الأمر قد انتهى عند هذا الحد، وأنه لا يجد أمامه ما يحارب من أجله فانتهز فرصة غياب الملك للاستشفاء بمياه أحد الأنهار وأخذ يدبر الحيل لإثارة الحرب. وبينما هو والكونت مولتكي وفون ردن القائدان الألمانيان يتناولان العشاء ويتباحثان في شؤون الحرب، إذ وردت برقية من سفير فرنسا يطلب على لسان حكومته بعض تأكيدات في موضوع عرش أسبانيا، فرأى بسمارك أن الفرصة سانحة للتدبير لبغيته، فأدخل بضع كلمات على برقية السفير الفرنسي، ثم التفت ذات اليمين وذات اليسار إلى القائدين الألمانيين متسائلاً عن مبلغ استعدادهما للحرب فأجاباه بما يؤيد رغبته. فلما أطلع المليك على الرسالة الفرنسية اعتبر ما فيها حاطاً للكرامة، ورفضها رفضاً باتاً. ثم أمر أن يمنع سفير فرنسا من المثول في حضرته. وقد كان بسمارك قد أعد اللازم لظهور هذه الرسالة في الصحف الألمانية في اليوم التالي، ومن ثم أعلنت الحرب بين فرنسا وبروسيا. إنها لصورة خبيثة بالغة حد البشاعة تلك الصورة التي ظهر بها هؤلاء الشيوخ الثلاثة وهم يتجرعون كئوس الخمر ويهنئ بعضهم بعضاً لنجاحهم في إشعال الحرب بين هاتين الأمتين العظيمتين.
ليس من الصعب علينا بعد هذا أن نتصور موقفاً مشابهاً لهذا الموقف فيما حدث في أوربا منذ أسابيع، إذ قامت تلك العصابة المتعطشة إلى سفك الدماء بوضع شروطها الستة عشر التي بنت عليها إنذارها النهائي لبولندا بحيث لم تطلع عليها بولندا نفسها أو الحلفاء إلا بعد فوات الوقت اللازم للرد عليها.
ففوجئ الناس بخبر الحرب ليلة 31 أغسطس عن طريق الإذاعة الألمانية دون مقدمات سابقة. ولكن الأمر تبين بجلاء في خطاب رئيس الوزارة الإنجليزية بعد ظهر اليوم التالي، فتحولت الدهشة إلى احتقار واشمئزاز.
إن ريبنتروب يحاول أن يقلد بسمارك في أحاييله السياسية. ولكن كم من الفروق الشاسعة بين تلك الشخصيات التي بنت مجد الإمبراطورية وتلك التي تذهب بمجدها إلى الهاوية.
أما هتلر فقد عقد نيته على الحرب سنة 1939 كما فعل بسمارك سنة 1870. وقد نستطيع أن نقول: إن ذاك الأرستقراطي البروسي لا يختلف على وجه العموم عن ذلك النقاش الآستوري، فكلاهما على استعداد لإزهاق ما لا يعد ولا يحصى من النفوس البشرية في سبيل المطامع الشخصية.(332/56)
ألا إن بسمارك كان أكثر تهذيباً وأنضج عقلاً، فقد كان يعرف من أين يبتدئ والى أين ينتهي.
عصبة الأمم ما لها وما عليها
(عن (فيتال سبيتسن))
اختلف الكثيرون في الرأي حول عصبة الأمم فمن قال، إنها أخفقت في تحقيق مهمتها، وقائل أنها نجحت في هذه المهمة، فأي الرأيين الصواب؟
إن أعمال عصبة الأمم في العشرين سنة التي انسلخت منذ ظهورها كثيرة الشعب متعددة الألوان. ويحسن بنا أن نشبهها بمجموعة من الخيطان بعضها أبيض اللون والبعض الآخر أسوده. فالألوان البيضاء تمثل الأعمال التي أدتها العصبة بنجاح في جنيف، والألوان السوداء وهي لاشك أقل عدداً من الأولى - تذكرنا بالأعمال التي أخفقت فيها.
فمن الواجب إذن أن نعترف بأن عصبة الأمم نجحت نجاحاً محققاً في كثير من الشؤون، ومن الواجب كذلك أن نصرح بأنها أخفقت في بعضها.
لقد نجحت عصبة الأمم في عقد اجتماعات دورية في جنيف يحضرها خمسون عضواً يمثلون خمسين حكومة من حكومات العالم. وقد بدأت أعمالها باثنين وأربعين عضواً ممثلين لحكوماتهم، ووصل هذا العدد إلى ستين في وقت من الأوقات. ويبلغ عدد الدول الممثلة في عصبة الأمم الآن خمسين دولة، وهذا العدد يدل على اتجاه الغالبية العظمى التي تؤيدها بين أمم العالم. إذ لا يزيد عدد الدول المعترف بها في العالم اليوم على خمس وستين.
وبعد سنتين من قيام عصبة الأمم أنشأت محكمة العدل الدولية في لاهاي وهذه المحكمة تفصل فيما يقع بين الأمم من المنازعات والخلافات القانونية. وهي مفتوحة الأبواب دائماً لكل دولة تريد الاحتكام إليها. وقد بلغ عدد القضايا التي فصلت فيها هذه المحكمة سبعين قضية.
أما فيما يتعلق بالقضايا الناشئة عن التغييرات الطارئة على مراكز بعض الدول وما يستدعيه ذلك من إعادة النظر في كثير من الحقوق التي تدعو إليها الضرورة فقد توسطت عصبة الأمم منذ سنة 1920 في أربعين مسألة فصلت في ثلاثين منها فصلاً تاماً. وقد(332/57)
قامت عصبة الأمم خارجاً عن ميدان السياسة بكثير من جلائل الأعمال، كمنع تجارة الرقيق الأبيض ومحاربة الأفيون وغيره من العقاقير الضارة وتسهيل المواصلات بين بعض الأمم، وإيواء المهاجرين، وتبادل السكان بين اليونان وتركيا وبلغاريا، والنظر في شؤون الصحة العامة وحماية الطفولة، وتحقيق مصالح العمال.
ومما لا شك فيه أن عصبة الأمم قد ضربت المثل الأعلى في عقيدة التعاون وضرورتها بين الأمم والأفراد.
أما ما يؤخذ على العصبة فعدم نجاحها في منع التسلح الحربي والاقتصادي بين الأمم وإخفاقها في إيقاف الحرب في منشوريا سنة 1931 وفي جنوب أمريكا سنة 1933 وفي الحبشة سنة 1935 وفي إسبانيا واستريا وتشيكوسلوفاكيا وبولنده في السنتين الأخيرتين. إلا أن هذه المنازعات المفاجئة كانت مبنية على مطامع بعض الدول في امتلاك أرض الغير، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتهرب من التحكيم، وتقضي على كل مجهود يبذل في سبيل التوفيق.(332/58)
البريد الأدبي
علامة تعجب
في (الرسالة) (رقم 329) قصيدة أبياتها أربعة وخمسون وتُزخرفها اثنتان وستون علامة تَعَجُّب، أعان الله جمّاع حروف (الرسالة)! ولا أقصد هنا التمهل عند هذا النحو من أنحاء النظْم الحديثة، فلكل عهد من عهود الشعر المنظوم بالصنعة ذرائع؛ وقديماً استنجد بعض الشعراء ممن قعد خاطره بمحسنات البديع، واستغاث غيرهم ممن جمدت رويَّته بالأغراب والتهويل اللفظي، وفزع طائفة من المحدثين إلى المسخ أو المحاكاة أو المعارضة، ثم هذى الطباعة الحديثة تبذل أسباباً أخرى في طليعتها علامات التعجُّب (أو التنهد أو التحسر).
ولو كان في يدي من أمر (الرسالة) شيء لكنت ضننت على الشاعر بذلك العدد الجارف من علامات التعجب، فأدخرها للقراء أنفسهم إذ آمُر بها فتنثر هنا وهنا في صفحة من صفحات المجلة، فيلتقط منها الملتقط ويختطف المختطف. ألا يحصرنا من مثيرات العجب ما لا يحصيه غير إحصائي حاذق؟ ولو بسطتَ أطراف العجب على ما يبغتك لنفدت علامات التعجب المخزونة في صناديق (الرسالة) مهما غصت بحروف الترقيم. وحسبي أن أتعجب مما صدمني في يوم واحد.
هاتِ علامةً أتعجب بها من معاملة إدارة دار الأوبرة والفرقة القومية وشركة مصر للتمثيل والسينما. فمن المشهور أنها تدعو إلى ما تقيمه الحين بعد الحين من صنوف الفن طائفةً من الصحافيين والنقدة الفضوليين الهاجمين، مداراةً أو تلطفاً، وأنها تدعو زمرة ممن يقال لهم (كبار الموظفين). تدعو هؤلاء وأولئك، وهي تُهمل نفراً من الكتاب المقدمين والنقاد البصراء؛ فإن سألها أحدهم في ذلك قالت له (اقصدني أتفضلْ عليك بتذكرة دخول). فهل غاب عن تلك الإدارات ما يجري في نواحي أوربة المتمدينة؟ ولعل الصديق الأستاذ توفيق الحكيم يرشد تلك الإدارات المختلفة إلى آداب المعاملة الثقافية.
وعلامةً أتعجب بها من خروج مسرحية عنوانها (امرأة تستجدي) على مسرح الفرقة القومية، وقد وصفها ناقد الرسالة خير وصف في العدد السابق. بالله كيف أفلتت هذه المسرحية من مناظير (لجنة القراءة) وفيها من فيها؟ ولِمَ تذيقُ الفرقة رجالها عذاب تمثيل مثل هذه المسرحية وتذيق النظارةَ شهودها؟ هل يدخل هذا في مجاهدات شهر رمضان؟ ألا(332/59)
كثيراً ما قلنا للفرقة القومية: المسرحية المرضية إذا ترجمت خير من المسرحية التافهة وإن كانت مؤلَّفة. والتأليف المسرحي في الأدب العربي لا يزال في عهد الاستواء، فاطلبوا النماذج الحسنة وانبذوا الرديئة. ولا يضير بلداً أن يقال فيه إنه لم يخرج بعد عدداً من الفلاسفة المبتكرين أو الشعراء الفحول. . . إن مجد الأمم لا يرتجل.
