نرى في شروط الهدنة نفسها بوادر هذا النقض فهي تقول في المادتين الثامنة والتاسعة: إن الأسطول(365/41)
يستخدم في الرقابة الساحلية والتقاط الألغام.
ومعنى هذا عسكرياً أن الأسطول الفرنسي يستخدم في الأعمال الحربية لسببين:
1 - إن شواطئ فرنسا كلها في أيدي الألمان، فهو في هذه الحالة يدافع عن قواعد ألمانية من حق بريطانيا ضربها ومن واجب الأسطول الدفاع عنها
2 - تتجاوز الرقابة الساحلية الأعمال الإقليمية لأن أحد أركانها مراقبة حركات القوات المعادية وتدميرها كلما سنحت الظروف.
وهذا يفسر أن ألمانيا وضعت شروطاً مطاطة تبيح لها استخدام الأسطول على أوسع صورة ممكنة.
الأسطول الجوي
ننتقل بعد هذا إلى أداة قتال أخرى يسهل نقلها، وهي الأسطول الجوي الفرنسي. فمن الراجح أن كثيراً من أسرابه ستغادر قواعدها للانضمام إلى قوات بريطانيا، ولا نكون مغالين إذا قلنا إن بعضها قد غادر مطاراته فعلاً. فإن تمرد الضباط الفرنسيين على قرارات حكومة بوردو شمل جميع القوات والساسة وتناول المسيو رينو رئيس الوزراء السابق مما لا يدع مجالاً للشك أن كثيرين تبعوه مقتنعين بصحة رأيه
وفي شمال أفريقيا؟!
ويجد بنا ألا نختم هذا المقال قبل أن نقول رأينا عن الموقف العسكري في شمال أفريقيا، فهو موقف يستدعي التفكير. فالوعود الدكتاتورية لا يحدها اتفاق ولا قانون، وأحلام موسوليني بالإمبراطورية الرومانية حية زادتها الانتصارات الأخيرة قوة، فإذا كانت حركاته العسكرية في أفريقيا نائمة الآن، فلسببين:
أولهما: ضعف استعدادها في ليبيا بسبب اشتغالها في الحرب في أوربا، ووجود خمائر العرب المتمردين في ليبيا
ثانيهما: حر الصيف وطول الصحراء، وخلوها من الماء مع شدة الحاجة إليها لري عطش الجنود، وكثرة المقادير اللازمة لري هذا العطش في الصيف عنه في الشتاء
فإذا زال هذان السببان فلن نلبث أن نرى الحركات على أشدها في شمال أفريقيا مستندة(365/42)
إلى قواعد إيطاليا في ليبيا. وهذان السببان لا يلبثان أن يزولا بزوال الصيف وقدوم الشتاء
فقد خلا الميدان الأوربي من القتال، فيسعى الأسطول الإيطالي لنقل القوات الألمانية والإيطالية إلى ليبيا بتلك الأعداد الكبيرة والمعدات الهائلة.
وطبعاً يحرص الأسطول البريطاني على عرقلة هذه الصلات، ومنع وصول القوات إلى ليبيا
فإذا تيسر لقوات الحلفاء الاستيلاء على ليبيا قبل قدوم الشتاء فإن الموقف العسكري في شمال أفريقيا يصبح مضموناً ولا يقلق الناس إلا إغارات الطائرات وهي كما قلنا لا توصل إلى نصر عسكري حاسم.
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة(365/43)
رسالة الشعر
أنشودة
للأستاذ خليل شيبوب
سَكَنتْ ما بين جفنيكِ السماءْ ... وَكَسَتْ خدَّيكِ أنوار الشفقْ
فإذا وجهُك رفَّافُ الضياءْ ... بُهِتَ القلبُ إليه وَخَفَقْ
راعَ قلبي الحزينْ
فرطُ هذا الحنينْ
آه لو تعلمينْ
حسنُكِ المُبْدَعُ من سحرٍ ونورْ ... عطَّرَ الدنيا وحلاَّها ليا
فإذا غيرُ الهوى فيها غرورْ ... وسوى حسِنكِ يبدو داجيا
هُوَ لحنُ السنا
أنشدته المنى
فسبي الأعينا
أنصِتي فالليلُ يهفو عاطراً ... ويموجُ الصمتُ فيه والصدى
واسمعي رفرفةَ القلبِ به ... طائراُ بالدمعِ غنَّى وشدا
خافقاً في الظلامْ
حائراً متهامْ
يكتوي بالغرامْ
كلُّ من يهوى سوى قلبي يرى ... في الورى معبودةً يألفُها
فتعالَيْ إِنَّ لي أُمنيةً ... أَتُرَى قلبُكِ لا يعرفها
أنتِ روحي والرجاءْ
أنتِ دائي والدَّواءْ
وشقائي والهناءْ
إيه يا مُنيةَ عمري حقِّقِي ... مرَّةً في العمر لي حُلْمَ الحياه
آه من عينيكِ كم قطَّعتا ... مهجتي، أوَّاهُ من عينيكِ آه(365/44)
سأَموت. . . اسلَمِي
فاسمعِي وافَهمِي
وانظُري وارحمي
خليل شيبوب(365/45)
بين عهدين
للأديب فؤاد بليبل
يا زَمانَ الهوَى وعهدَ الوِصالِ ... مَنْ مُعِيدٌ تلكَ الليالي الْخَوالي
حينَ كانَ الفُؤَادُ حُرَّا طَليقاً ... نَاعِمَ البالِ خاليَ الْبِلْبِالِ
طاَئِرهٌ وكْرُهُ على كلِّ غُصْنِ ... وَهَوَاهُ مِل الرُّبى والتِّلال
غَيْرُ وَقْفٍ عَلَى غَرامِ وحِيدٍ ... أوْ أليفٍ فرْدٍ وَحُبٍّ حَلاَل
أوْ مِثالٍ مِنَ الجمالِ فَريدٍ ... فَلَهُ في الجمالِ ألفُ مِثال
شاِعرٌ هامَ بالمحاسِنِ حتى ... باتَ في الوَجْدِ مَضْرِبَ الأمثال
يَنْشَدَ الحُسْنَ حَيْثُ لاحَ لِعَيْنَي ... هِ أفي البِيدِ أو أعالي بالْجِبال
يتصدَّى لهُ ولو صِنَ بالبِي ... ضِ سناهُ وَحُفْ بالأهوال
يتصدَّى لهُ على كلِّ صَدْرٍ ... كاعِب النهدِ غيْر سَهْلِ المنال
وعلى كلِّ مَبْسِم يَشتهيهِ ... أوْ قَوامٍ مُرَنَّحٍ مَيَّال
سابحٌ في الفضاء يَمْرَحُ زَهْواً ... بين حلٍٍّ على الهوى وارتحال
يتغنَّى على الأراكِ طَرُوباً ... مَرِحَ النَّفْسِ مُطمَئِنَّ البال
هَمُّهُ في الْحَيَاةِ أن يَطْرَحَ اله ... مَّ بعيداً لِعابدي الأموال
مُسْتَخِفَّا بالْعَيْشِ جدَّ قَنُوعٍ ... فَهْوَ في عُسْرِهْ سَعيدُ الحال
يَشْتَكِي الفَقْرَ والكَفَافَ سِواهُ ... وَهْوَ بالفقرِ والكَفَافِ يُغالي
تمْلِكُ الأُفْقَ والنُّجُومَ يَداهُ ... فلِماَذا يَشْكُو مِنَ الإقلال؟
كلُّ ما في الوُجودِ يَدْعُوهُ لِلْصَفْ ... وِ وَيَحْدُو على الهوى والوصال
فَجَمالُ الرَّبيعِ والزّهْوُ والدفْ ... ءُ وسِحْرُ الأسْحَارِ والآصال
وخريرُ الغُدْرِانِ وَهْيَ شَوَادٍ ... واعْتناقُ الأدْوَاحِ والأدْغال
كلُّ ما في الوُجُودِ مِلْكُ يَدَيْهِ ... مِنْ جَمَالٍ وَرِقَّةٍ وَكَمَال
فَلِمَنْ هذه النُّجومُ الدَّراري؟ ... وَلِمَنْ تِلْكُمُ الشُّمُوسُ اللآلي؟
وَلِمَنْ هذه الوِهادُ الزّواهي؟ ... وَلِمَنْ تِلْكُمُ الجبالُ العَوَالي؟
وَلِمَنْ هذه السَّواقي السَّواقي ... دافِقَاتٍ بالسَّائغ السَّلسال؟(365/46)
وَلِمَنْ ذلك الفَضا المُتَرَامي=وَمُحَيَّا الضحَى وَوَجْهُ الهلال؟
وَلِمَنْ هذه النَّسَائمُ تَسْري ... سَرَيانَ الْحَياةِ في الأوْصال؟
وَلِمَنْ هذه الطُّيورُ الشَّوادي؟ ... كلُّ هذا لهُ فَكَيْفَ يُبالي!
هكذا كان في عهود صِبَاهُ ... ذَا خِلالِ أَعْجِبْ بها من خلال
ذهبىٌّ الأحلامِ غيرُ جَزُوعٍ ... رَابِطُ الْجَأشِ عبقريُّ الخَيَال
كلُّ يوْمٍ لهُ غَرَامٌ جَدِيدٌ ... وَجُنُونٌ بِبَارِقٍ مِنْ جَمَال
وَفَضَاءٌ مِنَ الأمانِيِّ عَذْبٌ ... يَتلاَقى فيه الهدَى بالضْلاَلِ
وَعُهُودٌ مِنَ الْهَوَي خالداتٌ ... وَلَيالٍ أَحْبِبْ بها من ليال
وَمَجَالٌ مِنَ الْمُجُونِ ظَرِيفٌ ... أين منه بَهَاءُ كلَّ مَجَال
وَرَنِينُ الأوْتَارِ تَحْسبُهُ السَّح ... ْرَ، وَسِرْبُ الْمَهَا وَوَحْيُ الدَّلال
وَنُزُولٌ في كلَّ يومٍ برَوْضٍ ... عَطِرِ الزْهرِ سُنْدُسيّ الظِّلال
وَفُؤاد بما يكنُّ سعيدٌ ... صادقُ الوَجْدِ باسِمُ الآمال
واصْطِحَابُ الكِعَابِ مِن كل خَوْدٍ ... جَمَّةِ الُّلطفِ مِنْ ذَوَاتِ الْحِجَال
يتناقلْنَ شِعْرَهُ هَزِجَاتٍ ... هَزَجَ الوُرْقِ في ظِلاَلِ الدَّوّالي
وَكؤوسُ الطِّلاَ تُدَارُ عَلَيْناَ ... مُشْرِقَاتٍ بالْبَابِلِيِّ الزُّلاَل
وَعُيُونٌ صَوَامِتٌ نَاطِقَاتٌ ... وَقُدُودٌ مَيَّاسَةٌ في اعْتِدَال
وَنُهُودٌ وَلاَ تَسَلْ عَنْ جَنَاها ... مُثْقلاتٌ بالْحُسْنِ غيرُ ثِقاَل
ذَاكَ عَهْدٌ مِنَ الشبابِ تَوَلَّى ... لَيْتَهُ لَم يكنْ رَهِينَ زَوَال
وَفَتىً صِيغَ من شُعَاعٍ ونُورٍ ... فبَغَى، فاغتَدَى من الصَّلْصَال
وإذا بي قد اسْتَحَلْتُ إلى غَيْ ... رِي وَجُرِّدْتُ مِنْ قَدِيمِ خِلاَلي
أنكَرَتْني نفسي وَأَنكَرْتُ ما بي ... مِنْ جَفَاء وَغِلْظَةٍ وَاخْتِيَال
لَم أَعُدْ ذَلِكَ الْقَنُوعَ عَلَى الْحُ ... بِّ ولا ذلكَ الطَّرُبَ الخالي
وإذا بي وَقَدْ غدوت غَرِيباً ... عَن شُعُوري وعن رَقيق خِصَالي
وإذا المالُ لا يُعِيدُ قُنُوعي ... مِثْلَمَا كان أو يزيلُ مَلالي
وإذا الدَّهرُ لا يردُّ صفَائِي ... وانقيادي لِصَرْفِهِ وَامْتِثاَلي(365/47)
وإذا الْكَسْبُ لا يُخَفِّفُ مَا بي ... وإذا الْيُسْرُ لا يُحَقِّقُ فالي
وإذا النهرُ لا يَبُلُّ غَلِيلي ... لا ولا الكونُ كله لو غَدا لي
وإذا الْهَّمُّ يَحْتَوِيني وَيَأبَي ... طَمَعي الجمُّ أَنْ يَفُكَّ عقالي
وإذا الرَّوْضُ قد تَعَرَّى مِنَ الْحُ ... سْنِ فلا يرتدي سِوَى الأسْمَال
وإذا الفَجْرُ بَم يَعُدْ فيه ما كن ... تُ أَرَاهُ مِنْ رَوْعَةٍ وَجَمَال
وإذا الأُفقُ ضَيِّقٌ مُكْفَهِرٌّ ... وإذا البدْرُ شَاحِبٌ في هُزَال
وإذا الزهرُ والخمائِلُ وَالوُرْ ... قُ تَنَكَّرْنَ لِلْفُوّادِ السَّالي
وإذا الكونُ خِسَّةٌ وَرِياءُ ... وَمَيَادِينُ شَهْوَةٍ وَاحْتِيَال
وإذا لم يَعُدْ يُشّنِّفُ سَمْعي ... مِنْ غِنَاء سِوى رنينِ (الرِّيال)
وإذا بي وقد رجعتُ إلى الطي ... نِ وَأَصْبَحْتُ مِثلَ باقي الرجال
حَدَّثُوناَ عَنِ الزّواجِ حَدِيثاَ ... حَسَنَ السَّبْكِ شَائقَ الأقْوال
فَأُخِذناَ بِبَارِقٍ من سَناهُ ... وَسُحِرْنَا بِمَنْطِقٍ خَتِّال
وَبُهِرْناَ بِمَظْهَرٍ مِنْهُ عَذبٍ ... وَمُنِينا بِمَخْبَرٍ قتَّال
فَوَقَعْناَ فيما خَشِينا وكنَّا ... عَنْ مَراميهِ في غِنّى واعتزال
فاضطُرِرْنا إلى الخضُوع وَبُؤْناَ ... مِنْهُ بالهمِّ والأسَى والنَّكال
قَدْ طَمِعْنَا في كلِّ شيءِ رَخيصٍ ... فَفُجِعْناَ بكلِّ شيءِ غال
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل(365/48)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
. . . وعندنا فنانات أيضاً
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لا شك في أن المرأة إذا أخلصت للفن سادت فيه، ولكن المرأة تدخر فنها دائماً لنفسها، فهو سلاحها في الحياة لا تلقيه للناس لأنه لا سلاح لها غيره. ولكن الحياة ترغم بعض النساء على الفن، فمن رضى الله عنها عندئذ أخلصت لفنها وأطلقت نفسها فيه فسمت، وإلا فهي مذبذبة بين الفن وحياة الواقع، فهي ككل من يحترف حرفة يأكل منها الرزق حلالاً وإن كان يرجو النجاة منها. . .
وفي مصر - كما في كل بلد - كثيرات من محترفات الفن وإلى جانب هؤلاء قليلات من المخلصات
السيدة منيرة المهدية
حرفتها الغناء وفنها التمثيل. وأستطيع أن أقول بلا تحفظ إنها الممثلة الأولى في مصر. وليس عجيباً أن تكون كذلك، فقد قضت منيرة زمناً كانت فيه الغادة المصرية الأولى،
وكان سعيداً من يحظى منها بتحية، ومحسوداً من تناجيه بكلمة راضية. ولم يكن جمهور منيرة من التلاميذ ولا الصبيان، وإنما كان من كبار الناس الظاهرين في البلد، الناجحين في أعمالهم المفروضة أشخاصهم على الشعب. وكان على منيرة أن تسوس جمهورها ومن وراء جمهورها من أفراد الشعب، وكان عليها أن تكسب رضاءهم جميعاً، وعطفهم جميعاً، وإعجابهم وتحمسهم. ولم تكن منيرة لتستطيع هذا إلا بالتمثيل، فهو الذي كان يمكنها من أن تضحك للنكتة السخيفة إذا ألقاها باشا من الباشوات جبراً لخاطره وستراً لسخفه، والتمثيل هو الذي كان يمكنها من أن تلتوي تدللاً على مثر من الأثرياء إذا هجر صالتها أو مسرحها زمناً فلم يتردد ولم ينفق في البار ما يقوم بنفقات الفن. . . فإذا هو بعد التواءتها مقيم في البار، آناء الليل وأطراف النهار. . . يريد أن يسترضيها
منيرة ممثلة هائلة: وهي مغنية ممتازة إذا غنت، ولكنها لا تغني كلما غنت(365/49)
سمعتها يوماً في رواية (الغندورة)، وكانت تنشد اللحن الأخير من الحان الرواية، وقد عرف الجمهور أن هذا اللحن هو اللحن الأخير فأخذ الناس يتسللون مغادرين المسرح، ووقف بعضهم يستمع اللحن متهيئاً للخروج بعد الفراغ منه ومتحرجاً من الخروج قبل الفراغ منه. . . وإذا بمنيرة (تنسجم) فجلس الذين كانوا واقفين، وعاد الذين كانوا يتسللون خارجين، وفاضت في الحضور جميعاً نشوة من الطرب نفثتها منيرة سحراً. . . وكنت أنا من أشد المنتشين بغنائها، وكنت أحملق فيها وأنا أسمعها فكنت أراها كأنما هي سكرى تترنح في ثبات رهيب. . . إي وحياة تلك الليلة كان ثباتها في سكرتها تلك رهيباً. . .
الآنسة أن كلثوم
فتاة حادة النفس كأنها فتى، هبطوا بها من الريف إلى القاهرة ليستغلوا مواهبها، فتيقظ عقلها، والتهب تفكيرها رغبة منها في المحافظة على كيانها، وفي تحقيق أحلامها، وكان من آثار هذا أن اختلق عقلها سوء الظن بالناس دفاعاً منها عن مجدها واسمها ونفسها، وصاحَبَ هذا شيء من الحرص الشديد على مالها، كما داخلها بعد ذلك شيء من الاعتداد بمكانتها
هي فنانة بالفطرة، تحب الجمال على نحو ما يحبه الرجال الفنانون، وهي تنحدر في ذلك إلى ما فوق نزعات المرأة حتى لترتج ارتياحاً وانبهاراً إذا رأت فتاة حسناء. وليست النساء هكذا، فالمرأة تغار من المرأة، ولكن أم كلثوم قد قتل شغفها بالحسن هذه الغيرة في نفسها. . .
مغنية شجاعة لا تتهيب من ألحان القصبجي على ما فيها من قفزات وتسلقات وانحدارات وتعقيدات جبارة
وهي مغنية طيعة، إذا ساقها فنان فياض مثل زكريا أحمد، أدت له بصوتها الممتاز الكامل كل ما يجول في خاطره من صوت بكل ما يضطرم في نفسه من إحساس وعاطفة
ولكنها مغنية مستخفة بكل شيء، إلا صوتها، فكم أذاعت على الناس أخيراً من ألحان ليس فيها إلا زعيق وصراخ، معتمدة في ذلك على أن الناس يسمعونها حتى إذا قالت (ريان يا فجل)!
حرام عليها أن تفعل هذا، ولكنها تفعله لأن بعض الملحنين غال، وبعضهم رخيص،(365/50)
والرخيص يسد أحياناً مسد الغالي، وأين هم الناقدون والذين يفهمون؟
وهي أيضاً ممثلة خفيفة الروح، غنية المشاعر، مجتهدة الحس. . . وهي أيضاً ناقدة سريعة الفهم صادقة التعبير عما تفهمه. . . ولها استعداد جامح نحو الفلسفة والتعمق في التفكير، ولكن الظروف لم تهيئ لها من يعاونها في هذا الاتجاه. وهي تشعر بتعطشها إلى هذه الناحية، فتقرأ وتحفظ وتطلع. . . ولكن قراءتها وحفظها واطلاعها أشتات، وإن كثرت، فلا رابط بينها
على أي حال. إنها فنانة مشبعة
الآنسة سهير القلماوي
صورة نسوية جامعية للأستاذ محمد عبد الوهاب: هو له فن، وهي لها فن؛ ولكن لكل منهما نفساً تشبه نفس صاحبه، وروحاً تشبه روحه
الآنسة (مي)
لم أرها إلا مرة واحدة، سمعتها فيها تلقي محاضرة بالفرنسية عن الشرق والغرب، وأنا محصولي من الفرنسية تافه، ولكني مع هذا كنت أفهم ما كانت تقول الآنسة مي، ولم يكن هذا ليحدث إلا لأنها كانت تقول كلاماً خارجاً من أعماق نفسها، فهو إذا قيل لم يكن اللسان وحده هو الذي ينطق به، وإنما كانت تقوله مع لسانها عيناها وجوارحها جميعاً، وأعصابها وروحها جميعاً
ولا ريب أن لهذا الانجراف الروحي وراء الأفكار والخواطر أثراً في النفس والأعصاب. ولا ريب أن الآنسة مي تعاني آلاماً كثيرة يجرها عليها هذا الصفاء وهذا التدفق. . .
كان الله في عونها من أحلامها ووثباتها، وانحباس الفكر في نفسها، وانطلاق الفكر من نفسها. . .
أين هي الآن؟!
الآنسة جميلة العلايلي
كاتبة وشاعرة وقصاصة
حارة هي أيضاً، وصادقة، ولكنها عاصفة صغيرة. . . وهذا شأن الهواة جميعاً.(365/51)
الآنسة ابنة الشاطئ
استطاعت أن تلفت الأنظار إليها بسرعة. فملأت الدنيا كتابة عن الريف والفلاحين وحياتهم. وهذا الموضوع لا شك في أنه أشد الموضوعات المصرية خطورة، وقد كان لابنة الشاطئ فيه جولات مجيدة
ولكني سمعت أنها (دحلابة) وأن لها برنامجاً رسمته لحياتها وهي تريد أن تحققه، وهي تستعين على تحقيقه بالكتابة. وهذا إذا صح آخذه عليها، لأن من عادة البرامج دائماً أن تكتف الفن وأن تقيده، وأن تطمسه أحياناً، وأن تدس إليه الأباطيل و (التزاويق) الفارغة. . .
اسمها (عائشة عبد الرحمن)
السيدة أمينة محمد
ليس في مصر راقصة مقتنعة بأن الرقص فن جميل إلا أمينة محمد. فكل الراقصات المصريات يحسبن الرقص احتيالاً على تعرية البدن وإظهار محاسنه وتناسقه وليونته، ولكن أمينة تتخذ من جسمها وسيلة تعبر بها عن معان يندر أن تكون بينها وبين الغريزة الجنسية صلة. وكما أنها تستعين على هذه المعاني بجسمها فهي تستعين عليها أيضاً بوجهها
وإن لها عينين تقول بهما كل ما يجول في نفسها، كما أن لها شفتين تؤكد بهما ما تقوله عيناها. ولو كان جمهورنا في مصر ينظر إلى الراقصة من أولها إلى آخرها ولا يقف نظراته على مواطن خاصة منها لانفردت أمينة محمد بالرقص في مصر. ولكن جمهورنا كما نعرف
ولست أدري لماذا لم يفكر نجيب الريحاني في أن يضم إلى فرقته هذه الفنانة التي تملأ مكان الراقصات الأوربيات اللواتي يعرضهن أحياناً، كما أني لا أدري كيف تهمل الفرقة القومية الرقص فلا تدخر فتاة مثل أمينة تمثل فيها هذا الفن
ولكني نسيت أن الفرقة القومية لها ناسها، وبعثاتها، وهي لا تعترف بأمينة ولا غيرها ممن كافحن في مصر وأوربا وأرغمن أهل الغرب على احترامهن وتقديرهن
السيدة فردوس محمد(365/52)
أستاذة لها دراستها الخاصة في الحياة، ولها من وراء هذه الدراسة فنها الخاص وأسلوبها الخاص
لا أذكر أني رأيتها قبل (هوجة) الأفلام المصرية الأخيرة، ولا أذكر أني رأيتها في دور إلا وامتلأت اقتناعاً بها
مصرية صميمة في نظراتها، وفهمها وتعبيرها. لا أظنها تنكل عن دور مصري عصري، إن لم يكن تمثيلاً فتعليما. . . أي أنها تعلمه لغيرها إذا لم يكن الدور يليق بها
السيدة إحسان الجزايرلي
(أم أحمد)
ممثلة كوميدية يقول النقاد عنها إنها شعبية، ويقصدون من وراء قولهم هذا أنها ليست أرستقراطية. والواقع أن الأرستقراطية في الفن ليست شيئاً غير ثقل الدم والظل. وقد أنقذ الله (أم أحمد) من هذا، فهي تمثل كما تنطلق القنبلة، فتنفجر في النفوس ضحكات وقهقهة
وهي لا تريد من الناس شيئاً أكثر من ذلك. وقد تركت الأرستقراطية لغيرها.
السيد ماري منيب
معلمة إحسان الجزايرلي. أو هي (أم أحمد) القديمة
وهي تعمل اليوم عند الريحاني، وهو يعرف كيف يستغلها، وهي تعرف كيف ترضيه على ما فيه من قسوة في عمله وملاحظاته، كما أنها تعرف كيف ترضي جمهوره على ما تربى فيه من براعة الذوق
فنها غير محدود لأنها لا تقلد ولا تتقيد، وإنما هي تلون نفسها حسبما يتطلب دورها، وهذا أقصى ما يطلب من الممثل أو الممثلة
ميمي وزوزو شكيب
لم أكن أصدق أن هاتين السيدتين ستستطيعان أن تحتفظا بمكانتهما على المسرح أكثر من موسم واحد. ولكن الريحاني ثبتهما فكانتا من كراماته
هما في الأصل تغيظان وتكيدان. . . ولكنهما اليوم تضحكان. . . على أن الذي يتأملهما ويتأمل ضحكه منهما يرى أنهما لا تزالان. . .(365/53)
الآنسة أمينة رزق
بطلة الأستاذ يوسف وهبي وتلميذته وذراعة اليمنى. فنانة لها (شخصية) تجبر على الاحترام. فيها براءة ظاهرة تمازجها إمارات الحكمة
لابد أن تكون أمينة رزق فيلسوفة إلى جانب ما هي ممثلة
السيدة علوية جميل
سيدة مصرية ناضجة، رزينة، عميقة هادئة، وأخلاقها هذه تظهر في تمثيلها، والأستاذ يوسف وهبي يعرف فيها هذه الأخلاق فهو يسند إليها ما يلائمها من الأدوار فتؤديها على خير ما يمكن أن تؤدى به. . .
يراد بها أحياناً أن تمرح، ولكنها إذا مرحت ظهر لمن يرى أنها تستثقل المرح. وقد يرجع ذلك لسبب لعله من خصائصها هي. . .
