ذكرى أخي الهراوي
للأستاذ علي الجندي
قبل وفاة صديقي المرحوم الهراوي بشهر، أرسل إلي بطاقة لطيفة حملها (ألف قبلة وتحية) ورجاني فيها أن أزوره بمقر وظيفته ليحادثني في شأن من الشؤون الأدبية. وقد عدتني عواد عن تلبية هذه الدعوة في حينها، ثم ذهبت بعد ذلك إلى دار الكتب فسألت عنه، فقال لي البواب: (تعيش) لقد توفي أمس إلى رحمة الله!
كانت الصدمة عنيفة أذهلتني عن كل شيء حتى عن واجب العزاء لأسرته، وحاولت أن أرثيه فلم أستطع، فقد غال الحزن بياني وغشى على مشاعري، وكان أنكى علي من ذلك ما تهامس به بعض الناس: من أني أخللت بواجب الإخاء! كأنهم لا يدرون - عفا الله عنهم - أن من الألم ما يحمي صاحبه الكلام كما يحميه الطعام!
والآن وقد انكسر الحزن ورسب سعيره في الأعماق، أهدي إلى روح صديقي في مسراه العلوي هذه الطاقة الشعرية مستنزلاً عليه الرحمة والرضوان العميم:
جهلَ العاذلونَ فيكَ مُصابي ... فأطالوا مَلامتي وعتابي
وأذاعوا: أني بخلتُ بدمعي ... ورثائي على أبرِّ الصِّحابِ
وعزائي عِلْمي بأنّك تدري ... ما أُعاني من حُرقة واكتئاب
رُبَّ باك يذري دموع التماسي ... ح من الموجعات خالي الوطاب
وجليدٍ يفترُّ عن سنِّ جذلا ... ن طوَى كشحه على الأوصاب
وخليّ الفؤاد من لاعج الحبّ ... (م) يُرى صابياً وليس بصابي
أعذَرُ الناس من دهتْه الرزايا ... ونَهَتْ دمعَه عن التَّسكاب
فهنيئاً لهم بكوْا فاستراحوا ... وكتمت الجوى، فطال عذابي
أيها اللائمون عَدُّوا عن اللو ... م وقُيتمْ - على الإساءة - ما بي
لو بكم ما بنا، وبان عليكم ... لَلبِستمْ به سوادَ الغراب
لا يُحسّ الآلام من دينه الله ... وولا يدْرَكُ الصبى بالتصابي
كثرت بيننا الجِياد ولكن ... قصبُ السبق للمذَاكي العِراب
وحمامُ الرياض يبكي فنشجَى ... حين تبكي مطوّقاتُ الرِّقاب(349/35)
كيف ينسى الوداد مثر من المج ... د رفيع الذُّرا كريم النِّصاب
مُعْرقٌ في الوفاء يجري على العر ... ق ويسري في بُلجة الأحساب
لا وربي لم أنقض العهد يوماً ... لا ولا بتّ سالياً أحبابي
أنا أكسوهم المدائح أحيا ... ءً، وأُروي صداهمو في التراب
وأصوغ الرثاء فيهم رياحي ... ن تمجّ الشّذا على الأحقاب
يا أخي في الوداد، والودُّ أبقي ... أثراً من علائق الأنساب
ومُعيني على نوائب دهر ... أنا منها ما بين ظفر وناب
ومَناري إذا دجا الشك حولي ... وتنكبت عن طريق الصواب
وصفيي، وجُلُّ من أصطفيهم ... صُورُ الإنس في طباع الذئاب
كنت أخشى طوارق السوء إلا ... طارق الموت لم يقع في حسابي
أين أيامنا نواعم كالغي ... د تخايلْنَ في رقيق الثياب
بين صبح مُفضّض، وأصيل ... شرِق الأفق بالنُّضار المذاب
نسجتها يد الزمان من البه ... جة والأنس والأماني العِذاب
فهي من عمره الربيعُ المُوشّى ... وهي من عمرنا لُباب الّلباب
وليال كأنها من سَناها ... ومضات الأحداق خلف النقاب
نَتساقَى بها الودادَ سُلافاً ... أين منها سلافة الأعناب
كيف مرّت بنا عِجالاً فكانت ... كحباب طفا على الأكواب
أو كطيف الحبيب يدنو به الغم ... ض وتُقْصيه رقصةُ الأهداب
خُلَسٌ من بشاشة العيش ولّتْ ... تستحث الخطا لغير إياب
آه لو سامني زمانيَ فيها ... بشبابي، شريْتها بشبابي
فجعتنا المنون بالشاعر المل ... هم آي البيان والإعراب
بالأديب المِفنّ من يسكب المع ... نى رحيقاً في المنطق الخلاّب
بِمُحيل الطروس روضَ مجان ... مُونِقاً للعيون والألباب
بسجيج الطبع الرقيق الحوا ... شي وسريّ الخُلْق النقيّ الثياب
بمؤدّ حق الأخلاّء في النا ... دي وحق الإله في المحراب(349/36)
جامع الخَلّتين: ظرف الألبّا ... ء، ونُسْك المُطهّر الأواب
يا لذكرى هاجت بلابل صدري ... وأعارتْ قلبي جناحيْ عُقاب
قَلِقٌ تَحتيَ الوسادُ كأني ... أتَنزَّى على رؤوس الحراب
بين ليليْن: من دجى وهموم ... ناهضات إليَّ من كل باب
مَثَّلا لي الخضمَّ يغشاه موجٌ ... تحت موج مجلل بسحاب
كلما طار في السماء شهاب ... طار قلبي وَثَبْاً وراء الشهاب
أو ذكا كالبرق في الدُّجنّة ناراً ... شب نار الأحزان ملء إِهابي
تُسعد الذكرياتُ أهلها، وأُلَقي ... ذكرياتي محطّم الأعصاب
يا صديقي لبيت دعوة (رضوا ... ن) وخلّفتني لحَرِّ المصاب
لم تزوّد أخاك بالنظرة العجْ ... لى على وَشْك نيةٍ واغتراب
ووداع الأحباب فن من السل ... وى وعون على احتمال الغياب
ليت آذنتَ بالفراق، فكنّا ... ننثر الدمع في طريق الركاب
كذَب الشعر ما لمن حان عِلمٌ ... بالذي سجلتْه (أمُّ الكتاب)
إن من مِنة الإله علينا ... أن توارتْ أسرارنا بالحجاب
لو درى الناس ما تستّر عنهم ... قعدوا عن تناول الأسباب
لمع الغيب للظماء سراباً ... ضلّ صاد يجري وراء السراب
روّض الغيث قبر من كان روضاً ... حالياً بالعلوم والآداب
بان عنا، فبان كلُّ جميل ... فعزاءً للآل والأصحاب
علي الجندي(349/37)
3 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
وعدت في مقالي الثاني أن أبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله ابن علي، وقد سلك الأستاذ العبادي في اختلاف هذه الروايات مسلكاً ليس من الإنصاف العلمي في شيء، فجعل تلقيب أبي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني ولهذا لا يوثق بها عنده، وإنما يوثق بالرواية التاريخية القديمة التي سكتت عن تلقيب أبي العباس بهذا اللقب، كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم وغيرهما. ويؤخذ بما رواه غير أولئك المؤرخين الأدباء من تلقيب عبد الله بن علي بالسفاح، وإنما كان هذا ليس من الإنصاف العلمي في شيء، لأن سكوت أولئك المؤرخين عن تلقيب أبي العباس بالسفاح لا يصح أن يطعن به في رواية من لقبه به، لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وهذه قاعدة مشهورة عندنا معشر الأزهريين، ولا يمكن أن يجادل فيها الأستاذ العبادي، وإنما يصح الطعن برواية أولئك المؤرخين إذا وردت بنفي ذلك اللقب عن أبي العباس، وحينئذ يكون معنا ناف ومثبت، وقد اختلف علماء الأصول في تقديم أحدهما على الآخر. على أن الأستاذ العبادي لا يمكن أن يدعي أنه استوعب الرواية التاريخية القديمة كلها في ذلك، وقد فاته من هذه الرواية رواية أبي الحسن المسعودي المتوفى سنة 346هـ، فقد جاء في كتابه (مروج الذهب) تلقيب أبي العباس بالسفاح، والمسعودي مؤرخ مشهور، وقد كان معاصراً للطبري المتوفى سنة 310هـ وهو ممن عده الأستاذ العبادي في أصحاب الرواية التاريخية القديمة فيكون المسعودي من أصحابها أيضاً، وسيجد الأستاذ العبادي بعد هذا كله إنه لا تعارض بين هذه الروايات، وأنَّا لسنا في حاجة إلى إنكار بعضها أو ترجيحه على الآخر
وقد أراد الأستاذ محمود شاكر أن يسلك هذا الطريق في الجمع بين هذه الروايات المختلفة، فذكر أن قول اليعقوبي (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح) منقول من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد علي (عبد الله بن علي الأكبر وعبد الله بن علي الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، ولا يريد ابن سعد بذلك التلقيب كما يرى من اليعقوبي، وإنما ذلك صفة كالسفاك والقتال، وبهذا لا يكون السفاح لقباً لعبد الله بن علي، وإنما يكون لقباً لابن أخيه(349/38)
أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي، وقد كان يسمى عبد الله الأصغر أيضاً، كما كان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر. ثم ذكر الأستاذ محمود أن أبا جعفر قد لقبه أبوه بالمنصور فيما يعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بالسفاح كما لقب أخاه بالمنصور
ولما قرأت هذا للأستاذ محمود سألته عما يعتمد عليه في إسناد تلقيب أبي جعفر وأبي العباس بالمنصور والسفاح إلى أبيهما محمد ابن علي، فلم أجد عنده ما يعتمد عليه في ذلك. وقد بحثت بنفسي لعلي أجد ما يؤيده فيه، فلم أجد إلا ما ذكره صاحب العقد الفريد، من أن محمد بن علي ولد له من امرأته الحارثية ولدان سمى كل واحد منهما عبد الله، وكنّى الأكبر أبا العباس، والأصغر أبا جعفر ولم يذكر أنه لقبهما بذينك اللقبين، بل الظاهر مما سننقله فيما يأتي عن صبح الأعشى أن أبا جعفر تلقب بالمنصور بعد انتقال الأمر إليه من أخيه أبي العباس
والرأي عندي أن أبا العباس لم يلقبه أبوه بهذا اللقب قبل أن تقوم دولتهم، ولم يلقب هو نفسه به بعد أن صار إليه الأمر، لأن مثل هذا اللقب لا يتفق مع الألقاب الإسلامية التي عرف بها الأمراء قبل أبي العباس وبعده، وإنما هو لقب لصق به لصوقاً، وأطلقه عليه الناس وكثير من المؤرخين، لوصفه نفسه به في خطبته عندما بايعه الناس، فقد ذكر الطبري أنه لما بويع صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام تكرمة، وشرفه وعظمه، واختاره لنا وأيده بنا، إلى أن قال مخاطباً أهل الكوفة: وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير
وقديماً لقب العرب كثيراً من الشعراء بمثل ما لقب به أبو العباس، فلقبوا عائد بن محْصَن بن ثعلبة العبدي بالمُثَقِّب لقوله:
رَدَدْنَ تحية وكنَنَّ أخرى ... وثَقَّبنَ الوَصاوص للعيون
ولقبوا عمرو بن سعد بالمرَقَّش الأكبر لقوله:
الدار قَفْرٌ والرسومُ كما ... رقَّشَ في ظهر الأديم قَلَمْ
وكذلك كثير من الشعراء غيرهما
وإذن يكون لقب السفاح في أصله وصفاً بالنسبة إلى أبي العباس، كما كان في أصله وصفاً(349/39)
إلى عمه عبد الله ابن علي، ثم اشتهر به أبو العباس عند بعض المؤرخين، كما اشتهر به عبد الله بن علي عند بعض آخر منهم، ولكل منهم في ذلك رأيه واختياره، وليس فيه شيء من الغلط والاشتباه الذي يدعيه الأستاذ العبادي
وعلى هذا لا يكون لقب السفاح هو اللقب الحقيقي الذي اختاره لنفسه أبو العباس، وإنما هو لقب غلب عليه عند المؤرخين بذلك السبب السابق، حتى أنسى الناس لقبه الحقيقي الذي اختاره لنفسه بعد أن صار إليه الأمر، بل دعا هذا إلى عدم الاهتداء إلى لقبه الحقيقي بيقين، وإلى ذلك الخلاف الذي سنذكره فيه، ولكنه مع هذا هو اللقب الذي يصح أن يضعه لنفسه مثل أبي العباس، ويتلاءم مع ألقاب من أتى بعده من العباسيين.
قال الخطيب البغدادي: عبد الله أمير المؤمنين السفاح بن محمد ابن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، يكنى أبا العباس، ويقال له أيضاً المرتضى والقائم، ثم قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق، حدثنا محمد بن أحمد بن البراء قال: أبو العباس المرتضى والقائم عبد الله بن محمد الإمام بن علي السجاد ابن عبد الله الحبر ابن عباس ذي الرأي ابن عبد المطلب شيبة الحمد.
وذكر القلقشندي أن خلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم بألقاب الخلافة، وأن ذلك ابتدئ بابتداء الدولة العباسية، فتلقب إبراهيم بن محمد حين أخذت البيعة له بالإمام، وأن الخلف وقع في لقب السفاح فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى، ثم تلقب أخوه بعده بالمنصور، واستقرت الألقاب جارية على خلفائهم كذلك إلى أن ولي الخلافة أبو إسحاق إبراهيم بن الرشيد بعد أخيه المأمون، فتلقب بالمعتصم بالله، فكان أول من أضيف في لقبه من الخلفاء اسم الله، وجرى الأمر على ذلك فيما بعده من الخلفاء
وفي هاتين الروايتين وخصوصاً الأخيرة من العناية بتحقيق تلك الألقاب ما يجعلنا نثق بهما، ونطمئن إليهما، وفيهما لا يدخل لقب السفاح فيما قيل إنه لقب أبي العباس، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه فيه، وقد جاء بعد أبي العباس من تلقب بالقائم بأمر الله، ومن تلقب بالمهتدي بالله، ولم يتلقب أحد بالمرتضى بعده، فلعله كان اللقب الذي اختاره لنفسه، على أن ظاهر رواية الخطيب البغدادي أنه كان يقال له المرتضى والقائم معاً
هذا ولا يفوتنا في ختام كلامنا أن نبين حقيقة ما جاء في تاريخ ابن العبري عن السفاح، من(349/40)
أنه كان رجلاً طويلاً أبيض اللون، حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت، فإن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم، بدليل ما قدمنا من أمره في دماء غيرهم؛ على أن العبري يقيس في ذلك أمره بأمر من جاء بعده من العباسيين.
عبد المتعال الصعيدي(349/41)
رسالة الشعر
البعث. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
يا جمالاً وجلالًا يتدفَّقْ ... رجع البلبل أم عاد الربيعْ!
بهر النور عيوني فترفَّقْ ... حين تدنو إنني لا أستطيعْ!
أيها الورد الذي طاف بنا ... أيها الطلُّ الذي بَلَّ الغما
لا أراك الله حالي وأنا ... أَطأُ الشوكَ ويغزوني الظما
يا أمانيَّ وحبي وخيالي ... لا تضيِّع لحظة فالعمر ضاعْ
لا أراك الله حالي والليالي ... كاسفات ليس فيهن شُعاعْ!
قد بلوتُ الويل فيها لا بَلَوتا ... وأنا أبدأ يومي بالمساء
وعرفتُ الضيق ضِيق القلب حتى ... لم أجد في الكون ثقباً من رجاءْ!
لا وربي ليس للدنيا ختامْ ... حين يغدو البعثُ نجوى من حبيب
حين يستيقظ قلبٌ من منامْ ... والمنادى أنت! والحب المجيب!(349/42)
مطارف الربيع
(إلى الصاخبين دائماً على الأيام المرة القاسية)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
ما لهذا الرَّوضِ ظمآنا؟ ... ما لهذا الزَّهْرِ نعسانا؟
ما لتلك الأرض قد لبست ... من نسيج الموتِ أكفانا
ما لهذا النَّجمِ مُرْتقبا ... وَمَضاتِ البرقِ حَيْرانا
ما لقرص الشمس مكتئبا ... عابسَ الألحاظِ غضبان
ما لهمسِ الريح منطلقا ... مثلَ عَزفِ الجن مِرْنانا
ما لتلك الأرضِ ثائرةً ... مثلما تسمعُ بُركانا
ما لهذا الطفلِ منسربا ... تحت جنْح الليلِ عُريانا
يتشكَّى البردَ آونةً ... ويعاني الجوعَ أحيانا
الشِّتاء المُرُّ فارقَنا ... والربيعُ الحلوُ واتانا
مِطْرَفٌ وشّاهُ صانعهُ ... وحباهُ الحُسنَ ألوانا
ما لتلك الأرضِ فاتنةً ... ما لهذا الروض سكرانا
ما لهذا الزّهرِ مؤتلقا ... يَنفحُ الأرواحَ رَيْحانا
ما لهذا الطيرِ مُنطلقا ... يملأُ الأنحاَء ألحانا
ما لهذا النُّور منسكبا ... قد أصارَ الكونَ غَرقانا
ما لقرص الشمسِ ملتهبا ... ضاحكَ الألحاظ فتَّانا
ما لهذا الطفلِ مُنْسربا ... في المروج الخُضْرِ جَذْلانا
يتمنَّى في خمائلها ... لو قَضى الأيام وَسنانا؟!
نرتجي الأيامَ صافيةً ... آه لَوْ صَافْينَ إنسانا!
قُلْ لمن ضاقتْ مسالكهُ ... بالليالي حَسْبُكَ الآنا
الشتاء الْجَهْمُ يعقبه ... الربيعُ الطَّلقُ مُزْدانا(349/43)
أناشيدي!. . .
للأديب محمود السيد شعبان
هُنا دُنيا أَناشِيدي! ... فَعِشْ يا قَلْبُ للذَّكرَى
بنَيناها كما شاَءتْ ... لَنا أَوْهامُنا السَّكْرَى!
وَصُغناها مِنَ الأحْلا ... مِ والإِلهامِ أَلْحَانَا. . .
فَهيَّا نَلْقَ فيها سَا ... عَةً يا قَلْبُ سَلْوانا
وَنَترُكَ هذهِ الأَشْجَا ... نَ في دُنيا الأسَى حَيْرَى!
ونملأُ بالرِّضى والبِشْ ... رِ والأفرَاحِ دُنيانا
أَلاَ يا رَبَّةَ الألْحَا ... نِ مَنْ غَنَّاكِ أَلْحَاني؟!
وَمَنْ يا فِتْنَةَ الدُّنيا ... سَقَاكِ السِّحْرَ مِنْ حَاني؟!
أَنَا الشّادي. . . وَأَنْتِ صَدَى ... أَغارِيدِي وَأَنفْاَسي!
إِلَيْكِ قدْ اهْتَدَى وَهْمِي ... وَلكِنْ ضَلَّ إِحْسَاسي!
كِلانَا يا هُدَى رُوحي ... نَزِيلُ العَالَمِ الفاني
خُلِقنا لِلْخُلُودِ مَعاً ... وَإِنْ كُنَّا مِنَ النَّاسِ!
مَلكْنا هذهِ الدُنيا ... وَصُغْنَاها كما نَهْوَى
مَلاعِبُ فِتْنَةٍ أصْداَ ... ؤُها سِحْرٌ مِنَ النَّجْوَى
فَيا قِيثَارَ أَحلامَي ... تَعَبَّدْ لِلْجَمَالِ هُنا!
وإِنْ أبْصَرْتَ وَلْهاناً ... يَطُوفُ بِهِ. . . فَذَاكَ أنا!
إِلى الماضي رَجَعْتُ أرو ... مُ في ذِكْراهُ لِي سَلْوَى
فَكَمْ خَلَّقْتُ في وادي ... هِ مِنْ بَعْدِ الهناءِ مُنَى!
فَيا شِعْرِي! خَلَقْتُكَ مِنْ ... هُدَى قَلْبِي وَمِنْ وَجْدِي!
وَهَبْتُ لكَ الخُلودَ فلا ... تَخَفْ إِنْ عِشْتَ مِنْ بَعْدِي
وَصُغْتُكَ مِنْ دَمي فِتَناً ... وَأوْهاماً أُنَاجيهَا. . .
فَخُذْ أنفَاسِيَ الوَلْهى ... إِليْكَ صَبَتْ أمَانيها!
مَلَكْتُ بِكَ الحياةَ فمَا ... أرَدْتُ أخَذْتُهُ وَحْدِي(349/44)
وَهَل كانَ الهوى والشِّع ... رُ إِلاّ خَيْرَ ما فيها!!(349/45)
رسالة الفن
تأملات في الفن:
يا علماءنا. . . نريد أن نعرف!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- خذ كل من هذا الحمص. إنه من السيد البدوي
- وهل كنت في طنطا؟
- نعم. ضيفة عند ناس
- أو لم يعجبك شيء في طنطا غير الحمص؟
- السمن هناك جيد، والخضار أجود
- همُّ بطنك ولا شيء يشغلك غيره، ألم تفكري في زيارة السيد البدوي الذي تأكلين حمصه هذا؟
- زرته. ولم أنس أن أدعوه لك
- شكراً. فلست أدعو غير الله. . . أو لم يعجبك شيء في مسجد السيد البدوي؟
- لا أذكر، فهو مسجد كبقية مساجد ربنا
- صحيح. ولكن فيه منبراً هو نفسه صلاة صامتة قائمة دائمة
- يا سلام. . . لم يلفتني أحد إليه
- وعيناك هاتان المبرقتان تحملقان ولكنهما لا تريان. امرأة!. . .
- تركنا منبر السيد البدوي وعدنا إلى امرأة ورجل، ما لها المرأة؟ كل ما حدث أني شغلت عن النظر إلى المنبر بالنظر إلى السيد نفسه. . .
- ولا السيد. بل قولي إلى الزوار
- آي، كنت أنظر إلى الزوار. أليس في النظر إلى الرجاء المتألق في وجوههم لذة؟
- وأي لذة عند المرأة أحلى من أن ترى الرجاء متألقاً في وجهه
- كان الزوار كلهن نساء
- ولماذا هذا التخصيص، ولماذا أسرع إلى ذهنك هذا الخاطر السيئ فتسرعي إلى إنكاره(349/46)
بهذا الحسم الجازم. . . أفتظنين أنك هربت من السوء إلا إلى الأسوأ؟
- وهل يسوء مجتمع النساء أكثر مما يسوء إذا اختلطن بالرجال؟
- من غير شك. فهن بين الرجال قد يخجلن فيحتشمن، ولكنهن إذا انفردن انطلقن تتفرس كل منهن في الأخرى. وتفترس كل منهما الأخرى. وما أعجبها إذن معمعة حين تشب في ضريح أو مسجد، ينقلب المسجد من مطهرة إلى. . . إلى مدرسة!
- مدرسة؟! على أي شكراً لله فقد توقعت أن تقول شيئاً آخر. . . ولكن لماذا تقول إن اجتماعنا في المسجد يقلبه إلى مدرسة. . .
- لأنكن بطبيعتكن، إما أن تكن تلميذات، وإما أن تكن معلمات، ولا يمكنكن أن تكن غير ذلك إلا إذا فسدت طبيعتكن. فإذا وصف إنسان اجتماعاً من اجتماعاتكن بأنه مدرسة كان يبني وصفه هذا على خير الفروض فيكن. . .
- كلامك محتاج إلى برهان
- هذا يحتاج برهاناً؟ لا بأس. . . اسمعي. . . منبر السيد البدوي. . .
- عدنا إلى منبر السيد البدوي. . . لن نعود إلى ذكره حتى ننتهي مما كنا فيه. . .
- سننتهي منه ومما كنا فيه معاً. . . أريد أن أقول لك إنه آية فنية رائعة، وإنه على ضخامة حجمه وتعقيد تركيبه، مؤلف من قطع صغيرة التحم بعضها إلى بعض من غير غراء ولا صمغ ولا مسمار واحد، وإنه صنع في عهد واحد من الخديويين المتأخرين. ولقد أقيم للأستاذ الذي صنعه أستوديو أو (أتيليه) خاص كان مؤلفاً من عدة خيام، وإن الخديوي طلب يوماً أن يشرف هذا الأستوديو بالزيارة ليشاهد المنبر أثناء تاليفه، فأعتذر الأستاذ بأنه لا يستطيع أن يعمل إذا كان عليه رقيب غير الله. . . كما إنه لا يستطيع أن يصلي وبينه وبين القبلة إنسان ممتنع عن الصلاة جالس أو واقف ينظر إليه ويحصي عليه حركاته وسكناته. . . فهو لا ريب يشغله ويعوقه عن إحسان الصلاة على الأقل. . .
- عجيبة! ومن هو هذا الأستاذ الفيلسوف، وماذا كان رد الخديوي عليه. . .
- ما كان الخديو محب الفن إلا ليقدر مثل هذا الاعتذار وأن يجيزه إكراماً لفن الأستاذ (علي جَلَّطْ)!
- علي ماذا؟ جلط؟! يا له من اسم مضحك!(349/47)
- و (ميكيلانج) أليس اسماً مضحكا؟! ألأِن علياً مصري تضحكين من اسمه، ولأن الآخر من سادتكم أهل الغرب تستسيغين اسمه على ما فيه من عجمة؟. . . إن ميكيلانج وميكي ماوس ليسا من أسمائنا، وإنه من أسمائنا (جلط)، وبهنس، وغلوش، وزينهم وما أشبه. . . فلماذا نتحرج من أسمائنا ونضحك منها ساخرين، وحقنا أن نضحك - إن ضحكنا - معجبين بما فيها من النكتة فلا ريب أن هذه الأسماء الغريبة لا تطلق في مصر إلا لمناسبات
- أريد أن أسألك عن هذه المناسبات، ولكني أخشى أن نخرج من الأستاذ علي إليها، فلا نعود منها، وقد كنا قبل هذا وذاك في موضوع آخر هو موضوع (المدرسة)، الذي أظن أنك لا تزال تذكر أننا تركناه معلقاً. . .
- امرأة مرة أخرى: لا تغفل ولا تنسى، وهو من شروط التلميذة الناجحة، والمعلمة البارعة. . . أما الأستاذ علي يا أبلة، فلعلهم لقبوه بلقبه، لأنه (جلط) يوماً لحيته بزجاجة أو حدث منه شيء كهذا. . . وأما منبره يا آنستي، فهو الآية الفنية التي لا يمكن أن توصف، وإنما يجب أن ترى وان تدرس، وأما أنت فامرأة، ولم تلتفتي إلى هذه الآية الفنية العجيبة، لأن أحداً لم يلفتك إليها، وهذا شأن التلميذات، وأنا أراهن أنك إذا زرت السيد البدوي بعد اليوم، فإنك ستصحبين صاحبة أو اثنتين، لا لشيء، إلا لتلفتيهما أنت إلى المنبر لتكوني لهما معلمة وتكونا هما تلميذتين، ولست أراهن على هذا إلا لثقتي منه، ولست واثقاً منه إلا لعلمي بأنه شيء في طبعكن، فالله أعدكن لتكن أمهات، والأمهات مربيات، والمربيات معلمات، والمعلمات يكن تلميذات قبل أن يصبحن معلمات. . . ولا شيء غير هذا يا زين البنات. . .
- تلفيقات وترهات! فنحن أكثر مما تظن، فمنا الآن مهندسات وطبيبات وفنانات ومحاميات. . . كما إنه منا معلمات!
- هؤلاء جميعاً تلميذات، حتى المعلمات. . . كي ترتاحي وتسكتي. . .
- أسكت؟ إن سكت عن خطل الرأي، فلن أسكت عن تراجعك وانتقاضك على ما سبقت وقررته. . . كيف أسكت وقد رددت المعلمات تلميذات؟!
- لأنهن هكذا، فليست فيهن واحدة. . . لها طريقة خاصة بها في مهنتها أو فنها. . . وعلى(349/48)
الرغم من أن الله قد أعدهن ليكن معلمات، فإنهن لا يعلمن إلا ما تعلمن. . .
- وهل تريدهن يعلمن ما لم يعلمن؟. . .
- أفهن لا يعلمن إلا إذا تعلمن؟. . . لماذا لا يتعلمن هكذا من الحياة رأساً. . . أفنامت عقولهن عن تجاربهن وخبرتهن ومشاهدتهن في كل شأن من شؤون الدنيا إلا المسألة الدنيا؟
- كلا! إني لا أوافقك في هذا. فإن فينا إمامات وعلى الخصوص في التربية وفي الفنون. كيف يمكنك أن تجحد المربية مونتسوري، والممثلة جريتا جاربو، والمغنية جريس مور، والراقصة جنجر روجرز و. . . و. . . و. . .
- أما مونتسوري فمعلمة جاد بها الزمن في القرن العشرين بعد أن ظل الزمن يجود بالمعلمين من قبل سقراط وأرسطو. وعلى أي حال فإن مدام مونتسوري لا تزيد على أن تكون مخترعة لبعض ألاعيب الأطفال. وأما الباقيات اللواتي ذكرتهن هؤلاء فلا أزال أقول إنهن تلميذات فجريتا جاربو لم تكن شيئاً قبل أن يكتشفها أستاذها المخرج السويدي الذي نسيت اسمه وأظن أنك تذكرينه، وأما جريس مور فإني أتحداها أن تغني شيئاً إذا لم يلحن لها الملحنون الأغاني، وأما تلك التي ترقص كالعفاريت التي اسمها جنجر روجرز فقد جربت أن تنفصل عن أستاذها فريد أستر فأخفقت فعادت إليه ومع ذلك فهي لا تزال تتطاول عليه وتقول عنه إذا ذكرتها إنه زميلها وليس قائدها وأستاذها. . .
- وكاي فرانسيس التي تحبها؟
- أنا أحب عينيها أكثر مما أحب فنها
- عينيها؟ لقد قلت مرات إنها ممثلة نابغة
- لو لم يهبها الله هاتين العينين ما كانت نابغة وما كانت ممثلة. هما عينان لو رزقهما رجل لما استطاع إلا أن يكون قديساً ربانيا من غير ما شيء يعرقله. . . فيهما صفاء وشفافة فهما ينضحان بما وراءهما من فكرة أو عاطفة، فصاحبهما لا يستطيع أن يكذب إلا إذا أغمضهما أو سبح بهما في الفضاء لا يوجههما إلى عيني محادثه، وهذا شيء يدل على الكذب والصدق أهون منه، فإذا داوم صاحب هذين العينين الصدق عجزاً عن الكذب في أول الأمر فإنه سيداومه بعد ذلك اعتياداً له، ثم يداومه أخيراً حباً له، والصدق كما قلت لك مرات هو الخطوة الأولى نحو الله. . . وعلى هذا كانت كاي فرانسيس بهاتين العينين(349/49)
مقصرة حين انتهى أمرها عند أن تكون ممثلة نابغة. . . فهمتِ؟!
- إذن فقد انقلبت على نفسها إذ تمارس الآن الكذب؟ فليس التمثيل إلا الكذب
- لو كانت كاي فرانسيس تكذب ما كانت أعجبتني، وإنما هي تصدق، ولا تمثل إلا ما تحسه أو ما أحسته، ولعلك تلحظين أنها لا تكثر من الظهور، ولعلك أدركت أن سبب هذا هو أنها تنتظر حتى يوافيها الدور الذي يلائمها والذي تكون قد أحاطت بمثله في حياتها. . . وحياتها كما أظنك تعرفين فيها ما فيها، وأبرز ما فيها أنها تمثل بهاتين العينين الصافيتين الشفافتين. . . فرغ الحمص. أليس معك غيره؟
- خذ، ولكن بعد أن تعترف ولو لكاي فرانسيس وحدها بأنها أستاذة.
- ليس ما يمنعني من ذلك. فقلها أن تكون أستاذة، ولك أنت أيضاً ذلك إذا زرت منبر السيد مرة أخرى وأديت له حق التأمل والدرس والترحم على صانعه، ولم يشغلك في زيارته النظر إلى الزائرات من أترابك والتحقق من ملبسهن وزينتهن ولغاتهن
- ولكنك قلت إن هذا من طبع المرأة
- هو طبعها في التلمذة، وأنت تريدين أن تكوني أستاذة، والأستاذة هي التي فرغت من النظر إلى غيرها وبدأت نفسها تفيض بما فيها. . . وأظن أن المرأة لا تكره هذا إلا لسبب واحد. . .
- ما هو هذا السبب أيضاً؟
- هو خشيتها من الكبر، فبهذه الخشية تدمن النظر إلى غيرها تخدع نفسها متخيلة أنها صغيرة لا تزال في حاجة إلى التعلم. . . حتى إذا ما فاجأتها التجاعيد آمنت بأنها أستاذة، ولكنها بعدئذ تقضي الحياة في حسرة بدلاً من أن تقضيها في عمل. . . سنة الله التي شاءت لكن أن تقبعن في بيوتكن. . .
- سأقبع ولن أزور المنبر. . .
- زوريه أو لا تزوريه، فستعرف الدنيا خبره يوم ترقى مصر ويبحث علماؤها عن تاريخ علي جلط ومحمد البقري وغيرهما من أهل الفن العربي الذي يقدره الغربيون حق قدره ويردون إلينا من أقصى الأرض وأدناها لينعموا بمشاهدته وليأخذوا عنه، حتى إذا سألونا عمن أنتجه من آبائنا قلنا: اللهم إنا لا نعرف(349/50)
- أما الأستاذ علي فقد عرفته بمنبر السيد، ولكنك لم تذكر لي من هو محمد البقري. . .
- صاحب الزخرفة العربية الرائعة التي يتحلى بها (بنك مصر) وتياترو حديقة الأزبكية. . . وإذا كنت أنا أعرف هذين فإني أجهل صاحب السلطان حسن وصاحب مسجد القلعة والمؤيد والرفاعي، وغير ذلك من الآثار العربية الخالدة. . . فهل لك أن تسألي لي واحداً من علمائنا عنهم؟. . .
- بإذن الله سأسأل. . . ولكن لماذا لا تهتم أنت بتتبع أخبار هؤلاء وهو أمر شديد الصلة بعملك؟. . .
- قد يكون هذا حقاً، ولكن الوثائق تعوزني، فإن أغلب الآثار العربية، قد أرخت منسوبة إلى الملوك الذين أنشئت في عصورهم، ولم تنسب إلى الفنانين الذين عصروها من دمائهم، وقد جربنا على هذه السنة حتى في عصرنا الحديث فنحن لم نذكر (علي جلط) ولا (محمد البقري) في آثارهما مع أنهما محدثان قريبان وهما لم يعنيا بهذا لأنهما كانا أخلص للفن من أمثالهما الغربيين، ولم يكونا يسعيان بالفن إلى الذكر الباقي ولا إلى الربح المادي، وإنما كانا يؤديانه زكاة عما وهبهما الله من ملكة وبصيرة ونظر. ولقد كانا يتعبدان به عبادة، ولو أنه خطر لأحدهما أن يستغل فنه استغلالاً مادياً لخلف الأموال الطائلة والصيت الرنان. . . ولكن الواحد منهما كان لا يعمل إلا إذا احتاج إلى القوت، فإذا عمل تفانى في عمله وجاء فيه بالمعجزات المحيرة. . وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والذي إذا سئل عن نفسه قال إنه (نجار دقي)!
- فأي شيء هو؟. . .
- إنه مهندس زخرفة ينفذ بيده ما يتصوره عقله من غير أن يستعين على ذلك برسم التصميم على الورق. . . وهذا شيء لا يستطيعه إنسان في الغرب وعلى الخصوص إذا تصدى للزخرفة العربية المجردة المعقدة المتجددة
عزيز أحمد فهمي(349/51)
رسالة العلم
الكون يكشف عن نفسه
خفايا الضوء
للدكتور محمد محمود غالي
أينحصر الكون في ست وحدات أصلية يرد إليها كل ما فيه؟
عندما تطالع هذه السطور فانك تراها بفضل أحد هذه الوحدات
الدقيقة وهي كائنات نحاول أن نتعرف إليها
نشيد داراً للسكنى وتدخل مواد عديدة في تشييدها من أحجار البناء إلى الحديد، ومن رخام الدرج إلى ما يحيط سياجه من نحاس، ومن أخشاب النوافذ إلى ما يتوسطها من زجاج، ولا نذكر ما تحتويه الدار من العناصر الكثيرة والمركبات العديدة وأن في الزجاج وحده من العناصر المتعددة والمركبات المتباينة ما يجعلنا نفطن إلى العدد الكبير من المواد التي نستخدمها في إقامة البناء، بل إن مواد من نوع آخر، مواد عضوية تدخل أيضاً في تشييد الدار، وشد ما يختلف ما في حديقتها من أشجار وزهور عن سائر ما في البناء: هذا النبات له دور من المراهقة كدور الإنسان ومن الشباب كشبابه ومن الهرم كهرمه، وله أعمار تنتهي عندها الحياة، فيضع البستاني غيره من النبات ينصبه مكانه كما ينصب الابن نفسه مكان أبيه بعد أن يتوارى هذا في الزمن، ويترك الابن الدار بدوره لحفيد يستمتع بها ما بقيت أجزاؤها متماسكة تسمح بالحركة بينها وبالحياة في أنحائها، يقضي الحفيد فيها سنين طويلة وسط هذه الأجزاء من المادة بين المرح طوراً وظلمة الأيام تارة، بل إن مواد حية غير المعدنية والعضوية قد تدخل بين مكونات الدار تستمتع فيها كما يستمتع صاحبها وتقاسي فيها كما يقاسي ربها، فقد نشيد في الحديقة أحواضاً للسمك أو نقتني داخل الأقفاص أنواعاً من طيور الزينة، وما هذه وذاك إلا مجموعة من العناصر المعقدة تدخل هي أيضاً في مجموع الدار الفسيحة، ولا تختلف عن الأولى إلا بما لها من مزاج يشبه مزاجنا وآمال تقارب آمالنا(349/52)
عديدة هذه العناصر ومتباينة هذه المركبات التي دخلت الدار بعمل المهندس وفعل البستاني، فنشأ عنها مكان صالح نثوي إليه بعد النصب ونقضي فيه ساعات من العمر بين لحظات مجدودة وفترات مكدودة؛ ولو أن امرأً قال إن الدار مكونة من عشرات العناصر ومئات المركبات لما كان في قوله انحراف عن الواقع، ولو أنه قال أيضاً إنها مكونة من ست وحدات أصلية في الكون وإن كل ما نراه فيها من عناصر عديدة ومركبات متباينة يتكون من هذه المكونات الستة فإنه قد لا يعدو الحقيقة، ولو أنه خطر ببال أحد أن من يسكن الدار من أحياء كأولادنا، ومن يؤمها من زائرين كأصدقائنا، وما يعيش بين جدرانها من أسماك وطيور يدخلون أيضاً في عداد المكونات الستة المتقدمة، فإن ثمة علماء عديدين يعتقدون اليوم بصحة ما خطر بباله، ولديهم من الأسباب العلمية ما يستطيعون بها محاولة إقناعه بأن ما ذهب إليه ليس مما يتطرق إليه الشك
ولا يدور بوهم أحد بعد الذي ذكرنا أن ما نعنيه بهذه المكونات الستة هي (عناصر) مثل الحديد والنحاس، فإننا بذلك نصل إلى تعداد العناصر جميعها التي تبلغ 92 عنصراً والتي تعثر على الكثير منها فيما استخدمناه في رفع البنيان؛ ولا يعتقدن كذلك أننا نعني بها بعض المركبات كالماء والحجارة فلا مشاحة أن ما يوجد من هذه المركبات في المنزل يبلغ المئات، إذ أن هذه المكونات الستة إنما هي وحدات كونية نستطيع أن نرد إليها كل ما يتعلق بهذه الدار.
هنالك أمر آخر أود أن يحظى بعناية القارئ، ذلك أن الوحدات الست التي تكون كل ما يتعلق بالدار، والتي من بينها وحدة يتسنى لنا بها رؤية الدار وما فيها، هي بذاتها الوحدات المكونة لمجموع الكون، فهي كافية اليوم ليرد العلماء كل ما عرفناه في الكون إليها
هذه المكونات الستة تعد معرفتها من السائل الثقافية التي يحسن معرفة شيء عنها، فهي اليوم موضع بحث أقطاب العلم، ولذلك نذكرها للقارئ في الجدول الآتي، فيعرف شيئا هاماً عن منشأ الدار التي يسكنها، بل الكون الذي يحيا فيه ويموت
المكونات أو الوحدات التي يتكون منها الكون في مجموعه بما فيه من مادة أو كهرباء أو إشعاع أو طاقة
الشحنة الكهربائية(349/53)
مكونات كهربائية وسالبة
خفيفة
الإلكترون
-
ثقيلة
غير معروفة
مكونات كهربائية وموجبة
خفيفة
البوزيتون
+
ثقيلة
البروتون
+
مكونات مادية
خفيفة
النيترينو أو الأرجون
صفر
ثقيلة
النيترون
صفر
مكونات ضوئية
الفوتون
صفر
مكونات معقدة(349/54)
الديبلون
الهيليوم (نواة الهيليوم)
+
+
إذا رمزنا لوحدة الشحنات الكهربائية بالرمز والقدر فان شحنة الإلكترون أي الوحدة الكهربائية السالبة تكون (- وشحنة البوزيتون أي الوحدة الموجبة تكون (+ وفي هذه الحالة تكون الشحنة للوحدات الأخرى كما هي مبينة في الجدول
هذه المكونات باتت الأصل في كل شيء، فهي تكون الهواء الذي نستنشقه كما تكون الرئة التي نستنشق بها هذا الهواء، وهي التي تتكون منها السمكة التي تسبح في حوض الحديقة كما تتكون منها النجوم النائية والسدم البعيدة، وما المنزل والزائر والطير، بل وما يعلوها من كواكب وعوالم إلا أمور ترجع أصولها إلى هذه المكونات الستة التي يشاد منها الكون
نعود فنتأمل الجدول السابق الذي يلخص لنا موقف العلماء من الكون، ونود أن يعتبر القارئ وهو يطالع هذه المسميات العلمية التي قد تكون جديدة لديه أنها من المسائل التي يلزم معرفتها، وكيف لا يجب علينا أن نعرف ما يُكوِّن منازلنا والأرض التي تحملنا والعوالم التي تعلونا والكون الذي يحتوينا بل ما يكوَّن أجسامنا، ومهما يكن من أمر الكون، فإننا لا نستطيع أن نستوعب فيه الأشياء إلا على الصور التي عهدناها فيه، والأوضاع التي ألفناها عنه. ثمة عدد ضئيل من الأوضاع نستوعبها في الكون طوراً ونستوعب الكون فيها تارة، وهذه الصور أو الأوضاع هي المادة والكهرباء والإشعاع وكذلك الطاقة، وقد ذكرنا في الجدول هذه الصور، ورجعنا بالكون إلى وحدات كهربائية ومادية وضوئية، كما ذكرنا في ذيل الجدول مكونات أخرى معقدة
أما المكونات الكهربائية، فهي سالبة كالإلكترون، وموجبة كالبوتيزون، وقد حدثنا القارئ عنها في سلسلة من المقالات كذلك البروتون الذي يكون نواة الهيدروجين. أما المكونات المادية، فهي وحدات أخرى لا تحمل الكهرباء، وهما وحدتان النيترينو: أو الأرجون والنيترون وقد تناول بالبحث هذه الوحدة الأخيرة حديثاً سنة 1933 أيرين كيري وقرينها جوليو من أساتذة السوربون. ولا يفت القارئ أن الكهارب أو الإلكترونات موجودة في(349/55)
المادة مع النيوترونات. وكما أن الكهرباء في تكوينها ترجع إلى هذه الوحدات الأولى التي يسمونها: إلكترونات أو بوزيتونات، كذلك الضوء يرجع في تكوينه إلى وحدات أصلية يسمونها فوتونات جمع فوتون وباعتبار أن الوحدة الثقيلة للكهرباء السالبة غير معروفة، وباعتبار أن الوحدات المعقدة كالديبلون والهيليون قد ترد في تكوينها إلى غيرها من الوحدات، فإنه يغلب على ظني أن الكون يمكن أن نرده بما فيه من مادة أو إشعاع أو كهرباء أو طاقة إلى وحدات ست هي: الإلكترون والبوزيتون والبروتون والنيترينو والنيترون والفوتون.
وقد يصل العلماء إلى الكشف عن وحدات جديدة، ولكن يغلب على الظن أن عدد الوحدات سيظل قليلاً وسيظل اللاعبون على مسرح الكون بهذا القدر الضئيل.
ندع الآن المسميات لنتعرف على أحدها وهو الفوتون أو الذرة الضوئية، وهو الكائن العجيب الذي يعاوننا في مطالعة هذه السطور
عندما نرى في الليل بريق النجوم اللامعات، أو يخطف العين ضوء إحدى المنارات في الليل البهيم، أو تقع العين ذاتها على صورتنا في المرآة، أو نحصل بواسطة الجهاز الفوتغرافي على صورة شمسية، أو نرى على الشاشة حوادث العالم، أو نرى بالمرناه (التليفزيون) إحدى هذه الحوادث في حينها، فإننا قد استخدمنا الذرة الضوئية أو الفوتون كأداة كبرى لنستمتع بهذه الأشياء
وليس في عزمي التعرض في هذه المقالات للتركيب الطبيعي للفوتون، وأذكر على إنه لويس دي بروي مكون من نصفي فوتون، وإنما أكتفي بأن ألفت النظر إلى ثلاثة أمور: الأول أنه أحد المكونات الثلاثة في الكون غير المكهربة إذ لا يوجد في كل ما نعرفه من وحدات كونية غير الفوتون والنيترينو والنيترون كوحدات لا تمت للكهرباء بشيء. والثاني أنه المكون الوحيد الذي لا يوجد إلا في حالة حركة بالنسبة للمادة. ويسرني أن أذكر أن للأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة بك أبحاثاً قيمة في علاقة المادة بالإشعاع أود أن أعود لذكرها فيما بعد. والثالث أنه كائن سريع جداً بالنسبة للمادة وتبلغ سرعته أي سرعة الضوء (299800) كيلو متر في الثانية
ولقد توصل العلماء بوسائل جديرة بالإعجاب إلى قياس هذه السرعة العظيمة والى(349/56)
الوصول إلى معرفتها معرفة دقيقة. وللقارئ أن يتصور عظم هذه السرعة إذا ما عرف أن الضوء يقطع المسافة من مصر للإسكندرية في أقل من واحد على ألف من الثانية
وقبل أن نستمع للمذياع (الراديو) بعشرات السنين، استطاع علماء عديدون أن يقيسوا سرعة الفوتون، هذا الكائن العجيب، وكان لقياس هذه السرعة ولما عرفناه عنها أثر كبير في معارفنا الحديثة، وقد تعدى هذا الأثر كل شيء، حتى أنه تدخل تدخلاً فعليا في معرفتنا قوانين الكون
ولعل القارئ الذي نفرض ونحن نتوجه إليه بهذه السطور أنه من غير المشتغلين بالعلم أو المختصين في العلوم الطبيعية - قد سمع بالدور الهام والمرحلة الكبرى التي تمت في العلوم من معرفة سرعة الضوء في اتجاه ومعرفة سرعته في اتجاه مغاير للاتجاه الأول، وما كان لذلك من الأثر في تدعيم نظريات (أينشتاين) الحديثة في النسبية. ولعل القارئ يستنتج الآن نوع الاتجاه الذي أحاول أن أوجهه إليه فيما سأعمد إليه من مقالات قادمة، ولعلنا في النهاية قد وفقنا بعض الشيء لكي نصف له شيئاً من الدار التي يسكنها والكون الذي يعيش فيه.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(349/57)
القصص
نهاية الطريق
للكاتب المعروف دي فيرستاكبول
للأستاذ محمد بدر الدين
في سنة 1913 كنت أجول في أنحاء إيطاليا، أطوف بمواطن الروعة والجمال فيها. . .
وكنت أستقبل فصل الخريف، حين خلفت روما ورائي، وسرت نحو جبال الأبنين، دون أن أحمل من المتاع سوى حقيبة صغيرة، ودون أن أترك عنواني لأحد، كيلا أدع الفرصة لشخص يراسلني، فمن الخير أن تطوف وحيداً، إذا أردت أن تشاهد بلداً من البلدان أو أن تدرسه خير دراسة
انطلقت في طريقي وحيداً لا ترافقني غير مزارع الكروم والحقول المخضوضرة النضرة، والسماء الزرقاء، و. . . فلاحي إيطاليا ذوي البشرة السمراء، لوحتها أشعة الشمس الحامية. فاستطعت أن أرى إيطاليا تتكشف أمامي على حقيقتها، وإذا بها رغم الطرق الحديدية التي تخترق أرجاءها، ورغم مخترعات ماركوني المنبثة في بقاعها، لا تزال نفس إيطاليا القديمة، التي كانت في عهد آل بورجيا
وفي ذات أصيل، أفضت بي الطريق إلى فندق قام في معزل إلى اليمين، لا يلوح إلى جواره منزل أو بناء، وكأنما أقيم في مكانه هذا ليرحب بالقادمين الذين أنهكهم المسير، وليغريهم على التماس الراحة، وعلى استعادة النشاط في كأس مترعة من الشراب. . .
أغراني الفندق المنفرد في عزلته، والذي بدت لي عند بابه حروف زرقاء باهتة ألهبها شواظ الشمس، تعلن عن اسمه. . . (أوستريا ديل سولي) فتقدمت، فإذا بكهل يجلس إلى يمين المدخل، على مقعد طويل، يمتع النفس بشمس الأصيل. وقد استلقت إلى جواره قطة سوداء. وما لبثت أن عرفت فيه صاحب النزل الذي قدم نفسه إليّ باسم (الفريدو باولي). . . وسرعان ما كنا نجلس في غمرة الأشعة الدافئة، نتجاذب أطراف الحديث، ونحن نجرع خلاله كؤوس (الكيانتي) الذي قدمه الرجل إكراماً وترحيباً. . .
تكلمنا عن إيطاليا، وعن محصول الكروم، وعن الضرائب، وعن ذكرى غاريبلدي. . .(349/58)
الذكرى التي عادت بالرجل إلى سني عمره الباكرة. وما لبثت أن عرفت أن المدينة التي كنت أسعى إليها، تبعد عن النزل بما يعادل ستة أميال. فاقترح الرجل أن انزل عنده تلك الليلة، وراح يغريني بما سوف أجده في حجراته من نظام وراحة ونظافة، قائلاً:
- إنه ليس بالفندق العادي. . . فنحن هنا لا نرتقب من الضيفان غير الرحالة الذين يدفعهم النصب إلى التماس كأس من الشراب. ولكن حديثك يطيب لي، حتى لقد ملت إليك، فأنت على الرحب والسعة
كان ينبغي لرحالة مثلي يجوب البلاد على قدميه حاملاً معه مالاً، أن يخشى من وراء دعوة كهذه شراً، أو أن يتوقع غيلة من أجل هذا المال الذي يحمله. بيد أنني لم أك بطبيعتي ممن يستسلمون للهواجس والريب، كما أنني لم أر في باولي العجوز، الشخص الذي يستطيع الإقدام على سرقة أو قتل. . .
ومع ذلك فقد سلبني نوم ليلة. . . وقتل راحة كنت أنشدها فما أن قبلت دعوته حتى اضطجع في مجلسه ونادى صائحاً:
- جيوفانا!
فأجابه صوت نسائي من داخل الدار، ظهرت على أثره امرأة رزح ظهرها تحت عبء السنين. فأمرها - والشمس ترسل شعاعها الأخير - أن تعد العشاء، وأن تهيئ الحجرة كما تملي واجبات الضيافة، فتلقت الأوامر صامتة، ثم كرت عائدة إلى الداخل، بينما تحولنا إلى حديثنا عن غاريبلدي نتابعه
فلما فرغنا من تناول العشاء، عدنا إلى مقعدنا خارج الدار ثانية، وراح الكهل يقص عليَّ قصته. . . قصة شبابه التي لم أسمع في حياتي مثلها، ولم أصغ لقصة من قبل أو. . . بعد، إصغائي لها فقد مضى يتكلم كما لو كان يفضي بقصة سواه، وقد لاح كما لو كان الزمن قد حوله إلى كائن يغاير كل مظهر إنساني، تتخلل حديثه حيوية المتفنن الذي يتفانى في عشق فنه، وحرارة الخطيب يحاول أن يأسر بفصاحته وبلاغته ألباب المستمعين. . .
قال: ولدت في بيروجيا، وهي غيرها اليوم، وكان والدي تاجر عاديات، يقوم متجره على ناحية الطريق التي تصل ميدان البابا برحبة واسعة تتراءى خلفها تلال (أومبريان)
ولقد يخيل إليك - لأول وهلة - أن الموقع كان رديئاً. بيد أن والدي لم يكن بالرجل الذي(349/59)
ينصب شراكه في مكان غير ملائم، إذ كان يعرف كيف يجتذب العملاء ويغري الزائرين على الابتياع منه.
وكانت أسرته تتكون من ابنين. . . أنا وأرتورو، وقد كنا توأمين متشابهين كل الشبه. غير أن أرتورو كان ذا روح مغامرة، حببت إليه البحر، فما لبث أن غدا بحاراً، بينما مارست أنا - وكنت أكبره بخمس عشرة دقيقة - تجارة العاديات، فصرت مساعداً لأبي
كانت المهنة - رغم أنها تتطلب دراية تامة بالأشياء وبنفسيات الأشخاص - تعتمد كل الاعتماد على الخبرة التامة بتقدير ثمن السلعة والتأكد من أنها حقيقية غير زائفة، وقد كانت لوالدي هذه الخبرة بالسليقة، إذ أنحدر من سلالة تعشقت هذا الفن، هواية أو احترافا. . . كما كانت لي نفس الخبرة إلى حد ما، فقد كانت إيطاليا القديمة تتمشى في دماء والدي، كما كانت تسري في عروقي بكل ما كان فيها، وبكل ما كانت تتميز به، و. . . بكل ما عرف عنها من عواطف ومن حقد وكراهية. . .
وسارت الحياة سهلة لينة، حتى بلغت العشرين ربيعاً، وإذ ذاك جاء يوم تغيرت فيه حياتي
ففي ذات يوم، قابلت في طريق (دي بونتمبن) فتاة كثيراً ما صادفتها من قبل، وطالما تلاقيت وإياها في بعض المناسبات، إذ كانت تصلها بي قرابة بعيدة. وكانت تسكن في ذلك الميدان الذي يطلق عليه الآن اسم (فيكتور عمانويل). . . ثم كانت تنحدر من أسرة نشأت في جنوا. فأضفى عليها أصلها هذا، جمالاً أشقر رائعاً، تبدى لي في ذلك اليوم في أبهى روعته. . . فقد تمثلت لي يومذاك، فتنة الشباب، وجمال الربيع، في (جيوفانا باتسيتا)، ولاحت لي، مع أنني كنت أعرفها - كما ذكرت - وكأنني لم أرها قبل ذاك اليوم. . .
وبالرغم من أنني كنت أحس جمالها. . . إلا أنه لم يبعث في نفسي يوماً أكثر من إعجاب وقتي، لا يلبث أن يتلاشى. . . أما في ذلك اليوم، فقد لاح لي أكثر فتنة وسحراً. . . فما هي إلا نظرة من عينيها حتى وقعت في شراكها. . .
وحتى هذه اللحظة، لم يبد لي الأمر جدياً يثير اهتمامي، فلو أنني سمعت إذ ذاك نبأ موتها، لما نال مني كثيراً. . .!
لم أقل لها إذ ذاك شيئاً، ولم أنبس ببنت شفة، بل مضيت في سبيلي، كشخص عثر بغتةً على كنز في طريقه، فأسرع يخبئه في ثنايا ردائه، وانطلق بجد في خطاه نحو بيته. . .(349/60)
حتى إذا كان اليوم التالي، قابلتها مرة أخرى. . . وفي هذه المرة أيضاً، أفضت إلي عيناها بما لم أجرؤ أن أصدقه. .
كنت حديث عهد بالهوى، فلم أدر ما أفعل. . . ولو أنني خلوت بها في مكان ناء لكان في وسعي أن أقدم على تصرف سريع، دون أن أتفوه بحرف واحد. أما وقد كنت في بيروجيا فلم يك أمامي غير أن أزورها حيث تسكن، أو أن أبوح لها بحبي على قارعة الطريق، في جرأة أستمدها من أناة أتذرع بها. . .! وما كنت لأجد في نفسي هذه الجرأة، فما عتمت أن تحولت تاركا الأمور تجري في أعنتها. . . ولكنها لم تلبث أن غادرت المدينة!. . .
لم تك غيبتها هذه إلا نزهة قصيرة ما كانت لتستغرق الشهر أبداً، بيد أنني كدت أقضي حزناً وأسى، إذ أذكى البعاد أوار الحب في قلبي، وأصبحت أرى في البقعة التي كنت أصادفها عندها، قبلة أحج إليها. كما كنت أقف في الأمسيات أمام دارها، وقد غمرني شعاع القمر، والوجد يلهب أحشائي، والأسى يمزقني بأنيابه الحادة القاسية. . . حقاً، إن الحب جنون!. . .
لست أود أن أثقل عليك، ولكنني أحببت أن أريك كيف شاء القدر أن يسعى للقضاء علي. . .
وأمسك الرجل برهة ليفرغ في جوفه بقية كأسه، بينما انبعث صوت العجوز من داخل البيت:
- الفريدو. . . إننا الآن في ساعة متأخرة
فضحك سائلاً إياها أن تدعه وما يشاء، ثم عاد يتابع حديثه:
- برح بي الهوى حتى لم يبق مني غير هيكل بال لرجل ضعيف. فلم أعد أهتم بالعمل، أو آبه للفن حتى لطالما اشتجرت مع والدي إذ أضعت عليه كثيراً من الصفقات المربحة
ولو أن الأمور سارت على هذا المنوال، لغادرت بيروجيا إذ ذاك مطرحا عملي، هاجراً موطني. غير أن الأقدار أشفقت علي، فساقت إلي الشفاء يوماً. فقد عادت جيوفانا إلى المدينة، وقابلتها في الطريق، فلم أتردد في البوح لها بما يعتلج بين جوانحي من غرام. فأطرقت تصغي إلي برهة، ثم تحولت فحدقت في عيني، وابتسمت
عند ذاك، أيقنت أنها أصبحت لي، فصرت رجلاً آخر. . .(349/61)
كانت ثروتي وفيرة لا بأس بها، وكانت أخلاقي حميدة لا عيب فيها، فلم أجد معارضة من والدي جيوفانا عندما تقدمت لطلب يدها. وصار لنا أن نلتقي كل مساء، فننعم بجولة بديعة خارج المدينة، عند الكروم الغناء. . . ملتقى العاشقين. . .
وقررنا أن يكون الزواج في الصيف. . .
ثم حان عيد (الكرنفال)
كان (الكرنفال) في تلك الأيام الخوالي أكثر مرحاً وبهجة منه الآن. فكان الناس يطرحون عنهم شؤونهم، وينصرفون عن كل شيء، ليندمجوا في ملاهيه وأفراحه
وفي آخر ليالي (الكرنفال) كنت على موعد مع جيوفانا عند بقعة قريبة من (دومو)، وقد حلا لها أن تتنكر في رداء غانية أسبانية، بينما اخترت أنا للباسي حلة مزركشة وقناعاً قرمزياً. ولما كانت صحة والدي معتلة فقد لزم البيت طيلة اليوم بعد أن أخبرته بالأماكن التي أعتزم ارتيادها، وبالمواقيت التي سأكون فيها هناك، حتى يكون في وسعه الاتصال بي، إذا كانت ثمة حاجة لهذا الاتصال
كان موعدي مع جيوفانا في الساعة السادسة إلا عشر دقائق عند (فونتي مادجيوري) على مقربة من (دومو). وقد يخيل إليك أنني كنت هناك قبل الموعد شأن كل عاشق مستهيم. . . بيد أنني في الواقع وصلت إلى مكان الملتقى متأخراً. إذ كان بساعة صديقي مانفريدي الذي قضيت عنده فترة الظهيرة، خلل جعلها تؤخر في الوقت. بينما تعمدت أن أترك ساعتي في البيت خشية أن يسلبنيها اللصوص الذين كانوا يندسون وسط المهرجانات في مثل هذا العيد. . . فلما وصلت إلى فونتي مادجيوري، كانت النواقيس تدق، فلم أكد أصدق سمعي، ولا بصري، عندما ترامت الدقات إلى أذني، ولم أجد جيوفانا. . .
ثم حدست ما وقع. . . فلابد أنها حضرت في الموعد، حتى إذا لم تجدني انصرفت عائدة. ولو أنني فكرت في هذا، لأدركت مدى استحالة بقاء فتاة وحيدة في الانتظار عند فونتي مادجيوري في ليلة العيد، ولأنحيت باللوم على نفسي بدلاً من أن أسمح للغضب أن يطغى فيجتاح قلبي. . .
كنت أعلم أن جيوفانا رغم ليونتها ورقتها، ذات طباع حادة قاسية. فظللت واقفاً أتلفت حولي وهذه الفكرة توحي إلي بما يذكي نيران الغضب ويزيد شعلتها لهيباً. بينما كان القوم(349/62)
يمرون بي في طريقهم إلى الساحة لمشاهدة موكب العيد، وهم في أحاديثهم وضحكهم عني لاهون. . . ثم تحولت إلى حانة، فاتخذت لنفسي فيها مجلساً، وطلبت شراباً قوي التأثير، رحت أحتسيه وأنا غافل عن رجل أسمر، كان يجلس إلى منضدة قريبة. . .
لم أسرف في الشراب قط مثلما أسرفت في تلك الليلة. فقد لاح لي الكحول ساحراً بدد غضبي وأبدل به شيئاً من اليأس، الذي لم يلبث أن تحول إلى شعور من عدم المبالاة. وسرعان ما تناسيت جيوفانا، واندمجت في الحديث مع الرجل الأسمر، الذي عرفني وناداني باسمي، يدعوني إلى مجالسته
كان الرجل أحد تجار التحف في بيزا، وقد رأيته في متجر والدي يومذاك، إذ ذهب - رغم العيد - يسعى وراء صفقة. بيد أنه لم يحظ بفائدة لمرض والدي. وكانت لديه تحف رائعة ثمينة يبتغي بيعها بثمن بخس، إذ حصل عليها في سرقة ارتكبها فوجد أن من الخطر استبقاءها في حوزته في بيزا. وقد أراني منها بوديني - إذ كان هذا اسمه - صليباً من الذهب المرصع ببعض الأحجار الكريمة، وقرطاً، وخنجراً من الخناجر الفلورنتينية ذا مقبض فضي. فعرضت عليه أن أبتاعها منه، غير أنني لم أك أحمل الثمن الذي ابتغاه. فلم يأبه لذلك، إذ كانت معاملاته معنا على ما يرام لذلك تناولت منه هذه الأشياء، فوضعت الصليب في صدر ردائي، ودسست الخنجر - وقد غاب في قرابه - في جيب خفي. . .
وما أن فارقني بوديني، حتى عدت ثانية، نهبة للهواجس وفريسة للهموم. ولما بارحت الحانة، كانت الأضواء تتلألأ مؤتلقة في المدينة وقد تصاعد ضجيج الجماهير المندمجة في مهرجانات (الكرنفال) كهدير الأمواج الصاخبة. فوقفت برهة موزع الخاطر متحيراً، ثم تحولت نحو ساحة الاحتفال، وأنا أسائل نفسي. . . أما كان يحسن بي أن أيمم شطر بيت جيوفانا؟. . .
لاحت لي المدينة كمجنونة اكتسحتها نشوة الفرح التي يبعثها العيد، وقد تراءت كشعلة من النيران، وبدا الناس وهم صرعى نوبة من الخبل المرح، يحيطون بالساحة يشاهدون (مصارعة الثيران) فاندمجت بينهم، وقد تناسيت جيوفانا. حتى إذا انتهى الصراع، وتشتت القوم متفرقين وجدتها أمامي!
كانت في صحبة رجل. . . وقد أولياني ظهريهما فلم يرياني، بينما أحاط الرجل خصرها(349/63)
بذراعه، ومضى يشق لكليهما طريقاً وهما يضحكان في حبور. فدوت ضحكاتهما في مسمعي كقصف الرعد. إذ كان يخيل لي أنني الرجل الوحيد في بيروجيا، الذي اصطفته جيوفانا خليلاً، وتعرفت إليه. . .
وقفز الخنجر من جيبي إلى يدي، فكدت أغمده في ظهر رفيقها لو لم تندفع كوكبة من الخيل إلى الساحة تتسابق، فحالت بيني وبينهما. فلما مضت لم يك ثمة أثر لجيوفانا ورجلها!. . .
ولك أن تتصور موقفي، وقد أعمتني ثورة الغضب، بينما أخذ الخنجر يخز راحة يدي، وضحكات القوم تستثيرني وتوهمني بأنهم جميعاً يعرفون قصتي ويسخرون مني. بيد أن إرادتي كانت قوية فلم ألبث أن أعدت الخنجر إلى جيبي وأنا أحمل النفس على الصبر وأعللها بالأماني. . . واندفعت مع القوم
وما لبثت أن ظفرت بثمرة صبري، إذ عثرت على جيوفانا ورفيقها في طريق (بيكولو امبرتو)، فرحت أقترب منهما حتى بات في وسعي أن أحصي الشعيرات خلف رأسها، أو أن أحل الرباط الذي يثبت القناع على وجه صاحبها. ولكن يدي لم تعد تتحسس الخنجر هذه المرة؛ فقد وجدتني في أهدأ الحالات، أتحين اللحظة الملائمة لإنفاذ انتقامي دون أن أعرض نفسي لأتفه الأخطار تبعتهما في طريق (بيكولو امبرتو) وهما يسيران في عزلة عن القوم لاهين، وقد غابا في غمرة سعيدة أنستهما ما حولهما، حتى أنهما لم يلتفتا نحوي مرة واحدة. . .
ثم. . . لحظة واحدة يا سيدي. . .
وهم باولي من مجلسه فحمل زجاجة الشراب الفارغة، وغاب في المنزل. . . وسمعته يسأل جيوفانا عن مفتاح المخزن، فأجابته بصوت نم عن غضبها لإقلاق راحتها، وكأنما كانت متذمرة لبقائه ساهراً حتى تلك الساعة المتأخرة، في جو الليل الرطب البارد، يتناول الشراب مع شخص أجنبي لم يسبق لهما التعرف إليه. . .
ثم عاد يحمل زجاجة جديدة من الشراب، فاتخذ مجلسه ثانية وتابع حديثه وكأنما لم يقطعه على نفسه. . .
اتبعتهما في الطريق، حتى وصلنا إلى أخرى تفضي إلى بيتها. وقبيل باب الدار، افترقا. . .(349/64)
لم أصدق عيني وأنا منزو في مخبأ في الطريق. فقد كانت بيروجيا بأسرها - لا الحي وحده - تعرف أنني خطيبها وأننا سنصبح عما قليل زوجين. ومع ذلك، فهاأنذا أراها قبيل الزواج ببضعة أشهر تساير شخصاً غريباً على أثر إهمال بسيط صدر مني عفواً ودون إدراك مني. . . شخصاً التقطته من بين الأفواج المتدفقة في ساحة (الكرنفال)!
وولجت هي بيتها، بينما عاد هو في الطريق يصفر فرحاً جزلان، فما أن ابتعد عني ثلاثين خطوة، حتى تسللت في أثره، وقد قررت - بعد أن رأيت ما بينه وبينها من علاقة - أن أقدم له الجزاء الذي يستحق. . . كان يجب أن يموت، وكان ينبغي أن تموت هي أيضاً، ولكنه الأجدر بالأسبقية في تلقي الجزاء!
كان من السهل أن أغتاله في تلك الطريق ذات الأضواء الضئيلة، التي لا تكاد تقوى على مكافحة الظلام الطاغي. . . ولكن. . . ألا يجوز أن يقبضوا عليّ، فتفلت هي من انتقامي؟. . .
وصمت العجوز مرة أخرى، لينزع عن الزجاجة سدادها، فيملأ الكأسين، بينما كان القمر قد اعتلى كبد السماء، وازداد ضوؤه الفضي تألقاً، حتى تراءى لنا المنظر المحيط بنا، وكأنه يبدو في وضح النهار. حتى إذا أفرغ كأسه في جوفه، عاد يقول متابعاً قصته:
(لعلك تقدر موقفي يا سيدي، فقد كان عليّ أن أحرص على حياتي، حرصي على كنز ثمين، حتى أتم انتقامي كاملاً، وهذا لا يتأتى إلا إذا فرغت من حساب جيوفانا على ما قدمت. . .
ومع ذلك، ظللت أتعقب الرجل!. . .
والظاهر إنه كان قد أختطف ألعوبة (شخشيخة) أحد المهرجين، أثناء المهرجان، فراح طيلة الطريق يهزها يمنة ويسرة ويضرب بها ظهور الناس خلال الزحام، وهو يضحك ساخراً لاهياً في غفلة عن الذي يتعقب خطاه، معداً خنجره للقضاء على حياته
كان يلوح كمن يبتغي اجتذاب أنظار القوم. فكان يسخر من كل فتاة أو شاب يعترض طريقه، ويهزأ بكل عجوز أو كهل يصادفه، مرسلاً قهقهته عالية في الجو. وكأنما هو لم يكتف بما نعم به من سعادة في رفقة جيوفانا، فما لبث أن أوقع في أحبولته فتاة أخرى، أحاطها بذراعه ثم دفعها معه، وقد تبعتها صويحباتها وهو غير مكترث بهن. ولعله كان(349/65)
يحمل نقوداً وفيرة إذ لجأ إلى مشرب راح يبعثرها فيه بغير حساب. . .
ما كنت أرى وجهه، فقد كان ظهره نحوي. بيد أنني كنت أرى إنه قد وفق في أن يغدو الروح الحية التي ظهرت في المشرب فطغت على كل من فيه، ثم. . . تفرق الجميع كل إلى وجهته، فعاد وحيداً يسلك طريق (أندريا دوريا)
وهنا. . . وجدت الفرصة الملائمة!. . .
كانت الطريق مقفرة، ولم يك ثمة من يرانا، وحتى لو وجد هذا فقد كان الظلام الضارب فيما بين المصابيح، لا يدع لأحد الفرصة كي يتأملنا جيداً؛ فلم ألبث أن أمسكت بكتفه، ورحت أنظر إلى وجهه الذي كان شاحباً، تعلوه كآبة تبعث في النفس الرغبة في تهشيمه. . . كنت مجنوناً، وقد أخذت الوقائع التي حدثت في ذلك اليوم تتتابع متزاحمة في رأسي. . . كان هناك حبي لجيوفانا، وغيرتي، وحقدي، ثم. . . مفعول الكحول القوي. . . كل هذا كان يدفعني نحو الجنون، بينما أخذ الشاب يقاومني في نضال، وأحسست بسكين تصيب كتفي الأيسر، ثم هويت إلى الأرض بينما كنت أغمد خنجري في قلبه بكل ما واتاني به الحقد والغيرة من قوة!. . .
سقط الرجل عند قدمي جثة هامدة شاحبة، وما يزال الخنجر مدفوناً في صدره. ولكنني لم آبه لذلك، ولم أسع إلى الفرار. . . ولعل هذا أغرب ما حدث. . . فقد كنت أنوي قتل جيوفانا، ثم أنتحر، ولذا لم أجد ما يبعث على الفرار!
لم أك أدري لكل هذا سبباً. غير أنني أدركت فيما بعد، أن عقل الإنسان لا يطيعه في كل الأحوال، وإنما هو - في المآزق الحرجة والمآسي المروعة - يتمرد عليه ليعمل بإملائه ووحيه. . .
جررت الجثة إلى مدخل المباني القائمة في الطريق فأسندت ظهرها إلى الباب حتى بدا صاحبها تحت ضوء المصباح الغازي الصغير المعلق فوق المدخل، وكأنه ثمل غلبه النعاس. ثم انطلقت في طريقي بعد أن تحققت من المكان الذي تركت فيه جثة غريمي
لم يعد أمامي بعد هذا إلا أن أحاسب جيوفانا، لذلك يممت شطر بيتها، ودققت الباب ثم ولجت. . .
كانت أسرتها ما تزال غائبة في (الكرنفال)، وكانت هي لم تأو بعد إلى فراشها، فما لبثت(349/66)
أن هبطت للقائي. . .
وكنت أقف في الحجرة التي اقتدت إليها عند حضوري، متكأً إلى منضدة في قبالة الباب، عندما قدمت. فما رأتني حتى حدقت في وجهي دهشة وتساءلت:
- لماذا عدت ثانية؟
فأطلقت ضحكة عالية، ولم أنبس ببنت شفة. وإذ ذاك تراجعت وقد لاح على محياها الفزع؛ غير أنني لم أفكر في أن خوفها هذا قد يكون منبعثاً عن غرابة مظهري وعن إخلاصها لي. وإنما خلت أنها فطنت إلى أنني كشفت خيانتها، فكان هذا مصدر جزعها، لذلك صحت بها:
- ما اسمه؟
- اسم من؟
- من!؟ الرجل الذي أوصلك إلى باب هذا المنزل منذ ساعة
- إنني لم ألتق بسواك هذا المساء. . .
لاح لي أنها كانت تنطق عن حقيقة وصدق. فبدأت أفهم الأمر. . . لابد أن ثمة شخصاً أتخذ مظهري وتقدم إليها منتحلاً شخصيتي. فلما أفضيت إليها بما ساورني ضحكت قائلة:
- لقد كنت أنت الذي رافقني، وقد وضعت على وجهك قناعاً زائفاً. . . ثم كان موعدنا وملتقانا عند فونتي مارجيوري، وهذا ما لا يعرفه سوانا. . .
فصحت:
- يا لله!. . . ولكنني لم أقابلك إذ تأخرت عن موعدنا. . .
خيل إليّ أنها ظنتني مجنوناً أو كاذباً. . . وتراءى لي الأمر كحلم، فظللت صامتاً يداخلني الشك في صحة قواي العقلية؛ بل أيقنت أنني مجنون، فرفعت القناع القرمزي عن وجهي وأطرقت إلى الأرض. ثم. . . تذكرت الرجل الذي خلفته مستنداً إلى الباب في تلك الطريق القفرة بعد أن سلبته الحياة. وإذ ذاك خيل إليّ أن ثمة قوى خفية تسيطر عليّ وتدفعني إلى أن أغادر البيت. . البيت الذي دخلته لأقضي على جيوفانا، فخلفته وأنا نصف مجنون، تسوقني قوى خفية - رغم إرادتي - إلى حيث لا أدري. . .
وجدتني أخيراً عند باب بيتي. . . وكان المنزل مظلماً عندما ولجته، فأغلقت الباب خلفي وتقدمت. وإذ ذاك سمعت والدي يصيح متسائلاً عن القادم، إذ كان ملازماً حجرته لمرضه.(349/67)
فلما وصلت إليه، وجدته جالساً في الفراش، متدثراً بالأغطية، وعلى ركبتيه كتاب مفتوح، والى جانبه المصباح. فما أن رآني حتى بادرني:
- آه، أهذا أنت؟. . . وأين أرتورو؟. . .
والآن. . . لعلك تذكر أنني أخبرتك في بداية القصة، أنه قد كان لي أخ أحب البحر فعمل كملاح. وأنه كان يشبهني كل الشبه، إذ كنا توأمين
صحت بدوري أسأل والدي:
- ماذا تعني؟. . . إن أرتورو في البحر. . .
بيد أنني لم أتم كلماتي حتى خالجني شعور رهيب، كاد قلبي أن يقف له عن الوجيب، بينما سمعت والدي يقول:
- لقد عاد أرتورو اليوم، فانطلق يبحث عنك، بعد أن أخبرته أن في وسعه أن يعثر عليك عند فونتي مادجيوري في الساعة السادسة، إذ أخبرتني أنك ستلقى جيوفانا. . .
وإذ ذاك، شعرت بالأرض تميد بي، فتهالكت على مقعد بجوار فراش أبي، ومضيت أقول دون وعي:
- لقد تأخرت عن الموعد، وسبقني أرتورو إلى هناك، فظنته جيوفانا إياي، وتقدمت إليه، ولما كان يعرف أنها خطيبتي فقد شاء - حباً في المزاح - أن يدعها على اعتقادها، وبعد أن طاف برهة في رفقتها، أوصلها حتى باب دارها ثم ودعها وهو ما يزال منتحلاً شخصيتي. اتخذ طريقه عائداً، يساوره الأمل في أن يلقاني فيضحك معي للفصل الذي أتقن تمثيله. بيد أنه لم يك يدرك أنني أتعقبه طيلة ذلك الوقت، ظاناً أنه شخص غريب سلبني خطيبتي، وأوقد في أعماقي نيران الغيرة
فانتفض والدي بغتة في فراشه، وكأنما أصابته رصاصة، وصاح:
- ماذا تقول؟. . . ما الذي تعنيه؟. . . أين أرتورو؟ فأجبته: لقد مات غيلة بخنجري الذي لا يزال في صدره. . .
فهت بهذه الكلمات وأنا هادئ كل الهدوء، كما لو كنت أنقلها عن شخص آخر كنت لا أستطيع أن أتصور ما فعلت، وأن أعتقد حقاً أنني ارتكبت تلك الجريمة!. . .
أجل يا سيدي، كان هذا عين ما حدث.(349/68)
وأطرق الرجل برهة، وكأنما غلبه الأسى لتلك الذكرى، ثم ما لبث أن عاد يقول:
- غير أنهم لم يعاقبوني، إذ أخذتهم بي الشفقة عندما رويت لهم قصتي، كما أرويها لك الآن. . .
وما لبثت بعد ذلك أن تزوجت جيوفانا، سافرنا إلى بيزا معاً فاستقر بنا المقام هناك. . .
كان هذا منذ سنوات، وقد مضينا عقب ذلك في الحياة، دون أن نوفق إلى جمع ثروة أو عقار، اللهم إلا هذا الفندق الذي امتلكناه أخيراً. . .
ومع ذلك فإننا في نهاية المرحلة. . . فماذا يهمنا؟. . .
وفرغنا من الشراب، فقادني إلى الغرفة التي أعدت لنومي. وفيما كنت مستلقياً في فراشي، يقظاً أتأمل شعاع القمر، وقد تساقط على جدار حجرتي، وأنصت إلى حفيف أشجار الزيتون، يداعب أغصانها نسيم الهزيع الأخير سمعت جيوفانا تقول ساخطة
- هل أويت إلى فراشك أخيراً؟. . . جميل حقاً، أن تدعني يقظة حتى الآن في انتظارك!!. . .
محمد بدر الدين(349/69)
البريد الأدبي
رجعاق
1 - قرأت كلمة العالم الثقة المتواضع (أزهري (طنطا)) في العدد الـ347. وفيها نبه الكتاب والرواة إلى أن أفلاطون هو الذي قال: (لا تقصروا (تقسروا) أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم). ويحلو لي أن أعود إلى مناقلة ذلك العالم ومثاقفته، فأخبره بأن هذا القول ورد منسوباً إلى أفلاطون أيضاً، على قلم أسامة بن منقذ في (لباب الآداب) - مصر 1935 ص 237
2 - كنت استشهدت في مقالي (مناقلة ومثاقفة) (الرسالة 346) بكلمة بليغة لابن شبرمة، وهي: (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء). فذهب صاحب (الأدب في أسبوع) في العدد التالي إلى أن هذه الكلمة (تبدو له نصاً عربياً مظلم النور). فقال - معترضا -: إن تحرير روايتها يكون بوضع: (غبرات) (أي: بقايا الشيء) موضع: (غبارات). وجلب لأجل ذلك قولاً لعمرو بن العاص وآخر لأبي كبير الهذلي، وردت فيهما كلمة (غبّر) وجمعها (غبرات (المآلي)) لبقايا دم الحيض (المعذرة أيها القارئ!). ثم خرج المعترض من وراء (تحقيقه على التحرير والدراية)، يأمر الناس يقول: (فمن كانت عنده نسخة من العقد الفريد (طبعة بولاق) فليصححه)، (وذلك لأن تلك الكلمة مثبتة في العقد وروايتها (غبارات)).
ألا إن مثل هذا الضرب من التحقيق ينطوي تحت ما يسميه علماء الفرنجة لهذا العهد في المنهج الذي يجرون عليه في تحرير المخطوطات والمطبوعات: (التحكم في رفض رواية النص). ومنهج القوم في ذلك هو معتمدنا اليوم (وهو على كل حال سنّة العلماء من عرب وأعاجم في عهد ترسخ فيه قواعد العلم). وفي نقدي لكتاب (الإمتاع والمؤانسة) (الرسالة 327) مثل على ذلك التحكم. وبيان هذا أن نص رواية من الروايات لا يرفض إذا صح لغةً وأداءً وبياناً؛ وليس للقارئ أن يستبد بذوقه فيحمل القدماء على أن ينطقوا على هواه أو على مبلغ (تحريره ودرايته)، وإن صحّ رأيه من جانب. وعلى هذا، فمعلوم أن الغبارات - أي الشيء الحقير القليل - تعلو الوعاء المهمل لفساد ما فيه وتطمئن في زواياه. فلا حاجة بك إذن إلى اجتلاب استعارة قد ينبو عنها بعض الأذواق. ولو كان استشهد المعترض بنص(349/70)
ورد فيه قول إبن شبرمة و (الغبارات) فيه (غبرات) لكان رأيه نجا من نصف التحكم؛ ولو كان جلب نصاً فيه (غبرات (المآلي)) تليها (أوعية) سوء أو نحو ذلك لكان رأيه مقبولاً
هذا والغبارات وردت في غير طبعة بولاق (مصر 1293) للعقد الفريد. فإنك تصيبها في طبعة المطبعة العثمانية مصر 1302 ج 1 ص 205، والمطبعة الشرفية مصر 1305 ج 1 ص 155
وبعد، فإني أريد أن أكون عند حسن ظن المعترض بي. ألم يكتب عن غزير فضل: (إن العالم الثقة المثبت المحقق الدكتور بشر فارس قد علم فعلّم). وهأنذا في دار الكتب المصرية - أبقاها الله حصناً للمحققين - وإلى جانبي الصديق الكريم (وفي الناس من تكرم صداقته) الأستاذ كامل المهندس رئيس قسم الفهارس العربية، والأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالدار، وبين يديّ جانب من نسخة مخطوطة، قديمة تصعد إلى المائة السادسة، مشرقة الخط، مشكولة، إن هي إلا (الجزء السادس من كتاب العقد وهو بعض كتاب الياقوتة في العلم والأدب). وفي أسفل الورقة الـ22 ما حرفه بالشكل الكامل المحكم: (ذهب العلمُ إلا غُبَارَاتٍ في أوعيةِ سَوْء)
هذه كلمة لن أردفها بثانية مهما خطر للمعترض أن يقول.
بشر فارس
دكتور في الآداب من جامعة باريس
(ارتجال المصادر)
طالعت في العدد347 من الرسالة مقالاً في البريد لكاتبه الأستاذ إسماعيل أدهم يحاول فيه أن يرجع تعبيراً للدكتور بشر فارس هو (أذني زلزلت طربا) إلى تعبير إيطالي يقاربه، في زعمه، للكاتب المسرحي لويجي بيراندللو عن ترجمة تركية
ونحن لا نريد أن نناقش هذا الأسلوب في ترجيع تعبير إلى آخر في غير اللغة التي كتب بها مباشرة (من الإيطالية إلى التركية ثم إلى العربية)، وإنما نريد أن نبين للقارئ كيف يواصل الأستاذ أدهم طريقته في (ارتجال المصادر) (راجع هنا ما قاله الدكتور بشر فارس نفسه في هذا الصدد: الرسالة 329 و330) وإليك الحديث:(349/71)
قد كنت وضعت رسالة عن الكاتب المسرحي لويجي بيراندوللو ونشرتها تباعاً عام 1935 على صفحات مجلة الحديث الحلبية، وذلك بمناسبة فوزه بجائزة نوبل، وكنت أثبت في هذه الرسالة المصادر الإفرنجية التي اعتمدت عليها في اللغة الفرنسية، ومن بينها كتاب مستعرض أوربا ' لمؤلفه الناقد وفي هذا الكتاب وغيره وردت مصادر إيطالية وجدت من تتمة البحث أن أذكر عناوينها، ومن هذه المصادر كتاب ' أي (الإنسان الخفي) لمؤلفه فردريكو نارديللي
وقد تبين لي بعد ذلك أني أخطأت في ترجمة عنوان هذا المصدر بأن ذكرت (الإنسان المقدس لمؤلفه فردريك نارديللي) وجاء هذا الخطأ نتيجة وهمي أن كلمة تفيد (مقدس) والصواب أن الكلمة التي ترادف (مقدس) هي بالإيطالية وهكذا يرى القارئ أن مصدر الخطأ جاء من تقارب خروج حروف اللفظتين الإيطاليتين
هذا وقد استند الأستاذ أدهم في مقاله المذكور آنفاً إلى هذا الكتاب، وادعى أنه راجع ترجمته التركية (ص118 - 119)؛ فذكر عنوان الكتاب هكذا: (الإنسان المقدس). ونحن نقول إن هذا الكتاب لو كان ترجمه أحد إلى اللغة التركية حقيقة لكان أصاب في ترجمة العنوان وهو سهل الألفاظ واضحها، (وإلا فكل الترجمة خطأ ولا يعول عليها إطلاقاً)
والحقيقة أن الأستاذ أدهم سطا على هذا العنوان بخطئه - كما رأيت - من صلب الرسالة التي كنت نشرتها في مجلة الحديث عام 1935 كما قدمت
ونزيد على هذا أن الأستاذ أدهم في محاولته في مقاله المذكور استند إلى الترجمة التركية (؟!!) على حين إنه في كتابه (توفيق الحكيم - الفنان الحائر) أثبت عنوان هذا الكتاب ذاته في جدول مصادره باللغة الإيطالية كأنه اطلع عليه. فلم يعمد إلى ترجمة تركية لكتاب سبق أن اطلع عليه في لغته الأصلية إلا لأنه يعرف أن التركية الحديثة غير شائعة عندنا، فمن يتتبعه؟
وإذا كابر الأستاذ أدهم في هذا الصدد فليرسل إلى إدارة مجلة الرسالة الترجمة التركية المزعومة لمجرد الاطلاع عليها والإفادة منها
محمد أمين حسونه
الحجز على المتاع(349/72)
سيدي الفاضل الأستاذ الزيات
تحية وسلاما. وقع نظري على إعلان حجز نشر في جريدة البلاغ يوم الجمعة الماضي أو السبت الذي يليه على ما أذكر؛ فقد أردت أن أحتفظ بالعدد المنشور فيه هذا الإعلان لولا عبث أطفالي به وهم لا يأبهون بما فيه، ولكن إليك ملخصه (ولك أن تراجع أعداد البلاغ المشار إليها للتحقق منه)
(في يوم 4 مارس سنة 1940 سيصير بيع المنقولات الآتية وهي: حلة وأنجر (وكيلة ذرة) ملك. . . وهذا البيع بناء على طلب حضرة صاحب المعالي وزير الأوقاف وفاء لمبلغ. . قرشاً)
وكان بودي لو تعيرني قلمك لأعلق على هذا الإعلان المؤلم؛ بيد أني خشيت أن يكون في يدي قصبة لا روح فيها أو كالمهند في يد طفل ضعيف. والموضوع يحتاج إلى صرخة مدوية تهز أوتار القلوب، وأنت فارس هذا الميدان، ولنفائس يراعتك ما ينفس عن القلوب المكلومة، وفيك الرجاء في معالجة الأمر بحد القلم الذي حرك أولي الأمر في أكثر من حادثة
إن بعض القوانين تحرم الحجز على كثير من أنواع المتاع فما بالك بالحجز على القوت الضروري؟ فهل بلغ الحرص بوزارة الأوقاف على أموالها هذا المبلغ وهناك الكثيرون من أبناء الأثرياء الذين أضاعوا أموالهم على الخمر والميسر وأنواع الفجور، أصبحوا يعيشون في رغد من المرتبات التي تصرف لهم من الأوقاف من غير استحقاق أو عمل يعملونه لأنفسهم ولبلادهم، وناهيك بغير هؤلاء ممن تعرف
ومما يزيدنا تألماً أن يصدر هذا التصرف الشاذ في عهد وزير خلق وزارة الشؤون الاجتماعية لخدمة الإنسانية
فمتى نعرف البر بالفقير إذا كانت وزارة البر والإحسان تأخذ اللقمة من فم الفقير لتطعم بها أبناء الأعيان أو تؤثث بها غرف موظفيها بأنواع الأثاث الفاخر؟
يا لله. . . وزارة الأوقاف تنزع من فقير (حلة وأنجر وكيلة ذرة) وهي بالطبع كل ما يملكه من حطام الدنيا!
أين الرحمة! أين الشفقة!. . . يا للإنسان من ظلم الإنسان!(349/73)
أحمد محمد علي
استفهام
في كتاب (تاريخ الأدب) المقرر بالمدارس الثانوية تحت عنوان: (نماذج من شعر المخضرمين) شعر لأبي دهيل الجمحي على أنه مخضرم، وعلى أنه قيل في مدح رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأول الأبيات هو:
إن البيوت معادن فنجاره ... ذهب وكل بيوته ضخم
ويروي الأغاني في الجزء السابع (طبعة دار الكتب ص134) أن هذه الأبيات في مدح عبد الله بن عبد الرحمن الملقب بابن الأزرق، والى عبد الله بن الزبير على بعض أعمال اليمن. فأي هاتين الروايتين نصدق؟ ومم استقى الأساتذة الأجلاء المؤلفون الرسميون روايتهم تلك؟ وكيف يحتمل أن يكون مخضرما وقد عاش إلى خلافة عبد الملك بن مروان؟
هذه أسئلة غرضي منها تعرف الحقيقة فحسب، فلعلي أظفر بمن يهدي إليها (محموداً مشكوراً)
قناوي
البروفسور ويلسن
وصل إلى القاهرة عن طريق الجو في الأسبوع الماضي البروفسور دوفر ويلسون أستاذ البلاغة والأدب الإنجليزي في جامعة أدنبرة، قادماً إلى مصر بدعوة من المجلس البريطاني، والاتحاد المصري الإنجليزي، لإلقاء طائفة من المحاضرات العامة، يدعى إليها كبار رجال التعليم في وزارة المعارف والجامعة، كما إنه سيباح الاستماع إليها لكل راغب في ذلك
وسيلقي الأستاذ دوفر أولى محاضراته في الساعة السادسة من مساء يوم 14 مارس الحالي، بقاعة الجمعية الجغرافية الملكية، تحت رعاية الاتحاد، ويتحدث فيها عن (شكسبير وعصره)
ويلقي بعد ذلك محاضرات أخرى عن نظم التعليم الحديثة في إنجلترا وعن الحياة الاجتماعية والسياسية في لندن يلقيها في المعهد البريطاني وفي قاعة يورت التذكارية. ثم(349/74)
يلقي محاضرات أخرى في الإسكندرية وبور سعيد والسويس
وللأستاذ ويلسون أبحاث قيمة عن شكسبير ومؤلفاته، وإليه يرجع الفضل في إخراج الطبعة الحديثة من مؤلفات هذا الشاعر العظيم التي أصدرتها جامعة كمبردج أخيراً. وقد أخرج في شؤون التعليم ونظمه كتباً يسترشد بها رجال التعليم في إنجلترا إذ كان أستاذاً للتربية والتعليم في جامعة لندن، ثم أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة كمبردج
حول لقب السفاح
قرأت في مجلة (الرسالة الغراء) في الجزء342 وغيره ما كتبه الكاتبان (الأستاذ محمود شاكر والأستاذ الصعيدي) في (لقب السفاح). وعجبت لقول الأستاذ العبادي - على ما نقله الأستاذ الصعيدي -: إن الرواية التاريخية القديمة كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم والبلاذري والدينوري وطيفور واليعقوبي، والطبري والنوبختي والكندي لم تلقب (أبا العباس) بالسفاح
فالمؤرخون كالمجمعين على تلقيبه بذلك، بل هو أشهر من لقب بهذا اللقب جاهلية وإسلاماً
ولعل من المفيد أن أنقل ما قاله الحافظ بن حجر في كتابه (نزهة الألباب في الألقاب) من مخطوطات دار الكتب المصرية. قال: (السفاح: أول خلفاء بني العباس، هو أبو العباس عبد الله ابن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ولقب به من القدماء سلمة بن خالد بن كعب التغلبي رئيس بني تغلب أحد فرسان الجاهلية، وقيل له ذلك لأنه سفح الروايا يوم الكلاب الأول)
غسان صلاح الدين
حول لوبيا المجهولة
حضرة الأستاذ علي معمر الطرابلسي
قرأت مقالك المعنون بلوبيا المجهولة في العدد 344 من مجلة الرسالة الغراء، فكانت دهشتي منه كبيرة، ولو كنت تعلم أن الإنسان الذي حملت عليه تلك الحملة الهوجاء يحمل في قلبه غيوماً من الأسى الممض والألم المبرح على شقيقتنا (طرابلس الغرب) الإسلامية العربية - لما أقدمت على إذابة قلبه بكتابة ذلك المقال. . . لو كنت تعلم أن ذلك الإنسان لا(349/75)
يعترف بالوطنية الضيقة، بل هو يعتبر كل وطن إسلامي - بله العربي - وطناً له يعتز به ويفخر بالانتساب إليه ويعتقد أن له عليه من الحقوق مثلما لوطن المولد - ما جرحت قلبه يمثل ذلك الرد
ومع ذلك فالذنب ليس ذنبك ولا هو ذنبي، إنما هو ذنب (السياسة ومراعاة الظروف) وكفى بأستاذنا الزيات شاهداً على أنني ما أغفلت ذكر طرابلس الغرب من كلمتي ولا سهوت عن تعطير قلمي بها
لقد ذكرت طرابلس الغرب على انفراد وفي أسطر خاصة، لأن لها في قلبي مكاناً ممتازاً؛ ثم جاء قلم من الأقلام فحذفها جملة رعياً للظروف الحاضرة. ولم أجعلها في ضمن بلدان (الشمال الأفريقي) لأن هذه اللفظة بفضل السياسة أصبحت لا يراد بها إلا الأقطار الواقعة تحت حماية فرنسا أو استعمارها وهي: تونس، والجزائر، والمغرب. . . أفترانا يا حضرة الأستاذ مقصرين في حقوق الجارة الشقيقة وجاهلين بجهادها وبلائها ومحنتها التي ينفطر لها كل قلب عربي مسلم؟
ثم أسألك كيف جاز لك أن تسمي طرابلس الغرب (لوبيا) وهو لفظ أطلقته عليها السياسة لتمحو به المعنى العربي، والتاريخ العربي لهذه البلاد، وتنقل السامعين له فوراً إلى عهدها الأول قبل الإسلام يوم كانت أحد أجزاء الإمبراطورية الرومانية؟ وأنت طرابلسي فهل ترضى أن ننسبك إلى لوبيا؟
إن المسلم حين يسمع لفظة (الأندلس) يمر بخياله تاريخ مجيد للإسلام والعروبة، مضى وترك مآسيه منقوشة في القلوب؛ ولكنه قد لا يمر بخياله شيء من ذلك إذا سمع لفظة (أسبانيا)، مع اعترافي بأن طرابلس الغرب أمة عربية خالدة بخلود الزمن
فيأيها الأستاذ، لتكن شديد الثقة بأن العرب وحدة لا تتجزأ، وأن الدم العربي أينما حل لن تنقطع وشائجه ولن تنفصم أواصره مهما جار عليه الزمان وبدد شمله على الأوطان، والسلام عليكم ورحمة الله.
(فاس)
(أبو الوفاء)(349/76)
تصويبات في العدد الممتاز
جاء في آخر المقال الافتتاحي (محمد الزعيم): (قد جاءتكم بصائر من ربكم) والصواب جاءكم
وفي مقال الأستاذ العقاد: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) والصواب حذف (كله)
وفي مقال الأستاذ فريد وجدي: (ولو على أنفسكم أو الأقربين) والصواب (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)(349/77)
3 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
والزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم والشكر منا)
قالت زميلتنا المقتطف في عددها الصادر في أول مارس:
قال الزيات: (قارئي العزيز، اخترت لك هذه الفصول مما كتبته للرسالة في ست سنين. وكان من عادتي أن أكتب الفصل منها أصيل السبت من كل أسبوع، ثم لا أكتبه طوعاً لتأثير قراءة، أو تحرير فكرة، أو تخمير رأي. وإنما كان أثراً لوحي ساعته أو حديث يومه أو صدى أسبوعه. فالزمن جزء منه متعمم لمعناه: يبين ملابسته للحادث، ويعين مناسبته في التاريخ، لذلك أعقبت كل فصل بذكر اليوم الذي كتب فيه ليتضح موضعه بفعله وحاله وظرفه)
هذا خير ما يوصف به هذا الكتاب. فأنت ترى أني لا أستطيع أن أزيد في صفته من حيث التأليف والتبويب، ولكني أستطيع أن أقدم بين يدي قارئه بعض الرأي في أدب صاحبه
وأنت إذا تناولت هذا الجزء فقرأت فهرسه، رأيت مائة وعشرين بابا من أبواب القول قد افتتحها (الزيات) بقلمه وسناها برأيه، ومهدها بحسن بيانه، ولكل باب منها غرض، ولكل غرض أسلوب، ولكل أسلوب لفظ يصلح عليه ولا يصلح عليه غيره. وإذا كان الكتاب كذلك كانت المشقة فيه أعظم من مشقة التأليف المرسل إلى غرض واحد لا يتميز إلا بالاتجاه، فإن الغرض الواحد قلما يخرج أسرار البيان من قلب الكاتب ولسانه، لأن الأسلوب إليه قلما يختلف. فإذا اختلفت الأساليب باختلاف الأغراض محصت قدرة الكاتب على ما اعترض له وهمّ إليه من الكتابة
فإذا أنت أخذت هذا الكتاب بين يديك وسايرته فصلاً فصلاً وأسلوباً أسلوباً، عرفت الجهد الذي لقيه صاحبه في إبداعه، ورأيت (الزيات) في كل أسلوب هو (الزيات) لا يختلف ولا يتنافر، والكاتب إذا صار إلى هذه المرتبة - حيث تراه هو هو مهما اختلفت الأغراض وتباينت الأساليب - فاعلم أنه إنما يشتق لك كل ما يكتبه من حر نفسه، فيضنيها ويهلكها(349/78)
مخلصاً صابراً لا يملّ. وإذا كان الكاتب كذلك فهو كاتب لا يزيف لك ولا يقبل الزيف، وهو يعطيك ولا يسألك، ويبذل لك ولا يمن عليك، ويعلمك ولا يدعي لك إنه أعلم منك. . . ذلك بأنه قد بلغ من العقل والفكر والصفاء والبيان حيث يعلم أنه ملك قارئه لا أن القارئ ملك له، وأنه مرشد لا مسيطر، وأنه أخوك الذي يناقلك الحديث وإن كان بمنزلة الأب
و (الزيات) - كما عرفته من كتابته - روح هادئة متكتمة مسترسلة، يكاد يختفي في نفسه حين يفكر كأنه فيلسوف من فلاسفة الصين: يمشي هادئاً، ويفكر ساكناً، ويحاسب نفسه ولكن على التسامح والرضا والاستسلام؛ فإذا أراد أن يقيد أحلامه وأفكاره وهواجسه كان هو الهادئ الساكن المتسامح، فإذا اشتد وحمس وأراد أن يتفجر، خيّل إليّ إنه عينٌ حَّمةٌ ترسل لواذعها سكْباً ساخناً حامياً كالماء إذا إلى ثم هدأ أول هدأة لا يضرب بعضه في بعض. ولذلك ترى نقده إذا نقد شديداً بالغاً، ولكنه رفيق غير عنيف، ولكنه على ذلك مما تخشى صواعقه. وهذه الروح التي وصفناها هي التي تجعل كل كلامه قطعاً مزينة ناضرة محكمة مقدرة الألوان لا يختلط شيء منها بشيء، ولا يجوز لون منها على لون. وهي التي تجعل كل لفظه مبنياً على الإيجاز دون الإطناب، وعلى مذهب الحكمة دون المذهب الكلامي؛ وإذا أردت أن تتبين كل ذلك حقيقة التبين فلا تتكلف أكثر من أن تقرأ إهداء كتابه. يقول لولده (رجاء) الذي احتسبه عند ربه في سنة1936:
(إلى روحك اللطيفة العذبة - يا ولدي رجاء - أقدم هذا الكتاب، فلولاك ما أنشأت الرسالة، ولولا الرسالة ما أنشأت هذه الفصول)
فإن في هذه الكلمات القلائل لوعة مستكنة باقية إلى يومها هذا، ولكنها ساكنة راضية هادئة لا تثور ولا تتأجج، ولكنها تسري وتدب وتمشي في روحه الهوَينا الهوَينا
هذا سر أسلوبه. وأما أسلوبه وبيانه واقتداره على عربيّته وحسن تصريفه لألفاظه في وجوه أغراضه ومراميه، فالزيات - ولا أشك - هو بقية أصحاب الأقلام العربية التي لا تخلط ولا تتقَّمم من هنا وهنا - فأنت إذا نفذت إلى كل جملة من كلامه في هذا الكتاب لم تجد إلا عربية خالصة مطاوعة لينة، لا ينافر حرف منها حرفاً - على كثرة الأغراض التي رمى إليها واختلافها، وعلى ظن من لا يعلم أن العربية لا تطيع في التعبير عن الضرورات الحديثة التي قسرتنا عليها مدنية القرن العشرين من ميلاد المسيح(349/79)
فلو أتاح الله لهذه العربية من يخلص لها في معاهد التعليم على اختلاف أغراضه وأنواعه، وأراد أن يرد على العربية شباب أيامها حتى تكون لغة مدنيتنا في الأدب والعلم والفن، لوجد في الذين أبادوا شبابهم بالعمل لإحياء اللسان العربي في هذا العصر قوماً قد استطاعوا أن يجعلوا عربيتهم أصلاً في الحياة، إذ جعلوا الحياة أصلاً فيها، وبقية هؤلاء هو (الزيات)(349/80)
العدد 350 - بتاريخ: 18 - 03 - 1940(/)
بعد إسدال الستار على مأساة فنلندا
فشل العقل. . .
فشل العقل في السياسة كفشل القلب في الطب معناه الانخذال والانحلال والموت. وليس في مقدورنا نحن أصحابَ الكلام وأرباب الأقلام إلا أن نصنع ما يصنع صاحب القصر الأبيض في واشنطون ورب القصر المقدس في روما: نصوغ اللفظ والدمع مرائي ومآسي وأكاليل كلما فشل الضمير والعقل، فمات بفشلهما الحق والعدل، وكان لذلك ضحايا من الأمم والناس ذهبوا أشلاءً ودماء بين الألم والعَدم!
أُسدل الستار الختامي أول أمس على المأساة الفنلندية الفاجعة بعدما ظلت ثلاثة أشهر ونصفاً تمثل على مسرح من الجليد والدم اصطرعت عليه القوة والحق، والبغي والعدالة، والكثرة والشجاعة، والنذالة والحميَّة، والعالم كله يشهد هذا الصراع الهائل وهو شاخص البصر مشدوه اللب لا يملك إلا التصفيق للبطل والتصفير للنذل!
كان كل واحد من الفنلنديين أمام ستين من الروس! وكان هذا الواحد ضئيل الحظ من الميرة والذخيرة والسلاح والمدد؛ وكان هؤلاء الستون وراء صفوف متلاحقة من آلات الحديد والنار، ومع ذلك استطاع هذا الواحد أن يمعن في أولئك الستين تقتيلاً وتنكيلاً وأسراً، وهو يغوص في الثلج ويكز من البرد ولا يكاد يجد الدفء ولا القوت ولا النوم!
ذلك هو الإيمان الصادق الصابر الذي يأذن به الله أن تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة. وتلك هي البطولة القائمة على عزة النفس وكرامة الجنس وإيثار التضحية وتقديس الوطن. فلو أن العقل السياسي في جارتي فنلندة ساعد هذه المزايا النادرة فنهضتا لمناصرتها، ومكنتا الحليفتين من مؤازرتها، لخنس ستالين خنوس الجبان، وذلّت البلشفية ذل الأبد!
حاربت فنلندة مكرهة ثم سالمت مكرهة. أكرهها أعداؤها على الحرب، وأكرهها أصدقائها على السلم، فدافعت عظيمة، ثم صالحت كريمة. والجاني عليها في الحالين هو فشل العقل فيمن عادى وفيمن صادق. فلو أن ستالين لم يصب باحمرار العقل في مفاوضته لفنلندة قبل الحرب، لظفر منها بخير مما ظفر به بعد الصلح. إنه اقتطع من الوطن الفنلندي مقاطعات عزيزة، ولكنه أخذها بعد أن جعلها المرشال البطل مانِرْهايم مقبرة هائلة، دفن فيها مائتي ألف جندي من الروس معهم ألف وخمسمائة دبابة وسبعمائة طائرة؛ وكل أولئك مكفن بهيبة(350/1)
الجيش الأحمر وكرامة قواده وقيمة عتاده!
ولو أن الدول الشمالية لم تصب بشلل العقل لفكرت قبل هذه الحرب أو أثناءها فيما تفكر فيه اليوم من التحالف العسكري بينها، فإن ذلك كان عسِيّاً أنه يشفي الدب من غروره ويكسر من طماحه
ولو أن الدول الديمقراطية لم تصب بتردد العقل لخرقت حياد السويد والنرويج لتدفع الموت المحقق عن الجارة الباسلة الصغيرة. وهل عليك من بأس إذا وطئت حمى الجار لتطفئ الحريق في بيت جاره؟
إن فنلندة حاربت في سبيل الحق والسلام والمدنية، وكان لها على المجاهدين في هذه السبيل الحفيظة والنصرة. ولو لم يكن لها وللحلفاء قضية عادلة مشتركة توجب التضامن والتعاون، لكان من شهامة الطبع المدني ألا يدعوا هذه البطولة العجيبة التي أدهشت العالم في مغربي الأرض ومشرقيها تيأس من النصير فتستكين للظلم وتستنيم للمذلة!
فما أحرى الذين فرطوا في جنب فنلندة بالأمس أن يتداركوا عواقب تفريطهم اليوم! لقد تثاقلوا عن إسعافها حتى اندك القائم وأقفر الآهل وأجدب الخصيب، فأصبح أربعمائة ألف من أهلها لا يجدون مورداً ولا مأوى. إنهم ساعدوا العدو سلباً على التدمير، فليساعدوها إيجاباً على التعمير. ومن لم ينهض ليقيك الطعنة النفاحة، فلا أقل من أن يساعدك عليها بالضماد والمرهم
هذا أوان الثمر المرجو من عطف الديمقراطية في أوربا وأمريكا على فنلندة البائسة. ولن يخالجنا الشك في أن دعاة الحرية وحماة المدنية سيذكرون اليوم أن فنلندة أصيبت بنقص شديد في الأنفس والأموال والثمرات، ففقدت من شبابها البر العامل خمسين ألفاً بين قتلى وعجزة، وخسرت من ثراها الغالي المثمر ثلاثين ألف كيلو متراً من أزكى الأرض تربة وأوفرها ثروة. وسيذكرون غداً متى جلسوا للصلح على أنقاض البلشفية والنازية أن صلح فنلندة قد انعقد على دخن، وجرحها قد اندمل على بغي، وسيرون يومئذ أن هذا الجرح لا يزال تحت جُلبته الخادعة يجيش ويقيح ويضرب. فهي حرية أن تعد محاربة معهم بالقوة، وإن لم تستطع مباشرة هذه الحرب بالفعل
إن في أخطاء الناس وأرزاء القدر عبراً لا تنقضي الإفادة منها. فاستشهاد بولندة واستخذاء(350/2)
فنلندة نذيران للأمم الصغيرة بخطر التواكل والتخاذل والعزلة. وقد قلنا مرة في هذا المكان إن سياسة الاتحاد هي وحدها الأمان من سياسة السمك. فإذا أرادت الدويلات المجاورة التي حكمت عليها الطبيعة بالضعف لقلتها أو جهالتها أن تحفظ على نفسها الحياة وتضمن لشعوبها الحرية، فليس لها غير سبيل الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن في الاتحاد القائم على صلاة الدم والروح والجوار الخيرَ المتصل للعالم، والضمان الدائم للسلام!
احمد حسن الزيات(350/3)
في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 2 -
من أبي زنيمة إلى الدير
خرجنا من أبي زنيمة والساعة ثمان من صباح الثلاثاء ثالث عشر ذي الحجة، فسرنا على الساحل بين البحر عن يميننا والجبل عن يسارنا صوب الجنوب زهاء أربعين دقيقة، ثم ملنا ذات اليسار تلقاء الشرقية في سهل واسع كثير الحجارة والتلال قد استبانت فيه الطريق واستقامت، فأسرعنا عشر دقائق حتى بلغنا وادياً تشرف على جانبيه جبال رملية مصفرّة ثم جبال حمراء شاهقة، أدّى بنا إلى صخور عظام عليها نقوش بخط سرياني، فنزلنا عندها قليلاً والساعة عشر، ثم ركبنا فمررنا بعد ساعة بواحة ناظرة جميلة وجبال رائعة شاهقة محمرّة لا مختلطة الألوان. وجبال سيناء كثيرة الأشكال والألوان، قد ألحّت عليها الشمس والرياح والأمطار على مرّ العصور تحطيماً وتشكيلاً وتلويناً، فما يزال الرائي في عجب من اختلاف مرائيها وكثرة أشكالها. وقد وجدت فيها تفسيراً بيّناً للآية:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جُدَدِ بيض وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
وبعد نصف ساعة من الراحة الأولى رأينا أشجاراً ونخيلاً تملأ الوادي، فعرفنا أننا في وادي فاران. وبعد مسيرة خمس دقائق في هذه الخضرة بلغنا ديراً عليه سور قصير وفيه حديقة، وهو دير فاران التابع لدير سنت كترينا الكبير. نزلنا هناك لنستريح في الدير ونرى ما فيه.
دخلنا الدير فرأينا مجرى ماء بارد عذب، فعررنا أنه ينبوع الحياة في هذه الواحة الكبيرة. وصعدنا على سفح الجبال المشرفة على الدير فإذا بناء قديم من اللِبن مهدم هو بقية كنيسة. ورأينا على عدوة الوادي الثانية وفي بسطته أنقاض أبنية وآجر وحجارة منثورة قيل إنها آثار مدينة فاران، وصوامع كانت لتعبد الرهبان فيه.(350/4)
وهي على 12 كيلاً شمالي الطور وعلى 130 كيلاً إلى الجنوب والغرب من قلعة النخل.
وهي مذكورة في التوراة في أخبار إبراهيم وموسى. ففي سفر التكوين أن إسماعيل سكن برية فاران وأخذت له أمه زوجة من مصر. وفي التثنية: (هذه هي البركة التي بارك فيها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته فقال: جاء الرب من سينا، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران. . .).
وعلى مقربة من الوادي جبل شاهق جداً يفرع الجبال كلها يسمى جبل سربال، ويقال إنه جبل المناجاة الذي تجلى فيه الله سبحانه لموسى عليه السلام.
وبعد أن طعمنا خرجنا من الدير والساعة واحدة بعد الظهر فسرنا بين أشجار ونخيل متكاثف خمساً وعشرين دقيقة بالسيارات. ورأينا على عدوة الوادي اليسرى أنقاباً في الجبل، يقال إنها قبور قديمة كان أهل فاران يدفنون موتاهم فيها.
والنخيل في هذا الوادي متروك بطبيعته لا يؤبر ولا يقلع فسيله فترى نخلات كثيرة من أصل واحد، وترى جريد النخلة أو كربه يابساً حول جذعها طبقات بعضها فوق بعض لا يقطع ولكن يجف فيسقط أو يبقى معلقاً في الجذع.
وقد سألت رجلين هناك: لماذا لا تقطمون الجريد؟
قالا: لنصعد عليه.
قلت: إن النخل لا يثمر كثيراً إذا لم يقطع جريده كل عام.
هل تعرفون ما يفعل أهل مصر بالنخيل؟
قالا: نعم.
قلت: فلماذا لا تفعلون فعلهم فيكثر ثمر نخيلكم؟
فسكتا.
وبعد خمسين دقيقة من فاران، رأينا أشجاراً كثيرة من الطرفاء، ثم سرنا في أرض جرداء إلى أن مررنا بجبلين متقاربين مشرفين على الطريق، بينهما ممر ضيق يسمى (بويب فاران)؛ ثم عطفنا إلى اليمين إلى واد يسمى (واد الشيخ)، أو وادي النبي صالح، وسأذكره فيما بعد.
وجئنا إلى أرض مرملة ساخت فيها بعض السيارات وتقدمت السيارات التي تجنبت هذه(350/5)
الورطة، فوقفنا عند تل عليه مقابر وقباب من الطين فيها بعض القبور، وكنيسة وقبر يقال إنه قبر هارون عليه السلام، وينشعب الوادي وراء هذا التل إلى اليسار، فيرى السائر جبالاً شاهقة جداً، بينها واد ضيق ينتهي إلى بناء كبير أبيض يلوح من وراء الشجر ويتضاءل على ارتفاعه بجانب الجبال الشاهقة المشرفة عليه، وهذا الدير (دير سنت كترينا).
وقبل أن أصفه، أنقل ما ذكره صاحب مسالك الأبصار نقلاً عن الشابشي:
وهذا الطور هو طور سيناء الذي صعِق عليه موسى عليه السلام. والكنيسة في أعلى الجبل، مبنية بحجر أسود، عرض حصنه سبعة أذرع، وله ثلاثة أبواب من الحديد، وفي غربيّه باب لطيف، وقدامه حجر لقيم، إذا أرادوا رفعه رفعوه، وإذا قصدهم متغلّب أرسلوه، فأنطبق، فلا يعرف أحد مكان الباب. وداخلها عين ماء، وخارجها عين أخرى.
قال:
(زعم النصارى أن بها من أنواع النار الجديدة التي كانت ببيت المقدس، يوقدون منها في كل عشية السراج، وهي بيضاء ضعيفة الحر، لا تحرق. ثم تقوى إذا هم أرادوا أن يوقدوا منها).
وهو عامر بالرهبان. فلا يخلو من أحد من أهل البطالات للتفرُّج فيه والتبرك - على رأيهم - به.
وهو من الديارات الموصوفة والأماكن المقصودة. وممن وصفه ابن عاصم. قال فيه:
يا راهبَ الديَّر، ماذا الضوءُ والنورُ ... فقد أضاء بما في دَيْرك الطور؟
هل حلَّتِ الشمسُ فيه دونَ أبرُجها ... أو غُيّب البدر ' فيه فهو مستور؟
فقال: ما حلَّه شمسٌ ولا قمرٌ، ... لكن يُقَرِّب فيه اليومَ قَوْرير!
عبد الوهاب عزام(350/6)
الحرب ومستقبل الإنسان
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كما قرأت أن الحكومة تجرب أسباب الوقاية المدنية من الغارات الجوية، أو رأيت خندقاً محفوراً وعلى جانبيه أكياس الرمل، أو سمعت صفارة تنطلق بالإنذار والدعوة إلى الاختباء وإطفاء الأنوار، أراني أتساءل: (أترى سيعود الإنسان إلى حياة الكهوف والغيران؟) ولست أعني الكهوف بالمعنى الحرفي، وإنما أعني الحياة في جوف الأرض. وماذا يكون مصير الإنسان يا ترى إذا دفعه الترقي في القدرة على التخريب إلى باطن الأرض؟!
وتذكرت هـ. ج. ولز وكتابه (آلة الزمان) وهي آلة يتصور الكاتب أن صانعها يذهب بها مطوفاً في الزمن (في الماضي أو المستقبل كما يشاء) كما نذهب الآن شرقاً أو غرباً وشمالاً أو جنوباً - ويقول ولز إن رحالته بعد أن قطع مرحلة كافية من الزمن الآتي، ألفى الإنسان قد صار إنسانيين - واحداً يعيش في جوف الأرض وواحداً بقي فوقها. فأما الذي دخل فيها، وألف الحياة في السراديب والظلام، فقد ارتد إلى الحيوانية في مظهره وطباعه وعاداته، فهو يمشي على أربع، وبدنه يكسوه الشعر، وعينه واسعة ترى في الظلام ويُعشيها النور، وتفزعها النار. ولهذا الإنسان السفلي صناعاته وآلاتها، وهو يستدرج إلى سراديبه أبناء العالم العلوي ويفتك بهم، ويأكل لحمهم. وأما الذي بقي فوق ظهرها فهذا من سلالة المترفين الأغنياء، وقد انحط وضعف وتشابه ذكوره وإناثه، في اللين وصغر الجسم، وفَقَدَ القدرة على العمل والاحتيال والسعي، وصار معوله في حياته على العالم السفلي، وخوفه منه، لفرط ما انتابه من الانحطاط والطراوة.
ويقول ولز إن بداية هذا الانقسام ظهرت في زماننا، وإن الإنسان شرع ينحدر إلى باطن الأرض. فبُنانا ومصانعنا لها طبقات تحت الأرض، وفي عواصمنا تجري القطر في سراديب إلى آخر ذلك.
وقد كنت وأنا أقرأ كتاب ولز هذا قبل حوالي عشرين عاماً، ثم وأنا أنقله إلى العربية منذ عامين أو نحو ذلك، أقول لنفسي إن ولز مبالغ، وإن الدخول في جوف الأرض لا يستدعي أن يصبح الإنسان إنسانيين متميزين على نحو ما يصف، وإن الناس يختلفون ويتفاوتون ولكن تفاوتهم لن يبلغ من أمره أن يصير بهم إلى مثل هذا المصير المرعب الذي يصوره(350/7)
ولز كأنه يراه.
ثم جاءت هذه الحرب، وعرفنا ما صنعت الطيارات الألمانية في بولندا، وما فعلت الطيارات الروسية بالمدن الفنلندية، وشهدنا صوراً من آثار التخريب فيما تعرضه دور السينما، وكنا قبل ذلك رأينا مناظر تخريب الطيارات اليابانية في الصين، ولكن الحرب اليابانية الصينية كانت لبعدها تبدو لي كأنها تدور في غير كوكبنا، ولم أكن أتصور أن تدور الحرب على هذا النحو في عالمنا القريب. ثم أخلفت الحوادث هذا الظن السخيف وغرقت عواصم الأمم المتحاربة وبلدانها الكبيرة في ظلام دامس، وقامت حكومتنا تتخذ الأهبة لدفع الأذى عن المدن وأهلها، إذا امتدت الحرب إلينا فأطفأت الأنوار إلا أقلها، وحفرت الخنادق، وبنت المخابئ، وأطلقت الأنوار الكاشفة في الليل، ونصبت المدافع فألفيت نفسي أتساءل: أتراني لا أزال أعد ولز مبالغاً في التخيل ومشتطاً في التصور؟
ماذا تصنع الأمم بعد هذه الحرب؟ أتظل ترفع البنى وتعليها فوق الأرض وتقيم المصانع على ظهرها؟ لا أظن؟ إلا إذا اهتدت إلى مادة لا تنال منها القنابل الهادمة والمحرقة، وعسير بلوغ هاتيك جداً - كما يقول الشاعر. وهبها فعلت واهتدت، فإن العلم الذي يوفقها إلى ذلك خليق أن يدلها على ما يهدمه، فإن البلاء والداء العياء أن كل ما يثمره العلم، يسخر لأغراض الحرب كما يسخر لأغراض السلم، فلا سبيل إلى السلامة إلا بالفرار إلى باطن الأرض، وحريي بذلك أن يكون له أثره في هندسة البناء، أو بعبارة أدق في شيوع طراز جديد، فقد ظهرت في البلاد المحاربة مبان ذات طبقات ممتدة في جوف الأرض يلجأ إليها الناس ويحتمون بها من الغارات الجوية
وفي هذا المعنى يقول الجنرال بوشيري في فصل له نشرته مجلة ونقلته عنها صحف بريطانية (إن الحرب الحديثة تعرض سكان البلاد كلها لأخطار القتال، وتفرض على الأمم أن تتخذ الأهبة الكافية للدفاع السلبي، وهذا يستوجب أن تجري الأعمال الحيوية كلها - من مدنية وعسكرية - في جوف الأرض، ومن الجلي أن المساكن الجديدة يجب أن تكون لها طبقات سفلية أو متصلة بمبان سفلية مجاورة لها تصلح أن تكون بديلاً من المساكن العلوية، إذا اقتضت الحاجة الالتجاء إليها)
ونحن أبناء هذا العصر، نستغرب أن تنتقل حياتنا من فوق ظهر الأرض إلى قلبها، فإن(350/8)
ظهر الأرض مقرون في أذهاننا بالحياة، أما باطنها فمقرون بالموت والدفن، ولكن أحفادنا لن يستغربوا هذا التحول، أو ينكروه، لأنهم سيألفونه من الصغر. ويا ليت من يدري هل تندس المدارس والمستشفيات، كما تندس المصانع في جوف الأرض؟ وإلى أي عمق يا ترى يضطر الإنسان أن يحفر وينقب، ويسوّي ويوسع؟
وعلى الأيام - بل الحقب الطويلة والأدهار المديدة - يألف الإنسان باطن الأرض، وتطول حياته فيه، ويقل خروجه إلى نور الشمس، وتكر آلاف السنين ومئات الآلاف، والناس أكثرهم يعملون تحت الأرض ولا يكادون يبرزون إلا في الندرة القليلة والفلتة المفردة. فيكتسب الإنسان خصائص الحيوان الذي يأوى إلى الجحور، ويصدق ما تنبأ به هـ. ج. ولز في كتابه (آلة الزمان)!
وكيف تكون الحروب يا ترى في ذلك المستقبل البعيد، إذا بقيت الحروب تدور بين جماعات الإنسان؟ أحسب أن اندساس الإنسان في جوف الأرض سيكون بداية انحطاطه، فما أغرب أن يكون رقيه العلمي مفضياً إلى انحداره وهويّه؟ وتلك جناية استخدام العلم في الحرب، فإذا بقيت الحروب فهذا مآل الإنسان، ولا نجاة له من هذا المصير إلا بالقضاء على الحرب، فيما أرى، أي بإعفائه من بواعث الاحتماء بجوف الأرض والسكون إلى الحياة فيه.
مآل الإنسان مرتهن بالسلام الدائم، لا الطويل فحسب، على الرغم مما يقال من أن طول عهد السلام يفضي إلى اللين والتطري والرخاوة؛ وكفى بالكفاح في سبيل العيش واقياً من هذا التطري، وعلى أن التطرّي خير آلف مرة من الارتداد إلى الحيوانية. ولأن يكون المرء طرياً ليناً، آثر عندي من أن يكون أرنباً!! واللين عيب أو ضعف في دنيا تقوم فيها الحياة على العنف، ويكثر فيها الفتك والبطش، ويحتاج الإنسان فيها من أجل ذلك إلى القوة والخشونة. أما في دنيا تنعم بالسلام ولا يزعجها خوف من الفتك وتوقعه، فما ضير أن يلين الإنسان ويطرى، إذا بقيت له قوة العقل؟
إبراهيم عبد القادر المازني(350/9)
إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية
للدكتور زكي مبارك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
أيها السادة:
يقال في كل يوم إن جو مصر معروف بالاعتدال، فما الذي جنينا في ذلك الاعتدال؟ كانت النتيجة أن نخاف من الاضطراب في بقاع الأرض. وكانت النتيجة أن نشعر بالغربة حين ننتقل حُلوان إلى قَليوب. وكانت النتيجة أن تخمُد العواطف بفضل ما نحن عليه من قرار وسكون.
أعترف بأن مصر استفادت من اعتدال الجو فائدة عقلية، هي التفوق العظيم في التأليف، فمصر أقدر الأمم الإسلامية والعربية على التفكير المنظم الدقيق بفضل هذا الجو المعتدل الجميل.
ولكن مصر في ماضيها تخلفت في ميدان الأدب عن الشام وفارس والعراق، لأن الفوضى الجوية، لا يحسها المصريون كما يحسها الشاميون والفرس والعراقيون؛ وإلا فأين وصف الثلوج والأمطار والأعاصير في أشعار من يعيشون في ضيافة النيل؟ ثم شاءت المقادير أن تتفوق في الأدب بعد تخلُّف، فما مصدر ذلك التفوق؟ لم نعرف قسوة الطبيعة كما يعرفها الناس في الشام وفارس والعراق، وإنما رمتنا المقادير بقسوة أعنف من قسوة الطبيعة، هي الثورة الجائحة التي نحس أعاصيرها الفواتك في الأذهان والعقول والقلوب
نحن كلَّ يوم على شفا الهاوية: إن اصطرع الشرق جزعنا، وإن أضطرم الغرب نظرنا. ألم تسمعوا أنه كان معروفاً عندنا أن الميدان الأول في الحرب الحاضرة سيكون حول ضفاف النيل؟
ومن هذه المحرجات التي تتجدد كل يوم، إن لم أقل في كل ساعة أو كل لحظة، من هذه المحرجات خُلقت لنا مكاره سياسية تفوق المكاره الجوية في الشام وفارس والعراق
وما هي نقطة الارتحال من وضع إلى وضع في الأدب الحديث؟
لن أرجع إلى ما فصلته في مؤلفاتي ومقالاتي، ويكفي أن أنص على أن الأدب في مصر لم يرتق إلا بفضل الفوضى السياسية، وهي صورة من الفوضى الاجتماعية.(350/10)
النهضة الحقيقية للأدب الحديث ترجع إلى عهد مشئوم، هو النزاع بين الرجلين العظيمين: عدلي يكن وسعد
زغلول. ففي ذلك العهد صارت الكتابة والخطابة عنصرين أساسيين في تكوين الأدب المصري الحديث. وبفضل النزاع بين عدلي وسعد خُلقت جرائد ومجلات وأندية صار لها في نهضة الأدب مكان ملحوظ. وبفضله استطعنا أن نذيع في الشرق فنّاً جديداً، هو الأدب السياسي، وهو فنٌّ كان انقرض بانقراض النضال بين أشياع بني أمية واتباع بني العباس. وإليكم هذه النكتة:
كان شاع أني أخاصم الأستاذ الدكتور طه حسين، فكتبت في الهجوم عليه مقالات كان لها وقعٌ حسنٌ أو سيئ عند قراء اللغة العربية، واطلع الأستاذ محمود بسيوني على بعض تلك المقالات فانزعج أشد الانزعاج وسعى للصلح بيني وبين الدكتور طه في حفل مشهود حضرهُ العمداء وكبار الأساتذة بكليات الجامعة المصرية، فهل تعرفون نتيجة ذلك الصلح المشئوم أو الميمون؟
تلفَّت الناس متوجعين لضياع فرصة ثمينة هي فرصة الجدل حول المذاهب الأدبية، فهل فيكم من يتفضل بالسعاية بيني وبين الدكتور طه حسين لأرجع إلى مصاولته من جديد؟
كان بيني وبين الدكتور طه ودٌّ وثيق، ولكن رعاية ذلك الود لم تنفع الأدب بشيء، لأن كل ما يصدر عنه كان يقع من نفسي موقع مقبول، فلما ثار عليّ وغضبت عليه أتيت في مصاولته بالأعاجيب، فمن ذلك الذي يتفضل فيفسد ما بيني وبينه لأجد الوقود لسنان قلمي؟ أليس فيكم دساس ظريف ينقل إليه أنني اغتبته من فوق منبر كلية الآداب؟
اتقوا الله وأفسدوا بيني وبينه وبين سائر الأساتذة لتسمعوا صرير القلم الذي تعرفون! وهل فيكم من ينكر أن مجموعة نهج البلاغة من أعظم الذخائر الأدبية؟ فهل كان يمكن أن يظفر الأدب بتلك المجموعة النفسية لو أعتدل الميزان فصار عليّ ابن أبي طالب أول خليفة أو ثاني خليفة بعد الرسول؟
إن غيض ابن أبي طالب على أهله وزمانه هو الذي أرَّث في صدره نيران الحقد على الدنيا والناس فزفر بتلك الخطب الروائع غالبت الدهر وصابرت الزمان
وما هي الظروف التي خلقت مواهب الشيخ محمد عبده؟(350/11)
هي ظروف الفوضى الاجتماعية في انتقال الأزهر من حال إلى أحوال، يوم كان تدريس العلوم الحديثة موضع خلاف، ويوم كان القول بكروية الأرض يلقى ألف اعتراض
والشيخ المراغي من أكابر هذا الزمن، ولكنه سيذهب بعد عمر طويل بلا تاريخ طويل، لأن بيئة الأزهر قد صلحت واستنارت فلم تعد تحتاج إلى مصلح يتشرف بعدوان الاضطهاد
فإن أراد الأزهريون أن يكون لشيخهم تاريخ طويل فليتكلفوا الغفلة عن مطالب العصر الحديث ليجد شيخهم فرصة الدعوة إلى اعتناق مذاهب التفكير في الجيل الجديد
أرجوكم للمرة الثانية أو الثالثة أن تذكروا أني لست من أنصار الفوضى الاجتماعية، وإنما أنا مؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية والفلسفية، والمؤرخ غير مسؤول عن حوادث التاريخ
وكم تمنيت السلامة من مكارة الفوضى التي تثور في صدري والتي قضت بأن يكون ميدان قتال بين الملائكة والشياطين
في صدري أتُّون يأخذ وَقوده من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، ثم يقول في كل لحظة: هل من مزيد؟
وهذا الأتون يفرض عليَّ أحياناً أن أُلقم فم الشره الأكول بأكداس من الآراء تُشْبه الحطب المعطوب ليسكت عني لحظة أو لحظتين، كما يقدم الأعرابي لناره الموقدة أكداساً من العظام والتراب! ويشهد الله أني أكره أشد الكره بعض ما يصدر عن قلمي، ولكن ماذا أصنع وفي صدري نار تأكل الحجر والطوب حتى يعييها أن تجد الوقود الصالح من جذوع الشجر والنخيل؟ ولكني أتعزى كلما ذكرت الحكمة التي تقول: (لو أنصف الناس استراح القاضي). فشيوع المظالم بين الناس هو الذي خلق الثروة التشريعية، وهو الذي قضى أن يكون في الدنيا قضاة ومفتون ومحامون. ولو سلم المجتمع من الاضطراب لأغلقت المحاكم، ولم يبق أمام الأستاذ لطفي جمعة إلا الفرار إلى الريف ليأخذ قوته مما تخرج الأرض بجهاد الفأس والمحراث، ويومئذ يُحرَم الأدب من خطبة نفسية يحاورني بها في المدرَّج الأكبر بكلية الآداب، وتحرمون تكلُّف الرفق في التصفيق له بغير حق!
لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من المؤلفات النفيسة التي صدرت عن(350/12)
الرومان والعرب والفرنسيين في أصول التشريع. لو أنصف الناس واستراح القاضي لخلت الدنيا من الأدب الرائع الذي صدر عن رجال الأخلاق من الذين سمعتم أخبارهم ودرستم آثارهم مع منصور فهمي ومصطفى عبد الرزاق وأحمد أمين. لو أنصف الناس لمات سقراط غير مسموم، ولم نقرأ الوثيقة الأدبية الرائعة التي جاد بها قلم أفلاطون، والتي فتنت لامرتين حين قرأها بترجمة كوزان فنظمها بقصيد رائع يفتت الجلاميد.
لو أنصف الناس لحُرِمنا نفثات ابن مسكويه في أدب الصديق. لو أنصف الناس لضاع على الأدب حظٌّ نفيس هو أشعار أبي العلاء في نقد أخلاق الحُكام والقضاة والفقهاء. لو أنصف الناس لأمِن هابيل شر قابيل فلم يصنع التمثال الرائع الذي نراه في متحف (البثي باليه) في باريس. لو أنصف الناس لحُرِم الأدب قصائد ابن الرومي في تشريح ثائرة الحقد والبغضاء. لو أنصفت الطبيعة لحرمت الإنسانية من عبقرية باستور في حرب الجراثيم. لو أنصف المجتمع لأمن بعض الرجال شر الاغتراب وهو فرصة ليقظة العقول. ولو أنصفت ليلى - عفا الحب عن ليلى - لحُرِمتم نفثات المجنون القديم والمجنون الجديد.
أنا أكره الفوضى لأنها كدرت حياتي، ولأنها جعلت صدري ميداناً لاصطراع الهدى والضلال، وع ذلك أجد العزاء حين أشاء.
فبفضل الفوضى في تقسيم الحظوظ نشأت مذاهب أدبية وفلسفية واقتصادية صنعت ما صنعت في توجيه الأذهان والعقول بالشرق والغرب. وبفضل الفوضى في توزيع الممالك كانت الحروب التي صاغت عزائم الأبطال. وبفضل الفوضى في تكوين مدرس اللغة العربية قام النزاع بين الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية، وهو نزاع محمود العواقب، وسيؤتي ثماره بعد حين. وبفضل الفوضى في تصور الغاية الساسية للأمم العربية والإسلامية خُلِقتْ عبقريات الكواكبي وجمال الدين ومحمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول. وبفضل الفوضى في فهم الغاية الأدبية كان الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وبفضل الفوضى في أحوال الجو كان التنويع الطريف بين الربيع والصيف والخريف والشتاء. وبفضل الفوضى في الأخلاق والعقائد كان الجمال المرموق في تزيين الوجود بالحرب بين الفجور والعفاف والكفر والإيمان. وبفضل الفوضى في تحديد الآراء كانت المناظرات التي تنظمها المعاهد والأندية والجمعيات. وبفضل الفوضى في فهم الغاية(350/13)
الصحيحة لمصاير الإنسانية كان النزاع بين الديانات، وكان الصراع بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، وتلك فتنٌ جوامح نشأت عنها آداب وفنون لا ينكرها إلا غافل أو جهول.
لما تلطفت وزارة المعارف العراقية فدعتني لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية في بغداد، سألت عن مبلغ بغداد من الحضارة فقيل لي إنها تشبه طنطا، فجزعت أشد الجزع، لأن طنطا يقلّ فيها الصراع بين المذاهب والآراء، وإن كانت عامرة بالقصور والمتنزهات، وهي البلد الوحيد الذي لا أبيت فيه حين أمضي إليه لمهمة رسمية ودخلت بغداد فرأيتها أقل من طنطا في الحضارة والعمران، ولو شئت لقلت إن أصغر شارع في طنطا أجمل من أكبر شارع في بغداد. . . وكذلك أحسست قسوة الوحشة حين دخلت عاصمة العراق، ولولا الخوف من غضب (العقيدة الأدبية) لرجعت في السيارة التي أقلتني إلى هناك
وبعد يومين اثنين رأيت أن بغداد البدوية غير طنطا الحضرية في طنطا شوارع عريضة وقصور شوامخ، ولكن سكانها لا يعرفون الصراع الجميل بين المذاهب والآراء، لأنها مدينة مصرية صميمة يقل فيها الأجانب، ويكثر فيها ائتلاف الأذواق، وهو باب من السكون والخمود
أما بغداد الجافية التي لا تعرف الحضارة في غير شارع واحد فهي مضطرب عريض لاختلاف المذاهب والمشارب والأذواق، فيها عصبيات عربية وفارسية وهندية وكرديه ويهودية، وفيها جاليات فرنسية وإنجليزية وأمريكية، وفيها على جفوتها بقايا من الحضارات المختلفة، وفيها ألف مجال ومجال لاضطرام الأذواق والأحاسيس
وكذلك ألقيت نفسي في ضرام بغداد فكتبت في نحو تسعة أشهر ألوفاً من الصفحات نشرتُ منها ما نشرت وطويت ما طويت
في طنطا الحضرية يعيش شعبٌ واحد، وفي بغداد البدوية تعيش شعوب، ومن الاختلاف والائتلاف يحيا الأدب الرفيع
ليس في بغداد كلها قصر يشبه أصغر قصر من قصور حاضرة (الغربية) ولكن بغداد فيها جرائد ومجلات وأندية لا تعرفها حاضرة (الغربية) لأن الهدوء في طنطا عجز عما قدر عليه القلق في بغداد. وكذلك فهمت أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية وفي(350/14)
أقطار الفوضى الاجتماعية، بدليل ازدهاره في القاهرة وبغداد وباريس ولندن وبرلين، على شرط أن تقع الفوضى في قوم أصحّاء، لا يُقلقهم الاضطراب، وإنما يزيدهم قوةً إلى قوة ومضاءً إلى مضاء. وما رأيكم في الشواطئ المصرية؟ ألم تسمعوا أن رجال الدين اتفقت كلمتهم على أنها من الأرجاس؟ ألم تروا حيرة شيخ الأزهر في تخليص سمعة مصر من مآثم تلك الشواطئ؟
لا جدال أن شواطئنا في الصيف تمثّل الفوضى الاجتماعية أعنف تمثيل، فهي مضطرَبٌ طويل عريض تثور حوله الآراء في الإسكندرية وبور سعيد ودمياط، ويمتدّ شرُّه حتى يصل إلى بحيرة التمساح، ثم تنتقل عدواه إلى حمامات مصر الجديدة والمعادي وحلوان
ينظر الرجل المؤمن إلى هذه الشواطئ نظرة مخطوفة، ثم يهتف: اللهم أن هذا منكَرٌ لا يرضيك! وأقول وأنا صادق أني أنظر إلى شواطئنا أحياناً بعين الغضب والمقت؛ ولكن هذه الشواطئ المُجرمة خلقت فنَّا جديداً في اللغة العربية هو (أدب الشواطئ)، وقد ألفتُ فيه كتاباً سأنشره يوم أطمئن إلى أن الجمهور يفهم أن المؤرخ غير مسئول عن حوادث التاريخ.
ويوم يُنشر هذا الكتاب ستعرفون أن مصر دانت الأدب العربي بثروة طريفة من تشريح العواطف والأهواء، وسترون الغرائب حين تعرفون أن تلك الشواطئ أنطقت رجال الدين أنفسهم بأقوال هي من عيون الأدب الرفيع
كان الأستاذ الأكبر قد اتفق مع سعادة حامد باشا الشواربي على تخصيص جزء من شاطئ الإسكندرية للنساء بلغة العصر القديم، أو السيدات بلغة العصر الحديث، وتسامع رجال الأزهر بذلك فأمطروا شيخهم الكبير وابلاً من برقيات الثناء
ثم ماذا؟ ثم أُعِدَّ الشاطئ النسوي إعداداً محتشماً وأزيلت منه القهوات المخضرَمة التي تجمع من الأشربة ما نعرف وما نجهل ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم شاع أنه حمام خاصٌّ بالعجائز فلم تقبل عليه ستٌّ ولا ستُّوته ولا بنتٌ ولا بنّوتة، ورفعت أسواره بعد يومين اثنين؟
لا تظنوني خلقتُ هذه النكتة، فما هي إلاّ واقعةٌ وقعت، ولها حواش وذيول ستعلمون أنباءها بعد حين(350/15)
حياة الشواطئ إفك وسفاهة وضلال، ولكن الأدب يستفيد من كل شئ، لأن مهمة الأدب هي الوصف والشرح والتعليل، وحياة الشواطئ تمدّه بوقود رائع جزيل
الشواطئ كلها مآثم، ولولا الخوف من بغي الحاسدين والحاقدين لقلت إن المآثم لا تخلو من بريق يزلزل القلوب والأذواق والعقول، ومن هذه الزلزلة تكون الرجفة التي تثير شياطين الشعر والخيال. والشواطئ المصرية لها سوابق في تاريخ الأدب العربي. وقد وقعت تلك السوابق فوق أرض مقدسة تعطر ثراها بأقدام الرسول. هل تعرفون ما أعني ومن أعني؟ عندكم عمر بن أبي ربيعة وعندكم الشريف الرضي، وهما شاعران جعلا مواسم الحج معالم صبابة ومدارج فتون
عمر بن أبي ربيعة فاجر بحسب الاصطلاح، وهيامه بزائرات مكة هيام أثيم، ولكن أشعار ذلك الفاجر صارت من ذخائر الأدب العربي. وقد شرَّقت وغرّبت حتى قهرت بعض الجامعات الأوربية على إفراد أشعاره بدرس خاص
كان يقال: ما عُصِىَ الله بشعر أكثر مم عُصِى بشعر عمر بن أبي ربيعة
وهذا حق؟ فهل تضمنون أن يرفع اسمه من مطبوعات وزارة المعارف؟ وكيف وهو من الذين ستحفظ أقدارهم في كتاب (أعلام الإسلام) بدراسة يقدمها الأستاذ عباس العقاد؟
وتسمعون في كل يوم أن مصر تحارب الخمر لأنها في طليعة الأمم الإسلامية، ولكن رجال الأدب في مصر لن يستطيعوا غض النظر عن (خمريات أبي نواس) لأن الأدب وإن فَجَر في بعض نواحيه له سلطانٌ قهار لا ينكر جبروته غير الأغبياء!
أنا أبغض الفوضى أشد البغض، وأرجو الله في كل وقت أن يحفظ عليَّ نعمة السلامة من مكايد الشياطين، ولكني أؤرخ الأدب، والمؤرخ لا يصدُق إلا إن تناسى منافعه الذاتية، ونظر في الحوادث بلا غرض، والنزاهة عن الغرض هي التي تقفني هذا الموقف الشائك فأسجل على نفسي القول بأن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، وهو قول يعرّضني لقوارص الاغتياب والتجريح
ولكن ماذا أصنع وأنتم دعوتموني لمواجهة المنطق والعقل فوق منبر كلية الآداب بين شباب وكهول لا يلقاهم الرجل الحازم بغير الصراحة والصدق؟
أحب أن أعرف كيف يطيش السهم الذي صوبته إلى صدر الباطل بهذه الكلمات التي شقيت(350/16)
في تحريرها ليلتين طويلتين؟ أحب أن أعرف كيف يضيع الرجل الصادق في هذه البلاد؟ أحب أن أعرف كيف ينال خصمي أصواتكم بعد هذه البينات، وعلى ضوء هذه الكهرباء؟ له أن يصول ويجول كيف يشاء، ولكم أن تحكموا له أو عليه كيف شئتم، فما أملك من القدرة غير صرير القلم وهدير الوجدان. ولكن، ما الذي يستطيع أن يقول؟
أيقول: إن النظام أفضل من الاضطراب، وإن الأدب الذي يصدُر عن الحالة الأولى أفضل من الأدب الذي يصدر عن الحالة الثانية؟
آمنت وصدقّت! ولكن هل يستطيع القول بأن النظام صدر عنه أدب رفيع؟ وما حاجة الناس إلى الأدب حين يعيشون في نظام وأمان؟ وهل للآمنين أدب وهم يعيشون في غيبوبة بفضل الراحة والاطمئنان؟
الأدب حظُّنا، جماعةَ المكتوين بالدنيا والناس، وليس لسوانا غير الأحلام، أحلام الناعمين بهدآت الليل!
عنّا يصدُر قلق الفِكر وانزعاج البال، وهما مصدر يقظة الرأي والعقل. فما بال قوم يتوهمون أنهم قادرون على مساورة الشعر والخيال وهم يشاركون الأموات في الهدوء والاطمئنان؟ عنا يصدر الإحساس بالدنيا والوجود، لأننا أشقياء بالدنيا والوجود، فما بال قوم يتوهمون القدرة على اقتحام جحيم الأدب وهم بفضل نعيم النظام سعداء؟ عنا يصدر الأدب الصحيح لأننا أصحّاء، وهل يحس وخز الألم غير من يملك عناصر العافية؟
من أنتم، في عالم الفكر والعقل، أيها الوادعون في ظل الأمن المكفول برعاية القوانين؟ أنتم أشبه بالأطفال الذين يعيشون في ظلال ما ورثوا عن الآباء والأجداد، ولن تحسوا من الدنيا أكثر مما يحس هؤلاء، أما نحن فقد كتب علينا أن نعيش بحس مرهف وذوق مشبوب، بفضل البلاء بالدنيا والناس، والفرق بيننا وبينكم أبعد مما تظنون، فجرِّبوا الاطمئنان إلى الوهم الخادع إن صح للمريض بالهيام أن ينخدع بالسراب!
النظام قرار، والاضطراب حركة، والحركة أدلّ على الحياة من السكون، جعلني الله وإياكم من الأحياء!
زكي مبارك(350/17)
أفانين
أثر الإيحاء في جلب التفاؤل
للأستاذ علي الجندي
- 2 -
أوردنا في مقال سابق أمثلة للإيحاء الذاتي، كان سبباً في ردْء التشاؤم عن أصحابها، وجلب التفاؤل إليهم
وسبيلنا في هذا المقال أن نسوق شواهد طريفة للإيحاء الخارجي، أي إيحاء الإنسان إلى غيره
وطرافة هذه الشواهد أن جلها بل كلها وقعت عفو البديهية ومسارقة الخاطر! ولولا ذلك ما كان لها هذا الأثر الذي يشبه فعل السحر! لأن مجيء الإيحاء في وقته أشبه بمعالجة المرض إبان طروئه. هذا إلى إن ذلك يطبعه بطابع الإلهام العلوي والنفحات اللْدنية! ويجعل له وقع البُشرَيات التي تنفرج عنها سجوف الغيوب في الحين بعد الحين!
وطبيعي أن هؤلاء السحرة أو الرُّقاة - على الأصح - الذين استطاعوا أن يتلعّبوا بالنفوس، فأروْها النحوس سعودا، ً والسواد بياضاً! واستنقذوها من القلق والشك والارتماض، لم يكونوا إلا جماعة من أهل اللسن والبيان! ومن أقدر من أهل اللسَ ن والبيان على قلب الحقائق والتصرف في أهواء النفوس؟ وإن من البيان لسحراً!
بل الحق أن البلاغة وحدها لا تغني غناءها في هذا المواقف المتضايقة، ما لم تسعدها شدة العارضة ودقة الفطنة وحسن التأني وبراعة الاحتجاج وقوة التعليل
وسنذكر هذه الشواهد فيما يلي مرتبة بحسب الزمن قدر الاستطاعة:
1 - بنى عبد الملك بن مروان باباً من أبواب المسجد الأقصى ببيت المقدس، وبنى الحجاج باباً إلى جانبه، فنزلت صاعقة فأحرقت باب عبد الملك، فتطّير بذلك وشق عليه! فبلغ ذلك الحجاج فكتب إليه: بلغني كذا وكذا، فلْيهن أمير المؤمنين أن الله تقبَّل منه! وما مثلي ومثله إلا كابنيْ آدم إذ قرَّبا قرباناً، فتُقُبِّل من أحدهما ولم يتقبَّل من الآخر
فلما وقف عبد الملك على الكتاب سُرِّي عنه وأستبشر(350/18)
قال صاحب المثل السائر: وهذا معنى غريب استخرجه الحجاج من القرآن الكريم، ويكفي الحجاج فطانة الفكرة أن يكون عنده استعداد لاستخراج مثل ذلك
2 - خرج المنصور العباسي إلى قتال أبي يزيد الخارجي في جماعة من الأنصار. فلما واجَه الحصن سقط الرمح من يده، فأخَذه بعضهم فمسحه وقال:
فألقت عصاها وأستقرّ بها النوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فضحك المنصور وقال: لم لا قلت: فألقى موسى عصاه؟
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، العبد تكلم بما عنده إشارات المتأدبين، وتكلم أمير المؤمنين بما أنزل الله على النبي من كلام رب العالمين
فكان الأمر على ما ذكر، فأخِذ الحصن وتم الظفر للمنصور
3 - قلّد المأمون خالدَ بن يزيد بن مَزْيد ولايةَ الموصل، فمر خالد ببعض الدروب فأندقّ اللواء! فأغتمّ خالد بذلك وتطّير منه! فقال أبو الشّمقمق:
ما كان مُنْدَقُّ اللواء لطيرةٍ ... يُخشَى ولا سوءٍ يكون معجَّلا
لكنّ هذا العُودَ أضْعَفَ مَتْنَهُ ... صِغَرُ الولاية، فاستقلّ الموْصِلا
ففرح خالد! وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون، فزاده ديار ربيعة، وأعطى خالدٌ أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم
4 - كان المنصور بن أبي عامر الأندلسي إذا سار لغزوة، عقد لواءه بجامع قرطبة ولم يسرْ إلى الغزوة إلا من الجامع
فاتفق أنه في بعض حركاته للغزو توجه إلى الجامع لعقد اللواء، فاجتمع عنده القضاة والعلماء وأرباب الدولة، ورفع حامل اللواء اللواءَ، فصدهم ثريّا من قناديل من قناديل المسجد فانكسرت على اللواء، وانسكب عليه زيتها! فتطير الحاضرون من ذلك، وتغير وجه المنصور!
فقام رجل وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بغَزَاة هيّنة وغيبة سارّة! فقد بلغت أعلامك الثريّا، وسقاها الله من شجرة مباركة!
فاستحسن المنصور ذلك، وكانت هذه الغزوة من أبرك الغزوات!
5 - كان سيف الدولة بن حمدان، قد ضرب خيمة كبيرة عجيبة الصنع (بميّا فارقين) فهبت(350/19)
ريح شديدة فقوضتها، فتكلم الناس في ذلك وأكثروا، فقال المتنبي:
أيقدح في الخيمة العُذَّلُ ... وتَشملَ منْ دْهرَها يشمل
وتعلو الذي زُحَلٌ فوقه ... مُحالٌ لعمرك ما تُسْأل
تضيق بشخصك أرجاؤُها ... ويركض في الواحد الجحفل
وكيف تقوم على راحةٍ ... كأن السحاب لها أنمُل
فلا تنكرنَّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل
ولو بلغ الناس ما بُلَّغت ... لخانتهمو حولك الأرجل
ولما أمرت بتطنيبها ... أُشيع بأنك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
فما العاندون وما أمَّلوا ... وما الحاسدون وما قوَّلوا
همو يطلبون فمن أدركوا؟ ... وهم يكذبون فمن يَقبلُ؟
وهم يتمنوْن ما يشتهون ... ومن دونه جدُّك المقبل
6 - كان أبو إسحاق إبراهيم عبد الله البحتري يوماً عند أبي المسك كافور الأخشيدي فدخل عليه الفضل بن عباس فقال: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ (بخفض أيام وحقها النصب)
فتبسم كافور إلى أبي إسحاق البحتري! فقال مرتجلاً:
لاغرو إن لحن الداعي لسيدنا ... وغص من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام من دهش ... من شدة الخوف لا من قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل مأثرة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر
7 - كان لعضد الدولة أحد الرؤساء أبن خُلِعَ عليه خلعة سنية، وركب إلى منزله - والناس بين يديه - فعثرت به فرسه فسقط من فوقها، ثم ركبها ثانية من ساعته فلهج الناس بالقول في الطيرة، فقال الوجيه الشاعر:
لا تعذل الفرسَ التي عثرتْ ... بك أمسِ قبل سماعك العذْر
قالت مقالاً لو علمتَ به ... لم تولها لوماً ولا هجرا:(350/20)
لما رأى الأملاك أنَّ على ... سرجيَ فتىً أعلى الورى قدرْا
رفَعَتْ يدي حتى تقبَّلها ... شغفاً بها فهوت يدي الأخرى
8 - كان السلطان حسن الناصري المصري يريد أن يبني لمدرسته (مسجد السطان حسن) أربع منائر. فلما بنيت ثلاث منها سقطت المنارة التي على الباب، فهلك تحتها ثلاثمائة من الأيتام الذين كانوا يقرءون القرآن وغيرهم من الناس!
فتحدّث الناس أن هذا نذير بزوال الدولة! فقال في ذلك الشيخ بهاء الدين السبكي:
تلك الحجارة لم تنقضَّ بل هبطتْ ... من خشية لله، لا للضعف والخَلَل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمتْ ... بنفسها لجوىً في القلب مُشْتعِل
لا يقرب البؤسُ بعد اليوم مدرسةً ... شيدْتَ بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأتْ ... علماً، فليس بمصر غير مشتغل
ومما يتصل بهذا وإن لم يكن منه أن الناجم دخل على ابن الرومي، وهو ينظم قصيدة في مدح أبي العباس المرثدي ويهنئه بابن وُلدَ له وكان أول القصيدة:
شمسٌ وبدرٌ ولد كوكبا ... أقسمت بالله لقد أنجبا
فقال الناجم: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد لأن معكوس أبي العباس: أبو السابع، إذاً لجأ المعنى طريفاً! فقال ابن الرومي:
وقد تفاءلتُ له زاجراً ... كنيتَه، لا زاجراً ثعلبا
إني تأمْلتُ له كنيةً ... إذا بدا مقلوبها أَعَجبا
يصوغها العَكْسُ أبا سابع ... لا كذّب اللهُ ولا خيَّبا
بل ذاك فألٌ ضامنٌ سبعةً ... مثل الصقور استشرفت مرقبا
يأتون من صُلب فتيً ماجد ... وذاك فألٌ لم يَعُدْ مُعْطبا
وقد أتى منهم له واحدٌ ... فَلْنَنتظرهم ستّة غيَّبا
في مدة تغمرها نعمةُ ... يجعلها الله لهُ تَرْتَبا
حتّى نراه جالساً بينهم ... أجلَّ من رضْوَى ومِن كبكبا
كالبدرِ وافي الأرض من نوره ... بين نجوم سبعة فاحْتَبى
ولْيُشكر النَّاجمُ عن هذه ... فإنها من بعض ما بَوَّبا(350/21)
سَدَّي وَأََلحمتُ أخٌ لم أزَلْ ... أشكر ما أسْدى وما سَبَّبا
هذه الشواهد وما قبلها تدل دلالة واضحة على أن التفاؤل والتشاؤم من عمل الإنسان نفسه، وأن المصاب بمرض التطير يستطيع بقوة الإرادة، واصطناع الرجاء، والنظر إلى الحوادث بمنظار أبيض وهاج، في ظل الثقة بالله وبشاشة الإيمان، أن يبرأ منه برءاً تاماً ولله الخلق والأمر.
علي الجندي(350/22)
1 - تأملات
في يوم سبت من يناير من عام منصرم تحركت عاطفة مكنونة فإذا هي تضطرم، وإذا ظرفها الطارئ يطبع أربعة عشر عاماً من حياتي بطابع خاص. كانت العاطفة في غضونها مودة فحسب، اشتدت حيناً وفترت أحياناً، وتفاوتت درجاتها بتفاوت الظروف لكنها بقيت مودة يغذيها ميل وألفة وجميل وعرفان؛ حتى كان يوم السبت، فحالت العاطفة شيئاً آخر بدأ غبطة يكتنفها ذهول واستسلام؛ ثم تنبه القلب إلى زائر جديد لا يعرف الاستئذان وأستقر بين الضلوع شئ نسيت على مر الأيام اسمه، فأحسست اليوم فعله، وكان جارفاً، أطار كل شئ من لب ونوم، وبسط على نفسي الهادئة سلطانه، فاضطربت واضطرمت، ولم تك تدين من قبل لسلطان كهذا يشبه البُحران
ومضت بين السبت والسبت سبعة أيام لزمت فيها الفراش يومين، ومخدعي ثلاثة، وحرت في بقيتها بين البيت والمكتب، تارة آلم، وتارة أنغم، وطوراً تفترسني كآبة تبيت معها قوتي ضعفاً، ولا أملك أن أرفع فيها جفناً. أما طبعي الذي لم يبال في حياتي أحداً، فخانني هذه المرة، فكففت عن أن أكون ما كنت
كنت أحب الوحدة، والظلام الذي لا يقربه الخفاش، لأنه تضيئه التأملات. وكنت أوزع مودتي على غير واحد من بني البشر، وأحس الميل الجامح إلى غير واحدة من بناتهم. فلم أعرف في التوزيع غير القسطاس. وكنت أعجب أحيانا كيف أحب الناس هذا الحب العادل، وكيف أتحرر إلى هذا الحد من سلطان التحيز والتحامل، لكني هذه المرة قد اضطرب ميزاني، فإذا بي أميل إلى ناحيته كل الميل، وإذا تلك التي رجحت كفتها تستبدي من دون أن تعلم، وتستحوذني على عظم جرمي في طي إشارة لو شاءت، وهي بعد لم تشأ ولم تدِر. بل قل: إنها تدري ولكن لا تدرك. وكيف تدرك وهي تبعث، والأمر عندي جد وهي تلهو، وأنا جدُّ حزين؟
ما بك يا فتاتي! الشباب الذي ترفلين في غفلته، وتخطرين في روعته، وتمر فيه نظراتك واهنة، فتصمي مع هذا إصماء السهم؛ ثم لا شي في ذهنك غير الفراغ، وكل شي يضطرب به ذهني، ويدمي، ويتألم. . .
أأحسست دفء الإيمان في راحتي حين احتوت راحتك الدافئة بدم الشباب؟
إذن فدعيني أذكر لك يا فتاتي بعض الذي بي: أحبك حبّاً خالط كل حواسي، فأنا أبداً على(350/23)
ذكر منك، وأنت على مرأى ومسمع مني.
رسمك أبداً ماثلاً لعيني، حاضر في ذهني، فأنا في الحياة أعيش بك وأنساق بإرادتك. أكون مع الناس جميعاً في كل مكان، ولا أكون إلا معك. . . الغبطة التي تطغى على مصدرها أتت؛ والألم الذي يهد كياني مبعثه أنت. والمشاعر على اختلافها تتناوبني منك ولا أملك أن أشعر لنفسي وبإرادتي.
أتحبين يا فتاتي أن أصارحك بما ساورني ليلة أمس؟ إن نظرتك الواهنة التي خلتك تؤثرينني بها نظرة للجميع، فهي من هذه الناحية عادلة وهي مما خلالها ظالمة خادعة.
إنك يا فتاتي لغز، ميزتك الكبرى جاذبيتك، فأنت تجذبين محبيك ومبغضيك على السواء. ولا يملك المرء ألا يكترث لك
ليس جمالك بالفاتن ولا بالذي يلفت النظر. وقد تمرين بالألوف من دون أن تستوقفي أحداً، ويمر بك الألوف مر الكرام. لكن كيانك جميل كل الجمال، فاتن كل الفتنة، ولا بد من الوقوف عندك والتأمل فيك ليعلقك من يشاء ومن تشائين، ويأسره منك إلى الأبد تلك النظرة الواهنة، والابتسامة الحائرة، والوجه الذي لا يمتاز بشيء في تفاصيله ولكنه في جملته وحدة أخاذة
ما قولك يا فتاتي فيمن ظل أربعة عشر عاماً على رأي واحد فيك، وميل واحد نحوك، وكنت في خلالها طفلة في العاشرة، وزهرة في الرابعة عشرة، وثمرة شهية في العشرين، فما فكر في غير الحدب عليك، واستنشاق عبيرك، والتطلع إليك. لكنه لم يقطفك ولم يخنك
كانت زهرتك تغري بالقطف، لكنه كان فيك ما يرد الأيدي عنك. وكانت ثمرتك ناضجة شهية، لكنها كانت الثمرة المحرمة. وكنت عزلاء إلا من ذلك العفاف الذي ينبعث من كيانك طهراً وبراءة
ثم سددت يوماً إلى قلبي نظرتك المعهودة وفيها بريق غير معهود، ومعها حاشية طيعة من الضحك الواهن الغالب عليه الحياء. وألفيتك في مجلسي مرحة قد وسع فهمك مغازي الكلام، ودقت إجاباتك عليها
ثم ظللت جبينك العالي غمامة فأطرقت برأسك، واحتوتك كآبة وخفت صوتك، وكان سكون طال عليه الزمن أو قصر لا ندري، أو على الأقل لا أدري(350/24)
واحتوت راحتك راحتي فإذا هما شعلتان، وحاولت أن أحدق في عينيك فلم ترفعيهما إليَّ، وألقيت عليك كلمة من عفو الساعة فلم تردي عليَّ
ولبثنا هنيهة على هذه الحال من الصمت فإذا نحن نتساءل معا: هل أسأت إليك؟!
وكيف تسيئينني يا فتاتي وقد أشعرتني الهناء الذي كنت أحوِّم حوله أيام الشباب ولا أناله، حتى كان يوم السبت من يناير من عام منصرم فخلقتني خلقاً آخر يدين لك بالوجود
(م. د)(350/25)
من وراء المنظار
عرفان الجميل
نهضت للقائه وقد أقبل عليّ هاشّاً محيياً، وصافحنه شاكراً له تحيته مجيباً عليها بأحسن منها، وجلست وجلس وهو يحمد الظروف التي جمعت بيننا في القرية على غير انتظار
وكان يعلم أني لا تتاح لي فرصة للمجيء إلى القرية إلا اغتنمتها فمال بالحديث إلى ذلك المعنى، وأخذ يبدئ ويعيد في بيان مبلغ كرهه للقرية، وهو لن يرى أبلغ من أن يقول إنه يكرهها بقدر ما أحبها؛ وإنما يجئ إليها مضطراً في بعض عمله ثم يغادرها بأسرع ما يستطيع
ولما كنت أفهم العلة الحقيقية لتلك الكراهية لم أشأ أن أناقشه فيما أبداه من غيرها من العلل الزائفة، بل لقد ثقل عليّ كلامه وأنكرت ما يفيض به من تكلف سخيف وما ينطوي عليه من خبث بغيض
ورأيته يبالغ في الحذر على ملابسه أن يعلق بها التراب فهو لذلك يمسحه عنها بمنديله بين آونة وأخرى لا يمل ذلك ولا يفتر عنه؛ وكيف يطيق أن يرى الغبار على حلته (الإفرنجية)، وإنه ليزهى أكبر الزهو بأن يخطر فيها على أعين الناس في القرية يذكرهم بها كيف أنه أصبح ذلك (الأفندي) الوجيه الذي لا يقل في وجاهته وعظمته شأناً عن سراة القرية ووجوهها. ولعل هذا المظهر الذي تبهج له نفسه وهو وحده الذي يجعله يطيق البقاء يوماً أو بعض يوم في تلك القرية
وقطع علينا الحديث قدوم شيخ أربي يما قدرت على الستين يتوكأ على عصا غليظة، ويكاد من الضعف لا تقوى على حمله رجلاه، ولم يكن ذلك الشيخ المتهدم إلا والد ذلك الأفندي الوجيه؛ ونهضت أستقبله مظهراً له حفاوتي به؛ وعجبت أن أرى ابنه يقف متثاقلاً متباطئاً؛ وأسند الرجل عصاه إلى أحد المقاعد وهمّ ليجلس على الأرض فأمسكت بيده وأجلسته بعد إلحاح على المقعد. . .
وأطرق الرجل لحظة، ولكني تبينت في عينيه كلاماً؛ وفطنت إلى أنه يرتاح لوجود ابنه معي في تلك الآونة إذ يستطيع أن يسمعه ما يريد ويِشهدني على قوله ويبثني شكواه؛ وزدت وثوقاً من ذلك بما رأيته من اضطراب وغيظ على ملامح ابنه الوجيه.(350/26)
وتنهد الرجل تنهدة طويلة ثم أنطلق يتحدث ولم يعد يتحدث إلا شكاة مره موجعة من هذا الذي أنفق عليه الرجل ماله جميعاً حتى صار إلى ما صار إليه. وذكر لي فيما ذكر والدموع تبلل لحيته البيضاء، أنه ذهب إلى بيت أبنه في المدينة فأنكر الابن وجوده هناك، فذهب أبوه يطلبه في مقر عمله فدله عليه بعض الخدم، فانتحى به الابن جانباً وهو يحاول كتمان غيظه ثم صرفه بعد دقائق، فما كاد الرجل يبلغ عتبة الحجرة حتى سمع ابنه يقول لزملائه ضاحكاً: إن هذا الرجل كان فيما قبل مزارعاً أجيراً عند أسرته وإنه يطلب إحساناً. . . وخنقته العبرات لحظة ثم عاد إلى حديثه يسألني: هل يكون ذلك نتيجة التربية؟ وهل يكون جزاؤه على بيع ما كان يملك في تعليم ابنه أن يقابله بما يقابله به؟ والتفت أطلب الجواب من الوجيه المتعلم الذي يكره القرية وحياة القرية، فهالني ما سمعته من عبارات فاجرة أخذ يوجهها إلى الذي كان سبباً في نعمته، دون أن يستحي، وكانت أقل تهمة ألصقها بأبيه أنه قد صار شيخاً خرفاً لا يؤاخذ
وبلغ بي الغيظ كل مبلغ فنصحت إلى الرجل أن يرفع إلى القضاء، دعواه، فنظر إليّ نظرة شكر ولكنه قال: (يا بني نضحك علينا البلد ونسمع بنا الناس؟ لا، أنا عندي أموت من الجوع ولا يقول الناس إن ابني ناكر الجميل)
وأخذت أسري عن الرجل بما أستطيع من الكلام وقد عزني في هذا الموقف الكلام. كل ذلك وابنه صامت كأنه جماد، ثم وعدت الشيخ أني سأبذل قصارى جهدي من أجل راحته وودعته مواسياً مشفقاً
وهم ابنه بالانصراف بعده فمددت إليه يدي على كره مني؛ وجلست وأنا أقول: أيكون بعد ذلك غريباً أن نجهل القرى وحياة ساكني القرى وأن نظل وكأننا بما بيننا وما بين هؤلاء المساكين من قطيعة شعبان يعيش أحدهما من كد الآخر؟ وإذا كان هذا شأن بعض الأبناء مع الآباء فكيف تكون الحال فيمن لا تربطهم بأولئك المساكين بنوة أو قرابة؟
(عين)(350/27)
حول لقب (السفاح) أيضاً
للأستاذ عبد الحميد العبادي
وأخيراً يدلي الأستاذ عبد المتعال الصعيدي دلوه في دلاء وينبري للبحث عن لقب (السفاح) لمن هو على التحقيق.
وقد كتب الأستاذ في هذا الموضوع ثلاث مقالات نشرت في الأعداد 346 و347 و349 من (الرسالة) الغراء. ونحن لا شأن لنا بالمقالة الأولى من هذه المقالات، لان الأستاذ ذهب يدلل فيها على إننا مسبوقون إلى تفسير لفظ (السفاح) بالمعطاء للمال، وفاته وهو يكتب تلك المقالة إننا نزلنا على هذه الدعوى عندما ثبت عندنا ان الذين لقبوا الإمام أبا العباس بذلك اللقب لم يقصدوا إلى مدحه بل إلى ذمه ووصفه بأنه سفاك قتال.
أما مقالتاه الثانية والثالثة فهما اللتان نعنى بمناقشتها اليوم.
وقد حاول الأستاذ في المقال الثاني إن يفند قولنا إن أبا العباس لم يكن سفاحاً، كما حاول في المقال الثالث أن يبين لنا كيف اختلفت الروايات في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي.
وقد كبر الأستاذ الصعيدي أن نقول: (إنا رجعنا إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم نجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح) فاندفع يرمينا بالغفلة الظاهرة والتجني على التاريخ ويزعم أن سيرة أبى العباس بعد الخلافة (طافحة) بسفك الدماء ولقد ظننت الأستاذ سيأتي في الأمر بجديد فإذا به يعزو إلى أبى العباس ثلاثة حوادث: أولها قتله ابن هبيرة غدراً، وهذا ما نبهت أنا عليه في أول مقال نشرته لي الثقافة في هذا الموضوع. وثانيها قتله أبا سلمة الخلال، ولم أعد أنا أبا العباس مسئولاً عن هذا الحادث شخصياً، فالباعث عليه من قبيل ما نسميه الآن بتهمة الخيانة العظمى، ولذلك لم أعتد به على أبي العباس. على أن هذا الحادث قد تولى كبره أبو مسلم الخرساني من غير مراء. الحادث الثالث قتل أبي العباس سليمان بن هشام بن عبد الملك بعد أن آمنه، ولو تتبع الأستاذ قصة هذا الأمير في أقدم مظانها وأصحها وهو تاريخ ابن جرير الطبري لعلم أن الطبري يتتبع أخبار سليمان هذا بكثير من العناية والإسهاب حتى سنة 129 وثم لا يعود إلى ذكره بعد ذلك التاريخ، وسياق حديث الطبري يفيد أن هذا الأمير قتل في وقعة مرو الشاذان التي كانت سنة 129 بين(350/28)
جيش ابن معاوية الثائر بفارس وبين جيش ابن هبيرة أمير العراق؛ وإذاً يكون سلمان ابن هشام قد فارق هذه الحياة قبل قتله المزعوم على يد أبي العباس بنحو أربع سنوات على اقل تقدير. وإذاً لا يمكن أن ينسب من هذه الحوادث إلى أبي العباس إلا حادث واحد فقط هو مقتل ابن هبيرة، وحتى هذا لا يعدم عند تدقيق النظر توجيهاً وتأويلاً. فقد كان ابن هبيرة زعيماً عربياً قوياً، وكان له حزب عربي عظيم في مدينة واسط، وكان أبو العباس يعتقد أنه يرقب الأمور، ويتربص الدوائر ليثب وثبة ترد عليه ما ضاع منه، فرأى أن يعالجه قبل استفحال شأنه
ولما لم يجد الأستاذ الصعيدي من حوادث القتل ما يصح أن ينسبه إلى أبي العباس رأساً أخذ ينحله جرائم غيره، فزعم انه هو الذي قتل تسعين من بني أمية كانوا على مائدته بتحريض سديف الشاعر؛ مع أن هذا الحادث الفظيع إنما كان بفلسطين وهو المعبر عنه في تاريخ الطبري بيوم أبي فرطس، والمسئول عنه هو من غير نزاع عبد الله بن عليّ وحده. بل إن الأستاذ الصعيدي ليجعل أبا العباس مسئولاً عمن قتل عبد الله بن علي بالشام وداود بن علي بالحجاز وسليمان بن علي في البصرة، لأنه هو الذي (سلطهم) على بني أمية في البلدان المذكورة. وهذه قصة الذئب مع الخروف معادة بشكل آخر. ولست أدري على أي مسدر يعتمد الأستاذ في دعاه هذا (التسليط) فالمصادر لا تذكر إلا لفظ (التولية) على تلك البلدان. والتولية ليس معناها (التسليط) بطبيعة الحال. ثم أين عدالة الإسلام وأدب القرآن الذي يقول (كل نفس بما كسبت رهينة) (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ وأين مبدأ شخصية الجريمة العقوبة وهو من الإصلاحات العظيمة التي جاء بها الإسلام، وكانوا في الجاهلية ربما أخذوا القبيلة كلها بجريرة فرد واحد منها؟ الحق أن أبا العباس كما بينت في مقالاتي السابقة كان مغلوباً على أمره لأبي مسلم بالمشرق ولعمه عبد الله ابن علي بالشام، ولو رجع الأستاذ الصعيدي إلى تاريخ الطبري وقرأ فيه سيرة أبي العباس لتبين له ذلك بأجلى بيان، فلعله فاعل إن شاء الله
وقد بلغ من الحرص الأستاذ الصعيدي على اتهام أبي العباس أن وقع في تناقض عجيب حقاً. فقد كتب في مقاله الثاني يقول: (ولقد كان له (أي لأبي العباس) سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله سفكاً للدماء.(350/29)
ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب) وبعد أسطر قليلة يقول الأستاذ الذي يرمينا بالغفلة: (ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته (مع العلم بأن التاريخ لا يعرف لأبي العباس أخوة سفاكين يسأل عن جرائمهم) من الدماء. ولقد كانوا كلهم شركاء فيما عدا سليمان بن علي فإنه كان أحنهم على بني أمية وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار منهم الخ) والظاهر أن الأستاذ أحس هذا التناقض العجيب وأراد أن يتلافاه فكان أعجب وأغرب، إذ عقب على الفقرة الأخيرة بقوله في هامش المقال الثاني: (هكذا روى عنه صاحب العقد وهو ينافي ما ذكرناه من قتله من كان في بني أمية بالبصرة. . . فلعل هذه الشفقة أدركته أخيرا عليهم). ولولا أن الأستاذ الصعيدي جاد فيما يقول لقلنا إنه تعمد أن يورد في هذا البحث الدامي فصلاً مضحكا يرفه به عن القراء
والواقع أن لا أبو العباس ولا عمه سليمان بن علي يمكن أن يوصفا بأنهما سفاحان سفاكان، وذلك لسبب واضح هو أنه لم يكن في العراق في وقتها أمويون يمكن أن يبسطا إليهم يد القتل والمثلة. فمن يتعمق درس التاريخ الأموي يعلم أن العراق لم يكن في وقت من الأوقات موطناً لبني أمية وبخاصة في أخريات عهدهم عندما انبثقت عليهم فيه البثوق التي زعزعت ملكهم، وكادت تأتي على سلطانهم قبل زحف العباسيين من المشرق.
إنما كان موطن بني أمية ومحل عصبيتهم الشام ثم الحجاز. فإذا سكتت المصادر التاريخية القديمة عن أن تنسب إلى أبي العباس قتل بني أمية أو قال صاحب العقد إن سليمان بن علي كان شديد الحنو على من يلجأ إليه من بني أمية، كان هذا السكوت وذلك القول هو المعقول والمتفق وحقيقة الحال. وإذا اقتصر الطبري على ذكر من قتل الأمويين إنه إنما كان في الشام والحجاز كان ذلك منطبقاً على الحقيقة والواقع
مما تقدم يرى القارئ أن الأستاذ الصعيدي على عنف محاولته (إدانة) أبي العباس وتسويغ تلقيبه بالسفاح لم يكن موفقاً، بل هو لم يخرج في واقع الأمر قيد شعرة عن مضمون قولنا: (إن سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها لا تسوغ تلقيبه بالسفاح بحال من الأحوال)
ولننتقل الآن إلى مناقشة موقف الأستاذ الصعيدي من المصادر واختلافها في لقب السفاح(350/30)
بين أبي العباس وعمه عبد الله بن علي. وهو موقف عجيب حقاً، فالأستاذ الصعيدي ينظر إلى المؤرخين والأدباء الذين تعرضوا لسيرة أبي العباس وأخباره نظرة واحدة، ويضعهم في مرتبة واحدة من حيث العدالة والضبط والحجية، لا فرق عنده بين متقدم ومتأخر، وبين متخصص في الرواية التاريخية وغير متخصص فيها، وبين من يتتبع الرواية بإسنادها إلى من شهد الواقعة ومن يتسقط الأخبار من هنا وهنا. وما هكذا كان السلف الصالح من علماء المسلمين. فإنهم كانوا يزنون الرجال والأخبار بأدق موازين النقد؛ وما علم الحديث منا ببعيد، فقد رجحوا كتب البخاري على غيره من كتب الحديث، لأنه أقل من غيره رجالاً تُكلم فيهم بالضعف، وأقل من غيره أحاديث شاذة أو معلولة. فإذا جئنا إلى التاريخ، وجدناهم يقولون: إن أصح التواريخ تاريخ ابن جرير، وإن كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري لم يؤلف مثله في موضوعه، وإن طبقات ابن سعد أقدم وأعظم كتاب في السيرة وتاريخ الصحابة والتابعين. وقالوا في ابن قتيبة إنه قليل الرواية
ولقد أدى هذا الموقف الأستاذ الصعيدي إلى نتيجة هي عجب من العجب، فالمصادر التي لقبت أبا العباس بالسفاح صادقة لأن، أبا العباس عنده سفاح، والمصادر التي لقبت عبد الله بن علي بنفس اللقب صادقة لأنه كان سفاحاً. والمصادر التي سكتت عن تلقيب هذا أو ذاك باللقب المذكور لا يصح الطعن بها في رواية المصادر التي ذكرت هذا اللقب (لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ) وهي قاعدة مشهورة عند الأزهريين ويقول الأستاذ إنه ليمكن أن أجادل فيها. وأنا لا أجادل في القاعدة ولكن أجادل في تطبيقها فليس هذا محل تطبيقها، والمسألة ليست مسألة حفظ وتضييع، وإنما هي مسألة تخليط وعدم تخليط، فهل يسلم الأستاذ بقول من يقول (إن من خلط حجة علي من لم يخلط)؟
أما نحن فنظرنا إلى المصادر نظرة نقد وتقدير كما فعل الأقدمون من علماء الحديث؛ فوجدنا أن أقدمها وأوثقها وأشدها تخصصاً بالرواية التاريخية لا تلقب أبا العباس بالسفاح، وتصور هذا الخليفة في الصورة التي أجملناها غير مرة، ووجدنا المصادر التي شوهت صورة هذا الخليفة ولقبته بالسفاح ونسبت إليه الفضائع هي من وضع رجال ليسوا متخصصين في الرواية التاريخية الجدية ولا معروفين بالعدالة والضبط الذين يعرف بهما أصحاب الرواية التاريخية القديمة كابن سعد والبلاذري والطبري وغيرهم. هذا هو موقفنا(350/31)
بإزاء المصادر القديمة من حيث موضوع (السفاح)
وبعد فلئن كنت حزنت لشيء وأنا أقرأ هذا المقال الثالث والأخير للأستاذ الصعيدي فلقد حزنت للعبارة التي علق بها على جملة لابن العبري المؤرخ المسبحي المتدين الزاهد. فقد قال ابن العبري: (وكان أبو العباس رجلاً طويلاً ابيض اللون حسن الوجه يكره الدماء ويحامي على أهل البيت) فعلق الأستاذ الصعيدي على ذلك بقوله: (إن هذا لا يراد منه إلا كراهته لدماء أهل البيت وحدهم) مع أن المؤرخ وهو يترجم لأبي العباس لم يسند إليه حادثة قتل واحدة، ومع أنه في تاريخه السرياني المطول والمترجم إلى الإنجليزية لا يلقبه بالسفاح مطلقاً.
عبد الحميد العبادي(350/32)
من وحي الفوضى
الدكتور مبارك يناظر
للأستاذ شكري فيصل
منذ أيام وقف الدكتور (زكي مبارك) يناظر الأستاذ (لطفي جمعة) في موضوع: (يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية). وكان طبيعياً أن يؤيد الدكتور المبارك هذه الفكرة وأن ينتصر لها، ويدافع عنها؛ ويجرد حملاته على خصومها ويسوق عليهم القوى والهجمات من منطق العقل ومنطق العواطف
وقد ود الناس لو سمعوا الدكتور خطيباً يرتجل حججه وسط هذا الحماس المضطرم، وينتزع آراءه من قلب هذا التيار العاصف، ويمتع سامعيه بلفتاته الذهنية البارعة. ولكن الدكتور زهد - كما يقول - في البراعة الخطابية، فانصرف عنها، وأوى إلى قلمه في ساعة من ساعات الفوضى والاضطراب فكتب خطابه في دائرة محدودة وصفحات معدودة ونهج بيّن
وكان هذا في الواقع صدمة شديدة الأثر. . . تناثرت معها أماني وأحلام. فالناس يعجبهم من هذه المناظرات أنها متعة من متع الفكر، يستفيق فيها الحس؛ وستفتح معها الذهن وتضطرم فيها الحياة، وتنبثق في خلالها المعاني والخطرات كما ينبثق الماء الثر فإذا هم - هذه المرة - في نطاق من الفكر، وفي مدى من الجدل، وفي مجال ضيق قد رسمت فيه الخطوط، وعينت الاتجاهات وصدرت عن أصل مكتوب
ولئن فات الناس أن ينعموا ببراعة الدكتور الخطابية التي زهد فيها، فقد عوضهم أن يروا نظراته المزدوجة (المتفلسفة) من فوق عينه
وأنا أشهد يا سيدي الدكتور أنك استطعت أن تأسر الناس، وأن تأخذهم بالإعجاب بك، والتصفيق لك، والانسياق معك في هذه الوديان المترعة بالحسن التي حملتهم إليها، وهذه الربوع المليئة بالجمال التي دفعتهم نحوها. . . وتلك الأجواء العبقة التي حلقت بهم فيها. . .
ولقد حدثتَ يا سيدي حديث العواطف الثائرة والشعور الطاغي والقلب الذي كونه النار والصدر الذي اضطرم فيه اللهب. . . وسمعك الناس تقرأ لهم صفحة من بلائك بالدنيا،(350/33)
وصدامك مع الناس، وحربك مع هذا العالم. . . وأنصتوا يصغون لهذا النشيد الدائم الخالد: نشيد (الأحلام والأوهام) و (الحقائق والأباطيل) و (الأزهار والأشواك) و (العقول والقلوب). . . فنفثت فيهم ببراعتك لباقتك السحر والعطر والجمال. . .
ولم تنس يا سيدي أن تقص علينا طرفاً من حياتك. . . فأنت في كلية الآداب، ولكلية الآداب في تاريخك صفحات وصفحات. . . فَلِم لا تنشر هذه الصفحات في مدرج الكلية، وعلى عيني طلبتها وطالباتها. . . ليروا مدى برّك بها، وميلك إليها، وغيرتك عليها؟! ولم لا تغتنم هذه الفرصة فتضع أيديهم على أمور وأمور تعتقد أن من واجبك أن تنبه إليها، وتتحدث عنها؟!. . .
وحديث ليلى يا سيدي. . . حتى ليلى هذه كان لها في خطابك نصيب، وفي موضوعك حظ. . . وفي أوراقك ذكر. . . وكانت ليمينك يمين. . . ولجيشك جناح. . .
ولقد استطعت يا سيدي بما آتاك الله من طلاقة ووهبك من اندفاع وبما أفضت من روعة ونثرت من رياحين أن تهدئ ثورات وتسكن نفوساً، وتسكت غاضبين. . . وأن تخرج من وسط الضجة الناقمة، والصخب الثائر بالهتاف الذي ملأ الجو، والتصفيق الذي كان يمثل نبضات القلوب الخافقة. . .
وضمن لك هذا الأسلوب البارع، وهذه القدرة الخطابية، أن تمر بكثير من القضايا. . . فتعرض على الناس طرفاً منها ووجهاً لها؛ ثم تخلص منها إلى غيرها على أنها قضية مسلمة، وحقيقة واقعة. . . ولقد بلغت أكثر من ذلك. . . حين خضت طرفاً شائكاً وعراً. . . وقدت الناس فيه، وخرجت منه مظفراً. . .
لم تدم لك قدم، ولم يقف في طريقك ما يقف في طريق الناس من عقبات وحواجز. . .
ولكن، أليس من حق الناس، وقد اكتسبت المعركة، وظفرت بالنصر، واكتسحت الخصوم الأقوياء، أن يقفوا عند هذه القضايا التي طويت عليها كتابك أمس. . . فيتحدثوا عنها، وقد هدأ الحماس الثائر، وسكنت الأكف المصفقة، وتنفس الصبح عن الوضح المبين؟!. . .
نحن نحب أن نتساءل عن قولك: (إن أكثر أهل الجنة من البَله). كيف استطعت أن تنجو معها من إخواننا الأزهريين الذين كانوا يملئون جنبات المدرج؛ وكيف سكتوا عنها حتى لكأنك لم تمر بها؟. . . إن تعليلك طريف حقاً. . . ولكن هل ترضاه الآن بعد أن خرجت(350/34)
من ميدان المعركة؟!
وشئ آخر يا سيدي. . . إنك تقول إن الأدب لا يزدهر في البيئات الساكنة، وإن رجال الدين ومن في مثل منزلهم لم يصدر عنهم أدب صحيح قيم. . . فهل أنت مؤمن بهذه الدعوى العريضة؟. . . وهل يستطيع أحد أن ينكر أن للبيئة الهادئة أدبها الهادئ الجميل. . . وأن كثير من الرجال الدين والمتدينين قد صاغوا من هذا الهدوء الذي نعموا به، وهذه اللذاذات العقلية التي عاشوا فيها الوجدانيات من الأدب الرفيع؟!
وهل يغفل الإنسان عن الحقيقة الناصعة في أن طائفة كبيرة من أدباء الشرق العربي في جيل الماضي وفي الجيل الحاضر هم من هموم من رجال الدين الذين قرأ لهم الناس الشعر، وقرءوا لهم النثر، وكانوا من عمد هذه النهضة الجديدة؟!. . .
أو ليس صحيحاً أن الأكاديمية الفرنسية تضم فما تضم بعضاً من رجال الأكليروس. . . أم أن ذلك كان بعد رجوع الدكتور من باريس؟!. . .
وماذا بعد؟ إني لأحاول أن أجوز إلى الناحية الثالثة التي استوقفتني في خطاب الدكتور لولا أني أخشى أن أهتم بالعصبية أو الإقليمية أو الهوى. . . وإنما هواي مع مصر، وعصبيتي لها. . . ولكن ما يمنعنا أن نكون أقرب إلى الدقة والى الأنصاف؟!. . . وهل يعاب الحق إن هو لم يساوق بعض الأهواء الجامحة؟!
ما علي إذن إن أنا وقفت عند كلمة الدكتور: (إن مصر أقدر الأمم الإسلامية على التفكير الدقيق وعلى التأليف) وما عليّ أن أتساءل ويتساءل معي كثيرون، وأن نرجوا الدكتور أن يكون متئداً هادئاً، لا يدل ولا يتيه فمصر زعيمة العالم العربي. وهي موطن أمله، وموضع رجائه، ومحط أمانيه؛ وهي بلد رجاله ومنبت أبطاله، ومبعث النور فيه. . . ولكن هذا لا يعني يا سيدي الدكتور ألا تكون الأقطار الإسلامية الأخرى قادرة على مثل هذه الدقة في التفكير، وهذه الكثرة في التأليف. . .
والذين هم في مكان القيادة يا سيدي، ليأخذوا بيد الضعيف، ويمدوا في قوة العاجز، وينيروا السبيل للضال. . . لا يعيبون على الضعيف ضعفه، ولا يأخذون عليه عجزه، لأن هذا لا يتسق مع تواضع النعمة؛ وحق الاخوة، وشكر الله. . .
وفي الأقطار التي تعنيها يا سيدي نهضة وحركة. . . وقدرة على (التفكير الدقيق) غير أن(350/35)
ألواناً من الجهاد تطغى على هذه النهضات، وتكبت هذا النشاط، وتفل هذه القدرة، وتحاول أن تطفئ شعل النور فيها. . .
لقد كنت وقفت منذ حين أرد على الذين أعماهم الغرور في لبنان وغير لبنان، فادّعوا الدعاوي وتقوّلوا الأقاويل وحاولوا أن يغمزوا الأدب المصري وأن ينالوا منه، وأن يتعرضوا لطائفة كبيرة من الأدباء. . . وأنا أجدني اليوم مضطراً أن أقف مرة ثانية موقفاً لا يختلف في حقيقته عن الموقف الأول. . . فنحن في الأقطار الإسلامية الأخرى نؤمن بكل هذه الجهود التي تبذلها مصر؛ ونحن نكبر هذا النشاط الذي يتراءى في أجوائها ساطعاً كالنور؛ ونحن نغذي نهضتنا وأدبنا بكل ما ينطلق من قيثارة شعرائها، وصفحات كتابها؛ ونحن ننعم بهذا العطر الذي تنشره مع النسائم، وهذا الألق الذي تشمه في سموات الفكر. . . ولكننا نريد أن لا نُغفَل هذا الإغفال، ولا نُهمل هذا الإهمال
إن زعامة مصر أمر لا شك فيه. . . وليس ثمة من يناقش في الأمور البديهية المسلمة؛ فلم نخرج بالأمور إلى مفاضلات ومقارنات لا تفيد في تقرير رأي، ولا تنفع في الوصول إلى نتيجة، ولا يكون من ورائها إلا اللغط؟
وبعد. . . فإن لك يا سيدي في قلوبنا حرمة، وفي نفوسنا منزلة، ونحن نحاول هنا أن نحملك على أن تجلو هذا الذي استغلق على الناس، ولقد متعهم بصفحة رائعة؛ ووقفت منهم موقف الخطيب الموفق. . . واهتزت لك أفئدة وتولاّك الإكبار من كل جانب. . . وتهافتت عليك البطاقات معجبة راضية مغتبطة، فتقبلتها باسماً ضاحكاً مغتبطاً. . . فهلا تقبلت معها هذه الكلمة؟. . .
(القاهرة)
شكري فيصل(350/36)
النسر المهيض
للأستاذ محمود الخفيف
حُلْمكَ القَيْصَرِيُّ كَيْفَ تَقَضّي ... أَيُّهَا السَّاهِمُ الملَقَّى الْهَوَانَا؟
ضَاقَ عَنْكَ الفْضَاَءُ طولاً وَعَرْضا ... وَتَعَالَيْتَ لَسْتَ تَحْفِلُ بُغْضاَ
لاَ وَلاَ كُنْتَ أَمْسِ تَحْفِلُ حُباً
لِبَنِي الطِّينِ، أوْ تَهَابُ الزْمَانَا
كنْتَ بالأمْسِ الإمبراطورَ تُدْعَى ... بَعْدَ نَعْتٍ بالْكرْسِكِيَّ الصَّغيرِ
تتَهَاوَى أَلقْاَبُ مَجْدِكَ صَرْعى ... وَتَرَى مَنْ وَالَوْكَ كَرْهاً وَطَوْعَا
بَيْنَ رَاثٍ وَشَامِتٍ يَتَشَفَّى
فيِ مَصِير مَا مِثْلهُ مِنْ مَصِيرِ!
لمْ تَرَ الأرْضُ مثلَ عُقْبَاكَ عُقْبى ... هَلْ رأَتْ مِثلَ ما بَلغْتَ اْرِتقَاَء؟
نلْتَ مَا نِلْتَ مِنْ زَمَانِكَ غَصْبَا ... لمْ تَجِدْ فيِ اَلْحيَاةِ سَهْلاً وَصَعْبَا
ثُمَّ حَلَّقْتَ تَبْتَغِي غَيْرَ وَانٍ
أَيُّهَا النَّسْرُ أَنْ تَنَال السَّمَاءَ!
قُضِيَ الأمْرُ! هلْ رَضِيتَ القَضاَء ... أَيُّهَا اللاُّغِبُ الْمَهِيض اَلْجَناحِ!
كَيْفَ تَرْضَى وَمَا عَرَفْتَ الرِّضَاَء ... مَرَّةً أَمْسِ أو عَدِمْتَ الرَّجَاَء
أَيُّهَا الوَاجِمُ الْعَبُوسُ تَلاَشَتْ
خُدَعُ اُلْحلْمِ فِي يَقِينِ الصَّبَاحِ
قَدْ تَزَيَّدْتَ فِي غُرُورِكَ حَتَّى ... كِدْتَ تُنْمَىِ لَغْيِرِ هذَا الوُجُودِ!
وَتَأتَّي من زوِرِه ما تأَتيَّ ... فَتَغاَبْيتَ فِي مَوِاطنَ شتىَّ
لَشَجَانِي بِرَغْمِ ذَلِكَ مِرْأَى
شَبَحِ الُذلِّ في الُعقَاِب الَّصُيِودِ!