وعلامةً أتعجب بها مما جاء في الصفحة الأولى من (مصطلحات في باب الأحياء والطب) من (مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية) (ج 4 ص 11 والشرح). أصبت في تلك الصفحة: (الحركة الذاتية) بازاء ثم (الحركة الخارجية) بازاء والذي يعرفه طلاب الفنون أن كلمة تنظر إليها في العربية كلمة (فعّال) وأن تنظر إليها كلمة (منفعل) و (انفعالي) وهما من المقولتين (يفعل وينفعل) (راجع هذا في (مباحث عربية) ص 120، الحاشية). وأما (الحركة الذاتية) فشيء آخر (وتصيب تعريف هذا التعبير في (كشاف اصطلاحات الفنون) مادة (الحركة) ص 343، وفي (التعريفات) مصر 1283 ص 58). وكيفما كانت الحال فإن التعبير الذي يقابل (الحركة الذاتية) هو: (الحركة العرضية)، كما جاء في ذينك المرجعين. هذا وكأني بالمجمع عبَّر بـ (الحركة الخارجية) عن (الحركة القسرية) (وهذا من المصطلحات العربية) و (هي ما يكون مبدؤها بسبب ميل من خارج كالحجر المرمى من فوق) (التعريفات). ومما يقابل (الحركة القسرية) في المصطلح: (الحركة الإدارية).
ثم علامةً أتعجب بها مما جرى به قلم الصديق الدكتور زكي مبارك، إذ أخذ عليَّ في العدد السابق أني أغلَّب إلقاء الشعر بحسب المعاني والألفاظ على إلقائه بحسب التفاعيل، وسبب التعجب أن زميلي الباريسي يعلم فوق علمي أن أهل الدراية من عرب وأعاجم مجمعون على أن الشاعر خير من الوازن، وكانت العرب تقول في موضع الذم: (إنما هو عروضي، ومقطع أبيات ووزان تفاعيل)، وما كان لهذا أن يكون لولا أن الشعر يقوم بمعناه ولفظه فوق ما يقوم بوزنه، وذلك فضلاً عن أن مجرَّد الوزن إنما هو للأذن، وأما المعنى واللفظ فلما يليها في الباطن؛ والطرب لا يأخذ النفس اللطيفة من طريق الحس الظاهر، بل هذا الحس إذا علا شأنه طغى على الوجدان، فمما يحسن به إذن أن يتواضع، ومما يحق على الوزن أن ينتشر خِفيةً في تضاعيف البيت. ثم كيف يكون مأخذ الصديق صاحب (ليلى(332/60)
المريضة. . .) - لعلها شُفيت فشفى فيشفى المواسون معه - وهو يذيع فينا أنه مفتون بالجمال، والجمال لا تصيبه في الهيكل العظمي بل عليك به فيما يكسوه، وإنما الوزن يكسوه المعنى واللفظ. بقي أن فن الإلقاء الحديث يرى ما أرى، وإن تمسك الصديق بما ألِفتَه أذنه، وكثيراً ما نغضب لما تعودناه، من ذلك غضب بعضهم للحجاب وغضب بعضهم (للعتبة الخضراء) يرحمها الله.
بشر فارس
العيد الألفي لمولد الشريف الرضي
أخي الأستاذ الزيات:
كنت تفضلت فأطلعتني على بعض ما نشر في جرائد العراق عن الاستعداد لأقامة حفلة كبيرة في الكاظمية بمناسبة العيد الألفي للشريف الرضي.
ومنذ أيام قرأت في مجلة الصباح كلمة قال كاتبها (الفائق): إن سعادة السيد إبراهيم صالح شكر قائم مقام الكاظمية يهتم بتوسيع ضريح الشريف تمهيداً لتلك الحفلة الكبيرة.
فهل أستطيع أن أقول إن الشريف الرضي يستحق أن تقام له حفلة رسمية في العراق كالحفلة التي أقيمت لأبي الطيب المتنبي؟
إن المجد الأدبي للشريف الرضي لم يعد ميراثاً لأتباعه من الشيعة، مع الاحترام لصدقهم في الحرص على إحياء ذكراه، وإنما مجد الشريف الرضي تراث للعراق أولاً، وللأمم العربية ثانياً؛ ومن أجل ذلك أرجو أن يأخذ الاحتفال بذكراه في العراق صبغة قومية لا صبغة طائفية، فيكون من الخطباء والشعراء من يفهمون أنه من رجال الأدب قبل أن يكون من رجال الدين.
وأنت تعرف يا صديقي أن الشريف الرضي تحرر من دنياه من الصبغة المذهبية فدرس كتب الشافعية ليعرف ما عند أهل السنة من أفكار وآراء، فمن الظلم لهذا الرجل العظيم أن يحتفل بذكراه فريق دون فريق.
وفي نيتي - إن شاء الله - أن أحضر تلك الحفلة على شرط أن تصدر الدعوة إليها من وزارة المعارف العراقية، وإلا فسأقترح على كلية الآداب بالجامعة المصرية أن تقيم(332/61)
أسبوعاً لذكرى الشريف كما أقامت أسبوعاً لذكرى المتنبي، فنؤدي حق الشريف في القاهرة قبل أن يؤدى في بغداد.
فإن قيل إن الحالة الدولية قد تمنع من إقامة تلك الحفلة بصفة رسمية، فإني أجيب بأن الأوربيين يحتفلون بذكريات رجالهم العظماء في ميادين الحروب، ونريد أن نكون أعرف منهم بالواجب وأحفظ للجميل.
وحين يتفضل وزير المعارف في العراق باستماع هذا القول فإني أرجو أن نزور بغداد معاً في آذار المقبل لنشترك في إحياء ذكرى الشريف، ولنشهد تفتُّح الأزهار حول دجلة والفرات، ولنطوف بدار ليلى ودار ظمياء. . . والله يحفظك للصديق الموكَّل برعاية العهود.
زكي مبارك
تخليطات في فهرس (عيون الأخبار)
عامة الناس على أن دار الكتب المصرية، بقسمها الأدبي، أمثل دور النشر العربية جميعاً، بما أتيح لها من أسباب القوة، وما مكن لها من وسائل التحرير والضبط، مادية وفنية، ففيها المال والرجال، وجنباتها الواسعة تفهق بالمراجع العظيمة والمصادر الثرية، ولها الصوت الواسع البعيد الذي يكفل لنشراتها ما تقتطع دونه أعناق الناشرين تشوقاً وطماعية.
وما نشك في أن (دار الكتب) جديرة - مع شيء من التحفظ - بهذه المكانة التي تتبوؤها، فقد أسدت إلى الأدب العربي، والى جمهرة المتأدبين والباحثين، صنائع لا سبيل إلى نكرانها، قياساً إلى تلك النشرات الأخرى التي نكب بها الأدب العربي. وإذا كان بعض الناس يغلو في نقدها ومؤاخذتها بالبطء الشديد، والتنكب أحياناً لمسالك النشر العلمي السديد، فإنما ذلك على قدر الظن بها، والأمل فيها؛ وعلى قدر الرغبة في أن تكون النشرات التي تقوم عليها صورة مثلى مما تضطرب به آمالنا نحو تراثنا العقلي، من الأخذ في تحقيقها بالتثبيت الذي لا يتهاون ولا يتسامح ولا يغفل، مما هو جدير بأدبنا العربي الذي ندين له، وجدير بالمنزلة التي نزعمها لمصر نحوه.
ومن نشرات (دار الكتب) التي نرى فيها إلى جانب الرغبة في التحري والدقة والضبط(332/62)
مظاهر شنيعة للغفلة والإهمال والتخبط كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، مما يبعد بهذه النشرة عن الروح العلمية بعداً شاسعاً، ويضع الذين قاموا عليها موضعاً غير جدير بهم ولا بمكانهم من تلك الدار.
وأنا أكتفي من هذه المظاهر المتناثرة في أثناء الكتاب كله بثلاثة مواضع لا عذر فيها لمعتذر، ولا محل فيهل لجدل؛ وليس يقال فيها: رداءة الأصل وانبهام الخط وانعدام المصادر واختلاف النظر. فهي أغلاط بل (تخليطات) في فهرس الإعلام لذلك الكتاب، ومثل هذه الفهارس التي قيل فيها إنها نصف العلم، إن لم يؤخذ في وضعها بالدقة، كانت شيئاً أشبه بالترف الذي يقوم على التقليد الظاهر، أو التغرير الذي يلجأ إليه بعض المتجرين التماساً للعائدة المادية ليس غير، لا ضرورة علمية توحي بها روح العلم ومناهج البحث.
1 - أول هذه المواضع يتعلق بالثوري، وقد جاء (الثوري) في عيون الأخبار مشتركاً بين اثنين، يختلف ما بينهما اختلافاً كبيراً، حتى ما يكادان يلتقيان إلا في هذه النسبة: أحدهما أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، المحدث العظيم، والورع المعتصم بدينه وورعه عن مزالق الهوى، والمحتمل في ذلك أذى التواري ومحنة التوقي ومضاضة العيش حتى لا يلي للسلطان عملاً، ولا ينفذ إليه الشيطان من باب. وأما الثاني، فهو أبو عبد الرحمن أحد شخصيات الجاحظ الطريفة في كتاب (البخلاء)، ممن اتخذهم أبو عثمان مادة لتصويره وسخريته من طبقة (البورجوازي) في البصرة وبغداد. وحسبنا هذا لنعلم أي صورتين متناقضتين جعل منهما ناشرو (عيون الأخبار) شخصاً واحداً، وأرسلوه في فهرس الإعلام باسم أبي عبد الرحمن الثوري (صاحب الجاحظ) بالرغم من كل شيء، وأخضعوا الأمر لقاعدة التغليب. . . يعتسفونه اعتسافاً. . . وهكذا أضاع ناشرونا الأفاضل أبا عبد الله سفيان، كان الله له!
2 - وأما الموضع الثاني، فالخلط فيه أشنع، والخطأ فيه أفظع، أو هي المعجزة التي تعنو لها المعجزات، وقعت على أيدي سادتنا الأجلاء، إذ نرى الكليم موسى بن عمران عليه السلام قد تقلصت عنه السنون، فقام ينفض غبار القرون، فإذا هو من معاصري أبي الهذيل العلاف وسهل بن هرون! وحقت بذلك كلمة القوم.(332/63)
فكذلك صنع ناشرو عيون الأخبار في الإشارة إلى موسى ابن عمران في خبر جاء فيه أن سهل بن هرون بعث إليه أبياتاً يعبث فيها بأبي الهذيل العلاف، إذ خلطوا بينه وبين موسى ابن عمران (النبي عليه السلام).