فتحية ومفيدة أحمد
أختان مغنيتان. فتحية الكبيرة ومفيدة الصغيرة. كلما رأيتهما أو سمعتهما حسبتهما أزهريتين، مع أني أعلم أنه لا صلة للأزهر بالنساء. وقد يكون ذلك لأن أباهما كان شيخاً وأنهما استقتا فنه وروحه وحركاته وإشاراته
وهما قريبتان جداً من كل روح مصرية. وهما تصدقان كثيراً في غنائهما لأنهما تحبان الغناء حقاً؛ وقد كانت كبراهما فتحية من ربيبات سيد درويش اللواتي كانت تهتز لهن روحه. . .
عزيز أحد فهمي(365/54)
بعيداً عنا
في مجاهل الكون
للدكتور محمد محمود غالي
الموجات الكهربائية وباطن الأرض - الحواس أجهزة طبيعية - الكلب هول - الحمام الزاجل - في طريق تعرفنا صفات محتملة لغيرنا من الأحياء على الكواكب.
لو أن أحداً من الناس قال لنا إنه يستطيع، وهو في طائرة، أن يعرف هل يُخفي باطن الأرض التي يعلوها بترولاً أو ماء، ويعرف عمق الطبقة الموجود فيها هذا البترول أو هذا الماء، ويعرف، فوق ما ذكرنا، أيكون الماء الموجود تحت طبقة الأرض التي يطير فوقها ملحاً أم صالحاً للشرب، دون أن ينزل من طائرته على سطح الأرض، ودون أن يلجاً إلى حفر آبار فيها، لقلنا في أنفسنا إن قوله هذا حديث خرافة
ذلك أننا معتادون دائماً أن نصدق ما هو في حدود حواسنا وأن نؤمن بما تستطيعه هذه الحواس، فتفكيرنا مرتبط بمقدرتها واستيعابنا للكون متعلق بعملها، وكثيراً ما ننسى أنه بدراسة طبيعية في الكون، وما ينتج عنها من ابتكار أجهزة دقيقة، نستطيع أن نجد وسيلة لامتداد حواسنا وسبيلاً لاتساع نطاق أعمالها، بحيث نصبح في ظروف عديدة قادرين مثلاً على أن نرى ما كنا عاجزين عن أن نراه، ونسمع ما كان يستحيل علينا سماعه.
ولا يدهش القارئ بعد ذلك من استطاعة الطائر أن يعرف ما هو دفين في باطن الأرض، ففي هذه المسألة بالذات وفيما يخص البترول أو الماء نجح العلماء في ظروف خاصة نجاحاً يبعث على الدهشة، وبوسائل علمية حديثة وأجهزة طبيعية دقيقة توصل العلماء إلى معرفة ما تخفيه الأرض من بترول أو ماء دون اللجوء إلى وسائل الحفر المعروفة، وليس المجال هنا لندخل في تفاصيل هذه المسألة التي يتوافر على دراستها بالتفصيل كل من أتيحت له فرصة دراسة علوم الطبيعة الأرضية فقد بات من المعروف أنه يمكن بدراسة خاصة، يقوم بها المهندس وهو على سطح الأرض أو بعيداً عن سطحها، أن يستنتج الشيء الكثير عن باطنها، بمعنى أن دراسة طبيعية فوق الأرض تؤدي إلى معرفة جيولوجية في جوفها، تكون في كثير من الأحيان عظيمة الأثر
إنما أحدث القارئ في هذا عندما ننتهي من استعراض الحلقات العلمية الكبرى التي توصل(365/55)
إليها الإنسان في عصرنا الحديث مما له اتصال بتفكيره، عندئذ أحدثه في مسألة أتاح لنا الفلاح المصري معرفتها، وذلك بالإنفاق على بعثتنا في الخارج، وأتاحت لي الظروف بعد العودة القيام ببعض الأبحاث عنها، وذلك مع أحد المؤسسين للطريقة المعروفة باسم: (الطريقة الإلكتروديناميكية) الخاصة بالتنبؤ بما في باطن الأرض
وهذا الباحث الذي صادفته في مصر منذ أربعة أعوام، واشتركت معه في القيام بأبحاث علمية تدور حول هذا الموضوع هو (هنريش لوفي) ? من (فينا)، وهو الذي قام بتجارب علمية قيمة أجراها من منطاد (زبلن) المعروف حيث كان يقوم ببعض التجارب الكهربائية الخاصة بهذا الموضوع في أثناء رحلات هذا المنطاد المتعددة بين ألمانيا وأمريكا
إنما ذكرنا هذه الأبحاث التي قام بها (لوفي) منذ سنة 1910 والتي ساهمنا فيها بقسط يسير في السنين الأخيرة لغرض واحد، ذلك أننا نريد من القارئ أن ينظر إلى ما نملكه من الحواس النظرة العلمية الصحيحة التي نفهمها منها، وألا ينسى - كما يحدث لكثير منا - أننا وإن كنا في حاجة إلى هذه الحواس لمعرفة كنه العالم الذي نعيش فيه أو معرفة شيء عن العوالم البعيدة عنا، فإنها لا تكفي بذاتها للقيام بشتى هذه المعارف، وأن هناك من العلوم عامة والعلوم الطبيعية خاصة سبيلاً نستطيع به أن نُعَدِّل في مقدرة هذه الحواس، فتصبح بما نضيفه إليها من أجهزة طبيعية أكثر استطاعة على استطلاع حقائق الوجود، وأعظم شأناً في معرفة أسرار الكون
ثمة مسألتان نود لأن يتأملهما القارئ: الأولى أن الحواس في ذاتها أجهزة طبيعية يمكن بذكاء الإنسان أن تمتد كما ذكرنا فتصبح أقوى على المعرفة وأقدر على الاستنباط، والثانية أن الحواس ذاتها تختلف عند المخلوقات الحية التي نعرفها في قدرتها ومواهبها اختلافاً بيناً؛ ومنها ما هو ليس بحاجة لهذا التحايل الذي يعمد إليه الإنسان وهذا الامتداد الذي يجعل منه مخلوقاً أقوى من طبيعته، وعن المسألة الأولى ذكرنا أننا لسنا في حاجة إلى حفر بئر عميق لنعرف مقدار مستوى الماء أو البترول تحت سطح الأرض، وعن الثانية نذكر القارئ بمثالين طالما سمعهما وقد لا يكون أعارهما الالتفاتة التي نرجوها الآن
الأول: كلنا سمع بالكلب (هول) الذي استطاع البوليس المصري بعد تدريبه أن يجعله قادراً على أن يتعرف الجناة من آثارهم، وهو حيوان لا يخطئ عادة في القيام بهذه المهمة، مهما(365/56)
كان الأثر ضعيفاً، ما لم تمر مدة كافية بين حدوث الأثر وبين إحضاره
وإني أقص على القارئ حادثة وقعت لي شخصياً مع الكلب (هول)؛ فقد أردت بتجربة بسيطة أن أتعَرَّف مدى قدرته على معرفة صاحب الأثر، فأخرجت (البيبة) التي أُدخن عادة بها، ولمست بها الحائط بعيداً عن الكلب وبحضور جمهور كبير من الناس، بحيث لم يشاهدني عند لمس الحائط بطرف هذه (البيبة)، بعد ذلك، ودون أن يراني، أعطيت (البيبة) إلى أحد الأشخاص العديدين الذين حضروا هذه التجربة، ولم يخفها في جيبه، بعد ذلك وجه (الصول) المكلف بتدريب الكلب هذا الحيوان نحو الأثر، وتركه يشم الموضع من الحائط الذي لمسته (البيبة)، ولم يمض بضع دقائق حتى سعى الكلب إليَّ يتعرّفني رغم الازدحام، ولم يَسْعَ إلى صاحبنا حامل (البيبة)، ذلك أن في هذه (البيبة) آثاري لا آثار من حملها أخيراً في جيبه، وذلك أن في (البيبة) شيئاً مني يشعر به الكلب، ولا تستطيع حواسنا الضعيفة أن يكون لها هذه القدرة من الشعور
الثاني: كلنا سمعنا بالحمام الزاجل، إننا نستطيع أن نأخذ واحداً من هذا الطير العجيب من قفص مقفل، لا يرى منه ما هو حوله، ونسافر به من مكمنه الأصلي إلى بلدة بعيدة عن البرج الذي تعَوَّده، ويصح أن تبتعد هذه البلدة بضع عشرات الكيلو مترات عن برجه الأصلي؛ ومع ذلك لو أننا تركنا ذلك الطائر حرَّا بعد ذلك السجن وذلك الابتعاد لعاد أدراجه إلى حيث موطنه الأصلي؛ ويمكن أن نستدل من الحساب على أنه يعود في وقت يتفق مع السرعة المعروفة عن طيرانه، وبعبارة أوضح يعود الطائر إلى مكانه الأول، دون إجراء بحث جدَّي عن هذا المكان، أو إضاعة وقت في سبيل العثور عليه غير الوقت اللازم للقيام بهذه الرحلة الطويلة
ترى ما هي تلك الصلة الموجودة بين الطائر وبين المكان الذي اعتاد أن يعيش فيه؟ ترى هل هذه المقدرة على العودة ترجع إلى تركيب خاص في حواسه، أو إلى أسباب طبيعية أو كهربائية تربطه بهذا المكان بالذات، ولا نزال نجهلها؟. كل هذا حدس وتخمين، وليس المجال هنا لندخل في تفصيلات هذه المسألة، وليس المجال لنردد للقارئ بعض الآراء التي استعرضها لنا مسيو (بيلان مخترع البيلانوجرام، أو جهاز نقل الصور باللاسلكي، عند زيارته معي لأحد أبراج هذا الحمام في ضَيْعَة قضينا فيها يوماً من أيام مارس سنة 1938(365/57)
في ضواحي القاهرة
وإنما أريد أن أخرج من هذا بشيء واحد، ذلك أن للكلب هول وللحمام الزاجل ولغيرهما من المخلوقات التي نعرفها والتي لا نعرفها مقدرة تفوق مقدرتنا في تعرف بعض المسائل الخاصة بالكون الذي يحيط بنا أو الذي نحن جزء منه
ولعل القارئ يتفق معنا الآن على مسألتين يصح أن يذكرهما
الأولى: هي ضعف حواسنا، واستطاعتنا أحياناً اللجوء إلى امتداد عملها بما نضيفه إليها بذكائنا من أجهزة طبيعية تصبح متممة لهذه الحواس. والثاني اختلاف هذه الحواس في المقدرة اختلافاً كبيراً عند الكائنات الحية
نعود مع القارئ بعد هذه المرحلة التي ذكرناها إلى ذلك المخلوق الذي تكونت عنده حاسة النظر بحيث يرى الأشياء المجسمة بطولها وبعرضها ولا يستطيع أن يُميِّز مها ارتفاعها، وهو المخلوق الذي قلنا عنه في مقال سابق إنه يرى الأشياء في صور تختلف عن الصور التي نراها عليها، فهو يرى من عَل مركبة الترام مستطيلاً، ويرى الكمساري والسائق دائرتين إحداهما ثابتة والأخرى متحركة على حافة هذا المستطيل ويرى الراكبين دوائر متراصة ف صفوف متوازية
هنا نذكر للقارئ شيئا ذكرناه من قبل، ذلك أننا في حاجة إلى ذكر هذا المخلوق العجيب لكي نشرح موضوعاً يتراءى لذهننا ويجول بخاطرنا، موضوعاً كان استعراضنا لمظاهر الإشعاع سبباً لالتماعه في الذهن واقترابه في الفكر؛ وقد وجدنا ونحن نخاطب القارئ أننا في حاجة قبل المضي في هذا الموضوع إلى الرجوع رويداً إلى معرفتنا لحواسنا وفهمنا لقدرتها، وإلى ذكر ارتباط بينها وبين ما يستنبطه الإنسان كل يوم من أجهزة طبيعية دقيقة
وسيرى القارئ، أن بين الإنسان الحاد الذكاء والكلب هول العجيب، والحمام الزاجل، وهذا المخلوق الذي يرى من الكمساري دائرة تنتقل، وبين ما نريد أن نتخيله أو نفترض وجوده من مخلوقات على الكواكب السيارة (سواء أكانت هذه المخلوقات موجودة على الكواكب التي تدور حول شمسنا أم كانت حول غيرها من الشموس) نوعاً من الارتباط، نود أن نتبينه عندما نجيز لأنفسنا التحدث عن مخلوقات غير تلك التي عهدناها على الأرض
وما مقالنا السابق أو مقال اليوم إلا نوع من المداعبة العلمية السائغة، كانت النفوس في(365/58)
حاجة هذه الأيام إليها، وذلك للترفيه بعض الشيء عن القارئ إزاء ما يحدث في العالم من تغييرات سريعة، وما هو واقع اليوم من تطورات ربما كانت أكبر ما عرفناه في التاريخ؛ تلك التطورات التي تجري اليوم في أوربا، والتي يحتمل أن يكون لها اثر على حياتنا في مصر
وإذا كنا قصدنا هذا النوع من الترفيه أو الراحة مع القارئ في مقالين متتابعين، وإذا كان هذا سيظل رائدنا في المقال القادم أيضاً، فإنما ذلك لكي ننشط إلى عمل، أكثر إلى الجد منه إلى المداعبة؛ عند ذلك نعود إلى حظيرة العلم الذي لا يعرف في البحث غير التقريب من حقيقة الكون
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(365/59)
البريد الأدبي
حركة النشر في دمشق - عتب وبيان
حضرت مجلساً فيه جماعة من المؤلفين والناشرين، فكان من حديثهم أن دمشق ضائعة بين مصر ولبنان؛ فلا هي ترتضي مذهب لبنان في الأدب، ولا مصر تلقي لها بالاً وتحفل بها، وساقوا على ذلك أمثلة كتباً كثيرة أهديت إلى المجلات المصرية وإلى كبار نقاد مصر، فأهمل أكثرها فما كتب عنه حرف واحد، وكتب عن بعضها ما لا يكفي ولا يفي؛ فرأيت أن أذكر لقراء الرسالة بعض هذه الكتب ليطلع عليه من يهتم بحركة النشر في دمشق، ويعلم أصحابها أن العرف لا يذهب بين الله والناس، وليكون ذلك عتاباً لإخواننا نقدة الأدب في مصر وذكرى
فمنها (سيد قريش) للأستاذ معروف الأرناؤط؛ وهي من أجل ما اخرج أدباء القصة العربية في زماننا. ومنها روايته الأخرى (عمر بن الخطاب)، فإنهما على انتشارهما في الشام والعراق ودخولهما كل منزل ما كتب عنهما في مصر ولا تعرض لهما النقاد. ومنها (المتنبي) و (الجاحظ) للأستاذ شفيق جبري ومنها الكتاب القيّم (جولة أثرية في سورية الشمالية) للأستاذ وصفي زكريا، حتى أن منها كتاب (الإسلام والحضارة) للأستاذ الكبير كرد على، لم أقرأ لناقد من النقاد المعروفين شيئاً عنه ولا عن كتابه الآخر (أمراء البيان). ومنها (سيرة أحمد بن طولون) للبلوي، وهو كتاب جليل نشره الأستاذ كرد على وعلَّق عليه وقدَّم له، ومنها (أعلام النساء) لعمر رضا كحالة في (1668) صفحة، جمع فيه من تراجم النساء ما لم بجمعه كتاب قبله، ومنها كتب أساتذة الجامعة، ولا سيما أساتذة كلية الطب، الذين قاموا بأعظم عمل يمكن أن يقوم به أمثالهم لخدمة اللغة، فوضعوا المصطلحات العربية لكافة الأمراض وما يتصل بها، والأدوية وأعضاء الجسم، ومن كتبهم (فن الجراثيم) للطبيب اللغوي الأديب الدكتور حمدي الخياط في (1860) صفحة معها لوحات فنية كثيرة، و (صحة الأسرة) له في (400) صفحة، و (الصحة العامة والاجتماعية)، (1000) صفحة، وكتاب (فلسفة الطب) للدكتور حسني سبح عميد كلية الطب، وهو سبعة أجزاء صدر منها ثلاثة في (2704) صفحة، وله كتب أخرى، و (علم الأمراض الجراحية) للدكتور مرشد خاطر في نحو (4000) صفحة، ومنها كتب أساتذة الحقوق، فارس بك(365/60)
الخوري، وله (علم المالية) و (شرح أصول المحاكمات الحقوقية)، وسعيد محاسن بك نقيب المحامين، وله الشرح القيم على مجلة الأحكام العدلية، وله (القانون المدني الإسلامي)، وشاكر بك الحنبلي، وله (الحقوق الأساسية) والمباحث القيمة في الحقوق الإدارية
ومن الكتب التي نشرت في دمشق (فتاوى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري) و (ديوان الكاظمي) و (أصول التفسير لابن تيمية) و (بحر العوام لابن الحنبلي) و (البخلاء للجاحظ) و (المنقذ من الضلال للغزالي) و (إصلاح ما تغلط فيه العامة للجواليقي) و (الإجابة للزركشي) و (المفاضلة لابن حزم) و (طوق الحمامة له أيضاً) و (روضة المحبين لابن القيم) وهما كتابان في الحب لإمامين من أعظم أئمة الدين و (فتاوى الإمام النووي) و (الرسالة المستطرفة للعلامة جعفر الكتاني) في تاريخ علم الحديث و (الصبح المنبي للبديعي) و (ذكرى الشاعرين) و (تهذيب تاريخ ابن عساكر) و (عبد الله بن المقفع للأستاذ الجندي) و (الجاحظ) و (ابن العميد) و (الصاحب) و (ابن المقفع) للأستاذ خليل مردم بك، و (امرؤ القيس) للأستاذ الجندي و (أبو بكر الصديق) و (عمر بن الخطاب) للطنطاوي، و (خالد بن الوليد) لكحالة، و (أسواق العرب) للأفغاني.
وأنا أظن أن هذا كله، وهذا بعض ما نشر في دمشق لم يحفل به، ولا ببعضه ناقد من كبار نقاد مصر، أفلا يحق لنا أن نعتب، وأن نذكر، وأن نرجو، وأن ننتظر؟
علي الطنطاوي
فتوى لجنة الإفتاء بالأزهر في فائدة الأربعاء
لا أنكر أن فتوى لجنة الإفتاء في هذه الفائدة خطوة موفقة في سبيل الإصلاح الديني، والقضاء على ناحية من نواحي الفساد في البلاد، ولكني آخذ على اللجنة أنها اهتمت في هذه الفائدة بناحية الشكل، ولم تهتم بالأصل الذي تقوم عليه من جواز التوجه إلى أصحاب الأضرحة في قضاء الحاجات، بقطع النظر عما يلجأ إليه في ذلك من تحديد زمان أو مكان أو كيفية للعبادة لا اصل له وفي أفتى العالم الكبير في هذه الفائدة بجواز التوجه على أصحاب الأضرحة في قضاء الحاجات، ولا شك أن فتوى لجنة الإفتاء جاءت رداً على فتواه، فلم يكن من اللائق مع هذا أن تهتم فتواها بما اهتمت به، ولا تعطينا حكما صريحاً(365/61)
في ذلك الأصل الذي قامت عليه تلك الفائدة، فهل يليق أن يبقى عامة المسلمين على ما هم عليه الآن من الاعتقاد في تأثير أصحاب هذه الأضرحة في أمور دنيانا، وتجاهل الأسباب المشروعة التي سنها الله تعالى، وهل قامت هذه الأضرحة على أساس صحيح، وهل قيست ولاية أصحابها بمقياس الولاية في الشرع؟ ورأيي أنا أن كل هذا لا يصح أن يبقى بيننا، وأنه يجب أن نتخلص منه، ولنا فيما فعلته بعض الحكومات الإسلامية أحسن أسوة
(عالم)
1 - حول آية إطعام الطعام
اطلعت على ما كتب في (الرسالة الغراء) في هذا البحث، فأرجو أن يتذكر الأستاذ محمود محمد سويلم أن (خصوص السبب لا ينافي العموم) فسيدنا علي رضي الله عنه داخل في هذا العموم دخولاً أولياً بالنظر إلى أنه سبب نزول الآية
وأول من ضرب على هذا الوتر بتوسع هو الحافظ بن تيمية في كتابه (المنهاج) وكون السورة مكية ليس بأمر مقطوع به
2 - نيف
كنت أرى بعض الكتاب الناشئين يستعملون كلمة (نيف) قبل العدد، ثم رأيت الأستاذين العقاد وكرد علي يستعملانها كذلك فوجب التنبيه على صحة استعمالها:
قال في القاموس المحيط (والنيف ككيس: الزيادة، يقال عشرة ونيف)، وقال في المصباح المنير (ولا يقال نيف إلا بعد عقد نحو عشرة ونيف ومائة ونيف وألف ونيف)، وكذلك في كتب اللغة الأخرى
عفيفي علي موسى(365/62)
القصص
من أثر الوعيد
مترجمة عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
ركب الضابطان: (كامبل) و (هاريس) جواديهما واتجها إلى الغابة، وكان الفصل فصل الربيع، والجو دافئاً معطراً، وكان يلذ لهما إمتاع النظر في ألوان الطبيعة والسكون في الغابة البعيدة عن جلبة الحياة وضوضائها. ولما ابتعدا عن المدينة رأيا أبنيتها الضخمة كأنها قطع من الأحجار الملوَّنة، وبجانبها نهر الرين، وقد انعكست عليه أشعة الشمس، فبدا كأنه خط من النور
وأشعل كل من الصديقين لفافة، وألقى (كامبل) عود الثقاب وراقبه وهو يسقط على الأرض، فرآه قد وقع على كثيب من الحشائش الجافة المتروكة في الصيف الماضي
وسرعان ما اشتعلت هذه الحشائش، وكان الرجل طيب القلب، فلم يترك النار تلتهم الغابة، فنزل هو وصاحبه فأطفآها. ورأيا في هذه الأثناء وراء الكثيب المحترق طريقاً ضيقاً بين الأشجار، فقال كامبل:
- ألا ترى هذا الطريق؟ أتعرف إلى أين يؤدي؟ دعني أمر منه. . .
فأجابه:
- بل تعال نركب، لأن الجوادين يتصببان عرقاً، وقد يضربهما الوقوف الآن
ولكن (كامبل) أصر على الذهاب وقال: إنه سيعود سريعاً. ثم اختفى بين الأشجار التي وراء الكثيب، وامتطى هاريس جواده، وظل يدخن لفافته، منتظراً عودة (كامبل)
وكان كامبل كثير التطلع إلى شئون يحب أن يعرف كل شيء ويتدخل في كل أمر. وبعد دقائق شمع صوت صاحبه يناديه، وكان الصوت ضعيفاً، فنزل عن جواده وجرى نحوه بعد أن ربط الجوادين. ولم يزل يجري حتى رأى كهفاً متسعاً، وسمع صوت كامبل آتياً منه، فدخل الكهف محترساً وهو يشم رائحة غريبة، وقال كامبل: (هل تشم شيئاً؟ إنني أشم رائحة ميت؟ هل معك كبريت؟ إنني لما جئت تذكرت أن ما معي منه قد نفذ)(365/63)
فقال هاريس: (ليس معي غير عيدان قليلة)، ثم أخرج علبة الثقاب وقال: (ليس فيها غير عودين فخذها)
أشعل كامبل أول عود فلم يحترق، وأشعل الثاني فرأيا على نوره الضئيل كتلة سوداء لم يتبناها، وتصاعدت من جهتها رائحة كريهة، ثم انطفأ العود وأظلم المكان، فلم يعد كل منهما يستطيع رؤية الآخر
فخرجا من الكهف متجهين إلى مربط الجوادين، ولم يكد هاريس يرفع رجله ليضعها في الركاب حتى صاح كامبل: (أنظر إلى حذائك!)
فنظر وقال: (هذا دم، ولست أعرف ما الذي كان في الكهف!)
وقال كامبل: هل تتذكر (إدي ماك جاري) الذي كان ضابطاً معنا واختفى في الشهر الماضي؟)
فقال هاريس: (نعم أذكره، وكان قبل اختفائه قد تخاصم مع أناس في مقهى، وقيل إنهم تضاربوا ثم اختفى، فهل تظن أنه بهذا الكهف؟)
قال كامبل: (لست أعرف)؛ ثم مشى الصديقان في صمت. وبعد مدة قال كامبل: (لا تقل شيئاً يا هاريس حتى نتبين الحقيقة، وسنتقابل غداً فأخبرك بنتيجة بحثي)
وكان كامبل يتردد على حانوت رجل خمار اسمه فرانز شافر، وقد اشتهر هذا الرجل بمعرفته كل مكان في المدينة وأكثر من فيها من الناس. وكان بينه وبين كامبل صداقة نشأت منذ جاء إلى هذه المدينة في أول الحرب. وكان هاريس يعرفه أيضاً ويتردد على حانوته
في هذه اللحظة ذهب هاريس إلى الحان وأخذ معه مقداراً من التبغ فأهداه إلى الخمار الألماني الذي أبرقت عيناه، وقام إلى زجاجة من أجود النبيذ فقدمها إلى الضابط وأخذ يصف شوقه إلى اليوم الذي تعود فيه ألمانيا إلى مكانتها الأولى بين الشعوب ويسود فيه الإخاء بينها جميعاً، وقال إن الحرب الأخيرة كانت حرباً بشعة أثارتها العداوة من الجانبين ولكنها انتهت بحمد الله فانتهت معها كل الحروب. ثم سأل الضابط: أليس من رأيه أن الحروب لن تعود؟
فهز هاريس رأسه. وكان في هذه اللحظة يفكر في الكهف ويغلب على ظنه أن كامبل(365/64)
مخطئ فيما توهمه. لأن ماك جاري وإن كان ضيق الخلق سريع الغضب، فهو لا يترك نفسه لمن يقوده إلى كهف فيقتله فيه
واستمر الخمار يتدرج في حديثه السياسي إلى أحاديث مختلفة عن أشخاص يعرفهم هاريس، فتردد الأخير في إخباره بأمر الكهف. وبعد قليل قال:
(هل تعرف الطريق إلى جبل (برج الز) يا هرشافر؟)
فقال الخمار: (كيف لا أعرفه وأنا كثيراً ما أذهب منه وصهري مقيم في (نيدورف) عند نهايته)
ثم تنهد وشرع في وصفه ولكن هاريس قاطعه بقوله: (وهل تعرف الطريق الضيق القريب من نهاية الغابة؟)
فحملق الألماني في وجه الضابط وراعه منه رنة غريبة في صوته وتغير في لهجته، فقال الخمار: (لماذا يا سيدي الهر؟ لماذا يا سيدي الضاْبط؟)
ولكن هاريس استمر يسأله بلهجة المحققين: (وهل تعرف المكان الذي على بعد مائة متر على يمين هذا الطريق؟)
فلم يجبه الخمار ولكنه ظل واجماً فاتحاً فمه لاعقاً شفتيه بحالة عصبية، وكان هاريس في هذه اللحظة يتذكر ضابطاً عظيما استجوب أمامه أحد الحراس فشعر بالسرور لأن مهارته الآن في التحقيق لم تكن أقل من مهارة ذلك الضابط الكبير بدليل ما ظهر من التأثر على وجه الخمار
ولقد كان الإجرام بادياً على الخمار في هذه الساعة، وكانت عيناه تدوران كأنما تبحثان عن منفذ تتركان منه المحاجر وكانت خياشيمه تنتفخ والعرق يتندى من جبيته. ثم قال بعد ارتباك شديد: (لست أعرف هذا المكان)
فقال هاريس وهو يدق على المنضدة ليؤكد سؤاله: (ولماذا لم تقل ذلك من أول الأمر؟)
وكان الخمار يحارب نفسه ليحملها على كتمان العواطف، وتظاهر بالغضب على كرامته تظاهراً جعل شكله مضحكا وقال: (لا تؤاخذني يا هر إذا احتددت فإني لم أنم جيداً ليلة الأمس، وأنت قد غيرت معي لهجتك فاضطربت)
فقال هاريس بلهجة الساخر: (لم تنم جيداً ليلة الأمس؟)(365/65)
قال الخمار: (نعم وقد فهمت. إنك تريد اتهامي بمعرفة شيء عن هذه المسألة، عن هذا الكهف. ولكنني أؤكد لك أنني لا أعلم وأنا مستعد للذهاب معك إلى الغابة في عصر الغد)
ثم هدأت أعصاب الخمار وعاد إلى خديه أحمرارهما، ونظر إليه الضابط مبتسما وقال: (لا تنكر يا شافر! لا تنكر! فأنت تعلم الحقيقة بغير شك، إن لم تكن شريكا فيها. وأنت تريد أن تذهب معي إلى الغابة. . . هذا حسن والله يا شافر! تريد أن تأخذني أنت وصهرك إلى الكهف فتقتلني كما قتلت (إدي ماك جاري)
ثم تغيرت لهجته من الهدوء إلى الحدة وقال: (سأمهلك إلى الغد لتعترف وإن تركت منزلك الليلة فسيراك رجالي، وإن لم تعترف غداً فإنك ستعتقل وتقدم للمحاكمة العسكرية، ومن يدري؟ لعله يحكم عليك بالإعدام)
فارتعش الخمار وتصور منظر المحاكمة والإعدام ورأى القبر مفتوحاً أمام عينيه، وتذكر زوجته وأولاده وما يصيبهم من البؤس بعد موته، وفتح فمه وظل يقول: (لست أعرف! لست أعرف!) وتركه هاريس على هذه الحالة وذهب وهو يعتقد أنه وفق إلى اكتشاف جريمة، وأن جبن الخمار كان دليلاً قوياً على أنه المجرم.
