لو أن هذا الكتاب لم ينشر، والفائدة التي تعود على القارئ من قرأته، ثم الحديث عن مؤلفه ومنزلته بين أشباهه من علماء هذا الفن، والباعث له على تأليف هذا الكتاب؛ وما إلى ذلك من الأمور التي تعني جمهور القراء عامة دون فرد أو أفراد
أما تلك الأمور التصحيحية التي تعتبر من جزيئات الجزيئات والتي لا يعنى بها غير مصحح الكتاب وحده دون غيره من القراء، فإن نشرها في الصحف ليس مما تقتضيه العقلية العلمية
وذلك كأن يذكر الناقد كلمة محرفة - في زعمه - بين ملايين من الكلمات الصحيحة، أو حرفاً معجماً حقه الإهمال، أو مهملاً حقه الأعجام بين ملايين الحروف التي روعي إعجامها وإهمالها، أو نقطة في موضع شولة، أو العكس، أو قوسين وضعا موضع خطين، أو خطين وضعا موضع قوسين، أو تفسير كلمة قد استظهره مصحح الكتاب، ثم بدا للناقد تفسير آخر، فإن أمثال هذه الملاحظات لا تساوي ما يبذل فيها من ورق ومداد. وأيضاً فأنه لا يمكن قراء هذه الملاحظات في الصحف معرفة صوابها من خطئها، ولا تميز حقها من باطلها، إذ لا يمكن ذلك إلا بقراءة الملاحظة، ثم مطالعة موضعها في الكتاب وأصله معاً حتى يتبين للقارئ صواب النقد من خطئه، ولا يتأنى ذلك لقراء الصحف غالباً كما هو معروف
وأولى بهذا الصنف من النقاد أن يبعثوا بجميع ملاحظاتهم التي من هذا النوع إلى مصحح الكتاب ليدرسها ثم يستدركها في الطبعة الثانية إن كانت مما يستحق الاستدراك، كما فعل الأستاذ محمد على بك في ملاحظاته على الكتاب الذي نحن بصدده، فإنه بعث بها جميعاً إلى الأستاذ أحمد أمين مختتمةً بعبارات الإعجاب والتقدير والشكر، وقد نشرها الأستاذ أمين في آخر الجزء الأول من هذا الكتاب مقدمة بالشكر الجزيل والثناء الجميل على صاحبها
وبعد، فالمطلع على هذا النقد اطلاعاً منصفاً يرى أنه - على طوله واتساع كاتبيه في شرحه وتبرير ما فيه من الملاحظات - يرجع في جملته إلى اختلاف وجهتي النظر بين المصحح والناقد، والتباين في ذوقيهما أكثر مما يرجع إلى حقائق علمية أو نصوص ثابتة، ولا يعترض بنظر على نظر ولا بذوق على ذوق
ومن أمثال ذلك ما أطال به الدكتور بشر في مقاله من ذكر شولات ونقط، وما إلى ذلك مما(341/73)
يسمه أرباب الطباعة بالترقيم وضعت في غير مواضعها من عبارات الكتاب كما زعم، وقد استغرق منه هذه الإحصاء قرابة نصف صفحة من مقاله؛ ولم يدر أن هذا الترقيم إنما يمليه الذوق وحده، ولا يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة إلا في رسم العلامات؛ فربما قرأت عدة عبارات فتفهم أن بعضها متصل ببعض، فتضع بينها شولات؛ ثم يقرؤها آخر فيفهم أن بينها اتصالاً من ناحية وانفصالاً من أخرى فيضع شولة منقوطة وهكذا، وكلا الفهمين صحيح لا يعترض بأحدهما على الآخر
وقلّما رأيت مصححاً قرأ صفحة ووضع هذه الفواصل بين عباراتها حسب ذوقه في فهم الكلام، ثم عرضت على آخر بعده فوافقه على ذلك؛ بل لا بد أن يجري قلمه في هذه العلامات بالمحو والإثبات حسب ذوقه هو أيضاً؛ وكذلك لو عرضت هذه الصفحة على ثالث ورابع
وأشهد لقد حسدت الدكتور بشر أشد الحسد على ما منحه الله من أتساع الزمن ورحابة الصدر وقوة الصبر وطول البال حتى استطاع أن يفرغ لتسقط هذه العلامات التافهة الضئيلة والتقاطها من كتاب كهذا فيه الألوف منها
ومن هذه الأمثلة أيضاً ما سماه (تباعداً عن سياق النص) في عبارة أوردها من كلام المؤلف يخاطب الوزير أبا عبد الله العارض قال (أي التوحيدي): (فقلت قبل: كل شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري) الخ. وقد فهم مصححا الكتاب من هذه العبارة أن التوحيدي يريد من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده، ليكون ذلك معيناً له وناصراً على ما يريده الوزير من الإمتاع والمؤانسة بمجلس التوحيدي؛ وقد ضبطا تلك العبارة على هذا الوجه تبعاً لما فهماه منها، وهو فهم صحيح لا غبار عليه ولا مطعن فيه وقد رأى الناقد أن تضبط العبارة هكذا: (فقلت قبل كلٍ شيءٌ أريد أن أجاب إليه) ألخ فاهماً أن أبا حيان يريد إلى الوزير أن يجيبه إلى شيء واحد قبل إمتاعه ومؤانسته، وهو فهم صحيح أيضاً مع شيء من الضعف، ولا يعترض بفهم على فهم كما قدمنا
وإذا بحثنا كلا الفهمين وأردنا الترجيح بينهما وجدنا أن الفهم الأول أليق بحال أبي حيان مع الوزير أبي عبد الله كما يتبين ذلك من ثنايا كتابه
وأيضاً فلا شك في أن إرادة أبي حيان من الوزير أن يجيبه إلى كل شيء يريده خير من(341/74)
أن يريد منه الإجابة إلى شيء واحد.
ومنها ما سماه: (تجافياً عن أسلوب الكتاب) وما أكثر الأسماء لديه وأقربها إلى قلمه! وذلك أنه رأى عبارة من عبارات الكتاب مختتمة بكلمة: (تجدُّها) وبعدها عبارة أخرى مختتمة بكلمة: (تمدُّها)
هكذا ضبط المصححان الفاضلان هاتين الكلمتين
وقد رأى حضرة الناقد أن الأفضل في ضبط الكلمة الأخيرة (تُمِدها) بضم التاء وكسر الميم، معللاً ذلك بأن الازدواج الذي ألتزمه المؤلف في كتابه لا يتم إلا بالتوافق التام بين (تجدُّها) و (تمدها) في جميع الحركات
ولو تفضل حضرته فألم إلماماً يسيراً بقواعد السجع والازدواج في فن البديع، لرأى أنهما يتمان على أكمل وجه وأحسنه بدون هذا التطابق الدقيق في جميع الحركات والحروف، والتزام الدقة في ذلك يعدُّ من لزوم ما لا يلزم، إذ السجع في هاتين العبارتين تام لا عيب فيه وأن لم يتطابق اللفظان في جميع الحركات
على أن المؤلف لم يلتزم في جميع كتابه تلك الدقة في الازدواج والسجع، بل أن كثيراً ما يكتفي باتفاق أواخر العبارات في الوزن وإن لم تتفق في الحروف، بل قد يغفل الازدواج والسجع إغفالاً تاماً
ومنها ما سماه: (تركا للغامض على حاله من الغموض والإبهام) وقد أورد من ذلك عبارة ذكرها التوحيدي في معرض الحديث عن صيانة النفس والقناعة وصعوبتهما على الإنسان، وشدة احتمالهما، والمشقة الشديدة في التخلق بهما، فقال ما نصه: (وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجةٌ إن لم تكن لها أداةٌ تجدّها، وفاشيةٌ تمدُّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن، ولا يستطاع إلا بدين متين) ألخ. وقد خفي على الناقد الفاضل معنى قوله: (وترك خدمة السلطان غير الممكن) ألخ، فألح في السؤال عما يريد المؤلف بهذه العبارة، وهي عبارة في غاية الوضوح والبيان لا تحتاج إلى توضيح؛ وتوضيح الواضح أكثر مشقة من توضيح الخفي المبهم
يريد المؤلف بهذه العبارة أن صيانة النفس وإعزازها عن مواطن المذلة للملوك والأمراء والعزوف عن خدمتهم، كل ذلك غير ممكن، لما تقتضيه ضرورات العيش وحاجات الحياة؛(341/75)
ولا يستطيع ذلك إلا من عمر الدين المتين قلبه، وملأت الثقة بالله نفسه. وبعد فإن لنا نصيحة نريد أن نسرها إلى الناقد الفاضل، وهي أنه ينبغي لمن يقدم على نقد كتاب كالإمتاع والمؤانسة أن يكون لديه إلمام يسير بأوليات قواعد النحو، فيعرف حكم الفاعل ونائبه، وبماذا يرفع المثنى والجمع، وما إلى ذلك، وإلا رد نقده عليه، وكان حديثه عن الكتب منه وإليه
قال مؤلف الإمتاع والمؤانسة في تفسير معنى الخَلَق بفتح الخاء واللام ما نصه: (وأما قولهم: هذا شيء خَلَق فهو مضمَّن معنيين) الخ
وقد ذكر الناقد هذه العبارة وكتب تحت قوله: (مضمَّن معنيين): (كذا) حاسباً أنه قد ظفر بغلطة شنيعة؛ يريد حضرته أن في قوله: (معنيين) غلطاً نحوياً! وكان الصواب في نحوه هو: (معنيان)! فما أرى سيبويه والخليل والفراء والكسائي ومن إليهم من أئمة العربية في هذا النحو الجديد؟!
وهل في قواعدهم أن للفاعل نائبين: نائب أصيل ونائب مساعد كما لبعض وزارات الحكومة وكيلان: أصيل ومساعد؟!
ألا يعرف الأستاذ أن ضمّن يتعدى إلى مفعولين؟
الحق أن تلك الزلة تهدم مقاله من أساسه، وتجعل صاحبها غير أهل لنقد كتاب كالأمتاع والمؤانسة الذي نحن بصدده
هذا ما يتعلق بنقد الدكتور بشر. وسنتحدث في المقال الآتي عن أمثلة من نقد صاحبه
(ع. ص)(341/76)
المسرح والسينما
فلما (حياة الظلام) و (العودة إلى الريف)
24 + 16=40. . . هذه هي القروش الأربعون التي خرجت من جيبي عن طيب خاطر. وإني أصارح القراء بأني أبكي عليها الآن كما لو كانت أربعين ألفاً من الجنيهات!
دفعت المبلغ الأول في شباك تذاكر سينما (ستوديو مصر) ثمن تذكرتين؛ إحداهما لي والأخرى لصديقي الذي أتأبطه في الذهاب ويتأبطني هو في العودة! ودفعت المبلغ الثاني في شباك سينما (الكوزمو) ويا ليتني ما دفعت هذا ولا ذاك، فقد علمت - بعد فوات الوقت - أن المبلغين ذهبا إلى وجه الشيطان!
حرصت على أن أشهد أول عرض في استوديو مصر لشريط (حياة الظلام). وقد كان بودي أن أرى عملاً فنياً رائعاً، فلم أر عملاً فنياً على وجه الإطلاق. وإنما رأيت صوراً تتكلف الحركات، وأفواهاً تتكلف الكلمات، ومناظر تتكلف وتفتعل افتعالاً. . . كل ذلك في قصة لم يكن بها من بأس كقصة، للقراء ولكنها كانت ساقطة أشنع السقوط بوصف أنها سيناريو لسينما ولا ندري فوق ذلك ماذا دهى الآت تسجيل الصوت في أستوديو مصر؛ فقد كان فسادها صارخاً، حتى أن الكلام لم يكن يصل إلى مسامع الجمهور إلا وتصحبه همهمات تخبأ الألفاظ وتلف مخارج الكلمات. ولا ندري أيضاً لماذا يعنى هؤلاء الناس بإبراز هذه الوجوه التي جربوها وفشلت مراراً؛ أو نسي القوم خيبة بطل هذه الشريط في سابقه (فتش عن المرأة)! ولا ندري لماذا لا يفتشون عن وجوه جديدة يعطونها الفرصة لكي تظهر وتنجح؟
والمؤلم أن يضطر الناقد إلى الاعتراف بأن شخصية واحدة من شخصيات هذا الشريط هي التي حظيت بشيء من التوفيق وهي فردوس محمد التي أصبحت مختصة بأدوار الأمهات تقوم بها في إتقان تام ونجاح فائق؛ وعلى الشخصيات الباقية السلام!
أما الشريط الآخر، أو الفضيحة الأخرى من فضائح هذا الموسم، فهو (العودة إلى الريف) الذي آثرت السيدة ملك أن تبدأ به حياتها الفنية كممثلة سينما. فهذا الشريط ليس فيه موضوع ولا تمثيل ولا تلحين ولا إخراج
وقد وضح لنا من البحث أن العمل فيه قد جرى في حدود مالية ضيقة. وليس هذا عذراً(341/77)
يقبله الجمهور المصري الذي لا حجاب بينه وبين الأفلام الأجنبية الكبرى التي ينفق عليها من الأموال ما لا يكاد يصدَّق، ولا عذر للسيدة ملك في قبولها الظهور في شريط كهذا من المحقق أنها كانت - قبل قبولها الاشتراك فيه - تعلم موضوع قصته وتعلم أنه سوف يخرج في مراعاة تامة للظروف المالية الشديدة
أما تسجيل الأصوات فكان فضيحة مستقلة؟ وأما التمثيل فقد كان عاراً يتحرك على الستار. وأما الأضواء فقد كانت قذى في عيون الجمهور. وأما المناظر فقد كانت عنواناً في فشل مهندسها.
وأما الإخراج فقد كان الشيء الوحيد الذي يمكن السكوت عليه!
وبعد، فهل رأى القارئ اثنين من حوذية العربات (الكارو) يشربان الويسكي في شرفة (الكونتننتال)؟ هذا هو موضع هذين الشريطين بين الأشرطة الأجنبية الهائلة التي ظهرت في هذا الموسم
الإخراج. . . الإخراج. . .
وبهذه المناسبة لا نجد مندوحة عن الإشارة إلى فوضى الإخراج السينمائي في مصر. . . والواقع أن أصحاب الأفلام يحاربون بين نارين: فأستوديو مصر على فداحة أجره، يفرض لوناً من الديكتاتورية منقطع النظير. إذ يفرض ممثلين بأسمائهم لا يجد أصحاب الأفلام بداً من قبولهم على مضض! والاستوديوهات الأخرى وأصحابها من اليهود، على قلة استعدادها ورداءة آلاتها، تفرض مثل هذه الديكتاتورية في إسناد الأدوار إلى الممثلين من ذوي الأسماء المعروفة في غير نظر إلى التناسق بين طبيعة الممثل وطبيعة الدور الذي يلعبه في الشريط. يضاف إلى ذلك المعاملة المالية المنقطعة النظير في الرداءة والجشع
لماذا لا تؤسس الحكومة (أستوديو) تؤجره لأصحاب الأفلام وتسند إدارته إلى خبراء فنيين من شبابنا ذوي الثقافة السينمائية الممتازة؛ وهم كثيرون بحمد الله!؟
الأوبريت في الفرقة القومية
أشرنا في كلمة عابرة منذ أسبوعين إلى استعداد الفرقة القومية لإخراج رواية القضاء والقدر، وهي من نوع الأوبريت الذي ليس لهذه الفرقة عهد به.(341/78)
وقد سمعنا في الأوساط الفنية لغطاً يدور حول الرغبة في إخراج هذا النوع الذي أندثر من حياة المسرح المصري منذ سنين. وقيل إن الحكومة تنوي أن تعين المعهد الملكي الموسيقي على أن ينهض بمشروع جديد يكون من آثاره أن يظفر الجمهور بألحان رائعة في مسرحيات قوية. كما قيل لنا إن ثمة مؤتمراً مؤلفاً من أعلام الموسيقى والمسرح، سوف يبحث المشروع من نواحيه المختلفة.
وإلى أن يتم تأليف (أوبريت) جديدة، لا ندري لماذا لا تقوم الفرقة بإخراج بعض الروايات القديمة الناجحة التي ظهرت منذ عشرين سنة ونيف! كرواية (العشرة الطيبة) التي تمتاز بألحان لا نظير لها من وضع المرحوم سيد درويش؟
(أبو الفتح الإسكندري)(341/79)
العدد 342 - بتاريخ: 22 - 01 - 1940(/)
من وراء المنظار
سافر صديقي (عين) إلى الريف ليضحي بكبشه المنوفي الأملح هناك. ولصديقي الوفي (عين) ولع بالريف عجيب. فصباباه عرائس شعره، ومشاهده مسارح خياله، ومعاهده ملاعب هواه، ومزارعه صقال خاطره، ومطاعمه عافية بدنه.
لذلك تراه كلما افترض العودة إلى الريف في ساعة من النهار أو الليل
أسرع إلى القطار أو إلى السيارة دون أن يشاور أهله ويودع صحبه
ويرتب عمله!
دخلت صباح اليوم مكتبه الذي يكتب فيه (من وراء المنظار) فوجدت الكرسي خالياً وليس أمامه خبر، والمنظار متروكا وليس وراءه نظر! فقلت لنفسي: لم لا أجرب هذا المنظار الذي تنفذ منه (عين) الصديق إلى ما وراء الصدور والستور والحوادث؟ أما يجوز أن يكون سر فنِّه في هذا المنظار فأرى به ما يصح أن أصورِّه وأنشره؟
سألت عن ذلك نفسي ولم أنتظر ما تقول، فقد أخذت المنظار وتركت الدار ووضعته على أنفي وأنا امشي على طوار الشارع الذي عرفته وألفته، فإذا الناس غير الناس، والمدينة غير المدينة، والدنيا غير الدنيا!
كأنما هذا المنظار من صنع الله الذي أتقن كل شي! فإن فيه أسرار المناظير المعظِّمة والمقرِّبة والكاشفة؛ وفيه غير ذلك قوة التجريد فهو يرد كل شي إلى طبيعته، ويظهر كل شئ إلى طبيعته، ويظهر كل شخص على حقيقته
مشيت به في زحمة الطريق مشية الغريب الجاهل في البلد العجيب المجهول، تزخر نفسه بعواطف شتى من الغضب والعجب والدهش والإنكار والخوف، ثم لا يملك أن يسأل لأن لسانه معقود، ولا يستطيع أن يصبر لأن جَلده مفقود
رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذا هو الصديق البر الذي خالصته الود وساهمته الوفاء وعاشرته نصف العمر ثم لا ألقاه إلا صافحني بالكف الناعمة ومازحني باللسان المعسول؟ ما باله قد تساقطت عنه لفائفه الوردية، وحالت عليه أصباغه العبقرية، فبدأ أمامي عارياً ضارياً كالأسد الجائع، تتقد عيناه بالشر، ويتحلب شدقاه بالشره، وتمتد يداه الباطشتان إلى قوتي الذي لا مساك للنفس إلا به؟ وفي شريعة الوحش لا تتصافح الكفان مادامت بينهما فريسة.(342/1)
ولكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يسلِّم بيد ويلطم بيد!
أهذا هو رجل الدين الذي عرفته عنوان الفضيلة ومثال الورع ولسان المعروف؟ مالي أراه اليوم قد تهتكت الأسرار عن تنكره البارع، فلحيته المستعارة تكاد أن تسقط، وزهادته الكاذبة تهم أن تفترس، وحلته الدينية تشف عن جسد دنيوي تلهبه الشهوة المسعورة، وتذيبه الرغبة الملحة، ويود لو تنقلب المواعظ والآيات في فمه رُقًى سحرية ينال بها عرض الدنيا وعزة الجاه؟
أهذا هو العظيم المتأبه الذي أشاهده من حين إلى حين يمشي وأنفه في السماء، ولغاديده تكاد تنشق من نفخة الكبرياء، ونظراته وكلماته توزع على من حوله احتقار القوى واستكبار المتسلط؟ إني لأراه الساعة من خلف هذا المظهر المونق والرواء الخلاب جثةً ضئيلةً الأجلاد خبيثة الريح يلتف جلدها الرقيق الشاحب على ضمير مثقل بالخزي ونفس مطمئنة إلى الهُون. وكأني إلى بقايا الإنسانية فيه تخزه في مواطن الحس منه بكلام معناه: يا عز ما بينك وبين الناس، ويا ذل ما بينك وبين نفسك!
ومن هذا؟ أهذا هو السياسي الذي ألف معجما في لغة الوطنية ونظم ديواناً في مدح الدستور؟ أهو من أرى أم ذلك تاجر يهودي السمات يتجر بالكلام كالمضاربين في (البرصة)، ويراهن على الزعماء كالمراهنين على الخيل في السباق ويضحي بالمنفعة اليسيرة لينال مقعداً في البرلمان، أو بالوظيفة الصغيرة ليبلغ كرسيَّاً في الوزارة؟
وما خطب هذا الشاب الذي يتجمل بالبذلة المهندمة ويتنبل بالحركة المنظمة، وليس في كيسة قرش ولا في بيته قوت؟ لماذا يجلس في هذه المركبة الفخمة مع هذا الرجل وهذه المرأة؟ أيريد أن يخدع الرجل فيبتز ماله بالصداقة، أم يريد أن يغوي المرأة فيسلب ثروتها بالزواج؟ لقد بأن في المنظار أنة (ابن ذوات) أفلس فتاجر في الاحتيال وسمسر للرذيلة. واللذان معه زوجان أرستقراطيان يقوم زواجهما على الرياء والخيانة؛ فالفتى يبيع الرجل أعراض الناس ويشتري منه عرض نفسه. وهو بهاتين الوسيلتين صديق الأسرة الأدنى وكلبها الممسوح المدلل!
وما حال هذه العصبة التي تندو كل ليلة إلى مجلس شراب أو سامر أنس، فيتنادمون على الكأس بطرائف الأدب وروائع النكت ومداعبات الصداقة؟ لقد كنت احسبهم جميعاً فأصبحوا(342/2)
في هذا المنظار شتى! فهم لا يتصافقون على الود إلا في مجالي اللهو؛ فإذا تفرقوا تناكروا وبسط كل منهم لسانه في الآخرين بالذم، ودرج بعضهم بين بعض بالوقيعة، وصحح كل واحد لنفسه ما تقسم من الفضل في الجماعة!
أعوذ بالحليم الستار، من شر هذا المنظار! لقد شوه في عيني جمال الوجود كما يشوه المكرسكوب بشرة الوجه الرّفافة. ولا مراء في أن جمال الدنيا خداع وسعادة العيش وهم وحياة الناس تمثيل؛ فإذا أزلت عن العيون غشاوة الإيهام والإيهام فرأت كل شئ على طبيعته وكل شخص على حقيقته، لا يبقى لجميل سحر، ولا لعجيب سر، ثم لا يكون بين أحد وأحد ألفة، ولا بين جماعة وجماعة نظام
فاكتب لي يا صديقي في بطاقة العيد: أتريد أن أرسل إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجربه مرة على عين الدكتور مبارك؟
احمد حسن الزيات(342/3)
لعل الليالي. . .!
(رسالة مهداة إلى الروح الذي أهدي إليه (وحي الرسالة))
الدكتور زكي مبارك
ما هفا القلب لخطرة من خطرات الحب والمجد إلا ترنمت بقول البحتري:
لعلّ الليالي يكتسين بشاشةً ... فيرجعن من عهد الهوى المتقادم
ولعهد الهوى في قلبي وعقلي ألوف من الألوان والظلال. فهو تارة صورة وجدانية، وتارة صورة وطنية، وحيناً نزعة إسلامية، وأحياناً نزعة عربية. وقد يحلِّق الفكر فيرتفع إلى الأجواء الإنسانية في كثير من الأحايين
ولا أعرف بالضبط متى تثور في صدري هذه المعاني: فقد تثور للشعور بالتقصير حين أتذكر تخلفي عن أداء بعض الواجبات كالذي وقع يوم أهملت التنويه بكتاب (الأدب المصري الإسلامي) للأستاذ محمد كامل حسين، مع أن هذا الكتاب قدَّم إلى عقلي فنوناً من الأريحية حين حسبتُ نفسي على قراءته خمس ليال متواليات، وكالذي وقع حين قّصرت بكتاب الدكتور طه بك حسين عن أبي العلاء في سجنه، مع أني قرأته في سهرة واحدة وقيدت بهوامشه ملاحظات كانت خليقة بأن تفتح للقراء باباً من الدرس والتحقيق
وهل أنسى أني فرطت في التنويه بكتاب الأستاذ سعيد العريان عن حياة الرافعي، وهو كتاب شُتِمتُ فيه بغير حق لأني كنت قلت إن العريان لا يدرك أسرار الحب ولا يفهم أين يقع مثل قلبٌ الرافعي حين ينحدر في هواه؟ وكيف يدرك العريان هذه الدقائق وهو لا يصل إلى (شبرا) إلا بدليل مع أن عمله هناك؟!
وكيف أغفر لنفسي السكوت عن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وقد اجترأ على الدخول بيني وبين الأستاذ أحمد أمين والدكتور طه حسين؟ كان هذا الأستاذ جديراً بالالتفات إليه حين أنكر عليّ أن أقول: (إن أبا نواس في فجوره أشعر من أبي العتاهية في تقواه)؟ ولو أني التفت إليه لخلقت فرصة لتحديد الصلات بين الأدب والدين
وفاتني، مع الأسف، أن أتحدث عن كلمة قالها رفعة رئيس الوزارء يوم جمع مديري الأقاليم بمكتبه في وزارة الداخلية: فقد نبههم إلى مراعاة الكفاية قبل مراعاة الأقدمية في ترقية الموظفين، وأعلن بصراحة أن التقيد بالأقدمية يعطل مواهب الأكفاء، ويروض(342/4)
الكسالى على الاطمئنان إلى أن الزمن يصنع في الترقية ما لا يصنع الجهاد في أداء الواجب بأمانة وإخلاص
ولقد كانت هذه النظرة الحصيفة خليقة بأن تُقدَّم إلى القراء في مقال أو مقالين عساها تصبح من التقاليد الأساسية في الحكومة المصرية
وهل ضاعت المواهب في بلادنا إلا بسبب التقيد بالأقدمية؟
إن رفعة رئيس الوزارء فتح مجال النضال لتحطيم هذه الصخرة التي طال عهدها بتعويق خطوات المجاهدين في سبيل الواجب، فكيف نسكت وقد رأينا الكسالى الخامدين يعتمدون على الزمن في تقدير الأنصبة والحظوظ والحقوق؟
ومن الذي يشرح هذه المعاني ويصيِّر الاعتماد على الكفاية عقيدة وطنية إذا سكت عنها الأدباء واكتفوا من الأدب بوصف القمر والشمس والنجوم والأزهار والرياحين؟
وكيف يُحجب الأدباء عن درس الشؤون الأساسية في سياسة المجتمع وقد صار الأدب في بلادنا من المؤهلات الملحوظة في اختيار الوزراء؟
وهل يظن عاقل أن وزراءنا يرضون لأنفسهم ومواهبهم بالتخلف عن مسايرة الحياة الأدبية؟
الأديب المصري هو المسئول عن العزلة التي يعانيها بالبعد عن محيط الحياة الرسمية، فلو أنه كان اهتم بمتابعة ما يجدّ من الشؤون التي تعالجها الدولة بالطب لأمراض المجتمع لنُصبتْ لأدبه الموازين، وصار له في كل مقام مقال؛ ولكن الأديب المصري يتوهم في أغلب الأحيان أن الأدب له مجال غير النظر فيما يهتم به وزراء الدولة من خطير الشؤون
إن الزمن يُسرع، ثم يُسرع، ثم يسرع، وأخشى أن تنقضي حياتنا قبل أن نرى للقلم دولة في هذه البلاد
فمتى يعرف الأديب أن من واجبه أن يُقنع الدولة بأنه خُلق لوصف المجتمع باللغة العربية، وهي اليوم لغة مصر، وعن مصر يأخذ الحجاز نفسه علوم اللغة العربية؟
ومتى يستطيع الأديب بحسن الترفق والتلطف أن يكون له في كل معضلة قول، وفي كل مشكلة رأي؟ متى يغيِّر الأديب ما بنفسه فيدرك أن الدولة تنفق في كل سنة نحو نصف مليون من الدنانير لتخلق الأديب الذي يستطيع أن يشغل الناس بأخلاقهم وأذواقهم ومبادئهم.(342/5)
والذي يستطيع بسحر البيان أن يروض الجماهير على تذوق معنى الحياة ومعنى العدل؟ الأديب في بلادنا كثير التوجع والتفجع، ولكنه لم يخط خطوة جدية في تجميل الوجود، وهل في الوجود جمال وقبح؟ الوجود هو هو لسائر الناس، ولكنه كالماء يتلوَّن بلون الإناء. والأديب الحق هو الذي يستطيع تحويل الوجود من لون إلى لون، فيُضحك قراءه حين يريد، ويبكيهم حين يشاء، وفَقاً لخطة مرسومة يفرضها الشعور بألوان ذلك الوجود
وأ ين الأديب الذي سحره جمال الريف المصري وهو يتنقَّل بالسيارة أو القطار من إقليم إلى إقليم فوصف أرض مصر وسماءها وصفاً يخلق الحرص الصادق على الاعتزاز بالمِلكية في أرجاء هذا الوطن الجميل؟
أين الأديب الذي يفكر في بناء دار بالريف يسكن إليها من وقت إلى وقت، كما يصنع أدباء الفرنسيس والإنجليز، وكما كان يصنع أدباؤنا الأقدمون؟
إن الأديب يشكو من تجاهل الدولة لحقه في الحياة، فهل حفظ هو حقه في الحياة؟
أليس من العجب العاجب أن يكون الفلاح اعرف بحقه من الأديب؟
الفلاح المصري هو المثل الأعلى في الوطنية، لأنه لا يبيع شبراً من أرضه إلا بعد أن يبلله بالدمع، وهو يشعر بالخزي أمام نفسه وأمام زوجته وأطفاله حين يبيع فداناً ورثه عن أمه أو أبيه، فأين الأديب الذي يحس هذه المعاني؟ أين وميادين الأدب تُنتقَص في كل يوم ولا تثور زفرة من شاعر أو كاتب أو خطيب؟
وللأدباء أملاك صحيحة ورثوها بأسنَّة الأقلام، كما ترث الدول أملاكها بالمدافع والسيوف، فأين من يعرف تلك الأملاك؟ أملاكنا هي الميادين الذوقية والأخلاقية والاجتماعية ومن العار أن يسبقنا غيرنا إلى العناية بشؤون المجتمع ونحن نملك من قوة الإفصاح عن أسرار المجتمع أضعاف ما يملكون، ونستطيع نقل المجتمع من حال إلى أحوال إذا صرنا من أصحاب المبادئ والعقائد، وفرضنا على أقلامنا الجهاد الموصول في تثقيف المشاعر والعواطف والأذواق
والى من تلجأ الأمة في تهذيب مشاعرها وعواطفها وأذواقها إذا جف قلم الأديب؟
وما قيمة الأديب إن لم يكن لصرير قلمه صوت مسموع في الأكواخ والقصور والمعاهد والمعابد؟(342/6)
وهل سيطرتْ عقيدة دينية، أو نظرية أخلاقية، أو شريعة ذوقية، بغير سناد من أسنّة الأقلام؟
أخشى أن يكون الأدباء في مصرهم (الأفندية) في فلسطين؛ فالأفندية هناك هم الذين باعوا أملاكهم، الفلاحون في فلسطين فهم الذين عرفوا قيمة الوطن فلم يبيعوا ما ورثوه عن الأباء والأجداد
أين في أدباء اليوم بمصر من يذكِّر بالشيخ محمد عبده، الرجل الفلاح الذي فرض على الدولة أن تحسب لقلمه ألف حساب؟ وهل فينا شبيه للأزهري الفلاح سعد زغلول الذي رجّ مصر والشرق بدعوته الكريمة إلى إعزاز الشخصية القومية؟
إن الأنبياء - وهم مؤيَّدون بروح الله - لم يصلوا إلى القلوب بغير البيان!
فمتى يصير إعزاز البيان في بلادنا شريعة من الشرائع؟
وهل نصل إلى ذلك إلا يوم يعرف أرباب الأقلام أنهم رسل هداية، وأن سواد الحبر في أقلامهم أنفع لوطنهم من بياض الصباح؟
حدثنا الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك في مقال نشره بجريدة السفور منذ أكثر من عشرين سنة، أنه رأى زهرة جميلة في أحد أسفاره، وأنه لم يجد من يعرف اسم تلك الزهرة. فقال: عزاءً، عزاءً، أيتها الزهرة، فليس اسمك أول اسم يضيع في هذه البلاد!
وهل صنع الأستاذ مصطفى عبد الرازق أكثر مما يصنع من يتوجعون للحق الضائع في صمت؟
هل نزل من القطار فنقل الزهرة إلى قصره وخلع عليها اسمًا من طرائف الأسماء؟
وهل يذكر الآن مصير تلك الزهرة، وقد توسلتْ إليه أن يرعى وداد لحظة؟
ولتلك الزهرة شبيه من الجواهر المجهولة في هذه البلاد!
عندكم الأديب، وهو أنفع لكم من معدن (الولفرام)، الذي استكشف بغتة في الصحراء الشرقية، وهو معدن نفيس يغنيكم عن أخيه الذي يصدر عن بلاد الصين، وقد استكشفه رجل أجنبي في السنة الماضية. فأين الأجنبيُّ الملهم الذي توفقه المقادير إلى استكشاف العبقرية الأدبية في وطن (حابي) والحابي هو الوهاب، وهو اسم النيل قبل أن يعرفه اليونان؟(342/7)
تحرَّك، أيها الأديب، ودُلُّ على نفسك كما دلُّ على نفسه معدن الولفرام!
إن ذلك المعدن هو أصلح المعادن لصياغة الأسلاك الكهربائية، ونفسك هي الكهرباء أيها الأديب، فاصعقْ من يجادلونك في عبقريتك، وسيطر بقلمك على الوجود.
زرت عين حلوان، فسمعتها تقول: منذ ألوف أو ملايين من السنين وأنا محبوسة في الصحراء، لا يحس وجودي فرعون ولا خليفة ولا سلطان ولا مَلك!
فاقتديت بالحكيم مصطفى عبد الرازق وقلت: معذرة، يا عين حلوان، فما كنت أول جوهر ينساه أهل هذه البلاد!!
وما عين حلوان؟
هي عين يشفى ماؤها من أمراض الكبد
ولى كبِدٌ مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ
أباها عليَّ الناسُ لا يَشترُونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح
فأين كانت هذه العين وقد مات ألوف وملايين من أجدادنا الأكرمين بأكباد قرَّحتها مآسي الحب؟
وهذه العين أراد طمسها بعض أعداء مصر بالأسمنت في غفوة الليل ولم يفلحوا
فمتى ينتصر الأدب على خصومه الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم!
لن يكون لمصر عَلَم مرفوع إلا يوم تعرف أن الله أعزّها بالقلم، وأنه عزّ شأنه جعل في واديها شعلة الحركة الفكرية في القديم والحديث. ومن الذي يتصور للدنيا حياة بدون مصر وهي صلة الوصل بين الشرق والغرب؟ وهل كان لأنبياء الشرق سناد غير مصر وفيها عاش أعظم الحكماء والرهبان والصوفية؟ وهل اتفق لمدينة في الدنيا ما اتفق للقاهرة من رعاية الصوامع والكنائس والمساجد؟
إن وادينا هو الوادي الأخضر بين وديان العالم، ولن نزكي عن نعمة الله علينا إلا بالتغني بهذا الوادي الجميل؛ ولكن من يسمح لنا بالغناء؟
هل رأيتم جو مصر في يوم 6و11 يناير؟
هل رأيتم؟ هل رأيتم؟
حدثوني في أي بلد يرى الناس مثل هذين اليومين في فصل الشتاء؟(342/8)
إن يوماً واحداً من أيام الصحو في مصر لأفضل من جميع الأيام في سائر البلاد. وبفضل أيام الصحو في مصر صح لأحد ملوكنا القدماء أن يرى نفسه إله الأرض والسماوات
ومع ذلك جاز لبعض خلق الله أن ينكر على شعراء مصر نعمة الفنون والجنون
ومتى يُفتَن المرء أو يجنَّ وهو لم ير ضحوة الربيع في ظُلمة الشتاء؟
أيامنا كلها ربيع ولكن أين من يعرف؟
ذلك يوم 6 يناير، وهذا يوم 11 يناير، فاسألوا في أي أرض عرف الناس مثل هذين اليومين؟
لعل الليالي. . .!
لعل الليالي يكتسين بشاشةً ... فيرجعن من عهد الهوى المتقادمِ
لعل الليالي. . .!
لعل الليالي تُحسن مرة واحدة فتلفت بعض الناس إلى الكأس الذي صدعوه بعد أن شربوا ما كان يحوي من رحيق!
لعل الليالي تذكِّر بعض الناسين بالوَتَر الذي قطعوه بعد أن ثملت آذانهم بما كان يملك من رنين!
لعل الليالي ترجع أحبابنا الشاردين إلى عهدهم القديم حين كانوا يحسّون ظمأ الأرواح والقلوب!
إن عشتُ - وعُمر الصادقين في مصر من عمر الورد - فسأنتقم من زماني
وهل أموت قبل أن أساعد على تأسيس دولة للقلم في هذه البلاد؟
وكيف يموت من ينقل الناس بقلمه من ضلال إلى هدى، أو من هدى إلى ضلال؟
يستطيع قومٌ أن يتناسوا فضل القلم في خلق المودّات الصحيحة لمصرفي أقطار الشرق، ولكنهم لن يستطيعوا أن يصدّونا عن الجهاد في الطب لأمراض المجتمع المصري والشرقي. ولن يُفلح من يتوهمون القدرة على تزهيدنا في تذوق معاني الحب والمجد
نحن من صُنع الله، ويد الله لا تمسُّ شيئاً أو شخصاً إلا لتهبه الخلود
لعل الليالي. . .!
لعل الليالي تُلهم شعراء مصر فكرة (نشيد العدل) كما ألهمتهم فكرة (النشيد القومي) و(342/9)
(الأناشيد العسكرية). ولعل الليالي تذكِّر من يسمُرون على شواطئ بَرَدى والعاصي ودجلة والفرات وسائر الأنهار العربية والإسلامية أن لهم في مصر إخواناً يُقذون أبصارهم تحت أضواء المصابيح ليقيموا دولة للقلم العربي، القلم الذي عجزت عن قصفه مكايد الصروف وعثرات الجدود
لعلّ وليت!! وهل تغني لعلّ أو تنفع ليت؟؟
(ن، والقلم وما يسطُرون)
فإلى الله الذي أقسم بالقلم أرفع نجواي وشكواي، وهو حسبي ونعم الوكيل
فيا فاطر الأرض والسماوات، ويا باعث النور في ظلمات الحبر الأسود، ويا راحمي من دسائس الكائدين والخاتلين،
ويا مُلهمي وساوس الشك وحقائق اليقين، عليك توكلتُ وإليك أُنيب.
زكي مبارك(342/10)
حديث حول الشعر
لجان كوكتو وبيبر لاجارد
بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد
(هذه محاضرة طريفة، ولكنها ليست كالمحاضرات في شيء، إنما هي أدنى إلى التمثيل منها إلى المحاضرات. قام بها ملك الأحاديث الصحفية (بيبر لاجارد)، مع الشاعر الكبير (كوكتو) في قاعة (الأنال) في باريس في السنة الحالية، وهنا يسأل الصحفي، الأديب الشاعر، فيجيبه على سؤاله أمام الناس. . .)
(المنجد)
بيبر لاجارد يتكلم:
سيداتي، آنساتي، سادتي:
هذا حديث طريف، سنحاول أن نسمعكموه، وهو يشاكل التمثيل في كثير من نواحيه. سأدفع شاعرنا (كوكتو) إلى الكلام عن الشعر، بعد أن فرّ من باريس واعتزل في البروفانس. إنه لم يعدّ للأمر عدته، ولم يحبر الصحائف، ولكنه سيسمعكم صوته الإنساني المتصعد من أعماق القلب. . .
جان كوكتو
قبل أن أسلم مقالتي لهذا الصحفي البارع، أريد أن أحدثكم عن الصحافة: إنها مهنة من الطراز الأول، ولكنها تتطلب جهداً وذكاءً، لأن صاحبها يسعى لأن يشق المرء نصفين ليستطلع خفاياه، والمرء يحاول الصمت أمام هؤلاء ذكاءً أو كسلاً، ولكن مهما حاول المرء أن يفلت من الصحفيين، تبعوه وأفسدوا عليه هدوءه. إن هذه المهنة هي صيد للإنسان.
أما الشعر الذي سأحدثكم عنه، فهو جني يستطيع أن يتخذ أشكالاً شتى. . . لقد حسب (ليونارد دفانسي) أن الشاعر من ينظم لا من يهز، فنظم من الشعر أبياتاً ليكون شاعراً، ولكنه كان في غنى عن تلك الكلمات الميتة التي صاغها. . . فقد كان شاعراً في فنه، وشاعراً في لوحاته. . . ولقد كان شعره الذي أودعه الصور والتهاويل، أروع من شعر الشعراء. سألوه يوماً: أي فرق ترى بين المصور والشاعر؟. . . فأجابهم: إن للمصور شأناً لا يبلغه الشاعر. سلوا عاشقاً أذبله لوجد، ولاعه الحنين، ماذا تود؟ أأبياتاً من الشعر الرقيق(342/11)
تمجيداً لحبك، أم صورة ساحرة له؟. . . يجبكم: أود صورتها.
ولقد حدث بعد (رامبو) أمر ذو شأن: فقد كان في فرنسة قبل هذا الشاعر شعر. . . ولكن رامبو أطلق الروح الشعري، وكان لا يعني إلا بالروح. . .
وأعني أن الشعر قد أصبح بعده مهنة، فقد كان لا ينظم إلا إذا أثر فيه شيء. . . أما بعده، فقد أصبح الشعر تحت الطلب!
أنا أعجب (بموليير). إن شعره هو مصدر شعرنا الحديث. لقد كان (موليير) صحفياً، يؤلف المجلات، ولكنها مجلات رائعة عميقة سريعة. وإن قصيدته (أورونت) هي نبع ثَرٌّ لشعرنا اليوم. ولو لم تكن أنشودة الأورونت لما كان (مالارميه) ولما سمعنا أهازيج أولئك الشعراء الذين يسكروننا بروائعهم
لقد بعث فينا (موليير) الحياة، وجعلنا نتذوق أشياء كثيرة. كنت في (مونتارجيس). فقرأت (المتشائم) عشرين مرة، وقرأت (بريتانيكوس) عشرين مرة. لأن راسين وموليير صانعا ساعات، فإذا أردت النظام والدقة فالتمسهما عندهما
لم تكن قصيدة (الأورونت) قط رديئة، كما قالوا، وإنما كانت رائعة جميلة، فيها من الشذوذ قليل، ولكن ثقوا أن من هذه القصيدة أتى الشعر الحديث
وتستطيع يا صديقي أن تسألني الآن عما تشاء. . .
بيبر لاجارد
رأيتم أن من العبث إعداد أسئلة لهذا الشاعر، فلقد حدثكم عما كنت أريد أن أسأله عنه. ولكن. . . ما هو الشعر يا صديقي
جان كوكتو
تحسن الصنع إن سألتني عما تشاء. أما الشعر فهو دارة لا يستطيع أن ينفذ إليها إلا رهط قليل. ولن تجدوا وسطاً أرستقراطياً أشد أحكاماً من الشعر. على أنه يجب أن تعملوا أمراً، ذلك أن الشاعر إذ ينظم قصيدة فيها الشعر الصافي وحده، لا يجد لقصيدته هذه رواجاً، لأن الخاصة وحدها هي التي تفهمها، وكذلك لا يجد الشعر الواضح المعاني ما يلاقيه الشعر الدقيق الفكر. إن نصيب الأول يكون نصيب الزهور المتفتحة التي تذبل سريعاً؛ أما الثانية، فاسمعوا. . . إذا أردت أن تهدي إلى سيدة أو آنسة أزهاراً، أنك تدهشها إذا أرسلت إليها(342/12)
الورد المتفتح، ولكنه يذبل، أما يجدر بك لتذكرك دائماً أن ترسل إليها براعم الورد لتتفتح بين يديها. . .!
وأنا أعتقد أن القصائد التي لا تحدث ضجة عند نشرها هي التي تخلد وتبقى. هذا بودلير. . . أخرج للناس روائعه، فصدفوا عنها، لأنهم لم يفهموها، ولكنها أصبحت من بعدُ حديث الناس جميعاً. . . أما هو فكان ينظر إليها كأنها أزاهير وحشية في بساتين نائية مجهولة
وربما أصاب الناس في تقديرهم القصائد أحياناً. ربما سمعتموهم يقولون عن شاعر كبير: إنه ليس بشاعر حق، أو عن مطرب بارع: إنه لا يطرب. ذلك لأنهم أحسوا أن شعر ذلك الشاعر لا يهز ولا يثير، ولأن ما أبدعه متقلب ضعيف
إن الشعر يرفرف على العالم من كل نواحيه، ولكن علينا أن نصطفي ونظهر. فإن في الصحف شعرا، ً ولكنه غير منظوم؛ وإن في الحوانيت شعراً ولكن لا يدركه إلا القليل. ألا تنظرون إلى تلك النقوش وتلك الخطوط التي تزدان بها الصحف؟ ألا ترون تلك الأشكال الرائعة، وتلك التماثيل العارية التي ظهرت في معارض البيع؟ إن في ذلك كله شيئاً يبهج النفس، شيئاً اسمه شعر
الحياة ملأى بالشعر يا سادتي. إن مرأى الطائرين الذين تحترق بهم الطائرة، فيضطربون بين ألسنة اللهب، ويموتون على زئير النار، وهم يستمعون بالمذياع إلى رقص الفتيات وضحك الزنوج في مسارح مونتمارتر لمملوء بالشعر. وإن منظر تلك ألام التي أحست الجوع فالتهمت فخذ ابنها الصغير لشعر أيضاً، ولكنه شعر مخيف مجرم يثير الجمهور لأنه يثير العواطف. إن المرء ليستطيع يا سادتي إقامة معرض للشعر يلاقى أعظم نجاح وأكبر تأييد
بيبر لاجارد
أنت لا تريد أن تحدّد الشعر بالنظم، ولهذا كان ما أخرجته للناس شعراً كله، ولكنه شعر منثور. لقد صنفت رواياتك، مثل (توماس) و (الأطفال الأشرار) وغيرهما وسميتها (الشعر الروائي) وعندما تخرج مجموعة من الرسوم الرائعة، أو كتاباً مثل (سر المهنة) تضعه تحت اسم (الشعر التصويري) أو (الشعر النقدي) فهل هناك صلة بين هذه الأنواع كلها أو أن في نفسك رباطاً يربط بعضها ببعض؟(342/13)
جان كوكتو
كل ذلك شعر ولو لم يكن موزوناً مقفى. وأنا شاعر، والشعر مهنتي، كما أن للنجار مهنة وللحداد صنعة. لكنى لا أحب ما كان فناً منظماً. لقد حاولت أن أحب ما هو منظم فني، ولكني لم أستطيع
الشاعر طليق، والفنان لا يحب النظام. وإن أولئك الشعراء الذين يودون أن ينيروا كل جزء من أجزاء ذاتهم، ثم يطلبون فوق ذلك نوراً وأشعة طول حياتهم - لعظماء أنهم كجيته العظيم. هم يعشقون النور، حتى في اللحظة التي تعرج روحهم فيها إلى السماء. . . ولكنهم قليلون
دع الشاعر. . . إنه يستمد وحيه من كل شيء. . . من كلب حقير ومن ملك كريم إنه يسعى ويفتش لأنها مهنته. . .
- وهل الشعر مهنة؟
- نعم مهنة، ومهنتي قول الشعر
- وهل تستطيع أن تقول الشعر متى شئت
- نعم، أقول الشعر متى أشاء، كما يصنع النجار النضد متى شاء
- إذن لست بشاعر ولكنك ناظم
- إن هذا المعنى للشعر الذي على أنه الوحي الروحاني، لم يعرف إلا بعد رامبو. الدنيا مليئة بالشعر، ولست عبداً، حتى أنتظر الوحي الروحي. . .
إن لنا في الشعر أساتذة، هم شعراء من نوع خاص، لا ينظمون إلا وهم في كهوفهم، ولا يعرفهم إلا قليلون، منهم رامبو، ومالارميه ورايموند روسّه ل. . . هؤلاء كنوزنا التي نفخر بها. هؤلاء هم الشعراء حقاً، منهم نستلهم شعرنا، وعليهم نتعلّم كيف ننظم وكيف نقول.
صلاح الدين المنجد(342/14)
بعد الفراق
الدكتور إبراهيم ناجي
أَجَلْ أهواكِ أنتِ مُنى حياتي ... وأنتِ أحب من بَصري وسمعي
وهل أنساكِ؟ كلا، كيف أنسى ... هوًى قد كان إلهامي ونَبْعي!
لبستُ من التَّصبُّرِ عنكِ درعا ... فها أنا تنزع الأقدار درعي
وها أنا لا أُداري عنك أمرا ... عَرَفْتِ محبَّتي ورأيتِ دمعي
وهل يُخفي التنكرُ ألفَ جرحٍ؟ ... وهل يُخفي التستر ألفَ صدع؟
تلاشت قوتي وغدا فؤادي ... كأن خفوقَه خلجات نزع
أبِّشره فيرقص في ضلوعي ... وأنظر سود أيامي فأنعى
وقد نضب الخيال وغاض طبعي ... ومات على حياض اليأس زرعي
أُجَرْجِرُ وحدتي في كل حشْد ... وأحمل غُربتي في كل جمع
ناجي(342/15)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق العقلية (الذكائية)
في سنة 1857 ولد الفريد بينيه السيكلوجية الفرنسي الشهير، وتخرج في جامعة الصربون. ولما نال دبلوم التاريخ الطبيعي سنة 1890 عين مساعداً للأستاذ بوني مدير معمل علم النفس وعلم وظائف الأعضاء في الصربون. وفي سنة 1894 نال بينيه الدكتوراه، وتقاعد الأستاذ بوني فحل الأول محل الثاني في إدارة معمل علم النفس. ومن ذلك الحين بدأ كلاهما - وانضم أليهما آخرون - في تحرير مجلة (العام السيكلوجي) ' هذه المجلة لسان الحركة السيكلوجية الفرنسية. وفي هذه المجلة - التي سنشير إليها في مواضع مختلفة من هذا المقال - نشر بينيه كثيراً من المقالات عن الذكاء ومقاييسه والفروق الفردية. ولكن حياته الحافلة بالبحث والإنتاج لم تطل، فقد عاجلته المنية سنة 1911
بدأ بينيه تجاربه لمعرفة الفروق العقلية بين الأفراد بقياس الذكاء بالطرق التي كانت معروفة في عهده في معامل علم النفس، كطرق جولتن وكاتل - التي أشرنا إليها في مقالات سابقة - وكقياس سرعة الإحساس، وسرعة الحركة، وسرعة الرجع. ولكنه ما لبث أن نبذ هذه الطريقة التي سماها (طريقة الآلات النحاسية) وفكر في طريقة لا تحتاج إلى آلات بل إلى قلم وقطعة ورق وقليل من الحبر كما يقول هو
وفي سنة 1896 اختبر ثمانين طفلاً بعرض صور متشابهة عليهم، ومطالبتهم بالإجابة عن أسئلة وضعها لهم. وقد وصل بتجاربه واختباراته هذه إلى أن هناك ذكاء وراثيا وثقافة مكتسبة يجب التمييز بينهما، وأنه لقياس الذكاء الوراثي يجب أن تكون الاختبارات متعددة ومتنوعة بحيث نقيس كل مظاهر القدرة على التكييف، تلك القدرة التي سماها الذكاء
كذلك قرر بينيه أن الذكاء إنما يظهر في التصرفات التي تحتاج إلى بناء وتركيب أي أكثر من التي تحتاج إلى تحليل وفي معالجة الأمور التي تحتاج إلى تنظيم أكثر من أدراك هذه الأمور وتمييزها (أو في كلمة واحدة: الذكاء هو عملية تكوين وتركيب). ومن أجل ذلك استعمل بينيه لقياس هذا الذكاء اختبارات تحتاج إلى بناء وتكوين، كأن يعطي الطفل(342/16)
صورة مقسمة إلى عدة قطع ويطلب إليه تكوينها، أو قطعة نثرية محذوفاً بعض أجزائها ويطلب إليه ملء الفراغ بكلمات أو جمل مناسبة
راع رجال التعليم في باريس في بضع السنوات الأولى من القرن الحالي كثرة عدد المتخلفين في التحصيل من تلاميذ المدارس بالمدينة. ولم تكن تظهر على هؤلاء التلاميذ علامات الغباء أو ضعف العقل. وقد حاول أولو الأمر أن يعرفوا سبب هذا التخلف، أهو عدم الانتباه، أو إهمال المدرسين، أو قلة ذكاء التلميذ حقيقة، فكونت وزارة المعارف الفرنسية سنة 1904 هيئة - من أعضائها بينيه - لفحص الأمر سيكلوجيا، وإبعاد ضعاف العقول وإرسالهم إلى مدرسة خاصة بهم. وقد كان المتبع حتى ذلك الحين أن يعرف ضعاف العقول بطريق الفحص الطبي وآراء المدرسين
شرع بينيه في وضع مقياس موضوعي يعرف به درجات الذكاء بين الأفراد، ويستطيع به تمييز شواذ العقول من غيرهم. وكان كلما وضع نوعاً من المقاييس جربه ثم عاد إلى إصلاحه وتهذيبه ودراسة النقد الموجة له. وكان أول مقاييسه ما وضعه مع زميله تيودر سيمون سنة 1905. ويمتاز هذا المقياس بأنه وضع ليناسب أسناناً مختلفة، وبتدرجه، وبتدرج في الصعوبة وفقاً لنمو العقل. ولكي نعرف الفرق العقلي بين فردين أو أكثر يجب أولاً أن يكونا متساويين في السن حتى نقارن نتائج اختبارهم. ويمتاز هذا المقياس أيضاً بأنه لم يقصد به قياس الاستعدادات الخاصة، بل قياس الذكاء العام وفي سنة 1908 نشر بينيه وسيمون مقياساً منقحاً للذكاء، نجد فيه لكل عمر مجموعة خاصة من الأسئلة. فإذا ما أجاب الطفل إجابة صحيحة عن هذه المجموعة من الأسئلة كان عمره العقلي (ع. ع) يناسب عمره الزمني (ع. ز)، ويسمى ذكاؤه في هذه الحال متوسطاً. مثال ذلك أن يسأل الممتحن الطفل: (1) ما اسمك؟ (2) أنت ابن أو بنت؟ (3) ما عمرك؟ فإذا أجاب الطفل صحيحاً عن السؤالين الأول والثاني كان عمر الطفل العقلي (ع. ع) أربع سنوات، إذ أن تجارب بينيه المتكررة أثبتت أن الطفل متوسط الذكاء يستطيع أن يجيب مصيباً عن هذين السؤالين. ولما كان هذا المقياس عبارة عن مجموعة من الأسئلة تزداد صعوبة درجة بعد درجة كلما ازداد سِنُّ الممتحن أطلق عليه بالفرنسية أي المقياس السلّمي للذكاء. وعيب هذا المقياس أنه لا يعطي أي فكرة عن العلاقة بين العمر الزمني والعمر العقلي، فقد يتفق(342/17)
اثنان في عمر عقلي واحد - ست سنوات مثلاً - ويكون العمر الزمني لأحدهما خمس سنوات وللثاني عشراً.
وقد شاع هذا المقياس في أوربا وأمريكا، فاستعمله ديكرولي في البلجيك، وجودارد في الولايات المتحدة، وبوبرتاج في ألمانيا وفيراري في إيطاليا
لم يمض على هذا المقياس ثلاث سنوات حتى نشر بينيه - باسمه وحده - مقياساً آخر منقحاً سنة 1911، وكان هذا آخر عمل قام به في حياته. وقد احتوى هذا المقياس على أربعة وخمسين اختباراً موزعة على السنوات المختلفة من سن الثالثة إلى السادسة عشرة. وكان هذا المقياس كسابقه يعين عمر الفرد العقلي من غير تحديد للنسبة بينه وبين العمر الزمني. وقد ترجم هذا المقياس أيضاً إلى لغات أخرى ولاقى رواجاً كبيراً في أمريكا. وفي سنة 1915 نشر البروفسور ترمان - بمعونة زملائه بجامعة استنفورد - ترجمة منقحة ومهذبة ومزيدة لمقياس بينيه سيمون وتعرف هذه الترجمة باسم (مقياس بينيه إستنفورد المنقح).
ويحتوي هذا المقياس على تسعين اختبارً، لكل سنة ستة اختبارات عادة. وهاك بعض هذه الاختبارات:
يطلب المختبر من الطفل البالغ ثلاث سنوات:
1 - أن يشير إلى أنفه ثم عينه ثم فمه ثم شعره، وينجح الطفل إذا عرف ثلاثة من أربعة
2 - يعرض المختِبر على الطفل مجموعة مكونة من (مفتاح، مليم، مبراة مقفلة، ساعة، قلم رصاص) ويطلب إليه أن يذكر أسماء ثلاثة أشياء من هذه الستة
3 - يعرض على الطفل صورة لمنزل هولندي (أو مصري) وأخرى لنهر، وأخرى لمكتب بريد، ويطلب منه أن يذكر أسماء الأشياء التي في الصور واحدة بعد الأخرى
4 - أن يسأل المختبر الطفل الابن (أنت ابن أو بنت؟) أو يسال البنت (أنت بنت أو ابن؟)
5 - أو يسال الطفل عن اسمه واسم أبيه أو عائلته
6 - أن يكرر الطفل وراء المختبر ثلاث جمل بسيطة مثل: أنا عندي كلب صغير. الكلب جرى ورا القط. في الصيف الشمس سخنة
ولم أذكر هنا طريقة الاختبار ولا نسبة النجاح في كل اختبار لأن هذا مما يطول ذكره،(342/18)
ولأن المقصود هنا إعطاء القارئ فكرة عن نوع الاختبارات المستعملة لقياس الذكاء
ويمتاز مقياس ترمان بأنه استعمل لأول مرة نسبة الذكاء المسماة بالإنجليزية وهي عبارة عن نسبة العمر العقلي إلى العمر الزمني مضروبة في 100،
وقد أصبحت هذه النسبة معتمدة في مقياس الذكاء وبها يمكن معرفة الفرق بين ذكاء فرد وذكاء آخر مختلف عنه في العمر. ووضع علماء النفس الجدول الآتي لمعرفة نوع ذكاء الفرد بعد اختباره
نسبة الذكاء الفردي
فوق 140
120 - 140
110 - 120
90 - 110
80 - 90
70 - 80
دون 70
النوع
عبقري
فائق جداً
فائق
متوسط
غبي
على شفا ضعف العقل
ضعيف العقل
فإذا فرض أن عندنا طفلاً عمره العقلي 9 سنوات وعمره الزمني 10 سنوات، وأردنا معرفة نوع ذكائه أجرينا العملية البسيطة الآتية:=90، وهي نسبة الذكاء، وإذا نظرنا إلى الجدول السابق وجدنا أن صاحبنا متوسط الذكاء.(342/19)
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(342/20)
من عيون الأدب الإنجليزي
مرثية في مقبرة ريفية
لتوماس جراي
للأستاذ محمد مندور
المدرس بكلية الآداب
ليست معرفتي (بجراي بنت ألامس. ولقد سمعت شباب الجامعة بكمبردج يرددون مقطوعاته، وفي جمال اطرادها ما ينسيني هوى نفسي وعهدي بها نزاعة إلى الجائش المضطرب اضطراب نزوات الحياة عندما يسحق عمقها. ومن قديم وصف بوالو هذا النوع من الاضطراب الجميل بأنه منبع آيات الفنون
ولطالما سألت نفسي عن سر إصغائها إلى (جراي) على بعد البون بين ما ألتمس في نفوس الشعراء وما جبل عليه هذا الصديق، فما وجدت جواباً غير راحة النفس المضناة تجد في اطراد النغمات مسكناً لما يجيش فيها بالألم
وفي الحق أن الشعر الإنجليزي لا يعرف قصيدة أمعن من مرثية جراي في اطراد الوزن ونقاء المبنى. فالقصيدة تنتظم رباعيات متعانقة القوافي متلاحقة التفاعيل في غير زحاف ولا علة، بحيث ينطلق فيها البصر، والنفس تلاحقه في يسر ينزل منها منزلة قطرات المطر تتساقط موقعة على زجاج نافذة، فإذا بالنفس قد هدأت وسكن جائشها إلى اطراد النغم. ومن منا يتردد إذن في صداقة رجل كهذا؟
لم يعرف (جراي) ثورات النفس ولا مغامرات الهوى، وفي انتظام حياته ما يملأ القلب إعجاباً، فقد أنفق عمره يطلب العلم بكمبردج، وكأني به يطلب إلى العلم سلوى عن طفولته البائسة. طفولة طفل يولد لأبوين متفاوتي المشارب حتى ليستحيل على أحدهما أن يسكن إلى الآخر
ولأمر ما يحلو لي دائماً أن أتصور (جراي) رقيق النفس رقة النسمات المتهافتة؛ وفي ميوله ما يغربني بهذا الظن، فلقد أولع الرجل أشد الولع بأغاني تلك الأغاني الشعبية التي كانت ولا يزال يرددها سكان جبال إبقوسيا، وساقه أوسيان إلى أساطير البلاد الشمالية(342/21)
يستلهمها سذاجة الشعر قانعاً بما تعطيه من بديهي المعاني دون ما يمكن أن يكون خلف ذلك من رمز بعيد
وما كان لجراي وتلك طبيعته أن ينصرف عن آداب روما وأتينا ونفوس منشئيها في غضاضة نفسه يوم ابتسمت الإنسانية ابتسامة الطفل توقظه من مهده رقة الصباح. . . نعم ابتسمت الإنسانية فملأت الطبيعة بخيالها الضاحك، وإذا بعرائس الشعر ترقص في كل مكان، وإذا بعذب الأساطير يوقع نغمات ذلك الرقص
هامت نفس (جراي) في هذا العالم المسحور فطرب لآثارهم أيما طرب وود أن لو كان من عشيرتهم فقال الشعر باليونانية وباللاتينية، حتى لأحسب هذا الطرب قد بلغ في نفسه مبلغ الشهوة، ونحن في ذلك لا نتجنى عليه مادمنا نؤمن أن نفساً لا تعرف الشهوة لا يمكن إلا أن تعقم إن لم تتحطم
وأنفق جراي حياته بغير زواج ولا ولد بين جدران كمبردج يستمع إليها تقص من أنباء الماضي أجمل القصص، واطردت حياته على تلك الوتيرة حتى دلف إلى سكون الموت
عاشر جراي هومير وفرجيل، فرقت نفسه، ونزعت إلى المثل الأعلى نزوع الطبع المصقول. واتفقت له أثناء ذلك رحلات رأى فيها من جلال الطبيعة ما يسمو بالقلوب قدر ما يلهب الخيال. وكلنا يذكر كيف قاد روسو تلميذه إلى قمم الجبال ليهديه السبيل إلى ربه
أتى (جراي) إلى الألب بفرنسا وحط رحاله إلى جوار (جرينوبل) حيث يقوم معبد الرهبان المتوثقين
هنالك تنهض الجبال عاتية وقد كستها الغابات يرتفع إليها البصر فيعود محملاً بأعمق الآيات ترددها النفس بذكر الله. هنالك يملأ القلب شعور ديني بتفاهة الحياة وإذا بنا نود أن لو استحلنا إلى مثل دمعة عيسى التي زعم الشعراء أنها استحالت إلى ملاك رحمة وسعت رحابه كل نفس حتى نفس إبليس. هنالك يستقر في الحواس إحساس بالجمال يتمثل صوراً تأخذ النفس كارهة أو راضية إلى حيث تلتمس أطيب المثُل. وما غفل جراي عن شئ من هذا، ففي خطاباته لصديقه لكل ذلك أجمل الذكرى
وخالس (جراي) الزمن مرة أخرى فانطلق إلى حيث تنتثر البحيرات الصغيرة بين الجبال فيما يشبه قبلات العذارى على وجه السديم، انطلق إلى إيقوسيا حيث السكون الرهيب لا(342/22)
تحركه إلا نغمات الناي يرسلها الرعاة من أعلى الجبال فتنساب بين الوديان أو تطفو على سطح المياه وكأنها من روح الله، ونفذ كل ذلك إلى قلب (جراي) فقيد (بيومياته) التي طالما باركناه أن تركها لنا دليلاً يأخذ بنا إلى حيث نرجو أن نجد الجمال
وكرت الأيام و (جراي) يطهر من نفسه إلى أن بلغ ولعه بالمثل الأعلى تلك الدرجة الجميلة التي نجدها عند الكثير من هؤلاء المطهرين الذين لا يزال إنجلترا تغص بهم رغم وفرة من ترحلّ منهم إلى أمريكا حيث وجهوا النفوس هذا الاتجاه الذي أنتج أمثال (نلسن) ممن بلغ بهم الإيمان بالمثل الأعلى مبلغ السذاجة المقدسة
وما كان جراي بحاجة إلى روسو ليحنو على الضعفاء أو ليقدر سذاجة النفوس قدرها، وفي نفسه وفي ملابسات تلك النفس ما يقوده إلى حيث انتهى في تلك المرثية الخالدة التي كفلت للشاعر الخلود، والتي لم تكد تنشر سنة 1750 حتى تناقلتها جميع الألسن، وحتى أخذت الأمهات أطفالهن بحفظها كما نفعل نحن ببعض آيات كتابنا الكريم، وأكبر ظني أنه حتى اليوم لا تزال تلك القصيدة أكثر القصائد انتشاراً بين القوم في جميع أنحاء إنجلترا
قال (جراي):
1 - دق ناقوس المساء ينعى النهار المدبر، وانسابت القطعان متهادية ثاغية خلال المروج، واتخذ الفلاح المضني سبيله إلى مأواه في خطى متثاقلة مخلفاً العالم لي وللظلام
2 - وتضاءل ما بقى من ضوء خفيف، فامحت من البصر آفاق الطبيعة، وأخذ سكون رهيب يسود الفضاء فلا تسمع إلا الجعل يرسل دوي أجنحته في كل فج، أو أجراس القطعان تنهنه ما انبسط من مروج تنشر فوقها غفلة الكرى
3 - أو نعيق البومة المحزن يحمل إليك من برجها النائي وقد كساه متسلق النبت ما ترسله من شكوى إلى القمر إذ مر بمأواها العتيق الموحش عابرو السبيل فأقضوا منها المنام
4 - تحت هذا النّشم والى ظلال هذا السرو سكن أجداد القرية في نومهم الأخير، كل في قبره الضيق حيث ترتفع تلك الكثبان المنهارة وقد علاها ضعيف الحشائش
5 - رقدوا في متواضع مضاجعهم رقدتهم الأبدية، فما لنسمات الصباح العطرة، وما لتغريد النغير يرسله من أسقف أكواخ العشب، وما لصياح الديك النافذ، أو لما يتردد صداه من صوت البوق، أن يوقظ لهم رقدة(342/23)
6 - رقدوا فما للموقد أن يرسل إليهم بعد اليوم لهيبه؛ وما لربة بيتهم أن تخف إلى مهامها إذا جاء المساء، وما للأطفال أن يهرولوا إلى أمهاتهم يتمتمون إليهن رجعة أبيهم، ومالهم أن يتسلقوا أرجله يتناهبون ما يتقاتلون عليه من قبلات.
7 - لكم تساقط الحصاد تحت ضربات مناجلهم! ولكم شقت أسنة محاريثهم ما شقت من جوف الغبراء! بأي نشوة كانوا يسوقون قطعانهم إلى الحقول؟ وبأي يسر كانت أشجار الغابات تطأطأ لهم من هاماتها ما أعملوا فيها معاولهم القوية؟!
8 - ما للكبرياء أن تحقر جهودهم المنتجة ومسراتهم العائلية وذكرهم المغمور؟ وما لعظماء هذه الحياة أن يبتسموا احتقاراًلصغار المهام التي شغلوا بها أيامهم؟
9 - وألقاب الفخار، وأبهة السلطان، وكل ما يمنحه المال والجمال. كل هذا ساعة الحتف له بالمرصاد، إذا أن سبل المجد لا تقود إلى غير القبر!
10 - وأنت أيها المتغطرس: ليس لك أن تلومهم إذا لم تر الأسلاب قائمة فوق قبورهم تخلد ذكراهم حيث تتردد أناشيد النصر في القباب الممتدة، وتحت الأقواس المزينة بالتماثيل، حاملة نغمات المديح. . .
11 - وهل لأجمل الأواني نقشاً، أو لأنطق التماثيل بالحياة. أن ترد إلى مأواه ما تصاعد من نفس؟ وهل لأصوات الفخار أن تبعث الحياة في صامت التراب؟ وهل للملق أن يلين من مسامع الموت البارد القاسي؟!
12 - من يدرينا لعل في هذه البقعة المهملة قلباً كانت تسكنه أنوار السماء؟ أو يداً كانت تستطيع أن تأخذ بصولجان الملك، أو توقظ الناي إلى حد الإلهام؟
13 - ولكن العلم لم ينشر أمام أبصارهم صفحاته الطويلة التي أغناها بأسلاب الزمان. فلقد أطفأت برودة الفقر نبل حماستهم، وجمدت مجرى العبقرية في نفوسهم.
14 - كم من جوهرة نقية الشعاع صافيته، ظلت مخبوءة في أعماق المحيط؟ وكم من زهرة تتورد بعيداً عن الأبصار، ثم ترسل عبيرها هدراً إلى بيداء الفضاء؟
15 - من يدرينا، لعل هنا يرقد (هامدن) قريته وقد ثبت بقلب جسور لصغار الطغاة بريفه، أو (ملتون) آخر صامتا ًعارياً عن المجد، أو (كرومول) ثانٍ نقى اليد من دم وطنه.
16 - أما تحريك أيدي النواب بالتصفيق، وأما احتقار صيحات التهديد يرسلها الجائعون(342/24)
والمتألمون، وأما در الخير على الأرض المتهللة، وأما قراءة تاريخ الشعوب في أعين أهلها. . .
17 - فذلك ما حرمهم منه القضاء. على أنه لم يمنع فقط حميد خصالهم عن أن تزهر؛ بل منع أيضاً جرائمهم من أن تستفحل. منعهم أن يخوضوا الدماء إلى العروش وأن يسدوا منافذ الرحمة عن العباد
18 - منعهم أن يخفوا وخزات الضمير إذا أخفيت الحقيقة التي يعلمونها، أو أن يطفئوا حمرة الخجل البريء. منعهم أن يلتمسوا من آلهة الشعر يضرمون بها أضواء المباخر التي يكدسونها ف وق مذابح الكبرياء والرفاهية
19 - عاشوا بعيدين عن المعارك المزرية تعتركها الجماهير المعتوهة فما ضلت بهم المتواضعة. عبروا وادي حياتهم الوارف البعيد عن الجلبة بخطى صامتة مطردة
20 - على أنه حفظاً لعظامهم أن تهان ينهض بالقرب من هذا المكان تمثال ضئيل تزينه قواف خشنة وتماثيل ممحوة الصور. نهض هذا التمثال ليستدر عابر السبيل واجب الزفرات
21 - أسماؤهم وأعمارهم خطها آلهة مقلة من آلهة الشعر لتكون لهم بمنزلة المجد والرثاء فانتثرت حولهم النصوص المقدسة تحدث حكيم الريف كيف يموت
22 - إذ ما من نفس تحس أنها ستسلَم فريسة إلى النسيان وتُسلِم تلك الحياة السارة المقلقة معاً، أو تترك تلك الآفاق الدفيئة آفاق الضوء دون أن تلقي إلى الوراء نظرة الحسرة، نظرة الرغبة المتباطئة. . .
23 - فالنفس الراحلة تسكن إلى صدر محبوب، والأعين المغلقة تستدر دموع الوفاء؛ ومن أعماق القبور يصبح صوت الطبيعة كما لا يخمد الوميض فيما يخلف من رماد
24 - أما أنت وقد حرصت على هؤلاء الموتى المغمورين فقصصت نبأهم في شعرك الساذج، فمن يدرينا لعل نفسا ًقريبة إلى نفسك تقودها الوحدة إلى السؤال عن مصيرك
25 - ولعل شيخاً أبيض الرأس من شيوخ الريف يجيب: - طالما رأيناه عند انبلاج الصباح يكتسح بخطاه السريعة قطرات الندى مهرولاً إلى لقاء الشمس فوق القمم الخضراء
26 - وهنالك إلى جذع البلوط المتمايل - البلوط الذي يرسل جذوره المختلطة عالية(342/25)
بالمرتفعات - كان يستلقي ماداً كل جسمه تحت أشعة الظهيرة ثم يطيل النظر إلى الجداول تخر بجواره.
27 - طوراً يهيم بتلك الغابات وعلى شفتيه ابتسامة السخرية وقد أخذ يردد أحلام الطريق، وطوراً ينطلق في سبيله مقوس الظهر شاحب اللون من البؤس كمن تخلى عنه أحبابه أو ذهبت بعقله الهموم أو حطم نفسه حب عاثر
28 - وفي ذات صباح تفقدته فلم أجده لا على التل المعهود ولا على حافة البراري ولا إلى جذع شجرته المحبوبة، وجاء صباح آخر فما وجدته إلى جانب الجداول ولا بقمة التل بل ولا بالغابة.
29 - وفي اليوم التالي رأيناه محمولاً في طريقه إلى (القبر في حفل الموت وأناشيد الغناء تصحبه. أدن واقرأ (مادمت تستطيع القراءة) تلك المرثية المنقوشة على الحجر تحت أشواك هذه الشجرة العتيقة):
ما على القبر
1 - تحت هذه الأرض يرقد في راحته الأخيرة شاب جهله المجد كما جهلته الحظوظ. كان نصيبه من العلم نصيباً متزناً بينما وسمته الأحزان بميسمها
2 - واسعةً كانت طيبةُ قلبه، ومخلصة كانت نفسه، وبقدر تلك الطيبة وذلك الإخلاص كافأته السماء
لقد جاد على البؤساء بكل ما يملك، وما كان يملك إلا دمعة. أنالته السماء كل ما تمنى، وكل ما تمناه كان صديقاً
3 - لا تحاول أن تفض الغلاف عن حسناته، أو أن توقظ سيئاته من مكمنها المخيف. فقد اجتمعت الحسنات إلى السيئات متساوية في أمل مضطرب مفزع: أمل من أوى إلى أحضان أبيه، أحضان ربه
ولو علم (جراي) يوم أن كتب تلك المرثية الخالدة أنها ستفتح له أبواب المجد إلى الأزل لعلم أن فتاه ما كان للمجد أو للحظوظ أن تنساه، وفي نفسه هذا المزيج العجيب من قوة الفكر وروعة التصور ورقة العاطفة
تلك الرقة التي حملته على أن يحصر كل ما يتمنى أن تهبه السماء في صديق. وفي الحق(342/26)
أني لا أدري أنبل من نفس تستطيع أن تخلص الصداقة، والصداقة أبعد المشاعر عن غرائزنا التي نجدها عادة في أسس كل شعور قوي.
قهرت الصداقة الحب في نفس جراي الصافية الرقيقة، بحيث لو أنني أردت أن أضع على لسانه عبارة عن صداقته لهوراس ولبول، لما وجدت خيراً من كلمة مونتين الخالدة، وقد فقد صديقه لابويسيه: (لقد كنا نقتسم كل شيء مناصفة، حتى فقدته فأصبحت اليوم لا أصيب خيراً إلا أحسست أني من صديقي العزيز النصف الذي كان يؤول إليه).
وأما اليوم، فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يبارك تلك الأرواح الظاهرة في ملكوت رحمته.
محمد مندور(342/27)
من وحي الديوان
لَيْلَى
الأستاذ إبراهيم العريض
قلتُ يوماً لابنتي ليلَى - وقدْ ... أخذَتْ ديوانَ قيسٍ تتغنَّى
فكأنَّ الحُسنَ أولاها يداً ... فأرادتْ باسمهِ أن تتجَّنى -
(طِبت يا ليلايَ نفْساً فافهمي ... ليس كالشاعر في الأرض معنَّى
هُوَ مِن أحلامهِ في جَنَّةٍ ... فإذا حدّث عنها قيل جُنَّا
كلُّنا طائِرُهُ في قَفصٍ ... إنما يُطلِقُهُ المجدودُ منّا
لو درَى الضاحكُ في سَكرتهِ ... أنّه يشرَبُ دمعاً لتأنى
والليالِي يتطاولنَ إذا ... سقطَ النَّجمُ الذي نوّر هُنَّا
قُمْنَ في عافيةٍ مِن حُبِّهِ ... يتباهَيْنَ به ما بَينهنَّا
يحسَبُ الناسُ جَواهُ أدباً ... قَلّ مَنْ شارَكه فيما أَجنَّا
ثمّ يَطوِي لَيْلهُ صُبْحٌ فلا ... هو للحبِّ ولا من حَبهُنّا)
فأجابتني غناءً في الصِّبا ... بالذي حيّرَ مَن أكبرُ سنّا
(لا تسلني - فوجودي عدمٌ ... طائرُ الخُلدِ هنا كيف اطمأنّا
هُوَ يَهفو لجمالٍ رُبما ... خفيَت آثارُه قي الكوْن عنّا
فإذا شاهدَهُ في رَوْضةٍ ... أو سحابٍ مثَّل الإحساس فنّا
والذي يُطرِبُنا مِن نَغَمٍ ... مسترقَّا كلّما الليْلُ أَجنَّا
لم يكنْ غيرَ نِياط الحبِّ في ... قلبهِ كالوَترِ الحسّاسِ رَنّا
هُوَ في نَشْوَتهِ يُفضي بها ... نَغَماتٍ تمْلأُ الآفاقَ حسْنا
لا تَقُلْ دُنياهُ ظِلٌّ زائِلٌ ... فشعاعُ الحبِّ فيها ليسَ يَفنى
لوْ تجلَّتْ قدْرةُ الخلاَّقِ في ... لفظةٍ صاغَ لها الشاعرُ معنى)
وانحنتْ فوْقَ يدِي تَلثِمُها ... خجلاً حين رأَتْ رأسيَ يُحنى
ثمّ قالتْ وهْيَ تَلهو بالذي ... قُلدتْهُ دونَ أن تحملَ مَنّا
حسبُ عِقدي أن حوَى واسطة ... مالها في الدُّرِّ صنوٌ فَتُثنَّى(342/28)
عِشْتَ للشِّعر ولي يا أبَتِي ... أنتَ للشِّعرِ ولي ما أتمنَّى
(البحرين)
إبراهيم العريض(342/29)
أفانين
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
- 2 -
حين اطمأنَّ المجلس بالشهود في دار النقيب، تطالّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وانتصبت الآذان! فافتتح البديع المساجلة بكلام يجمع بين التهكم والتوريط!: إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتُسرَّ بما عندنا. ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك: وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشِطت، فهذه دعواك التي تملأ منها فاك!
وقد حسب الخوارزمي حساباً لشيخوخته، فخاف أن تكبو به قريحته في الحفظ والنثر، فآثر المبادهة بالشعر
فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ
فأجابه الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسَّحَرة: (بل ألقوا)
فأخذ كل منهما دواة وقلماً، وخط البديع أبياتاً مدح فيها السيد نقيب الأشراف، وفخر بنفسه ما شاء، وأوسع الخوارزمي ذمَّا وسخرياً! منها:
والشعر أصعب مذهباً ومصاعداً ... من أن يكون مطيعُه في فَكَّه
والنظم بحر، والخواطر مَعَبرٌ ... فانظر إلى بحر القريض وفُلْكه
فمتى تراني في القريض مقصِّراً ... عرضّت أذنْ الإمتحان لعَرْكه
أصغوا إلى الشعر الذي نظّمته ... كالدرّ رُصِّع في مَجرَّة سِلكه
فمتى عجزت عن القريض بداهة ... فدمي الحلال له إباحة سفكه
ونظم الخوارزمي أبياتاً امتنع عن إبرازها فيما يقول الرواة، فقال البديع له: إن البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلصها من الظنون، أما تستحي أن يكون السِّنَّور أعقل منك لأنه يجعُرُ فيغطيه بالتراب؟!(342/30)
فقال النقيب: انسجا على منوال المتنبي:
أرَقٌ على أرق، ومثلي يأرق
فابتدر الخوارزمي قائلاً:
وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلّق
وإذا قرأت الشعر في ميدانه ... لاشك أنك يا أخي تشقّق
أني إذا قلت البديهة، قلتها ... عجلاً، وطبعك عند طبعي يرقق
مالي أراك ولست مثلي في الورى ... مُتموِّها بالترهات تُمَخرق
إني أجيز على البديهة مثلما ... تريانه، وإذا نطقت أصدَّق
لو كنتَ من صخر أصمَّ لها له ... مني البديهةُ، واغتدى يتفلق
أو كنت ليثا في البديهة خادر ... لرُئيت يا مسكين منّىَ تفرَق
وبديهة قد قلتها متنفّسا ... فعل الذي قد قلت يا ذا الأخرق
ثم قال معتذراً عن هلهلة نسجها: هذا كما يجيء لا كما يجب. فقال
البديع: قبِل الله عذرك! لكني أراكَ وفَّقت بين قواف مكروهة وقافات خشنة، كل قاف كجبل قاف: تتقلق، تتشقق، تتفلق الخ فخذ الآن جزاءً عن قرضك، وأداء لفرضك:
مهلاً أبا بكر فزندك أضيق ... واخرَس، فإن أخاك حيّ يُرزق
يا أحمقاً وكفاك تلك فضيحةً ... جرّبت نار معرَّني، هل تحرق؟
فقال الخوارزمي: يا (أحمقاً): لا يجوز، فإنه لا ينصرف.
فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه! وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف إلى الصرف، وإن شئت قلت: يا كَوْدَناً
ثم أردف البديع قائلاً: أخبرني عن قولك في البيت: يا سيدي، ثم قولك: تتقلق، أمدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حَلْبة، ولا يخطان في خطة
فابتدر النقيب قائلاً: قولا على منوال قول المتنبي:
أهلاً بدار سباك أغيدُها
فارتجل البديع:
يا نعمةً لا تزال تجحَدُها ... ومنة لا تزال تكْنُدُها(342/31)
فاعترض الخوارزمي قائلاً: الكُنُود: قلة الخير لا الكفران. فأنكر الجميع ذلك وقالوا: أما قرأت قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكَنود) أي لكفور
فحمىَ الخوارزمي وقال: أنا اكتسبت بفضلي ديَةَ أهل همذان فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال البديع: أنت في حرفة الكُدْية احذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق، وأما ما لُك فعندي يهودي يماثلك في مذهبه ويزيدك بذهبه. ثم مال على مغن فقال: أسمعنا خيرا، ً فغنى:
وشبّهنا بنفسج عارضيْه=بقايا اللطم في الخد الرقيق
فقال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، وهو لا يعرفها. فقال البديع: أخطأت، فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:
وشبّهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصفيق
فقال الخوارزمي: والله لأصفعنّك ولو بعد حين!
فرد البديع. أنا أصفعك اليوم وتضربني غداً، اليوم خمر، وغداً أمر! ثم تمثل بقول ابن الرومي:
رأيت شيخاً سفيها ... يقوق كل سفيهِ
وقد أصاب شبيها ... له وفوق الشبيه
وقفّي على ذلك منشداً:
وأنزلني طولُ النوى دارَ غربةٍ ... إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكلُه
أحامِقُه حتى يقال: سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أُعاقله
ومازال الجدل محتدماً بينهما حتى ضجر الحضور، ورنق الكرى في عيونهم، فتقوّض المجلس، ونام الناس - كعادتهم - في ضيافات نيسابور، ثم انتشروا في الصباح وقد تشعبت آراؤهم في الحكم على الرجلين، تبعاً لاختلاف ميولهم وأهوائهم. وقد شق على جماعة من الفضلاء أن يبلغ الشقاق بين الرجلين هذا الحد الممقوت! فسعوا في إصلاح ذات البين، وحملوا البديع على طلب المصافاة، وهو دليل على أن العدوان بدر منه، فمشى إلى الخوارزمي معتذراً يقول: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو!
وأبى كرم الخوارزمي إلا أن يقبل عذره، وزاد على ذلك فدعاه إلى أن يقضي عنده سحابة(342/32)
يومه مغموراً بأريحيته وتصافى الرجلان، وحل الوئام محل الخصام
ولكن هذا الصلح كان كصلح (فرساي) يحمل في تضاعيفه جراثيم حرب ضروس! فلم يلبث أعداء الخوارزمي والمستوحشون منه أن سعوا في نقضه فهبت ريح الخلاف مرة أخرى شديدة عاتية! فلم يكن بدّ من عقد مناظرة ثانية تكون فصل الخطاب في هذه القضية الشائكة
وكان أن هُيّء مجلس في دار أبى القاسم الوزير، حضره بعض العلية على رأسهم رجل له مكانته وخطره، وهو الشريف العالم أبو الحسين، وكان البديع سنياً متعصباً للأشاعرة، والخوارزمي مصطبغاً بصبغة التشيع، فرهب البديع جانب أبي الحسين، ورغب في استمالته إليه، فمدحه ومدح آل البيت بقصيدة أولها:
يا معشراً ضرب الزما ... نُ على مُعرَّسهم خيامَهْ
ثم انثال الناس على المجلس من كل صوب وأوْب، حتى حفل بذوي المثالة من رؤساء المدينة وعلمائها وقضاتها ومتصوَّفها. وأقبل الخوارزمي - بعد لأي - في جمّ غفير من أنصاره ومُرِيديه.
وبعد ملاحاة ومشادة بين المتناظرين، تشبه التحام طلائع الجيوش، اقترح عليهم بعض الحضور أن ينشدا على غرار قول أبى الشيص:
أبقى الزمان به نُدُوب عِضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي قائلاً:
يا قاضياً ما مثله من قاضِ ... أنا بالذي تقضى علينا راضِ
ومنها:
ولقد بُليت بشاعر متهتِّك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض
فقال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاض؟ فقال الخوارزمي:
ما قلته - هكذا يزعم الرواة - فشهد الحاضرون أنه قاله. فقال: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا. فقال البديع: استنوق الذئب! صار الذئب جملاً يأكل الغضا!
وهنا هدأت العاصفة بدخول الرئيس أبي جعفر، والقاضي الحربي، والشيخ أبي زكريا الحيري.(342/33)
على الجندي(342/34)
آلام فرتر
فصل للناقد الإنجليزي (ادوارد شانكس)
الأستاذ أحمد فتحي
. . . الأستاذ الزيات:
ليس (جوته) بجديد عليك، فقد أغنيت المكتبة العربية مذ نقلت إلى الضاد العزيزة روايته الباقية (آلام فرتر).
وليس (ادوارد شانكس) بجديد عليك، فانك لأعرف بأنه في صدر نقاد الأدب في بريطانيا.
وليس قلمي بجديد عليك، فقد أفسحت له الرسالة الزاهرة صدرها على الدوام. . .
ولكن الجديد هو أن يكتب (شانكس) عن (آلام فرتر)، فيمجدها كل هذا التمجيد الذي يتردد صداه في آفاق الدنيا، بينما يحال بين الطلاب المصريين في مدارس الحكومة وبين الانتفاع بما فيها من الفن الرفيع. ولينظر جمهور الأدب بعد ذلك في أي عصر نعيش؟!
(أ. ف)
أكبر الظن أن كتاباً يصدر بهذا العنوان في أيامنا هذه لا يقدر له حظ من النجاح. ولكن (آلام فرتر) قد ظفرت منذ ظهورها بنجاح فائق، وطافت أرجاء الدنيا باسم شاب في السادسة والعشرين من عمره. بل إن هذه القصة بذاتها قد أبدعت طرازاً طريفاً، واستحدثت مدرسة جذبت مناهجها أتباعاً ومريدين لا حصر لهم. كان الحزن على بطل القصة يستأثر بقلوب معظم؛ بل إن الألوف من شباب أوربا كانوا في وقت ما يجهدون أن يرتدوا من الثياب مثل ما كان يرتدي (فرتر). بل إن بعضهم قد جرى شوطه وانتهى إلى مثل غايته فقتل نفسه!
قرأ (نابليون) هذه القصة سبع مرات؛ واستصحابها طوال أيام مغامرته في مصر، بعد ظهورها بعشرين سنة. وحينما مثل (جوته) بين يديه في (إيرفورت) بعد ذلك باثنتي عشرة سنة أخرى، كان موضوع القصة نفسها أهم الموضوعات في كل ما دار بينهما من الأحاديث. ولقد أبدى الإمبراطور للشاعر أنه هضم القصة هضماً جيداً، وأحبها في إخلاص، مما كان له أثر باق في نفس الشاعر
وإننا لنحاول في هذا الفصل أن نعرض للبواعث التي أوحت إلى (جوته) بتأليف قصته(342/35)
هذه. ففي سنة 1772 فرغ من وضع مسرحية اسمها (برليخنجن) تعتبر في تأثرها بمسرحيات (شكسبير) من بواكر النزعة الرومانتيكية في المسرح الأوربي. ولقد كان لها بهذا الوصف حظ ملحوظ من النجاح. كما كان (جوته) قد كتب في ذلك الحين كثيراً من أروع شعر صباه. يضاف إلى ذلك أنه كان موضع الالتفات إلى جمال قسماته، وإلي ذكائه اللماح، ومظهره الممتاز. غير أن أباه، وكان رجلاً محافظاً شديد القسوة، أراده على أن يرسم لنفسه طريق الكسب في حياته. ومن ثَمَّ رحل ليتم دراسته القانونية في جامعة (ويتزلر). وكانت هذه المدينة حينذاك مقر المحكمة الإمبراطورية في ألمانيا؛ وفيها أحب (جوته) فتاة كانت قد خطبت قبل أن تعترض سبيل حياته إلى رجل آخر. ومنذ بدأ هذا الحب، بدأت فصول قصة (الآم فرتر) التي احتلت مكانها الملحوظ في قلوب الملايين
كان (جوته) في بواكير صباه فتى ملتهب العاطفة متأزم النفس ضيق الصدر مظلم الخاطر، حتى إنه كان يبتئس للخطب قبل وقوعه! ويقدر أنه هالك لا محالة! ولقد كان من آثار ذلك أن رحل عن (ويتزلر) كسير القلب قبل أن تضع الأقدار لقصة غرامه اليائس نهاية حاسمة. ولو أن المعجزة الهائلة كانت وقعت، فآثرت (شارلوت) عاشقها الشاعر الحساس على خطيبها المتبلد الجامد، فأكبر الظن أن هذا الانقلاب لم يكن ليحول بين (جوته) وبين الهرب من بلدة المرأة التي أحبها من كل قلبه، فإن استعداده الفطري للوقوع في حبائل الحب لم يكن يعدله أو يفوقه سوى استعداده الفطري لإيثار العزلة!
لقد زعم بعض من ترجموا له أنه حين رحل إلى (ويتزلر) كان يضيق بأيامه الأولى فيها، لأنه لم يجد فيها فتاة تستأثر بقلبه. غير أنه لم يلبث حين رأى (شارلوت بون) أن وقع في شرك غرامها. كانت في التاسعة عشرة، وكان لها اخوة صغار اثنا عشر توفيت أمهم. وليس من المحقق أن لقاءهما تم على النحو الذي وصفه في لقاء (فرتر وشارلوت) في قصته بعد ذلك، فقد جاء في القصة أن (فرتر) دُعي ليرافق، إلى حفلة راقصة، بضع فتيات وعدنه بأن يجدن له شريكة في حلبة الرقص، فاستأجر لهن مركبة ذهبت بالجميع إلى بيت (شارلوت) التي لم تكن قد أخذت بعد أهبتها للرحيل برفقتهم، إذ لم تكن قد فرغت من تقديم وجبة العشاء لإخوتها وأخواتها الصغار
كان اللقاء على هذا النحو استهلالاً رائعاً لملحمة شعرية بارعة. ومن المحقق أن شارلوت(342/36)
كانت على أوفر حظ من الجمال والسذاجة والشعور بالواجب. غير أنه كان من سوء حظ (جوته) أن التقى بها بعد أن تمت خطبتها من (ألبرت كتزنر) ولقد كان من سوء حظه أيضاً أنها لم تنصح له بمغالبة عواطفه نحوها قبل أن يفلت من يده زمامها. ولعلها لقيت من الألم ألواناً من أجل نفسها ومن أجل (ألبرت) الذي آثرته آخر الأمر بطريقة عملية إذ رضيت أن تزف إليه دون الشاعر
ولقد كان وضعاً على أكبر درجة من الشذوذ أنهم أمضوا شهور الصيف التالية للزفاف على نحو لا نظير له، إذ كان الشاعر العاشق يلهو حينذاك بدراسة الحقوق، وينفق كل أوقاته ملازماً (شارلوت). وكان فضلاً عن ذلك فتى وسيما ذكي الفؤاد، قد نال من النجاح في حياته الأدبية فوق ما كان (البرت) يصبو إليه في مستقبله. غير أن ألبرت كان منقطع النظير بتسامحه وسخاء ذهنه، فأحب (جوته) ووثق من شارلوت. ولعله قد أدرك بثاقب رأيه أن التسامح كان خير ما يمكن أن يلجأ إليه في ذلك الوضع الشاذ. ويبدو أن (جوته) قد ترك لخياله الحبل على الغارب، فجعل بصور مشاهد المأساة على النحو الذي توحي آلامه، وقد وجدت المأساة خاتمتها بعد ثلاثة شهور رحل بعدها الشاعر إلى موطنه (فرانكفورت) حيث ظل يراسل الزوجين جميعاً برسائل تفيض بأحزانه
على أن فصول هذه القصة على غناها لم تكن كافية لنسج الثوب الرائع الذي ظهرت به (ألام فرتر) بل أتاحت الأقدار لمؤلفها العبقري حادثين آخرين أعاناه على إظهارها في ذلك الثوب الذي لا مثيل له. . .
ذلك أنه التقى في (ويتزلر) بشاب ممتاز المواهب اسمه (أورشليم) ولم يلبث هذا الشاب أن أخفق في غرام له فقتل نفسه!
وهنا اتخذت القصة خاتمة مقبولة. ولكنه لم يكتبها في ذلك الحين أيضاً، بل هيأت له الأقدار فصلاً بارعاً مما اتفق له من فصول حياته الحقيقية نقله إلى حيث صبه في صلب قصته الخالدة. إذ حدث أنه حل ضيفاً بمنزل كهل من ذوي قرباه اسمه (بيتر برنتانو) كانت له زوج حسناء اسمها (ماكسمليان) لم يرق له ما يبدى الشاعر الشاب من الاهتمام بأمرها. فآثر أن يضع حداً لضيافته وطرده من بيته بدافع من الحرص على الفضيلة! وبعد ذلك مباشرة انزوى (جوته) في عقر داره وعكف على كتابة قصته الخالدة، فظهرت أول(342/37)
طبعاتها عام 1774
كان ظهور هذا الكتاب أشبه ما يكون بالقذيفة المفاجئة. وكانت شارلوت وزوجها ألبرت أول من شعر بذلك. إذ أن جوت حين آثر النهج الواقعي في تسجيل حوادث القصة لم يغير أسماء أبطالها! وإن كان قد غير من سياق حوادثها ومميزات الأبطال أنفسهم، فألصق بألبرت كثيراً من نقائص قريبه برنتانو، تلك النقائص التي كان يعلم أن البرت بريء منها تماماً والتي جعلها ذات الأثر الفعال في انتحار بطل قصته (فرتر)
ولقد تحدى (جوته) مواطنيه جميعاً في تقدمته إليهم إذ زعم أنهم لا يقدرون قيمتها في نظر الجماهير الأخرى ولا يقدرون قيمتها بالنسبة إليهم أنفسهم. ولم يكن مسرفاً في هذا التحدي، لأنه إنما أصاب الشهرة في وطنه بوصف أنه مؤلف (برليخنجن) وحسب، بينما استطاعت (آلام فرتر) أن تتخطى الحدود إلى سائر بلاد الأرض، وأن تغزو أفكار الشباب حيثما وقعت في أيديهم، بما تحمل من صور العبقرية الفذة. وإن كثيرين من هؤلاء قد رسم خيالهم (فرتر) كإنسان نبيل القلب غني العاطفة حي الإنسانية؛ لفظته الحياة فآثر عليها الموت. ولقد بلغ من تأثرهم بصدق هذه الصورة أنهم آمنوا بأن الحياة ليست إلا هذا اللون من الإخفاق الذريع، فجروا مع (فرتر) إلى نهاية الشوط، وقتلوا أنفسهم!
ولقد تبين للمتأخرين من رجال الإصلاح الخلقي أن (فرتر) هذا قد زين الانتحار للشباب. وهذه حقيقة يصعب إنكارها، بل هي وثيقة تسجل لمبتكر شخصية (فرتر) مجداً أبقى على الزمن الباقي من الزمن! ولكن شراً من ذلك أنهم أرغموا (جوته) على أن يضع أبياتاً عقيمة ينطق بها (فرتر) في لحظاته الأخيرة، ناصحاً للشباب بألا يحذوا حذوه. ولكن إضافة هذه الأبيات لم تكن لتجدي في الواقع شيئاً، وكل ما ثار حول الكتاب من النقد إنما كان كله إعلاناً زاد رواجه وساعد على تداوله
ولا يتسع المقام لتعقب الآثار الأدبية التي أحدثها ظهور هذا الكتاب، تلك الآثار التي عبرت إلى القرن العشرين وظهرت في شخصيات الأبطال القصصيين الذين ابتكرهم أمثال (بيرون) و (شاتوبريان). غير أن ثمة ملاحظة أخرى يجب أن تضاف إلى ما تقدم عن أثر الكتاب في حياة مؤلفه نفسه. إذ لم يقدر له أن يصيب من النجاح في حياته مثل ما أتاح له هذا الكتاب وهو لم يتخط السادسة والعشرين. وقد يكون لقصته الأخرى (فاوست) عدد(342/38)
أوفر من القراء في هذه الأيام، ولكن لم يكن لها مثل ذلك في أول عهدها بالنشر. وستظل شهرة (جوته) قائمة إلى ما شاء الله بوصف أنه مؤلف (فرتر) وبهذا الوصف دعاه (الدوق كارل أوجست) إلى قصره في (فيمار) حيث بقى إلى أن وافاه القدر وهو في موضع الصدارة بين وزراء الدوق. وإنه إذا تعسر الحكم بوفرة عدد من يقرأون هذا الكتاب في أيامنا الراهنة، فإنه من الكتب التي يتعذر إهمال الحديث عنها. فقد نظم (جوته) فيه أحسن الشعر الذي لم ينظم بعده ولا قبله مثيل له أو خير منه. بل أن هذا الشعر ليبز ببساطته ووضوح تعبيره كل ماعداه من شعر الألمان جميعاً إلى اليوم. والكتاب بعد ذلك وقبل ذلك، حافل بجمال متحرر من كافة القيود والأوضاع، حافل بروح الشباب التي أبرزها الشاعر مرة أخرى في شعر غنائي رائع زان قصته الأخرى (فاوست) تلك الروح التي ودعته منذ ودع شبابه!
(الجيزة)
أحمد فتحي(342/39)
من الأناشيد المرفوضة
للأستاذ علي الجندي
نحنُ جُندُ النيلِ أبناءُ الفِداءْ ... وكماةُ الحربِ أبطالُ الكِفاحْ
نَرِدُ الهيْجاَء في ظلِّ اللواءْ ... كأُسود الغابِ أو هُوجِ الرِّياح
في خُطانا النصرُ والفتحُ المبينْ
نحنُ أبناءُ الصناديدِ الغُزاهْ ... سادةُ الدُّنيا وأقيالُ الأُممْ
اقرأِ التاريخَ واحفظْ ما رواهْ ... عن صلاح الدين أو باني الهَرم
وكذا الآباءُ تُوِحي للبنينْ
نحنُ في البرِّ وفي البحرِ أُسودْ ... ونُسورٌ بينَ أعنانِ السماءْ
سجَّلَ النصرَ لنا لوْحُ الخلود ... فوقَ ظهر الأرض أو متنِ الهواءْ
فوقَ لُجِّ البحرِ يَرغوا بالسفينْ
منْ يُبارينا إذا جَدّ القتالْ ... ورجومُ الحرب تهوى بالصفوفْ
نحتبي في ساحِها مثلَ الجبالْ ... لا نُبالِي بالمنايا والحُتوفْ
أتهابُ الموتَ آسادُ العرينْ؟
سائِلِ النيلَ بنا والهرَما ... هلْ لنا منْ مشبهٍ بين الشعوبْ
نَرخصُ الأرواحَ إن ريعَ الحمى ... ونفدِّيهِ بحبّاتِ القلوب
ونَفي بالعهدِ إنَّ العهدَ دينْ
مِصرُ يا مهدَ المعالِي والفخارْ ... بَسَمَ السّعدُ ووافتكِ المنى
ذاكَ فاروقُ وهل يخفَى النهار ... فوق عرش النيل مرموقَ السنا
ملكً يُحي عُهودَ الراشدينْ
قدْ قطعنا العهدَ واللهُ شهيدْ ... أننا للعرشِ نحيا والبلادْ
فاهتفوا يا قومَنا عاشَ الرشيد ... عاشَ فاروقٌ لمصرٍ خيرَ هادْ
ناهضاً بالشعبِ والجيشِ الأمينْ
علي الجندي(342/40)
الأدب في سير أعلام
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
أقام الصبي في نوتنجهام ووكلت به أمه أستاذاً يعلمه اللاتينية وأحبه أستاذه حباً عظيماً وأعجب بذكائه الفائق، ودهش لكثرة ما قرأ من الكتب؛ وفي تلك المدينة أسلمته أمه إلى رجل ادعى أنه قادر على أن يزيل عاهته وكم كان يتألم الصبي حين كان يدلك ذلك الرجل رجله بالزيت، ثم يلويها في عنف ويشد عليها الوثاق بين خشبتين، ولكن كبرياءه كانت تأبى عليه أن يظهر الألم على ما كان من هوله وعدم جدواه. . . ولقد كان ذلك الرجل الفظ يرسله أحياناً إلى بعض الحوانيت ليشتري له ما يريد كأنه خادمه، والناس يعجبون ويألمون أن يعامل اللورد الجميل هذه المعاملة. . . وكان الصبي ينتقم من طبيبه بكثير من معاكساته، ومنها أن يسأله أسئلة تظهر له جهله فيسخر منه ويطلق لسانه بالتهكم عليه
واستطاعت أمه أن تحصل له من ميراثه مؤقتاً على ثلاثمائة جنية تدفع له كل عام حتى يبيح له القانون أخذ نصيبه كله. وأخذا يحسان اليسر في معيشتهما، ولكن أمه ظلت على حالها من الشذوذ فهي لا تني تكيل له الشتائم وكثيراً ما تطارده تريد أن تضربه فلا تدركه على الرغم من عرجه، ولقد علمه هذا أن يصيبها ببعض تهكماته وأن يناوئها بعناده وتمرده
وهكذا تظهر الظروف خلاله في هذه السن الباكرة، فهو عنيد متمرد ذو كبرياء، وهو متوقد العاطفة مشبوب الخيال، وهو بارع الكلمة حاضر البديهة، ولسوف تكون هذه في غد خواص شعره يوم يحمل أنصاره وخصومه جميعاً على الإعجاب بذلك الشعر
وأدخلته أمه مدرسة في لندن وهو في الثانية عشرة من عمره، وكانت تزوره هناك أحياناً فيبدو للناس من شذوذها ما يخجل اللورد المتكبر منه، وكم كان يضيق بخلانه إذ يعيرونه بحماقة أمه، فيحاربهم تارة ويعرض عنهم تارة أخرى. . . ولقد كان وهو في تلك السن يحمل في جيبه أينما سار مسدساً محشواً، كأنما كان يستعيض به عما لحقه من ضعف(342/41)
بسبب عرجه. . . على أن لا يستبعد أن يكون ذلك بعض ما تطرق إليه من شذوذ بسبب ما سمع من الأقاصيص عن اللورد التعس فلقد كان الصبي يبدى إعجابه بما كان يقص عليه الخدم من أنبائه في قصر نيوستر
ونقل الصبي وهو في الثالثة عشرة إلى مدرسة تليق به، وكانت من أكثر المدارس شهرة يومئذ، وهي مدرسة هارو؛ وكان يقوم عليها أحد ذوي المكانة من المربين، وسرعان ما فطن ذلك المربي إلى صفات التلميذ الجديد، فلمح عناده وكبرياءه، ولذلك عول على اكتسابه باللين، فنجح في ذلك نجاحاً كبيراً، وأحب التلميذ ناظره واطمأن إلى عدالته، ولعل هذا الشخص الوحيد الذي خضع له بيرون في حياته كلها. . .
وهالت المدرسين والتلاميذ جرأته من أول الأمر، فهو يخرج على ما يحد من حريته، وهو يذهب في ذلك إلى أن يعلن إعجابه ببونابرت، بل أنه ليحمل صوراً له وتمثالاً صغيراً، وهو لا يفتأ يتحدث عن الثورة في فرنسا وما تدعو إليه من حرية، ولو كان على رأس تلك المدرسة رجل غير ناظرها هذا لما صبر على جرأة هذا التلميذ الثائر. وسرعان ما حمل التلاميذ على الإعجاب بخلاله، فهو جريء في الحق، يظهر من الشجاعة الأدبية في كل المواقف ما ينال به احترام الجميع، وهو لا يعرف الكذب ولا يطيق سماعه، وهو ولوع بالرياضة على الرغم من عاهته، وهو شديد الإخلاص لأصدقائه لا يبخل على أحد بشيء مهما عز، وهو مشتعل حماسة وإقداماً، وهو فصيح اللسان، أخاذ العبارة، ذكي الفؤاد؛ وهو فضلاً عن ذلك كله قد قرأ من الكتب ما لم يقرأ نصفه أحد ممن هم في سنه. هذا إلى إعتداده بنفسه وحرصه على كرامته وطموحه وبعد همته
لذلك لم يمض على بيرون عام في مدرسته حتى كان شخصية فذة فأحبه جميع أقرانه، واحترمه أساتذته، وأعجبوا به على الرغم من تمرد روحه وتكاسله أحياناً عن دروسه، وكان ذوو الصبائر منهم يتنبئون لذلك الغلام بمستقبل فذ وأثر في الأدب خطير
وكان قد ملك قلبه وهو في الثانية عشرة حب جديد فهام بابنة عم له أخرى هي مارجريت باركر، ولقد ذكر بيرون فيما بعد أن أول خطوة خطاها في الشعر كانت بوحي من هذه الفتاة التي كانت تكبره بعام، على أن يد الموت لم تلبث أن قصفت عودها اللدن وهي في الخامسة عشرة، فكان هذا أول حزن أرمض قلب الفتى واستقر في أعماقه حتى نهاية عمره(342/42)
وكان يراه التلاميذ في هارو يحمل كتاباً ويصعد التل القريب إلى مقبرة هناك فيضطجع على قبر تظلله شجرة ويظل يقرأ ويتأمل في ذلك المكان مدة قد تطول إلى ساعات؛ وكان مما ظهر من صفاته في الرابعة عشرة ميله إلى العزلة أحياناً، وذلك دأب ذوي النفوس الحالمة الحزينة، ولقد اشتهر فيما بعد أمر ذلك القبر الذي كان يضطجع عليه الشاعر، حتى لقد أحيط بسياج من الحديد بعد أن أصبح الشاعر في ذمة التاريخ، وذلك حين امتدت أيدي الزائرين لهذا المكان إلى أحجاره تحملها كأثر من أثار العبقرية على الرغم من أنهم كانوا يعلمون أن ذلك القبر لم يك قبر بيرون
وأتيح للفتى وهو في السادسة عشرة أن يذهب إلى قصره في نيوستد أثناء عطلة صيفية أجابة لدعوى وجهت إليه من مستأجر ذلك القصر، وكان هذا شاباً يدعى اللورد جراي، ولشد ما أبهج بيرون أن يرى ذلك القصر، وأن يرى تلك الشجرة التي غرسها هناك بيده وقد أخذت تترعرع وتكبر
وكان يقوم على مقربة من نيوستد قصر آخر في موضع اسمه أنسلي، وكانت تملكه أسرة سودرث وهم من ذوي قرباه، وكان بيرون يمتطي جواداً إلى ذلك القصر أحياناً، حيث كان يرى قريبته ماري سودرث وهي فتاة تكبره بعامين، وهي من سلالة ذلك الرجل الذي قتله اللورد التعس في مبارزته
وكانت ماري تحب فتى من أهل تلك الجهة على غير علم من بيرون. . . ولكنها رأت في نظرات بيرون مالا يخفى على عين فتاة في مثل هذه السن، والفتيات يفهمن بغريزتهن لغة العيون إذا ما استبهمت من الخجل لغة الكلام. . . ولقد هام بحبها ذلك الفتى المشبوب الخيال الملتهب العاطفة، واستأثرت بلبه الفتاة حتى ما يرى للوجود معنى غير معنى هيامه بها، ولا يتصور سعادة تقاس إلى سعادته بحبها؛ ولكن قلبها لم يك طوعها يومئذ، فلقد ربطة الحب بقلب غير ذلك القلب الفتي المتوثب، على أنها وجدت في هيام اللورد بها ضرباً من اللذة ومعنى من معاني الزهو فطاوعته وجاذبته أطراف الأحاديث، وجعلت لنومه حجرة في قصرها ليبيت هناك إذا شاء، وأهدت إليه صورة لها وخاتماً
وبات الفتى في فردوسه الجديد يستروح أنسام السعادة ويحلم أحلام الحب، إلى أن كان ذات ليلة من ليالي فردوسه في طريقه إلى مخدعه فسمع ماري تقول لخادمتها وقد حسبته قدر(342/43)
صار بحيث لا يسمع: (أتظنينني أعبأ حقاً بهذا الفتى الأعرج)؟ ونفذت الكلمات كالسهام إلى قلبه، ورأى جنته قد انقلبت جحيما في مثل خفقت الطرف، فخرج لتوه في الظلام وظل يعدو كالمجنون حتى بلغ نيوستد؛ فأوى إلى حجرته لاهثاً خائر البدن، وبقى شارد اللب ساهد الجفن حتى أصبح الصبح، فعاد إلى أنسلي ولكنه لم يطلع ماري على ما حدث. واستقرت اللوعة في قلبه فأخذ يخفيها مكابراً معانداً، يسفه ذلك القلب ويزجره وإن كان ليكاد ينفطر مما به؛ ولقد كان من أبرز خلاله أنه يطوي على الثورة نفسه فتظل الثورات كامنة فيه حتى تجد متنفساً لها، ولم بك ذلك المتنفس غير شعره. . . والحق لقد كانت هذه الإشارة إلى عاهته أوجع مما سبقها جميعاً وأشدها نيلاً من كبريائه. . .
وحان موعد الذهاب إلى المدرسة فلم يذهب على الرغم من إلحاح أمه عليه وقطعه العهد على نفسه بالذهاب مرة بعد أخرى. . . ثم نشب بينه وبين اللورد جراي شجار عنيف لسبب عقل الخجل الشديد لسانه عن أن يفضي به إلى أمه، ولقد التهب وجهه وهي تستفهمه عنه كأنما سرت في جسده حمى. . . وأخيراً عاد الفتى إلى المدرسة بعد فوات ثلاثة أشهر منذ بدأت الدراسة وقلبه مثقل بالهموم ونفسه منطوية على الثورة
وحاول بيرون أن يتعزى بأصدقائه عما ناله على يد ماري فأقبل عليهم يستزيدهم من أحاديثهم، فإذا مال بهم الحديث إلى الحب راح يسخر من الحب بكل ما في وسعه من معاني السخرية فما الحب في نظره إلا ضرب من الجنون ونوع من الضعف، وإن الوقت الذي ينفقه المرء في الهيام أضيع أوقات حياته وأتعسها. يقول ذلك وإن قلبه لينبض بالحب كأقوى وأوجع ما يكون الحب فيكون مثله في ذلك مثل من يشتد به الحزن لأمر من الأمور، فلا يزيد في دفع هذا الحزن على أن يضحك ويغرق في الضحك ويصيح بأعلى صوته إنه فرح مستبشر حتى إذا خلا إلى نفسه أحس بالجوى أشد لذعاً واقبح وقعاً مما كان عليه قبل هذا المرح المتكلف ولاذ بالكتب لعلها تسرى عن فؤاده، وراح يقرأ منها ما يسفه الحب ويفند أقوال المحبين ويسخر من دعواهم، ولقد كان يرجو من وراء ذلك أن يبرأ من دائه كما كان يرى فيه ما يتفق مع عناده وكبريائه كأنما كان يريد أن يصرف قلبه عن وجهته بالعنف بعد أن عجز أن يعلله بالصبر
وتزايدت على الأيام محبة أصدقائه له وحرصهم على مودته، فكانوا يرجعون إليه في(342/44)
أمورهم ويعدون الاستمتاع بروحه العذبة من أجمل أويقات حياتهم في المدرسة ويحسون جميعاً أنهم دون هذا الفتى يحيا حياة الشاعر وإن لم يحمل بعد قيثارة الشاعر ويعترفون له بالتفوق أرادوا ذلك أولم يريدوا وإن منهم من يبذه في الدروس المقررة ويظهر عليه في كثير من نواحي الحياة المدرسية وصار يكثر من الذهاب إلى تلك المقبرة التي أحبها فيقضي ما شاء من الوقت في تأمله وقراءته وأقرانه ينظرون إليه ويشيرون عن بعد قائلين: هاهو ذا بيرون يصعد التل إلى مقبرته
وازداد تعلقه بالمدرسة وحياتها حتى إنه ليحزنه أن تقرب ألا جازات الدراسية فهو لا يستطيع أن يذهب إلى أنسلي ولا إلى نيوستد، وليس أمامه إلا أن يذهب إلى حيث باتت تقيم أمه في سوثول على مقربة من قصره العتيق، وهو كلما تقدمت به السن ازداد نفوراً من تلك الأم التي ما تزال تشتمه وتعنفه لسبب ولغير سبب حتى ليضيق بها وبالحياة جميعاً من أجلها على أنه ما لبث أن سكن إلى أخته لأبيه أوجستا وراح يشكو لها بثه وحزنه وكانت رسائله إليها مفعمة بحماسة قلبه وتوثب روحه وتوقد عاطفته، وكانت تعدها من أكبر دواعي سرورها كما كان يعد رسائلها إليه، ولما علم أنها قد مسها عذاب من الحب كتب إليها يظهر توجعه لها ويعلن لها في الوقت نفسه استهزاءه بالحب وسخافاته وكرهت إليه قسوة ماري النساء جميعاً وصار يعتريه الخجل إذا طلع عليهن، على أنه حينما علم بقرب زواج ماري ذهب ليراها وقد كتبت إليه تدعوه ودخلت عليه حيث كان ينتظرها فحيت، فوضع يده في يدها دون أن يتكلم ثم خرج مسرعاً فامتطى جواده وراح يسبق به الريح
وأحس بيرون في سنته النهائية في هارو حباً شديداً لهذه المدرسة حتى لقد كان يفكر كيف يطيق الخروج منها، وكان في سنته النهائية قد قارب السابعة عشرة وقد أقام من نفسه زعيما وحامياً لكن من كانوا دونه في السن، ولقد كان شديد الولوع بهذه الزعامة عظيم الفخر بها والحرص عليها، وأخذ في تلك السن يكثر من نظم الشعر في الحفلات المدرسية وفي غيرها من المناسبات غير أن أقرانه ورؤساءه كانوا يرون فيه خطيب الغد أكثر مما كانوا يرون فيه شاعرا ًوذلك لما آنسوه من حماسته في إلقائه كلماته ولما خبروه من بلاغة عبارته وقوة جنانه وانطلاق لسانه(342/45)
وأقبل بيرون على دراسة اللاتينية والأغريقية وهو في هذه السن فتفوق واشتهر أمره فيهما كما تفوق في السباحة وفي لعبة الكريكت على الرغم من عرجه
ولما حان يوم الرحيل طاف بالمدرسة كلها طائف من الشجن لفراق بيرون، وثقل ذلك الفراق على هذه النفس الشاعرة حتى ما درى الفتى كيف يتأسى أو كيف يطيق البعد عن هذه المدرسة التي خطى خطوات الفتوة بين جدرانها. . . وخرج منها وعبارات التوديع من أقرانه ملء أذنيه وملء نفسه
وألحق بيرون عقب ذلك بكمبردج وهو دون السابعة عشرة ببضعة أشهر، وأتيح له يؤمئذ الحصول على خمسمائة من الجنيهات سنويَّا من دخله، وفي كمبردج بدأ بيرون يستقبل حياة الجد ويخطو خطواته الأولى في مجال الشعر
(يتبع)
الخفيف(342/46)
الأدب في أسبُوع
التقليد
لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم وما قبله حتى
عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتّاب والشعراء، ووقفت
أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت
اللفظ والعبارة والمعنى والغرض. ولقد ظننت - حين أقدمت على قبول
كتابة هذا الباب من الرسالة - أن أنبعاثي للكتابة وطول ممارستي
لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فان
أكثر ما حملت نفسي على قراءاته يكاد يؤرّث النار كلما خبت، ويعيدها
جذعة كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة
والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح
مصيرُه وعقباه.
إن أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائب الجهل والغفلة والضعف فتحطمت عروش الدولة في بلادهم كلها وعدا عليها كل عاد من ذؤبان الأمم فاستذلوهم وأخذوهم وفتكوا بهم وقضقضوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرفق والسياسة المتدجِّية، تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرقت ثم اجتمعت ثم استطار شرارها فرمى في كل هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريخها وفنونها فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة فانتشرت القوى الجديدة وتمزقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يرجى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقى الضعف في هذه الأمم العربية وهو عمادها وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية يمتد ويتراحب وينساح في الأرض كلها متدافعاً متدفقاً لا يقف ولا يفتر
ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أن انبعاثها إلى التقيد - تقليد القوى - أشد من انبعاثها(342/47)
لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة. والضعف يجعل محاكاة القوى أصلاً في كل أعماله. فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة، وكان لابد للمستيقظ من أن يعمل، كان عمل الأفراد متفرقين منسحباً على أصلين: ضعفٌ أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي، وضعف كرثهم به تفرُّق القيادة وشتات الأغراض، فلا جرم أن يكون كل عمل موسوماً بسمة من ضعف مظاهر بضعف صاحبه، ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل
هذا كل شي تحت أعيننا وبأيدينا: بيوتنا، مدارسنا، بناؤنا، رجالنا، نساؤنا، علمنا، أدبنا، فننا، أخلاقنا. . . كل ذلك على الجملة والتفصيل قد وُسم بميسم الضعف والتفرق وانعدام التشاكل بين أجزائه التي يتكون من مجموعها معنى الأمة، وكلها تقليد قد تفرقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا. والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها، فكل مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهراً
هذه المرأة - هي فن الحياة الذي يشتهي أبداً أن يبدع حتى في الأذى - ما تكادُ ترَاها عِندَنا إلا دُمْيَة ملّفقةً من الحضارات وبدعها. . . ثيابها، زينتها، حليها، تطريتها، شعرها، تطر يف بنانها، مشيتها، منطقها. . . كل ذلك أجنبي عنها متكلف منتزع من مظاهر غانيات باريس وعابثات هوليوود، ليس له من جنسها ولا أصلها شبْه تنزع إليه، وأسمجه أنه ملفق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتاب منه بالتقليد
وهذا الكتاب وهذا الشاعر - وهما فن الحياة الذي يعمل أبداً في تجديد معانيها بالتأثير والبيان - لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني التي نقلت من مكانها بالاعتناف والقسر فوضعت في جو غير جوها فاختنقت فمات ما كان حيا من بيانها في الأصل الذي انتزعت منه
وهكذا. . . هكذا كل شيء تأخذه العين أو يناله الفكر، إنما هو دعوى ملفقة وتقليد مستجلبٌ وبلاءٌ من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار - وهم قلة مشردة ضائعة - أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلها، ويرد إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف الذي يدفع الحي إلى الاستقلال بنفسه والاعتداد بشخصيته، والحرص على تجديد المواريث التي تلقاها من تاريخه، ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدد لا بضعف(342/48)
المقلد، فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات، ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة. . . ينتظر وفي عينيه الجوع ليتقحم من فتاتها
صورة النفس
عرضت لي مقالة في مجلة الثقافة عدد (54) عنوانها (الأدب صورة النفس) كتبها الأستاذ (محمد مندور)، وقد استوقفني عنوانها قبل أن أقرأها، لأن هذه هي الحقيقة التي نقولها ولا نصل فيها إلى حق. وقد تغاوى النقاد عليها ومع ذلك فما نظفر من أقوالهم إلا بالمبهم بعد المُبهم، ولا نجد لأكثرهم شرحاً لها يفي بمدلولها أو بسرها أو يزيل الإبهام عن مسالكها. . . يقول الأستاذ: (وإذن، فالآثار الأدبية والفنية تطلعنا بغير تحفظ على أسرار واضعيها النفسية بأسلوبها الخاص. . . ونحن نقصد بذلك إلى البحث عن نفس الكاتب والشاعر في تضاعيف ما يكتب. . . وعمل الناقد إذن عمل كشف عن أسرار لا تقع تحت البصر لأول نظرة، وسبيله ذلك لا يمكن أن يكون إلا حساً باطنياً ترهفه التجارب والمعرفة الطويلة بمختلف النفوس. . .)؛ وكل هذا جيد من القول، وهو كالشرح على عنوان المقالة. ولكني رأيت الأستاذ ينظر في آثار أدبية لأستاذين جيلين هما: أحمد أمين وطه حسين، وشرع يتكلم عن بعض آثارهما. تكلم عن مقال (في فيض الخاطر) وهو (صديق) فإذا كل الذي قاله وصف يمكن أن يقع على كل كلام، فيقول (سترى كيف حطم الأستاذ هذا الصديق، فرده إلى عوامله الأولية؟ وقد تقاصرت جمله متجاوبة كأنها ذرات مادية نتجت عن هذا التحليل). . . والنتيجة! والنتيجة أن الأستاذ أحمد أمين أو أسلوبه أسلوب تحليلي، وفيه قوة مخيفة! والأستاذ طموح متقلقل في شتى السبل، لأنه كتب عن الشمس وعن الليل، يستقري ما يجوب في ظلام الليل، وما تغدقه الشمس؛ ولا يصف جمالها أو وحشته! وهكذا، ولا أدري كيف أستخرج شيئاً من كل الذي كتبه يدل على الذي أراده مما نقلناه آنفاً؟ ولا كيف عمل هو في الوصول إلى هذه الأحكام التي دمغ بها الآثار الأدبية وأصحابها؟ ولا كيف كان عمله في التحليل النفسي الذي أحس به إحساساً باطنياً!!
إنه لابد لمن يتناول مثل هذا الموضوع أن يفصل القول، فلا يجمله، لأنه بلا شك موضوع جليل، والكلام فيه سلوك في مجهل غامض يحمل على الإبانة والإيضاح، وإلا كان الكلام(342/49)
فيه على هذا تقصيراً لا ينفع، ويكون أنفع منه أن يترجم لنا الأستاذ كلام النقاد الأوربيين الذين مارسوا هذا العمل وأفرغوا له أوقاتهم واستوعبوا الأصول التي يسار عليها في معالجته، وكذلك تتم خدمته للأدب والأدباء. . .
أبو العباس السفاح
كنت أحب أن أستوعب في هذا التعليق كل الرأي الذي عرض لي في أمر أبي العباس السفاح أمير المؤمنين، ولكني رأيته قد خرج عن أن يكون من مادة هذا الباب، فلذلك اقتصرت على أشياء أرجو أن تعين الأستاذ العبادي في تحقيقه الذي بدأه، وعسى أن يكون في هذا القول بعض الصواب الذي يسعى إليه.
فمن ذلك أن أبا العباس السفاح، وأبا جعفر المنصور أخوان وليا الخلافة العباسية لأول أمرها؛ وكان أبو العباس أصغر من المنصور بعشر سنين، وأن اسم أبي العباس وأبي جعفر في نسبهما هو (عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس)، فأبو العباس هو (عبد الله الأصغر)، وأبو جعفر هو (عبد الله الأكبر). فإذا كان ذلك كذلك، وأبو جعفر قد لقب بالمنصور وأن الذي لقبه بذلك أبوه فيما نعلم، فلا غرو أن يكون أبو العباس كذلك ملقباً، وأن يكون أبوه قد لقبه كما لقب أخاه
وإذا كان أبو العباس (عبد الله) هو الأصغر فالتلقيب هو أولى به للتفريق بينه وبين أخيه أبي جعفر (عبد الله) وهو الأكبر الذي ولد أولاً وسمى (عبد الله) من قبله. ويؤكد أمر هذا التلقيب صيرورته بعد في خلفاء بني العباس جميعاً إلى انقضاء دولتهم، فكأنه كان من (تقاليدهم) وتعاليمهم
وأيضاً فإنه قد وردَ في الحديث عن أبي سعيد الخدْريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له (السفاح) يكون عطاؤه للمال حَثْياً)، وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، وإنما هو نبوءة كبقية النبوءات التي وردتْ في القرآن الكريم والحديث النبوي لا يدري تأويلها إلا أن تكون. . .؛ ولكن الدعوة العباسية فيما يظهر قد جمعتْ بين هذا الحديث وأحاديث أُخر هي من باب النبوءات أيضاً وجعلت منها حديثاً اتخذته في الدعوة إلى إقامة الخلافة في بني العباس، فكانوا يروون للناس عن ابن عباس رضى الله عنه أنه قال: (والله لو لم يبق من(342/50)
الدنيا ألا يوم لأدال الله من بني أمية. ليكون منا السفاح والمنصور والمهدي)، وهم الخلفاء العباسيون الثلاثة على التتابع. ولاشك في أن هذا كان قبل قيام الدعوة بالفتح بزمن طويل. فلعل الأمام (محمد بن على) قد لقبَّ ولديه بهذين اللقبين تفرقه بينهما، وتفاؤلاً بالذي يروون في أحاديث الدعوة العباسية
وإذا كان ذلك كذلك فمعنى اللقب أذن ليس من (سفح الدم) - وهو بهذا المعنى مجاز مقصورٌ لغرض بعينه - ولكنه من الكرم والعطاء والبذل كما ورد في الحديث الذي سقناه آنفاً من أن (عطاء السفاح للمال حثْياً) لأنه لا يصح في العقل أن يلقب أحد ولده بهذا المذمة القبيحة وهو ينصبه للناس خليفة، وقد لقب أخوه من قبل بالمنصور. نعم قد سمت العرب في جاهليتها بالأسماء المنكرة، ولكن الإسلام جاء فحسم ذلك كله، ولم يبق من التلقيب والتسمية بالمنكر من الألفاظ شيء في أكثر البادية العربية، فكيف في الحضر ثم في أعظم بيوت الحضر، وهو بيت العباس؟ وقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة فهو قد غير أسماء كثير من الوافدين عليه من أصحابه (كزحم بن معبد) فسماه بشيراً، وجميلة امرأة عمر بن الخطاب وكان أسمها (عاصية) وخلق كثير
وعلى هذا الأصل نرى أن الناس في صدر الإسلام سموا (بالسفاح) فمنهم: السفاح بن مطر الشيباني، وهو ممن ولد في النصف الثاني من المائة الأولى للهجرة وكان من أصحاب الحديث؛ والسفاح أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن الزبيدي لأمه وهو من التابعين، وقد روى عن أبي هريرة وغيرهما. ولاشك أن التسمية هنا منصرفة إلى المدح لا إلى الذم؛ فصفة أبي العباس السفاح هي إلى العطاء والكرم كما ذهب الأستاذ العبادي أولاً، ثم رجع عنه حين تعقبه الأستاذ أحمد أمين
أما النص الذي نقله الأستاذ عن اليعقوبي من أنه قال: (عبد الله بن علي الأصغر وهو السفاح)، وهو عم أبي العباس والمنصور، فإن أصله من ابن سعد في طبقاته حين ذكر أولاد على بن عبد الله بن عباس فقال: (عبد الله على الأكبر. . . وعبد الله بن على الأصغر السفاح الذي خرج بالشام)، فهذا هو الأصل ولا يرى فيه إرادة التلقيب كالذي يرى من نص اليعقوبي، وإنما هي صفة كالسفاك والقتال. نعم، وأنا لا أدري كيف ادعي الأستاذ العبادي أنه اشتهر بذلك فانتقلت هذه الصفة إلى أبى العباس أمير المؤمنين، فإن الطبري(342/51)
وأئمة المؤرخين قد ذكروا عبد الله ابن علي عم أبي العباس وأبي جعفر في أكثر من خمسين موضعاً ولم يلقبه أحدهم بهذا اللقب، فكيف يمكن أن ندعى أنه اشتهر به حتى كان من جراء هذه الشهرة أن اختلط على الناس وعلى الأدباء وعلى فلان وفلان كالجاحظ وابن قتيبة فوضعوا صفة (عبد الله ابن علىّ) صفة (لعبد الله بن محمد) على قرب العهد. وكيف جاز أن يقع في ذلك الجاحظ في روايته، وهو أدق العلماء رواية، وهو الذي يردأ كثر رواية ابن الهيثم وابن الكلبي وغيرهما من أصحاب الأخبار؟ وخبره الذي رواه وذكر فيه السفاح في البيان والتبيين ج1 ص 93 أخبره به (إبراهيم بن السندي) وقد قال فيه ج1 ص326 (وكان إبراهيم بن السندي يحدثني عن هؤلاء بشيء هو خلاف ما في كتب الهيثم بن عدوى وابن الكلبي، وإذا سمعته علمت أنه ليس من المؤلف المزور، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم. ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم، وأما إبراهيم فإنه كان رجلاً لا نظير له. . . وكان. . . وكان. . . من رؤساء المتكلمين وعالماً برجال الدعوة وكان أحفظ الناس لما سمع وأقلهم نوماً وأصبرهم على السهر
فرواية الجاحظ فيما نرى أقوم من رواية غيره، وهي دليل على صحة الصفة التي وصف أبو العباس أمير المؤمنين؛ والجاحظ قد أدرك صدر الدولة العباسية، ولم يكن بين مولده ووفاة أبي العباس السفاح كبير دهر حتى يكون ممن يختلط علية الحق في مثل هذا الأمر، وبخاصة وهو يروي ما يروي عن الثقات في معرفة أخبار رجال الدولة
أما سكوت الطبري وغيره - من متأخري المؤرخين عن صدر الدولة العباسية - فليس يعد دليلاً على بطلان هذا اللقب. وإن دل على شيء فربما دل على أنهم جانبوه وتباعدوا عنه وتركوه لما كان قد انتشر في عصرهم من معنى السفاح على أنه السفاك للدماء، وخفاء معنى هذا اللفظ الأول وهو الكريم الباذل الفياض الذي يكون عطاؤه للمال حثياً
هذه كلمةٌ صغيرة إلى للأستاذ العباديّ أرجو أن أكون قد بلغت بها بعض رضاه في التعقيب على رأيه الذي انتهى إليه ووقف عنده. ولعله يعود إلى الذي كتبه فإن له بالعلم بصيرة نافذة مسددة أن شاء الله.
محمود محمد شاكر(342/52)
رسالة الفن
دراسات في الفن
دعاؤك ثم غنائي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- كل سنة وأنت طيب
- يا باي! وما لك تكرينها هكذا كأنما أنت آلة. . .
- يا فتاح يا عليم! وكيف كنت تريدني أن أقولها لك؟ أكنت أجثو لك على قدمي وأرفع لك كفي مضمومتين، وألقيها عليك كما ألقى روميو على جولييت تحية الغرام ساخنة؟
- لا يا شكسبيرة الزمن، كنت أريد أن أشعر وأنت تقولينها أنك تريدين حقاً أن أكون طيباً في كل سنة. . .
- كنت تريد مني أنا أن تشعر أنت. . .؟ إذن، فاسمح لي أن آكل نصيبك من غداء اليوم، واشبع أنت. . .
- لو كنت استطعت أن تشعريني بالسلامة في دعائك الأول لكنت استطعت أن تشعريني بالشبع في دعواك الثانية!
- عجباً! تذهب في الجدل إلى هذه النهاية المضحكة فيسهل عليك أن تقرر إمكان الشبع لإنسان إذا أكل غيره. . . ولا تعترف بأنك كنت (تهلوس). . .
- لون كنت أماً لما أنكرت أن الشبع يمكن لإنسان إذا أكل غيره. فالأمهات كثيراً ما يشبعن إذا أكل أبناؤهن. وكثيراً ما يرتوين إذا شرب أبناؤهن. وكثيراً ما يسعدن إذا فرح أبناؤهن. وكثير ما يحقق الله على هذا دعاءهن إذا دعون لأبنائهن. وفي هذا جعل الله الجنة تحت أقدامهن!
- ما شاء الله. أريد أن أفتك بقضاياك هذه جميعاً لولا أنك تقرر بها للمرأة أفضالاً قليلاً ما أظفر منك بالاعتراف بواحد منها. ولكن هذا لا يمنعني من أن أسجل عليك هذا الاعتراف، وأن أسألك بعد ذلك كيف كنت تريدني أن أدعو لك؟
- أتعرفين لماذا كانت صلاة الجماعة خيراً من صلاة الفرد؟ ولماذا كان للمصليين جماعة(342/54)
أمام يقود الصلاة؟ ولماذا يفزع من طوائف المتدينين المختلفة جماعات في الكوارث يصلون يطلبون من الله أن يدرأها، وفي المباهج يصلون يطلبون من الله أن يباركها؟
- وما صلة هذه (الفقهنة) بدعاء هو تحية العيد؟. . .
- الدعاء صلاة لأن الصلاة دعاء. والدعاء قد يكون تحية حقاً، ولكن ليس على هذا النحو الذي تشغلينه كما تشتغلين (البرودري). أنت ألقيت عليّ تحية العيد كما يلقي الناس هذه التحية، وهم يلقونها كما يلقون كل تحية أخرى، تنطلق بها أفواههم ونفوسهم مشغولة عما ينطقون، ولهذا فإن تحياتهم لا أثر لها ولا ثمرة، فكم دعا ناس لناس أن يفوزوا فخابوا! وكم دعاء ناس لناس أن يسعدوا فابتأسوا! وكم دعا أيضاً ناس على ناس أن يصيبهم السوء فلم يصيبهم إلا الخير! وكم دعا ناس على ناس أن يهلكوا فنجوا. . . وكم وكم من دعوات فارغة!
- وهل في الدعوات فارغ ومملوء؟
- الدعوات ككل كلام يقوله الإنسان، وفيه الفارغ، وفيه المملوء حقاً، وفيه المملوء باطلاً، وفيه المملوء أخلاطاً من الحق والباطل. ولا يبقى من هذا كله عند الله إلا المملوء حقا. ً وإن له عند الله الجزاء أثراً واجب التحقق. ألم يقل النبي، فيما يروى من الأثر: اتقوا دعاء المظلوم؟! أليس في هذا دليل على أن دعاء المظلوم يتحقق؟ وأي شيء في دعاء المظلوم يميزه عما في غيره من الدعاء إلا أنه مملوء بالحق؟ فإذا كان الامتلاء بالحق هو الذي يضمن للدعاء التحقق فلماذا لا نضمن تحقق الدعاء بالخير إذا امتلأ حقاً؟. . .
- إن هذه (شاطحة كشطحات) المجاذيب!
- انعم بهم! واستمعي لي. وافرضي معي أسوأ ما يمكن أن يفرض في الإنسان من الفروض، وهو أنه بلحمه وعظمه ودمه وأعصابه شحنة كهربائية حدثت على وجه من الوجوه لا شأن لنا به. وافرضي كذلك الأسوأ من هذا وهو أن عواطف الإنسان ووجداناته ليست إلا حالات كهربائية تعرض لهذه الشحنة المتجسدة إنساناً في ظروف مختلفة. . . وافرضي بعد هذا وجود إنسانين بينهما علاقات. . . فكيف تتصورين هذه العلاقات بين هذين الإنسانين اللذين هما شحنتان من الكهرباء؟
- لابد أن تكون ككل علاقة بين شحنتين من الكهرباء. فكيف تكون العلاقة بينهما؟(342/55)
- تكون أحياناً برقاً يصحبه رعد. وتكون أحياناً إشعاعات تعاون على بعث النور في الظلمات، وتكون أحياناً صواعق. . . وقد تكون على نحو لا أعلمه وأنا ويعلمه الدكتور غالي، وقد تكون على نحو لا أعلمه ولا الدكتور غالي. . .
- حسن. فلنتصور أذن هذين الإنسانيين وهما شحنتان مما يحدث البرق فكيف يكونان؟
- هذان يلتقيان فجأة فيتعانقان ويتبادلان القبل مفرقعة ولها هزيم
- والحالة الثانية؟
- أما الحالة الثانية فهي التي تستعين فيها شحنة بشحنة أخرى على بعث النور، أو على تحريك الموتور، أو على بلوغ مقصد ما. . . إنهما من غير شك تتعاونان إذا اتجهتا اتجاهاً وأحداً. وهذه هي حالتنا أنت وأنا كما أحب أن تكون. فلو أنك تقصدين معي الهدف الذي أقصد إليه لبلغنا من غير شك أنا وأنت هذا الهدف في مدة أقصر من المدة التي قد أصل فيها وحدي لأدعوك بعد ذلك إلى جانبي. وأنا لا أطلب منك أن تدفعيني بيديك لأني لا أتصدى في هذه الدنيا لعمل استخدم فيه القوة، وإنما أريد منك أن تؤمني بالذي أومن به وأنت تعلمين أنه الله، وقد قلت لي مرات أنك مؤمنة، والله قد رسم للحياة حدوداً وأنت تعرفين أني أخاف كل الخوف من الخروج على هذه الحدود، فسيري إليّ فيها، والزميها في قولك وعملك نكن أنا وأنت شحنة واحدة منطلقة في الكون فيها قواك وقواي وقوة الحق الأكبر من كل قوة. هو دعاء أريده أن ينبعث من قلبك لا من لسانك. اتجهي إلى الله وأنت على القرب مني أو على البعد، فهو لابد معيني من دعائي ولأنه إلى غايتي. . . وأنا لابد أن أشعر به كما يشعر الأب بدعاء أبنائه إلى جانبه وأن لم يصوغوه دعاء. . . ألا يكافح الأب في الدنيا من أجل أبنائه أكثر مما يكافح من أجل نفسه. . . أو تحسبين هذا الكفاح والقدرة عليه إلا من دعوات الأبناء. . .؟
- قد يدعو الآباء إلى أبنائهم، ولكن قليلاً ما يدعو الأبناء إلى آبائهم. . .
- عندما يأكل الإنسان قليلاً ما يقول: إني آكل، وعندما ينام فإنه لا يقول إني أنام، والأبناء يدعون لآبائهم، ولا يقولون إنا ندعو، وهم جديرون بهذا الدعاء وهو جدير بهم لأن أباهم هو عائلهم ولأنهم يأكلون من فيض يديه. قد لا يعرف الأبناء شيئاً من هذا كله، ولكن هذا هو الواقع، والدليل عليه أن الآباء يجاهدون الدنيا أكثر من غيرهم، ويقوون عليها أكثر من(342/56)
غيرهم، ويصبرون على مصاعبها أكثر من غيرهم. . . وإن هذا لا يحدث إلا لأن دعوات الأبناء صادقة. وقد كان القدماء يستكثرون من النسل ليستكثروا من الرزق، لأنهم كانوا أقرب إلى الطبيعة منا، وكان الواحد منهم إذا رزق مولوداً جديداً أحس بأنه رزق قوة جديدة إلى جانب قوته، وكان الواحد منهم إذا شاخ وضعفت شحنته الكهربائية أرتكن على أبنائه يمدهم بالدعوات الصالحات
- وهل كانت هذه الدعوات تفيد. . . وعلى الخصوص إذا اعتبرنا الشيخ شحنة كهربائية ضعيفة؟
- ما من شك في أنها كانت تفيد، فالشيخ كان قبل ذلك قد صقل أبناءه، وقد علمهم طريق الرشاد، ونكبهم طريق البغي، ودلهم على موطن السعادة، ودلهم على موطن الشقاء، فدعاؤه لأبنه بالسلامة إنما هو تذكير له بطريقها وتوجيه له إليه، زيدي على ذلك أن شحنة الشيخ إذا كانت قد ضعفت في مظهرها البدني فإنها تقوى في باطنها المعنوي، وإذا كان الفلاسفة يعترفون للشيخوخة بالحكمة فإننا لا نستطيع أن ننكر عليهم الصفاء والنفاذ إلى الحقائق، فهم يرتدون إلى الحياة كالأطفال طهارة ونقاء ماداموا قد قضوا حياتهم على الحق، ولكنهم يختلفون عن الأطفال في شي وهو أنهم اجتازوا الشطر الأكبر من هذه الحياة فوقفوا على سرها
- وما سر الحياة؟
- انتظريني حتى أشيخ فأعلمه، أو فاسألي شيخاً ممن يعلمون. . . أو فانظري إلى شيخ من الطيبين كيف يعيش وأعلمي أنه يستغل هذا السر ويعيش عليه
- وأين أجد هذا الشيخ الطيب؟
- تجدينه في الريف، وتجدينه في الصحراء، وتجدينه في كل مكان لم تنطبق عليه الحضارة ببراثنها ومخالبها، تجدينه يأكل ويشرب وينام، ويعاشر الأطفال، ويدعو إلى الناس ويتلقى من الناس الدعوات. . . ويصلى لربه ويطلب من الله أن يصلي عليه
- ولماذا يعاشر الشيوخ الأطفال؟
- لأن الشيوخ والأطفال متفقون على معنى واحد للحياة والناس فيما بين الطفولة والشيخوخة يبحثون للحياة عن معاني أخرى.(342/57)
- وما معنى الحياة عند الشيوخ والأطفال؟
- هو الاستغراق التام فيها، والاستمتاع التام بما فيها
- وعلام تقوم العشرة بين الشيوخ والأطفال؟
- على هذا، ومظهر هذه العشرة الفنون. فالشيخ يجمع حوله الأطفال ويقص عليهم القصص، والقصص فن، ويغنى لهم ويغنون معه والغناء فن، وقد يستخف الشيخ مع الأطفال فيرقص والرقص فن، وقد يمثل لهم المركب ويركبونه والتمثيل فن. . . فهو إمامهم في كل فن، وهم يتبعونه لأنهم يشعرون به يحب هذه الأفاعيل أكثر مما يحب غيرها، ولأنهم هم أنفسهم يحبونها سعداء وهو سعيد. . .
- وكل من هو مثلهم سعيد؟ أليس كذلك؟
- من غير شك
- إذن فالسعادة عندك أن تنقلب الدنيا إلى مسرح لاشيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من اللغو!
- كانت الإنسانية في طفولتها هكذا كما تقولين مسرحاً لا شيء فيه إلا الغناء والرقص والشعر وما إلى ذلك من السعادة الحق، وهي اليوم كادت أن تصل إلى شيخوختها فترتد بعد ذلك إلى هذا الذي ترينه لغواً. وآية ذلك أن الناس اليوم متضجرون من الحياة، وأن حوادث الانتحار تكاثرت بينما القدماء لم يكونوا يعرفون الانتحار لأن أحداً منهم لم يكره الدنيا كراهية تحمله على الاقتناع بوجوب مغادرتها
- ألا يمكن أن تكون سعادة إلا في هذا الفن أو هذا الهوس. . . ألست ترى في العلم سعادة؟
- وأي شيء حقق العلم للإنسان أكثر مما حقق الحس للحيوان. . .؟ اللهم إلا أن هذا العلم عطل عند الناس الإحساس، فكسبوا شيئاً وخسروا شيئاً وكان حقهم أن يكسبوا الاثنين. وسيكسبون الاثنين في اليوم الذي يقنعون فيه من العلم بلذة العلم ولا يسخرونه فيما لم يجعل العلم له. . .
- ولماذا تريد أن تحرم عليهم الإفادة من العلم إذا كانت هذه الإفادة ممكنة؟. . .
- هي ممكنة، أنا لا أنكر ذلك، ولكنها ضارة. . . أنها كالدغدغة إذا قصد بها التفريح، بينما(342/58)
التفريح لا يكون إلا من عوامل نفسية. . . إن الضحك المنبعث من الدغدغة ليس ضحكاً وإنما هو رعشات عصبية
- وأنت تريد النكتة الطبيعية لتضحك منها.
- لست أدرى إذا كانت النكتة الطبيعية تضحك أم تبكي ولكني على أي حال أطلب من الله أن يقيني الغم وإياك.
- آمين. . .
- انظري، إنك نطقت (آمين) هذه بصدق، ولعل ذلك لأني شملتك بدعائي. . . إنها أنانية منك وحب لذاتك ولكنه على أي حال صدق، والصدق خير من الفراغ، والفراغ خير من الكذب. . . والآن هات منك دعاء صالحاً، ثم انطلق معي نغني كالأطفال والشيوخ. . .
عزيز احمد فهمي(342/59)
رسالة العلم
أرقام تتحدث
صدى عمل جان بيران
للدكتور محمد محمود غالي
عود إلى قصة الذرات - يتعلق قدر الحقائق بالفروض والخطأ التجريبي - على م استند في أعماله - قوانين الحرارة والضغط - عدد أفوجادرو - ملاحظة لابلاس.
يعود بنا البحث إلى قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات فمهمتنا مع القارئ أن نتابع استعراض هذه الحلقة من حلقات المعرفة واستجلاء الخطير من مراحلها. وليس في طوقنا أن نهمل عمل جان بيران في هذا الشأن، أو نتغاضى عن الدور الحاسم الذي قام به هو ومن حوله من باحثين في التعرف على الذرة والتقرب من الألكترون.
وقد تناولنا أعمال مليكان وشرحنا أثره التجريبي في ثلاث مقالات: الأولى (أندروزمليكان والألكترون) والثانية والثالثة (أرقام تتحدث) وهو العنوان ذاته الذي آثرنا اختياره اليوم لذلك العمل التجريبي المجيد الذي قام به بيران وتلاميذه، فقد تحدثت الأرقام لهم كما تحدثت لمليكان، وكان على بيران أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، فنقله شائقاً عذباً للعلماء والباحثين في العهد ذاته الذي نشر فيه مليكان أبحاثه في سنة 1907 وما تبعها من سنين، هذه التجارب وما أدت إليه من نتائج ظلت منذ ذلك الوقت محل تقدير الباحثين وأعضاء المجامع العلمية، وقد ظهر هذا التقدير في صورة جلية عندما قرر المجتمع السويدي منح بيران جائزة نوبل للطبيعة في سنة 1929
لَأن يصل أحد الأفراد من طريق معينة إلى إثبات حقيقة في الوجود، وأَن يكون فيما اختطه من طريق تجريبي ما يقوم دليلاً على ما ذهب إليه_أمر له قيمته. ولكن يظل قدر هذه الحقيقة مرتبطاً بعدد الفروض التي اتخذها الفرد مبدئياً للوصول إلى غايته، ويظل مبلغ النتائج التي وصل إليها من الحقيقة مرتبطاً كذلك بقدر الخطأ المحتمل في العناصر المختلفة في طريقه التجريبي، ويظل الأمر عند العلماء الذين يحكمون على درجة قرب النتائج من الحقيقة مرتبطاً بهاتين تين المسألتين: الأولى صحة الفروض، والثانية مبلغ الخطأ(342/60)
التجريبي. وعلى قدر ما يوجهه الباحثون من نقد جدي في كل هذا، تدخل التجربة ونتائجها بين الحقائق العلمية التي تأخذ مكانها بين ما يُسجل في الميراث العلمي المتداول على كر العصور.
أما أن يكون بعد ذلك للتجارب ذاتها أثر في التقدم واقتراب من حقائق الوجود ومعرفة لقوانين الكون، فهذا أمر آخر يرفع التجربة إلى مصاف الموضوعات الكبرى التي تتصل اتصالاً وثيقاً بحلقة المعرفة، ويرفع الفردَ المجهول إلى مصاف العلماء الذين يعرفهم التاريخ، وتدخل النتائج بين أرقى أنواع المِلكية لمجموعة الإنسان المفكر الذي يعمل على تقدمه على ممر الأجيال ولقد كان عمل بيران وأتباعه من الأعمال التجريبية الكبرى التي ارتفعت في تاريخ العلوم إلى مثل هذه الذروة، وكان بيران من الباحثين الذين وضعهم التاريخ بين العلماء البارزين
إنما يُستدل على هذا من أعماله التي فرغنا من مراجعتها بالأمس، سواء ما نشر منها بالمجمع العلمي الفرنسي أو ما ظهر منها في مؤلفاته، ولم يعتوريني ملل عند مطالعة هذه الأعمال مرة أخرى؛ فقد كنت طالعتها منذ سنين، وكنت أطالعها في شوق ورغبة هذه المرة. والواقع أنه عندما انتهيت من هذه المطالعة الأخيرة وقعت في نوع من الحيرة فيما أقدمه للقارئ منها لأن العمل متسع وجليل، بل ويلزم لاستيعابه مقدمات علمية لأنه مرتبط باكتشافات أخرى سابقة بعضها معروف للقارئ وبعضها قد يكون غير معروف
وهي اكتشافات عاونت جان بيران ليقوم بعمله الجليل الذي توصل فيه كما قدمنا في مقالات سابقة بطريقة مختلفة ولكنها وثيقة، إلى قياس قدرة الذرة وبالتالي إلى استنتاج قدر الإلكترون. هذه الاكتشافات السابقة لأعمال بيران التي تكون الحلقة الأولى فيما وصل إليه من معرفة نتعرض لها في هذه الأسطر ونلخصها في ثلاث خطوات رئيسية: الأولى خاصة بقوانين بويل وجاي ليساك للغازات، والثانية خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو، والثالثة دراسة (لابلاس) لتوزيع الضغط في طبقات الجو
ونعود بذاكرة القارئ إلى الخطوة الأولى، فنعود إلى قوانين يعرفها كل من جلس على مقعد في المدرسة، أولها قانون سنة 1660 وماريوت سنة 1675 الخاص بالغازات الذي يتلخص في أن كثافة الغاز تتناسب مع ضغطه وثانيها قانون جاي ليساك الذي بين(342/61)
بصورة جلية في سنة 1810 أنه في الضغط الثابت تتناسب كثافة الغاز مع حرارته بطريقة لا تتعلق بطبيعة الغاز في ذاته
ويتلخص القانون أن حاصل حجم الغاز في الضغط يساوي ثابتاً يسمى ثابت الغازات مضروباً في الحرارة المطلقة
إنما نريد ألا يغرب عن ذهن القارئ أن الغازات هي مجموعة لجزيئات حرة، وبهذا يعتبر أن الكثافة تمثل في الواقع عدد الجزيئات، بمعنى أن زيادة الكثافة في غاز معين تحت تأثير الضغط هو اقتراب جزيئاته بعضها من بعض أي هو زيادة في عدد ما هو موجود منها في الحجم الواحد
أما عن الخطوة الثانية فهي خاصة بما يسمونه فرض أفوجادرو وهو الفرض الشهير الذي فرضه العالم الكبير أفوجادرو عند دراسته لقانون جاي ليساك المومأ إليه، فقد نبَّه العلماء في سنة 1811 إلى حقيقة جديدة، ظلت منذ ذلك العهد من أعجب ما دخل على الميراث العلمي. ذلك أن الأحجام المتساوية من الغازات المختلفة تحوي، مهما اختلف نوعها، عدداً واحداً من الجزيئات، مادامت هذه الغازات واقعة تحت ضغط واحد وحرارة واحدة
إنما نود أن ينعم القارئ النظر قليلاً في هذه النتيجة التي أرسلها أفوجادرو للعالم أجمع والتي تُعد في نظري كلما تأملت فيها من أروع ما وصل إليه الإنسان الباحث المفكر، ففيها نوع من الاتفاق الجدي بين عناصر الوجود المختلفة التي شاءت ألا توجد إلا على صورة واضحة هي أبسط الصور
وكأني بهذه العوالم المختلفة شكلا ووزناً وكثافة وطبيعة لا تستطع أن توجد في المكان الواحد ذي الحجم والضغط والحرارة الواحدة إلا بعدد واحد لا يتغير، عدد يمتد في سر وجوده إلى طبيعة الكون الذي فيه نحيا ونموت
إنما ننوه بمبلغ الجمال فيما وصل إليه أفوجادرو، ونقف ملياً إزاء هذا العدد العجيب الذي كان له أثر علمي ظاهر في أعمال بيران التي استأنفها بعد نحو مائة عام من ملاحظة أفوجادرو السابقة. وسيرى القارئ أن بيران قد عَيّن هذا العدد بالذات من طريق يبتعد كل البعد عن قصة الغازات؛ وكان من تعيين هذا العدد أن عرف قدر الذرة بل قدر الألكترون، وكان ذلك بطريقة تجريبية أهم ما يُقال فيها أنها لم تستند في جوهرها إلى الاعتبارات(342/62)
النظرية التي قد تقبل الخطأ بل إنما استندت إلى أعمال تجريبية تصل بنا في معرفة هذه الأقدار إلى درجة اليقين
أما الخطوة الثالثة فخاصة بدراسة قام بها (لابلاس) لمعرفة الكيفية التي يختلف بها الضغط الجوي كلما صعدنا بعيداً عن الأرض. كلنا يعرف أنه كلما ارتفعنا إلى أعلى قلَّ الضغط الجوي بحيث أن عاموداً رأسياً من الهواء يختلف الضغط فيه من نقطة إلى أخرى طوال هذا العامود. وقد توصل لابلاس إلى معرفة القانون الذي يتغير بمقتضاه هذا الضغط، وكان ذلك من طريق رياضية بسيطة يستطيع كل مبتدئ اليوم في العلوم الرياضية أن يقوم بما قام به (لابلاس) من حساب رياضي بسيط، وهذا القانون هو معادلة تجد في أحد طرفيها الضغط الجوي عند مكان معين، وتجد في الطرف الثاني الضغط عند مكان يرتفع عن المكان الأول وكتلة الغاز والارتفاع الواقع بين المكانين كما تجد الحرارة المطلقة للغاز وثابت الغازات الذي أسلفنا ذكره والذي كان نتيجة لقوانين بويل وجاي ليساك. ويمثل قانون لابلاس في الواقع توزيعاً رياضياً خاصاً ومن نتائجه مثلا أن الضغط الجوي ينقص إلى النصف عندما يرتفع الإنسان حوالي 6 كيلومتر وذلك في الحرارة العادية. ولو أن الهواء كله من الأوكسجين لحدث هذا النقص عندما يرتفع الإنسان حوالي نصف الكيلومتر
هذه هي المسائل الكبرى الثلاث التي استند إليها (جان بيران) ليصل إلى غرضه العلمي عندما استطاع كما سنذكر للقارئ فيما بعد أن يعين قدر الذرة وان يتحقق من قدر وحقيقة الإلكترون.
إنما أود أن اجتزئ في هذا المقال بهذا القدر في إيراد المقدمات التي كانت لازمة لمعرفة حقائق هذه الأسطورة الذرية، على ألا يفوتنا أن نأتي على عمل بيران الإيجابي في المقال القادم.
وإن من العجاب أن يصل بيران إلى معرفة عدد (أفوجادرو) بالذات فيعرف عدد ما في حجم معين من غاز من الذرات الموجودة فيه
هذا العدد الذي يُجاوز كل خيال استطاع بيران، وباللجوء إلى طريق تجريبي جديد، وإلى المسائل الأساسية الثلاثة التي ذكرناها، أن يصل إلى معرفته، وان يصل إلى ذلك من طريق لم يستعن فيه بالغازات للوصول إلى معرفة أهم ما نعرفه لها اليوم من خواص(342/63)
وسيرى القارئ كيف عاونت الحقائق السابقة بيران للوصول إلى مسألة من أعظم ما نعرفه اليوم في العلوم، وكيف استطاع بيران من دراسة معينة قام بها البرت أينشتاين خاصة بالحركة البروانية أن يوسع دائرة بحثه وان يهتدي لا إلى معرفة عدد افوجادرو فحسب بل إلى التحقق من نتائج ذرية وألكترونية أخرى غاية في الأهمية
ولو أن هذا العالم الذي مازال رغم تقدم السن يقوم بأعمال البحث، لم يقم طوال حياته إلا بهذا التعيين لكفى أن يرتفع إلى سجل العلماء المجددين الذين قاموا للإنسان بأجل الخدمات.
(يتبع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانه(342/64)
القَصصُ
غلطة
للكاتب الفرنسي موريس ليفل
يا دكتور: أريد أن تفحصني وتخبرني هل أنا مريض بالسل؟ أريد أن اعرف الحقيقة؛ وإن لي من الشجاعة ما يساعدني على سماع أسوأ الأخبار. ثم إني اعتبر من واجبك أن تكلمني بصراحة، ومن حقي أن أعرف حقيقة أمري. . . أتعدني بذلك؟
تردد الطبيب هنيهة، ثم اضطجع في كرسيه وقال: أعدك بذلك. . . اخلع ملابسك. . .
وبينما كان المريض يخلع ملابسه، كان الطبيب يسأله:
- أتشعر بضعف؟ أتعرق أثناء الليل؟. . . هل تسعل كثيراً. . . ولا سيما في الصباح الباكر؟. . . ألا يزال والداك على قيد الحياة؟. . . أتعرف المرض الذي ماتا به؟. . .
قال الرجل وقد عرّى صدره: هأنذا يا دكتور. . .
وأخذ الطبيب يفحص المريض بدقة، والمريض يتتبع الفحص في صمت واهتمام. وبعد بضع دقائق وضع الطبيب يده على كتف المريض قائلاً وهو يبتسم:
- ارتد ملابسك. . . إنك عصبي جداً. ليس بك شئ. لا شيء مطلقاً. . . يخيل إلي إنك لست مسروراً بسماع ذلك!. . .
فأمسك الرجل قليلاً عن ارتداء ملابسه وفي عينيه نظرة حادة، وأجاب بصوت فيه سخرية وتهكم:
- أوه. . . نعم. . . إني مسرور وسعيد. . .
وارتدى باقي ملابسه في سكون تام. وكان الطبيب جالساً إلى مكتبه يحرّر (التذكرة) فاستوقفه بإشارة ثم قال: (لا فائدة. . .). وأخرج من جيبه عشرين فرنكا وضعها على المكتب وجلس، ثم قال بصوت متهدج فيه رجفة خفيفة:
- لنتحادث قليلاً يا سيدي. . . منذ ثمانية عشر شهراً، جاءك مريض يسألك كما سألتك أنا من بضع دقائق أن تصارحه بالحقيقة. فحصته سريعاً. . . هذا صحيح. . . ثم أخبرته أنه مسلول وأن حالته مخطرة. . . أوه. لا تحتج، لا تدافع عن نفسك. أنا واثق من كل ما أقول. . . قلت له لا يجوز أن يتزوج، وبعبارة أخرى لا يجب أن يعقب نسلاً(342/65)
فدمدم الطبيب قائلاً: لا أتذكر، ومع ذلك فهذا جائز. . . إن كثيراً من المرضى يزورني كل يوم. . . ولكني لا أفهم ماذا تريد أن تصل إليه. . .
- أريد أن أصل إلى هذا: لقد كنت أنا ذاك المريض. ولقد كذبت عليك حين قلت لك وقتئذ إني أعزب. كنت متزوجاً وأباً لأولاد. . . وبعد أن أقفلت الباب ورائي لم أخطر لك على بال طبعاً. . . لأني واحد من أولئك المخلوقين البائسين الذين يزورون عيادتك كل يوم. . . أما أنا فقد كان لوصفك مرضي على هذا النحو أسوأ النتائج. . .
وأمرّ يده على عينيه ثم واصل حديثه:
- عندما عدت إلى البيت كانت زوجتي وأولادي الصغار في انتظاري. كان الفصل شتاء، ولكن البيت كان يستمتع بالدفء والراحة والسرور. وكنت إلى ذلك اليوم مشغوفاً بساعة العودة. . . والبقاء مع صغاري الأعزاء. كنت أحب قبلات زوجتي ومداعبات أطفالي. . . وفي أثناء النهار كنت أتوق إلى تلك اللحظة التي أصير فيها حراً لأنسى بين هؤلاء الأعزاء متاعب العمل والحياة. ولكنني في تلك الليلة عندما قدّمتْ إليّ زوجتي شفتيها، تراجعت. . . وأبعدت أطفالي الصغار حين أقبلوا إليّ، لأن البذرة التي بذرتها يا دكتور في نفسي بدأت تنمو!
جلسنا إلى العشاء، فكنت أحاول أن أخفي همي، ولكني كنت مكتئباً حزيناً، كسير القلب، أفكر في هذه الكائنات المحبوبة التي سأفارقها قريباً، في أسرتي التي ستفقد عائلها، في أولادي الذين سيكبرون أيتاماً
إن لغيري ممن يعرفون أن موتهم قريب تعزية، وهي أنهم قادرون على أن يضموا إلى صدورهم من يحبون ويملؤوا عيونهم منهم، ولكني أنا. . .! أنا الخطر الداهم لكل من يقترب مني، أنا من يحمل الموت معه. . . لا أزال حياً، وقد انفصلت عن الأحياء، ولم يعد لي حق في مسرات الحياة!
. . . وعندما حان موعد النوم، التف أولادي حولي كما يفعلون كل ليلة، ولكني دفعتهم عني لأن فمي الموبوء لا ينبغي أن يمس أفواههم!
أويت إلى فراشي ثم أخذ كل شيء يسكن في المنزل، وفي الطريق، فأشعلت النور، وبقيت ساهداً بالقرب من زوجتي وهي تنسم أنفاسها الهادئة(342/66)
أخذت ساعات الأرق الطويلة تمر متثاقلة. كنت أضغط صدري بيدي، وكأني أريد أن أصل بأصابعي إلى موضع الداء في رئتي. لم يكن بي من الألم في الحقيقة ما يجعلني أصدّق حكمك، فإن مثل هذه الأعراض تنتاب كثيراً من الناس!. . وانتهيت إلى الاعتقاد بأنك لابد أن تكون مخطئاً. قلت في نفسي: لا، لست مريضاً بالسل، مستحيل، سوف أستشير طبيباً آخر. . . غير أني سمعت فجأة سعالاً في الغرفة المجاورة. . . فعرتني قشعريرة. عاد السعال الآتي من غرفة أولادي ثانياً، جافاً، وحاداً ومنتهياً بنوع من الحشرجة. مددت يدي نحو زوجتي ولكن خفت أن أوقظها فسحبت يدي. وعاد السعال مرة أخرى، فقمت بهدوء وذهبت إلى الغرفة التي ينام فيها أطفالي. وفي ضوء القنديل الضئيل، أمكنني أن أراهم وهم نائمون في فراشهم. خيل إلي أن أكبرهم محمر الوجه. جسست يده فإذا بها دافئة، ملت عليه. سعل عدة مرات متوالية وهو يتقلب في فراشه بضجر. مكثت إلى جانبه وقتاً طويلاً كان يسعل خلاله باستمرار. . . وعدت إلى غرفتي، ولكني ما كدت أتمدد على فراشي حتى استولت عليّ فكرة مرعبة: هو مسلول مثلي، لاشك في ذلك
في تلك اللحظة كنت أنت تنام ملء جفونك يا دكتور، أليس كذلك؟
واليوم التالي كان فظيعاً. لم أجرؤ على إخبار زوجتي أن طفلنا مريض. لم تكن عندي الشجاعة الكافية لإحضار طبيب. كنت خجلاً من نفسي، وعقد الجبن لساني فسكت
لكن عقلي لم يسكن. استمرت الأفكار السود تحركه. ليست المسألة مسألة العدوى فقط، بل هناك شبح أبشع من ذلك ظلّ ماثلاً أمامي: الوراثة. لقد ورث أطفالي مرضي كما ورثوا عينيّ وشعري. وحتى لو كانوا قد نجوا من حكم هذا القانون المخيف فقربي المستمر منهم لابد أن يكون قد نقل العدوى إليهم
تقول إن ذلك وهم وخيال؟ كلا، أليس ذلك نتيجة طبيعية للمجهود الذي تبذله أنت وزملاؤك بالمحاضرات والمجلات والجرائد لتكشفوا للناس أسرار هذا المرض!
كل ما كنت قد قرأت أو سمعت تجمع في رأسي
زوجتي وأطفالي أعز الناس عليّ، سوف يذبلون واحداً بعد آخر! سوف يقاسون حياة مريرة معذبة في انتظار النهاية المؤلمة. . . وأنا، سوف أشهد ذلك كله في وجوههن الشاحبة، وأجسامهن المتداعية. والعلم عاجز عن تغيير هذا القضاء المحتوم(342/67)
وسكت لحظة ثم عاد يقول في صوت عميق:
ثم - تابعني جيداً - بعد مرور أيام لم تبرحني خلالها لحظة تلك الأفكار الواخزة، تولد عندي الاعتقاد بأن هناك حالات يكون فيها من واجب الإنسان أن يقف عذاباً يعلم أن لا مفر منه. . . من حقه أن يمحو جريمته، يفني ما خلق، يكون هو يد القضاء التي تنقذ من الشقوة من لا ذنب لهم
أنت ترتجف؟ أنت خائف من أن تفهم؟. . . نعم، بيدي قتلت أطفالي وزوجتي! أسمعت؟. . . قتلتهم، سمّمتهم، وفعلت ذلك بمهارة لم يفطن إليها أحد
كنت في أول الأمر مصمماً على أن أضع حداً لحياتي أنا أيضاً؛ ولكني كنت في نظر نفسي خليقاً بالعقاب! لا لأني قتلتهم - إذ أعتقد أن عملي في هذه الحالة مشروع - بل لأني أوجدتهم. وأي تكفير أحكم به على نفسي أشد من البقاء منفرداً يائساً أتحمل وحدي عبء تلك الحياة المنكودة التي أنقذتهم منها؟!
والآن، انظر ماذا حدث. بعد موتهم بأسابيع، أخذت تعود إليّ قواي. ذهب الألم الذي كنت أشعر به. لم يعد أثر للدم في بصاقي. بدأت أشعر بشهية للأكل. . . بل بدأت أسمن
اعتقدت في أول الأمر أنه لسبب ما وقف المرض مؤقتاً، وسوف يعود بحالة أشد. إلا أني بعد بضعة أشهر تبينت الحقيقة المرّة، وهي أني شفيت. أقول شفيت!. . . ولكن، هل كنت حقّاً مريضاً بالسل!. . . وتجسّمت الفكرة أمام عينيّ. أتفهم ماذا أعني؟. . . إذا كنت مسلولاً حقاً، فقد كان واجباً ما فعلت. أما إذا لم أكن، فقد قتلت بلا مبرر، وقتلت من؟. . . زوجتيوأولادي. . .
أمهلت نفسي سنة كي أتأكد، مؤملاً دائماً أن المرض الذي وقف سوف يعود، بل محاولاً بكل وسيلة أن أعيده إلى الظهور. . . ولكن عبثاً، إذ لم يظهر أي عرض من أعراض المرض. وعندئذ وثقت بأنك كنت مخطئاً، بل مرتكباً لأفظع خطأ. استولى عليّ اكتئاب لا قبل لي بدفعه، عيناي اللتان اختزنتا الدموع طويلاً عجزتا عن إبقائها. لقد هدمت حياتي بيدي، قتلت نفوساً بريئة، ألقيت بنفسي في خضم من الأحزان والآلام. ولم كل هذا. . .؟ لسبب خطئك أنت. ولقد أتيت اليوم هنا لأسمعك أنت بنفسك تقر بغلطتك. . .
وانتصب الرجل واقفاً وهو يقول وقد ضم ذراعيه إلى صدره:(342/68)
- لقد اعترفت أنت بنفسك أن لا أثر للمرض بي. إنك لم تر عيني وأنت تقول: أنت عصبي، ولكن ليس بك شيء، لا شيء مطلقاً، أؤكد لك!. نعم، لأنك لو كنت رأيتهما لارتجفت من الخوف، لقرأت فيهما أني جئت. . .
فقاطعة الطبيب مغمغماً وهو في منتهى الشحوب:
- أنا لست معصوماً. . . إن فكرة السل متغلغلة في الأفكار هذه الأيام. . . وكثيراً ما يتأثر الإنسان دون شعور منه به. . .
من الجائز جداً أن يعطي الطبيب أثناء فحصه أهمية لصوت قد يكون عرضياً ومؤقتاً. . . قد أكون أخطأت. . . أعظم الأطباء كثيراً ما يخطئون في تشخيص المرض. . . ومع ذلك فلكي تتأكد دعني أفحصك ثانية
فانفجر الرجل يضحك ضحكة وحشية مرعبة وقال:
- تريد أن تفحصني ثانية!. . . ها ها. . . أتظنني أبله؟ ليس بي شيء. لقد قلت ذلك منذ هنيهة: (لا شيء مطلقاً!) وأنا في هذه المرة واثق من صحة تشخيصك
- غلطتك جعلتني قاتلاً، فأنت شريكي. شريك عن غير قصد، أنا معك. . . ولكنك كنت العقل المدّبر وأنا اليد المنفذة. وما دامت العدالة واحدة وأبدية، فأنا - العصبي - أتهمك وأحكم عليك وأنفذ الحكم. . . عليك أولاً. . . ثم على نفسي. . .
. . . ودوت طلقتان في الفضاء. واندفع الخادم إلى الغرفة فوجد جثتين مجندلتين؛ وقد سال دم الدكتور على (تذكرته) ولم يكتب فيها بعد سوى:
بروميد 15 جراما
ماء مقطر. . .
صلاح الدين كامل(342/69)
البَريدُ الأدَبيّ
حول (الإمتاع والمؤانسة)
قرأنا في باب مقالاً قنع صاحبه بأن يجعل توقيعه هكذا: (ع. ص). فمن يخبرني من تحت هذين الحرفين المقطَّعَيْن؟ والمقال رد على تعّقبي لفرطات بدرت من جانب الأستاذين احمد أمين فأحمد الزين وهما يحرران كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. وكنت قد صنعت ذلك الاستدراك لوجه العلم وحده ولإتمام الفائدة، لا لتنقص الناشرين الفاضلين، كما زعم ع. ص وقد كنت أرقب الرد من ناحيتهما، وأكثر الظن أن صديقي الدكتور زكي مبارك يرى ما أرى وهذا رد يعمد صاحبه إلى التعمية، فيفر من الميدان قبل أن ننزل إليه وللتعمية سبب جليّ، قصته أن المقال يدور على التلبيس والعنت: على اختلاق القول واجتلاب الحجة.
ووالله لولا دَين القارئ الطُلَعة في عُنق الناقد الكشّاف لحبست القلم اليوم عن الكتابة، وذهني مشغول بقولة العرب: (لا تناظر جاهلاً ولا لَجوجاً، فإنه يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلم بغير شكر).
أما التلبيس الذي ذكرتَه ففي قوله: إن تنبيهي على اضطراب الترقيم (استغرق قرابة نصف صفحة من مقالي). والواقع أن ذلك التنبيه جاء كالذيل للمأخذ الأول ووقع في عشرة سطور، على حين أن مقالي في سبعة وثلاثين ومائة سطر
ومن التلبيس أيضاً أنه يقول في خاتمة مناقشته المستكرهة: (هذا ما يتعلق بنقد الدكتور بشر)، وهو يريد أن يدسَّ في ذهن القارئ أنه ناقش كل ما أخذت على الناشرين. والواقع أنه إنما حاول الردّ على مآخذ أربعة؛ وفي نقدي أحد عشر مأخذاً، كنت استخرجتها من الأربعين صفحة الأول من كتاب (الإمتاع والمؤانسة). أَلاَ فليخْبرني (ع. ص) أو من وراءه ماذا صنع بالمآخذ السبعة الأخرى؟ أطواها في الغطاء الذي يلفه؟ أني أرجو من صديقي القارئ أن يعود إلى نقدي ويراجع كلمة (المعانَقَة الخفيَّة) وصوابها (معانِقِه)؛ وجملة (تاه أهله) والوجه (باد)؛ وكلمة (الشهوات الغالبة) والصواب (الغالية)؛ وتفسير (الركاكة) بضعف العقل والرأي دون البَدَن، والأصل هذا؛ وكلمة (مادَّته بالية) والصواب (سايلة)؛ وكلمة (وواد واحد) والصواب (وُهوٍّ). ولعمري أني أعذر (ع. ص) من لزوم الصمت إزاء(342/70)
هذه المآخذ، فقد غُلِّقت دونها أبواب الاحتيال
ذلك بعض ما في مقال ع. ص من التلبيس. وأما الذي يشينه من ألوان العنت فمتلاحق في مناقشته المغتصبة، وسأختصر الكلام قانعاً بضرب مثلين اثنين:
يقول ع. ص - رجاءَ أن يفلت من تنبيهي على اضطراب الترقيم - ما حرفه: (ولم يدر (يعنيني) أنّ هذا الترقيم إنما يمليه الذوق وحده، ولا يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة إلا في رسم العلامات). فمن هنا يتبين لي أَن الرجل من الهاجمين على فن الإنشاء. ولا أريد أن انقلب إلى علامات الوقف والتمهل في أدبنا القديم، خشية الإطالة. ولكني اخبر ع. ص. أَن فن الترقيم (يرجع وضعه إلى قواعد ثابتة) في اللغات الإفرنجية. فليستعن بأحد إخوانه على تفهم (باب الترقيم) في كتاب لقواعد الفرنسية، في كتاب المختصر مثلاً (والباب في أربع صفحات، ثلاثة أرباع واحدة منها للعلامات التي يعنيها هو، نحو علامة التعجب؛ والباقي للترقيم من نقطة وفصلة أو شولة وغير ذلك). وأما الترقيم المستحدث في العربية فقد استعرناه من قواعد اللغات الإفرنجية محاكاةً لها. أني أُثبت هذا وبين يديّ رسالة أمضتها وزارة المعارف العمومية، عنوانها: (حروف التاج وعلامات الترقيم، ومواضع استعمالها) (المطبعة الأميرية 1931) فهذه تسع سنوات يسير التلاميذ في فن الإنشاء على منهج قويم ليس للأستاذ الكاتب ع. ص. علم به
بقى أن ع. ص ظَنَّ أنه ظفر بالمقتل حين قال: إن لي نحواً جديداً إذ أثبتَّ كلمة (كذا) في تضاعيف قول التوحيدي: (وأما قولهم: هذا شي خلق، فهو مضَّمن معنَييْن (كذا): أحدهما يُشار به إلى أن مادته بالية (والصواب كما في الأصل: سايلة)، والآخر أن نهاية زمانه قريبة). ألا ترى كيف يتقوَّل عليّ ع. ص ما لم أقله إذ يزعم من الطريق التخمين أني (حسبت) كلمة (معنيين) من الغلط النحوي، وأن صوابها عندي: (معنيان)، فيتشبث لأجل ذلك بورود كلمة (كذا). ياله من غريق يتشبث بالموج الهازئ! فهل له أن يسأل أهل الذكر عن موقع كلمة (كذا) في ذلك الموطن فيخبروه أنها ليست للتخطئة كما وهم، ولكنها لتأكيد حكم المؤلف وتنبيه القارئ إلى التقسيم الذي يليه. وليرجع ع. ص. هاهنا إلى (كتاب الصناعتين) لأبي هلال العسكري (الآستانة 1320ص267، 270) لعله يدرك أن من التقسيم الفاسد أن يدخل أحد القسمين في الآخر. وفي عبارة التوحيدي تقسيم، دليله حكمه:(342/71)
(فهو مضمن معنيين: أحدهما. . . والآخر. . .). وقد جاء التقسيم - على حسب رواية الناشرين - فاسداً، وذلك لأن (المادة البالية) داخلة في (الزمان القريب نهايته). وأما (المادة السايلة) (وهي الرواية الصحيحة، كما بينت في نقدي مستنداً إلى دواوين الفلسفة العربية) فعلى خلاف ذلك؛ لأن (السيلان) يفيد التحول من طريق تدافع الأجزاء. وعلى ذلك فإثباتي كلمة (كذا) من باب التأكيد والتنبيه. غير أن ع. ص قليل الإلمام بأساليب الكتابة العلمية. ولو تروّى قليلاً لفطن إلى أني لم أجر في نقدي على التخطئة باستعمال كلمة (كذا)، بل أقول: هذا خطأ، والصواب كيت وكيت. أَفقلتُ: والصواب (معنيان)؟ ولكنه الميل إلى التخلص بالملفقات
من كل ذلك يتضح لك ما وراء التعمية من تلبيس وعَنَت مما لا يجلب للعلم منفعة ولا يعود على الناشرين الفاضلين بسَنَد وليعلم (ع. ص) أن قلمي مهملة بعد هذه، فليس من عادته أن يجاذب من يوليه ظهره.
بشر فارس
وفد العراق في المؤتمر العربي
أهلاً وسهلاً ومرحباً!!
كتب إليَّ الأخُ العزيز الدكتور عبد المجيد القصاب يقول: (أنا أتحرق شوقاً إليك)، وأحزم حقائبي للقياك مشتركاً في المؤتمر الطبي رئيساً لوفد الطلبة وعددهم يُنيف على الثمانين من طلاب الحقوق والطب والصيدلة ودار المعلمين العالية. وما شأني والمؤتمر الطبي؟ إنما هي مصر التي أحترق شوقاً إليها، وإنما أعني أهل مصر الذين بارك الله في عقولهم وعواطفهم وتفكيرهم، من أمثال: علّوبة ومبارك والمزني والزيات والسنهوري وعزام وأباظة. ولست أنا وحدي أتلظى بسعير الوجد، بل هنالك العدد الكبير من أطباء وطبيبات وطلاب وطالبات من سكان وادي الرافدين سيحملون إلى سكان وادي النيل تحيات عاطرات. . .)
وإذاً، فسيكون عندنا وفدان للمؤتمر من أهل العراق: أحدهما وفد الأطباء برياسة الدكتور صائب شوكت، والثاني وفد الطلاب برياسة الدكتور عبد المجيد القصاب.(342/72)
سيكون بالقاهرة في أيام العيد مائة وعشرون ضيفاً من العراق. فيا فرحة القلب ويا طرب الروح بلقاء الأهل والأحباب!! وفي خطاب الدكتور القصاب تحية من الأخ الأستاذ ناجي القشطيني، وتحية كريمة من بعض أخواني بالنجف. . . فيا أيتها الدنيا التي تجيد مضايقتي من وقت إلى وقت، تأدبي يوماً أو أياماً حتى ألقى وفد العراق وأنا في أمان من ثورة النفس على غطرسة الزمان!. . .
وفي الخطاب إشارة رفيقة إلى اشتراك (ليلَى) في المؤتمر الطبي باسم مستعار لتأمن أهل الفضول، وهو يدعوني إلى التأهب لاستقبالها في محطة (باب الحديد)
وحياتِكم وحياتكم قسما وفي ... عمري بغير حياتكم لم أَحلف
لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بقدومكم لم أُنصف
سأكون في عيد، سأكون في عيد، والحمد الله، والشكر للجمعية الطبية المصرية التي عرفت كيف تجعل القاهرة صلة الوصل بين الأمم العربية.
إليك يا ليلى والى أهلك الأكرمين أفتح صدري وذراعيَّ لعناق التلاقي بعد طول البعاد:
ومن بينات الحب أن كان أهلها ... أحبَّ إلى قلبي وعينيَّ من أهلي
زكي مبارك
أقاصيص جديدة لأوسكار وايلد
عثر الأستاذ غيّو دُسيكس على أقاصيص جديدة لأوسكار وايلد لم يتح لها أن تنشر قبل اليوم، ولو أنها نشرت لكانت كتيّباً صغيراً. وسألخص هذه الأقاصيص، وعلّي أعود يوماً فأنقلها إلى القراء:
(1) العين الزجاجية
نجد في هذه الأقصوصة غنيا أوتى الجاه والجمال. وكان مولعاً بالصيد والقنص. وإنه لفي أثر بعض الوحوش ذات يوم، إذ اضطربت بندقيته فأصاب إحدى عينيه رشاش أطفأ نورها. فعمد إلى عين من بلور خاص، وكانت عيناً حلوة رائعة جديرة بأن ينفق من أجلها كل ماله
ووضع العين الزجاجية المرأة؛ فأعجب بحلاوتها وصفق. . . وغدا عاشقاً لها يغدو ويروح(342/73)
ويرنوا إليها
فلما بلغ به الإعجاب كل مبلغ، أراد أن يسأل صديقاً له عنها فقال له:
- كيف ترى عيني الزجاجية؟
- لا يستطيع المرء أن يبدع أكمل منها!
- ولكن ألم تعجب بها؟ إن الحياة لتتدفق منها، وإن النور ليشع فيها. آه يا صديقي، لقد غدوت لا أميّز بين عيني الأولى وعيني الثانية، أنظر فيها. . . وحدق، ثم قل أية العينين هي الزجاجية؟
- تلك هي الزجاجية
- وكيف عرفتها؟
- إنها أحلى العينين!. . .
- أواه! إنك تهزأ. . . لو لم تك رأيتها من قبل لما عرفتها. . .
تعال نسأل الناس، هيا إلى الشارع
وخرج الصديقان. . . فلمح الغنى في زواية الشارع سائلاً يقضقض برداً، فاقتربا منه، وقال له الغني:
- هل تأخذ درهما؟
- درهم. . . درهم. . . ليس أحب إلي منه. . . لقد بت جوعان ليلتين!
- حسن، أنظر إلى عيني. . . فإذا استطعت أن تميز عيني الزجاجية من عيني الطبيعية. . . كان لك ما تشاء!
فحدق السائل، وقال فوراً:
- هاهي ذي يا سيدي
- ويحك! وكيف عرفتها. . .؟
- الأمر سهل يا سيدي، لقد رأيت فيها شفقة ورحمة بي. أما الثانية. . . أما الثانية. . . إنها تقول: لا تعطه شيئاً
(2) جزيرة النسيان
أقلعت السفن تحمل فوقها فتياناً في مقتبل العمر. فخيم الليل عليهم وهم فوق ثبج البحر(342/74)
المطمئن، وكانوا يسمرون وينشدون وإذا بالسماء تعبس ثم تبكي. . . وإذا بالبحر يفتح شدقيه ليبتلع كل شيء. . . وإذا بالرعد يقهقه وهو ينظر ضاحكا
وتاه البحارون. . . حتى وصلوا إلى جزيرة نائية، ما عرفها علماء الجغرافية وما رأوها، فنزلوا فيها فلقوا شيخاً قد استقبلهم والوجه مشرق والعين ضحوك
لم يكن الشيخ مرتدياً لباساً بل اتخذ من شعره الأسود الذي استرسل على كتفيه وستر ظهره رداءً، ومن لحيته الطويلة التي بلغت ركبتيه صدرة
وحفَّ الشباب بالشيخ وسألوه أن يقص عليهم قصته فضحك وقال:
- كل ما أستطيع أن أقوله. . . هو أني أتيت إلى هذه الجزيرة لأنسى
- تنسى ماذا؟
- أوه! لقد نسيت أيضاً!
(3) الرجل الغني وسره
كان لغني ثروة واسعة تنغص عيشه دائماً. فأتاه ذات يوم رجل ذكي محتال وقال له:
- لقد عرفت سرَّك فإن لم تعطني ألف جنيه تكن خاسراً فدب الخوف في نفس الغني وساءل نفسه: أيكون لي سر ولا أعرفه؟ وما هو سري؟ ولكن ربما كان لي سر يعرفه هو ولا أعرفه أنا، فلأعطه ما يريد!
ومضى الرجل وفمه يتلمظ. . . فكان كلما أحس حاجة أو فاقة غدا إليه فأخذ مالاً. . . والغني مذعن خائف
وتصرَّمت أعوام. . . وإذا بالموت يأتي الغني!
فنادى المحتال. . . وقال له ونفسه تتقطع حسرات:
- لن أخاف بعد اليوم. . . فقل لي ما هو سري. . . الذي لم اعرفه!
صلاح الدين المنجد
التجديد في العروض
قرأت بالعدد (341) من الرسالة قصيدة بعنوان (الناي) للدكتور المفضال بشر فارس قدم لها بقوله (هذه الأغنية منظومة على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر(342/75)
الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: فاعلاتن مفاعلتن (مرتين)، وليكن اسمه: المنطلق. وأما البحر الثاني فمن البحور المعروفة. . . أهـ) ثم مضى في القصيدة فكان الوزن الذي أسماه المنطلق يبدأ بقوله:
جنّبوا النايَ عن أُذُني ... أُذُني زُلزلت طَربَا
والواقع أنه لا يوجد في أوزان البحور المعروفة بحر أجزاؤه (فاعلاتن مفاعلتن) ولكن يوجد هذا الضرب نفسه بأجزاء أخرى هي (فاعلن فاعلن فَعِلُنْ) فهو إذاً الضرب الأول من العروض الثاني من المتدارَك، وهو المجزوء الصحيح، وأقرب أمثلته (لوزن) الدكتور بشر هو الضرب المخبون المرَفَّل من هذا المجزوء الصحيح، ومثاله في متن الكافي هو:
دارُ سُعدَى بشَحْر عُمَانْ ... قد كَسَاها البِلاَ المَلَوَانْ
على أن هناك فرقاً يسيراً قد يلحظه القارئ بين الوزنين، فذلك أن وزن الدكتور بشر ينقصه الترفيل (وهو زيادة سبب خفيف على ما آخره وتد مجموع) والسبب الخفيف - كما هو معروف - متحرك بعده ساكن كقَدْ. فهو يمثل الألف والنون الأخيرتين، في عمان والملوان، واللتين بحذفهما نحصل على نفس الوزن (المنطلق) الذي جاء به الدكتور بشر. . .
والواقع أنه يصعب جداً، بل يكاد يكون من المتعذر، زيادة (بحر) مستقل على البحور المعروفة، كما سمح الدكتور الفاضل لنفسه في تسميته مجزوءَه الذي له اصل في العروض بحراً. . . على أن له العذر الفني في ذلك، وأقول العذر الفني لأن (البحر) الذي خيل إليه أنه اخترعه لم يقع له إلا في (المتدارك) وهو - كما يظهر من تسميته نفسها - بحرٌ تدارك به الأخفش على الخليل الذي قد نسيه أو أهمله (وقيل هو المتدارِك بكسر الراء لأنه تدارك المتقارب أي التحق به، لأنه خرج منه بتقديم السبب على الوتد، وله أسماء أخرى غير ذلك كالمخترع والخبب. . . عن المختصر الشافي للدمنهوري)
ويلوح لي أن هناك شيئاً من توارد الخواطر بين تسمية الدكتور بشر لمجزئه (بالمنطلق) وبين تسمية المتدارك (بالمخترَع) فكلا التسميتين ترمزان من طرف خفي أو صريح إلى أنه وزن جديد على أوزان الخليل. . . هذا وإن كنت لم أعرف بعدُ مَلحظَ الدكتور في اختياره اسم (المنطلق)(342/76)
وزيادة للفائدة من هذا البحث الجليل، أقول إنني حاولت التجديد في العروض - وكان ذلك منذ سنوات - بزيادة بحور جديدة، فوقعت على بحرين، أحدهما - لِلَطيفِ ما حدَث - ظهر أنه هو نفس المتدارك! وكنت قد نظمت لإثباته أبياتاً مطلعها:
يا أَبى إنني ذاهبٌ للوَغَى ... باذلٌ مهجتي في سبيل الحِمَى!
والثاني أخذته عن وزنٍ انجليزي بديع، يمثل طريقة من سير الجياد وهو الأصح عندي بأن يسمي (الخَبَبَ) وقد جعلتُ وزنه: مَفْعُولُنْ، أربع مرات، أو ثمان. . . ولا أذكر ما نظمته فيه، ولكن المجال فيه مفتوح للناظمين. . .