تصِفُ الَعْينُ فِي مُحَيَّاكَ خَوْفاً ... وُابتِئَاساً وذِلَّةً واُنكسَارَا
لاَ يُوَفِّيكَ غير مَرْآكَ وَصْفاً ... عُدْت كَالَّناسِ بْلِ لقْد زْدتَ ضَعْفَا
ليْتَ شِعْرِي يا مَنْ هَزَمْتَ المنايا(350/37)
كيف تَحيا؟ هل تستطيع اصطبارا؟
بَهَر الَّناسَ في صُعُوِدَكَ بَرْقُ ... لْم يَرَوْا في سَناهُ مِنْكَ العُيوبا
كلُّ إْفنٍ أََرْدَتُه فَهْوَ حَقٌ ... وتَحَدِّى الزّمَان عْندَكَ سَبْقٌ
تْشِفُق الَعْيَنُ أن ترَى الشَّمْسَ حَتَّى
تتراءَى لها تُريدُ الغروبا
كَمْ تَرَى العَيْنُ في غُرُوبِكِ مِمَّا ... يَمْلأُ القَلْبَ من شَتِيتِ المعاني
أَنْتَ فِي الأرضِ من بني الأرض منهما ... مَلأتْكَ اَلْحَياة وَهما وعَزْما!
عَبْقَريَّ الحروبِ، كَمْ كُنْتَ تبدو
أَمْس كالطِّفْلِ أَطْمَعَتْهُ الأماني!
رُحْتَ كالطَّفْلِ لاعِباً بالعُروشِ ... لَعِباً حَارَ جُنْدُ عَرْشكَ فيِهِ!
النَّجِيعُ الصَّبِيبُ أَبْهَى النْقُوشِ ... والدُّمَى من أَسِرَّةٍ وَنُعُوشِ
كرَةَ الأرض بَيْنَ رجْلَيْكَ حَيْرَى
والَمنايا تَجْري بما تَشتهيِهِ
وَيْكَ! قد كُنْتَ كالشِّهاب التماعا ... وَسَنَاءً وَرَوْعَة وانطِلاقاً
كلِّماَ زادَ في السَّماَءِ ارتفاعاً ... وَتَبَدَّي لِلْعَيْنِ أَبْهَى شُعاعا
وَمضَى يَخْطِفُ العُيُونَ سَناهُ
لمْ يَزِدْهُ المضاء إلاّ احتراقا
أَشبَهتْ مُلكَك الفَقَاقيعُ مَعْنىً ... وبناءً وبَسطْةً وَفناَء
بهرْجُ المجدِ كان زوراً وَإِفناً ... وَبَريقاً يكْسُو الفقاقيعَ حُسْناً
وَهْيَ مِثْلُ الهَواءِ أَوْ هِيَ أَوْهَى
وَهْيَ كَالبَرقِ وَمْضَةً وَانْطِفاءَ!
الخفيف(350/38)
إعصار
للأستاذ أمجد الطرابلسي
هذي الليالي السودْ ... كيف أُقضِّيها؟
أشدو وهل في العودْ ... من وَتَر مشدودْ؟
والكأس. . . هل فيها!
الريحُ، نجواها ... تنشدها الآفاقْ
والليلُ أوَّاها، ... قد ذاب أمواهاً
تهوي من الأعماقْ. . .
وتلك أبوابي ... يلطمها الإعصارْ. . .
أطيافَ أحبابي! ... أشباحَ أوْصابي!
كيف عرفتِ الدار؟
يا ذِكَرَ الغابرْ ... بِيني كما بانا. . .
لا تقلقي السادرْ ... في وَحشِة الحاضرْ
دعِيه سهمَانا. . .
هذه الليالي السْوُدْ ... كيف أُقضِّيها؟
أشدو وهل في العودْ ... من وَتَرٍ مشدودْ؟
والكأس. . . هل فيها؟
(باريس)
أمجد الطرابلسي(350/39)
تحت الليل
للأستاذ محمود محمد شاكر
أهِيمُ. . وقْلبِي هائُم. . وَحُشَاشَتِي ... تهيمُ. . فَهلْ يبقَى الشَّقِيُّ الَمبعُثَرٌ؟
وهلْ يهْتَدِي غاوٍ أَضَاعَ حَياتَهُ ... بحيثُ يَضِيعُ الطامحُ الُمتَجَبَّرُ؟
وهلْ تَسكُنُ الدُّنيا ويَسكُنُ صَرفُها ... ويسكنُ هذا النَّابضُ المُتَفَجَّرُ؟
وهلْ تُطفِئُ الأيام نيرانَ ظُلْمْهاَ ... وَتَطْفَأُ نارٌ في دَمِي تَتَسعَّرُ؟
لئِنْ أَبْقَتَ الآمالُ منَّي، لَطالما ... تَقَلِّبْتُ في آلامِها أَتَضَوَّرُ
تَنَازَعُنِي من كلِّ وَجْهٍ بِساحِرٍ ... يُمَثِّلُ لي إِقْباَلَها وَيُصَوِّرُ
فيَهْوِي لها بعِضي وَبَعْضِيَ مُوثَوقٌ ... بأشواقِه الأخرى إلى حيثُ يَنظرُ
أَضاليلُ من سِحْرِ الحياةِ وَفِتْنَةٌ ... تَهاوَى إليها مُسْتهامٌ مُسَحَّرُ
أَبَى القلبُ إِلاّ أَنْ يَرَاها قريبةً ... كأنّ رضَاها مُزْنَةٌ تَتَحَدَّرُ
يَرِفُّ شبابُ القلبِ في قَسَماَتِها ... تكادُ تراهُ ضاحكاً يَتَحَيَّرُ
تُضِئُ ليالِي هَمِّهِ بِخَيالِها ... كما سَلَّ همَّ الّليْل نَجْمٌ مُنَوِّرُ
وهيهاتَ! ضَلَّ القلبُ إِنّ بقاَءها ... بَقاءُ رَبيعِ الزَّهْرِ أو هُو َأَقْصَرُ
سَرتْ فِي دَمٍ يَغْلِي كأنَّ انِدفاقهَُ ... منَ القلب ينْبُوعٌ من الوجْدِ يُسْجَر
تُمَّرُ به الأفكارُ وَهْيَ نِدَّيةٌ ... فما هِيَ إِلاّ جَمْرَةٌ تَتَدْهَورُ
إذا سكَنَتْ في الَّليْل كلُّ خَفِيَّةٍ ... سمعتُ صَليلا في دَمِي يتحدَّرُ
فَهَلْ ترحَمُ الأيامُ أو تهدأ المنَى؟ ... أَبى حُبُّهَا إِلا شَقَاءً يَدِّمرُ
محمود محمد شاكر(350/40)
رسالة الفن
تأملات في الفن:
مدرسة الإحساس
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- لا تنهري القطة بهذه القسوة. كوني صاحبة إحساس وكوني ذات رحمة
- أرحمة بلصة تسرق طعامي؟
- ليس مكتوباً عليه بلغة تقرأها هي أنه طعامك، وإنما هو عندها رزق يسره الله
- ولكنها كانت تدب إليه مشفقة حريصة محاذرة متنبهة متلفتة يمنة ويسرة كاللص الذي يدرك حين يعتزم السرقة أنه يعتزم المنكر
- هي معذورة فقد تعلمت هذا التلصص منا؛ فهي لا ترانا نفترس ما نأكل وإنما ترانا نربي الحيوان والطير ثم ندب إلى فريستنا منهما دبة اللص فنختلس حياته اختلاساً لا يسبقه صراع، ولا يسبقه إنذار. . . ولم يكن القط هكذا إلا منذ استأنس، وقبل ذلك كان يفترس، أو يأكل ما يخلفه كبار السباع
- وهل في القط ذكاء يدرك به هذا كله؟. . .
- إن الأمر لا يحتاج إلى ذكاء، وإنما هو يحتاج إلى إحساس. ألست تدخلين على جماعة من الناس فتعرفين إذا كانوا على حزن أو على فرح، أو على صدق أو على غش؟!
- قد أعرف ذلك مما أرى في وجوههم من أثره. . .
- ومن الناس من يعرف وهو مطرق إلى الأرض، ومن الناس من يعرف وهو مغمض العينين والأذنين، ومن الناس من يعرف وهو على البعد لا يتمكن من نظر ولا سمع
- باللاسلكي؟!
- نعم؛ ففي قلب كل مؤمن جهاز يدله، ومن هذه الأجهزة طويل الموجة، ومنها ما هو متصل بتيار لا ينقطع، ومنها ما يعبأ (ببطاريات) تفرغ وتملأ، ومنها ما يستقبل القريب فقط، ومنها ما يستشف المحطات البعيدة. . . وهكذا، فالكون كله إذاعات واستقبالات جلّت على ماركوني وإن سلست للأستاذ حسن كامل(350/41)
- هذا العجوز الذي ظهر سكيراً في فلم العزيمة؟ إنه ممثل ممتلئ حقاً ولكني لم أكن أحسب أنه يعلم ما لا يعلمه ماركوني. . .
- ويعلم ما لم يكن يعلمه فرويد كذلك
- ما شاء الله! لعله اخترع آلتين تتزاوجان وتنجبان البنات من الآلات والصبيان!
- بل تمكن من إيجاد إنسان يعيش من غير غريزة فرويد فيستطيع أن يتحادث مع الطير والحيوان
- على طريقة سيدنا سليمان؟
- إذا لم تكن هناك إلا طريقة سليمان فهو إذن على طريقة سليمان. وهو إذن يعيش بين دجاجه وأرانبه وإوزه وكلابه ومعيزه ملكا مدبراً حكيماً إلا أنه يأكل رعاياه
- وكنت تريد ألا يأكل منها
- ربما كان هذا أحلى؛ ولكن الذي يصنعه على أي حال حلال؛ فلا ريب أنه للإنسان على ما هو دونه ومن في حماه حق الرعاية بالحكمة وله أن يتقاضاه روحاً وحياة
- أنت تجعل الذي بيننا وبين الحيوان عشرة أظن لها عندك قوانين وأصولاً
- الطبيعة فرضت هذه القوانين والأصول، وقد كان القدماء شديدي الاعتراف بها، ولا زال الفلاحون يحترمون هذه القوانين والأصول فيما بينهم وبين ما ينفهم من الطير والحيوان، وإن كنا نحن في المدن قد أنكرنا هذه القوانين إنكاراً استدعى أن تقوم فينا جمعيات للرفق بالحيوان تصيح في آذاننا تطلب له الرجمة كان يجب علينا أن نحسها من تلقاء أنفسنا لولا أننا قد تحجرت نفوسنا وتخشبت من شدة إقبالنا على عشرة الحديد والحجر والخشب. . . فلم يعد أحد منا يعطف على حيوانه عطفه على ولده الذي في عنقه
- هذا الذي تطلبه كثير، وهو ليس من الطبيعة في شئ
- لو لم يكن من الطبيعة لذبح إبراهيم ولده
فلو أنك كنت تشعرين بالحياة حولك، لكنت تبادلت الحس مع الحيوان. . . ولكنت أدركت الحق فيما أقول. . . ولكن كيف أطلب منك الإحساس بالحيوان وأنت منصرفة حتى عن الإحساس بالناس، وحتى عن الإحساس بنفسك. . .
- حتى نفسي ترميني بإغفالها والبعد عنها؟. . .(350/42)
- ولست وحدك هكذا، وإنما أغلب أهل هذا العصر هكذا وأكثرهم تردياً فيه أهل المدن، وأكثر أهل المدن تردياً فيه وانطماساً أولئك الذين يتعلمون في المدارس، وأكثر المتعلمين تخبطاً فيه وانغماساً أبناء معاهد الفن في مصر، فهؤلاء يستعرضون صوراً مختلفة للحس، ولكنهم لا يقفون عند واحدة منها وقفة التأمل والتذوق، وإنما هم يحصونها عداً ويحسبون هذا الإحصاء علماً، فيخرجون به إلى الدنيا ونفوسهم مشوشة مختلطة حائرة. . . ومع هذا كله، فمغرورة متكبرة. . .
- وهذا فيمصر وحدها أو في العالم كله؟
- أظنه في مصر وحدها. . . فهم في الغرب إذا كفروا لم يكفروا حتى يؤمنوا بكفرهم، ونحن هنا ننتظر حتى يكفروا فنجري ورائهم، فإذا آمنوا آمنا، فإذا كفروا كفرنا ونفوسنا فارغة لا يعمرها إيمان ولا كفر. . .
- وهل يعمر الكفر النفوس؟. . .
- إذا كان كفراً خالصاً لوجه الحق كذلك الكفر الذي شاع في أوربا في القرن الماضي وفي سوابقه، إذ تفتحت عيون عشاق الحق هناك على أباطيل رأوا أهل الدين يتمسكون بها، فقالوا لهم تعالوا ندع هذه الأباطيل ونحرر أنفسنا ونفكر بعقولنا، فقال لهم أهل الدين، ليس لنا عقول إذ ردتنا العقول عما وجدنا عليه آباءنا، وإنه لدين آمنا به ولن نحول عنه، فقالوا لأهل ذلك الدين: فليكن إذن لكم دينكم وليكن لنا ديننا، ثم قالوا للناس جميعاً: إنما نحن نسعى إلى الحق بعلومنا وعقولنا، وليس لنا شأن بأخصامنا، ولسنا ندعو الناس إلى جنة أو نار، فالجنة والنار حديثهم، وإنما نحن نقول إن عباد الشمس الأزرق يحمر إذا أضيف إلى حمض، كما نقول إن الهيدروجين أخف من الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، وإن الأرض مجذوبة إلى الشمس، وإن الشمس تسبح في الفضاء وإن وإن. . . وليستمع لنا من يريد وليستمع لهم أيضا، فإذا شاء أن يودع عقله بين أيديهم فليستثن عن عقله وهو عندهم حتى إذا جاءنا استحضره. . . هذه حال حدثت في أوربا، ولأنها حدثت في أوربا فقد أحدثنا مثلها قولاً في كلية الآداب عندنا وقلنا إن العلم شئ وإن الدين شئ، مع أن ديننا هو العلم نفسه، وهو العقل نفسه، ولم يحدث أن احتضن يوماً خرافة، أو أظل باطلاً. . . وإن كان بعض أصحاب الغرض قد رشقوا في حواشيه بعض ما ينافيه، مما هو ظاهر للعين زيفه(350/43)
وغرابته عن سلامة الفكرة وحكمة الحق. . . وقال الغرب يوماً إننا لن نؤمن بشيء حتى نبدأ بالشك فيه وتعقله بعد ذلك إلى نهايته حتى نصل إلى حقيقة أمره، فنراها فنؤمن عندئذ بها، ولم يقل الغرب هذا إلا من ثقل ما كان يراد به أن يحشره في إيمانه من أوهام، وأكاذيب. . . فقلنا نحن أيضاً مثلما قال الغرب: لن نؤمن بشيء حتى نشك فيه أولاً وبدأنا نشك في أغلى تراثنا حتى لقد شككنا في قصة إبراهيم يوماً
- وهل اثبت التاريخ قصة إبراهيم؟ العلم لا يرضى إلا بالإثبات العلمي، وللإثبات العلمي شروط
- وهل أثبت التاريخ أن الأرض كانت جزءاً من الشمس إثباتاً علمياً بالشروط إياها؟ وهل يستطيع التاريخ أن يثبت كل حقائق الوجود؟ إذا كان الأمر كذلك فقولي لي كيف يثبت التاريخ أن هانيبال كان يتنفس مثلما نتنفس نحن مع أن هذا الشيء لم يرد في وثيقة تاريخية واحدة مستوفاة التحقق والتحقيق التي تطلبنها! بل إنه لم يرد في وثيقة أصلاً!
أفتستطيعين أن تشكي في أن هانيبال وأباه كانا يتنافسان لأنه لا وثائق تثبت ذلك؟ فإذا ضاعت منك شهادة ميلادك ظننت أنك ربما تكونين قد انعدمت لأنه لا ورقة رسمية معك تعترف بك؟ حتى لو حلف الناس بوجودك وشهد أهل بلدك بنسبك؟
فتذوقي العلم. . . وتذوقي الأدب. . . وتذوقي الفن. . . وتذوقي الحياة. . . عيشي على مهل، تفرسي في كل شئ. . . أيقظي إحساسك، ولا تقفزي بعقلك إلا بعد أن يرتاح إحساسك إلى ما أنت فيه. . . فلو فعلت أنت هذا، ولو فعله الناس جميعاً، ولو فعله أهل الغرب على الخصوص، لخفت كوارث البشرية ولهان من مصائبها الكثير. . . أفلو تريث أولئك الذين يخترعون الغازات السامة والقنابل والبلاوي الزرق الفتاكة بالناس، وحاسبوا عقولهم بضمائرهم واستشعروا ما تجره اختراعاتهم على إخوانهم من ويلات. . .
أكانوا يبرزونها للناس كالحمى المجنونة، حملها من الجحيم الشيطان أثيم. . . لو أن هؤلاء العلماء العقلاء تريثوا، وحادثوا أنفسهم لما أطلقوا الخراب من مكامنه عاصفاً يلهف البريء وغير البريء. . . ولكنهم علماء تريدين أنت أن تكوني عالمة
- وأي شبه بيني وبين هؤلاء؟
- هؤلاء يجمعون من الحقائق ما يقتل الناس، وأنت تجمعين من الحقائق ما يقعد على(350/44)
الإحساس، وهؤلاء لو أنهم استغنوا عن استغلال حقائقهم لوفروا على الناس هلاكاً لا غناء فيه، وأنت لو أنك استغنيت عن حقائقك التاريخية لوفرت على نفسك هلاكاً لا غناء فيه كذلك. . .
- وهل أنا هالكة؟
- وأي هالكة يا من لا تعنيك في قصة إبراهيم إلا أن تعرفي إذا كانت قد حدثت أو إذا لم تكن، ولم تحاولي أن تتذوقيها. . .
مسكينة أنت. . . ما أحوج أمثالك إلى أن تنشأ لهم مدرسة للإحساس!
عزيز أحمد فهمي(350/45)
رسالة العِلم
الأسماك العجيبة
للأستاذ أحمد علي الشحات
تحدثنا في مقال سابق عن بعض الأسماك التي تجلت فيها غريزة الحنان، فدفعتها إلى القيام بالمحافظة على بيضها والصغار التي تخرج منه، وألممنا ببعض الطرق الطريفة التي تقوم بها هذه الأسماك في سبيل حماية نسلها.
وسنرى في حديث اليوم كيف أن تلك الغريزة تدفع بعض الأسماك إلى القيام ببناء مأوى لصغارها يقيها شر هجمات عدو يفترسها، حتى يستقيم عودها وتستطيع أن تذود عن نفسها. وأشهر هذه الأسماك هي المسماة: (ذات الأشواك الظهرية)؛ ففي النوع ذي ثلاث الشوكات على الظهر، يتجلى نشاط الذكر في الربيع والصيف بأن يقوم ببناء عش على أرض عمقها قليل، والمواد المستعملة في بنائه هي النباتات المائية، والحشائش والقش وغيرها؛ ويشد بعضها إلى بعض مادة مخاطية يفرزها الذكر، ولهذا العش فتحات جانبية؛ فإذا انتهى من بنائه أخذ يبحث عن أنثى يدعوها لتضع بيضاً في هذا العش، فان لم تخضع، أخذ يطاردها بعنف إلى أن تذعن لأمره. وقد يحدث أنها لا تضع من البيض الكمية التي يقنع الذكر بها، عندئذ يبحث عن أنثى أخرى لتزيد كمية البيض، ويقوم بتنظيم وضع البيض في العش، ويخفره ومحتوياته الثمينة ليل نهار. وإذا اقترب غريب منه أثخنه بالجروح بفعل أشواكه ليحمي عشه، حتى إذا كبرت صغار السمك هدم الأب الجزء الأعلى من العش، واستطاعت الصغار أن تنطلق في الماء تسعى لرزقها
ولعل أطرف عش يبني هذا الذي تعمله سمكة الجنة التي تعيش في الصين، وليس هذا العش إلا فقاعات هوائية يخرجها الذكر من فمه ويتماسك بعضها ببعض بمادة لزجة، فإذا تم بناء هذا العش العجيب العائم على سطح الماء احذ الذكر يبحث عن أنثى، فإذا ما وفق ابتدأت تضع البيض واحدة واحدة يلتقطها الذكر بفمه ويرفعها إلى العش، ويلتصق هذا البيض بالمادة اللزجة. ولما كانت الأنثى شرهة تأكل بيضها إن لم يحمه الذكر، فإنه يتولى المحافظة عليه حتى يفقس، ويظل لمدة أسابيع أخرى يرعى صغاره خشية أن تنقض الأم عليها وتأكل أولادها(350/46)
وفي أحد أجناس الأسماك الغضروفية المسمى - وهي كلمة تشتق من يلتصق، بمعنى صخر، وسمي بذلك لأنه يلتصق بالصخور بواسطة فمه - يتعاون الأبوان في عمل جحر صغير حيث تضع الأم البيض، ثم يحركان الأحجار المحيطة به فينتج عن ذلك أن ينهار سيل من الرمال يغطي الجحر فيصبح محجوباً عن أعين الأحياء المائية الأخرى التي تبحث عن غذاء لها
وهناك أسماك في كاليفورنيا تحمي بيضها بدفنه في رمال الشاطئ حين يجرفها المد إليه، ويبقى هذا البيض جافاً وبعيداً عن الماء لمدة تناهز أسبوعين حين يغمر الماء الشاطئ ثانية فتكشف المياه عن البيض الذي تنطلق منه الصغار آنئذ إلى الشاطئ.
الأسماك الذهبية
وهي أسماك قد حبتها الطبيعة لوناً جميلاً وذكاء تستطيع به أن تقوم ببعض الألعاب المسلية، ولذا فأنه يحتفظ بها في أحواض للزينة، وعلى الغاوين أن يتعهدوا هذه الأسماك بتربية أجمل الأفراد منها بعضها مع بعض حتى ينتج نسل ذو لون زاه. وإلا فإن الأجيال الناتجة تفقد تدريجياً بهاء الألوان التي كانت لسلفها، وقد حدث هذا فعلاً عندما وفد على أوربا ممثلو إحدى الجزائر الواقعة في المحيط الهادي، وأعجبوا بهذه الأسماك فحملوا حين قفلوا راجعين إلى بلدهم الآلاف من هذه الأسماك وأطلقوها في أنهارهم. ولما أن كانت محاربة الطبيعة لا تجدي نفعاً بل تنتح ضرراً، كما حدث مثلاً حين نقل الإنسان الأرانب إلى استراليا، فإنها زادت وقتئذ زيادة بليغة فانطلقت تبحث عن غذاء لها فلم تبق على أخضر هناك رغم ما قامت به الحكومة من مجهودات للقضاء على هذا الحيوان. فكذلك هذه الأسماك حين نقلها أهل الجزيرة إلى بلدهم، فمع أنها فقدت بهاء ألوانها لأنه لم يعن بتربية أزهى الأفراد لونا مجتمعة فإنها قضت على النوع الوحيد من السمك الذي كان يعيش في مياه تلك الجزيرة والذي كان يعتمد الأهالي عليه في غذائهم.
وليست هذه الأسماك بالذهبية اللون دائماً فقد يكون بعضها فضياً أو أحمر، وقد تكون الزعنفة الظهرية عالية وتقوم بمهمة قلاع المركب حين تسبح السمكة. ولبعض هذه الأسماك عيون محمولة على نتوءات بارزة من الرأس، وتسمى بذات الأعين التلسكوبية، ولا تظهر هذه النتوءات إلا بعد أشهر من عمر السمكة(350/47)
وتستطيع هذه الأسماك أن تعيش خارج المياه لمدة محدودة، فقد وضع العلامة (فرنك بكلاند) بعضها وسط حشائش رطبة وأحاطها بقطعة من سجاد، فظلت محتفظة بنشاطها مدى أربع وعشرين ساعة. ويراعى أن تزود هذه الأسماك في أحواض تربيتها بمقدار وافر من الماء، ويتكون غذاؤها من قطع صغيرة من لحم الثيران ودود الأرض ويرقات الناموس وبيض النمل.
ومن الميسور تدريب هذه الأسماك على القيام ببعض الألعاب المسلية، كدقها ناقوساً إذا كانت في حاجة إلى طعام. وكيفية ذلك أن يربط ناقوس بقطعة من مادة تطفو كالفلين، ويتدلي خيط إلى قاع الحوض الذي به السمكة، وتتصل بهذا الجهاز الصغير كأس بها الغذاء الذي يقدم للسمكة، فإذا ما جاعت شدت الخيط إلى أسفل فيدق الناقوس وتنقلب الكأس فتنزل إليها محتوياتها.
ويمكن تمييز الذكر عن الأنثى في دور التناسل بخشونة جسمه في منطقة الخياشيم لوجود بروزات صغيرة لا توجد في جسم الأنثى وتستطيع الأنثى أن تضع سبعين ألف بويضة، إلا أنها عادة تضع أقل من ذلك، فحين تكون في الثانية من عمرها تضع ألفي بويضة وكلما تقدم بها العمر تضع مقداراُ أكبر، ففي الثالثة مثلاً تضع خمسة وعشرين ألف بويضة تقريباً، والأنثى في هذه الأسماك شرهة جداً حتى أنها لا ترحم صغارها بل تلتهمها، ولذا يجب في أحواض التربية فصل الكبير منها عن الصغير.
الأسماك العمياء
هناك أسماك قد حرمت نعمة البصر إلا أنها تروح وتغدو تبحث عن غذائها بنفسها، وقد يكون عجيباً أن تستطيع سمكة ضريرة أن تبحث عن غذائها بنفسها، وأن تحافظ على حياتها في وسط حيوانات ينقض أحدها على الآخر تلتهمها غذاء لها. إلا أنا نعلم أن رحمة الله قد وسعت كل شئ، فالإنسان الضرير مثلاً قد منح غالباً قوة في استراق السمع وفي حاسة اللمس، فكذلك هذه الأسماك قد زودت بحساسية في السمع وبأعضاء لمس حساسة. وقد يكون فقد البصر فيها كلياً فلا توجد عيون لها البتة، وقد توجد في بعضها بحالة أثرية، حتى أنها تكون عديمة الفائدة كعضو إبصار. وتجريد مثل هذه الأسماك من العيون لا يلحق بها أذى لأنها تعيش في ظلام دامس. فلو فرض أن كانت لها عيون لما استطاعت الإبصار(350/48)
في هذا الجو المظلم. والظلام هنا مرجعه إلى العمق البعيد عن سطح الماء حتى أن الأشعة الضوئية لا تستطيع اختراق هذه المسافة الطويلة إلا أنه لا يتحتم أن تكون جميع الأسماك التي في قاع البحار عمياء لأن هناك ضوءاً ينبعث في قاع البحار ليس مرجعه إلى الأشعة الضوئية التي تخترق الطبقات العليا، وإنما مرجعه إلى إشعاعات فسفورية تنبعث تقريباً من كل الكائنات التي تعيش في قاع البحر ولا توجد هذه الإشعاعات في المياه العذبة.
وتتناول هذه الأسماك غذائها مما يعلق بسطح الماء، ولذا تحور شكل الفم فأصبحت فتحته تقرب من السطح العلوي، وقد يستطيع الإنسان أن يمسك سمكة منها بيده حين تصعد إلى سطح الماء إذا لم يحدث أدنى صوت، وإلا فأنها قادرة أن تشعر بأقل حركة وعندئذ تختفي سريعاً.
أحمد علي الشحات
كيميائي بمعمل السكة الحديد(350/49)
القصص
قصه واقعية
حقيبة الذكريات
للأستاذ محمد سعيد العريان
في حارة (قصر الشوق) من حيّ الجمالية بالقاهرة، وإلى الشمال الغربي من مسجد (أبي عبد الله الحسين) حيث لا تزال القاهرة التي بناها المعز لدين الله قائمة في هذه القباب والمآذن، وتلك الدُّروب والمسارب، وهذه الدُّور الرحيبة المتقادمة التي تفضي إليها من باب إلى باب إلى أبواب. . .
. . . هناك، حيث التاريخُ الغابر ما يزال حيّاً ناطقاً في كل ما تقع عليه العين من مشاهد وآثار وناس؛ كأنما اجتمع تاريخ مصر الإسلامية كله في زمان ومكان، فلا يزال النظر يتنقل من منظر إلى منظر يذكِّر بالماضي كعهده يوم كان، من جيل إلى جيل إلى أجيال. . .
. . . هناك، حيث لا تزال ترى وتنظر ألواناً من الناس في سمات وأزياء وملامح، كأنما تشهد بقايا من سلائل الفاطميين وأبناء المماليك وجند السلطان سليم. . .
. . . هناك في هذا الحي نشأ (توفيق). . .
تراه، فلولا طربوشه الأحمر ولسانه العربي لحسبتَه واحداً من أولئك السياح الأجانب الذين يفدون إلى بلادنا كل شتاء للدرس أو الرياضة. أما أبوه فله في الحيّ جاه واعتبار، وإن له ميراثاً من تاريخ هذا الحي العريق يمتد إلى أجيال، منذ دخلت مصر جيوش السلطان سليم. وأما أمه فنازحة من دمياط، فلعلها بقية من سلالة بني أيوب. وأما هو فإنه ابن أمه وأبيه. . .
ونشأ نشأة أهله عل صلاح وتقوى ودين؛ لا يعرف له طريقاً إلا إلى المدرسة أو المسجد، فلم يبعثْ به الهوى مرة ولم يَغْترَّه الشباب. . .
وأتم في التعليم في مرحلتين، فأراد أبوه أن يلحقه بالجامعة، ولكن ميراثاً في دمه كان يزين له ركوب البحر فسافر إلى إنجلترا ليدرس فنون الملاحة ويتهيأ لما أراد. . .(350/50)
وانتقل توفيق من جو إلى جو: من حي الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء؛ إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال. . . ورأى، وسمع، وعرف. . .
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كان إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعاً إلى ذراع. . .
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد؛ وكأنما كان في حلم فاستيقظ؛ فلم يأو إلى فراشه إلا بعد ما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه - ثم أغمض عينيه ونام. . .
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف!. . . . . .
وكان في طريقه إلى صاحبته ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة؛ ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لوناً جديداً من ألوان الحب!
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى، وكتب. . .
وخلع توفيق وقاره وألقى بنفسه في تيار الحياة؛ وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صوراً وذكريات. . .
وتجرَّد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان؛ ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه؛ فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية التي تجول في البحار بين سواحل القارات الخمس؛ وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده (حقيبة الذكريات) يثبت فيها فصلاً من مغامراته كلما هبط ميناء من الموانئ. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء. . .
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء تّرسي فيه السفينة فيكتب ويصف. . .!
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع!
لقد كان يخلع حبه دائماً في الظلام قبل أن يفارق الغرفةَ المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه؛ فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة بسط أوراقه وكتب؛ وتنتهي قصة حب؛ فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة!(350/51)
ومضى توفيق على وجهه، والشر يغري بالشر. . .!
واجتازت السفينة مضيق جبل طارق في طريقها إلى الشرق، وأسرَّ إليه صاحبه (ماجدو) حديثاً فابتسم؛ ومضت السفينة بهما تمخر عباب الماء، واجتازت الدردنيل إلى البحر الأسود، لترسى في ميناء (كوستازا) على ساحل رومانيا، بلاد الجمال والحب
وهبط توفيق وصديقه إلى البر، وراحا يضربان في المدينة ليذوقا الحب. . . الحب الذي ينتهي في الظلام، في غرفة مسدلة الستائر مغلَّقة الأبواب!
وقال ماجدو: إن في هذا المتجر يا صديقي فتيات للحب. . . لقد أخبرني صديقَّ زار (كوستازا) من قبل. . .!
ودخل الصديقان المجر وراحا ينظران، ووقف (ماجدو) يتحدث إلى بائعة المناديل وذهب توفيق إلى جارتها؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وتحدثت عينان إلى عينين؛ وقالت الفتاة بصوت مطرب: هل يريد سيدي. . .؟
ولكن توفيق لم يكن يريد شيئاً غيرها. . .
لقد ذاق توفيق من الحب ألواناً وفنوناً، ولكنه لم ير من قبل مثل هذا الفن وهذا الجمال!
لكأنما كان ينتقل في البحار من شرق الأرض إلى غربها ليدرك موعداً واعده القدر في هذا المكان!
وإن صوتها لينفذ في أعماقه وله رجع بعيد كأنما كانت تهتف به من وراء البحار: إلي يا حبيبي إلي فأني أنتظرك منذ أزمان!
وأحس لأول مرة أنه وأنها. . . وأحست، وتواعدا على اللقاء!
والتقيا على موعدهما، وجلسا يتحدثان، وقال وقالت، وعرفت أن صاحبها مصري، فصاحت فرحانة: مصري؟ ما أجمل هذا! إن بيننا نسباً يا صديقي. إن أبي من تركيا، أعني جدِّي. إنني لست رومانية خالصة، ومع ذلك. . .
وسكتت (مارتزا) فلم تتم. لقد رأت في عيني صاحبها نظرة زعمت أنها تفهم معناها
وأحس توفيق إحساساً جديداً منذ الساعة. إنه ليشعر كأنما يتحدث إليه القدر بلسان هذه الفتاة حديثاً لا يكاد يعيه. . .
وتناول يدها بين راحتيه، ومال عليها فقبَّلها، واغرورقت عيناه!(350/52)
لقد جلس توفيق مثل هذا المجلس من قبل مراتٍ ومرات؛ ولكنه لم يكن في مرة منها في مثل حاله الليلة
هذه فتاة لم يعرفها إلا منذ ساعات؛ دعاها إلى خلوة للهو والشراب فما تأبَّتْ - ماله يُحس في مجلسها هذا الإحساسَ الغامض حتى لا يكاد ينظر إليها نظرةَ رجل إلى امرأة! وما باله يشعر في مجلسه منها كأنه قد ارتفع عن بشريته حتى ليستشعر الندم لأنه دعاها إلى هذا المجلس من مجالس اللهو الحرام!
وشعر كأن روحاً خفيّاً يهمس في نفسه، وشعاعاً لطيفاً من نور الله ينفذ إلى قلبه؛ فكأنما قام بينهما حجاب من الوهم يمنعه أن ينفذ إليها ويمنعها.
وأطاف به طائف فأطرق، ثم رفع إليها عينيه ونظر. . .
وامّحت فيه كلُّ معاني (الجنس) لتحل فيه معاني (الإنسان). . .
وفاء إلى نفسه بعد برهة فسخر من نفسه، وراح يقاوم هذا الطارئ الجديد في قلبه ويسكب في كأسها وفي كأسه؛ وأخذا يشربان!. . . وانتصف الليل وصحبته الفتاة إلى غرفته. . . فإنها لتعرف أن عليها لصديقها حقاً ينبغي أن تتهيأ له؛ فما يَدْعوها مثُله من روًَّاد البحار إلا لمثل ذلك. . .!
. . . ولكنه. . . ولكنه في تلك الليلة كان غيرَ من كان، ونام ونامت كما يقتسم الأخَوان الفراش!. . .
ولما قام ليودِّعها في الصباح إلى الباب، كانت مطرقة برأسها إلى الأرض وفي عينيها دموع!
وتلاقيا من بعد مرات، ودَعَتْه إلى زيارة أهلها فلبَّى، وتوثقت بينهما عقدة الحب على طهر وعفاف!
وذاق توفيق لوناً من الحب لم ينعم بمثله فيما فات من أيامه!
وقال لها: مارتزا! سنفترق يا حبيبتي؛ وستبحر السفينة بعد أيام لتضرب في مجاهل البحار؛ فاذكريني، واكتبي إليَّ كلما تهيأت لك فرصة!
وتغرغرت عينا الفتاة وقالت: توفيق! بربك لا تذكر الفراق! خذني معك! إنني لا أطيق!
وفكر الفتى قليلاً، ثم ذهب إلى الرُّبان يرجوه أن يقبل مارتزا وصيفة في السفينة. ولكن(350/53)
السفينة لم تكن في حاجة إلى وصيفة على من فيها؛ فعاد توفيق إلى صاحبته ينوه بهمه!
وأبحرت السفينة بعد أيام، وراحت مارتزا تودِّع صاحبها، وهي تتجلد؛ ووقفت على الرصيف تلِّوح بيدها ويجيبها؛ ثم صفرت السفينة، وراحت تشق الماء، وسقطت الفتاة بين يدي أمها في غشية!
وحملوها إلى دارها، وجاء الطبيب؛ ولكن مارتزا كانت من الصدمة التي نالتها بحيث لا يجدي عليها احتيال طبيب!
وجلست أمها بجانب فراشها تبكي، ووقف الطبيب جيران، ولم تفق مارتزا من غشيتها!
وراحت السفينة تشق البحر بحيزومها، وعلى ظهرها توفيق وخلَّفت على الشاطئ فتاة بين الحياة والموت!
ولكن السفينة لم تكد تمضي على وجهها، حتى جاءتها الأنباء بأن المجاز مغلق في طريقها، فعادت أدراجها إلى كوستازا، حتى يصدر إليها الأمر بالمسير
وأرست السفينة، فهبط توفيق مسرعاً إلى البر ليرى فتاته ويأنس بها ساعة، وهو لا يعرف من أمرها شيئاً
ودق الباب ودخل، وكانت تهذي باسمه، وفزع توفيق، وجرى إليها وهو يصيح: ماريتزا! ماريتزا!
وأفاقت ماريتزا بعد غشية يومين، وشفاها لقاءُ حبيبها حين عجز الطبيب
وثابت إلى الفتاة قوتها رويداً رويداً، ولكنها لم تفارق فراشها ولم يفارقها توفيق. ومضت أيام، وصدر الأمر إلى السفينة باستئناف رحلتها. وخاف توفيق أن ينال الفتاة ما نالها أول مرة لو علمت أنه موشك أن يفارقها؛ فأسر الخبر إلى أمها لتحتال في أمرها. . .
ومضى توفيق ليؤدي واجبه في السفينة، وهو محزونٌ أَسوان وكان باقياُ على إبحار السفينة ساعات حين جاءه الربان يسأله: (توفيق، إنك تعرف فتاة كانت تريد أن تعمل وصيفة في السفينة! فهل يمكن أن تدعوها الآن؟ إن إحدى وصيفاتنا مريضة وقد غادرت السفينة إلى المستشفى ونحن في حاجة إلى بديل!)
ولم يتلبث توفيق؛ فما هو إلا أن أسرع إلى صديقته يدعوها، وأبحرت السفينة وعلى ظهرها الحبيبان. . .(350/54)
وكانت على رصيف الميناء امرأة عجوز تلوح بمنديلها!
توفيق وأخته، هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعاً: الملاحون والركاب
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شئ. وتمازجت روحهما حتى ليس بينها سر، وسالمتهما الليالي. . . ومضت سنوات. . .
وكانا في أحد الموانئ حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر!.
وكان الفراق؛ وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه!
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له؛ فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان! وتصرمت السنون، والفتى في حنين دائم وشوق لا يُغْلَب!
وحنَّ توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة ليكون جهاده لبلاده؛ ولم ينس (حقيبة الذكريات) فإنها لمعه أين يكون؛ يستروح منها نسمات الحب ويأنس إليها في ساعات الوحشة. . .
ومضت الباخرة (زمزم) تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى (جدة) في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح (توفيق) ثم أرستْ، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة، ومعهم توفيق مُحْرِما بالحج
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر؛ وحضرته الذكرى فرأى كتابه منشوراً على عينيه بما فيه من خطايا وآثام؛ وهمَّ يرفع رأسه، فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله؛ وتدَّنت عيناه بالدمع. . . وتذكر يوم كان. . . فتى يخطو إلى العشرين، في حارة (قصر الشوق) لا يحمل من همٍ وليس له ماض؛ فترامى على أستار الكعبة نادماً يستغفر، وانهملت دموعه على خديه. . .
وعادت (زمزم) تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان!
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضياً مبتسماً طاهر القلب كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة(350/55)
ونظر إلى متاعه فرأى. . . وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب!
ونازعته الذكرى فَخار عزمُه وأحس في نفسه الوَهن؛ واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئاً ثقيل الخطو حتى بلغ ظهر السفينة. . . وطوَّح بها وهو يقول: (أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير مَعَاد!)
. . . وفرغ صديقي من قصته؛ فما كان يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندَّت عيناه بالدمع؛ ثم أردف:
يا صديقي! لقد أذكرتَني ما كنت أريد أن أنساه وحسبتُني قد فرغتُ من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحسُّ الساعةَ أن الجرح الذي اندمل قد عاد يَدْمَي!. . . لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغتُ من أمره!
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينه وأطرق؛ ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائدٌ من سفر بعيد. . . ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
(عزيزتي مارتزا!
(. . . . . . . . . . . .)
محمد سعيد العريان(350/56)
من هنا ومن هناك
هل تصبح أوربا ولايات متحدة نازية
(ملخصة عن (ذي ساين) نيويورك)
إذا انتصرت ألمانيا في الحرب الحاضرة، فليس لهذا الانتصار غير نتيجة واحدة: هي أن تصبح أوربا ولايات متحدة نازية. فهل وازن مستشارو دول وسط أوربا هذا الاحتمال؟ أم أنه مجرد وهم وتخمين؟ لقد طرحت هذا السؤال للبحث مع عضوين من كبار رجال السلك السياسي البريطاني. أحدهما يقيم في (صوفيا) والآخر في (ببودابست).
فجاء في حديث الأول عن الدول البلقانية: أن كل إنسان في الجنوب الشرقي لأوربا يشعر بأنه مهدد بالموت من يوم لآخر. فقد أصبحت ألبانيا خنجراً مصوباً إلى قلب البلقانيين. وسواء أكانت السلم أم كانت الحرب، فلا يخال أحد أن موسليني يخرج من هذه الأزمة، ولا ينال من الفطيرة نصيبه الأوفى. قد يكون موسليني أكثر صبراً من هتلر وأبعد نظراً، ولكن مما لاشك فيه أنه أكثر رجال السياسة الحاليين نظراً للواقع. وإذ كان موسليني مؤسس الإمبراطورية الرومانية الحديثة، فهو على هذا الاعتبار يعد من المتهمين بمذهب التوسع
وقد جاء في حديث الثاني: أن ثمانين في المائة من تجارة هنجاريا تتقاسمها دول المحور. ويبلغ ما تدفعه ألمانيا إليها في تجارة الحبوب ضعف ما تدفعه الدول الأخرى
أما إيطاليا فتستورد ما لديها من البرتقال والليمون، وزيت الزيتون والحرير. ولا يصح هنا أن نهمل الصلات الجغرافية والاقتصادية التي تربطها بتلك البلاد. لا شك أن هؤلاء الهنجاريين الذين يبلغ عددهم أحد عشر مليوناً، شعب شجاع منتج؛ ولكننا ونحن لا نعدو أن نكون أصدقاء نراقب الأمور عن كثب، لا نشك في أن هنجاريا لا تستبقي اليوم من استقلالها أكثر مما كان للنمسا قبل الحالة التي طرأت عليها أخيرا. إن اليوم الذي يموت فيه الأدميرال (هورثي) وهو في السبعين من عمره الآن، سيكون علامة لتغير جوهري في حياة تلك البلاد
ومن رأيي أن سادة النازي يقصرون وقتهم للسعي وراء السيادة. وهم اليوم في حاجة إلى هنجاريا باعتبارها قنطرة بين الريخ والبحر الأسود. وينقل الزيت، والحبوب، والخشب، والمعادن من الشرق إلى الغرب عن هذه الطريق. ويرى هتلر، وجورنج وفرانك هيس أن(350/57)
الألمان يجب أن يطعموا شيئاً غير البطاطس هذا الشتاء.
وفضلاً عن هذا، فإن هنجاريا تعد عاملاً قوياً في نظر النازي للتوغل في رومانيا. ففي اللحظة التي يشعر فيها الهنجاريون بأن قوى الريخ الحربية من ورائهم سيثيرون العاصفة على الجبهة الرومانية. أما روسيا التي أصبح لها مركز ممتاز في البلطيق، فهي تطمع في توطيد مركزها في البلقان، فقد كانت فكرت الحصول على نافذة تطل على البحر الأبيض المتوسط حلم رجال السياسة الروسية منذ عهد بطرس الأكبر. ومن السهل مهاجمة القسطنطينية وهي العاصمة السابقة للبلاد التركية من الناحية البرية
وإذا كانت تركيا تقف اليوم بين عدوين قويين، فإننا لا نستطيع أن نعرف موقف الدتشي في هذه الظروف. إن الدتشي قد ينذر أو يحذر أو يهدد بالحرب، ولكنه في الواقع لا يستطيع أن يتقدم أو يتحرك. إذا جد الجد تبين مواطن الخطر!
إن المشكلة الحقيقية التي يعانيها موسوليني، هي ارتباطه مع هتلر لإلغاء معاهدة فرساي في وقت لم يستطيع أن يقدر فيه موقف الشعب الإيطالي بإزاء فرنسا التي ارتبط معها بصلات لم تنفصم عراها منذ 125 عاماً.
إن الوقت والمال يعملان لمصلحة الحلفاء، ولا شك أن الوقت والمال يعملان لمصلحة الحلفاء، ولا شك أن الذهب في هذه الحروب الطويلة له الغلبة على السلاح. فإذا لم يقدم موسوليني لموازنة القوى، فقد وصل حليفة أدولف هتلر إلى نهايته
البلشفون هم فاشيون
(عن مجلة (باربيد))
كتب الصحفي والمؤلف المشهور (فنست شيان) مقالاً في العدد الحديث من (كارنت هستوري) التي تصدر في نيويورك قارن فيه بين البلشفية والفاشية
ويقول (فنست شيان) في هذا المقال إن البلشفية هي في الحقيقة نوع من الفاشية في ثوب اشتراكي خداع. والفاشية قائمة على التغرير بعقول الناس بالادعاءات والوعود الخلابة والآمال التي لا ظل لها من الحقيقة، فتخلع على العبودية المريرة ضوءاً خلاباً من ألفاظ البطولة والتضحية حتى تكون آلامها ومتاعبها سائغة المذاق إلى حد ما. وقل أن تختلف الوسائل التي تتبع في ألمانيا عنها في روسيا، فالشعب في كلا البلدين يقوم بأشق الأعمال(350/58)
ويتناول عنها أقل الجزاء. وهكذا أتيح للحكومات الفاشية والبلشفية أن تخدع الملايين من المستعبدين!
إن حجر الزاوية في الحكم الفاشي هو تمجيد التضحيات القاسية التي تفرض دون حد على الأهليين، وإخضاعهم للعبودية الممقوتة بإذكاء عواطفهم نحو الرقي والتقدم. وقد سار هذا المبدأ بنجاح في روسيا كما سار في ألمانيا على حد السواء. وما زال الملايين من العمال في روسيا، وكذلك في ألمانيا مساو بين كل حق. فلا يستطيعون اختيار العمل الذي يريدونه، أو المكان الذي يسكنون فيه، ونوع التسلية التي يرغبونها معتقدين - وهذا ما يسمعون على الدوام ولا يسمعون شيئاً غيره - بأن هذا هو النوع الرفيع من الحياة التي يجب أن تسود العالم أجمع بفضل جهادهم ولكن الفاشية الروسية كانت أو ألمانيا ليست في الحقيقة نظاماً دولياً عاماً سواء من الناحية الفكرية أو الناحية العملية. بل هي على النقيض من ذلك، فقد ثبت أنها تقدس العصبية وترفع الوطنية إلى حد لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم
وتعمل الدعاية الروسية بكافة الوسائل لإقناع الشعب بأن حكومة روسيا السوفيتية تمتاز في سائر أعمالها على حكومات العالم، وأن الشعب الروسي خير من سائر الشعوب، وأن الجيش الروسي أفضل الجيوش التي في العالم.
لقد كانت البلشفية التي دعا إليها لينين وتروتسكي على شئ من المنطق، لذلك كانت غير فاشية، وكذلك كانت تحمل معنى الدولية أما بلشفية ستالين، فتبدأ بنظرية (الاشتراكية داخل المملكة المنفصلة)
فإذا فرضنا أن الفاشية أتيح لها أن تتغلب على أوربا، فسوف لا يستقر لها أمن أو سلام، إذ أن مبادئها القائمة على تأليه الجنس، وتقديس الوطنية، ودعوى التفوق والامتياز سوف تصطدم بمبادئ الأمم الأخرى التي تزعم لنفسها مثل هذه المزاعم
إن الفاشية لا تحتمل دعوى التفوق أو المساواة من أي شعب من الشعوب. والعقل الفاشي يعتقد كما يقول موسليني - أن السلم ما هو إلا فترة بين الحروب - وخير ما تفعله الإنسانية هو أن تقضي هذه الفترة في التدريب والتأهب على الدوام
فإذا أصبحت أوربا قارة مقسمة بين فاشية ستالين وهتلر وموسليني، فمعنى ذلك أن أوربا لا(350/59)
تخرج من الحرب إلا لتعود إليها، ولكن الحرب في هذه المرة لا تكون إلا بين الفاشيين المتنافسين(350/60)
البريد الأدبي
كتاب كريم
تفضل إمام المسلمين الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر فقرأ كتاب (وحي الرسالة) ثم أرسل إلينا هذا الكتاب الكريم:
عزيزي الأستاذ أحمد حسن الزيات
إن كثير الثناء عليك ليقل بجانب ما تسديه للأدب والعربية والثقافة من جهد وفضل. فما أنا ببالغ حق الثناء عليك وإن أطلت وتأنقت، ولاحق تقديرك وإن أطنبت وجودت. وعجيب آلا يكون لوحي الرسالة، فما هو إلا جني أشجارها، وزهرات أغصانها، جمعت في باقة واحدة بعد أن كانت متناثرة، وقربت إلى اليد بعد أن كانت متباعدة. ولقد كنت في هذه الفصول مترجماً صادقاً منصفاً للتاريخ فيمن ترجمت لهم من الرجال؛ وكنت مصوراً ماهراً فيما صورت من عيون الجميع وآلام الحياة، وأبرزت خفايا النفوس ودبيب الهواجس حتى لتكاد تلمس وتحس؛ وقبل هذا كنت محيطاً أحاط دقيقة بما عرضت له من بحوث. كل أولئك بأسلوب رصين نقي الجوهر تتصل فيه بأسلافك الأولين من فحول العربية والأدب، ممن أثاروا فيك فجريت على سننهم دون أن تقصر، وسرت على نهجهم دون أن تحاكى
ولست أملك بعد إلا أن أدعو لك بحيات طويلة سعيدة يدوم لك فيها الإلهام، فتثابر على رسالتك حتى يقرأ لك الناس مجلدات عديدة من وحي الرسالة
والسلام عليك ورحمة الله
(6 مارس سنة 1940)
محمد مصطفى المراغي
غبرات لا غبارات
قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ في (كتاب الحيوان) يذكر ما يعرض للكتاب المنسوخ من آفات الناسخين:
(. . . ثم يصيرُ هذا الكتاب بعد ذلك لإنسان آخر، فيسير فيه الورّاقُ الثاني سيرةَ الورَّاق الأوّل؛ ولا تزال تتداوله الأيدي الجانية، والأعراض مفسدة، حتى يصير غَلَطاً صرفاً وكذِباً(350/61)
مُصْمتاً. فما ظنكم بكتاب يتعاقبه المترجمون بالإفساد، وتتعاوره الخطّاط بشرٍّ من ذلك أو بمثله. . .، كتاب متقادِم الميلاد دهريّ الصنعة)
ولم يزل أئمَّتنا وعلمائنا وأصحاب العقول من شيوخنا، يريدون الكلام المنقول المكتوب إلى العقول - بعد التحري للفظه المكتوب - اتقاءً لما عرفوه من تحريف الناسخين، وانتحال المبطلين وغفلت الجاهلين. نحن إنما نمضي على سنتهم - أن شاء الله - ولا نقف عند القول نخزُّ عليه تعبُّداً لحروفه، وخضوعاً لنصِّه. ولئن فعلنا لمحق الله منا نصف العقل وبقى النصف الآخر متردِّداً بين قال فلان وكتب فلان
. . . وعلى ذلك، فقد صححنا قول ابن شبرمة في رواية صاحب العقد الفريد في العدد (347) من الرسالة، فجعلناه (ذَهبَ العلم إلا غبرات في أوعية سوء)، ورفضنا نص العقد هو: (إلا غبارات). ثم رأيت في البريد الأدبي من الرسالة (349) كلمات للدكتور بشر فارس يردّ ما ذهبنا إليه بثلاثة براهين نثبتها بالترتيب من تحت إلى فوق:
الأول: أن الحرف (غبارات) قد وَرَد كذلك في جميع نسخ العقد الفريد المطبوعة، وكذلك في مخطوطة منه بدار الكتب يُظَنُّ أنها كتبت في القرن السادس
الثاني: أن هذا النص يصحُّ لغة وأداءً وبياناً. وإذا صحّ كذلك فمن الاستبداد أن يُرَد على الهوَى
الثالث: مخالفة نهجنا في ذلك لنهج علماء الفرنجة (المستشرقين) وجوابنا على الترتيب من تحت إلى فوق:
أننا أدرى بأساليب هؤلاء الأعاجم الذين اتخذوا العربية عملاً من أعمالهم - من أن نخالفهم في الجيد من مذاهبهم، فتحرير النص ومراجعته على جميع النسخ التي ذكر فيها وما إلى ذلك عملٌ ضروريٌ لكل باحث. ولكن هؤلاء الأعاجم تقعد بهم سلائقهم عن معرفة أسرار العربية، فلم يتجاوزوا الوقوف عند النص المكتوب، وذلك لعجزهم عن بيانها. فلما عرفوا ذلك من أنفسهم، كان من أمانتهم أن يتوقفوا، فلا يقطعون برأي في صواب أو خطأ. وهي أمانة مشكورة لهم
ولكن العربي إذا أخذ بأسبابهم، فلاُبدَّ له من أن يهتدي بعربيته إلى ما عجزوا عنه باعجميتهم، فكذلك فعلنا في كلمة ابن شبرمة وقلنا (إنه نصٌّ عربيٌّ مُظلم النور). وبيان ذلك(350/62)
أنه ليس من قياس العربية أن يجمع (غبار) على (غبارات) ولا غيرها من الجموع، وأن ابن شبرمة لم يُردْ تحقيرَ العلم نفسه فيجعل ما بقى منه (غباراً)،
وإنما أراد أنه بقي من العلم شي هو من صحيح العلم، ولكنه وقع في صدور رجال من أهل الباطل يفتونَ الناسَ يضِلّ بهم من يضِلُّ إذ يحسبونهم لا ينطقون بباطل ما داموا أصحاب فقه ودين وعلم. ولم تكن الشهادات وألقابها عرفت لعهد أبن شبرمه حتى تكون هي التي تقدر العلماء وتميزهم للناس، وإنما كانوا يتميزون بالعلم، فإذا لم يكن علم لم يعدهم الناسُ في العلماء. ثم إن الغبارَ لا يمكن أن يُوكي عليه في وعاء حتى يصح أن يجعل - ما أغلقت عليه صدورهم من بقية العلم - غباراً. فلو صح نص العقد لكان المراد تحقير العلم وأصحابه جميعاً
وأخيراً، فنحن نرفض نص العقد من جهة بيان العربية وتحريرها، ونقول: إنه لا يصح أن يروى إلا هكذا: (ذهب العلم إلا غبرات في أوعية سوء). وإذا كان الدكتور بشر أو غيره يريد أن ينحاز إلى رأينا بنص آخر، فلا بأس علينا أن ندله عليه فقد روى ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) - المطبوع في سنة 1346 عن نسختين قديمتين: إحداهما للإمام الشيخ الشنقيطي، وعليها خطه في الجزء الأول منه (ص 153 سطر 6) بإسناده إلى محمد بن سيرين (وليس ابن شبرمة) قال: (ذهب العلم فلم يبق إلا غبرات في أوعية سوء). فهذا نص، وهناك نصوص غيره؛ فمن شاء أن يبحث فليبحث، ونصيحتنا إلى من عنده نسخة من العقد - أي الطبعات كانت - فليصححها بالذي أثبتناه، وما سوى ذلك، فهو - كما قال - أبو عثمان: غلط صرف وكذب مصمت. . . والسلام
محمود محمد شاكر
الأدب الإنجليزي والروح الإنجليزية
ألقى الأستاذ دوفر ويلسون، أستاذ البلاغة والأدب الإنجليزي في جامعة أدنبره، بعد ظهر الاثنين الماضي في المدرسة الإنجليزية بالإسكندرية، أولى المحاضرات التي دعي إلى إلقائها من إنجلترا، وكان موضوعها (الأدب الإنجليزي والروح الإنجليزية) فأستهل كلامه بقوله إن بريطانيا استطاعت أن تعمر نصف أقطار العالم، وإنها تعد مهد الديمقراطية(350/63)
ومؤسسة الصناعات الحديثة، وفيها نشأ باكون ونيوتن ودارون. وقد تسنمت من الخيال الذروة العليا حيث يتربع شاعرها العظيم شكسبير كأنه إمبراطور تقدم له أمم العالم فروض الطاعة والولاء
ثم قال إن الأدب الإنجليزي أقدم أنواع الأدب الحديث، إذ يرجع عهده إلى القرن الخامس الميلادي، أي قبل أن يجد الإنجليز والسكسونيون طريقهم إلى بريطانيا، وبين هذا التاريخ وبين غزو النورمانديين للبلاد مضت ستة قرون، كانت حافلة كلها بالشعر والنثر.
وعرض للصفات التي كان يتحلى بها من ترنموا بالشعر في هذا الحين، فأبان أنها كانت هي نفسها ما يتحلى به الخلق الإنجليزي الآن، فالبريطانيون يذهبون إلى الحرب وكأنهم ذاهبون إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم.
ثم أبان أن تاريخ الأدب الإنجليزي كان دائماً تاريخاً لقوة هذه الأمة يتمشى مع انتصاراتها في مختلف الحروب التي خاضتها، قال: إن أهم الظواهر التي تلفت النظر فيه اعتماده على آداب اللغات في البلدان الأخرى إلى حد كبير. ولقد ظهرت في أوربا اليوم اصطلاحات كثيرة كالأوتقراطية والعنصرية، ومقدرة الدولة على سد حاجاتها بنفسها، فلم يلفت هذا نظر الشعب الإنجليزي ولم يثر إعجابه، لأن قوة إنجلترا تتوقف على اختلاط أجناسها ومقدرتها على إدماج العناصر الجديدة فيها. لهذا كان قليلاً أن تجد لغات ركب أصلها من عدة عناصر كاللغة الإنجليزية، وكان أقل من ذلك أن تجد أدباً اعتمد على مختلف المصادر كالأدب الإنجليزي.
وقد رد الأستاذ ولسون هذا إلى أن الكتاب الإنجليز نهلوا من كل مورد، وضرب كثيراً من الأمثلة: فقال: إن الشاعر العظيم شوسر، من أكثر شعراء الإنجليز الذين تأثروا بشعر الفرنسيين والطليان. ومنذ عهد الإصلاح إلى مستهل القرن الثامن عشر كان الأثر الروماني والإغريقي هو السائد في الأدب الإنجليزي. وفي خلال هذا القرن تلقى الإنجليز أصول الأدب على الفرنسيين. وفي أوائل القرن التاسع عشر كانوا يدينون لألمانيا إلى حد كبير. وفي الوقت الحاضر تدين الدراما الإنجليزية بوجودها للشاعر النرويجي ابسن. وكذلك تأثر كتاب الروايات القصصية من الإنجليز بالكاتب الروسي الشهير دستوفسكي.
ثم قال إنه إذا صح القول بأن إنجلترا منفصلة عن أوربا، فإن هذا الوصف لا ينطبق عليها(350/64)
في الواقع من ناحية الأدب. وقد يكون من متناقض القول أن شعباً كالشعب الإنجليزي عرف بأنه أنجب في ميادين السياسة والعمل والتجارة رجالاً أفذاذاً لا يكون أيضاً من أوائل الشعوب في ميادين الأدب بجميع أنواعه
وذكر المحاضر بعد ذلك أن إنجلترا لم تتزعم دول العالم في الصناعة والتجارة فحسب ولكن في الرياضة أيضاً. وإن الإنجليز في الوقت نفسه أكثر الشعوب تديناً. وقد يكون أهم ما يلفت النظر عند زائر إنجلترا أن يلاحظ أن الشعب الإنجليزي شعب لا يعرف اللهو، أو هم كما يسمونهم (يلهون بحزن) ولكن قلما يوجد شعب آخر في بساطة الطفل ووداعته مثلهم.
وبعد أن ذكر الأستاذ ويلسن أنه يجوز أن تتحد هذه العناصر من الرياضة والشعر والخوف من الله، وتؤلف ظاهرة غريبة، فإن رجال الأدب في إنجلترا هم بدون شك من أشد الناس تمسكاً بأهداب الدين والفضيلة قال إن الفلسفة والفضيلة كانتا على الدوام رائد الشعراء الإنجليز فيما أنتجوا. فهذا ملتون كان يعمل في كتاباته ليظهر للناس طريقهم إلى الله. وكذلك كان يفعل من قبله لانجلاند وسبنسر وبوب ووردثورث وتيسون وبراوننج وغيرهم؛ حتى شيللي، ولم يكن يعترف بالله، كان يبشر في كتاباته بإنجيل اجتماعي جديد. وقد ابتدأ ذلك منذ العصر الفيكتوري، وما زال حتى الآن يحمل لواءه أشهر الكتاب الحاليين أمثال برناردشو وولنر وهيكسلي
وهناك من يتهم هذا النوع من الكتابة بأنه ليس من الأدب في شئ، ولكن الأدب لم يكن في يوم من الأيام يتوقف على عقيدة الشخص، وإنما يتوقف على أسلوبه، وهذه كتابات بانيان التي لا تخرج عن أنها دعاية دينية، فهي تعد
عملاً أدبياً عظيماً.
ولما كان الإنجليز في جميع العصور يدينون سياسياً إما بمبدأ الأحرار، وإما بمبدأ المحافظين، فإنه ليس غريباً أن كان لهذين المبدأين شأن أي شأن في الأدب الإنجليزي.
وقد كان شوسر من أصحاب المذهب الأول، وقد عرف عنه العطف على كل مخلوق، وإحساس رقيق، واهتمام خاص بالحياة العادية للرجل العادي في حين كان معاصره لانجلاند على نقيضه، إذ كان من أنصار الأحرار الذين يعتقدون بالمثل الأعلى للإنسان(350/65)
وأما من وجهة شكسبير، فهي تماثل شوسر ولكن على نطاق أوسع، فقد كان شكسبير من أشد رجال الأدب الكاثوليكيين في العالم تديناً.
وفي نفس هذا العصر ظهر ميلتون أكبر شاعر بروتستنتي دعا إلى التعصب لمذهب الراديكالية البريطانية في أوسع حدودها. وكان يعتقد بالقضاء والقدر في حياة الإنسان.
وبعد أن أبان المحاضر أن هذه التفرقة نفسها قائمة بين أشعار وردزورث وشيللي، ختم كلامه بقوله: لقد كان للحرية في كل عصر أنصارها المتحمسون؛ ومع أن ثمن الحرية غالٍ مرتفع، فإن إنجلترا قبلت أن تدفعه عن طيب خاطر ولو كلفها ذلك دم أعز أبناءها. ولكي يفهم الأجنبي الروح الإنجليزية على حقيقتها يجب عليه أن يدرس الشاعر وردزورث الذي تتميز أشعاره بإنجليزيتها عن جميع الشعراء.
وكما حارب الإنجليز في عام 1911 الدانمركيين وهم لا يحملون لهم حقداً ولا ضغينة، كذلك نرى هذه الروح هي المتغلبة عليهم في جميع حروبهم وهي نفسها الروح التي تتسلط عليهم في حربهم الدائرة رحاها اليوم.
اختراع جديد في طب الأسنان
نشرت المجلة الطبية الأمريكية أن طبيب أسنان من ميشيجان وفق إلى إجراء عمليات جديدة في جراحة الأسنان ستحدث قريباً ثورة في عالم طب الأسنان. وتقول المجلة المذكورة أن الطبيب يخلع الأسنان الفاسدة والمسوسة من أفكاك مرضاه؛ وبطريقة خاصة من اختراعه يردها إلى مكانها من الفك بعد تنظيفها وإزالة الأجزاء الفاسدة والتي مشى فيها السوس.
وتعاد السن إلى التجويف وتستقر في مكانها الأصلي بواسطة جبيرة من الذهب حتى تنمو حولها اللثة والنسيج. والأسنان التي تعد بهذه الطريقة تصلح للعمل مدة أقلها عشرة سنين.
حول آلهة الكعبة
قرأت العدد الممتاز من رسالتكم الزاهرة الخاص بذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأقدم لكم جميل الشكر والثناء على عنايتكم بهذه الذكرى المباركة، كما أتقدم بالحمد لحضرات الكتاب الكرام الذين عاونوا على إصدار العدد بما جادت به قرائحهم. بارك الله(350/66)
فيكم وجزاكم عن نبيه وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء
ولقد استوقف نظري عنوان قصيدة الأستاذ الشاعر محمود حسن إسماعيل (آلهة الكعبة) بإضافة آلهة إلى الكعبة. فالتحاور في القصيدة محصور بين مناة واللات والعزى، وليس واحد من هذه الثلاثة من أصنام الكعبة، بل لم يكن واحد منها داخل الكعبة ولا حولها. فمناة كان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة. واللات كانت بالطائف وكانت موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. والعزى كانت بواد من نخلة الشامية يقال له حُراضٌ بإزاء الغمير عن يمين المصغد إلى العراق من مكة: راجع كتاب الأصنام لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي: ص13 و16 و18
وقد يعتذر عن هذا الإبهام بأن إضافة آلهة إلى الكعبة لأدنى ملابسة كما يقول النحويون في مثل هذا، كما قد يقال أيضاً إن ما تضمنته القصيدة إنما هو أسطورة غير واقعية بل خيالية فاضت بها قريحة الشاعر، وقد أشرتم إلى هذا في الرسالة. غير أنه حدث أن بعض طلاب العلم كانوا يزورونني وأحدهم يسمعني بعضاً من المقالات والقصائد من عدد الرسالة حتى قرأ (آلهة الكعبة) فتبادر إلى ذهن البعض منهم أن هذه الأصنام كانت في الكعبة فصححت لهم مما ظنوا. وتبن لي أن ما اشتبه على هؤلاء ربما أشتبه على غيرهم؛ لذلك رأيت أن أكتب إليكم هذه النبذة إيضاحاً وكشفاً لهذا الإبهام غير المقصود:
ومما يناسب هذا البحث ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أبى أن يدخل البيت (الكعبة) وفيه الآلهة، فأمر بها فأُخرجت، فأخرج صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاتلهم الله! أما والله لقد علموا ما اقتسما بها قط، ثم دخل فكبر في نواحي البيت. (مسند الإمام أحمد ج1 ص 334)
محمد صبري
إلى الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم
قرأت مقالك في عام الفيل وميلاد الرسول فأعجبني رأيك في تحقيق ذلك الميلاد، وكنت موفقاً كل التوفيق في تأييدك وجود الفيل في حملة الأحباش. وقد أشكل علي في مقالك أمور(350/67)
أعرضها عليك لتتفضل بإيضاحها
1 - ذكرت أن النجاشي كان يرى أن فكرة هذه الحملة خيالية لا يمكن تحقيقها، فكيف يعلم النجاشي هذا وهو من شعب فطري، ثم يغيب على الروم وهم أهل علم وثقافة ودراية بفنون الحرب وطبائع البلاد؟
2 - وذكرت أن مساعدة النجاشي للروم لم تكن ممكنة من جهة الخليج الفارسي، لأنه لم يكن له أسطول ينقل به جنوده إليه، مع أنك ذكرت أنه كان للروم أسطول بالبحر الأحمر والمحيط الهندي، وأن هذا الأسطول هو الذي نقل جنوده الأحباش إلى اليمن، وكانت الأفيال تأتي به إليهم من الهند
3 - وذكرت أن الأحباش تعرضوا للحجاز بتحريض الروم، ثم عدت فذكرت أن الأحباش لم يكن قصدهم التعرض للحجاز، وإنما كانوا يقصدون مساعدة الروم
4 - ويفهم من كلامك أن المرض والوباء الذي حصل للأحباش عند وصولهم إلى مكة لم يكن بعناية إلهية، وأن أهل الحجاز هم الذين فهموا ذلك حين فهموا خطأ أن الروم يقصدون هدم الكعبة، ولكن الأمر في هذا لا يقف عند فهم أهل الحجاز فقد جاء القران الكريم موافقاً لما فهموه من تلك العناية، وذلك في قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل) الآيات
5 - وقد جعلت الرواية اليونانية تناقض الرواية العربية في سبب حملة الأحباش، مع أنه لا يتناقض بينهما، والشيء الواحد قد تتعدد أسبابه، ولا يضير الرواية العربية أن تجهل أمر سفير الروم إلى النجاشي، لأن ذلك جرى بين النجاشي وجوستنيان، ولم يكن العرب في ذلك الوقت في حالة تمكنهم من الاطلاع على هذه السفارة
(قارئ)
سؤال
جاء في مقال الأستاذ الكبير عبد الله عفيفي بك بالعدد الممتاز (ميراث لا وارث له):
(وما كان أقوى تلك الطفلة الناشئة عائشة بنت أبى بكر حين اقتحم رجال قريش عليها البيت. . . ولطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة لطارت قرطها من أذنها لتتكلم(350/68)
فما نطقت إلا بعبرة واحدة سقطت من عينيها على الأرض).
وجاء في قصيدة الأستاذ محمود الخفيف بالعدد نفسه (في الطريق إلى يثرب):
حيِّيا أسماَء كالطيف الرفيق ... تسرق الخطو على هول الطريق
يا ابنة الصدِّيق هل من نبأ ... للرفيقين عن الشرك وثيق
أمسكي عن لطمة فاجرة ... طرحت قرطك من وغد صفيق
فيتضح من مقال الأستاذ عفيفي بك أن لطمة أبى جهل كانت لعائشة بنت أبى بكر، ومن قصيدة الأستاذ محمد أن اللطمة كانت لأسماءَ. فعلى أي شئ جاء هذا الاختلاف؟ أَسَهَا أحدهما فأورد القصة على غير ما هي، أم ماذا؟
(صا الحجر)
السيد محمد أحمد الفقي
(الرسالة):
الصحيح أن اللطمة كانت لذات النطاقين أسماء، أما ذكر عائشة فهو سهو
(جواب)
سأل (قناوي) عن كلمة وردت في كتاب (تاريخ الأدب) الذي ألَّفه مؤلفو وزارة المعارف العمومية! حيث زعموا أن أبا دهبل الجمحي من شعراء المخضرمين (بين الجاهلية والإسلام) وقالوا إنه مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبياته التي أولها:
إنّ البيوت معادنُ، فِنجارُه ... ذَهَبُ وكلُّ بيوته ضَخْمُ
ونحن نقول إن الأساتذة المؤلفين قد بلغوا الجهد وسلكوا الحجَّة واهتدوا بأساليب الثقاتِ من أصحابهم في الاستنباط والتحقيق العلمي، فأهدوا إلى العربية ما كانت تجهل من ميلاد أبي دهبل الجمحي! وكان طريقهم إلى ذلك أنهم رأوا في شرح الحماسة للتبريزي ج 3 ص 75 ما نصه:
(قال أبو دهبل الجمحي - وقالوا يمدح النبي صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر الشعر، فاستخرجوا من ذلك أن أبا دهبل مخضرمٌ. وهذا نهايةٌ في التحقيق
أما تحقيقنا فهو يخالف ما ذهبوا إليه، فإنك إذا قرأت شرح هذا البيت رأيت التبرزي يقولُ(350/69)
في شرح قوله (وكلّ بيوته ضخمُ): (يعني ما اكتنفه من أخواله وأعمامه من بني هاشم وأمية ومخزوم) والتبريزي لا يجهل بلا شك أن بني أمية وبني مخزوم ليسوا من أعمام رسول الله وأخواله، وهو يعلم بلا شك أيضاً أن الأبيات في مدح عبد الله بن عبد الرحمن ابن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي (ابن الأزرق) كما جاء في الأغاني، وهو الذي أعمامه وأخواله من بني هاشم وبني أمية وبني مخزوم
وإذن فصوابُ العبارة في التبريزي على ما نظن: (وقالوا: وهو أحق بمدح النبي صلى الله عليه وسلم) فوقف عليها بعض النساخ فلم يفهمها، فحذف قوله (وهو أحق)، فصار الكلام (وقالوا يمدح النبي. .) وصار أبو دهبل في زماننا هذا مخضرماً بعد أن عرفه علماء العربية كل هذه القرون شاعراً أموياً.
(م)(350/70)
الكُتب
من التاريخ الإسلامي
تأليف الأستاذ علي الطنطاوي
(يصدر في الأيام القريبة هذا الكتاب الأستاذ علي الطنطاوي مصدراً بهذه المقدمة البليغة. ونحن نسارع إلى نشرها تعريفاً بالكتاب تعريفاً بالكتاب وتشويقاً إليه)
لو رجعت إلى أصول هذه القصص التي يشمل عليها هذا الكتاب، لرأيت أنها لا تجاوز بضع صفحات (من التاريخ الإسلامي) متفرقة في مواضيع منه شتى، وفصول مختلفة لا يتنبه إليها القارئ ولا يقف عليها. وليست أروع ما في تاريخنا ولا هي من أروع ما فيه، وإنما هي أخبار عادية استطاع قلم الأدب أن ينسج منها هذه القصص وأن يعرضها على الناس شيئاً جديداً أو هو كالجديد. فكيف إذا تولاها قلم أقوى من هذا القلم؟ وكيف إذا اختار لها مواقف من التاريخ رائعة عظيمة حقاً؟
وإذا كان أصل هذا الكتاب الذي تفرع عنه، وأساسه الذي بني عليه، بضع صفحات من هذا التاريخ العظيم فكم صورة رائعة، وكم قصة بارعة، وكم من الآثار الأدبية الخالدة يمكن أن تخرج من هذا التاريخ؟
أما إن ذلك ليزيد عن العدد ويجل عن الحسبان، وإن السيرة وحدها لتمد الأدب بألف كتاب أدبي. . . ولكن أدباءنا لم يردوا هذا المورد!
وليست هذه القصة كاملة ولا هي الثمرة الناضجة لهذه الدوحة الباسقة، ولكنها بواكير ثمارها، وإن فيها لنقائص وعيوباً أدرك أما الآن بعض منها، وإن عشت وقدر لي الله أن أسلك سبيل الأدب سلوك المسافر المطمئن، لا المتعثر الضال، وأراحني مِّن هم الكد للعيش ونكد الحياة النمطية الجافة (حياة الموظف).
فلأخرجن على الناس بقصص من التاريخ تبكي منها عيون الصخر ويرق قلب الجماد. وإني لأقرأ في التاريخ ما يزلزل شعوري وهو على اختصاره وجموده على أساليب العلماء، فما له لا يصنع الأعاجيب إذا فصل ووسع وطار في آفاق الأدب؟
وإن لنا من تاريخنا لثروة ما لأمة مثلها. لنا منه عالم يفيض بالحب والإخلاص والنبل والتضحية والبطولة والخلود فيه مآس وفيه ملاحم وفيه من كل فن من فنون الأدب. ولكن(350/71)
عيب هذا التاريخ أنه لنا، وأنه ليس لأمة من (تلك) الأمم الحية، وأن علماءنا - أعني الفقهاء والمحدثين والمفسرين - قد انصرفوا عنه جملة، وكانوا يعدونه إلى عهد قريب من فضول الكلام، ويرون الاشتغال به مضيعة للوقت. ثم إنهم إذا عرفوه لم تفدهم معرفتهم به، فيما نحن بصدد الكلام عنه، لأنه ليس لأكثرهم أقلام، ولا بصر لجمهورهم بالأدب، ولا يعرفون من البلاغة إلا حدودها الجافة وتعريفاتها الجامدة التي بقيت في الكتب واشتملت عليها (شروح التلخيص) فهم يعرفون الاستعارة وأقسامها ولكنهم لا يستعيرون؛ ويحفظون أنواع المجاز ولكنهم لا يتجوزون. فاترك العلماء وقف على الشبان الذين اشتغلوا بهذا الفن، وكانوا هم المرجع فيه وكانوا معلميه، تر أكثرهم قد تلقى تاريخنا على غير أهله، وقرأه في غير كتبه، ولم يأخذ من التاريخ رواياته، ولا عن الرجال نقولهم، ولكن أخذ آراءهم وأغراضهم وحسب أن التاريخ يكون بالعقل، وأنه يرتجل ارتجالاً، ونسي أو هو لم يعرف أن العقل لا يصنع في التاريخ شيئاً إن لم تكن معه الرواية، وأن القيمة فيه للنص الصحيح، وأن نصوص التاريخ عندنا لا عند غيرنا. . . والبلية بهذا النفر من الناس كبيرة. ثم أن هؤلاء كلهم أو من عرفنا منهم لا يكتبون ولا يبينون عن أنفسهم، وأنهم في البعد عن الأدب كالعلماء، إلا أن العلماء حفظوا قواعد النحو والصرف والبلاغة، وقرءوا فيها الشروح الضخمة والحواشي، وهؤلاء استراحوا من ذلك كله. . . بقي الأدباء فسأل الأدباء، أن ما حال بينكم وبين التاريخ وما منعكم أن تمدوا أيديكم إلى هذا الكنز العظيم؟ وانظر ماذا يقولون!
على أن من الإنصاف أن نقرر أن هذا التاريخ الذي انصرف عنه علماؤنا وعدوه من فضول الكلام، وأخذه الشباب من غير مأخذه، إنما هو التاريخ السياسي، تاريخ الملوك والأمراء، والحروب والوقائع، وهو أضعف جانب في تاريخنا - على قوته وعظمته إذا قيس بتواريخ الأمم الأخرى - أما تاريخنا القوي حقاً، الحافل بالأمجاد الطافح بالعظمة فهو تاريخنا العلمي الذي عني به العلماء بعض العناية، وانصرف عنه الشبان الانصراف كله، ولم يكونوا منه في القليل ولا كثير، لأن دراسته تحتاج إلى آلات لا يملكونها، من اطلاع على اللغة وتمكن منها، إلى معرفة بمصطلحات أهل الحديث والفقه، إلى وقوف على التفسير ومعرفة بالأثر؛ فإذا عرضوا له على جهل بهذا كله، فإنما يعرضون نفوسهم إلى(350/72)
الفضيحة وافتضاح الجهل كما افتضح من هو أعلم منهم، من (أولئك) القوم، واتضح جهلهم، وظهرت أغراضهم. إن تاريخنا القوي حقاً العظيم الماجد هو التاريخ العلمي، تاريخ الرجال. وابدأ فيه بسيرة سيد البشر ومعلم الخير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي ألفت فيها المئات من الكتب، ثم عرج على سير الصحابة فاقرأها في الإصابة أو في أسد الغابة أو في الاستيعاب، ثم انظر العمل الذي قام به مؤرخو رجال الحديث، ومبلغ ما وصلوا إليه من الإحاطة والتدقيق والصدق، وانظر هل أفلت منهم خبر، أو خفيت عليهم حقيقة. وهل صنع علماء أمة كانت أو تكون كالذي صنعوا، أو تصوروا إمكان هذا الصنيع المعجز الهائل؟ لقد صنفوا في الرجال الكتب الجامعة، وافردوا الضعاف والمتروكين بالتأليف، ووضعوا الكتب في ضبط الأسماء وبيان ما تشابه منها وما اشتبه وبحثوا في تواريخ الوفاة، وحققوا الأسانيد. . . ثم انظر ما ألف من كتب لرجال في سائر العلوم والفنون، كطبقات الأطباء وأخبار الحكماء، والنحاة، والأدباء، وفي المذاهب كتاب السبكي الجليل القيم، طبقات الشافعية، والديباج في أعيان المذهب المالكي، وطبقات الحنابلة والحنفية، وما ألف منها في المدن كتاريخ بغداد الذي ترجم لكل من دخل بغداد فلم يبق ولم يذر، والكتاب الذي لم يؤلف في بابه مثله كتاب ابن عساكر العجيب الذي عجزت دمشق عن طبعه ونشره. . . وما ألف بحسب العصور، وعندنا سلسلة كاملة لأعيان كل عصر من العصر السابع إلى الثاني عشر الهجري، وما كان منها جامعاً كوفيات الأعيان الكتاب النفيس الممتاز، وغير ذلك مما يتعسر الإحاطة به، وتقصى خبره في مثل هذا المقام، وفي كل صفحة من هذه الكتب مبعث إلهام للأديب، وأصل قصة للكاتب، وكنز من كنوز العقل والقلب لا يفنى
ومعلمو التاريخ لا يدرون بهذه الكتب ولا يعرفونها، بل هم ينفِّرون منها على جهل بها، وينعتونها بالكتب الصفراء. وإذا عرفوا المشهور منها لم يعرفوا التفريق بين رواياته، ولا دراية لهم برجاله. وإذا وقع أحدهم على خبر في تاريخ الطبري أو ابن الأثير طار به فرحا، يحسبون أن كل ما بين دفتي الطبري في درجة واحدة من الصحة، مع أن الطبري يروي القوي الثابت من الأخبار وما دونه، وهو حين يذكر سند الرواية يسقط عن نفسه تبعتها. وعليك أنت أن تعرف السند الموثوق به من السند الواهي - ومن الرجال من هو(350/73)
معروف بالكذب كابن الكلبي - ومع ذلك فقد رأينا مدرساً من (هؤلاء) المدرسين يعتمد عليه في رواية عرضها ابن الكلبي بصيغة التضعيف، ويقرر لتلاميذه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد للأصنام في الجاهلية، وأن ذلك معنى قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى).
ومنهم من ادعى حل الخمر عند فقهاء العراق ظناً منه أن النبيذ معناه الخمر المعروف. . .
ومما يقع فيه (هؤلاء) المعلمون الذين يحملون يداً فيها (الشهادة الرسمية) ورأساً مثل فعل (قال) في الصرف. . . أنهم لا يعرفون درجات الحديث ولا مصطلح أهله. وهم لذلك يروون الحديث الموضوع على أنه صحيح، ويأخذون الأحاديث من كتب الأدب والمحاضرات. ولقد قرأت في كتاب لأديب من أدباء هذا العصر نسبة حديث إلى الصفحة (كذا) من كتاب الأغاني، وإثباته ذلك في حاشية الصفحة كما يعزو العالم إلى (البخاري) أو (مسلم)!
وأكثر (هؤلاء) المعلمين، يدرِّسون التاريخ بالهوى، ويسيرون فيه بالغرض، ويضعون النتائج أولاً، ثم يختلقون لها المقدمات، فعل أساتذتهم من المستعمرين. فالشيوعي منهم يدرس التاريخ بهوى شيوعيته ويسوقه مساق هواه، ولو جار على الحق أو خالف الرواية؛ والقومي (النازي) يبحثه بقوميته وإلحاده، فيكذب فيه على الواقع فيقول بأن العرب كانوا بالغين ما بلغوه ولو لم يأتهم الله بالإسلام، وأن الإسلام فرع من العروبة، ويموِّه على ضعاف العقول بقوله: (نحن عرب قبل أن نكون مسلمين) مع أن العرب ما كانوا شيئاً لولا الإسلام، وأن تاريخ العرب الحق يبدأ بسيد كل عربي خاتم الأنبياء محمد رسول الله إلى الناس كافة، الذي قال: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). وقديماً حرف التاريخ ذوو الأغراض والنحل وصرفوه إلى غاياتهم وأغراضهم.
وبعد فهذه طائفة قليلة من القصص التاريخية، ليست كاملة ولا مبراة من العيوب، ولكنها باكورة الثمار وهي مكتوبة في أزمنة مختلفة في أسلوبها تفاوت، ولعل الله يوفق إلى الثمار الناضجة، ويكتب لنا وللمشتغلين النجاح، ويلهم
الكسالى العمل، ويجعل منا أمة كالأمة التي كتبت بفعلها هذا (التاريخ العظيم).
الثانوية الأولي (دمشق)
علي الطنطاوي(350/74)
رضا الشاه بهلوي
تأليف الأستاذ احمد محمود الساداتي
بين مصر وإيران صلات تاريخية عريقة، وقد توثقت هذه الصلات بالمصاهرة الكريمة بين الأمتين الخالدتين، وكان أن انتهزها الكتاب والباحثون فرصة حميدة للإشادة بمجد الشعبين وتمكين التعارف بينهما تعريفاً رباطه الدين والعلم، وقوامه الآمال المشتركة، والأغراض المتفقة، وغايته المودة والأخوة الكاملة
وهذا الكتاب الذي كتبه الأستاذ الساداتي إنما هو ثمرة من تلك الثمرات الطيبة، فقد أراد أن يشيد برجولة رضا الشاه بهلوي وما قام به نحو شعبه من ضروب الإصلاح، ولكنه رأى من حق البحث أن يرجع إلى الماضي السحيق يستقبل تاريخ إيران من عهد الإمبراطورية القديمة، ثم الإمبراطورية الوسطى، ثم ما كان من شأن آل ساسان، وما زال يتدرج بالبحث حتى انتهى إلى نهضة إيران الحديثة، وما كان يصطرع فيها من نزاع بين الشرق والغرب، والجمود والتقدم، والرجعية وروح الإصلاح؛ ثم ما كان من جهود رضا شاه البهلوي في إنقاذ بلاده والسير بها في سبيل الرقي والتقدم حتى بلغت إلى ما وصلت إليه وما زالت تواصل الجهود. . .
فهذا الكتاب في الواقع هو كما يقول الدكتور عبد الوهاب عزام في تقديمه: يتضمن طرفاً من تاريخ إيران وجغرافيتها وأحوالها الحاضرة، وهو يجدي كثيراً على قراءة العربية في التعريف بأمة إسلامية لها مكانتها في ماضي الإسلام وحاضره، ويعد فاتحة طيبة لكتب أخرى تفصل الكلام في تاريخ إيران ومكانتها بين الأمم عامة، وصلاتها بالأمم الإسلامية، خاصة، وحسب الأستاذ الساداتي أنه السابق
ولاشك أن الأستاذ الفاضل قد وجد عناء كبيراً في كتابة كتابه، لأن المصادر التي تناولت تاريخ إيران فيها كثير من الشبهات وبعضها قد كتب بروح التعصب وخصوصاً ما كتبه الاستعماريون الذين حقدوا على إيران في نهضتها وأزعجتهم جهود رضا شاه فراحوا يزبعون عنه الأراجيف والأكاذيب، وقد اجتهد الأستاذ في الابتعاد عن هذه الشبهات، وحرص على تخير الصحيح الثابت من الروايات، وهذه لاشك مهمة تحتاج إلى كثير من(350/75)
الذكانة والحذر والفطنة التي تنفذ إلى ما وراء الظواهر.(350/76)
العدد 351 - بتاريخ: 25 - 03 - 1940(/)
التبشير عدو للسلام
وهو في مصر عمل لا يليق
كان التبشير والتجارة رائدي الاستعمار السياسي منذ اعتزم الغرب الطموح الإغارة على الشرق الغافل. وكان التبشير أشد الرائدين تدخلاً في شؤون الناس، وتغلغلاً في أصول المجتمع، لما تهيأ له من شتى الوسائل في التعليم والتطبيب والتمريض والاستشراق والخدمة العامة، فاستطاع أن يرهج بين الأمة المتحدة الغبار الخانق، ويزرع بين الملة الواحدة الزرع الخبيث، ويخلق في كل شعب من شعوب الشرق بالعصبية الدينية والتربية المذهبية قلةً حاقدة تعارض الكثرة في الرأي، وتخالفها في الهوى، وتغري بها الشر، وتمالئ عليها العدو، وتحاول أن تتحيز في السكن والعمل، وتتميز بالشعار والجنس، فلا تكون من قومها في دنيا ولا آخره
ليس التبشير بهذا المعنى ولهذا الغرض من ألسنة الدين ولا من سبل
الحق؛ فإن الدين مهما تعددت أسماؤه وغير فيه أبناؤه لا يزال في
حقيقته الحبل الذي يصل به الله من انقطع ويجمع عليه من تفرق. وإن
الحق مهما تفرقت سبله وتنوعت وسائله لا تزال له غاية واحدة يهتدي
إليها من ضل، ويتوافى عليها من تأخر. وإذن لا يكون هذا التبشير
القاطع المفرق إلا وسيلة من وسائل السياسة الماكرة، أو حيلة من حيل
العيش الرخيص
وأعجب العجب أن الدولة الديمقراطية الثلاث هي التي تحضن هذا النظام الطفيلي وتعوله وتقوده وتحميه. وكان أقرب الظن بها أن تنكره بعد ما أمكن الشرق من يده وخلى بينها وبين ميراثه؛ فإن السلام والوئام والحب هي التي تقرب إليها من تسوس، وتحفظ عليها ما تملك. وهؤلاء المبشرون الذين اضطرهم اليأس أو البؤس أو العجز إلى الاتجار بالدين والعيش على ضلالات العقول وحزازات النفوس وسفاهات الألسن، لا يستطيعون أن يبذروا غير الخلاف، ولا أن يحصدوا غير الضغينة(351/1)
إن ميدان الدعوة إلى الله لا يكون بالطبيعة إلا في بلاد الوثنية والجهالة. هنالك يجد المجاهدون في سبيل الحق والخير ملايين من عمي القلوب يخبطون الظلام ويطئون الشوك ويعانون الحيرة ويكابدون اللغوب، فيخرجونهم إلى نور الله ويلحقونهم بركب الإنسانية. ولكننا لا نرى جمهرة المبشرين ولا معركة التبشير إلا في مصر، كأنما انحصر جهد هؤلاء المتعطلين في فتون المسلم عن دينه، وإخراج المسيحي عن مذهبه! فهل حسب أولئك الناس أن الإسلام بالنسبة إلى المسيحية كفر، وأن الأرثذكسية بالقياس إلى البروتستانتية فسوق؟ لا يمكن أن يقع هذا في حسبان عاقل؛ والقوم قد جاوزوا العقل والفطنة إلى الدهاء والخبث؛ فهم أكيس من أن يجهلوا حقيقة الإسلام وينكروا أثره الإلهي المحمدي في تكريم الإنسان وتنظيم العيش وإصلاح الأرض؛ ولكن الأشبه بالحق أنهم اطمأنوا إلى العيش الغرير في ظلال النيل، فأمنوا وسمنوا وخاروا، وعز عليهم أن يبعدوا عن مصاب الدولار والجنيه والفرنك في بنوك القاهرة، فأدخلوا في روع الشيوخ والعجائز من المؤمنين المثرين في أوربا وأمريكا أن البلد الذي يقوم فيه الأزهر هو المكان الذي لا يزال يصلب فيه المسيح. واستعانوا على خديعتهم بما افتراه قساوسة القرون الوسطى على الإسلام من الزور الغبي والكذب الأحمق. وأوهموهم أنهم إذا أمدوهم بالمال ورفدوهم بالنفوذ جندوا الجنود، وأحكموا الخطط، وهجموا على الإسلام فصرعوه في عقر داره من أجل ذلك كان المبشرون حراصاً على أن يجمعوا الأزهريين للمناظرات أو المحاضرات بشتى الحيل؛ فإذا ما اجتمعوا أخذوا صورهم في أروقة الكنائس أو في أفنية المدارس، ثم بعثوا بها إلى مرسليهم ومموليهم مدسوسة بين صحيفتين بارعتين إحداهما تبشر بتنصير (العلماء)، والأخرى تلح في مضاعفة الجزاء!
وفي سبيل أن ينعم المبشرون بالطعام الدسم، والشراب السائغ، والفراش الوثير، والفراغ الوادع، تتمزق العلائق بين الأخوة في النسب والوطن والعقيدة، وتكون الجفوة بين المسلم والقبطي في مصر، وبين المسلم والماروني في لبنان!
إن التبشير عدو للسلام، لأنه تأريث للعداوة وتشتيت للوحدة في غير طائل. وهو في مصر عمل لا يليق، لأنه إهانة وقحة لدينها وعقلها، وإن لهما في تاريخ الحضارة والثقافة والمجد صفحات لا يزال إشراقها السماوي يضئ جوانب الحاضر ويبدد غياهب المستقبل(351/2)
لقد آن للديمقراطيات التي تقاتل عصبية الجنس في ألمانيا، وتناضل عصبية المذهب في روسيا، أن تخلص سياستها من عصبية الدين؛ فإن ذلك أخلق بالسلام الأدبي الدائم الذي تحارب الطغاة على سلطانه، وتريد أن تقيم العالم الجديد بعد الحرب على أركانه
إن للتبشير في مصر فواجع لا تزال الضلوع محنية منها على نار. ولعل أرمضها للقلب وأبعثها للدمع مأساة ابنة الوزير الذي حال المبشرات بينه وبينها بالقوة لأنها نذرت نفسها للمسيح، ثم أخفوها عن العيون حيناً من الدهر، ثم نقلوها على رغم الأسرة والحكومة إلى فرنسا فانقطعت الأسباب بين أهلها ودينها ووطنها إلى الأبد!
ذلك ما خطر لي أن أكتبه ساعة قرأت ما كتبته مجلة التبشير الدولية عن حركة التنصير في مصر. وإن في ذلك المقال الخبيث من اقتراح تأليف مجلس مسيحي وطني لتنظيم التبشير وتعميمه في المدن، وإنشاء المدارس الإلزامية لفتنة الصبية والأيفاع في القرى، لبلاغاً للقائمين على سلامة التربية وحماة العقيدة من لصوص الضمائر وشياطين القلوب!
احمد حسن الزيات(351/3)
عبقرية محمد الإدارية
للأستاذ عباس محمود العقاد
في الإسلام أحكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الإدارة كما نسميهم اليوم
وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات، كالمساقاة والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شؤون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور
ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام الفقه ونبسط وصايا الدين، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع إليها
وإنما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من حيث هي ملكات شخصية وسلائق نفسية تلازمه حيث كان مؤدياً لرسالة الدين، أو مؤدياً لغير الرسالة من سائر أعمال الإنسان
كذلك لا يعنينا مثلاً أن نتكلم عن (الإدارة) كأنها نصوص المنشورات و (اللوائح) التي تدار بها الدواوين وتجرى عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة، فإن هذه وما إليها هي أعمال منفذين مأمورين وليست أعمال مديرين آمرين
وإنما نعني الملكة الإدارية من حيث هي أساس في التفكير من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الإدارة كلها على أسس قويمة، ثم يدع لغيره تفصيلات الأضابير والأوراق
فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة أن يؤسس إدارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة
أما السليقة المطبوعة على إنشاء الإدارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام وتعرف التبعة وتعرف الاختصاص بالعمل، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه
وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما يكون
كان يوصى بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير. ومن حديثه المأثور: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم). ومن أعماله المأثورة أنه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما يقعده عن القيادة
وكان إلى عنايته بإسناد الأمر إلى المدبر القادر عليه حريصاً على تقرير التبعات في جميع(351/4)
الشئون ما كبر منها وما صغر على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو المسئول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)
وقد كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصاراً كانوا أو مهاجرين، ولكنه عليه السلام لم يترك أحداً يدعى لنفسه حقا في إقامة الحدود وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس
فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلاً من المشركين غضب عليه السلام وقال فيما قال من حديثه المبين: (. . . فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة. . .)
ولما أراد أن يصادر الخمر نهج في ذلك منهجاً يقصد به إلى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال:
(أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آتيه بمدية، فأتيته بها. فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها فقال اغد علي بها. ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام. فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته)
وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ويبين الحلال
فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه جميع المسلمين من تفقه منهم ومن لم يتفقه في الدين، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام. وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل ولكنها مسألة إدارة وتنفيذ في مجتمع غافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوى وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان؛ فلم يكتف النبي بصريح التحريم في القرآن، ولا اكتفى بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في(351/5)
تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلاً بعينه وأناساً بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذناً لمن شاء أن يفعل ما شاء
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاماً هو أجمع لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي: (السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت (. . . ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان) ومن قوله: (الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه. وفي بعض الشر خيار) ومن قوله: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور: نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء
هذا الإلهام النافذ السديد في تدبير المصالح العامة، وعلاج شئون الجماعات، هو الذي أوحى إلى الرسول الأمي قبل كشف الجراثيم، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول، وقبل العصر الحديث بعشرات القرون، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد، حيث قال: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)
فتلك وصية من ينظر في تدبيره إلى العالم الإنساني بأسره لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد. إذ ليس أصون للعالم من حصر الوباء في مكانه، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها
على أن الإدارة العليا إنما تتجلى في تدبير الشؤون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع، فليست الإدارة كلها نصوصاً وقواعد يجرى الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشؤون على نسق واحد، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك
وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في حلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام.(351/6)
فما عرض له تدبير أمر من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها إلا أشار فيه بأعدل الآراء، وأدناها إلى السلم والإرضاء
صنع ذلك حين اختلفت القبائل على أيها يستأثر بإقامة الحجر الأسود في مكانه، وهو شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة، ولا تؤمن عقبى الفصل فيه بإيثار إحدى القبائل على غيرها ولو جاء الإيثار من طريق المصادفة والاقتراع فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره لحاضر الوقت ولمقبل الغيب المجهول. فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه، وكان من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان، وأن يتسلف الدعوة وهي مكنونة في طوايا الزمان، ولو علموا بها يومئذ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنآن
وصنع ذلك يوم هاجر من مكة إلى المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته ونزوله وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة، فترك لناقته خطامها تسير ويفسح الناس لها طريقها حتى بركت حيث طاب لها أن تبرك، وفصلت فيما لو فصل فيه إنسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة لا تؤمن عقباها بعد ساعتها ولو أمنت في تلك الساعة على دخل وسوء طوية
وصنع ذلك يوم فضل بالغنائم أناساً من أهل مكة الضعيف إيمانهم على أناس من الأنصار الذين صدقوا الإسلام وثبتوا على الجهاد. فلما غضب المفضولون لم يكن أسرع منه إلى إرضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها بل تريه أنه هو الغالب الكاسب، وأنها تصيب منه المقنع والإقناع في وقت واحد: (. . . أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. . .)
كلام مدير فيه الإدارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين، فهو مدير حين تكون الإدارة تدبير أمور، ومدير حين تكون الإدارة تدبير شعور، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق إليها الاختلال، لأنه يسوسها بالنظام وبالتبعة، وبالاختصاص وبالسماحة. وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها(351/7)
لاختلال أو انحلال، أو لخطل في إدارة الأعمال.
عباس محمود العقاد(351/8)
ليلة نابغية!
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
في نيتي أن أريح قراء (الرسالة) من شطحات قلمي شهراً أو شهرين لأفرغ لواجبات أدبية لا يصح معها الانشغال بمواجهة القراء من أسبوع إلى أسبوع، وهي واجبات كواجبات القراء
وقبل أن أشرع في تناسي الشوق إلى قرائي، وهو تناس موجع، أصور لك ولهم ما وقع بيني وبين الأستاذ لطفي جمعة ليلة المناظرة بكلية الآداب، وكانت مناظرة عنيفة لا يزال صداها يقرع سمعي فيبدد ما أشتهيه من الأنس بالهدوء والصفاء
وما ذكرت تلك المناظرة إلا جزعت، وتولاني الندم على الاشتراك في جدال يضيق به صدر الغالب والمغلوب، لأنه لم يمض بلا هنوات مزعجات
ولهذه المناظرة تاريخ:
سألني فريق من أعضاء اتحاد كلية الآداب أن أشترك في مناظرات هذا الموسم، وعرضوا عليَّ طوائف من الموضوعات لم يرقني منها غير موضوع:
(يزدهر الأدب في عصور الفوضى الأخلاقية)
ولكني اقترحت أن يعدل فتوضع (الفوضى الاجتماعية) مكان (الفوضى الأخلاقية) فراراً من التجني على كلية الآداب باسم الغيرة على الأخلاق!
ومضت أيام وأسابيع، والاتحاد مشغول بالبحث عمن يناظرني من أساتذة كلية الآداب، ثم علمت أن الأساتذة لم يرقهم أن يناظروا (المشاغب الأكبر) على حد تعبير الدكتور هيكل باشا. وهل من العقل أن يتقدم أحد الأساتذة لمناظرتي وقد شاع وذاع أني أكبر المشاغبين؟!
هي تهمة ظالمة، كما تعرف، ولكنها حقت علي، وسأقضي بقية العمر في الدفاع عن نفسي، ولكن بلا نفع ولا غناء، لأن الناس عندنا يؤذيهم أن يصححوا رأيهم في رجل ظلموه بلا بينة ولا برهان!
وأخيراً، ظفر اتحاد الكلية برجل يناظرني. ولكن، أي رجل؟ كاتب مشهور كانت لي معه وقائع في بعض الجرائد والمجلات؟ فقلت في نفسي: هي مكرمة من مكرمات الأستاذ لطفي(351/9)
جمعة، فقد هداه القلب الطيب إلى أنني رجل ينهاه الأدب والذوق عن الاستخفاف بأقدار الزملاء
واتصلت به تليفونياً لأقول له: إني أريد أن تكون هذه المناظرة مثالاً في التلطف والترفق، وإني سأبدأ خطبتي بكلمة في الثناء عليه، وإني أنتظر أن يقابل الجميل بالجميل!
وكنت صادقاً فيما قلت، لولا خاطر واحد كدر صدقي بعض التكدير، وهو الحرص على أن يبقى هذا المناظر فلا يطير من يدي، كما طار من كنت أرجو مناظرتهم من أساتذة الكلية. صفح الله عنهم وعفا عني!!
كان الأستاذ لطفي جمعة متردداً في القبول، ثم قبل بعد تمنع؛ والحر قد ينخدع في بعض الأحايين!
وفي تلك الأثناء نقلت الإذاعة اللاسلكية مناظرة قامت بين الدكتور طه والدكتور هيكل في كلية العلوم، مناظرة مرتجلة قام بها الرجلان بدون استعداد، فقلت: يجب أن أستعد لتكون مناظرة كلية الآداب أقوى من مناظرة كلية العلوم، ولأعطي الدكتور طه والدكتور هيكل درساً في وجوب الاحتفال بمقامات الكلام، ولأحمي نفسي من شر المرجفين، وأنا أدافع عن رأي شائك لا ينظر إليه المجتمع بغير الاستخفاف
ورجعت إلى مذكرات كنت أعددتها يوم عرض على الموضوع أول مرة، ولكني لم أجد تلك المذكرات، فأقبلت على الموضوع من جديد وشغلت به نفسي سهرتين طويلتين ليصل في الجودة والقوة إلى ما أريد
وبعد أن فرغت من تحريره وتحبيره دعوت أحد أبنائي ليقرأه علي فكانت فرصة لدرس طريف من دروس التربية، فقد عرفت أن الرجل لا يدرك ما في أسلوبه من نبوات إلا حين يسمعه من رجل سواه، وكذلك غيرت بعض الألفاظ وعدلت بعض التعابير، فظهرت الخطبة وهي فن من الكلام المصقول
ثم مضيت إلى كلية الآداب في أصيل اليوم الأول من أيام آذار، ولا يمكن الوصول إلى كلية الآداب إلا بالسير في شارع فؤاد الذي يعبر الزمالك مرة ويعبر النيل مرتين، ثم انعطفت السيارة فسايرت النيل حتى وصلت إلى شارع الجامعة المصرية، عليه وعليها أطيب التحيات!(351/10)
هو اليوم الأول من أيام آذار، وأيام مصر كلها آذار، فما تعرف بلادنا غير نضرة النعيم في جميع الفصول
ونظرت في الساعة فلم أجد من فسحة الوقت غير خمس دقائق، وهي مدة لا تسمح باجتلاء المحاسن في شارع الجامعة، الشارع الجميل الذي كان يستهويني فأسير فيه بتأدب واستحياء رعاية لحقوق العين والقلب في البقعة التي صارت مراتع ظباء، ومرابض أسود
الله أكبر ولله الحمد!
هذه كلية الآداب التي قضيت فيها مواسم شبابي، يوم كنت فتىً عارم العزيمة يؤذيه أن يقال إن في الدنيا كتاباً لم يطلع عليه، ويوم كنت معمور القلب بأرواح الأماني، ويوم كنت أتوهم أن الجد في طلب العلم لا يظفر صاحبه بغير الإعزاز والتبجيل، ويوم كنت أخال أن الكفاح في سبيل الأدب قد تنصب له الموازين، ويوم كنت أومن بأن الجهاد لا يضيع في هذه البلاد!!!
تقع كليتنا الغالية على يمين من يدخل حرم الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول. وسميت بذلك، لأن فؤاداً العظيم كان أول رئيس للجامعة المصرية. وكليتنا الغالية لها روح قهار، لأنها شرعت للناس مذاهب التفكير في الآداب والفنون، ولأنها أول معهد في مصر فتح أبوابه لحرية الفكر والعقل بلا تمييز بين العقائد والآراء
كاد الدمع يطفر من عيني حين دخلت كليتنا الغالية، فقد خيل إلي أن أحجارها لا تنطق، وإلا فكيف غاب عني تفصيل ما فيها من حجرات وغرفات؟ وكيف نسيت الأماكن التي كنت ألقي فيها دروسي ومحاضراتي على قرب العهد؟ وكيف غفلت عتباتها عن الوثوب لمصافحتي وقد صحبتها طالباً ومدرساً من سنة 1913 إلى سنة 1937 ودرت معها من ميدان الإسماعيلية إلى ميدان الفلكي، ومن حي المنيرة إلى قصر الزعفران، ثم إلى حديقة الأرمان، ولم يزاحم هواها في فؤادي غير الأعوام التي قضيتها بكلية الآداب في جامعة باريس؟
وزاد في أساي وشجاي أني سأخرج مهزوماً في المناظرة التي تقام بكليتنا الغالية، لأني سأدافع عن رأي جرئ لا يقول به إلا من يخاطر بنفسه فيتعرض لغضب المجتمع. ولكن لا بأس فكليتنا الغالية قد علمتنا الثورة على أوهام المجتمع(351/11)
وألفت ما تبدد من شمل عزيمتي وصعدت إلى غرفة الأساتذة، الغرفة التي صاولت فيها من صاولت، وكايدت من كايدت، يوم كنت أحسب أن مغايظة الرجال لن تكون لها عواقب سود. . . فماذا رأيت؟
رأيت الأستاذ لطفي جمعة قد انحاز إلى شابين من طلبة الكلية يدبر معهما خطط النضال، فأردت أن أفسد ذلك التدبير بدعوته إلى المسارعة بالنزول إلى المدرج الأكبر حيث ينتظر جمهور المستمعين. ولكن لم أفلح، فقد تعلل بأنه ينتظر فنجاناً من القهوة، ورجاني أن أعفيه من حضوري لحظات!
وسألت عن نصيري في المناظرة فرأيت فتاة حيية اسمها ليلى، وفتىً ناشئاً اسمه صادق، فحدقت فيهما وقلت: أين تقعان مما أريد؟!
ونزلت إلى المدرج بعد أن أعلن الدكتور إبراهيم مدكور أن الطلبة هم الذين سيبدءون ثم تقع الموقعة بيني وبين غريمي
وبعد تلبث وتمكث حضر الأستاذ لطفي جمعة ومعه نصيراه من الطلبة، ونصير ثالث هو الدكتور أحمد موسى، وهو فيما سمعت أديب متمكن من ناصية الفكر والبيان
ثم صرح رئيس المناظرة بأنه أستاذ ونائب، وأنه سيطبق اللائحة الداخلية إذا وقع بين المتناظرين شجار، فعرفت أن الأمر جد في جد، وأنى سأعاني من هذه المناظرة ليلةً نابغية
وشرعت ليلى تتكلم، ليلى يوسف، وهي فتاة جملها الله بالأدب والحياء، فما كانت إلا دمية مصقولة صيغت من العقل والذوق، وسيكون لها في حياة الأدب تاريخ، وقد تفوق الفتاة المبغومة الصوت التي نضجت قبل الأوان فأضر بها الزهو والخيلاء
ولكن ليلى ستلحن كما تلحن سائر (الليالي) ستلحن لحناً خفيفاً في مواطن لا تسلم فيها ألسنة (بعض) الأساتذة، ومع ذلك يثور الجمهور ويصخب ليصح له أن يضايقني ويضايقها باسم الغيرة على قواعد اللغة العربية!
ثم يتكلم الشيال أفندي فيقترح أن يحال الدكتور زكي مبارك إلى المعاش لأنه من دعاة الفوضى الاجتماعية ولأن مؤلفاته تشهد بأنه يستهين بالعادات والتقاليد!
ويتكلم بعد ذلك محمد عبد الرحمن صادق أفندي بأسلوب يشهد بأنه من طلبة كلية الآداب، كليتنا الغالية التي نذكر عهدها بالحب والعطف، ونعرف فضلها في تثقيف الأذواق والعقول(351/12)
ويميل بدير متولي أفندي على أذني فيسر إلي أنه قد يستبيح ما لا يباح في تحقير الرأي الذي أرتضيه، فآذن له بذلك، لأني من أقوى أنصار حرية الرأي، ولكن الفتى يخلف ظني به كل الإخلاف فيعلن عجبه من أن أكون مفتشاً بوزارة المعارف مع أني من دعاة الفوضى الاجتماعية، ويدعو الجمهور إلى الحذر من آرائي!
ويجئ دوري في الكلام فأبدأ بالثناء على الطالبين اللذين شتماني بلا ترفق ولا استبقاء، لأنهما من طلبة كليتنا الغالية، ولأنهما سمعا أصوات مصطفى عبد الرزاق وطه حسين وشفيق غربال، ولأننا حضرنا لتمرينهم على النضال والصيال
ثم أشرع في الخطبة التي أعددتها في سهرتين طويلتين، وبعد لحظات يقوم شاب ثائر فيقاطعني مقاطعة عنيفة ويؤلب عليَّ الجمهور بشطط وإسراف، وأنظر فأراه أحد تلاميذي، التلاميذ الذين كنت أشقى في سبيلهم إلى عهد قريب
ويدور رأسي من هول ما أراه، فهذا الشاب كان موضع ثقتي، وكنت أكرمه لنفسه ولأخيه ولقرب بلده من سنتريس
وتطوف بذهني أخيلة مزعجة: فليس هذا الشاب أول من يغدر ويخون، وليست ليلتي هذه أول ليالي في المحرجات والمضجرات، ولن تكون آخر العهد بشقائي في رحاب كلية الآداب، فسأرجع إليها لخدمة الأدب والفلسفة بعد عهد قريب أو بعيد، يوم يعتدل الميزان. وأنظر فأرى الأستاذ لطفي جمعة قد اطمأن واستراح، وأرى أنصاره في جذل وانشراح
هي إذن معركة جديدة سأنهزم في ميدانها المشئوم وسيلحقني عارها الباقي، والله الحفيظ!
وينهض رئيس المناظرة فيهدد الشاب الذي يقاطعني، يهدده بالطرد، فيخشع الشاب ويستكين، ويصفق الجمهور إيذاناً بالشوق لسماع صوتي، فأمضي في إلقاء خطبتي وأنا جريح، وأضيف إلى خطبتي كلمة أقول فيها: إني اشتغلت بالتدريس في كلية الآداب أربع سنين ومن حقي عليها أن تسمح بأن أجهر في رحابها بكلمة الحق
وما قيمة الاشتغال بالتدريس أربع سنين في معهد مصري وقد صرح شاعرنا شوقي بأن كل شيء في مصر ينسى بعد حين!
ما قيمة الاعتماد على الماضي وهو ذخر الفانين؟ وبأي حق أغضب على شاب يقاطعني وقد أخذ عني أصول الثورة والصيال؟(351/13)
ثم أمضي في خطبتي كالسيل الجارف فأفتن الجمهور فتنة ماحقة يضج لها خصومي بتصفيق الإعجاب ليسلموا من سخرية الجمهور الذي سحره بياني
ويميل الأستاذ لطفي جمعة على أذني وهو يقول: أهنئك على أن عرضت سمعتك للأراجيف في سبيل الحق. فأبتسم وأنتظر أن يصنع كما صنعت ليظفر بتهنئتي! وينهض الخصم الشريف فيسلك في تحقيري جميع المسالك، ويدعي أني فوضوي أثيم، وينهي الجمهور عن الانخداع بآرائي، ويعلن عجبه من أن يكون لي كتاب اسمه التصوف الإسلامي في مجلدين كبيرين مع أني من أنصار الفوضى الاجتماعية، ويقضي في تحامله وتجنيه ساعة وبعض ساعة وأنا ساهم مطرق أكاد أذوب من الخجل والحياء
وأعود إلى نفسي فأندم على تعريض سمعتي لهذا الضيم البغيض وأعرف أني أخطأت في قبول المناظرة مع هذا الخصم الشريف، وأعاهد الله على اعتزال الناس إلى يوم الممات. وما الذي يغريني بصحبة بني آدم ولم أر منهم غير شجا الحلوق، وقذى العيون؟
لقد أقمت داري على حدود الصحراء لآنس بظلمات الليل، ولأنسى أنني موصول الأواصر بهذا الخلق، ولأناجي موات البادية حين أشاء، ثم قهرني حب العزلة على أن أغلق نوافذ داري فلا أرى الوجود إلا بأوهام من طيف الخيال
لطفي جمعة الرجل الفاضل الذي أثنيت عليه في خطبتي يقضي في شتمي ساعة وبعض ساعة؟ تلك إحدى الأعاجيب، إن كان النكر في زماننا من الأعاجيب!
أين أنا من دهري وزماني؟ أمثلي يشتم جهرة في كلية الآداب، وقد حملت على كاهلي أحجار الأساس؟
هو ذلك، وعلى نفسي أنا الجاني، فقد عرضت سمعتي للجدال الذي يسمونه مناظرات! وينتهي الأستاذ لطفي جمعة من خطبته بعد أن مزق آرائي كل ممزق، وبعد أن شفي صدره مني، وكانت بيني وبينه ترات وضغائن وحقود
ويعلن رئيس المناظرة أن ليس لي غير خمس دقائق. وما الذي أستطيع أن أصنع في خمس دقائق وقد جرحت أشنع تجريح؟ ما الذي أستطيع أن أصنع وقد سمعت ما أكره في معهد يؤذيني أن أذكر فيه بغير الجميل؟ في خمس دقائق يعرف الأستاذ لطفي جمعة أن لحمي مر المذاق، ويؤمن وهو كاره بأن التطاول على رجل مثلي لا يمر بلا جزاء،(351/14)
ويعرف من قاطعوني أن شأني أعظم مما يظنون. في خمس دقائق تحول السامعون إلى من حال إلى أحوال فصاروا جميعاً من أنصاري، في خمس دقائق شهدت أحجار كلية الآداب بأن المنطق أعظم من التنكيت، في خمس دقائق عرف غريمي أن سهر الليل في الاستعداد للحرب أمر يوجبه العقل الصحيح
وبعد كلمات ألقاها الأستاذ مندور والدكتور موسى طلب رئيس المناظرة أصوات الحاضرين فكانوا جميعاً في صفي، وهتف هاتف: (تحيا الفوضى الاجتماعية!)
فأجبت: (تسقط الفوضى ويحيا النظام!)
والآن، يا صديقي الزيات، أحب أن أسجل في مجلتك ظاهرة من شمائل الجيل الجديد، لتعرف أن اليأس الذي يساورنا قد يكون من الأوهام في أكثر الأحايين
وهذه الظاهرة هي يقظة الجمهور في هذا العهد، وقلة انخداعه بالتزاويق والتهاويل. وأؤكد لك أنه كان مفهوما عند أنصاري أني لن أخرج من تلك المعركة بغير الهزيمة، وأن التعلق بالشكليات سينفع خصومي فيظفرون بالنصر المبين
وقد أراد الأستاذ لطفي جمعة أن يغض من جهودي فقال إني شغلت نفسي بالموضوع أياماً وليالي، ولكن هذه السخرية لم تنفع، لأن الاستعداد للنضال من أصول التشريف، وهو يقابل عند الجمهور بالإعزاز والتبجيل. وهل كان يجوز لي أن أستخف بمناظرة تقام في كلية الآداب؟
وهذا النصر الذي نظفر به من وقت إلى وقت هو الذي ينسينا ما قد نجني من الحنظل في الحياة الأدبية، وهو الذي يهون ما نعاني من عقوق الزملاء، أو (بعض) الزملاء!
وقد حدثتك في مطلع هذا الحديث أني سأريح قراء الرسالة من شطحات قلمي شهراً أو شهرين، فلتعلم وليعلموا أني قد أشتاق إليك وإليهم فأرجع بعد أسبوع أو أسبوعين، والسلام.
زكي مبارك(351/15)
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ذكرنا في المقالين السابقين أن عوامل الصراع بين اللغات يرجع أهمها إلى عاملين: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله، وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. وقلنا إن نتائج هذا الصراع تختلف باختلاف الأحوال: فتارة ترجح كفة إحدى اللغتين المتنازعتين فتصرع اللغة الأخرى؛ وتارة تتكافأ قواهما أو تكاد فتعيشان معاً جنباً لجنب
ثم عرضنا للحالات التي يحدث فيها تغلب إحدى اللغتين على الأخرى. فذكرنا أنها ترجع إلى أربع حالات: اثنتان منها تتصلان بالعامل الأول (نزوح عناصر أجنبية إلى البلد) واثنتان تتصلان بالعامل الثاني (مجاورة شعبين مختلفي اللغة). فأما حالتا العامل الأول فهما:
1 - أن يكون كلا الشعبين همجياً قليل الحضارة منحط الثقافة، ويزيد عدد أفراد أحدهما عن عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة. ففي هذه الحالة تتغلب لغة أكثرهما عدداً سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل؛ على شريطة أن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين: كما كان شأن الإنجليزية مع النورماندية
2 - أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأساً، وأوسع نفوذاً. ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته، فتصبح لغة جميع السكان، وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب؛ على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاد الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين: كما كان شأن اللاتينية مع لغات كثير من الأمم التي تغلب عليها الرومان في العصور القديمة؛ والعربية مع لغات معظم الأمم التي تغلب عليها العرب في العصور(351/16)
الوسطى
وأما الحالتان اللتان يؤدي فيهما العامل الثاني (مجاورة شعبين مختلفي اللغة) إلى هذه النتيجة، فهما:
1 - أن تكون نسبة النمو في أحد الشعبين المتجاورين كبيرة، لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منهم في هذه الأمور: كما كان شأن الألمانية مع لغات المناطق المجاورة لألمانيا بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا
2 - أن يتغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ؛ على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور: كما كان شأن الفرنسية والأسبانية مع لغة شعوب الباسك بمناطق البرانس؛ والإنجليزية والفرنسية مع اللغات السلتية بأيرلندا واسكتلندا وويلز ومنطقة البريتون
وسنختم هذا البحث في مقال اليوم بالكلام عن الحالات التي تعجز فيها كلتا اللغتين عن التغلب على الأخرى
فيما عدا الحالات الأربع السابقة تتكافأ قوى اللغتين المتنازعتين فتعيشان معاً جنباً لجنب، وتسلك كل منهما في سبيل تطورها المنهج الذي يتفق مع طبيعتها، وترسمه لها نواميس الارتقاء اللغوي
والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم الغابرة وفي العصر الحاضر.
فاللغة اللاتينية لم تقو على اللغة الإغريقية، مع أن الأولى كانت لغة الشعب الغالب، وذلك لأن الإغريق، مع خضوعهم للرومان، كانوا أعرق منهم حضارة وأوسع ثقافة وأقدم لغة. وقد سبق أن انهزام لغة الشعب المغلوب أمام لغة الشعب الغالب لا يحدث إلا إذا كان الشعب الثاني أرقى من الشعب الأول في جميع هذه الأمور
ولهذه الأسباب نفسها لم تقو لغات الشعوب الجرمانية التي قوضت الإمبراطورية الرومانية(351/17)
الغربية في فاتحة العصور الوسطى على التغلب على اللغة اللاتينية في البلاد التي قهرتها بمناطق (فرنسا) وما إليها
واللغة اللاتينية لم تقو على التغلب على لغات أهل بريطانيا العظمى، على الرغم من فتح الرومان لبلادهم واحتلالهم إياها نحو مائة وخمسين سنة، وعلى الرغم من أن الشعب الغالب كان أرقى كثيراً من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته. وذلك لأن الجالية الرومانية في الجزر البريطانية لم تكن شيئاً مذكوراً، ولم تمتزج امتزاجاً كافياً بأفراد الشعب المغلوب. وقد تقدم أن الغلب اللغوي يتم في مثل هذه الحالات إلا إذا أقامت في البلاد المقهورة جالية يعتد بها من أفراد الشعب الغالب، وتم الامتزاج بينها وبين أفراد الشعب الآخر
واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغة الفارسية، على الرغم من فتح العرب لبلاد فارس وبقائها تحت سلطانهم أمداً طويلاً، وذلك لأن الشعب العربي لم يكن إذ ذاك أرقى حضارة من الشعب الفارسي، ولقلة عدد الجالية العربية بفارس وضعف امتزاجها بالسكان، ولانتماء اللغتين إلى فصيلتين مختلفتين (فالعربية من الفصيلة السامية، والفارسية من الفصيلة الهندية - الأوربية)
واللغة العربية لم تقو على الانتصار على اللغات الإسبانية على الرغم من فتح العرب للأندلس وبقائها تحت سلطانهم نحو سبعة قرون. وذلك لانتماء العربية إلى فصيلة غير فصيلة اللغات الإسبانية ولعدم امتزاج الشعوب القوطية بالشعب العربي
واللغة التركية لم تقو على التغلب على لغة أية أمة من الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بأوربا وآسيا وأفريقيا، على الرغم من بقاء هذه الأمم مدة طويلة تحت سلطان تركيا، وذلك لاختلاف فصائل اللغات (فالتركية من الفصيلة الطورانية، على حين أن لغات معظم الأمم التي كانت خاضعة لتركيا من الفصيلة السامية - الحامية أو الهندية - الأوربية)، ولأن الترك كانوا أقل حضارة وثقافة من معظم الشعوب التي كانت تابعة لهم، ولقلة عدد جاليتهم في بلاد هذه الشعوب، ولضعف امتزاجها بالسكان
ولم تقو الإنجليزية على التغلب على اللغات الهندية، على الرغم من خضوع الهند لإنجلترا منذ أمد طويل، وذلك لأن شعوب الهند أعرق حضارة من الإنجليز، ولقلة عدد أفراد الجالية(351/18)
الإنجليزية بهذه البلاد، وعدم امتزاجها بالسكان
والجوار بين فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال لم يؤد إلى تغلب لغة شعب منها على لغة شعب آخر. لأن احتكاك لغاتها لا ينطبق على حالة من الحالتين اللتين يحدث فيهما التغلب بالمجاورة.
ولهذا السبب نفسه لم يؤد الجوار بين الفارسية والعراقية والتركية والأفغانية إلى تغلب لغة منها على لغة أخرى
وكذلك شأن الإنجليزية في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية مع الأسبانية المجاورة لها في المكسيك، وشأن البرتغالية التي يتكلم بها في البرازيل مع الأسبانية التي يتكلم بها في الجمهوريات المتاخمة للبرازيل بأمريكا الجنوبية؛ وشأن الحبشية مع الصومالية. وهلم جرا
ولكن عدم تغلب إحدى اللغتين لا يحول دون تأثير كل منهما بالأخرى.
فقد تأثرت اللاتينية بالإغريقية في أساليبها وآدابها، واقتبست منها طائفة كبيرة من مفرداتها.
وقد تركت اللغة العربية آثاراً قوية في الأسبانية، وبخاصة في المناطق التي كانت تسمى بالأندلس أو أندلوسيا دام سلطان العرب عدة قرون.
والصراع بين العربية والفارسية، وإن لم ينته إلى تغلب إحداهما قد ترك في كل منهما آثاراً واضحة من الأخرى؛ وبخاصة من ناحية المفردات.
والصراع بين التركية ولغات الأمم التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد ترك في التركية آثاراً قوية من هذه اللغات، وبخاصة من اللغة العربية وترك كذلك في كثير من هذه اللغات آثاراً ظاهرة من التركية وقد بلغ هذا التأثير مبلغاً كبيراً في بعض هذه اللغات: فلغة العراق في العصر الحاضر مثلاً قد أخذت عن التركية كثيراً من المفردات وبعض الأصوات التي لا نظير لها في العربية، (كالصوت الذي ينطق به بين الشين والجيم المعطشة في مثل (عربنجي)) وطائفة من القواعد الصرفية كقواعد النسب والنعت والإضافة في مثل (عربنجي) (نسبة إلى العربة)، (خوش ولد): (خوش كلمة فارسية الأصل معناها: حسن) - كتبخانة (دار الكتب)
والإنجليزية الحديثة في إنجلترا والفرنسية الحديثة في فرنسا تتقارضان المفردات منذ أن(351/19)
أتيح للشعبين المتجاورين فرص للاحتكاك وتبادل المنافع.
وكذلك تفعل الفرنسية بفرنسا مع الألمانية بألمانيا ومع أخواتها المجاورة لها في الجنوب الشرقي والغربي بإيطاليا وأسبانيا والبرتغال.
وتجاور التركية والفارسية، وإن لم يؤد إلى تغلب إحداهما على الأخرى، قد ترك في التركية آثاراً واضحة من الفارسية، وبخاصة في المفردات، وترك كذلك في الفارسية بعض آثار من التركية
وتجاور الفارسية والعراقية في العصر الحاضر، وإن لم ينته إلى تغلب لغوي، قد نقل إلى كل منهما كثيراً من آثار الأخرى في المفردات والقواعد والأساليب
ومجاورة الجرمانية واللاتينية في العصور القديمة، وإن لم يؤد إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى، قد نقل إلى أولاهما كثيراً من مفردات الثانية، وترك في الثانية بعض آثار من الأولى
وقصارى القول: متى اجتمع لغتان في بلد واحد أو تجاورا لا مناص من تأثير كل منهما بالأخرى؛ سواء أتغلبت إحداهما أم كتب لكلتيهما البقاء. غير أن هذا التأثر يختلف في مبلغه ومنهجه ونواحي ظهوره ونتائجه في الحالة الأولى عنه في الحالة الثانية.
فإذا كان الغلب كتب لإحداهما نراها تسيغ كل ما تأخذه من الأخرى مهما كثرت كميته؛ فيستحيل إلى عناصر من نوع عناصرها، فتزداد به قوة ونشاطاً، بدون أن تدع له مجالاً للتأثير في بنيتها أو تغيير تكوينها الأصلي. على حين أن المغلوبة لا تقوى على مقاومة ما تقذفها به الغالبة من مفردات وقواعد وأساليب، ولا تكاد تسيغ ما تتجرعه منها، فيتخمها ويضعف بنيتها، فتخور قواها، وتفنى أنسجتها الأصلية شيئاً فشيئاً حتى تزول: كما كان شأن الإنجليزية مع النورماندية، والعربية مع القبطية
وإذا كان البقاء قد كتب لكلتيهما تعمد كل منهما إلى ما تأخذه من الأخرى فتسيغه، وتفيض عليه من حيويتها، وتقاوم آثاره الهادمة. فتبقى كل منهما متميزة الشخصية، موفورة القوى سليمة البناء: كما كان شأن الفارسية مع العربية.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس(351/20)
الإنتاج العقلي للأمم
للدكتور جواد علي
كانت الفكرة السائدة حتى أوائل القرن الثاني عشر تقول بتطور البشرية تدريجياً من نقص إلى كمال، ومن جهل إلى علم. وقد اختلفوا في المبدأ، هل كان الإنسان في بدء خلقته كاملاً، ثم انتكس وتدهور لخطيئة وقع فيها، ثم بدأ يستغفر من ذنبه، ويكفر عن سيئاته، أو أنه بدأ كما نعرفه الآن، ثم هو آخذ في التطور إلى التكامل شيئاً فشيئاً، حتى يعود الإنسان الكامل ذا المثل العليا التي يريدها بعض الفلاسفة وأصحاب الأحلام البعيدة. غير أن تطور العلم الطبيعي، وانتصار أوربا في ساحات الفن والصناعات الضخمة والاستعمار، زلزل هذه الفكرة وولد في نفوس العلماء من أبناء تلك القارة، فكرة الاستئثار بالزعامة والقيادة العالمية. فقسمت الشعوب العالمية إلى طبقات وأجناس لكل منها خواص وأوصاف كما هو شأن عالم الحيوان والنبات. وإذا كان علماء النبات أو الحيوان يقسمون العالم النباتي أو الحيواني إلى فصائل وأجناس، فلم لا يقسم علماء الأجناس البشرية، البشر إلى فصائل وأجناس كذلك؟ تستأثر أوربا بالفصائل العالية والأوصاف الراقية؛ ثم تعطى ما تجود به للفصائل التي تمت إليها بصلة وقرابة، ثم الأبعد فالأبعد.
وبعض الآراء المعتدلة ترى العالم مؤلفاً من مجموعة حضارات مستقلة لكل منها روحية خاصة ونفسية سماها (نفسيات الحضارة كما هو رأي الفيلسوف تمر عليها جميع أدوار الحياة المعروفة من ولادة وطفولة وسباب ثم شيخوخة فممات، تستغرق هذه المدة حوالي ألف سنة، وأن ثلاث حضارات جاءت على التوالي تكمل الواحدة الأخرى وهي الحضارة اليونانية وسمتها والحضارة العربية وخاصيتها والحضارة الأوربية الجرمانية وهي بينما رأى الفيلسوف الألماني الآخر (كراف هرمان كيسرلنك مؤسس مدرسة الحكمة في مدينة دارمشتد) تنوع الحضارات البشرية كذلك واختلاقها ولكنها ترجع كلها إلى أصل واحد ومنبع منظم هو القوة الخارقة الموجودة في البشر التي تدفع الأمم بالسير إلى الأمام. قد تكون هي الحكمة لذلك كان يرى وجوب الاستفادة من الحكمة بدلاً من العلم المجرد
وقد نشأ من جراء البحث المتوالي في اختلاف عقليات الأمم وقابليات إنتاجها بحث خاص يسمى التعمق في دراسة أمم الأرض، واستخراج الأسباب التي أدت إلى ازدهار(351/22)
الحضارات أو هبوطها. وقد قسم العالم إلى أربع طوائف:
1 - الشعوب الفطرية، أو التي تعيش على الطبيعة الأولى ?
2 - الشعوب المتوحشة ?
3 - ? أو الشعوب المتمدنة
4 - المتحضرة. ولكل من هذه الأقسام درجات ثلاث: واطئة، وسطى، وعليا
ولكن هنا مشكلة عظيمة تجابه الباحث، وهي الدوافع الخفية التي تدفع بالشعوب إلى الحضارة وإلى إنتاجها الروحي، هل هو عامل داخلي يدفعها إلى ذلك دون مؤثر خارجي، أو عامل خارجي بحت كما يذهب إليه الماديون وأتباع كارل ماركس، أو دوافع المحيط الخارجي كالزمان والمكان كما هو رأي (ولد1873) (أنظر ص 193 ? وبين المبدأين بدون شاسع كما يظهر. ومن أتباع المذهب الأول العالم (1841 - 139) في ألمانيا في أمريكا. جعلوا العنصرية العامل الأساسي في تكوين الحضارة. ومن هذه النظرية استحدثت النازية رأيها من أن الحضارة العالمية نتيجة العقلية الآرية فقط، وأن العالم يتألف من طبقات ثلاث حسب رأي هتلر مؤسس هذا المذهب، من:
1 - شعوب أسست
2 - وشعوب تنقل الحضارة دون أن تضيف إليها شيئاً أو تغير فيها، ?
3 - وشعوب هدمت الحضارة وأفسدتها سماها: ? هذه الشعوب الروسي البلشفي، ولا أدري أغير رأيه الآن بعد اتفاقه مع البلاشفة أم لا
وتتلخص فكرته في أن الحضارة البشرية نتيجة عاملين فقط: الدم والأرض والعنصرية هي المظهر الخارجي للروح
على عكس هذه النظرية تماماً نظرية (كارل ماركس) (1818 - 1883) مؤسس المذهب المنسوب إليه والبلشفية والشيوعية التي تتخذ المادة كأساس في كل شيء إذ يقول: (الآراء السائدة في زمن ما تمثل آراء الطبقة الحاكمة في ذلك الزمن) وكذلك قوله: (غيروا الوضع السياسي والوضع الاقتصادي تغيروا بذلك البشر) ولذلك تحارب البلشفية النظام الرأسمالي لأنها تعتقد أنه مصدر كل شر، وبإزالة هذا النظام تتغير العقلية البشرية وتفكيرها ويظهر تفكير عالمي جديد. وهذا الرأي مأخوذ بصورة مكبرة عن المبدأ المادي(351/23)
الذي يجعل المادة أساس كل شيء والروح نتيجة عمل الدماغ. بل لقد غالى الفيلسوف فويرباخ (1804 - 1872) قال: (الإنسان يكون حسبما يكون أكله)
لست بمعترض للنقد هنا ولكن أقول: للطرفين غلو عظيم، وكلا الرأيين قديم في تأريخه يرجع إلى عصور اليونان وربما يرجع إلى أقدم من ذلك. وإني أرى أن هنالك آراء عامة تطرق إليها عقل كل إنسان، كل على حسب قابليته ومحيطه، ومن هذه الآراء هذه المشكلة، ولكن الأساليب في معالجتها تختلف والكلمات تتغير؛ والاكتفاء بالدم والأرض في تعيين الإنتاج العقلي للأمم أمر يخالفه الواقع. ونرى أن التطور الاقتصادي مثلاً قد قلب أوربا رأساً على عقب وغير مقاييسها الأدبية والأخلاقية والنزعة الروحية التصوفية التي سادت ألمانيا والعالم بعد الحرب العظمى، وأن حب التشاؤم الذي ساد كذلك، وظهور ما يسمى ? الميول الشاذة بأجلى مظاهرها ومعالجتها علناً، وظهور مذهب ومذهب على أن المادة مؤثرة في الروح لا محالة. وكذلك من باب المغالطة جعل الإنسان آلة تتحرك بمؤثر خارجي كالآلات الصماء التي تشتغل في المعامل. وما نجده من العوامل الروحية في الطفل وفي حالات المجرمين بالطبيعة، والذكاء أو الجمود الفكري يناقض النظرية المادية تماماً
ولكن ما هي المقاييس التي ستنتخب للحكم على أمة بأنها متحضرة وعلى درجة حضارتها؟ أجد أن الأساليب المتبعة الآن في أوربا في تعيين الحضارات كلها مقاييس واهنة، إذ هي تقيس كل حضارة بالنسبة إلى المقاييس التي لديها، وبالنظر إلى العرف أو العادات أو الذوق الذي تراه، وهذا ما يدعو إلى الحكم المخطئ طبعاً. أضف إلى ذلك أن دراسة الإنتاج الروحي أمر عسير جداً ويحتاج إلى إلمام كثير بالظروف والأحوال التي تحيط بتلك الأمة التي ستدرس أو يحكم عليها. فالعزم يجعله كتاب أوربا اليوم من أهم ميزات الأوربي، وكذلك حبه لو حللنا الظروف والأحوال التي حطمت هذه الميول، وجو الشرق المحرق وخيراته الكثيرة لوجدنا أن تلك لم تعد ميزة عقلية، إنما هي ناحية وردت عن طريق الحاجة والمحيط
إن الفيلسوف نيتشه يجعل الحضارة ترادف (العزم على العمل) التي يرددها دائماً. وقد أخذت الفاشية ذلك، وموسوليني من أكبر المحيين لفلسفة نيتشه، فجعل الإمبراطورية تشمل الناحية الروحية كذلك، فهو ينص في كتابه الذي ألفه في مبادئه على أن السيطرة(351/24)
والاستيلاء لا تقصر على السيطرة بكثرة الجنود والأراضي، بل تشمل سيادة العالم الروحي وتقوية الإرادة والعزم. وضعف هذه معناه الانحطاط والتدهور
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(351/25)
تأملات
لا أدري يا فتاتي كنه نظراتك، ولا أخدع النفس بتصوراتي؛ إنما
بعينيك سواد يغمر ضوؤه فؤادي، ويذيب حره جناني. أسمع صوتك
المتهدج تحاولين أن تخلعي عليه المستحيل من ثباتك، وأحس خفقان
قلبي يعلوه هذا الشحم واللحم، فتخفى ضرباته على وجدانك.
تضربين يا فتاتي في حدود الثلاثين، ولما تكادي، وأغز أنا السير والأربعون من ورائي؛ فبيننا ما يسوغ لك مناداتي بيا أبي. وكم يحمل هذا النداء من عطف ومن مرثية! وكم تتجلى فيه الحقيقة المرة، وتشرق به النفس الظمأى إلى فيض الحب!. . . كم يردني إلى اليأس قدر ما أرتد إلى الأمل. . . لكن، يا فتاتي، قد آثرتك بحواسي، وهي تهتف بك وتهبب، فهل تستجيبين؟
وكيف تستجيب يا صديقي، وقد كان ما مضى كله عبثاً في عبث. . . لقد فتحت عيني عليه، وكانتا مغمضتين، فروعني ما رأيت: رأيت سداً هائلاً يقوم بيني وبينها، هو فرق ما بيني وبينها من سن. . . دروجي إلى الكهولة، وخطرها في مطارف الشباب هو الذي أترع قلبي غماً وأزال الغشاوة عن عيني. . .
رأيت الأوهام بعين الحقيقة تمضي فراراً لا تلوى على شيء. وكأنها خشيت أن تلقاني وجهاً لوجه، فأبصق من مر الحقيقة على وجهها. خجلت أوهامي فانحسرت عن بصيرتي، وخلفت أثرها في الكآبة التي لا تبرح تلازمني
ظلمتني يا فتاتي حين أرخيت لي في حبل الأمل فتعلقت به وشددت عليه، وتشبثت وكأني أتشبث بالحياة، وأية إيماءة حادة كانت تكفي لقطع الحبل لأنه من عمل الشذوذ ومجانبة الحقائق، والعمى عن الحدود. لكن حبلي لم ينقطع بشيء حاد. نظرة لا حياة فيها، لأنه لا اكتراث فيها، كفت لأن تقطع حبل آمالي بعد إذ كانت تحييها في سالف الأيام نظرة أخرى. وفتور أدل إلى التثاؤب وأوهى منه، طعنني في الصميم فكانت الصرخة التي فتحت عيني على حلمي المنكوب
بلى يا فتاتي! لقد نكبت كما لم ينكب غافل، وعاودني الرشد غير رشيد، وحزت الحسرة في فؤادي ولن تزال تحز إلى الأبد(351/26)
كنت ماثلة لعيني، في اليقظة وفي المنام، في السر وفي العلن، وخلياً ومشغولاً، ومغتبطاً ومكموداً
ومثلت لعيني بعد الخيبة أجلي ما تكونين، وأنضر ما تكونين، تعلو شفتيك تلك الابتسامة الحائرة فتزيد في حيرتي وتثير من حسرتي
شربت المر ليعوضني من حلوك، وألزمت حواسي حدها لأفر من طيفك. ثم عمدت إلى مخيلتي وقد خفت على نفسي الخبال فمسحت منها صورتك إلى حين. ثم ضبطت خيالك متلبساً بالسطو على رأسي المضطرب وأعصابي المحطمة وليس بها لمثلك غناء فأقصيته، وأغمضت عيني دونه، وذهبت ألتمس السلوان
وكيف تسلو يا صديقي، بل كيف تجبن عن احتمال الذكرى وتتهيب وجه الحبيب؟ أتراك خشيت الألم ولوعة الهوى، وما الهوى من دون لوعة وألم؟ أتريد المتعة الرخيصة؟ إنك إذن لأناني أو عابث؛ وإني لأعيذك يا صديقي أن تكون هذا أو ذاك
فليغش نومك طيف الحبيب، وذهنك رسمه؛ وليكن تفكيرك فيه وعيشك به وله؛ وليكن بعد ذاك ما يكون. فالنار التي تتأجج في قلبك، والجرح الذي يحسه صدرك، يطهران نفسك التي بين جنبيك. وما هو إيثار الروح على الجسد إن لم يكن في تعففك وعفافها، واطراح الإغراء من جانبك وجانبها
ليكن جمال نفسها هو الذي يستهويك لا فتنة الجسد. وليكن صوتك في سمعها كصوتها في سمعك رحمة وخيراً لا شراً وإغراءً
ستألم حين لا تطفئ المتعة نار قلبك المتأججة، فما نفعك بمتعة تطفئ الإيمان وتميت القلب؟ إنما نفعك بالألم الذي يرهف حسك، ويضيء نفسك، ويخضع جسدك. إنما نفعك في البقاء لا الفناء، في بقاء نارك متأججة، ونفسك نيرة، بقاء للحب الذي لا تعرفه المادة ولا ينبغي أن تعرفه، بقاء لروحانية البشر التي تتمثل في الألم، الألم يا صديقي ولوعة الحب والكآبة التي تذيب جسدك كالشمعة لتحترق وتضيء
كل أولئك يا صديقي عناصر تجعل منك الإنسان المنشود لا الإنسان الموجود.
(م. د)(351/27)
من وراء المنظار
مجلس أدباء
طالما رغبت أن أرى هذا المجلس حتى أتيح لي هذا الحظ العظيم فقادني إلى حيث ينعقد أحد الرفاق؛ وكان المجلس لحسن حظي ليلة خففت إليه حافلاً لم يغب عنه كما علمت إلا واحد أو اثنان ممن يشتركون في حلقته
وأنا رجل طالما أحسنت الظن بالأدباء حسن ظني بالكتب فيما سلف وإن كان أكثرهم ليزعمون أني متكبر أعيش في علبة لأني ظللت حتى تلك الليلة لا أعرف أكثر هؤلاء إلا في آثارهم
جلست بين هؤلاء الشباب صامتاً أنقل بصري من وجه إلى وجه، وأتبين الأشخاص من أحاديثهم، وهم قد وضعوا أنفسهم بحكم رسالتهم في مركز وسط بين الملائكة والناس؛ ولم تمض لحظة حتى عرفت من كلامهم أولاً أنهم جميعاً شعراء؛ ثم تبين لي بعد ذلك أن كلا منهم يسمو في فنه على الباقين حتى ما يلحق به أحد وإن كان لا يصرح أحدهم بذلك، وإنما يشير إلى ذلك المعنى في لباقة عجيبة
وأعجبني منهم لعمر الحق أنهم كانوا يديرون بينهم كؤوس الثناء بدل كؤوس الصهباء إن جاز في ذوقهم هذا التعبير. فهذا يثني ما وسعه الثناء على القصيدة الأخيرة لجاره؛ وذلك يمتدح ديوان صاحبه حتى ليجعله من مفاخر العصر ومآثر الجيل، وفلان يستزيد فلاناً من طرفه. . . وهكذا يتبادلون بينهم الثناء حتى لا يتركون معنى من معانيه
ولكنني ما لبثت على الرغم من ذلك أن تبينت في حلقتهم أحزاباً، وساعدني على فهم ذلك ما عرفته من سالف كتاباتهم، فهذا شخص أعرفه من قبل قد جعل لصاب له الزعامة فيما كتبه عنه، وأراه في المجلس يقبل عليه إقبالاً شديداً فما تبدو منه نكتة إلا انطلق وراءها مقهقهاً مستحسناً مهما بلغ من تفاهتها، وما يبدي رأياً إلا انحاز فيه إليه مهما خالف فيه كل قياس وخرج به على كل ذوق. . . وهذا شخص آخر يعلم أن بين فلان وفلان حقداً وهو يحقد على أحدهما فيما أعرف فلا يزال يمتدح الآخر بكل ألوان المديح، وألمح أنا الامتعاض على وجه المغضوب عليه فأفطن وأبتسم
وأعجب لهذا التناقض الغريب، وهم كانوا قبل ذلك يبدون لي وقد ألف الفن بين قلوبهم(351/28)
وملأها بالمحبة. . .! وينتقل بهم الحديث من تبادل الثناء ثم من اللمز إلى المباهاة والمفاخرة. فهذا تنهال عليه رسائل الإعجاب حتى ليترك بعضها دون قراءة لكثرتها؛ وذلك بتهافت على قصائده كبار الملحنين ولكنه يضن بها ضناً بالشعر عن التكسب والتبذل؛ وثالث يقول في خجل مصطنع إنه يشار إليه في كل ناد ويتهامس الفتيان والفتيات باسمه، ويرد عليهم من يذكر كيف يحرص على مودته أصحاب الصحف اليومية والأسبوعية على اختلاف نزعاتها؛ ويسكت أحدهم تاركاً لصاحبه المفتون به أن يتلو عليهم من حالاته ما يعجبون معها لشذوذه المحير، ذلك الشذوذ الذي يصل به إلى الجنون، ولكنه بأي حال لا يفسر إلا بأنه شذوذ العبقرية وجنون الملهمين، وإن كانوا ليعلمون أنه متكلف يبلغ غاية السخف في تكلفه. . .
واجتمع هؤلاء الشباب على رأي واحد، وذلك هو رأيهم فيمن سموهم شيوخ الأدب فأولئك عندهم قوم نالوا من الشهرة ما لا يستحقون، وليس فيهم إلا من يحقد على الشباب وعبقرية الشباب وطموح الشباب، ولذلك فهم يحاربونهم ويضعون في طريقهم العقبات، ولكن الغلبة في النهاية لا شك للجيل الناهض. . .
ويحمل هؤلاء الملهمون حملة صارمة على هذا البلد الجاحد ويألمون لحظهم فيه، ويتساءلون: لم أطبقت الغفلة على هذا الجيل إلى مثل هذا الحد؟ فإذا مال الحديث إلى من أصول الأدب رأيت بين هؤلاء الذين يرمون الجيل بالغفلة تناقضاً وتبايناً واختلافاً شديداً حتى ليصعب على من يقرأ مثل آرائهم أن يصدق أنهم يعيشون في عصر واحد وفي بلد واحد، وكيف يلتقي هؤلاء على ذوق أدبي والمسألة بينهم رياء وتقارض ثناء؟
وبعد أفلا يسهل على بعد أن بلوت مبلغ صدق هؤلاء بعضهم تلقاء بعض أن أصدق ما يقال عن مبلغ صدق أكثرهم في فنهم؟ ذلك الصدق الذي ترى من آياته أن ينظم أحدهم فيما رأى من جمال الربيع وهو لم يخرج من مكتبه، أو يصف الشروق والغروب والليل في القرية وهو لم ير مدى عمره قربة، أو يتوجد ويتوجع ويشتكي إلى ملهمته وهي لا توجد إلا في مخيلته! لقد أسرفنا في الهزل فمتى نجد، وبالغنا في الاستهتار فمتى نستحي؟
(عين)(351/29)
رسالة الشعر
من شكوى الزمن
للدكتور إبراهيم ناجي
يا ويلتا من عُمري الباقي ... هذا سوادٌ تحت أحداقي
هذا بياض الشيب وا عجبي ... من مَغْربٍ في زِي إشراق
ويلي على كأس معربدة ... وعلى دم في الكأس مُهراق
وعلى سراب خادع وعلى ... متألق اللمحات بَرَّاق
طاف الزمان به على نفر ... مالوا بهاماتٍ وأعناق
صُرعوا وكنت تظنهم سكروا ... مات الندامي أيها الساقي!
يا دهر لم أشك الكلال ولا ... مَلكتْ خطوب الدهر إرهاقي
عذبت أيامي بِعِفتها ... وقتلتني بصفاء أخلاقي
يا كَمْ غرستُ وكم سَقَيتُ وكم ... نضَّرتُ من زهر وأوراق
ما حيلتي والأرض مجدبة ... سيّانِ إقلالي وإغداقي
أين الذين رفعتُ فانحدروا ... وبنيتُهم بُنيان خلاق
إن الوفاء بضاعة كسَدَتْ ... ومآل صاحبها لإملاق
إفلاس أرواح وَمَضْيعةٌ ... لقلوبنا في شر أسواق
إن كنتُ لم أغْنَمْ فقد ظفروا ... مني بمغفرتي وإشفاقي
لكنني والجرح يُلهب لي ... حِسَي ويكون كيَ إحراق
هيهات أنْسى أنهم عبثوا ... وَوَفيتُ لم أعبث بميثاق(351/30)
احترق. . . احترق!
للأستاذ أمجد الطرابلسي
لا تقف يا قطارْ ... لا تهِن يا خَفِقْ
نَخَلات الديارْ ... من وراء البحارْ
لَمَعَتْ فِي الأفُقْ
ويك! لا تحترقْ
قد بلغنا الفِناءْ ... بعدَ كَدِّ المسيرْ
ليس دونَ اللقاءْ ... بعدَ هذا المساءْ
غيرُ بعض العصورْ. . .
وبحارٍ تمورْ. . .
سرْ بنا سرْ بنا ... في الّدجى يا أملْ
الهوَى نايُنا ... والمدَى. . . غايُنا
يا هَنَا مَنْ وَصَلْ
بعدَ فَوْتِ الأجَلْ. . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
قفْ بنا يا قطارْ ... واسترِحْ يا خفِقْ
بيننا والديارْ ... غَمَرَاتُ البحارْ
وظلامُ الأفُقْ
احترق. . . احترق!(351/31)
يومان
للأستاذ صالح جودت
اليوم الأول
(المنظر: هو وهي على الشاطئ)
هي: ما لعَيْنَيْكَ يا رهيبُ تُثيرا ... نِ طيوفَ الأوهام حول أماني؟
هو: أنا يا فتنةَ الوجود؟
هي: أجل أنت
هو: وكيف اتهَمْتِ؟
هي: مجنونتان!
فيهما حيرةٌ وغمرةُ شَكٍ ... ومعان ما تُرجمتْ بلسانِ
كم عَلَتْني غِشاوةٌ عند لُقيا ... ك فأنكرتُ رؤية الإنسان
لستَ كالناس!
هو: هل أكون ملاكاً؟
هي: حيرتي في الملاك والشيطان!
هو: أنتِ يا مَنْ سكبتِ خمرةَ إِلْحَا ... دي وأترعْتِني من الإيمانِ
عند عينيكِ تنتهي أَعْيُنُ الل ... هـ فأَنْي مضيتُ شارفتاني
سهدُ جَفْنَيهما من السَرْمَدِ الخا ... لدِ مهما استطال لا يَغْفَوَان
غير أني أحسن سراً دفينا ... وهما دون غَيْبِهِ مُغلقان
هي: ثم ماذا؟
هو: أهواكِ يا ربة الْحُسْنِ!
هي: وماذا أعددتَ للقربان؟
هو: كل ما شئتِ لا يعزُ، وإن كا ... ن محالاً فإِنه لك دَانِ
هي: قمْ بهذا الكُرازِ أَنْضِبْ لِيَ البَحْر!
هو: وهل أستطيع ما فوق شاني؟(351/32)
هي: خَلَهِ عنكَ. . قم وأَنْضِب من الشا ... طئ بعض المياه
هو: يختلطان
هي:
كاختلاط الشهْوات بالأثْرِة العمي ... اء في لجةٍ من الوجدان
واختلاط الحِجَي ببوقتة الجن ... س فَتْبني من المحال الأماني!
أَوَ ما قلتَ إنه لِيَ دانِ؟ ... ما لَكَ الآن نَؤْتَ بالبرهان؟
هو: لستُ رباّ!
هي: وما أنا؟
هو: أنتِ عندي ... رَبَة في سماوة الفَنَان
هي: كيف ترجو إذَنْ هواي وما أن ... تَ بصنْوٍ مكانه كمكاني؟
هو: اجعليني فيما مَلَكْتِ قطيناً ... أو هبيني مُوَكلاً بالْجِنَانِ!
هي: هل رأيتَ الْجِنَات؟
هو: في جسمِ أُنثى ... عبقري الظلال والألوان
فعَلَى صدرها الثمار وفي الثغْرِ ... من الخمر سلسبيل المعاني
وعلى شَعْرها المذَهَبِ أشبا ... حُ قصورٍ ما شَيَدَتْها يدانِ
اليوم الثاني
(المنظر: هو وهي خارجين من الصومعة)
هي: كنتَ في الليل راعياً في الْجِنَانِ
هو: ليل أمس في ذمة النسيان
كنتِ فيه إلهةً!
هي: ما أنا الساعةَ؟
هو: لاشيء، أنتِ كالجثمان
أنتِ مخلوقةٌ تعيشين بالْجِسْمِ ... وتُفْنِيكِ شهوة الحيوان
هي: قُبلةً!(351/33)
هو: ما وراءها؟
هي: هِيَ معنىً
هو: هَتَكَتْ شهوةُ الجسوم المعاني
ونَضَتْ سِتْرَ ناظريك وذاع الس ... رُ فيما فَقَدْتِ من أكوان
هي: أَوَ أَنْزَلْتنِي عن العرش لما ... ذاع سرى لديكَ؟ أي بيان!
:. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
:. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
:. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
: غادرٌ أنتَ؟
هو: نحن للفن نحيا ... ونراكم له من القربان
فنُضَحي بكم على مَذْبح الفكر ... ليُهدَي بالفكر جيلٌ ثان
صالح جودت(351/34)
الأدب في أسبوع
العودة
إن بعض الحوادث في حياة الرجل لتنزل منزلة الآية المحكمة: ننسخ ما كان قبلها، ثم يأتي بعضها كالقنبلة: تخسف الأرض أمامه فلا يرى إلا هوة وغبارها، فإذا تلاحقا لم يدري المرء ما يستدبر من أمره ولا ما يستقبل، وإنما هو الحيرة والظلال والرعب، والتردي كلما أقدم أو أحجم. . . بلى، إن علينا أن نصارع الحياة بالقوة، وأن نداورها بالحيلة، حتى نخلص إلى الأرض المطمئنة، ولكن هل يستطيع أحدنا بعد ذلك أن يصل إلى هذه الأرض؟! لولا أن اليأس هو باب الموت، لكان هو - في الحقيقة - إحدى الراحتين. . .
كتب
ولنعد. . . أصدرت المطابع المصرية في الأسابيع الماضية طائفة كثيرة من الكتب العربية، بعضها لأصحابنا من المعاصرين، وبعضها مما أنقذه المعاصرون من المكتبة العربية المدفونة في خزائن الكتب، فنحن نختار من هذه الكتب ثلاثة يجرى الحديث فيها مجرى واحداً في الغرض الذي نرمي إليه، وهي كتاب: (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) وهو دراسات لكبار المستشرقين مثل: بكر، وجولد تسيهر، ونلينو، ومايرهوف. ترجمها إلى العربية الأستاذ عبد الرحمن بدوي؛ وكتاب (الرسالة) لإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي. نشره العالم المحدث الثقة الشيخ أحمد محمد شاكر، وكتاب (الذخيرة) لأبي الحسن علي بن بسام، نشرته كلية الآداب مستعينة بمراجعة الأساتذة محمد عبده عزام، وخليل عساكر، وبخاطره الشافعي؛ وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الحميد العبادي، وعبد الوهاب عزام، وطه حسين
وهذه الكتب الثلاثة لا يجمعها باب واحد من حيث موضوعها، فالأول آراء للمستشرقين في فروع من الحضارة العربية والآراء الإسلامية، ورسالة الشافعي هي أصل علم (أصول الشريعة). والثالث في تاريخ الأندلس، وشعرائها، وبلغائها، وكتابها. فالذي حملنا على جمعها في باب واحد من كلامنا هو الرأي في المستشرقين، وما يجب علينا أن نتابعهم عليه، وما ينبغي لنا أن نحذره منهم
المستشرقون(351/35)
فقد قرأت مقدمة كتاب (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) - كتبها الأستاذ (بدوي) بحرارة الشباب التي تتضرم في دمه، وجعل يتهدم فيها على التراث العربي بآراء كالمعاول: تضرب في الجذع بعد الجذع على غير هدى ولا كتابٍ منير. فلما توغلت في الكتاب رأيت أن آراء المستشرقين - الذين ترجم لهم كلامهم - هي التي وضعت في يديه هذه الفأس ليعمل بها؛ ونحن لا نرى أن مثل ذلك مما يضر بالتراث الإسلامي بشيء، ولكنا نرى أنه يضر بأصحابه والعاملين عليه أول، لأنه يأكل قواهم في شيء لا يمكن أن ينال منه شيء (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). والمشكلة كلها هي فتنة أكثر الناس بأسماء المستشرقين، وأن ما يكتبون في التاريخ الإسلامي والعربي ينزل من قلوب كثير من شبان الجامعة وغيرهم منزلة الكلام القدسي: تحريف معانيه إبطال لقوة (الاستشراق) التي فتنتهم. ونحن - حين قرأنا بعض آرائهم التي ترجمها الأستاذ (بدوي) - وجدناها عملاً صالح المذهب من ناحية مدرجه، وأما من ناحية التحقيق العلمي، والغاية التي يرمى إليها، فهو عمل غير صالح. فكان هذا الذي عرفناه هو الذي دفعنا أن نخصص هذه الكلمة للكتب الثلاثة المذكورة آنفاً، ولمذاهب المستشرقين في تناول الكتب العربية القديمة بالتحقيق لنشرها، ثم مذاهبهم خاصة فيما يعالجون من تاريخ الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية. وليس غرضنا هنا أن نعرض لنقد شيء بعينه من آرائهم، وإنما نريد أن نثبت لهم حقهم الذي وجب لهم بما بذلوه من جهد، ونحذر شباننا من الافتتان بباطل من باطلهم
وينقسم أمر المستشرقين كما ترى إلى عملين: أحدهما عملهم في الكتب العربية القديمة التي نشروها من بدء توجههم إلى هذا الغرض، والآخر ما كتبوه من دراساتهم في الآثار العربية، وما أرخوه من تاريخ الإسلام، وتاريخ آرائه ومذاهبه العلمية والفلسفية.
نشر الكتب العربية
فالمستشرقون حين بدءوا فنشروا الكتب العربية القديمة لم يقصروا في بذل المال والوقت لاستجلاب الأصول التي يطبعون عنها هذه الكتب، ثم يتفرغ أحدهم لمقارنة الأصول بعضها ببعض، وإثبات الاختلاف بين النسخ الكثيرة التي تقع لهم، وتحرير ذلك بالحرف والنقط والشكل على ما هو عليه في أصل من الأصول، وأمانتهم في إبقاء المحرف على(351/36)
تحريفه والخطأ على صورته. . . إلى غير ذلك من الدقة والأمانة في إعطاء القارئ صورة كاملة في نسخة واحدة من الكتاب المطبوع - لعدة نسخ مختلفة متباينة من الأصول المخطوطة. حتى إنهم ليثبتون في (الهامش أو الاستدراك) ما هو خطأ بين لا يصح على وجه من الوجوه، وإنما هو جهل ناسخٍ وإفساد كاتبٍ، ثم لا يعطونك رأياً يرجحون به لفظاً على لفظ. . . وحتى إنهم ليثبتون الخطأ الصرف في صلب الكتاب ويكون صوابه في الاستدراك، وحجتهم في ذلك أنهم يعتمدون أقدم النسخ عندهم، يطبعونها كما هي، وأما اختلاف سائر النسخ فهو من حق المستدرك وإن كان هو الصواب الذي لا صواب غيره
وهذا - على علاته - عمل جيد وأمانة صحيحة. ثم جاءتنا هذه المطبوعات في بلادنا على فترة جهل وإهمال، وعلى زمن كل أصحاب المال الذين ينشرون الكتب فيه، إنما هم عامة لا يعنيهم إلا الربح من طبع الكتب حروفاً قد جمع بعضها إلى بعض على غير نظام ولا تحرير ولا فن؛ فلما قارن بعضنا هذا بهذا ونحن عرب وهم أعاجم لا يعنيهم من عربيتنا ما يجب أن يعنينا - انبثق بثق الفتنة، ومجد الناس همة هؤلاء المستشرقين الأعاجم - وحق لهم - وجعل جماعة ممن لبس عليهم يدفعون القول بعد القول في تعظيمهم والمغالاة فيهم بغير الحق. . . ثم مضى ذلك وانسحب التبجيل على آرائهم في الفكر الإسلامي والتاريخ العربي كما انسحب على أعمالهم في نشر الكتب. . . وأين هذا من ذاك؟
ثم انبثق بثق آخر، فظن بعض المغالين أن المذهب الذي سلكه المستشرقون في التصحيح، هو المذهب لا مذهب غيره، وجعلوا ينعون على من يخالفهم من أصحاب اللسان العربي في طريقة نشر الكتب العربية. ومع ذلك فهم على الحق في بعض ما يقولون، ولكنه ليس كل الحق؛ فإن المستشرقين لم يذهبوا هذا المذهب، ولم يقفوا هذا الموقف من اختلاف النسخ، إلا لعجزهم عن ترجيح بعض الكلام العربي على بعض، وذلك لعلل بينة: أولها جهلهم بالعربية على التمام، فإن تمام العربية هو السليقة التي لا تكتسب، كما أن تمام الإنجليزية والفرنسية هو السليقة والنشأة والاندماج في الوسط الإنجليزي أو الفرنسي من بدء المولد والحضانة؛ والثاني أنه قلما يوجد فيهم المتخصص في فقه علم بعينه حتى يكون حجة فيه، اللهم إلا أن تكون الحجة - عندهم - في جمع نصوص كثيرة في موضوع واحد من كتب شتى، ولكنهم لا يدعون أبداً أنهم أصحاب رأي في البيان والتأويل والترجيح(351/37)
رسالة الشافعي
ويجب أن نضرب المثل هنا (برسالة الشافعي) التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة منها بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه؛ فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيه متيقن للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلما تناول (الرسالة) يعدها للطبع لم يترك شاردة ولا هائمةً من اللفظ إلا ردها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط. فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بياناً كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من (الرسالة) شيئاً مختلفاً يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابها من ثقات المستشرقين، وجدت الفرق الواضح، وعرفت فضل العربي على الأعجمي في نشر الكتب العربية، إذا هو حمل أصولها على أصول الفقه والدراية والتثبت، ولم تخدعه فتنة برأي لعله غيره أقوم منه وأجود
وأنا أذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ قد أرسل إلي في (إبريل سنة 1932) يسألني عن كلمة وردت في حديث من مسند أحمد ابن حنبل، ولم أكن قرأتها قبل ذلك، فكتبت إلى الرافعي رحمه الله أسأله عنها وعرضت له ما رأيت من رأي، فخالفني الرافعي، ثم لم تمض أيام حتى وجدت في الطبري ما يوافق بعض رأيي أو يدل عليه، وأبى الرافعي أيضاً. ثم لم ألبث أن وجدت نصاً بعينه على الذي رأيته، وهذه الكلمة هي في الحديث. . . (رجل قد جرد نفسه، قد (أطنها) على أنه مقتول)، فرأيت أن قراءتها: (أطنها) والهمزة فيها منقلبة عن الواو فهي (وطنها) وكذلك وردت في الطبري، ولكن أصحاب كتب اللغة لم يثبتوا ذلك في كتبهم كما أثبتوا (وكد وأكد، ووثل وأثل) إلى غير ذلك. فأنت ترى أن الطبع والسليقة ربما هدت إلى ما لا يقع إلا بعض طول التنقيب والبحث والتجميع
الذخيرة(351/38)
وهذا أيضاً كتاب (الذخيرة) فإن الجهد الذي بذل في تصحيحه وضبطه على الأصول المخطوطة التي طبع عنها وبيان اختلاف النسخ، قد أوفى على الغاية، وقل من المستشرقين من يستطيع أن ينفذ إلى إجادة مثله في التحرير، ومع ذلك فقد وقع فيه بعض ما كان يمكن تجنبه، لولا أن الأساتذة المصححين قد تهاونوا في تحطيم أسلوب المستشرقين الأعاجم، في التوقف الذي لا معنى له عند العربي، ونضيف إلى هذا علة أخرى، هي أنهم ليسوا ممن تخصص لشيء بعينه من تاريخ الأندلس وأدبه، فكذلك بقى بعض الخطأ كما هو، وأثبت على ذلك وليس له أي معنى. وترك مثل ذلك للقارئ مما لا يصح ولا يستحسن، ولنضرب لذلك مثلاً أو مثلين: ففي ص82 (. . . دبروا جميعاً عليه فقتلوه ليلاً. . .) وفي نسخة أخرى (بدروا)؛ وكلا الحرفين لا معنى له في الجملة، والصواب عندي أن يكون (اندرأوا عليه. . .) أي هجموا عليه واندفعوا، ومن قرأ النص عرف أن هذا هو حق السياق، وكذلك في ص110 (وفارس ميدان البيان، وذات صدر الزمان) وفي نسخة (وأذات) وكلاهما ليس له معنى، وهو محرف عن (ودرة) أو أي شيء يكون حلياً للصدر. . . ونحن لا نتتبع وإنما نقلب بعض أوراقه الآن على غير ترتيب، ومع ذلك فهو أجود بكثير من أغلب كتب المستشرقين
هذا. . .، وليس كل المستشرقين ممن يصح الاعتماد عليهم في كل شيء، فقد طبعوا كثيراً من الكتب. . .، وأقل كتاب وأردأه مما يطبع في مصر هو خير من مثل هذه الكتب. فلو أخذت مثلاً (كتاب الزهرة) لابن داود الظاهري، الذي طبعه الأستاذ (لويس نيكل) بمساعدة الأخ (إبراهيم طوقان) لوجدت أكثره خطأً، بعد الذي بذله الأستاذ طوقان في الاستدراك عليه. . . ولو شئنا أن نضرب المثال بعد المثال على ذلك لضاق المكان عن إتمام ذلك
مباحثهم
أما مباحث المستشرقين فهذه هي موضوع الإشكال كله، والمستشرقون - كما لا يشك أحد - ثلاث فئات: فئة المتعصبين الذين تعلموا العربية في الكنائس لخدمة التبشير، وهم الأصل، لأن الاستشراق في أوله كان قد نشأ هنالك بين رجال الدين. .؛ وفئة المستشرقين الذي يخدمون السياسة الاستعمارية في الشرق العربي، وفئة العلماء الذين يظن أنهم تجردوا(351/39)
من الغرضين جميعاً. . . فأما الفئة الأولى والثانية فما نظن أكثر أقوالهم في المباحث الإسلامية إلا جانحاً إلى غرض أو مركوساً بقوله إليه، وهم أكثرية المستشرقين، ولا نظن أن كلام هؤلاء مما يمكن أن يعتمده أحد إلا أن يكون مفتوناً جاهلاً. وأما الفئة الثالثة، فهي أيضاً موضع الإشكال؛ فمن غير الممكن فيما نظن أن يتجرد هؤلاء عن الغرض الخفي الذي يدب من وراء الكلام؛ هذا على أنهم كما قدمنا ليسوا أصحاب سليقةٍ في فهم النصوص العربية على التحري لموضوعها، وتمام الفقه لمعانيها التي يتعاطونها؛ وإذن فمن واجب قارئ كلامهم أن يقف عند آرائهم موقف الناقد الذي لا يقبل إلا ما تقبله الطبيعة الفطرية للغة في المعاني التي يستخرجونها من الكلام. ومع ذلك أيضاً فمن عيوب هذه الفئة أنهم ربما استخرجوا قولاً ضعيفاً فاسداً ليس بشيء في تاريخ الإسلام والعربية، ثم يكتبون وقد اتخذوا هذا القول أصلاً ثم يجرون عليه سائر الأقوال ويؤولونها إليه، ثم يحشدون لذلك شبهاً كثيرة مما يقع في تاريخ مهمل لم يمحص كالتاريخ الإسلامي، وكذلك يلبسون على من لا يعلم تلبيساً محكما لأنه حشد وجمع، وتغرير بالجمع والاستقصاء الذي يزعمون. وسنتناول ذلك بعد قليل بعرض بعض الآراء التي ترجمها لنا الأستاذ بدوي في كتابه لنحقق كل ذلك إلى نهايته، حرصاً على أن نحصر الفساد في أضيق محيط
العقاد
وأنا لا أحب أن أختم هذا الحديث بغير مثل أيضاً. فهذا الأستاذ (العقاد)، وكلنا يعلم أنه قلما كان يتناول الأغراض الإسلامية بالتحرير والبحث، ولكن منذ العدد الهجري للرسالة كتب مقالة عن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية، ثم عن عبقريته السياسية، فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، ورد كثيراً من الشبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا: وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ العقاد. ثم هو فوق ذلك أديب عربي يستطيع أن يجعل فطرته العربية الأدبية عوناً له على التغلغل في أسرار تاريخية مطموسة، لا يطيقها المستشرق بفقدانه مثل هذه الفطرة؛ ثم لأن البيئة العلمية والاجتماعية التي نشأ فيها وتثقف على أساسها لا تطاوعه أو تلين معه، حتى يكون في نظره إلى التاريخ العربي أو الفلسفة الإسلامية، خراجاً ولاجاً على طبيعة العرب وطريقتهم في تداول(351/40)
معاني حياتهم، وحياة أفكارهم وفلسفتهم. ونحن نرجو ألا يخلي الأستاذ العقاد مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كل يوم جهالات كثيرة مفسدة ليس لها أصل ولا بها قوة.
محمود محمد شاكر(351/41)
رسالة الفن
تأملات في الفن:
نبئيني غداً بما تسمعين
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- لست أدري لماذا تحب أن تسمع موريس شفالييه وهو يغني بالإنجليزية، مع أنه إذا غنى بالفرنسية كان أبدع
- من غير شك يكون أبدع، ولكني أسمعه يغني بالإنجليزية لكي أضحك لا لكي أطرب؛ فهو ينطق الإنجليزية بلكنة فرنسية فيزيد هذا الشذوذ تهريجه حلاوة وخفة
- وهل موريس شفالييه مهرج؟
- وأي شيء هو غير هذا؟ إنما هو مستساغ ومحبوب لأن تهريجه في طبعه، فلو لم يكن شفالييه مهرجاً محترفاً يربح من تهريجه المال الوفير، لكان مهرجاً في أي عمل يعمله وأينما كان وكيفما كان
- ليت عندنا مهرجين مثله
- وهل عندنا غيرهم. . . ولكن الذين لا يحترفون التهريج ويدعون الوتار ويصطنعون والتعالي عن سفاسف الأمور
- مثل من؟
- دعينا من هذا، فأهلنا هنا في مصر يوجعهم الحق. بنا إلى موريس شفالييه واذكري له حسنة أخرى إلى ما ذكر من حسنة التهريج الصريح
- خفة روحه
- إنها مع تهريجه وفي خلاله، بل إنه منها وبها. نريد له حسنة أخرى لا صلة لها بالتهريج. . .
- مثل ماذا؟
- مثل لكنته هذه. أليست تدل على شيء طيب في نفسه أليست تشهد بأن موريس شفالييه قوي الشخصية، ومن قوي شخصيته هذه القوة الفرنسية التي لم تخذلها رغبته في الربح(351/42)
وطعمه في الدولار الأمريكاني الرنة الإنجليزي اللغة. . . إني أرى في شفالييه هذه الحسنة
- ولكني أرى هذه سيئة لا حسنة. فالممثل هو الطيع النفس الذي يستطيع أن يتشكل بسهولة لا الجامد النفس الذي يستعصي عليه التلون
- هذا حق. وإني أعتقد أن موريس شفالييه إذا مثل شخصية إنجليزية معينة فإنه سيكون في تمثيله هذا أقرب إلى سلامة (التجنلز) منه وهو يمثل شخصيات غير محدودة لا ينطق الإنجليزية بلسانها بضرورة فنية، وإنما لضرورة تجارية ألزمته إياها شركات السينما الأمريكية. . . ولو لم تكن الأدوار التي يخرجها موريس شفالييه كلها تهريج ومرح ومجون وفكاهة لا تجب معها المؤاخذة على سلامة كيانها الفني لفشل موريس شفالييه ولعاد إلى التمثيل بلغته الفرنسية كما عاد إميل جاننجز إلى التمثيل بلغته الألمانية على ما تكبد في ذلك من خسارة مادية هائلة، إذ كانت أمريكا تعتبره ممثل الدنيا الأول
- أو إلى هذا الحد يصعب على الإنسان أن يمثل بلغة غير لغته؟
- إذا كانت لغته متغلغلة في نفسه قابضة على زمام روحه
- وكيف يكون هذا وكيف لا يكون؟
- اللغة هي لسان فريق من الناس يقال لهم شعب، لأنهم تشعبوا من أصل البشرية إلى اتجاه إنساني خاص يستدعي سلوكه مميزات نفسية خاصة. وهذه المميزات يظهر بعضها في التفكير، ويظهر بعضها في الذوق، ويظهر بعضها في الأفعال والحركات، ويظهر بعضها في اللغة وفي طريقة إلقاء هذه اللغة. وكلما تأصلت هذه المميزات في نفوس الشعب وضحت آثارها في المظاهر التي ذكرناها، وليس هذا الوضوح إلا دليلاً على تمكن هذه المظاهر من تلك النفوس، وشدة ارتباطها بها، فإذا أكرم شعب من الشعوب أفراده تأصلت في أفراده مظاهره حتى لتكون هي الطابع الذي يطبعهم، وإنهم لينمون هذا مدفوعين إليه بالذي يشعرون به من الاعتزاز بانتسابهم إلى أنفسهم، وهم لا يشعرون بهذا إلا إذا كانوا عل خير، وإذا كانوا بهذا الخير راضين. وليس هناك شك في أ، موريس شفالييه يعتز بانتسابه إلى فرنسا، كما أنه ليس هناك شك في أن إميل جاننجز يعتز بانتسابه إلى ألمانيا، كما أنه ليس هناك شك في أن شارلي شابلن يعتز بانتسابه إلى العبرية، أما موريس فإنه رأى الناس لا يطلبون منه إلا أن يضحكهم وأن، يمازحهم، فلم يعبأ بأي لسان يتحدث إليهم(351/43)
ويغنيهم، فهو ينطق أحياناً بالفرنسية وأحياناً بالإنجليزية، ولو كفل له استديو مصر حاجته من المال لمثل بالعربية ولم يجد مانعاً من ذلك ما دام غرضه وغرض الناس منه هو العبث، وأما شارلي شابلن فإنه يمثل من غير أن يتكلم لأنه لا يهرج، وإن كان يضحك الناس على أنفسهم، ولأنه يريد أن يحسه الناس جميعاً مجرداً من كل بلبلة مما فرق البشرية وشعبها، وقد كان شارلي يستطيع أن يمثل بالإنجليزية وهو مولود عليها، ولكنه يشعر بالحق فيما بينه وبين نفسه أنها لغة طارئة على تكوينه غريبة على نفسه ذات المميزات العبرية الشرقية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وهذا الشعور مع رغبته في الشيوع مع النفوس المختلفة هما اللذان يلزمانه التمثيل الصامت وإلا فقد كان يمثل بالإنجليزية وهي لغة جمهور السينما
- أو العبرية وهي لغته
- ولكن أهلها قليلون جداً وحرام أن يخصهم شارلي وحدهم بفنه مثلما خص إميل جاننجز أهله الألمان وحدهم بفنه بينما كان الواجب الإنساني عليه أن يظل في أمريكا يمثل صامتاً مثلما يفعل شارلي، وقد كان ينجح كل النجاح ويوفق كل التوفيق فهو في الممثلين آية. أذكر أني رأيته مرة في فيلم يبكي بضلوع ظهره بكاء أبكاني وأبكى كثيرين معي، وليس كل ممثل بقادر على هذا
- فما الذي منعه؟
- لست أدري، وإن كنت أظن أن إميل لو كان صاحب ثروة مدخرة لبقى في أمريكا وفعل الذي يفعله شارلي ولما اضطره الفقر إلى أن يقف موقف الاختيار بين ما يريده الأمريكان من التمثيل الناطق، وما يريده الألمان من النطق بالألمانية وحدها
- إذن فلو كان إميل غنياً لكان قد تخلص من ألمانيته، فالألمانية إذن ليست متغلغلة فيه كما تدعي، وما دام الأمر كذلك فقد كان يمكنه أن يظل في أمريكا وأن يمثل بالإنجليزية
- لا. إن الألمانية متغلغلة فيه، فلا أحد ينكر أن الألمان من الشعوب الذين يعتزون بأنفسهم، بل الذين يصل بهم اعتزازهم بأنفسهم إلى أن يصبح صلفاً وتكبراً مذمومين، وكل الذي كان يستطيعه إميل مع هذه الألمانية المتمكنة فيه من ألوان الكفاح هو سترها بالصمت، ولكنه لم يكن ليقوى على أن يسترها إذا نطق فبأي لسان نطق ظهرت ألمانيته، وظهر فيها صلفه(351/44)
وكبرياؤه وغروره، والصلف والكبرياء والغرور من الصفات التي يراها البشر عامة شذوذاً وانحرافاً عن الفطرة الإنسانية السهلة السمحاء وليس يقبل فريق من الناس أن يكون الإنسان ذا صلف وكبرياء وغرور إلا الألمان، لأنهم كلهم هكذا أصحاب صلف وكبرياء وغرور، فمجتمعهم مملوء بهذه الصفات حتى إنهم لم يعودوا يرون فيها غرابة ولا شذوذاً ولا عيباً، وقد يقبل الناس من غير الألمان أن يروا إميل جاننجز في دور تمثيلي فيه صلف وغرور وكبرياء، ولكنهم لن يقبلوه في هذا الدور بهذه الصفات إلا إذا كانت هذه الصفات مما يستدعيه الدور، كأن يكون دور قائد من المحاربين المغامرين المفتونين، أو حاكم من الحكام المستبدين المغرورين، أما إذا لم يستدع هذا الدور هذه الصفات وظهرت هذه الصفات في لهجة إميل جاننجز وإلقائه للإنجليزية أو الفرنسية فإن الناس سيضحكون عليه من غير شك لأنها صفات غريبة على الدور خارجة عن طبيعته. . . أولا تضحكين أنت من المتكبر المغرور إذا لم يكن له جاه يبرر - ولو للعرف - كبرياءه وغروره؟. . . لهذا عجز إميل جاننجز عن التمثيل بالإنجليزية
- وهؤلاء الممثلون جميعاً الذين يمثلون في هوليوود باللغة الإنجليزية وهم من شعوب مختلفة ولهم ألسنة مختلفة، ألا يراعون هذا الذي يراعيه إميل جاننجز وشارلي شابلن وموريس شفالييه؟
- أما شفالييه، فهو لا يراعي شيئاً كما قلت لك، واللذان يراعيان هما شارلي شابلن وإميل جاننجز، فهما من عشاق الكمال الفني، وقد تركزت في كل منهما خصائص قومه، فهو في فنه يمثل شعبه في حياته، فهذا شارلي ضاقت العبرية به، فصمت وانتشر بصمته في الأرض، كما ضاقت الأرض المقدسة عن بني إسرائيل، فصمتوا عنها وانتشروا في الأرض، وهذا إميل جاننجز ضاقت به الألمانية، فتشبث بها وانحصر في حدود بلاده يجتر كبرياءه وصلفه وغروره كما ضاقت ألمانيا نفسها بأبنائها فلم يصمتوا عن صلفهم وكبريائهم وغرورهم، وإنما انحصروا في أرضهم يأكلون صراخاً وزعيقاً وصخباً وجلبة. ولو كانوا على شيء من الحكمة، لنزلوا عن شيء من صفاتهم هذه، ولكانوا كالإنجليز معتدين بأنفسهم ولا غرور، أو كانوا كالمسلمين معتمدين على الله ساعين في أرضه الواسعة بالحق والسلام والصبر في البأساء ويوم البأس. . . كم أريد أن أسمع صوتاً مسلماً: في حديث أو غناء أو(351/45)
ترتيل أو تمثيل لحال أو موعظة تلقى. . . ولكن أين نحن من هذا. . . إنه لن يكون إلا إذا أسلم كاتب من الكتاب، فاهتدى إلى موضوع مسلم، فكتبه، فعهد به إلى مخرج مسلم، فسلمه إلى ممثلين مسلمين وملحنين مسلمين ومغنين مسلمين، فعندئذ فقط نسمع الصوت المسلم. . .
- وهذه الأصوات التي تسمعها؟ ألا يشبعك منها ولا صوت جورج أبيض؟. . .
- فيه رنة لذيذة كرنة الذهب، ولكن فيه أيضاً عجمة غريبة تشربها في فرنسا حيث تعلم التمثيل، وإنه في هذا يشبه الدكتور طه حسين بك في إلقائه، فهو ينطق الحروف العربية سلة مسلمة نقية مجودة، ولكنه إلى هذا يموج صوته في إلقائه تمويجاً فرنسياً فيه التلطف، وفيه القصد إلى التأثير، وفيه التأنق في الاسترسال والتأنق في الوقف، وهذا شأن مستشرق فرنسي تعلم العربية فأجادها، وليس شأن عربي يتكلم. والدكتور طه معذور في هذا فقد تعلم في مصر ولكنه تربى في فرنسا وقد اختار أن يتفرنس ثم يستشرق لأنه رأي المستشرقين الفرنسيين أرقى علماً وأخصب حالاً من المصريين ومن العرب، وأنا مؤمن بأن الدكتور طه لو كان قد احتك بمثل إنساني حي أعلى منه ومحبب لديه من المسلمين أو المصريين أو العرب لكان قد مكن لغته العربية من نفسه على مثال تمكنها من نفس ذلك المثل الذي لم يره فلم يجد بداً من أن يبحث عنه بين المستشرقين، كما تعلم الأستاذ جورج أبيض التمثيل على يد أستاذ فرنسي فطوع له نفسه حتى تترجمت إلى نفس فرنسية تلقى العربية برنة فرنسية هي صدى لأسلوب الإحساس الفرنسي الذي دربه عليه أستاذه. . .
- وهل للإحساس أساليب؟
- من غير شك. تصيب المسلم المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويقبل على الحياة مجاهداً وهو يقول: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والمؤمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وتصيب الكافر المصيبة فيهلع لها ويتخبط من جزعه في أرجائها فلا يخرج منها - إن خرج - إلا منهوكا زادته المحنة كفراً وبعداً عن الله واستغرقاً على نفسه، له أسلوبه في الحس وللمسلم أسلوبه، وأسلوب الكافر ظاهر في لهجته وكلامه، فهو نضطرب حائر يلفظ الكلمة يكاد يخفيها أو يأكلها خشية أ، تفضح ما في نفسه، فإذا أفصح انفضح اضطرابه وهلعه وجزعه، وأسلوب المسلم ظاهر في لهجته وكلامه، فهو مطمئن هادئ مستبشر واثق(351/46)
من رحمة ربه. . . ولكل شعب من الشعوب أسلوب في الحس ومختار من الإحساس يحبه ويغذيه من نفسه وينميه فيها فيظهر في لهجته وكلامه. فالألمان يعتقدون أنهم أقوى ما في الدنيا ولذلك فإنهم يقبلون على الدنيا بهذا الإحساس يتحدون كل قواها مقعقعين بلغتهم وكلامهم كأنهم المدافع، والفرنسيون يعتقدون أنهم أجمل ما في الدنيا وأشد ما فيها عصفاً وهم لهذا يقبلون على الحياة مدللين متأنقين متلطفين مغرين الناس بأنفسهم قد أرهفوا انتباههم إلى مسة تخدشهم فما تخدشهم حتى يثوروا فما يسترضون حتى يرضوا. . . طبيعة الجميل المدلل الأنيق المتلطف؛ وكل هذا باد في لغتهم ومطاتها الرشيقة ووقفاتهم الأنيقة كما يبدو في عواصف إلقائهم وزوابعه إذا هم غضبوا. . . وأهل لبنان في إلقائهم للعربية بداوتهم الباقية وعنجهيتها الفخور. . . وأهل المغرب في سرعة إلقائهم ومضغ الحروف و (كركبة) الألفاظ بعضها فوق بعض لا يزالون في الهلع الذي أصابهم منذ أريحوا عن الأندلس بما كانوا يلهون فيها. . .
- وأهل مصر؟
- تسمعيهم أنت. . . ونبئيني غداً بما تسمعين
عزيز أحمد فهمي(351/47)
رسالة العلم
تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير
للدكتور محمد محمود غالي
الفكرة الموجية والفكرة الحديثة - لماذا تمذهب العلماء بالفكرة
الحديثة أو الموجية - ظاهرة التداخل الضوئي والاستقطاب
فيم كان التضارب؟ وفي أي المناحي ظهرت أزمة علمية؟ لقد كان في أهم مرحلة من المراحل العلمية التي تتصل بفهمنا للكون ورؤيتنا له، للقارئ بيان ذلك
حاولنا أن نرجع الكون في مجموعه إلى ظواهر أربع: الكهرباء والمادة والإشعاع والطاقة. وحاولنا أن نرجع كل هذه الظواهر إلى ست وحدات أصلية، وذكرنا أن ظاهرة الإشعاع ترجع إلى ذرة ضوئية يسمونها الفوتون، والواقع أن ظاهرة الإشعاع تتكون من الفوتون ومن موجة مستصحبة له، وذكرنا أن هذه الذرة الضوئية تسافر بسرعة عظيمة تبلغ حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية. ولا نتوسع اليوم مع القارئ في شرح الطرق التجريبية المختلفة التي توصل بها العلماء لقياس سرعة الفوتون الذي لا يمكن أن نعثر عليه إلا وهو في حالة حركة سريعة بالنسبة للمادة، ولكنا نستعرض مناحي التفكير في فهم الظاهرة الضوئية، والوسط الذي ينتقل فيه الضوء، والكيفية التي تصور بها الباحثون هذا الوسط الذي يتصل في أساسه بالكون وبالوجود والحالة التي اضطر لها العلماء في تعديل تصورهم والاتجاهات العلمية التي تناولت هذا التعديل، وبهذا نستعرض موضوعاً تضاربت فيه الآراء، وأزمة كانت من أشد الأزمات العلمية، أزمة لم تنته إلا بتطور علمي جديد، عدل تصوراتنا عن الكون وهذب طريقتنا لمعرفته
ولا عجب في ظاهرة ترجع في تكوينها وفي معرفتنا لها إلى ظروف معقدة يجعل بنا أن نذكرها، فالضوء الذي ترسله إلينا الشمس مثلاً أو المصباح يصل لنا في الحيز من أجسام مادية، لا نعرف على وجه التدقيق ما حدث فيها من عمليات يصل أثرها إلى حاسة من أهم حواسنا هي البصر نعرف به صور الأشياء بالمظهر ذاته الذي يراه كل من وهب هذه العيون(351/48)
كذلك عندما يتلقن الطفل أن هذا اللون هو اللون الأحمر وذاك هو الأخضر، فإنه بعد المران يعرف دائماً الأحمر من الأخضر، ولا يحدث خلاف بين بني الإنسان في تمييز لون معين من بين الألوان، فثمة اتفاق عام على أن هذا أحمر وذاك أخضر، تلك مسألة نقررها بتجاربنا اليومية، ولكنها تجارب بدائية تقف في حد ذاتها عن الكشف عن طبيعة الظاهرة التي تجعلنا جميعاً نتفق في هذا التعيين
وقد يكون غريباً على القارئ أن نقول له إن الضوء عملية موجية، وإن اللون يترجم عدداً من الذبذبات في الزمن، وإنه إنما يميز الأحمر من الأخضر، لأن ثمة عدداً من الذبذبات في الثانية أثرت على العين ليرى اللون الأحمر. وثمة عدد آخر من الذبذبات يختلف عن العدد الأول وصل إلى العين ليرى اللون الأخضر، ذلك أن القارئ لا يرى هذه الذبذبات، وليس في تجاربه اليومية ما يؤيدها، ولكنا نطالبه أن يتبعنا قليلاً ليرى معنا ماذا تكنه هذه الظاهرة العجيبة التي عرف عندها الأشياء بصورها واستوعب الألوان بحالتها
أول معارفنا عن الضوء ترجع لملاحظة الظواهر العادية التي تتصل بما يسمونه الضوء الهندسي يبين مسيرات الأشعة الضوئية. كلنا يعرف أن الضوء يسير في خط مستقيم ما دامت المادة التي يسير فيها لا تتغير، ويعرف أن الأشعة تنكسر عند انتقالها من مادة إلى أخرى، وما السراب إلا ظاهرة حادثة من انكسار الضوء في الهواء الذي يتكون منه في الواقع طبقات تختلف كثافتها لاختلاف درجة حرارتها وقد عرف نيوتن ظاهرة انكسار الضوء في الزجاج، ودرس من ذلك ظاهرة تحليل الضوء الأبيض إلى الألوان المعروفة، وبذلك عرف أ، الضوء الأبيض الذي يصلنا من الشمس خليط من أشعة مختلفة ألوانها وقد أثبت ذلك بأن جعل الضوء يمر في منشور زجاجي فيتحلل إلى الألوان المعروفة: الأحمر، والبرتقالي، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والأرجواني، والبنفسجي، وهي ظاهرة الطيف التي نشاهدها أيضاً في قوس قزح حيث تلعب كرات الماء المنتشرة في الفضاء دور المنشور فيتحلل الضوء عند اختراقها إلى ألوانه السبعة
ويرى القارئ في الشكل (1) تحليل الضوء بواسطة المنشور، ويرى المنطقة التي يكون فيها اللون الأحمر واللون البنفسجي، كما يرى المنطقة التي تكون فيها الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية(351/49)
ولو أننا وضعنا - كما فعل نيوتن - أمام الأشعة المبعثرة عدسة فإن هذه الأشعة تتجمع مرة أخرى بعد خروجها من العدسة وتكون الضوء الأبيض من جديد
ولقد كان الانكسار في الضوء الأساس في اختراع كل الأجهزة الضوئية: كالمنظار الفلكي (التلسكوب) والمجهر (الميكروسكوب) والجهاز الفوتوغرافي. بهذه الأجهزة جال الإنسان بنظره وفكره من العوالم البعيدة إلى الدقائق التي لا تراها العين، واستطاع أن يحتفظ بصورة الأشياء والحوادث، اجتماعية كانت أم علمية؛ وهكذا بتعديل في شكل الزجاج خرجت صناعة هامة هي صناعة العدسات، واقترنت هذه بأعمال الإنسان حتى بات فريق كبير يحملها على العيون ليرى للعالم صورة أوضح من التي تسمح له بها حواسه، وكان ذلك امتداداً عجيباً لوظيفة العين البشرية، امتداداً لحياتنا البيولوجية
لم تكن هذه الظواهر: من مسار الضوء في خط مستقيم، وانكساره عند اختراقه المواد، وتحليله إلى ألوان مختلفة - بكافية لنتعرف حقيقة الضوء؛ وكان على الباحثين لمعرفة ذلك أن يدرسوا خواصه دراسة وافية، وهذا ما عكف عليه العلماء الذين ذهب التفكير بهم إلى افتراض احتمالين:
الأول أن يكون الضوء مكوناً من جسيمات صلبة مقذوفة في الحيز
والثاني أن يكون الضوء حادثة وقعت على جسيمات أخرى مادية، وليس هو الجسيمات بذاتها، وفي الحالة الثانية يكون الكون بأسره مملوءاً بهذه المادة التي سموها الأثير وهذه المادة لا نراها بالذات إنما نرى ما يحدث فيها من تعديل أو تموجات، وظل الرأيان يتناوبان المكان الأول عند العلماء الذين اعتقدوا أولاً في الفكرة الشيئية (أي الجسيمية) ثم اعتقدوا ثانياً في الفكرة الحدثية (أي الموجية)، ولأسباب سنذكرها هنا انتصرت الفكرة الأخيرة عهداً طويلاً، وظلت النظرية الصحيحة إلى أن حولت النظريات الحديثة ونظرية الكم مرة أخرى العقائد نحو الفكرة الأولى
أما النظرية الشيئية فقد أسسها نيوتن أن الضوء مكون من جسيمات صلبة صغيرة مقذوفة في خط مستقيم في الفضاء، وكان لما يتكون من ظل لأي جسم موضوع أمام منبع ضوئي دليل عند نيوتن على ما احتجزه الجسم من هذه الكرات التي حال الجسم دون مرورها
أما النظرية الحديثة، فقد أسسها الرياضي الهولاندي ويجانز في المبدأ على اعتبارات(351/50)
نظرية وحسابات قام بها هذا العالم، وكان لابد من أسباب علمية هامة لكي يهجر العلماء نظرية نيوتن الجسيمية ما لمؤسسها من مكانة ليتمذهبوا بالمذهب الجديد.