وفي الصباح التالي ذهب هاريس إلى كامبل فأخبره، وكان كامبل قد سمع خبراً لم يشأ أن يطلع صاحبه عليه حتى يلهو قليلاً ببساطته، فأظهر له الاهتمام وقال: (هلم مع حارس إلى الخمار).
وذهبا مع الحارس إلى الحانة فوجدا الخمار وزوجته وأولاده يبكون. وأعاد هاريس استجوابه، والخمار يتنصل وهو يتوعده بأقسى العقوبات إذا لم يعترف، ويعده بتخفيف العقوبة إذا اعترف
فلما لم يجد ذلك جلس هاريس أمام المنضدة وكتب بلاغاً وسلمه للحارس وأمره بأن يذهب به إلى رئيس البوليس
عند ذلك تبادل الخمار وزوجته نظرات ثم همس في أذنه فقال: (لا ترسل البلاغ وأنا أعترف لك)
فأخر هاريس إرسال البلاغ، وجلس بهيئة جدية، وصار يصغي إلى الاعتراف، واعترف الخمار بأنه هو وصهره قتلا (أدي ماك جاري) وتركاه في الكهف(365/66)
عند ذلك ضحك كامبل ضحكة عالية وقال: (لقد قبض بالأمس على ماك جاري في باريس)
فدهش هاريس وقال: (إذن فما الذي رأيناه في الكهف؟)
فقال كامبل: (هو خنزير ميت)
ثم خرج من الحان.
عبد اللطيف النشار(365/67)
الأب. . .
مترجمة عن الفرنسية
بقلم الأستاذ محمد محمد حمدي
هو كاتب في وزارة المعارف ومنزله في إحدى ضواحي باريس، ولذلك كان يركب عربة (الأمنوبيس) في صباح كل يوم من منزله إلى الوزارة؛ وكان يجلس دائماً أمام فتاة يشعر نحوها بعاطفة الحب
وكانت الفتاة تذهب إلى المحل الذي هي عاملة فيه؛ وهي سوداء العينين بيضاء الجسم ناصعة البياض كأنها تمثال من العاج. وكان يراها تقْبِل كل يوم من منعطف في نفس الطريق، وكثيراً ما كانت تجري لتدرك العربة وهي سائرة وتتعلق بها قبل أن يقف الجوادان، ثم تجلس في المكان الخالي وهي تلهث من التعب وتدير لحظها فيما حولها
ومنذ رآها (فرنسوا تاسييه) أعجب بجمالها، وكانت الفتاة وفق أمانيه ورغائبه وصورة لخيال الحسن المنطبع على قلبه فأحبها من صميمه قبل أن يتعارفا
كان لا يستطيع أن يرد بصره عنها، وكانت تخجل من نظراته وتضطرب، وقد أدرك ذلك فحاول أن يغض من بصره ولكنه على غير إرادته كان يعود بين لحظة وأخرى فينظر إليها. وبعد أيام قليلة عرف كل منهما الآخر وإن لم يتكلما. وكان يترك مكانه ويقف خارج العربة إن أقبلت الفتاة والعربة مزدحمة. وكانت الفتاة إذ ذاك تحييه وهي مرخية أهدابها حياء من نظراته ولكنها مع ذلك لم تكن تغضب من هذه النظرات
وأخيراً تحادثا ونشأت بينهما مودة سريعة، وكان يقضي أمامها نصف ساعة في كل يوم. ولكن هذه الأنصاف من الساعات كانت فتنة العمر. وكان يفكر فيها بقية يومه ويرى طيفها ماثلاً أمام عينيه، لأن حبها كان مستحوذاً على خيال متسلطاً على قلبه باعثاً في نفسه تلك السعادة الجنونية التي يخال صاحبها أنه في عالم غير عالمنا الإنساني
وصارت تصافحه كل يوم فيحتفظ بالإحساس الذي تثيره هذه اللمسة الرقيقة من أصابعها الصغيرة فيظل ناعماً بإحساسه هذا إلى الصباح التالي وكان يقضي يومه وليلته في انتظار الساعة التي يركب فيها الأمنوبيس، وما كان شيء أبغض إليه من أيام الآحاد لأنه لا يستطيع فيها أن يراها. وكانت الفتاة تحبه بغير شك. وفي يوم سبت من أيام الربيع وعدته(365/68)
بأن تتعشى معه في اليوم التالي بمطعم في ضاحية أخرى
التقيا في صباح الأحد عند المحطة ففاجأته بقولها: (أريد أن أكلمك قبل أن نذهب، لقد بقي عشرون دقيقة على سفر القطار وهي كافية لما أريد أن أقوله)
وكانت ترتعش وهي تقول ذلك، وتعلقت بذراعه وقد أصفر لونها ونظرت إلى الأرض واستمرت تقول: (أريد ألا تنخدع بي، ولن أذهب معك حتى تعدني وتقسم بأن تكون شريفاً معي)
ثم اصطبغ وجهها احمراراً ولم تزد، ولم يعرف بماذا يجيب لأنه كان مضطرباً رغم شعوره بالسعادة في هذا الحين، وربما كان يتمنى من صميم فؤاده أن يكون كما ترجو، ولقد كان يعرف أن حبه لها سيقل إن وجد منها خفة وطيشاً ولكنه كان أنانياً كسائر الرجال في الحب
ولما لم يقل شيئاً عادى الفتاة إلى الكلام بصوت مضطرب وعيناها مغروقتان بالدموع وقالت: (إذا لم تعدني باحترامي فسأعود إلى المنزل)
فضغط على ذراعها برفق وأجاب: (أعدك بأن أسير على ما تريدين)
فزال اضطرابها وقالت وهي تبتسم: (هل تقسم على ذلك؟)
فقال: (أقسمت)
قالت: (تعال إذن نشتر التذاكر)
ثم ركبا القطار ولم يتكلما إلا قليلاً لأن العربة كانت مزدحمة فلما وصلا إلى الضاحية مشت معه إلى شاطئ السين، وأطلت على مائه المنعكسة عليه أشعة الشمس، وقالت: (ما أراك تظنني إلا حمقاء). قال: (لماذا؟) فقالت: (لأنني جئت معك وحدي إلى هذا المكان)
قال: (كلا. كلا. بل هذا شيء طبيعي!)
فقالت: (إنه ليس طبيعياً بالنسبة لي، ولكنه من الممل أن تتشابه الأيام والأسابيع والشهور، فإنني أعيش مع أمي معيشة لا تجديد فيها ولا تغيير. وهي عابسة دائماً لكثرة ما تعنيه من السأم، وأنا أحاول التغلب على نفسي وأضحك لأقل مناسبة. ولكن لا فائدة من ذلك. وقد أخطأت إذ جئت وما كان تخلفي ليحزنك)
عندئذ قبلها فرانسوا قبلة حارة، فغضبت فجأة وصاحت: (ما هذا يا مسيو فرانسوا! أبعد أن أقسمت؟)(365/69)
ثم مشيا إلى المطعم وهو بناء صغير منخفض عن الأرض، أمامه أربع شجرات. وبعد أن تعشيا في صمت وشربا القهوة عادت الفتاة إلى المرح، ومشت معه على شاطئ السين، وسألها عن اسمها فقالت: (لويس) فأعاد اسمها (لويس) ولم يقل شيئاً. وأخذت الفتاة تجمع الأقحوان النابت على الشاطئ، وظل يغني في طرب كالنشوان، وهما يمشيان تحت الكروم حتى ابتعدا نحو ميلين عن المدينة، ولاح لهما بساط سندسي من الخضرة، فأشار إليه، وقالت: (ما أبهجه!) ثم مشيا نحوه فجلسا على العشب، وكان يتضوع حولهما عبير الأزهار التي أكسبها شعاع الشمس ألواناً مختلفة
وأغمضت عينيها وهي لا تعلم شيئاً غير تلك القبلة ولا تفكر في شيء آخر، وهي شاردة اللب مهتاجة الشعور من الرأس إلى القدم. ولكن سرعان ما شعرت بالخطب وبكت من الحزن وهي تستر بيديها وجهها، وحاول أن يعزيها وهي تأبى إلا العودة في الحال وصار يستمهلها وهي تأبى، فلما نزلا من المحطة في باريس تركته بغير أن تحييه.
ولما رآها في الأمنوبيس في الصباح التالي خال أنها أشد نحولاً وقالت: أريد أن أكلمك، فتعال ننزل. ونزلا، فقالت له: يجب أن نفترق، فما أستطيع رؤيتك بعد الذي حدث
فقال: لماذا؟
أجابت: لأني لا أريد، وقد أصبحت خاطئة وما أحب أن أعود
ولكنه توسل إليها، وقد اشتدت به الرغبة في امتلاكها. فقالت: كلا. كلا. فلا أستطيع. . .
فألح ووعدها بالزواج، ولكنها رفضت وتركته، ومضى أسبوع لم يرها فيه، ولم يكن يعرف عنوانها، وفي اليوم التاسع دق باب غرفته، ففتحه ورآها تلقي بنفسها بين ذراعيه، ولم تعد تقاومه. ومضت ثلاثة أشهر، وهي تعيش معه معيشة الخليلة، وبدأ يسأم منها. فلما أخبرته أنها حامل، عزم على هجرتها وقطع صلاته معها، ولكنه لم يعرف الوسيلة إلى ذلك، حتى جاء في ليلة من الليالي، فترك ذلك المسكن، ولم يخبرها بمسكنه الجديد. ولقد كان وقع هذا شديداً على نفس الفتاة، ولكنها ذهبت إلى أمها باكية وركعت عند قدميها واعترفت بالأمر كله. وبعد أشهر وضعت طفلاً
مضت سنوات وأصبح فرانسوا كهلاً ولم يتغير شيء من نظام حياته بل ظل على المعيشة المملة بلا أمل ولا أمنية؛ وكان كل يوم يمشي من طريق واحد، فيجلس على مكتب واحد(365/70)
ويؤدي عمله الواحد. وفي أول كل شهر يتقاضى مائة من الفرنكات يستعين بها على شيخوخته. وفي أيام الآحاد يذهب إلى (الشانزلزيه) ليراقب المتنزهين فيها
وفي يوم من هذه الأيام بهت لما رأى سيدة تتنزه ومعها صبيان، أحدهما يبلغ العاشرة والثانية تبلغ الرابعة. وكانت هذه السيدة هي صاحبته، فمشى نحو مائة متر ثم ارتمى خائر القوى على كرسي، ولم تكن السيدة قد لاحظته. وبعد قليل عاد لكي يراها مرة أخرى، وكانت قد جلست والصبي واقف بجانبها في سكون والطفلة تجري وتلعب
ونظر إليها فلم يشك في أنها هي وكانت نظراتها نظرات حزن وثيابها بسيطة وكان يراها عن بعد لأنه لا يجرؤ على الدنو منها ولكن نظره قد وقع على الصبي فارتعش وعرف أنه ابنه لأنه يشبه صورته وهو في ذلك العمر. ثم اختفى وراء شجرة حتى تقوم فيتبعها إلى منزلها
ولم ينم في تلك الليلة وكاد يجن من التفكير في ابنه وسأل أهل الحي عنها فقيل له إن أحد جيرانها قد أخذته الشفقة عليها بعد ذلك الحادث فتزوجها وربى ابنها، ثم ولدت له البنت
صار فراسنوا يتردد على الحديقة كل يوم من أيام الآحاد. وكان في كل مرة يكاد يجن شوقاً على عناق أبنه وتقبيله والعودة به، ومن ذلك العهد صار يتألم من الوحدة وأحس إحساساً مضاعفاً بالغيرة والندم والحاجة إلى النسل. ثم عزم على خطة لا يقدم عليها غير اليائس، فذهب إليها ووقف أمامها وقال وشفتاه ترتعشان: (ألا تعرفينني؟) فنظرت إليه وصاحت صيحة رعب وفزع، ثم أخذت ابنها وخرجت من أمامه، وعاد هو إلى المنزل باكياً، ومضت أشهر لا يراها، وكان ألمه يزداد يوماً فيوماً حتى تمنى الموت على أن يقبَّل ابنه قبل أن يموت، وكتب إليها فلم تجبه حتى بلغ ما كتبه عشرين خطاباً. ثم بدا له في حالة من اليأس أن يكتب إلى زوجها واستعد لأن يكون الجواب رصاصة من مسدس، وكان هكذا خطابه: (سيدي! لا شك أن اسمي يزعجك ولكنني في أشد البؤس والتعاسة، ولذلك أجرؤ على استئذانك في مقابلة قصيرة)
وفي اليوم التالي وصل إليه الرد وهو هكذا: (سأنتظرك غداً في الساعة الخامسة)
ذهب إليه وهو خافق القلب حتى اضطر إلى الوقوف في السلم عدة مرات. ثم فتح له الباب ودخل حجرة الاستقبال، فوجد الزوج جالساً في صدرها، وهو طويل القامة عريض(365/71)
المنكبين، وقد بدا عليه أنه يتوقع خطباً، وأشار الزوج له بالجلوس فجلس وقال: (لعلك لا تعرفني ولم تسمع اسمي. . .)
فقاطعه الزوج قائلاً: (بل عرفت كل شيء من زوجتي) قال فرانسوا: (أنا يا سيدي لم آت إلا لأقول لك إنني أسفت وندمت وحزنت ولا أطلب غير أن أقبل ابني. . .)
فدق الزوج الجرس وأمر بإحضار الصبي (لويس) فدخل الغرفة صبي في العاشرة مندفعاً لرؤية الذي اعتقد أنه أبوه فوجد معه رجلاً أجنبياً فقبله الزوج ثم قال له: (اذهب فقبل هذه اليد)
فذهب الصبي ونظر إلى الضيف وكاد يغمى على فرانسوا. وقام الزوج فأطل من النافذة. وفي هذه الأثناء سقطت القبعة من يد الضيف فتناولها الصبي وأعادها إليه.
وعند ذلك أخذه بين ذراعيه وبدأ يقبله فوق خديه وعينيه وعلى جبينه وفمه وشعره؛ فانزعج الصبي من هذه القبلات ودفع وجه الرجل بكلتا يديه، فقام الرجل المسكين ووضع الصبي على الأرض وقال: (وداعاً!)
ثم خرج متسللاً من الغرفة كأنه لص.
محمد محمد حمدي(365/72)
العدد 366 - بتاريخ: 08 - 07 - 1940(/)
علي ماهر باشا
الآن وقد انفكَّ عن صاحب المقام الرفيع سلطان الحكمين: المدني والعسكري، وأصبحت الكلمة فيه للحق الخالص الذي لا يرغب ولا يرهب ولا يجامل، نحاول أن نرسم هنا ظلال الرأي الذي ارتأيناه فيه على قدر ما تسمح به حال الصحفي الأدبي الذي يواكب من جانب ويراقب من بُعْد، ولا يتصل بأولي الحكم اتصال دعاية، ولا يذوي الرأي اتصال مشايعة
لم أرى علي ماهر باشا فيما مضى من حياتي غير مرة واحدة منذ
شرين سنة في مطبعة الاعتماد حيث كان يطبع كتاباً في القانون وأنا
أطبع كتاباً في الأدب. وعلى الرغم من جلوسنا ساعة من النهار جنباً
لجنب ذلك المكان الخشن الضيق الذي كان يجمع يومئذ بين مكتب
الإدارة وصناديق الحروف، لم نتناول غير النظر الفارغ، لأنه على ما
يظهر من نفسه رزين متحفظ، وأنا على ما أعرف من نفسي حبي
منقبض
وتولى علي ماهر باشا الحكم فكان لكل أديب ولكل صحفي من رعايته عون على الجهاد والاجتهاد إلا (الرسالة)، فقد عاقبها وقسا عليها في العقاب حتى لم تنل في عهده من المعارف والداخلية إلا شيئاً يشبه الظلم إن لم يكنْه. فأنا حين أكتب عنه لم أجد في نفسيَ منه إلا ما يجده المصري الفلاح أو العامل من أثر الرجل الحكومي في عمله، ومن نتيجة العمل العمومي في حياته. وألذ الأشياء في ذوق الضمير أن نشهد شهادة الصدق في رجل لا تربطك به علاقة من العلائق الحريرية أو الحديدية
علي ماهر باشا رجل هيأته طبيعته وعقليته وعمله للمواقف الجلَّي في عهدنا المستقل الحر. تولى رياسة الحكومة في وزارة المائة يوم فكان مثلاً عالياً للحكم المناسب في النشاط الشامل والتوجيه البصير والإصلاح المبتكر والنزاهة الممكنة. وكان الغيب في هذه المدة قد تكشَّف عن طور من أطوار العرش والدستور لا يؤمَن فيه الضلال على غير الإرادة الحازمة الرشيدة، فكان من توفيق الله أن تقلد الأمر هذا الرجل العظيم في تلك الساعة العصيبة فساسه على نهج واضح مأمون من اللقانة والأمانة والقدرة(366/1)
ثم عاد فتولى الحكم حين أخذت العالمَ كله هذه الرجفةُ النازية الكبرى، فسحقت الجيوش، وثلت العروش، وغيرت وجوه الأرض، ونقضت أحكام الناس، وقلبت أوضاع المجتمع، وأصاب مصرَ منها ما لم تره في عمرها الحفيل الطويل، فصرَّف الأمور في هذه العاصفة الراجفة بالذهن الثاقب المحتال، والرأي الجميع الموفَّق، واليد القادرة الحازمة، والسياسة المتيقِّظة المستبصرة، والخطة الصريحة الجريئة، حتى اطمأن الناس إلى مصاير الأزمة، وأمِنوا شر العاقبة
فأنت ترى أن اختيار القدر لهذا الرجل في هاتين المحنتين من غير سعيه ولا استشرافه لا بد أن يكون لسر من أسرار الطبيعة فيه تعلنه عند إعضال الأمر أو استفحاله
والواقع المأنوس أن علي ماهر باشا فذٌّ بين ساسة هذا البلد في وسيلته وغايته وحكمه؛ فهو لا يعتمد في ولايته على عصبية الأحزاب المتغالبة، ولم يجر في حكمه على نمطية الوزارات المتعاقبة، ولم يجعل همه أن يدغدغ جسمه في كرسي الوزارة المخملي الوثير؛ وإنما بلغ الزعامة بالكفاية المحض، وعالج الحكم بالتدبير المبتدَع، وسما بنفسه عن سفساف الأمور ومحاقر الأغراض، وألقى باله للكبيرة والصغيرة، وأخلص رأيه للحميم والخصيم، وتعهد الأداة الحكومية في أوضاعها المختلفة ومواضعها المتعددة فجلا عنها الصدأ وعالج فيها الاضطراب، حتى نشطت لعملها الدائب في اطراد واتساق ووحدة
ومن مزايا علي ماهر باشا أنه رجل قانون ومنطق. وصاحب القانون يغلب عليه العدل والمساواة وهما روح الحكم؛ وصاحب المنطق يغلب عليه الرأي والمشورة وهما أصل الدستور. لذلك تهيأت له الفرص النوادر للاستبداد فأبى أن يعمل إلا على هَدْى طبعه ووحي ضميره
لقد كان موقف صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا من سياسة الحليفة العظيمة موقفاً يتمناه كل زعيم عظيم بما بقي من عمره. ولولا أن حليفتنا الكريمة لا تزال تجري في سياستها الشرقية على موروث من سوء الظن لوجدت في ماهر باشا أصدق حليف وأوفى معاهد يعلمها من أخلاق قومه ما تجهل، وينيلها من عواطف شعبه ما تريد. ولكنها أتاحت بهذا الموقف الأخير لعلي ماهر باشا أن ينقش في ذاكرة الزمان الواعي أنبل ما صدر عن وطنيته وعبقريته من البراعة والشجاعة والإخلاص لوطنه وملكه(366/2)
لقد رفع ماهر باشا مستوى الحكم وأعلى مثَله. ومن البعيد أن ينزل خَلفُه عنه أو يترخص فيه؛ ولكن الاضطلاع به والمحافظة عليه في هذه الزلزلة العامة من المشقات التي تُمتحن بها أقدار الرجال. ويقيننا أن الروح المصرية التي انتعشت في علي ماهر وإخوانه الذين اعتزلوا الحكم، ستشيع في ساستنا الذين خَلَفوهم عليه، فتميت في أذهانهم معاني الفردية والحزبية، وتدفعهم متكاتفين إلى إنقاذ الوطن عن طريق الجهاد والإيثار والتضحية
إن القدر المتصرف يخطط اليومَ الممالك على نظام جديد. والإيمان وحده هو الذي يملك على القدر اللطف في التغيير. فآمنوا يا رجال الساعة بقدرة الله وقوة الحق وقيمة الحرية وسلطة التاريخ وعظمة مصر، فإن الإيمان ولا ريب دِرع الأمان
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات(366/3)
الحديث ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
أوهام أدبية تخلقها الحوادث - أسرار الجزع على باريس - الأدب هو سفيرنا في الشرق - الهجرة إلى الريف - ابدأ بنفسك - الأحزاب السياسية والأدبية
أوهام أدبية تخلقها الحوادث
للحوادث العنيفة تأثيرٌ شديد في تلوين الحقائق والأباطيل، وفي خلق الآراء والأضاليل. . . والمرء حين تصدمه الحوادث، يتلفت ليرى كيف صار إلى ما صار إليه من بؤس وشقاء، وكيف استهدف للمعاطب وتعرَّض للأرزاء، وذلك هو الفرق بين اليقظ والغافل من الرجال. وحكاية (السمكات الثلاث) في كتاب (كليلة ودمنة) تؤيد هذا الرأي، إن كان يفتقر إلى تأييد
أقول هذا، وقد قرأت في هذه الأيام كلمات نفيسة لجماعة من أدبائنا في تعليل الهزيمة التي مُنيتْ بها فرنسا، وهم يكادون يُجمعون على أن تلك الهزيمة ترجع إلى ما درَج عليه الفرنسيون بعد انتصارهم في الحرب الماضية من إيثار الدَّعة والسلامة والإقبال على الخلاعة والمجون
والأدباء الذين قالوا هذه الكلمات لم يقولوها إلا لغرض شريف، وهو تحذير أمتهم من عواقب البطالة والفراغ، ومآثم الترف واللين. والأديب ينتهز الفُرص ليضرب لأمته الأمثال
ولكن تلك الكلمات النفيسة وقعتْ فيها أغلاط تستوجب التصحيح
فهل من الحق أن فرنسا كانت فسقتْ عن أوامر الأخلاق؟
هل من الحق أن باريس لم تكن إلا ملاعب صبابة ومدارج فُتُون؟ هل من الحق أن الأندية الفرنسية لم تكن تعرف غير قول السوء ولغو الحديث؟
تلك أوهام يقول بها من لم يعش في فرنسا زمناً يسمح بالتعرف إلى أخلاق أولئك الناس، ليدرك المستور من شمائلهم الصَّحاح. تلك أوهام يقول بها من يعرف فرنسا بالسماع لا بالعِيان
ولو كانت فرنسا كما وصفوا، لكان من المستحيل أن تملك السيطرة الأدبية والحربية في تلك الأزمان الطوال التي سبقت محنتها الدامية في هذه الأيام السود(366/4)
إن الخُلُق الفرنسي نموذجٌ للخلُق الصحيح، فالرجل الفرنسي يلعب في حين، ويجدُّ في أحيان، وهو في لعبه وِجدْه مثالٌ للرجل الذي تنأى به رجولتُه عن اصطناع أخلاق الضعفاء الذين يرون سلامتهم في التستر والتصنع والرياء
والأدب الفرنسي هو في جوهره صورة صحيحة للأدب الإنساني، لأنه ينزع إلى الصدق في تصوير ما تخضع له الإنسانية من قوة وضعف، ويقين وارتياب، وهدىً وضلال
وإذا اندحرت فرنسا السياسية فلن تندحر فرنسا الأدبية
ولو صدقت فرنسا في السياسة كما صدقت في الأدب لكانت هزيمتها من المستحيلات. وقد قلت في مقال قدمته لمجلة الهلال إني أنتظر اليوم الذي تسمح فيه الظروف بأن أُعلل هزيمة فرنسا السياسية
فهل أجد اليوم منفذاً لكلمة وجيزة بعد أن استباح المسيو بيتان ما استباح في تعليل تلك الهزيمة النَّكراء؟
إن المسيو بيتان ردَّ أسباب الهزيمة إلى ما تخلَّق به الشعب الفرنسي بعد الانتصار في الحرب الماضية من إيثار المرَح على التضحية وتقديم الحقوق على الواجبات
فما الذي يمنع من تصحيح رأي المسيو بيتان؟
ما الذي يمنع من القول بأن ساسة فرنسا كانوا أضعف بصراً من ساسة الألمان؟
إن السياسي الألماني قدَّم لجنوده قضية تستوجب الاستقتال فهل قدَّم السياسي الفرنسي لجنوده قضية تستوجب الاستقتال؟
قال السياسي الألماني لجنوده: أنتم جِياع ويجب أن تقاتلوا لتجدوا القوت
أما السياسي الفرنسي فقال لجنوده: هَلُمُّوا للدفاع عن الشعوب الصغيرة
وكذلك شبَّت الحرب بين جنديين أحدهما جائع موتور، والثاني شبعان ريَّان يتكلف الغيرة على مبدأ لا يفقه ما يعبِّر عنه من ألفاظ وحروف
فإلى متى تؤذون شعوبكم بلا موجب أيها الساسة (المحنَّكون)؟
لو أعلن ساسة فرنسا أنهم يدافعون عن بلادهم ومستعمراتهم لا ستبسل الجندي الفرنسي واستمات، لأنه عندئذ يعرف أنه يدافع عن الشرف والقوت؛ ولكنهم ساقوه إلى الميادين لاعتبارات مِثالية لا تثير النخوة في أشجع الجنود(366/5)
وقد قال الفرنسيون ما قالوا في غدر ملك البلجيك، وفات ساستهم أن الوقوف على الحدود كان أنفع وأمنع، ولو فعلوا ذلك لكان من الجائز أن يتغير مصير الحرب، ولكان من المحقَّق أن يستبْقوا من الجيش قوةً يدفعون بها شرّ العدوّ المجتاح
ولكن من الذي يملك القدرة على توجيه آراء الساسة والزعماء؟
أما بعد فلهذا الحديث حواشٍ وذيول سنَعرِضُ لها بالتفصيل بعد حين
والمهمُّ هو تذكير بعض الأدباء بحق الأدب، فما نريد أن يخضع الأدب لأي اعتبار من الاعتبارات، وإن كان من واجبه أن يتعرض لجميع الشؤون
الأدب لا يزدهر إلا إذا تحرَّر من جميع القيود
الأدب هو الترجمان الصادق للغرائز الإنسانية، ولا يجوز أن نطالب الأديب بأن يكون عبداً لزمانه وأهل زمانه، وإنما يجب أن يُسيطر الأديب على الزمان وأهل الزمان ليؤدي رسالته في قوة وصراحة وإخلاص
الأديب أقوى من الناس ومن الزمان، وإنه لا يصوِّر غاية زمنية أو محلية، وإنما يتسامى إلى غايات تُشرِف على طوائف الإنسانية ومراحل التاريخ
ليس الأديب مِزماراً مأجوراً يترنم بما توحي أحوالكم من إطراب وأشجان، وإنما هو قيثارة سماوية يحقّ لها أن تصدح بغير ما تشتهون في أيام الفَرَح وما تبتغون في أيام البكاء، وإن كانت أُخُوَّنه لكم تفرض عليه أن يكون سناداً لآمالكم في جميع الأحايين
ألحان الأديب كأزهار الربيع
فإن كنتم سمعتم أن أزاهير التفاح في نورمنديا تلفَّتت إلى المعارك الدموية بين الفرنسيين والألمان فانتظروا أن يكفّ الأدباء عن التغريد فوق أفنان الوجود، لأن دنياكم عجزتْ عن تذوُّق المَرَح الذي يتموَّج في أعطاف الوجود
أيها الناس
أسمعوا، وعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا
الأديب يُسيطر على الحوادث، ويرفض الاستعباد للحوادث. والأديب أشجع منكم جميعاً لأنه لا يبالي متى يموت. وهل نسيتم أن الأديب هو الذي صنع بقلبه ولسانه وقلمه حوادث التاريخ؟(366/6)
ستذكرون يوماً أن أعظم المعارك قامت أو كُسبِتْ بسبب لفتة ذوقية صَدَرتْ عن شاعر مُجيد أو كاتب بليغ أو خطيب صَدَّاح. وستعرفون يوماً أن ضمائر الأمم لم تخلقها غير أفكار الأدباء الموهوبين.