عامر محمد بحيري
ليسانسيه في الآداب من جامعة فؤاد الأول
معنى بيت وإعرابه
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي انتقادات ومباحث تصيب مرماها تارة وتخطئه أخرى، وملاحظات تحمل قارئها على التأمل والتبصر في محتوياتها مما جعلني أخالف ما ذهب إليه في إعراب قول الأعشى
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السليم مسهدا
فإنه أعرب أرمدا فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين العائدة على قوله عيناك، وعلى ذلك (فليلة) في البيت منصوبة على الظرفيه لا أنها مفعول مطلق كما يقول الأستاذ (أبو رجاء) نقلاً عن حذاق النحاة
ولننظر إلى معنى البيت على رأي الأستاذ الصعيدي، أيؤدي ما كان يريده الأعشى أم يعارضه وينافيه ويخالف العقل والواقع؟ إنه يكون هكذا: (ألم تغتمض عيناك ليلة كانا مرمدين) مع حمل الاستفهام على التقرير أو الإنكار، فكيف يتأنى انطباق جفون العين وذوق حلاوة الكرى في وقت كان الرمد كالجمر يَحْرِق ويأكل غارساً بذور السهاد والقلق وغير ذلك مما يعلمه الأستاذ؟ إذا كان لهيب الرمد، وحلاوة الهجوع لا يجتمعان، أذن يفسد كل معنى يقول بذلك ويتحقق ما تقوله حذاق النحاة في معنى البيت من أنه يكون هكذا (ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة ألارمد) ولا ريب في أن إغتماض المرمد كله سهد وقلق(342/77)
وأرق وضجر وغير ذلك مما يتناسب ومراد الأعشى، وخاصة أنه كان كما يقول الأستاذ (لم يكن في موقف الشكوى من هذا، وإنما كان في موقف النسيب). فلا حرج عليه إذا قال: إنه كان في سهر طويل ويقظة شديدة كانت كيقظة الرجل الذي آلمه رمد عينيه، لا أن يقول: إن عيني كانت مغمضة ونائمة ليلة كانت مرمدة؛ وهب أن المعنى قد يتأتى، وينام الرجل والرمد في عينيه، فما هي المناسبة التي تجعل الأعشى أن يقول ذلك وهو في الموضع الذي نبه عليه الأستاذ. هذا ما أردت كتابته والسلام على الأستاذ ورحمة الله
محمد رجب البيومي(342/78)
رسالة النقد
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
- 2 -
تحدثنا في مقال سابق عن أمثلة من نقد الدكتور بشر فارس لتصحيح كتاب (الإمتاع والمؤانسة) وبيَّناً تفاهة هذا النقد وقلة جدواه. أما نقد صاحبه الدكتور زكي مبارك لتصحيح هذا الكتاب فهو أقل جدوى وأبعد عن الجادة وأكثر تحكما وأشد تعسفاً وتكلفا ًمن نقد صاحبه
وشئ آخر يمتاز به الدكتور زكي على صاحبه أنه يمسك بخناق الكلمة الصحيحة، ويظل يضرب فيها بعصا غليظة من التأويل البعيد ليجبرها على أن تحكم على نفسها بالغلط. فإذا لم تجبه الكلمة إلى ما أراد حكم عليها هو بالغلط، ولا يكلفه ذلك إلا أن يكتب حرف الغين واللام والطاء
وتلك أمثلة من نقده مع ردنا عليها ليتبين القارئ صدق ما نقول وأن هذا النقد كله لا يستند إلى شيء من الحق:
روى أبو حيان في كتابه الذي نحن بصدده مناظرة طويلة بين أبي سعيد السيرافي ومتّى بن يوسف المنطقي، وفيها سؤال نحوي وجهه السيرافي إلى متى، فلم يستطيع متي الإجابة عليه، وطلب إلى السيرافي أن يفيده عن ذلك. فقال السيرافي: (لو حضرْت الحلْقةَ استفدتَ)
وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (الحلقة) ما يفيد أن في الأصل (المختلفة) مكان قوله: الحلقة وهو تحريف
ويقول الدكتور زكي: إن قوله (المختِلفة) ليس فيها تحريف وإنها صحيحة لاشك فيها؛ وفسر قوله: (المختلفة) بأن معناها الطلبة الذين يختلفون إلى المعلم
ونقول: إن قوله (المختلفة) تحريف لاشك فيه كما رأى المصححان الفاضلان، وأن الصواب (الحلقة) كما رأيا، فإن المعلم لا يقول: (إذا حضرت الطلبة استفدت) وإنما يقول: (إذا حضرت مع الطلبة). أو يقول: (إذا حضرت الحلقة) أي حلقة الدرس؛ فهذا أقرب إلى الأحاديث العادية، وأشبه بأسلوب أبي حيان والسيرافي وغيرهما من الأئمة
أما أن يقول المعّلم لإنسان ما: (إذا حضرتَ الطلَبَةَ استفدتَ) فهي عبارة ركيكة لا تلتئم مع أساليب الكتّاب العاديّين فضلاً عن أعلام الكتابة كأبي حيان. ودليل ذلك قوله بعد هذه(342/79)
العبارة: (فليس هنا مكان التدريس)؛ وهذه عبارة تنادي بصواب ما أثبته المصححان الفاضلان
روى أبو حيان في هذه المناظرة السابقة من كلام أبي سعيد السيرافي الذي وجّهه إلى متي بن يونس المنطقيّ يعنّفه ويلومه، قال: (وإنما يودِّكم أن تشغَلوا جاهلاً وتستذلّوا عزيزاً)
وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (بودّكم) ما يفيد أن في الأصل: (قولكم)؛ وهو تحريف
ويقول الناقد: (إن لفظ الأصل صحيح لاشك فيه، فلا موجب لتغييره بكلمة أخرى)
ونقول: إن الصواب ما فعله المصححان الفاضلان: فإن قوله: (وإنما قولكم أن تشغلوا جاهلاً وتستذلوا عزيزاً) حسب عبارة الأصل، غير سائغ في أي أسلوب مهما انحط في درجات الكتابة؛ فهي عبارة ممزّقة النسج، فاسدة المعنى، فإن كون المناطقة يشغلون الجاهل ويستذلون العزيز ليس قولاً، وإنما ذلك قصد وإرادة، بدليل قوله بعد: (غايتكم أن تهوِّلوا بالجنس والنوع)
وإذن فالملائم لسياق الكلام أن يقول: وإنما بودكم أن تفعلوا كذا، وغايتكم أن تفعلوا كذا. . .
ومنها ما رواه أبو حيان في هذه المناظرة أيضاً من كلام متي ابن يونس المنطقي، يقول: (لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل والصدق من الكذب. . . إلا بما حوَيْناه من المنطق، وملكْناه من القيام به)
وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (حويناه) ما يفيد أنه في الأصل: (جربناه) مكان قوله: (حويناه)؛ وهو تحريف ويقول الناقد: أن قوله (جربناه) صحيح لا تحريف فيه
ونقول ردا عليه: إن فعله مصححا الكتاب هو الصواب بعينه؛ وقوله (جرَّبناه) في هذا الموضع تحريف لاشك فيه ولا معنى له؛ فإن قول المؤلف بعد: (وملكناه من القيام به) ينادي بصحة ما أثبت مصححا الكتاب، فإن (حويناه) و (ملكناه) بمعنى واحد وإن اختلفا في اللفظ، كما هو ظاهر
ومنها ما قاله السيرافيّ أيضاً موجها الخطاب إلى متّي يعرّفه فضل اللغة العربية، قال: (وإذا لم يكن لك بُدٌّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة)
وقد كتب مصححا الكتاب على قوله: (الترجمة) ما يفيد أن في الأصل: (التجربة) مكان(342/80)
قوله: (الترجمة) وهو تحريف
ويقول الناقد: إن لفظ الأصل صحيح
ونقول: إنه تحريف كما رأى مصححا الكتاب، إذ لا معنى لقوله: (التجربة) في هذا الموضع؛ وإلا فما معنى أنه محتاج إلى قليل اللغة لأجل التجربة؟ وما المراد بالتجربة هنا؟
إنها على هذا الوجه عبارة غير مفهوم المراد منها. على أن سياق الكلام يدل على أن الصواب كلمة (الترجمة) كما رآه المصححان الفاضلان
وأنا أروي لك هذه الجملة والجمل التي بعدها ليتبين لك أن السياق يقتضي لفظ (الترجمة) لا (التجربة). قال: (وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بد لك أيضاً من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة) (يريد الترجمة من اليونانية إلى العربية)
ومنها ما رواه التوحيدي من كلام السيرافي أيضاً الذي وجهه إلى متى المنطقيِّ يقول له ما نصه: (ثم أنتم في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة) أه ومعنى قوله: (لا تفون بالكتب) أنهم لا يقومون بحقها وما يجب لها من الشروح والتعليقات، فهي كتب ناقصة غير مستوفاة
وكتب المصححان الفاضلان على قوله: (لا تفون بالكتب ما يفيد أن في الأصل: (لا تقولون)؛ وهو تحريف أه
ويقول الدكتور مبارك: إن كلمة الأصل صحيحة وإن عمل المصححين لا موجب له
ونقول: ما معنى أن المناطقة لا يقولون بالكتب - كما يرى الناقد -؟ الحق أنها عبارة فاسدة، لأن المناطقة يقولون بالكتب ويؤلفونها ويقرءونها؛ وأن ما فعله المصححان الفاضلان هو الصواب بعينه، بدليل قول المؤلف بعد: (ولا هي مشروحة) فإن هذه العبارة تدل دلالة واضحة على أن السيرافيّ يريد أن المناطقة لا يفون بالكتب وأن كتبهم ناقصة
ومن أمثلة هذا النقد التافه أيضاً قول الناقد في عبارة التوحيدي ونصها: (بل الأشياء منها ما يوزَن، ومنها ما يُكال، ومنها ما يُذرع، ومنها ما يُمْسح، ومنها ما يُحزَر) وقد كتب المصححان الفاضلان على قوله: (ومنها ما يحزر) وهي العبارة الأخيرة ما يفيد أن في الأصل: (ومنها ما يمسح ويحزر) بسقوط كلمة (ومنها ما) قبل قوله: (يحزر) وأنهما قد زادا(342/81)
هذه الكلمة كما يقتضيه سياق الكلام، فإن المؤلف قد عبر في كل ما سبقها بقوله: (ومنها ما)
ويقول الناقد: (انه لا موجب لزيادة (ومنها ما) وإن الصواب ترك العبارة هكذا: (ومنها ما يمسح ويحزر) كما هي عبارة الأصل أه
ففي أي لغة يسوغ هذا الكلام؟ إن ما يمسَحُ يا دكتور زكي غير ما يحزر، فإن الحذر هو تقديرك الشيء بالحدس والتخمين كما تفعل في نقدك، وما يُمسح معروف
وإذا كان المؤلف قد قال: (منها ما يكال ومنها ما يوزن) الخ ألا يقول: (ومنها ما يمسح ومنها ما يحزر)؟
وقد كان بودّنا أن نترك عبارة المؤلف تردّ بنفسها على الدكتور زكي مبارك دون أن نعلْق عليها هذا التعليق الطويل
تلك أمثلة من نقد هذين الكاتبين الدكتور زكي مبارك وبشر فارس قد أتينا بها ليعلم القراء قيمة ما نقدا به هذا الكتاب القيم في تصحيحه ومادته
ولا نريد أن نقف أمام كل ملاحظة من ملاحظاتهما موقف الرد والمناقشة فشرح ذلك يطول، ولا تتسع الصحف لمثل هذه الفضول. وإن أتفه الأمور المناقشة في توافه الأمور
ولنا عودة إلى الحديث عن قيمة هذا الكتاب من ناحية مادته، وما أودَعَه فيه مؤلفه من علم غزير وأدب جمّ
ع. ص(342/82)
العدد 343 - بتاريخ: 29 - 01 - 1940(/)
أثر المؤتمر الطبي ومصرع رستم حيدر
أمل وذكرى. . .
كانت القاهرة في أيام عيد الأضحى حجا للعروبة، كما كانت مكة فيها حجا للإسلام. وكان بين عرفات والمقطم أمواج متعاقبة من شعاع الروح الإلهي تشرق في الأبصار والأفواه والأفئدة فتتعارف وتتآلف وتتكاشف، فيفضي كل قطر إلى أخيه ببنات قلبه وذات صدره وكان ولا شك بين وفود المؤتمر الطبي العربي، كما كان بين حجاج البيت الإسلامي الحرام مذكرات وأحاديث فيما يكرب الأرض ويحزب الناس من انفجار العدوان والطغيان والشر في أكثر بقاع العالم، فكان إصفاق الرأي ولابد على ضرورة الوحدة العربية بأي شكل وعلى أي نظام
والحق أن الوحدة العربية في شتى صورها لم تكن في عهد من العهود ولا في حال من الأحوال ألزم منها لحياة العرب في هذا العهد وعلى هذه الحال. فقد كانت بالأمس سبيلاً من سبل الكمال الإنساني تصد عنها عصبية المكان وحزبية المذهب، ولكنها أصبحت اليوم ضرورة من ضرورات البقاء تدعو إليها طبيعة الحياة وسلامة الذات. لذلك لهج بها وفود المؤتمر وشهوده في حفلاتهم الرسمية والشعبية، واعترف بها ودعا إليها وزير الشؤون الاجتماعية في خطبته الخطيرة بدار الأوبرا الملكية
كان عيد القاهرة بما رأينا من تعاطف الأخوة المؤتمرين مبعث أمل؛ وكان عيد بغداد بما سمعنا عن مصرع الوزير رستم حيدر مثار ذكرى. ولم يكن من السهل على الخاطر - وقد امتلأ البصر والسمع بشباب العراق وأخباره - أن ينصرف عن الفكر في حاضر العراق وماضيه
رحم الله رستم حيدر! لقد كان وحده فصلاً في تاريخ العراق الحديث. وإذا كان في بعض حواشي الملوك رجال للهو والزهو، وآخرون للتجسس والتمويه، فإن رستم حيدر كان وحده في حاشية الملك فيصل رجل الجد والعمل. ولم أر في المهاجرين إلى بغداد مع صقر قريش أعلم ولا أفهم من رستم حيدر وساطع الحصري. وقد أبلى الرجلان في إذكاء النهضة العراقية البلاء الحسن: هذا في ميدان الثقافة، وذاك في ميدان السياسة. وكان بينهما مشابه من جهات كثيرة: فكلاهما مستقل الفكر، له في كل مسألة رأي وعلى كل رأي(343/1)
اعتراض. وكلاهما متقن العمل، يتقصى أطرافه ويستبطن دخائله. وكلاهما صليب الرأي، يعييك أن يتابعك على ما تريد. وإذا كان بين الرجلين اختلاف، فهو الاختلاف الطبيعي بين رجل السياسة الذي يتأثر بالأحوال والرجال والحوادث، وبين رجل العلم الذي لا يستخدم غير المنطق ولا يتوخى غير الحقيقة
كان المرحوم رستم حيدر ظاهر الوقار، دائم الانقباض، كثير الصمت، خافض الصوت، هادئ الحركة؛ ولكن هدوءه كان كهدوء الماء العميق، تضطرب في جوانبه الأفكار والأسرار وهو ساكن السطح بارد الأديم
وكان منذ اشتغاله بشؤون العراق مستشار المغفور له الملك فيصل في سياسته الداخلية والخارجية، لبصره بعلوم السياسة والمال، وعلمه بمداخل الأمور ومخارج الحيل. فكانت أعمال العاهل العظيم تجد مصاديقها غالباً في أقوال المستشار اليقظ
كان من سياسة رستم الاعتماد بعد التامين على الفرات قبل دجلة. لأن الفرات شيعي المذهب، وعلى ضفافه الخصيبة تنزل القبائل البدوية القوية. وفي تقوّيه بالشيعة حيطة من نجد، ومودة لإيران
وكان يشيح بوجهه عن مصر، لأن هواها في ثورة الحسين على الترك كان مع الخلافة، ولأن اشتغال طلبتها بالسياسة كان في رأيه مرضاً مخطراً لا ينبغي أن تسرى عدواه إلى العراق ولعله كان السياسي العراقي الوحيد الذي لا يهتم بأحوال مصر ولا يتصل برجال مصر
وكان من رأيه توسيع التعليم الأولي والمهني، وتضييق التعليم الثانوي، وحصر التعليم العالي في مدرسة لتخريج الموظفين ورجال الإدارة، خشاة أن يكثر المتعلمون فيكونوا مصدراً للشغب والإضراب والفوضى. وفي ذلك العهد الذي أرجع بذاكرتي إليه أغلقت المدارس العالية جمعاء إلا مدرسة الطب. وكان من أشد المعارضين لهذه السياسة التعليمية الأستاذ ساطع الحصري، لأنه كان يحاول أن ينشئ الثقافة العامة على قواعد العلم الخالص دون أن يحفل بأهواء الطوائف وأغراض الساسة، ولذلك نحى حينئذ عن سياسة المعارف
وكان من خطة المرحوم رستم أن تظل الأراضي الزراعية ملكاً للحكومة لتضمن بمنح الالتزام ومنعه طاعة القبائل وتأديب العصاة. ومتى تحضرت العشائر وتوحد القانون(343/2)
وعمت المدنية الاجتماعية أمكن أن توزع ملكية الأرض على نظام عادل
تلك هي أقوى الأصول التي كانت تنبت عليها سياسة القصر في ذلك الحين، ولا يعلم غير الله مقدار أثر المستشار في وضع هذه السياسة
لقد كان المرحوم رستم حيدر عنيداً في رأيه صليباً في خطته. والعناد والصلابة صفتان لا يحسنان فيمن يتولى أمراً بالعراق
دخلت عليه ذات يوم من عام 1932 وهو وزير المالية أسأله أن يرد على صديقي أمير بني تميم ما أخذته الحكومة من أراضيه الملتزمة وهو يبلغ خمسة عشر ألف فدان، فأجلسني إلى جانبه عن يسار المكتب الذي سفك عليه دمه منذ أيام؛ ثم أخذ يقنعني بالحجج والشواهد أن الحكومة محقة وأن الشيخ مبطل. ثم عزا المصادرة إلى أمور تتعلق كلها بسلامة العشيرة وإقامة العدل. ولم ير نفسه في حاجة إلى ذكر السبب الأول وهو أن سيد تميم عضو قوي في حزب المعارضة! فأدهشتني جرأة الوزير وأعجبتني لباقته، وعجبت كيف يصر على مناوأة الشيخ وفي سبيل خمسة عشر ألف فدان تخشى الخصومة! ولكنه نجا من مناوأة الأمير لأنه طالب مجد، ولم ينج من مناوأة الموظف لأنه طالب قوت
أحمد حسن الزيات(343/3)
جائزة هذا العام
للأستاذ عباس محمود العقاد
في اعتقادنا أن المحكمين في جائزة نوبل الأدبية والسلمية يلاحظون القضايا العالمية عند اختيار صاحب الجائزة، إذا لم يكن لها مرشح من طراز برناردشو وأناتول فرانس مترلنك ونظرائهم الذين يستحقونها بشهادة العالم قبل شهادة المحكمين
فقد كانت الجائزة من نصيب الكاتبة الأمريكية بيرل بك لأن القضية التي كانت تشغل الأذهان في السنة الماضية هي قضية الصين، وقد اشتهرت الكاتبة الأمريكية برواياتها الصينية العديدة حتى أوشكت أن تقصر على موضوعات الصين كل ما كتبت من الروايات والقصص والمقالات
وكانت الجائزة من نصيب (إيفان بونين) الروسي المهاجر إلى باريس هرباً من طغيان الشيوعيين يوم كانت قضية اليوم هي قضية الحرب بين الحرية والشيوعية وبين عقائد النور وعقائد الظلام في روسيا الحمراء
وقد أصابت الجائزة هذا العام أديباً فنلندياً لم يظهر شأنه قبل ذاك في أمم أوربا الغربية على الخصوص لأن قضية فنلندة هي قضية السلم والحرية وقضية الجهاد النبيل في هذه الأوقات
ومن السهل أن نقرن قبل ذلك بين أصحاب الجوائز وبين القضايا الإنسانية التي نجمت في الهند أو في أيرلندة أو في إيطاليا أو في بولونيا أو في ألمانيا، ولا سيما جائزة السلم التي أصابت كارل فون أوسيتزكي ولم تصل إليه، لأنه كان في قبضة النازيين
ولا غبار عندنا على هذا الميزان وإن لم يكن من موازين الأدب الخالص والنقد المجرد، لأن الجائزة المبذولة إنما هي قبل كل شيء جائزة السلم والمروءة، ولا ضير في الجمع بها بين الاعتراف للأديب الذي ينالها والاعتراف للقضية التي يرتبط بها ذلك الأديب إما ارتباط الموطن أو ارتباط المذهب أو ارتباط العقيدة الاجتماعية
وعلى هذا المعنى لا نرى في هذا العام من هو أحق بها من أدب فنلندة (فراتز إبميل سيلانبا) إذا اجتمع استحقاقه إلى استحقاق أمته للتنويه والتشجيع
ونقول هذا لأننا لم نقرأ للكاتب الفنلندي شيئاً من الكتب والروايات قبل ذيوع اسمه لتلك(343/4)
المناسبة. وليس في وسعنا أن نحكم على أدبه أو على استحقاقه الفني بمعزل عن استحقاق بلاده، فحسبه شهادة وتزكية انه أديب تلك البلاد التي ارتفعت إلى الذروة العليا من مقاوم البسالة والاستشهاد
لم نقرأ له ولكننا قرأنا عنه فذكرنا ما كتبناه في العام الماضي حين قلنا إن المحكمين يختارون لجوائزهم واحداً من اثنين: (فإما أديب من الأعلام البارزين طبقت شهرته الآفاق وحكم العالم له قبل حكم المجمع ونقاده. . . وإما أديب يخدم الطيبة والمروءة ويشيع بين الناس أواصر المودة والرحمة)
فإن لم يكن (سيلانبا) من الأولين فهو ولا ريب - على حسب أوصاف عارفيه - من الآخرين
ويبدو لنا أن هذا الكاتب الفنلندي قد استطاع ما لا يستطاع في كثير من الأحيان:
استطاع أن يوفق بين معيشته ومعيشة أبطال رواياته ومعيشة أبناء وطنه ومعيشة الإنسان في كل زمان بمعزل عن الأوقات والأوطان
فالأبطال الذين يصورهم في رواياته هم فلاحون فنلنديون، وهم مع ذلك أناسيّ صادقون، وهم مع هذا وذاك صدى ما في عيشه هو وعيش أسرته جميعاً من البساطة والسهولة والطيبة وقلة التعقيد
والظاهر أن سيلانبا قد استمد البساطة من نشأته ومن تعليمه على السواء
فهو بنشأته فلاح. وهو بتعليمه (بيولوجي) من تلاميذ داروين المعجبين بذلك العلامة العظيم. وليس في الدنيا شيء يعلم المفكر البساطة والسداد في النظر إلى الحياة والأحياء إن لم يتعلمهما من أخلاق داروين وعقل داروين وطريقة داروين في الملاحظة والاستقراء
وقد أبدع سيلانبا في الرواية الفنلندية نمطاً جديداً غير النمط الذي كان شائعاً في وطنه بين كتاب الروايات والأقاصيص
فقد كان الولع بالحبكة والتشويق والإطناب غالباً على الكثيرين منهم، وكان فن الحكاية عندهم غالباً على فن الحياة أو فن الملاحظة الصادقة عن كثب
ولعلهم وقعوا في غلطة الأكثرين من أدبائنا الشرقيين الذين حسبوا أن القريب لا يستحق البحث عنه لمجرد أنه قريب، وأن البعيد خليق بالسعي إليه لا لشيء إلا أنه بعيد. فتركوا(343/5)
البساطة والقرب وأوغلوا وراء الشذوذ والتعسف، ودلوا من حيث لا يقصدون على صعوبة المطلب القريب واستعصائه على غير العباقرة الملهمين
وجاء سيلانبا فعوّد القراء الفنلنديين كيف يسيغون قصة تقوم على مراقبة أم ووليدها الصغير، أو مراقبة الشيخوخة التي تتشابه فيها الأوقات والخواطر والأعمال، أو مراقبة الأفراد الذين لا يخلقون التاريخ ولا يأتون بالعجائب ولا يخرجون من الغمار، ولكنهم هم الطبعة الشائعة من كتاب الحياة الباقية، وفي هذه الطبعة ولا شك يقرأها من يفتش عن معناها الأصيل
وهو يحسب أن الأفضل الأكمل من مؤلفاته هو ما جاد به عفو البداهة وسخاء الساعة، ومن هنا إيثاره لقصة صغيرة اسمها (هلتووراجنار) وقوله إنها كتبت في سهولة وفيض سريع، وهكذا تكتب أحسن الآثار
لكنه كثير المراجعة لمعظم ما يكتب، فقلما يتركه بغير تنقيح وتصحيح على الهامش. ثم يعاد إليه من المطبعة فيزيد عليه ويحذف منه ولا يستريح إليه إلا بعد تبديل كثير
وأشهر رواياته (سيلجا) وهي كما قال قد ظفرت بالحصة الدنيا من التنقيح والتبديل
رأيت صورته فإذا هي تنم على تركيب بنية الفلاح الضليع المستنير.
ورأيت صورته بين أبنائه وزوجته الأولى فإذا هي تنم على رب الأسرة القرير العين بمعيشته البيتية وحمايته الأبوية
وقرأت تلخيص كتاباته فعلمت أنه جدير بأن يكتب مثله، لأنها من معدنه وهو من معدنها
زاره الكاتب الإنجليزي إيفور بنسون وكان في هلسنكي عاصمة فنلندا يوم إعلان نبأ الجائزة فقال:
لبثت أنتظره بعد الموعد نحو خمس دقائق أو ست. ثم اندفع إلى الحجرة وعلى شفتيه ابتسامة عريضة وفي إحدى يديه زجاجة من الجعة، وفي اليد الأخرى كوب ملآن إلى نصفه، وبادر معتذراً يقول:
(لقد تأخرت لأنني عنيت بالحلاقة الجيدة قبل غد لولا علمي أنني سألقى اليوم إنجليزياً فلا مناص من (عملها) اليوم. . . إذ يقال إن الإنجليزي يحكم على من يلقاه بأشياء ثلاثة: أولها حالة ذقنه، ومر بيده على ذقنه مرور الواثق المطمئن؛ ثم لمس رباط رقبته وعلى وجهه(343/6)
ظل من التوجس ولمحة عصبية ظريفة تشف عن الشك وقلة الوثوق ومضى يقول: أيا كانت الحال فليست هي بالرديئة، وقد أجوز بها الامتحان!
(أما الشيء الثالث فهو الحذاء، ثم جلس على مقعد وسحب بيني وبينه كرسياً يحجب قدميه وقال: ولا أخاله ينجح في هذا الامتحان، ولكنك لا تراه!)
قال إيفور بنسون ما فحواه: إن سيلانبا طفق يتحدث إلي بين الاستحياء والتدفق الصاخب حديث الصاحب الذي قد عرفني طوال حياته، وذكر لي أن الذي يعجبه من التحدث إلى الإنجليز أن جرح شعورهم عسير، وأن معاكستهم مأمونة كل الأمان. وكان يلوح عليه أنه كان يفكر تلك اللحظة فيما يفاجأ به أحياناً من ألم يساوره كلما ظهر له أنه قد أتى بإساءة مستغربة على غير قصد منه
وجملة ما يقال في وصفه أنه رجل بين بساطة الفطرة وتثقيف العلم والحضارة، وأنه في أدبه وفنه وأسلوبه على هذا المثال
عباس محمود العقاد(343/7)
اتقوا الله في أخيكم!
للدكتور زكي مبارك
ذهب الأستاذ الزيات لزيارة صديقه (عين) فوجده مضى لقضاء أيام العيد بين أهله في المنوفية، ثم نظر في غرفة الاستقبال فرأى (منظار) الصديق فوق إحدى المناضد، فوضعه على عينيه ليعرف إلى أي حد تبدو الخفايا لمن يحمل ذلك المنظار العجيب، ثم هام في شوارع القاهرة يتوسم وجوه الناس فرأى فيهم غرائب وعجائب يشيب من هولها الوليد، فتفزّع وقال وهو يحاور ذلك الصديق:
(أتريد أن أرد إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجرّبه على عين الدكتور مبارك؟)
وما أحب أن أعود إلى تشريح مقال الأستاذ الزيات، لأنه مقال محزن، وأنا أخاف على نفسي وعلى القراء من النظر فيه من جديد
ولكن لا بأس من النظر في التجربة التي يقترحها أخونا الزيات، وهو يريد أن أرى العالم مرة من وراء ذلك المنظار الذي نقل فهمه للدنيا والناس من حال إلى أحوال
وأسارع فأقول: إن ما رأيته بالعين الطبيعية فيه الكفاية وفوق الكفاية، فمن الرفق برجل في مثل حالي أن تعفى عيناه من النظر إلى الناس بمنظار يفضح ما خفي واستتر من دقائق المساوئ والعيوب
الزيات هو الذي يحتاج إلى منظار يرى به خلائق الناس، لأنه كثير التلطف والترفق، ومن كان كذلك فهو قليل التعرض لآفات الناس، ومن هنا يقلّ علمه بما فيهم من دميم الغرائز وذميم الخصال
أما أنا، فقد دخلت على الناس في جحورهم وأوكارهم، وما زلت أهيجهم بقلمي حتى أسمعوني أعنف ما يملكون من هرير ونباح وعواء. وهل ابتلي أحد بأهل زمانه كما ابتليت؟ وهل عانى أحد من لؤم زمانه بعض ما عانيت؟
وهل بين قراء اللغة العربية في مصر والشرق من يجهل بليتي بزماني؟
لقد شكوت دهري وشكوت ثم شكوت، حتى عطف عليّ أعدائي، فما حاجتي إلى منظار أرى به المستور من خلائق الناس، وقد اكتوت يدي واكتوى قلبي بالسعير الذي يتمرد كلما سمع باسمي أو رآني؟(343/8)
ويزيد في الغم والكرب عرفاني بأني لم أكن رجلاً لئيماً حتى أقاسي من الناس ما قاسيت. وهل رأى الناس في القديم والحديث صديقاً في مثل أدبي وكرمي وسخائي؟ ومن هو الرجل الذي يجرؤ على القول بأنه أعرف مني بالواجب، وأحفظ للعهد، وأحرص على مقابلة الجميل بالجميل؟
وهل كان الذين ينوشونني بألسنتهم وأقلامهم إلا خلقاً بنيت أقدارهم بقلمي ولساني؟
دلوني على صديق واحد أسأت إليه في محضر أو مغيب!
لو كنت رجلاً لئيما لنسفت أعدائي وخصومي في يوم أو يومين ثم استرحت من التفجع على مصاير الناس إلى مهاوي البغي والعقوق؛ ولكني رجل كريم يكره الغدر ويستعيذ بالله من العدوان على الناس، وذلك باب من الضعف الشريف، وأنا به مزهوّ مختال
وما الذي ينكر عليّ أهل زماني حتى يصدوني بغدرهم عن الثقة بأبناء آدم وحواء؟
أنا أعرف ما ينكرون عليّ، فقد ساءهم أن أسجل ما في زماني من صغائر ومعايب وموبقات. ساءهم أن أفضح سرائر الأدعياء، وأن أقهرهم على الاستهانة بالأدب المزيّف لتقبل عقولهم وأذواقهم على الأدب الصحيح
وهل أخطأت حتى ألقي من بغيهم ما لقيت؟
إن أعدائي يقولون في كل وقت إن مصر هادية الشرق، فكيف يلام من يوجه المصريين إلى أصول الصدق والعدل لتصح لهم السيطرة الأدبية على الشرق؟
وهل يعرفون لي ذنباً غير هذا الذنب الجميل؟
إن كان في هذا البلد من يؤمن بأنه ضحّى في سبيل الأدب بأعظم مما ضحيت فليتقدم ليحمل بعض ما أحمل من ثقال الأعباء
ذلك رأيي في نفسي، وهو حق، فليكذبني من يجرؤ على مصاولتي من أهل الأدب والبيان
وما قيمة مصر في الشرق أو في الغرب إذا صح لأهلها أن يقهروا رجلاً مثلي على اليأس من العدل؟
وبأي حق يدعوني الناس إلى التلطف والترفق وأنا لم أر منهم غير الظلم المبين؟
وفي أية شريعة يفرض على الرجل المظلوم في وطنه أن يعلن أنه من السعداء؟
ومن الذي يراجع الظالمين إذا سكت قلم الأديب؟(343/9)
حدثوني كيف يسكت من يرى أصدقاءه يأكلون لحمه بلا تهيب ولا إشفاق؟
حدثوني كيف يحرم الغضب على رجل يرى تخلّف العقل في بلد يستطيل أهله على الشرق باسم العقل؟
نحن في مصر التي سبقت جميع الشعوب إلى المدنية، فمن حقنا عليها أن نرجو حرية التعبير عما نعاني من معاطب وحتوف
ومن يسمع شكوانا إذا تجاهلت مصر أننا بفضل جبروتها أشقياء؟!
إلى من نتوجه إذا تعامى الوطن الغالي عن مآسينا الدامية؟ آه! ثم آه!!
في وطن الأزهار والرياحين تموت أفئدة وقلوب
وفي الوطن الذي شرع مذاهب العدل بوحي النيل الذي لا يخلف الميعاد تموت أرواح حساسة واعية معدوا عليها بسهام الظلم البغيض
في وطن النيل الذي لا يخلف الميعاد تضيع جميع المواعيد
احذروا، ثم احذروا من أن أراكم بعين الناقد، يا أبناء هذه البلاد
لقد نظرت إليكم بعين المحب فلم أر غير مآثم ومنكرات، فكيف تكونون لو نظرت إليكم بعين الناقد المنصف؟ كيف تكونون وأنتم حرب على الصديق الأمين؟
ويريد الزيات أن أراكم من وراء المنظار الذي كشف له من الطبائع ما لم يكن يعرف، فهل يظن بي السفه والحمق حتى أتعرض للمستور من عيوبكم ومساويكم!
أنتم أجمل الخلق في أعين من يرونكم من بعد؛ ولكنكم (أجمل) الخلق في أعين من يرونكم من قرب، وأنا منكم قريب، فما أعظم شقائي!
إسمعوا، يابني آدم من أهل هذه البلاد
أنتم وثقتم بأدبي، وليس فيكم من يخاف أن أضيع عليه حظاً غنمه بأي سبب من الأسباب، وبفضل هذه الثقة تجترحون ما تجترحون، فخوضوا كيف شئتم في أوشال الأكاذيب والأراجيف، فلن أجازيكم بغير الصفح والغفران
هات المنظار، يا زيات، هات
هات المنظار لأرى به عيوبي، وأنسى التفكير فيما عانيت من أصدقائي، ويرحم الله عهداً كان لي فيه أصدقاء!(343/10)
حملت المنظار لأرى عيوبي، فماذا رأيت؟
رأيتني أخطأت أعظم الخطأ حين توهمت أن بني آدم هم جميعاً من طراز ذلك الصديق الغادر الذي صعب عليه أن أعيش وكان يحب أن أموت!
وهل هناك جرم أقبح من الجرم الذي اقترفت؟
مضت أعوام وأعوام وأنا أتلقى في كل يوم رسائل من قلوب تقسم بأنها قادرة على الطب لجروح قلبي، فهل استمعت نداء تلك القلوب؟
أنا أتلقى في كل يوم رسائل من فلسطين وسورية ولبنان والحجاز واليمن والعراق وتونس والجزائر ومراكش فهل فكرت في الإجابة عن تلك الرسائل الودية؟
وكيف وأنا أتجاهل ما يصل إليّ من أصوات القلوب في مصر والسودان؟
وكان ذلك لأني يئست من بني آدم بفضل الأصدقاء الذين سقيتهم الشهد فسقوني الصاب!
فما الذي يمنع من الاستجابة لدعاء تلك القلوب؟
ما الذي يمنع وأنا أعيش محروماً من نعيم الصداقة والحب؟
وهل يرفض من يعيش في مسبعة أن يخرج إلى الحواضر المأهولة بأرواح الناس؟
يمنع من ذلك أن أطياف الغادرين تصدمني حيثما توجهت، فالدنيا كلها هي وجوه الذئاب التي شقيت في تربيتها لتقوي على مضغ لحمي وعرق عظامي
الدنيا كلها هي فلان وفلان وفلان الذين خلدت أسماءهم في مقالاتي ومؤلفاتي ليصح لهم البغي عليّ باسم الأدب والدين
هات المنظار، يا زيات، هات
حملت المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي!
رباه، رباه!!
ما هذا الذي أرى؟
ذلك صديق أهجم عليه هجوماً صوريا لأرفع اسمه بين الأسماء فيراني من الأعداء
وذلك رفيق أدله على الخير فيراني من الآثمين
وذلك صاحب تشغلني الشواغل عن زيارته فيراني من الغادرين
وذلك أخ عزيز لا تهمه غير الظواهر ويغفل قلبه عن الخدمات التي أؤديها إليه في المغيب(343/11)
فيراني من الجاحدين
فلأية حكمة خلق الله بعض الناس بلا بصائر ولا قلوب؟
أيكون الله أراد أن يمتحننا بخلقه حتى نؤمن صادقين بأنه صاحب الفضل الأول والأخير في الطب لجراحنا الدامية؟
إن كان ذلك ما يريد فقد رضينا بما يريد
ولكن الله يعلم أننا أصغر من أن نأنس بنجواه. ولابد لنا من مخلوقات نساقيها كؤوس الود حين نشاء، ونرى فيها صور أحلامنا وأوهامنا حين نريد، فمتى يمنّ الله علينا بأطياف تلك المخلوقات؟
كم تمنيت أن أراك في خلقك، يا فاطر الأرض والسموات. ولو استطعت لشغلت نفسي بك عن خلقك. وكيف أستطيع وأنا لا أملك السموّ إليك، أيها الروح المسيطر على جميع الوجود؟
أنا أعترف بذنوبي
لي أصدقاء ضيعتهم، وكنت من الظالمين
منهم ذلك الروح الذي شقي في أن ينطق لساني بالاعتراف بأنه صديق، والذي يكتب إلى ما يكتب ثم لا يظفر بجواب
وكان في يدي أن أملك ذلك الروح ملكا أبدياً وأن أصوغ من نجواه رسائل وقصائد أسيطر بها على الخلود
توسل إلي ذلك الروح أن أحفظ عهد الوفاء وأن أعلن أني له صديق ليحدث أهله بأنه موصول الأواصر برجل له قلب
ومن أجل هذا الروح الذي أخلفت آماله كل الإخلاف تحكم المقادير بأن أعيش في دنياي بلا صديق
فيا أيها الروح الذي يحدث أهله بأني لا أنساه ولن أنساه، أيها الروح الذي يدعوني فلا أجيب، اعرف ثم اعرف أن الله انتقم لك مني، فأنا اليوم بلا صاحب ولا رفيق
هات المنظار، يا زيات، هات
هات المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي!(343/12)
هات المنظار لأرى الأسرة المكونة من أربعة أرواح، الأسرة التي ودعتني بالدمع المحرق يوم الفراق
فإن سمعتم، يا قرائي، إنني سأقضي بقية العمر في كرب وبلاء، فاعرفوا أن ذلك جزاء الغدر لمن يتناسى فضل تلك الأرواح
غرتني منزلتي الأدبية فتجاهلت أقدار تلك الأكباد الرقاق، فمتى أرجع إلى مساهرة النجوم في صحبة الأكباد الرقاق؟
فإن قتلني اليأس من عدل الأهل والأصدقاء فقد كنت الظالم الأثيم
والله أرحم من أن يعاقب قلباً يعترف بذنوبه وخطاياه
أنا باقٍ على العهد يا أحبائي، ويرحم الله من قال:
لقد صَدَدنا كما صددتم ... فهل ندمتم كما ندمنا
زكي مبارك(343/13)
بين دين محمد ودمه
الأستاذ علي حيدر الركابي
وددت الكتابة في هذا الموضوع بالنظر إلى احتدام الجدل بين طائفتين من الناس في بلاد الشرق العربي: طائفة تنتصر للإسلام وهو دين محمد (ص)، وطائفة تنتصر للعروبة المستندة إلى فكرة الدم - دم محمد صلى الله عليه وسلم
أما أنصار الإسلام فهم في الغالب من رجال الدين الذين خشوا أن تطغى الموجة القومية عليه، فانتصبوا في وجهها يحاربون العروبة ومن ينطق بها ظناً منهم أن ذلك يحمي الإسلام، وفاتهم أن الفكرة القومية مهما تطرفت لا تقضي على الإسلام الصحيح، وإنما يقضي عليه بقاؤه على هذه الحال المؤلمة المشوهة من الانحطاط والبعد - بشكله الحاضر - عن فكر الجيل الحديث وروحه. فهم إن أرادوا نصرة الإسلام وجب عليهم أن يقوموا بإصلاحه وذلك بإعادته إلى أصله الصافي
وأما أنصار العروبة فهم في الغالب من الشباب المندفع، الباحث عن فكرة سامية يعتنقها، الشباب الذي وقف حائراً لأنه وجد نفسه ضائعاً ولا دليل يهديه في موطنه، فتوجه بأنظاره نحو الغرب حيث خيل إليه أن الفكرة القومية سائدة فاعتنقها وتحمس لها بدون روية أو تعمق. وإذا ذكر الإسلام لأنصار العروبة نفروا منه لأنهم باتوا لا يرون في بنائه الفخم الرائع في الأصل سوى جدران بالية عبثت بها يد الزمان وشوهتها الحوادث والبدع فحكموا عليها بالهدم بدلاً من أن يسعوا إلى إزالة التشويه وتقويم البناء. وأغلب الظن أنهم اختاروا الهدم لسهولته، ولأنهم يجهلون هندسة القصر الأصلية وتاريخه الفريد فلا يريدون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب
لقد استمر الأخذ والرد بين الفريقين فكانت ساحاته المجالس الخاصة والعامة، ثم انتقل إلى الكتب وظهر على صفحات الجرائد والمجلات، ولعبت أصابع المبشرين وغيرها من الأصابع الأجنبية الخبيثة فقوت الخلاف ونجحت في تحويله إلى نزاع مستحكم سيقضي في النتيجة على كلتا الفكرتين القومية والدينية - أي العروبة والإسلام - وإن لم يتدارك الأمر عقلاء القوم، فهم إن سكتوا عن هذه الفوضى في الأفكار والتردد بين المبادئ جعلونا نضيع المشيتين ونخفق في بناء نهضتنا على أساس قويم(343/14)
ولكي نجلو كل إبهام قد يعلق بالأذهان لا بد لنا من تحديد معنى الفكرتين القومية والدينية بوضوح حتى نتمكن من معرفة ما إذا كانت إحداهما تعارض الأخرى من حيث الأساس أم لا:
دم محمد (ص)
إن المبدأ القومي السائد كما يفهمه المشتغلون بالقضايا العامة في الأقطار العربية كلها - ذو غاية سامية ثابتة، ألا وهي السعي إلى تحرير العرب وتحقيق الوحدة العربية. قد يختلف العرب على الخطة الواجب اتباعها لنيل استقلالهم، فمنهم من يؤمن بالحرية الحمراء ويبذل في سبيلها دمه وماله، ومنهم من يميل إلى اللين ويعتقد الصلاح في التفاهم والمفاوضة على أسلوب (خذ وطالب). وقد يختلف العرب أيضاً على الشكل الذي ستتخذه الدولة العربية العتيدة والزمن الذي تتكون فيه: أتتألف من ولايات متحدة، أم تتكون من حكومات مستقلة متحالفة بمعاهدات تعقدها على غرار الحلف العربي المعقود بين اليمن والمملكة السعودية والعراق، أم تصبح دولة متحدة في كل شيء: في عاصمتها وحكامها وأنظمتها الخ. . .؟ ومتى يمكن تحقيق هذه الوحدة، أفي المستقبل العاجل، أم في المستقبل الآجل؟ قد لا يتفق العرب على كل هذا، إلا أنهم على اختلاف مشاربهم مجمعون على الهدف الأسمى الذي لا يرضون عنه بديلا، وهو الحرية والوحدة.
هذه غاية القوميين، وهي غاية صالحة بدون شك؛ فإن في الأمة العربية العناصر الأساسية الكافية لتشكيل دولة متحدة. هناك تاريخ مشترك قد ولد رابطة قوية لا تفصم عراها، وهناك لغة واحدة وتراث آدمي واحد، وبالإضافة إلى ذلك فإن المصلحتين الاقتصادية والسياسية تقضيان بأن يتحد العرب.
أما من الناحية الاقتصادية فإن البلاد العربية اليوم في حاجة ماسة إلى نوع من الاتحاد الذي يوجد بينها تعاوناً وثيقاً لاستثمار الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها، وتصريف المنتجات المحلية، والسيطرة على التجارة. إن أرضاً تضم كنوزاً من الذهب والفضة والنفط والفحم الحجري والقار والكبريت، وتنتج مقادير كبيرة من الحبوب والفواكه والقطن وغيرها، وتجري فيها الأنهار العظيمة، أو تهطل الأمطار الغزيرة فتروي التربة الغنية، وتتمتع بمناخ ممتاز يصلح لمختلف الأعمال في مختلف المواسم، وتقع في مركز متوسط(343/15)
بين دول العالم تستفيد منه تجارتها. . . إن بلاداً هذا شأنها يجب أن تنمو ثرواتها العامة والخاصة بشكل يضمن لها استقلالها الاقتصادي، حتى يصبح لها اعتبار في الأسواق العالمية يمكنها من تسخير مالها الوافر لتشييد صرح نهضتها الشامخ. إن أمة أسبغ الله عليها هذه النعم لا يجوز أن تعيش عيشة المتكل الكسول الذي يكتفي من زمانه بلقمة حقيرة يطعمه إياها من هو غريب عنه: يطعمه القليل بيده اليسرى ويتناول الكثير لنفسه بيده اليمنى، ولن يقضي على هذا الاتكال غير الاتحاد.
وأما من الناحية السياسية، فالأمة العربية ضعيفة في أجزائها قوية في مجموعها. ومن درس التاريخ استنتج أمرين: الأول أن حياة الأمم الصغيرة قصيرة، والثاني أن البلاد العربية - وهي حلقة الوصل بين الشرق والغرب، والجسر الذي تتبارى الدول للاستيلاء عليه - لم تنجح في رد المعتدي إلا عندما كانت متعاونة على دفعه، كما أنها لم تنل حظها من العظمة إلا بالاتحاد. ولذا فلن يبقى للدول العربية الحالية وجود مستقل، ولن تنمو وتتقوى إلا بالوحدة العربية، لأنها عاجزة عن الوقوف، منفردة في وجه الطامع.
هذه حقيقة الفكرة العربية القومية وهذه دوافعها، ومتى أوضح أنصارها مراميهم الآنفة الذكر قضوا على كل اعتراض، لأنها فكرة صحيحة تدعمها الحجج والبراهين القوية. ومع ذلك فإن بعض القوميين المتطرفين يسيئون إلى الفكرة الأصلية باندفاعهم الطائش ولجوئهم إلى نظرية لا لزوم لها، ألا وهي نظرية الدم. فالمناداة بالفكرة القومية المستندة إلى أساس العنصرية الضيقة لا يزيد المبدأ القومي قوة وإنما ينفر بعض العناصر التي تعيش في الأقطار العربية ولكنها لا تنتمي إلى أصل عربي. هذا فضلاً عن أن نظرية الدم فاسدة من أصلها وخصوصاً في الأقطار العربية وذلك بسبب الموجات البشرية التي اكتسحتها في شتى العصور مما أدى إلى اختلاط الدماء حتى بات إرجاع الأفراد إلى أصلهم الحقيقي أمراً يكاد يكون - في الغالب - في حكم المستحيل. إن الأقليات العنصرية الموجودة في البلاد العربية قادرة على تعطيل سيرنا إذا عوملت معاملة الغريب المحروم الاشتراك معنا في تحقيق أهدافنا بدرجة ما هي راغبة في التعاون معنا إذا أدركت القصد الحقيقي من الفكرة العربية، واطلعت على الفوائد الجمة التي ستجنيها هي من جراء اتحادها بأمة متحدة قوية. فلنكن مخلصين ولنبدد مخاوفها التي يغذيها المستعمر. علينا أن نؤكد لها أننا لا نريد القضاء(343/16)
عليها. وعلينا أن نفهمها أنها جزء مهم من أجزاء الأمة العربية التي لا تتألف من جماعة من الناس ينتمون إلى عدنان أو قحطان، بل هي مجموعة من الأفراد الذين اشتركوا في تاريخ واحد فبعثت ذكرياته القريبة والبعيدة فيهم شعوراً مشتركاً ألف بينهم فدفعهم إلى السير نحو هدف واحد يرمي إلى تحقيق حريتهم ووحدتهم. ويضاف إلى هذه الرابطة العاطفية التي هي الأساس روابط أخرى توثق العلاقة بين هؤلاء الأفراد، كاشتراكهم في اللغة وتجاورهم في الديار وأن دين الأكثرية منهم واحد
إننا إن عملنا على نشر المبدأ القومي على حقيقته هذه حفظناه من كل شائبة وضمنا نجاحه.
دين محمد (ص)
إن للفكرة الإسلامية مفهومين مستقلين ومتناقضين ويجب بيانهما بادئ ذي بدء:
فهي في نظر البعض حركة ترمي إلى (ا) سيادة المسلمين على غيرهم من أتباع الأديان الأخرى و (ب) تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى و (ج) تنصيب خليفة للمسلمين. هذه هي الأهداف التي يتصور أصحاب المبدأ القومي أن كل مؤيد للمبدأ الديني يقصدها. وهي الأهداف التي يهاجمونها بشدة ويتخذونها سبباً مبرراً لانصرافهم عن كل ما له صلة بالدين. والواقع أن الكثرة من أنصار الإسلام - أو، على الأقل، الشباب منهم - لا تحمل هذه المبادئ، وإنما يعتنقها ويحلم بتحقيقها جماعة من (الجموديين) الذين قبعوا في بيوتهم بعد أن أقاموا بينهم وبين العالم الخارجي جداراً كثيفاً يقيهم حر (التطور) وبرده، ويحفظ آذانهم من أن تصل إليها صيحات المسلمين الضالين في كل قطر. إنهم لا يسمعونها ولذا لا يقومون بإرشادهم إلى تعاليم دينهم البسيطة والتي هم في أشد الحاجة إليها، بل يقفون في مكانهم وهم يرددون بعناد عجيب: (المسلم أفضل من غيره، وسينصره الله عما قريب!. . . الوحدة الإسلامية أولاً وأخيراً!. . . لابد للمسلمين من خليفة!. . .) لقد فاتهم أن المسلم الذي ينصره الله قد كاد ينمحي أثره حتى لم يبق اليوم سوى أشباه المسلمين، كما فاتهم أن الوحدة الإسلامية لن تتحقق إلا بعد أن يعود المسلمون إلى حظيرة الدين وتبعث فيهم الروح الإسلامية من جديد، وأما تنصيب خليفة للمسلمين فهو أضعف مطالبهم، ويكفي أن يعودوا إلى كتبهم ويطالعوا بحث (الخلافة) فيها ليدركوا أن شرطاً واحداً من شروطها غير متوفر الآن، لا في الخليفة العتيد ولا في الرعية. ولذا فإن أهدافهم، مهما سمت، تظل بعيدة عن(343/17)
حدود الإمكان ولا بد من أن يسبق تطبيقها أمور كثيرة تمهد لها السبيل
إن فهم الفكرة الإسلامية بهذا المعنى مما يضعفها ويجعلها عرضة للانتقاد، كما أنه يجعل الأمم والملل الأخرى تنظر إلى كل ما هو إسلامي بعين المرتاب، فضلاً عن أنه يصرف كل مخلص محب للإسلام مؤمن برسالة نبيه (ص) عن الاشتغال بالقضايا الإسلامية.
فما هي إذاً الفكرة الإسلامية الصحيحة الخالية من كل هذه المحاذير؟
(للبحث صلة)
علي حيدر الركابي
بغداد (الرستمية) دار المعلمين الريفية(343/18)
قصيدة لم تنشر
لشاعر الحب والجمال لامرتين
بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد
عاد لامرتين في عام 1844 إلى نابولي، تلك المدينة التي ألقت قدميها في الماء، وتركت البحر يدغدغها والنسيم يقبلها. وكانت زيارته الثالثة لهذه البلدة التي خلّفها في صباه، وخلّف وراءه فيما (جرازيلا) الحبيبة تعاني فجعة البين، ولوعة الحب، ووله الحنين. وطاب له المقام، فأقام في جزيرة صغيرة بالقرب منها، يرتع بين حلم موشّى، وعيش هادئ، وتذكر قاتل. وطافت به أشباح الأحباب في السنين الخوالي، ورأى جرازيّلا تهدهده بالنغم البارع فوق ثبج البحر، وتحزنه بالشكوى المحرقة في ذلك القصر العتيق. فجاش في صدره شعر باك حزين، برغم السنين الأربعين التي عمرها، وبرغم هذه الشعور التي تشبه غبشة الفجر. وماله لا يقول الشعر الحزين وقد مات الهوى وفقد الحبيب، وهو بعيد عن وطنه، وحيد على سيف هذا البحر الهائج كالغلام اليافع، فقال عشرين بيتاً من الشعر عثر عليها منذ حين في مجموعة نادرة مخطوطة لأشعار لامرتين في مكتبة السيد لويس بارتو الخاصة، ولم تكن قد نشرت من قبل. وهأنذا أنقلها للناس:
عندما كنت فتى، ملءُ بردىّ الفخار،
نشرت أجنحتي أمام أرواح البحار
فحملت شُرُع القوارب أفكاري وسارت
وراحت أحلامي تتوثب فوق مُرّ الأمواج
كنتُ أرى في ثنايا الموج الذي يغرق الأفق فيه
عوالم تزخر بالحياة، وجزائر تطفح بالسرور؛
تطفوا، موشاة بالياسمين، مزدانة بأغصان الكروم.
وكان الحب يناديني منها، والنصر أيمد لي معه اليدين
كنت أغبط كل سفينة يبيضَّ من حيزومها الزبدُ
تسعى جذلانة تبغي الشاطئ المجهول.
واليوم، أجلس على سيف الخليج الثائر(343/19)
أذكر الماضي، فأخوض تلك الأواذيَّ ثم أعود
لشد ما أحببت هذه البحار التي ما أزال أهواها
كما أهوى حقلاً رفرف الحزن عليه،
دفنت فيه أجنحتي، فمعالمها تنطق في كل مكان:
ذلك، لا كما هويت من قبل عالم المنى والأحلام
لقد رقد هذا الشاطئ بحزن، وأذابت هذه الصخرة نفسي،
وذوت سعادتي في هذا الهدوء الخادع.
وهنا، صعقتني صاعقة هبطت من السماء
فولّت الموجات تسعى، تحمل كل واحدة منها
قطعة من قلبي المكلوم. . .
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(343/20)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق العقلية
يعتبر الفريد بينيه - كما ذكرنا في المقال السابق - زعيم النفسيين الذين وضعوا مقاييس علمية للذكاء، وقد ترجمت مقاييسه مهذبة إلى الإنجليزية في أميركا وإنجلترا، وإلى معظم اللغات الأوربية، وإلى اليابانية أيضاً. ومن هذه المقاييس المترجمة والمعتمدة حتى الآن مقياس (استنفورد بينيه المهذب). غير أن مقياس بينيه بصيغته ووضعه يتطلب أن يمتحن كل فرد على حدة، وتلك عملية طويلة مملة، ويحتاج إلى زمن ومجهود، كما أنه لا يناسب الأفراد الذين يرهبون الامتحانات الشفهية التي يواجهون فيها الممتحنين، ولذلك فكر علماء النفس في نوع آخر من المقاييس يقاس به الجمع من الأفراد. وكان دخول أمريكا في الحرب الكبرى سنة 1917 من العوامل التي جعلت الحاجة إلى هذا النوع من المقاييس الجمعية ملحة. فقد أرادت السلطات الحربية الأمريكية أن تعزل من المتقدمين للخدمة العسكرية ضعاف العقول لأن هؤلاء لا يصلحون لحمل السلاح ونزول الميدان، كما أرادت أن تختار من بين الصالحين لحمل السلاح أفراداً ذوي ذكاء يمرنون للوظائف ذات التبعات كوظيفة الضباط والقواد، ولم يكن من الممكن عملياً استخدام (مقياس استنفورد المهذب) ولذلك اجتمع علماء النفس الأمريكيون ووضعوا نوعين من المقاييس الجمعية: نوع يسمى (مقياس ألفا)، وهو لفظي تحريري لمن يقرءون الإنجليزية ويكتبونها، ونوع يسمى (مقياس بيتا)، وهو تحريري غير لفظي للأجانب الذين لا يعرفون الإنجليزية والأميين الأمريكيين، وقد طبع كل من النوعين، وكان يوزع في كراسات على المجندين. وبذلك أمكن اختبار آلاف منهم في دقائق معدودة
ومن الاختبارات التي احتواها (مقياس ألفا) عمليات حسابية عادية في الجمع والطرح تتدرج في الصعوبة من أول الصفحة إلى آخرها. وعلى الممتحن أن يقوم بهذه العمليات بأسرع ما يمكن وفي زمن محدود. وكذلك منها صفحة بها عمودان من الكلمات المألوفة، والكلمة التي في العمود التالي إما مرادفة للكلمة التي قبلها في العمود الأول أو مضادة. وكل ما يطلب من الممتحن هو أن يكتب أمام الكلمتين حرف (ر) إذا كانتا مترادفتين، أو حرف(343/21)
(ض) إذا كانتا متضادتين. ومنها صفحة بها جمل كلماتها موضوعة في غير نظام معنوي، وعلى الممتحن أن يضعها في نظام بحيث يستقيم المعنى مثل: النور شروق يظهر الشمس عند. ومثل جملة: جريمة النفس الدرجة عن القتل للدفاع من الأولى، ثم يذكر إذا كانت الجملة قضية صادقة أم كاذبة. ومنها أيضاً صفحة ملأى بالأسئلة لمعرفة الأسباب المعقولة لحوادث عادية مألوفة كالسؤال: لم يستعمل معدن النحاس في الأسلاك الكهربائية؟ ألانه يوجد في الولايات المتحدة، أم لأنه جيد التوصيل، أم لأنه أرخص المعادن؟ وعلى الممتحن أن يضع علامة على السبب المعقول. وأما (مقياس بيتا) فهو لا يحتاج إلى قراءة أو كتابة لفظية، ومن اختباراته: اختبار تكملة الأجزاء الناقصة في الصور المرسومة في صفحة من الكراسة، كتكملة العين الناقصة في وجه إنسان، أو الأذن في وجه حمار. ومنها تكرار رموز على نظام خاص مرسوم في الكراسة كهذا النظام مثلاً: + +. . . أو هذا النظام - + - +. . . ولكل من هذه الاختبارات درجة. والنسبة المئوية لدرجات كل فرد تعين مقدار ذكائه. وقد ظهرت صلاحية هذين النوعين من الاختبارات في الجيش الأمريكي، وانتشر استعمالها وبخاصة (مقياس ألفا) في المدارس الأمريكية والإنجليزية. وقد بلغ عدد الجنود الذين امتحن ذكاؤهم بهذين المقياسين نحو مليونين
وقد استرعت نتائج هذه المقاييس أنظار علماء النفس، فقد وجدوا - بصفة عامة - أن أذكى الجنود هم أولئك الذين يحترفون مهناً علمية أو فنية كالمحامين والأطباء والمدرسين والمهندسين الخ ويليهم في الذكاء التجار والكتبة، وبعدهم الميكانيكيون العاديون، وأخيراً يجئ العمال وذوو المهن اليدوية. وليس معنى ذلك أن كل فرد من طبقة المحامين والأطباء والمدرسين الخ أذكى من أي فرد من طبقة التجار والكتبة. لا، بل الذي وجد هو أن الطبقة الأولى كمجموعة أذكى من الطبقة الثانية كمجموعة. وإن كان من بين أفراد الطبقة الثانية من يفوق في الذكاء بعض أفراد في الطبقة الأولى. وربما يتساءل القارئ: وهل لنوع المهنة أثر في الذكاء؟ والجواب على ذلك هو أن للذكاء أثراً في اختيار المهنة لا العكس. لأن القاعدة العلمية هي أن من لا يواتيه ذكاؤه للدراسات الجامعية أو العالية يقف دونها، وبذلك يختار من المهن ما يناسب مؤهلاته دون الجامعية، ويناسب في الوقت نفسه ذكاءه المحدود(343/22)
كان من عناية رجال التعليم في أميركا وأوربا باختبارات الذكاء الجمعية، أن استعملوها مع امتحانات القبول بالمدارس مختلفة الأنواع والجامعات. ففي إنجلترا مثلاً يعقد امتحان لتلاميذ المدارس الأولية في سن الحادية عشرة لاختيار من يصلح منهم للمدارس الثانوية، ومن يصلح للمدارس الوسطى الفنية، ولمنح المجانية للمتفوقين ذكائياً. وقد أصبحت اختبارات الذكاء الجمعية مستعملة مع امتحانات التحصيل المدرسي. وأثبتت نتائج اختبارات الذكاء الجمعية تلازماً مع نتائج الامتحانات المدرسية في معظم الحالات. وفي الحالات التي حصل فيها اختلاف ظهر بعد البحث والتحليل مرة أخرى أن اختبارات الذكاء إنما قاست الذكاء الفطري الذي لم تستطع الاختبارات المدرسية كشفه. أو أن الاختبارات المدرسية قاست مقدار التحصيل المدرسي فقط. ولذلك يوصي المربون وعلماء النفس أن تستعمل اختبارات الذكاء مع الاختبارات المدرسية، حتى نحكم حكماً صحيحاً على ذكاء الفرد وتحصيله
وهناك نوع من اختبارات الذكاء يسمى (الاختبارات العلمية) وميزة هذه الاختبارات أنه يسهل استعمالها مع صغار الأطفال الذين لم يألفوا بعد استعمال الورق والقلم كالتلاميذ عند التحاقهم بالمدارس الأولية، وفيها تقاس أيضاً القدرات الذكائية العملية التي تتطلب الانتباه والتفكير، كما تستعمل بدلاً من مقاييس الذكاء اللفظية التي لا بد فيها أن يكون المختبر ملماً بالقراءة والكتابة واللغة، وفي هذا النوع من الاختبارات العلمية يطلب إلى المختبر أن يكوّن صورة لشيء، أو شخص من عدة قطع من الورق المقوى أو أن يبني مكعباً كبيراً من مكعبات صغيرة في أقل زمن ممكن وبأقل عدد ممكن من محاولات خاطئة أو أن يملأ فراغات منتظمة في لوحة خشبية، كفراغ مثلث أو مربع أو نجمة أو متوازي أضلاع أو جزء من دائرة. وهذا النوع من اختبارات الذكاء هو أقدم الأنواع التي حاولها علماء النفس. وتوجد منه الآن عدة مجموعات مقننة شائعة الاستعمال في المدارس الفنية والمصانع والشركات في أوربا وأمريكا
ولعل القارئ بعد هذا العرض لأنواع مقاييس الذكاء يتساءل: وما هو ذلك الذكاء الذي كثر الكلام عنه، وما طبيعته، وما الفرق بين الذكاء الطبيعي والذكاء المكتسب؟
وموعدنا المقال القادم للإجابة عن هذا كله.(343/23)
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(343/24)
من وراء المنظار
أيام في القرية
لن أجد إذا أردت التعبير عن مبلغ حبي لقريتي كلاماً أجمل ولا أصدق
من كلام أستاذنا صاحب (الرسالة). ولست أزيد عليه سوى أني أعيش
في القرية أبداً إذا جئتها كواحد من فلاحيها؛ فأنا أخالط هؤلاء
الفلاحين، وأتكلم بلهجتهم، وأؤدي ما أريد من المعاني بألفاظهم،
وأضرب في الحديث أمثالهم، وأنهج في سوق الكلام نهجهم، لا أتكلف
ولا أتعسف؛ إذ لا حاجة بي إلى ذلك، وأنا قروي قبل كل شيء، ومثلي
إذا عدت إلى قريتي كمثل النبات، تنقله إلى بيئته، فيبدو لك من
خصائصه ما لا يبدو إلا في تلك البيئة. . .
هبطت القرية وبيني وبين العيد يومان، وتركت منظاري لينظر من ورائه صاحب (الرسالة)، فيستعيذ بالله آخر الأمر منه، ويسألني في ختام حديثه البارع الممتع: أيرسله إلي أم يجرّبه على عين الأستاذ المبارك. . . وما درى أن لي في القرية غير ذلك المنظار الذي لا ينفذ فيها إلى مثل ما ينفذ إليه في المدينة، ونسى أن للمبارك عيناً لا تحب المنظار، لأنها تنفذ وهي عارية إلى كل شيء ولو كان بينها وبينه أكثف ستار!
درت بمنظاري هذا فوقع من حياة (القرية) ومجاليها على ما لو طاوعت قلمي في سرده، لضاق عنه عشرة أمثال هذا المجال. وحسبي أن أقصر الكلام على ما كان أعمق أثراً في نفسي بين ما شاهدت. . .
شاعت الخضرة في الحقول، ورف في مزارعه بين بطاح البرسيم نوّار الفول، واهتزت الأرض أخيراً وزخرت بالحياة، بعد أن فعلت بها دودة البرسيم أياماً طويلة ما لا يفعل الجراد، فالتهمت جموعها الخفية العنيدة، البراعم الطرية الوليدة، وتركت الناس حيارى لا يجدون لما أصابهم من علة، إلا أنه غضب من الله. . . وأبهجت نفسي مظاهر الحياة والبشر في النبات الرفيف والشمس الصاحية؛ بيد أني وا أسفاه رأيت إلى جانبها، مظاهر(343/25)
الموت والعبوس في الغدران الناضبة والأشجار العارية إلى جانبيها، ثم في تلك البهائم العجاف الهزيلة التي تلتهم البرسيم في نهم، ولا تنال منه إلا بقدر.
وجاء العيد فكان أجمل معانيه وقعاً في نفسي تحية أهل القرية جميعاً بعضهم بعضاً وتصافحهم إذا ما التقوا لا فرق بين غني وفقير، ولا بين كبير وصغير، ثم تزاور الناس منذ خروجهم من صلاة العيد إلى متوع النهار جرياً على أصول لن تعرف في المدن إلا بين من تربطهم صلة من قرابة أو من صداقة. وكثيراً ما يقوم فيها مقام الشخص ما يدفع إلى الخادم أو في صندوق البريد من بطاقة. . .
وارتاحت نفسي لحظة لهذا المعنى؛ غير أني ما لبثت أن كدرني خاطر طاف بنفسي؛ وهو أن عيد هؤلاء القرويين كطبيعة حقولهم، فهذا البشر الذي يبدو على وجوههم يكاد يشف عما وراءه من همّ جلبته عليهم الأزمة التي حلت بهم من هلاك الزرع وبيع القطن بثمن بخس، ولن تغرب شمس هذا اليوم حتى يعودوا إلى ما كانوا فيه من عناء ونكد
ورأيت العيد في دنيا الأطفال غير العيد في دنيا الكبار، فهؤلاء الصغار هم الذين ينعمون حقاً بالعيد؛ وهم الذين ينجلي بهم معنى العيد؛ ولكم بث مرآهم من النشوة في قلبي، وبعث من جميل الذكريات في أطواء نفسي، فذقت السرور الصادق برهة في تذكري أيامي التي خلت، والتي كان قصاراي فيها حلتي الجديدة وقروشي القليلة وتمتعي ساعة بالأرجوحة التي اسمع صليل (جلاجلها) النحاسية وصرير أخشابها العالية، ولكن بأذن وا أسفاه غير تلك الأذن الصغيرة! وما أعجب هذا السرور الذي يجر في أعقابه الأسف والكآبة. . .
وخرج الصبايا أسراباً عصر يوم العيد كعادتهن إلى الترعة البعيدة، يحملن جرارهن ويتجملن بحليهن ويخطرن في جديد ملابسهن والشباب يأخذون عليهن الطريق جماعات جماعات، وهم مزهوون بحللهم الجديدة وطواقيهم الناصعة البياض وعصيهم الرفيعة من الخيزران. . . ولكن نظرات البنات فاترة ساهمة، فليس من هؤلاء الفتية في هذا العام الباحث الخاطب والزوج المرتقب، وقد قل المال ورفعت الحرب ثمن كل شيء
وتجمعت في الأفق ظلال الغروب وراحت تطوي نور النهار وبهجة العيد معاً، وأويت إلى داري أعد في نفسي ما تصرم من أيامي في القرية وأحصى ما بقي منها، وأعجب لسرعة انقضاء الأيام هنا على هذا النحو، وأقول متى يقبل الصيف لأقضي في قريتي ما أقضي(343/26)
كل عام من شهوره. وكان آخر سؤال طرأ على خاطري: متى يعني أدباؤنا بالريف وحياته فيصدق هذا الأدب وتتضح معالمه ويذهب عنه ما يعلق به من بهرج زائف وتقليد سخيف
(عين)(343/27)
أفانين
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
(تتمة)
كان دخول الرئيس أبي جعفر وصاحبيه الحربي والحيري، بمثابة هدنة نَّفست عن المتناظرين، وأتاحت لهما قسطاً من الجمام، فهدأت الشقاشق، وسكنت الزماجر، وأحسبهما أنسا بدخول الرئيس، وارتاحا إلى هذه الهدنة وودَّا أن يمتد أجلها! ولكن الرئيس لم يحضر لفض النزاع وحسم الخلاف، بل أتى كغيره تصاول العقول وتخاطر الفحول في ميدان المعقول والمنقول!
فما إن فرغ من السلام، وأخذ مجلسه بين الصدور المقدمين حتى تولى توجيه المناظرة، فاقترح أن ينشدا روّية على وزن اختاره
فتلمّظ البديع بلسانه، وسرعان ما أنشد اثني عشر بيتاً
منها:
برز الربيع لنا برونق مائه ... فانظر لروعة أرضه وسمائه
والترب بين مُمسَّك ومُعنبر ... من نَوْره، بل مائه ورُوائه
والماء بين مُصَندل ومُكفَّر ... في حسن كُدرته ولون صفائه
والطير مثل المحْصنات صوادح ... مثل المغّني شادياً بغنائه
زمن الربيع جلبت أزكى متَجر ... وجلوت للرائين خير جلائه
فكأنه هذا الرئيس إذا بدا ... في خلقه وصفائه وعطائه
ما البحر في تزخاره، والغيث في ... أمطاره، والجوّ في أنوائه
بأجلَّ منه مواهبا ورغائبا ... لا زال هذا المجد حِلْف فنائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا المثال تسعة أبيات لم نعثر عليها في مظانها
وقد وصفها البديع: بأنها جمعت بين إقواء وأكفاء وأخطاء وإبطاء! وأنه أخذ عليها عشرين مأخذاً! وذكر أنه اتجه إلى عميدي المجلس الوزير والرئيس، فقال - مشيراً إلى(343/28)
الخوارزمي بعد فراغه من الإنشاد -: لو أن رجلاً حلف بالطلاق أني لا أقول شعراً، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، هل كنتم تطلقون عليه امرأته؟ فهتف الجماعة: لا يقع بهذا طلاق!
ثم طلب البديع إلى الخوارزمي أن ينقد أبياته المتقدمة (برز الربيع لنا برونق مائه. . .) فقال الخوارزمي: قلت: أنظر لروعة أرضه وسمائه، ويقال: أنظر إلى كذا. فلم تسمع منه الجماعة
وشبهتَ الطير بالمحصنات، ثم شبهتها بالمغنيات. وأي شبه بين المحصنات والطير؟ ثم كيف توصف المحصنات بالغناء؟
فرد البديع: يا رقيع! إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كأنهن المخدرات بين الأستار، والطيور في الخدور كالمحصنات، وكالطير في ترجيع الأصوات
ثم قال الخوارزمي: وقلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر. هلا قلت: جلبت أربح متجر؟ فقال البديع: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة
ثم قلت: كالبحر في تزخاره، والغيث في أمطاره، والغيث هو المطر. فقال البديع: لا سقى الغيث أديباً لا يعرف الغيث! الغيث هو المطر، وهو السحاب. فصدقه الحاضرون
وهنا قال الإمام أبو الطيب الصعلوكي: قد علمنا أي الرجلين أشعر، وأي الخصمين أقدر، وأي البديهيتين أسرع، وأي الرؤيتين أصنع!
ثم مال المتناظران إلى فنون أخرى ظهر فيها فوقُ البديع، ووافق ذلك ملالة الحضور فشرعوا في الانصراف، وهم يثنون على البديع ويسلقون الخوارزمي بألسنة حداد!
وهمّ الخوارزمي بالقيام فأصيب بإغماء! فانحنى عليه البديع متمثلاً بقول بشر بن عوانة:
يعزّ عليّ في الميدان أني ... قتلت منافسي جلَداً وقهْرا
ولكن رمتَ شيئاً لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا ليث صبرا
ثم أخذ يمسح عن وجهه! ويقبل بين عينيه! ويقول - على سبيل الاستهزاء -: أشهدوا أن الغلبة له!
ثم مدت الموائد وتكوّف حولها الحضور لتناول الطعام، وكأن الظفر فتح شاهية البديع!(343/29)
فجعل - كما يصف نفسه ويصف خصمه - يكرع في الجفان، ويسرع إلى الرغفان! ويمعن في الألوان! والخوارزمي يتناول الطعام بأطراف الأظفار! فلا يأكل إلا قضماً، ولا ينال إلا شمّا!
وقد بلغ من جفوة البديع وتحجر مشاعره أنه لم يرع للطعام حرمة! فاتخذ خصمه هزئا وسخرية! وتناوله بفنون من التندر اللاذع حتى استكفَّه الوزير بقوله: قد ملكت فأسجح
ولما قام الخوارزمي عن المائدة - وقد خنقه تبريح الغيظ - قال للبديع: لأتركنك بين الميمات. قال: ما معنى الميمات؟ قال: بين مهدوم، مهزوم، محموم، مرجوم، محروم! فقال البديع: وأتركك بين الميمات أيضاً: بين الهيام، والصدام، والجذام، والحمام والسَّام، والزكام، والبرسام، والسقام! وبين السينات: بين منحوس، منخوس، منكوس، معكوس! وبين الخاءات. من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ، وممسوخ! وبين الباءات: بين مغلوب، مسلوب، مرعوب، مصلوب، مركوب، منكوب، منهوب، مغصوب!
ثم انفض المجلس وخرج البديع تحفه هالة من أصحاب الشافعي السٍّنية، يتبارون في تعظيمه وإجلاله! ويوسعونه ضماً وتقبيلاً!
وقبع الخوارزمي في مكانه حتى غربت الشمس، فعاد إلى داره كسير القلب خافض الطرف كاسف البال!
وكان لهذه الهزيمة وما لابسها من تألب بلده عليه، وخذلانهم له، وقع شديد على نفسه! فدلفت إليه العلل، وألحت عليه الأوجاع، فلم ينقض الحول حتى وافته المنية في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة هـ ـ
ومن الغريب أن اعتلاله لم يخفف من حقد خصومه عليه! فكتب بعض سفْلتهم إلى البديع يهنئه بمرضه! فرد عليه البديع بكتاب ليس فيه مسوح الرهبان، ومرقْعات الصوفية! ومن الإنصاف. أن نشيد بما انطوى عليه من أريحية ونبل ولعل مرد ذلك إلى الصفاء الذي يعاود النفوس بعد أن تهدأ فورتها، وتنجلي عنها غشاوة الباطل! فتوقن أن المجد كله لله والعزة له جميعا! ولعل مرد ذلك أيضاً إلى أن الظفر بالقرن يٍحلّ الضغينة ويمحو غليل الصدور، بل يستحيل - على تراخي الأيام - إلى عطف ورثاء! وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة(343/30)
قال البديع في كتابه: الحرٍّ - أطال الله بقاءك - لاسيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر، علم أن نعم الدهر ما دامت معدودة فهي أمانيّ، وإن وجدت فهي عواريّ، وأن محن الأيام - وإن مطلت - فستفد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت إن أفلت، فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت. وما أقبح الشماتة بمن أمن الأمانة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقب كل لفظة، والدهر غرثان، طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسّر العاقل بسلاح قاتله؟ وهذا الفاضل - شفاه الله - إن ظاهرناه بالعداوة قليلاً، فقد باطناه ودا جميلاً. والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد. فلا تتصور حالتي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته. وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنّه وحوله، ولطفه وطوله!
ولما مات الخوارزمي رثاه البديع، ولعله اقتدى في ذلك بجرير في رثائه للفرزدق قال:
حنانيْك من نفَس خافت ... ولبيْك عن كمد ثابت
تحمّلت فيك من الحزن ما ... تحمّله ابنُك من صامت
حلفتُ: لقد متَّ من معشر ... غنيِّن عن خطَر المائت
يقولون: أنت به شامت ... فقلت: الثرَى بفم الشامت
وعزَّت عليَّ معاداته ... ولا مُتَدارَك للفائت
ورثاه أبو الحسن الرقماتي فأحسن وأساء:
مات أبو بكرٍ وكان امرأَ ... أدْهَم في آدابه الغرِّ
ولم يكن حُراَّ ولكنه ... كان أمير المنطق الحرّ
ورثاء البديع للخوارزمي قد يصور لنا طَرفاً من الحرقة واللوعة التي يجدها النظير لفقد نظيره! ولكنه لا يكشف عن شيء من فضائل المرثي كما هي سنة الرثاء، حتى لقد قال بعض النقاد: إنه لم يخل من الدس والسعاية!
ومهما يكن من شيء فقد كان البديع أكرم نفساً وأسنى طبعاً وأعف بياناً من الصاحب بن عباد الذي قال حين بلغه موته:
أقول لركْب من خُراسانَ قافل ... : أمات خُوارزْميكم؟ قيل: لي نعمْ(343/31)
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره ... : ألا لمن الرحمن مَن كفر النّعم!
وبانتصار البديع أولاً وبموت الخوارزمي ثانياً، نبه ذكره واستطارت شهرته، ونفقت سوقه لدى الملوك والأمراء والوزراء، وتهادته الأقطار والأمصار، فلم تبق بلدة في خراسان وسجستان وغزلة إلا دخلها، فحسنت حاله وكثر ماله وفشت نعمته
وأراد - بعد امتلاء الوطاب وانتفاخ الجراب - أن يستمتع بالراحة، ويتملى النعيم، فتخير (هراة) دار قَرار، وصاهر فيها الحسيب النسيب أبا علي الحسين الخشنامي، فآوى منه إلى ركن شديد، وأقتنى بمعونته ضياعاً فاخرة
ولكن القضاء العادل كان واقفاً له بالمرصاد فأخذه ولم يفلته!
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم
فمن قائل: إنه مات مسموماً؛ ومن قائل: إنه أصيب بالجنون؛
وهناك رواية وثيقة تقول: إنه اعترته غشية فظن به الموت وعجل له الدفن، فأفاق في قبره وسمع صياحه بالليل، فشقوا عنه فأصابوه قابضاً على لحيته وهو ميت من هول القبر ووحشته!
وكان ذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة هـ
نسأله تعالى حسن الخواتيم!
علي الجندي(343/32)
الفنان
للآنسة زينب الحكيم
الفنان إنسان منقب، يغريه الأمل فيسبح في خيالات خلابة، أو يوئسه القدر فيراع، وهو على أية حال يكونها متنقل متفنن. . .
تعاف نفسه الاستقرار، ويؤلمه الجمود، هو إنسان دقيق مرهف الحس، يدرك من وراء الظواهر ما لا يدركه غيره؛ فإذا أصاب الهدف فبشّره بفلاح عظيم، إذ تسمو مداركه ويمرن نشاطه ويخلد فنه؛ وهو كلما طال وقت اختباراته دقّ إدراكه ونفذ إلى ما وراء خيالاته ومشاهداته، وكلما صمت نطقت ريشته، ودوى نغم وتره. . .
امتحان
اختبر مرة فنان صيني ماهر تلاميذه - فكلفهم رسم جبل في بلادهم يسمى (جبل الأسرار)، ومن فوقه وحوله الهياكل للعبادة.
رسم الطلاب الجبل بإتقان، وأظهروا حوله الهياكل، فجاءت رسومهم نماذج باهرة، وراحوا إلى أستاذهم فخورين؛ ولكن كان نصيبهم جميعاً الرسوب في الامتحان، إذ قال لهم أستاذهم: إن رسومكم التي أرى، إن دلت على شيء، فلا تدل على أكثر من أشياء ظاهرية مادية ساذجة، مما يشير إلى أن خيالكم قاحل وفنكم بدائي، ولم تحاولوا تفهم نفوسكم حتى تستطيعوا نحت شيء منها يخلد به تصوركم لجبل الأسرار وما يحيط به.
لقد كان يكفي تلاميذي أن ترسموا هيكل الجبل من بعيد، وقد اختفت أجزاء منه: إما في ضباب، أو زوبعة، أو وراء السحب؛ وقد كان يكفي الرمز إلى وجود هياكل حوله وعلى قمته بأن ترسموا راهباً أو اثنين يجلبان ماءً من مجرى الماء بالوادي، أو من مساقط المياه القريبة ليصعدا به على الجبل. ويكفي ما يشير إليه عملهما من وجود الرحمة والتضحية والتجرد، كما يكفي هذا لفهم دلالة الرسم على ما قصد به.
هكذا الحياة شك ويقين، ووضوح وغموض، ويأس وأمل، وصدق وكذب، وخداع ووفاء، وشدة ورخاء، وحب وكره، وغير ذلك مما لا حصر له من الأضداد.
مسكين الإنسان يضل بين هذه جميعاً، يخدعه البصر حيناً وتخادعه الحواس أحياناً، تثيره الموسيقى وتشمعه الفلسفة، فيصير نوراً في الأنوار أو روحاً في الأرواح. حياته نهب بين(343/33)
الشدائد والتأملات. الشدائد تصقل نفسه من جهة وتنمي خياله التأملات من جهة أخرى، فيضيف إلى شخصيته شخصيات متعددة كلما مرت به حادثة أو اختلجت قسماته وتأثرت أعصابه. ولكن هل إدراكه محدود؟ هذا ما يحيرني. أما نشاطه فمحدود بتحلل هيكله، ولكن نشاطه الادراكي هل يزول أيضاً وينتهي إلى الأبد كما ينتهي الجسم؟!
صورة
أتخيل الآن تحفة من روائع الخيال والفن الصيني، أهدتها إلي بعثة الإخاء الإسلامية الصينية (نزيلة القاهرة في شهري مارس وإبريل 1939)
هذه الصورة بها أعشاب مزهرة، وبها طيور خواضة. وقف ثلاثة منها معاً على العشب المائي، ولفت نظري سماتها المختلفة
فواحدة كأنما تجدّ في إخفاء وجهها، وتحاول إغماض عينها فلا تريد أن يراها أحد أو ترى أحداً؛ وواحدة تكابد يأساً قاتلاً وهماًّ مقيماً؛ والثالثة تطأطأ رأسها وقد وقفت على ساق واحدة في إعياء وخفض جناح
والناظر إلى ثلاثتها لا بد أن يشفق عليها، ويعجب من أمرها. وفي أعلى الصورة طائران يحلقان معاً في ضوء البدر الخلاب وقد قاربا أزهار العشب وهما يهبطان بالتدرج، ويطمئن الناظر إليهما لما تضفيان عليه من سمات الانشراح والاطمئنان والسعادة
في الصورة شيء أخر أحاول تذكره فلا تسعفني الذاكرة، وقد صممت ألا أرى
الإطار حتى أذكر ذلك الشيء، الذي أذكر موضعه في الجهة اليسرى من أعلى الصورة، ولكني لا أذكر إذا كان جبلاً أو إنساناً أو حيواناً أو غير ذلك. . . غريب هذا! إن جميع ألوان الصورة حاضرة في مخيلتي بجميع دقائقها من ظل وألوان وحجم وتناسق وكل شيء إلا ذلك الشيء المنسي في أعلى الصورة من الجهة اليسرى. . . ترى ما هو وما دلالته، ولماذا أهملته باصرتي وذاكرتي، ولا يمكن أن أتصوره فقد انمحى أثره من مخيلتي تماماً؟!
إن زهر العشب السامق بألوانه المشوبة بالحمرة والصفرة، والمتناثرة زهوره ينطوي فيها كل معاني فصل الخريف، الذي يهيج في كل قلب ما يكمن، ويثير في كل نفس مشجاة شجنها
والطير الممثل في الصورة هو نوع من البط غير الأليف الطيار، يتصف بشدة الوفاء، فإذا(343/34)
مات إلف وترك أليفه، فإنما قد ورثه الحزن والوحدة، فيموت كمداً وحزناً على إلفه الراحل، فيقاطع الطعام والشراب، ولا يطير إلا منفرداً، ولا يمكن أبداً أن يتخذ إلفاً غير إلفه في الفترة التي يعيشها بعده طالت أو قصرت
وهذا الطير من الطيور المهاجرة (القواطع) فيعرف فصول السنة ويميزها، ولذلك ينتقل من الشمال إلى الجنوب في الشتاء، ولما عرف عن هذا البط الطيار من شدة الوفاء، يهدي للعروسين في بلاد الصين يوم عقد القران لهما دليلاً على الوفاء
أخيراً أذهب إلى الصورة لأرى الشيء المنسي،. . . إنه بيت من الشعر، مكتوب في سطرين باللغة الصينية معناه: (وراء هذه الزهرة تكمن معاني الخريف)
هل كان يصح مني أن أنسى هذا البيت من الشعر وهو الذي يفسر معنى الصورة؟! لقد مررت وأنا أكتب هذا المقال بمواضع فيها من تداعى المعاني ما يذكرني بالشيء المنسي ولم أذكره، وكان لا بد لي من الذهاب إلى الإطار لأراه
عجباً! كأن المصور اتهم بيان صورته عما أراده منها، أو اتهم الجمهور في فهم بيانه وما تشير إليه صورته؛ إن يكن قد اتهم نفسه فقد قسا في اتهامه، وإن يكن قد اتهم الجمهور فقد عدل فيه، فلا يفهم الصور فيما تشير إليه من معان إلا أهل الفن والخواص من الناس
وإنسان الفن لا يريد إيضاحاً كلاميا، ولهذا كان بيت الشعر بالنسبة للذاكرة شيئاً قليل الأهمية
وكيف يمكن أن أذكر هذا وأنسى براعة الفنان المدهشة في الإلماع إلى كمون معاني الخريف وراء أزهاره الشاحبة في ضوء القمر الكامل الاستدارة! لقد أخفت أزهار العشب الملوحة بالحمرة والصفرة جزءاً يسيراً غائراً من طرف القمر، فكان قلباً دامياً - نعم يقطر دماً
فيا أيها الفنانون المدعون، هل تسيرون وفق طبائعكم أو تخالفونها - فلا تبصرون ولا تفقهون، ولا تؤدون رسالاتكم المتوقف أداؤها على البصيرة؟!!
زينب الحكيم(343/35)
رسالة الشعر
موكب الوداع
(بمناسبة مرور العام الأول على وفاة فقيد الأدب والشباب
الشاعر (الهمشري))
للأستاذ علي محمود طه المهندس
هذا الرحيقُ فأين كأس الشاعر؟ ... قد أَوحش الأحبابَ لَيلُ السامر!
لمَ يا حياةُ وقد أحَّلك قلبَه ... لمْ تؤثريه هوى المحبِّ الشاكر؟
أخليتِ منه يديكِ حينُ حلاهما ... من ذلك الأدب الرفيع الباهر
لو عاش زادكِ من غرائب فنِّه ... ما لا يُشبَّهُ حسنُه بنظائر
وظفرتِ من تمثيلهِ وغنائه ... بأدقِّ مثَّالٍ وأرخم طائر
أملٌ محا المقدارُ طيفَ خياله ... وتخطفته يدُ الزمان الجائر
وأصار فرحتَنا بمُقبِل يومه ... مأساةَ ميْتٍ في الشباب الباكر
متوسِّداً شوكَ الطريق، مُلثمّا ... بجراحه، مثل الشهيد الطاهر
رُدُّوا المراثيَ يا رفاقَ شبابِه ... لن تُطفئوا بالدمع لوعةَ ذاكر
هذا فتًى نظم الشبابَ وصاغه ... وحياً تحدّر من أرقِّ مشاعر
جعل الثلاثين القِصارَ مدًى له ... والخلدَ غايةَ عمره المتقاصر!
غنُّوهُ بالشعر الذي صدحتْ به ... أشواقه لحنَ الحبيب الزائر
غنُّوهُ بالشعر الذي خفقت به ... أنفاسه لحنَ الحبيب الهاجر
تلك القوافي الشارداتُ حشاشة ... ذابتْ على وَتَر المغنِّي الساحر
فتسمَّعوا أصداءها في موكب ... للموت محتشدِ الفواجع زاخر
مشتْ الطبيعةُ فيه بين جداولٍ ... خرسٍ، وأدواحٍ هناك حواسر
ولو استطاعت نضَّدتْ أوراقَها ... كفناً له، والنعشَ غضَّ أزاهر
ودَعتْ سواجع طيرها فتألفت ... أمماً تخفُّ إلى وداع الشاعر!
يا ابن الخيال تساءلت عنك الذُّرى ... والشهبُ بين خوافقٍ وزواهر(343/36)
وشواطئ محجوبةً شارفتَها ... فوق العواصف والخضمِّ الهادر
أيرُىَ جناحُكَ في السماء كعهده ... متوشِّحاً فَلَقَ الصباحِ السافر!
أيرُى شراعُك في المساءِ كعهده ... متقلداً حلقَ السحاب الماطر؟
هدأ الصراعُ وكفَّ عن غمراتهِ ... من عاش في الدنيا بروح مغامر
وطوى البلى إلا قصيدةَ شاعر ... أبقى من المثل الشرود السائر
شعرٌ تمثَّلَ كلَّ حسّ مرهفِ ... لا رصفَ ألفاظٍ ورصَّ خواطر
وَدُمّي مفضَّحةَ الطلاءِ كأنها ... خُشبُ المسارح مُوِّهتْ بستائر
تتمثل التاريخ في أزيائه ... بين المصفِّقِِ وابتسام الساخر
من صنع نظَّامين جهدُ خيالهم ... مسحُ الزجاج من الغبار الثائر
متخلفين عن الزمان كأنهم ... أشباحُ كهفٍ أو ظلال مساحر
يا قوم إنَّ الشعر روحانيةٌ ... وذكاءُ قلبٍ في توقّدِ خاطر
نظر الضريرُ به فأدرك فوق ما ... لمستْ يدُ الآسى وعينُ الناظر
متعرفاً صور الخلائق، سابراً ... أعماقَ أرواحٍ وغوْرَ سرائر
هذى عروس الزَّنج ليلتُه التي ... أدمتْ بكفّ حُلِّيتْ بأساور
والنجمُ أشواقٌ، فمهجة عاشق ... وذراع معتنق، ووجنة عاصر!
الشعرُ موسيقى الحياة موقَّعاً ... متدفعاً من كلِّ عرق فائر
عشاق (بابل) لو سُقوا بنشيده ... لم يذكروها بالرحيق الساكر
وتنصتتْ أقداحُهم لمغرِّد ... مَرِحٍ يصفق بالبيان الساحر
أو كان كلّمَ برجها بلسانهِ ... والقوم شَّتى ألسنٍ وحناجر
لم نِشك من عوَج اللسان ووحِّدت ... لهجات هذا العالم المتنافر!
علي محمود طه(343/37)
الأدب في أسبوع
العيد
أيتها الأيام السعيدة الهاربة من عمل الدنيا ببراءتها من الشقاء،
أيتها الأيام الصغيرة المتلألئة في ظلام الزمن بأفراح السعادة،
أيتها الأيام الذاهلة عن معاني الآلام!
أنت هكذا أبداً، وهكذا أبداً تعودين. . .
ولكن هل تستطيعين أن تمنحي الناس جميعاً بعض سعادتك وأفراحك ولذاتك البريئة؟
هل تستطيعين أن تمنحي العقول المتغضّنة من الهم والكبَر أفكاراً غضّة ناعمة كأحلام
العذارى؟
الحرب
كانت أيام العيد هدنة سكنت فيها الأخبار المحاربة بمعانيها في أذهان الناس وعواطفهم؛ وانقطعت الصحف الأخبارية أياماً عن الظهور، فانقطع أكثر الحديث عن الحرب المخيفة بأوهامها قبل حقائقها، وهدأ الناس
أذكرتني هذه الأيام المسالمة بتأثير الحرب في الأدب، وحملت إليّ صوراً كثيرة مما قرأت في الصحف والمجلات الأدبية، ولا أدري، فيخيل إلي أن المجلات الأدبية منذ بدأت الحرب إلى اليوم قد أفرغت كثيراً من صفحاتها للحرب، وشرحت صدرها لكثير مما يتعلق بها، ومع ذلك لا أكاد أجد إلا القليل من هذه الأحاديث يصلح أن يكون من أغراض المجلات الأدبية، وإنما هو بأغراض الصحف اليومية الإخبارية أليق والصق. ومن الوهم المتفشي أن يدّعي مدع أن اثر الحرب لا بد أن يكون كذلك، وأن مثل هذه الأحاديث هي سمة الحرب على أدب الأدباء، فإن أثرها في فكر العامة لا يكاد يخرج عن مثل ذلك. أما أثرها على الأدباء فهو اشد تغلغلاً في طوايا النفس، وأشد هزاً لعواطف الإنسانية. فإذا أقررنا أن الحرب إنما تتدافع في صدور الأدباء والشعراء ورجال الفن لتكون كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ له الأمواج المتصارعة المتدفقة مخافة أن يركد فيأسن، لم نجد بدّاً من اعتبارها كالمدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة، تجرؤها وتذمرها وتؤلبها من هنا وهنا لتتعارف وتتساند وتندفع إلى غمارها مجدة إلى(343/38)
المثل الأعلى الذي هو أحلام النفوس الرفيعة الدائبة أبداً إلى الأغراض النبيلة
فإذا كان كذلك، فأثر الحرب إنما هو تنبيه للمعاني والأغراض التي تحيك في صدور الأدباء والشعراء، وتطريق للمسالك الغامضة التي راد منهم أن يمهدوها ويكونوا إدلاء للناس في مجاهلها ومنكراتها. إن الصحف اليومية الأخبارية عليها أن تمد الناس بأخبار الحرب وصفاتها وصفات بلادها المتحاربة، وعواقبها الدانية أو البعيدة لأحداثها، ولكن مهمة الأدباء الذين يمارسون تحرير المجلات الأدبية أن يتعقبوا معاني أسمى من هذه المعاني المبتذلة التي توضَعُ عن أفكار الناس حين تضع الحرب أوزارها؛ عليهم أن يسبقوا أحداث الحرب بتمهيد جديد إلى حياة أخرى تبرأ من الغرائز الدنيئة التي دفعت العالم إلى هذا الشر البغيض الذي لا غرض له إلا استبداد السلطان، واستعباد الناس بعضهم لبعض. وإذن فهم - لا بد - يبحثون عن العلل والأمراض التي داخلت المدنية الحديثة، فجعلت قوة الافتراس فيها هي الأصل الذي بنيت عليه عقائدها وأعمالها، غير متحيزين إلى فئة بعينها. فإن الأسلحة المشرعة الآن في جميع الصفوف لن تعرف بعدُ معنىً إلا معنى الحرب وحدها بوحشيتها وجوعها وقرمها. . . لن تعرف إلا الدَّم وشهوة الدم، وتنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس ورعاً وتقوى وحناناً. وإذا استبان لهم مكنون هذه العلل استطاعوا أن يمهدوا السبيل للحياة الجديدة المبرأة من أسبابها الباغية، فمنعونا شرها ثم شر الآثار والعواقب التي تأبى شياطين الحرب إلا أن تزينها للباقين والناجين من أحلامها.
هذا هو عمل الأدباء والشعراء على الاختصار والإجمال. أما أن يتوهم متوهم أن أثر الحرب إنما يكون إذ يلوك أخبارها وأحداثها ويمضغها في لفظه وعبارته مضغ الكلأ، فذلك شيء لا يقع عليه إلا عقل العامة الذين لا ينفذون في المعاني إلا على الوهن والضعف والفساد. إن أفكار الأدباء التي تسموا بألفاظها ومعانيها سمو الروح بين خوافق السماء، وإن أحلام الشعراء التي تختال في زينتها رقيقة ناعمة أو ثائرة متفجرة - هي أحبُ إلى نفوس الناس في زمن الحرب، لأنها تنفيس عنهم من كرب الحروب، وإخراج لهم من حمأة الدم الذي ينشر رائحته مع كل نَفَس، ثم هي التمهيد الصحيح لتهذيب النفس الإنسانية وتربيتها والتسامي بها عن المعنى الحيواني الضاري الذي تنشئه الحروب في مهد من الأشلاء والدم
العقل المصري!!(343/39)
كتب الأستاذ (محمود المنجوري) كلمة في السياسة الأسبوعية (155) يريد أن يكشف بها عن (طبيعة العقل المصري، ومدى تأثرها بالانقلابات) الاجتماعية أو السياسية أو الدينية. وساق حديثه فيها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية. ونحن نتجاوز عن بعض الخطأ الذي وقع الأستاذ فيه عصبية للعقل المصري كما يسميه، كدعواه أن إنشاء الأزهر كان نتيجة للأسباب الفكرية والاجتماعية والروحية - التي نشأت في مصر فيما يرى - فأريد إقامة الدعوة الفكرية المتميزة عن صواحباتها في سائر العالم الإسلامي بإنشاء هذا المعهد العلمي العظيم. ولا شك في أن هذا تأويل غير جيد لحقائق التاريخ، فإن الفاطميين هم أنشئوا هذا المسجد الجامع الأول فتحهم لمصر، ولم يكن للعقل المصري إذ ذلك كبير شأن ولا صغيره في دفع الفاتحين إلى إقامة هذه العمارة في مصر، وإنشاء الأزهر كان لغرض في نفس الفاطميين أصابوه أو أخطأوه. . . فليس ذلك من شأننا هنا
وأيضاً فأنا إلى اليوم لا أكاد أعرف شيئاً يمكن أن يسمى (العقل المصري) أو (العقل الإنجليزي) أو (العقل الفرنسي) وهلم جراً، حتى يوضع في كفة وحده أعدت له في موازين العقول، وليس قيام المدنيات بأجزائها على (العقل) حتى يمكن أن يقال إن العقل المصري هو استطاع أن يبقى خالداً والمدنيات من حوله تفني وتبيد. حقاً إن مصر - وغير مصر من الأمم التي كانت منزلاً لمدنيات كثيرة متباينة - قد احتفظت مع هذه المدنيات بأشياء امتازت بها، ولكن هذه الأشياء المميزة لم يكن مَرَّدُ أكثرها إلى العقل بل كان مردها إلى الطبائع التي أنشأتها إرادة الإقليم المسيطرة على الطبائع الإنسانية، وإلى العادات المتوازنة التي لم تقاومها هذه المدنيات مقاومة الحرب والإبادة، فلذلك بقيت هذه المميزات قائمة سائرة متعارفة، فيخيل لبعض من لم يَغُرْ إلى أعماق هذه المخلفات أنها ظواهر عقلية مع أن الحق غير ذلك
ونحن نجد الجنس من الناس ينزل أرضاً غير أرض، فما يمضي الجيل أو الجيلان حتى تفنى المميزات الجنسية في نسلهم من أبنائهم وأحفادهم، ويبدأ الوطن الجديد بطبيعته المستبدة في تحويل هذا النسل إلى طبائعه التي تلائم تربته وسماءه وجوه وحاجات سكانه، فكذلك المدنيات إذا نزلت أرضاً خضعت لما يخضع له الإنسان الحي المتحدر من أصلاب قوم غير سكانه الأوائل، وجعلت تتميز بضرورات الإقليم الطبيعية(343/40)
ولماذا يريد كثير من الكتاب أن يجعلوا عقول أممهم بدعْاً في العقل الإنساني؟ لا أدري؛ وما يكاد يدري أحد من هؤلاء ما هو العقل، وكيف يتميز في الإنسان، أو كيف يتبين في الأفكار أو المدنيات مكان العقل من مكان غيره من الغرائز والطبائع والدوافع وما إلى ذلك من الأشياء التي تشترك في نتاج الفرد ثم في إنشاء المدنيات الاجتماعية؟ ولو استطاعوا لأبانوا لنا - على كثرة ما يقولون - عن موضع واحد يقولون فيه هذا (صنع العقل) الفلانة. إن العقل المصري كغيره من العقول يقبل كل شيء، ولكن طبائع الإقليم تريد أشياء وتنفي أشياء لأنها لا تستطيع البقاء في سلطانها. إن جوهر الأشياء كلها لا يتغير في العقل بعد العقل، ولكن الأعراض هي التي يصيبها التبدُّل والتغيير لأنه من طبيعتها أول، ولأن العقل لا يعمل فيها عملاً إلا للتدبير والتصريف وحسب
وقد عَرض الأستاذ (المنجوري) في مقاله هذا إلى عهد الاحتلال وما صنعت سياسته في أخلاق مصر وتعليمها، وكيف حطم بجوره وعدوانه كل الصلات القوية التي يعتمد عليها ترابط الكيان الاجتماعي؛ فتمزقت الجهود المصرية في الإصلاح، واستبدت الشهوات الجارفة بأخلاق الطبقات كلها، ففشل الاجتماع المصري في إرادته، وقام على أساس فاسد من الأخلاق حتى صار أكثر ما نرمي إليه غرضاً فردياً لا قيمة له في البناء الاجتماعي، ومن هنا استبد المستبد وصارت السيطرة الفردية في كل أعمالنا هي المبدأ، فلم يقم بيننا التعاون على أساس صحيح، وكذلك تنازعت الشهوات أعمالنا فصار الآخر بأنانيته يريد هدم عمل الأول لينفرد بأحدوثته وصيته، كالذي رأيناه في الحكومات الكثيرة التي تعاقبت على الدولة المصرية فشرعت ووعدت وبدأت وسارت؛ ثم جاءت أختها من بعدها لتقف كل ذلك وتبدأ من جديد بلجانها وتقريراتها واقتراحاتها، تريد أن تخالف وأن تنشئ وان توجد؛ ثم هكذا دواليك حتى غدت وعود الحكومات عند المصريين خاصة والشرقيين عامة إلى مثل التي يقول فيها كثَير عزَّة:
تمتع بها ما ساعفتك، ولا تكن ... عليك شجى في الصدر حين تبينُ
وإن هي أعطتك الليان، فإنها ... لآخرَ من خُلانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
فهذه أمراض وأوبئة لا تزال تنتشر، ولا بد من مكافحتها مكافحة صارمة بغير هوادة. فهل(343/41)
في الذين يصير إليهم السلطان الوازع العامل من يستطيع أن يتجرد لمكافحة هذه الأوبئة، ولو كان في كفاحها كفاح لنفسه وشهواته وأغراضه؟ هل تجد مصر أخيراً طبيبها المغامر؟ ليتها تجد. . .
المنطلق
قرأت في العدد 341 من (الرسالة) أغنية - أو هكذا سماها صديقنا - بعنوان (الناي). قال الأستاذ بشر فارس: وهي على بحرين مختلفين رغبة في تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: (فاعلاتن مفاعلتن) مرتين وليكن اسمه (المنطلق) انتهى.
وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها. وهو كالبحر الذي زعم انه اخترعه وسماه (المنطلق). . . فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة. . . ولكن إذا فجئها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق. . .
وهذا البحر (المنطلق) كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات:
(جنَّبوا الناي عن أُذني ... أُذُني زلزلتْ طَربَا
مثلَ قلب تُحَدِّثهُ ... سرَّه السرْدُ فاضطرَبا)
وقد زعم (بشرٌ) أنه وضعه، ونحن نُسلم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العروض هم أبداً كبحورهم لا يهدءون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحراً سموه (الشقيق) يزعمونه أخا (المتقارب)، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعرف عندنا باسم (المتدارك) - أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد - وأصل تفاعيله عندهم: (فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي: (فاعلن، فاعلن، فاعلن) مكررة.
وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنَةُ شعر بشر قد دخلها من رفّته ما جعلها تتأود عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن (منطلقاً)، ولكنه (خليع المتدارك).
وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلاً:
(أوتار الخاطر تغمزها ... أَنَّاتُ الناي فترتجف)(343/42)
هي أيضاً من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حمديس
(صادَتك مَهاةٌ لم تُصَدِ ... فلواحظُها شركُ الأسَدِ
من توحي السِّحر بناظرة ... لا تنفثُ منه في العُقد)
هذا في مخترع (بشر) ولكن ما بال هذا الصديق يريد أن يزلزل أذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول. لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريدنا أن نشعر أن أذنك وحدها - دون سائرك - هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة
كفى. . . كفى، فإني إذا نقدت (بشراً) فلن أجد الراحة بعد؛ وإن كنت أضن أني لم أفهم الشعر كله جيداً. . . فلعله شعر جديد، والجديد على من بدأ الشيب يغزوه يبليه ويخيفه فينتشر عليه فهمه فلا يفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .
محمود محمد شاكر(343/43)
رسالة الفن
دراسات في الفن
فكرة. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- أين قضيت عيدك؟ وماذا نعمت به من الفن فيه؟
- قضيت العيد في البيت والشارع كما أقضي كل يوم، ولم أنعم فيه من الفن المعروض إلا بسهرة في سينما أوليمبيا الوطني الكبير شاهدت فيها فلم العزيمة.
- دائماً متأخر!
- إني على سجيتي ولكنكم تتعجلون!
- وماذا رأيت في العزيمة؟
- كمال سليم
- إنه لم يظهر في الفلم، أنا شاهدت الفلم في سينما أستوديو مصر قبل أن يعرض في أوليمبيا بشهور.
- لم يظهر إلا اسمه، ظهر بعد ما عرضت أسماء الممثلين منسوباً إليه تأليف الرواية وإخراجها.
- وكيف إذن لم تريه؟
- لأنه لم يمثل دوراً!
- آه. . . إذن، فأنت لا ترين إلا بعينيك؟ وإذن فأنت تربحين كثيراً إذا اشتغلت مخرجة سينما في مصر. . .
- ما هذه اللغة؟ تثير مسألة لتروغ من مسألة؟
- لست أنا من يلف، وإنما أنت الثابتة المثبتة لا يتنقل تفكيرك ولا يتحرك إلا إذا اقتعد قاعدة لتسير هي به. . . فأركبي ما أقول يجرك إلى ما أريد. . . إنه مادام قد ألف رجل قصة وأخرجها هو نفسه، فهو صاحب كل ما فيها وإن لم يعرض صورة بدنه للناس قانعاً بصورة نفسه التي يعرضها(343/44)
- آه!
- حمداً لله على السلامة
- وفيم كان قولك إني أصلح مخرجة؟
- هذه كنت أقصد بها - ولا مؤاخذة - السخرية بكثير من المخرجين في مصر. أولئك الذين يحسبون الإخراج للسينما ليس إلا عرض لوحات من الصور المتتابعة. . . والذي ذكرني بهؤلاء هو قولك أنك لم ترى صاحب العزيمة مع أنك شاهدت الفيلم، وهذا وجه شبه بينك وبين هؤلاء المخرجين الذين يعيشون في الدنيا على أنهم مخرجون وفنانون فلا يقفون بجمهورهم وشعبهم إلا عند كل لوحة ولوح. . .
- وكمال سليم من هؤلاء؟
- ألم تقولي إنك شاهدت العزيمة؟ ثم أليس لك عقل تستطيعين به بعد مشاهدة فيلم أن تحكمي على مخرجه أهو من أهل اللوحات والألواح أم هو من أهل الحياة؟ فإذا كان عقلك لا يقوى على استخلاص الحكم وحده، أفلا تستطيعين أن ترى مدى اهتمام الصحف والناس بهذا العمل الفني لتحكمي بهذا وحده على قدر ما فيه من الدسم؟
- حاسب، حاسب. . . هذه بعثرة لا أطيق التمزق معها. . . قل لي: ما رأيك في فيلم العزيمة، أو إذا شئت في كمال سليم؟
- أول كل شيء أنه ليس من أصحاب اللوحات والحمد لله. فهو مخرج له عقل وراء عينيه. ولهذا فالذي ينتظر منه دائماً خير. ولكني لست أدري إذا كان سيوفق إلى خير بعد (العزيمة) أو أنه سيظل بعدها وقتاً طويلاً إلى أن يواتيه الخير؟. . .
- ولم هذا التشاؤم؟
- لأنه حشد في هذا الفيلم (محصولاً) كان عسيراً على أن أتصوره قد أتيح لشاب في سنه. . . فإذا كان قد أتيح له كل هذا فإني أظن إنه كل ما يملك. . .
- ناس كثيرون قالوا هذا، وأنا قلته أيضاً. . .
- إه! أنت أيضاً قلته؟!. لابد إذن أن يكون الحق غير ذلك؟
- أعوذ بالله منك مشاكساً. . . رأيت رأياً، وكنت تراه، ألأني رأيته تنقض عليه؟
- التجارب علمتني أنك لا ترين الحق. . . فكلما رأيتني اتفقت معك على رأي أدركت أن(343/45)
عقلي نائم. . . إسمعي، لاشك في أن صور الحياة وحوادثها هي موارد المؤلف والمخرج، ولكن الذي لا شك فيه أن كل صورة مفتاح إلى صور، كل صورة منها مفتاح صور، وأن كل حادثة مفتاح إلى حوادث، كل حادثة منها مفتاح إلى حوادث. وهذا شيء لا نهاية له، ولهذا كان الفنان يستطيع أن يجعل من الحبة قبة كما يقولون
- كلام معقول. فانقضه لأني اقتنعت به
- قد كنت أنقضه لو كنت سبقت إليه. . .
- إذن فانقض ما يأتي: صور الحياة وحوادثها التي يستخلص منها الفنانون فنونهم لها ناحيتان: إحداهما وراء الأخرى. أما الأولى فهي الناحية المادية المتجسدة ولا يستطيع إنسان أن ينكر ما فيها من جمال وروعة لا يخلوان من المعاني، والناحية الأخرى هي تلك الناحية الشفافة (الغائرة) في أعماق هذه الصور والحوادث، وهي أيضاً فيها جمال وروعة ومعان. وللناحية الأولى مخرجون يشغفون بها ويهتمون، وللناحية الثانية مخرجون، وهناك مخرجون لهم في هذه وفي تلك. وعلى كل صورة وحادثة من صور هاتين الناحيتين وحوادثهما تنطبق القاعدة التي قررتها أنت وهي أن كل صورة مفتاح لصور، وأن كل حادثة مفتاح لحوادث. فكما أن أصحاب الصور والحوادث المعنوية لا تفرغ من عندهم الصور والحوادث، كذلك لا تفرغ الصور والحوادث المادية من عند أصحابها لأن آيات الله لا نهاية لها، ولأن كل آية منها مفتاح لآيات كل منها مفتاح لآيات. . . انقض هذا، أو قل لي لماذا تفضل أصحاب المعاني على غيرهم؟
- من قال لك إني أفضل أصحاب المعاني على غيرهم. . . هؤلاء وأولئك من غير شك فنانون
- حرت معك. . . ألم تسخر من أصحاب اللوحات والألواح. . . أنت؟!
- يا هذه!. . . إنما كرهت منهم أن يتركوا ميدانهم وأن يعملوا في السينما، هؤلاء الواحد منهم يصلح لأن يكون مصوراً بالفوتغرافية، يجمع ما يشاء من صور الناس الذين يحلون في عينيه، ومن صور المناظر التي تروقه، ومن صور الحوادث التي يقابلها وتعجبه. . . ليعرضها في (فترينة) أو ليطبعها في كتاب؛ أما أن يلصق عدداً من هذه الصور بعضها إلى بعض ويقول للناس تعالوا شاهدوني إني أخرجت فيلما، فهو إذن يسخر من الناس ويستحق(343/46)
منهم السخرية. . . فالسينما لم تعد كما كانت منذ نصف قرن (صوراً متحركة) يرضى جمهورها (بالزغللة)، وإنما أصبحت السينما اليوم (سينما) أول ما يطلبه جمهورها فيها شيء (يدلك) أرواحهم، فإذا لم يعطهم العاملون في السينما هذا كانوا كأصحاب المقاهي الذين يسقون قصادهم بدلاً من البن فولاً محمصاً مطحوناً مغلياً قهوة لا تمس الأعصاب وإن كان فيها غذاء للمصارين
- لو ضربت لي مثلاً يوضح ما تقول؟
- لو ضربت مثلاً لغضب الدكتور زكي مبارك؟
- زكي مبارك؟ وما له هو والسينما والإخراج وما إلى ذلك؟
- إنه صديق الناس جميعاً ولا يحب من أحد أن ينقد أحداً. . . إن فيه طبع المسالمة
- لم يقلها عنه أحد، فالناس يعرفونه يناوش الحجر. . . أنسيت معركته مع الأستاذ أحمد أمين؟
- هذا لأن الأستاذ أحمد أمين (ابن كاره) كما يقولون. . . وعلى أي حال مالنا نحن وهذا. . . ألا تحبين أن نعود إلى ما كنا فيه فنتحدث عن العزيمة. . .
- فلنعد. . .
- فلنعد. . . ما رأيك فيها؟
- لقد كنت أنت الذي تبدي الرأي فأتمم حديثك. . .
- لقد قلت ما كنت أريد أن أقوله. . . أليس لك أنت ملحوظة. . .؟
- لي. . . وهي إن كانت لا تدل على ضعف في الإخراج، فهي تدل على ضعف في نفس المخرج. . .
- يا عظمة! وما هي ملحوظتك هذه يا مدموازيل فرويد. . .
- لقد عني كمال سليم عناية كبيرة بتقديم أبطال قصته بطلاً بطلاً قبل أن يدخل في صلب الرواية، وأظنه لم يفعل هذا إلا لأنه خشي لو بدأ الرواية من غير هذا التقديم أن يضطرب النظارة فلا يحددون كل بطل من أبطالها التحديد الصحيح أو التحديد الذي يريده هو على الأقل. . . وهذا ولا شك اعتراف منه بأنه عاجز عن أن يقدم الأبطال في تلافيف الحوادث تقديماً واحداً(343/47)
- قد يكون هذا، وقد يكون انه لا يحسن الظن كثيراً بالجمهور المصري، فهو يكلف نفسه في هذا التقديم، وإن كان يعرف فيما بينه وبين نفسه أنه تقديم لا لزوم له. . . أليس لك ملحوظة أخرى؟
- لي. . . وهي أيضاً وإن كانت لا تدل على ضعف في التأليف ولا في الإخراج فهي تدل على فراغ في رجولة كمال سليم. .
- ما شاء الله. . . إن عقلك اليوم منساب. . . ما ملحوظتك هذه؟
- ليس في روايته امرأة
- ماذا كانت فاطمة رشدي؟!
- بنتاً. كانت بنتاً حتى بعد أن تزوجها البطل. فقد كانت تنساق بسهولة لما يثيره فيها الناس ولما تثيره فيها الحوادث من النزعات، وكانت تقف مواقف صريحة قاطعة، وليس هذا من طبع المرأة وإنما هو في طبع البنت أقرب ما تكون إلى الطفولة والسذاجة. ليست المرأة التي أخرجها كمال سليم امرأة وإنما هي طفلة. . .
- ربما يرجع هذا إلى أن كمال سليم نفسه حينما أحب. . . أحب طفلة صغيرة هي التي أخرجها بطلة لهذا الفيلم. . . ولعله قد حدث له بعد ذلك ما أبعد بينه وبين المرأة، وما زاد على ذلك، حتى حمله على كراهية النساء، فكانت كل نساء الفيلم ما عدا البطلة وأم البطل بغيضات مُنْكَرات أخرجهن جميعاً ولهن مآرب ملتوية وأغراض خاطئة خبيثة. فمنهن من تبيع بنتها وتقسو على زوجها، ومنهن من تسخر في الكارثة، ومنهن من تحرض على السخرية فيها، ومنهن من تفرح لها وتشمت. . . وهذه الكراهية للمرأة التي تسمينها أنت فراغاً في الرجولة يعوضها في هذا المخرج تمكن ظاهر من نفوس الرجال، واهتمام ظاهر بنفوس الصبيان، فقد وفق كمال توفيقاً تاماً في اختيار أبطال قصته من الرجال، وفي إسناد كل دور للممثل الملائم له القادر عليه حتى إنه لا يستطيع الناقد مهما أشتد ومهما تحامل أن يشير إلى ذات واحدة من ذوات الفيلم ويقول إنها قلقة في مكانها غير مطمئنة إلى دورها، وقد أتيح هذا التوفيق لكمال لأنه فيما أعتقد لا يكره رجال الدنيا ولا يحبهم وإنما هو يعيش بين الناس متفرجاً متفحصاً مختبراً متعلماً متذوقاً. . . ولا ريب أن هذا هو الذي أفاده في اختياره لأبطال روايته. . .(343/48)
- والصبيان؟. . .
- لقد جعل لبطلة الفيلم أخاً ولم يكن في القصة ما يوجب أن يكون للبطلة أخ. ولكنه لم يستطع أن يحبس ما يجيش في نفسه من الإلمام بأحوال الصبيان، فتنفس عن هذا الصبي الذي جعله أخاً للبطلة وعرضه في صورة من (السهتنة) والخبث المتظاهرين بمظهر البلاهة والبراءة. . . وليس هذا عجباً من فنان ينفر من النساء، ويحب الفتيات الصغيرات، ويستغرق في عشرته للرجال تأملاً ودراسة. . . أنها طبيعته وظروف حياته، ولو كان لي أن أقترح على هذا المخرج موضوعاً لفيلم جديد فإني أقترح عليه أن يسرع إلى موضوع تجري حوادثه في مدرسة للبنين ابتدائية، أو ثانوية. . . ولا يكون في هذا الفيلم امرأة على وجه الإطلاق، وإنما يكون فيه ناظر ومعلمون وتلاميذ وفراشون. . . ولن يستطيع أحد أن يعترض على هذا النوع فقد سبقتنا أمريكا إليه واستقبلته الجماهير بالارتياح والإعجاب، وقد برز من ممثليه سبنسر تراسي، وفريدي بارتولوميو، وميكي روني. . . كما برز من مؤلفيه مارك تواين. . .
- وهل تحسب كمالاً يوافقك؟. . .
- أنا لا أطلب منه أن يوافقني اليوم، ولكني أبشره بأن هذا النوع هو نوعه، ولا يبعد أن يقتنع بهذه الفكرة قريباً أو غير قريب فيخطو بالسينما المصرية هذه الخطوة الجديدة. . . وإني أحس أن في نفسه أن يصنع شيئاً جديداً. . .
- ولكن أين يجد المخرج الذي يريد هذا - الممثلين بين الأطفال والصبيان بينما أنت ترى أن في مصر أزمة ممثلين وممثلات. . .
- يا ما فيا لمدارس، ويا ما في الشوارع، ويا ما في البيوت! وإني واثق من أن كمالاً إذا بحث وجد. . فإن فيه القدرة على أن يجد. . .
- صديقك كمال أليس كذلك؟
- والله إني لم أراه ولم أعرفه. ولكني رأيته في فنه عيوبه قليلة، ومميزاته هي هذه التي ذكرناها وهي كما ترين جديرة بالاهتمام
عزيز أحمد فهمي(343/49)
رسالة العلم
الأسماك العجيبة
للأستاذ أحمد علي السيد
الأسماك الطائرة
قد تعجب إن علمت أن هناك بعض الأسماك تطير في الهواء، ولكنها الحقيقة، إذ أن بعض الأجناس البحرية تستطيع الطيران في الجو لمدة محدودة، ثم تهبط إلى مطارها وهو سطح الماء
ولما أن كان الطيران يقتضي تحوراً في شكل الجسم، فإن الزعانف الصدرية في هذه الأسماك قد اتخذت شكل الأجنحة. ويتراوح طول هذه الأسماك بين بوصات معدودات وبين قدمين وتعيش في البحار القطبية والمعتدلة
وأشهر الأجناس الطائرة هو المسمى ويعيش في البحر الأبيض والمحيط الهندي واستراليا والصين، والزعانف الصدرية طويلة تصل إلى الذيل وهذا مشقوق إلى شقين السفلي منهما أطول من العلوي. وطول هذه الأسماك يتراوح بين قدم ونصف وقدمين.
أما كيف تستطيع الأسماك الطائرة حفظ توازنها أثناء الطيران فقد قام جدل عنيف بين العلماء حول هذا الأمر فقال بعضهم: إن أجنحتها (وهي الزعانف الصدرية) تكون منبسطة أثناء الطيران كأجنحة الطائرات، وقال آخرون: إن هذه الأجنحة تكون في حركة مستمرة كما يحرك الطائر أجنحته إلا أن حركتها سريعة فيصعب على العين تميزها بوضوح
والنظرية الأخيرة هي المقبولة الآن لدى الأغلبية من رجال العلم، لأننا لو سلمنا جدلاً بأن الأجنحة تكون منبسطة ولا تتحرك فإن مقاومتها للهواء تكون محدودة بحيث لا تفي بإبقاء جسم السمكة في حالة اتزان في الهواء. على أن الفريقين المتجادلين يسلمان معاً بأن السرعة العظيمة لحركة هذه الأسماك في الماء وقوة اندفاعها من العوامل المساعدة على طيرانها في الفضاء. وأقصى مسافة تقطعها السمكة في الطيران في مرحلة واحدة خمسمائة ياردة، كما أنها لا تستطيع أن تطير لأكثر من نصف دقيقة. ثم تهبط إلى مطارها وتغوص في الماء، على أنها قد تستأنف مرحلة أخرى بعد أن تستجم وتأخذ كفايتها من الأكسجين(343/50)
المذاب في الماء لتتنفس. والأسماك الطائرة تطير في اتجاه مستقيم إن لم تقاومها التيارات الهوائية أو ترتطم بأمواج الماء، وترتفع في طيرانها قدمين أو ثلاث أقدام عن سطع الماء، إلا أنه في الجو العاصف قد يبلغ ارتفاعها أكثر من ذلك. والسؤال الذي قد يطرأ على ذهن القارئ هو إذا كانت الأسماك قد خلقت لتعيش في الماء فلماذا يطير بعضها في جو غير الذي خلقت لتعيش فيه؟ والجواب على ذلك أن طيرانها هو الهروب من عدو يطاردها، وأعداؤها كثيرون كخنزير البحر والدرفيل وغيرهما. على أنها إذ كانت تطير لتنجو من عدو يطاردها في الماء فقد لا تسلم أيضاً من عدو يطاردها في الهواء كالجَنْقلَة وسائر الطيور المائية، والأسماك الطائرة تصلح كغذاء شهي للإنسان
الأسماك الحاضنة -
حنان الأمومة ورعاية الصغار غريزة سامية وعاطفة نبيلة، ومن آيات الله أن هذه العاطفة التي تدل على شعور مرهف وإحساس عميق تتجلى أيضاً في بعض المراتب الدنيا من الكائنات الحية. وإننا وإن كنا نعلم جميعاً أن الأسماك تضع بويضاتها في الماء ليخصبها الذكر ثم تتركها وشأنها إلا أن بعض الأسماك تتعهد بويضاتها حتى تفقس وإذا ما خرجت منها يرقاتها تعهدتها أيضاً حتى تصبح قادرة على القيام بأمرها بنفسها ثم تتركها بعد أن تطمئن على مقدرتها وعلى أنها قد أصبحت غنية عن مساعدتها لها
ومن الأمثلة الرائعة لذلك أن جنساً من الأسماك المائية العذبة موجوداً في أمريكا الجنوبية وأفريقية واسمه تحمل الأنثى منه البيض في فمها ثم يحفر الذكر حفرة في قاع القناة حيث تضع الأنثى البيض ويتناوب الأبوان حراسته حتى إذا ما فقس وضعت الأم الصغار في فمها لمدة حتى تصبح هذه قادرة على أن تستقل بنفسها وحين تخرج هذه الصغار من الفم تبقى بجانب أمها مخافة أن يهاجمها عدو فإذا هاجمها فتحت الأم فمها بسرعة ودخلت الصغار
وفي بعض أنواع السمك - في مياه البرازيل يقوم الذكر بدور الحضانة فيحفظ البويضات في فمه حتى تفقس، وفي خلال هذه الفترة تفقد الأنثى والذكر شهية الأكل ما دامت البويضات في الفم، هناك نوع آخر من هذا السمك يعيش في غانا له طريقة عجيبة لحماية البيض، إذ بعد أن تضع الأم البويضات تضغط عليها بالجزء الأسفل من جسمها الذي(343/51)
يصبح في هذه المدة ناعماً إسفنجياً فتلتصق به البويضات وتحملها الأم حتى تفقس
وفي حصان البحر - يحمل الذكر جيباً يشبه الذي يحمله الكنغر، وفي هذا الجيب تضع الأم البويضات ثم تقفل فتحة الجيب بإفراز لزج فتصبح البويضات في أمان حتى تفقس
وفي أحد الأجناس القانطة بالمحيط الهندي تلتصق الزعنفتان الصدريتان وهما كبيرتان متقاربتان بالجزء الأمامي من جسم السمكة بحيث يتكون ما يشبه الكأس، وهذا الالتصاق لا يحدث إلا مدة إفراز البويضات فقط، وفي هذا الكأس تُحمل البويضات وتثبت في مكانها بسائل لزج من قنوات في خيوط تتكون داخل الكأس وتبقى البويضات حتى تفقس
وفي سمكة - تتكون كتلة البويضات ويلتف جسم الأنثى والذكر حول هذه الكتلة بالتبادل لحمايتها
وفي أسماك - يثقب الأب البويضات برأسه ثم يدفع تياراً مائياً بواسطة حركات نفسه إلى هذه الثقوب فيدخل الماء في البويضات وبذلك يمدها بالأكسجين الكافي، وفي هذه الفترة يكون الأب عصبياً جداً ويهتز جسمه باستمرار
وفي الأسماك الماصة - يوجد قرص على السطح السفلي للجسم تستطيع السمكة أن تلتصق بالصخور؛ وفي هذه الأسماك تضع الأنثى بويضاتها في محار فارغ ويتولى الذكر الحراسة بأن يلتصق جسمه بهذا المحار حتى يفقس البيض
وفي نهر الأمازون وروافده جنس من السمك الصغير تضع الأنثى بيضها على حافة النهر بحيث يكون قريباً ما أمكن من الماء؛ ولكيلا يجف البيض فإن الذكر والأنثى يتبادلان دفع الماء دفعاً قوياً نحو البيض بواسطة حركات ذيلهما ويتعهدان البيض على هذه الوتيرة حتى يفقس
أحمد علي السيد(343/52)
القَصَصُ
قلب أم. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
صباحٌ ومساء، يقظةٌ ونوم، وأمنيةٌ بالنهار تتراءى حُلماً بالليل، وعجلةُ الزمن تدور فتطوي العمر وتختزل الحياة. . . هذه هي الدنيا. . .!
يا ويلتا!. . . وفي الناس من يعيش دنياه كما يدور الثور في الطاحون: يدور ويدور ولا يزال يدور؛ لا يدري أين ينتهي؛ ويمضي على وجهه في طريق طويلٍ لا يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، وحوله أربعة جدران!
وهل الحياة إلا يومٌ مكرر؟
ما أمس؟ وما اليوم؟ وما غد؟. . . إن هي إلا رسومٌ متشابهة تتعاقب على مرآة مثبتة في جدار قائم. الصورة واحدة ولكنها تلوح وتختفي، وتزعم المرآة أنها ثلاثة شخوص أطافت بذاك المكان!
ولولا خداع النفس وأباطيل المنى ما طابت الحياة!
. . . واستيقضت (الأم) ذات صباح كما تستيقظ كل صباح؛ فأبدلت ثوباً بثوب وجثَتْ في محرابها تصلي لله وتدعو. . .
كانت تعيش وحدها في هذه الدار المتداعية منذ سنوات!
لقد فارقها (الرجلُ) فراق الأبد، وحمله الرجال على الأعناق إلى مثواه؛ ولكن ذكراه بقيت معها في ولديه. . .
. . . وبكرتْ إليه في الغداة تنثر الزهر على قبره وفي نفسها لهفة وفي عينيها دموع؛ ثم تحولت عنه إلى ولديه لتجفف في صدرهما دموعها!
وآلت منذ اليوم أن تكون لهذا الطفل وأخته أما وأباً. . . وبَرّت بما وعدتْ!
كان ذلك منذ أربع عشرة سنة!
أما الفتاة فقد شبَّت واكتملت ونضجت ثمرتُها فانتقلت من دار إلى دار. . . وباحت بمكنونها إلى زوجها الشاب واستمعت إلى نجواه. . . وعرفت دنيا جديدة!. . أتراها تذكر اليوم أمها؟. . . أَلاَ إن أمها لقانعةٌ راضية بما بلغتْ من أمانيها. . لقد تحققت لها أمنية من(343/53)
أمنيتين. . .
وأما الفتى فقد قطع في سبيله مرحلتين وانتهى إلى الجامعة؛ فما أهون ما بقى!. . إنه يعيد عن أمه منذ سنوات ثلاث، يجاهد جهاده ليبلغ مأمله، ولم يبق إلا خطوة واحدة!. . .
وأما الأم فإنها في وحدتها من تلك الدار، وما تزال تصلي لله وتدعو ليحقق لها ما بقي!
يا لله! أهذه هي؟ لَشَدَ ما غيَّرَتها الأيام!
. . . كان لها جاه ومال، وكان لها شباب وفتنة، وكانت حياتها أغنية ضاحكة، كلها مَرَح ونشوة ودلال. . . يا للمسكينة! أين هي اليوم مما كانت منذ أربع عشرة سنة؟
أتُرى مرآتها تحدثها بما كان وبما صار، كعهدها يوم كانت. . .؟ أين تلك المرآة؟. . . لقد علاها غبارُ السنين فما لها عينٌ تنظر ولا لسانٌ يصف!
هاتان عينان قد انطفأ بريقهما فما لهما هَمْس ولا نجوى!
وهاتان وجنتان ذابلتان ليس لهما أَرَجٌ ولا شذى!
وهاتان شفتان قد أطبقتا على ابتسامة حزينة ليس لها صوت ولا صَدى! َ
وهذا الشَّعر - ما كان أجمله يوم كان! - قد خَطَّت عليه الليالي سطوراً بيضاء في صحيفة مسودة؛ إن فيها تاريخَ جهادٍ نبيل، أربعة عشر عاماً بلا وَني ولا كلال!
. . . لقد بذلت لولديها أغلى ما كانت تملك: بذلت المالَ والشباب، وبرّئت من شهوات النفس وأوهام المنى؛ ونسيتْ كل شيء مما كانت تطمح إليه، إلا شيئاً واحداً، عاشت ما عاشت له، وبذلت ما بذلت من أجله، وخاطرت بما خاطرت في سبيله. . .: ولَديها العزيزين!. . . أما إحداهما فقد بلغتْ، وأما الثاني. . .
إنها لقريرة العين على ما جاهدت وبذلت؛ لأنها من الغاية التي تهدف إليها على خطوات!
. . . وفرغت الأم من صلاتها ودعائها؛ فنهضت متثاقلة إلى صوانها، ففتحته، فأخرجت منه كِسرة جافة، فبلَّتها تحت الحنفية وأخذت تلوكها بين فكيها؛ ثم صعدت إلى سطح الدار تتشمس!. . .
وأمسكت عوداً من الحطب تهش به على دجاجها وهي تنثر له الحبّ وفتات الخبز الناشف. إن لها في هذا المكان لسَلوة وأنساً، وإنها لتجد من هذه الطيور أُسرة تأنس إليها وتتسلى بمرآها؛ بضع دجاجات وديك؛ هذا كل ما بقى لها من أُنس العشير!(343/54)
وانحنت على خمَّ الدجاج فأخذت ما فيه من بيض، ثم هبطت الدَرج تستند إلى الحائط حتى بلغت غرفتها، فوضعت ما معها من البيض في كيس النخالة، وجلست في النافذة ترقب ساعي البريد. . .
إنه يوم السبت، وقد تعودتْ أن تلتقي في مثل هذا اليوم من كل أسبوع رسالة من ولدها لتطمئن. . .
وجاء ساعي البريد فسلَّم إليها الرسالة، ففضَّتها معجلةً وقرأت. . .
إنه قادم بعد يومين ليراها. . .
يا فرحتا! إن لها عيداً من دون الناس!
ووفَرتْ الأمُّ من غذائها لعشائها، وقامت إلى الصوان فأخرجتْ ثوبها الجديد الذي خاطته منذ عامين؛ فرتقتْ ما فيه من فتوق، استعداداً ليوم الاستقبال السعيد!
وكنستْ، ونظفتْ، وهيأت فراش الضيف؛ وجلست تعدّ الساعات وتهيئ برنامج الاستقبال؛ ونامت ليلتها تحلم. . .
ومضى اليومان وحلَّ الميعاد، وجلست الأم وراء الباب ترقب تقدم فتاها وقد هيأت ما هيأت لاستقباله. . .
هكذا كانت تفعل كلما حان موعد زيارته وإن له زيارة في كل شهر:
وتلقت الأم ولدها بالترحيب والعناق؛ وكأنما عاد إليها الشباب؛ فإن في عينيها بريقاً، وفي خديها حمرة، وعلى شفتيها ابتسام، وفي جبينها ألق!
وجلس إليها ساعة يحدثها وتحدثه؛ ثم نهض يتهيأ للخروج ليجول في المدينة جولة؛ ومشى يختال في زيَهِ وزينته، وأمه تشيّعه بعينيها من النافذة فرحانة!
لا عليها مما تقاسي من الجوع والظمأ والحرمان وإنه لسعيد! حسبها من سعادة العيش أن يكون ولدها كما يتمنى لنفسه؛ إنها لتكتم عنه وعن الناس ما تجد من الضيق والحرج وقسوة الحياة؛ وماذا يجدي عليها أن يعرف إلا أن يحزن ويتألم؟
. . وتوارى الفتى عن عينيها في منعطفات الطريق، فابتعدت عن النافذة وعلى خديها دموع وراحت إلى الصوان تفتحه لتخرج صندوقها الصغير، الصندوق العزيز الذي يضم ذكريات الماضي جميعاً؛ ويضم أماني المستقبل. .(343/55)
في هذا الصندوق أهدى إليها زوجها الذي فقدتْه منذ بضع عشرة سنة - هديةَ العرس الغالية؛ وفي هذا الصندوق كانت تحفظ ما تحفظ من حلاها وجواهرها، يوم كان لها حلي وجواهر؛ وفي هذا الصندوق كانت تدخر ما تدخر من مال لتنفق على ولديها حتى تبلغ بهما مبلغها. . . فماذا يضم صندوقها العزيز اليوم؟
بضعة جنيهات، وقرط مكسور، وسوار من الذهب: هذا كل ما هناك!. . . وإن بين ولدها وبين الغاية التي يهدف إليها بضعة أشهر!. . . ماذا يجدي كل ذلك؟
. . . وتركته في فراشه نائماً يحلم، وبكرت إلى السوق وفي يدها القرط المكسور وسوارها، تشد عليهما أناملها المرتجفة! وعادت بعد ساعة ومعها مال!
واستيقظ الفتى ليقص على أمه رؤياه وهو يضحك في مرح ونشوة، ويمنَّها بما ينتظر من السعادة يوم يكون ويكون! وابتسمت. . .!
ورفعت عينيها إلى السماء وعلى شفتيها نجوى خافتة، وفي قلبها أمل!
وقامت تودعه إلى الباب وأعطته ما طلب، لم تحرمه من شيء في نفسه؛ وانثنت إلى غرفتها لتضع الصندوق الفارغ في موضعه من الصوان!
ومضى الفتى على وجهه لا يبالي ما خلف وراء ظهره!
منذا الذي يرى هذا الفتى المتأنق الجواد فيعرف من يكون؟ إنه هو نفسه لا يعرف!. . . وأمه حيث تركها، تعيش من دنياها بين صباح ومساء، ويقظة ونوم، وأمنية بالنهار تتراءى حُلماً بالليل، وعجلة الزمن تدور فتطوي الحياة وتختزل العمر، وهي لا تدري. هذه هي دنياها! ولكن لها يوماً تترقب مطلعه على شوق ولهفة؛ ولكن متى. . .؟ أترى هذا اليوم حين يجيء يرد عليها الشباب المدبر والعمر الذي ضاع!
وانقضت بضعة أشهر، وحان اليوم الذي كانت تنتظر؛ ودخل إليها زوجُ ابنتها ليزف إليها البشرى. . . وكانت راقدة في فراشها تحلم!. . .
وجلست في فراشها، وأشرق وجهها بابتسامة راضية، وقبلَّت البشير قبلة، ثم مال رأسها على الوسادة. . . وكانت تبتسم. . .!
وهتفت في صوت خافت: الآن أديت واجبي! وعادت الابتسامة إلى شفتيها أكثر إشراقاً وفتنة!(343/56)
ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة حتى استقرت على صورته في إطارها ثم أطبقت أجفانها!
وتراقصت أشعة المصباح الذابل في الغرفة الخالية من الأثاث إلا من سرير محطم عليه جسدٌ محطم!
وهبت نسمةٌ عابرةٌ فأطفأت المصباحَ وعمَّ الظلام!
وخرج الرجلُ ناكسَ الرأس يتعثر في خطاه ليلقي إلى زوجته النبأ الفاجع. . .
وكانت زوجته جالسة إلى المرآة تتزين!. . . . . .
وعلى حين كانت الدار تموج بالأهل والجيران يتهيئون لتشييع الأم إلى مقرها، كان الفتى جالساً في ثلة من أصدقائه وصديقاته يحتفلون باليوم السعيد!
محمد سعيد العريان(343/57)
من هنا وهناك
الخلق الذي سيكسب الحرب
(عن مجلة (باريد))
للحرب الحاضرة نواح كثيرة يجب أن ينظر إليها قبل أن ينظر إلى
تقدير قوى الجيوش المحاربة، وعدد طائرات العدو وحجمها والسرعة
التي تسير بها. ومما لا شك فيه أن الجانب الذي سيكون له الفوز
النهائي في هذه الحرب، هو الجانب الذي يمتاز العنصر الإنساني فيه
بقواه الأخلاقية، ومزاياه العقلية. ولا جرم أن البريطانيين والفرنسيين
يمتازون من هذه الناحية عن الألمان.
وقد كتب المؤلف الأمريكي المشهور (فنسنت شيان) في مجلة (رديوك) التي تصدر في كندا مقالاً قيماً تناول فيه أخلاق هذه الأمم بالبحث والتحليل. فقال: إن في الرجل الألماني لا بأس به على وجه العموم، فهو شجاع، صلد، جلد على احتمال الشدائد، ذو مقدرة على الاضطلاع بسائر الأعمال الجسدية، يعمل بيديه وقدميه فيها كما يعمل برأسه.
إلا أن هذا الخلق الألماني بما فيه من العناصر الطيبة، لم يخل من ناحية ضعف لها أثرها السيئ على سائر النواحي القوية فيه. فالشعب الألماني ينقصه الإدراك السياسي الرشيد. فسياسته لا ترتفع عن سياسة العامة، وأخلاقه السياسية لا ترتفع عن الجهالة والسخف
والألماني لا يعرف التشكك في أموره السياسية. وقد عرف النازيون كيف يستغلون هذه الصفات، فاستحوذوا على نفوس الشعب بطرق لا تخلو من المهارة والحذق. فإذا كان الشعب الألماني وعدده ثمانون مليوناً من الأنفس قد اعد لتصديق كل شيء يلقي عليه بغير تردد، فلماذا يكلف النازي أنفسهم إخباره بالحقائق المريرة المتعسفة. والأكاذيب المتقنة والوعود الخلابة أسهل وأجدى
إلا أن هذه الظاهرة المعهودة في الخلق الألماني منذ قرون، لا تلبث أن تثير غضب الرأي العام حينما يصل خداع الشعب إلى أقصى حدوده وتفتضح الحقائق التي كانت في طي(343/58)
الكتمان، وفي هذه الحالة يكون اليهود وغير اليهود سواء في التألب على هتلر وعصابته وإقصائهم عن الحكم، كما أقصى القيصر وحكومته عام 1918. أمام الشعب يقف الشعبان الإيطالي والفرنسي وهما يستمتعان بالحرية السياسية منذ مائة وخمسين سنة، ويعرف كل فرد من أفرادهما المبادئ التي يدافع عنها
فالإنجليزي لا يسير بالطريقة الآلية التي يسير بها الألماني، وهو يحاسب رجاله على كل صغيرة وكبيرة. طبع على ذلك منذ قرون، وهو يرى الحرية خيراً من الكفاية. وإذا كان الإنجليزي يضيع كثيراً من الوقت قبل أن يدخل مع خصومه في حرب طويلة المدى فهو في الحق من النوع الذي يميل بطبعه إلى الدقة والنظام، ويسير على خير التقاليد دون أن يثير ضجة أو لجباً
والإنجليزي لا ينطق كثيراً بألفاظ البطولة أو التضحية، ولكنه يعرف دائماً كيف يحافظ على الروح المعنوية فيه، ويحتفظ بروح الفكاهة ولو كان على فراش الموت
هذا هو الرجل الذي سيقف على قدميه إلى نهاية الحرب. فأعصاب الإنجليزي من النوع الذي لا يعرف السطحيات وإن كانت في الحقيقة أقوى وأشد من الصلب.
والفرنسيون كذلك لهم مقدرة على احتمال الشدائد، وقد برهنوا على ذلك مراراً عديدة في تاريخهم الماضي، وعلى الأخص في حرب 1914 - 1918.
ولعل أهم الميزات التي خص بها رجل الشارع في بريطانيا وفرنسا، هي انه على علم تام بأحواله السياسية. فالصحافة تمد الشعب بكل ما يحتاج إلى علم، والحكومة لا تكتم عنه شيئاً لتظهره فيما بعد، ولا يفكر أحد في خديعته عن الموقف الجوهري الذي يدافع عنه.
ولا يمكننا أن نقول ذلك عن الشعب الألماني، فقد قطع ما بينه وبين الحقائق منذ ست سنوات، إلا أنه إذا عرفها عاجلاً أو آجلاً وتبين له أنه كان مخدوعاً، فسوف لا يوجه غضبته إلى الأجانب، ولكن سيوجهها إلى الذين خدعوه، وهم قادة النازي
لابد من التعاون لتوطيد دعائم السلام
(عن (دان آند أول))
ليس كل أنواع السلام مما يستحق السعي إليه. فالسلام القائم على التعاون بين الأمم(343/59)
كبيراتها وصغيراتها، يختلف ولا شك في جوهره عن السلام الذي يقوم على الغلبة وإخضاع النفوس، فالأول وحده هو الذي يستحق الاهتمام، ولكنا إذا سعينا إليه فلا بد أن نحتاج - عاجلاً أو آجلاً - إلى شيء من التعاون مع الشعبين الروسي والألماني، حتى تكون دعائم هذا السلام موطدة الأركان. وما دام هذان الشعبان يعيشان تحت سلطان الدكتاتورية، التي تنفذ مشيئتها في خصومها السياسيين بالقتل أو السجن، فهما حريان بألا يسعيا وراء هذه المبادئ، لتكون أساساً لعلاقتهما بالأمم الأخرى، وقد نبذوها أنفسهم في حدود بلادهم
على أننا جديرون - على كل حال - بأن نعرف كل العرفان أننا لا نملك الحق في إلزام الأمم الأخرى بتغيير نوع الحكومة التي ترتضيها. فإذا كان الألمان يفضلون أسلوب هتلر في الحكم، أو كانوا على الأقل، لا يستطيعون تغييره من تلقاء أنفسهم، فأي حكومة تقوم في ألمانيا تحت تأثير القوات المسلحة التي لبريطانيا العظمى وفرنسا لا يقدر لها البقاء
فحكومة هتلر هي ثمرة من ثمرات العقلية الألمانية. وقد جاء هتلر نتيجة لانهزام ألمانيا في حرب 1914 - 1918، وليس بمستبعد أن تكون للحرب الحاضرة نتيجة شر من تلك النتيجة، إذا هزمت ألمانيا مرة ثانية. وقد يتعلم الشعب الألماني هذه المرة كيف يؤسس حكومة أقل سذاجة ونقصاً من حكومته الحاضرة. وعلى أي حال من الأحوال فسوف يكون من شانهم وحدهم - لا من شأننا - اختيار الأسلوب الذي به يحكمون
بهذا المبدأ نطلب أن يعامل البولنديون والتشك والاستونيون واللتوان، وإن يكن هذا المبدأ لم يساعدنا على إنقاذ السلم العام. هو ضد إخضاع أمة لأمة أخرى. ولكنه لا يعترض مبدأ آخر أكثر أهمية، وهو مبدأ التعاون بين الدول. وقد حُووِلت محاولة طيبة في معاهدة عام 1919 للمناداة بهذين المبدأين، فنالت بعض الأمم المستعبدة حريتها، وتخلصت من تبعيتها لأمم أخرى تحت تأثير من تقرير المصير؛ وتم التعاون من ناحية أخرى بين جميع الدول بقيام عصبة الأمم. إلا أن هذا المبدأ مبدأ التعاون الدولي قد سار بخطى وئيدة إلى الغاية التي ينشدها الجميع
بل إن التعاون بين الأمم التي تنتمي للعصبة كان من الناحية العملية محدوداً وغير محقق للرجاء. فكل حكومة كانت تعمل مستقلة لصلاح حالتها الاقتصادية والمالية، وتستغل(343/60)
الظروف لإصلاح سياستها الحربية. فالتعاون بمعناه الصحيح لم يكن معروفاً في علاقات بعض الدول بالدول الأخرى. وما زالت بعض الحكومات إلى اليوم تعد نفسها غير مسئولة إلا عن مصالح الأهالي الذين ينتمون إليها.
وما زالت هذه الحكومات تقف موقف الصمت بازاء المصالح العامة، وليست هذه هي السياسة التي تؤدي إلى توطيد أسس السلام. إن مبدأ التعاون الذي ننشده لتدعيم قواعد السلام لا بد أن يدخل في سياقه التعاون التجاري والصناعي بين مختلف الأمم؛ ولا بد أن يقضي على فكرة الحرب الأهلية أو حرب الطبقات. وأي حكومة تبيح تلك الحروب الأهلية في بلادها لا تستطيع ولا شك أن تتعاون تعاوناً شريفاً لتوطيد طرق السلام.
النشر والحرب
(عن (ذي سبكتاتور))
قليل من الذين كانوا يشتغلون بالنشر في الحرب الماضية، يعيشون إلى اليوم ويزاولون أعمال النشر بيننا. ومما يدعو إلى العجب أنك لا تجد عند هؤلاء إلا النزر القليل مما يروون عن مثل الحالة التي نواجهها اليوم. فإذا كانت هذه الحالة تماثل ما عرف من قبل فيما بين عام 1914 و1918، فإن عالم النشر سيشاهد بعد المرحلة الأولى من الحرب تجارب لم تتح له منذ عدة سنين
إن الحرب تشجع على القراءة، فهي تؤثر في نفوس المحاربين وغير المحاربين من الأهالي بما يضجر ويقلق مما لا يخفف وطأته شيء كقراءة الكتب. فهي تثير الحماسة الوجدانية وتعد الأذهان لتلقي ما ينتجه العقل، وتجعل النفوس أشد رغبة في أن يفكروا ويحسوا، وتضعها في الوقت ذاته في موقف يكون فيه أشد حاجة إلى الراحة والتسلية من أي وقت آخر. ولا يضيرنا هنا أن نقول إن هذه العوامل لا تقل قوة وتأثيراً اليوم عما كانت عام 1914، بل قد يكون الأمر على النقيض، فالقيود التي تحيط بنا وحالة الشعب العامة قد تساعد على تقوية هذه العوامل
إلا أن عالم النشر تعترضه صعوبات كثيرة إلى جانب الصعوبات المتعلقة بالطبع والتوزيع، مما قد يخفي على الجمهور. وسوف تعاني بيوت النشر والطباعة الكثير من هذه(343/61)
الصعاب، فعمل الناشر في الحقيقة أكثر دقة مما يتصور الكثير من الناس
وهناك صعوبة قد لا تخطر على البال، وقد يكون علاجها من المستحيلات، فما قيمة الورق والطبع وما قيمة الناشرين إذا لم تؤلف الكتب؟ وقد لوحظ هذا العام هبوط محسوس في عدد الكتب التي قدمت للمطابع وكذلك في نوعها. والسبب في ذلك واضح، فقد أصبح العالم الأوربي منذ اجتماع ميونخ قليل الاهتمام بالأعمال الأدبية، فتلك الأزمات المتوالية، التي تعقبها فترات من القلق والتفكير في مصير المدنية المزعج، كل ذلك من شأنه أن يجفف ينابيع التفكير.
ولكن ما دمنا قد وطدنا العزم على إزالة هذه الهمجية من أوربا، فمن الواجب أن يزول ذلك الشبح المخيف من أذهان الكتاب. فنحن في حرب يشترك فيها العالم كل بما أهل له، وكل ما يطلب من الكاتب - إذا ترك وشانه في هذه الحرب - هو أن يؤلف ويغذي الأفكار(343/62)
البريد الأدبي
في العروض
في العدد الماضي من (الرسالة) تعقيب عنوانه (التجديد في العروض)، وغايته مناقشتي في بحر (وضعتُه)، وكنت نشرت أبياتاً منظومة عليه (قصيدة (الناي) في العدد ال340، وجعلت اسم البحر: (المنطلق). ولن أجاذب صاحب التعقيب. بل عليّ عهد أني كلما رأيت كاتباً يعرض لي وهو غير مستوثق مما يكتب ولا متقصّ في التدقيق عدلت عن الجدَل إلى ما يجلب لصديقي القارئ بعض الفائدة. ولك أن تسألني عن مواضيع النبوّ في تعقيب الكاتب. وإليك الجواب مختصراً:
يقول الكاتب إن البحر الذي قلت إني (وضعتُه) (وهو: فاعلاتن مفاعلتن، مرتين) قد (خيل إليّ أني اخترعته). وهنا أحب أن أبصّر الكاتب، على عجل، مواقع ألفاظ العربية: فإن (الوضع) غير (الاختراع)
وقد علّل الكاتب كيف (خيل إليّ) وضع البحر بقوله: (يوجد هذا الضرب نفسه بأجزاء أخرى هي (فاعلن فاعلن فَعِلُن) فهو إذاً الضرب الأول من العروض الثاني (يريد: الثانية) من المتدارك، وهو المجزوء الصحيح، وأقرب أمثلته لوزن الدكتور بشر هو الضرب المخبون المرفَّل من هذا المجزوء الصحيح، ومثاله في (متن الكافي) هو:
دار سُعدى بشحرِ عمان ... قد كساها البلى الملوانْ
على أن هنالك فرقاً يسيراً قد يلحظه القارئ بين الوزنين، فذلك أن وزن الدكتور بشر ينقصه الترفيل (وهو زيادة سبب خفيف. . .) والسبب الخفيف متحرك بعده ساكن كقَدْ. فهو يمثل الألف والنون الأخيرتين في (عمان) و (الملوانْ) واللتين بحذفهما نحصل على نفس الوزن المنطلق الذي جاء به الدكتور بشر) 1 هـ.
أولاً: ليراجع الكاتب (متن الكافي) الذي استند إليه، وشرحه (المختصر الشافي) للدمنهوري وغيرهما ليعلم أن للعروض الثانية المجزوءة من المتدارك ثلاثة أضرب هي: فَعِلاتن، فاعلان، فاعلن. فأين (فَعِلُن) الذي أتى به؟ وإذا بدا له أن يتذرع بالخبن، فليذكر أن (الخبن) من (الزحاف) فما هو بلازم في فاعلن، وإن لزم في فعلاتن الوارد هكذا على أنه ضرب.
ثانياً: قرأ الكاتب البيت الذي استشهد به (متن الكافي)، وهو غير مشكول. فسكن النون من(343/63)
(عمانِ) و (الملوانِ). والصواب: كسر النون (عمان، الملوان) - كما يعينَّ ذلك موضع الشاهد من الكتاب - فيكون الوزن (فعلاتن) لا (فعلان)
ثالثاً: والظريف أن الكاتب يزيد أن في البيت ترفيلاً. فيشرح الترفيل، ويضرب المثل بكلمة (قد)، ثم يقول: (إن الترفيل يمثل الألف والنون) من (عمانْ) و (الملوانْ). والصواب: (أنه يمثل النون المكسورة)، مع إشباع الكسرة. وأما (الألف والنون) فالألف تتمة التفعيلة السابقة، النون هي التذبيل، فلا ترفيل كما وهم الكاتب
رابعاً: يقول الكاتب إن بين الوزن الذي استكرهه والوزن الذي وضعتُه (فرقاً يسيراً. . . وبحذف اللف والنون (والصواب كما رأيت: بحذف النون مع حركتها المشبعة) نحصل على نفس الوزن المنطلق الذي جاء به الدكتور بشر). فكأن الأوزان على يد الكاتب تنقص وتزيد وتضغط وتمط بجرة قلم. وإن توهم أن الترفيل في العروض لا يقدم ولا يؤخر كما يقولون، فليسأل أهل التلحين والغناء عن النقرة التي تبعد إيقاعاً من إيقاع، والغمزة التي تجنَّب (الصبا) من (البياتي) مثلاً. ولينشدهم (قصيدة الناي) يخبروه هل البحر الأول (وهو في وهمه مجزوء المتدارك) على ميزان البحر الثاني (وهو المتدارك). إلا إن الشعر والموسيقى من منبع واحد. أليس لكليهما دوائر قائمة على الأسباب والأوتاد والفواصل عند أرباب الفنين؟ ليفطن الكاتب إلى هذا
وخلاصة القول أن أركان صناعة الشعر وشواهدها تختلط على قلم الكاتب وتتلوى. فكيف أجاذبه فيما انحرف إليه؟ هذا وإن لي حديثاً في (بحر المنطلق): كيف خطر لي وما أصوله، وإني لسائق الحديث يوم يخرج الديوان تسبقه توطئة
بشر فارس
ثناء ورجاء
أُثني على مطالعة الأستاذ عوض السيد السحل الفاحصة، وأعلمه كي يبتهج أن قد حُذف القول الخامس من جريدة (قد لا يكون)، وإن أراد الإمام العكبري - كما ظن قبل - (وقيل أن مصدرية، وقد لا تمنع من ذلك).
وأرجو من الأستاذ توفيق الفكيكي أن يتفضل بقراءة: (كلمة في اللغة العربية، والأسلاك(343/64)
الصحيح). فمقالته الكريمة (نهج البلاغة أيضاً) في (الرسالة الهادية) تخبر أنه لم ير الكتابين. وإذا تلا قولهما، ولم يقنعاه، فإني أهنيه بإيمانه.
محمد إسعاف النشاشيبي
اقتراح
كنت نشرت في (الرسالة) مقالاً به فصلاً واحداً من كتاب (الإمتاع والمؤانسة) الذي أخرجته لجنة التأليف والترجمة والنشر بتصحيح الأستاذين الفاضلين أحمد أمين وأحمد الزين. وقد نبهت المصححين إلى سبع وعشرين غلطة أساسية في ذلك الفصل الواحد. وبعد أسابيع كتب أديب أخفي اسمه مقالاً مطولاً في الرد عليّ، ولكنه لم يستطيع أن يثبت أني أخطأت في كلمة واحدة مما نبهت إليه، ومع ذلك دار حول بعض الألفاظ ليوهم للقراء أنه فند كلامي
وأقول: إنه لا خوف من أن ينخدع القراء بمحاولة ذلك الأديب، وإنما الخوف على ذلك الأديب نفسه! فهل أستطيع أن أقترح على الأستاذ الزيات أن يدعوه لمقابلتي ومعه الكتاب لأهديه إلى ما خفي عليه من عبارات التوحيدي. . .
إن كان طالب علم فليحضر (مع المختلفة) للاستفادة، وإلا فليعرف أن وقتي يضيق عن محاورة من كان في مثل حاله من الجهل بأساليب القدماء.
زكي مبارك
الكهربائية تعتاد
مما استوقف نظر بعض الأدباء في شيء من الإنكار ما جاء به في كتاب (آفاق العلم الحديث) من مبحث الأستاذين هل وكرم عن الأفعال العكسية الأصيلة والمتحولة وأساسها في عالم المادة، ذلك أنه قرر أنه إذا اقترن مؤثران في إحداث أثرين معاً، وتكرر هذا الإحداث عدة مرات، فإن أحد المؤثرين منفرداً يمكنه أن يقوم بعمل الاثنين معاً في إحداث الأثرين. وهذا التفسير المادَي أراد به إيضاح قاعدة بافلوف في الأفعال العكسية المؤصلة والمتحولة. والتجربة التي أجراها في هذا الموضوع أنه أتى بمصباحين كهربائيين أو جرسين متصلين، كلاهما ينير أو يدق بالضغط على زرين، وبتكرار هذه العملية تمكن من(343/65)
إيجاد شبه عادة في أن يجعل الكهربائية تسري في السلكين المتفرعين من الزرين، وأن تنير المصباحين أو تجعل الجرسين يدقان. وتفاصيل هذه التجربة مذكورة بإيضاح في كتاب (آفاق العلم الحديث)، وهي في الأصل مقال نشر بمجلة المقتطف لأعوام خلت
ولست أعرف كيف يوجد في الشرق العربي أناس يزعمون أنهم متصلون بالثقافة الأوربية الحديثة، وأن لهم دراية بآخر نتائج العلم التطبيقي في أوربا، ومع ذلك يجهلون مثل هذه النتائج التجريبية التي انتهت إليها أوربا، ويعتبرونها من أضغاث أحلام الكتاب الفرنجة؛ مع أن هذه المباحث ليست نظرية إنما هي وليدة التجربة والاختبار. ولا شك أنه ليس للأفكار ولا للمنطلق أن ينازع في حقيقتها، ما دامت التجربة والاختبار. ولا شك أنه ليس للأفكار ولا للمنطق أن ينازع في حقيقتها، ما دامت التجربة تثبتها؛ وهذا الموقف يذكرني تماماً بتلك المحاولات الفاشلة التي كان يثيرها البعض أمام كل اكتشاف علمي جديد
ولكم أرجو أن يتمكن أدباؤنا من الأسس العلمية التي تقوم عليها الفكرات الحديثة قبل التعرض لها
(الإسكندرية)
إسماعيل ادهم
فهم معكوس في معنى بيت وإعرابه
من الخطأ ما يلتمس لصاحبه فيه العذر، وهو الخطأ الذي يكون عندما يستغلق الأمر، ويصعب فهم المراد من الكلام؛ أما الخطأ الذي لا يعذر فيه صاحبه فهو الذي يكون عند وضوح الرأي، وظهور المعنى غاية الظهور، ومن هذا الخطأ الأخير ما وقع فيه الأديب الفاضل محمد رجب البيومي، فقد فهم فهماً معكوساً ما كتبته في معنى بيت الأعشى وإعرابه:
ألم تفيض عيناك ليلة أرمدا ... وبتّ كما بات السَّليم مسّهدا
ومع هذا يبتدئ ما كتبه بهذه الجملة التي لا معنى لها: (للأستاذ عبد المتعال الصعيدي انتقادات ومباحث تصيب مرماها مرة وتخطئه أخرى) ولله الشكوى من مثل ذلك الفهم المعكوس وذلك الاشتباه الظاهر، وفي النفس ما فيها من هذا الزمان وأهله(343/66)
لقد ذكرت أيها الأديب الفاضل أني أنا الذي أعرب (أرمدا) في بيت الأعشى فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين العائدة على قوله عيناك، وعلى هذا تكون (ليلة) في البيت منصوبة على الظرفية، ولا تكون مفعولاً مطلقاً كما يقول الأستاذ أبو رجاء نقلاً عن حذاق النحاة
ولو أنك أيها الأديب الفاضل تأملت قليلاً في كلامي لوجدت أن الإعراب الذي نسبته إلي هو إعراب الأستاذ أبي رجاء، وليس هو إعرابي ولا إعراب حذاق النحاة، لأني أوافقهم على إعرابهم، والذي يخالفهم هو الأستاذ أبو رجاء
ولو أنك تأملت أيضاً قليلاً في كلامي لعلمت أن السبب في فساد إعراب ليلة على الظرفية وأرمدا فعلاً ماضياً هو أن الأعشى لم يكن في مقام الشكوى من رمد في عينيه. أما الذي ذكرته في فساد ذلك فخطؤه ظاهر أيضاً، لأنك ذكرت في فساده أنه لا يتأتى انطباق جفون العين وذوق حلاوة الكرى في وقت ألم السن من الرمد، فأما أن ذلك لا يتأتى في ذوق حلاوة الكرى فصحيح، وأما أنه لا يتأتى في انطباق جفون العين فهذا هو الخطأ الظاهر، لأن اغتماض العين من الرمد لا يمكن إنكاره، وهو الذي يمكن أن يراد في بيت الأعشى على الإعرابيين، ولكنه يكون صحيحاً جارياً على التشبيه في إعراب النحاة، ونابياً عن المقام في إعراب الأستاذ أبي رجاء. أما اغتماض العين في الكرى فبعيد عن البيت كل البعد، ولا يريده من يجري إعراب ليلة على الظرفية. ونصيحتي بعد هذا إلى الأديب الفاضل ألا يهجم على الكتابة قبل التأمل، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
عبد المتعال الصعيدي
مميزات بني أمية - محاضرة للأستاذ محمد كرد علي
هذه هي المحاضرة الثانية التي ألقاها الأستاذ العالم محمد كرد علي بك في دمشق. ولقد كنا نقدنا في (الرسالة) محاضرته الأولى (كتبنا وتآليفنا) التي ألقاها قبل شهور، وقلنا إنها محاضرة لا ترتيب فيها ولا استقصاء، وقال عنها الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي إنها لا تزيد عما كتبه مؤلفو (الوسيط) للتلاميذ في كتابهم، فلنر هذه المحاضرة ونصيبها من التوفيق
موضوع المحاضرة (مميزات بني أمية) ألقاها الأستاذ في قاعة الجامعة السورية الكبرى(343/67)
وسمعها ناس كثيرون، من تلاميذ وطلاب ومعلمين، وأساتذة، وموظفي وزارة المعارف، وبعض المتأدبين الناشئين من تلاميذ (أصمعي هذا العصر الشيخ مارسه) كما يقول الشيخ الطنطاوي. وكانت المحاضرة على عين من مدير المعارف العام معالي عبد اللطيف الشطي بك
بدأ الأستاذ ببحث لغوي عن كلمة (أمة) والنسبة إليها، وتصغيرها. ثم خطأ من يقول (أموي) بالفتح وصوب من قالها بالضم، ثم انتقل الأستاذ فأطرف السامعين بحديث عن أنساب أميّة، ملّه الناس منه، لأن الأنساب ليس مما يتحدث به إلى الناس في حفل عام. وذكر أنهم كانوا تجاراً، وبيّن شأن تجارتهم في تلك الأوقات وقال إنهم (أدخلوا مكة في دور مدني، وأن منهم عرفت قريش أرض العجم والروم. .)
وانتقل الأستاذ إلى أبي سفيان، فأفاض في ذكر أحواله في الجاهلية، وانتقل فجاءة إلى معاوية فذكر ما كان يقوله عمر إذا رآه. ثم عاد إلى أبي سفيان فذكر أن له الفضل بنقل الخط إلى الجزيرة، وانتقل بعد ذلك إلى عثمان بن عفان؛ فقال إنه جمع القرآن، ولولاه لكان القرآن اليوم ضائعاً. . . وأنه كان يكرم حرملة الشاعر النصراني. . . وانتقل إلى خالد بن يزيد وذكر أنه أول من ترجم الكتب القبطية والسريانية إلى العربية. وتخطى الأستاذ الخلفاء، حتى أتى عمر بن عبد العزيز؛ فقال إنه أول من عنى بتدوين الحديث
ثم رجع القهقري وقال: (ولم يكن بنو أمية من النابغين لما استعملهم الرسول على الولايات. وقد انتقل رسول الله وأكثر العمال من بني أمية، وأنهم كانوا في الجاهلية أمراء، وكذلك كانوا في الإسلام)
وقفز الأستاذ إلى معاوية فقال وأفاض، وأبان عن علم، حتى حسبنا أن المحاضرة قد انقلبت إلى محاضرة عن معاوية لا عن بني أمية. فذكر تشبه معاوية بالروم (وهذه وكل ما سيأتي من مميزاته)، وما اقتبسه من الأمم المجاورة من الأبهة والعظمة، وما ألف من مجالس الوفود، وذكر استخدامه النصارى والعلوج في وظائف الدولة، وقال إن بني سرجون كانوا وزراء المال عنده، وإنه كان ذا عقل ناضج، واستدل على سعة عقله بخبر عبد الله بن قيس إذ لقي في (صقلية) أصناماً من الذهب فأخذها معاوية وأرسلها إلى الهند لتباع ويؤخذ ثمنها. وقال إن معاوية حسن حال الحكومة، واستطاع بدهائه أن يأخذ الخلافة من علي وهو(343/68)
راض، ومن أبنائه وهم راضون. . . وأنه أول من وضع الحشم للملوك وأمر برفع الحراب بين أيديهم، ونظم الجيش، وأعطى الجند رواتب، ووضع البريد، وعلم الناس التجسس إذ عين صاحب الخبر (أي مأمور استخبارات)، وأوجد في مصر رجلاً كان يطوف على الناس كل ذي ليلة فينادي: (هل ولد فيكم ولد، هل ولدت فيكم جارية، فيقولون ولد لفلان كذا. . . فيكتب اسمه)
وقال الأستاذ إن معاوية كان يعتمد على العطاء ثم الإقناع والرضاء، فإن لم تفد هذه الأشياء عمد إلى القسر، وذكر إسرافه في الأموال ليسكت العلويين والهاشميين، واستخدامه الشعراء والقصاص للدعاية. . . الخ
ويترك الأستاذ معاوية ويأتي إلى عمر بن عبد العزيز فيذكر ورعه وتقواه، وعفته وصدقه. . .
ثم قال: ولقد كانت دولة الأمويين دولة عربية صرفة بكل مظاهرها و. . . (والحق أن هذا القول ينطبق على أيام معاوية!!؟) ثم ذكر مروان بن محمد الملقب بالحمار (ولم يذكر الأستاذ لقبه) وقال إنه كان على جانب عظيم من العقل، وانتقل إلى ذكر قصر الحير الذي بناه هشام في الشام (والذي كشف أخيراً خارج دمشق من جهة البادية، ووضع في متحف دمشق الأثري)
ويجعل الأستاذ من مميزات معاوية جعله الشام (جمعية أمم) فقد رحب بالناصري واليهود والسريان والروم والسود والبيض والحمر والصفر. . . إلى ما هناك من شعوب وأمم، ثم انتقل إلى ذكر ولاة بني أمية، فأشاد بمناقب الحجاج، وأكبر أفعال موسى ابن نصير وعظم غيرهما. . .
وقال الأستاذ: إن هواه كان وما يزال مع بني أمية، لأنهم ظهروا له بعد البحث والدراسة جديرين بهذا الهوى. وقد حاول الأستاذ أن يكذب ما نسب إلى بعضهم من الأخبار التي لا تشرف
وختم الأستاذ محاضرته بقصيدة شوقي في بني أمية. ولعل أحسن ما في المحاضرة هذه الأبيات التي ختم بها الأستاذ محاضرته فأحيت السامعين، وترنحوا منها طرباً ونشوة.
تلك هي المحاضرة لخصتها في هذه الأسطر، والقارئ رأى معنا هذا الاضطراب وهذا(343/69)
التفكك الذي فيها!. . . وما ندري، أأصبح عدم الترتيب والاضطراب في السرد من مميزات محاضرات الأستاذ في هذه الأيام؟ على أننا لا ننكر أن هذه الأخبار التي ذكرها الأستاذ تدل على معرفة واسعة وقراءة دائمة، وهذا ما عرف به الأستاذ. ونحن وإن كنا ننكر عدم الترتيب وذاك الاضطراب، وهنات نحوية بسيطة، فإننا نعجب بالأستاذ وبعلمه، وبتلك الأبيات التي ختم محاضرته بها.
(دمشق)
(ص. م)
توفيق الحكيم في نظر كاتب أوربي
كتب المستشرق المجري الأستاذ جرمانوس أستاذ التاريخ بجامعة بودابست فصلاً عن الأستاذ توفيق الحكيم في كتاب له ظهر بالألمانية حديثاً بعنوان: (الله أكبر) نلخصه فيما يلي:
. . . يميل اليوم كثير من الكتاب المصريين إلى استخدام اللغة الشعبية والتعبير بها عن كل ما يراد التعبير عنه. لكن الكتابة بهذه اللغة اعتبرت بدعة جريئة عن ما قام مفكر حر واستطاع بفضل ما أوتيه من موهبة أن ينفذ عقيدته الفنية. ونعني بهذا المفكر الحر توفيق الحكيم
درس توفيق وعاش في باريس. هناك تغيرت عقليته. وحينما عاد إلى القاهرة ليشغل منصباً رفيعاً في وزارة المعارف، نشر حوله ظلال أفكاره وثمرة تأملاته. أراد أن يكتب كما أحس وتكلم، ثم نقل كل شعوره وإحساسه الفكري إلى العربية مباشرة
اقتبس توفيق الحكيم موضوعاته من تقاليد الإسلام، ووفق لتمثيل خيالاته على أحسن صورة؛ لكن الشكل والأسلوب جديدان تماماً. وهو يصف أسطورة شهرزاد بأسلوب حواري أقرب ما يكون إلى البساطة والرمزية في الوقت نفسه. وهو يعرف - بأزميله الفني - كيف يصب أشخاصه في قوالب من لحم وعظم
وقد قال لي توفيق الحكيم في إحدى محادثاته: (ليس في وسعي أن أكتب إلا في جو الحرية). والواقع أنه بشخصيته المتواضعة، ورقته ودماثة أخلاقه، يمثل لنا الكاتب الشرقي(343/70)
في أحسن صورة
ثم أردف قائلاً: (إنني أحس أن قلمي وكذلك فكري شبه محجور عليهما في الشرق. إن شعوري متوثب، وفكري متقد؛ ولكن يصعب علي تحديد هذا الفكر ورسمه على الورق باللغة التي أريدها، فإن الفكر والشعور يتجمدان تماماً. نحن لا نملك بعد لغة مرنة ولا نحيا حياة أدبية صحيحة. إننا نعرف من المعاني عظاماً قد تسرب السوس إليها من قرون. لأننا فقدنا شهيتنا لتذوق طعم اللحم الطازج. لهذا السبب أميل إلى الطبقات الشعبية لأنها لم تشبع بعد ولا تزال على فطرتها وسذاجتها. فلعل الشعب يفهمني)
صديقي العزيز توفيق! حقاً! اليوم لا يفهمك ويقدرك حق قدرك سوى بعض المستشرقين الذين في وسعهم مطالعة أعمالك وتفهمها على وجه صحيح، وكذلك فئة قليلة من المصريين المثقفين؛ ولكن صبراً ستتطور إفهام الجماهير، وستنمو لشعبك أسنان جديدة؛ ويومئذ يقبلون على التهام آثارك الأدبية الشعبية
ثم تكلم الكاتب بعد ذلك عن شهرزاد وأهل الكهف وعودة الروح وحياة محمد، ثم ختم مقاله بقوله: ومهما يكن من شيء فإن الذي أعتقده وأؤمن به أن توفيق الحكيم يستحق تعضيد العالم العربي، فيقدر جهوده الفكرية حق قدرها ويعني بتفهمها على وجهها الصحيح لييسر للشرق المضي في السير نحو مثله الأعلى.(343/71)
الكتب
علي الطنطاوي وكتابه
في بلاد العرب
بقلم الأستاذ صلاح الدين المنجد
. . . وهاهو ذا الطنطاوي يخرج كتابه الجديد بعد تردد، وهاهو ذا يلقى بنفسه بين أيدي أهل النقد لينال ما يناله المؤلفون من نقد جارح وتقريظ ناعم، ومن تهجم لاذع ومداعبة لينة. . . ويرمى بكتابه إلى الناس ليقرءوه ويشرحوه، ثم ليطنبوا في مديحه أو يدركوا به ثأراً قديماً لهم، فينالوه بالتعريض. فلنشمر إذن مع هذا الناس ولننقد هذا الكتاب كما ينقد الطائر الأرض لينبش منها حبها وزوانها. ولنحدث الناس عن الطنطاوي الذي يخشى الناس غضبه، ويخافون على أنفسهم منه، ولنلق بأنفسنا بين يديه يتحدث عنا ما يشاء. فقلد تربصت طويلاً، وحاولت أن انقده كثيراً. ولكني كنت في كل مرة أغلب على أمري. أما وقد أخرج الآن كتابه، فلن أبطئ أبداً، فقد ألقى بنفسه بين يديّ، وأصبح كتابه بين عينيّ. وليت شعري أأمن صديقي على نفسه عندما أهدي إليّ كتابه وسألني أن اكتب عنه ما أشاء!. . .
لقد سمرت يا صديقي مع كتابك طول هذه الليالي المظلمة التي فاجأنا بها هذا العام الوليد. وكنت أقرأ فيه فأسمع تلك النغمة الحزينة تارة والطروب أخرى التي كانت تتعالى من سطورك وكلماتك، فتهيج حسي كما أهاجته تلك النغمة التي كان يحدثها المطر وهو يقرع زجاج النافذة، ويتساقط على أوراق الليمون والبرتقال التي هزتها الريح المعولة وروعها السحاب الهتون. والحق إني استمعت إلى نغمتين حزينتين: نغمتك وأنت تصف مآسي هذا الوطن الباكي، ونغمة المطر وهي تحدث الأوراق الذابلة. ثم خرجت من الكتاب وأنا أسيان نشوان، طروب معجب. فاسمح لي يا صاحب الرسالة أن أتحدث عما رأيت وما سمعت
لقد قرأت قولك في مقدمة الكتاب إنك كنت في حرب مع الحياة فذكرت بلدك هذا، وكيف أنكرك، فلقد اعتادت الشام أن تعظم الجاهل الغريب، وتحطم النابغ القريب. فلما رأيت ما رأيت تركت دمشق تبتغي مصراً، فعشت بها أمداً اتخذت فيه من الأماكن والناس أصدقاء(343/72)
لقلبك وأحبة لنفسك، وأنفقت أيامك فيها في دار العلوم طالباً وكلية الآداب مستمعاً، وفي (الفتح) و (الزهراء) كاتباً ومحرراً، وعند خالك محب الدين الخطيب سعيداً ومستفيداً. ثم بدا لك. . . وعاودك الحنين إلى وطنك، فعدت إليه فعينوك للصبيان معلماً، وقدمّوا الجاهلين عليك؛ فهزأت بهم وسخرت منهم، وخرجت من بلدك تبتغي العراق فعلمّت في ثانوياتها الأدب، ثم قصدت الحجاز وعبرت الصحراء، ثم عدت إلى بغداد، ثم رجعت إلى دمشق وإذا بهم يمكرون بك مرة أخرى
ذلك لأنك من هذا البلد. . . وأن هذا البلد قد اعتاد وأد أبنائه. . .
عفواً يا بلدي الحبيب!
فتلك شيمة أبنائك. . . يكرمون الغريب ولو كان جاهلاً، ويفتحون له صدورهم، ويوسعون له في دورهم، ويؤثرونه على أنفسهم. . . ويموتون هم من الجوع. . . فإذا تولى عنهم رماهم بكل قبيح، ولكنهم يصفحون عنه، ويسعون لاستقبال غريب آخر. . .
نعم، تلك شيمتك وشيمة أبنائك يا بلدي. . .
ولقد أعجبني أنك ظهرت في كتابك أديباً حقاً، يهزك كل شيء، وتحن إلى كل شيء. . . والأديب الحق من إذا رأى شيئاً أثر فيه، فحرك نفسه، ودفعها إلى الكتابة. لقد طوفت في ربوع الشام. . . فحركت نفسك روائع دمشق، هذه الزهرة الناعمة التي نبتت على أطراف الصحراء، يسقيها بردى بدموعه، ويحرسها قاسيون الجليل بنفسه، والتي يسعى إليها الملوك ليتمتعوا بنظرة منها، ويستنشقوا عطرها. . . فوصفت ما رأيت وأبدعت. وقد أعرض قومك عن تلك الروائع ولم يحفلوا بها، ثم ذهبت إلى العراق، فرأيت وسمعت، وتذكرت الماضي المجيد يرقص على شطآن دجلة، ويرتع في جنبات بغداد، فقلت عنه ما قلت، ثم أوليت العروس حبك. . . فلما رأيت الإيوان هاج حسك، ثم زرت سر من رأى، فهاجت شجونك. . وأنت في كل مرة تكتب وتغني. ثم ذهبت إلى الحجاز - فذكرت محمداً سيد العالم - عليه صلوات الله وسلامه، ورأيت النور ينبثق من هاتيك النجود، فيغمر الدنيا. . . فذرفت دمعة على الماضي الفخم يواريه أبناؤه التراب ولا يحفظونه، ويستبدلون بالعز ذلاً، وبالحرية قيداً، وبالسيادة عبودية. ثم ذكرت العقيق وأيامه، وسمعت الشعر الطروب والغناء الراقص والحب الرفاف. . . فحننت ووصفت، ثم عدت إلى بيروت(343/73)
فهمت على سيف هذا البحر الحبيب، وشردت في الجبال الخضر ووصفتها أيضاً، وأنت في كل مرة تذكر وتبكي، وفي كل مرة تحن وتطرب، وفي كل مرة تدع قطعة من قلبك هنا. . . وقطعة منه هناك. . .
فقل لي ما بقي من قلبك يا صديقي!
لقد نثرته هنا وهناك. . . (في بلاد العرب) فكيف تعيش بدون قلب؟ وكيف تحيا بدون فؤاد؟
وميزة أخرى أعجبتني. . . ذلك أنك لست أديباً فقط، ولكنك أديب إقليميٌّ. والأدب المحلي ينقصنا يا صاحبي. وكما أن بمصر أدباً محلياً، فيجب أن يكون مثله في شامنا وعراقنا وحجازنا، وأن تبدو في كل أدب مظاهر القوم وشعورهم وعواطفهم. ومجموع هذه الآداب كلها يؤلف الأدب العربي في القرن العشرين، كما ألف الأدب العربي من قبل أدب الشام، وأدب العراق، وأدب الأندلس. ولو حاولنا أن نبحث عما أنتجته أدباء الشام في أيامنا، وما ظهر فيه أثر الشام جنة الله، ومهبط السحر، وينبوع الالهام، لوجدته قليلاً نادراً
أين من وصف سورية الجميلة الوادعة؟
وأين من كتب عن سورية أم الأبطال؟
وأين من أشاد بذكر الوطن، فبكى آلامه، ومجد أفراحه، وحن إليه؟. . .
أين الأدب الذي يبدو فيه غلظة نفوسنا عند الكريهة وصفاءها في الأمن والسلم؟
أين. . . أين. . .!
كل ذلك لن تجد منه إلا قسماً واحداً عند أدبائنا كلهم. . . أما أنت. . . فعندك كل شيء. . فاهنأ فأنت (كاتب الوطن)
ولست في كتابك أديباً دمشقيَّا، ولكنك أديب مسلم عربي إنك لم تنس العراق فأشدت بأيامه الخوالي، وبكيت بطله غازي ومجدت أباه فيصل؛ ثم ذكرت فلسطين فوصفت بؤسها وجمالها ورجالها وجبل نارها؛ ثم وصفت مصر وعظمتها، وكتبت عن الحجاز وماضيها وحاضرها. . .
فيا أهل الشام!
إذا أردتم أن تسمعوا الأغاني التي قيلت في بلادكم. . .(343/74)
وتعلموا أن ربوعكم ربوع شعر وبشر وعطر فاقرءوا هذا الكتاب
ويا أهل العراق!
إذا أردتم أن تسمعوا أناشيد محب لبلدكم، عاشق لها، بكى مليكها، ومجد بطلها، وأشاد بماضيها، فاقرءوا هذا الكتاب
ويا أهل مصر!
إذا أردتم أن تعلموا شيئاً عن هذه البلاد العربية، وتروا ما فيها من جلال وجمال وما أصابها من ألم وأسى، وتسمعوا أقاصيص هذه البلاد التي تهفو قلوبها إليكم. . . فاقرءوا كتاب الطنطاوي الشامي المسلم العربي: (في بلاد العرب)
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(343/75)
العدد 344 - بتاريخ: 05 - 02 - 1940(/)
الحياة جميلة. . .
الحياة جميلة، وما يشوّه جمالها غير هذا الحيوان المسمى بالإنسان! لم يعش فيها كما تعيش سائر الأنواع على رسم الفطرة وهدى الطبيعة ووحي الله، وإنما عاش على قوانين من وضعه استمدها من أثرته وكبريائه وهواه فكان شرّاً على نفسه وحرباً على غيره
ربما اقتتل الوحش والوحش أو الطير والطير في سبيل القوت أو النسل؛ ولكنه اقتتال الساعة لا يسبقه تدبير ولا يصحبه حقد ولا تلحقه جريرة. أما الإنسان فهو وحده كدر السلام وقذى الحياة! أحيا لنفسه بفضل ذاكرته ماضياً يحفظ الثأر، وخلق لنفسه بفضل بصيرته مستقبلاً يحمل الخوف، فكان حاضره بينهما قتالاً مستحِراً لا ينقطع ولا يفتر، إما دركاً لثأر الأمس الذي يتذكره، وإما كسباً لقوت اليوم الذي يتبصره، وإما درءاً لخوف الغد يتصوره
الحياة جميلة، وأجمل منها الحي الذي يدرك هذا الجمال ويتذوقه ويستوعبه ويكتسيه. فالطائر أجمل من الروض لأنه عرف كيف ينقل ألوانه على ريشه، ويجمع ألحانه في صوته. والأسد أجمل من الغابة لأنه استطاع أن يجعل رهبتها حية في رهبته، وعظمتها ماثلة في عظمته. والجمل أجمل من الصحراء لأنه أندمج فيها فسير جبلها في هيكله. وصور رملها على أديمه. والحوت أجمل من البحر لأنه قطعة من الحياة صيغت من لين مائه وشدة موجه وسرعة تياره. وكأنما يدرك الطبيعة ويسايرها ويتأثر بها كل شيء من ناطق وصامت إلا هذا الإنسان، فقد خرج عن سنة الله في خلقه حتى اختصه بالأنبياء والرسل والمدارس والكتب! وهيهات أن يدخل النور عين الضرير، ويبلغ الصوت أذن الأصم!
الحياة جميلة؛ وليس جمالها قصراً على قوم دون قوم، ولا على طبقة دون طبقة. إنما الجمال وضاءة الفن الإلهي أشاعه الله في الأرض والسماء وهيأ المدارك للاستغراق فيه والاستمتاع به. فمن كان ذا سمع وبصر وقلب وجده في كل منظر وأحسه في كل حالة. فهؤلاء الذين يمرون عليه وهم معرضون عنه قد فسدت فيهم طبيعة الحياة، وتلبدت فيهم ملكة الحس، فانقطع ما بينهم وبين الوجود الحق والوجدان الصحيح
إن الجمال وسيلة الطبيعة لحفظ الحياة وبقاء النوع، تجمع به ما شت، وتؤلف به ما نفر. وهو بعد ذلك سرور النفس ونور القلب وسلام الروح؛ فمن تملاه في صوره الحسية والمعنوية في الكون كان له منه في كل زمان شباب وفي كل مكان ربيع(344/1)
الحياة جميلة، ومظهر الشعور بجمالها المرح والبهجة. فأينما تر الخمود والكآبة تر الشعور الذي أدركه الكلال أو أصدأه القبح أو أفسده الشر، فيموت فيه الوعي، أو ينعكس فيه الجمال، أو ينقلب فيه الخير. فالجمال في الطبيعة لابد أن يجاوبه جمال في النفس؛ والصفاء في العيش لابد أن يعادله صفاء في القلب. ومن هنا استسر الجمال والصفو على ذوي الحس المظلم والضمير الخامد
كن جميلاً تر الجمال في كل شيء حتى في الدمامة. ومتى امتلأت قواك المدركة بمفاتنه ومباهجه حَلِي الوجود في صدرك، وساغ المر في فمك، وسعيت إلى مجالي الجمال في النيل والجزيرة والريف فشدوت مع الطير، وطرت مع الفراش، وسبحت مع السمك، واستطعت أن تطاول الأغنياء في العز وتشآهم في الغبطة، وتقول لهم: إن السعادة بالجمال أضعاف السعادة بالمال؛ والمال لكم فجدواه عليكم، ولكن الجمال لله فجدواه على الناس
الحياة جميلة، وأنت يا ابن الحياة وارث هذا الجمال. فلِم تزوي عنه وجهك وترسل عينيك بالحسد والحقد إلى المترفين الخافضين وهم يتلهون بالقنص، أو يتزحلقون على الجليد، أو يتمتعون بالسياحة؟ إن في القاهرة وضواحيها من الجمال المبذول والنعيم المشاع ما يكفكف ثورتك على الغني، ويلطف سخطك على الحياة. هذا هو النيل الجميل يجري بين ضفافه السحر، ويخطر على سواحله الفتون؛ فمن الذي يمنع جمهرة الشعب أن تداعب أمواجه بالمجاديف، وتشق عبابه بالزوارق، وتقيم على شاطئيه مهرجانات السباق ومسارح اللهو؟ إنك لتمر على النيل في أي ساعة شئت من النهار أو الليل فتحسبه من السكون المخيم على شاطئه ومائه يجري في مجاهل الأرض. ولولا أن عليه جسوراً لا مناص من عبورها إلى الشاطئ الغربي لما ذكره القاهريون إلا كما يذكرون المقطم!
إن حياة الكسل والرخاوة والخمود والانقباض التي نحياها ألقت من ظلالها الباردة على النيل والجزيرة، فجعلت النيل في ركود المستنقع، والحدائق في سكون المقبرة ولذلك ترى الناس يمشون على جنباته أو بين جناته مطرقين صامتين كأنهم في مجال التأمل أو في مقام العبرة!
الحياة جميلة، ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء اللهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات(344/2)
الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسباحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية. وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وزارة الشؤون الاجتماعية، فإن هذا الذي ذكرنا داخل في منهاجها وعلاجها؛ وهو يشبه أن يكون غرضاً أصيلاً من أغراض وزيرها المجاهد المصلح، فإن سياسته في تقويم الشباب قائمة على تقوية رجولته وشجاعته بالعسكرية، وتربية خلقه وذوقه بالرياضة(344/3)
قصة سامراء
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
قصة مدينة سامراء من أغرب وأمتع قصص المدن في التاريخ: (قطعة أرض قفراء) على ضفة مرتفعة من نهر دجلة (لا عمارة فيها ولا أنيس بها، إلا ديراً للنصارى) تتحول - في مثل لمح البصر - إلى مدينة كبيرة، لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، في دور من ألمع أدوار سؤددها. . . تنمو هذه المدينة الجديدة وتزدهر بسرعة هائلة، لم ير التاريخ مثلها في جميع القرون السالفة، ولم يذكر ما يماثلها بعض المماثلة، إلا في القرن الأخير - في بعض المدن التي نشأت تحت ظروف خاصة - في بعض الأقسام من العالم الجديد
غير أن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدة طويلة، لأن المدينة تفقد (صفة العاصمة) التي كانت (علة وجودها وعامل كيانها) قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها، فتأخذ في الإقفار والإندراس بسرعة هائلة، لا تضاهيها سوى تلك السرعة الشاذة التي كان تم بها تأسسها وتوسعها
وبعد أن كان الناس يسمونها باسم (سر من رأى) أضحوا يسمونها باسم (ساء من رأى). . . وبعد أن كان الشعراء يتنافسون في مدح قصورها، أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها
فبعد أن قال ابن الجهم في وصف أحد قصورها:
بدائع لم ترها فارس، ... ولا الروم في طول أعمارها
صحون تسافر فيها العيون ... إذا ما تجلت لأبصارها
وقبة مَلك، كان النجو ... مَ تُفضي إليها بأسراها
يرثيها ابن المعتز، بقوله:
قد أقفرت سر من ري ... وما لشيء دوام
فالنقض يحمل منها ... كأنها آجام
ماتت كما مات فيل ... تسل منه العظام
وفي الواقع ماتت سامراء ميتة فجائية بعد عمر قصير لم يبلغ نصف القرن؛ وأمست رموساً وأطلالاً هائلة، تمتد اليوم أمام أنظار الزائر، وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعاد(344/4)
شاسعة لا يقل امتدادها عن الخمسة والثلاثين من الكيلومترات.