وإنما موسى بن عمران هذا هو بعينه الذي يذكر كثيراً باسم (مويس بن عمران)، وقد ذكره المرتضى في الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة، وكثير من أخباره وآرائه في الانتصار لأبي الحسين الخياط، والملل والنحل لشهرستاني، والاغاني لأبي فرج، وأخبار أبي نواس لابن منظور. كما يردد الجاحظ اسمه كثيراً في كتبه كالحيوان والبخلاء والبيان والتبيين.
3 - وأما الموضع الثالث فأعجب عجباً وأغرب غرابة، والخلط فيه من طراز بدع جديد.
لعل كثيراً من المتأدبين يذكرون قصيدة سويد بن أبي كاهل التي يقول فيها:
رب من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنى لي موتاً لم يطَع
وقد جاء فيها هذا البيت يذكر ذلك المغيظ الذي أنضج الغيظ قلبه:
مزبداً يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع
وكنا نفهم - بكل بساطة - أنه يمثل صاحبه في هذا البيت بالجمل الهائج يخطر في مشيه ويضرب بذنبه وقد علا الزبد شدقيه، وقد غفلنا - ونستغفر الله الذي تفرد بالعصمة - أن فوق كل ذي علم عليما. فقد أبى أصحابنا الناشرون إلا أن (مزبدا) في هذا البيت ليس على ما خيل إلينا وإنما هو. . . (مزبد) المدني صاحب النوادر! هكذا والله صنع القوم. فقد أشاروا إلى هذا البيت في فهرس الإعلام ضمن ما أشاروا إليه من النصوص التي ورد فيها (مزبد) هذا وأحالوا الباحثين عليها.
وبعد فإن هذه التخليطات الغليظة تكاد تهدم الثقة بدار الكتب ونشراتها جميعاً، لولا ما نراه فيها كثيراً من آيات الجهد الجاهد في التحرير والضبط، والبراعة العظيمة في التصحيح والتخريج. فنتساءل مع شيخنا الجاحظ: كيف تصبر البعيد الغامض، وتغبى عن القريب الجليل!
م. ط. ح
تعليق على خطبة وزير الدفاع(332/64)
ألقى حضرة صاحب المعالي اللواء محمد صالح حرب باشا وزير الدفاع خطبة قوية رائعة في احتفال الكلية الحربية صباح الخميس 2 نوفمبر، بمناسبة تخرج طائفة من الضباط الذين أتموا دراستهم. وأشهد لقد قرأت هذه الخطبة في الصحف، فاهتزت مشاعري حماسة وإعجاباً بما اشتملت عليه من معان وطنية سامية، تبعث العزة والكرامة في النفوس، وتحفز إلى التضحية والاستشهاد في ميدان الشرف!
ومعالي الوزير أديب واسع الاطلاع، دقيق الفهم لأسرار البيان، وخطيب بالغ الحجة قوي التأثير؛ وهو فوق هذا صاحب عقيدة راسخة وخلق متين.
أستهل معاليه خطبته البليغة بقوله: (أبنائي الأعزاء، إن موقفي اليوم منكم هو موقف التهنئة والتبريك، فأهنئكم من كل قلبي. أهنئكم بالنجمة الأولى في سماء المجد والشرف، وأهنئكم بالسيف المصلت في سبيل الوطن الغالي!).
يا له من توجيه سديد والتفاتة بارعة! نعم إنها النجمة الأولى التي يزهو بها حاملها في سماء المجد والشرف، لا بين نجوم المسرح وكواكب الصالات. . .
إنني لأذكر مع الأسف ذلك المشهد المؤذي للكرامة والشعور حين وقفت إحدى الراقصات تلقي منلوجاً مطلعه:
النجمة في كتفك عاجباني ... والسيف على وسطك خلاني
حبيتك يا ملازم ثاني. . .!
فما كان من أحد الضباط وقد استخفه الطرب إلا أن قام في عربدة واستهتار يطلب الترديد والمزيد، ثم طوح بطربوشه في الفضاء، مزهواً بالنجمة الآفلة والسيف الذليل!
فأي ضابط من أولئك الذين سمعوا وزيرهم النبيل يلقي عليهم ذلك الدرس البليغ في تقدير هذه الشارات الرفيعة التي ترمز إلى المجد والعظمة والسمو، تحدثه نفسه بعد ذلك بالنزول إلى هذا المستوى الوضيع؟
لقد ترك معالي الوزير السابق أجمل الذكرى وأطيب الأثر، حين أمر بعدم ظهور الضباط بملابسهم العسكرية في هذه الميادين. وفي ذلك معنى بليغ يجب تدبره وتقديره، وهو أن الضابط الذي يزج بنفسه في هذه النواحي لا يستحق التمتع بشرف الجندية.
وحبذا لو أتم معالي الوزير الحالي خطوات سلفه، فلم يجعل هذا الخطر قاصراً على(332/65)
الضباط فحسب، بل نافذاً على الجنود أيضاً. حتى لا نشاهد تلك المناظر المخجلة في بؤر الدعارة والفساد جنود الوطن وعدته في الشدائد الذين يمثلون أسمى معاني الرجولة والشرف، تمتلئ بهم المواخير في بعض الليالي والأيام.
ويقول معالي الوزير في خطبته السديدة: (ليست الجندية غروراً يملأ الصدور وينفخ في المعاطس، ولا بدلة للزينة؛ وليست الجندية رتباً ولباساً ومطعماً ومتاعاً من النعيم الذليل. ولكن الجندية - وهي أسمى مراتب الرجولة وأسمى منازل الأخلاق - أكرم على الله والناس من أن تكون هذه غايتها وهذا مداها!).
منطق حق وقول سديد. وما أحوج رجال الجيش إلى تدبر هذه المعاني النبيلة، والانطباع على تلك الأخلاق القويمة. حتى يستطيع أن ينهض بأعبائه الثقال قوي العدة متين البناء. فنحن في زمن - كما يقول معاليه - من لم يكن فيه ذئباً كان في الغنم.
ثم يختتم خطابه بقوله: (أوصيكم بأنفسكم خيراً، وتحصنوا بالأخلاق فهي جنتكم من الزلل. ثم أوصيكم بالجنود خيراً، وأكرر هذه الوصاة، فهم عدة الوطن في شدته، وهم طعام النيران! ومن أساء إليهم فقد أساء الوطن، وإني أعيذكم أن تسيئوا إلى مصر وأنتم حماة ذمارها).
وهنا أشير إلى عادة مستهجنة يجري العمل عليها في نظام الجيش، فيها الإساءة البالغة إلى كرامة الجنود وشرف الجندية. تلك هي نظام (المراسلة) الذي يفرض على بعض الجنود أن يكونوا خدماً للضباط لا في ميادين القتال وساحات الجهاد، وإنما في المنازل حيث إعداد الطعام وغسل البلاط وحمل الأطفال! بل وفيما هو أحط من ذلك في كثير من النواحي والشؤون. . .
ومن المؤلم أن تكون هذه الخدمة مطمح الجنود ومقر ذوي الحظوة منهم. وفي ذلك ما فيه من إفساد للروح المعنوية وانحدار عن مستوى الرجولة والشرف. فهل لمعالي الوزير الحازم - وهو يوصي بالجنود خيراً - أن يرفع عن أعناقهم هذا النير الذي يورث الذل والصغار، فلا يفرض عليهم الخدمة في غير المعسكر أو الميدان؟
إنا لنرجو الخير الكثير على يدي معاليه. ولنا في ماضيه الجليل في ميدان الحرب والسياسة، وحاضره المحفوف بالتقدير والإكبار ما يؤكد الثقة ويقوي الأمل في جلال(332/66)
المستقبل وعزة الغد.
(حلوان)
محمد كامل حتة
زكاة الفطر
أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية صندوق الإحسان في بنك مصر لجمع زكاة الفطر ووجه معالي وزيرها إلى الشعب نداء بليغاً يدعوه إلى أداء هذه الزكاة جاء في ختامه قوله:
(إن وزارة الشؤون الاجتماعية حين تجعل في عنقها أمانة الزكاة تنهى إلى خاصة المسلمين وعامتهم أن إيداع زكاة الفطر في (صندوق الإحسان) الذي جعلته وعاء للخير موافق لأحكام الشرع الشريف، فبهذا أفتى رجال الدين وعليه جرى العمل في دول الإسلام الأولى وصدور أيامه السالفة وبه تبرأ ذمة كل مسلم من عهدة التقصير في هذه الزكاة وتنتقل المسؤولية أمام الله إلى وزير الصدقات الذي هو وزير الشؤون الاجتماعية. وحسبكم أن يعطيكم وزير الشؤون الاجتماعية عهد الله وذمته فيشهد الله ويشهدكم أن ينفق ما تزكون به في وجوهه المشروعة.
إن فرصة الخير أضيق من أن تمتد مع التسويف وقد علمتم أن أفضل ما تؤدى زكاة الفطر إذا لم تتأخر عن يوم العيد والله تعالى يدعوكم إليها فأجيبوا دعاءه وهو يعدكم حسن الجزاء عليها فاستوجبوا وعده الصادق بالمبادرة إلى طاعته).
اكتشاف مصل واق من التيتانوس
أبلغ المجمع العلمي الفرنسي أن الدكتور رمون والدكتور لبميه توصلا إلى صنع مصل واق من التيتانوس ودلت التجارب التي عملت أن هذا المصل يعطي الإنسان والحيوان مناعة قوية من التيتانوس وهو اكتشاف ذو أهمية خاصة في هذا الوقت الذي يعد فيه التيتانوس مرضاً مخيفاً في وقت الحرب.(332/67)
العالم المسرحي والسينمائي
مع الأستاذ توفيق الحكيم
الفرقة القومية في عهد جديد
كيف السبيل إلى النهوض بالمسرح؟
نعتقد أننا قد أجبنا على هذا السؤال فيما كتبناه عن (نهضة المسرح في مصر)، إذ شرحنا في إيجاز جميع العوامل وكل الأسباب التي أدت إلى انحلال المسرح، ثم قيام الحكومة بنصيبها في نهضته بإنشاء الفرقة القومية ونصيب هذه الفرقة من النهضة الأخيرة وواجبها حيالها.