الأديب ليس جنديَّا يتلقَّى الأوامر، وإنما هو بَطَلٌ يُطاع. فليكُفَّ قومٌ عن التنديد بأهل الأدب، وليذكروا أنهم لم يكونوا إلا حاكين لأقوال أهل الأدب في الوطنية. ولولا أقلامنا لعجز أولئك اللائمون عن صياغة عبارات الملام
أسرار الجزع على باريس
وبهذه المناسبة أذكر أن في أهل مصر من شكت جفونهم قسوة الأرق حين سمعوا بسقوط باريس بين أيدي الألمان
فبأي حق جزع الجازعون على باريس وهي المدينة الوحيدة التي يموت فيها الرجل من الجوع حين يعوزه القوت؟
جزع المصريون على باريس وليس لهم فيها أعمام ولا أخوال، لأنهم سمعوا أنها كانت مثابة للحرية الفكرية والروحية والذوقية. جزعوا على مدينة سمعوا أن أهلها في أمان من أوزار النفاق. جزعوا على المدينة التي سمعوا أن الرجل قد يعيش فيها طول عمره بدون أن يتعرض للهوان ما دام معتصما بالأدب والحياء
وتلك معان لم يسمع عنها في غير باريس
وإلا ففي أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو في أمان من أهل اللغو والفضول؟
في أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو من أدبه في حصن حصين؟
باريس هي البلد الوحيد الذي لا يجازَى فيه الرجل بغير ما تجترح يداه
الرجل المهذَّب يعيش ويموتُ في باريس بدون أن تتعرَّض سمعته للزُّور والبهتان
فمن أين نشأت هذه المعاني؟
أليست من ثمرات الأدب الرفيع؟
باريس هي البلد الوحيد الذي يتجاور فيه حزب الله وحزب الشيطان بلا بغي ولا عدوان. باريس هي البلد الذي لا يتقدم فيه رجل بغير حق إلا في النادر القليل
في باريس يقوم الملعب بجانب الكنيسة، ثم يلتقي اللاعبون والمصلون وهم يتبادلون تحيات(366/7)
المودة والاحترام
فإن كانت باريس ضيمت بجناية الأدب والذوق فهي ضحية كريمة للأدب والذوق
وهل يكون الانتصار في الغزو دلالة باقية على شرف المغيرين؟
إن كان ذلك فهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر التتار على بغداد؟ وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر أعداء العرب على إطفاء نور الحضارة الإسلامية بالأندلس؟
وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينجح نيرون في إحراق ذخائر الرومان؟
المعاني الروحية والأدبية هي الباقيات على وجه التاريخ. فمن كان يرى الفضل كل الفضل في أن ينتصر جيش على جيش بقوة النار والحديد فستريه الأيام عواقب ما رأى فكره المنخوب، والزمنُ كفيلٌ برفع الغِشاوة عن بعض القلوب
الأدب هو سفيرنا في الشرق
ويتحدث قومٌ عن صوت مصر في الشرق، وأقول إن الأدب هو سفيرنا في الشرق، ولكن أيّ أدب؟
هو الأدب الرفيع الذي يشرَّح جميع الأهواء الإنسانية بحيث يشعر كل امرئ في الشرق أن له نصيباً من العواطف التي يهتف بها أدباء وادي النيل
ولست بهذا القول أعادي أنصار الفكرية المصرية الذين يرون أن تكون مصر مثابة أفكارهم فيما ينظمون ويكتبون، فمن حق المصري أن يجعل مصر قِبلة هواه، ولكن من واجبه وهو أديب أن يذكر أنه أديب، والأديب أعظم وأرفع من أن يَقْصر أهواءه على الشؤون المحلية. الأديب المصريّ مسئول عن الطب لأدواء من وثقوا به من أهل الشرق. الأديب المصري مطالب بأن يكون صوته صدىً لجميع آمال الشرق، ولجميع آلام الشرق. الأديب المصريّ هو الآسي لجروح الشرق، وهو القيثارة التي تصدح بأفراح الشرق
وهذا هو واجب كفاية - كما يقول الفقهاء - فلست أطالب كل أديب بأن تكون نوازعه شرقية، وإنما أستنكر أن يعاب على رجل مثلي أن تكون له سياسة أدبية تتجه نحو الشرق، ولمصر في الشرق أهلٌ وأصدقاء
والواقع أني أتهم قومي بلا موجب، فأدباء مصر جميعاً يضمرون أصدق العواطف للشرق، ولكن يُعوزهم التعبير المقبول، فهم يُوهمون قراءهم أنهم لا يعرفون غير مصر، ولو نطقت(366/8)
الضمائر لقالت إن عواطف أدباء مصر لم تكن إلا جوارح تحسُّ آلام الشرق
وهل يلام أدباؤنا على إعلان هواهم لمصر في أوقات الشدائد والخطوب؟ نحن نغار على مصر لغرضين: لأنها مصر، ولأنها مفتاح الشرق. فإن أمدَّنا الله بالقوة والعافية والتوفيق فسنجعل من مصر قاعدة حربية تدفع عدوان الغرب على الشرق
آه ثم آه!!
إني أخاف طغيان الحوادث على مصير اللغة العربية، وعلى العقيدة الإسلامية. وأنا مع ذلك غير يائس، لأن مصر باقية، ولأن الشرق لن يزول. والله هو المستعان، على مكاره هذا الزمان
الهجرة إلى الريف
الهجرة في أصلها اللغويّ تدلّ على معنى المَشقْة، فهي تشهد بأن المُهاجر ينتقل من حال الاستقرار إلى حال القلَق، فهل يكون الأمر كذلك في الانتقال من المدن إلى الأرياف؟
أعترف مع الأسف بأن الأمر صار كذلك، لأننا بالغنا في تجميل الحواضر المصرية مبالغة مُرهقة، بحيث صار المسكن الواحد يتكلف من الماء والنور ما يكفي لتموين أسرتين من أهل الريف. وقد زادت الأمور الكمالية زيادة لا تطاق، ثم أمست تلك الكماليات وهي من الضروريات. فنحن اليوم بفضل الحضارة في شقاء وعناء
وكنت لأول عهدي بحياة القاهرة أعيش عشية بسيطة، فلم أكن أشعر بفوارق كثيرة حين أنتقل لقضاء الصيف في الريف. ثم تحضَّرت رُويداً رويداً إل أن صرت لا أستطيع قضاء ليلة واحدة بمنزلنا القديم في سنتريس. ولولا الأموال التي خاطرت بتبديدها في بناء منزل جديد هناك لكان من العسير أن (أهاجر) من وقت إلى وقت لزيارة أهلي
الحق أن الحواضر المصرية شلْت قدرتنا على الأُنس بالريف. فالأنهار الجارية في الأرياف لا تغنينا عن صنابير الماء التي ننعم بها في الحجرات والغرفات. والقمر الذي يسطع بأنواره الفضية في سهول الريف لا ينسينا جاذبية النور الذي نتلقاه عن مصابيح الكهرباء. ومن هنا صح القول بأن الذهاب إلى الريف هِجرةً فيها ما فيها من القسوة والعنف. فهل تكون هذه (الهجرة) فرصةً للتداوي من أمراض المدينة؟
إن كنت سمعتم أن الترف يقتل الممالك والشعوب فقد آن الأوان لشرح تلك النظرية.(366/9)
فالحضري الذي يعجز عن المبيت بديار الريف هو أعجز الناس عن تحمُّل العيش في ميادين القتال
ولو شئت لاقترحتُ أن يُمنَع النوم فوق الأسرَّة في المعسكرات حتى لا يعرف الجنود طعم اللين. فمن الصعب على من تعوّد النوم فوق الحشايا أن يفترش الأرض الصمّاء حين تقهره على ذلك ظروف الهيْجاء
يرحم الله أيامي حين كنت فلاحاً لا يؤذيه النوم فوق الأرض الجرداء!
فقد وَقَذتني الحضارة وأضرعَتني حتى صارت جُنُوبي لا تطمئن إلا إلى حشايا تُنَجّد في العام الواحد مرتين أو مرات، وذلك داء عُضال
لا فائدة من النوم على ما فات. ثم أُوجِّه الكلام إلى أولئك المهاجرين فأقول:
أنتم تَفِدون على أقوام تحصنوا بالقناعة، فما يعرفون من ألوان الطعام غير لون أو لونين، فلا تفتنوهم برؤية الموائد المثقلة بأطايب الطعام والشراب، ولا تحملوهم على أن ينظروا إليكم نظر المحروم إلى المطعوم. فلذلك عواقب يخشاها من تهمهم سلامة القلوب في الريف
أنتم تفِدون على أقوام لا يملك الشخص منهم غير ثوب أو ثوبين، فلا تفتنوهم بكثرة الأثواب، ولا تشعروهم بأنكم أقدر منهم على الزينة، فلذلك آثام ستسوؤكم أوزارها بعد حين
وما الموجب لأن يتخطْر بعض الشبان (المهاجرين) فوق شطوط الجداول وقد لبسوا (البيجامات) وتركوا رؤوسهم العارية تداعب النسيم بالشعر المعطَّر المشكول؟
ألا يعرف هؤلاء الشبان أن أهل الريف لن يلقوهم بغير السخرية والازدراء؟
يجب أن تعيش في الريف بأخلاق أهل الريف، فتحلق رأسك وتكتفي في مطعمك وملبسك يما يتسق مع المأثور من شمائل أولئك الناس، فإن خالفت هذه الوصية فلست أهلاً لنعمة الله عليك، ولن تترك في الريف غير ذكريات لا يسرُّك أن تعاد
هل عندك من قوة الأخلاق ما تقدَّم به لأهل الريف زاداً جديداً من أدب النفس؟
هل تستطيع أن تروض أهل الريف على الاقتناع بأن لأهل المدن شمائل هي السبب في سبقهم إلى أطايب المنافع وكرائم الطيبات؟
هذا يومٌ من أيامك، أيها المهاجر إلى الريف، فكن قَبَساً من الهداية يدفع ما في الريف من ظلمات. وكن في سيرتك مثالاً يحتذيه مَن رحَّبوا بقُدومك أجمل ترحيب(366/10)
إن الذين يهاجرون إلى الريف بالألوف سيعرِّضون الريف لرجَّة اجتماعية؛ فما عسى أن تكون تلك الرجَّة؟ أتكون خيراً؟ أتكون شرّاً؟
عندك - أيها المُهاجر - جواب هذا السؤال. لطف الله بك وهداك!
ابدأ بنفسك
كَثُر التواصي بالوطنية في هذه الأيام، وأصبحت الجرائد والمجلات ميداناً لأقلام أهل الحَميَّة من أبناء الوطن العزيز
وهذه فرصة لامتحان النفوس والعزائم والقلوب، فكل امرئ يعرف ما يملك من زاد الوطنية، وكل امرئ يعرف ما عنده من عناصر الأمانة والصدق والإخلاص
والمهم هو أن تبدأ بإعداد نفسك لدعوة الواجب، وأن تؤمن بأنك المسئول الأول، وأنك وحدك المعني بالنداء يوم يدعو الوطن أبناءه لتفديته بالأموال والأرواح
ويلي ذلك في الأهمية أن تشعر بمعنى الأخوَّة الوطنية، وأن تثق بأن جميع من تصادفهم في غُدُوَّك ورواحك هم أخوتك وأنصارك، وإن لم تعرفهم من قبل، وأن تعرف في قرارة نفسك أن منافعهم هي بعض منافعك، وأنك عن تفديتهم مسئول
التماسك الأخوي هو الحجر الأول في بناء الوطنية، ويوم يصح هذا التماسك لا يضيرنا أن تَفْسُد الدنيا يوماً فينفرط عقد الأمان
هل سمعت بالقوانين التي تشرع للطوارئ؟
إن كنت سمعت فاعلم أن الأمة الكريمة هي التي لا تفتقر إلى مثل تلك القوانين في غياهب الأزمات وظلمات الخطوب
نحن لا نحتاج إلى أدب النفس في أيام السلام، وإنما نحتاج إلى أدب النفس في أيام الحرب، فمن أنت بين أصحاب النفوس؟
الوطن يعتمد بعد الله على نفسك العالية، فكن عند ظنه الجميل
الوطن يرجو أن تفي له في أيام الشدة كما وفى لك في أيام الرخاء
الوطن هو أنت، فمن أنت؟
إن في الدنيا ناساً يتخذون أيام الحرب وسيلةً لِوَرَم الجيوب، وأعيذك أن تكون من أولئك الناس(366/11)
لمثل هذه الأيام تُدَّخر الأخلاق، فكن من أقطاب الأخلاق
أبدأ بنفسك فنزِّها عن مآثم الجشع والخيانة والبهتان، فإن فعلت فستظفر بثروة روحية تدفع عنك ظلمات الحوادث، وتمنحك القدرة على الاستهانة بالخطوب
العاقبة للصادقين
العاقبة للصادقين
العاقبة للصادقين
فكن في جميع أحوالك من أهل الصدق. وأحذر أن يكون أحد في الدنيا أصدق منك، فما يليق برجل كريم أن يكون من أهل الطبقة الثانية في الصدق
الأحزاب السياسية والأدبية
في أعقاب الأزمة الوزارية الأخيرة أدركت قيمة الحياة الحزبية إدراكاً أوضح من الإدراك الذي كنت أتمثلها به من قبل، فقد صح عندي بصورة صريحة أنها تعاون على إظهار أقدار الرجال
ومن المؤكد أن في كل أمة رجالاً يصلحون للحكم بأفضل مما يصلح بعض رجال الأحزاب، ولكن حرمانهم من الأنصار يحول بينهم وبين أداء واجبهم عن طريق المناصب الوزارية، وهي مناصب تمكِّن الرجل المخلص من أداء الواجب الوطني على الوجه المنشود
قد يتفق في بعض الأحيان أن يصل الرجل المستقل إلى تلك المناصب، ولكنه مع ذلك يظل مقلقلاً مزعزعاً بسبب عزلته عن الأسندة الحزبية، وهي دعائم تحول الضعفاء إلى أقوياء. والمرء كثير بأخيه، كما قال الرسول:
من حق الرجل أن يتحزب، بل من واجبه أن يتحزب، على شرط أن يكون صحيح النية في خدمة المبدأ الذي ينتمي إليه، وعلى شرط أن يكون التضامن الحزبي وسيلة لغرض سليم هو استعجال الفرصة للاضطلاع بحمل الأعباء الثقال في خدمة الوطن عن طريق الوزارة أو طريق البرلمان
ولا يعاب التحزب إلا بآفة واحدة هي ما يقع من السَّرف في اللجاجة والعنف، كالذي نراه من بغي بعض الأحزاب على بعض من حين إلى حين(366/12)
ولكن من السهل على الرجل الحكيم أن يتجنب هذه الآفة فلا يَشتِم ولا يُشتَم، ويظلْ محترماً من الجميع، كأن يكون مِثل مصطفى عبد الرازق بين الدستوريين، ومثل زكي العرابي بين الوفديين، ولهذين الرجلين أمثال في سائر الأحزاب، وإليهم تتجه الأنظار في الظروف التي توجب أن يتقدم لحمل أعباء الحكم رجالٌ ليس في مسلكهم الحزبيّ ما يهيج الخصومة ويثير الخلاف
تلك هي الحال في الحياة السياسية، فكيف تكون الحال في الحياة الأدبية.
الواقع يشهد بأن النجاح في الأدب قام على إسناد من العصبيات الممثَّلة في الأندية والجمعيات، فعندنا في مصر أحزاب أدبية، وإن لم تصطبغ صراحة بالصيغة الحزبية، وبفضل ذلك التحزب المستور لمَعَتْ في عالَم الأدب أسماء كانت أهلاً للخمول لو واجَهت الحياة الأدبية بلا إسناد من الأصدقاء والحُلفاء
أقول هذا وقد فاتني التحزّب في السياسة والأدب، فأنا صديق الجميع، وعدو الجميع، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يعيش بلا أنصار ولا أصفياء
سمعت أن في مصر حزباً يسمى حزب المستقلين، وهم الذين قرروا الاجتماع في حديقة الأزبكية ليعلنوا رأيهم في الصورة التي تؤلَّف بها الوزارة الجديدة. ثم سمعت أيضاً أن الوزارة أُلَّفت قيل أن ينفضّ اجتماعهم (المعقود)
وأنا في الأدب من حزب المستقلين، فليس من العجب أن تؤلَّف اللجان وتُعقد المؤتمرات بدون أن أخطر في البال، فتلك مزية الاستقلال!
سأتحزب، سأتحزب، سأتحزب
ولكن كيف؟
سأعقِد محالفة بيني وبين قلمي، وهو أقوى وأنفع من ألوف الأصدقاء
قضيتُ دهري بلا نصير ولا مُعين، وسأظل كذلك طول حياتي، لأقيم الدليل على أن من يستنصِر بالله لا يَخيب ولا يضيع
فإليك يا فاطر الأرض والسموات، وأنت وحدك الوليُّ النصير، أقدم واجب الحد والثناء
زكي مبارك(366/13)
الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
قد لا يكون من الحكمة أن نتعجل بحث الفروق السيكلوجية بين الأجناس البشرية من قبل أن نعرف: ما هو المقصود بالجنس؟ وما هي أنواع الأجناس المختلفة التي يدور البحث حولها؟
والموضوع من التعقيد بمكان، فقد شغل فقهاء اللغة، وعلماء الأجناس وعلماء الاجتماع والسياسة، ولا يزال يشغلهم حتى الآن، ولم يوفقوا بعد إلى رأي نهائي. وكل ما وصلوا إليه إنما هو حدس وفرض. وسبب ذلك أن موضوع الأجناس البشرية يبحث في القديم من التاريخ وفيما قبل التاريخ.
وليس ثمة من الوثائق التاريخية أو الأثرية ما يكفي لتحقيق فرض أو إثبات نظرية، كما يبحث أيضاً في الأجناس الحاضرة. وما قام به العلماء من محاولات لكشف ما عسى أن يكون من صفات جسمية وعقلية وخلقية مشتركة تميز طائفة من البشر عن غيرها لم يؤد بعد إلى حكم جازم بأن هذه الطائفة - مثلاً - متميزة كل التميز عن تلك. وذلك لما حدث في الماضي من هجر بعض الشعوب مواطنها الأولى واستقرارها في مواطن أخرى وامتزاجها بسكان هذه المواطن الأصليين بالتزاوج والتناسل، حتى أصبح من العسير علمياً أن يقال إن هذه الطائفة من الناس نقية الجنس لم تختلط بغيرها. وهذا ما جعل تعريف الجنس نظرياً فقط لا واقعياً. وهم يقولون إن الجنس من الأجناس البشرية هو جماعة كبيرة من الناس تنتمي إلى أصل واحد قديم، وتتميز بخواص جسمية وعقلية وخلقية مشتركة تميزاً وراثياً
والمتأمل في هذا التعريف لا يستطيع أن يجزم بالحد الذي تكون به الجماعة (كبيرة) بحيث تكوِّن الجنس. فجماعة سكان استراليا الأصليين مثلاً لا تعتبر كبيرة إذا قارناها بالترك، مع أن علماء الطبائع البشرية يعتبرون السكان الأصليين لأستراليا جنساً مستقلاً، بينما الترك فرع من الجنس المنغولي. وعلماء النفس لا يُقرون - كما سنرى - القول بوجود تلازم بين الخواص الجسمية والعقلية أو الخلقية. فإن وجود أنواع من الأجناس البشرية، تتميز بصفات جسمية خاصة، لا يدل مطلقاً على وجود تميز عقلي أو خلقي لهذه الأجناس، لأن(366/14)
ذكاء المرء أو خلقه لا يمكن أن يحكم عليه عادة بشكل جسمه، ولأنا إذا سلمنا بوجود اختلاف بين الأجناس في العقل والخلق كنتيجة ملازمة لاختلافها في الشكل والمنظر، كان معنى هذا أن الأفراد يختلفون بالضرورة عقلاً (أعني ذكاء) وخلقاً باختلاف مناظرهم وإشكالهم. وقد أثبتنا في المقالات السابقة أنه لا توجد علاقة تلازمية بين الخواص الجسمية وبين الذكاء، ولا بينها وبين الخلق
ولقد كان الرأي السائد حتى منتصف القرن الماضي أن الأسرة البشرية إنما تنقسم إلى ثلاثة أجناس: سامي وحامي، ويافثي. وهذه هي نظرية التوراة المذكورة في قصة نوح، فإنه لما استوت فلكه على الجودي كان معه من أبنائه الناجين سام وحام ويافث (وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو أبو كنعان. هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح. ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض). ولقد شك كثير من العلماء في صحة رواية التوراة، وأيدوا شكهم هذا بحجج منها أن التوراة تجعل الكعنانيين من الحاميين مع أنهم أقارب الإسرائيليين وتربطهم بهم روابط عنصرية ودموية ولغوية وثيقة. كما تأثر فقهاء اللغات بهذه النظرية فقسموا لغات البشر إلى ثلاث طوائف: السامية والحامية واليافثية. ولكن العلماء الآن لا يرون ضرورة وجود علاقة بين اللغة والجنس. فالعرب - كما يقول الأستاذ مرجليوث - ليسوا ساميين لمجرد أن العربية هي إحدى اللغات السامية، فقد يشترك في تكلم اللغة الواحدة أكثر من جنس واحد. وإلى هذا يشير الكاتب الإنجليزي العالمي هـ. ج. ويلز بقوله: (وقد حدث أن خلط فقهاء اللغة بين اللغات والأجناس فافترضوا أن الأقوام الذي يتكلمون لغة واحدة مشتركة لا بد أن يكونوا من جنس واحد مشترك، وهذه ليست الحقيقة. ومن السهل على القارئ أن يعرف هذا إذا عرف أن زنوج أمريكا يتكلمون الآن الإنجليزية، وأن الأيرلنديين - إذا استثنينا استعمالهم للغة الأيرلندية القديمة لأسباب سياسية - يتكلمون الإنجليزية أيضاً كما يتكلمها سكان ويلز ببريطانيا بعد ما فقدوا لغتهم الكِلتية القديمة. وكل ما تدل عليه اللغة المشتركة بين الأجناس المتباينة هو حدوث اختلاط اجتماعي في الماضي بين متكلميها مختلفي الأجناس، واشتراكهم في مستقبل واحد، ولا تدل على أصل مشترك واحد
لم يتفق علماء الطبائع البشرية على الخصائص التي تميز جنساً من الأجناس البشرية عن(366/15)
جنس آخر، ولكنهم متفقون على أنه قد وجد في العصور القديمة جداً أجناس بشرية أولية متميزة، وقد انتشرت هذه الأجناس في الأرض وارتحلت من مكان إلى مكان، ومن مناخ إلى مناخ، ومن بيئة إلى بيئة، فخضعت لاختلاف البيئة الجديدة، وتأثرت بما فيها من رخاء وشدة، ومن طعام ومأوى مغاير، فتكيفت الأجسام والعقول تكيفاً يناسب البيئة الجديدة. وتطور هذا التكيف خاضعاً لقانون التنازع الدائم بين الإنسان وبين الطبيعة: يريد أن يخضعها وتريد أن تخضعه. فجدت أقوام تخالف أجناسها الأصلية، وامتزجت هذه الأقوام بغيرها من أقوام ذوي جنسيات أخرى. وهكذا استمرت الأسرة البشرية في تغير وتطور حتى صارت إلى ما هي عليه الآن. فلم تبق إذا تلك الأجناس البشرية الأولية محافظة على وحدتها وكيانها، ولكن جماعات أخرى جديدة تأثرت بعوامل البيئة المستمرة وتميزت عن غيرها، وإن كانت هذه الجماعات الجديدة لم تحتفظ بدمها الجنسي الأصلي. من أجل ذلك نجد اختلاطاً كبيراً في صفات الأجناس البشرية الحالية، فسكان استراليا الأصليون سود البشرة بينما شعرهم ومستقيم، وتقاطيع وجههم تشبه تقاطيع وجوه الأوربيين. وكذلك نجد بين سكان الأقاليم الشمالية من له شعر أسود، وبشرة ورقاء، وبين سكان أقاليم البحر الأبيض المتوسط بيض البشرة وسمرها وبالرغم من هذا كله فقد حاول علماء الطبائع البشرية أن يقسموا الأسرة البشرية الحالية إلى جماعات جنسية وفقاً لصفاتهم الجسمية الظاهرة: كشكل الجمجمة، وتقاطيع الوجه، ولون البشرة، ولون الشعر ولن العيون. وعلى أساس هذه الصفات الجسمية تنقسم الأسرة البشرية إلى ما يأتي:
الجنس القوقازي: هو يشمل سكان أوربا والبحر الأبيض وغربي آسيا، وهو جنس أبيض. وهذا الجنس ينقسم إلى جنسين أو ثلاثة أجناس: الجنس الشمالي، ويمتاز بالشعر الأصفر وبياض البشرة بحمرة وطول الجمجمة. وجنس البحر الأبيض المتوسط، ويمتاز بالشعر الأسود والبشرة البيضاء بسمرة والجمجمة المدورة، وبين هذين الجنسين جنس ثالث هو الجنس الألبي وهو وسط بين الجنسين. ومن الجنس القوقازي بعض السكان الأصليين للهند وإيران وما بينهما. شكل (1)، (2)، (3)
الجنس المنغولي: ويمتاز بصفرة البشرة وسواد الشعر واستقامته، وارتفاع عظام الخد، وتوسط القامة. ويشمل سكان آسيا الوسطى والشرقية، والأمريكيين الأصليين (الهنود(366/16)
الحمر)، وجنساً يسمى الكالموك كان يسكن هضبة التبت حتى القرن السابع عشر الميلادي حين ارتحل إلى شواطئ الفلجا. وقد اختلط الجنس المنغولي بالجنس القوقازي في أواسط آسيا وشرقيها. شكل (4)، (5)، (6)
الجنس الزنجي: ويمتاز بسواد البشرة، وتفلطح الأنف، وثخن الشفتين، وتجعد الشعر. ويكون هذا الجنس سكان أفريقيا الأصليين. وقد تأثر هذا الجنس بما جاوره من الأجناس الأخرى. شكل (7)، (8)، (9)
الجنس الأسترالي الأصلي: ويمتاز بسواد البشرة، وقد تكون حواء، وبسواد الشعر واستقامته وكثافته، وبطول الجمجمة، وتفلطح الجبهة وانحدارها إلى الخلف. ويشمل سكان استراليا قبل كشفها، وسكان جنوبي الهند وسيلان وشبة جزيرة الملايو. شكل (10)، (11)
ويذهب بعض علماء الطبائع البشرية إلى القول بوجود جنس أخر أقدم من الأجناس السابقة كان موطنه منطقة البحر الأبيض المتوسط الأفريقية، ويمتد شرقاً إلى الهند فالمحيط الهادي، ثم يعبره إلى المكسيك وبيرو. ويمتاز بالبشرة البرنزية وهو صاحب أقدم الحضارات المسماة بالحضارات الهليوليتية ولعل الحضارات الأولى التي ظهرت في وادي النيل والفرات ودجلة كانت على صلة بتلك الحضارة الهليوليتية. . . ويظهر أن سكان صحراء الجزيرة العربية البدو كانت لهم حضارة هليولوتية)
هذا وتقسيم الأجناس الذي ذكرناه إنما هو رأي طائفة من العلماء. والحقيقة أن هذه الأجناس قد اختلط بعضها ببعض لدرجة يصعب معها أن نجد جميع مميزات كل جنس باقية من غير تغير. بل إن بين بعض أفراد الجنس الواحد من الفروق الجسمية ما هو أكثر من الفروق بين فردين من جنسين مختلفين.