عندما يتجول المرء بين هذه الأطلال المترامية الأطراف، ويتأمل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسس مدينة سامراء وتوسعها من جهة، وإقفارها وإندراسها من جهة أخرى. . . لا يتمالك نفسه أن يسأل عن العوامل التي سيطرت على مقدرات هذه المدينة العظيمة، وصيرت قصة حياتها بهذا الشكل الغريب
إن العوامل السياسة التي لعبت دوراً هاماً في هذا المضمار، لم تكن كثيرة التعقيد؛ بل إنها تتجلى لنا بكل وضوح عندما نُلقي نظرة عامة على أهم الحوادث التي وقعت في عهود الخلفاء الثمانية الذين توالوا على أريكة الخلافة العباسية في سامراء
يجابه الخليفة المعتصم - وهو ابن هرون الرشيد - مشاكل عظيمة في إدارة البلاد، فيرى أن يتغلب عليها باستخدام جيش من الموالي والمماليك؛ فيكثر من شراء الغلمان - من بلاد المغرب والمشرق - وعلى الأخص من بلاد ما وراء النهر بغية تكوين جيش مطيع ينزل على إرادته على الدوام. غير أن تكاثر هذا الجيش الغريب في العاصمة القديمة - بغداد - المزدحمة بالسكان، يؤدي إلى حدوث بعض الوقائع بين العساكر والأهلين. فيقرر الخليفة إزاء هذه الحال إنشاء عاصمة جديدة - بعيدة عن القديمة - ينتقل إليها بعساكره وقواده ووزرائه وندمائه وكتابه وأتباعه، ويدعو الناس إليها، على أن يرتب كل شيء فيها على حسب ما يتراءى له (مفيداً) لتوطيد دعائم ملكه من جهة ولزيادة جلال عاصمته من جهة أخرى
يمضي الخليفة في تحقيق فكرته هذه بعزم قوي وفي خطة محكمة، فينتخب موقع سامراء، بعد التحري والبحث، ويؤسس عاصمته الجديدة هناك، على أساس القطائع المنظمة، فيجعل كل مجموعة من القطائع قائمة بنفسها، مستقلة عن غيرها بمساجدها وأسواقها وحماماتها
و (يفرد قطائع الأتراك عن قطائع الناس جميعاً، ويجعلهم منعزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولدين) ولو كانوا من التجار حتى أنه يفكر في أمر ذريتهم و (يشتري لهم الجواري، فيزوجهم منهن، ويمنعهم أن يتزوجوا ويصاهروا أحداً من المولدين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم من بعض)
لا شك في أن هذه الخطة كانت تنطوي على محاولة سياسية خطيرة، بل كانت بمثابة(344/5)
تجربة اجتماعية جزئية؛ كما لاشك في أن التدابير التي اتخذها المعتصم في سبيل تنفيذ هذه الخطة كانت دقيقة وحازمة. ومع هذا فإنها لم تأت بالفوائد التي كان يتوخاها منها، بل أفضت إلى نتائج معاكسة للأهداف التي كان قد رمى إليها معاكسة تامة. ونستطيع أن نقول: إن المعتصم كان قد حسب حساباً لكل شيء في هذا الباب غير شيء واحد، وهو التطور الذي يحدث في نفسية الجيش - بطبيعة الحال - عندما يتكون أفراده وقواده من الغرباء، ولو كانوا في الأصل من الأرقاء. . .
أراد المعتصم - بخطته هذه - أن يتخلص من مشاغبات الأهالي، غير أنه لم يدرك أن هذه الخطة ستؤدي - عاجلاً أو آجلاً - إلى جعل الخلافة ألعوبة في أيدي الجنود الغرباء وقوادهم الطامعين
وهذا ما حدث فعلاً: فقبل أن تمضي عشرون سنة على وفاة الخليفة المعتصم الذي وضع هذه الخطة وشرع في تطبيقها، تفاقمت سيطرة القواد، ووصلت بهم الجرأة إلى قتل الخليفة المتوكل قتلاً فظيعاً، وبعد ذلك تتابعت الأحداث والاضطرابات وأفضت إلى قتل الخلفاء وخلعهم ثلاث مرات متواليات خلال عشر سنوات، إلى أن تولى الخلافة المعتمد. وبعد أن بذل بعض الجهود في سبيل توطيد دعائم ملكه في سامراء نفسها، رأى أن يقضي على هذه المحاولات كلها، فقرر أن يترك سامراء وأن يعيد كرسي الخلافة إلى بغداد بصورة نهائية
ولذلك نستطيع أن نقول إن الخطة السياسية التي وضعها المعتصم - والتجربة الاجتماعية التي قام بها تنفيذاً لهذه الخطة - انتهت بفشل تام. .
غير أن قصة هذه المدينة العجيبة، إذا انتهت من الوجهة السياسية بفشل أليم. . . فإنها تكللت - من الوجهة العمرانية - بنجاح كبير يسجله تاريخ الفن والعمران بمداد الإجلال والإكبار. . .
إن إقدام الخليفة المعتصم على تأسيس عاصمته الجديدة كان في عنفوان الخلافة العباسية وعظمتها؛ فكان من الطبيعي أن تتمثل في هذه العاصمة تلك القوة والعظمة أحسن تمثيل. . .
إن الأراضي التي اختارها المعتصم لتشييد المدينة الجديدة، كانت منبسطة واسعة، ولم يكن فيها من المباني القديمة ما يعرقل خطط المباني الجديدة، ولا من التلول والوديان ما يحدد(344/6)
ساحات البناء؛ فاستطاع الخليفة أن يجعل القطائع كبيرة فسيحة، والطرق عريضة طويلة. . . وسيستطيع أخلافه أن يوالوا عمله هذا، ويمددوا الشوارع ويوسعوا المدينة. . .
إن المملكة التي كان يحكمها الخليفة المعتصم كانت غنية وكثيرة الموارد جداً. فكان في استطاعته أن ينفق أموالاً طائلة لتشييد القصور والمساجد، وسائر المرافق العامة، كما يكون في استطاعة أبنائه أيضاً أن يستمروا على الإنفاق في هذه السبيل بدون حساب
إن المملكة التي تبوأ كرسيها المعتصم كانت فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، فكان في إمكانه أن يجلب أمهر الفعلة والبنائين وأشهر المهندسين والفنانين، من جميع أقطار ملكه العظيم. وفي استطاعته أن يضع تحت تصرف هؤلاء كل ما يطلبونه من مواد الزخرفة والبناء ولو كانت مما يجب جلبها من بلاد بعيدة. . .
إن اجتماع كل هذه العوامل الفعالة بهذه الوجوه المساعدة، سيفسح أمام المهندسين والفنانين مجالاً واسعاً للعمل والإبداع، وسيتحف العاصمة الجديدة بأوسع القصور وأجملها، وأعظم المساجد وأبدعها. . .
وكان من الطبيعي ألا تقف هذه الحركة الإنشائية عند حد القصور والمساجد وحدها. . . بل تتعداها إلى الدور والشوارع والبساتين أيضاً. لأن المعتصم لم يقصد - بعمله هذا - إيجاد (مقر خلافة) و (معسكر جيش) فحسب، بل كان يقصد - فوق ذلك - إيجاد (عاصمة مملكة) بكل معنى الكلمة. إنه أراد إنشاء عاصمة جديدة، تنافس بغداد في السعة والنفوس والعمران. فكان من الحتم عليه أن يستقدم جماعات كبيرة من الناس ومن أصحاب المهن - على اختلاف أنواعهم وأصنافهم -، وأن يقطعهم الأراضي، ويجزل لهم العطايا، ويحثهم على البناء. وكان من الطبيعي أن تتولد من جراء ذلك حركة إنشائية واسعة النطاق شديدة النشاط. . .
غير أن من البديهي أن بناء الحوانيت والدور لا يمكن أن يحاكي بناء المساجد والقصور. فإذا كان في استطاعة الخلفاء وفي مكنة الأمراء أن يزودوا المعماريين والفنانين بكل ما يطلبونه من النفقات، فلم يكن في إمكان الناس أن يقتدوا بهم في هذا المضمار. . . وإذا جاز لمعماري المساجد والقصور أن يبنوا ما يبنونه بأجود المواد الإنشائية - ولو كانت كثيرة الكلفة - وأن يزينوه بأجمل المواد الزخرفية - ولو كانت باهظة الثمن - فلم يكن(344/7)
معقولاً لبنائي الدور أن يطمعوا في شيء من ذلك، بوجه من الوجوه. بل كان عليهم أن يتسابقوا في إيجاد الطرق والأساليب التي تضمن البناء بأقل ما يمكن من النفقة وأعظم ما يمكن من السرعة، دون أن يبتعدوا عن مقتضيات الطرافة والجمال. . . كان يتحتم عليهم أن يستعملوا المواد المبذولة في محيطهم، ويظهروا قوة ابتكارهم في كيفية استفادتهم من خواص تلك المواد في الزخرفة والبناء. . . ومن حين حظهم أن الطبيعة في سامراء كانت مساعدة على كل ذلك مساعدة كبيرة
لأن موقع المدينة يرتفع عن الضفة الأخرى بعض الأرتفاع، والطبقة الترابية فيه تكوّن قشرة قليلة الثخن تستر طبقة صخرية؛ فالأرض لا تتعرض لخطر الغرق حتى في أشد حالات الفيضان، كما تبقى مصونة من الرطوبة على الدوام. وهناك مناطق طينية واسعة تساعد على صنع اللبِن الجيد. وهنالك أتربة كلسية كثيرة تصلح لتحضير الجص القوي. . . ففي استطاعة البناءين أن يستفيدوا من هذه الوجوه المساعدة؛ فإنهم يستطيعون أن يبنوا المباني الكبيرة باللبِن دون أن يخشوا تأثير الرطوبة والمياه فيها؛ كما أنهم يستطيعون أن يضمنوا متانة تلك الأبنية باستعمال الجص مِلاطا لاحماً بين قِطع اللبن وأسوافها، وبعقد الطوق بالآجر أو بطابوقات مصنوعة من الجص. . وأخيراً يستطيعون أن يستروا رداءة مادة البناء بطلاء الجدران بالجص، كما يستطيعون أن يزخرفوا هذا الطلاء بالتلوين أو بالنقش والحفر
إن هذه الزخرفة يمكن أن تعمل خلال البناء كما يمكن أن تعمل بعد إتمامه؛ والقشرة الجصية التي تتكون عليها هذه الزخارف يمكن أن ترفع بسهولة، كما يمكن أن تعوض بقشرة جديدة تزخرف بأشكال تختلف عن الأشكال السابقة. . .
إن الزخرفة على هذه الطريقة تكون رخيصة، ولذلك تعمم بسهولة. فكل واحد من أصحاب الدور يستطيع أن يزخرف بعض غرفه بمقدار ما تسمح له موارده، كما يستطيع أن يعمم الزخرفة في الغرف الأخرى متى صلحت أحواله المالية، أو يستبدل بها غيرها متى ملّها وأراد الأبدع والأكمل منها. . .
ولهذه الأسباب كلها سيكون أمام الفنانين مجال واسع للعمل في هذا المضمار. . . إذ هناك عشرات الألوف من الدور يطلب أصحابها الزخرفة لمئات الألوف من غرفها. ومن(344/8)
الطبيعي أن هذا الطلب الشديد المستمر سيؤدي إلى تنشئة جماعة كبيرة من الفنانين الماهرين في الزخرفة، وسيحملهم على التسابق في طريق التفنن والإبداع على الدوام
ولهذا كان من الطبيعي أن تزدهر في سامراء صنعة الزخرفة الجصية ازدهاراً كبيراً؛ وتولد طرازاً خاصّاً مع أشكال لا تعدُّ ولا تحصى، فيرتبط اسم سامراء - في تاريخ الفن - بهذا الطراز الخاص من الزخرفة. . . وتمتاز هذه المدينة، بجانب عظمة قصورها العديدة، وفخامة مساجدها الفسيحة، وامتداد شوارعها العظيمة، ونضارة بساتينها الجميلة - بزخارف دورها الكثيرة
كما كان من الطبيعي ألا يبقى هذا الطراز من الزخرفة محصوراً بسامراء وحدها، بل ينتقل - بواسطة قواد المعتصم وأخلافه - إلى القاهرة أيضاً، ويخلف هناك آثاراً باهرة في جامع ابن طولون من جهة، وفي المنازل المبنية في العهد الطولوني من جهة أخرى
لقد مضى على قصة هذه المدينة العجيبة أكثر من عشرة قرون. . . وأما الآثار والأطلال الباقية منها إلى الآن، فتضيف ذيلاً جديداً إلى غرابة مقدراتها المتسلسلة. إذ من الغريب أن آثار دورها المبنية من اللبِن والمزخرفة بالجبسين، قاومت حدثان الدهر، أكثر من قصورها المبنية بالآجر والمزخرفة بالرخام. . . والسبب في ذلك أن القصور تعرضت لتخريب الناس الذين اعتبروها بمثابة محاجر غنية بالمواد الإنشائية الصالحة للاستعمال، في حين أن الدور سلمت من تخريب الناس، ولم تتعرض لتدمير أيد غير أيدي الطبيعة والزمان. . . ويظهر أن أيدي الإنسان قادرة على التخريب - بوجه عام - أكثر من أيدي الزمان!
أبو خلدون(344/9)
ويسألونك عن القاهرة
قل القاهرة بغداد الأمس وباريس اليوم
للدكتور زي مبارك
أكتب هذه الرسالة وقد هربت من ضجيج القاهرة في مساء العيد. وهل في شوارع القاهرة في مثل هذا المساء موضع قدم لمن يريد أن يزوِّد قلبه وعينيه بما في أعياد القاهرة من مواكب السحر وملاعب الفتون؟
هي دنيا من الغرائب والأعاجيب تسعد بها قلوب، وتشقى بها قلوب. وهل يعرف حلاوة السعادة أو مرارة الشقاء غير قلب تنطوي عليه أحشاء القاهرة في يوم عيد؟
يقال في كل أرض: إن النكتة المصرية هي أبرع ما عرف الناس من صور الذكاء. وهذا حق. . .
ولكن هل فكر أحد في أسباب هذه الخصوصية؟
إن النكتة هي النافذة التي نشرف منها على مروج الطرب والابتسام. ولو خلت حياتنا من النكتة لقتلنا الغيط على الأيام الجوائر التي لا يلتئم بها شمل ولا يعتدل ميزان
ولعل المقادير لوَّنت القاهرة هذا التلوين العجيب لتَطِبْ لقلوبنا الدامية، القلوب التي مزقها الهيام بالحب والمجد فلم تعرف معنى القرار في صباح أو مساء
قلت لقلبي: أيكون فرارك من ملاعب القاهرة في مساء العيد دليلاً على أنك تُشْبه الطفل الذي يزهد في اللعب؟
فقال: وما حكم الطفل الذي يزهد في اللعب؟
فقلت: ينزعج عليه الأهل، ويستقدمون له الطبيب، لأن الطفل لا يزهد في اللعب إلا وهو عليل
فقال: وأين أهل القلب العليل لينزعجوا عليه ويستقدموا له الطبيب. . .؟ وعندئذ عرفت أن قلبي يعيش في الدنيا بلا أهل!
هنا القاهرة!
نعم، هنا القاهرة. ولكن أين تقع القاهرة مما يريد القلب المفطور؟ أين وهي أصل العلة التي ردّت الفؤاد وهو صديع؟(344/10)
كانت القاهرة في ماضيها مدينة محدودة النطاق. وكان لها أسوار وأبواب. وكان حراسها يطوفون أرجاءها في ساعة أو ساعتين ثم يصعد رئيسهم فوق منارة ويصيح:
(ناموا، أيها المسلمون، فأنتم في أمان)
فأين نحن من ذلك الأمان وقد جَدَّت في دنيانا معاطب غير عدوان اللصوص على المتاجر والبيوت؟
يستطيع كل قاهريّ أن يطمئن إلى أن منزله أو متْجره في أمان من سطوات الليل؛ ولكن أين الأمان من عدوان الشياطين، شياطين الغرائز والنحائز والطباع؟
من يضمن لك الأمان في مدينة القاهرة وهي اليوم مَسْبَعَة عقلية تصطرع فيها المذاهب والآراء، ولا يغمض فيها جفن إلا وهو مروَّع بقلب ساهر لا يعرف السكون إلا يوم تمن عليه المقادير بالموت؟
من يضمن لك الأمان في مدينة مثل القاهرة وأنت من نفسك في حرب، ومن الزمان في قتال، ومن الزملاء في نضال؟
يجب أن تعرف أنك في دنيا جديدة لا يَسلَم من خطوبها وصروفها غير من أمدته المقادير بالصبر عما في القاهرة من اصطراع العواطف واصطخاب الأهواء
فهل أنت من الصابرين؟ وكيف تصبر عن القاهرة، وهي قاهرة وفي دمك وروحك أقباسٌ من سعيرها العَصُوف؟
ألم تسمع ما وقع يوم أقيمت مباراة الأناشيد العسكرية؟
تلقت اللجنة خمسمائة نشيد ولم تختر غير خمسة أناشيد. فقال القائلون: هذا شاهد جديد على أن دولة الشعر يكثر فيها الأدعياء!
وكان ذلك لأننا نعيش في القاهرة مدينة الأناقة والفخامة والزخرف والبريق، وفي مثل القاهرة تُقهر العواطف وتُظلَم القلوب. وإلا فكيف جاز أن ينسى المحكّمون ما في تلك الثروة الشعرية أو النظمية من الدلالة على حرارة الأفئدة وشهامة العقول؟
خمسمائة نشيد؟ معنى ذلك، أيها الناس، أن القاهرة فيها خمسمائة قلب، وذلك مغنمٌ عظيم. ولكن أين من يقيم الميزان لحَيَوات القلوب وهي لا تُوزن ولا تقاس ولا تكال؟
وهل يَشقى في المدائن العظيمة غير أصحاب القلوب؟(344/11)
هنا القاهرة!
نعم، هنا القاهرة، ولكن أين مكان الأديب في المدينة التي أصبحت عاصمة الشرق؟ أين مكان الأديب في القاهرة وبفضل قلم الأديب صارت القاهرة عاصمة الشرق؟ وهل خُلِّدت ليلى إلا بفضل أشعار قيس؟
أين مكان الأديب في القاهرة، ومن دم قلبه خُطَّ تاريخها الحديث؟ بل أين من تسمح له القاهرة بأن يقول إنه في هواها مجنون؟
إني وإياها كمفتتنٍ ... بالنار تحرقه ويعبدها
هنا - في القاهرة - زاد العقول والقلوب والعواطف والأحاسيس، فأين مكان الأديب يا قاهرة ليؤدي ما أداه عشاق بغداد في القديم وعشاق باريس في الحديث؟
زرت حديقة الأزبكية في صباح اليوم وهو يوم عيد فلم أر فيها غير شراذم من غلف القلوب، فأين الأديب الذي يُشعر الدنيا بأن في القاهرة حديقة اسمها حديقة الأزبكية؟ وكيف جاز أن تخلو هذه الحديقة في يوم العيد من مواكب الحُسن الوضاح، والجمال الفضاح؟ ومتى نعيش إذا ألهانا جِدُّ القاهرة عن مداعبة الملاح في يوم العيد؟
متى نعيش إذا استطاعت مُحرِجات الحياة أن تقهرنا على التفكير في منافعنا الدنيوية في المواسم والأعياد؟ وهل عًمرنا عمر نوح حتى نصبر عن مواسم الأفئدة إلى أجل قريب أو بعيد؟
هي أيام نقضيها مشدودين بسلاسل وأغلال إلى (قطار المفاجآت) في هذه الحياة. فمتى نلتفت إلى ما أنبت الغيث في صحراء الحياة من أزهار ورياحين؟
سيندم قومٌ على ما ضيّعوا من مواسم القلوب في القاهرة. وسأذكر بعد فوات الوقت أنني جنيت على شبابي حين أضعته بين سواد المداد وبياض القرطاس في زمن لا ينفع فيه غير الاتجار بالتراب. فهل أخرج من داري إلى معاقرة الحياة بالقاهرة في هذا المساء؟ وكيف ولي شواغل تحرمني الحرية في مساء العيد؟
وهل يستطيع قاهريّ أن يُمضي يوماً واحداً بلا كفاح وهو يعيش في مدينة مقدودة من صخور الصبر على مصاولة الحياة
إن هذه المدينة التي تفتنكم لم تُخلق في يوم وليلة، وإنما هي عُصارة العزائم الشداد في(344/12)
الأجيال الطوال. فمن أقام في القاهرة وله عقل وذوق فليحاسب نفسه على اللمحات واللحظات ليؤدي الزكاة عن قلبه وعقله وذوقه إن كان من الموفّقين، وإلا فهو نفاية ملفوظة في المدينة (القاهرة) التي تنكر خمود الغرائز وجمود الأحاسيس
هنا القاهرة!
أي، والله، هنا القاهرة. وما أسعد من يرى القاهرة أول مرة!
لقد فتنت هذه (القاهرة) من زاروها في هذه الأيام للاشتراك في المؤتمر الطبي العربي، وحمدوا الله على أن جعل للعروبة مدينة مثل القاهرة تتكلم اللغة العربية. فإن لم تكن القاهرة أعظم مدينة في العالم كله فهي بالتأكيد أعظم مدينة في الشرق بفضل ما جمعت من الخصائص الذاتية التي تحكم لها بالفضل على جميع مدن الشرق، وليس ذلك بالقليل
ولكن أين من يعرف أننا بسبب هذه العظمة أشقياء؟
أين من يعرف أن القاهرة لا تعظُم من يوم إلى يوم إلا لتزيد أعبائنا في الحياة؟ وإلى المنصفين من إخواننا في الشرق أقدّم الظاهرة الآتية ليعرفوا في أي جحيم يعيش القاهريون
في كل بلد من بلاد الشرق يستطيع الرجل الوسط أن يعيش لأن الدنيا في بلاد الشرق لا تزال تتسع للأوساط من الرجال
أما مصر - ويرحم الله أهل مصر! - فليس فيها للرجل الوسط مكان
العالم الوسط لا يستطيع العيش
والأديب الوسط لا يجد الرزق
والمغني الوسط يضيع
والطبيب الوسط لا يجد ثمن الدواء حين يمرض
والصحفي الوسط لا يملك الوصول إلى خبر صغير
والمثل الوسط قد لا يجد الفرصة لشهود رواية صغيرة، فضلاً عن القدرة على الاشتراك في التمثيل
القاهرة تقول في كل وقت: كن قاهريّاً
وهل يستطيع كل مصري أن يكون قاهريّاً؟
أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الشعراء لأنهم لم يكونوا في(344/13)
عبقرية شوقي وحافظ وصبري ومطران؟
أليست القاهرة هي التي فرضت الخمول على مئات من الكتاب لأنهم لم يكونوا في عظمة محمد عبده وعلي يوسف وعبد العزيز جاويش ومصطفى المنفلوطي ومحمد المويلحي؟
ومن كتّاب اليوم وشعراء اليوم؟
عندنا مئات من الكتاب والشعراء، ولكنهم سيموتون بغصة الحسرة على أن نشئوا في القاهرة لهذا العهد، عهد الزحام العنيف الذي لا يسلم من كربه غير الفحول الصوّالين
لقد قيل إن الرحمة فوق العدل. فأين نحن من الرحمة وأين نحن من العدل؟ أين من يرحم الأديب الوسط أو يعدل في الحكم على الأديب الوسط فيقضي بأن من حقه أن يعيش لأنه قد يكون أقدر من بعض الذين خلّدهم أبو الفرج الأصفهاني؟
وأين الراحم أو العادل الذي يقول بأن في شعراء اليوم، الشعراء الذين أخملتهم القاهرة، من يفوق عشرات من شعراء (اليتيمة) و (الذخيرة) و (قلائد العقيان)؟
القاهرة لا تتسع أبداً لغير الأفذاذ الذين يغلبون الزمان
وهنا جواب السؤال الذي يوجَّه إليّ في كل يوم:
(كيف يتسع وقتك لكل ما يَصدُر عن قلمك من الدراسات الأدبية والفلسفية؟)
وهل عندي وقت وأنا موظف مسئول أمام الواجب؟
إنما أنا قاهريٌ يحبس نفسه في البيت يوم العيد ليحفر بسنان القلم ثقباً يتطلع منه على ضوء العظمة القاهرية عساه يُقنع القاهرة بأنه رجل مجاهد يستحق أن يعيش
فإن رأيتم قاهرياً يصنع مثل الذي أصنع فاعرفوا أنه رجل مكدود يحاول الظفر بكلمة ثناء من المدينة العاتية التي حكمت بألا يعيش فيها غير من يقدرون على أمواج المحيط في غضبة العواصف الهُوج، ودهرُنا كله عواصف هُوج يتفزّع من هولها المحيط
لا تصدقوا أبداً أننا نسعى في سبيل المجد، فذلك مَطلبٌ لا يخطر لنا في بال، وإنما نسعى للخلاص من شماتة الشامتين وسفاهة الكائدين
آه ثم آه!!
لو كان الماضي ينفع لجاز لرجل مثلي أن يعتمد على ماضيه في خدمة الحياة الأدبية والفلسفية، ولكن القاهرة تعبس في وجه الرجل الذي يعتمد على ماضيه، لأن ذاكرتها(344/14)
تضيق عن مراجعة الأسماء، أسماء المجاهدين الذين عطروا باسمها أرجاء الشرق. هي حسناء لعوب لا تعرف غير العاشق المزوَّد بأطايب الثروة والعافية. فيا ربّ كيف أكون في وطني يوم يتعب قلمي فأنصرف عن الخلوة إليه في يوم عيد؟ حتى يوم العيد نقضيه في نضال؟
في مثل هذا العيد من سنة 1932 كذبت على أبي مرة، ولم أكذب عليه غير تلك المرة. كتبت إليه أقول إني سأقضي أيام العيد في الإسكندرية فلا ينزعج أهلي إن حرمتني هذه النزهة من الأنس بهم يوم العيد في سنتريس
فهل قضيت تلك الأيام في الإسكندرية؟
لم تكن إلا حيلة لأحبس نفسي أيام العيد في البيت لأكتب فصلاً من فصول (النثر الفني) وهو الفصل الخاص بتطور السجع في اللغة العربية
وهل يصنع بنفسه هذا الصنيع إلى قاهري تقهره القاهرة على النضال المميت ليجد مجالاً في المدينة التي تصطرع فيها أقلام المازني والعقاد والزيات والبشري وهيكل وطه حسين، ومن إليهم من الباحثين الذين سيموتون قبل الأوان بفضل الكفاح الموصول؟
القاهرة لا تعرف الرجل الوسط، فافهموا هذه الحقيقة يا أبناء هذا الزمان، وإلا فهناك (سلّة المهملات) تنتظر الألوف ممن يراسلون الجرائد والمجلات؟
يمنّ علينا من يحمله التلطف على القول بأن القاهرة عاصمة الشرق. فهل تعرف القاهرة أن أقلامنا هي التي صاغت لها تلك العقود من الثناء؟ وكيف وعندها (سفح المقطم) الذي وسع الألوف من أجسام العبقريين؟
زرت سفح المقطم منذ أعوام لأستوحي روح ابن الفارض قبل أن أشرع في كتابة الفصل الخاص به في كتاب التصوف الإسلامي، فراعني أن أعرف أن تلك الناحية هي أنفع مكان في القاهرة من الوجهة الصحية. وكذلك أيقنت أن القاهرة تدخر أجمل بقاعها للأموات. وما أحسبها تصنع ذلك وفاءً، وإنما أخشى أن تكون أرادت التنبيه إلى أن عظمة الرجل في مصر لا تكون إلا بعد الموت!
يرحمك الله أيها القلب الذي يشغله الكفاح عن ملاهي العيد!
الآن، وقد انتصف الليل أو كاد، أفكر في مصيري بين قومي(344/15)
أفكر في الشباب المضيَّع بلا لهو ولا فُتون!
وهل كنت أول من ندم على الشباب المحروم!
ولكن، هل أملك غير الذي صنعت وغير الذي سأصنع؟
فيا أيها الوطن الغالي، تذكَّر ثم تذكر. تذكر أنني كنت ولا أزال مجنون ليلاك! فإن رأيتني صدفتُ عن أفراحك في يوم عيد، فاعرف أن ذلك لم يقع عن جهل أو عقوق، وإنما هي إرادتك العالية التي قضت بأن يعيش أبناؤك وهم دائماً في حومة قتال!
وما أدعوك، أيها الوطن، إلى التصدق عليَّ بنظرة عطف، فأنا لا أقبل الصدقات، وإنما أدعوك إلى مقابلة الجميل بالجميل، فإن رفق الآباء يزيد في بِر الأبناء!
وطني! لقد شقيتُ بعظمتك، ومن أجل هذا أحبك وأستعذب الصاب والعلقم في هواك!
وطني! إليك أسلمتُ قلبي وعقلي، فخذ بزمامي إلى حيث تشاء، يا أنضر دوحة تغنّت فوقها البلابل، ويا أجمل روضة رنَّت فيها القبُلات، ويا أطهر بقعة أقيمت فيها المحاريب، ويا أشرف صحيفة أرهفت آذانها الواعية لصرير القلم البليغ.
زكي مبارك(344/16)
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
الفروق العقلية
ما هو الذكاء؟. . . سؤال طبيعي ومعقول بعد هذه المقالات المتعددة التي شغلت الوفير من صفحات الرسالة. ولعلي لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال بأكثر مما يجيب القارئ عن هذه الأسئلة: ما هو الزمن؟ وما هي الكهرباء؟ وما هو الثقل؟
والحقيقة أننا حين نقيس الذكاء لا نقيسه مباشرة، لأننا لم نصل بعدُ إلى معرفة طبيعته ومكوناته، وإنما نقيس مظاهره في الحياة والتصرفات والأفعال الذكاوية للإنسان. والمفروض علميّاً أن كل إنسان عنده قدر من الذكاء قل أو كثر، بل إن الرأي الحديث في علم النفس هو أن بعض الحيوان الأعلى كالشمبانزي والغوريلا والكلب على نصيب من الذكاء يظهر في تصرفاته
ولقد حاول علماء النفس منذ أن وضعت أول مقاييس للذكاء أن يحدوه، ولكنهم ما وصلوا إلى رأي متفق عليه. وفي سنة 1921 نشرت مجلة علم النفس التربوية الأمريكية آراء لأربعة عشر عالماً نفسيَّاً كلٌّ يحاول أن يعرف الذكاء. وكان تعريف ترمان صاحب المقاييس المشهورة بأنه (القدرة على التفكير المعنوي المجرد) وعرفه كلفن بأنه (القدرة على التعلم)، وعرفه بكنجهام بأنه (القدرة على العمل والتصرف تصرفاً إنتاجياً تحت ظروف معينة). ومهما يكن من أجوبتهم فإنها تدل على أنهم لم يتفقوا على تعريف الذكاء الذي أنفقوا السنوات الطويلة في بحثه ووضع مقاييس له
وفي سنة 1924 صدر تقرير من وزارة التربية البريطانية وضعته لجنة اشترك معها قادة رجال التربية وعلماء النفس الإنجليز للبحث في قوى الذكاء المختلفة، والاختبارات السيكولوجية المناسبة لها. ويشير هذا التقرير إلى أن هناك ثلاث نظريات شائعة حول تعريف الذكاء
النظرية الأولى هي نظرية من يعتبره نتيجة وأثراً لبضع ملكات أو وظائف عقلية عامة. وتعزى هذه النظرية لألفريد بينيه السيكولوجي الفرنسي. وهو يقول في بعض مقالاته عن مقاييس الذكاء: إنه يقيس بها ملكة الإرادة، وملكة الانتباه، وملكة الحافظة، وملكة التعقل. ثم(344/17)
هو بعد ذلك يتحدث عن الذكاء في مقالة أخرى فيقول: (إن للذكاء ملكة أساسية أصلية، تلك هي ملكة الحكم على الأشياء، وإن شئت فسمها الحاسة العملية. وهي الملكة التي بها يكيف المرء نفسه للظروف المختلفة. . .) ثم هو ينشر مقالاً في مجلة (العام السيكولوجي) في سنة 1909 بعنوان (ذكاء ضعاف العقول) يرى فيه أن الذكاء العام هو صفة عقلية ذات ثلاثة وجوه على الأقل: (1) إدراك المعضلات والمسائل والاتجاه العقلي المناسب لحلها وتنفيذها (2) القدرة على التكيف المناسب الضروري للوصول إلى غاية معينة (3) القوة التي بها يستطيع أن ينقد المرء نفسه
والنظرية الثانية هي نظرية من يرى أن الذكاء إنما هو لفظ يطلق على مجموعة من القدرات العقلية الخاصة المستقلة. وهذه القدرات موروثة ويرتبط بعضها ببعض بنسب مختلفة. وصاحب هذه النظرية هو البروفيسور إدوارد لي تورندايك. وهو يرى أن الطفل إذا كانت قدرته العقلية الموروثة على فهم مسائل الحساب ممتازة وظاهرة فإن ذلك يرجح أن قدرته العقلية الموروثة على فهم موضوعات الجغرافيا فوق المتوسط. ويقول: إن الفرد الذي له قدرة عقلية ممتازة في نوع من الأعمال لترجح هذه القوة فيه أن القوى العقلية الأخرى فوق المتوسط). ويعود فيقرر أن هناك ثلاثة أنواع من القدرات الذكاوية الخاصة والموروثة، وهي الذكاء الذي يظهر في فهم معاني الكلمات والأفكار المعنوية المجردة والذكاء الحركي أو المهارة العملية في استعمال الأيدي، والذكاء الاجتماعي، أو القدرة على التفاهم والانسجام مع من يتصل بهم الفرد في المجتمع. ومن أنصار هذه النظرية أيضاً البروفيسور جودفري تومسون
والنظرية الثالثة وهي الشائعة المعتمدة الآن هي التي تقول بوجود عامل عقلي رئيسي عام يؤثر في كل ما يدركه الفرد، ويؤثر في كل المعليات الادراكية الخاصة التي يقوم بها الفرد. ومن أنصار هذه النظرية ويليام شترن الألماني. ويعرف الذكاء بأنه (القدرة على التهيؤ العام للمعضلات الجديدة وظروف الحياة). والأستاذ كارل سبيرمان الذي زار مصر في العام الدراسي الماضي وحاضر في الجامعة وخارجها. أعلن سبيرمان في سنة 1904 النظرية المشهورة (بنظرية العاملين) - وفيها يرد على القائلين بأن القوى العقلية مستقلة بعضها عن بعض - كما في النظريتين السابقتين - ويقول بوجود عامل مركزي(344/18)
مشترك بين جميع القدرات العقلية. ويسمى هذا العامل بالعامل العام ويرمز له بالحرف وهذا العامل يختلف من فرد لآخر، ولكن يبقى ثابتاً في الفرد الواحد، وبوجود عوامل أخرى خاصة مستقلة إلى حد ما بعضها عن بعض وتختلف قواتها في الفرد الواحد ويرمز لها بالحرف وسنرمز للعامل العام الجامع هنا بالحرف (ج)، وللعامل الخاص بالحرف (ص). فكل عملية عقلية - على رأي سبيرمان - إنما هي نتيجة مؤثرين: العامل العام الجامع وهو ثابت في الفرد الواحد، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية. فقدرة الفرد على حل معضلة حسابية تتوقف على مقدار العامل الذكاوي العام عنده، وعلى العامل النوعي الحسابي الخاص، والحال كذلك في الأعمال الموسيقية والفنية. وقد يكون العامل العام قوياً عند فرد ولكن العامل النوعي الخاص بالرسم مثلاً ضعيف عنده. وقد نجد فردين والعامل العام عند أولهما أقوى منه عند الثاني، على حين أن العامل الخاص بقرض الشعر عند الثاني أقوى منه عند الأول. ولذلك نجد الثاني شاعراً أجود من الأول، مع أن الأول أذكى من الثاني - إن صح هذا التعبير سيكولوجياً، ولا يدخل العامل العام في كل العمليات العقلية بنسبة واحدة، بل نجده في بعضها قوياً وفي بعضها ضعيفاً، فهو يدخل في المسائل المنطقية والتي تحتاج إلى استنباط علاقات أكثر من دخوله في عمليات الرسم النظري مثلاً أو العزف على البيانو. ويفسر سبيرمان هذا بأن بعض العمليات العقلية أكثر تشبعاً بالعامل العام من البعض الآخر. ولكن بِمَ نسمي هذا العامل العام؟ أنسميه الذكاء بالمعنى العادي الذي يفهمه الناس، وهو في الحقيقة جزء من هذا الذكاء بالمعنى العادي؟ إن سيبرمان ليكره أن تطلق كلمة الذكاء بالمعنى المعروف عند الناس على هذا العامل العام، ولكن لا بأس من أن ننفق اصطلاحاً على تسمية هذا العامل العام الثابت بالذكاء
ثم يعود سبيرمان ويزيد عاملاً ثالثاً يسمى العامل الطائفي. وذلك أن أية عملية عقلية كحل مسألة حسابية عن القسمة مثلاً تتوقف على ثلاثة عوامل: العامل العام (ج)، والعامل النوعي الخاص بهذه العملية (ص)، والعامل الثالث هو العامل الطائفي (ط) الذي يدخل في كل المسائل الحسابية من جمع أو طرح أو قسمة الخ، ويسمى وقد أثبتت التجارب وجود عدد من هذه العوامل أو القدرات الطائفية أهمها: القدرة الحسابية، والقدرة اللغوية، والقدرة العملية أو الميكانيكية والقدرة الموسيقية، والقدرة الفنية ومن أنصار هذه(344/19)
النظرية الأستاذ سرل برث، وقد عرف الذكاء بأنه: (كفاية عقلية عامة موروثة) , ' وقد أجرى تجارب كثيرة لقياس ذكاء الأطفال بالمدارس الأولية في ليفربول وأكسفورد ولندن، ووضع مقاييس تناسب الأطفال الإنجليز. وبناها على قياس القدرات العقلية العالية كإدراك العلاقات بين الأشياء. وهو يرى - بعد التجارب - أن هذه القدرات العقلية العالية متشابهة بين الأبناء والآباء ولذلك فهي موروثة. وهو يقول بوجود ذكاء عام وقدرات خاصة كتلك التي ذكرها سبيرمان. . .
ومع أن علماء النفس لم يتفقوا بعد على ما هو الذكاء الذي يقيسونه، فإنهم متفقون على (ما هو ليس بالذكاء). فهم متفقون على أن الذكاء ليس الخلق ولا المزاج والعاطفة. وهم متفقون على أن الذكاء ليس المعارف المكتسبة بالتعلم، ولذلك يجب ألا تتعرض مقاييسه لما يعرفه الطفل بالتعلم: كالقراءة والهجاء والحساب والجغرافيا. وكذلك هم متفقون على أن أي موهبة خاصة محدودة - كالموهبة الشعرية أو الموهبة الموسيقية - لست المقصود بالذكاء، لأن الذكاء عامل عام يدخل في كل العمليات العقلية الخاصة ومن بينها الشعر والموسيقى
عبد العزيز عبد المجيد(344/20)
لوبيا المجهولة
للأستاذ علي معمر الطرابلسي
قال الأستاذ الجليل الحصري بك في مقاله (بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية) في الرسالة عدد 328: (إن العالم الإسلامي يشمل: الأقطار العربية وتركيا وإيران والأفغان وتركستان. مع قسم من: الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس، وأفريقيا الشمالية مع قسم من أفريقيا الوسطى).
وردَّ عليه الأستاذ أبو الوفا بقوله: (فالأستاذ الحصري يوهم أن الأقطار العربية هي فقط مصر والشام والعراق والحجاز واليمن. أما أفريقيا الشمالية التي تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش، فهذه عنده بلاد إسلامية وليست بعربية. فهل هذا هو الحق يا سيدي الأستاذ؟) - الرسالة عدد 334.
فالأستاذ ساطع الحصري بك عدد البلاد الإسلامية ولم يهتد إلى ذكر لوبيا منفردة، لأنها في رأيه ورأي الحقيقة الجغرافية قطر من أقطار أفريقيا الشمالية، لا فرق بينها وبين تونس والجزائر والمغرب الأقصى. ولكن الأستاذ أبو الوفا لم يصل إلى علمه أنها من أفريقيا الشمالية، ولم يفهم من كلمة الأستاذ الحصري دخولها في هذا القسم من البلاد الإسلامية، فذهب يحدد أفريقيا الشمالية بأنها تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش. فأخرج هذا القطر لذي يدعوه التاريخ (لوبيا)، وموقعه بين مصر وتونس من حساب الإسلام والعربية.
ولسنا ندري متى انتحل هذا القطر ديناً غير الإسلام، ومتى اختار له لغة غير العربية! وقد فارقته سنة 1936 وتركته بخير وعافية، وقضيت ثلاث سنين بين تونس والجزائر، فلم أسمع عنه ما يريب.
لو ترك الأستاذ تبيين كلمة الأستاذ الحصري، أو شرحها بغير هذا الشرح المحصور، لما سمع منا شيئاً، ولكنه حرك فينا عاطفة قد آذاها ما كانت تراه من إخواننا في تونس والجزائر والمغرب من إعراض وازورار. وجرحنا مرة أخرى بنكرانه عربية بلادنا وإسلاميتها بما يفهمه شرحه لكلمة الأستاذ الحصري بك قصد ذلك أو لم يقصد. وقد آلمه ألا تعد أمته من الأمم العربية، فما رأيه وقد أخرجنا من العروبة والإسلام؟
ما رأيه في إسلام لوبيا وقد سبقته إلى الفتح الإسلامي سنين وكانت معقلاً وممراً لغزاة(344/21)
العرب لما أرادوا فتح بلاده وتعريبها؟
ما رأيه إذا أخبرته أن فتح لوبيا كان في زمن عمر، ولم يكن فتح بلاده إلا في خلافة عثمان؟
لو كانت هذه الكلمة أول ما رأينا من إخواننا في الأقطار الثلاثة لما احتجنا إلى كلام. ولكنهم - عفا الله عنهم - لا يحبون أن تكون لوبيا من أفريقيا الشمالية برغم ما بذلته من جهود. وعند الأستاذ عبد الحميد بن باديس الخبر اليقين. ولعله لم ينس بعدُ رحلته إلى تونس سنة 1936 وما لاقته به البعثة الطرابلسية من حفاوة وما وجهته إليه من لوم وعتاب. ولعله لا يزال يذكر ذلك العهد الذي عاهدهم عليه بحضرة رئيس جمعية الشبان المسلمين. ذلك العهد الذي أكد لهم فيه ألا يتحدث عن شمال أفريقيا إلا ويبدأ من لوبيا، بعد أن حاضر وحاضَر فلم تجرِ له على لسان
إن إخواننا بتونس والجائر والمغرب لا يعترفون أو لا يريدون أن يعترفوا أن لوبيا من الشمال الأفريقي، ولذا لا يرعون لها حق الشقيقة وواجبات الأخوة. وليس يضيرها أن تكون من هذا الشمال أو لا تكون، ما دامت لا ترجو لمستقبلها غير أبنائها.
ولكن يؤلمها أن تفصل عن أخوات يربطها بهن لحمة النسب والأخوة، وأواصر اللغة والدين، ويؤذيها أن تتحبب إليهن فيصغرنها ويتجاهلنها
إن لوبيا، وهي في جهادها الشريف العنيف، تكابد آلامها المرة، وتحمل أعباءها الثقال، بدون مناصر ولا معين - لا يحسن بمسلم أن يؤلم عاطفتها المكلومة وقلبها الدامي، بشيء يشعرها بانفرادها عن العالم العربي الإسلامي. ولا يجمل بإخواننا - وهي فيما هي فيه من محنة وعذاب، أن يزودها ألماً على ألم
إن إخواننا بالأقطار الثلاثة لا يذكرون، أو لا يحبون أن يذكروا أن لوبيا أخت لبلادهم. فهل كانوا في ذلك من المصيبين؟
الحق أنهم أخطئوا خطأً فادحاً، ولن يستطيعوا قطع الجوار وحجز الثقافة، وتفريق اللغة والدين، بفضل ما بذله اللوبيون من جهود، وقاسوه في ربط العلائق من جهاد
وإنهم إن استطاعوا أن يتناسوا ذكرها مع أفريقيا الشمالية، فلن يستطيعوا إنكار ما لها في هذه الأقطار من أياد، وما خلفته فيها من آثار(344/22)
إن لوبيا أيها الناس! ليست بالقطر الذي أغفله التاريخ وعدم المجد والشرف، وهي صاحبة قورناء في التاريخ القديم. إنها لازالت تضرب المثل العليا لبني الإنسان في علو الهمة وطهارة الضمير، وأبناؤها المشردون في البلاد العربية، الشرقية والغربية شهداء على ذلك. فهل وعيتم ماذا أقول؟
هل تذكرون أن من بواعث نهضة الشرق ويقظة العرب صليل السيوف ودوي المدافع في لوبيا؟
ولعلها من أول بلاد أحيت الروح العربية، وذكرت الناس مجدهم المهدوم وتاريخهم الوضاء! فهل تحفظون لها هذا الجميل؟
لم تكن لوبيا ميتة الإحساس ولا خامدة المشاعر، ولم تكن خافتة الصوت ولا الحركة، كما قد يخطر ببال كثير
إن في لوبيا حركة أدبية وعلمية لا بأس بها، لعلها تفوق في ذلك بعض أقطار عربية أخرى، ولكن من ذا يرى مقدار تقدم ثقافتها، ويلمس من قريب دلائل الحياة وسمات القوة فيها؟
هل زارها أدباء عرب طوفوا بالغرب، وعلموا خبايا الشرق، لعلهم يرجعون منها بخبر؟
هل أنبئونا عما شاهدوا فيه من مظاهر الحياة أو نذر الموت؟
هل رأوا ما فيه من مساجد وجوامع وكليات؟
وكيف رأوا حالة المكاتب والمطابع ونظم التعليم هناك؟
إن رجال العربية - عفا الله عنهم - نسوا هذا القطر، وانمحت من ذكرتهم كلمة لوبيا. ولو قدر لأحدهم أن يدخل إيطاليا من بحر العرب، أو يزور صقلية، أو ينتقل من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق، لما حدثته نفسه، أن يقف بمرسى طرابلس، أو يتأمل شواطئ بنغازي، ولما طاوعته إرادته أن يدخل خليج السرت، أو يمتع نظره بجمال الجبل الأخضر
إن لوبيا - أيها الناس - لم تنس حظها في خدمة اللغة العربية، برغم ما يعوقها من عقبات، ويعترض سبيلها من صعاب: فأرسلت بعثات علمية إلى الأزهر كما كان لأخواتها في الغرب والشرق من البلاد العربية، وإن كنت أعترف أنها فقيرة إلى كثير من الإصلاحات(344/23)
والنظم، وزينت حِلق (الزيتونة) بعدد لا يستهان به وإن كان لا يزال محتاجاً إلى تنظيم أموره وتوحيد مسكنه ورعاية مصالحه، ورأت الحاجة ماسة إلى تعلم بعض اللغات الحية غير العربية، فكونت بعثة أخرى بإيطاليا منبثة في معاهدها
أيها الأستاذ! سأحدثك عما قريب عن العربية والإسلام في هذا القطر، سأحدثك عما يصطرع فيه من أهواء وآمال، ويتغالب من حقائق وأباطيل
وسأنبئك عن حالة التعليم والثقافة هناك، ومظاهر الحياة والطموح، وسأريك كيف يعمل الرجال في ذلك القطر الذي جهلته وجهله كثير من الناس
سأحدثك كثيراً أيها الأستاذ يوم أرجع من (مجاهل) أفريقيا الشمالية، وأكون بين أهلي وأبناء وطني، أما اليوم فقد لا أستطيع الاتصال بكثير من الحقائق التي تدعم حديثي، وقد تغيب عني كثير من الشئون التي يجب أن أحدثك عنها
ولولا لحظات مسترقات يا سيدي، لما استطعت كتابة هذه الكلمات. وأخيراً أقدم أعطر الثناء إلى كل من ذكر لوبيا بخير وتحدث عنها بالجميل. ولا يسعني إلا أن أزف إلى الأستاذين اللذين حملاني على كتابة هذه الكلمات - الحصري بك وأبي الوفا - أرق التحايا وأزكى التسلميات
(الجزائر)
علي معمر الطرابلسي(344/24)
شيطانة تتفلسف!!
للأستاذ محمود كامل حبيب
(إن المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة واحدة، فان استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)
حديث شريف
هي شيطانة شابة فتانة، تخرجت في مدرستها بعد أن نالت حظاً من الأدب والفلسفة والمنطق، وشدت طرفاً من الكيمياء والطبيعة والرياضة، وغذت خيالها بألوان من قصص الحب وروايات الغرام؛ ووعت علم السيما فما تنسى منه حرفاً؛ وتعلمتْ - فيما بين المدرسة والبيت - فنوناً شيطانية خلابة أرسلت الشاب في إثرها يتلمس إليها الطريق - الفينة بعد الفينة - وهي بين الطمع والخوف لا تدفعه إلى اليأس ولا تجذبه إلى الملل
ودار الفلك دورة فإذا هي مُسماة على هذا الفتى. ثم خطبت له
وجلست الشيطانة المتعلمة إلى نفسها - ليلة الزفاف - تتفلسف. . . وتناهي إليّ الحدث كله. وهاأنذا أنقله إلى قراء (الرسالة) الغراء، لا يعبث عقلي برأي ولا يعيث قلمي في خاطرة إلا أن أدير الأسلوب - وهو عَرَض - على طريقة لا أمس بها الجوهر. . .
قالت:
يا صاحبي لا تلمني فإنها جِبلّتي الشيطانية هي التي توحي إليّ
لقد عرفتك فتى ريِّق الشباب، بهيّ الطلعة، لا يعوزك المال ولا العلم، فآثرتُ أن تكون. . .
ولجّ بك الهوى على حين كنتُ أمكر بك وأوسوس لك عَلي أنال بُغيتي
لشدّ ما أفظعني - وأنا في المدرسة - أن أرى أستاذتي العجوز الشمطاء قد خذلها العلم وضيَّعها الدرس، فتناثرت زهرة شبابها وهي تتخبَّط في عَماء الحياة لا تستطيع أن تأوي إلى ركن. . .
وأفزعني أن أكون - بعد سنوات وسنوات - صورة منها، فذهبتُ أتحسس منك
يا صاحبي لا تلمني فما بي هوى لك، ولكن حب نفسي لنفسي
إن المرأة المتعلمة تتفلسف في الحب فإذا هو نظرية فلسفية ذات طرفين: الأنانية والخداع
والحب - في عيني المرأة - هو خداع الرجل عن نفسه وأهله وماله!(344/25)
هو التضحية العظمى التي أردتك عليها
لقد سلكت إلى قلبكُ سبلاً ضللت أنت فيها، لأجذبك إليّ
أنا لا أحبك، غير أني سأجد في الحب والغيرة مادة عَمى تترهَّج أنت في قَتَمها. . .
وكيف أحبك - يا زوجي - وأنا لا أستطيع أن أنفذ إلى أعماق تاريخك؟ لست أنت من ذوي قرباي فينجذب إليك دمي، ولست رفيق صباي فأرى فيك الذكرى، وأجد في الذكرى نشوة ولذة؛ ولست تِرْبي فأضنّ بك. إنْ هي إلاّ نزوة من نزوات الشباب طارت ثم استقرت فيك!
وبعد، فأنا لا أستبطن لك بُغضاً، لأنه يتراءى لي أن نفسك صافية طيبة.
ولكن. . . ولكن كتابك الذي تعتز به، هو عدوي الذي أفرق منه. . .!
سأستلبه منك بحيلة شيطانية، فلا تفزع!
لا جرم - يا صاحبي - إن المرأة لا تستطيع أن تكون زوجة إلا أن تكون بلهاء، أو يكون زوجها مغفلاً!
فلا معدل لي عن أن أتغفّلك بالرياء، وأغترّك بالتصنُّع، وأخدعك بالحيلة لتكون ابناً لأمي لم تلدك، وولداً لأبي لم يُربِّبْك!
إن أمي تتشوق إلى فتى يملأ الدار حياة، وأبي يتشوَّف إلى شاب يضطلع بأعبائه، وقد كبرتْ سنه. . .
فتعال أنت لتشفي غلّة أمي، وتنقع صدى أبي!
يا صاحبي، إن تنازع السيادة في الدار - بين الرجل والمرأة - صَفَاة تتكسر عليها السعادة
والمرأة الجاهلة تستأسر لزوجها في سهولة، وتتصاغر أمامه في ذلّة، لأن عقلها الفاسد لا يستطيع أن ينفذ إلى قلبه إلا أن ينشر على عينيه ضعفها النسويّ الوضيع
أما أنا فتنسمتُ روح الحرية، وعشتُ عمري سيدة نفسي، لا أخضع لأمر أبي ولا أستسلم لرأي أمي. . . ثم وجدت حلاوة الطاعة حين استذلك جمالي وأسرك حديثي
فهل تطمع في أن تتعبّدني؟
لا ضير، فسأعيش عند رأيك ساعة ليطمئن قلبك؛ ثم أمكر بك المكر الأعظم فأحصّ جناحك فلا تنفلت من لدني إلاّ أن يؤذن لك(344/26)
ثم أترفق بك فأنتزعك - رويداً رويداً - من بين سُجراء نفسك وأحباء قلبك، لتكون لي وحدي
وأبذر غراس الشقاق بينك وبين أهلك فأصرفك عنهم لتكون ابن أمي وأبي
يزعم الناس - يا صاحبي - أن البيت سجن المرأة
حقاً، غير أني سأحيله بنفثة شيطانية إلى قفص أدفعك بين قضبانه، وأطير أنا إلى حيث يحلو لي
وإذا ورم أنفك وطأتك بابتسامة تصدع كبرياءك
وإن ثرتَ نثرتُ بين يديك ضعفي القوي. . . عبراتي، فتتخاذل لها لأنك تحبني
وإن نازعتني الأمر - بعد هذا وذاك - وأصررتَ على رأيك واستكبرتَ، سْعرتُ في دارك ناراً حامية تعصف بسعادتك، ثم أنفلت أنا لأجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة
وابني. . . ابني الذي يتراءى لك - من وراء حجب الغيب - قرة عين، هو عينيّ مادة شقاء لك إن سولت لك نفسك أمراً
وإذن تسقم معي بالعافية، وتفتقر بالمال، وتشقى بالسعادة، وتضيقُ نفسك بالفَرَج، وتزلّ بالرأي الصواب، وأعيشُ أنا إلى جانبك - أو في منأى عنك - داءك الذي لا تبرأ منه
وإن شئتَ ولدتُ لك كل يوم فلسفة شيطانية تلقي بك في تيهاء مظلمة تحار أنت فيها، وأنا أرى وأبسم
وغداً أدخل دارك أرفل في الحرير والديباج، أتأود في فتنة وأتثنى في كبرياء
فتلقاني - يا صاحبي - بين ذراعي حبك
لأنك لا تعلم بما توسوس به نفسي
ولا تلمني فإنها جبلتي الشيطانية هي التي توحي إلي
(طبق الأصل)
كامل محمود حبيب(344/27)
من وراء المنظار
شاعر عبقري
رأيت هذا الشاعر العبقري، استغفر الله، بل حظيت بشرف لقائه والاستمتاع مرة بسماع بعض درره الغوالي، وليس بالأمر الهين لقاء مثل هذا الشاعر في زمن قل فيه العباقرة، وحط فيه من قدر الشعر، حتى اعتبره بعض الناس شيئاً لا غناء فيه ولا متعة من ورائه؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه لن تمضي سنوات معدودات، ولا يتصل الشعر بحياة هذا الزمن بسبب من الأسباب. . .
ولئن سعد جدك فمثلت ساعة مثلي بين يدي هذا الشاعر، لوقعت منه على شاب تتوزع الظنون فيه عقلك وخيالك. فإن كنت ممن يجهلون سمات العبقرية، ظللت في حيرتك ودهشتك بل لقد يذهب بك جهلك إلى أن تعزوا ما يبدوا لك منه إلى الحماقة والبله. فتلحد بذلك في الفن من حيث لا تدري إلحاداً شديداً.
والحق أني حرت في أمره برهة حين رأيته. . . فهو يطيل النظر في وجوه جلسائه في صمت عميق، فيحسبونه معهم وما هو معهم. . . ثم هو يرفع عينيه في بطء إلى السقف، ويظل كذلك برهة غير قصيرة كمن أخذته عن نفسه حال من غم أو من ذهول، على أني لم ألبث أن رددت أمره إلى ما علمت عن العباقرة، فهم كثيراً ما يذهلون عن أنفسهم بما تعرج فيه أرواحهم من معارج علوية، وكيف يكون عبقرياً ولا تسبح روحه وتعرج إلى السموات كما تسبح أرواح العباقرة وتعرج؟
ورأيت الشاعر قد أطال شعر رأسه، ثم تركه دون ترتيب، حتى تهدل على فوديه، فغطت خصلات منه أذنيه، وتدلت خصلات فوق عنقه؛ بينما تراكم بعضه على بعض، حتى كان منه ما يشبه الأكمة فوق جبينه. . . وهو لا يحرص على شيء من مظهره حرصه على أن يكون شعره هكذا كشعر أقرانه من كبار الفلاسفة ونوابغ أصحاب الفنون دليلاً في رؤوسهم لا يكذب على النبوغ، وبرهاناً لا يخطئ على الفن. وتكلم الشاعر الشاب في نبرات الشيوخ ولهجتهم، فأخذ يشكو من قلة فهم أهل زمانه لشعره وعدم تفطنهم إلى فنه، ولكنه ما لبث أن أشرقت أسارير وجهه حينما ذكره بعض من يفهمونه بأنه جاء قبل أوانه، وأنه لابد أن تعرف قيمة فنه يوم تنجاب عن العقول حجب الغفلة. . . أولم يشك المتنبي بأنه كان في(344/28)
أمته غريباً كصالح في ثمود؟. . . ولكم سر الشاعر بهذه المقارنة البارعة بينه وبين عبقري آخر على شاكلته
وأفاض شاعرنا العبقري في أنه يسير على نهجه رضي الناس - أو لم يرضوا - فإنه إنما يغني خلجات وجدانه، وعرض للمادة والحياة الدنيا وزينتها، فأكد أنه ليس من ذلك كله في شيء. . . ولست أدري لم وثبت إلى رأسي حينذاك قصائده الطويلة - وكنت نسيتها - في مدح فلان وفلان ممن لا يكون مدحهم إلا وجهاً من الزلفى!؟ ولكني لفرط هيبتي من الشاعر، أو قل لفرط إيماني بعبقريته لم أستطع أن أشير إلى شيء من هذا. . وهل أرضى أن أضع نفسي عنده موضع الأغرار والحمقى؟ ولعل ما فعله كان سراً من أسرار العبقرية لا ينهض له خيالي اليوم
وأشار أحد أصحابه إشارة خفية إلى تلك الروح السامية التي ألهمته أغانيه، فبدت على وجهه مثل إمارات الخجل وضحك ضحكة غريبة، ثم رمى صاحبه بنظرة غاضبة كأنما خيل إليه أن ذلك الصديق يشك في وجود تلك الروح، أو يظن أنها بعض ما يجري فيه الكلام في مجالس بني الطين. . . وما كان شعره فيها إلا صلوات قدسية تتنزل عليه من عليين، وهي كعبقريته، أمر لا يعلق به شك إلا في رؤوس الجاحدين والهازلين.
وألح عليه صاحب آخر أن يطربنا ببعض ترانيمه، فتفرس في وجهي يتبين: أأنا ممن تبدو عليهم مخايل الفطنة، أم أنا من الذين لا يفهمون. . . ولعله كان أقرب إلى الأولى، إذ قد أخذ يسمعنا من شعره. . وأشهد لقد وقعت منه على كلام من السحر الحلال تتقطع دون بلاغته الأوهام. . . ولكم وددت لو أني استطعت أن احفظ شيئاً منه، على أني أذكر من أوصافه ما لست أشك لو ذكرتها لك أنك كنت ترى معي أنها آيات من الفن تقصر عنها بدائع ابن هانيء وروائع بشار؛ ويتخاذل دونها فن الطائي وسحر الوليد ومعجز احمد وبدع ابن الرومي وقدرة شيخ المعرة. . . دع عنك شوقي وجيل شوقي ومن خلا من قبله في مصر ومن خلف من بعده من الشعراء. . . وليس يهمه أن ينكر الأغفال في هذا الجيل أسلوبه ومعانيه، فليس عليه أن يُفهم من لا يفهمون
وإنه لينكر على شوقي ما توافى له من ذهاب الصيت، ويستكثر عليه لقبه الذي عرف به، ويعزو ذلك أيضاً إلى غفلة هذا الجيل، وتتحرك في نفسه العبقرية، فيتساءل: ماذا يجد(344/29)
الإنسان لشوقي من الشعر الحق، ولقد كان كلامه مرثيات ومدائح لا روح فيها؟ ولعله لم يقرأ فيما أرى شعر شوقي، ولست أدري، فلعل هذا كذلك سر من أسرار العبقرية. وتوسلنا إلى الشاعر أن يجود على الناس بنشر ما أسمعنا فرفض قائلاً: إنه يضيق بهؤلاء الناس حتى ليودّ ألا ينظم بعد اليوم بيتاً من الشعر. . . فتوسلنا إليه ألا يفعل حرصاً على دولة الشعر، وإشفاقاً على مكانة العربية. . .
(عين)(344/30)
وحي الذكرى والحنين
(ابنة تناجي أباها بمناسبة مرور العام الثاني على وفاته)
للسيدة وداد صادق عنبر
في ظلام ذلك الليل الدامس، وفي صدى سكونه المهيب، جلست مطرقة أفكر فيك وكل فكري دمع، وأبكيك وكل دمعي فكر، فريسة ذكراك، وقد طال حتى حسبت أن ليس له صباح. فيا لطول الليل على حزن الثكلى! ويا لحزن الثكلى من طول الليل!
جلست لمناجاتك فدعوتك أبتاه!. . .
وأجبتني كعهدي بك في الدنيا حاضر الابتسامة حين تخصني بالحديث في كثير من أوقاتك، ترفرف علينا أثناءها العناية الإلهية وقد عادت حدب أبوة وبرَّ بنوة. فوا أسفاه على تلك النعمة السابغة الذيل التي ما تمتعت بها طويلاً حتى بكيت متفجعة على فقدها ورزئت بسلبها، ولولا إيماني بسالبها القدير لأكبرت على القدر أن يفجعني فيك
أجل. لولا إيماني لأكبرت عليه أن يفجعني فيك وقد كنت سكناً لقلبك كما كان قلبي سكناً لك. فيا لذاك البث الذي خيم على قلبي ونفسي معاً، والذي لم أجد لهما منه مخرجاً سوى وقوفي أمام قبرك العزيز، فقد أجد فيه بعضاً من سلواهما وبردهما، فأنفح جوه هتافاً باسمك ولثماً لرسمك، وأنفث عن حسرة مما يقدح الأسى على كبدك حين تحس أي جرح هذا الذي فتحه القدر في قلبي فهو لا يبرأ ولا يلتئم، وأي جمهرة من الآلام تركتها فجيعتي فيك في أطواء نفسي، وكل ألم منها في وقعه مني فن من العذاب أستعذب مذاقه ولا أرجو فراقه. وأي كتيبة من الأحزان تحمل علي في عزلتي وأيسرها يسحق النفس وبذورها، ويمحق الحياة ويمحوها. وأي ثورة في نفسي لا تسكن أبداً ولا تهدأ، ومناحة لا تنفض فهي في كل ساعة تبدأ، وأي ضغط ينعصر تحته قلبي الواهن المستطار فيظل على حاله واهناً مستطاراً، وأي همّ وغمّ أخذت به عن نفسي فأصبحت في شبه سكرة أو غمرة. . .
يا حر قلبي عليك من حر قلبك عليَّ! كنت في حياتك تحرص كل الحرص على ألا يسكب دمع من عيني لعارضة تحدث أو نازلة تكون، لأنك أحببتني حباً ضربته الأبوة أعلى مثل، بيد أنه أصبح مثلاً يتيماً من أنه ينظر إليه ولا يقاس عليه
على أن العهد بالحزن أن يرثّ على الزمن أو يبلى في القلب الحزين. وإني لأعيذ قلبي أن(344/31)
يرث أو يبلى في حزنه. على أنني أعود فأتخيلك وأنا ذاهلة على وعي قلقة على سكينة، مضطربة على قرار، مأخوذة على استقرار. أتخيلك في سنة نومي إذا دعوتك أجبتني فأدعوك، ثم أدعوك، وأتسمع عليك ثم أتسمع، فإذا هو القبر في سكتته، وإذا هو الحزن في فورته وثورته. وإذا بصدى دعاني يردد إلى نفسي خافتاً خافتاً
أبتاه:
إني لألمحك الساعة وأنا أكتب كلمتي في ذكراك الثانية، ألمحك من وراء قبرك، من وراء الموت، من وراء الزمن، من وراء الخلود، قاراً متضوئ النفس رضيها بما أزلفت في حياتك لقومك من برٍ هم به ذاكروك، وبما تلقى عند ربك من ثواب ما قدمت يداك لأمتك لا لنفسك فخلعت عليها شبابك ونبهت للمجد أترابك، ومن ثمَّ كانت خلاصة حياتك مثالاً سامياً من أمثلة الجهاد والعمل. فحملت نفسك وحمَّلتها غير عابئ بالمرض يداخلك من حيث لا تتقيه، ويهدُّ من صحتك ما لا يَرُمُّهُ العلاج ولا يبنيه
لا، بل ألمحك في آثارك الحية بين يدي وكل أثر منها هو قطعة من حياتك عليها طيفك يرف
وألمحك في أخي الوحيد (كمال) الذي كان كل همك حيَّاً وتركزت فيه آمالك وأحلامك، وقد تركته في هذه السن الصغيرة، ملقياً عليه أمانة هي ذلك العبء الثقيل الذي أراه في طريقه إلى النهوض به ناشط الكاهل مرجو لمخايل
ألا فنم هانئاً هادئاً مطمئناً فإنه وإن لم يبلغ مداك، فحسبه أن يسير على هداك
رحمك الله يا أبي بقدر ذلك النور الفياض الذي نقتبس منه طريقنا السوي، وأنال ولدك الحظ الذي أملته، وأمطر جسدك الكريم وابلاً من فيض رحمته، وألهمنا بقدر مصابنا فيك السلوى
وإلى يوم الملتقى عليك مني السلام
ابنتك البارة
وداد صادق عنبر(344/32)
الأدب في سير أعلامه
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
وانصرف بيرون في كمبردج عن دروسه كما كان يفعل في هارو وراح يقرأ ما تحب نفسه من الكتب، وأخذ يتسلى بنظم الشعر في شتى المناسبات؛ ولقد اصطفى فريقاً من الصحاب في الجامعة كما فعل في المدرسة، وظل في الجامعة حريصاً على أن تكون له الزعامة على من هم دونه في السن. وأحب في الجامعة شيئاً واحداً وذلك هو حياتها الحرة الخالية من قيود المدرسة، وعاش في سعة بما أتيح له من المال، وبسط يده لإخوانه كل البسط، وكان من الأمور الشائعة يومئذ لعب الورق وشرب الخمر، حتى لقد كان يعرف الشاب بمقدار ما يشرب من الراح في جلسة، وبمبلغ حذقه في اللعب أكثر ما يعرف بما يحصل من درسه؛ وكان طبيعياً أن يجاري شاب مثل بيرون أقرانه فيما انغمسوا فيه، وإن كان يكره الخمر بطبعه؛ وأقبل الشاب على حياة اللهو، لا يتقيد بعرف ولا يهتم بلوم، حتى نفد ماله، فاستدان بضع مئات. ولما ضاق نطاق الجامعة عن لهوه استأجر مسكناً خارج أسوارها، واتخذ له خليلة ألبسها ملابس الرجال وادعى أنها أخ له، وأطلق لحياة المجون عنانه؛ فهل كان يريد بهذا العبث أن يسخر سخرية عملية من الحب وأحلام الحب، أم هل كان يجري فيه على ما ورث من آبائه من خلال؟ الحق أننا نستطيع أن نرد ما أسرف فيه على نفسه من اللهو إلى الأمرين معاً؛ ونستطيع كذلك أن نضيف إليهما ولعه بالرياضة التي جعلها بعض لهوه، وكان يريد من الرياضة أن يكتنز لحمه فيضمر جسمه، لأنه كان أميل إلى البدانة، وكان كرهه للبدانة شديداً؛ وكانت أحب ضروب الرياضة إليه السباحة التي كان يجيدها والملاكمة التي أخذ يتعلمها على أحد كبار معلميها.
ولما انتهى العام ترك بيرون الجامعة وذهب إلى سوثول حيث كانت تقيم أمه، فما أن وقع بصرها عليه حتى ثارت في وجهه وقذفته بما كان في يدها، فعول على الرحيل مسرعاً وقد(344/33)
كانت له يومئذ مركبة اشتراها فركبها مع أحد أصدقائه وركب إلى جانب السائق خادم، له واصطحب معه كلبيه وكان يحبهما أشد الحب، وغاب زمناً عن أمه حتى أنفق ماله فعاد إليها على رغمه
وتغيب عن الجامعة عاماً جمع فيه شعره بإشارة من فتاة كان قد تعرف إليها في سوثول حين ذهب إليها أول مرة مع أمه وكانت تحترمه وتكبره فاطمأن إليها؛ ولما تم له جمع قصائده دفعها إلى ناشر تحت عنوان (ساعات الكسل) وذهب إلى لندن ليشرف بنفسه على بيع ذلك الكتيب، وكان مما يشبع كبرياءه أن يرى اسمه في (فترينات) بائعي الكتب؛ وراح يترقب ما عسى أن تنشر الصحف من نقد لشعره، ولما عاد إلى الجامعة كان يطرب فؤاده لما يسمعه من ذيوع شعره بين طلابها؛ على أن هذا الشعر يومئذ لم يكن من النوع الذي يبشر بمستقبل عظيم. وما لبث بيرون أن سمع أن صحيفة أدنبرج حملت عليه حملة شديدة، ولامته على نشر مثل هذا العبث، وكان بيرون في التاسعة عشرة وفد أشار إلى سنه في مقدمة كتابه، فعدت الصحيفة ذلك منه توقياً للنقد فأشارت إلى ذلك المعنى في حملتها عليه ذاكرة أن كثيرين غيره نشروا قصائد وهم في سن مثل سنه أو أصغر منها فكانت خيراً من قصائده كثيراً. ماذا يفعل ذلك المتمرد تلقاء هذا النقد الشديد؟ لقد ثقل عليه الهم أول الأمر، لقد كان يضيق بالحياة بعد ما كان بينه وبين ماري، وظن أن سيكون له في الشعر من ذهاب الصيت ما يتأسى به وما يتخذ به فخراً يرفع به رأسه ويدرأ به عن نفسه بعض الخزي الذي كان يلحقه من عاهته والذي ظل ملازماً له كما يتجلى ذلك في حديث له يومئذ مع قسيس في سوثول كان يجادله ويذكره بما من به عليه خالقه من نعم منها أنه وهبه عقلاً يسمو به على الناس، وكان جواب بيرون أنه يسمو بعقله عن الناس ولكنه ينحط برجله عنهم
ماذا يفعل ذلك المتكبر المحنق؟ لقد فكر أن يرد لتوه على هذا النقد بقصيدة ثائرة، ولكنه عاد فآثر التمهل ليكون رده محكماً وليفرغ فيه كل ما يجيش في نفسه، وأخذ ينظم وقلبه مملوء بالغيظ والحقد على ناقده وعلى شعراء عصره جميعاً
وأخلى اللورد جراي قصر نيوستد فذهب اللورد بيرون ليقيم فيه وكانت يد البلى قد شوهت جمال ذلك القصر القديم؛ على أن الشاعر ظل على الرغم من ذلك شديد الحب له(344/34)
والإعجاب به، وكان أول ما التفت إليه عقب عودته شجرته الحبيبة فأزال بيده ما التف بها من الحشائش وما عاق من نموها من متسلق العساليج، وعاش في عزلة عن جيرانه فلا يرد لهم مودتهم ليقطعوها، فإنه بالناس برم منذ يفاعته، على أنه لم يستطع أن يرفض دعوة وجهت إليه من نيوستد فذهب ليرى مارى وقد تزوجت وصار لها طفلة صغيرة وكأنه لم يبتعد عنها أكثر من يوم فلقد نبض قلبه وهو إلى جوارها بما كان ينبض به أمس، وحاول الكلام فلم يطاوعه لسانه إلا بعبارات متقطعة لا معنى لها، وعاد لهفان إلى قصره يلذع الأسى قلبه ويتنازع الهم مشاعره فكتب لساعته قصيدة تعد من أروع قصائده تلمس فيها اللوعة في قوله
(ودعاً يا حبيبتي العزيزة: لابد لي من الرحيل، وما دمت أنت سعيدة فليس هناك ما يكربني، أما أن أبقى إلى جوارك فذلك ما لا أطيقه إذ سرعان ما يعود قلبي طوع يديك. . .
لقد طالما ظننت أن الزمن في دورانه، وأن ما فطرت عليه نفسي من فخار وكبرياء، كفيلان أن يخمدا في قلبي تلك الشعلة الثائرة شعلة الحب أو شعلة الطفولة، ولكنني لم أتبين حتى جلست إلى جانبك أن قلبي لم يزل في كل شيء هو هو. . . إلا من جهة واحدة. . . هي الأمل!
غير أنني على الرغم من ذلك جلست هادئاً بين يديك؛ نعم إني لم أنس تلك اللحظات التي كان يثب فيها قلبي بين ضلوعي عند لمحة من عينيك، أما الآن فالرعدة جريمة، ولذلك التقينا فلم ينبض فينا عرق. . .)
وعول الشاعر على مغادرة قصره الحبيب يلتمس الشفاء في رحلة طويلة في أنحاء القارة أو إلى الشرق، ولكنه بقي حتى يفرغ من كتيبه الذي كان ينظمه للرد على ناقده
واحتفل الشاعر في نيوستد في مستهل عام 1809 ببلوغه السن، فدعا إلى القصر بعض أصدقائه حيث أقاموا ليلة ساهرة صاخبة، ثم ذهب ليأخذ معقده في مجلس اللوردات فاستقبل استقبالاً فاتراً، وقد ذهب إليه بمفرده على خلاف التقاليد التي كانت تقضي بأن يذهب اللورد الجديد في حاشية من أهله أو من أصحابه؛ ولكن اللورد بيرون لم يجد من يصحبه، وسرعان ما ضاق بالمجلس ومن بالمجلس. وفرغ من كتبيه وقد نحا فيه منحى الشاعر بوب في الأسلوب والنزعة التهكمية وملأه بالهجوم العنيف على ناقده وعلى شعراء عصره(344/35)
لم يستثن منهم أحداً، وإنه ليتساءل كيف يحل لهم النقاد ما يحرمونه عليه؟ ونشر الكتيب فصادف من النجاح أكثر مما قدر له الشاعر الشاب، ولقد ظهرت فيه براعته في التهكم ولباقته في سوق الحج، وتجلت قوة عبارته وإشراق معانيه ولذع سخريته؛ واطمأن الشاعر إلى مكانته وقد ظهر على ناقد من أكبر نقاد العصر، وهو بعد في الحادية والعشرين من عمره، وأحس أنه شفى غليل نفسه فعاد من جديد يسرف في لهوه، وكان قد بات في شغل عن أكثره بما كان يملأ فؤاده من غل. ولم ير الشاعر آخر الأمر بداً من الرحيل فقد آده عبء ديونه، ومل اللهو بعد أن أسرف فيه على نفسه، ولذع الهم فؤاده لوجوده قرب ماري وما له إليها من سبيل اليوم. . . على أنه قبل أن يرحل دعا نفراً من خلانه في كمبردج إلى قصره فقضوا شهراً في العبث والمجون، وحسبك أنهم كانوا يديرون الراح جمجمة آدمية هي جمجمة قسيس أخرجت عظامه من الأرض فأس البستاني. وحان يوم الرحيل فلم يأس الشاعر على فراق أحد غير كلبه؛ ولم يجد حوله من يأسون على فراقه هو، فإنه لم ير أخته منذ فترة طويلة، ونال من نفسه أنه لم ير في وجوه صحابه ما يشعره أنهم يحزنون لسفره. وركب البحر وهو لا يعلم أين يذهب ولا متى يعود
وسافر معه من خلانه شاب يدعى هبهوس، فكانت لشبونة أول أرض نزلا بها، ومن لشبونة ذهبا إلى قادس، ومنها إلى جبل طارق؛ وكانت أسبانيا يومئذ في صراعها ضد نابليون، وكانت الجيوش الإنجليزية تساعد أهلها على الخلاص من نيره؛ وأعجب بيرون بشجاعة أهل أسبانيا بقدر ما أعجب بجمال طبيعتها
وركب وصديقه سفينة من جبل طارق فبلغا مالطة، ومنها توجها إلى ألبانيا حيث نزلا ضيفين على علي باشا وإلى يانينا، وشد ما أعجب بيرون ببسالة الألبانيين وبمظاهر الحياة الشرقية في قصر الباشا، وكان له من ذلك مادة غزيرة سوف تظهر فيما بعد في آثاره
وذهبا من ألبانيا إلى بلاد اليونان، موطن السحر والحكمة بلاد هوميروس وأفلاطون، وادي الأساطير الخالدة، ووقف الشاعر أمام آثارها يقضي أرب مشاعره مما تحدث من أخبارها وما توحي من معانيه. . . وتوجها بعد ذلك إلى القسطنطينية مدينة الشرق العظيمة، بيزنطة الساحرة ذات المجد التالد والجمال الطريف، وأنس بمظاهر الحياة في عاصمة العثمانيين. . .(344/36)
وعاد الشاعر إلى وطنه بعد أن قضى في هذه الرحلة زهاء عامين؛ عاد وفي جيبه قصيدة طويلة لم تكن إلا خلاصة مشاهداته في رحلته هذه؛ وتردد الشاعر في نشرها أياماً؛ ثم دفعها إلى صديق له يسأله رأيه فيها فألح الصديق عليه أن يذيعها في الناس فإنها لجديرة بذلك أي جدارة
وفعل بيرون ما أشار به الصديق، ولم تكد تتداول لندن هذا الكتيب الجديد، ويطلع أهلها على ما جاء به من وصف لهذه الرحلة، حتى كان اسم الشاعر اللورد على كل لسان، وفعلت بها براعة وصفه وحماسة شعره وقوة عاطفته ما يفعل السحر؛ وهكذا يتوافى للشاعر بهذا الكتيب الذي خاف من نشره أول الأمر من ذهاب الصيت ما لم يتواف لشاعر قبله؛ بل لقد حاز بيرون من الشهرة ما لم يحز رجل آخر في أي ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، حتى لقد شبه يومئذ بالشهاب اللامع، الذي يخطف بريقه الأبصار على حين غفلة، وقال هو يصف نفسه: (لقد أفقت ذات صباح فوجدتني من ذوي الشهرة)
منذ ذلك اليوم صار بيرون شاعر عصره في إنجلترا، فأخذ ينظم الشعر في سرعة عجيبة أدهشت الناس وحيرت النقاد، وسعى إليه كثير من ذوي المكانة يهنئونه ويثنون عليه، وأصبح يشار إليه في كل ناد، ويبتغي الوسيلة إلى مودته الشباب والكهول، وهو يزداد بذلك شهرة ويمتلئ قلبه زهواً وفخراً. ولم تكن إنجلترا يومئذ خلواً من الشعراء، حتى تعزى شهرة بيرون إلى أنه لم يكن في الميدان غيره؛ فقد كان في تلك البلاد عدد من فطاحل هذا الفن من أمثال: وردثورث، وكلردج، وسوذي، وتوماس مور، وكامبل، وشبلي وولتر سكوت، وغيرهم. وكان معظم هؤلاء أكبر سناً منه وأسبق في قرض الشعر
ولقد فاقت شهرة بيرون شهرة كل من هؤلاء جميعاً على الرغم مما كان لأكثرهم من سمو المكانة في الشعر مثل: وردثورث، وزميله كلردج. وليس معنى ذلك أنه بذهم في ذلك المضمار، فقد كان لكل منهم ناحية تفوق فيها، وإنما اتفق له من الصيت ما لم يتفق لأحدهم؛ الأمر الذي جعل ولتر سكوت على نباهة شأنه يومئذ يترك الشعر ويبحث لعبقريته عن مجال آخر هو مجال القصص قائلاً في صراحة إنه إنما يفعل ذلك لأن بيرون قد أخذ عليه طريق الشعر، وهو قول كان له وقعه في الأندية، وكان له كذلك أثره البعيد في تزايد شهرة الشاعر الشاب، الذي لم يكن يومئذ يزيد على الرابعة والعشرين من عمره(344/37)
على أن بعض النقاد يعزون ما أصاب بيرون من النجاح إلى عوامل أخرى تتصل بشخصه أكثر مما يعزون ذلك إلى جمال قصيدته؛ فهو شاب في ربيع العمر وهو يتمتع بلقب من اكبر ألقاب الدولة، وهو إلى ذلك جميل الصورة موفور الوجاهة. . . ولكن آخرين ينكرون على هؤلاء رأيهم هذا قائلين إنه نشر قصيدته قبل أن يعرف عنه كل ذلك اللهم إلا بين نفر قليلين من أصحابه. ويلتمس غير هؤلاء وهؤلاء أسباب شهرته هذه في موضوع قصيدته لا في قوة شاعريتها، فهي سياحة في القارة في وقت كانت تتجه فيه الأنظار إلى ما يجري فيها من حروب يبعثها نابليون في أنحائها. . . ولكن القصيدة لم تكن وصفاً لتلك الحروب حتى يصح هذا الرأي
فهل كان ما أصابت القصيدة من شهرة يرجع إلى قوة شاعرية صاحبها فحسب؟ إن الذين يقولون ذلك أيضاً بعيدون فيما نرى عن الإنصاف بعد سالفيهم، ولما كانت القصيدة أشهر حادث أدبي في حياة الشاعر وأحد العوامل الهامة في الحركة الأدبية يومئذ وجب أن نتبين حقيقة أسباب نجاحها على مثل هذه الصورة الفائقة
(يتبع)
الخفيف(344/38)
رسالة الشعر
نجوى
اذكري قلبي. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
اذكُري قلبي. . . فقد يَنْضَر من ذِكِراك عودي
أنا غُصنٌ في رياضِ الدَّهرِ ظمآنُ الصَّعيدِ
صوَّحتْني غُلّةُ الوجْدِ وأَجَّتْ في بُرودي
ومشتَ ناراً على أنوارِ زَهري ووُرودي
فهيَ أَلقاءٌ على أَرْضيَ آثارَ وقودِ
فاذكري قلبي. . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ كخيالِ السَّيفِ في وَهمِ الطريدِ
ناحلُ الشخصِ، قضيفُ العودِ، خُمصانُ الغُمودِ
لوّحتْني وَقْدَةُ الشمسِ على وجهي وجِيدي
كمْ شُعاعٍ غارَ في قَلبِيَ كالسهمِ السديدِ
عَبّ في مائي، فغاضَ الماءُ كالحُبِّ الشّرُودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ شاخصُ الطَّرْفِ إلى رِيٍّ بعيدِ
أَسَرَابٌ هُوَ أم ماءٌ؟ فيا ويحَ جُدودي!
أثْبتتني حيثُ أشتاقُ إلى الماءِ البَرُودِ
هِيَ أشواقٌ من الموتِ كأشواقِ الحَسودِ
ترَكتْني مُوقَدَ الغُلّةِ كالصَّبِّ الحَقُودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ حائرُ الأحلامِ كالنائِي الشريدِ
غُرْبةُ الرُّوحِ تَهاوتْ بي إلى أرْضِ الجُحودِ(344/39)
قذفتْنِي همةُ الأحرارِ في ذُلِّ العبيدِ
الصدَى، والجَدْبُ، والغرْبةُ، سجني وقيودي
مَزَّقتْ نَضرَةَ أيَّامِي بأنياب الخمودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غُصنٌ يُفزِعُ الفجرَ بليْلٍ من رُكود
يتلقّى مَوْلدَ الشمسِ بأحزانٍ هجُود
لوْ بكيَ عُودٌ من الوَحشة في ذُلِّ الوُجود
لأَذابتْ شَخصِيَ الآلامُ. . . كالدَّمع البَديدِ
أنكرتْني الشمسُ والفجرُ ودُولاتُ العهودِ
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
أنا غصنٌ فارَقتْه الطَّيْرُ رَبَّاتُ العُقودِ
مُسكِراتُ الزَّهرِ والنَّوْرِ بألحانِ النشيدِ
نغَمٌ همْسٌ كهمسِ الغيثِ للرّوْض المجُودِ
وشبابٌ ضاحكُ النُّورِ بترْجيعٍ فَريدِ
وأنا. . . الحسرة والأنَّاتُ لحْنِي ونشِيدي
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
غُصُنٌ عارٍ. . .، وأغصانكِ في بُرْدٍ جديدِ
قد كساكِ الرِّيُّ والنَّعمةُ من وَشْيِ البُرُودِ
وتَحلَّى عُودُكِ الريَّانُ نُوَّارَ الخُدُودِ
فإذا النشوَةُ هزَّتكِ بأنفاسي. . . فمِيدي
وإذا غَنَّاكِ ساقِي الطَّيْرِ لحْني أو قصيدي
فاذكري قلبي. . . فقد يَنضَر من ذِكراك عودي
محمود محمد شاكر(344/40)
من وحي الطبيعة المصرية
تحت الشراع
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
املئي أُذْني بألحان الصباحْ ... واسكُبي فيها شُعاعَ المغربِ
فشَذا العشبِ على الضِّفةِ فاحْ ... وتمشَّى في الأصيل المُذْهَب
وجرى النيلُ على تلك البطاحْ ... فضّةً قد مُزجتْ بالذَّهب
وشدا الملاحُ للركْبِ وراحْ ... يتلهَّى في شِراع المركَب. . .
اسمعي للنيل هَمْساً وخريراً ... مثلَ هَمْسِ الخائفِ المرتقب
موَّجتْه الريحُ. . . فارتدّ كسيراً ... كلُجينٍ ذائبٍ مُنْسكب
إن للموج شهيقاً وزفيراً ... كفؤاد العاشق المضطرب. . .
وجرى ماؤكَ يا نهرُ نَميراً ... سائغَ الطعم هنيَء المشرب
الغواني جِئنَ يملأنَ الجِرارا ... يَتَثنَّينَ كلُدْنِ القُضب
ويسابقن مع الطيرِ النهارا ... نُفُرَ الخَطوِ خِفافَ الموْثب
آه ما أجمل هاتيك العذراى ... رافلاتٍ في الثيابِ القُشب
آنساتٍ قد تكلَّفنَ الوقارا ... وتعلمن نِفارَ الربْرب
والضحى يَسكب في النهر لجينا ... فبدا مثلَ بياض السُّحُب
وإذا النهرُ كمرآة تُسنَّى ... في إطارٍ مُثْقلٍ بالعشُب
والنسيمُ الرطبُ فيها يتثنَّى ... ويوشِّيها بمثْلِ الحَبَب
وشدا الطيرُ على الماء وغنَّى ... فوقه من خِفَّةٍ أو طرب
وهنا الصفصاف منشور الذوائب ... كالعذارى النافراتِ العُرُب
وسوادُ الظل في الجدول ذائبْ ... كبياضٍ فاتن مختصب
ترتمي في حضنه تلك القواربْ ... هارباتٍ من لسان اللهب
يلتقي الأحبابُ فيه بالحبائبْ ... ويُثَنَّى جِدُّه باللعبِ
محمد عبد الغني حسن(344/41)
الأدب في أسبوع
الغذاء العقلي والروحي للشباب
ألقى الدكتور طه حسين في قاعة الجامعة الأمريكية كلمة أريد عليها، كما قال في أول كلامه، فاستغرقت هذه الكلمة من الوقت ساعة أو أشفّ قليلاً، افتتحت بالتصفيق الشديد للدكتور طه حسن خرج على الناس ليتكلم!!
ولستُ هنا في مقام التلخيص لهذه الكلمة، ولكني بالمكان الذي يجب عليَّ فيه أن أشقّ للقراءِ موضع الرأي الذي ينبغي لهم أن يشغلوا أفكارهم به ولو ساعةً من نهارٍ، كما شغل الدكتور طه سامعيه ساعةً من ليل يوم الاثنين 29 يناير سنة 1940. وليس في القراء الذين يعرفون الدكتور طه من يجهلُ أن أولّ ما يتكلم به الدكتور إِنْ هو إلا أن يجعل مَردّ كل شيء إلى (يونان) ومدن يونان. . . فلاشك إذن في أن أول نظام عرف للغذاء العقليّ والروحي للشباب، إنما كان في المدن اليونانية والحضارة اليونانية والعقلية اليونانية!! فهذا شيءٌ مفروغٌ منه قد جعله الدكتور طه مذهباً لا يحيدُ عنه، وأسلوباً لا يسُلك غيرَه، ولا بأس بذلك. . . فأنا أعتقد أن اختلاط المدنيات المتعاقبة على الأزمان المتقادمة، قد جعلت لصاحب الرأي سعةً يذهبُ فيها حيث يشاء. فلو قلت أنا مثلاً: إن أول نظامٍ عرفه التاريخ لتنظيم الغذاء الروحي والعقلي للشباب، إنما كان بالصين، وقد فصّله لنا ما بقي من آثار (كونفوشيوس) فيلسوف الصين الأكبر، لوجدت من الدليل ما أستطيع أن أقيم بها عوِجَ الرأي، وأردُّ به على مخالفيّ رد إِلزامٍ وخضوغٍ. . . وكيف لا أستطيع ذلك وفي كل كلمةٍ من كلام هذا الفيلسوف العظيم توجيهٌ لقوى الشاب الصينيّ إلى الخير المحض، وهو الذي يقول: (من حق الشاب أن ننظر إليه بعين الاحترام، فما يدرينا أن علمه في المستقبل سيكون فوق علمنا في الحاضر؟ أمّا من أسند في الأربعين أو الخمسين من عمره ولم يشتهر بعلمٍ من العلوم، فلا يستحق أن ننظر إليه بعين الاحترام). وقد جَعَل كل جهده في تدبير شؤون الدولة الصينية؛ يقول: (إن الاضطراب قد مزّق البلاد بالفوضى، فمن الذي يُعيدُ نظامها)، (لا يمكن أن أعاشر الطيور والوحوش. . . وإذا أنا لم أعاشر هذه الأمة، فمن أعاشر؟ لو كانت البلاد تحت سياسة عادلة لما كنت في حاجة إلى أن أُحاول إعادة نظامها). . .(344/43)
هذا وغيره من تاريخ الأمة الصينية وتاريخ فيلسوفها يعلمنا أن أول نظام كما إنما كان بالصين؛ فإن شئت أن أقول الهند وأسوق الدليل فعلت. فأنت ترى أن المذهب يتسع في الحضارات القديمة لكل رأي يحتمل به صاحبه إن شاء. واليونان من الأمم القديمة ذاتِ الحضارات القديمة، وإنما نفَعَها وجعَلَها مثابة لبحثِ كلُّ باحثٍ يريدُ أن يردّ إليها مذهباً من المذاهب، بقاءُ كثير من آثارها، ثم قيام أوربا الحديثة بإحياء ما ظمّ عليه الزمن من مدنيتها، وأخفى أمر الحضارات الأخرى ضياع أكثر آثارها أو بقاؤها في قبر من الإهمال والنسيان، وهمود النشاط في البلاد الشرقية التي هي أحق بإحياء آثارها. هذا قليل من كثير يمكن أن يقال في مثل هذا الأمر من أمور التاريخ القديم
وبعد هذه المقدمة، ساق الدكتور طه حديثه ببراعته التي لا يستعصي عليها غامض ولا بعيد ولا متشامخ. وأنا وإن كنت أظن أن الدكتور طه لم يوفق في كلمته كل التوفيق ولم يمس أغراضها إلا مسَّاً رفيقاً غامضاً بعيداً، فإني أعترف بأنه قد استطاع بحسن تحدُّره في المعاني أن يثير من الآراء ما يجبُ أن يُثَار في أفكار هذا الجيل، حتى يمكن بعد ذلك أن نستصلح من أمورنا ما أفسده طغيان الجهل واستبداد الحاكمين، وتوالي المصائب المرهقة على شعب نائم لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أسبابها، ولا أن يذُودَ الوحوش الضاربة التي فَرَضتْ عليه بالاستعباد أقسى ما يمكن أن تبتدعه من ضروب الفتك والعدوان
الدولة والثقافة
فأهم ما تناوله الدكتور في حديثه هذا هو بيانُ موقف الحكومة من الأمة التي رضيتها أن تقبضَ على زمام الأمر فيها تصرفه بما ينفع الناس ويزيدهم قوة على قوتهم. فالأمم كلها قد أسلمت إلى حكوماتها أمر القيام على الثقافة والتعليم، وأعطتها من حُرِّ مالها ما تستطيع أن تنشئ به نظاماً كاملاً للتعليم يكون فيه رضي الشعب وحياطته وتوفير أسباب النهوض العقلي له، وحماية أفراده من أمراض الجهل وأوبئته التي تهد قوى الشعوب وتفتك بالعقول التي خلقها الله لتعمل في تدبير الحياة الإنسانية للوصول بها إلى الكمال الممكن على هذه الأرض
وإذا كانت الحكومة - أو الحكومات - تأخذ من الشعب الأموال المتوافرة الكثيرة بالضرائب التي تفرضها عليه في كثير من مرافق حياته كتجارته وزراعته، لتتخذ هذه(344/44)
الأموال في تدبير الجيش وإعداده وتسليحه وتقويته ليدفع عن الأمة شر المطامع الأجنبية التي لا تلبث أن تغزو البلاد إذا وجدت منه ثغراً مُضاعاً تنفذ إليه منه؛ فمن العبث أن تهمل شأن الفرد الذي يقوم به معنى الجيش، والذي هو المدد الأول للجيش بروحه وعقيدته وفكره وقوته. فالجيش الذي يتكون ويتجمع من شعب جاهل معذب بالجهل محطم بالضعف العقلي والخلقي، لا يمكن أن يكون جيشاً مؤتمناً على ثغور البلاد يحميها من غوائل الحروب
الأغنياء والفقراء
وإذا كانت الحكومات جميعاً لا تفرِّقُ في إمداد الجيش بين طبقات الشعب كلها ناظرة إلى الغنى والفقر، فمن الخطل الذي ليس بعده خطلٌ أن يقوم نظام تعليم هذا الشعب على التفريق بين الغني والفقير؛ فكلاهما قد فرض عليه أن يبذل دمه وماله وقوته وجهده في الدفاع عن أوطانه التي تحكمها هذه الحكومة؛ فمن حقه على الحكومة أن تمده بالأسباب التي يستطيع أن يدافع بها عن هذا الوطن. والأسلحة المختلفة هي بعض أدوات الدفاع، ولكن الأداة الكبرى في الدفاع إنما هي الرجل الذي يحمل هذه الأسلحة، فيجب أن ينصرف أعظم هَمِّها إلى أحياء الرجل في طبقات الشعب غنيها وفقيرها على السواء بالحرص على إعطاء الشعب غذاءه كاملاً من الألوان المختلفة من الثقافات المتعددة، كلٌّ على قدر طاقته ورغبته واستعداده، مكفولاً له الحرية في الاختيار مع التسديد والحياطة والنصح
والحكومة حين تنظر إلى قوى الدفاع تفرض الضرائب على نسبة الأموال التي يملكها الشعب غير مفرقة بين الغني والفقير في نسبة الضريبة التي تتقاضاها منه اقتساراً وفريضة، فكذلك يشترك الغني والفقير على السواء في تحمل واجبات الحرب. فأولى إذن أن يشترك الغني والفقير معاً في القيام بأعباء التعليم والثقافة ونشرهما والمساواة في منحهما للغني والفقير على المساواة بغير تفريق. وليست تفرق الحكومات على الحقيقة بين الغني والفقير بقانون موضوع، وإنما هي تفرق بما هو أعظم خطراً من القانون الوضعي لأنه قانون الطبيعة وقانون القدر. فالغني يستطيع أن يدخل أبناءه جميعاً بيوت العلم من الابتدائي إلى العالي مستعيناً على ذلك بماله الذي استخلفه الله عليه، والفقير لا يستطيع أن يفعل مثل ذلك فيبقي أبناءه طعاماً للجهل الضاري وبقايا من فرائس الفقر المتوحش(344/45)
ومن العجيب الذي لا يعجب إلا منه أن يكون في أمة من الأمم رجل تفضي إليه ثلاثة آلاف جنيه في العام، وليس له من الولد إلا ثلاثة أو أربعة يتكلف في تعليمهم ما لا يزيد عن مائة جنيه في العام كله، ورجل آخر يكون مالاً يدخل عليه مائتا جنيه في العام وله من الولد مثل الذي للأول فهو يدفع مائة مثل مائته أي نصف دخله! فما بالك إذن بالذين ينصبّ عليهم من الأموال ما لا يستطيعون التصرف فيه إلا أن يسفكوه على اللذات والمنكرات من النساء والخمر والقمار وحالقات المال والخُلُق وليس لهم ولدٌ، ثم يكون في الأمة آلاف مركومة من الإنسانية إلى ملايين تنسل وتلد وتمد الأمة بأسباب حياتها من الأبناء والبنات ولا يملك أحدهم ما يقوت به نفسه فضلاً عما يقوت به ولده، فضلاً عما يدفعه لوزارة المعارف أجراً للتعليم. . .! إذن فواجب الأمة أن تحمل الحكومات على تغيير نظام التعليم ونظام الضرائب، فتحصل الضرائب من الشعب كله على نسبة رأس المال والدخل، ليستخدم هذا المال المجموع من الضريبة في تعليم الشعب كله على المساواة بين غنيه وفقيره، ويلغى من وزارة المعارف نظام التحصيل، (تحصيل المصروفات المدرسية من أولياء أمور التلاميذ)! ويكون التعليم كله من أوله إلى نهايته مجاناً مبذولاً معرضاً لكل مستطيع وطالب وراغب بغير تفريق
وأحب أن أقول للدكتور طه، ولغيره من كتابنا، إنه حقٌّ عليهم أن يقوموا بالدعوة، وبالكتابة في مثل هذا الغرض النبيل الذي ينفع الناس ويرفع عن أعناقهم نِير العبودية التي يفرضها الجهل مرة والفقر مرات كثيرة. فإن كلمة الدكتور طه التي ألقاها، إنما سمعها عدد من الناس - أكبر الظن فيهم انهم قد طرحوا عبء التفكير فيها حين خرجوا من باب (قاعة يورت التذكارية)، كما تطرح الأعباء المثقلة. وليس شيء يحمل الحكومة على الجادة وعلى سواء السبيل كالصحافة وكتابها إذا أخلصت وتطهرت من الغرض والهوى والحقد والبغي والعدوان. . . فهل يمكن أن يكون هذا في مصر؟
فإن تسألينا: كيف نحن؟ فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحَّرِ
عناصر الثقافة المصرية
وقد حدد الدكتور طه ألوان الغذاء الروحي والعقلي الذي يجب أن يقدم للشباب، فجعله مركباً من ثلاثة عناصر: العنصر المتحدرُ من تاريخ مصر القديم - الفرعوني - وهو(344/46)
الفن؛ والعنصر المتغلغل في مصر الإسلامية، وهو الدين والأدب والفن العربي الإسلامي؛ والعنصر المتلبس بحياتنا الحاضرة منذ اتصلنا بغيرنا من الأمم التي نتعاون معها أو ننافسها، وهو العنصر الأوربي الجديد، وسترى بعد ما هو عند الدكتور طه
أما العنصر الأول، وهو الفن الفرعوني القديم، فأنا أدعه للكلمة الآتية، فإن اللَّبس كثير فيه، وقد زلّ على مزالقه أكثر أصحابنا ممن فُتنوا به عن صواب الرأي. وأنا أحب أن أتناوله بالبيان الذي يدفع عن مصر شرّاً كثيراً ويحقق لها ما نتمناه جميعاً من الخير
وأما العنصر الإسلامي من الدين والأدب والفن، فقد أجاد الدكتور طه في الدعوة إلى العناية به لأنه أصل المدنية، ومن جَهِل في بلاد مصر - أو بلاد العربية على اختلافها - تاريخ الإسلام فقد حطّ في مَهوىً ينقطع به حبله الذي يصله إلى قومه وإلى حضارته وإلى مستقبل هذه الحضارة التي سوف تنبعث بنورها مرة ثانية في جنبات الشرق فيما أرى. ولكن الدكتور طه بعد أن تكلم عن الاجتماع العربي أو الإسلامي الذي عاشت عليه الأمة المصرية هذه الأجيال ولم تجد به بأساً - كما يقول - عاد فاستدرك عليه بقوله: (بشرط أن يتابع تطور المدنية الحديثة). فأنا والدكتور طه وكل عربي قد درِب بالحضارة وجرَّبها يعرف أن البناء الاجتماعي هو أصل المدينة، وأن الاجتماع إذا صلح استطاعت كل القوى أن تعمل في بناء الحضارة بعقائدها وآرائها وإيمانها وفلسفتها؛ فإذا أردنا أن نجعل النظام الاجتماعي الإسلامي في العمل والتشريع والسياسة هو النظام فمن الخطأ الذاهب في الفساد أن نخضعه لتطور مدنية أخرى قد بُني اجتماعها على المسيحية في التشريع والسياسة والأخلاق. فمصر والشرق الإسلامي إذا أراد أن ينهض فلا بد له - كما قال الدكتور طه - أن يستمد نهضته من أصول الاجتماع الذي يربطه به التاريخ والدم والوطن واللسان والدين والوراثة، وإذا ساير فإنما يساير في فكرة مطلقة وهي (النهضة والحضارة والمدنية الإنسانية) على الطريق الذي يوافق طبيعة هذا الاجتماع. أما المدنية الحديثة فقد بنيت على غير ذلك وقد تطورت على أصوله؛ وليس بعد خطبة الملك جورج ملك الإنجليز ما يدع موضعاً للشك، فقد خطب الملك يوم 25 ديسمبر سنة 1939 في الاحتفال بعيد ميلاد المسيح - صلوات الله عليه - فذكر الاتحاد الإنجليزي الفرنسي للحرب ضد ألمانيا النازية فكان مما جاء في خطبته (ترجمة الأهرام): (إني أومن من أعماق قلبي بأن القضية التي(344/47)
تربط شعوبي معاً، وتربطنا بحلفائنا المخلصين الأمجاد هي (قضية المدنية المسيحية). وليس ثمة قاعدة أخرى يمكن أن تبنى عليها مدنية صحيحة)
ونحن ننظر إلى المدنية الأوربية هذا النظر، وكلام الملك جورج هو من أدق التصوير لحقيقة الحضارة الأوربية في نظر كل باحث نصراني أو يهودي أو مسلم. فإذا أردنا أن نتابع تطوّر هذا الضرب من المدنية بتبديل اجتماعنا - الذي دعا إليه الدكتور طه في حديثه - ليطابقه؛ فكأنما ندعو إلى (تنصير الإسلام). وما أظن الدكتور طه يرضى أن نصير هذا المصير!
والعجيب بعد ذلك أن يذكر الدكتور طه العنصر الثالث وهو الحضارة الحديثة الأوربية، فلا يدعو إلى الأخذ بشيء مما فيها دعوة صريحة إلا في الذي يتصل بالخلق ليكون عندنا الرجل الصريح الذي يتحرى ألا يكذب نفسه قبل اجتنابه الكذب على الناس، والرجل الذي يستطيع أن يقول: (لا) أو (نعم) حين يريد أن يقولها، لا حين يكره عليها!!
ألا إن أخلاق المدنية الأوربية قد استعلنت جميعها في هذا البغي المتفجر في الحرب التي لا يعلم خَبْأها إلا عالم الغيب والشهادة، وإن أردنا أن نأخذ - أي نقلد - فلنأخذ من تاريخنا، من ديننا، من أخلاق رجالنا. . . من الذين استطاع أحدهم أن ينكر على عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ويقول له: (أتق الله يا عمر) فيقوم رجل يستأذن عمر في أن يأمره فيه بأمره، فينهاه عمر ويقول: (دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم). فالرجولة هنا ليست أن يقول الرجل، ولكن أن يتقبل صاحب السلطان هذا القول بالخضوع والرضا؛ فهل فينا من يقبلها يا دكتور طه. . .؟
أو في النفاق الأوربي المتلبس بالرجولة طبقاً للمنافع في أكثر أمره إلا مَنْ عصم الله. . .؟ لا أدري
محمود محمد شاكر(344/48)
رسالة الفن
من أسرار الفن
بطلة شارلي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- تحدثت الصحف كثيراً عن الفلم الذي يخرجه شارلي شابلن الآن، وعينت موضوعه، وقالت إنه سيتناول حياة الديكتاتور هتلر، وزادت بعضها فسردت ملخصاً للفلم. وقد أهتم العالم كله بأنباء هذا الفلم لأنه سيكون الحرب التي يشنها الفن على القوة. . . ولكن هذا الاهتمام الكبير لم يتجه منه ولا جانب تافه إلى بطلة هذا الفيلم. . . ألست ترى شارلي مقصراً في الدعاية لبطلته، وأن الذي يدفعه إلى هذا التقصير أنانية في نفسه.
- يجب عليك أن تعلمي قبل كل شيء أن شارلي ليس هو المسئول عن هذا، فهو فيما أعتقد أبعد الناس عن الدعاية لأنه أقرب الناس من الفن الصادق. ثم يجب عليك أن تعلمي بعد ذلك أن حياة هتلر خالية من المرأة فيما يرى الناس. فإذا علمت هذا وذاك فإني أظنك ستعودين وتعتذرين لشارلي عن اتهامك إياه بالأنانية لأنه لم يقم الدنيا ويقعدها من أجل ممثلة تافهة سيمنحها المجد حين يبيح لها أن تقف إلى جانبه. . .
- يا سلام! أوليست هذه الممثلة التافهة هي التي سيبلغ بها نصف النجاح الذي ينشده؟ إنه رجل غدار لا وفاء له. وأكثر من هذا أنه يقصر حتى في أيسر المجالات
- بل إن شارلي متسامح. ويكفيه تسامحاً أنه لا يزال بسمح للنساء أن يظهرن على يديه، وأن يرقين إلى المجد على كتفيه، مع أنه بلغ بالمرأة كل الآلام التي تغمره. . . إنه رجل غفار، لا حقد عنده وأكثر من هذا أنه يجامل حتى في المعارك التي يخوضها في حياته. . .
- أية معارك هذه التي يخوضها شارلي في حياته؟
- كل أعماله معارك، وكل رواياته مواقع. وهو ينتصر فيها جميعاً، ويأبى دائماً إلا أن تكون إلى جانبه في كل نصر واحدة من بنات حواء، ينتشلها من غياهب الخمول انتشالاً وسموا بها إلى آفاق الذكر سمواً، ثم يرى نفسه مضطراً بعد ذلك إلى أن يتركها وأن يدعو(344/49)
غيرها. . . فله في كل رواية بطلة. . .
- إن هذا هو ما أعيبه فيه. فقد كان يجب عليه أن تكون له بطلة واحدة يفهمها تمام الفهم، ويحملها بمقدرته على أن تفهمه تمام الفهم، ثم لا يتركها ولا تتركه، فإذا كان قد عجز عن هذا لسبب من الأسباب فلم يكن عليه أقل من أن يعنى باختيار بطلة من المشهود لهن بالنبوغ تقف أمامه في أفلامه. . . فهكذا يفعل كل الممثلين الكبار في كل زمان ومكان. . . فلماذا لا يفعله هو إذا لم يكن الحقد يأكل قلبه، أو إذا لم يكن يخاف أن تكتسحه ممثلة قادرة؟
- وهل تعتقدين أنت أن الله خلق ممثلة تستطيع أن تكتسح شارلي؟ أنا لا أظن ذلك
- إذن فلماذا لا يقف أمام ممثلة نابغة؟ أهو أعظم من جورج آرليس، ووالاس بيري، وبول موني، وهاري بور، وشارلس لاوتون. . .
- ما أبعد الفرق بين هؤلاء وبين شارلي. . . هؤلاء كل منهم يمثل ذاتاً حدثت في زمن ما وفي مكان ما، أما هو فيمثل النكرة الذي يعرفه كل زمان وكل مكان
- وهل كان هتلر نكرة حتى يمثله؟
- إنه على الرغم مما فيه من شر فهتلر معرفة، ولكنه أصاب ذيوع تلك النكرة
- واعتماداً على شهرة هتلر واهتمام العالم بما يثيره فيه فإن شارلي يهمل بطلته. . .
- من قال هذا؟ إنه يهدي إلى العالم في كل فلم بطلة. . .
- إن هذا الجود وهذا الكرم مرجعهما عجزه عن أن يحتفظ لنفسه بواحدة
- بل هو عجزهن جميعاً عن البقاء إلى جانبه
- معذورات! فهو عجوز شاخ
- وما هذا عند التي تريد شارلي! شارلي الذي تحبه الدنيا ولم تشبع منه ولن تشبع. ألا تقبل امرأة واحدة من عرفهن أن تحتفظ به؟ حقاً إن للمرأة ذوقاً لا أدرك كنهه
- لعل شارلي الذي تحبه الدنيا غير شارلي الذي تجده المرأة في البيت. . .
- من غير شك، وإن شارلي الذي تجده المرأة في البيت لهو أروع بكثير من شارلي الذي يعرفه العالم. فهو فنان، وحياته خارج الأستوديو إنما هي تحضير لحياته داخل الأستوديو، فلو أن شارلي وجد التي تحب هذا التحضير كما تحب الوقوف إلى جانبه أمام الكاميرا لوهب لها حياته، ولوهب لها ماله ولوهب لها فنه، ولوهب لها نفسه مختاراً ومجبراً. . .(344/50)
ولكن شارلي لم يجد هذه الفنانة بين اللواتي عملن معه، وبين اللواتي تزوج منهن، فهو معذور إذا تولى بالتبديل والتغيير بطلاته، وإذا فر من زوجاته. فبطلاته يتعشقنه في عمله يردن منه أن يربحن الثروة والمجد، وزوجاته يتعشقن اسمه وجاهه وغناه ويردن منه بعد ذلك أن يكون خارج عمله لهن هن لا لهذه الدنيا التي يستخلص منها مادة فنه
- أليس هذا حق المرأة على زوجها. . .؟
- قد يكون من حق المرأة على زوجها أن تستخلصه لنفسها إذا لم يكن زوجها فناناً صاحب رسالة. أما إذا كان زوجها مشغولاً حتى عن نفسه بما في الكون من آيات وبدائع، وإذا يعيش في هذه الدنيا مباحاً لكل من يريد أن يتذوقه وأن يأخذ منه، فلماذا لا تنكب عليه هي تستوعب كل ما يمكنها أن تستوعبه منه. . . ولماذا لا تجد في فنه المتعة. . . لماذا؟ إلا أن تكون نفسها عاجزة عن تذوق الفن والاستمتاع به. . .
- وهل تريد من زوجة الفنان أو من تلميذته أن تقضي معه الحياة متنقلة من ملحوظة إلى ملحوظة، ومن عبرة إلى عبرة، ومن أغنية إلى أغنية، ومن قصيدة إلى قصيدة. . . ولا يكون لها منه ذلك؟
- وماذا تريد منه غير ذلك؟
- تريده هو؟
- وأي شيء فيه هو غير ذلك؟
- فيه أنه رجل، وأنها امرأة
- وإنه رجل وإنها امرأة. . . أوأنكر أحد ذلك؟
- إنه هو الذي ينكره. . . فهو فيما أظن لا يكاد يقيم علاقته مع صاحبته حتى يحسب أنه قد تم له ما يريد من الاستيلاء عليها، ثم يعمد بعد ذلك إلى ما يرضيه هو لا ما يرضيها هي. . . فهو يكثر معها من الحديث عما يراه في الدنيا وفي الكون وفي الملكوت. . . يحدثها عن النجوم والشموس والصراصير والنمل، وقد لا يخطر على باله طول السنين أن يذكر جمالها بكلمة، أو أن يمدح ثوباً من ثيابها أو أن يطري بعض زينتها ناسياً في هذا أن المرأة مخلوق لا يطيق الحياة وحده، وأنها تفزع كل الفرع ما لم تحس التهافت عليها. . . إنها يا أخي قد خلقها الله لغيرها. . . خلقها للرجل وهي لا تقوم بذاتها(344/51)
- آمنت بالله، وبهذا لحق الذي تذكرين وما أقل ما تذكرين من الحق. . . ولكن ألا ترين يا سيدتي ويا تاج رأسي أن الرجل إذا تزوج من امرأة كان هذا منه كافياً يشهد بأنه معجب بها وبذوقها وبجمالها وبملابسها وبزينتها. . . ثم ألا ترين أنه إذا اختار تلميذة له فوجه إليها اهتمامه وجهوده كان هذا منه كافياً أيضاً يشهد بأنه راض عنها وعن كيانها بما فيه عقلها وجسمها وعلى الخصوص إذا كانت هذه التلميذة ممثلة ممن يلقن أن يكن بطلات في أفلام شارلي. . . إني أعتقد أن هذه الشهادة تكفي، وأنه لا داعي بعد ذلك يدعو شارلي أو غيره من الرجال إذا استيقظ من النوم في الصباح أن يقول لامرأته: ما أبهاك وما أروعك؛ وإذا عاد إليها في المساء أن يقول لها: ما أحلاك وما أجملك؛ وإذا صحبها في عمل أو في لهو أن يقول لها: ما أذكاك وما أبدعك. . . ألا ترين أن هذا لا يمكن أن يكون إلا خداعاً لا طعم له. . . إنني أرى في الصمت والهدوء علامة من علامات الرضى، وأحسب أن شارلي كذلك، فهو ما دام صامتاً وهادئاً مع زوجه أو تلميذته كان معنى هذا أنه راض عنها، وأظن أنه إذا رأى فيها عوجاً لفتها إليه. . . وهكذا يجب أن تكون حياة الناس. . . أساسها التسليم والرضا الصامتان لا تبادل الإطراء والمخادعة. . .
- إنك تقول هذا لأنك خائب مثلما أن شارلي خائب فأنا منذ رماني الدهر في طريقك لم أسمع منك كلمة واحدة ترضيني ولم أجد عندك إلا الكلام الذي يسمم البدن ويكسر النفس. . . تذكر شارلي، وتذكر مواقعه الغرامية في أفلامه، وقل لي بالله عليك هل رأيته يوماً عاشقاً لبقاً. . .
- إذا كانت اللباقة هي صناعة الغرام، فشارلي عاشق غير لبق. أما إذا كانت اللباقة هي الغرام الصادق، فاذكريه يا جاحدة في (أنوار المدينة) كيف عشق العمياء وكيف أخلص لها وكيف كان يضحك الناس من غرامه هذا والدموع يسيلها من مآقيهم تأثراً له وتفجعاً، ثم اذكريه في (العصر الحديث) كيف أحب المشردة الصغيرة، وكيف كان يحنو على اخوتها ويطعمها وإياهم طعامه هو. وإذا استطعت فاذكريه في (البحث عن الذهب) كيف زين مسكنه لحبيبته، وكيف جلس ينتظرها والطعام أمامه لا يذوقه ولا يمسه، وكيف تخلفت عنه وهو مازال ينتظرها إلى أن غفا، فكان الحب أحلامه، وكانت هي عروسها. فلما أفاق وأدرك أنها تخلفت، جن حزناً وطاشت أحلامه، ولكنها ظلت عروس أحلامه الطائشة. . .(344/52)
إن شارلي من غير شك هو أروع وأخلد عشاق السينما، يقدره حق قدره الذين أحرق الحب قلوبهم وأفنى أفئدتهم، ولكنكن يعجبكن أدولف مانجو المتأنق السمج وكلارك جيبل المتحلي المباهي بقوته. . . أنتن لا يرضيكن إلا المنازلون. . . أما العشاق، فلهن منكن الزراية والسخرية. . . إن شارلي صادق كل الصدق يا هذه، وإن حياته الفنية لهي صورة حقة من حياته الطبيعية. . .
- وهذا هو ما أريد أن أقول. . . فكما أنه في حياته الفنية لا وفاء فيه لممثلة زميلة فإنه في حياته الطبيعية لا وفاء فيه لامرأة
- قلت لك إنه لا يخلص في زمالة امرأة لأنه لم يجد المرأة التي تخلص في زمالته، وهو لا يزال يرتجل بطلات لأفلامه لأنه لا يزال يبحث عن سكنه بين النساء، ولعلك تذكرين أنه جن يوماً فأخرج فلم (الغلام) من غير بطلة امرأة وزامل فيه جاكي كوجان، وقد كان ذلك لأنه جن يوماً فطاش في الحياة لا يقف عند امرأة ولا يرتاح إلى أنثى. ولعلك ترين أنه قد عدل أخيراً عن الممثلات الناضجات الأنوثة ذوات التجارب في الرجال إلى ممثلات أخريات صغيرات لم يعرفن الرجال لا الممثلين منهم ولا غير الممثلين، وقد حدث ذلك لأنه في حياته عدل عن تقصي الحب بين النساء ذوات التجارب إلى تقصيه بين الفتيات الساذجات
- وإلى أين سينتهي شارلي في بحثه هذا يا ترى؟
- أغلب الظن أنه إذا لم يسعفه القدر سريعاً بما يصبو إليه من الحب، فإنه ربما عدل عنه، وعندئذ سنرى شارلي في أفلام لا نساء فيها. . .
- وهل يمكن أن يظهر فلم من غير نساء؟ إنه لن يكون غير خرافة، فالدنيا ليست الدنيا مما لم تزينها المرأة. . .
- هذا هو كلامكن، وكلام الذين يضحكون على عقولكن. وإلا فقولي لي من هي المرأة التي كانت في حياة كافور الإخشيدي
- أولم تجد غير هذا الأغا مثلاً. . .
- وهل أبرع وأبرز من مثل هذا العبد يشتريه سادته بالمال فإذا هو الملك الحاكم؟
- إن شارلي نفسه مقتنع بأنه لابد لفلمه من بطلة، وأنا أؤكد لك أن بوليت جودار التي(344/53)
أظهرها في فلمه الأخير (العصر الحديث) سوف تظهر إلى جانبه في الديكتاتور
- ومن أين جاءك هذا؟
- روته صحف أمريكا. بعد أن قيل إن بوليت غادرته. . .
- إذن فلن يكون شارلي أنانياً كما قلت في البدء
- إنه أناني وأناني وأنا لازلت أشك في إخلاصه لتلميذته الصغيرة
- أما هو فثقي أنه مخلص كل الإخلاص، وهو لا ريب يرجو السماء والأرض أن تحفظ عليه بوليت، ولكن الشيء الذي أخشاه، والذي قد يخشاه هو أيضاً هو أن تكون بوليت هذه على الرغم مما يبدو عليها من ملامح الطهر والبراءة. . . امرأة صغيرة قد تنكرت بالطهر والبراءة وركبت بهما ظهر شارلي حتى استطاعت أن تظهر معه في فلمين متتابعين، وهذا من غير شك يعتبر حادثة في تاريخ ذلك الفنان العظيم. . . وبعدئذ. . . من يدري إذا ذاع اسم بوليت، واعتبرها الناس نجمة مستقلة لا تحتاج إلى شارلي ولا إلى اسمه في تجارة الفن، وآمن بهذا المخرجون وأصحاب رؤوس الأموال. . . أتظل على وفائها له فتبقى معه. . . أم تفر منه كما فرت الأخريات. . . من يردي. . . إنها على أي حال تجربة شارلي الأخيرة فيما أعتقد. . .
عزيز أحمد فهمي(344/54)
رسالة العلم
أرقام تتحدث
طريقة تعداد الذرات
للدكتور محمد محمود عالي
من (أحمس) المصري إلى (بيران) الفرنسي - الجسيمات التي استخدمها (بيران) في تجاربه - كيف تتوزع هذه الجسيمات الدائمة الحركة - يختلف الجو الذي ابتدعه (بيران) عن الجو الذي نعيش فيه
لقد تنفس العالم الكبير (بيران) في القرن العشرين بعد الميلاد الهواء ذاته الذي تنفسه (أحمس) في القرن العشرين قبل الميلاد أو ما يقرب من ذلك العهد، ومع ذلك استطاع الأول بتجارب علمية دقيقة، وعمليات رياضية عالية، أن يعرف عدد ما في حجم معين من الهواء من ذرات؛ بينما وقفت معارف الثاني عند حد معرفة القواعد الحسابية الأربعة: الجمع والطرح والضرب والقسمة، ومعرفة الكسور والتقسيم التناسبي وحساب المتواليات، ولم يكن يجهل معادلات الدرجة الأولى.
والذين يراجعون معنا الآن أعمال (بيران) يدركون كيف اهتدى إلى إحصاء الذرات الدقيقة، دون أن يكون في حاجة إلى رؤيتها، وكيف خلص من هذا إلى معرفة قدر الإلكترون، أصغر ما في الكهرباء وأحد المكونات الهامة في الوجود، دون التجاء إلى استخدام عمليات كهربائية، وهو بتعيينه قدر الذرة وقدر الإلكترون أقام في نفس الوقت الدليل على وجودهما، فقطع بذلك مرحلة من أهم مراحل العلم، تتخلص في كلمات هامة ومحدودة: ذلك أن التجزؤ المادي وعدم الاتصال في أجزاء المادة حقيقة موجودة.
والذين يستعيدون منا أعمال (أحمس)، ويتلمسون ذلك في كتابه الذي ترجمه (إلْسِنلوهر) إلى الألمانية من الأصل المخطوط على أوراق البردي المحفوظة في المتحف البريطاني يعلمون أنه كان يعرف أن يقوم بحساب أبعاد فاكهة مستديرة أو تحديد مساحة قطعة من الأرض، وأنه كان يعرف قدر الخبز لحجم معين من الدقيق، بل يعرف قدر الطعام الذي يزدرده الإوز وتلتهمه العجول(344/55)
أما (أحمس) فقد صاغ الفكر في نسق يتسق وما كان يحتاج إليه معاصروه، فلمس ببراعة حاجات هذا العهد، وعرف كيف يعالج ما يعرض له من مسائل بتفكير إنساني منسق، وبمجهوده ومجهود من تقدموه ارتقى الإنسان وصار يثوارث المعرفة جيلاً عن جيل، واحتفظت الإنسانية بطابع من التقدم عهداً إثر عهد، ونمت المعارف فوصلت إلينا سلمية قوية - أما (بيران) فقد وجد ميراثاً علمياً سليماً كانت أعمال (أحمس)، والإغريق من بعده من أهم ما مهد لهذا الميراث العظيم، فلا يستضعف أحد ما ذكرنا من حساب (أحمس) لما تزدرده الإوز وتلتهمه العجول، وغير ذلك مما كان شغله الشاغل عندما نذكر مشاغل إنسان اليوم جلية فيما قام به (بيران) من تعداد للذرات ومعرفة لأقدارها، فعند ظني أن ما عرفه الأول يصل إلى النصف من كل ما ورثناه من علوم، وأننا لسنا إلا على أبواب مرحلة جديدة في تاريخ الفكر البشري
ولندع الآن حديثاً أرجو أن يكون قد بعث في النفس صورة من الماضي البعيد في شيء من التأمل لنعود لبيران فنذكر عمله الإنشائي ونرى معاً ماذا أفاد من المسائل الرئيسية الثلاث الخاصة بالغازات التي ذكرناها في المقال السابق: المسألة الأولى أن ثمة علاقة تربط الضغط والحجم والحرارة للغاز، بحيث أن حاصل ضرب اثنين من هذه المتغيرات يساوي المتغير الثالث مضروباً في عدد ثابت؛ والثانية أن في الحجم الواحد يوجد في الضغط الواحد والحرارة الواحدة العدد ذاته من الذرات الغازية مهما اختلف نوع الغاز؛ والثالثة هو تَغيّر الضغط في عامود غازي وفق متوالية هندسية
ولقد ذكرنا أنه قد أدت هذه المسائل الثلاث إلى استنباط علاقة أوردناها في مقالنا السابق علاقة نعرف منها النسبة الواقعة بين ضغطين في غاز في موضعين تفصلهما مسافة رأسية، إذا عرفنا الوزن الجزيئي للغاز والعجلة الأرضية وثابت الغازات والحرارة المطلقة، ولقد ذكرنا أن النسبة الواقعة بين ضغطين في الغاز في موضعين مختلفين هي النسبة بين عدد الجزيئات في هذين الموضعين، بحيث إذا عرفنا الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان معين أمكننا أن نعرف الضغط أو عدد الجزيئات عند مكان يرتفع عنه مسافة معينة، وقد ذكرنا فرض (أفوجادرو) القائل بأن هذا العدد للجزيئات الموجود في الوزن الجزيئي - أي الموجود في الحجم الواحد لجميع الغازات هو عدد ثابت لا يتغير - يسميه(344/56)
العلماء عدد (أفوجادرو) ومن المناسب أن نورد هنا للقارئ فكرة عن هذا العدد الكبير، فهو يبلغ حوالي 68 2210 من الجزيئات، وهو العدد الموجود في 32 جراماً من الأوكسجين مثلاً أو 22. 4 لتراً منه، أو من غاز آخر، وهو العدد الذي حاول (بيران) بعمله الإنشائي أن يعرفه، فيعرف منه قدر الذرة وقدر الإلكترون.
وطبيعي أنه لا يجوز أن يخطر ببال هذا العالم أو غيره أو
يحاول بطريقة مباشرة أن يحصل على أحد هذه الجزيئات أو
إحدى هذه الذرات ليتمكن من قياس وزنها أو قطرها أو
كثافتها فهي متناهية في الصغر إن قورنت بكل ما نستطيع أن
نتناوله على حدة من الأجسام، ويكفي القارئ أن يعلم أنها من
الضآلة بحيث يمكن أن تندمج في جسمنا بالنسبة ذاتها التي
يندمج فيها هذا الجسم في الشمس، أو بالنسبة التي تندمج فيها
حشرة صغيرة في جسم الأرض، ولكن (بيران) عمد إلى
العثور على هذا النوع من التوزيع الغازي في وسط آخر غير
الغازات ذات الجزيئات أو الجسيمات الصغيرة، وسط يستطيع
أن يقيس ويزن فيه الجسيمات ويعرف خصائصها بوسائلنا
العادية ومقدرتنا المعهودة، فعمد إلى الحصول على كرات
صغيرة من أنواع مختلفة من الأصماغ يبلغ قطر الواحدة
منها في معظم تجاربه كسراً ضئيلاً من الميكرون (الميكرون
10001 من المليمتر) وقد ترك (بيران) هذه الكرات في عمود(344/57)
من السائل. ومما يلاحظ أن هذه الكرات الصغيرة، عندما
تدخل السائل، تقع في حرب شعواء بين الجاذبية الأرضية التي
تدفع بهذه الجسيمات نحو الأرض وبين الحركة البروانية التي
سبق أن أشرنا إليها في مقالاتنا، وهي الحركة الناتجة من
حركة جزيئات السائل ذاته والتي تدفع بها في كل جهة، بحيث
أنه بعد فترة معينة يحدث نوع من الاتزان بين كل هذه
العوامل، تتوزع بعدها هذه الجسيمات في السائل أي بين
جزيئات السائل توزيعاً خاصاً، بحيث تكون كثيفة العدد في
أسفله قليلة كلما ارتفعنا فيه
ومما يجدر بالملاحظة أن هذه الحالة من التوزيع لا تفترق عن
حالة توزيع الجزيئات الغازية في عمود غازي أو في الجو
مثلاً، وهو التوزيع الذي تحدثنا عنه سابقاً، فهذه الأجسام كلها
صُغرَتْ أو كُبرت واقعة تحت تأثير عاملين: العامل الأول
اجتذاب الأرض إياها والعامل الثاني حركة الجزيئات نفسها
أي الحركة البروانية، وليس ثمة فارق بين الحالتين حالة
الجزيئات الغازية وحالة الجسيمات الكولوبدية سوى أنه في
هذه الحالة الأخيرة يوجد تفاوت في درجة التوزيع بالنسبة(344/58)
للارتفاع يرجع إلى التفاوت الذي بين وزن هذه ووزن
الجزيئات الغازية، فمثلاً يكفي أن ترتفع في سائل يحوي كرات
من التي قطرها كسر من الميكرون (وهي الكرات التي
صاغها (بيران)) حوالي 201 من المليمتر حتى ينقص عدد
الجسيمات في الحجم الواحد إلى نصف عددها الأول حين يجب
أن ترتفع في عامود من الغاز مثل الأوكسجين حوالي خمسة
كيلومترات لينقص عدد الجزيئات في الحجم الواحد إلى هذه
النسبة، وهذا يحملنا على التفكير في أن وزن أحد هذه
الجسيمات التي استخدمها بيران يصح أن يكون حوالي مائة
مليون مرة قدر وزن الجزيء من الأوكسجين
والواقع أنه كان من الميسور أن يصل الباحثون إلى علاقة تربط نسبة عدد جسيمات ميكروسكوبية متروكة في سائل تتوزع فيه مع عدد (أفوجادرو) السابق الذكر، وهي علاقة يمكن استنتاجها من العلاقة أو المعادلة التي سبق أن نوَّهنا عنها في الغازات التي ذكرناها في مقالنا السابق، وهذه العلاقة الثانية التي نذكرها في هامش هذه الصفحة هي علاقة تجد في أحد طرفيها النسبة بين عدد الجسيمات الميكروسكوبية أي الكولويدية الحائرة في السائل في موضعين مختلفين، وتجد في الطرف الثاني عدة متغيرات وثوابت، أهم ما في هذه الثوابت عدد (أفوجادرو) الذي ذكرناه والذي هو محل بحثنا
ولعل القارئ يرى أن وزن هذه الحبيبات أو حجمها الذي في استطاعتنا الوصول إليه هو الوصلة للأوزان الذرية التي يعتبر الوصول إلى وزنها بالذات خارجاً عن طوقنا
ولا ريب في أنه يعوزنا كتاب كامل لنشرح للقارئ العقبات(344/59)
الكبرى التي ذللها (بيران) وتلاميذه للقيام بهذه التجارب التي
استخدموا فيها جسيمات قطرها 102 من الميكرون وجسيمات
أخرى يختلف قطرها عن هذه. وثمة صعوبات في صوغ هذه
الجسيمات بطرق مختلفة ومواد مختلفة، وتتفادى الاستقصاء
في وصف الوسائل المختلفة التي عمد إليها هذا العالم في
قياس هذه الجسيمات، وسائل تمت إلى التطبيق
الهيدروديناميكي طوراً وإلى الطرق الطبيعية تارة أخرى،
وهي الوسائل العديدة التي صدرت عنها أطروحات جامعية
عديدة طالعنا بعضها وناقشنا البعض الآخر
ترى هل وجد (بيران) بعد ذلك المجهود وبدراسة هذه الجسيمات الحائرة أبداً ذلك التوزيع اللوغاريتمي الموجود في الغازات؟ وهل استطاع أن يعثر من دراسة هذا التوزيع فيما اختاره من جسيمات على عدد (أفوجادرو) ذاته الذي كان يتوقعه والذي كانت تدل عليه عمليات أخرى تختلف في طريقها وجوهرها عن موضوع (جان بيران) الحالي؟ هذا ما ندل عليه القارئ في مقال قادم حيث يقف على ما استنبطه بيران من ملاحظة مستمرة لهذا الجو الجديد الذي ابتدعه وصنعه لنفسه، هذا الجو الجديد ذو الجزيئات الكبيرة يختلف جد الاختلاف عن الجو الذي نعيش فيه، ففيه تمثل أهرام الجيزة مثلاً مقداراً أقل من الواحد على ألف من المليمتر
وسيرى القارئ كيف أوصلنا عمل (بيران) المضني إلى شيء جدي في الوجود وكيف طلع علينا هذا العالم بأسطورة خالدة من قصص الكون وكيف اقتنع كغيره أن المادة وسط منفصل غير متصل وأنها مكونة من ذرات تحمل في طياتها إلكتروناتها الأبدية وكيف وثق أن للذرة قدراً وللإلكترون قدراً لا يتجزأ وأن هذه وحدات في الكون تُعد من خصائصه كما(344/60)
تعد الأصابع العشر من خصائص الإنسان.
(يتيع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(344/61)
القصص
الاعتراف
للكاتب الفرنسي موريس ليفل
وقفت لحظة أمام الباب وأنا ساكن متردد في الدخول. ولم أخط العتبة إلا حين نبهتني المرأة التي جاءت بي بقولها: (هنا يا سيدي تفضل!)
لم أر شيئاً عند دخولي سوى المصباح الخافت الموضوع في ركن الغرفة. ثم أخذت أتبين إلى جانب الحائط فراشاً تمدد عليه جسم طويل هزيل حاد التقاطيع. وكانت رائحة النفط تملأ فضاء الغرفة، والصمت شامل كصمت القبور.
ومالت المرأة على الفراش صائحة: (هاهو ذا السيد الذي أرسلتني في طلبه. . .)
فنهض الشيخ المدد على الفراش نصف نهوض وتمتم في صوت خافت:
- حسن. . . حسن. . . اتركينا معاً. . .
فلما أغلقت المرأة الباب وراءها، قال الرجل:
- أدن مني يا سيدي. . . أجلس هنا على الكرسي الموضوع بجانب الفراش. . . إنني أكاد أكون أعمى أصم. معذرة من إقلاقي إياك، فلديّ شيء خطير أريد أن أفضي إليك به
كان وجه ذلك الرجل بارز العظام شديد الشحوب. وقد ظل برهة يحدّق فيّ بعينيه الواسعتين. ثم واصل حديثه بصوت متهدج:
- ولكن قبل كل شيء، هل أنت السيد جرينو النائب العمومي؟
- نعم
فتنفس الصعداء ثم قال:
(إذن يمكنني الآن أن أدلي باعترافي. لقد أمضيت خطابي لك باسم برييه، وليس هذا اسمي الحقيقي. ومن الجائر أنك كنت تتذكر معرفتي لولا ما غير الموت من معالم وجهي. . . ولكن دعنا من هذا. . .
منذ سنوات كثيرة، كنت وكيل نيابة. كنت واحداً من الرجال الذين يقول الناس عنهم: إن أمامه مستقبل باهر. وكنت عاقداً العزم على تحقيق هذا الرجاء. ما كان ينقصني سوى الفرصة لإظهار مقدرتي؛ وقد هيأت لي تلك الفرصة قضية في محكمة الجنايات. حدثت(344/62)
تلك الجناية في إحدى ضواحي باريس، وقد أثارت في حينها اهتماماً شديداً بين الناس وخاصة في البيئات القانونية. كانت الشبهات قوية في المتهم، ولكن ينقصها الإثبات القاطع. ولقد دافع المتهم عن نفسه دفاعاً قوياً حتى أحسست وأنا في كرسي النيابة بشعور الشك بل بالعطف يستولي على المحكمة. وأنت تعلم ما لهذا الشعور من تأثير!
ولكني كذبت بالبراهين المنطقة القاطعة كل ما أنكره المتهم، وأزحت الستار أمام القضاء عن سلسلة من الحقائق لا مجال للشك فيها. ولأستطيع أن أقوي أدلة اتهامي، كشفت عن نفسية الرجل وعن ماضي حياته مظهراً كل ما في خلقه من ضعف وما في أعماله من دناءة. وختمت مرافعتي القوية بطلب القصاص من المجرم! وقام الدفاع بعد ذلك بكل ما في مكنته لتفنيد أدلتي، ولكنه حاول عبثاً. . . وحكم على الرجل بالإعدام
لم يكن للعطف على السجين حينذاك مجال للوصول إلى نفسي. فلقد كنت مندفعاً في إثبات مقدرتي وفصاحتي، وكان الحكم عليه انتصاراً باهراً لي
ورأيت الرجل ثانية في صباح يوم التنفيذ. ذهبت لأراه وهم يسوقونه إلى المقصلة. فلما رأيت وجهه الغامض اعتراني فجأة شيء من الاضطراب والضيق. . . إن تفصيلات تلك الساعة المشؤومة لا تزال ماثلة في مخيلتي!. . . لم يبد أي مقاومة وهم يوثقون يديه وقدميه. لم أجسر في تلك اللحظة على النظر إليه، لأني شعرت بأن عينيه مصوبتان نحوي في هدوء غير معهود. ولقد صاح حين خروجه من باب السجن ومواجهته المقصلة: إني بريء! وخيّم السكون على الحاضرين كأن على رؤوسهم الطير. ووجه الرجل الكلام إليّ قائلاً: أنظر إليّ وأنا أموت، فإن ذلك يستحق بضع دقائق من وقتك. ثم عانق القسيس ومحاميه. . . وكانت برهة من أفظع ما مر في حياتي
في خلال الأيام التي مرت على ذلك الحادث، كنت مبلبل الخاطر مضطرب الفكر. كان موت ذلك الرجل هو الشيء الوحيد الذي يستولي على ذهني فلا يدع مكاناً لسواه. وقد كان زملائي يطمئنونني بقولهم: إن ذلك يحدث دائماً في أول مرة
وكنت أصدقهم. إلا أني أدركت على تراخي الزمن أن هناك سبباً لهذا الاضطراب وهو: الشك! ومنذ اللحظة التي فطنت فيها إلى ذلك لم يهدأ لي بال. كنت لا ألبث أن أسائل نفسي: ترى هل كان الرجل بريئاً؟(344/63)
جاهدت بكل ما في استطاعتي أن أبعد عن خاطري تلك الفكرة، محاولاً أن أقنع نفسي أنه مجرم؛ ومحال ألا يكون كذلك، ولكني كنت أعود فأسائل نفسي: أي دليل حقيقي على إجرامه؟ وتتمثل في مخيلتي لحظات الرجل الأخيرة وهو واقف على المقصلة في هدوء، ويطن في أذني صوته وهو يقول: إني بريء!
قال لي يوماً أحد الزملاء:
ما كان أبدع دفاع هذا الدفاع عن نفسه! لقد كان من المدهش أنه لم يُبرّأ. . . أقسم لك أني لو لم أسمع مرافعتك لاعتقدت أنه بريء!
إذن كان سحر كلامي وقوة رغبتي في النجاح، هما اللذين تغلبا على تردد النظارة، وربما كان لهما أكبر الأثر في تكوين رأي المحكمين. أنا وحدي كنت السبب في قتل هذا الرجل. فإذا كان بريئاً، فأنا وحدي المجرم المسئول عن موت هذا البريء. . .
إن الإنسان لا يتهم نفسه بشيء دون أن يحاول الدفاع عنها وقبل أن يقوم بكل ما يمكن ليريح ضميره. ولقد كان هذا شأني بالنسبة لهذه القضية: فلكي أنجو بنفسي من هذا الشك المؤلم، راجعت أوراق القضية من جديد. . . ولما أعدت قراءة مذكراتي ومستنداتي، وجدت كل ما بها منطقياً معقولاً. . . إلا أنها مذكراتي أنا ومستنداتي أنا، وهي عمل عقلي الذي حكم على المجرم أولاً، ثم راح يبحث عن الأدلة، عمل إرادتي، وقد استعبدتها الرغبة في إثبات الجريمة على المتهم. . . فدرست وجهة نظر الدفاع من جميع وجوهها. . . أعدت قراءة إجابات المتهم وشهادات النفي الخ. . . وقررت أن أتأكد من بضع نقط فيها شيء من الغموض، ففحصت المكان الذي وقعت فيه الجريمة بدقة، وسألت شهوداً كان قد أُهمل استجوابهم. فلما فرغت من دراسة هذه التفاصيل انتهيت إلى نتيجة حاسمة: وهي أن الرجل كان بريئاً!
وكأن الظروف أرادت أن تشغل ضميري، فصدر الأمر وقتئذ بترقيتي!. . . ترقية هي في الواقع ثمرة لجريمتي الشنيعة.
كانت الشهامة تقضي بأن أعترف بخطئي على الملأ حتى يكون في ذلك عبرة وعظة لغيري. إلا أني كنت أجبن من أن أفعل ذلك. كنت أخشى غضب الناس واحتقار الزملاء، فاكتفيت بتقديم استقالتي دون أن أبين بها الأسباب، ثم سافرت بعيداً عن باريس. ولكن وا(344/64)
أسفاه!. . . إن البعد لا يجلب النسيان
ولقد صار كل همي في الحياة بعدئذ أن أكفر عن خطيئتي التي لا تقبل إصلاحاً. كان الرجل شريداً لا أهل له ولا أصدقاء يمكنني أن أعوضهم عن فقده بالمال. فقررت أن أخصص كل ما أملك من ثروة لمساعدة البؤساء والمنكوبين من أمثاله، عازفاً عن مسرات الحياة. وهكذا عشت وحيداً منسياً حتى هرمت قبل الأوان
ولقد أنقصت نفقاتي الخاصة إلى أدنى حد ممكن. . . ففي هذا الجحر عشت شهوراً وفيه أدركني المرض الذي أموت به الآن. . . والآن يا سيدي قد وصلنا إلى ما أريده منك. . .)
وازداد خفوت صوته حتى صرت مضطراً أن أراقب شفتيه المختلجتين لأستعين برؤية حركتهما على تفهم كلماته
(لا أريد أن تموت هذه القصة بموتي. أريد منك أن تعلنها على الناس درساً لأولئك الذين من واجبهم أن يقتصوا من الناس ولكن بالحق، لا أن يجلبوا العقاب للناس على أي حال. أريد أن تكون هذه القصة ماثلة أمام عيون رجال النيابة العمومية وهم يؤدون واجبهم في طلب رأس المجرم)
فأكدت له أني سأفعل ما يطلبه
وازدادت رعشة الرجل وهو يواصل حديثه قائلاً:
(ولكن ذلك ليس كل شيء. . . لا يزال لديّ بعض المال. . . لم يتسع الوقت لتوزيعه. . . إنه هناك في درج هذه الخزانة. أريد منك أن توزّعه بعد موتي. . . لا باسمي، بل باسم ذلك الرجل الذي كنت سبباً في إعدامه منذ ثلاثين عاماً. . . وزّعه على الفقراء باسم راناي)
فحملقت مردداً:
- راناي؟!. . . لقد كنت أنا المحامي عنه فهز رأسه متمتماً:
- أعرف ذلك. وهذا هو السبب في طلبي إياك. لقد كنت مديناً لك أنت بهذا الاعتراف. أنا ديرو، وكيل النيابة
ثم غمغم ببضع كلمات أخرى لم أتبين منها سوى كلمة راناي
هل خنت سر المهنة؟ هل خرقت القواعد التي تحتمها صناعتي؟ إن المنظر المؤلم لهذا(344/65)
الشخص الذي يموت على تلك الحالة التعسة، قد استدرج الحقيقة إلى لساني رغماً عني، فصحت قائلاً:
- مسيو ديرو! مسيو ديرو! لقد كان راناي مجرماً!. . . لقد اعترف لي وهو في طريقه إلى المقصلة. أخبرني بالحقيقة حين كان يودّعني. . .
ولكن مسيو ديرو كان قد سقط على الوسادة ميتاً
ومازلت حتى الآن، كلما مرّت هذه الحادثة بفكري أحاول إقناع نفسي بأنه سمعني
صلاح الدين كامل(344/66)
من هنا ومن هناك
لا تلم فرساي!
(ملخصة عن مقال (للمركيز أوف لوثيان))
أود قبل كل شيء أن أقول كلمة عن معاهدة فرساي. فقد أصبح الأسلوب الجديد لدعاية الدكتور (جوبلز) أن ينسب إلى هذه المعاهدة المظلومة كل سيئة. . . إن معاهدة فرساي لا تخلو من أوجه للنقص. إلا أنه من السخف أن نعزو إليها كل شر في الوجود
قال أحد الرجال البارزين من الألمان الديمقراطيين بتمهل: إن ثلاثين في المائة من الأسباب التي أدت إلى ظهور الاشتراكية الوطنية تعزى إلى معاهدة فرساي، وثلاثين في المائة إلى نقص الروح الديمقراطية في نفوس الألمان، وثلاثين في المائة إلى وسائل الضغط التي اتخذت ضد الشعب منذ عام 1929. ولكني أود أن أدخل شيئاً من التحوير على هذا الوضع، فالهتلرية في نظري هي وليد نمته البلشفية وغذته بنظامها الوطني الاقتصادي الذي وضعته ليشمل سائر أنحاء العالم
نحن حريون ألا ننسى تلك المبادئ التي دافعنا عنها دفاعنا المعهود ما بين 1914 - 1920. لقد بدأنا عهداً جديداً في تلك الفترة إذ قضى عالم قديم، وظهر في الوجود عالم جديد. وكانت العلاقات الدولية قبل سنة 1914 تسير على مقتضى السياسة القديمة. فكان من الطبيعي أن تفكر كل أمة فيما يهمها ويهم أبناءها وحدهم، وقل أن تفكر في شأن من شؤون الأمم الأخرى
إلا أننا في سنة 1914 رأينا الأمم الديمقراطية التي كانت لا تهتم إلا بشئونها الداخلية، بدأت تفكر في العلاقات الدولية العامة. والديمقراطية بحكم وجودها لا تحلم بالقوة، ولكنها تحلم بالمثل الأخلاقية العالية. وإذا كانت الأمم الديمقراطية لا تعيش لهذه المثل على الدوام، فمنها ولا شك الكواكب التي تسهر على حراستها، وتصونها من الضياع
ومنذ ظهرت عناية الأمم الديمقراطية بالشؤون الدولية العامة، أخذت تفرض مبادئها على سائر الأمم. فالإنسانية في نظرها وحدة لا تتجزأ. وسائر الأمم والأفراد لهم الحق في الحياة والحرية والسعادة. والشعوب المتأخرة لها أن تتخلص من الاستغلال الممقوت وتتمتع بنظام الحكم الذاتي. والدول الصغيرة والكبيرة سواء أمام القانون. وقد رؤى أن خير وسيلة(344/67)
لتجنب الحرب هي إيجاد قانون صحيح يحكم بين الأمم
هذه هي المبادئ التي آتت ثمرها الحرب العظمى بعد توقيع معاهدة السلام في باريس عام 1919 وهي مبادئ قويمة ذات أثر لا ينكر في إسعاد العالم. وقد دافع عنها الرئيس ولسن دفاعاً مأثوراً، ولكن الدول الديمقراطية لم تكن تقدر أن العالم لازالت تحركه المطامع وحب السيادة والسلطان، وأن المبادئ القديمة لازال لها أنصار يتعلقون بأذيالها
وليس هذا هو السبب الوحيد في نشوب الحرب مرة ثانية، ولكنه من الأسباب القوية التي أدت إليها، ونحن لا ندري إذا كانت هذه الحرب ستنتهي بنا إلى الحرية المنشودة، أم أنها سترجع بنا إلى همجية العصور الخالية
لقد وفت الدول الديمقراطية بعهودها التي قطعتها على نفسها في معاهدة فرساي، فأعطت كل أمة الحق في تقرير مصيرها، وبذلت ما في وسعها لحماية الأقليات
أما هتلر فهو في الحقيقة لا يناضل من أجل الحدود التي قررتها هذه المعاهدة، ولكنه يناضل لهدم فكرة الديمقراطية من أساسها.
الفن والحرب
(ملخصة عن (ذي إيفننج نيوس)
يشترك في الحرب الحاضرة عدد كبير من الفنانين رجالاً ونساء، إما بالعمل في ميادين القتال أو المشاركة في الأعمال الأخرى التي تقتضيها الحرب. وقد يجد هؤلاء بعض العزاء فيما يسمعون عن حياة رجال الفكر الذين عاشوا قبلهم في أيام الحروب
هل أسكتت الرحب شكسبير؟ أو أخمدت المنازعات صرخات وجنر الغاضبة، أو أثرت في شجاعة بيتهوفن؟ لا، والحمد لله!
لقد نشأ شوبان في بولندا وهي تناضل بغير جدوى لاستعادة استقلالها، وقد كان في (سنتجارت) حين جاءه نبأ سقوط (وارسو) في أيدي الروس، فكان لهذه الحوادث أثر لا ينكر في شحذ قريحته، وإمداد بالإلهام الصادق والدراسة الرفيعة. فلما رحل شوبان إلى باريس صارت له باريس وطناً ثانياً، وأحلته منها مكاناً مرموقاً لما يحمله الفرنسيون لبولندا من العواطف الجميلة. وقد كتبت جورج ساند التي أحبها شوبان وعاشت بعد وفاته - كثيراً(344/68)
من مؤلفاتها الرائعة ووطنها فرنسا في حرب عنيفة مع الأعداء. لاشك أن الحرب لم تكن عاملاً مخيفاً في تلك الأيام كما هي اليوم، ولكن مهما تكن الحال فإن الفنانين يشعرون بمآسي الحرب أكثر من سواهم، وهذا مما يزيد ارتباطهم بالعالم إبان الحرب
أخبرتنا (فيولا مينل) في الكتاب الذي وضعته عن أمها، أن (آليس مينل) كانت تشعر بصدمة قوية في أعماق نفسها عند نشوب الحرب. ومع ذلك فقد كتبت آليس الكثير من أرق وأبدع أشعارها في تلك الأيام العصيبة
وقد يتحرك الشعراء بعامل الدفاع عن الحرية كما فعل (بيرون) باشتراكه في الحرب للدفاع عن استقلال اليونان. ومن الشعراء من هزوا النفوس بأشعارهم في الحرب العظمى 1914 - 1918 مثل روبرت بردك، وليم نويل هودجسون، جوليان جرنفيل، سيسيل شسرين، إدوارد توماس. وقد ذهبوا جميعاً ولم يعد أحد منهم إلى عالم الوجود. أما الذين عاشوا ليمدوا العالم بمزيد من أشعارهم فمنهم (سيجفريد ساسون) الذي كتب عن الحرب أشعاراً تعد من الحجج البينات التي ظهرت لتوطيد دعائم السلام
وقد قام كثير من المصورين بأعمالهم الفنية إبان الحرب العظمى ومنهم من كانوا يعملون في ميادين القتال، فأخرجوا للعالم تحفاً من بدائع الفن التصويري، يرمزون بها إلى شتى التجارب والاحساسات التي صادفتهم في حياتهم الحربية
وليس من همنا أن نثبت هنا أن الفنانين يؤثرون موضوع الحرب لإبراز روائع فنهم، ولكنا نرى أن من واجبهم الرسمي أن يهزوا القلوب نحو جانب من الجوانب في أيام الحروب
نساء ستالين
(عن مجلة (باريد) عدد فبراير)
لا تنقطع محاولات اغتيال دكتاتور روسيا ولكنها في أغلب الأحيان تظل في الخفاء. ولما كنت أعمل في قلم الاستعلامات الملحق بالكرملين مقر دكتاتور روسيا، فقد أتيح لي أن أقف على تفاصيل آخر محاولة لاغتياله. وكان عملي في الظاهر يتلخص في إمداد مكاتبي الصحف الأجنبية بالأخبار، ولكن في الواقع كانت مهمتي هي العمل على عدم تسرب الأخبار الخاصة بحياة ستالين الداخلية إلى الخارج. وبذلك تمكنت من معرفة تفاصيل هذه(344/69)
المحاولة الجريئة التي قات بها فتاة جميلة استخدمها الدكتاتور لتقرأ له الصحف الأجنبية مترجمة
في ذلك الوقت كان الرفيق آبل انيكايدز صديق ستالين الحميم سكرتيراً عاماً للجنة التنفيذية لمقاطعات روسيا البلشفية المتحدة، وبذلك كان يتمتع بسلطة لا تحدها إلا سلطة ستالين نفسه. وكان يخضع له كبار رجال الدولة لإشرافه على موارد الترف ورفه العيش، وحتى ياجودا رئيس البوليس السري السابق كان ينحني له، ويمتد إشرافه أيضاً إلى المسارح والهيئات الفنية، ولذلك كان مطمح أنظار جميلات النساء الراغبات في المجد الفني اعتماداً على موهبة الجمال وحدها. وقد أدى تهافت النساء عليه إلى سقوطه السريع. وفي ذات يوم أبدى الدكتاتور رغبته فيمن يترجم له الصحف الأجنبية؛ فعيّن انيكايدز فتاة جميلة تنتمي إلى أصل أرستقراطي قديم. وفي صباح كل يوم يضطجع الدكتاتور الأحمر على أريكة وتجلس الفتاة على منضدة أمامه تقرأ، ولا يكف هو عن السؤال والتعليق، وبجنبه على منضدة أخرى وضعت أطباق الحلوى والفاكهة وراقت هذه القراءات ستالين وسر بها كثيراً. وفي ذات صباح أمر بقدحين من البن التركي الذي يحبه، وبعد أن تظاهرت الفتاة بتذوق فنجالها قامت فوضعت كمية من السكر في القدحين، وبعد ذلك تناولت القهوة فشربتها؛ أما هو فلم يشرب. وبعد ذهاب الفتاة أخذت القهوة، وبعد تحليلها وجد بها قدر كبير من السم فألقي عليها القبض، وألقيت في أحقر السجون مدة ثلاثة أسابيع، ولكنها لم تعترف بوجود شركاء لها. وأخيراً نفذ فيها حكم الإعدام رمياً بالرصاص بأمر صادر من ستالين نفسه
وقامت الشكوك في نفسه واتهم إنيكايدز بتدبير هذه المؤامرة ولكنه لم يعثر على دليل لإدانته، ولكن هذا لم يعفه من تهمة مد يد المساعدة للأرستقراطيين أعداء النظام البلشفي، فنفي إلى سيبيريا ويشاع أنه لقي حتفه هناك
وقلائل جداً من يعرفون شيئاً عن زوجة ستالين الأولى التي رزق منها بولد يعمل الآن صانعاً في أحد معامل موسكو، متخذاً أسم دجيفاشفيلي، وهو الاسم الأول لأبيه قبل قيام الثورة
أما عن زوجته الثانية فسأحدثكم عنها بإسهاب لأن ستالين يحبها جداً وقد تزوج بها وهي(344/70)
في الثلاثين واسمها الأصلي اليلوفا وهي ابنة قسيس. وكان زواجه بها غير معروف عند عامة الناس الذين فوجئوا بنبأ موتها في الصحف ذات يوم. ومما زاد في عجبهم الاحتفال بدفنها بمشهد وطني على غير تقاليد البلاشفة، ولما تضاربت الأخبار عن أسباب موتها أوعز إلى أن أذيع لمراسلي الصحف أنها ماتت بسبب التهاب الزائدة الدودية. ولم تكن هذه آخر الإشاعات عن موتها، فذكر أنها ماتت إثر تناول شاي مسموم أريد به ستالين نفسه، وقيل أيضاً إنها انتحرت متأثرة بكثرة الاغتيالات وحوادث القتل التي ارتكبها زوجها، ولكن هاك الحقيقة كما وقفت عليها.
من حين إلى آخر يقيم زعماء البلاشفة حفلات للهو العنيف يحضرها النساء، وتسيل فيها الخمر أنهاراً، وفي حفل كهذا أفرط الدكتاتور الأحمر في الشرب وأخذ يبدي ولعاً مكشوفاً بسيدة خاصة، فأحفظ ذلك زوجته (اليلوفا) التي لم تكن أقل منه سكراً فتشاجرا وصخبت زوجته وهددت بأنها ستنتحر، فهزأ منها ستالين أمام النساء اللائى عيرنها بأنها لن تقدم على الانتحار، فما كان منها إلا أن غادرت القاعة، وعلى الأثر سمع طلق ناري، فهرعوا إلى الخارج ووجدوها ميتة برصاصة استقرت في رأسها.
فتأثر ستالين الصخري الفؤاد بموتها وأظهر جزعاً شديداً، فاقترح الحاضرون دفنها بمشهد حافل تعزية له. فدفنت في قبر فخم بكنيسة العذراء بموسكو، ولا يزال ستالين يتردد على قبرها سراً لوضع باقات الزهور
وقد تزوج دكتاتور روسيا للمرة الثالثة بامرأة من مقاطعة جورجيا ولكنها لم تظهر معه أبداً في المحافل الرسمية، وإن كانت ترافقه إلى دور التمثيل أحياناً.
حسن الظاهر(344/71)
البريد الأدبي
(أذني زلزلت طربا)
في العدد الماضي من (الرسالة) بدا للصديق الصالح الخاشع محمود محمد شاكر أن ينظر في قصيدة (الناي) التي كنت نشرتها في العدد ألـ 341. وجاء نظر الصديق على شطرين: الأول في علم العروض، والثاني في فن اللغة عامة والمجاز خاصة
فأما قول الصديق إن بحر (المنطلق) الذي وضعتُه إنما هو مجزوء (المتدارك) أو من نحو ذلك فوهم قد سبقه إليه كاتب آخر. وفي هذا المكان من العدد الماضي وقف القارئ على ما يبدِّد ذاك الوهم. ومن الغريب أن كاتباً بمكانة الأستاذ محمود محمد شاكر يخلط (وضع) الشيء بـ (اختراعه). إني لم أخترع البحر يا محمود، بل وضعته. وما أنا بباخل عليك بهذا التبصير ,
وأما الشطر الثاني فمحصور في قول الأستاذ: (ولكن ما بال هذا الصديق (يعنيني) يريد أن يزلزل أُذنه، ونحن لم نفرغ بعد من حديث الزلازل التي هدمت ما هدمت في الأناضول. لماذا أيها الصديق؟ ولماذا تريد أن نشعر أن أذنك وحدها - دون سائرك - هي التي تطرب، ولا يكون طربها إلا زلزلة) أهـ.
ألا إن من مساوئ الإكباب على قراءة الصحف اليومية أن يغلب على الألفاظ المتواترة معنىً يقف الخلق عنده فينسوا مُفاده الأول ويُغفلوا ألوان استعماله في الأدب الموروث بجلاله وثروته. فإن الصديق محموداً قنع بزلزال الأرض، والأناضول من الأرض. كيف فاته أن زلزال الأرض معنى طارئ على زل زل؟ ففي (لسان العرب) ج5 ص327: (وفي الحديث: أهزم الأحزاب وزلزلهم - الزلزلة في الأصل: الحركة العظيمة والإزعاج الشديد، ومنه زلزلة الأرض، وهو هاهنا كناية عن التخويف والتحذير، أي: أجعل أمرهم مضطرباً متقلقلاً غير ثابت). هذا، وفي القرآن نفسه - وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات - تصيب إلى جانب (زلزال الأرض) و (زلزلة الساعة) (سورة الزلزال، والحج) آيتين إليك حروفهما: (1) (وزلزلوا حتى يقول الرسول) البقرة، (أي (أزعجوا إزعاجاً شديداً مما أصابهم من الشدائد): عن البيضاوي) - (2) (هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) الأحزاب (أي (من شدة الفزع). وعلى هذا، فإنك ترى أن الزلزلة(344/72)
تفيد الاضطراب والتقلقل والتحرك، حقيقة ومجازاً، ثم إنها خرجت من ذلك - من باب إطلاق العام على الخاص - إلى المعنى الذي تمهل عنده الصديق، والذي غلب عند عامة الناس لهذا الزمان. ومن ذلك المعنى الأول، وهو الأصل، ما جاء في حديث عطاء: (لا دق ولا زلزلة في الكيل، أي لا يحرّك فيه)، وفي حديث أبي ذرّ: (حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل)، (عن (لسان العرب)). وعلى ذلك أيضاً قولهم: (جاء بالإبل يزلزلها: يسوقها بعنف) (عن (أساس البلاغة) مادة ز ل ل). كيف غاب كل هذا عن صديقي والقرآن في صدره والتفسير والحديث واللغة شواغله. هل زلزل (الناي) ذاكرته؟
وقد خطر للصديق محمود - ومحمود كثير الخواطر - أن يقول لي: (لماذا تريد ألا يكون طرب أذنك إلا زلزلة؟). فإني ألوذ بالصبر فأقول: لأن الزلزلة والطرب على مجاورة. مصداق ذلك أن استعمال لفظ الزلزلة للدلالة على الطرب الشديد قديم في أدبنا. ففي (الأغاني) (ط بولاق ج6 ص80): (فتغنيت (والمتكلم إسماعيل بن جامع المغني) بصوت لي. . . فتزلزلت والله الدار عليهم) وفي (الأغاني) أيضاً (ج5 ص24) عند الكلام على غناء إبراهيم الموصلي وضرب منصور زَلزَل بالعود في حضرة الرشيد: (فزلزلا الدنيا)، ومن ذلك قول العرب: (والزُلزُل: الطبّال الماهر) (عن لسان العرب)، ولعل اسم (زَلزَل) المتقدم ذكره من هاهنا كذلك
وأما أن تُزلزَل الأذن من شدة الطرب دون سائر البدن فكلام أُنزله منزلة الدعابة، وإلا فَلْيسْتفسرْ الصديقُ العربَ قولَهم: (تزلزلت نفسه: رجعت عند الموت في صدره) (لسان العرب: ز ل ل)، وقولهم في وصف النزال: (وزلزلت الأقدام من ولولة الأنجاد) ((الألفاظ الكتابية) للهمذاني بيروت 1913 ص117 ثم 235). . . إن لكل مقام مقالاً: على هذا تلقَّينا البلاغة!
فالطرب الشديد يزلزل الأذن أية زلزلة حتى إن السامع المطراب يتمنى لو يجنب الناي أو العود خشية الإعياء، كالعاشق أضناه عشقه وعناه فيود لو يفر من معشوقه اتقاء التلف
وإن استكثر محمود زلزلت الأذن أي اضطرابها وتقلقلها ساعة الطرب الشديد، فليسأل صاحب (الأغاني) عن صحة قوله (ج18 ص127): (اندفع عمرو بن الكنات يغني على جسر بغداد أيام الرشيد، فحبس الناس واضطرب المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت(344/73)
الفتنة تقع). . . ألا إن الطرب لأهله - عفا الله عنهم - وصديقي محمود ربيب بيت صلاح وورع وتحرّج وتقوى وأما أنا فكما قال هو: صاحبُ (مرح وانطلاق إلى سائر هذه الألفاظ الراقصة بألفاظها قبل معانيها) بل إن أهلي أنفذوني إلى باريس يأساً، وفي باريس وغيرها لهوت وعبثت وتلمست الطرب على ألوانه حتى أمست أذني - لا قوّمها الله ولا أصلحها - تنعم بالزلزال
ثم هل الأذن التي تزلزل فوق أقوالٍ للعرب مثل هذه: (طار القلب فرحاً، وخلع الحزن قلبه، ومزق أحشاءه، وفتّ كبده) إلى آخر ما هنالك من التعبيرات التي تذوي اللغة من دونها فينفض لونها
وهكذا ترى أن الأستاذ محموداً خذله الحظ هذه المرة. وذلك لأنه عدّ قصيدة الناي من (الشعر الجديد)، فخف يتلمس في مطاويها النبوَّ. فسقط على مطوي عربي صميم. ولعل الحظ ينصره عند قصيدة خارجة في عدد آت، إذ هي أبعد ذهاباً عن المألوف. وليطمئن الصديق إلى أني لن أجاذبه فيما يدق عن المقاييس القريبة فإنما أكتب اليوم على جهة التسلّي والتلهي
بشر فارس
جواب
عند الأستاذ صاحب الرسالة أخبار وأخبار عن المفتونين والمفتونات بمقالاتي ومؤلفاتي، وهو يتجاهل تلك الأخبار كما أتجاهل، ولكن من العقوق أن أتجاهل الخطاب الوارد من (ليلى من الليالي) على وزن (كاتب من الكتاب) كما تقول تلك الغيداء. ويظهر أن الدنيا بدأت تبتسم للروح الحزين الذي قضى دهره في نضال وصيال
وعطفُ قرائي عليّ هو تلك الابتسامة التي أستعين بها على دفع ظلمات الخطوب، وما خلا دهري من خطوب منذ اليوم الذي تقدمت فيه لرفع راية النقد الأدبي، وعند الله والحق جزائي.
وفي خطاب (ليلى من الليالي) أمرٌ كريم بأن يظل خطابها سرّاً مصوناً، وسيظل كذلك إلى أن ترفع الحجاب وتعترف بأن الأدب كالحب يجوز فيه الافتضاح(344/74)
نفسي فداء الأنامل اللطاف التي كتبت ثلاث صحائف لتعلن فتنتها بأسلوبي!
وسألني ذلك الروح عن قدوم ليلى المريضة في العراق مع وفد المؤتمر الطبي العربي، وأقول إني انتظرت ليلى في محطة باب الحديد إلى منتصف الساعة الثانية بعد نصف الليل مع الأستاذ عبده حسن الزيات ولم تحضر كما وعدني الدكتور عبد المجيد القصاب، ومن أجل ذلك قضيت أيام العيد وأنا حزين
أما بعد فقد وجب عليّ أن أعلن ثنائي، وأن أقول بعبارة صريحة إن عطفهم عليّ هو أثمن ما ظفرت به في حياتي، ولولا الخوف من حسد الزملاء لقدمت الأسماء الكريمة التي أعلنت رغبتها السامية في أن تنصفني من زماني، وهل يقبل الزيات ذلك وهو يخاف عليّ فتنة الغرور بثقة القراء؟
حَسْبُ الزيات أن يلهو بقراءة ما يصل إليه من أقوال المفتونين بأسلوبي، وأن يحفظها لأطلع عليها حين أشاء، وأن ينشر منها ما يريد، ولكن متى يريد؟
إن لم يصنع فسأنوب عنه وأقول إني كاتب محبوب، والله يختص بكرمه من يشاء
زكي مبارك
حول الكهربائية تعتاد
صديقي الأديب الكبير الأستاذ الزيات
بعد التحية والاحترام طالعت في العدد الأخير من (الرسالة) الغراء ما أشار إليه الدكتور إسماعيل أدهم من تردُّد فريق من الأدباء في تصديق ما ورد في كتابي (آفاق العلم الحديث) عن تجارب تبين أن بعض الأجهزة الكهربائية المعدة خاصة لهذه التجارب تقوم بأعمال من قبيل التذكير والنسيان والتعدد (آفاق العلم الحديث: فصل (دراسة الحياة العقلية بتجارب آلية) صفحة 216 - 223) وقد أنحى الدكتور باللائمة على أولئك الأدباء لترددهم هذا لأن هذه الأقوال (نتائج العلم التطبيقي في أوربا. . . ومع أن هذه المباحث ليست نظرية وإنما هي وليدة التجربة والاختبار، ولاشك أنه ليس للأفكار ولا للمنطق أن ينازع في حقيقتها مادامت التجربة تثبتها) (الرسالة العدد 343 الصفحة 196)
ومن لطف الاتفاق أنني تلقيت أمس بالبريد الأميركي جزء يناير من (المجلة العلمية(344/75)
الشهرية) بعد مطالعة كلمة الدكتور أدهم في (الرسالة) الغراء، فقلبت صفحاتها وإذا صورة الدكتور هَلْ (وهو الذي عزيت إليه هذه التجارب) في رأس الصفحة التاسعة والثمانين منها. وقد نشرت هناك لأنه كان رئيساً لقسم علم النفس (السيكلوجيا) في مجمع تقدم العلوم الأميركي في مؤتمره الأخير. وعلى هذا أيجوز أن نهمل ما يقدمه أستاذ علم النفس في جامعة (بيل) ورئيس قسم علم النفس في (مجمع تقدم العلم الأميركي)؟
إنني أعلم أن الشك أول مدارج اليقين. ولكن هذا الشك يجب أن يستقيم على تقصي الموضوع فيفضي إلى توضيحه بالبحث الدقيق. أما أن نغفل ما يقدمه أساطين العلم الحديث أو أن نتردد في قبوله لأن قولهم لا يوافق هوى في النفس، أو لأنه لا يساير فكرة سنحت في الذهن، فذلك دليل على الضعف والتصلب وأي تفكير صحيح يقوم على هذين الأسَّين؟
ولست أعلم من هم الأدباء الذين أشار إليهم الدكتور أدهم في كلمته ورد عليهم. وإنما استرعى نظري قوله في ما بين العلم والثقافة الصحيحة من صلة موثقة. فاسمحوا لي أن أشير في هذا الصدد إلى فصل نفيس في (ضآلة ثقافتنا العلمية) حواه كتاب جديد للدكتور قسطنطين زربق، أستاذ التاريخ الشرقي في جامعة بيروت الأميركية عنوانه (الوعي القومي)
وتفضلوا بقبول مودتي واحترامي
فؤاد صروف
هل في الإمكان زيادة بحر جديد في العروض؟
إن البحور المعروفة في علم العروض العربي، هي البحور الممكن تأليفها فعلاً من التفاعيل التي تجيء في لغة العرب. وأساس هذا الكلام لا يتعدى معرفة التفاعيل وصيغها التي تجيء في العربية، ثم تركيب الأبحر الممكن مجيئها منها على أساس حسابات الأمثال. والنتيجة أنه لا يمكن زيادة بحر جديد مستقل على البحور المعروفة في علم العروض، وإن أمكن استحداث تركيبات في أجزاء هذه البحور. ولأحد المستشرقين الروس بحث مستفيض في هذا الشأن، نال عليه إجازة الدكتوراه من لينغراد
(الإسكندرية)(344/76)
إسماعيل أدهم
(يوم سعيد)
إن صناعة السينما في مصر قد نشطت وجدَّت وأخذت تتلمس طرق الفن الصحيح. وهي تخفق مرة وتفلح مرة، ثم إنها أدركت أنه لابد لها من استيفاء العدة على توزع نواحيها: من تصوير وتمثيل وغناء ورقص إلى جانب القصة نفسها.
بدا لنا هذا بمناسبة عرض فلم الأستاذ محمد عبد الوهاب الجديد وهو (يوم سعيد)، ولاشك أن هذا الفلم يدل على تقدم ملموس في صناعة السينما المصرية. فقد وجدنا القصة متساوقة الأغراض لا تبث الملالة والمضايقة في أنفس النظّارة كمعظم القصص التي تعرض هنا. وأما التمثيل، فكان على الغالب غاية في البساطة، فلا تكلف في التعبير، ولا إفراط في الأداء. وكان الإخراج لطيفاً، فيه تبصر وترفق.
وقد جلب المخرج الأستاذ محمد كريم أوجهاً جديدة وعرفها إلى الجمهور. وأنصع هذه الأوجه وجه الفتاة (فاتن حمامة). فكثيراً ما حبست الأنفاس، وحركت القلوب، ومدت الأعناق وهزت الشفاه بالابتسام الرقيق. وكان الأستاذ فؤاد شفيق بارعاً في تمثيل المصري المرح صاحب النكتة المستملحة والقلب الطيب الساذج. وفي الفلم مشاهد كثيرة طريفة. وفيه مشهدان محكمان: الأول إذ تؤدَّى قطعة من مسرحية (مجنون ليلى) لأمير الشعراء أحمد شوقي، وقد جاءت على سبيل التخيل الطريف. والثاني حين يبيع الأستاذ عبد الوهاب الوان الزهر في ظرف أخاذ
بقي الغناء، وقد جاء على لونين: لون الأغاني الشعبية وفيها الشجي المقيم والنغم المحبب إلى نفوس العامة. ولون التلاحين الرفيعة الخاصة بالشعر الرائع الجميل. وفي هذا اللون الأخير بلغ الأستاذ محمد عبد الوهاب مبلغاً فنياً رفيعاً. وحسبه تلحينه الحوار الذي يجري بين قيس وليلى في الصحراء. وقد فطن هنا إلى أن يكف عن المزج المباشر بين النغم العربي والنغم الإفرنجي. وأنا لنرقب من الأستاذ محمد عبد الوهاب مثل هذا التلحين الحسن فنهنئ ممثل الفلم ومخرجه بهذا التوفيق ونرجو أن نعود إلى الحديث عنه مرة أخرى(344/77)
معنى بيت في الحماسة
في صفحة (81 و82) من الجزء الثاني من كتاب ديوان الحماسة (الطبعة الثالثة) الأبيات الآتية وهي من شعر لعبد الله ابن الدمينة الخثعمي:
ولما لحقنا بالحمول ودونها ... خميص الحشا توهي القميص عواتقه
قليلُ قَذى العينين يُعلم أنه ... هو الموت إن لم تُصْرَ عنَّا بوائقُه
عرَضْنا فسلّمنا فسلّم كارهاً ... علينا وتبريحٌ من الغيظ خانقهُ
وقد جاء في شرحها: (ومعنى الأبيات الثلاثة ولما لحقنا بالهوادج التي فيها الحبيبة وخلفها قيم خفيف اللحم لا يقع القميص من عاتقه على لين وطئ لأن عظامه غير مكسوة باللحم وذلك القيم حاد النظر ليس بعينيه قذىً شديد الغيرة على أهله فنحن من شدة صولته نعلم أنه الموت إن لم تهلكنا دواهيه دنونا منه الخ)
وإني أرى أن الشارح (العلامة التبريزي أو غيره) يشرح جملة (يعلم أنه هو الموت إن لم تُصرّعنَّا بوائقه) بأنه الموت إن لم تهلكنا دواهيه فهو يقابل (تُصرعنَّا) بكلمة (تُهلكْنا) وهذا غير صحيح لأن (تُصرعنَّا) بضم التاء لا يمكن أن يكون معناها تهلكنا وإذا فرضنا أنها (تَصرَعنَّا) بفتح التاء فمعنى الشعر لا يستقيم إذ كيف يكون هو الموت إن لم تهلكهم دواهيه! ولم تكن جملة (إن لم تهلكنا دواهيه) مسبوقة بواو الحال فتفهم أنها جملة حالية!
فالحقيقة أن (تُصرَعنَّا) كلمتان (تُصْرَ) و (عَنَّا) وتُصْرَ فعل مبني للمجهول مجزوم بحذف حرف العلة من صرى أي حبس أو منع. وهنا يستقيم المعنى ونفهم أن الشاعر إنما قصد تشبيه ذلك القيم بالموت إن لم تتلطف بهم المقادير وتحبس أو تمنع عنهم دواهيه.
(الخرطوم بحري)
ا. م. س
(الرسالة): أصاب الكاتب وأخطأ الشارح الذي نقل عنه، وهو غير التبريزي من غير شك؛ فإن التبريزي يقول في شرحه: (يصفه بحدة النظر، وأنه ليس بعينه غمص فهو أحدُّ لنظره؛ وإنما يريد مراعاته أهله لشدة الغيرة، فنحن نخاف من صولته إن لم تُصْرَ عنا، ويروي إن لم تلْق عنا)(344/78)
ورواها صاحب الأمالي ج1 ص156 وفيها (إن لم تُلْقَ) وذكر البكري في شرح الأمالي رواية أبي تمام في الحماسة ثم قال وروي: (وإن لم تُسْرَ عنا بالسين والصاد)
وقوله (تصر عنا)، من قولهم (صَرَى الشيء صرْياً قطعه ودفعه، وصرى الله عنك شر فلان أي دفعه يقول ذو الرمة
فودّعنَ مُشْتاقاً أصبنَ فؤاده ... هَواهن إن لم يَصرِهِ الله قاتله
وروايتهم (تسر عنا) من قولهم سروت الشيء إذا نزعته وكشفت عنه ومنه قولهم سُرِّيَ عنه تجلى همه وانكشف(344/79)
الكتب
وحي الرسالة
من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب (وحي الرسالة) تسجيلاً للفضل منهم وللشكر منا
قال الأستاذ مصطفى الصباحي في جريدة (الدستور):
كتاب أخرجه للناس الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو جملة من مقالاته التي كان يصدر بها مجلته (الرسالة) كل أسبوع جمعها بين دفتي هذا الكتاب؛ فكان كأنما انتقى من روضة مونقة الربيع أزهاراً ذات أرج خاص في باقة واحدة علم رغبة الناس في تنسم عبيرها، فيسر عليهم سبيل اقتنائها وتشممها والإفادة بما يستروحون له من عبقها دون كبير سعي أو عظيم جهد
وللأستاذ الزيات أسلوب يتميز به على كثير من كتاب العصر، وسياقة لن تجدها لكاتب من أهل العصر، وتفتقدها من لدن ازدهرت اللغة وعمت آدابها في العصر العباسي حتى الآن، فلا تجد إلا نفحات مبعثرة في تاريخ أدبها لا صلة بينها وبين بعضها، فذلك كاتب وقعت له عبارة جزلة، وهذا خطيب أنفق له معنى فحل، وغير هذين جمعت له بعض ألوان من فنون العبارة أو بلاغة المعاني
ولكن قلما وقعت على كاتب وفق في الغابتين فامتلك ناصية العبارة وبرز في خلق المعاني
فأنت إذن حين تقرأ للزيات إنما تجتمع لك طلاوة العبارة وجمال المعاني، وتلك هي الغاية التي تنتهي عندها آداب الكتاب وتقف دونها ملكات المبرزين من أرباب الأقلام
وفي زماننا هذا قل أن يعني الكاتب والقارئ إلا بما وراء اللفظ، فإذا برز إنسان في إيراد المعاني الجليلة واتفقت له سلسلة من الآراء والأفكار القويمة تجاوز النقاد من أهل العصر عن ركاكة عبارته وفساد سياقته
ولقد كنت أعجب للتيار الذي نساق إليه هذه الأيام من إهمال الجانب الأدبي في التحرير، وكنت أرجو أن تنقشع تلك الغمة التي دعيت (تجديداً) وهي ليست من التجديد في شيء. . . إذ قنع المنشئون بمحاكاة أهل الغرب في أخيلتهم والأخذ عنهم في إيراد الأحاديث وتقليدهم في الأوصاف ونحوها من فنون الكتابة دون إعارة أصول الأدب العربي شيئاً من(344/80)
عنايتهم، حتى ذهب كبير من أعلام دولة القلم يتحدث إلي في مجلس خاص فيقول إن اللفظ للمعنى كالثوب على الرجل، فهو إن كان رجلاً فاضلاً لم ينتقص خلق ثوبه من فضله، وإن الرجل مهما يكن لباسه شريفاً ولكن نفسه فقيرة من الفضل وقلبه خلى من العلم لا ينفعه اللباس في شيء!
وعلى الرغم مما في ظاهر هذا القول من تعبير حق عن جوهر الموضوع فإن اللفظ الشريف يزيد المعنى الجليل شرفاً، كما يسبغ الثوب الكريم على الرجل العظيم مهابة ويزيده توقيراً ويكون أدعى إلى احترامه لدى غشيانه المجلس
فإن أول ما يطالبك من الرجل لباسه، وأول ما يفاجئك من المعنى ظاهر لفظه. ورب معان كريمة ضاعت لسوء صياغتها وركاكة أسلوبها. ورب مقالة خلدتها الرواية لطلاوة السياق وبلاغة الإيراد ورقة الحاشية
والزيات كاتب جمعت له إلى رصانة الأسلوب ووضوح السياق حلاوة المعنى، وبلاغة العبارة. ولعله في ذلك متميز بالجمال في الناحيتين. ذلك الجمال الذي تلمس منه ميلاً إليه في شتى صوره وتفصيلاً له في جميع معانيه. فأنت أول ما تطالع من كتابه الجديد مقالة (في الجمال)، فهو يحدثك في هذه المقالة عن الجمال حديث الشاعر الملهم، والكاتب الصادق الحس، ورجل الفن الذي استغرق الفن مشاعره واستجاب لحاسته الفنية الدقيقة.
فهو بهذه الصفات كلها يقولك:
(الطبيعة والفن إنما يحدثان أثرهما في النفس، إما بالفكرة وإما بالعاطفة وإما بالشعور الصادر عن آلات الحس، ومن ذلك تنوع الجمال، فكان عقلياً وأدبياً ومادياً).
هذا مذهب يذهب إليه الرجل وهو يتحدث لا بعقله وحده وإنما بحسه أيضاً، ذلك الحس الذي يشعر بالجمال ويقدره، يشعر به جمالاً عقلياً وأدبياً ومادياً لا يخطئ في الشعور به ولا يغفله في أية صورة ظهر أو خفي. . . وآية ذلك أنه يقول بفعل ذلك الإحساس وحده: (وجمال المرأة يحتفظ بدوامه وسحره مادامت له روح العاطفة تشع في نظراتها، وتنسم في بسماتها، وتشيع في قسماتها، وتنشر أضواءها السحرية على أعصاب الرجل - وهو بطبعه ولوع - فيتمتع بنعمة اختياره ولذة إيثاره، ويجد في الضعف الذي يستسلم ويستكين، الحب الذي يطول ويحكم. .(344/81)
ثم إن الأستاذ الزيات يتحدث إليك بعد هذه المقالة عن (الربيع) فإذا هو يقول (ففي الربيع يشتد الشعور بالجمال والحاجة إلى التجمل، فترى الشباب بجنسيه يستعير ألوان الرياض وعبير الخمائل ومرح الطيور، ويحتشد في دور الملاهي وصدور الشوارع، فيخلع على الوجود وضاءة الحسن، وعلى الحياة رونق السعادة)
وفي المقالة الثالثة يتحدث الأستاذ عن العيد فيقول: (والأعياد الأجنبية التي تشهدها مصر في ذكرى الميلاد ورأس السنة غاية في نعيم الروح والجسم، وآية في سلامة الذوق والطبع، وفرصة ترى فيها القاهرة - وهي منفرجة - كيف تفيض الكناس بالجلال، وتزخر الفنادق بالجمال، وتشرق المنازل بالأنس. . . الخ)
ألا ترى أن في ولوع الأستاذ الزيات بالحديث عن الجمال وتحليل مذاهبه وترديد أوصافه ما يهديك إلى سر ذلك الأسلوب الرائق الجميل وتلك الديباجة الموشاة البديعة؟
ثم ألا ترى في طريقة أخذه الموضوعات أخذاً منطقياً يشرف به الأسلوب ما يدل على ملكة مطواعة وبديهة مواتية ومقدرة على الترسل فذة عجيبة!
وصل (وحي الرسالة) إلى يدي أمس وكنت قد طالعت فصولاً مما احتوى نشرت قبل في الرسالة، وفيه فصول فاتتني قراءتها، وإني لشديد الحرص على ألا تفوتني، ولكنني تعجلت إرسال هذه الكلمة إيماء إلى فضل الكاتب وعظيم يده على الأدب العربي في العصر الحديث. والكتاب يعد جوهرة نفيسة دائمة الإشراق لا تخلق ديباجتها ولا يخبو بريقها؛ فهي ذخر مقتنيها ومتاع روحه
مصطفى الصياحي(344/82)
العدد 345 - بتاريخ: 12 - 02 - 1940(/)
الموظفون والناس. . .
ابتليت في هذه الأيام أن أختلف إلى بعض الوزارات في شأن من شؤون الرسالة. وأشيد الأمور على نفسي أن أغشي دواوين الوزارة أو أقسام الإدارة، لأني اعتقد كما يعتقد أمثالي من السوق الأحرار أن الحكومة من الأمة بمثابة الرأس من الجسد، فيه التفكير والتدبير والقيادة، وليس فيه الاختيال والشموخ والسيادة. ولكن الحكومات في أمم الشرق لا تزال تعتقد أن الرأس معناه أن يوضع فوق الجسم ليسمو على أعضائه ويعيش على غذائه. فإذا دخلت دورها لا تجد فيها الروح الوطنية التي تبعث الحياة العامة، ولا الفكرة الاجتماعية التي تدير المنفعة المشتركة، وإنما تجد بها مظاهر شتى للسلطان الجبار والبيرقراطية الصلفة تعطل معنى الإصلاح وتبطل حقيقة العدالة.
ترى أول ما ترى من الشرطة والسكرتيرين والحجاب والسعاة يسد أبواب المكاتب، ويملأ مدارج الطرق، ويشغل فراغ الحجر؛ وهذا الجيش الذي يكلف الخزانة لا ادري كم من المال لا عمل له إلا بث الرهبة وإظهار الأبهة والحيلولة بين الناس وبين القائمين على (مصالحهم) من أولي الأمر. فإذا ساعفتك الفرصة أو ساعدتك اللجاجة فنجوت من شراسة الشرطي أو الحاجب، وخلصت من غطرسة السكرتير أو الكاتب، دخلت على الموظف الكبير بهواً كأبهاء القصور، فرش بالطنافس وأثث بالأرائك وزين بالتحف وأدفئ بالكهرباء وقام في صدره الحالي طرفة من طرف الأثاث يقولون إنها مكتب، ومن وراء هذا المكتب الفاخر كرسي وثير متحرك جلس عليه الموظف العظيم وثيابه تكاد تنشق من ورم الكبر ونفخة السلطة، فلا تستطيع من رهبة السلطان أن تكلمه، ولا يستطيع هو من عزة المنصب أن يكلمك.
هذه المظاهر القائمة على السرف والترف يجب أن تزول أو تخفف، لأنها تحيط الموظف بجو من العظمة المستعارة تزور له ذاته، وتفسد عليه حياته، وتجعل ميزانه الاجتماعي منصوباً على ضميرين مختلفين: يزن في بيته ولنفسه بضمير، ويزن في الديوان وللناس بضمير. ويا ويل ذي الحاجة إذا دخل على الموظف مكتبه وليس منسوباً إليه ولا معروفاً لديه ولا موصى به! أنه لا يجد إلا النظرة القاسية، والكلمة الجاسية، والإشارة المهينة، والهيئة الوقحة التي تصرخ في وجهه بهذه الجملة:
يا بعد ما بيني وبينك! أنا حاكم وأنت محكوم، وأنا (ميري) وأنت (براني). فإن احتمل(345/1)
المسكين الهون وقف على مضض، وإذا ملكته الحمية انصرف على شجار!
لقيت منذ يومين في فناء الوزارة الفلانية صديقي فلاناً المهندس المقاول خارجاً يزجر من الغيظ وينتفض من الغضب. فقلت له وأنا أربت على كتفه:
- كفاك الله الشر! ماذا بك؟
فقال بصوت يتفجر بالسخط ويتهدج من التأثر:
- والله يا أخي ما أدري أنحن عبيد الموظفين أم نحن وهم عبيد القانون؟ هذا فلان بك. .
- فلان بك؟! إنه الرجل الذي أقصده الساعة في مسألة عامة
- تعال تعال! لا خير في لقائه اليوم. لقد تركنه يفور على الكرسي فوران القدر على الموقد
- ولم كان ذلك؟
طلبت الإذن عليه لأشكو إليه خلل إدارته وإهمال مرءوسيه، فإن لي عملاً يدخل في اختصاصه مضى عليه سنتان، وكان يكفي لإنجاز يومان، فأهملني عند سكرتيره ساعة ثم خرج غير آذن ولا معتذر. فانصرفت خجلان من سوء ايظن بي مدير مكتبه، ثم عدت إليه يوما آخر وطلبت إذنه مع الطالبين وفيهم كما علمت النائب والصاحب والقريب، فدخلوا وخرجوا، ثم دخل قبلي من جاء بعدي، حتى لم يبق في شرف الانتظار إلا أنا ورجلان من أصحاب العمل. حينئذ قال سكرتيره: أن البك مشغول بقية الوقت! فثار في وجهي الدم، وطغى في رأسي الغضب فاقتحمت عليه الباب وقلت له من غير اعتذار ولا تحية: يا سيدي البك! ربما كنت أنا الزائر الوحيد الذي زارك اليوم لعمل من الأعمال التي تجلس لها وتؤجر عليها، فلم يكن من اللائق بأمانة المنصب أن تحجبني مرة بعد مرة لتستجيب إلى طلاب الشفاعات والوساطات من ذوي الصداقة والقرابة.
فحملق البك في وقد استشاط وبربر وصاح: من أنت ومن أذن لك بالدخول؟ فقلت له: أنا فلان! سرى من سراة البلد، وثروة من ثروات الأمة. نشأت في مهد العدم، ثم تعلمت للعمل الحر، وضربت في سبيل العيش الكريم من أفق إلى أفق، حتى أصبح عملي الناجح مرتزقاً لمئات من الأسر العاملة، وأصبحت - وأنا لا أزال في شباب الكهولة - ذا خمسين ألف جنيه ورتبة. أما أنت فالكبير الصغير! كبرك المنصب والمرتب اللذان أدركتهما بمضي المدة، وصغرك العجز والكسل اللذان كشفاك في إدارة العمل. أن سلطان الوظيفة يا سيدي(345/2)
عرض منفك ومتاع زائل. فإذا شئت أن تعرف أين أنت مني فدع منصبك الحصين وادخل معي في غمرة الدنيا وزحمة الناس، ويومئذ نرى أينا يوطأ بالأقدام، وأينا يرفع على الرؤوس. . .
وهنا رأيت الرجل يكاد يتمزع من الغيظ فأهوى بيده على أزرار الأجراس فصلصلت جميعاً، وقال لحجابه وسعاته: أخرجوا هذا. . . من هنا. فأخرجوني على حال من الهوان لا يصبر عليها إلا رجل حازم أمام موظف أحمق.
فقلت له ونحن نمشي الهويني في طريقنا إلى البيت: هون عليك يا صديقي فإن أكثر الموظفين حالهم مع الناس كحال هذا الموظف معك.
أيها القلم!
لشد ما أتمنى على الله أن يجعلك في يدي سناناً يخز، ومعولاً يهدم! لقد عجزنا يا قلم وعجز الكلام!
أحمد حسن الزيات(345/3)
اللعب
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلتم في مقالكم الجميل (الحياة جميلة):
(. . . ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء للهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسياحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية. وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وازرة الشؤون الاجتماعية)
كلام صديق
وربما كان أرفع من تقريظه بوصف الصدق تقريظه بوصف الجمال. فليس كل صادق بجميل
لكن كم منا نحن المشارقة، يا أخي، يؤمن معك بحاجة اللهو إلى زعامة، وحاجة الأمة إلى لهو؟
وكم منهم يؤمن معك بأن زعامة اللهو واللعب لها من الشرف والمنفعة كفاء ما للزعامات في الجد أو في الأمور التي تتراءى صيغة الجد عليها؟
أقل من القليل
أقل من القليل مع هذه الوقائع الناطقة التي تتوالى عليهم كل يوم بفضل الأمم التي تحسن اللهو واللعب على الأمم التي تتكلف التزمت والوقار.
وأقل من القليل مع تلك الشواهد التاريخية التي ليس بعمى عنها ذو بصيرة تشهد في الدنيا شيئاً من الأشياء.
فما عرف التاريخ قط أمة أحسنت الجد ولم تحسن اللهو واللعب وما عرف التاريخ قط أمة من أمم القوة والسيادة لم تكن لها ألعاب لم يكن لها زعماء في هذا المضمار.
وناهيك بالرومان وملاعبهم في كل مدينة وضعوا حجراً في بنائها.
وباليونان ومحافلهم القومية التي كانت تتعاقب كل عام أو بضعة أعوام.