على أنه كاد الموسم يبدأ حتى كانت الفرقة قد انتقلت من يد إلى يد، وأصبح أمراً واقعاً أن وزارة المعارف قد سلمت مقاليدها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، فحمدنا الظروف التي أتاحت هذا التغيير الذي سيكون له أثره في سياسة الفرقة، والذي جعل للأستاذ الكبير توفيق الحكيم إشرافاً حقيقياً على شؤون المسرح فلطالما كان من أعز أمانينا أن يكون لمن هو في مكان الأستاذ من المسرح هذا الأثر الفعال في توجيه شؤونه.
من يحمي الفنون ومن ينصرها في بلد يراها ضرباً من ضروب اللهو ولوناً من ألوان التسلية؟ فالبعض عندنا يذهب إلى المسرح للتسلية ولمجرد اللهو ولا ينظر إلى ما وراء ذلك من فائدة والى ما بعد ذلك من أثر. كل ما يرجوه ساعة أو أكثر يقضيها في دار للتمثيل: يضحك ويتندر ويتحدث، كأنما هو على قارعة الطريق، أو في بيته أو في أحد المنتديات أو المشارب؛ أما الفهم الصحيح للمسرح ورسالته، وأما الرغبة الأكيدة في الإفادة من هذا الغذاء الروحي والعقلي، فإنهما بعيدان عن تفكيره وميوله، ولهذا عاش المسرح في مصر خاضعاً لأهواء الجماهير، حتى في أيام ازدهاره، وحتى حين أخرج للناس (أوديب) و (عطيل) و (لويس الحادي عشر) وغيرها من الروايات الخالدة، حتى في ذلك الوقت لم يكن إقبال الناس على هذه الروايات، ولم يكن نجاحها الملحوظ عندهم إلا ستاراً لرغباتهم في التسلية، فهم يجتمعون في دار الأوبرا، وهم يتحدثون ويتندرون في هذا الشيء الجديد الذي يمر أمامهم، وفي هذه الشخصيات المضيئة التي تصعد في سمائهم، ولم توجد الرغبة(332/68)
الأكيدة في رفع شأن المسرح، ولن توجد إلا إذا عهد به إلى أهل المسرح وأبنائه، ووكل إليهم شأنه وترك لهم أمره.
من يحمي المسرح إذن؟
هم الفنانون المخلصون الذين لا يضعون في اعتبارهم أن الجمهور يريد أن يتسلى، والذين يفهمون أن رسالتهم البعيدة عن تسلية هذا الجمهور، وإنما هي قريبة إلى إفادته والى رفع مستواه والصعود به إلى القمة حيث تنفتح عيونه على أفانين من الجمال يراها في صور متعددة من صور الفنون الحقة تسمو به وبروحه وبكل جارحة فيه إلى حيث يكشف داخل نفسه وفي نفوس الآخرين تلك الإنسانية التي تميزه عن غيره من المخلوقات.
ذهبنا إلى الأستاذ توفيق الحكيم وفي خلدنا تدور هذه الآراء وغيرها، وفي عزمنا أن نسأله بياناً عن السياسة الجديدة للمسرح المصري بعد إذ أصبحت مقاليده عند وزارة الشؤون الاجتماعية التي ناطت به شؤون الدعاية فيها. على أننا ما كدنا نقول كلمة أو كلمتين حتى أفاض معنا في الحديث في سلاسة واتزان. قلنا: إن علة العلل هي (الرواية) فالفرقة القومية قوية بعناصرها غنية بمالها، وإن يكن من رأينا أن بعض العناصر مازالت خارجة عنها ويجب أن تضم إليها لتزداد قوة على قوة. وإنما ينقص الفرقة شيء واحد هو (الرواية) التي لم تحط بالعناية المنشودة فيما سلف من أيام.
فقال: سنكون من أول ما نعني به اختيار الرواية الصالحة، وقد أنشأت لذلك لجنة تنفيذية (مكونة من العشماوي بك وخليل مطران بك والأستاذ الحكيم)، وهذه اللجنة من شأنها أن تنظر في الرواية بلجنة القراءة لترى إن كانت تصلح للمسرح وتتفق ورسالته ثم تقدر قيمتها، ونحن نفكر في تكوين لجنة أولية من المخرجين والممثلين لتقرأ الرواية قبل تقديمها للجنة القراءة حتى لا تصل إلى أيدينا رواية تافهة، وحتى يكون للمخرج رأيه فيما يخرج، وللممثل رأيه فيما يمثل. على أننا سنضع نصب أعيننا أن تكون الروايات التي تخرجها الفرقة من الأدب الرفيع الذي يتفق ورسالتها، وقد كان من رأينا أنها يجب أن تخرج عن حدود هذه الرسالة حتى لو لم يقبل عليها الجمهور الإقبال المأمول. وأستطيع أن أؤكد لك أن الجهات المسؤولة تشجع الفرقة على ذلك ولا تطلب منها أكثر من السمو بالفن ولتكن النتائج ما تكون، وإن تكن رغبتنا أن يقبل الناس جميعاً على الفرقة وأن يشجعوها.(332/69)
ومن رأينا أن الروايات الممتازة الخالدة التي سبق أن أخرجت للمسرح يجب أن تخرج ثانية وأن يراها الجمهور كلما سنحت الفرصة. وسوف يرى النقاد فيها لوناً جديداً من ألوان الإخراج والتمثيل. فالمخرجون قد أصبحوا غيرهم بالأمس، والممثلون كذلك إلا قليلاً. ونحب ألا يقال إنها روايات قديمة بل يجب أن يقال إنها خالدة لا يفرغ الجمهور من مشاهدتها ولا يكف النقد عن التحدث عنها وإنك لترى أنهم في أوربا، ولديهم المؤلف الحديث والرواية الجديدة، يعنون بتراث الآداب الخالدة. وروايات شكسبير وراسين وفولتير وغيرهم مترجمة إلى اللغات الحية، وهي تخرج على المسارح في كل فرصة والناس يقبلون عليها كأنها روايات جديدة. وعلى هذا فلا بأس من أن تخرج روايات شكسبير وسوفوكل وكورنبي وغيرهم؛ ولا ضير من أن يرى الناس للمرة المائة بعد الألف عطيل وأوديب والسيد وغيرها.
وكان أحمد أفندي عسكر موجوداً أثناء الحديث فأضاف (غادة الكاميليا)، وقد لقي اقتراحه قبولاً على أن تعرب الرواية من جديد وأن يقوم بتعريبها الكاتب الأديب الممتاز الذي اشتهر بتعريب الروايات الرومانتيكية العاطفية.
وعاد الأستاذ توفيق الحكيم إلى حديثه فقال:
لقد دلت التجارب على أن الرواية الموضوعة لم تصل بعد إلى المرحلة التي نطمئن لها، ومع ذلك فإن الباب سيظل مفتوحاً للكفايات المجهولة لنتقدم على مسئوليتها بما تنتجه، فلن نكلف أديباً أن يضع لنا رواية نكون مضطرين إلى قبولها منه. أما الروايات المترجمة فقد صح عزمنا بعد التجارب العديدة التي مرت بها الفرقة أن نختارها نحن من الأدب الرفيع قديمه وحديثه وأن نعهد بها إلى مترجمين ممتازين ممن لهم شأن معلوم ومكان معروف، وبذلك نضمن نجاح الرواية من كل الوجوه.
هذا وستعنى الفرقة بفن الأوبرا والأوبريت لترفع من شأنهما بعد إذ مرت عليهما فترة ركود حتى كاد يسدل عليهما النسيان ستاراً كثيفاً، وحتى انصرف الجمهور عنهما إلى صالات الرقص والمجون.
وعلى العموم فإن سياستنا ستكون النهوض بالفرقة ومساعدتها المساعدة الحقة على أداء رسالتها. ونأمل أن يكون النقد معنا وفي عوننا؛ فالفرقة لا تستطيع مقاومة العواصف من(332/70)
كل جانب، وعن طريق النقد؛ سيفهم الجمهور رسالة الفرقة، وسيروض نفسه على تقبلها وإن كان لونها مما لا يتفق وهواه.
وانتهى الحديث بأن أبدى الأستاذ الحكيم استعداده ورغبته في تبادل الآراء حول هذه الموضوعات وغيرها كلما وجد في الأمر ما يدعو إلى ذلك.
ونحن نعتقد أن في تنفيذ السياسة التي بسطها الأستاذ ما يكفل نهوض المسرح وكرامة أبنائه ونجاح رسالته.
فرعون الصغير
العزيمة
بدأ عرض رواية (العزيمة) على ستار سينما ستديو مصر منذ الاثنين الماضي وسننشر كلمتنا عنها في العدد المقبل.(332/71)
العدد 333 - بتاريخ: 20 - 11 - 1939(/)
في وزارة الشؤون الاجتماعية أيضاً
هذا هو المنهاج
فكيف يكون المسير؟
حاولنا فيما سبق من القول أن نرسم لوزارة الشؤون الاجتماعية معالم المنهج الذي تسلكه مخافة أن ينتشر عليها الأمر وتلتبس الوجهة؛ ثم تركنا لرجالها المختصين توضيح الرسوم وتحديد التخوم وتعيين المراحل. ولكن رسم المنهاج لا يكلفنا ولا يكلف الوزارة غير ساعات من النظر والفكر والكتابة؛ وإنما عماد الأمر ومِلاكه أن تُنهج السبيل وتُنفذ الخطة وتُبلغ النهاية. ويلوح لي أننا نكلف الوزارة شططاً إذا أردناها على إصلاح الفاسد وإقامة المعوج وهي على حالها الحاضرة ووضعها القائم
ماذا عسى أن تعمل وزارة موظفوها خمسة عشر موظفاً وليس لها وكيل ولا نظام ولا سلطة ولا خزانة؟
لقد صدق الأستاذ الذي قال: إن وزارة الشؤون الاجتماعية مشروع وزارة لا وزارة. فإن خمسة عشر موظفاً من مختلف الوزارات (كشليلة) خيط من غير رأس، أو كشركة إنتاج من غير مال، لا يستطيعون أن يفكروا إلا في لجنة تعقد أو قرية تزار أو مقالة تذاع أو مجلة تحرر؛ أما تنفيذ الرأي وتكوين النتيجة وتوفير الثمرة فذلك شيء فوق الطاقة لمن لا يملك إليه الوسيلة
ولقد كان في وزارة الصحة عبرة لوزارة الشؤون الاجتماعية لو أنها التمست هداها على ضوء الدرس المنظم والتجربة الحاصلة والخبرة المختصة؛ فإن وزارة الصحة قد فكرت منذ عامين في كفاح المرض فهيأت له الأسباب وأرصدت الأُهَب، فجعلت لكل جماعة من الناس طبيباً، وسيَّرت إلى كل جهة من جهات القطر مستشفى، ولكنها لم تجد المال الكافي لشراء الأدوية وتجهيز العلاج فظل أطباؤها من غير عمل، وباتت سياراتها من غير حركة.