وسنعالج موضوع الفروق العقلية بين الأجناس في مقال قادم
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(366/17)
هذه هي الساعة. . .!
للأستاذ محمود محمد شاكر
قامت الدنيا وأخذت تعد زينتها لأمر غير ما مضى من أمرها. إنها لابد أن تتبرج لعيون عشاقها، ممن كتب لهم أن يشهدوا مشهداً آخر من فصول الرواية الإنسانية التي تمثل في ساحاتها. نعم، فإن الحرب المهلكة التي لا تزال تقعقع من شواهقها حين تنقض، أو تزحر وتئن تحت أثقال الوقائع - لا تلفت الحياة الدنيا عن عملها في تلبيس العيش بالفتنة لمن يعيشون، ولا عن تقديم اللذة لمن يشتهون. وكأن هذه الحرب إن هي إلا تضخيم عظيم لعمل العامل في إزالة النظرية (التواليت) عن وجه الغانية، ونسف التطريف (المانوكير) عن بناتها، وما سوى ذلك من إعداد الغانية الحسناء لتبدو مرة أخرى في حلي وبهاء وزينة
لا أتشاءم ولا أتفائل، فالقدر قد قضى على الدنيا قضاءه؛ وما ندري ما يراد بنا منذ اليوم! فرب شر نتوهمه كذلك قد احتقب الخير، ليرمي في أرجاء الدنيا غرساً جديداً في أرض جدد ثراها ما أصابها من تدمير وهدم. إن بعض القسوة في الحياة يكون كتشذيب الشجر في إبانه، يقطع منه ليزداد قوة على إثبات وجوده وتقرير حقه في البقاء نامياً فينان يسمو وينتشر ويخضر ويثمر. وقانون الفطرة الذي تجري أحكامه على الطبيعة لتتجدد، لا يخطئ ابن الطبيعة يعمل فيه، ليصنع له حياة جديدة تثبت أن وجوده على الأرض حقيقة نامية أبداً، إن يكن الماضي قد باد في التاريخ، فإن الحاضر يثبت إثباتا عملياً أنه مستمر في الحاضر، ويكون استمراره في الحاضر دليلاً على امتداده إلى المستقبل. ويكون من جميع ذلك أن الحياة الدنيا مهما أصابها من شيء باقية، لا يمحوها إلا القانون الآخر الذي يجعل لكل أول نهاية ينتهي إليها. فإذا جاء أوان هذا القانون فقد بطلت حيلة المحتال
إن الزَّمنَ الذي يمشي في الأرض فَتَخضرُّ منها مواطئ أقدامه، هو نفسه الزمن الذي يدب عليها فيُسمع لدبيبه دمدمة مما يتقصف تحته من عمارة الدنيا وبنيان الحضارة، وعلى مواطئ الزمن تتنزل الحضارات كلها أو تتهَدّم. ومن يوم أن تنهَّدَت الأرض بالحياة يبيدُ شيءٌ ويقومُ شيءٌ، وما يزول منها ما يزول إلا ليحل عليها ما يحل، لأن الحركة دليل الحياة، فلا يثبت معنى الحياة إلا بها، وما يتحرك من متحرك إلا لتكون لانتقاله نهاية إليها يتوجه، وعندما يقف. فإذا وقف فهذا آخر أنفاسه، ثم يسكن سكون الموت(366/18)
فما بنا على ذلك أن نتشاءم أو نتفاءل، وما التشاؤم والتفاؤل إلا حركة النفس الفارغة التي لا تجد عملها، فهي تعمل في إرهاق نفسها بما لا ينفعها ولا يعنيها؛ وليس من عمل الإنسان ما هو أضر عليه من إجهاد نفسه في باطل، والجهاد بها في غير طائل. فإذا أردنا اليوم أن ننظر فما ننظر إلا لنعرف الطريق التي يجب أن نقرر لجهودنا أن تمهدها لنا ولمن يأتي بعدنا على تدبير وسياسة
والقدرُ اليومَ قد قضى بين الناس، ووضع القضية لمن يختار، فمن شاء أن يدخل في عقد هذا وعهده دخل فيه، ومن شاء أن يتخلَّف فقد رضي لنفسه على مَيْزة وبصيرة، وما ينقض القدر قضاءه الذي أبرم، فيأتي من يأتي ينوحُ بما ظُلم، ويتوجَّع بما غُبنَ!!
ونحن قد لقينا من أحداث الدهر ما ردَّنا بعد عزّ إلى قرار هوان. وقد أبَى لنا أن نرفع أنفسنا من وهدة واطئة قد ربضت بنا فيها سلاسل من حديد الذل، وقد حضرت ساعة ينبغي أن نفصل فيها بين عهد مضى وزمن يستقبل، فإذا قعدت عزائمنا، وعميت أبصارنا، فأنفسَنا نضيع، وأرواحَنا نزهق
جاءت هذه الحرب لتنسف تاريخاً شامخاً ثقيلاً قد اضطجع على حياة الشرق كما يضطجع الجبل على سفحه الرَّحْب، فإذا تأخر الشرق وتهاون وتكاسل على ما عوَّده الموت الروحيُّ الذي كان فيه، فقد سنًحتْ له الفرصة ثم ولَّت عنه، وتركتْ يدَه ممتدَّة لا تمسكُ إلا أذيالَ الريح التي استَرْوَحتْ عليه بأنفاس الصيد ورائحته
إن في هذا الشرق لميراثاً نبيلاً من الأعمال والأخلاق والآداب والسياسات، ولكن هذا الميراثَ المضيَّع المنسي لا يجدي من خير على نائم قد أغمض عينيه عن الحياة، استمتاعاً بحياة أخرى تعرضها له أحلام رخية تختال في خياله. هذا الميراث المجهول في حاجة إلى من ينفض عنه غبار القدم، وأتربة الإهمال، ويزيل عنه أدران الجهل والخمول، ويجلوه مرة أخرى على أعين الناس مضيئاً مشرقاً يتوهج بأنواره كأحسن ما يتوهج
لقد كانت الحضارة الأوربية الماضية، وقامت على روح من الأثرة والبغي والاستبداد، وفقدت كل معاني الروح السامية التي تبذل أكثر مما تأخذ، وتعتد الغنى من الاستغناء لا من الجمع والتعديد، وتجعل حرية النفس في ضبطها وإمساكها على المصلحة لا في تسريحها وإرسالها على مدة الشهوة. وقد كان للشرق مجد وحضارة ومدنية، وتمم الإسلام كل الكمال(366/19)
لهذه الحضارة بما أقام للناس من شعرائه وآدابه، وجاء على الشرق زمان كان الإصلاح فيه ضرباَ من إفساد الصالح، وزيادة الفاسد فساداً وخبالاً. وكذلك ضاع كل شيء، ورجع بنا الزمان إلى جاهلية جهلاء، تقوم على التقليد لا على الإبداع، وعلى المتابعة لا على الاستقلال، وبالكبرياء لا بالتواضع، وحتى ذكرى مجدنا السالف قد صارت عندنا نخوة جاهلية في التعظم بالآباء والأجداد، لا عملاً عظيماً تعظمه أعمال الآباء والأجداد والوراثة القومية النبيلة
والحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة التي تقوم بها المادة. فكل حضارة لابد لها من روح تعيش بها وتنمو، وعلى ما في هذه الروح من النظام والتدبير والنبل والسمو، تنشأ الحضارة منظمة مدبرة سامية نبيلة. ونحن لا نشك في أن الروح التي ورثها الشرق في نواحيها، والتي طهرها الإسلام من نواحيها وأتمها، وأحسن سياستها، ونفى عنها خبثها - هي التي تستطيع أن توجد على الأرض حضارة تملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتفيض بها رحمة كم فاضت غلظة، وتجعلها طريقاً للإنسانية تخرج به من ظلمات الباطل والبغي والغرور إلى نور الحق والتواضع والمساواة. ويومئذ لا يقتتل الناس من أجل سلب الحق للزيادة في أنفسهم وجنسياتهم، بل يقتتلون - إن هم اقتتلوا - من أجل إعطاءِ الحق وردَّه على أهله مهما اختلفت جنسياتهم، ولا فضل لأحد على أحد إلا بما يحسن هذا ويسئ ذاك، ويصبح القانون العالمي، قانون الحق يستقر حيث ينبغي أن يستقر
إن العالم الآن ليقتتل على غير غرض إنسانيّ كامل مقرّرٍ لا يشذ على غاياته ومبادئه أحد. إنه يقتتل على طعام يؤكل، بل على هذا الطعام كيف يُؤكل. فليس لهذه المدنية الأوربية إلا معنىً جنسيٌُّ مُتَعصِّبٌ تدافع عنه لنفسها لا للإنسانية كلها، لا يشك في ذلك إلا من طمس الله على بصيرته، وقادته أهواؤه وغرائزه دون عقله وواجبه. وما هذا التوحش الحيوانيُّ في هذه الحرب إلا نتيجة طبيعية للفكرة القومية المستقلة التي لا تريد إلا أن تستولي على أعظم ما يمكن أن تضع يدها عليه لتستمتع بالحياة والشهوات والسلطان(366/20)
أما الإسلام - وهو روح الشرق من أقدم عصوره على اختلاف أديانه وأجناسه - فقد وضع كل مأثرة قومية جاهلية تحت قدمي صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وسوّى بين الناس من أهله وبينهم وبين أهل ذمته وعهده، واختار المسلمين ليكونوا شهداء على الناس، فيكونوا قضاة يحكمون بالعدل لا يبغون ولا يجورون، وجعلهم دعاة يدعون إلى مبدأ يتساوى عليه الناس، فمن دخل فيه فهو منه، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وكتب عليهم القتال وأمرهم بهم، وعظم الجهاد في نفوسهم، ولكنه قتال على دعوة إلى هذا المبدأ وجهاد في سبيله وحرم عليهم العدوان ابتغاء عرض الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها
فالمسلم من دينه في قانون إنساني كامل، لا يعمل للجنس أو الفرد أو السلطان والسيطرة، بل يعمل لإعطاء العالم كله روح المساواة، قد تحاجزوا بينهم في الشر، وانطلقوا في أيامهم يعملون على إثباتها في تاريخ الدنيا بمبدئها لا باستبدادها، وبغايتها دون لذاتها، وبالسمو بها إلى الإشراف على نظام الدنيا والسمو بها، لا بسيطرة القوة على إخضاع الدنيا وإذلالها، وجعلها كالبقرة يُحلب درُّها لمن يملكها. فالقانون الإسلامي العظيم هو روح الحضارة التي يجب أن تسود العالم، فإنها حين تسود عليه تجعل الحق هو السيد الذي تخضع له أعناق الناس، لا يبغي بعضهم على بعض في سبيل شهوات غريزية حيوانية مفترسة، يغذوها الدم ويهيجها الدم، فهي آكلة لا تشبع وثائرة لا تقر
والمسلمون اليوم هم جل الشرق، وروح الشرق، ولكنهم مسلمون قد أُفرغوا من معاني الإسلام وبقيت ألفاظه تعيش بهم. إن كل فضيلة من فضائل هذا الدين، وكل عمل من أعماله قد انتزعت منه روحه، فتعامَل الناس على ما خيّلتْ، لا يبالون ما أمروا به ولا ما نهوا عنه، ففقد هذا الشرق الرأي العام الإسلامي الذي يكون تعبيراً صحيحاً عن إرادة الإنسانية في الاستعلاء والسمو. ولكن هذه الحرب قد تثير هذا العالم الراكد، وتدفع فيه أمواجه الأولى التي غسلتْ وجه الأرض وطهرته من دنس الحياة المادية العابثة المعربدة، فإذا كان ذلك فإن هذا الشرق قد أعد اليوم لأمر جلل، وقد حفظ الله له تاريخه الذي ورثه كاملاً فيه الأسوة وفيه العبرة، وفيه فلسفة الحياة الاجتماعية التي تجعل الفرد الواحد أمة كاملة لأنه هو ممثل الأمة، وتنصبه حاكماً لأنه يحكم نفسه أول ما يحكم، وتهيئه جيشاً محارباً في سبيل الحق الأعلى للإنسانية، لأنه يحارب نفسه أول ما يحارب في إقرارها(366/21)
على إعطاء الحق لمن يستحقه من حقيقة نفسه
فاليوم يوم الشرق إن اختار أن يبدأ حركته إلى الغاية التي أمر بالبلوغ إليها والوقوف عليها شاهداً قاضياً، يدبر الأمر ويصرفه في سيادة الحق كله على الباطل كله. ونحن لا ننسى ما صرنا إليه، ولا نغفل عما فرغت منه أيدينا من أسباب الغلبة التي تتحكم اليوم في مصير الدنيا، ولكت الإرادة التي تحكم الرجل الواحد، تستطيع أن تحكم العالم كله، وسبيل ذلك أن يكون كل رجل مريداً إرادة صارمة لغرض مقصود بعينه، فهذه الإرادة هي التي تفتق له الجو الإلهي الذي يعد الإرهاص للمعجزة الإنسانية
ستكون أحداث، وتتجدد على الناس نوازل، وتسيل الكوارث من كل مسيل، ولكن الشخصية الاجتماعية التي لا تختلف ولا تتدابر ولا تتعادى، تستطيع أن تغرس في أيام المحن غرس المجد الإنساني السامي، لتنبت شجرة يمتد ظلها، ويترامى فيئها، ويطيب ثمرها، ولا يكون ذلك إلا بعد جهد ومشقة وعنت، ومصابرة للنفس على لأواء الحياة التي فرضت علينا أن نتألم، وأن نصاب، وأن يبلغ منا العذاب مبلغاً يُجهد ويؤود
فهذا أوان يستطيع الشرق أن يضرب الاستحكامات في أرضه وفي أوطانه بالأخلاق سامية عاتية، فيها القدرة على النمو، والقوة على البقاء، وأن ينظم لحياته نظاماً يهدف بغاياته على مستقبل يبعد عنه أو يقرب على حياطة تحفظه أن يقع فيه ما وقع في أيام البلبلة الأخيرة التي تبعت الحرب الماضية. نعم، إن الشرق يفقد اليوم زعيمه الذي يهب من جماعاته كالأسد تنفرج عنه الأجمة الكثيفة عاليَ الرأس حديد النظرة، تتفجر القوة من كل أعضائه ولكن، أيمنع هذا أصحاب القلوب الحية التي تشعر بحاجتها إلى هذا الرجل أن تهزَّ شعوبها هزَّا عنيفاً متتابعاً، حتى ينفلتَ إلى المقدمة ذلك الأسد الرابض إلى الأرض في قيوده الاجتماعية التي تقعد به عن الحركة للوصول إلى المكان الذي أعده له القدر، ليبدأ بدأه في إعداد الدنيا لاستقبال الدين الذي سيتجدد في الدنيا، لأنه هو سر الدنيا وسر القدر
إن علينا أن نعمل، فإن كان ما أردناه وما نتمناه، فذاك عز الإنسانية ورضوان من الله، وإلا فقد أدينا ما وجب، ولله الأمر من قبل ومن بعد
محمود محمد شاكر(366/22)
حركات الإصلاح الإسلامية
5 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
لم تبق حركات الإصلاح محصورة في الهند ومصر، ولكنها تعدتهما إلى البلاد الإسلامية الأخرى، وذلك أن حركة التبادل الفكري في العالم الإسلامي قوية عنيفة لا يمكن معها أن تبقى مثل هذه الحركات مقصورة على مكان واحد. وعلى الأخص إذا كانت أفكاراً لذوي الشخصيات القوية مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ممن تعدت أفكارهم وآراؤهم الحدود ووجدت صدى بعيداً وتأثيراً مباشراً
وقد ظهرت فجأة وعلى غير انتظار حركة إصلاح ديني هي حركة الإصلاح في تركيا، ذلك الشعب الذي لعب دوراً في قيادة العالم الإسلامي عدة قرون. وقد جاءت هذه الحركة متأخرة عن الحركات الأخرى، ولكنها كانت مع هذا التأخر أشد من أولئك فضلاً وأنفذ عملاً. أما السبب الذي جعل تركيا التي كانت تسير في الإصلاحات السياسية والثقافية في المقدمة وعلى قمة الناهضين - لا تهتم اهتماماً استقلالياً بالإصلاح الديني إلا أخراً، فإن ذلك يرجع إلى أسباب من أنواع مختلفة، فمن ذلك أن الأتراك بطبيعتهم لم يكونوا باحثين منقبين، ولم يساهموا في تطور الإسلام بسهم ملحوظ؛ فإنهم عندما دخلوا الإسلام كان الدين والتفكير فيه قد انتهى إلى شكله النهائي الذي وصل إليه. وكما أنهم لم يساهموا فيه أولاً، كذلك لم يساهموا في نهضته أخراً، لما هو فيهم من ميل وسعي لاقتباس المدنية الغربية، وكلما ظهر تأثرهم بهذه المدنية قوياً ظهر إمكان إيجاد الاتصال بين الإسلام وبين العقلية الحديثة للشباب التركي أمراً بعيداً
وتطور التركية الحديثة يسير منذ زمن طويل قليلاً أو كثيراً في طريق لا يقوم على أساس أو خلق بل هو عار عن كل وطنية أو دين، وهو ما يسمى في الشرق بالنزعة الغربية أو الأوربية على أننا لا ننسى أمراً مهما وهو أن عصر طغيان عبد الحميد كانت تمجد فيه مذاهب السنة والتمسك بها في الآستانة. ومن الحق أن جمال الدين كان قد أثر هناك، ولكن تأثيره كان ضعيفاً من سوء ظن السلطان به؛ وكانت أفكاره قد طبعت من جانب عبد الحميد بطابع سياسي عملي. وفي هذه الفترة التي اشتد فيها النزاع الداخلي بين الإسلام والتقدم(366/23)
الأوربي كان لا يمكن أن تأتي هذه الأفكار بثمرة. وهكذا ترى أنه بعد ثورة 1908 أخذت مسألة الدين مكاناً واهتماماً بنفس الشكل الذي كان عبد الحميد يحاول بشدة تنفيذه، وأخذت الحركة الروحية النائمة التي كان يحاول إيقاظها تدب فيها الحركة
وفي يدنا الآن بحث قيم وضعه عن تطور حركة التجديد في تركيا تركي مثقف ثقافة غربية كاملة، ولكنه في الوقت نفسه ذو إحساس ديني حار، وهو أحمد محي الدين الذي مات مع الأسف في سن مبكرة أما كيف سار التجديد بسرعة قبل أن يقطع طريقه مرة واحدة فيتبين لنا ذلك من هذه الحقيقة وهي أن محي الدين استطاع أن يكتب في سنة 1921 هذه العبارة: (إن طريقة أهل السنة التي غرضها التمسك بالإسلام بشكله التاريخي الحاضر قد أصبحت اليوم مغلوبة مهزومة). ففي هذا الوقت (1921) كان يتنازع الغلبة مذهبات مختلفان أشد الاختلاف: المذهب الوطني الذي كان يتزعمه الشاعر المفكر ضياء جك ألب. والمذهب الآخر الذي سمَّاه محي الدين (المذهب الإصلاحي) والذي كانت تقوم عليه شخصية الشاعر الواعظ محمد عاكف، وعمل برنامجه الأمير المصري والوزير العثماني محمد سعيد حليم. ومن الممكن على احتمال قليل أن نميز أولهما بأنه سياسي ثقافي والآخر بأنه ديني إصلاحي والمهم هنا هو أن كليهما قد وضع لمسألة الدين طريقاً واحداً للسير فيه. فكل منهما - كما يقول محي الدين - يرفض الإسلام التاريخي ويطلب الرجوع إلى الإسلام الأول، وكل منهما يرفض اعتبار الشريعة للوقت الحاضر ويطلب حرية الاجتهاد. فهما - كما يرى - قد رسما خطة للتجديد واسعة. ونستطيع أن نتبين من غير صعوبة أن برنامجهما المشترك يتفق في أهم نقطة مع برنامج الإصلاح المصري. وفي الحقيقة أن الارتباط الشخصي ظاهر بين (المذهب الإصلاحي) التركي، وحركة الإصلاح المصرية، وأمور الإصلاح فيهما متفقة
وقد وضع المذهبان التركيان لهما شعاراً للإصلاح الديني كلمة (إسلام أشمق) بمعنى الرجوع إلى الإسلام. وعند تفسير هذه الكلمة عند كل من المذهبين يتبين لنا الفرق الأصلي بينهما
ومعنى هذه الكلمة يرجع في مرحلتها الأخيرة إلى جماعة المؤمنين المتمسكين بالقديم، إزاء العصريين المندفعين في تيار الأوربية المنكرين للإسلام. ثم لما كشف القناع عن دخيلة(366/24)
هؤلاء الأتراك الذين لا دين لهم ولا وطنية أخذ هذه الكلمة الوطنيون أصحاب المذهب الوطني في برنامجهم الثلاثي: (ترك - إسلام - تجديد) وأراد به هؤلاء الوطنيون تحرير الإسلام من أعمال أهل الدين المتأخرين، ومن أمور زمنية ومكانية التصقت به من أول الأمر، ولكن كما يظهر من البرنامج الثلاثي فإن هذه الكلمة تصور طلباً من طلبات الوطنية؛ والنقطة الرئيسية والعماد الأهم إنما هو الناحية السياسية الثقافية، فكلمة (الرجوع إلى الإسلام) هي على الأكثر القالب الذي يصب فيه البرنامج ما يحس به من مسألة الدين كنقطة هامة. وهكذا حدد هذا البرنامج الدين في مجاله الضيق وفصل عنه الجانب الآخر من الحياة الإنسانية؛ فهو يطلب مباشرة فصل الدين عن الدولة، وغايته حياة دنيوية غير روحية
وعلى الضد من هذا (المذهب الإصلاحي) فهو مع إحاطته على العموم بالحياة الثقافية والسياسية يتعمق من الوجهة الإصلاحية في الدين وما يعنيه من (الرجوع إلى الإسلام). فهو يعني الرجوع إلى الإسلام القديم؛ لا بإبعاد الأمور التي غيرت منه أثناء تطوره التاريخي فحسب، بل أيضاً وقبل كل شيء يريد الوقوف ضد هؤلاء العصريين المندفعين في تيار الغرب وضد دعاة المذهب الوطني، فهي حركة دينية تريد أن يكون الدين قوة تخضع لها كل الحياة المدنية من غير إضرار بحرية الفرد، وهي في هذا متفقة مع الحركة المصرية مختلفة مع المذهب الوطني أصلياً في مسألة الدين
وقد يختلف المذهبان اختلافاً جزئياً في طلباتهما، ولكنه أقل من اختلافهما في الدوافع، وكما يتحدان في نقدهما للإسلام التاريخي في كل الأمور، يتحدان أيضاً في كثير من المسائل العملية، فالفرق بينهما ليس فرقاً ظاهراً للعيان، ولكنه فرق كامن في الأساس. ومن الحق أن نقول من جانب آخر إن عدم اهتمام المذهب الوطني بالدين لا يصح أن يؤخذ على معناه الواسع، فإن شعر ضياء جوك ألب الديني يرينا بوضوح أنه ذو شخصية دينية محافظة عميقة
إلى هنا قد تعرفنا أهم أشكال الحركات الإصلاحية الحديثة في الإسلام، أما حركات هؤلاء الوافدين على أوربا وأمريكا مثل الحركة البهائية الفارسية أو الأحمدية الهندية، فهي حركات منفصلة لا تمت كثيراً إلى الحنيفية الإسلامية(366/25)
وأخيراً يتبادر لنا هذا السؤال: هل تلك الحركات إذا ما أمكن تحقيقها تستطيع إلى مدى بعيد أن تحقق الاتفاق مع التفكير العصري والأخذ بحركات التقدم العلمي والمادي؟ وجوابنا على هذا السؤال بالإيجاب بدون قيد ولا شرط، فإن العقيدة الإسلامية لا تمنع أي تطور تجديدي، بل هي في أصلها أشد مرونة وأسلس قياداً من العقيدة المسيحية. والذي يظهر أنه مانع لا يذلل هو الفقه المكون من تفصيلات تافهة، فإذا ما ترك هذا كما هو الأساس في كل الحركات الإصلاح فإن التقدم العصري - حتى بمعناه الأوربي - يكون بابه مفتوحاً على مصراعيه.