وبالفرس ومواكب الكرة والصولجان، والعرب وميادين الفروسية ومنازه الصيد والقنص وما اقتبسوه من سائر الأمم والدولات حيثما ارتفع لهم عرش واستقرت لهم إمامة(345/4)
أما في التاريخ الحديث فيوشك أن يكون السبق في مضمار اللعب قريناً بالسبق في مضمار السيادة. ويصدق من يقول أن بريطانيا العظمى تفردت بالسلطان العالمي يوم تفردت بالسبق في ألعابها، وشوركت في ذلك السلطان يوم شوركت في تلك الألعاب.
فاللعب هو فيض الحياة.
ولن تكون سيادة بغير حياة أولاً. . . ثم فيض في الحياة بعد ذاك
لا يلعب الإنسان وهو عليل
ولا يلعب وهو محسور مغلوب
ولا يلعب وهو مسلوب المشيئة
ولكنه يلعب حين يصح، وحين يفرح، وحين يملك زمامه فيشاء ويفعل ما يشاء
فاللعب والحياة الفائضة صنوان، والسيادة والحياة الفائضة لا تفترقان
لكنهم ضعفوا في الشرق فلم يفقهوا لغة الحياة ولم يلحنوا ما تقول حين تتكلم بكل لسان
رأوا الطفل يلعب وهو قليل العقل
ورأوا الشيخ يتجنب اللعب وهو كثير العقل أو كثير الاختيار فحسبوا أن اللعب ونقصان العقل متلازمان، وإن الوجوم من اللعب ورجاحة العقل مترادفان.
فأخطئوا
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور
فما لعب الطفل لأنه اقل من الشيخ عقلاً، ولكنه لعب لأنه أوفر نصيباً من جدة الحياة
وما تزمت الشيخ لأنه أعقل من الطفل، ولكنه تزمت لأنه أعجز منه وأدنى إلى الموت
ولو اجتمعت للشيخ حكمة السن وجدة الطفولة لما منعته والحكمة أن يلعب ويلهو، ولعلمته بعد ذلك كيف يفتن في لعبه ويزيد في لهوه، ويبز فيهما الأطفال والشبان.
ورأوا المجنون يلعب والعاقل لا يلعب مثله فجزموا باتصال الجنون واللعب كما جزموا باتصال العقل والسكون.
أخطئوا
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور
لأن المجنون يلعب من فرط الطلاقة لا من ذهاب لبه واختلاط فكره(345/5)
وآية ذلك أن بعض المجانين يفقدون اللب والصواب ولا يلعبون، بل ينوحون ويتخبطون ويبتئسون، لأن جنونهم يسلمهم للخوف والفزع ولا يسلمهم للطلاقة والمراح.
فهل يقال انهم إذن أعقل من العقلاء الذين يلعبون حيناً بعد حين؟
كلا. بل يقال أن الطلاقة تلازم اللعب في كل حين. . . أما الجنون واللعب فلا يتلازمان.
وينبغي أن نفرق هنا بين اللعب الذي نعنيه، وبين ما يلتبس به في بعض ظواهره ودواعيه
فاللعب الذي نعنيه غير التسلية
واللعب الذي نعنيه غير الرياضة
لأن الورق والنرد والشطرنج تسمى ألعاباً ولكنها لا تحتاج إلى فيض حياة ولا إلى تمام الشعور. بل لعلها تحتاج إلى الكسل والراحة والفتور، وهي في لبابها شغل من الأشغال ولكنه شغل فراغ.
ولأن الرياضة وسيلة إلى غيرها في كثير من الأحوال، فهي بين رياضة تراد للحرب، ورياضة تراد للعلاج، ورياضة تراد لاحتمال المشقات، ورياضة تراد للتجميل والتقويم.
أما اللعب الذي نعنيه فهو التعبير الملازم لحالة الفيض والإشراق فلا يراد بعد ذلك لغرض من الأغراض
هو شيء كلمعان الزجاج حين ينتفى عنه الكدر وينجلي عنه الغشاء.
فلا يقال أن الزجاج يلمع لهذا الغرض أو لذاك، ولا يقال أن اللمعان وسيلة مقصودة ليبيعه البائعون ويشتريه المشترون ويصنعه الصانعون.
وكل ما يقال أنه يلمع لأن اللمعان طبيعة فيه، وشعاع من نوره السابغ عليه
وعلى هذا المعنى يدخل في باب اللعب ابتكار الفنان، ووحي القريحة، وتوقان النفوس إلى العظائم، وغرام العقول بالكشف عن المجهول، ولألاء الجمال في الوجوه، ولألاء الجمال في الأرواح.
وعلى هذا المعنى كذلك يعم اللعب فطرة الحياة حيثما وجد الأحياء.
فهو في الطير المغرد، وفي الحوت السابح، وفي الحيوان الطافر، وفي كل ما يفيض بحياته فيندفع في ألعابه، ويوشك أن يخرج من إهابه.
أما التسلية فليست من الفطرة(345/6)
وأما الرياضة فجانب فيها من الفطرة وجانب من ابتداع الجماعة الإنسانية.
وليس اللعب الذي نعنيه تسلية ولا وسيلة اجتماع.
وإنما هو تعبير لحياة كلما امتنع الحائل بينها وبين التعبير
وتبحث يا أخي عن زعامة للعب واللهو بين المشارقة (الموقرين)!
أعانك الله!
أتسبق الرياسة المرؤوسين؟
أم يسبق المرؤوسون الرئيس؟
علمهم أن يفهموا اللعب على معناه وأنت في غنى بعد ذلك عن تعليمهم معنى الجد أو تعليمهم معنى الحياة، وفي غنى عن انتظار الزعماء وهم ما امتنعوا قط حيث وجد المستحقون لزعامة زعيم.
عباس محمود العقاد(345/7)
حول استقلال الكلمات في المعاجم
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
لا أزال أتذكر الحيرة الشديدة التي تملكتني عندما تصفحت المعاجم العربية الحديثة قبل سنوات. فقد كنت أريد تزويد ابني بمعجم صغير يرجع إليه في معرفة معاني الكلمات من جهة، ورسم حروفها من جهة أخرى؛ فاستشرت جماعة من معلمي العربية وعلمائها عن أحسن المعاجم المختصرة التي تحقق هذا الغرض. . . غير أني، عندما قلبت صحائف المعاجم التي دلوني عليها وقعت في حيرة، إذ وجدتها جميعها مرتبة على نمط المعاجم القديمة، وسائرة على خططها، لأنها ترتب الكلمات بحسب موادها الأصلية، ولا تراعي ترتيب الحروف الهجائية إلا في تلك المواد. . .
وحيرتي هذه تحولت إلى دهشة شديدة عندما أفضيت بها إلى جماعة المعلمين والعلماء، ووجدتهم يحارون لحيرتي ويستغربون لاستغرابي، كان الأمر من الأمور الطبيعية التي لا داعي للحيرة فيها، ولا مساغ للاعتراض عليها. . .
ودهشتي هذه وصلت إلى أقصى حدودها عندما رأيت هؤلاء ينبرون للدفاع عن خطط تلك المعاجم. . . إذ قال أحدهم:
- ولكن اللغة العربية لا تشبه سائر اللغات. . .
وقال آخر:
- إن طبيعتها تختلف عن طبيعة تلك اللغات. . .
وما كدت أستفيق من الحيرة التي أوقعتني فيها هذه الكلمات حتى همت بالرد قائلاً:
- وما علاقة المعجم بطبيعة اللغة؟ إن الغرض من المعجم هو ترتيب الكلمات ترتيباً معقولاً، يضمن الوصول إلى إيجاد الكلمة المطلوبة بأعظم ما يمكن من السرعة والسهولة. ولا شك في أن هذه السرعة والسهولة لا تحصلان إلا بترتيب الكلمات بحسب حروفها الهجائية، ومن البديهي أن هذه ليست من الأمور التي تختلف بين لغة وأخرى بوجه من الوجوه.
غير أن معلماً ثالثاً اشترك في البحث سائلاً:
- يعنى، تريد أن تكتب مثلاً كلمة الاستغفار في مادة الألف، وكلمة الغفران في مادة الغين؟(345/8)
قلت بدون تردد: نعم
فقال المعلم بلهجة المؤمن المعتقد الذي يثورعلى أمثال هذه البدع:
- ولكن هذا لا يجوز في اللغة العربية. . .
فسألته: لماذا؟
فأجابني بحيرة ظاهرة:
- لأننا إذا فعلنا ذلك لا يتعلم الطلاب، مثلاً، أن الاستغفار من باب الاستفعال، وأن مادته الأصلية هي غفر. . . فحاولت أن أقنع مخاطبي ببعض البراهين، فقلت:
- أن لتعليم هذه الأمور ألف وسيلة ووسيلة. . . حتى إن المعجم الذي أتصوره وأقترحه يكون - هو أيضاً - من أحسن الوسائط لذلك: يدرج القاموس كلمة الاستغفار في المحل الذي يتطلبه ترتيب حروفها الهجائية، ويذكر بجانب الكلمة مادتها الأصلية. . . فيجد الطالب الكلمة في المعجم بكل سهولة، ويتعلم - في الوقت نفسه - من قراءة ما كتب عنها أن مادتها الأصلية هي غفر، وأنها تدل على طلب المغفرة. . .
سكت مخاطبي كما سكت زملاؤه. غير أنني لمحت في أعينهم ما يدل على أن هذا السكوت لم يتأت من الاقتناع، بل تأتى من الاعتقاد بأن كل اعتراضاتي هذه ما هي إلا نتيجة عدم إلمامي بقواعد العربية الإلمام الكافي، وعدم فهمي لخصائصها الفهم اللازم. . .
مضى على هذه المناقشة أكثر من عشرة أعوام. . . ثم عدت إلى قضية المعاجم - في هذه الأيام - مرة أخرى، وعلمت - في حيرة جديدة - أن اللغة العربية لم تحظ إلى الآن بمعجم عصري بالمعنى الذي يفهم من كلمة المعجم في جميع لغات العالم. . . كما علمت بأن المجمع اللغوي الملكي نفسه لم يقدر أهمية هذه القضية حتى قدرها، ولم يدخلها في عداد الأعمال التي يسعى لتحقيقها. . .
فرأيت من الواجب على أن ألفت أنظار علماء العربية ومعلميها إلى هذا الأمر إلهام من فوق منبر (الرسالة) الغراء، وأن أدعوهم إلى العمل على إزالة هذا النقص الفادح.
أن المعجم بمثابة مخزن للكلمات، معد لمراجعة جميع الناس، بحيث يستطيع كل شخص أن يدخل هذا المخزن فيتناول منه الكلمة التي يقصدها، دون أن يحتاج إلى مساعدة أحد يدله على موضعها. . . ولهذا السبب تصنف الكلمات في هذه المخازن العامة تصنيفاً يضمن(345/9)
إيجاد ما يراد منها بأسرع الطرق وأسهلها. ولهذا السبب يختلف التصنيف المعجمي عن التصنيف الصرفي والنحوي اختلافاً كلياً، ويكون هذا التصنيف ألفبائياً - بوجه عام - لكي يستطيع كل فرد أن يجد أية كلمة من الكلمات فيه، بمجرد تذكر ترتيب الحروف الهجائية في الألفباء. . .
غير أن المعاجم العربية تشذ عن هذه القاعدة العامة شذوذاً غريباً، لأنها تصنف الكلمات تصنيفاً مفعماً بالالتواء والتعقيد، بحيث لا يستطيع أحد أن يجد كلمة من الكلمات إلا إذا عرف - مقدماً - مادتها الأصلية وكيفية اشتقاقها من تلك المادة بصورة تفصيلية.
فلو أراد أحد أن يراجع المعجم في كلمة (الاستيلاء) مثلاً، فعليه أن يلاحظ بل كل شيء أن هذه الكلمة من باب (الاستفعال)، كما يعرف - سلفاً - أن مادتها الأصلية هي (ولى)، وعليه أن يبحث عنها - مستنداً إلى هذه المعلومات - في الصحائف الخاصة بحرف الواو فاللام. . . وأما إذا أراد أن يراجع المعجم في كلمة (الاستواء)، فعليه أن يعرف أنها من باب (الافتعال) وإن مادتها الأصلية هي (سوى)، فعليه أن يبحث عنها - مستنداً إلى معلوماته هذه - في الصحائف الخاصة بحرف السين فالواو. . . غير أنه إن كان لا يعرف ذلك فمن العبث أن يراجع القاموس ويقلب صفحاته، لأن القواميس العربية لا تدل على مواضع مثل هذه الكلمات إلا لمن يعرف مثل هذه الدقائق الصرفية واللغوية حق المعرفة.
أليس ذلك مخالفاً لأبسط قواعد التعلم ولأوضح مبادئ التعليم. . .؟
لنأخذ مثالاً آخر: لنفرض أننا طلبنا من أحد الطلاب أن يبحث في المعجم عن كلمتي: الاستعانة، والاستكانة. . . إن هاتين الكلمتين متشابهتان ومتقاربتان من حيث اللفظ والكتابة؛ فإن الحروف الثلاثة الأولى مشتركة كلتيهما، وكذلك الحروف الثلاثة الأخيرة؛ والفرق بينهما ينحصر في الحرف الرابع وحده، مع كل هذا فإن موقع كل منهما في المعجم يتباعد عن موقع الأخرى تباعداً غريباً جداً؛ فعلى الطالب الذي يبحث عن هاتين الكلمتين في المعجم، أن يعرف أن الكلمة الأولى من باب (الاستفعال) من مادة (عون) فيراجع من أجلها حرف العين فالواو؛ كما عليه أن يلاحظ أن الكلمة الثانية قد تكون من باب (الاستفعال) من مادة (كون) أو من باب (الافتعال) من مادة (سكن)؛ فعليه أن يراجع حرف الكاف فالواو نظراً للاحتمال الأول، وحرف السين فالكاف نظراً للاحتمال الثاني.(345/10)
وهل يمكن للمرء أن يتصور طريقة تصنيف أعقم من هذه الطريقة، وخطة تبويب أسخف من هذه الخطة. . . من وجهة مقتضيات العقل والمنطق من جهة، ومطالب التربية والتعليم من جهة أخرى؟
إن المعاجم العربية الموجودة بين الأيدي لا تزال تضع الاشتقاق في الموضع الأول من الاعتبار، فتهتم بأنساب الكلمات قبل كل شيء وفوق كل شيء، كأنها لا تريد أن تعترف بشيء من حق الاستقلال للكلمات المشتقة، مهما كان مبلغ تخصصها في معنى من المعاني، ومهما كانت درجة تباعد هذا المعنى الخاص عن المعنى الأصلي. . . إنها لا تعترف لها بحق الاستقلال في بيت خاص حتى ولو كانت قد أصبحت رئيسة أسرة خاصة، ومنشأ ذرية كبيرة، كأنها تريد أن تبقيها تحت وصاية مستمرة وتحتم عليها أن تسكن على الدوام، في دار (جدها الأعلى) مع جميع أفراد العشيرة التي تنتسب إليها. . .
فلنترك الألفة المخدرة جانباً، ولنفسح لأذهاننا مجال التفكير الحر خارجاً عن الطرق المألوفة قليلاً: هل من المعقول أن نستمر على هذه الخطة في معاجمنا، ولا سيما في المدرسية منها.
هل من المعقول - مثلاً - أن نستمر على إدخال كلمة المصباح في مادة الصبح، فنتركها في معاجمنا ضائعة بين كلمات الصباح، والصباحة، والصبوح، والصبيحة والاصطباح والاستصباح. . .؟ وهل من المعقول أن نستمر على عدم اعتبار لفظة (الأنبوبة) كلمة قائمة بنفسها، وعلى إدخالها في درج الـ (نب) ونظل نطلب من أطفالنا وطلابنا أن يجدوها هناك؟ وهل من الحكمة في شيء إلا توجد محلاً ملائماً لوضع كلمة (الميزانية) في غير الخزانة المخصصة لمادة (الوزن). . .؟
وعندما ما أكتب هذه الأسطر يتوارد على ذهني أمثلة كثيرة من هذا القبيل، كأنها تتسابق في التباعد عن قواعد العقل والمنطق ومبادئ التربية والتعليم إلى أقصى حدود التباعد. . .
أن كلمة الاستئناف - مثلاً - بالرغم من معناها الخاص الذي يلعب دوراً هاماً في الحقوق والقوانين، وبالرغم من كثرة المحاكم التي تسمى بها لا تزال تلتجئ في المعاجم إلى ظل كلمة (الأنف)!. . .
وكلمة (الاستراحة) - التي يستعملها الناس في كل يوم مئات من المرات - لا تزال(345/11)
محبوسة في المعاجم في دار (الراح)، ومحشورة بين كلمات شتى المعاني والألفاظ: كالرياح والرائحة والأريحية والريحان!. . .
حتى أن كلمة (المدرسة) نفسها لم تكتسب في معاجمنا حق الاستقلال؛ فهي لا تزال تابعة - في نظرها - إلى كلمة الدرس ومجبرة على الاندساس بين كلمات متخالفة النزعات مثل (اندراس) المعالم والمباني و (دراسة) الحنطة والحبوب!. . .
وكلمة (الاقتصاد) التي أصبحت بمعناها الاصطلاحي الجديد من أهم محاور الحياة الاجتماعية - لا تزال مختفية في معاجمنا بين الكلمات التي من طراز القصد والمقصود، والقاصد والقصيدة وبين المعاني التي تدل على موت الكلب، واستقامة الطريق، وأغصان العوسج!. . .
ولكن، لماذا أطيل الكلام في هذه الأمثلة العجيبة؟ إن معاجمنا لم تعترف بحق الاستقلال، حتى لكلمة الاستقلال نفسها! فهي لا تزال تعتبرها تابعة لـ (قل)، فتحتم عليها السكنى في مسكن (القلة والقليل)!. . .
نعم، إن كلمة الاستقلال التي تثير في النفوس ما تثيره من العواطف الجياشة على الدوام، والتي تتكرر في القصائد الوطنية والأناشيد المدرسية كل يوم مئات، بل آلاف المرات. . . كلمة الاستقلال التي كان معناها - ولا يزال - سبباً لتضحيات كبيرة في الجهود والأموال والأنفس - كلمة الاستقلال هذه لم تستقل في معاجمنا إلى الآن.
فعلى كل من يود التعرف إليها في القاموس أن يطرق باب الـ (قل) وإن يعرف أنه سيلاقيها بجانب كلمة (لقليل)!
أنا لا أدري بماذا أنعت معاجمنا لاتباعها هذه الخطط العوجاء، وسكوت علمائنا عن هذه النقائض الفادحة. غير انني أميل إلى تعليل هذا الاستمرار وذلك السكوت بتأثير عاملين أساسيين:
أولاً: عمل قانون الألفة الذي يجعل الإنسان لا يشعر بأكره الروائح، ولا ينتبه إلى أفدح النقائض، عندما يألفها ألفة طويلة، ولا سيما عندما تكون ألفته هذه اجتماعية. . .
ثانياً: عمل روح المحافظة التي تطلب إبقاء القديم على قدمه فتعطل نوازع العمل عندما ترمي إلى تغييرات أساسية في الأمور المقررة سابقاً، ولا سيما عندما تكون تلك الأمور(345/12)
متعلقة بالتقاليد الاجتماعية. . .
إنني أستطيع أن أضيف إلى هذين العاملين الأصليين عاملاً فرعياً ثالثاً، وهو عمل نزعة الاهتمام بالأمور الرنانة التي تلفت الأنظار، أكثر من الانصراف إلى معالجة المسائل الجوهرية التي لا تأتي بنتائج تبهر الأبصار وإن كانت كثيرة الفائدة. . .
إنني اعتقد أن الخروج على هذه العادات والنزعات بوضع معاجم عصرية بالمعنى المشروح آنفا - أصبح من أهم الواجبات التي تجب على رجال العلم والتعليم، ومحافل اللغة والأدب، ووزارات التربية والمعارف - في جميع البلاد العربية. . . كما اعتقد أن وضع مثل هذه المعاجم العصرية التي تعترف باستقلال الكلمات، وتجعل الوصول إلى كل واحدة منها من الأمور المتيسرة لكل شخص - لهو أهم بكثير من البحث عن الكلمات التي تقابل: التلفون، والكلور، والراديوم. . . وحتى من إيجاد الاصطلاحات التي تدل على أسماء الأمراض، ودقائق التشريح.
وأما الخطة التي يجب السير عليها لوضع هذه المعاجم فهي بسيطة وجلية:
أولاً - يجب أن تبذل الجهود اللازمة لوضع معجم مختصر يحتوي على الكلمات التي يستعملها الناس ويحتاج إليها طلاب المدارس الابتدائية. ولتعيين هذه الكلمات يجب أن تستعرض طائفة من الكتب المدرسية من جهة، وتدرس كمية من الأخبار والإعلانات المنتشرة في الجرائد اليومية من جهة أخرى؛ وتستحضر بطاقات خاصة بكل كلمة من الكلمات التي تصادف خلال هذا الدرس والاستعراض؛ ثم ترتب هذه الكلمات حسب نظام حروفها الهجائية، ويكتب إزاء كل واحدة منها معناها الاصطلاحي، كما يشار إلى مادتها الأصلية، وإلى كيفية اشتقاقها من تلك المادة. وأخيراً تذكر أهم الكلمات المشتقة منها، تسهيلاً لمراجعتها في سائر أقسام المعجم.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى تبذل الجهود اللازمة لتنظيم معجم أكثر تفصيلاً من ذلك، ليكون مرجعاً لطلاب المدارس الثانوية والعالية، ولرجال الطبقة المثقفة بوجه عام، على أن تعين كلماته على طريقة استعراض الكتب المدرسية من جهة، ودرس المجلات العلمية والأدبية من جهة أخرى.
وأخيراً يجب أن يسعى لوضع معجم مفصل عام. . . يتضمن جميع الكلمات المستعملة في(345/13)
الكتب القديمة والحديثة على اختلاف أنواعها وتواريخها. . .
وأما المعاجم القديمة، فتبقى كمراجع أساسية يرجع إليها العلماء والاختصاصيون.
واعتقد أنه لا يحق لنا أن نتوقع تقدماً حقيقياً في تعليم اللغة العربية ما لم توجد مثل هذه المعاجم. . . ويحمل أمر (مراجعة المعجم) من الواجبات المدرسية. . .
أنا لا أدري كم يكون طول المدة التي ستمضي بين كتابة هذه الأسطر وبين ظهور المعاجم التي نشير إليها. . . كما لا أدري ماذا يكون مبلغ ونوع مساهمة كل من الكتاب والناشرين والهيئات العلمية والدوائر الرسمية في تحقيق هذا المشروع المهم عن طريق العمل المباشر أو التشجيع والمساعدة. . .
مع هذا أتمنى بكل قلبي أن تتضافر جهود الأفراد والهيئات والحكومات في هذا السبيل - بكل الوسائل الممكنة - لكي تقر أعيننا بمعاجم عصرية من هذا القبيل. . . قبل أن يمضي وقت طويل.
(بغداد)
أبو خلدون(345/14)
إنذار
فيم البكاء والاستعطاف والاستجداء؟ إنما المرأة - في دخيلة
نفسها - تهوى الرجل الذي يستخف بكبريائها.
سئمتكِ حتى سئمتُ النساَء ... فأمسيتُ أخشى على هزتي
جبينُكِ جفَّ عليه الجمالُ ... كِرهتُ المهابةَ بالميتِ
وطرفكِ يزويه روْعُ الصراعِ ... إنِ التهبتْ شِرةٌ مقلتي
ونهدكِ يحتالُ طيشي له ... تَدرَّعَ حُمْقَ الحياءِ العتى
وخصركِ خاذلَه الرخصُ حتى ... تماسك حَرْباً على صبوتى
وساقكِ لفتْ بشفِ مصون ... تفاريجه سُخْرةُ العُثَّةِ
مفاتنكِ الفاتراتُ أساطيرُ ... تفترُّ في كتبٍ رثتِ
برلين، فبراير 1935
بشر فارس(345/15)
إلى الدكتور طه حسين بك
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
تلطفت فأوصيتني بكتمان الحديث الذي دار بيني وبينك في حضرة (الصديق العظيم) الذي يحل وداده من قلبي وقلبك أعز مكان، وأنا أستطيع النص على اسم ذلك (الصديق العظيم) بلا تهيب لعواقب العتاب، لأن للحديث الذي جرى بين وبينك في حضرته صلة وثيقة بأصول المذاهب الأدبية التي يشتجر حولها الخلاف في كثير من الأحايين. فإن قلت أن هذا (الصديق العظيم) خلع على ذلك الحديث حلة من الدعابة التي نشهد بما يملك من عذوبة الروح، وأنه قد يكره أن يشار إلى اسمه في مجال الدعابة والظرف، فإني أجيب بأن ذلك (الصديق العظيم) أرحب صدراً مما تظن، وهو أكبر من أن يرى أن جلال المنصب يمنع من التندر الجميل.
لا خوف من النص على اسم ذلك الصديق، ولكني سأعمل بوصيتك ليصح لي القول بأني لا أتمرد عليك في كل وقت، وليصح لك الظن بأني اقدر على مراعاة الظروف حين أشاء.
ثم ماذا؟
ثم أستطيع لنفسي التحدث عن بعض ما شجر بيني وبينك. ويظهر أن المقادير لا تريد أن أسكت عنك أو تسكت عني، وفي ذلك الخير كل الخير لو تعرف وأعرف. وهل ارتفع العقل إلا بفضل الخلاف؟ وهل يتصور الناس وجوداً للحيوية التشريعية لو لم يثر الخلاف بين الشافعية والحنفية؟ وهل تأصلت مشكلات النحو والصرف إلا بفضل الجدال بين البصريين والكوفيين؟ وهل تفوق العقل المصري في العصر الحديث إلا بسبب النزاع حول القديم والجديد، والصراع حول المذاهب الاجتماعية والأحزاب السياسية؟
أن الخلاف نعمة عظيمة جدا، ويا ويلنا إذا لم نختلف فكيف تريد أن أكون صديقاً ظريفاً لا تسمع منه غير الكلام المعسول؟
وهل قل الظرفاء من أصدقائك حتى تطالبني بما تعجز عنه سجيتي؟
إن (بداوة الطبع) التي كثر الكلام في ذمها وتجريحها لم تكن من المثالب إلا في كلام الشعوبية، وهم قوم أرادوا الغض من الشمائل العربية، ولولا ذلك الهجوم الأثيم لبقيت من(345/16)
المحامد، فكيف تنكر على رجل مثلي أن يظل بدوي الطبع في زمن توارت فيه الصراحة وكثر فيه تنميق الأحاديث؟
لابد من خلاف بيني وبينك لتجد الأبحاث الأدبية والفلسفية وقوداً يحيا به اللهب المقدس في حياة العقل والوجدان.
فإن ضاق صدرك بهذه الحقيقة واكتفيت بمحاورة الرجل اللطيف الذي يقول أن الصحراء تشكو الظمأ وأن البحر يشكو الري وأن الخير في امتزاج البحر بالصحراء. إن كان ذلك ما يرضيك فشرق في محاورته وغرب كيف شئت وكيف شاء.
ولكن ما رأيك فيمن يصارحك بأن الحيوية لن تشيع في أبحاثك إلا إذا حاورت (الرجل الذي لا يخلو إلى قلمه إلا وفي رأسه عفريت)؟
تلك كلمتك، يا سيدي الدكتور، وأنا عنها راض وبها مختال؟
فما هو العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي؟
أيكون هو الجن الذي سماه الفرنسيون
إن كان ذلك فأنت تشهد لي بالعبقرية، والقول ما قال طه حسين وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلاً مثلك في سبيل الحق؟
وما هي المنفعة التي أرجوها من مخاصمتك وأنت رجل يضر وينفع؟
ما هي المنفعة التي أجنيها من مخاصمتك وقد صاحبتك عشر سنين كانت أطيب الأوقات في حياتي؟
يظهر انك لا تعلم انك على جانب عظيم من الجاذبية وأن الرجل العاقل لا يترك مودتك وهو طائع
فما سبب الخصومة بيني وبينك؟
إليك أقباساً من البيان:
منذ أكثر من سبعة أعوام ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية عن البحتري سجلتها جريدة كوكب الشرق، وشاء (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) أن أنشر في جريدة البلاغ مقالاً عنوانه.
(الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة)(345/17)
ثم لقيتني بعد ذلك في الجامعة الأمريكية وجادلتني في تلك الأغلاط فأعلنت أني أخطأت، وكان ذلك لأن الجمهور أحاط بنا من كل جانب ليرى كيف أدفع هجومك، وما كان يجوز لي أن أصنع غير الذي صنعت، لأن أدبي لا يسمح لي بمصاولتك أمام الناس، ولان وجهك يشفع لك، فهو وجه لا يلقاه الرجل الحر بغير الإعزاز والتبجيل.
فما الذي صنعت أنت في تصحيح الأغلاط التي أخذتها عليك؟
مضيت فنشرت محاضرتك عن البحتري في كتابك: (حديث النثر والشعر)، وأبقيت تلك الأغلاط، أستغفر الله، بل (تفضلت) فشكلت الكلمات المغلوطة لتقول: إنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك!!
فما الذي كان يمنع من تدارك تلك الأغلاط؟ وما الذي كان يمنع من شرح رأيك في الهامش إن كنت تؤمن بأني لم أكن على حق؟؟
ثم ماذا؟
ثم حدث في صيف سنة 1929 أن أنكرت على أن أتخذ شواهد لتطور (النثر الفني) من رسائل عبد الحميد بن يحيى. وقلت: إن عبد الحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس! وكان ذلك بمسمع من شابين واعيين هما: محمد مندور وعلي حافظ. وكانت حجتك أن عبد الحميد بن يحيى لم يرد اسمه في مؤلفات الجاحظ، فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبد الحميد بن يحيى مرات كثيرة، وإن مؤلفات الجاحظ تعرف رجلين: أحدهما عبد الحميد الأكبر والثاني عبد الحميد الأصغر، فلم تجب بحرف واحد. ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها: إن عبد الحميد بن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان؛ وفاتك أن تنص على اسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية.
وقد حملني (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) على أن أسجل هذه القضية في أحد هوامش كتاب النثر الفني، فكانت فرصة اغتنمها صديقك الأستاذ أحمد أمين ليقول في مقال كتبه في مجلة الرسالة: إن زكي مبارك يعوزه الذوق في بعض الأحيان!!
ثم ماذا؟
ثم كانت لك يد مؤثرة في شؤون الدراسة الثانوية بحجة أنها تمهيد للدراسة الجامعية، وكان من أثر ذلك أن فرضت على طلبة السنة الخامسة بالمدارس الثانوية كتاباً في نقد النثر(345/18)
لقدامة بن جعفر لا يفهمه المدرسون إلا بعناء فضلاً عن التلاميذ.
وأقول بصراحة إني لم أفلح في حمل المفتشين على مقاومتك، فبرزت لك بنفسي في مقال نشرته بمجلة الرسالة، فهل استجبت لصوت الحق وأعفيت التلاميذ من كتاب تقوم تعاريفه على منطق أرسططالس وهم يجهلونه كل الجهل؟
أنت عزيز علينا يا سيدي الدكتور، لأنك رجل شهم، ولكن ما رأيك في أغلاطك؟ ومن يدلك عليها إذا سكت عنك؟
هل تذكر كلمة (الصديق العظيم) منذ أيام حين قال لك وهو يبتسم: كيف صيرتم زكي مبارك دكتوراً وهو رجلٌ مشاغب؟
أنت تذكر ذلك ولا ريب، ولكنك تعرف أني لم أنل ألقاب الجامعة المصرية بلا جهاد، وأنت نفسك أسقطتني في امتحان الليسانس مرتين، واشتركت في امتحان الدكتوراه الذي أديته أول مرة مع انك لم تكن عضواً في لجنة الامتحان، وكان لخصومتك الصورية تأثير في الدكتوراه التي ظفرت بها للمرة الثالثة فلم أصل إليها إلا بعد جهاد سبع سنين.
فما فضلك علي أن لم يكن فضل المؤدب الحصيف؟
هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر سنة 1919؟
هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب نظام الآتينيين لأرسططاليس؟
وهل تذكر انك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية؟
فمن يبلغك أن الشاب الذي أدخل السرور على قلبك في سنة 1919 هو الكهل الذي تنكره في سنة 1940؟
أنا أعرف ما تكره مني. أنت تكره مني الكبرياء، وكيف أتواضع وقد أعانني الله على بناء نفسي؟ كيف وقد أقمت الدليل على أن الشباب المصري خليق بعظمة الاعتماد على النفس؟ وهل رأيت رجلاً قبلي أتم دراسته في أوربا وهو مثقل بتكاليف الأهل والأبناء؟ هل رأيت رجلاً قبلي يهتف بأوطار الشباب وهو مثخن بجراح الزمان بعد الأربعين؟ هل رأيت رجلاً قبلي يؤلف الكتب الجيدة في البواخر والقطارات والسيارات؟(345/19)
ومن يصدق أني أنفق في سبيل الورق والمداد أضعاف ما ينفق بعض الناس في سبيل الطعام والشراب؟
إن الدكتور هـ من ذخائرنا الأدبية، ويجب أن يعيش، ونحن سناده في الخطأ والصواب رعاية لمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف، وهو خليقٌ بمركزه في الجامعة وفي وزارة المعارف أيها الأستاذ الجليل:
في صدري أشياء وشؤون وشجون، فمتى أنفض همومي بين يديك وقد رأيت الشيب يشتعل في شعرك الجميل؟
متى نلتقي أيها الأستاذ الجليل لتصفية الحساب؟
إن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لا يحضر حين ألقاك، لأني لا أرى وجهك إلا تذكرت أني أحببتك إلى حد العشق.
فمتى نلتقي وحولك أرصاد يؤذيهم أن أصل إلى قلبك الرفيق؟
وهل أجهل أو تجهل أن في الدنيا ناساً عاشوا بإفساد ما بيني وبينك؟ الله وحده يشهد أني لم أخاصمك إلا في سبيل الحق.
والله وحده يشهد أني لم أقل فيك غير ما استبحت نشره في الجرائد والمجلات. ومن ذلك تعرف أن (العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي) لم يكن عفريتاً لئيماً، وإنما هو عفريت تلميذك وزميلك وصديقك:
زكي مبارك(345/20)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
العلاقة بين الذكاء والخلق
الشخصية من الموضوعات التي اهتم بدراستها علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي. وقد ذهبوا في تحليلها إلى أنها تتكون من عوامل بعضها فيزيولوجي، وبعضها كيميائي، وبعضها عقلي، وبعضها خلقي ومزاجي. وقالوا إن نتيجة تفاعل هذه العوامل المختلفة تحت تأثير البيئة التي يعيش فيها الفرد هي التي تكون شخصيته. ومعنى ذلك أنه توجد علاقات فعالة بين كل مجموعة من هذه العوامل وبين بقية المجموعات الأخرى. وسأعالج في هذا الحديث موضوع العلاقة بين الذكاء والخلق، وأثر هذه العلاقة في حياة الفرد.
إن قارئاً أو ملاحظاً ليتعسر عليه - من غير دراسة وإحصاء - أن يجزم بوجود تلازم بين الذكاء والخلق الكريم، أو العكس؛ أي بين الذكاء والخلق السيئ أو الغباء والخلق الكريم. لأن الملاحظة العادية تدل على أنه يوجد بين الأذكياء، كما يوجد بين الأغبياء، الشرير المتمرد وكريم الخلق والوديع، وإن كانت بعض الروايات والأفلام نظهر شخصيات المجرمين والمحتالين في مظهر الأذكياء والعبقريين. وقديماً كان الإغريق يبيحون السرقة لأنها آية الذكاء، وكانوا يعاقبون من يقبض عليه سارقاً، أو تثبت عليه التهمة، لأنه غبي لم يستطع أن يفعل فعلته بمهارة ودهاء، فيفلت من أعين الرقباء، شأن الذكي الماهر.
والذكاء - ولاشك - عامل من عوامل النجاح في الحياة فهو الذي يعين الطالب في حياته الدراسية، والمحامي في مكتبه ومحكمته، والتاجر في تجارته، والزارع في حقله وحديقته. ويختلف أثره في نجاح حياة الفرد باختلاف نوع المهنة التي يقوم بها؛ فأثره في مهنة التاجر مثلاً أقوى وأظهر منه في وظيفة عامل البريد. هذا إذا استعمل كل منهما ذكاءه في إجادة عمله، ولكن الذكاء وحده غير كاف ما لم يؤازره خلق كريم متين. والتاريخ يثبت أن عظماء العالم، والعصاميين المبرزين في الأعمال العامة، قد امتازوا بالعقل الذكي، والخلق القوي، وإن من لم يتمتع منهم - إلى جانب الذكاء - بالخلق القويم، قد رأى انهيار عظمته المؤقتة قبل وفاته.
وفي الحياة اليومية يساعد الذكاء على التهيؤ الخلقي المناسب. فالذكي يعرف الظروف(345/21)
المحيطة به بسرعة، ويدرك ما تتطلبه هذه الظروف، ويعرف أيضاً قانون بيئته الخلقي والاجتماعي، فيتهيأ بلباقة، ويتكيف بمهارة وقدرة ليناسب بين تصرفاته وبين بيئته وفقاً لقانونها الخلقي الاجتماعي المعتمد، بعكس الغبي أو قليل الذكاء الذي لا يدرك بسرعة - أو مطلقاً - العلاقات بينه وبين الأحوال الطارئة عليه، أو بينه وبين القانون الخلقي، فتصدر تصرفاته عن خطل وحمق، ويحاول العمل في تخبط.
وقد يكون ذكاء المرء مصدر شقائه وفساد أخلاقه، فيجعل منه تأثراً على نفسه وعلى المجتمع، أو لصاً ماكراً، أو مجرماً غادراً. ويحدث ذلك في الغالب إذا كثرت حاجات الفرد ومطالبه ورغباته، ولم يقو إنتاجه المادي المحدود، أو لم تساعده البيئة، على الوفاء بهذه الحاجات والرغبات، فهو أما أن يضحي بهذه المطالب ويكبت هذه الرغبات ويكون حينئذ عرضة للنوبات العصبية والاضطرابات النفسية، وأما أن يلجأ إلى تحقيق هذه المطالب وتلبية الرغبات بطريق غير مشروع، فيحتال ويسرق ويغش، ويصطنع كل السبل التي يصل بها إلى غاياته ويفلت من عقاب القانون. وقد يخونه ذكاؤه فيقع في يد القضاء، ويلقى الجزاء. ثم يعود سيرته الأولى بعد الجزاء، ويستسيغ هذا النوع الجديد من حياته الشريرة. لأنه سقط فهوى ولم يجد من ينقذه بمعرفة سبب الجرم؛ فإن كان في نفس المجرم حاول إزالته وتوجيهه إلى الصالح المنتج المفيد، وإن كان في البيئة عمل على محوه وخلق تناسب بين البيئة وبين الفرد. ولذلك نجد في السجون الأوربية معاهد للتثقيف والإصلاح، ولتعليم الفنون والصناعات المختلفة كالزراعة، والتجارة والطباعة، والحياكة الخ حتى يجد السجين أمامه بعد مغادرة السجن وسائل الحياة التي تتناسب مع ذكائه. والتي تساعده على كسب ما يحقق رغباته فيتجه بذلك ذكاؤه اتجاها مستقيماً صالحاً ويتحقق المثل السائر (السجن مدرسة وتهذيب وإصلاح)
وقد لاحظ علماء القيادة المهنية أن أكثر العمال في المصانع تذمراً، والموظفين في الشركات طمعاً هم أولئك الذين وضعوا في مهنة أو وظيفة دون مستواهم الذكاوي، فيكون هؤلاء دائماً مصدراً للمؤامرات، وتدبير الإضراب، والخروج على النظام. وكذلك وجدوا أن قليلي الذكاء أو الأغبياء إذا ما وضعوا في مناصب ذات تبعة وفوق مستواهم الذكاوي، قصر ذكاؤهم دون القيام بتبعاتهم، فيعروهم الاضطراب والهم، وينغمسون في الشهوات(345/22)
والملاذ غير المشروعة، ويسرفون، وتكون عاقبتهم الجنون. فعدم التناسب بين الذكاء وبين العمل الذي يقوم به الفرد قد يقود لا إلى فساد الأخلاق فحسب بل إلى الأمراض العصبية والجنون.
أنفق البروفسور سرل برت، رئيس معمل علم النفس وأستاذ المادة بجامعة كوليدج في لندن، ست سنوات يفحص فيها سيكولوجيا الأطفال ويقيس ذكاءهم. وقد قاس ذكاء ما يزيد على مائة ممن تتراوح أعمارهم بين ست سنوات وخمس عشرة، وكان هؤلاء الأطفال يمثلون كل أنواع البيئات المختلفة في لندن، وقد أرسلوا إليه لارتكابهم بعض الذنوب الاجتماعية كسرقة بخس الأشياء، وكالشحاذة والاعتداء على المارة أو على زملائهم بقذف الأحجار، وكإتلاف مال الغير، والسقوط الجنسي، وخروجهم عن طاعة آبائهم. وقد وجد أن متوسط العمر الزمني لهؤلاء الأطفال المتمردين هو 13. 2 بينما كان متوسط عمرهم العقلي هو 11. 3. وقد استنبط من هذه النتيجة (أن الأطفال المتمردين ينقص عمرهم العقلي عن عمرهم الزمني بنحو سنتين) ثم استنبط - بعد دراسة وإحصاء - أن (7 % من هؤلاء الأطفال ضعاف العقول أو ناقصوها) هذا وإذا علمنا أن نسبة ضعاف العقول بين جميع السكان - كما ثبت نظرياً - هي 2 % اتضح لنا مقدار زيادة ضعاف العقول من الأطفال المجرمين والمتمردين. ويقول الأستاذ برت أيضاً: (ولا يتعارض الذكاء الفائق مع التمرد، ولكن المشاهدة تدل على أن وجوده بأية درجة بين المتمردين يعد نادراً)
ويرى الأستاذ في كتابه (الطفل المتمرد) أنه من الضروري أن ندرس الطفل المتمرد لا من ناحية ذكائه وضعفه العقلي فقط، بل يجب أن تدرس بيئته ولا سيما المنزلية، لأن حال الأسرة الوجدانية المضطربة، وإهمال الطفل وترك حبله على غاربه، كل هذا له من الأثر ما لضعف العقل في إيجاد روح التمرد والإجرام عند الطفل. والفتاة البالغة التي لا تجد في المنزل إلا شقاء وسوء معاملة تسرع إلى هاوية الفساد، وبخاصة لأن ضعف عقلها يعرقل نجاحها في الحياة الاقتصادية والعملية والاجتماعية فلا تعرف كيف تحل معضلاتها، وتخلص من شقاء المنزل بطريق تضمن لها الحياة وشرف العرض.
وقد أجرى الأستاذ لويس ترمان بعض التجارب لمعرفة العلاقة بين الذكاء والخلق وقارن بين مجموعة من الأطفال ذوي ذكاء مختلف الدرجات تبلغ 533 ومجموعة أخرى مساوية(345/23)
لها من الأطفال النابغين، ووجد أن المجموعة الثانية على خلق أسمى من الأولى في صفات الصدق والأمانة والشفقة ويقظة الضمير، كما وجدها تمتاز جداً بالمثابرة والإرادة القوية.
من أجل هذه عنيت الأمم الأوربية والأمريكية بتعيين علماء نفسيين في المحاكم، وفي أقسام البوليس، وفي مجالس التعليم الإقليمية والمدينة، ليعينوا القضاة ورجال البوليس ورجال التعليم بدراسة الأطفال والكبار المتمردين والمجرمين الذين يشك في ذكائهم ومقدرتهم العقلية، حتى يكون الجزاء مبيناً على ظروف الجريمة وحال المجرم العقلية. وفي لندن والمدن الأمريكية الكبرى - غير علماء النفس هؤلاء - عيادات سيكولوجية يرسل إليها المتمردون والمجرمون لفحصهم والتقرير عن حالهم.
(بخت الرضا - السودان)
عبد العزيز عبد الحميد(345/24)
حول (السفاح) أيضاً
للأستاذ عبد الحميد العبادي
من حسن حظ أمير المؤمنين أبي العباس أن انتدب عالمان جليلان هما الأستاذ أحمد أمين والأستاذ محمود شاكر لمناقشة رأيي في لقب (السفاح) الذي ألصقه بأبي العباس بعض أدباء المؤرخين أو مؤرخي الأدباء ظلماً، كما اعتقد وكما دلني البحث والتتبع. نعم أن الأستاذين الجليلين أخذا برواية المؤرخين الأدباء أمثال الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج الأصفهاني، ولكن تدليلهما، على طرافته وبراعته، لم ينقض حتى اليوم ما سقت من الأدلة فضلاً عن أن يهدمها. وإني مجمل لقراء الرسالة الغراء رأيي في هذا الموضوع، ثم متبع ذلك باستدراكي على ما اعترض به علي الأستاذ شاكر.
لقد رجعت إلى سيرة أمير المؤمنين أبى العباس قبل الخلافة وأثناءها، فلم أجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال. ثم رجعت إلى قصيدة ابن أبى شبة العبلي التي يرثى بها بني أمية، وهي المصدر المعاصر الوحيد لأبى العباس، فلم أجد الشاعر ذكر فيها الكوفة ولا الحيرة ولا الأنبار، وهي المواضع التي أقام فيها أبو العباس في خلافته، في حين أنه ذكر المواضع التي قتل فيها بنو أمية على أيدي عبد الله بن علي وداود بن علي بالشام والحجاز. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الرواية التاريخية القديمة القائمة على الضبط والتحقيق كرواية ابن سعد، وابن عبد الحكم، والبلاذري، وأبى حنيفة الدينوري، وطيفور، واليعقوبي، والطبري، والنوبختي، والكندي، فلم أجد من هؤلاء الأعلام واحداً لقب أمير المؤمنين أبا العباس بالسفاح. هنالك ترجح عندي أن لقب (السفاح) لم يكن أصلاً لقب أبي العباس. ثم رأيت أن ابن سعد واليعقوبي وصاحب (أخبار مجموعة)، وصاحب كتاب الإمامة والسياسة، يسندون لقب (السفاح) إلى عبد الله بن علي عم الخليفة أبي العباس وعامله على الشام. ووجدت أن سيرة عبد الله ابن علي هذا مما يسوغ تلقيبه بهذا اللقب كل التسويغ، فهي سيرة جبار طاغية قتال حقاً. فثبت عندي أن اللقب لقب به أصلاً عبد الله بن علي المذكور. ولما كان عبد الله بن علي قد ادعى الخلافة فعلاً وثار على أبى جعفر المنصور بالشام، وخاطبه الشعراء بالخليفة، فقد اصبح معروفاً بالشام لذلك العهد بأمير المؤمنين عبد الله السفاح. ولكن الخليفة أبا العباس هو أيضاً يسمى عبد الله، فقد وجد نوع من اللبس بين(345/25)
الخليفة الأصلي والمدعي للخلافة. ومما يقوي فكرة وقوع هذا اللبس أن ابن الأثير عندما ذكر حادثة تحريض سديف الشاعر على قتل بني أمية أسندها أول الأمر إلى عبد الله بن علي ثم عاد فقال: (وقيل أن سديفاً أنشد هذا الشعر للسفاح ومعه كانت الحادثة) فقد نسب إلى أبى العباس مأساة قتل بني أمية مع أن المرتكب لها على التحقيق هو عبد الله بن علي، والخلط في نسبة الحوادث المفظعة التي أتاها عبد الله بن علي إلى أبى العباس جر معه انتقال لقب (السفاح) إلى أبى العباس. وأني اعترف بأن هذا تأول مني واجتهاد، ولكنه اجتهاد في حدود النصوص والوقائع الثابتة، وليس مجرد ادعاء كما وصفه الأستاذ شاكر في العدد 342 من الرسالة الغراء.
هذه خلاصة بحثي في هذا الموضوع. ولقد نشر الأستاذ شاكر في مجلة (الثقافة) مقالاً قيماً عنوانه (كلمة في التاريخ) امتدح في بعض حواشيه بحثي هذا حتى لحيل إلى أن الأستاذ اخذ بوجهة نظري في هذا الموضوع واغتبطت بذلك أيما اغتباط، ولكني رأيت الأستاذ عاد فأعلن في العدد 340 من الرسالة أنه يخالفني كل المخالفة ووعد ببحث الموضوع. وقد بحثه في العدد 342 من الرسالة، وبحثه يقوم على أمور: أولها أن لقب (السفاح) مضافاً إلى أبى العباس إنما هو للمدح لا للذم، ومعناه الكريم المعطاء للأموال. وثانيها أن أحاديث من أحاديث النبوءات يراها الأستاذ صحيحة قد ذكرت (السفاح) بالمعنى المذكور، فليس بعيداً أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه بهذا اللقب قبل الخلافة تفاؤلاً. وثالثها يقول بوجوب الأخذ برواية الجاحظ التي تلقب أبا العباس بالسفاح. والذي يمنع عندي من الأخذ بالأمر الأول هو أنه ليس له سند تاريخي، واللفظ من حيث اللغة يحتمل أن يكون للمدح وإن يكون للذم. فما النص التاريخي الذي يخصصه للمدح؟ أما من حيث الأمر الثاني فلنفرض أن الأحاديث والروايات الواردة في السفاح والمهدي والسفياني والفخطاني والملاحم صحيحة، فما الدليل على أن أبا العباس قد لقبه أبوه بالسفاح تفاؤلاً واستنجازاً لموعود هذه الأحاديث؟
أما من حيث رواية الجاحظ فلست أدري كيف يوفق الأستاذ شاكر بينها وبين تفسيره السفاح (بالكريم المعطاء فإن السفاح) في كتب الجاحظ وابن قتيبة وأبى الفرج معناه (القتال السفاك للدماء)(345/26)
أليس يرى الأستاذ شاكر بعد ذلك أن الأدلة التي أقمت عليها رأيي أكثر تظاهراً وتسانداً، وأشد رجحاناً من رواية المؤرخين الأدباء؟ هذا اعتقادي على كل حال.
على أني قبل أن أختم هذه الكلمة، أحب أن اعترف بأني أفدت من بحث الأستاذ شاكر فائدة كبيرة، فقد علمت منه أن نص اليعقوب القائل بأن عبد الله بن علي هو السفاح، منقول عن ابن سعد في طبقاته.
عبد الحميد العبادي(345/27)
ذكرى مولد الفاروق
11 فبراير
خلدي يا مصر أيام المليك
للأستاذ مراد الكرداني
. . . وهذا يوم من أيامك الزهر الوضاء يا مولاي، يعتز ويتيه على الزمن كله، ويختال على أيام هذا البلد الأمين، بأنه كان فجر السعد وفتح اليمن، وبداءة النصر بعد عنت الجهاد، ولمعة الأمل في ألم الليل الذي تحلك وتدجي، قم امتد واستطال.
هذا يا مولاي أول أيامك على الدنيا يعود، وما يزال يعود. أشرق - يوم أشرق - على هذه البلد السعيد إشراق العز، وهل عليه كصيب الغيث. ثم سعى فيه كسعي النسيم الريان، فكان بشراً بين يدي رحمة الله التي غمرت أقاصي هذا الوادي ودانيه، وكان نعمة فاضت بمددها الذي لا يفيض، وخيرها الذي لا ينتهي، وبرها الموصول أن شاء الله.
هذا يا مولاي أسعد يوم أحق أن أقول فيه. . . عادت مصر به وكأنها نفس سابحة على مد أملها تستشرف العز الذي انحسرت عنه ظلمات الأفق وتستحث المجد الذي بدا صوراً آخذاً بعضها بيد بعض، وتتعجل النصر الذي رصدت مطلعه متلهفة صابرة منذ آماد طوال!
ولقد شاء القدر الراحم أن يكون ميلادك، يا زين الشباب، أول منحة بعد أطول محنة، وإن يكون بهاء بعد رهق البلاء. وذلك فيض من الله عميم، فإن الفضل للمحنة أن تكون طهرة واستعداداً وتهيؤاً لتكون المنحة إثرها وثوباً إلى الغد، وتطلعاً نحو المجد.
ثم أشفق هذا القدر على هذا البلد، وأنت يا مولاي حل بهذا البلد، فوسم أيامك عليه بالخير واليمن وجرى فيه أمداداً متلاحقة من العز واليسر، وتبدي في رحابه رؤى رائعة كلها نصر وتوفيق، حتى بلغ القمة، وتسنم الذروة. . . ثم حمل الراية ومضى يقود الشرق العظيم إلى منازل العزة ومشارف المجد. . .
ومن ثم كانت ذكرك يا مولاي تدرج على ربوع هذا الوادي الأمين. وكأنها منى حلوة تراوح قلب عذراء موعودة. أو كأنها نسمة تناسم روح حبيب فكنت يا مولاي المنى والنسمة. . . وكان شعبك الوفي الكريم، القلب الموعود، والروح المنتظر!(345/28)
لقد سنحت يا مولاي سنوح الرضا، ولحت كما يلوح الحق بين شبه الباطل، فكنت فينا معجزة إلهية لمحت بالنور العجيب، يتطيف هادياً مشرقاً من نبع قبسه الذي هو أنت. فكأنك يا حبيب الحبيب عرق من النور الأعلى ما يزال يترسل ويتضوأ على نسقه وطبعه حتى يضح كل الذي حوله. ومن ثم يشرق به ومنه، ومن ثم يتضوءان معاً. . . وأنت يا مولاي كما أنت نور على نور، وهو، لا كما هو، وإنما استحال خلفاً آخر غير الذي كان، اعني أنه أشماس، وكان قبل فجراً من طول ما ران عليه! سبحان الذي ألهمك يا مولاي أن الأسوة خير من القسوة، وإن القدوة أفعل في النفس من القدرة، فجعل كمالك وحياً وحياً يفعل في النفوس على طبيعته وفي طبيعتها، فلا يزال بها حتى يحيلها كمالاً كلها، وطهراً كلها، وسلاماً كلها. كما أنت - يا أمير المؤمنين - جمع ذلك كله. . . والسعود أقدار يا مولاي. . . فلله ما أكرمك عليه حين جعل سبيلها إليك أجر من اهتدوا بهديك وسعوا وراء خطوك. . ولله ما أكرمك عليه، حين عمرت بالشباب أبهاء المسجد، وحين نضرت بهم وجه الدين، ويوم انطوت أيديهم على حبات المسبحة، وكانت قبل لا تفلت الدخينة، ويوم جمعتهم على الهدى وكانوا شيعاً على الحقد والضغينة.
مولاي يا وارث المجدين، ويا فارق العهدين، يا أمير المؤمنين. . . يا سليل الأمجاد، ويا شبل فؤاد، عيدك يا مولاي سيد الأعياد. . . ويومك عزة الأيام. . . وزين الزمان. . .
صان الله شبابك الغالي، وأمدك بالعافية كلها. . . ونضر بالخير أيامك. ووسم بالسعد عهدك وزمانك. . .
وليحفظ الله الأميرة الغالية في مجد المليك، وعز المليكة، وهناءة البيت الملكي الكريم. . .
مراد الكرداني(345/29)
من وراء المنظار
ساع في الدرجة الخامسة!
بلغها بدمائه خلقه، لا ريب عندي في ذلك. ومن كان في ريب مما أقول فليعرفه من كتب كما أعرفه، ثم لينظر فإن لم يمح اليقين من نفسه الريبة فأنا المخطئ وهو المصيب. . .
وإن أنداده ليعجبون كيف يتخطى أكثرهم إلى تلك الدرجة التي باتت عندهم حلماً من الأحلام، وانهم ليقسمون أنه دونهم في الكفاية، ويستدلون على ذلك، إذا لم يغن القسم، بأخطائه الجسيمة التي لم يسأل قط عن شيء منها، وذلك ما يزيد دهشتهم وحيرتهم.
ولكني أنا أعجب كيف فاتتهم دمائه خلقه ورقة شمائله ولطف معاشرته، واليها مرد ما نال من حظوة! ومتى كانت تقدر الأعمال بالكفاية فحسب؟ وإن من الكفاية ما يلحق بصاحبه الأذى، وإن منها ما يقف بينه وبين ما يشتهي.
رأيته أول مرة فرحب بمقدمي ترحيباً ملك قلبي، وأقبل على يحدثني ويجود على من الألقاب بما كاد يعتريني الزهو ويداخلني الغرور من اجله. وما هي إلا دقائق حتى كنت منه كما لو كان يعرفني من زمن بعيد. وآية ذلك أنه صار يعرفني إلى أقرانه وهو يشير إلى فطنتي وسعة اطلاعي ويثني على كرم خلقي، كل ذلك في طلاقة أدهشتني وإن كادت تضحكني ضحكات لست أدري ماذا كنت أسميها!
وتاقت نفسي إلى رؤيته أمام رئيسه. ولم يطل تطلعي فقد أقبل الرئيس فرأيته يثب من موضعه فينظم وضع طربوشه على رأسه ويزر حلته ويهرول تجاه القادم مبتسماً، حتى إذا دنا منه أقبل على يده في لهفة ولسانه يلهج بالسؤال عن صحة (سعادة البك) وأنجال (سعادة البك) ويجيب في سرعة ونشاط على سؤال وجه إليه بقوله: (نعم كما أمرت سعادتك يا سعادة البك). . . وأعجبني لعمر لحق دماثة خلقه هذه واستيقنت نفسي من أدبه وظرفه.
وانقضى يوم فازددت اطلاعاً على حسن شمائله وجميل تواضعه، فهو يعزو كل شيء إلى همة سعادة البك، وهو لا يفعل شيئاً إلا (بأنفاس سعادته) وهو لا يكتم خبراً ولا يضن بحديث سمعه على رئيسه، فذلك عنده من الأمانة والإخلاص. وإن عبارات الإجلال والتعظيم لهذا الرئيس ليثب إلى ذهنه في سرعة عجيبة ولباقة مدهشة، أعجب معهما لمن ينكرون عليه الكفاية حتى لا يسعني إلا أن أنكرها عليهم هم، وإن كنت في ذلك مثلهم إلا(345/30)
أنني لا تحركني الغيرة للعيب عليه.
ورأيته لا يقع بصره على رئيسه مبارحاً إلا حضر إليه مودعاً ولكنه يمشي على قيد خطوة أو خطوتين وراءه، وذلك لاشك تأدب منه، وإن تقول عليه خلاف ذلك المبطلون الذين يحقدون عليه لبلوغه دونهم الدرجة التي يتحرقون شوقاً إليها.
وهو مرب على رغم ما سماه به بعض المغيظين منه؛ وإنه ليشعر أن من واجبات مهنته أن يوحي إلى تلاميذه دماثته وأدبه وإن يلهمهم الصدق ويعودهم احترام النفس. وأنه ليعتقد أنه يفيد طلابه من هذه الناحية أكثر مما يفيدهم غيره من أقرانه؛ وإلا فمن بلغ مبلغه منهم من الدماثة وكرم الطبع؟
ولن تفوته فرصة لإظهار دماثته تلك التي أصبحت مضرب المثل بين عارفيه، وهو لا يرمي من وراء ذلك إلا إلى أن يكون فيه لأبنائه أسوة حسنة، ولن يبتغي عليه جزاء ولا شكوراً. ومن أروع مواقفه التي لست أشك أنها من خير ما يقتدي به، أنه التقط ذات مرة على مرأى من الطلاب جميعاً دخينة سقطت على الأرض من يد رئيسه فأعادها إلى الرئيس، ولكن ما كان أعظم دهشة الطلاب أن يروا ذلك الرئيس يقذف بها بعيداً بعد أن يأخذها منه وهو عابس الوجه وعلى شفتيه ما يشبه الازدراء وما لا يكون إلا استنكاراً. ولقد قارن الطلاب لاشك بين رقة الأستاذ وغلظة الرئيس، ولست أدري إيهما كانت أقرب إلى نفوسهم البريئة.
وشاعت الحادثة في الزملاء الحاقدين منهم والمسالمين، فقال أحدهم: (ما أراه إلا ساعياً في الدرجة الخامسة). فقلت: وكيف يكون ساعياً من كان في الدرجة الخامسة؟ فنظر إلى آخر نظرة غاضبة كأنما ضايقه جهلي وقال: وإنك لترى من هؤلاء من هم في الرابعة وإن شئت ففي الثالثة. . . والطريق إليها جميعاً سهل معبد ولكن لمن يرضى أن يكون ساعياً.
(عين)(345/31)
رسالة الشعر
الأمسية الحزينة
للأستاذ محمود الخفيف
حطت على الأفق ظلال الغروبْ ... كالشجنِ الطارقِ
وراحَ يمحو البشرَ فيهِ القطوبْ ... في خطوهِ السارقِ
هذا السنا عما قليلٍ تذوب ... ألوانهُ في سيله الدافق
صور لي يا عين هذا الشحوب ... برح الضنى في وجنةِ العاشق
يا ويلتا ما بالُ هذا المساء ... يهيجُ أشجاِنَيهْ
توحي إلى النفسِ معاني الفَناءْ ... أضْوَاؤهُ الفاِنيَهْ
والريحُ كم غنَّتِ لسمعي البُكاء ... وأسلَمتْ للوجدِ ألحاِنيَه
كم أحزنَتْ روحي هذى الظَّلالْ ... وأزعْجَتْ ناِظرِي
كم أيقظَتْ في خاطري من خيالْ ... عنْ أمسىَ الدابرِ
كأنما ألمحُ فيها المآل ... لكلَّ موْموقِ السَّنا باِهر
وا لهفتا أغرَى بقِلبي الضلال ... هذا الأسى الحيرانُ في خاِطري
أرقبُ في الأفْق تهاويلَهُ ... طافيةً لاِعَبةْ
يا مُجْتلًى ما إنْ أرى مثلهُ ... إلا المُنى الكاذِبهْ
تلك التَّصاويرُ التي حَوْلَه ... كم أشبَهتْ أحلامِيَ الذاهبه
بالأمسِ قَلبي كان يَهفو له ... جذْلانَ يهَوَى شمسَهُ الغاربه!
تذكري أنَّ وراَء الأُفولْ ... والليلِ صبحاً يُرَى
يُلبِسُ معنى الحُزن هذى الفُلول ... حتى تُرَى أكْدرا
يا ليتَ (لَيْلِى) مُعقِباً إذ يَطول ... فْجَراً أُرَجى صُبْحهُ المسِفرا
الله لي في حُلْكةٍ لا تحول ... في يَقظةِ الليلِ ولا في الكرَى!
تَزاَيُد الكدرةُ بين الغصونْ ... ما ازداد غشيانُها
تُذكَرُ القلبَ غواشي الظنونْ ... وَسوَسَ شَيطانُها
ستشربُ الخضرة هذى الدُجون ... وُيغرقُ الأرْواحَ طُوفانُها(345/32)
وتُشبِهُ الظُّلمةُ فيها المَنون ... تَعِجُّ بالوحشةِ شُطآنُها
يا ظُلمةَ الليلِ نَسيتُ السّنا ... وِنمتُ عنْ رَوْعِتهْ
قلبي المعنَّى قبلَ مَوْتِ المُنى ... كم هامَ في فتْنتِهْ
كم هامَ بالصُّبحِ كسا الأغصُنا ... بالساِكبِ المُنهلَّ من عُرْته
يَرفُّ مأخوذاً بهِ ما دنَا ... وينَهلُ الفَرْحةَ من طَلْعتِه
الويلُ لي! يَزدادُ حولي السُّكونْ ... إلا أنينَ الريّاحْ
كأنما طافَ الكرَى بالغُصونْ ... ولفَّها باَلجناحْ
ساهمةٌ تقرأ فيها العيون ... هذا الأسى الساري بكلَّ النَّواح
يا ويَح قلبي أذْهلَتهُ الشُّجون ... حتى كأنْ لم يَدرِ معنى المِراح!
ذابتْ على الجوَّ فلولُ الرَّقيعْ ... وماتَ فيهِ السَّنا
وأنكرَتْ عينايَ هذا القطيعْ ... أقبلَ وانِى الُخطى
في إثْرهِ يَشكو وما مِن شَفيع ... الصامتُ المكدودُ، طولَ العنا
وَدَوَّمَ الخُفَّاشُ حَوْلي يُذيع ... في خَفقِتهِ قُرْبَ نُزول الدُّجى
وا حربَا ما انفكَّ مرْأَى الأصيلْ ... يوقظُ أوهاِمَيهْ
يُعيدُ للنفسِ مَساَء الرَّحيل ... وسُودِ أياِميَهْ
حينَ افترقنا بعد صَمتٍ طَويل ... لا قَوْلَ إلا الأدمعُ الهاِمَيه
والشمسُ تمضي غير نورٍ ضئيل ... مُحتضَرٍ يَفنَى كأحلاِميَه
مضَيتُ لهفانَ أذودُ الجوَى ... عنْ قَلْبَي اليائسِ
أقولُ دَعْ ذكرانَ يَوْمِ النَّوَى ... وعَهْدِهِ الدارسِ
قدْ كنتَ يا قلبُ نَسيتَ الهوَى ... إلاّ بَقايا من أسًى هاِجس
رَبيعُكَ الطّلقُ توَلىِ سوَى ... وسَاِوس من زَهْرهِ اليابِس(345/33)
الضَّنَى
الضنى - لامسَّك العمرَ ضنى - ... إنه دنيا بلاء وعَنا
طيفُ عزربلَ إذا دقْ على ... منزل فزَّع فيه السكنا
ومحا الفرحة منه، ومضى ... يملأ الأرجاء فيه حَزَنا
الضنى - لا ذقت أهوال الضنى - ... يَطحن العزم ويُوهٍى البدَنا
يومه كالليل، والليلُ به ... وقفة الحشر وأقسى مِحَنا
يتمنَّى الموتَ صرعاه، وكم ... يركب المضطر ظهراً خشنا
صُوَر الدارِ إذا طاف بها ... طائف الأدواء تدمى الأعيُنا
راقد يشكو، وزوج حوله ... ترسل الدمع سحاباً هَتَنا
وأخ يدعو، وأم رفرفت ... روحها حيرَى على ابن وَهَنا
وصغار خشعت أصواتهم ... واستكانوا يَنشدون الوَسَنا
ويحهم! كم زلزلوا الأرض وكم ... غمروا الدارَ صياحاً وِغنا
يا صحيح الجسم نُعماَك! فلا ... تأس إن فاتَكَ موفور الغنَى
إنما الصحة نْبعٌ طالما ... فاض بالخير ومعسول المُنَى
فريد عين شوكة(345/34)
خطرة في داء
مطمحي في الشفاء، أين الشفاء؟ ... أقعد العجز همتي والداء
إنما مطمح الحياة شباب ... ما لمن يفقد الشباب رجاء
كنتُ والريح طالما نتبارى ... بجناح تُطوى به الأجواء
كنتُ والطير طالما نتناجى ... بلسان يسيل منه الغناء
فلساني قد أخرسته العوادي ... وفؤادي أودت به اللأواء
أقعدتني عن التنقل رِجلٌ ... لست أدري ما خطبها، ما تشاء؟
تتأذى إذا همتُ بسير ... وإذا ساء جانب لي تُساء
بينما الداء ها هنا يتفشَّى ... يتمشى كأنه الكهرباء
فإذا بالبلاء لا يبرح المد ... نف حتى يجيء منه بلاء
يا عليلاً سميره الألم المضني ... وعواد دائه الأرزاء
هل تهدمتَ، فاعتزمتَ أُفولاً ... أو تمثلت أن تدانى انتهاء؟
لم تزل قمة تناديك فانهض ... إنما مطمح الحياة ارتقاء
مد داِمَي الجناح واخفق صعوداً ... تتلقى دماءك الغبراء
يا خيالي! إن أقعدتنيَ رجلي ... فلك الأُفق مسرحاً والسماء
إن روحي تأبى التقيد بالج ... سم وتمشي، والغاية العمياء
(حلب)
خليل هنداوي(345/35)
صراع!
تعاودني الأوهام في كل آنة ... فيا ليت أوهامي تزايل وحدتي
أرى بين هذا الناس فراداً، وإنني ... لجمع كثير لو دروا ما بطيتي
بفكري أضداد تغرب نورَه ... فليس بفكري غير أشباح ظلمة
فطوراً أراني هادئاً متبتلاً ... وطوراً أراني في ضلال وريبة
وقلبي مذعورُ الأناشيد تارة ... وطوراً يغني في صفاء وفرحة
صراع عنيف كدت من لَزَباته ... أعيش بلا رشد ووعي وفطنة
نشأت على الدنيا أغنى. . فليتني ... بقيت على الدنيا أردد غُنوتي
وهتْ من يدي قيثارتي فتركتها ... محطمة تبكي غيابي وغربتي
وسرتُ كأني مدبر من هزيمة ... عليه من الآلام أطياف خيبة
أنا الصارخ الشاكي الحزين فليتني ... أعود لأنغامي ونايي وأيكتي
تشاكيت. لكن لم تفدني شكايتي ... وما زال صبحي غائماً مثل ليلتي
يقولون: مجنون فقلت: نعم نعم! ... وسر جنوني حيرتي وتعلتي
كرهت الذي بالأمس كنت أحبه ... وأحجمت عما كان بالأمس شِرعتي
يعيش بنو الصلصال يلهون في السنى ... ويحيا بنو الأنوار نهب الدجنة
خذوا من فؤادي وهمه وضلاله ... ومدوا على دربي شعاعي وسكتَّي
تروني على قيثارتي مترنماً ... أغني أغاريدَ الهوى والمسرة
وأنتم حيالي مطربون. . تهزكم ... لحون سعاداتي وأقداح كرمتي
عبد العليم عيسى(345/36)
الأدب في أسبوع
الفن
كنت أرجأت الحديث عن (الفن الفرعوني) الذي أراد الدكتور طه حسين أن يجعله أحد العناصر في (الغذاء الروحي والعقلي للشباب) في عصرنا هذا، وهو رأى متداول قد عاد إليه فلان وفلان ممن استطارتهم العصبية فعصفت أعاصير بعماد الرأي وحسن البصر وكمال التقدير لما ينبغي أن نقيم عليه حضارتنا المصرية الإسلامية. والعصبية هي دليل الضعف، وهي الآفة التي تتخون الرأي، وهي الهدم الذي يأتي بنيان العقل والعاطفة من القواعد حتى يدمره تدميراً. وسنوجز القول ما استطعنا، فإن الإفاضة والشرح والبيان مما لا يتسع لها هذا الباب.
فالفنان هو القلب النابض الذي يفضي إليه الدم الحي الذي تعيش به حضارة أمته في عصره، وهو الفكر القلق النافذ المتلقف الذي ينقد الحياة الاجتماعية في عصره بألفها أو ينكرها، وهو العبقرية الماردة التي لا تخضع إلا لناموس الحياة الأعظم. والفنان بطبيعته الإنسانية فكرة معبرة عن حقيقة الاجتماع الإنساني الذي يعيش عليه، وعن طبيعة الأرض التي يمشي فيها، والسماء التي يستظل بها؛ وكل أولئك ينشئ للفنان أفكاراً وأخيلة وأحلاماً تستمد غذاءها من ينبوعها الذي يتفجر بين يديه ولعينيه وفي قلبه.
ونحن لو تتبعنا الآثار الفنية وتاريخها في كل أجيال الناس من الهند والصين والعرب والترك والروم، وكل الأمم القديمة، وسائر الأمم الحديثة - لم نخطئ أثر الحياة الاجتماعية في الأثر الفني، ولا أثر الطبيعة الجغرافية في جوه الفني. ونعني بالحياة الاجتماعية كل ما تقوم عليه من الدين وعقائده وشرائعه، وما يتميز به العصر من الأخلاق والعادات والوراثات والأساطير الشعبية التي انحدرت إليه من القدم، ثم سائر أسباب الحضارة المعاصرة بكل مادتها وألوانها وحقائقها وأباطيلها. وأما الطبيعة الجغرافية، فهي صورة الأرض بنباتها وأنهارها وفدافدها وحيوانها وغابها، وما إلى ذلك، وجو السماء بصفائه والتماعه وشمسه وقمره ونجومه وسحابه وثلوجه وصيفه وشتائه وربيعه، وغير ذلك مما يولد في نفس الفنان ألواناً من أخيلة الفن التي يريد تحقيقها أو تمثيلها أو ابداعها؛ والأثر الفني لا يمكن أن يكون خالياً من تأثير هذين العنصرين المميزين.(345/37)
فالفن - ولاشك - نتيجة من نتائج الاجتماع الإنساني والطبيعة التي تحتضنه، فهو يتأثر بها تأثراً بينا، لمكان الإحساس المرهف البليغ من الفنان القدير المتمكن. فأعظم الآثار الفنية التي يعدها الجيل الأوربي - مثلاً - في طليعة العبقرية الفنية، هي الآثار العظيمة الخالدة، التي نشأت وربت وترعرت وامتدت تحت ظلال الكنيسة والعقائد المسيحية، التي عاش في مدنيتها الفنانون الذين أبدعوها، وتأنقوا فيها وبالغوا في إتقانها؛ ونحن لا نحتاج هنا إلى أن نضرب المثل بفلان وفلان من الفنانين الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، ولا أن نعدد آثارهم التي بقيت إلى اليوم أصلا للفن الأوربي الحديث. وهذه الآثار كما يشاهدها المشاهدون تختلف باختلاف الطبيعة الجغرافية التي هي سبب ثان في إنتاج الفنان. فكذلك الفنون الصينية والهندية تتميز بالاجتماع الوثني الذي يعيش فيه الفنان الصيني أو الهندي، وبطبيعة البلاد الهندية والصينية. ونحن لا نشك أن أعظم الفنون والآثار عامة قد كان نتيجة لازمة للعقيدة الدينية - وثنية كانت أو إلهية - وللطبيعة الجغرافية التي تمد عليها من ظلالها؛ وإن الدين والعقيدة هما عماد الاجتماع وأصله وأعظم مؤثر في توجيه أغراضه وحياطتها وتدبيرها وتوليدها، فهما إذن اصل قائم في الحضارة التي تدين بهما مهما تطورت بعد ذلك وخرجت عليهما فأهملتهما. وذلك لأن الشعوب تحتفظ من الأديان بخصائص كثيرة لا يمكن أن تؤثر فيها تطورات الحضارة المدنية الخاضعة للعلم والسياسة وما إليهما.
الفن الفرعوني
فالفن الفرعوني - بغير شك - ليس إلا نتاجاً مركباً من الوثنية المصرية الفرعونية والطبيعة المصرية الرائعة القوية، وأثرها بين في هذه الأبنية الضخمة بتماثيلها الغريبة المتقنة المختلفة الدلالات على المعاني الدينية المصرية القديمة، وعلى الأصول الاجتماعية الخاضعة للوثنية الفرعونية التي كان يعيش عليها الشعب المصري القديم. فهذه الديانة القديمة الجاهلية التي عبدت أوثانها وتقدست بعقائدها الباطلة، وخضعت لأساطيرها الرهيبة المخيفة، واستمدت تهاويلها من الإيمان بجبرية هذه الأوثان والقوى الطبيعية المختلفة كالشمس والنيل والتمساح وكذا وكذا من الأوهام الغالية، هي أنتجت هذا الفن المصري القديم بمعابده وتماثيله وكتابته الهيروغليفية المعبرة أدق تعبير عن حقيقة المدد الفني للآثار(345/38)
المصرية الفرعونية.
والفنان الفرعوني لم يستطع أن ينشئ هذه الآثار الهائلة الغريبة التي بقيت هذه القرون الطوال تتحدى الزمان المتطاول عليها، ولم يمنحها هذا الجبروت الهائل والاستبداد الطاغي إلا بالقوة التي أنشأنها ودبرتها له عقائده الوثنية الرهيبة، وإيمان المجتمع المصري بها إيماناً خاضعاً متعقباً أيضاً، وأعانتها الطبيعة الجغرافية المصرية العظيمة بشمسها وقمرها وصيفها وشتائها، وصحرائها التي تحف بالنيل العنيف المتدفق بسلطان طاغ كسلطان الفراعنة الملوك. كل أولئك أثار الفنان وأمد إحساسه المرهف بالمادة التي استطاع أن يصوغ فيها فنه الوثني العبقري
وعلى ذلك فيجب أن تقرر أن الفن المصري الفرعوني - على دقته وروعته وجبروته - أن هو إلا فن وثني جاهلي قائم على التهاويل والأساطير والخرافات التي تمحق العقل الإنساني، فهو إذن لا يمكن أن يكون مرة أخرى في أرض تدين بدين غير الوثنية الفرعونية الطاغية - سواء أكان هذا الدين يهودياً أم نصرانياً أو إسلامياً أو غير ذلك من أشياء الأديان.
تمثال نهضة مصر
وهذا (تمثال نهضة مصر) القائم في (ميدان المحطة)، والذي أقامه المثال القدير (مختار)، أنا أراه فلا أرى فيه إلا تقليداً فاسداً لآثار حضارة قد دثرت وبادت ولا يمكن أن تعود في أرض مصر مرة أخرى بوثنيتها وأباطيلها وأساطيرها وخرافاتها. نعم، هو تقليد رائع يدل على قدرة الفنان الذي نحته، ولكنه لا معنى له الآن في مصر الإسلامية. هل يستطيع الفنان الذي نحته وأقامه أن يعيد في مصر تاريخ الوثنية الجاهلية، واجتماع الحضارة الفرعونية، وما يحيط بذلك من الأبنية الضخمة التي شادها أوائله، والتي كانت وحياً للفنان الفرعوني الذي عبد الشمس وخضع لفرعون وأقر له بكل معاني الربوبية، وآمن بالأباطيل والأساطير والتهاويل الدينية الوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه أبالسة عصره من الجبارين والطغاة؟ وهل يستطيع أن يجعل في أرض مصر شعباً وثنياً متعبداً للفراعنة والجبابرة بالخوف والرهبة والرعب حتى يتأثر بمعنى هذا الضرب من الفن المصري القديم؟ ولكن أفي مصر الآن من الشعب من يستطيع أن يجد له معنى أو تأثيراً أو(345/39)
اهتزازاً إلا من القدم وأخيلة القدم؟ كلا. . . كلا.
لقد ذهب كل هذا، لقد دثر، لقد باد. إن الأصول الفنية التي يكون بها الفن فناً قلما تتغير، وهي ممكنة دانية في كل الآثار على اختلاف أنواعها وبلادها وأراضيها وأديانها، ولكن روح الفن هي دين المجتمع وعقائده وطبيعة أرضه وسائر أسباب حضارته، وهي التي تمنح الفنان القوة والقدرة على الإبداع، وهي التي ترفع فنه أو تضعه.
وإذن فدعوة الدكتور طه إلى الاستعداد من الفن الفرعوني - كما استمد (مختار) - ثم دعوته إلى جعل اجتماعنا اجتماعاً إسلامياً، ثم استمدادنا أيضاً من الفن الإسلامي - تناقض عجيب في أصل الرأي، لا يمكن أن يكون ولا أن يعمل به إلا إذا شئنا أن نوجد لمصر حضارة مقلدة ضعيفة ملفقة من أشياء ليست نتيجة ولا شبه نتيجة للاجتماع المصري الإسلامي الحديث الذي تدعو إليه ويدعو إليه الدكتور طه حسين!!
وبشر أيضاً!!
يقول بشار بن برد لخلف بن أبى عمرو في حديث جرى بينهما معابثة ومزاحاً:
ارفْق بعمرو إذا حركتَ نسبته ... فإنه عربيٌ من قواريرِ
وصديقي (بشر) قارورة عطر نشوان من نفحات روحه، قارورة عربية معربدة تختال بطيها تياهة من الخفة والطرب. وأنا أرفق به ولكنه يأبى - كرماً منه - إلا أن يتحطم في يدي ليسكب طيبه عليها فيعبق بها، ويبقى أبداً يتضوع منها نسيماً يسكر، ويعلق بهذا القلم من عطره أثر خالد كرائحة الحبيبة في ذكرى المحب، و (للرسالة) بعد ذلك من شذاه ما يفور وما يتوهج وما يسطع من نضج عبيره.
وبشر - هذا الإنسان الرقيق - يتجهم لي ويملأ علي (بريد الرسالة) زلزلة ورعداً وبرقاً وصواعق. . . ويبصرني بفروق اللغة بين (وضع بحراً) و (اخترعه)!! وأنا بلا شك لا أستطيع أن أشغل نفسي بتبصيره بمنطق اللسان العربي. ثم لا يكتفي بهذا بل هو يغلو في تقديري فيعدني من (الخلق) الذي يقف على معاني الألفاظ العربية من (إلا كباب على قراءة الصحف اليومية)!! كلا، بل يجوز ذلك فيعلمني مجاز العربية وحقائق بيانها ودقائق ألفاظها!! أوه، بل هو يعرفني بالقرآن لأني (من عامة الناس في هذا الزمان) ممن يفهمون القرآن - كلام الله - بما يغلب عليهم من عامية العصر!! ولا يكون كل ما يكتبه (بشر) من(345/40)
علمه هذا (إلا على جهة التسلي والتلهي)! بلى، فهو يرحمني ويشفق على أن يدخل بي في المقاييس العربية الدقيقة الغامضة التي تستهلك قوة العقل والإدراك، فهو يأخذني من قريب!! وأنا قد أخطأت وأسأت وأثمت وحبط عملي، ومحقني اندفاعي إلى شعر بشر (أتلمس) - هكذا قال بشر - أتلمس له الخطأ!!
ولا كل هذا أيها العزيز، (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة)، وأنا يا بشر لا أطاولك في علم ولا فقه ولا بيان ولا معرفة، فأنت أنت، وأنا حيث أنا من العجز والبلادة، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
ومن جَهِلتْ نَفْسُه قدرهُ ... رَأَى غيرهُ منْه ما لا يَرَى
وأنا يا صديقي أقل شأناً وأضعف من أن أجرى في عنانك، ولكنك - إذ كتبت ورددت وأعطيتني فوق ما أستحق في نفسي - تحملني على المركب الصعب، فكان أولى بك أن تهملني، فإما إذ أبيت فلا بأس عليك إذ أنا أقحمت نفسي معك؛ فاصبر على هذا البلاء (فالحر يظلم أحياناً فيظلم)
وقد زعموا - أيها العزيز - أنه كان رجل عبادي بالحيرة البيضاء، فلاقى ضحضاحاً من الماء لابد له أن يجوزه ويخوض فيه، فاستعان الله وأقبل على الماء - وهو إلى الكعبين حسب - فلما دخله صاح: (الغريق، الغريق!) يستنجد أصحابه، فتناولوه يسألونه: ما دعاك إلى هذا وليس غرق؟ فقال: (أردت أن آخذ بالحزم)
وأنت - أيها الصديق - تأخذ بهذا الزم، فتهرول إلى (لسان العرب)، و (أساس البلاغة) و (الألفاظ الكتابية) تحشد لي ما جاء فيها من مادة العربية في قولهم (زلزل) ولا تكتفي بهذا بل تسعى إلى (الأغاني) (طبعة بولاق!) تقلب أوراقه، تستخرج تراجم المغنين وأصحاب الملاهي كإسماعيل بن جامع وإبراهيم ابن ميمون الموصلي - وغيرهما في دواوين العربية وأصولها - فتفلي ألفاظها وتجري عينيك وراء إصبعك على حروف الكلمات عساك تقع على جملة يكون فيها (زلزل) وما يخرج منها وما يتداعى إليها، ولا تكتفي أيضاً فتتناول من بين كتبك أحد فهارس القرآن الكريم - (وهو الحجة العليا في مثل هذه المشكلات) - كما قلت وإن لم تقل، فتجد اللفظ في آيات بينات منه. فتجمع ذلك كله في مقالك - أو ردك على - حشداً بارعاً عظيما تضاهي به عمل (المستشرقين) الثقات الإثبات المتضلعين(345/41)
المتقنين المجيدين! الذين لا يدعون للحرف مكاناً إلا نبشوه وتقصوه ورموا بعضة فوق بعض (أخذاً بحزم العبادي. . .) الذي عرفت. وهو أسلوب فاسد عندنا لا يعول عليه في الحجة، وإنما هو أسلوب ضروري حسن حين يراد منه المقارنة والتدبر لاستخراج المعاني من الألفاظ وبيان سرها من الحقيقة والمجاز ودقة التصوير للأغراض التي نصبت لها هذه الألفاظ.
والنصوص التي جمعتها وحشدتها ورتبتها تختلف في حقائقها ومجازها في العربية، وأنت لم تشرح حرفاً واحداً منها تبين عن وجه مجازه على العبارة التي وقع عليها، ولو كنت فعلت ذلك أو أحسنته لطويت كل الذي نشرته عليّ وعلى القراء. . . تعلمني به ما غاب عني من (القرآن وهو في صدري، والتفسير والحديث واللغة وهي شواغلي) - كما تقول - وأنا لا أضن عليك، أيها الصديق، بما يجعل لحشدك هذا - الذي رعتنا به حين قذفته علينا - قراناً ونظاماً يسلك فيه ويمضي عليه، ويعرف به من لا يعرف سر البيان وكيف يكون مجازه على طريق اللسان العربي المبين!!
فأصل الحرف (زلزل) من (زلّ الشيء إذا زلق فتحرك فتدأدأ، فمر مراً سريعاً في ذهابه عن مستقره). فلما ضعفت العرب الحرف، فقالوا: (زلزل وتزلزل)، ضاعفوا معنى هذه الحركة، فكان معناها الحركة الشديدة العظيمة والاضطراب والتزعزع، وتكرار هذه الحركة مرة بعد مرة، حتى كأن بعض الشيء يزل عن مكانه، فينقض على بعض ويتساقط ويتقوض. وإذن، فشرط مجاز هذا الحرف أن يكون لشيء يتحرك حركة عظيمة شديدة، فالرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس والقلوب وما إليها من أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك الحيوان كالإبل جاء راعيها بها (يزلزلها) أي يسوقها سوقاً عنيفاً كأنها تزل معه مرة بعد مرة، والمكيل في مكياله كالبر والشعير كل يتزلزل لأنه يحرك فيتحرك، والدار والأرض والدنيا كلها تتزلزل لأنها تتحرك أو يجوز عليها الحركة فيتهدم بعضها على بعض، والنفس كذلك لأنها تضطرب في حيزوم المحتضر اضطراباً شديداً يتجلى في الكرب الذي يلحقه والضيق الذي يأخذه، فينتزع الأنفاس، ويضطرب القلب بالنبض الشديد، ويزيغ البصر، وتتحرك اليد والرجل في الحشرجة حركة كثيرة شديدة بتردد النفس في نزاع الموت والحياة. ومع ذلك فأنا أدع أشياء كثيرة لا أتناولك منها أيها(345/42)
الصديق.
أما الأُذن. . . فالإنسان من بين جميع الحيوان هو الذي لا يحرك أذنيه ألبتة، لا في طرب ولا غضب، فما بالك وهي ليست مجرد حركة، وإنما هي حركة شديدة مهدمة لأنها زلزلة. فإذا علمت ذلك وتلقيت وتدبرته وأحكمته ولم يأخذك العناد عليه عرفت أنه لا يمكن أن تقول (أذني زلزلت) لأن الزلزلة تتطلب أصلها المقرر وهو الحركة والانتقال والزلة بعد الزلة من مكان إلى مكان ولو على وجه المبالغة. فدع أذنك من آذان خلق الله الذين صورهم فأحسن صورهم - إن شئت. وأنا لا أصنع في كلامك هذا تعباً فأتلمس لك الخطأ كما تزعم، ولكن انظر يا بشر كيف يتكلم الشعراء عن الآذان وعن الزلزلة؛ يقول بشار في مغنية:
لعمُر أَبى زُوَّارِها الصّيدِ، إنهم ... لفي مَنظر منها وحسنِ متاعِ
(تُصلى لها آذانُنا) وعُيوننا ... إذا ما التقينا والقلوبُ دَوَاع
إذا قَلدَت أطراَفها العود (زَلزلتْ ... قلوباً) دَعاها للوساوِس داعِ
يروحون من تغريدها وحديثها ... نَشاوَى، وما تسقيهم بصُواع
لعوبٌ بألباب الرجال وإن دنت ... أطيع التُّقى والغي غير مُطاعِ
فانظر صلاة الآذان بالخشوع والإنصات والسجود للصوت، وتأمل زلزلة أوتار العود التي تزلزل القلب بوقعها وتوقيعها. وكيف أتم المعنى بذكر الوساوس وهي قلق واضطراب. . . وأما أنت أيها العزيز
فلا تذهبْ بحلْمك طامياتٌ ... من الخُيلاءِ ليس لهن بابُ
فإنك سوف تحكمُ أو تَناهَى ... إذا ما شبتَ أو شاب الغرابُ
محمد محمود شاكر(345/43)
رسالة الفن
من لوازم الفن
لو أكلت الشجرة أثمارها!
(إلى الذين يريدون مني أن أكون مؤدباً)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- مالك مقطب الجبين؟
- بعض الذين أحبهم ساخطون علي
- من طول لسانك. تعلم الصمت. . . دارِ الناس. . . تأدب تجدهم يحبونك. . .
- إذا فعلت كذلك كرهت نفسي
- عجباً! ألا تحب نفسك إلا إذا كنت شتاما؟
- لست أشتم أحداً، لكن أرى، وافهم، وأصف. والله يعلم أني لا أقصد من وراء ذلك شيئاً. . .
- هذا أنكى وأمر. فقد كنت أحسب أنك تقصد من وراء ذلك إصلاح الذين تذكر عيوبهم
- ربما كان ذلك يجول بخاطري أحياناً. ولكن عندما تحتد بي الحكمة أشهد على نفسي بأني عاجز عن هذا الإصلاح. فلهذا الكون إله يديره، وهو قد رضى عن ناس فهداهم، وهو قد أضل ناساً لم يرض عنهم، وقد أنبأ الله رسوله المحمد بأنه لن يهدي من أضل الله، ومن أنا إلى جانب الرسول حتى أزعم أني أهدي وأرشد؟!
- إذن فما لك لا تسكت؟
- لأن الله خلقني ناطقاً، فإذا لم أنطق عطلت رغبة من رغبات إلهي، وأعدمت بيدي مبرر وجودي، وكنت بعد ذلك جديراً بالفناء، فليس لي في هذه الدنيا عمل إلا أن أقول. . .
- تستطيع أن تعمل شيئا غير ذلك. . . ألست إنساناً عاقلاً؟
إنك تزعم أنك عاقل، وإني أرى أكثر اهتمامك متجهاً إلى التأمل في الناس ودراسة نفوسهم، ولا أكتمك إعجابي بكثير من دراساتك هذى، فلماذا لا تستغل قدرتك هذه على الإلمام بالناس ونفوسهم، في السيطرة عليهم واستغلالهم؟. . . لماذا تصدمني بذكر عيوبي مجسدة(345/44)
مكبرة مهولة، وأنت تستطيع أن تسيطر على وإن تعبث بعقلي ما دمت تعرف مواطن الضعف فيه. . .؟
- هذا الذي تطلبينه يصنعه التاجر، ويصنعه رجل السلك السياسي، ويصنعه الجاسوس، وتصنعه المرأة؛ ولكن لا يصنعه الكاتب، ولا الرسام، ولا الشاعر. . . ألم تقرئي تاريخ المتنبي؟ أو لم تقرئي شعره؟ هل رأيت في الناس من هو أحكم منه، ومن هو أشد خبرة بالنقوش منه؟ إلا تظنين أن المتنبي كان يستطيع العبث بكل ملك من أولئك الملوك الذين قربوه وفضلوه على غيره من المقربين؟ إلا تظنين أنه كان يستطيع أن يبيع سيف الدولة وإن يشتري الإخشيدي؟ أنه كان من غير شك يستطيع، فلماذا لم يفعل؟!
- لأنه كان سخيفاً؟
- قولي أنه كان سخيفاً في هذه، وقولي أنه كان مجنوناً، ولكنني أقلوا أنه كان أميناً.
- أميناً لمن؟ ما كان أميناً لنفسه، فلو كان كذلك لأفاد نفسه، وما كان أميناً لسادته أو أصحابه، فلو كان كذلك لما سبهم وذكر عيوبهم. . .
- كان المتنبي أمينا لك أنت، وكان أميناً لي أنا، وكان أميناً لكل الذين عاشوا بعده وقرءوا شعره، فقد كشف لنا المتنبي عن حقيقة ربما كنا سنظل نجهلها لو لم يقفنا عليها، ولكنه صرح بها، وذكرها وقال لنا: يا خلق الله لا تشتروا العبد إلا والعصا معه، أن العبيد لأنجاس مناكيد. . .
- أو لم يكن المتنبي يعرف أن العبيد أنجاس مناكيد قبل أن تضطره الظروف إلى أن يقول هذا؟
- صدقي أني أكره في المتنبي احتماله الطويل لكافور قبل أن يصفه هذا الوصف، وصدقي أني لا أغفر هذا الاحتمال للمتنبي إلا بهذه الثورة التي ثارها على كافور آخر الأمر، وصدقي أني لو كنت مكان المتنبي ما كنت تقربت من كافور ولا من غيره، لأني رأيت أصحاب السلطان يعتزون بسلطانهم، كما يعتز أصحاب المال بأموالهم، وكما يعتز أصحاب الفكر بأفكارهم، ولا يمكن أن يعاشر معتز معتزاً إلا إذا كان أساس العلاقة بينهما استغناء كل منهما عن الآخر، وكان المتنبي يستطيع أن يستغني كما استغنى أبو العلاء، ولكن أطماعه ثقلت على نفسه فسوأت بعض تاريخه، وإن كانت أطماعه هذه هانت عليه أحياناً(345/45)
عندما استعصت فانقلب عليها مستهجناً ولكن كما يغضب الطفل على مشتهاه إن قصرت عنه يداه.
- فالمتنبي عندك رجل سوء.
- لا. ولا يمكن أن يكون كذلك. فالرجل الذي يغاضب أصحاب السلطة حين يشعر أن كرامته مست لا يمكن أن يكون رجل سوء. وإنما رجل السوء الذي تمس كرامته كل يوم فيرضى، والذي تهون عليه الإساءة بما يأكل من السمن والعسل. . . هبي المتنبي احتمل سيف الدولة، وطأطأ الرأس لغضبه، وهبيه لأن الكافور واستمسك بعشرته وتعلق بنعمائه. . . أفما كان يستلزم منه هذا أن يسكت عن الإفاضة بما يشعر به من وخز الألم، أو أن يفيض بالذي لا يشعر به من الراحة والسعادة؟ وهبيه قد فعل هذا. . . أفما كنا نخسر هذه الثروة الفنية التي خلفها لنا غضبه والتي بعثتها ثورته؟ ثم ألم يكن المتنبي مضطراً في المجاملة أن يقول شعراً كذباً ككل شعر كذب قيل في عصره فمات ولم يخلد غير شعر المتنبي. . .؟
- ولكن المتنبي قال شعراً كذباً
- أي شعر هذا الكذب الذي قاله؟
- مدحه الأول لكافور. . . أفكان كافور يستحق أن يمدحه شاعر كالمتنبي. . .؟
- ولم لا؟ ألم يمدح الشعراء الحيوانات؟ كافور رجل أحسن الظن بالمتنبي في البدء، وأحسن على هذا استقباله، وأحسن بعد هذا تكريمه، وكل هذا جدير بأن يبعث في نفس الشاعر الراحة وهذه الراحة تبعث في نفسه حب جالبها، وهذا الحب يبعث المدح. . . على أنك إذا قرأت مدح المتنبي لكافور رأيت فيه تحوطاً ملحوظاً، ورأيت المتنبي يقول وكأنه يحس أن مدحه أكبر من ممدوحه، ويكفيك هذا - فيما أظن - تصويراً صادقاً لإحساس هذا الفنان الذي رأى رجلاً هو يعرف النقص فيه ومع هذا فهو يحبه لتكريمه إياه. . .
- إذن فالمسألة تدخل فيها الاعتبارات وليست مجردة منها، والمتنبي كان يحب الذين يعطونه لا الذين يستحقون حب الإنسانية الخالصة. . .
- هذا عيب كان في المتنبي، وأنت تلحظين هذا العيب وتذكرينه، وأنا أوافقك على ذكره وأعده من مساوئ المتنبي لا من حسناته، وأزيد على ذلك فأقول لك أن هذا العيب هو الذي(345/46)
قضي على حياة المتنبي بعد أن قضى على كرامته أيضاً، فأنت تذكرين أنه هوجم في الطريق فأراد أن يهرب، ولكن غلامه ذكره بكلام ينسب له لنفسه فيه الشجاعة، فارتد ونازل مهاجمه حتى لاقى حتفه. . . فلو لم يكن المتنبي يتهاون في الحق أحياناً لما فخر بشجاعته وهو يعلم أنه غير شجاع، ولو كان قد أظهر نفسه على حقيقتها في شعره لما اضطر إلى أن يقف في آخر ساعة من ساعات حياته هذا الموقف المضطرب الذي مات فيه. . إن المتنبي لم ينته هذه النهاية إلا لأنه اضطرب بين فنه وأطماعه. . . بين بيت الشعر الذي يفخر فيه بشجاعته وبين حبه للنجاة ورغبته في مواصلة التجوال بين أرباب العروش. . .
- فإذا كنت أنت في موقفه فماذا كنت تصنع؟
- أما أنا فإني لا أفخر إلا بالذي أتحلى به من الفضائل أن كانت في فضائل، وإني لا أذكرها على سبيل الفخر، وإنما أسردها سرداً كما أسرد كل ما في من العيوب، ولعلك تقرين بأني أكثر من رأيت من الناس إظهاراً لعيوبهم، وهذا من غير شك هو انتقام الطبيعة إلى سلطتني على عيوب الناس ومحامدهم أذكرها وأرددها، فأنا مع نفسي مثلما أنا مع الناس، وما دمت غير شجاع فلا يمكنني أن أقول أني شجاع ومقاتل، وهذا هو الذي كان يمكنني من الهرب عند هجوم العدو لو أني كنت المتنبي. . .
- وما الذي يمنعك ما دمت تعترف بأن لك عيوباً من إصلاح هذه العيوب؟
- لا شيء. ولا ريب أن من ذكر عيوبه كان هذا دليلاً منه على نية إصلاحها، وهو من غير شك ينصلح قليلاً قليلاً، ويتخلص من نواحي الضعف فيه شيئاً فشيئاً، ومهما يكن فإن الصدق الذي يميزه ليس شيئاً هيناً. . .
- أنا لا أوافق على أن يكون هذا الصدق مبرراً يستبقي الإنسان به عيوبه، ويفضح به عيوب الناس. أن هذا صدق قبيح يجب أن يزول. . .
- أما أنه قبيح فانه يكون قبيحاً. . . ولكن هذا لا يعنيني ولا يعنيه، ولا يحط من قدره، فليس بعيب الصبر أنه مر، ولا يعيب الليمون أنه حامض، وإنما الصبر المعيب هو الذي فقد مرارته، والليمون المعيب هو الذي عطب فذهبت حموضته. . .
- يا لباقتك! أما تستطيع أن تحبس هذه اللباقة لنفسك وإن تنتفع بها. . .؟(345/47)
- يا أنانيتك! أي زهرة في الدنيا تحبس أريجها عن الحياة؟ أنها لا تستطيع ذلك لأنها وجدت للوجود لا لنفسها. . . إن الكون ينادي في الخلائق ما منحها. . . الثمرة تنضج فتقفز من غصنها إلى الأرض إذا لم تقطفها يد، وأنت تريدين مني أن تنضج الفكرة في رأسها وإن أزدردها لنفسي؟ كنت أستطيع هذا لو أكلت الشجرة أثمارها!. . .
- إذن فأنت تطلب من يأكلك. . .
- الذي يأكلني هو الذي يسمعني. . .
- وقد يمقتك من يسمعك فيقتلك. . .
- فلتكن إرادة الله، ولست أجهل أن الله خلق من يأكل ومن يؤكل، ومن يقتل ومن يقتل، وكم مات أصحاب الفكر في إيمانهم
- ستعود فتكسو نفسك بطولة لست أنت أهلها، وأنت وقعت الآن فيما عبت على المتنبي الوقوع فيه. . .
- لا يا هذه، إني لم أقل إني مقاتل مغوار، وإنما قلت إني مؤمن بالله وقضائه، وإني لازم رأيي، وإن شاء الله قضاءه. . . وأما المقاومة، وأما هذه الشجاعة البدنية فإني أعجز الناس عنها. . . إنما أنا كالجرذ أعرف أن لي في الحياة حقا آخذه، وأحاول أن آخذ هذا الحق، ولا يمنعني من هذا علمي بأن في الدنيا قططاً وسنانير هي أقوى مني. ولست أفكر إن لاقيت القط أن أقاومه لأنه لا جرذ يقاوم قطا، وإنما هو يحاول الهرب إذا كان للهرب سبيل، أما إذا فاجأه القط استسلم له، وربما هفا إليه. . . تلك هي الطبيعة، والكائنات - كما قلت لك - تتنادى و (تتهاتف) ويفنى بعضها في بعض ولا يبقى غير وجه الله الكريم. والكائنات تطاوع هذا القانون ولا تتكبر عليه، وحق الإنسان أن يكون انصياعه له أكثر واظهر من انصياع غيره مما لم يميزه الله بنعمة العقل، ولعلك ترين أن أهل الفن وحدهم والصالحين هم الذين يستسلمون لهذا القانون وأن غيرهم من الناس ينتكسون بعقولهم على أنفسهم، ويلحظون في حياتهم من الاعتبارات ما لا تقيم له الطبيعة وزناً. . . مثلما فعل المتنبي. . .
- وهلا تريد أن تحسب المتنبي بين الفنانين؟. . . هذا الشاعر المجيد الخالد؟
- إنه فنان من غير شك، ولكنه - غفر الله له - كان يتذبذب كما قلت لك بين الفن وبين(345/48)
أطماعه في الدنيا، وكان يستطيع أن ينقى من هذا، وأن يصقل في نفسه كبرياءه بأن يحرم عليها الترجي في الخلق دون الله، ولكنه ضعف أمام بهارج الدنيا فاختل. . .
- كيف تقول إنه اختل، مع أنك قلت إنه كان حكيما أو كما قلت أحكم الناس؟
- كان حكيما لأنه كان يراقب الناس، وكان إذا راقب تيقظ عقله ووقف على الحق والباطل من أمثالهم وأقوالهم، وكان مختلاً لأنه لم يكن يراقب نفسه، بل إنه لم يكن يعرف فيم يعيش، فهو يقول عن نفسه: إنه عاقل، وإنه ذكي، وإنه عالم، وإنه حساس، وإنه فصيح، وإنه أهل لكل جاه وكل سلطان؛ ثم لا يفعل شيئاً أكثر من أن يسأل الناس أن يعطوه، فإذا أعطوه فهم فضلاء، وإذا لم يعطوه فهو أهل لهجائه. . . وليس بعد هذا خلل وليس بعده اضطراب.
- وماذا كنت تحسبه يستطيع أن يفعل، والحكمة لا سوق لها ولا ربح وراءها؟
- كان يستطيع أن يرتزق من صناعة أو من عمل، وإلا فكان يستطيع أن يصبر على فاقة الحكمة. . . وأن يسعد بنعمائها.
عزيز أحمد فهمي(345/49)
رسالة العلم
أرقام تتحدث وتنبئنا عن أسرار الكون
للدكتور محمد محمود غالي
آنية (بيران) وجوها العجيب - رقصة الكرات في الآنية -
نظام توزيعها - أمثلة عملية من هذا التوزيع - في زرقة
السماء دليل على مقدار الذرة - عندما نطالع هذه السطور
تسيطر علينا الفوتونات.
استغرقت تجارب (بيران) مقالين ولم نتمها بعد، وفي هذه الأسطر نحاول أن ننتهي من أسطورته الخالدة، لهذا نترك المقدمات لنتكلم على صميم عمله التجريبي.
في آنية صغيرة بها سائل يبلغ ما يعنينا فيها من ارتفاع 110
المليمتر أجريت كل تجارب (بيران) الذي ترك فيها عدداً
كبيراُ من الكرات الصمغية الصغيرة التي يبلغ قطرها كسراً
من الميكرون (الميكرون 10001 من المليمتر)، ودرس هذا
العالم النظام الذي تتوزع بمقتضاه هذه الكريات في المسائل،
وكان عليه أن يرى بعد فترة من الزمن، تتنازع خلالها هذه
الجسيمات عوامل مختلفة، هل كان ينتج من ذلك توزيع شبيه
بتوزيع الذرات الغازية، وقد وجد (بيران) بالفعل هذا النوع
من التوزيع الذي يتبع متوالية هندسية، وللقارئ نورد مثالاً
للحالة التي توزعت بها كرات صمغية من التي نصف(345/50)
قطرها 0. 212 من الميكرون كما لاحظها (بيران)
نسبة عدد الجسيمات
الارتفاع الموجودة عنده الجسيمات محسوباً من قاع الإناء ومقدراً بالميكرون
(الميكرون 10001 من المليمتر)
100
5
47
35
22. 6
65
12
95
ويلاحظ أنه بينما اختار (بيران) الارتفاعات المذكورة وهي: 5، 35، 65، 95 التي هي متوالية عددية فإن الجسيمات تبعت في أعدادها ومن تلقاء نفسها الأعداد 100، 47، 22. 6، 12 التي هي متوالية هندسية إذ يلاحظ أن هذه الأعداد تتساوى تقريباً مع الأعداد 100، 48، 23، 11. 1 التي تكون متوالية هندسية مضبوطة.
وفي المثال الآتي يرى القارئ كيف توزعت كرات أخرى
أكبر من الأولى ويبلغ قطرها 0. 25 من الميكرون أي حوالي
20001 من المليمتر، وقد أمكن عد هذه الجسيمات بطريقة
فوتوغرافية بتصويرها في أربعة مستويات يرتفع الواحد منها
عن الآخر بمقدار ميكرون أي 10006 من المليمتر وقد وجد
(بيران) أن عدد الجسيمات عند هذه المستويات الأربعة(345/51)
كالآتي:
1880، 940، 530، 305
ويرى القارئ أنها مقادير قريبة جداً من الأعداد:
1880، 945، 5288، 280
التي تكون متوالية هندسية.
هذا توافق واضح في الأعداد، ولكن هل أدى هذا إلى أن يصل
(بيران) إلى عدد (أفوجادرو) الذي ينتظره فعرف عدد ما في
الوزن الجزيئي من الذرات؟ هذا ما نتناوله الآن فنبحث ما تدل
عليه الأرقام في المثال الأخير: عندما نرتفع بين طبقات الإناء
مسافة قدرها 10006 من المليمتر نلاحظ أن عدد الجسيمات
ينخفض إلى النصف، على أننا نعلم من تجارب أخرى في
الضغط الجوي أنه لكي نحصل على مثل هذا الانخفاض في
عدد الذرات الهوائية يجب أن نرتفع في طبقات الجو إلى
ارتفاع ستة كيلو مترات أي إلى مسافة تبلغ الألف مليون
(مليار) مرة قدر الارتفاع السابق، وعلى ذلك فإن وزن جزئ
من الهواء يبلغ الواحد على ألف من المليون من وزن إحدى
الحبيبات الصمغية المشار إليها ولو أن الغاز الذي نعتبره هو
غاز الهيدروجين، فإنه من الممكن بنفس الطريقة الحصول
على وزن ذرة الهيدروجين من وزن الجسيم السابق، وهكذا(345/52)
توصل (بيران) من التجربة السابقة ومن أمثالها إلى معرفة
وزن ذرة الهيدروجين، وكان عليه أن يتساءل بعد ذلك هل
كان هذا الوزن لذرة الهيدروجين يتفق مع الرقم ذاته الذي
أمكن العلماء الحصول عليه من باب آخر يختلف في
موضوعه عن تجارب (بيران)، وهذا ما حدث بالذات عندما
قارن ذا العالم وزن الذرة الذي توصل إليه بوزنها الذي عرفه
العلماء من النظرية السينيتيكية.
وندع للقارئ أن يقدر مبلغ ما كان لهذا من الأثر العميق على نفسه، عند ذلك أراد أن يستوثق العالم من صحة ما وصل إليه فعمد إلى تغيير ظروف التجربة بإبدال الحبيبات حتى جعل حجم بعضها يبلغ الخمسين مرة حجم الأخرى، ولم يكتف بذلك بل غير طبيعة هذه الجسيمات، ثم عمد إلى تغيير السائل ذاته بما يجعل ميوعته تبلغ 125 مرة ميوعة السائل الأول، ولم يفت هذا الباحث الكبير تغيير كثافة المواد المستعملة التي كانت طوراً أضعاف كثافة السائل وتارة أقل من كثافته، إذ تعمل الأرض في الحالة الأخيرة على صعود الكرات بدل سقوطها، بعد ذلك غير حرارة السائل من درجة (- 9) إلى درجة (60) مئوية، ومع كل ذلك وجد (بيران) ومدرسته طوال هذه الحالات المختلفة القوانين ذاتها والأقدار الذرية ذاتها، وكان ذلك بلا ريب فوزاً علمياً كبيراً يذكره له التاريخ.
تلك كانت السبيل عند (بيران) ليتعرف على قدر الذرة من دراسة توزيع رأسي لجسيمات صلبة دخلت في الماء أو في أي سائل، وشاء لها القدر أن تتجاذبها جزيئات السائل فنتج بفعل ذلك، وفعل جاذبية الأرض التوزيع الذي ذكرناه، ونجتزئ الحديث، فلا نشرح للقارئ من عمل (بيران) الجزء الخاص بالحركة البراونية بالذات، فقد عين أيضاً عدد أفوجادرو، كما عين شحنة الإلكترون من دراسة دقيقة قام بها على مسارات الجسيمات كل على حدة داخل السائل، ويكفي أن نذكر أنه بدراسة مستفيضة على الحركة البراونية ذاتها وبتطبيق(345/53)
لقوانين أينشتاين الخاصة بها تمكن من طريق جديد للوصول إلى هذه الأقدار الذرية والإلكترونية.
ولا يمكن في عجالة كالتي نحاولها أن نعطي للقارئ صورة دقيقة لما قام به أينشتاين في سنة 1905 من الناحية النظرية وما قام به بيران في سنة 1908 من الناحية العملية في هذا الصدد، وكل ما يعني القارئ أن يعرفه هو أن الأول قد استطاع الحصول على علاقة يمكن أن نعرف منها عدد أفوجادرو إذا عرفنا المسافة المتوسطة التي يقطعها جسيم يتحرك تحت تأثير صدمات جزيئات السائل، وعرفنا طول الزمن المتوسط الذي يستغرقه الجسيم في قطع تلك المسافة المتوسطة، أما الثاني فقد توصل من متابعة رصد الجسيمات إلى تعيين عدد أفوجادرو فوجد بهذه الطريقة أنه (68. 2 2210)، ومن ثم وجد وسيلة في الواقع لإثبات صحة قانون أينشتاتين، ولقد كان من السهل بدراسة توزيع وحركة جسيمات مكهربة الوصول إلى معرفة شحنة الإلكترون، وهذا ما قام به أيضاً الباحث الشاب في ذلك الوقت من سنة 1908 الدوق (موريس دي بروي) الذي يعتبر الآن من أكبر علماء الأكاديمية الفرنسية عندما درس وتتبع بالميكرسكوب كرات من الدخان أو الأتربة المعدنية المكهربة
أن يتحرك جسيم صلب موجود في سائل في إناء على منضدة ثابتة حركة تصادفية هي الحركة البراونية المعرفة التي كشفها (براون) وعرف العلماء أنها ناشئة عن تحرك جزيئات السائل، وأن يتخبط هذا الجسيم بين هذه الجزيئات تتقاذفه ذات اليمين وذات الشمال دون أن يكون ثمة قانون ينتظم كلا من هذه الصدمات، وإن يكون هناك من هذا التخبط الأعمى ومن جاذبية الأرض توزيع خاص شبيه بتوزيع الذرات الغازية في اتجاه رأسي وإن يكون من حساب التوزيع في الحالين سبيل لمعرفة قدر الجسيم الحائر بين بلايين جزيئات السائل وسبيل لمعرفة قدر الذرة بل قدر الإلكترون - فإن ذلك كله لأمر له خطره وموضوع يقف بذاته دليلاً على صحة هذه الأقدار الغريبة عن مداركنا البعيدة عن حواسنا، ولكن هذا التعيين يتركنا في نوع من الشك فيما وصلنا إليه من نتائج إذا ظلت الطريقة المتقدمة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة هذه الأقدار. أما أن نصل إلى معرفتها بطريقة أخرى طريقة مليكان التي شرحناها في مقالات سابقة فإن هذا الاتفاق في النتائج(345/54)
بطريقتين لأتمت إحداهما بصلة إلى الأخرى ليقوم دليلاً قاطعاً على حقيقة وجود الذرات والإلكترونات وبرهاناً ساطعاً على صحة أقدارها، ولقد حدث هذا الاتفاق في النتائج بين أعمال (بيران) وأعمال (مليكان) على وجه يبعث على الاطمئنان.
وعند ظني أن كليهما ازدادت ثقته بعمله عندما طالع نشرات الآخر، وثبت في يقينه أن هذا الذي توصل إليه يمثل بلا أدنى ريب حقيقة في الكون، وزادت بينته بأن عمله الفردي يعيد جد البعد عن أن يكون وليد المصادفة التي لا تمت لقوانين العالم في شيء.
ومع ذلك فثمة ظواهر أخرى عديدة دلت هي أيضاً وبطريقة تختلف عن طريقتي (بيران) و (مليكان) على قدر الذرة وقدر الإلكترون، وعلى أن المادة هي المادة كما عرفها بيران وكما فهمها مليكان.
على أننا نذكر بعض هذه الظواهر الأخرى التي توصل بها علماء عديدون إلى كشف الذرة والإلكترون، والى تعيين أقدارها، ففي دراسة لون السماء أو ميوعة الغازات أو نظام انتشار الضوء في الأرجون، بل في تتبع طيف ما يسميه الطبيعيون بالجسم الأسود أو في تكوين الهيليوم من العناصر المشعة، في دراسة هذه الظواهر الخمسة، المختلفة نشأة، المتباينة طريقة، وجد الباحثون كل بدوره سبيلاً آخر لتعيين عدد أفوجادرو هذا العدد الذي يبلغ في تجارب عديدة 68 2210 وبالتالي وصل الباحثون إلى معرفة قدر الذرة وقدر الإلكترون.
هذه أرقام تتحدث وفي حديثها الشائق دليل على وجود هذا العدد للذرات في حجم معين ودليل على قدرها وقدر الإلكترون بالدرجة التي قررها الباحثون.
أجل. أن تكون السماء زرقاء صافية هذه الزرقة التي نراها والتي تعودتها العيون، وإن يكون للغازات ميوعة تدل عليها النظرية السينيتيكية التي أشرنا إليها وأن ينتشر الضوء في الأرجون بنظام خاص، وأن يكون لطيف الجسم الأسود دلالة معينة، وأن يكون للأجسام المشعة نظام في إشعاعها فإن هذه مظاهر مختلفة ومرئيات متباينة، ولكنها تدل جميعها على وجود الذرات بالحجم والوزن اللذين لها، وتدل على عدد ما يوجد منها في الغازات في الحجم الواحد وتدل أيضاً على ما للإلكترون من كيان.
هذا الاتفاق في النتائج وفي الرقم السابق الذي يتعدى كل خيال يحمل الإنسان المفكر على(345/55)
أن ينتهي إلى نتيجة حتمية هي أن ما عرفناه عن الذرة وعن وليدها الإلكترون أمر لا شك فيه ولا نستعرض هنا هذه الموضوعات كلا على حدة، فالقارئ الذي يعرف منذ حداثته أن السماء زرقاء وليست بخضراء، وأنها زرقاء هذه الزرقة المعينة أود أن يعرف أن لذلك علاقة بقدر الذرة وإن ثمة سبباً في هذه الزرقة عند الإنسان المفكر يتوسل بها إلى النتائج ذاتها التي وصل إليها أمثال (مليكان) و (بيران). إنما نقصد أن ندفع بالقارئ إلى إيمان علمي بهذه الحقائق التي نود أن تحل عنده محل الإعجاب والاحترام.
إلى هنا انتهينا من قصة الذرات وأسطورة الإلكترونات وهي مكونات المادة التي منها نوجد وعليها نعيش واليها نعود، وليس الإلكترون بالساكن الوحيد في هذا الكون فثمة كائنات أخرى تختلف عنه، ودورها في الخليقة يختلف عن دوره، وإذا كنت عندما تستمع إلى الإذاعة بواسطة المذياع (الراديو) أو عندما تحادث في المسرة (التليفون) صديقاً لك فد استخدمت الإلكترون واسطة جديدة للاستماع أو التكلم، فكذلك لا يفوتك وأنت تطالع هذه السطور أن تفكر في أنك رأيتها قبل أن تطالعها ولا تنس أنه لكي تراها لابد أن تكون هناك مكونات أخرى في الكون مثلت في طريق بصرك ووصلت إلى العين، وهي التي بوجودها وما اعتراها من حركة استطعت أن ترى هذه الأسطر وتقرأها، فاتصل تفكيرك بتفكيري ومجهودك بمجهودي؛ وثمة موجودات هامة لعبت دوراً خطيراً، وبلغت العين، ومن العين إلى الرأس وعاونتك في مطالعة هذا الحديث مطالعة يستطيعها كل من وهب هذه العيون.
هذا الشعاع الضوئي، هذا الذي يقررون أنه مركب من فوتونات كما يقال عن الكهرباء إنها مكونة من إلكترونات هو بدوره مكون هام من مكونات الكون، هذا الفوتون الذي يسافر من الشمس إليك في ثمان دقائق، نريد أن نحدثك عنه وعن غيره من المكونات، حتى لا نكون قد وصفنا قصراً عظيماً له حديقة هي مثار الأحاديث، ولكن فاتنا عند وصفنا إياه أن نذكر أن للقصر حديقة.
هذه المكونات الأخرى سنعمد أن يكون لنا مع القارئ حديث عنها أو اثنان قبل أن نتناول موضوعات النسبية والكم والتفتت، وهي الموضوعات الرئيسية الثلاثة التي نقصد من ورائها أن يكون لدى القارئ أقرب صورة للكون وإن يعرف أحدث الآراء عنه.(345/56)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم من (السوربون)
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(345/57)
القصص
من أدباء الجيل!
للأستاذ محمد سعيد العريان
كانت أشعة المصباح ذابلة صفراء ترتعش لكل نسمة تهب؛ وكان الجو عاصفاً، والمطر يلطم زجاج النافذة فينفذ رشاشه من فروجها، ويسيل قطرات على الجدار؛ وفي زاوية من الغرفة كان الفتى النحيل جالساً إلى نضد صغير يكتب. . .
منذ ساعات، والفتى في مجلسه ذاك يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، لا يكاد يحس شيئاً حوله، والناس نيام! يجب أن يفرغ من إعداد هذه الخطبة التي يكتبها قبل الصباح؛ أن هنالك من ينتظر. . . . . .
ودقت الساعة اثنتي عشرة دقة، فرفع الفتى رأسه عن أوراقه ووضع القلم وفي عينيه أثر الجهد والإعياء. . . وارتفق بذراعه على النضد الذي يتخذه خواناً بالنهار ومكتباً بالليل، فسمع له مثل صرير الباب تضربه الريح. . . ودار بعينيه في الغرفة التي تضم كل ما يملك من متاع، ينقل بصره بين البذلة المعلقة بالشجب، والطربوش الملقى على الوسادة، والفراش المشعث منذ غادره في الصباح الباكر؛ ثم زفر زفرة. . . وخرجت من بين الكتب المركومة إلى جانب الحائط دويبة صغيرة تلتمس طريقها إلى الباب في تثاقل وبطء. . . وارتمى إليها نظر الفتى، فابتسم. . . ثم قلب شفته في رثاء: (آه، حتى أنت يا مسكينة. . . تسهرين الليل مثلي في البحث عن القوت!)
ثم عاد إلى مكتبه وأوراقه. . .
وفرغ الفتى من عمله، فأشعل آخر دخينة في علبته. . . ثم أخذ يقرأ لنفسه ما كتب. . .
وأشرق وجهه راضياً، كأنما مسحت على آلامه يد رحيمة؛ ثم هب واقفاً وعلى شفتيه ابتسامة الرضى والسلام، وبسط أوراقه أمام عينيه. . . وعاد يقرأ:
(أيها السادة!. . .)
وخيل إليه في موقفه ذاك، أنه هو ما هو بين الناس، في جمع حاشد تشرئب أعناقهم إليه، فلعب به الزهو واستخفته الكبرياء، واستمر يخطب. . .
(. . . شكراً لكم هذا التقدير الغالي. . . إن أمة تحتفي بأدبائها هذه الحفاوة العظيمة. . . .(345/58)
)
وأحس شيئاً يخزه في صدره فلم يتم. . . (التقدير الغالي. . . والحفاوة العظيمة. . .) أين هو من هذه المعاني؟
إنه منذ سنوات وسنوات يجاهد جهاده للفن والأدب، وينشئ كل يوم في تاريخ الآداب فصلاً جديداً، وها هو ذا اليوم حيث بدأ منذ سنوات وسنوات: لا يذكره أحد، ولا يعترف له إنسان؛ ولم يجد عليه جهاد السنين شيئاً. . . ولكنه مع ذلك مسؤول أن يعمل، وإن يدأب، لا يني ولا يستريح؛ لأنه يريد أن يعيش!
وغام وجهه بعد صفاء؛ وذبلت الابتسامة على شفتيه، وتخاذلت كبرياؤه، وعاد إلى نفسه يفكر فيما عليه من فرائض الحياة
لقد أوشك الصبح أن يسفر، وإن عليه موعداً أن يغدو مبكراً على (الأديب الكبير فلان. . .) ليدفع إليه الخطبة التي أعدها وبذل فيها سواد ليله وعصارة قلبه، ويقبض ثمنها، شأنه معه منذ سنوات. . .!
وطوى الفتى أوراقه كأنما يلف ميتاً في أكفانه؛ ثم أطفأ المصباح وأوى إلى فراشه!
واستيقظ بعد ساعات، فلبس بذلته، ونفض الغبار عن طربوشه؛ ثم سك باب غرفته ومضى يهبط السلالم درجة درجة، وفي يمناه الخطبة التي أعدها ليلقيها الأديب الكبير. . . في حفلة تكريمه! يا للسخرية!
وسار على حيد الطريق ويسراه في جيبه تعبث بما فيه من قروش، وفي رأسه خواطر تصطرع وتموج. . .
أرأيت إلى الأب يمشي وحيداً في جنازة ولده العزيز ليشيعه إلى مثواه؟ كذلك كان يمشي هذا الفتى وفي يمناه أوراقه مطوية في غلافها!
وعاج على بائع الصحف فاشترى واحدة؛ فأخذ يقلب صفحاتها حتى انتهى إلى الموضوع الذي يبحث عنه، فمضى يقرؤه. . .
. . . لم يكن موضوعاً جديداً عليه، لقد قرأه من قبل مرات حتى ليعرف دلالة كل حرف فيه. أراه يقرأ الساعة من الصحيفة التي في يده أم يقرأ من غيب صدره؟. . . وانقبضت نفسه حين انتهى إلى الإمضاء؛ ثم ابتسم. . .!(345/59)
ماذا عليه أن يبيع المجد لطلابه بالمال؟. . . أنه يعطيهم مما يملك لينتفع منهم بما لا يملك. وماذا يجدي عليه المجد والشهرة وذيوع الصيت وأنه لمحتاج إلى الرغيف؟
ليت شعري، أي الرجلين أكثر جدوى على صاحبه؟ ذلك الذي يعطي القرش أم هذا الذي يأخذه؟
وخيل إلى الفتى أنه عرف الجواب، فطاب نفسه وعاوده الشعور بالرضا والاطمئنان!
ونام الفتى في تلك الليلة ملء عينيه وملء بطنه. . . لا يعنيه من أمر الحياة شيء. . .!
وسهر (الأديب الكبير) ليلته يستظهر الخطبة المعدة ليلقيها مساء غد في حفلة تكريمه. . .!
وأشرق الصبح، فنهض الفتى من فراشه ولبس بذلته وخرج لبعض شأنه، وعاج على ندى في الطريق يتناول فطوره، فطاب له المجلس. . .
وجلس إلى جانب الباب يتبع عينيه كل غادية ورائحة في الطريق، وتسرحت خواطره فنوناً من مشهد قريب إلى معنى بعيد، وانفتل من دنياه يجري في عنان الأوهام. . . فما صحا من أحلامه إلا على صوت النادل يمد إليه يده بورقة الحساب، وعاد إلى الحقيقة، ولكن بعد مشوار طويل في وادي المنى. . .
ودفع ما عليه ونهض، ليعود إلى غرفته فيغلق بابها عليه ويجلس إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعنى، وانتهى مما كتب والشمس في صفرة الأصيل: فغادر غرفته عجلان ليشهد حفلة التكريم!
. . . وكانت الردهة الفسيحة ليس فيها موقع لقدم، وقد نصت المقاعد صفوفاً صفوفاً فما بينها فرجة تتسع لعابر؛ واختلطت أصوات المجتمعين فما يبين صوت من صوت، وسكنت الأصوات فجأة حين بدت طلعة الأديب الكبير، وتطاولت إليه الأعناق تنظر؛ ومضى الأديب الكبير في طريقه ثابت الخطو وهو يرفع يديه إلى رأسه، حتى انتهى إلى مقعده في صدر المكان والعيون ناظرة إليه. . .
ووجد الفتى مكاناً في أدنى الردهة إلى الباب؛ فجلس وإنه ليشعر مما به كأنه غريب في هذا المكان!
وتعاقب الخطباء خطيباً بعد خطيب وشاعراً بعد شاعر، يمدحون الأديب الكبير ويعددون أياديه، وهو مطرق الرأس من خجل، لا يزيد على أن يبتسم!(345/60)
وخيل إلى الفتى في مجلسه البعيد من خياله أشياء؛ فكأنما هذا الاجتماع الحاشد، وهذا الثناء الرطب، من اجله هو وحده، وكأنه هو هو ولا أحد هناك، فأطرق رأسه من خجل كذلك، لا يزيد على أن يبتسم!
وماذا يضيره أن يجهل الناس اسمه ومكانه وانهم ليعرفون من يكون بآثاره وأدبه؟ ماذا يضيره أن يكون كتابه في أيدي القراء بلا غلاف ولا عنوان. . .؟
ومضت ساعة ووقف الأديب الكبير ليؤدي واجبه لهؤلاء الذين اجتمعوا لتكريم أدبه والحفاوة به، وأخذ يقرأ من غيب صدره:
(أيها السادة!)
(. . . وأشكر لكم هذا التقدير الغالي. . . وإن أمة تحتفي هذه الحفاوة بالنابغين من أدبائها لحقيقة بالخلود. . .)
وقال الرجل الذي يجلس إلى جانب الفتى في الصف الأخير ونظر إليه: لله ما أحكم منطقه وأسد بيانه!
قال الفتى: شكراً!
وسمعها الرجل وابتسم؛ فما يملك أكثر من أن يبتسم، وأنه ليعرف أن مجالس الأدب هي أحفل المجالس بالمجانين
واستمر الأديب الكبير يخطب:
(إني لمدين للأمة بما أبذل لها من أعصابي ومن دمي؛ شاكر لله ما وهب لي من قدرة تهيئني لأن أكون بهذا المحل الرفيع بين أبناء قومي. . .
(. . . إن الأدب الذي يسمو بضمير الأمة، ويشرع لها طريقاً إلى المجد والخلود. . .)
والتفت الفتى إلى جاره يقول: (لقد نسى فقرة طويلة. . . إنها كانت أجمل ما في خطبته!)
ونظر إليه جاره فلم يتمالك أن ضحك؛ فوضع راحته على فمه يكتم ضحكته أن تسمع؛ وتنبه الفتى بعد سهوة، فأحمر وجهه ثم أصفر؛ ثم نهض فغادر المكان. . .!
ونهض الفتى من فراشه مبكراً بعد ليلة ساهدة؛ فقصد إلى دار الأديب الكبير يهنئه على ما نال من إعجاب الناس وما ظفر به من التقدير والمكانة، ويستعينه على أمر. . .
وقرأ صحف الصباح في الطرق؛ فعرف ما فاته مما كان في الليل. . .(345/61)
ودق الجرس فانفتح الباب، وقدم الفتى بطاقته إلى الخادم، فخلفه واقفاً بالباب ينتظر ودخل يستأذن سيده؛ ثم عاد إليه بعد لحظة يعتذر، لأن سيده نائم!
وأحمر وجهه من الغيظ ولبث واقفاً بالباب برهة، ثم مشى وفي نفسه ثورة تضطرم، ومضى على غير وجه!
وتذكر الفصل البديع الذي انتهى من كتابته أمس قبل أن يغادر غرفته إلى مكان الاحتفال؛ فأخرجه من جيبه ومشى يقرؤه. . .
لا، لا؛ لن يكون بعد اليوم ذيلاً لأحد يبيعه نفسه برغيف من الخبر؛ أنه ليعرف اليوم قدر نفسه أكثر مما عرف في يوم من الأيام؛ لقد قالها الناس أمس كلمة صريحة وعتها أذناه؛ أنه هو هو وإن جهل الناس اسمه ومكانه!
وسعى إلى إدارة الصحيفة التي نشر فيها أول ما نشر من منشآته منسوباً إلى الأديب الكبير؛ وأي الصحف أولى بتقدير أدبه والاعتراف بفضله غير الصحيفة التي عرف منها (الأديب الكبير) أول ما عرف، ثم كانت أول من دعا إلى تكريمه والحفاوة به؟. . . لهو هو وإن جهلت الصحيفة اسمه ومكانه!
واستأذن على المحرر ودخل، فدفع إليه الورقات التي في يده. . .
ونظر المحرر نظرة إلى وجهه هندامه، ثم أثبت وضع النظارة على عينيه واخذ يقرأ هذه الورقات، ولكن من آخرها؛ ثم دفعها إلى الفتى. . . وفي صوت متأنق سمعه الفتى يقول: (يا بني، إنها محاولة، وإني لأرجو أن يكون قريباً ذلك اليوم الذي نشر فيه ما تكتب، بعد أن تأخذ عدتك وتنضج. . .!)
وفتح الفتى فمه وهم أن يتكلم، ثم سكت، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت. . .
ومن النافذة التي طالما سهر بجانبها الليالي إلى مكتبه يستنزل الوحي ويؤلف أشتات المعاني، وقف يطل على الناس ساخراً، ثم أخرج الورقات من جيبه فمزقها وأسلمها إلى الريح تنثرها على الرؤوس كسرب مذعور من الطير الأبيض!
. . . وحين نشرت الصحف أن الحكومة قد رصدت من مال الدولة بضعة آلاف لمعاونة الأديب الكبير فلان. . . على تنفيذ مشروعه الأدبي العظيم. . . كان الفتى جالساً يقرأ الجريدة في ظل شجرة على رأس الحقل، ويستريح برهة مما جهد في الحرث ولزراعة؛(345/62)
وخار الثور المربوط إلى المحراث، كأنما يريد أن ينبه الفتى إلى أنه قد آن أوان العمل!
. . . ولكن الصحف لم تلبث أن عادت فنشرت في الغد، أن الأديب الكبير قد كتب إلى الحكومة يشكر ويعتذر؛ لأنه قد اعتزل الأدب فما له هفوة إليه بعد!
وأسف الناس إذ قرءوا، ولكن شخصاً واحداً كان يعرف، وكان يبتسم!
محمد سعيد العريان(345/63)
من هنا ومن هناك
الجيش الأحمر في الشرق
(ملخصة عن مجلة (باربيد))
كتب الجنرال (ليشكوف) مقالاً في مجلة (كونتمبروري جابان) التي تصدر في طوكيو قال فيه: إن حركة القبض المتوالية على قادة الجيش الأحمر، قد أوجدت نوعاً من عدم الثقة في ضباط الجيش الباقين. خذ مثلاً حالة الجنرال (بلتشر) الذي كان يوماً ما قائد الجيش الأحمر في الشرق الأقصى، فقد طالما بزغ اسمه أمام الجنود الروسية، إلى جانب الأبطال المخلصين والقادة المقربين، وطالما ذكر تاريخه مقروناً بعبارات الإخلاص والوفاء، حتى عد من رجال ستالين المقربين وأبتاعه الثابتين. فلم يلبث أن اختفى بين عشيه وضحاها، وصدرت الأوامر بتمزيق صورته ومحو اسمه من الوجود، فإذا سأل سائل عن الأسباب التي انتهت به إلى هذه الغاية، حيكت حوله الأكاذيب ولفقت عليه التهم، وانقلب القائد الذي كان مثلاً أعلى بين رجال الجيش فصار خائناً لبلاده، عدواً لأبناء وطنه.
نستطيع أن نتصور مبلغ تأثير هذا في رجال الجيش - انهم ولا شك يفقدون ثقتهم برؤسائهم المباشرين. فإذا كان القادة العظام الذين كانوا يوما ما فوق متناول الشبهة، قد دلوا على انهم كانوا مجرمين في حياتهم الوطنية والعسكرية، فلا معنى إذن للثقة بغيرهم من القواد الحديثين الذين ليس له ماض يجعلهم أكثر إخلاصاً وأمانة من القواد السابقين. ومن ثم انتشرت بين رجال الجيش الأحمر عقيدة ثابتة بأن رؤساء جميعهم متآمرين مارقون، بل لقد ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا فقالوا صراحة ما دام قواد الجيش المخلصون قد ظهروا بمظهر الخيانة لبلادهم، فلا يبعد على هذا أن يتبين قريباً أن ستالين نفسه عدو للشعب. من هنا نستطيع أن نعرف إلى أي حد وصلت الحال، فقد انتشر الشعور بعدم الثقة بين الشعب فسمم أفكار الجميع.
وقد انتشر بين شباب الجيل الحديث، وعلى الأخص ضباط الجيش الأحمر، آلاف ممن يسمون أنفسهم (أعداء السوفييت) الثائرين على النظام، وهمهم أن يهاجموا النظام القائم ويحطوا من شأنه في نظر الشعب، ويرون أن ستالين هو رأس كل خطيئة وإن الجيش الأحمر هو القوة الوحيدة التي في يدها أن تحد من سلطانه وتقف دكتاتوريته المخيفة عند(345/64)
حدها.
ومما يزيد إضعاف الروح المعنوية بين قوات الجيش الأحمر في الشرق الأقصى، عدم كفاية مواصلات السكك الحديدية، وعلى الأخص في فصل الشتاء، وعدم وجود قواعد محلية للتمرين، مما يتسبب عنه قطع المؤنة عن الكتائب المرابطة في تلك الأنحاء.
ويجد رجال الجيش الروسي صعوبات كثيرة في الحصول على الأماكن الكافية لإيوائهم وإيواء عائلاتهم، فإذا استطاعوا على الرغم منهم أن يقضوا فصل الصيف في الخيام فانهم لا يستطيعون ذلك في الخريف والشتاء حيث تشتد الحالة إلى درجة لا يتصورها العقل. هذا فضلاً عن انتشار الأوبئة والأمراض، مما لا يمكن اجتنابه بحال من الأحوال.
ولا تسل عن الفوضى وضياع النظام في الجيش، إذا نظرنا إلى هذه الحالة، مع فقد نفوذ القواد، وقيامهم بأعمالهم بغير حافز من رغبة أو اقتناع.
الاشتراكية الزائفة في ألمانيا
(ملخصة عن (داي واهرن دتشلاندز))
جرى هتلر في معاملة العمال وتسليمهم إلى طبقة الرأسماليين، وتقوية هذه الطبقة على سائر أبناء الشعب، على أسلوب لا شبيه له في تاريخ الرأسمالية الحديثة على الإطلاق.
فمنذ قضى على اتحادات العمال في مايو سنة 1933، فقدت الطبقة العاملة حقها في الدفاع عن نفسها والمطالبة بتحسين الأجور. وقد حل محل هذه الاتحادات، جبهة العمال التي أسسها مستر (لي) وتقوم هذه الجبهة تحت إشراف لي هتلر على كم أفواه العمال كلما هموا بالشكوى من توزيع الأجور.
لم ير العامل منذ العهود الرأسمالية السحيقة نظاماً كذلك النظام الدكتاتوري الذي وضعه هتلر لإخماد أنفاسه وتجريده من كل قوة.
فمدير المصنع له الكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالعمال المشتغلين بمصنعه. ويقوم كل رئيس بتقديم بيان لموظفيه، موضحاً فيه الشروط الآتية ليكون على بينة منها.
(1) ساعات العمل اليومية وأوقات الفراغ (2) الأجور والأوقات المحددة لدفهما (3) القواعد التي تتبع في حساب القطعة (4) الشروط المحددة للغرامات وغيرها من أنواع(345/65)
العقوبات (5) الأحوال التي يفصل فيها العامل بغير إنذار.
أما حقوق العامل الثابتة في اختيار عمله، وهي الحقوق التي طالما رفع هتلر عقيرته بها، فقد تحولت في السنين الأخيرة إلى لعنة أبدية، فلا يصبح للعامل بمقتضاها أن يغير العمل الذي يشتغل فيه، أو يرفض العمل الذي يقدم اليه، ولا يسمح له حتى بالانتقال من بلد إلى بلد آخر.
لقد كان العبد الرقيق في القرون الوسطى، يستطيع أن يأبق من مقره بالمدن إلى الموانئ إذا رأى قسوة من سيده، ولكن رقيق النازي - على خلاف ذلك - فعليه أن يبقى حيث هو، فاقد الحيلة محروماً من المساعدة إذا نشدها من أي إنسان، أو ذهب يبغيها في أي مكان.
أما صغار التجار فهم يعاملون معاملة أقسى من هذه المعاملة، فبينما هم يعملون على التخلص من منافسة المخازن الكبرى - التي تحولت ملكيتها إلى أيدي الرأسمالية الآرية - إذا بهم يواجهون حرباً لا هوادة فيها تسوقهم بغير رحمة إلى الدمار والضياع. فعلى الرغم مما يعانون من نظام الاحتكار، يرهقون بزيادة الضرائب الفادحة على تجارتهم، مما جعل الإفلاس والدمار يحل بآلاف وآلاف من هؤلاء التجار، فلم يجدوا أمامهم غير الالتجاء إلى المصانع للاشتغال فيها.
وقد أعلنت الحكومة الاشتراكية الوطنية جميع التجار الذين تقل ماليتهم عن مقدار معين، بأن يغلقوا أبوابهم، فترتب على ذلك إغلاق ستمائة مخزن للألبان (بهامبورج) وحدها في نهاية سنة 1938، وكذلك الشأن في غيرها من البلدان. وقد صدرت أوامر حديثة من الحكومة إلى تجار التبغ باعتزامها إغلاق أكثر من أربعين ألف من محلات تجارة الطباق. أما عذر الحكومة في هذا التعسف الغريب، فهو حاجتها إلى العمال لصناعة السلاح.(345/66)
البريد الأدبي
أدب المازني
قال الكاتب القدير البصير إبراهيم عبد القادر المازني في نقد لكتاب أخرجه لسنة مضت صديق له يوده ويجله: (نحن للثرثرة وهو للعصر والتقتير. وأحسب أني لو تسنى لي أن أكون مثله لضاق صدري لطول ما ألفت السح والهطلان).
وكأني بالأستاذ ههنا يصارح الخلق بخاصية كتابته. والسح والهطلان - في غالب الأمر وأكثر الحال - من الثرثرة، وما هذه بفضيلة في الكاتب. إلا أن استرسال صديقي المازني من الترسل اللطيف: لا استكراه لبسط العبارة ولا فضول في تدوين الفكرة. وإنما الحديث ينبثق ويسهل ويسيح على غير كدر ولا أسن. وإن تنقص صديقي المازني - على سخريته المعروفة - أسلوبه المدود، ففي الناس من يرغب عن قطرات الماء ورشحه إلى بثق النهر وغمره.
غير أن المد مكروه إن انقلب الإنشاء به حذلقة ولغواً. والأستاذ المازني بنجوة من هذين العيبين. فإنه إذا أطلق القلم عرف ما يريد، ثم تخطر له الفكرة، فيصل أطراف السلك بعضها ببعض ويسيرها إلى الغاية التي تشغل صدره. ويعينه على ذلك ما وقع إليه من مفردات اللغة وصيغها - وينافسه في محصول اللغة صديقي صاحب (الرسالة) - وهل أنا أبث سراً إذا قلت: أن المازني لزم كتاب (الأغاني) زماناً فتأدب عليه وأجرى على أنامله من سحر عبارته؟ وليت الكتاب المحدثين يصنعون صنيعه!
ويزين الأستاذ المازني ترسله المحكم بالحديث الموشى، والحديث الموشى - في أدب القصة خاصة - من الخيال لا من الكذب كما زعم بعضهم. وأحسن مثل على تلك التوشية قصة للأستاذ لمازني عنوانها (الجارة) وهي منشودة في كتابه (في الطريق). ولاشك عندي أن للقصة وتداً مرزوزاً في الحقيبة، فجاء الكاتب وصاغ له حادثة من هنا ونسج عليه فكرة من هنا. وصدق كنه هذه القصة ملموس فيما يبرز من خلال مجراها. وهو أن إشراق المرأة في حياتنا الاجتماعية شاحب وأن معرفة الرجل المصري بنفسية المرأة قليلة. والمرأة في تلك القصة على جرأة والرجل على حياء وإن كان يحلم (بالمغامرات)، وهو يحلم بها لأن المرأة عندنا لا تزال على تحفظ ولان حريتها ضيقة المسالك. وهذه امرأة(345/67)
القصة على خلاف ذلك، فكيف لا يدور رأس الرجل؟ وقد استطاع الأستاذ المازني - في قصته - أن ثبت من طريق الفن الرفيق لمعان الاضطراب المكتم.
وهذا الصديق يخرج لنا اليوم (مختارات من القصص الإنجليزي). وأسلوبه هنا غير أسلوبه في التأليف، وذلك لأنه ينقل من لغة إلى لغة، وهو يتحرى الأمانة في الترجمة. فتقرأ العبارة العربية فتقول: أن التركيب سليم واللفظ متخير، ولكن الماء غير عربي. وسيغضب ذلك المتشددين عباد الديباجة للديباجة. وأما أنا وأمثالي ففرحون بالتزام المترجم أسرار الروح الأجنبي. لأنك إذا طلبت ناحية من نواحي الأدب الأعجمي فإنما تريد أن تقف على دخائلها لتميزها مما تعرفه من أدبك، أو لتقتبس منها نحواً جديداً. فجريان الجملة ونبضان الفكرة كلاهما رهين بالأداء، فإذا نقلت على خصائص لغتك وشرائط تفكيرك عطلت طرائف الأصل. وعلى هذا فإن كتاب (مختارات من القصص الإنجليزي) حقيق بالحفاوة والانبساط.
وقد تتبعت الأستاذ المازني - وإن كان فوق التتبع لإحكامه اللغتين - فوجدته يعتنق الأصل اعتناقاً. وربما عبر من الكلمة الإنجليزية المنتشرة بكلمتين أو ثلاث مخافة أن يزيغ المعنى بتمامه (مثلاً: مفتون، متحذلق: ص105) وربما حافظ على الاستعارة الإنجليزية وإن شذت في العربية بعض الشذوذ (مثلاً على رأس مرغريت مادار في اجتماعنا). وهو إلى جانب هذا يحسن استعمال اللفظ الوافي على إيجازه (مثلاً: أقصرت: ص106). ولعل تركيباً أتى به الأستاذ أرى غيره مكانه. ولكن مثل هذا يرجع إلى محض الذوق، وليس لك أن تفرض ذوقك الخاص على غيرك ممن يتصرف في ضروب الإنشاء ألطف تصرف، ويوجه مذاهب الكلام في دراية وتبصر.
بشر فارس
التكتم
في مقالة للباحث الأديب الكبير الدكتور بشر فارس باحث فيها العالم الأستاذ أحمد العوامري بك في أشياء - إلماع إلى ألفاظ في المعجمات في غير مظانها. ومما يضاف إلى الذي ذكره الدكتور المفضال هذه الكلمة: (التكتم) فقد سطوت في القاموس والتاج في مادة (د ل س)(345/68)
مغفلة أو منسية في مادة (ك ت م). وكان العلامة اللغوي الكبير الشيخ إبراهيم اليازجي استعمل (تكتم) في مجلته (الضياء) فخطأه العالم الأستاذ محمد سليم الجندي قائلاً: (أنه لم يعثر عليها في كتب اللغة التي بين أيدينا)، فرد عيه العالم الأديب الكبير الأستاذ قسطاكي بك الحمصي المشهور دفاعاً عن خليله إبراهيم مستنداً إلى القياس، والقياس لا يعين في كل حين. و (التكتم) هو في اللغة، والإمام البوريني يقول في مقطوعة حين حذق الفارسية:
تعلمت لفظ الأعجمي وإنني ... من العرب العرباء لا أتكتم!
وقد تبع المعجمان (أقرب الموارد والبستان) في هذا الفعل القاموس والتاج ناقلين عنهما، فأورد الأول (تكتم) والثاني (التكتم) في (د ل س) ولم يثبتا الفعل أو مصدره في (ك ت م) والمأمول أن يحظى العرب بمعجم كامل حاشد مجود التنسيق في هذه الدنيا قبل يوم القيامة. . . إذ لا يحتاج في الآخرة إلى مجامع لغوية ولا معجمات ولا بلاغات ولا فصاحات. . .
(طنطا)
(أزهري)
وفاة الدكتور علي العناني
نعى إلينا صباح الخميس الماضي المرحوم الدكتور علي العناني، وهو من رجال الأدب الذين تخرج على أيديهم طائفة ممتازة من شبابنا المثقفين.
تخرج الدكتور العناني في دار العلوم سنة 1909، ثم اتصل بالجامعة المصرية في أول عهدها، فكان هو والدكتور أحمد ضيف أول مبعوثيها إلى أوربا، فدرس الدكتور العناني في ألمانيا الفلسفة واللغات الشرقية إلى جانب دراسة اللغة الألمانية؛ وعاد من أوربا بعد الحرب العظمى الماضية، فاشتغل محاضراً بالجامعة، ثم انتقل إلى دار العلوم العليا أستاذاً للأدب؛ فما زال قائماً بعمله حتى سنة 1938، ثم اختير كبيراً لمفتشي الفلسفة في وزارة المعارف العمومية، وظل قائماً بعمله حتى أحيل إلى المعاش منذ قريب
المنفلوطي في رأى مستشرق إنجليزي
نشرت مجلة (اسلاميك كلنشر) مقالاً عن المرحوم المنفلوطي نلخصه فيما يأتي:
تناول بعض كتاب مصر المعاصرين وفي مقدمتهم العقاد والمازني وطه حسين مقالات(345/69)
المنفلوطي بنقد مر عنيف، ولكن هذه المقالات ذات أهمية خاصة لأنها تمثل مرحلة من مراحل إحياء الأدب العربي
نشرت هذه المقالات الموجزة في الصحف تحت عنوان (النظرات) وقد جمعت بين الأدب العالمي وبين إرضاء ذوق القراء لأنها كتبت بلغة موسيقية صافية، فكانت بمثابة الوحي يهبط على جمهور تعود قراءة أدب الكلفة والتصنع. وقد انتشرت انتشاراً واسعاً بين قراء العربية من بغداد إلى مراكش؛ مما يدل على أنهم ألفوا فيها شيئاً قيماً، كما كانت تمثل الشعور الذي تردد صداه في العالم الإسلامي أبلغ تمثيل.
ومن السهل أن ندرك اليوم قيمة هذه المقالات، فإن رجال الأدب يشعرون بالأثر القوى الذي أحدثته كتب المنفلوطي التي يحفظ منها طلبة المدارس عن ظهر قلب صفحات برمتها ملكت ألبابهم، واستولت على مشاعرهم.
وهي إلى جانب هذا تمثل حالة الأدب في الشرق العربي الذي اصطبغ بصيغة الآداب الغربية.
أما أفكار المنفلوطي، أو بمعنى أصح عواطف المنفلوطي، فيلاحظ عليها التناقص والتضارب. فهو لا يستطيع مثلاً أن يخفى أسفه على الاعتقاد بشفاعة الأولياء وإن كان يرى أن هذه الاعتقادات هي السبب في ضعف العالم الإسلامي ويقول أن اختلاف الآراء هو القانون الأساسي لتقدم الإنسان، بينا يندد بتعدد الأحزاب السياسية في مصر. ويرفض الجمود الديني ويحذر قراء العربية من اقتباس مدنية الغرب دون تمحيص، مع أنه قد تأثر في أدبه بالطريقة الإبداعية (رومانتزم) في الأدب الفرنسي.
وكان المنفلوطي وطنياً غيوراً، وقد قضى هذا الكاتب الرقيق ستة أشهر في السجن عقاباً له على قصيدة هجا بها الخديو عباس حلمي. وانضم إلى الزعيم سعد زغلول الذي قام يطالب بالحرية لمصر المتحدة الناهضة. وكان إلى هذا رجلاً يحافظ على التقاليد ويرعاها فظل طول حياته يلبس الزي الوطني ورفض أن يستبدل به الملابس الأوربية. أما مطالبته باحترام المرأة والطبقات الفقيرة فإنما يقوم على أساس من قواعد الدين الإسلامي.
البستاني
توالى مجلة (السياسة الأسبوعية) في هذه الأيام نشر ترجمة أناشيد (البستاني) للشاعر(345/70)
الفيلسوف طاغور، وهي بقلم الأستاذين فؤاد البهي وتوفيق أبو السعد. ولقد كنت أطالع هذه الترجمة في شيء من الإكبار والإعجاب، وأغض البصر والعقل عن أخطاء لا تشوه المعنى ولا تضع من المجهود الضخم؛ حتى كانت القطعة الرابعة في العدد 156 المؤرخ 27 يناير سنة 1940، فذهبت أقابل بينها وبين الأصل الإنجليزي مرة، وبين الترجمة التي حملت نفسي عليها مرة أخرى - كدأبي فيما سبق منها - فألفيت هناك اضطراباً يحط من قدر الترجمة.
وأول شيء أخذته على الترجمة هو أن تحيد عن الطريق الذي اتخذه طاغور لنفسه أول ما كتب أناشيده، فهو قد رتبها على نسق يجعل كل نشيد وحدة قائمة بذاتها قد لا تمت إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها بسبب، فميزها بأرقام هي إحصاء لعدد الأناشيد في كل كتاب من كتبه، هذا الترتيب قد أغضى عنه في القطعة الرابعة مما لا يقر الأستاذين عليه أحد.
ثم ابتدأت القطعة الرابعة - ولست أدري كيف خول الأستاذان لنفسيهما أن يضعا هذا الترقيم - بالنشيد العاشر الذي اختلط آخره بأول النشيد السادس عشر طفرة واحدة، وبذلك يكون قد سقط من الترجمة خمسة أناشيد كاملة تقع في اثنتي عشرة صفحة من الأصل الإنجليزي أو قرابة جزء من ثلاثة عشر جزءاً من الكتاب كله. . . ثم راحت الأناشيد يدغم بعضها في بعض دون أي إشارة تنبئ بأن نشيداً انتهى أو أن آخر ابتدأ. . . وفي النشيد السابع عشر جاء المقطع الثاني قبل المقطع الأول. . . وهكذا. . . وهكذا. . . مما يضيق عنه وقتي ولعل هذا الجهد قد ناء بالأستاذين فأرادا أن يتحللا منه في سرعة أو أن يخلصا إلى آخره في غير عناء.
وإنني أناشد الأستاذين في غير تعنت، أن يبذلا في ترجمة هذه الأناشيد ما تستحقه من جهد، وأن يخصاها بما تحتاجه من وقت لتكون الترجمة أقرب شيء إلى الأصل، والسلام.
كامل محمود حبيب
نقود ذهبية من عهد العباسيين
بينما كان أحد الفلاحين يستخرج السماد من بعض التلال الأثرية بناحية سيدي سالم بمديرية الغربية، إذ عثر على 19 قطعة ذهبية يرجع عصرها إلى الخلفاء العباسيين، وقد صكت(345/71)
في عهد هارون الرشيد والمأمون والمهدي.
وقد أبلغ الأمر إلى إدارة حفظ الآثار العربية فأوفدت أحد مفتشيها فتسلم القطع الذهبية التي عثر عليها
وقد نقش على أحد وجهيها بالخط الكوفي (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) ونقش على الوجه الثاني (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وأرخت بالتاريخ الهجري. وهي من الذهب الخالص في حجم القطعة الفضية ذات القرشين ولكنها أثقل منها وزناً.
شعراء البيوتات
يذيع الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي سلسلة أحاديث أدبية من محطة الإذاعة بهذا العنوان، وقد سمعناه أخيراً في مساء الاثنين 5 فبراير يتحدث عن الشاعر الأمير أبى فراس الحمداني، فتناول في حديثه جميع أطوار الشاعر، وعرض لفنه ومذهبه في النظر فوفى الكلام في هذا الصدد. ونحن مع إعجابنا بما سمعنا لا نسلم بكل ما جاء في حديثه، فمثلاً يقرر أن أبا فراس لم يكن في غزله كعامة الشعراء، بل كان إذا تغزل تمثل شخصيته العسكرية، وطبيعته الباسلة. ويعنى الأستاذ المحاضر بهذا أن الشاعر لم يذب قلبه في قصائده ومقطوعاته. ويؤيد حكمه على الشاعر بهذه الأبيات:
أراميتي كل السهام مصيبة ... وأنت لي الرامي فكلي مقاتل
وإني لمقدام وعندك هائب ... وفي الحي سحبان وعندك باقل
تسائلني من أنت وهي عليمة ... وهل بفتى مثلي على حاله نكر
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وفي كلتي ذاك الخباء خريدة ... لها من طعان الدارعين ستائر
تقول إذا ما جئتها متدرعاً ... أزائر شوق أنت أم أنت ثائر
والأستاذ الغزالي بقوله هذا ينكر على الرجل عمق إحساسه وشعوره وعواطفه وهي الصفات التي تتفاوت بها معايير الشعر. ولو تروى الأستاذ قليلاً لأدرك أن للرجل في الغزل شعراً يفيض عن إحساس قوى مشبوب، وعاطفة مضطرمة مضطربة. وإن خالجه في هذا شك فليسمع:(345/72)
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ... وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضئ النار بين جوانحي ... إذا هي أذكتها الصبابة والهجر
ومن غزله السافر:
بات الحبيب إلى الصبا ... ح معانقي خداً بخدْ
يمتار فيْ وناظري ... ما شئت من خمر وورد
ومن أبيات له:
تثنت فغصن ناعم أم شمائل ... وولت فليل فاحم أم غدائر
كأن الحجى والصون والعقل والتقى ... لدى، وربات الحجال ضرائر
أقول وقد ضج الحلي بجرسه ... ولم تر فيها للصباح بشائر
فيا رب حتى الحلي مما نخافه ... وحتى بياض الصبح مما نحاذر
هذا ولو شئت أن أذكر للأستاذ المحاضر من شعر أبى فراس الذي لا ينهض مع حكمه الجريء على غزله وتشبيبه لما اتسعت هذه الكلمة العابرة لذلك!
عبد العليم عيسى
إلى مؤلف (الأسمار والأحاديث)
هاأنذا يا سيدي أحد هؤلاء القراء الذين فتنوا بأدبك، وغزوت قلوبهم بسحر بيانك.
هاأنذا يا سيدي أحد هؤلاء القراء الذين أنصفتهم في مقدمة كتابك (الأسمار) وصورت لهم خلجات نفسك فكنت كريماً في مناجاتك، نبيلاً في عباراتك.
لقد زخرت العربية بمؤلفات المفكرين بيد أن كاتباً واحداً لم يسجل آراء الناس وأسمارهم بذلك الأسلوب الحكيم الذي يدعو إلى قراءته، والإعجاب به كما تهيأ ذلك لك.
ذاك فن الأسمار الذي نحن أحوج ما نكون إليه في عصرنا هذا وقد أصبح أدبنا بعيداً عن مجتمعاتنا وأفكارنا.
لقد تهيأ لك ابتكار فن جديد قبل ذلك، حينما نقلت الغزل والتشبيب من الشعر إلى النثر، في كتابك (ليلى المريضة) كما نبه إلى ذلك الأستاذ الجارم بك، واليوم تبتكر جديداً في عالم الأدب فتصور المجتمع وفيه أصحاب العقول الفطرية تصاول العقول المثقفة فتطلق الحكمة(345/73)
على لسانها سائغة دامغة.
تلك هي (الأسمار والأحاديث)
دراسة واسعة، ونقد صائب، وفكاهة راقية، وتمثيل لصور المجتمع. ولعمري لقد ترددت كثيراً عند كتابة هذه الكلمة بعد أن رأيت المؤلف يوصد الأبواب أمام من يحاول تزكية (أسماره) ولكن إذا كان من حق المؤلف أن يبث القارئ شجونه ويقدم إليه عصارة أفكاره، فإن من حق القارئ أن يصرح بإعجابه.
وإني لأتقدم إلى رجال المعارف أن يقرروا مطالعته في مرحلة الثقافة العامة حتى يتقن الطلبة لغة الحوار والمناظرة؛ ويقفوا على ما يصطرع في الجو الأدبي والاجتماعي من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل، ويتذوقوا جمال اللغة العربية وقد تركت حجر الدراسة إلى تصوير أحوال الناس، وما يدور في المجتمعات.
سيد محمد مسعود
كتاب الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية
صدر المجلد الثالث من تاريخ الأندلس المسمى (بالحلل السندسية) للعلامة الكبير الأمير شكيب أرسلان في نحو سبعمائة صفحة بالقطع الكامل.
وقد أثبت المجلدان الأول والثاني من كتاب (الحلل السندسية) أنه أعظم تاريخ عصري للأندلس.
وقد تناول هذا المجلد الكلام على شرقي الأندلس ومملكة بلنسية ومملكة مرسية وجغرافيتها وأحوالها وأهلها ووصف مدن الأندلس وحصونها وتراجم رجالها وملوكها والكلام على طرطوشة ودول الأندلس وملوك الطوائف وسقوط مرسية وحوادث الموريسك وغير ذلك من الأبحاث الجليلة.(345/74)
رسالة النقد
آفاق العلم الحديث
للأستاذ فؤاد صروف محرر (المقتطف)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
البحوث العلمية لا وجود لها في العالم العربي اليوم، والدراسات العلمية نادرة في لغة العرب، وهي أن جاءت فيها، فعادة تجئ من القسط الشائع من الآراء الذائعة اليوم في العالم الأوربي عن العلم الحديث، وهي بذلك دراسات - غالباً - تدور حول كليات لا تنزل منها للتفاصيل والجزئيات التي تتقوم بها. ومن هنا كانت عامية التفكير العلمي عند الكثيرين من كتاب العرب وخلطهم في المسائل العلمية وما يتصل بها بوشائج الصلة من الآراء والأفكار. ولهذا كانت المحاولات التي تبذلها مجلة (المقتطف) شيخة المجلات العربية منذ نشأتها لا تقدر قيمتها من حيث تعمل على القضاء على عنصر العامية في الفكر العلمي العربي - إن صح مثل هذا التعبير هنا - والنتائج التي تتركها هذه المحاولات في الفكر العربي كبيرة، آثارها غير أن قد لا تبدو اليوم للجميع واضحة، إلا أنه لا شك في كونها مع الزمن ستنكشف وتتوضح خطوطها وتستبين معالمها. والواقع أن مجلة (المقتطف) منذ عهد مؤسسها المرحوم الدكتور يعقوب صروف، أعطت الدراسات العلمية اهتماماً كبيراً. وهذا الاهتمام يبدو اليوم على صفحات (المقتطف) في الجهود الطيبة التي يبذلها خلفه الأستاذ فؤاد صروف في تقريب صورة العلم كما ترسمها المباحث الحديثة في الهيئة والفيزياء وعلم الحياة والنفس، وفي تقريب الأفكار العلمية إلى الأذهان. وهذه الجهود ظاهرة في الفصول المبسطة التي تنشرها (المقتطف) في كل عدد منها، والتي يجيء معظمها من قلم محررها، والتي يجمعها بعد نشرها في مجاميع، منها كتاب اليوم (آفاق العلم الحديث) الذي خرج بديلاً عن عددي سبتمبر وأكتوبر المنصرمين.
والكتاب مقسم إلى مقدمة وبابين، أما المقدمة ففي أثر العلم الحديث في خلق الغدد، وأما الباب الأول ففي عالم المادة الجامدة وهو ينطوي على سبعة فصول تتدرج من أقصى آفاق الكون في عالم الأفلاك إلى أدق ما في الوجود، في عالم الذرة والكهرباء والباب الثاني(345/75)
وقف على عالم الحياة، وهو ينطوي على ستة فصول تتدرج من أسرار الحياة في الخلية المفردة إلى أسرار النمو والخلق والتعبد والتقى في الأحياء المتعددة الخلايا والمركبة التكوين والتي يجيء منها الإنسان، فتم البحث في عقل ونفسية الإنسان. وهذه الفصول كلها يجمعها وحدة واحدة، الأصل فيها الاستناد إلى التحقيق العلمي القائم على المشاهدة والاختبار، وليس فيها من هنا أحلام وتصورات خيالية أو أفكار أولية مفروضة فرضاً. فكل ما تقف عليه في فصول هذا الكتاب أن يسنده الاختبار البشري القائم على التدقيق والفحص، ومن هنا فهي أسس صالحة لكتاب العربية، لتتطور معها فكرتهم الغيبية عن الوجود والحياة المتوارثة عن الماضي؛ إلى فكرة وضعية إثباتية قائمة على علم اليوم تسندها التجربة والاختبار البشري.
أما مقدمة الكتاب فهي من خير الفصول التي دبجت في اللغة العربية في العصر الحديث عن العلم الحديث وآثاره المشهورة، وفيها ملاحظات قيمة ومطالعات خطيرة - ولكن لمن يتفهمها على حقها - وقد جاءت في سبع فقرات؛ ففي الفقرة الأولى نرى الأستاذ صروف يكشف عن الأثر المشهود للعلم الحديث في مختلف نواحي الحياة اليوم. وهو في الفقرة الثانية يبين مقدار تأثر حياتنا العقلية والدولية ومثلنا الخلقية بالعلم الحديث ونتائجه التطبيقية. وهو في هذه الفقرة يكشف عن منابع العلم الحديث من حيث هي قوة ديناميكية مؤثرة في حياة البشر اليوم، وهو يرى هذه المناهج في ثلاثة مصادر: الأول الانتفاع بنتائج العلم التطبيقية أو بتعبير أدق إمكان الانتفاع. والثاني منطق العلم الذي قلب نظرة الإنسان إلى الكون والحياة ونفسه. والثالث في التحول الدائم في مذاهب العلم، والذي نتج عنه اعتبار الحقيقة شيئاً متغيراً يتطور وينمو مع تطور العلم الدائم الذي لا ينقطع. على أن لنا على هذه الأسس الثلاثة التي يقدرها الكاتب مأخذاً لا نظنه ينكره علينا، وقد أشرت إليه في المحاضرة التي ألقيتها عن (أثر الرياضيات في الحياة البشرية) مساء 18 ديسمبر 1939 بجمعية الشبان المسيحية بالإسكندرية؛ وذلك أنه اعتبر أساس الأسلوب العلمي التجربة والمشاهدة، وهذا صحيح من الناحية الشكلية فقط. أما في الواقع فالعنصر الرياضي الذي يجمع المشاهدات والتجارب والاختبارات في نظم موحدة على أساس العلاقة، هو الأساس في الأسلوب العلمي. أما التجربة والاختبار، فهي بمثابة الآلات أو المنابع التي تقدم المواد(345/76)
الأولية إلى الآلة الرياضية لتشتغل عليها؛ وفهم العلاقة بين الآلة الرياضية والتجربة والاختبار مهم جداً في فهم حقيقة الأسلوب العلمي، وأقل انحراف في ذلك، نتيجته أن يتردى الإنسان في أوهام مثل التي وقع فيها الدارثورادنجتون في كتابيه (طبيعة العالم الفوزيقي) و (فلسفة العلم الفوزيقي). وأظنني قد أشرت إلى هذه المسألة في نقد لي لكتاب (هندسة الكون حسب ناموس النسبية)، نشرناه في (المقتطف) عام 1938، وفيه تعرضت بالبحث لآراء إينشتين وإدنجتون وجينز، وبينت بعض أوهامهم في هذا الموضوع.
فإذا صرفنا النظر عن هذه المسألة، فإن المقدمة تنتظم حلقاتها على أساس دقيق. فالكاتب يتناول في الفقرة الثالثة تطور الفكرة الإنسانية تحت تأثير العلم تجاه كل من الطبيعة والخالق. وهنا تجد الأستاذ صروف يبين كيف أن فكرة القدسية التي كان الإنسان يخلعها على نفسه باعتبار سيد المخلوقات قد انهارت. وفكرة اعتبار الأرض التي يعيش عليها مركز الكون وأنه محط الرعاية الربانية قد تلاشت.
على أننا نلمس هنا بعض الحذر من الكاتب فهو لم ينته بفكرته إلى النتائج الأخيرة التي لابد منها؛ ولعقيدته وبيئة كتابته التي نتسلط عليها الأفكار القديمة، بعض الأثر في التزامه هذه التحوط. وفي الفقرة الرابعة بين الكاتب نشوء شريعة الآداب النفسية كنتيجة للحياة التي عاشها الإنسان في الماضي. وتدرج من ذلك في الفقرة الخامسة إلى بيان أوجه الانقلاب الذي ابتدأ يطرأ على شريعة آداب النفس نتيجة لظهور المدنية الصناعية في الغرب، وكيف أنها عملت على تحطيم القدسية والمثالية المخلوعة على المذاهب الأدبية التقليدية. وهكذا أصبح اليوم في العالم المتمدن الأمومة ضرباً من الاستعباد، والزواج ضرباً من الرق، وخصصت فكرة إخلاف النسل للقواعد العالية التي أخذت تعمل على تقييدها. وكان نتيجة كل هذا أن وقف الإنسان اليوم بين عالمين، أحدهما ذهب إلى سبيله في جوف الماضي، والآخر لم يولد بعد، أو هو لا يزال في المهد صبيا. . . وهكذا وقف العالم حائراً؛ والكاتب يصور هذه الحيرة في الفقرة السابعة من بحثه تصويراً دقيقاً، ويبين في الفقرة الثامنة والأخيرة. من البحث أن نظريات العلم التي قلبت نظرية الإنسان في الكون ونفسه التي أنشأت هوة سحيقة بين الحياة التقليدية التي ورثها عن الماضي ومستلزمات الحياة التي تستلزمها اعتبارات اليوم تنطوي رغم كل العوامل الهدامة التي تبدو فيها، على بذور(345/77)
لحل المشكلة التي تركت الإنسان عليها الآن، وهذه البذور تكمن في التصوف العلمي وفي النزعة الإنسانية التي أخذت تذيع في الناس بانتشار الفكر العلمي. وفي هذه المقدمة التي عرضنا لك موجزاً لخطوطها الأساسية، تفكير سليم، ومنطق حصيف، لاشك أنه وليد ذهنية صافية أرهفها للتزود من المسائل العلمية الدقيقة وصقلها التمرن على البحوث العلمية، ولهذا جاءت طابعاً وحدها بين العقول العلمية التي تشتغل في الحقل العلمي في العالم الناطق بالعربية.
على أن لنا ملاحظة على استعمال عبارة (المذهب البشري) ناظرة إلى كلمة الإفرنجية. ذلك أننا نعرف أن لفظة تفيد اصطلاحياً الآداب اليونانية واللاتينية لتفشي النزعة الإنسانية فيها (بمعنى الرجوع إلى الإنسان لا إلى الله أو الغيب). وأظن أن صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر نبه إلى ذلك في النقد الذي كتبه لكتاب (البراجتزم) للأستاذ يعقوب قام في المقتطف لأعوام خلت. وفيما عدا ذلك فاللغة مثال اللغة العلمية الواضحة القائمة على التدقيق.
وبالرغم من المآخذ التي أخذناها، وهي لا تنقص من قيمة الجهد الكبير المبذول في هذا الكتاب، فانه يمكن بكل اطمئنان القول بأن هذا الكتاب من خيرة الكتب التي ظفرت بها المكتبة العلمية العربية، وهو كتاب لا يستغني عنه العالم ولا المنشئ ولا الأديب. فالكل يجد فيها ما يفيده، وهو بالتالي موضع الثناء والتقدير. وأظن أن أدباء العربية - خصوصاً الذين لا يعرفون لغة أجنبية، أو ليست لهم ثقافة علمية - بتزودهم من الحقائق التي بهذا الكتاب، سيعلمون على التغلب على عنصر الضعف العلمي الملحوظ على أدبهم، والذي سبقهم إلى التغلب عليه أدباء الغرب.
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم
1
1(345/78)
العدد 346 - بتاريخ: 19 - 02 - 1940(/)
الربيع الأحمر!
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع المقبل كما يتصوره الشاعر!
لا يزال الربيع في بطن الأرض، وإن الطبيعة لتهيئ لجذوره وبذوره
الغذاء المريء والكساء الوضيء من دماء البشر!
سيولد ولادة الملوك على حشد الجنود وخفق البنود وقصف المدافع؛ وسيدرج في ظلاله الأرجوانية الموشاة على فجوات القنابل وأُخاديدها، فيبذر الحياة في الموت، وينشر الجمال على القبح، وينثر أزهاره الغضةّ على جثث وقبور! ويومئذ لا تدري وأنت ترى غيم الدخان وبرق النيران، وتسمع صفير الرصاص ورعد القذائف، أنحن في ربيع أبريل أم في شتاء يناير؟
على أن الشتاء كان على الناس سلاماً وبركة! خمدت على جليده لظى الحرب، وجمدت في ثلوجهُ مخالب الموت، واستطاع بفضله الهر الفنلندي الضئيل أن ينشب أظافره في حشا الدب الروسي الهائل؛ ولكن الربيع الذي جعله الله نشوراً للحياة ومعاداً للشباب ومبعثاً للحب، سيعين لؤم الإنسان بدفء نسيمه وصفاء جوه، على أن يجعل الأرض لنفسه مجزرة ومقبرة!
الربيع الأحمر! على ذلك هو الربيع الذي لا يخلقه الله وإنما يخلقه الإنسان! سيخلقه من الذهب واللهب والدم، فيجعل من الجداول خنادق ومن الأغصان بنادق ومن الأدواح مدافع؛ وإذن تصبح الأعشاش الناعمة المغردة المعطارة مثابة بؤس ومناحة شباب ومستودع غاز!
سيعود ربيع الله الأخضر بطيوره وزهوره ونوره وسروره إلى الجنة، وسيستعير الإنسان مادة ربيعه الدامي من جهنم، فينبت في كل بقعة من بقاع الأرض آجام من شجر الزقوم الباسق الألف، تئز في آفاقها الطوائر، وتعج في أجوافها المدافع، وتدب في مدارجها الدبابات، وتهب في مجاريها السموم، وترتد فيها أناشيد السلام وأغاريد الغزل أنات وصرخات تذوب لهولها الهائل قلوب الشياطين!
تبصروا أيها السادرون من ساسة الشعوب، أهذا هو الربيع الريان الذي جعله الله جدة للحياة ومتعة للحي، أم هو الخريف الميت أحرقته الحرب باللهب، وكفنته بالنجيع، وأخذت عواصفها الرعن تكسح الأرواح الساقطة قبل الأوان لتقذف بها في هوى العدم؟ لم(346/1)
تستعجلون أمر الله، وتستقدمون يوم القارعة، وتحاولون أن تدكوا الأرض، وتشقوا السماء، وتذروا الكون الذي عمرته القرون وحضرته الأمم كمعبد (داجون) أنقاضاً على شمشون وأعدائه؟
هيهات أن تصيخ اليوم لنداء السلم أذن! لقد جمع الهوى بالعقل جموح الفرق الشموس، فلا هو يسمع الصوت المهيب، ولا هو يطيع اللجام الكابح!
تلك مشيئة الله، وما تشاءون إلا أن يشاء. ولعله، عزت حكمته، يريد من هذه القيامة العاجلة أن يحيى الناس حياة أُخرى على نمط من الهداية جديد
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الخلاق الذي يهز الأرض هزاً فتربو وتنبت! سيهزها هز العافية ليسقط الذاوي وينتعش الهامد. والحرب تشذيب لغرس الله تقوى عليه الغصون ويزكو بعده الثمر. وآفة الحرب أنها تودي بالصالح للحياة وتبقي على الصالح للموت؛ ولكنها كالسيل الآتي يجرف تياره الجني واليابس، ويغرق طغيانه العامر والغامر؛ فإذا انقطعت روافده وجفت مجاريه عادت الأرض به اخصب تربة وأوفر غلة.
مرحباً بالحرب إذا لم يكن من خوض غمارها بد. أنها تقطع الفضول وتنفي الخبث وتذيب الغش وتذهب الوهن. ولعلنا أحوج الأمم إلى طهور الحرب يرحض عنا رخاوة الذلة واستكانة الرق! فقد غبرت على وجوهنا قرون من التبعية المستسلمة لو مرت على الضواري لطمست في جباهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس. كنا نعيش في ظلال المتبوع عيش الأمان والغفلة، لا نعرف الحدود إلا على الورق، ولا نشهد الحروب إلا في السينما، ولا ندرك معنى الدفاع عن النفس في وجود الحامي إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه، حتى فشا فينا الجبن، وغلب علينا التواكل، وقعد بنا الرضى، فتركنا ثروتنا للغريب، ووكلنا حمايتنا للحليف، وفرغنا للتنافس في الهزل، والتراشق بالتهم، والتسابق إلى النيابة أو الحكم من غير كفاية ولا غاية!
الربيع الأحمر! ذلك هو الربيع الجبار الذي يأكل غثاء الخريف وحطام الشتاء ليحيلهما في جوفه الناري غذاء لشجره ونماء لثمره!
وهو وحده الذي يستطيع أن يقتطع الحطب، ويقتطع العليق، وينبت على الجذور البالية(346/2)
خلفة نامية زاكية تهيئ الروض الهامد للنضارة والطهارة والإنتاج والبركة
أن روضنا يا ربيع هشيم وخشب! فأحيه بالماء أو بالدم، وعالجه بالغذاء أو بالسم، فقد استعصى يا ربيع علاجه على النيل، ولابد أن يضحي بجيل في سبيل جيل!
احمد حسن الزيات(346/3)
إلى وزارة المعارف
معارف مصر
في حولية المعارف الأممية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
حمل البريد إلي قبل يومين الحولية التي نشرها مكتب التربية الأممي، عن (التربية والتعليم في جميع أنحاء العالم خلال سنة 1939)
فلما أخذت أقلب صحائفها لألم بها إلماماً إجمالياً - استعداداً لدرسها درساً تفصيلياً فيما بعد - كان بعض الفصول يستوقف نظري قبل غيره أو اكثر من غيره؛ وكان الفصل الخاص بمصر (ص180 إلى 201) من جملة تلك الفصول بطبيعة الحال
وما كدت القي نظرة سريعة على الصفحتين الأوليين من هذا الفصل، وأستعرض الأرقام الإحصائية المدرجة فيهما، حتى وقفت على ما يثير الضحك والألم في وقت واحد. . .
يفهم من هذه الإحصائية أن مدارس الأطفال في مصر تربي 2448 طفلاً، والمدارس الابتدائية الأميرية تعلم 29775 تلميذاً، والمدارس الابتدائية الخصوصية تجلس على كراسيها 53489 من التلاميذ؛ وهذا هو كل ما في مصر من مدارس خاصة بتعليم الأطفال - قبل بلوغهم سن الدراسة الثانوية - حسب ما يظهر من هذه الإحصائية. . .
لو لم أكن أعرف حالة المدارس المصرية معرفة سابقة، وكان عرفاني بها مستنداً إلى هذه الإحصائية وحدها، لقت حالاً:
ما أتعس مصر وما أشق أطفالها. . .
لأن هذه الأرقام تدل على تأخر فظيع، لا بالنسبة إلى الأمم الأوربية والأمريكية فحسب، بل بالنسبة إلى الأمم الشرقية نفسها. وليس هذا التأخر بالكمية النسبية فحسب، بل بالكمية المطلقة أيضاً. . . فإن العراق، يسبق مصر في هذا المضمار بمراحل عديدة. وأما إيران فتسبقها بعشرات المراحل نظراً إلى هذه الأرقام. . .
فان عدد طلاب المدارس الابتدائية الأميرية في العراق يناهز ثلاثة أمثال طلاب تلك المدارس في مصر، مع أن عدد نفوس العراق لا يبلغ ثلث نفوس مصر. . . وأما عدد(346/4)
طلاب المدارس الابتدائية في إيران فلا يقل عن ثمانية أمثال طلاب مصر، مع أن عدد نفوسها أقل من نفوس مصر على كل حال. . .
ولا مجال للشك في أن كل من يراجع الحولية الأممية المذكورة من الأوربيين والأمريكيين سيلاحظ هذه الملاحظة، وسيقول: ما أفظع هذا التأخر المؤلم في بلاد غنية مثل مصر، في شعب عريق في الحضارة مثل المصريين!
قد يقول بعض من يقرءون هذه الأسطر: لابد من أن يكون هناك خطأ في الأرقام. . . ولا يستبعد أن يكون هذا الخطأ متأتياً من نقص المعلومات التي جمعها مكتب التربية الأممي عن المدارس المصرية. . .
غير أن هناك ما ينفي هذا الاحتمال نفياً باتاً: لأن الفصل الذي يرافق إحصائية المعارف في مصر لسنة 1939 تقرير رسمي رفعه مندوب الحكومة المصرية الدكتور محمود فهمي - كما هو مصرح به في أسفل الصفحة 181 من الحولية - فلا يحق لأحد إذن أن يشك في صحة الأرقام المدرجة هناك. . .
ومع كل هذا، فأنا أعرف أن النتيجة التي يصل إليها الباحث - من هذه الأرقام - لا توافق الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه. . . أنا أعرف أن هذا المظهر الغريب الذي تظهر به معارف مصر - في مثل هذه الإحصائيات - يعود إلى سبب مهم، كنت قد وجهت إليه الأنظار - على صفحات الرسالة - قبل نحو ثلاث سنوات. . .
أن نظم التعليم المرعية في مصر لا تفهم من تعبير (المدرسة الابتدائية) ما يفهمه رجال التربية والتعليم وغيرهم في جميع أنحاء العالم. فإن المدرسة الابتدائية في مصر، مدرسة من نوع خاص، وهي غريبة شاذة من وجوه عديدة. . .
لقد انتقدت أوضاع هذه المدارس بشدة في المقالة التي نشرتها في العدد 187 من الرسالة - بتاريخ أول فبراير سنة 1937 - وبعنوان (نقد نظام التعليم في مصر)، وشرحت المحذورات الجوهرية التي تتأنى من الاستمرار على تلك النظم. . .
وما كنت أتصور عندئذ أن كل شيء سيبقى على حاله وسيؤول إلى ظهور مصر بهذا المظهر الغريب في الحولية الأممية بعد ثلاث سنوات. . .
(بغداد)(346/5)
أبو خلدون(346/6)
إلى الدكتور طه حسين بك
تشريح عاطفة الحب
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
سألتني يوم لقيتك بوزارة المعارف في صباح اليوم الثامن من هذا الشهر عن سبب اهتمامي بالحديث عن الحب، وقد جرى ذكر كتاب (ليلى المريضة في العراق)، وكانت الابتسامة التي شع ضوءها في ملامح وجهك، تحمل معنى التعجب من أن تسمح الدنيا بأن أعيش بقلب المحب المتيم المتبول!
فأجبتك بأن شواغلي في الحياة قد تجعل الحب آخر ما يشغل قلبي. ولكن حديثي عن الحب صار مذهباً أدبياً أشرح به ما يتعرض له الناس في ميادين النوازع والأهواء، وأنا أريد أن اخلق جواً من البشاشة أدفع به ظلمات الزمان!
فابتسمت ابتسامة لها معنى وقلت: اخلق البشاشة في الزمن أن استطعت!
ثم خضنا بعد ذلك في شجون من الأحاديث سأرجع إليها بالتدوين بعد حي. . .
ويهمني اليوم أن أشرح ما كان يجب أن أقول في جواب سؤالك لو رأيتك منشرح الصدر لا تشكو تدخل بعض الناس في شؤون قد يجهلونها كل الجهل، أو يتحمسون لها بعقيدة مدخولة وإيمان مصنوع.
ونحن لم نبتكر الكلام عن الحب، فهو عاطفة عرفتها الأرواح منذ أقدم عهود الوجود. وما قيمة الدنيا إذا خلت من الحب؟ ولأي غرض يحيا الناس إذا أصيبت أفئدتهم بالاعتلال فلم تحس ذلك الروح اللطيف؟
وهل ينصرف القلب عن الحب وهو في عافية؟
إن المتوقرين والمتزمتين يتوهمون انهم وجدوا الحجج الدوامغ حين استطاعوا أن يقولوا: أن الدنيا في حرب، وان الظروف لا تسمح بالحديث عن الحب!
وأقول: إن ما هتفوا به لم يصدر إلا عن صدور مراض، فالحب لا يغزو إلا قلوب الأصحاء، وهو يساور قلوب الجنود في أصعب أوقات الحروب. وهل كان عنترة بن شداد ماجناً حين قال:(346/7)
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ ... منى وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبَّسم
وما هتف به عنترة هتف به ضابط مصري سمحت له لجنة الأناشيد العسكرية بأن يقول:
مين زيك عندي يا خضره ... في الرقة يا غصن ألبان
ما تجودي عليّ بنظره ... وأنا رايح عَ الميدان
وهذا الضابط اسمه عبد المنصف محمود، ولا أعرف كيف اهتدى إلى هذه الفكرة الطريفة وهو يعيش في زمن مثقل بآصار التصنع والرياء
لقد قيل إن هذا نشيد لا يصلح للجنود وهم يتأهبون للقتال
وأقول إن هذا النشيد من شواهد العافية، فلكل جندي في الجيش أوطار روحية يحن إليها حنين الأصحاء، وتلك الأوطار الروحية هي الحافز الأعظم للاستبسال في ميادين الشرف والوطنية. والجندي الفارغ القلب من عاطفة الحب لا يصلح أبداً للاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، لأن الوطن لا يغلو إلا في صدور أرباب القلوب.
وأنا أنتظر أن يسود ذلك النشيد على سائر الأناشيد، فقد هتف به جندي سليم الجسد والروح، وهو أفضل من الأناشيد التي ينظمها شعراء لم يعرفوا الفرق بين السيف والرمح، ولم يسمعوا صوت المدفع إلا في ليالي رمضان!
من الفضول أن أحدثك عن أهمية الحب، ولك فيه تاريخ، ولكني احب أن أعرف كيف يندر أن نجد بين كتابنا من يهتم بتشريح عاطفة الحب؟ وكيف يرانا من سيدرسون آثارنا الأدبية بعد جيل أو أجيال حين يظهر لهم أننا كنا نحسب الحديث عن الحب فناً من فنون المزاح؟
الحب جده جد، وهزله جد، ولا يتجاهل هذه العاطفة إلا الغافلون عن تأثيرها الحسن أو السيئ في تلوين الوجود.
الحب جد صراح، والاهتمام بدرسه يؤدي خدمات عظيمة لعلم النفس، فكيف نسكت عن درسه وهو يواجه الناس في جميع الميادين؟ كيف نسكت عن درسه وله قدرة قاهرة على الضر والنفع، وله تأثير شديد في توجيه مصاير الرجال؟
وبأي حق يخلو أدبنا من تشريح عاطفة الحب؟
وكيف يجوز أن يقهرني العيش في عصر التزمت على الدفاع عن كتاب (ليلى المريضة(346/8)
في العراق) وهو كتاب أردت به خلق الحيوية الأدبية بين أبناء هذا الجيل؟
إن التوقر الذي يصطنعه بعض الناس قضى على عصرنا بالحرمان من البشاشة والأريحية وقطع ما بيننا وبين ماضينا المجيد يوم كان لنا شعراء لا يهتفون بغير أوطار القلوب.
وأين نحن من العصر الذي عاش فيه عمر بن أبي ربيعه، أو العصر الذي عاش فيه العباس بن الأحنف، أو العصر الذي عاش فيه الشريف الرضي؟
وهل يمكن القول بأن الحاسة الدينية في هذا العصر تفوق الحاسة الدينية في أعصر أولئك الشعراء؟
لا يمكن القول بذلك، فنحن بشهادة رجال الدين أقل حرصاً على الواجبات الدينية من الرجال الذين عاصرهم أولئك الشعراء، والله يغفر لي ولك ولسائر أهل هذا الجيل!
الفرق بيننا وبين أسلافنا لا يحتاج إلى توضيح
كان أسلافنا أصحاء، فكانت عصورهم تجمع بين أشرف صنوف الهداية وأعنف ضروب الضلال، وكان الرجل الديان لا يتورع عن رواية أظرف قصائد الغزل والنشيب، وكان هناك توازن بين حقوق القلوب وحقوق العقول، فكانت الحياة أشبه بالحديقة الغنية التي تجمع في شعابها بين حياض الأزهار والرياحين ومسارب الأفاعي والصلال.
وأين نحن اليوم من أولئك الأسلاف؟
في مساجدهم رويت طرائف الأشعار، ونوقشت مذاهب الزيغ بلا تحامل ولا إسراف، وفي بيوت أتقيائهم دونت أوهام القلوب والعقول، وعلى ألسنة أصفيائهم جرت أحاديث الشك والارتياب، وبفضل ذوقهم الأدبي والفني عاشت أضاليل لها صلات بحيوات الآداب والفنون
أما عصرنا الذي أعرف وتعرف فهو عصر الرسوم والأشكال، وأخشى أن يمر بلا أثر ملحوظ في خدمة العقل والقلب والذوق
وإلا فأين الرجل الصالح الذي يقهرك روحه على التزام حدود الدين؟
وأين المفكر الذي يقهرك إخلاصه للفكر على التزام حدود العقل؟
وأين الأديب الذي يحدثك عن نفسه فتشعر بأنه صادق كل الصدق؟
ومن اجل هذه الرخاوة الفكرية والأدبية والدينية فترت حماسة الناس للفكر والأدب والدين،(346/9)
وأصبحت القلوب في مثل حال الشراب المقتول
وهنا أجد الجواب عن سؤالك، أيها الأستاذ الجليل
فأنا أتحدث عن الحب بصفة جدية، وأتعقب أخباره وآثاره في كل ما أرى وما أسمع، وآية ذلك أني لم أنته ولم أنزجر بعد أن رأيت غضبتك في جريدة السياسة يوم ظهر كتاب (مدامع العشاق) وقد قلت انه يحرض على الشهوات، سامحك الله وغفر لك!
وأنا أجد في كل شيء، أجد في الصداقة والعداوة، وأجد في الشك واليقين، وليس أمامي مجال للمزاح، وكيف يتسع وقتي للمزاح وما قضيت يوماً خالياً من الشقاء بالدنيا والناس؟
فما أرضاك عني فهو حق، وما نفرك مني فهو حق، وما خصصتك بغضبي ورضاي إلا لأني أعرف انك تعاقر من فرح الحياة وحزن الحياة بعض ما أعاني. وأنا موقن بأنك تفهم عني ما أريد، لأنك تعرف من سريرتي ما لا يعرف سواك
فما رأيك في الحب؟
ألا ترى انه عاطفة تستحق أن نتأثرها في جميع المسالك؟
وإذا سكتنا عن تشريح عاطفة الحب فمن يتحدث عنها ونحن ندعي النيابة عن الجمهور في تشريح النوازع والأهواء؟
وهل يرضيك أن نصير إلى ما صار إليه من يختارون المحفوظات لتلاميذ المدارس، وقد تحاشوا جميع الأشعار التي تفصح عن إوطار القلوب.
لو كان جميع المعاصرين من (العارفين بالله) لخف الأمر وهان، ولكن معاصرينا من الأساتذة يسمعون حديث الحب من المذياع، ويرون آثاره على الشاشة البيضاء، وفيهم من يتمنى لو سارت أشعاره بين أغاريد أم كلثوم وعبد الوهاب!
يجب أن تعرف أني أخاطب الدكتور طه حسين الذي نقل أروع أحاديث الحب عن أهل الغرب، والذي يحاول أن يطبع الجمهور المصري على تذوق الموسيقى الأوربية، لأنها في رأيه من أصلح الأدوات للتعبير عن العواطف والأهواء.
والأوربيون الذي تعرفهم لا يرون الحب من المزاح، وإنما يرونه عاطفة أصيلة تنقل القلب من مكان إلى مكان، وتسبغ عليه أثواب الصحة والعافية، وتشريح عاطفة الحب هو عندي باب لتربية العواطف.(346/10)
تربية العواطف؟
أعوذ بالله من الجهل بأخلاق زماني ومن التعرض لسفاهة الأقاويل وشناعة الأراجيف!
نعم، أنا أدعو إلى الاهتمام بتربية العواطف، وليقل من شاء ما شاء.
كل شيء في بلادنا موضع اهتمام إلا العواطف، وإهمال العواطف ستكون له آثام أيسرها رياضة الشبان على رذيلة (عدم الاكتراث) وهي أقبح الرذائل وأشدها تأثيراً في قتل حيوية الشعوب.