على أننا نلخص المهم من هذه الأسباب التي خرج بها علينا العلم التجريبي:
السبب الأول كان في ظاهرة يسمونها (التداخل الضوئي) والسبب الثاني كان في ظاهرة يسمونها الاستقطاب وللقارئ نوجز الظاهرتين:
عندما يقع شعاع على جسم يضيئه شعاع آخر، فإنه من البديهي أن يزداد توهج الجسم بهذا الشعاع الثاني، وهي نتيجة حتمية لنظرية (نيوتن) التي تقول بازدياد عدد الجسيمات الضوئية الواقعة على الجسم، وبرغم هذه الحقيقة التي نشاهدها في تجاربنا العادية توصل العلماء إلى تجارب من نوع معين يتبين منها أن هذه الإضافة لشعاعين من الضوء ينتج عنها ظلمة حالكة بدل أن ينتج عنها زيادة في الضوء
وقد كشف هذه الظاهرة الطبيب والطبيعي المعروف توماس يونج وتتلخص تجربته في أنه وضع حاجزاً به ثقبان أمام منبع ضوئي وشاهد على حاجز آخر موضوع خلف الأول سلسلة من الخطوط المضيئة والمظلمة المتجاورة، ذلك أن هذا الحاجز يضاء بما ينبعث من ضوء خلال الثقبين، وفي الشكل (2) يرى القارئ صورة لهذه الظاهرة التي لا يمكن تفسيرها بنظرية (نيوتن) ويمكن تفسيرها بالوسائل الرياضية إذا اعتبرنا الضوء ظاهرة موجية، ذلك لأن موجتين متضادتين وحادثتين في مكان واحد تمحو إحداهما أثر الأخرى، ويظهر ذلك في هذه الخطوط السوداء التي رغم تعرضها للمنبعين لا يظهر عليها أثر للضوء. وليس المجال هنا لنذكر التجارب المختلفة التي وفق فيها العلماء لرؤية هذه الظاهرة، ولابد أن يكون قد رآها كل من أتيحت له فرصة عمل تجارب في إحدى كليات العلوم، مثل التجارب المعروفة باسم حلقات (نيوتن) أو (مرآة فرنل) وغيرها. كذلك لا ندخل في تفصيل التطبيقات العديدة التي استخدمت فيها ظاهرة التداخل لكل مهندس تتاح له الفرصة في معرفة ما تقدمه العلوم الطبيعية من تطبيقات مفيدة يعلم أنه يستطيع أن يعرف درجة تمدد أو ضغط إحدى الأعتاب الحاملة للجسور الحديدية بواسطة أجهزة ضوئية تستند إلى ظاهرة التداخل الضوئي، كما يعرف أنه من السهل الآن تعيين سمك لوحة رفيعة أو دراسة ما على سطحها من تعاريج أو حركة بالالتجاء إلى أمواج الضوء، واستخدام ظاهرة(351/51)
التداخل في القيام بما يصعب قياسه بالطرق العادية
أما الظاهرة الثانية فهي ظاهرة الاستقطاب التي تفرغ لدراستها أيضاً المهندس والعالم (فرنل) ونشرحها هنا في كلمتين:
ثمة نوعان من الأمواج في الظواهر الطبيعية المختلفة، أمواج طويلة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه سير الموجة، وأمواج مستعرضة حيث تتذبذب الجسيمات في اتجاه عمودي على سير الموجة. وأظهر مثال للأخيرة تلك الأمواج التي نشاهدها على سطح المياه حيث يرتفع الماء ويهبط في مكانه عموديا على الاتجاه الظاهري لمسار الموج دون أن يتحرك الماء من مكانه نحو هذا الاتجاه، ولقد أثبت (فرنل) أن الضوء ظاهرة موجية من النوع الأخير فهي كموجة الماء تتذبذب في اتجاه عمودي على مسار الموجة، ولا تختلف عنها إلا في أنها مع مرور الوقت تدور هذه الذبذبة في المستوى العمودي الذي تتذبذب فيه، وقد لاحظ (فرنل) أن الضوء عندما يخترق نوعاً من البلور فإنه يتذبذب عمودياً كما كان قبل اختراقه البلورة، ولكن الذبذبة تتخذ صفة جديدة، ذلك أنها تتذبذب في اتجاه واحد، ويسمى هذا الشعاع مستقطباً وقد بين (فرنل) أن ظاهرة التداخل لا تحدث بين شعاعين من هذا النوع إلا إذا كانا مستقطبين في اتجاه واحد. وظلت فكرة (فرنل) التي تتلخص في أن الضوء ظاهرة موجية مستعرضة تستلزم وجود مادة أثيرية لحدوث هذه الموجات فكرة غير مقبولة من العلماء الذين لم يؤمنوا بوجود مثل هذه المادة في الكون، وهي المادة التي لجأ إليها كل من (فرنل) و (ويجانز) لتفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب التي صعب تفسيرها بنظرية (نيوتن) الجسمية، وظل الأثير وسطاً يتطلب الدراسة
وهكذا لم يكن من المستطاع التعرف على الضوء كحالة موجية دون أن يكون هناك هذه المادة الأثيرية التي تملأ الكون، وكان شأن الأثير من الضوء شأن الماء في بحيرة سقط فيها حجر، وإلا فكيف تصل لنا آثار الحجر إذا لم يوجد الماء، وكيف تصل لنا هذه الدوائر على سطح البحيرة تتسع رويداً رويداً حتى تبلغ الشاطئ إذا خلت البحيرة مما يحمل هذه الدوائر، ومع ذلك ظل الأثير فرضاً لا نعرف عن خواصه شيئاً، ولكل ما نعرفه أنه مادة خفيفة شبيهة بالغازات، لا نستطيع تفريغها مهما كانت أجهزتنا قوية، فهو يملأ المصباح الكهربائي مهما كان مفرغاً، وبواسطته يمر الضوء من السلك المعدني إلى الغلاف الزجاجي(351/52)
وإلى ما وراء هذا الغلاف
ولقد صادفت فكرة (فرنل) عن الموجات الضوئية ووصفها بأنها مستعرضة عقبة جديدة، ذلك أن الأثير باعتباره مادة شبيهة بالغازات لا يقبل غير الموجات الطويلة، وقد استمسك (فرنل) برأيه في أن الضوء أمواج مستعرضة حتى أنه، عندما تشبث (بواسون) التموجات الطويلة هي وحدها الكائنة في الأجسام الغازية، لم يسع (فرنل) إلا أن يطلب من هذا العالم أن يصحح رأيه في خصوص الأثير الذي قد يكون له خواص الأجسام الصلبة، ويقول (ريشنباخ) تصميم (فرنل) هذا كان سبباً لكي يمتنع زميله (أراجو) أن يوقع معه النشرة العلمية النهائية الخاصة بهذا الموضوع. وفي القرن التاسع عشر عكف العلماء على القيام بتجارب عديدة يتبنون منها وجود هذا الأثير ويتعرفون بها على شيء من خواصه، وتساءل بعضهم ماذا يحدث في الأثير عندما يتحرك جسم فيه؟ ثمة احتمالات ثلاثة:
الأول أن يحمل الجسم معه الأثير بأسره المحبوس بين جزيئات الجسم. والثاني أن للأثير مرونة عظيمة تسمح أن يمر الجسم فيه دون أي احتكاك ظاهر
والثالث أن يكون للأثير حالة متوسطة، أي أنه يشترك جزئياً مع حركة الجسم، وهو رأي مال إليه (فرنل) وعززه بحسابات أراد منها أن يعرف درجة اشتراك الأثير في مثل هذه الحركة
وقد عمد فيزو لتحقيق ما ذهب إليه فرنل، وفي تجربة معروفة أرسل شعاعاً في أنبوبة مملوءة بالماء الجاري كما أرسل في الأنبوبة ذاتها شعاعاً آخر في الاتجاه المضاد، بحيث يسير مع الماء أحد الشعاعين ويسير بعكسه الشعاع الآخر، وباعتبار أن المادة الحاملة للضوء هي الأثير وأن هذا، وفق النظرية المتقدمة، يتحرك مع الماء بعض الشيء؛ فإنه يجب أن تختلف السرعة لشعاعي الضوء في الحالتين. وباللجوء إلى طريقة دقيقة استخدم (فيزو) فيها لقياس السرعة ظاهرة التداخل الضوئي استطاع أن يقيس الفرق بين السرعتين، فأيدت صحة هذه التجربة فكرة (فرنل) عن وجود الأثير وعن معرفة شيء عن حركته
على أن تجربة أخرى تعد في نظري من أهم التجارب التي أحدثت انقلاباً في التفكير الحديث قام بها العالم المعروف (البرت في سنة 1881، وكان لها أثر في عقيدة العلماء(351/53)
فيما يخص الأثير، هذا الوسط الوهمي، وسيرى القارئ كيف سببت تجربة ميكلسون تضارباً في الرأي وأحدثت أزمة علمية عصيبة، وماذا كان أثرها على التفكير الحديث في فهم الكون.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(351/54)
القصص
عفراء الغجرية
للأستاذ محمود الخفيف
كان على صهوة مهره الجميل ذات صباح من إصباح بشنس البهيجة في طريقه إلى حقل من حقول أسرته المترامية البعيدة، وقد برزت الشمس من وراء كلتها الوردية، وأخذ ذوبها العسجدي يرف في ذرى الأغصان وأطراف السعف وأجنحة الطير. وكان نسيم الصباح الني ينفح الناس والشجر والدواب في تلك البطاح المنبسطة التي لم تبق فيها مناجل الحاصدين إلا جذور القمح، والتي تلمح العين فيها على أبعاد، مزارع القطن الخضراء، وقد أخذت تدب القوة في شجيراته الموموقة المصفوفة. . .
وكانت الحقول آهلة بالناس، فهنا وهناك جماعات الحاصدين قد تحلقوا حول الفطير والعسل، أو تمددوا على فرش الحصيد، أو انحنوا فرادى على السنابل الذهبية يجذونها بمناجلهم. . . وهنا وهناك حاملات الفطور بين غاديات ورائحات، ولاقطات السنابل لا يزال بعضهن يلتقطنها؛ بينما يخطر بها الأخريات حزماً على رؤوسهن يزداد بها قوامهن رشاقة وملاحة؛ والطرق إلى القرية تتقاطر فيها الإبل تحمل السنابل ويتغنى خلفها الفلاحون - وهم بين هاتف وزامر - وبينهم بعض البدو ممن يهبطون القرى بجمالهم في هذا الموسم لنقل أحمال الحصيد إلى البيادر. . .
كان كل شيء باعثاً على البهجة، فما ترى العين ولا تسمع الأذن إلا فيض السرور؛ ولكن (حيناً) كان يحس وحده الانقباض وسط هذا المرح الغامر. . . وكم كان يحسد هؤلاء الفلاحين على ما رأى من مظاهر هناءتهم، وكم كان يتمنى لو أتيح له مثل ما يتاح لهم من نعيم، ولو اشتراه بما يملك جميعاً! بل لقد كان يحسد مهره، وقد خيل إليه كأنما طاف به طائف من هذا السرور، فهو يتبختر تبختر النشوان، حتى لو تكلم لباهى بفتوته وجمال غرته، ولام صاحبه على ما يبدو عليه من هم!
وتنهد الفتى، وقد ذكره ذلك السرور شجونه، واستحث مهره يريد أن يصل به سريعاً إلى حيث كان يريد أن يقضي النهار في منعزله، في ذلك الكوخ القائم على ضفة الترعة الكبيرة، بالقرب من أكواخ تلك الأسرة البدوية التي تقيم هناك منذ سنين لحراسة الزراع؛(351/55)
وما كان يأوي حسين إلى ذلك الكوخ إلا حين كان يضيق بهمه، وتثقل على نفسه الحياة
وانعطف به مهره عند نهاية قناة طويلة تجري وسط مزارع أسرته، فلم يكد يتجه اتجاهه الجديد، حتى وقعت عيناه خلف شجرة كبيرة على بعض أخبية للبدو لم يرها من قبل هناك، ينبعث الدخان من كوانينها، وتنبح الكلاب المارين بها. ونظر، فإذا هو يرى بأحد هذه الأخبية فتاة مضطجعة، عجب لأول وهلة كيف يتأتى وجود مثلها في خباء من الشعر، وهي لولا ملابسها البدوية، وحليها البدوية، لظنها الرائي إحدى غانيات القصور، ففي وجهها الرائع القسمات، وفي بدنها البض، مخايل النعيم والترف، وفي سمتها معاني الكبرياء والأنفة، هذا إلى بياض بشرتها على نحو لا يكون إلا في الناعمات البيض من ربات الجمال. . .
ورشقته الفتاة بنظرة من عينيها الدعجاوين الرائعتين، نظرة فهم بفطرته منها كثيراً من المعاني: ففيها الإغراء والدلال، وفيها الإعجاب به وبمهره الجميل، وفيها الأنفة وعدم المبالاة، وفيها الإقرار بما يبدو عليه من جاه، وفيها الإيحاء إليه بجاهها هي وإن كان من نوع آخر غير جاهه، نوع كم ذل له كل جاه، وكم دانت له من جباه. . . وسار، وقد انطبعت في مخيلته صورة هذه البدوية الجميلة، ورآها بين من أحطن بها كأنها وردة رائعة في بقعة من الشوك. . . وحدثته نفسه وهو من لا يهاب ولا يضطرب أن يرجع، فيجلس ساعة بين هذه الأخبية ليرى مبلغ كبرياء تلك الفتاة، وهو لم ير هناك رجلاً ولا فتى، ولن يضيره أن يحضر الرجال جميعاً، فهم يقيمون في ملكه، ولا يسعهم إلا الإذعان لسلطانه. . . ولكنه ما لبث أن رغب عن ذلك، ومضى في سبيله إلى منعزله. . .
وبلغ كوخه فترجل وأسرع إليه صبى من البدو المقيمين هناك فأخذ المهر إلى مربطه؛ وجلس حسين في الكوخ ينظر إلى الماء في الترعة الساكنة الهادئة ويمني نفسه بيوم هادئ؛ وطافت برأسه أول الأمر طيوف همه، ثم طاف بها خيال تلك البدوية الجميلة، وتمثلت له عيناها الجريئتان الساحرتان، فسرى عنه بعض ما به لحظة أسلمه بعدها إلى وجد عميق إذ تداعت إليه آلام حبه ولواعج قلبه. . . وأفاق من أحلامه على صوت ارتفع من قرب بالتحية. . . ونظر فإذا الشيخ مصطفى مقبل نحوه، وامتعض حسين ولكنه أخفى امتعاضه بابتسامة متكلفة قائلاً: (وعليكم السلام يا عم الشيخ مصطفى. من أين أنت قادم؟)(351/56)
- من عزبة علي بك، حيث كنت أحادثه في شأن الأطيان التي يريد عمك البك استئجارها وقد قضيت الليل عنده
- هنيئاً لعمي ما يملك وما يستأجر. . . أما أنا. . . ولكن ماذا أقول ربنا موجود يا عم الشيخ مصطفى
- يا سي حسين بك دائماً تشكو، قريباً تأخذ ملكك وتتمتع به، المسألة زيادة حرص من سيدنا البك عليك
- قريباً. . . نعم قريباً، بمشيئة الله وبإرادتي أنا لا بإرادة سيدنا البك
وخشي الشيخ مصطفى أن يسمع عن سيده ما لا يحب، فاستأذن ونهض يريد الانصراف، ومد يده إلى حسين فسلم عليه وهو مضطجع والشر يلمع في عينيه وقال له وفي وجهه جذوة الغضب: (قل لسيدنا البك إن حسين لم يعد صغيراً وهو لن يطيق بعد اليوم أن يحيا هذه الحياة وله عندك أكثر من ثلاثمائة فدان. . . كفى. . . كفى أني انقطعت عن التعليم بسبب شحة علي وكنت قريباً من النهاية. . . لا! لا! الصبر بعد اليوم مذلة)
ومضى الشيخ مصطفى، يشيعه، حسين بلعناته، وقد كان هذا الرجل من أبغض الناس إليه، لما عرفه عنه من الملق والمداهنة وشدة المكر، هذا إلى أنه لا يذكره عند عمه إلا بالسوء كأنه يرى في ذلك وجهاً من الزلفى
وتشاءم حسين بمرأى الشيخ مصطفى كاتب زراعة عمه ونائبه في أعماله وزاده مرآه هماً على هم؛ وتذكر أنه ما كان يراه مرة أيام كان طالباً إلا رسب في امتحانه أو أصابه المرض إن لم يعقب مرآه امتحان
والتفت حسين نحو الترعة يريد أ، يغيب في سكونها ثورة نفسه فأبصر تلك البدوية الحسناء وقد حسرت ثوبها عن ساقيها الجميلتين ونزلت في الماء تغترف منه في إناء صغير من الفخار، وتبدت لعينيه كأنها تلك الجنية التي كان يسمع من أوصافها وهو صغير ما كان يخفق له قلبه رعباً. . . ولقد خفق قلبه الآن لمرآها ولكنها اليوم خفقات الإعجاب بهذا المنظر الساحر الفاتن. . .
وكأنما كانت بما تأتيه من حركاتها الرشيقة تدعوه ليحدثها وما كان بحاجة إلى هذه الدعوة فقد خف إليها وحياها في جرأة فردت في فتور وهي تغريه بعينيها وتتكلف الحياء فتشيح(351/57)
بوجهها عنه وهي منحنية على الماء، وسألها عن اسمها فتباطأت لحظة وهي تبسم له ابتسامة نفذت إلى قلبه ثم قالت: (خادمتك عفراء. . .) ووثبت إلى الشاطئ ووضعت الإناء فوق رأسها وهمت معجلة بالانصراف، فاستوقفها فتأبت، فقال: إنه لن يسمح لها بالسير إلا على موعد. فضحكت وقالت: حتى ترى القمر في الضحى؛ وأجاب من فوره: ها قد رأيته، وأشار إلى وجهها الجميل. . .
ولم تكد تخطو حتى مر بالكوخ فتى في نحو الثلاثين كره حسين مرآه، ففي لفتته لفتة الذئب ورآه ينظر نحو عفراء نظرة ملؤها الغضب والغيرة
عاد حسين إلى القرية بعد عشرة أيام قضاها في منعزله على ضفة الترعة، حيث كانت توافيه إليه عفراء كل ليلة فتجلس معه ساعة أو بعض ساعة
ووصل إلى منزل عمه وقد غربت الشمس فوجده جالساً على كرسيه أمام داره وحوله جلساؤه وعلى مقربة منه كاتب زراعته؛ وألقى الفتى إليهم السلام فردوا جميعاً إلا عمه فقد نظر إليه نظرة كريهة لمح فيها لأول مرة إلى جانب البغض ما يشبه التشفي. . . وعجب حسين أن رأى معاني الرثاء واضحة في نظرات من لقيهم من الخدم وقرأ على وجوه الخادمات وبخاصة عزيزة أن كلا منهن تريد أن تفضي إليه بنبأ، فاضطرب قلبه في جوانحه وقد فهم كل شيء. . .
ونادى عزيزة فأقبلت عليه لا تدري كيف تفضي إليه بما تريد من نبأ، فارتسمت على شفتيه ضحكة متكلفة حزينة كأنما يقول لها بها: هيه لا تخافي. وقالت عزيزة (يا سيدي حسين ستي ثريا هانم خطبوها خلاص وكتب الكتاب بعد شهر. . .)
وأحس كأن قلبه يدمي في جوانحه؛ وتقطعت أنفاسه كأنما مسه نصب شديد، ولكنه تجلد ريثما صرفها، ثم أسند ظهره إلى حائط البيت يخشى أن يسقط على الأرض. . . ثم مشى يجر رجليه فأوى إلى مضجعه وجلس في الظلام ساعة. . .
وبث اليأس في قلبه البأس والقسوة فلن يعبأ بعد اليوم بشيء وهو يريد أن يعرف أولا ماذا ترى ابنة عمه فيما أريد لها، ولذلك وثب من مكانه لا يدري أين يذهب ولا من يسأل، وفي مخيلته نظرة عمه وما فيها من معاني التشفي، وفي نفسه وساوس وهواجس ونيات سود فزع حتى في ساعة يأسه منها. . . وما قيمة حرمانه مما يرث إلى جانب حرمانه من أمله(351/58)
الذي لا يرى للحياة معنى من دونه؟ ولم يكد يخطو من منزله إلى منزل إلى منزل عمه حتى رأى عزيزة فناداها وهم بسؤالها ولكنه لم يعرف كيف يدير الحديث إلى غرضه ففهمت ما يريد فقالت في لهجة الواثق: (ما تخافش أبداً يا سيدي حسين أنا عارفه. . .)
- عارفه إيه؟ هل قالت لك حاجة؟ لازم أعرف
- لا ما فيش حاجة إنما أنا عارفة وبكره تشوف وأبقى قول عزيزة قالت لي ولي عندك الحلاوة
وانصرفت عزيزة مخافة أن يراها سيدها، ووقف حسين في مكانه يدير كلامها في عقله متسائلاً هل أتت به من عندها أم سمعت شيئاً من سيدتها ولكنها لا تذكره لأنها لم تؤمر بذكره؟ وفزع بآماله إلى الرأي الثاني فهدأت ثورته قليلاً
مضى حسين إلى (دوار) عمه، وجلس وحده في ركن هناك، وظل يتفكر في همه مطرقاً حتى أحس بيد على كتفه فرفع بصره فإذا هو ابن عمه أحمد، وكان هذا على خلاف أبيه، يبدي المودة لحسين، ويكاشفه بما في نفسه. . . ومال الحديث بين الفتيين أول الأمر إلى الأرض التي يريد أن يستأجرها البك بالقرب من عزبة علي بك، وأظهر أحمد خوفه من عاقبة هذا العمل، ثم أفضى إلى حسين أن علي بك يستأجرها كل عام من البنك، وعلي بك رجل خطر فتاك وبينه وبين أبيه ضغائن وإحن قديمة وليس من الحكمة أن يأتي أبوه هذا العام فيغري البنك بأن يأخذها هو نظير زيادة في الإيجار، وليست به حاجة إليها، بينما يحتاج إليها علي بك أشد الحاجة لأنها تفرج عنه ضائقته التي يعانيها منذ بضع سنين، فضلاً عما في فعل والده من معنى التحدي والتعدي وهو أمر له خطره الشديد عند الأسر
ووثبت إلى ذهن حسين صورة ذلك الفتى الذي مر به غداة ذهب إلى كوخه، والذي كره حسين مرآه ورأى الإجرام واضحاً في وجهه الشبيه بوجه الذئب؛ ولم يدر حسين لم يذكر الآن ذلك الفتى ولم يبعث تذكره في قلبه الرهبة ويشيع في نفسه الكآبة. ورأى حسين في وجه ابن عمه أنه يريد أن يحدثه في أمر، فسبقه حسين إليه وقال ضاحكاً: (مبارك النسب الجديد يا سي أحمد)
- لا دي مسألة وتفوت. عمك يريد معاندتك. . . إحنا كلنا معك، مين يفوت ابن العم ويفضل الغريب - لا تهتم غاية ما في الآمر لا تعاند عمك. وازدادت المحبة في قلب(351/59)
حسين لابن عمه أحمد، وقد تبين في لهجته الجد والصدق
لم ينم حسين ليلته إلا غراراً وقد ذهبت به الهواجس كل مذهب، ولما أخذته سنة رأى في نومه أنهم قد ذهبوا به إلى القبر وأنه فزع من ضمة القبر وظلمته؛ وأنقذته الديكة بتصايحها من حلمه المخيف، فهب، ولكنه تمنى لو كان الحلم حقيقة. . . أنزف ثريا إلى غيره وهو حي؟. . . ثريا ابنة عمه التي ما أحب غيرها وهي منذ الصغر مسماة عليه؟ أكان يفعل عمه ذلك لو كان أبوه حياً؟ وماذا جنى حتى يطعنه عمه تلك الطعنة؟ لا شيء إلا أنه يطالب بحقه. . . وما قيمة الحياة مع هذا الهوان؟
وتمثلت له أيامه الجميلة، أيام سعادته بحب ابنة عمه، أيام كان يناقلها الأحاديث العفة، وهي مطرقة في سذاجة حلوة تستروح نسمات الحب، وتحلم أحلام الحب، وترى في أبن عمها دنيا آمالها، ويرى فيها جنة أحلامه. . .
وعول من فوره أن يذهب إلى منعزله على ضفة الترعة، فما يطيق العيش على مقربة من عمه. . . بل إنه ما يطيق الوجود كله، وامتطى مهره وانطلق بعد أن قابل عزيزة؛ ومر في طريقه بخيام البدو فلم ير عفراء هناك. . . على أنه كان من همه في شغل عنها وعن سالف لهوه معها.
- كيف الحال يا شيخة العرب؟
- الحمد لله. . . ربنا يخليك يا سيدنا البيك
- مين هوه الجدع اللي كان هنا الغريب ده؟
- ربنا يكفينا شره. . . الله يسهل له. . . دا بعيد عنك. . . دا يقتل الرجل بجنيه أو بكيلتين حب
- ولم يأتي عندكم؟
- دا يروح عند أي جماعة من العرب، ما حدش يقدر يكلمه. . . يا ما يأخذ من هنا خبز ولحم وشاي. . .
وكان حسين يعرف الكثير من أحوال هؤلاء الأعراب الذين يحترفون القتل، وليس يدري لم لاح له شبح الجريمة منذ رأى ذلك الأعرابي. . . هل جاء لقتل عمه؟ يفعلها علي بك ولا يبالي. . .(351/60)
فكر حسين وأطال التفكير، وبينما هو يقلب الأمر على وجوهه، إذ لمح عفراء مقبلة فحيت باسمة ولمحت عيناها السرعتان اللهم في وجهه، فقلت مداعبة:
- أعف البخت وأقرأ الضمير. . . فهل تريد؟
- أين الرمل والودع؟
- لا. . . يكفي هذا الطمي. . . أرمي بياضك
- ودهشت الغجرية أن رأت حسيناً يرمي إليها جنيهاً براقاً كعين الشمس، ولم تصدق أنه لها أول الأمر حتى استيقنت من ذلك فراحت تقول وهي تخطط الطمي بإصبعها:
- عدو جديد. . . أحذره، ولكن الوردة لك لا لغيرك. . . صلي على النبي. . . واحد يكرهك وواحد يوز عليك والباقي يحبونك وأنت منصور. . . شر كبير ولكن يفوت وربنا يسلم
وسكتت العرافة وتلعثم لسانها، وجرت صفرة في وجهها الوردي، واختلجت عيناها واضطربت أصابعها، ثم قالت:
- وفيه وردة ثانية، لكن آه! تعرفك وتتملى نورك، وأنت موش داري
- وفهم ما تريد ولكنه تغابى، ودنت العارفة منه وهمست في أذنه كلاماً دق له قلبه وانطفأت حمرة وجهه وارتعدت مفاصله. . . وانطلقت وبودها لو عرف الوردة الأخرى وشمها شمة. . .
إذاً فقد أصبح الوهم حقيقة. . . فهذا الذئب ما جاء إلا يفتك بعمه، ولكن من أدرى عفراء؟ لعلها سمعته يفضي بسره إلى زميل له من البدو. وماذا يفعل حسين؟ لقد مرت برأسه فكرة ارتاع منها وانتفض لها جسمه. . . لا، كيف يسكت؟ أيطيق أن تفجع ثريا في أبيها؟. . . وهو؟ أليس هو عمه على الرغم من كل شيء؟ ألم ينحدر هو وأبوه من صل واحد فهو بذلك قطعة من أبيه. . .؟ وكيف يلقى الله ودم عمه على يديه؟ وكيف يهنأ بعيشه بعد الجريمة. . . إنه يحس أن سكوته اشتراك بكل معاني الاشتراك ويوسوس له الشيطان فيقول: هبك لم تعلم ومات عمك أفلا تتمتع بملكك وحبيبة قلبك؟ كلا. . . كلا. . . إن الدم لا يهون؛ وهو يعلم ما يبيت لعمه. . . ولكن كيف تزف ثريا إلى غيره ثم لا يحدث ذلك إلا نكاية فيه؟ ويحه ما باله! تنازعه هذه الهواج والأمر بين؟ ماله يلتفت نحو الترعة؟ أيريد أن(351/61)
يعبر إلى العدم لجتها؟
قضى ليلته مشرد اللب خائر البدن تفزعه الرؤى السود وتنهش أحشاءه المخاوف، وات يخشى على نفسه هو، ومن يدريه فلعل ذلك الذئب قد علم من حيث لم يدر هو ولم تدر عفراء، بما أفضت به إليه. . . لعله رآها تهمس في أذنه ومثله من يرتاب في كل شيء ومن يفهم باللمحة الخاطفة، وأغمض جفنه، فرأى وهو ين اليقظة والنوم أنه ماثل أمام أبيه مغلول اليدين والدماء على ملابسه ويديه، وعمه في أكفانه ينظر إليه من كثب ولا يستطيع أن يتكلم. . . ومرت بوجهه أنفاس الفجر الندية فقام وهو لا يكاد يقوى على القيام. . . ثم عقد النية أن يخبر الشيخ مصطفى بما علم وهو الكفيل بأن يقضي على الذئب قبل أن يقضي الذئب على عمه
وأرسل من جاءه بالشيخ مصطفى، وجلس كاتب عمه بين يديه ساكتاً، وسكت حسين لحظة
- تألمت والله يا سيدي حسين لما علمت بنبأ الخطوبة الجديدة
- ليه؟ هذا نسب عال. . .
- على كل حال أنت أولى من الغريب ولكن ما الحيلة؟
- يا سيدي دي قسمة وربنا هو اللي عمل كده. . . هل يكون العقد بعد شهر صحيح؟
- لا، ربما كان قبل ذلك فالبك مستعجل
وأمسك حسين وصمم على كتمان ما علم، ولكنه حار كيف يصرف الشيخ مصطفى. . . واستأذنه لحظة وراح يمشي على ضفة الترعة جيئة وذهاباً وهو ضائق بما كان يبدو له من نظرات التشفي في وجه الشيخ مصطفى وإن بالغ في إظهار تألمه. . . وناداه فأفضى إليه بما علم، ثم صحبه إلى القرية وقد أصبح يخاف من كوخه
وانقضت أيام، أخذ يزداد فيها حسين قرباً من عمه بعد أن كان موضع الريبة والحذر الشديد، فقد اتهمه الشيخ مصطفى عند عمه بتدبير الجريمة، ولكن الشيخ مصطفى ما لبث أن جاء من لدن عفراء بالخبر اليقين. . . وأجل العقد الذي أريد من قبل ليحل محله عد التخلص منه عقد أخر. . . وأخذت الأيام تبتسم لحسين بعد عبوس مخيف طويل، ولم يعد يكدر على الأسرة صفوها إلا خوفها وحذرها البالغ على حياة البك، ذلك الحذر الذي كان يتجلى في إحاطة منزله ليلاً بالحرس الساهرين(351/62)
ولم تحل يقظة الحراس دون أن تفزع الأسرة كلها بعد العشاء ذات ليلة من صوت انطلاق بندقية استقر مقذوفها في كتف البك وهو في مدخل الحارة المؤدية إلى بيته
وهرع إليه ذووه يعتقدون أنه قد فارق الحياة. . . ولكن الله سلم فحالته لا تنذر بالخطر. . . لقد أخطاء الجاني مرماه؛ وشغل الناس هول الفزع عن تعقب المجرم، فتسلل تحت جنح الظلام وهو من يعرف كيف يفلت مهما نصب في طريقه من الفخاخ
ولئن أخطأ الذئب مرماه هنا فلقد أصابه بعد ساعة أو بعضها في مكان آخر؛ فهؤلاء البدو يهبون من خيامهم مذعورين على صوت المقذوف. . . أعقبه صرخة، ونظروا على ضوء مصباح صغير فإذا الدم الحار يتدفق من قلب عفراء، ووجهها الجميل لا تزال عليه بسمة أحلامها وهو متجه إلى السماء. . .
الخفيف(351/63)
من هنا ومن هناك
الحصار لا يكفي
(ملخصة عن (ذي كونتمبوراري رفيو) لندن)
كثير مما يقال عن تأثير الحصار في الحرب العظمى، ويلغط به الناس، يحمل طابع المبالغة. فعلى الرغم من موقعنا الجغرافي الممتاز وتفوقنا البحري العظيم، فإن هذا الحصار لم يؤت ثماره إلا بعد اشتراك أمريكا في الحرب. إن تنفيذ مبدأ كهذا المبدأ على البضائع التي تصدرها دولة قوية محايدة كالولايات المتحدة يعد من الأمور المستحيلة. فإذا حاولنا ذلك تعرضنا لمشاكل سياسية لا نهاية لها. ومما لاشك فيه أننا كنا إلى منتصف عام 1917 غير قادرين على منع كثير من البضائع الهامة التي ترسل إلى ألمانيا عن طريق اسكاندينافيا وغيرها من الأمم المحايدة
ولم يكن للحصار تلك القوة القاهرة التي تقضي على خصومنا القضاء المبرم كما يعتقد الكثيرون، حتى حين أصبح أمراً واقعاً على الأعداء. فلا نعرف أن خطة حربية ذات أهمية تذكر أخفقت بسبب نقص السلاح أو الذخيرة وكان الحصار السبب المباشر لهذا النقص. ولم يشك أحد من قواد الألمان في جميع الميادين نقص السلاح أو الذخيرة طيلة الحرب، وإن كانوا يشكون قلة الرجال. ولا نستطيع أن نعزو انعدام الدبابات في الجيش الألماني إلى الحصار كما أننا لا نستطيع أن نقول إن الطائرات الألمانية أو الغواصات نقصت بهذا السبب
ولكن ضغط الحصار كان واقعاً في الحقيقة على السكان المدنيين دون الجنود أو البحارة أو الطيارين. ولم يكن حتى هذا الضغط بالذي يؤدي إلى كبتهم وشل حركتهم كما يعتقد الكثيرون ويستدل من الكتاب الذي ألفه (جنرال واندوهر) بعنوان (الجوع) - وهو كتاب موضوع في هذا الشأن - على أن ضغط الحصار لم يكن إلا نوعاً من حرب الأعصاب التي تضايق السكان بحرمانهم من الحصول على المواد التي اعتاد الرجل المتوسط الحال أن يحصل عليها في سهولة ويسر، ولم يكن بذي أثر فعال يصل إلى الإضرار بأجسامهم ونفوسهم كما قد يفهم وهذه نتيجة أستطيع أن أعززها بملاحظاتي الشخصية
ولا يفهم من هذا أن الحصار كان عديم الفائدة أو أن العدو لم يعان من أجله مصاعب لا(351/64)
يستهان بها، ولكني أرمي إلى الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أننا نستطيع أن نحاصر ألمانيا وأن نحكم عليها هذا الحصار، ولكن لا يمكن أن نلجئها بذلك إلى التسليم
قد يكون من المعقول أن يفوز الملاكم على خصمه إذا وقف أمامه موقف المدافع في جميع حركاته، حتى إذا أنهكت قواه تغلب عليه بقوة الاحتمال، ولكننا لا نعرف فيما نعلم أن ملاكما نال جائزة التفوق على خصمه بهذه الوسيلة
وقد يكون من المعقول كذلك أن تتغلب أمة عظيمة على أمة أخرى بإحكام الحصار عليها، ولكننا لم نر ولم نسمع أن حرباً اكتسبت في الواقع بهذه الوسيلة، ولا نستطيع أن نستثني الحرب الحاضرة من هذا الوصف
فإذا أردنا أن نربح الحرب يجب علينا أن نضع خطة حربية إيجابية نقدم عليها بكل ما لدينا من القوة، فإذا كنا سنتعرض في سبيل ذلك إلى بعض الأخطار، فإن هذه الأخطار ستكون عوناً لنا على قهر الأعداء
يجب أن نفهم الفرنسيين
(ملخصة عن (ذي نيو ستيتسمان) لندن)
منذ بضعة أسابيع دعا أحد الرجال الإنجليز البارزين ممن يدعون إلى فكرة الاتحاد الدولي، شخصية ممتازة من الرجال الفرنسيين البارزين إلى اجتماع في أكسفورد. فشرح الإنجليزي رأيه في النظام الأوربي الحديث، وصور لضيفه الفرنسي نظرية الاتحاد الدولي الأوربي، والأساس الذي يقوم عليه، ثم استطرد قائلاً: (سوف ينتخب المجلس بطبيعة الحال من الدول القوية، وسوف يكون عدد الممثلين فيه بنسبة عدد سكان كل دولة). فاعترضه الضيف قائلاً: (ولكن عدد الألمان 80. 000. 000 وعدد الفرنسيين 40. 000. 000، فهل تعني أن يكون عدد ممثلي الشعب الألماني ضعف عدد الممثلين الفرنسيين). قال الإنجليزي: (أو ليس هذا هو المنطق المعقول)؟
لقد وقع هذا الحوار بين رجلين من رجال الأعمال. ولعل الفزع الذي أوقعه كل منهما في نفس الآخر، هو مقياس ما بين وجهتي النظر البريطانية والفرنسية في السياسة الخارجية. فهذا الإنجليزي ينظر إلى الحق بالطريقة الحسابية المجردة، وينظر إلى جميع الاعتبارات(351/65)
التي نسمها باسم الضمان الوطني، كشيء لا يتفق مع قواعد الأخلاق. بينما يهتم الفرنسي بالضمانات الحربية التي تطلبها بلاده، ويرى أن فكرة الحكومة الدولية، ما هي إلا فكرة (يوتوبية) خيالية أو سياسية ميكافيلية للعود إلى موازنة القوى الدولية ضد فرنسا. ومن ثم غادر أكسفورد وصدره يغلي بالضغينة وفؤاده يفيض بالسخط
إن من الواجب علينا قبل أن نطالب حكومتنا بالبيانات الوافية عن المقاصد الحربية، وقبل أن نتقدم إليها بمزيد من المقترحات، أن نضع حلاً للمشكلة الإنجليزية الفرنسية. فكل ما نشأ منذ نهاية الحرب الماضية، من الاختلافات التي قد تعكر صفاء العلاقات الودية بين الدولتين في بعض الظروف، لم يكن منشأه اختلافاً جوهريا في المبدأ، فنحن مرتبطين مع الفرنسيين برباط وثيق من تقاليد المدنية الغربية العتيدة منذ زمن بعيد، ولكنه يرجع في الغالب إلى اختلاف الطبيعة نظراً للفوارق الجغرافية والتاريخية بين البلدين
يزيد هذا الاختلاف تأثيراً، أن كلتا الدولتين ديمقراطيتان، فبينما تستطيع الدول الدكتاتورية أن تتفاهم فيما بينها على إهمال الرأي العام، وعدم الاهتمام بآرائه ومعتقداته يظل رجال السياسة الديمقراطية مرتبطين بشعور الرأي العام وهو ينظر إلى الظروف الحاضرة من وجهة نظره المحدودة الضيقة
فالرأي العام الفرنسي والبريطاني كلاهما يعانيان تلك النظرة الديمقراطية المحدودة. فإذا أردنا أن نجد حلاً لهذه المشكلة يجب أن نضع قواعد وأسساً صالحة لفهم وجهتي النظر التي تذهب إليها كل من الدولتين. فبدلاً من مناهضة فكرة الضمان التي تغالي بها الوطنية الفرنسية يجب أن نفكر فيما إذا كنا نستطع أن نعود منها بفائدة صالحة للدولتين(351/66)
البريد الأدبي
(وحي الرسالة)
تفضل صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم فبعث إلينا بهذه الرسالة الكريمة:
صديقي العزيز الأستاذ الزيات:
أتيح لي أن أستمتع ساعات بقراءة ذلك الكتاب النفيس: (وحي الرسالة) الذي تفضلت بإهداء نسخة منه إلي. وليست هذه هي المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى سمو أسلوبك، وبلاغة تعبيرك، واتساع أفق خيالك؛ ولكنها قد تكون المرة الأولى التي ترتبط فيها وتتركز تلك الفصول، والآراء، والأفكار، والمشاهد الفنية التي تمخضت عنها مواهبك، فيضمها كتاب ينعكس على كل صفحة من صفحاته شعاع من جمال روحك، وفيض من نبع ثقافتك، وذكريات غالية عرفت كيف تحرص عليها وتحتفظ بها، ثم تنشرها تذكرة للناس وموعظة لهم.
إن أدب المقال يا صديقي من فنون الأدب الكبرى. وقل أن تشهد أديباً فحلاً لم يضمن أدبه وعمله الفني آراء اجتماعية ونظرات فكرية، واتجاهات ثقافية. و (حي الرسالة) الذي أشرت إليه. فهو في الواقع مجموعة دراسات عميقة ناضجة للمجتمع، وتصوير بارع للتطورات الخلقية والنفسية، وإشارات دقيقة وجولات موفقة في الأدب والحياة، استقرت عواطفك في أجمل بقاعها، وتغني قلمك الرصين بأبهج مفاتنها.
جميل منك إذن أن تحرص على تدوين هذه الذكريات الغالية، وتنشر هذه الفصول القيمة، لتكون ذكرى للماضي، وعظة للحاضر، وإيماناً بالمستقبل.
المخلص
توفيق الحكيم
الأدب الجاهلي في فجر الإسلام
كتب الأستاذ سليم الجندي عضو المجمع العلمي العربي (بدمشق) مقالاً رائعاً عن المناهج التي تتبع في دراسة الأدب العربي، تطرق فيه إلى الرد على بعض ما وهم الأستاذ أحمد أمين في بحثه عن الأدب الجاهلي في كتابه (فجر الإسلام) وقد رأينا أن من الخير لقراء(351/67)
الرسالة أن ننقل إليهم قسما من مقال الأستاذ ليتبادل أدباؤنا الرأي وتظهر الحقيقة.
قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا أنعمت النظر وتبينت أن البلية كل البلية أتت اللغة من الكتاب البحثين، وهؤلاء أتتهم البلية من التهاون في البحث وعدم الاستقراء. مثال ذلك أن صاحب فجر الإسلام قال في الجزء الأول من كتابه ص55: إن ألفاظ اللغة في العصر الجاهلي كانت في منتهى الدقة والسعة إن كان الشيء الذي وضع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية. فالإبل خير مأكلهم ومشربهم ومركبهم وعماد حياتهم، ولذلك لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بها إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً (وإذا انتقلت من الجمل إلى السفينة رأيت اللغة في غاية القصور فهم لم يوفوها حقها كما وفوا الجمل، ولم يحصوا كل أجزائها، ولم يضعوا اسماً لكل نوع من أنواعها. نعم إن هناك ألفاظاً تتعلق بذلك، ولكنها لا تكاد تذكر إذا قيست بالألفاظ الموضوعة للإبل وشؤونها. بل إنك إذا فحصت الألفاظ المستعملة ف السفن ومتعلقاتها وجدت كثيراً منها معرباً غي عربي كالسيابجة واليماسرة. . . وكثير منها لا نشك في أنه وضع بعد العصر الجاهلي) انتهى كلام الأستاذ أحمد أمين
قال الأستاذ الجندي: (وأنت إذا رجعت إلى كتب اللغة تبين لك أن هذا الحكم قائم على استقراء غير تام، وأن العرب في الجاهلية ما غادروا صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالسفينة المعروفة في عهدهم إلا وضعوا لها لفظاً أو ألفاظاً غير ما أدخل بعد ذلك ف العصور التالية، وأنهم نعتوها وشبهوا بها
وإذا تذكرنا أن السفينة في ذلك العهد كانت تتألف من أجزاء بسيطة، وليس لها أنواع كثيرة التفاوت في الأشكال والمقادير، ونظرنا ما وضع لها ولأجزائها من أسماء ونعوت، وجدنا أن اللغة ليست في قصور في هذا الأمر.
انظر إلى دقة لوضع في التفريق بين الأنواع والأجزاء عند الجاهليين، فإنهم قسموا ما يركبه الإنسان فوق الماء إلى أنواع. فإن كان من قرب تنفخ ويشد بعضها إلى بعض فتجعل كهيئة سطح فوق الماء سمي طوفاً ورمثاً، وربما كان من خشب أو غيره. وما عدا ذلك فهو سفينة. ويقال للسفن الصغيرة زورق وقارب وركوة ومعبر. وللكبيرة: فلك وخلية وقرقور وماخرة ومصباب وجارية وجفل وعدولي. وما يتخذ للقتال منها بارجة
ووضعوا لكل جزء اسماً مختصاً به. فالسقائف ألواحها، والدمر خيوط تشد بها الألواح أو(351/68)
المسامير، والطائف ما بين كل خشبتين منها، والشراع رواق السفينة، والصاري خشبية في وسطها يمد عليه الشراع، والقلس حبل الشراع من ليف، والصابورة ما يوضع في بطنها من الثقل، والمعايير خشب فيها يشد بها الهوجل، والمردى خشبة يدفع بها الملاح، والمقذاف خشبة في رأسها لوح عريض تدفع به السفينة، والمرساة حديدة تلقى في الماء، والكفر القير الذي تطلى به
وكذلك اختصوا كل قسم منها باسم: فالمرنحة صدرها، والكوثل مؤخرها، والسكان ذنبها، والجمة الموضع الذي يجتمع فيه الماء الراشح
وجعلوا لكل عامل فيها اسماً خاصاً به: فالملاح سائس السفينة، والداري الملاح الذي يلي الشراع، والردفان ملاحان يكونا في مؤخرها، والربان رئيس الملاحين
وقد وضعوا لكل حالة تعرض لها اسماً يميزها من غيرها، فقالوا مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مع صوت، وسخرت إذا أطاعت وطاب لها الريح، ودسرت الماء بصدرها إذا عاندته، وجمحت إذا تركت قصدها فلم يضبطها الملاحون، وجنحت إذا انتهت إلى ماء قليل فلزقت بالأرض فلم تمض، وماهت إذا دخل فيها الماء، وكبت إذا جنحت إلى الأرض فحول ما فيها إلى أخرى، وقمص البحر بها إذا حركها الموج. . . ولولا أن الإطالة تدعو إلى السأم لأتينا على كثير مما يتعلق بالسفينة. فلا يجوز بعد ذلك أن يقال إن اللغة في غاية القصور، وإنما القصور في البحث والتقري. وإذا كان ما جمع من كلام الجاهلين في الجمل أكثر مما جمع في السفينة فذلك منشؤه أمران: الأول أن صاحب المخصص إنما ذكر فيه ما أحاط به علمه في السفينة، وليس هذا كل ما يتعلق بها. الثاني أن السفينة لا تساوي الجمل في كل شيء فهو أكثر أجزاء وأطواراً وأعرضاً وأمراضاً وأغراضاً. . . والسفينة في ذلك العهد مؤلفة من أجزاء قليلة بسيطة. . الخ. آه)
هذا ما كتبه الأستاذ الجندي. والقارئ يلاحظ معنى أن الأستاذ أصاب الحقيقة، وبدد الوهم الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين فما قول أولئك الذين يرمون اللغة بالقصور؟
صلاح الدين المنجد
مكانة اللغة العربية في العالم(351/69)
نشرت جريدة (يور كشير بوست) البريطانية مقالة افتتاحية عن المركز الهام الذي تتبوأه اللغة العربية بين لغات العالم جاء فيها: (للغة العربية جاذبية خاصة تجذب الشعب البريطاني في الشرق. ولقد كان هنالك فيما مضى كثيراً من المستشرقين ولكنا لا نغالي إذا قلنا إن بريطانيا هي التي اطلعت العالم في الأعوام الأخيرة على أند ثمار الثقافة العربية)
(كثيراً ما كانت الإمبراطورية البريطانية تعجز عن إدراك أهمية اللغة العربية، ومع ذلك فهي اللغة الرسمية في مصر والسودان والمتغلغلة في صميم أفريقيا حتى البحيرات العظمى. وهي اللسان السائد في جميع أصقاع شبه جزيرة العرب، كما أنها أداة التخاطب في العراق. وهي اللغة التي يستخدمها مسلمو الهند - إخواننا في الرعوية وعددهم ثمانون مليون نسمة - كل يوم في صلواتهم وفي تلاوتهم القرآن الكريم. وهي تعد لغة مراكش، والجزائر وتونس
وهي اللغة التي يستطيع بها العلماء في إيران وأفغانستان أن يدرسوا أحاديث النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. ولا تقل الحروف العربية انتشاراً عن الحروف الرومانية، فهي لست قاصرة على اللغة العربية وحدها، وإنما هي أساس اللغات الفارسية والهندستانية ولغات البوشتو والهاوسا والأردية وغيرها من اللغات الشرقية
ولا مراء في أن اللغة العربية من أعظم ينابيع المعرفة التي يغترف منها العالم
وبينما كانت أوربا تعيش في ظلمات الجهالة كان علماء العرب في بغداد وقرطبة خير أمنا على مدنية اليونان والرومان وأورثوهما للعالم فيما بعد
ومما يبرهن على أهمية هذه اللغة العظيمة، أنها كانت أولى اللغات التي استعملتها هيئة الإذاعة البريطانية. ويزادا عدد المتكلمين باللغة العربية يوماً عن يوم، وتتسع حدودها. فهي لغة التخاطب في زنجبار وتنجانيقا وفي بلاد بعيدة كجزر الملايو، وتتبوأ اللغة العربية مكان الشرف في مدرسة اللغات الشرقية بلندن
ولقد أدركت الحكومة البريطانية أهمية اللغة العربية، فلا تسمح لأي موظف من موظفيها بالاشتغال في الشرق الأدنى والأوسط ما لم تكن له مؤهلات في اللغة العربية
نقد وتصويب(351/70)
وافانا العدد (349) من مجلة (الرسالة) الغراء بقصيدة خلابة للأستاذ علي الجندي يرثي فيها صديقه الحميم المرحوم الحاج محمد الهراوي، والقصيدة من مطلعها حتى الختام تتجلى فيها براعة الشعر، ودقة التصوير، ورقة الأسلوب ورصانته، ومع تقديري لعبقرية الشاعر فإني لا أرى مانعاً من لفت نظره إلى بيت من الأبيات لاحظت فيه خروجاً عن الوزن وهو:
تسعد الذكريات أهلها وألقىّ ... ذكرياتي محطم الأعصاب
وأرى أن لو كان كما يلي لكان أحكم:
يسعد الذكر أهله وألقىّ ... ذكرياتي محطم الأعصاب
أبو الفضل السباعي ناصف
إلى الدكتور مبارك
قرأت محاضرتك الظريفة ووقفت عند فقرة بشطرها الثاني المنشور بالعدد 350 من الرسالة الغراء هاك نصها: (الشواطئ كلها مآثم ولولا الخوف من بني الحاسدين والحاقدين لقلت إن المآثم لا تخلو من بريق يزلزل القلوب والأذواق والعقول. ومن هذه الزلزلة تكون الرجفة التي تثير شياطين الشعر والخيال) آه ثم رحت أستعيد المعاني الباقية في ذهني لمعنى الزلزلة مما تفضل بشرحه الأستاذين شاكر وبشر فارس، فخلصت إلى أن البريق لا يزلزل القلوب والعقول قياساً على أن الطرب لا يزلزل الآذان. وأظن سيدي الدكتور لا يزال يذكر هذا النقاش حول كلمة الزلزلة فهل للأستاذ أن يتفضل بشرح هذه الكلمة التي شككنا فيها الأستاذ شاكر، وله الفضل والشكر
محمود الأشرم(351/71)
الكتب
بطل الاستقلال الاقتصادي
طلعت حرب
تأليف الأديب مصطفى كامل الفلكي
هذا كتاب وضعه مؤلفه لبيان ما لزعيم مصر الاقتصادي طلعت حرب من أثر في نهضة مصر الحديثة؛ فبدأ بالإشارة إلى أحوال مصر الاقتصادية والسياسية في أواخر القرن الماضي، مبيناً ما كانت تتطلبه مصر من أوجه الإصلاح وعلى الأخص في الجانب الاقتصادي، مشيراً إلى حاجة البلاد يومئذ وتطلعها إلى (المصلح المنتظر) حتى أذن الله فمن عليها بطلعت حرب
ثم تتبع المؤلف جهاد الرجل العظيم منذ استهلال القرن الحالي، حتى ظفر بتحقيق أمنيته، فظهرت المعجزة في هيكل بنك مصر وشركاته؛ وأورد المؤلف كلمة عن كل شركة من هذه الشركات المباركة الميمونة. وهذا لا ريب من خير البراهين على ما أسدى هذا الرجل العظيم من خير لبلاده، فإنما يعرض المؤلف صحيفة أعماله الجليلة.
ولما كان المؤلف كما يذكر: (قد أتيحت له فرص حسان ألم فيها بكثير من دخائل ذلك النضال السلمي الرائع)، فإن بحثه لا ريب بحث الخبير العليم. والكتاب مطبوع طبعاً جيداً ومحلى بكثير من الصور للزعيم العظيم في كثير من مواقفه المشهورة، وهو خليق بأن يطلع عليه بنو هذا الجيل ليكون لناشئتهم نبراساً ولرجالهم قدوة.(351/72)
رحلة الباخرة المصرية مباحث في المحيط الهندي
تأليف الدكتور حسين فوزي
يذكر قراء العربية ذلك الكتاب القيم الذي نشره في مصر منذ عامين الدكتور حسين فوزي مدير معهد الأحياء المائية بعنوان (سندباد عصري) وضمنه أثر رحلته في بعثة السير جون موري على ظهر الباخرة المصرية مباحث في المحيط الهندي سنة 1933.
ذلك كان كتاب الأديب والفنان والشاعر؛ أما الكتاب الذي نتحدث عنه اليوم فهو كتاب العالم والباحث والرحالة، يصف فيه الدكتور حسين فوزي الرحلة منذ بدأت حتى انتهت، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة مما تهم معرفته والاطلاع عليه إلا عرض لها بأسلوب شائق، ووصف كاشف. والكتاب يقع في أكثر من 120 صفحة من الحجم الكبير، وهو مطبوع طبعاً أنيقاً على ورق فاخر، ومحلى بكثير من الصور الجميلة
وقد صدره صاحب المعالي الأستاذ سابا حبشي وزير التجارة والصناعة بمقدمة تدل على قيمة هذه الرحلة التي يتحدث عنها الدكتور فوزي، كما يتحدث عن قيمة هذا الكتاب.
وهذا الكتاب على أن المقصود به أن يكون وصفاً علمياً - لم يستطع مؤلفه أن يتجرد من روحه الأدبية وإحساسه الفني في وصف بعض ما يعرض له، فجاء كتاباٍ جديداً في فنه وفي أسلوبه.
وقد ختم الكتاب بفهرس كامل للموضوعات والصور.(351/73)
أخطاؤنا في الصحف والدواوين
تأليف الأستاذ صلاح الدين سعد الزعبلاوي
هو كتاب جديد في اللغة، جعله مؤلفه في بابين: باب للموضوعات، وباب للمفردات؛ وعرض فيه لكثير من الأوهام اللغوية التي تشيع على أقلام الكتاب في الدواوين والصحف؛ ثم فرع هذين البابين إلى فصول، فباب الموضوعات أحد عشر فصلاً جمع كل فصل منها ما تداخلت أو تجاذبت مباحثه؛ وأما الباب الثاني وهو باب المفردات فقد توزعته الفصول على تتابع أحرف الهجاء. وقد حذا المؤلف في ترتيب المواد طريقة الجمهور في اعتبار أوائل الكلمات، ثم جعل في خاتمة الكتاب فهرساً للموضوعات والمفردات التي تناولها بحثه حتى لا يتعب القارئ في التماس موضوعه
وقد تناول المؤلف في كتابه طائفة من المباحث اللغوية التي يهم كل قارئ وكاتب عربي أن يلم بها، وعالجها علاجاً يدل على اطلاعه وصحة نظره
والكتاب يقع في 320 صفحة من الحجم المتوسط، وهو مطبوع طبعاً جيداً على ورق مصقول في المطبعة الهاشمية بدمشق(351/74)
علم الصحة
تأليف الدكتور عبد الواحد الوكيل بك
هذه هي الطبعة الثانية من كتاب (علم الصحة) للدكتور عبد الواحد الوكيل بك، وقد صدرت الطبعة الأولى منه منذ سنوات فاستنفدها إقبال القراء؛ فزاد فيه ما زاد من الفصول ثم أصدره في هذه الطبعة الجديدة
وكتاب علم الصحة من الكتب التي لا يصح أن تخلو منها مكتبة قارئ يلتمس أسباب الوقاية مما قد يعرض له أو لأهله وولده من المرض؛ وفيه عون كبير للمعلمين والمعلمات في المدارس على النهج الذي يدرسون لتلاميذهم من علم الصحة الوقائي؛ وفيه للوالدات والمولدات والممرضين ومعاوني الصحة وطلاب الخدمة الاجتماعية نفع لا يجزئ بما فيه كتاب غيره.
ويقع الكتاب في نحو ستمائة صفحة من الحجم المتوسط، ويباع في مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة.(351/75)
4 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم وللشكر منا)
قالت جريدة (الأهرام) الغراء:
للأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، أسلوب فني امتاز بالأناقة والطلاوة
وحسن البيان
وقد عرف قراء العربية هذا الأسلوب العذب فيما أخرجه المؤلف من كتب بعضها مترجم وبعضها الآخر من تأليفه؛ ثم عرفوه في مجلة الرسالة، حيث ظل الأستاذ الزيات سبع سنوات يطالع قراءه كل أسبوع بمقال افتتاحي يمس فيه مختلف الموضوعات. فكان له من قرائه الكثيرين ما للمطرب النابغ من معجبين. أليس هؤلاء المعجبون يحاكون مطربهم، ويرددون أناشيده وأغانيه؟ نعم، وفي هذا إذاعة لسر نبوغه
وإن للأستاذ الزيات لمعجبين من هذا الطراز الرفيع يذيعون سر نبوغه بمحاكاة أسلوبه القوي الرصين، وهذا في الواقع ليس كسباً للزيات بقدر ما هو كسب للبيان العربي الصحيح
ولقد أخرج الأستاذ الزيات منذ أسابيع: الجزء الأول من (وحي الرسالة) وهو مختارات مما نشره في مجلته (الرسالة)، ولعل هذا التعريف الموجز يكفي للدلالة على ما لهذا الكتاب من قيمة أدبية عظيمة. وسنقف عند ذلك، إذ أنه في رأينا معنى من معاني الإطراء يحسن الوقوف عنده
وكتاب (وحي الرسالة) يقع في 480 صفحة من القطع الكبير، طبعت طبعاً أنيقاً على ورق صقيل، وهو يباع في جميع المكتبات العامة، وثمن النسخة الواحدة منه خمسة وعشرون قرشاً.
(ش)(351/76)
وقالت مجلة (الشعلة) للغراء في عددها الأخير:
نغمط الأستاذ أحمد حسن الزيات حقه ونقلل من قدره إذا كنا نحاول أن نقدمه هنا إلى القراء. فالأستاذ الزيات أعظم من أن يحتاج اليوم إلى تقديم، لا هنا في مصر وحدها بل وفي أنحاء الشرق كله.
ولقد أخرج الأستاذ الزيات منذ أسابيع كتابه الجديد (وحي الرسالة) فكان هذا سبباً في حيرة وحرج تملكانا
ماذا نقول في هذا الكتاب؟
أنتكلم عن أسلوب الزيات الأخاذ الجذاب؟ أنتكلم عن أناقته وذوقه الممتاز في انتقاء ألفاظه؟ أنتكلم عن (الفكرة الرائعة) يقدمها الزيات إلى قرائه في عبارة قوية ومنطق متين؟
ولكن هذا كله معروف، وإعادته وترديده هو من قبيل تحصيل الحاصل. أنسكت إذن ولا نكتب شيئاُ عن الكتاب؟ ولكن هناك تقليداً، تواضعت عليه الصحف جميعاً، أن تقول كلمتها عن كل ما يجد في عالم التأليف!
وأخيراً فكرنا في تقليد جديد: أن نذكر هنا أن الزيات قد أخرج كتاباً. والقراء من أنفسهم يعرفون!
وهنيئاً للزيات كتابه الجديد.
وهنيئاً للكتاب الجديد مؤلفه.
وهنيئاً لقراء العربية أديبهم، وهنيئاً لهم كتابهم الجديد.(351/77)
العدد 352 - بتاريخ: 01 - 04 - 1940(/)
فقهاء بيزنطة
فقهاء بيزنطة هم الذين كانوا يجادلون في البيضة والدجاجة: أهذي أصل تلك، أم تلك أصل هذى، بينما كان محمد الفاتح يرسل الصواعق دراكاً على أسوار القسطنطينية، فلا يخرجهم من شدة الخلاف وحدة الجدل ما فوقهم من حمم المنايا، ولا ما حولهم من صرخات الفزع!
وفقهاء بيزنطة هم الذين يجادلون اليوم في محراب المسجد بعد ألف ومائتي عام: أهو سنة فيبقى، أم هو بدعة فيزول؛ وفي محمل شجرة الدر: أهو موافق للشرع فيسير، أم هو مخالف له فيقف! يجادلون في هذا وفي ذاك بين أعمدة الجرائد والمساجد، ويسرفون في الجدال حتى يتشعب الخلاف ويتمادى، ويتقسم الرأي ويتعادى، فيكون لكل شيخ شيعة، ولكل شيعة عصبية جاهلة تمزق ما وصل الدين به القلوب من وشائج الإخاء والمودة
نعم يجادل فقهاء بيزنطة اليوم في المحراب والمحمل، ومن قبل كانوا يجادلون في زر العمامة أيبتر أم يضفي، وفي شعر الذقن أيحفى أم يعفى، وفي قبر الميت أيسوى بالأرض أم يقام؛ حتى أدخلوا في روع العامة من طول ما شغلوهم بهذه الصغائر أن الدين هو هذا وليس غير هذا. فلو تسنى لك أن تكشف عن عقيدة الإسلام في ذهن العامي أو شبهه لما رأيت إلا صورة مشوهة من رسوم العبادات وأوضاع العادات وألوان الأدعية. أما الإسلام الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان، فذلك معنى لم يجر في شعوره ولم يدخل في علمه. والعوام وأشباه العوام هم جملة الأمة الإسلامية اليوم، فما تسمعه من هذا تسمعه من ذاك، وما تراه هنا لابد أن تراه هناك. وعلة هذه الجهالة الفاشية هي طريقة أهل الدين في تعلمه وتعليمه ونشره، فهم يقفون في تحقيقه عند النقل، ويقتصرون في تطبيقه على الشكل، ويكتفون في نشره بهذه المظاهر الصوفية الباطلة؛ فكان من جرائر ذلك عليهم أن قصرت مداركهم عن مداه، وبان على القدر الذي شدوه منه الضيق والضحل والجمود، ووهم الناس أن ما عندهم هو الدين كله فزهدوا فيه ونفروا منه.
إي والله تزال فقهاء بيزنطة يفرقون بين الناس بصدعات الرأي والهوى في المحراب والمحمل، وفيما هو أدنى عن المحراب والمحمل، وهم يعلمون أن الأديان البشرية التي وضعها الطغاة تحدياً لله وتهجماً على دينه، تحاول بقوة الجيش وحجة المدفع ودعاية المذياع أن تخفت ذكر الله في كل أرض، وتطفئ نوره في كل سماء. وهذه المذاهب(352/1)
الأرضية إنما تجادل خصومها فيما تزعمه لنفسها من قتل البؤس ومحو الفروق ونشر العدالة، لا فيما تتخذه بشعائرها من بنىً، أو تبتدعه لمظاهرها من شكول
ثم جعلوا غاية الدين أن يتزيوا بالورع، ويتفقهوا في علومه بتشقيق الجمل وتوليد الألفاظ وتعديد الفروض، فإذا زادوا على ذلك شيئاً فهو الوعظ الذي يميت الطموح ويخمد العزيمة ويحقر الدنيا ويهيئ النفوس المثقفة التي أعوزها النور الهادي والصوت المهيب لأن تصغي لما يتقوله المبشرون على الإسلام من الأباطيل ويزورونه عليه من الشبه.
ليس من البر بالدين يا ورثة الأنبياء أن تخذلوا دعوة الله لتنصروا دعوة الإنسان
إن الدعوات السياسية التي تتخذ شعار الإصلاح، أو تلبس مسوح الدين، تسلك إلى النفوس المؤمنة المطمئنة سبل الغرور والغي في غفوة من العقل أو سورة من الجهالة، فتزعزع إيمانها بالشكوك، وتذهب اطمئنانها بالفتن. فماذا أعددتم لحماية هذه النفوس الغريرة الغضة من وساوس الفتنة وهواجس الجهل؟ إنني ألقي هؤلاء النشء في كل يوم، وأحدثهم في كل لقية، وأكشفهم في كل حديث، فلا أجد عندهم من الإسلام إلا ما كان عند نصارى القرون الوسطى منه؛ ثم لا تسمع منهم إلا غماغم من الألفاظ المنكورة المكرورة عن الزواج والطلاق وحرية الفكر ومجافاة التمدن. فإذا أخذت تقرر لهؤلاء كيف كان الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاجاً لأدواء المجتمع ونظاماً لفوضى الطبيعة، وتدلل على أن ميزة الإسلام التي تفرد بها هي أنه يساير التطور ويطاول الزمن، فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدنية الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق، سألوك دهشين: وأين نجد بيان هذا؟
والمعضلة التي لم نجد لها إلى اليوم حلاً هو إجابتهم عن هذا السؤال: وأين نجد بيان هذا؟ الواقع الذي يكسف البصر ويرمض الفؤاد أنك لا تجد في مكتبة الدين الإسلامي على ضخامتها وسعتها كتاباً واحداً يشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوب إصلاحه وأسباب خلوده، على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث. وما أظن ديناً من الأديان قد نكب في نفسه وفي أهله بمثل هذه النكبة!
فلو أن الله وفق (جماعة كبار العلماء) فألفوا هذا الكتاب بدلاً من تأليفهم في (المياه التي يجوز بها التطهير) مثلاً لدفعوا عن أنفسهم معرة الجود وعن دينهم نقيصة التخلف.
ولكن كبار العلماء لم يدخلوا هذه (الهيئة) إلا ليعظم القدر ويضخم المرتب، فكيف نجشمهم(352/2)
أن يبطلوا كيد المبشرين بوضع هذا الكتاب، أو يفصلوا بين المجادلين المتقاتلين في المحمل والمحراب؟
أحمد حسن الزيات(352/3)
3 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
دير سنت كترين
- 1 -
عطفا إلى اليسار في شعب من وادي الشيخ، فمررنا بأبنية قليلة الملاط كأنها حجارة مرصوصة، وعرفنا من بعد أنها كانت للجنود الذين رافقوا عباس باشا الأول حينما أقام في هذه البقعة من سيناء، وقد رأينا بناءً كبيراً على جبل شامخ قريب من الدير وهو قصر عباس باشا، وكان يحب الإقامة في البراري، ولا سيما في برية سيناء. وبلغنا الدير قبيل الغروب، فإذا حديقة إلى اليمين ذات سور قصير، بينها وبين الجبل طريق ضيقة تؤدي إلى الدير
والدير بناء واسع عال يحيط به سور متين علوه أحد عشر متراً وفي جداره الغربي باب صغير دخلناه إلى باب آخر وراءه باب ثالث إلى اليمين. وهذا السور الضخم، وهذه الأبواب الصغيرة المتتابعة تدل على ما كان يخشاه أهل الدير من غارات البدو وغيرهم في العصور السالفة. وللدير في أعلى جداره الشمالي باب عليه وقاية من الخشب أعد للدخول إلى الدير وقت الخوف. فيرفع الداخل في سلة معلقة ترفعها حبال على بكرة كبيرة تسمى (الدوار)، وتشد الحبال إلى عمود له ترس كبير يدور به عدة رجال، فتلتف الحبال وتمر على البكرة فترفع السلة، من هذا الباب أدخلت أمتعتنا
دخلنا إلى أبنية كثيرة لا يتيسر وصفها، فإنها لم تخط في وقت واحد، بل بنيت في عصور مختلفة. صعدنا درجاً إلى مستوى، ثم صعدنا مرتين فلقينا رئيس الدير فدخلنا إلى حجرة كبيرة، فجلسنا نتحدث وقدمت إلينا القهوة على الطريقة المصرية وعرض علينا النبيذ، والنبيذ يصنع في الدير وفي الواحات التابعة له في أنحاء سيناء، وهو من التمر، ولخمور الأديرة صيت ذائع في الشعر العربي، ومن أجل هذا كثر ذكر الأديار في الشعر منذ عهد أبي نواس، كان الشعراء يقصدونها لبعدها عن البلدان ونزاهتها وما فيها من خمور.
ثم خرجنا من الحجرة لنرى الحجر التي أعدت لنزولنا، فصعدنا إلى طبقة ثم أخرى في(352/4)
الجهة الغربية، فإذا مكتب رئيس الدير، ثم غرفة كبيرة للجلوس والمائدة، ثم مطبخ، ثم صف من الحجر أمامها طنف يفضي إلى الجناح الجنوبي من الدير، وقد عمر حديثاً بالأسمنت المسلح فكان شذوذاً في هذه الأبنية العتيقة
ويفضي الدرج الصاعد إلى هذه الطبقات العليا إلى سطح تحده من الشمال والغرب شرفات السور المطلة على حديقة الدير ومدخله. وهناك مدافع صغيرة يقال إن بعضها من أيام السلطان سليم، وقد أهديت إلى الدير لمدافعة المغيرين
أكرم القوم مثوانا فأنزلونا في عشر حجرات في كل حجرة سريران. فأمضينا ليلتنا مستريحين
- 2 -
بني هذا الدير القيصر جستينيان حوالي سنة 545م، باسم كترين زوجه التي عرفت من بعد باسم سنتا كترينا، في موضع يعلو سطح البحر بنحو خمسة آلاف قدم، وهو يشبه مربعاً طول ضلعه ثمانون متراً. وله أوقاف كثيرة في سيناء ومصر وبلاد اليونان. وكان له أوقاف كثيرة في بلاد الروس استولى عليها البلشفيون. له في سيناء بساتين كثيرة وأديرة وكنائس، وله أبنية في القاهرة الإسكندرية والسويس، ويقيم مطران سيناء في القاهرة وقت الشتاء
وأعظم غلات الدير الآن ريع مائة فدان في سرياقوس وهبها له عباس باشا الأول. وكان دخل الدير زهاء ستة آلاف جنيه نقصت كثيراً بعد استيلاء الروس على أوقافه
وينفق بعض الريع على أعراب سيناء، يعطون الخبز كل يوم ولكل واحد من الأعراب الذين يقصدون الدير أن يأخذ الخبز يوماً بعد يوم، ثلاثة أرغفة لكل إنسان. وكان في الدير رهبان كثيرون ثلاثمائة أو أكثر وهم الآن زهاء الأربعين.
- 3 -
وفي صبيحة يوم الأربعاء 15 ذي الحجة (23 يناير) سار معنا أحد الرهبان ليرينا بعض أبنية الدير فذهبنا إلى الكنيسة الكبرى: باب ضخم من الحديد ثم باب خشبي دقيق الصنع عتيق يقال إنه من عهد جستنيان(352/5)
ويلقى الداخل بهو كبير على جانبيه صفان من عمد الجرانيت ثم رواقان وراء الأعمدة. وفي الكنيسة من النقش والتذهيب ومن الصور والألواح ما يعيي الناظر إحصاؤه بله التأمل فيه ومعرفة دقائقه
ومما أذكر من هذه المناظر منبر إلى اليمين عليه صورة للدير واضحة ملونة، وهي من تصوير الأب كرنارس الكربتي من مصوري القرن الثامن عشر الميلادي؛ ومن الصور القديمة صورة للسيدة مريم تحمل عيسى عليه السلام ويقال إنها من صنع لوقا الإنجيلي، وصورة أخرى يقال إنها صنع جستنيان
ويعلو هيكل الكنيسة عقد قد صور عليه المسيح والرسل والأنبياء بالفسيفساء في جمال وإتقان الخ
ووراء هذه الكنيسة كنيسة صغيرة لسنت هيلانة وتسمى كنيسة العليقة ويقال إنها في مكان شجرة العليق التي رأى فيها موسى عليه السلام النار، وفي الجدار الشرقي كوة تقابل صدعا في الجبل. وتدخل الشمس يوم 23 مارس من الصدع إلى الكوة فتقع على مكان الشجرة. ووراء الجدار شجرة يزعمون أنها هي شجرة موسى، ولكني لم أرها
ويلزم داخل هذه الكنيسة الصغيرة بخلع نعليه اقتداء بموسى عليه السلام في القصة التي ذكرت في القرآن الكريم: (فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)
وخرجنا من الكنيسة إلى مشاهد أخرى منها مكتبة الدير وفيها كتب دينية كثيرة قليل منها باللغة العربية. وقد رأيت هناك تمثالاً لإسماعيل باشا الخديوي فسرني جداً أن رأيته في هذا المكان فشعرت أن سلطان مصر ممتد إلى هذا الدير
ثم رأينا مسجد الدير، ولا ريب أن القارئ سيعجب حين يقرأ هذا التركيب المتناقض: (مسجد الدير)، ولكنها حقيقة، ففي الدير مسجد صغير ملاصق كنيسة صغيرة. وهو مسجد ساذج له منبر قديم قد وضعت عليه أعلام مزركشة جديدة مصنوعة في مصر؛ على العلم الأمامي (أنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) من فؤاد الأول. وعلى كل من العلمين الجانبيين: لا إله إلا الله الملك الحق المبين محمد رسول الله صادق الوعد الأمين. من فؤاد الأول. والتاريخ 1349(352/6)
وفي جانب المسجد منضدة عليها كسوتا ضريحين مصنوعتان في مصر أيضاً أهداهما الملك فؤاد رحمه الله؛ إحداهما لقبر النبي هرون والأخرى لقبر النبي صالح، وتؤخذان في مواسم الزيارة، ثم تردان إلى الدير فتحفظان في المسجد
وبجانب المسجد مئذنة مربعة لها سلم خشبي وفيها ثلاث طبقات أو أربع صعدت فيها مع بعض الرفاق وشاقني الأذان هناك فأذنت، ولعل هذا الأذان كان إيناساً لهذا المسجد المعطل المستوحش
وكنت قرأت في كتاب نعوم شقير عن سيناء، أن على منبر هذا المسجد كتابة قديمة، وأن فيه كرسياً قديماً، ولكني لم أجد الكتاب ولا الكرسي، فسألت المطران، فقال: حفظناهما في المكتبة. ولست أدري لماذا لم يحفظا في موضعهما من المسجد. وكان المرحوم أحمد زكي باشا زار الدير ونسخ الكتابة التي على المنبر والكرسي. فأما الكتابة الكوفية التي على المنبر فهي مصورة في كتاب شقير، وهذا نصها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. نصر من الله وفتح قريب، لعبد الله ووليه أبي علي المنصور، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المنتصرين أمر بإنشاء هذا المنبر السيد الأجل الأفضل أمير الحرمين سيف الإسلام ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين أبو القاسم شاهنشاه عضد الله به الدين وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين وأدام قدرته وأعلا كلمته. وذلك في شهر ربيع الأول سنة خمسمائة. أثق بالله)
والخليفة الآمر الفاطمي تولى الخلافة من سنة 495 إلى سنة 524
وأما الكتابة التي على الكرسي فهي أعظم خطراً ودلالة على عناية الفاطميين ببناء المساجد في هذه البقعة:
(بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بعمل هذا الشمع والكراسي والجامع المبارك الذي بالدير الأعلى والثلاث مساجد التي فوق فاران والمسجد الذي تحت فاران الجديدة والمنارة التي بحضر الساحل، الأمير الموفق المنتخب منير الدولة وفارسها أبو منصور أنوشتكين الآمري)(352/7)
والآمري نسبة إلى الآمر بأحكام الله. فالكرسي والمنبر صنعا في زمان الخليفة الآمر
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(352/8)
مزامير للنفس العربية!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
تمهيد:
استوحى روح مولى نفوسنا وسيد عقولنا وآخذنا إلى رب الحياة ومقدمنا إليه بسنته وحنيفيته السمحاء (محمد)، ليملأ قلبي ويفيض على قلمي ويهديه ويسدده في وفائه له ولقوميته التي حملت أجمل الأمثال العليا في الفكرة والفطرة والخلق والمعاملة
أستوحي هذا الروح الأكبر، ويتعرف قلبي الصغير إلى قلبه الكبير، كما يتعرف الجدول الضحضاح إلى النهر البراح؛ وأستعينه في خدمة النفس العربية بالمساهمة في حملها على إدراك فضائلها وحاجة الإنسانية إليها.
وإنما أتوجه إليه إذ هو باعث روح أمته العجيبة ومخلدها على مر الأيام وكر الأعوام، وموحد شملها، وفارض أمجادها على القلوب والعقول
وأومن إيماناً لا يتزعزع أن أمته هذه لا ينقصها إلا الوحدة في القلوب أولاً كما توحدت على يديه حتى تعود فتنهض بجسمها العملاق الهائل فتستلم الشمس من المشرق لتسلمها إلى المغرب
وأستوحي المهد الأول الذي درجت فيه هذه الأمة العجوز وانبثق منه ينبوعها الأزلي. . . ذلك المهد الناطق بالصمت، العامر بالنجوم، الحصين بالتجرد والتفرد، المبني بالجبال، المفروش بالرمال، مراد الأرواح، ومجتلى الإلهية، ومبعث النبوات، ومركز المعمور، وملتقى الشرق بالغرب. . .
كما أستوحي بلادها الثانية التي فاضت عليها أمواجها، وتلاحقت أرتالها، ونشرت عليها سلطانها الروحي واللغوي، وسطرت على أديمها تاريخها بعروشها وفتوح سيوفها وأقلامها
وحينما أستوحي كل أولئك أجد السماء تنطق والأرض تنطق وكل شيء يوحي ويلهم ويدفع القلم دفعاً إلى التسطير والتحرير لبعث هذه الأمة والتفاني في خدمتها والتفادي في إحياء مثلها الأعلى الذي رسمه الله في قلب أبيها محمد، وملء أسماعها بأناشيد مجدها وترانيم وحدتها حتى تعود فتملأ الدنيا وتشغل الناس وتنثر أشخاصها وكلماتها الصامتة والناطقة في مجاهل الأرض كما تنتثر النجوم في مجاهل السماء(352/9)
غير أني أبادر فأبرأ إلى الله من العصبية القومية الجاهلية وضيقها وسفاهتها على غيرها، وإنما أرجو أن تقوم العربية كما قامت أول أمرها على يد أبيها محمد أداة تنظيف للبشرية وتوكيد لوحدتها. . . ولذلك أبادر فأنبه إخواننا وأصدقاءنا من الجنسيات الإسلامية الأخرى إلى هذا حتى يستيقنوا أننا لا نريد مفاخرة ولا منافرة جنسية دموية قائمة على زعم فروق جوهرية بين الأجناس والألوان؛ وإنما هي دعوة للعرب - وهم مادة الإسلام الأولى وقوم القرآن - إلى الاعتداد والاستمساك بالمثل العليا التي اختار الله القومية العربية لحملها إلى الناس، وبالصفات الطبيعية العربية العليا التي كانت سنداً لهذه المثل
وقد دعاني إلى اختيار هذا الزمان للبوح بهذه الأناشيد التي طالما ترنمت بها نفسي معاني مطلقة حرة غير مصبوبة بالألفاظ، أنني وجدت الأقدار تنزل فيه وتتلاحق بسرعة وتتولى تغيير مقدرات الأرض وأوضاعها النفسية والجغرافية، ووجدت صراع القوميات الآراء والمعتقدات والفلسفات في رءوس الناس وقلوبهم لا يقل قسوة وعنفاً واحتداماً عن صراع القوى الحديدية العمياء النارية التي تأكل الأخضر واليابس وتحطم القائم والحصيد وبين هذين الصراعين يقف قومي العرب متفرقي الرأي ف الحاضر مختلفي التقدير للمستقبل حائري الألباب لا يكادون يعرفون في أي النواحي موضعهم، ولا من أي الآفاق مطلع مستقبلهم. ولا يكادون يعرفون ما في مصاحفهم ودساتيرهم من المثل العليا التي تستطيع أن تجمع أمم الأرض كلها على حدود العدالة والسلامة الإجماعية متى وجدت قوماً يؤمنون بها ويحسنون ذلك الإيمان، ويمثلونها خير تمثيل ويدعون إليها بأسلوب هذا العصر الذي يعتمد على براعة الاستلفات والإعلان
وذلك لأن قومي فقدوا (الأب) الواحد الذي يجب أن (يلدوه) في كل جيل ليتكلم بلسانهم ويتبنى قضيتهم ويتولى حراسة ميراثهم القلبي والفكري والمادي حتى لا تمحوه الغفلة أمام الأقدار التي لن تزال تغير أوضاع الناس ومقدرات الأمم، ولا ترحم الضعيف الكسلان المتواني في حراسة حقه وأمجاده بالسيف والقلم، ولا تقيم وزناً لمن لا يقيم وزناً لقوانين الطبيعة وسنن الله فيكتفي بالأماني والأحلام وتزويق الكلام ويترك ما آمن الله به وأولو العلم وهو الوحدة والعدالة والعلم والعمل
فإلى أن يوجد الأب الواحد العادل العالم العامل، فيتولى بوحدة فكره وفنه وضع القضية(352/10)
العربية الوضع المحكم وتنسيق قواها التنسيق البديع، ويتولى بعدله توزيع الاهتمام والشعور على كل بقعة في الوطن العربي الأكبر، ويتولى بعلمه الإحاطة بالتدقيق والجليل من شئون أمته في بطون وديانها وشعاب جبالها في صحرائها وخضرائها، في حواضرها وبواديها، من الخليج الفارسي إلى الأطلسي، ويتولى بعمله جمع أيديها حتى تكون يداً واحدة، تصفق بها في مواثيقها وعهودها صفقة واحدة، وتلوح بها لأعدائها قبضة واحدة وتضرب بها قيودها وأغلالها ضربة واحدة أقول إلى أن يوجد ذلك الأب لا أقل من أن ينشد لها القادرون على الإنشاد والبيان بمزامير وأبواق تهتف في أرضها النائمة بنداء اليقظة والانبعاث في فجر الحياة الجديدة التي لا بد فيها لطالبي المجد من التبكير للسبق في المضمار
وإن قدر الله - لا قدر! - فأفلت الحاضر الراهن من أيدي العرب من غير أن يجمعوا أمرهم ويخفوا في طريق الحياة مع الزمن الذي يجري بالناس، ويخضعوا أجسامهم وعقولهم لضرورات العلم والقوة والاتحاد ملاقاة الصعاب بجبهة متحدة، فسوف تموت آمال تحبط أعمال وتحدث أهوال!
ولست أعلم زمناً أصلح للسعي إلى تحقيق الجبهة العربية الواحدة، وأدعي إلى الإيمان بها من هذا الزمن الذي تداس فيه الأمم الصغرى، ولا يكون فيه لغير القوميات الكبرى وزن، أو اعتبار في أي معيار. .
ولست أعلم كذلك قوماً لهم مثل أوطاننا المتصلة المكونة من مجموعة نادرة فريدة من الوديان والسهول والجنات والأنهار، ولهم مثل أعلى واحد في العقيدة والتقاليد والأخلاق، ولهم لغة واحدة يفرغ عليها التاريخ والدين جلالاً وسحراً، ثم يتوانى قادتهم وزعماؤهم في استغلال هذه الظروف والفرص هذا التواني الذي وراءه التفكك وتبديد الميراث
ويشهد الله أنني لا أتمنى قيام القومية العربية للانتفاع فقط بما فيها من العزة لكل فرد ينتسب إليها، ولا لما فيها من الخيلاء والكبرياء اللتين تصاحبان الغرور القومي لدى أكثر الأقوام. . . ولكنني أتمنى قيامها للاعتزاز أولاً بمثلها الأعلى الذي رفعته ورفعت الحياة به أيام أن كان لها السلطان والصولجان. . . ذلك المثل الذي لا يتحقق التوازن الدولي، والعدل الطبيعي إلا به، ولا يضع علاقات مودة، ومعاني بر جديدة بين شعوب الأرض إلا(352/11)
هو. لأنه مثل أعلى يقوم على كلمتين من كلمات الله رب الناس جميعاً وجاعلهم صنوفاً، وأنواعاً وأجناساً، وألواناً كما يصنف البستاني أزهار البستان. . .: على كلمة ناطقة تدور بها الألسنة وتستوحي منها الأفكار، وهي القرآن! وعلى كلمة صامتة مستخفية فيها أسرارها وأوتارها وأشواقها وأوطارها وهي القلب العربي!
وفي الكلمة الأولى اعتمد الله على بلاغة هذه الأمة وفصاحتها وصراحتها في الكشف عن كل مخبوء في الضمير وفي الشعور وفي الفكر وتسجيله بلغة موسيقية موجزة مبينة، وإلقائه على الأسماع والإفهام آيات منزلة من حول العرش. . .
وفيها يضع الله كل شيء في الطبيعة في موضعه أمام الفكر البشري (أنا كل شيء خلقناه بقدر) (أعطي كل شيء خلقه ثم هدى) فلا يجوز الاعتراض والثورة على نظام الكون ومحاولة تبديله (لا تبديل لخلق الله)
وفيها ينظر الله إلى أمم الأرض كأمة واحدة (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)
وفيها يحطم الله الأصنام الحجرية والبشرية ويسحق (العجل الذهبي) وعباده، ويكسر كل قيد يقيد النفس بالمادة ويجعلها تخلد إلى الأرض وتتخذ الأهواء آلهة وتشبع الشهوات السفلى وتعيش في الأرض في غفلة عن الجمال الأعلى؛ فيخرج الإنسان بعد هذا كله طليقاً حراً قديس الروح نظيف الجسد متجرداً من كل شيء لله الذي أعطاه كل شيء. . .
وفيها يعقد الله بينه وبين الإنسان صلة مبنية على منطق الفكر ومنطق الوجدان، فما يقدره الله في الطبيعة ويحترمه يقدره الإنسان ويحترمه، وما يبغضه الله ويمتهنه يبغضه العقل الإنساني ويزدريه؛ فالعقل البشري صورة مصغرة من العقل الأعلى الذي يدير الكون ويحرسه ويمسكه أن يزول. ألم يقل: (ونفخت فيه من روحي) (إني جاعل في الأرض خليفةً)؟
وبدهي بعد ذلك أن يصدر العربي من بين يدي القرآن الذي يضعه في الحياة هذا الموضع الأكرم الأعلى، وهو معتقد أنه قوة من قوى الله مستخلفة لحراسة الأرض وحراسة النفس والإنسانية من فتن الحياة وقوى الشر ونوازع الإثم، وأن ينظر إلى الناس كما ينظر إليهم الله نظرة رحمة وغيرة على مصالحهم وسعي حثيث لها، لا كما ينظر الملحدون إلى أنفسهم(352/12)
وإلى الناس نظرة ضياع وحيرة بين القوى العمياء، ولا يعتقدون أن القوة المتسلطة على الكون تأبه لهم أو تقيم لهم وزناً، فهم كذلك لا يقيمون لقوانينها في الطبيعة وزناً، وإنما يدخلون الحياة ويخرجون منها كما تدخل وتخرج السباع إن كانوا أقوياء، أو كما تحيا وتموت الخراف البلهاء إن كانوا ضعفاء
وبدهى كذلك أن تكون هذه الصداقة المعقودة بين العربي ورب الطبيعة مبعث اعتزاز وقوة واعتصام بقوة الذي بنى السماء والأرض، يتحول بها إلى قوة مندمجة في قوى الكون التي في يد الله. وينظر بها إلى ما في السماء والأرض وكأنه ينظر إلى أشياء موضوعة مهيأة له في دار أبيه. . .
أما القلب العربي، وهو الكلمة الصامتة، ففيه حيثما كان وراثات مدخرة من بساطة الحياة في الصحراء واتساعها وعزلة الفكر فيها عن المؤثرات الصناعية، وإشراق النجوم عليها، واحتكاك الفكر فيها بالسماء دائماً، وانطلاق النفس من غير سدود وقيود، واعتداد الإنسان فيها بنفسه، واعتماده على قواه الذاتية، وسبح الخيال وراء المجهولات والغيوب، وتجرد الحياة فيها من الزينة الصناعية والتكليفات الوضعية التي لا تطلق النفس لدواعي الفطرة بل تجعل عليها ركاماً من قيود التقاليد
يضاف إلى هذه الوراثات الاستعداد الدائم لبذل الدم والمال في سبيل الشرف وحسن الأحدوثة، وعدم الارتباط بالأرض إلى درجة التضحية بالحرية والخضوع لسلطة مذلة واستبداد مهدر لكرمات الإنسان وحرمات الحياة. . .
وهذه صفات ترشح قومها لحمل دعوة كالدعوة الإسلامية التي تطلب الدم والمال للوصاية على كل حق في الحياة. ولن تستطيع نفس مترفة معقدة الفكر بتعقد الحياة التي نشأت فيها، معقدة النفس بتعقيد التربية السياسية ذات الأوضاع والقوانين الكثيرة، محبة للحياة حريصة عليها لما فيها من الترف والنعمة، بعيدة عن الطبيعة لأنها عاشت سجينة بين الجدران أو مكبة على عبادة الزراعة والصناعة، مثقلة بالأموال والخيرات الكثيرة فليس لها فراغ للفكر في الكون وربه. . . لن تستطيع هذه النفس أن تحمل ما تحمل النفس العربية من رسالة البساطة والمساواة والرجوع إلى قوانين الطبيعة والنظر إلى أوليات الحياة ومبادئها والتجرد من التعقيد وركام التقاليد(352/13)
ومن أجل ذلك لم يصطف الله أمة من الأمم المتحضرة كالرومان والفرس لحمل رسالة الإسلام مع أنهما كانتا على علم كثير وحضارة عظيمة، بل اصطفى العرب لتلك الرسالة، رسالة الفطرة والبساطة، لأنهم أقرب الناس في حياتهم من مبادئ الحياة العامة التي تجعل الإنسان شيئاً من الطبيعة غير منفصل ولا معزول عنها بجو صناعي، ولأنهم يكونون وهم الغالبون أسرع من المغلوبين إلى ما يحقق العدالة والمساواة، إذ لا يشعرون بفرق كبير بين حياتهم في الحكم وأبهته، وبين حياتهم على قدم المساواة مع أقل الناس تكاليف
واعتقادي أن الرجل الأوربي أو (الرجل الأبيض) على العموم لا يمكن أن ينهض برسالة المساواة بين الناس، لأنه يجد في شكله جمالاً وفي قده اعتدالاً وفي عقله تركيباً، وفي حياته على العموم زيادات لا يجدها عند سواه. . . بل إن بعض أنواع الرجل الأبيض - وهم الجرمان - قد بدءوا فلسفة جديدة في الفروق الجنسية لا يمكن مطلقاً أن تقوم معها عدالة أو مساواة حتى بين أنواع الرجل الأبيض نفسه. . .
وقد يكون للبيض بعض العذر من ملاحظة الفروق الظاهرة بين بيئاتهم وبيئات الأجناس الملونة، فلا يجدون أنفسهم تطاوعهم على تناسيها، والنزول بين غيرهم من بني البشر على قدم المساواة، لأنهم أولاً معزولون من قديم الزمان عن الاتصال بالأجناس الملونة التي تسكن في وسط الأرض وحوله، فلا يعلمون جوهر نفوسهم ولأنهم ثانياً يعتدون بشكليات الحياة اعتداداً كبيراً، ولذلك ملئوا حياتهم بها؛ فلا يمكن مطلقاً أن يغتفروا الفرق بين الجلدة البيضاء والجلدة الصفراء والسوداء والحمراء. . . وإنهم ليغفرون الفروق بين الإنسان والكلب، فيحتضنون الكلاب ويقبلونها ويبكون رحمة لها ويعاملونها بالحسنى، ولكنهم يأنفون من رؤية الرجل الملون ويهينونه ولا يرحمونه ولا يجتهدون في رفع حياته وإنقاذه من وثنياته وخرافاته. مع أنهم فتحوا دياره بالقوة منذ أكثر من قرن، وعندهم من وسائل إخضاعه للتعليم والتهذيب بالإحسان والقوة الشيء الكثير. . . ولكنهم مشغولون فقط بالبحث عن الذهب الأصفر والذهب الأسود. . .!
والذين شاهدوا الشريط السينمائي الذي عرض في بعض دور السينما بالقاهرة منذ قريب عن حياة (لفنجستون) الكاشف الإنجليزي المشهور، يدركون تماماً ما يرمى إليه واضع هذا الفلم ومخرجه من نقد، لإهمال التبعات الملقاة على عاتق الرجل الأبيض في تحضير هذه(352/14)
البقايا من الإنسانية الباقية على وثنياتها وخرافاتها وانقطاعها عن حياة العلم والدين.
دع عنك المؤثرات الطبيعية والصناعية التي جعلت الرجل الأبيض يهمل في واجباته نحو إخوانه من بني البشر هذا الإهمال وتعال معي ننظر إلى نعم الله على القومية العربية حيث وضعها هذا الوضع الوسط العجيب بين أجناس الناس وبقاع الأرض. . .
إن وضعها هكذا من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي وسطاً بين أمم الشرق والغرب والشمال والجنوب لتلتقي عندها الألوان والأجناس والدماء والأجواء والثقافات والحضارات والطباع والأمزجة، فتأخذ قلوبها من جميع القلوب، وعقولها من جميع العقول، وأجسامها وألوانها من جميع الأجناس والألوان، ثم يمتزج كل أولئك ويصهر في طبيعتها المعتدلة ويخرج للناس بعد هذا ثقافة نفسية وسياسية يلتقي عليها الشرق والغرب لقاء يحطم القيود ويجتاز الحدود. لأن فيها من كل جنس رفداً، ومن كل عقل مدداً، ومن كل قطر ورداً. . .
فإذا خاطب الله برسالته الأخيرة وكلمته الخاتمة هذه الأمة التي في مركز الأرض فإنما يخاطب البشرية جمعاء متمثلة في هذا الجنس
وإذا خاطب العربي المتحضر أمم الشمال والغرب المتحضرة، أخذوا عنه خطابه وعقلوه لأن فيه مسحة من بياضهم وثقافتهم، ولأنه أقرب الأجناس إليهم وأكثرها اختلاطاً بهم
وإذا خاطب العربي المتبدي أمم الجنوب والشرق، أخذوا عنه وعقلوا منه، لأن فيه بساطتهم ومعارفهم، ولأنه من أقرب الأجناس إليهم وأكثرها اختلاطا بهم
وتلك نعمة عظمى حتم على العرب أن يتفطنوا لها ويبنوا جهادهم ورسالتهم عليها ويدركوا امتنان الله عليهم بها في قوله: (وكذلك جعلناكم أُمةً وسَطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ)
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(352/15)
نشر الثقافة وكيف يكون
للأستاذ محمود العمري
نشرت الصحف في المدة الأخيرة أن وزارة المعارف قررت تكليف بعض المؤلفين وضع كتب في سير أبطال الإسلام، وعهدت إلى بعض المترجمين ترجمة مؤلفات أجنبية إلى اللغة العربية
ولا شك أن عناية وزارة المعارف بنشر الثقافة أمر توجبه عليها مهمتها، إذ الحقيقة التي لا مفر من الاعتراف بها أنه لا يغنى عن البلاد كثرة حملة الشهادات الدراسية فيها، وليس مما يشرفها أن يقال في التدليل على انتشار التعليم إن الناجحين في امتحان شهادة كذا بلغ عددهم كذا ألفاً. ولكن الذي يدل دلالة حقيقية على انتشار التعليم أن يقال إن أحد المؤلفات قد بيع منه كذا ألفاً. فهذا وحده هو القياس الصحيح الدال على أن التعليم انتشر انتشاراً حقيقياً كان له أثره في أمرين لا غنى عنهما في كيان أمة، أولهما انتشار الثقافة وسريانها سرياناً طبيعياً اختيارياً تتكيف به حياتها الفكرية، وثانيهما عيالة طبقة من المؤلفين
أما أن تقتصر الحياة العلمية على البرامج الدراسية وتحصيل الشهادات فحالة سطحية مصطنعة. وقد شعر المفكرون منذ مدة بعدم كفاية هذه الشهادات في تكوين الحياة الفكرية، بل لقد نزل مستوى التعليم لدى حامليها، وفطنت الأمة إلى ذلك بعد أن قطعت شوطاً بعيداً في الإكثار منهم. كما تبين أن من أكبر أسباب ضعف التعليم المدرسي عدم وجود المؤلفين والباحثين الذين يتغذى التعليم بمؤلفاتهم وبحوثهم، وتقوم الحركة العلمية على جهودهم قياماً مستقلاً يرفعها إلى حيث تمد البرامج بعناصرها وتنشئ المثل الفكرية العليا نشأة قائمة بذاتها مما يجعلها أساساً للتعليم والتطبيق بدلاً من أن تكون مقصورة عليهما
ولا شك أيضاً أن مساهمة وزارة المعارف في زيادة الثروة الفكرية على النحو الذي انتحته لا تخلوا من فائدة، ولا سيما إذا أحسنت الاختيار وتوخت ملء فراغ، كما فعلت في سير أبطال الإسلام، وفي ترجمة كتاب هانوتو في تاريخ الأمة المصرية
إن أولى الكتب بالنقل إلى العربية وأحقها بالجهود المحدودة التي في طاقتنا في الوقت الحاضر الكتب التي لا تفقد شيئاً من معانيها إذا هي ترجمت إلى لغتنا، والتي تتسق مع حياتنا الفكرية في المرحلة التي نجتازها الآن. أما مؤلفات شكسبير وإضرابه من أعلام(352/16)
الأدب الغربي الذين ترجمت وزارة المعارف كتبهم في عهود مضت وتزمع الآن ترجمتها، فإن كثيراً منها يعد نقلها إلى العربية من الكماليات
يعرف الملمون بالأدب الغربي أن اختيار المؤلفات التي تفيد ترجمتها أمر في غاية الدقة، إذ أن كثيراً منها ترجع قيمته إلى اللغة الأصلية وإلى الفنون الأدبية والأوضاع الاجتماعية المحلية، فهي حافلة بإشارات لها مدلولها في ذهن قارئها في بلادها أو على الأكثر في البلاد القريبة الشبه بها في البيئة. ولسنا نأتي بجديد إذا قلنا إن الناحية الفنية في الأدب الغربي تتأثر كثيراً بالنقل إلى العربية لبعد الشبه بينها وبين اللغة الأصلية. بل إن المعاني الأدبية العميقة في الأدب الأوربي العويص كثيراً ما تخفى على غير المتعمقين فيه من المبتدئين في الاطلاع، معتمدين على مجرد فهم المعنى اللفظي دون أن يغوصوا إلى ما وراء اللفظ وما بين السطور
فخير لوزارة المعارف أن تختص بعنايتها بالنقل إلى العربية الكتب التي تستساغ لدى قراء العربية دون غيرها من اللغات، فتنسجم ضمن غذائهم العقلي ولا تفقد معانيها شيئاً بالترجمة لأنها تتناول مادة عامة وعلى الأخص الكتب التي تتناول مادة أصلها عربي ككتاب هانوتو، فإن معانيها تزداد في العربية وضوحاً
والكتب التي من هذا القبيل كثيرة في اللغات الأوربية، من أهمها كتب المستشرقين في تاريخ العرب والإسلام، وقد سبق أن عرض كتاب هذه السطور مقترحاً بترجمتها أيام وزارة المرحوم زكي باشا أبو السعود، كما تكلم في هذا الشأن مع المرحوم الشيخ شاويش
ولا جدال في أن ترجمة المؤلفات المذكورة تعد من قبيل رد مادة إلى أصلها العربي فتزداد بالترجمة وضوحاً كما أنها تدخل مع ثقافتنا في نسق واحد مستساغ
على أن أهم ما أقصده من كتابة هذه الكلمة أن أتناول الرأي الأساس في نشر الثقافة عن طريق تكليف بعض المؤلفين أو المترجمين وضع كتب أو ترجمتها
هذا الرأي على عدم خلوه من فائدة كما قدمت لا يؤتى في النهاية إلا ثمرة محدودة الفائدة، وليس فيه دواء حاسم للمشكلة الأصلية وهي فقر الثقافة وعدم انتشارها
لا شك أن أفاضل المؤلفين والمترجمين الذين كلفتهم الوزارة القيام بذلك العمل سيبذلون جهداً مشكوراً وستظهر لهم كتب قيمة، إلا أن الداء الأساسي سيظل كما هو(352/17)
قامت الوزارة منذ مدة بعمل آخر في تشجيع الثقافة فجرت على عادة شراء مقادير من المؤلفات التي تصدر من وقت إلى آخر تعضيداً للمؤلفين وتعويضاً لهم عن قلة ما يباع من كتبهم. ولا ريب أن هذا التشجيع بشراء الكتب ولو لوضعها في مخازن الوزارة كان فيه بعض الفائدة في ذاته، إلا أنه كان من قبيل دخول الحكومة في سوق القطن بالشراء إنقاذاً لقيمة المحصول من أن يباع بقيمة دون قيمته، وضنا بثمرة جهود المنتجين أن تضيع هباء، وتشجيعاً لهم على المضي في الإنتاج
غير أن الناس لم يلبثوا أن فطنوا إلى ما نبه إليه المستر طود الاقتصادي المختص بشئون القطن وهو أن هذا العلاج محدود الأثر؛ فإن القطن الذي تشتريه الحكومة اليوم لابد أن تبيعه غداً، وعندئذ يزيد المعروض فيهبط السعر. وإن شراء الحكومة ليس شراء بمعنى الكلمة لأنها ليست مستهلكة له في واقع الأمر، وإنما الشراء الحقيقي من الوجهة الاقتصادية شراء المصانع التي تستهلكه في الصناعة وتستبعده نهائياً من عداد المادة الخام وتقوم بتصريفه في شكل جديد
يحضرني عند التفكير في حل هذه المشكلة حلاً طبيعياً أساسياً ذكر ما توصلت إليه دول أوربا للنهوض بالزراعة ووضعها على أساس علمي
بذلت تلك الدول في أول الأمر جهوداً عظيمة من الناحية المباشرة فذهب عناؤها هباء. ثم أتتها فترة تهيأت فيها ظروف ساعدتها على رفع أسعار المحاصيل الزراعية بسبب اتساع الأسواق العالمية وسهولة النقل، فما هي إلا أن أصبحت الزراعة مهنة رابحة، وسرعان ما انشحذت الملكات وانطلقت نحو الزراعة بأقصى ما أوتيت من قوة فازدهرت الفنون الزراعية من الناحيتين العلمية والعملية. وهكذا عولجت المشكلة من صميم أسبابها.
عانت فرنسا في السنين الأخيرة أزمة نسبية هي ضعف انتشار المؤلفات الفرنسية وذلك لأسباب منها انتشار الراديو والسينما والألعاب الرياضية، فخشي مفكروها ضعف ثقافتها وهي سند مدنيتها، وخافوا أن يهبط بذلك نفوذ بلادهم الأدبي في العالم كما خافوا أن ينحط الإنتاج الفكري عندهم لقلة ما يباع من مؤلفاتهم عن القدر الكافي لعيالة طبقة مؤلفيهم وشحذ هممهم
أجمع هؤلاء المفكرون أمرهم وأنشئوا جماعة برياسة جورج دوهاميل الكاتب المشهور(352/18)
واستعانوا بوزير معارفهم جان زاي وهو الوزير الذي رآه المصريون عندما جاء منذ عامين لافتتاح معرض الفن الفرنسي الذي كان للكتب الفرنسية فيه حظ كبير؛ وقد تمت إجراءات مهمة بتعاون الوزير المذكور مع تلك الجماعة.
لا شك أن تصريف الكتب في مصر قليل جداً لأسباب تختلف عن أسبابه في فرنسا، وأن ما يباع عندنا من الكتب لا يكفي لسد حاجة البلاد إلى طبقة من المؤلفين المحترفين الذين يستطيعون أن يعيشوا من ثمرة أقلامهم. فعبثاً نحاول أن تخرج البلاد ما فيها من الملكات إلا بإيجاد الحافز.
قال أحد الأدباء في عصر شبيه بعصرنا: (كان الناس في الزمن الغابر يسألون: ما صناعة هذا الرجل؟ فيقال: هو أديب. والآن إذا عرفوا أدبه يسألون: ما صناعة هذا الأديب؟!)
هذه حال لا يصح السكوت عليها، ولا سيما أن لنا مزية انتشار لغتنا في خارج حدودنا انتشاراً من شأنه أن يجعل لمؤلفينا من القراء في غير بلادنا ما يزيد على عددهم في مصر أضعافاً مضاعفة.
لا أريد في هذه الكلمة أن أتكلم عن أسباب قلة الميل إلى القراءة، ولكنني لا أشك في أن الكتب، حتى على أساس هذا الميل القليل غير منتشرة، وأن عدم انتشارها أمر غير طبيعي؛ ومن الأدلة على ذلك كثرة انتشار الصحف والروايات الخفيفة انتشاراً يدل على أن عدم الإقبال على القراءة قد بلغ هذا المبلغ المشاهد في الكتب.
صحيح أن الجمهور أميل إلى القراءة الخفيفة السطحية، غير أن هذا السبب لا يكفي لتعليل البون الشاسع بين انتشار الصحف وانتشار الكتب. إنما العلة الكبرى أن للصحف والروايات الخفيفة أصحاباً يتعهدون نشرها على أساس تجاري وإداري محكم. أما الكتاب في مصر فيتيم ليس له من يتولى أمره، إذ أن كل مؤلف على حدته لا يستطيع شيئاً، والحركة التجارية غافلة عنه، وذلك لسببين: أولهما أن التجارة في مصر رائجة لسبب نأسف له وهو نشاط الأجانب، وهؤلاء لا يقبلون على الكتب العربية إقبالهم على النواحي الأخرى. والثاني أن تجارنا تعوزهم ملكة الابتكار، فتجارة الكتب تختلف عن غيرها في أن الطلب في أمرها يتبع العرض إلى حد بعيد، مع أن العرض في أمر غيرها يتبع الطلب بدرجة عظيمة. وهذا ملموس في كل بلاد وفي كل جهة ليخيل للإنسان أنه لا يوجد ميل(352/19)
إلى الاطلاع إلا بين الذين اعتادوا المرور في حي معين فيه مكتبة يستوقف ما في واجهتها من الكتب نظر المارة، بل قد يدخل أحدهم بغير قصد شراء كتاب بذاته فيخرج وإذا بيده كتب
يعرف المؤلفون في مصر أن كتبهم لا تباع إلا حيث توجد المكتبات في مدينة واحدة وهي القاهرة، فيخيل إليهم أن الميل إلى القراءة غير موزع بين سكان القطر وأنه مقصور على حي معين. ثم ما هي إلا أن يتطوع صديق في جهة نائية فيبيع له عدداً كبيراً
لا ريب أن تشجيع نشر الكتب أمر حيوي وفيه شفاء للعلة الأصلية من أساسها بشكل يؤدي حتى في ظروفنا الحالية إلى انتشار الثقافة فتربح التجارة، وتنشط المطابع، وتقوم في البلاد طبقة من قادة الفكر على أساس الدافع الطبيعي الذي لا يقتصر على ما لابد منه للمؤلفين من الاستقلال المادي والأدبي. بل إن في انتشار مؤلفات أحدهم ما يقوم في نفسه دليلاً على أنه أدى رسالته، كما أن في الإقبال على كتبه انتخاباً من القراء له وعملاً فيه الكثير من الصدق في التعبير عن أنهم أولوه زعامة طبيعية نابتة من الحركة الفكرية في ذاتها
ولست أريد أن أرسم خطة معينة تتبعها وزارة المعارف في تنفيذ برنامج عملي لنشر الثقافة عن طريق الكتب، ولكنني أورد على سبيل المثال ما يعن لي من الوسائل:
1 - أن تتفق الوزارة مع مراقبات مناطق التعليم ومجالس المديريات على أن تقصر معاملاتها بقدر الإمكان على المكتبات الواقعة في الجهات نفسها
2 - أن تتفق مع مصلحة البريد على إعطاء الأفضلية في بيع طوابع البريد وطوابع التمغة للمكتبات دون الصيدليات ومحلات العطارة وحوانيت التبغ
3 - أن تحفظ لديها سجلاً بالمكتبات في كافة جهات القطر ليرجع إليها الناشرون وأصحاب المطابع والمؤلفون للتعامل معهم، وأن تقوم مراقبات مناطق التعليم بالاستيثاق من أن هذه المكتبات مكتبات حقيقية
4 - أن تذيع بالراديو أسماء الكتب وخلاصات مشوقة موجزة عن محتوياتها
5 - أن تتفق مع وزارة الشؤون الاجتماعية على أن تدمج في المراكز الاجتماعية التي تزمع إنشاءها برامج ثقافية
6 - أن تشجع على إنشاء هيئة مركزية في القاهرة تجمع لديها فهارس ما يصدر من(352/20)
الكتب وتوزعها على جميع المكتبات في القطر، ويشترك أصحاب المكتبات في هذه الهيئة بضمان أو تأمين لكل منهم بمائتي جنيه مثلاً يجعل لكل منهم حق أخذ كتب بقيمتها حسب اختياره عن طريق الهيئة، وكلما سدد ثمن ما أخذه فتح له اعتماد بدلاً منه بقيمة ما يسدد، حتى إذا كان نشاطا في البيع دار معه مبلغ الضمان خمس مرات أو عشراً، فيكون قد اتجر في رأس مال قدره ألف أو ألفا جنيه دون أن يدفع شيئاً، اللهم إلا ضماناً قدره مائتا جنيه. وهذه الطريقة تتبعها شركة من شركات المنسوجات الأجنبية في مصر
ولابد لي أن أختم هذه الكلمة بتكرار ما قلت فيما سبق، وهو أنني لم أتعرض لمعالجة موضوع عدم الميل إلى القراء، إذ أن هذا أمر يتصل بمشكلة التعليم وبالرأي السائد في البلاد وفي الحكومة عن غاياته وأقيسته
محمود العمري(352/21)
في الاجتماع اللغوي
تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
وأثر انتشارها في هذا التفرع
للدكتور علي عبد الواحد وافي
تختلف اللغات الإنسانية في مبلغ انتشارها اختلافاً كبيراً فمنها ما تتاح له فرص مواتية، فينتشر في مناطق شاسعة من الأرض، ويتكلم به عدد كبير من الأمم الإنسانية؛ كما حدث للاتينية والعربية في العصور القديمة والوسطى؛ وللإنجليزية، والأسبانية، والبرتغالية، والفرنسية، والألمانية في العصور الحديثة. ومنها ما تسد أمامه المسالك، فيقضي عليه أن يظل حبيساً في منطقة ضيقة من الأرض، وفئة قليلة من الناس؛ كما حدث للأبنو والبسكية والليتونية، ومنها ما يكون حاله وسطاً بين هذا وذاك، فلا تتسع مناطقه كل السعة، ولا تضيق كل الضيق؛ كما هو شأن الحبشية والفارسية
هذا، ولانتشار اللغة أسباب كثيرة يرجع أهمها إلى ما يلي:
1 - أن تشتبك اللغة في صراع مع لغة أو لغات أخرى وتقضي نواميس الصراع اللغوي المتقدم ذكرها في المقالات السابقة أن يكتب لها النصر، فتحتل مناطق اللغة أو اللغات المقهورة، فيتسع بذلك مدى انتشارها، وتدخل أمم جديدة في عداد الناطقين بها: كما حدث لللاتينية في العصور القديمة، إذ تغلبت على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى فأصبحت لغة الحديث والكتابة في منطقة شاسعة في القسم الجنوبي الغربي من أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على منطقة ضيقة في وسط إيطاليا، هي منطقة اللاتيوم وكما حدث للغة العربية إذ تغلبت على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية، حتى بلغ الآن عدد الناطقين بها نحو 40 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة بعد أن كانوا قديماً لا يتجاوزون بضعة آلاف يقطنون منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من بلاد العرب؛ وكما حدث للألمانية إذ طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لها بأوربا الوسطى (بألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ). وقضت على لهجاتها الأولى،(352/22)
فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 70 مليوناً من سكان أوربا بعد أن كانت قديماً مقصورة على بعض المقاطعات الألمانية
2 - أن ينتشر أفراد شعب ما - على أثر هجرة أو استعمار - في مناطق جديدة بعيدة عن أوطانهم الأولى، ويتكون من سلالاتهم بهذه المناطق أمة أو أمم متميزة كثيرة السكان، فيتسع بذلك مدى اتساع لغتهم، وتتعدد الجماعات الناطقة بها، ويكثر أفرادها. والأمثلة على ذلك كثيرة في العصور الحديثة. فقد نجم عن استعمار الإنجليز السكسون لأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقية أن انتشرت الإنجليزية في هذه المناطق الشاسعة، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 170 مليوناً موزعين على مختلف قارات الأرض، بعد أن كانت قديماً محصورة في منطقة ضيقة من الجزر البريطانية. ونجم عن الاستعمار الأسباني في الدنيا الجديدة أن أصبحت الأسبانية لغة المكسيك وجزر الفيليبين وجميع دول أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية ما عدا البرازيل، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 70 مليوناً ينتمون إلى نحو خمس عشرة أمة، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في الجنوب الغربي من أوربا. ونجم عن الاستعمار البرتغالي في الدنيا الجديدة وأفريقيا والأوقيانوسية أن أصبحت البرتغالية لغة سكان البرازيل بأمريكا الجنوبية وسكان المستعمرات البرتغالية بأفريقيا وجزر المحيط الهندي، فبلغ عدد الناطقين بها نحو 50 مليوناً ينتمون إلى عدة أمم، بعد أن كانت محصورة في منطقة ضيقة في بلاد البرتغال نفسها
3 - أن يتاح لجماعة ما أسباب مواتية للنمو الطبيعي في أوطانها الأصلية نفسها فيأخذ عدد أفرادها وطوائفها في الزيادة المطردة، وتنشط حركة العمران في بلادها، فتكثر فيها المدن والقرى وتتعدد الأقاليم والمناطق، فيتسع تبعاً لذلك نطاق لغتها ومدى انتشارها، كما حدث لليابانية والفرنسية والإيطالية. فبفضل هذا العامل بلغ عدد الناطقين باليابانية في اليابان نفسها نحو 60 مليوناً، وبفضله كذلك مع مساعدة العاملين السابقين بلغ عدد الناطقين بالفرنسية نحو 50 مليوناً وبالإيطالية نحو 45 مليوناً.
ومتى انتشرت اللغة في مناطق شاسعة من الأرض تحت تأثير عامل من العوامل السابق ذكرها، وتكلم بها جماعات كثيرة العدد، وطوائف مختلفة من الناس، استحال عليها الاحتفاظ بوحدتها الأولى أمداً طويلاً، فلا تلبث أن تتشعب إلى لهجات، وتسلك كل لهجة من هذه(352/23)
اللهجات في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج غيرها، فلا تلبث مسافة الخلف أن تتسع بينها وبين أخواتها، حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها، وبذلك يتولد عن اللغة الأولى فصيلة أو شعبة من اللغات يختلف أفرادها بعضها عن بعض في كثير من الوجوه، ولكنها تظل مع ذلك متفقة في وجوه أخرى، إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة، ولحمة نسب لغوي. وكثيراً ما يبقى الأصل الأول لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منه؛ ولكنه لا يلبث أن يتنحى عن ذلك بعد أن يكتمل نمو هذه اللغات.
ولهذا القانون خضعت اللغات الإنسانية من مبدأ نشأتها إلى العصر فاللغة الهندية - الأوربية الأولى، قد انشعبت في ضحى الإنسانية إلى مجموعات كثيرة، وكل مجموعة منها تفرعت إلى عدة طوائف، وكل طائفة انقسمت إلى شعب، وكل شعبة إلى لغات وهكذا دواليك. . . ومثل هذا حدث للغة السامية الحامية الأولى ولجميع الفصائل اللغوية الأخرى.
وقد شهدت عصورنا التاريخية نفسها كثيراً من آثار هذا القانون، فاللغة اللاتينية، وهي إحدى لغات الفرع الإيطالي المتشعب من الهندية - الأوربية، قد أخذت هي نفسها في أواخر العصور القديمة وفي العصور الوسطى تتشعب إلى عدد كبير من اللهجات، وأخذت كل لهجة من هذه اللهجات تسلك في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، حتى انفصلت عنها انفصالاً تاماً، وأصبحت لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها. وقد بقيت اللاتينية مدة ما لغة أدب وكتابة بين الشعوب الناطقة باللغات المتفرعة منها (الفرنسية والإيطالية والأسبانية والبرتغالية ولغة رومانيا. . .) ولكنها لم تلبث أن تنحت عن ذلك بعد أن اكتمل نمو هذه اللغات
والعصر الحاضر نفسه يشهد كثيراً من آثار هذا القانون. فلانتشار اللغة الأسبانية في مناطق شاسعة من الأرض ولاختلاف الطوائف المتكلمة بها، أخذت تفقد وحدتها، فانشعب عنها في أمريكا الجنوبية لهجات كثيرة تختلف كل منها عن الأسبانية الأصلية اختلافاً غير يسير في كلماتها وأصواتها؛ بل إن بعض هذه اللهجات أخذ يختلف عن الأسبانية الأصلية في القواعد نفسها
وهذا هو ما يحدث الآن للإنجليزية والألمانية. فقد أخذت إنجليزية الولايات المتحدة بأمريكا(352/24)
تختلف عن إنجليزية الجزر البريطانية في كثير من المفردات وأساليب النطق؛ وأخذت ألمانية سويسرا تبتعد عن أصلها ويزداد تأثرها بجارتها الفرنسية، حتى توشك أن تكون لهجة متميزة عن ألمانية الألمان وقد اتسعت مسافة الخلف بين اللهجات المتشعبة عن العربية حتى أصبح بعضها غريباً عن بعض؛ فلهجة العراق في العصر الحاضر مثلاً لا يكاد يفهمها المصري. غير أنه قد خفف من أثر هذا الانقسام اللغوي بقاء العربية الأولى بين هذه الشعوب لغة أدب وكتابة ودين
والعامل الرئيسي في تفرع اللغة إلى لهجات ولغات هو سعة انتشارها. غير أن هذا العامل لا يؤدي إلى ذلك بشكل مباشر، بل يتيح الفرص لظهور عوامل أخرى تؤدي إلى هذه النتيجة. وباستقراء هذه العوامل في الماضي والحاضر يظهر أن أهمها يرجع إلى الطوائف الآتية:
1 - عوامل اجتماعية سياسية تتعلق باستقلال المناطق التي انتشرت فيها اللغة بعضها عن بعض، وضعف السلطان المركزي الذي كان يجمعها ويوثق ما بينها من علاقات. وذلك أن اتساع الدولة وكثرة المناطق التابعة لها، واختلاف الشعوب الخاضعة لنفوذها. . . كل ذلك يؤدي غالباً إلى ضعف سلطانها المركزي، وتفككها من الناحية السياسية، وانقسامها إلى دويلات أو دول مستقل بعضها عن بعض. وغنى عن البيان أن انفصام الوحدة السياسية يؤدي إلى انفصام الوحدة الفكرية واللغوية
2 - عوامل اجتماعية نفسية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في النظم الاجتماعية والعرف والتقاليد والعادات ومبلغ الثقافة ومناحي التفكير والوجدان. فمن الواضح أن الاختلاف في هذه الأمور يتردد صداه في أداة التعبير
3 - عوامل جغرافية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الجو وطبيعة البلاد وبيئتها وشكلها وموقعها. . . وما إلى ذلك، وفيما يفصل كل منطقة منها عن غيرها من جبال وأنهار وبحار وبحيرات. . . وهلم جرا. - فلا يخفى أن هذه الفروق والفواصل الطبيعية تؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى فروق وفواصل في اللغات
4 - عوامل شعبية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في الأجناس والفصائل الإنسانية التي ينتمون إليها والأصول التي انحدروا منها، فمن الواضح أن لهذه(352/25)
الفروق آثاراً بليغة في تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات
5 - عوامل جسمية فيزيولوجية تتمثل فيما بين سكان المناطق المختلفة من فروق في التكوين الطبيعي لأعضاء النطق فمن المحال، مع فروق كهذه، أن تظل اللغة محتفظة بوحدتها الأولى أمداً طويلاً
فانقسام المتكلمين باللغة الواحدة، تحت تأثير هذه العوامل، إلى جماعات متميزة، واختلاف هذه الجماعات بعضها عن بعض في شئونها السياسية والاجتماعية، وفي خواصها الشعبية والجسمية والنفسية، وفيما يحيط بها من ظروف طبيعية وجغرافية، كل ذلك وما إليه يوجه اللغة عند كل جماعة منها وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها، ويرسم لتطورها في النواحي الصوتية والدلالية وغيرها منهجاً يختلف عن منهج أخواتها، فتتعدد مناهج التطور اللغوي حسب تعدد الجماعات، ولا تنفك مسافة الخلف تتسع بين اللهجات الناشئة عن هذا التعدد، حتى تصبح كل لهجة منها لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها
ويبدأ الخلاف بين هذه اللهجات من ناحيتين: إحداهما الناحية المتعلقة بالصوت، فتختلف الأصوات (الحروف) التي تتألف منها الكلمة الواحدة، وتختلف طريقة النطق بها تبعاً لاختلاف اللهجات؛ والأخرى الناحية المتعلقة بدلالة المفردات، فتختلف معاني بعض الكلمات باختلاف الجماعات الناطقة بها
أما سواء في ذلك ما يتعلق منها بالبنية (المورفولوجيا) أو ما يتعلق منها بالتنظيم (السنتكس)، فلا ينالها في المبدأ كثير من التغيير. وإليك مثلاً اللهجات العامية التي انشعبت عن العربية بالعراق والشام والحجاز واليمن وبلاد المغرب. . . فإنه لا يوجد بينها إلا فروق ضئيلة في نظام تكوين الجمل وتغيير البنية وقواعد الاشتقاق والجمع والتأنيث والوصف والنسب والتصغير. . . وما إلى ذلك؛ على حين أن مسافة الخلف بينها في الناحيتين الصوتية والدلالية قد بلغت حدا جعل بعضها غريباً عن بعض، كما سبقت الإشارة إلى ذلك
ولكن هذه الوحدة في القواعد لا تقوى على مقاومة عوامل التفرقة إلا لأجل معلوم؛ ثم تهن قواها وتستسلم لهذه العوامل، فيصيبها منها ما أصاب الصوت والدلالة من قبل، وحينئذ تقوى وجوه الخلاف بين اللهجات، وتبدأ مرحلة تحولها إلى لغات مستقلة، ولا تنفك تذهب(352/26)
حثيثاً في هذا الطريق حتى تبلغ غايته
غير أنه يبقى بها، على الرغم من هذا كله، وجوه شبه قريبة أو بعيدة في أصول المفردات وبعض مظاهر القواعد العامة. وإليك مثلاً طوائف اللغات الهندية الأوربية، فعلى الرغم من استحكام ما بينها من حلقات الخلاف، فإن الأصل الأول قد ترك في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة وتشهد بتفرعها عن أرومة واحدة
ومن هذا يتبين أن اللغة لا تموت حتف أنفها. فما لم تصرعها لغة أخرى على الوجوه التي تقدم شرحها في المقالات السابقة، لا يتطرق إليها الفناء. وخلودها هذا يبدو في أحد مظهرين. فأحياناً تحتفظ بوحدتها، وذلك إذا ظلت حبيسة على منطقة ضيقة وفئة قليلة، وأحياناً تتشعب إلى لهجات ولغات، وذلك إذا انتشرت في مساحات شاسعة من الأرض وتكلم بها طوائف مختلفة من الناس
ومن ثم يظهر كذلك خطأ من يحاولون علاج تعدد اللغات بإنشاء لغة عالمية (إسبرنتو يتحدث بها الناس من مختلفي الأمم والعصور. وذلك أن هذه اللغة الصناعية على فرض إمكان اختراعها وإلزام الناس باستخدامها، لا تلبث بعد تداولها على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية والتي خضعت لها أول لغة تكلم بها الإنسان. فما دام أفراد الأمم الناطقة بها مختلفين في أصولهم الشعبية وفي التكوين الطبيعي لجسومهم وأعضاء نطقهم، وفي الظروف الجغرافية والطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، وفي قواهم الإدراكية والوجدانية، وما دامت سنة الطبيعة تقتضي أن يختلف كل جيل عن الجيل السابق له في كل هذه الأمور، فلابد أن تختلف هذه اللغة الصناعية في كلماتها وأصواتها ودلالاتها وقواعدها باختلاف العصور وباختلاف الشعوب الناطقة بها، وتنقسم إلى لهجات يختلف كل منها عما عداه، وتتفرع منها لغات عامية، وتتسع الهوة بين لهجاتها قليلاً حتى تنفصل كل لهجة منها عما عداها انفصالاً تاماً وتصبح غير مفهومة إلا لأهلها، شأنها في ذلك شأن غيرها من اللغات، وهكذا لا يمضي زمن قصير أو طويل حتى يتولد من هذا العلاج نفس المشكلة التي يحاولون القضاء عليها: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم. . .). (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين)(352/27)
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(352/28)
من وراء المنظار
صاحب الديوان
إياك أن تظنه صاحب (ديوان شعر)، فمثل هذا أهون من أن يحفل به إلا من كانوا مثله من ذوي الأحلام والأوهام في هذه الدنيا التي باتت لا تحفل بالأحلام ولا بذوي الأحلام. . .
ولعلك فطنت بعد هذا إلى من أعنيه بهذا اللقب؛ ثم لعلك فهمت لِمَ أسميه (صاحب الديوان)، فما كان لفظ (الموظف) و (المستخدم) وما يجرى مجراهما مما يفي بالغرض في معرض الحديث عن ذلك الذي توافي له من أسباب الجاه والسلطان ما يسمو به على الناس، رضوا بذلك أو لم يرضوا؛ وما أرى نعته بمثل تلك الألقاب المتواضعة إلا ضرباً من الخطأ أسبق مجمع اللغة في تلافيه، فأضع له هذا الاسم الجديد، وبودي لو وقعت له على اسم آخر أكثر فخامة وأضخم جرساً وأبلغ رهبة
ولست أدري وقد وقع منظاري على أنماط وأشكال من أصحاب الديوان إلى من أدير الحديث منهم أولاً فأجعله في طليعة أصحابه فإني لست بمعفيهم جميعاً من حديثي ولو لحقني بعدها من سطوتهم ما أعض إصبع الندم عليه
أأبدأ بالحديث عن ذلك الشاب الماجن المتظرف الذي لا تساوي الدنيا في نظره شيئاً؟ أم أبدأ بصاحبه المتزمت المتبرم الذي يحمل الدنيا كلها على رأسه؟ أم أدعهما إلى ذلك الكهل الذي أخلق برد الشباب على مقعده وهو يلتفت إلى الماضي في حسرة ويحتمل الحاضر في ملل وينظر إلى المستقبل في يأس، ولا يني عن احتقار من هم دونه والحقد على من خلفوه وراءهم وكانوا وإياه في صف واحد عند بدء الشوط؟ أم أبدأ من عل غير متهيب، فأتحدث عن ذلك الذي يخضع له هؤلاء جميعاً ويتملقه أكثرهم وليس فيهم من لا يكره أن يودع كرسيه في أقرب فرصة؟
الحق أني حائر، ولا مخرج لي من هذه الحيرة إلا بأن أعرض عليك في هذه الكلمة صورة لفريق من أصحاب الديوان في قاعة من قاعاتهم، على أن أتناول هذا الإجمال بعد بالتفصيل
دجلت تلك القاعة في شأن من الشؤون فوجدت نحو خمسة عشر من هؤلاء ينصتون إلى من يتلو عليهم حديثاً وهم على مكاتبهم يرنون إليه حتى إذا فرغ من قصته انطلقوا(352/29)
يضحكون في صخب عظيم، ثم أخذ كل منهم يسابق الآخر في التعقيب عليها بما يسعه من نكتة أو قصة مشابهة، ومضى على ذلك وقت ليس بالقصير، وأنا واقف في ركن عند مدخل القاعة لا أدري من أقصد ولا أجد من يلتفت إلى كما لو كنت (صاحب ديوان) مثلهم لا حرج علي ولا غرابة في أن أكون معهم في حجرتهم
وكان قد مضى على بدء العمل أكثر من ساعة، ولكن أغلب المكاتب كان لا يزال خالياً من الأوراق، وبعضها كانت خالية حتى من أصحابها؛ ونظرت إلى الباب فإذا فريق من الصبية يدخلون وفي أيديهم أصناف (الصينيات)، فهذا يحمل (الفول)، وذلك يقبل (بالطعمية)، وثالث لا يحمل غير القهوة. . .
وأخذ أصحاب الديوان في تناول طعام فطورهم أو في شرب القهوة، اللهم خلا ثلاثة أو أربعة، راح أحدهم يقرأ في جريدة الصباح وراح الآخر ينظر إلى السقف كأنما يفكر في حل معضلة، ولعله كان ينتظر أن يفرغ صاحبه من جريدته ليتناولها بعده، وأخذ الثالث يفتح أدراج مكتبه ويغلقها ولا يخرج منها شيئاً، أما الرابع فقد تناول بعض (الدوسيهات) وصار ينظر فيها واحداً بعد الآخر ثم فتح أحدها أمامه وأخذ يصفر بشفتيه لحناً جميلاً
وكنت قد جلست على مقعد خال بجانبي، وليس ما يمنع وإن لم يكن في يدي عمل أن أكون أحدهم، ولعلهم ظنوا - إن كان فيهم من عنى بأن يظن - أني انتظر أحد الغائبين بناء على موعد سالف؛ وكان علي في الواقع أن أنتظر ولكني كنت أنتظر الحاضرين حتى يفرغوا من طعامهم وشرابهم أو من قراءة صحفهم لأستطيع أن أعرف فيهم من يوجد لديه حل مسألتي
وأزف موعد عملي، ودخل السعاة بأضابير من الأوراق وأخذوا يوزعونها على أصحابها، وحال ذلك دون أن أتقدم إلى أحد، فخرجت على أن أعود مرة أخرى إلى الديوان
(عين)(352/30)
عقيدة النازي المالية
للدكتور جواد علي
سمَّيت سياسة الوطنية الاشتراكية المالية وآراءها الاقتصادية (عقيدة)؛ لأن الهتلرية لا تعتقد بالنظريات العلمية، ولا تعترف بالقواعد التجارية التي تسير عليها الدول الأخرى؛ بل تدين بعقائد ثابتة مكتوبة ونصوص تخضع لها ولا تحيد عنها: هي نصوص العنصرية والدم والأرض وهي المفتاح لكل حضارة أو مدنية في العالم، والتجارة والثروة من نتائج الحضارة البشرية، والحضارة البشرية هي المظهر الخارجي للعامل الداخلي الأساسي المختفي: الدماء
لذلك فاقتصاديات شعب مرتبطة بقوته وبسلامة العنصرية من الامتزاج بالدم الأجنبي الدخيل. والروح التي تكون في كل جسم، كما أنها في كل أمة، هي التي تغير اقتصاديات أمة وتكيفها حسبما تريد؛ لا الإنتاج كما هو مذهب كارل ماركس إذ يقول: (غيروا الإنتاج تغيروا البشر). ولا المادية كما عليه البلشفية وأصحاب المادة؛ والروح ليست من قبيل الأحلام أو الأفكار أو الاصطلاحات العلمية أو بالمعنى الذي ورد في فلسفة أفلاطون؛ بل هي حقيقة واقعة لا شك فيها، عاملها الدم لا التفكير البارد فقط
وبما أن لكل شعب روحية خاصة وعقلية تميزه عن عقليات الشعوب الأخرى، فاقتصاديات كل أمة ونظمها التجارية يجب أن تكون وفق نظمها وقواعدها السياسية والعقائد الاجتماعية والتاريخية وآرائها الثقافية العالمية. وعلى ذلك يجب أن نجعل القواعد الاقتصادية وأساليبها خاضعة لمصلحة جماعة الأمة لا أن نجعل الاقتصاد خاضعاً لنظريات وقواعد عالمية وأصول علمية وضعتها أدمغة العلماء بصورة مجردة نظرية لم تستند إلى قواعد العنصرية والظروف التي تحيط بكل أمة. فهي لذلك تضحك من كل علم يحاول وضع قواعد عامة مسلمة أو آراء أممية يجب السير عليها. وهي تفتخر بأنها ألغت نظريات العلم الشائعة اليوم واتخذت قواعد مكتوبة وفق آرائها وعقيدتها. وهي تحارب فكرة حرية التجارة وإلغاء الرسوم الكمركية ومبادئ (آدم سميث) و (ريكاردو) وجميع وهي بالجملة تقارب أصحاب فكرة حماية فكرتها، وتحذو حذو مذهب ال الذي يحاول أن يجعل الدولة المسيطرة على جميع اقتصاديات المملكة ومواردها التجارية(352/31)
ولكنها تختلف هنا عن الشيوعية والبلشفية في نظرية إشراك الدولة في المسائل الاقتصادية رأساً. فالوطنية الاشتراكية تريد كما تدعى حق الإشراف المطلق على سياسة الأمة الاقتصادية فتسيرها وفق مبادئها وآرائها، فلا تتساهل مع كل متوان أو متجاهل لأنظمة النازي بواسطة القوانين التي تضعها والمحاضرات التي تلقيها على التجار وبواسطة الهيئات التجارية التي تعينها من بين رجال حزبها لا بطريقة الانتخاب وبواسطة هيئة وضع الأسعار التي يشرف عليها قوميسير الأسعار إلا أنها لا ترى وجوب اشتراك الدولة في البيع والشراء وإدارة المعامل والإنتاج رأساً، ولو أنها تتدخل في الحقيقة في كل شيء، ولها في كل معمل أو محل رجل معين من قبل الحزب يسمى بمثابة عين على كل عامل، وذلك ما يخالف مبدأ البلشفية والمركسية الذي يدير المعامل رأساً وكذلك الاقتصاديات الكبرى.
رأت الهتلرية أن خير حل لمشكلة العمل والعمال هو الاعتراف بمبدأ الملكية الشخصية ولكنها ترى أن صاحب المال أو المعمل من جهة أخرى هو مدير لماله أو لمعمله أو قائداً يتصرف به وفق الأنظمة والقوانين والطرق الشرعية الشريفة، فسمته مدير محل، ولم تسمه مالكاً إذ يتصرف المالك قانوناً كيف يشاء بينما سلب منه هذا الحق هنا. وعلى ذلك فوضع الأسعار والأجور وأوقات العمل وأسعار التصدير إلى الخارج أو البيع في الداخل لم يعد من حق أصحاب المال بل من حق الحكومة فقط. وكل من يحاول استغلال ماله عن طريق يخالف مبادئ النازية يكون نصيبه العقاب الصارم أو الإعدام لأنه خائن للأمة ولص خطير. كما أن كل عامل رجل مؤتمن على العمل فعليه الإطاعة والخضوع لأنظمة العمال التي هي أنظمة الشعب والدولة وإطاعة أوامر من هو أعلى منه درجة، وكل مخالفة تكون عاقبتها العقاب الصارم أو الإعدام أيضاً
تعترف الهتلرية بالأنانية وحب الذات كصفات غريزية في البشر، لذلك ترى مكافحتها بقاعدة (النفع العام قبل النفع الخاص وهذه القاعدة تستدعي وضع تربية سياسية جديدة تكون أسسها مرتكزة على العواطف قبل التفكير وعلى الإطاعة قبل إدراك السبب أو الباعث وهو الطابع الحديث الذي تنطبع به فلسفة الوطنية الاشتراكية. ونظراً إلى ذلك وجب مراقبة الأرباح التي تدعو إلى كل مشكلة وتخليص البشرية من عبودية المرابين،(352/32)
وذلك بجعل أصحاب المال تحت سيطرة سياسة الدولة رأساً لا الدولة تحت سيطرة أصحاب رؤوس الأموال الذين يطلقون عليهم لقب هو الشأن في الدول الديمقراطية والأمريكية، ولذلك يجعلون هؤلاء مصدر كل حب وبغض إلى الألمان ويتهمون هذه الدول بكونها تخضع للسياسة اليهودية التي تنتمي إلى هذه الطغمة
ولإنقاذ الشعب والحكومة من عبودية الربا وجب تنظيم الأرباح على قاعدة (الربح على قدر العمل والقضاء على بيوتات البيع الكبرى والشركات الاحتكارية وتقسيمها إلى محال صغيرة فنحو (100000) اسكاف خير من وجود خمس شركات كبرى، لأن من طبيعة المحال الكبرى الميل إلى الأرباح دون الالتفات إلى التحسين، وبتخليص الفلاح من الديون. والفلاح هو رمز العنصر الشمالي الآري وكل سياسة اقتصادية لا تستند إلى محصولات تكون سبباً لهلاك الشعب وتدهوره. والتاريخ يرينا كما يقول هؤلاء أن سبب سقوط الشعوب هو إهمالها الزراعة، وبسبب تقدم الصناعات الكبرى توسعت المدن وظهرت روح جديدة هي روحية المدن بأمراضها المختلفة وازدراء الفلاحة وسكان الأرض وهذا معناه الانحطاط الثقافي. لذلك كان من واجب الوطنية الاشتراكية مقاومة توسع المدن وإرجاع السكان إلى العمل في الأراضي خارج المدن واتخاذ سياسة استيطان جديدة وإلغاء القوانين التي تجعل الفلاح في عزلة عن أهل المدن أو أقل منهم ثقافة واجتماعاً، وتحويل المدنيين إلى شعبيين؛ وبذلك تعود الحضارة البشرية والروح الجرمانية التي يحلم بها هتلر، وتختفي الفروق الموجودة بين الشعب الواحد، وتنفيذاً لهذه السياسة ترى وجوب الإشراف على بيع الأراضي وتوزيعها بحيث تضمن ما تراه بصورة عملية
أما التجارة الخارجية للشعب فيجب أن تشرف عليها الدولة كذلك وتحدد أسعارها. وتقوم بذلك الدول فيما بينها بعقد معاهدات تجارية حسب رغبات الدول وحاجاتها لا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة أو المبادئ المالية الأخرى، وتكتب هذه المعاهدات بلغات الدول المتعاقدة لا باللغة الفرنسية كما هو الشائع الآن. وأساس هذه المعاهدات هو نظام المقايضة أو تبديل بضاعة ببضاعة، وهو نظام تراه الوطنية الاشتراكية أكمل نظام طبيعي، وقد كانت تتبعه قبل الحرب العظمى فسبب حصول التوتر الشديد فيما بينها وبين بريطانيا وهو الذي يدعو إلى قلق الأمريكيين دائماً وخوفهم من تفوق التجارة الألمانية على(352/33)
أسواق أمريكا الجنوبية، وذلك الذي تطلب منعه واتخاذ أساس الشراء الحر
ونظراً إلى أن ألمانيا فقيرة في المواد الابتدائية فمن الواجب إيجاد مصادر لها في الخارج وهي المستعمرات. وتقسم ألمانيا مبدئيا العالم إلى قسمين: أمم متحضرة مستهلكة ومصدرة، وأمم كتب عليها أن تشتغل لتزويد هذه البلاد المختارة. ولكن ما هي المقاييس التي تتخذ قاعدة في الشراء؟ الذهب أو الإنتاج؟ إن خلو ألمانيا من الذهب يجعل هتلر يرفض قاعدة الذهب ويطعن في البلاد التي تتعامل به. وإن والعمل هما رأس المال فقط. وعلى ذلك فكل دولة تشتغل بنشاط وتكافح في سبيل قوتها تكون هي المملكة الغنية في العالم، ولهذا وضع مشروعاً سماه مشروع أربع السنوات غايته الاعتماد على المنتجات الداخلية واستخراج كل ما يمكن من الأرض الألمانية بتفضيل كل ما هو ألماني على غيره ولو كان أقل جودة وأردأ نوعاً. فالمطاط يجب أن يستخرج من مواد ألمانية سرية، وكذلك السلولوز والنفط والبنزين من الفحم الألماني، وكل مملكة تسد نقصها من الخارج فهي دولة منحطة متأخرة؛ حتى قوائم الأكل يجب أن تكون ألمانية بحتة، ولذلك تستخدم لجنة مشروع أربع السنوات كل ما لديها من وسائط في سبيل إقناع الأمهات وخصوصاً العجائز منهن بعدم شرب القهوة أو الشاي بكثرة، وبعدم أكل القشدة المحبوبة لدى المسنات على الأخص بإفراط اقتصاداً وحفظاً للنقد الألماني من الذهاب إلى الخارج. ولكن ذلك ليس من السهولة بمكان، فقد اختفت الأقمشة الصوفية الجيدة من الأسواق الألمانية، وظهرت عوضاً عنها الأقمشة الصوفية السلولوزية المنتجات المتينة ولكنها أخذت تنافس أحسن الأقمشة البريطانية في الخارج، وتنافس بضاعات الأمم الأخرى حتى في أسواقها المحلية. كل ذلك لجر النقد الأجنبي إلى ألمانيا وتغطية العملة الورقية فيها
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(352/34)
أيها الأطفال!
للأديب أحمد محمود فهمي
أنتم أولاد الطبيعة أما نحن فأولاد الحياة!
أنتم تصورون لنا الطبيعة في شكل آدمي لأنكم صورتها الآدمية!
تغريكم الدمى وتسركم الأضواء وتبهركم الألوان
لا تحتاجون إلى أسرار أيها الأنقياء الأطهار.
وما حاجتكم إلى صدر زاخر بالأسرار وأنتم الذين لا تقبلون الحياة إلا بسيطة سهلة لا تعقيد فيها ولا إشكال
خير عندكم من كل مباهج الكبار ومسراتهم، دمية صغيرة محبوبة، تدورون بها في مجال المرح والسرور
يقينكم أنه ليس لكم يقين، وظنكم أنكم لا تعرفون الظنون أأنتم لاهون عن الحياة أم الحياة لاهية عنكم؟
تمر عليكم قافلة الحياة حافلة بشتى المعاني والألوان، وأنتم عنها لاهون، كأنكم من غير أعين ولا آذان
لا تعرفون من الحياة إلا طفولتكم، ولا تعرفون من الطفولة إلا الفطرة والسذاجة والإخلاص!
نحن نحتاج أحياناً أن نجالسكم لنتذكر في ظل طفولتكم أيام كنا مثلكم، وننشق من عرف لهوكم وعبثكم ما كان لنا في ماضينا الطفلي العجيب من لهو عابث وعبث لاه، في قلوب مطمئنة متوثبة معاً، تعرف كل شيء، ولكنها لا تعرف شيئاً!
حياتكم هادئة مطمئنة لا يفزعكم فيها شيء؛ ونحن نثوب إليكم دائماً كلما ثارت بنا الحياة، أو اضطرب عليها هدوءنا وطمأنينتنا، فنراكم في حجر الطبيعة الأم الحنون، تهدهدكم وتنثر بين أسرتكم الورود والرياحين
إن الحياة تفسد الطبيعة، ولكن الطبيعة تصلح الحياة، وإلا فما كانت الحياة تسلب من علَتْ به السن معالم الطبيعة ونقاء الفطرة
أيها الأطفال!(352/35)
أراكم تجرون في العمر تريدون أن تلحقوا بنا في مضمار الحياة، ونحن كذلك نجري في طريق العمر إلى مدى لا يعلمه إلا الله
إن منكم من سيظل طفلاً برغم تقدم الحياة والسن، لأن لون الطبيعة قد انطبع على إهابه
وإن منكم من ستسلب منه الحياة فطرة الطبيعة، فيصير كأهل الحياة، يتعلم مكرهم وختلهم، وتتلاشى من نظراته تلك الأضواء البراقة التي عرفها في طفولته أسلوباً من لغة الطبيعة. والناس بهذا الوضع سيندفعون مع التيار، وتنغمر عواطفهم في العباب
ليت الطفولة لا تفارق الناس في كبرهم، ولكن هل كانت الحياة تستقيم على هذا المنهج؟
إننا إذا خرجنا عن نطاق الفلسفة أو دخلنا في نطاقها وجدنا أنفسنا أحوج ما نكون إلى أن نتخلق ببعض أخلاق الطفولة، فليست كل مميزات الطفولة غير صالحة؛ فإن بين طباعها الطهر والنقاء والصفاء؛ وما أحوجنا في كل حين أن نكون أنقياء بكل معاني النقاء!
إن الطبيعة والحياة لا تتنافران، بل ما أحوج المجتمع أن يمزج بين عناصرهما ليتحقق الانسجام والاعتدال
يريد المصلحون أن تقل من المجتمع الشرور والآثام، وهل يتحقق ذلك إلا إذا مزجنا حياة الكبار بطبيعة الأطفال
وماذا يمحو الشر والإثم غير الصفاء والنقاء. . .؟
الواقع أننا في حاجة إلى مدرسة للطفولة نعلم فيها الكبار فطرة الأطفال، نعلمهم أو نذكرهم فيها طبيعة الطفولة فيما تفردت به خصائصها ومميزاتها من الفطرة والسذاجة والنقاء
وهل ينسى من فارق مجال الطفولة أنه كان من أبناء الطبيعة فأصبح من أبناء الحياة!
أحمد محمود فهمي(352/36)
رسالة الشعر
عيد الربيع. . .
للأستاذ أحمد محرم
هتف الداعي، فلبوا يا رفاق ... واجمعوا شمل الهوى بعد الفراق
مورد العيش صفا، والجو راق ... فهو طلق الساح، فضي الرواق
ما لمن يزهد فيه من خلاق
عاد في بهجته عيد الربيع ... يزدهي في معرض الحسن البديع
هو يا أهل الهوى عيد الجميع ... ليس للهاجر فيه من شفيع
عيدكم عيد اجتماع وتلاق
كان للهجر زمان، فانطوى ... وخلت من شره دنيا الهوى
كم جريح فيه بالشوق اكتوي ... كم جريح فيه بالدمع ارتوي
كم مشوق بات مشدود الوثاق
يا شفاه الزهر، ما أبهى الشفاه ... اضحكي بالله يا دنيا الحياة
وانظمي شعر الهوى، إني أراه ... سلوة الصب المعنى في هواه
اسكبيه سلسلا عذب المذاق
لك من شعري ربيع دائم ... كل بيت فيه عيد باسم
كل معنى فيه حب هائم ... كل حب فيه معنى حالم
كل حلم يملأ السبع الطباق
مرحباً بالعيد، عيد الشعراء ... قادة الحب، وأبطال الوفاء
اعرفوهم، إنهم حول اللواء ... صفوة القتلى، وخير الشهداء
اعرفوهم واستعدوا للّحاق
يا قلوب الناس، ما هذا الجمود؟ ... أجنوب تلك منهم؛ أم لحود!
أنتِ موتي؛ وبنو الحب شهود ... ليس في الدنيا حياة أو وجود
حيث لا يوجد حب واشتياق
لا يحب الله من لا يعشق ... يشهد العقل؛ ويرضى المنطق(352/37)
كل حسن أو جمال يخلق ... فهو منه؛ وعليه يطلق
وإليه في معاليه يساق
كل حب، فهو منه وإليه ... وقلوب الناس ما بين يديه
عالم الغيب، فلا يخفى عليه ... كل ما في الكون مسطور لديه
في كتاب أزلي العهد باق
يا كتاب الحب، ما هذى السطور ... حِكم الإنجيل أم آي الزبور!
هي كالفرقان نور فوق نور ... إن فيها لشفاءً للصدور
وغنى للناس عن آس وراق
رددي يا طير آيات الحنين ... وتغني بحديث العاشقين
نبهي الأشواق في رفق ولين ... نبهيها في قلوب الراقدين
الهوى استيقظ، والحب استفاق
عبقُ الريحان، يُهديه النسيم ... وجمال الورد في الروض الوسيم
وصفاء الجو في دنيا النعيم ... ووفاء الصاحب السمح الكريم
كل هذا من أناشيدي الرقاق
كلما رددت آيات الكتاب ... في محاريب الهوى بين الصحاب
ضجت الدنيا وظلت في اضطراب ... إنما الدنيا عذاب في عذاب
وبنو الدنيا بلاء لا يطاق
تلك خمري يا رفيقي خذ وهات ... ودع الهم لأهل الترهات
نحن في المعبد نقضي الصلوات ... هات كأسي يا صريع النشوات
يا لها يا صاح من كأس دهاق
نحن في عالمنا السامي الجليل ... ديننا الإيمان، والحب النبيل
لا نبالي في كثير، أو قليل ... كل من لام خليلاً في خليل
ما لكم والحب يا أهل النفاق!
يا رفيقي ليس للحب مدى ... وقلوب الناس لم تخلق سدى
أين من يعقل، أو يبغي الهدى ... لا أرى إلا غويَّا مفسدا(352/38)
يتمادى في ادعاء واختلاق
طال عهد الزهر بالوادي الخصيب ... وتمادت وحشة النائي الغريب
وأتى (آذار) من بعد المغيب ... فتلاقى، من محب وحبيب
بين تسليم، ولثم، وعناق
يا نشيد الحب من ذا صنعك! ... غن يا (قيس) وقل ما أبدعك
كل طير يشتهي أن يسمعك ... هذه (ليلاك) يا (قيس) معك
كاذب من قال (ليلى) بالعراق
أحمد محرم(352/39)
وحي الطبيعة الغربية
الجبل الأبيض
بشاموني - فرنسا
(مهداة إلى الدكتور بشر فارس تذكاراً لزيارة ممتعة)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
يُطلُ على الكونِ من شاهقِِ ... كنسرٍ يُرفرفُ مِنْ حالق
وتلمعُ فوقَ ذَراهُ الثلوجُ ... وتَبرقُ كالأمل البارقِ
له قِمَّةٌ كلَّلَت بالمشيب ... على ظهرِه الأدكنِ الغامق
وشابَ. . . ولكنَّه لم يَزَلْ ... فَتِيَّ الغوا رب والعاتق
فما قوَّسَتْهُ همومُ السنينَ ... ولا ضَرْبةُ الزمنِ الصاعق
تَسامَى إلى جَنباتِ السماء ... وطال على رأسِها السامِق
يلوحُ عليه اتَّزانُ الوَقورِ ... وتَبدو به ثقةُ الواثق
تمرُّ عليه تَوالي العُصورِ ... ثِقالَ المؤخرِ والسابق
وتطرقه حادثاتُ السنين ... فيهزأ بالقَدَرِ الطارق. . .
هُناك صعدنا إلى مَتْنه ... وطُفنا على نَبْعه الدافق
وقد ثار جدولُه ثورةً ... تذكرني غَضبةَ الحانق
صعدنا هناك إلى عالَمٍ ... لذيذِ المنى خالصٍ رائِق
تَخَلَّصَ من صَرَخات الحياةِ ... ومن إنْسها الناعبِ الناعِق!
وَمِنْ زَفْرة الحِقْدِ بين القلوبِ ... ومن دُخْنَة النَفَسِ الخانق. . .
هناك رأيتُ شعاعَ الغروب ... يَدبُ على الثلج كالسارق
وقد طالَ وجهُ النهار الضَّحوك ... كما طال ليلٌ على العاشق. . .
وسار بياضُ الثلوج الكثيفِ ... على حُمرة الشفَقِ الغاسقِِ
وقامت على مَزْج ألوانِه ... يَدُ الصانعِ الماهرِ الحاذق
تُصَورُ كل طريفِ الجمالِ ... وكلَّ بديعِ الحلي شائِقِِ(352/40)
محمد عبد الغني حسن(352/41)
الفيلسوف المجهول
(إلى روح المرحوم الدكتور علي العناني بك)
للأستاذ عبد الرحمن الكيالي
ضلت ركاب الفكر عن أخباره ... فسعت تحت الخطو في آثاره
سبق الزمان إلى الزمان فقصرت ... عن شأوه الأيام في مضماره
هتفت بأذنيه الهموم وجلجلت ... في صدره الهمسات من أفكاره
فسمت به فوق السماء وأرسلت ... نغماته بالسحر من أوتاره
كالنجم أفرط في العلو وإنه ... ليذود لحظ الطرف عن إبصاره
لم يصبه للمجد طيف لم تزل ... همم النفوس تُساق في تياره
ورمى الخلود بنظرة لو صادفت ... طوداً أشم لدُكَّ من أقطاره
ما الخلد في عينيه إلا ومضة ... للوهم ترفل في شفيف دثاره
فتكت بأوطار النفوس ولم تكن ... لتفوز باللمحات من أوطاره
ما ضره ليل تجهم حوله ... وأحاطه بالسود من أستاره
والعود يذهب في الرماد إذا التلظي ... وهج اللهيب يشف عن أسراره
فليرتفع عن دهره متكبراً ... وليجف هذا الدهر عن إكباره
وليشد في مزماره مترنماً ... ويرى النعيم الحق في مزماره
فدعوه لا تتسمعوا نغماته ... نغماته وقف على إسكاره
لا تنفحوه بالكؤوس فقلبه ... كأس تصفق في يدي خماره
ملئت بمعسول العقار ولم تكن ... لهواتكم تسمو لرشف عقاره
فليطلع الفجر الوضئ وخلفه ... حجب ترد العين عن أنواره
وليكتم الروض الأريج عبيره ... عن كل مشتم سوى أزهاره
وليحم ذو اللب الكبير شعاعه ... أن تُخطف الأبصار من إسفاره
نفحاته قدسية جياشة ... فاضت بماء القلب من قيثاره
ما بالها سلكت سبيلاً موحشاً ... يرتاح فيه العقل من أسفاره
نسلته من دنيا الفتون ولم تكن ... ترضى بهذا الكون من سماره(352/42)
فنضا الكرى عن مقلتيه مغرد ... للفجر يهتف بانتعاش نهاره
كشف الصباح لناظريه فأبصرا ... صبح الأنام يموت في أسحاره
دفن الرقاد قلوبهم برموسه ... وحبا الرياء نفوسهم بشعاره
فانساب تحت الليل يقبس لمعة ... كالمستجير من الصقيع بناره
وازوّر عن أفق الظلام مُغبراً ... تتقطع الأعناق دون غباره
متبتل ترك الأنام وراءه ... ونجا يحطم من وثيق إساره
حتى إذا نسج الظلام حياله ... ثوب الفناء ولفه بإِزاره
أرست نوازعه وأشرق لبه ... ورمى الأزمة في يدي أقداره
فتطايرت آماله من قلبه ... مذعورة النسمات من إعصاره
وترنمت في ثغره ضحكاته ... بالسخر ترسل من فحيح جماره
ورد الحياة وفر عن آفاقها ... مستهزئاً بقدومه وفراره
(الخليل - فلسطين)
عبد الرحمن الكيالي(352/43)
الأدب في أسبوع
توطئة. . .
كتبت - في هذا الباب - منذ أسابيع بعض رأيي في الشعر والشعراء، ولم يكن همي أن أستوفي كل الرأي فيهما وليس من عملي الآن أن أفعل ذلك، وإنما هي إشارات في لمحات يأخذ بها من يأخذ، ويدعها من شاء أن يدع؛ وأنا أحب أن أقدم بين يدي كلامي. . . فإن بعض من يغافل نفسه عن حدود الألفاظ ومعانيها ينطلق من ورائها يمد منها بأوهامه مداً بعيداً حتى يخرج بما نكتبه عن المعنى الذي نريده إلى أحلام ووساوس وخطرات يحم بها ثم يغلى ثم ينتفض. . . ثم لا يكون رأيه فينا إلا وهماً، من فوقه وهم، من فوقه عناد، ظلمات بعضها فوق بعض
فأنا حين أهجم على الغرض الذي أريده من النقد أو البيان، لا أتلجلج دونه لما أخشاه من قالة السوء التي يوكل بها بعض من فرغ زمانه إلا من الفراغ الذي يستهلكه في اختلاق الأوهام واقعة وطائرة، رائحة وغادية، ثم هو يجلس إليها - بعد أن تفصل عنه - ليتأملها ويملأ عينيه وأذنيه من مفاتنها وألحانها! وأنا أحب أن يعلم من ليس يعلم أني حين أكتب عن صديقي وكأن ليس بيني وبينه سبب من مودة، وأكتب عن عدوي وكأن ليس بيني وبينه دخان من غضب. فإذا خُيَل لبعض من يتخيل أني أماسح صديقي أو أتلفف على عدوي فقد أخطأ، وإنما العيب منه لا منا. . . وذلك عيب علمه أن هذا عدو وهذا صديق، فيرى من وراء اللفظ ومن تحته ومن فوقه ومن بين يديه معاني ليست منه ولا تتداعى إليه، وإنما نحن نستوفي الكلام ونعطيه حقه على وجوهه في الرضا والغضب، ونأخذ أنفاسنا بذلك ما استطعنا، فإن الحق في هذا الذي نكتبه هو حق القارئ لا شهوات من يكتبه؛ ثم هو بعد ذلك رأينا أصبنا أو أخطأنا، وليس علينا أن نوافق هوى قارئ لأنه هواه، بل علينا أن نجتهد له في إمحاض الرأي الذي نراه ليأخذ منه أو يدع على قدر من اقتناعه أو مخالفته؛ فهذه كلمة أوَطئُ بها ما بيني وبين القراء، ليسيروا إلينا ونسير إليهم في مهاد مذلّل من الرأي والنصيحة. . .
ويعتَدُه قومٌ كثيرٌ تجارةً ... ويمنعُني من ذاك ديني ومنصِبي
الملاح التائه!(352/44)
أما (الملاح التائه) فذاك هو الصديق الشاعر المهندس (علي محمود طه)، وقد عاد بعد خمس سنوات فألقى على شاطئنا ديوانه الثاني (ليالي الملاح التائه) ثم نشر شراعه ومضى. وقد أحدث ظهور هذا الديوان الجديد - في معرضه الأنيق وشعره القوي الجميل - آثاراً في توجيه أنظار الناس إليه وإلى صاحبه ثم إلى الشَعّر خاصة، ثم اختلف الأدباء عليه بأحاديثهم وآرائهم، ولغوْا لغواً كثيراً في الأغراض التي اشتملتْ عليها ضفتا هذا الديوان الثاني من شعر (الملاح التائه). ونحن لن نعرض لشيءٍ مما قيل في ذلك إلا كما يدرج الكلام على أغراضه بالإشارة والتنبيه والبيان على مجاز السياق
والشعر أيضاً
ولاُبدّ من أن نعود مرة أخرى للحديث عن الشعر عامةً، ليكون بعض الرأي فيه مدخَلاً للكلام عن (الملاح التائه)، فإن أكثر ما قيل - عن ديوان هذا الشاعر - إنما مرُّده إلى آراء فاسدةٍ في معنى الشعر، وما هو، وكيف هو؛ وإلى الجَهْل بطبيعة الشاعر وفطرته ومن أين تأتي، وأنى تتوجَّه، وكيف تجري به إلى أغراضِها على نِظامٍ لا ينفَكُّ عنه أراد أو لم يُرِدْ
وليس يشكُّ أحدٌ أن الشَّعْر في أصله هو معانٍ يريدُها الشاعِرُ، وأن هذه المعاني ليست إلا أفكاراً عامّةً يشتركُ في معرفتها كثير من الناس، وأنها دائرةٌ في الحياة على صورتها التي تأخُذُها بها كل عينٍ، ويتداولَها من جهته كل فِكْرٍ، وأنها - إذ كانت كذلك - ليست شيئاً جديداً في الحياة ولا في معانيها وأوصافها وحقائقها، وإنما تصيُر هذه المعاني شعراً حين يعرضُها الشاعر في معرضٍ من فّنَهِ وخياله وأدِائه ولفظه، فيجدد لك هذه المعاني تجديداً ينقلها من المعرفة إلى الشعور بالمعرفة، ومن إدراك المعنى إلى التأثُّر بالمعنى، ومن فهم الحقيقة إلى الاهتزاز للحقيقة، فتجد المعنى القريب وقد نقلك الشاعر إلى أغواره الأبدية وأسراره العظيمة وكأنه قد خرج عن صورته التي ضُربت عليه في الحياة السَرّ الأول الذي أبدع هذه الصورة، وإلى الصلة التي تصل ما بين المعلوم إلى المجهول البعيد الذي لا يُرى ولا يلمس
فالشعور والتأثر والاهتزاز هي أصل الشعر، ولا يكون شعر يخلو منها ومن آثارها وتأثيرها إلا كلاماً كسائر الكلام ليس له فضلٌ إلا فضل الوزن والقافية وهذه الثلاثة لا(352/45)
يكتسبها الكلام من المعاني من حيث هي معان معقولة مدركة، وإنما هي فيه من روح الشاعر وأعصابه، ونبضات الشوق الأبدي التي تتنزى في دمه؛ فأيُّما معنًى عرفه الشاعر، وأيُّما صورة رآها، وأيُّما إحساس أحس به، فهو لا يكون من شعره إلا حين يتحول في روحه وأعصابه ودمه إلى أخيلة ظامئة عارية تبحث عن زيها ولباسها من أسلوب الشاعر وألفاظه، ثم تريد بعد ذلك زينتها من فن الشاعر لتفصل عنه في مفاتنها الجميلة كأنها حسناء قد وجدت أحلام شبابها في زينتها وأثوابها. وبقدر نقصان خزائن الشاعر مما تتطلبه أخيلته الظامئة العارية، يكون النقص الذي يلحق العذارى الجميلة التي تسبح في دمه من معانيه
والشعر على ذلك هو فن تجميل الحياة، أي فن أفراحها الراقصة في نسمات من الألحان المعربدة بالحقيقة المفرحة؛ وفن أحزانها النائحة في هدأة التأملات الخاشعة تحت لذعات الحقيقة المؤلمة؛ وفن ثوراتها المزمجرة في أمواج من الأفراح والأحزان والأشواق، قد كُفَّتْ وراء أسوار الحقيقة المفرحة المؤلمة في وقت معاً
وهو على ذلك فلسفة الحياة، أي فلسفة السمو بالحياة إلى السر الأبدي الذي بث في الحياة أسرار المستغلقة المبهمة التي تُرى ولا تُرى، وتظهر ولا تظهر، وتترك العقل إذا أرادها حائراً ضائعاً مشرداً في سبحات من الجمال تضيء فيه بأفراحها كما تضيء بأحزانها، وتفرح بكليهما وتحزن، فرحاً سامياً أحياناً، وحزناً سامياً أبداً
وإذا كان الشعر هو فلسفة السمو بالحياة، فمعنى ذلك أنه النظام العقلي الدقيق الذي يبلغ من دقته أن يكون منطقه إحساساً مسدداً لا يخطئ ولا يزيغ ولا يبطل ولا يتناقض في أسلوبه الفني ونظامه الشعري البديع، وهذا النظام العقلي النابض الذي يتلقف مادة أفكاره من الحياة لا يستطيع أن يشعر أحياناً، ولا يشعر أحياناً، كما قال بعضهم، ولا يستطيع أن يتقيد بزمان ومكان يستوحى منهما الشعر ثم لا يكون هو يستوحي من غيرهما، كما ذهب بعض أصحاب الكلام إلى القول حين ظهر (ليالي الملاح التائه) في شعر الطبيعة المصرية، وشعر الطبيعة الأوربية وما إلى ذلك من فضول الحديث
إنّ هذه الحاسَّة العاقلة المفكرة النابضة في الشاعر تأخذ مادتها من مساقط الوْحي في كل أرضٍ وتحت كل سماءٍ؛ وربَّ خمول أو فِترة تأخذُ هذه الحاسة في موطنها ومنشئها(352/46)
ومدْرجها ثم تكونُ البلاد البعيدة في مطارح الغُرّبة هي التي تنفُض عنها غبارها وتمسحه حتى تجلوها جلاء المرآة، أعداداً لها لتتلقى صُورها التي تجري في مائها إلى دم الشاعر ثم إليها مرة أخرى، ولا تزال كذلك بين الأخذ والإعطاء حتى ينبثق ماءُ الينبوع من صخرة الحياة الشاعرة
فلا يخدعنَّك ما يقول فلانٌ وفلانُ، فإنْ هم إلا أسماء قد ركبتْ على ألقابها تركيباً مزجياً على خطأ وفساد، كما ركَبّتْ حضرمَوت وبعلَبك تركيباً مزجَّياً على صحة وصواب
ليالي الملاح التائه
كل هذا الديوان شعٌر من شعر (علي طه) بعد رحلتيْه من مصر إلى أوربا في خلال هذه السنوات التي انقضت بعد نشره الجزء الأول من ديوانه وهو (الملاح التائه). وقد كانت هاتان الرحلتان وحياً جديداً في نفس الشاعر وأعصابه وأحلامه، وكانتا تغييراً في حياته عامة وفي أفكاره خاصة، ولم يكن بد إذن أن يجد قارئ هذا الديوان فرقاً بيَنّاً بين شعر (الملاح التائه) و (ليلي الملاح التائه). وليس هذا الاختلاف بشيء ألبته، فإن شاعرّيته لم تزل هي ما هي في كليهما على نمط لم يختلف، ولكنه نزع في هذا الطَّوْر الجديد إلى السهولة والرَقة ومعابثةِ المعاني والألفاظ بغزل رقيق من عواطفه. وعلةُ ذلك فيما نرى أنه انطلق من قيود مصر في أول رحلته وخرج شارداً يستجلي روائع الحياة الأوربية الزاخرة ببدائع الفن ومعجزات الحضارة والعلم، ونزلَ المنازل المتبَّرجة بفتَنها في عواصم المدن الأوربية، وعبَّ من مُسكرَاتِ الجمال الفطريَّ والصناعَّي البديع الذي تستجيده أناملُ الحضارة الرقيقة العابثة اللاهية، والتي لم تدع للفنَ معقلاً إلا لعبت به واستخرجت كنوزه وتلاعبتْ بها على أصول أخرى غير التي بنى عليها الفن القديم البارع المحكم، وعرضت له الصور التي تفتن الناس بجمالها وتهدمهم بفتنتها، وتقعُ في دمائهم موْقعاً لا تلبث معه إنسانية الإنسان أن تشتمل من جميع نواحيها بلهيب من اللذة والسكر والفرح. . كل ذلك هزَّه وهزَّ أعصابه وألقى عليه من وحيِه وتركه يقول من الشعر على السجية غير متكلَّف ولا مُنقَّح ولا راغبٍ في الكد والعناء و. . .، والحنبليَّة الفنية التي تريد البديع، فإذا أدركته طلبت الأبدع، فإذا بلغت تسامت إلى ما هو أبدع منهما؛ لا تهدأ ولا تقرُّ ولا تستريح إلى جميل(352/47)
كان هذا - فيما نرى - وكانت نفسه الشاعرة المتلقّفة - والتي تهجم بعينيها على أَبكار المعاني بنشوة الشباب العِربيد - تتلفت تلفُّت الصائد، تكاثَر الصيد بين يديه، فما يدري ما يأخذ وما يدع، وهو مع ذلك لا يزال يذكر صِغاره وأحبابه وهوى قلبه، ومن يريد أن يصنع لهم حياةً من صَيده؛ فهو يتلفَّت إليه بقلبه حنيناً وذكرى وصبابة. فهذه العواطف الدائبة في تكوين شاعريته، والتي تلونها بألوّانها وتخاريجها، هي التي جنحت به إلى السهولة والرقة والغزل الحُلو بينه وبين معانيه وألفاظه، ومن غير الممكن أن يتقيد الغزل الشعري بقيودٍ تضبطه، وإلا انقلب تكلفاً واستكراهاً وجفوة.
الجندول
وإذا أردت أن تعرف صدق الذي قلنا به من العوامل الجديدة في تلوين هذا الشعر، فخذ هذه الأغنية الجميلة التي ترنَّم بها الشاعر الموسيقي، ثم أعطاها الموسيقيّ البارع (عبد الوهاب) جوّ تغريدها في ألحان هي من شعر الموسيقى. . .
فإن الشاعر حين لعبت به فتن (عروس الإدرياتيك) في كرنفالها المشهور، وَدفِيءَ دَمهُ في أنفاسها الحبيبة المعطَّرة، وفاجأته فتنة من فِتَنِهِ التي عرضت في صبابته. . . أرقَّ فِتنة في أحلى جوّ في سِحر الليل المضيء في أجمل فن الحضارة في أحفل الليالي باللهو والعبث، والضحكات التي تتردد بين أضواء الكهرباء، حتى كأنها أمواجٌ من الضوء تضحك ضحكها - لم يستطيع أن يضبط تلك الأمواج الفرحة المعربدة في إحساسه الشاعر، فبدأ يترنَّم:
أين من عينيَّ هاتيك المجالي ... يا عروس البحر يا حلْم الخيال
أين عُشاقُك ُسُمار الليالي ... أين من واديك يا مهد الجمال
ثم انطلق يصف عاطفته وجو عاطفته وعطر عاطفته، كل ذلك بألفاظٍ غزلةٍ عاشقةٍ، تتنفس أنفاسها من المعاني المرحة، حتى في بعض اللوعة المستكنة وراءَ نفسه، والتي استعلنت في قوله:
(أنا من ضيَّع في الأوهام عمره)
بعد أن قال:
ذهبيُّ الشعر شرقيْ السماتِ ... مرح الأعطاف حُلوُ اللفتات
كلما قلت له: خذ، قال: هات ... يا حبيب الرُّوح، يا أُنس الحياة(352/48)
كل ذلك والشاعر في مرح ونعمة وخيال وافتتان، وكأنه نسي الدنيا التي ولد فيها كما (نسي التاريخ أو أنسى ذكره). . . ولكنه لا يلبث يتلفت بعد ذلك تلفتاً مؤثراً عجيباً، هو دليل الشاعرية الصحيحة التي اشتمل عليها تكوينه العصبي. . . يقول:
قال: من أين؟ وأصغي ورنا ... قلت: من مصر، (غريب) هاهنا
(غريب)، هذه كلمة النفس الشاعرة في مكانها من العاطفة وفي أقصى مدَّها من التأثير، إنه حرف يبكي من الغربة والحنين والذكرى، ولو سقطت هذه الكلمة من الشعر لسقط كل الشعر ولسقط معه رأينا في العوامل التي عملت في شعر (علي طه) بعد رحلته إلى أوربا، لو قال: (من مصر) وسكت، أو أتى بذلك الحشو الذي لا معنى له، والذي يكثر في شعر الضعفاء، لا نسلخ عن الشعر إلى سؤال يتلقاه المرء من فضولي قائم على طريق السابلة، وجواب استخرجه الفضول واللجاجة. . . ثم هي بعد ذلك التفات يخيل لك معه أن الشاعر قد رد فقال: من مصر، ثم انفتل بوجهه إلى مصر، وتلقى دمعة يموَهها بيده ويمسح أثرها بمنديله - في هذا الجو المرح العابث اللاهي - وهو يقول: (غريب هاهنا)
هذا. . . وقد أخذت هذا الموضوع وحده من القطعة لشهرتها الآن وليتدبر من يسمعها فإن فيها من أمثال ذلك كثير، مما هو دليل الشاعرية الناضجة التي لا تخطيء معانيها. ولو أخذت سائر شعره على هذا الأساس الذي كشفنا لك عنه في حديثنا عن الشعر لوقفت على روائعه التي هي روائعه
محمود محمد شاكر(352/49)
رسالة الفن
نحو التربية الفنية
هذا أستاذ
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل تستطيعين أن تساعديني على ترشيح صاحب ديوان (الجداول) ليكون أستاذاً في كلية الآداب؟
- ما ديوان الجداول هذا، ومن صاحبه، وأين هو، وما الذي يميزه على غيره حتى تطلب له أن يكون أستاذاً في كلية الآداب عندنا، وأنت تعرف أن للأستاذية فيها شروطاً، منها، أن يكون الأستاذ حاصلاً على الدكتوراه؟
- ديوان الجداول هو مجموعة من شعر إيليا أبي ماضي، وهو به يستحق أن يكون أستاذاً في كلية الآداب، أما الدكتوراه فشهادة يمنحها القارئون الكبار للقارئين الصغار، ولكن إيليا أبا ماضي لم يعد قارئاً، ولا كاتباً، وإنما هو إنسان ينفذ من هذا الوجود المحسوس إلى ما بعده، ثم يعود إلى الناس يروى لهم ما رأى وما سمع وما أحس وما أدرك. . . وهو من كثرة تجواله في آفاق الكون ألم بالكثير من دروبه، وأحاط بالكثير من طرقه، فهو يستطيع أن يكون رائداً لجماهير من التلاميذ تتبعه، يرشد منهم من يسترشد، ويوجه منهم من يحار، ويعلم منهم من يرتبك، ويهدي منهم من يضل. . . وهذا هو عمل الأستاذ. أستاذ الأدب
- هذا عمل الفارغ من حياته المستغنى عن عمره وليس عمل أستاذ الآداب
- ولن يكون الإنسان أستاذاً للآداب إلا إذا فرغ من حياته واستغنى عن عمره، واشترى بهذه الدنيا شيئاً آخر، هو الأدب. والأدب ليس كما تحسبين كلاماً منمقاً مزوقاً لبعض الناس قدرة على تخليقه، والبعض الآخر عاجزون عنه، وإنما الأدب تربية نفسية يجاهد اليتيم في تقويم نفسه بها، وغير اليتيم يسعد بما يربيه عليه أبوه أو أستاذه. واليتامى مساكين، قليلاً ما يوفقون إلى الهدى وكثيراً ما يفلت زمام أنفسهم من أيديهم فينطلقون في الحياة ونفوسهم مشردة معربدة تنغمس في الرذيلة حيناً، وتتخبط أحياناً بين الرذائل والفضائل، ولكنها لا تستقر على فضيلة إلا ما فرضه عليها مجتمع اليتامى المشردين الذين يحيطون بها، وليس(352/50)
يفرض هذا المجتمع كثيراً من الفضائل، فهو كمجتمعات المشردين والمشبوهين من اليتامى والمساكين الذين ترينهم ملقَين في الشوارع. . .
- وهل فرغ إيليا أبو ماضي من حياته حقاً وتوفر على تأديب نفسه، فهو إذن قادر على أن يؤدب غيره؟ وإذا كان قد فرغ من حياته حقاً فمن أين يأكل. . . وكيف يعيش؟
- إنه يأكل كما تأكل الطير في السماء، ويعيش كما يعيش الحر الكريم؛ منذ سنوات وسنوات هبط مصر وأراد أن يستقر فيها، فاتخذ لنفسه محلاً يبيع فيه السجاير والدخان ووقع عليه أنطون الجميل بك فرآه يكتب شعراً في الدكان، فقرأ شعره فأعجبه فنشره في مجلة كان يصدرها، فقامت قيامة الأدباء والشعراء المصريين عليه فأوسعوه نقداً، وأوسعوه تجريحاً، وتناولوا ألفاظه ولغته وراحوا يناقشونه في هذه الفاء ما موقعها من الإعراب، وهذه النون لماذا هي مفتوحة وهي في الأصل مضمومة، وهذه الهمزة، لماذا قطعها وهي همزة وصل؟ وتكاثروا عليه، وكان في مصر إذ ذاك أمير للشعراء هو المرحوم أحمد شوقي بك، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول كلمة ينقذ بها إيليا من بين براثن هؤلاء الذين ينقدون الشعر بغير ما يصلح نقداً للشعر، وكان رحمه الله يستطيع أن يقول لهؤلاء النقاد: إني أربأ بالشعر أن يعيبه هذا الذي تروون مما يعيب اللغة والعروض والنحو وسائر ما يحصل بالقراءة والدرس، وإني أرفع الشعر فوق هذا كله، فهو حديث النفس والنفس من الله وليس لله لسان مما ننطق به. كان شوقي بك رحمه الله يستطيع أن يقف من إيليا هذه الوقفة ولكنه - رحمه الله - كان مشغولاً بشعره هو وبنفسه هو، وبالملك العريض الذي أرسله فيه الزمن، فلم يشعر مطلقاً بالذي حدث لأبي ماضي، ولم يطق أبو ماضي صبراً على هؤلاء المهاجمين فشد رحاله إلى أمريكا، حيث يتكلم الناس بالإنجليزية، وحيث لا عرب إلا الباحثون عن الرزق، والخارجون من أوطانهم وأيديهم صفر، ثم استطاعوا هناك في أشد معامع الحياة ازدحاماً واصطراعاً أن يجمعوا المال وأن يعيشوا به كراماً، لا ذل يرهقهم إلا الغربة ولا مستعبد يزيحهم عن الأرض؛ وإنما لكل امرئ هناك ما سعى، ولقد سعى أبو ماضي فأنشأ هناك مجلة اسمها السمير ويقولون: إنه أنشأ متجراً للدخان والسجاير أيضاً؛ وراح بعد ذلك يتأمل الدنيا ويرنو إلى الآخرة، ويقيد على الورق ما يتكشف له من الحقائق، وما يلمحه من المبهمات، ويسجل على نفسه بلوغها وقصورها، وخيرها وشرها،(352/51)
وهداها وحيرتها أفلا يصلح هذا أستاذاً لأدب النفس؟ فإن كان لا يصلح، فمن ذا الذي يصلح؟!
- ولكن هذا الذي رويته من حياته يدل على أنه من رجال الدنيا المغامرين الذين يجرون وراء الرزق والمادة من آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا فكيف تقول إن هذا رجل فرغ من الحياة واستغنى عن مادتها؟
- البلبل يطير من فنن إلى فنن يتلقط رزقه، ولكنه لا يقضي كل وقته في البحث عن طعامه، وإنما يقضي أغلبه في الشدو والترتيل فهما طبعه وقد اختص بهما، وليس الأكل من طبعه إلا كما هو من طبع الخلائق، وليس الشدو والترتيل من خصائص غيره إلا من كان على طرازه من الخلائق. فأبو ماضي لم يجد رزقه في الشام فطار إلى مصر، فوجد فيها الرزق مقدوراً عليه فطار إلى أمريكا، فوجد فيها رزقاً مباحاً طاهراً قد يكون كثيراً وقد يكون قليلاً ولكنه نقي غير محسود، فلا عجب إذا اطمأن أبو ماضي هناك. . . ولكن ثقي أنه يحن إلى الشرق، ولعل أغلب حنينه يهتاج إلى مصر فهو يقول:
وطنان أشواق ما أكون إليهما ... مصر التي أحببتها وبلادي
ومواطن الأرواح يعظم شأنها ... في النفس فوق مواطن الأجساد
حرصي على حب الكنانة دونه ... حرص السجين على بقايا الزاد
بلد الجمال خفيه وجليه ... والفن من مستطرف وتلاد
عرضت مواكبها الشعوب فلم أجد ... إلا بمصر نضارة الآباد. . .
- ولكن هذا شعر يسير المعنى قريب اللفظ. . . أليس له شعر أحلى؟
- له. . . له كل هذا الديوان الذي في يدي، وله غيره. . . وبارك الله لصاحب الرسالة الذي ينشر فيها بين الحين والحين شيئاً من شعره، وكم أريد أن أقول أيضاً بارك الله لوزارة المعارف لو أنها عطفت على تلاميذها وطلابها ويسرت لهم شيئاً من هذا الشعر
- ولكنه لا يزال حياً يرزق، والدولة لا تخلد إلا من فارق الحياة. . .
- فأل الله ولا فألك، فوزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ الجارم الموظف بوزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الأستاذ أحمد أمين عضو لجان وزارة المعارف، ووزارة المعارف تخلد كلام الدكتور طه حسين بك مراقب الثقافة بوزارة المعارف، ووزارة(352/52)
المعارف تكاد لا تلتفت إلا لمن كان في وزارة المعارف، منذ حسنين باشا صاحب كتاب الطبيعة، وعبد الفتاح صبري باشا، وكل ما في الأمر أن الصور تتبدل وتتغير، وأن الكلام يتلون ويتشكل، ولكن الأمر لا يزال كما كان: موظفون يؤلفون كتباً. ثم يؤلفون لجاناً. فتقرر اللجان الكتب. . .
- اخسأ. لا تقل عن هؤلاء الأساتذة الإجلاء إنهم أصحاب أهواء ولا مطامع فهم الأدباء الذين في البلد، وهم الشعراء وهم الكتاب، فإذا لم تأخذ الوزارة كتبهم فأي الكتب تأخذ؟
- إن أساتذتنا هؤلاء هم أساتذة الجامعة، فأحرى بهم أن يوفروا أنفسهم للعلم؛ لأنهم على العكس من إيليا أبي ماضي. . . هو يتاجر في الدخان ليأكل منه وليفرغ للأدب لا يذل نفسه، وهم يتاجرون بالأدب ليأكلوا منه لا يعتزون بأنفسهم، ولا يشكرون الله على ما يسر لهم من وظائف. . .
- ثق أنك مخطئ، وثق أنهم أرفع نفساً مما تحسب، وثق أنهم يتجشمون في سبيل تثقيف البلد ما أسأل الله أن يجزيهم عنه خيراً. . .
- آمين. . . أسمعي أبا ماضي يصف الشاعر:
أتقولون إنه مجنون
أتقولون إنه مفتون
أتقولون شاعر مسكين
كم مليك كم قائد كم وزير ... ود لو كان شاعراً مسكينا
عاش ملتن فلم يكن مذكورا
وهو ميروسْ كالشيخ كان ضريرا
ولقد مات أبن برد فقيرا
أرأيتم كما رأى العميان ... أفلستم بنورهم تهتدونا؟
- هل هو زاهد؟
- نعم، وهو يقول في الزهد:
قيل: أدرى الناس بالأسرار سكان الصوامع
قلت: إن صح الذي قالوا، فإن السر شائع(352/53)
عجباً! كيف ترى الشمس عيون في براقع
والتي لم تتبرقع لا تراها؟. . .
لست أدري. . .
- إذن فهو يسخر من الزاهدين. . .
- إنه لا يسخر من شيء مطلقاً وإنما هو متطلع إلى الوجود يتعلم الحكمة فكلما تعلم حكمة تفتقت له من ورائها حكمة، فهو لا يزال كلما تعلم علماً تبين له في نفسه جهل حتى يقول:
إنني جئت وأمضي، وأنا لا أعلم
أنا لغز، وذهابي كمجيئي طلسم
والذي أوجد هذا اللغز لغز مبهم
لا تجادل. . . ذو الحجى من قال إني. . .
لست أدري. . .
- لعله كافر. . .
- الكافر لا يقول للناس:
لو دخلتم هياكل الإلهام
وسرحتم في عالم الأحلام
واجتليتم سر الخيال السامي
وعرفتم كما عرفنا الله ... لخررتم أمامنا ساجدينا
- إذن فهو مؤمن. . .
- ومسلم في مسيحيته، لو عرفتِه لوافقتني على ترشيحه للأستاذية في كلية الآداب يعلم طلابها الإيمان والحكمة شعراً، ويؤدب نفوسهم أدباً، فإذا تعذر هذا أو صعب فلا أقل من أن يعرض على التلاميذ ديوانه.
عزيز أحمد فهمي(352/54)
رسالة العلم
تضارب في الرأي يؤدي إلى كشف خطير
للدكتور محمد محمود غالي
من الفكرة الشيئية إلى فكرة الأثير - هجرة العلماء الفكرة
الشيئية واعتناقهم الفكرة الحديثة - تجربة (ميكلسون) والأثير
- هجر العلماء الفكرة الحديثة وترددهم فيها - تطور يتفتح
عن تعديل في الميكانيكا النيوتونية - لا تعديل في الضوء
نرافق القارئ في مرحلة من العلوم تضاربت خلالها الآراء، تلك المرحلة التي حاول الإنسان فيها أن يفهم الظاهرة الضوئية، ويتعمق في معرفة كنه (الفوتون)، وهو الذرة التي تتكون منها الأشعة على اختلاف أنواعها، والتي كانت عند (نيوتن) جسيما صلباً، وعند (فرنل) موجة، وهي اليوم عند (دي بروي) جسيم وموجة مستصحبة له، وقد شرحنا للقارئ النظرية الشيئية للضوء التي أسسها (نيوتن) والتي موجزها في أن الضوء مكون من جسيمات صغيرة مقذوفة في الحيز في خط مستقيم وبسرعة كبيرة، وذكرنا أن ظواهر الضوء الهندسي من تكوين ظلال الأجسام عند وضعها أمام منبع ضوئي ومن انكسار الأشعة الضوئية عند اختلاف نوع المادة التي يخترقها الضوء، يجوز تفسيرها بالنظرية الشيئية النيوتونية، وعرضنا للقارئ ظواهر أخرى للضوء مثل ظاهرتي التداخل والاستقطاب اللتين كشف إحداهما أيمكن تفسيرها بالنظرية الشيئية المتقدمة، ويمكن ذلك باللجوء إلى فكرة فرضية، فكرة أثيرية أسسها الرياضي (ويجانز) والمهندس الطبيعي (فرنل) ونذكر للقارئ اليوم أن ظاهرتي التداخل والاستقطاب لم تكونا وحدهما سبباً لهجر الفكرة النيوتونية واعتناق المذهب الأثيري، بل إن ثمة ظاهرة أخرى من أهم الظواهر المعروفة وهي ظاهرة (الحيود) في الضوء يتيسر تفسيرها أيضاً باللجوء إلى فكرة نيوتن، وأمكن تعليلها بالنظرية الأثيرية أو الموجية المتقدمة، وتتلخص هذه الظاهرة في أنه قد ثبت بالملاحظة، عند ظروف معينة، أن الضوء لا يسير في خط مستقيم كما هو المعتقد منذ(352/55)
القدم، بل إن الأشعة الضوئية عند مقابلتها جسماً محدداً بحافة مستقيمة تميل بحالة تدل على حيدها عن مسارها، وتتضح نتيجة ذلك من ظاهرة تشبه ظاهرة التداخل التي تكلمنا عنها
وأمام ظواهر طبيعية لم يكن يعلمها الأقدمون شيد (ويجانز) الهولندي هيكلا رياضياً رائعاَ، وقام (فرنل) بتجارب بالغة حد الإتقان وحسابات لا يتطرق إليها الشك، وهجرا، عن عقيدة، النظرية الشيئية للضوء، وأسسا افتراضاً لفهم الظواهر الضوئية موجزه في أن الضوء حادثة أو أمواج وقعت في مادة تملأ الكون بأسره، وهي مادة الأثير التي طالما سمع القارئ عنها في الكتب العلمية البحتة وفي البحوث الفلسفية، والذين يراجعون اليوم منا تلك الحسابات الباهرة لويجانز وفرنل ويعيدون بعضاً من هذه التجارب الرائعة يتجولون في الواقع في هيكل من أجمل الهياكل التي شيدها الإنسان المفكر ويشاهدون ناحية من أبدع مناحي العلم التجريبي، وهكذا كانت ثقة فرنل بالوسط الأثيري الذي افترضه افتراضاً ثقة علمية ذهبت به إلى حد معاملة (الأثير) معاملة الأوساط المادية، وذلك بالقيام بحسابات رياضية حاول أن يعلم منها الدرجة التي يتحرك بها هذا الأثير عندما تتحرك المادة فيه، وقد دلت تجربة فيزو الذي قام بقياس سرعة الضوء في أنبوبة تحمل ماء متحركا على أن سرعة الضوء في اتجاه حركة الماء تختلف عن سرعته في الاتجاه المضاد، وبذلك بيَّن بطريقة تجريبية حركة للأثير توهمها فرنل الذي نظر إليه كمادة موجودة في الوجود تسري عليها قوانينا الطبيعية ونعاملها معاملة ميكانيكية، ولم يصبح الأثير بذلك فرضاً رياضياً فحسب، بل مادة كائنة في الوجود نطبق عليها قوانين: (جاليليه) و (نيوتن) الميكانيكية، وكانت ظواهر التداخل والاستقطاب والحيود السبب في انتصار هذا النوع من التفكير، وفي تأييد نظرية أثيرية موجية يصح أن نسميها هنا لأول مرة: (النظرية الفريجانزية) نسبة لاسمي فرنل وويجانز.
ولكن رغم هذه الانتصارات المتتابعة ظل الأثير وسطاً عجيباً، إذ يجب أن يكون له خواص الأجسام الصلبة بحكم أن الضوء أمواج مستعرضة، وليس أمواج طويلة، وكانت الفكرة في مولد الأثير عن فرض نظري لتفسير وقائع معينة سبباً جعل العلماء ينظرون إليه بشيء من عدم اليقين، ولم يكن هناك لإثبات وجوده وحركته غير تجربة واحدة لفيزو، لا تكفي باعتبارها تجربة واحدة وصادرة من مصدر واحد أن تقوم دليلاً قاطعاً على وجوده(352/56)
هذا الشك في الوسط الوهمي الذي افترضه العلماء افتراضاً جعل العالم الكبير ميكلسون يقوم بتجربته الشهيرة التي وإن مضى عليها الآن ستون عاماً إلا أن الأثر الذي أحدثته لم يكن بالأمر الهين، وهي التجربة التي أراد أن يعرف منها كيان هذا الأثير، بل يعرف شيئاً عن وجوده أو حركته
لجأ ميكلسون إلى استنباط جهاز يتركب من ذراعين اب اج طولهما واحد وأحدهما عمودي على الآخر، ووضع مرآة في طرف كل ذراع كما هو مبين بالشكل (1) ووضع عند امنبعاً ضوئياً وأرسل منه في الاتجاه اب شعاعاً ضوئياً يصل للمرآة ب وينعكس مرة أخرى إلى امتتبعاً السهمين اب ب ا، كذلك أرسل من اوفي الاتجاه اج شعاعاً آخر يصل للمرآة ح وينعكس إلى اوفق السهمين اح ح ا
وبديهي أنه في الحالة التي لا يتحرك فيها الجهاز في الأثير، فإن الضوء يأخذ الوقت ذاته لعمل الرحلة اب ا، والرحلة اح ا. كذلك في الحالة التي يتحرك الجهاز فيها في الاتجاه اب مثلاً، ويتحرك الأثير في الاتجاه ذاته بنفس السرعة، فإن الزمن للشعاعين يجب ألا يتغير، ولكنا نعرف من تجربة فنرو السابقة أن الأثير يتحرك بحالة ضعيفة في اتجاه الجهاز، وعليه فيجب أن يكون هناك فارق في سرعة الشعاعين، ويدل الحساب على أن الشعاع اب ا، يجب أن يأخذ فترة من الزمن أطول من الفترة التي يأخذها الشعاع اح ا؛ ومن الواضح أنه يجب لنجاح التجربة أن يتحرك الجهاز بأكبر ما يمكننا من السرعة، حتى يكون في الإمكان قياس الفرق بين الحالتين، نظراً لعظم سرعة الضوء، ولا شك أن القارئ يتساءل الآن: أنَّى لنا هذه السرعة للجهاز التي تجعلنا نستطيع أن نقيس الفارق بين سرعته وسرعة الضوء التي تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية؟ ولكن ميكلسون وجد ذلك في الأرض نفسها، ذلك أن الأرض غير ثابتة، وتسير حول الشمس سيرها الأبدي بسرعة تبلغ 30 كيلومتراً في الثانية، وعلى ذلك، فقد كان على ميكلسون أن يعتبر الأرض ذاتها كجزء من جهازه، ويبحث دون تحريك الجهاز عما إذا كان هناك فارق في الوقت الذي يتخذه كل من الشعاعين
ترى ماذا كانت النتيجة التي وصل إليها (ميكلسون)؟ لقد وصل إلى نتيجة غير منتظرة بل نتيجة عجيبة. ذلك أنه لم يجد أي فارق بين سرعة الشعاعين رغم أن دقة التجربة كفيلة(352/57)
بأن تظهر أقل من ذلك الفرق. وهكذا كانت تجربة ميكلسون بمثابة ضربة قاضية على وجود الأثير.