علي حسن عبد القادر(366/26)
أنا. . . والقلم
للأستاذ علي الطنطاوي
(بين يدي الآن رسائل من بيروت وحمص وبغداد والإسكندرية وأم درمان من إخوان كرام ما كان لي شرف الاتصال بهم، كلهم يسألني لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام، ويشفق أن تكون الأرزاء قد هدت ركني وكسرت قناتي. . . فكتبت هذا الفصل هدية إليهم وجواباً)
(ع)
أعترف أنها قد جفَّت قريحتي فما تبضّ بقطرة، وكلّ ذهني، ومات خيالي، ومرت علىّ أيام طوال لم أستطع أن أخط فيها حرفاً، وعدت من العيّ والحصر كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجر للبلاغة في مضمار. . . وما أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي سكتة عارضة وُعقلة مؤقتة، كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق اللسان، ويعود أحدّ مما كان؟. وما أدري أعّلة ذلك الزواج، وقد قالوا إن زواج الأديب يؤذيه وتغور منه ينابيع فكره، أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من انحراف الأمور عن صراطها، وتقدم من حقه التأخر، وتأخر من يستأهل التقدم، وضياع الحقوق وغلبة الجهال، أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبت إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة، لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟
إني كلما أخذت القلم لأكتب، أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني؛ وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب، أو أنظر في صحيفة. فأقبل على القراءة، وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل، وأني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر. . . ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامية ومحبة الخمول، بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلب القلوب. . .
ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً(366/27)
للشعور، موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه، فأكتب فيه؛ فرجعت أمرُ على المشاهد غافلاُ عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس - وهذا لعمري شرَّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت. . . ولربما شغلني سفساف الأمور، وأضاع عليّ الكثير من وقتي. وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها إلى القبلة، أفتش عن دار أستعيض بها عن داري (في الجادة الخامسة)، لأن حماقة صاحبها كرهت إلى جمال مستشرفها، وطيب موقعها. . . وأن أعصابي في ثورة دائمة، عفت معها الحياة، من صبية عشرة - أحياهم الله لأبويهم - يسكنون الطبقة التي تحتنا، لا يهدؤون لحظة ولا يسكنون ولا يفترون عن بكاء أو صياح أو غناء، أو قرع باب أو كسر شباك؛ وقلبي يخفق وأعصابي تتمزق، ولا أنتفع من نفسي بشيء. وإن شكوت إلى أحد سخر مني وضحك عليّ. فليتصور القراء مبلغ ما أجد من الضيق والأذى، فيا ليت أني لم أعط ملكة الكتابة، أو ليتني إذ أعطيتها عرفت كيف أستفيد منها، فما شيء أصعب على الرجل من أن يريد ولا يقدر أو يقدر ولا يريد. . .
وليثق القراء أن يوماً يمرّ عليّ لا أكتب فيه شيئاً أو أعد في نفسي شيئاً لأكتبه لهو يوم بؤس عليّ لا يوم نعيم، وأن أول ما أفكر فيه إذا سرني أمر أو ساءني، أو أعجبني أو راعني، كيف أصوره وأعرض على الناس صورته كي أنقل إليهم شعوري، وأقاسمهم عواطفي، لا أفعل ذلك للشهرة والمجد الأدبي، ولا للنفع ولا للضرر، فقد بلغت من الشهرة ما يصح الوقوف عليه لو كانت الشهرة أكبر همي، ولكني رغبت عنها لأني وجدت ما نلت منها لمُ ينلني خيراً قط. ثم إنه ليس بين الرجل وبين أن يشتهر في بلادنا بصفة الأدب إلا أن يكتب فصلاً أو فصلين؛ فإذا هو ومن ملأ الأسماع أدباً حقاً وبلاغة باقية سواء، ولكني أكتب - علم الله - لأدفع عن نفسي الملل وما يصيبها من الألم إذا أنا لم أكتب، فكأنني أعمل بالغريزة التي تدفع النحل إلى اتخاذ العسل والعقارب إلى نفث السم، وكل حي من الحيوان إلى ما سخر له من نفع أو ضرر. ولا أعلم أأحسن أم أسئ، ومتى يكون الإحسان وكيف يجئ، وكل ما أعلم أن فكرة تخطر على بالي تأتي بها نظرة أو سمعة، فتنمو فيها(366/28)
حتى تملأ ذهني وتسيطر عليّ، فلا أملك عن تدوينها تأخراً، فآخذ القلم فإذا هي تجر وراءها أخوات لها، وإذا أنا أمضي في الكتابة لا أكف حتى يكون القلم هو الذي يقف، ثم أبعث بذلك إلى المجلة أو الجريدة، فإذا أبطأت بنشره أو أهملته سخطت وثرت؛ وإن نشرته فرحت به وقرأته بلذة، فإذا مضى عليه يوم عدت إليه فرأيت عيوبه. فقلت ليتني نقصت من هنا وزدت من هناك، وحذفت هذا أو أثبت ذاك. . . ثم لا يمنعني ذلك أن أعود إلى خلتي من الإسراع كرة أخرى. ولقد حاولت التنقيح والصناعة مرة فأفسدت من حيث توهمت الإصلاح، فعدت إلى طبعي. فإذا كان في الناس من يعجبه ما أكتب فالحمد لله. . .
وما سكت لقلة في الموضوعات، ولكن لجفاف في القريحة. ولو كان بي أن أكتب لوجدت في كل شيء موضوعاً لفصل، غير أنه لابد من العاطفة والفن، ولو كان الأدب الواقعي أن تسرد كل ما (وقع) لك لكان الناس كلهم أدباء؛ ولكن الأدب الواقعي أن تأتي بالصورة الجميلة، قد صقلها الطبع، وبرقشها الخيال، وزانتها العبارة الصحيحة، والسبك الدقيق. لكنك لا تخرج فيها عما (يمكن أن) يقع. . .
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في وصف هذا الفتى الذي صحبنا في لجنة من لجان الامتحان كان فيها عالم الشام الشيخ بهجة البيطار ليصحح معنا أجوبة التلاميذ فكان كلما وجد استعارة أو مجازاً خط تحته خطاً، وكلما وجد ترادفاً من اللفظ أو مزدوجاً من الجمل مد مدّة فوقه، ثم نقص عليه من درجات التلاميذ درجة. فحاورناه في ذلك فكان من رأيه الذي تعلمّه في باريز وعلّمه التلاميذ الذي جعلوه معلمهم، أن المذهب الجديد ينكر ذلك ويعده غلطاً، وكانت حجته القاطعة على صحة رأيه أنه رأيه. . . وبذلك دفع كل ما ردّ به عليه الشيخ، وما بيّن له من سنن العرب في كلامها، وما جرى عليه بلغاؤها وما نزل به الكتاب. . . ومال ناظر المدرسة إلى (رأيه. . .) لأنه هو وحده بيننا الذي يحمل شهادة التخصص في اللغة العربية من. . . باريز!
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في التعليق على الامتحانات وما يكون فيها من الوساطات والشفاعات والالتماسات وما نالني منها، وكم أبصرت في داري من وجوه ما كانت لتكون فيها لولا الحاجة. . . وطلب (الشفاعات). . . وما يحيق بالمدرس المستقيم الشريف من عنت ومشقة، وما يقال عنه وما يلقى. . . وما يتخذ التلميذ من طرق الغش والحيل، فإذا(366/29)
أظهرتها وعاقبته عليها زعم أنك ظلمته، وتَمَسْكن وجعل نفسه ضحية فأثار عليك الناس، أو (تنمرد) واستكبر فبطش بك، أو شتمك أو وكل بك من يقوم بـ (الواجب)!
ولو أسعدتني القريحة لكتبت في تاريخ الأدب فصلاً أجعل إهداءه للدكتور صِلبا ليرى أن الله لا يستحيل عليه أن يمنح ملكة الأدب من لا يحمل شهادة اختصاص فيه. . . وأن الشهادة بلا علم ليست دائماً أفضل من العلم بلا شهادة. . .
ولو أسعدتني القريحة لوصفت هذا المشهد الذي يملأ النفس ألماً، ويفجر القلب أسى، منظر زميلنا المعلم الشاب (مصطفى شكري خسرو) الذي كان موعد زفافه اليوم، وكان صحيحاً معافى، فرئي اليوم نعشه يمشي إلى المقبرة وعليه غطاء سرير العرس ووقفت زوجته التي كانت ترقب الزفاف، تشهد الدفن. . .
مثل هذا الموضوع ينشد الأديب ويبتغي، ينشد لحظات الإشراق والتجلي، إذ يحس بأنه خرج من ذاته، فدخلتها روح أخرى، فطارت به إلى الملأ الأعلى، فأرته ما لا تراه عين، ولا تحيط بوصفه لغة بشر، وإنما يصور بإشارات ورموز ترفع قارئيها إلى هذا العالم النوراني العجيب
أما المشفقون على، الخائفون أن تلوي الحادثات قناتي، وتهد ركني، فليعلموا أني في أمان، وأن رسالة الأديب أن يطاعن عن الحق ويناضل حتى تعلو كلمته، أو يصرع دونه، ولينظروا أيهما أسير في الناس وأشهر، أورقة الشهادة الناطقة بفضل صاحبها، أم مجلة يكتب فيها الأديب فيقرؤها مائة ألف؟ وأيهما أقوى وأمتن، أهذا القلم الدقيق أم أرجل الكراسي التي يثبت عليها (أولئك) ويعلون بها؟ وأيهما أحد وأمضى، ألسان البليغ المفوه أم ألسنة ببغاوات الليسانس والدكتوراه؟
إن لكل أديب رسالة، فليقوّنا الله على تأدية الرسالة
علي الطنطاوي(366/30)
أضرار التشجيع
للأستاذ سعيد الأفغاني
إن من عادتي إذا حل الصيف ونفضت عنى عناء التدريس وذيوله من امتحانات ومراقبات أن أفئ إلى قاعة المجمع العلمي العربي، فأسرح الطرف بما يرد إليها من الكتب والمجلات الغريبة. وكان أن وقع في يدي عدد من مجلة (العصبة) الصادرة في المهجر، فطفقت أطالع فيها، فوقفت عند هذا العنوان (ذلك الأمي اليتيم. بحث أدبي لا ديني) وإذا بالكاتب يسئ فهم النصوص ويغمز الأئمة الذين أجمعوا على أمية الرسول صلى الله عليه وسلم منذ صدر الإسلام حتى يوم الناس هذا، ويعجب من غفلتهم، ثم يتلطف بهم ويعتذر لهم بأن الخطأ أتاهم من حيث إن النبي كان أمياً ثم زالت أميته!
يتساءل حضرته: هل زالت عنه الأمية كما زال عنه اليتم بعد أن تقدمت به السن؟ هل تعلم القراءة؟ (وهو يعني طبعاً القراءة في الصحف التي لا يعرفها إلا من تعلمها مع الكتابة تعلماً). ثم قال: (نجيب بكل جرأة (هكذا والله بالحرف) إنه تعلمها وبز الأولين والآخرين!) انتهى وما شاء الله كان
ويأبى بعد ذلك إلا أن يسرد ما يراه حججاً من مثل: (أنا أفصح من نطق بالضاد)، (أنا مدينة العلم. . .)، (اطلبوا العلم. . .)، (اقرأ باسم ربك الذي خلق)
لست أريد الرد على هذا الكلام ولا أنا بصدد شرح أمية الرسول فمن العبث المخجل أن أشغل القراء بما هو معلوم من التاريخ بالضرورة، وإن مما يفهمه الصغير قبل الكبير أن القراءة معناها مطلق التلاوة، و (اقرأ) الواردة في الآية معناها (اتْلُ) عن ظهر قلب لا أن يسرد ما في صحيفة أو كتاب. وإن حض الرسول على طلب العلم، وكونه أعلم الناس لا ينافي أميته، وكل ما في الأمر أن هذا الناشئ جهل الفرق المقرر بين (الأمية) و (العامية) فتوهم تناقضاً بين النصوص، وأن هذا التناقض عمى عنه الأولون والآخرون حتى طلع حضرته ببصيرته النافذة ونظره الثاقب فأزال لبسه وحل تناقضه بقوله: كان أمياً ثم تعلم وزالت أميته. دع عنك ما يعرفه كل مطلع على سيرة النبي من اتخاذه كتاب الوحي ومن استعماله الرجال ليكتبوا عنه إلى الملوك ومن الحادث المشهور في الحديبية حين سأل علياً عن مكان كلمتي (رسول الله) من الصحيفة ليمحوها بيده الشريفة إذ أصر رسول المشركين(366/31)
على محوها وامتنع عليّ. . . إلى آخر القرائن التي لو لم يكن غيرها لما ساغ لأحد عنده شيء من الفهم أن يذهب إلى نفي أميته، فكيف ونصوص القرآن نفسها مصرحة بأميته في آيات مكية ومدنية، ولو لم يكن إلا هذا التواتر الصارخ لكان لعاقل أن يتهم عقله إذا تطرق إليه في هذا الأمر شك مهما ضؤل
أم كان من الحتم إذا قرر كاتب أن بحثه غير ديني أن يركب رأسه فيه فينقض المبرم ويبرم المنقوض، ضارباً بالعلم والتاريخ واللغة والمنطق والعقل عرض الحائط: يأخذ ما شاء ويدع ما شاء ويستنبط ما شاء كيف شاء بلا سناد من برهان ولا رابط من فهم ولا ضابط من منطق
أنا لا أشك في أن إفساح مجلة (العصبة) صدرها لمثل هذه الآراء الفطيرة ضرب من التشجيع، وأننا باسم هذا التشجيع نُقذي عيون القراء بما يزهدهم في سمين الأدب تحامياً لغثه
وقد آن للمفكرين أن يوازنوا بين مساوئ التشجيع وما يذكر من حسناته، حتى إذا رأوا الشر فيه أربى على الخير نبذوه غير مأسوف عليه
على أن أول الأضرار حائق بالذين تشجعهم: لأن أحدهم حين يرى سخفه مذيلاً باسمه في صحيفة سيارة، يداخله من الصلف والغرور ما لا يقوّمه مهذب بتهذيبه ولا ناصح بنصحه، ثم يترفع بعد هذا عن كل درس ومطالعة، ذاهباً إلى أنه شب عن الطوق وأن بوسعه أن يأتي بخير مما في الكتب، فقد صار كاتباً تحريراً وأديباً كبيراً؛ وهذا ما يعوق كثيراً من ناشئتنا عن التعلم والتأدب الصحيحين، وهو هو ما يشكو تفشيه فيهم كثير من العقلاء
لست أنكر أن التشجيع قد يكشف عن بعض المواهب ويسلك بها السبل المجدية التي تؤتى فيها أكلها، لكنه إلى ذلك يدفع إلى الحياة بخلق كثير من أنصاف العوام الذين انتفخوا غروراً واعتداداً وكانت أنوفهم في السماء وهممهم في الحضيض وقلوبهم هواء
ولأن نصد بتثبيطنا اثنين أو ثلاثة نأمل فيهم النجاح خير لنا وأبقى من أن نفتح الباب على مصراعيه فنشجع كل جاهل ودعي وغبي، ونملأ صحفنا ومجلاتنا جهلاً وسخفاً ونعيش في جو مشبع غثاثة وابتذالاً
وبعد فماذا على المرء أستاذاً كان أم أديباً أم صاحب صحيفة، إذ قال للشادي: يا بني تحتاج(366/32)
إلى أن تتعلم كثيراً وتتعب طويلاً قبل أن تحدثك نفسك بدفع ما تخط إلى المطابع؟
وإذا كان في كل حكومة إدارة خاصة لمراقبة المطبوعات من الناحية السياسية، فلم لا يكون في كل إدارة جريدة ومجلة وفي كل مطبعة مراقبة فنية دقيقة ترفض كل رخيص مبتذل من المقالات؟
إن من الواجب على المطابع أن تكف عن طبع كل كتاب ليس فيه سد ثغرة في المكتبة العربية أو إضافة خير أو إحياء تراث قيم. . . وحينئذ يستريح الناس من هذا الهِتْر الذي تدفعه المطابع إلى الأسواق حتى سَئِمَتْ النفوس الكتب والمجلات لما في أكثرها من غثاء وهزال
والحاجة إلى هذه المراقبة أمسّ لأن فيها وقاية للملكات من الابتذال والركاكة والفساد، وذلك أجدى على الثقافة من كثرة المعاهد والكليات، إذ أن الصحف والمجلات والكتب مدارس ميسرة لكل قارئ مهما ضؤل حظه من المعرفة. ومن أول الواجبات على هذه المدارس العامة أن تكون رافعة لمستوى قارئها لا خافضة له
في الأقطار العربية ظاهرة ثانية للتشجيع المجرم لا تقل عن هذه فتكا ونكاية، وليس بناصح من عرف موطن الداء فلم يدل عليه مجاملة أو إشفاقاً. عنينا بهذه الظاهرة داء الشهادات التي يحصل عليها حاملها بأرخص ثمن وأيسر سبيل
ومع أني أعرف أن الجامعات ليست سواء في التساهل (أو الغش إذ شئت الصراحة) أعرف كذلك أن بعضها قد تدنى - وخاصة مع الغرباء - إلى درجة لا يصح السكوت عليها، بل يجب على كل حكومة تحررت من أن يفرض على مصالحها هؤلاء المزورون فرضاً - أن ترفض هذا الضرب من الشهادات صيانة لمصالحها من عبث الجاهلين وحفظاً للأمة أن تنحدر إلى الهاوية إذا تولى أمورها المدلسون
يذهب الشاب العربي إلى إحدى ممالك أوربة، فلا يكاد يهبط عاصمتها حتى تراه مهرولاً إلى مكتبة مشهورة أُعطى عنوانها قبل سفره، فيقفها على أن مراده الحصول على شهادة (الدكتوراه) فتتفق معه على مئات من الفرنكات تتناسب هي وعدد الصفحات المطلوبة، فتجمعه بأحد عملائها من الأساتذة الذين يرتزقون من التزوير، فيكتب له الأطروحة ويعلمه إياها تعليما، ويقومان معاً بتجربة المناقشة، ثم يتقدم بها الطالب إلى الجامعة فيفوز بالشهادة(366/33)
ومعه درجة (مشرف جدَّا ويعود إلى بلاده فيعهد إليه بمنصب علمي أو إداري يشرف منه على كثير من المتعلمين ليس فيهم إلا من هو أعلم منه ومن أستاذه وأشرف
وقد بلغت الوقاحة ببعض الجامعات أن تعطي الدكتوراه لمن قدم إليها أطروحته بلغة يجهلها هو كل الجهل. فإذا أنت عجبت لهذه الجامعة كيف تترخص هذا الترخص، وهي في أرقى البلاد المتمدنة، أجابك المنافحون عنها: إن هذا شأنها مع الغرباء فقط، وهو من قبيل التشجيع لا غير، وليس على الجامعة من ضير، لأن هذا الجاهل لن يضر وطن الجامعة، وإنما الضرر منه على وطن آخر قد تكون سياسة الدولة التي تنتسب إليها الجامعة تتعمد هذا الإضرار تعمداً. والأمر بعد هذا على شاكلة كل البضائع المغشوشة التي تصدر هناك، ويكتب عليها: (بضاعة للتصدير إلى الخارج)
ولست أدري، هل في هذا الذي ذكروا ما يبرر الغش والتزوير؟ وهل يستبيح العلم تسمية الجاهلين علماء لوجه التشجيع فقط؟
ولما رأى الكثيرون هذه السبيل المعبدة لنيل الشهادات تهافتوا عليها وهجروا الطرق المشروعة من التعلم الصحيح والدأب المتواصل والعمل الجاهد؛ وصار الذي يطلب الشهادة من طريقها الحلال مثلاً شروداً بين أصحابه في الغفلة والغباء
ألا أخبرك، يا سيدي القارئ، بأشد من ذلك كله وأنكى؟ أتريد أن تعرف كيف آل الأمر بهذا التشجيع؟ فاستمع إذن لما أقصه عليك:
لقيني منذ سنوات خمس شاب من حملة (الليسانس) هبط دمشق فجال جولة في أروقة الحكومة فيها، وتكفل دهاؤه وشطارته ووسائطه أن يعهدوا إليه بتدريس اللغة العربية في إحدى مدارسها. فبعد أن عرفني بنفسه بلطف متناه واحترام فلبي، خدَّرني بمجاملته لساحرة، ثم قال:
إن أولى أمانيه في مجيئه إلى دمشق أن يجد السبيل لإنقاذ مخطوط عربي نفيس من الضياع، وإنه لقي كثيراً من علماء العاصمة وأدبائها، وارتاد أبهاءها الثقافية (صالوناتها)، متعرفاً لرجالاتها، ثم خاطبهم بمراده، فكلهم أشار عليه بأن يلقاني. . . وإن الغيرة على العلم والأدب هي التي تحفزه لهذا الأمر الجُسام، وهو مستعد أن ينفق على مشروعه النفقات الباهظة. . . وليس يعوزه إلا أستاذ ضليع محقق. . . عنده من الغيرة على لغة(366/34)
العرب وتراثها ما يستحلي من أجله كل صاب وعلقم. . . وإنه يحمد الله على أن هداه إليَّ ووفقه إلى إنجاح المسعى بي. . . الخ
كل ذلك يقوله بنبرة متحمسة ولهجة عصبية تعطف عليه الصخر الأصم. ولم يكن من هذا العاجز إلا أن وقع في الشراك قائلاً في نفسه: إن من الفرض على المرء أن يشجع من نصب نفسه لخدمة العلم مهما كلفه التشجيع من الجهد والوقت
وعدته أن أهب له فراغي الوحيد كل أربعاء من الصباح حتى الظهر، ولبثت على ذلك حتى انتهى العام الدراسي: يقرأ على في قاعة المكتبة الظاهرية نسخته التي نسخها بمصر من كتاب (سر الصناعة لابن جني) وبيدي النسخة الخطية التي تملكها دار الكتب الظاهرية من هذا الكتاب، وأنا أصحح وأقابل وأضبط وأعلق وأرجع إلى مصادر كثيرة في القاعة وهو يكتب ما أملي عليه. فما سلخنا العام حتى أتممنا من العمل قسما صالحاً لست أدري مقداره الآن بالضبط، ولكن الخطة شرعت والعمل وضح، والعقبات اجتيزت، والحزون سهلت، وبقي من العمل ما لا خطر له. كل ذلك على ملأ من الناس، وعلى عين من موظفي المكتبة ومناوليها وروادها لأن قانون دار الكتب يحظر إخراج المخطوط منها تحظيراً باتاً
ثم تعاقبت الأيام يلقاني فيهن هذا الشاب. كلما هبط دمشق بمظاهرة حافلة من البشاشة والشوق والتعظيم والاحترام. . . إلا أنه لا يذكر الكتاب بحرف طول هذه المدة، فظننت أنه ناء بالمشروع وعجز عن نفقاته فأهمله لسوء حاله، ولم أجد من المروءة أن أنكأ فيه جرحاً داملاً. . . وكرت الشهور وإذا بي أجد في دار الكتب قبل شهرين رسالة صغيرة بالفرنسية نال بها هذا الشاطر الدكتوراه، بعد أن عرضها - فيما بلغني - بالعربية على الجامعة المصرية فلم تر فيها شيئاً فرفضتها. قلبت الورقة الأولى من الرسالة فإذا خلفها: (سيصدر للمؤلف بالعربية: كتاب سر الصناعة لابن جني) فدار رأسي والله، لا حسرة على الوقت الضائع والجهد المسروق، ولا خشية أن يكون عبث بالعمل فأفسده ثم هيأه للطبع، ولكن فوجئت بما لم أكن أتصور أن الحياة تنطوي عليه من وقاحة وصفاقة، وعرفت أن ذلك التهافت من شبابنا على نيل الشهادات بأرخص الوسائل وأبعدها عن الشرف، قد دخل في طور آخر أدنى وأحط، هو ما قصصت عليك من أمر هذا الشاب(366/35)
وعلم موظفو المكتبة بالأمر فتعجبوا وشُدهوا وقال أحدهم: (هلا انتظر هذا المزور موت الشهود عليه وهم كثير). ثم بلغني أنه يريد أن يتقدم بهذا الكتاب إلى الجامعة المصرية لنيل دكتوراه ثانية؛ فهان الأمر عليّ لأن أقل مناقشة من أساتذة الجامعة المختصين في موضوع الكتاب وتعليقاته تطلعهم على التزوير فيه وعلى أن البضاعة المعروضة هي لغير عارضها
أحسب والله أن هذا الشاب - ولعل أمثاله في المجتمع كثيرون - لا يرى أنه أتى أمراً إدَّا، وأنه فعل فعله أكثر من سبقوه بنيل الدكتوراه من بعض الجامعات الأجنبية، ففيم يفرد دونهم باللوم؟
وإذا كان أولئك الدكاتير نقدوا من صنع لهم أطاريحهم المئات من الفرنكات فلأن هؤلاء الصانعين غربيون ماديون مرتزقون؛ وأساتذة دمشق بحمد الله مثاليون يحتقرون المادة، وحسب أحدهم من تعب السنين وسهر الليالي أن ينقذ تراثاً من الضياع وليس يهمه أن ينسب إلى سواه
وبعد فهذه أنماط مختلفة من أضرار التشجيع، عرضتها ليعالجها وأمثالها المطلعون من الكتاب، حتى يحذرها الناس
وإن أختم بشيء فهو قولي للمسؤولين من علماء وأدباء وأصحاب صحف ومجلات ورجال جامعات:
احرصوا على تثبيط الدجالين والمغرورين حرصكم على تشجيع الأكفياء الصالحين، وما أنتظر لكم من ثواب الله وشكر العلم وامتنان الناس على تثبيط الأولين أضعاف ما لكم على تشجيع الآخرين.