وهل تستطيع القول بأن الرأي العام عندنا يحس هذه المعاني؟
وما الرأي العام؟ أليس صدى لآراء الباحثين والمدرسين وهم عندنا قوم هيابون خوافون يرون الحديث عن العواطف من فضول القول؟
وخمود العواطف هو الذي قتل الشاعرية في مصر، وهو الذي جعل المصريين أقل الناس إحساساً بمعاني الوجود، وإلا فحدثني عما أقيم على شواطئ النيل من ملاعب، وما أقيم فوق عبابه من سهرات يغنى فيها الشعر ويرقص الخيال؟
هل عندك نبأ عن حدائق القناطر الخيرية؟ وهل سمعت أن إحساس المصريين بالحياة حمل بعض الشركات على أن تنشئ فندقاً هناك؟ ولمن تقام الفنادق في تلك الضاحية السحرية وليس فينا رجل يشوقه قضاء الليل وهو يسمع هدير النيل في شهر آب؟
وهل عندك نبأ عن حديقة الأزبكية؟
ألم تسمع أن حديقة الأزبكية ليس فيها مكان تشرب فيه فنجاناً من القهوة أو الشاي إذا بدا لك أن تقضي فيها ساعة أو ساعتين لمحاسبة نفسك أو مداعبة خيالك؟
ويتحدث الناس في هذه الأيام عن بحيرة قارون بمناسبة زيارة جلالة الملك لإقليم الفيوم، فهل تعرف انه لا يمكن قضاء ليلة بجوار تلك البحيرة إلا في فندق أقامه هناك أحد الألمان؟
وهل سمعت أو سمع أحد من أصحابك أن شاعراً مصرياً قضى ليلة أو بعض ليلة وهو يداعب سمكات تلك البحيرة؟
وما رأيك في (بحيرة التمساح)؟
هل سمعت لها خبراً في قصيدة أو رسالة أو كتاب لأديب من أهل هذه البلاد؟
وهل خطر لك أن تقضي ليلة بجوار تلك البحيرة عساك تعرف شيئاً من أخبار مدينة(346/11)
الإسماعيلية؟
ولا موجب لتذكيرك بالأقصر وأسوان: فالناس جميعاً يعرفون أن الأجانب هم الذين تشوقهم تلك المغاني، وإليهم يرجع الفضل في إقامة أسواق الحياة بتلك المناسك، على أيامها ولياليها أطيب التحية وأزكى السلام!
وما لي أبعد بك فأنقلك إلى تلك البقاع النائية؟
هل اتفق لك أن تلقى درساً من دروسك بين الأشجار التي تحدق بكلية الآداب؟
وهل فكر أستاذنا لطفي باشا في محادثة طلبة الجامعة عن أرسططاليس تحت الدوح كما كان يصنع فلاسفة اليونان؟
ذلك يشهد بأن إحساسنا بالحياة يكاد يكون في حكم المفقود، فما رأيك في الدعوة إلى الطب لهذا المرض العضال؟
وكيف نطب لهذا المرض ونحن نرى الحديث عن الحب ضرباً من المزاح؟
كيف وقد تهيبت تقديم كتاب (ليلى المريضة في العراق) إلى محرري الجرائد المصرية لئلا أقرأ لأحدهم كلمة تؤذيني بلا موجب معقول؟
وما رأيك إذا حدثتك بأني عجزت في مصر عن بعض ما قدرت عليه في العراق؟
كنت أحب أن أؤلف كتاباً عن (ليلى المريضة في الزمالك) افصل به أسرار المجتمع وسرائر القلوب في هذه البلاد بطريقة روائية تفيض على شبابنا روحاً من أرواح الوجدان، ولكني خشيت ملامة الفارغين من أشباه الأدباء.
فهل أرجو أن يصر قلمك بما تهيب منه قلمي؟
لقد وضعت لك الخطة بكتاب (ليلى المريضة في العراق) فأرني كيف تصنع وكيف تصور عصرك وزمانك كما صورت عصري وزماني. نحن نريد أن نشغل الناس بأخلاقهم وأذواقهم وأوهامهم، نريد أن نسيطر عليهم بالأدب والعقل بعد أن سيطر عليهم السياسيون بالمناوشات الحزبية والسياسية.
فهل أنت مستعد لاقتحام هذا الميدان؟
نحن نفكر في خلق عصبية أدبية تعلو على العصبية الحزبية
ولن نصل إلى ذلك إلا يوم يؤمن الجمهور بأن الأدب هو الترجمان الصادق لشهوات(346/12)
العقول، وللعقول شهوات أعنف وأخطر من شهوات الأحاسيس، وتثقيف الشهوات العقلية يصل بنا إلى منازل الحكماء، ويطمعنا في الخلود.
ليتني أستطيع مصارحتك بكل ما أريد في خلق الحيوية الأدبية والفنية!
وكيف أستطيع وأنت كثير التلوم والتعتب، ولا يصل إليك الرأي الصريح إلا مشوباً بتهمة التحامل عليك؟
أنت على كل حال من ذخائرنا الأدبية، وأنا أقبلك على علاتك كما تقبلني على علاتي.
فهل يكون من الفضول أن أصارحك بأنك لا تقبل على حياة الوجدان إلا وأنت خائف، مع انك قوي العبارة في الإفصاح عن وساوس نفسك، ونوازع قلبك؟
وما خوفك وقد استقام لك أمر مصيرك الأدبي وصار اسمك من أظهر الأسماء؟
ما خوفك من الاعتراف بأن عاطفة الحب تستحق التشريح؟
وما الذي يدعوك إلى الاحتراس حين أقترح عليك تأليف كتاب عما أحس شعراء العرب من النوازع الوجدانية؟
أتخاف أهل الجمود؟
أطمئن، يا سيدي الدكتور، فهم في شغل عنا بمصايرهم الدنيوية، ولن يفرغوا لنا إلا بعد أن نفرغ من إعلام الناس بما نريد من شرح أوهام العقول والقلوب.
أما بعد فأنا أعلن عتبي عليك، لأنك ابتسمت ابتسامة فيها طيفٌ من الاعتراض على اهتمامي بتشريح عاطفة الحب، وأصارحك بأن هذا مذهبٌ أدبيٌ سأحرص عليه ما دمت أملك القدرة على تشريح العواطف والأحاسيس.
فافتح قلبك، يا سيدي الدكتور، لوحي الحياة والحب، واعلم أن الابتسام الصادق هو أثمن ما يملك الرجال.
وقد شاءت المقادير أن أستطيع مقابلتك في كل يوم بعد أن صرت معنا في وزارة المعارف، وساحولك إلى حزبنا، حزب الأخوة الأدبية الذي يرى أقطار العربية جسماً واحداً إذا شكا منه عضو أسعدته سائر الأعضاء بالسهر والأنين.
وستريك الأيام بعد قليل أن الميزان الذي كنت احتكمت إليه في تقدير العداوات والصداقات لم يكن أدق الموازين. . . والله المسؤول أن يديم عليك عافية القلب وشباب الروح.(346/13)
زكي مبارك(346/14)
الحق والقوة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
في هذا الجو المملوء بالآلام والويلات، وفي هذه الساعات الرهيبة التي ينبض لها قلب العالم هلعاً وجزعاً من مأساة لا يعلم مداها، وتطاحن لا يستطيع أن يقدر نتائجه؛ في هذه اللحظات التي يعتدي فيها الأقوياء على الضعفاء ويطغي المسلحون على العزل الأبرياء، وفي هذه الأيام التي خفقت فيها موسيقى السلم ذات الألحان الشجية والنغمات الحلوة وحلت محلها نواقيس الحرب ذات الأصوات المدوية؛ بل وفي هذه الأعياد السنوية التي كان يقدسها قديماً الهمجيون أكثر مما يقدسها اليوم المتحضرون، والتي كان يلقى فيها الأسلحة المتحاربون؛ في هذه الظروف كلها رأيت من الخير أن أتحدث عن فكرة الحق والقوة.
وإذا ما تحدثت عن هذه الفكرة فإنما أعرض للمشكلة الرئيسية بين مشاكل الفلسفة السياسية منذ أفلاطون إلى اليوم، فهي مشكلة الماضي والحاضر، ويخيل إلي أنها ستبقى مشكلة المستقبل إلى النهاية. وكأني بالحق والقوة ضدين لا يجتمعان وعدوين لا يتهادنان، يقدر لأحدهما الغلب ثم لا يلبث الآخر أن يعدو عليه وينتزع منه سلطته، وما تنازعهما إلا صراع بين الروحية والمادية، بين المثالية والواقعية، بين الإنسانية والوحشية، بين الحضارة والهمجية. ولن أكون في حديثي هذا المشرع الذي يعني بالقوانين وصوغها بين ما فيها من عقوبات وقصاص تحول دون عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولا السياسي الذي يقدم الحلول المختلفة للمشاكل الدولية الهامة. وإنما سأعرض لموضوع الحق والقوة من ناحيته الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية، فأبين كيف نشأت الفكرتان وكيف تطورتا وماذا كان لهما من أثر في حياة المجتمع، ثم أشير إلى أوجه التقابل بينهما وموقف الفلاسفة والأخلاقيين منهما
ليس من السهل أن نحدد بالدقة كيف اتجه الإنسان الأول نحو فكرة القوة، أقاده إليها حسه وبصره وسمعه ولمسه؟ أم هداه إليها شعوره وقلبه وعزمه وإرادته؟ وبعبارة أُخرى هل تبينا القوة لأول مرة في أنفسنا أو في الظواهر الطبيعية المحيطة بنا؟ وهل هي من أصل سيكولوجي أو من مصدر طبيعي؟ وهل هي وليدة العالم الداخلي أو الخارجي؟ وأغلب(346/15)
الظن أنها نتيجة هذين الجانبين وثمرة هذين المؤثرين، فأدركنا القوى الطبيعية وقوتنا الإنسانية في الوقت الذي اصطدمت فيه الطبيعة بنا واصطدمنا بها. وكيفما كان أمر هذه النشأة فإن الإنسان سلم من قديم بوجود قوى في الكون متعددة: طبيعية وإنسانية، مادية وروحية، ظاهرة وخفية، سماوية وأرضية. فإذا ما سألته عن حقيقة هذه القوى عز عليه كشفها وصعب عليه تحديدها، وجل ما تحظى به منه أن يعرفها بآثارها ويتعرفها بنتائجها، فيقول أنها ما يتم به التغير.
بيد انه على الرغم من كل هذا لم يتردد الفلاسفة والاجتماعيون في أن يبينوا هذه الفكرة الغامضة في نشأتها والخفية في مدلولها، وكان لابد لهم أن يفعلوا ما داموا يدرسون التغير وعلله، أن في عالم الطبيعة أو في عالم الإنسان. فنرى الرواقيين في التاريخ القديم ينتهون إلى مذهب ديناميكي شبيه بذلك المذهب الذي صعد به ليبنتز إلى القمة في القرن السابع عشر. يتصورون أن العالم كائن حي مشتمل على النار والحرارة التي هي المبدأ الفعال والمؤثر في المواد والأجسام المنفعلة، ولا كيان للمادة إلا بواسطة ذلك (النفس الحار) (إلابنيما) الذي يضم أجزاءها ويدفعها إلى الحركة والتغير، فقوة العالم كامنة فيه تسيره على نظام ثابت وتخضعه لقوانين معينة. وان فكرة المادة والصورة التي قال بها أرسطو ولم يوضحها تمام التوضيح ولدت في القرون الوسطى تلك القوى الخفية والخواص الكامنة التي هي مصدر التغيرات الكونية والأحداث الإنسانية، وان كان وراءها قوة عظمى، هي قوة القوى وعلة العلل. وإذا كان لبيكون وديكارت رسالة جديدة في التاريخ الحديث إزاء المسائل الطبيعية فهي أنهما حاولا محاربة الصفات الغامضة والصور الخفية التي رددها المدرسيون. على أن بي كون لم يسلم تماماً من آثار تلك الفلسفة المدرسية، وبدا في بحثه التجريبي وكأنه ينقب عن أمور ذاتية وصفات أولية للأشياء هي سر تميزها وتغيرها، وفكرة الحركة والتدافع التي ذهب إليها ديك أرت ترد التغير في آخر تحليل إلى قوة وحيدة، إلى البارئ جل شأنه. ولعل هذا هو الذي قاد ليبنتز إلى نظرية (النتاد) والذرات الروحية، فكان يتصور الأجسام كلها في صورة معنوية ابلغ مما ذهب إليه الرواقيون، ويتوهم أنها مجموعة ذرات روحية فيها قدر من النشاط والإدراك يتفاوت على حسب مرتبتها، وقد أبدعها ونسقها اله هو روح الأرواح ومناد المنادات، وإذا كان مرجع التغير(346/16)
كله إلى الله فلم نبحث عن قوى وأسباب أُخرى سواء؟ والأجدر بنا أن نرد كل شيء إليه سواء أكان من الظواهر الطبيعية أو الأعمال الإنسانية. وهكذا رأى مالبرانش وباركلي أن يردا القوى الظاهرية كلها إلى الله، وقررا أن ليس ثمة قوة في نظرهما غير تلك القوة الوحيدة.
هذا هو شأن القوة فيما يتعلق بالظواهر الطبيعية، وليس شأنها بأقل خطراً فيما يتعلق بالأحداث الإنسانية، فقد دالت بسببها دول وقامت أُخرى، وذل جبابرة وعز آخرون. وللقوة في المجتمع مظاهر عدة: فهناك القوة المادية الجسمية، والى جانبها القوة الصناعية والإنتاجية، ثم قوة المال والفكر والعبقرية، وأخيراً قوة العزيمة الماضية وإرادة الشعوب التي بدلت صفات التاريخ. ولا نظننا في حاجة إلى نلاحظ انه إذا كانت قوة الأفراد والطغاة هي التي سادت العالم بالأمس فإن إرادة الشعوب حلت محلها، بل كانت أحياناً أشد أثراً وأعظم إنتاجاً. ومن هذه القوة الشعبية تولدت الحركات الدستورية وبواسطتها تأيدت النهضات الاستقلالية، وعنها صدرت قوة الطوائف والنقابات والأحزاب. وإذا ما تبتعنا الفلاسفة السياسيين في مراحل التاريخ المختلفة، وجدنا أنهم إنما حاولوا أن ينظموا القوى المتباينة أو عولوا على قوة دون سواها. فأفلاطون قديماً أخذ نفسه بالتوفيق بين قوى المجتمع المتباينة: بين حراس المدينة من جانب، والمنتجين من صناع وزراع من جانب أخر، والحكام والقضاة من جانب ثالث؛ فأراد التوفيق في اختصار بين الشجاعة والمنفعة الذاتية والعقل. ومكيافيلي في عصر النهضة أو هوبس في أوائل التاريخ الحديث، ونيتشه بين المعاصرين إنما ناصروا قوة الفرد وأيدوا الحكومة المستبدة ظناً منهم أنها الوسيلة الناجعة لحكم الجماهير. أما لوك وفولتير وروسو، فقد اعتدوا بقوة الشعب كل الاعتداء، ووضعوا دعائم النظم الدستورية والنيابية الحديثة. والى جانب هؤلاء وهؤلاء نجد جورج واشنطون ومازيني وسعد زغلول على راس النهضات الاستقلالية، كما نجد كارل ماركس يصور قوة اليد العاملة في أوضح صورها، ويعلن حقوقها إزاء أصحاب رؤوس الأموال.
في هذه النهضات على اختلافها والثورات على تنوعها ما يشهد بما للقوة من أثر في حياة المجتمع، بل نستطيع أن نقول أن المجتمع الإنساني مجموعة قوى متعددة، متعاونة أحياناً ومتعارضة أحياناً أُخرى. وسعادة الأمة في أن توجه هذه القوى في وجهاتها الملائمة، وان(346/17)
تتضافر على غرض أسمى. وأي نظام اجتماعي لا ينمو ولا يطرد، بل ولا يحيا ولا يثبت إلا أن كانت وراءه قوى مادية وروحية تغذيه وتعاونه.
(يتبع)
إبراهيم مد كور(346/18)
قابليات العناصر البشرية
للدكتور جواد علي
نشر الكاتب السياسي الفرنسي (كراف كوبينو) كتاباً في أربعة مجلدات ظهرت بين عامي 1853 - 1855 بعنوان (عدم مساواة العناصر البشرية): ? فأثار على مؤلفه سخطاً شديداً ولا سيما من الهيئات الكاثوليكية وأنصار مبادئ الثورة الفرنسية، كانت نتيجته طرد الرجل مراراً من السلك الدبلوماسي الذي كان ينتسب إليه.
وقد استقى كوبينو آراءه من مصدرين: مصدر التتبع والبحث الشخصي الذي قام به خلال تمثيله السياسي للحكومة الفرنسية في طهران والهند والبلقان، ومصدر العلم الطبيعي الذي طغى إذ ذاك وتغلب على الطريقة القديمة باعتماده على التجارب والاختبارات. فقال باختلاف الأجناس وتباين العناصر البشرية كما هو الشان في النباتات والحيوانات وقد كانت هذه نظرية قال بها العالم الألماني ألنتروبولجي بلومنباخ (1752 - 1840)، والعالم الفرنسي كوفيبه (1769 - 1832). غير انه زاد عليهما بنظريته في اختلاف القابليات البشرية والإنتاج المدني والثقافي، فوصل إلى أن التاريخ البشري والحضارة البشرية نتيجة عقلية واحدة، هي العقلية الآرية التي تشتمل الشعوب الأوربية والهندية الأوربية. ويخص من هذه الشعوب أيضاً الشعوب الجرمانية بأعلى القابليات في الاختراع والابتكار والسيادة والإرادة والزعامة في جميع نواحي الحياة.
وكانت أول أرض أجابت هذه الدعوة هي الأرض الألمانية التي بدأت تنمو فيها الروح القومية، وتظهر بأجلى مظاهرها، ورسالة الفيلسوف الألماني فخته بعثت فكرة القوميات في أوربا وهيأت الجو ولا شك لمثل هذه الآراء. وكذلك فلسفة هيكل الذي قسم العالم إلى أدوار بدأ فيه بالدور الشرقي وانتهى بالدور الجرماني الذي هو في نظره خير الأدوار العالمية وأكملها. أضف إلى ذلك كتابات المؤرخ الألماني الشهير (ترايشكه)، والكاتب الاجتماعي الوطني فردريش جان وغيرهم، والوحدة الألمانية التي قام بتأسيسها بسمارك، وآراء نيتشه في القوة وتمجيده للحرب.
ومن أشهر من تأثر بهذه النظرية الكاتب الإنكليزي الألماني شامبرلين 1855 - 1927 مؤسس الفلسفة النازية الأولى وأول فيلسوف يعتبره أتباع هتلر من بين صفوفهم. والرجل(346/19)
مع انه إنكليزي يختلف عقلية عن العقلية الألمانية، تأثر بالمحيط الألماني وهجر وطنه وترك لغته وغدا ألمانيا يخلص لألمانيا ويدافع عنها ويطعن على الإنكليز وقساوتهم في معاملة الألمان في الحرب العظمى. اتخذ هذه النظرية قاعدة له في جميع أبحاثه ومقياساً يقيس به للعالم طرّا. وفي كتابه الشهير (أسس القرن التاسع عشر) الذي ظهر في سنة 1899 19 يحمل أفكاره. وقد ترجم إلى لغات عديدة وطبع عشرات المرات
يرى في كتابه هذا أن الحضارة البشرية من أولها إلى آخرها نتيجة العمل الجرماني الآري. وكل حضارة ظهرت أو بقعة ازدهرت لابد أن يكون للعنصر الآري، وعلى الأخص الجرماني، يداً فيها فهو في بحثه كالفاحص الكيميائي يحاول تحليل الحضارات ليجد العنصر المسبب وهو العنصر الجرماني الذي خص من بين الشعوب بميزة هداية البشرية والقيادة العالمية. حتى الكتابة أو الأرقام يرى أصلها من الجرمان ومن الجرمان انحدرت إلى الشرق. وعلى ذلك ففكرة كونها شرقية خطأ لا يغتفر. وكذلك آراء العلماء في أن الحضارة أصلها من الشرق لا يرى لها مبرراً ولا دليلاً. والشعوب الأُخرى كلها مقلدة لم تنتج من عندها شيئاً. والحضارة العربية التي يراها ظهرت صدفة كسائر الحضارات السامية أن جاز تسميتها حضارة هي صورة ظاهرية لعمل آري مكتوم
أثر كتاب شامبرلين في الأوساط الألمانية أثراً كبيراً ولاسيما في الأوساط السياسية منها والأوساط الشعبية والوطنية المتطرفة، إلى درجة جعلتها تعتقد أن هنالك مهمة واجبة تقع على عاتق ألمانيا الجرمانية، وهي مهمة قيادة العالم وحق الإشراف عليه، مهمة تكاد تكون سماوية وتحدثنا بعض المصادر أن القيصر الألماني كان معجباً جداً بهذا الكتاب أيما إعجاب ولا سيما بعقيدة الزعامة الألمانية والتبشير بالدين الجديد، على أساس القوة والسيادة التي هي من صفات الجرمان، وان الكاتب هذا وكذلك الفيلسوف النمساوي الاجتماعي كانا من أهم أبطال الدعوة إلى الحرب قبل دول ألمانيا الحرب بحجة أن الحرب أساس كل حضارة، ولإثبات أن العنصر الجرماني هو العنصر الفعال الذي تقع على عاتقه وحدة أمور العالم وحقوق التصرف منذ آلاف السنين.
وفي سنة 1894 أسست هنالك جمعية عرفت باسم (جمعية كوبينو) لتقوم بإتمام أبحاث هذا العالم. وقد رأس هذه الجمعية العالم وليمان الذي ألف كتاباً عن عصر النهضة في إيطاليا(346/20)
وأبى إلا أن يرجع أصل جميع علماء النهضة في إيطاليا وأبطالها إلى أصل جرماني شمالي. يعرف هذا الكتاب بعنوان , 1905 أعقبت هذه الجمعية جمعية أُخرى عرفت باسم: (جمعية العناية بالأبحاث العنصرية) ألفها الفريد بلوتني أخذت على عاتقها مهمة البحث العنصري على أسس طبيعية تجريبية لا على الطريقة التاريخية الفلسفية. فعادوا إلى طريقة بلومنباخ وهي الاستعانة بأشكال قحف الرأس في تقسيم العناصر البشرية، وهيئة الجسم وتكوينه، وتكوين علم خاص يتفرع من علم الأنتروبولوجي وهي الطريقة التي اتبعت اليوم في ألمانيا بعد سيطرة هتلر عليها وخضوع الجامعة لإرادة النازي وآرائه.
راجت عقيدة العنصرية خلال الحرب وبعد الحرب ولا سيما بعد استيلاء اليهود على معظم الكراسي في ألمانيا وتشكيلها المجالس المحلية بعد ثورة شهر نوفمبر سنة 1918 إذ حصلوا على أغلبية كراسي الحكم. وهذا ما روج دعوة أنصار العقيدة العنصرية، إذ تحولت إلى دعاية وطنية غايتها تطهير ألمانيا من العناصر الأجنبية بإعادة الأخلاق الجرمانية القديمة، وهي السيادة والقوة، هذه المبادئ التي تنافي المبادئ الأوربية الغربية الديمقراطية التي حملتها الحرب إلى ألمانيا بطريق اليهودية الحاكمة على ألمانيا ومحاربة كل فكرة تدعو إلى المساواة بين الشعوب والقابليات على حد سواء. فظهر هنالك أساتذة وكتاب أمثال ادلف بارتلس ووغيرهم اتسفادوا من الفرصة وحملوا على اليهودية والماسونية والشيوعية حملات شعواء موجهين نظر الألمان إلى هذه الناحية الحساسة لتمهيد الحكم للدولة الألمانية الثالثة وإعادة حلم الدولة الألمانية المقدسة.
غير أن هنالك جماعة من الفلاسفة شعرت في نفس الوقت بتدهور ألمانيا ووجوب إعادة مجدها. غير أنها رأت تحقيق ذلك عن طريق آخر وهو طريق الثقافة واللغة بتحويل العناصر الغربية والقوميات إلى عنصر ألماني واحد مستدلة على ذلك بأدلة أُخرى ساخرة من قحف الرأس وتركيب الجسم مستدلة بالشعب الأمريكي الذي كون له قحف رأس جديد لا هو إنكليزي ولا هو ألماني ولا هولندي ولا فرنسي، وباللغة التي يدافع عنها ويحاول نشرها مع أن أصله قد يكون من البلطيق أو السويد أو ألمانيا أو غيرها، وكذلك باختلاف شكل الفلاح الألماني وتركيبه عن سكان المدن الألمان، وكذلك أصحاب المهن، وكذلك(346/21)
الإنكليز الذين هم من عناصر مختلفة، ومع ذلك، فقد أصبح لهم قحف رأس مخصوص، متخذ في الأرض والمحيط عاملاً مهماً في العنصرية والقابلية البشرية. وغايتهم من ذلك غاية وطنية كذلك، وهي ربط اليهود والألمان الذين في الخارج، وتجنسوا بجنسيات أجنبية عن طريق الثقافة واللغة، وتكوين ألمانيا عظيمة بدلاً من تنفير هؤلاء، وجلب السخط العالمي العام على الشعب الألماني.
غير أن استيلاء هتلر على زمام الحكم قضى على كل معارضة طبعاً للعنصرية، وحرم أي كتاب يعارض العقيدة. وأخذ يصنف للألمان العناصر الموجودة في ألمانيا، فتوصل إلى وجود خمسة عناصر أصلية وخمسة أُخرى فرعية في الدماء الألمانية ولم يتوصل إلا إلى نسبة تقدر باثنين في المائة من الدماء الجرمانية الشمالية النقية. ولكن هنالك مع ذلك اختلافاً أيضاً في التقسيم: هل تعتبر المظاهر الخارجية والتركيب العضوي للجسم أساس التقسيم، أو العوامل الروحية والنفسية فقط أو كلاهما؛ فظهرت آراء للأساتذة: وغيرهم. وقد أعدت لأجل ذلك معاهد خاصة ومستشفيات ومختبرات تقوم بالتجارب المختلفة لتكوين علم جديد كسائر العلوم الأُخرى أن لم نقل انه أهمها
ويمكن أن نعتبر هذا العلم الذي تكون حديثاً قطب العلوم طرأ في ألمانيا الحالية، فعليه أن يقسم العناصر البشرية إلى أصول وفروع، والى أمم منتجة ذات قرابة مع الأمم الجرمانية وصلة، والى أمم كتب عليها ألا تقوم في التاريخ بأي دور أو حدث كالشعوب السامية والحامية وما يتفرع منها. ووظيفة الجامعة الألمانية الحديثة أن تكيف علومها وفق هذه العقيدة. ولاشك أن تلك مهمة صعبة شاقة ولاسيما في العلوم العقلية منها فالتاريخ يجب أن يقلب رأسا على عقب، والقرون الأولى ستبدأ بالجرمان وتاريخ أوربا، ثم ينتقل إلى التاريخ الآشوري والبابلي والمصري والحوادث التاريخية والحضارة البشرية يجب أن تغربل غربلة ليعثر على العنصر الآري الفعال الذي هو بذرة كل حضارة. وتلك مهمة صعبة جداً كما يظهر، لذلك لاقى أساتذة التاريخ خصوصاً المتقدمين منهم صعوبات في هذا الفن، أدت إلى إخراج معظم مدرسي التاريخ من الجامعات وإحلال عناصر جديدة من الشباب محلهم. وكذلك قل عن الفلسفة وعلم التربية والاجتماع والاقتصاد وغيرها بل حتى العلوم الطبيعية منها يجب إهمال أعمال وأسماء الأساتذة الذين ليست لهم صلة بالعرق الآري أو نسب.(346/22)
أساس الحضارة العالمية والمدنية وكل إنتاج بشري عقلي أو مادي هو (الدماء) فعلى الشعب الآري لذلك أن يحافظ على دمه من الاختلاط بالدماء الأخرى، إذ متى اختلط بالدماء البعيدة حلت بالشعب الكارثة العظمى وذهبت السعادة الأبدية إلى الأبد وفسدت الروح والبدن، وسقط العنصر القوي إلى أسفل درجة من الضعف والاستسلام. على هذا وضعت قوانين (نورنبرك) في منع أي آري في ألمانيا من الزواج بغير الآريين مهددة المخالف بأقسى العقوبات، وكذلك في طرد نصف الآري، أي الذي ينتسب إلى أب أو أم غير آرية، أو ربع الآري أي الذي ينحدر من جد أو جدة غير آرية - من الخدمة لفساد الدماء في مثل الأجسام.
ويرى معارضو هتلر والنازية في عقيدة العنصرية هذه فكرة (الجبر) فما دام الدم هو العنصر المنتج للحضارة فلم إذا هذه المدارس وتلك الجامعات، ولم تلك النفقات الباهظة التي تنفق في سبيل تربية الأحداث؟ ومن الغريب أن هتلر ينعى على اليهودية قولها بنظرية الشعب المختار والنازية نفسها تقول بهذه الفكرة باختيار الشعب الجرماني وحده بين الشعوب وتفضيله على الشعوب الأُخرى بالإنتاج والعلم والابتكار.
معالجة مشكلة الدماء تحل كل مشكلة، ولذلك يجب تقوية الجسم والمحافظة على الدم فيه نقياً سالماً. ومتى حوفظ عليه حوفظ على الحضارة العالمية والمدنية البشرية، والسيادة الأوربية. الحضارة هم وليدة الدماء، والقوة هي وليدة الدماء، والجمال والفن كذلك.
هذه هي فلسفة الوطنية الاشتراكية، تجعل الروح وليدة المادة. ومن الغريب أيضاً أن الشيوعية التي يقومها هتلر في كتبه تجعل العوامل الروحية مصدرها المادة، مع أن هتلر وروز نبرك يعتمدان في آرائهما العالمية ووجهة نظرهما الفلسفية على الروح.
بين هذه النظرة وبين مبدأ الأوجينيك قرابة عظيمة. والوطنية الاشتراكية في نظرتها العنصرية مدينة لهذا المبدأ أيضاً. القواعد التي وضعها العالم الفرنسي (1820 - 1911) والتي أطلق عليها الاسم المتقدم لأجل تكوين أجيال صالحة بمعالجة الجسم بقواعد عرفت (بقواعد كالتون) والتي تعتمد على الوراثة في الدرجة الأولى ونظريات (1822 - 1884) (1744 - 1829) وداروين
أراد نيتشه الفيلسوف الألماني في زمانه إصلاح الأخلاق بالإصلاح العضوي لتقوية(346/23)
الأجسام وتقوية العقل والإنتاج بالطرق المباشرة كالأكل والرياضة لا بالنظريات الأخلاقية والأدبية العقيمة. وأراد فيوبرباخ إصلاح الإنسان بالأكل وطرد الدين. وأرادت الشيوعية إصلاح المجتمع بتقويض الأنظمة القديمة، وأراد هتلر بعث الجرمان والسيادة على البشر بتقوية الدماء. وكل له في هذا العالم مذهب ورأي، ولكل غاية ومثال. ولكن لكل شخص أن يقرأ ويرى كما يرى في دور الصور المتحركة دون أن يسخر من كل رأي أو يضحك من كل فكرة.
جواد علي
خريج جامعة هامبرج بألمانيا(346/24)
هذه هي. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
أحب أبا مروان من أجل تمره=وأعلم أن الجار بالجار أرفق
وأقسم لولا تمره ما حبيتهُ ... وكان عياض منه أدنى ومشرق
(غيلان النهشلي)
أطرق الرجل ساعة، وأنا بازائه أتفرس فيه، وهو زري الهيئة مضطرب الهندام: قد تخدد لحمه، وذوى عوده، وأدبر شبابه. . . وإن في عينيه عبرات مكفوفة يدفعها اليأس ويحبسها الحياء، وعلى شفتيه آهة عميقة لا تجد لها متنفساً. . . وتبدت لي خواطره تصطرع في رأسه، وهو يشرب القهوة في نهم، وينفث دخان سيجارته في لذة. . . فأردت أن أجذبه إلي، فقلت: (ما بالك تكتم عني ذات نفسك، وقد خلا بنا المكان؟) قال: (إن في النفس حديثاً طويلاً، ولكني ألفيتك رجلاً غير من صورتُ في خيالي!). . . ورقت رنات صوته، حتى خيل إلي أن آلام قلبه تعتلج في صدره، فتتحدث هي حديثاً كله أنات، ثم قال: (. . . وأنا لا أستطيع أن أؤمن بأنك أنت صاحب (ذريني)، ومن بعدها (شيطانه تتفلسف)، وكيف يتأتى لك أن تكتب ما قرأت وما في دارك إلا الأمر والطاعة، وإلا الهدوء والطمأنينة، وإلا السعادة و. . .)
قلت: (يا سيدي، أن المرأة لا تجلب السعادة، ولكنها أبداً تنضج الشقاء!)
قال: (كأنك تعني أن نصف العالم خلق شقاء للنصف الأخر)
قلت: (ولم لا؟)
قال: (وبماذا رمتك المرأة فتتهدم عليها بمثل كلامك هذا؟)
قلت: (يا عجباً! أفلا ترى أن المرأة كالماء الآسن حين تنعكس عليه أشعة الشمس الذهبية، فيبدو جميلاً صافياً خلاباً، فإذا اغتمرت فيه اغتمرت في النتن والوحل معاً؟)
قال: (وهذا معنى آخر مما يضطرب في نفسك، فهل لك أن تسمع قصة عذابي علك تجد فيها مادة!)
قلت: (هات!)(346/25)
قال: (أما انا، فقد نالني من المرأة عنت كبير. . . كنا - أنا وهي - زوجين في رغد من العيش، ودعة من الزمان ورخاء في البال؛ وأنا موظف في الحكومة يغل عليّ عملي ما يكفي عدداً، وفي القناعة والرضا، وهي لا تبسط يدها كل البسط؛ وتصرمت الأيام، وأنا أجد فيها سلوه عن الابن، وقد ضنت به الأيام، وعزاء عن الام، وقد سلبتها مني يد القدر. . .)
ثم غدر بي الدهر غدرة واحدة، فقذف بي بين براثن المرض لا أبرأ ولا أستقل. . . وانطوت الأشهر وأنا بين الطبيب والدواء والحكومة في مرض آخر: فالطبيب شره لا يطفئ السيل غلته، والدواء لا يشفي ولا ينقطع، والحكومة من ورائهما تضع من راتبي قليلاً قليلاً. وأحسست بالهاوية التي أنحدر إليها رويداً رويداً. . . فأشفقت على زوجتي أن تجد لذع الفقر وقد أشفيت عليه، أو أن ينسرب إلى قلبها الملل وقد طالت علتي، وفي رأيي أن أسرحها لتنطلق إلى متعة قلبها ولذة نفسها، وهي شابة فيها عقل المرأة ونزعات الأنوثة. . .
ونشرت على عيني أمها حديث نفسي، فراحت العجوز إلى ابنتها توسوس. . . وجاءت الزوجة - وفي عينيها عبرات تترقرق - تزور حديثاً: (كيف أتخلى عنك الآن؟ أفأعيش إلى جانبك سنوات لا أستشعر منك إلا الشهامة والكرم، وإلا الرجولة والتضحية؛ ثم أفزع عنك وأنت بين المرض والعوز، لأكون معولاً آخر يهدم بقية فيك نترجاها؟)
واطمأنت نفسي إلى حديثها، فاستقرت
لقد كانت فكرة ابرة، غير أنها بعثرت حياتها، فانبعثت هي تكشف لي عن أدران نفسها
ألحت علي الحاجة فتحولت عن داري إلى حجرات ضيقة وضيعة، ومكرت هي بي فحملت أثاثها إلى دار أبيها إلا حاجات عبث بها البلى، وجاءت أمها تريد أن تعينني على علتي بكلام يتوثب من أضعافه الصلف والزهو، فأبت كبريائي أن تذل لها، على حين تعصرني الفاقة ويثقلني الدين، وليس لي من أفزع إليه سوى أخي، وهو بين أولاده وزوجته ورقة حاله في هموم. . .
وأحسست من الزوجة الشابة الإغضاء والإهمال، فهي تنفلت من لدني - بين الحين والحين - في تطريتها وزينتها، تزعم أنها تزور أهلها وصاحباتها، وهي تنطوي عني ساعات من(346/26)
النهار؛ وأنا بين الشك واليقين لا أستطيع أن أمسكها فتجد مس الضيق والملل، ولا أن أرسلها فأذوق مرارة الوحدة وعذاب المرض معاً
وضاق بي صدر الحكومة فلفظتني، وللحكومة قانون يحكم على المرض بالإعدام. وظلت زوجتي تداجيني وتفتن في مرضاتي حتى أرسلت الحكومة إلي مكافأة مالية لا ترد عادية ولا تدفع فقراً، غير أن قطرة منها تروي حِزَّني. . . أرسلتها الحكومة فأخذتها الزوجة وطارت. . . طارت أحوج ما أكون إليها، لتذرني وحيداً على فراش المرض والضيق، لا أجد إلى جانبي سوى خادم صغيرة لا تستطيع شيئاً).
وسكت سكتة طويلة حين اضطربت الكلمات على شفتيه، وتدفقت العبرات من محجريه لا يستطيع كبتها. فقلت: (لا بأس عليك، يا صاحبي؟) قال: (هذا ضعفي، ولعمري لقد كنت أضن به أن يبدو أمام الناس، وهانذا أريقه على عينيك!) قلت: (لا ضير، لقد طارت فلا تدعها تنفث فيك من هموم الحياة، لقد طارت فماذا كان. . .؟)
قال: (وجاء أخي يرفه عني بكلمات. . . على حين قد حضرني بثي
ثم تماثلت للشفاء وأنا أرزح تحت عبء الدين وشدة الصدمة، وتحدثت إلي رجولتي ساعة من زمان، فإذا زوجتي غريبة عني
وترامى إليها الخير، فهبت تحدثني بلغة المحاكم الشرعية، وللمحاكم الشرعية لغة هي عقل المرأة انتقام وتنكيل، وفي عقل القاضي ثأر واقتصاص، وفي رأى الزوج مثله وعبرة، وفي عيني العزب زجر وعظة. ثم هي - دائماُ - تقول للزوج (أيها الأحمق، لم تزوجت؟) وللعزب (أيها العاقل، إياك إياك!)
وعشت سنة لا أبرح السجن إلا ريثما أعود إلى غيابته، وما في يدي ما أستطيع أن أدفع به تهم الزوجة ولا غفلة القاضي)
ثم اطرق وقد نفث حديثه في روح الأسى والحزن، وإن في نفسي غيظاً يحتدم. . . ثم قلت: (وهي؟) قال: (أما هي فقضت أيام محنتي بين ذراعي حبها الجديد، ثم مكرت به - بعد أن عصفت بي - فإذا هو زوجها) قلت: (يا الله! ويل للرجل من المرأة)
فقال في هدوء: (من النساء غل قمل يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو)
قلت: (صدق رسول الله، فعلام إذن تذهب نفسك حسرات، وأنت ما تفتأ في شبابك؟)(346/27)
قال: (لا بأس، فلقد قرّ رأيي على أن أطوي الماضي لأكون رجلاً غيري)
قلت: (نعم ولتكون رجلاً. . . رجلاً فيك الرجولة)
كامل محمود حبيب(346/28)
أفانين
أثر الإيحاء في جلب التفاؤل
للأستاذ علي الجندي
- 1 -
للإيحاء سلطان كبير على النفوس، يدفعها إلى القيام بأعمال جليلة ما كانت لتقوم بها لو عداها أثره الحافز القوي
ولا نبالغ إذا قلنا: أن جل الناس يضربون في زحمة الحياة ومعتركها الهائل تحت تأثيرها ذلك الإلهام الباطني وان لم يشعروا به أحياناً لأنه أخفى دبيباً من السحر
وفضل هذا الإيحاء عظيم في انه يشد عزائمنا ويستجيش قوانا، ويملؤنا رجاء وأملاً، ويهون علينا اجتياز الصعاب والعقبات
فالتاجر لا تتفتح نفسه للتجارة ويقبل عليها بشغف ولذة، إلا إذا ألهم نفسه أن من وراء ذلك المكسب الطائل والربح الوفير
والجندي في ساحة الوغى إذا فقد الروح المعنوية - وهي فن من الإيحاء - فقد أمضى أسلحة القتال، ولم يجد عليه أن يكون شجاع القلب حسن الدرية قوي العدة. وقد عبر عن هذا المعنى بأجلى عبارة فارس الإسلام (علي أبن أبي طالب) حين سئل: بم كنت تنال النصر؟ فأجاب: كنت أبرز للخصم وأنا أعتقد أني أغلبه، وهو يعتقد أني أغلبه، فكنت أنا ونفسه عليه
والإيحاء بمعناه العلمي يؤمن به أطباء هذا العصر كل الإيمان ويستخدمونه علاجاً ناجعاً في شفاء الأمراض العصبية والعقد النفسية والعادات الشاذة. وقد حدثني بعض من درسوا الحياة الإنجليزية أن الأمم هناك تعود طفلها قبل النوم أن يقول لنفسه: (إني سعيد) عشر مرات والغرض من هذا أن يتدسس هذا الاعتقاد إلى عقله الباطن فيخالط نفسه بمر السنين ويمتزج بمشاعره، فيستقبل الحياة مرحاً متفائلاً ريان الأمل بساماً على السراء والضراء.
وأقول بهذه المناسبة: إني شفيت بفضله بعض الشفاء من الخجل المفرط والحياء الغالي، وهو مرض موروث كثيراً ما قعد بي عن غثيان الأندية والمحافل، ومنعني من أداء(346/29)
الواجبات وزيارة الأصدقاء.
كما أشهد أنني انتفعت به في قرض الشعر؛ ذلك أنني كنت مكثراً منه في مفتتح حياتي الأدبية، ثم صرفتني عنه الكتابة صرفاً تاماً حتى عسر الرجوع إليه، فما زلت أوحي بأن من الجناية تعطيل هذه الموهبة، وان الشعر أروع ألوان الأدب وأجلها خطراً ولا يسد مكانه غيره، حتى عدت إليه تدريجاً. . . والعود أحمد أن شاء الله. وليس التشاؤم إلا ضرباً من الأوهام تتحكم في ضعفاء الإرادة رقاق الإيمان، فيمكن التخلص منها بالإيحاء.
وهذا الدواء - أعنى الإيحاء - عرفه الناس قديماً لأنه دواء فطري، إذ لا يخرج في حقيقته عن المغالطة التي لجأ إليها الإنسان أحياناً ليدخل الروح على نفسه ويستل منها القلق والاضطراب.
ولنعرض الآن صورتين متشابهتين يغلب في الأولى التشاؤم فيلونها بلون قاتم كريه تقرأ فيه اللوعة والحيرة والتبلبل! ويتجلى في الثانية التفاؤل فيشيع فيها النضارة والبهجة والإيناس!
في الصورة الأولى نرى (ذا الرمة) الشاعر، مر في طريقه بغراب ينعب فوق بانة، فمثل له خياله المظلم أن الغراب نذير الاغتراب! وأن البانة عنوان البين! وقد نمهد له العذر في الغراب، ولكن كيف يسوغ التشاؤم بالبان؟ وبه تشبه قدود الحسان!
قال ذو الرمة:
رأيت غراباً ناعباً فوق بانةٍ ... من الغضب لم ينبت لها ورق نضر
فقلت غرابٌ غراب، وبانة ... لبين النوى، تلك العيافة والزجر
ومثله جحدر اللص في قوله:
ومما هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تَجاوبانِ
تجاوبتا بلحن أعجميّ ... على غصنين من غرَبٍ وبان
فكان ألبان أن بانتّ سليمى ... وفي الغرَب اغتراب غير داني
وفي الصورة الثانية نرى الأمر على نقيض ذلك مع أن بواعث التشاؤم أشد واكثر، نرى (إباحية النمري) أنشأ سفراً، فسنحت له عقاب، وطالعته حمائم تنوح على شجرة طلح، وهدهد ساقط على غصن بان، تحته بقعة من دم مسفوح!(346/30)
وكانت هذه المرائي الغريبة التي يسودها التنافر خليقة بأن يتطير منها، ولكنه طرد عن نفسه طوارق السوء، وأوحى لها أن كل أولئك من إمارات الخير والبركة، فما عتم أن انقلب الشؤم في عينيه يمناً، واستحال الليل نهاراً! قال:
بدا يوم رحنا عامدين لأرضها ... سنيحٌ، فقال القوم مرّ سنيحُ
فهاب رجال منهمو وتقاعسوا ... فقلت لهم جاري إليّ ربيح
عُقاب بأعقاب من الدار بعد ما ... جرت نية تسلى المحب طروح
وقالوا حمامات فَحُمّ لقاؤها ... وطلح، فزيرت والمطيُّ طليح
وقال صاحبي هدهد فوق بانة ... هدى وبيان بالنجاح يلوح
وقالوا: دَمٌ، دامت مواثيقُ بيننا ... ودام لنا حُلوُ الصفاء صريح
ويمتد بنا القول إذا وقفنا عند كل شاهد وعمدنا لتحليله، فنكتفي لضيق المقام بإيراد الأمثلة وفيها غنية عن البيان.
دخل الحجاج الكوفة متوجهاً إلى عبد الملك فصعد المنبر، فأنكسر تحت قدمه لوح، ففطن إلى أن الكوفيين قد تطيروا له بذلك، فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله وقال: شاهت الوجوه وتبت الأيدي! وبؤتم بغضب الله! أئن أنكسر عود جذعٍ ضعيف تحت قدم أسد شديد تفاءلتم بالشؤم؟! ألا وإني على أعداء الله تعالى لأنكد من الغراب ألابقع، وأشأم من يوم نحس مستمر!
وخطب قتيبة بن مسلم على منبر خراسان، فسقط القضيب من يده، فتطير له عدوه بالشر، واغتم صديقه، فعرف قتيبة ذلك فقال: ليس الأمر على ما ظن العدو وخاف الصديق، ولكن كما قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ
وكان الوزير أبو نصر الكندري يتولى في أول أمره حجب الناس، وكان الباخرزي رفيقه في الدرس فقال مداعباً إياه:
إقبل من كندر مُسَيْخرةٌ ... للنحس في وجهه علاماتُ
يحضر دُورَ الأمير وهو فتىً ... موضع أمثاله الخَرَاباتُ
ثم ارتقت الحال بالكندري حتى صار وزيراً محكماً، فورد عليه الباخرزي وهو في صدر(346/31)
الوزارة ببغداد، فلما رآه قال له: أنت صاحب (أقبل من كندر مسيخرة. . .) قال: نعم. فقال الكندري: مرحباً وأهلاً! إني تفاءلت بقولك (أقبل. . .) ثم خلع عليه قبل أن ينشده مديحه فيه. ومن الأمثلة الشعرية قول نور الدين المايورقي من شعراء نفح الطيب:
وذهيفٍ راق العيون انثناؤه ... بقد كريّان من ألبان مُورق
كتبتُ إليه: هل تجود بزورة؟ ... فوقع (لا) خوفَ الرقيب المصّدق
فأيقنت من (لا) بالعناق تفاؤلاً ... كما اعتنقت (لا) ثم لم تتفرق
ويقول عبد الرحمن من شعراء اليتيمة:
إذا دهاك الوداع فاصبرْ ... ولا يهولنّك البعادُ
وانتظر العوْد عن قريب ... فإن قلب الوداع (عادوا)
ومن أروع الشعر في ذلك: ما كتب به أبو الفضل الميكالي إلى قوم من أهل (مَرو) انخلعوا من طاعته وحلوا لواءه وتألفوا فرقتين تعيثان في الأرض فساداً! قال:
يا راكباً أضحى يخبُّ بِعنسِه ... ليؤمّ مَرْ وعلى الطريق المهْيعِ
أبلغْ بها قوماً أثاروا فتنةً ... ظلَّت لها الأكبادُ رهن تَقطُّع
إذ قدَّموا ظلماً على سلطانهم ... بالغدر والخلع الذميم المفظِع
وبحلِّ عقد لوائِه وإباحةٍ ... لجنابه وحريمه المتمنع
أبلغهمُ أني اتخذتُ لفعلهم ... فألاً، له في القوم أسوأ موقع
أما اللواء وحلُّه فمخِّبرٌ ... عن حَلَّ عقدٍ بينهم مستجمع
والخلعُ يخبر أن ستُخلع عنهم الْ ... أرواح بالقتل الأشد الأشنع
والغدر يُنبئ أن تغادر في الورى ... أشلاؤهم لنسوره والأضُبع
والفِرْقتان فشاهدٌ معناهما ... بتفرُّقٍ لجميعهم وتصدُّع
ويلاحظ في هذه الأمثلة أنها من نوع الإيحاء الذاتي (إيحاء الإنسان إلى نفسه) وسنتبع هذا المقال بطائفة من غرر الإيحاء الخارجي، فيها قرة العيون وشفاء الصدور والله المستعان!
علي الجندي(346/32)
من الذروة
هذا القطيع. . .!
(إلى الذين ما مست مزاهرهم يد الله)
. . . ولمحتُ ركباً في الحضيضِ مُغنَّياً ... طَمرَ الخَنا تحْتَ النَّشيدِ وَدَسَّهُ
مِنْ كلَّ نَشْوانِ الرَّبابِ طَهارَةً ... وَحَشاهُ للأِكْوانِ يُترِعُ رِجْسَهُ
لَبِسَ الُمسُوحَ فَقيلَ: قِدِّيسُ الحِمى! ... والجِيفةُ الشَّنعاءُ تَلفِظُ قُدْسَهُ
وبَكى الغرامَ فَقيلَ: أرْخمُ عاشق ... غَنَّى! ونَتْنُ الفُحشِ يَزْحَمُ نفسَهُ
كَذِبٌ يُجلجِلُ في الصّدى، وخواطرٌ ... إفْكُ الرّحيقِ بها يُعاتِبُ كأسَهُ
فكأنها في الشَّدْوِ مَنطِقُ مُومِسٍ ... نَعْشُ الحياءِ بها يواثِبُ جَرْسهُ. . .!
فمضَيتُ أسألُ: أيُّ جَوْقٍ مُزْعِجٍ ... للِمُلْهَمِين شدَا ليُطرِبَ رَمْسَهُ؟
فَأُجِبْتُ: دَعْ هذا القَطيعَ، فَانهُ=بُومٌ يُؤبِّنُ في المفاوزِ حِسّهُ!!
محمود حسن إسماعيل(346/33)
من وراء المنظار
من الفأس إلى السلاح
خففت إلى القرية منذ بضعة ايام، وقد أغراني الصحو والدفء أن أنعم بهما هناك يوماً أو يومين في ملاعب صباي ومسارح هواي وجنة أحلامي؛ ورحت في رونق الضحى أثب كالفراشة من حقل إلى حقل ومن غدير إلى غدير، وفي قلبي فرحة الغلام، وفي خيالي أحلام الشاعر.
وجلست أستريح ساعة في مصلى على جانب الطريق، أستند إلى جذع شجرة التوت العتيقة التي جردتها يد الشتاء العاتية من أوراقها، والتي طالما استروحت نسيم الأصل الرخي في ظلها السابغ أثناء الصيف؛ وأخذت عيناي من بعد شخصاً قادماً في زي (الأفندية)، فلما صار بحيث أتبيه، رأيته في زي (الجند) وما لبث أن دنا مني فعرفته، ولما بلغ حيث أجلس نطق بالسلام متبسماً ورفع يده إلى رأسه محيياً بالتحية التي تعلمها في الميدان. . . وعجب إذ نهضت واقفاً له وإذ مددت إليه يدي مصافحاً، وأشرت إليه فجلس على استحياء على حافة المصلى.
هذا هو حسن الفتى القروي المرح، القسيم المحيا الذي تعرفه القرية كلها بمواويله الساحرة العذبة التي كان يمليها عليه في الأفراح ما هز قلبه حب عف شديد والتي ما لحق به في مضمارها أحد من منافسيه. . ولقد طالما رأيته بالأمس يخطر في ملابسه القروية في تلك البقاع، ولقد طالما سمعته من قريب أو من بعيد يبدأ أغانيه الحلوة بقوله: (آه. . . يا ما جرى لك قلبي)
واليوم أراه في حلته العسكرية ينتعل ذلك الحذاء الضخم ويضع على رأسه الطربوش ويمسك بيده عصا رفيعة من الخيزران، وقد زال عن وجهه سفع الشمس إلا قليلاً فبدا أكثر وضاءة وأجمل قسامة وأنضر عافية.
ولمحت في عينيه شيئاً من القلق ولكن لم يغب عني سببه، فأنا أعرف أن ذلك المصلى مكان انتظاره لمن يهوى قلبه وهي قافلة من الترعة أو ذاهبة إليها؛ وأشرت إلى ذلك مداعباً ممازحاً فضحك ضحكة جميلة مازج الطلاقة فيها الخجل. . . ولكن إشارتي إلى ما في نفسه زادت قلقه، فوجم برهة، وأدركت انه يهم بالانصراف فأخذت أهدئ بالحديث روعه.(346/34)
ولم يطل ذلك الحديث فقد رأيت الصفرة تغشي وجهه الخجل يتزايد في عينيه؛ فالتفت فإذا هي مقبلة تحمل جرتها، ورأيتها حينما دنت منا قد أخذتها ربكة المفاجأة فأضطرب هيكلها ثم أسرعت فأخفت وجهها بطرحتها. . . وبدا لي فناديتها حين مرت فأبطأت ولكنها لم ترد ولم تلتفت، فأكدت، فوقفت ثم تغاضبت فأقبلت في حياء شديد، فصحت بها لتقدم وإلا نهضت فجئت بها على رغمها، فجاءت ووضعت يدها في يد خطيبها ثم انتزعتها مسرعة دون أن تتكلم، وأشرت إليه فحط عنها الجرة وأرغمتها على الجلوس، فجلست إلى جانب المصلى تحجب طرحتها نصف وجهها المتورد الجميل.
وانعقد لسان الجندي فلم يدر ماذا يقول (فأنقذت الموقف) أنا بامتداحي حياة الجندية وبثنائي في عبارة يفهمانها على أولئك البواسل الذين يفتدون بلادهم بأرواحهم. . . ولمعت عينا الجندي الشاب، ثم تندت بدموع الفرح وأنسته الحماسة خجله؛ فقال وهو الذي كان يحمل الفأس بالأمس انه يفتدي بلاده بدمه إذا لزم الفداء. . . ونظرت إليه الفتاة نظرة لم أر فيها إلا معاني الإعجاب والارتياح؛ ونهضت قائلاً إني أتركهما برهة ليقولا ما بنفسيها.
وعدت إذ رأيته يضع على رأسها الجرة وواجهتني ذاهبة، فإذا هي مستبشرة راضية تكتم ضحكتها؛ ودنوت من ذلك الجندي أسأله لم لا يصف ذلك في موال من مواويله وهو ذلك الشاعر الذي ما عي لسانه في موقف. . . ولكنه لم ينطق بموال حينذاك، وإنما راح يتكلم عن حب الوطن وعن معاني الفداء والبطولة. ولشد ما أعجبني قوله (الواحد منا ما يستهلش خير بلاده إذا ما دفعش عنها بدمه، والراجل إيه فائدة عافيته وشبابه؟ يا ترى يقعد زي البنت؟) وأكد لي انه لا يأسف على فراق قريته في سبيل وطنه وله فيها من يهواها قلبه فحب بلاده فوق كل حب!
واستأذن الجندي الفلاح فوقفت أصافحه في حماسة وشيعته بنظرات الإكبار وهو يمشي مشية متزنة سريع، وعجبت كيف تغير الجندية عقلية هؤلاء الفلاحين بمثل هذه السرعة، وأثلج صدري أن أرى في ذلك الفتى المتحمس الدليل الحي على صحة ما يقوم أبداً في نفسي من أن هذا الذي يجيل الفأس في تربة وادينا الوديع الهادئ كفيل بأن يدير في يده السلاح بنفس المهارة إذا هو قلد السلاح. . . ومن أين جاءت جنود تحتمس ورمسيس وابراهيم؟ وكم بين هؤلاء السذج زرق الجلابيب من قادة أمجاد وعلماء أفذاذ وشعراء(346/35)
فطاحل وساسة أماثل ولكنهم تركوا في غمار الجهل والفاقة لا يعلمون إلا أن يجيلوا الفأس في ثرى الوادي في صمت وصبر جاهدين
(عين)(346/36)
لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذا موضوع كنت قيدته في مذكرتي منذ سنين تحت هذا العنوان (لمن لقب)، وكان هذا بعد أن قرأت في كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة وصف عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس بالسفاح، وتركه وصف أبي العباس به، وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ فالأول عم الثاني، وكان والياً على الشام، وهو الذي تولى فيه حرب بني مروان، وسفك فيه ما سفك من دمائهم، ثم أخذت في تحقيق ما رأيته من الاضطراب في ذلك الوصف، ودونت تحقيقاً في مذكرتي على هذا الترتيب:
1 - جاء في ص127 من كتاب المعارف لأبن قتيبة وصف أبي العباس بالسفاح.
2 - جاء في تاريخ بغداد ص46 جـ10 تلقيبه بالمرتضى والقائم.
3 - جاء في كتاب (خلاصة الذهب) المسبوك للأربلي ص40 تلقيب أبي العباس بالسفاح والمرتضى والقائم
4 - جاء في ص477 ج5 من كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي أن الخلف وقع في لقب السفاح، فقيل القائم، وقيل المهتدى، وقيل المرتضى.
5 - جاء في ص207 من تاريخ ابن العبري أن أبا العباس كان رجلاً طويلاً أبيض اللون حسن الوجه، يكره الدماء، ويحامي على أهل البيت.
6 - قرأت ما كتبه ابن جرير الطبري عن أبي العباس فلم أجد فيه وصف أبي العباس بالسفاح.
7 - جاء في كتاب (الفاطميون في مصر) للأستاذ حسن إبراهيم حسن أن الأستاذ دي غويه كان يرى أن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح.
وقد وقفت عند هذا في مذكرتي، وشغلت عن الكتابة في هذا الموضوع بما فيها من الموضوعات الكثيرة، إلى أن قرأت في مجلة (الثقافة) الغراء بعض ما كتبه فيه الأستاذان الجليلان عبد الحميد العبادي وأحمد أمين، فكنت والله كأني فقدت بعض أولادي لأن أفكاري تبلغ عندي منزلة الأولاد، وقد تكون أعز منها عندي، وفي سبيلها يهون علي ما ألاقيه من عنت واضطهاد في هذه الحياة.(346/37)
ثم عزيت نفسي عن ذلك بما أغناها الله به من مثل هذه الآراء والأفكار، وانتظرت ما ينتهي إليه أمر الأستاذين الجليلين في ذلك الموضوع، فلعلهما يتركان لمثلي الكلام بعدهما، ويكون لي ما أعقب به عليهما. فلما فرغا منه وجدت الموضوع لا يزال في حاجة إلى التحقيق، ورأيت أنهما لم يصلا إلى تلك النصوص السابقة، ولو أنهما وصلا إليها لتغير نظرهما في ذلك الموضوع
لقد ذكر الأستاذ العبادي في أول ما كتبه عن السفاح انه كان شاباً متصوفاً، عفيفاً، حسن المعاشرة، كريماً، معطاء، ذا شعرة جعده، طويلاً، أبيض، اقني الأنف، حسن الوجه واللحية، ورتب على هذا رأيه في معنى لقب السفاح الذي عرف به انه بمعنى الكثير العطاء، وليس بمعنى السفاك للدم، لأن مثل تلك الصفات التي كان السفاح يتحلى بها إنما تلتئم مع المعنى الأول للسفاح وهو المعطاء، ولا تلتئم مع المعنى الثاني، لأنه معنى ذم لا يلتئم مع تلك الصفات الكريمة.
والأستاذ العبادي مسبوق بهذه النظرة إلى معنى السفاح الذي لقب به أبو العباس، فقد ذكر الأستاذ حسن إبراهيم حسن في بعض تعليقاته على كتابه (الفاطميون في مصر) أن الأستاذ نيكلسن قال في بعض كتبه: يقول الأستاذ بيفان الذي أدين له بهذه الملاحظات أن ترجمة لفظ السفاح ولو أن استعمالها قد شاع بين الكتاب الأوربيين لا تزال مثار الكثير من الشك، وقد ذهب الأستاذ دي غويه إلى القول بأن السفاح معناه الرجل الكثير العطايا أو المناح، وانه مما يهمنا ملاحظته أن هذا الاسم قد أطلق على بعض شيوخ القبائل في الجاهلية، ويقال إن سلمة بن خالد الذي قاد بني تغلب في موقعة بني كلاب الأولى (ابن الأثير - طبعة ترنبرج ج1 ص246) سمي السفاح لأنه أفرغ مزاد جيشه قبيل الموقعة، ثم قال: والذي أميل إليه انه إنما سمى بهذا الاسم لقوله في أول خطبة له (فأنا السفاح المبيح والثائر المنيح)
وفي هذا النقل بعض من الاستقصاء العلمي الذي عرف به المستعربون الأوربيون، ولكن فيه مع هذا تخليطاً كثيراً نحب أن ننبه هنا إليه، ثم نعود إلى موضوعنا، فقد سميت الموقعة في ذلك النقل موقعة بني كلاب، وهو خطأ في التسمية، وإنما هو يوم الكلاب الأول من أيام بكر وتغلب، وقد جاء في القاموس (وكلاب كغراب موضع وماء له يوم) وكان هذا اليوم(346/38)
بين شرحبيل وسلمة أبني الحارث بن عمرو ملك بكر بن وائل، فإنهما اختلفا بعد موت أبيهما على الملك، وتواعدا الكلاب، فأقبل شرحبيل في ضبة والرباب كلها وبكر بن وائل، وأقبل سلمة في تغلب والنمر وبهراء ومن تبعه من بني مالك بن حنظلة، وعليهم سفيان بن مجاشع، وعلي تغلب السفاح بن خالد، وإنما قيل له السفاح لأنه سفح أوعية قومه وقال لهم: ابتدروا إلى ماء الكلاب فسبقوا ونزلوا عليه، وقد قتل في ذلك اليوم شرحبيل بن الحارث وجيء برأسه إلى أخيه سلمة، فلما رآه دمعت عيناه، قال:
ألا أبلغ أبا حَنَشٍ رسولاً ... فمالك لا تجيء إلى الثوابِ
تَعَلمْ أن خير الناس طُراَّ ... قتيلٌ بين أحجار الكُلابِ
تداعت حولهُ جُشَمُ بن بكر ... وأسلمه جَعَاسيسُ الرِّبابِ
وكان أبو حنش هو الذي قتله، ثم بعث برأسه إلى سلمة مع عسيف له، ولم يحضر مخافة منه، فقال سلمة لعسيفه: أنت قتلته؟ قال: لا، ولكنه قتله أبو حنش، فقال: إنما أدفع الثواب إلى قاتله، وكان قد جعل لمن يأتيه برأس أخيه مائة من الإبل.
وقد رد الأستاذ أحمد أمين على استبعاد أن يكون أبو العباس سفاحاً بمعنى سفاح ما كان له من تلك الصفات الكريمة، بأن هذا لا شيء فيه، لأن كثيراً من أبطال الجاهلية كان سفاكاً للدماء، ومع هذا كان يتحلى بمثل تلك الصفات التي كان يتحلى بها أبو العباس، كعنترة العبسي وغيره. ورد عليه الأستاذ محمود محمد شاكر بأن الرقة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا يدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرفن بين الناس بالرقة، وهن أغلظ أكباداً من الإبل. ومع هذا يرى الأستاذ محمود أن السفاح لقب أبي العباس من سفح المال لا من سفح الدم، لأن أبا العباس كان يسمى عبد الله الأصغر، وكان أخوه أبو جعفر يسمى عبد الله الأكبر، وأبو جعفر قد لقبه أبوه فيما يعلم الأستاذ محمود بالمنصور، فلا غرو أن يكون أبو العباس قد لقبه أبوه كما لقب أخاه، ولا يعقل أن يلقب أحد ولده بمذمة سفح الدماء وهو ينصبه للناس خليفة، وقد روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج منا رجل في انقطاع من الزمن وظهور من الفتن يقال له السفاح، يكون عطاؤه للمال حثياً) وأئمة الحديث لا يصرفون هذا الاسم إلى أبي العباس، ولكن بني العباس استخدموا مثل هذا في دعوتهم. فالسفاح إذن ليس من سفح الدم، وهو(346/39)
بهذا المعنى مجاز مقصود لغرض بعينه
وإني لا أوافق على أن العباسيين كانوا ينظرون إلى لقب السفاح بمعنى السفاك للدم مثل نظر الأستاذ العبادي والأستاذ محمود شاكر، لأنهم كانوا يريدون منه السفاك لدماء أعدائهم، وهذا عندهم لقب مدح لا ذم، وقد تمدح به أبو العباس في أول خطبة له فقال: (فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح) وفي رواية الطبري (والثائر المبير). ولا شك انه إذا أمكننا أن نحمل السفاح المبيح على معنى سفح المال وإباحته، فإنه لا يمكننا أن نحمل الثائر المنيح أو المبير إلا على معنى إهلاك الأعداء وسفح دمائهم وإناحة أهلهم عليهم. ولا مانع بعد هذا عندي في أن يكون في السفاح معنى سفح الدم وسفح المال، ورأيي في الحديث الذي جاء فيه ذكر السفاح انه من الأحاديث الضعيفة، والظاهر أنه لم يظهر إلا بعد انقضاء عهد السفاح، وأنه كان يقصد به التقرب إلى العباسيين، كالحديث الذي روى عن ابن عباس أنه قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لأدال الله من بني أمية، ليكونن منا السفاح والمنصور والمهدي.
وأما ما ذكره الأستاذ محمود من أن السفاح بمعنى سفح الدم مجاز فينا فيه ما ذكره الزمخشري في أساس البلاغة، وهو الكتاب الذي يرجع إليه في تمييز المعاني الحقيقية والمجازية، فقد ذكر السفاح بمعنى السفاك للدماء في الاستعمال الحقيقي لمادة س ف ح، ولم يذكر فيه ولا في الاستعمال المجازي معنى سفح المال، وهذا يدل على أن استعماله في الأول أقرب من استعماله الثاني، ولنقف الآن عند هذا الحد، لنتم بحث ذلك الموضوع بعد
عبد المتعال الصعيدي(346/40)
الأدب في الأسبوع
الهجرة
يا نبي الله!!
إن الإسلام قد قعدَ به أهلهُ، والزمنُ بالناس يعدو، والحياةُ في العالم فكرٌ يتحقق، وهي عندنا حلمٌ يتبدد، هذه أُمتك تملأُ الارض، ولكن قد فرغت قلوبها من الإيمان والإيمان في دينك قولٌ وعملٌ، كانت به المعجزةُ الإسلامية ولكنه عندنا قولٌ وجدلُ، تكون به الفرقة الجاهلية. . .
فاللهمَّ هِجْرةً كهجرِةَ نبيِّكَ بالعزِم والإيمان
اللهمِّ جهاداً كجهادِهِ يُجدِّد القلوبَ والأوطان
الشباب والأدب
الطفل حياةٌ صغيرة غضه لينة تقبل التشكل وتطاوع على ضغط البيئة التي تكتنفها وتطيف بها وتميل عليها؛ وبيئة الطفل هي أخلاق أبويه، ومعاملتهما وحديثهما وما يحيط بهما من الأقارب والأصحاب والخدم وكل من يعود البيت من زواره. وقد حمل الإنسان طبيعة التشكل من أول عمره ليكون بعد إنساناً اجتماعياً مقتدراً على التصرف في نظام الجماعة بما لا يخرجه من جوها ويقذفه وراء حدودها التي ضربتها عليها الأحوال الاجتماعية التي يتميز بها الجيل من الناس الذين يعاشرهم. وتتصل بهذه الطبيعة من قريب طبيعة أُخرى هي التقليد، ليسوغ له أن يثقف الحياة ويتلقف أسبابها وطرائقها وأساليبها في مدى قصير، فلا ينقطع دون إدراك الطلائع الإنسانية السابقة التي بدرت أمامه في الحياة ومارستها وعملت لها وجددت فيها بعض ما يمكن تجديده في نظام الجماعات. ولا يزال الإنسان - من أول عمره - خاضعاً خضوعاً تاماً لهاتين الطبيعتين ولقانونهما المستبد، حتى يأتي عليه زمان يستطيع أن يتحرر في بعض نواحيه بالخضوع لقانون آخر هو قانون الاستقلال الفكري والعملي الذي تقوم عليه رجولة الإنسان وقوته، ولكنه مع ذلك يبقى أبداً متلبساً بأسباب القوانين الأولى التي تخضعه في بعض النواحي للتشكل والتقليد في زحمة الجماعات وضغطها وتأثيرها. فهو إذن لا يبلغ مرتبة الاستقلال إلا بعد أن يكون قد قبل من الأشكال - بالضعف والتقليد - ما لا يستطيع أن ينفك منه أو أن يتفصى من قيوده التي(346/41)
تحبسه على ضروراتها. . .
فمن هنا يبين مقدار الخطر الذي تنذر به هذه الفترة الأولى من حياة الإنسان؛ ونحن لا نستطيع أن نحدد عمر هذه الفترة، ولكنها تستمر على الأقل إلى نهاية روق الشباب ما بين العشرين والثلاثين، بل ربما جاوزت إلى نهاية العمر إذا ما انتكست الحياة في الحي وصار إلى حيوانية آكلة شاربة غير مفكرة!
فالشاب حين يخرج إلى الحياة العقلية والفكرية تستهويه أسماء المفكرين من الكتاب والشعراء والفلاسفة فتستهيمه وتذهب بهواه وعقله إلى الأخذ عنهم والاقتداء بهم والسير على مناهجهم، ولا يزال كذلك في تحصيل وجمع وتأثر واتباع حتى يتكون له قوام عقلي يجرئه على الاستقلال بفكره ورأيه ومذهبه. فالقدوة والأسوة هي مادة الشباب التي يتم بها تكوينه العقلي على امتداد الزمن وكثرة التحصيل وطول الدربة، فإذا كان ذلك كذلك فالكتاب والشعراء والفلاسفة وأصحاب الرأي وكل من يعرض نتاجه العقلي للشباب، ويكون عرضة الاقتداء والتأسي والتأثر - يحملون تبعة تكوين العقول الشابة التي ترث علومهم وأفكارهم ثم تستقل بها وبإنتاجها الخاص، وكذلك يكون هذا الإنتاج الخاص ضارباً بعرق ونسب إلى الأصل الأول الذي استمد منه واتبعه وتلقى عنه.
هذا. . .، فتبعة الكتاب والأدباء أمانة قد تقلدوها وحملوها، ثم ارتزقوا منها أيضاً وأكلوا بها وعاشوا في الدنيا الحاضرة بأسبابها، فهم على اثنتين: على أمانة قد فرض عليهم أن يؤدوها إلى من يخلفهم من الشباب الذي يتبعهم ويتأثر آدابهم، وعلى شكر للمعونة التي يقدمها لهم الجيل الشاب الذي يبذل من ماله ليشتري منهم ما يكتبون وما يؤلفون وما يقدمون للتاريخ من آثارهم ليكسبوا به خلود الاسم وبقاء الذكر.
وشبابنا اليوم قد تهدمت عليه الآراء، وتقسمته المدنية الأوربية الطاغية، وهو لا يجد عصاماً يعصمه من التدهور في كل هوة تنخسف بين يديه وهو مقبل عليها بشبابه ونشاطه واندفاعه وعنفوان قوته في الشوط الذي يجريه من أشواط حياته. والمدارس في بلادنا لا تكاد تعطيه من الرأي أو من الفن أو من الأدب ما يبل أدنى ظمأه إلى شيء من هذه الأشياء؛ وإذن فليس يجد أمامه إلا المجلات والصحف والكتب التي يقدمها له أصحاب الشهرة من كتابه الذين ترفع أسماؤهم في كل خاطرة وعند كل نظرة. وهو لا يني(346/42)
يستوعب منهم أساليبهم وأفكارهم وآراءهم وما يدعونه إليه من موائدهم.
فهل ينصف هؤلاء الكتاب هذا الشباب؟ أتراهم قد عرفوا قدر أنفسهم عند الشباب فعبئوا له قواهم احتفالاً بشأنه وحرصاً على مصيره الذي هو مصير الأمة ومصير مدنيتها؟ أنا لا أرى ذلك إلا في القليل ممن عرفهم الشباب وجعلهم نصب عينه، واتخذ أساليبهم فتنة يهوى إليها
ناقد يتكلم
وأنا أدع أحد الكتاب من إخواننا الشآميين يتحدث بعض ما نحن بسبيله، وهو الأخ (قسطنطين زريق) في كتابه (الوعي القومي) فقد قال في ص (162 - 163):
(لسنا نعيش اليوم في عصر ترف عقلي ورفاهية فكرية. في عصور الترف والرفاهية قد يسمح للكاتب أن يقول: (لي الحق أن أكتب ما أريد وأعبر عما في نفسي كما أشاء). . . إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي. وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة وأمورهم التافهة، فكذلك يجب إلا يسمح لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن بددوا قواهم على المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية.
فعلى كل منا عندما يهم بكتابة مقال أن يتساءل بصراحة: (إلى ماذا أرمي؟ أتراني أضيف بمقالي فوضى إلى هذه الفوضى الفكرية التي يتخبط فيها عالمي، وأقذف بعنصر جديد إلى العناصر التي تتطاحن في محيطي، فأزيد في بلبلة أمتي واضطرابها الفكري، أم أنا أعمل لتوجيه قوى هذه الأمة العقلية نحو فكرة صائبة أو عقيدة واضحة؟)
فإذا لم تكن غايته من هذا النوع الأخير، فخير له وللأمة أن تظل كلماته مدفونة في نفسه، وان يبحث له عن طريقة أُخرى يخدم بها أمته ولغته). اهـ
إن هذه الكلمات القلائل التي ختم بها الأستاذ زريق بحثه عن الأدب الذي يقود الأمة وشبابها إلى إنقاذ المدنية العربية والإسلامية والشرقية من ردغه الخبال التي تورط أهلها في أوحالها ومستنقعاتها - حقيقة بأن تكون من (محفوظات). كبار الأدباء الذين يرمون عن أقلامهم أراء وعقائد وأساليب لا يمكن أن تكون مما يحتملها مخلص لأمته، ينظر إلى المستقبل الذي هو ثمرة الماضي والحاضر، ونتاج اللقاح الفكري الذي تتقبله عقول الشباب(346/43)
حين تبدأ تتفتح عن أكمامها لتعمل عملها في إنتاج الثمر إما غضا شهياً وإما فجاً متعفناً موبوءاً.
هل يمكن؟
فهل يمكن أن يكون أدباؤنا ممن يتقبل النصح الخالص الذي لا تحمل عليه ضغينة أو رياء أو حيلة؟ وهل يمكن أن يعرف أحدهم أن ليس في الدنيا أحد هو أعلى من أن يتعلم، ولا أحد أقل من أن يعلم؟ وهل يمكن أن تفرغ النفوس التي نفختها الكبرياء من الروح النافشة التي لا طائل تحتها؟
لقد جعلت مقامي في هذا الباب مقام المذكر الذي يجب أن يؤدي واجبه لمن يقرأ كلامه، فأنا لا أستطيع إلا أن أتكلم بكلامي وإن أغضب من لا يرضى إلا بما يرضيه من الملق والدهان والمماسحة، وقد انقضت أسابيع طوال من أسابيع الأدب، وأنا أزداد كل يوم شكاً في مقدرة أدبائنا على الإنتاج الأدبي الرفيع الذي يمكن أن يخلد في تاريخ الأدب؛ وقد تتبعت أقوال هؤلاء وأساليبهم فلم أجد إلا كل ما يحفزني على المصارحة والنصح وإبداء الرأي مكشوفاً غير مكفن.
وأنا لو كنت أحمل نفسي على تتبع هؤلاء واحداً بعد واحد أنقد أقوالهم على التفصيل دون الجملة، ثم أقيد ما أريد بالكتابة في هذا الباب من (الرسالة) لما كفاني القدر الذي أكتبه، ولما استطعت أن أستوعب الرأي في كل ذلك على أسبوع أسبوع، فلذلك تجنبت جهدي أن أعرض لأشياء كانت تقتضيني أسابيع في تقصيها وتفصيل أجزائها، وبيان مكان الفساد منها، والدلالة على قلة عناية هؤلاء بقرائهم، وصغر احتفالهم بالأدب الذي اتخذوه لهم صناعة عرفوا بها عند الناس، حتى صاروا للشباب أئمة بهم يقتدون. نعم، وكأنهم لا يعرفون أن ما يخرجونه للناس أن هو إلا غذاء جيل من الشبان يأخذ عنهم ويحتذي عليهم، فإن يكن في الذي يأتون به فساد فهو إلى إفساد الشباب الجديد أسرع، وفي طبائعه اللينة أعمل وأوغل؛ فأيما خطأ صغير منهم فهو عدة أخطاء كبار في الذين يلونهم من الشباب المقلد المسكين.
إن أمثال الدكتور طه حسين والأستاذ أحمد أمين والدكتور زكي مبارك والأستاذ الزيات وفلان وفلان من كبار الأدباء هم من هذه الأمة الشابة من الناس بمنزلة السراج الذي(346/44)
يضيء للشباب معاني الحياة المظلمة بالجهل، فإذا انقلب السراج فإنما هو الحريق وانتشاره ومعمعته ومضغه قوة الشباب بفكين من نار حطمة
الرحلتان
ويذكرني هذا ما يقطع عليّ نهاية الرأي. فقد قرأت أخيراً مقالتين، إحداهما للدكتور طه، والأخرى للأستاذ أحمد امين، وهما بهذا العنوان (رحلة). وقد تعود الأستاذان أن يتقارضا المقالات منذ أسابيع طويلة، وأكثرا في ذلك إكثاراً لا يمكن أن يغضي عنه؛ وكنت أحب إلا أعرض له لعله ينتهي إلى نهايته، فإذا هو شيء لا ينقطع. فمن يوم أن كتب الأستاذ أحمد أمين ما كتب وسماه (مدرسة الزوجات) وقارضه الدكتور طه (بمدرسة الأزواج) ثم (مدرسة المروءة) ثم (مدرسة. . .) إلى آخر هذه الأشياء، وافتتنا بهذه الطاحون التي تدور على دقيق مطحون قد فرغ منه - من ذلك اليوم وأنا لا أرى فيما يكتبان إلا استسلاماً للقلم وبدواته وبوادره، واجتلبا في ذلك من الرأي ما لا يستقر ولا يتماسك.
وفي هاتين الرحلتين رأيت العجب!! فالدكتور طه مثلاً قد أطال في تحقير مصر والزراية عليها وعلى أرضها بما احتمله عليه الغضب الذي رغب في إنشاء مدرسة له يسميها (مدرسة الغضب) رحل الدكتور طه بالسيارة في الطريق الزراعية فغاظه التراب الذي يثور من حوله فيطلق لسانه بهذه الأسئلة (لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟)
فليخبرنا الدكتور طه عن السبيل الذي نتقي به الزراية على أرض مصر! ماذا تصنع الدولة في طريق عن جانبيه تلك الأرض الخصبة الواسعة التي تسقي لتطعم أهل مصر من خيراتها؟ كيف تتقي الدولة مرور الناس والدواب وأرجلهم تحمل أوحال الأرض الخصبة فتمر بها على الطريق الزراعي الممهد، فتأتي الشمس المصرية الملتهبة فتجفف الوحل فيثور تراباً؟ أن هذا كلام يقال في البلاد الباردة التي لا تفعل الشمس فيها ما تفعل في أرض مصر الغبراء، هناك في (قرية من قرى السفوا أو الدوفنييه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألف الدكتور طه الاعتصام بها إذا أقبل الصف، والتي فارقها في الصيف وقلبه يتقطع حسرات) أو كما قال. . .! أن مثل هذا يجب أن يلغي من آراء أدبائنا، أن لم يكن من أجل أنفسهم فمن أجل من يتولاهم من الشباب. وليس أكثر آراء(346/45)
الأستاذ أحمد أمين في هذا المقال بأقل ابتعاداً عن الحق من الذي عرضنا له
جناية!!
والأستاذ أحمد أمين هو الذي حمل على الأدب العربي، وحقر الشعر الجاهلي، ودفع بحجته في وجوب نبذ هذا الأدب وذلك الشعر الجاهلي لأنه كان جناية على أدبنا. وأنا كنت هممت أن أؤدي واجبي للأدب العربي وبإظهار فساد هذه الآراء التي لم تنضج ثمراتها، ثم رجعت عن ذلك، رغبة أن يترك مثل هذا الرأي حتى يفنى في نفسه، لعلمي - بالاستنتاج - أن الأستاذ ليس أديباً ناقداً، والناقد أديب مضاعف، وقدرته على الأدب أكبر من قدرة الأديب المحض. وقد أحببت أن أقف على كلمة في مقالة الأستاذ أحمد أمين (رحلة) تدلك على أن رأي الأستاذ في الأدب العربي والشعر الجاهلي رأي لا يؤخذ به، فقد قال: (وهاهم أولاء رفقة كأن أخلاقهم سبكت من الذهب المصفى، وكأن شمائلهم عصرت من قطر المزن) وهي جملة لا ينطق بها أديب متمكن ألبته، فما ظنك بأديب ناقد، وأنا لا أعرف كيف يعصر قطر المزن (أي الماء)، وهو لا يمكن أن يعصر. ونحن لا نشك في أن الذنب ليس للأستاذ الجليل، وإلا فهو ذنب الشيخ اليازجي صاحب (نجعة الرائد، وشرعة الوارد، في المترادف والمتوارد). . . الخ، الذي ذكر هاتين العبارتين بنصهما وترتيبهما في فصل (كرم الأخلاق ولؤمها) ص70 الطبعة الثانية، وهما من حشد الشيخ الذي لا يقوم على أصل من البيان والبلاغة.
أجل، إن كثيراً مما وقع في كتاب الشيخ اليازجي - على جلالته -، إن هو إلا مجازات واستعارات كأخيلة المحموم مادتها من الهذيان اللغوي الذي لا يصل إلى الحقيقة بأسباب من منطق العقل. والبلاغة ليست إلا حفظ النسبة بين الحقيقة اللغوية، والمجاز البياني، فكل ما لم يكن كذلك من المجاز والاستعارة فهو لغو يتشدق به من ليس له طبع أدبي رفيع. وجهد اليازجي كان حشداً من كلام العصور المتقدمة في العربية، فأخذ من الجيد والرديء على غير نقد أو تمييز.
فكان واجب الأستاذ أحمد أمين - الآري على الشعر الجاهلي وواصمه بالجناية على الأدب العربي - أن ينقد مثل هذه العبارات الضعيفة المتهالكة التي لا تتصل بسبب إلى البلاغة العربية على اختلاف عصورها - لا أن ينقلها إلى كلامه. وإلا فلينظر الأستاذ إلى أثر هذه(346/46)
المجازات في بيان الشباب الذي يحبه ويعجب بأدبه، ويتلقى كلامه بالإجلال وحب الاقتداء
محمود محمد شاكر(346/47)
رسالة الفن
الموسيقى فن وإلهام
للأستاذ محمد السيد المويلحي
أكثر الناس في هذا الزمن يعتقدون أن الموسيقى (علم) ككل العلوم لها قواعد ومبادئ، ولها مناح ونواح متشعبة متفرقة لا يمكن جمعها وهضمها إلا بالبحث والفحص والدرس، بل هم يعتقدون أكثر من هذا؛ يعتقدون أنها تخضع للدأب والكد، وتعطي سرها وسحرها لمن يتعب أكثر من غيره في طلبها. . .!
وليس هذا في مصر والشرق فحسب؛ بل في جميع بقاع العالم، وفي كل البلاد التي بلغت ذروة الحضارة وأدركت نهاية المدنية. . . فهناك المدارس المختلفة، والمعاهد المتباينة، والجامعات المختصة في تدريس كل (مادة) من مواد الموسيقى؛ وهناك الأساتذة الذين قطعوا كل عمرهم أو جله في التخصص والانقطاع لتجويد ناحية واحدة يكررونها صباحا ومساء. . . حتى (الصوت) استطاعوا أن يوهموا الناس أن في مكنتهم السيطرة عليه بل وخلقه خلقاً جديداً. . .!
ولكن هذا ليس من الواقع في شيء، فإن كان للموسيقى فروع وأصول، وقواعد ونظريات، فليس معنى هذا أن كل من يلم بها أو يهضمها يسمى (موسيقياً) أو فناناً يعبر عن خوالج الناس بروحه الشفافة الملهمة.
الموسيقى ليست مهنة تعلم، ولا حرفة تجاد، ولا صنعة تكتسب، وإنما هي فن وإلهام كما قلت في رأس هذا الكلام. . . هي إلهام لأنها أسمى من أن تخضع لقوى البشر الذي يخضع لها، وهي قوة سحرية روحية تفعل في النفوس ما لا تفعله قوى الأرض مجتمعة متضامنة. . . فهي تضحك وتبكي، وتفرح وتحزن، وتسعد وتؤلم في لحظات، فهل ثمة قوة إنسانية (مكتسبة) تستطيع أن تملك مثل هذا السحر؟
إن (العالم) الذي يقسم لك الموسيقى إلى قواعد غربية وقواعد شرقية وموشحات وادوار ثم يقول لك أن الموسيقى عبارة عن (دواوين) وان كل ديوان له درجات أساسية و (نيمات) وعربات و (تيكات) وان بين اليكاه والعشيران كذا من المسافات، أو أن يقول لك إن الديوان الأول (مثلاً) يحتوي على ثلاثة (تكوك) وسبعة عربات. . . الخ ويروح مقارناً بين(346/48)
الموسيقى الغربية، والموسيقى العربية، ويفضل إحداهما على الأُخرى ناسياً الذوق، والطبع، والعادة، والبيئة - لهو أبعد الناس عن الموسيقى وعن الفن الصحيح وان كان هو يأبى ذلك. فليس الفن أرقاماً تجمع وتطرح وتحفظ وتعرف وإنما هو قوة هائلة معجزة يسوقها الملهم العبقري أمواجاً سحرية ولو كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعرف النيمات والتيكات والعربات. . .!!
(فموزار) الموسيقار الألماني الخالد عزف وهو في طفولته على البيان والكمان والأرغن من غير أن يتعلم درساً واحداً عليها!! ولعل القارئ يدهش حينما يعلم أنه كان يسبق الأساتذة الذين أتى بهم لتعليمه، وتوجيه عبقريته في الوجهة الصحيحة (كما كانوا يزعمون) حتى إن أحدهم بكى أمام سحر الطفل، وقال لوالده:
(ليس عندي ولا عند غيري ما يجهله ابنك، إنه ابن الموسيقى وقد علمته سرها وسحرها!) (وبتهوفن) الذي كان يطلق عليه (إله الموسيقى) والذي أرهقه أبوه في طفولته وظن أن كثرة (التعليم والإرشاد) تنفعه. كان يبكى لأمه ويشكو ظلم هذا الوالد ويقول لها: لقد أوشك أبي أن يبغضني في الموسيقى وفي الحياة نفسها. . . فلما تركوه وشأنه كان لا يفارق البيان أبداً إلا ليأكل أو لينام. . .!! وبعدها أخرج آياته الخالدة التي لا تزال إلى اليوم سمواً لا يدانى. . .
قد يقول قائل وما فائدة تلك المدارس إذن، وما فائدة هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم للتدريس وجعلوا من أنفسهم حفظة لقواعد الموسيقى وعلومها. . .؟
فائدتهم التوجيه والتهذيب فقط. أما الخلق والابتكار والقدرة والسيطرة والتحكم في ميدان العواطف، أما التغلغل في الأعماق والسريان في الدم والتلاعب بالأرواح، فهذا كله لا يعرف العلم، ولا يخضع للعلماء. . .!
أن الذي يغني أو يعزف لا يصف النظريات، ولا ينتقل من نغم إلى نغم مرسوم موضوع، وإنما هو ينطلق بروحه فتتحكم في لسانه أو بنانه وتروح مستولية على خلجات المستمعين، وطوبى لمن يأسره فنه أولاً قبل أن يأسر غيره لأنه يفعل العجب. . . ولا يهمه بعد ذلك أخرج على (الوحدة) أم ظل محافظا عليها، ولعل من هذا الباب قصة المرحوم (عبد الحي حلمي) الذي كان يشدو ليلة كبلبل نشوان والناس من حوله سكارى من خمر الطرب فخرج(346/49)
على (الوحدة) فأرشده (عازف القانون) فزجر قائلاً: خلَّ الوحدة لك ولأمثالك، إنني أغني لهؤلاء الذين يفهمون الموسيقى!
ولهذا لا يمكن لمطرب يغني لحن غيره، ويترجم إحساس غيره، أن يصل إلى درجة مطرب يلحن لنفسه ويترجم إحساسه مهما أوتي من حسن الصوت وجمال الإلقاء، لأنه يكون ممثلاً وحاكياً، بل يكون كاذباً في رسالته، والموسيقى لا تعرف الكذب لأنها هي نفسها رسالة صادقة!
رب قارئ يقول إنه يسمع بعض المطربين والمطربات من الذين يغنون تلحينات غيرهم قد وصلوا إلى مرتبة سامية لا تدانى، حتى من الذين يلحنون لأنفسهم؟ وردي على هذا الاعتراض أن القارئ سيقتنع إذا عرف أن هؤلاء المطربات والمطربين لا ينتزعون الإعجاب ولا يسيطرون بسحر فنهم وصوتهم إلا إذا انطلقوا من جو تلحين الموضوع وتصرفوا من عندهم التصرف الذي يمليه إحساسهم. . .
إن بعضنا يسمع (أم كلثوم) مثلاً وهي تغني قطعة موضوعة مرسومة فيظل هادئاً أو مشجعاً حتى إذا تصرفت وترجمت إحساسها هاج وماج وفقد سلطانه على نفسه!
وعبد الوهاب، هناك من هو ألمع منه صوتاً وأصفى نبرة ومع ذلك لا يقاس أليه، لم؟ لأن عبد الوهاب لا يترجم للناس إلا إحساسه، ولا يصور لهم إلا روحه. . .
وما لنا نذهب بعيداً؟ أن القصبجي والسنباطي وزكريا وهاشم ومحمود صبح، وهم أئمة التلحين في مصر والشرق قاطبة، لو غنوا تلحيناتهم بأنفسهم - وبعضهم قبيح الصوت - لأدوها أحسن من غيرهم ولو كان أجمل صوتاً وأقوى أداء، وليس هذا بعجب أو غريب، فلن يكون المقلد كالمقلد أبداً. . .!
لنرجع إلى الفن الملهم والفن المكتسب. . .
في الشرق والغرب بعض العلماء الذي تخصصوا في دراسة النظريات والقواعد الموسيقية فألموا بها إلماماً تاماً، وأصبحوا (علماء) ينتفع بعلمهم وطرقهم في دراسة الموسيقى الذين يعتقدون أن الموسيقى تخضع للدرس والبحث كما قلنا، ومع ذلك ترى هؤلاء العلماء تساوون مع الجميع - إلا الموهوبين - في العجز عن فهم الموسيقى الحقة وعدم القدرة على الوصول إليها! لأنهم يصفون الطرق والمسالك التي تؤدي إليها ويزعمون أن الإنسان(346/50)
إذا فحص وصل، فإذا سألتهم ولم لم تصلوا انتم بعد طول بحثكم وفحصكم إلى مرتبة الملهم العبقري الذي لم يقطع زهرة عمره في الجري وراء النظرية والقاعدة؟ قلبوا شفاههم، ولووا رءوسهم، ورأيتهم يستكبرون ويتعامون، ويصفونك مع الملهمين بالجهل الفاضح والعجز الواضح. . .!! ولعلهم معذورون، لأنهم يعتقدون أن الفن يخضع للعلم، وكذلك تراهم - في كل عصر - ينكرون ويحاربون نتاج العباقرة الملهمين. . . وكم شهدت مصر - أيام سيد درويش - من صنوف الدس والتحقير لفن هذا العبقري الأوحد الذي ذاق الأمرين من رجال معهد الموسيقى، لا لشيء، إلا لأنه في عرفهم من الجاهلين، نعم، كم شاهدت مصر - ولا تزال - من صنوف الاضطهاد لفن سيد من هؤلاء الناس الذين لو عاشوا ألف سنة ما استطاعوا أن يصلوا - مجتمعين - إلى فهم قطعة واحدة من قطعه. . .!!
لم يعرف عن سيد أنه كان عالماً يفكر قبل أن يلحن ليخرج تلحينه من نغمة - كذا - كما يريد المغني أو المغنية، بل كان ينتزع اللحن الخالد من صميم الحياة، ومن صميم البيئة المصرية، دون أن يزن أو يقيس بمعيار النظريات ومقياس القواعد والدم، والتك، والوحدة. ومع ذلك، فقد كانت تلحيناته سماوية خالدة يضرب بها لمثل في الربط والضبط. . .!!
وقبل أنت أنتهي، أحب أن أقول: إن الموسيقى فن ملهم أكثر منها علماً مكتسباً، وهي وحي سماوي يهبط من عل فينقله ويترجمه الملهمون لغة تفهمها القلوب والأرواح. . . لغة لا تخضع للقواعد ولا للنظريات، لأنها ليس من صنع البشر. . .!
نعم، إنني أعتقد أن مرتبة (الفنان) أسمى من مرتبة البشر، لأن الله اصطفاه بأنبل ما في الحياة وأطهر ما في الوجود. . . وهو (الفن)، بل وأعتقد أكثر من هذا، أعتقد أن الله اصطفاه (بنفسية) لا تخضع لعوامل الشر، ولا تنتحي أمام مغريات الشيطان، فالفنان لا يعرف الغل ولا الحقد، ولا المال ولا الجاه، لأنه يعيش كما تريد له الحياة أن يعيش، وينتج كما يريد له الله، لا كما يريد له العلم والتعليم. . .!!
محمد السيد المويلحي(346/51)
القصص
في ظلمة الليل
أسطورة فرعونية
(تحية للأستاذ يحيى حقي)
للأستاذ محمود بك تيمور
في أصيل يوم من الأيام، كان (الشيخ حابي) في بستانه الصغير، أمام داره المتواضعة، يتعهد تخيلاته ويستريض. فاسترعى انتباهه خفق أقدام، فالتفت نحو مصدر الصوت، فإذا بفتى يسير صوبه، وهو يدفع - في جهد - قدميه المتعبتين، وقد علاه الغبار، فاختفت ملامحه؛ بيد أن الناظر إليه يستطيع أن يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب. وكان يحمل في يده صرة؛ فخف الشيخ للقائه، وما إن اقترب منه، حتى سمع الفتى يقول في صوت الهامس:
- الشيخ حابي؟
- هأنذا. . . ما مطلبك؟
ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه، فأسرع إليه، وأسنده إلى صدره، محيطاً إياه بذراعيه، وقال له:
- أمريض أنت؟
- بل جائع!
وسار به (حابي) إلى داره في رفق، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية، وتركه برهة. . . ثم عاد إليه بإبريق مملوء باللبن، فأخذ يعب منه الغريب، حتى شبع. . . وبعد أن تنفس طويلاً، تمتم بكلمات الشكر لمضيفه، ثم أطرق وقتاً. . . وأخيراً، رفع رأسه، وسرح بصره في الشيخ، والكلمات تتراءى حيرى على شفتيه. . . وابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف وطيبة، وقال:
تكلم يا بني، ولا تخش بأساً. . . ما حاجتك؟ أن حابي لا يرد حاجة الغريب!
فأمسك الفتى بيد الشيخ، وضغطها في انفعال، وقال:(346/52)
- لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات، فسعيت إليك أطلب معجزة!. . .
فتأمل الشيخ وجه فتاه طويلاً، يحاول أن يستكنه ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة من خفية نفسه، وقال:
- معجزة؟. . . لست كاهناً يا بني!
- أنت أعظم من كاهن. . .
- أفصح عن غرضك!
- إن قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت مستمدة من روح الآلهة. . .
- أنا حكيم زاهد، قد أنجح في مداواة النفوس وتطيب الأجسام. . .
وحدق الفتى في الشيخ بعيون جاحظة، ثم هبط أمامه، وقال وقد تشبث بثوبه:
- وحق إيزيس لتنتزعن نفسي من بين جوانجي، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي!
- هدئ من روعك. . .
- إني أمقت هذه النفس الخاملة الميتة. . . لتخلقني خلقاً جديداً، ولتجعلن مني رجلاً ذا بأس واقتدار!
وجعل الشيخ يلاطف رأس الفتى، ثم أنهضه في وداعة، وأجلسه بجواره. وبعد حين، قال له في هدوء ورزانة:
ارو لي قصتك يا بني. . . إني مصغ إليك في انتباه!
ودعم الفتى وجهه براحتيه، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم، حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء. وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل. ثم تكلم فإذا به يقول:
أنا راموسي. . . ولكن ماذا يهمك من أسمي؟ أن راموسي نكرة لا يحس وجوده أحد
- تكلم!
- إني أسكن على مسيرة شهر من هنا. . .
- في بلدة رنسي؟
- نعم!
- ذات المعابد الأربعة، والمسلات الخمس؟!(346/53)
فواصل (راموسي) حديثه، وقد رق صوته وضعف: وحيث تسكن الأميرة أشمس. . .!
وطأطأ رأسه حيناً، ثم رفع عينه بغتة، وسددها في وجه (حابي) وقال في صوت غير متساوق النبرات:
أريد أن أكون عظيما. . . أريد أن أكون مثرياً. . . تزخر خزائني بالأموال. . . أريد!. . .
فابتسم الشيخ في هدوء، وقاطعه قائلاً:
أنه ليس بالطلب المستحيل. . .
فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة. . . وقال:
إذا ستأتي لي بمعجزة!
- أن ما تسميه أنت معجزة يا بني، أسميه أنا أمراً قد يستعصي على بعض الناس، ولكنه في مقدور آخرين!
فهوى (راموسي) على يدي الشيخ، وانهال عليها تقبيلاً، وهو يقول:
شكراً شكرا، ًسأذكر لك ذلك الجميل ما حييت، وسأعوضك عنه أضعافاً مضاعفة. . .
ثم رفع رأسه، وقال:
أما الآن، فليس لي ما أقدمه لك سوى. . .
وتعثر لسانه بالكلمات، فسكت وأشار إلى الصرة التي بجواره، وفتحها بيد راعشة أمام (حابي) فنظر فيها الشيخ، فإذا بخليط من قطع المعادن، بينها شيء قليل من الفضة والذهب. وتابع (راموسي) كلامه وقد غض من بصره:
- هي كل ما تبقى لي مما أملك!
- أبقها لك. . .
- إنها قليلة. . . أعرف ذلك!
- كلا، فهي كثيرة إذا كانت منك. وهذا يكفي. . . ولكنني لست في حاجة إلى عطاء الناس. . .
- أبت!
ونهض (حابي) في هدوء وهو يقول:(346/54)
- إلا ترى يا بني أن الليل قد أقبل يحمل في أعطافه برد المساء، وأنا كما ترى شيخ. . .
- هيا. . .
وتركا المصطبة، ودخلا قاعة غير رحيبة، بسقف منخفض تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء
وأشعل (حابي) مصباحه الزيتي، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وقد طوى يديه إلى صدره. وجلس (راموسي) قبالته متربعاً، لا يفصله عن الشيخ إلا المصباح. . .
وانقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما
ثم سمع (حابي) يردد في صوته الرزين:
- إني مصغ إليك!
فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح وقال:
- كيف ابدأ لك قصتي. . . حقاً أنه لجنونٌ ما فكرتُ فيه. . . غير أني لست نادماً على شيء. . . لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً، أخرج من داري المهدمة إلى النهر أرتاض على شاطئه حيث بساتين الأمراء، أقضي اليوم كله متنقلاً بينها، أستمتع بمرأى الرياحين، وأستنشق عرفها الزكي. فإذا تعبت استرحت بجوار الماء وأخرجت نايي أناجيه ويناجيني!
- أموسيقي أنت؟
لم أجرب أن أصفر إلا لنفسي. . .
وأخرج (راموسي) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ساذج المظهر، وأراه الشيخ قائلاً:
- أنه زميلي الذي لا يفارقني أبداً. . . زميلي المطلع على سري، العالم بما يجيش في قلبي من أمان وأطماع!
- أمان وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق!
- أنني أضعها بين يديك، فافعل بها ما أنت صانع!
- ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة؟
- كل الرضا!
- إذاً (هي) التي غيرت حالك. . .
- من هي؟(346/55)
- تلك التي ذكرت اسمها، مشرفاً بذكره مدينة رنسي!
- نعم، هي أشمس، أميرة الأميرات، وأقربهن صلة بفرعون الأعلى!
- أتمم حديثك. . .
- رأيتها يوماً تتنزه في بستانها، فسحرني لأول نظرة جمالها؛ رأيتها ترتاد الخمائل في حاشيتها؛ فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار، وأضاءت نفسي على التو شمس وهاجة أنارت لي دنيا عظيمة كانت مختفية عني. وإذا بي أقطع على نفسي عهداً بأنها لن تكون لسواي. . . ولما عدت إلى داري، وراجعت هجسات ضميري، هزئت بنفسي، وكلي سخط وألم. ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء، لا يتقهقر ولا يتزايل، بل يتقدم في جرأة وإقدام. . . ولكن كيف أنفذ ذلك العهد؟ هذا ما كان يحيرني ويحز في قلبي. منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها لا أعرف سواه، أقضي على مقربة منه يومي، أراها ولا تراني. فإذا ما صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ، وتخيرت مكاناً ظليلاً، وبثثت شكواي للناي، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي: (لماذا لا تحاول التقرب إليها؟. . . . . . لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك؟. . .)
- ولماذا لم تصدع بما أوحي لك به نايك؟
- أتريد مني أن أستمع لذلك الساذج الغرير؟ ألم أقل لك من هي؟ أن فيها من دم الآلهة يا أبت!. . . وكلنا نعلم أن عظاماً تقدموا إليها بقلوبهم، فردتهم خائبين. . . لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها. . . لابد أن تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس إلى أمير يفوق جميع الأمراء، يرضاه فرعون وترعاها ايزيس. . . وكان أن اشتد بي الضيق يوماً، فجريت صوب النهر، وهممت أن ألقي بنفسي إلى التماسيح. . . في تلك الساعة الفاصلة، سمعت هاتفاً يقول لي: (اذهب إلى حابي الحكيم، فعنده تتم المعجزة)
فتمتم (الشيخ حابي):
- أقال لك الهاتف ذلك؟
- قسما بإيزيس ربة الأرباب، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني. وكانت التماسيح قد خرجت برءوسها تنظر إلي متنمرة فوجدتني في لحظة أقفز متراجعاً عن النهر، وانطلقت أعدوا. . . أكنت أعدو حقا؟ لا أدري! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة. .(346/56)
وفي الغد بعت ما أملك، واستصفيت مالي، وحملت زادي، وسرت ووجهتي دارك!
فأمسك (حابي) بيدي (راموسي) وضغطهما وقال:
- ستتم المعجزة يا ولدي، فاعتمد علي
- إذاً ستجعلني أمير الأمراء؟ وإذاً ستجعل من أشمس زوجة لي؟
- أن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور!
- كيف؟
- كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك. . .
- أوضح يا أبت!
- سيتغير فيك كل شيء، شمائلك الأصيلة ستنقلب إلى ضدها، الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف. . . ستكون حياتك يا راموسي كالبركان الفوار، لا يخبو له لهب، ولا يسكن له زئير!
فطأطأ (راموسي) رأسه، وقال:
- أبت!
- ليس ثمة طريق ينيلك ما تطلب من ثروة وجاه ومجد، إلا هذا الطريق!
وصمت (راموسي) فترة، ورأسه منحن على صدره، وبغتة رفع وجهه إلى (حابي) وقال:
- ولكن حبي، حبي. . . أيعتريه تغير؟
- حبك باق بقاء الروح الخالدة. . . ولكن!
- ماذا؟
- أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة، بعد أن تتم المعجزة؟ وانه لن يطول بك الحنين إلى نفسك الأولى؟
-. . . افعل بي ما تريد!
ودارت عجلة الحياة: الأيام تلو الأيام، والأشهر إثر الأشهر. . .
وكان ملك الغرب قد دفعه الطمع إلى امتلاك مصر، فسير إليها الجيوش الكثيفة؛ فغزت المناطق الشمالية في غير عسر، ثم اندفعت في طريقها تكتسح أمامها جند الوطن. ولم يجد تعيين القائد الكبير (رودا) أميراً على الجيش الذي أرسله فرعون لإنقاذ البلاد. . . إذ(346/57)
أصيب (رودا) بهزيمة نكراء، وقتل في المعركة، وكاد الجيش يتفكك ويندثر، لولا أن قيض الله له شاباً من بين المحاربين تزعمه، فأخذ يجمع شمله، ويبث فيه روحاً جديداً؛ فلم ينقض وقت طويل حتى انقلبت الهزيمة إلى هجوم، ثم انته الهجوم إلى مطاردة للعدو، فاكتساح كامل له. واصبح هذا الشاب قائداً للجيش، ولقب نفسه بالأمير الأسود، إذ كان يرتدي السواد دائماً. . . ولم يقتصر هذا الأمير على تطهير البلاد من جيش العدو، بل تابع زحفه في جرأة غريبة، ففتح (مملكة الغرب) بأسرها، وأخضعها لسلطان مصر، فصارت تابعة لها. . .
كانت (رنسي) المدينة ذات أربعة المعابد وخمس المسلات حاضرة مصر الثانية، تحتفل احتفالاً شائقاً بقدوم الجيش المنتصر، وعلى رأسه أميره الأسود، فقد عاد محملاً بأسلاب وغنائم لم يأت بها قائد منتصر من قبل. وكان موكبه حافلاً بالأسرى العظام من الأمراء والحكام وسراة الدولة المغلوبة. أما بقية الأسرى من الدهماء، فقد اكتفى بقطع أيديهم، وأطلق سراحهم، حتى لا يعطلوا سير الموكب بكثرة عددهم. ولكنه احتفظ بتلك الأيدي، فحملها معه ليقدمها إلى فرعون، رمزاً للخضوع والطاعة!
وتمت مراسيم الاستقبال في عظمة وفخامة جديرتين بالقائد العظيم والفاتح الكبير!. . . ولكن الأميرة (أشمس) أولى أميرات البيت الفرعوني، تخلفت عن حضور الاحتفال، وأرسلت تعتذر لفرعون. وكان فرعون يعرف شذوذ طباعها واعتزالها العالم، فقبل عذرها على مضض. ولكن رسول الأمير الأسود جاءها يحمل من الأمير نفسه رغبته في زيارتها قبل الغروب لأمر ذي بال؛ فلم تجد مخلصاً من استقباله، وأمرت أن يعدوا القصر لهذا القدوم.
وأخذ الأتباع يعلمون بجد واهتمام في تزيين القصر، فما كادت الشمس تؤذن بالغروب حتى برز القصر في غبشة الظلام كأنه قطعة من لؤلؤ تتألق؛ وانتشر الطيب الذكي في أرجائه، فكأنه روضة فواحة من الأزاهر النضرة.
وجاء الأمير في الموعد في حفل من قواده، ودخل القصر وهو يضرب بقدميه الصلبتين الأرض ضربات شديدة تردد صداها جوانب المكان، ويلتفت يمنة ويسر بوجهه الرائع الذي تنم كل لمحة من لمحاته على رجولة قوية قاسية. وكانت لعيونه الواسعة إشعاعات قوية(346/58)
باهرة لا تقوى عين أُخرى على تحديها. . .
وما أن دخل البهو الكبير، ورأى الأميرة واقفة في صدره تحف بها وصيفاتها، حتى توقف بغتة، واتسعت حدقتا عينيه، وتفتح وجهه في لحظة بنور متألق تشيع فيه الأحلام. وأمسك بيد رفيق له بجانبه، وشد عليها؛ وطالت وقفته على هذه الحال والناس من حوله صامتون. وأخيراً همس رفيقه في أذنه:
- مولاي! إن الأميرة تنتظرك. . . تقدم!
وتقدم الأمير الأسود بخطوات لم تردد صداها جوانب المكان هذه المرة، وركع أمامها ركعة المتبتل أمام ربه فأنهضته، وهي تقول:
نحن الذين يجب أن نركع أمام المنقذ العظيم!
ورفع وجهه أليها، وقال في صوت خفيض:
عفواً مولاتي!. . . أمام هذا الجمال الإلهي الذي هو قبسة من رع، ونفحة من إيزيس، يستشعر القائد العظيم ظآلة نفسه وتفاهة مجده!
- سيدي!
- ليس ثمة عظيم أمامك يا مولاتي!. . . كلنا من أتباعك المخلصين!
وتهامس الناس فيما بينهم دهشين حيارى:
لم يشاهد الأمير على هذه الصورة، حتى في حضرة فرعون الأعلى!
وبدأت الجموع تتفرق والمكان يخلو للضيف وربة القصر، وأخذ القائد يروي وقائعه، ويعدد أسلابه، ويذكر ما ناله من مال وضياع تتعادل معها أموال فرعون العظيم. وختم حديثه قائلاً:
إن الأميرة لتعلم أن فرعون بلا عقب، وهو الآن شيخ مثقل بالمرض، وقد طالبته الكهنة بتبني أمير يجعله ولياً للعهد، أمير أهل لهذا المنصب الخطير. . .
- وهل وقع اختيار الملك على هذا المحظوظ؟
فابتسم الأمير ابتسامة ذات معنى، وقال:
لقد أتم اختياره سراً، وسيعلنه غداً في الهيكل الكبير!
وصمتت (أشمس) وهي تتفحص الأمير طويلاً. . . ثم انحنت في خشوع وهي تقول:(346/59)
يسعدني أن أكون أول من يقدم طاعته لصحب التاجين، وريث ملك الفراعنة العظيم!
فأمسك الأمير بيدها، وقال:
هذا الملك العظيم، وهذا النصر الباهر، وهذه الأموال التي لا يستطيع أن يحصيها أحد. كل ما كسبته وما سأكبه، أضعه تحت قدميك أنت يا أميرتي، ويا مولاتي!. . . أقدم لك كل هذا مقابل شيء واحد منك. . .
فأسبلت الأميرة جفنيها، وتابع الأمير حديثه في لهجة مشبوبة:
كلمة منك يا أشمس تجعل هذا الوادي الفسيح بسكانه وكنوزه، هذا الملك الضخم طوع يديك. . . قولي كلمة الرضا، ثم مري، فلن يعصي لك أحد أمراً. . .
ونهضت الأميرة، وهي تقولي في صوت حبيس:
ألا نذهب إلى الشرفة فنلقي نظرة على البستان؟
فأجابها الأمير، وهو حائر:
كما تريدين!
وذهبا إلى الشرفة، وأطالت الأميرة النظر إلى الحديقة، وهي تصعد بصرها في أشجارها وأزاهيرها. ثم قالت:
أيسمح لي الأمير أن أقص عليه قصة صغيرة؟
فأجابها، وهو يزداد عجبا:
إني مصغ إليك يا أميرة!
- كان في الزمان الغابر فتاة من الأثرياء، من أسرة رفيعة النسب؛ تحيا ناعمة البال في قصرها ذي البستان الكبير حياة ترف ورغد، ولم يكن لها مطمع تصبو إليه إلا العثور على أليف تنعم معه بحب ووفاء، شأنها في ذلك شأن كل فتاة. وحج إلى قصرها أعلى الأمراء شأناً، وأكثرهم جمالاً وثراء يطلبونها للزواج فردتهم بلا أمل. . .
- ولم ذلك!
- لأنها كانت مخدوعة بنفسها، مغرورة بجمالها، فلم يرقها واحد من هؤلاء الأمراء!
- ومن كانت تنتظر أن يتقدم لها بعد هؤلاء، وهم صفوة البلد. . .؟!
وتريثت الأميرة في إجابتها، وهي تسرح طرفها في الأفق حيث الظلام مقبل في وحشته(346/60)
وصمته وأسراره. . . وقالت:
- هي نفسها لم تكن تدري، ولكنها على الرغم من ذلك كانت تنتظر وتؤمل!
- وهل طال انتظارها؟
- كلا!
- إذاً عثرت على ضالتها؟!
- نعم أيها الأمير. . .
- أكان قائداً غازياً؟
- كلا!
- أوزير خطير هو؟
- كلا!
- إذا هو ملك من نسل الآلهة!
- ولا هذا أيضاً. . .
- من يكون؟!
- وأرسلت الأميرة تنهدة خفيفة وقالت في صوت الهامس:
- شاب رقيق الحال، مرهف الشعور!
- وما مهنته؟
- ليست له مهنة، كان يقضي أيامه يجوب البساتين، ويتنزه على ضفاف الانهار، يستمتع بمحاسن الطبيعة!
- أنها حياة أقرب إلى التبطل والصعلكة. . .
فتمتمت الأميرة بلهجة الحال، وهي تستقبل بعينيها كتائب الظلام المكدس بعضها فوق بعض:
- قد يكون ذلك، ولكنه الوحيد الذي استطاع أن يصهر كبرياءها، ويحطم تاج غرورها!
فندت عن الأمير صرخة:
هو؟!. . . أممكن ذلك؟
أجل لقد أحبته الفتاة، أحبت فيه ذلك الشاعر المرهف الحس، ينشدها أعذب ألحانه وأرقها!(346/61)
- أكان شاعراً ينظم لها القصائد، وينشدها إياها؟
- كان ينظم قصائده بلا كلام، وينشدها إياها من مزماره الرخيم!. . .
فأصابت الأمير هزة شديدة، وقال في صوت جياش:
- وهل تقابلا؟
- كلا، فهي لم تره، بل أغرمت به على البعد!. . . ولا تدري أراها، أم لا؟!
- لا ريب في أنه رآها. . .
- ليس ذلك مؤكداً، فعيون هذا الشاعر الجوال، كانت أقصر من أن تخترق خمائل البستان أو جدران القصر، لتكشف عن الفتاة وتلتقي بعيونها!
- يا للفتى البائس!. . . لو علم أنها تضمر له هذا الحب لطار إليها، وارتمى تحت قدميها يلثمها في عبادة. . .
- من يدري أيها الأمير؟. . . أنه فتى غريب الأطوار، يعيش وفق هواه. . . قد يرفض حبها لو تقدمت به إليه!!
- محال!
- ولكنه لو كان يعلم كم أحبته هذه الفتاة، وكيف أنه ترضي أن تعيش معه تقاسمه حياته الطليقة في دنياه الرحبة الوضاءة لقبل منها هذا الحب!
وتمتم الأمير بكلمات متقطعة، وقد شد بيده على حاجز الشرفة حتى كادت أصابعه تدمى، وتابعت الأميرة حديثها:
- لقد برمت الفتاة بحياة الثروة والجاه التي تحياها، وتوضحت أمامها بشاعتها، وأحست ثقلها المرهق يحبس أنفاسها. فرغبت أن تفر من بيئتها، تستبدل الكوخ الساذج الهادي بالقصر المنيف الصاخب، والرداء الخفيف المزين بالأزهار بالثوب الثمين اللامع بأوصال اللآلئ. . . لقد برمت بكل شيء يحوطها، واشتدت بها الرغبة أن تهرب، فتلحق بشاعرها تقضي حياتها في حمى مزماره!!
- ولكنها لم تفعل!
- لقد كادت. . . ولكن الفتى اختفى فجأة!
- أهرب؟(346/62)
- إن الناس يرجفون بموته، فقد تكون التماسيح أكلته. . . ومن ثم أسدلت الفتاة على حياتها ستراً غليظاً يحجبها عن العالم أجمع!
- قد تسلوه يوماً، فترضى الزواج بأمير كبير!
- إن القصة تحدثنا أن الفتاة قضت في عزلتها عامين، وهي لم تتغير. . . إنها لا تطلب الأمير، ولن تطلبه، بل ستحيا مترقبة شاعرها الفقير كما هو بردائه الساذج، وقلبه الكبير. . . لن تستبدل به أحداً مهما يعظم قدره ويتسع ماله!
- وهنا تنتهي القصة. . . أليس كذلك!
- تكاد تنتهي، والبقية في كلمتين، أتريد أن أتمها لك؟ فقال الأمير، وهو يضغط كلماته في حسرة مكتومة:
- إذا رغبت، أتممتها أنا لك!
فتمايلت الأميرة، وعرضت على وجهها ابتسامة، وقالت:
- كيف؟ أو تعرفها؟
فقال في شيء من السهوم:
- إن حذقك في رواية القصة، قد جعلني أحزر خاتمتها!
وراح الأمير يحد بصره في نجوم الليل البعيدة، كأنه يريد أن يستلهم منها كلمة نصح أو هداية. . . ولكن لم تطل وقفته على هذه الصورة، فانحنى أمام الأميرة، وقال:
- لن أنسى ما حييت حسن احتفائك بي!
وقبل يدها قبلة طويلة عميقة، ثم ترك المكان لا يلوي على شيء. . .
واستقل على الفور عجلته الحربية، واستأذن رفاقه!
وانطلقت به العربة، هائمة في أديم الصحراء، تشق أمامها سجف الظلام شقاً!. . .
محمود تيمور(346/63)
من هنا ومن هناك
مطلب عادل
(لشاعر الهند (رابندرانات تاجور))
إن علاقة الإنجليز بتاريخ الهند تدعو إلى الإعجاب الكثير. فقد توطدت بيننا وبينهم وشائج القربى، باعتبارهم رسل الثقافة الأوربية، ونالوا من نفوسنا ما لم تنله أمة من الأمم.
وإذا كانت المزنه تحمل إلى الأرض ماء السماء من آفاق بعيدة المدى، فيتغلغل في أعماقها ويسري إلى أحشائها، فيخرج منها نباتاً وأزهاراً تسر الناظرين، فإن سيل الفكر والثقافة الأوربية قد انحدر الينا، فأنبت في قلوبنا حياة جديدة، وأيقظ نفوسنا من سبات طالت عليه السنون.
بدأنا نتذوق الأدب الإنجليزي، ولم تكن فائدته لنا مقصورة على الفن الجديد الذي يفيض به، أو المتعة النفسية التي يهديها ألينا، فقد حرك قلوبنا إلى إصلاح كثير من أخطاء الإنسان نحو أخيه الإنسان، فدقت لأسماعنا أجراس رنانة الصوت تعلن تحطيم أغلال الإنسانية المعذبة، وخالجت أذهاننا حماسة نحو النضال في سيل مكافحة الاتجار بالإنسان.
لقد نيفت على السبعين من عمري، وكان عهدي بذلك أول العصر من تاريخنا الذي يجدر بي أن أسميه العصر الاوربي، في منتصف القرن التاسع عشر وهو العصر الفكتوري الذي يسخر منه شباب اليوم. لم تكن أوربا في ذلك العهد قد فقدت عقيدتها في حرية الفكر وحقوق الفرد التي حاربت من أجلها في عصور الإصلاح والثورة الفرنسية، وكان الأخ في أمريكا يحارب أخاه لمكافحة الاتجار بالرقيق. ويصح للعصر الفيكتوري أن يفخر بأنه العصر الذي سمعت فيه كلمات مازيني النبيلة وصيحات غاربيلدي الجريئة، وأنه العصر الذي ارتفع فيه صوت غلادستون مدوياً كالرعد في أنحاء العالم المتمدن، بالحملة على أعمال سلطان تركيا. وقد بدأنا نحن كذلك في الهند نفكر في استقلالنا في ذلك العهد. لم تكن حركتنا تخلو من العداء للإنجليز. ولكنا على الرغم من ذلك كنا على ثقة تامة من الخلق الإنجليزي. فقويت عزيمتنا على المطالبة بمشاركة بريطانيا باسم الإنسانية في الإدارة الهندية.
لقد رأينا الأمم الشرقية تسير قدماً نحو عصر جديد، فأملنا أن نندمج في صفوفهم لنتبوأ(346/64)
مركزنا من التاريخ، ولكن كم كان ذعرنا شديداً حينما رأينا عجلة التقدم تقف بنا عن المسير. إن الدين الثقيل الذي تطالبنا به إدارة السواحل يثقل كاهلنا ويحرمنا نحن الفقراء المفلسين نصيبنا الضئيل من الحياة. فلا تستطيع أمتنا البائسة أن تزحزح عنها أثقال الهمجية التي ترزح على صدرها كالصخرة الشماء، فتخنق أنفاسها حتى الممات.
مالطة البلطيق
(ملخصة عن (لابرس دي تونسيا))
إن السر في حملة السوفيت على فنلندا هو رغبتها في الحصول على مركز وطيد في الأرخبيل الواقع بين فنلندا والسويد. وقد يجهل الكثير من سكان أوربا الذين يعيشون بعيداً عن منطقة بحر البلطيق أهمية جزر آلند التي يعد موقعها من الناحية الحربية كموقع جزيرة مالطة في البحر الأبيض المتوسط.
تتكون هذه الجزر التي قضت عصبة الأمم سنة 1921 بأن تظل محرومة من التحصينات، من ستمائة جزيرة صغيرة، مائتين منها يعمرهما السكان الذين يبلغ عددهم 28. 000 نفس كلهم من الصيادين.
وتقع هذه الجزر على بعد 50 ميلاً من الشاطئ الفنلندي، و25 ميلاً من السويد و350 ميلاً لننجراد و700 ميل من موسكو و350 ميل من دانزج و300 ميل من ممل و400 ميل من كوبنهاجن. وعاصمتها (ماريهامن) وهي مدينة صغيرة للصيد، ينتشر على أرضها بعض المساكن الخشبية، وتفوح منها رائحة الأسماك الشديدة.
ونظراً لاستقالة عضوين من أعضاء عصبة الأمم (ألمانيا وإيطاليا) التي عرضت عليها مشكلة جزائر آلند أصبح من المستحيل على فنلندا أن تحصن هذه الجزر. إلا أن الاتفاق الألماني السوفيتي قد أتاح لفنلندا في الأيام الأخيرة أن تنال موافقة باقي الأعضاء (بريطانيا العظمى، وفرنسا، واستونيا، والدنمارك) على تحصينها، فقامت حامية صغيرة لحماية ماريهامن وأعد أسطول خاص لحماية الجزر. ومما لا شك فيه أن وجود قوة من البحرية والطيران في جزائر آلند يجعل من السهل على أية أمة أن تسيطر على شمال غربي أوربا. فمن هذه الجزائر تصد أي غارة للسوفيت ودول البلطيق، ويسهل تهديد الدنمارك(346/65)
والنرويج وشرق بروسيا.
وفضلاً عن هذا فإن جزائر آلند محصنة بحجب كثيفة من الضباب الذي يلفها طول العام فيصعب معه مهاجمتها، فإذا استولت امة على هذه الجزر أصبح لها السيادة على شبه الجزيرة (اسكاندينافيا) وأقاليم بحر البلطيق. ومن اليسير أن تصبح الزاوية المؤلفة من روسيا الغربية واسكاندينافيا وشمال ألمانيا تحت سيطرة هذه الجزر القائمة وسطها، فتحل الدمار بتجارتها في بضعة أيام.
ومن هنا يسهل علينا أن نقدر القيمة التي لجزائر آلند في نظر السوفيت. ونعرف أن كل محاولات روسيا للاستيلاء على موانئ حرة على دول البلطيق وليتوانيا واستونيا لا قيمة لها بغير هذه الجزر
هل ينبغي لنا أن نكره الرذيلة
(ملخصة عن (ذي إيريان بات) بومباي)
كانت دهشتي عظيمة لحملة النقد الشديد التي ثارت منذ بضع سنين، حول تصريح سبر أوليفر لدج الذي قال فيه (إن الرجل الممتاز لا يهتم كثيراً بآثامه، في هذه الأيام)
فقد أثار هذا القول غضب رجال الكنائس على اختلاف مذاهبهم، وجعل الوعاظ يبذلون غاية جهدهم لتفنيده، وإقناع الناس بأن أول واجب على المسيحي هو أن يكره الرذيلة. وهذا مذهب طالما رددته الأوساط الدينية في السنين الغابرة، وهو راجع إلى ضعف طبعي في الإنسان. فقد كان الرجل المتدين يعتقد أن كراهية الرذيلة أسهل كثيراً عليه من حب الفضيلة. ولهذا المبدأ وجوه تختلف باختلاف الطوائف، وكان بعض رجال الدين يعتقدون انهم لا يستطيعون أن يعيشوا في مأمن من الرذيلة التي يكرهونها كل الكره، ويشفقون من الوقوع فيها، إلا بالعزلة والانفصال التام عن العالم.
والطبقة التي يعنيها سير أوليفر لودج بعبارته السابقة لها آراء خاصة في كراهة الرذيلة، فيقول بعضهم: إن الوصية التي تقول أحب جارك كما تحب نفسك. وهي إحدى الوصايا العشر المقدسة لا يمكن التوفيق بينها وبين كراهية الرذيلة. بل أن كره الرذيلة يجعل هذه الوصية في حكم المستحيلات. إذ أن الشعور بالعمل السيئ يسوقنا إلى كراهية فاعله الذي(346/66)
قد يكون جاراً لنا. وهنا لا يمكن التوفيق بين الحب والكراهية.
إن كراهة الرذيلة والخوف منها يساعدان على بقائها. فنحن إذ نجعل من الرذيلة قوة فعالة في حياتنا تعمل على إحياء ما نريد أن نقتله ونقضي عليه، فإنما نخلق (لأهريمن) إله الشر تمثالاً خالداً، وان كنا نصنع هذا التمثال لنبصق عليه. إن النظر إلى الرذيلة أمر فعال في حياتنا، يجعل لشخصية الشيطان شأناً أي شأن في حياتنا اليومية.
كيف تنام نوماً هادئاً
(ملخصة عن (ذي سيكولجست))
الرجال بطبيعتهم أهدأ نوماً من النساء، فأعمالهم الكثيرة تساعدهم على النوم العميق، والرجل الذي ينهمك في الأعمال البدنية أياماً متوالية، ينام في العادة نوماً عميقاً، لما يبذله من الجهد الذي ينهك قواه، في حين لا يظهر بمثل ذلك الرجل الذي يلازم مكتبه طيلة النهار ولا تسمح له أعماله بالحركة والنشاط.
إلا أن المشاغل الفكرية التي تلازمنا في بعض الأحيان كثيراً ما تحرمنا لذة النوم. فإذا لم نتخذ وسيلة لإرقاد همومنا ونحن في وقت اليقظة، فسوف لا تبارحنا حتى تحرمنا الهدوء والراحة عند النوم. فمن الواجب إذن أن نعمل على ترويح النفس وإخلائها من مشاغلها إذا انتهى اليوم وذهبنا نلتمس الرقاد.
فإذا أمسى المساء وجب علينا أن نخلد إلى الراحة، ونأخذ في تصفية حساب اليوم فنعرض على الذهن حوادث اليوم من الصباح إلى المساء: هل كان يومنا يوماً مرضياً؟ إذا لم يكن كذلك، فما السبب؟ ما هو الخطأ الذي جعله كذلك؟ ماذا كان علينا أن نفعل لنوجهه نحو الصواب؟ فإذا آنست من نفسك ضعفاً ولو بسيطاً فيما تقوم به من الأعمال، وجب عليك أن تبحث عن الطريقة التي تساعدك على إزالة هذا الضعف، وتجعل كل همك أن تعرف متى يمكنك أن تقوم بأعمالك على الوجه الصحيح.
أما من الناحية الجسدية فيجب أن تعرف مقدار ما أديته لجسمك من الحقوق. هل كانت أعمالك الفكرية من الكثرة بحيث لا تترك الفرصة الكافية للجسد ليأخذ حقه من النشاط؟ إذا كان الأمر كذلك، فلابد من الموازنة بين حاجات الفكر والبدن، إذا أردت أن تنام نوماً(346/67)
صحيحاً هادئاً.
أن متاعب الليل، هي أثر من متاعب النهار. فمن الواجب أن تتفحص حالتك العامة: هل هي متجهة إلى طريق الصواب من سائر الوجوه؟ هل يقوم جسمك وعقلك وعواطفك بما هو مطلوب منها؟ إذا لم يكن ذلك فإن هذا النقص الذي تراه في الواقع سيكون له أثره في أحلامك عند الرقاد.
من الواجب إذن أن تراقب نفسك مراقبة دقيقة إذا كنت لا تنام نوماً مريحاً، وتصرف عنك ما يشغلك في النهار لتستريح في المساء.
ماذا يربح كبار المؤلفين؟
(عن (استرليان ديجست))
ماذا يربح كبار المؤلفين؟ هذا سؤال لا نستطيع أن نجيب عنه على وجه التخصيص. ولكننا نستطيع بمراجعة الأرقام التي تنشر من آن لآخر، أن تعرف الشيء الكثير، فمن المعروف مثلاً أن سير جيمس باري خلف بعد موته 174. 000 من الجنيهات الإنجليزية، ويعد هذا المبلغ الكبير من أكثر ما عرف في مخلفات الكتاب الإنكليز. وإذا علمنا أن (باري) أسس مستشفى عظيما في فرنسا إبان الحرب العظمى، وأنه كان ينفق أموالاً طائلة في وجوه الإحسان، أمكننا أن نقدر الأرباح العظيمة التي كان يكسبها من أدبه الغزير. وترك الشاعر الإنجليزي المعروف رديارد كبلنج 155000 من الجنيهات.
ويقال إن شارلس دكنز العظيم ترك بعد موته 93. 000 من الجنيهات، وجورج مور 75. 000 جنيه، أما توماس هاردي فقد خلف 91. 000 جنيه، على وجه التحقيق.
فإذا اتجهنا إلى كل مؤلف وما أفاء على صاحبه من الأرباح، فنستطيع أن نقول أنه دفع (لهارفي ألن)، في حقوق طبع مؤلفه (كارثة أنطوان) في الأربعة الأعوام الأولى من صدوره 40. 000 من الجنيهات لكل عام، ويعد هذا المبلغ من أكبر ما ربحه مؤلف من كتاب واحد، وربح (باري) من قصة (الوزير الصغير) 50. 000 جنيه، وأعطى لماري كورللي 20. 000 من الجنيهات في إحدى قصصها المعروفة، ودفع إلى (إليس مجان رايس) 20. 000 من الجنيهات في قصة مؤلفة من 20. 000 كلمة بمعدل جنيه للكلمة(346/68)
الواحدة. وألف رديارد كبلنج ثماني أقاصيص، فدفع إليه في كل منها 240 جنيه للطبعة الإنجليزية، وعلى هذه النسبة نستطيع أن نقدر لهذه القصص 8. 000 من الجنيهات للطبع في أنحاء العالم التي يقرأ فيها هذا المؤلف المشهور، ودفع إلى كنلنج 5000 من الجنيهات في حقوق طبع (كم) في إنجلترا وأمريكا، ودفعت إليه مجلة (كولير) الأسبوعية مبلغ 200 جنيه في قصيدة واحدة.
أما بين المؤلفين الأحياء، فقد قدر ربح (سومرست مرجام) 1. 000 جنيه في قصة من نوع القصص الصغيرة وبلغت أرباح (ماك نيل) في مؤلفاته الموسومة باسم (بول دج دموند) 100. 000 من الجنيهات في سبعة عشر عاماً. وبلغت أرباح (بيفرلي نيكولس) 25. 000 من الجنيهات في بضعة مؤلفات عن كوخه وحديقته في هانتنجدن.
وبلغت أرباح لورد مورلي من كتاب (حياة جلادستون) 10. 000، وربح ونستون تشرشل 8000 جنيه في كتاب عن حياة أبيه. وقد بلغت أرباح كل من (درويك ديبنج) و (أ. أ. ميلن) في العام 30. 000 من الجنيهات.
وقد فتحت (هوليود) باباً جديداً للربح لكبار المؤلفين وتتراوح المبالغ التي تدفع لحقوق إخراج مؤلف من المؤلفات للسينما من 1500 جنيه إلى 15. 000 جنيه، وقد تزيد على ذلك في بعض الأحيان. فقد دفع مثلاً في (وودسورث) 32. 000 جنيه. وفي قصة (منظر في شارع) 25. 000 من الجنيهات.(346/69)
البريد الأدبي
مناقلة ومثاقفة
هذان لفظان أستخرجهما من لغتنا الزاخرة بالمفردات والتعبيرات لأدل بهما على ما يقال له (المناظرة).
والمناقلة في المنطق أن تحدثه ويحدثك، كما جاء في (القاموس) مادة ن ق ل؛ وتجد اللفظة أيضاً في (المخصص) ج2 ص129. وقد استعمل الجاحظ هذا الحرف في رسالته الظريفة (التربيع والتدوير) (مجموعة رسائل، مصر 1324 ص107) إذ قال: (ولو ظهر لما سألته كسؤالي إياك، ولما ناقلته الكلام كمناقلتي لك). وأما المثاقفة فقد استعملها التوحيدي في (الإمتاع والمؤانسة) ص9 حيث قال: (فلعل هذه المثاقفة تبقى وتروى)؛ وشرحها ناشراً الكتاب هكذا: (المثاقفة: المطارحة في العلم والأدب ومذاكرتهما). والمثاقفة حرف حقيق بالحفاوة لهذا العهد، أفلا نستعمل كلمة الثقافة لذلك الجمع من ألوان الأدب وصنوف العلوم وضروب الفنون؟
وأما الذي يحدوني إلى عرض ذينك اللفظين بدلاً من (المناظرة) فانزلاق هذه، على أقلام المتعالين وصغار الكتبة، إلى المهاترة: تأخذهم بالحجة أخذ عزيز متمكن، فتدور رؤوسهم وتزلزل أقلامهم، فيفزعون من الجدل إلى الثلب. فإذا الذي يكتبونه يذكرك بقول ابن شبرمة: (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء). غير أننا صرنا - ولله الحمد - إلى عهد لا تفصل فيه سلاطة اللسان ساعة إفلات البرهان.
وإني ليحلو لي أن أثاقف أشراف الرجال وأناقل أثبات العلماء وأكابر الأدباء. وقديماُ ثاقفت المازل في (السياسة والأدب)، وناقلت بعد ذلك الأدب الكرملي والشيخ البشري، ثم الزكيين: مبارك وطليمات. واليوم أناقل (أستاذاً جليلاً) عالماً ثقة. ومما يورث الأسف اني لا أقوى على بث اسمه، وهو اسم عريض الجاه وضاح الحسب. لا أقوى على بثه لأن صاحبه يريد أن يكتمه من الناس تواضعاً؛ فتارة يوقع مقاله هكذا: (ن)، وأخرى هكذا: (القارئ) أو (أزهري (طنطا)). على أن قراء (الرسالة) يعرفون من وراء تلك الرموز.
علق (أزهري (طنطا)) في العدد الماضي من (الرسالة) على مقال كنت نشرته في (الثقافة) (العدد الـ 56) جاء فيه أن أصحاب المعجمات ربما أثبتوا لفظاً في غير مظنته. فأضاف(346/70)
العالم المتواضع إلى الأمثال التي كنت أوردتها مثلاً آخر هو كلمة (تكتم)، ثم ختم مقالته بأمنية تشغل صدور العرب والمشتغلين بالعربية.
وإني متبع تلك الأمثال بمثل جديد، وإليك قصته: كنت استعملت في توطئة (مفرق الطريق) هذه الكلمة: (متمثلات). فجاءني صديق بصير بمفردات اللغة وأنكر على الكلمة فقال: أنها لم ترد في المعجمات، وإنما التمثل - كما جاء في القاموس ولسان العرب - هو اتخاذ الحديث أو الحجة مثلاً، ثم إنشاد البيت، ثم الاقتصاص. وزاد الصديق أن الصواب هو (الامتثال)، من قولهم: (مثله له تمثيلاً: صوره له حتى كأنه ينظر أليه، وامتثله هو: تصوره). فقلت للصديق: ولكني أكره (امتثال الشيء) في هذا الموضع، لأن الامتثال غلب عليه معنى الإذعان و (اتباع الطريقة)؛ ثم هذا نص بين يدي في جانبي: قال الخوارزمي في (مفاتيح العلوم) (مصر 1324 ص92): (يقال تصورتَ الشيء إذا تعمدت تصويره في نفسك، وتمثلته وتخيلته) فقال الصديق - وهو من المتشددين - وهل يستشهد بالخوارزمي؟ فقلت: لك رأيك ولي رأي.
واليوم أخبر هذا الصديق أني عثرت - من باب الاتفاق - على (تمثل الشيء) في مادة وهم من (لسان العرب): (توهم الشيء: تخيله وتمثله كان في الوجود أو لم يكن). ولم أجد هذا في (القاموس)، غير أنك تجد عبارة (اللسان) في مستدرك (تاج العروس) مادة وهـ م.
رجع
وأما قصة (الزلزلة) فلقد فر الكاتب، في عدد الرسالة الماضي، من ميدان المناقلة والمثاقفة إلى ميدان التطاول باللفظ وحده. فقد كنت بصرت الكاتب، في مقالي السابق، وبين يدي الشواهد النواهض، بأمور ثلاثة: الأول أن بحر (المنطلق) ليس من مجزوء (المتدارك) كما وهم أول الأمر، متبعاً وهم غيره؛ فلم ينطق ههنا بكلمة واحدة. والأمر الثاني أن الزلزلة في اللغة ليست بمقصورة على زلزلة الأرض كما وهم أيضاً، إذ هي تفيد الاضطراب والتحرك أول ما تفيد؛ فلم يقو على العناد لأن أحداً من الناس لا يستطيع رد القرآن. والأمر الثالث أن الزلزلة والطرب على مجاورة في لغتنا؛ فلم يقدر على المكابرة لأن أسلوب صاحب (الأغاني) وغيره من البلغاء فوقها، بل جلب إلي شاهداً آخر يعزز قولي (المغنية التي (زلزلت قلوباً))(346/71)
وعلى هذا فقد سلم الكاتب، مرغماً، باني بصرته بما كان يجهل، في ثلاثة مواطن. غير أني أريد أن أنصف القارئ: فقد تشبث الكاتب - بعد تسليمه ذلك - بدليل فريد، لعله أن ينفي به زلزلة الأذن، أي اضطرابها وتحركها، (ومن يتلمس الخطأ لغيره لابد له أن يتشبث بشيء). فقال غير مزلزل القلم: إن أذن الإنسان - من بين جميع الحيوان - لا تتحرك البتة. وهنا أعود إلى تبصير الكاتب بما تواضع الناس على تلقنه وقبوله. فحسبه ما جاء في كتاب قررت وزارة المعارف المصرية استعماله بمدارسها، وعنوانه: (خلاصة الطبيعة - الجزء الرابع: في الصوت) الطبعة الـ 14، مصر 1930، ص125: (شرح عمل الأذن: عند حدوث صوت بالقرب من الأُذن تنقل التموجات الهوائية داخل الأُذن الخارجة وتؤثر في غشاء الطبلة فتهتز بحركة مماثلة لحركة مصدر الصوت، لأن شكل ذلك الغشاء وقوة توتره يمكنانه من الاهتزاز بتأثير أي صوت خارجي). إن الكاتب يظن أن كل الأُذن - وهي جهاز السمع - هو ما يراه إذا نظر إلى مرآته - إلا أن في هذا التبصير الجديد الكفاية. وهل تبصر الخلق ببسائط لغتهم ثم بمبادئ العلوم إلا على جهة التسلي والتلهي؟
تشبث الكاتب بهذا الدليل الفريد - وقد عرفت بطلانه - بعد أن سلم بصحة قولي في الأمور الثلاثة التي كان نازعني فيها. على أن تسليمه بأني بصرته بما كان يجهل أوغر صدره، فنثر حول قهره ما نثر من نفاية الكلام؛ وذلك نتركه له، فليتطوق! فكل يتزين بما تملك يده، و (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
بشر فارس
الدكتور عبد الوهاب عزام
قصدت (القاهرة) في هذا الأسبوع، واشتريت نسخة من (رحلات) العلامة النابغة الدكتور عبد الوهاب عزام أستاذ جامعة فؤاد الأول. وقد رآني أحد خلصاني من أئمة الفضل من الشاميين أحرث مرقومها مستهدياً مستفيداً. فقال لي: ما هذا الكتاب؟
قلت: (رحلات) عبد الوهاب عزام
فقال: اسمع يا شيخ، أيقن أن (مصركم) هذه لم تفضل سائر الأقاليم العربية أنها أكثر منهن عدداً، ومالاً، وعلم أشياء وحضارة في انحاء، وشبه نظام. ولكنها فضلتهن، وتاهت عليهن(346/72)
- وحق لها أن تتيه - بمثل عبد الوهاب عزام. . .
سمعت هذا الكلام في (مصر وعزام)، فكتبته حتى ينتشر في مجلة أخيه أحمد حسن الزيات.
(طنطا)
أزهري
فلم (يوم سعيد)
في اعتقادي أن هذا الفلم أبلغ أفلام عبد الوهاب صعوداً في مراقي الكمال. أنه في صميم الفن من حيث التأليف والإخراج والتلحين والتمثيل والحوار. ولعله الفلم الوحيد الذي لا يخزي المصري أن يعرض في غير مصر، لجاذبية سياقه واطراد حوادثه وسلامة لغته وجمال مناظره وبراعة أدائه. ولقد كانت أفلام عبد الوهاب تعتمد في تعويض الفن فيها على حلاوة صوته وطرافة تلحينه. أما هذا الفلم فإذا جردته من قوة الغناء بقى قائماً على فنه. وقد دل على أن الأستاذ محمد كريم أول المخرجين، وأن الأستاذ عبد الوهاب من أوائل الممثلين. وإذا قارنت بين هذا الفلم وبين ما تنتجه الشركات المصرية من الأفلام الملفقة التي تقوم على الشخصيات المهرجة واللهجات الشاذة ازداد يقينك بأننا لا نزال ننجح أفراداً ونفشل جماعة!
الزيات
في المجمع اللغوي
تأجل اجتماع مجمع فؤاد الأول للغة العربية هذا العام لتعذر حضور الأعضاء الشرقيين والمستشرقين بسبب الحالة الدولية. وقد اقتصر المجمع على متابعة العمل في المعجمات واللجان المختلفة. وتتجه الفكرة الآن إلى تعديل تكوين المجمع تعديلاً يتيسر به الاجتماع بأعضاء مصريين ليتابع عمله طول العام.
وينتظر أن يعرض التعديل الجديد على مجلس الوزراء تمهيداً لاستصدار المرسوم الملكي به. والمظنون أنه سيضاف إلى أعضاء المجمع المصريين نحو عشرة أعضاء ينتخبون من(346/73)
كبار المشتغلين بالبحوث العلمية. وستعلن أسماؤهم بعد صدور المرسوم الملكي تمهيداً لعقد دورة المجمع. وربما عقدت هذه الدورة في أواخر شهر مارس المقبل.
العقيدة الأدبية
صديقي
إليك أقدم تحية الأخوة وإن لم أرك، فقد تفضل أخونا الزيات وأطلعني على رسالتين كريمتين خطتهما يمناك، ومن قبل ذلك قدم إلي طوائف من الرسائل شهدت بأني موصول القلب بإخوان كرام أوفياء يرون الصداقة الروحية أعظم وأصدق من الصداقة التي تخلقها المنافع أو لطف الحديث.
ولن يطول الحجاب بيني وبينك، أيها الصديق، فقد اتفقت مع الأستاذ الزيات على إعلان عواطف القراء من حين إلى حين، فيرى قراء الرسالة أسماء كريمة لرفاق أعزاء تجمع بينهم الأخوة في الأدب، كما تجمع أخوة الدين بين الأتقياء والصالحين.
ولا أكتمك، أيها الصديق، أني أتندر على حسابك مع الأستاذ الزيات، فعهدي بك تنص على أنك تحبه كما تحبني، وهذا تلطف يستحق التشجيع، لأن الزيات من اعز أصدقائي، وهو أيضاً رسولك إليّ، والمحب يتلطف مع الرسول!
أنا أعرف منزلتي عندك، أيها الصديق، والزيات يعرف أني عندك الحبيب الأول، فلا بأس عليك إن تجاهلته حين تعلن إعجابك بأسلوب، فقد يكون الزيات - أطال الله في حياته - آخر من يقبل التضحية بحظه من أجل الصديق.
ثم ماذا؟
أريد أن أغتنم الفرصة الذهبية التي جمعت بين قلبي وقلبك، وإن لم أرك، فأفضي إليك بحديث ينفعني وينفعك في الأيام المقبلات
فمن أنت في دنياك؟
يظهر مما قرأت لك انك تريد أن تكون كاتباً يسيطر على قراء اللغة العربية في المشرق والمغرب، ويملك القدرة على تحويل الناس من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال.
وأنا حاضر لإرشادك، أيها الصديق، فما يسرني أن أتفرد بمحنة الأدب والبيان، فهل تعرف جوهر النصح الذي أقدمه إليك؟(346/74)
إن أساتذتك علموك أشياء ترجع في جملتها إلى فهم علوم اللغة العربية من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع وعروض، وهي علوم نفيسة جداً، ولكنها لم تصل بأصحابها إلى شيء، فقد كنت لعهد التلمذة أكتب لأساتذتي ما يريدون توجيهه إلى الرؤساء والوزراء، ولو شئت لقلت إني أديت امتحانات أمام أساتذة فضلاء لم تكن دروسهم إلا قبساً مما جاد به قلمي على أولئك الأساتذة الفضلاء. فما هو سر البيان الذي أريد أن أفضي به إليك؟
هو العقيدة الأدبية، هو العقيدة الأدبية، هو العقيدة الأدبية
ولن تكون كاتباً ولا شاعراً ولا خطيباً بدون تلك العقيدة وإن كنت أعرف الناس بالدقائق من علوم اللغة العربية!
فما هي تلك العقيدة؟ هي روحك، أيها الصديق، ولا قيمة لأديب يعيش بدون روح!
الأدب في جوهره صورة من الروح الشفاف الذي ترتسم عليه صور الوجود، فإن كان لك روح، فأنت أديب، وإلا فأنت نسخة ثانية من الشيخ فلان الذي لا يعرف من الأدب غير قواعد النحو والتصريف.
العقيدة الأدبية هي أن تغار على الأدب، كما يغار رجال الدين على الدين. فأين أنت من تلك العقيدة، أيها الصديق؟
أنت تعرف أن في الدنيا ناساً عانوا أبشع ضروب الاضطهاد بسبب التمسك بعقائدهم الدينية، ومذاهبهم السياسية، فأين أنت من أولئك وهؤلاء؟ وما الذي أعددت من ضروب التضحية في سبيل الأدب، وهو غذاء قلبك وروحك؟
إن الأديب الحق يحدثك عن نفسك بما تجهل من شؤون نفسك. فما جزاؤه عندك وهو يستكشف الخفايا من ضميرك وروحك؟
ما جزاؤه عندك وهو يشقى لتسعد، ويموت لتعيش؟
أنا أعرف جزاء الأديب عندك، أيها الصديق، فأنت خصصتني بكلمات طيبات أرهفت حسي وأذكت بياني، وسأذكرها بالخير ما حييت. ولكن، ما الذي يمنع من أن تتقدم لمعاونتي على ما أحمل من أعباء؟
أتقول: إن الزيات لا يستجيب لندائك في كل وقت؟
إن كان ذلك، فقدم إلي ما يهمك نشره لأحتال في عرضه على القراء بأسلوب يرضيهم(346/75)
ويرضيك، إلى أن تعرف كيف تفرض رأيك وأسلوبك على أولئك القراء!
وتقول انك بكيت ما طاب لك البكاء حين قرأت مقال أحد الكتاب عن (نميمة الأسلوب) وأنا بكيت كما بكيت، ولكن فاتك أن تعرف أن ذلك الكاتب لم يشجك ولم يشجني إلا لأنه تحدث عن قلبه بأسلوب صريح يجب أن أتحدث به عن قلبي أو تتحدث به عن قلبك، وهنا تظهر قيمة العقيدة الأدبية، إن كانت تهمك في كثير أو قليل.
صديقي:
ما أحب أن أطيل القول في مخاطبتك، فأنت تعرف عن نفسك أكثر ما أعرف، وإنما يهمني أن تدرك جيداً أن قلبي معك وأنه لم يقد من الصخور والجلاميد حتى يجهل القيمة الذاتية لعطفك عليه بلا مواربة ولا رياء.
وسيأتي يوم يكون فيه للقلم دولة، وفي ذلك اليوم وهو قريب تعرف فضل روحك في إذكاء المشاعر والعواطف والقلوب.
فإن فاتك أن تكتب كما أكتب وكما يكتب الزيات فلن يفوتك أن تكون من أهل القدرة على تأريث جذوة الأحاسيس.
ومن أنا؟ ومن الزيات؟ ومن الكتاب المصطفون عندك؟
نحن قوم كوتنا صروف الأيام والليالي، فإن اكتوت يدك كما اكتوت أيدينا فستملك من السيطرة على القراء أكثر مما نملك وقد يلقاك الدهر بأفضل وأجمل مما يلقانا، وهو عندنا غادر جحود
قد عيب علينا، يا صديقي، أن نشكو الدهر ونحن في سعة من العيش، وسيرتقي ذوقك فتدرك أن الخواص لا يشكون جوع البطون، وإنما يشكون جوع القلوب.
وآه ثم آه من جوع القلوب!!
زكي مبارك
رأي الأستاذ النشاشيبي في نهج البلاغة
سيدي الأستاذ صاحب (الرسالة الهادية)
الرجاء أن تتكرموا بنشر ما في أضعاف كتابي علامة العربية وأديبها العبقري الأستاذ(346/76)
الجليل (محمد إسعاف النشاشيبي): (الإسلام الصحيح، وكلمة في اللغة العربية) مما يخص (نهج البلاغة). فإن الكتاب الأول ممنوع في العراق (؟!!) - كما يعلم الأستاذ الجليل بالطبع - والكتاب الثاني أندر من رائد الحقيقة في هذا الزمان. . .
وذلك رغبة وشوقاً - والرغبة هنا ملحة، والشوق أكيد لما نعرف من فضل أستاذنا الجليل النشاشيبي وعلمه وخطره، أطال الله بقاءه ونفعنا به - إلى أن نقرأ مقال أستاذ البلاغة في (نهج البلاغة)
مشكور الأسدي
عضو جمعية الرابطة العلمية الأدبية في النجف الأشرف
(الرسالة): الكتابان منشوران مشهوران يباعان في مكاتب القاهرة، ولم يقع في علمنا أن حكومة العراق منعت كتاب (الإسلام الصحيح)(346/77)
رسالة النقد
طب العقل والنفس
تأليف الدكتور محمد حسني ولاية
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
الطبيب محمد حسني ولاية من أطباء صحة بلدية الإسكندرية أديب شاب يشارف الثلاثين، متخصص في طب المناطق الحارة والصحة العامة. قضى مدة في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية دارساً، فاسترعى انتباهه أحوال المصابين بأمراض عقلية واضطرابات نفسية، فكان له من ذلك حافز نفسي على دراسة الجنون دراسة علمية من جانبيها النظري والعملي. وكان ثمرة هذه الدراسة كتابه (بين العقل والجنون) الذي أصدره لعامين مضيا. وهو اليوم قد أخرج للناس كتاباً جديداً عنوانه (طب العقل والنفس) وهو ثمرة دراسة نظرية للأمراض العقلية والاضطرابات النفسية، اعتمد فيها على آراء علماء مدرسة التحليل النفسي، وبالأخص فرويد وأرلد ويونج. ويكاد يكون الكتاب في المجموع تلخيصاً لآراء هؤلاء، أو ترجمة لبعض الفصول التي عقدوها عن الجنون والاضطرابات النفسية ومسائل العقل والوجدان والنفس. فمن هنا للكاتب أساس وثيق بآراء زعماء مدرسة التحليل النفسي وهو يقف عند حدود آرائهم فلا يتجاوزها في شيء إلى آراء المدرسة المسلكية، أو النموذجية الألمانية، أو الميكانيكية الروسية في هذه الشؤون.
واعتماد المؤلف في دراسته للموضوع على بضعة مراجع محدودة لزعماء مدرسة التحليل النفسي أبعدت بينه وبين تكوين فكرة واضحة بينة الخطوط ظاهرة المعالم عن الموضوع، فكان من ذلك الاضطراب في تناول بعض الموضوعات (لا كلها). كما هو ملحوظ في فصل (الحب المتجانس عند المرأة) وفصل (اللاوعي). وهذا الاضطراب قد يبدو أكثر وضوحاً إذا لاحظنا أن المؤلف مثلاً لم يعتمد بالنسبة لفرويد وهو رأس مدرسة التحليل النفسي، إلا على مصدرين: أحدهما منتخبات من آثاره، والأخر مذكرات ورسائل له. وهذا أبعد الكتاب عن الوحدة المطلوبة في الكتب، ومن هنا جاءت فصول الكتاب غير متجانسة، فهذا فصل عن فرويد وأخر عن ارلد وبين هذا وذاك فصل ليونج، وهي بعد ذلك تتناول(346/78)
موضوعاً واحداً، وهذا لا يجعل إمكاناً لأن يخرج الإنسان بفكرة واضحة عن مواطن الاختلاف ومواضع الاتفاق بين هؤلاء الزعماء الثلاثة لمدرسة التحليل النفسي في المسألة الواحدة. ثم هنالك بعض الاصطلاحات جانب المؤلف فيها المأثور من ذلك استعماله وكأنها تنظر إلى جنس والصحيح أن اللفظ العربي الذي ينظر إليه المصطلح الإفرنجي هو (شق) كما رأى الدكتور محمد بك شرف وجاراه في ذلك المشتغلون بالمباحث العلمية في العالم العربي. ثم عندك استعمال البدوات ناظرة إلى والصحيح - الأوهام - كما قلنا في دراساتنا عن مطران وكذلك استعمال الغرض حيناً والموضوع أحياناً ناظرة إلى والصحيح الوجه الثاني. ثم ترجمة بالعرفي الصحيح والأدبي بالمنتشر والصحيح أن يقال المحتد كما رأى ذلك مظهر سعيد.
كذلك عما يؤخذ على اللغة الاصطلاحية للكتاب فإن المؤلف يقول نفساني ومعلوم أن النسبة تقاس من فعل على وزن فعلي فيقال عقلي من عقل وآدمي من آدم ونفسي من نفس. على انك بعد ذلك تصيب بعض مصطلحات إفرنجية أصاب المؤلف في العثور على المقابل العربي لها، من ذلك استعماله المنضوي مقابلاً لـ وهو أدق من لفظة المنكمش التي استعملها مظهر سعيد
وفي الكتاب مطالعات جديرة بالنظر للمؤلف، تجدها على وجه خاص في بحثه عن أسباب الأمراض العقلية، وهي مطالعات لم يسبقه إلى بعضها أحد. كما تجد في الكتاب آراء ومطالعات تحتمل المناقشة، خصوصاً فيما يذكره يونج عن الزواج التجريبي الذي دعا إليه القاضي وفيما يقدره هو عن العلاقات (الجنسية) التي توجد بين الطلبة.
على أنه بعد ذلك على الرغم من هذه المآخذ، فالكتاب جدير بالنظر والمطالعة فهو يحوي في تضاعيفه مطالعات قيمة عن الحياة النفسية والشعورية وعن الاضطرابات التي تستولي على النفس البشرية، يستفيد منها الإنسان في حياته اليومية، كما يستفيد منها الأديب والعالم في حياتهما الأدبية والعلمية، ومن هنا فالكتاب يشكر عليه صاحبه للمجهود المبذول فيه، وهو خليق بعد بالتشجيع.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم(346/79)
2 - وحي الرسالة
(من واجب (الرسالة) أن تنشر ما يتفضل به عليها الأدباء
الزملاء والأصدقاء من صادق النقد وجميل الرأي في كتاب
(وحي الرسالة) تسجيلا للفضل منهم وللشكر منا)
كتب صديقنا الدكتور بشر فارس في جريدة المقطم:
هذا كتاب يريحنا مما يخرجه بعض المنشئين لهذا العهد، وهم لا يفطنون إلى أن الكتابة صناعة. في فصول هذا الكتاب تصيب المنحى الحسن، والتنسيق المطرد، ثم اللفظ المتخير، والسبك المحكم إلى جانب التبصر. وأسلوب الأستاذ الزيات الترسل في بسط العبارة، والترفق في تدوين الفكرة. ويهدد هذا الأسلوب في غالب الأمر سرد الألفاظ، وتكلف الأداء. وقد نجا أسلوب هذا الكتاب من هذين الخطرين بفضل سليقة صاحبه السليمة وترسمه خطى البلغاء من كتاب العرب الجاعلين للديباجة المكان الأول. ومما ينشأ عن هذا الأسلوب الإطناب المقبول، وإن قال الأستاذ في فاتحة كتابه إن الإيجاز صفته، إلا إذا عنى بالإطناب ساقط الكلام وفضول القول بتطويل وحشو لغير فائدة
وموضوعات الكتاب إن هي إلا معرض ألوان شتى من التأليف: إنشاء ونقد ووصف ونظر في الحياة الجارية، فمن الإنشاء (لماذا ترجمت آلام فرتر) وفيه هفوة القلب ونبضة العرق، ومن النقد (مصطفى صادق الرافعي) و (أحمد زكي باشا) وفيهما تبرز خصائص الكاتبين في اعتدال إذ تذكر مواضع الإكبار ومواطن الأخذ جنباً لجنب. ومن الوصف ما ينساب هنا وهنا من تصوير لطرق المدينة وحقول الريف وشواطئ البحر وضفاف النيل. ومن النظر في الحياة الجارية تلك المقالات الرصينة مثل (داء الوظيفة) و (الفردية علتنا الأصلية) (وهنا أوثر كلمة التفرد كما بينت في (مباحث عربية)) والزيات في هذه المقالات لاذع القلم نافذ البصر: إنما بغيته التنبيه على جوانب الضعف الخلقي والتنديد بنواحي الفشل الاجتماعي، وكتابة الأستاذ هنا لا تنجذب إلى الأسلوب الفلسفي المجرد ولكنها كتابة مصلح يصف الداء المقيم ويبين آثاره وعقابيله.
وفي تلك الموضوعات، على تنوعها، تطاوع اللغة الكاتب وتتأنى له ألفاظها وتعبيراتها(346/81)
المتواترة، وذلك لأن الزيات يعرف كيف يستخرج المخبآت وينقب عن الدقائق. وهو إلى هذا التضلع من أساليب القدماء يكره التشدد والتنطع، حتى أنك تراه يستعمل اللفظة الأعجمية على وجهها إذا تطلبها السياق. من ذلك لفظة (الإيديال) ص46 و (المثل الأعلى) و (التاكسي) ص468 و (الفترينات والصالات) ص479. واكبر الظن أنه يرقب من مجمع اللغة العربية أن يعالج مثل هذه الألفاظ، وإني لأخشى أن تطول رقابته.
إن (وحي الرسالة) مجموعة مختارة مما سطره الأستاذ الزيات في مجلة (الرسالة)، وهذه المجلة تستقبل سنتها الثامنة. و (الرسالة) في صدارة المجلات العربية لهذا العهد. ومما تمتاز به أنها معترك الحركة الأدبية: من وجه تسجل مجرى الأدب، ومن وجه تعرض المستحدث منه، فخطتها الركز والوثب معاً. ومن هنا ما فيها من التلون. وآفة المجلات أن يركد ماء وجهها. فمن وراء ذلك الشحوب فالزوال. ويعين على ذلك التلون أن أقلام كتاب الرسالة متغايرة في التثقف والمضاء، وإن فيها أبواباً ساكنة وأخرى مائجة. وربما وضعت هذه الأشياء مواضعها في بلد يكثر فيه الاضطراب ويصول الهوى
بشر فارس
وقالت زميلتنا الدستور:
الأستاذ أحمد حسن الزيات كاتب تسمو عبارته على النقد، ويرتفع سياقه إلى مرتبة الإعجاز، وتتصل بلاغته بالقلوب لدقته ورصانة نسجه وسمة الصدق المتجلية في عبارته. وقد أصدر حضرته مجلة (الرسالة) منذ سبع سنوات؛ وألف أن يصدرها كل أسبوع بمقالة من وحي خاطره وفيض بيانه، حتى اجتمعت له باقة من هذه المقالات متخيرة الألفاظ متسامية الطراز، تتيه ببراعة أسلوبها دولة الكتاب وترنو إلى إعجازها أعين الأدباء.
وسنعود إلى عرض بيان الأستاذ الزيات في صفحة الدستور الأدبية المقبلة.
وقد احسن الأستاذ الزيات إذ جمعها في كتاب سماه (وحي الرسالة) ونشره في مطلع العام الجديد مورداً عذباً للأدب والأدباء ومشرعاً سائغاً لطلاب اللذة والمتاع الروحي والفائدة في كل باب. . .
وقالت زميلتنا البلاغ:
يطالع الكاتب الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات قراءه العديدين في مجلته (الرسالة)(346/82)
بافتتاحياته الممتعة التي تعتبر مثالاً عالياً في حسن الأسلوب وفي تخير الموضوع ودقة التعبير عن الفكرة؛ وقد تابعوه سبع سنين ينتظرون بلهف ما تدبجه براعته سواء في الأدب أو في النقد أو في السياسة أو في الاجتماع أو في تحليل الشخصيات، فيكون على الدوام عند حسن عقيدتهم فيه؛ براعة تفكير، ومتانة أسلوب، وسرعة نفاذ إلى القلوب
وقد تخير الأستاذ الزيات فصولاً مما كتبه للرسالة في ست سنين وجمعها بين دفتي كتاب واحد سماه (وحي الرسالة) وأصدر المجلد الأول منه في هذا الأسبوع في طبع أنيق وورق مصقول، فجاءت هذه الفصول كما قال في مقدمتها: متسمة بالصدق وإن كتبت عفو الخاطر ومجاراة المناسبة
ولاشك أننا في غنى عن أن نقدم (وحي الرسالة) إلى القراء فالأستاذ الزيات في غنى عن كل تقريظ وإنما يقرظه أدبه وأسلوبه وسعة اطلاعه؛ ويكفي أن نقول أن كل قارئ مثقف لا غنى له عن مطالعة هذه الفصول الممتعة مما كتبه الأستاذ الزيات
0
2(346/83)
العدد 347 - بتاريخ: 26 - 02 - 1940(/)
من بريد الرسالة
على غير انتظار ولا توقع وجدت اليوم في بريد الرسالة كتاباً من السيدة حياة. والذين كانوا يقرءون جريدة (الليبرتيه) على عهد ليون كاسترو، أو مجلة الرسالة في عامها الأول، لا يزالون يذكرون ولاشك هذا الاسم الجميل وذلك الأسلوب الساحر وتلك القريحة النسوية الصافية التي تخلق من الشعر والمنطق صوراً من الفكر الرصين البارع
ذلك الكتاب كذينك الكتابين وردي الغلاف أنيق الخط مصري الروح فرنسي اللغة؛ ولكنه يختلف عنهما بمعان من المحافظة والاعتدال لعلهما رجع المبالغة والإسراف في حياة المرأة المصرية الحديثة
لا أحب أن أفقدك شيئاً من جمال هذا الكتاب بتلخيصه أو اقتضابه، فإنه
في ذاته وحدة من البيان الصريح والقول الشارح لا تقبل توطئة ولا
تجزئة. فأنا أترجمه إليك ترجمة لا تخالف الأصل إلا في اللفظ؛ أما
تأليف الجملة، وتنسيق الفكرة، وتلوين الصورة، فذلك كله لفن الكاتبة.
وإذا علمت أن السيدة حياة إنما تكتب بروح عربية وطبيعة مصرية،
سهل عليك أن تدرك سر هذا الائتلاف العجيب بين العربية والفرنسية
في قلمها المبدع
أستاذي العزيز
مازلت أوثر أن أكتب إليك بالفرنسية على الرغم من بلوغي في البيان العربي بفضل الرسالة مكانة لا بأس بها. وسبب هذا الإيثار أن المرء يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولغتي العربية لا تزال عاجزة عن رياضة هذا القلم في يدي، فإذا كتبت بها إليك أهملت ما أكتب فتسيء إليّ، أو أعملت فيه قلمك فتزوره علي. وأنا كأكثر النساء مستكبرة أنوفة، فلا أحب أن أكون من الرجل في موضع الإهمال أو المعونة
أكتب إليك في صباح ليلة ساهرة ثائرة تقسمت مشاهدها العجيبة خواطري ومشاعري، فكأنني لم أشهد قبلها ليلة! والحق أن ليلة (مبرة محمد علي) في هذا العام كانت بدعاً في(347/1)
نظامها وبرنامجها والاحتفال بها والإقبال عليها والديمقراطية فيها
لقد كان قصر المعرض بالجزيرة معرضاً حقيقياً لمجتمعنا الحديث. فالأميرات والعقيلات والآنسات والممثلات يصاحبهن أو يراقصهن أو يجاورهن الأمراء والكبراء والموظفون ورجال الفن؛ وكلهم على النمط الغربي الرفيع في أناقة الزي ورشاقة الحركة وأسلوب التحية ومراعاة الرسوم وإجادة الرقص، حتى خيل إلي أن الحفلة في (الجران باليه) بباريس لا في السراي الكبرى بالقاهرة
كنت أتنقل أنا وزوجي من مقعد إلى مقعد، ومن مشهد إلى مشهد، في مسرح اللهو، وفي حلقة الرقص، وفي المقصف، وفي (القهوة البلدية)، فأجد أخلاطاً من الناس يشتركون في المظهر، ولكنك تستطيع أن ترجعهم إلى بيئاتهم المختلفة من طريق الهندام ولهجة الكلام واختلاف الوضع. يسهل ذلك التمييز في الرجال ويصعب كل الصعوبة في النساء؛ لأن المرأة بفضل السينما والرياضة استطاعت أن تشأي الرجل في مضمار المدنية الغربية، فهي في إتقان زينتها وفستان سهرتها وانسجام سمتها لا تكاد تختلف عن كواكب هوليود؛ أما هو فبطيء التطور عصي الطبع لا يغشى أمثال هذه الحفلات إلا مسوقاً بإرادة زوجته أو ابنته
لعلك تذكر أني كتبت إليك منذ خمس سنوات كتاباً قلت فيه عن حرية المرأة إنها مسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا؛ وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه، والأمر لا يخرج عن كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من سيطرة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. فحرية المرأة كحرية الأمة، سبيلهما الفعل وحجتهما القوة؛ أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج
قلت ذلك وما كان يهجس في صدري أن المرأة في هذه المدة القصيرة تستطيع أن تنزع من الرجل قيادتها وحريتها ثم تغلبه على إرادته وكرامته فتروضه هذه الرياضة وتخضعه هذا الخضوع!
لقد كنت أرى المرأة في هذه الليلة تراقص الغريب وتضاحك الكأس، وزوجها أو أبوها(347/2)
يهيئ لها فرصة المعرفة ويسعى لها بوسائل اللذة، فأجدني أنا داعية الحرية النسوية بالأمس، أشد النساء ضيقاً بها وسخطاً عليها اليوم، لأن هذه الحرية - بالقياس إلى الحرية التي كنا ننعم بها وندعو إليها - إباحية وفوضى؛ وذلك في الحق علة ما نرى من التنافر بين الفتى والفتاة، فقد كان الظن أن يزول بالتعلم ما بينهما من تنافر العلم والجهل، فأصبح هذا التنافر معززاً بتنافر الحشمة والتهتك. ومادام الانسجام مفقوداً بين الجنسين إما لتقدم الرجل على المرأة في العلم، وإما لتقدمها هي عليه في المدنية، فهيهات أن تنفرج أزمة الزواج أو تستقيم حال الأسرة
كانت هذه الحفلة في السنين الخوالي مظهراً للحرية القصد والبر الخالص، فمازالت عوامل التقليد والتجديد تلح على مزايا الأنوثة وخصائص الجنس حتى أصبحت معرضاً للجمال والدلال والزينة؛ وذلك بالطبع سر نجاحها ورباحها، وهو مغنم لغايتها الشريفة على أي حال
إني ألمح على المرأة في نادي السيدات وفي بعض الحفلات نزوعاً إلى تعدي الحدود التي جعلها الله بينها وبين الرجل، فإذا لم نعاجله بالفطام والكبح أعضل الأمر وفسد المجتمع
ولعلي يا سيدي أشير في (الرسالة) إلى مواطن الداء الحين بعد الحين ليتسنى لأرباب القلم وصفه، ويسهل على أقطاب الحكم علاجه.
أدام الله عليك التوفيق وأعانك بالسداد على مواصلة الجهاد في تبليغ الرسالة. . .
(حياة)
هذا كتابك يا سيدتي قرأته وترجمته ثم نشرته، وسأعود إليه بالتعليق والتحقيق في فرصة أخرى.
أحمد حسن الزيات(347/3)
1 - في أرجاء سيناء
للدكتور عبد الوهاب عزام
من السويس إلى أبي زنيمة
تواعَد السّفْرُ ميدانَ إبراهيم صباح الأحد حادي عشر ذي الحجة سنة 1358 - (21 يناير سنة 1940)، ووقفنا على مصر الجديدة ريثما يركب الرفقاء الذين يقطنون هناك. ثم سار ركبنا في سيارات ست يؤم السويس، وليس في طريق السويس ما يتحدث عنه إلا بقايا المنارات التي كانت على طريق البريد.
ولما بلغنا السويس تواعدنا أن نلتقي عند منتهى الترعة الإسماعيلية بعد أن تتزود السيارات وسائقوها بما يحتاجون إليه من المدينة. وكان السائقون كلهم من هذه المدينة وممن خبروا طرق سيناء.
فارقنا المدينة ظهراً، فوقفنا بعد قليل عند معبر القناة ريثما قدمنا الأوراق والصور التي تبين أشخاصنا ووجهتنا، ثم عبرنا. وكان الغداء قد حان، فرأينا أن نتزود للبيداء فتفرقنا يأكل كل واحد زاده. . . ولست أقول قول أبي العتاهية:
قد رمى المهدي ظبياً ... شق بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل ... امرئ يأكل زاده
وهي الوجبة الواحدة التي لم يجتمع عليها السفر. وكنا استثنيناها تعجلاً للمسير، فاتفقنا على أن يأتي كل مسافر بالغداء في اليوم الأول.
وكان في اختلاف الأطعمة مثار لأسئلة: ماذا عندك يا فلان؟ وماذا تأكل يا فلان؟ وكان أكثر الناس تطلعاً إلى السؤال بعض رجال التاريخ. وذكرني هذا قول أبي الطيب:
وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من ردّه تعليل
تهيأنا للمسير، وصفر دليل الركب الدكتور حزين إيذاناً بالسير فلم نهيب إقدامنا على مجاهل سيناء وسلوك طريق بني إسرائيل، لأن الطريق مطروقة، والأمن شامل، والزاد موفور، والسيارات ضمينة بإبلاغنا غايتنا قبل الغروب. . .
سرنا صوب الجنوب فسايرنا القناة حيناً، ثم خليج السويس حتى حالت بيننا وبينه التلال.(347/4)
وبعد نصف ساعة مررنا بعيون موسى، وهي على 24 كيلاً من معبر القناة. ولم نعرج على العيون إلا في رجوعنا، وكنت رأيتها مرة من قبل. وهي ينابيع متفرقة متقاربة، يرى المتأمل فيها فوران الماء من قاعها إلى سطحها، وكل ينبوع بركة يفيض ماؤها في الرمل فلا يجري، وحولها نخيل وأشجار من الطرفاء؛ وهي اثنتا عشرة عيناً، وقد ذكرت في القرآن الكريم: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
وذكرت في التوراة باسم إيليم. ففي سفر الخروج (الإصحاح 16): (ثم جاءوا إلى إيليم، وهناك اثنتا عشرة عين ماء وسبعون نخلة، فنزلوا هناك عند الماء)
وقد نقلت الحكومة إليها سمكا لمنع حمى الملاريا
مضت السيارات في أرض مقفرة قليلة النبات، ثم تغير مرأى البيداء، ولاحت أشجار كثيرة من الطرفاء، جاوزناها إلى أرض غير مشجرة يسم وجهها نبات متفرق من العيثران والرتم والسلة وأعشاب مختلفة. ثم دخلنا وادي الطيبة بين جبال عالية مختلفة الألوان والأشكال؛ فتكاثرت الأشجار البرية متفرقة، وبدت على وجه الأرض إمارات الحياة حتى انعطف الوادي إلى اليمين تلقاء البحر، فإذا غيضة يترقرق الماء فيها، ويلتف فيها الطرفاء والنخيل؛ وهو منظر يوحي إلى المسافر الروح والسرور بعد المناظر القاحلة التي طال سيره فيها. وبعد ثلاثة كيلات من هذه الغيضة بلغنا شاطئ الخليج - خليج السويس - بعد أن قطعنا من القناة مائة وعشرين كيلاً
هناك تبعد الجبال عن البحر قليلاً فتترك بينها وبينه أرضاً رملية مستوية، وعلى الشاطئ شركة إنكليزية تستخرج المنغنيز وهو حجر مسود حديدي يستعمل في صناعة الصلب أو الفولاذ. وهناك مبان للشركة ومساكن للعمال وهم زهاء ألف من المصريين، وسكة حديد لنقل المنغنيز إلى الميناء، وميناء لإرساء السفن
سألنا عن منزل الحكومة (استراحة) فسار معنا خادم موكل به، فرأينا بناء جميلاً طبقة واحدة فيها خمس غرف ومرافقها وأمامها طُنُف واسع. وهذا المنزل بني حينما عزم الملك فؤاد رحمه الله على زيارة سيناء. فهو من آثار عنايته بالصحارى المصرية(347/5)
نزلنا هناك بعد الغروب فأمضينا ليلة سعيدة في هواء منعش معتدل يحيط بنا مشاهد رائعة من الجبال والبحر أضفت عليها القمراء نورها وبهجتها. ولا أنسى مطلع الشمس هناك بين قنن الجبال القريبة ومغربها على ساحل الخليج الغربي عند جبال الزعفرانة تلوح على بعد كأنها قطع السحاب أو الضباب
إن في هذه الأمكنة وما يشابهها لَمَراداً للمصريين يستجمون من عناء العمل، ويمتعون الروح والجسم بين الهواء والماء، وحرية الصحراء والمرائي الجميلة، ويعرفون مجاهل وطنهم وما فيها من معادن ونبات
وأصبحنا يوم الاثنين مزمعين التجوال في البرية ورؤية معادن المنغنيز وآثاراً مصرية قديمة في مكان يسمى سراية الخادم فاستمعنا من الدكتور حزين كلمة عن سيناء وجبالها ومعادنها. ثم سرنا في وادي الطيبة وملنا ذات اليمين حتى رأينا معادن المنغنيز وهي حفر ساذجة تقطع منها الأحجار لا يكلف قطعها عناء ولا تغلغلاً في بطن الأرض. ثم سرنا نبحث عن الآثار ولقينا في طريقنا بدوياً معه غنمة وجمال تحمل رحله ونساء وصبية، فكلمناه وأخذنا صورته. وسألته عن شجر صغير يكثر في البادية لا جذع له تنبت أغصانه من جذره مستقيمة دقيقة، له ورق مستطيل دقيق. فقال: هذا الرتَم. فذكرت قصة المتنبي حينما خرج من مصر وسلك سيناء وخانه عبيده فضرب واحداً منهم بالسيف فخر على رتمة. وأنشدت قول الراجز:
نظرت والعينُ مبينة الهّم ... إلى سنا نار وقودها الرتَم
شبت بأعلى عاندين من إضم
واسم الرجل مُطير وهو من قبيلة القرارشة
واستأنفنا المسير فبلغنا مكاناً به نخلات وأشجار وزرع قليل، وإذا بئر تسمى بئر النصب ماؤها قريب عذب
تركنا السيارة وسرنا نبحث عن الآثار واستدللنا رجلاً من غير البدو ادعى معرفة المكان فطال سيرنا وبحثنا على غير هدى، ورجعنا وقد استفدنا من المشي، ورأينا من الأودية والجبال والأشجار والعشب ما عزانا عن الآثار المفقودة. ولم نقل: قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها.(347/6)
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(347/7)
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
يحدث بين اللغات ما يحدث بين أفراد الكائنات الحية وجماعاتها من احتكار وصراع وتنازع على البقاء وسعي وراء الغلب والسيطرة. وتختلف نتائج هذا الصراع باختلاف الأحوال: فتارة ترجح كفة أحد المتنازعين، فيسارع إلى القضاء على الآخر مستخدماً في ذلك وسائل القسوة والعنف، ويتعقب فلوله فلا يكاد يبقي على أثر من آثاره؛ وتارة ترجح كفة أحدهما كذلك، ولكنه يمهل الآخر، وينتقص بالتدريج من قوته ونفوذه، ويعمل على خضد شوكته شيئاً فشيئاً حتى يتم له النصر؛ وأحياناً تتكافأ قواهما أو تكاد، فتظل الحرب بينهما سجالاً، ويظل كل منهما في أثنائها محتفظاً بشخصيته ومميزاته.
وينشأ هذا الصراع عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله؛ وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي.
وكلا العاملين ينتهي أحياناً إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى، وأحياناً إلى بقائهما معاً جنباً لجنب.
وسنقتصر في هذا المقال على بيان الحالات التي يؤدي فيها العامل الأول إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى، وما يمتاز به هذا التغلب من خصائص، وما يتصل به من شئون، مرجئين تكملة البحث إلى مقالات تالية.
قد يحدث على أثر فتح أو استعمار أو حرب أو هجرة. . . أن ينزح إلى البلد عنصر أجنبي ينطق بلغة غير لغة أهله، فيشتبك اللغتان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب إحداهما، فتصبح لغة جميع السكان قديمهم وحديثهم، أصيلهم ودخيلهم. ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون كلا الشعبين همجياً قليل الحضارة منحط الثقافة، ويزيد عدد أفراد(347/8)
أحدهما على عدد أفراد الآخر زيادة كبيرة. ففي هذه الحالة، تتغلب لغة أكثرهما عدداً سواء أكانت لغة الغالب أم المغلوب، لغة الأصيل أم الدخيل؛ على شريطة أن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. فمن ذلك أن الإنجليز السكسونيين، حينما نزحوا من أواسط أوربا إلى إنجلترا، لم تلبث لغتهم أن تغلبت على اللغات السلتية التي كان يتكلم بها السكان الأصليون. وذلك لأن عدد من بقي من السلتيين بهذه الأقاليم لم يكن شيئاً مذكوراً بجانب عدد المغيرين؛ وكلا الشعبين كان همجياً منحطاً في مستوى حضارته ومبلغ ثقافته؛ وكلتا اللغتين تنتمي إلى فصيلة اللغات الهندية - الأوربية - والنورمانديون حينما أغاروا على إنجلترا في منتصف القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم أقاليمها، لم تلبث لغة الشعب المقهور أن تغلبت على لغتهم، فأصبح جميع السكان، أصيلهم ودخيلهم، إنجليزيهم ونورمانديهم، يتكلمون الإنجليزية السكسونية. وذلك لأن الإنجليز المغلوبين كانوا أكثر عدداً من النورمانديين الغالبين؛ ولم يكن لأحد الشعبين إذ ذاك حضارة ولا ثقافة راقية؛ وكلتا اللغتين من الفصيلة الهندية - الأوربية
وقد يحدث أحياناً في هذه الحالة أن تتغلب لغة على أخرى من غير فصيلتها. ولكن هذه الظاهرة نادرة الحدوث، ولا يتم التغلب فيها إلا بصعوبة وبعد أمد طويل. واللغة التي تنشأ من هذا التغلب ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها لشدة الاختلاف بينها وبين لغتهم الأصلية، فتبعد بعداً كبيراً عن صورتها الأولى. فالبلغاريون وهم من أصل (فينواني حينما نزحوا إلى البلقان وامتزجوا بشعوب الصقالبة (السلافية أخذت لغتهم تنهزم شيئاً فشيئاً أمام لغة هذه الشعوب حتى انقرضت وحل محلها لسان صقلبي. وذلك لأن عدد البلغاريين لم يكن شيئاً مذكوراً بجانب عدد الصقالبة الممتزجين بهم؛ وكلتا الفئتين كانت إذ ذاك همجية منحطة في مستوى حضارتها ومبلغ ثقافتها. وقد حدث هذا التغلب مع اختلاف اللغتين في الفصيلة؛ فلغة البلغاريين الأصلية كانت من الفصيلة الفينية، على حين أن اللغات الصقلبية من الفصيلة الهندية - الأوربية، ولكن هذا التغلب لم يتم إلا بصعوبة، وبعد أمد طويل، وصراع عنيف خرجت منه اللغة الغالبة مشوهة محرفة عن مواضعها في ألسنة المحدثين الناطقين بها، فبعدت بعداً كبيراً عن صورتها القديمة. فالبلغارية الحديثة هي(347/9)
أكثر اللهجات الصقلبية تحريفاً وبعداً عن أصولها الأولى
(الحالة الثانية): أن يكون الشعب الغالب أرقى من الشعب المغلوب في حضارته وثقافته وآداب لغته، وأشد منه بأساً وأوسع نفوذاً. ففي هذه الحالة يكتب النصر للغته فتصبح لغة جميع السكان، وإن قل عدد أفراده عن أفراد الشعب المغلوب؛ على شريطة أن تدوم غلبته وقوته مدة كافية، وأن تقيم بصفة دائمة جالية يعتد بها من أفراده في بلاد الشعب المغلوب، وأن تمتزج بأفراد هذا الشعب، وأن تكون اللغتان من شعبة لغوية واحدة أو من شعبتين متقاربتين
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. فقد نجم عن فتوح الرومان في وسط أوربا وشرقيها أن تغلبت لغتهم اللاتينية على اللغات الأصلية لإيطاليا وإسبانيا وبلاد الجول (فرنسا وما إليها) والألب الوسطى والإليريا مع أن الرومان المغيرين كانوا في هذه البلاد أقلية بالنسبة لسكانها الأصليين. وقد نجم عن فتوح العرب في آسيا وأفريقيا أن تغلبت لغتهم على كثير من اللغات السامية الأخرى وعلى اللغات القبطية والبربرية والكوشيتية؛ فأصبحت اللغة العربية لغة الحديث والكتابة في معظم مناطق شبه الجزيرة العربية وفي مصر وشمال أفريقيا وفي جزء كبير من قسمها الشرقي المتاخم لبلاد الحبشة؛ مع أن الجالية العربية في هذه البلاد كان عددها أقل كثيراً من عدد السكان الأصليين
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالباً لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يصل أحياناً إلى أربعة قرون، وقد يمتد إلى أكثر من ذلك. فالرومان قد أخضعوا بلاد الجول (فرنسا وما إليها) في القرن الأول؛ ولكن لم يتم النصر للغتهم اللاتينية على اللغة السلتية التي كان يتكلم بها أهل هذه البلاد إلا حوالي القرن الرابع الميلادي. ومع ما كان للعرب من قوة الشوكة، ورقي اللغة، واتساع الحضارة، وحماية الدين، وسطوة الغالب، لم يتم النصر للغتهم على القبطية والبربرية إلا بعد أمد طويل. على أن اللغة القبطية لا تزال مستخدمة في كثير من الطقوس الدينية الأرثوذكسية؛ واللغات البربرية لا تزال إلى الوقت الحاضر لغة محادثة لدى بعض العشائر المغربية
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل وجهاد عنيف لا يخرج المنتصر من معاركه على نفس الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة(347/10)
من هذا الصراع. بل إن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في كثير من مظاهرها وبخاصة في مفرداتها
ويختلف مبلغ هذا التأثر باختلاف الأحوال: فتكثر مظاهره كلما طال أمد احتكاك اللغتين وكان النزاع بينهما عنيفاً والمقاومة قوية من جانب اللغة المقهورة؛ وتقل مظاهره كلما قصرت مدة الصراع أو خفت وطأة النزاع أو كانت المقاومة ضعيفة من جانب اللغة المغلوبة. فلطول الأمد الذي استغرقه الكفاح بين لغة الإنجليز السكسونيين بإنجلترا، ولغة الفاتحين من الفرنسيين النورمانديين (الذين أغاروا على بلاد الإنجليز في القرن التاسع الميلادي واحتلوا معظم مناطق إنجلترا كما سبقت الإشارة إلى ذلك) ولشدة المقاومة التي أبدتها اللغة النورماندية المقهورة، خرجت اللغة المنتصرة (الإنجليزية) من هذا الصراع، وقد فقدت أكثر من نصف مفرداتها الأصلية واستبدلت به كلمات من اللغة النورماندية المغلوبة، واقتبست منها فضلاً عن هذا مفردات أخرى جديدة. على حين أن لغة بلاد الجول التي انتصرت عليها اللغة اللاتينية لم تترك في اللغة الغالبة أكثر من عشرين كلمة؛ واللغات القبطية والبربرية المغلوبة لم تكد تترك أي أثر في اللغة العربية الغالبة. وذلك لأن الصراع في هذين المثلين، على طول أمده، لم يكن عنيفاً، ولم تلق في أثنائه اللغتان الغالبتان (اللاتينية في المثال الأول والعربية في المثال الثاني) مقاومة شديدة من جانب اللغات المقهورة (لغة الجول السلتية في المثال الأول، والقبطية والبربرية في المثال الثاني)
وتختلف كذلك النواحي التي يبدو فيها تأثر اللغة الغالبة باللغة المغلوبة تبعاً لاختلاف الأحوال التي تكون عليها كلتا اللغتين في أثناء اشتباكهما. ويبدو هذا التأثر بأوضح صورة في النواحي التي تكون فيها اللغة المغلوبة متفوقة على اللغة الغالبة. ولذلك تألف معظم المفردات التي أخذتها الإنجليزية الغالبة عن الفرنسية النورماندية المغلوبة، من كلمات دالة على معان كلية وألفاظ تتصل بشئون المائدة والطهي والطعام. وذلك لأن النورماندية كانت غنية في هاتين الطائفتين من المفردات؛ على حين أن الإنجليزية كانت فقيرة فيهما كل الفقر؛ فعمدت إلى خصيمها المقهور واستلبته ما كان يعوزها قبل أن تجهز عليه. وإلى اقتباسها منه الألفاظ المتصلة بشئون المائدة والطهي وألوان الطعام يرجع السبب في أسلوبها الغريب في تسمية الحيوانات المأكولة اللحم. فكثير من هذه الحيوانات يطلق على كل منها(347/11)
في الإنجليزية اسمان: اسم جرماني الأصل يطلق على الحيوان مادام حياً: , , , واسم آخر فرنسي الأصل يطلق عليه بعد ذبحه وإعداده للطعام: , , ,
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة ينالها كثير من التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتبعد بذلك في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى ويبلغ بعدها هذا أقصى درجاته إذا كانت اللغة المقهورة من فصيلة أخرى غير فصيلة اللغة الغالبة كما سبقت الإشارة إلى ذلك بصدد البلغارية القديمة والصقلبية
والألفاظ الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك كثير من التحريف في أصواتها ودلالاتها وطريقة نطقها، فتبعد في جميع هذه النواحي عن صورتها القديمة، ويظهر هذا بالموازنة بين الكلمات الإنجليزية الآتية والكلمات الفرنسية التي اقتبست منها: , , فإن كل كلمة منها تختلف عن أصلها اختلافاً غير يسير في صوتها ودلالتها وطريقة النطق بها. حتى أن الفرنسي الذي لا يعرف الإنجليزية لا يكاد يتبينها أو يدرك مدلولها إذا سمعها من إنجليزي - وليست هذه الظاهرة مقصورة على الاقتباس الناشئ من الصراع بين لغتين، كتب لإحداهما النصر، بل هي ظاهرة عامة تتحقق في جميع الحالات التي يحدث فيها انتقال مفرد من لغة إلى أخرى.