ومع ذلك فإن وجود حالة موجية للضوء أمر لا يقبل الجدل وهي حالة تستدعي وجود مادة أثيرية لها خواص الأجسام الصلبة - من ذلك حصلت أزمة علمية عصيبة، فلا المتذهبين بمذهب نيوتن بقادرين على تفسير ظاهرتي التداخل والاستقطاب وغيرهما ولا الآخذين برأي الموجية ووجود الأثير وهم التابعون لفرنل وويجانز بمستطيعين أن يفسروا لنا تجربة (ميكلسون)
وإزاء هذه الصدمة العنيفة كان يجب أن يبحث العلماء عن طريقة جديدة، وقد انتهى بهم البحث بعد وقت ليس بالقصير إلى أن الضوء ليس هو الذي يجب أن يكون موضع التعديل إنما هي معارفنا عن الميكانيكا وعن الحيز والزمن هي التي يجب أن تعدَّل، وكان على العلماء أن يتفهموا الكون وقوانينه بطريقة غير الطريقة النيوتنية، التي اعُتبرت صحيحة سنوات طوال، والتي كانت في الواقع طريقة تقريبية لكي نفهم الدار التي نعيش فيها، ولكنها لم تكن كافية لكي نفهم تفاصيل هذه الدار
هنا ينحني جيلنا أمام معادلات لورنتز التي سنتكلم عنها، وهي المعادلات التي أدمج فيها الزمن في الحيَّز والحيز في الزمن، بل وينحني جيلنا أمام تفكير أينشتاين الذي أفاد من هذه المعادلات فخرج بنا من المأزق السابق، وأفهمنا الكون على صورة غير التي عهدناها له، ولعل القارئ قد أفاد من تتبع هذه الأزمة الطبيعية التي بدأ بتمثيل الدور الأول منها شيخ علماء الأجيال المنصرمة (نيوتن) والتي ظهر في آخر فصولها شيخ علماء الجيل الحالي (إينشتاين)
ولكنا نورد، قبل الدخول في تفسير معادلات (لورنتز) ونظرية (أينشتاين)، ملخصاً عن الضوء كظاهرة كهربائية وعنه كظاهرة مادية، وسيعلم القارئ منها أن الموجات الضوئية ما هي إلا سلسلة تموجات عامة في الكون، تبدأ بموجات كبيرة أطوالها بضعة كيلو مترات، وهي الأمواج الكهربائية أو (الهرتزية) نسبة للعالم (هرتز) والتي نعرف منها الأمواج الطويلة والوسطى التي تتنقل من مكان إلى مكان متتبعة منحني سطح الأرض ونعرف منها الموجة القصيرة، وهذه الأخيرة تصل من مكان إلى آخر بالانعكاس على الطبقات العليا من(352/58)
اليونات الجوية
تلي هذه السلسلة من التموجات الموجات تحت الحمراء ثم الموجات المرئية من اللون الأحمر إلى البنفسجي، ثم تلي ذلك الموجات القصيرة غير المرئية، التي تبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتستمر إلى الأشعة السينية بإشعاع الراديوم وبالأشعة الكونية التي كتبنا عنها
وسيتبين للقارئ من استعراض الضوء كظاهرة مادية ما للضوء من ضغط على المادة، وهو الضغط الذي أمكن حسابه وقياسه، كل ذلك يقودنا إلى فكرة النسبية وإلى نظرية الكم نتناولهما قبل أن نتناول موضوع التفتت الذري الموضوع الذي يتطلب الإنسان من ورائه مستقبلاً أرقى مما وصل إليه، ويتطلع إلى نوع من المدنية عجيب، قد يختلف جد الاختلاف عن المدنية التي نستمتع بها اليوم.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(352/59)
القصص
أّمٌّ بلا ولد!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت خديجة في الخامسة والعشرين من عمرها، أو لعلها قد جاوزتها، وإن كانت تبدو لمن يراها أصغر من ذلك؛ فهي قد نالت شهادة (المعّلَمات) منذ سبع سنين؛ فكم كانت سنها يومئذ؟. . . على أن ذلك لم يكن يعنيها كثيراً، ولعلها لم تشغل نفسها يوماُ بحساب عمرها؛ وماذا يجدي عليها ذلك وإنها لسعيدة بحياتها التي تحيا؛ فما لها فكر في غد ولا أمل يمتد إلى ما وراء غد!
وهل يشغل نفسه بحساب عمره وما مضى من أيامه - إلا ذو أمل يعيش به من يومه في غده، أو عاشق تتجاذبه لهفة الذكرى وخطرات المنى؟
منذ سبع سنين لم تغير خديجة شيئاً من نظام حياتها، فهي تغادر مدرستها كل يوم قبيل العصر بعد أن تودع تلميذاتها وتلاميذها، لتلقاهم في صبيحة اليوم التالي أشوق ما تكون أمٌ إلى بنيها وبناتها!
وفيما بين مسائها وصباحها لم يكن لها من عمل إلا أن تأوي إلى غرفتها تقرأ في كتاب، أو تشارك في عمل هين من أعمال البيت، أو تخرج لزيارة بعض جاراتها وصديقاتها منذ أيام الدراسة؛ فإذا بدا لها يوماً أن تخرج إلى بعض الحدائق العامة للرياضة، أو تشاهد رواية جديدة في السينما، أو تقصد إلى بعض المشاهد التي يؤمها الناس للتفرج - فلابد لها يومئذ من رفيقات أو رفقاء من تلاميذها الصغار في روضة الأطفال يشاركونها في الرحلة والتفرج!
على أن هذا الحب العجيب الذي كانت تمنحه هؤلاء الصغار لم يكن بلا جزاء؛ فقد كان تلاميذها يبادلونها حباً يفوق ما يمنحون آباءهم وأمهاتهم اللائى ولدنهم!
وما كانت خديجة هي المعلمة الوحيدة في روضة الأطفال؛ فإن سبع معلمات يحملن معها أعباء العمل المدرسي؛ ولكنها هي وحدها - بهذه العواطف الأمومة الصادقة - كانت في عيون أطفالها هي المعلمة الوحيدة. لا جرم كانت خديجة بذلك أسعد زميلاتها وأكثرهن شعوراً بمسرات الحياة!(352/60)
وغنيت خديجة بدنياها تلك عن المنى والأحلام؛ فما طوعت لنفسها أن تحلم أو تتمنى، ولا هجس في قلبها أن وراء هذه الحياة التي تنعم بهدوئها حياة تتخايل في أوهام كل فتاة في فنون وألوان!
وكان صباح، وجاءها ساعي البريد بخطاب. . .
ونظرت الفتاة في غلافه قبل أن تفضه فأطالت النظر، وكأنما أحست وراءه عينين تنظران إليها نظرة لم تفهم معناها ولا رأت مثلها لذي عينين؛ وقرأت على الغلاف: (الآنسة خديجة. . .) من يكون صاحب هذا الخط؟. . . وترددت برهة، ثم همت أن تفضه لتعرف ما فيه، ولكنها لم تفعل؛ لقد خيل إليها أن أربع عشرة عيناً تنظر إليها لتعرف قبلها ما في هذا الخطاب؛ إن زميلاتها في المدرسة على مقربة!. . . وتصنعت عدم المبالاة ووضعت الرسالة في حقيبتها وما قرأتها. . .
ولأول مرة أحست خديجة أنها في حاجة إلى أن تبتعد عن أطفالها لتخلو إلى نفسها برهة، وكما تحاول الأم أحياناً أن يبعد عنها أطفالها وهم أحب إلى قلبها لتخفى عنهم بعض أسرار الأمومة، كذلك فعلت خديجة. . .!
وأوت إلى ركن قصي تقرأ رسالتها. . . . . .
(عزيزتي خديجة!
(تُرى هل تذكرين؟ أو تعرفين؟. . .
(إن أياماً لا أتمتع فيها بمرآك، ليست من الحياة؛ إن هذا القدر الذي أبعدني عنك إلى حين، قد صدع صدعاً في أيامي!
(وفاجأني الفراق وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودعك يا عزيزتي، ولم أتحدث إليك، وسافرت وما تدرين. . .
(تُرَى بماذا تحدثك نفسك الآن يا عزيزتي؟. . . ليتني قريب منك، فأرى، وأسمع، وأعلم. . . بل إنني لأعلمُ علمَ قلبي وإن لم تحدثيني. . . وستعرفين عذري، وتغفرين لي. . . وسنلتقي من بعد يا عزيزتي فأحدثك وتحدثينني؛ وأضحك وتضحكين معي حين نذكر هذا الحاضر بعد أن تطويه الأيام في مدرجة الماضي. . .
(لست أغفر لنفسي ولكنك ستغفرين لي؛ ويوم يجمعنا القدرُ الذي فرَّق بيننا يا عزيزتي،(352/61)
ويعود ما كان. . . وأراك. . . ويعود الربيع النضر طلقاً ضاحكا يتهلل. . . يومئذ أقول لك. . . لا؛ لستُ قائلها اليوم، ولن أقولها غداً، سأجعلها رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنك؛ فتضحكين، وأضحك، ويضحك الطفل الصغير كأمه وأبيه وإن لم يعرف لماذا يضحكان. . .!
(كيف أنت الآن يا عزيزتي؟ هل رضيتِ وسرّى عنك؛ إن كان كذلك فاكتبي إليَّ لتهدأ نفسي. . .
(مضى يومان وأنا في هذا المنأى البعيد كأنهما ليلٌ مطبق ليس وراءه نهار؛ فكيف تمضي الثلاثون؟
(ارقبي مطلع الهلال يا عزيزتي فإني أرقبه كل مساء لأعرف متى يحين اللقاء!
(وأترك قلبي لديك وديعة إلى معاد!)
محبك: كامل
كانت أناملها باردة كالثلج، وكانت شفتها تختلج، وكانت الصحيفة مبسوطة تحت عينيها ولا تكاد ترى؛ وأحست فجأة، وقد بلغت آخر الرسالة، مثل إحساس من يهبط من علوٍ َشاهق مغمض العينين إلى واد من أودية الجنة كان مخبوءاً عن عينيه فلما وطئته رجلاه فتّح فرأى. . .
وعادت تقرأ الرسالة ثانية وثالثة، وكل مرة تُجِدّ لها فكراً وتوقظ معنى؛ ثم طوت الكتاب برفق وأودعته غلافه، وراحت تفكر. . . وسألت نفسها: (تُرى من هو؟ وأين هو؟ ومتى رآني؟ وأين. . .؟)
وتوزعتها الصور والأوهام، وراحت تكدّ خاطرها، لتذكر وتعاقبت على مخيلتها صور ورسوم، ولكنها لم تعرف. . . أيّ حيرة؟ فتى يبلغ حبها من نفسه هذا المبلغ، فيكتم هواه عنها وعن الناس، ويقنع منها بالنظر على مبعدة وهي لا تدري؛ ويطوى جوانحه على ألم الحب، وبرجاء الوجد، وشقة النوى؛ وهي لا تعرف من أمره، ولا تسمع من خبره، ولا تحس وقع نظرته؛ حتى إذا أبعدته بعض شئون الحياة عن طريقها، وحيل بينه وبين أن يراها، غلبه الهوى على الكتمان فباح بحبه وأمانيه في رسالة.
أيُّ فتىً ذاك؟ وأين مثله في الشباب؟ يا له من رجل!(352/62)
وأحست الفتاة بعد فترة، أنها قد غابت كثيراً عن أطفالها؛ فأصلحت شأنها وعادت إليهم؛ ولكن خديجة التي فارقتهم غير خديجة التي عادت. . .
. . . ودق الجرس، وقامت خديجة لتودّع أطفالها وتمضي لشأنها، ولكن أين تذهب اليوم؟
وأخرجت الرسالة من حقيبتها وأخذت تقرأ. . .
(عزيزتي خديجة!)
إنه يعرف اسمها، على حين لم تكن تعرف اسمه ولا تحس وجودَه؛ بلى، وإنها إلى الساعةِ لا تعرف من اسمه إلا الكلمة الواحدة التي جعلها في ذيل كتابه؛ وكم مرة رآها، وأتبعها عينيه، واستمع إليها تحدّث صواحبها في الطريق، وهي لا تدري. .!
وعادت تقرأ:
(وفاجأني الفراقُ وأنا بين غفوة الأمل وصحوة الحلم؛ فلم أودّعك يا عزيزتي، ولم أتحدّث إليك. . . وسافرتُ وما تدرين. . .!)
وخفق قلبها، وأحست مثلَ إحساس المفارقِ حِيلَ بينه وبين الكلمة الأخيرة؛ وعضت على شفتها؛ واستمرت تقرأ وفي قلبها وجيب، وفي دمها سعار تلهب!
وجلست خديجة في الشرفة في المساء ترقب مطلع الهلال وتحصي ما بقى من ليالي البعاد!
تغيرت حياة خديجة بعد ذلك اليوم؛ فكأنما هي تعيش في دنيا غير الدنيا التي عرفتها منذ كانت؛ وتضاعف إحساسها بالحياة مذ عرفت أن وراء اليوم غداً، ورأت في عيون أولئك الصغار الذين تعيش معهم نصف حياتها - معاني جديدة لم ترها في عيونهم من قبل؛ إذ كملت في نفسها معاني الأمومة حين بزغ في قلبها الحب. وعمر ليلها بالأحلام!. . .
ولمحت طفلاً يهمس في أذن رفيقه؛ فاشتاقت أن تسمع رسالة على فم طفل صغير يلثغ بها همساً في أذنها فتضحك ويضحك شخص ثان. . .!
ووسع خيالها ما لم يكن يسع!
وتعاقبت الأيام، والأحلام تطاولها وتمد لها. . .
ولما خلت إلى نفسها في غرفتها بعد أسبوعين من تلك الرسالة، اعترفت لنفسها بصوت مسموع أنها تحبه، وأنها تكاد تعرفه لو رأته. . . بل إنها لتعرفه يقيناً لا شبهة فيه. . . هكذا زعمت وهي خالية إلى نفسها تحدثها!(352/63)
وارتسمت في خيالها صورة كاملة للرجل الذي جاءتها رسالته ولم تره قط، ورسمت لنفسها صورة أخرى من خيالها يوم تراه فتعاتبه ثم تصفح عنه!
وبقى يومان على مطلع الهلال. . . . . .
وكانت واقفة في الشرفة تستروح َروْحَ الربيع، حين سمعت رنين الجرس. . . وكن ثلاثاً من صديقاتها؛ وجلسن وجلستْ معهن في غرفة الاستقبال. ومضى الحديث يتنقل من فن إلى فن إلى فنون. . .
وقالت واحدة لجارتها: (متى زفاف أخيك؟)
قالت: (لقد أذكرتني أمراً. . . فقد أرسل أخي رسالة إلى خطيبته غداة سفره فلم تجبه؛ فغضب وكتب إليَّ يشكوها؛ وذهبتُ أزورها أمس فإذا هي غضبانة كذلك، تشكو إلى أن أخي لم يكتب لها منذ سفره. . . أرأيت. . .؟)
واعتدلت خديجة في مجلسها وقالت: (عجيبة! تقولين إنه كتب إليها فلم ترد؛ ففيم غضبها؟)
قالت: (هنا المشكلة؛ فإن رسالة كامل لم تبلغها!)
واختلجت خديجة، وهجس في نفسها هاجس، وأردفتْ صديقتها: (وبذلك كتبت إلى أخي ليعرف الحقيقة!)
واختلجت خديجة ثانية وقالت: (أتعنين. . .؟)
قالت الفتاة: (أعني أن رسالته لم تصل إلى خديجة. . .!). . .
ووضحت الحقيقة كاملة لعيني الفتاة، وعرفتْ، واستيقظت من الحلم الرائع الذي عاشت منه عُمراً سعيداً في أيام. . .
ونهضت متثاقلة إلى غرفتها لتفتح حقيبتها فتعود بالرسالة التي ضلت طريقها إلى صاحبتها لتضل هي بها. . . ثم دفعتها إلى صديقتها وهي تتمتم معتذرة. . . وتهاوت على مقعدها خائرة!
. . . وصفا ما بين الحبيبين وفاء قلباهما إلى الرضا، وتحطم قلب ثالث. . .
ولما بصرتْ بهما خديجة بعد أيام يمشيان ذراعاً إلى ذراع، أتبعتهما عينيها في ألم ولهفة، ثم دارت على عقبيها، ورجعت من حيث أتت
وعادت إلى أطفالها الذين كانوا، تلتمس بينهم العزاء والسلوى؛ فما وجدتْ أطفالها ولكن(352/64)
أطفاَل الناس!
واستنجدت أمومتها، فإذا أمومتها التي كانت عدتها من قبل في تأليف هؤلاء الصغار - هي أمومة الأثِر الَغَيران الذي يتشهى ولا يجد، ويرجو ولا يجد سبيلاً إلى تحقيق الرجاء!
ونظرت، فإذا طفلٌ يهمس في أذن رفيقه، فابتسمت، ثم قطبت، ثم مدت يدها إليهما بالعصا!
وهم طفل أن يناديها، فأخطأ النداء ونطق على عادته: أمي!
فلوت وجهها لتخفي عن أطفالها دمعة!
وأحس الصغار إحساس الطفولة الملهَمة فداروا بها يسألونها عما بها محزونين وفي كل عين دمعة!
ونظرت ثانية، فابتسمت وسُرَى عنها؛ ثم ضمت أطفالها إلى صدرها وهي تتمتم:
(لا عَليَّ يا أحبّائي ما دمتم معي! أنتم بنيّ وبناتي، وأنا لكم أم، أم بلا ولد!)
محمد سعيد العريان(352/65)
البريد الأدبي
عام الفيل وميلاد الرسول
كتب أستاذ فاضل بتوقيع (قارئ) كلمة في باب البريد الأدبي من العدد 350 من الرسالة، جاء فيها عدة أسئلة إليَّ بخصوص بعض ما استشكل عليه فهمه في مبحثي (عام الفيل وميلاد الرسول) المنشور بالعدد 348 من الرسالة. والذي أراه أن الروم (البيزانس) كانت معرفتهم ببلاد العرب نظرية، ومن هنا كانت الخطة التي وضعها إمبراطور هم جوستنيان مع قواد جيشه بارعة، كخطة تجري على خريطة الشرق الأدنى. فقد كان هو سيقوم بمهاجمة تخوم فارس المتصلة بحدود إمبراطوريته في الوقت الذي يتعرض قيه حلفاؤه الأحباش بقوات جسيمة من الجنوب الغربي لفارس، فيضطر الفرس أمام هذا الهجوم المزدوج أن يقسموا قواتهم، فيخيف مجموعهم أمام الروم، ويتمكن هؤلاء من ضربهم الضربة القاصمة التي تقضي على نفوذهم خارج بلادهم
وهذه الخطة لو رجعت بها إلى (الخريطة) لوجدتها سهلة، تدل على براعة؛ ولكن كل قيمتها تضيع حين تخرج للتطبيق، فتصطدم بعالم الواقع، لأن الوضع الاستراتيجي لفارس إزاء الحبشة لا يجعل مجالاً لهجوم كبير عليها، سواء عن طريق البحر بالتعرض للخليج الفارسي، أو عن طريق البر بمهاجمة التخوم الفارسية من جهة العراق العربي. ففارس تبعد عن الحبشة بحراً مسافة تتراوح بين 2000 و2500 كيلومتر، كما أنها تبعد مسافة 1000 كيلومتر وأكثر براً من اليمن قاعدة الأحباش في بلاد العرب. ونجاح حملة عسكرية على فارس تهاجمها من جهة البحر، تحتاج على أقل تقدير إلى مائة ألف مقاتل، وبالتالي إلى أكثر من ألف سفينة تنقلهم إلى الشواطئ الفارسية. ولم يكن الروم ولا الأحباش ولا الاثنان مجتمعين يمتلكون مثل هذا الأسطول الضخم في البحر الأحمر والمحيط الهندي. ومن هنا كانت فكرة مهاجمة فارس بحراً غير ممكنة. ولا تناقض في هذا القول مع القول بنقل الروم بأسطولهم الصغير في البحر الأحمر قوات الأحباش إلى اليمين، وهي قوات لم تزد على بضعة آلاف تقدمت لسواحل اليمن واحتلتها، وبقيت تنتظر تجريدات وإمدادات أخرى، كان هذا الأسطول الصغير يقلها من الحين للحين، من الساحل الإفريقي المواجه لليمن، إلى اليمن. ولا شك عندي أن اليمن لو كانت متحدة، ولو لم يكن النزاع يأكلها(352/66)
والصراع على أشده بين أقبالها وبينهم وبين مليكهم، لما نجح الأحباش في فتحها والاستيلاء عليها بقوات صغيرة. وفي هذا حل للأشكال الثاني الذي استشكله (قارئ). أما نجاح الهجوم الحبشي برَّا، فقد كانت تضاريس الجزيرة لا تجعله ممكناً؛ والأحباش كانوا يعرفون هذا لدرايتهم بشؤون الجزيرة من الوجهة العسكرية عن طريق التجارب، إذ كانوا يجردون التجريدات العسكرية على نجران بين الحين والحين إخضاع القبائل الثائرة، ومن هنا كانت الصعوبات التي يلقونها مضرب المثل. فلا عجب إذا كانت فكرة الأحباش أقرب إلى الواقع من فكرة الروم، رغم تفوق الروم عليهم في المعارف والأفكار. ولا يبعد أن يكون الروم لا يجهلون هذه الصعاب، ولكن الحرب التي طالت بينهم وبين الفرس، جعلتهم يتعلقون بالأوهام والخيالات علّها تأتيهم بمخرج مما هم فيه. وهذا الموقف تجد له شبيهاً اليوم في الأحلام التي تداعب رأس هتلر، في إمكان مهاجمة حلفائه الروس الهند وضربهم إنجلترا فيها، مع أن هذا الحلم دون تحقيقه من الصعوبات مالا يغيب على أحد، والهنود يعرفون اليوم استحالته، والألمان تدفعهم الرغبة لتحطيم بريطانيا لتصوره، بل وتصور نجاحه. وهذا لا يضعف بأي حال من الأحوال من ثقافتهم وعلومهم التي جعلتهم متفوقين على معظم أمم الأرض. فإذا وضعنا هذا موضع النظر فإن الإشكال الأول يزول من نفسه، خصوصاً إذا عرفنا أن معنا حكم التاريخ الحاضر وليس الماضي
بقى أن الفاضل (قارئ) لاحظ أنني قلت في صدر بحثي أن بر وكوب اليوناني تكلم عن تعرض الأحباش للحجاز بتحريض الروم، مع أن الأحباش لم يكن قصدهم التعرض للحجاز بل مساعدة الروم. وهذا صحيح، ولكن كما قلت (ص451 عمود2 من العدد348 من الرسالة) إن إلحاح الروم على النجاشي اضطره أن يأمر عامله على اليمن بالتحرك شمالاً ومهاجمة التخوم الفارسية، ولما كان الطريق الطبيعي إلى هذه التخوم يمر بأرض الحجاز، فإن القوات الحبشية قد ابتلاها الله بالجدري الذي فتك بجندها فاضطروا إلى الرجوع والاعتذار للروم عن تقديم المساعدة إليهم. وتكون بذلك حملة مساعدة الروم وقفت عند حد التعرض للحجاز، ولم تتجاوزها إلى ما بعدها، فاتخذت في الظاهر شكل حملة على الحجاز، وكان العنصر المحرض فيها الروم، بدون أن يكون الغرض منها الحجاز نفسها في حال من الأحوال. وكان يحسن بقارئ أن يراجع نصوص بر وكوب وشروح نولدكه(352/67)
وكأتاني وملاحظاتي على هذه الشروح في المصادر التي أثبتها في هوامش البحث، وفيها سيجد أن بر وكوب يقدر أن الأحباش بتحريض الروم، حاولوا مساعدة جو ستنيان بمهاجمة فارس، غير أن محاولتهم وقفت عند حد الحجاز فلم تتعدها، وهذا هو تفسير الكلام، وليس فيه تناقض ولا تضارب مع ما يجيء بعده
إسماعيل أحمد أدهم
أبيات في ديوان إسماعيل صبري ليست له
في ديوان المرحوم إسماعيل صبري باشا الذي طبعته ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر مقطوعة في وصف النيل وردت في صفحة 130 منسوبة إلى الشاعر وهي لابن خروف النحوي المشهور نظمها حينما وفد إلى مصر ورأى نيلها الميمون.
قال الأستاذ الباحث الشيخ محمد الطنطاوي المدرس في كلية اللغة العربية في كتابه (نشأة النحو) صفحة 111: ومن شعره (يعني ابن خروف أبا الحسن الأشبيلي المتوفى سنة 603) في وصف نيل مصر:
ما أعجب النيل ما أحلى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح
من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح
ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرباح
والمقطوعة برمتها موجودة في كتاب (بغية الوعاة في طبقات النحاة) للسيوطي المتوفى سنة 911هـ
فننبه اللجنة الموقرة إذا قامت بطبع الديوان مرة أخرى أن تلتفت إلى تلك الحقيقة.
زكريا علي عبد الله
كلية اللغة العربية
وفاة الأستاذ المستشرق مرجليوث
نعت أخبار لندن في الأسبوع الماضي المستشرق الإنجليزي المشهور الأستاذ مرجليوث.
وقد تلقى علومه في جامعة أكسفورد وتولى تعليم العربية فيها من سنة 1889. وقد نشر(352/68)
كتباً عربية هامة، منها معجم الأدباء لياقوت، كما نشر رسائل أبي العلاء مع ترجمتها إلى الإنجليزية. ونشر آثاراً عربية مختلفة تاريخية وشعرية، منها قطعة بردى عربية كانت في مكتبة أكسفورد. وألف في مشاهد أورشليم ودمشق كتاباً، وكتاباً آخر بالإنجليزية في السيرة النبوية
والأستاذ مرحلبوث من علماء المستشرقين الأقلاء الذين يعتز أهل العربية بما أدوا إلى لغتهم
نشر المودة بين العالم
ألقى الأستاذ كاتسفليس وكيل جمعية (الأصدقاء في العالم) محاضرة في قاعة (بابازيان) بالإسكندرية استهلها بقوله: إن من يدقق النظر في العالم يدهشه أمران: أولهما تعدد أسباب الموت والفناء من جراء الأعراض الطبيعية مثل البراكين والزلازل والعواصف والأمراض والوحوش المفترسة وغيرها. وثانيهما: ثبات الحياة وتغلبها على عوامل الفناء. ومما يلفت النظر أن ذوات الأجسام الضئيلة كالنمل والذباب تجد أسباب معيشتها على الرغم من وجود أعداء لها أكثر منها قوة وبطشاً
ويتحقق هذا أيضاً في الحياة الاجتماعية، إذ أن كثيراً من ضعفاء الأجسام والعقول يجدون طرق المعيشة إلى أمد طويل، في حين أن المتعلمين وأقوياء الإرادة يصعب عليهم أحيانا أن يجدوها
وهكذا، فإن الأمل لا يمكن ملاشاته من قلب الإنسان. وقد شوهد في جزيرة صقلية وغيرها، حيث قضت الزلازل على مئات الألوف من السكان، أن الذين ظلوا على قيد الحياة منهم سرعان ما أعادوا بناء منازلهم في الحال، وعلى مقربة من البركان الذي كان سبب الكارثة. وهذا ما حدث أيضاً في بلاد الصين واليابان وسواهما
ثم استطرد المحاضر فقال: إن الذي نستخلصه من ذلك هو أن قوة الحياة تتغلب على القوى الأخرى المضادة لها، وأن الأمر يجري على هذا النمط في المجتمع الإنساني، فإن قوة المودة ستنتصر في النهاية، على الرغم من وجود أسباب الخصام والشرور والحروب والمنازعات. على أنه يجب بث هذه الفكرة، فكرة المودة والمصافاة، وتمهيد الطريق لها
ولهذا الغرض قد تأسست (جمعية الأصدقاء في العالم)، وجمعيات أخرى مماثلة لها(352/69)
وقال: إن كثيراً من الناس يحبذون فكرة جمعية (الأصدقاء في العالم) ولكنهم يقولون بأن تحقيق أمانيها مستحيل، لأن الناس كانوا منذ بدء الحياة وعلى تعاقب الأجيال في خلاف وحروب مستمرة
ولكننا نؤكد أنه ما دامت الإنسانية قد فازت على الطبيعة، وحققت التقدم المادي بالاختراعات والاستكشافات: كالطيران والإضاءة الكهربائية والراديو وغيرها، فلا شك في أنها جديرة بتحقيق التمدن الأدبي وهو الأهم، ولهذا السبب، أي لكونه الأهم، فإنه سيستغرق وقتاً أطول مما استغرقه التمدن المادي، إذ أنه يستلزم كفاح النفس ضد شهواتها وميولها. وهذا الكفاح صعب على الطبيعة البشرية، ولكنه ليس من المستحيل. والبرهان على ذلك وجود كثير ممن فازوا وتغلبوا على ميولهم الأولى كالغضب والبخل، وأصبحوا بكفاحهم الداخلي ذوي حلم وكرم
وانتقل المحاضر إلى القول بأن المساعي لم تنجح حتى الآن في نشر لواء السلام، لأن الداعين إليه يريدون تأسيسه على الماديات فقط لا على ما تكنه الصدور، أعني على القلب
ثم ختم محاضرته بقوله:
(إذا سقط رجل في الشارع مصاباً بصدمة سيارة وشهده جمع من المارة، ألا يتهافتون لمساعدته شفقة عليه دون أن يعنيهم مذهبه أو جنسه أو لأي حزب سياسي ينتمي؟)
فهذا يدل بلا شك على أن هناك شعوراً مكنوناً في صدر الإنسان، وفي أعماق قلبه يمكن بوساطته التفاهم، وإيجاد المحبة بين الجميع. ذلك الشعور هو الأساس الذي يجب أن ينشأ عليه العالم الجديد الذي تسعى إليه جمعيتنا، ذلك هو عالم المودة والوفاق والرقي الأدبي والروحي، أي التمدن الحقيقي
وإذا اعترض أحد قائلاً: (ما هي فائدتي الشخصية في السعي لإيجاد المودة بين الناس كما تقترحه على جمعيتكم؟) لأجبته قائلاً: (لأنك لو حققت السلم في الوسط الذي أنت فيه لعرفت ما هي نفسك التي تجهلها الآن، ولوجدت في أعماقها ينبوع الحياة والسعادة التي لا تزول)
نقد وتصويب
تحت هذا العنوان لفت نظري الأستاذ الفاضل أبو الفضل السباعي ناصف، إلى بيت في(352/70)
قصيدة الذكرى ندَّ عن الوزن المعروف، وأبى إلا أن يمعن في كرمه فأزاح علة الشعر وأصلح زيفه.
وعذري أنني مع دراستي الوافية للعرض لا أعتمد عليه بتاتاً في الوزن، بل أستشير أذني مساوقاً النغمات الموسيقية، وهي حال قد يضل معها الإنسان أحياناً وبخاصة إذا كان قد نال منه الجهد
وإني لأشكر للأستاذ جميل ثنائه وجم أدبه ورقيق إرشاده وبارع علاجه، والسلام عليه ورحمة الله
علي الجندي
رأي الأستاذ النشاشيبي في نهج البلاغة أيضاً
سيدي الأستاذ الجليل محمد إسعاف النشاشيبي المحترم
تحية العروبة والإسلام
أما بعد فقد تفضل الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الهادية المهدية فأدرج لي في (البريد الأدبي) من العدد الـ 346 كلمة صغيرة رجوته فيها نشر ما في تضاعيف كتابيكم الثمينين: (الإسلام الصحيح، وكلمة في اللغة العربية) مما يخص (نهج البلاغة)، لأن الكتاب الأول ممنوع في العراق، والكتاب الثاني نادر الوجود عندنا وذلك تطميناً لرغبتنا الصادقة في الاطلاع على رأيكم في (النهج)
وفي نشر الأستاذ (الزيات) لكلمتي دون مقالتكم دعوة ضمنية لحضرتكم إلى تلبية طلبنا بنفسكم، فأنتم صاحب المقالة ولكم الحق الأول في نشرها وعدمه
وقد صدر بعد العدد الـ 346 ثلاثة أعداد ولم نُتْحَف بمقالتكم، كما لم نتلقّ من حضرتكم كلمة في الجواب على رجائنا
وهذا يحملنا على التساؤل: تُرى لماذا امتنع أستاذنا الجليل العلامة النشاشيبي عن نشر مقالته في (النهج)؟
هل تراءت له جوانب جديدة في التحقيق - وهو هو المحقق المدقق الثبت الأمين - تنسف، أو تلطف من حدة تلك المقالة فلم يشأ أن يدوس على وجدانه العلمي فينشر رأياً في(352/71)
مسألة خطيرة لا يؤمن به - الرأي - الإيمان كله.؟
أم هل خشي النقد - ونريد من النقد هنا النزيه الخالص لوجه العلم والحقيقة لا يدلف إلى سواهما - يطلع به عليه بعض علماء العراق بعد أن يكونوا قد وقفوا على مقالته؟
إن كانت الأولى: فإن واجب العلم والإخلاص له يحتمان على حامله ألا يتخلف لحظة في نشر ما يتوفق إليه من تصحيح أو تنقيح لآراء خطيرة سبق أن أذاعها وبسطها إلى الملأ من الناس، وأديب العربية الفذ الأستاذ النشاشيبي، والحمد لله، من علمائنا الذين لا يدعون الكمال - إذ الكمال لله وحده - ويعترفون بما قد يقعون فيه من خطأ عن غير عمد (بالطبع)، والذين لا يبخلون قط في الإفاضة من علمهم الغزير بأسلوب هو غاية في الروعة والتواضع وكرم النفس، وقراء الرسالة المدمنون على حرثها والإفادة منها يعرفون جيداً هذه الخلة في أستاذنا الجليل (صاحب التواقيع المستعارة العديدة)
وإن كانت الثانية: فإن عهدنا بالنشاشيبي - ذلك الأديب الألمعي الفحل الصريح الشجاع المرفوع الرأس - لا يخاف في الحق - الذي يؤمن به - لومة لائم، أو نقد ناقد، أو تحامل جاهل
فكيف إذن نوفق يا أستاذ بين هذا وذاك؟؟
وكيف نفسر عدم إجابتكم لرغبتنا الشديدة في نشر مقالتكم الخطيرة القيمة عن (نهج البلاغة)، في مجلة العروبة والإسلام المفضلة (الرسالة) الغراء؟؟
لعلنا نحظى بالجواب. . .
مشكور ألا سدي
عضو جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف
(وحي الرسالة) في رأي سيدة فاضلة
سيدي حضرة الكاتب الألمعي الأكبر الأستاذ الزيات:
كبرت مكانتكم الأبوية في نفسي، فهي لك فيها ولاء وعلى لساني دعاء. . . وبعد، فقد خرج سفرك القيم، وقرأه كل المعجبين به وبك إلا التي كان يجب أن تكون أول من تقرؤه، ولكن حظي السعيد أبي حرماني التمتع بحكمة البليغة، فقرأت منه ما قرأت، وإذا بي بين (وحي(352/72)
الرسالة)، وقد جاء طرفة هي في معانيها طرف عِدّة وتحفة في مجاليها تزداد على الزمن طرافة وجدّة. وإذا به خرج مخرج صدق في هذه الفترة التي ندر فيها من يعالج أدبنا واجتماعياتنا، وفتر وحي القرائح الخصيبة في دقائقها، وشحت الملكات المجيبة بأسرارها، فكان كالمنبهة لأهل البصر بهما معاً، والحذاقة فيهما أن يشحذوا همتهم من كلالها، ويبرئوا ذمتهم من تبعة إهمالها، ويدأبوا دأبهم على خدمتهما، تارة بالتأليف يراجعون به ما انقطع، وأخرى بابتكار الجديد من عوامل النهضة بهما
وقصارى القول أنك فيه لم تدع غاية في التحقيق إلا ابتكرتها، ولا نهاية في التدقيق إلا استبقتها
ولقد عبرت كتابك هذا عبرة، وجمعته لفظاً ومعني بنظرة، فإذا لمحات من التحقيق لفن الذوق الأدبي تطبع على غراره الملكات فيكون فيها بلاغة فوق البلاغة، وبياناً أسمى من البيان
فلك الشكر المثنى كفاء ما جهدت في عملك، والله المسئول أن ينفع به قارئيه ويكثر في المؤلفين من أمثالك بمنه ويمنه وتوفيقه والسلام. . .
المخلصة وداد صادق عنبر
ذكرى الشاعر المصري إسماعيل صبري باشا
فكر قسم المحاضرات بجماعة الإخوان المسلمين بالمنصورة أن يحيي ذكرى الشاعر المصري الجليل (أستاذ الشعراء) المرحوم إسماعيل صبري باشا بمناسبة ذكرى وفاته في مارس سنة 1923
ورغبة في أن يكون للحفل من الجلال: بما يتناسب مع عظم الفقيد العظيم لهذا نتوجه إلى أبناء الدقهلية عموماً وشعرائها وأهل العلم والفضل فيها أن يكتبوا باسم (الأستاذ إبراهيم عبد الوهاب) الإخوان المسلمين. المنصورة. بما تجود به قرائحهم من قصائد أو بحوث أو أفكار ليتسنى للجنة التي ستجتمع بعد خمسة عشر يوماً أن تقرر منهج الحفل وموعده ثم ندعو حضرات الأدباء والشعراء لإلقاء كلماتهم
ولنا كبير الأمل أن نجد للربيع الذي نستقبله والذي كان الشاعر الفقيد خير لسان له الأثر(352/73)
المرجو.
والله أكبر ولله الحمد.(352/74)
الكتب
نشأة النحو
تأليف الأستاذ محمد الطنطاوي
بقلم الأستاذ محمود مصطفى
هذا أول كتاب من نوعه فيما أعلم؛ إذ قد جرت العادة في الكتب التي تؤرخ فيها العلوم والآداب، أن يشغل الحديث فيها عن كل فن أو علم بضع صفحات يلم فيها المؤلف بمجمل من تاريخ ذلك العلم أو الفن. فأما أن يملأ الحديث عن علم واحد كتاباً تصل صفحاته إلى الخمسين بعد المائة من القطع الكبيرة فذلك ما لم نعهده من قبل أن يخرج إلينا الأستاذ الجليل والعالم المفضال صاحب الفضيلة الشيخ محمد الطنطاوي المدرس بكلية اللغة العربية كتابه (نشأة النحو)
والحق أن هذه التسمية (نشأة النحو) تسمية يتجلى فيها التواضع العلمي تمام التجلي فالكتاب ليس عن نشأة النحو فحسب ولكنه يتناول نشأته ودروجه ثم شبابه وكهولته ثم شيخوخته وهرمه وليس ذلك في قطر واحد من الأقطار العربية، بل هو حديث مفصل من كل هذه الأطوار في كل قطر من الأقطار. حديث يتناول المذاهب واختلافها وأسباب نشوئها وعلل تمايزها وينوه بالأعلام من رجالها وما كان لهم من آثار بارزة في خدمة علمهم وتجلية غامضة وتسهيل سبله
قد يتناول الباحث في تاريخ العلوم والآداب دراسة علم أو فن لم يدرسه دراسة وافية مستوعبة ولم يكن له به صلة وثيقة، فيكون همه جمع ما كتبه الكاتبون من ذلك العلم وترتيب أقوالهم بما يملك من قدرة على التقسيم والتبويب، فيخرج عمله معجباً من يطلع عليه، مرضياً من يريد الوقوف على تدرج هذا العلم وتسلسل أطواره، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يكشف عن أسرار العلم كما يكشف عنها عالم مارسه ودرس كتبه وألم بمسائله وأطال مناقشتها ووازن بين أقوال العلماء فيها، وتكونت له ملكة الحكم وبيان الصحيح الجيد من الزائف المبهرج. وذلك شأن مؤلفنا الفاضل في هذا الكتاب. فهو إذا وازن بين قولين رأيت الحجة في قوله واضحة المحجة، والبرهان يدعم البرهان؛ كالبنيان يشد(352/75)
البنيان. وكذلك من فضل العالم الذي يؤلف لعلمه أن ترى أثر الاجتهاد ظاهراً في بحثه فهو يضيف إلى أقوال السابقين ما يصبح مادة جديدة في البحث، والفضل في ذلك راجع إلى هداية الفكر الصائب والذهن الواعي لمسائل العلم ومباحثه المتشعبة
وفي هذا الكتاب نجد الأستاذ الطنطاوي ظاهراً موازياً تمام الموازاة لآثار السلف الذين نذكر لهم صنيعهم بالشكر، فقد ذكر المؤلف حفظه الله كثيراً من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين وتلك مسألة ألف القدماء فيها الكتب وأحصوا فيها كل ما كان من ذلك بين أهل المذهبين، ولكن المؤلف حفظه الله لم يشأ أن يكون ناقلاً فحسب بل إنه وازن بين المذهبين وكانت له بينهما جولة رجح فيها بحق مذهب البصريين على الكوفيين داعماً قوله بالشواهد الصحيحة والعلل المعقولة فكان الناقد الألمعي والحكم الرضي. كذلك نراه يعرض لأثر البغداديين أو المغاربة في علم النحو فيجمع من آرائهم التي اشتغلوا بها، ما تفرق في ثنايا الكتب مما لم يعن أحد قبل الشيخ الطنطاوي بجمعه وضم شتاته، فهذا مظهر من مظاهر الاستقلال في التأليف نذكره لصديقنا بالإعجاب الفائق
وبعد فكتاب (نشأة النحو) سجل واف لتاريخ هذا العلم منذ فكر في وضعه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أن انتهى المتأخر ون من تنسيقه وتبويبه فلم يتركوا بعدهم مجالاً لقائل إلا أن يكون في مثل فضل الأستاذ الطنطاوي الذي أرخ لدولة النحو من بدئها إلى ختامها تاريخاً لم يغادر من أمرها صغيراً ولا كبيراً إلا أحصاه، فالله يتولاه ويمنحه على هذا الجهد المشكور أتم سرضاه وأجزل نعماه.
محمود مصطفى
المدرس في كلية اللغة العربية(352/76)
العدد 353 - بتاريخ: 08 - 04 - 1940(/)
خواطر يثيرها سائل
للأستاذ عبد المنعم خلاف
إلى السائل المجهول في بيروت
أحسب أن ما عندك من العلم والرأي كفيل أن يردك إلى الاطمئنان متى حرصت على أن ترى دائماً بدهيات الحياة ولا تنساها، وعلى ألا تترك النظرات الفلسفية الشاردة تقودك إلى الخروج عن حدود الواقع العملي الذي لا نرى غيره في الحياة متسلطاً على عقول الناس.
إن النظرات الأولية للحياة، هي التي تفرض علينا الإيمان، فإذا جاوزناها، لابد أن يكون لنا من القدرة على الرجوع إليها ما يضمن لنا الاعتصام بصخرة النجاة والطمأنينة على الحياة وقيمتنا فيها.
وينبغي لرجل الفكر أن يتذكر دائماً أن إنكار وجود الله، أو القيمة السامية لحياة الإنسان هنا، أو المصير السامي لحياته الأخرى هناك: معناه تخبيل العقل وتشريده. ولئن كان في الإثبات بعض الإشكال عند من لم يتصل بأصول الحياة، ففي الإنكار كل الإشكال.
وأمامك فرصة من التسامح المطلق لتوازن بين فكرتي الإثبات والإنكار؛ وأنت مجرد من أي تأثير نحو إحداهما، لترى النتائج العملية لكل منهما.
وعلى هذا، هب أن كل ما في نفسك من الإيمان تحول إلى كفر ونكران، وكل ما في خلقك من البراءة والطهر تحول إلى نجس وعهر؛ أفتتخيل أنك واجد الطمأنينة والسعادة ووضوح الحياة بعد هذا التحول؟ لا شك أن مثلك يجيب: كلا. . . ذلك لأن الكفر المبني على فكر، ليس معه طمأنينة ولا استقرار على شيء، بل هو في ذاته كل القلق وكل الضياع الذي يجعل الإنسان في الحياة كطائر في قفص يرى قضبانه محكمة متينة، ومع ذلك يطفر ويحاول تحطيمها والانطلاق منها، وليس له على ذلك طاقة، (ولن نُعجزَهُ هرَباً).
فالإيمان ضرورة فكرية للراحة في الحياة قبل أن يكون تقليداً موروثاً عن الأم والأب والبيئة. ثم إن حياة الإثم والانطلاق وراء الشهوات والآثام ليست مبعث سعادة عند ذوي الأفكار ولا عند الأغرار والسفهاء أنفسهم. واسألهم ينبئوك أنها ظمأ لا يرتوي. دع عنك عقابيلها من الأوجاع والضياع؛ ولا يمكن للجماعة أن تقرها، لا لأن الدين ينهي عنها بل لأن حياة الاجتماع تأباها وتعلن الحرب عليها بعد أن اختبرت نتائجها السيئة(353/1)
فالدين لم ينزل بالفضيلة من المساء، وإنما الاجتماع الإنساني هو الذي قررها. ثم جاء الوحي فأقرها، لأن الحسن والقبح عقليان يدركان بالعقل قبل الوحي، ولذلك عبر القرآن عن الحسن والقبيح (بالمعروف) و (المنكر) أي ما يتعارفه الناس، وما ينكرونه بطبائعهم العامة وأذواقهم المشتركة
ثم الواقع أن الخير الشخصي جزاؤه فيه والشر الشخصي جزاؤه فيه في هذه الدنيا قبل الآخرة. وكذلك الخير الاجتماعي والشر الاجتماعي جزاؤهما معهما في هذه الحياة إذا ما كان المجتمع حارساً متيقظاً لحقوقه وواجباته
هذا دفاع سلبي عن فكرة الإيمان بالله وفكرة الخير كأصل من أصول الحياة الاجتماعية. وقد سبق لي في العام الماضي أن كتبت في هذه المجلة سلسلة مقالات في الإيمان كحقيقة من الحقائق العليا في الحياة، وعرضت فيها لكثير من القضايا والشبه التي تشغل بالك وأوردتها في كتابك الأخير إليّ، فأرجو أن ترجع إليها فلعل ما فيها وما أنا بسبيله الآن يقع من قلبك الموقع المأمول
إن الذي عناني أكثر من غيره مما أوردته في كتابك هو شكك في القيمة السامية للإنسان ومحاولتك أن تجعل حياته كحياة النبات والحيوان والحشرات: ليست أكثر من ظواهر طبيعية ودورات أبدية تأنى بها أيام وتذهب بها أيام
ومعرفة قيمة الإنسان هي في رأيي أول المعاني الدينية؛ لأن الذي يذهل عن قيمة حياة الإنسان لا يمكن أن يتيقظ لشيء آخر. فلن يفكر في الكون ولا خالقه. فالذي لا يسترعي انتباهه هذا الجسم المتحرك المريد الناطق المتنوع الفكر لا يمكن أن يتنبه للصمت المطلق والسكون المطلق والاطراد المطلق في الطبيعة. ودع ما وراءها من العالم الخفي الذي لا يناله الإنسان بالحواس. . .
وأسألك: هل رأيت نوعاً آخر متسلطاً على الأرض بغير أوضاعها ويتصرف في موادها ويسخر قواها وينقح الطبيعة، يزيد فيها وينقص منها، متنوع المرافق متجدد الأفكار، له حياة فكرية وقلبية تكاد تكون لا حدود لمظاهرها؟
وهل رأيت غير الإنسان اخترع شيئاً يزيد عن ضرورات حفظ حياته؟ هل رأيته يكتب تاريخه أو يتطلع لمستقبله، أو يركب آلات معقدة، أو يغني أغاني مُفّنَّنَة، أو يستخرج(353/2)
أصواتاً موسيقية من الجلد والخشب والمعادن، أو يقيم أهراماً وعمارات ذات أرصاد وأوضاع محبوكة وفنون بارعة؟
وهل رأيت نوعاً آخر اخترع طيارة وسيارة وراديو وتلغراف وتليفون وتلفزيون وغيرها وغيرها مما يصيد به الأصوات ويقتنص الأضواء والمسافات؟
ثم هل رأيت نوعاً آخر يسكر (ويحشش) ويدخن (ويشم) ويقامر ويقيم مهازل ومساخر بذكاء ومهارة؟ هل رأيت غيره يزارع ويتاجر ويضارب بعمليات اقتصادية معقدة غاية التعقيد؟
هل رأيت غيره يحارب بآلات كلها إبداع وبراعة تكاد تجعلها عند المتطلعين لما يولد في الكون من عجائب والمتوسمين لما في حياة الإنسان من بدع، فرجة من فرج القلوب تعلى شأن الحروب؟!
تخيل جميع الأساطيل الجوية والبحرية وجميع الجيوش البرية انطلقت في الجو والبحر والبر، يعبئها ويزجيها وينسقها الإنسان ذو الجمجمة العجيبة. . . تملأ الأثير بلمعات فكره وومضات خواطره لتعلم أيُّ فن إلهي هذا الإنسان المخلوق من ماء مهين!
تخيل مدينة عظيمة كنيويورك أو لندن أو برلين أو القاهرة بما فيها من فنون الحياة والأفكار والشعور. وما يغمرها من الأضواء والألوان وما يضطرب في أحشائها من المصانع والمعاهد والمعابد، وما يثوي فيها من دور الكتب والآثار ومخازن التحف وأدوات الجمال، وما تسيل به شوارعها من وسائل الأنتقال، وما تضج به من الأصوات والمقالات والخطب والأسمار ولأحاديث، وما يتوزع فيها من الأعمال والأموال والحرف تخيّل هذا ثم قل: هل رأيت في الحياة منذ دخولك إليها نوعاً غير الإنسان يقيم أسواقاً للحياة مثل هذه الأسواق؟ ثم هل رأيت نوعاً آخر يعلو بالحياة حتى يأتي في علوه بالعجب العجاب. . . ويسفل بها حتى يأتي في السفالة بالعجب العجاب؟. . . وهل رأيت نوعاً آخر يتفنن في وسائل متاعه هذا التفنن الذي تراه في السينما والمسرح ومخازن الملابس والفرش وأدوات الزينة؟. هل رأيت. . وهل رأيت؟
وأخيراً هل رأيت نوعاً آخر يترقى في سلم الحياة باطراد وخطى ثابتة وقياس متناسب بعد أن أتى عليه (حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) كما قال القرآن؟(353/3)
فكيف بعد هذا تسوي بين قيمة هذا الإنسان أبي العجائب وبين قيم النبات والحيوان، وتريد أن تسلكه في سلك الفناء المطلق الذي يأتي على أجسامها وأرواحها بدون مآل أسمى ومصير أكمل؟!
وكيف تريد أن تضرب عليه ما ضربته عليها من الأحكام المنحطة وتحشر أفراده في مليارات أفراد الحيوان والحشرات التي تعيش على العشب والجيف والروث والعفونات؟!
إني لأستعرض تنوع حياة الأمم والأفراد وأتصفح الوجوه والنفوس، وأسمع حديث الأطفال والعجائز والنساك والفتاك والفقراء والأغنياء والعلماء والجهلاء والذكور والإناث. . . فأجدني بعد هذا الاستعراض في دوار من الفكر!
وإني لأخرج بعد هذا الاستعراض وأنا أشعر كان لابد أيضاً في الأرض مما نسميه الشر والضلال ليدوم ظهور أسرار التكوين!
إن الإنسان خلق ليكون أشبه بمِجْهَزٍ تمر من خلاله الطبيعة الأرضية بخصائصها التي كانت (غَيْباً) مستوراً قبل ظهور هذا النوع. فكل شيء في الطبيعة الأرضية كان لابد أن يمر من حواس هذا النوع وفكره ليأخذ حدوده ومميزاته ويرمز إليه بكلمة بيانية يضعها خليفة الله في الأرض. . .
وإذا صح ما أثبته علم تحليل ضوء العناصر من أن العناصر التي في النجوم والكواكب هي بعينها العناصر التي في الأرض كان في هذا زيادة في النظر لقيمة الإنسان كمترجم أيضاً ومحدد لعناصر الطبيعة في غير الأرض. . .
إن شئت فقل إن الإنسان آلة في يد الخالق يتمم بها التنويع والتفريع والتركيب في خلق المادة الميتة الجامدة وتصويرها وصقلها وتزويقها وتوشيعها حتى تصل إلى الدقة المتناهية في تركيب تروس الآلات ومساميرها الصغيرة، وإلى الزركشة والنمنمة و (المونوكير) في ثياب المرأة وأظافيرها! وعندئذ يكون الإنسان امتداداً لعوامل التكوين والإنشاء والتعمير التي في يد الله. . . يكون إزميلاً في يد الفنان الأعظم، وريشة بين إصبعيه يشكل بهما المادة أشكالاً ويملؤها بهما تزاويق وتهاويل!
وإن شئت فقل: إنه (مِجْهر) يلتقط آثار الصنع العظيم في المواد (الخام) فتتساقط على عينه أنوارها وظلماتها وعلى سمعه نغماتها وأصواتها، وعلى خياشيمه عطورها ونفحاتها، وعلى(353/4)
ملامسه نعوماتها وخشوناتها، ويقع على إحساسه العام ثقل المادة وصعق الكهرباء وشد الجاذبية، ويمر على فكره معاني الوجود ومعاني العدم. . . . ثم يترجم كل هذه الكلمات الصامتة بكلمات ناطقة من بيانه الذي اختصه به بارئ الطبيعة. . .
إن رب الطبيعة أراد أن يترجم هذا الطين الذي سواه بيديه ونفخ فيه من روحه بعض كلماته الصامتة في أسرار التكوين والخلقة، وكانت قبل الإنسان غيباً في السموات والأرض لا يعلمها أحد غيره حتى الملائكة
ولذلك كان العلم بأسرار الطبيعة أشرف عبادات هذا النوع ما دام متوجهاً فيه إلى رب الحياة ومتعرفاً إليه به. أما الملائكة فعبادتهم طاعة عمياء ليس لهم على غيرها طاقة
واقرأ إن شئت بعد هذا قصة خلق الإنسان في القرآن لترى منها العجب الذي رأيناه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيه من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. وعَلْم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكة. فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانَك لا علمَ لنا إلا ما علَّمتَنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أْنِبئْهُم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلمُ غَيْبَ السموات والأرض وأعلمُ ما تُبدُون وما كنتم تكتمون؟)
وأرجو أن تقف طويلاً أمام قوله تعالى: (إني أعلم ما لا تعلمون) رداً على سؤال الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. . .) لتعلم أن الله نظر نظرة سماح واغتفار لما تستلزمه حياة الإنسان في مجموعه بالجسم الحيواني من بعض الآثام والشرور، إذ علم ما وراء فتوح الإنسان في (غيب السموات والأرض) من آثار علمية ترجح على ما يرتكبه من شرور. . .
فلا يهولنك ما تراه من الجريمة والفساد والأوباء والنكبات التي تحتاج حياة لإنسان. . . فإن الذي خلق هذا النوع متيقظ له دائم الرعاية عليه يسوقه في طريق مرسوم حتى يبلغ غايته برغم كل ما نسميه الشر والفساد لأن الشر والفساد والباطل ما خلقه إلا للحق والصلاح. . . فلولا الأمراض ما ظهرت علوم الطب التي كشفت لنا عن ملايين من عوالم الجراثيم. . . وكانت حياتها مستوردة في (غيب السموات والأرض). . . ولولا الحروب، والجرائم ما ظهرت أدوات الانتقال السريع، واختزال المسافات وما تنافس الناس على(353/5)
استخراج ما في المناجم من الركاز. . . وكان كل ذلك (غيباً) محجوباً في الأرض. . . ولولا الغرائز السفلى كالطمع والجشع والأنانية ما رأيت في الأرض هذه الحياة العنيفة الحركات في التعمير والاقتناء والتسابق على كشف بقاع الأرض المجهولة وإظهار عيوبها، وإقامة الحياة العلمية المتحضرة فيها
ولولا البأس الشديد في الحديد والنار ما تكونت الإمبراطوريات الواسعة التي ربطت بين كثير من أمم الأرض برباط التفاهم والحب والخدمة المشتركة. . . وما ابتدأت البشرية الآن تفكر في جامعة عامة لجميع الشعوب والأمم تجمعها على حدود العدالة والسلامة الإجتماعية، وخدمة العلم خدمة مشتركة، وتقيها من شرور التدمير والتخريب وما تتجه الحروب
ونظرة إلى تاريخ البشرية ترينا التقدم المطرد في سبيل التجميع والتوحيد. فقد كان الإنسان فرداً ثم صار أسرة ثم صار قبيلة ثم صار أمة ثم صار إمبراطورية وولايات متحدة ثم بدأ يصير (جامعة أمم) ولا بد من ذلك في يوم ما قريباً كان أم بعيداً. والشر هو الذي يدفع دائماً إلى الجهاد للخير. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) فإن الأرواح لا تقوى إلا بالمجاهدة كما أن الأجسام لا تقوى عضلاتها إلا بالمقاومة. فلا تذهبن من نفسك قداسة الإنسان فإنه الابن البكر للأرض يعمر ديارها ويستقبل ليلها ونهارها
وقد كان يجوز الشك في قيمة الإنسان السامية أيام الجهل والغفلة والحيرة قبل عثوره على مفاتيح العلوم الطبيعية وابتدائه فتح أبوابها باباً فباباً. . . أما الآن بعد أن تيقظ الإنسان لحياته وابتدأت الأرض والسماء تحدثه أخبارها وتوضحت أمامه معالم طريق الحياة؛ فلن يرضي لنفسه الارتداد ولن يجوز الشك في قدسيته وامتيازه
وإن قيادته إلى الله رب الطبيعة قد صارت الآن من أسهل الأمور لأن العلم قد ألقي كثيراً من أشعته على مواقع يد الله في الطبيعة وعلى كثير من الأبواب التي توصل إليه. . .
ولكن كثيرين جداً من الذين يحترفون قيادة الأرواح أغبياء محدودون عميان. . . فكيف يقودون في طريق مملوءة بكثير من جثث الخرافات والأباطيل التي لصقت بالدين في زمن الجهل والظلام، والتي صرعها العلم الواضح والعقل الطلق المستنير؟!(353/6)
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(353/7)
عقيدة النازي المالية
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت في العدد السابق من الرسالة مقالاً عن عقيدة النازي المالية أو عن فلسفة النازيين في علم الاقتصاد للأستاذ جواد علي العراقي (خريج جامعة هامبرك بألمانيا) فرأيت عرضاً صحيحاً لتلك الفلسفة من جانب واحد وهو الجانب الذي يكتبه النازيون ليبقي حبراً على ورق أو لينشروا به الدعوة ويكسبوا به الأنصار
ولهذا وجب أن نلم بتلك الفلسفة من جانبها العملي الواقعي تصحيحاً للآراء فيها وبياناً للحقيقة عن مقاصد أتباعها وأعمال المبشرين بها. فإن الجانب المكتوب والجانب المعمول من فلسفة النازيين الاقتصادية يختلفان كثيراً فيما هو حادث الآن، بل يتناقضان كل التناقض في أكثر الأحيان
مثال ذلك يقول الأستاذ جواد في تلخيص بعض المبادئ النازية إنهم: (لإنقاذ الشعب والحكومة من عبودية الربا وجب تنظيم الأرباح على قاعدة الربح على قدر العمل، والقضاء على بيوتات البيع الكبرى والشركات الاحتكارية. وتقسيمها إلى محال صغيرة، فنحو مائة ألف إسكاف خير من وجود خمس شركات كبرى، لأن من طبيعة المحال الكبرى الميل إلى الأرباح دون الالتفات إلى التحسين. . . أما التجارة الخارجية للشعب فيجب أن تشرف عليها الدولة كذلك وتحدد أسعارها. وتقوم بذلك الدول فيما بينها بعقد معاهدات تجارية حسب رغبات الدول وحاجاتها لا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة أو المبادئ المالية الأخرى).
هذا ما يقولون عن الأرباح، وشركات الاحتكار. أما ما يعملون فهو تسليم شركات الاحتكار زمام التجارة والثروة في جميع مرافق البلاد. فإن مديري (الغرف الاقتصادية) المشرفين كذلك على فروع الصناعة والتجارة هم جميعاً من رجال الاحتكار المعدودين كالهر كارشر مدير المصانع في إقليم السار الذي اشتهر بالقسوة البالغة على العمال، وكالمصرفي البارون فون شرودر مدير غرفة أقاليم الرين، وكالهر بيتزش مندوب الشركات الكيمية ومدير الغرفة الاقتصادية في بافاريا. . . وقس على ذلك سائر المديرين
وقد اصدر النازيون قانوناً سموه قانون إصلاح السهوم أو حصص الشركات حرموا فيه(353/8)
بقاء الشركات التي يقل رأس مالها عن مائة ألف مارك بعد نهاية سنة 1940، ولم يوجبوا التصفية على الشركات التي يبلغ رأس مالها خمسمائة ألف مارك بل أوجبوا على كل شركة تؤلف بعد التاريخ المحدود ألا يقل رأس مالها عن ذلك المقدار
وكان النازيون يقولون قبل ولاية الحكم إنهم سيضعون أيدي الحكومة على المصارف، ويمنعون الاتجار بمناصب الإرادة فيها، فصنعوا نقيض ما دعوا إليه وباعوا المصارف مرة أخرى جميع الحصص التي كانت الحكومات السابقة قد اشترتها منها تدعيماً لرؤوس أموالها ومساعدة لها على مقاومة الصدمات التي استهدفت لها في أيام الكساد، وهذا ما حدث في مصرف الديتش ومصرف درسدنر ومصرف التجارة وغيرها من المصارف الكبيرة والصغيرة
وكان المستشار بروننج قد أعلن في مرسوم الطوارئ الذي صدر في الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر سنة 1931 ضرورة النقص من مكافآت رجال الإرادة والرقابة على الشركات والمصارف. فلم يزد النازيون في المادة الثامنة والسبعين من قانونهم على الوعد بأن تكون (المكافآت مناسبة للأعمال التي يؤديها المديرون والمراقبون) ثم اكتفوا بتحريم الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب للشركات والهيئات الاقتصادية من جهة المبدأ. . . ومعنى (من جهة المبدأ) هذه أن الاشتراك في أكثر من عشرة مكاتب جائز من جهة الواقع. مع أنها لو حرمت الاشتراك في أكثر من ذلك العدد تحريماً باتاً لما صنعت شيئاً فيما زعمته إصلاحاً تحتاج إليه تلك البلاد
وعلى خلاف ما أذاعوه عن مكافحة الاحتكار أصبح المحتكرون وهم مالكون لزمام التجارة الخارجية في كثير من القطار. فعقد الهر أوتوولف اتفاقاً مع حكومة منشوكيو باسم المحتكرين للحديد في ألمانيا الغربية يقرضون تلك الحكومة بموجبه مليوني جنيه، ويشترطون عليها فيه أن تقصر الشراء عليهم دون سائر الشركات، وكذلك انعقد الاتفاق بين مصانع كروب وبين اليابانيين على أمثال هذه الشروط
ويقول الأستاذ جواد: إن الهتلرية رأت (أن خير حل لمشكلة العمل والعمال هو الاعتراف بمبدأ الملكية الشخصية ورأس المال، ولكنها ترى أن صاحب المال أو المعمل من جهة أخرى هو مدير لماله أو لمعمله أو قائد يتصرف به وفق الأنظمة والقوانين والطرق(353/9)
الشرعية الشريفة. . . وكل من يحاول استغلال ماله عن طريق يخالف مبادئ النازية يكون نصيبه العقاب الصارم أو الإعدام. .)
وهذا أيضاً من الحبر على الورق الذي لا أثر له في عالم الواقع. فقد سمعنا عن ألوف العمال الذين قتلوا بمحاكمة أو بغير محاكمة، والذين أرسلوا إلى معسكرات الاعتقال أو حرموا العمل في أنحاء البلاد كافة لأنهم يطالبون بحقوقهم أصحاب المصانع والشركات، ولكننا لم نسمع بصاحب مصنع واحد قتل أو أرسل إلى معسكرات الاعتقال أو أغلق مصنعه لأنه ظلم العمال أو حرمهم حصتهم من الربح والأجر المعقول
وقد ظل التفاوت عظيماً بين أرباح المديرين وبين جملة الأجور التي يعطاها العمال. فإن الهر كوتجن ? مدير شركة يقبض وحده ثمانمائة ألف مارك في السنة أجراً لإدارته، عدا الأرباح والمكافآت التي يتقاضاها على الإدارات الأخرى. وفي مصرف التجارة السابق ذكره ستة مديرين يعطون تسعمائة وستة وخمسين ألف مارك في السنة، ولا يبالون تنقيص أجور العمال الصغار لزيادة الأرباح
واقترح بعضهم في الشركة الأولى، شركة أن توزع حصة من الأرباح على عمال الشركات من قبيل المكافأة لأن الأرباح العامة قد أربت في تلك السنة - 1937 - على عشرين مليون مارك. . فرفض النازيون الاقتراح
وقس على ما تقدم سائر المبادئ التي يدقون بها الطبول لإفهام العمال أنهم ينصفونهم ولا يحابون المحتكرين والمتجرين بالثقة في الأسواق
أما التجارة الخارجية فكل ما صدقوا فيه من قواعدها النازية أنهم خرجوا على قواعد علم الاقتصاد ومبادئ حرية التجارة والمبادئ الاقتصادية الأخرى، وأداروها على النصب والغش الصريح
وهذه خلاصة السياسة الاقتصادية التي يعاملون بها الأمم الأجنبية:
يغزون تلك الأمم بمعاملتهم فيعرضون عليها أثماناً أغلى من الأثمان التي تبيع بها محصولاتها في الأسواق الأخرى
ثم يأخذون تلك المحصولات فيعرضونها في الأسواق بأثمان أرخص كثيراً من أثمانها التي اشتروها بها(353/10)
ثم يعطون البدل مقايضة لا نقداً ولا عملة تشبه النقد في السداد العاجل، فيعرضون مصنوعاتهم وأدواتهم بدلاً من المحصولات الزراعية التي هم في حاجة إليها
ثم يتحكمون في الأمم التي اشتروا منها تلك المحصولات الزراعية فلا يعرضون عليها إلا المصنوعات التي يستغنون عنها ولا حيلة لها في رفضها، لأنها لا تعرف وسيلة غير هذه الوسيلة للوصول إلى حقوقها
فماذا تكون النتيجة؟
تكون النتيجة أن الأمم التي تعاملهم تخسر (عملاءها) الأولين لأنهم يشترون محصولاتها من النازيين بأرخص من الأثمان التي يشترونها بها منها
وتكون النتيجة أن الأمم تضطر إلى قبول مصنوعات لا تحتاج إليها. ثم تقبلها شيئاً فشيئاً بأثمان أغلى من أثمانها بعد أن تصبح مضطرة إلى البيع للنازيين والشراء من النازيين دون سائر (العملاء) الآخرين
وقد يُسَّمى هذا الأسلوب اختراعاً أو فلسفة أو مهارة كما يشاء السماسرة النازيون المعجبون بأمثال هذه الأساليب
لكن الواقع أنه هو أسلوب التجار المجازفين اليائسين من قديم الزمان، وعندنا يقول العامة عمن يباشر هذه المراوغات في التجارة والمبادلة (إنه يلبس طاقية هذا لذاك)، وإنه يعطي بالشمال ويأخذ باليمين. ولو سلك تاجر مثل هذا المسلك في مدينة من المدن لضاع شرفه وضاعت سمعته بعد أشهر معدودات
نحن في الشرق نسمع كثيراً عن فلسفة النازيين في الاقتصاد، وفلسفة النازيين في التربية، وفلسفة النازيين في السياسة، وفلسفة النازيين في القوانين وغير القوانين.
ومن الواجب أن نسمع كثيراً عن جميع أولئك على شريطة أن نسمع كل شيء وان نحيط بكل جانب وأن نسمع الجعجعة ونحاول أن نرى الطحن الذي وراءها
وعندئذ نعرف الحقيقة ونعلم أنها جعجعة ولا طحن في كل شيء وفي كل مضمار
ونفهم أن (النازية) أكذوبة كبيرة حشوها الغش والخداع والأعراض الزائلة والتهويش الذي ينخدع به الأغرار ولا يجوز على أحد من المنصفين
عباس محمود العقاد(353/11)
بابر
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
لقد أعقب موت تيمورلنك عصراً من الاضطراب السياسي في إيران وما وراء النهر. وقد استطاع ابنه شاه رخ أن يثبت سلطانه على معظم ملك أبيه، ويكبح الثائرين من أقاربه. فلما توفي سنة 850، عم النزاع، وأشتد الاضطراب، حتى نشأت الدولة الصفوية، فكان انتصار الشاه إسماعيل في موقعة شرور سنة 907 بعد قرن كامل من وفاة تيمور فاتحة حروب مظفرة مدّت سلطان إسماعيل إلى أفغانستان ونهر جيحون، فشمل هذه البلاد سلطان واحد.
ولقد كان لبني تيمور على ما كان بينهم من حروب، وعلى قصر زمان كثير منهم، أثر محمود في الفنون والآداب، وقد نبغ منهم جماعة من ذوي الآثار الواضحة في ذلك العصر مثل شاه رخ وألوغ بك، والسلطان أبي سعيد، والسلطان حسين مرزا.
- 2 -
ونتكلم الآن في سيرة عبقري من سلالة تيمور تقلبت به غير الدهر بين هزيمة وانتصار، ونجاح وخيبة، فكشفت عن خلال من الهمة والطموح والشجاعة والصبر، انتهت به إلى إقامة دولة من اعظم الدول التي عرفها تاريخ الإسلام، وبقيت سيرته في صفحات التاريخ عبرة لذوي الهمم، ومثلاً لأصحاب النفوس الكبيرة.
ذلكم محمد ظهير الدين بابر الذي يصل نسبه بتيمور أربعة آباء: بابر بن عمر بن أبي سعيد بن محمد بن مير انشاه بن ييمور.
ويمتاز هذا الرجل العظيم بأنه ترك للتاريخ سيرته مفصلة بينة مصورة صورة صادقة طبيعية بعيدة من التكلف والرياء في كتابه (بابر نامه) الذي سنذكره من بعد، ولست أعرف بين العظماء رجلاً كتب سيرته بيده في بيان مسهب ممتع طبيعي صريح كما فعل بابر.
- 3 -
كان أبوه عمر شيخ أميراً على فرغانة تولاها سنة 870 من قبل أبيه السلطان أبي سعيد؛(353/13)
واستمر أميراً عليها بعد وفاة أبيه إلى أن توفي سنة 899. وهنا تستمع حديث بابر عن أبيه في (بابر نامه):
(كان حنفي المذهب، صحيح العقيدة، مواظباً على الصلوات في أوقاتها. قد قضي جميع ما فاته من الصلوات، وكان يديم تلاوة القرآن، وكان من مربدي الشيخ عبد الله - وهو المعروف بخواجه أحرار - يحرص على صحبته والتبرك به، ويدعوه الشيخ ابنه
(وكان يحب الأدب، قرأ منظومات: نظامي والمثنوى والشاهنامه، وكتباً في التاريخ؛ وكان قادراً على نظم الشعر، ولكنه لم يحفل به
(وكان عادلاً تبين حبه للعدل من هذه الواقعة: بغتت عاصفة شديدة من الثلج قافلة آتية من بلاد الخطا على سفوح الجبال شرقي أندجان. فلم ينج من ألف رجل إلا رجلان فلما بلغه الخبر بعث رجالاً أحرزوا أموال القافلة وأتوا بها فحفظها لأهلها مع احتياجه إلى المال. فلما عرف ورثتهم بعد سنة أو سنتين دعاهم وسلم إليهم أموالهم
(وكان سخياً حسن الخلق فصيح الكلام حلوه، شجاعاً باسلاً يحسن الضرب بالسيف، وكان وسطاً في الرمي بالسهام شديد اللكم لا يثبت للكمته مصارع) إلى أن يقول: (وكان يكثر من الخمر ولكنه اقتصد من بعد فكانت مجالس أنسه يوماً أو يومين في الأسبوع الخ. . .)
وقول: (كان عمر شيخ مرزا قصير القامة مستدير اللحية بدينا ممتلئ الوجه يلبس ثوباً ضيقاً جداً فإذا شد أربطته ضغط على بطنه وكثيراً ما تقطعت الأربطة بعد أن يشدها، وكان لا يتكلف في ملبسه ومأكله، يلف عمامته لفة واحدة، وكانت العمائم إذ ذاك أربع لفات وكان يلفها دون طيّ ويترك لها عذبة. ويلبس في أكثر أوقات الصيف خارج الديوان فلنسوة مغولية)
ويقول عن أمه إنها من بنات يونس خان وهو من ذرية جفتاي بن جنكيز. وبعد أن يتكلم عن نسب يونس خان وسيرته يذكر أولاده واحداً واحداً إلى أن يقول: (وكانت بنت يونس خان الثانية أي قتلق نكار، وقد رافقتني أكثر أيام كفاحي ومحني وتوفيت رحمها الله عام 911 بعد استيلائي على كابل بخمسة أشهر أو ستة)
ويذكر أولاد أبيه فيقول: (ترك ثلاثة بنين وخمس بنات، وكنت أنا ظهير الدين محمد بابر أكبر أبنائه وأمي تدعى قتلق نكار)(353/14)
- 4 -
مات عمر شيخ سنة 899هـ فورث ابنه بابر ملك فرغانة، وهي ولاية على نهر سيحون وكانت سنه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة
ومن الممتع أن نقرأ في بابر نامه الفصل الأول الذي يفتتحه بابر بقوله:
(في شهر رمضان من سنة 899 وفي الثانية عشرة من عمري صرت ملكاً على فرغانة وهي من الإقليم الخامس من طرف المعمورة تحدها كشغر من الشرق وسمرقند من الغرب وجبال تبرخشان من الجنوب، وكان في شمالها مدن عظيمة. (ثم يفيض في ذكر مدن فرغانة وأنهارها وحيوانها ونباتها)
لم يكن ملك فرغانة مسيراً لبابر، فقد مرت عليه أحداث عظيمة لم يستقر فيها ملكه إلى أن أخرج منه طريداً بعد عشر سنين من موت أبيه
طمع أعمامه في ملكه أول الأمر وحاولوا أن يغصبوه عرش فرغانة، فلم يبلغوا ما أملوا
يقول بابر: (لما توفي عمر شيخ مرزا فجأة كنت في جهارباغ في أندجان
(ويوم الثلاثاء 15 رمضان جاء الخبر مدينة أندجان فركبت جوادي على عجل وصرت إلى القلعة فيمن كانوا في خدمتي فلما بلغت باب مرزا أمسك (شيريم قفاي) بعنان الفرس، وصار إلى المصلى (نمازكاه) وكان قد خشي أن يأتي السلطان أحمد مرزا في جيوشه الكثيرة فيسلمني الأمراء إليه مع المملكة، وأراد أن يذهب بي إلى أزكند على سفح جبل آلاتاغ، فإذا سّلم الأمراء الولاية للسلطان أحمد نجوت أنا وذهبت إلى آلاجه خان أو السلطان محمود خان من إخواني)
كان هم بابر منذ ورث ملك فرغانة أن يستولي على سمرقند ليكون خليفة جده تيمور في دار ملكه. فما زال حتى فتح سمرقند سنة 903هـ (1497م) ثم ثار بعض الكبراء في فرغانة فأخر جوها من سلطانه، فخرج ليردها إلى حكمه فخذلته جيوشه ففقد سمرقند أيضاً ولكنه استطاع أن يسترد فرغانة وسمرقند بعد جهاد ومحن
ولم يستقر له الأمر طويلاً فقد أخرجه الأزبك من سمرقند، وفرغانة معاً سنة 906هـ فبقي بابر سنين ثلاثاً يطوف في البلاد ويحاول استرجاع ملكه؛ وهو يحدث أنه هزم مرة ففر في ثمانية من أنصاره وتعقبهم العدو وأعيت الخيل، فتخلف بعض رفاقه، وبقي معه اثنان، فلما(353/15)
أعيا فرسه نزل له أحد الرفيقين عن فرسه، فسار حتى أعيا الفرس الثاني، فقدم إليه الرفيق الأخير حصانه، وسار وحده ووراءه اثنان من الأعداء حتى جن الظلام، فترحل وأوى إلى صخرة ليعتصم بها ويرمي من يتعقبه بالنبال. وذلك مثل مما مر بهذا الرجل الشجاع الصبور
ولابد لمثل بابر أن يكون ملكاً، فلما عجز عن استرجاع فرغانة وسمرقند عزم على أن يختط بالسيف مملكة أخرى، فما كان له بد من أن يكون ملكاً طوعاً أو كرهاً، فها هو ذار يجتاز جبال هند كوش الثلجية ويفتح كابل ثم يمد سلطانه في أرجاء أفغانستان
بابر اليوم ملك مسلط على أقاليم من أفغانستان ولكن همته تحاول ملكاً أعظم، وعزمه لا يقر بالعجز عن استرجاع عرش آبائه فيما وراء النهر. وهاهو ذا السلطان إسماعيل الصفوي يطوي الأرض من أذربيجان إلى أفغانستان فيحالف بابر إسماعيل الصفوي على عدوه من الأزبك
سار بابر إلى سمرقند سنة 914 فأخذها ولكنه أخرج منها بعد حين وهزم هزيمة شنيعة أبلغته كابل بعد أن أشفى على الهلاك
يئس بابر من سمرقند بعد هذه الخطوب أو كاد ييأس منها فمنالها اليوم بعيد. فماذا يفعل؟ أيقنع بما ملك من أفغانستان ويرتقب الحوادث لعلها تتيح له فرصة، أم يقهر الحوادث على الخضوع لمشيئته ويوسع سلطانه في أرض الله الواسعة؟
كانت جيوش بابر تشرق إلى حدود الهند أحياناً فما الذي يمنعه أن يحاول ملكاً عظيماً في هذه الأرض العظيمة؟
غزا الملك الطموح أطراف الهند سنة 925هـ (1519م) واستولى على بعض الأقاليم ثم رجع إلى كابل فانتقضت عليه الأرض التي فتحها، ولكن هذه الغارة مدت عينيه إلى هذه الأرض الغنية الواسعة
- 5 -
كان السلطان في وهلي إذ ذاك إبراهيم اللوري الأفغاني الأصل استولت عليها أسرته سنة 855. وكان إبراهيم ولوعاً بأبهة الملك يريد أن يخضع رؤساء الأفغان لآداب وسنن لم يألفوها. كان يلزمهم أن يقفوا في حضرته صامتين مطرقين، فسخطوا عليه واجتمع بعضهم(353/16)
على أخيه جلال فحاول أن يقاسم إبراهيم الملك، وثار آخرون فقابل إبراهيم ثورتهم بالشدة والقسوة، وقتل بعض زعمائهم، وتعاقبت الثورات في أرجاء المملكة حتى وفد عمه علاء الدين إلى كابل يلتمس عوناً من بابر على ابن أخيه؛ وتلك هي الفرصة التي لا يضيعها بابر، والأمنية التي كان يتمناها والمغامرة التي يميل إليها وينشط لها، وكان محبَّاً للمخاطرة والمغامرة
أسرع إلى انتهاز الفرصة حتى بلغ لاهور فإذا جيوش وهلي قد انتصرت على (الثائرين دولت خان)، فقلب بابر انتصارهم هزيمة وتعقبهم في شوارع لاهور، ثم أسرع ففتح ديبل بور وترك علاء الدين اللوري فيها ورجع إلى كابل
وفي سنة 931 (1525م) رجع بجيوشه إلى الهند وقد أعد لها عدته فلقيه (الثائرين دولت خان) محارباً، وكان قد أوهمه انه سيؤيده، ولكن جنده تفرقوا حينما اقترب بابر. وتقدمت جيوش كابل للقاء جيوشه وهلي. وكان السلطان إبراهيم خرج للحرب في مائة ألف مقاتل ومائة فيل. وجعل بابر مدينة باتيبات إلى يمينه وجعل على يساره خنادق وحاجز من الأشجار، ووضع أمام جيشه عربات المدافع مشدوداً بعضها إلى بعض وجعل بينها فرجاً تتسع الواحدة منها لمرور مائة فارس ورتب جيوشه خلفها، ووقف إلى أقصى اليسار وأقصى اليمين سرايا من المغول للمفاجأة حين الحاجة
وفي ليلة الثامن من رجب سنة 932 (21 إبريل سنة 1526) فاجأ بابر جيش السلطان إبراهيم فلم يفلح غير أنه أخرج عدوه من معسكره، وعند الفجر تحركت جيوش إبراهيم فهجموا دون تلبث، وحسب بابر أنهم يقصدون في جناحه الأيمن فأمده، ولما جاءت الجيوش الهاجمة إلى الخنادق والحواجز وصف العربات المشدودة ترددوا وضغطتهم الجماعات إلى ورائهم، فاضطرب أمرهم، فانتهز بابر الفرصة وأرسل سرايا المغول من الفجوات التي بين العربات فداروا حول العدو وشرعوا يرمونه من الخلف، ووقف بابر كالصقر يرقب المعركة، فلما تقدمت جماعة من ميسرته على غير حذر فزلزلهم العدو سارع إلى إمدادهم، ولما اشتد ضغط العدو على ميمنته أسرع إلى إمدادهم أيضاً، وكان الأستاذ علي رئيس المدفعية في مقدمة الجيش ناشطاً موفقاً في عمله
وانجلت المعركة عن السلطان إبراهيم قتيلاً بين خمسة عشر ألفاً من جنده.(353/17)
يقول بابر: (كانت الشمس قد ارتفعت حينما بدأ الهجوم واستمرت المعركة إلى الظهر فكانت هزيمة العدو، وتم انتصارنا ويسر الله العظيم لي هذه المصاعب ومحق هذا الجيش الكبير في نصف يوم)
وغنم في هذه الموقعة وبعدها من الذهب والجواهر والسلاح والخيل ما لا يحصى ففرقة بابر غير ضنين به ولم يحرص على ادخاره
وبادر بابر فأرسل سريتين فاحتلنا وهلي واكراز، وفي يوم الجمعة 14 رجب سنة 932 خطب لبابر في جامع وهلي فبدأ في الهند تاريخ الدولة الإسلامية العظيمة التي سيطرت على الهند كلها حيناً وبقي سلطانها في تلك البلاد إلى سنة (1275هـ - 1858م)
(البقية في العدد القادم)
عبد الوهاب عزام(353/18)
في الاجتماع اللغوي
نشأة اللغة الإنسانية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
تمهيد في أنواع التعبير الإنساني
للتعبير الإنساني طرق كثيرة يرجع أهمها إلى قسمين رئيسيين
القسم الأول: التعبير الطبيعي عن الأنفعالات، ويشمل جميع الأمور الفطرية غير المقصودة التي تصحب مختلف الانفعالات السارة والأليمة: كالصراخ، والضحك، والبكاء وتفتح الأسارير وانقباضها، واتساع الحدقة، وإغماض العينين، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف شعر الرأس، وارتعاد الجسم. . . وما إلى ذلك من الظواهر الفطرية التي تبدو بشكل غير إرادي في حالات الفرح والحزن والألم والخوف والخجل والاشمئزاز. . . وما إليها، والتي تعبر عن قيام حالة وجدانية خاصة بالشخص الصادرة عنه
وتنقسم هذه التعبيرات من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها إلى نوعين:
1 - تعبيرات بصرية، أي تصل عن طريق البصر كالحمرة والصفرة والرعشة وانقباض الأسارير وانبساطها واتساع الحدقة وإغماض العين ووقوف شعر الرأس والعدْو. . . وما إلى ذلك من الظواهر الجسمية التي تصحب مختلف الانفعالات
2 - تعبيرات سمعية، أي تصل عن طريق حاسة المسع، كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن والسرور. . . وهلم جراً، ويتألف هذا النوع من أصوات مبهمة (تشبه أصوات الحيوان وأصوات مظاهر الطبيعة) وأصوات لين (حروف مد) مختلطة أحياناً ببعض أصوات ذات مقاطع (حروف ساكنة)
(القسم الثاني): التعبير الإرادي عن المعاني، ويشمل جميع الوسائل المكتسبة التي يستخدمها الإنسان بشكل إرادي للتعبير عن المعاني والمدركات. فهذا القسم يختلف عن القسم السابق في منشئه وطرق استخدامه وما يعبر عنه. فهو كسبي في منشئه، إرادي في استخدامه، معبر عن معان ومدركات؛ على حين أن القسم الأول فطري النشأة، يصدر(353/19)
بشكل غير إرادي، ويعبر عن تلبس الشخص بحالة وجدانية انفعالية.
وتنقسم هذه الطائفة من التعبيرات، من حيث الحاسة التي ندركها عن طريقها، إلى نوعين مشابهين لنوعي الطائفة الأولى: أحدهما التعبيرات الإرادية البصرية، وثانيهما التعبيرات الإرادية السمعية:
1 - أما التعبيرات الإرادية البصرية، فهي التي تصل عن طريق حاسة النظر، وتشمل جميع الإشارات الحسية التي تستخدم بقصد الدلالة. وهي على ضربين:
(أحدهما) إشارات مساعدة ونائبة، أي تساعد لغة الكلام أو تنوب عنها في حالات خاصة أو لضرورة ما.
فمن هذه الطائفة الإشارات البحرية، وهي التي يستخدمها عن بعد بحارة سفينة مع بحارة سفينة أخرى، وهي إشارات دولية معروفة لجميع البحارة وتدرس في مدارس البحرية.
ومنها كذلك إشارات الصيد وهي التي يستخدمها الصيادون بعضهم مع بعض، حتى لا يسمع صوتهم الحيوان المطارد.
ومنها الحركات اليدوية والجسمية التي يستخدمها الصم البكم للتعبير عما يجول بخواطرهم.
ومنها الإشارات التي يلجأ إليها الفرد أحياناً للتعبير إذا كان المخاطب لا يفهم لغته؛ والتي جرت العادة في بعض الأمم الأولية أن يستخدمها أفراد العشائر المختلفة اللهجات بعضهم مع بعض. وقد عثر علماء الاجتماع والإتنوجرافيا على شواهد كثيرة من هذه الظاهرة عند كثير من عشائر السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وعند بعض القبائل الإفريقية. فقد روي الأستاذ كوهل أنه إذا التقى أحد الهنود الحمر (السكان الأصليين لقسم من أمريكا الشمالية) بآخر من غير عشيرته، مختلف عنه في لغته، فإنهما يلجأن في تعبيرهما إلى لغة الإشارات التي تنزلها هذه العشائر منزلة لغة دولية. وقد مهر الهنود الحمر في هذه اللغة أيما مهارة. ففي إمكان المتخاطبين أن يظلا يوماً كاملاً يتحادثان عن طريق الإشارات باليد والأصابع والرجلين، وأن يقص كل منهما على الآخر كل ما يود قصه عليه
ومنها الإشارات التي تستخدم في بعض الشعوب في حالات الصيام الديني عن الكلام. وهذا النوع من الصيام متبع عند كثير من الأمم الأولية وبخاصة عند السكان الأصليين لأستراليا وأمريكا. فقد ذكر الأستاذان سبنسر وجيلين في كتابهما عن سكان استراليا الوسطى حالات(353/20)
كثيرة من هذا القبيل، منها أن المتوفى عنها زوجها يجب عليها أن تظل مدة طويلة، تبلغ أحياناً سنة كالمة صائمة عن الكلام. ويظهر أن شيئاً من هذا كان متبعاً عند اليهود، بدليل قوله تعالى على لسان مريم: (إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيَّا، فأشارت إليه. . . الآية)
ومنها الحركات التي يستعين بها في أثناء حديثهم أهل اللغات الساذجة الناقصة لتكملة ما ينقص تعبيرهم وما يعوزه من دلالة. وقد لوحظ هذا في كثير من الأمم الأولية. فقد روي عن البوشيمان (عشائر أولية تسكن بعض مناطق في أفريقيا الجنوبية) أنهم إذا أرادوا المحادثة ليلاً أشعلوا النار ليتمكنوا من رؤية الإشارات اليدوية التي تصحب كلامهم فتكمل ناقصه وتحدد مدلولاته
ومنها الإشارات التي تصحب حديثنا نحن لتوكيد المعاني، أو لتمثيل الحقائق، أو لزيادة التوضيح؛ والتي تستخدمها وحدها للدلالة على الإيجاب والنفي والاستحسان وما إلى ذلك: كالإيماء بالرأس للتعبير عن القبول، وتحريك السبابة حركة مستعرضة للتعبير عن الرفض أو النفي، ومد الشفتين ووضع السبابة عليهما للأمر بالسكوت. . . وهلم جرا
(وثانيهما) إشارات أصيلة عامة، وهي التي يتكون منها لغة كاملة مستقلة تستخدم وحدها في جميع الشئون والظروف. . . . وقد استخدم هذا النوع من اللغات عند بعض الجماعات الإنسانية ولا يزال مستعملاً في بعض العشائر. فقد عثر في الأمم الأولية على جماعات كثيرة لا تكاد تستخدم في تعبيرها غير الإشارات اليدوية والجسمية. ومن هؤلاء بعض قبائل السكان الأصليين لأمريكا واستراليا وبعض عشائر أفريقيا. ويطلق على هذا الضرب من التعبير اسم (لغة الإشارات) أو (الإشارات التحليلية) وقد عني بدراسته عدد كبير من علماء الأتنوجرافيا والاجتماع من أشهرهم مولري وتيلور ورومان ولوبوك وسبنسر وجيلين وليفي برول وريبو والدكتور فيشر الألماني
وقد صور الدكتور (فيشر) هذا النوع من اللغات وقربه إلى الأذهان إذ يقول:
إذا التقيت بأحد الهنود الحمر وأردت أن أخاطبه بلغة الإشارات لأسأله هل رأى ست عربات يجرها ثيران ويصحبها ستة سائقين منهم ثلاثة مكسيكيون وثلاثة أمريكيون وواحد ممتط صهوة جواده، فإنني أشير إلى شخصه بيدي للدلالة على كلمة (أنت)، ثم أشير إلى(353/21)
عينيه للدلالة على فعل (الرؤية)، ثم أبسط أصابع يدي اليمنى وسبابة يدي اليسرى للدلالة على عدد (ستة)، ثم أكوّن صورة دائرة بإلصاق نهايتي السبابتين الإبهامين إحداهما بالأخرى وأمد يديّ إلى الأمام وأحركهما كما تتحرك عجلات العربة وهي تسير للدلالة على (العربة)، ثم أضع الكفين ممدودتين بجانب الجبهة ممثلاً قرن حيوان للدلالة على (الثور)، ثم أمد ثلاثة أصابع من يدي اليسرى وأضع يدي اليمنى تحت شفتي السفلى وأنحدر بها إلى صدري ممثلاً اللحية للدلالة على (ثلاثة مكسيكيين)، ثم أمد مرة ثانية ثلاثة أصابع وأمسح جبهتي بيدي من اليمين إلى الشمال ممثلاً وجهاً شاحباً للدلالة على (ثلاثة أمريكيين)، ثم أرفع إصبعاً واحداً وأضع بعد ذلك سبابة اليسرى بين سبابة اليمنى ووسطاها ممثلاً الراكب للدلالة على (رجل واحد راكب حصاناً)
وأضاف إلى ذلك أن الوقت الذي يقضيه أحد المتكلمين بهذه اللغة في أداء هذه الحركات لا يزيد كثيراً على الوقت الذي يستغرقه تعبيرنا باللغة الكلامية عن هذه المعاني
وذكر الأستاذ تيلور بصدد هذه اللغة أن لها قواعد إشارية لربط أجزاء العبارة بعضها ببعض وترتيب عناصرها؛ وأنها في مجموعها تكاد تكون متحدة عند جميع الشعوب التي تستخدمها، فهي من هذه الناحية أشبه شيء بلغة دولية، وأنه يمكن أحياناً للتعبير بها عن حقائق دقيقة كعظات وضرب أمثال وقص حكايات؛ وأنها في جملتها ومعظم تفاصيلها تشبه لغة الصم - البكم. فقد جمع مولري بين رجل أصم - أبكم وطائفة من الهنود الحمر المتكلمين بلغة الإشارات، فأخذ الأصم - الأبكم يقص عليهم بالإشارات قصة طويلة تتعلق بحادث سرقة، وعقب على هذه القصة بتعليقات من عنده، فلم يفتهم فهم أي حركة من حركاته، لاتحادها مع حركاتهم اللغوية
وذهب العلامة (ريمو) إلى أنها قابلة للإصلاح والتهذيب، وأنه لو طال استخدام الشعوب الإنسانية لها لسارت في سبيل الارتقاء، ولأصابها كثير من أسباب التنقيح تحت تأثير الرقي العقلي ومطالب الحياة الاجتماعية، واتساع حاجات الإنسان، وأعمال المخترعين والعلماء. . . وما إلى ذلك
غير أنها مهما ينلها من التهذيب فلن تخلو من مساوئها الذاتية، فهي تستأثر باليد، فتحول دون القيام بأي عمل آخر في أثناء التعبير. ويتوقف إدراكها على النظر، فلا يمكن التعبير(353/22)
بها عن بهد ولا في الظلام وهي قائمة على تقليد الأشياء المحسة، فلا تكاد تقوي على التعبير عن المعاني الكلية أو وصف المشاعر والوجدان هذا إلى أنها عارية عن الدقة في كثير من مظاهرها، وأنها تقتضي إسرافا كبيراً في الوقت والمجهود
2 - وأما التعبيرات الإرادية السمعية، فهي التي تصل عن طريق حاسة السمع، وهي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات
وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة (اللغة) إذا أطلقت وهو وحده الذي يهمنا في بحثنا. وإنما ذكرنا الأنواع الأخرى لاستيفاء مظاهر التعبير من جهة، ولأننا قد نحتاج إليها من جهة أخرى في بيان نشأة هذا النوع، أو في ضرب الأمثال، أو الموازنة، أو مناقشة النظريات وتوضيحها. . . وما إلى ذلك من الأمور التي ستعرض لها، بصدد نشأة اللغة، في المقالات التالية إن شاء الله.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(353/23)
أفانين
أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك
للأستاذ علي الجندي
في عصر بني أمية لعمت ثلاثة مت الرُّجاز، زاحموا الشعراء بالمناكب على أبواب الخلفاء والولاة، وقاسموهم جزيل الصَّلات وسنيّ الهبات، بل أكرهوهم على أن ينظروا إليهم بعين الجلّة والإكبار، ويروا فيهم منافسين يُخشى بأسهم، وترهب صولتهم، فاضطروا إلى مجاراتهم في هذا الفن الناهض، ليفوزوا بالحسنيّين، فكان جرير والفرزدق من الشعراء الرجاز
هؤلاء الثلاثة الذين سمْوا بالرجز من الحضيض إلى الذروة، واستنفذوا أهله من الخمول والضّعة: هم: العجّاج التميمي وابنه رُؤبة، وأبو النجم العِجْلي، وفيهم يقول أبو عبيدة: ما زالت الشعراء تقصر بالرجاز حتى أبو النجم:
الحمد لله العلي لأجلل
وقال العجاج: قد جبر الدين الإله فجُبرْ
وقال رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فانتصفوا منهم!
لم يكن للرجز في الجاهلية نباهة شأن، فقد كان البدوي يصوغ منه بضعة مشطورات في الحرب والمفاخرة والسَّباب، أو يرسها في غرض تافه كوصف ظبي أو ظلم أو ثور وحشي، حتى جاء شيخ الرجاز وأرصنهم قولاً: الأغلب العجلي من المخضرمين؟ فأطاله قليلاً على عهد الرسالة، فكان مثله في الرجاز مثل المهلهل التغلبي في الشعراء
ولكن في هذا العهد - عهد بني أمية - وثب الرجز وثبة قوية موفقة، فبارى الشعر في جُلّ خصائصه كما بارته الرسائل الأدبية في أواسط العصر العباسي، فاستعمل في المدح والهجاء والفخر والرثاء، وذكر الديار والظعائن، والوقوف على الأطلال والرسوم والدَّمن، وبكاء الشباب ووصف الرحلة إلى الممدوح، والتمهيد بالنسيب، والتخلص منه إلى المدح والذم إلى غير ذلك من أغراض الشعر الصميمة
وحسبك فيما بلغه الرجز من رفيع المنزلة، قول المنتجع لرجل من الأشراف: ما علمت(353/24)
ولدك؟ قال: الفرائض. قال: ذلك علم الموالى لا أبالك! علمهم الرجز فإنه يُهَرِّت أشداقهم (يوسعها)
ويقتضينا الإنصاف أن نقول: إن السابق إلى تقصيد الرجز وتضمينه فنون الشعر: العجاج. ولذلك عده الرواة في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء
والذي يعنينا من هؤلاء الثلاثة الصدور المقدمين هو أبو النجم العجلي
واسمه المفضّل أو الفضل بن قدامة، يرتفع نسبه إلى عجل ابن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
وقبيلة بكر من القبائل المعرقة في الفصاحة والبيان! ويكفيها فخراً أنها أخرجت للعرب الأغلبَ وأبا النجم من الرجاز، وطرفة ابن العبد والحارث ابن حِلّزة وأعشى قيس من الشعراء أصحاب المعلقات!
كان أبو النجم يمتاز من صاحبيه: العجاج ورؤية - على ما لهما من مزايا - بأشياء:
كان بارعاً إلى الغاية من البراعة في النعوت
وكان حاضر البديهة سريع الخاطر: يحدث الأصمعي أنه قال أرجوزته: الحمد لله العلي الأجلل، في قدر ما يمشي الإنسان مسافة غلوة أو نحوها (مقدار رمية سهم)
وكان أحسن الناس إنشاداً، وكانت له في الإنشاد عادة غريبة! وهي أنه يُرغى ويُزيد ويرمي بثيابه فيضفي عليه ذلك رهبة وهيبة!
وروعة الإنشاد لا يفكر أثرها في الغلبة والفلج! وبخاصة في عصر يعتمد فيه على المشافهة والسماع، ويتلاقى فيه الخصوم وجهاً لوجه في المواسم والأسواق
بل إن الإنشاد لم يفقد روعته في عصرنا هذا - عصر القراءة والكتابة - فقد كان عدة (حافظ) في لتلعب بعقول الجماهير، وانتزاع التصفيق منهم، حتى لقد كان يقوم له ذلك مقام البراعة والإبداع في شعر (شوقي)
ومن شعرائنا المعاصرين من تسمع شعره ثم تقرؤه، فإذا الفرق بين ما سمعت وما قرأت كالفرق بين الدر والخزف لكثرة ما يتحاسن في إنشاده ويتصايح ويمعن في التأوّه والتباكي والشهيق والزفير!
وكان أبو النجم - فوق تمكنه في الرجز - شاعراً مجيداً وقد تغنت في بعض مرّفقاته عُليْة(353/25)
بنت المهدي، كما أنه انتصر على الفرزدق وجماعة من الشعراء من مجلس سليمان بن عبد الملك، وحاز الجائزة دونهم بقصيدته الفخرية التي أولها:
(علق الهوى بحبائل الشعثاء)
ومن المقرر في عرف النقدة: أن كل مقصّد يستطيع الرجز - وإن لقي في ذلك بعض المشقة - وليس كل راجز يمكنه التقصيد. والشاعر الراجز أعلى مقاماً ممن حظه الشعر أو الرجز فحسب، فإذا اجتمع الشعر والرجز والمقطعات لإنسان سمي: الكامل. وقد ظفر الفرزدق بهذه المرتبة، ثم أبو نواس من المحدثين.
ولم يكن بد أن تستحرَّ المنافسة بين أبي النجم وبين العجاج وابنه رؤبة، وقد أظلهم عصر واحد، وجمعتهم صناعة واحدة. ولكن الباحث المتقصي يستطيع أن يرد هذا الصراع إلى سبب أعمق من المعاصرة: وهي العصبية القبلية؛ فالعجاج وابنه من تمي ثم من مضر، وأبو النجم من بكر ثم من ربيعة، وبين تميم ابن مُرّ وبكر بن وائل إحن ومضاغنات في الجاهلية والإسلام! وبين مضر الحمراء وربيعة الفرس حقود وحزازات حملتها قبائلهما إلى كل بلد نزلت فيه!
وكان العجاج ورؤبة يحذرن أبا النجم ويداريانه، لما عرف عنه من شكاسة الطبع وزعارة الخلق!
يقول عامر بن عبد الملك السمعي: كان رؤبة وأبو النجم يجتمعان عندي، فأطلب لهما النبيذ، فكان أبو النجم يتسرع إلى رؤبة حتى أكفَّه عنه!
ويحدثون: أن فتيانا من عجل قالوا لأبي النجم: هذه رؤبة بالمِرْبَد يجلس فيسمع شعره، وينشد الناس ويجتمع إليه فتيان من تميم، فما يمنعك من هذا؟ قال: أو تحبون هذا؟ قالوا: نعم قال: فأتوني بعسِّ نبيذ، فأتوه به فشربه، ثم نهض قائلاً:
إذا اصطبحت أربعاً عرفتني ... ثم تجشّمعتُ الذي جشّمتني
فلما رآه رؤبة أعظمه، وقام له من مكانه وقال: هذا رجّاز العرب
ثم أنشدهم أبو النجم أرجوزته اللامية، فقال رؤبة: هذه أم الرجز
ومن طريف مراجزاته للعجاج: أن العجاج خرج محتفلاً، عليه جبة خزّ وعمامة خزّ، فوق ناقه له كَوْماء (عظيمة السنام) قد أجاد رحلها، حتى وقف بالمِربد - والناس مجتمعون -(353/26)
فأنشدهم أرجوزته الرائية:
(قد جبر الذين لإله فجبر)
فذكر ربيعة وهجاها، فجاء رجل إلى أبي النجم، فقال له: أنت جالس، وهذا العجاج يهجونا بالمربد قد اجتمع عليه الناس.
فقال أبو النجم: صف لي حاله وزيه الذي هو فيه، فوصفه له، فقال: ابغني جملاً وأكثر عليه من الهناء، فجيء بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، وأتزر بالجمل إليه، فأخذ سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها، واتزر بالأخرى! وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده حتى أتي إلى المربد
فلما دنا من العجاج قال للقائد: أخلع خطامه؛ فخلعه، وأشتد أبو النجم أرجوزته:
(تذكر القلب وجهلاً ما ذكر)
والجمل في أثناء ذلك يدنوا من الناقة ويتشّممها! والعجّاج يتباعد لئلا تفسد ثيابه ورحله بالقطران!
حتى إذا بلغ أبو النجم إلى قوله:
إني وكلُّ شاعر إذا شعرْ=شيطانه أنثى، وشيطاني ذكرْ
فما رآني شاعر إلا استترْ ... فِعْلَ نجوم الليل عايَنْ القمرْ
وثب الجمل على الناقة!!
فهرب العجاج والناس يضحكون قائلين:
(شيطانه أنثى وشيطاني ذكر)
وكان أبو النجم ينزل سواد الكوفة وينتجع بقصيده ورجزه خلفاء بني أمية وولاتهم، فيحسنون لقاءه وينفحونه بالعطاء
وله مع الخليفة هشام بن عبد الملك أخبار طريفة ونوادر حِسان كان يجري فيها على سجية الأعراب لا يُوارب ولا يحتشم!
فمن ذلك: أن هشاماً قال له يوماً: حدثني يا أبا النجم. قال: عني أو عن غيري. قال: بل عنك. قال: إني حين علتني الشيخوخة كان يعرض لي البول في اللهيل، فوضعت عند رجلي شيئاً أقضي فيه حاجتي. فقمت ذات ليلة لأبول، فخرج مني صوت! فتشدّدت(353/27)
وتماسكت، وعدت مرة أخرى، فخرج مني صوت آخر! فأويت إلى فراشي، وهتف بزوجي: يا أم الخيار هل سمعت شيئاً؟ فقالت: لا، ولا واحدة منهما!
فضحك هشام وأمر له بصلة
ومن نوادره المضحكة المبكية: أن ورد على هشام في الشعراء، فقال لهم: صفوا لي إبلاً، فقطروها وأوردوها وأصدروها، حتى كأني أنظر إليها
فأنشده الشعراء وانشده أبو النجم أرجوزته التي مر ذكرها:
(الحمد لله العلي الأجلل)
وهشام يصفق بيديه استحساناً لها! ومضى أبو النجم في إنشاده غلى أن بلغ قوله في وصف الشمس:
حتى إذا الشمس جلاها المجتلي ... بين سِمَاطيْ شفق مرعَبل
صَغواء قد كادت ولما تفعل ... فهي على الأفق. . . . . . . . .
كان تمام البيت: كعين الأحول
وهنا تذكر أبو النجم - بعد فوات الأوان - أن هشاماً احول! فامتُقع لونه، وتخاذلت أوصاله، وجمد لسانه في فمه!
وأراد أن يغير البيت فخذله شيطانه! وحار في أمره فأطرق واجماً!
ولم يفطن هشام للسبب، فضجر وصاح به: أجز! فلم يسع أبا النجم إلا أن يصدع بالأمر فقال:
كعين الأحول!
نطق بها كحشرجة المحتَضر! والقافية (تعذر)
وكان هشام - على عقله وكيْس - فظاً غليظاً خشناً!
فاستشاط غضباً! وأمر بوجْء عنقه! فتبادر إليه الخدم يدفعون في قفاه! حتى خرج من المجلس وهو لا يصدّق بالنجاة!
ولم يكتف هشام بذلك، فأمر الربيع صاحب شرطته ألا يريه وجه أبي النجم بعد هذا! وأن ينفيه من الرصافة!
ولكن وجوه الناس شفعوا له عند الربيع، فأقرّه فيها(353/28)
ولم يكن أحد يُضيف في الرصافة، غير سليم بم كيسان الكلبي، وعمر بن بسطام التغلبي؛ فكان يتغدى عند سليم، ويتمشى عند عمر! ويؤم المسجد ليلاً فيبيت فيه!
(البقية في العدد الآتي)
علي الجندي(353/29)
تأملات
في ذهني صورة منك تنسخ كل صورك: صورة استسلام يحمل كل معاني المنعة، ويعصمك من عيني ومن يدي ومن حسي، وكان خليقاً أن يغريني بك، فلم يغرني. . . ملأني إكباراً لك وتدلهاً بك، لأن فيك شيئاً مقدساً يحميك دائماً من الأعين والأيدي، وحول رأسك هالة من الطهر تحوطه مرفوعاً ومطرقاً فاختلاس النظر إليك نوع من العبادة لا يخفره إليك الشيطان، وأنت في صمتك بليغة، تتحدثين بألف صوت كالسينمفوني. . .
جوارحي دائماً مشغوفة بك، مشوقة إليك، يطربها حديثك ويناجيها صمتك، وتستلهم الوحي من إطرافك. . .
تُرَى يا فتاتي، بمن كان شغلك، وفيم كنت تطرقين؟. . . لا يغرنَّني الغرور، فأحسب اتجاهك كان إليّ، وأنت إلى غير الغرض تتجهين. . . بل أنت في أكبر الظن تتساءلين: ماذا تحسين؟ أخداع هو أم يقين؟. . . وتقولين في نفسك: أيجوز أم لا يجوز أن أجيب نداءً ليس بعد من القلب، ولا هو من وراء القلب. . . ولكنه يوشك أن يصدر عن الصميم؟؟
تقولين في أكبر الظن: إني فتاة عديمة التجربة، وهاأنا ذي أتعرض للتجربة، أأقدم أم أحجم؟ وإذا أقدمت ماذا يكون؟ إنني لا أملك الإقدام، لأنه شر، ولا أملك مع هذا الإحجام. . . إنني أتردد وسأبقى مترددة إلى يوم الدين، ومن كان مثلي فسلامته في الاعتصام لا في الإقدام. . . وقد اعتصمت بحبل الله، وحفظت جميله، ومنحته ودي، وجازيته على حبه حباً عذرياً طاهراً. . . أحس الغبطة فيه، ويثير مع ذلك في نفسي الأشجان
إذن فليكن ما تشائين ولي نقف في حبنا يا فتاتي على قدم المساواة؛ فأنت عندي أسمي من أن أقف وإياك في مستوى واحد، وأكرم من أن أحشر وإياك في صعيد واحد. . . وإني بذلت لك من نفسي أكثر مما بذلتِ لي من نفسك. . . لكن العبرة بقيمة ما أبذل وما تبذلين؛ وقد بذلتُ لك عاطفة جياشة لم أحبسها، وبذلت عاطفة مكبوتة جاهدت في كبتها، فجاءت عاطفتي الجياشة أرخص من العاطفة التي زلتِ تكبتين. . . وتجاوزت إليك الحدود، ووقفتِ أنتِ دائماً مني عند حد. . . فأنا أسخو بما لا يكلفني جهداً، وأنت تبذلين جهداً جباراً فيما تكبتين وتكبحين
لا أدرك مبلغ ألمك لأنك صبوحة دائماً، لكني أحس الصراع في نفسك بين واجبك نحوي وواجبك نحو الله وقد تبدو المقابلة بين الموقفين نابية، لكن الواقع لا ندحه عن ذكره(353/30)
والإشارة إليه، والواقع أني أجاهد في ربط مصيرك بمصيري بهذه الصلة الروحية، ويريد الله أن يكون لكل منا مصير؛ وأنت بما أودعك الله من وداعة تصرفين السوء عن نفسك، وكل شيء يرعاك حتى تلك العين التي ترنوا إليك، واليد التي تتلمس يدك، والحس الذي يهفو إليك بليته ليغمرك أو تغمر به
كوني يا فتاتي ما تشائين فلن تكون مشيئتي غير مشيئتك، وليكن ما يجيش به صدري وفقاً على هذا الحيز الضيق حتى يضيق به فيكون من أمر الله ما يكون
سأبقى أميناً كما كنت شهيداً كما تكونين، ولن أنساك في قيامي وقعودي وركوعي وسجودي ولو ذهبت صلاتي غير مأجورة ولا مثابة، فحسبي أنها خالصة لوجه الله
أنت يا فتاتي شهيدة كأقدس ما يكون الشهداء، قديسة كأكرم ما يكون القديسون. ليست عندنا أديرة ولكنك تلجئين في نفسك الممتنعة إلى دير حصين، وقد تبقين هكذا طوال حياتك وأتقلب أنا مع الأيام، فتبقين لي مثلاً أعلى، وأبيت أنا بشراً ككل الأنام
(م. د)(353/31)
من وحي الحنين
آذار. . . حدثني. . .
(مهداة إلى الأستاذ الزيات)
للأستاذ شكري فيصل
آذار. . . يا مُطلِق الحياة من قيود الشتاء. . . وباعث النور في أرجاء الكون. . . حدثني. . . كيف ضمعت إليك (دمشق) بعد هذا الفصل القاتم، وذاك الجو الغائم؛ وتلك الليالي القريرة؟!. . . هل أزحت عنها أثقال السحاب. . . وجبت ظلام الضباب. . . ونشرب الروح في جنباتها الحلوة. . . أم أنها لا تزال بعدُ غارقة في صمت الشتاء، صابرة على أذى الفرّ. . . تنذرها السماء؛ وتهددها العواصف؟!. . .
آذار!. . . أيها المنطلق هنا على حفاحي النيل. . . تستمع إلى أنشودته الصامتة؛ وهمسه الخفيف. . حدثني عن (بردي) هذا النهر الوادع. . . ألا يزال ثائراً مضطرباً. . . يحمل الخوف، وينشر الذعر، ويبث الاضطراب، ويفيض على أطرافه وجنباته كأنما ملّ مظاهر الجور ومهازل الحياة. . . أم أنه عاد سيرته الأولى. . . يحمل الأمان إلى النفوس، ويشع الحياة في المهج؛ وتصطفق أمواجه الفانيات وتنصت إليه أفئدة وقلوب. . . لتسمع أغنيته الخالدة، ولحنه البارع. . . وتنتشر على ضفتيه طوائف الناس تنعم بهذا الرحيق السلسل، وهذا الصفاء الجميل. . . وتقرأ في صفحاته آيات المجد الذي انبثق مع (الغساسنة) وترعرع في جنبات قصورهم الناعمة؛ وتكامل في عهد (أميَّة) وفي ظلال سلطانهم الواسع. . . ثم غاب حيناً من الدهر. . . فبكاه هذا النهر. . . بدموعه وعبراته. . . حتى إذا ولد من جديد في تاج (فيصل) وملك (فيصل). . . وفتح عينيه للنور، ومدَّ ذراعيه يريد أن يحبو. . . انتزعه الدهر؛ في ليلة سوداء كالحة، ورمى به في صحراء اليأس المجدب. . .
آذار!. . . أيها المرح هنا في ربوع (الأرمان)؛ وملاعب الجزيرة، وحدائق النيل. . . حدثني. . . هلا حملت المرح إلى وطني الآخر. . .؟ هلا زرعت البسمات على الشفاه. . . ودفعت الدم في العروق، وأحييت موات الأمل في القلوب. . . .؟ أم أن القوم في شغل عنك. . . يقارعون الدهر العصيب، ويجالدون الزمن الغادر، ويدارون الأحمق السفيه؟(353/32)
آذار. . . أيها الضاحك هنا على شفاه الأزاهير الفوّاحة. . . حدثني. . . عن أزاهير دمشق. . . هل تفتحت عنها براعهما بعد هجعة طويلة ثقيلة. . . وهل نشطت الحياة في هاته الشجيرات الفتية القائمة في وسط الحدائق كأنها زمرة غانيات في موكب زفاف. . . ترقص مع خطرات النسيم، وتهتز مع أنداء الفجر، وتصفق كلما ذهب بها الهواء هنا وهناك؟. . . وهل استفاقت هذه الجنات الفيح يا آذار. . . فنثرت الزهر، ونشرت العطر، وطبعت على وجه الدنيا قبلتها الضاحكة. . . كأنها تنفخ فيها روحاً من النشاط؟
والغوطة. . . هل اكتست الغوطة ذاك الثوب الزاهي يا آذار! بعد عرى طويل. . . فنبت في أرضها العشب الأخضر. . . ريّان نديَّاً. . . ينفح الفتوة، ويمور بالحياة، ويستقبل الشمس مع الصباح بقطرات من الندى المبعثر. . . البراق كالماس. . . ويودعها مع المساء وهو يقبلها كأنه يتمنى ألا تزول عنه. . . ثم يبكي فراقها في الليل بدموعه الصافية اللألاءة؟!. . .
. . . والزهر المتشقق على مبسم الغصن يا آذار!. . . هل رقت أوراقه الملونة لنجوى المحبين، وآهات الشاكين، وقلوب المتيمين؟ وهل خرج الناس يشهدون هذا السحر الحلال، وهذه الروعة الضاحكة. . . وينعمون بهذه الأجواء المعطرة، والدنيا المتأنقة، وينشقون في هوائها الأرج والعبير، ويطوفون بها كما يطوفون في جنات الخلد. . . ويقرءون آيات الله البارعات في الغصن المائس والفروع المهتزة، والماء الذي يخرج به نبات مختلف ألوانه؟!
. . . . ومواكب الزهر يا آذار!. . . هل شهدت (دمشق) هذا العام مواكب الزهر؟. . . وهل ضحكت هذه الدنيا الصابرة لصروف الزمان وعبث الدهر. . . وهل صافحت عيناها من جديد. . . هؤلاء الفتيان الذين يذهبون هنا وهناك. . . مع شعاعات الفجر الأولى، يستقبلون الصباح، ويرتعون في الحقول، ويمرحون في الجنان، وينتقلون. . . كالفراشات الطائرة. . . من شجرة إلى شجرة، ومن غصن إلى غصن. . ويصفقون مع أمواه النهر، وينتشون من هذا السحر؛ ويقضون يومهم لله ولأنفسهم. . . ثم يعودون. . . وفي أيديهم هذه الحمالات من الورد؛ وهذه الباقات من الزهر؛ ينشرون عبيرها في رحاب المدينة وأحيائها. . . في صدورهم البشر، وفي وجوههم المرح؛ وعلى ألسنتهم نشيد الوطن الغالي؟!. . .(353/33)
والريف البعيد يا آذار!. . . هل انتفض من نومه العميق. . . وهل فتح أهلوه أبواب دورهم بعد أن سدتها الثلوج، فحالت بينهم وبين الخروج. . . فظلوا في حصار الطبيعة شهراً أو بعض الشهر لا يغادرون هذه المدافئ المبنية في زاوية من زوايا الغرفة. . . وهل بدءوا حياة الربيع الوادع. . . يتفقدون زرعهم الذي دفنوه في الأرض، ووكلوه إلى الله، وانتظروا موسم حصاده؟!
وهل خرج أطفالهم يتسابقون في طرق القرية، ويتسلقون قمم الجبل؛ ليظفروا بالثلوج المتجمدة. . . يتراشقون بها، ويتزحلقون عليها، على طريقتهم الساذجة الأولية؟!. . .
. . . وفتيات القرى يا آذار!. . . هل انتصبت قاماتهن؛ بعد أن حناها الشتاء؛ في طريقهن إلى ماء القرية، يستقين منه، وقد علتهن الجرار، ولثمت خدودهن هذه النسمات العليلة؛ وعبثت بخمرهن؛ فحركتها ذات اليمين وذات الشمال. . . واجتمعن حول الورد ينشدن في همس خفيف، وتمتمة ناعمة، ويتحدثن حديث القرية وضيوفها ومواسمها وأعراسها. . .؟. . .
وحديث الجبال يا آذار!. . . هل اتشحت بوشاحها الأخضر الزاهي؛ وهل نبتت فوق تربتها هذه الحشائش القصيرة، على أنقاض الثلوج، وبقايا السيول. . . وهل خرجت القطعان تسرح في شعاب هذه الجبال؛ وفي صعابها؟. . . وهل سمعت يا آذار. . . أصوات أجراسها حين تتضيَّف الشمس إلى الغروب. . . وتنسحب غلائلها على صفحة الأفق الوردية. . . وتتراءى صفحة السماء رائعة جميلة. . . وتظهر الشمس كدائرة من النار الملتهبة، تغطس في بحر الظلام فيخمد لهبها ويطفأ نورها، وتمَّحى شعاعاتها من السماء. . . فتبكيها هذه القطعان. . . بأصوات أجراسها الحزينة؛ وتلتفت لتعود إلى القرية. . . في جنح الليل، وستار الظلام. . . والرعاة، يا آذار. . . هؤلاء الذي شرفهم الله، فجعل منهم الأنبياء. . . هل تسلقوا الجبل مع قطعانهم، وحملوا مزاميرهم في أيديهم، ووقعوا عليها نشيد الحياة الهادئة التي تتعالى عن الأرض، فلا تعرف المكر والغل. . وتتقرب من السماء، فلا تعرف إلا الإيمان والنور والحق. . . وهل أنصت إلى نغماتهم الحلوة يا آذار التي يرسلونها في هذه الوحدة كأنها وحي السماء، ونغمة الكون المتسقة، فتنتقل أصداؤها في الجبال مع خفقات الريح. . . ويلقنها الطير ليذهب يرتلها على الناس في الوديان(353/34)
والحقول والبساتين. . .
. . . حبذا يا آذار. . . حبذا لو استطعت أن تحملني على جناحين رفيقين من نسماتك اللطاف. . . إلى مجالي الأنس، وربوع الحياة إلى مطارح الصبا وملاعب الفتوة. . . أطفئ هذا الحنين الذي يأكل كبدي، وأقنع هذا الشوق الذي يضطرم في صدري. . . برشفات من بردي. . . ونسمات من (قاسيون)
حبذا يا آذار. . . حبذا. . .
(القاهرة)
شكري فيصل(353/35)
من وراء المنظار
صاحب الديوان أيضا
مضيت إلى الديوان للمرة الثانية، وأنا أمني النفس أن أحظى هذه المرة بما لم أحظ به في المرة السالفة من حل مسألتي؛ ولقد حرصت على أن يكون حضوري إلى الديوان في وقت لا يدع مجيء إليه فيه مجالاً للشك في بدء العمل به؛ فكنت هناك في نحو الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام.
ورأيت في إحدى الردهات من توسمت فيه أنه صاحب ديوان فاتجهت إليه مبتسماً محيياً، ورجوت منه أن يدلني أين أذهب للسؤال عن كيت وكيت، فأجاب دون أن يقف، وأنا أسرع الخطو لألحق به، كأنما كان في سبيله لتلافي خطر من الأخطار الداهمة: (عند حسني أفندي في الشطب هناك على شمالك وراء السلم)
وذهبت إلى (الشطب)، فإذا هو قاعة كبيرة، فيها نحو عشرين من أصحاب الديوان، ورأيتهم جميعاً لأول نظرة، والحق يقال، منكبين على أوراقهم. فقصدت أقربهم إلى الباب، فحييت وقلت: (حضرتك حسني أفندي؟) فلم يزد أن أشار بإصبعه إلى من أردت دون أن تنفرج شفتاه ولو برد التحية، ولعله كان في شغل بعملية حسابية معضلة أو بتدبير حل لمشكلة من مشاكل عمله
ونظرت إلى حسني أفندي وأنا أخطو إليه، أحاول أن أتبين شيئاً عن خلقه من مظهره، فخانتني فراستي إما لقصر المدة، وإما لأني رأيت منظره يدل على ألف معنى فلا يدل من أجل ذلك على معنى!. . . ووقفت أمام مكتبة فحييت في هدوء مبتسماً متظرفاً أحرص الحرص كله على أن أكون خفيفاً ظريفاً على نفسه ما وسعني الظرف. . . ولكن ظرفي أو قل تظرفي ذهب عبثاً، فإنه لم يرفع رأسه من بين أوراقه ليراه؛ ولمحت دلائل الغضب على محياه فتهببت! ولكني استعنت ثانية بابتسامة عريضة وكررت التحية فرفع رأسه هذه المرة ونظر إليَّ قائلاً: (أهلاً وسهلاً يافندم) ثم عاد إلى أوراقه كأني ما جئت إلا لأتبادل وإياه عبارة التحية على هذه الصورة الجميلة ثم انصرف!
وانتظرت برهة، وهو ينقل عينيه من هذا الدفتر إلى ذاك، ويكتب هنا كلمة وهنا سطرين، دون أن يخطر على باله أن هناك أحداً يريد التحدث إليه. . . ولعله قد تعود ذلك فما يأبه(353/36)
لمن يقف أمام مكتبه. ولو ظل هناك إلى موعد الانصراف
وطال انتظاري حتى أوشك أن ينفد صبري، والمرء على أي حال لا يطبق مهما بلغ من حلمه ألا يأبه به الناس في غير داع إلى ذلك. . . على أني عدت فتلطفت وإن كرهت من نفسي هذا التلطف الذي أخذ يسمج كسماجة ذلك الذي لا يريد أن يلتفت إليَّ؛ وناديته باسمه في صوت مسموع ونفسي تحدثني أنه قد يكون بانكبابه هذا على العمل من ذوي النشاط فعسى أن أفيد من نشاطه
وأخيراً بدا له أن يستجيب إليَّ؛ فقال في كثير من التؤدة وعدم المبالاة (نعم يا أفندي) فأخذت أشرح له أمري، ولكنه ظهر كمن لا يعي مما أقول حرفاً وبدا في وجهه التململ والامتعاض ثم مد يده إلى أوراق كنت أعددتها في يدي، فنظر فيها نظرة ثم قال: (لا، دا هناك في المستخدمين عند عزت أفندي). . . . وعاد بعدها قبل أن أدير ظهري إلى ما كان فيه من جسيمات المشاكل
وانطلقت أبحث في (المستخدمين) عن عزت أفندي هذا لأخبره بما قال حسني أفندي الذي في (للشطب) فكان حالي معه كما كان مع سلفه: تشاغل عني وصلف في الرد عليّ، وما كان جوابه سوى أن قال هو أيضاً: (يا فندم موضوعك ده في الحسابات عند مراد أفندي)؛ خرجت من لدنه أسأل نفسي أأخرج إلى غير عودة ن الديوان، فقد آلمني ما ألاقيه وليس في مسلكي ولا في مظهري ما يستأهل هذه المعاملة، أم اعتصم بالصبر فأحظى بالمثول بين يدي مراد أفندي أيضاً؟ وملت بعد تردد إلى الرأي الثاني؛ ولكن مراد أفندي أكد لي أن مسألتي عند حسني أفندي في الشطب وإلا فهو لا يعرف في الديوان شيئاً
ولعله كان بين مراد وحسني ما جعل أولهما ينهض ليذهب معي إلى الثاني، وعدت إلى حسني أفندي في الشطب وبين يدي هذه المرة صاحب ديوانه مثله، وبعد نظرات كريهة رماني بها حسني وبهد مشادة ليست بالهينة بين صاحبي الديوان تبين أن المسألة عند هذا الذي أحالني من أول الأمر على غيره!. . . ولكنه لم ينظر فيها بل استمهلني إلى غد، ولم يسعني، وقد رأيت ما رأيت إلا أن أخرج وأمري لله!
(عين)(353/37)
رسالة الشعر
رَجْعُ أياَّمي. . .
للأستاذ محمود الخفيف
كَنْتَ يا قَلْبُ قَدْ نَسِيتَ الْحَنيناَ ... وَتَأَسَّيْتَ عَنْ هَواكَ سِنيناَ
أَخْرَسَ اليَأسُ لحنَ ماضِيكَ دَهْراً ... وَأَلِفْتَ الْجَوَى وَعِفْتَ الأ نَيناَ!
تخفقُ اليومَ للِزَّمان الغَرِيضِ ... طاَفَ بالدِّفْءِ والسَّعى المُسْتَفِيضِ
خَفْقَةَ الرَّاسِفِ الْجَرِيحِ المُعَنَّى ... رَفَّ للِطَّيْرِ بالْجَناحِ المَهِيضِ
هَتَفَتْ في الضُّحَى شوادِي الرَّبيعِ ... وكَسَا السِّحْرُ كلَّ وَادٍ مَرِيعٍ
وَجَرَتْ مِنْ أُرْغُوِ لِهِ فَرْحَةُ المَوْ ... سِمِ لَحْناً وَهَامَ رَاعى القطيع
لَمَحَاتُ الرَّبيعِ في تَرْناَمِهْ ... والرَّخِيُّ الشَّذِيُّ مِنْ أنْسَامِهْ
فَسَّرَ اللَّحْنَ كلُّ مُصْغٍ طَرُوبٍ ... بالْمُنَى الضَّاحِكاتِ مِنْ أَحْلاَمِهْ
رَفٌّ في لَحْنِهِ شَبَابُ الزَمانِ ... وَخَيالُ الصِّبا وَضِحْكُ الأمانِي
وَشَدَا فِيهِ حُبَّةُ فَكَسَاهُ ... رَجْع أَحْلاَمِهِ أَحَبَّ المعانِي
كلُّ حَيٍّ هَفاَ إلَى أَلْحْانِهْ ... ومَعَاني الرِّضاءِ في تَحْنَانِهْ
أنَا وَحْدِي اللَّهِيفُ فُي فَرَحِ الكَوْ ... ن الوَحيدُ الغريبُ في مِهْرَجَانِهْ!
أَيْنَ منِّى في الرَّوْضٍ فِتْنَةُ أَمْسِى ... أيَّ سِحْرٍ فَقَدْتُ؟ والَهْفَ نَفْسي
أوَ لَيْسَتْ يا قَلْبُ هَذي ربُوعي ... وَرُؤَى جنَّتِي وَبَهْجَةُ حِسِّي؟
كلُّ حُسْنٍ أَرَاهُ بَيْنَ يَدَيَّا ... هَامِسٌ بالرِّثَاءِ في أُذُنَيَّا
غابَ سِرُّ الجمالِ عَنْ مَوْسِمِ الزّ ... هْرِ وَهَيْهاتَ أن يُردَّ عَلَيَّا!
أَسْلَمَتْني نواَضِرُ الزّهَرَاتِ ... لِمعَاَني الُّذبُولِ مِنْ خَطَرَاتي
صَوَّحَتْ وَيْلاَهُ خُضْرُ الأماني ... وانْطَوَى السَّحْرُ من رَبَيعِ الحَياةِ
أَينَمَا سِرْتُ ذَكَرَتنِي مَآلي ... بَعْدَ عَيْشي الغَرِيرِ، هَذِي المجالي
أَيُّ شيء أَخّافُ ثَمَّ عَلَيْهِ ... بَعْدَ مَوْتِ المُنَى، وَشِيكَ الزوالِ؟
زَمَنُ الوَرْدِ كَمْ هَفَا لإبايِهْ ... أَمسِ قَلْبي وَتاَق بَعْدَ ذَهَابِهْ
كَمْ رَفَفْنَا مِثلَ الفراشاتِ فيهِ ... وَنَهَلنَا السُّرُورَ مِن أكوابِهْ(353/38)
كَمْ غَنِمْنَا الجمَالَ في أَيسحَارِهْ ... وَاجْتَلَيْنَاهُ فِي مُتُوعِ نَهارِهْ
وَعَشِقْنَا النَّارَنْج في الروضِ تَسْرِي ... نَفَحَاتُ الرَّبيعِ مِن نُوَّارِهْ
وَهَشَشْنَا للِكَرْمِ حَوْلَ الضِّفَافِ ... أَرْقَطَ الظِّلِّ، خَافِقَ الألفَافِ
نَاضِر العُودِ، كم تَرَى العَينُ فيه ... للِرَّبيعِ الجدِيدِ مِنْ أَطيَاف
زَهْرَتِي فِي الرَّبيع أَنْضَرُ حُسْناً ... مِنْ بَوَاكِيرِهِ وَأَجْمَلُ يُمْنَا
وَهَيَ أَشْهَى شّذًى وَأَبْهَجُ بِشْراً ... وَاهْتِزَازاً بِهِ وَأَرْهَفُ غُصْنَاً
تُنْقِصُ الوَرْدَ سِحْرهُ وَجْنَتَاهَا ... وَسَنَى الكَوْنِ لَمْحَةٌ مِن سَنَاهَا
تَقْطَعُ الرَّوضَ كالفَرَاشَةِ وَثباً ... لَيْسَ غيرُ الجَمالِ دُنْيَا مًنَاها
كم حَلَلْنَا عَلَى الضّفَافِ مَقِيلا ... وَعَرَفْنَا الُّكُونَ لَحْناً جَميِلا
وَاسْتَرَحْنَا هُنَاكَ حَتَّى تَرَامَتْ ... رُقْعَةُ الظّلِّ فانتَهَبْنا الأصِيلا
نَجْعَلُ الصُّبْحَ إِنْ طَلَبْنَا الرَّوَاحَا ... مَوْعِداً نَسْتَعِيدُ فِيهِ المِرَاحَا
فتَرَانَا الرّياضُ وَالصُّبْحُ وَسْنَا ... نُ سَبَقْنَا إلى الشّثرُوقِ الصَّبَاحَا!
إنْقضَى الحُلْمُ فيِ ظِلاَلٍ وَوَرْدِ ... أنا ذا اليومَ أَثْقُلُ الخطْوَ وَحْدِي
أَوْحَشَتْ جَنَّتيِ وأضحت رؤاها ... وشذاها البَهيجُ مَبْعَتَ وَجْدِي
كم حَوىَ اليَوْم كَلُّ وَادٍ عَشيِبِ ... مِنْ طُيُوفٍ تَلجُّ فِي تَعذيِبي
يُوجعُ النَّفْسَ فيه مَرْأَي خَلِيٍّ ... وَمُحِبٍّ يَصْغِى به لِحَبيبِ
قّدْ تَوَلّى بَعْدَ الثّلاثينَ عامُ ... فيمَ يا قّلْبُ هّذِهِ الأوْهَامُ؟
أَيُّها القَلْبُ لَمْ تَعُدْ طِفْلاً ... فِيمَ تَصّبو؟ هَلْ تَنفَعُ الأحلامُ؟
(الخفيف)(353/39)
وحي الطبيعة الغربية
النبع المتدفق
(زار الشاعر نبع (إيفيان) بفرنسا فأوحت إليه هذه الزيارة
العابرة بهذه الأبيات)
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
تَدَفقْ على جانبِ الصَّخْر ماَء ... وَطُفْ بالعِطاشِ وَرَوِّ الظَماَء
وَفِضِ فِضَّةً أين منها النضارُ ... إذا لاح في صُفْرة أو تراءى
ورأيتُ لديكَ مراضَ الجسوم ... وقد عقدوا في يديكَ الرجاء!
يعزُّ عليهم شفاءُ الطبيبِ ... فيلتمسون لدّيكَ الشِّفاَء
تعالى الذي بثَّ فيكَ العلاج ... وَأوْدَعَ في قطرتيكَ الدَّواء. . .
وبعضُ الصُّخوِرِ على عُنفها ... تَمدُّ إلى الظامئين الرِّواَء
وتعطى بلا كبرياءِ الغَنِيِّ ... وفي الناسِ ما أكثَرَ الكبرياَء!
تدفّقْ فإِن قلوبَ الأنام ... دماءٌ. . . ولكن تحب الدماَء
قسونَ فكنَّ كبعض الصخور ... جموداً وزدنَ عليها الرياَء. . .
لقد أحكموا سَتْر سَوَْءاتهم ... وخاطوا لها من نفاقٍ كِساء. . .
يُزَحْرِفُ كذَابُهُمْ في الكلام ... ويَرمى بآفاتِه الأبرياَء. . .
تدفّقْ فإن معانِي الحياة ... نَضَبْن وأصبحن فيها هباَء
تدفقْ، كفكر الشُّجاع الجريءِ ... يُشعُ على الآخرينَ الضِّياَء
تدفق، كحدِّ الحُسام الحديدِ ... إذا زاد في كل هولٍ مضاء
تدفق هناكَ صفاءً فإنا ... عدمنا بتلك القلوبِ الصَّفاء. .
وكيف يُصّفَّى سليلُ التراب ... وقد كان بالأمسِ طيناً وماَء؟
محمد عبد الغني حسن(353/40)
الأدب في أسبوع
الربيع
أَيَّامُهُ كالغِيدِ، نَضَّرَها ... تَرَفُ الصِّبا وَغَضَارةُ الحبِّ
زُهْرُ نَوَاعِمُ في نَضَارَتِها ... سَحْرُ الحَياةِ وَفِتْنَةُ القَلْبِ
تَمْشي بأَنْفَاسٍ مُعَطَّرَةٍ ... تُحْيي بِرَيَّا الحُبِّ أَوْ تَسْبي
تَنْسَابُ في الصَّبَوَاتِ عَاِبثَةً ... عَبَثَ الدَّلاَلِ بِرِقَّةِ العَتْبِ
وَتَدَبُّ في الأرْوَاحِ نَشْوَتُها ... هَفَّافةً، نَفَحَاتُها تُصْبِي
عَطرُ الحَبِيبِ عَلَى نَسَائمَهاَ ... يُذْكِى غَرامَ الهائمِ انصَّبِّ
تُدْنِى إِلَيْهِ خَيَالَ مَمتَنَعِ ... بالدَّلَِ، مُبْتَعِدٍ عَلَى القُرْبِ
وَتُرِيحُ أَشْوَاقاً مُعَذّبةً ... ظَمْآي، بلَذَّةِ مَنْهَلٍٍ عَذْبِ
هّذّا رّبيعُ النَّاسِ، واحَزَني، ... وَرَبيعِيَ الأشْوَاكُ في قَلْبِي!
أَغْضَي شَبابي في مُلاَوَتِهِ ... كالشَّيْخِ تَحْتَ عَمائمِ الشَّيْبِ
وَدَلفْتُ بالأيَّام مُتَّئِداً ... حُمْلْتُها خَطْباً عَلَى خَطْبِ
أَمْشِي بأفْكاَرٍ مُحيَّرَةٍ ... بالشَّوْقِ آوِئةً وبالرُّعْبِ
هَذَا شَبَابي، سَائرٌ أَبَداً ... برَبيِعِه في مْقْفِرٍ جَذْبِ
أَحْيَا الشَّبابَ رَبِيعُ حُبِّهمُ ... - نَعِمُوا بِهِ - وَأَمَاتَنِي حُبِّي!
(شاكر)
الرأي العام
كتب الأستاذ (الزيات) في العددين الماضيين من الرسالة كلمتين جليلتين، إحداهما عن (التبشير) والأخرى عن (فقهاء بيزنطة): أي فقهاؤنا وعلماؤنا. وهما تنزعان جميعاً إلى بيان أصل واحد، وهذا الأصلُ هو غفلتُنا وإمهالنا، ثم غثاثة آرائنا وضآلتُها؛ وهذه مردّها إلى عِلل كثيرة قد توغَّل داؤها في أعصاب الأمم الإسلامية، حتى صار الدواء لها باطلاً أو كالباطل، وذلك لغلبة الجهل علينا، وفي الجهل العناد، وفي العناد المكابرة، وفي المكابرة اللجاجة، واللجاجة أمٌ ولودٌ كل أبناءها أباطيل، ومنْ طلب علاج الأباطيل وتِرك أمهاتها(353/41)
تَلدِ، فقد جعل علاجَه باطل الأباطيل
وهذه الأمة المصرية وسائر الأمم الإسلامية قد خضعت من قرون طويلة لسيطرة الجهل وبغيه، وامتدت عليها حقبٌ طويلة أظلتها بالغفلة والنسيان والموت، وحجبت دونها شمس المعرفة ونور العلم، حتى انحنت على أساطير التراب تجدُ فيها كل معاني الفكر والعقل والقوة، وصار همُّها الأرض وما تنتج مما يكفي شهوات النفوس المستغلة باللذة، أو يردُّ مسغبة النفوس المحطمة بالعمل. ثم جاءت الذئابُ الذكية العاقلة المدّبرة، فعرفت صيدها وقالت له: أعمل عَملك، فهذا طريقُك، ولكنها خشيتْ أن تتمزّق الظُّلَلَ وتسقطَ الحُجُب، وتهبَّ تلك القوة العلوية الرابضة في دمِ الإنسان، فترى أشواقَها فتندفع إليها اندفاع الوحش المجوّع في مَهوى الريح التي تحملُ أنفاسَ فريسته، وعندئذ تعجزُ الحيلة في دفع هذه القوة وردّها إلى ما كانت عليه تحت أطباق الخمول والخمود والغفلة. وعمٍلَ ذكاءُ الذئاب عمله، ورأي أن قمع القوة العلوية بالاستبداد والفجور في الاستبداد هو الشر عين الشر، وأنه كقمع البخار في قماقم الحديد ومن تحتها جاحم من النار يتضرم، فما يعقب إلا الانفجار والتصديع والأذى. فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفاً يكفل لهم معها أمرين:
الأول التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوا أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشئوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهدة كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقرون أصولاً تؤدي بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهدة جيلاً يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل؛ ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع
والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم - بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك - في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام - أي أهله - عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية؛ وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيداً يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت(353/42)
مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر
وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين - حين استيقظنا وأبصرنا - أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة؛ فاستشَرى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملاً حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوار بعد أطوار ولا نزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عاماً بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير ولوضع وحَضَانة المذكرات!!
وكذلك احتل نظام الرأي العام، وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضاً مكوَّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في ذلك منزلتها، فتكَون من الصحف المختلفة المبادئ آراء متخالفة، لا بل متباعدة، لا بل متعادية؛ كلا بل هي في الواقع لا تمس جوهر حياة الشعب العامل المستَهلك في الزراعة والصناعة والجهْل أيضاً. . . وحتى لا نجد صحيفة واحدة قد بَنَتْ دعوتها على أصولٍ بينة موافقة لحاجة هذا الشعب، وعلى هذه الأصول تأخذ وتدع، وتحبذ وتنقد، وتهدم وتبني، على تعاقب السنين وتغير الظروف والأحوال
التبشير
وأحدُ الأمورِ التي ابتُغىَ بها العملُ على إضعافِ الشعب والتفريق بين أهله، وإيجادُ ضروب من الثقافات في بلد واحد يجب وجوباً قطعياً - كما يقولون - أن تتوحد ثقافته - هو ما اتخذوه من التبشير ومدارسه المختلفة، وما يبطن أصحابها وما يظهرون. وليس التبشير هو الدعوة الصريحة إلى الدين المسيحي، فإن هذا لا يمكن أن يكون في بلد جل أهله من المسلمين، وخروج المسلم من دين الإسلام إلى دين غيره يكاد يكون مستحيلاً في العامة من الشعب، ويكاد لا يصح عند المتعلمين وأشباه المتعلمين. وهذه حقيقة يعرفها المبشرون قبل أن يعرفها المسلمون، وإذن فليس الغرضُ من التبشير هو المفهوم من لفظه، ولكنه الذي أشار إليه الأستاذ (الزيات) في مقاله، ثم إيجاد ضرب من الثقافة الأدبية والخلقية والعقلية يناقض ضروباً أخرى من الثقافات المختلفة في مدارس الأجانب والمدارس الوطنية، وبذلك تتعدَّد المناهج الفكرية في حياة الشعب، ويعسر بعد ذلك أن تتحد(353/43)
هذه الثقافات على رأي عام يقوم عليه الشعب ويحرص على تنفيذه، ويأخذ في الإعداد للوصول إليه درجة بعد درجة. وكذلك يبقي الشعب إلى النهاية وهو بدء لا ينتهي وفي اختلاف لا ينفضُّ، بل يصير ولابد إلى المعاداة والمنابذة والأحقاد التي تورثها السياسة الاجتماعية الخفية التي طغت على الشرق من قِبَل حضارة قوية باهرة عظيمة كالحضارة الأوربية
ولا يزال أهل الشرق مختلفين ما بقيت هذه الثقافات المتعددة من مدارس التبشير إلى المدارس الإلزامية، تمد الرأي العام بأصحاب الآراء المختلفة والعقول المتباينة. ولن يصلح أمر هذا الشعب حتى يناهض ذلك كله بانصرافه إلى مدارسه ابتغاء توحيد ثقافته على أصل واحد. والأصل الضعيف الموحد في ثقافة الشعب خير وأنفع من الأصول المتعددة القوية، لأن هذه تغري بالتفرقة والعداء، وذلك يؤلف ويوفق ويضم أشتاتاَ ويقيم القلوب على الإخلاص والتفاهم
فقهاء بيزنطة
وهذا مثل جيد ضربه الأستاذ الزيات لاختلاف عامة المسلمين على بعض أحكام الفقه الإسلامي والسنة النبوية، وبغي بعضهم على بعض في ذلك، وتركهم الأصول الإسلامية التي ترفع المسلم إنسانية فوق إنسانية، وتمحِّصه من الجهل والضعف والفساد والذلة. وكيف يختلف علماء المسلمين على فروع من دينهم ويدعون الأصل لا ينفذ نوره إلى قلوب هذه الملايين من المسلمين، فيطهر أدرانها ويزيل غشاوة العمى التي ضرب عليهم أسدادها.
وضرب الله مثلاً فقال: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر، فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).
فقد بين الله سبحانه أن اختلاف من سبقنا لم يكن إلا بغياً من بعد أن جاءهم العلم، وأنه جعل المسلمين على شريعة من الأمر وحق ذلك ألا يقع الاختلاف بين المسلمين إلا في رأي لا يفضي إلى فرقة، وعلى ذلك كان السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوا قوله: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، وقد نهى عن الجدل والمراء وتناهي(353/44)
أصحابه عنه حتى قال ابن عمر: (لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو مُحِقّ)
ونحن قد صرنا الآن إلى زمن قد غلبت فيه بدع كثيرة ليست من الدين ولا تنزع إليه، ولكنها من محدثات الأمم وفتن الأهواء. ونحن أيضاً في زمان ضعف وقلة وتفرق، والأمم من حولنا تتباغى على أنفسها وعلينا، فما يكون اختلافنا على البدع والمحدثات وبغي بعضنا على بعض، ومصير ذلك كله إلى العداوة والبغضاء وأن يكفر بعضنا بعضاً - إلا إعانة لهؤلاء على النيل منا ما شاءوا. ثم نحن في زمان جهل بالدين، فليس من أمر الله أن ندع أصل الدين مجهولاً، وننصرف إلى فروع نحاول على إبطالها أو تحقيقها
وقد روي البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه)، فإذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسم أصل الخلاف بترك مجلس الخلاف في القرآن وهو أصل الإسلام كله، فأولى أن نقوم عن مجلس الخلاف في فروع وسنن، لئلا يفضي ذلك إلى مثل الذي نراه بيننا اليوم من التعاند على بعض السنن بالعداوة، حتى صار لكل صاحب رأي فريق يحامي دونه ويعادي عليه، ثم يقع بعضهم فيما هو أشد نكراً من أصل الخلاف، ألا وهي الغيبة والتفريق بين المسلمين
سياسة الإسلام
والإسلام في بنائه قائم على مصلحة الجماعة، وجعل المسلمين يداً على من سواهم، وأن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً. وهذه مصلحة مقدمة على كل المصالح الأخرى، وهي مقدمة على فروع الفقه الإسلامي، كما قدم الجهاد في سبيل الله على كل عمل من أعمال الإسلام
والإسلام في أصله أيضاً لا يعرف من نسميهم اليوم (رجال الدين) فإنما هم من المسلمين يعملون أول ما يعملون في حياطة الجماعة وإقامة كيانها الاجتماعي والسياسي بالعمل، كما يعمل فيه سائر الناس في وجوه العيش وضروب البناء الاجتماعي. وليس الانقطاع للجدل في الفقه والسنن والتوحيد عملاً من أعمال الحياطة إلا أن يبنى على المسامحة والأخوة والرضا وترك اللجاج والمعاندة، وإلا فهو شرٌ كبيرٌ يجب على المسلمين أن يحسموا أصله
فإذا استقرَّ البناءُ الاجتماعي للأُمم الإسلامية على أصولِ الإيمان المُبِصر والتقوى الهادية،(353/45)
وتبرأت النفس والقلوبُ من غوائل الضعف والذّلةِ والخُضوع، وقام على الأمم الإسلامية قرآنُها يَهديها، ويُهذِّبُ شُعوبها، ويرقِّق أفئدتها لدين الله، ويؤلف قلوبها على إعلاء كلمة التوحيد، ويجمعها على دستور الإسلام في التشريع الواضح الحازم القوي، ويجعل الاجتماع في كل بلد إسلامي اجتماعاً بريئاً من فتن الغواية ومحدثات الشر، ثم تكون للمسلمين حضارة من أصل دينها تضارع الحضارات التي تناوئ شعوبها وتستذلها، - إذا كان ذلك كله - فعندئذ يستطيع الحكم الإسلامي أن يرد ما يبقي من البدع التي غلبت على أهل الجهالة بالسلطان الحاكم لا بالكلام المفرق بين الناس وإذن فأجدرُ العملين برجال الإسلام من أصحاب الفقه والشريعة والتوحيد أن يعملوا على إنقاذ المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه بهدايته بأسباب القوة الأخلاقية والفكرية التي جعلت المسلمين في ثمانين عاماً سادة حاكمين على الإمبراطورية التي جاهد الرومان في بنائها ثمانمائة عام. . . وإلا فلن يكون بعد مائة عام محمل في حج ولا محراب في مسجد
محمود محمد شاكر(353/46)
رسالة الفن
تأملات في الفن
في معرض مختار
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كان الزوار جميعاً في ركن ملتفين حول هدى هانم شعراوي، وسيدتان مفردتان في ركن آخر تحومان حول التماثيل، إحداهما من أصحاب المعرض تشرح للأخرى الزائرة، فعرجت إليهما ووقفت على مقربة منهما أدعى أني أنظر في تمثال، بينما أنا أتسمع إلى ما تقولان، لأرى كيف تتحدث السيدات عن التماثيل. . .
ووقفنا أمام تمثال (المنجد). . . الزائرة تنظر إليه في حيرة كأنها تخاف أن تظهر الإعجاب به، بينما يكون هو مما لا يستحق الإعجاب، وتخاف أن تزدريه، بينما يكون هو من روائع المعرض فوقفت الزائرة ساكتة كأنها مستغرقة في تأمل التمثال، وكأنها ممن لا يتسرعن إلى إصدار الحكم على الأشياء لغرام عندها بالتحقيق والتدقيق، وتقليب أوجه النظر، واستقصاء المحاسن والعيوب، كيلاً يكون حكمها آخر الأمر إلا الحكم الفصل الذي لا يقبل النقض
ورأت صاحبتها أنها لو انتظرتها، حتى تقول كلمة في المنجد أو تعبره من غير كلام، فإنها قد تقضي الدهر واقفة مع زائرها وهي تمثال آدمي لطيف أنيق (أريستكرات)، ينظر إلى تمثال من حجر متواضع ديمقراط. . . فقطعت صاحبة المعرض هذه السكتة الباردة وقالت:
- مدهش التمثال. . .
. . . فبلعت الزائرة ريقها لأنها سمعت كلمة خرجت من فم صاحبتها وفي نبراتها معنى التأكيد فأدركت أن هذه الكلمة حكم على التمثال، ولكنها لم تلبث حتى زاغت روحها مرة أخرى كأنها لم تفهم ما إذا كانت كلمة (مدهش) هذه مدحاً للتمثال أو ذماً، وكادت روحها تتكاسل وتقنع بهذا الزيغ فتظل في التيه الذي انتقلت إليه حتى تستدرجها صاحبتها إلى عالمنا هذا بكلمة أخرى. . . غير أن الله ألهمها أن كلمة (مدهش) هذه قد مرت بها قبل ذلك فقلبت عينها في محجريها فاستدارتا فبان بياضهما وحده، واتجه إنساناهما إلى داخلها(353/47)
يفتشان في أعصابها وحنايا نفسها عن كلمة (مدهش) هذه ما معناها. . . وأخيراً اهتدت، وظهر عليها أنها ذكرت، وأغلب الظن أنها ذكرتها بمجلة من المجلات العصرية التي تكتب أنباء الطبقة الراقية فقد خدمت هذه المجلات اللغة العربية إذ حملت بعض كلماتها إلى أهل الطبقة الراقية هؤلاء. . فلها الشكر. . .
وكأن صاحبة المعرض أدركت أن زائرتها قد فهمت أخيراً أن هذا التمثال مدهش، ولكنها إلى جانب هذا أدركت أن هذه الزائرة الصغيرة، لا تزال تريد أن تعرف لماذا كان هذا التمثال مدهشاً، فأسرعت وقالت:
- إنه مدهش لأنه ولأنه حلو. . .
. . . وكانت صاحبة المعرض تستطيع أن تقول (بسيط) و (جميل) ولكنها خشيت ألا تفهم الزائرة من كلامها شيئاً، وهي زائرة عليها مظاهر اليسار، وأمثالها وحدهن هن اللواتي يشترين التماثيل ليضعنها في الصالونات لتكون موضوعاً لحديث الزائرين والزائرات ومجال الإشارة إليهن والتنويه بهن في الصحف والمجلات. . .
وانتقلت الزائرة من أمام تمثال المنجد إلى أمام تمثال بائع العرقسوس وهو تمثال كبير في الحجم الطبيعي وقد صنعه صاحبه من الورق المقوى صناعة اهتم فيها بمظهر التمثال وملابسه وأدواته اهتماماً كبيراً
ورأت الزائرة ألوان التمثال فانبهرت، وكأنها قالت في نفسها لابد أن يكون هذا التمثال هو بطل المعرض فليس غيره تمثال مزوق منمق لابس ملابسه كلها، وليس ينقصه إلا أن يمشي في المعرض يبيع للناس مما يبيع. . . وهنا تفتفت في رأس الزائرة مسألة جديدة هي هذا الذي يبيعه الرجل. . . الورقة مكتوب عليها بائع العرقسوس، ولكن ما هو العرقسوس؟. . . بنات الطبقة الراقية لا يعرفن العرقسوس!. . . فسألت صاحبتها:
- دي جيلاتي. . .؟!
وصدمني هذا السؤال فضحكت، وشعرت الزائرة بأني أضحك ساخراً منها فاصطنعت السعال وأرادت صاحبة المعرض أن تنقذ زائرتها فرطنت إليها بالفرنسية كلاماً قد يكون معناه: لا تعبئي بهؤلاء الشعب. وأدركت أني إذا وقفت بعد ذلك على مقربة منها أو تبعتها فإني سأفسد الشغل على المعرض وأصحابه، وأنا من أول الأمر لا فائدة مني للمعرض ولا(353/48)
نفع فلا أقل من أن أكون غير ذي ضرر. . فانتحيت جانباً أفيض حسرة على متابعة هذا الحديث الشهي الدائر بين هاتين السيدتين. . . أريد أن أسمعه إلى آخره وأن أعتصر كل ما في أسئلة الزائر من بله، وأن أستمتع بكل افي أجوبة صاحبتها من صبر وسخرية. . .
ولكني ابتعدت مجاملاً، وعدت إلى تمثال المنجد عساني أرى فيه شيئاً أكثر مما أشارت صاحبة المعرض لزائرتها. . .
التمثال يمثل شاباً مصرياً منجداً في جلباب قاهري لعله كان من (الزفير) أو (العبك)، وهو جالس على الأرض جلسة المنجدين وفي يده القوي يضرب به القطن. . . وقد كتب عليه أنه من صنع الآنسة جلاديس بولاد وأنه نال الجائزة الأولى
التمثال كله مصنوع بمهارة وحذق ولباقة ورقة، وهو منسجم مستريح سليم لا عيب فيه إلا شيء واحد فقط. . . ذلك أنه إذا أقسم لي أهل الأرض وأهل المريخ بأن الآنسة جلاديس قد نقلت هذا التمثال عن شاب منجد حقاً فإني أصر على رفض هذا القسم ممتنعاً على الاقتناع به. وإنما وجه هذا التمثال منقول عن وجه شاب يخيل أليّ أنه من بيئة مهذبة تهذيباً عالياً، ما يخيل إلى أنه نفسه من المفكرين الذين لا يفتأون يحاسبون أنفسهم ليلاً ونهاراً ويتأملون في كل ما يسنح ويعرض لهم من البوادي والظواهر، كما أني أرى فيه ما هو أعمق من هذا وأشد انطباعاً في نفسه، ذلك أنه لابد أن يكون ذلك الشاب الذي نقل عنه هذا التمثال عاشقاً مدلهاً معذباً أنكسر قلبه من الحب وهو يمسك بعقله خشية أن ينكسر هو أيضاً. . .
كل هذا ظاهر في ملامح الوجه الذي ربط على جسم هذا المنجد، فإما أن يكون هذا التمثال منقولاً عن شاب لا صلة له بالقوس ولا بالقطن، وإما أن يكون هذا المنجد من قراء الدكتور غالي الذين يدوخون في تفهم النسبية والإلكترونات وما إلى ذلك من المصاعب، على أن يكون هذا القطن الذي (ينجده) قطن معشوقته التي ستزف إلى منافسه في الغرام. . .
وعلى وجه غير هذين الوجهين لا أستطيع أن أفهم هذا التمثال ولا أن أستسيغه، فأيهما كان هذا الشاب صاحب هذا التمثال؟ على أي حال إن هذا أمر لا يعنينا وإنما يكفينا أن نلمح هذا اللون أو ذاك من الحياة في التمثال، فليس لنا عند الفنان أكثر من أن يسقينا شهده، وليس لنا عليه أن يكون هذا الشهد ما نعرف أو مما سبق لنا أن ذقناه. . .
إنه (منجد) رأته هكذا الآنسة جلاديس بولاد. . . ولها أن تفخر بأنها رأت شيئاً وبأنها تحس(353/49)
وتدرك ثم تعبر عما تقف أمامه زائرة كالتي رأيناها لا تعرف الفرق بين بائع الجيلاتي وبائع العرقسوس. . .
انتهيت من هذا (المنجد) ونظرت يمنة ويسرة فلفتني تمثال لغجرية تبين (زينا) لامرأتين قرويتين استند إلى كتف إحداهما طفل. . . كنت على بعد خطوات من التمثال أراه ولا أرى تفاصيله وملامح وجوهه، فجذبني إليه (موضوعه) واقتربت منه أبحث عن فعل لفنان فيه، فالغجرية امرأة لها عقل أبرع من بقية العقول، ولها نظرات أنفذ من بقية النظرات، ولها إشارات أكثر امتلاء بالمعاني من بقية الإشارات، والنسوة اللواتي يجلسن إلى الغجرية يستفتينها في شؤونهن لسن هادئات ولا نائمات، وإنما تثور في نفوسهن رغبات، وتصطرع فيها آمال، وتتخبط فيها نزوات ولواعج، والصبي الذي يستند إلى كتف أمه ويقف يسمع الغجرية تحدثها لا يمكن أن يخلو من الفضول وحب الاستطلاع، ولا بد أن يظهر في وجهه تفرس يتتبع به هذا الكلام العجيب الذي يسمعه والذي يحسه لا يشبه غيره من الكلام. . .
دنوت من التمثال لأرى فيه هذا كله فماذا رأيت؟
رأيت الغجرية نائمة والمرأتين ناعستين والصبي المستند إلى كتف أمه شارد الروح. . . بل إن شارد الروح يدل على نفسه، فيعرف الناظر إليه أنه قد سرح إلى دنيا غير هذه الدنيا، فهو موجود فيها، وإن كان مفقوداً في دنيانا. . . أما هذا الطفل، فقد ظهر عليه أنه ابتلع روحه، فهي في بطنه محبوسة لا تكسوه حياة الأرض ولا تنتقل به إلى حياة أخرى. . .
كان هؤلاء الجماعة أشبه الجماعات بتلاميذ المدارس في لحصة الخامسة بعد أكله العدس. . . متهافتين إلى النوم، متبلدين عن الفهم، ولم يكن فيهم ما يكون في غجرية وجماعة مصغين إليها. . . فكسف دخل هذا التمثال هذا المعرض؟ وأي شيء فيه أغرى المعرض بعرضه؟. . . هذا ما يعلمه الله وما يعلمه أولئك الذين يقولون: إنهم يشجعون الفنانين الناشئين. والذين أريد أن أقول لهم: إن تشجيع الفنانين الناشئين لا يصح أن يكون على حساب الفن، ولا يصح أن يتعدى حدود التشجيع إلى أن يكون تحريضاً على الفن، وإكراهاً له أن يخضع ويذل لمن لا يكرمه ويفسح له روحه ونفسه. وهذه كلمة شديدة لا أريد منها إلا أن تحفز صاحب الغجرية على أن يمعن في التأمل إذا تأمل وأن يثابر في تجويد التعبير(353/50)
إذا أقبل على تمثال جديد، فإذا لم يجد في نفسه القدرة على ذلك استرزق الله عملاً آخر غير الفن. . .
وبدأ الزحام الذي كان محيطاً بهدى هانم شعراوي في الركن البعيد ينحل قليلاً قليلاً، فقصدت إلى ذلك الركن فكان أول ما استرعى نظري فيه تمثال آخر صغير لبائع العرقسوس حسبته أول ما رأيته أنه من صنع آنسة أو سيدة لما رأيت فيه من حنان وإعجاب ذاعا في تكوينه ونحته، وتفصيل جوارحه تفصيلاً لا يمكن إلا أن يكون استجابة لطرب كانت ترقص به اليدان اللتان نحتتا هذا الجسم الفارع المشرق الأنيق. حسبت هذا ولكنني علمت أنه من صنع شاب هو سيد زيدان، فهنأته به ولم أكتم عنه ما خطر لي فابتسم في استحياء كمن لم يكن يحب أن يقال له كلام كهذا، ولكني هونت عليه بأنه لا حرج على الفنان الرجل أن يعجبه جمال الرجال. . . وإني أعتقد أنه لو كان زيدان قد اهتم بوجه تمثاله هذا على نحو ما لكان قد عرض إلى جانب هذا الجسم الحلو وجهاً فيه شيء ما نذكره له إلى ما ذكرناه من جمال البدن في تمثاله، ولكنه استغرق في الذراعين والساقين والكتفين، وغير ذلك واكتفى بذلك. . .
واكتفيت أنا أيضاً وهممت أن أنصرف، لولا أني رأيت عبد السلام الشريف ينطلق إلى تمثال (عازف الربابة) ليقرأ اسم صاحبه فقرأت الاسم معه وسألته رأيه في التمثال وصاحبه فقال: التمثال بديع وصاحبه أحمد صدقي مثال محسن
وعبد السلام الشريف فنان في الصف الأول من الفنانين المصريين، له أسلوب في الرسم والزخرفة لم يسبقه إليه إنسان، وقد أحدث القارئ عنه في فرصة قريبة، وفنان هذا شأنه لا بد أن يكون لشهادته قيمتها. والحق أن تمثال العازف على الربابة تمثال بديع ولو أنه لم ينل جائزة، وميزته أنه منحوت على المنهج الفرعوني وفق الطريقة التي أحياها المرحوم مختار، ومع هذا فإن صاحبه احتفظ (بقاهريته) في وجه التمثال فلم ينحته عن واحد من أبناء الصعيد أو أبناء الريف، وإنما صوره وجهاً قاهرياً فيه تأنق القاهريين، ولطربوشه ميلان التأنق الذي يصطنعه أبناء القاهرة، ولشاربيه انتظام شواربهم وإحسان تنظيمها
ولا ريب أن هذا التمثال كان أحق بالجائزة من التمثال الذي نال الجائزة الثانية، ولكنهم قالوا لي: إنهم منحوا الجائزة الثانية لآنسة متعمدين كي يشجعوا الجنس اللطيف على غزو(353/51)
ميدان الفن
وأنا منذ اليوم أنذرهم بان ليس في الجنس اللطيف هذا أمل كبير في الحصول على فن من صنع يديه، فعليهم في المسابقات المقبلة أن يراعوا الحق فذلك خير.
عزيز أحمد فهمي(353/52)
رسالة العلم
في بيوت النمل
للأستاذ أحمد علي الشحات
ما من حشرة أكثر انتشاراً على سطح المعمورة من النملة، وقد يبدو عجيباً أن تستطيع هذه الحشرة الصغيرة أن تهيئ نفسها للأجواء والبيئات المختلفة؛ فكما أنها تعيش في أوربا تعيش كذلك في أفريقية - وفي الجبال والأودية، وفي الغابات والصحارى، وعلى شواطئ الأنهار والبحيرات. وقد أحصى العلماء ستة آلاف نوع من النمل تختلف في الحجم والشكل والعادات واللون، فمنها ما لا يزيد طولها عن ملليمتر ومنها ما يصل طولها إلى بوصة. ومنها الأسود والأحمر والبني والأصفر والأخضر وما تضاربت وجهات نظر العلماء كما تضاربت في تعليل عادات النمل ونشاطه وهل مصدرها التفكير أم الغريزة؟
والنملة في الاجتهاد والمثابرة يضرب بها المثل. فمن الهزيع الأخير من الليل إلى غروب الشمس تظل دائبة على العمل في نقل غذائها وتخزينه، أو بناء مأوى لها، وتستطيع أن تحمل ما يزيد على أضعاف وزنها من المواد، فقد أجرى العالم فوريل بعض التجارب فوجد أن النملة تستطيع أن تحمل ما يفوق وزنها ستين مرة.
وقد درس فرولوف وهو عالم روسي يشتغل بدراسة الأحياء بعض عادات النمل، فأتى بصندوق ونزوع أحد جوانبه واستعاض عنه بلوح زجاجي شفاف حتى يشاهد منه حركات النمل، ونزع كذلك السطح العلوي ليدخل الهواء منه إلى الصندوق، ولكنه وضع نسيجاً شفافاً مكانه حتى لا يهرب منه النمل، وسد ما قد يكون من ثغرات دقيقة بمعجون ليضمن عدم خروج النمل، ووضع أمام اللوح الزجاجي ستاراً ليحجب الضوء عنه - وبمجراف ودلو أخذ جزءاً من كوم طبيعي صغير للنم - بما احتواه منه ومن بيض وبقايا نباتات، وما يكون قد وجد فيه غير ذلك - من غابة تبعد ثمانين ياردة عن معمله ووضعه في الصندوق. فلما استعاد النمل هدوءه بعد نقله من موطنه الطبيعي بدأ نشاطه وأخذ ينظم بيته الجديد فخصص مكاناً أميناً للبيض ونقله بعناية إليه، وأقام مما حوله بيتاً منظماً ذا غرف عديدة، وفتحات للدخول وأخرى للخروج، وردهات يجتمع فيها. وظل النمل يومين كاملين يشتغل في موطنه الجديد كأن قد طاب له المقام فيه، حتى إذا ما أقبل الصباح الثالث ورفع العالِم(353/53)
الستار ليرى النمل، فلشد ما كانت دهشته حين وجد أن ما قد أقامه النمل وتعب في تنظيمه قد دك دكاً، وأن البيت الجديد قد هدمت قواعده فتطرق إلى ذهنه أنه لظروف ما غير ملائمة قد مات النمل ففتح الصندوق ولكن كانت دهشته أعظم حين لم يعثر على نملة واحدة أو بيضة واحدة رغم ما قد اتخذه من احتياطات تكفل له عدم هروب النمل فعاد إلى الكوم الصغير ثانية، فوجد أنه قد أعيد بناؤه ولو أنه لم يبلغ في ارتفاعه ما كان عليه أولاً، فأخذ منه كمية أخرى، وزيادة في الاحتياط طلى ظهر أغلب النمل المأخوذ بلون أحمر ونقله إلى الصندوق فبدأ النمل يعيد سيرته الأولى في البناء والتنظيم ليومين متتالين، إلى أن كل الصباح الثالث فوجد كما وجد في مثيله. البيت تهدم والنمل لا أثر له وكذا البيض، فعاد إلى الكوم الصغير فتملكه العجب أن وجد هناك النمل المطلي على ظهره قد عاد أغلبه إليه؟ أما الباقي فربما كان قد وصل إلى الكوم ثم خرج يبحث عن غذاء، أو قد علك في الطريق، أو لم يصل بعد إلى الكوم، ووجد بعد بحث دقيق بعدسة مكبرة أن النمل قد أحدث ثغرة دقيقة في النسيج الشفاف الذي يقوم مقام السطح العلوي للصندوق ومنها هرب
ولكن كيف اهتدى النمل إلى بيته الأول مع أنه يبعد ثمانين ياردة عن الصندوق وقد حمل حملاً في دلو حين نقل إليه؟ وكذلك ما الذي جعله على عزم أكيد للعودة إلى بيته الطبيعي؟ ففي مرتين يهرب، وكذلك لم حمل البيض معه؟ وإذا كان النمل قد عزم على العودة، فلم كان يشقى كل مرة ويجد في بناء البيت الجديد ثم يهجره بعد بنائه؟ أغلب الظن أن النمل لم يفكر في مثل هذه الأمور، ولكنها الغرائز هي التي دفعته إلى تنظيم موطنه الجديد، وهي التي دفعته إلى الحنين إلى بيته الأول، وهي التي دفعته إلى حمل البيض حفظاً على النوع
ويعيش النمل في جماعات تتكاتف أفرادها في عمل ما ينفعهم كبناء بيت، أو الحصول على زاد وتخزينه، كما تتكاتف في دفع الضر كمهاجمة عدو، فتشتبك الجماعات في معركة يستعر أوارها بسبب القوت غالباً، إذ تتنافس جماعتان في الحصول عليه، فتشتبكان في الملحمة، ومن انتهت رأيت مكان الموقعة، وقد تناثرت عليه أشلاء القتلى، فمن أرجل مبتورة إلى رؤوس مقطوعة إلى أجسام ممزقة. وكثيراً ما تشاهد هذه الظاهرة في النمل الأبيض الذي يعيش في أمريكا. وقد يندفع الفريق الغالب نحو بيت المغلوب ويلتهم البيض. وما العجيب أن الفريق المغلوب قد يتجه نحو بيضه ويشاطر الغالب التهامه بعد أم كان(353/54)
يحرص عليه حرصاً شديداً
ويختزن النمل غذاء كافياً ليستهلكه في الشتاء، إلا أنه في بيوت بعض الأجناس لم يعثر العلماء على غذاء مخزون للشتاء، كما أن مثل هذا النمل لا يخرج شتاءً للبحث عن غذاء له. وبعد بحث وجدوا أن مثل هذا النمل يكون شتاء في حالة ركود أشبه ما تكون بالنوم. فلا يحتاج في هذه الفترة إلى قوت، حتى إذا لاحت تباشير الدفء في الجو بإقبال الربيع خرج يسعى لرزقه.
وقد توجد حشرات أخرى تشاطر النمل مسكنه وغذاءه، وقد أحصى العلماء خمسمائة حشرة مختلفة تعيش معه نظير أن تقوم ببعض الخدمات كتنظيف البيت، أو إعطاء بعض لإفرازات من جسمها حلوة الطعم كالتي يمنحها إياه بعض أنواع القمل، إذ تضغط النملة بقرني الاستشعار على مؤخر جسم القملة، فيخرج سئل تمتصه. إلا أن بعض الحشرات قد لا ترعى أصول الضيافة وتلتهم الغذاء المخزون للشتاء، عندئذ ينتقض النمل عليها يطاردها وقد يلتهمها
وللنمل أعداء كثيرة أشهرها: (آكل النمل الذي يستطيع أن يبتلع الآلاف منه دفعة واحدة رغم ما يخرج من جسم النمل في فم آكله من سائل حمضي هو حامض النمليك. ويمكن استحضار هذا الحامض كيميائياً من جسم النمل بالتقطير
ويتعهد النمل إحدى يرقاته الصغيرة حين تخرج من البيضة بغذاء خاص حلو الطعم يعرف بالغذاء الملكي. وتصبح هذه اليرقة فيما بعد ملكة على النمل، وهي وحدها القادرة على وضع البيض؛ أما اليرقات التي لا تطعم هذا الغذاء فتصبح ما يسمى (الشغالة) وظيفتها استحضار الغذاء والتنظيف ومهاجمة العدو؛ ولكن لا تستطيع أن تضع بيضاً
وللنمل في سبيل المحافظة على النوع مشاهد عجيبة، فقد أخذ العالم (لوبوك) يوماً نملة من كوم صغير النمل ومعها مئات من البيض ووضعها جميعاً في كأس صغيرة، فما كان من النملة إلا أن استمرت طيلة اليوم ترجع واحدة ثم واحدة من البيض إلى الكوم وقد أخذت هذا العمل المضني على عاتقها بدون مساعدة، حتى أفرغت وحدها الكأس كلها
أحمد علي الشحات
بكالوريوس العلوم ودرجة الشرف(353/55)
أرانب بغير أب
توصل جاك لوب لأول مرة منذ أربعين عاماً إلى طريقة (الإخصاب الكيميائي) أو (التوالد البكري الصناعي) فأثبت ببحوثه المدهشة أن البيض البكر لقنفذ البحر يستطيع بعد غمره في محلول حمضي أو مالح ذي تركيب مناسب، أن ينمو بطريقة منظمة حتى تتوالد منه يرقات تامة التكوين والتماثل لتلك التي تولد من الإخصاب الطبيعي، فاستطاع الإنسان بذلك أن يعتاض بوسائل المعمل عن الإخصاب لطبيعي من الذكر
وبعد عشرة أعوام أجرى العالم البيولوجي الفرنسي الكبير تجربة (التولد البكري الصناعي) على الحيوانات الفقارية، فاستطاع أن يوفق إلى تحديد النمو الكامل للبيض البكر للضفدعة بواسطة تلقيحها بالمادة الليمفاوية أو بالدم، وقد حق بعض هذه الضفادع الوليدة بغي أب هذا الانقلاب ونمت حتى صارت ضفادع طبيعية
وقد عادت هذه النتائج بفائدة جليلة من الوجهة البيولوجية والفلسفية، فقد كان يظن أن هذه التجربة قاصرة على كل حال على الحيوانات الدنيا. وكان يشك في إمكان تطبيق طريقة التوالد البكري على الحيوانات الراقية، فإن البيضة في الواقع عند طبقة الحيوانات الثديية التي ينتمي إليها الإنسان، هي خلية صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ويتم نموها في داخل الأعضاء الأنثوية
ولتحقيق التوالد البكري الصناعي في الحيوانات الثديية، يجب مواجهة سلسلة من العمليات المتناهية الدقة، وهي الحصول على البويضات البكر، ووضعها تحت علاج ناجع دون تعرضها للهلاك، ثم وضعها في رحم مستعد لقبولها، وهذه كلها مجموعة من الصعاب تبدو ذات طبيعة أكثر المختبرين مهارة
إلا أنه يلوح أن العالم الأمريكي (جوبجوري بنكس) قد تغلب على هذه الصعاب، فاستطاع إنماء يويضة الأرنب بالتوالد البكري، وهو كسف عظيم الدلالة، لو أنه كان في وقت قليل الاضطراب لاعتبر كأنه حدث كبير
أخذ ينكس بعض البيض البكر ووضعه تحت تأثر محلول ملح أو حرارة مرتفعة (47ْ) وبعد أن نشطه على هذا المنوال نقله إلى رحم أرنبة أخرى كأن قد أعدها ن قبل في حالة حمل كاذب، أي في الحالة التي يكون للأنثى استعداد لقبول وتغذية البيض، فنما بعض هذا البيض (3 في المائة) بطريق التولد البكري إلى درجة متقدمة في التطور الجيني، بل لقد(353/57)
أفرخت بيضة منها أرنباً حياً ولد في موعده
ونجاح بنكس إلى هذه الدرجة يذهل، حتى ليصعب على الإنسان ألا يشك في غلطة أثناء التجربة، ولكنه يجب أن نذكر أن هذه النتائج قد أعلنها بيولوجي مشهور أعطى كثيراً من الأدلة على رسوخه الفني، وندين له بأعمال باهرة في تربية بيض الحيوانات الثديية
ولكن من المحتمل على الأقل أن يكون أرنب بغير أب قد رأى النور بفضل العلم، فالعلم لا يتبطل. وقد رأينا التوالد البكري الصناعي لقنفذ البحر في سنة 1900 وللضفدعة في سنة 1910 وللأرنب في سنة 1939. فمتى يكون للإنسان؟
(عن ماريان)(353/58)
القصص
كلاب. . . وكلاب!. . . .
للأستاذ عبد الله حبيب
(إلى هذا الشيخ الجاثم في حفرة بين القابرة كما يجثم العقاب
الهرم، وإلى وحيدته فاطمة الراقدة تحت أطباق الثرى، وإلى
هذه الكلاب التي ترفل في نعيم الدنيا، وإلى الصعاليك من بني
آدم أهدي هذه القصة)
ع. ح
- 1 -
كان البدر يتألق في صفحة السماء، وكان الليل مشرق الجبين فتهلل وجه الطبيعة، وانقشعت غياهب يومنا العابس المطير
وكأن صحو هذه الليلة ولإشراقها قد أشاعا الدفء في الأرجاء فنسينا أننا في ليلة من ليالي الشتاء
وكنت مع صاحبي ليلتئذ - في داري التي اخترتها لسكناي بالضاحية النائية على حافة الصحراء - نطوف بالذكريات في ركب الأيام ومواكب الأعوام، وطال بنا الجلوس فمللنا البقاء وهممنا بالخروج ننشق نسيم هذه الليلة التي تشبه ليالي الربيع، وكنا نسير إلى غير قصد معلوم
قال لي صاحبي:
- ألك في رحلة قصيرة نجتاز بها هذا الجانب من الصحراء إلى تلك القرية الصغيرة عل سيرة ربع ساعة ننعم في خلالها بالبدر يسطع فوق رمالها البيضاء، وبالليل نبدد سكونه بما يحضرنا من حديث؟
وكان تألق البدر في الصحراء يغري بالمضي إلى حيث شاء صاحبي فأجبته إلى ما أراد(353/59)
ونعمنا في طريقنا إلى القرية بسكون الليل وفتنة القمر ما شاء الله أن ننعم. ثم أراد صاحبي أن نسلك في عودتنا طريقاً أخرى. . .
- وماذا نبغي من هذه الطريق؟
- لنمر بمقابر هذه القرية لعلنا نجد الشيخ الكفيف المسلوب العقل في صحوة من صحواته هناك فأريك منظراً عجباً، وأحدثك حديثاً أعجب من العجب. . .
- شيخ كفيف مسلوب العقل يسكن هذه المقابر وهو حي؟
- أجل، وفي حفرة عميقة تشبه الجب لا يبرحها ليلاً أو نهاراً إلا إذا ثارت ثائرته فنهض منها ينفض عن بدنه وثيابه ترابها، ويمتشق عصاه فيلوَّح بها في الفضاء صائحاً:
كلاب! كلاب. . .
- وما شأن هذا الشيخ؟
- إن أكثر سكان الضاحية يعرفون خبره ومصرع ابنته فاطمة. إنهم يمرون به في طريقهم إلى السوق فيحسنون إليه بإلقاء بعض الطعام في حفرته دون أن يدنو منه أحد. إنه على ضعفه وكبر سنه وذهاب بصره وتخاذل قواه يفتك بمن يقترب منه. إنه يعاف ما يلقي إليه من الطعام فيظل أياماً لا يأكل منه شيئاً، كأنه يريد أن يعجّل في أجله فنأبى عليه الأقدار العاتية إلا أن يتعذب. . .
- وما خطبه صنع الله له؟
وكنا في مسيرنا قد أشرفنا على مقابر القرية، فبدت لأعيننا في وحشة الليل وجلال الصحراء كالأشباح المترامية بين الوهاد والآكام
لزم صاحبي الصمت، وسرت بجانبه مأخوذاً برهبة الموت، فلا هو استطاع أن يسترسل في حديثه عن الشيخ ولا أنا أصررت على أن يجيب
وكنا كلما اقتربنا من هذه المقابر الجاثمة في الفضاء زادت وحشتنا من سكون الليل الرهيب
- 2 -
الآن نحن على حافة الحفرة العميقة التي اتخذها شيخنا المسكين مقراً، وهاهو ذا ملقى على ترابها في ثيابه المهلهلة بغير غطاء، وتلك عصاه التي حدثني عنها صاحبي يقبض الشيخ عليها وهو في غفوته ساكن لا يتحرك، وتلك أنفسه المتقطعة كأنها حشرجة الموت لا نسمع(353/60)
سواها في وحشة الليل وسكونه
إنه الآن يتململ في ضجته، لقد أيقظه السعال!! - ما أشد وقع هذه اللحظات الرهيبة على نفسي - هاهو ذا يئن متهالكاً على نفسه. . . إنه يعتمد على عصاه فيقف وكأنه ميت قام يجرجر أكفانه. . . وهاهو ذا يتحسس الطريق إلى الأرض المستوية
. . . إنه يمد عنقه، ويتسمع بأذنه، ويتشمم الهواء. كأنه أحس أنفاساً غريبة في جو المقبرة. وهاهو يتمتم بكلمات متقطعة
لقد ابتعدنا عن حافة حفرته حين صعد إلى الأرض المستوية. لكنني غالبت الخوف والرهبة فبقيت على مقربة منه أنظر إلى وجهه على ضوء القمر الساطع. . .
ما أروع هذا الوجه وما أحفله بالأسرار والمعاني. عينان أطفأ نورهما فعل السنين وجبين خطت فيه الشيخوخة سطوراً متعرجة من الغضون والتجاعيد، وأنف أشم أقنى، ورأس ضخم جلله المشيب، وجسم ناحل ضامر
وقف يجمجم بكلمات لا تبين، ثم لم لبث على هذا الحال كثيراً، وكأن قوة عاتية سرت في خذا الجسم النحيل الذاوي، فانتفض كالأسد الهصور يلوح بعصاه ويعدو في الفضاء
كان المسكين يحارب الهواء، وينازل الأصداء، وكنت في هذه اللحظة أحبس أنفاسي، وأتحاشى مواضع جولاته ومطارح عصاه. وكان في هذه الثورة الجارفة يكرر كلمة واحدة بصوت قاصف كالرعد: كلاب!! كلاب. .
ثم خارت قواه وانطفأت جذوة غضبه فراح يتهالك على نفسه ويجر قدميه يتمس مكان الحفرة التي صعد منها، وما زال كذلك حتى أحست إحدى قدميه مكانها فألقى بنفسه فيها فإذا هو جاثم كما يجثم العقاب الهرم لا حركة ولا نأمة
ودنا مني صاحبي - وكنت أستند إلى جدار مقبرة نائية كالمسحور لا أقوى على الحركة أو الكلام - فاجتذبني من يدي لنواصل السير، فمشيت بجانبه مأخوذاً من هول ما رأيت ذاهلاً عن كل شيء. وما زلنا حتى ابتعدنا عن هذه المقبرة وجوِّها المفزع لرهيب، ثم بدأ صاحبي يقول:
- يوم رأيت هذا الشيخ أول مرة تولاني من الفزع مثل ما تولاك. أما اليوم فقد ألفت مرآه، وإن كنت لا أزال أرثى لحاله وأجزع عليه أشد الجزع كلما تذكرت مأساته الدامية. .(353/61)
- وهل للمسكين مأساة غير ذهاب بصره وعقله وارتمائه في هذه الحفرة بين الأموات؟
- إن هذه الحال الأليمة التي شاهدتها إنهما هي آخر مأساته. أما أولها فهو آلم وأوجع مما شاهدت. . .
- 3 -
. . . ومضى صاحبي يتحدث عن هذا الشيخ فقال:
كان المسكين وجيهاً في قومه وأحد أغنياء قريته، مرموقاً بين أهلها بالتجلة والاحترام، واستنار في صباه بما قرأ من كتب الأقدمين والمحدثين، واستطاع بما وهبه الله من بصيرة نِّيرة وإحساس مرهف مشبوب أن يدرك مقدار ما يعاني فقراء قريته وعمالها المكدودون، وأرَّقه همُّ التفكير في شأن هؤلاء المساكين وما يعانون من ظلم الأغنياء وتحجر قلوبهم، فوهب حياته وماله في سبيل نصرتهم وحثهم على إدراك ما لهم في أعناق أولئك العتاة من ذوي النعمة واليسار، فراح يجمعهم حوله وينادي فيهم بمبادئه السامية. وكان عمدة القرية رجلاً عاتياً ظالماً فجمع لمحاربته كل قواه، وأخذ يكيد له من الجهر والخفاء ويوقع به في كل فرصة. وما زال الرجل يتلقى ضربات هذا الطاغية فيصمد لها مرة ينهزم أخرى حتى أوشك ماله أن ينفذ
وظل المسكين يجالد الأيام ويناضل العتاة من أهل قريته، وينفق من صبابة ماله على مواساة ذوي الحاجة والمعوزين حتى نضب معين ثروته فتنكرت له القرية بأسرها، وشمت به أعداؤه، ونفر من حوله أنصاره الذين أنفق في سبيلهم ماله وشبابه وجاهه. واسترسل عمدة القرية في النكاية به فألب عليه هؤلاء الأنصار الذين نعموا بثروته، واستناروا بآرائه، وجرَّد منهم جيشاً للتنكيل به وإيذائه
وأصبح المسكين؛ فإذا هو في القرية البائس اليائس الذي لا يملك من حطام دنياه غير دار صغيرة لا يفي ثمنها بما هي مثقلة به من الديون
وفي ذات مساء جلس الرجل في داره حزيناً كئيباً يتحدث إلى زوجه الوفية الحنون وينفض بين يديها جملة حاله، وقد جدعت الحاجة أنف العزة، فكاشفها بما آل إليه أمره، وكان يخفي عنها كثيراً مما أصابه من الخيبة والفشل. . .
ورأى آخر الأمر أن يرحل عن قريته تحت ستار الليل تاركاً داره دون أن يشعر بهجرته(353/62)
أحد، واستقر رأيه على أن بصحب زوجه وابنته فاطمة التي كان قد رزق بها في آخر أيامه
وكانت الأيام قد غالته في بصره، فأصبح كفيفاً يدب على عصاه، وتألبت عليه الكوارث، فألحت علة الصدر على زوجه لوفيه، وأعوزه المال، فلم يجد منه ثمن الدواء!
خرج المسكين في جنح الظلام يحمل بعض الثياب والزاد. . . وخرجت معه زوجه تقوده إلى ظاهر القرية، وابنته الصغيرة تدرج إلى جواره، وهي لا تعرف من شأن هجرة أبيها وأمها شيئاً
وكان قد أجمع الرأي على أن يقصد العاصمة علة بحد بين أغنياءها محسناً كريماً يدفع عنه غائلة الحاجة فيمد إليه يد الرحمة بقية أيامه
وليست العاصمة بقريبة من قريته، فالشقة بعيدة والزاد قليل والبرد قارص، وزوجه المريضة يتولاها السعال، وتقسو عليها علة الصدر. كلما جد بهم السير. . .
لكن الشيخ إبراهيم مجاهد - وهذا اسمه - رجل غالب الأيام وصبر على أذاها، فهو لا يزال رغم ذهاب بصره وماله وشبابه الرجل القوي الشكيمة، وقد أراد أن يصل إلى العاصمة، فلا بد أن يصل. . .
ورأى الشيخ إبراهيم أن يجعل مسيره ليلاً ليتقي بالمسير غائلة البرد، ولكيلا يراه سكان القرى القريبة في غدوهم ورواحهم نهاراً، فظل يسير الليل ويستريح النهار حتى صار قريباً من العاصمة. . .
لكن العلة كانت قد اشتدت وطأتها على زوجه، وأنهك السير وحيدته لطفلة، وهو لا يزال - مع ذلك - يسكب في آذانهما كلماته العذبة الرقيقة يغريهما باقتراب العاصمة ويمنيهما بالراحة الدائمة في كنف المحسنين من سكانها العظماء!!
وكان قارص البرد يوغل في القسوة والشدة يوماً بعد يوم، واحتمال الزوج المريضة والطفلة الناعمة ينفد يوماً بعد يوم. . .
- 4 -
في ليلة من تلك الليالي الجاهدة كان الشيخ إبراهيم وزوجه ووحيدته قد أشرفوا على قرية من قرى القليوبية. وكان السائر في طريق تلك القرية يرمي في هجعة الليل وإغفاءة الفجر(353/63)
ثلاثة أشباح تترنح في الظلام الدامس من فرط الإعياء والجوع والبرد. أولئك هم التعساء الثلاثة في طريقهم إلى القرية
وقال الشيخ لزوجه: اسمعي يا عائشة!! هذا صوت المؤذن يجلجل: الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة أن الفجر يوشك أن ينبثق. سنصل إلى هذا المسجد القريب فأدرك الصلاة الصبح، وهناك نحتمي من هذا المطر المنهمر وننعم بدفء الشمس في الصباح هيا يا عائشة انهضي، اعتمدي علي منكبي فقد أوشكنا أن ندرك الغاية. .
وكانت المسكينة قد أخذتها نوبة السعال، والمطر ينهمر، والرعد يقصف، والسماء غاضبة، والليل موحش. وتهالكت على نفسها فنهضت تخفي بين جوانحها ما تعاني من ألم وضعف وتخاذل ومشت إلى جواره خطوات، ثم اشتدت عليها وطأة الداء، وأعياها المسير فسقطت تحت أقدام زوجها الضرير وظلت تئن وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة. والزوج يتحسس مكانها ولا يراها، ويتشمم أنفاسها الخافتة، ويتسمع دقات قلبها الموجع. . .
وفي هذه اللحظات الرهيبة دوَّي صوت المؤذن مرة أخرى: (الله أكبر. الله أكبر) وكانت الزوج قد لفظت آخر أنفاسها وأصبحت جثة ملقاة في وحل الطريق، طريق العاصمة. . .
وأدرك الشيخ أن زوجه قد ماتت فألهبت الفجيعة رأسه وراح يتخبط كالمجنون، ويصيح فتذهب صيحاته في سكون الليل بدداً. . .
وكان المؤذن لا يزال يدعو الناس إلى الصلاة فاختلط صوته بصوت ذلك المفجوع الذي وقف في الطريق يدعو الناس إلى عونه في مصابه
وظل الشيخ الضرير يتشمم جثة زوجه الوفية ويبلل وجهها بدموعه. أما وحيدته فاطمة فقد كان منظرها في سواد الليل وإلى جوار جثة أمها تصطك أسنانها من شدة البرد وتبكي من ذوب قلبها دموعاً - منظراً يذيب قلب الحجر. . .
. . . ثم مضى الليل! فوا رحمتاه! كيف مضى؟!
وكان الصباح. . .
وبكر فلاحو القرية بالماشية إلى مزارعهم، وانتشروا على ظاهر الطريق يتلاقون على تحية الصباح، ثم رأوا ذلك الشيخ الضرير يحنو على جثة زوجه، ورأوا وحيدته الطفلة وقد ارتمت في أحضان أمها خائرة تبكي وتئن(353/64)
واجتمع أهل القرية على فعل الخير فأعانوا هذا الضرير المرتحل فواروا جثة زوجه التراب. وظل الشيخ مع ابنته في مقبرة القرية أياماً طوالاً لا يبرحها ولا يكف عن النحيب، ووجد زاده من جود أهل القرية، فكانوا يمدون إليه يد الإحسان يوماً بعد يوم
ثم رأى الشيخ أن يرحل عن المقبرة إشفاقاً على وحيدته الطفلة، وأن يمضي بها إلى غايته، فقد أصبح على مقربة من العاصمة. . . فليعش من أجل هذه الطفلة الغريرة، وليجد لها سبيل العيش في كنف رحيم من ذوي اليسار هناك
- 5 -
وصل الشيخ إلى ضاحيتنا على حافة الصحراء، واقترب من المدينة الآهلة بذوي البر والثراء وأصبحت منه على بضعة كيلو مترات، وجلس يستريح من وعثاء الطريق، وراحت ابنته تلعب من حوله وتطفر في دفء الشمس لاهية
ونظرت الطفلة فرأت قصراً كبيراً تحيط به حديقة غناء ذات سور من القضبان الحديدية، وكان أبوها قد أحس ببعض الراحة وبعض الدفء فأغفى إغفاءة المتعب المكدود، وعدّت الطفلة نحو سور القصر تنظر من بين قضبانه لترى أشياء وأشياء لم تكن رأت مثلها من قبل، وأطلت على الحديقة، فلم يكد نظرها يقع على ما في ادخلها حتى عادت إلي أبيها تعدو فأيقظته - وقد راعها ما رأت - ثم راحت الكلمات تتناثر من فمها الصغير في غير ترتيب
- قم يا أبي، قم ولا تنم، تعال انظر ما في هذه الحديقة، وكأن المسكينة نسيت أن أباها لا يستطيع أن ينظر. . . تعال يا أبي لأريك دنيا غير دنيانا. نظرت هنا يا ألبي من بين القضبان في حديقة هذا الدار الكبيرة فرأيت الأرض كلها مفروشة بشيء أخضر يشبه الزرع الذي نزرعه في بلادنا، لكنه ناعم ملتصق كله بالأرض، ورأيت الأرض التي يمشي عليها الناس مفروشة بشيء أصفر يشبه الدقيق لكن الدقيق أبيض، ورأيت رجالاً كثيرين يذهبون إلى آخر الحديقة من الجهة الأخرى ويفتحون أبواباًُ صغيرة فتخرج منها كلاب تجري في الحديقة. . . أي والله إنها كلاب يا أبي تشبه كلاب بلدنا، إنها كثيرة جداً أكثر من كلاب بلدنا جميعها؛ إن الناس هنا يا أبي يلبسون الكلاب ثياباً خضراً من القطيفة كالتي كنت ألبسها وأنا صغيرة ويصغون في رقابها أطواقاً تلمع مثل الذهب كالتي كانت أمي(353/65)
تلبسها في رقبتها. إنها كثيرة جداً يا ألي، إنها كلاب حقيقية، لقد سمعتها تنبح مثل كلابنا تماماً. تعال يا أبي نطلب من هؤلاء الرجال طعاماً من الذي وضعوه الآن لهذه الكلاب، إنني رأيتهم يحملون آنية كبيرة وفيها الثريد وعليها الحم ودخان الثريد يتصاعد في الفضا، اللحم هنا يا أبي كثير جداً، لقد سممته بأنفي ورأيته بعيني. قم يا أبي، قم ولا تنم إن الدنيا هنا جميلة والأكل كثير. . .