وإذا لقيتم هذا الضرب الوبيل من الناس وجاءوكم بغشهم وتزويرهم وغرورهم وجهلهم، فثبَّطوا ثم ثبطوا ثم ثبطوا
(دمشق)
سعيد الأفغاني(366/36)
الحرب في أسبوع
للأستاذ فوزي الشتوي
الهدنة الإيطالية
اختلفت شروط الهدنة الإيطالية الفرنسية اختلافاً بيناً عن الشروط الألمانية، فالفرق بين القيود الألمانية والقيود الإيطالية فرق كبير، يستنتج منه الباحث عدة نتائج، فهي تدل على ظاهرتين عامتين:
1 - التعاون بين الحكومتين: الإيطالية والألمانية، فكلا الشروط الألمانية والإيطالية يتفق في مبادئ عامة، كشرط نزع السلاح، وشرط وقف القتال
2 - التحفظ من جانب الحكومة الألمانية، فبينما شروط الهدنة الألمانية مؤكدة التحقيق في اكثر بنودها، نجد شروط الهدنة الإيطالية صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة بغير قتل
فالهدنتان تطالبان حكومة بتان بوقف القتال في فرنسا، وفي المستعمرات وفي البحر وفي الجو، وهذا سهل مؤكد في الشروط الألمانية، ومشكوك فيه أو من المؤكد عدم تنفيذه في الشروط الإيطالية. فقد احتلت ألمانيا أكثر الأراضي التي نصت عليها الهدنة قبل وقف القتال ولم يبق ألا جزء ساحلي صغير في الجنوب، يقابله من ناحية ألمانيا احتلال مناطق داخلية تمتد إلى ليون
وأنبأتنا البرقيات أخيراً أن إخلاء هذه المناطق الواقعة خارج نطاق الهدنة يقيد باحتلال المناطق التي لم يصل إليها بعد، ويعضد تنفيذه رغبة حكومة بتان في الوصول إلى وضع حد للقتال، ووقوع هذه الأجزاء الساحلية تحت تهديد الغزو الألماني، فلا مفر إذن من تسليم حكومة بتان باحتلالها
تقييد إيطاليا
فإذا تركنا الجانب الألماني وانتقلنا إلى الجانب الإيطالي نجد أن إيطاليا لا تطالب باحتلال شواطئ البحر الأبيض المتوسط الفرنسية خلافاً لما توقعناه وتوقعه كثيرون، فهي تكتفي باحتلال المناطق التي حصلت عليها أثناء الحرب. ولعل هذا يفسر لنا السبب الذي من أجله اشتد الهجوم الإيطالي بينما كان المندوبون الفرنسيون يفاوضون المندوبين الإيطاليين،(366/37)
فقصدت القيادة الإيطالية احتلال أكبر جزء من الأرض ولكن الجيش الفرنسي لم يترك لقواتها الطريق حراً، بل وقفها عند المخافر الأمامية، أي أن إيطاليا تسيطر على جانب لا يستحق الذكر من الأراضي الفرنسية لا يتجاوز بضعة كيلومترات في أراضٍ لا أهمية لها من الوجهة العسكرية، فالحصون الفرنسية الإيطالية تقع على جبال الألب وهي خارج المناطق المحتلة
ومن المعروف أن شروط الهدنة الإيطالية اتفق عليها موسوليني وهتلر، أو هي بطريق أوضح من وضع هتلر لا من وضع موسوليني، ومنها نستنتج ثلاثة أمور:
1 - إيجاد قواعد فرنسية يلجأ إليها الأسطول الفرنسي إذا قبل قادته شروط نزع سلاحه، فلا يتكلف اجتياز مضيق جبل طارق ويتعرض للصدام بالأسطول البريطاني. فالمعروف أن أكثر قطع الأسطول الفرنسي موجودة في غرب البحر الأبيض المتوسط
2 - تهديد حكومة بتان باحتلال الشواطئ الفرنسية للبحر الأبيض في حالة عدم تنفيذ شروط الهدنة فيما يختص بوقف القتال في المستعمرات، فإن هتلر وموسوليني يعرفان جيداً تقاليد الفرنسيين ووطنيتهم وعدم خضوعهم لأعدائهم، فتهديد هذا الجزء بالاحتلال يدفع بالمارشال بتان إلى بذل أقصى ما لديه من جهد لإكراه رجال المستعمرات على تنفيذ شروط الهدنة
3 - وضع إيطاليا تحت إبهام هتلر بطريقة لا يتيسر لموسوليني التملص منها. فقبل أن تعلن المستعمرات الفرنسية موقفها حيال الهدنة كان من المقطوع به أن تسليمها قليل القيمة، أو ليست له فائدة عسكرية، فمثلاً أعلنت حكومة سوريا ولبنان أنها وقفت القتال، فهذا كلام لا تستطيع ألمانيا أو إيطاليا تنفيذه. فإن القوات الموجودة هناك لم تشترك في القتال لتقفه، فضلاً عن عدم وجود قوات ألمانية أو إيطاليا بالقرب منها لتلاحظ تنفيذ هذه الشروط، فإن الجزء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط والأراضي المحيطة بسوريا ولبنان مناطق نفوذ إنجليزية
حالة غامضة
وما يقال عن سوريا ولبنان يقال عن تونس والجزائر وجيبوتي. وما زالت هذه الجزاء الأخيرة صامتة لم تعبر إن موقفها بصورة قاطعة انتظاراً لما تبرزه الظروف. ويختلف(366/38)
موقف القوات في تلك البلاد عنه في سوريا ولبنان فيجاور كل منها ممتلكات إيطاليا، فالصومال الفرنسي هو المنفذ البحري للحبشة، وتونس تجاور ليبيا؛ ولكن الممتلكات الإيطالية هناك مرتبكة بانشغالها في الحرب مع قوات الممتلكات البريطانية، وقد لا يمر زمن طويل حتى تتجلى حقيقة موقف المستعمرات الفرنسية، فما قيل حتى الآن لا يوضح اتجاهها الصحيح
وهذه الحالة الغامضة ترغم موسوليني على مؤازرة هتلر والرضوخ لأوامره، في مقابل إمداده بالمعونة العسكرية سواء أكانت رجالاً فنيين أو معدات قتال، أو بعبارة أخرى يعطي هذا الموقف لهتلر ضماناً باستمرار موسوليني في ميدان القتال. فطلبات إيطاليا لم يتحقق منها شيء، ولم تحصل على ضمان يسهل لها الحصول على أحدها
وإذا حاولت إيطاليا أن تتدخل في شئون سوريا ولبنان بأية وسيلة، فإن تركيا تدخل الحرب، تنفيذاً لتعهداتها للحلفاء ومحافظة على مصالحها، فلن تقبل تركيا أن تجعل إيطاليا البحر الأبيض المتوسط بحيرة إيطالية كما يريد موسوليني، فيهدد مواصلات الدردنيل والبوسفور، وتصبح مجاورته للأراضي التركية خطراً يهددها. وأعلنت بريطانيا أخيراً أنها تقاوم بالسلاح كل عمل حربي يرمي إلى احتلال هذه الأجزاء أو التدخل في شؤونها لغير فرنسا بأية طريقة كانت
في البلقان
واستغلت الروسيا فرصة انهيار فرنسا واستولت على مقاطعتي بسارابيا وشمال بكوفينا الرومانيتين، وهو ما توقعناه في مقال سابق، إذ قلنا إن الروسيا لن تدخل الحرب بصفة جدية، وإنها ستكرر ما فعلته في بولندا، فتستغل ضعف مقاومة الفريقين المتقاتلين وتستولي على الأراضي التي تهمها في البلقان أو في البلطيق
ويلاحظ في تصرفات الروسيا أنها تتبع سياسة روسية محضة غير مقيدة بأي فريق، فاحتلالها العسكري لبعض مناطق بحر البلطيق يهدد مصالح ألمانيا التي حرصت على أن تجعل بحر البلطيق منطقة نفوذ ألمانية حتى تضمن سهولة حصولها على خامات السويد، وتحكم السوفياتيين في هذا البحر يهدد هذه المصالح، فهي خطوة لا ترضي ألمانيا، ولكنها مضطرة إلى قبولها الآن لاشتباكها مع إنجلترا في القتال، فإذا وضعت الحرب أوزارها أو(366/39)
تناولتها فترة انتظار؛ فنتوقع أن يكون بحر البلطيق مثار نزاع بين الدولتين
ومن الناحية الثانية ضمن الحلفاء سلامة رومانيا، ولألمانيا وإيطاليا فيها مصالح حيوية لمسناها في الحرب الحالية، فلولا بترول رومانيا لما استطاعت ألمانيا الاستمرار على القتال إلى الآن. وأعلنت إيطاليا مراراً أن البلقان مناطق نفوذ إيطالية، وأن أي اعتداء على إحدى دوله تقابله بالسلاح؛ ولكن الفترة الحالية لا تسمح بامتشاق الحسام في وجه الروسيا وإكراهها على احترام مصالحه أو تصريحاته
منذ 20 سنة
ومسألة بسارابيا مسألة طال النزاع عليها، فقبل سنة 1920 كانت إحدى مقاطعات الروسيا، واستغلت رومانيا فترة الثورة الروسية الشيوعية، وانحلال قوة المقاومة فيها وضمتها إلى أراضيها ومن ذلك الوقت لم تصل الدولتان إلى اتفاق عليها
ورومانيا بلد كثير الأعداء والخلافات الخارجية، ويعتبر استيلاء الروسيا على بسارابيا ثغرة لتدفق هذه المشاكل، ففي سنة 1912 اشتعلت الحرب بين رومانيا وبلغاريا وأخذت منها الأخيرة جزءاً من مقاطعة دوبروجا، فلما كانت الحرب الكبرى وانحازت رومانيا إلى جانب الحلفاء، وانحازت بلغاريا إلى جانب ألمانيا، استعادت رومانيا الأجزاء التي فقدتها بمقتضى معاهدة نوبلي سنة 1919، وخسرت بلغاريا في هذه المعاهدة أيضاً مقاطعتي مقدونية وتراقية وقد ضمتا إلى اليونان وفقدت بفقد هاتين المقاطعتين منافذها الساحلية على البحر الأبيض
وحصلت رومانيا من المجر (هنجاريا) بمقتضى معاهدة تريانون التي عقدت في 4 يونيه سنة 1920 على ترنسلفانيا وجزء من مقاطعة بانات التي قسمت بينها وبين يوجوسلافيا، وتطالب هذه الدول الآن بالأجزاء التي اقتطعت منها، ولهذا ينتظر أن تكون خطوة الروسيا في الوقت الحالي بمثابة شعلة من النار ألقيت على دول البلقان، فيكفي أن تتحرك إحدى هاتين الدولتين لاستعادة أراضيها لإشعال نار الحرب في البلقان. ولولا ضغط دول المحور عليهما لأعلنتا الحرب من مدة على فوهة بركان
وإذا اشتعلت الحرب بين دول البلقان، فلا شك أن ألمانيا وإيطاليا ستضطران إلى دخولها دفاعاً عن الدول المنحازة إليهما؛ فإن المجر وبلغاريا من الدول الموالية لمحور برلين روما،(366/40)
وستدخل إنجلترا هذه الحرب أيضاً تنفيذاً لسياسة مناوشة ألمانيا ومهاجمتها كلما سنحت الفرصة، وتنفيذاً لتعهداتها حيال اليونان وتركيا
أما موقف إنجلترا الأخير حيال رومانيا، إذا اجتاحت الروسيا جزءاً من أراضيها فلم ترسل قوات لنجدتها، فيفسره أن رومانيا لم تدافع عن نفسها، بل قبلت شروط الروسيا وتخلت عن الأرض، ولو قاومت الجيوش الرومانية تقدم الجيوش السوفياتية لتغير الموقف ولأرسلت إليها إنجلترا القوات اللازمة. وإذا كانت رومانيا لم تتحرك للدفاع عن نفسها، ولم تطلب معونة إنجلترا، فهل يحق لمنصف أن يطالب إنجلترا بالتصرف بينما صاحبة الشأن الأول لم تدافع عن نفسها؟
وتعود حركة الروسيا الأخيرة بخسارة كبيرة على ألمانيا وإيطاليا، كما أثرت على هيبة بريطانيا، لأنها لم تستطع الوفاء بعهودها. أما خسارة دولتي المحور فترجع إلى استيلاء الروس على مناطق كان أكثرها يزرع لحساب ألمانيا، فيمدها بالمواد الغذائية، وترجع أيضاً إلى اقتراب الروسيا من مناطق البترول الرومانية.
نحو البترول
فالمسافة بين الجيوش الروسية الآن وبين ينابيع البترول الرومانية أقصر من المسافة بين الحدود الألمانية وهذه الينابيع، وكذلك طبيعة الأرض من ناحية الروسيا أسهل منها من ناحية ألمانيا، فالمناطق التي تقابل الروسيين سهول، ولكن جبال كراباتيا تقف في منتصف الطريق بين ألمانيا ومناطق البترول. فإذا حان وقت تمزيق رومانيا فالغالب أن تستولي الروسيا على هذه المناطق
ويظهر أن الروسيا تتبع سياسة بعيدة الغرض منها السيطرة على جميع دول أوربا. فيلاحظ عند احتلالها لبولندا أنها استولت على مناطق البترول فيها ووضعتها تحت سيطرتها، وتركت لألمانيا المناطق الأخرى. ويلاحظ أيضاً في حركتها الأخيرة أنها اقتربت من مناطق البترول الرومانية ولم تقصر استيلاءها على بسارابيا، بل احتلت شمال بكوفيتا، حتى تجد منفذاً للالتفاف حول جبال كراباتيا فيتاح لها الدفاع عن مولدافيا وفلاكيا اللتين بهما أغنى مناطق البترول في أوربا
ويستنتج من هذا أن الروسيا وضعت سياستها على أساس السيطرة على بترول أوربا،(366/41)
والبترول مادة أساسية من المواد الحربية، وبعد الحصول على حقول البترول الرومانية تصبح منابعه كلها تقريباً في قبضة الروسيا، وبالتالي تتحكم في مصير الدول لأنها تكون الدولة الوحيدة التي تستطيع إصدار الأوامر وإكراه الدول الأخرى على إطاعتها. ولكن حركتها هذه موجهة إلى دول وسط أوربا أكثر مما هي موجهة إلى دولها الغربية، فإنجلترا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال تستطيع الحصول على هذه المواد من بقاع أخرى، بينما دول المحور محصورة وخصوصاً في حالة الحرب الحالية والحصار البريطاني المفروض على المحيطات، فهل يتجاهل النازيون هذه الحقيقة؟ وإلى متى يمكنهم الصبر؟
إن الموقف الحالي وتوجه حكومتي روما وبرلين بكل قواتهما لمهاجمة بريطانيا لا يتيح لهما اتخاذ قرار في هذا المصير المقبل، ولكن حركات الروسيا الأخيرة سببت ولا شك متاعب كثيرة لدول المحور، وأوجدت لها مشاكل خطيرة يجب حلها بسرعة، وهي لا تستطيع الآن دفع البلقان إلى الحرب حتى لا تخسر موادها وهي عمادها الوحيد، واشتراك هذه الدول في الحرب معناه خسارة هذه المواد.
فوزي الشتوي(366/42)
رسالة الشعر
إليها. . .
للأستاذ حسن حبشي
إِطْلَعي في شُفُوفِكِ الْخَضْرَاءِ ... يَا مِثَالَ الدَّلاَلِ وَالإغرَاءِ
وَدَعِي الْعَيْنَ لَحْظَةً تَتَمَلْى ... فَاتِنَ الْحُسْنِ وَالْهَوَى الوَضَّاءِ
مَا أَلَذَّ الْحَيَاةَ فِي ظِلِّكِ الْعَذْ ... بِ وَفِي فَيْضِ نورِكِ اللأْلاَءِ
مَا أَلَذَّ الْحَيَاةَ في كَنفِ الْحُسْ ... نِ طَلِيَقْينِ مِنْ إِسَارِ الْقَضَاء
كلّما شَاهَدَتْكِ عَيْناَيَ دَبَّتْ ... نَشْوَةُ الْحُبَّ في صَمِيمِ دِمَائي
ربةَ الحُسْنِ وَالمفاَتِنِ حَسْبِي ... طَيْفُكِ الْعَذْبُ فَهْوَ كلُّ عَزَائِي
فيكِ أَبْدَعْتُ كُلَّ لَحْنٍ حنُونٍ ... سَاحِرِ الجرْسِ، فَاتِنِ الأصْدَاء
آهِ يا دُمْيتِي الجميلَةُ لو تَد ... رِينَ مَا بالفَوادِ مِنْ أَهْوَاء
قَدْ بَنَى فيهِ حُسْنُكِ الساَّحِرُ الفت ... انُ دُنْيَا مِنَ الأمَاني الوِضَاء
لسْتِ يا فِتْنَتِي مِنَ الأرْضِ لكِنْ ... أنْتِ عُلْوِيةُ السَّنَا والسَّنَاء
أنْتِ حُكِّمْتِ فِي الفُؤَادِ فأضْحَي ... طوْعَ هَذِي البدائعِ الغَرَّاء
أينمَا كنْتُ لم أشاهِدُ سوى حُسْ ... نِكِ يجري في النَّفْسِ مَجْرَى الدِّمَاء
فِي الدُّجَى وَالصَّبَاحِ وِالشَّفَقِ الدَّا ... مِي، وَسِحْرِ الطَّبِيعَةِ العذْرَاء
وغِناء الطُّيُورِ السُّحْبِ والرَّوْ ... ضِ ضَحُوكاً وفي خَرِير المَاء
حسن حبشي(366/43)
من وحي الربيع الأحمر
قوس قزح
للأديب حسن أحمد باكثير
أمي قوس بسنى الشمس تجلْت ... وبأطياف الدراري والبدور
أخذت من كل لون فتجلْت ... جمة الألوان تزري بالزهور
أترى قوس (كيوبيد) استهلت ... لاصطياد القلب من بين الصدور
أم ليهدي كل نفس قد تخلت ... عن هداها بسناها المستطير
ليته يرسل وبلاً من سهامه
يترك الأكباد صرعى بغرامه
ويزيل الحقد منها بضرامه
إن من في الكون عاثوا بنظامه
وأَثاروها حروباً في سلامه
كل فرد منهمُ رهن حسامه
أصغر الخد فخور بوسامه
تغتلي في صدره نار انتقامه
ضلةً يسعى حثيثاً لحِمامه
ويخوض الحرب زهواً بُعرامه
وسدىً يخفي أساه بابتسامه
ويوارى كربه خلف لثامه
إن سهم الحب شافٍ لسقامه
ينزع الأحقاد منه بمدامه
ويصب الحب وهاجاً بجامه
أرسلي يا قوس وبلاً من سهامك ... واتركي أكبادنا صرعى غرامك
إن سهماً منك يردي كل شرٍّ في الصدور
حسن أحمد باكثير(366/44)
صرخة روح
للأديب عبد العليم عيسى
مشعلي غاب عن عيوني وما زل ... ت غريباً لا أنتهي من مسيري
وتهاويلُ ظلمتي أفرعَتْ رو ... حي فأضحيت بيتها كالضرير
أين تمضي يا زورقي أين تمضي ... هل لمسراك في الدجى من مصير؟
تَتَخَطَّى المدَى وَأَنْتَ ضَلولٌ ... وحَواليْك كل شيء خطير!
وهزيزُ الرياح ينذر بالوي ... ل المعمَّى والهوْل والتَّدْمِير
قف تمهل بجديك شيء ... قف تمهل فأنتْ رهن العثور!
رقصَ الجن في طريقي فأججم ... ت عن السَّيْر في طريقي النكير
غير أنِّي لا أستطيعُ وقوفي ... رَغمَ هولي وَعلتي وضموري
أي حلم يُغري فؤادي المدمَّي ... يا ترى. . أي كامِن مقدور؟!
حجبتْني الأوهامُ عن فتنةِ ال ... كوْنِ فغلْغلتُ في ضلالي العسير
ورميتُ الأقداحَ من كفِّي الدا ... مِي ومَزِّقْت في فَمي مزْموري
والأزاهير بعثَرتْها على الطِّ ... ين يدي في هناءة وحبور
جفَّ نبعي بها. . فلستُ أبالي ... أن أراها في روضها المنضور
ما الذي غيَّر الوجودَ بعيني ... فغدا معْبَد الدجى المنشور
وأنا الشَّاعر الذي يعشق النُّو ... رَ ويعنو لحسْنه المسحور؟
أي دنيا ملأتها بغنائي ... فوق شط منضَّر بالنور!
أي عودٍ حملْته ذاهلَ الرو ... ح وحَوْلي أَحبَّتي وزهوري!
ذهبَ الأمسُ مثلَما يذهَبُ ال ... حلم بكاسَاتِ للذَّتي وخموري
فإِذا بي على ضفاف حياتي ... مثقل بالهمومِ والتكدير
آه ما أثقل الحياة عَلَى الشَّا ... عِر لمَّا يجفوه قَيض الشعور
(القاهرة)
عبد العليم عيسى(366/46)
رسالة الفن
تأملات:
ذات اليمين وذات الشمال
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أوى الفتية إلى الكهف
قالوا إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
وقد لجئوا إلى الكهف هاربين من الدنيا يستعجلون الآخرة. والآخرة عندهم جميعاً نهاية نيرة يستطيع كل إنسان أن يصل إليها إذا سلك لها طريقها
ولما كانوا في المدينة بحثوا طويلاً عن هذه الطريق حتى أعياهم البحث، وكانوا يتفرقون ثم يجتمعون ويسأل بعضهم بعضاً هل اهتدى أحدهم إلى طريق النهاية النيرة؛ فما كانوا يجيبون وما كانوا يهتدون
وأخيراً قال قائل منهم: ما أظننا واجدين شيئاً ولو قضينا العمر كله هنا في هذا المكان المنحرف عن مسرى النور، وتحت هذه الجدران الجاثمة فوق الأرض بأثقالها والقاذفة الأرض بظلالها، ظلالها المظلمة المعتمة، التي لا يحب أهلها أن تشف، ولا أن تلطف. . . فتعالوا بنا إلى هذا الكهف الذي فوق هذا الجبل فإنه أكثر تصدياً للنور، وأبعد عن حلبة الصراع المخبول، ولعلنا هناك نهتدي إلى شيء. . .
فأوى الفتية إلى الكهف، وتبعهم الكلب
وكانوا وهم في الطريق إلى الجبل يسيرون جميعاً صامتين خاشعين مطرقي الرؤوس، شاهدين على أنفسهم بعجزهم وضعفهم، مؤملين أن يتاح لهم ما يرجونه حتى إذا ما رحلوا عن هذه الدنيا غادروها وهم أكبر مما كانوا يوم وردوها. . .
إلا أحدهم، فقد كان يضحك. فسألوه عما يضحكه فأشار إليهم ثم أشار إلى نفسه وظل يضحك، فتركوه يضحك
ولما انتهوا إلى الكهف قال قائلهم: نستطيع الآن أن نتفرق في أركان هذا الكهف وزواياه ومنافذه، ولنجتمع بعد يوم كامل لينبئ كل منا صحبه عما رأى. . .(366/48)
فتفرقوا أفراداً، إلا أحدهم فقد اصطحب أحدهم
أما الكلب فقد جلس حيثما كان وبسط ذراعيه
وذلك الذي كان يضحك، ظل يضحك ولم يرض أن يتجه إلى ناحية ما يستقر فيها، وإنما أخذ يطوف بهم، فكلما رآهم واجمين زاد ضحكه، فإذا رآهم منبسطين تضاعف ضحكه، حتى الكلب لم ينج من ضحكاته، بل إنه هو نفسه لم ينج منها، فقد مر وهو في تلافيف الكهف بنبع نظر في مائه فرأى صورته فما استرسل إلا ضحكا. . .
حتى إذا جاء إلى الاثنين اللذين تصاحبا سمعهما يتناجيان، فتخفى وراء صخرة يستزيد سمعاً. . . وأرهف للسمع نفسه كمن يستجدي السمع مهرباً من ضيق وأزمة. . . مع أنه كان يضحك!
كان الصغير يسأل الكبير قائلاً:
- الآن وقد جئنا إلى هذا الكهف لنبحث عن ذلك الذي دخنا في البحث عنه لما كنا في المدينة، ماذا ترانا صانعين، وأين ترانا سنبحث؟ ولقد كانت في المدينة حياة متلونة، وكنت ترسلني منها وتقول لي: ابحث. فإذا سألتك عن أي شيء أبحث؟ قلت لي: سر متيقظاً، فإما رأيت أو سمعت شيئاً فاسأل نفسك ما هو؟ وكيف كان؟ ومن أين جاء؟ وإلى أين هو ذاهب؟ فإذا وجدت الجواب عند نفسك فامض بحثاً حتى تقف أمام ما يعجزك تأويله. فكنت إذا أعجزني تأويل شيء جئت إليك فأولته لي، وعرفتني أصله وفصله، ولم أرك يوماً حرت في أمر ولا استغلقت عليك مسألة، بل إني على العكس من ذلك كنت أراك تجيئني أحيانا بأحاديث عما رأيت أنت وسمعت مع تفسيره وتأويله، وما كنت أنا لأخرج منه بشيء إن كنت رأيته أو سمعته. . . هذه كانت حالنا في المدينة، فكيف تريد بحالنا أن تكون هنا، ونحن لا نرى شيئاً ولا نسمع شيئاً، وليس أمامنا إلا هؤلاء الذين جاءوا معنا، وهاهم أولاء كما تراهم متفرقين يبحثون مثلنا عن شيء لا أراه أنا فدلني عليه إن كنت تراه. . .
- هأنذا معك يا بني، لا أرى إلا ما ترى، ولا أسمع إلا ما تسمع
- وهم جميعاً هكذا، وسنقضي العمر هنا أضيع مما كنا سنقضيه لو أننا بقينا في المدينة، فهيا بنا نعد فهناك من غير شك أوفى حياة وأحلى
- صحيح. ولكن أمامنا الآن ونحن هنا في هذا الكهف شيء ليس في المدينة متا يشبهه،(366/49)
وإنه من الخير لنا أن نبقى هنا لنراه
- أما فرغنا من رؤيته بعد، هذا الكهف وما فيه؟
- ربما كنا قد فرغنا من استعراض الكهف حقاً، ولكننا لم نفرغ بعد من استعراض الذين فيه نحن ومن معنا. أما قلنا إننا سنجتمع بعد أن يمضي يوم؟ أو لا يمكن أن تحدث في هذا اليوم حوادث لنا وللذين معنا؟ أو لا يمكن إذا انتهى هذا اليوم أن يقول لنا واحد منا إنه رأى شيئاً أو سمع شيئاً، ولو في المنام رؤيا؟ ثم أليس أمامنا الآن نفسانا ونفوس هؤلاء الذين معنا وقد اعتزموا أن يقضوا يوماً في الكهف بحثاً. . . ألسنا جميعاً أهلاً لأن يرانا راء وأن يسمعنا سامع ونحن على هذه الحال التي لو علم بها أهل المدينة لجعلونا بها سخرية وهزؤواً؟ ألست تحب أنت أن تسخر وتهزأ. . . هيا اسخر واهزأ إن لم تجد أمامك جداً. . .