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها مراحل كثيرة تمتاز كل مرحلة منها بمظهر خاص من مظاهر الانحلال وضعف المقاومة ففي المرحلة الأولى تقذفها اللغة الغالبة بطائفة كبيرة من مفرداتها فتوهن بذلك متنها الأصلي وتجرده من كثير من مقوماته ولكن اللغة المغلوبة، تظل طوال هذه المرحلة محتفظة بقواعدها ومخارج حروفها وأساليبها في تطبيق الكلمات: فيؤلف أهلها عباراتهم ويصرفون مفرداتهم وفقاً لقواعدهم التنظيمية والمورفولوجية: (السنتكس والمورفولوجيا، أو النحو والصرف). وينطقون بألفاظهم الأصلية وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة طبقاً لأسلوبهم الصوتي ومخارج حروفهم؛ حتى أنهم ليستبدلون في الكلمات الدخيلة بالحروف التي لا يوجد لها نظير لديهم حروفاً قريبة منها من حروف لغتهم. . . وفي المرحلة التالية تتسرب إلى اللغة المغلوبة أصوات اللغة الغالبة ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات. فينطق أهل اللغة المغلوبة بألفاظهم الأصيلة، وما انتقل إليهم من ألفاظ دخيلة من نفس المخارج. . . وبنفس الطريقة التي يسير عليها النطق في اللغة(347/12)
الغالبة. فيزداد بذلك انحلال اللغة المغلوبة ويؤذن نجمها بالأفول. ولكنها تظل طوال هذه المرحلة مستبسلة في الدفاع عن قواعدها الصرفية والتنظيمية (قواعد المورفولوجيا والسنتكس) وفي مقاومة قواعد اللغة الغالبة. فيركب أهلها جملهم ويصرفون كلماتهم وفق أساليبهم الأولى. وفي المرحلة الأخيرة تضعف هذه المقاومة شيئاً فشيئاً، فتأخذ قواعد اللغة الغالبة في الاستيلاء على الألسنة حتى يتم لها الظفر، فيتم بذلك الإجهاز على اللغة المغلوبة. فالقواعد في اللغة المغلوبة أشبه شيء بالقلعة التي تحتمي بها فلول الجيش المنهزم وتقاتل عنها حتى آخر رمق، والتي يتم بسقوطها استيلاء العدو على البلاد.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس(347/13)
2 - الحق والقوة
للدكتور إبراهيم بيومي مدكور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب
ليست فكرة الحق بأعلى من فكرة القوة، وليست الحقوق الفردية والاجتماعية من الوضوح بحيث تستلفت النظر كالقوى الطبيعية والإنسانية. ومن المحقق أن الجمعيات الهمجية خضعت لسلطان القوة وانقادت لعوامل البأس والشدة قبل أن تعرف لغة الحق والقانون، ولم تتكون لديها فكرة عن الحقوق واحترامها والتعهدات والتزامها إلا بعد أن خطت خطوات في سبيل الحضارة والمدنية. ولعلها لم تعترف أول الأمر ببعض الحقوق إلا لأنها رأت القوة تلزمها بالاعتراف بها، ثم لم يلبث هذا الاعتراف القهري أن تحول إلى شعور باطني اختياري يدفعها إلى القيام ببعض الأعمال راحة للنفس ومرضاة للضمير. ففكرة الحق إذن بطيئة التكوين، والحقوق الإنسانية لم تثبت ولم تنضج إلا بعد أجيال عدة وحضارات متعاقبة، على أنها لا تزال حتى اليوم خاضعة لسنة النشوء والارتقاء، ولا تزال طائفة منها مختلفاً عليها بين الأفراد والجماعات
ويظهر أن الحقوق في تطورها مرت بأدوار عدة، فكانت في أول أمرها دينية شعبية وشكلية مادية مقصورة على فريق من الناس. فلا حق إلا ما أحقته الآلهة، ولا التزام إلا بما أوجبته التعاليم الدينية، والحقوق في جملتها فريضة فرضتها السماء وطاعة أُعد لمؤديها الثواب المقيم ولتاركها العذاب الأليم. فعن القساوسة ورجال الدين تعلمت الجماعات الأولى بعض الحقوق، وإليها لجأت في إقامة شعائرها والمطالبة بأدائها؛ ولهذا لم يكن ثمة فرق في الشرائع القديمة بين أمر ديني وآخر دنيوي، وإنما الأوامر كلها وحي الآلهة، وترجمة لإرادة عليا يقف البشر أمامها خاشعين خاضعين. . . هذا إلى أن الحقوق كانت في بدء نشأتها شعبية طائفية، فعرفت حقوق الأسرة والقبيلة قبل أن تعرف حقوق الفرد مهما كانت منزلته، وكثيراً ما ضحى به في سبيل قومه وعشيرته دون ذنب أو جريرة، فما كانت له شخصية معروف ولا وجود مستقل محترم. وإذا كانت الحقوق قديماً مظهراً من مظاهر الحياة الدينية، فلابد أن تؤدى على شكل معين وصورة ثابتة، شأنها في هذا شأن الطقوس المختلفة والعبادات المعروفة. وما كانت القبائل الهمجية تفهم من الحق إلا مظهره(347/14)
الخارجي، وجانبه المادي، فلم يكن هناك حق معنوي ولا التزام روحي. ولا يمكننا أن نتوقع في تلك البيئات المحدودة والقبائل المتخاصمة حقوقاً تشمل الأفراد على اختلافهم، بل لأبناء القبيلة الواحدة حقوق لا يمكن أن يقاسمهم فيها أبناء القبيلة الأخرى، ولا زلنا حتى اليوم نفرِّق بين الأجنبي والوطني في بعض الحقوق والواجبات.
غير أن الحقوق الإنسانية لم تقف عند هذه المظاهر الأولى، بل تطورت وتدرجت، فتولد إلى جانب الحقوق الدينية حقوق أخرى مدنية، وأخذت العادات والتقاليد تنزل من النفوس منزلة التعاليم الدينية، وصيغت في قالب أوامر وقوانين محترمة. ورأينا الفرد يبرز بجانب الشعب والقبيلة، فعرفت شخصيته واحترمت حقوقه؛ ومن أهم مميزات حضارتنا الحاضرة احترام الشخصية الإنسانية وتقديس ما لها من حقوق. ومن آثار هذا التطور أن تجردت الحقوق من قيودها الشكلية ومظاهرها المادية، فنشأت حقوق معنوية وروحية تمتاز كل الامتياز عن الحقوق الشخصية والعينية، وأضحى الإنسان، وكلمته حجة، وتعهده وثيقة لا تقبل النقص. وانتهت الإنسانية أخيراً إلى طائفة من الحقوق يتساوى فيها الجميع ولا يفرق فيها بين صغير وكبير، ولا بين أمير وحقير، ولا بين أجنبي ووطني؛ هي حقوق الإنسان كيف كان أصله ومنبته ومستواه الاجتماعي وجنسيته.
ولم يتم هذا التطور عفواً ولم تتنوع هذه الحقوق اعتباطاً وإنما أثرت فيها على عوامل مختلفة وساعدت على نموها واطرادها أسباب شتى. فغرست الديانات بذورها الأولى، ولولا الدين ما عرفت القبائل الهمجية حقاً ولا احترمت مبدأ، وفي تشعب الحياة السياسية والاقتصادية ما قضى بتنوع الحقوق وازديادها، فالنظم الدستورية تعترف للأفراد بحقوق ما كانت تسلم بها الحكومات الاستبدادية، وكثيراً ما طالبت الجماعات بحقوق تحميها من ظلم الظالمين وعدوان المعتدين، والأجهزة والآلات فرضت للعمال على أصحاب المصانع ورؤوس الأموال حقوقاً ما كانوا يطالبون بها من قبل، وكلما امتدت وسائل الحضارة في بيئة ما كثرت الحقوق وتعددت المسئوليات، وليست الحقوق في رقيها وتطورها بخاضعة لعوامل اجتماعية فحسب، بل للفرد في هذا التطور دخل كبير، فكثير من الحقوق لم يسلم به إلا بعد أن دافع عنه وناضل في سبيله أفراد متعاقبون، وكم أدخل العلماء والباحثون على فكرة الحق من تهذيب وتنقيح ما كان للجماهير أن تصل إليهما(347/15)
أظننا، بعد أن عرضنا للحقوق في نشأتها وتطورها، نستطيع أن نفصل في تلك الخصومة المشهورة المتصلة بأصل فكرة الحق وطبيعتها؛ والأخلاقيون، كدأبهم في المسائل العامة والقضايا الكلية، إزاء هذه المشكلة فريقان: فريق مثالي ينظر إلى الحقائق من حيث هي ويصورها بصورها العليا سواء أطابقت الواقع أم لم تطابقه، وفريق آخر واقعي يعتد بالأمور الملموسة ولا يعول إلا على الحس والتجربة، ويرى الفريق الأول أن الإنسان من حيث هو إنسان يستلزم طائفة من الحقوق ثابتة على اختلاف العصور والأزمنة لا تخضع لبيئة ولا لمجتمع، فهي حقوق أقرها العقل واقتضتها الطبيعة دون أن تتقيد بالحياة الاجتماعية أو تتأثر بها، وأما الفريق الثاني فيذهب إلى أن فكرة الحق مكتسبة لم تصل إلى كمالها إلا بعد أن مرت بأدوار عدة وتأثرت بعوامل مختلفة، فليس ثمة حقوق مقدسة لذاتها، ولا مبادئ أقرتها الإنسانية بصرف النظر عما يترتب عليها من أثر، والحقوق الطبيعية المزعومة لا يؤيدها الواقع في شيء، وإذا شئنا أن نوضح فكرة الحق توضيحاً تاماً فلابد أن نلم بهذين الاتجاهين، ونلقي نظرة على هاتين النظريتين
ليست النظرية المثالية حديثة العهد، فهي ترجع إلى القرن السادس عشر، ويأبى أنصارها إلا أن يصعدوا بها إلى التاريخ القديم فيتلمسوا لها أصولاً لدى مشرعي الرومان وبعض فلاسفة اليونان؛ ومُضي المدة كان ولا يزال وسيلة من وسائل ترجيح طرف على آخر. بيد أنها لم تبد في ثوبها الكامل إلا في القرن السابع عشر والثامن عشر لدى كثير من المشرعين والأخلاقيين وفي مقدمتهم الفقيه الهولندي (جروسيوس) والأخلاقيان الكبيران (روسو وكانت) ثم جاءت الثورة الفرنسية فأخذت بها وأعلنت حقوق الإنسان تطبيقاً لها وعول عليها نابليون كل التعويل في وضع قانونه المشهور. وما إن ظهر المذهب الواقعي الذي نادى به (أوجست كونْت) في القرن التاسع عشر وأيده فيه علماء الاجتماع الآخرون حتى أخذت في التضاؤل والتراجع وأصبح الفقهاء والأخلاقيون يشكون في قيمتها العلمية
وتتلخص هذه النظرية في أن العقل الإنساني يقضي بطائفة من الحقوق أقرها الناس أو لم يقروها، فهي ثابتة للأفراد على السواء ولا تسقط بمضي المدة، ومحاربتها في جيل من الأجيال لا تقوم دليلاً على بطلانها، كبعض الفضائل السامية التي لم يستطع أفراد بيئة ما التحلي بها. وهذه الحقوق، فوق أنها عقلية، طبيعية أيضاً، فهي ثمرة من ثمار الطبيعة(347/16)
الإنسانية وضرورة من ضروراتها، ولا يستطيع الإنسان أن يؤدي وظائفه الجنسية والعقلية ويحقق كماله المنشود بدونها؛ ومن هنا جاء هذا التعبير المشهور: (الحق الطبيعي) الذي يعتبر عنوان النظرية المثالية. وإذن الحق فكرة لا أمر وجودي، ومبدأ عقلي لا ظاهرة واقعية؛ والظواهر الواقعية على اختلافها ما كانت لتصل إلى تصوير الحقوق بهذه الصورة المثلى. وقد يسلم بعض المثاليين بوجود حقوق مكتسبة، ولكنها تختلف عن الحقوق الطبيعية كل الاختلاف، ولا تسمى حقوقاً إلا بضرب من التوسع والمجاز؛ وفرق ما بين الحق الطبيعي والمكتسب أن الأول مصحوب دائماً بعاطفة داخلية وشعور باطني يقدسه ويحترمه وتجمع العقول السليمة على التسليم به
لا نزاع في أن هذه النظرية المثالية تصعد بفكرة الحق إلى مستوى المبادئ الثابتة والحقائق المسلمة، وتريد أن تقول إن الحق لم يكن حقاً لمجرد أن العرف رآه كذلك، بل لأن العقل والطبيعة استوجبت أحقيته، ولا نزاع أيضاً في أن المثاليين بوجه عام يذهبون إلى أن الحق والخير والفضيلة ذات قيم ذاتية قدسها من أجلها الناس، وكل ذلك اعتداد بفكرة الحق وتدعيم لها على أساس عقلي لا نتردد في أن نقدره ونجله. غير أن هؤلاء المثاليين يتناسون الواقع والتاريخ ويغفلون كل التطورات التي مرت بها الحقوق الإنسانية ولا ينظرون إليها إلا في مرحلة كمالها ويزعمون أن الحقوق كلها نشأت على هذه الصورة. مع أن حقوق الإنسان لم يعترف بها إلا بعد أجيال وثورات عديدة، ولا تزال حتى اليوم مجال أخذ ورد؛ والحقوق الطبيعية ليست من الجلاء والوضوح بالدرجة التي يتصورها بها أنصارها، فإنا لا نفهم حقاً كانت الطبيعة وحدها مبعثه. وفوق هذا ففكرة الحق مصحوبة بشيء من الحرمة والتقديس لا تستطيع النظرية المثالية أن تفسره، فهناك حقوق نرى من الإثم الكبير أن نخل بها أو نعدو عليها، وما ذاك إلا لأن التعاليم الدينية أحاطتها بسياج من الجلال والرهبة. وفي اختصار، لئن كان المثاليون قد تلمسوا في بعض الحقوق أسباباً عقلية وطبيعية تؤذن بأحقيتها، فليس معنى هذا أن هذه الحقوق إنما استمدت من العقل والطبيعة
لذلك أحسن الواقعيون كل الإحسان في دراستهم للحقوق دراسة تاريخية وتتبعهم لنشأتها وتطورها. والنظرية الواقعية أشبه ما يكون برد فعل للنظرية المثالية، نبتت في القرن(347/17)
السادس عشر؛ ثم نمت نمواً عظيماً في القرن الثامن عشر بفضل جهود بعض المشرعين والأخلاقيين، وبلغت أوجها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. والواقعيون في الحقيقة قسمان: قسم يرد الحقوق كلها إلى أصل من المنفعة العامة، ويرى أنها لم تنشأ ولم تتكون إلا تحت تأثير هذه المنفعة؛ ويذهب القسم الآخر إلى أن الحق وليد القوة، نشأ في كنفها وتربى على حسابها، ولولا القوة ما عرفت الحقوق ولا سلم بها
وربما كان مشرعو القرن الثامن عشر وفلاسفته أول من بنى فكرة الحق على أساس من المنفعة العامة، وفي مقدمتهم أستاذ القانون الجنائي بيكاريا الإيطالي، والأخلاقي الإنجليزي بنتام، والفيلسوف الفرنسي هلفسيوس. ثم جاء واقعيو القرن التاسع عشر عامة ورجال المدرسة الفرنسية خاصة فساروا في هذا الاتجاه وأيدوه كل التأييد. فنرى في إنجلترة جون استورث مل وسبنسر، وفي ألمانيا جيرنج، وفي فرنسا الفقيه الشهير ديجي؛ وكل هؤلاء يلتقون في نقطة واحدة، وهي أن الحقوق أثر من آثار الحياة الاجتماعية، ولولا المجتمع ما عرف حق ولا قدس واجب. فالحقوق إذن تتغير من بيئة إلى أخرى، وتخضع لمختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية. وإذا كانت المصلحة الذاتية تدفع بعض الأفراد إلى التشبث ببعض الحقوق والمطالبة بها، فإن المصلحة العامة هي الحكم الفصل في كل هذه الشئون؛ والشرائع الراقية تتخذ من هذه المصلحة الدعامة لكل القوانين، فلا حق إلا ما طابقها وجاء موافقاً لمقتضياتها، وإذا كان أنصار النظرية المثالية يعتدون بالفرد وحقوقه، فإن هذه الحقوق لم تعرف إلا عن طريق المجتمع؛ وقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الحقوق أول أمرها كانت شعبية طائفية، ثم تطورت على مر الزمان وظهرت حقوق الأفراد بجانب حقوق الهيئات والجماعات
لقد نجح هؤلاء الواقعيون في تفسير الحقوق على ضوء الحاضر والماضي، وربطوا فكرة الحق بالمجتمع؛ فأصبحت ذات وجود خارجي، وبهذا أمكنهم أن يحللوها ويميزوها ببعض الخصائص. ولا نستطيع في العصر الحاضر بوجه خاص أن ننكر ما للمنفعة العامة واعتبارها من أثر في الحياة الاجتماعية، ولكن رد الحقوق كلها إليها يتنافى مع الواقع، فهناك حقوق عمرت طويلاً ودان الناس بها مع مخالفتها الصريحة لها. على أن النظم الاجتماعية لا تخضع لموازنة منظمة بين المنافع المختلفة، وفكرة المنفعة نفسها غامضة(347/18)
غير قابلة للتحديد في يسر، وقد فشلت في توضيح فكرة الخير والشر، ولن تكون أعظم نجاحاً في تدعيم فكرة الحق. ومن الغريب أن أنصار هذه المنفعة العامة هم الذين يقولون إن حب الذات غريزة أولية في حين أن حب الغير غريزة ثانوية فكيف تستطيع هذه الغريزة الثانوية أن تكوِّن الحقوق وتتغلب على الغريزة الأولى؟ ومهما يكن من أمر هذا التناقض فإن هؤلاء المنفعيين وفقوا كل التوفيق في ربط الحقوق بحياة المجتمع وعدها ظاهرة من ظواهر تخضع لكل ما يطرأ عليه من عوامل ومؤثرات
إبراهيم مدكور(347/19)
الكلام هو اللفظ المركب المفيد
شرح الأجرومية!
للدكتور زكي مبارك
ابتسم الزيات وقال: ما هذا التعسف الذي يقع فيه أصحابك الصوفية؟
فقلت: وما شواهد ذلك التعسف؟
فقال: ألم تعلم أن أحدهم شرح الأجرومية بطريقة صوفية؟
ثم رجعت إلى نفسي أحاورها في صمت هو أعنف ما يكون من الضجيج، فقد تذكرت أن حالي في دنياي كان حال الرجل الذي شرح الأجرومية بطريقة صوفية، وأخشى أن أصير إلى ما صار إليه، فلا أظفر من الناس بغير السخرية والاستهزاء!
ولكن، هل أملك التوبة من الشطط والجموح فلا أفجع الناس في أوهامهم من وقت إلى وقت، ولا أشرح لهم الأجرومية بطريقة صوفية؟
وكيف أسكت عنهم وأنا أريد أن أطمئن إلى أن لهم وجوداً ذاتياً يسمح لهم بالرضا والغضب، والقهقهة والأنين؟
إن القلم في يد الكاتب هو المشرط في يد الطبيب!
وكنت لعهد اشتغالي بالطب أعرف مصير المريض بعلامة صريحة، هي إحساسه بوخز المشرط، فإن صرخ عرفت أنه مرجوّ العافية، وإن سكت سكوت الجمود لا سكوت الصبر، عرفت أنه صائر إلى الموت. . .
وهل أنسى اليوم الذي سمعت فيه أقبح ألوان السباب من مريض أعملت فيه المشرط بلا تهيب ولا ترفق لأنقذه من أظفار المنية؟!
ثم اتخذت من القلم مشرطاً أعالج به أمراض القلوب بعد أن فرغت من علاج الأبدان، فما الذي رأيت؟
قضيت سنين بدون أن أسمع من مرضاي صرخة جزع أو شهقة بكاء، فكدت أيأس من سلامة مرضاي، وهممت بتوديع مهنة الأدب كما ودعت مهنة الطب، لأرجع فلاحاً يصاحب الفأس والمحراث في حقول سنتريس. . .
ثم لطف الله بمرضاي فهداهم إلى الصراخ والأنين لأعرف أن الأمل في نجاتهم ليس من(347/20)
المستحيلات
أما بعد فقد حان الوقت لشرح الأجرومية والألفية والسنوسية بطريقة صوفية
حان الوقت لشرح عجائب النهار وغرائب الليل
حان الوقت لعلاج العقول والقلوب والأذواق والأحاسيس ولكني أخاف. . .
ما الذي أخاف؟
أخاف من عواقب القلم ما كنت أخاف من عواقب المشرط والدولة تسأل الطبيب الذي يجني على حياة مريض، ولكنها لا تسأل المريض الذي يجني على حياة طبيب
وهل يعرف زملائي كيف هجرت مهنة الطب؟
هجرت تلك المهنة هجراً غير جميل بسبب حادث رأيت به شبح الموت
كنت أعمل المشرط بيمناي في جسد عليل فمسَّ إصبعاً من يسراي فارتجفت، لأن أساتذتي بكلية الطب في باريس علموني أن العلم بخطر المرض قد يفضي بصاحبه إلى الفناء، ومن هنا جاز أن تصنع جرثومة واحدة بجسم الرجل الصحيح ما لا تصنع ألف جرثومة بجسم الرجل العليل
وفي ذلك الوقت عللت نفسي فقلت: إنما هي جرثومة فانية من جسم يدبّ إلى الفناء، ولا خوف عليّ وأنا أطاول الدهر بجسم يضارع أجسام العماليق، وبعد يوم أو يومين أمنت عواقب ذلك الجرح، ثم انصرفت إلى غير رجعة عن مهنة الطب
واليوم يصنع القلم ما صنع المشرط
أسمع صراخ مرضاي فأبتسم، لأن صراخهم يشهد بأنهم أهل للحياة، ولكن ذلك الصراخ تقع فيه أحياناً ألفاظ غلاظ ينزعج لها ذوقي بعض الانزعاج، فهل تكون هذه الألفاظ كتلك الجراثيم؟
إن كان ذلك فسأستشهد في ميدان الأدب بعد أن فاتني الاستشهاد في ميدان الطب، وعند الله والحب جزائي!
وما خوفي من تلك الألفاظ الغلاظ وأنا بعافية وأستطيع التمرد على جميع الأدواء، وفي صدري من اليقين ما يزعزع رواسي الجبال؟
وهل يصل الطبيب إلى شيء إذا عرف المبالاة بأوهام مرضاه؟(347/21)
لقد كتب مرضاي ما يزيد على ألف مقل، وأسمعوني صراخهم في كل بلد توجهت إليه، ولم أر منهم غير الاستخفاف بصنع الجميل، وكنت مع ذلك آية في الصبر على مكاره العقوق، فكيف أجزع وقد أمدتني الأيام بقوة القلم والمشرط، كما أمدتني بقوة الظفر والناب؟
قال الزيات: الرسالة تنتظر منك مقالاً لعدد الهجرة لا تكفر فيه كما كفرت في مقال السنة الماضية!
سبحان الله
وأنا كفرت في السنة الماضية، يا زيات؟
ألم تعلم، يا زيات، أن مقالي كان فرصة ذهبية لعشرات أو مئات يأكلون الخبز باسم الغيرة على الحق؟!
إن مقالي عن (النواحي الإنسانية في الرسول) علم أقواماً سهر الليالي في البحث والتنقيب، فكيف تبخل فلا تعد ذلك المقال من حسناتي؟ وكيف تنسى أنني هجت به صدوراً كنت أخشى عليها الموت بالصدأ والجمود؟
وهل تصدق أن في خصومي من يدرك عظمة الرسول كما أُدرك؟
إن بيني وبين الرسول صلة وثيقة هي البلاء بالدنيا والناس، فكيف يتوهم قوم أنهم يغارون عليه أكثر مما أغار عليه، وهم لا يتقدمون لنصرته إلا مدفوعين بالثمن الذي أعرف وتعرف؟
إن في خلق الله من يأكلون الشهد بفضل الرياء، فكيف يؤذيهم أن نشرب أكواب الصاب والعلقم بسبب القول الصريح؟
ألم يكف ما نعاني من الإيذاء في سبيل الصدق حتى نشرب السم من أيدي المرائين؟
وإلى متى يستريح المرضى من أمراضهم بالصراخ؟
ألا يتقدم الطب فيجد للمرضى علالة غير الصراخ؟
إن الصراخ كان صوت الطفل وكان أسلوبه في التعبير عن ألمه قبل أن يعرف النطق، فما بال قوم يصرخون وقد علمناهم أساليب البيان بالكلام المفيد؟
ما بال قوم يصرخون وقد هديناهم إلى النطق وشرحنا لهم الأجرومية بطريقة صوفية؟
ما بالهم يصرخون وقد علمناهم أساليب الصبر الجميل؟(347/22)
ولكن لا بأس فالصراخ فن من التعبير عن الألم، ولا يحس الألم غير الأحياء، ومعنى ذلك أن مرضانا غير أموات، ولله الحمد وعليه الثناء
قلت لنفسي: هذا زيد الذي كان يراني من أشرف الناس، وذاك عمرو الذي كان يراني من أعظم الرجال، وذلك بكر الذي كان يراني من الأبطال، فما بالهم ينوشونني بلا ترفق ولا استبقاء وكنت لهم ظهيراً في أحرج الظروف؟
فأجبت النفس: أولئك مرضاك عاودتهم العافية على يديك فهم يشهدونك على أنهم أصبحوا من الأصحاء
فقلت: أما يملكون من التعبير غير هذا الأسلوب البغيض؟
فقالت النفس: ألست أنت الذي قال بأن الكفر لا يكثر في غير الأمم القوية؟
ومن هذا الحديث عرفت أنني نقلت مرضاي من المرض إلى الصحة، ومن الصحة إلى التمرد، ومن التمرد إلى الجحود
أما بعد، ولي في كل لحظة (أما بعد) لأن ذهني ينتقل في عراك الأفكار من ميدان إلى ميادين بسرعة البرق
أما بعد فقد عشت دهري زاهداً كل الزهد في خلق المودات والصداقات، لأن أهل زماني لا يرون هذه الأواصر الجميلة إلا ضرباً من ضروب المنافع، وفيهم من يرى الشكر على المعروف أعظم من المعروف، فلا يرضيهم إلا أن تعترف بأنك مدين وإن طوقت أعناقهم بقلائد الجميل
وأنا والله راض عما يصنعون، لأن اللغو الذي يلقونني به من وقت إلى وقت يشهد بأنهم يملكون من الصحة ما يقدرون به على شتم الطبيب المجاهد الذي استعذب من أجلهم شقاءه بالدنيا والزمان
ولكن ما أصل البلاء الذي نعانيه من الناس؟
يخاصمني فريق باسم الأدب، ويخاصمني فريق باسم الدين فأين يقع الحق مما يريد أولئك أو هؤلاء؟
هل يستطيعون القول بأنهم لا يبتغون من مخاصمتي غير وجه الحق؟
إن كان ذلك فأين ما هتفوا به من أن الشهرة التي ظفرت بها هي التي تضللني فتحملني(347/23)
على مجانبة الحق في بعض الأحيان؟
وهذه الشهرة هي أصل تلك الضغائن والحقود، ولكن ما الذي أصنع وقد هربت من الشهرة مليون مرة فكانت تلاحقني بلا هوادة ولا رفق؟
دلوني على جريدة أو مجلة عرضت عليها أدبي بثمن أو بغير ثمن
دلوني على ناد ألقيت فيه محاضرة بدون دعوة
دلوني على عمل توليته بدون أن أستعد له بأهلية الفكر والعقل
هل سمعتم حديث الإذاعة اللاسلكية؟
يسألني الناس كل يوم عن سبب انقطاعي عن الإذاعة، فأين فيهم من يعرف أن لي بمحطة الإذاعة صديقاً كريماً هو الأستاذ سعيد لطفي؟ وأين فيهم من يعرف أن ذلك الصديق يعجب من انصرافي عن الإذاعة مع أن المستمعين يرحبون بصوتي كل الترحيب؟ وأين فيهم من يعرف أن الحرص على الوقت هو الذي يضيع علي شرف التحدث إلى أصدقائي في مصر والأقطار العربية، مع أن لتلك الأحاديث أجراً غير قليل ولو شئت لجعلته أجراً غير ممنون كما يصنع بعض الناس!
وأين يضيع وقتي؟
وهل عندي وقت يصلح للحفظ أو الضياع؟
وهل للموظف وقت غير السويعات التي يتكلف إحياءها بين الأهل والأبناء؟
ومن تلك السويعات أخلق الفرصة لمسايرة الحياة الأدبية فأقرأ جميع الجرائد والمجلات، وأراجع ما يهمني النظر فيه من المؤلفات العربية والفرنسية، وأكتب ما أراه من الملاحظات على ما أقرأ وما أسمع، ثم أخلو بعد ذلك إلى قلمي في صحبة العفريت الذي سمعتم أخباره في خطابي إلى الدكتور طه حسين!
وبهذه المناسبة أذكر أني ركبت المترو منذ أيام فرأيت بالقرب مني فتى يشبه كلود، فقطعت المسافة وأنا مرتاب في أنه كلود، ثم عرفت في النهاية أنه كلود، ولم أسلم عليه لئلا يتوهم أني أغضيت عنه كل ذلك الوقت
فكيف قضت الأيام بأن أجهل وجه أبن أخي، وما عرف في طفولته أن لأبيه صديقاً أعرف مني بالود، وأحفظ للهو؟(347/24)
ثم أرجع فأقول إن ما تقرءونه بقلمي من وقت إلى وقت هو عصارة تلك السويعات أو تلك اللحيظات، فما غيظ بعض الناس من الشهرة التي جناها الصبر على سهر الليل؟
الليل؟ الليل؟
وأين من يعرفون سهر الليل في هذه الأيام، السهر في صحبة الورق والمداد؟
كان من حقي أن أصوب سنان القلم إلى صدور من يأكلون السحت، صدور الذين يأكلون الخبز باسم اللغة العربية وقد تمضي الأعوام ولا يزوّد أحدهم نفسه بكتاب ثمنه خمسة قروش، فضلاً عن المساهمة في البحث والتأليف
وكان من واجب من عابوا نشاطي أن يوجهوا ملامهم إلى الكسالى الظرفاء من أمثال فلان وفلان وفلان، وهم قوم أعطاهم الزمن حقوقاً لن أنالها ولو عُمِّرت عمر نوح، لأن هيامي بصحبة الورق والمداد سيضيع علي جميع المنافع الدنيوية، وقد أموت بسبب الكدح الموصول قبل أن يموت فلان مع أنه ولد قبل أن يولد أبي. رحم الله أبي وأسبغ على ذلك الفلان ثوب العافية!
ثم ماذا؟
ثم أوجه القول إلى من يتوهمون أنهم أحرص مني على الدين وأمري مع هؤلاء عجب من العجب، فقد شقيت ما شقيت في خدمة الدراسات الدينية، ثم كانت النتيجة أن أتهم برقة الدين وأن يظفروا بحسن السمعة مع أن فيهم ناساً لا يعرفون أخبار المؤلفات الدينية إلا بالسماع
اسمعوا كلمة الحق مرة واحدة، أيها الناس
الإسلام دين العدل والتوحيد، ولكن أين من يخدمه بلا جزاء؟
في (مصر الجديدة) نحو خمس وعشرين مدرسة أسسها رجال لهم عقائد من أتباع موسى أو المسيح. فهل في مصر الجديدة مدرسة أسسها رجال من أتباع محمد؟
وفي (شبرا) نحو خمس عشرة مدرسة أسسها رجال من ذلك الطراز. فهل استطاع أشياخنا أن يحتلوا في (شبرا) غير مسجد واحد أنشأته إحدى السيدات المسلمات؟
وفي أسيوط مدارس أقامها أمثال أولئك الرجال، فهل بين علمائنا من يقول إنه قدم حجراً واحداً لبناء معهد أسيوط الديني؟(347/25)
وفي الأزهر أكثر من سبعمائة مدرس، فهل فيهم من يرضى أن يعيش باللقمة كما يعيش المكافحون من الفرير والجزويت ولهم مدارس في أكثر بقاع الأرض؟
وفي مصر مدارس كثيرة تديرها الراهبات، فهل بين علمائنا من خلق الروح الديني في زوجته فأنشأت مدرسة لتثقيف الفقيرات واليتيمات؟
إن الأزهر يرسل وعاظاً لبعض الأقطار البعيدة من حين إلى حين. . .
ولكن هل تعرفون مصاير أولئك المبعوثين؟
إذا قامت حرب في الحبشة أو في الصين صرخوا واستغاثوا وكلفوا الدولة ردهم إلى أوطانهم في أقرب وقت!
فهل سمعتم أن مبشراً مسيحيا ترك مقر عمله بسبب الحرب؟
ومع ذلك يقرأ علماؤنا مقالات رجل مثلي حرفاً حرفاً ليبحثوا عن لفظة نابية يثيرون حولها الأراجيف
ومن يكون المؤمنون إذا حرم رجل مثلي نعمة الإيمان الصحيح؟
آه، ثم آه!!
الجهاد في سبيل الأدب ضائع، والجهاد في سبيل الدين ضائع فماذا أصنع وقد شقيت بوطني وزماني؟
من زَغَب الظلم أخذت الخيوط لصياغة الورق
ومن دم الظلم أخذت الحديد لسنان القلم
ومن غضبات الظلم أخذت الكهرباء التي يطالعكم بها بياني
وعن جنون الظلم نقلت إليكم أقباس الجنون، وهو على سنان قلمي أشد تماسكاً من العقل
وبفضل الظلم رأيتموني دائماً من أنصار العدل
زكي مبارك(347/26)
من الذروة!
شفتاك أُغنيتان
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
شَفَتَاكِ أُغْنِيَتَانِ نا ... ئِمَتانِ في وَتَرٍ حَزِينْ
صَبَغَتْهُمَا بِلَهِيبِها الْ ... قُدُسِيِّ نارُ الْمُغْرَمِينْ
وَشَدَتْهُمَا شَبَّابَةٌ ... لِلّهِ طاهِرَةُ الرَّنينْ
أَزِلَّيةُ الأَنْغَام تَيَّ ... مَ سِحْرُها قَلْبَ السِّنِينْ
فَاهْتَزَّتا حِيناً، وَنُو ... رُكِ مَدَّ فَوْقَهما السُّكونْ
فإذا هُما شَفَقانِ في ... أُفُقٍ تَضِلُّ به الْعُيُونْ
مُتَوَهِّجَانِ عَلَى سنا ... كِ مِن الصَّبابَةِ وَالحنينْ
سَجَدَتْ لِطَيْفهما التَّما ... ئمُ في شِفاه السَّاحِرينْ
وَسَجَت جِراحاتُ الْمَسَا ... ءِ عَلَى قُلوبِ الحائرينْ. . .
إِلاّ جِراحاً في مَسا ... ئيَ صَاخِباتٍ بِالأَنينْ
سُلْوَانُها شِعْرُ الشِّفا ... هِ الصَّامِتُ النَّغَمِ الحَزينْ
محمود حسن إسماعيل(347/27)
خليفة حافظ
(بحث نشرته مجلة العصبة البرازيلية في عددها الممتاز)
للأستاذ توفيق ضعون
لما كنتُ من عشَّاق الشعر السائغ، السهل المبني، الواضح المعنى، المؤدي صورة صادقة من عاطفة ناظمه وهدفه في الوجود، ومن كارهي الإغراق والتعقيد ومواراة المعنى المقصود وراء أكثف الحجب التي لا تخترقها البصيرة ولا تعين على استجلائها كتب اللغة ومعاجمها، بحيث يصبح الشعر كناية عن رموز وطلاسم لا يحلها إلا الله والراسخون في العلم - فلا بدع أنني كلما وقعت في يدي جريدة أو مجلة رحت أقلب صفحاتها علّي أعثر على سطور مشطرة فأقرأ مطلعها راجياً أن يستدرجني إلى قراءة ما يليه وإلا اكتفيت به وقلبت الصفحة آسفاً، نادماً على الوقت الذي أضعته، لأن المطلع عندي بمثابة الوجه الذي قد تستهويك النظرة الأولى إليه فتقبل على صاحبه، أو تنفرك فتعرض عنه
وكان خير ما يستهويني، نظراً إلى استيفائه الشروط المقدم ذكرها، شعر حافظ إبراهيم، فلما ارتحل عن هذا الوجود أخذت أفتش في صفحات المجلات المصرية عن خليفة له أجلسه على عرش إعجابي واحترامي فلا أجد، حتى وقع يوماً في يدي جزء من مجلة الرسالة التي وجدت فيها ضالتي من حيث الأدب العالي والثقافة العميقة الدقيقة، فقلبت بعض صفحاته وإذا بي أعثر على أبيات من الشعر استهواني مطلعها واستدرجني إلى الإتيان عليها حتى ختامها. وكنا في إدارة (العصبة) فرحت أتلو على مسامع الإخوان تلك الأبيات التي لمست فيها روح حافظ وأسلوبه الطلي الأخاذ فشاطروني رأيي. وطفقت منذ ذلك الحين أتلمس آثار محمود غنيم الأدبية في تلك المجلة الغنية بنتاج أدمغة المجلين في مضمار الأدب في ذلك القطر السعيد
وعلمت بعد التنقيب أن محمد غنيم مدرس في كوم حماده إحدى قرى الصعيد (الصواب أنها في مديرية البحيرة) يحمل شعره المجنح شكواه من سوء حاله وضيق مجاله، فهو يحسب نفسه سجيناً في تلك القرية يتوق إلى الإفلات منها ولا توق الطائر الغريد إلى الإفلات من قفصه ولو كان من ذهب فكيف به وهو من معدن بخس وخشب. مجال ضيق وعيش على وتيرة واحدة يسئم النفس، وعشرة لا مطمع فيها للأديب الذي يؤثر تغذية روحه على تغذية(347/28)
جسده. وعلام أطيل في تصوير الحال التي هو فيها، وقد وصفها هو على أدق وأكمل شكل في القصيدة التالية وعنوانها (كأس تفيض). قال:
تعللتُ دهراً بالمنى فإذا بها ... قواريرُ من مسِّ الصبا تتحطمُ
لعمرك لا أدري على أيّ منطق ... أُشاهد في مصر الحظوظَ تقسمُ
فمن يكُ ذا قربى وصهرٍ فإنني ... بمصرَ وحيدٌ لا شقيقٌ ولا حمُ
فلا غروَ أني قد سكنتُ بأرضها ... كما سكنتْ أهرامها والمقطمُ
أَيذوي شبابي بين جدران قريةٍ ... يبابٍ كأن الصمتَ فيها مخيّمُ
أكاد من الصمت الذي هو شاملي ... إِذا حُسب الأحياءُ لم أكُ منهمُ
وعاشرتُ أهليها سنينَ وإِنني ... غريبٌ بإحساسي وروحيَ عنهم
يقولون: خضراءُ المرابعِ نضرةٌ ... فقلتُ: هبوها؛ لست شاةً تُسوَّم
على رَسلكم إِني أُقيم بقفرةٍ ... يجوز على الأحياءِ فيها الترحم
حياةٌ كسطح الماءِ والماءُ راكدٌ ... فليس بها شيءٌ يسرُّ ويؤلم
وما أبتغي إلا حياةً عنيفةً ... تسرُّ فأرضى، أو تسوءُ فأنقم
حياة كلجّ البحر والبحرُ زاخر ... تدوّي بها الأنواءُ والرعدُ يهزم
حياة بها جدٌّ ولهوٌ، بها رضىً ... وسخطٌ، لها طعمانِ: شهدٌ وعلقمُ
حنانيكَ إِني قد برمتُ بفتيةً ... أروحُ وأغدو كلّ يوم إِليهمُ
صغارٌ نربيهم بمثل عقولهم ... ونبنيهمو لكننا نتهدّمُ
لأوشك أن أرتدّ طفلاً لطول ما ... أُمثل دورَ الطفل بين يديهمُ
فصولٌ بدأناها وسوفَ نعيدُها ... دواليك، واللحن المكرر يُسأم
فمن كان يرثى قلبه لمعذَّبٍ ... فأجدرُ شخصٍ بالرثاءِ المعلّم
على كتفيه يبلغُ المجدَ غيرهُ ... فما هو إلا للتسلُّق سلّمُ
يقولون: مِنطيقٌ أغرُّ بيانهُ ... فقلت لهم: لكنّ حظيَ أبكم
أرى الحظَّ منقاداً لكلِّ مهرجٍ ... فأما على الأكفاءِ فهو محرّم
ألا فليسُدْ مَن شاَء حسبيَ أنني ... ضننت بماءِ الوجه حين تكرموا
فهل هناك ما هو أوهى من هذه القوارير التي كنى بها عن أمانيه العاثرة، وقد وصفها(347/29)
بكونها تتحطم من مس أخف وألطف النسمات؟ وهل هناك ما هو أدل على حقيقة الواقع من أن لا منطق على الإطلاق في توزيع الحظوظ؟ وربما صح هذا الحكم على الشهرة نفسها إذ لم يقم أديب إلا اختلف الناس في تعيين مقداره، وطالما كانت الشهرة نصيب من لا يستحقها لعوامل وأسباب لا علاقة لها بالكفاية المجردة، كأن تسخر الأقدار لغير كفء ما لا تسخره للكفء من المذيعين والمطبلين والمزمرين لهوس أو غاية في النفس. وأين نجد صورة للعزلة التامة لمقيم في القطر المصري كالأهرام والمقطم، يلي ذلك وصف الضجر والسآمة، فحياة المعلم والأدوار التي يمثلها، فالاعتصام بعد كل الشكاوي المؤلمة بالصبر والاستمساك بالأنفة والإباء؟
ثم عثرت على صورة ثانية استوثقت منها أن محمود غنيم لا يعدم تعزية، عما هو فيه مستمدة من محيا صغيريه اللذين لا يسأم مداعبتهما كلما عاد إلى منزله عودة الطائر إلى عشه طلباً للراحة والدفء والقوت وهاك ما يقوله في وصف هذا المشهد بعنوان: (حول المدفأة - أنا وابناي):
وأطيب ساعِ الحياة لديَّا ... عشيةَ أخلو إلى ولديَّا
فأُجلس هذا إلى جانبي ... وأُجلس ذاك على ركبتيَّا
وأغزو الشتاَء بموقد فحمٍ ... وأبسطُ من فوقهِ راحتيَّا
وأحسبني بين طفلي (شاهاً) ... وأحسب عشيَ قصراً عليَّا
وما حاجتي لغذاء وماء ... بحسبيَ طفلايَ زاداً وريَّا
فيا ليت شعري أتمتدُّ بي ... حياتي فأجنيَ غرس يديَّا
وأشهدَ طفليَ حين يشبُّ ... فتىً عاليَ النفس شهماً أبيا
أبوك امرؤ من رجال الكلام ... فكن أنت يا ابني امرأَ عمليا
فما احتقر الناس إلا الأديب ... ولا احترمَ الناسُ إلا الغنيَّا
أيا ابنيَّ أحبب بما تكسرانِ ... وأهوِن بما تتلفانِ عليَّا
فانظر إلى العاطفة الوالدية الصادقة المتجسمة في هذه الأبيات وأكبر معي التضحية إلى أقصى حدودها كرماً لتلك العاطفة الفياضة بالشعور والحنان، إذ ترافق عدم الإمكان الاستهانة التامة بكل ما يمكن أن يكسره الصغيران المحبوبان، أو يتلفاه إلى حد استحلاء(347/30)
الإضرار وتشجيعهما عليه، وما يتخلل ذلك من تمنيات وعظات.
ومما تقدم رأيت كل الجمال في روح محمود غنيم. على أني افتقدته في رسمه القاتم في بعض صفحات (الرسالة) شاهداً على أن لا علاقة البتة بين المظهر والمخبر، ولكن حبذا الدمامة في الخلق إذا كانت ترافقها مثل هذه الوسامة في الخلق. وعلام أشكو مما يزيد غنيماً شبهاً بحافظ كما يزيد ترشيحه لخلافته تبريراً!
هذا هو محمود غنيم الذي أقدمه الآن لقراء العصبة فخوراً بأنني أقدم شاعراً مجيداً، إذا لم يضارع حافظاً في أصيله فإنه يجاريه في ضحاه، وها حاضره يبشر بمستقبل ربما كان أخصب وأجدى. ومما يرجح كفته في نظري هو عقم محيطه بالنسبة إلى محيط حافظ أيام كان يطلق صيحاته وأغاريده في القاهرة حيث المجال الرحب والموحيات والمستثيرات على أنواعها، وكلها مما يفجر الشاعرية، ويبعث الكوامن ويعين على الإجادة. أضف إلى ذلك أنه منذ البداءة حافظيُّ في تأنقه وتدقيقه وبراعته في تخير الألفاظ والبحور والقوافي التي تماشي روح القصيدة، وتكسبها خاصة الإعراب عن مرامي ناظمها، وتساوق حركات وسكنات الحدث الذي تدور عليه أو المناسبة التي اقتضتها
أما مستندي فما سبق وما سيلي مما اقتبسته واجتزأت به مكرهاً بداعي ضيق المجال، من بضع قصائد احترت في ما أختاره وما أهمله من أبياتها الحسان، وهذا بذاته يدعو إلى الإعجاب بخصب قريحة الشاعر وسعة اطلاعه ومقدرته على الإجادة، حتى في أتفه الموضوعات المطروقة وأبعدها عن استرعاء الالتفات؛ إذ يغلب في الشعر أن يكون الجيد منه هو الأندر، فكيف وقد رأيت الندرة نصيب ما يمكن الاستغناء عنه على رغبتي في الاختصار تفادياً من التطويل وخشية الملل؟
شعر تصويري سداه الدقة، ولحمته الأمانة في الأداء، ونزعة حرة، وفكر طليق من سيطرة الأوهام، وخيال واسع يتغلغل في الأعماق ويكشف الخفايا، ونفس طموح لا يكبح جماحها إلا الإباء المستحب.
اسمعه يصف راتبه بأبلغ ما يدل على سهولة وسرعة التفلت وقلة الوفاء بالحاجة، ويجيد التخلص إلى نصيحة غالية يسديها إلى أبناء قومه محذراً إياهم من عواقب الوكل، وكارهاً لهم الأعمال ذات الكسب المحدود:(347/31)
ولي راتب كالماء تحويه راحتي ... فيفلت من بين الأصابع هاربا
إذا أستأذن الشهر التفت فلم أجد ... إلى جانبي إلا غريماً مطالبا
فقل لشباب النيل قالةَ ناصحٍ ... تعافُ له أخلاقه أن يواربا
إذا مصر لم ترفع قواعد مجدها ... بساعدها لم تقض منه مآربا
وإن نك في كل المرافق عالة ... على غيرنا عشنا بمصر أجانبا
وهاك مطالب أخرى لم تفته في أيها الإجادة المبتغاة. فمن قوله مخاطباً ملكة الجمال العالمي المصرية بعنوان (ملكة الجمال) بيتان ضمنهما نزعته الاستقلالية، هما:
كم عاهل ذي سطوة لم يفتتح ... قلباً وإن فتح المدائن والقرى
ما للمها في مصر تحكم عالماً ... والليث يعجز أن يعيش محرراًّ
وما هي إلا فترة من الزمن حتى يتجلى غنيم فينزع عنه أطمار التذمر والشكوى ويرتدي وشاح الحكمة والاختبار ويتسنم منصة الوعظ والإرشاد، مصوراً حقيقة الحياة، ومزيلاً انخداع البشر بأنفسهم، ومبطلاً ما يدعونه عادة من عفة وتقشف، ويرشحون ذواتهم من أجله لسكنى دار الخلود، كما يضرب الرياء والتظاهر ضربة قاضية، إذ يقول بعنوان (المادة):
فتشت بين الناس عن زاهدِ ... فلم تقع عيني على واحدِ
ما أزهد المرَء إذا لم يجد ... وأبعدَ الزهدَ عن الواجدِ
فقيمةُ الشعبِ إذا قستها ... بقيمة الصادرِ والواردِ
قد يُحسد المرءُ على رزقهِ ... ولا أرى للفضلِ من حاسد
لم يخترِ الناس دياناتهم ... بل أخذوا بالمذهب السائد
ليس جمالُ الطبع في غادة ... مثل جمالِ اليدِ والساعد
يا زاعم العفةِ في حبه ... ما تبتغي من كاعب ناهد؟
لم يتقِ الله امروءٌ للتقى ... بل لنعيم الجنة الخالدِ
لولا جمال الحور ما لامست ... أرض المصلى جبهة الساجد
هل كنت تلقى في الورى ساعياً ... لو كان يسعى الرزق للقاعد
سيان من يسعى إلى قوته ... بالسلب أو بالوَرع الزائد(347/32)
كم لحية أجدى على ربها ... من ألف سهم بيد الصائد
صاحِ دعِ الروح ودع قدسها ... نحن عبيد الجسد الفاسد
فإذا وقفته على الشاطئ الرملي في الإسكندرية يمتع طرفه بمرأى المستحمات ويشبع نهمه من محاسنهن خلع العذار وأجاد في وصف ذلك المشهد البديع وسال رقة بمقطعات غزلية موشاة منمقة مطرزة كأنها بستان فيه من كل فاكهة زوجان. وهذا بعضها:
أعوارٍ تلك الدُمى أم كواسي ... بلباسٍ يفصّل الأجساما؟
لا وقاه الله البلى من لِباس ... إِنه كان واشياً نماما
أيها المشتكي من الإقلاِل ... متّع النفسَ بالجمال متاعا
لم يُبيحوا لنا شيوعَ المالِ ... وأباحوا لنا الجمال مشاعا
لا تضيقوا بالمعصم المكشوف ... وتقولوا: خير الجمال المصونُ
ما غناءُ الشذى بغير أنوفِ؟ ... قيمةُ الحسن أن تراهُ العيون
وانظر إلى رشاقته في وصف راقصة أخذت عقله بخفتها ومرونة أعضائها وحسن تثنيها إذ يقول:
كأن تحت إخمص ... يها جمرة مشتعله
باسمةٌ يحسبها ... كل فتى تبسم له
أبدلها خالقها ... بكلِّ عظمٍ عضله
جسم كموج عيلم ... تسبح فيه الأخيله
تحسب فيه كل عض ... وٍ وحدةً منفصله
في مرقص لا يع ... رف الهم فؤاد نزله
الهمُّ فيه واقفٌ ... خجلان يُخفي خجله
دعني أضلُّ ساعة ... عبءُ التقي ما أثقله
ما كنت من أهل الم ... سوح والذقون المسبله
كم روعٍ مصطنعٍ ... وعفةِ مفتعله
وأخيراً انظر إليه في النقد الصائب واللوم العادل والتنبيه إلى الواجب، إذ يصف بني قومه الذين يترسمون خطى الغرب دون تخير أو استثناء:(347/33)
يترسمون الغرب حتى يوشكوا ... أن يعبدوه عبادة الأصنام
ما قلدوهم مبصرين وإنما ... تبعوا نظامهمُ بغير نظامِ
ما صاغ ربك من نضار خالص ... شعباً، وشعباً من حصىً ورغام
هذا الكثير المختار من بضع قصائد عامرة قليل من كثير، ولعمر الحق إن شاعراً تقع له مثل هذه الإجادة وتصاد من ساحله كل هذه الدرر، لهو بحر زاخر لا يجوز أن نطمره أو نضع في سبيله الحواجز والسدود، بل يجب أن نهيْ له الحياة التي اختارها وأحسن وصفها فيما سبق لي نقله من أنات آلامه وحشرجات شكاويه ولعل هذا الصوت الضعيف يصل إلى آذان القادرين من إخواننا المصريين، فيجد صدىً في نفوسهم يستفزهم إلى إنصاف هذا الشاعر المجيد المغبون فيعود إلى مصر حافظها متقمصاً في شخص محمود غنيم.
توفيق ضعون(347/34)
الربيع
في باريس
نظم الشاعر هذه الأغنية وهو موجع الجنب، سنة 1928؛ ثم
نظر فيها وزاد عليها. وفي المقطع الثاني من القصيدة إشارة
إلى انبثاق الربيع في باريس بعد طول حبس الشتاء له،
وإشارة إلى الثلج المغشي وجه الأرض يمحوه الربيع فيعيد
المعالم.
عانقِ العودَ وهاتِ ... هَمْسَ أنغامِ الشكاةِ
خفِّفِ الَّلمسَ عن الأو ... تارِ واضرِبْ في أناةِ
كلُّ ما رنَّ وبثَّ اله ... مَّ نَبْضٌ من فؤادي
يا ربيعاً واثباً كالَّنهْدِ ... من ظُلْمِ حِجابِ
ناثراً فوق مشيبِ اْل - أَرْضِ آياتِ الخِضابِ
هَدأَ اللحْظُ به هَدْ ... أَةَ حيرانَ بهادِ
يا ربيعاً ناسجاً أسْرارَ تَحنانِ الفتاةِ
حولَ أثمارٍ رِطابٍ ... تَتدلّي داعياتِ
فرِح الطَّيشُ به فَرْ ... حَةَ محرومٍ بزادِ
عُطِّلِتْ عيدانُك الغُ ... نُّ بتردادِ عِتابي!
جئتَ كالفجر يُعاني ... خدُّه جَهْمَ الضّبابِ
جئتَ باللهوِ فؤاداً ... طاحَ مسلوبَ القيادِ
عانِق العودَ وهاتِ ... هَمْسَ أنغامِ الشكاةِ
خفِّفِ الَّلمْسَ عن الأو ... تارِ واضرِبْ في أناةِ
كلُّ ما رنَّ وبثَّ الهَ ... مَّ نَبْضٌ من فؤادي
باريس(347/35)
بشر فارس(347/36)
2 - لقب السفاح
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
نقل الأستاذ العبادي البحث في هذا الموضوع إلى ميدان آخر غير الأول، فأنكر أن يكون السفاح لقباً لأبي العباس، وذهب إلى أنه لقب عمه عبد الله بن علي واليه على الشام، وحجته فيما ذهب إليه من ذلك تنحصر فيما يأتي:
1 - أن الرواية التاريخية القديمة كرواية ابن سعد وابن عبد الحكم والبلاذري وأبي حنيفة الذينوري وطيفور واليعقوبي والطبري والنُّوبختىِّ والكنديِّ لم تلقِّب أبا العباس بالسفاح. . .
2 - أن تلقيب ابي العباس بالسفاح من رواية المؤرخين الأدباء كالجاحظ وابن قتيبة والأصفهاني
3 - أن رواية ابن سعد واليعقوبي وصاحب أخبار مجموعة وصاحب الإمامة والسياسة تجعل السفاح لقباً لعبد الله بن علي عم أبي العباس
4 - أنه رجع إلى سيرة أبي العباس قبل الخلافة وبعدها فلم يجد فيها ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال؛ أما سيرة عمه عبد الله وما سفكه من دماء بني أمية بالشام فتسوغ له ذلك اللقب
ونحب أن نبين ما في هذه الحجة الأخيرة من غفلة ظاهرة، قبل أن نعنى برد ما قبلها من الحجج، فإن أبا العباس هو الذي سلط عمه عبد الله بن علي على بني أمية بالشام، فهو مسؤول عن كل ما فعله معهم، وشريكه في الدماء التي سفكها، والنفوس التي أزهقها، على أن أقسى ما فعل مع بني أمية مختلف في نسبته إليه أو إلى عمه عبد الله بن علي، وهو ما روى أن شبل بن عبد الله مولى بني هاشم دخل على أبي العباس أو عمه عبد الله على اختلاف الروايتين، فوجد عنده عدة من بني أمية نحو تسعين رجلاً، وقد اجتمعوا عند حضور الطعام، فأنشده:
أصبح المُلكُ ثابت الآساسِ ... بالْبهاليلِ مِنْ بنى العباس
طلبوا وِترَ هاشمٍ فشفوْها ... بعد مَيْل من الزمان ويَاس
لا تُقيلنّ عبد شمس عِثاراً ... واقطَعنْ كل رَقلةٍ وغراس
ذُلُّها أظهر التوَدُّدَ منها ... وبها منكم كحدِّ المْوَاسِي(347/37)
ولقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هُ بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيل بجانب المِهْراس
والقتيل الذي بحرَّان أضحى ... ثاوياً بين غُرْبةٍ وَتَناس
فأمر بهم أبو العباس أو عبد الله فضربوا بالعمد حتى وقعوا، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم الطعام، وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم، حتى ماتوا جميعاً
وإذا لم يكن أبو العباس هو الذي فعل ذلك فقد سلط عمه عبد الله عليه، وافتخر به في بعض أحاديثه، ونسب ما حصل لبني أمية من القتل والتمثيل إلى نفسه، فروى المسعودي أنه لما أتى برأس مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية ووضع بين يديه، سجد فأطال، ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله الذي لم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك، الحمد لله الذي أظفرني بك وأظهرني عليك، ثم قال: ما أبالي متى طرقني الموت؟ قد قتلت بالحسين وبني أبيه من بني أمية مائتين، وأحرقت شِلوَ هشام بابن عمي زيد بن علي، وقتلت مروان بأخي إبراهيم، وتمثل:
لو يشربون دمي لم يرْو شاربُهمْ ... ولا دماؤُهُم للغيظ ترْويني
ثم حول وجهه إلى القبلة فأطال السجود، ثم جلس وقد أسفر وجهه، وتمثل بقول العباس بن عبد المطلب من أبيات له:
أبى قومنا أن يُنصفونا فأنصفتْ ... قواطعُ في أيماننا تَقطرُ الدَّما
توورثنْ من أشياخِ صِدْقٍ تقربوا ... بهنّ إلى يوم الْوَغى فتقدَّما
إذا خالطتْ هام الرجال تركنها ... كبيض نعام في الوغى مُتحطِّما
ومن يقرأ هذا يجزم بأن أبا العباس كان يحمل قسطاً كبيراً من دماء بني أمية مثل عمه عبد الله أو أشد، لأن كل هذا الذي سفك من دمائهم لم يكن بحيث يروي ما عنده من الحقد
ولقد كان له سفاح آخر نسيه المؤرخون، ولم يكن بأقل من عبد الله بن علي سفكاً للدماء، ذلك هو سليمان بن علي أخو عبد الله وعم أبي العباس، فقد ولاه البصرة وسلطه على من كان بها من بني أمية، فقتل من كان بها منهم، وألقاهم في الطريق فأكلتهم الكلاب، وكذلك سلط عمه داود بن علي على من كان منهم بالحجاز فسفك دماءهم وأفناهم(347/38)
وقد تولى هو بنفسه سفك بعض من الدماء أيضاً، ومن ذلك دم سليمان بن هشام بن عبد الملك، فإنه كان قد وفد عليه من الشام فرحب به وقربه واستلطفه، للذي كان بينه وبين ابن عمه مران بن محمد، فكان سليمان يختلف إلى مائدة أبي العباس في كل يوم، فيتغدى معه ويتعشى، وكان كأحد وزرائه أو فوقهم، وكان يجلس أبا جعفر عن يمينه وسليمان عن يساره، ومازال هذا شأنه حتى دخل سديف بن ميمون مولى بني العباس فأنشده:
لا يُغرّنك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الضلوع داء دَويّا
فَضَعِ السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمَوِيَّا
فأمر أبو العباس بسليمان فقتل، ونسى ما كان من أمانه وإكرامه له، وكذلك قتل وزيره أبا سلمة الخلاَّل، ولم يكن له ذنب عنده إلا اتهامه بالميل لبني علي، وأمر أيضاً بقتل ابن هبيرة بعد أن أخذ عليه من الأمان ما أخذ، فلما مضوا نحوه خر ساجداً وقال: ويحكم نحوا عني هذا الصبي لا يرى مصرعي، فضربوه حتى مات ساجداً
ويطول بنا الكلام لو ذهبنا نستقصي ما سفك أبو العباس وأعمامه واخوته من الدماء، ولقد كانوا كلهم شركاء فيها ما عدا سليمان بن علي، فإنه كان أحنهم على بني أمية، وكان يكره سفك دمائهم، ويجير كل من استجار به منهم، حتى كان أبو مسلم يسميه كنف الأمان، وهو الذي كتب في بني أمية إلى أبي العباس: يا أمير المؤمنين، إنا لم نحارب بني أمية على أرحامهم، وإنما حاربناهم على عقوقهم، وقد دفت إلى منهم دافة لم يشهروا سلاحاً، ولم يكثروا جمعاً، فأحب أن تكتب لهم منشور أمان. فكتب أبو العباس منشور أمان لهم، وقد مات سليمان وعنده بضع وثمانون حرمة لبني أمية
فهذا هو العباسي الوحيد الذي كره سفك الدماء، ولم يكن يباهي بسفحها كما باهى أبو العباس وغيره من أعمامه واخوته، وهو الذي كان يصح أن يهتم الأستاذ العبادي بنفي لقب السفاح عنه لو ألصق به، أما أبو العباس فإن سيرته بعد الخلافة طافحة بسفك الدماء، ومن التجني على التاريخ أن يقول الأستاذ العبادي إنه رجع إلى سيرته قبل الخلافة وبعدها فلم يجد ما يسوغ تلقيبه بالسفاح بمعنى القتال، وهو في هذا أشد من أبي العباس غيرة على نفسه، أو كما يقولون: ملكي أشد من الملك، لما سبق من تباهي أبي العباس بسفك الدماء، ومن وصفه نفسه في بعض خطبه بما لا يرضي الأستاذ العبادي أن يوصف به(347/39)
وسنبين للأستاذ العبادي كيف اختلفت الروايات بعد هذا في لقب السفاح بين أبي العباس وعمه عبد الله، وليكن هذا في مقالنا الآتي
عبد المتعال الصعيدي(347/40)
رسالة الشعر
وحدة
للأستاذ أمجد الطرابلسي
طِرْ أيها الحائر عبْرَ المدى ... على جناح الزمن الدائرِ
واصرخْ، وشُقَّ الجوَّ قبل الصَّدى ... وامخرْ عبابَ الألَق الباهر
وابحثْ عن السّلوى وناج الهدى ... هيهات! ما فجرك بالسّافر
هل من وراء البحث إلا الرّدَى؟
فما ضياع العمر فيه سُدَى؟
كما ذوَى الوردُ وجفَّ الندَى. . .
أنتَ الذي من قبل أن يولدا ... قُدِّرَ أن ينزلها أَوحدا
والغدُ مثلُ الأمسِ والحاضرِ. . .
فما الذي تَنْشدُ يا شاعري؟
ويحك أنَّي ساورتك الهمومْ ... والجرح يسلو ههنا مَوجِعَهْ؟
في عرسِ الدنيا تَمَلُّ الوجوم! ... حيث تُجَنُّ الأكؤسُ المترعه
حيث اللذاذات تؤز الجسوم ... والنور يغري الظلمة المفزعه
فأين ترجو أن يكون النعيم؟
يا ابن الثواني وسليل الرميم!
في اليمّ، أم فوق ظهور النجوم؟
أنت الذي من قبل أن يولدا ... قدّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري
حيران يا حيران! أين الضياءْ ... إن لم يكن حيث تَشَكَّى العمى؟
الحسن والحبُّ وسِرُّ الهناء ... حيث تَرى هذا المدى المظلما. . .
انظر إلى حولك يا ابن الفناء ... فالوردة الحمراء ليست. . . دما!
تدوس نعلاك كنوزَ العزاءْ(347/41)
وأنت تمضي ناظراً للعلاء
فما الذي ترجوه عند السماء؟
أنت الذي من قبل أن يولدا ... قدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
أمسِ لدي الأهل وبني الصَّحاب ... كنت تُحِسّ السَّأَمَ الراعبا
في صفحةِ الجدول تَلْتقي السَّرَابْ ... وفي الجِنانِ العَدَمَ الشاحبا
واليومَ، في دنيا الهوى والشباب ... تشتاقُ ذاك الألم الذاهبا
لا راحة. . . لا فرح. . . لا عذابْ!
تزيح كفاك ستورَ الضَّباب
في زَحمة النور البَهِيِّ العُجاب
أنت الذي من قبل أن يولدا ... قدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشده يا شاعري؟
كرعتَ مما زعموه الجمالْ ... وخُضْتَ للسَّلوى خِضَمَّ البشرْ
شاطرتَهُمْ نُسكَهُمُ وَالضَّلالْ ... فمنك في كل مكانٍ أَثر
يا ليت شعري! بعد طولِ الّنضال ... هل قد سلا قلبُك. . أم هل شَعَر؟
أنَّي! ولو نلتَ بعيدَ المنالْ
وهِضْتَ في التَّحليق جُنْحَ الخيالْ
فأنت في كهفكَ رهنُ الحِبالْ
أنت الذي من قبل أن يولدا ... قُدِّر أن ينزلها أوحدا
والغد مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
الصخرة الصّماءُ بين الصَّخَرْ ... جرداءُ لكنْ لا تَعي قَفْرَها
سيّانِ حيّاها النَّدى في السَّحَرْ ... أم ألهبَ الحرُّ ضحىً ظَهرَها(347/42)
يا سعدها! ليستْ تُحسّ الكَدَرْ ... لا ساَءها القحطُ ولا سرَّها!
وأنت في قفرك رهن الفِكَرْ
تلمس بالكف طيوف الضَّجَر
يا ويل قلبٍ لم يُصَغْ من حَجَر. . .!
أنت الذي من قبل أن يولدا ... قُدِّر أن يَنْزِلها أوحدا
والغدُ مثل الأمس والحاضر. . .
فما الذي تنشد يا شاعري؟
باريس
أمجد الطرابلسي(347/43)
اثنان في سيارة
للدكتور إبراهيم ناجي
مِن أي أكوان وأي زمان ... يا ساعةً بسطت ظلال أمان
هل كنتِ حين هبطتِ غير ثواني ... ومداك فوق الظن والحسبان!
العمر أكثره سدى وأقلّه ... صفوٌ يتاح كأنه عُمران!
كم لحظة قصُرتْ ومَدت ظلها ... بعد المغيب كدوحة البستان
وتمر في الذكرى خيال شبابها ... فكأن يقظتها شباب ثان!
مَنْ ذلك الطيف الرقيق بجانبي ... كفاه في كفي هاجعتان!
إني التفت إلى مكانك بعدما ... أخليته فبكيتُ سوء مكاني!
لكأننا والأرض تطوى تحتنا ... نجمان في الظلماء منفردان!
لكأننا والريح دون مسارنا ... خطن في الأقدار منطلقان!
هل كان ذاك القرب إلا صيحة ... هَمَّتْ بها شفتان ترتجفان
هل كان ذاك القرب إلا لوعة ... ونداء مسغبة إلى حرمان!
والناس مُستبقون كلٌ يبتغي ... غرضاً يكافح دونه ويعاني
حُمَّى مقدرة على الإنسان ... تبقى بقاء الأرض في الدوران
وكأنما هذي الحياة بضوئها ... وضجيجها ضربٌ من الهذيان(347/44)
يا سرَّها!. . .
للأديب محمود السيد شعبان
يا سِرَّها. . . أَنا عَابِدُ الْ ... أسْرَارِ في مَلَكُوتِ قلْبِي!
أَنا مَنْ سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْ ... باناً عَلَى مِحْرَابِ حُبِّي. . .
إِنْ كُنْتُ أَهْوَى فيكَ أَح ... لاَمِي فَما حُبِّيكَ ذَنْبِي!
مِنْ طُولِ حِرْمانِي أَلِفْ ... تُ تَعَاسَتِي وَعَشِقْتُ جَدْبِي!
يا سِرَّها. . . مَنْ لِلْخُلو ... دِ سِوَاكَ يا ابْنَ النُّورِ مَنْ لَهُ؟
أَشْرَقْتَ في التَّارِيخِ يَحْ ... دُوكَ اْلهَوى فَجَمَعْتَ شَمْلَهْ
وَأَضَأْتَ لِلأَزَلِ الْخَفِيِّ ... طَرِيَقَهُ فَهَدَيْتَ عَقْلَهْ. . .!
عَيْبُ الْهُدَى أَنَّ الْهُدَا ... ةَ عَلْيكِ يا دُنْيَايَ قِلّهْ!
يا سِرَّها. . . أَهوَاكَ لَ ... كِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ تَعْسِي!
أَرْجُوكَ لِي وَحْدِي وَمَا ... أَنَا مَنْ خَلَقْتُ شَقَاَء نَفْسِي
ظَمْآنُ وَالْخَمْرُ الْحَلاَ ... لُ تَفيضُ مِنْ دَنِّي وَكَأْسي!
ضَيّعْتُ في بِيدِ الحَيَا ... ةِ مَوَاهبِي وَفَقَدْت حِسِّي
يا سِرَّها. . . مَنْ لِي سِوَا ... كَ إذا تَرَكتَ الْقَلْبَ وَحْدَهْ؟
لاَ الْوَهْم يُؤْنِسُهُ وَلاَ الدّ ... نيَا تَرُدُّ عَلَيْهِ سَعْدَهْ. . .
أَشْقَاهُ أَنَّ الوَحْدَةَ الْ ... خرْسَاَء تَرْعَى الْيَوْمَ عَهْدَهْ!
يا لَيْتَ مَنْ يَهْوَى تَصُو ... نُ وِدَادَهُ وَتَحُفُّ مَهْدَهْ. . .!
يا سِرَّها. . . أَنَا تَائِهٌ ... ضَلَّ السَّبِيلَ إلى مَرَادِكْ
أنَا شاعِرٌ شاقَتْهُ أطْ ... يَافٌ تَرِفُّ عَلى مِهَادِكْ!
أَنَا عَابِدٌ فِي هيْكلِ ال ... أشْوَاقِ حَنَّ إلى وِدَادِكْ!
أهْوَى الحقِيقَةَ فِيكَ فَاج ... عَلْ مِنْ حَيَاتِي بَعْضَ زَادِكْ!
يا سِرَّها. . . فِي مَعْبَدِ الْ ... أَلْحَانِ قَدْ بَارَكتُ رُوحِي!
وَمَضَيْتُ وَحْدِي فِي الحَيا ... ةِ تَئِنُّ مِنْ أَلَمٍ جُرُوحِي!
حَيْرَانَ أَحْمِلُ عِبَْء آ ... مَالِي وَأَكبَحُ مِنْ جُمُوحِي!(347/45)
الْجَدْبُ أَتْعَسَنِي وَمَا ... مِنْ قَبْلُ أَسْعَدَنِي طُمُوحِي!
يا سِرَّها. . . هاتِ النَّعِي ... مَ بِجُرْعَةٍ لِي مِنْ دِنَانِكْ!
وَاسْكُبْ عَلَى قَلبِي الحَنا ... نَ فَقَدْ ظَمِئْتُ إلى حَنَانِكْ
وَامْسَحْ بِكَفِّكَ كُلَّ آ ... لاَمِي لأَسْعَدَ فِي زَمَانِكْ
مَا لِلشَّقِيِّ طَغَتْ عَلَيْهِ الْ ... عَادِيَاتُ سِوَى أَمَانِكْ!
يا سِرَّها. . . قَدْ ضَلَّ بِي ... أَمْسِي فَجِئتُ إليك وَحْدِي!
وَدَّعْتُهُ وَمَضَيْتُ يَهْ ... دِيني إلى دُنْيَاكَ وَجْدِي!
النُّورُ مِلْءُ دَمِي فَكَي ... فَ أَضِلُّ يَا نَجْوَايَ قَصْدِي؟!
وَالحُبُّ؟. . . هَلْ كانَ الهوَى ... إِلاّ أَناشِيدِي وَمَجْدِي؟!
يا سِرَّها. . . أَنَا عَابِدُ ال ... أسرَارِ فِي مَلَكُوتِ قَلبِي!
أَنَا مَنْ سَكَبْتُ الرُّوحَ قُرْ ... باناً عَلَى مِحْرَابِ حُبِّي. . .
إِنْ كُنْتُ أَهْوَى فِيكَ أَحْ ... لاَمِي فَمَا حُبِّيكَ ذَنبِي
مِنْ طُول حِرْمَانِي أَلِفْ ... تُ تَعَاسَتي وَعَشِقْتُ جَدْبي!(347/46)
الأدب في أسبوع
الشعر والشعراء
أخشى أن يكون أهم أركان إحساس الشاعر بمعانيه إحساساً كاملاً نافذاً متغلغلاً، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرد عملاً في تكوين شعوره. وليس معنى ذلك أن يتعرى الشعر من المنطق العقلي المجرد، بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي - بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته - حاسةً دقيقة مدبرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وجوهه على هدىً لا يضل معه، فلا يشرد عن الغرض الذي يرمي إليه في التعبير عن الصور التي تنشأ لهذا الإحساس. وإذن فأكبر عمل المنطق العقلي في الشاعر - أن يُمِدَّ الإحساس، بما ليس له من الاستواء والاستقامة والسداد، وكذلك تتداعى إليه الألفاظ التي يريد التعبير بها مقترناً بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائرة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسها الشاعر، فهاجته فغلبته فأراد التعبير عنها تعبيراً صافياً مهتزاً متغلغلاً قوياً، فيه صفاء الإحساس واهتزازه وتغلغله وقوته
وأداة المنطق لعقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستوي ويتسلسل ويتصل، ولا أن تتدفق معانيه في مجراها الطبيعي.
فالمنطق العقلي كما ترى هو خزانة اللغة التي تمول الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمده به من المادة التي تمكنه من الظهور والانتقال. فربما أخذ من اللغة ما هو (موصل رديء) للإحساس، وربما أخذ منها ما هو (موصل جيد) يستطيع أن يسرى فيه إلى قارئه أو سامعه. فإذا عرفت هذا أيقنت أن الشعر يتصل أول ما يتصل بإحساس قارئه وسامعه، فيهزه بقدر ما تحمل ألفاظه من إحساس قائله. فإذا أخفق أن يكون أثره كذلك، فمرجع هذا إلى أحد أمرين:
إما أن الشاعر لم يوفق إحساسه في الاستمداد من لغته - ما يطابق الإحساس ويكون (موصلاً جيداً) له؛ لأن منطقه العقلي لم ينبذ إليه من مادته ما هو حق المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيراً من(347/47)
عامة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساساً وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفل بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعه عن الشعر هذه العلة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مال له. أو انقطاع المنطق العقلي دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق - بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته - حاسة دقيقة مدبرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدمنا آنفاً
وأما الأمر الثاني - الذي يخفق بسببه الشعر في التأثير - فمرده إلى القارئ أو السامع. فإذا كان إحساس السامع أو القارئ ضعيفاً بليداً غثاً، فمهما يأته من شعر حافل قويٍ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره - فهو لديه شيءٌ فاترٌ ضعيفٌ لا يهزه ولا يبلغ منه ولا ينفذ فيه؛ وهذا الضرب من العامة الذين لا يتأثرون بالشعر لا يمتد بهم ولا ينظر إليهم، ولكن هناك ضرب آخر يكون بليغ الإحساس جيد التلقي، صالحاً للتأثر بما ينتقل إليه من هزة الإحساس فيهتز لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خلواً من اللغة التي يعبر بها الشعر، إذ ليس له منطق عقلي سامٍ متخير للكلام يختزن اللغة بنفسه إذا فكر، ولفهمه إذا حدث أو أنشد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أريد له هذا الشعر، وكثر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشعر ولم يحفل به إلا قليل؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليل وقلة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجهلاء والسخفاء هم سواد الناس؛ وفساد الطبائع فيهم راجع إلى هذين: فمخالطة الجهالة تورث الجهالة والخبال، وترك التعلم وسوء التعليم ذريعةٌ مفضيةٌ إلى الجهل والبلادة، فكيف - مع هذين - يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟
فأنت ترى: أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيراً مسدداً بالمنطق العقلي الذي لا يزل على مدارج المجاز فتنقطع صلاته بحقائق المعاني التي وضعت لها هذه الألفاظ اللغوية. . .، ثم المنطق العقلي الذي يختزن هذه اللغة، ويستطيع أن يتحول حاسة دقيقة مدبرة تقوم على الإحساس وتحوطه من الضلال. . .، ثم المعاني التي يتمثلها إحساس الشاعر حين يهيجه ما يؤثر فيه تأثيراً قوياً عنيفاً - هذه الثلاثة هي، مادة الشعر الجيد، فإذا سقط أحدها أو انحط أو ضعف؛ سقط الشعر بسقوطه أو انحط أو ضعف(347/48)
وأنا أقول: إن أكثر شعر العصر العربي الحاضر قد انحط وضعف وسقط، لأن أكثر الشعراء قد بلغ منهم العيب مبلغاً أفسد كل ما يعتد به من آثار (الشاعرية) التي بقيت فيهم؛ ولم يخلص لأحد منهم جميع هذه الثلاثة التي ذكرنا. ولكن بقى لشاعرين أو ثلاثة ما يمكن أن يلحقهم بأهل المرتبة الأولى من الشعراء العبقريين؛ وهذه المرتبة الأولى إنما نتخيلها ولا نكاد نعرف أحداً استوى عليها، فملك فيها بيان العربية وشعرها يصرفهما كيف شاء، فيكون في تاريخ اللسان العربي عبقرية جديدة كامرئ القيس، ومسلم بن الوليد، والمتنبي، وأبي نواس، والبحتري، وأبي تمام، وغيرهم ممن يعد لساناً وحده. . .
شاعر!!
وأحد هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين سيدفعون أنفسهم في مجاز العربية حتى يبلغوا المرتبة الأولى - فيما نتوهم - هو (محمود حسن إسماعيل): فهو إنسان مرهف الحس دقيقه، متوهج النفس، سريع التلقي للمعاني التي يصورها له إحساسه، وإن إحساسه لينشئ له من هذه الصور والمعاني أكثر مما يستطيع أن يطيق صبره؛ وهو - إذ فقد الصبر على مطاولة هذه المعاني من إحساسه - تراه يثب وثباً من أول المعنى إلى آخره لا يترفق، كأن في إحساسه روح (قنبلة). فلذلك تجد المنطق العقلي في شعره متفجراً أبداً لا يبالي (أوقع على اللفظ من اللغة، أم وقع اللفظ عليه)، ولكنه على كل حال منطق يقظ حساس بعيد الوثبة، يحاول دائماً أن يضبط هذا الإحساس الذي لا يهدأ ولا يستقر. وسينتهي - بعد قليل من المصابرة والمرابطة لإحساس شاعره - إلى القدرة على متابعة إحساسه وكبحه وتزجيته على هدى واحد مؤتلف غير مختلف، وذلك حين يجتاز الشاعر السن التي هي علة التوقد الدائم والاهتزاز المتتابع تتابع البرق إذا خفق وومض وضرب بعضه بعضاً بسياط من الضوء في عوارض السحاب. . . وأما لغته، فقد ملك منها ما يكفيه بقدر حاجة بعض إحساسه، فإذا امتدت يده إلى خزائن العربية التي لا تنفد، وتداخل في أسرار حروفها بالمدارسة الطويلة، تآمرت - ثلاثتها - على تسنية الأبواب له واحداً بعد واحد، حتى يستطيع أن يستوي على سرارة المرتبة الأولى للشعر غير مدافع.
هذا. . . وإن في كثير من شعره الذي نشره إلى اليوم، ما يجعلني على ثقة - إن شاء الله - من أنه مدرك ذلك لا محالة، فهو قد استولى على كل ما هو به شاعر، ولا أظن ظن(347/49)
السوء بقدر الله أن يكون هو قاطعه دون المنهج الذي تعبد بين يديه، ولم يبق له إلا قليل حتى يبلغ الذروة العليا
قصيدة الزلزال
وقد قرأت قصيدته الأخيرة في (فاجعة تركيا) - كما سماها - ثم سمعتها، فوجدت لزاماً علي في هذا الباب أن أثبت بعض رأيي في الشعر والشاعر، ثم في (محمود حسن إسماعيل) خاصة، ثم في هذه القصيدة. وقبيح أن يجهل مريدو الشعر الجيد هذه القصيدة الفذة، التي تكشف عن السر المستكن وراء هذا الشاعر. وإذ قد عرضنا مرة لبعض الشعر الأسود المظلم، فلا بد إذن من أن نمحو آيته ببعض آيات الشعر المشرق المضيء
وقد كان (زلزال الأناضول) عذاباً من العذاب الأكبر بأهواله، حتى قالوا إنه أشد ما عرف من الزلازل وأخطرها وأفضعها موقعاً وأثراً، وقد كان ما تنشره الصحف اليومية من أخباره هولاً هائلاً مفزعاً يكاد يجعل الولدان شيباً. فلاشك إذن أن يكون هذا الرعب الراجف في إحساس شاعر فزعٍ (كمحمود) رجفةً يرعد بها رعدة طائرة مدوية مصلصلة مجلجلة
وأنت إذا بدأت القصيدة:
هات الشدائد للجريحةِ هاتها ... فالصبر في الأهوال دين أُساتها
واحشُد صروفك يا زمان فربما ... لهب العظائم شُب من نكباتها
ولعلها خمرٌ تدور فيستقي ... خمر الكفاح الشرق من كاساتها
رأيت الأمر والنداء، نداء الفزع الطامي بطغيان أمواجه على إحساس الشاعر، فلم يملك إلا إسلام نفسه إلى اليأس، فيستزيد من البلاء ويطلبه فيقول: (هات الشدائد) ثم يعود فيقول: (هاتها) ليثبت إيمانه بالصبر على هذا البلاء، فهو إيحاء؛ إذ قد يئس أن يصرف عن إحساسه ما طغى به عليه هول ما سمع من صفة الزلزال. ويدُّلك على أن هذا المطلع قطعة من اليأس، عودته إلى الشك في هذه الشدائد الموقدة بنارها ولهيبها، والتي زلزلت أمة من الناس فكانوا كما قال الله تعالى في صفة زلزلة الساعة: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). فكذلك عاد الشاعر يشك بعد طغيان البلاء عليه - أن ينقلب كل ذلك الرعب(347/50)
الذي اضطرب به الناس سكراً يجري - هذا الشرق المغلوب - على الكفاح، في زمن يرمى من أهواله شدائد ترجف بالشرق رجفة كأشد ما رجفتْ زلزلة الأناضول، فلذلك قال: (ولعلها خمر. . .)
هي أمةٌ زلزلتَ جَنبَ مِهادها ... ونفختَ ريحَ الموت في جَنباتها
وهذا البيت يكاد يكون الحد الفاصل بين يأس الشاعر الذي طغى عليه حتى أنساه روح الزلزلة التي كانت في إحساسه، وهو نفسه الذي يردُّه مرة أخرى فزعاً ثائراً متوثباً تتقاذفه تهاويل إحساسه في رعب بعد رعب
شَوَّهتَ صَفحتها بمديةِ جازِرٍ ... الرحمة انتحرت بحدِّ شَباتِها
مجنونةُ الحدّيْن لو هي لوحتْ ... لانهد ركن الأرض من حركاتها
ذئبية الشهوات جاع حديدُها ... وأرق جوع الوحش في لهواتها
وهنا موضع يوقف عنده، فإن المعنى الذي أراده الشاعر، والصورة التي نشأت من شدة إحساسه بهول الزلزلة - طغت فلم يستطع المنطق أن يضبط اللغة على قياسها؛ فهو يريد أن يقول: إنه يرى هذه المدية الصقيلة الذئبية الجائعة المهلكة المجنونة فيرى على حديها وصفحتيها من فرندها وضوئها ومائها ما ينساب ويَّتريق ويتلألأ ويرمي بأضوائه كأنه ضوء جائع يريد أن يلتهم كل ما يلقاه، وذلك قوله: (وأراق جوع الوحش في لهواتها) فقوله: (وأراق) هنا لا توافق المعنى، وقد أوقعه عليها اختلاط (فرند المدية) - وهو ماؤها - بالمعنى الذي أراده، ولو قال: (يذكي سعار الوحش في لهواتها) أو ما يقارب ذلك لكان أجود
ثم يمضي الشاعر في تصوير ما تخيله - حين فجأت الزلزلة الأناضول -:
والناسُ غَرْقى في السكون سَجتْ بهم ... سِنَةٌ يَنامُ الهوْلُ في سَكناتِها
بَيناهُم فَوْق المهودِ عَوَالمٌ ... غشَّى ضبابُ الصمت كل جهاتها
وإذا بقلبِ الأرضِ يرجفُ رجفةً: ... دُكَّ الصباحُ وذابَ في خفقاتِها
وانشّقت الدُّنيا لديه فلم يَجِدْ ... أرضاً يغيثُ النورَ في ربواتِها
فَطوَى المدائن والقرَى وَهوَى بها ... في سدْفَة تهوِي على ظلماتِها
وبنى اللحودَ على المهودِ وهدَّها ... فنضا ستورَ الموت عن عَوراتها
زأرت جراحُ الأرضِ فاهتاجَ الردى ... وتنهد الزلزال في ساحاتها(347/51)
وإذا الذي أتى به في وصف الزلزلة إلى آخر القصيدة شيء هائل مخيف تقشعر له الأبدان، وتراه متدفقاً طاغياً لا تكاد تقف على كلمة منه إلا مرتاعاً قد قَّف شعرك عن هول ما تنقل إليك ألفاظه من معاني إحساسه الثائر المتفجر
أنفاسه لهبُ الجحيمِ وخطوه ... خطو المنايا السود في فجآتها
إلى بعض القراء
. . . وبعد، فإن العالم الثقة الثبت المحقق الدكتور بشر فارس قد علم فعلَّم!! وأنا أشكر له ما علمني، فأنا لا أحب أن أكون كالذي قيل في أمره: (لا تناظر جاهلاً ولا لجوجاً، فإنهم يجعل المناظرة ذريعة إلى التعلم بغير شكر). ثم بصرني (بشر) أيضاً بما كنت أجهل من العروض واللغة والبيان، فأوغر صدري، فنثرت حول قهري ما ملكت من نفاية الكلام، وكذلك طوقت نفسي به زينة وحلية أتبرج بها للناس، أو كما قال! وهو كذلك. . .
فأنا أحمد الله الذي كفاني شر الغرور والخيلاء، ولم يجعلني كالجاهلة الخرقاء التي زعموها تأنقت بما ليس فيها، ولا هو من طباعها، حتى ضربوا بها المثل فقالوا: (خرقاء ذات نيقة) والحمد لله الذي لم يجعلني ممن يتزين بما ليس تملكه يداه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)؛ والحمد لله الذي جعلني جاهلاً يعرف أنه جاهل، ومن أين لمثلي العلم؟ أليس قد (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء) كما قال أبن شبرمة في رواية بشر فارس عن أبن شبرمة: (بريد (الرسالة) العدد 346).
وقد قرر الأستاذ بشر أنه بصرني بأمور ثلاثة، وأني سلمت مرغماً بصرني بما كنت أجهل من أمرها!! وإذا قرر الأستاذ بشر فقد وجب عليَّ وعلى الناس التسليم بما قرر؛ أليس ذلك كذلك؟ بلى، (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)
ومع ذلك، فمن غلبة الجهل علينا أن البحر الذي وضعه وسماه (المنطلق)، لا يزال عندنا وعند أصحابنا من علماء العروض - هو من (مجزوءة المتدارك) أدخل الشاعر الأستاذ على ضربها العرج أو الفساد أو الخبن أو ما شئت فسمِّه، ثم ألزمها ذلك في سائر أبياته، ثم قال إنه وضع بحراً. ومن غلبة جهلنا أيضاً أننا نعده وزناً ثقيلاً غثاً كسائر الأوزان الممكنة التي تركتها العرب لثقلها على السمع، فلم تجزها في شعرها؛ ومن غلبة جهلنا أيضاً أننا لا نزال ندعي أن لن يوجد في أصحاب الألسنة العربية من الشعراء المجيدين من يتابع النظم(347/52)
على هذا الوزن الجافي من (مجزوءة المتدارك)، وكذلك أهملناه وسنهمله
وأما حديث (الزلزلة)، فلا نزال نقول إن كل حرف من حروف العربية ينقل إلى المجاز، فهو يتطلب دائماً حقيقته، وإلا فسد مجازه. فإذا كان أصل الحرف (زلزل) وحقيقته: أن يزلَّ الشيء عن مكانه مرة بعد مرة، أي أن ينتقل ويتحرك ويسقط ويخرج عن الموضع الذي يستقر عليه، فلابد في كل مجاز لهذا الحرف أن يكون ما يقع عليه فعل الزلزلة - (أي نائب الفاعل أو المفعول) - شيئاً منتقلاً من مكان إلى مكان أو شيئاً يجوز أن ينتقل من مكان إلى مكان، فهذا هو شرط المجاز أو الاستعارة في هذا وأمثاله، وإذ ليست الأذن كذلك، فقولك (زلزل الطرب أذني) مجاز فاسد لأن الأذن ثابتة لا تتحرك
وإذا قال كتاب (خلاصة الطبيعة، في الصوت!!) في باب (شرح عمل الأذن) إن الصوت يهز غشاء طبلة الأذن حين تصكها الأمواج الهوائية التي يحدثها مصدر الصوت، فليس معنى (يهز الغشاء) هنا أنه ينقله من مكان إلى مكان آخر، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غشاء طبلة الأذن مثبتاً لا يتحرك أي لا ينتقل من مكانه، وإنما هو اهتزاز يلحقه، فليس في الدنيا (ناي) أو غيره يستطيع أن يجعله يتحرك أي ينتقل من مكانه، ولو كان في قلب هذا (الناي) عشرون فرقة من فرق (الجازَبند). . . ولو كان ذلك فتحرك الغشاء قليلاً عن مكانه لتمزق وانخرق، وكان الصمم. وإذن فليس يجوز في العربية أن يقال (زلزل الطرب أو الناي غشاء طبلة أذني)! وإلا فهو مجازٌ فاسد أيضاً
وأما ما يقال من أن الزلزلة والطرب على مجاورة في لغتنا!! فهو شيء لا أصل له، وهي عبارة لا تؤدي إلى معنى، وهو كلام (يدخل بعد العِشاءِ في العرب)
وأخيراً. . .، فمن عظة نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: (من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار). ونحن نعوذ بالله أن نخالف عن أمر نبينا، أو نكون ممن يستخف بما أنذر به، فنباهي الأستاذ بشر بما نعلم، وإذن فلست أجعل حديثي هذا إلا للقراء وحدهم لأضع به عن نفسي أمانة العلم. . .
حتى إذا ما الصباح لاح لهم ... بيَّن ستُّوقهم من الذهب
والناس قد أصبحوا صيارفة ... أعلم شيء بزائف النسب(347/53)
فأستأذن القراء وأستغفرهم، فأنا امرؤ لا يحب أن ينصب نفسه لمن هو عند نفسه أكبر من نفسه والسلام
ابن شبرمة!!
ومادمنا في حديث أمانة العلم، فقد رأيت أن الأستاذ المحقق (بشر فارس) روى خبراً عن ابن شبرمة القاضي قدمناه آنفاً وهو: (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوءٍ). وقد رأيت صاحب العقد الفريد (ج 1 ص 205 طبعة بولاق أيضاَ!) قد أورده بهذا النص عينه، وهو يبدو لنا نصاً عربياً مظلم النور
وتحرير رواية الخبر: (ذهب العلم إلا غبراتٍ في أوعية سوء) بضم الغين المعجمة وفتح الباء المشددة. والغبرات جمع غبَّر، وهو آخر الشيء وعقابيله وما يبقى منه. يريد ابن شبرمة: أن العلم لم يبق منه إلا قليل قد وقع في صدور رجال من الفخار والخزف لا تضيء ولا تقبل الضوء
وقد ورد هذا الحرف (غبرات) في حديث عمرو بن العاص يقول لعمر بن الخطاب: (إني والله ما تأبِّطتني الإماءُ، ولا حملتني البغايا في غبَّرات المآلي). والمآلي خرق للنساء يكون فيها الدم، وغبَّراتها بقايا الدم. ومن ذلك أيضاً قول أبي كبير الهُذلي يصف ابن زوجته تأبط شرّاً الشاعر الفاتك:
حَملتْ بِهِ في ليلةٍ مَزْؤودةٍ ... كرْهاً وعقدُ نِطاقِها لم يحللِ
فأتتْ بِهِ حوشِ الفؤاد مبطناً ... سُهداً إذا ما نام ليل الهوْجل
ومبرَّأ من كل (غُبّر حيضة) ... وفساد مرضعة، وداءُ مغْيل
فهذا تحقيق رواية الخبر على التحرير والدراية، فمن كانت عنده نسخة من (العقد الفريد طبعة بولاق!) فليصححه
محمود محمد شاكر(347/54)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
هما أحدبان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ما هذه الأرقام التي تحسبها في الورقة؟
- هي تكاليف أحدب نوتردام أحلم بأني سأخرجها في مصر
- بعد أن رأيناها من لون شاني ولاوتون. . . من يخرجها ومن يمثل لك الأحدب في مصر؟
- هذا شيء لا أفكر فيه إلا بعد أن يعطيني الله هذا المال كله
- إذن فلن تفكر فيه أبداً
- ومن يدريك أني لن أفكر فيه غداً. . . (غد غيوب وأقدار وأسرار)
- رحم الله شوقي
- وفيكتور هيجو، ولون شاني، وكل من فتح قلبه لله فألقى الله فيه ما شاء من نوره، أتعرفين كم أحدودب هيجو حتى كتب الأحدب، وكم أحدودب لون شاني ثم لاوتون؟
- أما لون شاني ولاوتون فقد احدودبا أو قل هما اصطنعا أنهما احدودبا حينما كانا يمثلان في الأستوديو فقط، أما هيجو فلا أظنه احدودب، لأن كتابة الرواية لا تستدعي أن يمثل الكاتب صورها. . .
- لم يرد الدنيا أحدب عاش مثلما عاش أحدب نوتردام. فلابد أن يكون هو الأحدب الأحدب، وإنه لكذلك لأنه هيجو لما احدودب. كم في الدنيا من شقي يعيش ويشقى ويفنى، وفي الدنيا شقي يعيش ويشقى ويخلد. . . أولئك يغمرهم شقاؤهم ويبعدهم عن ذكر ربهم، وهذا يمعن في الشقاء بالرضا والتأمل بحثاً عما فيه من عبرة ولذة
- وهل يجد اللذة من يمعن في الشقاء حتى ليحدودب؟. . .
- وأية لذة؟ ألم يقل هيجو على لسان غجري قصد باريس وأراد أن يمنعه عنها حراسها: (ما هذه الأوامر؟ هذه أرض الله جئتموها أنتم بالأمس وجئناها نحن اليوم!) ألم يقل هيجو(347/55)
هذا؟
وكيف كان يمكن أن يقوله لو لم يشعر بأن هذه الأرض أرض الله حقاً، وأنه للناس أن يعيشوا فيها كما يعيش الطير في السماء. . . والله يرزقهم. . . وهل في الدنيا شعور باللذة أبلغ من شعور الطلاقة هذا؟ لا ريب أن هيجو كان يشعر باللذة حين كان يشعر بالشقوة ولا ريب أنه عانى في هذا الاضطراب كثيراً، ولعلك تذكرين أنه عبر عن اضطرابه هذا بلسان الأحدب إذ أفلتت منه معشوقته، ورأى أن عليه توديعها لصاحبها: (رب! لماذا لم تخلقني حجراً؟!). . . واحتضن صنما. . .
- فهو كان يرى الحجر أسعد من البشر. . .
- وهذا الذي يراه كل من عجز، وهو الذي يراه أخيراً كل من كفر. . . أما يقول القرآن: إن الكافر سيقول يوم القيامة (يا ليتني كنت ترابا)؟!
- وهل كان الأحدب كافراً؟
- بل كان هيجو مؤمناً. . .
- ما لهيجو؟ إنما نحن الآن في الأحدب.
- والأحدب من هيجو، وليس هو وحده الذي منه، وإنما منه أيضاً كل من في القصة وكل ما فيها، فإذا رأيت أنه يضطرب في الأحدب العاجز حتى ليتمنى أن يكون حجراً، فانظري إليه كيف يختم حياة ملك الشحاذين بثقل ينزل عليه من فوقه في الوقت الذي يتزعم فيه ثورة عنيفة فيها ضرب وكر وفر، وفيها موت يراه بعينيه يتخطف الناس من حوله ولا يحسب لنزوله به حساباً ثم انظري هيجو كيف يغمس في التوفيق شاعر القصة الذي سيق إلى الملك متهماً بإثارة القلاقل وتهديد الأمن العام بالشعر الحانق فما يزال الشاعر المؤمن بشعره يقنع الملك بوجهة نظره حتى يحكم الملك في قضية الشعب حكماً عدلاً يضع حداً للثورة التي لو لم يعمد ملك الشحاذين إلى القوة فيها وانتظر حتى يحق الحق القول الصادق لما لقي فيها حتفه، ولفاز في آخر الأمر بالذي كان ينشد، انظري إلى هذا وانظري إلى غيره تري أن هيجو كان مؤمناً. . . وأنه كان ينظر إلى الأحدب نظرته إلى الكافر
- إذن فقد كان هيجو يكره الأحدب؟. . .
- لا، وإنما كان يرثى له. لأنه لما احدودبت نفسه قدر نعمة الرحمة، وقد نصحه ونصح(347/56)
كل أحدب أن لا يطمع في غير ما هو أهله وأن يرضى بما هو فيه، كما نصح ملك الشحاذين وكل من هو معتز بقوته مثله أن يكف عن القوة والاعتزاز بها. كما أظهر رضاه عن الشاعر الراضي الفيلسوف الذي يصبر على حبيبته أن تحب غيره حتى تهتدي إليه وتحبه، كما أنه حذر الناس جميعاً من التراجع عن تلبية حسهم، حين جعل الملك يحكم الخنجرين في أمر الغجرية إذ عصب عينيها وقال لها: اختاري من هذين واحداً، فإذا قبضت على خنجري فأنت بريئة فإذا أمسكت الآخر فأنت مذنبة، فامتدت يدها أولاً إلى خنجر البراءة ولكنها تراجعت فعانت بعد ذلك ما عانت. . . كل هذه دلائل إيمان وصبر أضاءا في نفس هيجو. . . فأضاءا قصته هذه وخلداها. . . وإلا فما الذي تحسبينه حفظها وأبقاها؟
- أنها مكتوبة بلغة رائعة وأسلوب رائع. . .
- لا. فما خلدت اللغة وما خلد الأسلوب شيئاً فما هما إلا من أدوات الفن وليسا الفن نفسه. . . إن ملايين الناس في الأزمنة والأمكنة المختلفة ليحبون هيجو، ومنهم من لا يقرأ ولا يكتب لا الفرنسية ولا غيرها، ولكنه يفهم هيجو من إشارات الممثلين وأصواتهم ويقنع بهذا. . . إن الناس جميعاً يرون في أحدب نوتردام صدقاً وعدلاً وأحكاماً تجب في مواقف تستوجبها، فالموت لمن يستحق الموت حيث يجب الموت، والهناء لمن يستحق الهناء حيث يجب الهناء. . . لم شذ هيجو عن العدل في حكم من أحكامه ولم يحاب بطلاً من أبطاله، ولم يعط في دنياه هذه التي جمعها حقاً لغير صاحبه، ولم ينزل بها نكبة على مؤمن
- وهذا القسيس النبيل الذي عشق الغجرية فكان في غرامه هلاكه، ما ذنبه؟
- ذنبه ضعفه. . . هذا قسيس وهب نفسه لله، واطمأن بهذه الهبة على حياته ومستقبله، فما له يريد أن يسترد مما أعطى الله شيئاً من نفسه يعطه غانية صغيرة؟. . . ما له يشعر بهذا الضعف، وماله حين يشعر به لا يعالجه بإيمانه وعزمه، وما له حين يضعف عن علاجه بإيمانه وعزمه لا يكون صريحاً في إعلان ضعفه؛ فإما أن يرتد على عقبيه خطوات في طريق تقواه وورعه، فيخلع مسوح القسيس ويدع الكنيسة وينزل إلى الدنيا، كالمؤمن إذا ارتد، يعرض نفسه على غانيته كما يعرض كل رجل عليها نفسه فإذا اختارته سعد فإذا أعرضت عنه كان عليه أن يرضى. . . كان هذا هو الواجب عليه أن يصنعه ولكنه لم(347/57)
يصنع منه شيئاً، بل طرأ عليه الضعف فلم يرض أن يشهر على هذا الضعف سلاحاً من نفسه وإنما غطاه بستر منها كان غشاً لكل من حسبوه قسيساً، وكان حجاباً حال بينه وبين التغلب على نفسه. . . فألم به ما ألم به من تشتت البال في الموازنة بين مظهره الطاهر، وبين الكامن من اللوثة في نفسه. . . هذا القسيس كان سليم المظهر ولكنه كان الكافر المشوه النفس، الذي ترجمه هيجو بذلك الأحدب العاجز ببدنه عن إغراء الغجرية. . . إن هذا القسيس هو أحدب نوتردام أكثر مما كأنه الأحدب. . . فإن الأحدب قد دلته طويته السليمة إلى حركة بلهاء أراد بها أن يغري فاتنته. . . إذ غطى لها يوماً البشاعة في وجهه وكشف لها عن عينه الرقراقة الحلوة، ونظر إليها كمن يقول لها ادخلي إلى نفسي من هذا المنفذ، ولو كان في الفتاة حكمة، ولو لم يكن بها من نزق الجمال والصبا طيش وخفة، فلعلها كانت تحبه إن أنعمت التفرس في عينه تلك، ولكنها لم تكن من الحكمة. . . أو لم تكن من البذل بالرأفة. . . وعلى أي حال فالذي يعنينا هو أن الأحدب وجد في نفسه شيئاً جميلاً عرضه، ولكن القسيس الأحدب الروح لم يجد عند روحه ما يعرضه على غانيته! إنه قسيس، وكان يستطيع على الأقل أن يكون مثلما كان الشاعر المجنون محباً على غير أمل، وكان على هذا يستطيع أن يحملها على حبه، وكان بعد هذا يستطيع أن يسلمها (لنوتردام) مادام قد أقام نفسه في (نوتردام) راعياً. . . ولكنه لم يفعل شيئاً من هذا وانخذل أمام نزوة من نزوات نفسه. . . فكان على علمه وعلو شأنه، وسلامة بدنه أشقى حالاً من الأحدب، فقد رضى الأحدب أن يتمنى الجمود والتحجر وأن يروض نفسه عليهما، أما هو فقد أبى إلا أن يشعل النار في الدنيا وأن يضرب الناس بالناس حقداً وغلاً وعمى عن واجبه وحقه. . .
- إذن فإن هذا هو الأحدب
- إنه على الأقل الأحدب الأول. وقد كنت أحب أن يمثله لاوتون، فهذا الدور من غير شك معرض لعواطف وتقلبات أكثر من الطارئة على الأحدب الآخر. . .
- ولكن هذا الدور لم يلتفت إليه أحد هذه اللفتة، وإنما يعنى أبطال التمثيل بالدور الآخر. . .
- لعل ذلك لأنه أظهر لعيون، ولأن تمثيله يحتاج إلى مكياج بارع يتحدى الممثلون بعضهم(347/58)
بعضاً بإجادته وإتقانه. وهذا عيب من عيوب السرعة الآخذة برجال الفن في هذا العصر، وقد كنت أحسب لاوتون ينجو منها هذه المرة كما نجا منها مرة سابقة في بؤساء هيجو أيضاً. . . فإنه ترك دور جان فلجان لفردريك مارش ومثل هو دور جافيير البوليس السري، وجافيير كان أبأس من جان فلجان نفساً وأشقى روحاً وإن كان يظهر لجان فلجان أنه الأبأس. . . كما أن الناس يحسبون قارع الأجراس في أحدب نوتردام أنه الأحدب بينما ذاك القسيس هو الأحدب. . .
- ولماذا لا يكونان بائسين، وأحدبين؟. . .
- هما بائسان وهما أحدبان حقاً. . . ولكن البائسين أحدهما تجسد البؤس فيه وظهر فخف عنه تكاثف البؤس وانحباسه في نفسه، والآخر توارى البؤس بين جنبيه واستتر فهو ينفث سمه في داخله ولا ينتثر من بؤسه شيء خارج نفسه، والأحدبان أحدهما تفجر بالقبح بدنه فانزاح القبح عن روحه، والآخر ازدرد هذا القبح وهو لا يفتأ يجتره فهو غذاؤه ومادة عيشه. . . هذه هي شجرة الزقوم التي يأكل منها الكافرون لا تطعمهم ولا تسمنهم ولا تغنيهم من جوع، وأسوأ ما فيها علمهم بغصتها، وأسوأ من هذا نهمهم إليها وشغفهم بها. . . ما كان أروع لاوتون لو أنه مثل هذا الأحدب!. . .
- ومن كان يمثل الأحدب الآخر؟
- أي واحد! بوريس كارلوف مثلاً
- ولكن بوريس جامد أصم
- كان أمام لاوتون لا يستطيع إلا أن يتحرك. . . فبوريس مسكين. كل ما يسندونه إليه من الأدوار شاذة كثيرة الحركة، وما أقل الفرص التي أعطوها ليمثل. . . فإذا لم يكن بوريس يعجبكم فقد كان على لاوتون أن يمثل الدورين معاً وهذا ممكن في السينما. . . إنني حسبت حساب هذا مع هذه الأرقام التي كنت أكتبها. . .
- ولكن هذا عمل شاق قد لا يستطيعه ممثل
- إن لاوتون يستطيعه، ولكنها فكرة لم تخطر له حين كان يدرس الأحدب، فلا ريب أنه أسرع في دراستها أكثر مما أسرع في دراسة البؤساء، فوقع على أحدب المظهر وفاته أحدب المخبر؛ ولا ريب أيضاً أنه وضع في قرارة نفسه نية المباراة مع المرحوم لون(347/59)
شاني. . ولو كان قد أغفل هذه لكان قد خلص فأخلص فاستخلص. . .
- يا للرزية! حتى لاوتون تعيبه. . . فمن يعجبك؟. . .
- لاوتون حينما يصفو. . . ولاوتون في الأحدب أيضاً. . . بل لقد راعني أكثر مما راعني لون شاني. . . ذلك أني خرجت من (لون شاني) وأنا كارهه. . . كاره الأحدب. . . بينما قد حببني فيه لاوتون. . . أو حملني على الترحم له على الأقل
- إني لا أرى الفرق بينهما محدداً هكذا كما تراه، ولعل ذلك راجع إلى طول عهدنا بلون شاني في الأحدب. . .
- على أي حال فإني لا أجزم بهذا الفرق بينهما وإنما أجزم به في نفسي، وقد يكون مرجعه اختلاف كل منهما عن صاحبه في تذوق الأحدب وتفهمه، وقد يكون مرجعه اختلاف نفسي بين ما أنا عليه اليوم من القدرة على التذوق والفهم، وبين ما كنت عليه فيما مضى، وقد يكون مرجعه كذلك اختلاف دواعي التذوق والتفهم عندي بين اليوم والأمس
- وما دواعي التفهم والتذوق هذه. . .؟
- ربونا على أن يخيفنا (أبو رجل مسلوخة). . . ولم أكن في صباي قد تخلصت مما غرس في ذهني ولم أكن بعد قد أحببت المشوهين والضعفاء والعجزة والمرضى. . .
- وأنت الآن تحبهم؟
- أحسب ذلك. فإذا لم أكن أحبهم فإني على الأقل أتحبب إليهم. . .
عزيز أحمد فهمي(347/60)
القصص
حلم شاعر
للأستاذ محمد سعيد العريان
الليلة عيد مولده!
أولئك أصحابه وصواحبه قد أحاطوا به فرحين مهللين، يضيء البشر في قسماتهم، وترف على شفاههم بسمات الفرح والمسرة؛ قد تنادوا إلى موعدهم ودعوه معهم إلى ناديهم، ليحتفلوا بعيد مولده!
وإنه لجالس بينهم ولكنه ليس منهم؛ إنه هنا ولكنه هناك!
. . . وفي يده زهرة يعبث بها. . . وضمها بين راحتيه ومال عليها برأسه. ما به أن يشمها؛ فإن عطرها ليأرج حوله وينتشر، ولكنه ينظر ويفكر. . .
. . . وراحت أصابعه تنثرها ورقة تساقط عند قدميه وهو يعد، وعد ثلاثين ورقة، ثم تعرت الزهرة من أوراقها إلا عوداً أخضر ليس له عطر ولا رواء؛ وهمس الشاعر: هذه هي دنيانا. . . واختلجت شفتاه وأطرق؛ وعاد يعد الأوراق المنثورة تحت قدميه. . .
. . . ثلاثون ورقة!. . . ذلك كل تاريخ الوردة؛ فما هي بعد الثلاثين إلا عود ذابل متفتر وورقات منثورة على التراب، وكانت وردةً عطرة يعبق بأريجها الجو وتهفو إليها الزهرات الطيارة من فراش البستان. . . فماذا يكون هو بعد الثلاثين وقد غربت شمسها منذ ساعات. . .؟
وعاد ينظر إلى أصحابه وصواحبه، يبادلهم تحية بتحية، وكلمات بكلمات؛ لا يكاد يشعر أن هؤلاء جميعاً قد التقوا على ميعاد ليحتفلوا به في عيد مولده؛ فإن سيلاً من الخواطر والذكريات يتدافع في رأسه الساعة، فما يكاد يرى أو يسمع إلا نجوى نفسه وهمس أمانيه؛ وغامت على عينيه غائمة، فشطح إلى واد بعيد. . . وإن أصحابه وصواحبه من المرح والبهجة لا يكادون يشعرون أنهم هنا وأنه هناك؛ وما اجتمعوا إلا حفاوة بعيد مولده. . .!
وأحس الشاعر إحساس الوحدة، وإنه لبين أصحابه وأصفى الناس له؛ فتركهم لما هم فيه وتركوه، وإن وجهاً في وجه، وإن ابتسامة تجاوب ابتسامة، وإن كلمة تحِّيي وكلمة ترد. . .
وأنفض السامر ومضى كل لوجهه، ومد الشاعر يده يصافحهم ويشكر لهم؛ ثم تفرقت بهم(347/61)
السبل. . .
. . . ووجد الشاعر نفسه وهو يمشي وحده في جنح الظلام، وأحس الوحدة الرهيبة التي يعيش فيها منذ كان؛ فمضى يتحدث إلى نفسه وتحدثه، وخنقته العبرة فأرسلها، ثم تتابعت عيناه. وعاد الزمان القهقري ينشر على عينيه ماضيه ويذكره أمانيه. . .
وقالت له نفسه: هذا سبيلك فامض فيه على هدىً وبصيرة، وانظر ماذا أعددت لغد؟
وقال لنفسه: وهل ترين الغد يا نفس إلا صورة من أمس الذي كان؟ وهل ترينني في غد غير من أنا اليوم وغير من كنت في الماضي؟. . .
لقد تجاوز الثلاثين ولم يزل حيث كان يوم بدأ؛ فماذا يكون غير الذي كان؟
وأوى إلى فراشه وأطفأ المصباح، ليقضي ما بقي من الليل يراوح بين جنبيه في فراشه الوحدة لا يهدأ ولا يستقر!
كان شاعراً بروحه وفطرته قبل أن يكون شاعراً له لسان وبيان: نظر إلى الناس في دنياه فاستوعبهم بنظرة، ثم عاد ينظر إلى نفسه فلم يعرف أين هو من نفسه وأين هو من الناس؛ وشعر بالوحدة منذ شعر أنه يعيش في جماعة. وكان له خيال وفي نفسه أمل؛ فتوزعته دنياه ودنيا الناس؛ فلا هو عاش في دنيا الناس واحداً منهم ولا هو عاش في دنياه وحده!
وألحت عليه ضرورات الحياة، فأبت عليه فطرة الشاعر أن يلتمس بعض وسائل الناس؛ فعاش من ضروراته وفطرته بين قوتين تتجاذبانه، لا سبيل إلى الخلاص منهما معاً إلا أن يعيش روحاً بلا جسد أو جسداً بلا روح؛ وهيهات!
وفكر فيما خلق الله وفكر في نفسه؛ فكأن في كل ما يراه لساناً يحدثه، وفي كل ما يسمعه معنى يهتف به؛ وكأن في كل منظور حقيقة غير منظورة لا تتكشف إلا لعينيه ولا يسمع نجواها أحد غيره؛ فإن وراء الغمام طيوفاً تتخايل له في شكول وألوان، وإن في لمعان البرق ومضات من الإلهام، وإن في الصمت لكلاماً أبلغ من الكلام، وإن بين السماء والأرض لعوالم غير منظورة تفضي إليه بأسرارها!
وتكشفت له الدنيا ونضت أستارها؛ فألهمته أن يغني. . .
وفاض ما في جنانه على لسانه سحراً من النغم يعبر عن أخفى خفايا النفس وأعمق أسرار الحياة؛ ولكن ألحانه القدسية قد تلاشت أصداؤها في صخب الحياة وضجة الأحياء؛ فلم(347/62)
يستمع إليه أحد!
وضاق الشاعر بوحدته بين هذا الناس وضاقت به دنياه؛ فأعتزم الخلاص. . . ولكن روحاً لطيفاً أطل عليه من سماواته فثبت فؤاده. . .
وابتسمت له فأبتسم، وعادت إلى الحياة نضرتها في عينيه، ووجد أنساً من وحشته حين أيقن أنه ليس وحيداً في دنياه!
وعاد يغني. . . ولكن غناءه اليوم ليس له وحده؛ إنه لحن مؤلف من خفقات قلبين قد اجتمعا على أمل. . .
وغنى بها عن الناس، وغنيت به؛ فما يهمه اليوم أن يسمع الناس ما يصدح به من أغاريد الحب أو يكون لها وحدها شدوه وغناؤه!!
أه. . . لشد ما تقسو عليه دنياه!
كان ذلك منذ سنين أما اليوم فقد عادت تقاليد الجماعة تضرب بينه وبينها بسور ليس له باب؛ وعاد إلى الحياة وحده، لا يدري من أمرها ولا تدري من أمره. . .
. . . وأشرق الصبح عليه صبيحة عيد الميلاد، ومازال يراوح بين جنيه في فراش الوحدة لم تغتمض عيناه!
ما هو؟ وأين هو؟ وما دنياه؟
أنه ليحس من حوله فراغاً هائلاً ليس له قرار؛ وإن الوحدة لتكتنفه، فما يشعر أن ثمة أحداً بجانبه يفزع إليه ليؤنس وحشة قلبه؛ وإنه ليعيش من زحمة الحياة وصخب الأحياء في ضجة يموت فيها النغم ويتلاشى الصدى؛ ففيما العيش؟ وما جدواه؟ وإلى أي غاية يمضي؟
وعاد يلتمس الوسيلة إلى الخلاص!. . .
وقالت له نفسه: أتحسب يا صاحبي أنك قد فرغت من دنياك حين خلوت إلى نفسك؟ فما أنت بشاعر!. . . لئن كنت قد عفت الحياة وكرهت المقام في دنياك لأمر من أمور دنياك - إن الحياة ما تزال تطالبك بحقها عليك؛ فإن أديته. . . وإلا، فلست من شعرائها، ولا كنت!. . .
. . . ما الشعر إلا رسالة الحياة إلى الأحياء تعبر عن أسرار الحياة ومعانيها؛ وما هو إلا قبس من نور السماء يتنزل على قلب بشر لتنير به السماء ما حوله من ظلمات البشرية؛(347/63)
وما هو إلا إحساس زائد على إحساس الناس يرى مالا يرى ذو عين ويسمع ما لا سمع ذو أذن؛ وما هو إلا وحي يوحي من وراء الغيب إلى إنسان تكون فيه زيادة على الإنسانية؛ وما هو إلا إدراك كامل يكشف عن مظاهر الجمال في الكون ويهدي إلى الحق والخير
. . . أفتراك يا صاحبي قد بلغت رسالة الشعر حين حسبت أنك قد فرغت من دنياك، أم أنت. . .؟
وأطرق الشاعر برهة يفكر ثم نهض لأمره. . .
بلى، إن عليه رسالة يؤديها وواجباً ينهض له؛ فلا عليه من الناس حتى يبلغ، فإذا انتهى من أمره فإن نفسه له خالصة يمضي بها حيث يريد
وأمات في دخيلته دواعي النفس ونوازع الهوى ومضى لغايته. . .
وعاد يغني. . . غير آمل ولا خائف، وما به من شيء ضجر ولا ملالة؛ وأنس وسمت روحه في آفاقها إلى ظل عرش الله، حين قمع شهوات نفسه ونوازع هواه وآثر أن يكون نوراً يضيء للناس وهو يشتعل؛ فلقيت أغانيه من يسمع فيعي!
وأفاق الناس على لحن علويٍ ساحر ينشده شاعر وهب نفسه للدعوة إلى الحق والفضيلة والجمال؛ ونظروا، فإذا هو هو، ولكنه صار شخصاً غير من كان، لا تتصباه المنى ولا يعبث به هواه، وليس له في الحياة إلا هدف واحد يسعى إليه. . .
وجاءه المجد حين لا حاجة إليه. . .
وأشارت إليه من النافذة بنان مخضوبة وتقول: إنه لهَو! ولكنه لم ير، ولكنه لم يسمع. . .
وسعى ساعيها إليه يسأله: أئنك لأنت. . .؟
قال: نعم، قد كان ذلك يوماً!
وعلى باب الكوخ المنفرد على حدود العمران، جلس الشاعر على الرمل مرتفقاً إلى صخرة ناتئة، يسرح بصره في الفضاء الممتد إلى ما لا يبلغ النظر، وفي نفسه أنس، وفي قلبه هدوء ورضاً واطمئنان، وعلى لسانه تسبيح وعبادة!
لقد كان في مجلسه ذلك بحيث لا تراه عين ولا تسمعه أذن، ولكنه لم يكن وحده، لأن الله معهّ!
واستيقظ الشاعر بعد غفوة، وابتسم. . .(347/64)
لقد أدى رسالته، ولكنه لم يكن في أي أيامه أكثر حباً للحياة منه يومئذٍ!
لقد تحقق حلمه بعد لأيٍ ووجد تعبير رؤياه!
محمد سعيد العريان(347/65)
شجاعة المرأة الكردية
(قصة تاريخية واقعية لم يحن الوقت بعد لذكر أسمائها)
للآنسة الأديبة سانحة أمين زكي
حدث أنه كان في منطقة. . . رجل نبيل مهيب الجانب قد وهبه الله من الشجاعة والكفاية قدر ما وهبه من جمال الرجولة وقوة الشباب، ومن ذلك كان رجاله يحترمونه ويقدسونه حتى ليرفعونه إلى مصاف الآلهة، وقد هيأت له الأقدار زوجة هي صورة مصغرة له ولصفاته، قد حباها الله ثروة من الجمال والذكاء والشجاعة، فهي تجيد الرماية إلى أقصى حد، وتتصدر المجالس سامرة، وتنافس الرجال في أعمالهم، والشعراء في فنهم، والعلماء في علمهم؛ فكانت بذلك مثلاً أعلى لبنات قومها، وصورة بديعة ناطقة للمرأة الكردية
كان الرجل يحب زوجته، وكانت هي تبادله حباً بحب فعاشا مدة من الزمن يرفرف عليهما طائر السعادة بجناحيه، يخرجان معاً للصيد ويتسابقان في العدو، وأتباعهما يشيعونهما بنظرات ملؤها الحب والغبطة وهما في لهوهما لا يحملان هماً من هم الحياة!
وحدث أن قدم الملك. . . إلى هذه المنطقة تمهيداً للاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكاته. فلما تم له الأمر، أولم وليمة فاخرة، دعا إليها جميع نبلاء وحكام هذه المنطقة، وكان من بينهم هذا النبيل، فما كاد الملك يراه حتى أعجب بذكائه، فلما سأل عنه سمع ما زاده حباً له وتعلقاً به، فرغب في ضمه إلى بطانته ليأنس به، ويستمتع بعلمه وفضله ويتخذه سلاحاً من أسلحته؛ فلما عرف هذا النبيل رغبة الملك لقيها بالقبول لما رآه من عطفه على المغلوبين من إخوانه، وتواضعه لمن حوله؛ ورضى أن يكون مرافقاً له، وشد الرحال مع زوجته وخدمه ميممين شطر العاصمة، ولو درى المسكين ما يخبأه له القدر وراء هذه الرحلة من الشر لما رضى أن يرحل ولما خطا خطوة في هذا السبيل
وصل النبيل وحاشيته إلى قصبة الملك، فأفرد له الملك قصراً فخماً، في وسط حديقة غناء، سكن فيه هو وزوجته في أسعد حال وأهنأ بال، واستأنفا ما كانا عليه من قبل: من صيد وقنص ومرح، والجميع يتغنون بمحاسن هذه المرأة وجمالها الذي جلب عليها الوبال فيما بعد. ومازال جمال المرأة منذ كانت أس البلاء ومنبت الشر، ومازال سبباً إلى الكوارث الفاجعة، مادام هناك رجال تسول هم نفوسهم أن نظروا إلى ما لا تملك أيديهم. وكان واحد(347/66)
من النبلاء - وإن لم يكن في طبعه شيء من صفات النبل وكرم النفس - مقرباً من الملك، صديقاً له، لا يخطو الملك خطوة إلا عن أمره، ولا يقطع في رأي إلا بمشورته؛ فرآها يوماً خارجة لنزهتها المعتادة، منتصبة فوق صهوة جوادها، رافعة الرأس، باسمة للطبيعة يتبعها خادماها الأمينان لا ينفكان يلاحظانها بيعيونهما، كما ينظر الكلب الأليف إلى صاحبه، ولكنهما على ما كان يبدو عليهما من الضعف بإزائها، كان من شجعان الرجال، قد أخذا الأهبة للذود عن سيدتهما وقتل كل شرير تسول له نفسه الخبيثة أن يحاول الاقتراب منها؛ فلم يجد النبيل سبيلاً إلى التقرب منها أو سماع صوتها واكتفى بالنظر إليها والتملي بمحاسنها على بعد؛ وأحست المرأة بغريزتها أن هناك من ينظر إليها، فالتفتت، وحين التقت نظراتها بنظراته، ورأت ما في عينيه من حديث نفسه الدنيئة. . . ظهر الغضب في وجهها، وأدارت رأسها، كأن النظر إلى وجهه يدنسها. . . لكن ذلك النبيل لم يبال ما رأى، بل ابتسم ابتسامة فيها وعيد وتهديد. وحين رجع إلى بلاط الملك قص عليه قصة هذه الحسناء ووصف له تعلقه بها وحبه لها بلا حياء. . . وأخذ يستعطفه، ويطلب منه العون. . . فأثر ذلك في نفس الملك، وهون عليه الأمر وطلب منه الصبر، حتى يحين الوقت المناسب. . .
والتقت الزوجة بزوجها، فقصت عليه ما رأت، بصوت يرتجف من الغضب، ويدل على ما كانت تشعر به من الذل والمهانة لما أصابها. . . فهدأ الزوج الكريم ثائرتها، وذهب يستطلع الأمر وحين علم أن الملك راضٍ عن عمل صديقه، ثارت نفسه الأبية للدفاع عن عرضه، وزاد في غضبه، ما رأى من سوء معاملة الملك لأصدقائه، واحتقاره لهم، وتنكيله بهم، وما فرض من الضرائب المرهقة على المنطقة التي ينتسب إليها، والتي يشعر أن عليه حقاً لها، وما سلب أهلها من الحرية. . .
هذه العوامل مجتمعة، فعلت فعلها في نفس هذا النبيل؛ فمحقت ما كان يشعر به من الحب للملك، وحملته على التفكير في قتله، ليربح منه، ولينتقم! غير مبال بعاقبة ذلك، مادام فيه صيانة لشرفه، وتخليص لشعبه من آصار العبودية التي يرسف فيها تحت ظل هذا الملك الطاغية!
رجع النبيل إلى زوجته، والغضب يطويه وينشره، وعوامل مختلفة تصطرع في نفسه،(347/67)
وأخبرها أنه ذاهب لقتل الملك، فإن نجح في ذلك فقد بلغ ما أراد؛ وإن لم يتمكن من قتله أو لم يستطع الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، فعليها أن تدافع عن شرفها حتى آخر لحظة من عمرها. ثم تمنطق بغدارتين، وودع زوجته وداعاً حارا ومضى لشأنه. وأبت الزوجة الشجاعة أن تلجأ إلى البكاء والنحيب بلا جدوى؛ بل اكتنف بالسكوت وبالنظر إلى زوجها كأنها تحاول أن ترسم صورته في مخيلتها جيدا
وصل الرجل إلى البلاط، وتمكن من الدخول بسهولة؛ لأنه كان معروفاً هناك، ووصل بهدوء إلى غرفة الملك الخاصة، وكان الملك في ذلك الوقت جالساً يطالع غافلاً عما يدبر له. وحين رأى صديقه بالأمس داخلاً والشرر يتطاير من عينيه، استولى عليه حب الحياة، فحاول الهرب، ولكن الرجل لم يمهله، بل أطلق عليه خمس رصاصات من الغدارة الأولى، ولكنه لم يصبه لشدة انفعاله، فأراد أن يرد الغدارة إلى منطقته كي يستعين بالغدارة الثانية، ونسى أنه لا يزال هناك رصاصة أخرى فيها، فما كاد يضعها في منطقته، حتى انطلقت هذه الرصاصة وأصابت منه مقتلاً. فسقط متضرجاً بدمائه الزكية تحت أقدام الملك
أما الزوجة فإنها بعد ذهاب زوجها صعدت إلى أعلى غرفة في منزلها، وتزودت بما قدرت عليه من الطلقات، وحصنت الغرفة بما وضعت من الأثاث خلف الباب كالمتاريس، وجلست في حصنها متأهبة لما يكون، وهي في شك من قدرة زوجها على الإفلات بعد تنفيذ عزيمته، ولكنها لبثت تنتظر! ولم يطل انتظارها طويلاً حتى قدم جنود الملك وأحاطوا بالمنزل، فحينذاك عرفت كل ما كان، وأيقنت أن زوجها قد مات! فتلاشت رغبتها في الحياة، ولم يبق في نفسها إلا سعير يضطرم يدفعها إلى الثأر. وطلب إليها الجنود أن تنزل، فأجابتهم بإطلاق الرصاص فأجابوها ناراً بنار، ودارت المعركة، فما استطاع الجنود أن يصيبوها وهي في ذلك الحصن الحصين؛ على حين استطاعت هي أن تقتل أثني عشر رجلاً منهم. وعلم الجنود أنهم لن يبلغوا منها مبلغاً، وصغرت نفوسهم حيال هذه المرأة الجريئة فلم يجدوا إلا أن يشعلوا النار بالمنزل ليحترق بها وتموت بين الأنقاض، وأيقنت المرأة أنها على شفا الموت حرقاً، فصاحت بالجنود تخبرهم أنها تستسلم على شرط أن يتقدم الرجل الذي سبب هذه الكارثة فيعطيها الأمان ويضمن لها السلامة، ففرح الرجل الفاجر وأيقن أنه قد بلغ أمنيته، وتقدم متبختراً يريد المنزل، فلم يكد يقترب من الباب حتى(347/68)
أصابته رصاصة في جبينه، فخر على الأرض قتيلاً جزاء وفاقاً على ما سبب لهذه الأسرة الهانئة من الشقاء والبلاء! ولما انتقمت المرأة لنفسها ولزوجها وللأرواح التي أزهقت، هدأت ثائرتها وعلمت أنها قد أدت واجبها؛ فخيل إليها كأن صوتاً من الغيب يناديها إليه، هو صوت زوجها، فوضعت فوهة المسدس على جبينها وهتفت باسم زوجها لآخر مرة ثم أطلقته؛ فصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها، وانطفأت شعلة حياتها وهي في ريعان الصبا وزهرة الشباب!
(بغداد)
سانحة أمين زكي(347/69)
من هنا ومن هناك
إلى أين تتجه إيطاليا؟
(ملخصة عن (ذي كونتمبوراري رفيو))
مهما قيل في تصريح الحكومة الإيطالية في بدء الحرب عن التزامها طريق الحياد، فمما لاشك فيه أن هذا التصريح قد قوبل بالثقة التامة داخل إيطاليا وخارجها.
وقد كانت الصحافة الإيطالية صريحة في التعبير عن نيات موسوليني في حماية المصالح الإيطالية الخاصة. فكتبت جريدة (رجيم فاشستا) بعد إعلان الحرب ببضعة أيام تقول:
(إن إيطاليا ستفي بتعهداتها ولاشك، ولكن في حدود مصالحها الخاصة التي تضعها الحكومة فوق كل اعتبار، وتنظر إليها كما تنظر إلى النجم القطبي، كلما أرادت تحريك الدفة لتوجيه سفينة البلاد. فما هي مصلحة إيطاليا في الموقف الحاضر؟ قد تنضم إيطاليا إلى ألمانيا وروسيا ضد الحلفاء، ولكن الحكومة الفاشستية لا تخطو هذه الخطوة إلا إذا كانت على ثقة تامة من انتصار الدكتاتوريات الثلاث على الديمقراطية الغربية. وإذا صح هذا الفرض، فإن إيطاليا ستعجز عن الوقوف أمام ألمانيا وروسيا إذا أرادت أن تطالب بنصيبها من الغنيمة في البحر الأبيض المتوسط والمستعمرات باعتبارهما صاحبتي السلطة الحقيقية في أوربا وما يتبعها من البلاد. وسوف تنال روسيا ما تريده من آسيا والبلقان فضلاً عما نالته فعلاً في بولندا وولايات بحر البلطيق، وتترك إيطاليا لتلعب دوراً آخر تكون فيه سياستها الخارجية المالية والاستعمارية والثقافية، تابعة لأهواء الألمان المنتصرين.
وهناك الفرض الآخر وهو الأكثر احتمالاً: وهو انتصار الدول الديمقراطية. وفي هذه الحالة تستطيع إيطاليا أن تختار بين صداقة الأمم المنتصرة كما يدل سلوكها مدة الحرب، ومعارضة يدفعها إليها شيء من عدم الثقة، الذي قد يبعثه غموض الموقف ويضاعف تأثيره اختلاف المبادئ السياسية. . . وإذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى حل هذه المشكلة التي يرجع أمرها إلى الظروف والأحوال التي تظهر بعد الحرب، فإننا نستطيع أن نحلق حولها، ونلم بأطرافها
إن الذين يقدرون مستقبل الشعوب بالنظر إلى قواها المادية، ويهملون تقدير القيم الأدبية والأخلاقية، يخدعون أنفسهم في الحقيقة، فهذه القيم هي مصدر النصر في النهاية، إذ الدافع(347/70)
الروحي قوة لا يستهان بها في حياة الأمم
لذلك يرى رجال السياسة الذين يستمتعون بالنظر البعيد، أن يكون إلى جانب حرب السلاح حرب المبادئ والأفكار. يجب أن يعرف المحاربون أنهم يحاربون للمحافظة على القيم الأخلاقية لا للاستيلاء على الأرض والمادة. يجب أن يعرفوا أنهم يحاربون للحرية الإنسانية والدفاع عن الضعفاء والمظلومين
لقد كنا نقول في سنة 1914 إن الحرب قائمة لإنهاء الحرب، ولكنا اليوم نقول: إن الحرب قائمة للدفاع عن الوحدة الأوربية وسلامتها. . .
فهل تستطيع إيطاليا أن تقف أمام أوربا المنتصرة، لتعارض مبادئ الحرية والعدالة التي تدعو إليها بعد الحرب؟. الجواب: لا
العمل والعمال في تركيا
(ملخصة عن (لاجورنال دي روبيه))
ليس في تركيا إنسان واحد بغير عمل، فكلمة (متعطل) لا وجود لها في قاموس اللغة التركية اليوم. فإذا وجد رجل بغير عمل فمعنى ذلك أنه يغير العمل الذي كان يشتغل فيه. ولا يستغرق (تغيير العمل) أكثر من ثلاثة أسابيع على أكبر تقدير. إذ يذهب الرجل أو المرأة ممن يريدون (تغيير العمل) إلى مكتب خاص صباح كل يوم من هذه الأسابيع الثلاثة فيوكل إليه عمل مؤقت يقوم به ريثما يعين له العمل الدائم. وهكذا أصبحت تركيا الحديثة لا تعرف الكسل ولا الخمول
ولا تعرف تركيا كلمة الحرمان من الحقوق الاجتماعية، فجميع الحقوق التي للرجل تتمتع بها النساء. أما الرجال فقد فقدوا سلطانهم القديم على المرأة. وإن كانت لا تزال لهم بعض المزايا على وجه العموم، إلا أن المرأة على الرغم من الجهود التي بذلت بشأنها لا تزال متأخرة عن الرجل في ميدان الحياة العامة. . . إنني ممن يؤمنون بحرية المرأة؛ إلا أن التجارب العديدة قد برهنت لسوء الحظ على تفوق الرجل على المرأة. وقد أتيح لي كرئيس لإحدى قوات لطيران أن أضع تحت رآستي خليطاً من الرجال والنساء، فلم أجد من يدرك فهم ضرورة النظام بين النساء إلا النذر القليل، وغالبهن ممن يمتزن في الأصل بالذكاء(347/71)
الشديد، بينما يبرهن الرجال جميعاً حتى الذين لم يرزقوا من الفهم إلا الشيء القليل على فهمهم للنظام وخضوعهم له
لقد جربت الجوع في الأيام الخالية، ولكني لا أجد الآن تركياً واحداً يعرف الجوع.
وإذا كنت الإحصاءات الرسمية قد دلت على أن عدداً يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف من الأتراك كانوا يموتون جوعاً كل عام، فقد ثبت أنه لم يمت في خمس السنين الأخيرة تركي واحد بعامل الجوع
وتقوم الحكومة التركية بالإشراف على غذاء كل عائلة، وفحصه من الناحية الصحية مرة كل شهرين. وتكلف رب كل عائلة بتقديم بطاقة عن حالة أفراد عائلته الصحية فرداً فرداً إلى السلطات المختصة مرة كل شهر
وتلتزم الفتاة التركية التي تصل إلى الثانية عشرة من سنها بدراسة منهاج خاص في الأحوال الصحية وتربية الأطفال. ولا يباح الزواج لفتيات إلا إذا اجتزن امتحاناً خاصاً في هاتين المادتين. وقد زاد عدد المواليد في بعض المدن التركية إلى 30 في المائة للعناية الفائقة التي تبذلها الحكومة
وقد بلغ عدد الأتراك الذين يحملون شهادات بإتقان القراءة والكتابة من الذين ولدوا منذ سنة 1918، 95 في المائة من الفتيان والفتيات، ويزاد صداق المرأة في تركيا بمقدار التفوق الذي تظهره في خدمة بلادها.
أما عدد الجرائم والمجرمين فقد نقص إلى حد عظيم في السنين الأخيرة. . .
أليس هذا جميعه دليلاً على أن تركيا تسير بخطوات واسعة نحو التقدم والفلاح؟(347/72)
البريد الأدبي
(وحي الرسالة) في رأي مطران
تفضل إمام الصناعتين وشاعر القطرين الأستاذ خليل مطران بك فأرسل إلينا الكتاب الآتي:
حضرة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
أشكر لك إهداءك إلي نسخة من كتابك (وحي الرسالة) وإنه حقاً لوحي رسالة
أقرر أنه وحي رسالة، وما أرمي بذلك إلى محاولة بديعية أستمد منها وسيلة سهلة للتقريظ، بل أرمي إلى غرض أبعد وأسمى، ذلك أنك منذ أجريت قلمك في الترجمة ثم في الإنشاء التزمت ما لم يلتزمه غيرك من سلامة العربية وفصاحتها مع قربها إلى التناول. وكان الأمر غير يسير فذللت له صعاباً، وخضت دونه غماراً. ويعلم الله وأهل الذكر ما يعاني الأديب في هذا المطلب، وإنه لوعر شاق. وإن إدراك الغاية فيه لفخر ما بعده فخر. وقد جعلت بلوغك هذه الغاية رسالة لك، وأعظم بها من رسالة مادام يتحتم على الناطقين بالضاد استبقاء الفصحى، وليس هذا فحسب بل تطوبعها، وهي لا تهي ولا تضعف، ولا تهن ولا تستخف، لأداء أدق الأفكار وأبدع المعاني في هذا العصر، بأصدق ما يكون البيان، وأروع ما يأتي الأسلوب، وأمتن ما تكون التراكيب، بين أصيلة ومتشبهة بها
أمتعتني بمراجعة تلك الفصول القيمة التي جمعتها بين دفتي كتابك، فما زادتني المراجعة إلا إكباراً لها وإعجاباً بها. وإني لأرجو أن يكون من أثرها في نفوس فتياننا، ردهم إلى محجة الصواب التي نكبتهم عنها مولدات عجيبة من مقاطر الأقلام في هذه الأيام.
فبارك الله فيك ومد في أجلك لتجيد وتزيد، وإليك في الختام خالص التحية مع فائق الاحترام.
المخلص
خليل مطران
هذا الكلام لأفلاطون
روت مجلة (الهلال) الغراء في آخر أجزائها هذا القول عازية إياه إلى عمر بن الخطاب (رضوان الله عليه): (لا تقصروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)(347/73)
وقد جاءت (لا تقصروا) بالصاد، وهي بالسين، وما قيل في الإبدال في هذا الباب معلوم، بيد أن قصة (أبي صالح. . .) تقسرنا على أن نقصر (القسر) على الإجبار أو الجبر و (القصر) على الحبس. والقول المروي ينسبه ناسبون إلى علي (رضوان الله عليه). والحق الذي لا مرة فيه أنه إغريقي سليل إغريقيين، وقائله - كما أخبروا - هو الحكيم أفلاطون. وقد ترجمه أبو الفرج بن هندو فيما عرب من الحكم اليونانية في (الكلم الروحانية) وربما نقل القول من قبل. ولو شاء الخليفتان الثاني والرابع (رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة) أن يقولا شيئاً في هذا المعنى لقالا نقيض ذاك الكلام، إذ يستحيل أيما استحالة أن يرى صاحبا رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه) أن لكل وقت آداباً، كأن الآداب (أزياء) نساء في المعاهر في باريس، فيوصيا أهل دهرهما بهاتيك الوصية العريقة في الإغريقية
قل: إن ذلك إنما يقوله ويوصي به يونانيون، رومانيون، أوربيون، أمريكيون، عربيون عصريون، لا صحابيون ولا تابعون ولا مهتدون بهديهم
يا كتاب، يا رواة، اعقلوا. . .
(طنطا)
(أزهري)
حول شمال أفريقية
1 - إلى حضرة نصير العروبة الأستاذ الكبير ساطع الحصري:
في جوابكم المنشور في العدد 339 من الرسالة الغراء على كلمة لي سابقة حول رحلتكم إلى (شمال أفريقية) ما يدعوني إلى الخجل إذ كانت سبباً في تألمكم. غير أني سررت لنتيجتها كما سر الشباب المغربي الطموح، فقد كانت باعثة لكم على إفادتنا بأشياء وإطلاعنا على أشياء. وكنت أود تحريضكم على كتابة فصول عن مشاهداتكم في المغرب، إذ نعد ذلك فرصة نرجو ألا تضيعوها علينا، لأن وجود العراقي أو المصري في بلاد المغرب (أندر من وجود المطر في القاهرة). وإذا وهبتمونا قليلاً من وقتكم ووصفتم للعرب في (رسالتهم) بعض بلادهم، فستشكركم العروبة قبل أن يشكركم أبناؤها.
وأما الملحوظة التي ذكرتم عقب جوابكم، فستصلكم مني في شأنها رسالة خاصة لمقركم(347/74)
بالعراق. والسلام عليكم ورحمة الله
2 - حضرة الأستاذ أحمد الكندي:
جاء في ردك المنشور في العدد 341 من مجلة الرسالة على كلمة سابقة لي ما يفيد أنني أنفي وجود الأباضية من (شمال أفريقية) وهذا ما لا تدل عليه كلمتي قط، لأني إنما نفيت وجودهم في المغرب الأقصى. وهذا نص كلامي (الرسالة339):
(أما الوحدة المذهبية، فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس وليس فيه طوائف دينية كالرافضة أو الأباضية أو غيرهما. . .)
وهو كما ترى صريح في نفي وجود الأباضية في المغرب الأقصى (مراكش) لا في جميع شمال أفريقية كما قد فهمت.
أما أنني لا أعتبرهم من الفرق الإسلامية فمعاذ الله أن أقصد ذلك لأني قد حصرت الأقليات الدينية غير الإسلامية بالمغرب في طائفة اليهود وبعض الأجانب من الذين أقاموا فيه بعد الحماية ثم عدت إلى الكلام عن الوحدة المذهبية بالمغرب، فنفيت أن يكون فيه طوائف دينية أعني بها المذاهب الإسلامية غير مذهب مالك
أما المذاهب الإسلامية في الشمال الأفريقي غير المغرب فهي زيادة على الأباضية (التي فصل الكلام عنها صاحب الأزهار في أئمة وملوك الأباضية) يوجد في تونس والجزائر وطرابلس وبرقة المذهب الحنفي والمالكي كما يحتمل وجود غيرها
وقياساً على استعدائك على عالم الأباضية إبراهيم طفيش كان ينبغي أن تستعدي على شيخ الإسلام الحنفي بتونس وقاضي الأحناف بعاصمة الجزائر وقاضيهم بطرابلس وبرقة، ومذهبهم أكثر انتشاراً وأعظم أتباعاً؛ وبهذا كان يتم لكم القول بأن (الحق أن النزعة الإسلامية المتأصلة في قرار نفوسنا تضطرنا لإصلاح أغلاط إخواننا فينا) كيف وهذا الاستعداد والاستنجاد من أصله قد بني على فهم خاطئ
وأنا فوق ذلك أحترم نقدك وغيرتك، ولي كامل الفخر بأن أكون أحد الذين يغارون على الإسلام. وعليك من الله السلام
(فاس)
(أبو الوفاء)(347/75)
(البستاني) أيضاً
قرأت في العدد (159) من السياسة الأسبوعية رداً على نقدي لأناشيد البستاني. وفي الحق لقد أعجبني من الأستاذين فؤاد البهي وتوفيق أبو السعد أن يتقبلا النقد في صدر رحب، وأن يستسيغا في هدوء؛ غير أني لا أستطيع أن أومن معهما بأنهما يريدان أن يعيشا (وهذا الشاعر في لحظات من السمو والقداسة والجمال. . .) لأنني مازلت أرى أن هذا العمل تعوزه الدقة والاهتمام، ويفتقر إلى العناية والأناة
وإذا كان المعربان قد ألقيا مسئولية الغلطات السابقة على عاتق (عامل المطبعة) برغم أن من ورائه من يراجع ويصحح، فلا ضير، فأنا أغتفرها جميعاً (عامل المطبعة)؛ ثم أعود إلى الأناشيد المنشورة في العدد (159) فأقول:
لقد جاء في المقطع الأخير من النشيد الخامس والعشرين: وهنا من تنوء أقدامي بأثقال قلبي. (كذا) وهذه عبارة لا أستطيع فهمها على ما فيها من أخطاء في اللغة والمعنى معاً. فأول ما يجذب النظر في هذه العبارة هي كلمة: أقدامي. فهل كان للشاعر أكثر من قدمين؟ وهذه غلطة تكررت في المقطع الرابع من النشيد الثلاثين حيث كانت الترجمة: أقدامك في حمرة الورد. . . والشاعر هنا يعني قدمي الحبيبة. وفي التعبير اللغوي غلطة أخرى، فهناك فرق بين (تنوء قدماي بأثقال قلبي) وبين (تنوء أثقال قلبي بقدمي) والمعنى الأخير هو الذي يريده الشاعر في نشيده
وجاء في النشيد السادس والعشرين (لو تفضلت علي بزهرة برية فسأحفظها بين طيات فؤادي وإن لم أحظ إلا بشوك واخز) وهذا حديث فيه أخذ ورد بين الحبيبين يجب أن يكون هكذا:
- لو تفضلت علي بزهرة برية فسأحفظها بين طيات فؤادي
- وإن لم تفز مني إلا بالشوك؟ ثم يتم الحديث بينهما وسقط من هذا النشيد ثلثه الأخير وترجمته كما يأتي:
- ليتك ترفعين إلى وجهي نظراتك الحبيبة مرة واحدة. إذ تنفثين في حياتي السعادة الأبدية
- وإذا كانت حدجات قاسية؟(347/76)
- إذن أدعها تخز قلبي
- نعم، نعم إنني أعرفك أيها السائل الرفيق، فأنت تطلب كل ما أملك
وبعد فإن زحمة العمل تحول بيني وبين أن أفند كل ما أجد في الأناشيد، وإن مقدرة الأساتذين كفيلة بأن توفر علي جهداً أدخره لأشياء أخر، والسلام
كامل محمود حبيب
مجلة العصبة في عامها السادس
دخلت زميلتنا (العصبة) في يناير عامها السادس وهي أقوى ما تكون إيماناً برسالتها العظيمة وصبراً على جهادها الجاهد. و (العصبة) - كما يعلم قراء (الرسالة) - مجلة شهرية للأدب والفن يصدرها في سان باولو الأستاذ المجاهد (حبيب مسعود) وتحررها جماعة العصبة الأندلسية، وهي بحق سفارة الأدب العربي بين أهله في الموطن وبينهم في المهجر، تصل ما بينهم بوشائج روحية من نسب الفكر والبيان والأمل والذكرى، وتلقي في روعهم على الدوام أن لهم تاريخاً ولغة وأدباً وأمة حتى لا يفقدوا على تراخي الزمن ونزوح الدار مقوماتهم الجنسية والوطنية فيذوبوا في عمار الأمم
وبين يدينا الآن عددها الممتاز الذي اعتادت أن تصدره في آخر كل مرحلة من مراحلها البالغة؛ وهو طرفة من طرف الأدب النادرة يقع في نحو 180 صفحة ويمتاز من سوابقه بغزارة مادته ووفرة صوره وجمال تنسيقه وتنوع موضوعاته، وكان المظنون أن يكون أبناء العروبة في أقطارها عوناً لهؤلاء الأدباء المجاهدين الصابرين على رفع لوائها في بلاد العرب، ولكنا نستنتج وا أسفاه من فاتحة هذا العدد وخاتمة هذه المرحلة أن الأدب الحر والصحافة الرشيدة هما في كل مكان تضحية ومحنة. فقد قال محررها الفاضل فيما قال:
(. . . أما عدتنا فمحدودة، لأن الفئة التي تقبل على صحيفة من طراز (العصبة) قليل عددها بالنسبة إلى تلك الفئة التي لا يهمها من الصحيفة غير أن تكون متحفاً للأشخاص لا معرضاً للأفلام
حبذا لو أننا عند آخر كل مرحلة نقول: لا علينا ولا لنا. غير أن (على) حليفتنا الأمينة. وما في ذلك لغز وإبهام، لأن ما ننفقه مستمد أكثره من المشتركين لا من موارد أخرى تغني(347/77)
عن الاشتراكات. ومع ذلك ليس للتذمر مجال في أنفسنا، لأن الجندي في ساحة الحرب لا يتطلب مائدة تبسط عليها ألوان الطعام والشراب ولا فراشاً وثيراً. وحسبنا من جهادنا أن نترك صفحة نقية في تاريخ الصحافة العربية في المهجر. . .)
اشتراك (العصبة) في السنة ستة دولارات أمريكية وعنوانها:
, 1812
بين بشر وشاكر
الزلزلة تفيد في اللغة معنى الاضطراب والتقلقل، ولكن هل هذه الإفادة تجيز أن يقال إن (الأذن تزلزل طربا) بمعنى الاضطراب والتقلقل؟
الدكتور بشر فارس يجيز هذا، لأنه يرى مجاورة في لغة العرب بين الزلزلة والطرب، وهو يسوق على ذلك الشواهد ويعزز رأيه بنصوص من كلام البلغاء، ولكن يغيب عنه أن هذه المجاورة - في كل الشواهد التي جاء بها - تعتمد على أساسين: جواز الاضطراب والتقلقل على الشيء أولاً، وإن كان الإحساس والشعور بهذا الاضطراب والتقلقل ثانياً.
وقد لمس الأصل الأول منهما الأستاذ المحقق محمود محمد شاكر، ومن هنا كانت موضع مؤاخذته على صاحبه أن يقول: (أذني زلزلت طربا). وهو يقرر أن شرط مجاز الزلزلة أن يكون الشيء يتحرك ويضطرب ويتقلقل. ومن هنا يصح عنده القول إن الرجل يتزلزل، والأقدام والأيدي والرؤوس والقلوب وما إليها من سائر أعضاء الإنسان المتحركة حركة ما، وكذلك الحيوان كالإبل جاء راعيها (يزلزلها)، ولكن لا يصح عند ظنه القول بأن الأذان تتزلزل من الطرب أو الغضب (أو تحت تأثير أي انفعال آخر)، لأن الأذن لا تتحرك، وهذا صحيح!
ولكن الدكتور بشر فارس يرى الأذن تهتز طبلتها على جانب المماثلة لحركة مصدر الصوت، ومن هنا يجوز عنده أن يقال إن الأذن تتحرك ويصح رأيه في أن الأذن تتزلزل طرباً. ولكن هذه الحركة الاهتزازية لا يمكن الشعور بها، وشرط مجاز الزلزلة ليس(347/78)
الحركة وحدها، وإنما الحركة أولاً، ثم وجوب الشعور بها ثانياً. ومن كل الشواهد والأمثلة التي دارت على قلمي المتناظرين تجد أن الإحساس والشعور بالحركة شرط مجاز الزلزلة للشيء المتحرك. ومن هنا نرى أنه لا يجوز لغة القول بأن الأذن تطرب (أو تنفعل) زلزلة، لأنه لا يمكن الإحساس والشعور بحركة اهتزاز طبلة الأذن. . .
على أن تخريج الدكتور بشر بالموضوع طريف، وطرافته تجيء من جهة أن كل عضو من أعضاء الحس تهتز دخائلها. وهذا الاهتزاز حين ينتهي إلى مراكز الإحساس في الدماغ يحدث الشعور بالإحساس. ومن هنا يمكن أن نقول إن العينين تتزلزلان من الجمال. . . ومن الواضح سخافة مثل هذا المجاز!. . .
ومن المهم أن نقول إن نزعة الدكتور بشر فارس التجديدية، وجريه وراء مذهب المجددين المغرقين في تجديدهم في الغرب، هي التي أملت عليه هذه الصورة الشعرية النابية عن الذوق وفن اللغة عامة والمجاز خاصة. ألا ترى بيراندللو يقول في مسرحية له: (واضطربت أذنها وتقلقلت من موسيقى الجاز المزعجة التي كانت تدق في القاعة) (أنظر فردريك نارديللي في كتابه - الإنسان المقدس - حياة وآلام بيراندللو، الترجمة التركية، استانبول 1939 ص 118 - 119). إن في هذه الصورة أصلاً لتعبير الدكتور بشر: (أذني زلزلت طرباً)؛ الموروث من طبيعة بدوية، أعرابية، فجاء متخذاً هذا الكساء. والدكتور بشر على الرغم من حبه للتجديد فيه لوثة أعرابية على حد تعبير أسود بن أبي خزيمة (البيان للجاحظ ج 1 ص 70 طبعة مصر)
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم(347/79)
العدد 348 - بتاريخ: 04 - 03 - 1940(/)
محمد الزعيم
ولدت سنتنا الهجرية الجديدة وا أسفاه في هذه الأيام التي اختبل فيها إنسان الغرب فزلزل جوانب الأرض على نفسه؛ وأبكم في فمه حجة العقل ووحي الضمير فلا يتكلم إلا بلسان النار، ولا يصول إلا ببأس الحديد؛ وراحت المنايا الرواعد تدكدك المدن والناس في فجوات القنابل، فلا ترى اليوم في بلاد الحرب غير مقبور أو منتظر، ولا في بلاد الحيدة غير مذعور أو حذر. ومفزع الشعوب في غشية هذه الخطوب الزعماء والقادة. فليت شعري إلى من يفزع العرب والمسلمون من هول هذه الساعة؟ لم يتح الله لهم بعد محمد وخلفائه زعيماً تجتمع عليه القلوب وترجع إليه الأمور في أقطارهم البعيدة ووجوههم المختلفة؛ وإنما ابتلاهم بالانقسام والفرقة حين ضلوا الطريق فكان في كل قطعة من الوطن الأكبر سرير وأمير، وتوزعت زعامة محمد في كل جيل وفي كل قبيل بين عشرات من الرجال العجاف، فكانت كالشعلة العظيمة الوهاجة تقطعت أقباساً كشموع الأطفال لا تقوى على نسم الريح ولا تظهر في حلك الليل!
تعالوا يا زعماء اليوم عانين خاشعين ألقي عليكم درساً من زعامة محمد! إن فيكم زعماء أحزاب، وليس فيكم زعيم أمة؛ أما هو فكان زعيم الإنسانية جمعاء
بلغتم مكان الزعامة الإقليمية عن طريق الحزبية أو الثروة أو القوة، ثم لم تستطيعوا أن تنسوا ضعف القميء الصغير الذي ارتفع على كواهل غيره؛ أما هو فقد بلغ الزعامة العالمية عن طريق الألم والفقر والغربة والجهاد؛ ثم جعل في عشر سنين من الرعاة الجفاة المشتتين على رمال القفر، أمةً متماسكة الأجزاء، متحدة الأهواء، متساندة القوى، متجانسة الطباع، بلغت رسالة الله وحكمت عامر الأرض ومدنت أكثر العالم
إنكم تكونون قبل الزعامة ناساً كالناس، ثم تصبحون بعدها آلهة كالآلهة، تنكرون الخاصة، وتزدرون العامة؛ ثم تمتازون فتدخلون بفضل المبادئ المزورة والمناصب المسخرة في دنيا النبلاء والأغنياء، وماذا بعد هذا؟ أما هو فقد ملك الحجاز واليمن، وجبى الجزيرة كلها وما داناها من العراق والشام، وظل ينام على فراش من أدم حشوه ليف، ويبيت هو وأهله الليالي طاوين لا يجدون العشاء، ويمكثون الشهر لا يستوقدون ناراً إن هو إلا التمر والماء، ويلبس الكساء الخشن والبرد الغليظ ويقسم على الناس أقبية الديباج المخوص بالذهب؛ فإذا أقبل على أصحابه فقاموا إجلالا له قال لهم: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم(348/1)
بعضاً. إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد). وكان ذات مرة في سفر فأمر أصحابه بإصلاح شاة. فقال رجل: عليَّ بذبحها، وقال ثان: عليَّ بسلخها، وقال ثالث: عليّ طبخها. فقال الرسول صلوات الله عليه: وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل. فقال: علمت أنكم تكفونني إياه ولكني أكره أن أتميز عليكم!
ولما استعز الله بقاسم الفيء وزعيم الجزيرة وسيد الملوك كانت درعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله!
إنكم حينما تتزعمون لا تفكرون إلا في مثوبة الصديق وعقوبة العدو، ثم لا تخرج أعمالكم وآمالكم عن دائرة الحزبية الصغيرة الحقيرة؛ فالمنفعة تقاس بمقياس الحزب، والسياسة تتلون بلون المنفعة. أما هو فكان يعادي في الله ويصادق في الله. اشتط في أذاه المشركون في مكة والمنافقون في المدينة، فلما أمكنه الله منهم بسط عليهم جناح عفوه. وقال لقريش يوم الفتح: يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً! أخ كريم وابن أخ كريم! قال: أذهبوا فأنتم الطلقاء
ثم كانت سياسته كنور الله لا تعرف الحدود ولا الخصوص ولا الزمن؛ إنما هي سر الخالق العظيم استعلن في سكون الصحراء على لسان الرسول العظيم، ثم دوَّى في غياهب الآفاق ومجاهل الأبد ليكون الشعاع الهادي لكل ضال، والنداء الموقظ لكل غافل
إنكم تسيرون الجنود إلى الخنادق وتبيتون على حشايا الديباج، وترسلون العمال إلى المهالك وتظلون في أبراج العاج؛ أما هو فكان يقاتل مع الجندي حتى يدمى، ويعمل مع العامل حتى ينصب. وكان صحبه إذا احتدم البأس واحمرت الحدَق اتقوا به فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه!
ذلك محمد يا زعماء اليوم وهؤلاء أنتم! فهل تحسون بينكم وبينه صلة، أو تجدون بين سياستكم وسياسته مشابهة؟
لا تقولوا إنه الوحي، فما كانت حياة الرسول كلها ولا سياسته كلها من هدى الوحي؛ ولكن قولوا إنها الرجولة الكاملة والخلق العظيم والعبقرية الفذة والشخصية القوية. وصفة القوة لا تدل على شيء في شخصية الرسول، فإنها لم تظهر في أحد قبله ولا بعده حتى يقوم بها وصف. وما ظنكم بشخصية تخضع لليتيم العديم الزاري على الآلهة والسادة، الرؤوس(348/2)
الطاغية والنفوس العاتية والقلوب الغلاظ، فيسمتون سمته في الخلال، وينهجون نهجه في العيش، ويأخذون أخذه في المعاملة، ويجمعون على حبه وطاعته وتفديته إجماعاً لا يخرقه إلا الكفر بالله. فأقواله سنن تتبع، وأعماله عهود تحفظ، وآراؤه أوامر تطاع، وأحكامه أقضية تنفذ. فعليكم يا زعماءنا بسيرة محمد وسياسة محمد؛ فلعل فيكم من تدركه نفحة من نفحاته القدسية فيجدد ما رث من دعوته، ويجمع ما شت من وحدته، ويصلح ما فسد من أمته! (قد جاءتكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها)
أحمد حسن الزيات(348/3)
الهجرة مبدأ التوحيد والوحدة
لإمام المسلمين الأستاذ الأكبر
الشيخ محمد مصطفى المراغي
شيخ الجامع الأزهر
في سبيل الله هاجر سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى يثرب. هاجر ليجاهد الشرك بالتوحيد ويعالج الشتات بالوحدة. والتوحيد هو روح الإسلام وجوهره، وسبيل الرسول وغايته. وليس التوحيد الذي تضمن سر الدين كله مقصوراً على ما تعارفه الناس من تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الشريك والند؛ وإنما يشمل كل ما يكفل للأمة وللإنسانية الألفة والوحدة والتعاون، من توحيد الله وتوحيد العقيدة وتوحيد الكلمة وتوحيد الغاية وتوحيد الدنيا والدين. وفي سبيل التوحيد في شتى مظاهره كابد الرسول ما كابد من عنت الشرك وسفه الجهالة وإفراط العصبية. دعا إلى توحيد الله، وقد كانت الآلهة تتعدد بتعدد القوى والقبائل والأمم، وكان الإنسان أهون على نفسه من الحيوان والشجر والحجر فعبد ما لا يضر ولا ينفع (وحاجه قومه قال: أتحاجونِّي في الله وقد هداني؟ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إنما إلهكم إله واحد. ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة؟)
ثم دعا إلى توحيد الرأي والجهد فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، فأصبحوا أشداء على الكفار رحماء بينهم؛ ثم عاهد بين المسلمين واليهود فانطفأت في المدينة بعد الهجرة نار العداوة بين الأهل والأهل وبين الجيرة والجيرة. (إن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس. . . وإن اليهود أمة من المؤمنين لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. . . وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم)
ثم دعا الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا إلى توحيد العقيدة بالرجوع إلى مصدرها الصافي وجوهرها الحق: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى(348/4)
وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون)
ثم دعا الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى توحيد الإنسانية بمحو العصبية القبلية وقتل النعرة الجنسية وتغيير القياس لدرجات الناس، فجعل التقديم والتكريم بالتقوى، وبذلك زالت الفروق الاجتماعية بين الباهلي والقرشي، وبين الفقير والغني، وبين الأسود والأحمر (إن ربكم واحد. وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)
ثم واءم بين الدنيا والدين وقد كانت الشرائع الأخرى تفصل بينهما كل الفصل، فجعل اليهود الكهانة في اللاويين ثم انصرف سائرهم إلى الصفق والاجتراح. ودعا المسيحيون إلى الرهبانية والنسك وترك ما لقيصر لقيصر. ولكن الإسلام جعل الدين للدنيا كالروح للجسم، فلا تعمل إلا بوحيه، ولا تسير إلا بهديه، فكان خليفة الرسول هو ملك الناس، وكان إمام المصلين هو قائد الجنود
وأنت إذا نظرت في حياة الرسول بالبصيرة، وبحثت في أصول الإسلام بالروية، وجدت مبدأ التوحيد والاتحاد مرمى كل عمل وأساس كل قاعدة. وبفضل التوحيد والوحدة جعل الله العرب القلال الضعاف أئمة للناس وورثة لكسرى وقيصر. فلما انشقت العصا وتمزق المسلمون ونسوا الله وفصلوا بين دينه ودنياهم، ضعفوا ولانوا واستكانوا وأصبحوا بين الأمم القوية قطعاناً تسام وسلعاً تساوم
لقد آن للمسلمين أن يرجعوا إلى ما دعا إليه نبيهم، ويتبعوا ما صلح عليه أولهم، فيوحد زعماؤهم الجهود، وتحدد أحزابهم الخطط، وتستعد شعوبهم للقيام بنصيبهم الأكبر من بناء حضارة روحية جديدة تقوم على العدم، وتستقيم بالمساواة، وتستضيء بالدين، ويرتفع جنباتها المترامية ذكر الله (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
محمد مصطفى المراغي(348/5)
عبقرية محمد العسكرية
للأستاذ عباس محمود العقاد
خطر لي أن أجعل موضوع مقالي في هذا العدد الخاص بالعرب والإسلام بحثاً مجملاً عن عبقرية النبي عليه السلام من الوجهة العسكرية لتتم المناسبة بين المقال وبين موضوع العدد كله والوقت الذي يصدر فيه وهو وقت قتال أو تحفز لقتال
ولا محل للمشابهة بين الحرب في عهدنا هذا وبينها في عهد الرسالة الإسلامية، لأن الحرب قد أصبحت منذ ابتداء القرن العشرين حرب مواقع، كالحصون المنيعة من خط ماجينو وخط سيجفريد، أو كالخنادق التي كانت غالبة في الحرب الماضية، ولاسيما في الميادين الغربية
أما في القرن الماضي فقد كانت الحرب (حرب حركة) كما كانت قبل أربعة عشر قرناً أو قبل عشرين قرناً بغير اختلاف كبير في المبادئ والأفكار، وغاية ما هنالك أن الرامية حلت محل القوس والسهم، وأن المدفع حل محل المنجنيق، وأن القذائف حلت محل النار الإغريقية وما إليها
لهذا اخترنا أبرع القادة المحدثين على أسلوب (حرب الحركة) وهو نابليون بونابرت، لنبين السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم
1 - فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع، وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد
وعنده إنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور: أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده
وقد كان النبي عليه السلام سابقاً إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها
فكان لا يبدأ أحداً بالعدوان، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون والقيظ ملتهب والشدة بالغة، فلا يثنيه ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن(348/6)
التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه
وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالاً على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق
2 - وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره، فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم عن الوصول إلى القارة الأوربية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا
وهكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها
وأنكر بعض المتعصبين من كتاب أوربا هذه السرايا وسموها (قطعاً للطريق) وهي هي سنة المصادرة بعينها التي أقرها القانون الدولي، وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيداً تارة وبالغاً مبلغه من الشطط والغلواء تارة أخرى.
3 - وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة.
ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام، فلا نرى أنه حاصر محلة إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف
4 - لم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشاً ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء. وسأل عن عدد القوم، فلما لم يعرفا العدد، سأل عن(348/7)
عدد الجزور التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله، وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم مجلس الحرب قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع من كل فيما هو خبير به، ولا يأنف من الأخذ بنصيحة صغير أو كبير. . .
5 - واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام، وكان يقول إنه يخشى من أربعة أقلام، ما ليس يخشاه من عشرة آلاف حسام
والنبي عليه السلام كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهم يشهرون بالإسلام أو يثيرون العشائر لقتاله أو يقذعون في هجوه وهجو دينه، فينفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يكفل له الخلاص منهم
وعاب هذا بعض المغرضين من الكتاب الأوربيين وشبهوه بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان وما قيل عن محاولته أن يختطف الشاعر الإنجليزي كولردج الذي كان يخوض في ذمه ويستهوي الأسماع بسحر حديثه
ولكن الفارق عظيم بين الحالتين، لأن حروب الإسلام إنما هي حروب دعوة لدعوة أو حروب عقيدة لعقيدة، وإنما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك أو بين الإلهية والوثنية، وليس وقوف الجيش أمام الجيش إلا سبيلاً من سبل الصراع بين الدعوتين والغلاب بين العقيدتين
فليس في حالة سلم مع النبي إذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإنما هو مقاتل في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين، ولاسيما إذا كانت الحرب قائمة دائمة لا تنقطع فترة إلا ريثما تعود
أما نابليون فالحرب بينه وبين أعدائه حرب جيوش وسلاح، فلا يجوز له أن يقتل أحداً لا يحمل السلاح في وجهه أو لا يدينه القانون بما يستوجب إزهاق حياته. وما نهض نابليون لنشر دين أو تفنيد دين، ولا كان للرسول الإسلامي من غرض لو جاز له أن يقبل المسالمة ممن يحاربونه في دينه وإن لم يشهروا السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه
تلك مقابلة مجملة بين الخطط التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات(348/8)
السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل نحكم عليها بفخامة الجيوش وأنواع السلاح.
ولم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها كما أسلفنا إلا لدفع غارة، واتقاء عداوة، ورائده في ذلك ما جاء به القرآن الكريم: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
فإذا كان محمد لم يتخذ من الحرب صناعة وكان يتقن منها ما يتولاه مدفوعاً إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها وعاش لها ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجها بغض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.
عباس محمود العقاد(348/9)
شرعة الإسلام نظام لكل عصر
للأستاذ علي الخفيف
أستاذ الشريعة بكلية الحقوق
جاء الإسلام فكان مبيناً في عقائده، محكماً في دلائله، أسس على اليقين فتمت له قوته، ومثّل الفطرة فكان له بساطتها وصفاؤها وكان لهذا ديناً صالحاً للناس أجمعين، يسوي بينهم جميعاً، فإذا هم أمة واحدة، لها شرعة واحدة ورياسة واحدة. على هذا الأساس شرعت مبادئه حتى تكون على الدوام أساساً لصلاح المجتمع الإنساني
ولقد أطلق الإسلام العقول من قيود الأوهام، وزكى النفوس من دنس الأباطيل، فأبصرت ما في هذا الكون من آيات، فإذا المشرك مؤمن، والجاهل عالم، والضعيف قوي
أما عقيدته التي جاء بها، فهي الفطرة خلصت لله سبحانه وتعالى، فاطرحت كل ما سواه، وقررت أنه هو الإله وحده، وهو الخالق وحده، له الأمر وإليه المصير
ذلك التوحيد، وهذا الخلوص هو ما فطر عليه الناس، وما يجدونه عند مفزعهم، حين ينسون مشاغلهم، وما يحسونه من نفوسهم إذا صفت ورجعت إلى طبيعتها، خالصة مما حاق بها من نزعات شهوانية ورغبات مادية، وليس يسع الرجل الرشيد، وقد تبين له الأمر إلا أن يستجيب لتلك الدعوة، تكريماً لنفسه، وإطلاقاً لعقله، وتلبية لفطرته. وإذن فعقائد الإسلام مستكنة في النفوس، لا يعوقها عن الظهور إلا ما غشى النفوس من أوهام موروثة، وغطى على القلوب من شهوات مشوبة، وأضعف الضمائر من عادات فاشية، وهي بذلك في غنى عن التعريف بصلاحها، وعن التدليل على عمومها. وأما أخلاقه وفضائله، فقد جاءت صلاحاً للنفوس وحاملاً لها على الخير
هذان الأمران هما: لب الإسلام وأساسه ودعامته التي قام عليها، وغايته التي يرمي إليها بما شرع بعد من وسائل وما أمر به من أعمال وما نهي عنه من محرمات. عنى بهما الإسلام حين جاء فدعا محمد صلى الله وسلم الناس أول ما دعا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأهاب بالوثنيين أن يتركوا أوثانهم، وبالمشبهين أن يتطهروا من تشبيههم، وبالطبعيين أن ينظروا بأبصارهم ويتدبروا بعقولهم، وبالمثلثين أن ينبذوا تثليثهم ويتذكروا في خلقهم. جأر بهذا الدعوة كي يحرر الناس عقولهم ويخلصوا أنفسهم ويطهروا(348/10)
قلوبهم ويدينوا جميعاً لمن فطر السموات والأرض وما بينهما
قام عليه الصلاة والسلام بهذه الدعوة فقرن بينها وبين دعوته إلى الأخلاق وعنايته ببيان آثارها وتفصيل حقائقها والموازنة بينها وبين ما شاع في الناس يومئذ من الطبائع الخبيثة والعادات السيئة لتتعاون الدعوتان على إصلاح النفوس لتتهيأ لما سيشرع من نظام يكون به علو كلمة الإسلام في الوجود، ونشر سلامه على العالم. أقام على ذلك جاهداً لا يلويه عن غرضه قوة، ولا يرده عن غايته أذى. إلى أن أمر بالهجرة إلى المدينة؛ فلما اطمأن إلى مقامه فيها، شرع للمؤمنين من الشرائع الاجتماعية ما تقوم عليه دولتهم وتتأسس به حكومتهم، وما يدفع عنهم العدوان، ويقيهم أسباب الانحلال
تلك هي غاية الشرائع الإسلامية الاجتماعية والحكمة التي روعيت في فرضها؛ لم تفرض لتكون وسيلة من وسائل العبادة فحسب، ولكنها وضعت لتكون العلاج الذي يشفي النفوس من عللها، ويقي الجماعات من أمراضها
لذلك امتدت وتشعبت حتى انتظمت جميع نواحي الحياة. فانقسمت إلى شرائع مالية تنمي المال وتقرر الحقوق وتقوم على تحقيق الاقتصاد، والى شرائع اجتماعية تبين للأسر حقوقها وتوثق الصلات بين أعضائها حتى تكون لبنة قوية في بناء الأمة، ثم تتجاوز الأسرة إلى شؤون العمل فتحض عليه وتنظمه، وإلى شؤون التربية والصحة وغيرها من الشؤون الاجتماعية فتضع لها الأسس وتبين لها الطرق إلى غاياتها؛ ثم إلى شرائع الزجر منعاً للعدوان؛ والى شرائع الحرب إعداداً للقوة وتحديداً للعلاقات بين المتقاتلين في الأموال، ومعاملة الأسارى، والتصرف في الغنائم؛ ثم إلى شرائع سياسية تنظم العلاقات الخارجية وتعين الإدارة الداخلية من حيث اتصال الحاكم بالمحكوم، وغير ذلك مما يؤسس عليه بناء الدولة، ويقوم عليه عمرانها
هذه هي مناحي الإسلام في تشريعه وهي كما نرى جامعة لكل نواحي الحياة الاجتماعية الحاضرة؛ غير أن تشريعه فيها كان تشريعاً كليا يقرر المبادئ العامة ويضع الأسس الثابتة ويدع المجال للتفصيل والتطبيق ليتم له الخلود، ولم يكن له من مصدر إلا القرآن الحكيم وبيان الرسول الكريم. أنزل القرآن بالأصول العامة وجاء بيان النبي صلى الله عليه وسلم وسنته بالفروع التي تخرج منها أتى القرآن بالإجمال والعموم وتكفلت السنة بالبيان(348/11)
والتطبيق؛ فإذا قرأت للقرآن وتدبرت آياته وجدت في تشريعه عناية ببيان هذه الأصول العامة وحض الناس على المحافظة عليها. فإن أردت المثال فارجع إلى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا. وأحل الله البيع وحرم الربا). (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) وقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة. . .). وقوله تعالى: (والجروح قصاص). وقوله تعالى: (الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم). وقوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). وقوله: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقوله: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً). وقوله: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)
هذه سنّة القرآن في التشريع لم تتخلف إلا في النزر اليسير. استنها ليكون تشريعه نظاماً لجميع الأمم، وليبقى صالحاً على مرور الزمن. فهو الشريعة العامة التي تمهد لتحقيق الجامعة الإنسانية وتهيئ العقول لتتجه وجهة واحدة في تبيين الحق وتقدير الجزاء ووضع المعاملات على أسس ثابتة، وإنماء الأموال بطرق خالية من الخداع، وتدبير الشؤون الاجتماعية على نمط يحقق المصلحة العامة؛ ثم هو يقارب بين الأمم المختلفة حتى تتعاون جميعا في العمل إلى خيرهم مجتمعين. ذلك لأن الأحكام الجزئية والفصل في الحوادث المتجددة لا يستقر مع الزمن ولا يصلح لكل مكان، لأن الناس في تطور لا ينتهي إلى غاية، وفي تجدد ليس له نهاية
فإذا رجعنا إلى ما شرعه الإسلام في الأموال من أصل وجدنا أنه أسس التعامل فيها على الرضا إذ يقول (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ويقول (فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً) وإذن فليس علينا عند التفصيل إلا أن نرد كل عقد إليه على ألا يتعدى ذلك حقوقنا وألا نخرج به عن رشدنا، فإن تعدينا الحدود بالخديعة والغش فقد اقترفنا الإثم الكبير وأذنا الله ورسوله بالحرب
يعجب كثير من الناس لتحريم الربا وقد زعموا أنه دعامة التجارة وعماد العمارة ومدعاة(348/12)
التعاون، وقد أصبح على أي افتراض ضرورة الزمن. زعموا ذلك وكأنهم لا يسمعون بكاء صرعاه، ولا يبصرون مصارع قتلاه. لئن قام عليه بيت فقد خربت به مئات البيوت، ولئن انفرج به يوما ما ضيق فكم ضيق على صاحبه السبل. وماذا فعل الربا بأهل الأسر الكريمة منا؟ ألا نرى أن الدين قد طغى على رأس المال بسبب تراكم فوائده حتى صار أضعافاً مضاعفة على الرغم من أداء ما كان بقي بأكثره إن لم يزد على أصله، وأنهم قد أصبحوا على شفا هاوية الإفلاس المدمر؟
إذا تقدم صاحب المال به لاستثماره وإنمائه فليس له إلا أن يضع نفسه منه حيث يكون إذا اتجر فيه فربح أو عمل فخسر، وفي هاتين الحالتين له ربحه وعليه خسارته، وليس له عن هذا مفر فتلك طبيعة السعي وسنة التجارة، وإذا كان هذا مآله وهو الحريص على ماله الطامع في ربحه فلم يطلب من غيره وقد قام مقامه فيه أن تكون الأسعار في قبضته فلا يتجر إلا ربح، ولا يطلب إلا ظفر، حتى لا يرضى منه أبداً إلا بالربح المقدر أو الثواب المعجل؟ أليس ذلك بالطمع المرذول والتحكم الظالم؟
وكذلك الحال في طريق الحكم وإدارة أمور الدولة، جعل الأساس فيه المشورة فقال (وشاورهم في الأمر) فنفى الاستبداد بأنواعه وقضى عليه بأشكاله، وأقام أمر الناس على الشورى، وجعل لهم بعد ذلك الخيرة في نوع الحكم الشورى الذي يلائمهم ويتفق مع ثقافتهم ويتصل ونشأتهم، ويتدرج مع نموهم ملكياً كان أو جمهورياً بمجلس واحد أو بمجلسين ذلك لأنه لا يوجد نظام معين للحكومة صالح على الإطلاق، إذ الصلاحية وصف عرضي معناه التناسب بين نوع الحكم وحال الأمة التي اتخذته نظاماً لسلطانها
وفي شرائع القتال سن القواعد الكفيلة بمنعه، والمخففة لويلاته إذا وقع، والداعية إلى السلم إذا أمكن، فقال (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) وقال: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) وقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) وقال: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) والحرب إذا كانت للدفاع ومنع الظلم وخلت من العدوان والبغي ولم تتجاوز في أهوالها ما اقتضته الضرورة وانتهت عند حد الدفاع كف البغي، كانت صيانة للسلم وضرورة يتطلبها الوجود، من تركها هلك(348/13)
أما أساس الروابط بين المسلمين فهي الأخوة. إنما المؤمنون أخوة. وبينهم وبين غيرهم البر والإقساط، لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. وذلك كفيل بتوثيق العلاقات بين الأمم وتأكيد المودة بينهم ما لم يبغ بعضهم على بعض طمعاً في مال أو علواً في الأرض أو تحكما في العقائد. هذا إلى ما شرعه من القواعد في إصلاح حال اليتامى وإدارة أموال السفهاء، وما فرضه من الحقوق في أموال الأغنياء للفقراء، وما جاء به من الأوامر حاضاً على التعلم والعمل والسعي في الأرض، والمحافظة على الأجسام حتى تتعاون الأمة في إصلاح أمورها والمحافظة على أموالها، والقضاء على الأمية فيها، والقضاء على البطالة، وحتى لا تجد مبادئ الاشتراكية المتطرفة السبيل إلى نفوس أفرادها، ولا الأوتقراطية القاسية الوسيلة إلى المقام فيها
هذه سنة القرآن في تشريعه في جميع نواحي الحياة شخصية واجتماعية، سياسية ومالية، إدارية وقضائية، لم تتجاوز القواعد العامة إلى التفاصيل التي تتطور بتطور الأمم، وتتجدد بتجدد الحوادث، وتختلف باختلاف البيئات، ولذا بقيت مبادئه سليمة، تناسب كل الأمم، فيتسنى لها أن تتخذها أساساً في تشريعها حسب ما تقتضيه بيئتها ومصالحها.
كانت هذه طريقته، إلا في مسائل معدودة عمد فيها إلى نوع من التفصيل والتطبيق، لأن مصلحة الناس في ذكره ومفسدتهم في تركه، فإنه وإن ترك أمر تقدير العقوبة إلى أولي الأمر لابتنائه على ما يحيط بالجاني من ظروف، وما يتصل به من أسباب، وما له من ثقافة وتربية، استثنى من الجرائم خمساً لما فيها من الاعتداء البالغ على الدين والنفس والمال والعرض، وهي السعي في الأرض بالفساد والقتل والزنا والسرقة والقذف، جعل لكل منها جزاء يمكن أولاً أن يتخذ معياراً في تقدير العقوبة على الجملة مع مراعاة قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) فبين جزاء الأول في قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) وجزاء الثانية في قوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) وجزاء(348/14)
الثالثة في قوله: (الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) وجزاء الرابعة في قوله (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله) وجزاء الخامسة في قوله (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) فهذه عقوبات دائمة تتناسب في شدتها وصرامتها مع عظم آثار جرائمها حتى تكون مانعة من العود مصلحة للنفس، ومن كبير القول وصفها بأنها عقوبات لا تتفق مع هذا الزمن أو لا تتلاءم مع حال هذه الأمة وما وصلت إليه من ثقافة وحضارة وتمدين، لأن حضارتها أو ثقافتها إذا جنبتها هذه الجرائم فقد تجنبت، كذلك جزاءها، وإن اقترفتها كان جزاؤها العلاج الواقي من تكرارها. وقد ترك بعض الأمم عقوبة القتل وما لبث أن عاد إليها، وكذلك أهملت العقوبات الأخرى فانتشر الزنا وعمت السرقة وفحش القول، ولا منجاة إلا باتباع ما سنه القرآن في جزائها، وليس يوزن الجزاء بموافقته الهوى وائتلافه مع الميل وإنما يوزن بما يفيد من أثر في الردع ونتيجة في الإصلاح
وكذلك فعل في تشريع الميراث فعين لكل وارث حظه مما ترك مورثه، لأن المال كان ولازال مثار الفتن، ومصدر البغضاء والإحن، ومنشأ الخصومة والفرقة، والاتفاق على توزيعه بين الورثة عسير، ورده إلى مقاييس معقولة وموازين مسلمة غير ممكن، فكان لابد من أن يجنب الورثة ما يجلب عليهم الشقاء ويشيع فيهم الخلاف وذلك بأن يقسم بينهم الحكيم العادل القسمة المرضية المبنية على كمال الحكمة والمحققة لتمام العدل وسكون النفس ورضا الغير
اقترن التشريع القرآني بالتشريع النبوي وهو المعروف بالسنة فكان الثاني للأول مبيناً لإجماله مطبقاً لقواعده، وليس كل ما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع، لأنه عليه السلام بشر من الناس له مثل ما لهم من الأمور العادية والمهام البشرية فما يؤثر عنه في هذا المحيط لا يعد من التشريع ولا يتخذ أساساً لأمر ونهي، ولكل إنسان عادته البشرية يتبع فيها قومه وسلفه ويتأثر فيها ببيئته؛ أما غير ذلك مما يتصل بالتشريع للناس وإلزامهم باتباعه فهو السنة المتبعة. غير أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الدائرة كانت مكونة من عملين: الأول بيان التشريع القرآني، والثاني تطبيقه على الحوادث(348/15)
الواقعة والمسائل المتجددة، فأما البيان فهو متمم للقرآن ولتشريعه وهو لهذا أصل من أصول التشريع الإسلامي واجب اتباعه، وعلى الناس مراعاته. وأما التطبيق على الحوادث بالفصل في الخصومات وفض النزاعات في المشكلات، فذلك يبني على ما لكل حادثة من ظرف، وما لابسها من ملابسات، وما أحاط بها من عوامل مما لا يعيه إلا المتصدي لحلها الذي أقام نفسه لحل إشكالها، فإذا نقل الحكم فيها صعب على ناقله أن يستوعب جميع دواعيه، فذكر منها ما تنبه له ووعاه وما حفظه وأحصاه وما استقر في ذاكرته فلم ينسه، ومن هذا أتى اختلاف الرواة عندما يرون حادثة واحدة، فكان ذلك سبباً في اختلاف الآراء وتعدد المذاهب وتنوع العمل. ومن هذا يتبين أن التشريع النبوي لم يخرج في أغراضه وحكمته عن التشريع القرآني بل الغرض فيهما واحد والحكمة واحدة والغاية واحدة، وهي أن تتهيأ للناس حياة صالحة يستمتعون فيها جميعاً بحرياتهم وتتوافر لهم فيها حقوقهم، ويعتمدون فيها على عقولهم وأفكارهم وتنتهي بهم إلى مجتمع مؤسس على الإخاء والتعاون يقوم على النشاط الفكري ويعتمد على العمل المنتج الاجتماعي ولا يهمل الشأن الفردي.
علي الخفيف(348/16)
موقعة عين جالوت
للدكتور عبد الوهاب عزام
- 1 -
أردت أن أكتب مقالا للرسالة - لعددها الهجري الممتاز - فنقب فكري في أرجاء التاريخ الإسلامي، حتى عنّ لي هذا الرأي. قلت: لماذا لا يسجل في هذا - العدد الهجري - بعض الخطوب الكبيرة في التاريخ الإسلامي؟ ولاسيما الخطوب التي وقعت في نظائر السنة التي تصرمت، أو السنة التي استهلت. قد تصرمت سنة 1358، وأقبلت سنة1359، فأستعرض نظائرهما. عبرت سني 58 و 59 من قرون التاريخ الهجري كله، فرأيت أحيانا كثيرة، وغيَراً عظيمة. فلما هممت بالكتابة، تبينت أن مقالاً يكتب على هذا الشرط، لا يعدو أن يكون ثبتاً للحوادث مختصراً، أو مقالاً مفصلاً يزيد على حاجة المجلة. فلم أجد بدّا من تخيّر بعض الحوادث، فمررت بخطوب جسام، وحادثات صغار، حتى انتهيت إلى عام 658 فوقفت وقفة كدت أمسك فيها القلم لأكتب في واقعة هائلة عظيمة الأثر كانت في هذا العام، ثم جاوزتها إلى واقعات أخرى، حتى بلغت وقتنا هذا، ثم رجعت بي الرغبة إلى تلك الواقعة، إذ رأيتها عظيمة الأثر في تاريخ المسلمين عامة وتاريخ مصر خاصة، فأخذت القلم لأكتب عن (موقعة عين جالوت):
كان عام 628 فاتحة شر مستطير في العالم الإسلامي: سالت فيه جيوش جنكيز من هضاب الصين تفرق كل شيء وتدّمر كل شيء، طغت على التركستان فجرفت عرش ملوك خوارزم ودارت بالمدن العظيمة تخريبا وتدميرا، وفرّ محمد خوارزمشاه وكان كما قال مسلم بن الوليد:
وطار في إثر من طار الفرار به ... خوف يعارضه في كل أخدود
وورث ابنه جلال الدين ملكا في أيدي التتار، ومجداً بين الطعان والضراب، فصبر وصابر وجاهد ما بين نهر السند إلى حدود العراق يحاول جهده أن يلمّ الشمل ويرأب الصدع، ويخلق من الفرقة اجتماعاً، ومن الضعف قوة، ومن الذعر ثباتاً، ومن اليأس رجاء، حتى اغتالته المنون بعد أن أعجزتها مصاولته، وختلته بعد أن أعيتها مجاهرته
وانتشر الرعب، وعمّ الفزع، ولم يثبت للتتار جيش ولا حصن في شرقي البلاد الإسلامية(348/17)
وما لي أكلف نفسي الوصف ولا أستمع لابن الأثير، وقد عاش على شاطئ هذا الطوفان، وأحس لفح هذه النار، يحدّث حديث الوقائع:
هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن لم يبتل بمثلها؛ لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. . . الخ
- 2 -
مات جنكيز خان سنة624 بعد أن قسم بين أولاده ما فتح من الأرض وما لم يفتح، وامتد الفتح في آسيا وأوربة، وكانت غِيَر، حتى أرسل بنكو قاآن حفيد جنكيز - أخاه هولاكو سنة651 ليفتح حصون الإسماعيلية ثم يفتح بغداد فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى عام ثلاثة وخمسين واستولى على أكثر قلاع الإسماعيلية.
ثم جاءت الطاٍمة الكبرى فاستولى على بغداد، ومحا الخلافة العباسية تاسع المحرم سنة ست وخمسين وستمائة (16 يناير 1258) لقد طوى أجداده الممالك الإسلامية إلى العراق، ثم أصاب هو المسلمين في الصميم إذ أخذ بغداد التي لبثت مقر الخلافة وقبلة المسلمين في العلم والحضارة أكثر من خمسة قرون
ماذا يصد هولاكو عما يشاء؟ من ذا يقف للجيوش التي لبثت ثلاثين سنة تسير من ظفر إلى ظفر، ومن مملكة فتحتها إلى مملكة قدر لها أن تفتحها؟ إن آسيا ما بين قراقروم وبغداد في قبضة أبناء جنكيز، وإن أوربا الشرقية إلى البحر الأدرياتي قد عنت لأمرهم. ليس على هلاكو إلا أن يسير الجيوش فتطوي الأرض، ويثير الحروب فتخر الممالك، ويوعد الملوك فيخذلها جندها، وينزل بالمدينة فتسلمها أسوارها. عزمة تسخر له الشام، وأخرى تقهر له مصر، ثم عزمات تبلغ به بحر الظلمات
- 3 -
سار التتر إلى الشام فلم تستطع حلب لهم دفعا، وهؤلاء المعتصمون بقلعتها لن يجديهم الاعتصام، ولا مناص لهم من الاستسلام بعد شهرين. وسارع أهل حماة إلى حلب فأعطوا(348/18)
هلاكو مفاتيح المدينة. ولم تثبت للقوم مدينة بين حلب وغزة
وأما أمراء الشام من بني أيوب فمنهم من انحاز إلى التتر مؤثراً العافية، ومنهم من لجأ إلى مصر مستنجدا. والملك الناصر أكبر هؤلاء ترددت به الحيرة بين حدود مصر والشام فلم يجد إلا المسير إلى هلاكو
وأبت مصر التي تجاهد الصليبيين منذ مائة وستين عاماً، أن تذل للتتر؛ فجمعت ما فيها من إيمان وقوة وخرجت في رمضان سنة658 وصمدت للقوم فالتقى الجمعان على عين جالوت في فلسطين. فأما التتر فلم يعرفوا في الحرب إلا الانتصار منذ سال سليهم على البلاد الإسلامية قبل ثلاثين سنة. ماذا يخشون من جيش مصر وقد مزقوا للمسلمين جيشا بعد آخر، ولم تصدهم البسالة والاستقتال دون غاية. وأما جيش مصر الذي جمع المصريين وعرب البادية من مصر والشام فقد أيقن أنها الموقعة الفاصلة، وأن هزيمة في عين جالوت تفتح طريق العدو إلى مصر فالمغرب، فصمموا أن ينتصروا؛ وكثيرا ما تلد العزيمة الظفر. ولم يزلزل عزائمهم أن رأوا بعض أمراء المسلمين في صفوف العدو - ذلك الأمير الشقي المتسمي الملك السعيد
التقى الجمعان يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة، واحتدم القتال وصبر المسلمون ثم صبروا، ولقوا من حملات التتار ما يوهن العزائم فلم يهنوا. إلى من يكلون الدفاع عن الإسلام والمجد إذا لم يستميتوا في عين جالوت؟
كتبغا قائد التتر قتيل، وابنه أسير، وجنده مصرَّعون في حومة القتال، وبقايا السيوف منهم يلوذون برؤوس الجبال
علم المسلمون يومئذ أنه يستطاع هزم التتر فلم يثبت القوم في بقعة من بقاع الشام وأسرعوا في الرجوع إلى الشرق
جمع التتر شملهم وأعدوا للحرب عُددهم ثم رجعوا فاستولوا على حلب بعد شهرين من موقعة عين جالوت، ولكن عين جالوت قد فصلت في القضية من قبل وعلمت المسلمين أن الأمل والعزم والإقدام تغلب كل عدو ولو كان التتر جنود هلاكو حفيد جنكيز
اجتمع المسلمون على حمص وسار التتر إليهم. فليشهد القارئ قبل المعركة جمعا من أنجاد العرب يسيرون إلى حومة الوغى:(348/19)
قال الشيخ شهاب الدين الحلبي: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار جالسا على سطح باب الإسطبل السلطاني بدمشق إذ أقبل آل مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسّومة والجياد المطهمة وعليهم الكزغندات الحمر، والأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رؤوسهم البيض كأنهم صقور على صقور، وأمامهم العبيد تميل على الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبين أيديهم الجنائب، ووراءهم الظعائن والخمول، ومعهم مغنية لهم تعرَف بالحضرَمية طائرة السمعة سافرة من الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... لياليَ لاقينا جُذاماً وحميرا
ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضُمّرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض تأَبى النبع أن يتكسرا
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت اصبرا
ودارت الحرب عند حمص يوم الجمعة خامس عشر المحرم سنة تسع وخمسين وتسعمائة، فإن تسألني كيف كانت عاقبتها فهي العاقبة التي بشرت بها موقعة عين جالوت
فارق التتار الشام إلى غير رجعة
عبد الوهاب عزام(348/20)
ميراث لا وارث له
للأستاذ عبد الله عفيفي بك
لعلنا أعظم الأمم ميراثا من الذكريات ولعلنا كذلك أقل الأمم نصيبا من هذا الميراث العظيم.