تناثرت هذه الكلمات - في لهفة - من فم فاطمة الصغيرة وأطرق أبوها عند سماعها ما شاء الله أن يرق، ثم حاول أن يصرفها عن ذكر هذا الذي رأت بمختلف الأحاديث ووعدها أن يقوم بعد قليل ليحضر لها الطعام
أما هذا القصر فهو قصر (عظيم) من عظماء العاصمة بناه في ضاحيتنا النائية ليقضي به بعض أيام الشتاء. وقد ورث عن أبيه العظيم مالاً وعقاراً وضياعاً. وكان مما نزعت إليه نفسه أن ينتقي أكبر مجموعة من كلاب الصيد وكلاب الحراسة وكلاب الزينة فاجتمع لدينه منها ما يزيد على المائة. وقد عني ببناء أوْ جرة نظيفة مفروشة تأوي إليها هذه الكلاب، وجعل لها غذاء في اليوم خمسين أقة من اللحم!!!
ورأت فاطمة الصغيرة ما رأت - وكان الجوع والإعياء قد فعلا بها فعلهما - فعادت إلى أبيها - في براءة الطفولة الغريرة - تستحثه على النهوض ليطلب لها من خدام الكلاب لحماً وثريداً مما يحملون. . .
أما أبوها الضرير فقد ظل مكانه مطرقاً، وأما وحيدته الجائعة فلم يستقر لها من الجوع قرار. . .
- 6 -
تركت الطفلة أباها في إطراقته الحزينة، وتسللت من جانبه نحو سور الحديقة، وكان الحراس والخدم لا يزالون يحملون اللحم والثريد إلى الكلاب. . . وطغى الجوع على الإنسانة الصغيرة وسال لعابها، فاندفعت من بين القضبان دخل السور الحديد، وعدت إلى قصعة من القصاع، فمدَّت إليها يدها تأخذ قطعة من اللحم، ولم تكد الجائعة الضاوية تمد إلى الحم يدها، حتى أطبق عليها كاب ضار من كلاب الحراسة، فأعمل أنيابه الحادة في بطنها، فتفجر دمها الإنساني وخرجت أمعاؤها. . . ودّت في الفضاء صرخة واحدة وصلت إلى(353/66)
أذن أبيها الضرير، فعرف صوت وحيدته وأيقن أن مكروهاً أصابها، فنهض يعدو متخبطاً يسأل الغادين والرائحين عن مصدر الصوت، فلا يجيبه أحد. . .
كانت الصرخة التي دوّت في الفضاء صرخة واحدة، وكان الوالد الضرير يرقب صرخة أخرى. . . علَّه يهتدي لها إلى مكان ابنته. . . لكن الأقدار العاتية أبت عليه، حتى هذا الرجاء، فظل يعود هنا وهناك بقلب مفجوع وكبد تتمزع. . .
وكان مصرع الطفلة بين أنياب كلب العظيم الضاري قد أثار ضجة بين الحراس والخدم، وتسمع الوالد المفجوع إلى هذه الضجة فقصد إلى مكانها. . .
لكن الأسوار شاهقة منيعة!!. . .
صاح الرجل صيحات مدويّة جمعت الناس حوله. . . ثم راح يستنجد بهم أن يدلوه على مكان ابنته. . . وتطلَّع الناس إلى داخل الحديقة، فرأوا الطفلة ملقاة على الحشائش ينزف دمها، والخدم من حولها يتصايحون. . .
قال أحدهم:
- يجب أن نلقي بها خارج الأسوار قبل خروج الباشا حتى لا نتعرض لغضبه وعقابه، إنه سيوقع بنا العقاب لأننا غفلنا عن العناية بالكلاب وحراسة طعامها من أيدي المتسللين!
وقال أخر:
- يجب أن تبقى علّ الباشا يرق لحالها فيواسي أهلها المساكين. ثم قر الرأي بعد هذا الخلاف على أن يلقي بالطفلة خارج الأسوار. . .
وعرف الوالد الضرير مصرع وحيدته وراح يتشمم جثتها، ويذرف فوقها الدمع فيختلط بدمائها القانية
واجتمع أهل الضاحية فأعانوا الغريب المرتحل على مصابه. لكن الغريب المرتحل كان قد ذهب عقله. . فلم يدرك لصنيعهم معنى، ولم يعرف بعد ذلك شأن الدنيا إلا أن يتبع جثة فاطمة إلى المقبرة وأن يرتمي في تلك الحفرة العميقة بجوارها إلى آخر أيامه
وهو كما رأيت الليلة لم يبق على لسانه غير هذه الكلمة الواحدة يكررها ثم يكررها: كلاب!!! كلاب!. . . .
- 7 -(353/67)
كان البدر - أول الليل - يتألق في صفحة السماء، وكان إشراق الطبيعة في تلك الليلة يغري بالحركة والنشاط
ولم يكد صاحبي يحدثني ذلك الحديث الدامي خلال عودتنا إلى ضاحيتنا حتى تجاوبت أصداء الرياح في الأرجاء، وغام على البدر المتألق سحاب متكائف فزمجرت السماء، وانهمرت الأمطار، وصارت الطرقات مظلمة خرساء
وآويت إلى مضجعي مطرقاً حزيناً ثائر النفس مضطرم الجوانح أرقب طلائع الصباح!. . .
عبد الله حبيب(353/68)
من هنا وهناك
لماذا تحارب ألمانيا
(عن حديث (لمستر هوربليشيا))
أمام ألمانيا النازية الآن ثلاثة أبواب: فإما أن تحاول قهرنا في البر والبحر والهواء، أو تقف أمامنا موقف المسالمة والهدوء أملاً في انصرافنا عن مهاجمتها وكبح جماحها قبل حلول الوقت الملائم، أو خداعنا بعرض بعض شروط السلام
وقد دلت التجارب الحربية الحديثة على أن مهاجمة المواقع الحربية الكاملة التحصين الوافية العدد أمر من المستحيلات. فبولندا لم يكن لها خط كخط ماجينو لتدفع عن نفسها شر البلاء الذي منيت به. ولكن الجبهة الغربية تتمتع يحصون قوية متينة تزداد كل يوم ثباتاً ورسوخاً، وكل محاولة يقوم بها العدو لمهاجمة تلك الحصون تكلفه غالياً. ولم ير قوادنا أن يستبقوا الوقت ليخاطروا بأبناء الأمة الذين يتكون منهم جيشها، بغير ضرورة ملجئة
وقد أخلفت هذه الحرب كثيراً من الظنون التي كانت تخطر بالبال، فقد كان الكثيرون توقعون المواقع العنيفة في البر والبحر والهواء , وكنا نظن أن الخطر السريع قريب من جبهة الوطن، فواصلنا الليل بالنهار في سبيل الاستعداد والتأهب للعمل وإن كنا قد رأينا الأسابيع تمر تلو الأسابيع دون أن نواجهه شيئاً من الأخطار التي نستعد لها
وعلى الرغم من الهدوء الظاهر فقد أمكننا أن نكسف عن نيات خصومنا. فمنذ رفعت ألمانيا عقيرتها بالمطالبة بإطلاق يدها في الشرق، أخذنا نتبين مطالبها العديدة التي كانت بولندا أحدها فألمانيا ترى ن دول بحر البلطيق يجب أن تكون تحت سيادتها. ولكنا رأيناها ترد عن هذه الغاية بمطامع روسيا في تلك المنطقة. وترى أن رومانيا يجب أن تحتلها ألمانيا النازية عن طريق بولندا ولكن روسيا قد وضعت سداً منيعاً بينها وبين ورمانيا من هذه الناحية. أما خط برلين - بغداد فقد وقفت تركيا عقبة في سبيله.
وتركيا أمة قوية شريفة وكذلك العراق وهي حليفة راسخة متينة
فإذا اتجهنا إلى الناحية الغربة، نجد أن الحملة البريطانية قد وصلت فرنسا سالمة آمنة بحراسة الأسطول التجاري، وستزود برجال الماليشيا والمتطوعين من كل سن تليق بالخدمة الحربية، وسوف يكون عمادنا القويم ما تخرجه مصانعنا من الأسلة والمؤن(353/69)
لقد أصبحت الممتلكات الحرة على استعداد للقيام بنصيبها إلى جانبنا في هذه الحرب. وقد تبوأت الكتائب الهندية مراكزها في كثير من المواقع وأبدت الهند وغيرها من أنحاء الإمبراطورية استعدادها لزيادة نصيبها في هذه الحرب. فإذا تقدمت الأيام وجد الجد فسوف ترى ألمانيا هذه الجموع الزاخرة محتشدة أمامها. ومما لا شك فيه أن الزمن سيكون إلى جانب فرنسا وبريطانيا والإمبراطورية
فإذا أراد الخصم لياذاً من هذه النكبة التي كان هو أول من أرث نارها، فهذا هو الموقف الذي يجب أن نقابله بحذر. إذ أن كل سلم يعتمد على الكلمة المرضوضة لا تقوم له قائمة على الإطلاق. ولا ضمان للسلم إلا بقيام نظام جديد بعيد عن ظلم النازيين
إن لهذه الحرب أهدافاً أسمى وأعظم من مصادمة الجيوش ومكافحة الطائرات ومغالبة الغواصات، ذلك هو الصراع بين قوة الخير وقوة الشر. فأي القوتين ستكون لها السيادة على العالم؟ أي القوتين يكون لها الغلب على عنصر الإنسان
نحن لا نحارب لإعادة الحكومة التشكوسلافية، أو رد الحكم إلى بولاندا كما قد يظن الكثيرون، فنحن لا نحارب من أجل الجبهة الجغرافية، ولكنا نحارب لإنقاذ الجبهة الإنسانية
الحرب فلسفة الألمان
(عن كتاب (الروح البروسية في ألمانيا))
ثلاثة عوامل كان لها أبغ الأثر في توجيه الفكر البروسي في القرنين الأخيرين: حب الحرب في ذات نفسها، وسوء الظن بالسياسة السليمة والصدوف عن فكرة الاتحاد الدولي بكافة أنواعه والتأثر بنظرية (كلوزويتز) القائلة بأن الحرب وسيلة من وسائل السياسة والسياسة وسيلة من وسائل الحرب؛ وثالثاً عقيدتهم بأن الحكومة - وعلى الأخص الحكومة البروسية - يجب ألا تهتم بشأن غير شئونها الخاصة، ويرجع حب الألمان للحرب إلى فجر التاريخ الألماني. فقد ذكر عن خطيب إغريقي عظيم أن الإمبراطور الروماني (جوليان) احتج ذات مرة على قبيلة (توتونية) لأعمال السلب التي تقع منها، وعاداتها الشبيهة بالعادات الحربية. فجاءه منها هذا الجواب، (إننا نجد في حياة الحروب سعادة لا تعدلها سعادة) وما زالت هذه الأمثلة تتكرر في تاريخ بروسيا منذ عهد فردريك الأكبر الذي(353/70)
جعل الحرب (صناعة بروسيا القومية) إلى العهود الحديثة، حتى نصل إلى هتلر، فنظرية الحرب السريعة المبهجة - وقول (مولتاك) -:
(وجدت الحرب لتنفيذ إرادة الله في العالم. ولولا الحرب لغرق الكل في بحور المادية العميقة) كلها آراء بروسية عريقة. وقد كان (تريتشك) يقول إن عظمة التاريخ تبدو في التنازع الدائم بين الأمم)
وقد كتب (فردريك) في أخريات أيامه إلى (فولتير) يقول إنه في كل عشر سنوات من حياته يرى حرباً جديدة، وسيدوم ذلك على ما يظهر بغير انقطاع. والضابط الحربي له مركز ممتاز في الدولة يرفعه على من عداه من المدنيين، ما عدا كبالر رجال الحكومة ويقول (فردريك): (إنني استقبل كل ضابط صغير في بلاطي قبل أي لورد من المنتظرين)
وقد جرت العادة في بروسي منذ زمن بعيد على أن يتقدم للدخول في سلك الجندية جميع أبناء الأرستقراطية. وتختلف نسبة عدد ضباط الجيش من أبناء الطبقة العليا والطبقة الوسطى باختلاف العهود. على أن الضابط الألماني يرتقي إلى درجة (الجنتلمان) بمجرد التحاقه بالجيش وانتسابه إليه، وإن كان من أصل وضيع، فتصير له حقوق الأرستقراطية من حملة السيف. وقد بلغ مجموع ما ألف من الكتب في ألمانيا عن الحرب في اثني عشر شهراً عام 1913 سبعمائة كتاب. وإذا كان المسيح يقول: من يحمل السيف يقتل بالسيف، فإن شباب ألمانيا اليوم يقولون: من يمت بالسيف يمت ميتة شريفة. ويقولون: إن الحرب ضرورة لتطهر حياة الأمم
الغواصة الطائرة
(عن (لاجورنال دي روبيه)
تعمل مصانع اليابان منذ عام في بناء نوع من الغواصات، سيكون له أثر كبير في الحروب، نظراً لما يمتاز به من السرعة. هذا النوع هو غواصة الجيب. فهذه الغواصة وإن كانت لا تزيد في طولها على ست أو سبع ياردات، فقد نجحت نجاحاً عظيماً في قذف الطربيد، وسرعة السير، وقوة المحاورة، لما تمتاز به عن الغواصات الكبيرة من الخفة وحسن النظام(353/71)
ولدى اليابان الآن عشر غواصات من هذا النوع الصغير، وهذه الغواصات العشر تستطيع أن تقضي قضاء تاماً على فرقة كاملة من أسطول كبير. ونستطيع أن نؤكد أن هذا السلاح الجديد الذي صنعته اليابان لا يتيسر للألمان بحال من الأحوال. وذلك أن عشرين في المائة من القطع الضرورية لصناعة هذه الغواصة تصنع من معدن الألمونيوم، وليس لدى ألمانيا مصدر لهذا المعدن. وقد دعي منذ بضعة أسابيع خمسة عشر من الرجال الأخصائيين وثلاثة من المراسلين لمشاهدة بعض التجارب في مرفأ صناعة السفن بياسو، فشاهدوا هذه الغواصة الصغيرة ترتفع إلى سطح الماء فتسير مسافة قصيرة، ثم ترتفع إلى السماء حيث تحلق في الجو كالطائرة المائية
وقام بإدارة هذه الغواصة المهندس الذي اخترعها وأسمه (تسنوما) فدفع بها إلى اليم فرأينا جسماً على صورة السمكة، يغطس ويختفي تحت المياه في سرعة وخفة عجيبتين. وبعد عشر دقائق ظهرت على سطح الماء، ومن ثم برزت أجنحتها واحدة فواحدة، ويبلغ طول هذه الأجنحة من 18 إلى 20 ياردة ولم تلبث أن ارتفعت إلى أجواء السماء
هذه السمكة الطائرة كما يقول دكتور (جود) مساعد (تسنوما) مخترع هذه الآلة - تستطيع أن تقطع تحت الماء من 15 إلى 20 ميلاً ولا يمسها خطر. فإذا كانت غير محملة بشيء تستطيع أن تقطع 600 ميل، فإذا كانت حمولتها خفيفة قطعت 300 ميل، ومن السهل عليها أن تجعل أربعة طوربيدات لاستخدامها تحت الماء أو في عرض السماء , ولهذه السمكة الطائرة ثلاث آلات محركة قوة كل منها 60 حصاناً وقد صنعت أجنحتها من نوع خاص من الحرير. ولا زالت هذه الغواصة في دور التجربة، ولكن مما لا شك فيه أنه سيكون لها شأن كبير في عالم الحروب فتكون في الموقعة الحربية كالبعوضة تقتل الأسد
ولما كانت صناعة هذه الآلة تحتاج إلى مقادير عظيمة من الألمونيوم فسوف لا تستطيع ألمانيا أن تستخدمها على الإطلاق في حين أن لدى بريطانيا وفرنسا ما يكفيها لاستخدام هذا السلاح(353/72)
البريد الأدبي
إلى عميد كلية الآداب
إليك - وقد أمسيت عميداً لكّليتنا الغالية - أوجَّه السؤال الأتي بأدب ورفقك
سمعتك عن طريق المذياع وسمعك معي ألف وملايين، سمعتك تقول:
(نحن لا نعرف كيف نقضي أوقاتِ فراغنا)
بنصب كلمة (أوقات) بالكسرة، كأنك تظنها جمع مؤنث سالماً، وكان المفهوم عندي منذ أعوام طوال أن (أوقات) جمع تكسير لا جمع تصحيح
وقد نظرتُ في أصل كلمة (وقت) مرة ومرتين ومرات بعد إذ رأيتك تنصب (أوقات) بالكسرة نيابةً عن الفتحة فلم يصح عندي أن على حق، مع الاعتراف بأن الخطأ لا يجوز على مثلك في مثل هذه الشئون!
فهل لك أن تتفضل فترشدني إلى الصواب، ولك من الله الأجر والثواب؟
أما إذا اعترفت بأن الحق معي لا معك في إعراب كلمة (أوقات) فسيكون ذلك فرصة للتوبة مما أسرفتُ في محاسبتك بالمقالات التي جاوزت العشرين، إن كان الجهر بقول الحق يستوجب المتاب
وتفضل - يا حضرة العميد - بقبول التحية من الصديق القديم
زكي مبارك
السفاح أم المهدي ولقب أبي جعفر وابنه محمد
قرأت في الرسالة المحبوبة ما دبجته براعة الأساتذة الكرام حول لقب السفاح في عددها 346 و349 وكان لكل من حضراتهم رأى قد استصوبه فيما ارتآه. إلا أنهم ومن كتب حول لقب السفاح والمنصور حتى المستشرقين ومن أخذ عنهم ما اهتدوا إلى المصادر التي فيها ما يبتغون. وأما أنا وأعوذ باله من قول (أنا) ما زلت أستقصي منذ أكثر من عشر سنوات ولا زلت بقصد تأليف كتيب قد أسميه (الثورة العباسية) وقد توصلت في مبحثي إلى ما جعلني أطمئن بصحته، وبه أرجو أن أكون قد اهتديت إلى معرفة اللقب الذي طالت المناقشة حوله. كما أنني لا ادعي أنني قد أصبت الهدف المقصود، وإنما كلي أمل في أن(353/73)
أرشد إلى ما فاتني وخفيّ عليَّ، فأعرض ما يأتي:
1 - إن المسعودي لقب أبا العباس بالسفاح في مروج الذهب ثم يعود فيذكر في كتاب التنبيه والإشراف الذي ألفه بعد كتاب المروج وهو مختصره وبه استدرك ما فاته ذكره في كتاب المروج. ومما رواه في التنبيه والإشراف عن لقب أبي العباس أنه (قد كان لقب أولاً بالمهدي ص290) فنفهم من هذه الرواية أن أبا العباس لقب بالسفاح أخيراً وقد غلب على لقبه الأول وهو (المهدي) ومما يؤيد هذه الرواية التي لا مرية فيها بيت من قصيدة لسديف إذ يقولك
ظهر الحق واستبان مضيا ... إذ رأينا الخليفة المهديا
2 - وأما سبب تلقيب محمد بن أبي جعفر بالمهدي فهو أن أبا جعفر أرسل أحد من يعتمد عليهم وقال له أجلس عند منبر محمد بن عبد الله النفس الزكية فاسمع ما يقول. فقال الرسول: سمعته يقول: إنكم لا تشكون أني أنا المهدي وأنا هو. فأخبرتَ بذلك أبا جعفر فقال: كذب عدو الله بل هو (ابني) (مقاتل الطالبين لأبي فرج الأصفهاني ص166) وجاء في (المقاتل) أيضاً ص171 ما نص (قال مسلم بن قتيبة: أرسل إليَّ أبو جعفر فدخلت عليه فقال قد خرج محمد بن عبد الله وتسمى بالمهدي ووالله ما هو به، وأخرى أقولها لك لم أقلها لأحد قبلك ولا أقولها لأحد بعدك وابني والله ما هو بالمهدي الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به وتفاءلت به)
ومما يؤيد هذا هو ما جاء في كتاب الجهشياري ص127 إذ يقول الراوي: قال محمد المهدي لأبيه يا أمير المؤمنين أنت ترشحني لهذا الأمر، وتروي أني المهدي الذي بعدك في الناس.
3 - وأما أبو جعفر فقد لقب بالمنصور عقب قتل محمد وإبراهيم (التنبيه والإشراف ص295)
وأما الخلفاء الذين تلقبوا بالألقاب المعلومة، فقد كانت تختار لهم أو هم أنفسهم كانوا يختارونها، وهكذا جرت العادة عند كل الخلفاء
(بغداد)
عبد المجيد الساكني(353/74)
تقي الدين بن تيمية ومذهبه السياسي والاجتماعي
يشغل المسيو هنري لاوست منصب السكرتير العام في المعهد الفرنسي في دمشق. وقد انخرط في سلك الجندية على أثر إعلان التعبئة العامة في فرنسا. ولكنه حصل أخيراً على إجازة قصيرة ليتقدم إلى السوربون لمناقشة الرسالة التي وضعها لإحراز الدكتوراه
أما رسالته فموضوعها (تقي الدين أحمد بن تيمية ومذهبه السياسي والاجتماعي) وهي تقع في اكثر من 700 صفحة ودق طبعت بمطبعة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة
وقد تناول المؤلف بالبحث ترجمة حياة ابن تيمية والبيئة التي عاش فيها، وتكوينه الفكري، ومذهبه السياسي والاجتماعي، وما كان له من الأثر في المذهب الوهابي وفي آراء المغفور له السيد رشيد رضا منشئ المنار
وكان طريفاً أن يرى المسيو لاوست - ذلك الجندي - وقد ترك السيف والمدفع وجاء إلى الجامعة ليناقش في رسالته
كاتب فرنسي يزور بلاد الشرق الأدنى
وصل إلى بيروت المسيو بيير بنوا عضو الأكاديمية الفرنسية، بعد أن زار الشرق أيضاً المسيو جيروم نادو والمسيو أندريه سيجفريد. والمسيو بنوا هو الرسول الثالث للفكر الفرنسي الذي يزور الشرق بضعة أسابيع
اختراع مصري
نشرت (المصري) أن الأستاذ عباس محمد شلبي أفندي المهندس بالإسكندرية قد أخترع طائرة تسع 50 شخصاً وترتفع رأساً وتهبط كذلك، وتسير بسرعة من 600 إلى 800 كيلو في الساعة. وقد صنع المخترع لها نموذجاً مصغراً وكتب إلى أولي الأمر وحضر إلى القاهرة لعرض النماذج على ولاة الأمور بناء على دعوة أرسلت إليه من رياسة الطيران
وقد قابل سعادة حسن عبد الوهاب باشا في هذا الصدد فحدد له موعداً لعرض النماذج أمام هيئة من كبار رجال الطيران
مجلة المستمع العربي لمحطة الإذاعة البريطانية(353/75)
أعلنت جريدة (التيمس) أن العدد الأول من مجلة شركة الإذاعة البريطانية التي أطلق عليها أسم (المستمع العربي) سيظهر في هذا الأسبوع، والمأمول أن تساعد هذه المجلة على تعزيز روابط الصداقة القائمة بين لعالمين العربي والإنجليزي
وستكون هذه المجلة أول صحيفة مصورة تطبع في لندن باللغة العربية. وهي على مثال أختها الإنجليزية (لسنر) والغرض منها تسجيل الأحاديث العربية التي تذاع من محطة لندن ليطلع عليها الذين فاتهم الاستماع إليها وتعزيرها بما يهم القارئ العربي
وتقع المجلة الجديدة في 16 صفحة وتظهر مرتين في الشهر
أكثر أهل الجنة البله
قرأت في العدد (349) من مجلة الرسالة الغراء كلمة الكاتب العبقري أستاذي الدكتور زكي مبارك في موضوع (إنما يزدهر الأدب في عصور الفوضى الاجتماعية). ولقد لفت نظري بنوع خاص ما جاء فيها من تفسير الأستاذ المفضال للحديث الشريف (أكثر أهل الجنة البله)، فقد ذهب الأستاذ إلى أن المراد من هذا الحديث هو أن أهل الجنة سيكونون بلهاً لأن الله سيرحمهم من التعرض لآفات الشطط والجموح في ميادين الفكر والعقل والوجدان، لا ما ذُهب إليه في تفسير الحديث من أن البله يقل تعرضهم للموبقات فيخرجون من الدنيا بسلام، وقد أهلتهم البلاهة لاحتلال الجنة
وعندي أن تفسير الأستاذ للحديث المذكور على الوجه الذي ارتضاه لا يأتلف وما ورد فيه من كلمة (أكثر) لأنه لو كان المقصود منه أن أهل الجنة سيكونون بلهاً لما كان هناك من حاجة إلى ذكر كلمة (أكثر) فورود هذه الكلمة فيه يجعلني لا أتردد في القول بما قيل في تفسير من أن البله يقل تعرضهم للموبقات فيرحلون عن الدنيا وقد أعدهم ما فيهم من بلاهة لدخول الجنة. وهذا التفسير للحديث المذكور هو الذي يحتمله بالنظر إلى ما اشتمل عليه من لفظه (أكثر)
وختاماً أرجو أن أكون موفقاً في تنبيه أستاذي المفضال إلى ما وقع فيه
سدد الله خطاه، ونصره في نضاله، واكثر لخدمة الأدب العربي أمثاله، إنه سميع مجيب
(بغداد)(353/76)
عبد الكريم جواد
أخطاؤنا في الصحف والدواوين
اعتادت الكثرة من الناس أن تنظر إلى ما جاء به الشيوخ في اللغة أو الأدب، المتقدمون أو المحدثون، نظرة يقطر منها التقديس والتقدير. فدفعهم ذك إلى الاعتقاد بأن ما جاؤا به لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا من فوقه أو تحته، وفي هذا من الاعتراف بالعجز، وضعف الحكم، وهزال العقل الشيء الكثير
على أن صديقنا الأستاذ صلا الدين معدي الزعبلاوي، لم ينظر تلك النظرة الخاطئة، بل نبذ ذلك الرأي وراء ظهره، وحمل بيده معولاً وراح يستقرئ ما كتبه أئمة اللغة، أو ما وهمه بعض من أدعى العلم باللغة والاختصاص بها، فهدم الفاسد وأظهر ضعفه وسخفه، وجلىّ عن الصحيح وأبان عن جماله ونفاسته، فجاء كتابه (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) مرآة تعكس علم صديقنا الأستاذ وتظهر مبلغ تحقيقه وتدقيقه
ولقد أخذ على شيوخ اللغة المتقدمين مآخذ شتى ثم أنفصل إلى الشيوخ المحدثين، فأخذ على اليازجي مجازفته في القول في اغلب الأحايين، دون أن يتدبر الأمور أو يتروى في إطلاق الأحكام، وأخذ على (المنذر) خلو كتابه من التقصي والتدقيق وبين أخطاء الأستاذ داغر، وبعض ما وهمه الأستاذ العوامري
وقد جعل الأستاذ كتابه بابين: الباب الأول وقد أفرده الموضوعات. أما الثاني فقد خصه بالمفردات. أما الموضوعات التي ذكرها فهي: فساد السنن التي تتبع في كتابه القرار أو المرسوم في دواوين الحكومة، خصائص بعض حروف الاستفهام ودفع الأخطاء والأوهام التي يقع فيها كثير من الأدباء والمتأدبين، قياس النسبة، العدد في تمييزه وتعريفه، قياسه الصفات المشتبهة، المصادر اليائية، تصحيح بعض من جموع التكسير، صوغ أسم المكان من معتل العين الثلاثي ومكسورها السالم، تأنيث أي، ضوضاء، وغيرهما، ثم تطرق إلى البيان عن هزال بعض الأساليب الشائعة، وهو في ذلك كله لا يدع مسألة حتى يستقصيها، ولا يصدر حكماً حتى يحقق فيبالغ في التحقيق، ويدقق فيغالي في التدقيق، هذا مع استقراء صائب وحكم صحيح(353/77)
أما باب المفردات، فقد سرد كثيراً من الكلمات الشائعة التي تدور على الأسنة فصححها، وفي هذا الباب أخذ على المحدثين من علماء اللغة مآخذ فاضحة، وخصوصاً على داغر والمنذر. ثم رد هذه الكلمات إلى أصلهاـ فذكر صحيحها ونبذ فاسدها
والكتاب في جملته موفق جيد، والحق أنه جدير بالقراءة والمطالعة، لأنه إن لم يجعل قارئه لغوياً كبيراً، استطاع أن يفقهه في لغته وأن يقوِّم به لسانه وقلمه.
صلاح الدين المنجد(353/78)
العدد 354 - بتاريخ: 15 - 04 - 1940(/)
العقيدة الساذجة
تلك هي الكثرة الكاثرة من مسلمي اليوم! وربما كان الأشبه بالحق أن نصفها بشر من السذاجة؛ فإن أيلولة الدين في نفوس أهله إلى هذا القدر العامي من العبادة الشكلية، والزهد الكاذب، والتفويض الذليل، والورع المنافق، والتصرف المشرك، هي الفساد بعينه. وماذا بعد أن ترى كتاب الله وسنة رسوله يقرآن لالتماس البركة لا لاكتساب الفقه، ودستورَ الإسلام وفلسفة وحيه يدرسان لمجرد العلم لا لإرادة العمل؟
وماذا بعد أن ترى الأحكام والآداب والأنظمة التي أصلحت الأرض ومدنت الخليقة، تصبح في الجوامع والمجامع رهبنة وشعبذة لا يستقيم عليها فرد ولا تنتظم بها جماعة؟
لقد كان من أثر فساد العقيدة في النفس أن فسدت آثارها في الناس؛
فالفقه في الدين تفيهق وجدل، والصلاح في الدنيا تبطل وفشل، والعبادة
مظاهر آلية لا أثر فيها للروح ولا صلة لها بالقلب، والأخلاق مياسم
وراثية تنطق بالحق على ذلة الماضي وجهالة السلف، والمعاملة
ألاعيب اجتماعية تخادع الله وتزعم لنفسها الرضى والسكينة!
تذكر معنى الزكاة في دين الله ثم قل لي أين منها ما كان يصنع أحد شيوخ الأزهر وقد كان يملك في القاهرة شوارع بما عليها من البُنى عن شمال ويمين؟ لقد حدثوا أنه كان يجعل زكاة ماله كلما حال الحول في قفة؛ ثم يغطي الذهب والفضة بطبقة من الحنطة؛ ثم يأمر فيأتونه بأحد المساكين الذين يتكففون على حاشية الطريق، فإذا أدخل عليه قال له:
(هذه زكاتنا يا رجل آثرناك بها ابتغاء مرضاة الله)
فيدعوا المسكين ويهم بأخذ القفة؛ ولكن الشيخ قارون يريد أن يخفف عنه ويختار له، فيبادره بقوله: (وماذا تصنع بها يا رجل وليس عندك من تطحن وتعجن وتخبز؟ أتبيعني إياها بكذا قرشاًً؟) فيلهج المسكين بالدعاء، ويبالغ في الحمد والثناء، ثم ينصرف بالقروش وتعود مئات الدنانير المروّعة آمنة إلى صدر الخزانة الحنون!
تدبر فكرة الصدقة الجارية في سنة الرسول ثم أخبرني أمنها ذلك البناء المربّع الذي أقامه أحد القضاة المتقين قي وسط شارع حسن الأكبر، ثم أجرى في قلبه الماء، وأوقد على رأسه(354/1)
النور، ووقف على نفقته المال، وجعله مورداً للسابلة فكان مزرعة للجراثيم ومصدمة للناس!
تصور حكمة الإنفاق في سبيل الله على قواعد الدين الذي شُرع ليضمن للفرد السعادة وللأمة السلامة وللبشرية الألفة، ثم تعال أنقل إليك ما روته (الدستور) في يوم الاثنين الماضي عن مراسلها ببغداد:
كان من ضيوف العراق لعامين مضيا الزعيم الشعبي الهندي السردار طاهر زين الدين، وهو من أنداد أغا خان في الزعامة المقدسة والثروة العريضة، فلما زار ضريح الإمام عليّ رضوان الله وسلامه عليه، نشأ في نفسه أن يقيم للخليفة الراشد ضريحاً يكون مضرب الأمثال على تعاقب الأجيال في نفاسة المادة وبراعة الصنعة وضخامة النفقة. ولم يكد يرجع إلى الهند حتى استحضر أمهر الصناع وأقدر الفنانين وتقدم إليهم بما أراد، ووصل أيديهم بكنوزه العجيبة، فصنعوا ضريحاً من الآبنوس سَمْكه إحدى عشرة قدماً وقطره عشرون، ثم زخرفوه بروائع النقش الهندي، وغشوه بخمسة عشر وطلاً من صفائح الذهب وبمثلها من سبائك الفضة حتى بلغت تكاليفه اثنين وأربعين مليون جنيه على ما روى المراسل، أو اثنين وأربعين مليون رُبيّة على ما أرجح!
هل قرأت؟ اثنان وأربعون مليون جنيه كميزانية مصر، أو اثنان وأربعون مليون ربية كميزانية العراق، تنفق في مقصورة تقام على ضريح الإمام الزاهد المجاهد الشهيد علي كرم الله وجهه! فهل تحسب أن هذا المؤمن الساذج قد بلغ بما أنفق مكانة الزلفى من الله وموضع الرضا من إمامه؟ لا والله! إن الله الذي يقترض من عباده القرض الحسن ليضاعفه لهم لا يقبل هذا القرض العقيم، وإن الإمام الذي كان يطوي الأيام ليطعم على حب الله المسكين واليتيم والأسير لا يرضى هذا الإحسان الميت. لو كان هذا الغني الأمي صحيح الفقه في الدين، واسع الأفق في الفكر، بعيد النظر في الإصلاح، لعلم أن عليا كان سيف الإسلام ولسان الدعوة وإمام القضاء، فكان خير ما يتقرب به إليه أن يعطي حكومة العراق هذه الملايين لتنشئ بها أسطولاً جويا في بغداد على حب فاتح خبير، ومعهداً علمياً في الكوفة على ذكر صاحب نهج البلاغة
لذلك وشبهه يكون القرض حسناً والإحسان جميلاً يا سيدي الزعيم. أما أن تصفّح الضريح(354/2)
بالذهب والفضة، وترصعه باللؤلؤ والجوهر - وفي وطن الإمام الفقيرُ الذي لا يجد القوت، والمريض الذي لا ينال الدواء، والجاهل الذي لا يستطيع التعلم، والجندي الذي لا يملك السلاح - فذلك فن من العمل الباطل لا يليق أن يجترح باسم الدين في سبيل إمام أئمته وقطب أبطاله!
لقد قرأت في أنباء اليوم أنهم فضوا وصية المحامي الأمريكي اليهودي صموئيل أونترماير منذ أيام فإذا به يوصي بجزء عظيم من تركته الضخمة لبضع جامعات أمريكية؛ ثم كان نصيب الجامعة العبرية في القدس منها مائة ألف دولار!
فليت شعري متى يعلم هذا الذي ينفق دماء الشهداء على ملاهي القصور، وذلك الذي يبذر أموال الأحياء على شواهد القبور، أن الحياة من غير إحسان موت، وأن الإحسان في غير موضعه إساءة!
احمد حسَن الزيات(354/3)
بابر
للدكتور عبد الوهاب عزام
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
- 1 -
لم تخضع الهند لبابر بعد موقعة بانيبات فقد بقي أخو السلطان إبراهيم مطالباً بالملك والبلاد كارهة غارة بابر، وكثير من المدن والقلاع متأهبة للدفاع، وكادت جيوش بابر تهلك جوعاً على كثرة ما بأيديها من الغنائم، وزاد حالتهم سوءاً شدة الحر. نقرأ في بابرنامة هذه السطور: (لما جئت إلى اكركان وقت الحر وكان الناس قد فروا من الخوف فلم نجد حبَّا لنا ولا علفاً لدوابنا، وكانت القرى قد نهبت إعناتاً لنا وكراهية فينا، وأفسدت الطرق. . . إلى أن يقول: (وكان الحر هذه السنة أشد من المعتاد، وكثير من الناس سقطوا كأنهم أصيبوا بالسموم وماتوا في مواضعهم) شرعت جيوش بابر تتذمر كما تذمرت جيوش الاسكندر حينما فتح الهند من قبل، وهموا بالرجوع إلى كابل وقد ذكرهم هذا الحر هواءها البارد؛ فجمعهم بابر وذكرهم أنهم تحملوا ما تحملوا وقاسوا ما قاسوا من أجل هذه الغاية التي بلغوها اليوم: (إن عدواً قوياً قد هزم وإن تحت أقدامكم مملكة عظيمة، فهل نترك كل ما كسبنا بعد أن بلغنا الغاية التي سعينا إليها ونفر إلى كابل كأننا جيش مهزوم مطارد؟ من كان يزعم أنه صديقي فليقلع عن هذه الوساوس. ومن لم يستطع أن يقسر نفسه على البقاء فليذهب). وخجل الجيش فلم يحر أحد منهم جواباً
وجاهد بابر لتهدئة البلاد بالرغبة والرهبة، ولم يكن له بد من لقاء عدو هو أكبر الأعداء في الهند. ذلكم رأنا سانجا زعيم الأمراء في رجبوت، قد جمع مائة وعشرين قائداً وثمانين ألف حصان وخمسمائة فيل، وأيده أمراء آخرون وجاءته الجيوش من أرجاء مختلفة
وخرج إليه بابر سنة 934هـ (11 فبراير سنة 1527) بعد سنتين من موقعة بانيبات وهي أول مرة يتقدم فيها لحرب عدو من غير المسلمين. وعسكر بابر عند سكري التي سميت فيما بعد فتح بور، وبنى فيها جلال الدين الأكبر قصوراً عظيمة وظل خمسة وعشرين يوماً يحصن معسكره وينشر السكينة في قلوب قومه وقد ملكهم الرعب مما سمعوا(354/4)
ورأوا من شجاعة الرجبوتيين. في هذه الشدة هجر بابر الخمر وكسر أقداحها وأراق دنانها ثم جمع جنده فخطب فيهم: (أيها الأمراء والجند، لا بد لمن يجيء لهذا العالم أن يفارقه؛ وإنما البقاء لله الذي لا يتغير. وكل من جلس على مائدة الحياة شارب كأس الموت لا محالة، وكل من طرق نزل الفناء هذا فهو لا بد راحل يوماً عن دار الحزن. أولى بنا أن نموت أحراراً من أن نعيش أذلاء
(إن من فضل الله علينا أن ضمن لنا إحدى الحسنيين، فإن متنا متنا شهداء، وإذا ظفرنا ظفرنا في سبيله. هلموا نقسم جميعاً بالله العظيم ألا نفر من هذا الموت وألا نرهب مآزق الحرب حتى تفارق أرواحنا أجسادنا)
فأقسموا جميعاً على القرآن. وتقدم بابر في جموعه وعبأ جيشه كما فعل في بانيبات من قبل، ثم ركض جواده بين الصفوف يحض الناس على القتال والصبر ويعلمهم ما يجب عليهم حين تنشب المعركة
والتقى الجمعان في كنوها (16 مارس سنة 1527) واحتدم القتال واشتدت حملات الرجبوتيين واستمر الجلاد وجهاً لوجه ساعات كثيرة. ثم أرسل بابر سرايا المغول لمفاجأة العدو من الخلف وانتهى الأمر بهزيمة عدوه بعد أن استمات في القتال تاركاً آلاف القتلى في المعترك. وفر سنجا مثخنا بالجراح ومات بعد قليل، ثم لم يتعرض أحد من ذريته من بعد لحرب أحد من سلالة بابر بهاتين الموقعتين في بانيبات وكنوها حطم بابر أعظم القوى المخالفة في الهند. ثم استطاع أن يقضي على مخالفيه واحداً بعد الآخر في مواقع كثيرة آخرها موقعة هزم فيها المقاومين من سد مملكة دهلي وحلفاءهم من جيوش بنغاله بعد سنين من موقعة كنوها
عاش بابر بعد هذه الموقعة الأخيرة سنة ونصف سنة أمضى معظمها في أكرا مجتهداً في تنظيم مملكته الجديدة
- 2 -
كان محمد ظهير الدين بابر سويَّ الخلق محكم البنية قوياً فارساً ماهراً رامياً حاذقاً حمل رجلين تحت ذراعه وجرى بهما على سور إحدى القلاع. ويقول في بابر نامه: (اجتزت نهر الكنك سباحة وعددت ضربات ذراعي فوجدتني قد اجتزت النهر بثلاث وثلاثين(354/5)
ضربة، ثم أخذت نفسي وسبحت إلى العدوة الأخرى)
وكان جلداً على ركوب الخيل. وكثيراً ما قطع ثمانين ميلاً في اليوم. وقد أمضى معظم حياته في الأسفار والحروب
ولكن نوبات الحمى وكثرة تطوافه وتقلب الغير بها دهراً، والشدائد التي قاساها، والخمر التي لم يسلم منها أحد من بني تيمور، ثم الأفيون - كل هذا أنقض ظهره وناء بجسمه القوي. فها هو ذا على فراش الموت في قصره الجميل وحديقته في مدينة أكرا
مات بابر سنة 937هـ في سن التاسعة والأربعين (26 ديسمبر سنة 1530م) بعد سبع وثلاثين سنة من تملكه في فرغانة
- 3 -
وكان بابر كسائر بني تيمور مولعاً بالآداب والفنون، يقرأ الشعر وينظمه، ويعجب بالأبنية الجميلة، ويهتم بتنسيق الحدائق وغرس الأزهار، ويكلف بالغناء والموسيقى.
ونحن نراه في (بابر نامه) يفزع إلى نظم الشعر في أشد أوقات محنه، كما نراه يتحدث عن الأدباء الذين اجتمعوا في هراة حول السلطان حسين ووزيره العظيم مير علي شير مواني حديث عارف ناقد. وله ديوان صغير بالتركية تتخلله قطع فارسية.
وفي هذا الديوان منظومة في نحو 250 بيتاً وهي نظم الرسالة الوالدية بعين الله المعروف باسم خواجه احراء من كبار الصوفية، وتعرّفنا بابر نامه الأحوال التي نظمت فيها هذه الرسالة. وأنا أثبت هنا ترجمة هذه النبذة من الكتاب لتكون مثالاً من أسلوبه في تسجيل الحوادث وتفصيلها:
(يوم الجمعة 23 من هذا الشهر (صفر)، أحسست الحمى في جسدي، حتى لم أستطع أن أؤدي الصلاة في المسجد إلا بمشقة؛ ولم أستطع أن أصلي الظهر في خزانة كتبي إلا بعد تأخير، ومع جهد كبير. وفي اليوم الثالث، يوم الأحد، خفت الرعشة قليلاً. ويوم الثلاثاء 27 صفر، خطر لي أن أترجم نظمي الرسالة الوالدية مولانا عبيد الله. التجأت إلى روح الشيخ وقلت لنفسي: إن قبلت هذه القربة عند الشيخ كان إبلالي من هذا المرض آية القبول كما خلص صاحب البردة من مرضه.
(نظمت هذه الليلة 13 بيتاً، وشرطت على نفسي ألا أنظم أقل من عشرة أبيات كل يوم،(354/6)
وقد وفيت بهذا الشرط إلا يوماً واحداً
(كانت الحمى في السنة الماضية كلما انتابتني دامت ثلاثين أو أربعين يوماً، ولكن بفضل الله وبركة الشيخ أبللت من هذه النوبة يوم الثلاثاء 29 من الشهر.
(وفي يوم السبت 8 ربيع الأول أكملت نظم الرسالة. وقد نظمت يوماً اثنين وخمسين بيتاً)
كتب في نهاية الديوان هذه العبارة (حرره بابر دوشنبه 15 ربيع الآخر سنة 935). وفي ذيل الصفحة الأخيرة رباعية وفي حاشيتها هذه الجملة (هذه الرباعية التركية، والاسم المبارك بالتحقيق خط أعليحضرت ساكن الجنان بابر بادشاه الغازي أنار الله برهانه. حرره شاه جهان بن جها نكير بادشاه بن أكبر بادشاه بن همايون بادشاه بن بابر بادشاه)
وأما كتابه بابر نامه فهو في موضوعه نادرة من نوادر التاريخ؛ فما عرفنا قبل بابر ملكا أمضى حياته في عراك الحوادث ثم استطاع أن يصف مشاعره، ويسجل وقائع سيرته، وسيرة أقاربه وأعوانه في بيان واضح مفصل بعيد من التكلف يتجلى فيه اهتمام الكاتب بما يرى ويسمع ودقته في الإدراك والوصف
وهو في لغته وأسلوبه ذخيرة أدبية تسجل لنا لغة جفتاي في القرن العاشر الهجري وتبين محاولة ملك عظيم أن يذلل هذه اللغة للنثر الأدبي كما ذللها للشعر منذ سنين قليلة الوزير الكبير مير علي شير. والكتاب بعد هذا وذاك فصول ممتعة بل ساحرة يكلف بقراءتها كل من حاولها، فعرف ما تبعث في نفس القارئ من سرور وإعجاب وما تتضمن من فوائد للعلم والأدب والتاريخ
وقد ترجمت هذه السيرة إلى لغات كثيرة. ترجمت إلى الفارسية بأمر حفيدة جلال الدين الأكبر (963 - 1104) ثم ترجمت في العصور الأخيرة إلى لغات أوربية وطبعت أول ترجمة إنجليزية لها قبل مائة سنة، ولا تزال موضع عناية الباحثين في تاريخ الشرق الإسلامي وآدابه.
ولعل معهد الدراسات الشرقية في كلية الآداب من جامعة فؤاد الأول الذي افتتح هذا العام يجعل ترجمتها إلى العربية باكورة أعماله إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام(354/7)
أعرابي في سينما. . .
للأستاذ على الطنطاوي
وطالت غيبة (صْلَبي)، حتى لقد استيأست منه، فنسيته وطرحت همه عن عاتقي، وعدت أدور مع الحياة كما تدور الساقية، مغمض العينين، أطوف في مفحص قطاة، فلا غاية أبلغ ولا راحة أجد، أغدو إلى كدّ للعقل وعذاب النفْس، وجفاف الريق وانقطاع النفَس، وأروح، وما بقي فيَّ بقية لعمل، ولا طاقة على كتابة، فألقي بنفسي على كرسي أو سرير، أنتظر عذاب اليوم الجديد. . .
وإني لغادٍ إلى المدرسة ذات يوم، وإذا أنا بأعرابي في شملته يشير إليّ. . . وهو يسير بين تلك المواخير: تريانون وليدو ولوازيس - حائراً يتلفَّت. . . فقلت: لعلّه ضالٌّ أَحب أن يستهديني ووقفت له، فلما دنا وتبينته، لم أملك من الفرح فمي. . . فصحت في السوق وسط الناس. ومالي لا أصيح وقد وجدت (صلبي) بعد طول الغياب. . . وحييته وحياني تحية ذاكر للصحبة، حافظ للود، وطفق يحدثني حديثه. . .
قال:
أتذكر يا شيخ ما ابتلاني به الله من أمر الحمام؟ لقد وقعت في داهية أدهى. . . ولقد والله كرهت الحضر، وعفت المدن، وأصبحت أخشى فيها على نفسي، فما أدري ماذا سيكون من أمري بعد الذي كان؟. . .
. . . قدمت الشام قدمة أخرى، فكان أول ما صنعت أن قصدت صاحبي، وكنت قد عرفت داره في (الميدان). . . فأكرمني وأحسن استقبالي، أحسن الله إليه، وذبح لي خروفاً، ولم يكتف بذلك من إكرامي بل أزمع يأخذني إلى سنمة. . . قلت: ولكني لا أعرف سنمة هذا، ولا أدري من هو، فكيف تأخذني إليه؟ قال: لا بد من ذلك. فاستحييت منه وكرهت أن أخالفه بعد الذي قد صنع في إكرامي. . . وقلت في نفسي: لولا أن سنمة هذا صديق له، عزيز عليه، ما سار بي إليه. ولقد قال المشايخ من قبيلتنا: صديق صديقك صديقك. . . فرضيت وقلت له: على اسم الله!
ولكن الرجل لم يسر بل أدركه لؤم الحضر فصاح بابنه أن هات الجرائد حتى نرى الرواية، فتوجست خيفة الشر، وقلت: إن الرجل قد جنَّ، وإلا فما بال الجرائد؟ وهل تراه(354/8)
يضربني بها؟ إذن والله لأريته عز الرجال ولضربته ضرباً يبلغ مستقر اللؤم في نفسه. . . وخشيت أن أترّيث أو أتلوّم فأخيب وأفشل، وذكرت حكمة حَمَدْ بن عْلوي: (الغلبة لمن بدأ) فشد ذلك من عزمي وصرخت: (يا هُو. . .) ووثبت وثبة أطبقت بها على عنقه، وقلت: سترى لمن الجرائد والسياط، الابن المدينة الخوار الفرار، أم لابن البر الحر؟
فارتاع وأبيك وجعل يصيح من جبنه: ادركوني، انقذوني! النجدة، العون، يا فلان (لابنه) أقبل. . . ويلك يا صْلَبيَ، يا مجنون، كف عني، ويلك ماذا اعتراك؟
فأخذتني به رأفة فكففت عنه، وقعدت محاذراً أرقب أهل المنزل، وقد اجتمعوا ينظرون إلي بعيون من يهم بفري جلدي. فقال لي: ما أردت بهذا ويلك؟ وبم أسأت إليك حتى استحققت منك هذا الصنيع؟ قلت: بالجرائد. . . امثلي يضرب بالجرائد، لا أم لك؟
فضحك والله وجعل يكركر حتى لقد شبهت بطنه بقربة جوفاء أدخلتها الماء. وضحك كل من كان حاضراً من أهله وبنيه ضحكا ما شككت معه أن القوم قد أصابهم طائف من الجن، فقلت: قبحكم الله من قوم، وقبحني إذ أنزل بمثلكم وهممت بالانصراف. فصاح بي وعزم عليّ إلا ما رجعت، فبررت بيمينه وقفلت راجعاً فقال لي:
وأنت حسبت الجرائد مما يضرب به؟ ألم تبصر جريدة قط؟ قلت: ويحك فكيف إذن؟ أنا من بلاد النخيل، تبوك حاضرتي
قال: وتحسبها جرائد نخيل؟ قلت: إذن فجرائد ماذا؟ قال: خذ؛ هذه هي الجرائد
وألقى إلي صحفاً سوداً بها من دقيق الكلم مثل دبيب النمل، فعجبت منها وسألته أن يقرأ عليّ مما فيها فأستفيد علماً ينفعني في آخرتي، فإن الرجل لا يزال عالماً ما طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل. ولقد سمعت أنه جاء في الأثر (كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً ولا تكن الرابعة فتهلك)
فضحك وقال: وهل تظنها كتب علم؟ قلت: فماذا فيها مما ينفع الناس؟ قال فيها أخبار البشر - من سافر منهم أو حضر - أو تزوج أو ولد له، فما يصنع أحد من شيء إلا دوِّن فيها، ولا ينبغ من عالم أو أديب أو يقدم مغنّ أو تجيء قينة أو تأمر الحكومة أو تنهى إلا ذكر ذلك فيها، حتى أن فيها صفة الخمر والإعلان عن الميسر، وأخبار دور الدعارة، والدعوة إلى الروايات الخليعة. . .(354/9)
فلما سمعت ذلك طار عقلي وأخذت هذه الجرائد فمزقتها شرّ ممزقّ، وعلمت أن الله مهلك هذه القرية، وعزمت على مفارقتها ونويت ألا أعود إليها بعد الذي سمعت من خبر جرائدها. . . وما ظننت أن مثل ذلك يكون، ولم يجتزئ صاحبي بما أعلمني من علمها بل عمد إلى صحف أخرى كانت في أيدي صبيانه وبناته فيها صور قوم عراة تبدو عوراتهم، ونساء ما يسترهن من شيء إلا شيئاً ليس بساتر، فأرانيها، فسقط والله من عيني وقلت، هذا القرنان الذي لا تأخذه على أهله غيرة، وما كنت أحسب أن رجلاً يؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ذلك. . .
ولست مطيلاً عليك الحديث. . .
. . . وذهبنا نزور سنمة فسرنا حتى بلغنا قصراً عظيما على بابه خلق كثير، وله دهليز تسطع فيه الأضواء، فقلت، هذا قصر أمير البلد، هذا الذي يدعونه رئيس الجماهير. . . وألهاني ما رأيت وشغلني ففقدت صاحبي وسط الزحمة. . . ولكني لم أُبال، وأقبلت أصعد الدرج فمنعني أغلمة بثياب ضيقة حمر ما رأيت مثلها، وعلى رؤوسهم كُممٌ لها رواق من فوق عيونهم كالذي يوضع على عيني بغل العجلة. . . وأفخاذهم مكشوفة فعل أهل الفسوق والتهتك، فهممت أن آخذ اثنين منهم فأكركبهم على الدرج فأزحلق بِعَدهم عن مواضعها، ثم قلت، ترفق يا صلبي لا تجنّ فما أنت في البادية، أنت في قصر الأمير وهؤلاء مماليكه وإنك إن مسستهم لم تجد أمامك إلا ضرب العنق. . . ووضعت يدي على عنقي أتحسسها فعلمت أني لا أزال أحتاج إليها
ولو أنني في السوق أبتاع مثلها ... وجدك ما باليت أن أتقدما
وسألت الغلمان الكاشفي الأفخاذ ماذا يريدون مني أن أصنع، فأشاروا إلى كوّة ازدحم عليها الناس، فعلمت أن الدخول من هناك، وأقبلت أزاحم وأدافع وهم يردونني حتى بلغت الكوة. فإذا هي غرفة ضيقة كأنها القفص وإذا فيها رجل محبوس والناس يتصدقون عليه، فقلت في نفسي: هذا رجل ضرب مماليك الأمير فحبسه هنا لتضرب عنقه في غداة الغد، وحمدت الله على السلامة، وتوجهت بوجهي إلى رجل توسمته أسأله: متى تضرب عنق السجين؟ فنظر إلي ولم يجب، ثم ولاّني قفاه وانصرف، فعلمت أن الأمير يمنع الناس من الكلام في هذا، ولولا ذلك لأجابني. ودنوت من كوّة السجين فأعطيته قروشاً كانت معي وقلت له: هذا(354/10)
لأولادك من بعدك، لهم الله فلا تحزن، فلم يقبضها حتى عّدها فرآها كثيرة فرد إلي بعضها وقبل بعضاً، فلم ألحف عليه وأخذتها منه وأخذت معها ورقة صفراء أعطانيها لم أدر ما هي، ولكني لم أشأ كسر قلبه بردّها، ووضعت ذلك كله في كميّ وعمدت إلى الكوة لأدخل منها فوجدتها عالية، فوثبت فأصبت بقدمي وجه رجل ممن كان هناك، فما باليته وقلت سأعتذر إليه، وقد رأيت أهل المدن يؤذون إيذاء العدو، ثم يعتذرون اعتذار الصديق. وأدخلت رأسي في الكوة، فصاح السجين صياحاً أرعبني والله، وشبهته بصراخ كلب ديس على ذنبه، وأجلب الناس، وطفقوا يشدون برجلي وثيابي، وأنا أرفس بقدمي رفساً لا أبالي موقعه من أجساد الناس، والسجين اللئيم الذي أحسنت إليه يدفع برأسي ويشد بشعري، ولم يكن عضو من أعضائي إلا وهو مشغول، فيداي أتمسك بهما، ورجلاي أذود بهما عن نفسي، ولم أجد ما أدفع به أذاه عني إلا بصقت في وجهه، فأقبل يضربني فعضضت يده، ثم دنوت من وجهه فعضضت أنفه. . . وكان أنف ذليل لا يزال خبث طعمه على لساني. . .
. . . ثم أخرجوني قسراً جبراً - وجاء مماليك السلطان فحجزوا بيني وبينهم - وأخذوا الورقة الصفراء، وأدخلوني من باب كان هناك إلى بهو واسع صح معه ما كنت قدرت من أن سنمة هذا سلطان البلد، ورأيت الناس قد صفوا كراسيَّهم كصفِّ الصلاة، وإذا بعضهم يولي بعضاً دبره، فقلت: ما ألأم أهل المدن، والله ما كنت مولياً مسلماً ظهري إلا في الصلاة. وعمدت إلى الكراسي لأديره فإذا هو مثبت بمسامير من حديد، فتركته واستدرت أنا، فجلست على قفاه، وجعلوا يضحكون مني، فما ألقي لهم بالاً، حتى جاءت امرأة، فجلست قبالتي، فقلت: يا أمة الله استتري. فأقبلوا يزبرونني، وإذا هي فيما قالوا (شاب) وليس امرأة، فجعلت أعجب. . .
ولبثت أنتظر خروج السلطان فإذا بالمماليك يديرونني فيجلسونني من حيث يجلس الناس، فلم أملك إلا الطاعة، وقعدت أنتظر فلم أنشب أن جاء مملوك آخر، فقدم إلي صفحة من خشب قد صف عليها فراني وشطائر وقال: تريد؟ قلت: أريد والله. . . وهل يأبى الكرامة إلا اللئيم؟ وأقبلت آكل فأجد طعاماً هشَّا تحت الأسنان، حلواً في الحلق، خفيفاً على البطن، فقلت: هذه هي البقلاوة التي وصفوها لنا، وجعلت آكل فلا أشبع، وهو يقدم إلي متعجباً(354/11)
حتى استنفدت ما كان معه. فمسحت شفتي بيدي وقلت: الحمد الله، جزاك الله خيراً
فظل واقفاً ولم يمض، فقلت: الحمد الله، لقد شبعت. قال: يدك على الفلوس؟ قلت: ويحك ماذا تريد؟ قال: أكلت ثلاثين قطعة كل قطعة منها بسبعة قروش فهذه مائتان وعشرة. . . قلت: قبحك الله من عبد لئيم! تأخذ من ضيوف السلطان ثمن القرى؟
وكان ما أكلت قد شدَّ صُلْبي فوثبت إليه ووثب إليّ، وقام الناس، وزلزل البهو بأهله، وكادوا والله يطردونني لولا أن ظهر صاحبي فانفرد بالمملوك فأرضاه عني، وجاء فقعد معي
وإنا لكذلك يا شيخ، وإذا بالأنوار تنطفئ، وإذا بالخيل تهجم علينا مسرعة حتى كادت والله تخالطنا. فقلت: لك الويل يا صْلَبي، ثكلتك أمك، إنه الغزو فما قعودك؟ وقفزت قفزاتي في البادية، وصرخت وهجمت أدوس على أجساد الناس وهم يضجّون ويصخبون، فلما كدت أبلغ الخيل اشتعلت الأنوار وفر العدوّ من خوف بطشي هارباً، وجاء عبيد السلطان ليخرجوني فردَّهم عني صاحبي وكلمهم. . .
فقلت: هذا والله العجز والذل، فقبح الله من يقيم عليهما ترون العدو قد خالطكم وتلبثون قعوداً؟ ما أكرهكم إلي يا أهل المدن، ما ظننت والله إلا أنكم ستحملون إلي صلة السلطان على أن رددت عدوّكم وهزمته. . .
فضحك اللئام، وجعل صاحبي يحذرني العودة إلى مثلها؛ ولم ألبث حتى أطفأت الأنوار كرّة أخرى؛ ففزعت ونظرت فما أحسست إلا امرأة قد قبض عليها رجل خبيث وأنا أسمع صياحها ولا من مغيث؛ فثارت الحمية في رأسي وسللت الخنجر وأقبلت أريده، فاختفى والله حتى كأن لم يكن هنالك من أحد. وعادت: الأضواء، ورجع الصخب؛ فقلت: والله ما أقيم، وجعلت أصيح أخرجوني ويلكم. . . حتى أخرجوني. . .
قال صْلبي: فخرجت وقد علمت أن جرائدكم يا أهل المدن تنشر الفجور وتهتك ستر الله عن الناس وتفضحهم، وأن شبابكم بنات، وأن أمراءكم سحرة يسحرون أعين الناس حتى يروهم ما لا يُرى. . . ثم إنكم لا تغارون على أعراضكم، ولا تبالون كشف عورات أبنائكم وبناتكم. لا والله ما أحبكم. . .
وذهب مولياً عني مسرعاً يمشي بين تلك المواخير القذرة: ترياتون وليدو وأوليمبيا. . . .(354/12)
تلقاء سوق الحميدية والأموي حيث المدينة الطاهرة الفاضلة. . . حيث دمشق التي سمَّاها شوقي (ظئر الإسلام)!
(ثانوية - دمشق)
علي الطنطاوي(354/13)
الأمومة عند العرب
للأستاذ رفعة الحنبلي
تمهيد
ذهب أكثر علماء الاجتماع، حتى أواسط القرن الثامن عشر إلى أن الأبوة هي أقدم عهداً من الأمومة في تاريخ الأسرة، وأنها قد تتشابه والأسرة الحديثة تشابهاً كلياً من حيث المنشأ والتكوين، إلى أن ظهر كتاب (الأمومة) للعالم الألماني الكبير فأحدث انقلاباً تاماً في تاريخ الأسرة وفي آراء علماء الاجتماع فيه. إذ ذهب إلى أن الأمومة هي أقدم عهداً من الأبوة، وأبعدها أثراً منها في الهيئة الاجتماعية
ليست الأمومة أقدم نوع في تاريخ الأسرة بل هي - كالأبوة - أحد الأنواع التي مرت على هذا التاريخ منذ ما أخذت الجماعات الإنسانية تفكر في تكوين الأسرة وخلقها
أراد علماء الاجتماع بالأمومة بأنها القرابة من ناحية الأم، كما أرادوا بالأبوة بأنها القرابة من ناحية الأب، ذلك أن الولد في الحالة الأولى ينتسب إلى أمه كما أنه ينتسب إلى أبيه في الحالة الثانية
وقد اختلف العلماء في أمر نشأة الأمومة وتباينت آراؤهم في أمر ظهورها، فذهب إلى أنها نشأت من نكاح المشاركة أو بعبارة ثانية من نكاح الاختلاط فتولد من هذا النوع من النكاح الفوضوي الأمومة؛ إذ ليس من السهولة أن يعرف الولد أباء فينتسب إليه ويلتحق به، ولذا كان النسب محصوراً في الأم وقرابتها وحسب، وأصبحت لها مكانتها العالية، ومقامها الرفيع عند القوم، لأنها - في الحقيقة - الوالدة الوحيدة المعروفة من أبوي الولد مما أدى بها إلى تزعمها الهيئة الاجتماعية ردحاً من الزمن
إلا أن العالم الإنكليزي يخالف فيما ذهب إليه في أمر نشأة الأمومة، ويردها إلى التباين الموجود بين نوعين من أنواع الزواج: الزواج الخارجي والزواج الداخلي ذلك أن عندما أراد البحث عن تاريخ الأسرة، وجد أن هنالك عادة لا تزال شائعة عند بعض الشعوب المتوحشة حتى في بعض الأمم المتمدينة أيضاً، هذه العادة هي خطف الخطيب لفتاته، أو اغتصابها، فأيقن أن هذه الظاهرة ليست إلا بقية من عادة قديمة أخرى تشير إلى تزوج رجل قبيلة في قبيلة ثانية. وقد توصل في بحثه هذا إلى معرفة تلك العادة وسبب تأصلها(354/14)
في الأمم الغابرة، فاعتقد أنها ناتجة عن وأد الفتاة وقتلها، مما أدى إلى قلة عدد النساء، وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فأقدم هؤلاء على مخالطة امرأة واحدة مما نشأ عنه تعدد الأزواج وبالتالي الأمومة، التي يعنى بها معرفة أم الولد دون أبيه
وخالف العالم الألماني زميله في اجتهاده مخالفة تامة فذهب إلى أن الأمومة ظهرت بظهور (عصر الزراعة) وعهدها؛ ذلك أن الأم - في ذلك الوقت - كانت تتعهَّد الأرض بالغرس والزرع تعهداً كليَّا، وكانت تشرف على البيت إشرافاً تاماً لا ينازعها السلطة عليه أحد، متحملة التبعات العظيمة التي ألقيت على عاتقها مما جعلها تهتم بالناحيتين الداخلية والاقتصادية، بينما كان الرجل بعيداً عن البيت وعن هذه المظاهر المختلفة، إما للقيام بواجب الدفاع أيام الغزوات والحروب، وإما لإشباع رغبته في القنص والصيد، وهو إلى هذا قد لا يفكر في الاجتماع بأسرته وزيارة امرأته - أم أولاده - إلا عندما يرغب في الاتصال بها
حدث من هذا الابتعاد أن التف حول المرأة أولادها - وهي التي غذتهم بلبنها وقامت على تربيتهم - فأنشأت لنفسها مركزاً سامياً بين أعضاء أسرتها، أي لدى أولادها واخوتها وأعمامها، وأخذت الأسرة تتركز فيها، فاحترم القوم هذه الأم، وأنزلوها منزلة رفيعة، وأمست محور الأسرة ومحور البيت معاً. . . وهكذا اتجهت الأمومة نحوها
إلا أن لم ينتبه إلى أهمية (التوتمية) في نشأة الأمومة؛ هذه الكلمة تشير إلى رمز ديني اتخذته الأسرة أو القبيلة القديمة إلهاً لها، وهي إلى ذلك من الرموز الدينية التي لها الفضل الأكبر في تكوين الأسرة الأولى. يقول: (إن الأسرة الأولى لم تقم إلى على التوتمية، وحسب المرء لكي يعد عضواً في الهيئة الاجتماعية أن يكون تابعاً أو منتسباً لتوتم واحد ومن صفات التوتم أن يكون محصوراً في نسل المرأة، أي أن يتبع الولد توتم أمه. وليس الولد هو الذي يتبع أو ينتسب إلى هذا التوتم فحسب، بل تشترك الأسرة والقبيلة في هذا الانتساب أيضاً. فالتوتمية لها إذن الأثر الأكبر في تكوين الأمومة وظهورها
وإذا كان الولد لازم أمه في عصر الزراعة كما نوه بذلك وما إليها وانتسب إلى أسرتها، وتوثقت علاقته الاجتماعية بها، فإن كل هذه الظواهر لم تكن نتيجة هذا العصر، بل كان الباعث لها التوتمية(354/15)
الأمومة عند العرب
مما لا ريب فيه أن الأمومة كانت فاشية عند أكثر شعوب العالم إن لم يكن كلها، ونكاد نلمس آثارها جلية واضحة عند بعض الجماعات: كقبائل الأراواك في غينيا، وقبائل الدياك في بورنو؛ كما أننا نشعر باضمحلالها عند البعض الآخر حيث خلفتها الأبوة. وإذا ما رجعنا إلى تراث كل أمة من الأمم الغابرة نجد أنها عرفت هذا النوع من أنواع الأسرة. والأمة العربية لم تخل في سالف عهدها، قبل الإسلام، من شيوع الأمومة فيها ومعرفة العرب بالتوتمية فالتوتمية كلمة أشار بها هنود أمريكا الشمالية إلى الحيوان المقدس الذي تعبده القبيلة وتسمى باسمه وتنتسب إليه. فالقبيلة التي تأخذ الحمامة توتماً لها، فإنها تعتبرها ملاكاً كريماً، وروحاً طاهرة وحارساً أميناً لها، فتتلقب بها، ويعتقد رجالها جميعهم أنهم أقرباء لها ولسائر أنواع الحمام أيضاً
ولو رجعنا إلى تاريخ الأمة العربية، في جاهليتها، لوجدنا أن كثيراً من قبائلها كانت تعرف بأسماء بعض الحيوان أو بأسماء بعض الآلهة، ودليلنا على ذلك أنْ بعض القبائل العربية كانت معروفة بقبائل أسد، وثور، وكلب، وعقاب، وغيرها، حتى أن المستشرق سمث يعتقد أن لهذه الأسماء معاني دينية، وأن لها علاقة بعبادة الحيوان كما هو مشاهد في التوتمية؛ كما أن البعض الآخر من القبائل العربية تتلقب بأسماء الآلهة التي عبدها كقبائل بني هلال وبني شمس وبني بدر وغيرها الذين كانوا ينتسبون إلى تلك الآلهة التي كانوا يعبدونها أيضاً؛ فالقبائل العربية كانت، عهدئذ، توتمية أي أنها كانت تقدس الحيوان وتعبده، وعنه اتخذت ألقابها. على أن من صفات التوتم، كما قدمنا، أن يكون محصوراً في نسل المرأة أي أن يتبع الولد أمه دون أبيه، كما هو مشهور عن هنود أمريكا الشمالية إذ لا يزالون حتى اليوم على الأمومة
والأمومة عند العرب نشأت عن عدم معرفة أبي الولد، ذلك أن الهيئة الاجتماعية العربية القديمة لم تهتم بالزواج الشرعي بل كان الزواج فوضوياً أو زواجاً مشتركاً أي أن المرأة لم تكن ترتبط مع الرجل برباط شرعي متين بل كانت تتصل بأكثر رجال قبيلتها
إلا أن العالم يذهب إلى أن الأمومة نشأت عند العرب عن تعدد الأزواج الذي كان في بادئ الأمر غير مقيد، بمعنى أنه لم تكن صلة قرابة بين الأشخاص المالكة لامرأة واحدة،(354/16)
لكنه أصبح فيما بعد مقيداً ومحصوراً أي أن المرأة أصبحت تخص جملة أشخاص معينة من أسرة واحدة أو من أم واحدة. غير أن الفيلسوف الإنكليزي (يعد تعدد الأزواج من الأمور الشاذة التي نتجت عن قلة النساء) فالأمومة كانت إذن سائدة في الوقت الذي كان فيه زواج الاشتراك شائعاً عند الأمة العربية، قبل أن تعرف الزواج الشرعي أو الزواج الفردي الذي تعرفه الهيئة الاجتماعية الحاضرة وتعمل به
ولابد لنا من أن نتساءل: هل كانت الأمة العربية في جاهليتها، تعرف هذا النوع من الزواج - زواج الاشتراك - أم أخذت بنوع آخر أي بتعدد الأزواج؟
لقد اخبرنا أحد المؤرخين اليونانيين القدماء - سترابون - عن أمر الزواج عند عرب الجاهلية بأن (الأملاك عندهم مشتركة أي أنها تخص جميع أعضاء الأسرة التي يرأسها شيخ، وهو أكبرهم سناً، ولهم جميعاً امرأة مشتركة يختلفون إليها، فمن جاء منهم قبلاً دخل عليها، وترك على الباب عصاه، ليشير بذلك إلى اختلائه بها. . .
لكنها، في الليل، لا تكون إلا مع أكبرهم سناً) نفهم من هذه العبارة التي أوردها هذا المؤرخ اليوناني أن تعدد الأزواج كان فاشياً بين العرب ومعروفاً عندهم، وهذا ما اعتقده المستشرق سمث.
وأعقب هذا المؤرخ عبارته تلك بعبارة ثانية خالف بها ما ذهب إليه في الأولى إذ قال: (وهم يتصلون بأمهاتهم ويعاقبون الزاني بالموت، ويريدون بالزاني من اتصل بامرأة من غير قبيلته). يعني بذلك أن رجال القبيلة الواحدة أباحوا لأنفسهم الاتصال بنسائها بحرية تامة، فلم تكن المرأة يستأثر بها رجل معين، أو جماعة معينة، وهذا ما يجعلنا نؤمن بشيوع زواج المشاركة عندهم لا تعدد الأزواج
يقول أحد علماء الاجتماع: (إن العرب في الجاهلية لم تكن تعرف زواجاً مستمراً ترتبط به المرأة مع رجل إلى وقت محدود؟ ذلك أن العرب كانوا يفضلون النكاح الوقتي على غيره). وقال أيضاً: (والعرب يقضون عمرهم في التجول والتنقل ونساؤهم يتصلن بمن أردن من الرجال لأجل معين، بعد أن يأخذن منهم أجورهن فريضة. هذا النكاح الوقتي يشبه نكاح المتعة الذي أباحه النبي العربي الكريم لأصحابه في أول عهد الإسلام، وقد عرفه بعض علماء الشرع بأنه نكاح يعقد إلى أجل معين، ثم يحل بعد انقضاء هذه المدة. وفسره البعض(354/17)
الآخر: بأنه - أي نكاح المتعة - يعقد إلى أجل، لا ميراث فيه، وفراقه يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق)
ولنبحث قليلاً عن نكاح المتعة، فإن لنا فيه بعض الفائدة لهذا البحث، لنقف منه على مدى تلك العلاقات الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.
أشار القرآن الكريم إلى هذا النكاح، نكاح المتعة، في عدة آيات. فقد جاء في سورة النساء (. . . وأحل لكم وما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين، فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. . .) أختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فبعضهم يفهم من مدلولها أنها إشارة إلى الزواج الشرعي أو الزواج الفردي، وأن كلمة أجورهن يراد بها مهورهن لأن المهر ثواب على البضع وبعضهم يرى فيها أنها إشارة إلى زواج المتعة أو الزواج الوقتي حتى قيل أن هذه الآية نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على يد رسوله الكريم ثم نسخت.
كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غير ذلك ويقضي منها وطره ثم يسرحها؛ وسميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها
وهاك بعض الأحاديث التي تدل على أن النبي العربي الكريم أباح المتعة يوم فتح مكة، ونهى عنها بعد ذلك. جاء في صحيح البخاري: أن النبي، صلوات الله عليه، نهي عن نكاح المتعة آخراً. وعن أبن عباس حينما سأل عن متعة النساء فرخص؛ فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد وفي النساء قلة أو نحوه فقال أبن عباس: نعم
يتبين لنا مما تقدم، أن النبي العربي الكريم أباح نكاح المتعة في الظروف المتقدمة، وحرمها تحريماً أبدياً. قال مستشرق في كتابه (تاريخ تمدن الشرق) عن زواج المتعة ما معناه: (وكان شائعاً بين العرب قبل محمد نوع من النكاح يكاد لا يستحق هذا الاسم، وهو المعروف بنكاح المتعة؛ كان يعقد لأجل بقيمة معلومة تدفع للمرأة سلفاً؛ لكن محمداً أبطل هذه العادة الرديئة)
فالمتعة إذن ليست إلا النكاح الوقتي، وكانت من عادات العربي في الجاهلية، ولو لم تكن من عاداتهم قبل الإسلام لما نزلت الآية القرآنية، ولما أحلها وحرمها النبي العربي الكريم؛(354/18)
لقد تأصلت هذه العادة في نفوس القوم، وتمكنت من أخلاقهم، وتأصلت في طباعهم حتى أننا نلمس أثارها بعد الإسلام وبعد هذا التحريم. روى الرحالة الإنكليزي أنه (رأى في أكثر شوارع مدينة (سنان) - وهي من أعظم المدن في اليمن - سماسرة للنساء، فكل غريب لا مأوى له في المدينة يمكنه أن يتزوج ويتبلد فيها بقيم زهيدة وبطريقة بسيطة، وهو أن يتفق مع المرأة، بعد أن يراها وتعجبه على الثمن، فيحدد لها المدة التي يمكنه أن يقيمها معها أسبوعاً كان أم شهراً أم سنة كاملة ثم يحضر معها أمام القاضي أو حاكم المدينة فيسجلان أسميهما في كتاب عنده ويكتبان الشروط التي اتفقا عليها، وكل ذلك لا يكلفه إلا بضع دريهمات، ثم يضع الرجل يده في يد المرأة أمام القاضي فيتم الزواج ويعد ذلك شرعياً حتى انقضاء المدة المعينة؛ هذا وكل منهما حر أن يفترق عن صاحبه متى أراد أو أن يرتبط معه ثانية بعد انقضاء المدة المعينة، أما إذا افترق أحدهما عن الآخر قبل انقضاء هذه المدة فعليه أن يدفع لصاحبه القيمة التي تسلمها منه أو اتفق معه عليها طبقاً للشروط التي عقدت بينهما، وبعد ذلك يمكنه أن يتزوج على الصورة عينها متى شاء)
لو لم يكن النكاح الوقتي فاشياً بين العرب لاستحال وجود نساء يهبن أنفسهن ببضعة دريهمات ولأجل معين، ذلك أن الأمة العربية في جاهليتها لم تكن تعرف الزواج الشرعي الدائم.
(البقية في العدد القادم)
رفعة الحنبلي(354/19)
أفانين
أبو النجم الرجاز وهشام بن عبد الملك
للأستاذ علي الجندي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
تركنا في المقال الأول أبا النجم في رصافة هشام أو رصافة الشام، على حال تسرّ العدو وتسوء الحبيب! منبوذاً من البلاط خائفاً يترقب! لا طعام إلا ما يصيبه من مائدة الكلبي والتغلبي، ولا مأوى إلا بيت الله يبيت فيه بلا وطاء ولا غطاء مع طُرّاق الليل وأبناء السبيل!
وقبل أن نقتصَّ بقية أخباره نريد أن نعرف: كيف رانت الغفلة على عقله، وكيف غاب عنه شيطانه الناصح! فزلّ زلة ما كان أيسر أن يشيط بها دمُه لولا أن حفّه لطف الله الخفي! وأي زلة أكبر من أن يعيب شاعر الخليفة في وجهه بين غاشيته وخاصته؟
الحق أن لأبي النجم بعض العذر؛ فإنه لم يكن في مقام المادح للخليفة المخاطب له بالشعر حتى يُعدَّ مجبّها له، وإنما هي أرجوزة أنشئت من قبل في غرض خاص وسمعها الخليفة عرضاً، وليس من المعقول أن نعطل التشبيهات، ونُبطل الوصف ونئد الفن إكراماً لحَوَل عينٍ ولو كانت عين هشام! فالكلام في ذاته بريء من العيب، وإنما العيب من المصادفة السوداء!
والحق أيضاً في أشرَّ مما وقع أن جمهرة من الشعراء قبل أبي النجم وبعده وقعوا في أشرَّ مما وقع فيه، وبعضهم لم يكن بادياً جافياً مثله، بل كان حضري الشمائل، رقيق الحواشي، مصقول الخاطر، أنيق الطبع كأبي نواس! ولا يتسع المقام لإيراد الشواهد؛ فقد نجرد لها مقالاً خاصاً، ونكتفي منها بمثال واحد:
يذكر الرواة أن ذا الرمة الشاعر ورد على عبد الملك بن مروان فاستنشده شيئاً من شعره، فأنشده أول قصيدته البائية:
ما بال عينك منها الماء ينسكب؟ ... كأنه من كلى مفرية سرب
وكان بعين عبد الملك شعرة فهي تدمع منها أبداً، فتوهم أنه عرّض به! فقال: وما سؤالك(354/20)
عن هذا يا أحمق؟ وأمر به فأخرج
وقد علل ابن رشيق انزلاق الشعراء إلى هذه المآزق، فقال: إنما يُؤتي الشاعر في هذه الأشياء من غفلة في الطبع وغلظ، أو من استغراق في الصنعة، وشغل هاجس بالعمل يذهب مع حسن القول أين ذهب
ثم قال - ينصح لهم -: والفطن الحاذق يختار للأوقات ما يشاكلها، وينظر في أحوال المخاطبين، فيقصد محابهم ويميل إلى شهواتهم، وإن خالفت شهوته؛ ويتفقد ما يكرهون سماعه فيتجنب ذكره
ورأيي أنه كان واجباً على هشام في أبهة الخلافة وجلال الملك وبهاء المنصب، أن يتغاضى عن هنة غير مقصودة من شاعر نقي الفطرة، سليم دواعي الصدر مثل أبي النجم، وأحسب أن هذه السقطة لو وقعت في بلاط معاوية أو المأمون أو الواثق، ما زادوا على أن أسروها في أنفسهم، أو ضحكوا لها ضحكة مدوية! ولو أن هشاماً جعلها دْبَر أذنه ما كان لها هذا الشأن التاريخي ولأكبر الناس رحابة ذرعه، ورجاحة حلمه، ورموا أبا النجم بالفدامة وفساد الذوق!
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر نقول: إن حولة هشام لها نوادر مذكورة في الكتب!
يحدث المسعودى في مروج الذهب: أن هشاماً عرض الجند يوماً بحمص الشام، فمر به رجل من أهلها على فرس نفور فقال له: ما حملك على أن ترتبط فرساً نفوراً؟ فقال الحمصي: لا، والرحمن الرحيم، يا أمير المؤمنين ما هو بنفور، ولكنه أبصر حولتك فظن أنها عين غزوان البيطار! فصاح هشام: تنح! فعليك وعلى فرسك لعنة الله!
وكان غزوان هذا بيطاراً نصرانياً بناحية حمص يشبه هشاماً كل الشبه
ويحكي المبرد: أن سالم بن عبد الله بن عمر، دخل إلى هشام في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب، قال: إنها مستعارة. قال: كم سنك؟ قال: ستون. قال: ما رأيت ابن الستين أبقى كدنة منك! ما طعامك؟ قال: الخبز والزيت. قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما.
ثم خرج من عنده وقد صُدِع! فقال: أترون الأحول قد لقعني بعينه؟ فمات من تلك العلة!
ونحب أن نقول بهذه المناسبة: إن الحول قد يعده بعض الناس - وأنا في طليعتهم - من(354/21)
سمات العيون المستملحة كالحور والانكسار والدعج، وبخاصة إذا كان الحول خفيفاً وهو ما يسمى بالقَبَل.
ففي ترجمة ابن سريح: أنه كان في عينه قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولاً
وفي أخبار أبي الأسود: أنه اشترى جارية حولاء فغارت منها زوجه وابنة عمه: أم عوف. فكانت تشارُّه في كل يوم وتقول: من يشتري حولاء؟ فلما أكثرت عليه قال:
يَعيبونها عندي، ولا عيبَ عندها ... سوى أن في العينين بعض التأخر
فإن يك في العينين سوءٌ، فإنها ... مهفهفة الأعلى، رداح المؤخر
وقد عد بعض العشاق حول عينيه نعمة من الله تستوجب الشكر والحمد! وساق ذلك في شعر طريف علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: إنه لا أظن له شبيهاً!
قال العاشق الشاعر الأحول:
حمدت إلهي إذ بليت بحبها ... على حول يغني عن النظر الشزْر
نظرت إليها، والرقيب يظنني ... نظرت إليه، فاسترحت من العذر
ونعود إلى سياقة قصة أبي النجم فنقول: إن محنته لم تطل، فقد تأذّن الله بكشف الغمة عنه وهيأ لذلك أسبابه!
فأمسى هشام ذات ليلة لَقِس النفس منفّر المنام! وهو عارضٌ كثيراً ما يعتري الخلفاء لما يكابدونه من جهد في تصريف أمور الملك وتدبير شئون الرعية، وإعمال العكر في سدّ الثغور ورتق الفتوق. وكانوا في مثل ذلك يفزعون إلى السُّمار الظراف يتفكهون بأحاديثهم ومُلحَهم. فتقدم هشام إلى خادم له أن يبغيه محدثاً، وأن يكون أعرابياً أهوج شاعراً راوية! ومن يكون ذلك المحدث الأعرابي الأهوج الشاعر الراوية غير أبي النجم؟
وذهب الخادم يبحث عن طلبة الخليفة فقاده حسّه اللطيف إلى أحد المساجد، وإذا برجل نائم فضربه برجله وقال: قم، أجب أمير المؤمنين. فقال الرجل: أنا أعرابي غريب. قال: إياك أبغي، فهل تروي الشعر؟ قال: نعم، وأقوله. فأقبل به من المسجد حتى أدخله قصر الخليفة وأغلق الباب وراءه؛ فذكر الرجل حادثته مع هشام فرجف قلبه وأيقن بالشر المستطير! ولكنه أسلم الله أمره واستقاد للخادم؛ فأدخله إلى أمير المؤمنين في بيت صغير من بيوت القصر، بينه وبين أهله ستر رقيق والشموع تزهَر بين يديه. فلما بصر به هشام قال: أبو(354/22)
النجم؟ قال: نعم، طريدك يا أمير المؤمنين. فإذن له بالجلوس وسأله عمن كان يُضيفه؛ فأخبره خبر الكلبي والتغلبي. قال: وكيف اجتمعا لك؟ قال: كنت أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر. قال: وأين كنت تأوي؟ قال: في المسجد حيث وجدني رسولك
وأطرق هشام برهة لعله راجع فيها نفسه فندم على ما كان منه مع أبي النجم! ثم رفع رأسه وقال له: مَا لَكَ من الولد والمال؟ قال: أما المال فلا مال لي، وأما الولد فلي ثلاث بنات وبُني يّقال له: شيّان. قال: هل أخرجت من بناتك؟ قال: نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمِز في أبياتنا كأنها نعامة. قال وما وصيت به الأولى؟ - وكانت تسمى برَّة - قال:
أوصيتُ من بَرةَّ قلباً حُرا ... بالكلب خيراً والحماةِ شرَّا
لا تسأمي ضرباً لها، وجَرا ... حتى ترَى حلو الحياة مُرَّا
وإن كستك ذهباً ودرُا ... والحيّ عُمَّيهم بشرٍّ طُرَّا
فضحك هشام، وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت:
سُبَّي الحماة واْبهتي عليها ... وإن دنتْ فازدلفي إليها
وأوجعي بالفِهْر ركبتيْها ... ومرفقيها، واضربي جنبيها
وقعَّدى كفيْكِ في صُدْغيها ... لا تخبري الدهَر بذاك ابنيْها
فضحك هشام حتى بدت نواجذه، وسقط على قفاه! وقال: ويحك! ما هذه وصية يعقوب لولده! قال: ما أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين ولا ولدي كولده
قال: فما قلت للثالثة؟ قال: قلت:
أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن يحمدك الأقارب
والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب
ولا تني أظفارك السلاهب ... لهن في وجه الحماة كاتب
والزوج، إن الزوج بئس الصاحب
قال: فأي شيء قلت في تأخير زواجها؟ - وكان اسمها: ظَلاَّمة - قال: قلت:
كأن ظلامة أخت شَيَّان ... يتيمة ووالداها حيَّان
الرأسُ قملٌ كله وصِئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان
وقُصَّة قد شيَّطتها النيران ... تلك التي يفزع منها الشيطان(354/23)
فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه! وقال للخِصيّ: ما فعلت الدنانير المختومة التي أمرتك بقبضها؟ قال: هاهي عندي ووزنها خمسمائة. قال: ادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين!
علي الجندي(354/24)
من وراء المنظار
صراع. . .!
سألتُ صديقي الأستاذ (عين) أن يعيرني منظاره ساعة من زمان، علَّي أرى من خلاله ما توسوس به نفوس قوم قضيت بينهم عمراً من عمري، أحسن الظن بهم، وأقربهم إلى نفسي خشية أن يستشعروا الوحدة، وأنزل لهم عن بعض مالي خيفة أن يجدوا لذع العوز، وأواسيهم في البأساء ضناً بقلوبهم أن يأكلها الأسى و. . .؛ فلما أعرضت الأيام عني، انطلقتُ أفتش عبثاً، وإذا أنا على حَيْد الطريق، وحيداً تكاد تعصف بي أعاصير الحياة لولا بقية من أمل. . .
وأراد صديقي الأستاذ (عين) أن تكون له عندي يد أخرى، فقدَّم إلي منظاره في رضى، فوضعته على أنفي في خيلاء، ودلفت إلى الشارع في أناة وتؤدة، وهو من ورائي يشيعني بنظراته الباسمة
وخشيت أن ينزلق المنظار من على أنفي وأنا أتخطر في مشيتي، ومالي عهد بالمناظير، فيتحطم وأنا به ضنين؛ فانتحيت ناحية أصلح من شأني وشأنه، وأزوَّر في نفسي أمراً، فما راعني إلا صوت يناديني باسمي
والتفت فإذا صديقي (م) وزوجته يسيران الهوينى جنباً إلى جنب وذراعاً في ذراع، وقد عرته حمى الضحك حين رآني أقلب المنظار بين يدي، أضعه على عيني مرة، وأخلعه مرة، في حيرة وتردد؛ غير أني تغاضيت عن مجونه وأنا أدنو منه
لقد نشأ صاحبي (م) - كما نشأت أنا - بين ربوع الريف في ظل القرية الوارف الجميل، لم تلوث المدينة دمه الطاهر، ولا دنست الحضارة قلبه الزكي. عرفته وعرفني أول عهدي بالمدرسة، فهو أول من جلست إلى جانبه في فصل، وأول من تحدثت إليه في مدرسة، وأول من سكنت إليه في درس، وأول من لاعبته. . . ودرجنا ودرجت معنا الصداقة الجميلة الرفّافة، والأيام تجمع بيننا وتفرق، ونحن على عهد من الود لا نقطعه، وميثاق في الهوى لا نخيس به، وفي القلبين أواصر لا تستطيع نوازع الحياة أن تعبث بها، ولا تطمع حاجات العيش في أن تطغى عليها
وبهرت المدينة صاحبي أول ما هبط القاهرة، وهو قد هبطها طالباً في الجامعة، فاستلبه(354/25)
بهرجها من وقار القرية وحيائها ليقذف به في هذر الحياة ومجونها، وجرفه التيار وهو عنيف، فما استطاع أن يخطو الخطوة الأخيرة من تعليمه الجامعي إلاّ وهو يلهث من أثر الإعياء والبهر، ثم أرخى لنفسه العنان
وتعرف إلى ابنة (فلان) بك، وهو عين من أعيان القاهرة استطاع أن يخلق من جاهه وظيفة مرموقة يقدمها مهر الزواج إلى زوج ابنته الوحيدة. . . إلى صاحبي
وشاء (البك) ألا يحرم النظر إلى وحيدته، وهي قرة عينه وفرحة قلبه، وما في القصر سواها بعد أن ماتت عنها أمها، وسوى زوجته الجديدة، وهي فتاة في فجر العمر وثورة الشباب تزوجت من (البك) وفاء دين كان على أهلها، فلمست فيه برد شبابها المضطرم، وأحست بعد ما بين شيخوخته الذاوية وبين نضارتها المتألقة، فانطوت على نفسها تبكي حظها العاثر، ثم. . . ثم أشرق صاحبي الشاب في الدار فابتسمت له حين وجدت في غدوه ورواحه حياة تتوثب
وعاش الفتى في هذه الدار يتغنى بالسعادة ويترنم بالهناءة، وهو يحدثني حديثه - بين الفينة والفينة - فأستبشر لكلماته ويطمئن قلبي
لا جرم، فالآن قد نفذ بصري من خلال المنظار إلى الحقيقة التي لا يعرفها صاحبي، الحقيقة التي إن جاشت بها نفس الزوج طّمت عليها ابتسامات الزوجة الرقيقة. . .
هذه هي الزوجة الطيعة الوفية تتراءى لي وهي تنظر إلى زوجها الريفي الساذج في احتقار وسخرية، وفي نفسها أنه صنيعة أبيها ويد من أياديه، أقامه وهو يتكفأ في مضطرب الحياة، ولمّ شعثه من شتات، وخلق منه رجلاً ذا مال وأنق وهو على خطوة من التصعلك، ثم هي لا تحس باحترامه ولا تشعر بكرامته، وكيف؟ وهو قريب عهد بآداب الجماعات والحفلات، لا يعرف الرقص، ولا يتقن (البوكر)، ولا يصبو إلى الأصفر والأحمر من شرابهم وإن حمرة الخجل لتربط على لسانه إن هو جلس إلى فتاة غريبة، وإن فورة الغيظ لتسيطر عليه إن جلست هي إلى شاب غريب، وهي فتاة من بنات الشارع ترى في طباعه تزمت الأغبياء، ورجعية الفقراء، واضطراب الجهلاء، فتعبث به، وهي في مأمن من ثورته، لأنه عبد أبيها. . .
ورحت أحدق في الزوجة لأتغلغل إلى خلجات ضميرها. . . وهي تتصاغر في عيني،(354/26)
وهو يتضاءل تحت منظاري، حتى بلغنا سيارة (البك)، وفيها زوجته الشابة تنتظر. . . لقد أرادت أن تخلو إلى نفسها ساعة تدبر أمراً. . .
وعجبت أن رأيتها تلتصق بصاحبي تريد أن تستشعر الدفء من شبابه، وهي تحاول أن تصرفه عن زوجته رويداً رويداً لتستمتع به، وفي قصر زوجها، غير أنها كانت تخشى صولة (البك) ونظرت إلى زوجة صاحبي فألفيتها لا تستطيع أن تلمس خواطر تتنزى في قلب زوجة أبيها، لأن حياتها المائجة كانت قد أسدلت على عينيها ستاراً لا ترى من فروجه إلا الحفلات والسهرات، وإلا الزينة والسمر، وإلا. . . فأوشك البيت أن يتداعى عليها
وعجبت لهذا الصراع النفساني يحوم حول صاحبي وهو عنه في غفلة؛ فرفعت بصري إلى السماء أحوله عن بعض ما رأيت؛ غير أني ذهلت أن رأيت صفحة من صفحات القدر منشورة أمامي أقرأ فيها: أن (البك) قد مات، وأن النزوات المكبوتة قد ثارت. فيا ترى من ذي التي تفوز
وأنت يا صاحبي لا تلحني فلقد كتبت لك سطراً من حياتك علك تجد لنفسك مخرجاً قبل أن تتردى
(مشتهر)
كامل محمود حبيب(354/27)
من تاريخ الأدب الإنجليزي
في عهد الملكة اليزابث
1558 - 1603
للأديب مصطفى مشعل
مقدمة
تعتبر القصة منذ أقدم العصور فناً قائماً على قوة التخيل، واستخلاص أفضل النتائج التي يحسن توجيه الشعب إليها، وبث العقائد أو المثل العليا التي يدين بها الكاتب
ومن المعروف أن أدب القصة هو الأدب الذي يتأثر به القارئ أكثر من تأثره بسواه، وأنه الأدب المحبوب الذي يتذوقه المطالع تذوقاً شهياً دون ملل، أو إرهاق فكر. فهو إذن أشد الآداب اتصالاً بالروح، وتصويراً للشعور، ووصفاً للبيئة، ومعالجة للحياة في جميع أوضاعها. . . فالقصة هي أحسن أدب يمثل الحياة.
ولا شك في أن الكاتب الروائي يستطيع - إن ملك القدرة على نسج الخيال بالحقيقة، واستطاع سرد قصته دون أن يمل قارئه النجاح - بسهولة في جعل هذا القارئ يعيش ويحيا مع أبطال قصته، فيفرح لفرحهم ويتألم لألمهم كأنهم أشخاص يعيشون على مسرح الحياة لا مسرح الخيال
ومن الحقائق المعروفة أيضاً عن الأدب القصصي أنه أداة فعالة في النفوس، فنحن مثلاً إذا سمعنا قصة حياة شبيهة بحياتنا نشعر بفرح هائل يملك علينا إحساسنا، إذ نرى في احساسات غيرنا وشعوره صورة ناطقة لشعورنا وأحاسيسنا، حتى ولو كان ذلك الشعور وهذا الإحساس ألماً لشيء أو أسفاً عليه، فالطبيعة البشرية تجد في هذه المشاركة في الشعور والوحدة في الألم أملاً جديداً، وشجاعة تواجه بها الأحداث والمتاعب
أما إذا كان الوصف والتصوير الذي نطالعه هو وصفاً وتصويراً لحياة جديدة لا نعرفها ولا نحياها فسرعان ما نلمس في نفوسنا حناناً لهذه الحياة متأثرين بما نقرأ عنها من وصف. . . مشغوفين بما نتخيله عنها سواء كان هذا التخيل الذي يدفعنا إليه الكاتب يتجه نحو النور أو الظلام. . . نحو الفرح أو الحزن؛ وهكذا ينمو ذلك التأثر وهذا التخيل حتى ندخل في(354/28)
حمأة الحياة الجديدة ونعيش فيها شاعرين بلذة لا توصف، لأننا شاركنا أبطال القصة في حياتهم، وفي فرحهم وترحهم
ونحن نستنتج من هذا أن القصة الواقعية التي تصف حياة رجل أو امرأة وصفاً حقيقياً تفوز بعطفنا وإعجابنا، ولكننا سرعان ما نشعر بفتور يستولي علينا، لأن أبغض شيء إلى المرء هو أن يرى الآم حياته تمثل أمامه أو تسرد عليه مرة أخرى. . إنه يكتسب من ذلك أملاً ولكنه لا يكتسب لذة. . . وذلك لأن القصة الواقعية قد عدمت في سطورها ذلك الشيء المجهول الذي نشعر به ولا نعرفه، واللذة غير الأمل. . . فاللذة التي يحسها القارئ لقصة مزجت فيها الحقيقة بالخيال البلوري هي تلك اللذة التي يحسها كل بشري عقب استطلاع شيء مجهول. . . عقب الخوض في عالم جديد لا يعرفه ولم يحيى في
ومن ذلك نرى أنه كان لزاماً على القصاص أن يخترع المواقف والمفاجآت التي يوحيها خياله ليضمن تتبع القارئ له تتبعاً مستمراً غير منقطع. . . وكان عليه أن يشوق القارئ إلى النهاية المحبوكة، وأن يجعله يعجل القراءة محاولاً أن يصل إلى آخر مرحلة من مراحل هذا الخيال المسترسل وإلى خاتمة هذه المفاجآت المتصلة، لأنه - أي القارئ - لا يستطيع أدارك نهاية القصة ولا يستطيع أن يحزرها حزراً يقرب من الصواب، لأنه لم يشعر ولم يتذوق مثل الحياة التي تصفها القصة وتصورها
ماجن ورولاند
كان هذان الرجلان هما أول من بذرا بذور هذا النوع الذي تحدثت عنه، فأستقبله الكتاب الواقعيون بشيء غير قليل من اللهفة والشغف والرغبة القوية في التقليد، فما زالوا يفكرون بين مترددين ومقدمين حتى جرفهم التيار فإذا بهم مقلدون. وهكذا شاع وذاع هذا النوع السائغ السهل الهضم في المعدة الأدبية، وابتدأ الخيال يلعب دوره في القصة ويشتط شططاً كبيراً ويجمح جموحاً غريباً حتى اعتاده الناس وتقبلوه تقبلاً حسناً ولكن الكتاب أمعنوا فيه إمعاناً شائعاً مبتذلاً، فكان ذلك وبالاً على هذا النوع من القصة إذ تحول القراء عنه. وهكذا راح يخبوا ويندثر ليظهر على أعقابه نوع جديد من الأدب الذي كتب واصفاً بعض حوادث التاريخ القديم وسمي بالقصة
قصة (يوفيسن) لجون ليلي(354/29)
إذا أراد الكاتب أن يتحدث عن العصر الإليزابثي ومخلفاته وأن يتكلم عن القصص الموفق الذي ظهر وأحدث ضجة كبيرة لما وجد أمامه إلا قصة رائعة بل هو أروع آثار هذا العهد إطلاقاً من حيث قوة الفكرة وحسن الأسلوب ولما اشتملت عليه من مغزى
كتب هذه القصة شاب نابه يدعى جون ليلي وكان اسمها (يوفيس)، ونحن إن أردنا تحليل الأسباب والدوافع التي كانت سبباً في ظهور هذه القصة وتفوقها على كل ما عداها استطعنا ذلك بقليل من الاستنتاج. فالقصة لم تكتب جزافاً ولم يضعها صاحبها لمجرد الرغبة في الكتابة أو الشهرة، بل إنه أراد بها مغزى عظيماً، إذ حاول أن يظهر ويصف التأثير السيئ والانحطاط الخلقي الذي كانت الحياة الاجتماعية في إيطاليا تؤثره في صغار الشبان الإنجليز النازحين إليها لتلقي العلم والمعرفة
لقد كانت إيطاليا في ذلك الوقت بلاد النور الخلاب يتهافت عليها طلاب العلم، وتفيض هي على العالم علماً وعرفاناً، حتى لقد كان يحج إليها كل متعلم أراد أن يتم حظه من الثقافة أو يزيد نصيبه من العلم. واقتبست إنجلترا هذه العادة عن غيرها من الأمم منذ رحل إلى إيطاليا بعض المجدين من طلبة العلم الذين أظهروا نبوغاً في الأدب من أمثال: كوليت وليناكر وجركن لدراسة اللغة اللاتينية وآداب الإغريق الكلاسيكية التي كانت دراستها باعثاً قوياً في نهضة أدب المسرح والقصة. . . واستمرت هذه العادة عند الطبقة الراقية كتقليد لابد منه لكل من أتم دراسته حتى بعد أن شرعت الجامعات الإنجليزية في تدريس هاتين المادتين
ولم يكن جون ليلي هو أول من فطن إلى ذلك، بل إن أول من أراد منع هذا التقليد هو مؤدب الملكة روجر آشام فلقد أدرك روجر أن هؤلاء الذين يحجون كل عام إلى إيطاليا بحجة الدراسة إنما يرحلون دون نية أو مقصد حقيقي لذلك. فلقد كانوا يجتمعون هناك في مدرسة واسعة حيث كانت الآداب الإغريقية الرائعة تعتبر فيها مادة للهو والتسلية، إذ كانت تترجم إلى اللغة الإيطالية الدارجة بأسلوب وضيع ولغة فجة، فتحولت عن مغزاها العالي الذي كتبت من أجله إلى أداة للاستهتار والتسلية ليس إلا. فأشار روجر إلى كل ذلك في كتاب ثقافي وضعه وحمل فيه على العقائد والمثل العليا في إيطاليا حملة شعواء، وبيّن الأخطار الهائلة التي تعود على الأمة من جراء إرسال أبنائها وصفوة شبابها إلى بلاد لا(354/30)
يدين قومها بشيء، بل هم ساخرون هازلون بالعقائد الإلهية والقوانين المرسلة. . . ولكن الكتاب رغم ذلك كله لم ينل النجاح الذي قدره روجر له ولم يف بالغرض الذي أراده، لأنه كتب بأسلوب علمي لا يشجع على القراءة، وإن كان قد مهد به لبحث مسألة حيوية لجيل من الشباب.
كان روجر صادق النية في محاولة تخليص أمته من تأثير إيطاليا، ولذا لم يرض هو نفسه عن كتابه هذا. . . كان يريد كتاباً من نوع آخر. . . كتاباً يقرأه الخاص والعام، فيخرج منه متأثراً منضما لروجر في فكرته، مؤيداً له في وجوب القضاء على هذه العادة. . . ولكنه لا يستطيع كتابة هذا الكتاب لقلة فراغه وكثرة مشاغله. . . فماذا يفعل؟. . .
تذكر الشاب المغمور جون ليلي وعرف فيه القدرة على وضع الكتاب المنشود والبراعة في الوصف والتأثير على القارئ، فأوحى إليه أن يضع قصة يبين فيها آفات المجتمع الإيطالي وخطره العظيم على شبيبة ناشئة والنتيجة السيئة لهؤلاء الذين يعيشون في وسطه وما زال دم الشباب يجري في عروقهم حاراً عنيفاً. . . وما زال بهم ظمأ شديد للعب والوثب. . . وظمأ أشد للحب والمرأة. . . وشغف لا يقاوم بحياة الليل المسممة بين رنين الكؤوس وأصوات القبل.
وكان ليلي عند حسن ظنه به فدرس المؤثرات التي يستهدف لها الفتى الإنجليزي في إيطاليا وبلادها وجعلها موضوعاً لقصته العظيمة (يوفيس)
كان اسم (يوفيس) اسماً مقتبساً عن الإغريقية، ولعل هذا هو ما حدا به لأن يجعل بطل قصته شاباً من شباب أثينا المفتونين أنهى دراسته ثم رحل إلى إيطاليا للدراسة، وفي طريقه عرج على (نابلي) وهناك التقى بآخر يدعى إيبوليس. . . ولكن هذا الأخير عاقل في بلدة أجدبت من العقلاء؛ فهو ينصح يوفيس، ولكن يوفيس لا ينتصح. . . وهو يلومه ولكنه لا يرعوي. . . وهو يحاول أن يفيده والآخر لا يريد؛ فإذا ما مل نصحه ويئس من إصلاحه صمت على مضض. . . ولكن رغبته في إصلاح صديقه لا تلبث أن تعود فيضرب على الناحية الحساسة في نفس يوفيس قائلاً:
- أي يوفيس البائس. . . اعمل لأجل الله ولا تعمل لأجل نفسك، واجعل حبه لا حب البشر هو المسيطر عليك، وأحذر أن تغضبه منك، فإنك لو عملت له، وأخلصت لذاته(354/31)
العظيمة، باركك ورعاك، فإنه عادل يحب المخلصين
ولكن أنى للجاهل العربيد أن يثوب إلى رشده ويعود إلى حظيرة الله ما دام الشيطان يطوف حوله ليسكب في أذنيه أغاني الشر وأهازيج الدمار
لقد أنخرط الأثيني الشاب في زمرة الكسالى، وراح معهم يعيشون في أنحاء نابلي فساداً يبحثون عن اللذة أينما وجدت، ويتذوقون كل محرم ويفخرون بما يأتونه كل يوم من ضروب المجون والعبث
وتصل القصة إلى أكثر أجزائها شدة وقوة فيعمد ليلي إلى ختم قصته ختاماً موفقاً حقاً إذ أرجع (يوفيس) إلى أثينا. . . (رجلاً حزيناً عاقلاً). . . بل لقد جعل منه رجلاً آخر مخالفاً لشخصيته الأولى. . . لقد أدرك آثام الماضي وشروره فراح يكتب الرسائل الطويلة إلى أصدقائه باسطاً فيها الآراء الناضجة الكاملة الشيء الكثير، شأن العارف الدارس بأسرار الحياة
ولعلك تستطيع أن تلمح من بين سطور القصة قوة المؤلف الذي استطاع أن يصف ما أراد من نزق وجنون، وعبث ولهو، ثم ندم واستغفار. . . ووقار وحكمة
لقد أراد ليلي أن يجعل الناشئة تتمسك بأهداب الفضيلة بأن أخذ يسرد عليهم سرداً قويا التقاليد السيئة المتبعة ليجتنبوها ودعا فيما دعا إليه إلى دراسة الكتاب المقدس ليستوحوا منه العظات ولكي يستطيعوا التغلب على نزعة الإلحاد التي كانت تنتشر في إيطاليا بلد العلم والعرفان!
وهكذا لم تلبث القصة أن ذاعت ذيوعاً عظيما حتى لقد صارت أحب الكتب الأدبية إلى الناس
كانت حديث الطبقات الراقية. . . بل لقد تناقل الإعجاب بها موظفو البلاط الملكي نفسه
على أنه مما ليس فيه شك أن هذه القصة لو لم يعرف مؤلفها أدواء الجيل لما لقيت من هذا النجاح الفذ قليلاً أو كثيراً، بل لما سمع عنها في هذا الوقت، فإنما قامت شهرتها على قوة أسلوبها وقوة بصيرة مؤلفها وقدرته على معالجة الحوادث الخارجية التي كانت تحيط بالناشئة، والتي كان الشعب يجهلها رغم أنها كانت سائدة بينه. . . فعلى هذا الأساس المتين نالت القصة هذا المركز الفذ الذي لا يداني في العهد الإليزابثي كله(354/32)
الأساليب القصصية
كانت الدراسة الطويلة للآداب الإيطالية وأساليبها من أقوى المؤثرات في الأسلوب الذي ساد في هذا العصر. . . لقد عنى الكتاب بالمظاهر في أسلوبهم أكثر مما عنوا بالفكرة في كتاباتهم. ونحن إذا تعمقنا قليلاً في الأساليب التي استعملت في هذا العهد وجدنا فيها شيئاً غير قليل من محاولة التلاعب بألفاظ وحروف اللغة ومحاولة جعل أوائل أو أواخر الكلمات متشابهة في جرسها أو رنتها الموسيقية كالسجع في اللغة العربية مثلاً
وقبل أن أنتقل بالقارئ إلى نوع آخر استعمل في الأسلوب الإنجليزي لهذا العهد أحب أن أنقل هنا جملة من الأسلوب الذي تحدثت عنه وهي من قصة (يوفيس):
أما النوع الآخر فقد سموه أسلوب التباين أو الموازنة المضادة وأنا أنقل منه هنا بضع جمل لسهولة الفهم:
, وإليك جملة أخرى:
,
وتفيض كتابات هذا العصر بمثل هذا الأسلوب الأخير، كما تفيض بالأسلوب الأول. وبقدر ما كان لهذه الأساليب من ميزة إن صح أن كان لها ميزة، كان الشعور العميق والاختلاجات الحقيقية صعبة الإظهار. . . صعبة البيان. . . تحتاج إلى كثير جداً من المهارة والحنكة والتصرف والإلمام بكلمات اللغة. . . وخلق المرادفات التي لا يستثقلها السمع ولا ينبو عنها الذوق، وفي كل هذا من الإرهاق والجهد ما يفوت المقصد الحقيقي على الكاتب، بل ويمعن به في البعد عن الموضوع إمعاناً معيباً جرياً وراء هذا السجع، أو ذاك التباين، فإنه مما لا شك فيه أن محاولة تصيد الحروف الأولى للكلمات أو الحروف الأخيرة تقف - في غير الشعر - حجر عثرة في سبيل الأسلوب المستقيم.
هذه هي أهم الأحداث في تاريخ الأدب القصصي في هذا العهد الذي ابتدأ عام 1558م إلى 1603م
ولا شك أن القارئ لاحظ معي أنني قصدت الكلام عن قصة يوفيس، ولكني لم أفعل ذلك إلا لأن هذه القصة هي أعظم أثر أدبي لهذا العصر فضلاً عن أنها تمثل في أكثر أسلوبها(354/33)
الأسلوب الذي ساد. . . الأسلوب الذي كان أشبه ما يكون بالطلاء اللامع الذي يخفي وراءه عيوباً كثيرة، حتى لقد سخر عميد اللغة الإنجليزية وليم شكسبير منه إذ كان يجريه على لسان بعض أبطال قصصه البلداء الفكر
قصة جديدة لجون ليلي
كتب ليلي هذه القصة عام 1579 بعد قصته الأولى بعام واحد وهي عبارة عن رواية لزيارة (يوفيس) لإنجلترا وانخراطه في الحياة الاجتماعية الإنجليزية
وكانت القصة محتفظة بروح المؤلف. . . ونقد فيها العادات الإنجليزية والجامعات الإنجليزية، لا بقصد التشهير والهدم، وإنما للإصلاح ووضع القواعد الثابتة الناجحة لمساعدة الشبان الناشئين وكان يوجد بجانب ليلي بعض الكتاب الذين ساهموا بنصيب وافر في خدمة أدب القصة في هذا العصر، ومن هؤلاء كاتبا المأساة لودج وجرين، والأخير كتب عدداً كبيراً من القصص القصيرة اقتبسه عن الإيطالية. . . واشتهّرت كتابته بميسم الحزن والألم؛ ولعل ذلك يرجع إلى المرض الذي عاناه والذي جعله ينظر إلى العالم بمنظار أسود، حتى لقد كتب عن هذا اليأس والحزن قصة طويلة جعل اسم بطلها (روبرت) وهو اسمه الأول
أما الكتاب الآخرون، فلم يظهروا إلى جانب من ذكرت إما لضعف أسلوبهم أو لقلة ثقافتهم
الإسكندرية
مصطفى مشعل(354/34)
رسالة الشعر
رحلة عابسة
للأستاذ أحمد محرم
من دمنهور عاصمة البحيرة التي هي مقر الشاعر إلى
القاهرة، ومن القاهرة إلى الإسكندرية عن طريق الصحراء،
انطلقت به السيارة هو وصديق له، فمر في طريقه بدنشواي
والقناطر الخيرية والأهرام، فتنكرت شاعريته لكل هذه
المشاهد، أو هي قد تنكرت لهذه الشاعرية الساخطة، وحسبه
أن يكون في جوف الصحراء فيحسب أنه في نفق من الأنفاق،
وأن يكره الشمس فيراها تخلع رداء الحسن والإشراق، ويشهد
الروض يكره نفسه، فيلقي بما فيه من زهر وأوراق. وهذا ما
يقول في هذه الرحلة العابسة:
عَصَف الْهَوَى بَجَوانِح المُشْتَاقِ ... وَهَفاَ الَحْنيِنُ بقَلْبِهِ الَخْفَّاقِ
مَا يَصْنَع الْقِلْبُ الطَّرُوبُ إذ الْهَوى ... بَلَغَ القَرارَ، وجَالَ في الأعْمَاق؟
يا صَاحِبي: فِيمَ المُقَامُ عَلَى الأذَى؟ ... سِرْ فالْبِلاَدُ فَسِيحَةُ الآفاق
اركَبْ جَنَاحَ الرَّيح وَاسْتَبِقِ المَدَى ... بَعْدَ المَدىَ (بالشَّاعِرِ السَّبَّاق)
ماذَا تَظُنُّ بِناَ المَدَائَنُ والْقُرَى؟ ... الرَّكْبُ رَكْبِي، والرِّفاقُ رفاقِي
وَأَنَا الَّذِي أَحْبَبْتُهاَ، وَجَعَلْتُهاَ ... دَارَ الهوَى، وَمَحَلَّةَ الأشْوَاق
وَلَكَمْ سَقَيْتُ رُبُوعَها مِنْ أَدمْعُي ... وَالبَاكِياتُ جَوَامدُ الآمَاق
لاذَتْ بأَرْوقَةِ الْبَيَانِ فَلَمْ تَجِدْ ... في الَحْادِثَاتِ النُّكْرِ مِثْلَ رِوَاقي
أدب تَحَصَّنَ بالْمرُوُءةِ فارْعَوَى ... عَنْهُ المُسَاوِمُ، وَاتّقَاهُ الرَّاقي(354/35)
ما كُنْتُ أَحْسَبُ وَالُخْطُوب كثِيرةٌ ... أَنّ الْقَرِيضَ يبُاَعُ في الأسْوَاق
قُلْ للْجَدَاوِلِ وَالزُّرُوعِ: تَحَدَّثي ... في غَيْرِ مَا وَجَلٍ، وَلاَ إشْفاَق
ماذَا يُمَارِسُ مِنْ شَدَائَدِ دَهْرِهِ ... مَنْ أَنْتِ كلُّ رَجائِهِ، وَيُلاَقي؟
وَلِمَنْ جَنَاكِ؟ أَللِّذِي هُوَ زَارِعٌ؟ ... أَمْ أَنْتِ للِجَاني بِلاَ اسْتِحْقاَق؟
وْيلِي عَلَى (فَلاّحِ مصْرَ) أَمَا كَفَى ... ما ذَاقَ مِنْ عَنَتٍ وَمِنْ إِرْهَاق؟
يُغنِي أُلُوفَ المُتْرَفينَ بماَلِهِ ... وَيَعِيشُ في فَقْرٍ وَفي إِمْلاَق
سُبْحَانَ مَنْ شَرَعَ السَّبِيلَ لِخَلْقِهِ ... أَكَذَا يَكُونُ تَفَاوُتُ الأرْزَاق؟
وَلَقَد مَرَرْتُ (بدِنْشِوَايَ) فَهَاجَنيِ ... وَجْدٌ عَلَى مَرَّ الحوَادِثِ باق
تِلْكَ السَّياطُ عَلَى الجُلْوُدِ وَهذِهِ ... سُودُ الْحِباَلِ تُشَدُّ في الأعْناَق
وَأَرَى دُمًوعَ الثَّاكِلاتِ هَوَاميِا ... تَجْرِي فَتَغْرِق فيِ الدَّمِ المُهْرَاق
تُرِْمَي النُّفُوسُ وَمَا بِهاَ مِنْ قُوَّةٍ ... تَزَعُ الرُّماة وَمَا لَهَا مِنْ وَاق
عرَفَ (الحَمامُ) مُصَابَهاَ فَكَأَنّماَ ... لَبِسَ الأسى في هذِهِ الأطْوَاق
لوْلاَ الأُلَي حَمَلُوا السَّلاَحَ لِصَيْدِهِ ... لمْ يَسْقِهاَ المَوْتَ المُسَمَّسمَ سَاق
سِرْ يا رَفيِقيِ، لَيْتَنيِ فيِ مَحْبَسِي ... وَلَسَوْفَ أَمْنَعُ أَنْ يُحَلّ وَثَاقيِ
أَهِيَ (القنَاطِرُ) في بَدِيعِ جَمَالِهَا؟ ... أَمْ تِلْكَ بَعْض مُقَاَبِرِ الأخْلاَق؟
لاَ تَظْلِمُوا الْعُشَّاقَ يَا قَوْميِ، فما ... أَبْصَرتُ غَيْرَ مَسَارِحِ الْفُسَّاق
وَدَعُوا العُهُودَ، فما وَجَدْتُ لِمُدَّعٍ ... في الحُبَّ مِنْ عَهْدٍ، وَلاَ ميِثَاق
الحُبُّ مَا صَرَف القُلُوبَ إلى الهدَى ... وَسَمَا إلى الجَوْزَاءِ بالأَحْدَاق
دِينُ الْمُرُوَءةِ وَالوَفَاءِ، وَإِنْ هُمُو ... زَعَمُوهُ دِينَ تَصَنُّعٍ وَنِفاَق
القبْرُ أَطيَبُ مِنْ فُؤَادِ مُنَافِقٍ ... خَدَعَ النفُّوسَ بِظَاهِرٍ بَرَّاق
مَا هذِهِ (الأهرامُ)؟ مَا لِبُناَتِهَا ... سَاقُوا أُمُورَ المُلْك شَرَّ مَسَاقِ
هَدَمُوا الْقُوَي فِيها يُشَدُّ بِنَاؤُها ... وَيُقَامُ أَطْبَاقاً عَلَى أَطْبَاق
هيَ إِنْ أَرَدْتَ الْحقَّ شَاهِدُ قَسْوَةٍ ... يُخْزِي الوُجُوهَ وَآيةُ اسْتِرْقاَق
أَفَمَا تَرَاها، كُلَّمَا اسْتَنْطَقَتهَا ... زَادَتْكَ مِنْ صَمْتٍ وَمِنْ إِطرَاق؟
خُرْسٌ يُجَّللُهَا الَحْيَاءُ، وَمَا بها ... إِلاّ ضَلاَلُ (السَّاسَةِ الحُذَّاقِ)(354/36)
قالَ الأُلي فُتنِوُا بها: مُسْتَوْدَعٌ ... لِلسّرَّ، غَودِرَ مُحْكَمَ الإغْلاَق
دَعْ مَا يُريبُكَ مِنْ وَسَاوِسِ مَعْشَرٍ ... عَكَفُوا عَلَى التهَّوِْيلِ وَالإغرَاق
دَارٌ تُجيِرُ مِنَ الزمَانِ وَصَرْفِهِ ... وَتَصُونُ مَا أَبقَى مِنَ الأرْمَاق
خَيْرٌ مِنَ الصَّرْحِ المُقَامِ لِظاَلمٍ ... جَافيِ الطَّبَاعِ إِلي الأذَى تَوَّاق
سِرْ في الْقِفَارِ البِيدِ، مَا لِرِكاَبِناَ ... مِنْ حَابِسٍ فيها، وَلاَ مُعْتَاق
رَحُبَتْ جَوَانبُهَا، فَنَحْنُ نَظنُّهَا ... أَخْلاَقَ حُرّ مَاجِدِ الأَعْرَاق
أَتَظُنُّ أَنَّا في فَسيِحِ فَضَائِهَا ... أَمْ نَحْنُ فيِ نَفَق مِنَ الأَنفَاق؟
اِصبِرْ، وَلاَ تَعْجَبْ لِمَا أَناَ قائِلٌ ... فالْهَمُّ وَيحَكَ آخِذٌ بِخِناَقِي
وَكَأَنَّمَا أَنَا والأحِبَّةِ حُضَّرٌ ... حَوْليِ صَرِيعُ نُوًى وَنِضْوُ فِرَاق
إِنّا اجْتَمَعْنَا للِرَّحِيلِ، يَضُمُنَا ... فَكأنَّناَ لمْ نَجْتَمِعْ لَتلاَق
ذُقْتُ الخُطُوبَ فما وَجَدْتُ مَرَارَةً ... كَمرَارَةِ الحِرْمَانِ وَالإِخْفَاق
مَا كُنْتُ أُوثِر أَنْ أُفارِقَ مَوْضعِي ... لَوْلاَ الْقَضَاءُ وَحِكُمَةُ الَخَّلاق
مَالِي رَأَيْتُ الشَّمْسَ حين كَرِهْتُها ... خَلَعَتْ رِدَاَء الْحُسْنِ وَالإِشْراق؟
وَلَقَدْ شَهِدْتُ الرَّوْضَ يَكرَهُ نَفسْهُ ... لَمَّا رَمَى بالزّهْرِ وَالأَوْرَاق
لِلعَبْقَرِيةِ مِنْ هَوَى أَرْبابها ... عِلْمٌ تُجَوَّدُهُ، وَفَنٌّ رَاق
أُمُّ الْبَدَائعِ، مَا يُحَدُ نِطَاقُهَا ... إِنْ حَدَّدَ الأَقوَامُ كلًَّ نِطاَق
هِيَ لِلرَّجَالِ عَلَى الَخْصَاصَةِ وَالْغِنَى ... أغْلَى الْكُنُوزِ، وَأَنْفَسُ الأَعْلاَق
أحمد محرم(354/37)
آمال كاذبة
للدكتور إبراهيم ناجي
لا البرء زار ولا خيالك عادا ... ما أكذب الآمال والميعادا
عجباً لحبك يا بخيلة! كيف يخ ... لق من جوارح عابد حسادا؟
إني لأهتف حين أفترش المدى ... وأرى الجحيم لجانبَّي مهادا:
آهاً على الرأس الجميل سلاَ وأغ ... فى مطمئناً لا يحس سهادا
فَرشَتْ له الأحلام واحتفل الهدو ... ء به ومدَّ لهُ الجمال وسادا
يا حبها ما أنت ما هذا الذي ... جمع الغريب وألّف والأضداد
كمْ أشرئب إلى سماك بناظري ... مستلهماً بك قوةً وعمادا
ولَكَمْ أَبيتُ على السآمة طاويا ... في خاطري شبحاً لها عوَّادا
فأراك تعبث بي كطفل في السما ... ء يصرَّف الأقدار كيف أرادا!
ولكم أقول هوًي كما بدأ انتهى ... فإذا الهوى وافى النهاية عادا
مات الرجاء مع المساء وإنما ... كان الممات لحبنا ميلادا
ماذا صنعت بناظرٍ لا ينثني ... متطلعاً متلفتاً مرتادا
وأنا غريب في الزحام كأنني ... آمال أجفان حُرِمْن رقادا
ولقد ترى عيني الجموع فما ترى ... دنيا تموج ولا تحس عبادا
فإذا رأيتك كنت أنتِ الناس وال ... أعمار والآماد والآبادا
وأراك كل الزهر، كل الروض أن ... تِ لدىَّ كلُّ خميلة تتهادى
ناجي(354/38)
سأغني
(مهداة إلى (لولو) الصغير. . .)
للأديب عبد العليم عيسى
ظمِئتْ روحي وضاقت رَحَباتي
واحْتَوت قلبي المدمَّي كرُباتي
فاتركوني أتغنَّى في حياتي
ذاهلاً عن كل موجودٍ وآت
سأغني! سأغني!! فدعوني ... إن روحي ترتوي من نغماتي
لستُ منكم. . . فاذْهَبوا عني بعيدا
ثم ضِجوا واقصِفوا قصفاً شديدا
واملئوا الكونَ صُراخاً لن يبيدا
إن أحلاميَ لا تهوى الرعودا
دْربكم خالف درْبي وطريقي ... فاتركوني هائماً في سَبَحاتي
قد كذبتم. . . وأنا كنتُ صدوقا!
وغلِظتم. . . وأنا كنت رقيقا!
وقسَوْتم. . . وأنا كنت رفيقا!
ورسِفتم. . . وأنا كنت طليقا!
فلِماذا. . . تحْسبوني مثلكم ... من بني الطين وعبد الظلمات
اسْألُوا عني السَّواقي والزهورَا
وضفافَ النهرِ والحقلَ النضيرا
أنا أهواهاَ. . . ولا أهوى القصورا
فجَّرتْ قلبي فغنَّيتُ كثيرا
وهْيَ تدري هجسَاتي ومُيولي ... وطِباعي ونزُوعي وصفاَتي(354/39)
الأدب في أسبوع
نقد
كتب الأخ الفاضل الأستاذ سلامه موسى في مجلة اللطائف (8 إبريل سنة 1940) كلمة يتعقب بها كلامنا في (الفن الفرعوني، وتمثال نهضة مصر) المنشور في عدد الرسالة 345 في 12 فبراير سنة 1940 وجعل عنوان نقده (تعارض التيارات الفكرية، وضررها على التطور الاجتماعي والثقافي) وسنلخص لك نقده ثم نتبعه ببعض ما يجب علينا من تحرير رأينا، وتقدير رأي الأستاذ الفاضل، يقول: إن الأفكار تتعارض في كل أمة حرة ولكنه لا يخرج بها عن أسلوب الحياة العامة من التوافق إلى التناقض والتنافر، فيفضي ذلك إلى اختلال التوازن الاجتماعي، فيعتاقُ الأمة عن الرقيّ والإصلاح. ويقول: إن بعض الآراء في مصر ليتناقض كما يكون التناقض بين أمتين متخالفتين، وإن (العقلية المصرية) التي تفكر بها مصر في أنظمتها الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، والتعليمية، والحربية: هي ضرورة الوضع الجغرافي والاحتكاك السياسي بأوربا، وإننا لا نعيش فقط في القرن العشرين، بل في سنة 1940 من هذا القرن. ويقول ما نصه:
(ونستطيع أن نضرب الأمثال على هذا الاختلاف الذي يقارب التنافر. فقد ألَّفَ الدكتور طه حسين بك كتاباً يدعو فيه إلى أن نجعل من الفن الفرعوني أحد العناصر في (الغذاء الروحي والعقلي للشباب) فتناول هذه الدعوة الأستاذ محمود محمد شاكر بالاستنكار حتى قال في مقاله بالرسالة: وعلى ذلك، فيحب أن نقرر أن الفن المصري الفرعوني - على دقته، وروعته، وجبروته - إن هو إلا فنٌّ وثنيٌّ جاهلي قائم على التهاويل، والأساطير، والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرَّة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية - سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أم إسلامياً أم غير ذلك من أشباه الأديان). . . ثم استمر فنقل بعض رأينا في الذي قلناه عن تمثال نهضة مصر
وهذا تعارض عجيب، كما يرى الأستاذ سلامه موسى، واختلاف في التيارات الفكرية يحمله على أن يدعو الاجتماعيين أن يحاولوا التوفيق بين هذه الآراء حتى لا يصير اختلاف الرأي الحر تناقضاً في العقائد المجزومة، وحتى نُصْبح أمة متمدنة تستطيع أن(354/40)
تنصت إلى الرأي المخالف في تسامح وأن تعبر عنه في اعتدال ينأى عن الحدة والتهور
ثم يقول الأستاذ الفاضل إنه يتوهم مما كتبته أن الدكتور طه أو المثال مختار يريدان منا أن نحنط الموتى ونعبد (رعْ) مع أن حقيقة ما طلبه كل منهما أن نستوحِيَ هذا الفن المصري القديم. ثم يقول عني وعن الدكتور طه: (إن الاختلاف بين الكاتبين هنا يرجع إلى أكثر من ذلك، وهو أشبه بالتنافر بين القائلين بعقيدتين متناقضتين، ومصلحة الأمة تقتضي إزالة هذا التنافر بين الذين يكلفون هذه المهمة، وكل رجل مثقف يهتم بالانسجام الاجتماعي في الأمة)
وهذا نهاية الرأي في كلام الأستاذ سلامة موسى نقلنا أكثره بنصه أو ما يقربُ منه. ونحن نشكر الأستاذ سلامة موسى على حُسن مقصده ورغبته في تحقيق الإصلاح الاجتماعي بإزالة كل العوامل المفرَّقة بين الناس
التيارات الفكرية
ومن الغريب أن اليوم الذي صدرت فيه هذه المقالة في اللطائف، هو نفسه اليوم الذي كتبنا فيه عن (الرأي العام وسياسته) في العدد الماضي من الرسالة، وقلنا إن تعدد الثقافات في الشعب الواحد قد أفضى إلى شر آثاره، حيث تنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المؤدية إلى الغايات، وكذلك يبقى الشعب إلى النهاية وهو في بدءِ لا ينتهي، وفي اختلاف لا ينفضُّ. وكما يرى الأستاذ سلامة موسى أن هذا التعارض البغيض بين الآراء مما يعتاقُ رقيَّ الشَّعب، ويمنعه من الاجتماع على رأي، ويحرمه فضيلةَ القوة التي تنفُذُ به إلى غاياته. . . كما يرى نحن نرى، ونرى وراءَ ذلك كله ما هو أسوأ وأقبحُ - مما يستعاذ منه وتخشى مغبَّتُه. فهذا إذن أمرٌ مفروغٌ من تقريره بيننا وبينه، وهي رغبة نتوافى جميعاً على العمل لها، ونَشْريِ أنفسنا في سبيل إنفاذها
وكان جديراً بالأستاذ سلامة موسى أن يرى مثل هذا الرأي في الذي كتبناهُ ويعلم عِلمْ ما طوبناه في نقدنا لرأي الدكتور طه، ولعلّه لم يقرأ كل ما كتبناهُ في العدد 344، 345 من الرسالة، ولعلّه لم يتتبَّع ما نقولُ به من الرأي في باب (الأدب في أسبوع)، ولو قد فَعَل لعرف أن الرأي بيننا وبينه في ذلك غير مختلف إن شاء الله
القرن العشرون(354/41)
وما دمنا في حديث تعارضُ هذه التيارات الفكرية، فقد كنت أحبُّ أن ينزّهَ الأستاذ سلامة موسى كلامه عن بعض التعريض. . . وذلك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه. فهل يَظُنّ الأستاذ أننا نعيش في غيره أو أننا نرى أنفسنا رِمَماً تاريخية عتيقةً قد انبعثتْ في أجلادِ إنسان (القرن العشرين)!
. . . الزمن لا يكون هو العلة في إنشاء الحضارة، وإنما تُستجدُّ الحضارة بالروح الإنسانية وبالإنسانية الروحية، وإنما الزمن وحدوده تبع للإنسان الحي، ولا يكون الإنسان تبعاً للزمن إلا حين تفقد الروح إنسانيتها العالية، وتفقد الإنسانية روحانيتها السامية. . . وترتد الحكمة والحضارة والتهذيب وجميع الفضائل إلى منزلة الغرائز الدنيا التي تصرَّف العجماوات من الأحياء في سبيلها، وعلى سنتّها، وبقانونها، ومن مدارجها النازلة إلى أغوار الحيوانية الفطرية
إن من أخطر التيارات الفكرية التي تهاوى فيها أكثر كتاب القرن الماضي، والمخضرمون من كتاب القرن العشرين اعترافهم بالقرن العشرين وما فيه اعترافاً (تعبُّدياً) يكاد يكون إيماناً وعقيدة، فما أقنع منه بالبرهان والحجة فهو ببرهانه وحجته، وما لم يقنع فهو مردود إلى الأسرار الأزلية للحضارة، وأنه هكذا كان. . . وأنه هكذا خلق، وأنه ما دام موجوداً في حضارة القرن العشرين، فوجوده هذا هو برهانه وحجته. . .!!
وأنا - مع الأسف - لا أعتقد في هذا القرن العشرين اعتقاداً قلبياً مطمئناً بالإيمان، لا لأني أريد أن أرتدَّ إلى الماضي لأعيش في ظلماته وكهوفه وتهاويل خرافاته، بل لأني أرى أن حضارة الإنسانية يجب أن تتجدد بمادتها النبيلة السامية التي كل أجزائها فضائل. أما هذه الحضارة الأدبية العصرية للقرن العشرين، فهي حضارة حيوانية الفضائل، ليس في أعمالها إلا فتنة بعد فتنة. ولا نقول هذا في العلم - معاذ الله - فإن العلم الحاضر قد استطاع أن ينفذ في بعض أسرار الكون بأسباب كأسباب المعجزات، ومع ذلك، فقد كان هذا العلم نفسه، هو ما اتخذوه تدليساً في تمجيد حضارة القرن العشرين، ليفتنوا الناس بها عن حقيقة الإنسانية الروحية المتجردة من أغلال الحيوانية النازلة المستقلة
الحرب(354/42)
ويكفي أن تكون هذه الحرب التي أحدَّث أنيابَها ونشرت مخالبها، وزأرت زئيرها، ثم أسبابها التي نشأت عنها من المطامع الاستعمارية المستكلبة الضارية، ثم ما سيكون من آثارها في الأرواح الإنسانية والمدنية الروحية. . . يكفي أن تكون هذه الحرب - من جميع نواحيها وأطرافها، وبجميع خلائقها وزمن هذه الخلائق - توصيما كتوصيم الفجور الأسود في الأعراض النقية البيضاء
هذه الحرب الفاجرة المتعرَّية من جميع الفضائل برذيلة الكذب والخداع مما يسمونه الدعاية والسياسة - هي البرهان الحي في أذهاننا جميعاً - أهلَ القرن العشرين، على أن مدنية هذا القرن، مدنية حيوانية الأصول والفروع، هي مدنية مفترسة متوحشة، لا تعترف بالحق ولا تعرف الحق، وليس إلا. . . الغذاءَ الغذاءَ. . . الصيدَ الصيدَ. . .: هذا نداؤها وهذا دينها وهذا إيمانها. ثم لا تكون مغبّة أعمالها إلا تمزيقاً وقضقضة وقضما، وتدميراً لبنيان الله الذي يسمى (الإنسان)
الحرية!!
إن هذا القرن العشرين أُسطورة مهَولة قد انحدَرت من القدم إلى هذا الزمن، في دمها كل الأساطير الحيوانية المرِجفة في تاريخ الإنسانية. إنه أسطورة عظيمة كاذبة مكذََّبة على الناس، وإن في مدنيته من الباطِل مِلئ علوِمها حقا. إنَّ الأجيالَ الإنسانية النبيلة لتصرخ من وراءِ أسوار التاريخ تريدُنا أن ننقذ أنفسنا من أوهام (القرن العشرين)، ومن خرافاته الجميلة المزينة بالعلم، المثيرة باللذة، المندلعة بألسنة من نيران الشهوات والأهواء، الصاخبة بعبادةِ الأوثان التي تجُولُ في أدمغةِ البشر حاملة ندها وبخورها ومجامرها وطيبها، وكل ما ينفذ عطره إلى أعمق الاحساسات يثيرها لتقديس البشرية المتجسدة بلذاتها وشهواتها
يجب - في هذا الزمن - أن نتحرر من أباطيل القرن العشرين وأباطيل القِدَم معاً، يجبُ ألا نعرف الحاضر بأنه هو الحاضرُ وكفى، ولا الماضي بأنه هو الماضي وحسْبُ، يجبُ إلا نَتعبَّد بشيءِ من كليْهما، يجبُ أن نأخذَ الحاضر والماضي بالعقل والعلم والفضيلة، وما لم يكن كذلك مما مضى ومما حضر فهو نَبذٌ يجب أن ننبُذَه ونتجافى عنه، يجب أن نتحرر،(354/43)
يجب أن نتحررَّ. . .
إننا الآن أمم تريدُ أن تسيرَ إلى غايتها في إبداعِ حِضارتها التي سترث جميع الحضارات التي سبقتها، والحضارة التي تأتي من التقليد ليستً حضارة، وإنما هي تزييفٌ وكذبٌ ووثنية جاهلية تنحدر إلى هذا الزمن عن السلالات التي قال الله فيها: (وإذا قيلَ لهم: اتّبعوا ما أنزلَ اللهُ، قالوا بل نتَّبعُ ما ألفيْنا عليه آباءِنا، أو لوْ كان آباؤهم لا يعقلونَ شيئاً ولا يهتدون؟!)
لن نبلغ شيئاً حتى تكون (الحرية والحب) نقيين طاهرين مَبَّرأين كاملين متواضعين، فهما القوة التي تسير بهما الحضارة إلى مجدها وروائعها. إذا عرفنا الحرية وجرتْ في دمائنا فيومئذ تتهدّم كل هذه الأباطيل التي تعوقنا وتقف بين أيدينا من قمامات الرذائل الإنسانية التي قُذفِتْ في طريقنا من أباطيلِ الماضي وترهات القرن العشرين!!
الفن الفرعوني
والأستاذ سلامه موسى قد بنى نقده على ما يسميه (العقائد المجزومة)، وعلى عقيدته في (القرن العشرين)!! ونحن - مع الأسف - لا نبني أبداً كلامنا على (العقائد المجزومة)، ولا على التعصب (للقرن العشرين)، ولو رجع الأستاذ إلى المقالين اللذين نشرناهما في الرسالة عدد 344 و345 عن محاضرة الدكتور طه، ولو رجع خاصة إلى حديثنا عن (الفن) ما هو، وكيف هو؟ وعن الفنان وعمله في فنَّه - لعرفَ أن دعوتنا كلها مبنيةٌ على تحرير أعمالنا من قيود الماضي والحاضر معاً على أساس من العقل والعلم والفضيلة، فلا يُزرِي عندنا بالقديم قِدمَه، ولا يُرغَّبنا في الجديد جدّته. وإن القول في (القديم والجديد) على إطلاق اللفظ، وجعله لفظاً تاريخيَّا زمنيَّا محصوراً باليوم والسنة، إنْ هو إلا تلذذ بالكلام كما يتمطق آكل العسل بعد أكله من تحلب الريق وشَهْوة الُحلْو، ولو كان في هذا العسل السم الناقع
إن حديثنا عن الفن الفرعوني، وأنه لا يصلح أن يكون شيئاً يستمد منه الفنان في زماننا، لا يمت بصلة إلى الرأي الذي ذهب إليه الأستاذ سلامة موسى في فهم كلامنا، لأننا نظرنا إلى شيء واحد، وهو تحرير الفن من التقليد، ثم معرفتنا أن الفنان لا يستوحي كما يقول الأستاذ سلامة من فنون غيره. بل إن الفنان عندنا هو القلب النابض الذي يفضي إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، والفن إن هو إلا نتيجة من نتائج الاجتماع(354/44)
الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، والعقائد التي تسيطر على الشعب وتملأ قلبه بالإيمان بها والفكر فيها، فإذا لم يكن الفن ناشئاً من ثَمّ، فاعلم أنه ليس بفن وإنما هو كذب مضرَّج بتحاسين قوس قزح، وما أسقط الفن الرفيع في زماننا وفي بلادنا إلا أنه نتاج العقول المزيفة بالتقليد، والخيال المدلس بالسرقة، وهذا الهمج الهامج من الفنانين والأدباء والشعراء والعلماء أيضاً ممن يعيشون بأدواتهم تحت جناح الليل الأسود وفي ستره، ثم يقبلون على الناس إذا أصبحوا فيقولون: أين كنتم؟ يقولون: كنا نستوحي، ثم يخدعون الناس بزيفهم وبهرجهم. لأنهم لا يعلمون من أين يأتي هؤلاء هذا الوحي. . . ولو علموا إنما وحيهم وحي اللص الذي يبدع له المال، وإنما هو دبيب واستخفاء وحرص، و (طفاشة) تهشم بها أقفال خزائن بعض الناس، يستخرجون كنوز غيرهم ليتنبّلوا بزينتها وجمالها
الحرية هي أصل الفن كما بينا، وكما هو ظاهر كلامنا، وأما الاستيحاء من فنون القدماء لإنتاج فن لا يتصل بمدنيتنا بسبب إلا القدم والوراثة وتاريخ هذه الأرض، فهو إبطال للفن ومعنى الفن وقيمة الفن، وإلا فما الذي فعله الأستاذ المثال القدير (مختار) إلا أن نقل صورة لا معنى لها في عقائد الشعب المصري الحاضر، هي صورة أبي الهول، وليس فيها معناه القديم الباسط ذراعيه في جوف رمال الصحراء هناك، ثم ماذا؟ ثم جعله مقعياً بعد أن كان باسطاً متطامناً، ثم ماذا؟ ثم ألصق إلى جانبه فتاة تضع يدها على رأسه. . . سبحان الله هذه نهضة مصر، وهذا هو فن القرن العشرين!!
إذا كان الأستاذ سلامه موسى أو غيره يريد أن يناقشنا في هذه الآراء، فليناقش على أساس واحد، هو أساس الفن، وما هو، ومن هو الفنان. أما (القرن العشرين)، وأنظمة مكافحة الأوبئة، والنظام الاقتصادي، والعلوم، وما إلى ذلك، فليس له مدخل أو سبب في الطبيعة الفنية، وتقدير الآثار الفنية، وهل يمكن أن تكون فناً إذا كانت تقليداً واستيحاء وتشاكلا ذكياً بارعاً؟
كل فن يأتي من التقليد واستيحاء فنون الناس، وكل فن يتولد من شهوة التقليد وبلادة العزيمة وعبودية الروح، فهو فن كالمولود السَّقط في آخر تسعة أشهر من حمله. . . فيه صورة الحي ولكن ليست فيه الحياة، فيه قوة المشابهة للحي ولكن ليست فيه قوة استمرار الحي على الحياة(354/45)
محمود محمد شاكر(354/46)
رسالة الفن
فوزية الجديدة:
أميرة الربيع
لها تاج الجمال والفرح والفن
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
بإذن الله. . .
لما زغرد البارود سلاماً لمقدمها كانت ساعة أصيل احمرت الشمس فيها خجلاً منها فبدأت تتوارى إذ أشرقت فوزية
ولكنها قبل أن تمضي انتفضت عن مفاتنها، فهي إذ تتباعد كانت تلوّح للعيون بمنديلها الذهبي توديعاً وتمويجاً لنسمات أصيل من أصائل الربيع كان أسعد أصائله لما حمله الغيب إلى الوجود فوزية
وغمزت الشمس بعينها للأطيار غمزة فإذا هي كلها تشدو أغنيات السعادة والفرح بفوزية
وغمزت الشمس لأزهار غمزة فزهت، وانتعشت ونفثت في الجو من عطرها طيباً، وبعثت من ألوانها حلية وزينة لعيون فوزية. . .
كانت ساعة مباركة على الكون، وعليّ. ومن كان له أن يفرح مثلما كان لي أنا أن أفرح، فها هو ذا شهر مولدي يعود وقد عفا الله عني، أجرى قلم الفاروق عفوه، فوهب له على الربيع فوزية بوركت وبورك مقدمها
كان الشعب يدعو الله - كما كنت أدعوه - أن تكون صبياً تقر به عينا الملك، ولكن حكمة الله شاءت أن توائم بين الوليد وزمن المولد. فهذا الربيع أجدر به أن ينفتح عن زهرة، وهذا الأصيل الجميل كان أجدر به أن ينثر عند مطلعها كل ما أدخره له اليوم من جمال وحسن وروعة
وهذا أقرب إلى طبيعة الصبية
عشت للجمال والفرح والفن يا أميرتي فوزية. . .
إذا تقدمت بك الأيام، وشببت عن الطوق، ورأيت. . . فإنه لن ينطبع في ذهنك إلا كل(354/47)
صورة من الجمال والحسن، ولن تستقر عيناك إلا على كل بهجة وزينة، فهذا هو أول ما عرضت عليك الحياة من ألوانها. . .
إذا مرت بك السنون وسمعت. . . فإنه لن يطرق أذنيك إلا نغم حلو لين سلس كهذا الغناء الذي أنشدته الأطيار يوم مقدمك
إذا جازت بك الأعوام. . . وامتلأت نفسك حسناً فأغدقي على الدنيا من حسن نفسك كما يغدق على الدنيا من حسن النفس الفنان. . .
هذه الأفراح التي تشيع في نفسك أشيعيها في الكون شعراً، وليكن شعرك إحساناً فأسمى الشعر الإحسان. وكم شاعر يتلهف إلى الإحسان، وكم تستطيعين يا أميرتي أنت من ضروب الإحسان. . .
كلمة التقدير الحق من الأميرة فيها الغناء، ومن أقدر على التقدير الحق من أميرة الربيع التي لما طلعت رأت الجمال الحق أول ما رأت، وسمعت الغناء الصدق أول ما سمعت، واستنشقت العطر الأصيل أول ما استنشقت، فهي تعرف الجمال الحق من الجمال الزائف، وهي تعرف الغناء الصدق من الغناء الملفق، وهي تعرف روائح الله من روائح المعمل وما تؤلفه اليدان
أميرة الربيع! يا أميرة العفو والرحمة يا أميرتي. . . هلا شببت اليوم، فأنت عروس ومصر في مهرجان، ودولة الفن غير الدولة القاعدة فيه الآن. . .
قرب اللهم هذه الأيام. . . إذ يرفعون إليك أسماء الذين اختاروهم ليحيو المهرجان. . . فتقولين لهم: لا. . . لا تمنعوا عني خاملاً لأنه خامل، ولا تجيئوني بالمعروف لأنه قد تحدث بذكره الركبان، وإنما أريد أن أستمع إلى فلان وفلان. . . فأنت يا أميرتي قد فتشت قبل ذلك في المكتبة، وقرأت ما يكتبه هذا وما يكتبه ذاك. . . فعرفت بما منحك الله من طبع الحسن موطن الحق عند هذا، ومخبأ الزور عند ذاك. . . وأنت يا أميرتي قد أصغيت قبل ذلك إلى كل ما يذاع من اللحن والغناء، فعرفت أي هذا الغناء صدر من القلب، وأيه كان ضرباً على خشب العود، فهو ليس إلا غناء الأخشاب. . .
رعاياك من أهل الفن يا أميرة الربيع مشوقون إلى يوم من أيام الإنصاف. . . الحياة ثقلت عليهم، والناس انشغلوا عنهم، ومالوا إلى حيث يخلبهم سحرة مهرة لا الصدق عندهم، ولا(354/48)
الحق ولا الجمال. . . وإن هي إلا (الشطارة) والإعلان. . .
سترين ذلك عندما تتقدم بك الأيام. . . وستكرهينه. . . وسيكون على يديك تحطيم الأوثان. . .
سيعلمك أبوك. . . فكم جدد هو أيضاً في ملكه، وكن وحد الله لم يعبأ بالنصب ولا الأصنام. . . فهو الملك الذي عصف بالجمود، والذي جرف ما أعقبته لنا الأيام من وجل وخوف فأمننا من الخوف، وأبقى علينا ثلث حقه عندنا مثلاً ضربه لأولى الألباب منا لو أنهم تبعوه لأطعمنا جميعاً من الجوع، كما آمننا جميعاً من الخوف. . .
والأيام مقبلة. . . وستفرغ مصر من الحرب حين تفرغ منها الأمم، وسيرى عندئذ أولو الألباب وغيرهم أنه لا مفر من انتهاج الطريق الذي شقه أبوك المبارك وليد الشتاء. . . ومن للملك كوليد الشتاء له السيطرة على تدفقه ونشاطه كما أن لك السيطرة على الحسن والجمال. . .
يا أميرة الربيع. . .
كم يسعد عروبتنا أن يكون لك فن، ولماذا لا يكون لك فن وقد كان نبينا يستمع إلى الخنساء. . . فليكن في النبي شعرك، أو فاكتبي فيه نثرك، وخذي من أبيك حب الإسلام انظميه درراً، فقليلاً ما يفكر أهل الفن عندنا في الإسلام، وكثيراً ما يحسبه بعضهم تنظيما لعلاقة من في الأرض بمن في السماء فإذا نظروا إلى السماء تساءلوا. . . ما الذي في السماء؟
فدليهم أنت على الذي في السماء. . . قولي لهم: هو الذي سماه المسيح المحبة، والذي سماه القرآن السلام. ثم انشري بإيمانك وسلطانك بين الناس آيات المحبة وألوية السلام، وما أشد حاجتنا في مصر إلى أن ترفرف علينا وتظلنا، فليس ينقص وطننا إلا المحبة والسلام يشيعان فيه فإذا هو جنة الأرض، وموطن الرغد والأمان. . .
أعيدي على مسامع هؤلاء الخلق في مصر وفي غيرها تلك الأناشيد التي استقبلتك بها الدنيا يوم مولدك؛ وقولي للناس هؤلاء الذين يتخبطون خبلاً في هذه الأيام بماذا كانت تسبح العصافير للَّه: أطعمها، وسقاها، وأجرى لها الدفء ورعاها، وطيب لها الصبح وضحاها، وليلها إذ غشاها، فما حقد منها عصفور على عصفور، وما طغى منها واحد على أخيه. . .(354/49)
وإنما كن يخفن النسر والصقر والعقاب، فلما سترهن الله بليله بتن وهن يقلن: حمداً لله الذي في الأرض وفي السماء. . . ألف حمد وألف شكر لله. . .
والنسر والصقر والعقاب، كلها أيضاً سبح لله. . . إن انقض واحدها على فريسة فهو أصدق الطلب، طلب القوة الجائعة، يأخذ من أصدق العطاء عطاء الضعف والفناء.
فعلمينا يا أميرة الربيع كيف نكون مع الحب والرحمة أقوياء. تسمعي إلى السماء، وقصي علينا ما سمعت من السماء. . .
هاتي الذي سمعت يا رحمة الله. . .
اللهم قرب هذه الأيام. . .
لست أطمع أن تقرئي اليوم هذا الذي أكتبه، فدونك ودون القراءة لم تزل أعوام، ولكني أسأل الله أن يقع هذا الذي أكتبه بين يديك في يوم قريب من الأيام، فلست أدري لماذا أشعر بأن تنبؤي لك فيه شيء من الإلهام. . .
لعلها الفرحة التي زفها الله إليّ على مقدمك، ولعله خيال صورته لنفسي عن زهرات الربيع ونسماته وملائكته الذين يبعثهم الله إلى الأرض هدى ورحمة، ولعله الرجاء في أن الله قد رضي عن الفن وأهله فهيأ لهم راعية وقديسة. . .
لعله هذا، ولعله حق لمسته عن غير قصد ولا تدبير. . . فإذا كان هذا أو كان ذاك فلست أطلب من الله أكثر من أن يحقق هذا الخيال. . . أو هذا الرجاء. . .
عشت. . . وعاش أبوك برَّا بك ورؤوفاً بالناس. . .
عزيز أحمد فهمي(354/50)
رسالة العلم
الحرب والرياضيات
للأستاذ قدري حافظ طوقان
تتقدم فروع المعرفة ويتناولها التغيير والتبديل، وكلما اقتربت من الأرقام زادت دقة ونحَتْ نحو الكمال. قال أحد الفلاسفة: (يكون العلم دقيقاً إذا استعمل العلوم الرياضية في بحوثه. . .) ولم يستطع العلماء أن يستفيدوا من فروع الطبيعة أو الهندسة ولا أن يتفننوا في صنع السابحات في السماء، والعائمات على الماء، ولا أن يغوصوا إلى أعماق البحار، ولا أن يطوّقوا القارات بالأسلاك الكهربائية، وأن يملئوا الجو بعجيج الأمواج اللاسلكية، وقد حملت على أجنحتها الأنباء والأخبار والصور - أقول لم يستطع العلماء أن يسيطروا على الطبيعة هذه السيطرة القوية إلا بفضل الرياضيات.
قد يكشف العالم بعض النواميس الطبيعية، ولكن لا يستطيع أن يتوسع فيها، ولا أن يخضعها لتقوم بأعمال المدنية الحديثة المعقدة إلا إذا استعان بالرياضيات.
فلقد أحدث اكتشاف (فراداي لإحداث التيار في لفة السلك حين أمرارها في حقل ممغطس أثراً بعيداً عظيم الخطر في الصناعة. . . هذا الاكتشاف قد يبدو بسيطاً ولكن أليس من العجيب المدهش أن كل الصناعات الكهربائية بنيت عليه؟ والأعجب أنه لم يكن في الإمكان جعل هذه الصناعة بمحركاتها ومولداتها في حيز الإمكان إلا حينما دخلت الأرقام والمعادلات قوانين (فراداي) بعد توسيع نطاقها.
ولقد تنبأ (فراداي) أيضاً بأنه لا بد أن يأتي يوم يثبت فيه أن هناك صلة بين الضوء والاهتزازات الكهربائية المغناطيسية في الأثير، ثم جاء كلارك ماكسويل العالم الرياضي الشهير، وبعد درس وتحليل خرج بمعادلات رياضية أثبت منها أن في الفضاء اضطرابات كهربائية مغناطيسية تتصف بصفات الضوء، أي أن الاضطرابات الناشئة من شرارة كهربائية تبدو في مظهر أمواج في الأثير لا نراها، ولكنها كالأمواج التي تُحدث الضوء والحرارة والطاقة الكيميائية تسير جميعها بسرعة الضوء التي هي (186000) ميل في الثانية. وجاء بعد (ماكسويل) غيره من العلماء وجروا على القواعد التي وضعها فأحدثوا هذه الأمواج وأرسلوها في الفضاء مسافة ثم التقطوها، وبذلك صار تحقيق التلغراف(354/51)
اللاسلكي محتملاً، وقد تنبأ به السير وليم كروكس ثم حققه لودج على مسافات قصيرة، ثم تلاه علماء آخرون فأتقنوه وتوسعوا في صنعه؛ فإذا المخاطبات اللاسلكية على أنواعها منتشرة ومتغلغلة في العمران
لم يكن في الإمكان أن يسخر العلماء بحوث الضوء لخير الإنسان إلا بعد أن أفرغوا قوانين الانكسار في قالب رياضي، وبذلك استطاعوا أن يستعينوا بالمعادلات والأرقام في العدسات لإصلاح عيوب العين وتكبير الصور وعمل التلسكوب والسبكترسكوب والميكرسكوب على اختلافها
إن الصناعة الحربية قائمة على الرياضيات، فالأسلحة على تعددها وتنوعها تعتمد في صنعها على الكهرباء والمولدات والمحركات وآلات ميكانيكية أخرى معقدة وعلى دقة لا تأنى إلا عن طريق المعادلة. فصناعة الغواصات والطائرات قائمة على مبادئ ميكانيكية وكهربائية وطبيعية تدعمها قوانين رياضية لولاها لما كان في إمكان الأولى أن تغوص إلى الأعماق ولا الثانية أن تجوب رحاب الفضاء
لقد برع المهندسون في صنع الآلات المقاومة لبعض أدوات القتال، فلقد (تفننوا) مثلاً في صناعة كاشفات الأصوات (الهيدروفين) الذي جعل الغواصات بواسطته أقل خطراً وخفاء من ذي قبل. ويمكن القول إنهم استطاعوا أن يتخلصوا من خطرها إلى حد كبير، ولا سيما بعد أن أدخل بعض علماء الإنكليز تحسينات على هذا الجهاز تمكنوا بها من تحديد مكان الغواصة بالضبط. وفوق ذلك فقد جهزوا الطائرات المائية بآلات دقيقة تستطيع أن تكشف مسافات من أعماق البحار. وتقوم جميع هذه الآلات وغيرها على حسابات دقيقة أساسها الجداول والمعادلات الرياضية
وكذلك هناك أجهزة دقيقة قائمة على مسائل عويصة معقدة من شأنها إصابة الطائرة بإحكام. وتقوم هذه الأجهزة بعمليات حساب مدى ارتفاع الطائرة عن الأرض وحساب سرعتها التي تسير بها، كما أنها تحدد النقطة التي تصل إليها الطائرة في اللحظة التي تصل فيها قذيفة المدفع. ومن الغريب أن هذه العمليات لا تستغرق أكثر من نصف دقيقة، وفي هذه المدة لا تستطيع الطائرة تغيير اتجاهها، ويمكن عندئذ وعلى ضوء هذه الحسابات إطلاق القنابل إلى المكان الذي تلتقي فيه بالطائرة أو مكان قريب جداً من الطائرة تنفجر فيه وبذلك(354/52)
تصاب الطائرة بالقنبلة أو برشاشها لقد تقدمت صناعة الطائرات على اختلافها من مطاردات وقاذفات ومهاجمة تقدماً سريعاً، وتفنن مهندسو الدول في صنعها وثبت أن المصانع البريطانية امتازت على غيرها في إنتاج طائرات من نوع المطاردات، وتحقق لدى خبراء الطيران العسكري أن خير المطاردات، هي المطاردات المعروفة باسم (قاذفات اللهب). وسرعة هذه المطاردات تزيد على 362 ميلاً في الساعة وتستطيع أن ترتفع من أرض المطار إلى علو (11) إلف قدم في أقل من خمس دقائق، ومداها (600) ميل، وهي مجهزة بثمانية مدافع رشاشة، بينما المطاردات الألمانية لا تزيد سرعتها على (350) ميلاً في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بأربعة مدافع رشاشة. أما المطاردات الفرنسية، فسرعتها (305) أميال في الساعة، ومداها (600) ميل، ومجهزة بمدفعين رشاشين ومدفعين آخرين قطر كل منهما (120) مليمتراً
أما طائرات الهجوم أو قاذفات القنابل، فعلى نوعين: المتوسطة والضخمة: فقاذفات القنابل المتوسطة البريطانية لها سرعة (315) ميلاً في الساعة، ومداها (1900) ميل، وحملها من القنابل (2000) رطل إنكليزي يقابلها في السلاح الجوي الألماني (280) ميلاً للسرعة و (1400) ميل للمدى و (1900) رطل للعمل، وفي الفرنسي (300) ميل للسرعة و (1290) ميلاً للمدى و (3300) للحمل
وأما القاذفات الضخمة، فأقصى سرعتها (220) ميلاً للإنكليزية، ومداها (1315) ميلاً، وحملها (400) رطل يقابلها في الألمانية (205) أميال للسرعة و (995) ميلاً للمدى و (8100) رطل للحمل، وفي الفرنسية (200) ميل للسرعة و (750) ميلاً للمدى و (9300) رطل للحمل
وعلى ذكر القاذفات الضخمة نقول: إن أحدث ما أخرجته المصانع الأميركية طائرات تعرف باسم القلعة الطائرة تفوق مثيلاتها في البلاد الأخرى في السرعة والمدى، فسرعتها (260) ميلاً (يقابلها 220 ميلاً في الإنكليزية و (200) ميل في الفرنسية و (205) أميال في الألمانية) ومداها (2000) ميل. ولقد أخرجت المصانع البريطانية طائرة ضخمة جديدة تفوق (القلعة الطائرة) بلغت سرعتها (267) ميلاً في الساعة وحملها (4600) رطل ومداها (3600) ميل، وهذه الناحية - ناحية المدى - محل دهشة مهندسي الأمم وإعجابهم(354/53)
وهناك اختراعات واكتشافات لم يتوسع نطاق استعمالها واستغلالها لمنافع الإنسان إلا على أساس التجربة والمعادلة الرياضية
ويمكن القول إن علمي الفيزياء والفلك بفروعهما المتنوعة قد وصلا إلى درجة كبيرة من الدقة والكمال بفضل الأرقام والمعادلات. جرّدْ هذين العلمين من رياضياتهما بل جرد الكيمياء الحديثة من معادلاتها وقوانينها فلا يبقى إلا تعاريف ومبادئ أولية لا يمكنك ولا بحال الاستفادة منها أو تطبيقها فيما يعود على البشرية بالنفع والخير. ولن يستطيع العالم مهما كان قوي العقل خصب الفكر أن يقف على أسرار الطبيعة والكون، بل لن يستطيع الغوص ليقف على كنوزهما وعجائبهما إلا إذا ألمّ بالرياضيات وكانت عنده خبرة بها. وإن الكيمياء الحديثة لفي حاجة إلى الرياضيات حاجتها إلى التجربة والاختبار، وناهيك بالكيمياء فهي الأساس الذي شيد عليه صرح الصناعة في هذا العصر، وقد ازدهرت ازدهارها العجيب. إن هذا العصر لهو عصر الهندسة والآلة. وكل هذه في حاجة إلى الرياضيات، ولا يمكن الاستفادة منهما أو تطبيقهما على مقتضيات العمران إلا بذلك، ويمكن القول: (إن مدنيتنا التي ترتكز على الاستفادة من الطبيعة والسيطرة على عناصرها مبنية على أسس العلوم الرياضية) وقد أثبت العالم الأمريكي الشهير (ملكن أنه (إذا أزلنا من العمران الحالي أحد القوانين الرياضية التي ابتدعها وحققها نيوتن لوجب أن نزيل كل آلة تجارية وكل محرك ومولد كهربائي بل كل آلة تستعمل لتحويل القوة إلى حركة لأنها كلها بنيت على هذا القانون الرياضي الشامل. ولسنا بحاجة إلى القول إن نيوتن لم يقصد من قانونه استنباط آلة تجارية أو سيارة أو طائرة. ولكن أليس من المدهش حقاً أن هذه المخترعات وغيرها بنيت على قانونه وأننا إذا أزلناه تهدم عمراننا كأنه بيت من ورق). فالهندسة بأنواعها والملاحة والصناعات المختلفة أكل هذه تحتاج إلى الرياضيات، ولا يمكنها أن تزدهر وتثمر بدونها، بل إن أسس إنشائها وتقدمها قامت على الأرقام والمعادلات. وما يقال عن هذه يقال عن علوم أخرى إلى حد ما، فإن هذه كلما تقدمت وكلما استطاعت أن تدخل الأرقام والمعادلات في بحوثها أصبحت دقيقة واقتربت من الكمال. فالعلوم على اختلافها وتعددها إذا اقتربت من الكمال فإنها لا بد محلقة في سماء الرياضيات وفي جواء من المعادلات والأرقام(354/54)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(354/55)
القصص
الدرس الأول
للأستاذ محمد سعيد العريان
(هل كانات (قدرية) في أوّليَّتها تتوقع هذه الغايةِ التي انتهى إليها أمرُها)
هكذا سألني صديقي وهو يحدثني حديثها:
كانت تجلس في الصف الأخير من حجرة الدراسة، فقد كانت أطول قامة وأبعد نظراً؛ فما يشق عليها ولا يعنيها أن تجلس في الصف الأول أو في الصف الأخير؛ على أنها كانت أسبقَ التلميذات جواباً عند الاختبار، وأكثرهن عناية بالعمل المدرسي؛ فلا جَرمَ كانت بذلك أدنى منزلة إلى قلوب معلميها ومعلماتها. وكانت على إرثٍ من الأدب والفضيلة، يبدو في طرْف غضيض، وصوت خفيض، ولسان عَذْب التحية عف الخصام؛ وكانت إلى كل ذلك مليحة رشيقة، مقبلة ومُدْبرة!. . . وإني لأعجب لنفسي كيف لم أتبيَّن ما فيها من رشاقة وخفة إلا في تلك الليلة التي كانت. . . حين بدأت حوادث هذه القصة؟. . . على أن المعلم في مدارس البنات، قلّما يُعنى بالنظر إلى وجوه تلميذاته، ولعله لو سئُل الرأيَ في تفضيل واحدة على واحدة من بناته في هذا الباب، لأخطأ الرأي والنظر، ولكانت أَدَمَّ الدميمات هي عنده الجميلة التي لا تباريها واحدة ولا تقاربها؛ فإن طول العشرة ودوام المخالطة خليقٌ بأن يلوِّن رأيه بلون غير اللون الذي ينظر به كل رجل إلى كل امرأة؛ ومن ذلك لم يهجس في نفسي يوماً أن فلانة من تلميذاتي أجملُ أو أَدَمُّ من فلانة؛ وكذلك لم أكتشف ما كان في (قدرية) من جمال وفتنة إلا في تلك الليلة وإنها لتلميذتي منذ ثلاث سنين!
كان ذلك في يوم من أيام الربيع، وقد تبرَّجتْ الدنيا بزينتها وأخذتْ زخرفَها ونَضَت الكائناتُ عن سرَّ الإبداع العبقري الذي أودعه فيها الصانع الأعظمّ!
وكان العام الدراسي في أخرياته، وقد فرغ المعلَّمون أو كادوا مما عليهم من فرائض العلم، وتأهب التلميذات لواجبهن استعداداً ليوم قريب. . .
ورأت المدرسةُ أن تجري على تقاليدها احتفالاً بانتهاء عام؛ على أنها رأتْ أن يكون في حفلتها هذه السنةَ شيءٌ جديد، محاكاة لمدارس أخرى، ومساهمة في بعض أعمال البر؛ فاعتزمت أن يكون احتفالها في مسرح كبير مشهور، يُدعْى إليه طائفةٌ من أهل البذْل(354/56)
والمعروف، لتستعين المدرسة بما تجمع منهم على البر بطائفة من الفقراء. . .
هي سنَّة جديدة سنها بعض القائمين على شئون التعليم فَجَرَت قاعدة؛ فِلَم نتخلَّف نحن وقد سبقتْ إلى هذه السنة الجديدة مدارس؟
وأعدّت المدرسة برنامجاً حافلاً، فيه تمثيل، ورقص، وموسيقى؛ وما بّدٌ أن تجتمع هذه الألوانُ الثلاثة في كل حفلٍ مدرسي يراد منه أن يغل إيراداً يعين على بعض أعمال البر. . . وإلا فماذا تقدَّم المدرسة من وسائل التسلية ثمناً لما تطلب من أهل البذل والمعروف!
وقالت معلَّمةٌ لأخرى: ينبغي أن تكون حفلتنا. . .
فقاطعتها الثانية: نعم، وستكون أفخمَ ما أُقيم من حفلات المدارس في هذا الموسم. . .!
واختيرت الرواية، واستؤجِر المسرح الكبير، ودُعي فنانٌ كبير من أهل الكفاية. . . ليدرَّب التلميذات على اصطناع شخصيات الرواية، كل واحدة بدورها، راقصة أو ممثلة!
وطاف المدَّرب بالتلميذات في صفوفهن يختار منهن ذواتِ الوجوه والأجسام. . . الفنية!
واختار (قدرية) لدور ذي خطر. . .
وتأبَّت الفتاةُ بما في طبيعتها من الحياء وما في دمها من إرث أجدادها؛ وعجب البناتُ أن تأبى قدريةُ وإن كل واحدة منهن لتتمنى؛ واستمعت قدرية إلى أحاديث البنات صامتة، ثم. . . ثم قبلت فخوراً مزهوة، وغلبتها غريزة الأنثى الغيور على ما في دمها من إرث الآباء والأجداد!
ووقف المَدرَّب يلقَّنها ويستمع إليها، ووقفت هي مصغية تستمع إليه وتحاكيه، تجهر بصوتها حيناً وحيناً تخافت به؛ وعرفت من مخارج الصوت ما لم تكن تعرف، ولانت أعطافها بعد خشونة ويبس، وأحسنتْ أن تدورَ على عقبها، ثم تنثني وتنهض، وأجادت تمثيل اللفتة المتكبرة، والنظرة ألعابرة، والرَّنوة الآسرة ثم تبكي وتضحك في وقت معاً. . . . . .
وقال المدرب الفنان: يا لها من فتاة! إنها لفنانة موهوبة!
وأطبقت الفتاة جفنيها في حياء وهي تشكر له، فبدت في كلمتها وحركتها أبرع فناً مما ظن مدربهُا. . .!
ولم يُمانع أبوها وأمها أن تكون ابنتهما راقصة ممثلة ساعة في ليلة من ليالي البر؛ وأين(354/57)
يبدو لهما وجه الاعتراض والمدرسة هي التي اختارتها لذاك؛ وإن المدرسة لأعرف منهما بما ينبغي وما لا ينبغي؛ وإن عليها وحدها أن تختار لتلميذاتها من وسائل الرياضة والتثقيف ما يؤهلهن للحياة. . .!
وجاءت الليلة الموعودة بعد تدريب طويل وإعداد شاق. . . وكان على أبواب المسرح الكبير معلمون ومعلمات لاستقبال المدعوَّين، وغص البهو والشرفات بالآباء والأمهات، والأصدقاء والصديقات، و. . . والمربين والمربيات. . .
وراحت طائفة من التلميذات تجوس خلال الصفوف في ثياب بديعة ومظهر فاته، يبعن الزهر والحلوى مما صنعت أيديهن من قبلُ استعداداً لهذا اليوم ومساهمة في أعمال البر. . .
. . . وكانت (قدرية) خلف الستارة بين أيدي المواشط يهيئنها للظهور، وأمامها مرآة كبيرة تريها من نفسها ما لم تكن ترى أو تعرف، وابتسمتْ ابتسامة الإعجاب والرضا حين رأتْ وعرفت. . .!
وخرجتْ إلى المسرح مجلوة ملونة كما لم تبد في يوم من أيامها، وانسكبت عليها الأشعة من أربع جوانب المسرح تشبُّ لونها وتزيدها ملاحة وفتنة، ووقفت متأهبَّة. . .
ورن الجرس، ثم ارتفعت الستارة، وضج المسرح بالتصفيق فانحنت في رشاقة وخفة وهي تكشف عن ساق ممتلئة مصقولة كأنما يجري فيها شعاع الشمس، ونثرت ابتساماتها يمنة ويسرة ترد تحية بتحية. . .
ولم يكفّ التصفيق حتى ارتفع صوتها يغني. . . واستدار بها البنات يرقصن ويغنين. . .
وغنّتْ ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمَّرتْ ثم زلّت، واستعطفتْ ثم دلَّتْ، ووعدتْ ثم تأبَّتْ، ومنعتْ ثم نوَّلت، وقالت عيناها. . . وقالت عيونُ الناس. . .
وكأني لم أر قدرية قبل تلك الليلة؛. . . لقد بدا لي من جمالها وخفتها ما لم يكن لي به عهد من قبل؛ أهذه هي. . .؟
ولما أسدِلت الستارة في الخاتمة، كان تحت قدميها أكداس من الزهر؛ وفي أذنيها أنغام من هتاف الإعجاب؛ ولكن قلبها كان أحفلَ بمعانيه. . .!
وحين لقيها أبوها بعد، كانت في عينيه دموع، وطبع على جبينها قبلة. . . وأقّلتهْا السيارة(354/58)
بين أمها وأبيها إلى البيت وهي صامتة، لأن معاني ذات خطرِ كانت تُطيف برأسها. . .
ونامت تلك الليلة بين هتاف وتصفيق وأكداس من الزهر: لقد كانت عيناها مغمضتين ولكن قلبها يقظان؛ وتمثل لها في أحلامها كلُّ ما رأت وسمعَت وشعرتْ، وراحت أحلامها تنسج لها أمانيها. . . وتلقَّت الدرسَ الأول في تلك الليلة، فنسيت به كل ما تعلمت من دروس!
لقد ذاقتْ قدريةُ من اللذة الفنية ليلتئذِ ما لم تذق طوال سنيها التي عاشت، فشاقها أن تستزيد. . .
ولما عادت إلى المدرسة بعد يومين، وسمعتْ ثناءَ معلَّميها ومعلماتها، أجدَّ لها ما سمعتْ معاني أحست في أعماقها صداها ووجدت فيها غذاءَ لأمانيها. . .
. . . وتناولت (المجلةَ) التي تعودتْ أن تقرأها في كل أسبوع، فراحت تعبر صفحاتها معُجلة حتى انتهت إلى صفحة (الفن) فتلبثتْ، وأخذت تنظر إلى صور الراقصات ونجوم المسرح معجبة متمنية. . . وفي أذنها صدًى بعيد من هتاف النظَّارة وتصفيق المتفرجين. . .!
ولما حان عيد مولدها وأرادت أن تتصوَّر - على عادتها في كل سنة - لم يحلُ لها إلا وضعٌ واحد تبدو فيه صورتهُا، فلبستْ ثوبها الذي كانت ترتديه ليلتئذ ووقفت بعضَ مواقفها واستحضرتْ صورةَ ما كان. . . فانطبعت في الورقة صورةٌ من مشاهد ذلك الماضي، وتمثلتْ في نظرة عينيها تمامُ صورته!
ووقفتْ ذات مساء على باب مسرح كبير من مسارح اللهو تجيل عينيها في إطار كبير يضم شتيتاً من صور الراقصات وربات الفن، وطالت وقفتها؛ ثم انصرفت؛ وفي الليلة التالية كانت جالسة في الصف الأول من بهو المسرح تشهد التمثيل وحدها، ليس معها أحد من ذويها؛ واستطاعت في ختام الليلة أن يكون لها رأي فيما شهدت من ألوان الفن وفي عيوب الممثلين وغلط الراقصات. . .!
وفي الصباح كانت جالسة إلى بعض زميلاتها في حوش المدرسة تحدثهن حديثاً طويلاً عن عيوب الفن المصري في الرقص والتمثيل والغناء، وتشخّص العلة وتصف الدواء؛ وأمَّن صديقاتها على ما قالت؛ فما تشك واحدة منهن في أن من حق قدرية أن يكون لها رأي في الرقص والتمثيل والغناء؛ وإنهن ليسمعن من حديثها كل يوم ما يشهد بكفايتها وسعة معارفها(354/59)
في تلك الفنون. . .!
وتلقت قدرية بعد الدرس الأول دروساً كثيرة، في المسرح والسيما، والصحف، والكتب؛ وما نسيت مع كل أولئك شيئاً مما رأت في تلك الليلة التي كانت. . . لقد استقرت في أعماقها أصداء الهتاف والتصفيق الذي سمعت ليلتئذ. . . ورنين كلمات الإعجاب والرضا التي وعتْها أذناها، وصورتها بين الأشعة الملونة تنسكب عليها من جوانب المسرح وتحت قدميها أكداس الزهر. . . وبقي كل أولئك في نفسها مشهداً حياً كأنها ما تزال بين أشعته وألوانه، فإنها لتجد لتذكُّره لذة فنية تحبب إليها حياتها وتجدد لها في كل يوم أمانيها. . .
وانتهى عهدي بقدرية وانتهى عهدها بي؛ فقد أتمت دروسها بالمدرسة ومضت لشأنها؛ وتصرمت سنون. . . ونسيت أمرها وما كان. . .
. . . وفي ليلة من ليالي الصيف الماضي، دعوت أهلي إلى سهرة في بعض ملاهي الإسكندرية؛ قصدَ التسلية والرياضة. ووقفتُ بباب الملهى العائم بين الأمواج المصطخبة، أقرأ البرنامج المنشور على الباب وأشاهد الصور؛ ورأيت صورة، فهجس في نفسي هاجس لم يلبث أن تلاشى. . .
ودخلنا، واتخذنا مقاعدنا على مقربة من المسرح. . . ومضت لحظات، ثم رن الجرس ورفعت الستارة؛ وتتابعت المشاهد فنوناً توقظ الفكر وتجلو صدأ النفس وتُسري عن الهموم؛ وفجأة برز أمامي مشهد رائع. . . يا لله. . .! من كان يظن. . .؟ هذه تلميذتي قدرية!
وبدت لي في مثل هيئتها التي رأيتُ أول مرة على المسرح الكبير في القاهرة منذ سنوات. . .
ثوب منفوش، كأنما اجتمعت أجزاؤه من أوراق الزهر، يكشف عن ساق ممتلئة مصقولة، كأنما يجري فيها شعاع الشمس، وانحنت في رشاقة وخفة، وهي تنثر ابتساماتها يمنة ويسرة، ترد تحية بتحية، والمسرح يضج بالتصفيق والهتاف باسمها الجديد الذي سمعتُه لأول مرة في تلك الليلة. . .
وغنت ورقصت، وضحكت وبكت، وتأمرت ثم ذلت، واستعطفت ثم دلت، ووعدت ثم تأبت، ومنعت ثم نولت. . .
وقالت عيناها. . . وقالت عيون الناس. . . وقالت لي نفسي. . .(354/60)
وانتثرت أكداس الزهر على قدميها، وأسدلت الستارة. . .!
ليت شعري، هل كانت قدرية في أوّليتها تتوقع هذه الغاية التي انتهى إليها أمرُها؟
وهل كانت خواطرها تخيَّل لها هذا المصير الذي بلغته، يوم كانت تجلس مجلسها من الصف الأخير في حجرة الدراسة؟
وهل. . . وهل عَرف من عَرفَ: كم بين الدرس الأول والدرس الأخير. . . وأين ما بدأ مما انتهى. . .؟
وانفض السامر، وتهيأ أهلي للانصراف وما زلت في مجلسي أفكر، ثم نهضت؛ فإني لألتمس طريقي في الزحام على الباب إذ حانت مني التفاتة فرأيت؛ فتنحيت عن طريقي، وقلت للتي بجانبي: تفضلي! وكانت سيدة ورجلها وبينهما طفل؛ أما السيدة فأعرفها؛ فما تخفى علىَّ ملامح تلميذة من تلميذاتي مهما باعد بيِننا الزمان؛ وأما الرجل فزوجها؛ هكذا يعرف كل من يراه ويراها؛ وأما الطفل. . .
. . . هذه فتاة أخرى من تلميذاتي تبرز لعينيَّ فجأة بعد غياب سنين. . . هذه واحدة و (تلك) واحدة. . .
ليت (تلك) التي توارت خلف الستارة منذ قريب قد رأت ما رأيتُ لعلها تعلم ماذا باعت وما اشترتْ!
وشيعتُ (الأسرة السعيدة) بعينيّ ثم ارتد نظري إلى الوراء لأشيَّع الأخرى. . .
وكأنما اجتمعت لي هاتان الصورتان في زمان ومكان ليشغلني أمرهما من بعدُ ما يشغلني، فلا أزال أسأل نفسي كلما حضرتْني الذكرى: أيهما خير. . .؟
محمد سعيد العريان(354/61)
من هنا ومن وهناك
الجندي المجهول
(عن مجلة العصبة البرازيلية)
كم بين ملايين الجنود الذين التهمتهم الحرب العالمية الماضية من اختفت آثارهم فلا صليب يدل على رفاتهم ولا دمعة تذرف على تربتهم. أولئك هم الجنود المجهولون الذين تركوا أهلهم وأحباءهم وبذلوا دماءَهم من أجل أوطانهم فإذا هم بعد حين شيءٌ ضائع فلا ذووهم يعرفون مثواهم ولا وطنهم يعلم مصيرهم
على أن ذلك الجندي المجهول الذي فرض عليه الواجب الوطني التضحية فقضى غير مذكور قد لقي بعد موته تكريماً لتضحيته لم ينله الأبطال واحتراماً لذكراه لم يظفر به الشهداء. رفعت له الأنصاب التذكارية الضخمة، وأقيمت له الأضرحة الرمزية البديعة فأصبحت مزاراً رسمياً يتوارد إليه الناس ليذكروا البطل المنسي ويؤمهُ الملوك وأصحاب الشأن ليمجدوا التضحية
ومن هو الجندي المجهول؟
(هو ابن كل الأمهات اللواتي فقدنَ أبناءهن ولا يعرفنَ مثواهم)
هذا هو تعريف (الجندي المجهول) الذي اصطلحوا عليه بعد الحرب. أما الفكرة فمبعثها فرنسا، وهي اليوم أنصابٌ وأضرحة ترمز إلى التضحية الصامتة وتمثل الشرف الوطني
في سنة 1920 أصدرت حكومة الوزير جورج ليغ القرار التالي:
مادة أولى - يتناول شرف (البانثيون) رفات أحد الجنود المجهولي الهوية الذين ماتوا في ساحة الشرف في خلال 1914 - 1918
مادة ثانية - يُدفن رفات (الجندي المجهول) تحت قوس النصر
وتم تنفيذ ذلك القرار باحتفال رائع حضرته هيأة الحكومة وقواد الحرب وقد كتب على الضريح العبارة التالية:
(هنا يرقد جندي فرنسي مات من أجل الوطن 1914 - 1918)
واقتفت الدول الأخرى التي اشتركت في تلك الحرب أثر فرنسا، ففي بلجيكا ضريحان أحدهما للجندي المجهول الفرنسي والآخر للجندي المجهول البلجيكي وكتب على الأول:(354/62)
(هذا الضريح يضم رفات جندي فرنسي صرع في بلجيكا (ناحية إِيبر) في غضون 1914 - 1918 على عهد الملك ألبر. إكرام بلجيكا للجندي الفرنسي المجيد)
وكتب على الآخر:
(هنا يرقد جندي مجهول بذل حياته في سبيل الوطن 1914 - 1918)
وفي قصر وستنمستر بلندن الذي يضم رفات ملوك إنكلترا وعظماء رجالها تقرأ على قبر الجندي المجهول الكتابة التالية:
(تحت هذا الحجر يرقد رفات جندي إنكليزي مجهول الاسم والرتبةُ جلب من فرنسا ودفن هنا بين رفات أعاظم رجال الوطن يوم تذكار الهدنة في 11 نوفمبر 1920 باحتفال وطني كبير حضره جلالة الملك جورج الخامس ووزراء الدولة وقائد حربيها. بهذا يُذكر الرجال الذين بذلوا في خلال الحرب الكبرى 1914 - 1918 كل ما يستطيع امرؤ أن يبذله: الحياة نفسها من أجل الله والملك والوطن والأهل والمنزل والإمبراطورية، وأخيراً من أجل قضية العدل المقدَّسة، وحرية العالم).
وفي مقبرة كرنستون بالولايات المتحدة كُتب على ضريح الجندي المجهول ما يلي:
(هنا يرقد بشرف ومجد جنديٌ اميركاني لا يعرفه غير الله)
وفي إيطاليا بُني ضريح الجندي المجهول إلى جانب نصب رومه، وهذا ما كتب عليه:
(جندي مجهول) - سليل شعب باسل ومدنية ألفيّة، ثبت بلا وجل في الخنادق، وبرهن على بطولة في أدمى المعارك، ووهب حياته ولا أمل له إلا النصر من أجل عظمة وطنه - 24 أيار 1915 - 3 نوفمبر 1918)
وفي فارسوفيا عاصمة بولونيا يحمل قبر الجندي المجهول العبارة التالية:
(هنا يرقد الجندي البولوني الذي مات من أجل الوطن)
وفي البرتغال كتب الكلام التالي:
(من البورتغال الخالدة بحراً وبراً إلى جنديها المجهول الذي مات من أجل الوطن في الحرب الكبرى 1914 - 1918)
وفي جنينة كارول برومانيا أُقيم قبر الجندي المجهول، وكتب عليه:
(هنا يرقد الجندي المجهول، الذي ضحى بنفسه في سبيل الوحدة الرومانية. إن رفاته(354/63)
مدفون في أرض رومانيا الكبيرة 1916 - 1919)
وفي يوغوسلافيا على جبل أولفالا الذي يبعد نحو ستة عشر كيلومتر عن العاصمة بلغراد، أقيم القبر الذي يضم رماد الجندي المجهول وكتب عليه:
(إلى الجندي المجهول الذي لم يعرف رسمياً)
وفي مستشفى براغا مصلّى تاريخي قديم أقام فيه التشاك قبر جنديهم المجهول الذي مات في معركة زبوروف، حيث انتصرت شرذمة تشاكية على الروس وأسرت منهم ألف جندي
بماذا تستهوي المرأة الرجل؟
للشعب الأمريكاني ولعٌ بالإحصاءات الغريبة، والإحصاء التالي قامت به لجنة من محبي الاستطلاع بعد ملاحظات واختبارات استغرقت شهرين في مختلف المدن الأميركانية
إن الرجال، بناء على الإحصاء المذكور، يستهويهم في المرأة الأعضاء والأشياء التالية،
من ألف رجل 550 رجلاً يستهويهم في المرأة سيقانها، و200 عيناها، 100 عنقها، و40 ملابسها، و30 يداها، و30 زينتها، و20 محفظتها، و10 شعرها 5 حذاؤها أما الخمسة عشرة الباقون من الألف فهم الذي يتغلب عليهم الذهول فيمرون بالمرأة فيرونها دون أن يلفت أنظارهم شيء فيها
صناعة الجمال
(إن الصناعة الوحيدة التي لم تصبها الأزمة المالية بسوء هي صناعة الجمال التي يدعمها الجنس اللطيف ويحييها بنفقاته الهائلة، ففي الولايات المتحدة تنفق النساء على من يجملهن 450 مليون دولار أو 800، 21 مليون فرنك سنويا.
وهذا إحصاء رسمي لا مبالغة فيه، فكم تنفق النساء إذاً في العالم كله؟ في أوربا ما أنفقت النساء قط على أدوات الزينة من ينفقنه في أيامنا.
أما هذا الإسراف فسببه الرئيسي الحرية الواسعة النطاق التي تتمتع بها المرأة في عصرنا والتي تجعلها أقل تصوناً من ابنة جنسها الماضية.
ولكن هل نساء اليوم أجمل من نساء الأمس وهل في وسع النساء أن يصرن جميلات؟
فجوابي على السؤال الأول: أن الجمال يختلف باختلاف النظر والذوق؛ ففي الناس من(354/64)
يفضلون الورد على كل أنواع الرياحين، وفيهم من يفضلون أحقر الأزهار على الورد. وإنما لا ينكر أن المرأة العصرية قد استطاعت أن تحافظ على رونق جمالها حتى في كهولتها بأساليب التجمل الحالية
أما جوابي على السؤال الأخير فينحصر في (لا) لأن جمال المرأة لا يتوقف على مظهرها الخارجي بل على جمال نفسها أيضاً، فليست هي كالإناء الذي ينحصر جماله في شكله الخارجي وقد يكون في داخله عشًّا للحشرات)
شيء عن المكروبات
ليس للمكروبات على الإجمال ألوان خاصة وإنما يمكن صبغها لأجل درسها وفحصها، وتعتمد على الأكثر المواد الأنيلية. والمكروبات في ذلك تماثل الخيوط والأنسجة، فمنها ما لا يقبل بعض الألوان أو يقتضي عناء كبيراً وزماناً معيناً لقبولها، ومنها ما يأخذ اللون بسهولة وسرعة، ومنها ما يصطبغ بلون دون غيره وطرق تلوين المكروبات لتمييزها ومعرفتها بدقة أصبحت علماً قائماً بذاته وعليها قامت مهارة كوخ العالم الألماني بإظهار كيفية صبغ باشلس السل
لا بد للمكروبات لكي تتوالد وتنمو من بيئة موافقة وغذاء ملائم. وهي تُبذر وتزرع كما يبذر وُيزر النبات في مستنبت سائل أو جامد. والحرارة ضرورية لحياتها ونموّها؛ وأصلح درجة للجراثيم المَرضية حرارة قريبة من حرارة الحيوان الذي يصاب بها وهي نحو الدرجة 37 فوق الصفر، ومنها ما يعيش في جليد القطب الشمالي.
والبحَّاثون قد يعوّدون الميكروب درجة لم يكن ألفها من قبل. وربّ ميكروب لا ينمو إلا بدرجة 39 لكنه لا يموت إلا بدرجة 54 وبزره بدرجة 110
أما البرد فهو أقل فتكا بالمكروبات، فخمير الجعة يتحمل درجة 90 تحت الصفر دون أن يفقد خواصه التخميرية وبزر الجمرة أي مرض الطحال والبثرة الخبيثة يبقى حياً عشرين ساعة بدرجة 130 تحت الصفر غير أن ميكروبه نفسه لا يقوى عليها فإن لم يمت يفقد قوته
للنور تأثير كبير في المكروبات فهو أكبر عدو للجراثيم وقد تحقق الجراثيميون فتك النور بميكروب الجمرة وببزوره أيضاً الذي يموت بعد ثلاثين ساعة على تعريضه لنور الشمس،(354/65)
وبنور الشمس أضعف الميكروبات إلى درجة جعلتها لقاحاً واقياً. أما ميكروب السل فإذا سلط نور الشمس عليه فيموت في منبته بعد ساعتين، وفي البصاق بعد 48 ساعة، ولكنه في الظلمة أو الأماكن الرطبة لا يموت إلا بعد أشهر أو سنين
ومتى حلت الميكروبات في مادة غذائية جزأتها وحللتها وحولتها ولولاها لما كنا نتصور ولا نفهم كيف يتحول عصير العنب إلى نبيذ ويصير مسكراً، أو كيف يصير الشعير جعة: أو كيف تتلاشى الجثث ولا يبقى منها أثر بعد أيام، فإن المايكروبات قد فعلت فيها ما لم تفعله الكواسر، فحللتها إلى غازات وتراب
ومن الميكروبات ما تفوح من مستنبته روائح عطرية تميز بها فقضيبات السل مثلاً تولدّ في مستنبتها رائحة ذكية أشبه برائحة السوسن. ومنها ما يفرز مواد ذات لون كميكروب الصديد الأزرق فإنه يولّد مادة براقة ميالة إلى الزرقة
أما نمو الميكروبات وسرعة توالدها فأمر مدهش وقد ترى في بصقة المسلول الواحدة ملايين من ميكروب السل فالميكروب الواحد إذا وافقته البيئة قد يصبح في يوم واحد عشرات الملايين
(العصبة)(354/66)
البريد الأدبي
مصر ولغة الضاد
كتب الأمير الجليل (مصطفى الشهابي) وزير معارف سوريا سابقاً مقالاً قيما في عدد أبريل من (المقتطف) الأغر عنوانه (مصر ولغة الضاد). والمقال في مجموعه محاولة طيبة كريمة لإعزاز اللغة العربية. واقتراحات عملية للنهوض بها حتى لا تتخلف عن عصر بلغ التقدم العلمي فيه مبلغاً يقتضي بذل جهد كبير لجعل اللغة العربية مسايرة للنهضة العالمية الحديثة وما يجدُّ من النهضات
وفي المقال عتب على المصريين (لأن الوسائل المادية والمعنوية التي تيسرت لهم تمكنهم من النهوض بأضعاف الأعمال التي نهضوا بها حتى الآن في موضوع اللغة العربية) و (لهذا فالعالم العربي مهما يشكر لهم خدمة لسان الآباء والأجداد، فهو يراهم مقصرين في الخدمة)
وهذا العتاب الكريم هو عتاب الأخ الودود، لا عتاب الخصم اللدود، وعتاب التمني لا عتاب التجني. لهذا استحق هذا المقال المخلص من أمير عربي كريم أن نقف منه وقفة قصيرة على صفحات (الرسالة) الغراء. واختيار (الرسالة) لسببين: أما الأول فلأن سموّ الأمير أشار إليها في مقاله لما قرأه في العدد (346) منها من أن في نية الحكومة المصرية تعزيز المجمع بنحو عشرة أعضاء مصريين ينتخبون من كبار المشتغلين بالبحوث العلمية. وأما الثاني فلأنني رغبت أن أهيئ لمن لم يطلع على مقال الأمير في المقتطف فرصة في (الرسالة) حتى يعرف رأي أمير عربي في نصيب مصر من خدمة اللسان العربي، وما ينتظر منهم لإتمام الصنيعة، لو كان في حفظ تراث الآباء والجدود ما يصح أن يسمى صنيعة
والأمير لا ينكر على بعض الأدباء المصريين اعتدادهم بما أتاهم الله من فضل في الأدب. ولا ينكر على بعضهم أنه غلا في التمادح وأفرط في التباهي، (فمصر جديرة بأن تكون مباءة الأدب، وخليقة بأن تكون قلب بلاد العرب). وإذا كان هذا رأي الأمير في مصر، فنحن يسرنا - لا على سبيل تبادل المدائح - أن نقرر أن البلاد العربية كلها تحمل قسطها من النهضة بقدر. ولا ننسى هؤلاء المجاهدين في الأميركيتين،(354/67)
فآثارهم في الشعر والنقد والأدب، ستضيف ثروة عربية خالدة إلى التراث العربي بعد حين. . . ويكفي أن نعد منهم على سبيل المثال: أمين الريحاني وميخائيل نعيمة وأيليا أبو ماضي والياس قنصل والمرحوم جبران خليل جبران - على ضعفه اللغوي -
وللأمير اقتراح طيب، وهو اتخاذ قرار حكومي يقضي بأن تكون جميع إعلانات المتاجر مكتوبة بالعربية. وليس في تنفيذ هذا الاقتراح صعوبة عملية
وينتقد الأمير التعليم في بعض كليات الجامعة المصرية بغير العربية. وهو انتقاد له وجاهته وخطره، فإن العربية لم تثبت بعد عجزها عن أن تكون لغة العلم. وليس الكلام هنا ملقى على عواهنه، فقد أثبت المعهد الطبي في دمشق صلاح اللسان العربي لتعلم الطب مع التكميل فقط بالفرنسية. ولم يكن قول المرحوم حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية:
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات؟
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
لم يكن هذا القول خيال شاعر. وإنما هو حقيقة أدركها حافظ المتبحر في اللغة والأدب
ويشير الأمير إلى (الرسالة الغراء) لما نشرته خاصاً بنية الحكومة تعزيز المجمع بعشرة أعضاء مصريين، ويشك في قدرة هؤلاء العشرة على وضع معجم عربي تعرّف فيه الألفاظ تعريفاً علمياً جامعاً مانعاً كما في معجم لاروس الفرنسي. وليأذن لنا سموه أن نقول إنه يسيء الظن بهمم العلماء من العرب. وإذا كان هؤلاء العشرة - غير مسمَّيْن - عاجزين عن وضع معجم عربي أفرنكي حديث؛ فليس معنى هذا أنهم يعجزون عن وضع معجم عربي دقيق. فالأول عمل عظيم يحتاج إلى زمن طويل وصبر طويل وجهاد طويل، أما الثاني فهو عمل يحتاج إلى قليل من الصبر وكثير من التنظيم. . . فإن واضعي المعجمات العربية - رحمهم الله وأحسن إليهم - كان ينقصهم كثير من (الفن النظامي) لوضع المعاجم.