إن وزارة الشؤون الاجتماعية فكرة موفقة ما في ذلك ريب؛ وإن الرجل الذي أوحاها خليق بأن يكون صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا، فإن العهد برفعته أنه رجل عَمول يريد ما يقول ويفعل ما يريد. وقد دلَّت الدلائل في وزارته الأولى على أن في رأسه خطة مدبَّرة(333/1)
للإصلاح لابد من إنفاذها وإن عوَّق القدر وطال الأمد. ولولا ذلك ما هششنا لهذه الوزارة الوليدة ولما أسرفنا في الرجاء منها والحديث عنها. لهذا نعتقد أنه سيفرغ لها بعد حين قد يطول وقد يقصر، فيدبر لها المال ويمهد لرجالها سبيل العمل. وليس من الغلو فيما أظن أن تكون ميزانيتها وسطاً بين ميزانيتي الصحة والمعارف، فقد علمنا أن اختصاصها يكاد ينبسط على كل شيء في هذا البلد. على أن المال الذي يُفرض لهذه الوزارة في ميزانية الدولة هو وحده النصيب الحق لهذا الشعب المسكين من ثروته العامة؛ فإن أكثر ما يجبى من موارد الوطن المشتركة إنما يذهب للحكومة لا للأمة، وللأغنياء لا للفقراء، وللمدائن لا للقرى. وجمهور الشعب هو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه، فينبغي أن يكون همُّ الخاصة وولاة الأمر مصروفاً لسد عوزه وتثقيف عقله وتأمين سلامته، لا يضنون عليه في سبيل ذلك بمال ولا جهد
إن رئيس الوزارة الذي يتذرع لتقوية الدفاع الوطني بكل الذرائع، لا يمكنه أن ينسى مادة ذلك الدفاع ولا هيكله من العمال والصناع والزراع ومن يقمن على رعايتهم وخدمتهم من أم وزوجة.
فلعله يقرع بصوته العالي أسماع أولئك الأمراء والأغنياء فينزلوا عن بعض ترفهم وسرفهم للجيش أسوة بمن يضحون بأرواحهم وأموالهم في سبيل وطنهم من أمراء إنجلترا وأغنياء فرنسا؛ فإنهم إن فعلوا ذلك - وبعيدٌ أن يفعلوه طائعين - تسنى له أن يجد المال الضروري للشؤون الاجتماعية، ومن ثَم يتسنى لوزارة هذه الشؤون أن تنهض بما ألقى عليها من عبء، وتحقق ما نيط بها من أمل
نعم، هذا هو المنهاج فكيف يكون المسير؟ هيهات أن تسير وزارة الشؤون الاجتماعية إلا على قدمين من عزم ومال. فمتى تيسر لها المال وتوفر لها العزم كان عليها يومئذ أن تعيد النظر في تنظيمها وتقسيمها على أساس مكين من الحاجة والكفاية والاختصاص، فإن الإسراف في قلة الموظفين كالإسراف في كثرتهم سواء بسواء؛ والعدول عن الكفء إلى غيره جناية على العدل وإنكار لفائدة العمل؛ ووضع الأمر في غير أهله أقصر الطرق للفوضى المربكة والفشل المحقق. وإذا كانت الوزارات الأُخر تجري على سَنَن من التقاليد الموروثة والأنظمة الآلية والأعمال الرتيبة، فإن هذه الوزارة الجديدة في وضعها(333/2)
وموضوعها حرية بأن تكون مثلاً يحتذى في اختيار الموظف، وابتكار الطريقة، وتبسيط الإجراء، ودقة المراقبة، وحسن التوفيق بين قدرة العامل وطبيعة العمل، وفرض المسؤولية على كل موظف بمنح الاستقلال الذاتي لكل وظيفة. وتجربة النظم الحديثة في الجديد المنشأ أسهل منها في القديم المجدِّد. وتحويل الوزارة القديمة بمصطلحاتها وطفيلياتها ومحاباتها وفوضاها إلى وزارة جديدة بطريق التنظيم، أدخل في باب المحال من تحويل المدينة العتيقة بمنعرجاتها ومنعطفاتها ومضايقها إلى عمارة حديثة بطريق الترميم.
ومِلاك الأمر في الإصلاح الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل عمل في وقته، وكل رأي في وجهه، وكل أمر في أهله. ومدار النجاح في العمل العظيم على الرزانة والجد. فإذا قضى الله أن يعاجلك الفشل دون التمام، فخير لك أن تفشل بالصمت لا بالكلام!
أحمد حسن الزيات(333/3)
الشيوخ والسياسة
للأستاذ عباس محمود العقاد
الشيخوخة زيادة ونقصان
زيادة في الخبرة والحنكة، ونقصان في الطاقة والهمة، والأمم السعيدة هي الأمم التي تحسن الانتفاع بجانب الزيادة، وتحسن الحذر من جانب النقصان.
أما الأمم التي تهملهما إهمالاً فهي مسرفة مضيعة، قد تفوتها المنفعة ولا تضمن أن تفوتها الخسارة.
في جزائر الفيجي، على ما يقال، قبيلة تقتل الشيوخ الفانين أو تدفنهم أحياء. . . لأنهم لا ينفعون في حرب ولا صيد ولا عمل. وقد يعرقلون أعمال النافعين
أولئك قوم من الهمج لا يحتاجون إلى الرأي ولا يفترقون إلى عبر الماضي وهي كل ما يعرفه الشيوخ. فإذا بدا لهم أن الشيخوخة ضرر محصن وسن عقيمة فلا عجب: هي كذلك بين أمثال هؤلاء الناس.
وفي اليابان مجلس للشيوخ الكبارين ينتظم فيه الرجل بعد اعتزاله مناصب الحكم ومعارك السياسة ومطامع الحياة، وقلما ينتظم فيه قبل السبعين أو الثمانين. فإذا أشار بالرأي فإنما ينزع فيه عن غرض قويم لا خبيئة وراءه من طمع ولا ضغينة، أو هكذا يعتقدون هناك في فضائل الرأي الذي يصدر من مجلس الكبارين، وما نخالهم على الصواب كل الصواب فيما اعتقدوه، لأن المرء قد يطمع لغيره إذا بطلت مطامعه لنفسه، وقد يكون طمعه لابنه أو زوج بنته أو نصيره أشد تمكناً من هواه وأثقل غشاوة على بصره من الطمع الذي كان يطمعه لنفسه في شبابه.
لكن هؤلاء الكبارين ينفعون
ومتى كان لهم بعض النفع فمن الإسراف تضييعه، ومن الواجب تمييز نفعهم وضرهم قبل رفض النفع والضرر جزافاً على السواء.
أما اعتقادنا نحن في آفات آراء الشيوخ فالمحقق أنها عرضة لآفتين متلازمتين قد تفسدان كل ما لهم من أصالة وصواب: إحداهما التهيب من الأعمال الجسام، والثاني الحرص على العادة المتبعة والاستخفاف بكل شيء لا يضعون أيديهم عليه، ولا يملكون تصريفه مع(333/4)
خلفائهم في الميدان
وقد خطر لي هذا الخاطر يوم نقل البريد الإنجليزي إلينا أقوال لويد جورج وأحاديثه التي يذكر فيها أنه يتلقى الرسائل كل يوم بتعجيل مؤتمر السلام، وأنه يرى (أن تتولى الولايات المتحدة عقد هذا المؤتمر، وألا يكون أساس البحث فيع عودة الحدود البولونية والتشيكية إلى ما كانت عليه قبل احتلال الألمان، بل ضمان الوسيلة التي يتحقق بها دوام السلام بين شعوب العالم)
عجبت لهذا الرأي يصدر من الرجل الذي ألَّب الدنيا على غليوم الثاني، وهو لم يبلغ مبلغ هتلر من إقلاق الشعوب وإهدار العهود وإزعاج الشرق والغرب بالتهديد وراء التهديد، والإرهاب في ذيل الإرهاب.
عجبت لمثير الأمم كلها إلى الحرب كيف يحجم هذا الإحجام، ويرتاع هذا الارتياع، ويحسب أن الحرب شر من العواقب التي لا تنقطع فيها الحروب ولا تهدأ فيها الفتن لو نجح هتلر فيما ابتغاه وفقدت الشعوب كل سند تستند إليه حيثما جمح به هواه، وعاد إليه ديدنه وهجِّيراه؟
أهذا لويد جورج الذي كان يقسم لا يتركن غليوم حتى يشد بيديه حبل مشنقته في العاصمة الإنجليزية؟
أهذا لويد جورج الذي كان يقسم ليفتشن جيوب الألمان فرداً فرداً عن بقية الدراهم الباقية عليهم من غرامات الهزيمة؟
كلا!
إنما لويد جورج الذي يقول هذا هو كما قال شاعرنا العربي:
فكأني وما أزيَّن منها ... قُعَديٌّ يزِّين التحكيما
لا ينصح بالسلام إلا كما ينصح الرجل بالعفة إذا خمدت فيه نار الغرام. أو هو كما قال خصومه (لويد جورج في السادسة والسبعين)!
أما لويد جورج الذي شن الغارة العالمية على غليوم الثاني فقد كان رجلاً آخر، لأنه كان لويد جورج في نحو الخمسين.
وشتان اللويدان!(333/5)
وشتان كل إنسان يتعاقب عليه هذان العمران
ولقد كان لهذا الشيخ الكبار أخ له من قبل كان أعظم منه شأناً وأرفع في الخدمة الوطنية رتبة وأخلد سابقة في سجلات وطنه وسجلات العالم بأسره
لأن لويد جورج هزم غليوم
أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير
ولأن لويد جورج هزم غليوم في ديوان الوزارة أو على منصة الخطابة
أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير بالرأي والسيف، أو هو كان ظافراً في الميدان كما كان ظافراً بعد ذلك في الديوان.
لأن لويد جورج لا ينسى المناورات السياسية والمفاجآت المسرحية.