ما تمر بالمسلمين أيام حتى تساق إليهم ذكرى ينحني لها تاريخ الإنسان، وفي سياق هذه الذكرى تسمع الرأي الثاقب، والقول المهذب، والشرح والتحليل؛ ثم تنطوي تلك الصفحة، ولا يذكر الناس إلا أن شاعراً أرّق من شاعر، وكاتباً أبين من كاتب، وخطيباً أفصح من خطيب!!
وما أسرع ما تستيقظ المشاعر وينتبه الرأي ويثور الوجدان! ولكن شيئا واحدا لا يستيقظ، ولا ينتبه، ولا يثور، وهو الروح. . . والروح وحده مصدر الحياة ومصدر القوة ومصدر العزم ومصدر الاحتمال. . .
وليس بشيء أن تنتبه المشاعر، وتنفطر القلوب؛ فحسب المشاعر لتنتبه، وحسب القلوب لتنفطر، كلمة باكية من ممثل موهوب. وليس بشيء أن يستيقظ الرأي، ويثوب التفكير، فما من أحد من المسلمين لا يعلم علماً لاشك فيه كيف كان المسلمون، وإلام صاروا، وما الذي أخافهم بعد أمن، وبددهم بعد التئام. . .
ما من رجل تراه إلا يعيب الخطيئة بلسان طلق وأسلوب مبين، ثم يجترح الخطيئة بقوة جامحة وهوى مبيح
نحن إذن لا نشكو ضعف الرأي ولا هوان الشعور، ولكننا نشكو خمود الروح وضعف الروح
ومن خمود الروح أن نرى الحق يثقل على الناطق به، والمستمع له، فلا ترى لرسالة الحق من وليّ ولا نصير
ومن خمود الروح أن نبدأ العمل بقوة صاخبة، ثم ما يزال يذوي ويتساقط ويتبدد ذووه حتى ينقضي أثره ويصير خبره حديث السامرين، وسخرية الشامتين
ومن خمود الروح أن نأخذ الهين التافه والغث المبتذل من ألوان المدنية، ونترك القيّم المكين الذي يحتاج إلى جهد وإيثار، حتى أصبحت حياتنا مجموعة من المناظر والصور والأشكال(348/21)
ففيم الذكرى؟ وفيم القصائد والخطب؟ وفيم الفصول المتناسقة والبحوث المتلاصقة؟ وفيم الكلام عن رسول الله، وأعتقد أن لو بعث رسول الله بعثاً ثانياً للقي من تخاذل هذا العالم أضعاف ما لقي من عناد العالم الأول. كان يجد عالماً مملوءاً بالكيد والأنانية والخداع والرياء - رياء في الدين ورياء في الدنيا، وبيع لجانب الله بالثمن الخسيس من جاه زائف ودنيا زائلة
أرأيت كيف بعث محمد رسول الله عربياً، وكيف قامت رسالته على سواعد العرب؟
لم يكن العرب في شيء من عظمة الدولة، ولا نظام الجماعة، ولا سمو الفكرة، ولا علو الحياة
ولكنهم كانوا في الذروة العليا من يقظة الروح وقوة الروح
وبهذا الروح اليقظ القوي كانوا يعافون الضيم ويأبون الهوان، ويؤثرون النار على العار. وكان الرجل يقول الكلمة فيرتهنها بروحه وأرواح ولده وأهله وعشيرته. وكانوا يشبون الحرب لكلمة جارحة تصيب أدناهم، وقد يصمدون لها أربعين عاما
وكان هذا الروح اليقظ أو هذا الأتون المشتعل في حاجة إلى من يوجهه ويهديه الطريق القويم
وبهذا التوجيه تمت المعجزة التي لم تشابهها معجزة في الوجود فأخرج رسول الله من أبناء الصحراء الغارقين في الدماء، الخابطين في الجهالة الجهلاء، أعلام العلم، وأقطاب الحكمة، وأئمة السياسة، وأبطال الحرب، وكواكب الهداية، وهؤلاء الذين كافحوا في نطاق فارس والروم، ملكوا فارس والروم، وما وراء فارس والروم في طرفة عين
ولعل أروع حادث تمثلت فيه يقظة الروح وقوته وسطوعه بنور الإيمان حادث الهجرة. وما ظنك بهذا الرسول الأمين، وهو في غار نشر الموت ظله عليه، وأطل برأسه على من فيه، فالسيوف الطائشة الظامئة تترصده، والوحشة والظلمات والهوام القاتلة تطبق عليه - ما ظنك بهذا الرسول الكريم وهو في تلك الحال يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا؟!!
ثلاثة أيام تتقطع في كل ساعة من ساعاتها نياط القلوب ورسول الله أثبت قلباً من ذلك الجبل الذي يضم ذلك الغار
وهذه الأيام الثلاثة تتمم ثلاثة عشر عاماً أقام بها محمد صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مكة(348/22)
إلى الله ولم يكن في يوم من أيامها أخف عبئاً ولا أقل اقتحاماً من هذه الليالي الثلاث
وفي ظل ذلك الموت الجاثم على الجبل وما حوله في ليالي الغار كانت الصبية أسماء بنت أبي بكر تحمل الزاد والماء كل ليلة من دار أبيها فما تزال تخوض بحراً من رمال الصحراء، ترفعها رافعة، وتخفضها خافضة، حتى ترتقي الجبل، وتصل إلى الغار، فتقدم الزاد وتلقي ما تعلمه من خبر مكة ثم تعود في جنح الليل، فلا ينبثق الصبح إلا وهي في فراشها كأنه لم يكن ثم شيء
وما كان أقوى تلك الطفلة الناشئة أسماء بنت أبي بكر حين اقتحم رجال قريش عليها البيت وامتحنوها بألوان من العذاب لتدلهم على مكان أبيها فما كان لهم منها من جواب، ولطمها الشريف النذل أبو جهل بن هشام لطمة أطارت قرطها من أذنها لتتكلم فما نطقت إلا بعبرة واحدة سقطت من عينها على الأرض
هي إذاً روح قوي شديد كان ينتظم كل مسلم ومسلمة ولا يقف أمام هذا الروح شيء مما عساه يعترض الناس
فهل في الإمكان أن يستيقظ الروح في صدور مسلمي هذه الأيام؟
إن هذه الأرواح كالأجساد، تختلف عليها الصحة والمرض، والقوة والوهن، والنشاط والخمول؛ وهي كالنحل تجتمع على اليعسوب القوي، وكالجند تقوى بالقائد الفادي المجيد. فهل يقوم في المسلمين داعية من دعاة الله يهب نفسه لله، ويفني ذاته في ذات الله؟
داعية واحد لا يقوم بينه وبين الله شيء، لا يجمع المال ولا ينشد الجاه، ولا يؤثر نعمة الحياة على رضا الله. . . وهو خليق إن وجد أن يجتمع حوله رجال على غراره. . . داعية واحد من هذا الطراز إذا وجد أثمر الأمل وصحت الأحلام
فهل يقوم المهدي المنتظر؟
لا أدري. . لعل أوانه قد آن
عبد الله عفيفي(348/23)
بلاغة العرب
كليلة ودمنة
للدكتور محمد صبري
البيان في لغة العرب، يجري في منازلها وأساليبها جرى الماء في فروع الدوحة. . ومن ذا الذي لا يحب ظل الدوح وثمره المتهدل الذي يملأ اليد والعين والقلب؟ ومن ذا الذي لا يحس طراوة العيش وبهجة الدنيا في نواحيها؟ ومن ذا الذي لا يحركه السحر الذي يتبرج في كل لون نضير؟
إن لكل لفظة ولكل أسلوب لوناً ولكل لون فتنة، وقد جمع أسلوب ابن المقفع بين الجزالة والسلاسة؛ وكانت كل لفظة منه تنحت من خير مقطع، ومن عجب أن هذه الألفاظ والتراكيب السهلة الممتنعة كان ينظمها ابن المقفع فيخدعك صفاؤها وانسجام نفعها وموسيقاها عما تكبده من تعب وجهد
وأسلوب ابن المقفع في الكتابة كأسلوب البحتري في الشعر: في كل منهما تتجلى روعة الفن والصقل والذوق
قال الطائر فنزة إلى الملك في كليلة ودمنة: (. . . أنا الفريد الوحيد الغريب الطريد قد تزودت عندكم من الحزن عبثا ثقيلا لا يحمله معي أحد. وأنا ذاهب فعليك مني السلام) وقال البحتري:
وقفة في العقيق أطرح ثقلاً ... من دموعي بوقفة في العقيق
وقال:
أعاتب الخل فيما جاء واحدةً ... ثم السلام عليه لا أعاتبه
هذا نثر منظوم وذاك شعر منثور ينتظمهما نفس واحد وموسيقى واحدة تتحد مع المعنى. . . الأول يطول نغمه ويمتد كموج البحر لأنه يدلل على ثقل العبء الذي يؤوده. . . (قد تزودت عندكم من الحزن عبئا ثقيلا) والثاني يقصر نغمه ويطرد لأنه يدلل على طرح الحمل. . . (وقفة في العقيق أطرح ثقلاً)
وإني أجتزئ اليوم بهذه المقارنة وأقول: إنه يخيل إلي أن إبن المقفع كان محزون النفس لأن وتر الحزن في كتابته يرن بين آونة وأخرى كلما ذكرت الصداقة وكلما ذكر الوطن. .(348/24)
كانت الصداقة عنده كما كانت عند إسماعيل صبري ظلا يأوي إ ليه كلما كثر النهار. . .
جاء في باب الحمامة: (قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت مثل المتحابين. . فحدثني إن رأيت عن إخوان الصفاء، كيف يبتدأ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض. . .). . وجاء فيه أن المطوقة نادت الجرذ باسمه: (فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت: أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى)
(أنا خليلتك المطوقة). . . أظن كثيرين من القراء يعرفون قصص (لافونتين). . . ويذكرون باب (المطوقتين الراحلتين) وسؤال إحداهما للأخرى: (هل عند خليلتي الكفاف من الرزق والمأوى؟)
وجاء أيضاً في باب الحمامة المطوقة: (إنه لا شيء من سرور الدنيا يعدل صحبة الإخوان، ولا غم فيها يعدل البعد عنهم). وقالت السلحفاة ترّغب الظبي في الإقامة معها وصحبتها: (نحن نبذل لك ودنا ومكاننا، والماء والمرعى كثيران عندنا). ثم قالت: (لا عيش مع فراق الأحبة، وإذا فارق الأليف أليفه فقد سلب فؤاده وخرم سروره وغشى بصره)
والأمثلة كثيرة في مقدور كل قارئ أن يهتدي إليها، والآن أنتقل إلى الوطن والوطنية، وأرجو أن نقف قليلا على باب (البوم والغربان) فإن فيه بلاغة وفيه دروسا نافعة
تتلخص هذه القصة في أن ملك البوم أغار في أصحابه على الغربان فقتل وسبى منها خلفا كثيرا، وكانت الغارة ليلا، فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها وأخذت تتشاور معه في الأمر، فنصح اثنان منهما بالهرب فقال الملك: (لا أرى لكما ذلك راياً، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا فيه ولا ينبغي لنا ذلك، ولكن نجمع أمرنا ونستعد لعدونا ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالا غير مراجعين فيه ولا مقصرين عنه، وتلقى أطرافنا أطراف العدو ونتحرز بحصوننا وندافع عدونا بالأناة مرة وبالجلاد أخرى حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا، وقد ثنينا عدونا عنا)
أبى ملك الغربان أن يستسلم للعدو المغير وأن يخلي له وطنه ودياره وأبى إلا أن يقاتل وأن (تلقى أطرافنا أطراف العدو. . .)(348/25)
وأفتى الثالث بالصلح مع العدو (على خراج نؤديه إليه في كل سنة ندفع به عن أنفسنا ونطمئن في أوطاننا. . .) أو بعبارة أخرى كان يرى في البقاء في الوطن في ظل الاستعباد بعض الطمأنينة، وقد رد الرابع أنه لا يرى هذا الصلح رأيا (بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خير من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه مع أن البوم لو عرضنا ذلك عليهن لما رضين منا إلا بالشطط. ويقال في الأمثال: قارب عدوك بعض المقاربة لتنال حاجتك، ولا تقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك ويضعف جندك وتذل نفسك. ومثل ذلك مثل الخشبة المنصوبة في الشمس. . . إذا أملتها قليلا زاد ظلها وإذا جاوزت بها الحد في إمالتها نقص الظل. . . وليس عدونا راضيا منا بالدون في المقاربة، فالرأي لنا ولك المحاربة. . .)
قال الملك للخامس: ما تقول أنت؟ وماذا ترى؟ القتال أم الصلح؟ أم الجلاء عن الوطن؟. . .
قال: أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه
وقد كان هذا الأخير أرجحهم عقلا لأنه خشي مغبة قتال القوى ومقاربته كل المقاربة والجلاء عن الوطن. . . ورأى أن يصيب أبناء جنسه حاجتهم من البوم بالرفق والحيلة قال: (وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد وينتف ريشي وذنبي، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة ويرتحل الملك وجنوده إلى مكان كذا فأرجو أني أصبر وأطلع على أحوالهم ومواضيع تحصينهم وأبوابهم فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم وننال منهم غرضنا إن شاء الله تعالى)
انطلت على البوم حيلة الغراب وأنست له حتى إذا طاب عيشه ونبت ريشه واطلع على ما أراد أن يطلع عليه راغ روغة فأتى أصحابه وقال لهم: (إن البوم بمكان كذا في جبل كثير الحطب. وفي ذلك الموضع قطيع من الغنم مع رجل راع. ونحن مصيبون هناك نارا ونلقيها في أثقاب البوم ونقذف عليها من يابس الحطب ونتراوح عليها ضربا بأجنحتنا حتى تضطرم النار في الحطب فمن خرج منهن احترق ومن لم يخرج مات بالدخان موضعه. ففعل الغربان ذلك فأهلكن البوم قاطبة ورجعن إلى منازلهن سالمات آمنات. . .)
لقد أرسل الله إلى البوم من يهلكها ويبيدها، لأنها ظلمت القرى والعباد، وإني لأتمثل(348/26)
الغربان وهن يتراوحن على النار ضربا بأجنحتهن حتى تضطرم في الحطب. . . تلك أجنحة ملائكة. . . ملائكة الرحمة والانتقام. . .
ويعجبني في هذه القصة حكاية الصفرد الذي طالت غيبته عن مكانه فجاءت أرنب فسكنته فلما عاد الصفرد تنازعا وقررا أن يحتكما إلى سنور متعبد بساحل البحر (يصوم النهار ويقوم الليل كله. . .) ما كادا يسألانه أن يقضي بينهما ويقصان عليه قصتهما حتى قال:
(قد بلغني الكبر وثقلت أذناي فادنوا منى فأسمعاني ما تقولان) فدنوا منه وأعادا عليه القصة وسألاه الحكم. فقال:
(قد فهمت ما قلتما وأنا مبتدئكما بالنصيحة قبل الحكومة بينكما فأنا آمركما بتقوى الله وألا تطلبا إلا الحق فإن طالب الحق هو الذي يفلج وإن قضي عليه. . .) قال صاحب كليلة ودمنة:
(ثم إن السنور لم يزل يقص عليهما من جنس هذا وأشباهه حتى أنسا إليه وأقبلا عليه ودنوا منه ثم وثب عليهما فقتلهما)
تلك عاقبة المتنازعين الذين يحتكمون إلى القوي فيخدعهما برياء قوته وجبروته ناسين (أن العاقل لا يغتر بسكون الحقد إذا سكن. فإنما مثل الحقد في القلب إذا لم يجد محركا مثل الجمر المكنون ما لم يجد حطبا فليس ينفك الحقد متطلعا إلى العلل كما تبتغي النار الحطب فإذا وجد علة استعر استعار النار) (باب الملك والطائر فنزة)
أنظر إلى كلمة (المكنون) التي يصف بها الجمر وكلمة (متطلعاَ) التي يصف بها الحقد وكلمة (تبتغي) في قوله (كما تبتغي النار الحطب)
هل رأيت أبلغ منها في مثل هذه المواطن؟
ثم أنظر إلى قوله في الحقد:
(فإذا وجد علة استعر استعار النار) تر من جمال التعبير ما يرقص له البيان. فإن الكلام كان يمشي وئيدا ثم اندفع كالنار في الجملة الأخيرة، وكذلك كان الشأن في قصة المطوقة:
(فأجابها الجرذ من جحره: من أنت؟ قالت أنا خليلتك المطوقة، فأقبل إليها الجرذ يسعى) فإن هذه الكلمات القصيرة المتتابعة (فأقبل، إليها، الجرذ، يسعى) تنم عن الحركة السريعة المطمئنة وتؤدي المعنى خير أداء، وإن من البيان لسحرا(348/27)
محمد صبري(348/28)
في الطريق إلى يثرب
للأستاذ محمود الخفيف
طافَتِ الذكرى فَطوفي بِقَصِيدِي ... واسكُبي في مِسمَعِ الدَّهرِ نَشيدِي
جَدِّدي قيثارَتي اللَّحْنَ وَهاتي ... مِن حَديثٍ أَبلَجِ الذِّكرِ فَريدِ
اُلهَدي وَالحَقُّ فيهِ والعُلَى ... والبُطُولاتُ وآياتُ الخُلُودِ
هِيهِِ. . . غَنَّيناَ بألحَان وِضَاءِ ... جَدَّ بالقَلْبِ حَنِينُ لِلغِناءِ
فَصَّلي أسْجَاعَها واستَلْهِمي ... كُلَّ نَشْوَانِ الصَّدَى حُلْوِ الأدَاءِ
رَجِّعي أنشُودَةً خالِدَةً ... كَمْ سَهَتْ عنها أغاني الشُّعَراءِ
أسمِعيها الشَرْقَ شِعراً سَلْسَلاً ... وَأَهيبي بِبَنيهِِ البُسَلاءِ
سيرَةٌ مِنْ جَانِبِ الله سَناها ... وَمَعان يوُقِظُ الرّوحَ صَدَاها
كلُّ نُورٍ هُوَ مِنها قَبَسٌ ... وَإلَيها كلُّ مَجْدٍ يَتَناهَى
خُطُواتٌ مُبتَدَاها عَزمَةٌ ... دُونَها الوَصْفُ، وَنَصْرٌ مُنْتهاها
إقْبسي قيثارَتي الوَحْيَ وهاتي ... مِن حَدِيثٍ قُدُسِيِّ اللَمَحَاتِ
أنشِديِنا فِيهِ أَعْلَى مَثَل ... خَطَّهُ التّاريخُ في مَاض وَآتِ
عِظَةُ الأجْيالِ فيهِ سَاقَها ... مَنْ أَتاها بالهُدَى والبَيّناتِ
النَّبِي العَرَبيُّ المصطفَى ... خَاتَمُ الرُّسُلِ سَمَاء المَكرُماتِ
حدِّّثي كيفَ اتّقَي كَيدَ الطَّغَامْ ... ومَشَى تَحتَ الدّجى هادي الأنامْ
ثانيَ اثنَينِ ترامَتْ بِهما ... في سَبِيلِ اللهِ بِيدُ وَرِجَامْ
أيُّها المُخرَجُ في جُنْحِ الدُّجى ... بِكَ يَنْجابُ عَنِ الدُّنيا الظَّلامْ
وَصِفي الصَّدِّيقَ يُخفيِ البُرَحَا ... في سُرَى يَكْرَهُ أنْ يَفتَضِحاَ
مُرسِلاً عَيْنَيْهِ في سُدفَتِهِِ ... كُلَّمَا أبْصَرَ فِيَها شَبَحَا
وهْوَ مَنْ لا يَرْهَبُ اللّيلَ ومَنْ ... طَلَبَ الصُّحْبَةَ فِيما اقْتَرَحَا
وبَكَى. . . حتى إذا فَازَ بها ... رَاحَ يَبْكي مِن جَديدٍ فَرَحا!
يا دُمُوعَ البِرِّ خَلَدْتِ الوَلاَء ... وَتَسامَيْت شَكاةً وَانْتِشَاَء
يا نُجومًا يَتَجدَّدْن على الدَّ ... هرِ جَمَالاً وَسَناَء وَضِياَء(348/29)
يَتَملاّكِ بنو الدُّنيا إذا ... طلَبوا في هذه الدنيا الوَفاَء
سَتَرَ الليْلُ الرَّفِيقَينِ فسَارَا ... كَيْفَ يَجْتَازَانِ في الليْلِ القِفاَرَا؟
آثَرَ الصَّدِّيقُ أنْ يَختَبِئاَ ... فَمَضَى يَطْلُبُ فِي البَيْداءِ غَارَا
عِنْدَ (ثَوْر) يَبْتَغِي مَوْضِعَهُ ... قَبْلَمَا يُوحِى لَهُ النَّجْمُ النهارَا
وَمَشى في إثرِهِ صَاحِبُهُ ... يَسْألُ اللهَ لِعَبدَيهِ اصْطِبَارَا
يُبْصِرُ الصِّدِّيقَ طَوراً سَابِقاَ ... يُسْرِعُ الخَطْوَ، وطَوراً لاَحِقاَ
ويَراهُ بَعدَ حِين قُربَهُ ... صامِتاً، يَرْنو إليهِ مُشفِقاَ
مُرْهِفاً أُذْنَيْهِ فْي البِيدِ إذَا ... هَفَتِ الرِّيحُ بِلَيلٍ أغْسَقاَ
حَذِراً يَرْتَابُ إن كان أمَامَهْ ... فَهوَ لاَ يَأمَنُ في الليلِ ظَلاَمَهْ
ومَتى عَادَ إلى خَلْفٍ رَأَي ... مَوضِعاً لَيْسَ تُرى فيهِ السَّلاَمَهْ
وَلَئِنْ سَارَ إلى جَانِبِهِ ... لَمْ يُصِبْ في ذَلِكَ السَّيرِ مَرَامَهْ
جُهْدُهُ أنْ يَتَلقَّى وَحْدَهُ ... إنْ بدا الشَّرُ، من الشَّرِ سِهامهْ
أيُّهَا البَاذِلُ فِي اللهِ اَلحَياهْ ... ياَ رَفيقاً فَاتَ في البَرِّ مَدَاهْ
أيُّهَا المُرْخِصُ في إيمانِهِ ... مَا يُعِزُّ النَّاسُ مِنْ مَال وَجَاهْ
سِرْتَ في الدُّنْيا حَدِيثاً عَطِراً ... تَنْشَقُ الدنْيا عَلَى الدهْرِ شَذَاهْ
بَلَغَا (ثَوْراً) وَمَا حَانَ السَّحَرْ ... فمَشَى يَأوِي إليّ الغَارِ القَمَرْ
يَا سِرَاجاً يَنسَخُ اللهُ بهِ ... ما تَدَجَّى مِنْ ضَلاَل وَاعْتكَرْ
قدَّرَ اللهُ لَكَ الظَعْنَ فَكَمْ ... عِبْرَةٍ فيهِ وَذِكرَى لِلْبَشَرْ
إن تَكُنْ أُوِذيتَ فيِ اللهِ لَقدْ ... كُنْتَ أَسْمَى مَنْ تَأَسَّى وَصَبَرْ
لَمَحَ الغَارَ فَأوْمَى عِنْدَ بَابِهْ ... لِلنِّبِيِّ المصطفَى، خَيْرُ صِحَابِهْ
قِفْ! تَمَّهلْ. . . بِأبي أنْتَ وأُمِّي ... رُبَّ شَرٍ خَبَأ اللّيْلُ لَنَا بِهْ
وَمَضَى يَسْتبْرِئ الغَاَرَ لَهُ ... لَيْسَ يَخَشى ماَ دَعَاهُ لاجْتِنَابِهْ
لَمْ يَخَفْ فِيهِ المُعْتمِاَ ... بَلْ دَعَاهُ حِرْصُهُ أَنْ يَقْدُما
مَدَّ في الظُلْمَةِ رِجْلَيْهِ إلى ... كُلِّ رُكنٍ بَاحِثاً لَنْ يُحْجِماَ
رُبَّ رَقْطَاَء أَثَارَتْ رِجْلُهُ ... أوْ أثَارَتْ فِي دُجَاهُ ضَيْغَماَ(348/30)
يَفْتَدِي بِالنَّفْسِ طهَ رَاضِياً ... كلُّ سِلْمٍ عِنْدَهُ أَنْ يَسْلَما
لاَذَ بِالْغَارِ الرَّسُولُ المصطفى ... معه الصِّدَّيقُ أوْفى من وَفَا
يَقِظَ الطَّرْفِ بِهِ ذَا أُهْبَةٍ ... مُنصِتاً في صَمْتِهِ مُسْتَهدِفاَ
كُلُّ هَوْلِ عِنْدَهُ مُسْتَعْذَبُ=في سَبِيِل الحقِّ حتى يُنْصَفَا
إمْلأي اللَّحْنَ خُشُوعاً وَاحْتِشامَا ... وَاجْعَليِ شِعْري صَلاةً وَسَلاَمَا
أسجُدي قيثارَتي واقتَبسي ... مِنْ جَلاَلٍ فاتَ في الأرضِ الكلاما
أعْجَزَ القَوْلَ وَكَمْ هامَ بهِ ... مَنْ رَأى فِيهِ قُصَاراه الهُياما!
كُلَّما اسْتَشْرَفَ ذُو لُبٍّ لَهُ ... كان كالأُفْقِِ: تدانى فَتَرامَى!
هلْ رَأَى قَطُّ بنو الدُّنيا كِفاحا ... غَيْرَ نُورِ الحَقِّ لم يَهْزُزْ سِلاحَا؟
هلْ رَأَوا قَطُّ يَتيماً مُمْلِقاً ... يَتَحدّى وَحْدَهُ اللُسْنَ الفِصَاحا؟
ذَلِكَ اللائِذُ بالغارِ غَداً ... يَمْلأُ العالمَ رُشْداً وفلاحا
هلْ رَأى قَطُّ بنو الدُّنيا يَقينَا ... مِثْلَ هذا حَيَّرَ المُسْتكْبِرينا؟
ظَلَّ عَشْراً وثلاثاً صابِراً ... يَتَحدَّى سَفَهَ المُستهزِئينا
كُلَّما زادُوه مِن كَيْدِهُمُ ... وَجَدُوا مِنْهُ قَنَاةُ لن تَلينا
أيُّها الصّابرُ، بالصَّبرِ غَداً=يَفتَحُ اللهُ لَكَ الفَتْحَ المُبينا
أيُّها الهامِسُ تحتَ الغَلَسِ ... وَهْوَ مَنْ يَحْمِلُ أَسْمَى قَبَسٍ!
أيُّها المُخْرَجُ لَيلاً لم يَكنْ ... هَمسُكَ القُدْسِيُّ بالمُحْتَبِسِ
هذهِ الدُّنيا غداً تشدو بهِ ... مِنْ ضِفافِ السِّنْدِ للأندلُسِ
ذلك الغارُ الذي لاذَا بهِ ... جِدَّةٌ الدُّنيا غداً مِنْ بابهِ
يَدرُجُ التّاريخُ مِنْ رُقْعَتِهِ ... ويَفيض النُّورُ مِنْ مِحْرابِهِ
يَمحَقُ البَاطِلَ في أصْنَامِهِ ... ويُميتُ الشِّرْكَ في أنْصَابِهِ
يَسَعُ الدُّنيا غداً هَيكلُهُ ... ويَلُّمُّ المَجْدَ مِنْ أنسابِهِ
سَوْفَ يَطوي مُلكَ كسْرى لو دَرى ... غَيْرَ بَاغِ، ويُذِلُّ القَيصرا
مَوْضِعٌ في البيدِ يسمو رُكنُهُ ... للثريا وَهْوَ في أصْلِ الثّرَى
مَوْئِلُ الدّين مشى في هجرةٍ ... أذِنَ الله بها أن يُنْصَرَا(348/31)
عُصْبَةُ الشِّركِ محا الصُّبحُ دُجَاها ... وَأتَى الحقُّ بما ألْجَمَ فَاها
لَيَتَهَا لما أَتَاها أذْعَنَتْ ... وَمَعَ الصُّبْحِ أفَاقَتْ مِنْ كَرَاها
صَدفَت عنهُ عِنَاداً وَمَضَتْ ... تُؤثِرُ الليْلَ عَلَى الصُّبْحِ اتجاها
يَا لها مِنْ عُصْبَةٍ غَاشِمَةٍ ... كهْلُها يَسْبِقُ فِي الشِّرِّ فتاها
طَلَبَتْ فِي رُقْعَةِ البِيدِ الرسُولاَ ... وَأتَتْ تَسْعَى شَبَاباً وَكُهُولاَ
يَسْمَعُ الصّدِّيقُ جَمْعاً هاهنا ... وَهُنا يَسْمَعُ مِنْ قُربٍ فًلًولاَ
أيُ ثَأرٍ هاجَهَا فَاْنطَلَقَتْ ... لا تَرَى عن ذَلِك البَغْيِ عُدُولا؟ َ
أتُرى تُدْرِكُ معنى الارْتِحَالِ ... وَتَرى أوَّلَ آيات النّضَالِ؟
لو تَخَطّتْ حُجُبَ الغَيْبِ رَأتْ ... مِلء هَذِِي البِيدِ من سُمْرٍ عوالِ
تَرْجُفُ الأرْضُ بِجَيْشٍ لَجِبٍ ... ظَافرِ الإقْدَام نشوانِ النِّصالِ
رَفَعَ الرَّايَةَ فِيهِ سَيِّدٌ ... يَجْعَلُ العَفْوَ بِهِ فَوقَ القِتَالِ
قالَ عِنْدَ الغارِ: يا قومِ هنا! ... قائلٌ منهم. . . ونادى موقنا
ورأى الصّدِّيقُ ما أَزْعَجَهُ ... فَشَكا البَثَّ وأبدى الحَزَنا
قال لا آسَي إذا نُجّيتَ مِنْ ... ذا وإن أوذِيتُ أوْ مِتُّ أنا
وَرَأى أحْمَدُ لا يَخْشى العِدَا ... ولَئِنْ كدَّرَهُ ذَاك الصَّدَى
قالَ: لا تحْزنْ! وَصَلَّي قائماً ... يَحْمَدُ الله عَلَى مَا أيَّدَا
أنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ سَكَناً ... وَوَقى الَجارَيْنِ مِن شَرٍ بَدا
وَتَوَلْتْ عُصْبَةُ الشِّرْكِ؛ فمَا ... يَفْتَحُ البَاطِلُ حِصْناً مُوصَدَا
أي حِصنٍ صَدَّ هاتيك الجُمُوعا ... فَتَوَلْوا عَنْهُ مِن يَأسٍ رُجُوعا؟
صِيغَ مِن أوْهَنِ نَسْجٍ بابُهُ ... لا يُرى إلا خُيُوطاً وَرُقوعا
مَا دَنَا مِنْهُ فتىً إلا انثنَى ... وَاجِفَ القلْبِ وَمَا كانَ هُلوعَا
أفْزَعَ الشِّرْكَ مِنَ الغَارِ غِناءُ ... فإذَا أَفْئِدَةُ الشِّرْكِ هَوَاء
ذَاتُ طَوْقٍ جَاوَبَتها أُختُها ... يا دُعَاءً رَاحَ يَتْلُوهُ دُعَاء
رَوِّعَا الشِّرْكَ بِلَحْنٍ هاتِفٍ ... إنّمَا كانَ مِن الله النَّجَاء
إنْ أتَى النَّصْرُ مِنَ الله فمَا ... يَنْسِجُ العَنْكَبُ - دِرْعُ وَوِقاء(348/32)
وَصِفَا مِن جانِب الرَّحْمَنِ حَشْدا ... مَلأ البَاطِلَ رُعْبًا لو تَبَدَّى
طافَ بالغَارِ أُولو أَجْنِحَةٍ ... قَدْ تلاقَوْا عِنْدَهُ وَفداً فَوَفْدَا
مِن جُنُودٍ لم يَرَوْها حُوَّمٍ ... أيْنَ مَن يَحْشُدُ كالرَّحْمَنِ جُنْداَ؟
حَيّيا أسماَء كالطّيْفِ الرَّفِيقْ ... تَسْرِقُ الخطْوَ عَلَى هَوْلِ الطريق!
تَحْمِلُ الزْادَ عَشِيَّا وَحْدَها ... ذَاتُ قَلْبٍ هُوَ بَالخَوْفِ خِليقْ
يا اْبنَةَ الصّديق هلْ منْ نَبأٍِ ... للرَّفيقين عَن الشِّرْكِ وَثيقْ؟
أمسِكي عَنْ لطْمَةٍ فاجرَةٍ ... طَرحَتْ قُرْطَكِ منْ وَغْدٍ صَفِيقْ
هِيِه عَبْدَ الله. . . قُصَّ الَخَبَرا ... هاتِ منْ نيّاتِهِمْ مَا ظهَرَا
وَخذ الحيطَةَ وَأحْذَرْ مَكرهُم ... وَتَخَيَّرْ من يُعفي الأثَرا
وتأهّبْ. . . آن أن يَسْتَأنِفَا ... فيِ سبيلِ اللهِ هذا السَّفَرا
تَبِعا فيِ وَحْشَةِ البيدِ الدلِيلاَ ... يَتِوَخْى بهما سيْراً طَويلا
يَدْرُجُ الحقُّ إلى غايَتهِ ... وقد اختَارَ لَهُ الله السَّبيلا
يَنْصرُ اللهُ به مَن هاجَرُوا ... مِنْ جُنُودٍ صَبَروا صبراً جَميلا
آيَة اللهِ انجْلَتْ في هِجْرةٍٍ ... تَهْتفُ الدّنْيا بها جيلاً فجيلا
هِجرةٌ تَحْمِلُ بُرْهانَاتِها ... وهيَ وحْيُ لِلنُهَى في ذاتِها
كلّمَا أمْعَن فِيهَا نَاظرٌ ... كَشَفَ المكنونَ مِنْ آياتِها
قَبسُ اللهِ الذي أنزَلُهُ ... يَنْجَليِ لِلنّفْسِ في غاياتِها
ذلك الداعِي الذي يلقى الصِّعابا ... لِمَ يَخْتارُ مِن القَوْمِ العَذَابا؟
وهْوَ لَوْ يَخْتارُ مُلكاً نَاَلَهُ ... من سَراةِ القَوْمِ طوْعاً لاَ اغْتِصابا
أوْ يشاء المالَ سَاقُوهُ لَهُ ... وهْو مَنْ يَفْنَى لهُ الناسُ طِلاَبا
إِنما يَسْعَى إلى اللهِ، وإنْ ... قَذَفوا في وجهِهِ السّمْحِ التُّرابا
لمَ تكُنْ هْجَرَتُهُ إلا جِهَادَا ... وإباءً وحِفَاظاً وجِلاَدَا
رَاحَ يَسْتأنِفُ في هجَرتِهِ ... في سبيلِ اللهِ؛ أعْبَاءً شِدادَا
سَارَ يَسْتَصرْخُِ مِنْ يَنْصُرُهُ ... ليُذِلَّ السَّيْفُ في الشّركِ العنادا
هادِيَ البَيْدَاء قدْ طالَ الَمسِيرْ ... وَرَجَتْ يَثْربُ إقبالَ البشيرْ(348/33)
إيهِ لا تُبطِئ فهذا فارِسٌ ... يَقْتَفي خَلْفُكَ آثارَ البَعِيرْ
الْتَفِتْ تُبصِرْهُ قَدْ ساَخَ به ... فَرَسٌ كادَ مِن الزّهْوِ يَطيرْ
صاح بالرَّكْبِ تَنكّبْتُ الأذَى ... ولَئِنْ أُطْلِقْتُ إنِّي لَنَصِيرْ
ومَشَى حَتَّى إذا ما اقْتَربَا ... راحَ يرْوِي للرَّسُولِ السّبَبا:
أُرْخِصَ المالُ لمن يَأتي بهِ ... فأتى يَطْلُبُ فِيَمنْ طَلَبَا
مُذ رأى ما حلَّ في السَّيْرِ بِه ... طَلَبَ الأمْنَ وعافَ الذَّهَبا
أقْبلي يَثْرِبُ من كلِّ البقاعِ ... بَلغَ السَّفرُ ثَنِيَّاتِ الوَداعِ
اجعَلِي في كلِّ وادٍ مَوْكِباً ... مُشْرَئِباً، وامْلأي كلَّ يَفاعِ
سِرْتِ في الدُّنيا إلى جَبْهَتِها ... مُنْذُ آوَيتِ بها أشْرَفَ داع
الخفيف(348/34)
الإسلام عدو الشرك والنفاق
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي
رأى المشرع الإسلامي: أن يُبقى على فريضة الحج، والحج معروف في تضاعيف الزمان ومن أقدم العهود، أبقى عليه المشرع الإسلامي إبقاءً مهذباً مطهراً خالصاً من أدران الشرك ومن دنس الاعتقاد الرجس. أبقاه الإسلام، بعد أن افرغ عليه من جلال التوحيد، وأفاض عليه من معاني التقوى ما جعله منسكاً حافلاً بالخير.
وأي خير أوفر من شهود المنافع وتعرّف شؤون الأقطار الإسلامية، وشدّ أواصر المجتمع وإعداد النفوس لتلقى أسمى الفيوضات واستلهام الهدى واجتماع الكلمة؟
ونحن بسبيل أن نبين كيف اختار الإسلام موسم الحج ميدانا لإصلاح اجتماعي خطير؟ هذا الإصلاح هو: مهاجمة النفاق والكشف عن المنافقين وتمييزهم عن المجتمع ونبذهم، بعيدين عن المؤمنين لكي يسلم للأمة خلقها وتصح عناصرها. . .
أنزل الله على رسوله - صلى الله علية وسلم - في ختام ما نزل من القرآن سورة (براءة)، أو السورة (الفاضحة) التي فضحت الشرك وكشفت عن المنافقين، أنزلها الله في السنة التاسعة من الهجرة في موسم الحج
وقد كان محمد صلى الله علية وسلم - من قبل ذلك - يعرف خصومه من المشركين السافرين فيحذرهم وينكل بهم. ثم كان يعرف - أيضاً - أن بين أتباعه بعض المنافقين، فكان لا يجيبهم ولا يكشف عن أضغانهم ولا يبرز للمسلمين دخائل نفوسهم، إبقاء على الدعوة الإسلامية وهي في دور النمو والتكوين، حتى لقد بلغ من قسوة تلك الحالة على محمد صلى الله علية وسلم وعلى أصحابه، أن صاروا فريسة لمكائد النفاق وهدفا لمؤامرات المنافقين يدلون المشركين على عورات المؤمنين ويوضعون خلالهم يبغونهم الفتنة ومع هذا، هم لاصقون بالجماعة المحمدية. . .
(يحلفون ب الله إنهم لمنكم وما هم منكم، ولكنهم قوم يفرقون)
وقد بلغ من خطر النفاق على المجتمع يومذاك - أن دفعت أزمة حربية عنيفة للرسول - صلوات الله عليه - ولأصحابه، فكانت سانحة للمنافقين، أرجفوا فيها بموت محمد عليه السلام لتثبيط العزائم، وتمكين الهزيمة، والمؤمنون في ساعة عصيبة يجمعون شملهم(348/35)
ويربطون على قلوبهم، والرسول عليه السلام ثابت في مكانه لا يريم
تلك الحوادث أبانت عن أنه لا يزال بين المجتمع الإسلامي - بل وسط جماعة المسلمين - قلوب مطوية على الإحن تتربص بالإسلام وبالرسول الدوائر
وإنها لحال تنغص على المسلمين أمورهم، وتهدد كيانهم وتقلقل مجتمعهم
وقد كاد صبرهم ينفد يوم وقف واحد من هؤلاء يعيب على رسول الله صلى الله علية وسلم قسمه للصدقات ويغمز العدالة المحمدية. هذا الرجل هو (ذو الخويصرة التميمي) دفع به النفاق، فخاطب رسول الله صلى الله علية وسلم، وقال: اعدل يا محمد. . . ولا، والله، ما قصد ذو الخويصرة عدلا ولا طلب حقا. ولكنه قصد إلى أن يشكك الناس في العدالة المحمدية، وينبه الأطماع، ويثير الإحن. فقال له الرسول صلى الله علية وسلم: (ويلك، من يعدل إذا لم أعدل؟)
واستمع لهذا الحوار الرجل المؤمن حقا عمر بن الخطاب، فعرف أنها دسيسة. فقال: يا رسول الله، ائذن لي فأضرب عنقه، فأخذ صلى الله علية وسلم يهدّي من نفس عمر، ويذهب عنه الغضب، ويقول: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه
ونزل في تلك الحادثة من السورة (الفاضحة) قول الله تعالى:
(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطَوْا منها إذا هم يسخطون)
بقي النفاق - هذا الوباء الأخلاقي - يأكل في أجزاء من جسم المجتمع، ولولا صدق اليقين، ومناعة الجسم، لأودى النفاق بالدعوة الإسلامية
إن لله مواقيت تنتهي لديها أمور وتبدأ من عندها أمور. فلما أذن الله بافتضاح هذا النفاق، وشاء للمنافقين أن يشَهروا ويعلّموا ويؤخذوا بسيماهم، ثم يعزلوا - مرضى موبوئين - عن بقية المجتمع السليم، اختار - عز وجل - لذلك وقتا علا فيه شأن الإسلام، وتمت له الكلمة، وأثخن المسلمون في أعدائهم أسراً وقتلا واستيلاءً وغلبة. فليس يخيفهم أن يبتروا الأعضاء السقيمة العليلة
وكانت الحياة المحمدية المباركة قد آذنت بالانقضاء، ولابد من صيانة مجتمعه وشريعته ودينه من هذا المرض، مرض النفاق المدّمر الفتاك(348/36)
عند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى السورة (الفاضحة) كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه: نزلت تفضح النفاق، وتكشف عن المنافقين، وتصور ألوانهم وأقوالهم، وتطلع المؤمنين على دخائل نفوسهم، وتنشر للملأ مطويات سرائرهم. . . وقد كانوا من قبلها يخافون ذلك ويحذرونه
(يحذر المنافقون أن تنّزَّل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ولكن الله أوقع بهم، فكان ما يحذرون ووقع ما يرهبون
اختار المشرع الإسلامي غزوة من غزوات المسلمين، جعلها اختباراً أخيراً للمنافقين. وهي: غزوة تبوك، آخر الغزوات في حياة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وكان الوقت عسيراً والبلاد جدباء، والحر لافحاً والشقة بعيدة، والأعداء هم الروم الأقوياء الأغنياء
هنا أخذ النفاق يطل برأسه، وينفث في العقد، ويبعث التخاذل، ويحبب التقاعد بين الجيوش الإسلامية. فقال جماعة المنافقين وعلى رأسهم كبيرهم (عبد الله بن أبي): (أيغزو محمد بني الأصفر (الروم) مع جهد الحال، وشدة الهجير، والبلد النائي؟ أيحسب محمد أن قتال بني الأصفر لعب ولهو؟ والله. . . لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الأصفاد)
ثم أخذ المنفقون يقولون: لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون
وهكذا جعلوا يعتذرون عن الخروج بأعذار تافهة ورسول الله صلى الله علية وسلم يقبلها، حتى عاتبه القرآن في ذلك وعفا عنه: (عفا الله عنك لِمَ أذنتَ لهم حتى يتبيَّن لكَ الذينَ صدقوا وتعلمَ الكاذبين)
عرَّفت السورة (الفاضحة) أو سورة (براءة) المنافقين، وحددت أوصافهم: فمنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ومنهم من يلمزك في الصدقات. ومنهم من عاهد الله ثم أخلف عهده. ومنهم، ومنهم. . .
ثم خاطب الله رسوله عليه السلام الخطاب الحاسم في شأنهم فقال: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتُم إليهم لتُعرِضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون)
ولقد نكل الله بالشرك في تلك السورة فسميت (المنكلة) وأزرى واحتقر النفاق ورسمه بأنه رجس، فافتضح النفاق(348/37)
وجاء صدر تلك السورة قضاء حاسماً على بقية الشرك، وإبادة لمرضه الخبيث في أنحاء الجزيرة العربية
فقد اجتمع إلى الشرك مآثم وأوزار وشناعات، لا مناص من القضاء عليها تطهيراً للمجتمع وإصلاحًا
وفي السنة التاسعة للهجرة أمَّر للنبي عليه السلام على الحج (أبا بكر) الصديق. فلما نزلت السورة - المنكلة الفاضحة - بعث صلى الله علية وسلم إبن عمه علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ليقرأ في موسم الحج على الناس كافة صدر السورة المنزلة، قضاء على الشرك والمشركين، فلما دنا علي من أبي بكر سمع أبو بكر رغاء الناقة، فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله علية وسلم. فلما لحقه علي قال له أبو بكر: أمير أم مأمور؟ قال: مأمور
فلما كان يوم الحج الأكبر - يوم النحر - عند جمرة العقبة قام علي فقال: (أيها الناس، إني رسول رسول الله تعالى إليكم) فقالوا: بماذا؟ فقرأ (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) إلى آخر الآيات الثلاثين أو الأربعين من السورة
ثم قال: (أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم كل ذي عهد عهده)
وفي هذا الموطن الحاشد، وبهذا البيان القاطع تقررت حياطة المجتمع، وصيانة التوحيد، كما تقرر - في أثناء السورة - إبراء المجتمع من داء النفاق بإقصاء المنافقين وتعرفهم بسيماهم؛ ثم نبذهم أحياء أو ميتين
(ولا تُصَلِّ على أحد منهم مات أبداً، ولا تَقُم على قبره) (يحلفون لكم لترضوا عنهم، فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين)
انتهى أمر النفاق، وانتظم شأن المجتمع الإسلامي. فلما كان العام التالي، أراد صاحب الشريعة عليه السلام أن يحج، وترامى ذلك إلى أقطار الجزيرة، فانثال الناس من كل حدب، حتى بلغ الحجيج مائة ألف أو يزيدون. وفي يوم الحج الأكبر، خطب صاحب(348/38)
الشريعة خطبته الجامعة التي بين فيها أصول الدين، وحقوق الإنسان وأعلن فيها المساواة، وحقن فيها الدماء وبين الحدود، وحشد فيها الفضائل الإسلامية
وزاد في جلال الموقف ورهبته إشعار النفوس أن محمدا عليه السلام يودع المسلمين ويتوقع اقترابه من اليوم المحتوم، ويستشرف إلى الرفيق الأعلى
قال صلى الله علية وسلم: (الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. . . أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد:
أيها الناس، اسمعوا مني أبين لكم، فإني لا أدري. . . لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا
أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى الذي ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع
أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
إن لنسائكم عليكم حقا، فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وإنما النساء عَوانٍ أخذتموهن بأمانة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم أعناق بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد
أيها الناس. إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد؛ كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس يُعرف فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. . .)
بتلك الخطبة الحافلة بأسمى المعاني الإنسانية، تمت كلمة الله صدقاً وعدلاً، فاكتمل أمر(348/39)
الدين، وأتم الله نعمته على المؤمنين، وقد أنزل الله في أعقاب ذلك من سورة (المائدة): (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا).
أقام صلى الله علية وسلم بمكة بعد ذلك عشرة أيام. وأخذته نوازع الشوق وهو في موطنه الأول (مكة) إلى موطنه الثاني، إلى دار الهجرة، فسار إلى المدينة. . .
ولما أشرف عليها، وبدت أعلامها كبَّر ثلاثا وقال:
(لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. . . آيبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده
محمد عبد الرحمن الجديلي(348/40)
في جنازة الشرك!
آلهة الكعبة يسجدون. .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
(أسطورة وثنية جديدة يتخيل فيها الشاعر لونا من الفزع الذي
حل بأصنام المشركين، على ألسنة الجبابرة الخرس من الآلهة
الحجرية: (اللات، والعزى، ومناة!) في اجتماع لهم غداة
أشرق في ظلمة محاريبهم شعاع من نور محمد!)
مَناة (في حال من الكبرياء والجبروت يحي رفيقيه عقيب ليلة طال فيها سجود المشركين في ساحة الأصنام):
سَلامَ الأُلوهِةِ يا صاحِبَيَّ ... وَحَيّتْكُما عِزَّتي العالِيْة!
وَحَيّتْكُما مِن شعابِ الجبالِ ... قلوبٌ لأطيافِنا جاثِيَةْ
وَشَعْبٌ عَلَى الأرْض عاتي الْجِباهِ ... تَخِرُّ لنا رُوحُهُ العاتِيَةْ
تأبَّى فَسَوَّى شُعاعَ النُّجوم ... لخَيًماتِهِ طُنُباً زاهِيَةْ
وَألْقَى الزمانَ على خَطْوِهِ ... حَديثاً لأمجادهِِ السّارِيَةْ
صَحاراهُ أُنْشُودَةُ الأنبياءِ ... وَمَسْرَى شُعَاعَتِها الهادِيَةْ
وَحَقْلُ السّماءِ الّذي فَجَّرَتْ ... علَيْه يَنابيعَها الصَّافِيَةْ. . .
بَنُو السَّيفِ وَالبِيدِ أهلُ الوغَى ... وَأَبْطَالُ دَوْرَتِها الحْامِيةْ
فَمُ الدَّهرِ يَبْلَى وَأَشْعَارُهُمْ ... تَظَلُّ الغُيُوبُ لها رَاوِيَةْ!
أُولَئكَ مَنْ طوّفُوا حَوْلَنا ... خُشوعاً لِصَوْلَتِناً الطّاغِيَةْ
وَمَنْ قَدَّسُونا فَكُنَّا لَهُمْ ... حياةً لأَعْمَارِهْم ثانِيَةْ. . .
اللاّت (في تعجب وسخرية):
أَرَاكَ تَغالَيْتَ في ذِكْرِهِمْ ... وَكنْتَ لَهُمْ في الوَرَى دَاعِيَةْ
إلهُ يُمَجَّدُ عُبَّادَهُ ... وَيَكْسُوهُمُ المِدَحَ الغالِيَةْ!(348/41)
وَيَخْلَعُ مِنْ قُدْسِ أَوْصَافِهِ ... عَلَى رِجْسِهِمْ حُللاً ضَافِيَةْ
لَبِئْس الهُدَى عِنْدَهُ وَالرَّشادُ ... وَتَبَّا لِشِرْعَتِهِ الْغاوِيَهْ!
مَناة (صارخا في وجه (العزَّى) وقد كان في إطراق عميق):
سَمِعْتَ مِنَ اللاّتِ هُجرَ الحدِيثِ ... وَسُخْفَ المَلامِ وَزَيْفَ الْكلِمْ
وَأطْرقْتَ لم تُلقِِ بالاً لَهُ ... ولم يَسْتَثِرْكَ انِتهَاكُ الحُرَمْ
إلهُ وَتَرْضَى بهذا الهَوانِ ... وَتَغْرِقُ في الصَّمْتِ مثل الصَّنَمْ!
العُزَّى (في دهشة واستغراب):
وما أنا إلاّ كما قَدْ نَعَتَّ ... جَمَادٌ عَلَى الأرضِ خَاوٍ أَصَمّْ
وما أنتَ يا صاحِ!. . .
مَناة:
. . . . . . رَبٌّ عَظِيمٌ ... تُرَّجى لَدَيَّ المُنَى وَالنِّعَمْ
وَتمْشِي بِصَوْلَجِيَ السَّافياتُ ... وَتَنهَلُّ مِنْ رَاحَتيَّ الدّيمْ
وَباسمِي تَغَنَّي حُداةُ الجِمَالِ ... وَمَالُوا نَشَاوَى بِسِحْرِ النَّغَمْ
وفي الرَّوْعِ تَجْثُو لَديّ السُّيُوفُ ... وَبي تَسْتَجيرُ، وَلى تَحْتَكِمْ
وَبي تُقْسِمُ البِيدُ في عَهْدِها ... جَلالاً. . .
العُزَّى (يقاطعه):
. . . وَأَهْونْ بهذا القَسَمْ!
كَذَبَتّ ألسْنَا هنا ثلةً ... من الصَّخْرِ خَرْساَء مُنْذُ القِدَمْ؟
تَلَهَّى بِأحْجَارِنا النَّاحِتُونَ ... وَأَلقَوْا بِنَا في مَهِاوي الظُلَمْ
سَكَنّا الحَضِيضَ أَسَارَى البِلَى ... وكانَتْ مَرابِعُنا في القِمَمْ
دُمُوعُ الجِبالِ عَلَى ذُلِّنا ... هي السَّيْلُ يُرزِم فَوقَ الأكَمْ
أبْعَدَ النَّدَى مِنْ كُؤُوسِ الغَمامِ ... يُصابِحُنا بالرَّحيق الشَّبَمْ!
وَبَعْدَ الرّْياحِ وَتَطْوَافهِا ... صَلاةً وَنُسْكاً بِعالي الأطُمْ!
وَبَعْدَ الشَّذَى من خُزامَي السُّفُوح ... تَفَتّقَ نُوَّارُهُ وابْتَسَمْ!
وَبَعْدَ المَهارِج دَوَّى بها ... فَمُ الجِنِّ في لَيْلِنَا واحتَدَمْ(348/42)
وَبَعْدَ المَزَامِيرِ أذْكَى بها ... حنِينَ البَرَارِي رُعاةُ الغَنَمْ!
وَبَعْدَ السُّهُوبِ التي مَوّجَتْ ... أسَارِيرَها البِيضَ كَفُّ النسَمْ
وَكانَتْ مُصَلَّى شُعِاعِ الغُيوبِ ... وَدَيْرَ السَّماءِ، وكَهْفَ الحُرَمْ!
وَبَعْدَ الضُّحى العَبْقَرِيِّ العُبابِ ... عَرايا الصُّخورِ به تَسْتَحِمّْ. . .
. . . أقَمْنَا بزاويَةٍ أهلُها ... ذُبابُ القُبورِ، ودُودُ الرِّممْ
وخُفّاشُها وَثَنيُّ الصَّدَى ... يُوَصْوِصُ في جانِبَيْهِ البَكَمْ!
مَعَ الصَّمْتِ صَمّاءُ لا هَمْسَةٌ ... وَلا هَجْسَةٌ غَيْرُ صَوْتِ العَدَمْ!
ُنصِبْنَا مَذابحَ لِلسَّائماتِ ... وَمَجْزَرَة لِضَحايا النَّعَمْ
تَبولُ الثَّعالبُ في ساحِنَا ... وَتَسْلَحُ فَوْق الجِباهِ الرَّخَمْ
كفانا خداعاً!
اللات:
كفانا هواناً
مناة (في ندم وحزن):
أحِسَّ بِجَنَبيَّ عَصْفَ الألمْ!
يَدُورُ عَلَى عِزّتي بِالفَناءِ ... وَيَهْوِي بها في سَعِيرِ الضَّرَمْ!
أعِينا صَفاتي عَلَى هَوْلَها!
العزَّى:
تَجَرّعْ لَهيبَ الأسَى وَالندَمْ!
(فترة سكون وذهول تخيم على الكعبة، ويشرق خلالها أول شعاع من نور النبي)
اللات:
أرَى قَبَساُ في حِمَانا غَرِيبَا ... وألمَحُ في الأفْقِِ ضَوَْءا عَجيبَا!
عَلَى الأرْضِ دَفّقَ أنوَارَهُ ... فَسَالَتْ عَلَى الرمْلِ طُهْراً وَطِيبَا
وَأذْهَلَ بالَّلمْحِ قَلبَ الشُّمُوسِ ... وَدَاراتِ أفلاكِها، وَالغُيُوبَا
وَرِيَعتْ صُخُورُ الفَلاَ فَارتمَتْ ... عَلَى خَطْوِهِ وَاسْتَحَالَتْ قُلوبَا
أهَلَّ عَلَى جَلْمَدِي فاسْتَطَاَر ... وَأوْشَكَ مِنْ رَهبَةٍ أنْ يَذُوبَا(348/43)
أعُزَّايَ مَاذَا؟
العزَّى:
شُعَاعُ الضُحَى ... تَوَهَّجَ في البِيدِ غَضَّا قَشِيبَا!
مَناة:
هوَ النَّجْمُ خَفّ لَنا ساجِداً
اللاّت:
خَسِئْتَ! وخُيِّلتَ ظَناَّ كَذوبَا!
فما النَّجْمُ؟ ما ضَوْءُهُ الكَوْكَبِيُّ؟ ... وكم لاحَ يُضْفِي الأسَى والشُّحُوبَا
وما الشَّمْس؟ كَم عَصَّبَتها السِّنِينُ ... وكادَتْ نَضارَتُها أنْ تَشِيبا!
ضَلَلتَ وَضَلّ الّذِي خالَهُ ... عَلَى الدَّهْرِ يَوْماً سَيَلْقَى غُروبا
هُوَ النُّورُ قد رَقْرَقَتْهُ السّماءُ ... يُهَدِّي الحَيَارَى وَيَمْحُو الذُّنوبا
رأى الشِّرْكُ أقْبَاسَهُ فارْتَمى ... وَخَرّ عَلَى صَفْحَتَيها مُنِيبا
وَهذى جِنازتُهُ في الفِلاَ ... تَجُوسُ القِفَار وَتَطْوِي السُّهوبَا
فهيّا نُؤَدِّي صَلاةَ الجَمادِ ... وَنَسْجُدُ في الأرْضِ حتَّى نَذُوبا!
(ويسجدون!!). . .
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل(348/44)
من مذكرات ابن أبي ربيعة
الحقيقة المؤمنة
للأستاذ محمود محمد شاكر
(قال عمر بن أبي ربيعة). . .
فبادرت أعدو يكاد ينشق عليّ جلدي من شدة العدو، فقد أكلت مني السن وتعرقتني أنياب الكبر؛ فما جاوزت روضة قصر أمير المؤمنين حتى تقطعت أنفاسي من الجهد، وتلقاني الآذن: ما عدا بك يا أبا الخطاب؟ فقلت: إِيَذَن لي على أمير المؤمنين (هو الوليد بن عبد الملك)، فقد نزل بنا ما لا رد له، وتبعته. . . ووالله إن فرائصي لترعد وكأني محموم قد جرت عليه هبّة ريح باردة. . . وغاب الآذن: فما هو إلا أمير المؤمنين يستقبلني كالفزع، وقد خرج إلي فقال: أي شيء هو يا ابن أبي ربيعة؟
قلت: والله ما ادري يا أمير المؤمنين، فما كان إلا ومحمد بن عروة (بن الزبير) تحت سنابكها، فما زالت تضربه بقوائمها، وما أدركناه إلا وقد تهشم وجهه وتحطمت أضلاعه!!. . .
وكأنما فارقتني الروح، فما أشعر إلا وأمير المؤمنين قائم على رأسي ينضح الماء على وجهي، وقد قُرِّبت إلى مخمرةٌ يسطع منها ريح المندل الرطب، فلما أفقت ورجعت إلي روحي سألني أمير المؤمنين أن أقص عليه الخبر. . .
قلت: خرجنا أنا ومحمد بن عروة وهشام أخوه نريد منزلنا من قصر أمير المؤمنين، نرجو أن نتخفف من بعض ثيابنا، فقد أنهكنا الحرّ. . . فنظر محمد إلى مرآة من فضة مُجلوّةٍ معلقة في البيت، ثم قال: أتذكر يا أبا الخطاب حجتنا تلك؟ قلت: أيهن؟ فقد أكثرت وعمك الحج، فقال: سرعان ما نسي الشيخ، لقد كبرت والله يا أبا الخطاب! وقد حدثني أبي بالذي كان منك، فقد كنت تسايره وتحادثه، فلم تلبث أن سألته: وأبن زين المواكب يا أبا عبد الله؟ فقال لك: أمامك، فأردت تركض راحلتك تطلبني، فقال لك: يا أبا الخطاب، أو لسنا أكفاءً كراماً لمحادثتك، ونحن أولى أن تسايرنا، فقلت له: بلى، بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! ولكني مغرى بهذا الجمال أتبعه حيث كان، ثم عدلت براحلتك وضربتها وأقبلت إلي، وجعل أبي يتعجب منك ويضحك، وقد استنار وجهه. . . إحدى سوآتك هي والله يا أبا الخطاب. .(348/45)
فضحكت لقوله وتناقلنا الحديث وإذا هو ساكن ساح كأنما غشيته غاشية هم، فقلت: ما بك يا محمد؟ فزفر والله يا أمير المؤمنين زفرة كأنما انشقت لها كبدي، ثم قال: أرأيت هذا الجمال الذي تبعته يا أبا الخطاب، يوشك أن يكون طعاما يلحسه تراب القبر فما ترى إلا عظما أغبر من جمجمة تقذف الرعب من محجريها. . . لقد روعني والله يا أمير المؤمنين حتى تطيرت وما بي الطيرة؛ فأردت أن أصرفه عن بعض وهمه أن يكون الصيف قد أوقد عليه حره فحيره. فانطلقنا جميعا (يعني هو وهشام ومحمد) إلى سطح البيت نستظل بظُلته ونستروح النسمات وأقبلنا نضحك ونعبث ونلهو من بعض اللهو، وإذا طائر يحوم يصفق بجناحيه ثم رنّق فكسرهما من الإعياء ثم سقط ثم درج ثم اضطرب قد كاد يقتله الظمأ، فجرى إليه (محمد) ليأخذه فيبل ظمأه، فخف الطائر فهوى إليه محمد ليدركه، فما نرى والله محمدا. . . قد اختطفه أجله فجذبه فهوى به إلى إسطبل الدواب، فيقع بينها فيثيرها فتهيج، وإذا (زين المواكب) تحت سنابكها تضربه، فما أدركناه والله يا أمير المؤمنين إلا جثة قد ذهب رأسها، وما نرى إلا الدم. . . رحمة الله عليه، لقد. . .
قال أمير المؤمنين: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، فكيف نحتال لهذا الأمر يا ابن أبي ربيعة؟ قلت: فيم الحيلة يا أمير المؤمنين وقد ذهب القدر بما يحتال له! فقال: أههنا أنت يا عمر، نمت وسار الركب، هذا أبوه أبو عبد الله شيخ كبير يوشك أن يصاب في نفسه؛ قلت: يا أمير المؤمنين، هذا مصابه في ابنه، فما مصابه في نفسه إلا أن يكون الخبر إذ يبلغه؟ وسأحتال له. قال أمير المؤمنين: مهلا يا عمر، لقد علمت أن أبا عبد الله (عروة بن الزبير بن العوام) كان قد اشتكى رجله وما زال يشتكي، فبينا نحن الساعة جلوس إذ دخل علينا (أبو الحكم) الطبيب النصراني، فاستأذنت أبا عبد الله أن يدع (أبا الحكم) حتى يرى علة رجله، فما راعنا إلا (أبو الحكم) يقول إنها الأكلة، وأنها قد ارتفعت تريد الركبة، وإنها إذا بلغت الركبة أفسدت عليه جسده كله فقتلته، فما بد من أن تقطع رجله الساعة خشية أن تدب الأكلة إلى حيث لا ينفع القطع ولا البتر
فوجمت والله لهذا البلاء، وقد اختلف به القدر على شيخ مثل أبي عبد الله في أدبار من العمر، وأخذ أمير المؤمنين بيدي وقام. فدخلنا مجلس الخلافة وإذا وجوه الناس قد جلسوا(348/46)
إلى عروة أبي عبد الله يواسونه ويصبرونه ويذكرونه بقدر الله خيره وشره؛ وإذا فيهم سليمان بن عبد الملك أخو أمير المؤمنين، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعبد الله بن عبد الله إبن عمر بن الخطاب، وقد حضره ولده هشام فأرم قد انتُسف لونه من الحزن على أخيه والرحمة لأبيه. وأقبل أمير المؤمنين وأنا معه على عروة؛ فتفرق الناس إلى مجالسهم، وإذا عروة كأن ليس به شيء، يرف وجهه كأنه فلقة قمر وهو يضحك ويقول: لقد كرهت يا أمير المؤمنين أن يقطعوا مني عضوا يحط عني بعض ذنوبي، فقد حدثنا أن أبا بكر قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية (ليسَ بِأَمانِيَّكمُ ولا أَمانيِّ أهلِ الكتاب مَنْ يَعمَلْ سُوءا يُجزَ بهِ)، فكل سوء عملناه جزينا به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر؛ ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأْوَاءُ؟ قال: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: فهو ما تجزون به، فإن ذاك بذاك. لوددت يا أمير المؤمنين أنها بقيت بدائها فهي كفارة تحت الذنب
قال أمير المؤمنين: غفر الله لك، غفر الله لك، وما أعجب لصبرك، فأمك أسماء بنت أبي بكر الصديق (ذات النطاقين) وأبوك حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته الزبير ابن العوام، فرضى الله عنك وأرضاك يا أبا عبد الله
فما كدنا حتى أقبل أبو الحكم، وهو شيخ نصراني طويل فارع مشبوحُ العظام، قد تخدّد لحمه، أحمر أزهر أصلع الرأس إلا شعرات بيضاً قد بقيت له، كث اللحية طويلها، لو ضربتها الريح لطارت به؛ ودخل أبو الحكم وراء لحيته وهي تسعى بين يديه، حتى وقف على عروة بن الزبير فقال: لابد مما ليس منه بد يا أبا عبد الله، وإني والله لأرحمك وأخشى أن يبلغ منك الجهد، فما أرى لك إلا أن نسقيك الخمر حتى لا تجد بها ألم القطع. قال عروة: أبعدك الله من شيخ، وبئس والله ما رأيت! إنا والله ما نحب أن يرانا الله بحيث نستعين بحرامه على ما نرجو من عافيته! قال أبو الحكم: فنسقيك المرقد، يا أبا عبد الله! قال عروة: ما أحب أن أسلب عضوا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه عند الله
قال أبو الحكم: وقاك الله يا أبا عبد الله! لقد ألنت منا قلوبا كانت قاسية؛ ثم التفت (أبو الحكم) إلى رجال سود غلاظ شداد قد وقفوا ناحية فقال: أقبلوا، فأقبلوا. . . فأخذتهم عين عروة فأنكرهم فقال: ما هؤلاء؟ فقال أبو الحكم: يمسكونك، فإن الألم ربما عزب معه(348/47)
الصبر؛ قال عروة: أما تقلع أيها الشيخ عن باطلك، انصرفوا يرحمكم الله، وإني لأرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي، ولا والله ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها فاحتمل عني ألمها. أقبل يا أبا الحكم، وخذ فيما جئت له (ربَّنا إننا سَمعْنا مُنادِياً يُنادي للإيمان أنْ آمِنوا بربِّكم فآمنا، رَبنا فاغفِرْ لنا ذُنوبَنا وكفِّرْ عنا سيئاتنا وتوفَّنا مع الأبرار. ربَّنا وآتنا ما وَعدْتَنا على رُسلِكَ ولا تخزنا يومَ القيامةِ إنك لا تخلفُ الميعاد)
فرأيت أبا الحكم وقد برق وجهه وتوقد كأنما أسلم بعد كفر، ثم نشر درجا كان في يده وأخرج منشاراً دقيقاً طويلاً صقيلاً يضحك فيه الشعاع ووضع الطست ومد أبو عبد الله رجله على الطست وهو يقول: باسم الله والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا). تقدم يا أبا الحكم فقد احتسبتها لله
فما بقي والله أحد في المجلس إلا استدار ودفن وجهه في كفيه، وبكى القوم فعلا نشيجهم، وإن عروة لساكن قار ينظر إلى ما يراد به، وكأنما ملك قد جاء إلى الأرض يستقبل آلامها بروح من السماء. ووضع أبو الحكم منشاره في اللحم إلى العظم، وإن عروة لصائم يومه ذاك، فما تضور وجهه ولا تقبض، والمنشار يأكل في عظمه الحي، وما يزيد على أن يهلل ويكبر ويسبح الله، وكأن الدار والله قد أضاء جوها كأنه شعاع ينسكب من تهليله وتكبيره؛ ودخل رجال يحملون مغارف من حديد يفور منها ريح الزيت وقد غلى فيها على النار، ودنوا فما هو إلا أن فرغ أبو الحكم وقد فار الدم منها وتفجر مثل الينبوع، فأخذها أبو الحكم يغمسها في الزيت فيسمع نشيشها فيه حتى حسم الدم. وإذا عروة قد غشي عليه، وإذا وجهه قد صفر من الدم، وقد مجد فنضح وجهه بالعرق، ولكنه بقي مشرقا نيرا يرف كأنه عرارة تحت الندى. قال أبو الحكم: ما رأيت كاليوم يا أمير المؤمنين إنه الرجل، وإنها الحقيقة المؤمنة، وإن إيمانه ليحوطه ويثبته ويسكنه وينفض عنه الجزع، ثم التفت إلى عروة يقول: جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله، لأنت والله تمثال الصبر في إهاب رجل
وما لبثنا، حتى إذا أفاق أبو عبد الله جلس يقول: لا إله إلا الله والحمد لله، ويمسح عن وجهه النوم والعرق بكفيه، وينظر فيرى قدمه في يد رجل يهم أن يخرج بها فيناديه: على رسلك أيها الرجل، أرني ما تحمل؛ فيأخذ قدمه في يده فيرنو إليها وقد سكن وحرك شفتيه،(348/48)
ثم يقلبها في يده ثم يقول لها: أما والذي حملني عليك، لقد علمت أني ما مشيت بك إلى حرام ولا معصية، اللهم هذه نعمة أنعمت بها عليّ ثم سلبتنيها أحتسبها عندك راضيا مطمئنا إنك أنت الغفور الرحيم، خذها أيها الرجل؛ ثم أضاء وجهه بالإيمان والصبر عن مثل الدرة في شعاع الشمس. . . . . .
قال أمير المؤمنين: غفر الله لك يا أبا عبد الله، وإن في الناس لمن هو أعظم بلاء منك، يا عمر (يريد عمر بن عبد العزيز)، ناد الرجل من أخوالي (يعني من بني عبس) فيقبل عمر ومعه رجل ضرير محطومُ الوجه لا ترى إلا دمامته، فيقول له أمير المؤمنين: حدث أبا عبد الله بخبرك يا أبا صعصعة، فيلتفت الرجل إلى عروة ويقبل عليه فيقول: ابن الزبير، قد والله لقيتَ البلاء، يا فقيه المدينة وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإني والله محدثك عني بخبري عسى أن يرفع عنك: فقد بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم عَبسيّاً في الأرض يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل جارف كأنه الطوفان، يتقاذف بين يديه موجا كالجبال، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد إلا صبياً مولوداً وبعيراً نضواً ضعيفاً. فند البعير يوما والصبي معي، فوضعته واتبعت البعير أطلبه، فما جاوزت ابني قليلا إلا ورأس الذئب في بطنه قد بعجها بأنيابه العُصل فاستل أحشاؤه، وإن الصغير ليصرخ، ويركض برجليه الأرض، فكدت والله أسوخ في الأرض مما رأيت، ولكني ذكرت الله واستعنت واحتسبت الصغير فتركته لقدر الله واتبعت البعير، فهممت آخذ بذنبه وقد أدركته، فرمحني رمحة حطم بها وجهي وأذهب عيني، فأصبحت لا ذا مال ولا ذا ولد ولا ذا بصر، وإني أحمد الله إليك، يا أبا عبد الله؛ فاصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. قال عروة: لقد أفضل الله عليك يا أبا صعصعة وإني لأرجو لك الجنة
قال عمر بن أبي ربيعة: وألاح إلي أمير المؤمنين أن أقبل، فدنوت إليه فأسر اليّ: إن أردت الحيلة فقد أمكنتك، فاذهب إلى أبي عبد الله فانع إليه ولده (زين المواكب)، قلت: هو والله الرأي يا أمير المؤمنين، ثم مضيت إلى عروة وقد غلبتني عيناي بالبكاء
فلما قاربته قلت: عزاءك يا أبا عبد الله؛ قال عروة: فيم تعزيني يا أبا الخطاب؟ إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها لله، قلت: رضي الله عنك، بأبي أنت وأمي، بل أعزيك (يزيْن المواكب)، فدهش وتلفَّت ولم ير إلا هشاما ولده، فرأيت في وجهه المعرفة ثم هدأ فقال: ما(348/49)
له يا أبا الخطاب؟ فجلست إليه وتحلق الناس حوالينا وتكنفونا، وأخذت أحدثه بشأنه، ووالله ما يزيد على أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنّا لله وإنا إليه راجعون، فلما فرغت من خبري ما زاد على أن قال:
وكنتُ إذا الأيام أحدثنَ هالكا ... أقول شكوى ما لم يُصبنَ حميمي
ثم رفع وجهه إلى السماء وقد تندت عيناه ثم قال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدا وأبقيت لي ثلاثة، فلك الحمد فيما أخذت وأبقيت؛ اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء، وأخذت ابنا وتركت أبناء، وايْمُ الله لئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت، سبحانك ربنا وليك المصير، قوموا إلى جهاز أخيكم يرحمكم الله، وانظروا لا تكون عليه نائحة ولا معولة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة، ومُرُوهن بالصبر للصدمة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي صبيا لها فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: وما تبالي بمصيبتي! فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت، فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند أول الصدمة
وجزاك الله خيرا عني وعن ولدي يا أمير المؤمنين، (فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين؛ وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)
محمود محمد شاكر(348/50)
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
للأستاذ عبد العزيز البشري
ليس ما يضرب فيه القلم اليوم بحثا قامت في الذهن حدوده، وبانت طرقه، واتضحت معالمه، واستشرقت مقدماته لنتائجه. إن هي إلا خواطر تجول بها ذكرى الهجرة الشريفة. هي خواطر تتوالى على النفس كما توالى مناظر الخيالة (السينما) في جريدة الأخبار مثلا. على أنها قد تجيء بحكم تداعى المعاني، وبحكم أضعف المناسبات، وأدنى الملابسات
وبعد، فليس من شك في أن مما يستدعي العجب، بل مما يكاد يستهلك كل العجب، شأن أولئك العرب إلى آخر جاهليتهم، وما صاروا إليه بعد إسلامهم بيسير من الزمان:
لقد كانوا في جملتهم، قوما أميين جهالاً، لم تفتتح عيونهم على علم، ولم يتذوقوا فنا، اللهم إلا فن الكلام، وهو غير مغن في قيام الأمم إذا أغنى إلا قليلا
لقد كانوا جاهليين حقا لا يرتبطهم بأي لون من ألوان الحضارة أي سبب، ولا تنفذ عقولهم إلى شيء مما وراء تلك البوادي التي يسكنون؛ حتى لو اضطربوا فيما يجاورهم من البلاد التي أخذت بحظ من الحضارة، بحكم التجارة ونحوها، رجعوا إلى قومهم وكأنهم لم يشهدوا شيئاً غريباً من شأنه أن يلفت أنظارهم، ويحرك أفكارهم، كأنما غلقت الأذهان وغلقت القلوب، و (إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) صدق الله العظيم!
على أنهم لم يسلخوا في الإسلام إلا صدراً يسيراً من الزمن حتى حذقوا علوم من سبقوهم إلى الحضارة وفنونهم، بل سرعان ما أنشئوا هم علوماً واستحدثوا فنوناً أوفوا بها على حضارة الزمان!
ولا ينبغي، في هذا المقام، أن يذهب عن المفكر أن ما نقل العرب من علوم غيرهم وفنونهم قد طبعوه أولاً بطابع الفكر العربي، وسوَّوه حتى مريء في مساغ الذوق العربي أيضاً، وهذا وهذا فوق ما وسعوا في آفاق هذه العلوم والفنون، واستحدثوا فيها من القضايا التي ذهبت بها إلى أبعد الغايات.
وأنت خبير بأنه إنما يبعث على العجب في أمثال هذه الغرائب هو غفلة الذهن عن وصل الأسباب بالمسببات. ولهذا قيل: إذا عرف السبب، بطل العجب. . .
ففي الحق أن العربي على ما كان فيه بحكم البيئة من الجفاء والانصراف عن إرسال الفكر(348/51)
في شيء من دواعي الحضارة التي يشهد أو يترامى إليه أمرها. . . الحق أنه - مع هذا - حديد الفطنة، سليم الطبع، مستقيم الفطرة، فلما جاءه الإسلام، وهو دين الفطرة، أذكى مواهبه، وحرر فكره، وأجلى ما كان يرين على قلبه؛ فإذا إنسان كفيء أي كفيء لأسمى النظر وعلاج جلى العظيمات في الحياة، وكذلك يمضي طلقا إلى ابتغاء المجد الحق من كل سبيل!. . .
ولقد كان من المتعين على مفكِّري العرب وقد دخلوا في الإسلام، أن يكون ابلغ سعيهم، وأول ما تتقلب فيه أذهانهم، هو هذا الدين طلباً لحفظ أصوله وتفصيل أحكامه. فجد منهم من جد في جمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بطريق الرواية عن الثقات من التابعين أو تابعيهم، ثم عن الصحابة راوياً بعد راو إلى من سمع منهم بأذنه أو رأى بعينه (ففعل النبي (ص) وإشارته كذلك من السنة)
ولقد أفنى جامعوا الحديث أعمارهم في شدة التحري والتحقيق والتثبت والتأكيد، للتمييز بين صحاح الأحاديث وموضوعاتها. بل للتمييز بين الصحاح، وتبين حظ كل منها من القوة طوعا لحظ رواتها من الثقة والدراية. ثم كان من أثر هذا أن نشأ علم جديد، هو علم (مصطلح الحديث) ولعله كان من الخير أن يدعى علم (نقد الحديث)
وفي الوقت نفسه اجتهد آخرون في استنباط الأحكام الشرعية من هذه الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، مهتدين جميعا بسلامة الفطرة، وحدة الفطنة، وصحة التفكير، ودقة الإحساس، حتى لقد ارتجلوا - في هذا الباب - قواعد وقضايا تخلب باختصارها ووضوحها ودقتها أبرع المشرعين. ولأسق طائفة يسيرة منها على جهة التمثيل: الضرورة تقدر بقدرها - الأصل بقاء ما كان على ما كان - إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل - ما جاء على أصله لا يسأل عن علته - لا اجتهاد مع النص - الاعتراف حجة قاصرة - اليد دليل الملك - المعروف عرفا كالمشروط شرطا - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. . . الخ
ولعمري لم يكن كل هذا الإبداع والابتكار أثراً لدرس مدرس أو تقليب للفكر في كتاب مكتوب، إن هو كما قلنا من فضل سلامة الفطر وحدة الذكاء، وصحة التفكير
وإذا كان علماء العرب قد نقلوا بعد ذلك علم المنطق إلى لغتهم عن اليونانية فإنهم سرعان(348/52)
ما أجالوا في قضاياه هذه الأذهان الحادة وأراقوا عليها تلك الأفكار الخصبة، فابتكروا ما ابتكروا، واستحدثوا ما شاء الله أن يستحدثوا، طلباً لوفاء هذا العلم على الغاية من الهداية إلى صحة التفكير، وابتغاء النتائج الحق من صحاح المقدمات.
ثم لم يكفهم هذا، فلقد نقلوا عن اليونانية أيضاً علم (آداب البحث والمناظرة)، وغاية هذا العلم وسائل المجادلة بين المتجادلين، وإلزام كل من الطرفين حده في الخصام، وبيان الطرق للأدلاء بحجته، أو إدحاض حجة خصمه. وكذلك تضحي المناظرة مجدية منتجة، تظهر الحق على الباطل بقيام الحجة الواضحة غير مضيعة بين سفسطة ومهاترة، أو نقل لموضوع النزاع. على أن العرب كذلك طبعوه بطابعهم، وأفاضوا عليه من سابغ تفكيرهم، ووصلوه بفنونهم، وأجروا فيه الأمثلة والشواهد مما يعرض لما يعالجون من العلوم
أما وقد عرضنا للقضايا المسلمة وللمنطق ولآداب البحث والمناظرة فقد حق علينا أن نقف وقفة قصيرة لعلنا نرفه بها عن القارئ بعض الترفيه
لا غرو عليّ إذا زعمت أن تسعين في المائة، إن لم أقل تسعة وتسعين في المائة، من المناقشات والمجادلات التي تدور بيننا، نحن المصريين، سواء أكانت باللسان في المجالس الخاصة، أم بالقلم في الصحف السيارة، لا يمكن ان تنتهي بالتسليم من أحد المتحاورين. ذلك بأننا، حتى الكثير من متعلمينا، قل أن يعنوا في جدلهم بترتيب المقدمات المنطقية الترتيب الذي يفضي بها، في صحيح القياس إلى النتائج الصحيحة. ولقد يدفعنا الحفاظ للنفس، والرغبة في الفلج والخصم أن ننكر القضايا المسلمة. أما نقل موضوع النزاع، إذا سطت بنا حجة الخصم، فهذا ما يقع عندنا بغير حساب!
ودعنا الآن من المجادلات العلمية أو الفنية، وخذ بنا في ألوان الحوار التي تجري كل ساعة بين الأصدقاء وغير الأصدقاء:
يقول لك فلان: إن فلانا صنع كيت وكيت مما يتعاظمك ويروعك لضخامته أو لتعذر أسبابه، فإذا باديته ولو بالشك فيما يزعم ابتدرك بقوله: (دليه لأ؟) كأن الأصل أن تضاف إلى الناس الأفعال أو الأقوال، وعلى المنكر أن يقيم هو الدليل على العكس، أي العدم أو استحالة الوقوع، ناسين أبسط القضايا وأوضحها: (البينة على من ادعى)!
ويقول لك آخر: إن فلانا يرتكب كذا وكذا من المؤثمات؛ فإذا أنكرت منه هذا القول قال:(348/53)
في غير ورع ظاناً أنه يقيم الحجة عليك: كيف وأنا أقارف معه تلك المؤثمات؟! وقد فاته أن الاعتراف حجة قاصرة على النفس، فإذا أشرك الغير كان دعوى تحتاج إلى الدليل!
ولقد تروي، في بساطة، ما انتهى إليك من خبر نشرته إحدى الصحف، أو جعلت تردده المجالس من أن فلانا اتهم في كذا؛ فيبادرك رجل من شيعته طبعا! حضرتك مبسوط من كده!. . . وتروي أن الخبر قد التبس على الغبي بالأمنية، اللهم إلا أن يكون فاسد الضمير فاجر النية!. . .
ومما يضحك ويبكي نقل موضوعات النزاع، إما فراراً من لزوم الحجة، أو طلباً للكيد والأذى، أو جهلاً وشدة غباء.
وأذكر نموذجاً واحداً مما وقع لي في هذا الباب على جهة التمثيل أيضاً. ولم يكن ثمة موضع نزاع، بل كان هناك سؤال استحال في غير موجب إلى نزاع:
من بضعة أيام طلبت عيادة طبيب الأسنان ليخلع ضرسا ألح عليّ ألمه، وورم له صدغي. . . وبينما أنا في غرفة الانتظار ريثما ينتهي الطبيب من علاج من تقدمني، إذا رجل حسن السمت، أنيق البزة، ويبدأ بالتحية، فأردها بأحسن منها. . . وما يكاد يأخذ مجلسه حتى يطارح الحديث كعادتنا نحن المصريين إلى من نعرف ومن لا نعرف. فمادته الحديث على ما بي. في الأسباب العامة طبعا، ومن حديثه أدركت أنه رجل مزخرف الثقافة مزوَّق اللسان؛ ثم إذا يفاجئني بهذا السؤال: حضرتك من أهل الريف؟ فأجبته من فوري، لا يا سيدي، فأنا مولود في القاهرة، وما زالت موطني إلى الآن. فردّ عليّ في ثورة عنيفة: (ليه! هيه العيشة في الريف وحشة؟!)
لقد ثار ثائري، ونهضت لتوي، وخرجت مسرعا إلى داري مؤثرا وجع الضرس وضرباته على هذا اللون من الحوار!
إذن، لقد كان عليّ قبل أن أخلق، وأن أولد قبل أن أولد؛ حتى إذا بلغت سن التمييز في النشأة الأولى، كان على القدر، أن يخيرني الولادة في الريف والحضر، فأختار أول الامرين، ثم أتبخر في الأثير، ثم أبعث في الريف من جديد! وإلا كنت امرءاً آثماً يستحق اللوم والتأنيب!
وبعد هذه الوقفة المريحة أو المتعبة المعنية نرجع سياقة الحديث على اسم الله:(348/54)
لقد اقترنت عناية السابقين في الإسلام بعلوم الدين، بعناية غيرهم بعلوم اللسان، من نحو وصرف وأدب وبيان. وذلك لأنها الوسيلة إلى فهم لباب الدين.
وفي أعقاب هذا أو على الأدق، في أثنائه، التفت مفكرو العرب إلى المنطق، على أنه مما ينظم الفكر وييسر الطرق لاستنباط الأحكام الشرعية على الوجه الصحيح. ثم اتجهوا كذلك إلى نقل قوانين البحث والمناظرة على ما تقدم به الكلام
لم يمنع اشتغال مفكري العرب بهذا وهذا وذلك من أن يلتفتوا إلى علوم الدنيا من رياضة وهندسة وطب وفلك وغيرها. فسرعان ما جادوا وما برعوا، وسرعان ما أجلوا ووسعوا، وما ابتكروا وما اخترعوا. . . ولم ينسلخ من الزمن غير يسير بالإضافة إلى أعمار الأمم، حتى صارت هذه العلوم إليهم وكادت تقطع صلتها بغيرهم، فأصبحوا هم المتحدثين فيها والمتحدثين عليها بين أمم الأرض جمعاء. وكذلك أنشئوا أجمل حضارة وأزكاها في هذا العالم!
فإذا تعاظمتك تلك النهضة في مثل ذلك الزمن، فإن مما يدفع عنك العجب أنه قد لاقت تلك الفطرة العربية دين الفطرة. . . دين صاحب الهجرة.
عبد العزيز البشري(348/55)
مناجاة الهلال
للأستاذ محمود غنيم
ماذا وراءكَ، مرحباً بك عاما؟ ... رحماكَ إن الكون في الدَّم عاما
لم أدر حين بدا هلالُك أحدباً ... أحملتَ غصناُ أم شهرتَ حساما؟
وجه البسيطة عابسُ متجِّهمُ ... فاجعل هلالك ثغره البسَّاما
جفِّف دم الدنيا وكفكفْ دمعها ... وانشر عليها رحمةً وسلاما
ما بال ظهرك يا هلال مقوَّسا ... أحملت أعباء السَنين جِساما؟
أصبحت في زِيِّ الكهول فهل تُرى ... قد شبتَ مثلهمو وكنت غلاما؟
ما بال وجهك شاحباً يا ابن الدجى ... أفنيتَ مثلي في الملاح غراما؟
أم بِتَّ تخشى الحربَ أن ترقى إلى ... أفق السماء فتلحقَ الأجراما؟
في الجو طير كاَلحمام محلِّقٌُ ... لكنه إن طار كان حِماما
فأحذر فإن الحرب منك قريبة ... والجوَّ يمطر يا هلال سهاما
وانصح خيالك في البحار وقل له: ... أوصيك ألا تقرَبَ الألغاما
العالم العُلويُّ سر غامضٌ ... فاكشف لأهل الأرض عنه لثاما
هل ثمَّ أغراض وثمَّ مطامعٌ ... تُجري الدماء به وتَبْري إلهاما؟
أهناك خَلْقُ مثلُنا يقضي كما ... نقضي الحياة تطاحناً وخصاما؟
زعموك مسكوناً، وليتك بلقعٌ ... إن كنت تأوي يا هلال أناما
زعموك مسكوناً كأمك ليتها ... كانت عشية أنجبتك عُقاما
قاد الممالكَ معشرٌ متسلِّطٌ ... هَدَمَ السكينةَ حائطاً ودِعاما
فتشتُ في عصر الضياء فلم أجد=إلا شعوباً تشبه الأنعاما
أمم تسبّح باسم أفرادٍ، كما ... كانت قديماً تعبد الأصناما
كم أمةٍ إن يهتدِ الفرد اهتدت ... وتهيم في الظلماتِ إن هو هاما
هذا زمان الفرد ليس ببارح ... هيهات ما دام السَّوادُ سَواما
قل للهلال إلام تسري في الدجى؟ ... يا إبن السبيل أما نويت مُقاما
ساقتك كفُّ ساقت الدنيا فهل ... تدري علام تسوقها وإلاما؟(348/56)
حَّتام تُدلج في الظلام كعاشق ... يخشى الرقيب ويتقي اللواما؟
أتبيت في جنح الليل موكلاً ... بالكون تحرسه إذا هو ناما؟
هم شبهوك بِمنْجَل من فضة ... ماذا حصدت، أتحصد الأياما؟
يرد الأنامُ عليك أنت معمَّر ... وهمو يزورون الحياة لماما
يا رُبَ قوم ألهُوك فأومئوا ... لك بالتحية سجداً وقياما
أتت القرون عليك وهي عديدة ... وأراك طفلاً ما بلغت فطاما
يا ابن الدجى حدِّثْ أعرك مسامعي ... فلأنت أصدقُ من (حذام) كلاما
أشهدتَ مجد الشرق في ريعانه ... وسناه إذ كان الوجود ظلاما؟
أشهدت رسْل الله تذرع أرضَه ... تتلو الشرائع فيه والأحكاما؟
أشهدت عيسى والكليم كليهما ... يتلقيان الوحي والإِلهاما؟
أشهدت أحمد يوم هاجر أحمدٌ ... يطوي الضلال وينشر الإسلاما؟
إذ جاء يحمل في اليمين هداية ... للعالمين وفي الشمال حساما
فغزا بشرعته الضمائر قبلما ... يغزو بحدِّ حسامه الأجساما
كانت مبادئه القويمة فيلقاً ... يغزو به الأفكار والأفهاما
فإذا بتيجان الملوك وإن علت ... أقدارهم من حوله تترامى
صف لي زمان الراشدين وزهدَهُم ... والأرضَ إذ كانوا لها حكّاما
بالله كيف رعى الشعوبَ وساسها ... من كان يرعى الشَّاَء والأغناما؟
صف لي بربك قادة الإسلام إذ ... فتحوا العراق ببأسهم والشاما
قل لي بأية قوةٍ جبارة ... نزلوا بمصر وزلزلوا الأهراما؟
ما كان جند المسلمين أشد من ... أعداءهم بأساً ولا إقداما
لكنه الإيمان في ساح الوغى ... ربط القلوب وثبت الأقداما
شاهدت دولة (عبد شمس) فأنْعَها ... وأنعت (معاوية) لنا و (هشاما)
واذكر لنا بغداد كيف رايتها ... تحوي العلوم وتجمع الأعلاما
وأذكر لنا صَلَفَ الرشيد وكبرَه ... لما تحدى في السماء غماما
وأعد على أذنيَّ خطبة (طارق) ... (البحر خلفاً والعدوَّ أماما)(348/57)
أشهدت شعباَ من سلالة (يعرَب) ... في الغرب شاد حضارة ونظاما؟
ما خطب هذا الشعب كيف وجدته ... يقظان إذ كان (الفرنج) نياما؟
حدِّثْ عن الإسلام ذكِّر أهله ... وقِّع لنا تاريخه أنغاما
مجد إذا أجتر الزمان حديثه ... خفض الزمان جبينه إعظاما
ما كان أخلق أن يدوم لأهله ... لو أن مجداً قبل ذلك داما
يا ابن السبيل ألا حملت رسالتي ... قد سار ركبك يسبق الأوهاما
حيِّ العروبة ثم طفْ ببلادها ... مترفقاً واستنهض الأقواما
استرسل الأقوام في أحلامهم ... فاقطع عليهم هذه الأحلاما
واعطف على البسفور والمس جرحه ... إنا نُحسُّ لجرحه آلاما
سترى البعول هناك قد ناحوا على ... زوجاتهم وترى النساء أيامى
وترى كهولا ودعوا أبناءهم ... في مهدهم وترى بنينَ يتامى
وترى أناساً فيه لا مأوى لهم ... أمست أسرتهم حصى ورَغاما
فأذهب إليه باسم مصرَ مواسياً ... عزِّ الأقارب فيه والأرحاما
احمل لهم منا السلامَ مع الأسى ... لا تنسَ أنَّ لهم عليك ذِماما
لا تنس أنك رمزُ مصرَ ورمزُهم ... بك يا هلال نزيِّن الأعلاما
(الإسكندرية)
محمود غنيم
مدرس بالمعلمين(348/58)
نشيد العام الهجري
للأستاذ علي الطنطاوي
سلوا عنا رمال الجزيرة، وجنان الشام، سهول العراق
سلوا ربوع العجم، ومجاهل الترك، وسفوح القفقاس
سلوا بطاح إفريقية، ومغاني الأندلس، ومساكن الإفرنج
سلوا حفافي الكنج، وضفاف اللوار، وأطراف الدانوب
سلوا عنا كل أرض في (الأرض). . . فعندها كلها خبر من بطولاتنا وتضحياتنا، ومفاخرنا وأمجادنا، وعلومنا وفنوننا. نحن (المسلمين)
نحن (المسلمين). . . هل روى رياض المجد إلا دماؤنا؟
هل زانت جنات البطولة إلا أجساد شهدائنا؟
هل عرفت الدنيا أنبل منا أو أكرم، أو أرأف أو أرحم، أو أجل أو أعظم، أو أرقى أو أعلم؟
نحن (المسلمين). . . لنا في كل أرض شهيد قضى في سبيل الإسلام والسلام والإيمان والأمان، وتحت كل سماء رفرف لنا علم، وامتد لنا حكم، فكان الحكم المسعد العادل، وكان العلم الظافر الغلاب!
نحن بنينا الكوفة والبصرة، والقاهرة وبغداد
نحن أنشأنا حضارة الشام والعراق والأندلس
نحن شدنا بيت الحكمة، والمدرسة النظامية، وجامعة قرطبة، والجامع الأزهر
نحن علمنا أهل الأرض، وكنا الأساتذة وكانوا التلاميذ. . . نحن (المسلمين)!
منا أبو بكر وعمر ونور الدين وصلاح الدين، منا خالد وطارق وقتيبة وابن القاسم، منا أبو حنيفة والشافعي، منا البخاري وابن حنبل، منا الغزالي وابن رشد، منا إبن سينا والرازي والفارابي والبيروني، منا الخليل والجاحظ وأبو حيان، منا أبو تمام والبحتري والمتنبي والمعري، منا إسحاق الموصلي وزرياب. . . لقد أنجبنا خلفاء وقواداً، ومحدثين وفقهاء، ورياضيين وأطباء، ولغويين وكتاباً وشعراء وموسيقيين. . . لقد أنجبنا مائة ألف عظيم وعظيم. . . نحن (المسلمين)!
تنظم في مفاخرنا مائة إلياذة، وألف شاهنامة، ثم لا تنقضي أمجادنا ولا تفنى، لأنها لا تعد(348/59)
ولا تحصى
من بعد معاركنا المظفرة التي خضناها؟ من يحصي مآثرنا في العلم والفن؟ من يستقري نابغينا وأبطالنا. . . إلا الذي يعد نجوم السماء، ويحصي حصى البطحاء، ويستقري رمال الدأماء!
اكتبوا (على هامش السيرة) ألف كتاب، و (على هامش التاريخ) مثلها، , وأنشئوا مائة في سيرة كل عظيم، ثم تبقى السيرة ويبقى التاريخ كالأرض العذراء والنجم البكر!
نحن (المسلمين). . .
هل تحققت المثل البشرية العليا إلا فينا؟ هل عرف الكون مجمعاً بشريا ً - إلا مجمعنا - قام على الأخلاق والصدق والإيثار؟ إن بين واقع الحياة وبين أحلام الفلاسفة وآمال المصلحين، لحرباً أزلية باقية، ما اصطلحا وما تواءما إلا في صدر الإسلام، يوم كان الواحد منا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويؤثره عليها ولو كان به خصاصة. وكانوا أطهاراً في أجسادهم وأرواحهم ومادتهم ومعناهم، وكانوا لا يأتون أمراً ولا يدعونه، ولا يقومون ولا يقعدون، ولا يذهبون ولا يجيئون إلا لله. قد أماتوا الشهوات من نفوسهم، فكان هواهم تبعا لما جاء به القرآن. . .
لقد كنا خلاصة البشر، وصفوة الإنسانية، وجعلنا حقاً واقعاً ما كان يراه الفلاسفة والمصلحون أملاً بعيدا، نحن (المسلمين)!
نحن (المسلمين). . قوتنا بإيماننا، وعزنا بديننا، وثقتنا بربنا، وقانوننا قرآننا، وإمامنا نبينا، وأميرنا خادمنا، وضعيفنا المحق قوي فينا، وقوينا عون لضعيفنا، وكلنا إخوان في الله، سواء أمام الدين. . . نحن (المسلمين)!
نحن (المسلمين) ملكنا فعدلنا، وبنينا فأعلينا، وفتحنا البلاد فكنا الأقوياء المنصفين. سننّا في الحرب شرائع الرأفة، وشرعنا في السلم سنن العدل، فكنا خير الحاكمين، وسادة الفاتحين، نحن (المسلمين)!
أقمنا حضارة، فكانت خيرا كلها وبركات، حضارة روح وجسد، وفضيلة وسعادة، فعمّ نفعها الناس، وتفيأ ظلالها أهل الأرض جميعا
نحن (المسلمين). . . لسنا أمة كالأمم تربط بينها اللغة، ففي كل أمة خيّر وشرّير؛ ولسنا(348/60)
شعباً كالشعوب يؤلف بينها الدم، ففي كل شعب صالح وطالح؛ ولكنا جمعية خيرية كبرى، أعضاؤها كل فاضل، من كل أمة، تقيٍّ نقيٍ، تجمع بيننا التقوى إن فصل الدم، وتوحد بيننا العقيدة إن اختلفت اللغات، وتديننا الكعبة إن تناءت بنا الديار. . .
أليس توجهنا كل يوم خمس مرات إلى هذه الكعبة رمزاً إلى أنها مركز الدائرة وقطب الرحى، تدور عليه وتطيف به، مهما اتسمت الرقعة وطال المحيط؟
نحن (المسلمين). . . ديننا الفضيلة الظاهرة، والحق الأبلج، لا حجب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار. هو واضح وضوح المئذنة. . . أفليس فيها ذلك المعنى؟ هل في الدنيا جماعة أو نحلة تكرر مبادئها وتذاع كل يوم، عشر مرات، كما تذاع من مشارق الأرض ومغاربها عشر مرات كل يوم، مبادئ ديننا نحن (المسلمين): أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله؟
نحن (المسلمين). . . لا نهن ولا نحزن، ومعنا الله، ونحن نسمع كل يوم ثلاثين مرة هذا النداء العلوي المقدس، هذا النشيد القوي: الله أكبر
نحن (المسلمين). . . البطولة سجية فينا، وحب التضحية يجري في عروقنا، لا تنال منها صروف الدهر، ولا تمحوها من نفوسنا أحداث الزمان. . .
نحن (المسلمين). . . كم حلّ بنا من أرزاء، وكم رأينا من مصائب، وكم نزل بساحتنا من كوارث، فهل باد روح البطولة من بين جوانحنا؟
لا. لا. لا نكون مسلمين إذا لم نكن أعزّ في نفوسنا من أهل الأرض جميعاً، وإن لم نعد إلى ربنا، ونستلهم تاريخنا، ونعد أمجادنا، نحن (المسلمين). . . المستقبل لنا. . . قد تيقظنا فلن ننام بعد أبداً. . . المستقبل لنا نحن (المسلمين)!
دمشق - (المدرسة الثانوية الأولى)
علي الطنطاوي(348/61)
من أسرار غزوة بدر
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
المشهور بيننا أن المسلمين لما انتهوا من غزوة بدر اختلفوا في شأن من أسروه من المشركين، فرأى فريق قتلهم، ورأى فريق أخذ الفداء منهم، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليشاورهم فيما يفعله مع أولئك الأسرى، وكان يأخذ بالشورى في أموره، ليعلم أصحابه الأخذ بها، وإن كان هو غنياً عنها، لآن من يكون معه وحي السماء، لا يحتاج إلى رأي أهل الأرض، وهو عرضة للخطأ والصواب.
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم: ما تقولون في هؤلاء؟ (يعني الأسرى)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك واهلك، استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار.
وقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك فدعهم نضرب أعناقهم. مكّن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه. ومكن حمزة من العباس (أخيه) فيضرب عنقه. ومكنِّي من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر!
وقال عبد الله بن رَواحةَ الشاعر المعروف: يا رسول الله، أنظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. . . وهو رأي يتفق مع طبيعة الشعراء في تأثرهم بالعاطفة أكثر من العقل، وشأن العاطفة المغالاة في الحب والبغض، وشأن العقل الاعتدال فيهما.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم تركهم ودخل، فقال ناس من أهل المجلس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس منهم: يأخذ بقول عمر. وقال آخرون: يأخذ بقول عبد الله ابن رواحة. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله لَيُلينُ قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، ويشد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة. وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فَمنْ تَبعنِي فانه مِني، ومَن عصاني فانك غفورٌ رحيم). ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: (إنْ تُعذِّبهمْ فانهم عِبَادُكَ، وإن تَغفرْ لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: (ربِّ لا تذَرْ عَلَى الأرض من الكافرين دَيّاراً). ومثلك يا عبد الله بن رواحة كمثل موسى، قال: (رَبَّنا اطمسْ على أموالهمْ واشدُدْ على(348/62)
قلوبهم، فلا يُؤمِنوا حتى يَرَوا العذابَ الأليمَ).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم أنتم عالةٌ، فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. . .
وروى إبن عباس عن عمر أنه قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر: ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي على أصحابك من أخذِهم الفداء. لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منهم - فأنزل الله عز وجل عليه (ما كانَ لِنَبيّ أنْ يَكونَ لَهُ أسْرى حَتى يُثخنَ في الأرْضِ، تُريدوُنَ عَرَضَ الدُّنيا واللُهُ يُريدُ الآخِرَةَ، واللهُ عزيزٌ حَكُيم. لَولا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لمسّكُم فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظُيم)
فهذا هو المشهور بيننا في سبب نزول هاتين الآيتين (67، 68) من سورة الأنفال التي نزلت في غزوة بدر؛ وهو يفيد أن الله تعالى غضب على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه لهذا العمل الإنساني العظيم الذي أشار به أبو بكر، من البرّ بالأسرى والرفق بهم. وهذا مع أن الذي أشار به أبو بكر هو الذي يتفق مع ما جاء به الإسلام في شأن الأسرى، ومع ما امتازت به الحروب الإسلامية على الحروب السابقة من الإحسان إليهم. على أن الله قد نصر المسلمين في غزوة بدر نصراً عظيما، وشفى نفوسهم من صناديد قريش، فقتلوا فيها كلهم، ولم يفلت إلا قليل منهم، وكان منهم في الأسر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فقتلهما رسول الله في طريقه إلى المدينة، ولم ينتظر بهما ما فعله في غيرهم من الأسرى. ولما اختار رسول الله رأي أبي بكر في الفداء قال له عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، قال إبن مسعود: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء
ولم يبق بعد هؤلاء في الأسرى إلا العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا عقيل بن أبي طالب أخو علي، وإلا أمثالهما ممن لم يكن من أولئك الصناديد. وقد حقق(348/63)
الله في كثير منهم رجاء أبي بكر (لعل الله أن يتوب عليهم) فأسلم العباس بن عبد المطلب، وأسلم عقيل بن أبي طالب، وأسلم كثير غيرهما من أولئك الأسرى، والرأي الذي تحققه الأيام لا يليق بحكمة الله تعالى أن يغضب من إيثاره على غيره ذلك الغضب
وإن أرى أن الإسلام إذا كان قد أباح قتل الأسير مع ما أباحه فيه من الاسترقاق والإطلاق بفداء أو بدون فداء، فإنه يجب ألا يصار إليه إلا عند الضرورة القصوى والأسباب الموجبة. وإنه ليعجبني ما روى عن الحسن وعطاء رحمهما الله تعالى أنهما قالا: لا يُقتل الأسير، ولكن يُفادى أو يُمنُّ عليه، وكأنهما اعتمدا في ذلك ظاهر قوله تعالى: (فإذا لقيتُمُ الّذينَ كفرُوا فَضرْبَ الرِّقَابِ حتى إذا أثخنْتموهم فَشُدُّوا الوثَاقَ فإمَّا مَنَّاً بَعْدُ وإمَّا فِدَاءَ حَتْى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها) - المبسوط للسرخسي ج10 ص24 - وهذا الذي يذهب إليه الحسن وعطاء في الأسير هو الذي تذهب إليه القوانين الحربية الحديثة
ولهذا كله لا أرى أن السبب في نزول آيتي الأنفال هو إنكار الفداء الذي أشار به أبو بكر واختاره النبي صلى الله عليه وسلم على رأي عمر وعبد الله بن رواحة، ولاسيما أن هذا الفداء في غزوة بدر لم يكن أول فداء أخذه النبي (ص) من الأسرى، فقد أخذ الفداء فيما حصل قبلها من السَّرَايا، ولم ينكر الله عليه أخذه له، وكان ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة والطائف، فرصد فيها عيراً لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة من تجارتهم، فيها عمرو بن الحَضرمي، وعثمان ونوفل ابنا عبد الله المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فقتلت سرية عبد الله بن جحش بعضهم، وأسرت عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، واستاقت العير إلى المدينة، فبعثت قريش في فداء الأسيرين، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم فداءهما. فأما الحكم بن كيسان فاسلم وأقام بالمدينة حتى أستشهد يوم بئر معونة، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة ومات بها كافراً
والذي أراه أن تينك الآيتين نزلتا في أمر آخر حصل في غزوة بدر، وذلك أن تلك الغزوة كانت أهم قتال بدأ به المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة، وكانوا لا يزالون في نشأتهم قلة بالنسبة إلى قريش، وهذا إلى غيرهم من المشركين الذين تعج بهم الجزيرة، فاهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمرها، وأمر الله فيها المسلمين ألا تأخذهم في قتال المشركين راْفة ولا شفقة، وأن يثُخنوا فيهم إذا مكن لهم منهم، حتى يهي أمرهم، ويضعف شأن الشرك(348/64)
بضعفهم، ويكون ما يحصل لهم عبرة لغيرهم من المشركين. وفي هذا يقول الله تعالى في سورة الأنفال (سَأُلِقي في قلوبِ الّذينَ كَفَروا الرُّعبَ فاضربوا فَوقَ الأعناقِ وَاضْرِبُوا مِنهُمْ كلّ بَنَانٍ) - 12
ولكن المسلمين في هذه الغزوة لم يكادوا يرون النصر فيها بعد أن قتل الله من قتل من صناديد قريش حتى أدركتهم تحيزتهم الأولى في الجاهلية، واستبدلوا الأسر في المشركين طمعاً في الفداء بالإثخان فيهم، والضرب فوق أعناقهم
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحاً في نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كرة العدو - رأى رسول الله في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال
فهذا هو الإثخان الذي نزل فيه قوله تعالى في الآيتين السابقتين (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وهو إثخان تبيحه الشرائع العادلة، ويقتضيه الحزم والتدبير، وقد أمر الله به في أثناء القتال، ولم يأمر به في الأسرى بعد الانتهاء منه، كما هو المشهور في سبب نزول تينك الآيتين
وأما عرض الدنيا الذي قصده الله تعالى بقوله: (تريدون عرض الدنيا) فليس هو الفداء الذي أباحه الله لنا بعد القتال، وإنما هو ما حصل منهم أثناء القتال من إيثار الأسر على القتل طمعاً في الفداء، والقتال في الإسلام لا يصح أن يكون لغرض القتل من أغراض الدنيا، لأن ذلك هو قتالهم في الجاهلية للسلب والنهب والإسلام أشرف من أن يباح فيه القتال لذلك الغرض
وهذا المعنى الذي نقوله في تفسير الآيتين هو الظاهر منهما، لأن العتاب فيهما لم يرد إلا على نفس الأسر، أما تفسيرهما المشهور فالعتاب فيه على الفداء، وهو إنما يصح تفسيرا لمثل: كان لنبي أن يبقيُ على أسرى. وقد قال أبن السبكي في تفسيرهما: إن المعنى ما كان لنبي غيرك أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. فجعل هذا من خصائصه صلى الله(348/65)
عليه وسلم، وهو تفسير يخالف التفسير المشهور أيضاً، ولكنه بعيد عن نظم الآية، والذي يتفق مع نظمها هو تفسيرنا.
عبد المتعال الصعيدي(348/66)
من وحي الصحراء
محمد ينبوع العبقريات
للأستاذ صلاح الدين المنجد
تعالى أغرودتي أسمعك نشيد فتى الصحراء، الذي عشقته الرمال، وقَبّلته الشمس، وحضنه الغار، وحنَتْ عليه الجبال. . .!
تعالى. . . فإنّ هذا الفتى الجميل، ذا العينين السوداوين، والبشرة الزهراء، قد فَتنَ الدنيا فهي تناغي اسمه. . . وخلب القلوب فهي ترفُ لذكرهِ، وأعشى بنوره العيون فهي تَغضّ لمرآه!. . .
لقد كان هذا البطل يا فتاتي بشراً وسحراً ورحمة. . . وكان ينبوع نور ومصدر هدى. . . إن عالمه مملوء بالترانيم والتسابيح فأنصتي. . . أنصتي إليه. . .!
ليتك رأيته يا أغرودتي وهو يرعى الغنمَ فوق البطاح. . . يرف حوله الطُهر والصفاء. وليتك سمعت نجوى الرمال، إذ رأته، إلى الرمال. . . وليتك رأيته تحف به تلك العصبةُ من قريش فتنصره وترعاه. . . وليتك بصرت بالنور يتألقُ في حواشي الصحراء، ويتوهجُ في قمم الجبال. . . إذن، لرأيتهِ سيداً بطلاً!. . . ولسمعت حديثاً عجباً!. . . ولبصرتِ بما يذهل ويعجب!. . .
لقد روَّق الليلُ. . . ولَفّ الوجودَ. . . كان ليلَ الجاهلية والأوثان. . . وإذا بالّلهبِ الزاهي يتمايل في مكة العروس. . . وإذا بفتى الصحراء يخطو في الزمن. . . يدعو الناسَ إلى الهدى. . . إلى الله. . .!
لقد رفت حوله طيوف الأجيال. . . فغازلته. . . وإذا به يجمع في نفسه العظيمة تلك العبقريات التي ظهرت منذ بعيد. . . لا، لا. . . بل جمع عبقريات السنين الخوالي والسنين القادمات. . .
لقد مادت الصحراء وهي سكرى إذ رأته، وضجت الرمال وهي نشوى إذ غازلته. . . فراحت تقفزُ متوثبةً نحو البيت العتيق تهزج وتقول:
هذا فتانا. . . هذا فتانا
يهدي الدنيا ويحيي الوجود. . .(348/67)
هو لنا يا رجالُ فلن تؤذوه. . .
هو ابنُ الصحراء. . . فسيقهر العالم
اسعي يا رمالُ إليه. . . وقبلي قدمَيه. . .
ثم أنفذي إلى عيون مناوئيه. . .
ألا تسمعينه يا أختاه. . . ألا تسمعينه!
إن نشيدَه رخيمٌ ساحر!. . .
إن قرآنه معجز باهر!. . .
إن لحنه عبقريٌ بارع!. . .
انظري. . . انظري يا أختاه. . .
إن الجان ينصتون إليه. . .
هاهم أولاء الشياطين يفزعون منه
لقد تمايلت بنات الجبل العابثات لهذا القرآن
هاهنّ أولاء يرددنه بزهو فرحات
يقفزن ليودعْنَه الكهوف، ويسمعنه الأودية ويلقنْه بنات السهول
اسمعي يا أختاه صداه. . . فلقد عمّ وانتشر. . .
فالله يحفظه يا أختي ويرعاه. . .!
أيتها النسيمات. . . تعالي فاحملينا إليه. . . علنا نقبل أقدامه. . . ونسجو بين يديه. . .
ومضى محمدٌ يا فتاتي. . . وجاء الهدى. . . وتمت المعجزة!
يا لله! أفي يوم وليلة. . . تهدم الأوثان. . . وتحطم الآلهة!
أفي يوم وليلة تُهدي قلوبٌ. . . وترجع إلى الله نفوس. . .!
يا للمعجزة! يا لعظمتك يا محمد. . . يا لسموَّك أيها القرآن!
لقد ردّدوه يا فتاتي فخروا سُجّداً. . . وتلوه فشفيت به صدورٌ وبرئت أرواح. . . وكانت معجزة في الصحراء. . .
انظري. . . أغرودتي. . . انظري
إن هذا النور الذي يرقص على سفوح يثرب، ويسيل من قمم أحد، ما يزال يشع ولا يخبو.(348/68)
! لقد كانت تلك الرمال الشقر ينبوعه الثَّرّ. . . ولن ينضب وعيشك ما دام في تلك الصحراء رمال. . . وفي مكة كعبة. . . وفي الدنيا إله. . . وعند الناس قرآن!
يا لروعة هذه الشعلة المتوثبة ويا لجلالها. . .! لقد هبَّت عليها الرياح الهوج. . . ولعبت بها الأيادي السود. . . وأقسموا ليطفئونها بأقوالهم ودمائهم. . . ولكن الشعلة مازالت تتوثب ضاحكة جذلى، رهيبة مخيفة، إنها تصعد قوية زاخرة، لا تعبأ بالشركِ ولا تحفل بالدسيسة. . . إنها من نور الله. . . إن فيها قوة زلزلت الأرض. . . قوة ما وقف أمامها كسرى ولا أعوانه. . . وقيصر ولا خلانه. . . لقد تداعت لرؤيتها القصور الشمُّ على شواطئ دجلة وجنبات فارس، وعربدت لها المروج الخضر في سفوح الأندلس وشطئان المغرب. . . إنها ما انطفأت أبداً. . . ولكنها ما تزال تعلو وتسمو
لقد كان هذا النور يا أغرودتي مباركاً ليناً، كان يلمس القلوب الوجيعة فيبرئها، وينفذ إلى الصدور المظلمة فيضيئها، ويدغدغ النفوس المفجوعة فيواسيها. . . فما للقلوب اليوم تصدف عنه، وما للنفوس لا تَحِنُّ إليه. . .؟
يا حسرتا عليها يا فتاة. . . إنها أشعة الجمال. . . إنها ومَضات الإيمان. . . إنها من نور الله. . .!
وما الحجاز يا أغرودتي لولا محمد وأشعة محمد! أكان الناس يذكرون تلك البطاح لولاه. . .؟ وماذا كانوا يقولون بربك. . .؟ أيقولون بلاد الرعاة أم مرابع الخيام أم وأدة البنات. . .؟ لا وفتاك يا أغرودتي. . . لولا محمد لما كان هناك حجاز، ولما رفّت إليه قلوب وعشقته نفوس، ولما كان للعرب أمر في الدنيا ولا اسم مشرق في التاريخ. . .! (ولكانت تلك البقاع سماء من غير أضواء، وأصواتاً من غير أصداء، ومساكن من غير أحياء)
فاضحكي لهذا النور، وعبّي من هذا الينبوع. فلقد تدفق من حراء، ثم سقى الصحراء، ثم أقبل يتهادى بين زهور دمشق وعطور الغوطة، ثم فاض فرقص له النخيل وصفق له النيل حتى أدرك البرانس. . . وبلغ هملايا. . .
اللهم إنه دينك الذي أحببت، أتممته ورضيته لنا، فبارك لنا فيه، واهدنا إليه. إنك أنت الهادي الحكيم. . .
وأنت يا قلب!(348/69)
حدثني. . . من يأخذني إلى تلك البقاع. . . أستنشق عطر الخزامي، وأطأ الرمال التي قبلت أقدام الرسول
حدثني. . . كيف أرى الغار العظيم، ورأى الجبل الأشم، وأهبط الوادي الهادئ. . . وأرى مكة العروس متمددة فوق الرمال. . .!
حدثني. . . متى تقف أمام قبر البطل المشرّع، والفارس المصلح. . . أمام خالق أمة، وواضع شريعة. . . فتخشع في روضته وتردد ألحانه وقصيدته وتنادي:
السلام عليك يا سيدي يا رسول الله
السلام عليك يا أيها النبي الرحيم
السلام عليك يا أيها الرسول العظيم
السلام عليك يا من كنت رحمة للناس وهدى للعالمين. . .
متى تقف يا قلب. . . متى. . . متى. . .!
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(348/70)
نفحة نبوية
صبرا دعاة الحق
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
هذا الهُدى فأملأُ به الصُحراَء ... وانشرْه في خِلل الظلامِ ضياَء
وأصْدَعْ بأمر الله لا مُتهيِّباً ... ضُرّاً ولا متخوِّفاً بأساَء
من كان في الحق المُبين بلاؤُه ... هَيهاتَ يَخشى في العدوِّ بَلاَء
يأيها الداعي إلى دين الهدى ... وفْيتَ قِسطكَ في الجهاد دُعاَء
شَبُّوا عليكَ النارَ شاويةَ اللظى ... ورمَوا عليكَ الغارةَ الشعواَء
وترصَّدوا لك في الطّريق مُجاهداً ... فرأَوك انفذَ في الطريقِ مَضاء
نثروا عليكَ الحقدَ من شهوَاتِهم ... فنثرتَ من نُبل الخِلالِ وَفاء
نُورُ النبوةِ في جبينك ساطعٌ ... يجلُو الدُّجى ويبدِّدُ الظّلماَء
فإذا المجاهلُ قد غَدون معالما ... واليأسُ أصبح في يديك وفاء
بَدَّلت صحراَء الجزيرةِ رَوْضةً ... وجعلتَ منها جنةَ فيحاَء
الجاهليةُ من غراسك أثمرتْ ... وتفجرتْ ظلاًّ هناكَ ماَء
وتألفوا في الله صفاً واحدا ... ونسُوا لديك الحقدَ والبغضاء
يبنون للإسلام ركناً خالداً ... وَيَرَون فيك المنشئَ البنَّاَء
حَجَرٌ أقمتَ على التُّقى آساسه ... فَرَسَا. وأدرك سمتُه الجوزاَء
يمتدُّ في كِسَفِ السَّحاب تطاولاً ... ويزيدُ في كبد السماء نَماء
ويُزلزل الدنيا ويَصْدع ركنَها ... ويهدُّ من نُصُب الضلال بِناء
بَطحاءُ مكةَ أشرقتْ جَنَباتُها ... ما كانَ أكرمَ هذه البَطْحاء!
وُلدَ الهدى فيها فكان محمداً ... وغَدَا لكل المكرَمات سماء
هذا اليتيمُ أتى فألّفَ أمة ... شتَّى، وقوماً فُرِّقوا أهواء
وَيَشُدُّ بينهمو أواصرَ أُلفةٍ ... ويزيدُ ما بين القلوب إخاء
سَوَّى من الفانين كلَّ تمايُزٍ ... ومحا بها العصبيةَ العمياءً
لا يستقيمُ الحقُّ بين جماعةً ... إن لم يكونوا في الحقوق سواَء(348/71)
يأيها الهادي صَبَرتَ على الأذى ... وحملت من أوطانك الإيذاَء
وضربت في الصبر الجميل نواحياً ... وكشفتَ عن نُبل الخِلال غِطاَء
قل للذي سئمَ الجهادَ وملّهُ ... هلاّ اتَخذت من الرسول عزاَء؟
ما قيمةُ الدنيا إذا هي لم تكن ... صَبْراً وأخذاً دائماً وعطاَء؟
يأيها الهادي لِقيتَ إساءةً ... فحملتَ فيها الصفحَ والإغضاَء
إن الكريمَ يغضُّ طرفَ سماحةٍ ... ويردُّ من إحسانه اللؤماَء
لما قدرتَ عفوتَ اجملَ قادرٍ ... وأسرتَ عفواً مَنْ إليكَ أساَء!
تلك الخلالُ الضاحكاتُ خليقةٌ ... أن تستميل لصفِّك الأعداَء
ولقد كرهتَ بأن تُقيمَ على الأذى ... فهجرتَ أرضاً أنبتتكَ وماَء
وتأثَّروك فما خبتْ لك جذوةٌ ... يوماً ولا قَدَرَوُا إطفاَء
ووجدتَ في ظل المدينة جِيرةً ... ولقيتَ من أنصارها نُصراَء
آواك فيها معشرٌ بك آمنوا ... واستقبلوك مرحِّبين وِضَاَء
عجباً! رأيتَ من المدينة رقةً ... ورأيتَ مكة قَسْوةً وجفاَء
صَبراً دُعاةَ الحق إن نصيبكم ... إن تقطعوا أيامكم غُرباَء
مهلاً دعاةَ الحق إن سبيلكم ... ليست يساراً كلَّها ورخاَء
لا تحسبوها بالورد تَزَينت ... أو رفّت الدنيا بها أندَاء
لا تحسبوها الظلَّ أَفْيَحَ ناعماً ... والعيشَ حلواً والمنى خضراء
هي أن تضحُّوا بالحياةِ رخيصةً ... وتقدِّموها للجهاد فداء
الحقُّ لا يحيا شهيداً بينكم ... ما ضرَّ لو متم له شهداء؟؟
محمد عبد الغني حسن(348/72)
من ضوء الإسلام
هل من سبيل لنسعد أفراداً وأمة
للأستاذ محمد يوسف موسى
كل منا يلتمس لنفسه الخير ويبذل في ذلك وسعه، وكلنا يزعم أنه برّ بأمته حفي بها، فهو لا يألو جهدا في القيام بالواجب في عمله، وبما يعود على أمته بالسعادة والرفعة. فلِمَ إذا لا يجد المرء أنى تلفت إلا من يندب شقاوة الجد، وخسارة الأمس، واليأس من الغد؟ وليس حال الجماعات بأهون من حال الأفراد. هؤلاء المزارعون يشكون عدم البركة وفتك حشرات الأرض بخيراتها، والمعنون بالشؤون العامة يحز في نفوسهم تفكك وحدة الأمة وتعثرها في طريقها. لماذا هذه الظاهرة التي تدعو للرثاء، وليس منا إلا من يزعم أنه البار بأمته العامل لخيرها؟ في رأيي أن مرد ذلك كله أمران: أحدهما علة شقاء الأفراد، والآخر علة شقاء الأمة
يصبح الواحد ولا هم له إلا الألم اللاذع لما يرى أنه فاته في أمسه، والتفكير المرمض فيما قد لا يكون في غده، فيصرفه ذلك عن تذوق ما في حاضره من لذة وسعادة. تجد هذا الفلاح دائم الحسرة موصول الألم لأنه لم يبع قطنه بأربعة جنيهات كما باعه جاره، والتلميذ دائم الهم خشية ألا يجد عملا متى فرغ من دراسته، وهكذا إذا تقصيت أحوال الناس جميعا، تجد الأسى على الماضي والخشية من الغد، يفوتان علينا التنعم بالحياة وما تفيضه من هناءة وسرور. ليعمل الواحد منا واجبه، وليطرح الأسى الفارغ على الذاهب، والخشية المبالغة من الآني، وأنا كفيل بأنه سيجد برد السعادة. (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير؛ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم). هل رد الأسى نعيما ذهب؟ وهل يرد الألم مقدما للمستقبل ما قد يجيء به من محنة؟ اللهم لا. إذا فلم يعمل الإنسان بنفسه لشقائه وتكدير أيامه؟
من المأثور عن إبيكتيت الرواقي أنه كان يوصي بأن يتعرف المرء ما يتعلق به من الأعمال فيعمله على أكمل وجوهه، وما هو لله فيتركه له. للإنسان أن يسعى لغرضه في شرف ونبل أو في غش ودس، كل ذلك ممكن، فليمض إذا قدما لغرضيه في شرف ونبل وليس له أن تذهب نفسه حسرات إن حيل بينه وبين إدراك ما يريد إذا بذل ما في طوقه،(348/73)
لأن الوصول فعلاً للغايات رهن بإرادة الله وحده. هذه فلسفة لها جلالها وبساطتها وجمالها، ولكن أجمل منها أن أصحابها أخذوا أنفسهم بها. هذا أحدهم وهو هِلفيدْ يُوسْ بْرسْكِسْ كان عضوا بمجلس الشيوخ بروما فطلب منه الإمبراطور ذات يوم أن يتأخر عن حضور جلسة خاصة، فكان بينهما هذا النقاش:
- لا أريد أن تذهب للمجلس
- لك أن تفصلني من العضوية، أما أنا فسأذهب ما دمت عضوا.
- إذا شهدت الجلسة فلا تبد رأيك
- لك ألا تطلب رأيي، وإذاً فلن أتكلم
- لكنه إذا حضرت الجلسة فسأضطر لسؤالك رأيك
- إذا فسأدلي بما أراه عدلاً
- ذلك معناه أنك تسعى للموت
- ومتى قلت لك إني من الخالدين! كلانا يفعل ما يتعلق به؛ لك أن تأمر بقتلي، ولي أن أصبر أو أجزع، وإذاً فسأتحمل الموت وآلامه صابراً
لله ما أنبل هذا المبدأ وما أروع تطبيقه! وما أسهل ما يكون المرء سعيداً إذا وثق بالله، واحترم ما فيه من رجولة فأرضى ضميره!
أما الأمة في مجموعها، فأرى أن علة تعثرها في خطواتها، وابتلاءها بكثير من المحن في الأنفس والأموال، وتفكك الروابط وانحلال الأواصر، وتفرق الزعماء - أرى أن ذلك كله يرجع إلى انسلاخنا عن الدين شيئا فشيئا، وإلى مبدأ الأثرة الذي أخذ منا بالزمام. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كيف أنتم إذا وقعت فيكم خمس، وأعوذ بالله أن تكون فيكم أو تدركوهن؛ ما ظهرت الفاحشة في قوم يعمل بها علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وما منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما بخس قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولا حكم أمراؤهم بغير ما أنزل الله إلا سلط عليهم عدوهم فاستنفدوا بعض ما في أيديهم، وما عطلوا كتاب الله وسنة نبيه إلا جعل الله بأسهم بينهم، أعتقد أنه بالاحتكام لهذا الحديث المبين نجد(348/74)
الأمر واضحا، وأن السبب فيما نحن فيه من بلاء جلي
لم نعجب من حبس الله عنا عونه، وفينا من الرجال المحسوبين على الدين من لا يبالي أن يسخط الله، كما يبالي أن يغضب عبداً من عبيده؟ وما بالنا نجزع من ازدياد الإجراء وسببه الفقر وتأصل الحقد في القلوب ومأتاه عدم القسم في الحقوق والواجبات؟ ولماذا نجأر بالشكوى من استئصال حشرات الأرض لكثير من الزروع والأثمار، وقد منعنا الزكاة أربابها؟ إن الله غني عن صيام النهار وقيام الليل إذا كان لا يصحبهما إعطاء الحقوق لأصحابها. إن تربة مصر لتدر الذهب، فليت شعري كيف تتحجر منا قلوب، فلا تحس الآلام التي تنضح بها نفس الفقير، ولا يجد مواسياً؟! ولماذا نعمى، فلا نبصر الشقاء مجسماً في أناس لم يبق لهم من الآدمية إلا الاسم بفضل جحودنا وأثرتنا؟! إن لهؤلاء المحرومين، وهم شركاؤنا في الإنسانية، وإخواننا في الوطن، حقاً معلوماً فيما رزقنا الله من ثراء يتسع لقضاء الصيف في أوربا وغير أوربا، وتضييع مئات الآلاف من الجنيهات على اللهو الفارغ والمتاع الدون. . .
هل تريدون دليلا على ما يسود أخلاقنا من أنانية ممقوتة وعدم رعاية للصالح العام؟ دونكم أدلة لا دليلا واحدا: ماذا ترون في انعدام التناسب بين صغار المرتبات وكبارها إلى درجة شنيعة، لا توجد إلا في بلاد الشرق المسكينة؟ وفي التفرقة بين الطبقات في كثير من مرافق الحياة؟ بل ماذا تقولون في المريض المعدم لا يجد له راثياً، ولا لآلامه مواسياً، ويطرد من مستشفى لاخر، حتى يموت وعياله وأهله تنفطر نفوسهم حسرات، بينما يحدثنا القفطي في كتابه (أخبار الحكماء) أن وزير المقتدر بالله العباسي علي بن عيسى وقّع إلى سنان بن ثابت كبير الأطباء (بإنفاذ متطببين، وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون في السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه، ثم ينتقلون إلى غيره). أليس في بعض هذه المثل ما يدل على ما يتملك أمرنا من أثرة هي بعض السبب فيما نحن فيه من بلاء مبين؟
وأخيرا ما هو العلاج؟ هو في رأيي أن ننعم بحاضرنا دون أسى على الماضي، وأن نحارب الأنانية في أنفسنا وفي غيرنا، وأن يعمل كل منا واجبه وإن كان في ذلك أذى له، وأن يطلب حقه من سالبيه ويلح في اقتضائه؛ فإن السكوت عن طلب الحق جريمة تعدل(348/75)
عندي عدم القيام بالواجب. نسأل الله حسن الحال والتوفيق والسداد.
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(348/76)
كمال الدين بن يونس
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لم يكن عند كمال الدين خبر من أحوال الدنيا، يلبس بلا تكلف، لا يعنى بزي أو هندام منصرفا بكليته إلى العلم بين درسه وتدريسه. تفقه بالموصل على والده وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الثاني عشر للميلاد. وفي سنة 571هـ ذهب إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية يدرس على السلماني والقزويني والشيرازي فقرأ الخلاف والأصول، وبحث في الأدب على الأنباري، ثم عاد إلى الموصل حيث عكف على الاشتغال بالعلوم الدينية والعقلية والأخيرة كانت غالبة عليه؟ (. . . فكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم. . .)، وأخذ من أحد المساجد (في الموصل) مكاناً يدرس فيه عُرف فيما بعد بالمدرسة الكمالية. وبقي كذلك إلى أن توفاه الله في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد. . .
ذاع صيته وانتشر فضله (. . . فانثال عليه الفقهاء وتبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد. . .)
رجع إليه الملوك والأمراء والعلماء في المسائل العلمية، واستعان به ملوك الإفرنج في ما أشكل عليهم من مسائل تتعلق بالنجوم. فقد ورد إلى الملك الرحيم صاحب الموصل رسول من الإمبراطور فردريك الثاني وبيده مسائل في علم النجوم، وقد قصد أن يرد كمال الدين أجوبتها. فأرسل صاحب الموصل يعرفه بذلك ويقول له (. . . أن يتجمل في لبسه وزيّه ويجعل له مجلسا بأبهة لأجل الرسول، وذلك لما يعرفه عن ابن يونس أنه كان يلبس ثياباً رثة بلا تكلف وما عنده خبر من أحوال الدنيا. . .) فاستعد كمال الدين، وعندما اقترب الرسول من داره بعث من الفقهاء من يستقبله، فلما حضر عند الشيخ (كمال الدين) - يقول أحد الحاضرين وهو من بغداد: نظرنا فوجدنا الموضع فيه بسط من أحسن ما يكون من البسط الرومية الفاخرة (. . . وجماعة مماليك وقوف بين يديه وخدام وشارة حسنة، ودخل الرسول وتلقاه الشيخ، وكتب له الأجوبة عن تلك المسائل بأسرها، ولما راح الرسول غاب عنا (يقول البغدادي) جميع ما كنا نراه؛ فقلت للشيخ: يا مولانا، ما أعجب ما رأينا من ساعة من تلك الأبهة والحشمة، فتبسم، وقال يا بغدادي هو علم. . .)(348/77)
كان كمال الدين متواضعا ذا روح علمي صحيح سما العلم بنفسه وصقل روحه، فإذا الإخلاص للحق والحقيقة يسيطر على جميع أعماله فلم يترك مناسبة دون تبيان الحقيقة وإعلاء شأن الحق وكان يسير على القول السائر: (العلم يزكو بالإنفاق) فكان يجيب على ما يأتيه من مسائل من بغداد وغيرها من حواضر الإمارات ويوضح المشكلات التي ترد عليه من سائر الأقطار في مختلف فروع المعرفة، وجاء أن أحد علماء دمشق أشكل عليه مواضع في مسائل الحساب والجبر والمساحة وأقليدس، فكتب إلى كمال الدين يستفسره عنها فأجابه عليها وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها، وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه. ثم كتب في آخر الجواب: (فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة فإن القريحة جامدة والفطنة خامدة قد استولى عليها كثرة النسيان وشغلتها حوادث الزمان. . .)
لقد اعترف له الأقدمون من العلماء والباحثين بالفضل والنبوغ فقال ابن خلكان: (. . . وكان يدري في الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة - من أقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة - معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد. . .) وفوق ذلك كان عالماً بالعربية والتصريف، قرأ سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي والمفصل للزمخشري (وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد جيدة. . .) ولم يقف علمه عند هذا الحد بل عنى بتاريخ العرب وأيامهم فقد كان يحفظ الشيء الكثير من أشعارهم ووقائعهم، ودرس التوراة والإنجيل، ووقف على كثير من دقائقهما، وقد قرأهما عليه بعض أهل الذمة واعترفوا بأنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله: (. . . وبالجملة، فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه) واعترف أيضاً معاصروه بتفوقه، فقال أثير الدين المفضل الأبهري - وهو عالم كبير في الخلاف والأزياج بفضل كمال الدين وعبقريته - (ليس بين العلماء من يماثل كمال الدين، وقال موفق الدين عبد اللطيف البغدادي - وهو من كبار علماء القرن السادس للهجرة - إنه لما لم يجد في بغداد من يأخذ بقلبه ويملأ عينه ويحل ما يشكل عليه سافر إلى الموصل سنة 585هـ، فوجد فيها كمال الدين بن يونس(348/78)
متبحراً في الرياضيات والفقه عالماً بأجزاء الحكمة الأخرى، قد استغرق حب الكيمياء عقله ووقته. وكان فقهاء زمانه يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة، وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، (. . . ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور وكان يتقن فن الخلاف والعراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين. . .)، وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد في قومه من يتهمه في دينه، وقد يكون هذا الاتهام آتياً من اهتمامه بالعلوم العقلية وتعمقه فيها. ونظم أحد الشعراء المعاصرين لكمال الدين البيتين الآتيين اللذين تبين منهما الفكرة التي كانت سائدة عند الناس في دينه:
أجدك إن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس
ويقول ابن أبي أصيبعة: (. . . كان كمال علامة زمانه وأوحد أوانه وقدوة العلماء وسيد الحكماء، قد أتقن الحكمة وتميز في سائر العلوم. . .) برع في الحساب ونظرية الأعداد وقطوع المخروط وكتب في المربعات السحرية والجبر والسيمياء والكيمياء والأعداد المربعة والمسبع المنتظم والصرف والمنطق، وقد حل مسألة تتعلق بإنشاء مربع يكافئ قطعة من دائرة. ويقال إن الأبهري الذي سبق ذكره قد برهن على صحة حل إبن يونس وعمل في ذلك مقالة. وعلى ذكر الأبهري نقول إن له مؤلفات قيمة في علم الهيئة والإسطرلاب ورسائل نفيسة في الحكمة والمنطق والطبيعيات والإيساغوجي
ويقول سارطون: (. . . إن كمال الدين من أعلم علماء زمانه ومن كبار المعلمين - أو هو المعلم العظيم - ومن أصحاب النتاج الضخم، وهو مجموعة معارف شتى في العلوم والفنون. . .) ويمكن القول إنه كان لبحوث كمال الدين قيمة كبرى عند علماء عصره وأثر في تقدم العلوم
لقد سبق كمال الدين غاليلو في معرفة بعض القوانين التي تتعلق بالرقاص، فقال سمث: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملونه لحساب الفترات الزمنية أبناء الرصد. . .) ومن هنا يتبين أن العرب عرفوا شيئا عن القوانين التي تسيطر على الرقاص ثم جاء من(348/79)
بعدهم غاليلو، وبعد تجارب عديدة استطاع أن يستنبط قوانينه إذ وجد أن مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل ووضع ذلك بشكل رياضي بديع وسع دائرة استعماله وجنى الفوائد الجليلة منه
ونظم كمال الدين الشعر، وله قطع غزلية رقيقة تفيض عذوبة وسلاسة. منها:
ما كنت ممن يطيع عذالي ... ولا جرى هجره على بالي
حُلتُ كما حلتَ غادرا وكما ... أرخصتَ أرخصتُ قدرك الغالي
وله أيضاً:
حتى ومتى وعدكم لي زور ... مطل واف ونائل منزور
في قلبي حب حبكم مبذور ... زوروا فعسى يثمر وصلا زوروا
ومن المؤسف أنه لم يصلنا من نتاج كمال الدين إلا القليل فقد ضاع أكثره أثناء الانقلابات، والفتن التي حدثت في العراق. وورد في المصادر بعض مؤلفاته التي تتعلق بالفقه والمنطق والنجوم وهي: كتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في تفسير القرآن، شرح كتاب التنبيه في الفقه (مجلدان)، كتاب مفردات ألفاظ القانون، كتاب في الأصول، كتاب عيون المنطق، كتاب لغز في الحكمة، وكتاب الأسرار السلطانية في النجوم
وخلّف كمال الدين أولادا أتقنوا الفقه، وسائر العلوم (. . . وهم من سادات المدرسين وأفاضل المصنفين. . .) كما يقول ابن أبي أصيبعة.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(348/80)
أم عربية تضحّي
للأستاذ خليل هنداوي
وتأبى المقادير إلا أن تخلق (ذا قار) ثانية في ضاحية السواد، ولكن وقعة ذي قار الثانية تمتاز عن الأولى بأن العرب حشدوا ما عندهم من المقاتلة يدفعون بصدورهم صدور مقاتلة الفرس الذين أقبلوا من أقاصي فارس وأدانيها يذودون العرب عنهم!
أحست القادسية وطء هذه الجموع الزاحفة بخيلائها وعزائمها وأدركت أنه يوم سينضح ثراها فيه بالنجيع، ويسطع على سمائها كوكب من كواكب عهد جديد!
أشرق الفجر تغمر أنواره الباهتة جموعا تيقظت قبل أن يتيقظ وعلت أصوات تخللها نداء وصهيل ورغاء! والقوم خلال ذلك منكبون على جيادهم يمسحون أعرافها، أو متلمسون مقابض سيوفهم يهزونها، أو مادّون برماحهم إليها ما يسرون! ففريق يتبعه فريق، وكردوس يشد خلفه كردوس، يمشون والأهازيج ملء الفضاء، والنقع يوشك أن يحجب السماء. فهذه فئة مقاتلة تمشي إلى النصر بأهازيجها وتلك فئة منصتة يدوي فيها صوت يرجع صوتا رن منذ عهد لم يطل عليه الأمد فوق هذه الأرض التي أرادت الفارسية أن تقهرها وما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
صوت هانئ بن مسعود يدوي كالرعد القاصف: (يا معشر العرب! هالك معذور خير من ناج فرور، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، والطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، وإن الصبر من أسباب الظفر، قاتلوا فما للمنايا من بد، فتح لو كان له رجال! يا معشر العرب شدوا واستعدوا، وإلا تشدوا تردوا)
تسمع هذه الأقوام أصوات خطبائها فتحن أنفسها لذلك اليوم الذي هو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وإن هذا ليوم آخر أقبلت فيه الفارسية الوثنية تنازل الجزيرة المسلمة التي تغلي بدم الحياة!
وغير بعيد عن الساحة المستوية التي أعدت للقاء الأبطال - بطحاء انتصبت فيها خيام تقيم فيها الظعائن، وكانت أهازيجهن تجاوب أهازيج الرجال، ومن فوقها الصدى يكاد يلائم بينها، يحملها إلى القيعان البعيدة التي حنت إلى الحرية المكتوبة على أسنة العرب
في خيمة منفردة حمراء الأديم عجوز تخدد وجهها، ولعل الكبر قد نال منها شيئا، لكن(348/81)
أحداث الدهر لم تبق منها إلا على شبح نسيه الموت أو تناساه، تمشي بهراوتها الغليظة مشية وئيدة مستقيمة، وعلى بدنها صدار أسود ممزق الإهاب، يدل على إنه علامة فاجعة قديمة العهد؛ لكنها حية كأنها بنت ساعتها. وقفت في ناحية لا يصل إليها تيار الزاحفين؛ وحولها أربعة فتية ما أنضر الشباب الذي تفيض به أعينهم، وما أسمى العزيمة التي تتلألأ على وجوههم! تلمست العجوز هؤلاء الفتية بيديها، وتلمست محاسنهم وأكبت على رؤوسهم ووجوههم تشم ريحهم، وما أن انتهت من ذلك حتى بادرتهم بوصيتها:
(أي بَنِيّ! إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، لا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم. واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة
أي بَنِيَّ! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة)
كانت تسيل هذه الكلمات العاصفة من فمها دون ما تلجلج ولا اضطراب، لم ينل منها موقف التوديع شيئا، وكان أولادها يسمعون خطابها، وكأن نفوسهم ارتابت في شك أمهم منهم، وهم الذين أقدموا إلى الجهاد مختارين بعد أن باعوا أرواحهم واستقلوا ذلك في جنب الله
قبلوا يد أمهم، وودعوها توديع مفارق لن يوؤب، وزحفوا على جيادهم وهي لا تزال تتجه بمسامعها نحو وقع الحوافر حتى تلاشى وقعه، وقرت كل حركة حولها. فعادت إلى خيمتها، وكأنما ضاقت بها نفسها فهي لا تستطيع القعود إلا قليلا فنهضت تتلمس الأرض بعصاها، ولكن أين تريد أن تدب؟ في نفسها خواطر كثيرة، منها ما يتعلق بالمعركة ونهايتها، ومنها ما يخص أبناءها وحدهم. أتلقاهم كدأبها في المساء؟ أم تلقى بعضهم، والآخر أكلته شفرات السيوف! خواطر كثيرة تحاول أن تطغى على طمأنينتها وإيمانها، ولكنها لا تريد الآن أن تعرف شيئا عن رجوعهم وعن مصارعهم، وإنما تريد أن تعرف كيف استقبلوا الموت، بنحورهم أم بظهورهم! ولكن فيم تشك في أشبالها، وما علمتهم يوماً إلا أهل مروءة ونجدة!
قضت يومها تغالب هذه الخواطر، وما أن دنا الأصيل حتى هتفت أصوات البشرى في القوم بهزيمة الفرس. فخرجت النساء يستقبلن البعولة والاخوة والأبناء. ومن مثل الخنساء(348/82)
تنشط إلى تنسم الأخبار وهي متوكئة حانية على عصاها ترتفع الأصوات من فوقها ومن تحتها، وعن يمينها وشمالها، والظافرون عائدون بالأردية الحمراء، والسيوف المضرجة بالدماء، قد أذهلهم النصر عن النصب، يحيي بعضهم بعضاً وما تحيتهم إلا مصافحة بالسيف أو السنان!
تعلو الضجة آناً وآناً تخفت، وإنها لتدل على أن أكثر المقاتلة أووا إلى بيوتهم إلا مصاباً يتحامل على نفسه، أو فارساً يتضالع به فرسه بعد أن أبلى، ولكن ما لأولاد الخنساء لم يطل أحد منهم على هذه العجوز المرتقبة التي أخذت ترتجف من الريح الباردة! ومن ذا ينبئها بمصيرهم بعد أن أبطئوا عليها
ولكنها اعتقدت أن واحدا منهم أدركه مصرعه، وأن اخوته قعدوا يبحثون عنه بين القتلى لأنهم يؤثرون أن يدفنوه بأيديهم!
هاهي ذي تنتظر! يمر بها أحد رجال القادسية ممن شهدوا مصرع أولاد الخنساء، يراها شاخصة في الناحية التي أطل منها وقد رفعت رأسها تهم بتكليمه لولا أنها خفضت رأسها لأنها تريد أن تكون كلمتها الأولى لأحد أولادها
شاهدها الرجل وغلبت على عينيه دمعتان محرقتان أسقطهما الحزن على هذه العجوز التي نالت منها القادسية أعظم تضحية. حتى لتحسب فيها رمزاً للأمومة التي ضحت بأبنائها في هذه الوقعة. . . آثر أن يمشي وهو يخطو الخطوة ويلتفت إلى خلفه، كأن شيئا - لا يستطيع أن يدركه - يبعث الروع في نفسه. حاول أن يخبرها أكثر من مرة، وتردد أكثر من مرة، وأقل ما يحمله على التردد أنه لا يريد أن يكون ناعيا لأربعة أولاد في يوم واحد، ولكن ماله يكتم عنها ما كان، وماله لا يشفق على هذه العجوز التي تنتظر، والتي لا تزال تنتظر حتى مطلع الفجر! فلينبئها بمصيرهم، وليعزها بكلمة قد تقع موقعا حسنا أو لا تقع، وليصنع الله بها بعد ذلك ما يشاء! وإن أعظم ما ينتظره لها الموت، وما يدريه أنها هي التي تفتش عن الموت بعد مصرع بنيها. فعاود إليها مرة ثانية؛ وسمعت الخنساء وقع الخطا من ورائها فهمت بالاستغراب، ولكنها شعرت أن هذه الخطا تسر أمراً لها وحدها، فناداها:
- يا خالتاه! لا أخالك تألمين إذا أنبأتك أن أولادك الأربعة يسرحون هذا المساء مع شباب.(348/83)
الجنة!
فاه بهذه الجملة، والحزن يكاد يقطع عليه أنفاسه؛ ولم يبلغ كلمة (الجنة) إلا بعد أن قاسى من ألأم النفس مثل ما قاساه من نصب يومه؛ فتقدمت منه وكأن الخبر لم يعصف بنفسها، ولم يظهر أثره على وجهها. . .
- ويك ماذا تعني؟ أقُتلوا جميعا؟
- رأيتهم الواحد يُصرع بعد الآخر، يذودون عن موقف تهافت العدو على أخذه تهافت الجراد على النار
- أذهبوا متاعا رخيصا؟
- إنهم - وحدهم - كانوا جيشا، كأنما الموت مورد عزموا أن يردوه جميعا؛ كلما فترت عزيمة واحد منهم هتف به الآخر (وصية العجوز يا أخاه)!
وكأن هذه الكلمة أيقظت فيها الروح التي كلمت بها أولادها فقالت:
- ذلك ما يبعثني على أن أقول: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وإني لأرجو الله أن يجمعني وإياهم في مستقر رحمته؛ ولكن أنبئني ما صنع الله بكم؟
- جئنا بالنصر معقوداً على راياتنا
- هذه التعزية المثلى لي فيما تبقى من أيامي المعدودة، لقد مات أخي صخر من قبل، فلم يسعني من دنياي بعده إلا هذا الصدار الأسود، وهيهات أن أجد مكانا للتعزية فيه، وها يموت أبنائي الأربعة فيعزيني عن موتهم هذا الظفر
والتفتت إلى ناحية بيتها، وأخذت تدب وئيداً، والرجل يتبعها صامتا حتى توارت عنه، فوا الله ما إن سمع لها أنة، ولا رأى لها عبرة، وذهب وهو لا يكاد يوقن بأن هذه التي كانت مثل الأخت المفجوعة الحزينة التي لا يسري عنها شيء، والتي قضت أيامها تبكي حتى ابيضت عيناها من البكاء، هذه الأخت الولهى تصبح المثل الأعلى للأم التي تعتقد أن أولادها للوطن والواجب قبل أن يكونوا لها، وإذا أراد الوطن استئثاراً بهم قدمتهم، وإذا استوهب الوطن منهم أنفسهم لم تضن بها ولم يضنوا، وكأنها بعد ذلك كله لم تبذل شيئا ولم تفقد شيئا
في الإيمان سر تنحني الإرادة عنده، وكيف يريد علماء النفس أن يعللوا مزاجين مختلفين(348/84)
في نفس واحدة، هذه المرأة التي فجعتها إحدى الوقائع بأخيها الجريء الجميل في الجاهلية؛ والتي لم تترك منها هذه الفاجعة إلا لساناً يندب وصدراً يزف! جاء الإسلام، فلم يقدر أن يصرفها عن حزنها، ولكنها أصيبت في الإسلام بفاجعة قد تهون الأولى عندها وهي فاجعة أبنائها، فلم تحرك من نفسها شيئا، لأنها وهبت مصيبتها لله!. . .
فكرت في المصيبة الأولى، فلم تجد ما ينفس عنها، فاحتفظت بأثرها في منطقة منعزلة من مناطق نفسها، تكشف فيها عن ذكرياتها، وتخوض في أرجائها وحدها. . . أما المصيبة الثانية، فقد تولاها الإيمان الذي فاض على نفس الخنساء كلها، حتى أصبح سواء عندها أفقدت واحداً أو أربعة، أو جميع من في الكون في سبيل هذا الإيمان. . .
رباه!. . . ألست بقادر على أن تحيي الموتى؟!
خليل هنداوي(348/85)
من الإلياذة الإسلامية
للأستاذ أحمد محرم
الجزء الثاني
بنو غطفان وسيدهم عيينة بن حصن
لما علم أهل خيبر أن المسلمين قادمون لغزوهم بعثوا إلى
حليفهم عيينة بن حصن سيد غطفان يستعدونه وقومه عليهم،
ولهم في ذلك نصف ثمار خيبر، وقيل أن النبي صلى الله عليه
وسلم بعث إليهم ينهاهم عن مظاهرة اليهود، فأبوا، وقالوا
حلفائنا وجيراننا، ثم خرجوا لنصرتهم، فسمعوا صوتاً في
ديارهم وقع في نفوسهم إنه صوت الغزاة من المسلمين،
فأخذهم الرعب وارتدوا على أعقابهم مسرعين.
أَمَا تَدَعُ العَمايَةَ (يَا ابْنَ حِصْنِ) ... وَتَسْلُكُهَا مُعَبّدَةً سَوِيَّه؟
أضَلَّتْكَ الْيهُودُ، فَرُحْتَ تَبْغِي ... ثِمَارَ النَّخلِ، يَا لَكَ مِنْ بَلِيَّهْ
لَبِئسَ الأجْرُ أجْرُكَ مِنْ أُنَاسٍ ... يَرَوْنَ الحَقّ مَنْزِلَةً دَنِيَّه
أتَرْضَى أنْ تَكُونَ لَهُمْ حَلِيفاً؟ ... لَعَمْرُكَ إنْهُمْ شَرّ البَلِيه
رَمَوْكَ بِرُسْلِهِمْ يَبْغُوَنَ نَصْراً ... فَمَا وَجَدُوَكَ مِنْ أهلِ الرَّويَّه
أهَبْتَ بِقَوْمِكَ: انْطَلِقُوا وَرَائي ... فَتِلكَ سَرِيِّةٌ تَتْلُو سَرِيَّه
تُريدُ (محمَّداً) وَبَنِي أبِيهِ ... أُولى النَّجَدَاتِ وَالهِمَمِ العَلِيّه
حُمَاةَ الحقّ، ليس له سواهم ... إذَا غَلَتِ الحَفِيظَةُ والحَمِيّه
نَهَاكَ (محمدٌ) فَأبَيْتَ رُشْداً ... لِنَفْسِكَ، إنّهَا نَفْسٌ غَوِيّه
وَقُلتَ: أنَتْرُكُ الحُلَفَاَء نَهْباً ... وَنَحْنُ أُولُو السُّيُوفِ المَشْرَفِيَّه؟(348/86)
رُوَيْدَكَ يَا (عُيَيْنةُ) أيُّ خَطْبٍ ... أصَابَكَ؟ مَا الحَدِيثُ وَمَا القَضِيّه؟
وَمَا الصَّوْتُ المُرَدَّدُ يَا إبْنَ حِصْنِ ... وَرَائَكَ في مَنَازِلِكَ القَصِيّه؟
وَرَاَءكَ يَا (عُيَيْنَةُ) لا تَدَعْهَا ... فَمَا هيَ عَنْ دِفَاعِكَ بالغَنِيّه
رجَعْتَ بجُنْدِكَ المَهْزُومِ رُعْباً ... فَمَرْحَى، مَا الهَزِيَمةُ كَالمنِيَّه
لَوَ انّكَ جِئْتَ (خَيْبَرَ) وَهيَ ظَمْأى ... سَقَتْكَ مِنَ الرَّدَى كأساً رَوِيَّه
نَوَيْتَ غِيَاثَها، فَشُغِلْتَ عَنها ... وَأمْرُ اللهِ يَغْلِبُ كلَّ نِيّه
بِرَبِّكَ يا فَتَى (غَطَفَاَنَ) آمِنْ ... فَإنّ لَهُ لآياتِ جَلِيّه
رَجَعْتَ إلى (النَّبِيِّ) تَقُولَ مَالاَ ... يَقُولُ المَرْءُ ذُو النَّفْسِ الحَيِيَّه
ألسْتُ لِمَنْ ظَفِرْتََ بِهِمْ حَلِيفاً؟ ... فَهَبْ لِي مِنْ مَغَانِمِهمْ عَطِيّه
وَإنِّي قَدْ أبَيْتُ، فَلَمْ أعِنْهُمْ ... عَلَيْكَ، وَمَا تَرَكْتُكَ عَن تَقِيّه
فَقَالَ: كَذَبْتَ، مَالَكَ مِنْ خَلاقٍ ... وَمَا تَخْفَى عَلَى الله الطَّوِيَّه
عَليَكَ (بِذِي الرُّقَيَبةِ) إنّ فِيهِ ... لَمَا أحْبَبْتَ مِنْ صِلَةٍ سَنِيّه
تأمَّلْ: هلْ مَلَكتََ عَلَيَّ أمْرِي؟ ... وَهلْ صَدَقَتْكَ رُؤياكَ الغَبِيّه؟
لّكلٍ مِنْ دُعَاةِ الشِّرْكِ حَرِبٌٌ ... مُظَفَّرَةُ الوَقَائِعِ (خَيْبَرِيّه)
سَجَايَا المُرْهَفَاتِ البِيِض أوْلَى ... بِمَنْ جَعَلُوا النِّفَاقَ لهَمُ سَجِيَّه
أحمد محرم(348/87)
ذكرى الهجرة النبوية
للأستاذ محمد فريد وجدي
لا يذكر ذاكر الهجرة إلا ذكر القرآن والإسلام ومحمداً، وهي ذكريات حافلة بالأحداث، موقرة بالانقلابات التي تعتبر مبدأ انتقال عالمي لم يسبق للعهود البشرية أن مر بها مثله.
نعم لأن الانتقال الذي أحدثه الإسلام في جزيرة العرب لم يقتصر عليها، ولكنه تناول العالم كله إما مباشرة وإما بواسطة فكان أثره أبعد أثر سجله تاريخ العلم الاجتماعي للإنسانية من لدن نشأتها إلى اليوم
انتقال في فهم معنى الدين، انتقال في إدراك حقيقة العبادة، انتقال في تعيين أهداف الاجتماع، انتقال في اعتبار مكانة العلم، انتقال في الاعتداد بسلطان العقل، انتقال في تقرير حقوق الإنسانية، انتقال في إقامة الحقوق الطبيعية، انتقال في تحديد معنى المساواة والعدل
انتقالات ذريعة في كل ضرب من ضروب الشؤون الإنسانية سرت إلى العالم كله بتقلب المسلمين في البلاد، فأثرت في مجموع البشرية تأثيراً لا يشتبه بغيره من الانتقالات الأدبية، كان من نتائجها تطور بعيد المدى في كل مجالات الحياة العالمية. فإذا كان الذين استفادوا منه يتثاقلون في عزوه إلى القرآن والإسلام ومحمد فإن أولي العلم يعرفون هذا الحق وقد أعلنوه في مؤلفاتهم (راجع ما كتبه جيبون الإنجليزي ودربير الأمريكي وسديو وجوستاف لوبون وغيرهما من الفرنسيين)
قلنا انتقالات، فأي لفظ أدل من هذا اللفظ على ما نحن بصدده؟
كان الناس قبل القرآن ومحمد يعتبرون الدين ذلاً واستكانة، واستخذاء لذوي المكانة، فلما جاء الإسلام صاح بالناس: ارفعوا رؤوسكم إنما التقوى في الصدر، وعلو الهمة من الإيمان، ولا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)
وكانوا يظنون أن العبادات سخرة، فقال لهم الإسلام: كلا إنها صلة بين المخلوق والخالق، وإنها يجب أن تكون ميسرة غير مرهقة (فقم ونم، وصم وأفطر، فإن لبدنك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، ولزورك (أي زائريك) عليك حقا) أن الرجل ليعتبر عابداً لله في كل فاضلة تصدر منه حتى في اللقمة يرفعها إلى فم امرأته
وكانت الجماعات لا تفكر في المقاصد الأدبية المرجوة من الاجتماع، فلما جاء الإسلام قال(348/88)
لها: إنما الاجتماع للتعاون على استكمال وسائل البقاء، وهي لا تكون مباركة إلا إذا كان فيها تعاون على البر، وتضافر للتأدي إلى أكمل ضروب الحياة؛ أما التعاون على الإثم والعدوان فليس من شرف الإنسانية في شيء
وكانوا لا يقيمون للعلم وزناً إلا ما صدر عن الذين نصبوا أنفسهم بين الناس وبين الله حجاباً، فقال لهم الإسلام: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)
وكانوا يعدون العقل عدوا للدين، ويتعمدون الخروج على أحكامه مشايعة للذين ربوهم على عصيانه، فقال لهم الإسلام: الدين أساسه العقل، ولا دين لمن لا عقل له
وكانوا يتخيلون أن كل من خالفهم في الجنس والدين واللغة أعداء لا يصح أن تجمعهم بهم صلة، فلما جاء الإسلام صاح بأهل الأرض قاطبة: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). فكان الإسلام بهذا الأصل أول من أوجب أن تكون بين الناس كافة زمالة إنسانية، يتعاونون تحت ظلالها على تحقيق أغراض الحياة العامة، بصرف النظر عما يفرق بينهم من جنس ولغة ودين
وقوَّى هذا الأمر وضوحاً فقال: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)
بل وصاهم بالرحمة ومراعاة قواعد العدل مع أعدائهم الذين قاتلوهم ليفتنوهم عن دينهم، وأخرجوهم من أرضهم فقال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم (أي ولا يحملنكم بغضكم لقوم) أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب)
وزاد في التنبيه على وجوب مراعاة الحقوق الإنسانية، فأمر ألا يتعقب المنتصر في الحرب مهزوما، وألا يجهز على جريح وألا يقتل شيخا ولا امرأة ولا طفلاً ولا رجلاً غير محارب حتى خدم المقاتلين، وألا يهدم ديار الأعداء، ولا أن يحرق أشجارهم، ولا أن يعثو فيها فساداً(348/89)
وكان الناس لا يعرفون الحقوق الطبيعية لإخوانهم في الإنسانية بصرف النظر عن أديانهم وأجناسهم ولغاتهم، فكانوا يجردون من ليس منهم من كل حق، ويسمحون لأنفسهم بقتلهم وسلبهم إن ظفروا بهم، فإن منّوا عليهم بالبقاء استعبدوهم وأذلوهم، فلما جاء الإسلام قرر أن بنى آدم مهما كانت مللهم وبيئاتهم ولهجاتهم حقوقاً طبيعية لا يجوز العدوان عليها بغير حق
وكان الناس لا يدرون كنه المساواة والعدل، فخضعوا لنظام الطبقات ذوات الامتيازات، فكان لرجال الدين والسراة والمحاربين حقوق ليست لغيرهم من أفراد الشعب، فكانوا يبهظون الدهماء بالتكاليف والإتاوات ويخلون أنفسهم منها. فلما جاء الإسلام حطم كل هذه الأوضاع، واعتبر الناس كلهم سواء أمام العدل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)
فنحن إذا ذكرنا الهجرة، وهي دور من أدوار الكفاح الإسلامي في سبيل الإصلاح، ذكرنا كل هذه الانتقالات الأدبية التي لو اطلع عليها علماء الاجتماع لدهشوا، لأن كلا منها لم يتقرر في العالم المتمدن إلا بعد ثورات دموية، تلتها انقلابات عنيفة، وسبقتها تطورات عقلية وأدبية دامت قروناً طويلة؛ فإن كانت قد تولدت طفرة على يد خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، في مدى أقل من ربع قرن، وفي أبعد البيئات عن توليد أمثالها، فهي كبرى الآيات الإلهية، جاءت مناسبة لموطن الاقتناع من عقول أهل الزمان الأخير، فإنهم قد يرون القمر ينشق، أو الجبال تندك فلا يتأثرون، ويمضون يلتمسون لها عللاً طبيعية، ولكنهم لا يستطيعون أن يلتمسوا لهذه الانتقالات الفجائية الباهرة عللاً طبيعية، ولاسيما في بيئة لا تنتج واحدة منها. ولقد نسيت جميع الآيات التي صحبت الرسالات السابقة ومضت بمضي أيامها، إلا هذه الآية التي خص الله بها خاتم رسله، فستبقى ما بقي الإنسان ذا عقل يجيله في الأمور، وما بقي العلم يجلو كل مستور.
محمد فريد وجدي(348/90)
الإسلام دين النضال
للدكتور زكي مبارك
خلوت إلى قلمي لأكتب فصلا للرسالة أتحدث فيه عن بعض الخصائص الإسلامية، ثم أخذت أستعرض تاريخ الإسلام في القديم والحديث عساني أجد مسألة واضحة الحدود يصل فيها القلم إلى شيء بعد جهاد ساعة أو ساعتين
وما هي إلا دقائق حتى اهتديت إلى موضوع تضيق عنه الأعمار، ولكنه مع ذلك واضح المعالم لا يكلف القلم إلا بعض العناء، ليصل الكاتب إلى طوائف من الصور تمنحه التشرف بالمشاركة في إحياء ذكرى الهجرة النبوية
اهتديت إلى القول بأن (الإسلام دين النضال). فما معنى ذلك؟
ارجعوا إلى تاريخ الرسول وتواريخ الخلفاء. ومن تلا الخلفاء من الملوك والسلاطين في الممالك الإسلامية، لتعرفوا أن الإسلام في جميع عصوره لم يكن إلا دين نضال
وشريعة الكفاح وضع قواعدها نبي الإسلام: فهو أول رسول تجشم مكاره الجندية في سبيل العقيدة، وأول رسول تعرض للقتل مرات كثيرة في سبيل المبدأ، وأول رسول عاش عيش التأهب للقتال في جميع الأحوال
دخلت عليه ابنته وهو يعاني سكرات الموت فتوجعت لما هو فيه من الكرب فنظر إليها وقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم! والناس يفهمون أن الكرب الذي تحدث عنه الرسول هو كرب الموت. أما أنا فقد فهمت أنه يشير إلى ما عانى في حياته من أرزاء وخطوب، وقد عاش دهره كله وهو في بلاء بالناس والزمان، فما انتقل من حرب إلا إلى حرب، ولا خلص من عناء إلا إلى عناء، فحياته هي الشاهد على أن المجد لن يكون إلا من حظوظ المكافحين
والعبرة الأصيلة من حياة هذا الرسول هي الصفة الجدية بين شمائله العالية. والصفة الجدية تظهر في سيرته منذ عهده الأول، فقد نشأ يتيماً، واليتم يحمل النفس على الشعور بالغربة في محيط الوجود، والغريب يقهر على اصطناع الجد في جميع الشؤون
ومن هنا يظهر السر في عنايته بتدليل سبطيه الحسن والحسين، فقد كان يشعر أنه يقدم إليهما سروراً فاته الظفر بمثله وهو يتيم(348/91)
ثم اتفق له في صباه أن يشتغل بالتجارة لحساب زوجته خديجة، فكان مسؤولاً أمام قوة السوق التي لا يربح فيها غير أهل الجد والصدق من الذين يكتوون بنيران المعاملة مع أقطاب الكسب من السريان واليهود، وكانوا في ذلك العهد دهاقين الأخذ والعطاء
لم يحدثنا التاريخ عن تفاصيل الحياة التجارية التي عاناها الرسول، ولكنا نعرف أن التاريخ لم يكن يسمح بالسكوت عن ذلك الرسول لو أنه استطاع أن يأخذ عليه هفوة من الهفوات التي تجرح الأمانة والصدق، وهما فضيلتان لا يتحلى بهما التاجر إلا بعد جهاد شديد للشهوات والأهواء
وبفضل الكفاح الذي عاناه الرسول في ذلك العهد استطاع أن يدرس أخلاق العرب والسريان واليهود، وهي أمم كانت تقتتل في سبيل المنافع أبشع الاقتتال، واستطاع كذلك أن يتصل من قرب أو من بعد بالأخلاق الحبشية والمصرية والهندية والفارسية والرومانية واليونانية. ومن هذه التجارب تهيأت نفسه للإحساس بقيمة الجد والنضال
فإن قيل إن أكثر الأنبياء عانوا رعاية الغنم في طفولتهم ليتعودوا الصبر، فإنا نقول بأن محمداً عانى ما هو أشق من رعاية الغنم، عانى رعاية التجار وهو قوم يأكلون الجمر، ويلتهمون السم، ويدوسون على أشلاء الضمائر والنفوس
ومن المؤكد أن الرسول عرف الثورة على انحطاط الأخلاق بفضل ما شهد من مكاره الحياة التجارية لذلك العهد
ومن المؤكد أيضاً أن اشتغاله بالتجارة هيأ الفرصة للمعرفة العميقة بالأحوال السياسية والاقتصادية في ذلك الزمان
ويغلب على الظن أنه لم يكن يخلو بنفسه من وقت إلى وقت إلا ليجد الفرصة للسلامة من مكايد الناس، وقد عرفهم في ظروف لا يسلم من شرها غير من يعتصمون بالعزلة من حين إلى حين
وفي لحظة من لحظات الصفاء عرف محمد أن العناية الربانية أعدته لغرض أعظم من تثمير الأموال لزوجته الغالية، ولكن كيف يصارح قومه بذلك الغرض وهو في ظاهره من الكفر المُوبق في بلد قد استراح إلى الأوهام والأباطيل؟
لابد من نضال جديد، وفي ميدان لا تكون حراره من الصخور والجلاميد، وإنما تكون(348/92)
حراره وعقابه من القلوب الغلف والضمائر السوء
لابد لليتيم الكهل من نضال جديد، ولابد من توديع الاتجار بالعروض والأموال للدخول في تجارة جديدة لا يكون فيها الربح غير الهلاك بالقتل والإستشهاد، إن لم يعصمه الله من الناس
وبرز محمد لقومه برأي كان في نظرهم أجرأ الآراء
برز لهم وهو أعزل لا يملك من السلاح غير اليقين، وهو أضعف أدوات القتال في عصور الظلمات
وما كان قوم محمد إلا قوماً فحولاً طاولوا الدهر وصابروا الزمان، وكان فيهم من يملك التصرف بأحلام الأمة العربية، ومن يقدر على إيذاء سمعته بكلمة أو كلمتين. وما هي إلا أيام حتى شاع في جميع القبائل أن محمداً أصيب بالخبال والجنون، وفي أي أرض؟
في أرض بدوية تسير فيها قالة السوء بأسرع من ومض البرق
فما الذي يصنع اليتيم الكهل وقد أشيع أنه مخبول مجنون؟
رجع إلى عزيمته يستفتيها، فحدثته بأن النضال هو اشرف ما يعتصم به كبار الرجال
وكانت أيام عرف فيها محمد أن حراسة الغنم أسهل من حراسة الأصدقاء. كانت أيام عرف فيها أنه يعاود حياة اليتم من جديد فما الذي يصنع؟
لابد من نضال، لابد من نضال
لقد انتهى عهده بالنضال الهين الخفيف يوم كان يسهر على زاده وتجارته ليأمن غوائل الأعراب بالليل، انتهى عهده بالجزع على ضياع صرة فيها دراهم أو دنانير يدخرها لسرور زوجته الغالية حين يرجع من أسفاره في تثمير ما تملك من أصول المنافع الدنيوية، وأقبل عهد جديد، هو عهد السهر على الضمائر والقلوب ليحميها من غوائل الشرك، وليقيها شر الفساد والانحلال
ولكن الذين يعنيه أمر هدايتهم يرونه من أهل الفضول، ويسمعونه اقبح عبارات السخرية والازدراء، فماذا يصنع؟
لابد من النضال، ولابد من الترحيب في سبيل العقيدة بالظمأ والجوع والقتل. وهنا تظهر عظمة محمد المؤيد بقوة خفية تهوّن عليه المصاعب والأرزاء(348/93)
هنا تظهر عظمة الرجل المؤمن بقيمته الذاتية، والذي يرى أن خصومه ليسوا إلا هباء في هباء، وإن تحصنوا بآطام السياسة والمال، وهما أقوى الحصون
وما الذي يخاف عليه بعد ما لقي؟
لابد من نضال، لابد من نضال
والتفت اليتيم الكهل فرأى أنه وحيد مضطهد لا يؤمن قومه برسالته، وإن كان لم يفقد عطف زوجته الغالية في ذلك الظرف العصيب
الله وحده هو الذخيرة الباقية للمضطهدين من أصحاب العقائد والمبادئ. الله وحده هو سناد المكروبين، وغياث الملهوفين. الله وحده هو الذي يحمي أهل الصدق والأمانة من عدوان الكاذبين والخائنين. الله وحده هو الذي يقدر على مواساة المكروب المحزون، وهو وحده الذي يبعث الشجاعة في صدر اليائس من انتصار الحق
الله وحده هو الذي أوحى إلى اليتيم المضطهد أن يستبسل في سبيل الحق، ليرى انتصار الحق على القوة بعد حين
وتلفت محمد فلم ير لرسالته من ظهير أو معين غير القوة الخفية التي تحدثه بأنه قد يصل إلى الفوز إن صبر على المكاره صبر أولى العزم من الرسل
هو إذن نبي، والنبوة توجب التضحية بجميع المنافع، وتفرض الاستهانة بأكاذيب المفترين على العرض والشرف، فلا بأس من أن يشيع كذباً أنه رجل غير شريف، وإن كان قومه عدوه من أقطاب الأمناء، يوم كان لا يجهر بالاعتراض على ما يرتطمون فيه من الزيغ والضلال
لابد من نضال، وهو في هذه اللحظة يقع في ميدان واحد هو الصبر على عدوان المكذبين، فإن انتصر محمد على هذا الكرب فلا كرب عليه بعد اليوم
وصرخ محمد بصوت ارتعدت له الجبال: يا معشر قريش، أنا رسول الله إليكم!
وما كاد يفوه بهذه الجملة حتى ظهرت لعينه وقلبه ألوف وملايين من الأفاعي والصلال هي وساوس المرتابين في دعوته السامية
ونظر فإذا هو طعام سائغ للسفهاء والأغبياء من أعداء الحق وأنصار البهتان وحدثته النفس بأن طلب السلامة أمر يوجبه العقل(348/94)
ولكن القوة الخفية سارعت فحدثته بأن الرجل الحق هو الذي يستهين بأراجيف السفهاء
الرجل الحق؟ ومن الرجل الحق بجانب النبي الحق؟
الروح الأمين يحدثه بأنه خاتم الأنبياء، فما الذي يمنع من أن يتحمل في سبيل رسالته أضعاف ما تحمل سائر الأنبياء؟
ومضى محمد يناضل ويقاتل ويجاهد حتى نقل العرب من الشرك إلى الإيمان بعد أن دفع ثمن النصر من دمه الغالي، الدم المسفوك بالأكاذيب والأراجيف والأباطيل
ولكن، لا بأس، فقد سنّ لأتباعه الأوفياء شريعة النضال
زكي مبارك(348/95)
التوجيه الأول
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اتجه نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام وما جاورها قبل أن يستتب له الأمر في الجزيرة بزمان طويل، بل قبل أن يفرغ من قريش، ويفتح مكة، وصحيح أنه كان قد عقد مع قريش صلح الحديبية، فأطمأن، واطمأنت قريش بذلك بعض الاطمئنان، ووسع النبي أن يتفرغ لغير قريش، ووسع قريشا أن تستأنف تجارتها مع الشام وهي آمنة، ولكن هذا كان قبل فتح مكة بعامين، وكان هناك اليهود أيضاً، وأمرهم غير هين، وقد قضى عليهم بعد عودته من الحديبية، فغزاهم في خيبر، واستخلصها منهم، ثم دعا يهود فدك فخضعوا بغير قتال، وتلاهم يهود وادي القرى بعد قتال يسير. ولكن هذا وسواه لم يكن قد تم لما شرع النبي - أو لما بدا أنه شرع يفكر - فيما وراء جزيرة العرب. وأكبر الظن أن تفكيره في الشمال قديم، فما يسع قارئ السيرة النبوية إلا أن يروعه عمق النظرة، وبعدها، ورحابة الآفاق التي تمتد إليها
ومن أول مظاهر هذا الاتجاه، إرساله إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، وملك الحيرة، وملك اليمن، ونجاشي الحبشة. . . يدعوهم إلى الإسلام؛ وقد كانت هذه دعوة عامة، وإذا تركنا الحبشة: فإنها فيما وراء البحر، واليمن: لأنها داخلة في شبه الجزيرة. فإنه يبقى الشمال، الذي جاءت الحوادث بعد ذلك بما يخصصه. وعسى أن يكون من أول دواعي هذا التخصيص أن الحارث الغساني ملك الحيرة، لما تلقى كتاب النبي بالدعوة إلى الإسلام بعث إلى هرقل ملك الروم يستأذنه في أن يقوم على رأس جيش، لمعاقبة صاحب هذه الدعوة الجديدة، ولكن هرقل صرفه عن ذلك لأسباب لا تعنينا هنا، فما أريد أن أكتب تاريخا حديثا - فقد تكفل بذلك الصديق الزميل - على الرغم من الوزارة والرتبة، الدكتور هيكل باشا، جزاه الله عن المسلمين خيرا. . . وإنما كل ما أقصد إليه من ذكر هذه الدعوة التي وجهها النبي إلى الملوك، هو الإشارة إلى الاتجاه فيها. . .
ومن المحقق أن عين النبي كانت على الشام خاصة، والشمال عامة، وهو يعرفها حق معرفتها؛ فقد سار فيها صبياً، وشاباً، ورجلاً قبل البعث. ولم يكن يخفى عليه أن حياة الجزيرة رهن بتجارتها مع الشام، ولهذا رأى في الهجرة إلى المدينة وسيلة تعينه على(348/96)
السيطرة على مكة، والتحكم في طريق تجارتها، وكانت قبائل العرب قبل عهده، لتفككها، محتاجة إلى مصانعة الملوك المجاورين، لتطمئن على هذه التجارة، على أن النبي - فضلاً عن ذلك - كان يرى أن الشام وما جاورها، هي الطريق الطبيعي لامتداد دولة الإسلام وانتشار الدعوة إليه، وتخطيها حدود الجزيرة، وغير مستغرب أن يتطلع إلى ما وراء الجزيرة، من جاء بدين الحق للناس كافة، لا للعرب خاصة. . .
وقد تأنى، ولم يعجل بفتح مكة، لأنه كان واثقا من الظفر بها في أوانه المقدور، ولكنه وجه إلى الشمال ثلاثة آلاف قاتلوا في مؤتة، وكانت هذه (حملة تأديبية) صارت مقدمة لغزوة ذات السلاسل، ثم لغزوة تبوك، لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن الروم يتهيئون لغزو حدود العرب الشمالية. على أن الروم لم يحاربوا بل انسحبوا لما بلغهم أمر الجيش الذي سيره النبي وقوته، فآثر النبي ألا يتبعهم، واكتفى بالإقامة عند الحدود متحدياً متحفزاً عاملاً على كفالة هذه الحدود وتأمينها، وقد خضع له غير واحد من الأمراء هناك وأعطوه الجزية، وسار خالد بن الوليد بأمره فاستولى على دومة وبذلك أمن النبي عليه الصلاة والسلام الحدود الشمالية، وجعل من البلاد التي تعاهد مع أمرائها، معاقل وحصوناً قائمة بينه وبين الروم، وانتفى كل خوف من العدوان على الجزيرة وأهلها
ولكن النبي لم يكتف بذلك، فما كاد يعود من حجة الوداع حتى أمر بتجهيز جيش عظيم أمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة ليسير به إلى الشام. فخرج من المدينة، ولكن الله لم يكتب له الذهاب إلى الشام فقد مرض النبي، واشتد عليه الأمر، فحال ذلك دون مسير الجيش، وكان أن انتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى. فانصرف المسلمون إلى شؤونهم العاجلة، مثل ($) واختيار أمير للمؤمنين، ثم الردة وما استوجبت من التفرغ لقمعها ولكنهم بعد أن انتهوا من ذلك، واطمأنوا إلى استقرار الأمور في شبه الجزيرة، شرع أبو بكر رضي الله عنه، في إمضاء سياسة الرسول، فوجه الجيوش إلى الشمال
والمؤرخون الغربيون يصفون أبا بكر أحيانا بأنه (محمد الثاني) ولا يعنون بذلك أكثر من أنه هو الذي شرع في رفع بناء الدولة الإسلامية التي وضع الرسول (ص) قواعدها وأرساها وقررها، وأن موقفه من المرتدين هو الذي كفل لدولة الإسلام أن تبقى قائمة، وأن يتيسر لها الامتداد. . . على أن هذا موضوع آخر، لا نرى أن نستطرد إليه فنخرج عما(348/97)
قصدنا إليه، من بيان أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي وجّه المسلمين إلى فتح الشام وما جاورها، ولو امتد به العمر لتم ذلك في حياته، فقد كان من الجلي أنه بعد أن اطمأن على الجزيرة وبسط عليها سلطان الدين الذي بعث به، صار همه هذا الشمال، ولكن الله اختاره إلى جواره، بعد أن أتم رسالته، وفهم عنه أبو بكر، فاتجه بالمسلمين إلى حيث أراد النبي أن يوجههم. ومن الممكن أن يقال إن أبا بكر أراد بالزحف على الشمال أن يشغل المسلمين بالحرب والفتح، بعد الردة وحروبها، وهذا صحيح، ولكن أصح منه أن هذا هو توجيه النبي عليه الصلاة والسلام، كما فهمه أبو بكر وعمر من بعده. فالنبي لم يجيء بالدين وحده، بل وضع قواعد الدولة المدنية أيضاً، ورسم لها مستقبلها العالمي وعيّن لها اتجاهاتها جميعا
إبراهيم عبد القادر المازني(348/98)
صيام رمضان
وموازنة بصيام الثلاثين عند الصابئة والمانوّية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
لا نعلم على وجه اليقين متى نشأت فكرة الصوم في المجتمعات الإنسانية، ولا نكاد نعرف شيئاً يعتد به عن الأسباب الأولى التي دعت إليه، كما أن ما وصلنا عن النظم الدينية للأمم الغابرة، لا يرشدنا إلى أول شريعة جاءت به، ولا يقفنا على أول شعب ظهر فيه. وكل ما يذهب إليه بعض الباحثين بصدد هذه الأمور يتألف من آراء فطيرة تعتمد في بعض نواحيها على الحدس والتخمين، وفي نواح أخرى على حجج ضعيفة قلقة، لا يطمئن إلى مثلها المنطق السليم.
غير أنه مما لاشك فيه، أن الصوم من أقدم العبادات الإنسانية، ومن أكثرها انتشارا. ً فلم يكد يخلو منه دين من الأديان، ولم يتجرد عنه حياة شعب من الشعوب: جاء بملل الطوطميين والمجوس والوثنيين والصابئين والمانوية والبوذيين وعبدة الكواكب والحيوان، كما جاء بشرائع اليهود والنصارى والمسلمين
وقد اختلفت أشكاله باختلاف الأمم والشرائع، وتعددت أنواعه بتعدد الظروف المحيطة به والأسباب الداعية إليه، فمنه ما يكون بالكف عن الأكل والشرب والاتصال الجنسي والكلام، ومنه ما لا يقتضي إلا الكف عن الأكل والشرب، ومنه ما يتطلب الكف عنهما وعن الاتصال الجنسي، أو عنهما وعن الكلام. . . والإمساك عن الأكل والشرب يقع على وجوه كثيرة، فمنه المطلق الذي شمل جميع المأكولات والمشروبات، ومنه المقيد الذي يتم بالكف عن بعض أنواعهما، وهو بجميع ضروبه يقتضي حرمان الجسم حرماناً اختيارياً من بعض حاجاته الطبيعية. . .
ومن أنواع الصيام ما يقتضي الإمساك عن هذه الأمور اليوم كله نهاره وليله، ومنه ما لا يقتضي الإمساك إلا نهاراً أو شطراً من النهار، ومنه ما يبدأ بغروب الشمس ويستغرق الليل كله، أو شطراً منه
ومن أنواع الصيام ما يكون متتابعاً يجري في أيام متتالية، ومنه ما يكون مقصوراً على يوم واحد أو ليلة واحدة أو جزء من يوم أو ليلة، ومنه ما شرع في أيام غير متتابعة يفصلها(348/99)
بعضها عن بعض فترات معينة
ومن أنواع الصيام ما هو واجب يتحتم على جميع الطبقات أو بعضها بشروط خاصة، ومنه ما هو مستحب يندب إليه جميع الأفراد أو بعض طوائف منهم. وجميع أنواع الصيام التي شرعها الدين الإسلامي تقتضي الإمساك عن الأكل والشراب والاتصال الجنسي من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وليس منها ما هو فرض على جميع المكلفين العاقلين إلا صيام رمضان
هذا، ويشبه صوم رمضان في ظاهره صياماً شرعته ديانة الصابئين والمانوية، وسمي صيام الثلاثين، فقد جاء بالجزء التاسع من كتاب الفهرست لابن النديم أن شريعة الحرانيين المعروفين بالصابئة أو الصابئين (تفترض عليهم من الصيام ثلاثين يوماً أولها لثمان مضين من اجتماع آذار)، وأنهم كانوا يؤدون هذا الصوم تكريماً للقمر، وأنه كان إمساكاً مطلقاً عن جميع المأكولات والمشروبات من طلوع الشمس إلى غروبها. وقال في نفس الجزء في أثناء كلامه عن الثنوية الكلدانيين أو المانوية إنه (إذا أهل الهلال ونزلت الشمس الدلو ومضى من الشهر ثمانية أيام يصومون حينئذ ثلاثين يوماً يفطرون كل يوم منها عند غروب الشمس). وتدل عباراته أن صيامهم هذا كان تقديساً للأفلاك السماوية وبخاصة الشمس
وقد حاول كثير ممن في قلوبهم مرض، وممن وقفوا جهودهم على النيل من الإسلام والكيد له تحت ستار البحوث التاريخية، والتحقيقات العلمية، حاولوا أن يرجعوا صيام رمضان إلى صيام الثلاثين عند الصابئين والمانوية، زاعمين أن محمداً عليه السلام قد اقتبسه من هاتين الشريعتين
ومن هؤلاء الدكتور جاكوب الألماني. فقد قرر في رسالة كتبها في موضوع صيام رمضان، بعد تحقيقات حسابية طويلة وموازنات بين التاريخ العربي والميلادي والبابلي، أن أول سنة شرع فيها هذا الصوم وهي سنة 623 ميلادية كان أول يوم من شهر رمضان فيها يوافق الثامن من شهر آذار، أي أن أول رمضان صامه المسلمون كان موافقا في مبدئه ونهايته لتاريخ صيام الحرانيين، وإن في هذا أكبر دليل على أن محمداً قد اقتبس صومه عن شريعة الصابئين(348/100)
وذهب العلامة الفنلندي وسترمارك إلى ما يقرب من هذا الرأي حيث يقول في مؤلفه: (إن وجوه الشبه بين صيام رمضان وصيام الثلاثين عند الحرانيين والمانوية لتحمل على الجزم برجوعهما إلى أصل واحد. فلابد إذن أن يكون محمد قد نقل صيامه عن الحرانيين أو عن المانوية أو عنهما معا)
وهذه لعمري شنشنة عرفناها عن معظم من تصدى من الفرنجة لبحث عقائد الدين الإسلامي وشعائره، فتراهم قبل أن يفهموا الموضوع الإسلامي الذي يتصدون لدراسته حق الفهم، يوجهون كل همهم إلى البحث عن نظير له في الشرائع الأخرى، ولا يلبثون أن يعثروا عليه حتى يوحي إليهم تعصبهم أن هذا منقول عن ذاك، ثم لا تعوزهم الحيل والمنافذ لإلباس أهوائهم ثوب الحقائق
ومع أن المقام لا يتسع لرد مفصل على ما زعموه بصدد صيام رمضان، فإن في النقط المجملة الآتية ما يكفل نقض مزاعمهم هذه من أساسها:
(أولاً): لم يحدث في الجاهلية أي اتصال فكري أو ديني بين قريش التي نشأ فيها الرسول وبين الصابئين أو المانوية، وقد حال دون هذا الاتصال أمور كثيرة، ومنها اختلاف اللغة والخط والثقافة والحضارة، ومنها بعد المسافة بين مواطن هؤلاء وأولئك، فقد كانت بلاد الصابئين والمانوية في حدود فارس من الغرب على حين أن القرشيين كانوا يقطنون الحجاز والمواطن المتاخمة له، وكانت أسفارهم التجارية لا تتجاوز طريقي الشام واليمن، يسلكون أحدهما في رحلة الشتاء والآخر في رحلة الصيف، ولم ينقل عن الرسول عليه السلام أنه اتصل قبل بعثته بأحد من الصابئين أو المانوية أو عني بدراسة شرائعهم أو وقف على شيء منها، وظل هذا حاله إلى ما بعد رسالته بأمد غير قصير
(ثانياً): إن صوم رمضان يختلف اختلافاً جوهرياً في شروطه وقواعده ومقاصده ووقته وطريقة أدائه وحكمة تشريعه عن صوم الثلاثين عند الصابئين والمانوية، فليس بينهما من وجوه الشبه إلا الاتفاق في عدد الأيام وتتابعها؛ وهذه ناحية شكلية من التعسف اتخاذها دليلاً على أن أحدهما منقول عن الآخر. على أنهما يختلفان في هذه الناحية نفسها اختلافاً غير يسير. فالصيام الإسلامي مدته شهر عربي (وهذا الشهر يختلف باختلاف السنين، فتارة يكون ثلاثين يوماً وتارة تسعة وعشرين)؛ على حين أن صيام الصابئين والمانوية مدته(348/101)
ثلاثون يوماً. والصيام الإسلامي يبتدئ بابتداء الشهر وينتهي بانتهائه، أما صيامهم فيبتدئ من اليوم الثامن من الشهر وينتهي في الشهر التالي له
(ثالثاً): إن اختيار رمضان بالذات ليس سببه اتفاق مبدئه في أول عام شرع فيه الصوم مع مبدأ صيام الصابئين، كما ذهب إلى ذلك الدكتور جاكوب، وإنما سببه - كما صرح بذلك الكتاب العزيز، وكما يدل البحث التاريخي المجرد عن الهوى - أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن. فلا غرو أن اختصه الله بهذه المزية من بين سائر الشهور
(رابعاً): هذا إلى أن القرآن الكريم ينص على أن ما سن لنا من الشرائع قد سن مثله لكثير من الأمم قبلنا. قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى. . . الآية). وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم. . .) فمن الممكن إذن أن يكون صيام الثلاثين عند الصابئين والمانوية مستمداً في الأصل من شريعة سماوية تقادم عليها العهد فدخلها التحريف والتبديل وبعدت عن غاياتها الأولى وصبغت بصبغة التقديس للكواكب، وأن الدين الإسلامي قد كتب نفس الصوم الذي كتبته هذه الشريعة، فأحياها طاهرة نقية وقضى على كل ما علق بها من أدران الشرك
وقد ذهب بعض المؤرخين من المسلمين وغيرهم إلى أن صيام رمضان كان منتشراً عند بعض قبائل العرب في الجاهلية ولاسيما قريش؛ ويؤيدون رأيهم هذا بأن النبي عليه الصلاة والسلام نفسه كان قبل بعثته يقضي في غار (حراء) شهر رمضان من كل عام متحنثاً صائماً. وقد اختلفوا في أصل هذا التشريع. فمنهم من يرى أنه من الشرائع التي جاء بها إبراهيم عليه السلام، ويستدل على ذلك بأن الذين ثبت أداؤهم لهذه الشعيرة في الجاهلية كانوا من المعروفين باتباعهم لملة إبراهيم؛ ومنهم من يرى أن عبد المطلب جد النبي عليه الصلاة والسلام هو أول من سنه وسار عليه (وقد أخذ بهذا الرأي الأستاذ موير في كتابه (حياة محمد))
ولكن لم يثبت بعد شيء من هذا كله بالدليل القاطع. ومهما يكن، فإنه لا يضير الدين الإسلامي في شيء أن يكون صيام رمضان متبعاً عند العرب قبل بعثة الرسول. فمن المحقق أن الشريعة المحمدية أقرت كثيراً من عادات العرب وشعائرهم، وأن ركناً كبيراً(348/102)
من أركانها وهو الحج لم تدخل على أوقاته ومناسكه في الجاهلية تغييرا كبيرا.