إني مع سمو الأمير الجليل في أن معجماتنا القديمة لا تشتمل على كل اللغة. ولا تعرف الألفاظ العلمية تعريفاً جامعاً. وهذا واضح لمن يبتلي منها كل يوم بهذا التعريف (نبات معروف) أو (حيوان معروف). والله يعلم أنه مجهول إلى الأبد. . . وأزيد عليه أن(354/68)
معجماتنا رجراجة كالزئبق مطاطة كالكاوتشوك. فبعضها ينكر الفعل (سدل) الثلاثي إنكاراً صريحاً، وبعضها ينكر الفعل (أسدل) الرباعي إنكاراً صريحاً ويجيز (سدل) الثلاثي إجازة مطلقة والقارئ يقف متحيراً بين الاثنين. . . ثم لا يسعه إلا أن يستعملهما معاً، لأنهما صحيحان على التخريجين. . . ومن هنا جاءت ظاهرة أسميها (الميوعة اللغوية) أو عدم التماسك. وهذا مشاهد لمن يعاني دراسة العربية أو تدريسها. ولعلي أوفق إلى الكتابة عن هذه الظاهرة في الآتي من أعداد الرسالة الغراء.
محمد عبد الغني حسن
أستاذ الأدب بالخديو إسماعيل
في جمعية هواة الفنون الجميلة بالإسكندرية
ألقى الأستاذ الشاعر عثمان حلمي مساء الجمعة 5 إبريل الجاري بصالة المحاضرات بجمعية هواة الفنون الجميلة محاضرة تناول فيها الحياة الأدبية في الإسكندرية خلال ربع القرن الماضي وعرض لكل شاعر وأديب أنتج في هذه الفترة نتاجاً أدبياً
وقد أعقب الأستاذ المحاضر نخبة من كبار الأدباء في الثغر فأعلنوا رأيهم في موضوع المحاضرة وملاحظاتهم على الأستاذ المحاضر فتكلم الأستاذ عبد اللطيف النشار عن الأدباء السكندريين الذين نزحوا إلى القاهرة معتبراً إياهم سكندريين برغم انتقالهم منها، ومعتبراً أدبهم أدباً سكندريا أيضاً
وتبعه الأستاذ محمود عوض البحراوي فعرض لناحية أخرى من الموضوع إذ تكلم عن مدى تقدير عظماء الثغر وأغنيائه للأدب والأدباء محملاً إياهم تبعة ذلك الخمود الذي يلمس في الحياة الأدبية السكندرية الآن. ثم تكلم الدكتور إسماعيل أدهم فعرض الموضوع من ناحية أخرى حاول أن يقرر بها أن العوامل التي ساعدت على ازدهار الأدب في الثغر ليست عوامل محلية، ولكنها عوامل خارجية أتت إليه من سوريا وغيرها من البلدان عن طريق النازحين إلى الإسكندرية من بلاد الشام
وقد حدثت بينه وبين الأستاذ البحراوي مناقشة شديدة في هذا الصدد أعقبها الأستاذ النشار بكلمة أخرى دعا في ختامها الدكتور أحمد زكي أبو شادي إلى الإدلاء برأيه في الموضوع،(354/69)
فتقدم الدكتور أبو شادي وعرض للمسألة في أناة وهدوء، ونوه بما لجو الإسكندرية من تأثير في وجدان الشاعر ونفسه، وذكر أشياء من خصائص الأستاذ عثمان حلمي كشاعر سكندري، ثم تكلم الأستاذ حسن كامل كلمة ختامية انتهت بها هذه المناقشات الحادة في هذا الموضوع
وأعقب ذلك حفلة سمر اشترك فيها قسم الموسيقى بالجمعية، وألقى بعض أدباء الثغر قصائد في الربيع، واختتمت الحفلة بالسلام الملكي.
تصويب
جاء في مقال الأستاذ على الطنطاوي في عدد الرسالة الممتاز هذا التعبير (يستقري رمال الدأماء). فعجبت عجباً يستنفد كل العجب! ذلك أن يخطئ الأستاذ في معنى (الدأماء) وهو (البحر) فيضعها موضع بيداء أو دهناء. . .
. . . وسبحان من تفرد بالعصمة والجلال. . .
البصرة
محي الدين إسماعيل
بين أما ومهما
إلى الأستاذ الكبير مؤلف (النحو والنحاة)
أجمع النحويون في إعراب (إمّا زيد فمنطلق) على تأويل (أمّا) بمهما يكن من شيء، وإنما دعاهم إلى هذا وجود فاء الشرط في الكلام. . . وبحثوا عن فعل الشرط وأداته فلم يجدوهما فأولوا (أمّا)، بمهما يكن من شيء، وجعلوا جملة (فزيد منطلق) جواب الشرط، وهذا تأويل لا غبار عليه من حيث تأدية المعنى
ولكن الذي لا يستساغ هو أن تكون (أما) الحرفية التي لا تركيب فيها كما يدعون دالة على هذا المحذوف كله
ورأيي أنّ أمّا ليست بسيطة وليست دالة على (مهما يكن من شيء كما زعم النحاة) وإنما هي أن الشرطة وما التي بمعنى شيء، وأصلها (أَنْ ما) وأن بفتح الهمزة شرطية وهي (إن) المكسورة نفسها كما يرى الكوفيون، ورجحه صاحب المغنى بأدلة هي في غاية(354/70)
الوجاهة والقوة، و (ما) نكرة تامة بمعنى شيء. . . إلا أنه قد بقي أنَّ (أنْ) حرف شرط فلا يليها إلا فعل فأين هذا الفعل وكيف تقديره؟
الجواب أن الفعل محذوف تقديره (كان) كما قَدرَّه النحاة في (إن خيرٌ فخير) فقالوا التقدير (إن كان خير)
فتقدير (أمّا) - إن كان شيء - فكان تامّة فعل الشرط وشيء فاعلها، والجواب هو الجملة المقترنة بالفاء، فتقدير (أمّا زيد فمنطلق) إن كان شيء فزيد منطلق، أي إن وُجِد شيء فزيد منطلق
لقد وقف الأستاذ الكبير محمد عرفه من النحاة الأقدمين موقف الذّائد الحامي الذمار
فهل يظفرون بدفاعه البارع في موقفي هذا الذي أنقدهم جميعاً فيه. وإني لمنتظر رأيه الفصل
محمود فرج العقدة(354/71)
الكتب
المطبوعات العربية القديمة في سنة 1939
للأستاذ كوركيس عواد
ظفرت المؤلفات العربية القديمة في سنة 1938 بفوز كبير. فقد نِشرَ منها خلالها طائفة حسنة، لبعضها خطر وأهمية لا يقدران. لا غرو أن تكون جهود العلماء والباحثين المبذولة في سبيلها أثناء تلك السنة قد جاءت بفتح جديد في مناحي الثقافة العربية، فكشَفت بعض مخبآتها وكنوزها، تلك الكنوز التي ظلت طوال قرون عديدة بعيدة عن المطابع والانتشار، منزوية في بعض خزائن الكتب، طامسة في ظلام الإهمال والنسيان. . . أجل! كُتِبَ لتلك الكنوز أن تحيا حياة ثانية، وقدَّر لها أن تلقى من إقبال العلماء والباحثين وعنايتهم ما يستحقون عليهما أوفر الشكر وأعطر الثناء ثم تَلَتْها سنة 1939، فأصابت المطبوعات العربية القديمة في أثنائها حظاً حسناً ونالت حركة لا بأس بها؛ غير أنها لم تكن لتجاري حركة السنة التي تقدمتها. ولعل أوضح الأسباب لهذا التناقص ما كان ناجماً عن الأحوال السياسية المضطربة التي أحاطت بكل المرافق، وأحدقت بجميع المشاريع والأعمال، وبضمنها حركة النشر كما لا يخفى. . .
وقد خطر لنا أن نتتبع ما نشرته المطابع من هذه الكتب العربية القديمة خلال السنة المنصرمة، أعني بها سنة 1939، فإذا نحن أمام جملة نفيسة منها، تبلغ في عَدَّها نحو خمسة وثلاثين كتاباً، بينها ما يتكون من مجلد واحد، وبينها ما يتكون من بضعة مجلدات، كما أن بينها عدداً آخر يكمل مجموعات أو ينتظم في سلسلة نشرت بعض حلقاتها في سنين ماضية والعمل على إصدار بقيتها لا يزال مستمراً
ونحن على يقين أنه فاتنا من هذه الكتب طائفة، قد تكون غير قليلة، منها ما نشر في المغرب أو في إيران أو في الهند أو في غيرها من الأقطار. ولعل لنا في ذلك بعض العذر: فإن كثيراً من المطابع أو المكتبات أو شركات النشر في البلدان الشرقية تفرَّط أشد التفريط في إصدار الفهارس المفصِحة عن الكتب، ونشر القوائم التي تفي بالمرام وترشد القارئ، من حين إلى حين، إلى ما يصدر من تلك المطبوعات فَتُيسَّر له طريق الحصول عليها فالانتفاع منها(354/72)
وعلى ذكر هذا أقول: إن شركات الكتب في البلدان الغربية قد قطعت شوطاً بعيداً في هذا المضمار وأمعنت في تحسين عملها وتنظيمه، فلا يكاد يصدر كتاب من الكتب حتى ترى الإعلانات عنه توزع بجد واهتمام على كل الجهات والأوساط التي يُنتظَر منها أن تهتم له، وترى قوائم الكتب قد أتت على ذكره مُبيّنة أهم أوصافه، فيقف متصفحها على شيء من أمر هذا الكتاب. وقد يتكرر الإعلان عن الكتاب الواحد، فيأخذ أشكالاً وأساليب مختلفة، فإن لم يصب أحدها المرمى من نشره، فقد يكون من رفيقه ما يؤدي المطلوب. . .!
هذا من الوجهة التجارية. وهناك في هذا السبيل ناحية علمية محترمة تسمو على هذه الناحية: فقد يعمد بعض العلماء إلى حصر ما نشر في منحى من مناحي البحث والتفكير في أوقات معينة أو غير معينة، فيقفون القراء، بأيسر الطرق وأوضحها، على ما ظهر في العلم الفلاني أو الفن الفلاني من المطبوعات التي لا تقتصر على الكتب فحسب، بل تتعداها إلى الرسائل والمقالات أيضاً. وعلى هذا الوجه ينيرون السبيل أمام هؤلاء القراء
وما لنا نذهب بعيداً، وأمامنا الآن ثلاثة أجزاء من نشرة سنوية جزيلة الفائدة يصدرها المستشرق ماير بمؤازرة جمهرة من أرباب البحث، بعنوان (حولية منشورات الفن والأثريات الإسلامية) وهاهو ذا قد أصدر مؤخراً نشرة شبيه بتلك، غير أنها تتعلق بالكتب أو المقالات التي ظهرت في فرع (المسكوكات الإسلامية)، وهي لعمري خدمةٌ تذكر فتشكر. ومثل هذا شيء كثير يصدر في بلاد الغرب، ونحن عن مثله منصرفون!
فمتى يا ترى نجد بيننا من ذوي الاختصاص من يتقدم إلى زملائه، من وقت لآخر، لتصنيف مثل هذه النشرات التي من شأنها أن تفتح أمامهم مسالك البحث، وتذلِّل لهم بعض العقبات، وتجعلهم على علم بما ينشر في الفرع الذي يشتغلون به
وفيما يلي ثبت موجز بالكتب العربية القديمة التي ظهرت في سنة 1939، وهو كل ما استطعنا الوقوف عليه. وقد كان بودِّنا أن نصنفها بحسب موضوعاتها، كما هو الأصلح في مثل هذه الشؤون، غير أنها لما كانت قليلة العدد آثرنا أن نرتبها بحسب تسلسل عنواناتها، مع الإشارة إلى سنة وفاة مؤلفها ما أمكن
1 - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة: لبدر الدين الزركشي (794هـ). نشره الأستاذ سعيد الأفغاني (المطبعة الهاشمية - دمشق، 228ص)(354/73)
2 - الأحكام السلطانية: لأبي يعلي الحنبلي (458هـ). نشره الأستاذ محمد حامد الفقي (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة، 292ص)
3 - أزهار الرياض في أخبار عياض: للمقري (1040هـ). نشره الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي
(مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، ح + 371 ص)
4 - أسرار البلاغة والبيان: لعبد القاهر الجرجاني (471هـ). نشرته ثانية مطبعة دار المنار - القاهرة بتصحيح الشيخ محمد رشيد رضا والشيخ الشنقيطي (368 ص)
5 - الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني (سنة 356هـ). المجلد العاشر، نشرته دار الكتب المصرية في القاهرة، وهو كسابق أجزائه من حيث العناية بالتعاليق والفهارس (المجلدات 1 - 9 ظهرت خلال 1927 - 1936، والكتاب لما ينته)
6 - الإمتاع والمؤانسة: لأبي حيان التوحيدي (سنة 400هـ) الجزء الأول. نشره الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين (مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة)
7 - أنساب القبائل العراقية: للسيد مهدي القزويني الحسيني (1300). نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف (العراق) (90 ص)
8 - البداية والنهاية في التاريخ: لابن كثير (774هـ) المجلد العاشر، مطبعة السعادة - القاهرة (المجلدات 1 - 9 ظهرت قبل هذا، والكتاب لم ينته)
9 - البلدان لابن واضح اليعقوبي (المتوفى بعد سنة 292هـ) نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف، 132 ص
10 - بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام: للقاضي حسين بن أحمد العرشي (المتوفى بعد سنة 1330هـ). نشره العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع حواش، وملاحق، وفهارس، ومقدمة بالفرنسية (مطبعة البرتيري - القاهرة، د + 442 ص)
11 - بيان مذهب الباطنية وبطلانه (منقول من كتاب عقائد آل محمد) لمحمد بن الحسن الديلمي (ألف كتابه سنة 707هـ) نشره المستشرق شتروطمان مطبعة الدولة - أستانبول، يه + 137 ص (النشريات الإسلامية لجمعية المستشرقين الألمانية، رقم 11)(354/74)
12 - تاريخ ابن الفرات: لناصر الدين محمد بن عبد الرحيم ابن الفرات (807هـ). المجلد الثامن، نشره الدكتور قصطنطين زريق والدكتورة نجلا عز الدين (المطبعة الأميركية - بيروت، 284 ص. في هذا المجلد حوادث السنين 683 - 696هـ. المجلد التاسع منه نشر في قسمين سنة 1936 - 1938، فيهما حوادث السنين 789 - 799هـ)
13 - تاريخ الطبري: لابن جرير الطبري (310هـ) نشره محي الدين عبد الحميد (8 مجلدات، مطبعة مصطفى محمد - القاهرة)
14 - تاريخ اليعقوبي: لليعقوبي (المذكور في رقم 9). نشرته المكتبة المرتضوية بالنجف (3 أجزاء، 717 ص)
15 - التبصير في الدين: لأبي المظفر طاهر بن محمد الاسفرائيني. نشره الأستاذ محمد سليم النعيمي (مطبعة النهضة بنهج باب السعدون - تونس، 184 ص)
16 - الحيوان: للجاحض (255هـ). المجلد الثالث، نشره الأستاذ عبد السلام محمد هارون، بتعاليق وشروح وفهارس (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة، 584 ص. المجلد الأول والثاني صَدرَا سنة 1938، والكتاب لما ينته)
17 - ديوان ابن الساعاتي: لبهاء الدين أبي الحسن علي أبن الساعاتي (604هـ). الجزء الثاني، نشره الأستاذ أنيس الخوري المقدسي (المطبعة الأميركية - بيروت، 437 ص. المجلد الأول صدر سنة 1938)
18 - رحلة ابن الفقيه إلى نهر الفلجا: لأبن الفقيه الهمذاني (المتوفى في أواخر القرن الثالث للهجرة) نشرها على الأصل المستشرق في ليدن مع ترجمة ومقدمة وشروح وتعاليق بالروسية. كما أن فهارس الشروح موضوعة بالروسية والعربية
19 - رسالة موسيقية: لمؤلف مجهول (قدمها إلى السلطان العثماني محمد الثاني، الذي حكم أثناء 855 - 886هـ). ترجمها ديرلانجه إلى الفرنسية ونشر هذه الترجمة (دون النص العربي) في الصفحة 1 - 255 من المجلد الرابع من مجموعة في الموسيقى العربي المطبوع في باريس لدى الكتبي بول غوتنر
20 - السلوك لمعرفة دول الملوك: للمقريزي (845هـ). القسم الثالث من الجزء الأول، نشره الدكتور محمد مصطفى زيادة مع تعاليق ملاحق وفهارس كلها في غاية الدقة والفائدة(354/75)
(مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، 532 ص. في هذا القسم أخبار السنين 678 - 703هـ. أما القسمان الأول والثاني من الجزء الأول فقد صدرا في سنة 1934 - 1936 والكتاب لما ينته).
21 - سيرة أحمد بن طولون: لأبي محمد عبد الله بن محمد المديني البلوي (ألّف كتابه بعد سنة 312هـ) نشره الأستاذ محمد كرد علي مع تعاليق وفهارس (المكتبة العربية - دمشق، 400ص)
22 - صورة الأرض: لأبن حوقل (ألّفه سنة 367هـ) القسم الثاني نشره المستشرق كريمرز (مطبعة بريل - ليدن، 280 ص. القسم الأول ظهر سنة 1938، وسيتلوهما الثالث وبه يتم الكتاب. وكان المستشرق دي غويه قد نشر هذا الكتاب في ليدن سنة 1873 بعنوان (المسالك والممالك) وهو المجلد الثاني من (المكتبة الجغرافية العربية). إن طبعة كريمرز هي (الثانية) باعتبار طبعة دي غويه كانت الأولى)
23 - طبقات الشعراء في مدح الخلفاء والوزراء: لعبد الله ابن المعتز (296هـ). نشره الأستاذ عباس إقبال، على الأصل، مع مقدمة بالفرنسية (كمبردج، 226 + 55 + ص، مجموعة تذكار جب، السلسلة الجديدة، رقم 13)
24 - عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: لابن عمبة (وقيل: ابن عمبسة) الحسني (828هـ). نشرته المكتبة المرتضوية في النجف. 12 + 370 ص)
25 - الفتحية في علم الموسيقى: لمحمد بن عبد الحميد اللاذقي (قدًّمها إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني الذي حكم أثناء 886 - 918 هـ). ترجمها ديرلانجه إلى الفرنسية، ونَشَرَ الترجمة هذه (دون النص العربي) في الصفحة 257 - 498 من المجلد الرابع من مجموعه في الموسيقى العربي (المذكور في رقم 20)
26 - كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة: لأبن أبي الفضائل الحمادي اليماني (من أهل القرن الخامس للهجرة). نشره الأستاذ عزة العطار مع مقدمة للشيخ محمد زاهد الكوثري (مطبعة الأنوار - القاهرة، 44 ص)
27 - اللباب في تهذيب الأنساب: لعز الدين بن الأثير (630هـ) الجزء الأول، نشرته مكتبة القدس بالقاهرة، 591 ص(354/76)
28 - لسان العرب: لأبن منظور (711هـ). الجزء الخامس. نشره الأستاذ عبد الله إسماعيل الصاوي (مطبعة الصاوي - القاهرة، 180 ص. المجلدات 1 - 4 صدرت قبل هذا، والكتاب لما ينته)
29 - المجازات النبوية للشريف الرضي (406هـ). نشره الأستاذ محمود مصطفى (مطبعة مصطفى الحلبي - القاهرة 34 ص)
30 - المستجاد من فعلات الأجواد: للمحسن التنوخي (384هـ. نشره المستشرق بولي بنر الشرقية، رقم 23 (26 + 213 ص)
31 - النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: لابن تغري بردى (874 هـ). المجلد السابع، نشرته دار الكتب المصرية بالقاهرة، 466 ص (المجلدات 1 - 6 صدرت خلال 1929 - 1931، والكتاب لما ينته)
32 - نخب الذخائر في أحوال الجواهر: لابن الأكفاني السنجاري (749 هـ). نشره العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع تعاليق وملاحق وفهارس ومقدمة بالفرنسية (المطبعة العصرية القاهرة، 188 ص)
33 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: للمقَّري (أنظر رقم 3). المجلد العاشر، نشره الدكتور أحمد فريد رفاعي، بتعاليق الأستاذ يوسف نجاتي، مع الفهارس. القاهرة (المجلدات 1 - 9 ظهرت قبل هذا، والكتاب لمّا ينته)
34 - النقود العربية وعلم النُمِيَّات: هي مجموعة رسائل عربية في هذا الموضوع، نشرها العلامة الأب أنستاس ماري الكرملي، مع تعاليق وملاحق وفهارس ومقدمة بالفرنسية. (لمطبعة العصرية - القاهرة، 529 هـ) تتألف هذه المجموعة من:
(1) كتاب النقود: للبلاذري (279 هـ). وهو فصل من كتابه (فتوح البلدان)
(2) كتاب النقود القديمة الإسلامية: للمقريزي (أنظر رقم 21) وهي الرسالة التي طبعت سابقاً غير مرة بعنوان (شذور العقود في ذكر النقود)
(3) تحرير الدرهم والمثقال والرطل والمكيال، وبيان مقادير النقود المتداولة بمصر على مقتضى ما حدد بدار الضرب سنة 1256 هـ لمصطفى الذهبي الشافعي (من أهل القرن الثالث عشر للهجرة)(354/77)
(4) أقوال ابن خلدون (808 هـ) في النقود الإسلامية (نقلاً عن (مقدمة ابن خلدون))
(5) أقوال القلقشندي (821 هـ) في النقود الإسلامية (نقلاً عن كتابه (صبح الأعشى))
35 - نهاية الأرب في فنون الأدب: للنويري (732هـ) المجلد الثالث عشر، نشرته دار الكتب المصرية بالقاهر، 277 ص (المجلدات 1 - 12 صدرت خلال 1923 - 1937 والكتاب لما ينتهي)
هذا ما تيسر الوقوف عليه وكان بودنا أن نذكر في هذا المقام بضعة كتب أخرى أطلعنا على أسمائها في بعض القوائم أو المجلدات، غير أنه لم يشر لدى الكلام عليها هنالك إلى سنة صدورها، مما جعلنا في ريبة من صحة نسبتها إلى سنة 1939؛ ولما لم تصل إليها يدنا في الوقت الحاضر، فقد اضطررنا إلى تركها على غير رغبة منا. ولعل بين القراء الأفاضل من يقوم بإكمال ما فاتنا منها أو ما لم يتأتّ لنا الوقوف عليه، وله منَّا أبلغ الشكر
(بغداد)
كوركيس عواد(354/78)
العدد 355 - بتاريخ: 22 - 04 - 1940(/)
في سبيل الأزهر الجديد
من بشائر الأمل في النهوض ودلائل الثقة بالفوز أن النفوس الشابة مهيأة لدعوة التجديد ورسالة الإصلاح؛ فهي كالأرض الطيبة تشتمل على مذخور الحياة وموفور البذر ثم لا تنتظر غير الفلاح والغيث
منذ أخذنا على بعض العلماء اشتغالهم بالمراء الباطل والبحث العقيم، وقوفهم عند المماحكة في اللفظ والمعاياة بالاعتراض، وتركهم أصول الدين تشتجن عليها الأضاليل والبدع، والرسائل تنثال علينا من شباب المراغي في أقسام الأزهر وكلياته يشايعوننا على الرأي ويسألوننا أن نزيد.
و (شباب المراغي) تعبير لم نضعه، وإنما وجدناه في جميع الرسائل التي أُلقيت إلينا؛ فهو إما إلهام جاء من اتحاد النية، وإما اتفاق أُبرم على إدارة الإصلاح.
نعتقد مخلصين أن الأزهر إذا استكمل أداة التعليم وساير حاجة العصر نهض بالشرق نهضة أصيلة حرة، تنشأ من قواه وتقوم على مزاياه وتتغلغل في أصوله. ذلك لأن ثقافته المشتقة من مصدر الوحي وقانون الطبيعة متى اتصلت بتيار الفكر الحديث تفاعلت هي وهو فيكون من هذا التفاعل ما يريد به الله تجديد دينه وكفاية شرعه وإدامة ذكره.
كذلك نعتقد مخلصين أن رجعة الأزهر إلى ماضيه البعيد خير له وللناس من جموده على شأنه الحاضر. والرجعية لا يمكن أن تكون في منطق الطبع سبيلاً إلى التقدم، ولكنها في نظام التعليم الأزهري خرق لهذا القانون لا ينكره العقل. ذلك لأن رجعية الأزهر معناها العودة في استنباط الدين إلى منابعه الأولى من صريح الكتاب وصحيح السنة، وفي فقه الأحكام إلى مثل كتابي الأم والرسالة للشافعي، وفي تعليم النحو إلى كتاب سيبويه وخصائص ابن جني، وفي تدريس البلاغة إلى كتب عبد القاهر وأبي هلال. وفائدة هذه الرجعية الخلوص من أمثال الجمع والهمع، وما حشد الأعاجم في عصور الشروح والحواشي والتقارير مما أفسد الملكات وأفند العقول وصرف الأذهان عن جوهر الدين ولب العربية وسر البلاغة.
إن الدين الإسلامي ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة. فإذا حثر ذوق العربية في رجاله بما قمش السكاكي والفنري وملا جلبي من الغثاء والهراء، تقطعت الأسباب بينهم وبين محمد فضلوا سبيله وجهلوا علمه. فالدين الإسلامي(355/1)
والأدب العربي متلازمان تلازم المعنى واللفظ أو الفكر والأداء. ولا يتسنى لرجل الهداية والإصلاح أن يبلغ دعوة محمد إلا إذا تمكن منهما تمكن الجاحظ والزمخشري ومحمد عبده ورشيد رضا والمراغي. أما المضمضة بالألفاظ الاصطلاحية والجمجمة بالجمل المعقدة على أنها هي العلم والأدب، فتطور إلى العكس لا يجوز أن ينتج إلا ما نحن فيه
من الطبيعي أن ينشئ هذا الكلام في ذهنك هذا السؤال فتلقيه عليَّ: إذا كان المراغي أجدر الناس بإصلاح الأزهر كما نعتقد؛ وكان شباب الأزهر راغبين في هذا الإصلاح مؤمنين بقدرة شيخهم عليه كما نرى؛ فما الذي يعوق هذا الإصلاح ويعارض هذه الرغبة؟. . . والجواب المفصل عن هذا السؤال يقتضي شيئاً من الصراحة لا تحتمله بعض النفوس فيما أظن. فإذا وقفنا عند الأسباب الظاهرة المباشرة قلنا إن إصلاح الأزهر لا يمكن أم يتم في سنتين أو في أربع، لأن ملاك هذا الإصلاح منوط بأمرين اثنين: أحدهما إعداد المعلم، والآخر تأليف الكتاب
فأما إعداد المعلم فيقوم على أن يكون متمكناً في علوم الدين وصاحب ملكه في الفقه، وأن يكون متبحراً في فنون العربية وصاحب قريحة في الأدب، وأن يأخذ بعد هذا وهذا من ثقافة الغرب بأوفى نصيب. وهذا الإعداد على هذه الأساس لا يؤتي ثمرة قبل عشر سنين إذا أخذوا منذ اليوم يتنخلون ممن تخرجهم أقسام التخصص المختلفة في كل سنة نوابغ الفقهاء والأدباء، ثم يبعثون بهم إلى جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا ليبلغ كل منهم أقصى الدرجات في العلم الذي أخصى فيه. ولك في الأساتذة البهي وماضي ومحمد يوسف موسى شاهد صادق على فضل هذا الإعداد وأثره
وأما تأليف الكتاب فلا يتيسر إلا بعد إعداد المعلم، لأنه هو وحده الذي يدري كيف يؤلفه ويدرسه. ومتى توفر للأزهر المعلم والكتاب في ظل هذه الإدارة البصيرة صح لك أن تقول: (إن مصر ظفرت بجامعتها الصحيحة التي تُدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلو الحضارة الشرقية للغرب، وتصفي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة)
ذلك فيما نعتقد ما كان يعنيه صاحب الجلالة المغفور له الملك (فؤاد) حين قال لأحد كبار العلماء: (إن أنجع الوسائل في إصلاح الأزهر أن يغلق عشر سنين ثم يفتح من جديد)(355/2)
وذلك فيما نعتقد أول الإصلاح الأزهري وآخره. وما دام التعليم الديني قائماً على براعة المعلم في حل المعميات وخلق الاعتراضات، وإمعان الكتاب في الاستطراد والاستغلال والحشد، فهيهات أن يتجدد الأزهر وإن شيد بالمرمر وفرش بالطنافس وأنير بالكهرباء!
أحمد حسن الزيات(355/3)
4 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
وفي يوم الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة خرجنا إلى حديقة الدير فدخلنا ساحة ذات أشجار اتخذت مباءة لغنم الدير، رأينا فيها عدة من الضأن والمعز معها سخالها، ورأينا في جانب الحديقة ناقة معها فصيلها، وهي لحمل ما يجلب إلى الدير. هناك بئر واسعة قريبة الماء
ثم دخلنا إلى ساحة صغيرة فيها قبور قليلة هي مزرعة الموتى؛ فأما حصاد هذه المزرعة ففي حجرة واسعة متصلة بهذه المقبرة. في هذه الحجرة أكداس من الجماجم والعظام قد رتبت وصنفت، فالجماجم على حدة، وعظام الأذرع على حدة، وعظام الأرجل على حدة، لم تختلط كما توجس أبو العلاء المعري في قوله:
لا يغيّركم الصعيد وكونوا ... فيه مثل السيوف في الأغماد
فعزيز عليَّ خلط الليالي ... رمّ أقدامكم برمّ الهوادي
ذلكم لأن موتى الدير يدفنون في المقبرة الصغيرة ثم تستخرج العظام بعد حين فتجمع في مكانها وتخلى الأرض لمن يفد إليها من وفود الموتى المتتابعة على مر العصور
ربِّ لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين علي بقايا دفين ... في قديم الأزمان والآباد
ثم خرجنا من دار الفناء والعبر فدخلنا إلى حديقة واسعة فيها أنواع من البقول وضروب من السرو وأشجار الفاكهة، تسقى من آبار فيها، ومما يجلب إليها من آبار داخل الدير
وحديقة الدير مرأى جميل في حضيض الجبال الشاهقة المشرفة عليها
إلى جبل موسى
الجبل العظيم المطل على الدير من الجنوب يسمى جبل موسى ويقال: إنه الجبل الذي تلقى فيه موسى عليه السلام الألواح.
تواعدنا الخروج إلى الجبل بعد الظهر، فسار الرفاق يدلهم أحد الرهبان، فخرجوا من باب صغير في حديقة الدير إلى الجبل ليصعدوا زهاء ثلاثة آلاف درجة منحوتة في الحجر أو مرصوفة، وللجبل طريق أخرى على مقربة من الدير تصعد على السفح متعرجة إلى ثلثي الجبل، ويستطيع الجمل أن يصعد فيها. وقد آثرت أنا هذه الطريق، فركبت جملاً، وسار(355/4)
صاحبه يقوده. فأما الجمل فاسمه درويش، وأما صاحبه فاسمه حميد من أولاد سعيد
صعدنا زهاء خمسين دقيقة، وأنا مشفق على هذا الحيوان السهلي يكلَّف هذا المرتقى الصعب، بل سفينة الصحراء التي تسام صعود الجبال.
وكان بيني وبين صاحب درويش حديث ممتع:
قلت: ما تسمي هذا الذي أركب عليه؟ قال: الغبيط، والذي تحته البدار، وقد وضعت الغبيط على بدار الحمل، لأني جئت بدرويش إلى الدير محملاً، وما حسبت أنه يركب. قلت: الغبيط بلغة أهل مصر ما يحمل فيه التراب ونحوه على الدابة، ولكنه في الشعر القديم كما تقول. قال: هذا الخشب المكسوّ الذي يركب عليه هو الغبيط، والبدار هذه الحشيّة التي توضع تحت الغبيط. قلت: فما تسمي هذا الحزام الذي على صدر الجمل؟ قال: هو البطان قلت: صدقت. ويقال في المثل التقت حلقتا البطان والحقب. فما الحقب؟ وهل تسمى الحزام الخلفي حقباً؟ قال: لا، هو الحبك. قلت في نفسي: ليس هذا بعيداً من قياس اللغة وسماعها. ثم قلت: فما الحبل الذي في يدك؟ قال: الرسن. قلت: ألا تسميه المقود؟ قال: المقود هذه - وأشار إلى طرف الحبل الذي في يده وقد جعله كالحلقة - قلت: يا حميد! فما الحبل الذي على خدّ الجمل. قال: العذار. قلت: صدقت. تذكرت قول أبي الطيب:
فقرّحت المقاود ذفربيها ... وصعّر خدّها هذا العذار
قلت: فأين الغارب؟ فوضع يده على أمام الغبيط من ظهر الجمل، وقال: والكثَب هذا؛ ووضع يده على ما يلي العنق.
قلت في نفسي: الذي عرفناه في اللغة الكاثب وجمعه كواثب،
كما قال النابغة:
لهن عليهم عادة قد عرفتها ... إذا عرض الخطّى فوق الكواثب
قلت: فأين الثفنة؟ قال لا أعرف. قلت: ألا تسمى الركبة ثفِنة؟ قال: لا، ولكن الذِّفنة هذه. وأشار إلى ما يقع على الأرض من رجل البعير الخلفية إذا برك. قلت في نفسي: قد قُلبت الثاء ذالاً في لغة حميد وقومه
ثم سألته عن نبات مرَرْنا به حتى قلت: أهنا ثمام؟ قال: لا، ولكن في وادي كذا ثمام كثير. قلت: نحن نقرأ في كلام القدماء: (هذا الشيء على أطراف الثمام). قال: نعم، كذلك نقول(355/5)
إذا كان الشيء كثيراً قريباً، لأن الثمام قصير. قلت: أفادك الله يا حميد
قال حميد: لا يصعد الجمل بعد هذا الموضع. فنزلت وربط هو درويشاً؛ وسار معي يدلني الطريق إلى حيث يصعد المتوقل إلى القمَّة. فمشينا زهاء خمس دقائق، فنادى: هؤلاء أصحابك. فرأيت جماعة من الرفاق قعدوا من الإعياء، فعرّفوني أن جماعة خلفهم وآخرين سبقوهم إلى القمّة. شرعت أصعد في درج متمهلاً أقرأ بين الحين والحين على الصخر ما كتبة أحد الرفاق السابقين من كلمات تواسي الصاعد وتحرضه على المثابرة، وبعد نصف ساعة بلغت القمة
على القمة فجوة بين الصخور قال دليلنا الراهب: إنها حيث رأى موسى الملك. وهناك كنيسة صغيرة جميلة على جدرانها صور متقنة تمثل ما يدور حول هذا المكان من ذكريات منها صورة تمثل موسى يتلقى الشريعة من الله تعالى
وفي جانب من القمة مسجد ساذج جدرانه غير مطلية وسقفه غير محكم وأرضه غير مفروشة. قالت نفسي: هذه أمارة على إهمال المسلمين أمورهم، فخطر لي أنه مع هذا أمارة على يسر الإسلام وقربه إلى الفطرة. وبجانب المسجد عند حافة القمة غار صغير يُهبط إليه درجات قليلة فيه أثر نار. يقول العامة: إنه حيث أقام موسى أيام الموعد، وإن هذه النار من آثار ذلك الزمان
وتشرف هذه القمة العالية على جبال وأودية كثيرة، ومناظر بعيدة وقريبة، وتسمو بجسم الإنسان وروحه حتى يكاد يتوهم أنه من طير الجو أو سكان السماء
أقمنا قليلاً ثم شرعنا نهبط وأمامنا الراهب لم يعيَ بالصعود والهبوط على كبر سنة (وكل امرئ جار على ما تعوّدا)
مازلنا نهبط ثم نهبط؛ كلما رأينا وادياً في الجبل قلنا قاربنا الأرض، فإذا بلغناه وجدناه قمة عالية تشرف على مهاوٍ أخرى بعيدة. وتشرف المخارم فوقنا عالية عاتية مهيبة ملساء صمّاء، ونشرف نحن على هُوى سحيقة وأودية بعيدة، دواليك حتى غربت الشمس وطلع القمر متمهلاً فوق الجبل الشرقي كأنما أصابه من الإعياء ما أصابنا. ثم أشرفنا على الدير وقد بلغ منا التعب مبلغه فتحاملنا حتى هبطنا إلى مستوى الدير بعد ساعة ونصف من مفارقة القمة.(355/6)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(355/7)
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية
أساليبنا في البحث وعلام تعتمد؟
للدكتور محمد البهي
كتبت مرة في مجلة أزهرية كلمة حول تطور فكرة (الشر) في القصص الميثلوجية والأبحاث الفلسفية، وكيف دخل كثير مما قيل فيها من آراء في شرح ما جاء في الديانات السماوية السامية من التعبير (بالشيطان) على لسان المفسرين العقليين
فكتب (باحث) آخر يلاحظ أن كلمتي اشتملت على (غموض وإبهام)، وأني قد (أطلت من غير داع)، وأن (كل اعتمادي على الفكر الخيالية) ولم تكن (لمقدمتي الطويلة كبير فائدة تذكر للمسلمين وغيرهم). وليتني (إذ تعرضت للفلسفة أتيت منها بما يستند إلى البرهان العقلي أو التجربة والمشاهدة كما هو أساس الفلسفة الحديثة التي انتهت إلى إثبات الأرواح المجردة علوية وسفلية. ولكني لم أفعل، بل أتيت بما هو منقوض بنفس الفلسفة الحديثة التي انتهى إليها تفكير الفلاسفة العصريين في أبحاثهم)
وهكذا كان (بحثه) مملوءاً بمثل هذه الأحكام والملاحظات. وقد ختمه بأن وعدني (بالمناقشة باعتبار أني مسلم)
مثل هذا الكاتب ليس بالقليل، وطريقته في البحث غير مجهولة. وهو فقط مثل جزئي لظاهرة تطبع تفكير الكثير من (باحثينا) وكتابنا
لهذا لا أقصد من كلمتي هذه سوى شرح تلك الظاهرة وتعليلها من ناحية البحث التاريخي الفلسفي، وإرجاعها لحالة معينة من الحالات العقلية التطورية للجماعة من وجهة البحث البسيكولوجي
كثيراً ما نقرأ (للباحثين) أمثال هذه العبارات: ما أقوله (أنا) حق، أو هو الحق الصراح، أو واضح وضوح الشمس في رائعة النهار. وما تقوله أنت (للخصم) باطل، أو غامض مبهم، أو لا يستند إلى الواقع ولا إلى العقل والمنطق؛ والحس ينكره والتجارب لا تؤيده. . . . . . الخ
هل وضع مثل هذا الكاتب مقياساً علمياً مجرداً عن التأثر الشخصي لمعرفة الحق والباطل؟ هل أتخذ فاصلاً من الأساليب اللغوية لتبين النص والصراحة والوضوح من اللبس(355/8)
والاحتمال والإبهام؟ هل أراد من الواقع الواقعَ الذي له اعتبار عام، أم ذلك الذي يدركه هو من أفق ومحيط؟ هل أراد بالعقل العقلَ الإنساني، بغض النظر عما لكل فرد من ثقافة وعادات وعن الفروق الفردية والبيئية، أم أراد به الشائع المعروف كالذي يحكيه الفارابي عن المتكلمين في زمانه من أنهم كانوا يقولون: هذا يقبله العقل، هذا لا يسلم به العقل، ويقصدون بالعقل الشائع المتعارف بينهم، وبذا فهموا المنطق الصوري خطأ واستخدموه خطأ كذلك؟ ماذا قصد من الحس وأي شئ أراده بالتجارب؟ أأراد بها ما يتعلق به خاصة أم أراد تلك التي تكوِّن قواعد العلوم العامة؟
هذه أسئلة يعلق العلماء على جوابها الفصل بين بحث وبحث. فإذا كان الباحث متأثراً بشخصه في وضع (مقياس) الحقيقة سمي المقياس شخصياً. وعليه فالذي يجعل من ثقافته الخاصة، وواقعه الخاص، وعقله وعاداته الخاصة، ونظرته الخاصة في الحياة مقياساً للبحث كان مقياسه شخصياً
والباحث الذي يبعد كل هذه العوامل الشخصية في البحث عن الحقيقة يكون قد قصد إليها متجرداً، وتكون حقيقته التي وصل إليها حقيقة مجردة وعلى قدر تجرده في بحثه مما هو شخصي يكون ظهور حقيقته ناصعة، أي لم يسدل عليها أي غشاء شخصي لا دخل له في ماهيتها الذاتية
والمقياس الشخصي اعتباره بالنسبة إلى الشخص الذي وضعه فحسب؛ فلا تلزم نتائجه غيره ولا تبني عليه أحكام عامة. أما المقياس المجرد فاعتباره عام، لأن تجرده من الأثر الشخصي يبعد عنه نزاع الأفراد ويحمل كل فرد (تقريباُ) على الاعتراف به، ولهذا تكون لنتائجه وأحكامه قوة القوانين والمبادئ العامة
وقد كان الشخص نفسه في القديم معيار المعارف والعلوم، متخذاً ذاته أساساً لبحث الحقيقة والحكم على التصرفات والسلوك الإنساني بأحكام خلقية، فما تخليه حقيقة فهو حقيقة (في الواقع) وما وقع حسنه في نفسه فهو حسن (في الواقع). وأصبحت المعرفة لذلك عبارة عن حقائق شخصية، وأصبح الشيء الواحد له أكثر من حقيقة. ولم يلبث أن أصبحت هذه الطريقة مذهباً فلسفياً عرف بالمذهب الشخصي كما عرف أتباعه بالشخصيين (وهم السفسطائيون في العهد الأول)(355/9)
ومع أن الفلاسفة الذين جاءوا بعد السفسطائيين، مثل أفلاطون وأرسطو حاولوا التدليل على أن (حقائق الأشياء ثابتة) أي غير متعددة تبعاً لتعدد الأفراد، وغير متغيرة لما بينها من مغايرة وفروق بحكم هذا التعدد، وضعوا لتعرفها قانوناً عاماً يسمى آلة العلوم ومعيار العلوم وهو المنطق الصوري؛ ومع أنهم وصوا بعدم إقحام العادات والعقائد الدينية في البحث لم تخلص معارفهم ولا أحكامهم التي كونوها عن الله، والعالم، والإنسان - وهي فلسفتهم - من التأثر بثقافتهم الخاصة، وبيئتهم الخاصة، ونظراتهم الخاصة إلى الحياة، وهي ما نلمسها في افرق بين فيلسوف وفيلسوف
اتجه التفكير بعد ذلك، وهو البحث الفلسفي، إلى الإمعان في الفصل بين المؤثرات الشخصية، والنظر إلى الأشياء على ما هي عليه في الأبحاث العلمية؛ أو بعبارة أخرى مال إلى تجريد المقياس الذي يتخذ أساساً للبحث من الخصائص الفردية. ولم يستطع العقل (الحر) أن يسير خطوة في تحقيق هذه الرغبة إلا منذ عصر النهضة؛ أي بعد أن أخذت شعوب أوربا تتحر من سلطان الكنيسة
وقد كان لموقف الإسلام تجاه الأبحاث الفلسفية منذ القرن التاسع الميلادي إلى القرن الثاني عشر أثر كبير في التشجيع على عملية الفصل هذه. فبينما كانت الكنيسة في الغرب تفرض أن تكون العقيدة الكنسية المبدأ الذي يأخذ منه البحث مجراه، كان المسلمون في الشرق، ثم في الغرب أيضاً يبحثون في فروع الفلسفة المختلفة؛ في الطبيعة والرياضة حتى في المسائل الإلهية، والأبحاث لنفسية الخلقية، في جو مملوء في عمومه بحرية البحث وأنتج من الفلاسفة المسلمين من استطاع أن ينتج. ووصلت فلسفتهم مميزة الفروع، أي لم يراع في بحثها مبدأ واحد كمبدأ العقيدة مثلاً، إلى أوربا عن طريق أسبانيا
فلما احتك العقل الأوربي الراغب في التخلص من الجولان حول نقطة واحدة، نقطة العقيدة، بالعقل الشرقي الإسلامي الذي لم يتحكم في تفكيره اتجاه خاص، ازدادت رغبته في بحث الكون من الكون نفسه، فترك العقيدة جانباً، أي ترك أهم عامل من العوامل التي تؤثر في بحث الشخص والتي تجعل مقياسه العلمي شخصياً، وعمل على تخلية نفسه من كل اعتبار آخر غير اعتبار (الحقيقة) لذاتها
وكان ديكارت أول فلاسفة عصر النهضة الذي نفذ هذه الرغبة في صورة منظمة كاملة. ثم(355/10)
نحا كثير من الفلاسفة نحوه وهو العمل على وضع مقياس علمي مجرد عن الأثر الشخصي، مقياس ولم يكن اختلافهم الذي بدا في مذاهبهم المنسوبة إليهم اختلافاً في وجوب اعتماد المعارف الإنسانية وفي حاجة يقينيتها إلى مثل هذا المقياس، بل كان في كمية الشروط وفي كيفها التي تحقق مثل هذا المقياس المنشود
وإذن أصبحنا نرى في تاريخ الفكر البشري مقياسين للمعارف: المقياس الشخصي، والآخر غير الشخصي (المجرد)، ونرى كذلك لإنتاجه طابعين: الطابع الشخصي والطابع الذي يتعدى الفرد والشخص
والتفلسف لم يقم - منذ أن قام - إلا لإيجاد المقياس غير الشخصي، وإلا لأن يطبع أبحاث الإنسان وعلومه بطابع الاعتبار العام كي يتخذ منها أساساً واضحاً، بعيداً من النزاع الفردي، في إرشاد الإنسان نفسه وفي تمكينه من السيطرة على بيئته، وبالتالي في تقريب أفراد الجماعة الإنسانية بعضهم من بعضهم من بعض وفي تكوين ما يسمى (بالعقل الإنساني)
والفلسفة في بدئها ونهايتها، وفي قديمها وحديثها، لم تعمل لغير هذه الغاية. وما يبدو في معارف الإنسان الأولى من خيال أو وهم أساسه استخدام المقياس الشخصي في بحثها، وما يبدو في علومه لآن من عقل ومنطق أساسه التقرب بقدر ما يمكن من المقياس الثاني، والتخلي بقدر المستطاع عن العوامل الشخصية في البحث
وعلماء النفس حينما نظموا الأبحاث النفسية الحديثة، فرضوا (للجماعة) نفساً كنفس الفرد سواء بسواء، وطبقوا عليها لذلك مظاهر التطور النفسي من طفولة فمراهقة فرشد وبلوغ
وجعلوا من مميزات الطفولة (الأنانية) أو ما يسمى (بأنا) لأن الطفل في أحكامه يصدر عن (ذاته) وليس عن الواقع المجرد عن شخصه ونفسه. وجعلوا من مظاهر المراهقة الوقوف بين بين، إذ أحكامه وتصرفاته غير واضحة المصدر. ولذا نراه يعيش كثيراً في الخيال الذي لا يمت إلى الحقيقة الراهنة بصلة وثيقة. وأحياناً يساير الواقع؛ ولكنه في خياله ملك ممتع، وفي حقيقته إنسان ضعيف يكثر البكاء والملل من هذه الحياة؛ لأن القلم الذي يسطر به في صحف الخيال لا يقدر على متابعة الكتابة فوق صخرة الواقع. وجعلوا من مظاهر الرشد أو النضوج ربط التصرف بالواقع، وعدم إقحام المؤثرات الشخصية في الحكم عليه،(355/11)
والنظر إليه (بعين الحقيقة) لا يعنيه هو
وكذلك حكموا على الجماعة فأطلقوا عليها جماعة ساذجة، أو لم تزل بعد في دور الطفولة، إذا كانت تجعل الفردية أو الشخصية أساس المعرفة؛ وحكموا عليها ببلوغ طور المراهقة إذا حاولت الفصل بين الشخصي والواقع، وببلوغ طور الرشد والنضوج إذا اتجهت في أبحاثها نحو الواقع أكثر من تأثرها بالعوامل الشخصية
وعلى هذا فالتفلسف، أو بحث الإنسان العقلي داخل الجماعة البشرية، يمثل دور الطفولة في الوقت الذي كان يسيطر فيه المذهب الشخصي ويحكى دور المراهقة في الزمن الذي بدت فيه الرغبة إلى الفصل والعمل على تنفيذ تلك الرغبة.
وفي عصرنا الحديث يدخل في دور الرشد والنضوج لأن السائد في أبحاثه مذهب الـ
هذا عرض تاريخي موجز لأساليب البحث في القديم والحديث بالنسبة للفلسفة والتفلسف، وفي أطوار نمو وتدرج الجماعة في التفكير من الوجهة البسيكلوجية.
وفي ضوء هذا نعود إلى هؤلاء الباحثين، أمثال ذلك الباحث (الأناني)، الذين تتصل أحكامهم صلة وثيقة بذواتهم، وتتكون مما لهم من ثقافة خاصة ونظرة في الحياة لنقول لهم: إن هذه الأبحاث مادام مصدرها (أنا) وغايتها (أنت) سوف يكون اعتبارها شخصياً لا تؤدي نصيباً في الإنتاج الفكري العام.
ثم إلى هؤلاء الأقلاء الذين يسلكون في أبحاثهم طريق (العقل الكلي)، عقل الإنسانية - لا ذلك العقل الجزئي - لنقول لهم أيضاً: عليكم وحدكم يتوقف توجيه أمتنا في حياتها العقلية وعليكم وحدكم يتوقف مستقبل التفكير في مصر والسير به إلى طور الرشد والنضوج!
محمد البهي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس
من جامعتي برلين وهامبورغ(355/12)
مزامير للنفس العربية!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 - خمائر المهد الأول
نحن الآن في قلب الجزيرة. . . في جاهليتها الأولى، الثرية بمعاني طفولة البشرية التي تملأ الحياة شعراً وتهاويل وأوهاماً. . .
نخوض في بحر من الرمال يغلي بالحرارة، ويبسط على الجلود لفحات من لظى تصيب الأجسام بقشعريرة من بَحَران الحمى التي تصهر الأجسام، وتجعلها جمرات مشبوبة المشاعر، ثائرة العناصر، حديدة المزاج، مكشوفة الرماد عن الطبع الخالص، والفطرة الصريحة. . .
ننقل الخطأ على تراب آبائنا الأولين، ونبحث فيه عن عظامهم التي غابت في التلال والرجام. . .
ونشم فيه دماءهم التي ابتلعتها الرمال المتعطشة أبدا مع ما ابتلعت من دموع الغمام. . .
ونحدق في الأضواء والظلمات إلى صورهم التي طبعت في ألواح الأثير مع ما صبته الشمس والكواكب من الأضواء والظلال. . . ونتسمع إلى أصواتهم التي فنيت في الصمت المطلق. . .
فتطالعنا من وراء الغيب أشباح لها وجوه سمراء، حادة النظرات، دقيقة الأنوف، عريضة الجباه، عليها سيما الكبرياء والاعتداد، وسهوم العزلة والتفرد. . .
يمتصون حرارة الصحراء، وينضحونها دماء حارة، وحرية حمراء. . .
ويصيدون النغم الذائب في الأجواء، ويصوغونه شعراً منثوراً ومنظوماً ببيان يقتحم الآذان، ويلقف العقول. . .
ينشدونه في هياكلهم المبنية بجدران من جبال، وأعمدة من نخيل فارعات كالمَردَة. . .
ويتغنون به في مواسم الحُب والحرب على حواف الآبار، وشواطئ بحار السراب والآل. . .
ويقيمون للبيان أسواقاً يعرضون فيها لعب الجن بأرواحهم وقلوبهم وألسنتهم، ويتركون أنفاسهم خالدة في ألفاظهم ميراثاً محفوظاً لمن يأتي بعدهم. . .(355/13)
منثورون في صحرائهم محجوبون بها عن عيون الأمم الطامعة كأنهم جن متخفية في عالم بعيد. . .
سيوفهم شائلات كأذناب العقارب يضربون بها دفاعاً عن الحرمات، وعشقاً للحريات، وشراء للشرف والمكرمات. . .
إبلهم تهدر في صمت الصحراء بأصوات كالأمواج المحبوسة والزلازل المكتومة. . .
تسيل بها الأباطح راقصة برقابها البيض والسود ورؤوسها الصغيرة ذات العيون الساهمة. . .
يحدو لها إنسانها بأصوات صادرة من قلوب عميقة تيمها الحب والشوق الأبدي، وجرحها الفراق الدائم في سبيل الرعي والانتجاع وحب الأسفار والفرار من ثأر أو لإدراك ثأر. . .
يظعنون بها قوافل، عنق جمل في ذيل آخر، في خطوط طويلة ترتسم على الآفاق في الأماسي والأسحار والضحوات والأصائل. . . تحسبها أشباحاً ضالة تهيم في خيال شاعر. . .
حتى إذا وصلوا إلى شواطئ الحضارة في الشمال أو الشرق أخذوا حاجاتهم المحدودة من أسواقها، وتسقطوا أخبارها، ثم عادوا بجْر الحقائب بركب موسوق تعربد قلوبهم من الشوق إلى الحبائب اللواتي هن النعيم العزيز الوحيد للقلب العربي الذكي المحروم
والخيام تخفق فيها هبوات الريح على الرُّبا والتلاع، أمامها نيران موقدة تنادي بضوئها عيون الضالين الغرقى في أمواج البيد والظلمات. . .
والنيران راقصة عارية تغازلها عيون الرجال من بعيد. . .
والصبية والجواري يرقصن ويغنين بأصوات فيها أنغام محدودة مكررة. . .
وتحمل النسائم أصواتهن إلى آذان الخيل فترقص في حماسة وخيلاء. . .
ثم يفنى كل هذا في صمت الصحراء!
أمة اندمجت في الطبيعة، غابت فيها بأشخاصها، وعبدت مظاهر القوة فيها، وتسمى أفرادها بأسماء الجماد والنبات والوحش فقالوا: أسد وذئب وكلب وثعلب ونمر ويربوع وحجر وحنظل وجندب ومرة وزهرة وأنف الناقة. . .
ووضعوا قلوبهم على كل شئ فيها يتحسسون نبض الحياة، كما يعلق الفنان المستغرق(355/14)
قيثارته على الأغصان يتسمع بها إيقاع الريح ووسوسة الحصى واصطفاق الأمواج. . .
ثم خلعوا من أوهامهم الشاردة على الحجارة صوراً وتماثيل لمسوها بأيديهم وعبدوها في غيبوبة فكر وثوران قلب وقلة علم
والكهنة والعرافون - وهم الأذكياء منهم - اختلطت في نفوسهم رُؤَى الكون المبهم، وهم محرومون من تعليل العلم وهدى النبوات؛ فصارت الحياة أمامهم رموزاً وألغازاً شردت نومهم وجعلتهم يهيمون في أرض عبقر مع الجن والخفاء والخوف وصرخات الإنسان الضائع الفريد. . .
هؤلاء هم خميرتنا التي انحدرت منها إلينا عناصر ورواسب في الدماء وخصائص في الأعصاب. . .
نزلت في موجات وأنسال وأجيال إلى الهلال الخصيب في العراق ووادي النيل وجنات الشام في أدوار يعرفها التاريخ القديم. . .
هؤلاء هم الذين دائماً تلدهم الجزيرة الولود، ثم تقذفهم على أحضان بناتها و (داياتها): العراق والشام ومصر. ليخففن عنها الحمل ويتعهدن ما تلد. . .
هؤلاء هم الذين كانوا يلقحون دائماً ضعف أوطاننا بالقوة، ومرضها بالصحة، وتعقيدها بالبساطة. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا الفراعين من عهد (مينا) في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في الشام؛ وهم الذين عمروا العالم القديم. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا إبراهيم أبا أنبياء العالم المتحضر، فأخضعوا أشرف ما في الحياة لسلطانهم الروحي المتجدد على أيدي موسى وعيسى ومحمد
هؤلاء هم الذين اكتسحوا في موجتهم الكبرى جميع فروق التي كانت أبناء ما يحيط بهم وطَوْوا الجميع في الدين الواحد واللغة الواحدة والعادات الواحدة
وهؤلاء لا يزالون يعمرون بوادي الجزيرة محتفظين بحياتهم مبعثاً لقوتنا وتخليداً لدمائنا واحتفاظاً بميراثنا وبياناً لعراقتنا في الحرية والمساواة والعزة والفطرة
فواجبنا أن نلقي ببذورنا وغراسنا الناشئة إليهم في دور من أدوار التربية والتكوين لتتصل الطبائع بينابيع القوة. . . فنجعل الحياة معهم فترة من الزمن فرضاً محتوماً على الشباب(355/15)
من جميع أقطار الوطن العربي. . . فإن هذه الحياة الحرة القوية الصريحة الطبيعية سوف تترك خمائرها وآثارها في مقاومة الضعف والخناثة والبعد عن منطق الطبيعة وأسلوب الفطرة
وكما أن حياة البحر جزء من تكوين الإنجليزي فكذلك يجب أن تكون حياة البادية جزءاً من تكوين العربي حيثما كان. فالإنجليز يعتزون بحياة البحر وبالأخلاق المكتسبة منه كالصبر ومواجهة الصعاب والاعتداد بالنفس وحب الرحلة والكشف. . . فيجعلون الخدمة في الأسطول أمنية الأماني أمام الشباب
وكذلك يجب أن يعتز العربي بحياة البادية والخدمة في (أسطول الصحراء)؛ فإنها تترك نفس الآثار والنتائج التي تتركها خدمة البحر في النفس
إن العربي بقوامه الممشوق الذي ليس فيه ترهل وفضول، وبمجموعته العصبية القوية، وبملامحه الحادة ومنطقه السريع المحكم المبين، وبشهامته وكرمه وشجاعته وتقاليد فروسيته، وشاعريته - ثروةٌ عظيمة تغنى الناس بكثير من الأخلاق التي يفتقدونها الآن فلا يجدونها. وقد صارت له صورة رمزية شعرية في أذهان الأمم يحيد بها إطار من هذه الأخلاق
وهو إن كان في باديته معدوداً من الإنسان البُدائي فإن اختياره هذه الحياة وتجميلها بصفات ربما لا يحظى بشرفها غيره من سكان العالم المتحضر، قد جعل الأمم تنظر إليه نظرة خاصة غير النظرة التي تأخذون بها من هم في مستواه الاجتماعي والاقتصادي في البوادي والحواضر
في قلب الجزيرة الآن دولة هي معجزة من معجزات هذه الأمة التي طالما ملأت التاريخ بالمعجزات
دولة هي في سلامها وأمنها حديث صامت من أحاديث القدر يرسله في القرن العشرين درساً لمن ملأوا الدنيا قوة ودساتير وشرائع لكفالة النظام والسلام، ومع ذلك لا يزالون مطاردين من الهدم والفوضى والإجرام
دولة أقامها ووطدها رجل لا يعرف تزويق الكلام ولا مضغ الأحاديث، إنما عرف الطبيعة والفطرة واستمد من أحكام كتابهما وميراث رسولهما. . . فأقام دولة الأحلام التي زعموا أن(355/16)
الذئب رعى فيها الأغنام. . .
دولة مجدت الطبيعة العربية وأبرزتها في إطار من فن البداوة في القرن العشرين، وجلت ميراثها القديم الذي صار من إيغاله في القدم جديداً طارفاً وبدعاً مستحدثاً. . .
وكان لابد من قيامها في نهضة العرب هذه لرد الإيمان إلى قلوبهم وبعث الحنين في نفوسهم إلى مهدهم الأول وعرشهم الأبدي. . . فهي عنوان عريض ودليل جديد على أن أصول حياتهم عريقة واشجة في مناجم الحياة ومنابت الناس. . .
فليحتفظ العرب دائماً بخمائر حياتهم ووراثات مهدهم الأول مجردة من الوثنيات والجهالات. . .
وليسبغوا على الحياة في قلب الجزيرة جواً من فن الفكر وشعر الروح. . .
وليفروا إليه فترة من الزمان ليخلعوا عن أنفسهم آثار الحياة في التعقيد والتكلف والضعف الذي يستلزمه الخوض في الطين والحرير والطرق المعبدة التي ليس فيها شوك وقتاد. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجئ كل مسلم أسد!
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(355/17)
في الاجتماع اللغوي
نشأة اللغة الإنسانية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
اختصاص الإنسان باللغة ومراكزها
عرضنا في المقال السابق إلى أهم أنواع التعبير الإنساني، فذكرنا أنها ترجع إلى أربعة ضروب:
1 - التعبير الطبيعي عن الانفعال بأمور مرئية، كتفتح
الأسارير وانقباضها، واحمرار الوجه واصفراره، ووقوف
شعر الرأس وارتعاد الجسم وما إلى ذلك من الظواهر المرئية
الفطرية التي تصحب مختلف الانفعالات
2 - التعبير الطبيعي عن الانفعال بظواهر مسموعة،
كالضحك والبكاء والصراخ. وما إلى ذلك من الظواهر
الصوتية الفطرية التي تصحب حالات الفرح والألم والحزن
والسرور
3 - التعبير الإرادي عن المعاني بأمور مرئية، كالإشارات
اليدوية والجسمية التي تستخدم مستقلة أو مع غيرها بقصد
الدلالة على المعاني والمدركات
4 - التعبير الإرادي عن المعاني بظواهر مسموعة، وهي
الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات.(355/18)
وهذا النوع هو الذي تنصرف إليه كلمة اللغة إذا أطلقت
وسنشرح في مقال اليوم مدى مشاركة الحيوانات للإنسان في كل نوع من هذه الأنواع الأربعة
تشترك معظم فصائل الحيوان مع الإنسان في النوعين الأول والثاني من أنواع التعبيرات السابق ذكرها (التعبير الطبيعي عن الانفعالات بمظهريه المرئي والمسموع). فانفعالات الحيوان، جسميها ونفسيها: كالجوع والعطش والسرور والفرح والاطمئنان والحزن والاشمئزاز والغضب. . . وما إلى ذلك، يثير كل منها لدى المتلبس به طائفة خاصة من الحركات الفطرية غير المقصودة، وهذه الحركات بعضها بصري، أي يصل عن طريق حاسة النظر: كاتساع الحدقة وضيقها، وبسط الأذنين وخفضهما، والتكشير عن الناب، ووقوف الشعر، وانتفاخ الجسم والأوداج، والهرب والاختفاء. . . وما إلى ذلك؛ وبعضها سمعي، أي يتمثل في صوت يصل عن طريق الأذن: كرغاء الناقة وبغامها، وصهيل الفرس وقبعه عند نفوره من شئ وحمحمته عند الجوع أو الاستئناس، وشحيج البغل، ونهيق الحمار، وخوار البقر، وثغاء الغنم، وزئير الأسد، وعواء الذئب، وتضوره وتلعلعه عند الجوعه، ونباح الكلب، وضغاؤه إذا جاع، ووقوقته إذا خاف، وهريره إذا أنكر شيئاً أو كرهه، وضباح الثعلب، ومواء الهرة، وضحك القردة، وصرصرة البازي، وقعقعة الصقر، وهدير الحمام، وسجع القمري، وزقزقة العصفور، ونعيق الغراب، وفحيح الحيات وكشيشها وحفيفها عند تحرش بعضها ببعض إذا انسابت، ونقيق الضفدع. . . وهلم جراً. . .
وتشترك كذلك بعض فصائل الحيوان مع الإنسان في التعبير الإرادي البصري، وهو التعبير بالإشارة. ويبدو هذا على الأخص لدى الحيوانات التي تعيش جماعات كالنحل والنمل والقردة والبقر والغنم والوعول وما إليها - فقد ثبت أن كثيراً من هذه الفصائل وغيرها تستخدم أحياناً بعض إشارات جسمية للتعبير بشكل مقصود عن بعض شئونها. ففحل الأوعال (الأيل) يستخدم في أثناء قيادة قطيعه بعض إشارات برأسه وقرونه للوقوف فيقف جميع أفراد القطيع، وبعض إشارات للسير فيسير جميع أفراد القطيع؛ ويستحث المتخلفات بأن ينطح كلا منها نطحاً خفيفاً. ويستخدم الأذكياء من الكلاب مع أفراد فصيلتها(355/19)
ومع الآدميين بعض إشارات بالرأس وغيره للتعبير بطريق إرادي عن أمور خاصة، كأن تمر بأظافرها على الباب ليفطن أصحابها إلى وجودها فيفتحوا لها، أو تدفع إناء طعامها برأسها للتعبير عن حاجتها إلى الغذاء. . . وهلم جرا
وتستخدم كذلك فصائل القردة، وبخاصة الفصائل العليا منها (الغوريلا والشمبانزيه والجيبون والأورانج - أوتانج)، وفصائل النحل والنمل بعض شارات من هذا القبيل. فقد كشف العلامة كوهلر عن ظواهر كثيرة من هذا النوع عند فصائل القردة العليا: منها ما يعمله الشمبنزيه حينما يريد أن يرافقه آخر في طريقه، أو يرغب أن يعطيه أحد زملائه شيئاً مما في يده، أو يطلب نداءه عن بعد: فإنه في الحالة الأولى يحتك به بخفة ويجذبه من ذراعه محدقاً فيه ومتقدماً بعض خطوات في الطريق التي يود أن يسلكاها معاً؛ وفي الحالة الثانية يمد يده إلى زميله مد الاستجداء؛ وفي الحالة الثالثة يمد يده ويقبض كفه ويبسطها كما نفعل نحن في مثل هذه المناسبة. وقرر الأساتذة فرانكلين وكيربي وسبنسر وبورميستر وهوبير , , , , أن كثيراً من طوائف النحل والنمل يستخدم أفرادها، بعضها مع البعض، إشارات مقصودة للتعبير بها عن بعض شئونها، وأن هذه الإشارات تتمثل في احتكاك بعض أعضاء المتكلم أو أطرافه أو ذؤاباته بجزء من جسم المخاطب بطريقة خاصة. قام العلامة لوبوك هذا الصدد بطائفة كبيرة من التجارب، فتبين له صدق ما ذهب إليه هؤلاء الأساتذة
وأما النوع الأخير من أنواع التعبير التي أشرنا إليها أول هذا المقال، وهو اللغة بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، أي الأصوات المركبة ذات المقاطع التي تتألف منها الكلمات، فيظهر أن الإنسان قد اختص بها من بين سائر الفصائل الحيوانية
حقاً إن بعض طوائف الحيوان تصدر عنه أصوات شبيهة في ظاهرها بهذا النوع من التعبير، ولكن بالتأمل في هذه الأصوات، يتبين أنها عارية من خصائص اللغة في صورتها الصحيحة، وأنها ترجع إلى فصيلة أخرى من فصائل الأصوات. وسنعرض فيما يلي لأهم ما يبدو عند الحيوان من هذا القبيل، معقبين على كل مظهر منها بما يبين وجوه الفرق بينه وبين اللغة الصوتية بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة
يرجع أهم ما يلفظه الحيوان من هذه الأصوات إلى ثلاث طوائف:(355/20)
(الطائفة الأولى) أصوات فطرية الأصل يستخدمها الحيوان قاصداً بها التعبير عن بعض شؤونه: كالحمحمة التي ترددها الفرس بشكل إرادي عند رؤية صاحبه للتعبير عن حاجته إلى العلف، والمواء الذي يلجأ إليه الهر لينبئ به عن جوعه، والنباح الذي يلفظه الكلب قاصداً به إيقاظ أهل المنزل أو إرشادهم إلى أن شخصاً أجنبياً يحوم حول البيت. . . هلم جراً
وهذه الطائفة ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ووظائفها. ذلك أنها أصوات مبهمة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما لايخفى، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض. هذا إلى أنها في الأصل أصوات فطرية تصحب الانفعالات، وأن كل ما يعمله الحيوان حيالها في هذه الحالة أن يرددها هي نفسها بشكل إرادي للدلالة على نفس انفعالات التي تعبر عنها في شكلها الفطري أو للدلالة على أمور انفعالية قريبة منها (الجوع، العطش، الخوف. . . الخ). وأصوات هذا شأنها لا يصح عدها كلاماً؛ لأن أهم خصائص الكلام أنه أصوات موضوعة للدلالة، أنه يعبر عن معان لا عن انفعالات
(الطائفة الثانية): أصوات متنوعة تلفظها القردة في اجتماعاتها بطريقة يتبادر منها إلى الذهن أنها وسائل تعبير إرادي، وأن أفراد القردة تتجاذب بها الحديث بعضها مع البعض. وتبدو هذه الظاهرة بشكل واضح في الفضائل العليا من القردة وبخاصة (الجيبون)
وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ وإن أشبهتها في ظاهرها ومناسبات استخدامها. فقد ظهر بالبحث فيها أن بعضها تعبير طبيعي عن الانفعال، وبعضها مجرد ترديد إرادي لهذا التعبير، وبعضها من ظواهر التداعي الآلي أو العدوى الصوتية أو تقليد الحيوان بطريق فطري غير إرادي لأصوات نفسه أو أصوات غيره. - هذا إلى أنها على الرغم من تنوعها، وعلى الرغم من تشابه أعضاء النطق عند فصائل القردة بأعضاء النطق الإنسانية أصوات مبهمة بسيطة عارية عن المقاطع والكلمات وغير متميزة العناصر. ومن أهم خصائص الكلام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، اشتماله على مقاطع وكلمات وتمييز عناصره بعضها من بعض
(الطائفة الثالثة) أصوات مركبة ذات مقاطعة تلفظها بعض الطيور كالببغاء، وما إليها من(355/21)
الفصائل التي امتازت أعضاء صوتها بخصائص طبيعية تتيح لها إخراج هذا النوع من الأصوات.
وهذه الطائفة كذلك ليست في الواقع من اللغة الصوتية في شئ، وإن أشبهتها في الظاهر. وذلك أن الطائر لا يقصد بهذه الأصوات التعبير، فهي تصدر عنه في ثلاث حالات كلها فطرية آلية عارية بتاتاً عن هذا القصد:
الحالة الأولى: حينما يكون الطائر متلبساً بانفعال جسمي أو نفسي. وهي في هذه الحالة من نوع التعبير الطبيعي عن الانفعالات: تصدر عن غير قصد، ويثيرها بشكل آلي الانفعال المتلبس به الطائر. وإثارتها مؤسسة على الروابط الطبيعية الفطرية التي تربط أعضاء الصوت بحالات الجسم والنفس بطريقة تجعل هذه الأعضاء تتحرك وحدها بشكل آلي أو منعكس، وتلفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع عند وجود حالة من الحالات الجسمية أو النفسية المرتبطة بها. فهي حينئذ من قبيل الضحك والبكاء وما إليهما من مظاهر (التعبير الطبيعي السمعي) وكل ما هنالك أن التعبير الطبيعي السمعي يبدو عند الحيوانات الأخرى في صورة أصوات بسيطة مبهمة، ويبدو عند هذه الطيور أحياناً في صورة أصوات مركبة ذات مقاطع
والحالة الثانية: حينما تكون محاكاة لصوت إنساني سمعه الطائر. وهي في هذه الحالة كذلك تصدر بشكل آلي عار عن قصد التعبير بل عن قصد المحاكاة نفسها. وذلك أن هذه الفصائل مزودة بروابط طبيعية تربط جهاز سمعها بجهاز صوتها بطريقة تجعل أعضاء الجهاز الثاني تتحرك وحدها وتلفظ بشكل آلي نفس الأصوات التي يحسها الجهاز الأول. فكلما وصل الصوت إلى سمعها، في ظروف خاصة، انبعث صداه من أفواهها
(والحالة الثالثة) قد تسمع الببغاء أحياناً كلمات أو أصواتاً في مناسبة ما فتكررها كلما حدثت هذه المناسبة أو المناسبة أخرى تشبهها يتبادر منها إلى الذهن أنها تقصد بها التعبير عن أمر معين: فقد تسمع مثلاً أصحابها ينادون طفلاً باسمه فتكرر هذا الاسم كلما رأت الطفل أو رأت دميته أو متاعاً من أمتعته
وهذه الأصوات كذلك ليست من اللغة في شئ وإن التبست بها في بادئ النظر، وذلك أن الطائر لا يقصد بها، في الواقع، التعبير عن أمر ما؛ وإنما تصدر منه بشكل غير إرادي(355/22)
على صورة التي تصدر فيها ظواهر (التداعي الآلي). فمن كثرة تكرار الكلمة أمام الطائر، بحضرة الشخص أو الشخص أو الشيء الذي تدل عليه، يرتبط صوتها بصورة مدلولها، فينبعث الصوت من الطائر بشكل آلي كلما ظهر أمامه المدلول أو ما يتصل به
هذا، ولا يمتاز الإنسان بهذا الصدد عن بقية فصائل الحيوان باللغة الصوتية فحسب، بل يمتاز عنها كذلك بطائفة من المراكز المخية التي تشرف على مختلف مظاهر هذه اللغة: (مركز إصدار الألفاظ، مركز حفظ الكلمات المسموعة. . . هلم جراً). . .
فقد ثبت أن هذه المراكز ليس لها نظير في مخ أي فصيلة حيوانية أخرى، حتى الفصائل العليا من القردة نفسها.
فالبحث في نشأة اللغة يتطلب إذن دراسة موضوعين اثنين: أولهما نشأة الكلام في الفصيلة الإنسانية؛ وثانيهما نشأة مراكز اللغة في المخ الإنساني.
وسنعرض لهذين الموضوعين في المقالات التالية إن شاء الله.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(355/23)
الأمومة عند العرب
للأستاذ رفعة الحنبلي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
هناك نوع آخر من أنواع النكاح اشتهر به العرب، كما اشتهرت بالنكاح الوقتي، أعني به: نكاح الذواق الذي كان يعقد دون شريطة ما، ويحل من نفسه إذا أراد ذلك أحد الطرفين متى لم يجد فيه اللذاذة والتنعم، ومتى فقد منه الميل والعطف
على أن هنالك بعض أنواع من النكاح كان شائعاً بين العرب في أيام الجاهلية شيوع الناكحين السابقين. جاء عن عائشة زوج النبي العربي: أن (النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها، نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها؛ ونكاح آخر كان الرجل يقول لأمرته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضِعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة منه في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع؛ ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها، فإذا حملت وضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها؛ تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان: تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل؛ ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن، ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك
لم تكن تلك الأنواع من الزواج إلا عادات تأصلت في أخلاق القوم، وتمكنت من نفوسهم، فبقيت ظاهرة مدة طويلة بين العرب حتى بعد الإسلام، وبعد أن هدم صاحب الشريعة الإسلامية نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم، ذلك أن العرب لم تثنهم الأوامر الإلهية، ولا الشرائع السماوية عن هذه العادات التي ورثوها عن آبائهم الأولين، جيلاً بعد جيل، ولم تحملهم دفعة واحدة على التمسك بالزواج الشرعي(355/24)
تبين لنا مما تقدم شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة وغيرها بين العرب، إذ لا سبيل إلى معرفة الأب بل ولا حاجة إلى معرفته أبداً، إذ لم يكن الزواج معروفاً، وإذ كان الولد يتبع أمه ويتعلق بها في جميع أموره، على أن الرجل أخذ يشعر بالميل نحو طفله، وبالعطف على ولده الذي كان هو سبب وجوده في هذا العالم، واشتد ميله إلى الاعتناء به وضمه إليه، وإلحاقه به، فنشأ عن هذه الظاهرة الجديدة، عادة تعين أباً اختيارياً للولد، معتمدين في ذلك على الظواهر خارجية وعلامات خاصة، وقد يكون تعين هذا الأب أندر في زواج المشاركة منه في تعدد الأزواج الذي كان يملك فيه بعض الأقارب - أو بالأحرى بعض الأخوة - امرأة واحدة. ففي هذه الحالة كان الأخ الأكبر أو من تنتخبه المرأة، أو من تعينه القافة، يأخذ على عاتقه تربية وليدها ويتبناه، كما أنه يعد - غالباً - أباً له، وإن لم يكن في الحقيقة أباه. ولم يأخذ العرب بهذه الظاهرة الجديدة، إلا بعد شيوع تعدد الأزواج ونكاح المشاركة، وظهور أول مبادئ الزواج الفردي في المجتمع الإنساني، إذ أنه لو كان دائماً للولد أب حقيقي أو كان يعين له والد ولو بتلك الطريقة الاختيارية، لصعب على كل باحث أن يدرك الأسباب التي دعت إلى حصر القرابة في الأم. فكثيراً ما نجد أن الولد في الجاهلية، ليس له أب حقيقي بل لم يكن أحد يتبناه وهذا ما أدى إلى شيوع الأمومة في العرب أو التمسك بقرابة الأم.
ومن الأدلة الواضحة على شيوع الأمومة عند العرب، قبل قيام نظام الأبوة عندهم، لفظة (بطن) التي تستعملها العرب حتى اليوم بمعنى العائلة أو القبيلة، ولا ريب، أن هذه الكلمة بمعناها الحقيقي تدل - في زمن مضى - على أن المرأة كانت مصدر العائلة ومحورها.
ومن آثار الأمومة أيضاً، اعتقاد العرب بانتقال الصفات الطبيعية من الرجل إلى ابن أخته، وإن لم يكن بينهما في الحقيقة صلة رحم تجمعهما، وهم إلى ذلك يؤمنون أن الولد ينشأ على غرار خاله، في أخلاقه وميوله وعاداته، دون أبيه، لأنهم وثقوا بصلة داخلية جد قوية بين الخال وابن أخته، يوم كان الولد يتبع نسب أمه وينتسب إليها؛ فكم من أمير من أمراء الجاهلية خلفه ابن أخته في زعامته، وورث عنه ألقابه وأمواله، دون أولاده؛ لذا كان العرب يفخرون بالخؤولة فخرهم بالأمومة.
وكذلك الرق، فإنه أثر من آثار الأمومة، انتقل إلى الإسلام من الجاهلية، ومن صفاته أن(355/25)
الولد يتبع أمه، وحالته تتوقف على حالتها، وهذا ما يعرف عند العلماء بأن (الولد يتبع الرحم)، بمعنى أنه إذا كانت الأم حرة، فولدها حر، وإن تزوجت عبداً؛ وإن كانت أَمة، فولدها عبد، وإن كان زوجها حراً. وفي كلتا الحالتين، يتبع الولد أمه في حالتي الحرية والرق.
ذكر مؤرخو الأدب، أن عنترة العبسي، الشاعر الجاهلي الكبير، كانت أمه حبشية، وأبوه من سادات بني عبس؛ أنف أبوه أن يلحقه بنسبه فجعله في عداد العبيد، وكان عنترة عند أبيه منبوذاً بين عبدانه يرعى له أبله وخيله، فربأ بنفسه عن خصال العبيد، ومارس الفروسية ومهر فيها، فشب فارساً شجاعاً هماماً، وكان يكره من أبيه استعباده له وعدم إلحاقه به، حتى أغار بعض العرب على عبس واستاقوا إبلهم، ولحقتهم بنو عبس وفيهم عنترة لاستنقاذ الإبل. قال له أبوه كر، يا عنترة؛ قال: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر؛ قال له: كر فأنت حر، فقاتل قتالاً شديداً حتى هزم القوم واستنقذ الإبل.
لا ريب إذن في أن الأب الحر، لا يقدر أن يجعل من أبنه ولداً حراً، إذا كانت زوجة أَمة، ولو كان زواجهما شرعياً؛ والأم الحرة تستطيع أن تجعل من أبنها ولداً حراً، ولو كان زوجها عبداً رقيقاً. إن هذا التفاوت بين حقوق الأرقاء، إن هو إلا بقية من بقايا الأمومة التي نشأت عنها طبقة الأعيان عند العرب يوم كانت تؤثر نسب المرأة على نسب الرجل، في حفظ شرف أسرتها.
يقول المستشرق سميث إن العرب كانت، في عصر الجاهلية، على الزواج الخارجي واستشهد على ذلك بما قاله الذي رد هذا الزواج إلى العادة التي كانت شائعة بين العرب عن وأد الفتاة أو قتلها مما أدى إلى قلة النساء وزيادة عدد الرجال زيادة بينة، فاضطر الرجال إلى طلبهن في غير قبائلهم.
لا نكران أن بعض القبائل العربية كانت تمارس هذه العادة، وكانت تئد بناتها بعيد ظهورهن؛ قيل (كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له لإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية - أي لها من العمر ستة أعوام - فيقول لأمها طيبيها حتى أذهب بها إلى أعمامها، وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيه ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها(355/26)
التراب حتى تستوي البئر بالأرض) وقيل (كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته)
وورد في أمثال العرب ما يفهم منه أنهم كانوا يرتاحون إلى وأد البنات؛ من ذلك قولهم: (تقديم الحرم من النعم)، و (دفن البنات من المكرمات). أما السبب في وأد البنات، فهو إما خوفهم من لحوق العار بهم من أجلهن أو للتخلص من مؤونة تربيتهن أو مخافة السبي والفقر والإملاق؛ بل كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن. ولما ظهر صاحب الشريعة الإسلامية، النبي العربي الكريم، نهى الله عن هذه العادة وحرمها فقال: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطئاً كبيراً).
ويقال إن العرب، قبيل الإسلام، عدلت عن هذه العادة أو كادت؛ فقد عرف صعصعة بن ناجية أنه كان يقاوم وأد البنات، ويفدى كل موءودة بناقتين وجمل؛ فلقب بمحي الموءودات وبه افتخر الفرزدق إذ يقول:
ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد
لم تكن هذه العادة من الأسباب التي دعت الرجال إلى طلب النساء في غير قبائلهم، ولم تكن أيضاً سبباً من أسباب شيوع الزواج الخارجي عند العرب كما زعم , إن ظاهرة طبيعية غفل عنها العالمان ولم يتنبها إليها، هذه الظاهرة حرية بالتفكير والتأمل، ذلك أن إحدى المفكرات ذهبت إلى أن الإناث في المخلوقات جميعها تفوق الذكور منها عدداً، وإذا تمشينا على هذه القاعدة نجد أن عدد البنات كان ولا يزال أكثر من عدد الصبيان، فضلاً عن أن الرجل يتعرض دائماً لأخطار الحروب والأمراض أكثر مما تتعرض لها المرأة، ومهمة الرجل كانت تقوم على محاربة العدو لحفظ كيان قبيلته من الفناء، وعلى قتال وحوش الغابات والأحراش للحصول على أهم ما يحتاجه من مأكل وملبس وإذا ما سلمنا جدلاً مع هذين العالمين، أن وأد البنات كان من أسباب شيوع الزواج الخارجي، فكيف سمحا لنفسيهما أن يتجاهلا نتيجة هذا الوأد في القبائل الأخرى؟ فإن قل عدد النساء في قبيلة واحدة، وجب أن تقل في قبيلة أخرى، وهذا ما يجعل الزواج الخارجي عسيراً إن لم يكن مستحيلاً. . .(355/27)
فليس السبب الحقيقي إذن في شيوع الزواج الخارجي بين العرب وأد البنات، بل هو شدة كراهة العرب لزواج القرابة. قال المستشرق إن من جملة الأقوال الحكيمة التي أبقاها عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة الشهيرة وصيته لأولاده: (لا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض) ثم أتى بمثل يشتم منه كراهة العرب للزواج داخل الحي، أي الزواج وهو: الغرائب ولا القرائب
فالعرب إذن كانت في الأزمنة الغابرة على النكاح الخارجي وإن أخذت بالزواج الداخلي حيناً من الزمن، إذا أصبح رجال القبيلة الواحدة يتزوجون من نساء قبيلتهم، وليس في قبيلة أخرى؛ إلا أن هذا الزواج لم يكن شائعاً شيوع الزواج الخارجي.
ولقد رافقت الزواج الخارجي ظاهرة جديدة أخذ العرب بها، هذه الظاهرة هي التحاق الزوج بزوجه وبالتالي بأسرتها وبقبيلتها فبقاء المرأة، بعد زواجها، في قبيلتها، وحملها زوجها على الإقامة حيث تقيم بين أهلها، تعد هذه الظاهرة صفة من صفات الأمومة، وكان من أمر هذا أن تبع الولد أمه والتحق بنسبها
فطن العرب إلى أهمية الزواج الخارجي من الناحية الوراثية، إذ يكون النسل قوياً عقلاً وجسماً، فأخذوا به، بينما أهملوا الزواج الداخلي لاعتقادهم أن الزواج من القرابة يولد الفقر في العقول، والضعف في الأجسام فنأوا عنه؛ وهذه النظرية التي أخذوا بها تطابق - ولو إلى حد ما - النظريات الوراثية الحديثة
إلا أن هذا الاعتقاد يخالف ظاهراً ما أشتهر به العرب قديماً من أنهم كانوا يفضلون نكاح بنات العم على غيرهن، لكن في الواقع، لا نجد أي تناقض في هذه المسالة. ذلك لأن كل عربي يلقب محبوبته وخطيبته ببنت عمه، وحماه بعمه، وإن لم يكن بين الطرفين وشيجة رحم أو صلة قرابة، وليس بوسع الباحث أن يرد سبب إطلاق كلمة العم على الحم، وبنت العم على محبوبته، إلا لتمسك العرب، منذ القدم، بالأمومة والزواج الخارجي الذي نتج عنهما الزواج بين أولاد الأعمام، أي أنهم كانوا يسمحون لأولاد الاخوة الذين أمهاتهم من قبائل مختلفة أن يتزوج بعضهم من بعض، لفقدان صلة القرابة بينهم باعتبار أن الأمومة تتطلب من الولد أن ينتسب إلى أمه، وأن يتبع خاله بعدها دون أبيه
فالزوج لم يكن إذاً في ذلك العهد بين أولاد الأعمام وبنات العم زواجاً فيه قرابة، بل فيه(355/28)
بعد، في حين أن الرجل كان يحجم عن التزوج بابنة خاله لاعتقاده أن الخؤولة أكثر قرابة من العمومة، ولربما كان هذا الاعتقاد من الأسباب التي دعت إلى إطلاق كلمة بنت العم على المرأة عامة
(بيروت)
رفعة الحنبلي(355/29)
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
أكثر الكتاب والمؤرخون في سرد الوقائع، ووصف أبهة
القصور وعظمة السلطان، وجعلوا التاريخ سلسلة حوادث
متفرقة، متباينة، وأغفلوا التيارات الاجتماعية التي كان لها
أكبر الأثر في سير التاريخ، يظهر هذا خاصة في التاريخ
الإسلامي. ثم تنبه بعض المستشرقين لذلك، وحاول أن يسد
بعض هذا النقص. ولدينا في هذه الرسالة (النقابات الإسلامية)
عرض عام لنتيجة البحوث عن أهل الصناعات والحرف في
الإسلام
وقد ترجمت هذه الرسالة لأنها تعطي القارئ العربي فكرة عن نظر بعض المستشرقين إلى بعض مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية في التاريخ الإسلامي. وقد نشرت هذه الرسالة في مجلة
, , 1973
ولكن النص العربي يحوي إضافات ومعلومات لم تنشر هناك، وهي النتائج الأخيرة لأبحاث المؤلف عن موضوع؛ إذ تفضل بإضافتها أخيراً
(ع. د)
إن طوائف أهل الصناعات والحرف هي من أهم ظواهر الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى.
يندر أن يجد الإنسان أثراً لما نسميه روحا مدنية (نسبة إلى مدينة)، أو تنظيماً بلدياً (نسبة(355/30)
إلى بلدية) في البلاد الإسلامية فقد كانت المدن الإسلامية في القرون الوسطى وقتية الظهور على الأغلب، تتمتع بازدهار تجاري أو ثقافي لمدة قرن أو نحو قرن، ثم تتضاءل أو تختفي. وبهذا ندر وجود طوائف بلدية معينة، أو حدات متحضرة دائمة. إذ أن روح التكتل والتنظيم المحلى التي كان لها أهمية كبرى في أوربا في القرون الوسطى، منعت من الظهور في الحقل السياسي بتأثير الأوضاع السياسية المضطربة في البلاد الإسلامية، وسيقت تلك الروح لأن تجد لها منفذاً في الحياة الاقتصادية. وهكذا نجد في أصناف الحرف في الإسلام ما يساوي تلك الحياة المحلية القومية التي هي من أبرز مظاهر تاريخ أوربا في القرون الوسطى.
كانت النقابة مهمة في الحياة الإسلامية لدرجة أنَّ تخطيط المدينة - التي كانت تبنى على أساس سوق تجارية - كان يقرر في كثير من الأحيان حسب حاجات أصحاب الحرف. فنرى أن المدن الإسلامية من مراكش إلى جاوة ظهرت بتماثل عجيب متمركزة حول ثلاث أو أربع نقاط أساسية
فأول نقطة ثابتة هي سوق الصرافين، وهو مركز هام دائماً في النظام الاقتصادي الثنائي الأساس في العملة، كما كانت الحال في البلاد الإسلامية في القرون الوسطى
ونجد حواليه جامعي المكوس، ثم دار الضرب (إن وجدت هنالك واحدة)، ثم سوق المزايدة، ثم المحتسب وهو ملاحظ الأسواق. وهنا نجد الحمالين أيضاً
والمركز الثاني هو القيصرية - وهي بناية محكمة تخزن فيها البضائع والنفائس الأجنبية ويحتمل أن يكون الاسم بيزنطي الأصل. والمركز الثالث هو سوق العزل - حيث يأتي النساء لبيع إنتاجهن اليدوي. وهنا نرى المتعاملين بالحاجات التي يشتريها النساء كالقصابين والخبازين وبائعي الخضر الخ. . .
والمركز الرابع هو الجامعة أو المدرسة. وهي ملحقة عادة بمسجد، وفيها يكوِّن الطلبة والأساتذة نظام نقابة حقيقة.
ويشتغل أهل الحرف حول هذه المراكز الأربعة، كل صنف في سوقه الخاص. يلاحظ من هذا أن توزيع النقابات يتبع هذا النظام في المدن المختلفة حيث توجد هذه المراكز الأربعة.
دعنا الآن ننظر في منشأ هذه النقابات، وهو بحث يلاحظ فيه أنه لم يتقدم بالقدر الكافي(355/31)
هناك رأي يقول بأن هذه النقابات هي متممة للنقابات البيزنطية التي سبقتها، إذ كانت توجد نقابات متعددة في المقاطعات البيزنطية كسوريا ومصر حتى القرن السابع الميلادي. وليس من المحتمل أنه قضى عليها من قبل الفاتحين العرب الذين كانت سياستهم كما نعلم ترك الهيئات الإدارية والاقتصادية التي خلقها البيزنطيون كما كانت عليه تقريباً. ومع ذلك لا نرى أية إشارة إلى وجود نقابات إسلامية قبل القرن العاشر الميلادي؛ أي بعد ثلاثة قرون (مع بدء الفتح)، كما أن هذه النقابات كانت من نوع يختلف تماماً عن النقابات الموجودة قبل الفتح الإسلامي. وليس لدينا إلا ملاحظات قصيرة متقطعة (عن النقابات) خلال هذه الفترة وأولها جملة في تاريخ ابن عذارى المراكشي إذ يقول عن والي أفريقية والغرب سنة 770م (155هـ): (وكان يزيد (بن حاتم) هذا حسن السيرة فقدم أفريقية وأصلحها ورتب أسواق القيروان وجعل كل صناعة في مكانها)
ومع أن الكتاب الذي يحتوي هذا النص قد كتب في القرن العاشر فلا مانع من قبول صحة هذا الخبر وهو خبر طريف في ذاته، إذ أنه يظهر أن الأمير العربي وضع العمال والأسواق في القيروان، وهي مدينة جديدة بناها العرب الفاتحون، تحت نفس الإدارة والمراقبة كما كان يفعل الحاكم البيزنطي في المدن المجاورة. ولكن يظهر لي أن استنتاج وجود نقابات عربية في القيروان من هذه العبارة، كما فعل (فون كريمر و (آتجر غير مؤيد بالبيانات الموجودة
وفي نهاية القرن التاسع الميلادي نجد عدداً لا بأس به من المصادر يشير إلى وجود شئ من نظام التكتل بين التجار وأصحاب الحرف. ولكن هذه الأصناف لم تصل بعد إلى درجة يصح اعتبارها كنموذج للأصناف الإسلامية. وإنما هي مجرد تنظيم عام وضبط للأسواق والحرف من النوع الموصوف في المصادر البيزنطية المعاصرة يمكن أن نستنتج من هذه الإشارات أن الأمراء المسلمين احتفظوا بأشكال السيطرة العامة التي كانت للإدارة البيزنطية على الحرف - على الأقل في معاملاتهم مع الصناع من غير العرب وغير المسلمين - وربما امتد ذلك حتى إلى المسلمين أنفسهم. وعلى كل حال فإننا نجد في القرن التالي تطوراً ظاهراً فيما يسمي بالأصناف الإسلامية، وحينئذ نجدها من نوع لا يصح تعليله بالتأثير أو التراث البيزنطي. وتوجد نظرية أخرى بجانب هذه النظرية يتطلب(355/32)
فحصها الانتقال إلى موضوع قد يجهله غير المستشرقين
بدأ المستشرقون في السنوات الأخيرة يتأكدون أكثر فأكثر أن المذهب السني في العصر الأول للخلافة لم يكن أبداً مذهب الطبقات العامة، وكلما ازدادت دراسة الباحث في الأدب الإسلامي في القرون الوسطى ازداد الاتضاح من المذهب السني كان ينظر إليه في كل محل كدين طبقة مسيطرة، دين الدولة وميزة الأرستقراطية العربية الحاكمة وقد كانت هذه نظرية الفاتحين أنفسهم في الأدوار الإسلامية الأولى، ولقد كانت الأكثرية الساحقة بين رعايا الخليفة - لقرون عديدة بعد الفتح الإسلامي - غير سنية تكره المذهب السني كرمز لسطوة طبقة أجنبية حاكمة تتمتع بامتيازات خاصة
ومع ذلك كان الشعور الديني قوياً بين الطبقات العامة، وقد تجلى هذا الشعور بظهور سلسلة فرق متزندقة منشقة منذ القرن الثامن الميلادي حتى الفتح المغولي، وتتصف جميع هذه الفرق تقريباً بفلسفة خاصة تحتوي عناصر مقتبسة من فرق سبقت العصر الإسلامي كالأفلاطونية الحديثة والمانوية والمزدكية وبفلسفة اجتماعية ثورية فيها عامل المساواة بين الأفراد وبتنظيم سري يشبه النظام الماسوني، وهي عادة من أفراد من مختلف الطوائف مع درجات من التنشيئ والتهذيب، ونجد مثلاً عصرياً لنجاح هذه الفرق وفشل المذهب السني في حالة الهولنديين في الهند الصينية (إندونيسيا) والفرنسيين في أفريقيا الغربية، حيث على الرغم من قواها المتفوقة نجد البعثات المسيحية تتقدم بين السكان الوطنيين بنجاح اقل من نجاح الدعوة الإسلامية. فهنا أيضاً يرى الزنجي أو الإندنوسي أن المسيحية متصلة بحكم أجنبي، فيفضل أن يكون مسلماً من الدرجة الأولى على أن يكون مسيحياً من الدرجة الثانية
بلغت هذه الحركات الدينية أوجهها في القرنين العاشر والحادي عشر. فقد كانا مرحلتي تطور صناعي وتكتل حضري. فظهور نظام راق للبنوك مركزها بغداد، تغطي فروعها الإمبراطورية، ساعد على تجهيز الدولة بالنقود وعلى حفظ النقود بصورة عامة أساساً للاقتصاد. وقد أثر هذا على النمو الصناعي، فأنتج تمركزاً في رأس المال والعمل كما ولد النمو السريع في رأس المال حسب المنتظر مشاكل اجتماعية خطيرة. إذ نقرأ عن سلسلة اضطرابات خطيرة في بغداد، وعن ثورة الزنج في أسفل العراق في القرن التاسع، ثم عن(355/33)
ظهور فرق دينية باستمرار. وفي هذا العصر زلزل العالم الإسلامي بحركة ثورية سياسية اقتصادية ثقافية في نفس الوقت أنتجت الخلافة الفاطمية في القاهرة. فالحركة الإسماعيلية (أو القرمطية) - ما تسمى هذه الحركة تبعاً لأسم أهم شعبها وأكثرها أهمية - تميزت بآراء حرة عجيبة. إذ وجهت دعوتها إلى مختلف الفرق الإسلامية - من سنة وشيعة - ومختلف الأديان من يهود ونصارى،، وزرادشتية على السواء باسم الحركة الثقافية والعدالة الاجتماعية، ويصعب البت في فلسفتها الحقيقة لأن مصادرنا إما سنية فتكون شديدة العداء متحيزة، أو إسماعيلية تنتمي إلى عصر متأخر عند ما طرأ على المبادئ الأولى تعديل واسع. فمثلاً نرى أن فخر الدين الرازي وصم الغزالي والشهرستاني والبغدادي بالتعصب وقلة فهمهم لأراء خصومهم. إذ روى عن حديث له عن المسعودي عن الكتب قال: (فقد ذكر المسعودي كثيراً منها إلى أن ذكر كتاب الملل والنحل للشهرستاني. فقلت: نعم، إنه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العلم بزعمه إلا أنه غير معتمد عليه، لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفرق بين الفرق، من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على وجه الصحيح، وقد أدرك الغزالي الخاصة الاجتماعية للمذاهب المنشقة، وقال في الكلام عن الباطنية: (فاستبان أن ما ذكروه تلبيس بعيد عن التحقيق وأن العامي المنخدع به في غاية العمى، لأنهم يلبسون على العوام) ثم قال أيضاً عنهم: (فما هولوا من خطر الخطأ مستحقر في نفسه عند المحصلين من أهل الدين، وإنما يعظم به الأمر على العوام الغافلين عن أسرار الشرع). وعند الكلام على الدعاة الباطنيين قال: (وهؤلاء الدعاة تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم فيتوصلون به إلى آمالهم)
ومن الواضح على كل حال أن الحركة الإسماعيلية كانت مبنية على نوع من التفكير الحر تعترف بقرابة الأديان جميعاً وتنبذ الشريعة الإسلامية، وتستند إلى مبدأ من العدل والتسامح والمساواة التامة؛ وبطريقة حاذقة من التفسير تعرف بالتأويل أسندت هذه المبادئ بنصوص من القرآن والكتب الدينية الإسلامية وكذا عوملت كتب اليهود والنصارى المقدسة بنفس الطريقة. . .
وقد ذكر عبد الله الإسماعيلي في عرضه للأسس الاجتماعية للإسلام أنه (ما وجه ذلك إلا(355/34)
أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا ينقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدأ من العبث من القبور والحساب والجنة والنار حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله: لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى (الشورى 23) فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون. وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج).
روى هذا النص مؤلف سني توفي سنة 1037، كمثل من زيغ القرامطة وشك بعض الباحثين في صحته. لكن النص وإن كان ركيك التعبير، فأنه لا يوجد فيه غير الحط من شخصية الرسول، لا يمكن تأييده بنصوص من الكتب الإسماعيلية القديمة القليلة أو المتأخرة التي لدينا.
(يتبع)
عبد العزيز الدوري(355/35)
رسالة الشعر
بين الجد والفكاهة
بيوت الشعراء
للأستاذ محمود غنيم
كسوت الناسَ خزاًّ من ثنائى ... وبتُّ من البِلى أرفو كسائي
فوا لهفي على أبياتِ شعرٍ ... أُشيِّدها ولكن في الهواءِ
أَأُنشئُ كلَّ يوم ألف بيتٍ ... وأسكُنُ بعد ذلك بالكراء؟
فلو طاب المُقام ببيت شعر ... إذن لأقمتُ في أعلى بُناء
إذن لملأت شطَّ النيل دوراً ... فلم تَرَ فيه شبراً من فضاء
وآويتُ الأراملَ واليتامىَ ... ولم أترك شريداً بالعَراء
ولم أُوقِعْ على السكاّن حجزاً ... ولو عجز الجميع عن الأداء
إذن لملكتُ أحياَء بمصرٍ ... تناطح دورُها هامَ السماء
أطوف بهنَّ داراً بعد دارٍ ... فصيفي هاهنا وهنا شتائي
ولكن لا مُقامَ ببيتِ شعرٍ ... يطيب، ولو بناه أبو العلاء
ألا من يشتري أبياتَ شعري ... بكوخٍ شيدَ من طينٍ وماءِ؟
فليس الطينُ أكرمَ من فؤادي ... وليس الماءُ أغلى من دمائي(355/36)
المنبوذ
للأديب فؤاد بليبل
جَائِعٌ لفَّهُ الضَنَى بِرِدَائِهْ ... أَيْنَ نَارُ الجَحِيمِ مِنْ أَحْشَائِهِْ
لَفَظَتْهُ الحَيَاةُ فَهْوَ شَرِيدٌ ... يَصِلُ البُؤسَ صُبْحَهُ بِمسائِهْ
شَاحِبُ الوَجْهِ نَاحِلُ الجِسْمِ طَاوٍ ... تَتَمَشَّى الأوصابُ في أعْضائِهِ
وَعَلى جِسْمِهِ بَقَايَا رِدَاء ... تتبدَّى العظامُ منْ أجزائه
باهتِ اللونِ مثل بشرِتهِ شَكْ ... لاً، يضُمُّ الشقاَء في أنْضائه
خِرَقٌ رَثَّهٌ عَلى جَسَدٍ با ... لٍ وَقَدْ زادَ الضنى في ألتِوائه
شَبَحٌ منطوٍ على كبد حرٍّ ... ى ونفسٍ قد رُوِّعَتْ بشقائه
غائرُ المقلتينِ أنهَكَهُ الجو ... عُ وأذكى الاوارَ في أمعائه
فكأنَّ السقامَ ما يرتديه ... وكأنَّ الشقاَء من أسمائه
وكأنَّ الجحيمَ ما هو فيه ... وكأنَّ الزمانَ من أعدائه
كلّما شامَ بارقاً من رَجاء ... فجعَ اليأسُ قلبَهُ برجائه
ضائِعٌ في الوُجودِ جدُّ شقّيٍ ... يجمعُ البؤسَ كلَّه في كسائه
ضاربٌ في النجادِ لا جادَهُ الغي ... ثُ ولا شوكها أرتوي من دمائه
ركبَ العُمْرَ لَّجْةً وَهْوَ فيها ... زَوْرَقٌ نازحُ الشواطئ تائه
هشَّم الموجُ جانبيهِ وألقَى ... بِشِرَاعَيْهِ في غياهبِ مائه
وَرَمَاهُ الإعصارُ في كلِّ قاعٍ ... واحتَواهُ الخِضَمُّ في أنوائه
نَالَ منهُ القنوط كلَّ منالٍ ... وتنحى أهلُ الوَرَى عن عزائه
هائمٌ في القفارِ لم يؤوِهِ ع ... شٌ ولا ابتلَّ رملها من بكائه
يتلقى على الهجير شقياً ... أينَ لفحُ الهجيرِ من بُرَحَائه
لائذٌ بالفرارِ من دهره الطا ... غي وأينَ المفرُ من أرزائه
آبقٌ والشقاءُ جيشٌ لُهامٌ ... زاحفٌ من أمامِهِ وورائه
كلّما هَزَّ للزمانِ قناةً ... حَطْمَتْهَا الأيامُ في أحشائه
أنْكَرَ الناسُ ما يقاسي وقالوا ... مجرمٌ يخدع الوري بريائه(355/37)
وأشَاحوا عنه الوُجوهَ احتقاراً ... وتواصَوا بنَبْذِهِ وازدرائه
زَعَمُوهُ عبثاً عليهم ثقيلاً ... وَهُمُ المُثقلون من أعْبائه
حَمَّلوُهُ آثامَهم وأحَلُّوا ... دَمَهُ لا بتئاسِهِ واجتدائه
عَذَبوهُ بالجوع ظُلْما وراحوا ... يشبعونَ الذئابَ من أشلائه
طَرَدُوهُ عن أن يشاركَ حتى الك ... لب في ما يَعَافُهُ من غذائه
شَرَّدُوهُ في الأرضِ من خوفهمِ مِنْ ... هـ وَجَدَّتْ جُنُودُهم في اقتفائه
أيَّ شرٍ يخشونَهُ من شريدٍ ... يتبارى الجميعُ في إيذائه؟!
ألهَذا الطريدِ أَنْشَأْتُمُ السج ... نَ وأَعْدَدْتُمُ القنا للقائه؟!
ألهذا الضعيفِ أشرعتم الرم ... حَ وَخِفْتُمْ من بطشهِ واعتدائه؟
ألهذا الفقير هَيْأتُمُ السو ... طَ وحَذَّرتُمُ الورى من عطائه؟
أيُّها المفترونَ مِمّ تخافو ... نَ أَمِنْ ذُله وفرط عيائه؟!
وتردِّيه في التعاسةِ والبُؤ ... سِ وطولِ اكتآبه وبلائه؟!
أم هُوَ الدهر أعزَّ أولى اليُسْ ... رِ وأخنى ظلماً على فقرائه!
سفَّهوا رأَيهُ وربَّ فقيرِ ... تُسْتمدُّ الآراءُ من آرائه
وأَبى الأغنياء أَنْ ينصفوه ... ويحَ هذا الزمان من أغنيائه!
لا تَلَومُوه إن تمرَّد أو ثا ... رَ وهزَّ الوُجُودَ مِن أَرْجَائه
أَنُتُم سقتموه للإثْمِ سَوْقاً ... فعذروهُ إن لجًّ في غُلَوَائه
هاجَهُ ظلْمُكْم فثارَ عليكم=وأَثَارَ الكمينَ من شحنائه(355/38)
نشيد العمل
للمدارس التجارية والطبقات العاملة
للأستاذ علي الجندي
نَحْنُ أبْنَاءُ العمل في مَيادِينِ الحَيَاهْ
كلُّنا حُرٌّ بَطَلْ تُحْرِزُ التِّبْرَ يَدَاهُ يَحْمَدُ النِّيلُ خُطَاهْ
نحنُ أبناءُ العملْ
نَحْنُ للشَّعبِ عِمادْ نحنُ للنيلِ دِعامْ
نحنُ للناسِ رشادْ نحنُ لِلمالِ قِوامْ نحنُ للعَيْشِ نِظامْ
نحنُ أبناءُ العملْ
نحنُ للسعي خُلقنا كالطيورْ والذي يَسعى ينالْ
لا نُبالي ما لقينا كالصُّخور حَيَّ أحرارَ الرِّجالُ حَيَّ أبطالَ النِّضالْ
حَي أبناءَ العملْ
نحنُ رمزٌ للدَّأبْ ومِثالٌ للشَّبابْ
عصرُنا عصرُ الغلَبْ من تواني فيهِ خابْ
لا ترَى فينا الكَسِلْ لا تَرمي فينا الوَكِل
نحنُ أبناءُ العملْ
نحنُ لا نرضى الغِنَى في ظِلالِ المنْصِبِ
فالتمسنا رزقَنا منْ طريق المكسَب
وَسَعْينا جُهْدَنا واقتديْنا بالنَّبي
فَبَلَغْنَا سُؤْلَنَا وَقَهرْنا الأجْنَبي
نحنُ أبناءُ العملْ
مِصْرُ هبَّتْ من كَرَاها سَدَّدَ الله خُطاها وَرَعى عَرْشَ البِلاَدْ
نَحْنُ الخطْبِ فِدَاها نحنُ نَرْمي مَنْ رَماها نحنُ فُرْسَانُ الجِهَادْ
نحنُ أبناءُ العملْ(355/39)
إيَّاك أَعْني. . .
للأستاذ محمد كامل حتة
يَا مَنْ جَهِلْتَ حَقِيقَتِي ... فأَفَدْتَنِي بالجهلِ عِلْماً!
جُوزِيتَ عَنِّي مِنْ جَهُو ... لٍ زَادَنِي عِلْماً وحلما!
أَنْكَرْتَنِي فَعَرَفْتُ ... نَفسِي، يا لمَعْرِفَةِ النفوسْ. . .
هِيَ جَنَّةُ الرُّوح الشَّرِ ... يد وَبَسْمَةُ القلب العَبُوسْ!
لاَ بَلْ هي النارُ التي ... يَشْقَي بها العقلُ السعيدُ!
وَيظلُّ يهفو كالفَرَا ... شَةِ نَحْوَها يرجُو المزيدُ. . .
هامتْ مع الآمالِ في ... وَادِي الهَوَى المسحُورِ نَفْسي
فَضَلَلْتُ عنها، وانثَنَيْ ... تُ أخُبُّ في أذيالِ يَأسِي!
كم رُحْتُ أنشُدُها ب ... كلِّ مِظَنَّةٍ وبكل وادِ. . .
حيرانَ أضرِبُ في فِجَا ... جِ الأرضِ مُضطَّرِبَ القِيَادِ!
كم إذا شَقِيتُ بِغُرْبَتِي ... في هذه الدُّنْيا الكَنُودْ. . .
فَطَفِقَتُ أندُبُ وحْدَتِي ... وَزًهِدْتُ في هذا الوجودْ!
ماذا لَقِيتُ مِنَ الحيا ... ةِ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ مَرِيرْ؟
هِيَ مِحْنَةُ العقلِ البص ... يرِ ونعمةُ القلبِ الغَرِيرْ!
لَوْلاَكِ - نفسي - ما شَقِ ... يتُ بما أُعَانِي مِنْ قَلَقْ!
وَلَقَرَّ بين جَوَاِنحِي ... قلب يَوَدُّ لَوِ أنْطَلَقْ. . .
نفسي! عَرَفْتُكَ مُنْذُ أن ... كرني الجَهُولُ المُدَّعِي. . .
وَبهِ اهتديْتُ إليكِ في ... هذا المُقامِ الأرفَعِ!
كَفَى مَلاَمَتَهُ فمَا ... هو بالمَلاَمَةِ يَجْدُرُ
ما ضَرَّهَا شَمْسُ الضُّحَى ... ألا يَرَاها الأجْهَرُ؟(355/40)
الأدب في الأسبوع
مولده
سكن الكون وأصغى، وتعبَّأت كل القوى الأبدية لحشدها، وعبَّ التيار الإلهي الذي يموج به الكون، وسعت الملائكة بالبشرى بين خوافق السماء والأرض، وتهللتْ أجيال النبوّة بأفراح خاتمها الذي أتم الله به نعمته على الناس، وسَرَتْ في الكائنات أسرار الحياة الجديدة فاهتزت وربت واستشرفت إلى النور الخالد الذي ينبع من أفق الإنسانية العالي البعيد، ووسوست رمال الصحراء بتسبيحة المجد لله، تستقبل الأقدام التي تطؤها بالنور الذي سيمشي أولَ ما يمشي على حصبائها، ثم يمشي بأصحابه في أرجاء الأرض يحييها بعد موت، ويطهرها بعد دنَس
سكن السكون وأصغى، وسكنت نأمةُ الشياطين في مخارمها ومهاويها وآفاقها، وخشعت وساوس إبليس بالرعب والفزع، وثبتت في مساربها جائلات الجِبتِ والطاغوت، وتحيَّرت في مستقرها أباطيل الأوثان وهام الالوهة المزيفة على الناس ثم اهتز الكون كله بالفرح، فتداعت أبنية الأجيال الوثنية الباطلة، ثم أخذت تتداعى تحت الأشعة النبوية التي نشرت على الدنيا نورها بالحق والعدل والتوحيد والسلام. . .
سكن الكون وأصغى، ثم اهتز بنوره وتطهر، صلى الله عليه وسلم. والسلام عليك يا رسول الله، سلاما من كل قلب، وفي كل زمن، والحمد لله الذي أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون
أعيادنا
أعياد الأمم هي الأيام التي تستعلن فيها خصائص الشعوب وذخائرها وخلائقها الأدبية والعقلية والنفسية والسياسية. هي الأيام المبتهجة التي تنبض بالحياة وأسبابها في الأمة، لتدل على السر الحيوي الساري في أعصاب الحياة العملية اليومية المتتابعة على نظام من الجد لا يكاد يختلف
واحتفال الشعب بأعياده أمر ضروري لإعطائه المثل الأعلى وإمداده بالروح التي تدفعه إلى مجده، أو إلى المحافظة عليه. فهو من ناحيتيه يظهر ما في الشعب من خصائصه ومحامده وعيوبه؛ ويبقى على المثل الأعلى بالتجديد والبهجة والزينة(355/41)
فأعياد الأجانب الأوربيين مثلاً تكتشف عن قوتهم واعتدادهم بأنفسهم، وتعشقهم لجمال الحياة الدنيا إدماناً وإغراقاً، وعن جعلهم المجاملة أصلاً أخلاقياً في أنفسهم وأهليهم، وعن غرورهم واستهتارهم واستهانتهم بأكثر الفضائل الإنسانية حين تجري في دمائهم عربدة الطغيان الإنساني المتوحش الذي يرتد إلى الغرائز الحيوانية المستأثرة باللذة، المجردة من الورع والتقوى
وأعيادنا نحن تهتك الحجاب عن ضعفنا وذلتنا، واستكانتنا لما نشعر به من الضعف والذلة، وتبين عن ذهول الشعب عن نفسه وعن تاريخه، وعن مجده، وتعلقه بترهات الحياة، وقلة مبالاته بجمالها، وانصرافه عن معرفة الأحزان الخالدة في طبقاته بخلود الفقر والجهل والبلادة
فهل يزدلف إلينا ذلك اليوم الذي تتمثل فيه أعياد الشعب الإسلامي صورة السيطرة والسيادة والقوة، وتتبدى عليه أفراح الحياة الراضية المؤمنة المطمئنة، وتعود إليه الأخوة الإسلامية التي ساوت بين الناس غنيهم وفقيرهم وعالمهم وجاهلهم، وجعلتهم سواء لا فضل لأحد على أحد إلا بالخلق والتقوى؟ هل يأتي ذلك اليوم السعيد الذي يجعل أعيادنا صورة من مدنية دين الله التي تبدأ بالرحمة والحنان والتعاطف، وتنتهي بالعمل والجد والصبر والتعاون؟ يومئذ تكون السيادة العليا للمدنية المستقبلة، مدنية الحرية التي لا تشتهي أن تفجر، والعلم الذي لا ينبغي ن يكفر
التعليم
فاز الأسبوع الماضي في مجلس النواب بإثارة انتباه الناس إلى شأن التعليم وسياسته التي درجت عليها وزارة المعارف من سنين تطاولت، وقد قدمت اللجنة المالية تقريرها عن ميزانية المعارف، وتناولت في هذا التقرير سياسة التعليم وأغراضه، وعيوبه وما ترجو به له الإصلاح، وناقش المجلس بعض هذه الآراء، وعرض حضرات النواب بعض آرائهم وملاحظاتهم. ونحن - على أننا لم نحضر هذه الجلسة بل قرأنا ما اختصر مما جرى فيها - نظن أن حديث النواب كان يدل دلالة قاطعة على أن وزارة المعارف التي انقضى على قيامها بهذه المهمة ما يربو على قرن من الدهر لم تقرر فيها أصولٌ صحيحةٌ للتعليم، ولم تجر سياستها على منهج يستمر بها إلى غاية تريدها على تدبير وحياطة(355/42)
أفلا ترى أن الوزارة لا تزال تسمع من الناس ومن النواب ومن أصحاب الرأي ما يجب عليها للتعليم الديني في مدارسها، وما ينبغي في مناهج تعليم البنات، وما تتطلَّبه أنظمة التعليم الإلزامي، وهل أدى الغرض منه إلى يوم أو لم يؤده؟ وما تفرضه الوطنية من النظر الصادق في ترقية التعليم الحر حتى يصل إلى الدرجة التي تليق به وبالأمة التي تتولى هو بعض الرعاية على بعض أبنائها، وغير ذلك من الشؤون الابتدائية في سياسة التعليم
فهذا عجيب أن تبقى وزارة المعارف إلى هذا اليوم، ولم تتقرر لها سياسة كاملة تتناول حياة الأمة العلمية والأدبية والخلقية والبدنية بأدق النظر وأحسن الرأي، فلا ينبغُ لها نابغ يسددها إلى هذه الآراء الأولية التي يفرض كل أحد أن الوزارة قد انتهت من إقرارها والسير عليها والتدبير لها بكل الوسائل التي تكفل للشعب تربية أبنائه تربية تامة كاملة مهيَّأة لتحمُّل الأعباء المثقلة التي سيحملها جيلهم من بعد هذا الجيل
وقد سارت وزارة المعارف في السنين الأخيرة على سنة لا يمكن إلا أن تفضي إلى توهين الروابط الثقافية التي تربط الشعب كله بعضه إلى بعض؛ وذلك كثرة تبديل المناهج وتغييرها عاماً بعد عام غير ضرورة ملجئة في أكثر هذا التبديل والتغيير. ولا بد أن تحزم وزارة المعارف أمرها على خطة واسعة متراحبة ترمي إلى أبعد مدى على أنم حذر، ليتسنى لها أن تمحو كل أخطاء الماضي التي لعبت فيها الأيدي الاستعمارية والسياسية بكل ما من شأنه أن يسلب الشعب قدرته على التحفز والتوثب والتجمع، وما ينشئه على الحرية العقلية والنفسية، التي ترفعه إلى درجات السامية التي يجب أن يرقى إليها كل شعب يريد أن يتحرر ويسود ويفرض مدنيته على الأرض التي يعيش عليها
وإذا أرادت وزارة المعارف ذلك الآن، فإن في همة وزيرها لذي لا يَمَلَ ولا يتأخر عن دواعي الوطن، إنفاذاً لهذه الإرادة. فوزير المعارف رجل معروف بالجد والإخلاص والمثابرة وقوة العزيمة، فلو اجتمع له كل أصحاب الرأي ممن يحب أن يساهم في شأن التعليم مساهمة الدرس والكفاح للمستقبل، لأمكنهم أن تنقذوا وزارة المعارف من البلبلة التي لا زالت تتساقط بها من ذلك العهد القديم المعروف بأغراضه في تحطيم قوى الشعب استعبادياًّ مستبداً. فنرجو أن يضمَّ وزير المعارف إلى رأيه جماعة من أصحاب التدبير السياسي للتعليم غير متقيِّد بشيء من الرسوم القديمة - وهو الرجل الحر - فإن القيود هي(355/43)
التي جعلتنا إلى هذا اليوم نسري في ظلام دامس من الأهواء التي غلبت على شأن التعليم فيما مضى
تعليم العربية
وبهذه المناسبة أذكر أني قرأتُ في الأسبوع الماضي أيضاً كلمة عن أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، وأن الكاتب ردَّ هذا إلى أسباب من المعلم والكتب وغير ذلك، وزعم أن أكثر كتُبنا لا يصلح لتعليم الناشئة لسان أمتهم. وإن يكن في هذا بعضُ الحقِّ فليس هو كلُّ الحقِّ، فان أسبابَ ضعفِ النشء في العربية ليس يُردُّ إلى المعلم والكتاب، بل مردُّه إلى المنهجِ الذي يُقيد المعلم بقيود كثيرة ترفع عنه التبعة في نتيجة التعليم، ويقيد الكتاب بمثلها، ويُعطى النشء ما لا يَصْلُح عليه لسانٌ ولا يستقيم به تعليم لغة
فلو أنت نظرت لما رأيت شعباً من شعوب الأرض المتعلمة، يفعَل بلغته ما نفعل نحنُ، من التجاهل للآثار الأدبيةِ وقلة الاحتفال بتزويد الناشئ بمادتها التي تحفظها لتكون أبداً على مدِّ الذاكرة وفي طلب اللسان. ولو أنت سألت أي مُتعلِّم من أهل الأمم الأخرى أن يُسمعك من روائع شعر أُمته ونثرها وحديث بلغائها لاحتفَلَ لك بالكثير الذي تظن مَعَه أنه إنما أعدَّ لك الجواب لعِلمه أنك قد أعددتَ له السؤال. فلو أنتَ جئت بعدَ ذلك إلى أحد المثَّقفين المكثرين المتنفخين من المتعلمين عندنا وسألته مثل ذلك لَنحا إليك بَصرَه فأتأرَ النَّظَر فابتسمَ فضَحك فستهزأ بك فولاّك ظهره فمضى يعجب من غفْلتك وحماقتك وقلّة عقلك
وإن بعضهم ليقول: ليس لنا ما لهم، أين للطالب المصري أو العربي ما يغريه بالقراءة كما يغري شكسبير وملتون وبيرون وشيللي وفلانٌ وفلانٌ من الشعراء والكتاب؟ بَلى أين؟ وإن يكن هذا كله حقاً فافترضناه كذلك، فليس يكون لنا مثل شكسبير وأصحابه إلا باستيعاب قديم كتابنا وشعرائنا، والحرص على آثار محدثيهم، فإذا كان ذلك أخرج الشّعْبُ يوماً أمثالَ هؤلاء لمن يلينا من أهل أمتنا. وإلا فإننا سائرون إلى ضعف أبداً ما دُمنا نرىَ الطالب لا يطيقُ أن يستوعبَ من شعر البحتري إلا قصيدة واحدة ومن المتنبي مثلها، ثم يكون ذلك آخر عهده وأوله بدراسة الآثار الأدبية العربية
إن الحفظ الأول للآثار الأدبية الرائعة قديمها وحديثها هو الذي يخرج الأديب والكاتب والشاعر. أنظر إلى المنفلوطي والرافعي وشوقي وحافظ والبارودي والزيات وطه حسين،(355/44)
كل هؤلاء لم يكونوا كذلك إلاّ لأنهم نشأوا وقد حفظوا القرآن أطفالاً فحملهم ذلك على متابعة حفظ الآثار الأدبية الجليلة، ثم حفز هذا المحفوظ ما انطووا عليه من الطبيعة الأدبية التي استقرَّت في أنفسهم وأعصابهم، فلما استحكموا استحكمت لهم طريقتهم في الأدب والشعر والإنشاء، ولولا ذلك لما استطاعوا أن يكونوا اليوم إلا كما نرى من سائر من تخرجهم دور التعليم بالآلاف في كل عام ينقضي من أعوام الدراسة
مشروع
كتب الأستاذ (محمد خلف الله) كلمة جليلة الغرض تحت عنوان (مشروع) في المجلة الثقافة العد (68) الماضي، وخلاصة هذا المشروع: أن تؤلف جماعة من الباحثين يمثلون اللغة والأدب وعلم النفس والاجتماع يكون من أغراضها أن تدرس النواحي المختلفة للاجتماع المصري الحاضر وما يكون فيه من الظواهر المختلفة التي يخشى أن تدرج وتبيد ولم نستفد من الحرص عليها إن كانت نافعة، أو الاستعانة بها في درء الأمراض الاجتماعية عن الشعب فيما يستقبل إن كانت من السوء بحيث تكون كذلك
وقد عَدّ الأستاذ خلف الله بعض الأمثلة فيما يجب أن تتوجه إلى دراسته هذه الجماعة كمخارج الحروف وأصواتها في كل الأقاليم المصرية، ورد ذلك إلى أصوله الأولى التي انحدر عنها من تاريخ القبائل، وكذلك اللهجات الكثيرة في الوجه البحري والقبلي مما هو - ولاشك - نتيجة لإقامة بعض العرب في هذه الجهات، ثم دراسة الأدب الشعبي من قصيد وموال ومثل وفكاهة وسمر، ودراسة الخلق المصري؛ وعيوبه وفضائله، وما يتعاوره من الغلو والضعف , ويكون ذلك كله إعداداً لمعرفة حقيقة هذا الشعب معرفة صحيحة، ثم نشر كل ذلك على التتابع في رسائل قد استوفت شروط المنهج العلمي للدراسة الاجتماعية واللسانية والفنية
وكلما يرحب بهذا المشروع الذي نستطيع معه أن نخدم الشعب خدمة عظيمة باستظهار ما يستسر من قوته، وما يستعلن من ضعفه، فيكون ذلك أحرى بأن يهدينا إلى إصابة الدواء الذي يحسم مادة الداء التي تلتهم أسباب رقيه سبباً بعد سبب. وهذه الدراسات المفصلة للشعوب على طبيعتها التي تتعامل بها في السوق والحقل والمصنع والمدرسة والبيت، وهي النجاة لنا من شر كبير قد أوقعنا فيه الاضطراب وقلة الخبرة. ولو علمت أن أكثر(355/45)
الأمم المستعمرة تلجأ إلى هذا الطريق نفسه في دراسة الشعب الذي تريد أن تستبد به، ليتسنى لها أن تعمل على إضعافه وقتله بتقوية ضعفه وإضعاف قوته دون أن يشعر أو يتألم بل يحسب أنه يسير إلى غايته على تدريج طبيعي - لو علمت ذلك علمت ما نستطيع أن نستفيده من نتائج هذا المشروع الجيد إذا أُحكم تنفيذه، ولم تَغْلبْ على اختيار رجاله محاباة، ولم تتحكم في هؤلاء لرجال شهوةٌ أو هوىً
محمود محمد شاكر(355/46)
رسالة الفن
تأملات في الفن
العشرة الطبية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
منذ زمن طويل والكتاب يدعون أستوديو مصر إلى إخراج العشرة الطيبة للسينما، وقد كان رجال الأستوديو يترددون دائماً حيال هذه الأوبريت الرائعة ويشفقون من إخراجها بسبب واحد وهو أن قصة العشرة الطيبة تصور الحياة المصرية في حقبة من الزمن لا تشرف المصريين، وهي تلك الحقبة التي حكمها فيها الأتراك والمماليك معاً، والتي كان هؤلاء الحكام يعبثون فيها بحقوق الناس عبثاً شديداً سخيفاً ضعف إزاءه المصريون، واستلانوا له وجعلوا شعارهم معه قولهم: (من تزوج أمي قلت له يا عمي) وقولهم: (إن كانت لك عند الكلب حاجة فقل له يا سيدي). . .
ولقد حاولت أكثر من مرة وفي أكثر من صحيفة أن أنزع من أذهان رجال أستوديو مصر هذه الكراهية الخاطئة التي يصبونها على العشرة الطيبة لهذا السبب وحده، ولعلي ضربت لهم يوماً مثلاً برواية هنري الثامن التي مثلها شارلس لاوتون لإحدى الشركات الإنجليزية، والتي لم يتورع ذلك الممثل الإنجليزي الكبير حين مثلها أن يصور هنري الثامن الملك الإنجليزي بصورة هي أقرب الصور لما كانت عليه حقيقة هذا الملك، ولم تكن حقيقة هذا الملك مفخرة من مفاخر بريطانيا العظمى، ولا مثلاً طيباً لحكمها وملوكها، وإنما كانت حياته كما روى التاريخ وكما أظهرتها السينما حياة كلها صيد وزواج، وأكل، وطلاق، وفتك بالنساء وبالحيوان وبالتقاليد، واستخفاف بشريعة النصارى التي لا تبيح انفصال الزوج عن زوجه إلا للسبب الشنيع الواحد الذي لم يحاول هنري الثامن مطلقاً أن يجعله وسيلة إلى التخلص من نسائه لأنه كان يرى نفسه فوق التحقيق والتدقيق واستقصاء الأسباب وإبداء الأعذار. . .
ومع هذه البشاعة كلها، ومع هذه العتمة والظلمة والسواد فإن الإنجليز لم يكرهوا شارلس لاوتون، لأنه أخرج هنري الثامن على حقيقته، بل إنهم على العكس من ذلك أحبوه(355/47)
وقدروه، وبدءوا منذ أخرج هذا الفلم يعتبرونه فنانهم الأول في هذا العصر، وهنري الثامن ذات حقيقية فعل بها شارلس لاوتون هذا كله تحت أعين الإنجليز وأسماعهم، بل إنه استعان على فعله هذا بأموالهم وبكفايات الذين ساعدوه من رجالهم. أما (العشرة الطيبة)، فليس فيها ذات حقيقية واحدة ممن يعتز بهم التاريخ المصري، أو ممن ينتسبون إليه ويخشى إن هو أظهرهم للناس أن يلصقوا به نقائصهم وعيوبهم. . . وإنما هي قصة خيالية تصور كاتبها المرحوم محمد تيمور أن حوادثها جرت في مصر، وقد كان يستطيع أن يتصورها جرت في الهند، كما كان يستطيع أن يتصورها جرت في كوكب آخر غير هذه الأرض، لولا أنه آثر أن تكون حين تنسب إلى مصر أقرب إلى نفوس المصريين، واشد إغراء لهم بالإقبال عليها والاستمتاع بها. وقد كانت (العشرة الطيبة) فعلاً من أحجار الأساس الأولى التي وضعت في بناء المسرح المصري
وقد ترامى إلينا أن أستوديو مصر بدأ يفكر في هذه الأيام في إخراج العشرة الطيبة، وأن رجاله بدءوا يتخلون عن تلك الفكرة العجيبة التي ظلوا يتشبثون بها زمناً طويلاً والتي حالت بينهم وبين إخراج (العشرة الطيبة) هذا الزمن الطويل، ولا ريب أن أستوديو مصر إذا نفذ هذه الفكرة فإنه سيفتح بها فتحاً جديداً في تاريخ أوبريت السينما في مصر، ففي هذه الرواية مجموعة من الألحان يشهد الموسيقيون المصريون جميعاً قبل النقاد وقبل الجمهور بأنها خلاصة الموسيقى التمثيلية المصرية، وأول من شهد بهذا هو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي وضع موسيقى هذه الأوبريت. فقد سئل رحمه الله يوماً بعد أن أنشأ لنفسه فرقة خاصة أخرج فيها روايتي (البروكة) و (شهرزاد) عن أحب آثاره الفنية إليه فقال إنها العشرة الطيبة، وكان السائل يحسبه سيقول عن إحدى هاتين الروايتين اللتين أعدهما لنفسه ولفرقته واللتين لن تأخذهما منه فرقة من الفرق
وإنني لا أشك في أن سيد درويش رحمه الله كان على حق في تفضيله للعشرة الطيبة على غيرها مما لحن، فهي أصفى وأنقى من كل رواياته، ونفسه منطلقة في ألحانها كل الانطلاق لا يقيدها قيد ولا يكتفها شرط
ولعل القراء يعرفون أن موسيقى سيد درويش كانت تصيبها أحياناً آفات لم يجد سيد درويش نفسه بداً من أن يسمح لها بأن تصيب فنه، بل إنه هو الذي كان يبلو فنه بهذه(355/48)
الآفات، لأن احترافه التلحين للفرق المختلفة هو الذي كان يجبره عليه. هذه الآفات تظهر بموازنة ألحان سيد درويش للفرق المختلفة بعضها ببعض. فألحان سيد درويش لمنيرة المهدية، غير ألحانه للريحاني، غير ألحانه (للعكاكشة. . .) وذلك يرجع إلى أن سيد دروش كان يتقمص أبطال الغناء والتمثيل حين يلحن لهم، وكان يتدفق في تلحينه لهم بروح هي أقرب إلى أرواحهم منها إلى روحه هو، وبأسلوب هو أقرب إلى أساليبهم منه إلى أسلوبه هو، وليس معنى هذا أن سيد درويش كان يفقد نفسه في هذه الألحان التي كان يعطيها غيره، وإنما معناه أنه كان يتنكر بصور مختلفة في أثناء تلحينه. . . ومن هذه الصور - صور المغنين والممثلين - ما هو خفيف جميل رائع، ومنها ما هو ثقيل سمج أقتم الظل. . . ومع الثقيل السمج الأقتم الظل لم يكن سيد درويش يستطيع أن يسبل عليه من الحسن إلا بمقدار ما تستطيع شركة السكر أن تبعث الحلاوة في ملاحة رشيد. . .
وكان سيد درويش رحمه الله يعارك الثقلاء من أبطاله، ويسبهم ويلعنهم، وكان يثور على بعضهم ويضربهم لكي يطاوعوه ويسايروه، ويحملوا أرواحهم على التأثر بروحه، وأذواقهم على التبسط في الغناء والتمثيل، وترك الشعوذة والتطريب، ولكنه لم يكن يجني من هذا كله إلا أن يحترق دمه وأن تتهدم أعصابه، ويظل الثقلاء من أصحاب الفرق وكبار المغنين. . . على ما هم عليه من فساد الذوق و (العصلجة)، فكان المسكين لا يرى بداً في بعض الأحيان من أن يعطيهم موسيقى لهم هم، وتروق الناس أيضاً، ولكنه هو كان أول من يعرف أن عنده خير منها وأروع. . .
أما حين وضع سيد درويش ألحان (العشرة الطيبة) فقد كان حراً متحرراً من كل قيد، ومن كل اعتبار خارج على إرادته
ذلك أن نجيب الريحاني كان له في ذلك الوقت فرقتان، فرقة كان يلعب بها (كشكشياته) الرشيقة وفرقة أخرى أسلمها العزيز عيد يخرج بها فناً دسماً. وكانت رواية تيمور هذه أول ما وقع عليه اختيار هذه الفرقة، وكان بديع خيري إذ ذاك لا يزال يشق طريقه إلى مجده الغني الزاهر فلما عهد إليه بوضع أزجال هذه الرواية بثها روحه كلها لم يقتصد ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها، فلما تسلم سيد درويش هذه الأزجال ليلحنها حراً أعطاها هو أيضاً كل نفسه، لم يقتصد كذلك ولم يدخر وسعاً في إجادتها والتأنق فيها. ولم يزل الريحاني(355/49)
ينفق على (بورفات) هذه الرواية الأشهر الطويلة حتى اكتمل ما أنفقه ألف جنيه، فضج وراح يزور هذه البروفات ليرى أي شئ فيها يستدعي هذا التريث كله، وهذه النفقات كلها. . . ولم تشعر به الفرقة وهو يتجسس عليها متسمعاً لأحد ألحانها، ولكنها شعرت به عندما فرغت من ذلك اللحن وهو يقول موجهاً الحديث إلى عزيز عيد: (لقد كان في عزمي أن أضع اليوم حداً لهذا الإسراف، ولكني بعد ما سمعت هذا اللحن أراني مضطراً إلى أن أترككم وشأنكم فليس هذا الذي تصنعونه بالشيء العادي)
وقد كان نجيب محقا، فالعشرة الطيبة من غير شك معجزة
وهنا قد يسألني سائل: لماذا كانت العشرة الطيبة (درويشية) أصفى من شهرزاد والمبروكة، مع أن هاتين الروايتين الأخيرتين قد وضعهما سيد درويش لنفسه ولفرقته لم يتقيد فيهما هما أيضاً بقيد، ولم يراع فيهما ذوق أحد غير ذوقه الخاص؟
وإجابة عن هذا السؤال نقول: إن سيد درويش لحن العشرة الطيبة أوائل حياته الفنية أو في أواسطها، بينما لم يلحن شهرزاد والبروكة إلا قبيل وفاته. وقد حدث أن تأثر سيد درويش بعد العشرة الطيبة بالأساليب الغربية في الإلقاء المسرحي، وقد ظهر هذا التأثر واضحاً جلياً في ألحان رواية البروكة الغربية الحوادث والأبطال، كما ظهر هذا التأثر باهتاً غير جلي في ألحان شهرزاد. وليس هذا التأثر بالروح الغربية مما يعيب هاتين الروايتين فلا يزال تقليد الغربيين في الفن الشرقي هو مقياس الفلاح، ولكنني أنا الذي أكره هذا التأثر، كما أحب أن أجد عند كل فنان مصري روحاً مصرية خالصة، هي من غير شك مهما هانت وتواضعت، لن تكون إلا أصدق من روحه إذا قلد بها الغربيين وأساليبهم.
ولكن سيد درويش كان معذوراً في التفاتاته للموسيقى الغربية وآلاتها وأدواتها وطرائقها وأساليبها، وتوزيع الأصوات فيها، فقد شاءت الظروف أن يكون هو الموسيقى المصري الذي ألقت عليه النهضة المصرية أعباء الفن ليثب به من حالة الركود والإنشاد التي سبقته إلى حالة الحياة والصخب والتدفق والتفرع والشمول التي كانت على أيام سيد، والتي يريد من جاءوا بعد سيد أن تكون على أيامهم.
فلو أن سيد درويش عاش أكثر مما عاش لكان قد استتب له تقرير ما يصلح أخذه من الأساليب الغربية في الموسيقى واصطناعه في موسيقانا، ولكان قد أدرك أنه لا يقل شيئاً(355/50)
عن وجنر وفردي وغير هذين من أعلام الموسيقى الذين كان يتوق دائماً إلى أن يكون في صفهم، ولم يكن إلا في صفهم بمواهبه وصفاء روحه، وإن كان قد أعوزه ما لم يعوزهم من التثقيف الفني الذي لا يعدو أن يكون حساب الموسيقى وتطريزها لا الموسيقى نفسها. . .
ولنعد الآن إلى أستوديو مصر لنسأله: هل صحيح ما نشرته بعض المجلات من خبر اعتزامه إخراج العشرة الطيبة. . .
أما إذا كان هذا الخبر صحيحاً فإنه خبر يغتبط له الشرق كله لا مصر وحدها. وإن لنا صحة هذا الخبر رجاء نتجه به إلى أستوديو مصر ورجاله وهي أن يشترك عزيز عيد ونجيب الريحاني معاً في الفلم على أي نحو وعلى أي وجه، فلهما من خبرتهما وذكرياتهما - على الأقل - ما نطمئن به على أن تعود الحياة إلى العشرة الطيبة على النحو الذي أراداه لها مع صاحبها. . .
والله الموفق.
عزيز أحمد فهمي
-(355/51)
القصص
الكتابة على الأرض
(مقتبسة عن أسطورة قديمة)
للكاتبة الأسوجبة سلمى لاجيرلوف
بقلم الأستاذ صديق شيبوب
كان قد صدر الحكم على المرأة الزانية، وكانت تعرف أنها سوف تعدم. . . إن الذين ألقوا القبض عليها، متلبسة بجريمتها، قادوها إلى الهيكل أمام الكهنة ورجال الشريعة، فأصدروا حكمهم عليها وفاقاً لشريعة موسى التي تقضي بإعدام الزانية رجماً بالحجارة. . .
كانت هذه الزانية هزيلة الجسم، وكانت ثيابها ممزقة وجهها دامياً من أثر الضرب الذي انهال عليها. . . وكانت لفرط ذعرها شبه ميتة، وقد ظلت ساكنة صامتة أمام قضائها. . . فلم تحاول أن تدافع عن نفسها، ولم تقاوم قبل ذلك الرجال الذين ألقوا القبض عليها وقادوها إلى الهيكل، أولئك الذين يدفعون بها الآن إلى المكان المعد لتنفيذ الحكم الصادر عليها. . .
على أنها بالرغم من مظاهر الضنك البادية عليها، كانت روحها مليئة بغضاً، ودمها يفور في عروقها غضباً. . . وكان واضحاً جلياً أنها لا تشعر بوخز ضميرها الهزيمة. . . فقد كان زوجها شديد القسوة في معاملتها، وكان يضربها ضرباً مبرحاً، ويحتم عليها أن تشتغل وتكد من غير أن يوجه إليها كلمة مؤاساة طيبة. . . لذلك لم تكن تعتقد أنها مدينة له بالأمانة والوفاء. . . وكانت نساء الحي يعرفن ما تقاسيه ويعجبن لصبرها على تحمل المضض، وطاعتها لأوامر زوجها، وأنها لا تقابل الشر بالشر. . .
وشعرت فجأة بالمصير الذي ينتظرها. . . فصرخت صرخة مدوية، وتراجعت إلى الوراء. . .
سمعت منذ نعومة أظفارها أحاديث كان الناس يتناقلونها همسا فيقولون: إنه يوجد في هيكل أورشليم مكان مخيف لا يقصده الناس إلا مرغمين؛ وكان هذا الموضع ساحة ضيقة في شكل مربع ذات أرض سوداء تحيط بها جدران عالية مشيدة بحجارة ضخمة. . . لم يكن في تلك الساحة مذبح، أو أقفاص حمام، أو مكاتب صيارف. . . لم يكن فيها غير كومة(355/52)
كبيرة من أحجار عادية كالتي توجد في الحقول، حجارة رمادية اللون بحجم رأس الإنسان. . . ولم تكن المرأة قد رأت هذا المكان قبل ذلك، ولكها عندما نظرت من فجوة باب مرتفع، ورأت الحجارة الرمادية اللون، فهمت لساعتها أي مكان يحتويها. . .
كانت تشعر برعدة وخوف كلما سمعت الناس تحدثون عن الساحة الخالية إلا من كومة من الحجارة حيث تكفر النساء الزانيات عن جرمهن وفقاً لشريعة موسى، وقد ظهر لها هذا المكان أشد شؤماً من جهنم، وهاهي ذي تقاد اليوم إليه
ماذا ينفعها الصراخ والمقاومة؟ لقد دفعها الرجال بعنف فدخلت الباب وبعد ذلك لم يهتموا بأن تظل واقفة، فتركوها ترتمي على الأرض فجرت نفسها جرا إلى أحد أركان الساحة حيث قبعت في مكانها مذعورة مشدوهة، وعيناها لا تفارقان كومة الحجارة لأنها مصدر روعها وخوفها
على أنه بالرغم من وجلها ظل البغض والغضب يضطرمان في نفسها ويحولان دون شعورها بحقيقة جرمها. ولو أنها استطاعت الكلام لما حاولت ان تنكر فعلتها أو تستدر عطف أحد عليها. كلا، بل لصاحت في وجه متهميها بأنهم أخطئوا نحوها أكثر منها نحوهم، وأن إله إسرائيل سوف يعاقبهم إذا انتزعوا منها الحياة التي تنبض فيها
ولكنها في تلك الساعة لم تكن تستطيع التفكير إلا في كومة الحجارة القائمة أمامها، لذلك لم تدر من أين جاء الرجل الذي وقف فجأة بينها وبين تلك الكومة المشؤومة، أكان في موضعه قبل وصولها أم هو من أولئك الفضوليين الذين تبعوها إلى فناء الهيكل؟
لماذا يقف بينها وبين كومة الحجارة؟ ماذا يريد؟ أتراه الذي يبدأ بتنفيذ الحكم؟
كان الرجل مديد القامة يرتدي ثوباً أسود، ويتدثر بدثار أسود. وكان شعره ينحدر على كتفيه مضفراً غدائر متساوية، وكان وجهه جميلاً، ولكنه كان يشيع حول عينيه وفمه تجاعيد خدّدها الألم، وكانت تفكر في نفسها: (إني أعرف حق المعرفة أني لم أسيء إليك من قبل يا هذا، فلماذا تحكم على وتنالني بقضائك؟)
لم يخطر ببالها لحظة واحدة أن حضوره لهذا المكان قد يكون لإعانتها والأخذ بيدها. على أنها أحست بتغير فجائي عند ما رأته. إن وجود هذا الرجل الغريب قد خفف الضيق الذي كان يلازم صدرها وحسن تنفسها الهواء، فلم يعد هذا التنفس يشبه حشرجة الموت(355/53)
أما الرجال الآخرون، أما أبوها وزوجها وأخوها وجيرانها الذين قادوها إلى هذا المكان والذين كانوا يتأهبون لقتلها فقد تمهلوا إلى حين دون هجومهم الوحشي عليها، وإذا ببعض الرجال من الذين قضوا النهار في الهيكل يصلون ويجادلون في كتب الدين قد دخلوا فناء الهيكل المظلم وأمر أحدهم بوقف تنفيذ الحكم.
فسمعت الزانية همساً من ورائها، وخيل لها أنها تسمع من يقول: (سوف يمتحنون هذا الرجل، إنه النبي الناصري، لنغنم هذه الفرصة السانحة ونرَهل يجرؤ على معارضة شريعة موسى!
وعندئذ تقدم من الغريب ذي الثياب السوداء اثنان من رجال الشريعة، وكانا شيخين ذوى لحية فضية، يتدثر كل واحد منهم بدثار صنعت حواشيه من الفرو، فانحنيا أمامه، وقال له أحدهما: (يا معلم، لقد قبض على هذه المرأة متلبسة بجريمة الزنا، وقد قضت شريعة موسى على أمثالها بالرجم بالحجارة، أما أنت فماذا تقول؟)
رفع الغريب الذي لقبوه بالمعلم أجفانه الثقيلة ونظر إلى محدثيه ثم أجال نظره في أب المحكوم عليها وزوجها وأخيها، والرجال الذين رافقوهم إلى الهيكل، ورجال الشريعة والفريسيين وكل خدمة الهيكل
وبعد أن طاف بنظره محدقاً في وجه كل واحد منهم انحنى على الأرض وأخذ يكتب بإصبعه عليها، كأنه لم يجد من المناسب أن يرد عليهم. على أنه عند إلحاح الشيخين اللذين تقدما إليه نهض وقال لهم:
(من لم يرتكب منكم خطيئة فليرمها بأول حجر)
فرد عليه الرجال بضحكة ساخرة، ماذا يريد من قوله هذا؟ إذا كان الأمر كذلك فلن يلقى مجرم عقابه الحق
تصاعدت من صدر المرأة أنه ضعيفة، وكانت قبل ذلك قد أحست بالرغم منها بالأمل في أن هذا الغريب سيقول كلمة تنقذها من الموت. أما الآن فقد فهمت أن كل أمل ضائع مفقود، فأحنت رأسها وقبعت في مكانها مطوية الجسم في انتظار سيل الحجارة الذي سيهوي علينا، بينما كان الرجال الذين سينفذون الحكم فيها قد أخذوا ينزعون عنهم ما يتدثرون به ويشمرون عن سواعدهم. أما الغريب فظل في مكانه وانحنى من جديد ليكتب شيئاً على(355/54)
الأرض السوداء
كان أول من تقدم من كومة الحجارة أبو المرأة الزانية، لأنه رب الأسرة وأول من أصيب بعار جريمتها فمن حقه أن يبدأ. فانحنى ليلتقط حجراً، وفي هذه اللحظة وقع نظره على الكتابة المخطوطة على الأرض وقرأ فيها مكتوباً، لا بالحروف بل بطريقة واضحة مفهومة، قصة إثم هائل ارتكبه منذ سنوات خلت، وهو لا يزال إلى اليوم يحرص على إخفائه فتراجع الأب مذعوراً مرتاعاً عند رؤيته ذلك وجرى نحو الباب هارباً من غير أن يعني بأخذ دثاره الذي كان قد انتزعه من قبل
فأسرع ابنه ليقوم مقام والده ويغفر سلوكه الشائن، وقد ظن أن سبب هذا الهرب ضعف الشيخ وتخاذله أمام ابنته، ولكنه عندما انحنى بدوره ليلتقط حجراً ويرمي به أخته التي جلبت عليه العار وقع نظره على ما كتب على الأرض فرأى مخطوطاً، لا بحروف بل بطريقة واضحة مفهومة، قصة سرقة دنسة ارتكبها في نزق شبابه، وهي لو عرفت كان من جرائها فقدانه حقوقه كمواطن إسرائيلي
فذعر وحاول أن يمحو برجليه ما رآه مكتوباً على الأرض، ولكن الكتابة ظلت جلية تشع بلمعان لا سبيل إلى إطفائه. وعندئذ فر ممعناً في هربه مقصياً في عنف كل من حاول أن يسد عليه طريقه
تحركت المرأة الزانية من الركن الذي قبعت فيه، وكان شعرها ينحدر على جبينها فأزاحته عنه وأخذت عنه وأخذت تسوي ثيابها المهلهلة
وعندئذ تقدم زوجها، وكان قد غاظه ما رآه من سلوك أبيها وأخيها الشائن، فتأهب ليلتقط حجراً بينما كان كل جسمه يصرخ بالثأر للشرف المهان: لتقتل هذه المرأة التي ألبسته العار. يا لها من لذة يشعر بها في ثأره هذا، ولكنه بينما كان ينحني نحو الأرض خيل إليه أن بعض كلمات أو إشارات سطرت عليها أخذت تلتهب فجأة، وكانت هذه الكلمات تزيح الستار عن مؤامرة دبرت ضد الحاكم الروماني، وكان الرجل مشتركاً فيها، وهي لو فضح أمرها لكان الشنق العقاب الذي ينتظره
فانتصب واقفاً، وأوحت له خبرته بالحياة أن يتظاهر بالشفقة فغمغم كلمات معناها أنه لا يريد أن يقيم نفسه حكماً. ثم غادر المكان(355/55)
ورأى رجلا الشريعة هذا التخاذل فاندهشا وخافا. ثم تقدما من الكومة لا ليلتقطا حجراً بل لينظرا ما خطه المعلم على الأرض بعد أن رأيا ما كان لهذه الكتابة من أثر عظيم
فرأى أحدهما سطراً أنه في أحد الأيام اغتصب جزءاً من حقل جاره إذ نقل الحد الفاصل بينهما، ورأى الثاني أنه استولى على جزء كبير من أموال قاصر كان وصياً عليها
فانحنى الرجلان عندئذ أمام المعلم متظاهرين بالشفقة والحنان وانصرفا بوقار
وبعد أن خرج الرجلان اللذان كانا بين قضائها، انتصبت الزانية على ركبتها لأن الشجاعة أخذت تعاودها. إنها لن تفهم جليّاً ما جرى، ولكنها أحست بأنها ستنجو، أو أنها قد نجت بالفعل. فشعرت بلذة الحياة تفيض على نفسها غبطة وسعادة، وتمشت في جسمها رعشة عجيبة فأحست بميل إلى الرقص
ولكن الخطر لم يكن قد زال تما لأن بعض الحاضرين تهافتوا لينفذوا فيها الحكم. على أنهم لم يلبثوا أن تراجعوا الواحد تلو الآخر بعد أن ألقوا نظرة الأرض، وكانوا، بدلاً من أن يلتقطوا الحجارة، يولون الأدبار وقد علت وجوههم صفرة الوجل وسرت في أجسامهم رعدته، ثم يمعنون في الهرب، وقد حولوا أنظارهم وخفضوا رؤوسهم
وعندما ما لم يبق في فناء الهيكل أحد انتصبت الزانية واقفة قد استعادت عيناها لمعانهما كما استردت وجنتاها الشاحبتان لونهما الوردي. . . وظلت حيناً جامدة لا تحرك ساكناً. وكان فرحها بالحياة يختلط بلذة رؤيتها أعداءها ينصرفون مذعورين ذليلين. فانتشت بحلاوة الانتقام وأحست برغبة ملحه في الرقص في هذا المكان المرذول وأمام الحجارة التي كانت ستنقض عليها فتسحقها. فاستقامت في وقفة المستعدة للرقص، وكأنما فتنها الموقف فطفقت تضحك
ونظر إليها المعلم المجهول سائلاً: (أين قضاتك؟ ألم يحكم عليك أحد؟)
فأجابته: (لم يحكم أحد يا سيد)
وبينما كانت ترد عليه كانت تقول في نفسها إنها لا تستطيع كبح جماح سرورها الذي كان يدفع بها إلى الرقص
ولكن المعلم ظل ينظر إليها
كان يرى تلك الغبطة الحيوانية الجامحة التي استولت عليها، ويلاحظ أنها لا تشعر بأي(355/56)
ندم، وأن نفسها مليئة بالبغض عطشى إلى الانتقام وإلى إشباع الشهوات الجسدية
على أنها فهمت نه كان يرى ما بنفسها ففارقتها رغبتها في الرقص وأخذت تحس بالخوف من الرجل الذي أنقذ حياتها. كانت تراه يشع بنور سماوي فشعرت برهبة شديدة تستولي عليها. هل جاء دور هذا الرجل لمحاكمتها. سوف يكون حكمة أشد قسوة من الحكم الأول لأن من حقه أن يستنكف الخطيئة التي ارتكبها
وبينما كانت تتنازع نفسها عوامل الخوف والرهبة سمعته يقول لها:
(وأنا أيضاً لا أدينك. اذهبي بسلام ولا تأثمي بعد اليوم)
عندما انتهت إلى نفس المرأة الخاطئة هذه الكلمات الحاملة لمعاني الغفران والمحبة تمت المعجزة في قلبها. ذلك أن شرارة صغيرة هي قبس من الضياء السرمدي اشتعلت فأوقدت شعلة مضطرمة أثارت ظلام القلق والنضال اللذين كابدتهما أياماً وليالي عديدة. وكانت تود في بعض الأحيان لو تنطفئ هذه الشعلة لأنها كانت تجد أن روحها ليست جديرة بزانية مثلها. ولكن الشعلة لم تنطفئ بل خطت في قلبها كتابة لا تمحى عن بشاعة الخطيئة وجمال العدل. وقد ظلت متقدة حتى امتلأت بقدسيتها نفس تلك المرأة الضالة.
صديق شيبوب(355/57)
الدَّين. . .
عن (موباسان)
بقلم الأستاذ مراد الكرداني
خرجت لتبحث عن القوت فرجعت ومعها جائع!
زحف الظلام فلفَّ باريس كلها. وغشيتها موجة من البرد القارس. وجثمت على صدر المدينة اللاهية الضاحكة غاشية من همٍ ثقيل حبست الناس إلى دورهم، وحلَّقتهم حول مدافئهم. وقد خَلت من رُوادها المسالك والطرقات. وهجعت مدينة النور - على كُرْهها - تحت أطواء ليل بارد مظلم طويل
ولكن (فأنى) التي طوت نهارها طاوية لم تكن لتأبه لذلك البرد القاسي، فإن الجوع قد لوى أمعاءها وخمصَ بطنها، وأَشاع في نفسها الخوف من أن تتضور في غدها كما تضورت في يومها؛ فخرجت - ككل أُمسية - لترابط على رأس طريق تنتظر فيه من يمنحها الخبز الرخيص لقاءَ أن تهبه جسدها ساعة أو بعض ساعة
وفي تلك الليلة القرة كان الرجال يمرون بها مراً لا يحفلون بها، لأنها لم تكن تحسن دعوتهم، ولأن لذع البرد لن يدع في نفوسهم سوى أن يصلوا إلى مكان دفئ كنين، فلم تُلفتهم تلك الهسهسة المرتجفة التي كانت تقع من أذهانهم موقع الظِّنّة والعجب من هذه الفتاة التي تهزأ بهم وتسخر منهم في هذا الليل المثلوج!
كانت شابة جميلة تقف على قمة العشرين، تفور أنوثتها في كيانها فتنضح حسناً في وجهها وامتلاء في جسدها، وشهوة تتألق في عينها الشرهة ونظرتها الآثمة. . .
تلك (فاني) التي سطع نجمها فبهر باريس من أقصاها، إلى أقصاها، وشغلها عن كل غانية سواها، تدور الليلة يهرأها البرد ويلويها الجوع فلا تجد من يشبعها أو يأويها. حتى إذا خَدرِت قدماها من طول ما وقفت، وسرت في قديمها وفخذيها رطوبة الأرض المصقوعة همت راجعة وهي تغمغم قائلة:
- لم يعد ثمت أمل فلأرجع إلى بيتي
وكأنما شق عليها أن تنتهي غمرتها هذه النهاية المحزنة المؤلمة، لأنها حين دارت بجسمها لتأخذ طريقها دارت عينها تفحص الظلام حولها عله يتفتق عن رجل. . . فلمحت شبحاً(355/58)
يسيراً مضطرباً متثاقلاً يتلفف في معطف بال مهلهل. . . كان بين الخطوة والخطوة يتأنى ويتمهل كأنه يستوضح الطريق أو يدبر المصير
وحين تبينته ظنته طلبتها التي إليها تهفو فرصدت سبيله، وطفقت تهمس له في صوت داعر مرتعش لفته حين ملأ سمعه. . . فاستدار لها وقصدها متوجساً منها مسرعة إليه!!
. . . لم يكن مخموراً كما حسبت، ولا كانت خاطئة كما ظن. . . إنما كان جائعاً شريداً. . . مهزولاً، ذرع المدينة الغارقة في الثلج يومين كاملين حتى عصبه الجوع وأزحفه السير والسرى
قالت له في حنو وإشفاق، وهي تسنده في لفة ذراعها وتقبله في نهزة الظلمة والسبيل خالية:
- مسكين. . . مسكين! لا تحزن. . . تعال معي فهي حجرة على أي حال وفيها دفء وقرار. . .
. . . ووصلاً معاً. . . وحين دلفا إلى الحجرة، واستشعر دفئها صاح في جذل وسرور وهو يلقي بنفسه إلى الأرض إلقاءً:
- ما أهنأني بهذا المكان. . . إنه ولا شك أفضل من الشوارع. نعم إنه أفضل من الشوارع لقد أمضيت دهراً في الشوارع وفتحت (فاني) خزانتها وَعَيْثت فيها، وكانت تحوي كل ما تملك من ملابس وطعام وشراب! إن كانت الكسر التوافه التي ضربت فيها العفونة تسمى طعاماً. . . أو إن كان القليل من النبيذ الرخيص يصلح أن يكون شراباً. . .
قدمت له كل ما عندها، بعد أن عجفت نفسها عنه، فشبع وروى جهد ما وسعها أن تشبعه وترويه. . . وحين أهجأه الطعام شرع يقص عليها قصصه وقد طامنت جوعها واطمأنا معاً. . . قال: (قضى جدي منذ زمن قصير ولم يكن لي سواء وكان مصوراً مغموراً. . . وقبيل موته أوصى بي أحد معارفه هنا، وحملني إليه رسالة مكتوبة ناشده فيها أن يعني بأمري، ويعلمني حرفة التصوير وكنت احمل - حين قدمت باريس - نيِّفاً وثلاثين فرنكاً كانت كل ما أملك من متاع الدنيا. . .
(طفقت أبحث عن الرجل فما وقعت له على أثر. إذ كان نقل مسكنه إلى حيث لا يدري أحد من جيرته فلبثت ستة أشهر أنفق مما معي إنفاق الحريص الشحيح حتى نفذت ثروتي عن(355/59)
آخرها منذ سبع ليال! فهمت على وجهي متسولاً في الطرقات، وفي تلك الأيام التي يجمد فيها الدم وتجنُّ فيها الريح. . . آه يا سيدتي. . . عندما لقيتك لم أكن قد طمعت شيئاً منذ ثمان وأربعين ساعة!)
وكان التعب والدفء قد فعلا فيه فعلهما فلم يقوَ أن ينهض ليخلع عنه أخلاقه. فنهضت تساعده وتنضوها عنه في رقة وحرص. . . ثم احتوته في صدرها في عطف وحنو، وأخذت تقبله وتدلِّله وقد شاعت فيها الرحمة وأنساها بؤسه بؤسها. ثم تم تركه لتخلع ملابسها هي أيضاً. . . ثم صعدا إلى فراشها وكنَّتْه في حضنها كطفل عليل، وناما - ملء عيونهما - إلى ضحوة النهار
. . . . . . واستدانت ثمن غذاء رخيص في مطعم حقير، وحين جاء الليل تأذَّنَتْهُ أن تغيب عنه بعض الوقت. . . وحين عادت أفرغت بين يديه أثني عشر فرنكاً قائلة إنها كسبتها وإنها أحسن حظاً من الليالي السالفات، وإنها تدين له بهذا الحظ الوفير، ثم قبلته وتركته كَرَّة أخرى إذ كانا - لا يزالان - أول الليل. . . . . . وأوغل الليل. . . ثم انتصف. . . ثم تهوَّر ولم تعد (فاني) فقلق عليها. ولكن لم تداخلْه في خِفْيتها ريبة. . . وأسفر الصبح ولم تعد أيضاً. . . ولما علا النهار غادر الحجرة. إذ كان عليه أن يعول نفسه ويعودَ ثانياً فيطرق شوارع باريس العديمة القلب، وإن كانت ستغنيه تلك الفرنكات القليلة التي تركتها له - تلك التي لم يعرف اسمها - عن التشرد بضعة أيام!
أما هي فكان من تَعَسِها أن احتجزها رجل الشرطة، لأنها كانت تسير عبْر شارع محظور على مثلها أن تسلكه أو تظهر فيه. . . ومن ثَمَّ أعدوا لها - جزاءَ ما اجترأت - مكاناً في سجن البغايا في (سانت لازار)
ودارت عجلة الزمان خمس عشرة دورة، تحولت الحال فيها غير الحال، وتبدَّل فيها كل شئ. . . ذاقت خلالها (فاني) من صابِ الحياة وحلوها ويسرها وعسرها ما تذوقه كل طريدة مثلها. . . وهبت نفسها للائم والخطيئة. . . فعلا التيار بها وهبط ومد جزر. حتى استقر المطاف بها أخيراً فإذا هي - بعد جهد السنين - غانية باريس الأولى وزهرة مجتمعاتها وحفلاتها وكوكبها الذي إذا ظهر أخذ وبهر، وإذا غاب شغل وأسر. . .!
كذلك، وفي وثبة واحدة بلغتِ (فاني) الأوج وارتفعت إلى ذروة مالاً وجمالاً وشهرة وبُعدَ(355/60)
صيت. وأثرتُ تلك الفتاة المعدمة الشريدة التي آوتها الطرق ليالي وأياماً وربَّتها الحادثات، والتي عانت الجوع والعرى ألواناً وأعواماً؛ وتدفق في يديها الذهب، وأقبلت عليها الدنيا، حتى سار المثل بغناها وبذخها واندفعت في نزق وجنون تنتقم من يومها لأمسها، فأسرفت في اقتناء الجياد والمركبات واستعمال الخدم والنُّدُلِ، وجُنَّت بالترف البالغ والسرف الطائش حتى طاولت بقصورها قصور السادة والأمراء، وطار ذكرها فعبر فرنسا كلها وجاوزها، فتهاوت تحت قديمها أفئدة الرجال، واحتولها السادة، وتحلَّقها الخاصة، واحترق في وَهَجِهَا الشباب النُّضرُ من كل صَوْب وفج، وذابت في لَذْعةِ السحر من عينيها الأخاذين الأموال الكريمة. والضياع الوَساعِ، واختفت في أبهاء قصورها وبُهْرَات ملاعبها ومغانيها ثروات السفهاء البُله من سادة الحكم ووزراء الحاكم وأمراء المال من كل بلد وقطر!
وظَلَّت (فاني) فترة من الزمن ملكة الجمال الفاتن والبذخ العريض، ليس في باريس وحدها ولكن في دائرة مركزها باريس ومحيطها عَبْر المحيط. . . تمسكُ أفئدة الخاصة - بل خاصة الخاصة - بخيوط جُمْعُها في يدها. فتؤوِي من تشاء وترْجي من تشاء، وتَتَحظى من تريد وقت ما تريد. وبلغ بها هَوسها أن تألهتْ فقسمت الحظوظ بين عُبَّادها وفَرَقَتْهُمْ، فمنهم شقي وسعيد!
. . . وأَوفت الفتنة في هذه (المخلوقة) وبها على الغاية حتى ذل فيها الأعِزة الشمُّ من الحافين حَولها، وحتى هلك في سبيلها من حقَّت عليه كلمتها. فقضى من أجلها من قضى، وجُنَّ فيها من جُن. . .
. . . وكأنما بَرِمتْ باريس بهذه الداهية الوافدة التي شغلتها برهة من الزمن فعالجها القدر وهي في عقدة عِزَّها، إذ توالت عليها المصائب ودهمتها الحوادث بغتة ومن غير تمهل، فأخذت تنحدر سريعاً كما ارتفعت سريعاً. . . وفعلت تلك الحياة العابثة الصاخبة فِعلها في أعصابها وكيانها. . . فأصابتها لَوثةٌ جعلت تخبط فيها على غير هدى. . . ثم ركبتها الديون. . . فاضطربت رأساً لقدم، وأخذتها العزة فلم تَقْوَ أن ترى الدائنين يجترئون عليها فيقتحمون مقاصيرها. ومخادعيها - على عينيها - ليستوفوا أموالهم بعدل ما تحوى من كنوز ثمينة وطرائف عجيبة ونفائس غالية!!. . .
وأسلمها الخبل إلى الجنون، وتضاءلت شهرتها وانفضت من حولها حاشيتها. وتقلص ظلها(355/61)
الممدود وهو النجم الذي تضوَّأ فأفل - من وهج نوره - كل نجم سواه. . . واختِصرت الدنيا العريضة التي وسعتها، وصارت حجرة. . . حجرة بسيطة في مستشفى المجانين لا تليق أبداً بـ (فاني) العظيمة!. . .
وقرأ الفنان العظيم (فرنسيس جويرلاند) خَبَرَ ما أصاب (فاني) غانية فرنسا، فلم يلفته النبأ بَدْءَ الأمر، ولكن الصورة المنشورة أرجعت عقله - حين توضَّحها - إلى الوراء بعيداً بعيداً. . . حتى عثر في طواياه على ذكرى سحيقة. . . وذكرى تلك الليلة. . . . . . وحين عرف أن (فاني) الحسناء لم تكن سوى تلك الفتاة التي أطعمته وأدفأته وحنت عليه حنو الأم على وليدها والتي ذهبت عنه فلم يرها ولم يسمع بها، والتي جَدَّ في البحث عنها فلم يجدها حتى أيس منها، والتي كانت تصحو ذكراها في زوايا قلبه فيردِّد شكرها في أعماقه ويتمنى لو يراها. . . حين عرف كل ذلك آسفتْه هذه النهاية المفجعة لهذه الغانية الطيبة القلب. . . ثم عجب لنفسه كيف جهل أن (فاني) التي لهجت بسيرتها كل شفة وشغلت بجمالها كل إنسان لم تكن سوى فتاته التي تركت له أثني عشر فرنكاً ومضت. . .
قال يحدث نفسه بعد أن رجع من غياهب الماضي الذي غَرِق فيه:
- إنه لا يحسن أن تنهي حياة (فاني) هكذا، وفاض فؤاده نحوها بحنان غزير. واعتزم أن يعمل من أجلها عملاً ما، ومع أنه حَمِدَ للقدر أن هيأ له أن يراها ليبثها شكره وامتنانه، وليرد لها جميلها الذي لا يستطيع أن ينساه، إلا أنه حزن وأسى وود لو كانت لقياهما في ظروف أحسن من هذه
ولم يكن الفنان النابه ثرياً إنما كان يحيا حياة وسطاً قوامها ما كان يربحه من فنه كمصور، فباع كل ما يملك ليستطيع أن يجد لها مكاناً خيراً من الذي هي فيه وجواً أرجى وأنقى. وعناية أتم وأكمل حيث تراعى وتعالج ويعني بحالتها النفسية، وحيث تقوم على أمرها ممرضة تحنو عليها وترعاها. . . وهناك تحسنت صحتها تسناً ظاهراً شجعه أن يحملها إلى بيته ليخدمها بنفسه. وليدخل على قلبها لوناً من المسرة والبهجة، سيكون له - بإذن الله - أثر في تقدم صحتها، ولكن الطبيب عارضه وأنكر عليه ونصحه قائلاً:
- ستعود بها إلينا ثانياً. . . أن لهذا المرض نوبات تعاودها حيناً بعد حين. وقد قضي عليها إحدى هذه النوبات(355/62)
فلم يرضخ لنصح الطبيب، وقال له:
- إنه لابد أن تعيش معي، إنها أشبه بأمي. . .
وفي منزله اعتنى بها وخدمها بإخلاص، وسهر عليها في حنو وصبر. وكانت الصدمة قد كهلتها فتخاذلت وابيض شعرها، ولم تستطع أن تعي حقيقة أمرها، ولا أن تعرف شيئاً عن الرجل الذي يأويها ويقوم على شأنها، ولم يشأ هو أن يذكرها بنفسه، بيل ذهب إلى أبعد مدى في نيل وإنكار الذات، إذ تركها تعتقد أنها في رعاية شاب ثري فُتن بها وأحبها لنفسها حباً حقاً خالصاً موقناً أن هذا الحلم السعيد الذي تعيش فيه مطمئنة وادعة، والذي قدَّمَ لها خيوطه الحريرية فنسجته هذا النسج البديع اللائم سيسرع بها نحو العافية. . .
. . . ولكنها عُقبى نوبة قاسية من نوبات دائها أسندت رأسها إلى صدره هانئة سعيدة وأسلمت نفسها تحت عينه وبين ذراعيه وحين أراح على فراشها جثمانها الساخن ذكر ليلة أن طعم ودفئ وبات هانئاً سعيداً ملء حضنها وبين ذراعيها وغمغم يقول:
- هل دفعت الدين يا فاني؟!. . .
مراد الكرداني(355/63)
من هنا ومن هناك
أطفال ولا طفولة
(ملخصة عن (نيوز بورخ زوتنج))
لا يختلف الطفل في أمريكا الجنوبية عن الشاب البالغ إلا بأنه أقل سناً
وأقصر قامة. ولكنه لا يختلف عنه من الناحية النفسية على الإطلاق.
والطفل في كل مدينة وكل إقليم يشترك في مظاهر الحياة العامة على
اختلافها. ومن المظاهر المألوفة في (كويتو) أن يرى الطفل البالغ من
العمر ست سنوات يطوف الشوارع في ثيابه الرسمية وعلى قبعته الرقم
الذي يشير إلى وظيفته في الخدمة العامة
فإذا بلغ الطفل الثالثة من عمره أخذ أهله في تدريبه وإعداده للمزاحمة في الحياة. ويشاهد الأطفال في تلك البلاد وهم في الخامسة من أعمارهم في الأسواق العامة يبيعون السجائر والفاكهة والمجلات وأنواع الحلوى. ويرى المكاريون والسعاة من بين الأطفال الذين في الثامنة أو التاسعة من أعمارهم
والطفل في أمريكا الجنوبية في السنتين الأوليين من حياته، بعد لعبة طريفة عند والديه، يلبسانه ثياب الخز والديباج ويعرضانه في زهو وعطف على أصدقائهم. فإذا بلغ الثالثة أو الرابعة من سنه بدأ يتبع نسق الحياة الذي اتخذه والداه. فإذا كان من الطبقة الفقيرة كان عليه أن يكسب بعض النقود عند ما يبلغ الخامسة من عمره.
وقد تشاهد في منتصف الليل كثيراً من البنات اللاتي لم يتجاوزن السابعة من أعمارهن على عرض الطريق يبعن الحلوى والأزهار. وكذلك الغلمان في هذه السن وهم يحملون أوراق النصيب أو علب (الورنيش). ولا ينقطع هؤلاء الأطفال عن لشارع في الليل أو النهار، فلا تعرف في أي وقت يخرجون وفي أي وقت ينصرفون؟!
والطفل في جنوب أمريكا يعد عضواً في أسرته، يرتدي زي الكبار وله ما لهم من الحقوق. البنت الصغيرة مثلاً تتحلى بالخواتم وتلبس لأقراط وترتدي ثياب الحرير وتضع الطلاء(355/64)
وتتعطر بالروائح الزكية. وتصفف شعرها كما تفعل أمها على حد سواء. وكذلك يتزيا الصبي بزي أبيه فيلبس القبعة الفاخرة ويرتد الملابس الطويلة ويقتني الحلي والجواهري
إن جهاد هؤلاء الأطفال في الحياة العملية ليدعو حقاً إلى الإعجاب. فقد رأيت طفلاً في العاشرة من عمره يقوم بعمل حارس الليل في سفينة على نهر (كانالمبا) في فنزويلا. حيث الملاريا والحمى الصفراء والدسنطاريا والتماسيح، لا يساعده في هذه العزلة الموحشة إلا امرأة واحدة، وهو بعد مسؤول عن صحة الركاب الذين لا يقلون عن مائة شخص، مسئول لذلك عن راحتهم؛ ويقوم بأعمال النُّدُل في بعض القطارات أطفال في العاشرة والحادية عشرة من أعمارم، ويدير مصلحة تنظيف الشوارع في مدينة (كويتو) أطفال في السابعة ويقومون بعملهم على أحسن وجه
نابليون في منزله
(عن (ذس ويك))
كان نابليون من ذوي العبقريات الحربية النادرة التي عرفها العالم، وكان من أعظم رجال السياسة والإدارة الذين عرفهم التاريخ. وقد أشرفت شخصيته الجبارة على أوربا ولما يبلغ الخامسة والثلاثين فماذا عسى أن تكون حياته المنزلية؟
كان نابليون يستيقظ من رقاده في أي ساعة من ساعات الليل، فيستحم بالماء الساخن، وكان يجلس في حوض الماء وعلى رأسه لفافة كالعمامة يتدلى طرفاها على عنقه. وكان يأمر بتدليك صدره بفرجون من الحرير في كثير من الأحيان
ويقوم خدمه بإلباسه في الوقت المعتاد. فإذا أراد أن يحفى لحيته، غمر كل شئ في وجهه بالصابون إلا منابت الشعر، ويتناول (الموسى) في تعسف، فلا يكاد يمر بها على وجهه، حتى يملأ خده الناصع بالجروح. وكثيراً ما كن يشرد لبه وهو يقوم بهذا العمل، فيترك جانباً من وجهه كما هو، وبحفي الجانب الآخر
ولم تكن أحذيته أنيقة المنظر، أو جيدة الصنع، ولكنها كانت دائماً مبطنة بالحرير. أما قبعاته، فكانت مهدمة الأركان ممزقة من بعض النواحي. إذ أن القبعات الجديدة كانت تحز في جبهته وتجلب إلى رأسه الصداع. ولم يكن نابليون يلبس الحلي أياً كان نوعها، ولم يكن(355/65)
يحمل كيساً للنقود ويضع في جيوبه شيئاً منها.
وكان يحب من الذين يقومون بخدمته أن يجيبوه أجوبة سريعة حازمة، وإن كان قل أن يصغي إلى ما يقولون. فإذا كان معتدل المزاج فلا بأس من أن يفرك لأحدهم أذناً أو يصفعه مداعباً على خده. وكان نابليون سريع الغضب في أكثر الأحيان، وكثيراً ما كانت تعتريه نوبات نفسية عنيفة تطغى على أخلاقه، ولكنه كان سريعاً إلى الهدوء سريعاً إلى الصفح
وكانت تصيبه نوبات عنيفة من سوء الهضم لعدم عنايته بمضغ الطعام، فيستلقي على الأرض وتأخذ زوجته برأسه فتضعه على صدرها وتدلك بيديها على جبهته وصدره، وكان يكره تناول العقاقير على اختلاف أنواعها
ومن عادته أن يلعب الورق مع زوجه وأصدقائه عقب الغداء، إذا لم يكن مصاباً بعسر الهضم
وكان يقرأ الكتاب؛ فإذا لم يعجبه ما فيه ألقى به إلى النار. فإذا رأي أحداً من أصدقائه يقرأ في كتاب لا يوافقه أخذه من يده ودفع به إلى النار
وكان نابليون سريع التأثر بالبرد حتى إنه ليأمر بتدفئة فراشه بالطرق الصناعية في جميع فصول السنة. وكان مصاباً بعادة قرض الأظافر. ومن المعروف عنه كان يغار على زوجه إلى درجة تشبه الجنون إلا أنه كثيراً ما كان يخضع لها ويسألها العفو وإن كان الخطأ في جانبها. هذه صورة مصغرة لحياة الرجل الذي هزم إيطاليا وهو في السادسة والعشرين، وفتح مصر في الثامنة والعشرين وكان دكتاتوراً لفرنسا في الثلاثين وسيداً الأوربا في الثانية والثلاثين من عمره: نابليون بونابرت(355/66)
البَريدُ الأدَبي
هذا أديب
كان عندنا في مصر أديب فلسطيني راجح العقل، وافر الذوق، أسمه، سمه خليل سكاكيني؛ وكانت بيني وبينه مطارحات تصل أحياناً إلى الصيال، ولكنه لم يكن يعرف الحقد ولا الضغن
فكان يتلقى هجومي عليه بالصفح الجميل، ثم يحمله الكرم على المبالغة في الرعاية لما كان بيننا من صداقة وإخاء
ولا أذكر بالضبط متى انتقل من القاهرة إلى القُدس، فقد شغلتني عنه أيامي، ولم يبق لي منه إلا هدايا أدبية من كتبه النفيسة يرسلها إليّ من إلى حين بدون أن يتلقى مني كلمة ثناء، إلا أكون وُفقت إلى الكلام عن بعض مؤلفاته أعوام كنت أحرر الصفحة الأدبية بجريدة البلاغ، وأنا رجلٌ يعاوده الوفاء في بعض الأحايين!
تلقيت يوماً رسالة مطبوعة من الأستاذ خليل السكاكيني، فنظرت فيها فرأيتها مجموعة من خطابات الأشواق كتبها إلى ابنه سرِيّ وكان اغترب لطلب العلم في أمريكا
فماذا رأيت؟
لم أجدها رسائل أب إلى ابنه، وإنما وجدتها رسائل عشق إلى معشوق!
رأيت رجلاً يقول لابنه إنه تذكر وجهه الأصبح وهو في مثل ضوء الشَّفَق وقد صِيغَ مثالاً للجمال الشائق الفنان. رأيت رجلاً يقول لأبنه إنه يتذكر طُرْفة الجميلة المصفوفة على أروع ما تكون الغدائر التي تفتن العيون فيهتاجه التذكر والاشتياق
رأيت رجلاً يتغزل في ابنه بعبارات صريحة فقلت: هذا أديب يطبع الحب الأبويّ بطابع الوجدان
وفي هذا المساء - وقد رجعت من سفر لا يخلو من عناء - وجدت رسالة مطبوعة من الأستاذ خليل السكاكيني وعليها صورة امرأة جميلة فقلت: لعلها معشوقة يتحدث عنها هذا الأديب، وهل عرفت الدنيا أديباً خلا قلبه من العشق؟
ومن هذه المعشوقة الغالية؟
هي حليلة السكاكيني، هي أُمُّ سَرِي التي خُلِّدت في أشعار الأستاذ معروف الرصافي وأقبلت(355/67)
على الرسالة فقرأتها في دقائق مع أنها تبلغ الثمانين من الصفحات
فماذا رأيت؟
رأيت رجلاً يكرم زوجته فيصف جمالها الفتان بعبارات صريحة فقلت: هذا أديب يضيف ثروة جديدة إلى اللغة العربية، لأن الحلائل في لغتنا لم يُبكين إلا قليلاً، وهنَّ أجدر مِن المعشوقات بالبكاء
ورأيت رجلاً يعتز بنفسه فيصرح بأن جمال امرأته كان يحتاج إلى فتى في مثل رجولته، فقلت: هذا أديب فيه سمة من فتيان قريش
ورأيت رجلاً يبلغ به الحزن على زوجته الغالية إلى التفوه بعبارات هي أفظع ما يكون من الكفر الموبِق، فقلت: هذا أديب يغلبه الحزن فيخلع قناع التأدب مع الشرائع
والأديب الحق يستبيح في عتاب الأقدار ما لا يباح
والأدباء كأهل بدر تغفر لهم جميع الذنوب، وستعرفون صدق ما أقول يوم نلتقي في حضرة الواحد الديان، إن كان من الممكن أن يكون لأعداء الأدب مَعاد، وإن جاز أن يُنصب لأعداء الأدب موازين يوم يقوم الحساب، وهم في شِرعة العقل من المهملات وسوف تعلمون مصايركم يا أعداء الأدب الرفيع!
السكاكيني مبتكر في بكاء حليلته لأنه أديب حق، وقد كفر من أجلها كفراً هو صورة من الإيمان الصحيح. وبعض الكفر إيمان، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!
والسكاكيني يعجب من أن ينكر الناس البكاء، ويقول إن مقاومة البكاء إفساد للفطرة، ويدعو المحزونين إلى تنفيس كروبهم بالنوح والأنين كما كان يصنع القدماء
قال السكاكيني في بكاء زوجته كل شئٍ، والمفارق يقول ما يشاء وما أصيب الفراق!
يلطف الله بك ياخليل، ويلطف بأبنائك المفجوعين بفراق أمهم الغالية!!
وكيف خطرتُ في بالك، ياصديقي، بعد فراق الأعوام الطوال؟ أتريد أن آسى لأساك، وأشجى لشجاك؟
إن كان ذلك ما أردتَ فقد حزنتُ لحزنك حتى خفتُ أن أصبح عاشقاً لذلك الحسن المكنون الذي أمسى في وديعة التراب أتريد أن أعرف أنك كنت زوجاً لامرأة جميلة كان يقتتل في سبيلها الخاطبون؟(355/68)
هو ذلك، وإلا فكيف قدمتَ لنا صورها الجذابة في عهودها المختلفات؟!
أسمع، يا خليل، أسمع ثم أسمع
أنت رفعت المرأة درجات، حين جعلتها أهلاً للتفجع والتوجع والأنين
وفي النساء أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا، وهنّ جميعاً أهلٌ للعطف والحب. والحمد لله الذي أعزها بوقوفك على قبرها ولم يذلها بوقوفها على قبرك، على حدّ التعبير الجميل الذي قرأته منذ أعوام بمجلة المرحوم سليم سركيس. . . وسلامٌ عليك من الصديق الحافظ للعهد:
زكي مبارك
حول الأمومة عند العرب
اطلعت على الجزء الأول من مقالة الأستاذ رفعة الحنبلي (الأمومة عند العرب) المنشور في العدد (354) فاستوقف نظري قول الكاتب نقلاً عن أحد المؤرخين اليونانيين القدماء وهو (سترابون) إن العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون الزواج الشرعي الدائم، وإنه يفشو بينهم تعدد الأزواج، وإنهم كانوا يتصلون بأمهاتهم
وجواباً على المسألة الأولى أقول: إن الزعم بأن العرب في الجاهلية لم يكونوا يعرفون الزواج الشرعي الدائم هو زعم غير صحيح
فقد روى البخاري في صحيحه وأبو داود في السنن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء (أنواع) نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها، ثم ينكحها: ثم ذكرت الأنواع الثلاثة تتمة الأربعة وفيها تعدد من يتصلون بالمرأة؛ إلى أن قالت: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح لجاهلية كله إلا نكاح اليوم. التاج ج 2ص 368
ويعلم المطلعون في التاريخ الأمة العربية أن الشعوبية - من أعداء الغرب وشانئيهم - هم أول من عمد إلى الطعن في أنساب العرب ووضعوا أخباراً ولفقوا كتباً في مثالبهم وتحقير شأنهم، ومن أشهر هؤلاء الشعوبية الهيثم بن عدي، وكان دعياً، فألف كتاباً في مثالب العرب أراد به أن يعرّ أهل الشرف تشفياً منهم. قال الألوسي: (ثم نشأ غيلان الشعوبي الوراق - كان زنديقاً ثنوياً - فعمل لطاهر بن الحسين كتاباً خارجاً عن الإسلام بدأ فيه(355/69)
بمثالب بني هاشم، وذكر مناكحهم وأمهاتهم، ثم بطون قريش، ثم سائر العرب؛ ونسب إليهم كل زور ووضع عليهم كل إفك وبهتان) ص 160 ج 1
وقال في ص 173ج 1: (إن جميع ما ذكره الشعوبية في شأن مناكح العرب وما أوردوه من باب الطعن في أنسابهم بما كانوا يتعاطونه في الغارات من سبي للنساء واسترقاقهم ووطئهم من غير استبراء من طمث ونحو ذلك لا أصل له. وكتب التواريخ صارخة بتبرئتهم مما رماهم به خصومهم وأعداؤهم، وقد نطق الشعر الجاهلي بما كانوا عليه من الحمية والغيرة ومزيد الاعتناء بأنسابهم وحفظ حريمهم والذب عن أحسابهم وعشائرهم)
وجواباً على المسألة الثانية أقول: ليس صحيحاً أن العرب في الجاهلية كانوا يتصلون بأمهاتهم، لأن هذه عادة مجوسية، ولأن الله تعالى نهاهم في القرآن عن محرمات النكاح ولم يذكر أنهم فيما سلف كانوا ينكحون أمهاتهم، بل خص ذلك بزوجة الأب والجمع بين الأختين. فقال سبحانه: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) وقال عز وجل: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) ويدل على هذا ما روى هشام بن عبد الله عن الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: (كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية وهي: (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الخ إلا اثنتين إحداهما نكاح امرأة الأب والثانية الجمع بين الأختين. ألا ترى أنه قال: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) ولم يذكر سائر المحرمات (إلا ما قد سلف) قرطبي ص 119 ج 5
وبعد أقول ليس بعيداً أن يكون ذلك المؤرخ الأجنبي الذي نقل عنه الكاتب أن العرب في الجاهلية كانوا يتصلون بأمهاتهم قد ألتبس عليه الحال فتوهم أن امرأة الأب - التي كان بعض العرب في الجاهلية يتزوجونها - هي الأم مع أنها غيرها قطعاً ولو فرض أن هناك رجلاً أو نفراً من الجهلاء العرب كانوا قد اقترفوا هذا الإثم واتصلوا بأمهاتهم فليس من الصواب جعل هذه النقيصة عامة لكل رجال الأمة العربية (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وأختم كلمتي هذه بتوجيه نظر حضرة الكاتب وغيره ممن يخوض في مثل هذا البحث الدقيق ألا يهملوا الاستدلال بما في المراجع العربية فهي المصدر الذي اقتبس منه المستشرقون كما أنها هي التي عنيت بتفنيد ورد ما افتراه وضعه الشعوبيون(355/70)
محمد صبري عامر
العقيدة الساذجة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد راعني مقالكم (العقيدة الساذجة) وسرني - شهد الله - هذا الاتجاه منكم لعلاج أمراض المسلمين، ونواحي النقص فيهم بقلمكم الصناع، وأسلوبكم الساحر، لاسيما نواحي العقيدة التي أساء الناس فهمها، واتجهوا فيها اتجاهاً لا يرضاه الدين إن لم ينافه في أصله وقواعده
وغير خاف أن ذلك الزعيم الهندي الكبير ليس هو الوحيد في هذا الشأن (زخرفة القبور) بل إن من بين أيدينا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا لمثلاً كثيرة للخروج على عقيدة الإسلام وتعاليمه.
وإني لعلى يقين من أنكم ستستعذبون هذا اللون من الجهاد حتى تنبهوا الأمة من سباتها العميق
سدد الله خطاكم، وأمدكم بروح من عنده.
وقد لفت نظري في هذا المقال قولكم: (وإن الإمام الذي كان يطوي الأيام ليطعم - على حب الله - المسكين، واليتيم، والأسير لا يرضى هذا الإحسان الميت) تشيرون بذلك إلى معنى قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) التي رووا فيها قصة صوم علي كرم الله وجهه، وبنيه، وزوجته وجاريته وهذه القصة موضوعة لا أصل لها ولا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى على قصة هذا شأنها، وإن أقل تأمل في هذه القصة يدل على أنها مصطنعة.
محمود محمد سويلم
واعظ سمالوط
مجمع فؤاد الأول للغة العربية في رأي لجنة المالية. بمجلس
النواب
ترى اللجنة أن الدرجة الثقافية التي وصلت إليها مصر الآن تجعلنا نشعر بالفراغ الكبير(355/71)
وبالحاجة الكبرى لوجود قاموس عربي جامع منسق على أحدث الطرق وأسهلها. وكما أن مصر والشرق العربي كله يطمعان في تحقيق أملهما في وجود دائرة للمعارف عربية، تستجمع ثمرة إنتاج العقل الإنساني في مختلف العلوم والفنون والمعارف، أسوة بدوائر المعارف الكبرى الموجودة الآن بكل أمة وبكل لغة إلا اللغة العربية، وهي الوحيدة بين اللغات الحية المحرومة من دائرة معارف للآن
لذا تأمل اللجنة أن تتوجه وزارة المعارف بخطوات جدية حاسمة في سبيل تحقيق هذا الأمل العزيز
وترى اللجنة أن مجمع اللغة العربية، على ما أفاد به في حدوده الضيقة ومباحثه المحدودة، لم يشبع في كثير ولا قليل هذه الأطماع الثقافية الكبيرة. ولعل الوزارة على ضوء رغبة اللجنة السابق ذكرها، تسرع بالعمل على إعادة النظر في تكوين هذا المجمع، من حيث تنوع معارف أعضائه والزيادة في اختصاصه، حتى يكون الأداة الحية المرجوة لتحقيق وجود دائرة المعارف والقاموس، وغيره من البحوث الأدبية واللغوية والعلمية التي يفتقر لها جماعات مثقفون في العالم كله
الفؤاديات
مجموعة من الشعر الوجداني الرقيق، نظمها المرحوم (فؤاد بك محمد)؛ ثم نشرها بعد موته ابن عمه الأديب عبد القادر يوسف تمجيداً لذكراه وتخليداً لفنه؛ ثم تفضل فأهدى إلى (الرسالة) مائة نسخة منها لتوزعها هدية على من شاء من قراءها تحقيقاً للغرض الذي طبعت من أجله، وهو الإشادة بفضل الفقيد الشاب والإفادة من نشر أدبه الرفيع
الشيخ عبد الرحمن قراعة كأديب
رأي الأستاذ (محمود علي قراعة) من الوفاء للأدب، والإخلاص لعمه المغفور له الشيخ (عبد الرحمن قراعة) مفتي الديار المصرية سابقاً أن يتحدث عنه كشاعر وناثر ليهيئ أذهان تلاميذه وأصدقائه إلى إدراك منزلته العالية في الأدب والعلم فينشروا ديوانه ويظهروا فضله. فتكلم عنه كصديق ومحسن ومتدين وفقيه ومعاشر وحكيم، كلام العارف البصير؛ ثم نشر ذلك في مجموعة وأهدى إلى (الرسالة) منها مائة نسخة لتوزعها على من شاء من(355/72)
قرائها، فله الحمد على ما هدى، والشكر على ما أهدى.(355/73)
رسالة النقد
ليالي الملاح التائه
ديوان الأستاذ علي محمود طه
للأديب عبد العليم عيسى
الشعر كالحياة من حيث مظهره ومصدره؛ فهو من حيث المظهر متفاوت التقدير عديد الألوان، ومن حيث المصدر واحد لا يتجزأ ولا يقاس ولا يتنوع. . .