أما أخوه السابق فقد كان مثلاً في صراحة القول وصراحة العمل، وكان نموذجاً من نماذج الفروسية في غزواته الحربية أو غزواته الوزارية.
ذلك الأخ السابق كما علم القراء الآن هو ولنجتون القائد السفير الوزير
وقد هزم نابليون وهو في الخامسة والأربعين، ثم ساورته مخاوف الهرم فقال بعد أن جاوز الثمانين: (إنه يحمد الله الذي حماه أن يعيش حتى يرى عاقبة الخراب الذي تتجمع حولهم دواعيه)!
ولنجتون في الخامسة والأربعين غير ولنجتون في الثالثة والثمانين.
ولويد جورج في السادسة والسبعين غير لويد جورج في الخمسين.
ولابد للشيخوخة من آفة وهي هي اضمحلال الحياة
وهذه هي آفة الشيخوخة لا مراء
على أنها ليست آفة الشيخوخة وحدها فيما يرجع إلى صاحبنا لويد جورج
لأن الرجل كان في الخامسة والسبعين قبل عام واحد وليس الفرق عظيماً بين شيخ في الخامسة والسبعين وشيخ في السادسة والسبعين.
كان لويد جورج شيخاً كباراً في شهر أكتوبر من السنة الماضية
وكان لا يكف يومئذ عن تحذير رئيس الوزراء من الضعف والهوادة (مخافة أن نخون الشرف وأن نفقد ثقة العالم. بل شر من ذلك وأدهى أننا نفقد الثقة بأنفسنا. ثم لا يكون سلام(333/6)
بعد هذا كله في خاتمة المطاف!).
فالذي يقول هذا في الخامسة والسبعين خليق أن يقول مثله في السادسة والسبعين
عام واحد لا ينقل الإنسان هذه النقلة، ولا ينال من عزيمته هذا المنال
فالشيخوخة على كثرة آفاتها براء مما نجنيه عليها حين نلقي عليها وحدها تبعة الخلاف في الرأي إلى هذا المدى بين عام وعام.
إنما هناك أمور أخرى تعمل عملها وتسبق الشيخوخة إلى آفاتها
إنما هناك شعور الرجل من قبل فرنسا لم يفارقه منذ كانت سياستها في حرب الأناضول سبباً من أسباب فشله وزوال عهده.
وإنما هناك شعور الرجل من قبل ألمانيا وما أبقته في قلبه زيارته لزعمائها.
وإنما هناك حب الملام ممن يده في الماء لمن يده كما يقولون في النار
وإنما هناك مفاجآت لويد جورج، ولا غنى للرجل عن مفاجآت
لقد حوسب الرجل بعد خطابه حساباً عسيراً:
حاسبوه على تبشيره بالمحالفة الروسية، وتبشيره من قبلها بالمحالفة الألمانية، وتبشيره بكل خطة تخالف ما خطته الوزارة القائمة، ثم يكون الفشل من نصيبها ويبدو العقم على وجهها قبل أن تنحدر إلى عقابيلها.
حاسبوه ولم يظلموه
وحاسبوا الشيخوخة وظلموها في غير ذنبها
وإن يكن للشيخوخة ذنب فمن الشيخوخة شفيع!
عباس محمود العقاد(333/7)
السراكينوي هم السرويون
للأب أنستاس ماري الكرملي
1 - السراكينوي لا السراكينوس
كتب حضرة الأستاذ الجليل محمد عبد الله العمودي مقالة بعنوان (الساراكينوس) في الجزء الـ 327 من (الرسالة)، ونَقَلَ عبارة المسعودي المأثورة عن نقفور الأول، ملك الروم، وهي: (وأنكر على الروم تسميتهم العرب (ساراقينوس)، تفسير ذلك: عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب. والروم إلى هذا الوقت (يعني سنة 345) تسمي العرب (ساراقينوس). . . اهـ
قلنا: إن حضرة الأستاذ خُدع بما طُبع من نص هذا الكتاب، إذ نقل (ساراكينوس) أو (ساراقينوس) بمعنى العرب. والصواب أن قد وقع خطأ في طبع هذا الاسم وهذا الصواب هو (ساراكينوي) أو (ساراقينوي)؛ أي بياء في الآخر في مكان السين. وأما إذا كان اللفظ مختوماً بسين فيدل على الفرد لا على الجمع، كما هو مشهور في تلك اللغة.
2 - معناها
وأما أن نقفور قال: معناها عبيد سارة، فهو من تأويله الخاص به، ولم يذهب إليه أحد من العلماء الأقدمين، ولا من المحدثين. وأنتَ عليم أن هذا الملك وُلِدَ في سلوقية العراقية، في جوار المدائن، وكان فيها يومئذ مدارس عامرة تضارع أشهر مدارس ربوع اليونان؛ فتبحَّر نقفور فيها كما تبحر في مطالعة التواريخ القديمة. ولو كان معنى هذه الكلمة كما يقول هذا الملك - (أي ساراكينوي)، أي مملوكات أو مماليك سارة، لكن لم ينطق أحد من المؤرخين أو المؤلفين بهذا اللفظ، اللهم إلا أن يكون قد نحِتَ وصُحِّفَ فقيل ما قيل. لكن يبقى أن هذا التأويل خاص بالملك نقفور دون غيره؛ ويدل على قوة فكره، وتضلعه من اليونانية، وتلاعبه بالألفاظ والتصرف في التخريج وأول هذا التأويل تزلفاً من الناطقين بالضاد، واستمالتهم إليه، إذ كان في حاجة إليهم يومئذ، واسترضائهم في ذلك العهد، وليس للمسعودي أدنى خيال في هذه المسألة. فهو إذاً ناقل لا قائل، والمسعودي مؤرخ أمين وفي، لا يستحق أن يغمز غمزات هو بريء منها.(333/8)
3 - معالجتنا لهذا الموضوع قبل 35 سنة
وكنا قد عالجنا هذا الموضوع منذ أكثر من 35 سنة، فأدرجنا في المشرق (من مجلات بيروت) في سنة 1904 في مجلدها السابع ص 340 إلى 343 مقالة عنوانها: (العرب أو السَّرْحِيُون). ثم عدنا إلى البحث، فنشرنا في مجلتنا لغة العرب 7: 293 إلى 297 مقالاً وسَمْناه (السرحيون أو الشرويون)، وفي 7: 488 و 489 أيضاً. وعدنا إلى البحث رابعة فأصدرنا مقالة في لغة العرب المذكورة في 8: 584 وسمناها (الشرويّون)، وبينا أن (سراكينوي) هم الشرويون أو أهل الشراة، وهم اسم العرب الذين يقطنون الشراة، وهو صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول، وكان من عمل جُند دمشق.
والآن نقول إن صحيح الاسم هو السراة بالسين المهملة، لا الشراة بالشين المعجمة
وأما كيفية تحول السراة إلى (سراكينوي) فظاهر من أن السراة، وهي تشبه سارة بعض الشبه إذا ما كتبت بحروف يونانية أو رومانية، كُسعت بأداة النسب عندهم، فصارت (سراكينوس) بالمفرد، و (سراكينوي) بالجمع. فانتهز هذه الفرصة الملك نقفور وأوَّل اللفظ بالوجه الذي نقله المسعودي.
هذا هو تأويل اللفظ اليوناني، وهذا هو وجه تحوله إلى ما تراه وتسمع به.
4 - ذكر اللفظة غير المسعودي
أما قول الأستاذ العمودي (ص 1939 من الرسالة): (هذه الكلمة قد سجلها التاريخ في مطاويه منذ عهد عريق جداً، فالعرب لا تعرفها مطلقاً، إذ لم تشتهر في تاريخهم، وما وردت في نظمهم ولا نثرهم. فإذا كان المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فلا شك أنها هبطت عليه عرضاً، واقتنصها اقتناصاً من أحاديث الروم. ومعنى هذا أنها غير مشهورة بين العرب، ولا جارية على ألسنتهم، فهم يجهلونها كل الجهل، جهلهم بأصلها)
فجوابنا هو: لا يمكن أن تكون هذه اللفظة معروفة عند العرب بهذه الصيغة المفلوجة المعوجة؛ إنما يقولون: أهل السراة أو السرويون. - وأما أن المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فنحن لا نوافق عليه حضرة الكاتب الجليل، فقد ذكرها ابن الأثير أيضاً في تاريخه (1: 240 من طبعة الإفرنج) بصورة (ساراقيوس) ونقل عبارة نقفور عينها، فقال:(333/9)
(وكانت الروم تسمي العرب سراقيوس (كذا)، يعني عبيد سارة بسبب هاجر أم إسماعيل. فنهاهم عن ذلك) اهـ
ومعلوم أن ابن الأثير جاء بعد المسعودي بنحو ثلاثمائة سنة، فلا جرم أنه نقل هذا الخبر عنه. وكنت قد قرأت في كتاب تاريخ قديم سبق المسعودي بنحو مائة وخمسين سنة، وهو لنصراني ذكر (الساراكينوي) فيكون هو أول مؤرخ عربي ذكرهم بهذا الاسم، فأخذ عنه سائر مؤرخي العرب، لكني لا أتذكر اسمه، ولا اسم كتابه.
وعلى كل فليس للمسعودي أدنى خيال في هذه الكلمة، فهو ناقلٌ، ثقةٌ، حجةٌ، ثبتٌ، يعتمد عليه.
5 - لماذا سمي العرب سراكينوي أي سرويين
إن الأمة الواحدة، الوافدة على أمة ثانية، إذا اتصلت بها حديثاً وهي لا تعرفها، سميت المجهولة باسم تذكره لها الأولى، كما أنه إذا جاءك طارئ تجهل اسمه، فإنك تسميه بعد ذلك بالاسم الذي عرفَّك به، لا بالاسم الذي تضعه أنت له. فاليونان والرومان اتصلوا بعرب السراة أو السَرَوات منذ أقدم الأزمنة، فذكروهم بالاسم الذي تسموا هم به، ثم أطلقوه على العرب جميعهم من باب تسمية الكل باسم الجزء، كما أن الإرَميين لا يعرفون العرب إلا باسم (طائيين) لأنهم أول ما عرفوا منهم، كانوا من طَيء لمجاورتهم لهم، واتصالهم بهم، ثم أطلقوا هذا على العرب جميعهم وإن لم يكونوا من طَيء. ومثل هذه التسمية كثيرة الوقوع في التاريخ.