علي عبد الواحد وافي(348/103)
باسمك اللهم
للأستاذ محمد سعيد العريان
اليوم هلال المحرم من السنة السابعة بعد البعثة
وقد وقف أبو الحكم إبن هشام المخزومي موقفه من نادى قومه، واجتمع إليه قبائل من أشراف مكة وذوي الرأي من قريش يسمعون مقالته؛ وما منهم أحد إلا كان له بلاء في إيذاء محمد وصحابته حتى بلغوا في الكيد لهم ما بلغوا ولم ينالوا منهم منالاً؛ فإن أبا الحكم وأصحابه اليوم لفي هم ناصب وأمر عظيم. . .
إن أمرهم ليوشك أن يفلت من أيديهم، وهم أعلى قريش منزلة ومكانة بين سائر العرب، من الساحل إلى أطراف البادية. وهذا محمد وإنه لرجل فرد ليس له منعة من أهل ولا عصبية من دم ولا جاه من غنى، وإنه على ذلك ليحاول أمراً يفرق جماعتهم ويقبل رأيهم ويلحد في آلهتهم وما يعبدون؛ حتى ليوشك لو خلوا سبيله أن يكون هو صاحب الرأي والسلطان في العرب جميعا. . . وأين هو من هؤلاء وأنى يبلغ؟
ولقد افتنَّت قريش في حربه ومناهضة دعوته والكيد له ولأصحابه ما بلغ بهم الجهد، ليصرفوه عن وجهه ويفضوا صحابته من حوله؛ فما بلغوا شيئا مما أرادوا، وإن دعوته لتنتشر وتذيع حتى يتسامع بها العرب، وإن أصحابه ليزيدون ويكثرون، وإن قبائل العرب من قريب ومن بعيد لتسمع عنه وتعرف من خبره ما لا يريد أبو الحكم بن هشام وحزبه أن يعرف أحد؛ بلى، وإن هذه الدعوة لتطوى البيداء وتجتاز البحر من ساحل إلى ساحل حتى تجد الطمأنينة والسلام في بلد المسيحية من مملكة النجاشي!
يا للعاقبة لو بلغ محمد ما أراد!
. . . واجتمع وجوه قريش وأصحاب الرأي في مكة يتشاورون ليدبروا لهم أمراً. . .
وقال أبو الحكم بن هشام:
(يا قوم، أما إنه ليوشك أن يكون أمر شديد! وإن هذا الرجل ليبالغ فيما يدعو إليه حتى كان ما كان من أمره؛ فإن لم يكن قتله واستئصال خضرائه حتى يذهب بدعوته وتذهب به، فليكن تدبير جديد. . .)
وتطاولت الأعناق تترقب ما يكون من تدبير أبي الحكم في جهاد محمد وأصحابه،(348/104)
واسترسل يقول:
(. . . ألا إن هذا الحي من بني عبد مناف هو منا ومنكم حيث علمتم؛ وإنهم ليطلبون غاية ليس إليها سبيل، أفنتركهم وما يحاولون حتى يئول أمرهم إلى أمر؟. . .
(. . . وهذا أبو طالب بن عبد المطلب يمنع ابن أخيه أن يخلص إليه ما يكره، فما لنا سبيل عليه بعد، فليجتمع أمرهم على ما يريدون وليجتمع أمرنا؛ ولتكن براءة قاطعة بيننا وبين هذا الحي من قريش: لا معونة بيننا وبينهم في أمر؛ فلا نبيعهم شيئا، ولا نبتاع منهم، ولا نخالطهم في شيء؛ وكل رحم بيننا مقطوعة حتى يفيئوا إلى أمرنا؛ فإنهم يوشكون إن بلغت هذه القطيعة أن تجف خضراؤهم فيموتوا جوعاً وعطشاً وعرياً، أو يعودوا إلينا مغلوبين وما تجرد سيف من غمده ولا أريق دم!
(يا قوم، فإن رأيتم فهذه يدي، وليكن بيننا عهد مكتوب نعلقه في جوف الكعبة توكيدا لما تقاسمنا عليه. . . وإن أبيتم. . .)
وصاح صائح من أقصى المجلس: (رضينا يا أبا الحكم!)
وجاء كاتبهم منصور بن عكرمة فأملى عليه:
(باسمك اللهم. . .
(هذا ما تعاهد عليه أشراف مكة وذوو الرأي من قريش: أبو الحكم بن هشام، وأبو لهب بن عبد المطلب، ومنصور إبن عبد شرحبيل، وبغيض بن عامر. . . أنهم براء من بني هاشم وبني المطلب، لا يبيعونهم شيئاً، ولا يبتاعون منهم، ولا يخالطونهم في شيء، وكل رحم بينهم مقطوعة، حتى يفيئوا. . .)
وتناول أبو الحكم الصحيفة فطواها، ثم علقها في جوف الكعبة، ليشهد الله أمرهم وأمر بني عبد مناف!
وأوى محمد وأصحابه إلى شعب أبي طالب من شعاب مكة، حتى يقضي الله أمراً بينهم وبين بني عمهم من قريش، ليس لهم مطمع إلا فيما بين أيديهم من طعام ولباس وشراب، ولا يعرفون إلى كم يمتد الحصار المضروب عليهم في هذا الشعب الضيق ليس له إلا باب واحد يقف الأعداء بمرصد قريب منه يمنعون أن يدخل إليهم داخل بشيء من الزاد أو الميرة. . .(348/105)
وتتابعت الشهور شهرا في أذيال شهر، والمسلمون في معتقلهم من شعب أبي طالب، لا يجدون ما يغني من جوع ولا من اللباس ما يدفئ من قر، إلا ما يتسلل إليهم في جنح الليل من شيء ليس فيه غناء يرسله إليهم من يرسل من أبناء عمومتهم على حذر ورقبة!
وجاء الموسم، وأَمّ الحجيج من قبائل العرب سوق مكة يسوقون الإبل قد أوقرت طعاماً وبزاً ليبيعوا ويشتروا ويتعوضوا
وطمع المسلمون أن يكن لهم من أولئك شيء؛ فإن هؤلاء التجار العرب في حل مما تعاقد عليه بطون قريش، فإن لهم أن يبيعوا أبناء عبد مناف ما يشاءون من بضاعتهم يداً بيدٍ؛ فما كان لهم في تلك (الصحيفة) الظالمة رأي ولا عقد
ويخرج من يخرج من المسلمين ليشتري زاداً من زاد القوم ويبيعهم مما عنده، ويقف على صُبرة من قمح يهم أن يشتريها، ويبصر به أبو لهب فيقوم في السوق مناديا:
(يا معشر التجار، غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد غلمتم مالي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم!)
ويسمع التجار ما قال أبو لهب، فيزيدون على المسلمين في السلعة قيمتها أضعافاً، فيرجع المسلمون إلى أهليهم وما باعوا ولا اشتروا وليس في يدهم شيء يطمعون به؛ ويغدو التجار على أبي لهب فيربحهم فيما معهم من الطعام واللباس!
ومضى عام وعام وأوشك ثالث، والمسلمون حيث حصرهم أبناء عمومتهم من قريش، حتى جهدوا وأشفت نفوسهم على التلف جوعاً وعريا. . .
ويرى محمد ما أصاب أصحابه في سبيل الله، فيثبتهم ويربط على قلوبهم، ويقول:
(لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه؛ ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله!)
فتهدأ نفوسهم مطمئنين إلى العاقبة!
ويبلغ بهم الجهد، حتى يأكلوا ما يسقط على الأرض من ورق الشجر، وحتى يصنعوا ما تصنع الشاة: لا تجد أكلاً إلا ما تتقمَّم من خشاش الأرض ومن بارض النبت في مسايل الِّلوَى. . .(348/106)
ويشد سعد بن أبي وقاص على بطنه من ألم الجوع حتى يكاد يلتصق بظهره؛ وينال منه الجوع حتى يخرج في سواد الليل يلتمس رمقه، فيطأ على شيء رطب، فيضعه في فمه فيبتلعه، لا يدري ما هو، ولا يجد له في فمه مذاقا!!
ويتضاغَى أطفال المسلمين من الجوع، وتسمع أصواتهم من وراء الشعب صائحين من السغب والمتربة!
والمسلمون على ما بهم: لم ينل منهم الكفار منالاً بما صنعوا لأنهم وهبوا نفوسهم لله؛ فلا عليهم أن يموتوا جوعاً أو يموتوا مجاهدين في سبيل الله!. . .
وتسامع المشركون بما نال محمداً وأصحابه من الجهد والمسغبة فمنهم من سرّه ذلك، ومنهم من ساءَه. . .
ويفرح أبو الحكم بن هشام بما نال المسلمين من الجهد والمسغبة، ويستخفه الفرح حتى يأمل أملاً. . .
ويغضب من يغضب من قريش لما نال إخوانهم وأبناء عمومتهم من بني عبد مناف، وإن كانوا على دين محمد!
ويشفق هشام بن عمرو بن ربيعة على ما نال أخاه لأمه نضلةَ ابن هشام بن عبد مناف، وكان مع المسلمين في شعب أبي طالب، فيأتي ببعيره قد أوقره طعاماً وبزاً. . . فيقبل به فم الشعب ليلاً وقريش في غفلاتها، ثم يخلع خِطامَه ويضرب على جنبيه فيدخل الشعب عليهم ليقتسموا ما يحمل من طعام وبز. . . وماذا يغني بعير واحد والمسلمون كثرة يكاد يقتلها الجوع والعرى؟. . .
ويقول أبو طالب لابن أخيه: (لقد بلغ الجهد منا ما ترى، وإن رجالاً من قريش قد استشعروا الندم على ما تعاقدوا عليه، لولا شرف السمعة وتهمة الخيانة لأحلوا أنفسهم مما ارتبطوا به من عهد الصحيفة!)
وابتسم محمد بن عبد الله، وقال: (يا عم، إن الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش؛ فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان!). . .
ويفرح أبو طالب ويقول: (أربك أخبرك بهذا؟)
قال: (نعم!)(348/107)
وخرج أبو طالب إلى قريش في ناديهم ليتحدث إليهم في أمر. . .
ويصعب على هشام بن عمرو ما يلقى أخوه نضلة والمسلمون معه، فيمشي إلى جماعة من أشراف قريش لهم في بني عبد مناف صهر وخئولة؛ فيحرضهم على نقض الصحيفة، رعاية لحرمات النسب وحفاظاً على حق الدم، فيجتمع على رأيه بضعة نفر، فيتوافقون على ميعادهم إلى حيث كان وجوه قريش مجتمعين في ناديهم من الحجر؛ ويقدمهم زهير بن أمية (وأمه عاتكة بنت عبد المطلب) فيطوف بالكعبة سبعا ثم يقبل على الناس فيقول:
(يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة!)
ويرتاع أبو جهل بن هشام لما يسمع، فلا يكاد يرد رأيه حتى تأخذه الأصوات من كل جانب: (مزقوا الصحيفة، لا نرضى ما كتب فيها ونبرأ إلى الله منه!)
تلك كانت أصوات هشام بن عمرو وأصحابه الأربعة: المطعم إبن عدي بن عبد مناف، وزهير بن أمية بن المغيرة، والعاص ابن هشام، وزمعة بن الأسود
ويبلغ الغيظ بابي جهل وأصحابه ما يبلغ، أن رأوا ما أجمعوا عليه يحاول أن يخرج من أيديهم حين ظنوا أنهم من الغاية التي يهدفون إليها على خطوات، وأن محمداً وأصحابه يوشكون أن يفيئوا. . .!
وقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل، وما أحسبكم إلا دبرتموها في غير هذا المكان!
ويقدم أبو طالب بن عبد المطلب في جماعة من بني أبيه قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب؛ فما إن يسمعون ما يقول أبو جهل حتى يبتدره أبو طالب: (بل هو أمر قد قضاه رب محمد)
والتفت أهل الندى إلى حيث كان أبو طالب في أهله، لا يدرون ما يعني مما يقول!
وتقصف الناس على أبي طالب يستثبتونه عما قال، ومضى في حديثه:
(. . . بلى، وإن بيننا وبينكم هذا العهد المكتوب في الصحيفة، فإن ابن أخي أخبرني من أمرها. . . فهلم إلى صحيفتكم؛ فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها؛ وإن كان كاذبا دفعته إليكم فما شئتم فافعلوا به!)
ووثب المطعم بن عدي إلى حيث كانت الصحيفة في جوف الكعبة، وفض غلافها، ونظر،(348/108)
ونظر القراء؛ فإذا الأرضة قد لحستها لم تترك فيها من شيء يقرأ إلا (باسمك اللهم. . .)
وخرج المسلمون من شعب أبي طالب إلى فضاء مكة كعهدهم يوم كانوا؛ وانفك الحصار الذي كان مضروباً عليهم ثلاث سنين لا يبيعون ولا يباعون؛ وإن كانوا من عداوة المشركين لهم وائتمارهم بهم في أمنع وأبلغ؛ ولكن شيئا من ذلك لم ينل من نفوسهم ولم يوهن عزائمهم
ومضت أربع سنوات أخر؛ ثم انطلق المسلمون من الحصار المضروب عليهم حول مكة كلها مهاجرين إلى حيث يؤلف محمد وصحابته حكومتهم في دار الهجرة؛ ولا تمضي إلا سنوات من بعد، حتى يكون محمد وأصحابه في طريقهم إلى مكة يقودون الجحفل اللجب ليحاصروا مكة كلها ويسلم إليهم أهلها صاغرين!
ودار الفلك دورته؛ فإذا تلك القلة من بني عبد مناف وجيرانهم الذين كانوا بالأمس محصورين في شعب من شعاب مكة لا يجدون ما يأكلون - قد وثبوا أكبر وثبة عرفها التاريخ، فإذا منهم القادة والسادة والأمراء، يضعون يدهم على مفاتيح خزائن الدنيا، ويبشرون بدين الله في أربعة أقطار الأرض. ورفرفت الراية الإسلامية على قلاع فارس والروم وأوربا؛ ومضى جنود المسلمين من أبنائهم وحفدتهم يطئون العروش ويقتحمون الممالك وهتافهم يدوّي حيث كانوا: (باسمك اللهم! باسمك اللهم!)
محمدي سعيد العريان(348/109)
ضع يدك في يد محمد
للأستاذ عبد المنعم خلاّف
ضع يدك في يد محمد وسر معه في الطريق الذي شقه له بارئ الطبيعة بين السبل المتفرقة إلى الحقيقة والعدالة والسلامة الاجتماعية، وقوة الاعتزاز بالقيوم على السموات والأرض، وشدة الحرص على اتباع أسلوبه في حفظ الفطرة سليمة من زيغ الحس وخداع الهوى وأفن الرأي وألاعيب الذكاء. . . تسلم لك نفسك أولاً، والإنسانية ثانياً، والطبيعة كلها ثالثاً
فلم يبق لك بد أن تفر إلى هذا الرجل وتستعينه في جهاد ما يجتاح الأرض الآن من الشر والتقدير السيئ للنفس الإنسانية والحياة والاجتماع
ولم يبق لك بد كذلك أن تقيم المثل الأعلى الذي رسمه الله في قلب هذا الرجل وعقله وتقذف به على الأمثلة السفلى التي رسمها الأنبياء الكذبة في هذا الزمان
نعم إنك لست في قوة هؤلاء الجبابرة، ولكن من هنا ستكون المعجزة. معجزة محمد في صرع طواغيت الظلم والجبروت والحيوانية وتفريق الإنسانية وردها إلى الوحشية الأولى
إنك عرفت برأيك الحق الذي مع محمد، وتعرف الباطل الذي مع هؤلاء، فاعرف بعزمك وجهدك في أي الصفين يجب أن تقف. ولن يغفر لك رب الحياة القيوم عليها والغيور على اطراد أسلوبه فيها أن تقف شيطاناً أخرس ترى الإنسانية - أثمن ودائع الله في الأرض - تتخطفها الشرور وتتوزعها الأباطيل وتصرفها عن وجه الحقيقة والعدالة وتخرب بناء أجسامها وعمرانها بعد ما طال وسما
لقد سار شباب كل أمة وراء نبي كاذب يقول لهم: نحن! نحن! ولا أحد غيرنا. . . فالشمس والهواء والغبراء والزرقاء لم تخلق في عرف هؤلاء إلا لهم. وهذا كذب صارخ على الله، وحرب مصرحة مستعلنة لما أراده من تنويع الناس، وشرود جامح عجيب من عقل الإنسان ذي الشطحات
ونحن لن نبحث عن رجل آخر نسير وراءه ينعق لنا وننعق له ونطلب منه مبادئ أخرى تجدد حياتنا، وإنما ستبعث محمداً في نفوسنا ونسير وراءه فيهتف لنا ونهتف معه بما هتفت به السموات والأرض وكل قائم حقيق في الفكر والحياة والزمان الأزل الأول وفي الأبد الآخر(348/110)
فلن نصاب بعبادة الأشخاص وتأليه الأفراد. وهذه إحدى نعم الله في محمد على الديمقراطية وميراثها. فقد كفل الله لكل نفس حق سيادتها واستقلالها بالعلم والرأي حين خولها القرآن: (مأدبة الله في أرضه) وجعل مبادئه واضحة أمامها دائما: (ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مدكرٍ) وعلى قدر الامتلاء من مبادئ محمد و (تمثيل) الأشخاص لها يكون مركزهم من قيادة أمتهم من غير سيادة فردية أو خيلاء عاهرة أو مجد شخصي يطلبونه. . . وإنما هو ظل مجد محمد وقع عليهم فأضفى عليهم لوناً من ألوانه
إن محمداً نفسه لم يطلب مجداً ولم يرد ذكر كلمة المجد الإنساني على لسانه. . . وإنما كان يعرف أن المجد لله كله والتوفيق منه. وما كان قلبه يبيح له أن يطلب هذه الصغائر التي تذهب قيم العظائم. وإنما كان يذكر كلمة (الواجب) والجهاد له كثيرا. . .
وإن من طبيعة الرسالة المحمدية أن تحطم الأنانية الفردية والكبرياء والخيلاء والادعاء، لأنها تعرف أن هذه الصغائر لا يقوم معها حق ولا فضيلة ولا دولة ولا سيادة قومية ولا ملية. ولذلك خرج العرب بعدما وعوا ما في ألواح هذه الرسالة خافضي الجوانب من الطاعة والرحمة والتواضع في غير ذله (تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناه) قد يركب عبدهم على دابة والسيد يسير بجواره. وقد يضع ابن البيضاء لابن السوداء خده على التراب استغفاراً من تعييره مرة بسواده وتوكيداً لاعتذاره. . .
لقد أوشك أن يختفي اسم الله عن إنسانية هذا العصر، ويختفي ما كان يحيط بهذا الاسم من عالم الطهر والخير والصبر وانتظار الجزاء من وجهه ذي الجلال، ويظهر وجه الشيطان والإنسان وحدهما. فأبطال الدنيا يخفون اسم الله عن أعين القطعان التي أسلمت قيادها لهم، وهم يجحدون بذلك كل جهاد أولى العزم من الرسل والمصلحين السابقين الذين أوصلوا الإنسانية إلى ما وصلت إليه، ويبدءون فلسفة أنانية، ولا يرون من حقائق الحياة العليا إلا القوة
إنهم شككوا الناس في رحمة الله وعدله وأوشكوا أن يريبوهم في وجوده! وبذلك خبلوهم وصرفوهم عن رؤية أول حق يجب أن يرى. . .
لقد يتساءل بعض الذين لم يتصلوا بأصول الحياة: أين رحمة الله في حرب مثل الحرب العظمى أو هذه الحرب التي توشك أن تكون أعظم؟ واين قيمة الإنسانية التي نزعم لها(348/111)
القداسة مع أن بعضها ينظر للبعض الآخر باحتقار؟ إن معنى الإنسانية لم يتحقق حتى نعترف لها بالقداسة. إن الأبيض يدوس الأسود، والأحمر يحتقر الأصفر، والأصفر يحقد على الأبيض، وهكذا. . . فهي إلى الآن لم تعترف لنفسها بحق، ولم تعرف وضعيتها في الحياة، ولم تدر غايتها فيها، ولم تتفق على كلمة سواء فيما بينها. وهي لا تزال في بلبلة من آرائها ومعتقداتها ومذاهبها. وهي لا تزال تعيش بمنطق الأحراج والغابات، ولم تقلع بعد عن فجراتها وغدراتها وغفلاتها عن عالم السمو والعلم الذي ما خلقت إلا له.
وهذا التساؤل وهذا التشكك لا جواب له ولا شفاء منه إلا في (الكتاب) الذي طبع اسم الله على كل شيء وفي كل وقت حتى يرى الناس به الحق دائما ولا ينسوه. ولن يستقر كل شيء من عالم الآفاق وعالم الأنفس في مكانه إلا إذا طبع اسم الله عليه. وعبثا يطلب مصلح استقرار النفوس ما لم يكن هذا أداته الأولى. وهذه هي طريقة القرآن في كل آية: أن يذيلها بذكر جانب من صفات الله وشؤونه
إن منطق الإسلام يستمد من قوانين الفطرة الضامنة لكل ما أخرجته من الأحياء حق الحياة وأدواتها، ومن روح الحق الذي يملأ كل ذرة من ذرات الخليقة
إن محمداً اتصل ببارئ الفطرة وواضع قوانينها التي لا تتبدل وأتى بمنطقه ووضعه دائماً أمام أعين الإنسان، حتى لا ينسى أخلاق الله في ملابسته لجميع أعمال دنياه. . .
ألم يقل: (تخلقوا بأخلاق الله)؟ ما أعجب هذا القول! وما أعظم ربطه بين النفس الإنسانية والطبيعة ذات القوانين التي لا تضل ولا تخلف!
وخلافة الإنسان في الأرض هي أن يعمرها على أسلوب الله: أي أن يضمن الحياة لكل حي يستحقها ويقيم العدل الموزون بين العناصر، ويستعمل قدرته، ولا يعطلها بالجهل والمرض. . . ويخلق من طين الأرض وموادها البكر الميتة آلات يقلد بها صنعة الله، ويسيرها بعقله وذكائه كما يسير الله الأحياء بروحه وإلهامه. . . على شريطة ألا يخرجه ذلك عن نطاق الطبيعة فينسى أنه من أبنائها وأشيائها؛ ولكنه دائما يضل وينسى هذا، لأنه ذو اختيار وذكاء وشطحات تباعد بينه وبين أسلوب الطبيعة، وفتنته من هنا. . . فهو يخلق بذكائه جواً صناعياً حوله يجعله منفصلاً عن سير الحياة بما عداه من الأحياء، ويجعل بين عالمها وعالمه حاجزا!. . .(348/112)
فلو إنه ملك فكره وقدرته حين بدأ سير حياته العقلية، ونظر نظرة في النجوم: نجوم السماء ونجوم الأرض، وقال كلمة للقرآن التي هي معنى الإسلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً) ومضى مع مواكب الطبيعة حادياً لها بعقله وبيانه، نائبا عنها في النطق باسم ربها وربه. . . إذا لوضحت أمامه طريق الحياة وتراءت له غايتها مما يبعث فيه الطمأنينة واليقين والصبر وحب العمل لها ولما بعدها. والمنطق البسيط المأخوذ من هذه النظرة الواضحة يقول: ما دام الناس متفرقين مختلفين في الفطرة ولهم حق الحياة، فمن الجهل والظلم أن أحتقر جنساً غير جنسي أو أحتكر الحياة لنفسي وحدها مادام كل إنسان لم يخلق نفسه. . . ومن حسن الحظ أن هذه النظرة الأولية الطبيعية تلتقي مع النظرة الناشئة من تتبع الميراث الصناعي لأساليب حكم الجماعة الإنسانية: أي مع أهم مخلفات الحياة الديمقراطية التي ارتاح لها الإنسان السياسي: ألا وهي حق الحياة وحريتها لكل فرد ولكل جماعة. . .
ومن حسن الحظ أيضاً أن حراس الديمقراطية الآن - وإن كانوا أنقص من المسلمين بدرجة عظيمة في تقديرهم معنى المساواة والحرية والرحمة والأخوة الإنسانية - مستعدون أن يسمعوا دعوة الإسلام لها وأن يأخذوا أصواتنا القديمة والحديثة في الدعوة إليها والدفاع عنها ليضموها إلى أصواتهم وهم يحاربون أعداءهم
نعم نحن نفترق عنهم في التقدير وفي الغاية، فنحن نطلب الحق والحرية والعدالة لذاتها واللذة إحساس نفوسنا بسموها إحساساً مستنداً على حرارة الإيمان ويقين العقيدة الدينية، وهم يطلبونها ويقدرونها لحفظ ما في أيديهم من الحطام وأعراض الدنيا
غير أننا يجب أن ننتهز هذه الفرصة لندخل بمبادئ محمد إلى قلوب حراس الديمقراطية، فلعل ما هم فيه من المحن والنكبات يجعلهم يقبلون على الخير والحق لذات الخير والحق. . .
ومادمنا نعتمد على إعانة رب الحياة الذي نستمد من قوته وقهره للدفاع عن أسلوبه في الطبيعة وحفظ فطرته كما أرادها؛ فإننا واثقون أنه سيفتح لنا ثغرا في حياة الغربيين ينفذ منها نوره الذي وضع مِشعاله الأخير في يد محمد
وأحس أن هذا الزمان يتمخض عن انقلاب خطير! إما إلى عصر ارتداد وانتكاس وجاهلية(348/113)
جهلاء. . . وإما إلى عصر سمو حقيقي للإنسانية. فعلى الذين وهبوا أنفسهم للحق الذي عرفوه أن يأخذوا مكانهم في الصف الذي اختاروه: صف الطبيعة ورب الطبيعة في هذه المواقع الفاصلة بين قوى الخير وقوى الشر
إن قلب الإنسان يفعل الأعاجيب إذا ما اتصل بالخير. . .
إن المرصد الذي يرصد إرادة القدر ووجهاته حين يريد رب القدر أن يفرق أمراً حكيماً أو يبرمه
إنه مذياع أرضي يذيع النداء العلوي المتجدد. . .
ونريد من الذين لا يعترفون بالديانات ولا يؤمنون بالغيب ولكنهم مألومون من حالة الشر التي في الأرض الآن، أن يقفوا في صف محمد على إنه بطل يمثل آراءهم أصدق تمثيل وأقواه
وإن في مبادئه عناصر بشرية خالصة مستمدة من طبيعة الأرض لا من روح السماء
فليعيشوا بمبادئه هذه فقط، وليتركوا مبادئه السماوية للذين في قلوبهم نوافذ ترى ما لا تراه القلوب الضعيفة
ولعل النصر الذي يلاقونه من السير وراء محمد يرشدهم إلى أن فيه جانبا آخر، فيحملهم ذلك على الإيمان بمصادر وحيه جميعها
وأؤكد أن ما فيه من السمو المتفرد سيحمل كل منصف على أن يرى تفرد قلبه وعقله بصفات لم يتصف بها أحد. وهذا أول درجات الاعتراف له بالاتصال بعالم خارج عن نطاق الأرض ما دام قد تفرد بين أبطال الدنيا الذين نظروا إلى الحياة من جهة واحدة، بأن قلبه وسع كل حيوات الناس، واستوعب قضاياهم، وأتى من الله بصميم الحق الذي لا يتبدل في الأمم والأمكنة والأزمان. ولا يعرف قدر محمد رسول الله وطبيعة تفرده بين البشر إلا الذي أغرم بقراءة تاريخ أبطال الدنيا. إنه لن يجد قلباً ولا عقلاً وعى ما وعى عقله وقلبه من الحق الصادق والحكمة البالغة ووسائل إمساك الإنسانية على حدود العدالة
وكثيراً ما افترض أني نشأت غير مسلم، وأتخيل حياتي العقلية على هذا الغرض، وقد أصابها ما يصيب أي عقل باحث من الشكوك وآثار استعراض الآراء والمعتقدات، فأجدني حينئذ كأعمى يخبط في صحراء، كل ما لديه من الإيمان ناتج من شعوره بالعجز المطلق(348/114)
أمام جبروت الكون وإبهامه وإصراره على إخفاء ما وراءه من أسراره. . . فماذا عساه أن يفعل إزاء هذا غير البكاء الدائم من عينيه المغلقتين المظلمتين إن كان محساً بالحياة مقدراً لمصيرها المجهول. . .؟ وغير اللعن الدائم للسموات والسعي بالإفساد في الأرض إن كان بليد الإحساس بالحياة، غافلا عن مصيرها. . .؟ وغير اللِّياذ بصنم: بشري أو حجري أو شجر أو شمس أو قمر أو ثعبان أو بقر إن كان محدود النفس جبان الرأي؟
أما الإيمان المشرق الواضح الذي يميز كل شيء ويضعه في مكانه، ويعرّف رب الكون بما يشبع رغبات العقل من غير إفساد لائتلاف العقيدة مع العلم ومع الفلسفة ويضع للإنسان غاية معروفة للحياة. . . فذلك ما كنت أفقده لو لم أنشأ مسلما
وهكذا يبزغ الفجر العقلي الجديد لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسيتحول حب المؤمنين به الباحثين فيه إلى حب عقلي وتقدير بمقاييس موضوعية لا ذاتية إذ عرفوا أن رسالته لا تضارعها رسالة حديثة أو قديمة على كثرة تقلب الدنيا في المعتقدات والمذاهب والآراء.
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(348/115)
خَبّاب بن الأرت
للأستاذ كامل محمود حبيب
(رحم الله خباباً، أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلي في جسمه أحوالاً، وإن الله لا ضيع أجر من أحسن عملاً)
(علي بن أبي طالب)
هذا هو (خباب بن الأرت) فتى لم يبلغ الثلاثين من سني حياته، أيدٌ جلد، وثيق الأركان متكتل العضل يغدو ويروح على حاجات مولاته (أم أنمار) وحديث قريش ما ينفك يضك مسمعيه، وهو عنه في شغل. . . ودوّى الحديث في أرجاء مكة يزلزل القلوب والأقدام وعلى كل لسان كلمة واحدة: محمد. . . محمد! وإن زعماء قريش وذوي الجاه فيها ليضطربون يوجسون خيفة مما جاء به محمد
وجلس خباب إلى نفسه يقلب الرأي، وقد فرغ من حاجات سيدته: محمد! أي بأس على الرجل، وهو الصادق الأمين؟ تالله ما علمنا عليه من سوء منذ كان. أفيفترون عليه الكذب بعد أن بدأ الشيب في صدغيه؟ ثم ما هذه الأصنام التي أراهم يعبدون؟ أفحقاً أن فيها آلهة؟ ليت شعري أي الحزبين أهدى سبيلا وأقرب رشدا؟
ثم. . . ثم غدا على مجلس رسول الله (ص) يريد أن يستطلع خبر الدين الجديد؛ وإن رجليه لتختلجان من الرعب، ولإن قلبه ليتفزّع من الذعر، خشية أن تراه أعين شياطين قريش فيبطشوا به، وهو هنا وحده لا تربطه بالقوم آصرة رحم ولا وشيجة قربى فيأمن كيدهم أو ينجو من مكرهم. . وفي مجلس النبي الكريم جلس خباب يسمع، وإن حلاوة الحديث لتبدد وساوس نفسه، وإن الإشراق الإلهي ليتدفق في قلبه فيجلو صدأه، ثم. . . ثم اطمأن قلبه للإيمان، فبدا رجلا غيره، يعلن عن إسلامه في غير رقبة ولا حذر
يا عجباً! أي سر خفي انصب في قلب الرجل فأصبح لا يفزع من شر قريش جميعاً، وهو كان يفرق من أن تراه عين وهو يدلف إلى مجلس رسول الله (ص)؟ لا ريب فهذا هو الإيمان الحق حين يتغلغل في النفس، فينتزع الإنسان من معانيه الأرضية ليكون في معانيه السماوية فحسب
ورضي رسول الله (ص) عن خباب فكان يحبوه بعطفه، ويخصه بعنايته، ويألفه ويأتيه.(348/116)
وتناهى الخبر إلى سيدته (أم أنمار) فحاولت عبثا أن تقف بينه وبين سيده. ولما أعجزها أن تنال بغيتها راحت تذيقه العذاب البئيس في غير شفقة ولا رحمة. ثم. . . ثم انفلت إلى رسول الله (ص) يكشف له عن أثر ميسم أم أنمار في رأسه، وعيناه تتحلبان من فرط الأسى، فدعا له النبي: اللهم انصر خباباً. فما تلبث غير قليل حتى أخذت أم أنمار العلة، فهي تعوي عواء الكلب، وخباب يكوي رأسها بميسم يتوهج، علها تبرأ من علتها أو تذوق وبال أمرها
وكبر على قريش أن يقوم رجل منهم يثاب آلهتهم ويسفه أحلامهم ويعيب دينهم، فشرى الأمر بينهم وبين النبي الكريم، فتذامروا يتواثبون على المسلمين يعذبونهم فنونا من العذاب، وإن الشيطان ليوسوس لهم يريد أن يدفعهم إلى غاية، وهم يرتدغون في الضلالة، ويتخبطون في الظلمات، وقد طم العمى على قلوبهم، وبين أيديهم جماعة من ضعفاء المسلمين: خباب وصهيب وبلال وعمار وسمية و. . . يلبسونهم أدراع الحديد، ثم يلقون بهم بين لفحات الحر ووقدات القيظ، وهم صبر على حر الحديد وأوار الشمس، وخباب من بينهم تسخر شجاعته من غيظ الكافرين.
يا لله! إن في الإنسان نوازع إذا سيطرت عليه استحال إلى حيوان لا يجد في نفسه معنى من معاني الإنسانية، وهكذا كانت قريش حين أخذتهم ثورة الغضب والغيظ ورانت عليهم سورةالسلطان والجاه، فذهبوا يفتنون في أذى المستضعفين من المسلمين. . .
أي شيء جنى خباب فيلصقوا ظهره بالرضف في قسوة وغلظة ثم ما يزالون به حتى يذهب لحم متنه؟
أي ذنب ارتكب خباب فيأخذوه إلى نار تتسعر يسلقونه فيها، ثم ما يبرح الواحد منهم يضع رجله على صدره، فما يتقي الأرض إلا بظهره؟
واستشعر خباب العذاب يأكل لحمه ويفري جلده، وما له مفزع سوى رسول الله (ص) فانطلق إليه يستنصره على ما يلقى من فظاظة قريش وجفوتهم. . . فقال له رسول الله (ص) وإن أثر الغضب ليبدو في وجهه: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالميشار فيجعل فوق رأسه ما يصرفه عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير(348/117)
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون). فخرج خباب ورفاقه من لدن الرسول يستعذبون الأذى في سبيل الله
وفزع المسلمون بدينهم إلى الحبشة، وخباب بازائهم يودعهم إلى مهاجرهم، وعيناه تفيضان من الدمع حزنا على فراق أحباء نفسه في العزاء ورفقاء قلبه في الشدة، ثم هو ما يريد أن يتحول عن مشرق النور من وجه النبي الكريم، على حين يرى فيه السلوة والعزاء؛ وقريش تشتط في عذابه، فما تنال منه أربا، ولا تبلغ منه غرضا وفي قلبه الإيمان. . .
وهاجر - فيمن هاجر - إلى المدينة ليعيش إلى جانب سيده يشهد المشاهد كلها لا يستشعر الوهن ولا يتسرب إلى نفسه الخور، ثم هو بين صحابة الرسول (ص) في المنزلة والشرف. . .
ولحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى، فتهطلت عبرات خباب مدراراً حين أحس لذع الفراق في قرارة نفسه، غير أن الأسى ما كان ليبذر فيه غراس الوهن في دينه أو الضعف في إيمانه، فانطلق إلى غايته يبذل النفس والمال في سبيل الله، وصحابة رسول الله (ص) يعرفون له حقه ويكرمون وفادته. وإن عمر إبن الخطاب في خلافته ليراه يدخل عليه فيقول له: ادن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر. فيأخذ خباب يريه آثاراً في ظهره مما عذبه المشركون. . .
لقد كشف عن ظهره لينشر آلام جسمه على عيني عمر، أو ليكشف عن سمات جهاده في دين الله، فإذا هو قد برص من كثرة ما ناله من أذى. . .
وانشقت العصا ومرج الأمر وراح كل حزب بما لديهم يفاخرون، وخباب بالكوفة بين صحابة علي تحبسه العلة، ويقعده السقام؛ فلا يجد القوة على نصرة علي بنفسه. . . وألح عليه المرض يدفعه إلى غاية كل حي وفي نفسه أن يتمنى الموت، من طول ما عركه المرض، لولا إنه سمع رسول الله (ص) يقول: لا ينبغي لأحد أن يتمنى الموت. . .
وعاد خباباً نفر من أصحاب رسول الله (ص) وهو في علته التي مات فيها فقالوا له: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تقدم عليهم غدا. فتدفقت العبرات من عينيه وهو يقول: أما إنه ليس بي جزع، ولكن ذكرتموني أقواماً وسميتموهم لي إخواناً، وإن أولئك مضوا بأجورهم كما هي، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا من بعدهم. هذا هو(348/118)
كفني قباطي، ولكن حمزة عم النبي (ص) كفّن في بردة كانت إذا مدت على قدميه قلصت عن رأسه، وإذا مدت على رأسه قلصت عن قدميه حتى جعل عليه إذ خر. ولقد رأيتني مع رسول الله (ص) ما أملك ديناراً ولا درهماً، وإن في ناحية بيتي الآن، في تابوتي، ألف وافٍ. ولقد خشيت أن تكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا
لا ضير، فهذا حديث خباب بن الأرت سادس ستة أسلموا أول ما بزغ النور الإلهي من جبين المصطفى (ص) هو حديث الإيمان المحض الذي ما يزال يتوثب في القلب فيشغله عن آلام نفسه ليذره بين الطمع والخوف
ودفن خباب - أول من دفن - بالظهر من الكوفة
ومرّ عليّ - حين رجع من صفين - بقبر خباب، يشيّع الراحل بكلمات: رحم الله خباباً! أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً، وابتلي في جسمه أحوالاً، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاَ.
فرحم الله خباباً.
كامل محمود الحبيب(348/119)
في دار الأرقم
للأستاذ ناجي الطنطاوي
اختفت شمس مكة وراء الأفق الساجي ساحبة ما تبقى من أشعتها الذهبية على قمم الجبال الشامخة، وعلى صدور الهضاب المتموجة، بعد أن لبثت نهارا كاملا تبعث الدفء والنور والحياة، وغام الأفق في مكة وبدأ ينتشر فيها الظلام، وما هي إلا لحظات حتى لفّها الليل بردائه الحالك وظهرت الكواكب في سمائها تلتمع خافقة واجفة، تزيّن تلك السماء الرحيبة الواسعة كما تزين الأوسمة الفضية الثمينة صدر القائد الكبير؛ وأوى الناس إلى دورهم يستنشقون فيها نسيم الراحة بعد تعب النهار الطويل، ويفيئون فيها إلى الدعة والسكينة بعد صخب النهار الشديد، وبدأت أضواء المصابيح الخافتة في الليل الأسود كأنها رقع في ثوب أو دنانير في جيب
وعمّ جبل أبي قبيس سكون رهيب، وصمت بالغ، وامتد (الصفا) في ذروة هذا الجبل رحيباً واسعاً باسماً جميلاً، يتمشى مع (المروة) جنبا إلى جنب، يحضن بضع دور قامت على جانبيه هي دور نفر من أهل مكة رغبوا عن سكنى مدينتهم التي تعجّ بالآهلين، فأحبوا الانطلاق إلى الفضاء الواسع، إلى الطبيعة الفاتنة، إلى النسيم الصافي العليل، فلم يلفوا خيرا من جنبات الصفا يلقون فيها عصيهم، ويبنون بها دورهم، ويحيون فيها حياة هادئة سعيدة
وكان الناظر إلى هذه الدور القليلة المنثورة هنا وهناك على أرض الصفا، يستقر بصره على دار قد نأت قليلا وانفردت، دار متواضعة صغيرة شيدت بالطين والقصب، وأحاطت بها الرمال الدكناء والصخور الجرداء، لا يشك أنها دار الأرقم بن أبي الأرقم ذلك الرجل العربي الذي كان يعيش من نتاج ناقته من اللبن، ومحصول أرضه من الشعير، لا يعرفه إلا نفر قليل من صحابه، ولا يدري بوجوده إلا أفراد معدودون من أهله
كان الأرقم مغمور الذكر، مجهول الاسم، يحيا كأكثر رجال قومه حياة ساذجة بسيطة فارغة متشابهة، هي بحياة الحيوان أشبه، يقضي نهاره في جمع الماء والحطب وسقي الزرع واستدرار النوق والأغنام، ويقضي ليله بين أهله يحدثهم ويحدثونه ثم يستلقي نائما حتى الصباح(348/120)
وقد كان من الممكن أن تظل حياته سائرة على هذا النمط ثم يموت فلا يدري به أحد، كما مات كثير من قومه فمات معهم ذكرهم، وقد كان من الممكن أن تبقى داره متواضعة حقيرة لا يعرفها أحد ولا يهتم لها إنسان، لولا أن الله سبحانه أراد لحكمة بالغة أن يجعل اسم الأرقم في فم الزمان، يتألق في التاريخ الإسلامي كما تتألق الدرة الثمينة في القصر الفخم العظيم، وأن يجعل تلك البنية الخاشعة الصغيرة المشيدة بالطين والماء، منبع حضارة هدت العالم، ومنبثق دين ساد الكون. . . كانت الدار الحقيرة كأمثالها من دور العرب في زمن الجاهلية الجهلاء، يقطنها عربي جاهلي ساذج مع أمه العجوز وزوجه الشابة وصغارهما، يحيون حياة بدوية بسيطة، لا تمت بنسب إلى الحياة الفخمة المعقدة ذات التكاليف والواجبات الثقيلة، أكان يدور بخلده أن حياته ستقلب رأسا على عقب؟ أكان يحلم أن داره ستصبح في يوم قريب أعظم مجلس نيابي قام على الأرض؟ أكان يظن أن شمسا ستشرق من داره فيعم نورها أرجاء الأرض ويحيا بها العالم؟. . .
خرج صباح يوم من داره يجول جولة بين قومه على عادته، يتسقط الأخبار، ويصغي إلى الهمسات والأحاديث. . . فسمع نفرا منهم يتحدثون عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، حديثا أثار اهتمامه، فأصغى إليه بكل جوارحه، ولاح له من كلامهم أن دعوة جديدة سيئة منكرة يقوم بها هذا الرجل، وبدت له شناعة هذه الدعوة وقبحها من كثرة الشتائم التي سمعها تنهال على صاحبها، فأكبر الأمر، وهاله أن يكون في قومه من يبتدع منكراً من القول يلفت به الناس عن دين آبائهم وعاداتهم وأخلاقهم، وصمم ليفتشن عن محمد، وليجتمعن به، وليسمعن كلامه الجديد. . . ومشى ذاهلاً يتملكه العجب من هذا الذي سمعه، وهو يعرف (الأمين) أحسن قومه خلقاً وأطهرهم نفساً وأبعدهم عن المفاسد والمعاصي، وأكثرهم أدباً وعقلاً ورزانة وحلماً وعفافاً، وأصدقهم، وأرقهم قلباً وأكثرهم عطفاً على المساكين والأطفال واليتامى والبائسين. . . إنه لا يعرف رجلا أطهر ولا أشرف ولا أكرم ولا أصدق من محمد. . . إن قومه لم يعرفوا له كذبة واحدة، ولم يستطيعوا أن ينسبوا إليه عملا سيئا قبيحا واحدا، فما الخبر؟ وما هذه الدعوة الجديدة؟!
وسار الأرقم، وظل سائرا، وهو يسأل الناس الذين يلقاهم عن محمد، حتى دل عليه، ووصل إليه؛ فرآه في جماعة من قومه يدعوهم ويحدثهم، فجلس لا يشعر به أحد، وأصغى،(348/121)
فسمع محمداً يقول: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون)
وسكت محمد رسول الله، وانفض القوم ساخرين، واقترب الأرقم منه وقال: إن كان الإسلام ما تقول، فأنا على دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. . .
قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلو عليهم بعض آيات القرآن الذي كان ينزل عليه، فلا يجد منهم إلا الإعراض والهزء والسخرية، بل كانوا يتجاوزون ذلك إلى إنزال الأذى به وبأصحابه القلائل الذين فضلوا الإسلام على الشرك، وأمعنوا في الأذية، وتدرع المسلمون الصبر، ورأى الأرقم ذلك فداخل قلبه الهم الكبير والحزن المضني، وعزم على تخفيف آلامهم وشقائهم مهما كلفه ذلك، ووطّن نفسه على تضحية روحه وأهله وما يملك في سبيل هذه الدعوة الجديدة التي تغلغلت في كل جارحة من جوارحه
جلس في إحدى زوايا داره الصغير يفكر ويمعن في التفكير لقد كنت ضالا فأنعم الله عليّ بالإسلام، وكنت لا أهتم بسوى نفسي وأسرتي فأصبحت يملأ رأسي التفكير في هؤلاء الإخوان الذين تربطني بهم أقوى رابطة في العالم ألا وهي رابطة الإسلام؛ وكان أكبر واجب ملقى على عاتقي هو تأمين معاش هذه الأسرة الصغيرة فأصبح من أوجب الواجبات عليّ اليوم أن أنهض لأدعو إلى الإسلام، لألاقي من الأذى ما لاقاه إخواني، أو أن أحميهم بما أحمي به أهلي وولدي، وكيف لي بحمايتهم؟ أم كيف لي بدفع الأذى عنهم؟ لابد من العمل، لابد من العمل
وراح يستعرض المسلمين في مخيلته ليقف على عددهم، فوجدهم ستة ورأى نفسه السابع، وفاجأته فكرة ملهمة برد لها قلبه واطمأنت إليها جوارحه: إن في داري متسعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولإخواني المسلمين، وإن فيها أمنا لهم وخلاصا من شقائهم، أفلا أستطيع أن أضمهم فيها على غير علم من المشركين؟
وأسرع إلى رسول الله، فأعلن أمامه الرأي الجديد، وبسط بين يديه الأسباب التي دعته إليها وقال له:(348/122)
- إننا ضعاف يا رسول الله، لا قبل لنا بهذه الوحوش الكاسرة، وإن الأذى الذي يصيب المسلمين قد اشتدت وطأته أفلا نأوي إلى داري لنجمع شتات أمرنا ونغيب عن أعين أعدائنا وننتظر فرج الله؟
فأكبر فيه الرسول الرحيم صلى الله عليه وسلم هذه التضحية، وأذن له بإيواء المسلمين.
نشر الفجر البسّام أجنحته اللؤلؤية الخفاقة على أرجاء الكون الغارق في السكون، المجلل بالسواد، الرازح تحت أعباء الوحشة، النائم تحت كلَّة الليل، فاخترقت سُدف الظلام ومزقتها، وأضاءت أرجاء الفضاء الرحيب وأنارتها، واحتدمت المعركة بين الجيشين: جيش الليل الذي أنهكه طول السهر وكثرة السمر، وجيش النهار الذي يملأ بردتيه عزم الشباب وتدفعه الأماني العذاب، وانجلى النضال عن تبدد العتمة وإشراق النور، وأطلت ذكاء من وراء الأفق البعيد الصافي، باسمة طروبا خلابة، وافترت لوهاد مكة وجبالها ودورها عن ابتسامة مغرية جذابة، فابتسمت لها مكة مجيبة شاكرة، ورقصت على جنبات الأفق الوهاج أطياف من السحر والشعر استيقظ الناس على منظرها الخلاب، وبدأت الحياة تدب في أرجاء مكة التي نضت عنها رداء النوم لتستبدل به درع الجد والنشاط، وهب المشركون غاضبين صاخبين مصممين على إفناء هذه الطغمة التي تضم أفراداً قلائل منهم، فتنوا عن عقيدتهم بعقيدة جديدة تقضي على كل ما خلف لهم الآباء والأجداد من آلهة. وليس بعجب أن يقوموا منذ الصباح الباكر يعدون العدة لعملهم السافل الدنيء؛ فلقد كانوا يحلمون في الليلة الماضية - وفي كل ليلة - بهؤلاء الأفراد الذين تحملوا كل أنواع الأذى في سبيل عقيدتهم، ولم يكن يبدو على أحد منهم أنه سينفذ صبره وتضعف مقاومته، كانوا يعجبون لقوة رسوخ هذا الدين الجديد في النفوس وتمكنه فيها واستهانته بكل أنواع الأذى والعذاب في سبيل بقائه سالما، وكانوا يخشون إن هم خلوهم وغضوا عنهم الأبصار ولم يأبهوا لهم، أن يجذبوا إليهم عددا كبيرا من العرب فيصبحوا قوة لا طاقة للمشركين بها.
وراح المشركون يفتشون عن الأفراد الصابئين في الأسواق وفي الساحات العامة، وفي ظل الحرم، وفي دور مكة المجتمعة، ولكنهم باءوا بعد سعيهم بالفشل، ولم يجدوا لهم أثرا، كأن الأرض ابتلعتهم وغيبتهم، فعادوا خاسرين أذلاء كما يعود الجيش مهزوماً مدحوراً. أجل، لقد اختفى المسلمون في تلك الدار النائية القائمة على الصفا، جمعهم رسول الله صلى الله(348/123)
عليه وسلم ليخف عنهم الأذى ويزول عنهم الألم، تحلقوا حوله في خشوع وصمت يستمعون إلى آيات القرآن الكريم التي يوحي الله إليه بها، ويصغون إلى مواعظه فتمتلئ أفئدتهم برداً وسلاماً وإيماناً ويقيناً، وتفيض نفوسهم شجاعة وعزماً، فيشعر كل واحد منهم أن في استطاعته أن يقاتل ألفا من المشركين وان يدحرهم ويردهم على أعقابهم خاسرين
جلس إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فتى في ربيع حياته، كانت له دالة كبيرة عليه حتى إنه كان يدعو نفسه زيد بن محمد؛ لقّب نفسه بذلك حين أخرجه رسول الله إلى الحجر وقال: اشهدوا أن زيد بن حارثة ابني يرثني وأرثه وكان أول من أسلم من الموالي، وجلس إلى جانبه رجل ربعة حسن الوجه رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين، وضئ، أبيض مشرب بصفرة، جعد الشعر، ذو جمّة عند أسفل أذنيه، جذل الساقين، طويل الذراعين؛ ذلك هو عثمان بن عفان ذو النورين الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان. وجلس إلى جانبه طفل صغير لا يتجاوز العاشرة من عمره هو الزبير بن العوّام حواري رسول الله وابن عمته صفية بنت عبد المطلب علقه عمه في حصير ودخّن عليه ليعود إلى الكفر فقال: لا أكفر أبدا، وظل متمسكا بدينه يحرص عليه حرصه على روحه. وجلس إلى جانبه رجل طويل القامة أبيض مشرب بحمرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، أهدب الأشفار، أقنى الانف، طويل النابين الأعليين، ضخم المنكبين، غليظ الأصابع هو عبد الرحمن بن عوف. والى جانبه شاب في العشرين من عمره نشيط قوي حديد النظرات مفتول الساعدين هو سعد بن أبي وقاص. وجلس في الناحية المقابلة رجل مربوع إلى القصر، أبيض يضرب إلى الحمرة، ضخم القدمين، رحب الصدر آدم كثير الشعر ليس بالجعد ولا بالبسط هو طلحة ابن عبيد الله الذي أسلم على يدي أبي بكر. والى جانبه رجل نحيف، معروق الوجه، خفيف اللحية، يبدو عليه الخشوع والتذلل هو عامر بن عبد الله بن الجراح أمين هذه الأمة. والى جانبه أخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع هو عبد الله بن عبد الأسد الذي يكنى أبا سلمة. ولقد أسلم عثمان والزبير وعبد الرحمن وسعد وطلحة على يد أبي بكر الذي كان يجلس إلى يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتفعاً بعباءته متوجها بقلبه وجسمه إلى إخوانه المسلمين يؤنسهم ويكبر فيهم الثبات على الحق(348/124)
وكانت الغرفة الأخرى في الدار ممتلئة بأفراد آخرين من المسلمين كعثمان بن مظعون وأخويه قدامة وعبد الله وكعبيدة بن الحارث وسعيد بن زيد وامرأته فاطمة ابنة الخطاب. كانوا يتحدثون تارة ويذكرون الله أخرى، ويتواصون بالصبر والثبات على كل أذية حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا
في هذه الدار المنعزلة ولد الإسلام من جديد، وشيّد أول ركن من أركانه، وبزغ أول شعاع من أشعته الوهاجة التي أضاءت العالم. . . إلى هذه الدار المنعزلة كان يأوي كل يوم أفراد من العرب يهجرون أباطيل أجدادهم وأصنامهم ويسلمون على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وينضمون إلى إخوانهم فيزيدون قوة. . . ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أصبح المسلمون فيها تسعة وثلاثين يعبدون الله مستخفين ينتظرون القوة والمدد من الله، ولكن رجلا لا كالرجال أسلم وانضم إليهم وكملوا به أربعين لم يرضه أن يبقوا مستخفين خائفين بل قال: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: والله لن نبقى هنا، ولابد من الخروج. . . ذلك هو عمر بن الخطاب
وكانت خاتمة هذه الدار التي كانت أول مرحلة من مراحل الإسلام، خاتمة رهيبة عظيمة سارة فخمة، إذ خرج منها المسلمون وهم يكبرون معتزين فخورين، فكأن جدرانها وأرضها وسماؤها وكل شبر فيها قد نفخ فيهم روح العزة والفخار والجرأة، فأصبحوا لا يبالون شيئا في سبيل الإسلام
لك الله أيتها الدار: لقد لمت شمل المسلمين بعد أن كادت تفنيهم وحشية المشركين، ولقد آويت المسلمين وأمنهم وزدتهم قوة بزيادة عددهم. لقد كنت الحصن رد عن المستضعفين قنابل الظالمين، ولقد كنت أول مسجد جمع المؤمنين تحت راية رسول الله وفي كنفه
سنذكرك كلما ألمت بنا النكبات، وحاقت بنا المصائب، ودهتنا الدواهي، وسنتأسى بذكراك كلما رأينا ضعف المسلمين وخذلانهم، وتأخرهم وذلهم، فلن يعرف اليأس إلى نفوسنا سبيلاً ولن يزيدنا الضعف إلا قوة. لقد كان المسلمون فيك أفراداً معدودين لا سلاح لهم إلا إيمانهم وعقيدتهم، تألب عليهم قومهم وناصبوهم العداء والأذى وهم ألوف مؤلفة، ولكن النتيجة كانت للإسلام الذي قضى أيام طفولته في دار الأرقم
عليك وعلى صاحبك وأضيافه رحمه الله، وعلى أشرف الخلق صلاة الله وسلامه(348/125)
(دمشق)
ناجي الطنطاوي(348/126)
من معاني الهجرة
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
لعل أكبر أيام الإسلام بل أيام الإنسانية كلها بعد يوم الرسالة هو يوم الهجرة
لقد كانت الهجرة الكريمة بدء عهد عزة الإسلام وانتشاره، عهد الجهاد الإيجابي في سبيل الله بالنفس والمال. إن النبي صلوات الله عليه كان طبعا يجاهد في سبيل الله بالنفس منذ الأول بتعريضه نفسه الشريفة للخطر الشديد في تبليغ الدعوة قبل الهجرة. أما المسلمون قبل الهجرة فكان جهادهم جهاد المستضعفين: كان جهاد صبر على الأذى وتمسك بالدين رغم الاضطهاد، ومن يقرأ تاريخ الإسلام قبل الهجرة ير عجبا من أمثلة ذلك التمسك رغم الأذى البالغ والعذاب الشديد. لكن الجهاد في سبيل الله يجب ألا يقتصر على الجهاد السلبي، جهاد الصبر على الأذى من غير مقاومة إيجابية للمؤذين. صحيح أن المسلم يجب أن يتمسك بدينه وأن يعمل به رغم كل المثبطات ورغم كل الصعاب لكن يجب عليه أيضاً ألا يقر للذل، ولا يقيم على الضيم، فإن الإسلام دين عزة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). فإذا وُجد المسلم بدار مذلة، لا يستطيع أن يقيم فيها دينه كما يجب أن يقام، وجب عليه أن يهجر تلك الدار ولو عزت عليه، وأن يهاجر منها إلى حيث يستطيع أن يعبد ربه ويقيم دينه حرا عزيزا لا يخضع إلا لله، ولا يرى لأحد حقا عليه إلا بحق الله
وهذا هو درس الهجرة الأول. لقد هاجر النبي صلوات الله عليه من مكة وهي أحب بلاد الله إليه، وهاجر المسلمون الأولون وقلوبهم تتلفت إلى ما خلفوا وراءهم من الأهل والمال والوطن. تتلفت ولكن لا تؤثر على الدين من ذلك كله شيئا. إذا لم يمكن إعزاز الدين وإحياؤه وإقامة أحكامه إلا بمفارقة ما يعز من أهل ومال ووطن، فليفارقه المسلم ويهاجر في سبيل الله فراراً بدينه وطلباً لإعزازه. (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) وصدق الله
إن واجب الإنسان الأول هو واجبه نحو خالقه الذي خلقه ورزقه الأهل والولد والمال والوطن. الأهل والولد والمال والوطن والنفس من اجل نعم الله على الإنسان، لكن من الحمق أن يجعل الإنسان نعم الله عليه سبباً لمعصية الله أو الكفر به، من الحمق المطبق أن(348/127)
يؤثر الإنسان على ربه شيئا مما وهبه ربه، فإيثار الدين على كل ما يعزه الإنسان من مال وأهل ونفس ووطن هو درس الهجرة الثاني، الذي يجب أن يتعلمه المسلم ولا ينساه، هما درسان عظيمان من دروس الهجرة النبوية الكريمة يجب ألا ينساهما المسلم: درس عدم الإقرار للذلة في الدين بأي صورة أو لأي سبب، ودرس إيثار الله ودينه على كل شيء مما خلق الله ومما يعلق به قلب الإنسان
إن قلب المسلم يجب ألا يستشعر خوفا غير خوف الله، ولا رجاء إلا رجاء الله الذي خلقه والذي له مقاليد السموات والأرض وبيده نواصي العباد. هذا هو التوحيد المطلق، وهذا هو الإسلام لله، ومدى التفاضل والتفاوت في هذا واسع عظيم كما نرى، لكن على المسلم أن يجتهد في تحقيقه ما استطاع. عليه أن يحب الله فوق كل شيء؛ ويؤثر الله على كل شيء، ويضحي في سبيل الله إذا لزم الأمر بكل شيء، ولو اقتضى ذلك الخروج في سبيل الله عن المال، والتضحية في سبيل الله بالنفس والأهل والمهاجرة في سبيل الله عن الوطن، إن كان الوطن مما لا يستطيع المسلم أن يقيم فيه الدين
لكن من فضل الله علينا وعلى المسلمين اليوم أن عافانا من ذلك الامتحان الشديد، امتحان ترك الوطن في سبيل الدين. فوطننا والحمد لله وطن إسلام وليس وطن كفر، وهو والحمد لله وطن أمن للدين والمتدينين وليس وطن اضطهاد كما كانت مكة حين هاجر منها الرسول صلوات الله عليه. فموقف المسلمين اليوم في هذا البلد وفي كل بلد مسلم ليس هو موقف الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في مكة قبل الهجرة، ولكن هو موقف الرسول صلوات الله عليه والمسلمين في المدينة بعد الهجرة. أعزوا الإسلام فيها ودافعوا عنه كل مهاجم أو مغير، ولم يقبلوا لحظة واحدة أن تكون كلمة في مدينتهم فوق كلمة الله، أو يكون الحكم في أرضهم إلا لله، وهذا هو واجب المسلمين الآن، واجبهم أن يعزوا دين الله في بلادهم كما أعزه رسوله والمؤمنون الأولون، فلا يقبلوا في دينهم مطعناً، ولا لأحكامه مخالفة، واجبهم أن يثبتوا في بلادهم ويثبتوا الإسلام فيها كما فعل النبي في المدينة، وأن يدفعوا عن دينهم وبلادهم كل مهاجر ومغير
وليس الدفاع عن الإسلام وبلاده بالسيف والمدفع فقط. هذا هو آخر الدفاع، لكن أول الدفاع وأهمه هو الدفاع عن روح الإسلام في بلاده. إن روح الإسلام إذا ضعف في المسلمين فلن(348/128)
يتحملوا في سبيل الإسلام أذى ولا جهداً، فضلًا عن أن يريقوا في سبيله من دمائهم دماً. إن روح الإسلام وحبه يجب أن يتغلغل في قلب كل مسلم، فإن تغلغل فسيحرص المسلمون على إقامة الدين وسيعرفون كيف يعزونه ويعزون أنفسهم به
لكن أنى لروح الإسلام أن يتمكن من قلب المسلم وهو يجهل الإسلام ولم ينشأ فيه؟ إن النشأة والتربية هي التي تصبغ الناشئ بصبغتها وتوجهه في الحياة. والنشأة الإسلامية مفقودة في الأقطار الإسلامية منذ أمد طويل، ولو كانت موجودة كما ينبغي أن توجد، لعرف المسلمون دينهم كما ينبغي أن يعرفوه، وإذن لعرفوا كيف يحبونه ويعزونه كما ينبغي أن يحبوه ويعزوه. إذن لعرفوا كيف يدفعون شر العوامل الكثيرة التي تحاول أن تضعف الإسلام في نفوسهم وتغزوه في قلوبهم، ولعرفوا ماذا يقبلون من هذه المدنية الغربية المغيرة عليهم وماذا ينبذون. ليتهم عرفوا الإسلام! إذن لأدركوا أن المدنية الغربية ليس فيها ما يحتاجه المسلمون إلا هذا العلم الطبيعي التجريبي الذي هو ملك العقل البشري عامة، والذي ينبغي أن يكون ملكاً للأمم كافة، لأنه نتيجة استعمال العقل الصارم في بحث ما حلق الله وليس نتيجة العاطفة، فليس فيه شيء من خصائص الأمم التي تظهر عادة في آدابها. العلم التجريبي هو كل ما يحتاجه المسلمون من هذه المدنية الغربية. أما اجتماعيات الغرب فليس المسلم في حاجة إلى شيء منها، لأن رب الشرق والغرب وخالق الخلق كلهم هو الذي شرع للمسلم وللإنسانية كلها أحكام الاجتماع وأصوله مفصلة في الإسلام، كما أجمل للمسلم وللإنسانية كلها أمر طلب العلم الطبيعي في القرآن إجمالاً هو أشبه شيء بتفصيل
لكن إذا كان شباب المسلمين قد فاتهم أن يربوا تربية إسلامية، فإن عليهم أن يتداركوا من ذلك في أنفسهم ما ضيعه الناس. ولا يسوفن في هذا، فإن الأمر ليس أمر حياة أو موت، وعزة أو ذلة، في الدنيا فقط، ولكن هو أمر سعادة أو شقاء إلى الأبد في الآخرة. ولا يقولن إن الفرصة فاتت ماداموا لم يتعلموا الدين على وجهه في المدارس. إن الفرصة موجودة والطريق إلى تدارك ما فات مفتوح بسيط ممتع. أو يدري المسلمون وشباب المسلمين ما هو؟ قراءة سيرة الرسول صلوات الله عليه، وقراءة القرآن، وقراءة الحديث! ثم بعد ذلك أو بين ذلك قراءة تاريخ الخلفاء الراشدين
إن القارئين من شباب الإسلام من بنين وبنات يقبلون على قراءة الروايات، فلماذا لا(348/129)
يقبلون على قراءة السيرة النبوية وهي تاريخ نشأة دينهم وحياة نبيهم؟ إنها أمتع من أي رواية صاغها الخيال، وهي بعد ذلك حق وقع، ومنها يعرفون من أمر دينهم، كيف نشأ وكيف نما، ما لا يعرفه كثيرون ممن لم يدرسوا الدين إلا في كتب الفقه والأحكام
ثم إنهم يقرأون الأدب العربي: يقرأون لأدبائه المحدثين وقد يقرأون للأقدمين. فلماذا لا يقرأون الأدب السهل الخالص البالغ في كتب الحديث؟ إن كتب الحديث الصرف ليست كتب حواش وشروح كتلك التي يتصورها الشبان تدرس في الأزهر. إنها كلام الرسول صلوات الله عليه يحادث أصحابه: يأمرهم وينهاهم ويعظهم ويهديهم ويشير عليهم فيما يستشيرونه فيه من أمور الحياة. إنها أنفع لطلاب الأدب من أي أدب آخر يمكن أن يقرأوه أو يدرسوه، لأن أمور الحياة كلها يتناولها ذلك الكلام الكريم بأعذب لفظ وأسهل أسلوب: لفظ الرسول صلوات الله عليه وأسلوبه في تبليغ رسالة الله للناس ليأخذ شبان المسلمين أي كتب الحديث الصحيحة شاءوا. ليأخذوا البخاري مثلا وليقرأوه تاركين الأسانيد، أو ليبدأوا بقراءة مختصر البخاري المسمى (مختصر الزبيدي) المحذوف منه الأسانيد الطويلة والأحاديث المكررة، ثم ليرجعوا بعد ذلك إلى البخاري نفسه إذا شاءوا، إذن لرأوا العجب العجاب من فصاحة العربية وبيانها إن كانوا طلاب فصاحة وبيان، ولفقهوا من أحكام الدين وروحه ما لا يفقهه أو يعرفه إلا الذين استقوا من هذا الورد العذب الفياض، وكل ذلك في غير كلفة أو عناء
ثم القرآن! لماذا لا يقرأ الشباب الإسلامي القرآن؟ لماذا لا يجعلون لأنفسهم حصة ولو قصيرة يقرأونها من القرآن كل يوم؟ لماذا لا يمضي المسلم يقرأ من القرآن كل يوم شيئا يسيراً حتى يتم القرآن كله في الزمن الذي يتمه فيه، قصر أو طال؟ إن القرآن كلام الله عز وجل، حفظه الله للمسلمين وللإنسانية كلها من التحريف والتغيير رحمة للناس، فهل يغفل الشبان عن كلام ربهم سبحانه فلا يقرأونه وهم يقبلون على دراسة كلام الناس؟ ليقرأوا القرآن - فالقرآن سهل يسره الله للذكر - وإذا لم يفهموا كلمة منه فعندهم القواميس، وإذا لم يفهموا آية فليسألوا عنها أهل البصر بالدين. إن فعلوا - وحياتهم ونجاتهم في أن يفعلوا - فسيشعرون، إذا قرأوا القرآن وتدبروه بطهارة نفس واطمئنان قلب لا يجدهما من لا يقرأ القرآن(348/130)
ليقرأ المسلمون القرآن والحديث وسيرة الرسول وتاريخ الخلفاء الراشدين، عندئذ لا يخشى المسلمون على شبابهم فتنة، ولا تعلق بنفوسهم شبهة، ولا يغلب الإسلام على قلوبهم غالب. عندئذ يستطيعون أن يقوموا بحق الدين بإحسان الدفاع عنه والعمل به، ويعرفون أي نعمة أنعم الله بها عليهم وعلى الإنسانية كلها حين أرسل صاحب الهجرة صلوات الله عليه رسولا منه إلى الناس.
محمد أحمد الغمراوي(348/131)
بين الذكرى والعبرة
معجزة الإسلام الخالدة
للأستاذ محمد عرفه
(شعب يظهر على شعوب، ودين يعلو على أديان، وحضارة
تغزو حضارات، وقوة معنوية تزلزل الأرض وتهد الجبال)
يعجب كثير من الناس كيف استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح بفئة قليلة من المهاجرين والأنصار الحصون التي كانت حول المدينة ومكة؛ وأن يظهر بهم على إقبال الجزيرة العربية ورجالاتها، وعلى عقائدها وعاداتها؛ وأن يرفع بهم في غيابة الجهل، وضلال العقل وحيرة الإنسانية، لواء الحق والفضيلة، والخير والرشاد، فينشر في أرجاء الجزيرة، بهذه الفئة الصغيرة، هدى السماء، وشريعة التوحيد، ويأتيه أهلها طائعين، يدخلون في دين الله أفواجا؛ ثم كيف استطاع أصحابه بعد أن فتحوا بهؤلاء دول العالم القديم: فارس والروم وبلاد السند ومصر وأفريقية والأندلس. . . وقد كانوا أقل عدة، وأضعف جندا، وأقل دراية بفنون الحرب، ودربه على أساليب القتال - من أمة كفارس والروم.
يعجبون من شأن هؤلاء المسلمين الأولين، لقد كانوا بين تلك الدول والشعوب، وهذه الحضارات والمدنيات، كالشعرة البيضاء في فرس بهيم، وكالطفل الصغير يصارع شجاعاً جباراً.
ولكني لا أعجب عجبهم؛ بل أعجب كيف لم يفتحوا الأرض جمعاء، ثم يحاولوا بعد ذلك فتح السماء؟
كيف أعجب من ذلك؟
لعلي أغفل قانون الكثرة، والقوة المادية، والفنون الحربية
لعلي أغفل البروج المشيدة، والحصون الشامخة، والعساكر والدساكر، والمدن والذخائر، والقوة والمنعة، والعزة والشوكة، والعلم والرأي، والفن والتدبير. . .
لا، لست أغفل شيئا من هذا كله، فقد جعلت لكل أمر قدراً؛ بيد أني لم أغفل القوة المعنوية، فقدرتها حق قدرها، ووازنت بينها وبين كل ذلك؛ فرأيتها ترجح بها كافة.(348/132)
كانت القوة المعنوية في جانب، وكانت القوة المادية في آخر وكان من الحتم أن تتغلب القوة المعنوية على كل شيء عداها. . .
كان في هذه الفئة القليلة من المسلمين قوة معنوية، بعثها فيهم دينهم، وأججها في صدورهم نبيهم، فأتت أكلها كل حين بإذن ربهم، وظهرت بها معجزات الإسلام الخالدة على يد هؤلاء البواسل الأرواع حتى فتحت أرضاً، ونشرت دينا، وفرضت لغة على هؤلاء الأقوياء الظاهرين في الأرض، ثم بعثت الحضارة والمدنية والثقافة والعرفان في الشعوب جميعاً
إنه لخليق بالباحث أن يتبين هذه القوى المعنوية التي كانت تخفق بها قلوب المسلمين، والتي أتت بهذه المعجزات الباهرة الخالدة بعد قليل من السنين
لقد فتشت عنها، وبحثت عن مصادرها ومظاهرها، فرأيتها تتجلى فيما يأتي:
1 - الإيمان
آمن المسلمون بشريعة الإسلام؛ وآمنوا بأنهم على حق في عقائدهم وآرائهم وأعمالهم، والناس جميعاً على باطل، ومن حق هذه العقائد الحقة، والآراء الحقة، والأعمال الحقة، أن تعم للبشر وان يؤمن بها الناس جميعاً؛ وآمنوا بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الإنسانية السعيدة على أسس العدالة والحق والسلام. لقد آمنوا بأنهم مصلحو البشر، وهداة الكون، وأنهم إن مكن لهم في الأرض بعثوا فيها هدى ونوراً وعدلاً، وأنقذوها من يد الظلم والوحشية، وحرروها من استبداد الطغاة وقسوة القساة، وغطرسة المتزعمين والمتكبرين (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)
وآمن المسلمون مع ذلك بأنهم منتصرون فائزون، لأنهم على حق، والحق لابد ظافر منصور، يستوي في درك ثمرة النصر الأموات والأحياء، فكل موقعة تقع، وكل حرب تشب نارها، هم فيها الرابحون، وأعداؤهم هم الخاسرون، فالمجاهدون من المسلمين إما أن يقتلوا أو يقتلوا، فمن قتلوا فلهم الفوز بالسعادة الآخرة الباقية، يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، ومن قتلوا فلهم النصر والبقاء في الارض، والعزة والدولة(348/133)
لقد غرس هذا الإيمان المتشعب النواحي في نفوس المسلمين كتابهم الحكيم، ورسولهم الكريم. بعث فيهم الله روح القوة والرجولة، والإباء والبطولة، ووعدهم بالنصر المؤزر والفوز المبين (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلوْن إن كنتم مؤمنين). (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)، وزاد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الروح فيهم اشتعالاً بقوله وفعله. أفلم تسع قريش إلى عمه برجالاتها ووجوهها يناشدونه البقيا على الرحم، والحفظ للجوار، وكف محمد عن تسفيه أحلامهم والسخرية بأصنامهم، فطلب أبو طالب من إبن أخيه أن يبقى عليه وعلى نفسه وألا يحمله ما لا يطيق من عداوة قومه، وخصومة أرومته، فثار هذا الداعي الكريم، ونطق هذا الروح العظيم: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه). وكان هذا القول الفصل بين قريش وبين محمد الرسول الكريم. وضرب بهذا أروع مثل للأجيال السابقة واللاحقة
وقبس المسلمون هذه الروح، فتجلت في أسارير وجوههم، ورسمت على صفحات قلوبهم، وبدت في كلامهم، وفي أفعالهم، كأنها الشهاب الثاقب، أو الصبح المبين
فهذا رسول الله يستشير المسلمين في محاربة قريش وقد خرج للقائهم في غزوة بدر الكبرى، فيقول: (أشيروا عليّ أيها الناس). فينطق سعد بن معاذ: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله). فقال: (أجل). فقال: (يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله)
وهذا زيد بن الدثنة يرسله النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الصحابة مع وفد من العرب ليقرئوهم القرآن ويعلموهم شرائع الإسلام، فيغدر هؤلاء الأعراب في الطريق بزيد وأصحابه، يقتلون بعضاً ويأسرون آخرين؛ ثم يبيعون زيداً لقريش لتقتله بدل من قتل رجالها بيد المسلمين؛ ويقول له أبو سفيان حين قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك تضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فيجيبه زيد: والله ما أحب أن(348/134)
محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه نصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي
هؤلاء هم المسلمون، آمنوا فلم يقف في طريقهم شيء في الأرض، وساروا كالسيل العرم لا ترده سدود ولا عقبات، فتنوا في دينهم وعذبوا ونكل بهم وشردوا في الأرض وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فما وهنوا ولا استكانوا ولا ذلوا ولا أخلدوا إلى الأرض، بل صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا
2 - الاتحاد والألفة
وترى القوة المعنوية في اتحاد المسلمين الأولين وتوادهم، كما رأيتها في إيمانهم ويقينهم، فقد اتحدت قلوبهم، وتحابت نفوسهم، وصاروا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وأصبح المسلمون جميعا جسما واحدا، سرت فيه روح واحدة قوية، فكان يشعر بشعور واحد، ويفكر بفكر واحد، إذا اشتكى عضو منه تألم له سائر الأعضاء
وقد بلغ من ذلك الاتحاد المتين والمحبة الصادقة أن أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين نزل المدينة ليذهب عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والوطن، ويشد أزر بعضهم ببعض، فكان الأنصاري يقسم ماله بينهم وبين المهاجر، ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة
وقد ضرب المسلمون في هذا السبيل أبلغ الأمثال للأمم التي تصبو إلى المجد والسؤدد، فكان عطف بعضهم على بعض، ومواساة الغني للفقير، والبرئ للمريض، وتوقير الصغير للكبير، وحنان الكبير على الصغير، كان كل ذلك مضرب الأمثال في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يزال ذكراً جميلاً لهؤلاء الأمجاد الأبطال، والأجواد السروات الغطاريف
أين نحن من هؤلاء؟ وأين الأرض من السماء؟ لقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا إيمانهم، وبددوا اتحادهم وألفتهم، فتفرقوا شيعا، وتمزقوا بددا، فضعفوا عن كثرة، وذلوا بعد هذه العزة الرفيعة المنيعة
فإذا شاء المسلمون أن يعود لهم مجدهم الباذخ وعزهم التليد، فليبحثوا عن إيمانهم الذي فقدوه، وعن اتحادهم الذي بددوه، وعن ألفتهم التي أضلوها، وليكملوا أنفسهم بهذا تعد الذلة عزة، ويصير الضعف قوة، وترجع إليهم العظمة الدائرة، والسؤدد الدارس
ليؤمن رجال الدين أنفسهم كإيمان السالفين، إيمان قوة وعزم، لا إيمان ضعف وذلة؛ فمجرد(348/135)
التصديق لا ينقل قدما ولا يحرك ساكنا. إنما الإيمان هذه الحركة المتقدة، والنار الملتهبة، والحمية للحق، والمحبة للبشر، والإخلاص لله، والغيرة أن تنتهك حرماته، وتستباح محارمه، وتعصى أوامره؛ إنما هو العمل على أن يأخذوا بأيدي الناس من الظلام الدامس إلى النور المبين. . . ومتى عاد هذا الإيمان إلى أهل الدين أنفسهم أعادوه إلى الناس جميعا
. . . وإذا أردنا الألفة والمحبة - لنستعيد الماضي المجيد، ونؤسس المستقبل الجديد، على عبر اليوم وعظات الأمس - فلننظر بماذا ألف الإسلام بين قلوب أصحابه، وبماذا غرس فيها المحبة والإخاء؛ لقد جمع الإسلام بين قلوب المسلمين بنزع أسباب الفرقة منهم. كان العرب قبائل متعددة كل قبيلة وحدة يرأسها، يتعصب المرء لقبيلته، وتعادي كل قبيلة الأخرى، فكان بأسهم بينهم شديدا، وحطموا أنفسهم بأيديهم، ووأدوا سؤددهم بلجاجهم في الخصومة والفرقة، وأضعف بعضهم بعضا فضعف الجميع. ثم جاء الإسلام فوسع أفقهم الضيق، وبعد أن كان المرء يرى نفسه فرداً من قبيلة، أصبح يرى إنه فرد من أمة، ورأى الجميع أنهم أعضاء أسرة أوسع، هي أسرة الإسلام؛ وخاف الإسلام أن يعودوا إلى ما كانوا عليه أشلاء ممزقة وقبائل متفرقة، فقسا أعظم القسوة على من يعيد روح التعصب إلى القبيلة جذعة، وعد هذا ذنباً خطيراً وإثماً كبيراً
فلنتبع المنهج الذي ألف به الإسلام بين المسلمين، ولنطبق سياسته الحكيمة الرشيدة من جديد، فسترون المعجزة تتجدد، والرجاء يتحقق، والحياة تبسم لنا، والمجد يصافحنا بعد عبوسها وجفائه
لست خيالياً أسعى إلى توحيد المسلمين جميعا قبل اتحاد الأمة الواحدة منهم، فأطلب الكثير وقد عجزت عن القليل، وأطلب للفرع مضيعاً الأصل
كل أمة من الأمم الإسلامية قد قطعّت أحزاباً، وفرقت شيعاً، ففي مصر لا يتحد المصري، كل يرى نفسه فرداً من حزبه، قبل أن يرى إنه فرد من أمته، وفي الأمم الشرقية الشقيقة كما في مصر من الفرقة والانقسام.
علينا أن نداوي هذا الانقسام الداخلي أولاً، فإذا أحرزناه سعينا إلى الاتحاد الخارجي
لقد كان من شرور الحزبية ما سمعتم أولاها وشاهدتم أخراها، حرب وانتقام، وكراهية وانقسام، وإغداق على الشيع والأنصار بالمناسب والألقاب ولو كانوا غير أهل، وحرمان(348/136)
للآخرين ونقمة عليهم ولو كانوا من ذوي الكفايات
من طاوع العصبية الحزبية فانظروا إليه شذراً واعلموا إنه داعي فرقة وانقسام؛ انظروا إلى الحزبية كما تنظرون إلى الداء المهلك المبيد، والشر الماحق المبير، إنها قطعت أوصالا ومزقت شملا، وزرعت أحقادا ورفعت جهلا، وأقصت علماء وقربت جهلة، إنها أبعدت المصلحة العامة وأدنت المصلحة الفردية الحقيرة الزائلة
حرّموا يا قوم النظر الحزبي، كما حرم الإسلام النظر القبلي، وكونوا أفرادا من أمة لا شيعة من أحزاب
الإيمان والاتحاد
خطوا عليهما يا قوم مجدكم، وارفعوا بهما مستقبلكم تتجدد المعجزة مرة أخرى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون).
محمد عرفة(348/137)
فداء الصلح
أبو جندل سهيل بن عمرو
للأستاذ شكري فيصل
جلس أبو جندل بن سهيل بن عمرو في غرفته، وقد طغى الليل على مكة، فلفها برداء من الصمت والسكون؛ فما تسمع فيها إلا همسات الريح، وحديث النجوم؛ وحفيفاً خفيفاً تبعثه أشجار النخيل من أعماق الوادي، كأنها بث الشكاة، أو نجوى المحبين
واستسلم الفتى الجريء إلى نفسه؛ وأسلس قياده إلى الذكريات تحمله على جناحيها الرفيقين. . . فتخرج به من هذا الأسر الذي أراده له أبوه، واضطره إليه، لتطوف به في دنياه الحبيبة من الأرض، حيث يشرق النور، وتشع الهداية، ويتنزل الوحي، ويعيش النبي الكريم في طائفة من المهاجرين المجاهدين، والأنصار المدافعين، والصحابة الذين آمنوا بهذا الدين؛ فوهبوا دمهم له، وهجروا عشيرتهم من أجله. . .
وعرضت لعينيه صور، وتدافعت في نفسه أخيلة؛ واتقد في قلبه الحنين؛. . . وبكى. . . بكى لأنه بعيد عن رسول الله؛. . . وأين منه يد رسول الله تمسح آلامه، وتبارك إيمانه، وتشع في قلبه الراحة والهدوء؟!. . . إن بينه وبينه لآماداً بعيدة؛ ولقد صدوه عن هجرته إليه، وأقاموا من دونه الأرصاد والرقباء؛ ورموا به في هذه الغرفة الضيقة، لا يملك أن يخرج منها أو ينصرف عنها
وتناثرت دموعه على خديه، كقطرات الندى الناعمة. . . فبللت الشعرات المبعثرة على أطراف وجهه، وفي أسفل ذقنه، على غير نظام، كالنبت السائب. . .
ومضى في هذه التأملات العميقة، واستغرق فيها. . . وعاش ساعاً من الزمن، في دنيا الذكريات، وظلال النبوة، وعبق الإسلام. . . وأحس النشوة تجري في عروقه، وتسري في دمه، ورفع بصره إلى السماء، يسأل الله العافية في دينه أن يفتنه عنه أهله وذوو قرباه. . .
ولم يطل به هذا السكون، فقد سمع حركة خفيفة في صحن الدار؛ فقام يسترق الخطو إلى النافذة. . . فإذا فتاة في ريق الشباب ومقتبل العمر، تشق ظلام الليل باشراقتها الرائعة، فيرى لعينيها بريقا، ولجبينها وضاءة، وإذا هو يتحسس في صوتها صوت أخته، فيقبل على الباب يفتحه؛ وما يلبث أن يتبينها حتى يرتمي يقبلها، وترتمي تقبله، في حنان الأخوة،(348/138)
واتقاد العاطفة؛ وحماس الحب
لشد ما كان يذكرها في أيامه ولياليه!. . . فقد أنس ألواناً من وفائها الحنون، وبرها الجميل؛ حين كان يشتد عليه أذى أبيه، سهيل بن عمرو، فيدفع به إلى رمضاء مكة؛ في لهب الظهيرة واشتداد الهاجرة، مع طائفة من المستضعفين يكتوون باللظى المشبوب، ويلتوون فوق الرمل المكروب، ويذوقون أصناف العذاب الأليم، ليرتدوا عن هذه البدعة التي ابتدعها محمد، فما يزيدهم ذلك إلا إيماناً فوق إيمانهم العتيد
ويجلس إليها. . . ويلقى إليها برأسه، فتمر عليه بيديها الناعمتين، تهدهد أحزانه، وتكفكف أشجانه، وتبعث فيه العزم
ويسألها عن أبي بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وعن أم كلثوم أخت الوليد، وعن فلانة وفلان، من جيرانه وإخوانه. . . هل ثبت الله أقدامهم، فصبروا على العذاب، وصمدوا للفتنة؛ وسكتوا على الإهانة؟!. . . ويستنطقها خبر (يثرب) والنبي؛. . . وهذا النور الذي يغالب الظلمات، ويكافح الضلالات ويخترق السحب. . . ما شأنه؟!!. . . ألم تلمح سناه في أفق مكة؟. . . ألم تر بريقه في سماء البيت الحرام؟. . . ألم يبلغ بعد هذا الوادي غير ذي الزرع؛ فينبت في حفافيه الإيمان؛ وينشر في أجوائه الرحمة؛ ويفجر من حجارته الصلدة القاسية ينابيع الخير والحكمة؟. . .
وتتحرك نفسه لهذا الأمل الخاطف يلمع في خاطره، وهذه الأخيلة الفاتنة تداعب روحه الحزين، فيهتز هزة الواثق المطمئن ويتحرك. . . فتسمع لحركته أصوات الأغلال في رجليه. . . فتذعر أخته، ويتملكها الخوف، وتخشى أباها أن تصل إلى سمعه هذه الحركة في هدأة الليل فيكشف من أمرها ما أخفته عنه وتطلب إلى أخيها أن يستقر في مكانه فإن لها معه لحديثاً؛ وإن الكلام ليتدفق في فمها فلا تعرف كيف تبدأ
وينصت أبو جندل إلى أخته، وقد أحس هذه الكلمات تتواثب على شفتيها؛ وأدرك أن وراء هذه الزيارة المفاجئة في حلكة الظلمة وامتداد الليل لأمرا جللا. . . فلعل الله جاعل له فرجا. . . ولعل السماء قد أنصتت إلى صلواته الخاشعة في ساعات النسمة الهادئة
وتلتفت أخته هنا وهناك. . . كأنها تخشى الرقباء؛ ثم تنهض إلى النافذة، وتلقي نظراتها التائهة على غرف البيت وصحن الدار، وتجلس لتحدثه في همس رفيق:(348/139)
- إن مكة يا أخي لتنام منذ أسبوع في مهاد من القلق، وإنها لتتقلب على الشوك. . . فما تدري ما هي صائرة إليه. . . لقد نمى إليها أن محمدا غادر المدينة (وأنه استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه)؛ وأنه سار نحوها في سبعمائة رجل. . . يقول إنه يريد زيارة البيت. . . فما تصدقه قريش في دعواه
وتنبسط أسارير أبي جندل. . . وتملأ شفتيه ابتسامة عريضة وتتواثب الآمال في صدره؛ وتتراءى له هذه الجموع في طريقها إلى مكة، ويهم ينادي: (الله أكبر). . . ولكن أخته لا تلبث أن تضع يدها على فيه، تسأله أن يكتم الفرحة الطافرة، ويكبت الصيحة الظافرة؛ ويخفي هذا المرح الشديد. . . فما يرضيه أن يسلط عليها سهيل أبوه سوط العذاب
ويتظاهر أبو جندل بالخضوع للرجاء، ويتمنى عليها بقية الحديث، ويسألها:
- وماذا فعلت قريش يا أختاه؟
- لقد خرجت حين سمعت بمسيره بالعوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا يدخلها عليهم أبداً، فلما رأوا أن النبي قد خالفهم عن طريقهم رجعوا منذ أيام إلى مكة، واستقبلهم الناس في فتور، وما أدري ماذا صارت إليه خيل قريش يا أخي. . . لقد كانت زاهية فخورة، تقرأ في وجهها النصر، فإذا هي اليوم كالحة كابية، ليس لها ذاك الزهو، ولا تلك الإشراقة النيرة. . . ترى ألست معي في أن ذلك هو أول الانحلال ومبدأ التراجع، وطلائع الفتح المبين الذي نترقبه من بعيد؟!
- بلى يا أختاه. . . لينصرن الله محمداً ودينه. . . ثم ماذا كان؟
- لقد أوفدت قريش رجالها إلى النبي تستوضح نياته، وتتفهم غاياته، وتسبر أغواره. . . ولقد رجع هؤلاء الرجال يلهجون بذكر محمد ويقولون إنه (كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وأنهم لم يرو ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه) ويتحدثون عنه أبرع الأحاديث، ويكبرون حجته، ويخشون قوته، ويعجبون ببيانه. . . فلقد قال لبديل إبن ورقاء حين جاءه مع وفد من خزاعة: (انه لم يأت يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته) وأقبلت علينا خزاعة تقول: (يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد. إن محمداً لم يأت لقتال)
ولكنك تعلم عزة قريش، وهذه العصبية التي تعصف في نفسها، وهذه الحمية التي تتأجج(348/140)
في صدرها، وهذه الزعامة التي تتبوأها من العرب. وقد خشيت لذلك أن يتحدث الناس فيقولوا إن محمداً دخلها عليهم عنوة. . . فلم يطمأنوا إليه، ولم يسكنوا إلى غايته البريئة، فاتهموا وفد خزاعة وجبهوهم. . . ورأيتهم اليوم يتداولون الرأي، ويتبادلون المشورة، ويعقدون المجالس. فهذا أبوك يذهب إلى أبي سفيان؛ وهذا أبو جهل يسير في وقدة الظهيرة، فينتقل من بيت إلى بيت، وقد ركبه الغم وغشاه القلق، وعلت جبينه كآبة المهموم
- يا للبشرى يا أخت عبد الله! من لي بجناحين أطير بهما من هذا الأسر. . . فأكون مع النبي في عمرته وزيارته؟! فأين هو الآن يا أختاه؟. . .
- إن محمداً وصحبه في (ثنية المرار) يا أبا جندل. . . وإنهم الآن إلى جانب تلك الشجرة الضخمة القائمة هناك. . . ألا تذكر لقيانا إياها في البكور والأصائل. . . والتجاءنا إليها في الظهيرة والضحى حين كنا نمر بها في طريقنا إلى الوادي. . . صغيرين نقسم باللات، ونقدس العزى، ونعبد الأصنام. . .؟! لقد وهبنا الله عقولنا، وبث فيها النور،. . . فآمنا. . . ولن يضيع الله إيماننا يا أخي. . . وسنجتمع إلى النبي، وسنصلي معه، وسنقرأ القرآن. . . وما أحسب إلا أن وثنية مكة تتضيف للأفول. . . وأن ظلامها سينجاب. . . وأن جبالها ستطفح بالنور الذي يملأ الأرض. . . فلقد اضطرب فيها الأمر فقام الحليس بن علقمة سيد الأحابيش يهدد قريشا فيمن يهددها، ويقول في البيت الحرام بملء فيه: (يا معشر قريش. . . والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظماً له. . . والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفِرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. . .)
- وهل خضعت قريش لهذا التهديد؟
- إن قريشا لا تدري ما تدع وما تأخذ يا عبد الله. . . وهي منقسمة مختلفة فيما بينها، لا يستقر لها رأي، ولا تستقيم لها خطة. . . وهذا (أبان بن سعيد بن العاص) يجير عثمان بن عفان رسول النبي، وقد وصل مكة اليوم. . . وصافحت عيناه أرضها بعد هجرة سنوات، وجاء يبلغ رسالة محمد إلى أبي سفيان وعظماء قريش. . . فتحتبسه قريش عندها، وتعقد ندوتها. . . ويخرج أبوك منذ الصباح الباكر. . . فلا يعود إلا مع الشعاعات التي كانت تودع المدينة، لتنام في أحضان الأفق. . . ويدخل غرفته لا يكلمنا ولا يتحدث إلينا. . .(348/141)
ويستدعي أمك يطلب إليها أن تسرج فرسه، وتجمع بعض متاعه، فهو مسافر غدا إلى النبي في ثنية المرار
وتنتصب الفتاة قبل أن تنتهي من كلماتها الأخيرة. . . ويتطلع إليها أبو جندل، فيرى وجهها من جديد على أنوار القمر الضئيلة التي اخترقت النافذة العتيقة، فيود لو أنها بقيت إلى جانبه تؤنس وحدته وتطرد وحشته. . . ولكن الليل مضى إلا أقله. . . وهذا غبش الفجر في طرف السماء، وما من شك في أن أباه سيبتدر الصباح، وسينهض مبكراً ليبلغ النبي قبل أن ترتفع الشمس؛ وقد يمر به ويفتقده قبل غدوه، فليحرص على ألا يرى أثر أخته عنده. . .
وتقترب الفتاة من أخيها. . . وتلامس شفتاه جبينها الوضاء ويطبع عليه قبلته كأنما يشكر لها فيها هذا الحديث الشائق، وهذه البشرى الحلوة. . . ويهم بتركها لولا أن عارضاً مر بخاطره. . . لم لا يهرب من الأسر؟. . . إن أخته لتستطيع أن تعينه بما لها من حيلة، وإن فيه لبقية من عزم لم تأت عليها هذه القيود، وإن في قلبه لإيماناً يدك الجبال. . . وإن كبده الحرى ليذيبها الحنين إلى النبي والى الجهاد. . . وإن أباه ليسافر غداً؛ وستنزاح هذه الغمة الثقيلة التي تظلل سماءه فتفيض فيها الكآبة والعبوس
وتتضح هذه الفكرة في رأسه وتتكامل صورها وأجزاؤها. . إن النبي قريب من مكة، فليمض إليه وليسع نحوه ليجد في كنفه الراحة والإيمان والخلاص
ويهمس في أذن أخته هذه الكلمات. . . ويسألها في ضراعة ورجاء أن تعينه؛ فقد سئم هذه الحياة الصعبة وبرم بالقيد الغليظ، وإن الله لمنجيه. . . والنصر قريب فلن يلحق بها هي عذاب
ويبيتان الأمر. . . وتنصرف إلى غرفتها، وينصرف إلى فراشه. . . وينام. . . ملء عينيه الأحلام المخضلة، وملء رأسه الأماني الندية
وفي أصيل اليوم التالي كان النبي صلوات الله عليه في مجلسه مع سهيل بن عمرو، وبين يديه علي بن أبي طالب يكتب صلح الحديبية، وإلى جانبه أبو بكر وعمر وعبد الرحمن وسعد؛ وقد تناثرت في السماء قطع من السحاب الخفيف كأنها حمامات السلام البيضاء. . . وغشى الأفق لون وردي جميل من أثر الشمس المتضيفة، وكان يحس الناظر في جانب من(348/142)
جوانبه كتلة نور لا يستطيع أن يحدق فيها. . . والنسيم يروح خفيفاً هيناً يحمل السلام إلى كل نفس والهدوء إلى كل قلب. . . وجماعات الصحابة تقوم لوضوئها، وتستعد لصلاتها، وتنعم بهذه الهداية الخالدة
في تلك الساعة سمع الناس جلجلة قيود، وأصوات أغلال؛ وأبصروا. . . فإذا شبح لا يبين. . . حتى إذا اقترب رأوا فيه (أبا جندل) يرسف في الحديد؛ وقد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب جواره الأمان، ويرجو السلام، ويبغي الحياة لله ورسوله. . . فيقبلون عليه بقلوبهم وأفئدتهم. . . وعيونهم تفيض من الدمع
ويدرك النبي الكريم كل شيء؛ وينتفض انتفاضة لا يحسها غير أبي بكر في جواره. فقد كان نفذت منه قوله: (هذا ما عاهد عليه رسول الله سهيل بن عمرو. . .) فماذا هو فاعل في أبي جندل؟
ويرى سهيل ابنه أبا جندل، فيقوم إليه (يضرب وجهه ويأخذ بتلبيبه) والمسكين ينظر إلى رسول الله وينادي: (أأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟. . .)
ويخفق قلب النبي الرحيم وتطرف عيناه ويغشيهما الدمع؛ ويغمض جفنيه يحبسه أن يتذارف، وتتراءى له في هذه الإغماضة الخفيفة أنوار (جبريل)، وتنتشر من أمامه صفحات المستقبل ويبرز له يوم الفتح وقد أقبل (سهيل) يطلب جوار ابنه ويحتمي به، ثم تعرض له صورة سهيل بعد ذاك (كثير البكاء، رقيقاً عند قراءة القرآن) وتظهر له الجنة في خاتمة هذا الطواف وأبو جندل وسهيل أبوه إلى جنبيه، قد خرجاً من الدنيا شهيدين فيسري عنه، وتخالط أحزانه ابتسامة حلوة، ويتمتم بكلمات صامتة، ويقول:
(يا أبا جندل. اصبر واحتسب. فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم)
ويخالط الجزع قلوب المسلمين، وتمتلكهم الروعة؛ ويداخلهم الهم لمصير أبي جندل. . . ويقف هذا الشاب يتفرس في الوجوه، وقد اطمأن إلى وعد رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى. . . وتراءت له أيامه القريبة الغر، وقد انفلت من الأسر، وانضوى تحت راية الجهاد. . . وتبرق في نفسه بارقات الأمل، وينصرف بعد أن يقبل يد النبي، ويدس رأسه(348/143)
في صدره
ويثب عمر بن الخطاب إلى جنبه وهو يقول: (اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب)
ثم لا تكون إلا لحظات. . . حتى يغيب الليل في برده الحالك هذا الفتى الصابر. . . فترتد عنه عيون الصحابة، ولكنها تظل تفكر فيه، وتتبع خطوه، وتتساءل عنه. . . ويسير هو إلى مكانه من البيت، والى موضعه من القيد، وإلى عذابه من المشركين
(القاهرة)
شكري فيصل(348/144)
الله أكبر! هلكت خيبر!
للأستاذ أحمد التاجي
(خرج النبي من المدينة لغزو خيبر في بقية المحرم من السنة
السابعة وفتحها في صفر)
- 1 -
مر (كنانة بن الربيع) على (حيي بن أخطب) سيد بني النضير فرآه واجماً ينكت الأرض بعود في يده ثم يصعد الطرف بين الفينة والفينة في حصون خيبر
فقال كنانة: أرى هذه القرية قد راعتك بحصونها، وحلت من فؤادك محلاً. طبت نفساً وطابت خيبر!
قال حيي: وكيف تطيب نفسي؟ وهانحن أولاء منذ ثلاث سنوات نعيش في غير أوطاننا مشردين في الآفاق! ونحن الذين بنينا (يثرب) بأيدينا، فأصلحنا أرضها، وأجرينا ماءها، وغرسنا جناتها، وأقمنا حصونها؛ وترانا اليوم ننزل في غير دارنا، ونأكل من غير زادنا، لأن محمداً افتتحها علينا، وأخذها عنوة منا!
لله تلك الأيام العزيزة التي قضيناها هناك أعزاء أشداء!! كنا نقاتل الأوس بالخزرج، ونقاتل الخزرج بالأوس، ونسعر نيران العداوة بينهما ونمدهما بالأسلحة ويمدوننا بأموالهم فما يزالون في تناقص وفناء، وما نزال في نعمة سايغة، وسيادة دائمة.
ولكن جاءنا ذلك الساحر الطريد، ففرقهم عنا ونفر موالينا ولا ندري كيف جمع بين قلوبهم الفائرة، وغسل أحقادهم الثائرة وشفى جراحهم الناغرة، وجعلهم أمة واحدة يأكل بهم يهود والعرب
قال كنانة: ولكنا أحسن حالا من بني عمومتنا فلقد أخذنا من أموالنا ما تحمله دوابنا ونزلنا بخيبر هذه القرية ذات البروج المشيدة فأوينا إلى ركن شديد. أما بنو قينقاع فيا حسرتاه على ما أصابهم، فعندما أخرجوا من المدينة قصدوا (أذرعات) فتناولتهم أوبئة الشام، فما انقضى الحول على نسمة تحت الشمس منهم!
- ونسيت (قريظة) إن قلبي ليطفح بالنيران كلما ذكرتهم! ماذا جنوا حتى يحكم محمد(348/145)
السيف في رقابهم؟ ويح يثرب! خلت من يهود!
- وكأنك أنت الذي جنى عليهم يا حيي، حركتهم ليثوروا على محمد وينبذوا له عهده. وأطعمك في ذلك اجتماع الأحزاب عليه، ولكنه سرعان ما خذل الأحزاب. وفت في عضدهم، وسرعان ما انقلب محمد على بني عمنا، فشفى غيظه منهم
- أجل؛ وما أردت أن يطعن محمد بخنجرين، أقتلهما الذي يأتيه من وراء ظهره! ولكني كلما دبرت كيداً أبطله بسحره، وكأنه ملهم يوحى إليه!!
- أو تشك في أنه النبي؟! وأنت من أهل العلم والكتاب
- كلا، ما ارتبت فيه. ولكنه جاءنا من العرب وحسبناه من إسرائيل! كيف نتبعه فيعلو به أجلاف الأعراب على أهل الكتاب؟ لا ورب موسى لا نلقى إليه انقياد أبدا، وسنظل على بغضه وحربه حتى نفنيه أو نفنى دون ذلك.
- أتظن الرجل الذي خضعت قريش له وطلبت منه السلام في (الحديبية) ينكسر لنا؟ ما أظنه أسكت قريشاً إلا ليثور علينا وعلى قبائل العرب. أليس هو الذي يقول:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا كلمة الإسلام فإذا قالوها حقنوا مني دماءهم)
- ولكن قريشاً لم تقلها
- ستقولها يوم أن يجلب عليها بخيله ورجله، ويخيرها بين الكلمة أو السيف
- ونحن أيتركنا ههنا؟
- أخاله سيتعقبنا
- أو بلغك نبأ؟
- أما من محمد فلا؛ كيف يدري الناس من أمره شيئاً وهو حول قلب؟ إذا أراد أن يحارب شمالاً أتجه جنوباً!
- ومن أدراك إذن بما تقول؟
- إنها رؤيا رأتها بنتك التي تحتي فأولتها
- صفية بنتي! إنها لترى وكأنها ترى بعينيها! ماذا رأت الخبيثة؟
- كأن قمراً من السماء سقط في حجرها
- إنه وايم الحق محمد!(348/146)
- 2 -
لا هُمَّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا ... وألقينْ سكينةً علينا
وثبّتِ الأقدام إن لاقينا ... إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عوّلوا علينا
على توقيع هذا النشيد المطرب، وترجيع صوت الحادي اللين سارت قافلة المسلمين تحت ظلال الراية البيضاء تتبع محمد إبن عبد الله، وما زالت تصعد وتهبط حتى تراءت للعين حصون خيبر شامخة تشق السماء وقد لفها غلس الدجى، وعلى قيد أميال منها وقف النبي يتأملها فوقف الركب معه، فرفع يديه يناجي ربه ويقول:
(اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها؛ ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها)
وأمضى المسلمون ليلتهم على مرأى منها، فلما أصبحوا قام النبي يقول:
(ألله أكبر، الله أكبر، هلكت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
وانطلق المسلمون يكبرون، وكأنهم كلما رفعوا بالتكبير أصواتهم، بالغوا في إظهار إخلاصهم لبارئهم، وإن من الجبال لما يهتز لتكبيرهم ودعائهم، وإن منها لما يتصدع من خشية الله
فقال لهم النبي: (اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم)
وخرج عمال خيبر إلى مزارعهم فراعهم جيش المسلمين فرجعوا إلى أهلهم يصيحون:
- محمد والخميس!
وفزعت خيبر وأغلقت أبوابها، وظل المسلمون يحاصرونها ويضيقون عليها. ومن برج مشيد أطل (حيي بن أخطب) على جيش المسلمين فرأى الراية البيضاء في يمين (علي بن أبي طالب) فكأنما رأى ملك الموت يدلف إليه، فقال:
- تبا لكم! ألا فتى غير هذا يحمل اللواء؟(348/147)
والله ما ذقنا العذاب إلا تحت لوائه؟
أخرجنا من بيوتنا بيثرب، وهاهو ذا جاء يخرب قريتنا!!
فلمحه الإمام يتكلم بصوت خفيض، فقال له:
- ماذا تقول يا عدو الله؟!
قال حيي: وماذا تريدون منا - معشر المسلمين - ألم يكفكم أن أخرجتمونا من ديارنا وأموالنا؟ فجئنا وحططنا رحلنا بهذه القرية، فما كدنا نستنبت ريشنا بعد أن قصصتم أجنحتنا حتى جئتم إلينا بخيلكم ورجلكم، فإلى أي أرض نهرب من شركم؟!
قال علي: ألست يا عدو الله الذي جمعت علينا الأحزاب من كل فج، فصرنا في أضيق من كفة الحابل، ولم تكتف بذلك حتى هجت قريظة فنبذوا إلينا عهدنا في ساعة العسرة فوقفنا بين شقي الرحى. وحسبت أنك بذلك قضيت علينا، ولكن الله ربنا مشتت شملكم، وكتب على أيدينا قتلكم
قال حيي: إنكم لن تصلوا إلينا، فأنتم في الأرض ونحن في السماء، إن سهمكم لن يخرق حجراً، وخيلكم لن تكون طيراً. فامكثوا ما شئتم وإن لنا في كنوزنا وخيراتنا لسعة
قال علي: أتحسب أن حصونكم ما نعتكم؟! إن الذي دك الجبل تحت أقدام موسى هو الذي يخسف بها الأرض. فنلتقي على سواء وكأني بكم يا بني النضير بعد ليال، فطاحت رؤوسكم، وأصبحتم طعمة للطير والسباع فأسلموا تسلموا
قال حيي: لن يأخذ منا وعيدكم شيئا
قال علي: وأنتم لا تعجزون لله، يا خيل الله اركبي!!
واستمر المسلمون أياماً يحاصرونهم، فلما أجهدوهم نزل اليهود إليهم يبارزونهم، فدارت الدائرة عليهم فأسرت رجالهم، وسبيت نساؤهم وذرياتهم
قال علي لحيي وهو مقدم للقتل: أأغنى عنك حصنك شيئا؟ لولا أويت إلى ركن شديد!
قال: وما هو؟
قال: ربك الذي نسيت، ودينه الذي أنزل! ونبيه الذي أرسل!
قال: خذ رأسي إن كانت لك به حاجة
قال: أجل، إن السيف ليضحك حينما يحز رقاب أعداء الله(348/148)
وتقدم (دحية الكلبي) إلى صفية بنت حيي وقال لها:
تعالي يا ابنة حيي! لقد وجدت فيك عروسي التي أنتظرها فأمسك بيدها، فانفلتت منه كالمهرة العربية وقالت له:
ومن تكون أنت؟
قال: رجل من بني كلب
قالت: لست هناك! مالك وسيدة قريظة والنضير؟!
قال: ومن تنتظرين؟
قالت: القمر المنير!!
قال: أتطمعين في رسول الله!؟ لشد ما خدعتك نفسك، وحدثتك الأماني. أبعد علج من علوج يهود تطمحين إلى الطاهر الطيب؟!
قالت: إن الكريمة كفء الكريم
وسمع النبي بحديثها فاختارها لنفسه زوجا وجعل لدحية بنت عمها. . .
و ($) النبي بعد أيام بها، وهو في طريقه إلى المدينة تحت قبة ضربت لها. فلما انبثق نور الفجر وخرج النبي لصلاته، رأى (أبا أيوب الأنصاري) متوشحاً سيفه قريبا من بيته
فقال له: مالك يا أبا أيوب؟
قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة وهي امرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك
فقال النبي: (اللهم احفظ أبا أيوب كلما بات يحفظني)
وحدث صفية بذلك فقالت:
ولله يا رسول الله لأنت أعز علي من أبي وأمي وأنا على دينك
- 3 -
وبانت قريش بمكة أخبار الرسول مع خيبر، وتمنت أن تدور الدائرة على المسلمين، فتكفيهم يهود شر قتالهم، وبينما كانوا يرصدون الطرق لعلهم يقفون على خبر يبل غلتهم، ويطفئ أوار غيظهم رأوا قادماً في شملة أعرابي من بعيد فتبينوه فإذا هو (الحجاج بن علاط السلمي)(348/149)
قالت قريش: هذا لعمر الله عنده الخبر!
قال لهم: وما ذاك؟
قالوا: بلغنا أن القاطع خرج إلى خيبر وهي بلد يهود وريف الحجاز
- بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم
- إيه يا حجاج!
- هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، واسر محمد أسراً، وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم
فصاحت قريش طربا، وقالوا لأنفسهم: قد جاءكم الخبر! وهذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم، فيقتل بين أظهركم
قال الحجاج: فأعينوني على جمع مالي بمكة، وعلى غرمائي فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك
قالوا: لك ما تحب وترضى، وأعانوه حتى جمع ماله كله
فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر جاء الحجاج وهو جازع وقال له:
- ويحك يا حجاج! ما تقول؟
- أكاتم أنت على خبري؟
- إي والله!
- فالبث على شيئاً حتى يخف موضعي، ثم سار إليه العباس فقال له الحجاج: الخبر والله على خلاف ما قلت لهم، خلفت رسول الله؛ وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرسا بابنة ملكهم؛ وما جئتك إلا مسلما.
ولكن قريشا تحسبني لا أزال على دينها فاطو الخبر ثلاثا، حتى أعجز القوم. ثم أشعه، فإنه والله الحق
قال العباس: ويحك! أحق ما تقول؟
- إي والله
- ولكنك كذبت الناس، ودينك لا يسمح بالكذب(348/150)
- استأذنت الرسول في أن أقول فأذن، وكانت حيلة لأجمع مالي وأخرج من بين أظهرهم إلى غير رجعة. والآن أذهب
- على عين الله
فلما كان بعد ثلاثة أيام تخلق العباس وأخذ عصاه وخرج يطوف بالبيت
قالت قريش: يا أبا الفضل! هذا والله التجلد لحر المصيبة
قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد فتح محمد خيبر وأعرس بابنة ملكهم، وأحرز أموالهم
قالوا: ومن جاءك بهذا الذي تزعم؟
قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً، فأخذ ماله، وانطلق لمحمد وأصحابه ليكون معه
قالوا: يا لعباد الله! أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن! أولى له! انفلت عدو الله!
قال العباس: الله أعلم بعدوه ووليه. . .!
أحمد التاجي(348/151)
من سجل البطولة
روعة التضحية
للأستاذ فريد عين شوكة
(كان للخنساء أربعة أبناء أرسلتهم إلى الجهاد في سبيل الله
فاستشهدوا جميعا في موقعة القادسية فقالت: (الحمد لله الذي
شرفني بقتلهم))
- 1 -
(انتفض أهل السواد على المثنى في خلافة عمر، فهبت الدعوة
إلى الجهاد)
الخنساء:
خبر لافح الشرر ... ناوح القلب فاستعر
ثارت الفرس ثورة ... زعزعت كل ما استقر
واستطالت فخربت ... كل ما شيد أو عمر
سيرى القوم في غد ... كل ما فيه مزدجر
يوم نسقيهم المنو ... ن ونرديهم الحفر
ونخلي حصونهم ... صفصفاً عافى الأثر
يدخل بنوها فيراعون لحالها:
إيه يا أم
الخنساء:
أقبلوا ... قد غدونا على خطر
صرخ الدين يبتغي الْ ... عون في الموقف العسر
أما علمتم جنود الفرس كيف بغوْا ... على المثنى فأجلوه عن الوادي(348/152)
أحدهم: بلى علمنا
الخنساء:
فماذا صدَّ أنفسكم ... عن الجهاد وأنتم أهل إنجاد
أخفتم الحرب أن تطغى فأقعدكم ... حب السلامة عن بذل وإجهاد
كبيرهم:
رحماك يا أم حاشا أن يكون بنا ... ما تزعمين فإنا خير أجناد
وقد نكون حيال السلم في دعة ... لكننا في الوغى أشبال آساد
وقد صبرنا لنسعى في مضاعفة ... من الكتائب لا في بعض أفراد
الخنساء:
فأجمعوا أمركم وامضوا إلى عمر ... يخمد بكم نزوات الثائر العادي
فإن قتلتم فدار الخلد تجمعنا ... وإن رجعتم فعود الظافر الشادي
أحدهم:
سينفر اثنان منا
الخنساء: بل جميعكمُ
كبيرهم:
لا حاضر يرتضي ما قلت أو باد
ومن يعولك إن متنا وليس لنا ... مال تصيبين منه أقفر الزاد
الخنساء:
بَني أصيخوا إن في النفس حاجة ... سأفضي بها حتى أكون على رشد
لئن كان بغض الحرب منكم مخافة ... عليّ إذا أصبحت بين الورى وحدي
فلا تحفلوا خوفا وهبو إلى الوغى ... ففي الله معوان على النوب الرُّبد
يمينا لأنتم مهجة في جوانحي ... وعين أرى في ضوئها جنة الخلد
أخاف عليكم هبة السوء إن هفت ... وأفديكم بالروح إن عز من يفدي
ولكنني أرمي بكم دون رحمة ... إذا ما دعا داعي البطولة والمجد
إذا الوطن العاني أهاب بأهله ... فكيف تخاف الأم فيه على وُلدْ(348/153)
كبيرهم:
كفى يا أم ملهبة فإنا ... سنمضي أجمعين إلى القتال
ونصرع في سبيل الله صرعاً ... تقَرُّ به السموات العوالي
الخنساء:
وداعاً يا بني ليوم نصر ... يضوي بالبطولة والجلال
- 2 -
(في ساحة فسيحة يعرض الخليفة عمر جيش المسلمين الذاهب
إلى الحرب)
عمر:
مرحى رجال الوغى شيباً وشبانا ... حياكم الله أنصاراً وأعواناً
إني موجهكم للفرس
بعض الجنود:
ويلهمُ ... ومن يشايعهم كفراً وعصيانا
هيا بني العرب هيا
عمر:
بل رويدكم ... حتى أزودكم في الحرب تبيانا
لا تقتلوا الهرم الفاني ولا تخزوا ... مسالماً لم يَردُ للحرب ميداناً
ولا تمدوا يدا بالسوء لامرأة ... ولا تذيقوا طعام الموت صبيانا
الجنود: السمع والطوع
عمر:
فامضوا حول قائدكم ... واسعوا إلى الحرب أبطالاً وشجعانا
يد العناية تحدوكم وتحفظكم ... وأعين الله ترعاكم وترعانا
الجند يسيرون منشدين:
مرحىً صراع الردَى ... مرحىً قراع الخطوبْ(348/154)
إنا جنود الفدى ... للوطن المحبوب
أهاب داعي الوطن ... بنا فلبيناهْ
فغبري يا محن ... وودعي يا حياه
فكل غال يهون ... في نصرة الأوطانْ
مهد الشباب الحنون ... وروحه الفينان
هيا بنا هيا ... هيا بني العُربِ
نطوي الفلا طيّا ... إلى رحى الحرب
(تسمع الخنساء بالنصر العربي فتسعى إلى لقاء البشير في دار
الخلافة)
الخنساء: مرحبا بالبشير
البشير:
أهلاً تماضرْ ... فخر أماتنا وزين الشواعرْ
الخنساء: أنتصرتم؟
البشير: أعز نصر رجوناه
الخنساء:
لك الحمدُ يا مُذِلَّ الأكاسرْ
أيهذا البشير أثلجت صدري ... بأحب المنى وأغلى البشائر
فتحدث بعض الحديث عن الحر - ب فذكرى الوغى تهز المشاعر
البشير:
قد ركبنا القفار سعياً إلى الفر ... س كسيل ينصبُّ في الأرض هادر
فبعثنا الهيجاء واستبسل الجند ... وضجت بنا الجياد ثوائر
واستحر القتال وارتجَّت الأر ... ض وقد وافت القلوب الحناجر
كم أطيحت فيه الرؤوس قوار ... يرَ وفاضتْ به الدماء غزائر
ثم دارت رحى المنون على القو ... م فأهووا كطائر إثر طائر(348/155)
وانتصرنا فكان نصراً عزيزاً ... زلزل المدن وقعه والدساكر
الخنساء:
عزت البيد كل أبنائها البُسل ... سيوف لدى الطعان بواتر
وبنيَّ هل أبلوا بساحات الوغى
البشير:
أبلوا بلاء لا يفيه جزاء
الخنساء:
ومن استطال به الزمان ومن ثوى ... بين الرجام
البشير:
جميعهم شهداء!
أحد الحاضرين:
لا تفزعي لمماتهم
الخنساء:
لا والذي ... يبقى وكل العالمين فناء
ليس بأموات فإن مماتهم ... في نصرة الدين الحنيف بقاء
ما مات من باعوا الحياة رخيصة ... لله بل هم عنده أحياء
فريد عين شوكة(348/156)
العدد 349 - بتاريخ: 11 - 03 - 1940(/)
عبقرية محمد السياسية
للأستاذ عباس محمود العقاد
السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث. فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات، ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات، ولكل معنى من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث، وإن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية
وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسة في عموم مدلوله، ولكننا لا نعرف بينها عملاً واحداً هو أدخل في أبواب السياسة وأجمع لضروبها وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعاً منذ ابتدأ بالدعوة إلى الحج إلى أن انتهى بنقض الميثاق على أيدي قريش
ففي عهد الحديبية تجلى تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه وفي الاعتماد على السلم والعهد حيث يحسنان ويصلحان، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود
بدأ بالدعوة إلى الحج فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته، بل شمل به كل من أراد الحج من أبناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي إليه. فجعل له وللعرب أجمعين نصبة واحدة في وجه قريش، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتهم، وفصل بذلك بين دعواها ودعوى القبائل الأخرى ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من إثارة نخوة العرب وتوجيهها إلى مناوئة محمد والرسالة الإسلامية. فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها، ولكنهم إذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم، أو يقطعون ما بينهم وبين آبائهم وأجدادهم. فإذا خالفوا قريشاً في شيء فذلك شأن قريش وحدهم أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة، وليس هو بشأن القبائل أجمعين
ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من إغضاب العرب على الإسلام مما دعوا(349/1)
من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها. فهاهو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام، فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين
وقد سمعنا كثيراً في العصور الحديثة عن المقاومة السلمية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير الحق والحجة.
سمعنا بها في حركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية
وقيل يومئذ أن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة للمصلح الروسي الكبير ليون تولستوي. وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلاً عن الإنسان قبل أن يشرع ليون تولستوي مذهبه الجديد
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيين على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه، فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، ولكنه يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس بالآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجاً لا غازياً يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعاً(349/2)
للاتفاق بين خصومه على قرار واحد، وقلّ من أتباعه من أدرك قصده ومرماه حتى الصفوة المختارين
ولما اتفق الطرفان - المسلمون وقريش - على التعاهد والتهادن كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة (الدبلوماسية) كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين
دعا بعليّ بن أبي طالب فقال له: (أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)
فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش: أمسك! لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم
فقال النبي: أكتب باسمك اللهم
ثم قال: أكتب (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل ابن عمرو)
فقال سهيل: أمسك! لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك
وروي أن علياً تردد فمسح النبي ما كتب بيده، وأمره أن يكتب (محمد بن عبد الله) في موضع محمد رسول الله
ثم تعاهدوا على أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً من رجال محمد لم يردوه عليه، وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح عليه، ومن أحب محالفة قريش فلا جناح عليه، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة عامهم هذا على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ومعهم من السلاح السيوف في قربها، ولا سلاح غيرها.
ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب، فيعترف المشركون كرهاً أو طوعاً بصفة النبوة ولا يردون أحداً من مواليهم أو قاصريهم يذهب إلى النبي ويلحق بالمسلمين.
ولكنه عهد مهادنة أو عهد (إيقاف أعمال العداء إلى حين) كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر، فلا يعوزه شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود من إثبات صفة المندوبين التي لا إرغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة لدعوى الفريقين، ومن حفظ كل لحقه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه(349/3)
فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد إليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الإسلامية، ونقض الوصف الذي يصف به المسلمين. فإن المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قريشاً ليس بمسلم ولكنه مشرك يشبه قريشاً في دينها وهي أولى به من نبي الإسلام
أما المسلم الذي يُرد إلى المشركين مكرهاً فإنما الصلة بينه وبين النبي الإسلام وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين ولا تنقطع الصلة فيه بالبعد وبالقرب. فإن كان الرجل ضعيف الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه، وإن كان وثيق الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين
وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها هي الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنماً لها وخذلاناً لمحمد صلوات الله عليه، فإن المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده قد خرجوا إلى طريق القوافل يأخذونها على تجارة قريش وهي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين، فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة، ولا استطاعوا أن يحجزوهم في مكة كما أرادوا يوم أملوا شروطهم في عهد الحديبية، ولو قضى العهد بولاية للنبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه. وتم العهد فعرف من لم يعرف ما أفاء على الإسلام بعد قليل
فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه، واستراح النبي من قريش ففرغ ليهود خيبر والممالك الأجنبية يرسل الرسل إلى عظمائها بالدعوة إلى دينه، وفتح الأبواب لمن يفدون إليه ممن أنكروا بغي قريش وأمنوا أن تكون نصرتهم للإسلام حرباً يبتلون فيها بما لا يطيقون
ويوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما) لم يفقه الكثيرون معناها في حينها ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبوه محض تسليم، ولكنهم فهموا أي فتح هو بعد سنتين، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون ولا يحسنون النظر إلى بعيد(349/4)
وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور كما تجلت في قيادة الجيوش فكان على أحسن نهج في سياسته إذ نادى بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته، وإذ دعا المسلمين وغير المسلمين إلى مصاحبته في رحلته، وإذ توخى ما توخى من طريقة المسالمة وإقامة الحجة في إنفاذ عزيمته، وإذ قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته، وإذ نظر إلى عقباه ووصل به إلى القصد الذي توخاه.
عباس محمود العقاد(349/5)
إنما يزدهر الأدب
في عصور الفوضى الاجتماعية
للدكتور زكي مبارك
(أقيمت في كلية الآداب مناظرة بين الدكتور زكي مبارك
والأستاذ لطفي جمعة برياسة الدكتور إبراهيم مدكور، واشترك
فيها فريق من طلبة الكلية، وانتصر الحاضرون للرأي الذي
دافع عنه الدكتور مبارك بهذه الخطبة الصريحة، الخالصة من
شوائب التودد للجمهور).
تعلمون أن أمثال هذه المناظرات لا يراد بها غير إيقاظ العقول بفرض طوائف من المذاهب والآراء، فالمناظر لا يؤاخذ بالرأي الذي ينحاز إليه، ولا يطالب بالوقوف عندما يؤمن بصحته من الأدلة والبراهين
ليست هذه المناظرات إلا حركة عقلية يراد بها عرض صور مختلفة للوجه الواحد من وجوه الفكر والرأي، فليس من حق أحد أن يقول: إني أدعو إلى الفوضى حين أقرر أنها من الفرص السوانح لازدهار الآداب والفنون
وبعد تسجيل هذا التحفظ أقول: إني مؤمن بالرأي الذي أعرضه اليوم من فوق منبر كلية الآداب، فلا يضيرني أن أتهم بحمد الظروف التي تشيع الفوضى في المجتمع، ولا يؤذيني أن تكون أصواتكم في صف خصمي، وهو صديق أعاديه في هذه الساعة عداوة مؤقتة
وأسارع فأعترف بأني أخاف أن تكون الهزيمة من نصيبي، لأني اخترت الجانب الشائك من مناظرة اليوم، ولأني أخشى أن يميل السامعون إلى إيثار السلامة، فيعلنوا تأييدهم لرأي الخصم المحترم، حتى لا يقال: إن كلية الآداب تشجع من يرى أن (الفوضى الاجتماعية) قد تعود بالنفع على الآداب والفنون، وهي معهد يثور حوله الغبار من حين إلى حين
وأنا أفترض سلفاً أن الهزيمة ستكون من نصيبي لأواجه المناظرة بعزيمة المستقتل المستميت، ولأجد ما أعزي به نفسي حين ترونني أبليت في الدفاع عن رأيي أحسن البلاء(349/6)
ومن أجل هذا، زهدت في البراعة الخطابية، وأعددت خطبتي، وقُدِمت بها مكتوبة بلغة صريحة، لتكون حجة باقية على صحة الرأي الذي تعصبت له وانحزت إليه
أنا أرى أن الأدب لا يزدهر إلا في عصور الفوضى الاجتماعية، فما هي الحجج التي تؤيد هذا الرأي الجريء؟
أستطيع أن أقول إن الفوضى الاجتماعية ترجّ الأذهان رجاً عنيفاً، وتفتح أمام الأذواق أبواباً ومذاهب، وتقهر العقول على التفكير في مصاير الإنسانية عند اضطراب المجتمع
وأستطيع أن أقول إن الفوضى هي التي مهدت السبيل إلى ظهور الحكمة على ألسنة الحكماء، ولو شئت لقلت إن النبوات لم تظهر إلا في الأوقات التي غلبت فيها الفوضى على المجتمع
فيكم من قرأ القرآن، وفيكم من قرأ التوراة، وفيكم من قرأ الإنجيل؛ فهل فيكم من يجرؤ على القول بأن تلك الكتب المقدسة خلت من الثورة على اضطراب المجتمع؟ وهل فيكم من ينكر أن أعظم الجوانب في تلك الكتب هي الجوانب الخاصة بالتشريع؟
ولمن توضع قواعد الشرائع إذا اطمأن الأنبياء إلى أن المجتمع في أمان من شر الفساد والانحلال؟
وما قيمة الفضائل التي تمدّح بها الصالحون إذا صح أن العالم صحيح الأديم وأنه لا يعرف التمييز بين الفاضل والمفضول، ولا يشهد الفرق بين الصحة والاعتلال؟
وهل سميت الفضائل فضائل إلا بالقياس إلى الرذائل؟ وهل تصور الناس معنى الحياة إلا بعد أن شهدوا صورة الموت؟ وهل أدركوا رَوح اليقين إلا بعد أن أدركوا قلق الارتياب؟
اسمعوا كلمة الحق
إن سلامة المجتمع من الفوضى والاضطراب لا تصل بالناس إلا إلى غاية واحدة: هي الأمان المطلق، والأمان المطلق يقود الناس إلى هاوية البلادة والغفلة والحمق
وأنا لا أنكر أن السعادة قد تكون من نصيب الأحمق والغافل والبليد، ولكني أنكر أن يكون التفوق في الأدب من نصيب هذا الطراز من (السعداء) فالأدب فن من المحنة باصطراع العقول، واصطخاب الأهواء، واضطرام الأباطيل، وهو التعبير الصادق عما يثور في المجتمع من الاقتتال العنيف بين الرشد والغيّ(349/7)
هل قرأتم وصف الجنة في الكتب الدينية؟ فيها من كل فاكهة زوجان، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فيها كل الطيبات، وفيها الأمان المطلق من المرض والموت. ولكن هل سمعتم أن الجنة سيكون فيها كتّاب وشعراء وخطباء وجرائد ومجلات وكلية آداب؟
وكيف تكون هذه المعاني في الجنة وقد أراح الله أهلها من صيال الشهوات والأهواء؟
قيل أن أهل الجنة سيكون أكثرهم من البُلْه، وقيل في تفسير ذلك إن البُلْه يقل تعرضهم للموبقات فيخرجون من الدنيا بسلام وقد أهلتهم البلاهة لاحتلال الفردوس
وأقول بغير ذلك التفسير، أقول إن أهل الجنة سيكونون بُلهاً لأن الله سيرحمهم من التعرض لآفات الشطط والجموح في ميادين الفكر والعقل والوجدان
وما حاجة أهل الجنة إلى الذكاء وهو عناء؟ إن الذكاء وسيلة للتخلص من المعاطب، وأهل الجنة في أمان من المعاطب
والأدب في جوهره تعبير عن بلاء الإنسانية بالصراع بين الحُسن والقُبح، والنضال بين الشك واليقين، فما حاجة أهل الجنة إلى ذلك التعبير وهم يُرزقون بلا حساب، ولا يحسون الخوف من تلون النفوس وتقلب القلوب؟
وأنتم تستطيعون الوصول إلى ما يشبه نعيم الجنة في كل وقت، إن رضيتم بحظوظكم في الحياة، ولكنكم لن تكونوا أدباء، لأن الأدب ليس إلا تعبيراً عن ظمأ الأرواح والقلوب إلى غايات عالية لا يدركها الراضون عن حظوظهم في الحياة
الأدب يأخذ وقوده من قلق الأفئدة والأرواح والعقول، ولا يقع ذلك القلق إلا عند اضطراب المجتمع. فليت شعري كيف يجد خصمي حجته وهو ينتظر ازدهار الأدب في رحاب المجتمع الهادئ الرزين؟
الأدب من صور الحياة، والحياة تَقلُّب وتَفزُّع وصراع، وهل يعرف السلام المطلق غير الأموات؟
إن أساتذة الآداب يتحدثون بأن عصور الانحطاط السياسي في الدولة العباسية كانت عصور تقدم في العلوم والآداب والفنون وهم يعللون ذلك بالتنافس بين الرؤساء والأمراء والملوك
فما رأيكم فيمن يذكر لذلك سبباً آخر هو اليقظة التي خلقها انحلال المجتمع السياسي في العصر العباسي؟(349/8)
وهل كان النزاع بين العرب والفُرس إلا صورة من صور الاضطراب في المجتمع الإسلامي؟ هو ذلك، ولا ريب، فأين من ينكر أن النزاع بين العرب والفرس عاد على الحياة الأدبية بأجزل النفع، وقدم للأدباء فرصاً ثمينة لتشريح خصائص الشعوب؟
وتسمعون في كل يوم أن مصر لها الزعامة الأدبية بين الأمم العربية. فمن أين وصلت إلينا الزعامة وهي حق؟ أترونها نزلت علينا من السماء بعد انقضاء عصور الوحي؟ أترون الأمم العربية قدمتها إلينا هدية؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما كانت لنا الزعامة الأدبية لأننا نفوق سائر الأمم العربية في التمتع بأكبر نصيب من اضطراب المجتمع، وإليكم بعض البيان:
في بلادنا تصطرع جميع المذاهب والعقائد وفي بلادنا تقتتل جميع العادات والتقاليد. وفي بلادنا يلتقي البحران: بحر المدنية الشرقية وبحر المدنية الغربية. وفي بلادنا يجتمع الضب والحوت، وتمتزج أنغام المؤذنين بأصوات النواقيس
عندنا برج بابل المشهور في التاريخ، بل عندنا برجان هما الأزهر والجامعة المصرية، يتجه أحدهما إلى الشرق فيكون خلف الضفة الشرقية للنيل، ويتجه ثانيهما إلى الغرب فيكون حول الضفة الغربية
وهذا اضطراب بلا جدال، لأنه تقلب للوجوه بين الشرق والغرب، ولكن من هذا التقلب ظفرت مصر بالزعامة الأدبية بين الأمم العربية
فالأديب المصري يغرِّب إن شاء فيرى القاهرة في ثياب (أليس) ومرجريت، ويشرق إن شاء فيراها في عباءة ليلى وظمياء
وبفضل هذه البلبلة بين الحضارة والبداوة نهضت قواعد الأدب المصري الحديث
وقد حدثت تلاميذي بكلية الآداب في سنة 1927 أن الأدب لن يسمو ولن يرتفع إلا إذا اشتركت المرأة في سياسة المجتمع
ومعنى ذلك أن المرأة تخلُق في حياة الرجل ألواناً من الرضا والغضب، والقسوة واللين، وتسوق إليه فنوناً من الرفق والعنف والبؤس والنعيم
المرأة مصدر اضطراب في حياة الرجل، وبفضل عصيان جدتها حوّاء عرف جدنا آدم هذه الأرض، فحرث وزرع وحصد، وعرف معاني اليأس والرجاء، ومهّد لأبنائه سبيل الأدب الرفيع بوصف ما في الحياة من أزهار وأشواك، وحقائق وأباطيل(349/9)
والمرأة الوديعة لا تخلُق الأديب، وهل في الدنيا مرأةٌ وديعة؟
غضبة الله على جميع بنات حوّاء!
وما يهمني أن أدعوكم إلى الاصطباح والاغتباق بما عند الرعابيب من نزق وطيش، فلست من أنصار الفوضى الاجتماعية. واشتراك المرأة في المجتمع يجره حتما إلى الفساد والاضطراب، وإنما يهمني أن أنص على أن الشر الذي يصحب حياة المرأة يؤرث الحاسة الأدبية والفنية، بفضل ما يؤرث من الأذواق والأحاسيس
وفي الدنيا أحبار ورهبان وأشياخ كفاهم الله شر المرأة، فعاشوا سعداء، لا ينتقلون من البيت إلا إلى المعبد، ولا من المعبد إلا إلى البيت، وذلك نموذج للحياة الخالصة من شوائب القلق والانزعاج
ولكن هؤلاء لن يصيروا أدباء، ولن يكون لهم مكان بين أقطاب الفكر والعقل والذوق، وإن ظفروا بنعمة عظيمة هي السلامة من شر الناس
وما لي أبعُد بكم في عرض الشواهد؟ نحن اليوم في كلية الآداب؟ فما هو السر في تفوق هذه الكلية من الوجهة الأدبية؟ أيكون السر في أنها تدرس علوماً لا تدرس في الأزهر ودار العلوم؟
إن كان اختلاف العلوم هو سر التفوق فمن حق الأزهر أن يقول إنه يدرس علوماً لا تدرس في كليات الجامعة المصرية. ليس السر في المكان، وإنما السر في السكان، كما يقول أهلنا في الريف
إنما تتفوق كلية الآداب بسبب ما تعاني من الفوضى الاجتماعية فهي أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات بلا تحجّب ولا مداراة، فإن لم تكن أول معهد يلتقي فيه الفتيان والفتيات في الدرس الواحد فهي أول معهد كثر فيه بنات حواء حتى بلغ عددهن المئات
ومن المؤكد أننا غير راضين في سرائر أنفسنا عن هذه الصورة من صور المجتمع، وليس فينا من يطمئن كل الاطمئنان إلى أن تكون ابنته غرضاً للعيون، يتأثر خطواتها من يشاء من أهل الفضول.
كلية الآداب في فوضى اجتماعية بشهادة الأفاضل من رجال الدين وبشهادة الأستاذ أمين الخولي. وفي هذه الفوضى إثم كبير وفيها منافع، فما هي تلك المنافع؟ هي إذكاء المشاعر(349/10)
والعواطف والأحاسيس. هي قهر الفتيان والفتيات على تجميل مذاهبهم الحيوية في تناول شؤون الوجود
وهل من العيب أن يقال أن كل فتىً يسرّه أن يكون موضع الإعجاب من إحدى الفتيات؟
اتركوا النفاق لحظة واحدة واسمعوا صوت الحق
إن الطالب في كلية الآداب لا يستطيع ولن يستطيع أن ينسى إنه محوط بأرواح لطاف ستنال حياته الحاضرة بالتغيير والتبديل. وهذا الطالب أحد رجلين: رجل بسيط يتجمل بالظواهر والأشكال فيحرص على هندامه بعض الحرص أو كل الحرص، ليظهر أمام الفتيات بمظهر مقبول. ورجل عبقري الروح لا تهمه المظاهر والأشكال، وإنما يهمه أن يكون رجلاً يملك السيطرة بالمنطق والعقل والبيان
ومن هنا يجوز لكم أن تنتظروا مطلع الشمس من هذه الكلية، يوم يكون فيها طالبات لا يرون الرجولة في المظاهر والأشكال، وإنما يرون الرجولة في فحولة الأفكار والآراء والعقول. وإنما اخترت كلمة (يرون) بهذه الصورة الصرفية لأن بنات هذه الكلية (سيكونون) في إسناد الضمائر (مساوين) للرجال في مضمار المذاهب والآراء
ولن يقع ذلك بدون فوضى اجتماعية، ولكن تلك الفوضى ستصنع الأعاجيب في تأريث القلوب والعقول
أنا أكره الفوضى، وأرجو أن تخلو منها حياتي وحياتكم وحياة الأساتذة بهذه الكلية، إن صح أن فيكم وفيهم من ابتلته المقادير بالشكاية من اضطراب المجتمع الجديد
ولكني أقف هنا موقف المؤرخ لظاهرة من الظواهر الأدبية في معهد قد اشتغلتُ فيه بالتدريس أربع سنين، ومن حقي عليه أن يسمح بأن أجهر في رحابه بقول الحق، فأقرر أن الأدب يزدهر في عصور الفوضى الاجتماعية
وهل أراني في حاجة، بعد الذي سلف، إلى أدلة وبراهين؟
اسمعوا، اسمعوا:
(البقية في العدد الآتي)
زكي مبارك(349/11)
في الاجتماع اللغوي
صراع اللغات
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
ذكرنا في مقال سابق أن الصراع بين اللغات ينشأ عن عوامل كثيرة أهمها عاملان: أحدهما أن ينزح إلى البلد عناصر أجنبية تنطق بلغة غير لغة أهله؛ وثانيهما أن يتجاور شعبان مختلفا اللغة، فيتبادلا المنافع، ويتاح لأفرادهما فرص للاحتكاك المادي والثقافي. ثم تكلمنا عن الحالات التي يؤدي فيها العامل الأول إلى تغلب إحدى اللغتين على الأخرى وما يمتاز به هذا التغلب من خصائص وما يتصل به من شؤون
وسنعرض في هذه الكلمة للحالات التي يؤدي فيها العامل الثاني إلى مثل هذه النتيجة
يتيح تجاور شعبين مختلفي اللغة فرصاً كثيرة لاحتكاك لغتيهما فتشتبكان في صراع ينتهي أحياناً إلى تغلب واحدة منهما على الأخرى فتصبح لغة الشعبين؛ ويحدث هذا في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كانت نسبة النمو في أحد الشعبين كبيرة لدرجة يتكاثف فيها ساكنوه، وتضيق مساحته بهم ذرعاً، فيشتد ضغطه على حدود الشعب المجاور له، وتكثر تبعاً لذلك عوامل الاحتكاك والتنازع بين اللغتين. وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب الكثيف السكان على لغة المناطق المجاورة له؛ على شريطة ألا يقل عن أهلها في حضارته وثقافته وآداب لغته. ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى من أهلها في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في التاريخ. وأكثرها دلالة بهذا الصدد ما كان من أمر اللغة الألمانية؛ فقد طغت على مساحة واسعة من المناطق المجاورة لألمانيا بأوربا الوسطى (بسويسرا وتشيكوسلوفاكيا وبولونيا والنمسا. . . الخ) وقضت على لهجاتها الأولى
الحالة الثانية: إذا تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور له، وفي هذه الحالة تتغلب لغة الشعب القوي النفوذ، على شريطة ألا يقل عن الآخر في حضارته وثقافته وآداب لغته؛ ويتأكد انتصاره إذا كان أرقى منه في هذه الأمور
والأمثلة على ذلك كثيرة في مختلف مراحل التاريخ. فلغة شعوب (الباسك) قد أخذت تنهزم(349/13)
أمام اللغة الفرنسية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الفرنسيين، وأمام اللغة الإسبانية في المناطق التي تغلغل فيها نفوذ الإسبانيين حتى كادت تنقرض في كلتيهما. - واللهجات السلتية التي كان يتكلم بها معظم السكان بايرلندا واسكتلندا وويلز قد أخذت تنهزم أمام اللغة الإنجليزية منذ أن تغلغل نفوذ إنجلترا في هذه البلاد، حتى زالت من لغة الأدب والكتابة، وكادت تنقرض انقراضاً تاماً من لغة الحديث. وهكذا كان مصير اللهجة السلتية التي بقيت بمقاطعة البريتون (في القسم الغربي من فرنسا على سواحل الأطلانطيق)، فقد أخذت تنهزم أمام اللغة الفرنسية منذ أن تغلغل نفوذ فرنسا في هذه المقاطعة، حتى لم يبق لها إلا آثار ضئيلة في لغة الحديث بين الأميين من الشيوخ. - واللغة الفرنسية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها ببلجيكا وسويسرا؛ فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لجميع سكان والونيا ببلجيكا ولنحو 22 % من سكان سويسرا - واللغة الإيطالية قد تغلبت على لهجات المناطق المجاورة لها بسويسرا، فأصبحت الآن لغة الحديث والكتابة لنحو 5 , 3 % من سكان هذه الجمهورية
وعلى هذا الأساس نفسه تتغلب في المملكة الواحدة لغة المقاطعة التي تكون بها العاصمة أو يكون لأهلها السلطان والنفوذ؛ فلوقوع عاصمة بلجيكا (بروكسل) في مقاطعة والونيا ذات اللسان الفرنسي، ولأن سكان هذه المقاطعة يتمتعون بقسط كبير من النفوذ والسلطان في هذه المملكة، أخذت اللغة الفرنسية تتغلب على الفلامندية (لغة القسم الشمالي من بلجيكا المسمى (فلاندر)) وتنتقصها من أطرافها. ولوقوع عاصمة سويسرا (برن) في القسم الناطق بالألمانية، ولأن سكان هذا القسم يتمتعون بأكبر قسط من النفوذ والسلطان وتتألف منهم الأغلبية الساحقة (يتكلم الألمانية في سويسرا نحو 70 % من أهلها) أخذت اللغة الألمانية تطغي على ألسنة الناطقين بالفرنسية من السويسريين. وقد أخذت لغة قريش قبيل الإسلام تتغلب على اللغات المضرية الأخرى، لما كانت تتمتع به من سلطان أدبي، ويستأثر به أهلها من نفوذ ديني وسياسي
وفي كلتا الحالتين السابقتين لا يتم النصر غالبا لإحدى اللغتين إلا بعد أمد طويل يبلغ أحياناً بضعة قرون، فالصراع بين الألمانية والفرنسية بسويسرا قد بدأ منذ عهد سحيق؛ ومع ذلك لم يتم بعد للألمانية النصر النهائي. والصراع بين اللغة الفرنسية واللسان السلتي الذي يتكلم(349/14)
به البريتونيون (سكان مقاطعة البريتون قد نشب منذ عدة قرون؛ ومع ذلك لا يزال كثير من شيوخ البريتون في العصر الحاضر يتكلمون بهذا اللسان. ولا تزال اللهجة السلتية لغة محادثة بين عادة الايرلنديين في العصر الحاضر، مع أن تغلب الإنجليزية عليها قد بدأ في هذه البلاد منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد أخذت لغة قريش تطغي على اللغات المضرية الأخرى منذ العصر الجاهلي؛ ومع ذلك ظلت هذه اللغات حية في كثير من المواطن إلى أواخر العصر العباسي
وغني عن البيان أن انتصاراً لا يتم إلا بعد أمد طويل لا يخرج المنتصر من معاركه على الحالة التي كان عليها من قبل. فاللغة التي يتم لها الغلب لا تخرج سليمة من هذا الصراع. بل أن طول احتكاكها باللغة الأخرى يجعلها تتأثر بها في بعض مظاهرها وبخاصة في مفرداتها كما سبقت الإشارة إلى ذلك في العامل الأول. غير أن تجرد العامل الذي نحن بصدد الكلام عنه من عنف النزاع وشدة المقاومة، وحدوث نتائجه في صورة سلمية متدرجة بطيئة، كل ذلك يعمل على وقاية اللغة الغالبة، ويخفف من مبلغ تأثرها باللغة المغلوبة
والألفاظ الأصيلة للغة الغالبة، ينالها بعض التحريف في ألسنة المحدثين من الناطقين بها (المغلوبين لغوياً)، فتختلف بعض الاختلاف في أصواتها ودلالاتها وأساليب نطقها عن صورتها الأولى.
والكلمات الدخيلة التي تقتبسها اللغة الغالبة من اللغة المغلوبة ينالها كذلك بعض التحريف في حروفها ومعانيها وأساليب نطقها فتبعد في جميع هذه النواحي عن شكلها القديم
وتقطع اللغة المغلوبة في سبيل انقراضها نفس المراحل التي أشرنا إليها في العامل الأول فينفذ الانحلال أولاً إلى مفرداتها ثم إلى أصواتها ومخارج حروفها وأساليبها في نطق الكلمات ويتم الإجهاز عليها بالقضاء على قواعدها.
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة باريس(349/15)
العقلية الألمانية
من خلال الدراسة اللغوية
للأستاذ أبي حيان
كنا في ساعة من تلك الساعات الجميلة التي تتكاشف فيها الأذهان، وتتصافى فيها العقول، وتنطلق فيها الخواطر؛ والتي تدخرها الذاكرة بين أطوائها، لتكون ذخيرة من السعادة، تستمدها النفس في أيام الشقاء، وتنعم باستحضارها كلما طغت عليها الآلام، وحزبتها الأيام. وكنا نتدارس في تلك الساعة طرفاً من علم اللغات المقارن، مما يتعلق بعلامات الإعراب، ومكانها في مختلف اللغات، وأنها سمة من سمات اللغات البادية: كاللاتينية القديمة، واليونانية الأولى. وما بقاؤها في اللغة العربية الشريفة، وقد جازت دور البداوة، وشاركت في بناء الحضارة، وأعرقت في ذلك إعراقاً، إلا مظهر من مظاهر القداسة التي أسبغها القرآن الكريم عليها، بنزوله بها. والقرآن خالد خلود النفس: لا تبديل لكلمه، ولا تغيير في نظمه، ولا تحوير لوضعه؛ وكذلك اللغة العربية التي ارتبط كيانها بكيانه، وأخذت مكانها من مكانه. فهذه العلامات الإعرابية هي في حقيقة وضعها ومرد أمرها، مظهر من مظاهر البداوة الإنسانية في دور من أدوارها.
ولقد تنزل هذا الرأي من عقولنا ومشاعرنا منازل متفاوتة، فمنا من مال إليه وأخذ به لطرافته، ومنا من أنكره لغرابته، إلى غير ذلك من الحالات المختلفة باختلاف المزاج العقلي، ولكنه لم يلبث أن أثار في أنفسنا طائفة من الخواطر متعارضة، فلم يلبث ذلك المجلس الهادئ القار الرزين أن تحول عن هدوئه، حين انطلقت تلك الخواطر متدافعة متضاربة. . . فماج الجو من حولنا وثار، وطال الجدل واشتد. . . وقد اختلفت أساليب المحاجة، وتشعبت طرائق القول وأفانينه، على ما يقع في الخاطر، وعلى ما توحي به المناقشة.
ولكن أحدنا، وكان في معارضة الرأي منذ بدا، وكأنما كان يدخر - لحاجة في نفسه - هذا الوجه الأخير من المعارضة، أخذ يقول: (كيف يستقيم هذا الرأي لكم، وكيف يصح في الاعتبار العلمي، إذا كان بين يدينا ما يأتي بنيانه من القواعد؟ أنسيتم أن اللغة الألمانية من اللغات المعربة التي تلتزم الإعراب التزاماً لا هوادة فيه ولا تسامح في قواعده؟ إذن،(349/16)
فاعلموا أنكم بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما أن تنزلوا عن رأيكم، وتحتسبوا لدى (الجدل المجرد) جهدكم، وإما أن تلجوا في مذهبكم - وأعيذكم من اللجاجة في الباطل حين يكشف عنه غطاؤه - فتزعموا أن اللغة الألمانية لغة متبدية، وأن الجنس الألماني لا يزال في دور من أدوار البداوة. ويا لها إذن من جرأة على الواقع ومجازفة بالقول! إذ ما كان لأحد أن يذهب به وهمه هذا المذهب، فاللغة الألمانية هي - فيما يعترف الناس جميعاً - لغة الحضارة في أوسع معانيها، وأكمل ما عرف من صورها. . .)
ثم أخذ صاحبنا يمد شعب الحديث في كل مذاهبه الممكنة، ويفيض في بيان هذه الحضارة وتمجيد أصحابها، ويستشهد من هنا وهناك، في حماسة متقدة، وبلاغة خلابة، حتى لحسبناه - ونستغفر الله - داعية من دعاة النازي، فهو يجرب فينا أساليبه، ويتخذ منا موضوعاً له. وهكذا لم يلبث الميدان أن تحول - على غير إرادتنا - من بحث لغوي ومدارسة علمية، إلى جدل سياسي، يهدأ ويفور، ويعتدل ويجور؛ وبقيت المسألة الأولى في موضعها حتى اليوم - فيما أعلم - لم يبتّ فيها برأي، ولم ينته فيها إلى مقطع.
انفض هذا المجلس ومضى كل ما فيه، إلا من هذه النفحة الروحية الخالدة - التي أودعها الله فينا - وأطلقنا عليها كلمة (الذاكرة)، فقد أضفت عليه معنى الخلود، ومضت به تختزنه بين ما تختزن، مما يعمل دائباً في تكوين شخصية هذا الإنسان الظاهرة والمستكنة، والحاضرة والمستقبلة؛ حتى إذا هاجته الحوادث، واستثارته الأشباه والنظائر، برز من مكمنه، وأخذ يؤثر في خيالنا، كما تؤثر المحسوسات في حواسنا.
وأنا منذ الحرب القائمة لا تزال الذاكرة تطلق لي صورة ذلك المجلس، وما تفتأ هذه الصورة تختال لي، وترود أمامي، وتتبرج لعقلي. فإذا بي أسائل نفسي: أيكون الشعب الألماني لا يزال يعاني البداوة في دور من أدوارها؟ أليست هذه المظاهر المختلفة في مسلكه من الحرب وإثارتها، وفي تقديره للحرية الشخصية وقيمتها، وفي تلك الدعاوى العريضة التي لا يفتأ يقررها ويلج فيها، وفي غير ذلك من الملابسات التي تنتظم الماضي والحاضر، أليس كل ذلك أشبه بالعقلية البدوية؟ وهذه المظاهر الفخمة المتطاولة التي تزعم للناس أنها واهبة الحضارة، ورافعة بنيانها، ومثبتة أركانها؟ ألا يمكن أن يكون وراءها روح بدوية غلابة متغلغلة في العقلية الألمانية، هي التي تنهج لهذا الشعب سبيلها، وتفرض(349/17)
عليه قوانينها، وتحدد له غاياتها؛ وهي التي بعثته إلى هذا المسلك وإلى نظائره في التاريخ في القريب، مما نحن في مشاهده المنكرة، وآثاره المروعة؟
لعل ذلك كله جائز مقبول، وإن الدراسة اللغوية هي - فيما نعتقد - من صميم الدراسات المتعلقة بعلم الإنسان ومن خير المقدمات التي تهدي إلى معرفة طبائع الشعوب وخصائص الأجناس. فإذا اطردت هذه الدراسة اللغوية مع نتائج الأبحاث الاجتماعية كان ذلك أقوى لها، وأجدر أن يخرجها من دائرة الفروض، ويدنو بها إلى منطقة الحقائق العلمية. فهل لنا أن نذهب ذلك المذهب فيما نحن الآن بصدده؟
أبو حيان(349/18)
تحقيق تاريخي
عام الفيل وميلاد الرسول
(تقدمة تحية إلى الدكتور محمد حسين هيكل باشا)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عام الفيل
كان الرأي الشائع في الدوائر التاريخية العلمية أن المصادر اليونانية لم تتحدث عن تعرض الأحباش للحجاز، ولا عن سفر الفيل غير أن المباحث الدقيقة التي نشرها المستشرق العلامة تيودور نولدكه عن تاريخ صلات الفرس بالروم. بينت أن المؤرخ بروكوب اليوناني تحدث عن تعرض الأحباش للحجاز بتحريض الروم، ومن ذلك الحين اتخذت الدراسات التاريخية وجهة أخرى تبدأ فيها بدراسة الوقائع من وجهة نظر المصادر اليونانية، وتمحص على أساسها ما ورد في كتب المؤرخين العرب، وهذه الوجهة التي مال معها المستشرقون صحيحة الأسس، لأن مؤرخي العرب تأخر بهم العهد نحو ثلاثة قرون من الزمان، تدرجت فيها وقائع الجاهلية العربية على الأفواه وتنقلت على الألسنة في فترة من الزمان، حمل في تضاعيفه من الأسباب القوية ما يجعله يتناول الواقعات والحوادث التاريخية بتأثيره، فينسج من حول مادتها الأقاصيص المتقومة بروح العصر وهكذا كان أن سلمت وقائع الجاهلية العربية لعصر التدوين في القرن الثاني للهجرة، بعد أن غابت حقائق هذه الوقائع في تيه من الأساطير التي حيكت من حولها والتي غطت على أمرها، ومن هنا تجد للمصادر اليونانية قيمتها التاريخية، باعتبارها مصادر معاصرة للوقائع التي جرت، ومن هنا يمكن اتخاذها محكا لدراسة الروايات العربية، واستخراج العناصر التاريخية منها
يذكر لنا بروكوب إنه في السنة الخامسة من حكم الإمبراطور جوستنيان، أعني حوالي سنة 530 ميلادية، حمل الأحباش على اليمن واستولوا عليها. وهو يصوّر أسباب هذه الحملة اعتماداً على ما يقدره يوحنا المؤرخ اليوناني فيقول: إن يوسف ذا نواس (دومينوس الحميري: عند يوحنا) قبض على بعض التجار من نصارى الروم وقتلهم، واستعبد نصارى نجران، وأخذ يقطع السبيل على تجارة اليونان، فكان نتيجة ذلك أن كسدت التجارة وساءت(349/19)
الحالة الاقتصادية. وقد تضرر من هذه السياسة أقيال اليمن، فخرجوا تحت لواء أحدهم، وهو (أيدوج) الوثني، وجرت بينهم وبين ذي نواس معارك وحروب لم يثبت فيها، وانتهى أمره بأن قتل، وانتهز الأحباش فرصة تحارب اليمنيين فشنوا الغارة على بلاد اليمن تحت قيادة (أبرهة) - الذي كان في الأصل عبداً لأحد تجار الروم النازلين ثغر أدوليس - وفتكوا بأيدوج، وأخضعوا اليمن لسلطة نجاشي الحبشة
غير أن المصادر العربية تجعل من أيدوج هذا قائداً حبشياً، وتسميه أرياط وأنه باسم النجاشي حارب ذا نواس، وبعد أن تغلب عليه حكم اليمن؛ إلا أن (أبرهة الأشرم) أحد قواد الحملة الحبشية ثار عليه ونجح في إزاحته عن السلطة، وتمكن من قتله وبسط نفوذه على اليمن كلها وحكمها باسم النجاشي. ونقطة الاختلاف هذه من الممكن تحقيقها، لكنها لا تقع من غرضنا في هذا البحث، وإنما الذي يهمنا تقديره أن المصادر العربية تماشي المصادر اليونانية في أن اليمن سقطت تحت حكم الأحباش بعد عهد ذي نواس (دومينوس). وبعد أن استولى الأحباش على اليمن واستقروا فيها مدة، حدث أن أرسل الإمبراطور جوستنيان سفيراً يدعى جوليان، عرض من قبله على النجاشي فكرة عقد محالفة مع الروم ضد الفرس، ويكون دور الأحباش فيها التعرض للفرس من جهة بلاد العرب المتاخمة لجنوب غربي الحدود الفارسية، وذلك لتخفيف الضغط على الروم في صراعهم مع الفرس على تخوم الحدود بين الإمبراطوريتين. وهذه السفارة حدثت في حدود سنة 540 ميلادية، كما يعين ذلك التاريخ المصادر اليونانية، في وقت كانت الصلات قوية ووثيقة بين النجاشي وإمبراطور الروم. ومما لاشك فيه أن جوستنيان اعتمد على هذه الصلات أولاً ووحدة العقيدة الدينية التي تجمعه بنجاشي الحبشة ثانياً، ليطلب مؤازرة النجاشي له في الحرب التي اشتدت بينه وبين كسرى أنو شروان سنة 540 ميلادية
ولم تكن فكرة إمكان مساعدة الأحباش للروم في صراعهم ضد الفرس، إلا فكرة خيالية لا يمكن أن تتحقق في عالم الواقع. إذ لم يكن الأحباش أصحاب أسطول بحري ضخم يمكنهم من غزو فارس من جهة الخليج الفارسي، ولا كان في إمكانهم إرسال حملة من اليمن قاعدتها في بلاد العرب عبر صحرائها للتعرض للتخوم العربية الفارسية، لأن طبيعة تضاريس بلاد العرب، لا تجعل وجهاً لإمكان نجاح مثل هذه الحملة. وقد أمكن النجاشي أن(349/20)
يدرك هذه الحقيقة، لإلمامه بالموقف الذي غاب عن الروم وقيصرهم ومن هنا كانت المماطلة دائماً من جانب النجاشي والاعتذار عن إمكان تقديم مساعدة فعالة للروم في صراعهم ضد الفرس. فلما اشتد الصراع وبلغ أقصاه سنة540 ميلادية، وأرسل جوستنيان رسولاً خاصاً (سفيراً) هو جوليان، اضطر النجاشي مجاملة أن يأمر عامله على اليمن، أبرهة، أن يرسل قسماً من قواته شمالاً على زعم التحرك للتعرض للتخوم الفارسية. والطريق الطبيعي الممتد من اليمن إلى حدود فارس يمر بمكة وينتهي عند وادي الرمة أحد روافد الفرات فيما مضى. ومما لا ريب فيه أن الأحباش اتخذوا هذا الطريق مسلكهم نحو الشمال. غير أن القوات التي أرسلوها حين انتهت إلى الحجاز، كان التعب قد نال منها والمرض قد أفنى معظم رجالها، والجدري فتك بجنودها فاضطر الأحباش أن يسحبوا قواتهم ويعتذروا بخسائرهم إلى الروم، ويقفوا عند هذا الحد. غير أن العرب من سكان الحجاز كان قد هالهم تقدم الأحباش في جيش عرمرم (بالنسبة لهم) ورأوا أنهم يبيتون لهم شراً، فلما أصيبوا بالوباء، ورجعوا، أيقن العرب أن ذلك أثر من تدخل العناية الإلهية التي حفظتهم مما كان الأحباش يبيتونه لهم. وهذا هو المصدر التاريخي الذي حيك من حوله كل روايات العرب عن سفر الفيل
تروي المصادر العربية أن السبب في تعرض الأحباش لمكة يرجع إلى أن أبرهة الأشرم شيد هيكلاً في صنعاء حاضرة اليمن، وذلك بغية صرف الناس عن الكعبة. غير أننا نعلم من المصادر المسيحية أنها لم تشر البتة إلى مسألة بناء هيكل جديد في صنعاء حاضرة اليمن (العربية السعيدة على عهد أبرهة. هذا فضلاً عن أن المؤرخ أوزيب في بحثه عن (تاريخ الكنيسة)، يتناول بالذكر النصارى من العرب وقساوستهم وأصحاب المآثر منهم على الكنيسة، وهو لا يذكر شيئاً عن أبرهة، وعن تشييد هيكل في صنعاء
غير أننا نعلم أن المسيحية كانت منتشرة في نجران، وفي بعض المناطق من اليمن، وأنه كان باليمن قسس من النصارى على عهد حكم الأحباش لها. ولاشك أن هؤلاء القسس الذين يرعون شؤون طائفتهم الروحية، كانوا يتخذون لأنفسهم في حاضرة اليمن هيكلاً، يظهر أنه كان النواة التي حيكت من حولها روايات العرب. هذا، وربما كان الأحباش وهم نصارى اعتنوا بهذا الهيكل وزينوه بما يليق بمكانتهم كنصارى حاكمين للبلاد؛ وربما حمل هذا(349/21)
العمل عند بدو الصحراء وعرب الحجاز على محاولة الأحباش أن يجعلوا من هيكلهم نظيراً للكعبة. ولاشك أن هذا الوهم لم يكن ليمكن تصوره، خصوصاً وأن الأحباش إذا فرض أنهم قاموا بمثل هذه المحاولة التي ينسبها مؤرخو العرب لهم، فستكون هذه المحاولة وقفاً على النصارى من العرب وهؤلاء بحكم دينهم منصرفون عن الكعبة. فإذا جاز أن نحمل هذه المحاولة على الرغبة في التبشير بالمسيحية بين العرب، فلاشك أن مثل هذا الحادث الخطير لم يكن ليمر بدون إشارة في كتب تاريخ الكنيسة الشرقية. ومن هنا لا نرى محلاً لقبول ما يقول رواة العرب عن سبب تعرض الأحباش للحجاز.
إذا صحت استقراءاتنا ونظرتنا للموضوع، فإن الصلة تكون مفصومة بين تعرض الأحباش للحجاز ومكة، وبين وجود هيكل للنصارى بصنعاء. على إنه بعد ذلك مما يستوقف النظر، ما نراه من الاتفاق عند مؤرخي العرب في تسمية الحملة الحبشية بسفر الفيل، وذلك على اعتقاد وجود بعض الفيلة في قوات الأحباش. على أن اعتقاد وجود بعض الفيلة في جيش الأحباش باليمن يسوقنا إلى مواقف على جانب كبير من الخطورة، يميل معها بعض المؤرخين الأعلام من الغربيين إلى إنكار وجود الفيلة في قوات الأحباش. ذلك لزعمهم إنه لا يمكن تصور إمكان الاحتفاظ بالفيلة في اليمن وتسييرها في صحارى نجران. فضلاً عن أن الفيلة الأفريقية (التي قد يكون الأحباش جلبوها إلى اليمن إذا صح هذا الاعتقاد) من الصعوبة ترويضها حتى أن بعض الثقات الأثبات من علماء الحيوان يرون استحالة ذلك وهذه الاستحالة جعلت المؤرخين يرجحون أن تكون الفيلة التي ورد ذكرها في حروب القرطاجنيين قديماً فيلة مجلوبة من الهند غير أن افتراض جلب الأحباش فيلتهم من الهند يقف في سبيل قبوله أن الأحباش لم يكونوا على دراية بترويض الفيلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنهم لم يكونوا أصحاب أسطول يمخر عباب البحر الهندي، حتى يمكنهم جلب الفيلة الهندية على أن هذه الاعتراضات من الممكن ردها إذا لاحظنا أمرين غابا عن هؤلاء الباحثين: الأول أن الأحباش استعانوا بأسطول الروم لنقل جيوشهم عبر باب المندب والبحر الأحمر حين شنوا الغارة على اليمن. وثانياً أنه كان للروم سفائن حربية وأخرى تجارية في البحر الأحمر. وهذا يجعل من الممكن جلب بعض الفيلة من الهند بواسطة سفائن الروم وأن يستعين الأحباش ببعض الهنود في تسيير هذه الفيلة في حملتهم على(349/22)
فارس. ولاشك أن تعاون الروم مع الأحباش أولاً، والغرض من الحملة وهو مساعدة الروم ثانياً يجعل لتفسير تسمية حملة الأحباش بسفر الفيل وجهاً مقبولاً.
تقدم الأحباش بقواتهم شمالاً، لكنهم لم يكادوا يقربون مكة حتى ألمت بهم كارثة أودت بهم. وبعض المراجع العربية ترجح أن تكون هذه الكارثة هي تفشي الجدري في جيش الأحباش. والقرآن الكريم يؤيد كلام المؤرخين العرب
على أن إشارة القرآن إلى أصحاب الفيل، تحمل في تضاعيفها دلائل قوية على معرفة العرب لقصة سفر الفيل من جهة، وعلى أنها حديثة العهد بهم؛ على أن ما قدمه القرآن لنا في صورة موجزة توسع فيه رواة العرب وخلطوه بالأقاصيص وشحنوا به كتب التاريخ والسيرة والأدب. وهنالك بعض الشعر المزعوم قوله في حادثة الفيل، تجد بعضه منسوباً لابن الزبعري والبعض الآخر لأمية بن أبي الصلت. فمن المنسوب للأول هذه الأبيات:
وتنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديماً لا يرام حريمها
لم تُخلق الشعرى ليالي حرّمت ... إذ لا عزيزَ من الأنام يرومها
سائل أمير الجيش عنها ما رأى ... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون ألفاً لم يؤوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجُرْهم قبلهم ... والله من فوق العباد يقيمها
أما الأبيات المنسوبة لأمية فهي:
ومن صنعه يوم فيل الحبو ... ش إذ كل ما بعثوه رَزَم
محاجنهم تحت أقرابِه ... وقد شرَّموا أنفه فانخرم
وقد جعلوا سوطه منوَلا ... إذا يمموه قفاه كُلِم
فولى وأدبر أدراجَه ... وقد باء بالظلم من كان ثَم
فأرسل من فوقهم حاصباً ... فلفَّهم مثل لف القُزُم
تحض على الصبر أحبارُهم ... وقد ثَأجوا كثُؤاج الغنم
ويفهم منها أن الكارثة التي ألمت بأصحاب الفيل كانت مزدوجة: ريح سموم هبت عليهم، ووباء تفشى فيهم، وحمل الوباء عند العرب على الريح السموم. على إنه مما يستوقف النظر في هذه الأبيات ورود لفظة (الأحبار) في البيت الأخير مع أن الأحباش لم يكونوا(349/23)
هوداً، حتى يصح افتراض اصطحابهم لأحبارهم! والذي عندي أن هذه الأبيات مفتعلة في العصر الإسلامي.
إذا وضعنا أمام النظر كل هذه التحقيقات بان لنا أولاً: أن قصة مسير الأحباش إلى مكة بقصد هدم الكعبة دون غيره ليست جاهلية، وإنما تعود بأصل إلى الإسلام
ومن هنا نجد أن تعليل تعرض الأحباش للحجاز في طريقهم إلى فارس بأن القصد منه محاولة هدم الكعبة وصرف الناس عنها ليست إلا أسطورة نشأت بعد أن قام الإسلام وذاع وانتشر بين العرب واستقر في الشرق وارتفع شأن مكة وأصبحت الكعبة قبلة المسلمين. فعمل الرواة على أن يربطوا بين وجود هيكل النصارى في اليمن وبين حملة الأحباش على الحجاز في سبيلهم إلى فارس فكان لهم من ذلك قصة محبوكة. ومما لا ريب فيه أننا قد وضعنا اليد على مواضع الصنع في هذه القصة التي ترويها الكتب العربية، وكشفنا عن الخطوط التاريخية التي استمد منها النسيج الأول الذي حيكت بعده بقية خيوط القصة كما تجيء في المصادر العربية. وهكذا تميز معنا الجانب التاريخي من الجانب الأسطوري فيها، واتضحت ناحية خفية من نواحي تاريخ العرب في الجاهلية
ميلاد الرسول
ربط الكثير من مؤرخي العرب ميلاد الرسول (ص) بعام الفيل ليتخذوا من ذلك دليلاً آخر على نبوّة الرسول بأن عناية الله ردَّت كيد الأحباش عن مكة تكريماً له إذ كانت أمه آمنة في ذلك الحين حاملة به. والواقع أن نبوة الرسول تحمل في ذاتها آيات صدقها، فهي لا تحتاج لدليل خارجي يدعمها. وحياة الرسول تثبت إنه كان مخلصاً طيلة حياته، وهذا وحده يردّ كل محاولة يراد بها التشكيك في نبوته
ولما كانت حملة الأحباش التي عرفت بسفر الفيل جرت سنة 540 ميلادية كما ثبت من التحقيقات التي كشفنا لك عنها من قبل، فإن الصلة تبدو مفصومة بين عام الفيل وهي السنة التي كان فيها سفر الفيل وبين ميلاد الرسول (ص)، فنحن نعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام ولد في حدود سنة 570 ميلادية كما حقق ذلك الباحثون. فإذن هنالك نحو ثلاثين سنة تفصل بين عام الفيل وميلاد الرسول. وبعض المؤرخين العرب يثبت هذا، فمثلاً يقول البغوي: إن سفر الفيل حدث قبل ميلاد الرسول بنحو أربعين سنة ومحمد بن السائب الكلبي(349/24)
ينزل بهذه السنين إلى ثلاث وعشرين سنة. ونلاحظ أن خلفاء أبرهة حكموا اليمن 31 سنة وأنه في سنة 570 ميلادية؟ قوات القدس لتخليص اليمن من الأحباش وهذا يجعل حكم أبرهة الذي أغار على الحجاز حوالي عام 540م وهذا ما يؤيده عن طريق غير مباشر بعض المصادر العربية التي تقرر أن الرسول ولد بعد خمسين سنة من استيلاء الأحباش على اليمن وأنهم طردوا بعد عامين من ميلاد الرسول. وهذا كله إن أثبت شيئاً فإنما يثبت أن الصلة مفصومة بين ميلاد الرسول وعام الفيل وان محمداً ولد بعد عام الفيل بثلاثين سنة تقريباً
ومن المهم أن نقول هنا إن هذه الحقيقة التاريخية برغم وضوحها ورغم ثبوت أن حملة الأحباش على الحجاز كانت في حدود سنة 540 ميلادية وأن ميلاد الرسول كان سنة 570 ميلادية، فإننا نجد معظم المشتغلين بالتاريخ الإسلامي يخطئون، فيجعلون ميلاد الرسول مقروناً بعام الفيل. وربما كان لبعضهم العذر في هذا الخطأ لجهلهم هذه التحقيقات المعروفة في دوائر التاريخ في العالم المتمدن، ولكن ما عذر بعض الأساتذة الجامعيين الذين تجد في مصنفاتهم جميع أصول هذه التحقيقات، وبعد ذلك يخطئون ويقولون أن الرسول ولد في عام الفيل ومهما يكن من شيء فالتاريخ يرفض كل محاولة يراد بها ربط ميلاد الرسول بعام الفيل كما أن التحقيقات التاريخية تبين أن الصلة مفصومة بين التاريخين بنحو ثلاثين سنة. ونرجو أن يكون في هذا البحث تصحيح لما تجري به أقلام الباحثين في العالم العربي من أن رسول الله محمد بن عبد الله ولد عام الفيل.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد ادهم
دكتور في العلوم والفلسفة من موسكو
ودكتوراه فخرية في الآداب من لينغراد وموسكو(349/25)
محمد تيمور
الممثل والناقد والمؤلف المصري
للأستاذ زكي طليمات
(نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شؤون
التمثيل بوزارة المعارف في الحفلة التي أقامتها جماعة أنصار
التمثيل والسينما بدار الأوبرا الملكية مساء يوم الأربعاء
الموافق 28 فبراير 1940 تكريماً لذكرى المرحوم محمد
تيمور، وذلك بمناسبة مرور عشرين عاما على وفاته)
إن الحديث عن تيمور لا تخلق جِدته لمن نَعَم بصداقة تيمور الراحل، ومن قرأه في أشعاره وفي مسرحياته. وحديث اليوم حديث الوفاء لمن عمل إلى جانب تيمور للمسرح وللفن، واتفق وإياه في المبدأ والفكرة العاملة. وحديث اليوم أيضاً هو درس الشباب، الشباب الدارج الذي فاته أن يعرف تيمور أو أن يطالعه في كتبه الثلاثة
حينما لبى تيمور نداء ربه منذ عشرين عاماً، وريعت مصر بفقده، وانتظمت جنازته في شبه موكب قومي حافل - لم تشيع السرىَ ابن الجاه الواسع والحسب الأصيل، لم نشيع الشاعر الملهَم فحسب، وإنما شيعنا رجل المسرح المصري الحق، وكبير كتّابه، وأخلص نصرائه
على هذا الاعتبار الذي يطغى على أي اعتبار آخر، شيعنا محمد تيمور إلى مرقده الأخير، ولما يتجاوز العقد الثالث من عمره. وليس في ذلك إرخاص لشباب غض ذوى قبل أوانه، وخُلق رضي متواضع قلما تُلمح مخايله في شباب الأعيان وأبناء الأرستقراطية التي تحسب أن النعم وقف على أبنائها، ولا خفض لشأن البيان الذي كان تيمور من فرسانه؛ وإنما إعلاء لشأن تلك الموهبة الغنية الخصبة التي أمدت المسرح المصري، وهو يرقى أولى درجات نموه بكثير من مقومات كيانه بعد أن ركز فيه تيمور أعلاماً من العمل الباهر والجهاد الصادق(349/26)
وما اجتمعنا اليوم إلا بنفس الدافع الذي دفع الناس من قبل إلى تشييع جنازة تيمور. . .
اجتمعنا لنحيي ذكرى تيمور في جهاده للمسرح المصري ممثلاً وكاتباً وناقداً
وقد نجتمع غداً لنفس الدافع، ولعين الغرض، وسيحصل الجيل القادم شرف هذه الرسالة ليسلمها بدوره إلى الجيل الذي يليه. هذا أمر أعتقده وأؤمن به، لأننا، وقد شملتنا اليقظة القومية، لابد من أن نمجد ذكرى من عملوا لهذه القومية.
لأننا، وقد أخذنا بتدعيم أسباب مسرح مصري صحيح، لا مناص من أن نشيد بذكر من جاهدوا في سبيله، وأن ننتزع من النسيان تلك الوجوه الكريمة، التي شقت أفقاً، ومهدت طريقاً، وأهوت بيدها تنشئ في جدار!. . .
تيمور والمسرح
أتحدث الآن عن ذلك الجيل الذي عاش فيه تيمور، جيل الجهاد الأول من جانب الشباب المثقف لاستخلاص طابع مصري لفن التمثيل العربي، ولإعلاء شأنه، جيل الهواة الذين يرجع إليهم الفضل فيما انتهت إليه الحركة المسرحية اليوم
لئن قلت إن التمثيل كان قبلة تيمور في مختلف أدوار حياته، فإني لا أقرر غير الواقع الذي شهد به كل من اتصل بتيمور
فما كان تيمور المراهق الذي كان يتخذ من أبهاء قصور آبائه مسارح مرتجلة، ومن شقيقيه ومني ومن خلصائه ممثلين لفرقة مزعومة. . .
هذا الجواب الصغير لدور التمثيل في سن لا يُحسن فيها الذهاب إلى دور التمثيل، هذا المقلد (لسلامة حجازي) في إنشاده، ما كان تيمور هذا، إلا ذلك الشاب اليافع، الذي أعجب به الجمهور بعد ذلك ممثلاً في حلقات السمر، وفي حفلات الجمعيات التمثيلية، ثم حياه ناقداً جريئاً، ثم مجده مؤلفاً لمسرحيات مصرية طريفة هي الأولى من نوعها في العهد الذي عاش فيه تيمور
وإذا حاولنا أن نقيم صلة بين هوية تيمور بالمسرح وبين نشأته وبيئته وتقاليد أسرته لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولانتهينا إلى أن الإنسان حقاً لا يستقيم إلا على محتوم قضائه ومكتوب سيرته. (فتيمور) سليل بيت عريق في الغنى والمجد وفي التقاليد التي تعتبر التمثيل رِجساً من أعمال الشيطان. و (تيمور) ابن بيت عُرف بالاشتغال بالأدب، فعمته(349/27)
الشاعرة عائشة التيمورية، ووالده المؤرخ واللغوي المحقق أحمد تيمور باشا. و (تيمور) اجتاز مراحل الدراسة في مصر، وسافر إلى أوربا لدراسة الحقوق، ولم يكن بينه وبين نيل إجازته شيء، لولا أن قطعت عليه الحرب الأخيرة سير دراسته. . .
ومع كل هذا فقد اعتلى تيمور المسرح ممثلاً قبل عودته من أوربا وبعد عودته منها وعلى الرغم من تبرم أهله وعشيرته بفن التمثيل. . .
اعتلى المسرح وهو يشغل وظيفة التشريفي لدى عظمة السلطان حسين في قصر عابدين؛ فضرب بذلك المثل الحي على أن التمثيل هوية شريفة جديرة بأن يعمل فيها أكبر الناس حمولةً من العلم والجاه والمركز الاجتماعي الممتاز. وهذا المثل فيه ما فيه من دلالة على أن المسرح يجب أن يكون مما يُعنى به الشباب المتعلم والشباب الكريم المحتد. وأن المسرح ليس بالأرض التي قضى عليها بألا تحمل إلا الأغرار ومن تنكبت بهم سبل العيش ومن خلت مواهبهم إلا من الجرأة والصوت الجهير!. . .
تيمور الممثل
ترأس (تيمور) أكثر من هيئة تمثيلية، وعمل مخرجاً وممثلاً فيها. بيد أن حياته في فن الممثل ليست بالحياة الطويلة، ولكنها على قصرها رسمت فن الممثل في نسقه العالي، وأقامت مدرسة لفن الإلقاء والتجويد لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لأنها مدرسة كانت تقوم على الاعتدال والاتزان وصدق التعبير وجمال التأثير. جمع تيمور في إلقائه قوة التصور والإدراك إلى قوة الأداء والتعبير في تلك البساطة الغنية والحذق الباهر الذي يعمل على إرخاص الحواشي وإعلاء جوهر الكلام، والذي يحمل التأثير إلى قلوب المستمعين، لا إلى آذانهم!
هكذا شق تيمور الفجر الأول لما يجب أن يكون عليه الإلقاء والتمثيل من جانب الممثل والملقي
إلا أن الحركة التمثيلية لم تستفد الإفادة كلها من مواهب تيمور الممثل؛ لأنه لم يكن في وسع تيمور - وظروف بيئته على ما أجملنا وصفه - أن يحترف التمثيل في الفرق العاملة
ويقيني أن تيمور لو احترف التمثيل لما أصاب فيه خيراً، ولا اقتصرت مواهبه على تأدية بعض الأدوار، ولا انصرف بذلك عما هو أهم وأجدى، ولتبرم في النهاية بالمسرح(349/28)
ومحترفيه
تيمور المؤرخ والناقد
إذا صح أن المسرح المصري فقد في إمساك تيمور عن احتراف التمثيل ممثلاً قديراً كان في وسعه أن يرقى بفن الممثل إلى الدرج المرغوب فيه، إذا صح هذا فإن المسرح لم يفقد في تيمور ناقداً له ومؤرخاً لعصر من عصوره
إن ما كتبه تيمور ناقداً ومؤرخاً للمسرح المصري متفرد في بابه بالدقة والصراحة، متفرد في ابتعاده عن التشيع وتلمس العيوب وحرق المباخر تحت ذقون زعماء المسرح المصري
كان تيمور لا يكتب لشهوة الكلام، أو للتظاهر بأنه حذق المسرح وفنونه، ولا لأي غرض من الأغراض التي تدفع بعض نقاد المسرح إلى امتشاق القلم وخوض معارك الجدل، وإنما كان يكتب لينزل الأشياء منازلها الصحيحة، وليخط للنقد المسرحي طريقاً، وليقيم له عرفاً، وليذيع اسم المسرح في كل مكان، ثم ليرسم للعاملين في المسرح الطرق والوسائل التي ترقى بهم وبفنهم نحو الكمال المنشود. ولعل تيمور أول من كتب منادياً بوجوب استقلال المسرح المصري عن المسرح الغربي برواياته وتصانيفه، وبوسائل تأدية ممثليه
لو قال تيمور هذا وسكت لقلنا إنه إنما يزف نظريات استلهمها من تاريخ المسرح الغربي وتطوره، وهو المسرح الذي نهل منه تيمور أعذب الموارد
تيمور المؤلف
ولكن تيمور قرن القول بالعمل والنظر بالتنفيذ، فألف للمسرح مسرحيات تمتاز بطابع مصري أصيل، هذبت حواشيه وصقلت صميمه مطالعات بعيدة وتأملات واسعة في نفائس الأدب المسرحي العام، امتزجت بوفرة الاستعداد وخصب الموهبة وروح الشاعر
كتب تيمور ثلاث مسرحيات (العصفور في القفص)، و (عبد الستار) و (الهاوية) كما وضع مسرحية (العشرة الطيبة)، والجديد في هذه الروايات أنها عالجت موضوعات منتزعة من صميم الحياة المصرية والشرقية في أسلوب أخذ نصيبه الوافر من طرافة الحوار، ووضوح الفكرة، وتغلغل هابطاً في أعماق النفس البشرية ليسجل منها أصدق الخلجات وأخلص المشاعر(349/29)
والجديد في هذه الروايات أيضاً، أنها كتبت باللغة العامية، وهذا موضع العجب، لأن تيمور كان يملك ناصية البيان العربي وله شعر رصين ينم عن تعمق في دراسة اللغة، والأخذ ببيان الأقدمين.
وكان التأليف للمسرح من جانب من هم على شاكلة تيمور في ثقافته وأدبه إنما يجري باللغة العربية الفصحى
تيمور واللغة العامية
يفسر هذا أن تيمور كان يعتقد - كما سبق أن جاهر بذلك في مقالات عديدة - بأن لغة المسرح يجب أن تكون غير لغة المقال والأدب، وأنه يجب مخاطبة الجمهور المستمع باللغة التي يفهمها ويحذقها، أيّاً كانت لهجة هذه اللغة ونصيبها من البيان، وأنه في سبيل ذلك لا ضير على المؤلف للمسرح أن يكتب باللغة العامية مادامت هذه اللغة في متناول كل الأذهان ومختلف الطبقات، وأن لا ضير من إهمال جانب العربية في الكتابة للمسرح حتى يجتاز التمثيل المصري المرحلة الأولى من مراحل تكوينه، وهي مرحلة نشره وإذاعته بين الجماهير
كان تيمور أول من سن هذه الشرعة الفنية في وقت كانت تصدر فيه أغلب المسرحيات في أسلوب عربي لو اهتم كاتبه بمقتضيات الفن في نسج الرواية اهتمامه بتنميق اللفظ وإشراق البيان، لكان للمسرح المصري اليوم روايات عربية مقطوع بصحتها الأدبية والفنية معاً
تيمور والمصرية
وفوق هذا فقد كانت تعمر قلب تيمور فكرة (المصرية) وهي فكرة ترمي إلى أن يكون الأدب المصري مستقلاً عن الأدب العربي، لا في مناحي التفكير فحسب، ولكن في العبارة وأسلوبها إذا لزم الأمر
وهذه (المصرية) تجلت في كل ما كتبه تيمور قصاصاً وشاعراً.
والمصرية اليوم فكرة قد لا تلقى ترحيباً لدى بعض الرؤوس المفكرة، ولها ما لها عند البعض، وعليها ما عليها عند البعض الآخر، إلا أنني أقول - وقد أخذت عن تيمور الكثير من ثقافتي الفنية والأدبية - إنه ستكون للمصرية، ولاشك، دولة في القريب العاجل مادمنا(349/30)
قد استكملنا مظاهر استقلالنا السياسي، وما دمنا قد استشعرنا العزة القومية، وأخذنا بأسباب نهضة ترمي في الصميم إلى استقلال الفكر والأسلوب في جميع نواحي الحياة الاجتماعية
ولم يك غريباً بعد أن أصدر تيمور مسرحياته باللغة العامية وهي تعالج موضوعات مصرية، لم يك غريباً أن يقيم مدرسة جديدة في الأدب المصري، والأدب العربي المستحدث، اجتذبت نحوها مريدين وأنصاراً
وقد ننسى أن تيمور كان ممثلاً فذاً، وكان ناقداً جريئاً، وأنه أضاف جديداً إلى دولة الشعر والبيان، وأنه دبّج للإصلاح الاجتماعي مقالات عديدة. قد ننسى كل هذا، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن تيمور عمل للقومية المصرية الحقة بتأليف مسرحيات جديرة بالخلود لوفائها بشرائط الفن الرفيع، مسرحيات تعتبر بحق من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية الدائبة على أن تجعل المسرح شقة من الأدب العربي المستحدث
كذلك لا نستطيع نسيان شيء آخر، وهو نزول شاب عريق في الحسب والجاه، إلى العمل في حقل جديد، في فن وافد حديث العهد بفنون هذه البلاد وتقاليدها، ترمقه الأكثرية الغالبة من الناس بعين ملؤها الشك والازدراء. . .
لا ننسى أن تيمور كان سبباً في أن أخذ الناس يحسنون الظن بهذا الفن. وشد ما يحتاج هذا الفن إلى حسن ظن الناس به! وأنه عمل له مجاهداً فدائياً بقدر ما وسعته بيئته وزمانه، وأنه لم يلق قلم الجهاد حتى الساعة الأخيرة، ويا لها من ساعة سقطت فيها زهرة ندية بقطر الشباب، تتنفس عن عطر فاغم، بعد أن جادت بروائها وبنورها وبعطرها لتبقي منابت الورد وموارد الإلهام وحصاد الخيال ومباعث الحنان. . .
أيها السادة:
إن الذي نحتفل اليوم بتمجيد ذكراه، شاب قضى في ميعة العمر ونضوج الصبا. . . فحيوا معي العروس المختضر، وأرسلوا البسمات صافية، لأن الدموع على الشباب الراحل ضرب من السخرية، ولون شائع من الحزن الرخيص. . .
زكي طليمات(349/31)
من وراء المنظار
مجلس ظريف
شهدت من كثب ذلك المجلس في مقهى، ومن عجب أن تقع عيناي على مجلس ظريف في مثل ذلك المكان. أقول ذلك وإن عجب القارئ لقولي؛ على أني أرجو منه المعذرة، فأنا أكره المقاهي حتى ما أطيق الجلوس فيها إلا لضرورة. ولئن أنكرت وجود مجلس ظريف في أحدها فمرد ذلك إلى جهلي بها لا ريب في ذلك. . . ولست أدري لم أسأل نفسي أبداً كلما مررت بمقهى: أيتفرج الجالسون فيه على السابلة، أم هم أنفسهم صنف من المعروضات يتفرج عليهم المارة فيما يتفرجون عليه من معروضات الشارع؟ أما عن نفسي فأنا أتفرج دائماً على هؤلاء الجلوس ضاحكا؛ وكم يذهب خيالي في تصويرهم لي مذاهب لن أطاوع قلمي في ذكرها
ذهبت في المساء أطلب في أحد أطراف المدينة فملت إلى مقهى هناك كاد يكون خالياً، وقد اجتذبني ما بدا لي من هدوئه. وجلست وحدي في ركن من أركانه أمني النفس بجلسة تعيد لي خيال منعزلي في القرية؛ ولكني لم أكد أستشعر الهدوء حتى أقبل جماعة لم أشك أنهم من طالبي الهدوء مثلي. وآية ذلك أنهم كانوا يضحكون في جلبة شديدة، ويقطع بعضهم على بعض الحديث قبل أن يأخذوا أماكنهم! ورأيتهم جلسوا في نصف دائرة أمام واحد منهم جعلوا له الصدارة، وقد دل مظهره على إنه جدير بهذه الصدارة. والحق لقد كان في مجموع شكله يخيل إلي إنه نكتة تمثلت بشراً!
وبدأ الحديث أو قل استمر، فهم لم يمسكوا منذ رأيتهم مقبلين. وكأنما اعتزم هؤلاء أن يضحكوا أكثر ما يستطيعون من الضحك كما لو كانوا واثقين أن هذه آخر فرصة للضحك في حياتهم!
كانوا إلا واحداً أو أثنين قد جاوزوا الأربعين بقليل كما تراءى لي. أما كبيرهم فأحسبه كان يحبو للخمسين من عمره المبارك، وكانوا جميعاً يشتركون في صفة واحدة؛ ذلك أن عليهم طابع الديوان، فما تلبث العين - ولو بغير منظار - أن ترى فيهم نفراً من هؤلاء الذين يتربعون أمام المكاتب أثناء النهار وقد ارتسمت على وجوههم إمارات الجاه واتضحت دلائل الحكومة(349/32)
ودار حديثهم أول ما دار حول (عزومة) كانوا خارجين منها لتوهم، فلم أسمع إلا النكتة تتلو النكتة. ولقد غابت عني لسوء حظي أكثر هاتيك النكات فيما كان ينطلق من أفواههم من قهقهات عالية متواصلة! ورأيتهم يرسلون ضحكاتهم العريضة قبل النكتة وبعدها، فما تنفرج شفتا زعيمهم حتى تنبعث الضحكات مجلجلة من بين شفاههم، وإن لم يسمعوا ما يقول. فلقد كان يضحك الواحد منهم أحياناً ملء شدقيه، ثم يميل على جاره يسأله: ماذا كانت النكتة؟ وكانت تسمج بعض النكات، ولكن الضحك يظل على حاله من الشدة، حتى لا أدري أيحمل هنا على المجاملة أم أن سخف النكتة إذا اشتد قد يكون في ذاته باعثاً من بواعث الضحك منها؟ على أنني رأيت للمجاملة هنا شأناً كبيراً، فكل من هؤلاء يضحك لكي يضحك لقوله الآخرون بدورهم، وإن جاوز في السخف أبعد حدوده. . .
ومن غريب أمر هؤلاء الظرفاء أنهم لم يتورعوا عن ذكر اسم مضيفهم المسكين أكثر من مرة، ولم يتركوا شيئاً مما قدم لهم من الطعام، ولا مما رأوه من متاع بيته إلا جعلوه موضعاً لظرفهم وقلبوه على أوضاعه جميعاً، فهذا زفت مجسم سمي (بالكفتة)؛ وهذه (الفتة) كان ينقص أن تقدم في طست الغسيل؛ وهذا الصنف جيء به من (المسمط)، وهذا الخبز سيسأل عن تقديمه لهم بين يدي الله، أو ذلك البرتقال من (سوق الكانتو) وتلك الأطباق والملاعق لاشك وقف عزيز من أوقاف المرحوم جده. . . وأنه إذا أراد أن ينتقم غداً من الرئيس فلان فليس أبلغ في الانتقام منه من أن يدعوه إلى مثل هذه (الأكلة). . .
وليتهم استمروا فيما هم فيه، ولم يخرجوا منه إلى استعراض الكثير غيره من أعراض الناس في مجلسهم الظريف، وللحديث شجون كما يقولون، وليس يبالي هؤلاء القوم في ساعة (حظهم) إلى من يتطرق الحديث، ولا أي موضع يتناول
وشبعت نفسي مما طلبت من هدوء، فانصرفت مسروراً برؤيتي هذا المجلس الظريف؛ وأنا أقول في نفسي كم يوجد من أشباه هذا المجلس الظريف ونظائره في الطبقات الأخرى من المجتمع وفي غير أركان المقاهي من النواحي، فما تلك المجالس إلا براهين قاطعة على أننا قد بدأنا نأخذ أنفسنا بالجد من الأمور، وأننا إذا لهونا فإنما نحسن اللهو كما نحسن الجد في هذه الحياة.
(عين)(349/33)