فالحياة في الثعلب هي بعينها الحياة في الأسد؛ ونحن لا نعظم الحياة في الأسد لأنها أشرف وأجمل من الحياة التي تسير الثعلب، ولكن لأنها قد اتخذت لها في الأسد مظهراً واسعاً مكتملاً عريضاً أوسع وأكمل وأعرض من المظهر الذي اتخذته في الثعلب. . .
على هذا القياس الحق، ترانا نفضل هذا الشاعر على ذاك الشاعر، وترانا نستحسن هذا الشعر ولا نستحسن ذاك، ونحن في هذا التفضيل والاستحسان لم نرد إلا أن المظهر الذي ظهر فيه شعر الأول أحسن وأتم وأوسع من المظهر الذي ظهر فيه شعر الثاني؛ أما شعرها من حيث القيمة فهو واحد لا تفاوت فيه. . .
من بين شعرائنا الذين نقدرهم ونستحسن شعرهم، شاعر رقيق رشيق هو الأستاذ علي محمود طه فهو شاعر يسقي قلمه من ينابيع قلبه الجياش بالعواطف، وروحه الهائجة السبوح. وهو شاعر عانقت روحه الكون الجميل، فجاءت أشعاره واسعة متفتحة ناعمة، تسمع فيها دقات أنباض الحياة، وتتنسم منها نسمات الجمال والخلود. . .
قرأت (لياليه) فشعرت بلذة روحية عجيبة، وأحسست بانفعالات تهزني وتنعشني، وتوقظ نفسي وترهف حسي، وتفتح أمامي آفاقاً من النور والجمال والبهاء. . .
وهل أنا أطلب من الشاعر غير هذا؟. . . كفى بالشاعر أن ينقلني من عالمي المادي الحقير، إلى عالم سماوي نضير، تحير فيه أطياف الحسن والسحر والفتون، فأنسى فيه - ولو قليلاً من الزمن - رغبات الأرض وشهوات ابن التراب!! وأنت لو ذهبت تعد شعراءنا جميعاً علك تجد فيهم من يسمو بك إلى عالمه، ويشعرك بالحياة المتدفقة الفائزة مثل هذا الشاعر، ما وجدت - للأسف - غير شاعرين أو ثلاثة على الرغم من وفرتهم وتبجحهم(355/74)
وجعجعتهم!
إن من بين شعرائنا من هم إذا كلفوا بشيء آخر كلفهم بالشعر، لجاءوا بالعجب العجاب ولب اللباب؛ ولكنك إذا ذهبت تصارحهم بهذا رأيتهم هاجوا وماجوا، كأنك تريد أن تسلبهم أرواحهم! ومن العجيب أنك لا تلبث أن تسمع منهم من يقول في غطرسة وكبرياء: (أنا المجلي وغيري نابع تال). . .
وآخر يقول:
قد صرت وحدك في الملو ... ك وصرت في الشعراء وحدي
وثالث يقول:
لولا غنائي وشعري ... لمات روح الوجود
وهكذا وهكذا تسمع ما يؤلم قلبك. . . ويشجي روحك!
إذن يجب علينا أن نفرح بظهور الشاعر الحق فرحنا بظهور الوليد الجديد، ويجب علينا أن نحبه ونقدره ونجله؛ وما حبنا وتقديرنا وإجلالنا، إلا حب وتقدير وإجلال للحق والخير والجمال وهي القيم المنشودة التي تسعى إليها البشرية وتبحث عنها في جميع أطوارها ومراحلها. وشاعرنا المحظوظ (علي طه) هبة سماوية أطلعتنا على آفاق جديدة فيها جمال وخير وفيها أحلام وآمال. . .
قلت إن شاعرنا محظوظ، وأنا أقصد بهذا أنه يحيا حياة شعرية مليئة بالأفراح واللذات، مترعة بالأحلام والمغامرات. فليس فيها آلام ولا أحزان، وليس فيها أهوال ولا شكوك، ولا تردد ولا حيرة. . . وأنت لو فتشت في ديوانه كله ما عثرت على بيت واحد يشعرك أن هذا الشاعر مرت عليه أوقات فيها تنغيص وفيها ألم، ولكنك تعثر على أبيات كثيرة فيها اللذة السامية، وفيها النشوة السارية، وفيها الفرح الشامل. . .
هو اليوم في مدينة (فينيسيا) عروس الأدرياتيك حيث الجمال والحسن المشاع، وحيث الجنادل المزدانة بالمصابيح الملونة والضفائر الوردية. فلا يلبث أن يوحي إليه هذا الجو الفاتن أنشودة (الجندول) الموسيقية الرائعة الرقيقة الخالدة. . .
وهو اليوم في (بحيرة كومو) التي جذبت إليها كثيراً من الشعراء فألهمتهم أرق أشعارهم وأعذب أغانيهم؛ فلا يلبث أن تلهمه أنشودة بارعة، ويهديها إلى صديقة أمريكية كانت(355/75)
ترافقه
وهو اليوم في مدينة (زيوريخ) على شاطئ بحيرتها، حيث الاحتفال بعيد سويسرا الوطني الأكبر، بين المواكب الصاخبة المرحة، وأنوار المشاعل، والأسهم النارية، وأضواء معرضها العظيم؛ فتوحي إيه المفاتن الساحرة. . . أنشودته الساحرة (تابيس الجديدة)
وهو اليوم على ضفاف (نهر الرين) ذلك النهر الذي يتفرد بجنبات أعنابه، وأشجاره الباسقة، وقصوره التاريخية؛ فيوحي إليه هذا الجو الرائع الجميل قصيدة (خمرة نهر الرين) ثم يهديها إلى صديقة سويسرية التقى بها هناك. . .
وهكذا وهكذا ترى شاعرنا سارحاً متنقلاً في أمكنة الفتون والجمال، وهو في كل مكان سعيد محظوظ مغامر. له فيه محبوبة سعيدة محظوظة مغامرة؛ فجاءت أشعاره لها طابع خاص تمتاز به من بين سائر الأشعار. . .
أكبر الظن أن شاعرنا ليس عاشقاً متيماً ولا غزِلاً متهالكاً فهو يوافق (دانزيو) الشاعر الإيطالي العظيم في قوله: (ما معنى أن يخلص الشاعر لامرأة واحدة، وهل في وسع الشاعر أن يجمع الجمال كله في وجه واحد أو في منظر واحد؟ لابد لخيال الشاعر من أفق لا نهائي دائم التجدد دائم التحول دائم الحركة) ولقد أجهدت نفسي في أن عرف لشاعرنا من شعره محبوبة واحدة تشقيه وتسعده وتهجره وتصله حتى يشعر في حبه بالحرمان والسعادة فما وصلت إلى ما أردت أن أعرفه. . . وقد يكون هذا (في عقيدتي) هو السر في أن شعر شاعرنا غنائي فطري، له جرس ورنين في مفرداته وتراكيبه، تشيع فيه المسرة والبهجة وتغمره البشاشة والطلاقة. . .
يعجبني من شاعرنا أنه صريح صادق، يعبر عن إحساسه وشعوره وحياته بلا تدجيل أو مداواة؛ فأنت لا تكاد ترى شاعراً من شعرائنا المعاصرين من يصرح فيقول:
ملأت بتفاحتها راحتي ... وبت لكرمتها عاصرا
أو يقول في التي (علمته كيف يحب وكيف يكره):
إذا فتح الباب تحت الظلام ... فكيف ارتماؤك في صدرها؟
وكيف طوى خصرها ساعداك ... ومرت يداك على شعرها
وما هذه؟ رعشة في يديك ... أم الكأس ترجف من ذكرها(355/76)
لقد دنس الجسد الآدمي ... حياة حرصت على طهرها
بكى الفن فيك على شاعر ... تسائله الروح عن ثأرها
نزلت بها وهدة كم خبا ... شعاع وغيب في قبرها
كذلك لا ترى معاصراً يقول مثل قوله يحث صديقته في (بحيرة كومو) على أن تنفي الحذر عنها وأن تعذره إن طغت روحه، أو ثأر جسمه:
ما تسرين؟ أفصحي ... إن في عينك الخبر
الغريبان ههنا ... ليس بجديهما الحذر
نحن روحان عاصفان ... وجسمان من سقر
فاعذري الروح إن طغى ... واعذري الجسم إن ثأر
أو مثل قوله في تاييس الجديدة):
أأنا الغريب هنا وملء يدي ... أعطاف هذا الأعيد المرح
خفقت على وجهي غدائرها ... فجذبتها بذراع مجترح
عرضت بفاكهة محرمة ... وعرضت لم أنطق ولم أبح
يا رب صنعك كله فتن ... كيف الفرار، وكيف مطَّرحي
هذا شعر رائع جميل، له وقع في النفس، ونشوة في القلب وما روعته وجماله إلا من صدق تعبيره، وصراحة أدائه، ثم من حيويته واتساعه وغليانه. . .
كذلك يعجبني من شاعرنا الرقيق أنه شاعر مصري صميم - على الرغم مما يعيبونه به من أنه شاعر الطبيعة الغربية - فهو لا ينسى بلاده حتى في تلك الأوقات الجميلة التي يقضيها في هذه الأجواء السحرية الناضرة. بل إنه ليكون غارقاً في لذته وبهجته وسكرته، ثم يهزه الحنين لنيله الجميل، فيمسك قيثارته ويغني في فخر ومباهاة:
قلت: والنشوة تسري في لساني ... هاجت الذكرى فأين الهرمان
أين وادي السحر صداح المغاني ... أين ماء النيل أين الضفتان
آه لو كنت معي نختال عبره ... بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره ... حلم ليل من ليالي كيلوبتره
وهناك في (بحيرة كومو) - حيث الجمال والسحر - يهز الشاعر حبه لوطنه، فينطلق(355/77)
قائلاً، وهو جالس بين كؤوسه وغادته، غارق في نعيمه وحظه وصفائه:
أين وادي النخيل أم ... قاهرياته الغرر؟
إن مما يزيدني إعجاباً بهذا الشاعر أنه صاد في شعره. وفيّ لفنه، وأنه ذو شخصية مستقلة لا تندغم في شخصية أخرى، وأن لشاعريته وجهاً يميزها عن كل شاعرية، ولألحانه رنة تعرف بها من بين سائر الألحان، وفي كل ما ينظمه نكهة تختلف عن كل نكهة. . .
لكم وددت لو كان بإمكاني أن أتخطى بالقارئ خطوة خطوة مع شاعرية صاحب (ليالي الملاح التائه) فهي في تجوالها قد سلكت شعباً كثيرة، وطرقت أبواباً عديدة، ومن كل سياحة ساحتها قد عادت بآثار طريفة وتذكارات ثمينة. والديوان حافل بمثل هذه الآثار والتذكارات التي تفسح مداه وتفرج صدر قارئه. . .
وأخيراً. . . لقد انتهيت بدون أن أنقد شاعرنا الملهم، ويعلم الله أنني كنت أود أن عثر على أغلوطة أو سقطة؛ ولكني عبثاً حاولت. غير أنه يسرني أن أطلع شاعرنا على هنات طفيفة ما أخالها شيئاً، فمثلاً قول الشاعر في أغنية الجندول):
قلت والنشوة تسري في لساني ... هاجت الذكرى فأين الهرمان
كان الأحسن من ذلك أن قول (في كياني) لأني لا أتصور ولا يتصور أحد معي تلك النشوة التي تسري في اللسان. وفي الأغنية نفسها اضطراب في صورها، فليس فيها وحدة ولا اتساق. ولقد رزقني الله حلاوة الصوت. فكنت إذا غنيتها على عودي وأنا منتقل على خيالي في الجو الذي نظمت فيه شعرت باصطدام وحواجز تقفني عن متابعة طربي خصوصاً في مقطعها الأول. وفي الأغنية مقطع رائع وهو:
آه لو كنت معي نختال عبره ... بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره ... حلم ليل من ليالي كيلوبتره
وأنا أذكر أني قرأت هذا المعنى الجميل البارع الذي يعد أحسن ما في الأغنية مترجماً عن الإنجليزية. فهم يذكرون أن الشعراء الثلاثة كيتس وشلي وليهند اتفقوا على أن ينظم كل واحد منهم قصيدة في النيل فكان مما قاله ليهند هذا المعنى الجميل. وما كنت لأشير إلى هذا لولا أن الأدباء يرفعون هذا المعنى إلى السماء. فأردت أن أبين أصله. . . ويقول الشاعر (في بحيرة كومو):(355/78)
ثمر ناضج الجني ... كيف لا نقطف الثمر
وأنا أفهم أن الثمر هو الجني
ويقول الشاعر في (مصرع الربان):
وغاب كل مشيدٍ غير قبعة ... ذكرى من الشرف العلي وتذكار
والذكرى والتذكار معناهما واحد
ويقول الشاعر في (مهرجان الزفاف) يريد السيوف:
أو ما لها الماضي فجن حديدها ... حتى تكاد بغير كف تمشق
والمتنبي يقول: (حتى تكاد بغير كف تضرب) وهو طبعاً أحسن من الأول. فكان حقه أن يأتي بالمعنى كاملاً
وهذه طبعاً هنات طفيفة لا تغض من قيمة شاعرنا العزيز. وكفاه رفعة وسمواً أن تكون هذه مآخذنا في وقت أصبحت فيه الدواوين الشعرية مهزلة وسخفاً!. . .
عبد العليم عيسى(355/79)
العدد 356 - بتاريخ: 29 - 04 - 1940(/)
ساعة مع الأستاذ الأكبر
كان مما لابد منه لمن يكتب في الإصلاح الديني والأزهري أن يستضيء برأي الإمام الذي هيأه الله واختاره التوفيق لزعامة الثقافة الإسلامية في أشد العصور افتتاناً بالعلم وامتحاناً للعقيدة وهزأً للشعور واستعداداً للتطور
والأستاذ المراغي إذا قيلت كلمة الحق فيه إمام هذا العصر بإعداد من الله تجلى في فهمه الدقيق لرسالة دينه، وإدراكه الصحيح لحاجة عصره، وعلمه الراسخ بطبيعة قومه، وملكته السليمة في أدب لغته، وأفقه الرحيب لاقتران المشكلات الاجتماعية فيه تحت ضوء من الفكر الثاقب يبدد عنها ظلام الإشكال فترجع إلى طريقها الواضح من الدنيا أو الدين. وآية المصلح الديني في الإسلام علمه بأن رسالة الدين هي إصلاح الدنيا، وعمله لتوجيه الحكم والسياسة والاجتماع إلى الخطة التي رسمها الحق للحق في دستوره السماوي الخالد
دخلت على الإمام المراغي مكتبه العظيم الفخم في إدارة الأزهر منتصف الساعة الثانية، وكانت الأصوات والحركات قد خشعت في المكاتب والمسالك، فساعدتني الحال على الظفر بجلسة طويلة مع الإمام لم يقطعها عمل ولم يكدرها زائر
تلقاني شيخ الشيوخ بوجهه المنبسط وبشره الرزين، فسهّل علىُّ أن أجد نفسي وأتسرّح في حديثي وأراقب انعكاس الإشراق الروحي على ملامحه الناطقة فأفهمه من قرب. وللمراغي إشعاع على محادثه عجيب؛ وهذا الإشعاع دائم الانبثاق من عينيه وشفتيه فلا تنفك المشاعر منه في غَمر من الإعجاب والإجلال والحب مهما توثقت الألفة وزالت الكلفة وطال الحديث. وأشد تأثير المراغي على النفس القابلة ينبعث من سر نظرته وسحر بسمته ولهجة حديثه وحلاوة جرسه وفصاحة منطقه. أما توقد ذهنه ولطافة حسه ووزانة قوله ورصانة عقله وسراوة خلقه، فتلك خصائص شخصيته وفضائل نبوغه
لا أستطيع أن أنقل إليك نص حديث تدفق وتشقق في ساعة ونصف، ولا أريد أن أقطع سرده بما سألت أو أجبت، فإن همك وهمي أن نسمع إلى الأستاذ. فأنا أروي لك خلاصة الجانب العام من الحديث على اطراد وتساوق لتصل إلى وجه الرأي من أخصر طريق
قال الأستاذ الإمام وقد تزاور عن مكتبه واتجه بكرسيه الدوار إلَّى:
لقد سرني أن تتجه الرسالة إلى معالجة شؤون الأزهر، فإن في النقد الخالص من الهوى حثاً للهمم الوانية، وتذكيراً للنفوس الغافلة؛ ولكني أحب أن يكون النقد على خلوصه رفيقاَ(356/1)
ليطمئن إليه المنقود ويستفيد منه
أنا لا أسلم بأن الأزهر جامد على حاله القديمة، وأرى أنه يتقدم مع الزمن تقدماَ يتفق مع طبيعة أهله في الأناة والروية.
ولو قارنت بين حاله اليوم وبينها منذ أربعين سنة تجلى لك الفرق واضحاً لا غبار للشك عليه. ففي أيام طلبك بالأزهر قلما كنت تجد عالماَ أو طالباً يكتب أو يخطب أو يؤلف أو يتصل بالحياة العامة؛ أما اليوم فأنت ترى أكثر العلماء والطلاب يفكرون ويحررون ويحاضرون ويناظرون ويؤلفون في فصاحة منطق وحسن صياغة وسلامة فكرة
أذكر وأنا مفتش بالأوقاف أنا اقترحنا على العلماء إنشاء طائفة من الخطب المنبرية في الأغراض الاجتماعية المختلفة، فجاءنا أربعمائة خطبة لم نجد من بينها واحدة تستحق النظر. ولكنك اليوم تجد الخطباء في المساجد والوعاظ في المجالس ينشئون الخطب البليغة، أو يرتجلون العظات البالغة فيما تقتضيه الحال من المعاني العامة
على أني أشعر بحاجة الأزهر الشديدة إلى الإصلاح. وأوافق الرسالة على أن الأمر يكاد ينحصر في طريقة المعلم ووسيلة التعليم. وقد أخذنا بالفعل نعالج الإصلاح في هذه الناحية، فضاعفنا العناية بطلاب التخصص لأنهم مناط أملي في المستقبل وموضع ثقتي في الإصلاح، فأنا أتعهد تعليمهم وأتفقد أحوالهم وأشدد امتحانهم، حتى لم ينجح من ثلاثة وعشرون غير ثمانية. ومن هؤلاء أرسلنا وسنرسل البعوث إلى بلاد الغرب ليتصلوا بتيار الفكر الحديث، ومكنا لمن لا يبعث منهم أن يتعلم لغة أوربية في الكلية ليتسنى له بواسطتها أن يزيد في ثقافته.
أما مسألة الكتاب فإني أوثر أخذ العلم من كتب الأئمة السابقين القادرين على صوغ العبارات العلمية في أسلوب ناصع البيان، ولكني أوثر كذلك الإبقاء على طائفة من الكتب المؤلفة على المنهاج التقليدي من تحليل ألفاظ الجملة وتقليب وجوه الفكرة، فإن ذلك سبيل التعمق والاستقصاء والمران لمن عرف كيف يسلكه ويخرج منه. وفي اعتقادي أن غموض النص في نفس التلميذ ناشئ من غموضه في ذهن المعلم. فإذا استطاع الأستاذ أن يحلل عبارة النص في الكتاب ويجلو غامضه من جهة، وأن يجمع أشتات الرأي في الموضوع ويمحص حقائقه من جهة أخرى، تيسر له بعد ذلك أن يلقيه على الطلاب في محاضرة(356/2)
متناسقة الفكر متساوقة الأجزاء محكمة الصياغة، ومن مجموع هذه المحاضرات في العلم الواحد يتألف الكتاب الذي تريده
على أن الكتاب يتضاءل شأنه كلما سمت قدره المعلم، فإنك تذكر أن أستاذنا الإمام رضوان الله عليه كان لا يجعل في يده وهو يفسر كتاب الله غير (الجلالين)، ومع ذلك كان يستبطن بفكرة النفاذ أسرار الآي ثم يكشفها للناس في معرض من البيان المشرق
وفي الكليات طائفة من المعلمين القادرين يستطيعون أن ينهضوا بالتعليم الأزهري نهضة صادقة. ومِلاك ذلك أن يقفوا حياتهم على العلم، ويقصروا جهودهم على التعليم، وأن يتصلوا بأبنائهم اتصالاً روحياً ليغرسوا فيهم حب العلم فيطلبوه لذاته ولذته
كان أشياخنا يقولون: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) وكان منهم من لا ينقطع عن التدريس حتى في المرض، ولا يذوق طعم الراحة حتى في العطلة، ولا يرى (أخذ الدرجة) صارفا عن التحصيل، ولا منصب القضاء عائقا عن الأزهر.
قال لي الإمام محمد عبده وقد زرته بعد نجاحي في (العالمية) بثلاثة أيام: أتستطيع أن تعرِّف العلم؟ فأجبته بلهجة الواثق المطمئن: نعم. وأخذت أسوق إليه ما أعرف من التعريفات المختلفة، ولكنه زيفها جميعاً وقال: العلم ما نفَعك ونفع الناس. فهل ما عندك منه ينطبق عليه هذا التعريف؟ فقلت له: لا. قال: إذن لا تملك من العلم الصحيح شيئاً. إنما هيأت لك دراستك وشهادتك السلم، وعليك وحدك بعد ذلك أن تصعد
إن الذي يظهر الأزهر في هذا المظهر الجامد يرجع بعضه إلى إخلاد القادرين إلى الراحة، وبعضه إلى مجافاة أسلوب العصر مع حسن الاستعداد وتوفر وسائل الاجتهاد ومواتاة أسباب النهضة. أليس من العجيب أن تكون عُدد الاجتهاد التشريعي عندنا أكثر منها عند مالك، وذرائع الابتكار الأدبي في عصرنا أوفر منها في عصر الجاحظ، ثم لا نجد فينا فقيهاً يجتهد بعض اجتهاد صاحب الموطأ، ولا أديباً يؤلف بعض ما ألف صاحب الحيوان؟ لقد كان مالك لا يملك من ثروة الحديث النبوي غير ما صحت له روايته منه، وكان الجاحظ لا يجد من مصادر الأدب العربي غير ما وقع من السماع فيه، ومع ذلك صار لمالك مذهب متبع في الفقه، وانتشر للجاحظ مذهب معروف في الأدب. أما نحن فبين أيدينا كل ما ورد عن الرسول من الأحاديث، وما روى عن الأئمة من الأحكام، وما أثر عن الفقهاء من(356/3)
الكتب؛ وفي خزائننا كل ما خلف العرب وغير العرب من لباب الأدب وعصارة الفكر، ومع هذا اليسر في الوسائل وهذه القوة في الاستعداد لا ترى إلا فراغاً يثير الظنون ويغرى بالأزهر التهم
إن العلماء إذا استاروا بسيرة السلف في الإخلاص للعلم والانقطاع إلى التعليم يستطيعون أن يصلحوا فساد الطريقة ويكملوا نقص الكتاب ويصلوا بالأزهر إلى الغاية التي نرجوها من أداء الرسالة الإسلامية على الوجه الملائم لطبيعة العصر وعقلية الناس
وحينئذ كانت الساعة الثالثة، فلم أر من اللائق أن أعوق الإمام عن غدائه أكثر مما عقت، فاستأذنت وانصرفت وأنا موزع القلب بين الإعجاب بالمحدث والاغتباط بالحديث
احمد حسن الزيات(356/4)
حديث الإسكندرية ذو شجون
للدكتور زكي مبارك
(في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي أقامت جمعية الشبان
المسيحية في الإسكندرية احتفالاً سمته (عيد الورد)، ودعت
إليه جماعة من أدباء القاهرة، وفيما يلي خطبة الدكتور زكي
مبارك في ذلك الاحتفال)
في هذا المساء أيها السادة يحتفل المسلمون بعيد المولد النبوي، وتحتفلون بعيد الورد، فالمسلمون يحتفلون بعيد الحق، وأنتم تحتفلون بعيد الجمال، والصلة وثيقة جداً بين الحق والجمال
أما بعد، فقد اقترح صديق عزيز أن تكون خطبتي عن الإسكندرية حديثاً ذا شجون، فما الذي ينتظر ذلك الصديق من تلك الشجون؟
أيكون لاحظ أنني كثير الحديث عن الإسكندرية، وأن هواي بها وصل إلى حدَّ الافتضاح؟
هو ذلك، ولكن هل يعرف لأي سبب تزداد شراهتي في انتهاب مفاتن الإسكندرية كلما سنحت الفرص في الصيف أو في الشتاء؟
السبب يرجع إلى أني دخلت الإسكندرية أول مرة وأنا حزين: دخلتها في قفص، دخلتها في سيارة مقفلة من سيارات السلطة العسكرية في أيام الثورة المصرية. دخلتها في الظلام، فلم أر من جمالها غير أطياف، ثم نقلني ذلك (السجن المتحرك) إلى مقرِّ الاعتقال في ضاحية نائية، هي اليوم ملاعب صبابة ومدارج فتون. ومن يصدِّق أن ضاحية (سيدي بشر) كانت معتقَلاً يُسجن فيه من هتفوا باسم الحرية والاستقلال؟
قضيت في هذه المدينة شهوراً طوالاً بدون أن أشهد من جمالها غير ما يطوف بالأوهام والظنون. ولن أنسى أبداً كيف كان هدير البحر يقرع سمعي وقلبي في غفوات الليل. ولن أنسى كيف فرحت يوم خرجت من المعتقل لأرى الإسكندرية بعينيّ، ولأطوِّف في رحابها حيث أشاء بلا حارس ولا رقيب، ولأقول لنفسي: إن شهور الاعتقال قد ذهبت إلى غير مَعاد. . .(356/5)
هذا هو السبب في هيامي بالإسكندرية، ولن أشبع منها أبداً. فجنوني بها هو انتقام من الزمن الجائر الذي قضى بأن أراها أول مرة في ظروف أفظع وأشنع من أعمار الأحزان
أحب أن أفرح في الإسكندرية. أحب أن أرى فيها أيام نعيم بعد أن رأيت فيها شهور بؤس. أحب أن أراها وتراني في بشاشة وأريحية وصفاء. فخذي بزمامي إلى حيث تشائين، يا مهد الشهامة والنضارة والجمال
لك قلبي، يا إسكندرية، فامنحيني من العطف ما أنسى به تلك الأيام السود، أيام الاعتقال. واصفحي عني، يا إسكندرية، إن افتضحت في هواك، فما يكون تلاقينا إلا بَلْسماً لجرح عميق تعتادني آلامه من حين إلى حين. . .
أيها السادة
لمدينتنا هذه تاريخ وتواريخ
فيها وقعت أعظم فاجعة غرامية، وهي فاجعة صيرت الحب شريعةً من الشرائع. ألم يكف أن يصل اسم كليوباترة إلى جميع البلاد وأن تؤلف فيه المئات من الأقاصيص؟
ومدينتنا هذه هي التي حفظت ذخائر الفلسفة اليونانية بعد غفوة العقل اليوناني
ومدينتنا هذه هي التي عرفت الاستشهاد في سبيل المسيحية أعوامَ اضطهاد المسيحية
ومدينتنا هذه هي التي استقبلت طلائع الجيش الإسلامي وجعلت للإسلام دولة على شاطئ المحيط، وقد كان بحرنا هذا أول بحر خفقت فوقه الراية الإسلامية، وسيظل إلى الأبد صلة الوصل بين حضارة الإسلام في الشرق وحضارة النصرانية في الغرب، ولن تكون شواطئه الشرقية إلا بأيدينا مهما بغى الاستعمار واستطال
ومدينتنا هذه هي التي خلدت اسم من نسبتْ إليه. وما بناها الاسكندر كما يتوهم الجاهلون، وإنما بنى حيَّا من أحيائها، وسيأتي يوم لا يُعرف فيه مَن الإسكندر إلا بوصل اسمه الفاني بهذه المدينة الباقية على الزمان
وقد سميت باسم الإسكندرية مدن كثيرة في المشرق والمغرب، ولكنها ذهبت جميعاً، ولم يبق غير مدينتنا هذه لأنها مصرية، ومصر عريقةٌ في الخلود
أيها السادة
كتب أحد أدبائكم يقول إن الإسكندرية تقتل الروح الأدبي، وهو أديب لا أسميه لئلا أعرِّض(356/6)
سمعته للإيذاء، فهل ترونه على حق؟
اسمعوا ثم اسمعوا
في مدينتنا هذه خُلقت المعارضة السياسية بطريقة صريحة لأول مرة بعد الثورة المصرية. وفي مدينتنا هذه وجد الناس من الشجاعة ما يقاومون به سعد زغلول وكان اسمه قد ملأ جميع الأرجاء
وما يهمني أن أقول إن تلك المعارضة كانت بحق أو بغير حق، فلذلك حديث غير هذا الحديث، وإنما يهمني أن أقول إن أول معارضة ثارت في مصر بطريقة صريحة كانت المعارضة الموجَّهة إلى مشروع ملنر، وتلك المعارضة لم ترفع رأسها إلا في الإسكندرية بجريدتين سيذكرهما التاريخ وهما جريدة (الأمة) وجريدة (الأهالي)
فكيف جاز أن يسيطر سعد زغلول على سائر المدن المصرية ولا يجد مقاومة في غير هذه المدينة؟
لا تتهموني بالعصبية للحزب الوطني، فأنا في نفسي أعظم من كل عصبية وإن اعتمدت على الحق، وإنما يهمني أن أسجل محامد مدينتنا هذه فأقول إن سكانها الوطنيين يرجعون في الأغلب إلى عنصريين اثنين: العنصر الوافد عليها من الصعيد وهو عنصر معروف بالعناد، والعنصر الوافد عليها من المغرب بعد سقوط الأندلس في أيدي الأسبان وهو معروف بقوة المراس، ومن أجل هذا ترون الإسكندريين الوطنيين قوماً غلاظ الأكباد يغضبون بسرعة ويستوحشون من الدخلاء كأهل المغرب وأهل الصعيد، أما سكان الإسكندرية من أهل الوجه البحري فهم أقلية، وهم مصدر اللطف الذي نلمحه في الإسكندرية من وقت إلى وقت في غبية الغضب واللجاجة والعناد
وهنا يسمح المقام بتسجيل خاطر غريب
في هذه المدينة الثائرة بالفطرة وبوحي البحر نرى شواهد من النظام لا نجده في أية مدينة مصرية
في هذه المدينة وضعت قواعد النظام للمعاهد الدينية، فأول معهد ديني نظامي هو المعهد الإسكندري، وقد أشرف عليه رجل صعيدي حادّ الطبع،، ولكنه في روحه مفطور على نظام هو أستاذنا الجليل المرحوم الشيخ محمد شاكر الذي كان يرضي ويغضب في لحظات،(356/7)
والذي كان يمثل قلق الإسكندرية، وحمية الصعيد، وسكينة القاهرة، ومن الإسكندرية نقل النظام إلى سائر المعاهد الدينية، وهو نظام ثار عليه الأزهر ثورة عنيفة لن أنساها ما حييت لأنها عطلتني من الدرس أسابيع وأسابيع قبل أن تولد عرائس هذا الحفل البديع
والمعهد الإسكندري ُمنسيٌَ في هذه الأيام، ولكن الذين عاشوا قبل الحرب الماضية يذكرون كيف استطاع أستاذنا الشيخ عبد المجيد اللبان أن يقيم به زعامة دينية يصل روحها إلى أكثر المدن المصرية
وإن كشف غطاء التاريخ فستعرفون أن الشيخ اللبان كانت له يد في تأريث الثورة المصرية، فهو الذي جمع بين أعضاء الحزب الوطني وبين حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون، ومن تلك الحركة تهيأ الجو لحركات شهدتها سنة 1918 ثم استفحلت في سنة 1919 ثم ما كان إلى أن شهدتم سقوط الحماية وإعلان الاستقلال
فما معنى هذا؟ معناه أن الإسكندرية التي ألقى فيها مصطفى كامل أعظم خطبة وطنية هي الإسكندرية التي سبقت إلى الثورة على الأحكام العرفية في أعقاب الحرب الماضية والتي سنت لأهل مصر شريعة النضال في سبيل الاستقلال
وهل سمعتم بحديث الدكتور محجوب ثابت؟
بفضل الإسكندرية جاز أن يكون في مصر نائب عن العمال، وهذا شيء غريب في بلادنا ولم يقع أول مرة إلا في الإسكندرية. وله مدلول يشهد بأن مدينتنا هذه مدينة أصيلة في قوة الشخصية. ألم يكف أنها تحتفل الليلة بالمولد النبوي احتفالاً أفخم وأعظم من جميع الاحتفالات بسائر المدن المصرية؟ ألم يكف أنها أول مدينة في الشرق بعد القاهرة مع أن القاهرة تملك من السحر ما تعجز عنه جميع المدائن في الشرق؟
أيها السادة:
إن الحديث ذو شجون، فهل سمعتم أن الإسكندرية تسيطر في هذه الأيام على وزارة المعارف؟
قيل إن النقراشي إسكندري المولد. وقيل إن السنهوري إسكندري المولد. وقيل إن شفيق غربال إسكندري المولد، فهل هذا صحيح؟ إن صح هذا فانتظروا متى ثورة تزلزل رواسي الجبال، فما يرضيني أن يكون لمدينتكم كل هذا السلطان؟(356/8)
ولكن ما الموجب للثورة وأنا أعرف مقاتل هؤلاء الرجال؟ فالنقراشي العنيد اسكندراني تأسره قوة المنطق، والسنهوري أضعف الضعفاء أمام القانون، وشفيق غربال يعجز كل العجز عن مقاومة الحق
وأرجوكم باسم الذوق ألا تظنوا أنني أجامل رؤسائي، فما خُلقت للمجاملات، وإنما أدلكم على مقاتل هؤلاء الرجال، وهذا ينفعكم أجزل النفع، يوم يبدو لأحدكم أن يستفيد من قوة الحق والمنطق والقانون
ومدينتنا هذه التي وضعت قواعد النظام للتعليم الديني هي أول مدينة بعد القاهرة تقوم فيها جامعةٌ مَدَنيّة في العصر الحديث فكان لها فضل السبق على المنصورة وأسيوط، مع الاعتراف برشاقة المنصورة ورزانة أسيوط
ولأول مرة في تاريخ مصر يُحرَم الوزراء بَدَلَ السفر حين ينتقلون لشأن من الشؤون، وما حُرَّم ذلك إلا بالنسبة إلى الإسكندرية، فهل كان ذلك لأن الإسكندرية تستهوي الوزراء فتحملهم على تكلف أسباب الانتقال؟ لا، إنما كان ذلك التحريم لأن الإقامة في الإسكندرية غنيمة من الغنائم، ومن واجب الدولة أن تمنّ على الوزير بأن مصالحها هيأت له الفرصة للإقامة يوماً أو يومين بالبلد الذي يَفتن في الصيف وَيشُوق في الشتاء
ومع أن الإسكندرية سبقت القاهرة إلى البلاء بقسوة اشتباك المنافع مع الأجانب فقد صحّ للإسكندرية أن تسبق القاهرة إلى استخلاص بعض المنافع من الأجانب، فأول (تِرام) سيطرت عليه الحكومة هو ترام الإسكندرية، وفي ذلك ما فيه من قوة الشخصية
والإسكندرية تفوق القاهرة في أشياء
فالوافد على الإسكندرية من الجنوب تَلقاه المنازل البيض الخفيفة الروح، وتَلقاه نخلاتٌ بواسق تأنس برؤيتها العيون، أما الوافد على القاهرة من الشمال فتلقاه منازل مهدَّمة تقبض النفس، فمتى تفطن حكومتنا إلى هذه الظاهرة؟ ومتى تمدَّ يدها لرفع تلك الخرائب وتحويلها إلى حدائق ورياض ليشعر الوافد على القاهرة بأنهُ مقبلٌ على مدينة تفهم قيمة الجمال؟
آن للقاهرة أن تعرف أنها تسئ إلى سمعة مصر بالعفو عن تلك الخرائب التي تواجه من يَقْدَم عليها من الشمال. آن للقاهرة أن تعرف أنه لا يجوز أن تلقى القادمين بغير الابتسام، وتلك الخرائب الشبراوية تُدخل على أرواح القادمين أثقالاً من الانقباض البغيض(356/9)
أتذكرون المحطة القديمة، محطة الإسكندرية؟
لقد كان الداخل إليها يشعر بأنه يفد على أطلال، وقد عزّ ذلك على الملك فؤاد رحمه الله فأشار بأن يكون للإسكندرية محطة تناسب ماضيها الجليل وحاضرها الجميل
ومحطة القاهرة هي رابع محطة في العالم من حيث الفخامة والرونق، فكيف يجوز أن ندخل إلى القاهرة في مضايق محفوفة بمنازل محرومة من نضرة النعيم؟
يجب أن تسارع الحكومة إلى تجميل مدخل القاهرة، فمن العيب أن تكون لها تلك الحواشي المطرَّزة بأكواخ البائسين
ويوم يتمّ ذلك أستطيع أن أتحدث في موضوع جديد هو تغيير الشاطئ الذي تدخل فيه البواخر إلى (عروس الماء)
فالشاطئ الذي يستقبل البواخر مطرَّزٌ بحواش يُقْذِى مرآها العيون. ويجب تغييره أو تجميله في أقرب فرصة، فما يجوز أن يكون أول ما يقع عليه البصر عند دخول الإسكندرية شوارع ضيقة ومنازل دميمة وحوانيت ترجع في تكوينها إلى ما قبل التاريخ
الجَمال، الجَمال، الجَمال!!!
ليس الحديث عن الجمال هزلاً، وإنما هو جِدٌّ صُراح، والأمم التي لا تقدِر الجمال لا تستحق نعمة الوجود
فهل خطر في بال من يثورون على التبرج في شواطئ الاستحمام أن من واجبهم أن يثوروا على الدمامة في مراسي السفائن؟
وهل فيهم من حدثته النفس بأن ينظر في البقعة الموحشة التي تستقبل الوافدين من روما ولندن وباريس وبرلين؟
أين المحافظ وأين مدير البلدية وإليهما يتوجه من يتألمون من التبرج في الشواطئ؟!
هل عند هذين الرجلين علمٌ بما نعانيه حين ندخل مدينتنا هذه بعد قضاء شهور أو أعوام في ديار الغرب، الغرب الذي يرى الزينة مطلوبة في جميع المواطن وجميع الأشياء؟
قلتم في الدعوة إلى (عيد الورد) إن الإسكندرية لها حقٌّ على الجميع. فمن حقي عليكم وعليها أن تسمعوا وتسمع هذا القول وأنا أدعو إلى تغيير أو تجميل موقع الميناء، فأين من يسمع وأين من يجيب؟(356/10)
الحديث ذو شجون، أليس كذلك؟ فما الذي يمنع من القول بأن مدينتكم أخلفت الظن بها كل الإخلاف؟
هل تصدقون أن مدينتكم هذه كان لها صوت صحفي مسموع في أيام مصطفى كامل وأيام سعد زغلول؟ فأين صوتها اليوم وهي صدى لأصوات القاهرة؟
أنا أعرف أن الساعة الثامنة صباحاً والساعة السابعة مساءً موعدان لقدوم الجرائد والمجلات وأُحسُّ لوعة الشوق إلى هاتين الساعتين لأنهما موعد اتصال الإسكندرية بالقاهرة، ولكني أتوجع كلما تذكرت أن الحكومة المصرية التي تُعسكِر بالإسكندرية في الصيف لا تسمع صدى أصواتها إلا بفضل جرائد القاهرة، فمتى يستيقظ النائمون من أهل هذا الثغر الجميل؟
أيها السادة
أترك حديث المؤاخذات إلى حين، والتفت إلى حديث القلب فأقول: سيأتي يوم قريب يجتمع فيه زعماء مصر حول شواطئ بحر العرب الذي سُمِّيَ خطأ بحر الروم، وسيقام في الإسكندرية مؤتمر يؤلف بين أهواء الرجال ويغسل الضغائن ويدفن الحقود
ويومئذ نقيم (عيد الورد) وفي ليلة الاحتفال بعيد (المولد النبويّ)
ويومئذ نطمئن إلى أن بحرنا يسمى (البحر الأبيض المتوسط) لأنه جمع بين بياض القلوب، وتوسِّط في جمع أهواء النفوس
ويومئذ ننسى أن الهيام بشواطئ الإسكندرية يجرح رجال الدين، لأننا سنكون يومئذ ملائكة رفع الله عنهم إصر التكليف المستقبل لنا، بإذن الله صاحب العزة والجبروت
وهذا البحر لنا، بإذن فاطر الصباحة والملاحة والجمال
ومصر لنا، بفضل سواعدنا وعزائمنا وقلوبنا
فمن أراد بنا السوء فلينتظر غضبات الأسود عند جياع الأشبال.
نحن حفظنا مصر للعروبة والإسلام ثلاثة عشر قرناً، وسنحفظ لأبنائنا وأحفادنا وأسباطنا هذا التراث الغالي. والله مع المجاهدين.
زكي مبارك(356/11)
في سبيل الأزهر
اعتراف ورجاء
للأستاذ محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة
كتب الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء، سلسلة من مقالاته القوية الممتعة في الأزهر وما يتصل بالأزهر من فقه ودراسة وخلق
وقد أثارت هذه المقالات في نفسي باعتباري مسلماً، وعالماً، ومدرساً في الأزهر، عاملين مختلفين: أحدهما عامل الأسف والحزن والخجل من هذا السيل المتدفق الذي ينصب على رأس الأزهر في الحين بعد الحين، بل مع كل مطلع شمس ومغربها، حتى أصبحنا لا نقرأ مقالاً، ولا نستمع إلى حديث، ولا نتصفح كتاباً إلا رأينا فيه لوناً من ألوان النقد العنيف موجهاً إلى الأزهر في جموده وخموله، وركود الحياة العلمية فيه، وقصوره عن مجاراة الزمن، ومسايرة الحضارة العلمية التي رجت العالم، وتغلغلت في كل نواحي الحياة!
أما العالم الثاني فهو عامل الأمل والرجاء، في أن هذه العلل ما دامت غير مستحكمة ولا متأبية على الإصلاح، فهي قابلة للشفاء، وأن هذه الوخزات ما دام يحس بها أبناء الأزهر فهي دليل على الحياة فيه، وهي لا بد ستوقظه من سباته العميق، وستحمله على أن ينفض عن نفسه غبار هذا الكسل، وينخلع من هذا الثوب البالي الذي جلله بالعار، وديثه بالصغار، وسامه الذل والهوان!
لقد ساءلت نفسي: أحقاً أن في الأزهر كل هذه العيوب التي يرميه الناس بها، أم أنهم يتجنون عليه ويتندرون على حسابه؟
وسرعان ما أجبت عن هذا التساؤل، فاعترفت بكثير من هذه العيوب، وعذرت الذين يلومون:
في الأزهر من غير شك نواحي نقص عظيمة، ويجب أن نكون صرحاء إلى أبعد حدود الصراحة. وإذا جاز لكاتب مهذب كالأستاذ الزيات أن يجامل الأزهر، فلا يذكر كل ما يعرفه من عيوبه، حين يتناوله بالنقد، فإن ذلك لا يجوز لأزهري يصطلي ليله ونهاره هذه(356/12)
النار المحرقة التي لا مناص له من اصطلائها بحكم عمله وطبيعة اتصاله ببيئته
لقد تدبرت هذه النواحي التي من أجلها يلام الأزهر ومن قبلها يؤتي، فوجدت أهمها عقيدة الأزهر في نفسه وأسلوب الدراسة فيه.
فالأزهر مازال - على الرغم من بزوغ شمس الإمام المراغي في أرجائه - يدير حركته الفكرية على نحو من التعصب الجامد لكل ما يعلم، والرفض الجامد لكل ما يجهل. وما يزال فيه من يقول: كفر فلان، وألحد فلان، وتزندق فلان، لأنه أخذ برأي غير مألوف، أو خالف شيئا قال به إمام من الأئمة السابقين!
وليس هذا التكفير والحكم بالفسق والزندقة شيئاً يرمى به غير الأزهريين فحسب، ولكن للأزهريين منه نصيباً غير قليل! وإنك لتري غباراً يتطاير وشرراً يلمع، وتسمع دوياً يملأ أذنيك وضجة تدور من حولك، فتقول لنفسك هذه معركة علمية قد احتدمت، ولا بد أن تنجلي عن حقيقة يحسن السكوت عليها كما يقولون، أو عن فكرة إصلاحية تفيد منها الأمة فائدة تحفظها لرجال الأزهر
ويصدق ظنك من بعض نواحيه، فإذا هو عراك ولكن في غير معترك، وشجار ولكن في غير مشتجر، ثم تنجلي هذه المعركة كما بدأت، فلا الحقيقة العلمية وصلت إليها، ولا الأمة أفادت ما كان ينبغي أن تفيد؛ بل قل إنها تنجلي عن حالة هي أسوأ مما بدأت. فإذا كانت المعارك الحقيقية تسفر في كثير من الأحيان عن كذا من القتلى، وكذا من الجرحى؛ فإن معاركنا الأزهرية تسفر كذلك عن كذا من الكفرة، وكذا من الفسقة، وكذا من الجهلة. . . الخ
لست مبالغاً، أيها القارئ، وإنها للحقيقة المرة
لقد قال بعض العلماء رأياً في (الشيطان) في حديث له أذاعه بالراديو، خلاصته: أن (الشيطان) قد ورد ذكره في القرآن على أساليب شتى، وأن المعنى المشترك في كل الآيات التي عرضت للشيطان، أنه قوة الشر وعنصر الفساد في هذا الوجود
وهذا الرأي الذي يدل على تفكير ناضج وعقل رشيد، ويلتئم مع أحدث الآراء العلمية الصحيحة، ولا يعارض في نفس الوقت شيئاً صريحاً من الدين - لا يمر كما يمر سائر الكلام، ولكن يوقف عنده، لا ليشكر صاحبه على توفيقه بين نصوص الدين وآراء العلم، ولكن ليُتهم بمخالفة النصوص، وإنكار ما في القرآن، والخروج على الأحاديث!(356/13)
ولولا أن صاحب الرأي رجل قوي، محترم الرأي، مرموق المكانة، لا يؤكل لحمه، لترددتْ في هذا المجال كلمات الإلحاد، والفسوق، والزندقة، والمروق، ولكن الله سلم!
على رسلكم أيها السادة! لماذا تفرضون دائماً في كل من يخالفكم في الرأي أنه سيئ النية، متهم الغرض؟ ولماذا تفرضون دائماً في أنفسكم أنكم قد وصلتم في كل ما زعمتم إلى الحق، فتدخلون في كل بحث وكل نقاش على هذا الأساس ومع استحضار هذه الفكرة
وعمن أخذتم هذه الطريقة؟ أعن كتاب الله، وهو الذي يعظم شأن البرهان ويحكم العقل في كل شئ حتى في الإيمان بالله وينهى عن التنابز بالألقاب؟
أم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان المثل الأعلى في حلمه وسعة صدره وصبره على الحوار والجدال؟ ألم يكن الأعرابي الجلف يأتيه فيناديه باسمه المجرد، ويغلظ له في القول، ويعنف عليه في السؤال، فلا يفسد ذلك من حلمه، ولا يوهن من صبره؟
فإذا لم تكونوا قد أخذتم هذه الطريقة عن الله ورسوله فعمن أخذتموها؟ أعن علماء السلف ورجال المذاهب الأولين الذين كانوا يتناقشون ويتحاورون ويرجع بعضهم إلى رأي بعض، ويخالف بعضهم بعضاً، فلا يدفعهم ذلك الخلاف إلى تجريح أو تكفير؟
أم أخذتموها من كتب البحث والمناظرة التي قتلتموها بحثاً وأفعمتموها شرحاً، ولست أذكر أن فيما رسمت من أساليب الحوار سوى التدليل ودفع البرهان بالبرهان ومنع المقدمات. . الخ وليس فيها الوصف بالخروج على الآيات وإنكار الأحاديث!
هذا معنى في الأزهر ما زال موجوداً، وهو موجود على أشده في بيئة أزهرية معنية يعرفها الأزهريون ولها صلة وثيقة بالجمهور!
فإذا رجعت إلى أسلوب الدراسة والكتب المقررة وجدت العجب العجاب. وكلمة (العجب العجاب) هذه كانت تقال في زمن عبد القاهر الجرجاني وأبي هلال والشاطبي وغيرهم. كانوا يقولونها في نقدهم لآراء مخالفيهم؛ أما في عصرنا الحاضر، حيث النظريات الصحيحة الثابتة في شتى نواحي العلوم، وحيث السرعة والحرص على الزمن، فإني أرى كلمة (العجب العجاب) غير كافية للتعبير عما أقصد. وأعترف بالعجز عن اختيار لفظ مناسب يوصف به هذا التسكع العلمي الذي نسميه دراسة، مع أن الدراسة دائماً تنتج الوضوح وحل المشكلات، وهذا التسكع يقوم دائماً على التعقيد وخلق المشكلات!(356/14)
لو أردت أن أضرب أمثلة كثيرة لهذا النوع من الدراسة، لأتيت بالكثير ولوجد فيه قراء الرسالة طُرفاً لا تدور لهم بخلد، ولا تخطر لهم على بال، ولكني أكتفي الآن - والآن فقط - بأن أصف ما كان لذلك من أثر تحس به مناهج الدراسة!
مازال علماء بعض الكليات يقرءون في المنطق من أول العام إلى اليوم، (وأرجو أن يلاحظ القراء أنه لم يبق من العام الدراسي إلا أيام معدودات)، فلم يخرجوا بعد عن مقدمات هذا العلم، ولم يصلوا إلى بحث من صميم أبحاثه!
وما زال الذين يدرسون علم الأصول من أول العام يتحدثون عن أدلة التشريع. أستغفر الله، بل يسردون أدلة التشريع التي هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فأين هم اليوم؟ إنهم لم يتجاوزوا تعريف الكتاب تعريفاً فنياً إلا منذ عهد قريب، ومضى العام في معرفة ما هو علو الأصول، وما منزلته بين العلوم، وما ثمرته، الخ. بل ليس في هذه الموضوعات خالصة، فإن فيها على كل حال بحثاً علمياً مفيداً، ولكن في العبارات التي عبر بها المؤلف عن هذه المسائل، وفيما نقده من هذه العبارات شراح الكتاب وحواشي الكتاب! فأي ضياع هذا الضياع؟ وعلى حساب من؟
لماذا نحتفظ بأمثال هذه الكتب، ونحرص عليها، وفيها هذا الإرهاق وهذا البطء؟ ولماذا نأزم بها أنفسنا وأبناءنا؟ ألأنها أثرية؟ فأقيموا معهداً للدراسات الأثرية إن كنتم حريصين على الدراسات الأثرية إلى هذا الحد
هذه بعض العيوب التي يحس بها الأزهريون الناهضون أنفسهم قبل أن يحس بها الناس لهم. وفي الأزهر شباب ناهضون مستعدون للإنتاج والعمل، شباب أحسن الأستاذ الزيات في تسميتهم (شباب المراغي) لأن الأستاذ الإمام هو قائدهم الروحي، ليس في الإدارة فقط، ولكن في العلم والخلق والإصلاح
ولقد وجد فيه الأزهر الحديث ضالته المنشودة، فهو أول شيخ للأزهر لا يتعصب على الثقافة الحديثة. وهو أول شيخ للأزهر اشترك اشتراكاً عملياً في التشريع لخير البلاد. وهو واضع قانون الطلاق ومذكرته التي هي المثل الكامل للفقيه الذي تتطلع إليه آمالنا. وهو الذي اشترك اشتراكاً فعلياً في إلقاء الدروس على طلبة كلية الشريعة، لتكون مثالاً يحتذى، ويمضي على سننه المدرسون(356/15)
وهو في كل هذا وبعد كل هذا القدوة الحسنة لعلماء الأزهر وشبابِ الأزهر في تفكيره، وخلقه، وعلو همته، وسمو أغراضه
فمادام الأستاذ الأكبر المراغي يقود الأزهر، وما دام (شباب المراغي) مؤمنين بروحه، مقتفين لآثاره، فإن في الأزهر حياة، وفي إصلاحه أملاً إن شاء لله
وليستبشر الأستاذ الزيات، فان صرخته قد وجدت صداها، ولن تضيع!
محمد محمد المدني(356/16)
خواطر يثيرها سائل
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
عودة إلى قيمة الإنسان - نظرية النشوء والترقي - سعي
الإنسان للخلود - الانقلاب الإسلامي - انقلاب القرن السابع
عشر - لماذا التشاؤم؟ - دين الله بغير عنوان - بعض أسباب
الإلحاد - ثياب رجال الدين - وحدة التعليم الديني والمدني -
جنايات الجمود في عصر إسماعيل
لما كتبت كلمتي الأولى تحت هذا العنوان آثرت أن أبدأ الحديث فيها بدفاع سلبي عن فكرة الدينية، وطلبت من حضرة السائل (البيروتي) أن يوازن بين حياة الإيمان وحياة الجحود كفرضين عقليين، وهو مجرد من أي تأثر نحو أحدهما، ولم أتعرض للمبحث الإيجابي في الأصول الأولى للدين - وهي: الإلهية، والنبوة، ومصير الإنسان إلى حياة أخرى - إنما أعطت السائل - ويلوح لي من كتابته إلى أنه من الدارسين للدين والفلسفة والتصوف والعلوم - إلى فكره هو أولاً، وإلى المقالات الإيجابية التي سبقت لي عن الإيمان، ثم بسطت الحديث في قيمة الإنسان، لأنها في رأيي أساس الاعتراف بكل الحقائق الدين والعلم والفلسفة.
وكنت أرجو أن تكون قراءة أمثال هذه البحوث، قراءة غير سطحية، حتى يتفطن القارئ لجميع حلقاتها، ويخلص إليه منها نتائج واضحة محدودة، ولكن - مع الأسف - جاءتني رسالة أخرى من مجهول آخر هو (ح. م)، يلفت نظري فيها إلى حياة مجتمعات النحل والنمل، وكثير من الحيوان والحشرات التي تعيش في نظام محكم لا تحيد عنه، ويبدو منها فيه إدراك واختيار. . .
وأنا لم أجهل نظم الحيوان والحشرات التي أشار إليها، بل إني مغرم بقراءة المباحث التي فيها، ولم أنكر عليها الإدراك والاختيار في مرافق معيشتها. وقد قال القرآن قبل أن يقول(356/17)
العلم: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم). . .
ولكني أنكرت أن يسوي بين حياتها وحياة الإنسان أبي العجائب. . . الإنسان الذي يفكر فيها ويدرسها ويصورها ويكتب عنها ويتصرف فيها ويتغلب عليها، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك! الإنسان الذي يولد وهو أقل منها قدرة على التغذي والدفاع عن نفسه، ثم ينمو ويترقى إلى ما لانهاية له في الفكر والعلم بما يزيد عن ضرورات حياته، بينما هي تقف في نموها وإدراكها عند حدود حفظ حياتها. . . الإنسان الذي خلقت هي له بدليل تسخيره لها في خدمته، ولم يخلق هو لها بدليل أنها لم تتغلب عليه وتسخره وتتصرف فيه. . . الإنسان الذي خطأ في خمسة آلاف سنة - هي عمر التاريخ الذي نعرفه - خطوات واسعة ثابتة متلاحقة، فتغيرت حياته من العرى والبساطة في المسكن والملبس والمدرسة والحرفة والعبادة، تغيراً عجيباً يكاد يجن منه آباؤنا الأولون، لو بعثوا ورأوا ما وصلنا إليه. . . بينما الحيوانات والحشرات واقفة كما هي منذ عهد أجدادنا الأولين بها.
وهنا الدليل القاطع على وجود روح سام من الله في الإنسان يدفعه إلى الأمام دائماً في هذا العالم، حتى يكشف عن كل سر في الطبيعة ويتصرف فيه، يدفعه إلى إدراك الكمال التام الذي ينتظره في عالم آخر.
فإن لم نعترف بقيمة سامية الإنسان خارجة عن نطاق حياته الحيوانية، فسوف تختلط أمام الفكر المثل، وتلتوي السبل، ونضل ضلالاً بعيداً يؤثر في خدمتنا للعلوم والآداب الرفيعة والعمران تأثيراً رديئاً.
وإن سوء الفهم لنظرية النشوء والترقي من أكثر الذين درسوها دراسة سطحية هي التي لونت نظرة الكثيرين إلى قيمة الإنسان بهذه الألوان المزرية التي تبعث على تحقيره وإسقاطه عن العرش الذي أجلسه عليه الدين منذ أقدم العصور. فبناء على تلك النظرة المبنية على سوء فهم للنظرية ذهبت عن الإنسان قداسته، واختلت مقاييس الأخلاق وموازينها، وكان في هذا أكبر دافع إلى التحاكم إلى قوانين الأدغال التي لا مجد فيها إلا للقوة العمياء والشهوات، والسيطرة الوحشية التي لا تعترف بخدمة الفكر، والعلم، ولذة الحياة في مثل أعلى.
وعلى فرض ثبوت نظرية النشوء - وهي للآن لا تزال فرضاً نظرياً يحتاج إلى حلقات(356/18)
مفقودة ليصير حقيقة علمية - لا يجوز لنا أن نخلط بين الحياة الآلية التي هي (مضروب مشترك) في أجسام جميع الأنواع، وبين الروح الإنساني الملموح في رقي الإنسان الدائم السريع، ونزوعه المستمر إلى العالم الأكمل، ونفاذ فكرة في عالم المعاني المجردة، التي تبدو عجيبة رائعة في الرياضيات العليا والخفقات الروحية العليا، والمثاليات العليا التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً (بيولوجياً) أو (فسيولوجياً)
ولقد أحس الإنسان حتى في عصوره جهالته بتفرده وامتيازه على سائر ما يحيط به في الطبيعية إذ وجد نفسه أقوى قدرة، وأوسع حيلة في التغلب على المشقات، وفي الرقي بالحياة رقياً مطرداً، ولذلك لم يستطع أن ينظر إلى القبر كأنه نهاية أبدية لتلك الحياة؛ بل وجد في إلهامه أن لابد وراء موته من امتداد لحياته على أسلوب آخر أو على أسلوب الدنيا. . .
فما بال الإنسان يشك الآن في قيمته السامية بعد أن تضخم أمامه ميراث علومه وآدابه، وعمر الأرض عمراناً، وافتن فيها افتناناً وصار فطناً لما فيها من جمال وأسرار؟!
إنه ما فتى منذ وجوده وهو يسعى لخلوده ليظل مغموراً بهذا الإحساس العجيب بالحياة، ولم يكن يستطيع أن يتصور الخلود في أول الأمر بأكثر من أن يعطي شعلة حياته إلى ولده. وقد وجد في ولده أكبر عزاء له عن موته وفنائه؛ ولكنه لم يقنع بهذا بل ظل يبحث جاهداً عن وسائل خلود جسده هو بذاته، فحنطه ونقش صورته على الألواح والتماثيل، ثم خطأ خطوة أخرى فخلد فكره بالكتابة، ثم خطا خطوات متلاحقة في العصر الحديث نحو هذه الغاية فخلد صورته الحقيقية (بالفوتوغراف) وصوته (بالفوتوغراف) وأنغام نفسه (بنوتة) الموسيقى وحركات جسمه بالسينما، ثم تصرف في الصوت والصورة والحركة ونقلها على أمواج الأثير فاخترق الحدود والكثافات بالراديو والتلفزيون في أقل من لمحة، ثم هو الآن يتجه ببحوثه إلى عالم الروح لعله يستطيع أن يتصرف فيها. . . والله أعلم بمستقبل هذا النوع العجيب الذي ارتضاء خليفة له في أرضه. . .!
فأنت ترى أنه مشغول دائماً بخلود حياته إذ يحس إحساساً فطرياً وعقلياً أنها لا يليق بها الفناء الأبدي الذي يرجعها إلى العدم المطلق. . .
وأحب أن ألفت الفكر إلى أمر هام جداً وذي قيمة كبرى في النظر إلى قيمة الإنسان: وهو(356/19)
أن الحياة هذا النوع منذ ابتداء تيقظه لها في العصر التاريخي، وتقييد خطواته فيها حياة مطردة الرقي سائرة بسرعة إلى الوضوح والانكشاف وتحقيق الغاية من خلق النوع
ولقد عاش أدهاراً طويلة وهو يجهل أجناسه وأنواعه، غائباً في أوطانه الضيقة يحسبها هي وحدها كل الدنيا، لا يعلم حدود اليابس والماء، منثوراً لا رابطة تجمعه، جاهلاً بما في الكون من عوالم وأسرار، وقد كانت أديانه أدياناً خاصة. كل قرية فيها نذير يسدد حياتها بحسب ظروفها هي وحدها
ولقد كان الانقلاب الإسلامي قمة النضوج في العقيدة الدينية إذ جعلها عقيدة دولية وضع فيها الأسس لوحدة البشر، وتلاقيهم على معان مشتركة حتى يتأتى من وراء ذلك السعي إلى وحدة العمل والخدمة المشتركة، ولذلك لم تقبل الأرض أن يأتيها هدى من السماء على يد رسول بعد رسول الإسلام، وقد علم الله ذلك فأغلق باب الوحي وجعل محمداً (خاتم النبيين)، وقد صدق الزمان ذلك فلا مجال للجدال. ولم تعد الإنسانية تقبل ظهور البطل في صورة نبي، وقد فطن إلى ذلك (كارليل) في كتاب الأبطال، وهذا هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (إن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) أي أن الإنسانية قد بدأت بعد الانقلاب الإسلامي دورة زمنية جديدة، وحقاً يجد كل من يتفرس ويستقرئ التاريخ أن عصراً عقلياً جديداً قد ابتدأ بظهور الإسلام وانفساح الإمبراطورية العربية التي احتضنت جميع علوم العالم القديم ومعارفه وأنمتها وحملتها إلى العالم الحديث. فالانقلاب الإسلامي ينبغي أن تجعله الإنسانية بدء تاريخ رشد للعقل ووحدة للدين، وستفعل ذلك في يوم لا ريب فيه
والآن صارت الأرض كقطر واحد بأدوات الاتصال السريع وكل أمة تعلمت لغات غيرها، وارتبطت مجموعات كبيرة من الأمم برباط واحد. واختلط الأبيض بالزنجي والشرقي بالغربي وسكان الجزر النائية الغائبة في المحيطات بسكان للقارات، وصار الإنسان العادي يطلع في كل صباح ومساء على أخبار العالم الأرضي كله، ويرى حياة جميع الأمم في السينما. . . وهذه كلها مقدمات لنتائج لا شك فيها عند من يقيس ويعتبر بالماضي
وإذا ثبت أن الانقلاب الإسلامي كان بدء عهد عقلي وقلبي للإنسان، فقد ثبت أن القرن السابع عشر الميلادي كان بدء عهد عملي وعلمي له. وبذلك طار الإنسان بجناحين قويين(356/20)
من الحياة الفكرية والحياة العملية إلى الغاية من خلقه
فليس من الصواب ولا من الإنصاف أن ننظر نظرة تشاؤم إلى حاضره ومستقبله بعد أن رأيناه يبني حياته على العلم والفكر والنظام بناءً كان يعد في الماضي من أعمال السحر والإعجاز وخوارق العادات. . .
ومن النظر العامي أن نزعم أن الإنسانية الآن أحط منها في الماضي. . . ولست أدري ما مبعث هذا الزعم؟ أهو ملاحظة فساد في العقيدة الدينية؟ إن العقيدة الدينية الآن أصح منها في الماضي؛ فهي في أكثر الأمم المتعلمة بعيدة عن الشرك والوثنيات والخضوع الأعمى للكهنة. . . وما أصدق أن عاقلاً يخلي الطبيعة من عقل يدبرها ولكنه ليس إله الكهنة؛ وعما قريب يذهب ما في بعض الأديان من بقايا الوثنية والإشراك ولن يبقى للإنسانية إلا دين الفطرة والعقل بغير عنوان من يهودية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها. وهذا هو المعنى الحرفي اللغوي لكلمة (الإسلام) (فالإسلام) ترجمة ل - (دين بغير عنوان). فأي أمري، يؤمن بخالق واحد للطبيعة ويحسن العمل في الدنيا فهو (مسلم) والمعنى الحرفي لكلمة (إسلام) هو الانقياد لحكم الله في الطبيعة
وأقرأ إن شئت: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم. . . قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. بلى من أسلم وجهة لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). . . والآيات كثيرة في هذا، ولا محل الآن للخوض في هذا الموضوع. . .
وقد صارت الأديان التي تحتضن بقايا الوثنيات تختفي وتفر من نور العلم والفكر الحر ويزعم سدنتها أن الدين لا مناقشة، ولا تحاكم للعقل فيه. . . وهذا أول الاعتراف منهم بأنهم على باطل عما قليل يذهب مذموماً مدحوراً إلى قبور الخرافات والأباطيل
وأؤكد أن كثرة حوادث انفلات المتعلمين من العقيدة الدينية ليست ناشئة من أن عقولهم لم تقتنع بالأفكار الأولية الرئيسية فيه. . . وإنما منشؤها أن هذه الأفكار الرئيسية قدمت لهم في هلاهل من الخرافات والمتناقضات والألغاز، ولأنهم وجدوا أن تاريخ رجال الدين مع الأسف الشديد تاريخ مملوء بالجمود ومواقف العداوة للعلماء الطبيعيين الأولين الذين كان لهم فضل الاهتداء إلى مفاتيح العلوم التي نالت الإنسانية منها كثيراً من الخير والبركات(356/21)
وصار رجال الدين الحاليون أنفسهم يتمتعون بها ويأخذون بمنافعها كما يأخذ سائر الناس بعد أن كان أسلافهم يصبون عليها شآبيب السخط واللعنات ويحرقون وينكلون بمن يجرؤ على التحدث عنها في الفلتات بعد الفلتات. . .
ومنشؤها كذلك أن رجال الدين منعزلون عن حياة أكثرية الناس لهم لباس خاص ويكادون يكون لهم منطق خاص بهم وحدهم. والحياة الحالية حياة عظيمة السلطان على النفوس تغري جميع بنائها بالاندماج في موجاتها، وتعد من يعتزلها وينأى عنها رجلاً فيه مس ونقص وشذوذ. وكل مخلص للدين مقدر آثاره في الحياة وفقرها إليه وفسادها بدونه، يرى من الخطر أن يظل لرجال الدين ثيابهم الكهنوتية وطقوسهم التي ما أنزل الله بها من سلطان لأنها توهم الناس أن الدين في تلك الثياب والرسوم العجيبة، ويرى من الخطر أيضاً أن يفرق شباب الأمة فئتين: فئة لعلوم الدنيا منذ التعليم الابتدائي وفئة لعلوم الدين منذ التعليم الابتدائي. وليس بين الفئتين مرحلة يسيرون فيها جنباً إلى جنب حتى يتنفسوا في جو واحد ويقيسوا بمقياس واحد. وإذا كان هذا التفريق قبيحاً في أي أمة فهو في الأمة الإسلامية أقبح القبح! لأن الإسلام هو المعيشة بالجسد والروح عيشة متناسبة، وهو دين يجعل التمتع باللذات المحللة عبادة إذا ذكر اسم الله فيها. . . ويجعل خدمة العلوم الدنيوية المفيدة فرضاً يحاسب الله على إهماله، ويطلب من الإنسان أن يعيش عيشة رحبة عميقة بكل قوة في تكوينه. فلماذا التفريق في التعليم وفي اللباس تفريقاً يوحي إلى النفوس بمعان من التعصب والانحياز، ويلقى في روع الناس أن حياة الدين منفصلة عن حياة الدنيا؟!
إن اليوم الذي توحد فيه برامج التعليم في المرحلتين الابتدائية والثانوية في جميع المدارس المدنية والمعاهد الدينية بحيث تحتوي البرامج على التربية الروحية التهذيبية والعلوم المفيدة للجميع. ويوحد فيه الزي بين أبناء الأمة جميعاً سواء أكان عمامة للجميع أم أي لباس للجميع، هو اليوم الذي تصير فيه الحياة الفكرية والروحية مزيجاً مؤتلفة فيه جميع عناصر الحياة اللازمة لكل نفس بدون تكلف أو احتراف. وهذا هو ما كان عند الرعيل الأول من المسلمين في زمن الرسول وخلفائه. فقد كان الرسول جندياً مع جنوده، وعاملاً بيده مع عماله، وعابداً وحاكماً ورجلاً يعيش بجميع قوى جسده ونفسه، يلبس جميع ألوان ثياب قومه، ولم يكن يتميز على أصحابه في شئ من السمات الظاهرة. فمن تبعه صار(356/22)
يلبس مثله. ولذلك كانوا كلهم في مظهرهم رجال الدين ودنيا يتفاضلون ويتمايزون بالعقل وكثرة العلم لا بالسمات والشارات. فمن كان عنده علم من الدنيا أفتى فيه وبذل منه وعرفه الناس به فقصدوه من أجله، ومن كان عنده علم من الدين أفتى فيه وبذل منه عرفه الناس به فقصدوه. وليس وراء ذلك فارق ما. فلا جرم بعد ذلك ألا تكون هناك شقة خلاف وهوة شقاق بين الدين والدنيا عند المسلمين الأولين بمثل ما هما عند المسلمين المتأخرين الذين ورثوا ميراث هذا الخلاف عن أمم الغرب، وزعم المبطلون أنه أصل عندنا كما هو عندهم
وقد كان من الواجب - لو فطنت الأمم الإسلامية - أن تظل الدراسات الكونية ضمن نطاق العلوم التي تدرس في المعاهد الدينية، كما كان الشأن عند المسلمين في الدولة العباسية والدول التي تلتها إلى أن جاءت نظم العصر الحديث في عهد محمد علي. إذاً لظل العلم بما في الدين وما في الدنيا وحدة غير مجزأة يخرج الإنسان المتحلي بها كامل القلب والعقل تلتقي عنده الثقافات ويمرن على التوفيق بينها، وبناء الحياة الاجتماعية عليها. فما كان عند المسلمين سبب يدعو إلى التفريق في المعاهد وإخراج علوم الدنيا عن نطاق الدراسات الدينية. وقد ظل الأزهر والنجف والزيتونة، وجامع القيروان، ومساجد بغداد، ومعاهد الشام يدرس فيها الفلك والحساب، والرياضيات والطب، والطبيعيات والموسيقى إلى أن أتى العصر الحديث.
وقد كان المتعلم لا يخرج إلا من هذه المعاهد وأمثالها. ولذلك أخذ محمد علي - منشئ دراسات العلم الحديث في البلاد العربية - أغلب أفراد بعثاته إلى أوربا من طلبة الأزهر، إذ كانوا هم الطبقة المثقفة من الشباب. وقد كان بعض العلوم الدينية يدرس في عهد محمد علي في المدارس التي أنشأها للهندسة والطب وغيرهما
ولكن جمود بعض المشايخ في عصر إسماعيل وامتناعهم عن إدخال العلوم الحديثة بنظمها الأوربية في الأزهر، هو الذي جني على الإسلام كما جني عليه امتناعهم عن إنشاء قانون مستمد من جميع مذاهب الشريعة الإسلامية يساير روح العصر الحاضر ويكون منطبقاً على ما جد في الحياة من مشاكل ومطالب. حتى اضطروا إسماعيل إلى فتح مدارس خاصة وإنشاء محاكم تحكم بغير الشريعة الإسلامية
إن الأوربيين اضطروا إلى انتزاع دراسة العلوم الكونية من أحضان الأديرة والكنائس،(356/23)
لأنها لا تسمح بالاعتراف بالحقائق التي تناقض وتهدم تعاليمها، بل كانت تئدها في مهدها، حتى جاءت الثورات الإصلاحية التي ألزمت الكنيسة حدودها، وجعلت الناس يدخلون الكنيسة بعقل خاص، ومعاهد العلوم بعقل آخر. ونحن المسلمين ولله الحمد لم تحدث عندنا معارك وخصومات بين الفريقين تجعل العلاقات بينهما مستحيلة، وليس في ديننا ما نخاف عليه من حقيقة كونية، بل بالعكس ديننا يخدم بالعلم الطبيعي. فلا يصح أن نفرد هذا بمعاهد خاصة وذاك بمعاهد أخرى. بل الواجب أن يسير جميع التعليم في مجرى واحد إلا في مرحلة التخصص
وفي هذا تدارك سريع لحالة تخشى عواقبها على الدين والأخلاق، وفيه توحيد وتوجيه لقلوب الشباب وعقولهم إلى مثل أعلى واحد. وفيه توكيد لذلك المعنى السامي العظيم: وهو أن الدين عندنا عقل وعلم، والعلم عندنا دين وخلق.
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(356/24)
زفرة مصدور!
للأستاذ علي الطنطاوي
إلى أخي شكري فيصل:
قرأت كلمتك التي أوحى إليك الحنين معناها، فوعيت وحيه وبلغته (الرسالة) وأهديته إلى صاحبها فأثارت قراءتها ألماً في نفسي دفيناً، وبعث فيها شكاة ميتة، فأخذت القلم أكتبها لتكون جواباً لكلمتك. وليغفر لي القراء النحو الذي نحوت إليه فيها، وليغفر الزيات فإنني متألم. . .
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
وما عجب أن أدخل بينك وبين الأستاذ الكبير الزيات، فإنه أخي الأكبر، وأنت أخي الأصغر، وأنا أحمل له من الحب والإكبار، على أني لم ألقه أبداً، مثلما أحمل لك من المودة والحب على طول معرفتي بك ناشئاً وشاباً، وعلى أني سأعرفك أدبياً كبيراً إن شاء الله
أنا الآن في شرفتي التي تعرفها. . . أطلّ على دمشق من فوق خمس جواد علوها مائتا متر، فأراها كلها كصفحة الكف، وقد انتصف الليل، وانصرف السامرون آنفاً بعد ما أحيوا ليلة من الليالي التي تعرف مثيلاتها في دارنا، وسكن الكون وشمله الجلال، وأنا جالس وحدي أفكر، لا أفكر في دمشق التي حننت إليها، وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر، وغمر جوّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات، من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. ومالي لا تخمل قريحتي، ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق، على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء، وتهز العلم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت شمل العرب المتفرق، وتوحد الشعب وترجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد. . . تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول، ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول. . . فلم أجد في دمشق إلا النكران والأذى ولم أجد إلا ما يسوء ويؤلم. . .
ولكن هل يشكو امرؤ بلده؟ هل يهدم بيده داره؟(356/25)
إن تكلمت قال الحساد بغي وظلم وإن سكت قال الشامتون رضي أو عجز، والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام. . . هل يجوز الكلام؟
يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان، ويوحي بها الحنين الطاغي، يا ليتني، وهل تنفع شيئاً ليتني؟
فاقنع أنت بهذه الصورة ودع دمشق. ولكن لا، إنك لست مثلي، إنك ستعود فتلقى مكانك في غرفة المدرسيّن معداًّ لك ينتظرك. وسيظلمونك فيسوّون بينك وبين هؤلاء المساكين الذين بعثوهم ليتعلموا العربية في ديار العجم فجعلوهم بذلك سخرية الساخرين. أما أنا فلم أبلغ مرتبة هؤلاء، ولا أنا ببالغها في يوم من الأيام، وقد عمي أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف وهو شئ يملأ ثلاثة آلاف صفحة على أقل تقدير. هبْ أن فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناء، فكيف وكلها ثمرة التأمل الطويل، ونتيجة كد الخاطر وعصر الدماغ، وما منها شئ سرقته عن أديب من أدباء فرنسا ولا إنكلترا!. . . عمي أولو الأمر عن هذا كله ولم يعدلوه بهذه الورقة السحرية التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها من يسكن هناك، بأنهم صاروا يفهمون العربية، وغدوا أهلاً للتصدر لتدريسها. . . ولم يجدوني أهلاً لأكثر من (أستاذ معاون)!
أفيكون ظلماً مني وعدواناً، إذا أعلنت ما أصابني، وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبق لي من صديق غيرهم؟ لم يبق لي صديق في هذه الحياة، إنك لتعلم ذلك، ولكني لا أشكو!
إنهم يقولون إني عنيد، وإني مشاغب، وإني أثير المشاكل؛ ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحداً، هو أني أوثر الصدق وأعلمه ولا أفعل ولا أقول إلا ما أطمئن إلى أنه الحق. . .
وهل كان ذنباً أنى حميت للفضيلة تمتهن، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت، وقلت لتلاميذي ناضلوا عنها وقاتلوا؟. . .
وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوّته ويجحد رسالته، جاهل غرير، في حفلة أقيمت لتكريم محمد وتمجيد ذكراه؟ وهل كان ذنباً أني لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق، ولا أقول للأعور ما أحلى عينيك؟. . .(356/26)
هذه هي ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء وكسبت عداوات الرؤساء، وربحت خصومة الجاهلين، وعُددت بها من كبار المشاغبين. . .
لقد قارب الفجر، وانطفأت أنوار المدينة. . . لقد مرّ عليّ ساعتان وأنا أفكر، وكل شئ من حولي ساكن ميت، وكذلك حياتي!. . . إنها خالية منذ سنوات، ليس فيها شئ متحرك. . . فأنا أعيش عيش الحالمين، أرقب أبداً الحادث الذي يهز حياتي الساكنة، ويحرك مواهبي الخاملة، ويدفعني إلى العمل، ولكن انتظاري قد طال حتى كدت أيأس من الانتظار. . .
إنك تعزيني بما حصلت من شهرة وما نلت من مكانة، ولعل في ذلك تسلية لي لو كنت أحس به أو ألمسه، إنني لا أحس والله بهذه الشهرة، إنني كالمغني الأصم الأعمى، يطرب الناس فيصفقون له ويهتفون، ولكنه لا يسمع ولا يري، فينصرف حزيناً يحسب أنه خاب وأساء. . .
إن أهل بلدي ينكرون عليّ كل شئ حتى الأدب
لقد قرأت أمس مقالة سقطت إليّ عرضاً، فرأيت فيها مقالاً يخبط فيه صاحبه خبط عمياء، فيعد أدباء دمشق أو الذين يراهم هو أدباء، فيذكر فيهم كل موظف في وزارة المعارف، وكل تلميذ يدرس في أوربة، وكل مدرسي التاريخ والجغرافيا، ولكنه لا يذكر علي الطنطاوي ولا سعيد الأفغاني؛ أفسمعت أبلغ من هذا الجهل وهذا النكران؟
هذه حالنا في دمشق التي تحن إليها، وتحيي الليالي تفكر فيها، وتتراءى لك صورتها حيال الأفق وأنت قائم عند قنطرة الزمالك أو مرتق ذروة الهرم، وتساهر النجم تفكر فيها وتعد الأيام للوصول إليها، دمشق صارت كالهرة تأكل من حبها بنيها
لقد حمل إلىَّ البريد رسائل جمة ممن أعرف ومن لا أعرف يسألني أصحابها لم لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام؟ فوجدت في هذه الرسائل عزاء، وشكرت لأصحابها، وتوهمت حين قرأتها أن في الدنيا من يفكر في، ويقرأ ما أكتب، ولكني لم أجب واحداً منهم، وبماذا أجيبهم؟ وكيف أقول لهم إن دمشق قد قتلت في نفسي روح الأدب؟
كيف أشكو دمشق التي أحبها؟ وكيف أذمها بعملها؟
ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار، فمن الناس من يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم من يخرج مثقلاً بأموال غيره التي ربحها، ومنهم(356/27)
من يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومن يمد ' إليه حذاءه ليمسحه له، ومن ينام على السرير، ومن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومن يأخذ التسعة من غير عمل، ومن يكد ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسماً وهبات، فربَّ غني لا علم عنده، وعالم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات ورَبّ أخلاق لا يملك معها شيئاً، ومالك لكل شئ ولكن لا أخلاق له، رأيت في مدرسي المدارس من هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة من هو أفضل من الوزير، ولكنه الحظ الأعمى، أو هي حكمة الله لا يعلم سرَّها إلا هو، ابتلانا بخفائها لننظر أنرضى أم نسخط
ولكن ما أضيع أيامي في مدرسة الحياة، إن كان هذا كل ما تعلمت منها في ثلاثين سنة!
لقد أذَّن الفجر وأنا ساهر، وأضيئت منارات دمشق التي لا يحصيها عدّ، ورنَّ صوت المؤذنين في أرجاء الوجود صافياً عذباً: الله أكبر. . . الله أكبر. . .
الله أكبر من كل شئ، اللهم إني أرفع إليك شكاتي. . .
اللهم إني قد نفضت يدي من الناس، وإني أسألك أمراً واحداً، ألاّ تقطعني عنك، وأن تدلني عليك، حتى أجد بمراقبتك أنس الدنيا، وسعادة الأخرى. . .
علي الطنطاوي(356/28)
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدروي
- 2 -
كانت الحركة الإسماعيلية قوة تهذيبية عظيمة، اختصت بإنشاء مدارس وجامعات أشهرها جامعة الأزهر في القاهرة وبتصنيف دائرة معارف واسعة تذكرنا بحركة التأليف الأنسكلوبيدية في فرنسا في القرن الثامن عشر. وفي هذه الموسوعة المسماة (رسائل إخوان الصفا) نجد تقريباً كل الآراء التقدمية في ذلك العصر وإشارات قليلة ثمينة إلى نظم تشكيل الجمعيات، ومنها نعلم بوجود جمعيات لإخوان الصفا في جميع أنحاء الإمبراطورية تعمل لبث آرائها بين كل طبقات الشعب وخاصة بين الصناع وأصحاب الحرف
يرى الأستاذ ماسنيون أن الحركة الإسماعيلية هي التي أوجدت الطوائف الإسلامية وأعطتها ميزتها الخاصة التي حافظت عليها حتى الآن، إذ يقول: إن الطوائف الإسلامية كانت قبل كل شئ سلاحاً شهره الدعاة الإسماعيليون في كفاحهم لضم الطبقات العاملة في العالم الإسلامي لتكوين قوة منهم تستطيع قلب الخلافة وكل ما تمثله؛ وللتوصل إلى استغلال أصحاب الحرف أوجدوا الطوائف وسيطروا عليها. وهكذا أصبحت لها خاصيتان: (أولاً) كونها أصنافاً للحرف و (ثانياً) كونها مؤسسات أخوية إسماعيلية
دعنا نفحص الدلائل التي تؤيد هذه النظرية. يجب قبل كل شئ ملاحظة اهتمام الإسماعيلية العظيم بطبقات أصحاب الحرف فقد خصص فصل كامل في رسائل إخوان الصفا للنظر في الحرف اليدوية وتبويبها وتصنيفها ونبلها. وتهمنا بصورة خاصة الفقرة التي قسم فيها الذين لا يمتهنون الحرف كما يلي: قسم لا يمتهن الحرف كبرياء وأنفة، وقسم لزهده كالأنبياء، وقسم يقلدهما لكسله وقلة نشاطه كالشحاذين وغير الماهرين من الصناع أو لتراخ في الطبيعة وضعف في العقل كالنساء وما يشبههن من الرجال. فالإشادة المقصودة بأصحاب الحرف بينه، والأمثلة الأخرى على اهتمام الإسماعيلية بالحرف كثيرة. وهناك عامل ثان وهو الفرق بين وضعية الطوائف في عهد الفاطميين وبينها في عهود الدول(356/29)
السنية. إذ كانت الطوائف تحت الحكم السني مضطهدة وخاضعة لقيود لا تعد، ومحرومة من حقوق قانونية. وكان هناك موظف حكومي يدعى المحتسب مهمته الأساسية مراقبة الطوائف وقتل أية محاولة للعمل المستقل فيها منذ المبدأ، ولدينا أدب ممتع ضد هذه الطوائف يظهر قلة ثقة الدول السنية بها، ويظهر ذلك خاصة في كتب الحسبة أي الكتب التي كتبت لفائدة المحتسب عن أخطر أهل الصنائع وعن احسن الطرق للسيطرة عليهم، وقد وصلتنا هذه الكتب من محلات متباينة كالقاهرة وحلب ومالقة
نلاحظ الفرق في وضعية الأصناف تحت حكم الفاطميين، إذ كانت تتمتع برخاء عظيم. فقد كانت معترفاً بها من قبل الدولة، ويظهر أنها كانت تتمتع بامتيازات كثيرة، وأنها لعبت دوراً هاماً في النشاط التجاري الذي حصل في العهد الفاطمي، ففي هذا العصر نشأت نقابة الأساتذة والطلاب التي تؤلف الجامعة العظيمة أي الأزهر الذي مر ذكره. ثم قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية 1171م، وأعيدت مصر إلى حكم السني وفي الحال جردت الطوائف من أكثر حقوقها وامتيازاتها وأخضعت لنظارة دقيقة
وهنالك عامل ثالث يؤيد هذه النظرية، وهو الأثر القوي الذي تركه النفوذ الإسماعيلي في الطوائف بعد اختفاء الدعوة الإسماعيلية بزمن طويل. إذ يقول الأستاذ كوبريلي إن الطوائف في أناضوليا في القرن الثالث عشر كانت لا تزال تحتفظ بنظام متدرج في التنشيء يشبه بدقة النظام الإسماعيلي، كما أن دراسة أصناف مختلفة في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي أظهرت آثاراً مماثلة. وتظهر رسالة لأحد الأصناف المصرية كتبت في القرن السادس عشر - كتاب الذخائر والتحف في بير الصنائع والحرف - كرهاً شديداً للحكم العثماني الذي يعتبر سبب تعاسة رجال الأصناف، ونجد في الرسالة فكرة انتظار المهدي لينقذ البؤساء
وهكذا نجد الآثار الإسماعيلية التي هي ضد التعاليم السنية تستمر بين الأصناف، ونلاحظ العبارة التالية في هذه الرسالة (إن العلم يعطلونه وبعد أن تذهب دولة العثمان يطلبونه ويقوم سيدي محمد المهدي لكل حرفة لها صدر في الصحابة ويأمرهم بإتباع الطريق فيدخلون السياج ويسألون كل نقيب عارف يصير الأمر له محتاج حتى يقوم الدين ويصلح اليقين ويبطل العقد والثلاث ويضرب أعناق النقباء الجاهلين والمشايخ المتلبسين)(356/30)
وأهم من ذلك وجود أفراد من طوائف مختلفة بين أفراد الأصناف، وهي خاصة تميز هذه الأصناف بدقة عن النقابات الأوربية، إذ يقبل المسلم والمسيحي واليهودي تحت نفس الشروط فيها، حتى إن بعضها يغلب فيها غير المسلمين كأصناف الأطباء والمتعاملين بالمعادن الثمينة. . . الخ. وهذا يظهر الرابطة الدقيقة بين الأصناف والدعوة الإسماعيلية
يتضح من كل هذا أن الحركة الإسماعيلية لعبت دوراً هاماً في تطور الأصناف الإسلامية، وأنها تركت أثراً عميقاً خالداً في حياتها الداخلية، وإن لم يوجد برهان واضح يبين أن الحركة الإسماعيلية أوجدت الأصناف، ولكن الأكثر احتمالاً هو أن الإسماعيلية أعطت مصدراً جديداً ومعنى جديداً لتشكيلات كانت موجودة من قبل. فهل كانت هذه التشكيلات من أصل بيزنطي، أو كانت تقليداً لمؤسسات بيزنطية معاصرة خارج حدود الإمبراطورية الإسلامية؟ هذا ما يستحيل البت فيه. فأثار تشكيلات الحرف في الفترة التي سبقت الحركة الإسماعيلية والعامل الإغريقي العظيم في الأفكار يؤيد تفسيراً من هذا القبيل
وهكذا تكون النقابات الإسلامية عبارة عن نظام يتركب من هيكل موروث من العالم اليوناني الروماني وسلسلة من الآراء جاءت على الأخص من الحضارة الفارسية الآرامية وأنتجت حركة إسلامية إغريقية تهذيبية فلسفية تكتلية (على هيئة جمعيات) في نفس الوقت
وفي أوسط القرن الثالث عشر حدثت فاجعة الفتح المغولي الذي حطم الخلافة وأخضع المسلمين من سنيين وغيرهم على السواء إلى سيطرة شعب أجنبي كافر، وأفضى إلى طمس التمييز الاجتماعي بين الاثنين (السنة وغير السنة) وسهل نوعاً ما اعتناق الجماهير للمذهب السني. وباختفاء الحركة الإسماعيلية تحرج مركز الأصناف في المجتمع السني، إذ بقيت بعض الصعوبات، فأصحاب الحرف بقوا غير آمنين في نير الطبقات الحاكمة في الدولة. وربطوا أنفسهم بميول دينية هي وإن لم تكن خارجة عن الدين لم تكن دائماً فوق الشك، وهذا هو التصوف، فإلى زمن قريب كانت تصدر بعض التهم من علماء السنة ضد الأصناف كالأحكام التي أصدرها الفقيه السوري العظيم ابن التيمية، أو التي أصدرها الشيخ العثماني (منيري بلغرادي) في القرن السابع عشر. وعلى كل فبالرغم من كل هذا العداء كانت حالة الأصناف في الفترة التي تلت الفتح المغولي متوطدة، واستمرت كذلك حتى حركة الإصلاح التركي في القرن التاسع عشر التي انتهجت خطة أدت إلى انحطاط(356/31)
الأصناف بصورة عامة. وترجع أكثر الوثائق وكل الأخبار التي لدينا عن النظام الداخلي للأصناف إلى فترة التي تلت العهد المغولي
وقبل النظر في النظام الداخلي يجدر بنا أن نفحص مشكلة هامة في تاريخ الأصناف الإسلامية. فحوالي نفس الوقت الذي نجد فيه الأصناف تختلط بطرائق الدراويش والصوفية نجدها على اتصال أشد بنظام جديد وهو الفتوة. أما أصل حركة الفتوة فغامض جداً، وليس هذا بمحل البحث عن ذلك. ويكفي القول بأن تشكيلات الفتوة انتشرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في جميع البلاد الإسلامية. وجمعية الفتوة هي مجموعة شبان (فتيان) يربطهم قانون أو دستور ديني وأخلاقي يحتوي على واجبات وشعائر منظمة. فهم مسئولون عن ممارسة بعض الفضائل والقيام بخدمة عسكرية لخير الإسلام. ويظهر من هذا أن الفتوة تشكل نظاماً إسلامياً يوازي الفروسية عند الأوربيين حتى أن فون همر ذهب إلى أن أصل الفروسية الأوروبية إسلامي
وفي الفترة التي تلت الفتح المغولي مباشرة نجد الفتوة تميل أكثر فأكثر إلى الاتصال بالطرائق الصوفية وبأصناف الحرف بواسطة رابطة العضوية (أي الانتماء إليها في نفس الوقت). بدأ هذا التطور في الأناضول، وأنتشر بسرعة في أنحاء العالم الإسلامي، ولم يمضي زمن طويل حتى أصبحت كلمتا صنف وفتوة ذاتي مدلول واحد. أما كيف بدأ هذا الامتزاج، وعلاقة هذه التشكيلات المختلفة، فأمر غامض لم يوضح بصورة كافية حتى الآن
يلاحظ تشنر ثلاثة أدوار في تاريخ الفتوة، وهي ثلاث خطوات لانحلال اجتماعي مطرد: فيقول إن حركة الفتوة بدأت كحركة فروسية أرستقراطية، ثم تحولت فصارت حركة الطبقة المتوسطة في القرن الثالث عشر، وأخيراً انحطت في القرن الخامس عشر إلى أكثر من ذلك وأصبحت حركة للعوام. وهكذا اندمج الفتيان في أصناف الحرف. ومن جهة أخرى يقول ثورننج أن الصوفيين وأصحاب الحرف قلدوا جمعيات الفتوة مقتبسين شعائرهم ومثلها العليا وأخيراً اسمها. وأكثر هذه التعليلات إقناعاً هو تعليل (كوردلفسكي) الذي يتفق مع كوبرولو على أن زمن اندماج مجموعات الفتوة بالأصناف هو في القرن الثالث عشر في الأناضول، ويربط ذلك بنظام هام هو نظام (أخيان روم) أو (أخوة الأناضول). فقد ظهرت أخوة في أناضوليا لأول مرة في السنوات التي تلت الفتح المغولي مباشرة، إذ كانت(356/32)
الفترة فترة فوضى واضطراب عام؛ فالمغول الذين دحروا الدولة السلجوقية عجزوا عن التعويض عنها، وبذا اضطربت الإدارة. وفي هذا الدور الحرج تظهر الأخوة كمؤسسة قومية واسعة لها الرغبة والقدرة على التنظيم.
(يتبع)
عبد العزيز الدروي(356/33)
من شجو الربيع
عيناك. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
عَيْنَاكِ لِي قَبَسَانِ فِي ... زَمَنِي المُحَيِّرِ هَادِيَانْ
وَشُعَاعَتَانِ مِنْ الطَّهَا ... رَةِ وَالقَدَاسَةِ وَالحَنَانْ
وَسَكِينَتَانِ بِوَاحَةٍ سَجْ ... وَاَء عَذْرَاَء الجِنَانْ
سِرُّ الإلهِ بهاَ خَفِيُّ ... الغَيْبِ مَعْصُومُ اللِّسَانْ
أَشْجَتْ خَياليَ مِنْهُمَا ... في وَحْدَتَي أُنُشُودَتَانْ
تَتَهادلاَنِ عَلَى رَبَابٍ ... لَمْ تُلاَمْسَهُ بَنَانْ
عَيْنَاكِ لَوْ تَدْرينَ ... فِي صَحَرَاءِ عُمْرِيَ وَاحَتانْ
وَبُحَيْرتان بِعَالمٍ فَوْ ... قَ الغُيُوبِ رَهِيَبتَانْ
بالحُبِّ والأنْغَامِِ وَال ... خَمْرِ المُقَدَسِ تَخْفُقَانْ
الله أكبر! بَلْ هُمَا ... مِنْ نأي رَبِّكِ هَمْسَتَانْ
وَهُمَا لِرُوحِي فِي السَّنَا الْ ... جَاثِي لَدَيْكِ عِبَادَتَانْ
بَلْ نَشْوَتَانِ، وَسَجْدَتَا ... نِ وفِتْتاَنِ، وَتَوْبَتَانْ
وَهما لِحُبِّيَ لَوْ عَلِمْ ... تِ مِنَ الضِّيَاءِ تَمِيمَتَانْ
تَقيَانَ قَلبيَ مِنْ ... أَذى الدُّنْيا وَشَعْوَذَةِ الزَّمَانْ
. . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .
عَيْناكِ عَبْدُ سَنَاهُما ... يَفْنَى وَلاَ. . . .
. . . . لاَ تَدْريانْ!
(ديوان المعارف)
محمود حسن إسماعيل(356/34)
من وراء المنظار
صاحب الديوان الظريف
أما أنه ظريف حقاً فذلك ما تبين من هذا الحديث الذي أسوقه عنه، ولكم تمنيت لو كان أصحاب الديوان جميعاً على شاكلة هذا الشاب الذي ساقتني الظروف السعيدة إليه. . .
ولن يتسع المجال إذا أردت أن ألم بنواحي ظرفه جميعها ولذلك فحسبي أن أقصر الحديث على آخر لقاء كان بيني وبينه
دخلت حجرة عمله فما رآني مقبلاً عليه حتى خف للقائي ضاحكاً مرحباً يمد لمصافحتي يمناه ويقدم إليّ كرسياً بيسراه على صورة لفتت أنظار الكثيرين ممن حوله من أصحاب الديوان، وأمثال هؤلاء لن يلفت أنظارهم الرصينة المنكبة على حل المعضلات إلا أمر غير مألوف
وجلست ترمقني العيون برهة وحرت أول الأمر كيف أبدأ الكلام وما جئت زائراً، ولا أنا بصديق لهذا الذي أسرني ظرفه، وما كانت معرفتي به إلا من كثرة ترددي عليه في أمر لي عنده.
وبدا هو الكلام فقال: (قهوة وإلا قرفة وإلا شاي يا سعادة البيه؟)؛ واعتذرت شاكراً فما زاده اعتذاري إلا إلحاحاً بل وتوسلاً أن تنازل فآخذ شيئاً مما ذكر، ولست أدري ماذا كان يبلغ من قوة إلحاحه لو تبين على وجهي أمارة القبول، على أني والحق يقال لم أر في وجهة إلا أنه جاد، وإلا فبماذا يفسرهذا التوسل الذي ما فتر والذي لم ينته في الوقت نفسه آخر الأمر إلى شيء؟
وابتسمت وتواضعت وتصنعت الحياء وقلت في رفق يتناسب مع ما لقيت من ظرف: (لعلك انتهيت من مسألتي) فقال: (أيوه يافندم قربنا. . . حالاً إن شاء الله، الحكاية كثرة عمل والمدير كل ساعة يطلبنا، وكل عام وأنت بخير إجازة المولد. . . على كل حال كن مطمئن احنا محاسيب يافندم. . .)
وجاء أحد السعاة فاستدعاه لمقابلة المدير فنظر إلى كأنما يقول هكذا لا يني المدير عن طلبه، وأخذ في يده مجموعة من الأوراق كان ينظر إليها في اهتمام واستأذنني وهو يرجو أن يعود فلا يجدني.(356/35)
وجلست أنا متعجباً حائراً كيف يكون هذا الذي أرجو منه حل مسألتي محسوباً لي، وهو لا يعرفني كما ذكرت إلا من ترددي عليه!؟ وتنازعني الضحك والغضب، فأما الضحك فمن هذه الحركات (البهلوانية) المحكمة، وأما الغضب فلأنه يظن أني لست أفهم أنه يسخر مني، دع عنك إهمال أمري الذي استمهلني آخر مرة جئته فيها من أجله ثلاثة أيام، فما عدت إليه منذ ذلك اليوم إلا بعد ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فهو يقول (قربنا) والمسألة في غير مبالغة لا تستغرق منه أكثر من ربع الساعة!
وعاد فوجدني لا أزال في موضعي، فتلاقي في وجهه التجهم والابتسام في وقت واحد، وهو من كثرة مرانه يعرف كيف يبتسم بناحية من وجهه، وبتجهم بالناحية الأخرى. . . ثم غلبت ابتسامته تجهمه في أسرع من ارتداد الطرف، ونظر إلى من ابتسم إليه من أصحاب الديوان ابتسامة فهمت منها أنهم يضحكون منه لأنه لم يستطع أن يصرفني أو يضحكون من أني على الرغم من ألاعيبه بقيت ثابتاً لا أتحول
وجاء شخص غيري رقيق الحال يلبس جلباباً عليه معطف يسأله هو أيضاً عن مسألته فقال في نفس ظرفه وأدبه: (حاضر يا عم إن شاء الله تجينا بعد يومين تكون مبسوط) ولما شكا الرجل وغضب قال له باسماً: (حلمك يا بويا إن الله مع الصابرين قلت لك إن شاء الله تكون مسرور) ولما أدار الرجل ظهره لينصرف نظرت إلى صاحب الديوان فإذا به يخرج له لسانه، وابتسم ابتسامة عريضة وضحك من رآه من أصحاب الديوان، وكثيراً ما أضحكهم بمثل هذه الأمور كما قرأت ذلك على وجوههم
واتجه إليَ قائلاً: (شرفت يا بيه) وفهمت معناها فليست إلا مطالبة بالانصراف؛ وهممت أن أنصرف، وقد تأكد لي ما سبق أن عرفته من أن الأوراق عند أصحاب الدواوين قسمان، قسم يعلم به المدير أو الرئيس، وهذا هو الذي ينجز ويعد، وقسم لا علم للرئيس به، هذا لا يتناوله أصحاب الديوان ولو بمجرد القراءة، وعلى مصالح الناس ألف سلام!
وسلمت فنهض يصافحني في ظرفه ولباقته، وهو يقول: (ما تأخذناش يابيه، والله الواحد خجلان. . . حالاً إن شاء الله) ومضيت ولكني التفت عند الباب أنظر إليه فلست أدري لم ألقى في روعي أنه ظل يخرج لي لسانه منذ ودعته. . .
(عين)(356/36)
رسالة الشعر
صخرة المكس
للدكتور إبراهيم ناجي
تعال نزف للثغر السلاما ... ألست ترى على الثغر ابتساما
ألم تشعر كأن يديْ عزيز ... مسحن لك المواجع والسَّقاما
كأن خطي الُعبابِ خطى حبيب ... كأن الموج أفئدة ترامى!
سلاماً يا عروس الماء إني ... أحبك لا أملَّ بك المقاما
أسير إلى لقائك نضو شوق ... وأرجع عن ربوعك مستهاما
أراك فتنتشي روحي وقلبي ... كأني قد سقيت بك المَداما
وإن طوى البساط فنصب عيني ... عليك خيال أحبابي القدامى
وإن طاح الزمان بكأس حبي ... فلا الساقي نسيت ولا الندامى!
فؤادي قم بنا نذكر شجانا ... لصخر في جوار المكس قاما!
تعال ولا تقل هذا جماد ... وكيف تروم بالصخر اعتصاما؟
فكم في الحيّ من قلب أصم ... تنكر أو تجاهل أو تعامى
وكم صخر أحس بما عنانا ... وما عرف الحديث ولا الكلاما
وكم في الناس من رجل قويٍ ... شديد البأس يقتحم اقتحاما
تعرض للحوادث لا يبالي ... تلقاها نصالاً أم سهاما!
فإن عرضت له الذكر الخوالي ... رأيت الكون في عينيه غاما
عرته الرجفة الكبرى وراحت ... جيوش الصبر تنهزم انهزاما!
بربك أيها الأنوار ماذا ... صنعت بساهر ألِف الظلاما
بربك أيها الأمواج ظلت ... على الشطآن ترتطم ارتطاما!
أتيتك أبتغي منك التأسي ... وانشد في نواحيك السلاما!
أراك فتحت لي شجناً جديداً ... وكنت أروم للماضي التآما!
وهيتُ، وخانني جلدي، وإلا ... فهذى الدمعة الحرَّي علاما!
أيا بلد التأسي كيف أنسى ... زماني فيك كهلاً أو غلاما!(356/38)
ويوم أتيت مكتئباً عليلاً ... أحس البين يدنو والحماما!
أجرجر فيك أقدامًا ثقالاً ... واجمع من عزيمتي الحطاما!
وعلاتي وأدوائي كبار ... شربن دمي وأبلين العظاما!
أراك فلا أبالي بالمنايا ... واحمد عند شاطئك الختاما
وكم طاف الرفاق وغادروني ... كعّواد ومرّوا بي كراما!
تمر بي الحياة ولست أدري ... أيوم مَرَّ أم قضيت عاما!
عرفتك والشتاء يمد ظلاً ... وينشر في جوانبك الغماما
عرفتك والمصيف عليك زاه ... وقرن الشمس يضطرم اضطراما
عرفتك والعواصف فيك غضبي ... نشرن على محياك القتاما!
عرفتك و (الفلائك فيك بيض) ... مجنحة يحاكين الحَماما
عرفتك هادئاً والفجر غاف ... كأن البحر وسده فناما!
عرفتك كالصديق بكل حال ... وكنت شراب روحي والطعاما
وملحك في دمي، وشذاك باق ... وهذا الصوت أسمعه دواما!
تعاليْ صخرة الماضي أجيبي ... وقوفك وانتظارك ذا إلاما
لقيت من العباب كما لقينا ... من الأيام قرعاً واصطداما!
كأنك للورى هَدفٌ وهذي ... جموع تبتغي أمراً جساما!
إذا ما أخفقوا رجعوا فرادى ... وإن همّوا وجدتهم زحاما!
فؤادي إن تغيرت الليالي ... فمثلك من رعى فيها الذماما!
بلغنا كعبة الآمال فاخشع ... ودعنا في مناسكها قياما
خذ السلوان من حجر صموت ... فما أحْرَاك بالحجر استلاما!
بربكِ أين أحلامٌ غوال ... وعمرٌ قد قطعناه نياما
نسقاه أمانيَ أو خيالاً ... ونطعمه قصيداً أو غراما!
وعهد كان فيكِ ربيع وَرْد ... كهذا اليوم حسناً وانسجاما!
ناجي(356/39)
العمر الضائع
(مهداة إلى الشاعر الملهم الأخ أحمد فتحي)
للأستاذ خليل شيبوب
ضَيَّعْتُ عمريَ في هواكِ فضاعا ... وأعاضني الأسقامَ والأوجاعا
وغدوتُ لا أملٌ أعيشُ به ولا ... قصدٌ أُطالعُ وجهًهُ استطلاعا
إني لأَعجبُ منكِ كيف طَلَبتِنِي ... ومددتِ تُغْويني يَداً وذراعا
ونبذتِ داعي الكبرياءِ مهانةً ... حتى تَرُدَّني إليك خداعا
ونَسيت في الماضي القريب مواقفاً ... لك صكَّت الأبصارَ والأسماعا
لكنْ إبائي ردَّني فكأنه ... حولي أقامَ معاقلاً وقلاعا
مِنْ بعدِ ما عَثَرَ الفؤادُ بنفسه ... والأمرُ أَفْلَتَ من يديه وضاعا
فأفادني نْبلي بحبكِ شِقوةً ... رضى الفؤادُ بحكمها وأطاعا
متجانفاً عما أردتِ من المنى ... متكافئاً خلُقاً به وطباعا
قد أَرْهَقَتْنيِ عزلتي فكأنني ... من قبل دفنْي قد دُفنْتُ تباعا
أصبحتُ مثلَ المومياءِ محدّثاً ... عن غابرٍ لي لم يكن ليُذاعا
عهد به جَرَّبتُ فيكِ حوادثاً ... صَدَعَتْ حشاىَ صروفُها فتداعى
غيرى تمرُّ به تجاريبُ الهوى ... مرَّ الكرامِ فلا يُحِسُّ صراعا
لكنني غَلَبَتْ حجايَ مشاعري ... فبقيتُ محترقاً بها ملتاعا
خِزْياً لحبكِ إنه البحرُ الذي ... غالَ الغريقَ وما أراهُ القاعا
بُعْداً لحسنِكِ إِنه الليلُ الذي ... ضَلَّ الحليمُ به ورابَ وراعا
بعضُ المحاسنِ لو علمتِ مَسَبَّةٌ ... لمليحةٍ لا تفهمُ الأوضاعا
نُشِرَتْ شِباكاً فاَعْتَلقت بها وما ... أَحْسَنتُ عن قلبي الضعيفِ دفاعا
إني رأيتكِ منية علويةً ... ورآكِ غيري في الزمان متاعا
ولقد أبيتُ سوى التفَرُّد في الهوى ... وأَبيتِ إلا أن أراكِ مشاعا
فإذا الأبيُّ مُدَفَّعٌ عن نفسه ... وإِذا الغبيُّ مُمَتَّعٌ إِمتاعا
وإذا ثمارُ الحسنِ قد أَطْعَمْتها ... نفَراً يجيئون الطعامَ شباعا(356/40)
من كل مكظوظٍ يراكِ علالةً ... يلهو بها ساعاً ويسأَمُ ساعا
وَحَرَمْتِ قلباً قد طوى يأساً على ... يأسٍ وعاش مُفَجَّعَا مرتاعا
يا بُؤْسَ قلبٍ في هواكِ مُضَلَّل ... لم يَعْرِفِ التمويهَ والإيقاعا
قد كانَ يملكُ في الحياةِ إرادةً ... لكن هواكِ قد اشتراهُ وباعا
أُعْطِيته ملكَ الهوى فتصرَّفي ... فيه ولا تَرْعَىْ له ما راعى
وخُذِيهِ لا بوركتِ فيه لأنني ... آبى لِما أَعْطَيْتُهُ استرجاعا
الصدرُ يطفح بالمرارة ثائراً ... والنفسُ واجفةٌ تطير شعاعا
وتُمِضُّني ذكرى هواكِ كأنني ... في كل يومٍ أَسْتَجِدُّ وداعا
وأُظلُّ مذهوبَ الفؤادِ لأنني ... ضَيَّعتُ عمري في هواكِ فضاعا
خليل شيبوب(356/41)
الأدب في الأسبوع
الأزهر
الأزهر - كما يجب أن نعرفه - إن هو إلا تاريخ مصريٌّ عربي إسلامي كاملٌ متتابعٌ قد أمتدَّ على مَدْرَجةِ التاريخ ألف سنة يجدِّد فيه ويتجدَّد به، ويعيشُ عيشه هذا في التاريخ كالمدد المتلاحق الذي يستفيضُ بمادَّته لينشئ القوةَ في رُوح الجيش المرابط وأعصابه وأفكاره وأعماله المجيدة. وهذا التاريخ العجيب الذي لا يزال حياً في هذه الأرض، وهو كالتاريخ الإسلامي والعربي كله مجهولٌ متروك لم تَنفُضْ عنه الحياةُ العربية الجديدة غبار السنين المتقادمة والأجيال المتطاولة التي تعاقبت عليه بالنسيان والإهمال والهجر. وإذا نظرنا إلى الأزهر على مقتضى هذه النظرة وبسبب من هذا الرأي - علمنا أنه كهذا التاريخ الإسلامي قد تعاورته القوَّة والضعف، وحزَّت فيه سيما العلم وميسم الجهل، وتغلغل فيه النبوغ الفذُّ السامي والنبوغ الشاذُّ النازلُ: النبوغ السامي الذي أرتفع بروحانية الشعوب الإسلامية وأخرجها من سُلطان الشهوات والجهالاتِ، فمدَّت بذلك سلطانها على جزء عظيم من العالم والنُّبوغُ النازل الذي هَوىَ بروحانيةِ هذه الشعوب إلى الجَدَل والفُرقةِ والمذاهب والآراء الخاضعة لسلطان الشهوات العقلية المريضة، فقلَّصتُ ظِلَّ هذا السلطان عن هذا الجزء العظيم من العالم
والأزهر - كان - مجتَمَع القُوى المختلفة التي عملتْ في إنشاء الحضارة الإسلامية والعربيِّة التي عاشَتْ في التاريخ الماضي وملأنه بالألوان المختلفة من مميزات هذه الشعوب الإسلامية المتبانية، المتباعدة في مطارح الأرض ما بين الصين إلى الغرب الأقصى. واستمرَّ على ذلك مئات من السنين تتلوها مئات، وكذلك مهدت هذه السنين للشعب العربي المصري في هذا العصرِ - عصر النهضة الجديدة في الشرق - أن يكونَ هو قِبلةَ الأمم العربية والإسلامية. وذلك لأن روح الشعب المصري، وثقافته الموروثة في تفكيره وأخلاقه وطباعه، وحضارته القديمة التي تبرجتْ على ضفاف النيل - هذه كلُّها ليست إلا خلاصة هائلة مُصفَّاة من أرواح الشعوب الإسلامية كلها وثقافاتها وحضاراتها. وكان الأزهر هو المصدر الذي استمدَّتْ منه مصر هذا الفيض العظيم الجاري في أودية التاريخ المتقدم، لأنه هو كان الجامعة الوحيدة في هذه الديار، وكان أكبر جامعة وأعظمها(356/42)
في سائر الديار العربية الإسلامية. وبهذه الخلاصة التي اجتمعت في الأزهر، ثم انتشرت منه في أرجاء مصر قديماً وحديثاً استعد الشعب المصري بطبيعته لأمر مقدور، هو أن يكون زعيماً للشرق في عصر النهضة الجديدة، لأن كل شعب من الشعوب العربية والإسلامية يرى في هذا الشعب صورة من نفسه مكملة بألوان أخرى من صور سائر الشعوب التي تمت إليه بسبب من الدين واللغة والحضارة والثقافة والفكر والدم
ونحن نأسف إذ نرى الناس إنما ينظرون إلى الأزهر نظرة محدودة ضيقة لا تتراحب ولا تنفذ إلى حقيقة هذا التاريخ القائم في أرض مصر. فهم يعدونه معهداً دينياً، ويكون تفسير كلمة الدين هنا - على غير الأصل الذي يعرف به معنى الدين في حقيقة الفكرة الإسلامية التي ختم الله بها النبوات والأديان على هذه الأرض. وهذا المعنى الجديد المعروف في زماننا لهذه الكلمة كلمة (الدين) ليس إسلامياً، لأنه لا يلائم روح الإسلام في شيء. . . كلا، بل هو يهدم أعظم حقيقة حية أتى بها هذا الإسلام ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليجعل الذين آمنوا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ويجعلهم الوارثين. وهذه الحقيقة الحية الجميلة هي جعل كل عمل من أعمال الإنسان المسلم في الحياة عبادة تقربه إلى الله. . . فليس البيع والشراء، أو تدبير أمور الناس في الملك، أو العلم والتعليم، أو تربية الولد، أو الخدمة التي يؤديها الرجل لمن يخدمه. . . ليست كل هذه الأشياء الاجتماعية في منزلتها من الدين الإسلامي: إلا كالصلاة والصيام والزكاة وسائر الأعمال التي يفهم بعض الناس الآن أنها هي الدين حسب. فالأزهر الإسلامي هو الذي تتمثل فيه حقيقة الإسلام - أو يجب أن تتمثل فيه هذه الحقيقة -، وتاريخه الماضي كان صورة صحيحة للحياة الاجتماعية الإسلامية بكل ألوانها وأنواعها، مع ما كان قد عرض فيها من العيوب التي أدركت الشعوب الإسلامية وجعلتها تنزل عن المرتبة الأولى التي كانت لها في تاريخ الحضارات السالفة التي سبقت الحضارة الأوربية لهذا العصر. فلما هجمت علينا الحضارة الحديثة من أوربا بعواملها المختلفة، وسياستها القوية التي تغلبت على كل سلطان في الشرق، ثم اندست العوامل الغريبة في الأمم الإسلامية، وعملت الأيدي العدوَّ عملها في تمزيق الروابط بين طبقات الشعب. . . رجع الأزهر إلى غيله يستتر فيه، وقبع أهله عن صراع الحياة الجديدة صرعاً يراد منه الظفر، وكذلك سار الناس ناحية، وسار الأزهر ناحية أخرى،(356/43)
وكان ذلك أول البلاء على الأزهر وعلى الشعب نفسه!
إصلاح الأزهر
وقد أحس كثير من المصلحين من أهل الأزهر وغير أهله - ممن يعرفونه أصلاً كبيراً في الحياة المصرية والعربية والإسلامية - بما تقتضيه طبيعة الموقف الذي صار إليه في هذا العصر، وبما توجبه حقيقة الدين الإسلامي، فهبوا إلى إصلاحه والنظر في شأنه مرة بعد مرة. وكان العمل لذلك شاقاً كثير المتاعب غير قريب المنافذ، فاضطربت الأيدي واختلفت الأغراض، وسار هذا الزمن السريع بقوة واندفاع، لا يملك معه المصلح الانطلاق في آثاره على مثل سرعته واندفاعه وكذلك لم يزل الأزهر الآن في منزلة غير المنزلة التي يوجبها له قيامة ألف سنة على التاريخ الفكري والثقافي والعملي في الحضارة الإسلامية
وقد كتب الأستاذ (الزيات) - في فاتحة العدد الماضي من الرسالة - كلمته الجليلة (في سبيل الأزهر الجديد) يطالب الأزهر بالرجوع إلى المنابع الأولى للدين واللغة والأدب والعلم. وحب (الزيات) للأزهر، ورغبته في المبادرة إلى علاج الأدواء التي تلبست به من أمراض الأجيال السابقة، هي التي حملته على أن يكتب كلمته لتظفر مصر (بجامعتها الصحيحة التي تدخل المدنية الغربية في الإسلام، وتجلوا الحضارة الشرقية للغرب، وتصفي الدين والأدب من شوائب البدع والشبه والركاكة والعجمة)
نعم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر لم يقصر في اجتهاده أن يجعل الأزهر مثابة للعلم الإسلامي الصحيح، ولم يتخلف عن النصيحة له بما توحي به الرغبة الصادقة في تحريره من آصار قديمة عاقته عن بلوغ غايته التي يحق له أن يبلغها. فقد وضع الأستاذ الأكبر من عشر سنين نظامه الجديد للكليات في الأزهر وجعل أحد قسمي التخصص في هذه الكليات موقوفاً على مادة من مواد الشريعة أو اللغة أو الأدب أو التفسير والحديث أو المنطق والفلسفة أو الأخلاق والتاريخ وعلم النفس وما إلى ذلك. وأمد هذه الكليَّات العالية - في دراستها لما خصصت له - بالكتب الأصول المعتمدة في بابيها ككتاب سيبويه، وخصائص ابن جني، وسر صناعة الإعراب لابن جني، وتصريف المازني، وكتاب فيلسوف النحو رضي الدين الإستراباذي صاحب شرح الشافية، وشرح الكافية، وهما عمدة أصحاب النحو والتصريف. وكذلك جُعلت كتب عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار(356/44)
البلاغة -، وكتاب الصناعتين لأبي هلال، وأدب الكاتب والكامل والأمالي وغير هذه من أصول الأدب واللغة هي مادة الدراسة في هذه الكليات
وقد قام على التدريس في هذه الكليات جماعة من خيرة من أنجبهم الأزهر فاستقلوا بتدريس هذه الكتب الجليلة خير استقلال، فنرجو أن يظهر الأزهر الجديد بعلمه الجديد الذي استمده من الكتب الأصولِ، وأن يعتمد فيما يستقبل من أيام نهضته كل الأصول الأولى في تدريس الفنون المختلفة التي تقوم ببثها بين أبنائه ومريديه وطلبته. هذا ونرجو أن نحقق روح الأزهر - التي تتصل بالشعب المصري وسائر الشعوب الإسلامية - معنى الإسلام الصحيح الذي يطالب المسلمين بالسيادة والقوة والغلبة، ولا يكون ذلك إلا يوم يتصل الأزهر اتصالاً تاماً بجميع ألوان الثقافات العالمية، ليوجد للشعب المصري والعربي والإسلامي ثقافة تضارع كل هذه الثقافات، مبرأَة من عيوبها التي فرضتها عليها البيئة غير الإسلامية التي نشأت تحت ظلالها وفي رعايتها.
وأنا أكتفي بهذا القدر من القول، وسأعود قريباً لأبدي بعض الرأي في أنواع من الإصلاح تراد للأزهر وغير الأزهر أرجو أن تنال بعض الرعاية ممن يتولون شأن هذا الإصلاح
المجمع المصري للثقافة العلمية
بدأت في الأسبوع الماضي جلسات المؤتمر السنوي للمجمع المصري للثقافة العلمية برياسة حضرة صاحب السعادة حافظ عفيفي باشا، وهذا هو المؤتمر الحادي عشر لهذا المجمع العلمي الصامت الذي يجاهد في إنشاء الثقافة العلمية العربية في الشرق بما يسعه جهده وماله: والمجمع العلمي هو أهم ما يحتاج إليه الشعب العربي الذي ابتعد به الزمن عن متابعة النهضات العلمية المختلفة التي تجددت بالحضارة الأوربية الحديثة. وقيام هذا المجمع بنشر الثقافة العلمية - في حدود طاقته - قد أوجد للأمة العربية ذخيرة عظيمة تقع في عشرة مجلدات، كلها مباحث علمية عظيمة مكتوبة باللغة العربية مع قلة الاصطلاحات العربية العلمية التي تؤدي المعاني العلمية الجديدة التي لم تقرر لها بعد مصطلحات ثابتة في مادة هذه العلوم
وهذا المجمع العلمي العظيم لا يلقى - مع الأسف - ما هو حقيق به من الحفاوة والاحتفال في الأوساط الأدبية والعلمية التي توجب عليها مهمتها الشاقة إمحاض النصيحة للأمم(356/45)
العربية، بتشجيع القائمين بأعمالهم المجيدة في صمت وسكون ورفق. ومن أعجب العجب أن تعقد المحاضرات والمناظرات الكثيرة التي تعتمد أكثر ما تعتمد على الثرثرة ومضغ الأحاديث والتمطق بمبذول الكلام، وتجتمع لهذه المحاضرات والمناظرات فئات كثيرة من طبقات الناس. وفي صدرهم كثير من أصحاب الأمر وعظماء الأمة ثم يعقد هذا المجمع مؤتمره مرة في كل عام - فلا يلقى من هذه الفئات ولا من هؤلاء العظماء ما هو أهل له من المتابعة والاهتمام أو المجاملة إن شئت
وكان الظن أن تعمل وزارة المعارف والجامعة وسائر المعاهد والوزارات التي يتناول المجمع - بعض ما يخصها أو يقع في حدود أعمالها - بالبحث والدرس والتحقيق والكشف: كان للظن أن تمهد هذه له سبيل إبلاغ صوته إلى أكبر عدد ممكن من المثقفين، تشجيعاً له للقائمين عليه، طلباً للمنفعة التي تأتي من إثارة اهتمام هذه الجماهير بنتائج الأبحاث العلمية وأنواعها، وضروبها المختلفة التي يقوم المجمع وأعضاؤه على إعدادها ومتابعتها والعمل على نشرها، لتكون سبباً من أسباب اليقظة العلمية التي تقتضيها النهضة الحديثة في الشعوب العربية
وقد جمعني مرة مجلس فيه فئة من كبار الأساتذة في بعض المعاهد العلمية العالية، فلم أجد عند أحد منه خبراً يعلمه عن هذا المجمع، فما ظنك بعمله أو إنتاجه أو غايته التي أريد لها إنشاؤه وتأسيسه؟ وهذا أمر يؤسف له، ويوجب على المجمع وعلى كل ذي رأي أن يعمل على تنبيه الوزارات والمعاهد إلى قيمة هذا العمل الذي يقوم عليه المجمع، وإلى توجيه أنظار الناس إليه بكل سبيل، حتى يستطيع أن يؤدي إلى الناس ما يرغب فيه من نشر الثقافة العلمية التي يحتاج إليها هذا الشعب في كل أغراضه وأعماله، وفي بعث الروح العلمية التي تكفل له القيام بالعبء المثقل الذي يريد أن ينهض به في بناء الحضارة الجيدة التي يتهيأ الشرق لوراثتها عن الحضارات التي هي في سبيل إلى الهلكة والتدمير والبوار
هذا وقد بدأ المجمع مؤتمره لهذه السنة بالمحاضرة التي ألقاها الدكتور حافظ عفيفي باشا عن (الأصول العلمية الحديثة وتطبيقها على الزراعة)، وقد عرض فيها لأهم ما يشغل الأسواق المصرية في هذا الوقت، وهو نظام الحاصلات والأسواق الداخلية، فأبان كل البيان عن وجه المصلحة التي يجب أن يقصدها القائمون على أمر الشئون الزراعية في(356/46)
هذه الأوقات العصيبة المنذرة بأشد الأزمات على الأسواق التجارية. ثم تبع ذلك بحث في أهم ما يخاف منه وما تخشى عواقبه في أزمان الحربِ، وهو تفشي الأمراض والأوبئة، وما يجبُ على الشعب المصري وحكومته أن تعمل على تفاديه بكل سبيل. فألقى الدكتور عبد الواحد الوكيل: (حاجة البلاد إلى تعديل خططها الطبية والصحية)، وقد أبانت هذه المحاضرة عن هول الحالة الحية التي تختفي في كل ناحية من نواحي هذا الشعب المهمل المسكين
آلهة الكعبة
كنت قرأت في البريد الأدبي من عدد الرسالة 350 كلمة للأخ محمد صبري في قصيدة الأخ الشاعر محمود حسن إسماعيل ينكر فيها أن (اللات، والعزى، ومناة) من آلهة الكعبة، قال: (وليس واحد من هذه الثلاثة من أصنام الكعبة، بل لم يكن واحد منها داخل الكعبة ولا حولها). ثم استشهد قول ابن الكلبي في كتاب الأصنام، حين ذكر مواضع هذه الأوثان الثلاثة وقد كان اعترض بعض أصحابه قبل ذلك - في مجلس لأستاذ الزيات - بمثل ما اعترض به الأخ صبري، فرُمتُ أن أقول: إن وجود هذه الثلاثة في الكعبة أو حولها ليس يمتنع. وذلك لأن أبن سعد ذكر في طبقاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت - بعد فتح مكة - وهو على راحلته، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل كلما مر بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً). فيقع الصنم لوجهه. وابن الكلبي لم يعد لنا في كتابه الأصنام غير أسماء ثلاثين صنماً، وزاد زكي باشا عليها خمسة وأربعين صنماً، فهذه خمسة وسبعون، فأين هي من ثلاثمائة وستين؟. . . وما كانت كل هذه الأمة من الأصنام إذن - إن لم يكن منها اللات والعزى ومناة، وهي أشهر أصنام الجاهلية، وهي المذكورة في القرآن في سورة النجم، وقد كان نزولها بمكة؛ وما أظنها تذكر بأسمائها إلا وكفار قريش يعظمونها فإذا عظموها اتخذوها في الكعبة وهي بيتهم المعظم، كما كانوا يتخذون الأصنام في بيوتهم ودورهم. ثم رأيت أخيراً أن ابن سعد يذكر في فتح مكة أن رسول الله بث السرايا إلى الأصنام التي حول الكعبة فكسرها، منها: (العزى، ومناة، وسواع، وبوانة، وذو الكفين. فنادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدعْ في بيته صنما إلا كسره)(356/47)
ثم جاء كلام أبي جعفر الطبري في تفسير سورة النجم ج 27 ص36 يقطع الشك باليقين إذ يقول. (وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة: يقول (اللات والعزّى ومناة الثالثة - أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها)، وهذا هو المعقول، وليس من المعقول أن تخلو كل هذه الأمة من الأصنام التي كانت حول الكعبة من تماثيل منصوبة للات والعزى ومناة الثالثة، وهذا ليس يمنع أن تكون القبائل غير قريش مكة قد اتخذت لها أنصاباً نصبتها في الأماكن التي ذكرها ابن الكلبي وغيره.
محمود محمد شاكر(356/48)
رسالة الفن
تأملات في الفن
العب يا ميمون العب!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- من هذا الذي معك؟ يا أمَّه! قرد؟
- نعم. واحد من أبناء عمك ميمون. أبوك آدم رقاه الله، وأبوه هو أستحسن أن يظل يلعب، فظل يلعب
- لعبت عليه نفسه! وأين لقيت أبن عمك أنت هذا؟ وإياك أن تكون قد دعوته إلى مكث طويل هنا؟
- ليته يقبل. . . إنما هو مرتبط بخمسة أصدقاء أستأذنهم وجاء يحييك ثم يعود إليهم عند الباب
- أبالباب خمسة قرود غير هذا؟ لم لم تقل لي إن أسرتك الكريمة هاجرت إليك فكنا نوسع لهم بيننا نزلاً؟
- ربما لم يكن هؤلاء الزوار جميعاً من الأهل وربما كانوا! أولهم على أي حال أخ من بني آدم، وثانيهم حمار، وثالثهم جدي، ورابعهم كلب، وخامسهم أوزة
- أعز الأهل، أنعم بهم وأكرم. تعال نستقبلهم وهات ابن عمك، فمنذ سنين وانا لم أر أسرة كهذه، وكنت أراها وأنا طفلة وأسر وأضحك؛ ولكن لم أكن أتوقع يوماً أن تنسب إليَّ أو أن أنسب إليها. . . لا أنا ولا أنت
- تعالى! هاهي ذي الأسرة. انظري إلى كل فرد من أفرادها وقولي لي: ما هو؟ لا تقولي هذا قرد وهذا حمار، فإني أعرفك تعلمين أسماءها، وإنما أريد أن أراك هل تعرفينها هي أو أنك تجهلينها كما كنت أجهلها أنا حتى عرفني بها صاحبها هذا الغجري الذي يقودها؟
- وماذا قال لك أكثر من أن الحمار حيوان من ذوات الأربع له أذنان طوبلتان وصوته منكر وهو يستخدم في حمل الأثقال. . .
- هذا كلام يصفون به قشر الحمار للتلامذة، ولكن هذا الغجري يعرف عن الحمار مثلما(356/49)
يعرف عنه حمار مثله
- وأنت يا هنيئاً لك أخذت عنه هذا العلم. . . انهق لي به انهق. . .
- لا بأس. ولكن ألا ترينه واجباً أن نرى الغجري قبل أن نرى القرد والحمار؟
- وهل في الغجري شئ يرى وهو ليس في غيره من الناس؟ رجل مسكين يحتال على الرزق بتلعيب الحيوان
- وكم في الناس القادر على تلعيب الحيوان؟ إن الإنسان ليستعصي عليه أن يلقب نفسه. ومن استطاع ذلك فهو الفنان
- فكل حيوان من هؤلاء فنان، وهذا الغجري بينهم مثل سيسيل دي ميل أستاذ على الممثلين والممثلات. . .
- هذا التشبيه صحيح لولا أنه معكوس. فسيسيل دي ميل هو الذي يحاول أن يكون في عمله كهذا الغجري ولكن أنى له ذلك إلا إذا عاش عيشة الغجري، وكم قلد الغجرَ أفراد من أهل الفن فكان كل منهم كالمسخ ما لم تكن فيه طبيعة الغجر يسترسل بها في الحياة استرسالهم. ولا بد أن تكون قد رأيت واحداً من هؤلاء الذين ينفشون شعرهم ويطلقون لحاهم، ويهدّلون ثيابهم ويعربدون في الأرض سكارى مستذئبين على أنفسهم وعلى الناس قائلين إنَا نحن بوهيميون. هؤلاء هم الذين يقلدون الغجر كما أن من أهل الفن من تضطره الحياة إلى أن (يغجر) نفسه فإما أن يكون غجرياً في فنه وإما أن ينزلق فيكون غجرياً في سلوكه مع الناس فيحتال على رزقه كما يحتال هذا الغجري بتلعيب نفسه، وتلعيب عشرائه، فهو محتال بارع ممن يعرفون كيف ينطبقون على الفريسة ومن أي مدخل سهل ضعيف يتسللون إلى نفسها، وأي لسان من الألسنة المعسولة يعجبها، وأي شكل من الأشكال المنمقة المزوقة يرضيها، وأي مطلب من المطالب تنزع إليه وأي شئ يسرها وأي شيء يغضبها، وأي كلمة تثيرها وأي كلمة تردها إلى هدوئها، وأي إشارة تحفزها، وأي إيماءة تثبط همتها إلى غير ذلك مما تمكن الغجر منه وأتقنه معهم الكهان من الناس، والمتكاهنون.
- فالغجر كهان؟
- هم أبرع الكهان إذا أرادوا، ولكنهم كعمنا ميمون استحسنوا الأمر ما أن يلعبوا وما زالوا يلعبون، ولو أنهم أرادوا أن يفتكوا بهذه الإنسانية لفتكوا بها وسلاحهم ما يعلمون من شئون(356/50)
النفوس وأمورها، ولكنهم يؤثرون على هذا أن يفروا من البشرية إلى مرحهم وغنائهم ورقصهم، فهم لا يلمون بالناس إلا حين تعوزهم حاجة، فعندئذ ينزلون على الناس ليأخذوها، وهم آخذوها إن أباحها الناس لهم أو منعوها، وهم آخذوها إن حللتها الشرائع أو حرمتها، لا يستطيع إنسان أن يردهم، ولا أن يمسكهم بها، ولا أن يستردها منهم. . . غجر أولاد شيطان. .
- وهذا الشيطان عمنا هو أيضاً كعمنا ميمون؟
- لا، بل إنه خالنا أخو أمنا حواء الذي قال لها: رَجُلك خواف، رجلك ضعيف، شحيح إن أطعمك ما أطعمك، فإنه بضن عليك بالتفاحة. . . يا حلاوة التفاحة!
- صحيح، إن في عينيه بريقاً كما تلمع عيون الشياطين. . . أعطهم شيئاً وتعال. . .
- انظري إليهم وهم ذاهبون يحيطون به. . . الحق أنه ما في الأرض من يمثل سيادة الإنسان على بقية الخلق كهذا الغجري والغجر جميعاً، فهم البقية الباقية من الناس الذين كانوا يعاشرون الأرواح ويأتلفون بها قبل أن تهيم البشرية حباً بالحديد والحجر، هؤلاء الغجر لهم أحاديث في كيمياء النفوس أعجب من العجب، ليت علماءنا يستمعون إليهم ويحاولون تحقيق أحاديثهم. . .
- وما كيمياء النفوس هذه أيضاً؟. . .
- هذا بحر فيه ماء وملح يلقى الشمس فيتبخر منه الماء ويبقى الملح، ويصعد الماء إلى السماء بخاراً. فيلقى البرد فيرتد إلى الأرض ماء حلواً ليس فيه ملح، ويجري على الأرض في هضاب ووديان ويسري في النبات والحيوان والإنسان، وفي الأحجار أيضاً يسري، ويتبخر منه عندئذ بعضه ويبقى بعضه، ويعود منه إلى البحر بعضه ويضيع منه في الخلائق بعضه. . . هذا البحر. . .
- معقول. . فكيف يقيس الغجر النفوس بهذا المثل؟
- هم يقولون هذا إنسان. فيه نفس وجد. يلقى الحياة وما يزال يتلقاها حتى تتبخر نفسه ويظل جسده في الأرض، وتصعد روحه إلى السماء فتجد حجاباً فترتد إلى الأرض تبحث عن قوة تمكنها من خرق الحجاب إذا عادت مرة أخرى إلى السماء وهذه القوة في قولهم تواتي النفس بالتطهر والتلطف، والتطهر والتلطف يجيئان في قولهم بالتدريب. فإذا كانت(356/51)
نفس إنسان قضت حياتها الأولى ثائرة ساخطة وتبخرت وهي ثائرة ساخطة فثقل بها السخط وثقلت بها الثورة عن خرق الحجاب عادت إلى الأرض تتعلم الصبر والرضى فإذا أسعدها الحظ صادفت غلافاً حماراً ينحدر إلى الدنيا فحلت فيه، ونزلت به إلى الدنيا تقضي حياة كلها صبر وكلها احتمال وهوان. . . ورضا، وبهذا إذا تبخرت هذه النفس مرة أخرى خفت أكثر من ذي قبل، وربما استطاعت أن تخرق الحجاب وأن تمضي إلى عالم غير هذا العالم، وربما عادت إنساناً أو حيواناً أو شيئاً مما يخلق الله ويعلمه ونحن لا نعلمه. . .
- ولكن هذا القياس فيه فارق. فهم قد حولوا الإنسان إلى غير الإنسان بينما مثلهم الذي يقيسون عليه بحفظ الماء ماء مهما تعددت أشكاله
- فلنصلح لهم نحن هذا المثل فهم لم يتوفروا على كيمياء المادة مثلما توفروا على كيمياء النفس، ولست أخالك تنكرين أن الذي يقولونه عن تحولات النفس يشبه الذي يقوله علماء المادة عن تحولاتها، ولست أخالك تتركين هذا التشابه يمر بك من غير أن تسجليه على الأقل، أما أنا فإني لا اكتفي بتسجيله في ذهني وإنما أربط بعضه إلى بعضه وإن كنت إلى الآن لا أدري مثلما قد يدرون هم أي شئ سأربطه بعد ذلك في هذين السببين وإلى أين سأصل بهد هذا الربط. . .
- إلى. . . (العباسية) من غير شك
- حتى إذا وقفتك معي على أوجه الشبه بين الذي يقوله الغجر وبين الذي يقوله علماء المادة
- إن وقفت معك فأنا أيضاً في حاجة إلى علاج للرأس.
- العلاج على أي حال خير من إهمال المرض. اسمعي.
ألا يقول علماء المادة إن هذه الأرض كلها تتشعع وتريد أن تتلاشى في الفضاء؟ ألا يقولون إن لهذه الأرض غلافاً من الأثير وهو مادة ولكنه أخف من المادة وألطف منها وأشد شوقاً إلى التشعع والذهاب؟ ألم يكتشفوا أخيراً عناصر من المادة لا تزال نادرة جداً وهي أقدر المواد على التشعع والتطاير؟ إن هذه المواد هي أرقى ما في الأرض مادة، وهي أخف العناصر وألطفها، وهي لا تزال نادرة لأنها طلائع الدور الجديد الذي بدأت مادة الأرض تدخل فيه، والأرجح أن الأرض جميعاً ستتحول على مرور الدهور إلى هذه العناصر(356/52)
الخفيفة اللطيفة المتطهرة حتى تصل عندئذ إلى ما تتوق إليه من الخلاص من هذا الوضع وهذا الشكل إلى سياحتها الجديدة في الكون. وإذا كان الماء هو أكثر ما في الأرض اليوم، والراديوم (مثلاً) هو أقل ما فيها، فالماء إذن هو الحلقة الأولى من حلقات الحياة المادية في الأرض والراديوم هو الحلقة الأخيرة بحسب ما نرى. . . أو قولي إن الأثير هو هذه الحلقة الأخيرة. . . ثم قولي إن ما بين الماء والأثير من الخلائق المادية إن هو إلا تشكلات وتطورات وتحولات تنزع بها المادة إلى الانطلاق. وقيسي على ذلك النفوس كما يقيسها الغجر، ولست أطلب منك ولا من نفسي أن نعرف ما يعرفون هم إذا نظروا إلى إنسان ماذا كان قبل أن يكون إنساناً، وماذا سيكون. فهم يدعون أنهم يعلمون هذا بالنظرة، ولست أستطيع أن أنكر عليهم قولهم ما دمت أرى في علماء المادة من ينظر إلى الحجرة فيقول كانت شجرة وستصبح بعد قرون فحمة. فلماذا نقبل كلام علماء المادة هؤلاء ولا نقبل كلام الغجر؟ ألأنهم غجر؟ نحن الذين دعوناهم غجراً، أما هم فيعتبرون أنفسهم أصحاب هذه الدنيا يذرعونها من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال لا يخضعون إلا لقوانين الطبيعة الخالدة، ولا تفسد أنفسهم غيرها من القوانين المصنوعة التي وضعتها العقول بحساب بعد أن نسيت أول قوانين الحساب وهو أنه لا بدء ولا نهاية، وبعد أن نسيت كذلك أن لكل حساب حساباً يعطله حتى بطل عمل الحساب وصار هذا البطلان هو أساس بغير حساب. . .
- على هذا الأساس أستطيع أن أستمع منك إلى كلام الغجر، فلا تحسب أني سأقتنع به، فدون ذلك تشمع عقلي وطيران منطقي وتفكيري، ودعني الآن أسألك على سبيل العبث والفكاهة لا أقل ولا أكثر: أي نفس كانت نفسي قبل هذه الحياة. . . وأي نفس ستكون؟
- أنت؟ لا أدري، ولكني أعرف واحداً كان إوزة وسيكون حماراً
- من هو؟
- مالك أنت وماله؟ وإنما قولي: كيف هو، فأقول لك إنه كلما اطمأن إلى الحياة تمكن منه البله، فهو يلعب في الأرض ويلعب في الماء ويحب كل شئ، ولكنه لا يكاد يعطى من نفسه شيئاً لأحد إلا أن يجد عنده لذة، وهو غر يصدق كل ما يحيط به، ومن سقاه شربة ماء استطاع أن يذبحه؛ وهو إلى جانب هذا رعديد خواف، لأنه يعرف أنه عاجز عن رد الأذى(356/53)
بأذى. . . كالإوزة. . . له هذه لأخلاق والطبائع من نشأته فلعلها كانت طبعه الأول، ومن عرف فيه هذا تمكن منه ولعب عليه ما شاء أن يلعب وقد لعب عليه ناس كثيرون حتى كاد أن يذبح مرة؛ وإني أقول لك إنه سيكون حماراً، لأني أراه إذا أفاق إلى نفسه أخذها بالصبر وبالرضا والاحتمال، فلعله إذا تمكن هذا منه كان أصلح البشر (للحمارية) في حياته المقبلة، ومن يدري فربما اكتفى القدر منه بصبره في هذه الحياة، وطهره في حياته المقبلة من نقائص أخرى غير بادية لي فيه الآن، فكان عندئذ أخف، وألطف، وأظهر مما عرفناه الآن، وكان عندئذ أصلح للبقاء في أثير الأرواح انتظاراً لموكب من نوعه يلحقه فيدفعه في فضاء الله إماماً لمن يتبعه ومأموماً لمن سبقه. . . من يدري؟
- لا أحد، ولا أنت، ولا الغجري. ولكن هذا الكلام يشبه ما يقوله الهنود عن تناسخ الأرواح فهل أصل الغجر هؤلاء من الهند؟
- الموجة البشرية المشرفة على غرب أوربا كلها أصلها من الهند
- ولكنك لم تقل لي ماذا كنت أنت؟
- يقول داروين إن الناس كانوا قردة، ويقول القرآن إن من الناس من ردهم الله قردة. . . وإني أقبل القولين في حق نفسي وإن كنت لا أصدق فيك أنت قول داروين. . .
عزيز احمد فهمي(356/54)
رسالة العلم
أفق جديد
الكهرباء والضوء يلتقيان
للدكتور محمد محمود غالي
أزمة الأثير - فراداي والكهرباء - نبوءة ماكسويل - أعمال
هرتز - (برانسلي) يخترع اللاسلكي ويموت محتمياً من
اختراعه
لو أننا أعدنا اليوم مطالعة الصفحات المجيدة التي خطها وويجانز ووقفنا عند هذا القدر دون متابعة التطورات العلمية، لأيقنا أن البناء الذي شيَّداه لا يمكن أن يعتوره خلل، ولو أننا جلنا في الوقت ذاته في الهيكل الرياضي الذي شيده (نيوتن) العظيم، واشترك في إقامته (أيلر) ولاجرانج لأدركنا في غير عناء لماذا طبق فُرنِل الميكانيكا النيوتونية في تفسير الظواهر الضوئية الدقيقة، التي اعتبر أنها ذبذبات حادثة في وسط مرن افترضه افتراضاً، ولكن تجربة (ميكلسون) تقف عقبة في طريق التقدم في هذا السبيل، وتتطلب من الباحثين تفسيراً يختلف والميكانيكا النيوتونية.
إن أرضاً تجري حول الشمس بسرعة كبيرة تحمل مصباحاً والمصباح يرسل في طريق سير الأرض شعاعاً ضوئياً كما يرسل في طريق عمودي على الطريق الذي تسير فيه الأرض شعاعاً له طبيعة الأول وسرعته، وهذان الشعاعان يعودان في اللحظة ذاتها إلى النقطة التي خرجا منها، في وقت لم تكف الأرض فيه عن الجري في مستقرها الأبدي حول الشمس، لأمر لا يسيغه عقل ولا يقبله منطق، إذ كيف لا يحدث رغم رحلة الأرض المستمرة وسرعتها الملحوظة، أي فارق في الوقت لمسافرين لهما في الواقع ظروف مختلفة؟ كان لابد من طرق أبواب جديدة في التفكير للإجابة على ذلك. ولقد كان للنظريات الكهربائية شأن في هذا الميدان الأثيري ولندع الآن هذه الأزمة جانباً، لننعم النظر في أمر جديد. ذلك أن الضوء الذي يتموَّج على النحو الذي ذكرناه هو جزء من الكهرباء، وإدماج(356/55)
الجزء في الكل يحتم علينا أن نعرف شيئاً عن خواص الكهرباء، وسيري القارئ أنه بمعرفتنا هذه الخواص، ينتفي السبب في افتراض وجود هذا الوسط الأثيري، ولعل هذا التفكير الجديد يكون خطوة لازمة قبل أن نعرض عن الميكانيكا النيوتونية، ونستعين بميكانيكة جديدة لا نيوتونية، تفهم بواسطتها الكون على شكل أكثر وضوحاً من الشكل الذي نعرفه له.
عند ما يَهم عامل لإصلاح خلل في الشبكة الكهربائية في منازلنا قد لا يفوتنا أن ننبِّهه ليتخذ الحيطة لنفسه، ذلك أننا نعلم أنه يكفي أن يلمس العامل خطأ طرف أحد الأسلاك المكهربة لكي يفقد حياته، ويصبح بين طرفة عين وانتباهتها في عداد الأموات، ولو أن العامل الذي يلمس السلك الكهربائي كان ممسكاً بيده الأخرى واحداً أو أكثر من زملائه؛ فإن جميع المتصلين به يفقدون حياتهم في اللحظة ذاتها، وقد حدث أن قُضيَّ على ثلاثة أشخاص العام الماضي في حي بولاق بالقاهرة بلمس أحدهم سلكاً كهربائياً. بيد أننا نشعر بالطمأنينة لو اقترب العامل من السلك دون أن يمسه، إذ أننا واثقون بأنه في هذه الحالة لن يُصاب بأذى، كما أننا واثقون بأنه لا يشعر عندئذ ولا يشعر من بجواره بوجود الكهرباء بمجرد الاقتراب من الأسلاك الحاملة لها، ولهذا بالطبع أثره في اعتقادنا أن الكهرباء سارية في الأسلاك لا تتعداها إلى خارجها
ومع ذلك وبالرغم من مقدرة الجسم الإنساني على الإحساس بالكهرباء بلُمسها فإنه لم تكن أجسامنا يوماً ما أجهزة لائقة للتعرف على المحيط المتأثر بها، وكما أن العين ليست الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر الضوئية، كذلك اللمس ليس الوسيلة الأولى والأخيرة لمعرفة الظواهر الكهربائية، فلقد كانت هاتان الحاستان في حاجة لوسائل أخرى يتسنى لنا بها استجلاء هذه الظواهر في صورة أدق من تلك التي نعرفها لها، ولقد تقدمت الوسائط الطبيعية في معرفة الظواهر المختلفة حتى باتت حواسنا الخمس وحدها في المرتبة الأخيرة لمعرفة حقائق الكون إنما نروم من هذه الأسطر أن نلفت نظر القارئ إلى عبقرية (فراداي) الذي أدرك أن الكهرباء غير مستكنة في الأسلاك فحسب، وإنما في الفضاء المحيط بها أيضاً، فقد لاحظ أنه يمكن لكرة متصلة بمنبع كهربائي ذي ضغط عال أن تجذب كرة صغيرة معزولة موضوعة بالقرب منها، واستخلص من هذا أن الكهرباء كائنة في الفراغ(356/56)
المحيط بالكرة. ولقد لاحظ (فراداي) أنه بتقريبه إبرة ممغطسة من دائرة كهربائية تدور الإبرة حول محور دورانها
ما أسعد العالم بهذه المشاهدة الأخيرة لفراداي، وإذا كانت مركبات الكهرباء تجوب المدن الآن بسرعتها المعهودة، وإذا كان المصعد يعمل في عماراتنا بلا ملل طول اليوم صعوداً وهبوطاً؛ فما هذا أو ذاك إلا تطبيق مباشر لمشاهدات فراداي التي قصها لقرينته في يوم من أعياد الميلاد، ومات فراداي ولم يستمتع بركوب الترام ولم يشاهد المصعد، وهكذا نظر الباحثون من عهده إلى الكهرباء لا كمادة في الأسلاك فحسب، بل كمجال حولها أيضاً
أما اليوم فشدَّ ما تتابعت الطفرات العلمية، ولم يعد القارئ بحاجة ليستحضر إبرة ممغطسة ليرى آثار الكهرباء عن بعد، بل إنه يشاهد ذلك في تجاربه اليومية. ومن منا لم يشعر وهو يجوب بسيارة عرض المدينة بالتأثيرات المختلفة التي تحدثها أسلاك الترام على (الراديو) الذي أصبح في السيارات الخاصة في مصر والعامة في أوربا من دواعي الرفاهية؟
وقد يتساءل القارئ مالنا واللجوء إلى هذا الموضوع الذي يُعد من أبدع ما وصل أليه الإنسان في التقدم ولم ننته بعد من حل الأزمة العلمية الكبيرة التي ذكرناها له وشغلنا ذهنه بها في مقالات متواصلة؟ وهو بهذا التساؤل لا يرى صلة بين الظواهر الكهربائية وما ذكرناه من عدم استساغة الفكرة الأثيرية بعد تجربة (مبكلسون)، ولكننا لم نذكر مشاهدة (فراداي) عبثاً، فلم يكن انتباهه التجريبي ليمر دون أن يفيد منه البشر فقد تناول (مكسويل) الإنجليزي مشاهداته، ووضع نظريات هامة أصبحت بعده أساس الدراسة لأهم الظواهر الكهربائية، ولم يكتف (مكسويل) بتفسير الظواهر التي شاهدها الإنسان حتى عهده بل كان واثقاً من طريقه الرياضي وثوقاً جعله يتنبأ بظواهر أخرى لم تكن قد اكتشفت بعد ولم يكن قد دل عليها في زمانه العلم التجريبي، ذلك أنه استنتج من معادلاته الأساسية مجموعة أخرى من المعادلات أثبت بها أن الكهرباء تنتشر في الفراغ بحالة موجبة، وبهذا تنبأ بوجود الموجات الكهربائية، ولم يكن في عهده سبيل لإحداث هذه الأمواج والتثبت من صفاتها على هذا الشكل الموجي، ولكن (مكسويل) اعتبر أنها موجودة، واعتبر أن الموجات الضوئية ليست إلا أمواجاً كهربائية
من هذا يدرك القارئ لماذا نذكر الكهرباء مع الضوء الموجي وقبل أن نفسر كيف ساعدت(356/57)
هذه الخطوة الجريئة من (مكسويل) العلماء على التخلص من الأثير الذي افترضوه افتراضاً نذكر أولاً النتائج التجريبية العظمى التي خلص بها العالم من تفكير مكسويل الرائع ومن أداته الرياضية البديعة.
ولقد كان لهرتز الألماني الفضل الأول في الحصول على موجات كهربائية غير متصلة بموصل كهربائي، وتخترق الفضاء، واستطاع أن يعاملها كما نعامل الأشعة الضوئية فيعكسها مثلاً كما نعكس هذه الأشعة، واتجه كثير من الباحثين إلى دراسة هذه الناحية للأمواج الهرتزية، أو لم تتجه (ماري سكلودوفسكا) ذاتها المعروفة باسم مدام (كيري) شطر الأمواج الهرتزية قبل انشغالها بالنشاط الإشعاعي، وكشفها للراديوم؟. إننا نعرف أنها حاولت أن تتخذ لها مكاناً في معامل الأبحاث الطبيعية في السربون التي كان يديرها في ذلك العهد (ليمان المعروف بكشفه لفوتوغرافية الألوان، ولم يكن المكان ليتسع للأجهزة التي أرادت أن تستخدمها في بحثها، فاتجهت الطالبة البولونية شطر العالم (بكارل) في الوقت الذي كشف فيه أشعة الأيرانيوم، ولا نسرد الوقائع التي يعملها كل من تابع مقالاتنا، وما كان من أمر هذه الفتاة بعد ذلك فيما أوتيت من حظ في بحثها الموفق، فقد خرجت على العالم بالراديوم سنة 1897، وقبل ذلك العهد اتجه (برانلي) الفرنسي سنة 1891 عن غير قصد نحو الأمواج الكهربائية بدراسة طبيعة الكهرباء، ففاز بالكشف عن اللاسلكي؛ وكرت السنون وتقدم (برانلي) و (كيري) لعضوية المجمع العلمي الفرنسي، وفاز (برانلي) وخُذِلت (كيري). أو كان فيما قدمه (برانلي) للعالم ما جعل نصف هؤلاء الذين يسمونهم الخالدين يعرضون عن أعظم امرأة عرفها التاريخ؟ هذا ما سيدركه القارئ في هذه السطور
ليس المجال هنا لنشرح للقارئ جهاز (الراديو)، وسنعمد إلى ذلك عندما تنتهي من قصة العلم الشائقة ومن سرد التطورات التي حدثت في معارفنا عن الكون؛ ولكنا نوجز هنا من الخطوات التجريبية ما له علاقة بحديثنا، وهي خطوات كانت إلى حد كبير أساساً للانتشار الموجي الكهربائي
درس (برانلي) الضوء البنفسجي المنبعث من الشرارات الحادثة من (زجاجات ليد) وتوصل من هذه الدراسة إلى ما يسمونه اليوم التفريغ الموجي للمكثف الكهربائي فتوصل في الواقع إلى عمل مرسل للاسلكي، ولقد وضع (برانلي) في حجرة مجاورة للحجرة التي(356/58)
كانت بها زجاجات (ليد) (جالفانوميترا) ذا مرآة، وكان يستخدمه في دراسة المقاومة الكهربائية للوحة زجاجية مغطاة براسب من البلاتين وهي دراسة لا ترتبط في شئ ما بدراسة الشرارات الحادثة في الحجرة المجاورة وقد حدث في ساعة كان (برانلي) قريباً من (الجلفانومتر) بينما كان أحد مساعديه يشتغل على زجاجة (ليد) في الحجرة المجاورة. أن رأى (برانلي) رأي العين حركة فجائية سريعة في (الجلفانومتر) لفتت نظره ليدرس السبب في تغير التيار في هذه اللحظة التي لم يعمد فيها إلى تغييره، وبالأحرى أراد أن يعرف لماذا تغيرت المقاومة الكهربائية لهذه القطعة من الزجاج المغطاة بالبلاتين دون أن يسبب هو هذا التغيير. هذا البلاتين توزع بشكل معين وتجمعت جسيماته بشكل خاص كما تتجمع أو تنتظم البرادة الحديدية عند هزها، وقد فهم (برانلي) أن ثمة علاقة بين هذا الحادث وحادث التفريغ الكهربائي في الحجرة المجاورة. وبهذا توصل إلى اختراع أول نوع من المستقبل اللاسلكي يسمونه جهاز التماسك وبذلك يكون قد اخترع هذا العالم المرسلَ والمستقبِل، واستطاع بهما أن يرسل ويستقبل لمسافة تزيد عن 20 متراً وخلال الجدران الإشارات المنبعثة من دائرة كهربائية باعثة، وقد نشر (برانلي) كشفه فعُرف في أنحاء أوربا، وتطلب الباحثون الحصول على نتائج أهم من التي وصل إليها
ولقد كان الفضل في سنة 1899 - وبعد عشرة أعوام من تجارب برانلي الأولى - لماركوني الإيطالي في أن يبعث بإشارات تلغرافية لاسلكية تعبُر بحر المانش، فبعث بأول رسالة إلى (برانلي) نفسه، مشيراً بذلك إلى فضله الأول في الكشف عن اللاسلكي
وشاء الزمن للرجل الذي كشف جهاز التماسك أن يظل حياً حتى اليوم الذي رأى فيه رأي العين (التلفزيون))؛ وهذا يجعلنا نلمس السرعة الخارقة التي تقدمت فيها الكهرباء الموجية في الأربعين سنة الأخيرة
من كان يدري - عند ما عرف (أراجو) و (أمبير) و (أيرستد) آثار التيار الكهربائي لمسافة قريبة، وعندما تنبأ (ماكسويل) عن آثاره لمسافات بعيدة - أن سيصل الإنسان في فن الراديو للحد الذي وصل إليه اليوم؟
من كان يدري أن سيصل (ماركوني) و (فربيه و (فلمنج) إلى اختراع الصمام (اللمبة الإلكترونية) العجيبة فأتموا بها الأعمال الأولى والعظيمة للاسلكي(356/59)
أما (برانلي) فقد عاش فقيراً يلقي دروساً لطلبة (البكالوريا) وفي الأيام الأخيرة أنشأ المعهد الكاثوليكي معملاً له، وهو معمل مُغطى في أجزائه بطبقة من النحاس، فهو بذلك معزول تماماً عن الذبذبات الكهربائية الموجودة في أنحاء المدينة، تلك الذبذبات التي كانت تؤثر على أجهزته الدقيقة، فقد كان يمقت في سنيه الأخيرة الإذاعات اللاسلكية المستمرة التي تمنعه عن مواصلة أبحاثه، وحبس نفسه في ذلك القفص النحاسي لينجو من آثار كشفه الأول إلى أن وافتنا الأنباء بوفاته في الشهر الحالي عن 96 عاماً.
وأستميح القارئ عذراً في سرد جزء أصبح في الواقع بعد وفاة (برانلي) من أبواب التاريخ، فقد ذهب (برانلي) للتاريخ يحكم على أعماله، ولكن العمل الذي قدمه يستحق منا أكثر من هذه السطور
وسأحدث القارئ في المقال القادم عن سبر العلماء لمراحل الإشعاع المختلفة من الراديو إلى الأشعة النافذة مشيراً إلى عمل (لويه) وسيرى القارئ من كل ذلك أن الضوء والكهرباء أمواج كونية واحدة، بحيث لو أننا فقدنا البصر لأمكننا أن نعرف الموجودات، وسنطلعه على شيء يدور بخلدنا، ولمناسبة ما نخوض فيه الآن، عن احتمال قد يكون لصفات الأحياء التي لا زالت فرضية والتي قد تكون موجودة في الكواكب الأخرى. هذه تأملات تبدأ تأملات، ولكنها تصبح برنامجاً للقارئ نحدثه عنه قبل أن نحدثه عن الضوء كمادة في الوجود، وقبل أن نشرح له نوع التفكير الجديد للعالمين الكبيرين لورانتز وأينشتاين.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(356/60)
القصص
عيد الربيع
للأستاذ محمد سعيد العريان
منذ عام لم تكن (نُضار) في مثل حالها اليوم. . . شتان بين ما كانت وما صارت!
هاهي ذي تخرج اليوم من محبسها الذي اعتزلت فيه الناس أشهراً لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
لم يكن ثمة ما يربطها بالناس بعد ما مات أبوها وهجرها خطيبها؛ فما شأنها وشأن الناس وما ترجو منهم وما يرجون؟
لقد عرفت من طباع الناس وهي معتزلة بعيدة أكثر مما كانت تعرف وهي تخالطهم وتعيش بينهم؛ وكذلك لا تتكشف حقائق الأشياء لمن يراها إلا على مبعدة!
منذ عام مات أبوها، وما كان لها في الحياة غير أبيها وغير خطيبها (رشيد)، وكانت تعيش من بيت أبيها في نعمة سابغة وظل وارف؛ ولم يكن لأبيها - منذ ماتت زوجهُ - غاية يسعى لها غير إسعاد ابنته؛ فَقَصر عليها عواطف قلبه ونوازع وجدانه وعاش لها، لا يرى لنفسه حقاً في متاع من متاع الرجال ما دامت ابنته سعيدة!
وكان لأبيها وظيفة ذات أبهة ومظهر، وكان لها جمال يفتن ويسحر؛ فتهافت الشبان على التماس رضاها والحظوة عندها، ولكن فتى واحداً هو الذي استطاع أن يحملها على الإذعان والرضا؛ وعرفها رشيد وعرفته، وعرفه أبوها، وتواعدا على ميعاد تنتقل فيه (نضار) من بيت أبيها إلى بيت رشيد!
. . . وعاشت حيناً سعيدة بأحلامها، لا يشغلها همٌّ من هم الحياة واستيقظت فجأة من أحلامها حين وجدت أباها مُسَجَّى في فراشه والطبيب بجانب سريره ناكس الرأس أسوان؛ ورأت في عيون الرجال من عُوَّاد أبيها دموعاً تترقرق فصرخت في لهفة: أبي. . .! وتلاشى الصدى ولم تسمع جواب أبيها. . . ودنا منها خطيبها يواسيها وفي صوته نبرة حزن، ولمعت دمعة بين أهدابه فأطبق جفنيه ولوى وجهه. . .
وخرج أبوها من الدار إلى غير مَعاد، وخرج خطيبها يشيع الجنازة فلم يعد، ولبثت الفتاة وحدها تنتظر. . .(356/61)
وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد. . . وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائداً من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادماً لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها. . .
بلى لقد عرف رشيد من شئون صاحبته ما لم يكن يعرف. . فاتخذ طريقاً غير الطريق التي كان يسلكها كل يوم، وماذا يحمله على الزواج من فتاة ليس لها جاه من أهل ولا غنى من مال، وهو لو شاء لوجد عند غيرها الجاه والمال والسعادة. . . هكذا قالت له نفسه، فمضى وخلّفها. . .!
لقد كان أبوها هو كل ما تملك من غنى وجاه، وقد مات أبوها، فماذا بقي؟
ومضى شهر، وراحت نضار تقبض (المعاش) الشهري الذي فرضته لها الحكومة بعد موت أبيها. . . وعادت وفي يدها ثلاثة جنيهات. . . ذلك كل ثروتها، وكل العوض من أبيها الذي مات!
وفي اليوم التالي كانت عربة نقل كبيرة تحمل متاعها من البيت الذي عاشت فيه هي وأبوها ما عاشت. . . إلى غرفة مفردة على سطح بيت كبير من بيوت الحي؛ وكانت الخادمة تحمل صرة ثيابها ذاهبة. . .
وتغيرت منذ اليوم عيشة نضار، وانقادت صاغرة لما فرضت عليها الحياة!
ولزمت غرفتها على السطح، لا تفارقها إلا لحاجة، واعتزلت الناس لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
ومضى عام. . . وهاهي ذي اليوم تفارق محبسها لغير حاجة، تلتمس جديداً في حياتها المملولة الجافة التي تحياها منذ مات أبوها. . . اليوم عيد الربيع. . . وقد خرج الناس من بيوتهم جماعات مبكرين إلى شاطئ النيل، وإلى حدائق الجزيرة ورياض الجيزة والقناطر الخيرية، يتملون جمال الحياة ويتمتعون بما أحل الله وما حرم من طيبات وخبائث. . .
وذكرت نضار ما كان من ماضيها. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذاك على المقعد الخشبي في شارع (مسبيرو) وعليها ذلك الثوب الأسود الحائل، وفي عينها تلك النظرة الساهمة، وفي وجنتيها هذا الشحوب. . . مَن ذا يراها في مجلسها ذلك فيعرفها ويذكر ما كانت. . .؟
لقد آثرت ذلك المكان القصي الذي لا يطرقه أحد ممن تعرف من سكان الحي، لتكون بنجوة(356/62)
من عيون الفضوليين؛ أفكانت تحسب أن أحداً من أهل الحي يعرفها حين يراها، أو يذكرها؟. . . ولكن فيها بقية من حسن الظن بالناس!
ومرت بها مواكب الأطفال في ثيابهم وزينتهم، يحملون في أيديهم طاقات الزهر، وينفح من أعطافهم عطر الربيع وريحانه؛ وتتابعت أسراب الفتيات في غلائلهن الموشاة وأزيائهن الفاتنة يتمايلن ضاحكات عابثات عبث الصبى والدلال؛ ومضت طائفة من الفتيان في آثارهن يغنون ويتطارحون أناشيد الهوى والشباب والأمل المنشود؛ وكان على الشاطئ فتيان يقرعان كأساً بكأس؛ وعلى المقعد القريب فتى وفتاة يتناجيان في همس؛ ومرت سيارة تتهادى وفيها اثنان ينشئان قصة حب. . .
ونضار جالسة على مقعدها وحدها، تسمع وترى وتذكر صوراً من ماضيها، وذكرت فتاها الذي كان، وذكرت أباها. . .
في مثل هذا اليوم. . . منذ عام. . . كانت وكان. . . وعادت إلى ماضيها، واستغرقت في حلم طويل. . .
ومر بها فتى، وتبادلا نظرتين، وأطرقت نضار من حياء وعادت إلى ذكريات ماضيها، وخطا الفتى إليها خطوة، وكانت على شفتيه ابتسامة. . . وفي عينيه نظرة تعبر عن معنى. . . وقال لها: أنت وحدك وأنا وحدي!. . .
وتضرمت وجنتاها حياءً وغضباً وسكتت؛ وعاد الفتى يتم حديثه. . . ونظرت إليه ثانية وهمت أن تتكلم، ثم أمسكت. . . فليقل ما يقول ثم يمضي لشأنه؛ ليس ينبغي لمثلها أن ترد على مثله. . . وخطا الفتى خطوة أخرى جلس على طرف المقعد؛ فجفلت الفتاة ونهضت وفي عينيها غضب وسخرية!. . .
واستيأس الفتى فمضى لشأنه، وعادت الفتاة لشأنها. . . وتعاقبت على عينيها صور. . . وترادفت مواكب الفتيان والفتيات، وتجاوبت أناشيد الهوى والشباب، ورن الصدى في أذنيها؛ وذكرت فتاها. . . وحنت إليه، واصطرعت في نفسها عاطفتان، فرضيت ثم سخطت، وترقرقت في عينيها عبرة. . .
. . . واتخذت نضار طريقها إلى مأواها وفي نفسها ألم، وإن ضحكات المرح والمسرة تتجاوب حواليها؛ ومضت تحدث نفسها وتستمع إليها، وفجأة برز لعينيها منظر. . . هذا(356/63)
رشيد وفتاة معه، يا ويلتا! إنه لهو، وتلك صديقتها (سعدية) وما لرشيد وسعدية؟. . . وأين وأيان اجتمعا؟. . . أتراه حين هجرها أبدل بها صديقتها؟. . . ولكن سعدية مسماة منذ سنوات على ابن عمها. . . أتراها هجرته بعد أن مات أبوه. . .؟
وخنقتها عبرة، ودار رأسها وكادت تسقط، فاستندت إلى الحائط؛ وتوارى الفتى وفتاته في زحمة الناس؛ وثابت نضار إلى نفسها، فاستأنفت السير؛ وكان فتيان وفتيات يزحمون الطريق مثنى مثنى، وكأن كل اثنين من نجواهما في خلوة. . ومضت تشق طريقها وفي نفسها عواطف تصطرع وتثور؛ وهتف هاتف في أعماقها: أكل أولئك. . . وأنت وحدك. . .؟
وهمت أن تعود من حيث أتت، فتجلس ساعة على المقعد الذي كانت تجلس عليه في شارع مسبيرو، على الشاطئ النيل. . . حيث قال لها فتى منذ قليل: أنت وحدك. . . وأنا وحدي. . .! فمالها طاقة على مثل هذه الوحدة الذليلة. . . واليوم عيد الربيع. . .!
وصرت أسنان الفتاة، وقمعت خواطرها، واستأنفت السير، وراحت تسائل نفسها: أكذلك الحياة؟ ليتني لم أكن أعلم. . .!
وراحت تصعد السلم درجة درجة وهي تعد، وكان البواب جالساً يهمس في أذن ضيفه؛ ورنت ضحكة البواب وصاحبه في أذنيها، فوقفت وأحمر وجهها من الغضب؛ أتراه يحدّث صاحبه عنها؟ فماذا يقول؟. . . أم تراه يحسبها فتاة كبعض مَن رأت اليوم؟ ومِن أين له أن يعرف حقيقتها؟. . .
وما ظنُّ الناسِ بفتاة عزباء، تعيش وحدها في غرفة على السطح، ليس لِباب السطح بواب، تخرج حين تخرج وحدها وتعود حين تعود، لا يعرف أحد أين ذهبتْ ومن أين جاءتْ؟
. . . وتماسكتْ من ضعف، واستأنفت الصعود. . . وبلغتْ غرفتها فارتمت على سريرها باكية!
وأخذتها غفوة واستيقظت أحلامها؛ ولما صحْت من غفوتها بعد ساعة؛ كانت نظرتها إلى الحياة غير ما كانت. . . وماذا يجديها أن تحرص على التزام الجادة والناس هو الناس، وكل فتاة عندهم ككل فتاة؟
. . . وجلستْ نضار إلى المرآة تتزين - المرآة التي لم تجلس إليها منذ عام مجلسَ فتاةٍ(356/64)
إلى مرآتها، ونفضت الغبار عن حقيبتها، وراحت تبحث فيها عن شئ من تراث الماضي. . . وخلعت ثوب الحداد الذي لم تغيره منذ لبسته. . .!
وسمعتْ طرقاً على الباب. . . وفتحت. . . فابتدرها البواب يُؤذنها أن فتى بالباب يسأل عنها، وابتسم. . . وشحب لونها، وقالت في صوت يرتعش: ما اسمه؟ وماذا يريد؟. . .
ولكن البواب لم يكن يعرف أسمه ولا ماذا يريد؛ فما كان يعنيه إلا أن يؤذنها أن زائراً يسأل عنها، ثم هبط مسرعاً. . .
وأطلَّتْ الفتاة وراءه لترى، ولكنها لم تر. . .!
. . . لقد غشيتها الدموع وحضرتها الذكرى فما تستطيع أن تسمع أو ترى أو. . . تفكر!
منذ عام لم يهتف هاتف باسمها ولم يزرها زائر. . . فمن يكون هذا الطارق؟. . .
وعاد إليها البواب برسالة في يده قبل أن تجد نضار جواب سؤالها؛ وتناولت منه الرسالة بيد ترتجف، وراحت تقرؤها وهي في طريقها إلى غرفتها. . . وسقطت دمعتان على القرطاس في يدها وكانت تبتسم. . . ولم تفطن إلا بعد حين أن البواب لا يزال منها على مقربة؛ ولأول مرة منذ سكنت هذه الغرفة المفردة، شعرت أن من الواجب عليها أن تمنح البواب شيئاً. . . فعادت حقيبتها الصغيرة ومدت يدها إليه بقروش. . .!
وأغلقت بابها وراحت تعيد قراءة الرسالة؛ ثم رفعتها إلى شفتيها فقبلتها قبلة، وهمست: نعم، أحبك لأنك أنت. . .
وحتى في خلوتها لم تنس أنها امرأة. . فعادت تقول: نعم. . .
لأنك أنت تحبني حين لم يذكرني أحد!
ثم طوت الرسالة وأخفتها في صدرها. . .
كان (سامي) يعرفها من زمان، وكانت تعرفه؛ ورآها ذات ليلة تحدثه في منامه ويحدثها فطمع. . . وكان مجمعاً أمره على خطبتها حين جاءه النبأ بأنها سمَّيت علي رشيد، فطوى جوانحه على آلامه وسكت. . .
وضربت بينهما الأيام فصعدتْ بها إلى غرفة في السطح، ورمت به النوى من بلد إلى بلد إلى بلاد، ثم عاد ليعرف من أمرها ما عرف. . . فكتب إليها. . .
. . . وتم أمرهما على ما أرادا وأظلهما سقف واحد، وابتسمت لها الأيام بعد عبوس!(356/65)
ومضى عام وجاء عيد الربيع، وقال لها: أين تريدين يا عزيزتي أن نمضي يوم العيد؟
وتغشَّتها الذكرى فأطرقتْ وفي قلبها عواطف تصطرع، ثم رفعت رأسها وقالت وهي تبتسم: أتريد يا سامي؟. . . إنني أفضل أن نجلس على مقعد خشبي على شاطئ النيل، في شارع مسبيرو، ثم نعود. . . . . .
وضحك سامي دَهِشاً وهو يقول: على مقعد خشبي؟ في شارع مسبيرو؟ يالها فكرة! بربك لماذا؟ وأي خاطر ألهمك؟
قالت وفي عينيها بريق وفي صوتها حنان وفي أعطافها نشوة: تسألني لماذا. . .؟ لأنكَ أنت هناك. .! حيث التقينا أول مرة في خطرة فِكر وخفقة قلب، وكنتُ وحدي هناك ولكني كنتُ معك. . .!
محمد سعيد العريان(356/66)
البريد الأدبي
الفرقة القومية تحتفل بمولد الأميرة فوزية
كانت ليلة الثلاثاء الماضي صفحة مجيدة في تاريخ الفرقة القومية، فقد احتفلت فيها بمولد صاحبة السمو الملكي الأميرة فوزية احتفالاً جديراً بمكانتها وكفايتها افتتحه مديرها الأستاذ خليل مطران بك بقصيدة عصماء أنشدها بين يدي المليك، ثم مثلت الفرقة رواية (عبيد الذهب) التي نقلها إلى العربية الأستاذ أحمد الصاوي محمد، فكانت الرواية ببراعة ترجمتها، وطرافة موضعها، ورشاقة أسلوبها، وقوة إخراجها، وحسن تمثيلها نظاماً متسقاً من الفن والجمال واللذة قلما شهدناه في ماضي الفرقة. والحقيقة التي أثبتها هذه الحفلة أن الفرقة إذا ساعدها الكتاب بالاختيار الموفق للموضوع، والترجمة الملائمة للرواية، ظهرت براعتها في الإخراج والتمثيل ظهوراً يجذب إليها هوى الجمهور، ويعقل عنها لسان النقد.
فقهاء ببزنطة
قرأت افتتاحية العدد ال 352 للسنة الثامنة من مجلة الرسالة الغراء بعنوان (فقهاء بيزنطة) لحضرة رئيس التحرير الأستاذ الكبير السيد أحمد حسن الزيات. وقد أعجبني نقده رجال الدين لتشاغلهم بصغار الأمور عن معاليها التي جاء الإسلام بها؛ ووصفه الأستاذ بأنه (هو الذي وضع الدساتير الخالدة لسعادة الفرد والأسرة والأمة والإنسانية في كل زمان وفي كل مكان)؛ ولانصراف أهله عن حقيقته ومقصده، وقد لبسوه كما يلبس الفرو مقلوباً. ونقل العلامة أحمد فتحي باشا زغلول في مقدمة كتاب: (الإسلام خواطر وسوانح): أن السيد رشيد منشئ المنار قال في أمثال من ينتقدهم الأستاذ الزيات: (إن الجبر صار عندهم توحيداً، وإنكار الأسباب إيماناً، وترك الأعمال المفيدة توكلا، ومعرفة الحقائق كفراً أو إلحاداً، وإيذاء المخالف في المذهب ديناً، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحاً، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفاناً، والذلة والمهانة تواضعاً، والخضوع للذل والاستسلام للضيم رضى وتسليما، والتقليد الأعمى لكل متقدم علماً وإيقاناً)
أعجبني نقد الأستاذ كما أعجبتني شكواه من الضعف النشء في معرفتهم الدينية التي يتلقفونها عمن هم حجب على محاسن الدين ومزاياه الحميدة، وقد شعر السيد الإمام كما شعر حضرة الأستاذ الجليل، حينما اختبر أمثال هؤلاء، وألقيت عليه أسئلة كالتي ألقيت(356/67)
على الأستاذ صاحب (الرسالة) الغراء، وحل السيد رشيد المعضلة التي رجا الأستاذ حلها، وتمنى أن تشرح للناس عبقرية هذا الدين وفلسفة تشريعه ووجوه إصلاحه وأسباب خلوده على ضوء العلم الكاشف ونظام التأليف الحديث (بالوحي المحمدي) وقد طبع في سنتين ثلاث مرات، واتفق على الشهادة له كبار العلماء والأدباء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ومختلف أقطارهم. ولو شئت أن أذكر أسماءهم وأنقل جملاً من رسائلهم، لاحتجت إلى صحائف من مجلة الرسالة. على أني أكتفي بأن أورد كلمة من خطاب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي إلى السيد رشيد في وصف كتاب الوحي:
(إنكم وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية، عرضاً قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة. وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقاً لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون. فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون)
وكلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة في كتاب الوحي المحمدي:
(وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت النظر بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة العقلية والحجج النقلية، بوضوح وجلاء، على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في المسائل الدينية)
وكلمة للأمير شكيب أرسلان: (. . . وقد كتب السيد رشيد هذا الكتاب أيضاً لكل من نشأ نشأة أوربية أي خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها مبادئ الإسلام مع لبن أمه فيقال إنها رسخت فيه من الصغر، ولما كان جميع من يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية الحاضرة هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسباً. كان هذا الكتاب موجهاً أيضاً إليهم لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية أو على ما يقرب من ذلك)
وفي هذا القدر كفاية من شهادة هؤلاء العلماء الإجلاء بأن كتاب الوحي المحمدي هو الحل للمعضلة التي تسألون عن حلها وهو الضالة المنشودة التي تبحثون عنها لتجيبوا سائليكم عن وجود كتاب يبين أن (الإسلام بتوحيده بين الدين والدنيا علاج لأدواء المجتمع ونظام لفوضى الطبيعة وأنه يساير التطور ويطاول الزمن فلا يمكن أن تكون فيه مناقضة للمدينة الصحيحة ولا معارضة للتقدم الحق) وبالله التوفيق.(356/68)
عبد الرحمن عاصم
معرفة طمي النيل باللاسلكي
يعرض الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي أمام الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية التي هو عضو في مجلس إداراتها بحثاً جديداً يناقش فيه الأهمية العلمية في القطر المصري لتقدير كميات المواد المعلقة في مياه النيل أو الترع مدة الفيضان، ومعرفة الحالة التي تتغير بها في الحيز وفي الزمن. وتتصل هذه المعرفة بموضوع رسوب الطمي في ترع الري أو رسوبه أمام خزان أسوان
وسيتكلم عن طريقته الخاصة لمعرفة كمية الطمي وتحليلها من الناحيتين النوعية والكمية بتعيين سرعة ووزن جسيمات الطمي في الماء بطريقة ضوئية، كما سيتكلم عن طريقة أخرى استخدم فيها ظاهرة التبادل الضوئي الكهربائي لمعرفة سرعة جسيمات كروية في سائل أو غيوم كطمي النيل في الماء، وهي طريقة يتعين بها كمية الطمي المحمولة بالنيل ودراسة الحالة التي يتوزع بها
وسيبين بعد ذلك امتداداً للبحث الأخير توصل بواسطته إلى طريقة لمعرفة كمية الطمي المحمولة بالماء عن بعد دون الالتجاء إلى استخدام الأسلاك الكهربائية، بمعنى أنه يتسنى من القاهرة مثلاً تسجيل كمية الطمي المحمول بالنيل في أي وقت من اليوم وفي أي جزء من النيل مثل العطبرة أو النيل الأزرق أو أمام أسوان
وسيلقى هذا البحث في يوم الثلاثاء 30 أبريل الساعة 6 مساء أمام الجمعية في كلية العلوم بسراي الزعفران بالعباسية
إلى الأستاذ صديق شيبوب
تحية وإعجاباً. . . وبعد:
قرأت قصتكم الممتعة البارعة التي ترجمتموها عن الكاتبة القديرة (سلمى لاجيرلوف). فأخذتني روعتها فكرة وأسلوباً؛ ومن ثَمَّ جئت أتمنى عليك، مشكوراً مني ومن جمهرة القارئين، أن تدأب على ترجمة آثار هذه القصصية العالمية القادرة
ولكن حبي لآثارك الروائع، وحرصي عليها أن تبدو رائعة كاملة، دفعني أن أشير لك في(356/69)
رفق وهون إلى لفظة جاءت في آخر القصة أعتقد (أنا) أن الأوفق أن تبدل بأنسب منها. رعاية لسياق الكلام، وانسجام المعاني، وأمانة لفن القصة
فقد حكيت في ختام القصة عن شعور الزانية، وتطهر روحها من دنس رجسها (. . . لا تمحي عن بشاعة الخطيئة، وجمال العدل. . .) وكان الأنسب أن تقول: (وجمال الرحمة) لأن العدل لا يجعل في نفوس البشر. إذ كانوا أبداً خاطئين
ولست أدعي أنني رأيت الأصل الفرنسي، ولكني أرجح وفقاً لذوقي أن تكون الكلمة في هذا الأصل هي (الرحمة) بدلاً من (العدل)
على أني أسارع فأقرر أن الرأي لك، وللأصل الفرنسي، ولأصله السويدي. . . وإنما الأمر خلاف ذوقي فقط. . . لا يمس روعة القصة في قليل أو كثير
وتحياتي لك - أيها الأستاذ - مقرونة بتقديري وإعجابي
مراد الكرداني
عدد التلاميذ بالمدارس المصرية في السنة الماضية
يؤخذ من آخر إحصاء رسمي أصدرته وزارة المعارف أن عدد التلاميذ الذين كانوا يتلقون العلم في السنة الدراسية الماضية (1938 - 1939) بالمدارس الأميرية غير الأولية بلغ 77. 029 طالباً
من هذا العدد 64. 682 مسلماً و12219 قبطياً، ومنه أيضاً 76. 729 مصرياً و128 سودانياً، وواحد حبشي، و9 يمنيون، واثنان أردنيان، و18 سورياً، وواحد أرمني، واثنان من الإنجليز، وستة من العراقيين، و31 فلسطينياً، و35 من العرب، و4 من الهنود، وواحد من أهل سيام وخمسة من الأفغان. وستة من أهل جاوا، وواحد ألباني، واثنان أسبانيان، واثنان تركيان و3 من اليونان، و3 من طرابلس، وواحد إيطالي و7 من حضر موت، و16 مراكشياً، و3 من زنجبار، وواحد صيني، وواحد من الجزائر، وخمسة من إيران، و6 من الفرنسيين
ويؤخذ من الإحصاء المتقدم ذكره، أن عدد التلاميذ الذين يتلقون العلم بالمدارس الخاضعة لتفتيش وزارة المعارف 76. 736 طالباً وأن عدد التلاميذ المقيدين بالمدارس الأولية(356/70)
والمكاتب العامة مليون و119. 47 تلميذاً منهم 640. 790 بنين، 478. 681 بنات
الجندي المجهول
سيدي الأستاذ الزيات:
شغلتني شواغر جمة عن الاطلاع على مجلة الرسالة (العدد 354) الموعد المعتاد فلم أطلع عليها إلا اليوم، ولما وصلت إلى ما نقلتموه من مجلة العصبة البرازيلية وجدت به خطأ أردت أن أنبه إليه إذ قالت في حديثها عن الجندي المجهول إن فكرته نشأت في فرنسا. الحقيقة أنها نشأت في مخ قس إنجليزي سنة 1916. وفي أغسطس سنة 1920 تحدث بها إلى رئيسه الذي نقلها بدوره إلى رئيس الأساقفة، ونفذت الفكرة وأحضر الجندي واحتفل به في نوفمبر سنة 1920. أما طريقة إحضاره فلها قصة طريفة قد تقرأها يوماً في الرسالة إن شاء الله
هذا ما عن لي، وإني لشاكر لكم فضلكم لإفساح صدركم لكلمات القراء المتواضعة
محمد فخري مهنا
كياني أو لساني؟
سيدي الأستاذ الكبير مدير الرسالة
قرأت ما كتبه الأديب الفاضل عبد العليم عيسى عن (ليالي الملاح التائه) للأستاذ الشاعر علي محمود طه فأعجبني منه أنه كان بعيداً عن الغرض والهوى، صريحاً بارعاً في حكمه على شعر الشاعر ومنزلته بين شعرائنا المعاصرين. غير أني أخالفه في أن لفظة (كياني) أرق من لفظة (لساني) في البيت:
قلت والنشوة تسري في لساني ... هاجت الذكرى فأين الهرمان
فهي في موضعها أدق وأبرع بكثير من الأولى، فضلاً عن أنها لفظة شعرية خفيفة موسيقية. أما قوله: إنه لا يتصور تلك النشوة التي تسري في اللسان. فهو دليل على أنه ليس من أرباب الكاس والطاس. وقديماً قال الشاعر العربي حسان بن ثابت:
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
وفسر المعري المفصل باللسان، وهكذا ذكر اللسان والقاموس(356/71)
حامد القوصي
مدرس بالقاهرة(356/72)
رسالة النقد
في سبيل العربية
تصحيح نهاية الأرب
جزؤه الثالث عشر
للأستاذ عبد القادر المغربي
ص3 س3 قوله: (وتفوهت بأخبار من نبغ من أهلها) أي أهل كل دولة من دول التاريخ، ومعنى (تفوهت) نطقت. ولا يقال في مثل هذا المقام (نطقت) وإنما يقال (نوّهت) ففي كتب اللغة: نوّه فلان بفلان إذا رفع ذكره ومدحه وعظّمه. وهذا هو المراد هنا. فإن المؤلف يمدح النابغين من كل دولة ويشيد بذكرهم.
ص3 س9 قوله: (ولم أعرج في الآخر إلا بالإشارة إليها) فعل التعريج يتعدى بعلى لا بالباء. ففي التاج (التعريج على شئ الإقامة عليه، وفي الحديث: فلم أعرج أي لم أقم ولم أحتبس) فالمعنى في عبارة المؤلف إنني لم أحبس قلمي على شئ إلا على الإشارة إليها، ولم نجدهم ذكروا أن فعل التعريج يتعدى بالباء، ولعل تعديتها بها هنا من ذهول المؤلف لا من خطأ الناسخ
ص11 س21 قوله: (ففتحها) صوابه (ففتحهما) إذ أن الضمير يرجع إلى العينين، وهو خطأ مطبعي
ص25 س14 لما أخذ الله الميثاق على ذرية آدم وهم في ظهره كان أول من أجاب وخرج سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال المؤلف: (ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول. أنا أول من يشهد لك بالتوحيد. الخ) فقوله (ونادى إلى ذات اليمين) صوابه: (وأوى إلى ذات اليمين. أي مال ولجأ إلى الجهة اليمنى فتبوأها صلى الله عليه وسلم ونزل بها، منه قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) وفي انحيازه صلى الله عليه وسلم إلى جهة اليمين إشارة إلى أنه من أهل الميمنة السعداء لا من أهل المشأمة الأشقياء
ص29 س14 لما أخرج آدم وحواء من الجنة اضطرا إلى قضاء الحاجة فبكيا (ثم أمرهما(356/73)
الملك أن يمسحا بالمدر، ثم يغتسلا بالماء) يعني أنه علمهما آداب الاستنجاء في الإسلام، كما علمهما الوضوء فتوضآ وضوء الإسلام. وآداب الاستنجاء كما قال الفقهاء هي الجمع بين المسح والغسل بالماء. فقوله (ثم يغتسلا بالماء) صوابه (ثم يغسلا) أي محل النجو بالماء بعد أن يكونا مسحاه بالمدر أي التراب
ص61 س1 قوله: (وإن شئت بقاء سبع نوايات من تمر) يسأل الملك لقمان إذا كان يريد أن يبقى في الحياة الدنيا بقاء سبع نويات تمر. والنويات جمع نواة فقوله (نوايات) بألف بعد الواو خطأ والصواب حذف الألف
ص67 س11 قوله: (فقال فتىً منهم حَدَث السن) خطأ صوابه (حديث السن) وعبارة المصباح (يقال للفتى حديث السن فإن حذفت السن قلت حدث بفتحتين) أي من دون إضافة حدث إلى السن
ص91 س6: وأمرَ الله الرياح الأربع (فضمَّت ما كان لأهل الرسّ من متاع الخ) هذا حين أراد الله إهلاكهم بسبب عصيانهم. وفعل الربح في كسح ما كان على وجه الأرض من متاع وفتات يسمى كنساً وقمًّا لاضمّاً، فصواب (فضمّت): (فقمت)، يقال: قم البيت قمًّا كنسه. والقُمامة: الكناسة ص93 س2: كان أهل الرسّ يعبدون شجرة صنوبر يقال لها (ساب درحب)، وقوله (درحب) كتبت بحاء مهملة وباء موحدة. وصوابه: (درخت) بخاء معجمة وتاء مثناة في الآخر، وهي كلمة فارسية معناها الشجر، ومنه الشجر المسمى (أزدرخت)، وأصله بالفارسية (آزاد درخت) ويحرفه عوام الشام إلى (زنزلخت) و (زلزلخت) واسمه بالعربية (قيقب) و (قيقبان) ومما يحسن ذكره أن شجرة الصنوبر التي يعبدها أهل الرسّ ويسمونها (ساب درخت) كلمة (ساب) فيها تذكرنا بكلمة الفرنسية التي معناها شجرة الصنوبر. فهل هذه من تلك يا تُرى؟
ص93 س2: (كان يافث غرس شجرة الصنوبر المذكورة على شفير عين يقال لها (دوسات). وكلمة (دوسات) كتبت بسين مهملة وتاء مثناة في الآخر. وصوابها (دوشاب) بشين معجمة وباء موحدة. قال الخفاجي في كتابه (شفاء الغليل): (الدوشاب نبيذ التمر معرب. وذكرت كلمة الدوشاب في شعر لابن المعتز، وكذا في شعر لابن الرومي، وفسرها شارح ديوانه بالنبيذ الأسود. وقال السمعاني الدوشاب هو الدبس بالعربية. أه - قول(356/74)
الخفاجي. وسألت إيرانياً من سكان دمشق عن (دوشاب) في لغتهم، فقال هو الشيرا. لا يخفى أن (الشيرا) لفظة تركية معناها عصير العنب الذي اعتصر حديثاً فأصبح حامضاً ولم يصل إلى درجة الإسكار، وهو المسمى بالعربية (مسطار) بضم الميم أو كسرها. وقد اختلفوا في أصل مسطار حتى قال بعضهم إنها رومية تلقفها أهل الشام من سكان سوريا الأصليين. والحاصل أن (الدوشاب) شراب يتخذ من عصير العنب سميت به عين الماء التي غرس يافث عليها شجرة الصنوبر المسماة (ساب درخت)
ص96 س19: (وهو الذي أنشأ كوثاربا من أرض العراق). قوله (كوثا) كذا بالألف، وصوابه (كوثي) بالياء المقصورة لأن (كوثي ربا) ليس كلمة واحدة بل كلمتان: (كوثي) مضافة إلى (ربا) قال صاحب كتاب (مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع: (وكوثي بالعراق في موضعين (كوثي الطريق) و (كوثي ربا) وبها مشهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهما قريتان الخ. وقد كتبت (كوثي) بالياء المقصورة في آخرها. وفي القاموس وشرحه (وكوثي بلدة بالعراق وتسمى (كوثي الطريق) و (كوثي ربا) من ناحية بابل بأرض العراق أيضاً وفيها ولد الخليل وطرح في النار) اهـ. وقد كتبت (كوثي) بالياء المقصورة كلما ذكرت. فالواجب تصحيحها في هذه الصفحة وص98 وص111 وكل صفحة سواها
ص 105 س18: (وبينما إبراهيم قاعداً) كذا بالنصب وصوابه (قاعد) بالرفع على الخبرية كما ورد مرفوعاً في أول ص 169 إذ قال ثم: (فبينما هو مشتغلٌ بالذكر)
ص 108 س 10: (وأُدخل - أي إبراهيم الخليل - المضيق تحت الأرض) وصوابه: (المطبق). قال في مستدرك التاج: (المطبق كمحسن سجن تحت الأرض) ويؤيد هذا ما جاء في الصفحة نفسها س15: (وكان إبراهيم يسلّي أهل السجن)
ص112 س1: (فأمر بالتنور فأُسجر فطُرح إبراهيم فيه) قوله: (فأسجر) مصدره الأسجار. ولم أعثر عليه في كتب اللغة وإنما هو ثلاثي سجره سجراً، ومن التفعيل سجَّره تسجيراً ولا دخل للناسخ في هذا الخطأ بل السهو فيه من المؤلف في غالب الظن
ص115 في السطر الرابع وسطور أخرى تلته ورد أسم (سارة) زوجة إبراهيم الخليل مشدّد الراء، ولعل الصواب تخفيفها، لأنها كلمة عبرانية معناها (أميرة) كما في قاموس الكتاب المقدس. وقد نبهت دائرة المعارف البستانية إلى تخفيف راء (سارة) مذ كتبتها(356/75)
بالحروف اللاتينية هكذا وتخفيفها هو الشائع على الألسنة في بلاد المشرق حتى أن معاجم اللغة العربية لم تشر في مادة (سرور) إلى أن (سارة زوجة الخليل مشددة الراء حتى يكون عربياً بل سكتت عن ذلك. ولعل في سكوتها ما يشعر بأن اسم (سارة) ليس من مادة السرور العربية. وعندي أن هذا هو الصواب إذ لا يعقل أن (ماحور) العبراني والد سارة يسميها باسم عربي في معناه عربي في اشتقاقه، اللهم إلا إذا ادعى مدع بأن اسم (سارة) المخفف نقله العرب إلى لغتهم ثم عربوه وأفرغوه في قوالبها فشددوا راءه. وروي صاحب القاموس عن اللحياني (امرأة سرّة وسارّة تسرّك) وسمعت فتى يذكر أختاً له فسماها (سارَّة) وشدد الراء فقلت: ولماذا شددت الراء والناس يلفظونها مخففة قال: إن جدي هو الذي سماها وأوصى ألا يلفظ أسمها إلا مشدداً قلت: لا كلام إذن وكأن جدك يعتقد أن أسم (سارة) عربي مادة واشتقاقاً. وأما إذا كنا نتحدث عن السيدة (سارة) العبرانية فيحسن أن نلفظ أسمها مخففاً كما سماها أبوها (ما حور).