6 - موافقة الساراكينوي للسرويين في جميع ما نقل عنهم
إذا حفظتَ في صدرك ما بسطناه لك، انجلتْ لك عرائس الحقائق بوجوهها الصبيحة. فقد نقل الأستاذ الفاضل من المعلمة الإيطالية: (إن هذه الكلمة أصبحت اليوم علماً خاصاً يطلق على العرب، فإن مفهومها قديماً كان على عكس ذلك؛ فقد كانت تدور في دائرة ضيقة من التعريف لا تطلق على الشعب العربي كله إنما كانت خاصة بقبيل معين يسكن على شواطئ خليج العقبة في الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء يعرفه الإغريق بـ (ساراكيين) اهـ. فهذا داخل في أن هذا الجزء من سيناء هو من ملحقات السراة لا غير(333/10)
وقول الأستاذ العمودي: (وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة في كتاب المؤرخ منتصف القرن الأول من ميلاد المسيح عندما وصف صمغ (المقل)، فقال: إنه ينبت من (شجرة ساركينية) اهـ. قول يحتاج إلى تصحيح فيقال: (وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة (هو) في كتاب الطبيب الشجار الإغريقي ذياسقوريذس العيْن زربى، من أبناء المائة الأولى للمسيح حينما وصف صمغ (المقل)، فقال: (صمغ شجرة تكون ببلاد العرب) (عن ابن البيطار في مادة (مقل) 2: 162 من طبعة مصر) وأحسن من هذه العبارة هذه الترجمة: (هو صمغ شجرة تكون في السراة أو في السروات)
وقال الأستاذ العمودي نقلاً عن معلمة الإسلام وإن لم يصرح به: (وذكر المؤرخ الروماني بلينوس الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي)، وقد كان معاصراً للإغريقي السابق الذكر، هؤلاء (السراكين)، فقال: (إنهم من جملة القبائل العربية الثاوية في صميم الصحراء، والتي تتاخم بلادهم بلاد الأنباط) اهـ.
قلنا: ولو قيل: (إن السرويين أو أهل السراة هم من جملة القبائل العربية. . .)، لكان الكلام عين الصواب. لأن صفة البلاد التي وصفها بلينوس هي صفة ديار السرويين تماماً.
ومن مقال الأستاذ العمودي، وهو مقتبس أيضاً من المعلمة الإسلامية: (وجاء على أثر هؤلاء؛ المؤرخ بطليموس، في منتصف القرن الثاني للميلاد، فذكر بلاد (السراكين) (إنها تقع في بلاد العرب الحجرية وعيَّن مكانها بقوله إنها تقع في غرب الجبال السوداء (لعل الصواب السُود) التي تمتد - بناً على قوله - من خليج فاران إلى أرض اليهودية. . .).
قلنا: (وهذا يثبت ما ذهب إليه وُصاف البلدان من السلف أي أن السَرَوات تمتد من أقصى اليمن إلى الشام).
وأما قول الأستاذ العمودي: (ولم يكتف المؤلف بكلامه هذا، بل عاد ونقض قوله، فقال في وضع آخر من مؤلفه: (إن (السراكين) شعب يقيم في داخلية بلاد العرب (كذا. ولعل الصواب يقصد بذلك بلاد اليمن وزاد على ذلك فقال: إن الهضاب المرتفعة، وبالقرب منهم نحو الشمال والجنوب يوجد (السراكينوس) و (الثموديون) اهـ.
ثم قال الأستاذ العمودي: وهذه الفقرة الأخيرة من بطليموس بعيدة عن أفهامنا كل البعد إذ لا يصدق مطلقاً أن توجد قرابة في المسكن بين (السراكينوس) و (العاديين) مثلاً. فأولئك -(333/11)
كما علمنا - مساكنهم حوالي جزيرة سيناء، وهؤلاء مثاويهم في جبال حضرموت، والمسافة بين البلدين طويلة لا تقاس) اهـ.
قلنا: إن حفظنا في ذاكرتنا السروات وأنها تمتد من أقصى اليمن، وفيها حضرموت، إلى الشام، فهمنا كلام بطليموس كل الفهم، وبلا أدنى صعوبة، من أوله إلى آخره، وأن ليس ثم أدنى مناقضة. فبعض المؤرخين من اليونان والرومان تكلموا على قسم من ديار السرويين، وآخرون على القسم الاوسط، وكثيرون على أقصى تلك الربوع، حسب احتياج الكاتب إلى ذكر قسم دون قسم آخر من السراة.
(للبحث بقية - بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي(333/12)
بين الإسلامية والعربية
صفحة موجزة من التاريخ
للأستاذ علي الطنطاوي
لما أراد الله أن يتم على العالمين نعمته، ويختم فيهم رسالته، وينزل عليهم (الكتاب) الذي ما فرط فيه من شيء، الجامع لكل ما يسعدهم في أولاهم وأخراهم، الخالد الذي تعهد عز وجل بحفظه وكفل حمايته، اختار الله لرسالته محمداً رجلاً من العرب لا من الروم ولا من الفرس، فأنزل عليه وحيه، واختصه بفضله وهو أعلم حيث يضع رسالته، وبعثه في (مكة) أم القرى، لم يبعثه في (روما) أم المدائن، ولا في (قصبة فارس) ذات الإيوان، وأمره أن يبدأ بقومه من قريش فيدعوهم، وبعشيرته الأقربين من هاشم فينذرهم، وأنزل عليه القرآن كتاباً عربياً لم ينزل بلغة روم ولا يونان، منة امتنها الله على العرب، ونعمة أفردهم بها. . . وكان العرب - على كريم خلالهم، وجميل سجاياهم، وأنهم لم تفسدهم الحضارة التي أفسدت غيرهم من الأمم - في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وتنازع واختلاف، ذوي عصبية جاهلية يقاتل الرجل منهم أخاه على بكرة، ويزاحمه على قطرة، إن دعوا فإلى جامعة القبيلة ورابطة العشيرة، وإن نادوا فبيا لَتغلب ويا لَبكر ويا لَعبس ويا لَذبيان، ما نادوا قط: يا لَلعرب! فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يحييهم: إلى طرح أصنامهم وآلهتهم، وعبادة الله إلهاً واحداً لا إله إلا هو، وإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإيتاء الزكاة التي تصلح حال الأمة، وتؤلف بينها، وتحيي فقيرها بما لا يضر بذله غنيها، وصوم رمضان وحج البيت وشهادة المؤتمر الأكبر في عرفات، واستكمال مكارم الأخلاق، وطرح عصبية الجاهلية، واستبدال الخلاف والتنازع بأخوة في الله، ووحدة في الإسلام، فأجاب منهم من كتب الله له الحسنى، وأبى من سبق عليه الشقاء، فصار الناس فريقين: مؤمنين وكافرين، وصار القرآن ينزل بـ (يا أيها الذين آمنوا) بعد أن كان ينزل بـ (يا أيها الناس)، ولم يبق إلا نسب الإسلام نسب، وبطلت من دونه الأنساب، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم يصلى تالياً شتم عمه الأدنى أبي لهب الهاشمي القرشي (تبت يدا أبي لهب وتب) ويقول عن سلمان الفارسي الأعجمي: سلمان منا أهل البيت. وتطوي بنت أبي سفيان رضي الله عنها الوسادة عن أبيها وتقول إنما أنت رجس، وقد كان (رحمه الله) يومئذ(333/13)
على دين قومه، ويستأمر رسولَ الله في قتل شيخ المنافقين ولدُه الذي انحدر من صلبه، ويقول أبي بكر رضي الله عنه لابنه (وكان مع قريش): لو تراءيت لي في المعركة لقتلتك. لا تأخذهم في دين الله شفقة ولا رحمة، ولا يعدلون برابطة الدين رابطة ولا رحماً، ويؤيد الله المسلمين بنصره فينصرهم ببدر وهم أذلة، فيقتلون المشركين ولم يقتلوهم ولكن الله قتلهم، ويثبتهم في أحد ويرسل على الأحزاب ريحاً وجنوداً لم يروها، وينزل أعداءهم من اليهود من صياصيهم. ولبثوا على ذلك حتى أراد الله إكمال الدين وإتمام النعمة، فجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعم السلام الجزيرة وألف بين أهلها (ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) واجتمع المسلمون في حجة الوداع، وقام صلى الله عليه وسلم يخطب مبيناً ومودعاً ومبلغاً، فقال:
أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه دينكم.
أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيَّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وخرج المسلمون لينشروا دين الله، وينقذوا(333/14)
العالم، فكانوا يعرضون على من يلقون خصالاً: أولاها أن يدخل في الإسلام فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم، لا يفرق بين المسلمين اختلاف لون ولا تباين لسان، ولا يفضلون عربياً على عجمي إلا بالتقوى؛ فإن أبى رحمة الله وكره دين الحق، عرضوا عليه الثانية وهي أن يدفع الجزية فيكون له ذمة الله وذمة رسوله وذمم المسلمين، ويكون في حرزهم وكنفهم، حقه محفوظ له، وحريته مضمونة ومعابده قائمة، وإن تعدى عليه مسلم انتصف له منه، ثم إن الجزية شيء لا يكاد يذكر، دراهم قليلة هي دون ما على المسلم من زكاة أو عشر أو غير ذلك، ثم إنها يعفى منها الصبي والشيخ العجوز، والراهب المتعبد، فإن أبوها فقد آذنوا بالحرب. وكذلك فتحوا البلدان، فلم تكن إلا سنوات حتى تغلغل الإسلام في أقاصيها. ولم يمض القرن حتى غدت بلاد العجم كلها مسلمة الدين، عربية اللسان، ونشأ من كل مدينة فيها علماء فحول كانوا أئمة الدين وكانوا أعلام الأدب وكانوا مصابيح الهدى، وحسبك بالبخاري والرازي والطبري والمروزي والتبريزي والجرجاني والأصفهاني والقزويني والفيروز آبادي ممن نشأ في بخارى والري وخراستان ومرو وتبريز وجرجان وأصفهان وقزوين وفيروز آباد. ممن كان من أصل عربي أو كان من أرومة فارسية كأبي حنيفة وسيبويه والحسن وابن سيرين والزمخشري، من العلماء أو من الأدباء كابن المقفع وبشار وأبي نواس وابن الرومي، ولم يكن فيهم من يرضى أن تقول له أنت أعجمي يخدم العربية، بل هم لا يرون أنفسهم إلا عرباً، ولا يجدون شتماً أبلغ من أن تقول لواحدهم (أنت شعوبي) قال الزمخشري أستاذ الدنيا جار الله في مقدمة مفصله: (الحمد لله على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين والمشق بأسنة الطاعنين).