. . . وهنا قصفت من وراء الصخرة ضحكة انفجرت في صدر المختفي وراءها لم يستطع أن يحبسها، فلما دوت الضحكة وفضحته أطل من وراء الصخرة وقال لهما وقد استرسل يضحك:
- لقد سبقتكما، فأنا أضحك منذ كنا تحت. . . سنلتقي في آخر اليوم، وسأقول، وستقولان، وسيقولون، وسنسمع. وأما أنا فسأظل أضحك، وأما أنتم. . . فمن يدري
فقال الصغير: نحن الذين سنضحك في الآخر وأنت ستبكي
وقال الكبير: من يدري. . .
. . . وهنا. . . تثاءب الكلب. . .
. . . فلما تثاءب الكلب تثاءب بعده أقربهم منه. . . وكان شاباً صادق الوجه، فيه ملاحة وفيه خفة وفيه دلال بعثه في نفسه حب الناس له وإقبالهم عليه. . . وكان فيه إلى هذا إهمال ظاهر في إهماله لنفسه، ولمحاسنه ولعقله. . .
رأى الكلب يتثاءب، فالتقط منه تكاسله، وتثاءب هو أيضاً، ثم طرح نفسه على الأرض، وقال للكلب:
- أتكون أنت أهدأ مني بالاً؟. . . لماذا؟. . . أنا جالس إلى جانبك أحرق نفسي بحثاً عن هذا الذي يبحث عنه هؤلاء جميعاً، والذي لا أعرف ما هو، وأنت جاثم نائم مرتاح؟ لماذا(366/50)
لا أرتاح مثلك؟ ألأني أريد مثلهم نهاية نيرة؟ إن عندي ألف نهاية نيرة! جلسة عند الراقصات الحور في جنة قطوفها دانية بين ذراعي تلك التي. . . هل تعرف يأيها الكلب (تلك التي. . .)؟ أو لست تعرفها. . .؟ تعرفها أو لا تعرفها، فإنني أنا أعرفها، وسيزورني الآن طيفها ومعه قطعة من الجنة، فأحسن استقباله يا صديقي الكلب، ودله عليَّ إذا تاه عني، وهأنذا راقد إلى جانبك. . . أسعدت مساء. . .
. . . قال هذا ونام. . . نام بعد أن غنى لنفسه ما شاء، وما استطاع. . . ومر به الضحاك، فإذا به نائم؛ فبانت عليه إمارات الغيظ وانحنى عليه يسأله:
- أنائم أنت؟. . . فإذا استيقظت في آخر اليوم، فماذا أنت قائل لهم إن سألوك عما رأيت وعما سمعت؟ سنرى. . .
. . . وانصرف الضحاك عنه إلى واحد من أصحابه رآه يثقب سقف الكهف بمثقاب نحته من الحجر. فهم الضحاك بأن يشكو لهذا الصاحب صاحبهما الذي نام، ولكنه آثر أن يستتر خلف منعطف في الكهف، ليرقب هذا الذي يريد أن يخرق الحجر، وليس شيء وراء الحجر إلا الفضاء
وسطع من جوف الحجر بريق، فانبهر الثاقب، وجفل الضحاك. أراد أن يضحك، ولكنه أمسك عن الضحك، وآثر مرة أخرى أن يظل يرقب صاحبه، وهذا البريق الذي لمع من حرف الحجر، وما عساه أن يحدث بينهما. . .
ظل الرجل يثقب ويثقب حتى استخرجها من جوف الحجر حصاة كبيرة شفافة براقة متألقة، استقبلت النور فعكسته أنواراً، فراح يتأملها في إعجاب وفرح، وأخذ ينفخ فيها ويمسها بأنامله وهو يقول:
- أظنهم مهما جدوا فلن يعثر واحد منهم على ما يشبه هذه؟ ولكن ما هذه؟ على أي حال إنه لا يعنيني كثيراً أن أعرف ما هذه، ما دمت بهذه أستطيع أن أمتاز على الناس وأن أخلب أنظارهم؛ فلأخفها ولأكتم أمرها
. . . وبعد أن كان الضحاك الذي كف الآن عن الضحك. . . بعد أن كان يريد أن يشكو صاحبه الذي نام لصاحبه الذي اهتدى إلى قطعة النور المتجمدة، مضي وفي عزمه أن يشكو صاحبه هذا الأخير لأول من يلقاه من أصحابه. . .(366/51)
فأخذ يتسلل بين منعطفات الكهف حتى اشرف على صاحب آخر رأى ينبش الأرض وينكثها، وينبش وينكث حتى تفجر من الأرض ماء، مد الرجل إليه فمه فشرب منه رشفة، فإذا به يترنح ترنحاً خفيفاً وإذا به يقول:
- ما في الحياة خير من هذه لذة. . . ولا أمتع منها راحة. . . سأملأ من هذا الماء قدحاً، وسأسقي كلا من أصحابي رشفة فيهدءون ويرتاحون، ويدعون بحثهم واستقصاءهم، فأبحث أنا وأستقصي أنا فإن وجدت بعد ذلك شيئاً أعطيتهم منه القليل، وادخرت لنفسي مصدره. . . لن يكون غير هذا، ولست ظالمهم، ولاهم ظالمي، وإنما لكل منا حظه. . .
وكان الضحاك قد نسي الضحك، واعتراه هم لم يكن يتوقعه واعتراه بأس لم يعرف منشأه، فأطرق برأسه إلى الأرض، وسار بخطوات عمياء إلى حيث لا يدري، وانتهى به المسير إلى حيث كان الكلب راقداً فرقد إلى جانبه هو أيضاً، ولكنه لم يرقد كما يرقد الناس، وإنما انبطح على وجهه كالكلب، وبسط ذراعيه أيضاً كالكلب. . .
كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. أما الكلب فهو الكلب
وأما هم فأولهم هذا الضحاك الذي اغتم ونام وفي آخر الأمر، وثانيهم هذا الذي غنى ونام من قبله، وثالثهم صاحب قطعة النور، ورابعهم صاحب الماء اللذيذ، وخامسهم صاحب سادسهم، وهما اللذان أرادا منذ أول الأمر أن يريا في هؤلاء الجماعة جداً أو هزؤواً وسخرية إن لم يريا الجد
فأين كان سابعهم؟. .
سابعهم كان جالساً على حجر عند مدخل الكهف يتمتم قائلاً:
- هو. هو. هو. هو. هو. هو
وانقضى اليوم. واجتمعوا عند مدخل الكهف حول هذا المتمتم، فسأل أولهم: ماذا وجدت؟ فضحك. فقال له: أمجنون أنت؟ لقد سكتنا عن ضحكك هذا عندما كنا في الطريق، ولكننا الآن لا نستطيع أن نسكت عنه بعد أن قضينا يوماً بحثاً. . .
فضحك. . . فقالوا جميعاً: دعه، إنه مجنون. فتركه يضحك
ثم سأل الثاني: ماذا وجدت. فقال له: غادة هيفاء، وروضة فيحاء، ونسيم عليل، وخمر وغناء، ورقص وتسابيح، ودنيا أخرى غير هذه ما فيها إلا السعادة والنعيم. . .(366/52)
فسأله: أين هي؟ فقال: هاهي ذي. . . أما تراها. . . إن كنت لا تراها فهي إذن قد ولت. . . يا خسارة. . .
فقال له: إذا عدنا إلى المدينة فصفها للناس يرحبوا بك شاعراً
ثم سأل الثالث: وأنت ماذا وجدت؟
فقال له: هذه. . . تلمع في النور، وتلمع في الظلام، لها أنوار مختلفة الألوان، حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء. . . أنا لا أدري ما هي ولكني أحبها، وأنت أيضاً تحبها، والناس جميعاً يحبونها، أليس كذلك؟
فقال له: نعم، فإذا نزلت إلى المدينة فاخلب بها الأنظار والألباب إنها السحر. . . ولكني أوصيك ألا تؤذي ببريقها امرأة ولا طفلاً ولا رجلاً ضعيفاً، فما كل عين تطيق هذا التألق الخطاف. . .
ثم نظر إلى الرابع وسأله، وأنت ماذا وجدت؟
فقدم له القدح وقال له: اشرب، فقال له: ما هذا الذي تريدني أن أشربه؟ فقال له: ماء وجدته. فسأله: أين؟ فقال: لن أقول، فإن لي به سلطاناً لو شاع بين الناس فقدته. . . إنه شراب لذيذ ومسعد
فقال له: لا ريب إن كنت لا تزال صادقاً. . . فارجع به إلى أهلك فاسقهم منه يقيموك فيهم كاهناً يطلبون عندك الراحة كلما تعبوا. . . ولكن لماذا لا تدلهم على سر هذا الشراب حتى إذا مت وجدوه من بعدك. . .
فقال: من بعدي؟ ما لي أنا والذين بعدي، والذين قبلي؟ هل عطف عليَّ من أهل هذه المدينة أحد. . . لا يا سيدي، لكل منا سره. . .
. . . ثم نظر المتمتم للصاحبين المتلازمين وسألهما: ماذا رأيتما؟ فقال الصغير: رأيناكم أنتم، وقد عرفتكم جميعاً إلا أنت يا من تسألني. . . وتسأل الناس لم أعرف ماذا وجدت أنت؟ ولا ماذا ستصنع عندما تعود إلى المدينة. . .
فقال الكبير من الصاحبين: هذا يا صغيري رجل، له ولي، كلما فرغ نصب وذكره، فهو دواماً معه. . .
فسأل الصغير - ومن وليه؟(366/53)
فأجاب الكبير - هو. . .
فسأل الصغير مرة أخرى - ومن هو؟!
فأجاب الكبير مرة أخرى - اسأله هو. . .
فسأله الصغير - قل لي من هو؟
فقال له - عندما أستطيع الكلام سأقول لمعلمك. . .
ثم نزلوا إلى المدينة. . . ووراءهم كلبهم. فلما تشتتوا كان الكلب يعود إلى الكهف وحده بين الحين والحين لينام، فقد استطاب الهواء الذي هناك.
عزيز أحمد فهمي(366/54)
رسالة العلم
الذرة وبناؤها الكهربائي
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
يكاد يكون اتجاه علم الطبيعيات الحديثة في مبحث الذرة أن اللبنات الأساسية التي تبني منها الذرة موجبة، وذلك من بعد ما نجح العالم الفرنسي (لويس دي بروجلي) - والأستاذ (هيزنبرج) - في وضع مبادئ الميكانيكا الموجبة. فنحن نعلم أن نظرية (نيلز بوهر) مع نظرية المقدار القديمة كانت تستحكم في الأذهان حينما تقدم للملأ (لويس دي بروجلي) عام 1923 م مقرراً أن الإلكترونات وهي دقائق كهربائية مادية ذات شحنة سالبة تحمل ما يتبين فيه نبض موجبي، وأن أشعة (إكس تظهر في شكل من القوة خاص بالذرة غير أن ملاحظة (لويس دي بروجلي) لم تحظ بتأييد أحد غير العلامة حدث أن نجح الأستاذ (دافسن) وزميلة (جرمر) في إثبات أن الإلكترون وهو دقيقة مادية يخضع لقوانين التفرق الموجي. فنحن نعلم أن مرور موجة ضوئية في ثقب دقيق يتمخض عما يعرف باشتباك الأمواج وتفرقه - إذ بدلاً من أن تسير الموجات الضوئية في خطوط مستقيمة فإن أجزاءها تشتبك. ومثل هذا يحدث إذا مرت في معدن متبلور أو صفائح فلزية حيث تقوم دقائق المعدن أو الفلز مقام الحائل في الضوء المرئي. وقد نجح هذان العالمان في إمرار إلكترونات من خلال صفائح فلزية من الذهب ومعادن متبلورة، فكانت النتيجة التي انتهينا إليها أن الإلكترون يتصرف تصرف الأمواج، إذ تشتبك أجزاؤه وتتداخل. ومن ذلك الحين احتلت الميكانيكيات الموجبة مكانها اللائق في عالم الفكر العلمي الحديث
وقد استند (لويس دي بروجلي) إلى ظاهرة تصرف الإلكترون كموج وقرر أنه عبارة عن موجة كهربائية تجمعت في حيز صغير، ورغم أن فرضيته كانت توافق النتائج التجريبية التي انتهى إليها الأستاذة (دافسن) و (جرمر) و (طمسن الصغير) فإن مبدأ (عدم التثبت) الذي كشف عنه (هيزنبرج) كان يقف عقبة دون قبول هذا الرأي
فنحن نعلم من نظرية المقدار القديمة أن إطلاق لمادة لفوتونات الطاقة يكون كاملاً وكذلك(366/55)
امتصاصها لها، وأن عملية امتصاص الفوتونات وإطلاقها تسير متقطعة غير متصلة، وذلك يرجع إلى أن نظرية (ماكس بلانك) قامت تستمد كل قوتها من التحولات الدورية في الاهتزازات التي تعين خط شعاع الموجة، معتبرة هذه التحولات غير مستمرة بل هي وثبات متماثلة متساوية المسافة الفاصلة بينها، كما أن الزمن الفاصل متساو، فتكون بناء على ذلك هذه التحولات الدورية راجعة لوحدات ثابتة لا تنقسم اصطلح على تسميتها بثابت بلانك في الرمز الرياضي. فإذا أخذنا موضع النظر الحقيقة التي قررها (جيمس كلارك ماكسويل) من أن الأمواج أياً كانت تتسع في دوائر باستمرار في كل الجهات، فكأن موجة ضوئية تصدر من أحد السدم تصل إلى الأرض بعد سنين من صدورها، ورؤيتها تحمل في (علم المقدار على أن مقداراً أصاب العين، مع أن المقدار المنطلق من إحدى ذرات السديم يجب أن تتوزع طاقتها على صدر قوس موجتها، حتى أن السنتيمتر من سطح الأرض الواقع في دائرة شمول الموجة لا يصيبه إلا جزء صغير جداً من المقدار وهذا يستلزم انقسامها وهي لا تنقسم، وهذا خلف
ولقد افترض (هيزبنرج) لحل هذا الإشكال أن الأمواج لا تحمل كميات من الطاقة متساوية في صدرها، إنما تحمل احتمالات متساوية بوجود الطاقة، متجمعة في إحدى النقط الواقعة على صدر الموجة. والمذكرة التي قدمها (هيزنبرج) في هذا الشأن خريف عام 1925م تنطوي على هذا المبدأ الذي يستتر وراءه حقيقة من أهم حقائق الكون الخفية
وقد نجح العلماء من بعد (هيزبنرج) في إثبات هذه الحقيقة وقد كنت أنا من أوائل هذا النفر، فقد بينت تجاربنا بمعامل البحث الطبيعي في موسكو أننا لو أسقطنا حزمة من أمواج الحرارة على طبقة معدنية من المغناسيوم، فبطبيعة الأمر سيتطاير عدد من الكهارب، وعن طريق قياس سرعة سقوط أمواج الحرارة وعدد الكهارب المتطايرة وعرض الموجة، أمكننا حساب مسألة تركز الطاقة في نقط معينة من صدر الموجة أو توزعها، وكانت نتيجة هذه التجارب أن الطاقة في أمواج الحرارة متجمعة في أجزاء على صدر الموجة، وبذا تؤثر في الكهارب التي تصدمها
وإذاً يمكننا أن ننقح رأي (لويس دي بروجلي)، وأن نفترض مع الأستاذ (أروين شرودنجر) أن الكهربائية في الذرة ليست مركزة في نقط معينة من الذرة، هي الكهارب، إنما هي(366/56)
موزعة على السواء في محيط كرة الذرة. وتفسير هذا التوزيع يشكل أهم مسألة في الطبيعيات الحديثة
2: -
لقد كان أثر نظرية المقدار في تفكيرنا العلمي عن بناء الذرة كبيراً، إذ لم نعد نعتبر سير الإلكترون في فلكه حول النواة مستمراً بل متوثباً، ويكون بذلك شكل الذرة الخارجي متعدد الأضلاع نظراً لأن الإلكترون يرسم حدود الذرة وثباً في سيره من حول النواة، وهكذا نقترب من التصوير الذي وضعه للذرة (جلبرت نيوتون ولس) 1916، والتي اعتبرت أساساً لبناء الذرة المستقر
وهذا التفكير وضع حداً لذرة (بوهد) وخصوصاً أنه كان يرى المسارعة في الذرة، مسارعة الإلكترون ترجع لقوانين النشاط الكهربائي - الكلاسيكية، بينما إشعاعات الذرة للفوتونات ترجع لقاعدة (ثابتة بلانك) في (علم المقدار). ومن المعلوم لنا عن طريق التجربة أن المسارعة من جهة وإطلاق الذرة للفوتونات من جهة أخرى يمكن أن يخضع لقوانين النشاط الكهربائي الكلاسيكية، ولكن. . . ذلك إذا بلغت عدد المقادير - ثوابت بلانك - اللانهائية أو قاربتها
هذا إلى أنه من المتعذر على الباحث في الدقائق - أن يعين مكان دقيقة ذريرية وسرعتها في آن واحد، فإذا عرف المكان تعذر على الباحث تعيين السرعة، وإذا عرفت السرعة تعذر عليه تعيين المكان، وقد كان تأثير هذا المبدأ - مبدأ عدم التثبت - كبيراً فإنه هدم ثقة العلماء بالجبرية في علم الطبيعة غير أنه من المهم أن نلاحظ أن عدم التثبت كان ينعكس في المقادير الكبيرة إلى نوع من التثبت والحقيقة. وهذه الحقيقة بجانب أوليات حسابات الاحتمال مهدت السبيل للعلامة (أورين شرودنجر) أن يضع نظرية جديدة في (علم المقدار) تضافر معه على تحقيقها (ماكس بورن) و (جوردان) و (ديراك) وفي هذه النظرية الجديدة لم يعتبر (شرودنجر الإلكترون دقيقة مادية ركزت فيها الشحنة الكهربائية، إنما اعتبرها شحنة كهربائية موزعة على ذلك الإلكترون على السواء، والتوزيع هنا معناه احتمالي محض، وقد اختلفت وجهات النظر في تفسير الاحتمال، فهو عن شرودنجر ليس ساحة فراغية إنما هو ساحة رياضية صرفة، بينما هو عند جودان وماكس بورن مقياس لا(366/57)
لكم واحد أو عدد من الكميات وإنما هو مظهر من قياس عدد لا متناهٍ من الكميات الممكنة المنتظمة؛ أما (ديراك) فيرى التوزيع رمزاً ولكن بدون أي إمكان لتفسير عددي إذ يأخذ بالوجهة التي تربط سرعة الإلكترون بمقدار طاقة حركتها
إن فكرة الاحتمال التي دخلت ساحة الطبيعيات الحديثة نبتت من الحقيقة التجريبية في أنه إذا بلغ عدد المقادير أعني ثوابت بلانك اللانهائية أو قاربها، فإن مسارعة الإلكترون وإطلاق الذرة للفوتونات يخضعان لقوانين النشاط الكهربائي الكلاسيكية، ومن المعلوم من حسابات الاحتمال أن اتساع الدائرة التي تخضع للاحتمال يؤدي إلى تكييفات حتمية أو شبه حتمية، وذلك راجع إلى أنه في حالة اتساع الدائرة تتساوى نسبة مجيء الحادثات واطرادها في تتابعها. وبيان هذا:
لو افترضنا أن معنا قطعة من النقد، فهذه القطعة لها وجهان بطبيعتها، واحتمال مجيء أحد هذه الوجهين معادل لاحتمال مجيء الوجه الآخر. فالحالات الممكنة اعني المحتملة هنا هي:
1، 2 ز 2، 1
ويكون احتمال هاتين الحالتين بنسبة بعضهما لبعض:
ح1 ح2=1 - ح1
باعتبار أن الوضع 1، 2=ح1 والوضع 1. 2=ح2 فإذا تكررت هذه الأوضاع ن من المرات، فالحالات الممكنة ثابتة في التعاقب ويكون وجه احتمال مجي الوضع ح1 راجعاً للمعادلة
(ح1 - ح2) ن
التي تحدد من إمكان الوضع الأول
وهنا التفاضل بين ح1 - ح2 أصغر من الواحد، فإذا كان مقدار ن بالغاً الحد الأعظم فإن إمكان الوضعين يقترب من التعادل حتى يساويه في اللانهائية
واستناداً إلى هذه الفكرة الرياضية المحضة أمكن تفسير غامض انطلاق الفوتونات وتغيير الذرة لموازنتها الكهربائية، فنحن نعرف أن كهربا ينطلق من الذرة إذا بلغ عدد المقادير اللانهائية وذلك في صورة متجانسة مع المبادئ الكلاسيكية، وانطلاق كهرب أو تغييره(366/58)
لفلكه يحدث اختلالاً في موازنة الذرة ويحدث في بناء الذرة رد فعل ينجم عنه موازنة جديدة، لا تأتي إلا بإطلاق مقادير من الطاقات تعرف بالفوتونات. وإطلاق الذرة لهذه الفوتونات يرجع لحملها حالة طقس جديدة تقوم على عدد لا نهائي من المقادير. وهذه اللانهائية في عدد المقادير هي التي تعطي الاطراد في انطلاق الفوتونات بالنسبة لتغيير الشحنات الكهربائية موازنتها في الذرة، لأنه في الوضع اللانهائي يتساوى كل الحالات الممكنة واطراد انطلاق الفوتونات في تتابعها
ونفس النظر الاحتمالي فسر مفهوم مبدأ عدم التثبت لأن هذا المبدأ في أبسط صوره لم يخرج عن استحالة تعيين دقيقة ذريرة في مكانها وسرعتها في آن واحد، فإذا أمكن تعيين السرعة استحال تعيين المكان، وإذا أمكن تعيين المكان استحال تعيين السرعة. ولكن هذه الاستحالة وعدم التثبت سرعان ما ينعكسان - كما قلنا في المقادير الكبيرة - ولبيان هذا نقول:
إن قطعة النقد المؤلفة من وجهين: وجه عليه رسم الملك، ووجه آخر عليه القَّية؛ ولنرمز إلى الوجه الأول بالرمز (ح1)، وللوجه الثاني (ح2)؛ فإن إمكان تعيين أحد الوجهين متعادل واحتمال مجيئه متساو بحكم الطبيعة، فإذا رمينا قطعة النقد عدداً من المرات، فمن المحتمل في هذه المرات أن يأتي كل وجه في دورة واحدة، كما أنه لا يستبعد أن يأتي أحد الوجهين عدداً من المرات، ولا يظهر الوجه الآخر إلا مرة واحدة. . .
ولكن هذا التخالف سرعان ما يتناقض مقداره ويأخذ في الاقتراب من الصفر إذا رمينا قطعة النقد 500 ألف مرة، لأنه في هذه المرات الكثيرة يعطي اتساع المدى تساوياً لتتابع واطراد الأوجه الممكنة - التي هي وجهان هنا - فيأتي معنا الوجه الذي يحمل رسم الملك 250 ألف مرة، وكذلك الوجه الآخر
ونفس هذا يحدث معنا في ساحة (علم الذرة) وعلم (المقدار) ولشرح هذا نقول:
إن المشاهد في عالم الذرة أن النتيجة التي يخلص بها الباحث من تعيين أوضاع لبناتها غير حتمية، لأن النتيجة التي يخلص بها الراصد والباحث في زمن ووضع معين يخرج بغيرها باحث آخر في غير الوقت والوضع ولو جرت التجربة في عين الشرائط التي جرت وفقاً لهذه التجربة الأولى. ولو أجريت التجارب عدداً من المرات فعلى عدد هذه المرات تكون(366/59)
النتائج معنا، غير أن هذه العدد إذا بلغ حداًّ كبيراً فسنجد أن النتائج الجزئية تعطي وجهاً عاما في احتمال لا نهائي. وهذا الاحتمال يمكن الباحث من حساب النتيجة التي تأنى معه في وضع رياضي ولكن يحمل عنصر اللزوم والحتم في طياته
وهذا نفس ما يحدث معنا إذا رمينا قطعة النقد مرات فإن النتائج تتباين في كل رمية، ولكن هنالك في اتساع المدى تساوياً في تتابع واطراد هذه النتائج
هذه الأوليات تفسر لنا أوجه تفسير (التوزيع) عند كل من (شرودنجر) و (جوردان) و (ماكس بورن) و (ديراك) من وجهتيه الطبيعية والرياضية
3: -
لقد انتهى (ديراك) بمباحثه النظرية في تفسير التوزيع، إلى أن هذا التوزيع رمز ولكن بدون أي إمكان لتفسير عددي أخذاً بالوجهة السلبية من المعادلة الأساسية لنظرية الكوانتا الجديدة، أعني الوجهة التي تربط سرعة الإلكترون بمقدار طاقة حركته، وكان نتيجة ذلك أن انتهى إلى أن هنالك ضربين من الكهارب موجبة وسالبة الشحنة الكهربائية؛ والكهارب ذات الشحن السالبة من الكهربائية هي الإلكترونات، أما الموجبة فهي وراء تناول تجاربنا، فكأنها والخلاء سيان
وامتحان نظرية (ديراك) من الوجهتين الرياضية والفيزيقية عن طريق دراسة تدفق الإشعاع المادي واستناداً إلى معادلتي كلاين و (نشينا) ينتهي بالباحث، كما انتهى بنا، إلى حقيقة فوزيقية مهمة: هي أن الطاقة السالبة، والطاقة الموجبة التي ترتبط بدقيقة الكهربية متساوية، وأن الاختلاف في دلالة الإشارة الجبرية على توزيع الشحنة، وهذا يؤدي حتما إلى افتراض كهرهب موجب الشحنة الكهربائية يقابل الإلكترون السالب الشحنة الكهربائية. وهذا التنقيح في نظرية (ديراك) يجعلنا ننجح حيث فشل غيرنا، مثل أوبنهمير ومن الحتم أن نقول إن (لويس دي بروجلي) يوافقنا على هذا التعديل
وقد كشفت المباحث الفيزيقية الأخيرة عن وجود دقيقة مادية ذات شحنة موجبة تقابل الإلكترون اصطلح على تقريبها بالبوزيتون. وكان زميلنا العالم الروسي سكوبلنر أول من انتبه إلى هذه الحقيقة أثناء تصويره مسارات الأشعة الكونية عن طريق ما تتركه من الأثر في المسار الذي تسلكه خريف عام 1929. وكانت تجارب الأساتذة: أندرسون(366/60)