ص125 س20 (ثم خرجت امرأة لوط وبيدها سراج كأنها تُشْعل) ضبط فعل (تشعل) بلعين المهملة المفتوحة على البناء للمجهول من فعل شَعَل النار وأشعلها إذا ألهبها. ولا معنى لذلك هنا، ولعل صوابه (تشغل) بالغين المعجمة من الشغل والاشتغال، والمعنى أن امرأة لوط لما علمت بضيوف زوجها من الملائكة وهم على شكل غلمان حسان، خرجت في الليل وبيدها السراج توهم زوجها الذي استكتمها الخبر أنها مشغولة بأمور المنزل كتفقد خادم أو علف دابة وبذلك تسنى لها أن تخلص إلى فساق قومها فتخبرهم بخبر الضيوف. على أنه يصح أن تكون (تشعل) من إشعال النار لكن يكون صوابه (تشعله) بضمير النصب والبناء وللمعلوم أي توهم زوجها أنها تريد أن تشعل السراج وتوقده لتستضئ في خدمة بيتها ثم انسلت إلى فساق قومها
ص127 س7 قوله: (حتى بلغ بها إلى البحر) صوابه (بلغ بها البحر) من دون حرف الجر لأن فعل البلوغ يتعدى بنفسه، والقول بأنه مضمن معنى الوصول تكلف لعدم ما يدعو إليه من نكت البلاغة التي تزيد في إيضاح المعنى أو تأكيده أو تورث الكلام حسناً أو غير ذلك من الاعتبارات التي يراعيها البلغاء عادة في التضمين وإلا كان خطلاً
ص132 ص10 (غيابت الجب) كذا بتاء طويلة أو مجرورة وصوابه (غيابه بتاء مربوطة(356/76)
كما هي قاعدتها. نعم إنها تكتب في المصحف الشريف (غيابت) إتباعاً للرسم المأثور
ص139 س7 (وقيل إن النساء خلون به ليعدِّلنه لها) يعني أن نسوة المدينة لما بلغن خبر جفوة يوسف لزليخا امرأة العزيز خلون به ليعدلنه، وقد ضبط فعل (يعدلنه) بالدال المهملة المشددة من فعل عدَّله إذ أقامه وسواه. فالنسوة بذلن جهدن في تعديل يوسف وتقويمه لأجل امرأة العزيز ولأجل أن يواتيها على ما تريد منه، ولكن ليس المقام مقام تربية ولا تقويم غلام اعوجت أخلاقه والتوت طباعه، وإنما المقام مقام حب وجفاء، ونسوة أقمن أنفسهن وسطاء أو شفعاء. فالأصوب والأليق بالمقام أن تكون (يعذلنه) بالذال المعجمة من العذل الثلاثي (أو التعذيل المزيد على الثلاثة للمبالغة) على معنى أن النسوة خلون بيوسف وأخذن في عذله ولومه على ما كان من جفوته لسيدته وإعراضه عنها وقد فعلن ذلك خدمة لها وفي سبيل مصلحتها
ص 154 س14 قوله: (تيناك) صوابه (أتيناك) وهو خطأ مطبعي
ص181 س15 أم موسى دخلت على آسية امرأة فرعون فلم تعرفها آسية (لأن أم موسى دخلت عليها في حلبة المراضع) (حلبة) كذا بالباء الموحدة، والحلبة خيل السباق ولا معنى لها هنا وصوابه (حلية المراضع) بالياء المثناة قال في المصباح الحلية الصفة وقال في الأساس: عرفته بحليته أي بهيأته. فآسية لم تعرف أم موسى لأنها دخلت عليها بصفة مرضعة وعلى هيئة المراضع وهو أيضاً خطأ مطبعي
213ص 8س: أفواج الملائكة كانت تمر على موسى فكان منهم فوج (لهم نحيب بالتسبيح والتقديس) النحيب البكاء أو أشده أي أنهم كانوا يبكون بسبب تسبيحهم لله. وهو ظاهر، ولكن الأظهر منع بل الأشبه في هذا المقام أن تكون (نحيب) مصحفة عن (نحيت) بتاء مثناه في آخرها وهو اللهث وشدة تتابع النفس أي أن هذا الفريق من الملائكة من شدة ما لّجوا في التسبيح وألُّحوا جعلوا يلهثون حتى كاد يلحقهم البُهر وهو انقطاع النفس
220ص 8س: في صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم (يُصَفُّون في صلاتهم صفوفاً كصفوف الملائكة) وقد ضُبط فعل (يُصفون) بضم ياء المضارعة مجهولاً أي أنهم قد صفّهم صافّ. والأفصح أن يضبط معلوماً يقال في الفصيح صفَّهم فصَفّوا أي اصطفوا. فهو لازم متعد. ومن اللازم قوله تعالى في وصف الملائكة أيضاً (والصافات صفاً) أي أقسم(356/77)
بجماعات الملائكة المصطفة في مراتبها لعبادة ربها. وفعل الصف إذا أُسند إلى من يصطف بنفسه استعمل معلوماً يقال: صف الجند وصفّت الملائكة وإلا استعمل مجهولاً: صُفَّت النمارق (ونمارق مصفوفة) صُفّت السُرر (على سُررُ مصفوفة)
ص220 س 9 في صفة أمة محمد أيضاً: (لا يدخل النار منهم أحد إلا من الحساب مثلما يرمي الحجر من وراء الشجر) قوله (إلا من الحساب) محرّف، وصوابه (إلا مَرّ الحُسْبان) والحسبان جمع حسبانة ضرب من السهام صغار قصار كالمسال. يعني أن أمة محمد لا يدخلون النار إلا مروراً كمرور السهام. ومرور السهم ومروقه يضرب مثلاً لسرعة النفاذ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وزاد هذا المعنى وضوحاً قوله بعده: (مثلما يرمي الحجر من وراء الشجر) فلا جرم إن الحجر إذ ذاك يمر خلال غصون الشجر بسرعة ثم يخلص إلى الجهة المقابلة من دون أن يمكث في الشجرة أو يعلق عليه شئ منها. وهكذا أمة محمد تمر في النار على هذا النحو. وكتبت (مثل ما) هكذا مفصولة. ولعل الصواب أن تكتب متصلة كما كتبناها آنفاً
ص242 س2: (فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول) قوله (فحملوه لعل صوابه (فحملوهما) أي حملوا كلاً من الخضر وموسى وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر. ويشهد لما قلنا قوله بعد: (فلما ركبا في السفينة) بألف التثنية أي الخضر وموسى
ص258 س12 (لولا بنو إسرائيل لم يخثر الطعام ولم يخبث اللحم) قوله: (يخثر) بالثاء المثلثة أي يغلظ بعد أن كان مائعاً. ولا يستقيم المعنى عليه هنا وإنما صوابه (يخْنز) بنون وزاي: خنز اللحم والجوز والتمر فسد وأنتن، أي أن الطعام أصبح معرضاً للفساد والنتن بسبب عصيان اليهود لأوامر الله تعالى. ويدل على صحة ما قلنا قوله بعده: (ولم يخبث اللحم) فإن خبثه يمنع من أكله. وأصبح المقام يتطلب أن يلحق الطعام آفة تمنع من أكله أيضاً وتلك الآفة هي خنوزة، ونتنه أما خثوره أي غلظه واشتداده فلا يمنع أكله. على أن الطعام لا ينسب إليه الخثور وإنما الخثور للبن: يقال خثر اللبن خثراً وخثوراً وخثراناً غلظ واشتد بعد أن كان رقيقاً مائعاً
ص 259 س20 (تقول العرب فوموا لنا أي اختبزوا) ضبطّ فعل (فوموا) بالتخفيف أي بضم الفاء والميم ثلاثياً على وزن قوموا. وصوابه (فَوِّموا) بتشديد الواو من التفعيل كما(356/78)
ضبط كذلك في اللسان والتاج قالا: (يقولون فَوِّموا لنا بالتشديد يريدون اختبزوا)
ص270 س10 وس15 وس16 زمزي بن شلوم تزوج كستي بنت صعور مرغماً الشريعة التوراة، فغضب موسى وأصيب بنو إسرائل من جراء ذلك بالطاعون. فدخل فنحاص العيزار القبة على العروسين وطعنهما بحربته الحديد الثقيلة فانتظمهما وخرج بهما إلى القوم رافعاً حربته، قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته فرفع الطاعون، قال: ومن أجل ذلك يعطي اليهود ذرية فنحاص من كل ذبيحة الخاصرة والذراع واللحية. أقول: لا يخفى أن اللحية هي الشعر النابت على الذقن أي عظم الحنك. والشعر المذكور لا يمكن أن يكون نقطة ارتكاز لحربة من حديد تحمل جثتين بشريتين، بل إن عظم الحنك نفسه لا يصلح لذلك، وإنما صوابه: وأسند الحربة إلى (لبته)، وكذا في السطرين الآخرين (اللبة) مكان (اللحية) ولبته مكان لحيته واللبة على الصدر حيث تقع القلادة أو نقول هي الزوْر وهو ما ارتفع من الصدر إلى الكتفين. وما زلنا في المواسم ومواكب المحمل نرى حملة الأعلام والرايات الكبرى لا يستطيعون حملها ما لم يسندوها إلى لباتهم أي أعلا صدورهم لا إلى لحاهم ولا إلى ذقونهم، على أن الذبائح التي يُعطى منها أولاد فنحاص لا يُقل أن يعطوا منها مع الخاصرة والذراع شعر اللحية، ولا لحي للذبائح ينتفع بشعرها وإنما يعطون لبّاتها وأزوارها
ص270: في آخر هذه الصفحة يحكي خبر (بلعام) وقد قدِم على بن إسرائيل راكباً أتانه قال (فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان وقد وقفت فضربها بلعام الخ) معنى (قامت به) وقفت به قال صاحب القاموس (قامت الدابة وقفت عن السير) فقوله: (وقد وقفت) بعد قوله: (قامت به) مستغنى عنه إذ يصبح المعنى به (وقفت به الأتان وقد وقفت) وهو تكرار. فلعل قوله: (وقد وقفت) مما كتب على الهامش تفسيراً لقوله: (قامت به) فألحقها الناسخ بها في المتن أو هي مما جاء في صلب المتن تفسيراً لقامت، ويكون أصل الجملة هكذا (قامت به الأتان أي وقفت) فحرف الناسخ كلمة (أي) التفسيرية إلى كلمة (وقد) التحقيقية فأصبح تركيباً ظاهر البطلان
ص271 س5: (قال موسى يا رب بما سمعت دعاء بلعام عليّ فاسمع دعائي عليه) قوله (بما سمعت) لعل صوابه (كما سمعت) أي اسمع دعائي كما سمعت دعاءه، وإلا فإن (بما)(356/79)
لا يصح معها معنى الكلام إلا على تخريج بعيد ظاهر التكلف.
(دمشق)
عبد الله المغربي(356/80)
العدد 357 - بتاريخ: 06 - 05 - 1940(/)
إشعاع الإيمان
لكل إنسان إشعاع ينتشر عليك من روحه كلما جلست أليه أو دنوت
منه. وهذا الإشعاع يختلف في القوة والضعف وفي الكثافة واللطف
باختلاف الروح في أولئك كله. ولكن لرجل الدين ورجل الحكم إشعاعًا
عرضيَّا آخر ينبثق عن العالم مادام متصلا بالله، ويصدر عن الحاكم
مادام متصفاً بالسلطان. فإذا انقطع ما بين أحدهما وبين هذه القوة
السماوية أو الأرضية انقلب كسائر الناس يُشع على حسب اقتداره
واعتباره
تدخل على رجل السلطان أو تلقاه فتغشاك منه مهابة تطأطأ من نفسك وتكسر من نخوتك، فإذا خرجت من مدار هالته، أو خرج هو من ملكوت سلطانه، وجدته في رأيك الحر أشبه بالجذوة الواهجة إذا ما تحولت إلى رماد بارد
وتجلس إلى رجل الدين أو تراه فتغمرك منه جلالة تثلج صدَرك بالرضا وتنقع نفسك بالسكينة، فإذا قمت عن مجلسه بقى في بصرك نوره وظل في بصيرتك هداه. وذلك هو الفرق بين قوة تسيطر بمادة الإنسان وقوة تؤثر بروح الله
كان هذا الإشعاع الإلهي من رجل الدين يفعل فعله في القلوب والأبصار من إرشاد ولا وعظ. كان العالم أو شبه العالم إذا دخل قرية أشرقت أرضها بنوره واهتز أهلها لمقدمه، فيهرعون إليه ويعكفون عليه ويجدون فيه الدليل إلى الله، فمصافحته عهد لا ينقض، وإشارته حكم لا يرد، ودعوته بركة لا تنقطع. وكنا في ذلك العهد أحداثا ننظر إلى الشيخ وهو بُهرة المجلس كأنه برهان الله، وهو صامت، ويؤثر وهو ساكن، والقوم من حوله مطرقون مستغرقون فرغت قلوبهم من مطامع الدنيا، وخلت صدورهم من وساوس الشر. فإذا ترك القرية خلف بها عهد الله يتصل به ما انقطع من الأسباب، ويقوى عليه ما وهن من المودة
ذلك لأن الشيوخ كانوا يومئذ يسمتون سمت الأنبياء فيجعلون دينهم ودنياهم وحدة لا تتجزأ؛ فإذا قالوا وعظوا، وإذا فعلوا أرشدوا، وإذا صمتوا كانوا كأعلام البر تدل بالإشارة، أو(357/1)
كمنائر البحر تهتدي بالشعاع. فلما تشوف العلماء إلى زهرة العيش، واستشرفوا لعزة المنصب، انطفأت من حولهم هالة الورع فأصبحوا كالناس يفعلون فيرمُون بالرياء، ويقولون فيُتهمون بالكذب.
تعال أقص عليك حديثاً من أحاديث لواقع لا يزال الناس يرونه كلما حلا لهم أن يوازنوا بين عالم يجري دينه على لسانه فيذهب في قوله، وعالم يجري دينه في قلبه فيشع من مسامه:
كان الشيخ. . . ففيهاً من النمط القديم، قد شغل فكره بالدين، وقصر جهده على العلم، وهب وجوده للأزهر، فهو يقضي النهار وطرفي الليل في التدريس والمطالعة والصلاة؛ لا يكاد يخرج من درس إلا إلى درس، ولا يترك ملزمة إلا إلى ملزمة. فإذا جاء يوم الجمعة خرج ماشيا إلى زيارة الأولياء في المقابر أو في المساجد، ثم يعود مع المساء قرير العين مطمئن النفس إلى حجرته الأزهرية ذات الفراش الخشن والضوء الشاحب ليعدّ درسه الذي سيلقيه في فجر السبت
وفي ذات يوم من أيام الجمع وقع في نفسه أن يصلي الجمعة في مسجد أبي العلاء ببولاق، فخرج من الأزهر في ضحوة النهار وأخذ يسأل عن الطريق إلى المسجد والناس يدلونه أو يضلونه حتى دفعه القدر إلى المكان الرسمي للمومسات
كان الشيخ يسير في هذا الشارع العاهر بعمته العظيمة وجبته الفضفاضة كما يسير الجمل في شارع من شوارع لندن!
كان موضعاً للنظر الساخر وموضوعاً للتنادر البذيء؛ ولكنه كان يمشي ناكس للطرف مشغول الخاطر فلم يفطن إلى شيء. نعم فطن إلى انتقاض وضوئه حين لمست يده بغي من البغايا تريد أن تعبث به. فاستغفر الله وحوقل، ثم سأل صبياً من صبيان ذلك الحي أن يدله على مسجد يجدد فيه وضوءه، فقد كان يكره أن يمشي على غير وضوء؛ وكان الصبي خبيث الفطرة فاحش الدعابة فدله على بيت مومس وقال له: هذه يا سيدي دورة المياه!
دخل الشيخ الدار فإذا فتاة كصورة (القارئة) في متحف اللُّفر قد اضطجعت على كنبتها الوثيرة وهي نصف عارية. فلما رآها أسبل عينه وغمغم بالاستغفار والدعاء ثم قال لها:
- استري نفسك يا بنيتي فقد قربت الصلاة وأوشك المصلون أن يجيئوا(357/2)
فنهضت الفتاة وقد اعتراها نوع من الوجوم ينشأ بين الدهش والعجب فوضعت عليها بعض ثيابها وقالت:
- ماذا تريد يا سيدي الشيخ؟
- أريد أن أتوضأ. نادي أباك يقودني إلى الحنفية!
ألست ابنة خادم المسجد؟
فأجابت الفتاة وقد أدركت كل شيء:
- بلى يا سيدي أنا ابنته؛ وسأقودك بنفسي إلى الحنفية.
فافتح عينيك واتبعني فقد لبست
وأرشدت المومُس العالمَ إلى مكان الطهارة وهو مغْسلها الوردي الأنيق، فوقف أمامه ذاهلاً يرى أداة الزينة ويجد رائحة العطر، ولكنه لم يسترب. ولم يستريب؟ أما يجوز أن يكون في القاهرة طراز من المساجد لم يره؟
وفتح الشيخ الحنفية وتوضأ، وجاءته ببشكير أوبرَ فأمَّره على وجهه فسطعه أريجه. ثم أقسمت عليه المرأة ليجلسن على الكنبة ريثما تهيئ له فنجاناً من القهوة. فجلس الشيخ يذكر الله، وجلست هي بجانبه تغلي الكنكة وتديم النظر إلى وجهه. فلما تمزز الفنجان سألته: إلى أين يذهب؟ فقال لها: إلى مسجد السلطان أبي العلا. فخرجت أمام الدار ونادت عربة من عربات الركوب فأجلست الشيخ فيها، ثم أعطت الحوذي الأجرة وأمرته أن ينزله أمام الجامع. ورغبت الفتاة أن تقبل يد الشيخ، ولكنه أدخلها مسرعاً في ثوبه وقال: لقد ضاق الوقت يا بنيتي عن وضوء جديد. أسأل الله لك الهداية والمغفرة
قالوا: ورجعت المومس إلى دارها وعليها من الشيخ شعاع نفذ إلى ظلام نفسها فأشرقت بالصلاح والخير؛ ثم لم تُرَ بعد ذلك اليوم إلا في ثوبها الأسود قاعدةً تخيط أو قائمة تصلي!
احمد حسن الزيات(357/3)
صوت فضولي!
للأستاذ عباس محمود العقاد
منذ أسابيع كانت محطة الإذاعة المصرية تنقل إلى الناس أحاديث شتى من مكان في أرباض القاهرة على ما يظهر
وكانت الأحاديث تجري على صيغة السؤال والجواب، أو الاستيضاح والتوضيح؛ وإن السائلين ليسألون، وإن المجيبين ليجيبون، وإن الأدوار لتتوالى دورا ًبعد دور، إذا بصوت لم يدعه أحد، ولم يأذن له أحد، ولم ينتظره أحد، ولم يسأله سائل أن يجيب، قد شق الفضاء وحيداً ثم ذهب بعيداً. . . حتى توارى في حجاب الصمت، وغاب عن الأسماع كما هو غائب عن الأبصار صوت فضولي!
لكنه أحق من أصحابْ الدار، ومن المدعوين الأصلاء، ومن سائر الأصوات أن يسمع في هذا الأوان
لأنه صوت الكروان
الكروان في المذياع، يقتحمه اقتحاماً بغير داع
أذكرني هذا الصوت الفضولي احتفال الأمريكيين بذكرى الشاعر الإنجليزي العظيم وليام وردزورث منذ أعوام
فإنهم أقاموا في صومعته التي عاش فيها أكثر أيام حياته مذياعاً ينقل إلى عشاق أدبه ما كان يسمعه بأذنيه، ويترجمه لحناً في قصيده. فلما كان الموعد المعروف أصغى المحتفلون في القارة الجديدة إلى أصداء الأثير المنطلقة من الصومعة، فإذا هم يسمعون زقاء العصافير ودقات الساعة القديمة وحفيف الأشجار وخفقات الهواء، وكل ما كان في سمع الشاعر وقلبه وخياله، وفي أوزان شعره وآيات وحيه، كأنهم نقلوا عالم الأطياف كله، فنقلوا أطياف العصافير ومناظر الربيع، كما نقلوا طيف الشاعر من العالم الأخير ومن حصن الخلود المنيع
لكن أطيار (وردزورث) كانت مدعوة منتظرة في موعدها المعروف.
أما كرواننا في مصر، فلم يسمع دعوة من الناس. بل كان كل ما سمع دعوة من الربيع ونداء من الأرض والسماء، فلبّي وأطاع، ولم يضره أنه فضولي في عرف المذياع.(357/4)
ويح هذه الأطيار!
من أدراها بمواسم الأفلاك؟ ومن أدراها بعدد السنين والحساب؟ ومن أدراها بمواعد الأرض والسماء، ومواسم الصيف والشتاء؟
إنها لتدري!
إنها لتقرأ الخط وتفسر الأرقام وتدرس الأزياج وترقب الأرصاد
إنها لقارئة وحاسبة وفلكية وميقاتية، وكل ما شئت من أوصاف العلم والدراية
مالك لا تصدق؟ ما لك ترتاب؟ اسمع سؤالاً وجوابه، وأنت خليق أن تعلم بعد ذلك من منا على خطأ، ومن منا على صواب:
فقد سأل أناس: لماذا تغرد الطير في الربيع؟ لماذا تتغزل وتتغنى في هذا الأوان؟
فحار بعض العلماء في الجواب، وبحثوا ونقبوا، وفحصوا وقلبوا، ثم عادوا إلى السائل قائلين، وهم على أيقن يقين:
إن الطير تغنى في الربيع لأنها تجد طعامها موفوراً فيه، وإنها لتشبع من ذلك الطعام فتسري فيها حرارة الشبع، فتعرف الحب فيلهمها الحب الغناء!
جواب علماء. . .!
فقل لي بحق العلم عندك: أيهما أحق بالتصديق: أن يسألك السائل كيف تعرف الطير المواسم فتجيبه إنها تعرفها لأنها تدرس الفلك وتقرأ التقاويم وتحسن الحساب، أم يسألك السائل لماذا تغني في الربيع فتجيبه إنها تغني لأنها تجد الطعام؟
ماذا على هؤلاء العلماء لو فهموا أن الحياة التي تنبت الشجر وتكثر الحب وتملأ السنابل بالطعام لن تقف مغلولة اليدين مع الأحياء، ولن يتأتى أن تعطي الأرض ما تعطي وأن تعود إليهم وحدهم بغير عطاء؟
لماذا تثمر الأرض وتشرق الأزهار في الربيع؟
إن هذا لأعجب من تغريد الطير وحركة الحيوان. فإذا استطاع الربيع أن ينفخ الحياة في بذرة ورقة، وفي غصن وثمرة، فما باله يعجزعن ابتعاث الطير وتحريك الأحياء؟ وما بالنا نرجع إلى الطعام ولا نرجع إلى الذي نفخ الحياة في الشجر الأعجف فأصبح طعاماً يأكله من يشاء(357/5)
لماذا لا يفهم العلماء هذا؟
لأنهم لو فهموه لأصبحوا شعراء. . . وقد يتفق العلم والجهل؛
أما العلم والشعر فمعاذ الله لا يتفقان!
ولا نحب أن نسأل العلماء عن الربيع، فإن الربيع لمن يحسونه لا لمن يدرسونه، والذين يحسونه لا يستكثرون عليه أن ينطق الجماد بالألحان، فضلا عن البلبل والكروان
فلنسأل الشعراء
والشعراء يقولون إن الربيع شباب الزمان. صدقوا، أي تعريف للربيع أبلغ من هذا التعريف؟
ثم ما الشباب؟
قالوا: والشباب ربيع العمر. . . وصدقوا أيضاً. فأي أوان في العمر هو أشبه بالربيع من أوان الشباب؟
لكن ما الربيع والعمر معاً معشر الشعراء؟
هنا يسكت أصحابنا الشعراء، لأنهم لا يحبون الاستقصاء، ولا يتعقبون الأشياء تعقب الأعداء والرقباء
فليكن الشباب ربيع العمر
وليكن الربيع شباب الزمان
وكفى بذلك تعريفاً لمن يحسون. أما الذين لا يحسون فما هم بعارفين، ولا هم معرفون
وكثير من الذين يحسون قد عرفوا للشباب علامات، وإن لم يحصروه بالكلمات، ولا بالأوقات
فقال الموسيقار موريز روزنتال: (إنك لشاب إذا استطاعت امرأة أن تسعدك واستطاعت أن تشقيك، وإنك لكهل إذا استطاعت إسعادك ولم تستطع أشقاءك، وإنك لشيخ فان إذا عجزت معك عن هذا وذاك)
وقالت ظريفة باريسية: إنك شاب إذا أكلت علبة من الحلوى كل يوم واستمرأت أكلها، وإنك لأكبر عمراً إذا قلت إن الحلوى لسم زعاف، ولكنك تأكلها مع ذاك. وإنك لشيخ يائس إذا انقطعت عن أكلها وعن ذمها وعن اشتهائها(357/6)
وقالت: (إنك لشاب إذا أنت أحببت الكتب والروايات ومناظر السينما التي تبكيك، وإنك لأكبر عمراً إذا أنت آثرت عليها ما يضحكك ويسليك، وإنك لشيخ يائس إذا أعرضت عنها وهي مبكية ومسلية على السواء)
وقالت تخاطب النساء: (أنت شابة إذا نظرت أول ما تنظرين إلى عيني الرجل، وأنت أكبر عمراً إذا نظرت أول ما تنظرين إلى يديه)
وقالت: (أنت شابة إذا راقك الثناء على ذكائك، وأنت أكبر عمراً إذا آثرت الثناء على جمالك ومرآك)
وقالت: (أنت شابة إذا أسفت على وقت ضاع منك في النوم. وأنت أكبر عمراً إذا علمت أن وقتاً تنامينه ليس بالوقت الذي ضاع)
علامات صادقة، لأنها أصدق من توقيت الشباب بالسنة واليوم، ومن حصره بالمصطلحات والتعريفات
وهي صادقة أيضاً لأن المغالطة فيها تجوز حين لا تجوز في مواقيت السنين أو في سمات الشيب والغضون
كان كليمنصو يوم بلوغه الثمانين يتمشى مع صديق في الشانزليزيه، فعبرت بهما صبية فاتنة، والتقت أعين الصديقين، فإذا بعيني الوزير الجليل تلتمعان وإذا به يهتف كأنه يمزح: (ليتني أعود إلى السبعين كرة أخرى؟)
لم قال السبعين ولم يقل العشرين أو الثلاثين. . . أو الأربعين والخمسين؟
لو كان يعلم أن الأمنية تستجاب لتمنى العشرين والثلاثين، ولم يتمن السبعين
لكنها لا تستجاب، فخير له إذن ألا يشهد على نفسه بالفناء وألا يوسع الفارق بينه وبين أيام الغرام. فلأن يكون رجلاً بينه وبين متعة الحياة عشر سنوات، خير من أن يكون حطاماً بالياً بينه وبين المتعة خمسون سنة، ولو في لغة الأماني والأحلام!
سل الشعراء إذن عن علامات الشباب ودلالته، ولا تسألهم عن حدوده وأرقامه، فهم مجيبوك إن سألت هذا السؤال جواباً كجواب العرافين والعرافات يرضي كل سائل ويعجب كل سن ويفتح باب المغالطة على مصراعيه
ومن الذي يأبى أن يثبت شبابه إذا كان الدليل عليه بكاء من رواية أو صورة متحركة أو(357/7)
كتاب؟
ومن الذي يعجز عن إثبات شبابه إذا كانت السبعون أمنية المتمنين؟
الشباب هو ربيع العمر، وربيع العمر له علامات وليست له حدود
والربيع هو شباب الزمان، والزمان في شبابه يستمع إلى غناء الطير وهتاف الكروان، ولا يحسبه من أهل التطفل والفضول
فليكن كرواننا فضولياً في المذياع بين حوار العلماء والأدباء، فما هو بالفضولي في الربيع بين أزاهر الأرض وزواهر السماء
هو مدعو بكل ورقة على كل شجرة
هو صاحب بيت
هو داع في ربيعه الخالد: ربيع الطير الذي ينفث الحياة، وليس بربيع الإنسان الذي ترقبوه لإزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان.
إن صوت الكروان لصوت فضولي في هذا الربيع، لأنه نشوز بين صفير الرصاص ودوي القذيفة، وياله من نشوز جميل!
عباس محمود العقاد(357/8)
فن الحياة
للدكتور إبراهيم ناجي
الحياة فن جميل. لا، بل عدة فنون متصلة مندمجة، تكون فناً واحداً، هو فن الحياة
وأكثر الناس لا يعرفون كيف يعيشون. أجل، أكثر الناس يتخبطون في ظلام دامس. ولذلك تكون حياتهم شقاء هم السبب فيه
قد تعترضون بأن من أسباب الشقاء ما لا قبل لنا به ولا يد ولا رأى؛ ولكني أرد بأن أكثر الشقاء - ولا أقول كله - هو من مخيلتنا ومن اعتيادنا ومن البيئة التي نوجد فيها
قلت أن الحياة فنون!
ولكن ما هي الحياة أولاً؟ وما هي الفن ثانياً؟
الحياة مطابقة لما بين الدنيا الخارجية والدنيا الداخلية. والفن هو المعرفة مضافة إلى الطبيعة؛ أي الملاءمة بين الداخل والخارج فالحياة والفن من عنصر واحد. فالحياة الفن والفن الحياة
قلت إن الحياة ملائمة بين ما في الخارج والداخل. ويسمى العالم الخارجي (الما كروكزم) أو العالم الكبير، والعالم الداخلي (الميكروكزم) أي العالم الصغير
فما معنى هذا؟
معناه أن انعكاس العالم الخارجي على مرآة أنفسنا هو الذي يشكل الحياة ويعطيها الصورة الخاصة بكل منا، وكلما كانت الصورة المنعكسة على مرآة أنفسنا مطابقة للأصل كانت الحياة أقرب إلى الفن والكمال
وكلما كانت الصورة مشوهة أو مقلوبة أو مبتورة كانت الحياة بعيدة عن الفن والكمال
كيف إذن نجعل هذه الصورة مجلوة على حقيقتها، كحقيقة السماء في أعمق بحيرة في صيف جميل؟
إننا في الحياة نقوم بأشياء كثيرة ملخصها ثلاثة أشياء:
التفكير والحب والعمل
والتفكير فن والحب فن والعمل فن. . .
وقد قسم العلماء التفكير إلى نوعين: التفكير بالجسد، والتفكير بالكلمة. . .(357/9)
والتفكير بالجسد أقواها وأضبطها، ولكنه محدود ضيق الأفق. فمن ذلك التفكير تفكير القطة التي تثب، والملاكم الذي يضرب. فهذان يفكران بالعين واليد أو القدم، وهذا يسمى تفكير الغزيرة. ويقول أندريه موروا: إن أرقى أنوع التفكير هو الذي ينتقل من التعقل من الغزيرة. يعني بذلك الذي ينتقل من دور التحليل والمنطق إلى دور التنفيذ السليم بوساطة الغزيرة التي تملي على أعضاء الجسد فتقوم بالعمل وتؤديه على أحسن حال.
وهناك التفكير بالكلمة، وهو أشد أنواع التفكير خطراً وأبعدها مدى، وهو كذلك أكثرها تفككاً وإبهاماً. فإن كلمة واحدة تثل عروشاً، وتقلب دولاً، وتغير نظاماً. وإن كلمة واحدة في ميدان السياسة أو الاقتصاد لتفسر ألف تفسير وتؤول ألف تأويل
ما هي قواعد التفكير السليم؟
إن التفكير السليم لشيء نعتاده كما نعتاد أي شيء
فالإنسان (حزمة) من العوائد كما قال ويليم جيمس
والتفكير السليم يكون أساسه أمرين:
الأول: الإيمان بالقواعد التي أثبتت الأجيال صحتها، واتفقت التقاليد المتوارثة على التسليم بها. تلك أصول ثابتة في النفس الإنسانية لا سبيل إلى إنكارها ولا الخلاص منها، وعبث محاولة التفلت من جذور امتدت في أعمق أعماق السرائر الإنسانية وبقيت هناك، وإنما الشجرة التي تنمو من تلك الأعماق وتصل إلى النور والشمس هي التي يباح لها أن تحلق وتتساءل وتبحث. مثل ذلك مثل الطيار الذي يستكشف وهو بعد جزء من الجيش الذي ينتظر إشارته ليهتدي، ثم ينتصر
والأمر الثاني، الأساس الثاني للتفكير هو أمر ديكارتي محض. ديكارتي أي يوقن بعظمة العقل الإنساني وإمكانه التحليل والتعليل والوصول. وهو يبني قدرته على الشك المستند إلى قواعد ثابتة من القضايا المنطقية التي أسلمتها الإنسانية من جيل لجيل
ويتفرع من الأمرين أمر جدير بالتدبر
وهو أنه لكي تكون الصورة المجلوة في نفوسنا سليمة والمرآة غير مجرحة، يجب أن تستبعد الأوهام والخزعبلات والأباطيل، يجب أن تستبعد الفكر الزائفة والأقاويل السخيفة والترهات.(357/10)
هذا أساس التفكير وهو الفن الأول
أما الفن الثاني فهو الحب؛ ويتفرع منه الصداقة أو هو أبوها وسيدها
إن رأي فرويد أن الدنيا قامت على الحب وعلى الحب وحده؛ وقد تختلف صوره وتتباين أشكاله. فهو حب للوالدين حيناً وللرفاق حينًا وللجنس المخالف ما تبقى منه. وهو عند فرويد خط مرسوم كالقطار يسير من محطة إلى أخرى ما بتر منه أو اقتصد فيه أو شوه، يغير وجه الحياة بحالها
ويقول علماء التناسل: إن الشاب والشابة في سن المراهقة ينشغلان بتصوير المثل الأعلى كل في ناحيته، والأصل في المثل الأعلى عند الشاب امرأة، وعند المرأة رجل، ولكنه لما كان في تلك السن يستحيل تحقيق ذلك المثل، فإن المراهق ينصرف إلى تخيل المثل الأعلى على هواه، فحيناً يكون ذلك شعراً، وحيناً يكون موسيقى، وحيناً تصويراً
وهنا منشأ الفنون الجميلة
فإذا أراد الله تحقيق حلم من أحلام الشباب وجب أن يعلم كل منهما كيف يحب وكيف يستبقي ذلك الحب
وإذا علم كيف يستبقي حبيبه علم كيف يستبقي صديقه
فيجب على الرجل أن يلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة المرأة. ويجب على المرأة أن تلم أولاً بطبيعة الحب، وثانياً بطبيعة الرجل، فأكثر الخلاف بينهما ناشئ من قلة الفهم. كل يتهم الآخر بما ليس فيه، أو يضيف إليه ما ليس عنده
فالحب ليس عنصراً واحداً بسيطاً، بل هو مزيج مركب من الإعجاب، والجنس، وحب الملك، والاعتياد
فلا بد من الإعجاب أولاً. لابد من تلك الصدمة التي تعتري الإنسان أولاً. وثانياً، لابد أن يكون طبيعياً كما أرادت الطبيعة. وثالثاً لابد من أن يحب الواحد منهما الآخر حباً يغرى بالانفراد، ثم بكشف النفس وفتح مغاليق القلب في غير تكلف ولا تصنع. ثم أخيراً لابد أن يعتاد الواحد الآخر، لابد أن يتآلفا باتفاق الميول وتشابه الأهواء. ويقول العلماء إن هذا الاعتياد هو الأسمنت الذي يربط العناصر الأخرى بعضها ببعض
وطبيعة الرجل في أساسها أنه مغامر مفروض فيه القوة والجبروت والقدرة على الحماية،(357/11)
مفروض أنه الجندي المحارب
وطبيعة المرأة في أساسها الأمومة، وما يتفرع عن ذلك من حنان
وهي التي تهيئ الوسادة المريحة للجندي، وتبني له العش الهادئ الجميل. فمفروض إذن أنها تنال بالبساطة والوداعة والصبر، مادام أساس طبيعتها الحنان، حنان الأمومة. فمهما عصفت وثارت، يجب أن يعرف الرجل أنه في وسط العاصفة كالربان الماهر في البحر الثائر يصبر على العاصفة ولا يكرهها، ويتنكر له البحر ولا يزال يحبه.
وبهذا المقدار من الفهم عند كليهما تبقى المحبة بينهما ثابتة. ويبقى أن نؤكد أن أساس المحبة والصداقة معاً، أن يتجرد الإنسان من الأنانية. يجب أن يعطي لكي يأخذ، فأكثر الناس يأخذون ولا يعطون، وبذلك يفقدون أحبابهم ويفقدون أصحابهم.
ونؤكد أكثر من ذلك أن أساس المحبة والصداقة أمور صغيرة تقوم عليها الحياة، وتقوم عليها الدنيا، وتقوم عليها المحبة والصداقة
فالعظائم لا يقوم بها الرجل الذي لا يقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم، وكيف نقوم بالأمور الصغيرة في شكل عظيم؟
إننا في الغالب ننسى المناسبات الصغيرة التي لو انتهزناها فتذكرنا أصدقاءنا أو أحبابنا لقيدت تلك السلسلة الرقيقة أحبابنا أو أصدقاءنا بقيود مدى الحياة، كلمة صغيرة، هدية تافهة، لحظة تنتهزها للسؤال عنهم، رنة التليفون في عيد الميلاد، تلك أشياء ينساها أكثرنا، وبذلك تفتر الصداقات وتموت المحبات ووقودها تلك الأمور التوافه. . .
هذا فن الحب، ويبقى فن العمل
العمل قوام الحياة والدعامة التي تقوم عليها. بل هو الدريئة التي نستتر وراءها لننسى متاعبنا وأشجاننا؛ فما دمنا نعمل فنحن في شاغل من عملنا، لا نبالي بسفالات الناس، ولا بأقاويلهم، ولا بسخافاتهم. ولكن هل مجرد العمل يكفي؟
كلا، لابد أن يكون العمل مثمراً، لابد من الجني الشهي، لابد من الراحة بعد التعب. والراحة ذلك الجني الشهي!
حقيقة أن المواهب تختلف، وأن الله ينعم على هذا بالعبقرية ويجعل ذلك في مستوى العامة
ولكن حتى العبقرية تموت إذا لم يتعهدها العمل المنظم.(357/12)
ورحم الله شوقي حين قال: (السيف يزدهي بالصقال!)
فقد كان جيته لا يخجل من ترتيب عمله
وكانت ساعات عمله منظمة، وهو العبقري المشهور
وكان لا يخجل أن يطرد عنه الزائر البغيض
وكان يقول الذي يشغله في جرأة: أرجوك أن تنصرف، فإني مشغول
وفي الأمثال: أثقل الثقلاء من شغل مشغولاً!
ولكننا نتورط، ونجامل، وبذلك نضيع وقتنا
ومن أسرار السعادة أن نتبع الأفضل، ولا نتبع سبيل المجاملة. وقد قال المرحوم أحمد عبد الوهاب باشا: إن من أسرار النجاح أن تقول (لا) حين يجب أن تقولها
إن هذا التورط ضرب من الفوضى، ضرب من قلة الضوابط التي يتبعثر بوساطتها الزمن وتتمزق الجهود
وقد قال أحد عظمائنا: إن آفة الشباب عندنا أنهم يجاملون وسطاً فيه (فرامل) لا يستعملها أهلها!
قال إديسون: إن العبقرية 99 % عَرَق!
يعني أن العبقرية لا تعني الكسل، بل الجهد الدائم، والحيوية المتدفقة
ولقد يخيل للذي يرى أثر العبقرية في الفنون، أن القصيدة أو الرسم، الذي قد يقوم به العبقري في ساعة أو بعضها من نتاج العبقرية وحدها. وهو واهم فإن خطاً واحداً يرسمه مصور هو جهد سنين، وبيت شاعر قد يلوح بسيطاً، ولكن هاته البساطة خلاصة عهود وأزمان من النصب والتعب
ويشترط في العمل أن تتخلله الراحة، ولا يهزأنَّ أحد بذلك، ولا يتخيلن أحدٌ أن الإنسان في راحته تنقطع الصلة بينه وبين عمله. . . كلا. فالعقل الباطن يشتغل دائماً، والإنسان في الراحة يستجم
هذه أسرار الحياة وفنها الرفيع
فلعلي أكون قد أصبت الحقيقة، والسلام عليكم ورحمة الله
إبراهيم ناجي(357/13)
في الاجتماع اللغوي
نشأة اللغة الإنسانية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
استأثرت هذه المشكلة بقسط غير يسير من نشاط الباحثين في مختلف العصور، وذهب العلماء بصددها مذاهب شتى يرجع أهمها إلى أربع نظريات:
(النظرية الأولى) تقرر أن الفضل في نشأة اللغة الإنسانية يرجع إلى إلهام هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء. وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة الفيلسوف اليوناني هيراكليت وفي العصور الوسطى بعض الباحثين في اللغة العربية، كابن فارس في كتابه الصاحبي. وفي العصور الحديثة طائفة من العلماء على رأسها الأب لامي في كتابه فن الكلام ' والفيلسوف الفرنسي دو بونالد في كتابه التشريع القديم
ولا يكاد أصحاب هذه النظرية يقدمون بين يدي مذهبهم دليلاً بمطلب يعتد به. أما أدلتهم النقلية، فبعضها يحتمل التأويل، وبعضها يكاد يكون دليلاً عليهم لا لهم. فالمؤيدون لهذا الرأي من باحثي العرب يعتمدون على قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) وهذا النص، كما ترى، ليس صريحاً فيما يدعون، إذ يحتمل أن يكون معناه - كما ذكر ذلك ابن جني في كتابه الخصائص وذهب إليه كثير من أئمة المفسرين - أن الله تعالى أقدر الإنسان على وضع الألفاظ. أما القائلون بهذه النظرية من الفرنجة، فيعتمدون على ما ورد بهذا الصدد في سفر التكوين إذ يقول: (والله خلق من الطين جميع حيوانات الحقول وجميع طيور السماء، ثم عرضها على آدم ليرى كيف يسميها، وليحمل كل منها الاسم الذي يضعه له الإنسان، فوضع آدم أسماء لجميع الحيوانات المستأنسة ولطيور السماء ودواب الحقول)
وهذا النص كما ترى لا يدل على شيء مما يقول به أصحاب هذه النظرية؛ بل يكاد يكون دليلاً عليهم. ومهما يكن من شيء، فلا صلة للدليل النقلي بمقام البحث العلمي
(النظرية الثانية) تقرر أن اللغة ابتدعت واستحدثت بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالاً. وقد ذهب إلى هذا الرأي في العصور القديمة ديمو كربت (من فلاسفة اليونان في القرن الخامس ق م)، وفي العصور الوسطى كثير من الباحثين في فقه اللغة العربية، وفي العصور الحديثة الفلاسفة الإنجليز آدم سميث وريد ودجلد ستيوارت , ,(357/15)
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو نقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره يتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية. فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ولا تخلق خلقاً، بل تتكون بالتدريج من نفسها. هذا إلى أن التواضع على التسمية يتوقف في كثير من مظاهره على لغة صوتية يتفاهم بها المتواضعون. فما يجعله أصحاب هذه النظرية منشأ للغة يتوقف هو نفسه على وجودها من قبل
فلسنا هنا بصدد نظرية جديرة بالمناقشة، بل بصدد تخمين خيالي وفرض عقيم يحمل في طيه آية بطلانه. وقد ذهب المتعصبون له في تصوير منشأ اللغة مذاهب ساذجة غريبة تدل أبلغ دلالة على مبلغ انحرافه عن جادة الصواب ونطاق المعقول. وإليك نبذة مما يقوله بعضهم بهذا الصدد: (إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة. وذلك كأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعداً فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء فيضعوا لكل منها سمة ولفظاً يدل عليه ويغنى عن إحضاره أمام البصر. وطريقة ذلك أن يقلبوا مثلاً على شخص ويومئوا إليه قائلين: إنسان، إنسان، إنسان! فتصبح هذه الكلمة اسماً له. وإن أرادوا سمة عينه أو يده أو رأسه أو قدمه، أشاروا إلى العضو وقالوا: يد، عين، رأس، قدم. . . ويسيرون على هذه الوتيرة في أسماء بقية الأشياء، وفي الأفعال والحروف وفي المعاني الكلية والأمور المعنوية نفسها. وبذلك تنشأ اللغة العربية مثلاً. ثم يخطر بعد ذلك لجماعة منهم أن يضعوا كلمة (مَرْد) بدل إنسان، وكلمة (سَرْ) بدل رأس. . .
وهكذا، فتنشأ اللغة الفارسية. . .)
(النظرية الثالثة) تقرر أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني؛ وأن هذه الغريزة كانت تحمل كل فرد على التعبير عن كل مدرك حسي معنوي بكلمة خاصة به، كما أن غريزة (التعبير الطبيعي عن الانفعالات) تحمل الإنسان على القيام بحركات وأصوات خاصة (انقباض الأسارير وانبساطها، وقوف شعر الرأس، الضحك، البكاء. . . الخ) كلما قامت به حالة انفعالية معينة (الغضب، الخوف الحزن، السرور. . . الخ)؛ وأنها كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها وظائفها وما يصدر عنها؛ وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى فاستطاع الأفراد التفاهم فيما بينهم؛ وأنه بعد نشأة اللغة الإنسانية الأولى لم(357/16)
يستخدم الإنسان هذه الغريزة؛ فأخذت تنقرض شيئاً فشيئاً حتى تلاشت كما انقرض لهذا السبب كثير من الغرائز الإنسانية القديمة. ومن أشهر من ذهب هذا المذهب العلامة الألماني مكس مولر والعلامة الفرنسي رينان
وقد اعتمدت مكس مولر في تأييد هذه النظرية على أدلة مستمدة من البحث في أصول الكلمات في اللغات الهندية الأوربية. فقد ظهر أن مفردات هذه اللغات ترجع إلى خمسمائة أصل مشترك؛ وأن هذه الأصول تمثل اللغة الأولى التي انشعبت منها هذه الفصيلة، فهي لذلك تمثل اللغة الإنسانية في أقدم عهودها. وتبين له من تحليل هذه الأصول أنها تدل على معان كلية؛ وأنه لا تشابه مطلقاً بين أصواتها، وما تدل عليه من فعل أو حالة.
ففي دلالتها على معان كلية برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية الأولى لم تكن نتيجة تواضع واتفاق، كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الثانية السابق ذكرها، لأن التواضع فضلاً عن تعارضه مع طبيعة النظم الاجتماعية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، يتوقف هو نفسه على وسيلة يتفاهم بها المتواضعون. وهذه الوسيلة لا يعقل أن تكون اللغة الصوتية، لأن مفروض أن المتواضع عليه هو أول ما نطق به الإنسان من هذه اللغة؛ ولا يعقل كذلك أن تكون لغة الإشارة، لأننا بصدد ألفاظ تدل على معان كلية أي على أمور معنوية يتعذر استخدام الإشارة الحسية فيها
وفي عدم وجود تشابه بين أصواتها وما تدل عليه برهان قاطع على أن اللغة الإنسانية لم تنشأ من محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات) وأصوات الحيوانات والأشياء كما يذهب إلى ذلك أصحاب النظرية الرابعة التي سنتكلم عنها قريباً
وإذا بطل أن اللغة الإنسانية كانت نتيجة تواضع واتفاق؛ وبطل كذلك أنها نشأت عن محاكاة الإنسان لأصواته الطبيعية وأصوات الحيوانات والأشياء، لم يبق إذن تفسير معقول لهذه الظاهرة غير التفسير السابق ذكره: وهو أن الفضل في نشأة اللغة يرجع إلى غريزة زود بها الإنسان في الأصل للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة
وهذه النظرية على ما فيها من دقة وطرافة وعمق في البحث، فاسدة من عدة وجوه:(357/17)
1 - فهي لا تحل شيئاً من المشكلة التي نحن بصددها، بل تكتفي بأن تضع مكانها مشكلة أخرى أكثر منها غموضاً، وهي مشكلة (الغريزة الكلامية)
2 - هذا إلى أن ما تقرره يعتبر - من بعض الوجوه - من قبيل الشيء بنفسه. فكل ما تقوله يمكن تلخيصه في العبارة الآتية: (إن الإنسان قد لفظ أصواتاً مركبة ذات مقاطع ودلالات مقصودة لأنه كانت لديه قدرة على لفظ هذا النوع من الأصوات) وهذا، كما لا يخفى، مجرد تقرير للمشكلة نفسها في صيغة أخرى
3 - على أن قدرة الإنسان الفطرية أو المكتسبة على لفظ هذا النوع من الأصوات ليست موضوع البحث، وإنما الذي يهمنا هو الوقوف على أول مظهر لاستغلال هذه القدرة والانتفاع بها في تكوين الكلام الإنساني؛ أي البحث عن الأسلوب الذي سار عليه الإنسان في مبدأ الأمر في وضع أصوات معينة لمسميات خاصة، والكشف عن العوامل التي وجهته إلى هذا الأسلوب دون غيره
4 - وأكبر خطأ وقعت فيه هذه النظرية هو ذهابها إلى أن الأصول الخمسمائة السابق ذكرها تمثل اللغة الإنسانية الأولى. فهذه الأصول، كما تقدم، تدل على معان كلية. ومن الواضح أن إدراك المعاني الكلية يتوقف على درجة عقلية راقية لا يتصور وجود مثلها في فاتحة النشأة الإنسانية. وهاهي ذي الأمم الأولية التي تعد أصدق ممثل للإنسانية الأولى تؤيد ما نقول. فقد أجمع علماء الأتنوجرافيا الذين قاموا بدراسة هذه الأمم بأمريكا واستراليا وأفريقيا وغيرها على ضعف عقليتهم بهذا الصدد وعجزها عن إدراك المعاني الكلية في كثير من مظاهرها. وقد كان لهذه العقلية صدى كبير في لغاتهم؛ فلا نكاد نجد في كثير منها لفظاً يدل على معنى كلي. ففي لغة الهنود الحمر مثلاً يوجد لفظ للدلالة على شجرة البلوط الحمراء، وآخر للدلالة على شجرة البلوط السوداء، وهكذا؛ ولكن لا يوجد أي لفظ للدلالة على شجرة البلوط؛ ومن باب أولى لا يوجد أي لفظ للدلالة على الشجرة على العموم. وفي لغة الهورونيين (من السكان الأصليين لأمريكا الشمالية) يوجد لكل حالة من حالات الفعل المتعدي لفظ خاص بها؛ ولكن لا يوجد للفعل نفسه لفظ يدل عليه. فيوجد لفظ للتعبير عن الأكل في حالة تعلقه بالخبز، ولفظ آخر للتعبير عنه في حالة تعلقه باللحم، وثالث في حالة تعلقه بالزبد، ورابع في حالة تعلقه بالموز. . وهكذا؛ ولكن لا يوجد فعل ولا مصدر للدلالة(357/18)
على الأكل على العموم أو الأكل في زمن ما. ولغة السكان الأصليين بجزيرة تسمانيا (بقرب استراليا) لا يوجد من بين مفرداتها لفظ يدل على الصفة؛ فإذا أرادوا وصف شئ لجئوا إلى تشبيهه بآخر مشتمل على الصفة المقصودة؛ فيقولون مثلاً فلان كشجرة كذا، إذا أرادوا وصفه بالطول
ولذلك يرى المحدثون من علماء اللغة، ومن علماء الاجتماع اللغوي أن الأصول الخمسمائة السابق ذكرها لا تمثل في شئ اللغة الإنسانية الأولى كما يذهب إلى مكس مولر؛ بل إنها بقايا لغة حديثة قطعت شوطاً كبيراً في سبيل الرقي والكمال، ولم تصل إليها الأمم الإنسانية إلا بعد أن ارتقت عقليتها ونهض تفكيرها. ويذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فيقرر أنها مجرد أصول نظرية، وأنها لم تكن يوماً ما موضوع لغة إنسانية
(النظرية الرابعة) تقرر أن اللغة الإنسانية نشأت من الأصوات الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوانات، أصوات مظاهر الطبيعة، الأصوات التي تحدثها الأفعال الإنسانية وغيرها. . . الخ) وسارت في سبيل الرقي شيئاً فشيئاً تبعاً لارتقاء العقلية الإنسانية وتقدم الحضارة واتساع نطاق الحياة الاجتماعية وتعدد حاجات الإنسان. . . وما إلى ذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأي معظم المحدثين من علماء اللغة وعلى رأسهم العلامة وتني وذهب إلى مثله من قبل هؤلاء كثير من فلاسفة العصور القديمة ومن مؤلفي العرب بالعصور الوسطى. فقد تحدث عنه ابن جني (المتوفى سنة 392 أي من نحو ألف سنة) بكتابه الخصائص في أسلوب يدل على قدمه وكثرة القائلين به من قبله
فبحسب هذه النظرية يكون الإنسان قد افتتح هذه السبيل بمحاكاة أصواته الطبيعية التي تعبر عن الانفعالات كأصوات الفرح والحزن والرعب. . . وما إليها، ومحاكاة أصوات الحيوان ومظاهره الطبيعية والأشياء كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وحفيف الشجر وجعجعة الرحى وقعقعة الشنان وصرير الباب وصوت القطع والضرب. . . وهلم جرا. وكان يقصد من هذه المحاكاة التعبير عن الشيء الذي يصدر عنه الصوت المحاكي أو عما يلازمه أو يصاحبه من حالات وشئون، واستخدم في هذه المحاكاة ما زود به من قدرة على لفظ أصوات مركبة ذات مقاطع؛ فكان يحاكي هذه الأصوات المبهمة بوضعها في أصوات مقطعية قريبة منها (قه قه مثلاً للتعبير عن صوت الضحك). وكانت لغته في مبدأ(357/19)
أمرها محدودة الألفاظ، قليلة التنوع، قريبة الشبه بالأصوات الطبيعية التي أخذت عنها، قاصرة عن الدلالة على المقصود. فكان لا بد لها من مساعد يصحبها فيوضح مدلولاتها ويعين على إدراك ما ترمي إليه. وقد وجد الإنسان خير مساعد لها في الإشارات اليدوية والحركات الجسمية، وهذا المساعد الإرادي قد نشأ هو نفسه عن الحركات الفطرية التي تصحب الانفعالات؛ فكان في مبدأ أمره مجرد محاكاة إرادية لهذه الحركات؛ ثم توسع الإنسان في استخدامه فحاكى به أشكال الأشياء وحجومها وصفاتها. . . وما إلى ذلك، فازدادت أهمية في الحديث، وسد فراغاً كبيراً في اللغة الصوتية. ثم أخذت هذه اللغة يتوسع نطاقها تبعاً لارتقاء التفكير، واتساع حاجات الإنسان ومظاهره حضارته. وتستغني شيئاً فشيئاً عن مساعدة الإشارات، وتبعد عن أصولها الأولى تحت تأثير عوامل كثيرة كالتطورات الطبيعية التي تعتور الصوت، وأعضاء النطق الإنساني وكعلاقات المجاورة والمشابهة التي تعتور الدلالات. . . وما إلى ذلك
وهذه النظرية هي أدنى نظريات هذا البحث إلى الصحة وأقربها إلى العقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور وسنن النشوء، والارتقاء الخاضعة لها الكائنات وظواهر الطبيعة والنظم الاجتماعية
ولم يقم أي دليل على خطأ هذه النظرية، ولكن لم يقم كذلك أي دليل قاطع على صحتها، وكل ما يذكر لتأييدها لا يقطع بصحتها وإنما يقرب تصورها ويرجح الأخذ بها
ومن أهم أدلتها أن المراحل التي تقررها بصدد اللغة الإنسانية تتفق في كثير من وجوهها مع مراحل الارتقاء اللغوي عند الطفل، فقد ثبت أن الطفل في المرحلة السابقة لمرحلة الكلام، يلجأ في تعبيره الإرادي إلى محاكاة الأصوات الطبيعية (أصوات التعبير الطبيعي عن الانفعالات، أصوات الحيوان، أصوات مظاهره الطبيعية، أصوات الأفعال. . . الخ) فيحاكي الصوت قاصداً التعبير عن مصدره أو عن أمر يتصل به؛ وثبت كذلك أنه في هذه في المرحلة وفي مبدأ مرحلة الكلام يعتمد اعتماداً كبيراً في توضيح تعبيره الصوتي على الإشارات اليدوية والجسمية. ومن المقرر أن المراحل التي يجتازها الطفل في مظهر ما من مظاهر حياته تمثل المراحل التي اجتازها النوع الإنساني في هذا المظهر
ومن أدلتها كذلك أن ما تقرره بصدد خصائص اللغة الإنسانية في مراحلها الأولى يتفق مع(357/20)
ما نعرفه عن خصائص اللغات في الأمم الأولية. ففي هذه اللغات تكثر المفردات التي تشبه أصواتها أصوات ما تدل عليه، ولنقص هذه اللغات وسذاجتها وإبهامها وعدم كفايتها للتعبير لا يجد المتكلمون بها مناصاً من الاستعانة بالإشارات اليدوية والجسمية في أثناء حديثهم لتكملة ما يفتقر إليه من عناصر وما يعوزه من دلالة
ومن المقرر أن هذه الأمم، لبعدها عن تيارات الحضارة وبقائها بمعزل عن أسباب النهضات الاجتماعية تمثل إلى حد كبير حالة الإنسانية في عهودها الأولى.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون(357/21)
نفسية الطبقات
للدكتور جواد علي
لاحظت خلال إقامتي الطويلة في برلين وهامبرك والمدن الألمانية الأخرى اختلافاً كبيراً بين مقاطعة ومقاطعة، وبين طبقات مدينة واحدة أحياناً في اللغة والأخلاق والمعاملات والمثل العليا وشكل الوجه وتركيب الجسم. وقد زاد انتباهي هذا موضوع البحث العنصري الذي استولى على الجامعة والمدرسة والحانوت والحياة اليومية في ألمانيا الهتلرية. فقلت: ما دام الشعب الألماني شعباً جرمانيّاً واحداً من دم وعنصر واحد، فلم هذا الاختلاف بين المقاطعات؟ ولم هذا البون بين الطبقات في المدينة الواحدة؟ صرت أسجل ملاحظاتي هذه وميزات كل طبقة وأخلاقها في كل المدينة أنزل بها وفي كل بيت احل به. كذلك فعلت أثناء زياراتي للندن وبعض مدن انكلترة وباريس وليون وأشتراتسبرك ومارسيليا وروما، وأكثر مدن إيطاليا وجنيف وبرن ولوزان وبراغ ومارينباد ويسبادن وغيرها من مدن جيكوسلوفاكيا (المرحومة)؛ وكذلك بولندة والنمسا ودول البحر الأبيض المتوسط
توصلت إلى نتيجة، وهي أن قواعد التفكير العامة، وطراز المعاملات متقاربة ومتشابهة بين الطبقات الواحدة في الممالك المختلفة أولاً، وهي أيضاً مع تركيب الجسم وشكل الوجه والملامح ثانياً. فالطبقة الرابعة من سكان المدن مثلاً، وهي التي يطلق عليها في أوربا اسم تستعمل لها لغة خاصة عامية وتضع لها مصطلحات تصطلح عليها وتقضي معظم أوقاتها في المحلات المنخفضة في الأرض (كالسراديب والدهاليز)، وتأوي بكل سرور إلى المحلات المظلمة ذات النور القليل والمحلات المؤثثة بأثاث خشن ابتدائي، يميل الشاب منهم إلى تجميل شعر رأسه وتجعيده، مع أن ملابسه ممزقة رثة لا يهتم بها، يميل كذلك بصورة عامة إلى الألوان (الغامقة) كالأحمر أو الأسود أو الأصفر. وتميل بصورة عامة إلى المخاطر إذ لا تفزع منها، فإذا ركب أحدهم دراجة هوائية (بايسكل) أسرع بها كأنه في سباق. كذلك لا يبالون في جمل الأشياء الثقيلة من خطر صحي، وهم يميلون بصورة عامة إلى رسم الأشكال المختلفة بالزرقة والحمرة على بشرتهم، وإلى موسيقى غير موزونة مرتفعة مضطربة. ولا يبالون بإنفاق كل ما يحصلون عليه في مدة قليلة، ولو أنهم حصلوا عليه بشق الأنفس ومخاطرات عظيمة، فاللص ينفق المال الذي يسرقه بأقل من لمح البصر(357/22)
كما هو معروف وكذلك النشالون وقطاعو الطرق.
كذلك للطبقة الثالثة وهي العمال آداب ومعاملات ومثل خاصة وفن وذوق تنفرد به مع ميل إلى التبذير والكرم. وأجسام هذه الطبقة بصورة عامة أقصر من أبناء الفلاحين أو سكان المدن من الطبقتين طبقة الأعمال العقلية وطبقة الأشغال العملية والتجار ولكنها أكثر إنتاجاً في النسل من طبقتي سكان المدن، وأقل من الفلاحين كما أن شكل رأسها أصغر من الطبقات الثلاث، ويميل إلى الاستدارة. وفي المدن الصناعية تميل إلى لحم الخنزير وإلى اللحوم الباردة لأن النساء لا تترك المعامل لذلك فليس لها الوقت الكافي للطبخ. أما الطبقة الثانية وخصوصاً أصحاب رؤوس الأموال والتجار، فهي تتكلم مثلاً بصورة أسرع من الفلاحين أو العمال، ولا يميلون إلى التفكير العميق المنطقي، وكذلك لها ذوق خاص تجاري في التأثيث وفي الفن والمعيشة بينما الطبقة ذات أجسام طويلة وشكل الرأس كبير بالنسبة إلى الجسم فيها، والعظام فيها دقيقة والعضلات غير مفتولة بالنسبة إلى الفلاحين أو العمال، والوزن أثقل من العمال، والطفل الفقير في المدرسة يرى أصغر بعام تقريباً من طفل الغني الذي في عمره العمر. وهذه الطبقة - وخصوصاً الغنية منها - غير مخصبة في إنتاج النسل، وقد علل ذلك تعليلاً كثيراً لا يدخل في هذا الموضوع. ونرى من إحصائية عن قابلية النسل في السويد أن كثيراً من العائلات العريقة تضمحل وتفنى لانقطاع نسلها
والفرق بارز كذلك جسمياً وعقلياً بين سكان المدن وأبناء الأرض من الفلاحين والزراع فقحف الرأس والملامح الجسمية وشكل العظم، وكذلك طراز التفكير واللغة، تختلف مظاهرها عن مظاهر سكان المدن، وقد دل الإحصاء على أن 41 في المائة من سكان مدينة برلين كانوا لائقين للخدمة العسكرية بينما كان 61 في المائة من سكان الأرض يصلحون في نفس الوقت. فهذه النقاط تجعل المرء يسبح في بحر من التعليل. وتدفع به إلى الاعتقاد بتأثير المهنة والمحيط على الإنسان عقلياً وجسمياً. وزاد في اعتقادي ذلك ما وجدته بصورة عملية من تقارب بين موسيقى الأكراد سكان المنطقة الكردية العراقية ورقصهم واختيار ألوان ملابسهم وبين سكان منطقة بايرن في ألمانيا مثلاً مع ما بين الشعبين من الاختلاف. وهذا ما يدفع الإنسان إلى دراسة عقليات الطبقات المختلفة، والبحث عن القواعد المشتركة التي تتميز كل طبقة بها عن الأخرى(357/23)
عللت الماركسية ذلك بتأثير الإنتاج على الجماعات؛ فالعمل المادي الاقتصادي في نظرها هو العامل الأول في هذا الاختلاف وقد جاءت بأمثلة تحاول إثبات نظريتها هذه وجاءت بفلسفة مبنية على ذلك، وعلى هذا الأساس تحاول إشعال نيران ثورة ليتخلص العمال وهم الأكثرية من نفوذ الأقلية المسيطرة، ليبسطوا تفكيرهم وحضارتهم على الطبقة الصغيرة التي تعتبر رمز الحضارة العالمية في العصر الرأسمالي الحالي. وهي تأتي بأمثلة من حياة الفرنسيين في القرنين السابع والثامن عشر، وكيف كان البلاط ورجاله يعتبرون أثقف طبقة في المملكة يحتذي بهم وتقلد حركاتهم لنفوذ البلاط بينما كان الوضع بالعكس في إنكلترا لنفوذ (الكونتيه واللوردات) فيها. حيث كان كبار المزارعين هم ممثلو إنكلترا في عالم الثقافة والحضارة ويرون من جراء ذلك فكرة الوطنية فكرة ثانوية اصطناعية يمكن التعويض عنها بفكرة الوطنية المهنية والمصلحة المشتركة ويرون في الكاثوليكية العالمية مثلاً نوعاً من الوطنية والاستقلال فلم لا يتفق عمال العالم ويكونون لهم وحدة واحدة على أساس دكتاتورية العمال وتقارب المصلحة والفكر، يدعمون رأيهم ذلك بما يبديه الاشتراكيون على اختلاف حكوماتهم من تعاون تام واتفاق في الطريقة والعمل والفكر وتقاربهم كلهم في الفكر وهذه تعارض النازية تماماً، تلك النظرية التي تدعى بالعنصرية وتفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى وتعارض كذلك حوادث التاريخ أيضاً. وقد قلنا إن هذه الطبقات تكيف لها لهجة خاصة تتكلم بها، وهذا يعني أن عقلية تلك الطبقة قد تغيرت عن عقلية الطبقة الثانية، والذي يلاحظ بصورة عامة أن اللصوص والسراق لغة خاصة واصطلاحات تتكلم بها، وكذلك يفعل النشالون ولهم طريقة خاصة في إخراج الأصوات، وسكان نابولي في إيطاليا أو صيادو الأسماك في انكلترة وألمانيا وغيرها من البلاد يخرجون الكلمات بصورة تختلف عن المزارعين أو التجار فهي بصورة عامة طويلة عريضة بينما نجد لغة التجار سريعة وقصيرة. هذه أشياء لوحظت وشوهدت بالتجربة، ونطق الإنكليزي الذي ينزل فكه إلى تحت يختلف عن نطق الفرنسي الذي يمد فتحه فمه إلى الجانبين وذلك يعني أن اللغة تتغير أيضاً مما لا مجال لبيان سببه في هذا الموضوع. ولكن في ذلك رداً بصورة عامة على من يقول إن اللغة تساوي العنصرية تماماً. نعم هي تمثل جزءاً من روحية الشخص ولكن ليست روحيته تماماً إذ لو كان ذلك لكان زنوج(357/24)
أمريكا الذين ينطقون اللغة الإنكليزية إنكليزاً بالعقل والتفكير ولأصبح مولدو أمريكا الجنوبية أسباناً بالنفس والخلق تماماً. وقد أجريت تجارب على أطفال أخذوا حين الولادة من أمهاتهم من زنوج ويابانيين لقنوا الألمانية فقط ونشئوا في محيط ألماني بحت فصاروا يتكلمون الألمانية وكأنهم ألمان أباً عن جد. وقد أول ذلك الذين يقولون بهذه الفكرة بأن في البشرية قابلية للنطق مطلقاً وفي كل طفل في نفس الوقت ميل إلى الشذوذ عن نطق الأجداد قليلاً لا يشعر به يتعاظم بمرور السنين فيصبح لهجة خاصة، وأن ذلك يطرأ ولو كان العنصر سليماً نقياً من كل امتزاج. وهم يدعون أن أوربا لو كانت مأهولة من جنس واحد، وكانت معزولة عن كل عامل خارجي من زمن الأهرام حتى الآن لظهر عليها اختلاف اللهجات رغماً من ذلك على أننا نلاحظ أن يهود ألمانيا يتكلمون مع ذلك بلهجة محسوسة، وكذلك في البلاد الأخرى، وتميزها عن كيفية إخراج الكلمات لدى المواطنين، ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن اليهود يعيشون بصورة عامة في محيط واحد متكتلين
وحاول زعيم العنصرية في ألمانيا أن يبرهن على أن الجرمان لم يبتعدوا عن اللغة الجرمانية الأصلية، أنها هي هي لم تتغير. ولكن اختلاف اللهجات الألمانية، وكذلك أشكال لجسم والعداوة الموجودة بين المقاطعات، مثلاً بين سكان بروسيا بسكان بايرن، والاختلاف الكبير بين عادات سكان هامبرك وبرلين، يدل على أن بحث العنصرية لا يستطيع التغلب على المشاكل التي بحثنا عنها، ويجد حلاً معقولاً لذلك علمياً.
والبشرية تتقدم، وبتقدمها تظهر أشكال وقحوف رؤوس جديدة وهي غير متشابهة، منها المنتج ومنها الخامل لعوامل مختلفة، وللملامح وتركيب الجسم والمحيط والأكل والمهنة أثر فعّال في تكييف الفرد، وكل أمة في الحقيقة عبارة عن بضع أمم مختلفة في المصالح، ولو أنها متحدة في الدين أو اللغة مثلاً، ولكل منها وجهة نظر خاصة، وهدف يصطدم مع هدف غيرها، وهذا مصدر الحزبية والنزاع، وسقوط الدول في نظري، والأمة التي تستطيع تقريب وجهات النظر بين هذه الطبقات تتمتع بوحدة، والتي تترك هذه الطبقات تزيد في قوة كيانها، تعرض نفسها إلى تمزق لا يلبث أن يظهر بصورة كتل مستقلة ذات تفكير مستقل ومظهر غريب خصوصاً في المحيط الشرقي الذي لا تربط بين أجزائه طرق مواصلات جيدة ولا صلات تفكيرية قوية. لازالت حاجة الأقاليم في المملكة الواحدة بعضها(357/25)
إلى بعض غير شديدة. فكرة الحاجة إلى المجتمع والتعاون لم تتغلب على روح (أنا) فيه كما هو شأن كل أمة في ابتداء تكونها.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(357/26)
5 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
علي ظهر هديان
أزمع أكثر الرفاق أن يذهبوا يوم الخميس إلى جيل سنت كترين وهو أعلى جبال سيناء ترتفع قمته إلى 8536 قدم، وفي قصص الرهبان أن القديسة كترينا حينما ماتت في الإسكندرية سنة 307م حملت الملائكة جثتها إلى هذا الجبل، وقد بقي منها جمجمة وذرائع يحفظان في الدير إلى اليوم
وآثر بعضهم أن يعكف على مطالعة الكتب في مكتبة الدير، وأما أنا فأزمعت أن أركب جملاً فأسير به في وادي الشيخ إلى القبر الذي يسمى قبر النبي صالح. قيل لي كيف تطيب نفسك عن رؤية الجبل العظيم أعلى جبال سيناء؟ قلت إن برحلي عقابيل من جبل موسى فلست أقوى على الصعود اليوم؟ قيل ولكن قمة سنت كترين تشرف بك على جبال بلاد العرب. قلت قد رأيتها عن كثب قيل: وتريك الخليجين معاً: خليج السويس وخليج العقبة قلت: لا أحتاج في تصديقكم إلى أن أرى بنفسي. قيل: إنه مشهد يتمناه كثير من الناس. قلت: ما كل ما يتمنى المرء يدركه
سار الرفاق إلى الجبل وخرجت فإذا جملان مرحولان فركبت أحدهما وركب محمد أفندي حشيش الطالب بكلية الآداب الثاني، وسرنا مغتبطين بهذه الرحلة الممتعة القريبة. فلما أفضى بنا الشعب الذي فيه الدير إلى وادي الشيخ أبصرنا الحاج سيد محرم الطالب بالكلية راجعاً من حيث توجه إخواننا إلى الجبل. قلت: ما خطبك؟ قال: تلبثت لأصور بعض المرائي فانقطعت عن الرفقة. قلت: خار الله لك سر معنا نتعاقب على الجمل. رحم الله حاتماً:
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لأبعثها خِفّا، وأترك صاحبي
إذا كنت ربّا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العقاب فعاقب
سألت صاحب جملي: ما اسم الجمل؟ قال هِدَيّان. وما اسمك؟ قال: فرحان. وسألت الآخر(357/27)
فقال: اسمي جبلي واسم الجمل صبيح وكان سادسنا صبيّاً فطناً لقناً يسمى سعداً، رآنا نتأهب للركوب عند الدير فتطوع لصحبتنا عسى أن يناله خير. مشى سعد وقد جعل يديه وراء ظهره تحت حزامه وأطبق أنامله بعضها على بعض، واستقام على الطريق يوحي إليك بمشيئته وحديثه اعتداده بنفسه. وهو صبي يكدح لرزقه ورزق أمه، فهو يحمل من أعباء الحياة ويشعر بكفايته لما يحمل. والرجولة بين العرب تبتدئ في العقد الثاني من سني العمر، لا تمتد الطفولة والصبي بينهم امتدادهما في المدن حيث ترى الرجل صبياً وقد جاوز العشرين وطالباً إلى أن يجاوز الثلاثين، وكهلاً متصابياً يعُدّ نفسه للزواج عند الأربعين. ومن أجل ذلك أمر رسول الله صلوات الله عليه أسامة بن زيد على جيش وهو في السابعة عشرة. وفتح محمد بن القاسم الثقفي الهند وهو في هذه السن. قال بعض الشعراء:
إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لخمس عشرة حجة ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد!
وقال آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
قلت لسعد: ماذا يسمى حزامك هذا؟ قال: مريرة. قلت من قولهم أمرّ الحبل إذا أحكم فتله
وكنا سألنا ونحن في الدير عن دجاج لطعامنا وكلفنا سعداً أن يفتش عن بعض الدجاج. وقابلنا طائفة من البدويات يقصدن الدير ابتغاء رزقهن من الخبز، ومال سعد إليهن فسلم عليهن وكلم إحداهن. وقال أحد الجمالين: هذه أم سعد. وسألت سعداً فجمجم ولم يجب ثم قال: عند امرأة دجاجة واحدة. قلت: ما عسى أن تغني دجاجتك الواحدة يا سعد؟ وحسبت أن سعداً استحى أن يقول إن التي حادثها أمه وإن الدجاجة دجاجته وأحس شيئاً من الخجل أن يبيع لنا دجاجة، وكذلك قال صاحب الجمل حينما سألته: لماذا لا يقول سعد إن المرأة أمه.
وعرف سعد من سؤالي عن ضروب النبات أني معني بها فوجد له عملاً يبرِّر مصاحبته إيانا، ويجعل له يداً عندنا. فكان لا يمر بنبات إلا سماه وقلعه أو قطع فرعاً منه، وناولني إياه فأضعه في الخرج(357/28)
ناولني شجرة من الشيح فسألته عن القيصوم وكنت رأيته بالبادية على مقربة من البصرة، فأسرع بعد قليل إلى نبتة وقال: هذه قيصومة وناولني منها، وهي تشبه الشيح، وتمتاز عنه بلون زهرها، ولا يدرك الفرق بينما إلا النباتي أو البدوي المرن على تمييز ضروب النبات وإن تشابهت. ثم مررنا بنبات صغير لا طئ بالأرض له عصارة لزجة فقال: هذه لبّيدة. رأى شجرة من الشوك كبيرة فقال: هذه سلة وما أكثر السلة في سيناء، ثم سمي من ضروب النبات التي مررنا علينا الوراقة، وهي نبت قليل الشوك تأكله الإبل، والكَباث وهو يشبه السلة إلا أنه أضعف شوكاً، وكان هديّان إذا مرّ بكباثة أبى إلا أن يميل إليها لينال منها. والكباث في معاجم اللغة ثمر الأراك، وهو غير هذا: ومما رأينا النعمان والحزماع، وهو شجيرة تنبت كالعصا لها فروع قصيرة. وقد رأيت منها واحدة يابسة فأشرت إلى سعد فجرى إليها وحاول خلعها فاستعصت عليه فناديته أن اتركها، فأبى وما زال يقوم بها ويقعد بها حتى أتى بها. وأراني سعد النعمان وأصابع العجوز والمرُورة والبركان والدهميّ، وكلها نبت ضعيف صغير. وكنت أمتحن سعداً فأسأله عن النبات الواحد مرة بعد أخرى فأعرف أنه ينطق عن معرفة. ومما رأينا الزعتر وهو نبات طيب الرائحة معروف في مصر والعثيران، قال سعد: وهو نبات الحمير، وهو نبات صغير له فروع وورق دقيق ورائحة طيبة، والهنيدة والجعدة والشكاع الخ
وقصارى القول أنه ليس في البرية نبتة صغيرة أو كبيرة إلا يعرفها الأعراب باسمها وصفها وخصائصها
ولقينا في وادي الشيخ أعرابيتين معهما قربتان صغيرتان، فكلمهما جبلي وكان يعرفهما. وسألته أين الماء؟ فقال: هنا وأشار إلى سفح الجبل، فنزلنا وصعدنا بين صخور عظام، حتى بلغنا فجوة بين الصخور فيها ماء بارد، فجلست الأعرابيتان تملآن قربتيهما
والأعرابيات في سيناء يلبسن ملابس ضافية، حواشيها مطرزة ملونة، وهي من نسيج أيديهن، ويلبسن براقع محلاة بقطع كثيرة من المعدن، ويحلين صدورهن بخرز كثير، فلا يبدو من المرأة إلا عيناها. وقد استأذنا المرأتين أن نصورهما، فقالت إحداهما ضاحكة: بالفلوس، قلنا: أجل.
ثم بلغنا الشيخ صالح بعد ساعتين: حجرة صغيرة مضلعة، عليها قبة ساذجة، وفيها قبر(357/29)
يقول الأعراب إنه النبي صالح، وأكبر الظن أنه رجل من الصالحين اسمه صالح وللشيخ صالح موسم يأتي البدو إليه فيبيتون وينحرون ويذبحون ويلهون
وقد أمر الملك فؤاد رحمه الله بصنع كسوة لضريح النبي صالح وهي مودعة في دير سنت كترينا كما ذكرت قبلاً
لم نلبث كثيراً عند الشيخ صالح فرجعنا أدراجنا، وقد عرَّج سعد إلى اليسار فغاب قليلاً، ثم رجع وفي يده دجاجة. قلت: يا سعد، أصررت على الإتيان بدجاجتك؟ قال: ليست دجاجتي قلت: ولكنها واحدة، ولا تغني شيئاً. قال: ما وجدت غيرها قلت: فلم جئت بها؟ ثم سار سعد والدجاجة، حتى وقفنا وقفة فأفلتت منه. فقلت: لا يظفر بها. فما لبث أن جاء بها فوضعها في كيس خلف ظهره، فلم نسمع لها حساّ، حتى بلغنا الدير. قلت: يا سعد، لم يجد الطباخ دجاجاً، ونحن أكثر من عشرين فماذا نفعل بهذه الدجاجة؟ فوجم. . . قلت: ارجع بدجاجتك وخذ هذه القروش، ففرح وزدناه بعض الخبز
خرجنا من الدير صباح يوم الجمعة فألفينا صبية بأيديهم أشياء يقدمونها إلينا؛ ناولني سعد نباتاً قائلاً: هذه هنيدة. قلت: لم تزدني على الأمس شيئاً. وقدم إلى صالح عصاً من الورد البري كثيرة الشوك فأخذتها ذكرى، ثم زرعتها في حديقتي بعد أيام فأورقت. وقدم الصبية الآخرون أفماماً للسجاير من هذا الورد لا يحسن الإنسان إمساكها لكثرة شوكها
ثم أزَّت السيارات فسارت والساعة ثمان ونصف فرجعنا أدراجنا في الأودية التي ذكرتها آنفاً
ونزلنا في دير فاران الذي وصفته من قبل ثم استأنفنا المسير في وادي فاران. وبعد ساعة من دير فاران توقفنا قليلاً فأبصرت صبياً يرعى غنماً فقصدت قصده وقلت: ما اسمك يا ولد؟ قال: اسمي ولد - وكأنه لم يعجبه هذا الخطاب - قلت: اسمك محمد؟ قال: ربيع. قلت أتبيعنا خروفاً من غنمك؟ قال: لا. ثم سألته عن ضروب العشب، قلت: ما هذا؟ وأشرت إلى نبات ضعيف يشبه البصل. قال: بَرْوق، أقول: البروق معروف في كتب اللغة والأدب والنبات. وتقول العرب هو أشكر من بروق لأن البروق يعيش بأدنى ندى يقع على الأرض. وقالوا: أضعف من بروقة. قال جرير:
كأن سيوف التيم عيدان بروق ... إذا نضيت عنها لحرب جفونها(357/30)
ثم سألت ربيعاً عن نبات آخر قال: هو الرمث. قلت: قد رأيت الرمث في العراق وهو أكبر من هذا، فهل يطول الرمث أكثر مما أرى؟ قال: لا. قلت: إن رمثك هذا عجيب. وتذكرت قول أبي الطيب في قصيدة ابن العميد يصف ناقته:
تركت دخان الرمث في أوطانها ... طلباً لقوم يوقدون العنبرا
ثم سالت ربيعاً عن نبات تنبسط على الأرض فقال: سفيراً. فأعدت السؤال، فقال: سفيرا عزيزة. فعجبت أن تكون السفيرا عزيزة اسم نبت في الصحراء، ثم سألت أعرابياً من بعد فقال نعم يسمى بهذا الاسم - ولم أعرف كيف سمي به - وبعد مسيرة نصف ساعة توقفنا للغداء، عند جبل يسمى جبل الزمرد ولكنا لم نهتد إلى الزمرد فيه، ويقال إن به حجارة زرقاء وإن الزمرد يكون في حجارته
وقد حدثت أعرابياً هناك، وسألته عن نبات ضعيف له زهر بنفسجي فقال هو البَهَك ينبت بعد المطر
ثم سألته عن نبات له ثمر مستدير ذو شوك. فقال: السعدان قلت: أهذا هو السعدان الذي ملأ صيته كتب الأدب، والذي ضرب المثل بجودته فقيل: مرعى ولا كالسعدان، ويضرب المثل بشوكة: حسك السعدان، ولكن السعدانة التي رأيتها كانت خضراء لم يمتد شوكها وييبس
وابلغنا السير أبا زنيمة عشياً، وأصبحنا إلى السويس فالقاهرة
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
عبد الوهاب عزام(357/31)
الأغنياء. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
كانت ليلة السبت السالفة من الأسبوع الماضي، فوقع في دنياي أمرٌ مُفظعٌ مُفزِعٌ كنتُ معه كمن عَمِي دهراً من عمره ثم أبصر. فأخذتني الحيرة أخذاً شديداً، وتضرَّبتْ نفسي كما يتضرَّبُ الماء في مرجله على معركة من النار تشتعلً من تحته وتتسع، وتقاذفَتْني الهموم كما يتقاذفُ تيَّارُ البحر الأعظم موجةً هائمة من موجِهِ، وتنزىَّ قلبي بين ضلوعي كما تتنزَّى الكرَةُ مقذوفة من علُ، وهاجَ هَيجي واضطربَ أمري وتغولتنْي الأفكار الخائفة الحزينة المجرَّحة التي تدْمَي أبداً، فلا تحسم الدَّم، وانقلبتُ بهمي أدورُ في نفسي دَورة المجنون في دنيا عقله المريض المشعِّث. وهكذا قًضَّيتُ ليلَ أيامي، وليس لمثل هذه الأيامِ نهارٌ
ودعوت ربي جاهداً، وكنت من قبل أدعوهُ، انه هو البرُّ الرحيم. . .، وكنتُ أرى الدنيا كلها وكأنما ارتدتْ لعينيٍّ غلالةً من سرابٍ تخفقُ عليها وتميدُ وتتريعُ، وإذا الأرض غيرُ الأرض والناس غيرُ الناسِ، وإذا كل شئ يجئُ ويذهبُ، ويبينُ ويَخفى. . .، وفقدتْ الأشياء معانيها في نفسي، فما أرى إلا بؤساً وخَصاصة وجوعاً وعُرْياً، وإذا كلُّ شئ بائسٌ فقيرٌ جائعٌ عارٍ لا يستره شئٌ. . . اللهم إني فوضت أمري إليك وألجأت ظَهري إليك. . . ومضيتُ أنسابُ في أياميَ البائسة، حتى إذا كان الليلُ في أولِه مُذ أمس، أويتُ إلى بيت كتبي آخذُ كتاباً لا ألبثُ أُلقيه كأنْ بيني وبينه عداوةٌ أو حقدٌ قديمٌ.
فضِقتُ ثم ضقتُ وخَنقني خانقُ الضْجر واليأسِ، وغاظني ما غلبني على عقلي وإرادتي، فأهوبتُ بيدي إلى كتاب عزمتُ ألا أدعه، وإذا هو: (إغاثة الأمة، بكشف الغُمَّة، للمقريزي). وفتحتهُ وانطلقتُ أقرأ، فما أجوز منه حرفاً أولَ إلا وجدتُ الألفاظ تتهاوى في نفسي وفي عقلي، وكأنها تُقذفُ فيهما من حالقٍِ، حتى لَوجدتُني أسمع لها فيهما صلصلةُ ودوياً وهداً شديداً شديداً، كأن في نفسي وعقلي أبنية تنقضُّ وتتهدمُ في كفِّ زلزلة
وإذا بحر يموجُ لعيني أسمعُ هديرَه وزئيرهُ وزمجرة أمواجهِ في الريح العاتية، وإذا هو أحمرُ كالدم يَفُورُ ويتوثب، وإذا صرخة تخفت زمجرة الأمواج، وإذا هو هاتف يهتف بي: (قم إلى صلاتك، فقد أظلتك الفجر!!). فانتبهت فزعاً وإذا أنا أقلب الصفحة التاسعة(357/32)
والعشرين من هذا الكتاب، وإذا خطوط حمر قد ضربتها فوق هذه الأسطر: (ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بني آدم من الجوع، فكان الأب يأكل ولده مشوباً ومطبوخاً، والمرأة تأكل ولدها. . . فكان يوجد بين ثياب الرجل والمرأة كتف صغير أو فخده أو شئ من لحمه. ويدخل بعضهم إلى جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ، فإذا هي لحم طفل. وأكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت) أين يعيش أحدنا وهو يقرأ؟ هذه تسع ساعات يخيَّل إلى أني قضيت ثمان ساعات منها وأنا أقرأ هذه الأسطر القليلة أُقلبها لعيني فتتقلب معانيها في نفسي، إذ كانت تنزع في معناها إلى الآلام المتفجرة بدمي في قلبي، فلا يكون الحرفُ منها إلا أفكاراً تتسع وتتراحب وتتداعى وتتوالد ويَنسَخ بعضها بعضاً. ولو ذهبتُ أكتب ما قرأته في نفسي من هذه الأسطر، وما تحدثت به النفس من حديث أكل ثماني ساعات من أول الليل إلى مطلع الفجر لملأ ذلك ما يقع في كتاب مفرد، ولكن. . .
لماذا لا تكون هذه القسوة المتوحشة إلا من أعمال القلوب المتحجرة في بيوت الأغنياء والأكابر؟ ولماذا يكون أقسى القسوة في قلب المرأة الغنية، فتكون هي أعظم استهانة بجريمة أكل ولدها الذي ولدته؟ ولماذا يكون الفقير والفقيرة دائماً هما مثالُ الرحمة والحب والعطف والحنان؟ أليس الناس جميعاً - غنيُّهم وفقيرهم - سواء في هذه الحياة؟ بَلَى، ولكن. . .
ألا إن هذا المال نعمة من نعم الله التي استخلف الإنسان عليها في الأرض، وفي هذه الحياة الدنيا؛ ألا وإن المال عصام هذا الكون الممتلئ بأسراره العجيبة التي لا يقضى من أعاجيبها عجب، ألا وإنه للنظام الطبيعي الذي يجعل من قانونه سر الحياة الإنسانية التي لا تسمو إلا بالمنافسة والرغبة فيها والإصرار عليها، ألا وإنه لأعجب شيء في الحياة، إذ يكون هو كل شيء، ثم هو ليس بشي على الحقيقة، وإذ يكون في وَهْم للفقير سر السعادة؛ ثم يكون عند الغني المسترخي فلا يعرف به ظاهر السعادة. ألا إنه العجب والفتنة إذ يكون سر الحياة الإنسانية المدنية على الأرض، ومع ذلك فهو إذا ملأ الغنيّ أفرغه من إنسانيته، وإذا فرغ الفقير منه امتلأ إنسانية ورحمة وحناناً، ثم يكون بينهما أشياء في هذا وفي ذاك تختلط وتضطرب ويرمي بعضها في بعض حتى يصبح كل شيء فساداً لا صلاح له(357/33)
(أكثر ما يوجد ذلك في أكابر البيوت!) و (أكثر يفعل ذلك النساء) إنه ليس عجيباً ولكنه مؤلم، إنه ليس بعيداً ولكنه مفزع، إنه هو الحقيقة الدائرة مع معاني الثراء الغنى والترف والرفاهية، ولكنها الحقيقة الضارية المتوحشة التي انطلقت من قيودها حين أزَمتها الحاجة والقحط والجوع داء المعدة التي تتلوى أمعاؤها كما تتلوى الحية الجائعة على & المتجسدة في فريستها. ليس هذا هو كل شئ، وليس القحط وحده هو الذي يُضَرى عبيد المال فيأكلون بنيهم وبناتهم أكل الوحش الطاغي بطغيان حيوانيته التي تريد البقاء لنفسها، ثم لا تعرف غير نفسها، ولا تعبد إلا نفسها. إن كل أزمة تطلق في أعصاب الأغنياء - إلا رحم بك - وحشاً آكلا طاغياً مستأثراً لا يرى إلا نفسه ولا يريد البقاء إلا لنفسه. فإذا وقع القحط بين صديقين أحدهما غني كان صديقه طعاماً تفترسه الصداقة الغنية! وإذا وقع القحط بين حبيبين أحدهما ثري مترف تثاءب عنه يريد النوم لأنه شبع من حبه حتى تملأ! وإذا وقع القحط بين أخوين أحدهما غني، كان حق الرحم عليه أن يشرب ما بقي من دم أخيه يستولغ فيه حتى يَروي!
إن الترف والنعمة والكفاية، وأحلام الغنى وكنوز الثراء، إن هي إلا الماحقات الآكلات التي تمحق العواطف الإنسانية النبيلة حين لا ملجأ إلا إلى الخشونة والشدة والصبر وحقيقة الفقر. إن الفقراء هم أكثر الناس رغبة في النسل على ضيق رزقهم، والأغنياء أقل الناس إقبالاً عليه على ما يجدون من السعة. الفقراء اشد حزناً على من فقدوا من أبنائهم وأحبائهم، ولكن أولئك لا يحزنون إلا ريث يشعرون الناس أنهم حزنوا، ولئلا يقول الناس إنهم لم يحزنوا على أحبائهم. . . الأغنياء، الأغنياء. . . نعم هم زينة الحياة الدنيا، ولكن مع الزينة الخداع، ومع الخداع الضعف، ومع الضعف القسوة حين تجد ما يتلين لها أو يتساهل أو يستكين. . . أو يثق.
فمن صادق غنياً فليحذر، ومن آخى ثرياً فليتحصن، ومن عامله فليرهب، فإذا بلغ المرأة الغنية فأحبها فخيلت له أنها أحبته فوثق بها فقد هلك، وإنما هو ملهاة من ملاهي الترف إذا فقدت لذة اللهو به نبذته لما به
محمود محمد شاكر(357/34)
يا ابنة الشارع. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
على رسلك، يا ابنة الشارع، وادفني حزازات صدرك إن أنا انطويت عنك، فلقد لمستُ خواطرك أشياء جذبتني عنك
إن التاريخ قلبينا ابتدأ في الشارع، وشب واشتد في الشارع، وتوثقت بيننا أواصر الحب تحت شجرة وارفة في روضة أنف
ولج بنا الهوى فتساقينا أكؤسه على حيد الطريق تحت ستر الظلام في (الجزيرة) و (الزمالك) و. . . حيث لا حس ولا حركة
وصحوت - يا من أحب - من غفوتي، فإذا أنا إنسان تريدين أن تنفثي فيه روح الذئب. وأحسست مرارة تلك الخلس تتفجر في قلبي، فعزفت عنها
ثم أردتُ وأردتِ، فانطلقت إلى أبيك أحدثه حديث زواجي منك فما تمهل، وإلى أمك فشاعت النشوة في مفاصلها، وأنتِ تمهدين الطريق؛ فسميت على. . .
غير أني انطويت عنك حين لمست في خواطرك أشياء جذبتني عنك، فلا تحقدي علي، يا ابنة الشارع
ولما خرجت إلى الشارع - أول ما خرجت - أخذ زخرفه وازين وتلقاك في ابتسامة حلوة رقيقة؛ لأنك كنت زهرته اليانعة النضيرة، ونوره المتلألئ الوضاح
ورآك الشاب - أول ما رآك - فانبسطت أساريره، وأفسح لك من رقته مكاناً سامياً
وتيارى الشارع والشاب، كل منهما يحتفل بك فنوناً، وفي رأيه أنها ساعة من زمان، ثم ينقلب الطائر الغريد إلى وكره
ولكن شيطانيتك الثائرة أبت أن تلم من نفسها، فاندفعت إلى شر غاية حين سَركِ أن تغترقي الطرف وتسيطري على القلب
واستشعر الشارع فيك عاره فراح يقذف بك من جانب إلى جانب في بغض وكراهية، وعبث بك الشاب حين رأى فيك لهو نفسه وشغل فراغه، على حين قد أغضيتِ أنتِ
وحاولت أن أدرك عن غوايتك فأغلقت من دون حديثي مسمعيك، فانطويت عنك، فلا تحقدي عليّ، يا ابنة الشارع(357/35)
وأوضعت في عمايتك، وأنا أريد صلاح أمرك، وجئت تناقشين وتفاطنين وفي حديثك الزور، كأنه بعض هاتيك الأصباغ التي تموهين بها على الناس، وأنطلق لسانك يطمع في أن يدلل على أن المرأة هي نور الحياة وبهجتها وجمالها الساطع
وتبدت لي فلسفة المرأة الفجة في كلماتك الخاوية، وفي عيني أن المرأة عذاب القلب والنفس والعقل والدار جميعاً، لا يخلص الرجل من واحدة إلا ليرتدغ في واحدة
وسخرت من الدار، فسخرت هي من انصداع شملك وتشعب غايتك؛ وانفلتِّ من حدود المرأة، فانفجرت لك الحياة عن مأساة لا تنتهي، وأصبحت أضحوكة الشارع، لأنك تمثلين على مسرحه كل يوم مهزلة؛ وتصنعت للرجل فألفيت فيه الصاحب، وافتقدت فيه الزوج
ولمزت فتاة الدار فرقاً من أن تسمو عليك، فذهبتُ أثير فيك نوازع مكفوفة على أستل جماع رأيك، فقلت: (لا ريب ففتاة الدار هي في رأينا مطية الدار، وهي بنت الحجن، وهي عَيْر الحي و. . . ثم كيف تجد الزوج، وهي في غياهب البيت وظلام الحياة؟)
فقلت: وإذن ففتاة الشارع قد حطمت هذا القيد الذهبي لتبحث. . . لتبحث عن الزوج؛ وهي في بحثها تقارن وتختار اختياراً فاجراً، وتعرض على عيني الرجل الغريب، في سوق الزواج، محاسنها القبيحة وقبحها الفتان. ولا عجب إن هي ضلت الطريق ففقدت الدار والزوج معاً!
وقلت: إن اختلاط المرأة بالرجل يعلمها حكمة لا ينطلي عليها خداع الشاب ولا مكره ولا حيلته، وللشاب أساليب ملتوية يغتر بها الشيطانة. فقلت: يا سيدتي، إن الجدار سد يحول بينك وبين خير الشاب وشره
وقلت: إن المرأة تجد - خارج الدار - حياتها وعملها وكسبها. فقلت: لقد خلقت المرأة لتكون أماً، وليس في الشارع أطفال سوى اللقطاء
وقلتِ وقلتُ. . .
ثم أعيتني الحيلة فانطويت عنك لأنك ترفعت عن أن تكوني سيدة الدار، وفي رأيي أنك هويت لتكوني ابنة الشارع
أتذكرين يوم أن جئت لك بقناع يدرأ عنك العين المتطفلة النهمة؟ لقد كان صفيقاً هوناً ما، يا عزيزتي، فطرحته جانباً وأنت تقولين (لو كان رقيقاً!) فاستبدلت به غيره، غير أني رأيت(357/36)
الكراهية في ناظريك، فحبوتك غيره. . . ثم اشتريت أنت نقاباً يروق لك، فجاء يسخر منك لأنه لا يواري إلا ما يواري الأبيض والأحمر من مقابحك
وهذا الجورب الذي أرغمتك على لبسه كان موضوع جدال يحتدم مرة ثم يخبو، لأنك تعلمت في مدرستك التعنت في الرأي
لقد تلقنت في المدرسة علماً ألقى بك بين أحضان الشارع لأنه فتح أمامك باب الحرية، وهو أيضاً قد قذف بالشاب ليتسكع في تيهاء من أمره لأنه سد أمامه باب العمل
وهذا اللباس القصير، إنه يكشف عن شئ، ليتألق فيجذب إليك البصر
أفرأيت - يا صاحبتي - الزهرة تزهو بلونها لتجذب إليها الحشرة فتمتص رحيقها ثم تطير وقد قضت منها وطراً؟
لا ضير، فلقد صُم على الأمر وضلت فيك فلسفتي؛ فانطلقت التمس راحة نفسي وهدوء خاطري
وخلفتك من ورائي، في هذا الشارع، تضطرين بين آذى الحياة المتلاطم
ويا عزيزتي، هذه السيارة الجميلة التي أتأنق فيها، إنها من وحي غطرستك، فهل تجدين لذع فراقها؟
وهذه الدار الصغيرة قد رتبتها يدك على نسق ونظام لتكون لك عشاً آمناً فهل وجدت فقدها؟
وتلك الأيام الناعمة البهجة، أيام الهوى الغض، حين كنا نتلاقى عند الأصيل على شاطئ النيل، نتجاذب أحاديث الغرام ونفتن في أساليب الحب، وهذا الأمل الذي سطع في قلبك وقلبي. . . ثم خبا، أفتذكرين سطراً من هذا التاريخ؟
كلا، كلا! فأنا قد رأيتك بالأمس تسيرين إلى جانب شاب يخدعك وتمكرين به فعرفت أنك أنت ابنة الشارع، لا عهد لك ولا ذمة، ولا غرو فلقد خرجت إلى الشارع تفتشين عن الزوج
فهذا عذري إليك حين انطويت عنك وفي رأيي أن حرية المرأة هي فجورها، وأن خروجها من دارها هو فسقها فيا ابنة الشارع، كوني من تشائين إلا أن تكوني زوجة لي
(مشتهر)
كامل محمود حبيب(357/37)
من شجو الربيع
عطرٌ من الله. . .!
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
. . . ولَمَّا وصَلْتُ (القَصْرَ) كَبَّر خافِقٌ ... بِجَنْبَيَّ أوهَي حِكْمَةَ الجِنِّ جُرْحُهُ!
ورُوعَ لَيْلٌ لِلْهَوى ماتَ فَجْرُهُ ... وفي واحَةِ النِّسيانِ وريَ صُبْحُهُ!
وجُنَّ بِصَدْرِي بُلْبُلٌ ذَابَ شَجْوهُ ... عَلى فَمِهِ، وارْتَدَّ لِلرُّوحِ نَوحُهُ!
وشَقَتْ ضَبَابي هَالَةٌ لَيْتَ نُورَها ... = يُخَلَّدُ في آفاقِ عُمْرِيَ لَمْحَهُ
وكادَ يُزَاحُ السِّتر لَولاَ قَدَاسَةٌ ... تَعالَى بها عَنْ عَالمَ النَّاسِ جُنْحُهُ!. . .
فيا طائِراً هَدَّتْ يَدُ الرَّيحِ عُشَّهُ ... ونفَّضَ أحْلاَمَ الاليفَيْنِ دَوحُهُ
عَذَابُ الهَوى عِطرٌ مِنَ الله نافِجٌ ... يُطَهَّرُ آثاَء الشقِيِّينَ نَفخُهُ. . .
(ديوان المعارف)
محمود حسن إسماعيل(357/39)
صفحة من كتاب
مع الغروب
للأستاذ شكري فيصل
- 1 -
هذا منصرفي الآن من (المكتبة). لقد قرأت الفصل الطويل الذي كتبه (الطبري) عن (صفين). وخرجت منه دامع الطرف، حزين القلب، تعلو وجهي كآبة مرة. . . ولكن الدنيا المشرقة تريدني أن أضحك؛ فكل ما حولي جميل ناعم. . . إن صفحة السماء لتوحي إلى بكثير من المعاني؛ وأنها لتبعث في نفسي ألواناً من الحنان؛ وإني لأشعر بيد ناعمة طرية تدغدغ قلبي فيستكين لها وينبسط معها؛ وتشيع فيه بوارق الأمل. . . كأنها كلمات السماء تُلقي إليه في يأسه وخموله، فيصحو وينتفض ويثب ويهفو مع النسمات البليلة، ويتحسس هذا الجمال المبعثر هنا في أفق السماء وجنبات الأرض
. . . لقد طرق سمعي صوت الساعة الضخمة القائمة في حرم الجامعة، كجرس الكنسية!. . . كأنها كانت تنعى هذا النهار المدبر إلى الناس الغافلين. . . فأنوار الشمس الساطعة تستحيل شيئاً فشيئاً إلى أنوار باهتة ليس لها ذاك الجبروت ولا تلك القوة، والنسمات اللطاف تترنح في هذا الجو، والشجيرات القائمة على حفافي الشارع تبدأ رقصتها الفاتنة، وتثنِّيها الرائع، والعشب النامي يتماوج بكل فتوته الناشئة كأنه يشارك الكون نغمته المتسقة البارعة
- 2 -
. . . لشد ما ازدهتني هذه الأمسية الحلوة. . . فانطلقت معها أطوف في هذه (الضاحية الجامعية) وأنعم بالهدوء الذي يلفها بردائه الرفيق الرقيق في مثل هذه الساعة المتأخرة من النهار حين يفارقها ضجيج المحاضرات وجلبة الطلبة ورنين الأجراس، فلا تحس فيها تلك الحركة، ولا تجد لها ذاك الاضطراب. . . وإنما يغمرك إحساس رفيع من قدسية العلم، وسمو المعرفة، وجلال الطلب
. . . لقد أخذت أذرع هذا الشارع الجميل الذي تنسحب على جانبيه الحدائق، وتنبت في(357/40)
أطرافه الزهور؛ وتتغنى على شجيراته جماعات الطير. . . ولقد كان هذا الشارع إلى ساعات قريبة يمور بالحياة، ويفيض بالنشاط، ويتقد فيه العزم، ويودع طوائف من الطلبة، ليستقبل طوائف أخرى. . . ولكنه الآن ساكن هادئ. . . إني لأخطو فيه وحيداً ليس معي إلا هذه التأملات العميقة التي يثيرها في ذهني السكون الشامل. . . وإني لأهيم بعد. . . فأمضي حيث تقودني قدماي؛ لا آخذ جهة، ولا أحدد قصداً. . .
- 3 -
هاأنذا في منبسط من الأرض، ممتد واسع. . . تنطلق فيه صفحة السماء واسعة عريضة، كجنة الأمل؛ وتتراقص فيه الأرواح مرحة عابثة بسنابل القمح القريبة؛. . . لقد بعدت عن العمران القائم، والأبنية الضخمة. . . لكأني أخطو الخطوات الأولى في الريف. . . فأنا لا أسمع حركة (الترام)، ولا جلبة السيارات. . . وأنا لا أرى من برج الساعة، وقبة الجامعة، إلا القمة العالية التي تشبه رأس الصخرة الطافي على سطح البحر وليس من حوالي إلا مزارع وحقول، وتتبعثر فيها الأكواخ، وتمتد من حولها أبسطة العشب الندى
. . . يا لروعة المساء!. . . كانت الشمس تجمع خيوطها المتناثرة لتنحدر نحو الأفق البعيد. . . وقطع السحاب الرقيق تسربل أجزاء من السماء كأنها ثوب ممزق على جسم إنسانة فقيرة. . . والأكواخ المتواضعة تودع النور الحبيب لتغوص في لجج الليل. . . والأفق الزاهي يصطبغ بهذه الألوان العجيبة الماتعة. . . والدنيا كلها ترقب هذا الخط البعيد الذي تتصل فيه السماء بالأرض
. . . لقد كنت إلى حين أجفو أضواء الشمس، وأنأي عنها وأحتمي منها بالظلال. . . ولكنني الآن أتقرب منها وأتحسسها وألحق بها من مكان إلى مكان، كأني أرثي لها هذا المصير، وأخشى عليها سطوة الليل، وأتمنى لها ألا تزول؛ وأحاول أن أمسك بهذه الشعاعات. . . ولكنها تفر مني حتى لا تبقي منها إلا خيوط واهية على قمم الأشجار السامقة
وتقبل هذه الأشجار الأنوار الآفلة؛ وترتعش أغصانها من حمى الوداع. . . وتنطوي الشمس على نفسها قرصاً رائعاً في الأفق البعيد تلقى آخر نظراتها التي بللتها الدموع القانية على الأرض(357/41)
لطالما أعشت هذه الشمس عيوناً ونواظر؛ كانت تتجه نحوها تحاول أن تنظر إليها، ثم ارتدت عنها خاسئة حسيرة. . . ولكنها الآن في لحظتها الأخيرة تبيح للناس أن يحدقوا فيها فقد ركبها العجز. وما عليها من ذلك! وهي سجينة أسيرة في يد الليل يحاول أن يقذف بها في أحشائها العميقة!. . .
. . . ورقبت هذا الصراع الهادئ بين أضواء النهار وظلمة الليل. . . لقد جمعت له الشمس كل ما تستطيع. . . حتى هذه الأنوار البعيدة التي كانت تغطي رأس (أبي الهول) وقمة (الهرم). . . ولكنها لم تجد سبيلاً إلى النجاة؛ ولا يزال الليل يغير عليها. . . ولا يزال هذا القرص الذهبي يتضاءل ويتضاءل. . . والدماء الوردية تنسكب منه فتتناثر في أطراف السماء. . . لقد أضحى دائرة صغيرة آخذة في انحدار سريع. . . وإن الدائرة لتمس خط الأفق، ثم تغطس في خصمه الهائل. . . وتستسلم. . . وترسل نظراتها الأخيرة في ضراعة وداعة وحب. . . حتى إذا غامت فيه؛ كان جناحاها الهشيمان الممتدان على طرفيه، يضطربان ويهتزان كما يهتز المصباح الضئيل قبل أن ينطفئ
. . . وانطلقت في الدنيا نسمات سريعة كأنها كانت تحمل نبأ الصراع، ونهاية المعركة. . .
. . . وسكنت الطيور إلى أعشاشها تخاف على نفسها شر الليالي السود
. . . وأويت أنا إلى غرفتي مكدوداً. . . بعد الطواف الطويل
- 5 -
سينجاب الليل. . . وستشرق الشمس غداً على العالم. . .
وستتجدد الحياة في أضوائها الساطعة. . . ترى هل تنزاح الظلمات التي تملأ نفسي. . . وهل أخرج من هذا الليل الطويل الذي أخبط فيه. . . وهل يقدر لهذا القلب أن ينعم بالضوء والدفء والحياة المرحة؟!!
. . . ترى هل يقدر؟!. . نورك اللهم!. . .
(القاهرة)
شكري فيصل(357/42)
شبلي
قصة حب. . .
(يا شاعري: إنك تحكي ما في نفسي. . . فتعال في خطى
بطيئة وبيدك هذه الباقة الصغيرة تقدمها في صفاء. . .)
تختلط الينابيع بالنهر
وتنساب الأنهار من المحيط
وتنزل الرياح القادمة من السماء
إلى النسمات الوادعة.
ليس في الحياة من يحيا وحده
كل ما فيها يمتزج
بقانون أزلي ثابت
فلم لا نكون: أنا وأنت
أنظري الجبال تقبّل السحب
والأمواج يعانق بعضها بعضاً
والزهرة الصغيرة لن يغتفر لها أحد
أن تتناسى أخاها الشقيق
نظري. . .
ضياء الشمس يلامس الأرض
ولأشعة القمر تقبل المحيط
هذه القبلات كلها ما نفعها
إذا لم تقبليني أنت.
م. وهبة(357/44)
دعوة الرسالة إلى تجديد الدين والأزهر
للأستاذ محمود أبو رية
لما قرأت مقالكم الممتع (فقهاء بيزنطة) في العدد 352 من الرسالة، أعجبني أيما إعجاب ما وصف قلمكم البليغ من الأمور التي يجادل فيها مشايخنا فشغلوا الناس بها، وأوقعوا الفرقة بينهم من أجلها؛ ذلك بأن من يطلع من أهل البصر على أكثر أبحاث شيوخ الدين عندنا ومجادلاتهم، سواء أكان ذلك في مجتمعاتهم أم على صفحات مجلاتهم لا يصدق أنهم يعيشون في هذا العصر، أو أن الدين الذي ينتسبون له ويناقشون في مسائله هو الدين الإسلامي الذي جاء به محمد (ص). ولكني - ولا أكتمك الحق - قد وقفت عند جعلكم البحث في أمر تسوية القبور أو إقامتها من هذه المباحث البيزنطية، لأن هذا الأمر إنما يتصل بأصل الدين الإسلامي وهو (التوحيد) الذي هو أصل رسالة محمد (ص) وقاعدة دينه، بل هو أول ما يدعو إليه كل رسول بقوله: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) وذلك بأن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغيره، وروح التوحيد كما لا يخفى على كل مسلم صحيح الإيمان، هو إخلاص العبادة لله تعالى والاستعانة به والتوكل عليه والنذر له، وما نكب المسلمون بشيء نكبتهم بالقبور المشرفة والأضرحة العالية فقد أصابتهم من نواح كثيرة في دينهم ودنياهم. أفسدت عقائدهم فأصبحوا كما قال الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)، وأذهبت أموالهم فيما لا خير فيه ولا نفع منه وذلك بما يبذلونه في إقامة القباب ورفع الأضرحة؛ وشلت قواهم، وكبلت هممهم، وهذه الناحية هي أشد ضرر اجتماعي ضرب في مفاصل الأمة، ذلك بأنهم قد تركوا الأسباب التي من كسبهم ودابروا سنن الله في عملهم، تلك السنن والأسباب التي أخذت بها الأمم، فكانت سبب نهوضها ومرقاة سعادتها. أرتكنوا على أصحاب هذه الأضرحة ليقوموا بشؤونهم ويقضوا من حاجهم حتى صرنا في ساقة الأمم لا حول لنا ولا قوة، ورحم الله حافظ إبراهيم في قوله يخاطب الأستاذ الإمام محمد عبده:
إمام الهدى إني أرى القوم أبدعوا ... لهم بدعاً عنها الشريعة تعزف
رأوا في قبور الميتين حياتهم ... فقاموا إلى تلك القبور وطوفوا
وباتوا عليها جاثمين كأنهم ... على صنم الجاهلية عكف(357/45)
ويرحمه الله إذ قال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات
للسيد البدوي ملكٌ دخله ... خمسون ألفاً والحظوظ هبات
وأنا أعذب في الوجود وليس لي ... يا أم دَفْر ما به أقتات
من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أرجائها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتقرأ الآيات
ويقال هذا القطب باب المصطفى ... وسيلة تقضي بها الحاجات
وقفت عند هذا القول في مقال صاحب الرسالة وعجبت أن يصدر منه وهو جد خبير به وبضرره حتى قرأت مقاله البليغ (العقيدة الساذجة)، ورأيت في القول المحكم عن الضريح الذي أنشأه بالعراق السردار طاهر زين الدين الزعيم الهندي لعلىّ رضي الله عنه؛ فوجدت قلمه قد ضرب في الصميم ومسَّ أصل الداء الذي أصاب بلاد الإسلام جميعاً وقلت: لقد اقترب صاحب الرسالة من العمل الحق للدين - لما لم يجد أهله يعملون له - بعد أن كان أكثر عمله للأدب، ولا غرو فإن الدين الإسلامي لكما قال هو: (ينفرد عن سائر الأديان باعتماد دعوته على الأدب وقيام معجزته على البلاغة) ثم وددت لو أني قرأت في هذا المقال أدلة النهي عن إقامة القبور وزخرفتها من لسان صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ومن عمل رضي الله عنه في مثل هذا الأمر نفسه لا ليشد مقاله بها فإنه شديد متين ولكن ليعرف المتعصبون والقبوريون أن ما تدعو إليه الرسالة إنما هو دعوة محمد (ص) فلا يفتروا الكذب بأنه رأى مفتجر لا يؤيده دليل ولا يظاهره نص. كنت أود أن يقرأ الناس في هذا المقال الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني على رسول الله (ص)؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبر مشرفاً إلا سويته - وفي رواية ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)
وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم ونقله عنه النووي في شرح مسلم أنه رأى الأئمة بمكة يهدمون ما شيِّد من القبور ويسوونها بالأرض عملاً بهذا الحديث، والحديث الآخر الذي رواه مسلم عن جندب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول:(357/46)
(ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)
وما أخرج ما لك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
نعم. وددت ذلك وتمنيت لو أن صاحب (الرسالة) قد نهض كذلك، وهو ذو القول البليغ المسموع والرأي الموفق المقبول فواصل الكتابة في هذا الأمر، حتى جاء العدد 355، ورأيت صدره قد تحلى بمقاله (في سبيل الأزهر الجديد)، حينئذ طابت نفسي وانشرح صدري وقلت: لقد وضعنا أيدينا على المفتاح الإصلاح، لأن هذا المقال، إنما هو الصيحة المباركة لا في سبيل تجديد الأزهر فحسب، ولكن في سبيل تجديد الدين.
لقد ضرب قلمكم البليغ في صميم الإصلاح الديني فقال: إن إصلاح الأزهر من ناحية الدين إنما هو في العودة إلى استنباط الدين من منابعة الأولى (من صريح الكتاب وصحيح السنة)
إن الدعوة التي تقوم بها الرسالة اليوم هي التي اتبعها خبر القرون واستمسك بها من بعدهم العلماء المحققون أمثال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما. وهي التي وضع بذرتها في العصر الحديث جمال الدين وأنبتها الإمام محمد عبده، وقام على تربتها السيد رشيد رضا حوالي أربعين سنة والتي أفصح عنها بكلمة حكيمة يجب أن تكون أساس كل إصلاح ديني في هذا العصر وهي:
(أقول في الدين بقاعدة الإمام مالك وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن، وبيان السنة النبوية له، وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع ومراعاة مصالح الأمة العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها؛ وأما ما فوضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم ووكله إلى علمهم وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله (ص): (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه
أما هذا فأنا أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها وإلى ما لا يعرف له حد من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها)(357/47)
هذا هو منهج الإصلاح الديني الذي بينه أفصح بيان السيد رشيد رضوان الله عليه
فسر يا صاحب الرسالة بتوفيق الله في هذا الطريق حتى يتجدد الدين ويبلغ مكانته اللائقة في هذا العصر وفي غيره، وبذلك تكون الرسالة قد نهضت بخير عمل ثوابه عند الله أكبر ونفعه للناس عظيم
(المنصورة)
محمود أبو ريه(357/48)
من وراء المنظار
في عيد الفسيخ
أرجو ألا يحمل القارئ تسميتي هذه على المزاح، فلست لعمر الحق مازحاً، وما أستطيع أن أسمي الأشياء بغير أسمائها حتى في هذا الزمن الذي يسمى كل شئ فيه بغير اسمه
وإنما تسمى الأعياد بأبرز خصائصها. على هذا النحو كان عيد الأضحى، وعيد الفطر، وعيد الميلاد. وليس في القراء من يستطيع أن يجادلني في أن الفسيخ قد أصبح ابرز خصائص ذلك اليوم الذي نسميه شم النسيم؛ فليت شعري وهذا هو شأن الفسيخ فيه لم لا نسميه عيد الفسيخ، وقد تلاشى في جمال الفسيخ كل جمال؟
الأصل في هذا اليوم أنه عيد الربيع، عيد الورد، عيد النسيم الذي ينفح بالعطر ويزخر بالحمال، ولست أشك في أصله؛ ولكني لست أدري ماذا جعل الفسيخ فيه يطغى على الزهر؟
ولعمري ما أرى أي رابطة بين هذا وذاك، وليس من ينازعني حتى المولعين بالفسيخ أنفسهم أن هذا شئ وذاك شئ آخر أبعد ما يكون عنه عنصراً ومعنى؛ وإن كان في الناس من يقول: (يخلق من الفسيخ شربات)
درت بمنظاري فحار المنظار أو حارت عيني من وراء المنظار، ماذا تسجل وماذا تدع؟ أأستطيع أن أمر، دون أن أضحك، بهؤلاء الذين جلسوا للطعام على بُسُط الربيع، فما كان أمام الكثرة المطلقة منهم إلا هذا الصنف من الطعام الذي يجب أن يكون آخر ما يؤكل خارج المنازل، إن جاز أن يؤكل في أي مكان قط؟ وكان يبعث ضحكي من هؤلاء أنهم يعانون رهقاً شديداً في تناوله، ومع ذلك فهم يقبلون عليه في شراهة جعلتني أعتقد أن أسم الجمال عندهم في هذا اليوم هو في ذلك (السلخ) وذلك (النتش) وما يصحبهما من تلويث الأيدي والملابس فضلاً عن تلويث الجو كله برائحة احتبست منها أنفاس الزهر! دع عنك مخلفاته الثمينة التي تزيد بتناثرها هنا وهناك هاتيك البساتين جمالاً على جمال!
وما كان هذا المنظر وحده هو الذي انقبضت له نفسي، فلقد كان ما رأيت في النهار كله دليلاً لا يكذب على أن الناس ما خرجوا من دورهم لاجتلاء جمال الربيع والاستمتاع بصفاء الربيع، وإنما جاءوا ليشوهوا جمال الربيع عامدين بكل ما في وسعهم من أسباب(357/49)
التشويه
على أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء (الأفندية) الذين تحلقوا على الحشائش فما خفت لهم صوت منذ جلسوا، وما جرت ألسنتهم إلا بكل عوراء مخزية من النكات والحكايات؛ حتى لعبت برؤوسهم بنت زجاجاتهم فازدادوا نكراً وقحة وعلى جوانبهم أسر فيها أوانس وسيدات؟
وعلى أي وضع من أوضاع الذوق والجمال يعتبر منظر هؤلاء الشباب المتعلمين الذين يأخذون السبيل على كل غادية ورائحة، ولا يتنادون إلا بأشنع السباب وأوقح الأسماء والذين لا يطربهم أكثر من عبارات السب توجه إليهم ممن يغزلن (ويعاكسن)؟
ثم ما هذه (الشلل البلدي) الذين اصطحبوا من اصطحبوا ممن كن وإياهم على موعد في هذا اليوم الجميل فجاءوا وجئن يضيفون إلى معاني جماله هذا المنظر المخزي البغيض؟
بل ما هذا الأفندي الوجيه الذي خلع سترته وألقى بطربوشه ووقف يرقص في حركات بهلوانية وحوله من يصفق له ممن يعرفونه ومن لا يعرفونه، وهو لا يزداد على التصفيق إلا جنوناً وانتشاء، ثم هو لا يفتأ يعاود حركاته كلما استخفه التصفيق ممن أولعوا باستخفافه؟ وما هؤلاء الشحاذون الذين انتشروا هنا وهناك، فكانوا أثقل على الهادئين من المهرجين ومن الذباب ومن رائحة الفسيخ؟ وما هذا الضجيج، وما هذه الفوضى التي تلاشى فيها جمال الربيع وصفو الربيع واستخذى لها وجه الربيع، حتى لو استطاع ربيعنا لبحث له عن أرض غير هذه الأرض، وناس غير هؤلاء الناس!
رأيت هذا، فذكرت يوم شم النسيم في القرية، وطاف برأسي عذارى الريف يسبقن الفجر زرافات إلى الترع فيستحممن ويملأن جرارهن ويغطينها بالريحان والنوار، وبعدن مغنيات ضاحكات تنفحهن أنفاس الفجر الندية الرخية، وترمقهن باحتشام عيون الشبان في طريقهم إلى شجر التوت وفي أيديهم الريحان والسعد والنعناع والورد، فلا يكون بين هؤلاء وأوليائكن إلا الابتسامة الحلوة أو التحية العفة، ويكون نهارهم ونهارهن فيضاً من الجمال والهدوء والانبساط، ومما شاءوا وشئن من هوى عذري تبقى ذكراه وذكرى المسرة في نهاره سحر العام كله.
(عين)(357/50)
النقابات الإسلامية
للأستاذ برنارد لويس
ترجمة الأستاذ عبد العزيز الدوري
- 3 -
انتشرت حركة الأخوة بسرعة كبيرة في المدن والأرياف - بالتكتل والكرم - كدستورهم، وطبقة أصحاب الحرف كأساس اجتماعي لهم، وقتل الطغاة وصنائعهم كواجب من واجباتهم؛ فكانت حركة اجتماعية سياسية دينية عسكرية في نفس الوقت. وقد لاحظ أحد الزائرين في عهد متقدم أن أعضاء كل جمعية من جمعيات الأخوة كانوا أصحاب حرفة واحدة. ولابد من أن الاتحاد التام لجمعيات الأخوة مع الطوائف قد حصل في زمن متقدم، وربما كان ذلك في بدء حركة الأخوة. كما أن حركة الأخوة لم تكن مجرد تنظيم لأصحاب حرفة واحدة، وإنما جعلوا واجبهم حفظ العدل ووقف الظالم عند حده، واتباع قانون أخلاقي وديني، وتنفيذ واجباتهم العسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم، ولم تكن العضوية مقصورة على المسلمين فقط إذ نجد عدد المسيحيين عظيماً جداً في طور متأخر
وهكذا تحقق في حركة الاخوة لأول مرة اتحاد الطوائف والفتوة والطرائق الدينية. وقد أتى كورد لفسكي ببينة ممتعة تؤيد تأثر الطوائف بالنفوذ الإسماعيلي إذ يلاحظ الأستاذ أثراً قوياً لآراء ابتداعية (لا توافق قواعد الإسلام) عند الأخوة، ويرجع أصل ذلك إلى إخوان الصفا. ويذهب (كوبرولو) إلى أبعد من ذلك ويؤكد أن الأخوة كانوا في الحقيقة متطرفين ملحدين في بدعتهم وخروجهم وأنهم من طراز القرامطة أنفسهم
ولدينا وصف هام للأخوة في الأناضول ورد إلينا في رحلة ابن بطوطة من أهالي طنجة زار الأناضول في القرن الخامس عشر الميلادي
وبظهور السلطنة العثمانية وتوحيدها فقدت الأخوة كثيراً من سلطتهم ونفوذهم، وبعد مقاومة عنيفة غير ناجحة اضطروا إلى التخلي عن مهمتهم السياسية والعسكرية، ولكنهم لم ينحطوا أبداً إلى درجة أصحاب حرف عادية فقد استمرت بينهم روح العصر الأول. وحافظت الطوائف حتى القرن العشرين على حياة روحية داخلية وقانون أخلاقي(357/52)
وامتزجت نظم الطوائف والفتوة والأخوة في الأناضول بسرعة وتم ذلك في كل البلاد الإسلامية المتوسطة (مركزاً) في القرن الخامس عشر. وقد جاءت معظم وثائقنا عن النظام الداخلي لهذه الطوائف بوساطة طوائف الفتوة. فكان لكل طائفة قانون يحتوي على قواعد وعادات وشعائر يتلى شفهياً عادة. وكان هذا القانون يعرف بالدستور (كلمة فارسية معناه: إذن. مؤخراً. نظام) وكانت تكتب هذه القوانين في بعض الأحيان وقد وصلنا عدد كبير من هذه الكراريس ترجع إلى القرن الرابع عشر وما بعده. ويعتبر كتاب الفتوة أو (فتوت نامه) كما تسمى هذه الكراريس بالعربية والتركية على التوالي مع عدد من كتب الرحلات والجغرافيا المصدر الأساسي لمعلوماتنا وتتألف جميع هذه الكتب تقريباً حسب خطة واحدة من ثلاثة أقسام. القسم الأول يحوي أساطير تتعلق بأصل الحرفة ومغامرات مؤسسها الذي تنتمي إليه، وهي تعطى عادة حلقة من التنشيئ مثلاً: الله علم جبريل، جبريل علم محمد، محمد علم علياً، عليّ علم سلمان الفارسي، وسلمان علم الأبيار (وهم حماة أصحاب الحرف حسب تقاليدهم) والأبيار علموا الفروع (وهم الحماة الثانويون للشعب المختلفة لأصحاب الحرفة الواحدة). وهؤلاء الفروع علموا بدورهم رؤساء الأصناف العاديين. وهذه الأساطير تظهر عادة تأثيراً قوياً للإسماعيلية والصوفية. القسم الثاني: يحوي عادة قائمة بأسماء الأبيار والفروع لمختلف الحرف، وهؤلاء عادة أشخاص اقتبسوا من التوراة والقرآن ومن التاريخ الإسلامي، وهكذا نجد آدم حامي الفلاحين والخبازين، وشيت حامي الحياكة والخياطين، ونوح حامي النجارين، وداوود حامي الحدادين والصياغ وإبراهيم حامي الطباخين وإسماعيل حامي صناع الأسلحة. والقسم الثالث يحوي التعاليم لتثقيف المبتدئين، والأسئلة فيه تظهر اتصالاً قوياً بآراء الدراويش. ويمكننا من هذه الكراريس (كتب الفتوة) أن نصور نظام الطوائف لحد ما. ويحسن بنا أن نتذكر في عملنا هذا أن وثائقنا جاءت من حقل تاريخي يمتد منذ القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين ويشمل كل البلاد الإسلامية. ومهما كان التغيير قليلاً خلال القرون، فإنه يوجد تباين محلي عظيم. لذا سنحاول أن نعطي صورة شاملة مع ملاحظة الفروق الأساسية تبعاً للمحل والزمن
يرأس الطائفة الشيخ ينتخبه الأساتذة من بين رجال الحرفة، وبعد انتخابه يكون حاكم الطائفة الأوحد ويجمع وظائف رئيس وأمين صندوق وكاتب، وهو (أي الشيخ) موجود في(357/53)
جميع الطوائف الإسلامية وفي بعض الطوائف مصر في القرن السادس عشر الموصوفة في (مخطوط كوثا) ونجد له مساعداً، وهو النقيب، ومنزلته بالنسبة إلى الشيخ (كمنزلة الوزير من السلطان) ويظهر أنه كان رئيس التنفيذ لأوامر الشيخ ومنظم الحفلات أيضاً. ويليه الاختيارية أو المسنون بين الأساتذة الطائفة يتعاونون معه على إدارة الطائفة؛ ثم يأتي الأساتذة ويدعى الواحد عادة أسطى أو أحياناً (معلم)، وهم يشكلون القسم الرئيسي من الطائفة. أما الصانع فلا يلعب دوراً هاماً في الطوائف الإسلامية ولا وجود له عادة إذ يكون الانتقال من مبتدئ إلى أسطى رأساً؛ ويوجد في بعض النقابات دور وسط يدعى العامل في خلاله خلفه أو خليفة، وهذا الدور وقتي فقط
وتتم الحلقة بالمبتدئ وفي أغلب الحالات لا يحدد وقت الدور الذي يقضيه المبتدئ ولا يطلب منه صنع شئ مثالي متقن جداً بالمعنى المفهوم عند الأوربيين. فزمن الدراسة والإجازة يعين من قبل الأستاذ الذي يشتغل معه المبتدئ. وتختلف النصوص في مسالة تطبيق النظام فيقول البعض إن الشيخ يطبقه أو ينفذه منفرداً. ويقول آخرون إنه يفعل ذلك بمساعدة الاختيارية
هناك نوع آخر من التنظيم في الطوائف الأناضولية المتأخرة وصفه كورد لفسكي إذ يطلب هنا من المبتدئ قضاء ألف يوم ويوم في هذا الدور. كما أنه لا يأخذ في هذا الدور أي أجر ولكن له الحق أن يحصل على بعض المكافأة (البقشيش) ووليمة عند انتمائه إلى الطائفة، ويدربه أستاذ في شئون حرفته كما يحصل على دراسة أخلاقية في الزاوية في نفس الوقت. وإذا تتلمذ الجراق لأستاذ معين، فعليه أن يبقى مع أستاذه ولن يقبله أستاذ آخر كتلميذ له. وفي نهاية هذا الدور يطلب منه عمل شئ مثالي متقن في صناعته ثم يجاز في حفلة عامة من قبل - الأصناف باشى - أي شيخ الحرفة، وال - يكيت باشلرى - أي الاختيارية، وبعد هذا يصبح خلفه ويجب عليه أن يبقى ستة أشهر على الأقل وبعد انتهائها يستطيع أن يمارس حرفته كأستاذ - وفي هذا يساعده أستاذه وغيره من الأساتذة من الوجهة المالية عادة.
وترأس الطائفة هيئة تدعى لونجة هيئتي تتشكل من شيوخها أي الرجال المسنين ويكون القرار النهائي للرئيس الذي ينتخب عادة لتقواه. وتجتمع الهيئة مرة كل أسبوعين، وينفذ(357/54)
الأوامر والعقوبات الجاويش أوال - أوش باشي - وتحرص الطوائف كثيراُ على كيفية نوع المنتج ويعاقب صاحب الإنتاج الرديء بطرده مؤقتاً من الطائفة تشتري المواد الأولية تحت رقابة الشيخ، ولأصحاب الحرفة الفقراء حق الأقدمية في هذا على الأغنياء، ويعقد اجتماع عام سنوياً.
يمكننا أن نلاحظ الدور الهام الذي يلعبه اللباس الخاص لرجال الطوائف في حياتها. فميزة الفتوة الظاهرة في أوائل عهدها كانت السروال، ويتكلم الكاتب العرب عن لبس السروال كعلامة للانتماء إلى الفتوة، ثم أصبحت هذه العادة متبعة في الطوائف، وصارت حفلة الانتماء إلى عهد قريب تتصف بارتداء بعض الملابس: والسروال والشد والحزام والبشتمال أو الصدرية. هي من الأهم بين الملابس.
لدينا وصفان مفصلان للطوائف الإسلامية يستحقان الفحص كل على انفراد أولهما وصف في رحلة سائح تركي يدعى - أوليا جلبي - الذي صنف قائمة مفصلة بأسماء الطوائف وهيئات أصحاب الحرف في أوائل القرن السابع عشر بناء على طلب السلطان، وفي هذا المؤلف نجد لأول مرة وصفاً كاملاً لنظام الطوائف في مدينة إسلامية. ويبدأ أوليا جلي وصفه للطوائف بفتوت نامة - كتاب الفتوة - الذي يظهر أنه نص منقول يحتوي على الأساطير والتعاليم الاعتيادية وكذا وصفه حفلة الانتماء إلى الطائفة. أما تركيب الطائفة الذي يحويه الوصف فهو الشيخ الرئيس) والنقيب (نائب الرئيس) والجاويش والأوسطة (الأستاذ) ثم الشاكرد (المبتدئ). أما الصانع أو العامل البسيط فيلاحظ أنه لا ذكر له.
ثم يعدد (أوليا جلبي) جميع الطوائف الموجودة تحت سلطة لملالي (جمع مُلاّ) الأربعة في القسطنطينية مع عدد حوانيتهم برجالهم وشيوخهم إذ ينقسمون إلى سبع وخمسين شعبة تحتوي بمجموعها على ألف طائفة وطائفة تحوي الشعبة الأولى طوائف لجواويش (ج جاويش) وموظفي البوليس والغلمان والانكشارية لجدد (أكم أو غلان) والزبالين والقندلفتية (حفار القبور - الحانوتية -) وعمال المناجم، والبلطجية والأحداث والنقاش. وفي المعارض العامة يتقدم هؤلاء في السير لأن من واجبهم تنظيم أو تسوية الطرق التي يسير الآخرون بعدهم. أما الشعبة الثانية فهي تحت إدارة رئيس الطوائف - الذي عين لهذا المنصب من قبل السلطان محمد الفاتح (1451م - 1481م) وهي تحتوي على أصناف(357/55)
العسس والشرطة والجلادين، واللصوص، وقطاع الطرق، وزمرة المسخرين في العسكرية أو البحرية) وسواس الخيل، وممرني الخيل، الحرس. ويبين أوليا أن أصناف اللصوص، وقطاع الطرق، كذلك المفلسون وغيرهم من وضيعي الأخلاق لا يظهرون في المعارض العامة، ولا يعرفون شخصياً، ولكنهم يدفعون خوة (ضريبة) لرئيسي الشرطة المدعوين (أسس باشي) (وصوباشي)
لا يتسع المجال هنا للنظر في وصفه للسبع والخمسين شعبة، ولنلاحظ كمبدأ عام أن كل شعبة يرأسها شخص واحد، وهو عادة رأس الطائفة المهم في الشعبة ووظيفته أرفع وظيفة. أما الشعب القليلة التي يترأسها موظفون كـ (صوباشي)، فهي مستثنيات، والسبب هو كون الحرف نفسها رسمية أو شبه رسمية، وتعمل الطوائف عرضاً تاماً على هيئة استعراض مرة واحدة سنوياً، ووصفه أوليا كما يأتي: (يبدأ الموكب الملكي بالسير وقت الفجر ويستمر الموكب في السير طول النهار، حتى الغروب، يفتتح الاستعراض من قبل الجاووش لر المسمى الآي جاويش ويناهز الموكب ألفي رجل والكل مدجج بالسلاح كأنه بحر زاخر، ومن العادة المتبعة أن كل طائفة عند الرسول قرب الحديقة الجديدة أمام تذكار خسرو باشا تعرض نفسها أمام قاضي استانبول لأنه صاحب السلطة لتفتيش جميع الأوزان والمقاييس، وجميع الطوائف. وهناك قاعدة أخرى وهي أن كلا من هذه الطوائف يهدي إلى قاضي القسطنطينية البضائع التي عرضوها في معرض عام. ولكن بعض هذه البضائع كان يخفى بهذه المناسبة، وبعد تقديم الاحترام لأول حاكم في العاصمة تصحب الطوائف رؤساؤها إلى محلاتها المختلفة وينصرف كل إلى بيته. وتتوقف كل تجارة وحرفة في القسطنطينية بمناسبة هذا الاستعراض لمدة ثلاثة أيام يملأها ضجيج وفوضى الاستعراض). ويظهر أن أهمية عظمى كانت تعلق على نظام الأقدمية (في السير). ويعطي أوليا جلبي وصفاً ممتعاً لنزاع من هذا القبيل (أي حول حق الأقدمية) بين. القصابين وبين تجار مصر، ثم صدر الحكم النهائي من قبل السلطان في جانب التجار.
(يتبع)
عبد العزيز الدوري(357/56)
رسالة الشعر
هل بعد الشباب شباب؟
للأستاذ حسين شفيق المصري
أبعد اكتهال في الضلال صواب ... وهل صادقٌ بعد المشيب متاب
أرى الشيخ من بعد الغواية زاهدا ... كما خاف حراس الكروم غرابُ
تشوب له الغادات بالسُّخر ودَّها ... ويسخو على جُلاّسه ويُعاب
فيهلك ما يقني ويمضغ حسرة ... لها في اللهى بعد السُّلافة صابُ
ويعتزل اللذاتِ في ثوب راهب ... ومن تحته للمخزيات ثياب
فينهض في المحراب يسأل ربه ... ثواباً، وما للمفسدين ثواب
وفي نفسه عند السجود لو أنه ... يتاح له في الموبقات وثاب
وقد يتمنى لو يُنيبُ، وبينه ... وبين فنون المغريات جِذاب
فلا هو للدنيا، ولا هو ديِّن ... وقد مات، لولا جيئةٌ وذهاب
ويا رُب حي يخفض الذلُّ رأسَهُ ... وميت يُعلَّى قبرُه ويهابُ
ألا لو درى الأشياخ في زمن الصبا ... بعقبى الهوى لاستدبروه وآبوا
وشقوا إلى العلياء كل مخوفة ... تشق رؤوسٌ عندها ورقاب
وكائن ترى من مُترف ورِثَ القُرى ... وركن الحجي فيما لديه خراب
تطير به الأهواء حتى ينوشَهُ ... من الفقر في جو الرفاء عُقاب
وآخر ضاو مسَّهُ اليُتم بالطوى ... ودارت به الأيام وهي غضاب
فسار على درب الشباب إلى المنى ... وئيداً، فما استعصى عليه طِلاب
وخالس عيشَ الكدِّ ساعاتِ لذةٍ ... تعيد صفاَء النفسِ حين تُشاب
فلما دنا من شيبه بشبابه ... تربع في دست عليه حجاب
فتى العصر هل بعد الشباب شباب ... إذا غزلٌ ولى به وشراب
أكل الصِّبا حب ولهو ونشوة ... وهجر وشكوى لوعةٍ وعتاب
أفي كل ناد ملعب ومجانة ... وفي كل ليل صبوة ودعاب
أتذهب أيام الشباب على الهوى ... أليس لأيام المشيب حساب(357/58)
شبابك هذا فرصة إن تركتها ... فليس لها بعد المضي مآب
وليس لمجد في الفتون شريعة ... وليس لجاه في المجون كتاب
فخذ في سبيل السابقين إلى العُلا ... وليس لها غير الجهادِ ركاب
ولا تنسَ والأيام خُضْرٌ وريقة ... نصيبَك منها والغصُونُ رِطاب
فإن كان حب فلتصنه نزاهة ... وإن كان لهو فليزنه صواب
ألم ترني أبصرت بعد عمايتي ... وما زال مغشًّياً عليّ حجاب
كما إنجاب ليل في فلاة فسيحة ... فأخفى ضياء الشمس عنك ضباب
كشأنِ صحاب عاصروني مع الصبا ... فشبت على دين المجون وشابوا
قضوا في حوانيت الشراب شبابهم ... فلما علا الشيبُ الرؤوس تصابوا
كأن بهم وهناً يصد عن العلا ... وأعوادهم رغم المشيب صِلاب
وداعي الهدى لا يسمع الشيخ صوته ... ولكنه يدعو الفتى فيجاب
حسين شفيق المصري
-(357/59)
لقاء. . .
للأستاذ حسن حبش
يا لَحْظَةً أَفْدِيكِ بالخُلْدِ ... جِئْتِ العشيَّة دُونَ ما أقَصْدِ
أبْصَرْتُ فيكِ أَشِعَّةَ المجْدِ ... وشَذَى الرَّبِيع، ونفْحَة الورْدِ
هِيَ لَحْظَةٌ جَمَعَتْ فؤاَدَيْنِ ... رَبَطَ الهَوى بَعْضاً إلىَ بَعْضِ
بَعْدَ الفِرَاقِ ولَوعَةِ البيْنِ ... كانَتْ شُعَاعَ اللهِ في الأرضِ
خفق الفُؤَادُ لِطَلْعَةٍ عَكَسَتْ ... نُورَ الخُلودِ وبَدَّدَتْ ضَعْفي
مَدَّتْ يَداً فِيهاَ المُنَى جُمِعَتْ ... يا لَيْتَ ثَغْرِي كانَ في كَفِّي
أنْتِ الحَيَاة لِشَاعِرٍ عَاشِق ... جَعَلَ الجَمَال إلههُ السَّامِي
يَهْفُو إلىَ النهْرِ الدَّافِقْ ... هَيْهَاتَ يَرْوي قَلْبَه الظَّامِي
أَقْسَمْتُ أَنَّكِ مَشْرِقُ الحُسْنِ ... ورَبيعُهُ النَّضَّاح بالأمَلِ
ورَأيْتُ أنَّكِ دُمْيَّةُ الفَنِ ... سُكِبَتْ مِنَ الألْحانِ والْقُبلِ
أَأَظَلُّ في دنيايَ ظَمْآناً ... والخَمرُ في كأسِي بيُمْنَاياَ؟
وأَظلُ أَقْضي العُمْرَ حَيْرانَاً ... والنُّورُ أَنتِ، وأنتِ دنْيَايَا؟
أًمسي ومَا أمْسِي سِوىَ لَحْنِ ... قد وَقَّعتْهُ أَناملُ الْحُبِّ
فشربْتُهُ لَهْفَان بالأذْنِ ... وجَمْعُتُه سَكْرَانَ في لُبِّي
يا ذَلِكَ الأمْسِ ولَّى ... مَا كنْتَ مِنْ ذَيَّالِكَ الزِّمَنِ
ودَّعْتُ فيكِ أَمانياً هَلاَّ ... أبقيتَ لِي ذِكرى سِوىَ الشَّجَن
يا خافقاً في الصَّدْر ما بَرِحاَ ... يَهفو إليَ المجْهولِ من دَهرهِ
ما أنتَ أولُ طاَئرٍ جُرِحَا ... أو ضلَّ مَسلَكهُ إلى وكرِهْ
أيُرِيش زُغبَ جَنَاحك الدَّمْعُ ... هَيْئَاتَ مَا لِلْدَمْعِ مِنْ جَدْوى
فَخُذْ اليقينَ فِيهِ دِرْعُ ... ودَعِ البُكَاَء ودَائمً الشَّكْوى
إن تًبْكِ تُذْهبْ رَوعَةَ الأمسِ ... وجَلاَلَهُ الباقي إلى الأبَدِ
فاَلْقَ الدُّجى لُقْيَاكَ للشَّمْسِ ... واسْخَرْ بِمَا يَأتِيكَ مِنْ نَكَدِ
يا لحظةً سَتَظَلُّ فِي خَلَدي ... رَفَّافَةَ الأَضواءِ والسَّحرِ(357/60)
نغَّمْتِ أَمْسَ الشاعِرِ الغَرِدِ ... وغَمَرْتِهِ بِالنورِ والعطرِ
(بني سويف)
حسن حبشي
-(357/61)
أغنية الربيع
(مهدأة إلى صديق الأستاذ محمود تيمور)
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
أشرقتْ مثلَ ابتساماتِ المنى ... ضحكات الزهرِ في الصبح الوديعْ
وسرت عطراً وحُسناً وسنا ... لمحات البشرِ في وجه الربيعْ
وجرى الجدولُ ما بين النخيلْ ... حالماً يخطُر في رفقٍ ولينْ
والطيورْ
تتغنى فوق عذبٍ سلسبيلْ
في سرورْ
ضمَّها ظلٌّ من الغصنِ ظليلْ ... مسبلُ الأهدابِ يستهوي العيونْ
مرت الأنامُ سكرى فتهادتْ
وسقاها الطلُّ خمراً فتناجتْ
وترى السوسنَ فيَّاح العبيرْ ... سافرَ الحسنِ تراءى للعيانِ
وعذارى الأيك أرخين الشعورْ ... فتنت بالسحر سكانَ الجِنانِ
وصحا النرجسُ من ليلِ الشتاءْ وتثنَّى
باسماً يختال في ثوبِ الضياءُ مطمئِنَّا
وغديرٌ حمت الطير أليهِ
راقها رشفُ اللمى من شفتيهِ
والفراشاتُ طليقاتُ عليهِ
حيثما تهوى تهيمْ
في صفاء ونعيمْ
يا ربيعاً لاح موفورَ الجنى ... فاتن الطلعةِ لماح السنا
فرشفنا منه أكواب المنى ... ليت هذا السحرَ تبقيه لنا
ليت هذا الحسن للدنيا يدوم
(الإسكندرية)(357/62)
مصطفى علي عبد الرحمن(357/63)
رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
(إلى أستاذي الدكتور زكي مبارك بعد مقاله: (عندنا أدباء
ولكن. . .))
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
1 - من الكتاب
الدكتور هيكل باشا
شارلي شابلن هو أعظم فنان في الدنيا الآن، فلا يجوز لأحد أن يغضب إذا قيل له إن فيه من روح شارلي شابلن وظله وتكوينه، إلا إذا كان ممن يكرهون الفطرة الصافية، وسهولة النفس الصادقة. ولا يمكن أن يكون الدكتور هيكل باشا من هؤلاء، ولذلك أبيح لنفسي على الرغم من أنه باشا في الشرق الذي يقدس كبراءه ويتحرج في التحدث إليهم والتحدث عنهم. . . أن أقول له: إني ما رأيته حتى تفتحت له نفسي كما تتفتح لشارلي شابلن، فما أذكر أنه باشا حتى أعود فأتكتم نفسي أمامه ترهيباً وتوقيراً. . .
قد كنت أحب ألا يكون الدكتور هيكل. . . باشا. بل قد كنت أحب ألا يكون دكتوراً، فالدكتوراه قد ألزمته فيما يكتب الواقع الثابت المؤكد يتحراه فيما ينشئْ، وفيما يبحث ويدرس، وفيما ينقد ويوجِّه. . . والتزام الواقع الثابت المؤكد في هذا كله حرمنا أن نقرأ وحي عاطفته وأن نطالع نسيج خياله، والعاطفة والخيال أغلى ما في الفنان. . . فهّلا أعطانا منهما الدكتور هيكل باشا ما ننعم به مثلما ننعم بما يعطينا من فكره؟
الأستاذ الزيات
اسمع صوته تعرف أنه لا يزال إلى يوم طفلاً لا تعقيد في طبعه ولا مكر ولا تخابث. وإنه لمسالم ولكنه يعرف ندرة المسالمة في الناس، فهو يخشاهم ويتوقاهم ويسأل الله النجاة من(357/64)
إساءتهم ومن إحسانهم أيضاً. وقد أورثه هذا الشعور (التأنق) الذي عرف عنه في كتابته، فهو إذا أراد أن يلقى جبلاً على رأس قارئة لوماً وعتاباً وتعنيفاً كلف نفسه في البدء أن ينسف الجبل، ثم أن يدق حجارته وصخوره فإذا هي حصى، ثم أن يطحن الحصى فإذا هو دقيق ناعم، ثم أن يحرق هذا الدقيق فإذا هو دخان، ثم أن ينفخ في هذا الدخان فإذا هو. . ماذا؟. . سراب أو أثير يرجم به الأستاذ الزيات ما يكره من الصور والفِكَر والحوادث. وهو إلى جانب ذلك التلطف كله يقول: اللهم غفرانك فما أردت إلا الإصلاح! مسالم جداً!
وإذا جاء يوم كان اللطف فيه عيباً، فإنه يجئ يوم يرى الناس الإسفاف فيه فضيلة. وقد وقى الله الأستاذ الزيات الإسفاف بما وهب له من الرقة وأناقة النفسِ، فهو حريص كل الحرص على قلمه أن ينزلق إلى فكرة نابية أو كلمة فاجرة. وهو على الرغم من احترافه الكتابة السنين الطويلة لا يزال يتأنق فيها. وهذا دليل على حبه إياها وشغفه بها. وثمة دليل آخر على ذلك هو أنه أكرمها فلم ينزل بها إلى أسواق يروج فيها الرخيص الغث منها، وإنما ظل بها في سموات أدناها (الرسالة)
إني أحبه لأنه كان شجاعاً في عطفه علىّ في أشد ما عرفت من محن الحياة، فقد فتح لي أبواب الرسالة بعد ما كنت في نظر الناس مكروباً
الأستاذ أحمد أمين
قُدَّمت إليه سنة 1928 وكانت معي كراسة أكتب فيها أشياء شغلتني إذ ذاك وأنا في الرابعة الثانوية. فقرأ منها شيئاً ثم سألني: ماذا تريد أن تدرس بعد البكالوريا؟ فقلت له: اللغة العربية في كلية الأدب عندكم. فسألني: لماذا؟ فقلت له: لكي أكون أديباً. فقال لي: لسنا نخرج الأدباء المنشئين وإنما نحن نخرج الأدباء الواصفين. . . قالها وابتسم زعماً منه أني سأسأله وأنا التلميذ الجاهل في المدرسة الثانوية عن الفرق بين الأدباء المنشئين والأدباء الواصفين هؤلاء، فإن هذا الفرق موضوعاً لدرس من دروس السنة الثانية من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولكني كنت قد قرأت كتاب (في الأب الجاهلي) كما كان الأستاذ أحمد أمين قد قرأه، فعرفت منه ما عرفه، فلما سمعته يقول ما قال لم أسأله شيئاً وإنما بادرتني الحسرة على نفسي لأن الأستاذ أحمد أمين أنذرها بأنه لا معين في كلية الآداب على بلوغ ما تنشد. . . فقلت من ساعتها: الاعتماد على الله(357/65)
وجئت من الإسكندرية ودخلت كلية الآداب، واضطررت إلى احتراف الكتابة، فما كان ينهاني عنها أحد أكثر من الأستاذ أحمد أمين، فكم قال لي إن العلم لا يمكن أن يتفق مع الكتابة في المجلات والصحف! وكم خيرني بين الاستمرار في طلب العلم عندهم في كلية الآداب أو طلب الرزق بالكتابة، حتى سألته يوماً أن يربط لي من مرتبه خمسة جنيهات في الشهر تكفيني وأتعهد له بها أن أتوفر على الدرس حتى لا يلحقني فيه طالب، فانتهت المشكلة بيننا عند هذا، ولكنها بدأت بين الأستاذ أحمد أمين ونفسه عند هذا أيضاً. فقد بدأت تظهر أعراض الكتابة على الأستاذ أحمد أمين، فإذا له في الرسالة قطعة مترجمة تحت عنوان (نفسية قطة) وإذا له بعد ذلك مقالات أخرى، وإذا له آخر الأمر مجلة أسبوعية تربح ولا تخسر!
فهل لي أن أسأل الآن الأستاذ أحمد أمين: أتستطيع كلية الآداب اليوم أن تخرج الكتاب المنشئين ولو في مدة عمادته، أم هي لا تزال قانعة بإخراج الأدباء الواصفين الذين ملئوا البلد بأنفسهم وبوصفهم وإن كان لا يراهم أحد ولا يسمعهم. . .؟
ثم هل لي أن أسأله أيضاً: أتتفق حياة العلم اليوم مع الكتابة في المجلات والصحف، أم أن هذا أمر يجوز للعمداء والأساتذة الذين استوعبوا العلم كله، وانتهوا منه كله، ولم يعودوا يجهلون شيئاً مطلقاً، ولم تعد ضمائرهم تسألهم عن إصلاح الفاسد مما وظفتهم الدولة لإصلاح والإشراف عليه. . . بينما هو لا يجوز للأولاد الجهلاء الذين عليهم أن يموتوا ضيقاً أو يجدوا الفسحة في كتابي فجر الإسلام وضحاه وثمن النسخة عشرون قرشاً؟
في القرآن ظاهرة عجيبة، وهي أنه عند ما يقول عن الله إنه الغني يرفها بقوله إنه الحميد. لماذا يلتزم القرآن هذا الإقران أو لماذا يكثر منه على الأقل؟ لعل ذلك لأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يكون غنياً وحميداً. والله أعلم
2 - من الممثلين
الأستاذ الريحاني
تزوره فتقول له: إذا أغلقت عليك حجرتك امتنع عنك الهواء فسلمت حنجرتك من العطب فيغلق عليه حجرته فتمضي عنه. ويزوره زائر آخر يقول له: إنك أغلقت عليك فامتنع(357/66)
عنك الهواء فارتفعت درجة حرارتك فأنت إذا خرجت أصابك البرد ونال حنجرتك العطب، فيفتح الباب والنافذة. ويمضي هذا الزائر ويجئ زائر ثالث فيقول له: إنك وقد فتحت الباب والنافذة قد عرضت نفسك للتيار، والبرد إذا أصابك نال حنجرتك العطب فاكتف إما بالباب وإما بالنافذة، فيغلق النافذة ويبقى الباب مفتوحاً. ويمضي عنه هذا الزائر ويجيئه زائر رابع فيقول رابع له: إنك وقد فتحت الباب عرضت نفسك لإلمام الثقلاء من الزائرين بك وأنت رجل عمدتك في عملك على أعصابك إذا هدأت، ونفسك إذا اطمأنت ولم يقلقها ضيق أو ضجر، فيقوم ويغلق الباب ويفتح النافذة. ويمضي هذا الزائر ويجيئه زائر خامس يقول له: إنك وقد فتحت النافذة ردمك الغبار، ودخل إلى (خياشيمك) وتراكم على سقف حلقك فعطل صوتك وربما آذى عينيك أيضاً، فيغلق النافذة. فإذا مضى عنه هذا الزائر ألفى نفسه وقد أغلق على نفسه الحجرة نافذتها وبابها وذكر أن زائراً قال له كلاماً معقولاً منعه به من إغلاق النافذة والباب، فيقوم ويفتحهما؛ ولكنه عندئذ يذكر أيضاً أن كلاماً معقولاً قيل له لما فتحهما أول مرة وأنه أقتنع به وأنه قام على أثره فأغلق الباب وأبقى النافذة مفتوحة. فيقوم ويغلق الباب ويستبقي النافذة مفتوحة، ولكنه عندئذ أيضاً يذكر مرة أخرى أنه اقتنع في ساعة ما بوجوب إغلاقها فيقوم ويغلقها هي أيضاً، ثم يعود فيرى أنه عاد إلى ما كان فيه، فلا يرى مخرجاً من هذا الدوران إلا أن يغادر حجرته وأن يجلس في القهوة يلعب الورق، فإذا ما سأله أفراد فرقته لماذا ترك (الشغل) بسط لهم المسألة وسألهم حلاً للمعضلة فإذا هم كل واحد وله رأى وإذا هو ساخر منهم لعجزهم عن الاهتداء إلى الحل القريب الذي اهتدى إليه هو، وهو الإضراب عن الحجرة، ويدخل في ذلك الإضراب عن العمل.
الأستاذ يوسف وهبي
لا شك في أنه ضحى للفن بثروة طائلة؟ ولا شك أيضاً في أنه منذ ظهر لا يزال يضرب الرقم القياسي في إقبال الجمهور على فنه. فكيف يتفق لفنان أن يكون أروج الفنانين ومع ذلك يكون أخسرهم؟
المظهر: هو يتفق على مظهره ربحه كله وأكثر، ويرجع السبب في هذا أنه يشعر في قرارة نفسه بأنه وإن كان ممثلا فهو غير الممثلين، وأول فرق بينه وبينهم أنه دخل إلى التمثيل وفي جيبه مال(357/67)
اتهمه خصومه بكثير من التهم، ولكن الواقع يشهد بأنه برئ من تهمة واحدة - على الأقل - وهي تكلف الهواية التي وهب نفسه لها، فهو يمثل لأنه يحب التمثيل، وهو يمثل ولو خرب في سبيل التمثيل، وهو يمثل لأنه إذا لم يجد مسرحاً يؤويه انطلق في الحياة يمثل صوراً تتراءى له. وأكثر هذه الصور ترقصاً أمام عينه هي صور الزعامة والقيادة والحكم، ورواياته الأخيرة التي ألفها تشهد كلها بذلك، فهو فيها جميعاً إما زعيم حزب، وإما رئيس شركة أو إدارة، وإما مستشار أو قاض في محكمة، وإما ضابط كبير في الجيش
وإني لا أرتاب في أنه إذا أراد أن يكون زعيم حزب في مصر لا ستطاع أن يكونه في نجاح كبير
الشيخان
جورج أبيض وعزيز عيد:
اشتركا يوماً وألفا فرقة، وطافا بها في الوجه البحري والوجه القبلي، وعادا إلى القاهرة ومعهما ألفان من الجنيهات كانت في جيب الأستاذ جورج أبيض، وبعد يوم من العودة ارتاحا فيه من مشقة السفر ذهب الأستاذ عزيز عيد إلى الأستاذ جورج أبيض يطالبه بنصف الأرباح حسبما اتفقا. . .
عزيز عيد - يا أخي يا جورج. أين الألف الذي لي؟
جورج أبيض - معي يا أخي يا عزيز. في جيبي
عزيز عيد - طيب. هاتها
جورج أبيض - ليتني أستطيع. ثق أنني أرثى لك، ولكن ثق أيضاً أنني عاجز عن مواساتك
عزيز عيد - ولم المواساة ونحن لم نفقد شيئاً. . . أما قلت إن الألف معك؟
جورج أبيض - وهذا ما أنت جدير بالمواساة فيه. . . فجنيهاتك معي أنا وليست معك أنت. . .
عزيز عيد - وأي شئ في هذا؟ أعطني إياها تكن معي وينته الأمر
جورج أبيض - وكيف السبيل إلى هذا؟
عزيز عيد - ضع يدك في جيبيك وأخرجها وهاتها، ولا غير(357/68)
جورج أبيض - أنا؟ أنا أضع يدي في جيبي، وأخرج منه ألف جنيه، وأعطيك إياها بكل سهولة هكذا، وأنا حي أرزق، وقوي صحيح أستطيع أن أحمي نفسي وما في جيبي؟. . .
عزيز عيد - ولكنه مالي أنا
جورج أبيض - وهل أنكرت أنا ذلك يا أخي؟ كل ما في الأمر أني لا أطيق أن أخرجه بيدي
عزيز عيد - إذن فأخرجه بيدي أنا. . . في أي جيب من جيوبك المال؟
جورج أبيض - هنا يا أخي يا عزيز. . . في جيبي هذا. . .
عزيز عيد - طيب. اسمح لي. . .
جورج أبيض - لن يحدث هذا إلا إذا فقدت آخر قطرة من دمي. . . حذار يا عزيز أن تمد يدك. . .
عزيز عيد - عجيبة!
جورج أبيض - العجيب أن يخرج من جيبي ألف جنيه لا أن أحتفظ بها. . .
ويؤكد الأستاذ عزيز عيد أن هذا المحادثة كانت آخر صلته بالألف الجنيه، وإن لم تكن آخر صلته بالأستاذ جورج ابيض. . . الاثنان فنانان ولا ريب!
هذه صور مررنا بها سريعاً، وقد كنت أحسب أن براحي في هذا العدد من الرسالة سيتسع إلى صور غيرها لبعض الشعراء وبعض الموسيقيين وبعض المغنين وغيرهم من الفنانين ولكنه امتلأ بهؤلاء؛ فإلى عدد مقبل بإذن الله نعود فيه إلى المرور بصور سريعة أخرى نرى فيها من بواطن أعلام الفن عندنا وظواهرهم ما يهدينا الله إليه
نسأله الهداية إلى الحق رائدنا وغايتنا
عزيز أحمد فهمي(357/69)
القصص
الصدأ. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
لم يكن له في حياته سوى (غِيِة) واحدة، غية نهمة، لا تعرف الشبع: (الصيد!)
كان يصطاد كل يوم من الصباح إلى المساء في لهفة وشوق، وكان يصطاد في الشتاء والخريف وفي الربيع والصيف، وكان يصطاد في الغدران حين كانت الأنظمة تحظر الصيد في الغابات والإحراج، وكان يصطاد بجميع أنواع الصيد: بالعدو، وبالكلب المتحفز والكلب الراكض، والكمين، والمرآة والفتاش. . .
ولم يكن يتحدث عن شئ غير الصيد، ولم يكن يحلم بشيء غير الصيد!. . . ولم يكن لينقطع عن التردد: يا لشقاء من لا يحب الصيد!. . .
ومع أنه تجاوز العقد الخامس من حياته، فإنه صحته لا تزال جيدة، بحيث لا يظن أنه تخطى عتبة الشباب، بالرغم من الصلع الذي فتك بشعر رأسه؛ وهو إلى ذلك شديد البأس قوي البنية ضخم الجسم
وكان يحلق ما تحت الشارب ليكشف جيداً عن شفتيه، ويجعل دائرة الفم حرة ليسهل عليه النفخ في البوق
ولم يكن أحد في المنطقة يدعوه بغير اسمه الخاص: (السيد هيكتور)، مع أن اسمه البارون هيكتور غونتران دي كورتلين
وكان يقطن في وسط الإحراج، في مزرعة صغيرة انتقلت إليه بالإرث؛ ومع أنه كان يعرف جميع الطبقة الأرستقراطية في المقاطعة، ويتقابل مع جميع أفرادها الذكور في أماكن الصيد، فإنه لم يكن يتردد بصورة فعلية على أكثر من أسرة واحدة هي أسرة (كورفيل) التي تقطن بجواره وتخلص له الود، والتي عقدت أواصر القرابة بين أسرته وبينها منذ أجيال عديدة
وكان حبيباً إلى هذه الأسرة عزيزاً لديها، مكرماً محترماً؛ وكان كثيراً ما يقول لأفرادها:
- لو لم أكن صياداً لما وددت الابتعاد عنكم قط! وكان السيد دي كورفيل صديقه ورفيقه منذ عهد الحداثة، وكان مزارعاً شريفاً يعيش عيشة هادئة مع زوجه وابنته وصهره السيد دي(357/70)
دانتو الذي لم يكن له عمل، بحجة أنه منقطع لأبحاث تاريخية خطيرة.
وكثيراً ما كان البارون دي كورتلين يتناول عشاءه على مائدة أصدقائه ليحدثهم عن الصيد خاصة، وكان يروي لهم قصصاً مطولة عن الكلاب والفتاش، وكان يتحدث عن هذه الأشياء كما لو كان يتحدث عن شخصيات بارزة له بها صلات وثيقة، فكان يكشف عن نياتها ومقاصدها، ويشرح حركاتها وإشاراتها:
عندما رأى فيدور - اسم كلبه - أن العصفور هو الذي يضطره إلى أن يعدو سريعاً هكذا، قال في نفسه: انتظر أيها اللعين، أنا لن نلبث أن نضحك وأن نضحك كثيراً. ثم أشار إلىَّ برأسه أن أذهب وأتوارى في حقل النَفَل، وأنطلق يبحث ويبحث ملتوياً تارة ومنحرفاً تارة أخرى في شئ غير يسير من الجلبة وهو يتسلل بين الأعشاب ليوصل العصفور المطارد إلى زاوية لا يستطيع الإفلات منها. وقد تم كل شئ كما توقعه، ولم يلبث العصفور أن سقط في أقصى الحقل، إذ لم يكن في إمكانه أن يذهب إلى أبعد من ذلك من غير أن يرى. فقال له فيدور: هاأنت وقعت بين يدي. . . ثم أكب على رجليه متخفياً والتفت ينظر إلى، فما كدت أشير إليه حتى سمعت (بررررر) فطار العصفور فرفعت البندقية إلى كتفي وأطلقت منها النار: (بان) وإذا بالعصفور يسقط، فحمله فيدور إلى وهو يحرك ذنبه كأنه يريد أن يقول: أرأيت كيف نجحت الحيلة يا سيد هيكتور؟
وكان كورفيل ودارنتو والسيدتان يضحكون ضحكاً شديداً من هذه القصص الغريبة التي يرويها البارون بكل ما أوتي من فن وبراعة، فكان يحرك كتفيه ويشير بجميع أعضاء جسمه، حتى إذا وصل إلى موت العصفور انفجر يضحك ضحكاً عريضاً وهو يسأل هذا السؤال الذي يتخذه خاتمة لقصته: إنها لجميلة هذه القصة. أليس كذلك؟.
ولا يكاد الحديث ينتقل إلى موضوع آخر حتى ينصرف عنه سمعه، ويشرع يدمدم بعض أغاني الصيد، كما كان يفعل حين يسود الصمت بين جملتين، فإن الهدوء لا يكاد يقطع ضجة الحديث حتى تنطلق منه على حين غرة: طن. . . طن. . . ويظل البارون يرددها وهو ينفخ خديه كأنه ينفخ في بوق
وهو لم يتعلق بالحياة إلا لأجل الصيد، وكان الهرم قد بدأ يدب إليه شيئاً فشيئاً. وذات يوم أصيب بداء المفاصل ولزم الفراش شهرين متواصلين، فكاد يقضي كآبة وضجراً. ولما لم(357/71)
يكن لديه خادم تتولى شئون بيته عهد إلى إحدى العجائز بأمر إعداد الطعام. . .
ولم يكن في استطاعته أن يحصل على كمادات حارة، ولا أن يظفر بما يفتقر المرضى إليه من عناية، فتخذ من قائد كلابه ممرضاً له، وصار هذا الأخير يضجر بقدر ما يضجر سيده على الأقل، فصار ينام ليلاً ونهاراً على الكراسي بينما البارون يشتم ويجدف محنقاً مغتاظاً في سريره
وكانت السيدة كورفيل وابنتها تعودانه أحياناً، فكانت الساعة التي تقضيانها بقربه أحي الساعات إليه، ينعم بالهدوء والراحة، إذ تغليان له ما يحتاج إليه من مشروبات حارة وتتعهدان الموقد وتقدمان له فطوره على حافة سريره؛ فكان يدمدم حين انصرافهما: كان عليكما أن تقطنا هنا؛ فتغرق السيدتان في الضحك وتوصدان الباب وراءهما
ولما تحسنت صحته وعاد يصطاد في الغدران ذهب ذات مساء لتناول العشاء على مائدة أصدقائه، ولكنه لم يكن كعادته مرحاً نشطاً، إذ كان يخشى الانتكاس وعودة الآلام قبل افتتاح موسم الصيد؛ فلما نهض يريد الانصراف هرعت السيدتان إليه تلفان حول عنقه وشاحاً حريرياً، فترك نفسه للمرة الأولى في حياته بين أيديهما؛ ثم أخذ يتمتم بلهجة يائسة:
- إذا عادت الآلام إلىَّ قضى علىّ لا محالة!
وعندما انصرف قالت السيدة دارنتو لأمها:
- يجب تزويج البارون!
فسرَّ الجميع لهذه الفكرة وعجبوا كيف أنهم لم يفكروا في ذلك إلى الآن، وطفقوا يبحثون طيلة السهرة بين الأرامل اللواتي يعرفوهن، وانتهى بهم الأمر إلى أن وقع اختيارهم على سيدة في الأربعين من عمرها ما تزال جميلة موسرة، حسنة الطباع جيدة الصحة تدعى (برت فيلرس)
فدعوها لتمضية شهر في القصر، ولما كانت تضجر وحدها في بيتها لبَّت دعوتهم، وكانت كثيرة الحركة والمرح، وراقها السيد كورتلين لأول نظرة، وأصبحت تسر بوجوده كما تسر بلعبة تنبض فيها الحياة، وصارت تقضي الساعات الطويلة تسأله في خبث عن عواطف الأرانب وحيل الثعالب. فكان يندفع برزانة في تمييز وجهات نظر مختلف الحيوانات ناسباً إليها خططاً دقيقة كما ينسب مثلها إلى معارفه من الرجال(357/72)
وقد استحسن الالتفات الذي كانت تعيره إياه، وأراد أن يبرهن على تقديره لها فدعاها لمرافقته إلى الصيد، وكانت هذه الدعوة أمراً لم يقدم عليه إلى الآن مع أية سيدة أخرى. وقد بدت لها هذه الدعوة مضحكة إلى درجة لم تر مانعاً من قبولها
وتعاون الجميع على إلباسها لباس الصيد. فصار كل واحد يقدم لها شيئاً، ثم ظهرت وقد ارتدت ثيابها على طريقة سكان (الأمازون) في رجليها حذاءان ضخمان، تنفرجان عن سروال من سراويل الرجال، فوق قميص قصير تغطيه سترة من القطيفة تضيق عند النحر، وعلى رأسها قبعة من قبعات الخدم الذين يقودون الكلاب
وكان يبدو على البارون أنه شديد التأثر كأنما هو سيطلق أول طلقة من بندقيته، وشرع يشرح لها بدقة اتجاه الهواء ومختلف أنواع وقفات الكلاب، وطرق اجتذاب الحيوانات والطيور لصيدها. ثم دفع بها إلى أحد الحقول وراح يسير في إثرها خطوة خطوة كأنه مرضع تسير وراء رضيعها عندما يبدأ يمشي لأول مرة
وصادف (فيدور) طائراً فأكب على رجليه ووقف.
ثم رفع إحدى رجليه، وكان البارون وراء تلميذته يرتجف كريشة في مهب الرياح يتمتم: انتهى. . . حجـ. . . لات. . .
ولم يكد يتم كلمته الأخيرة حتى دوى طلق شديد، وارتفع من الأرض بررررر. . . فارتفع على الأثر سرب من الطيور في الهواء وهي تضرب بأجنحتها ضرباً عنيفاً
ومن شديد التأثر أغمضت السيدة فيلرس عينيها وأطلقت طلقتين، وتقهقرت من أثر رجة البندقية، فلما استعادت رباطة جأشها أبصرت البارون يرقص حولها كالمجنون وفيدور يعود بحجلتين بين فكيه
منذ ذلك اليوم بدأ السيد كورتلين يعشقها!
وأنشأ يقول عنها وهو يرفع بصره: يالها من امرأة!. . .
ومنذ ذلك اليوم صار يأتي كل مساء ليتحدث عن الصيد. وذات مرة، بينما كان السيد دي كورفيل يودعه والبارون مندفع في امتداح صديقته الجديدة سأله:
لماذا لا تتزوجها؟
فجمد البارون كالمأخوذ وقال:(357/73)
- أنا؟. . . أنا؟. . . أتزوجها!. . . ولكن. . . فعلاً. . .
وصمت ثم هز يد صديقته بسرعة وتمتم:
- إلى اللقاء يا صديقي
واختفى في ظلام الليل وراح يبتعد بخطوات واسعة. . .
ولم يعد البارون طيلة أيام ثلاثة، ولما عاد كان الشحوب قد صبغ وجهه بصفرة داكنة لشدة ما عاناه من التفكير الممض. وكان هذه المرة أكثر رزانة من قبل، فتوجه إلى السيد كورفيل وأخذه على طرف ثم قال له:
- لقد خطر لك وجيه، فأرجوك أن تعمل على تهيئتها لقبولي زوجاً لها. . . يا لله. . . لكأن هذه المرأة خلقت من أجلي، إذ نستطيع أن نذهب للصيد معاً دائماً
ولما كان السيد دي كورفيل متأكداً من أنها لا ترفض، أجاب:
- أطلب يدها حالاً يا عزيزي. . . أتريد أن أقوم بهذه المهمة؟
ولكن البارون اضطرب فجأة وصار يتلعثم:
- كلا!. . . كلا!. . . . ينبغي قبل ذلك أن أقوم برحلة قصيرة. . . برحلة قصيرة إلى باريس، وسأجيبك حال رجوعي الجواب النهائي. . .
وامتنع عن بيان أسباب ذلك. وفي اليوم التالي سافر. . . . مضى أسبوع. . . أسبوعان. . . ثلاثة. . . والسيد كورتلين لم يعد، فاستغربت ذلك أسرة كورفيل وقلقت عليه، ولم يعد أفرادها يدرون ماذا يقولون للسيدة فيلرس التي أطلعوها على رغبة البارون، وصاروا يرسلون كل يوم إلى داره من يتسقط أخباره، ولكن لم يكن بين خدمه من تلقى شيئاً منه
وذات مساء، بينما كانت السيدة فيلرس تغني وهي تعزف على البيان اقتربت الخادم بحذر كبير من السيد كورفيل، وهمست في أذنه بصوت خافت جداً: إن بالباب رجلاً يريد مقابلته
وكان هذا الرجل البارون وهو ما يزال في لباس السفر، وقد بدا عليه كثير من الشحوب والهزال والهرم، وما كاد يقع بصره على صديقه حتى أسرع إليه وأمسك بيديه، وقال له بصوت ضعيف متعب:
- وصلت في هذه اللحظة يا عزيزي ومع ذلك فقد أسرعت إليك لأقول لك. . .
ثم صمت برهة، وفي شئ من الارتباك والتردد استأنف:(357/74)
- أريد أن أقول لك. . . حالاً. . . إن القضية. . . التي تعرفها لا يمكن. . . أن تتم. . .
فنظر إليه السيد كورفيل دهشاً:
- كيف. . .؟ ولماذا لا يمكن أن تتم؟
- أوه!. . . أرجوك ألا ترهقني بالأسئلة، إذ يشق على كثيراً أن تضطرني لبيان السبب، ولكن كن واثقاً كل الثقة أنني لا أفعل إلا ما يفعله كل رجل شريف. . . . إني لا أستطيع. . . بل ليس لي الحق في أن أتزوج هذه السيدة. . . أفهمت؟. . . وسأنتظر مغادرتها داركم لأعود إليكم. . . لأن مشاهدتها تمضني كثيراً. . . فإلى اللقاء. . . وانصرف هارباً
فاجتمعت الأسرة كلها وأخذت تتشاور وتتناقش وتفترض الافتراضات المختلفة، وانتهى بها الأمر إلى أنه لابد أن يكون في حياة البارون سر خطير، فقد يكون له أولاد طبيعيون، وقد تكون له علاقات غرامية قديمة. . . وأدركت أسرة كورفيل أن الحالة على جانب عظيم من الرصانة، ومنعاً لتعقيدات أخرى تسلحت بلباقة فائقة لإطلاع السيدة فيلرس على الواقع. . . فعادت هذه السيدة أرمل كما قدمت. . .
ومضى على ذلك ثلاثة أشهر. وفي ذات مساء أفرط السيد دي كورتليه في تناول العشاء، وصار يترنح وهو يدخن غليونه مع السيد دي كورفيل، كم كانت دهشة هذا الأخير عظيمة حينما فاجأه البارون قائلاً:
- آه لو كنت تعلم كم أفكر في صديقتك، إذن لأشفقت علي!
والسيد دى كورفيل الذي استاء من سلوك البارون في هذه القضية أجاب بصراحة:
- كان عليك يا عزيزي، ما دام في حياتك الماضية أسرار ألا تقدم على ما أقدمت عليه، إذ كان في إمكانك بكل تأكيد أن تفكر من قبل في السبب الذي سيضطرك للرجوع من عزمك
فبدت على البارون علامات الخجل، وقال بعد أن توقف عن التدخين:
- كان ذلك ممكناً وغير ممكن في وقت واحد. . . ولكني لم أكن أصدق إمكان حدوث ما حدث
فقاطعه لسيد دي كورفيل بفارغ الصبر:
- كان عليك أن تفكر في إمكان حدوث كل شئ!
فألقى السيد كورتلين نظرة على الظلام الذي يكتنفهما، وبعد أن تأكد من أنه ليس حولهما(357/75)
من يسمعهما قال بصوت منخفض:
- ألاحظ أنك مستاء من تصرفي، وسأفضي إليك بكل شئ لتمن عليّ بالعذر. . . منذ عشرين سنة وأنا لا أحيا يا صديقي إلا للصيد. . . والصيد وحده دون كل شئ آخر. . . أنا كما تعلم لا أحب شيئاً غير الصيد، ولا أهتم بشيء آخر سواه. . . ولذلك خطر لي قبل أن أوقع عقد الزواج مع هذه السيدة أن. . بل حصل في ضميري تردد. . . إذ منذ الزمن الذي انقطعت فيه عن. . . عن الحب. . . لم أعرف إذا كنت لا أزال أقوى على. . . على. . . أفهمت؟؟. . . تصور أنه مضى عليّ أكثر من ست عشر سنة لم. . . لم. . . أفهمت؟ وليس من السهل في هذه المقاطعة أن. . . أفاهم أنت؟. . . ثم إنه كان لدي شئ آخر أعمله. . . كنت أفضل على ذلك أن أطلق طلقة من بندقيتي. . وبكلمة مختصرة حين عزمت على أن أتعهد إزاء الكاهن وإزاء المأمور الرسمي على أن أقوم بواجب الزوجية خشيت أن أكون. . . والرجل الشريف لا ينقض عهوده ولا يخل بتعهداته. . . وكان علي أن أقطع لهذه المرأة عهداً مقدساً بأن. . . وأخيراً، ولكي أكون واثقاُ من نفسي قررت أن أسافر إلى باريس وأن أقضي فيها ثمانية أيام، ولكن الأيام الثمانية انقضت ولم أستطع أن أعرف شيئاً مطلقاً، ولم يكن ذلك ناشئاً عن قلة ما قمت به من تجارب، إذ ترددت على أحسن ما في باريس من جميع الأنواع وجميع الأجناس، وأؤكد لك أن أولئك عملهن كل ما باستطاعتهن. . . ولكن ماذا تريد. . . كن جميعاً ينسحبن مغمغمات. . . متمتمات. . . وإذ ذاك قررت أن أنتظر خمسة عشر يوماً. . . فثلاثة أسابيع رجاء أن. . . وقد أفرطت في تناول الأطعمة المفلفلة، الأمر الذي أجهد معدتي إجهاداً عظيماً. . .
ورغم كل ذلك لم أستطع شيئاً مطلقاً!. . . وفي هذه الحال وإزاء فشل جميع المحاولات لم يكن لي بد من الانسحاب. . . وهذا ما فعلته!. . .
وكان السيد دي كورفيل أثناء ذلك يدور على نفسه ويبذل جهداً عظيماً ليحول دون انفجاره بالضحك، فلما فرغ البارون من روايته هزَّ يديه برصانة قائلاً:
إني لأشفق عليك حقاً
ورافقه إلى منتصف طريق منزله. . .
ولما خلا السيد كورفيل بزوجه، أطلعها على كل شئ وهو يكاد يختنق من شدة الضحك،(357/76)
ولكن السيدة دي كورفيل لم تضحك قط وإنما كانت تنصت إلى زوجها بانتباه، حتى إذا فرغ من حديثه ابتدرته برزانة:
إن البارون أبله يا عزيزي. . . فإذا كان لم يستطيع شيئاً فلأنه كان خائفاً. . . وسأكتب حالاً إلى برت أن تعود
فأنشأ السيد دي كورفيل يحتج بفشل جميع المحاولات البارون ولكن زوجته أسكتته بقولها:
- يجب أن تعلم أن الرجل إذا كان يحب زوجته واتته القدرة دائماً!
فلم يحر السيد دي كورفيل جواباً إذ اعتراه هو نفسه شئ من الخجل. . .
ابزاك شموش(357/77)
البريد الأدبي
في سبيل الأزهر
تلقينا من الأستاذين عبد اللطيف السبكي وسيد نايل المدرسين بكلية الشريعة كلمتين عقبا بهما على مقال الأستاذ المدني (في سبيل الأزهر) تعقيباً لم يتجاوز أسلوب النقد ولهجة الناقد، فرأينا من الحكمة أن نتريث في نشرهما حتى لا يعوقنا الجدل في الشكل عن البحث في الموضوع. وما دامت الآراء مطبقة على حاجة الأزهر للإصلاح فلا بأس أن تتسع الصدور لما يسيل على الأقلام من مبالغة في عرضه أو شدة في طلبه. ومما لا ريب فيه أن أبناء الأزهر أجمعين سواء في المحافظة عليه والإخلاص له والجهاد فيه؛ ولكن أهواءهم إذا تفرقت في سبيل حبه، فقامت هنا صيحة تدعو إلى الإصلاح، وقامت هناك ضجة تخزّل عنه وقف بينهما المصلح موقف المتأني الحائر، لا يطمئن للوقوف ولا يثق بالتقدم.
قانون صنع التبشير في مصر
وقع صاحب الجلالة الملك مرسوماً بإحالة مشروع القانون الخاص بمنع التبشير إلى البرلمان، وهذا نصه بعد الديباجة:
المادة لأولى: تمنع الدعوة الدينية بأية طريقة كانت، خارجاً عن المحال المعدة لإقامة الشعائر أو الأمكنة المرخص بذلك.
المادة الثانية: تعتبر الأمور الآني ذكرها دعوة دينية إذا وقعت في معاهد تعليم:
(1) إشراك التلاميذ أو تركهم يشتركون في دروس ديانة غير ديانتهم.
(2) إشراك التلاميذ أو تركهم يشتركون في صلوات تخالف عقائدهم الدينية، أو إسماعهم أو تركهم يستمعون إلى خطب دينية كذلك.
(3) توزيع كتب أو نشرات على التلاميذ تخالف عقائدهم الدينية
وتسري الفقرتان الثانية والثالثة السالفتان على المنشآت الطبية أو المعاهد الخيرية إذا كانت الدعوة الدينية موجهة إلى المرضى أو اللاجئين إلى تلك المعاهد.
المادة الثالثة: لرجال الضبطية القضائية دائماً حق الدخول في الأماكن المشار إليها في المادة السابقة للتحقق مما قد يقع فيها مخالفاً لهذا القانون(357/78)
المادة الرابعة: مع عدم الإخلال بتوقيع عقوبة أشد حيث يقضي بذلك قانون العقوبات، يعاقب على المخالفات لأحكام هذا القانون بالحبس لمدة شهر وبغرامة قدرها عشرة جنيهات مصرية، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط
المادة الخامسة: يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على سنة، وبغرامة لا تتجاوز مائة جنيه مصري، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط كل من حاول تلقين حدث تقل سنه عن ثماني عشرة سنة كاملة عقائد تخالف دينه أو عقيدته، حتى ولو كان ذلك برضاه.
ويعاقب بنفس العقوبات كل من أعطى أو منح شخصاً عطية أو هبة من نقود أو أوراق أو عروض أو فوائد أخرى أو عرض عليه شيئاً من ذلك أو وعده به، سواء أكان ذلك بالذات أم كان بواسطة الغير، وسواء أكان للشخص نفسه أو للغير، وذلك بقصد التأثير على عقيدته الدينية أو تحويله عنها
ويعاقب أيضاً بنفس العقوبات كل من استعمل مع شخص آخر لهذا الغرض القوة أو التهديد أو الإرهاب أو أخافه من فقد خدمة، أو من تعريض نفسه أو أهله أو ماله للأذى، أو استعمل معه المخدرات أو التنويم
المادة السادسة: يعتبر من رجال الضبطية الفضائية فيما يتعلق بتطبيق هذا القانون، موظفو وزارة المعارف وموظفو وزارة الصحة الذين يندبهم لهذا الغرض وزير المعارف أو وزير الصحة بالاتفاق مع وزير الداخلية
المادة السابعة: على وزراء الداخلية والمعارف والصحة تنفيذ هذا القانون؟ كل منهم فيما يخصه، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية
وقد أرفقت بالمشروع مذكرة إيضاحية أشير فيها إني أن الدستور يعلن حرية العقائد ويحميها كما يحمي حرية القيام بشعائر الأديان، طبقاً للعادات المرعية في الديار المصرية، وذلك في حدود النظام العام والآداب، وأن هذه المبادئ تتفق وأصول التسامح الذي درج علية الإسلام
وقديماً أحسنت مصر معاملة أهل الأديان المختلفة، وأقطعتهم الأراضي الواسعة وكانت تعفيهم من أغلب الرسوم وتتركهم يباشرون في حرية تامة ما تقوم عليه جمعياتهم ومؤسساتهم ومنشآتهم من أعمال التعليم والبر، غير أن بعض هؤلاء انصرفوا إلى التبشير(357/79)
بدينهم، وتوسلوا إلى ذلك بوسائل أقل ما يقال فيها إنها استهانة بكرامة المسلمين، وتحد لعواطفهم الدينية
وإذا كانت الدعوة الدينية تتصل في بعض صورها بحرية العقائد، فإنها إذا بوشرت خارجاً عن محال العبادة أو الأماكن المخصصة لهذا الغرض والمرخص لها بذلك قد تحدث الفتنة وتصبح إخلالاً بالنظام لا يجدر السكوت عليه. لذلك وضع مشروع هذا القانون ليحظر الدعوة الدينية على أية صورة، خارجاً عن تلك الأماكن؛ ثم تضمنت المذكرة الكلام عن مواد المشروع
تعبانٌ وظمآنٌ
تعبان على وزن فعلان، وهذا الوزن يمنع من الصرف إذا توفر فيه شرطان زيادة الألف والنون، وكون أنثاه على وزن فعلي كسكران وغضبان وما شابهه، فإن أنثاه فعلى كسكري وغضبي. . . أما إذا كان فيه زيادة الألف والنون ولم تكن أنثاه على فعلى نحو تعبان وتعبانة فإنه لا يمنع من الصرف، فنقول مثلاً: استيقظت تعباناً، وهو تعبانٌ. وفي هذا يقول أبن مالك في الألفية:
وزائدا فعلان في وصف سلم ... من أن يرى بتاء تأنيث ختم
وأما ظمآن فإن أنثاه ظمأى فهو ممنوع من الصرف لأنه منطبق على القاعدة، وقد نص عليه صاحب اللسان فقال: (رجل ظمآن وامرأة ظمأى لا ينصرفان نكرة ولا معرفة)
والذي حدا بي إلى الكلام عن هذين اللفظين أنهما وردا في عبارتين لأديبين من كبار الأدباء على غير وضعهما الأصلي فأحببت أن أنبه عليهما لئلا يقلدهما القراء لأنهما ممن يقتدي بهم ويقتفي أثرهم، فالعبارة الأولى جاءت في أول الجزء الثالث من كتاب (ليلى المريضة في العراق) للأديب الكبير الدكتور زكي مبارك قال: (واستيقظت في الساعة التاسعة تعبان) وصحتها أن تكون (تعباناً) لما قدمنا، والرجاء من الدكتور مبارك أن يستيقظ نشيطاً حتى لا يتعبنا ويتعب نفسه مرة ثانية والعبارة الثانية. والعبارة الثانية جاءت في العدد 70 من الثقافة في مقال الدكتور محمد عوض محمد قال: (ورأى الزعيم، الذي لم يزل ظمأناً إلى فتح جديد) وصحتها ظمآنَ لما قدمنا أن مؤنثه ظمأى فهو ممنوع من الصرف.
إبراهيم يسن القطان(357/80)
النقد والتصويب
صاحب الرسالة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
لك مني تحيات وإعجاب
وبعد فإنني معجب تمام الإعجاب بحضرات الشعراء البارعين الذين يتحفون رسالتهم بجرائدهم البليغة. وأبداً لا تعدو عيناي عن واحدة مما ينشرون. غير أن هنالك أمراً كنت أتمنى كثيراً أن ينهجه أرباب الدراية في العربية وبحور الشعر. ذلك هو النقد والتصويب الذي رأيته لأول مرة على ما أذكر لحضرة الأستاذ أبي الفضل السباعي ناصف الذي أحكم بيتاً ند عن الوزن في قصيدة ذكرى المرحوم الهراوي للأستاذ علي الجندي. وكم كان جميلاً أن يعلن الأستاذ الجندي شكره للناقد المصوب. إن هذا النقد والتصويب الذي يجمل بالأساتذة أن ينهجوه على النمط المتقدم أرى ألا يقتصر على ما تنشره الرسالة وغيرها، بل يتعدى إلى ما يسمع في المحافل من مناظرات وخطب وإذاعات، كما جرى عليه الأستاذ الدكتور زكي مبارك - أدام الله عليه التوفيق وأصلحه مع زمانه - فقد ناقش ببراعته المعروفة الأستاذ الكبير أحمد أمين في كلمة (أوقات) التي نصبها الأستاذ بالكسرة إذ كان يلقى نفثاته عن طريق المذياع. ومن المؤكد أن الأستاذ أحمد أمين يدري يقيناً أنها تنصب بالفتحة كما هو معروف ولم يلفظها مكسورة إلا سهواً، ومع ذلك يجب أن تعلن كلمة الحق وهذا حسن
لقد قرأت في العدد (353) من الرسالة قصيدة (رجع أيامي) للأستاذ محمود خفيف وهي من القصائد الرقيقة المعجبة، ولكني لن أسكت على شطر منها كما لم يسكت الأستاذ أبو الفضل السباعي ناصف. ذلك قوله: (صوحت ويلاه خضر الأماني) فهل سها الأستاذ الخفيف عن وضع النداء بين كلمتي (صوحت) و (ويلاه) حتى يصح الوزن على هذا الوضع؟ (صوحت يا ويلاه خضر الأماني). أن الأستاذ وضع حرف النداء وابتلعته المطبعة على كل حال أعلن نقدي وتصويبي لهذا الشطر راجياً أن يتحفنا الأستاذ الخفيف وغيره من المبدعين دائماً بآياتهم البالغة الباهرة، وأن يتوالى النقد والتصويب على هذا الطراز(357/81)
(نابلس)
محمد البسطامي
أندونسيا
جاء في مقالة الأستاذ عبد العزيز الدوري (النقابات الإسلامية) المنشورة في العدد (355) ما نصه: (ونجد مثلاً عصرياً لنجاح هذه الفرق وفشل المذهب السني في حالة الهولنديين في الهند الصينية (أندونسيا) الخ. ولا شك أن الأستاذ يقصد بذلك جزائر الهند الشرقية الهولندية لا الهند الصينية، لأن الأخيرة - كما نعلم - تابعة للفرنسيين لا للهولنديين، وجزائر الهند الشرقية هذه هي التي أجمع أهلها الوطنيون في الأعوام الأخيرة على تسميتها بأندونسيا - أي جزائر الهند -، وكان العرب يطلقون عليها أسم (جاوة) - إحدى جزائرها - من قبيل تسمية الشيء ببعض أجزائه
حسن أحمد باكثير
القرن العشرون
في العدد 354 من الرسالة قرأت في باب (الأدب في أسبوع) تحت عنوان: (القرن العشرين) ما يأتي بعد كلام: وذاك تنبيه لنا أننا نعيش في القرن العشرين، وفي سنة 1940 منه). والمعلوم أن (من) للتبعيض وبالضرورة يعود الضمير فيه على القرن العشرين فيكون معنى ذلك أننا نعيش في سنة 1940 من القرن العشرين؛ والواقع أننا نعيش في سنة 40 فقط من هذا القرن وفي سنة 1940 من العشرين قرناً، ففي أي سنة نعيش؟
إبراهيم عقلة
معهد القاهرة
الأبيات الحائرة
للحجاج بن يوسف الثقفي مع الشعراء أحاديث طوالٍ. وقد فر جماعة منهم من وجهه وهربوا منه، ومن هؤلاء (سوار ابن المضرب) و (محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي) وهو(357/82)