وسبب ذلك أن الإسلام امتاز من سائر الأديان، بأنه دين وقومية جامعة، وأنه سياسة وإنه تشريع (ولما كان الإسلام ديناً وجنسية، وقد رفع الحدود بين الأمم اللاتي تدين به، وكره أن يدعى فيها بدعوة الجاهلية، وجعل أصحابها جميعاً إخواناً يؤلف مجموعهم كتلة واحدة لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولما لم يكن بد للمجموعات البشرية من رابطة تتعصب لها وتعتصم بعروتها، فإنه وهو دين التوحيد ودعوته للاتحاد. . . كان لابد(333/15)
للمسلمين من وحدة عامة، وعصبية عامة، ولسان عام، وقد نبت الإسلام عربياً، وبعث على لسان رسوله العربي، ونزل قرآنه بلسان عربي مبين، فصح لهذا أن يمتزج الفرع بأصله، ولن يتحد الإسلام بالعربية، وأن يكون لسان شعوبها قاطبة، وقد نجحت هذه النظرية أتم نجاح، وأخلص المؤمنون العمل بها، فعمت العربية ذلك المنبسط الآسيوي والأفريقي إلى حدود جبال البرنة في أوربا، وذلك ما يعجب به علماء الاجتماع الآن).
فكان انتشار لسان العرب في هذه الأمم كلها واستعرابها قاطبة من عمل الإسلام الذي جعل العربية لسان العبادة بين العبد وربه. وأوجب على كل مسلم تعلم شيء منها يقيم به صلاته، وجعل فهم القرآن وهو غاية كل مسلم معلقاً على درس العربية وفهمها، وجعل حب النبي وقومه من أصول الإسلام، كما أوجب الحج لتكون هذه البقعة العربية القاحلة وهذا الوادي العاري غير ذي الزرع أحب إلى المؤمن من داره وبلده.
على هذا الأساس أنشئت الدولة الإسلامية الضخمة، وقامت تلك الحضارة الجليلة وبني الماضي العظيم، ولا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ثانوية (كركوك)
علي الطنطاوي(333/16)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
(تابع)
كان - معلم البيان - بيئيَّ المذهب فكان يعتقد أن الفروق السيكلوجية بين الأفراد - وبخاصة العقلية والخلقية منها - هي من آثار البيئة. وكان يرى أن التربة تمحو هذه الفروق أو تقلل من أهميتها. وقد بني رأيه هذا على تجاربه في إعداد خطباء الجماهير. وهو يميل إلى أن التمرين قد يعوض على الفرد ما قد حرمته الوراثة. وهو يقول في كتابه (معاهد الخطابة) يأتي:
(على الوالد أن يفكر منذ ولادة طفله في أفضل مهنة يريد إعداده لها. لأنه بتفكيره هذا يكون قد وضع نصب عينيه الغاية التي يريد تنشئته لها، فينمو بذلك نشاطه، وتشحذ جهوده في تقويمه وتسويته من طليعة حياته. وإنه لزعم واهٍ أن يقال: إن قليلاً من الأفراد قد وهبوا الذكاء والقدرة على فهم ما يلقى إليهم، وإن الجمهور من الأفراد يَضيع جهدُه ووقته سدى بسبب قلة الذكاء وبطء الإدراك. فالحقيقة تناقض هذا الزعم. لأننا نجد السواد الأعظم من الأفراد قابلاً للإدراك سريع التعلم، ولأن سرعة التعلم ميزة من ميزات الإنسان. ونحن البشر خُصِصْنا بالنشاط والفهم الحكيم، لأن عقلنا قد نزل من السماء وقل من الأفراد من يولد غبياً أو غير قابل للتعليم، كما قل من الأفراد من يولد ممسوخ الخلق مشوه الشكل. ويؤيد رأيي هذا أنني أرى بذور الذكاء كامنة في نفوس الكثير من تلاميذي، وقد تموت هذه البذور بمرور الزمن. ومعنى ذلك أن ظهور الذكاء وتفتحه رهن بالعناية والتمرين لا بوجود المقدرة الطبيعية فقط. ولعلك تعترض فتقول إن تفوق فرد على آخر إنما هو لما امتاز به الأول من مقدرة طبيعية. وإنني أسلم ذلك، ولكن هذا التفوق لا يُعترف به إلا إذا كانت المقدرة الطبيعية عملية محسوسة منتجة، كما أنك تسلم معي أن من جَدَّ وجد. فعلى من اقتنع بصواب رأيي هذا أن يسارع بمجرد أن يصبح أباً، فيفكر في مستقبل ابنه، وماذا سيكون، فيعمل لذلك المستقبل بحرص وعناية ويقظة).
ونحن وإن سلمنا بأن كوينتليان من أنصار مذهب البيئة لا يسعنا إلا أن نثبت له أيضاً أنه يعترف بوجود الفروق السيكلوجية الموروثة بين الأفراد. فهو إذاً يقر بالفروق السيكلوجية(333/17)
الفطرية، وبأن هذه الفروق يمكن إزالتها بالتربية والتمرين.
وفي عصر النهضة أخذت دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد اتجاهاً جدياً في المدارس الايطالية، وعنى المعلمون بها في توجيه تلاميذهم إلى نوع العمل والدراسات التي تصلح لهم.
ويعتبر فيتورينو عاش في القرن الخامس عشر أول مدرس بيداجوجي بحق. كان ناظراً لمدرسته ومدرساً بها. وقد اهتم بمعرفة الفروق السيكلوجية بين تلاميذه واكتناه أسبابها، وكيفية استغلالها في تكوين شخصيتهم. درس ولاحظ ميول تلاميذه الطبيعية المختلفة، ومظاهر هذه الميول، وقدراتهم الفطرية. وكان يضع لكل تلميذ منهم طريقة للتدريس خاصة تتفق وقواه العقلية وذوقه. وهو يقول في هذا الصدد (ليس كل فرد صالحاً لأن يكون قانونياً أو طبيباً أو فيلسوفاً محترماً باقي الذكرى بين الجمهور، وليس كل فرد موهوباً نعمة الذكاء الطبيعي).
ونحن نجد مما سقنا عن فيتورينو أنه لم يكتف بمعرفة الناحية النظرية من الفروق السيكلوجية بين الأفراد بل طبَّق هذه المعرفة في مدرسته، بل لقد بالغ وأسرف في تطبيق نظرية الفروق السيكلوجية ونتائجها. فكان لا يتردد في أن يطرد من مدرسته أي تلميذ يرى أنه سيئ الخلق. كما كان في كثير من الأحيان يفصل البلداء، أو من تخلف ذكاؤهم بعد سبق.
وفي القرن الثامن عشر سادت أوربا حركتان عقليتان في فلسفة التربية: الحركة التعقلية التي تعزز من شأن العقل وحده وتدعو إلى الثقة بما يوحي به، والحركة الطبيعية وهي التي تجعل للميول والعواطف المحل الأول في شؤون التربية والاجتماع، والتي تدعو إلى أخذ الطفل بما يوافق طبائعه ويلائم ميوله ورغباته. وتدعو هذه الحركة إلى إعطاء الطفل أكبر نصيب مستطاع من الحرية لتنمية غرائزه الصالحة وقواه المنتجة النافعة. وزعيم هذه الحركة هو جان جاك روسو. وقد كانت رسالته في التربية (إميل) ثورة على نظريات التربية القديمة التي كانت تحول بين الطفل وبين نمو غرائزه، وتحدد من نشاطه العقلي وتقيده بآراء دينية واجتماعية تقليدية.
جاء روسو منادياً بتقوية الفردية وبتشجيع الغرائز على إظهار آثارها، وإزالة العوائق التي(333/18)
تقطع عليها طريق الحرية الكاملة. وهاك اقتباساً من كتابه (إميل) يحث فيه على تنمية المواهب الفردية وتقويتها:
(لكل طفل استعداد عقلي خاص. ووفقاً لهذا الاستعداد يجب أن يوجه الطفل. وإذا أردنا نجاحاً في تربية الطفل وجب علينا أن نسير مع ميوله الطبيعية. كن حازماً وراقب طبيعة طفلك طويلاً، ولاحظه بحرص وحيطة من قبل أن توحي إليه بكلمة أو إرشاد. دع أولاً بذور طبيعته تترعرع، وأحذر أن تتدخل في نموها إلا قليلاً حتى ترى عم تتفتح براعمها) وإذاً فروسو وراثي المذهب، لأنه يرى أن الفروق السيكلوجية - وهي التي تكون الفردية - طبيعية وموروثة، وأن مهمة المربي هي أن يرعى ما في الفرد - أي الطفل - من قوى، ويراقبها، وهو يحث المربين والكبار على (أن يحترموا الأطفال، وألا يتعجلوا في الحكم على أفعالهم بالخير أو الشر. وإذا كان من بين الأفراد بعض الشواذ، فالأولى أن يتركوهم مدة من الزمن حتى تظهر نواحي شذوذهم، ثم يعالجوهم بما يصلح لها. دع الطبيعة - يعني طبيعة الطفل - تعمل وئيداً، واترك لها الزمن الكافي قبل أن تستعيض عنها غيرها، خشية أن تعطل وظيفتها النافعة).
وفي أثناء المراحل الأولى من نمو الطفل سيعرف الطفل نفسه بنفسه. ويرى روسو أنه (لا ضير أن يترك الطفل وشأنه يفعل ما يشاء، لأنه قد عرف قوة نفسه، ومن المستحيل أن يعمل شيئاً لا يقدر على عمله، ولأنه لا يمكن أن يعدو حدود قدرته الطبيعية، وهو يعرف تماماً ما هي).
ومعنى هذا أن روسو يترك للطفل كامل حريته حتى تنمو فيه الصفات المكونة لفرديته، والتي تميزه عن غيره. فالفروق السيكلوجية إذاً نتيجة للنمو الحر للخواص الطبيعية الموروثة عند الأفراد.
ولكن رجال التربية الحديثة لا يشاركون روسو في هذا النوع من التربية المطلقة، لأنهم لا يثقون بتعليم الطبيعة وقيادتها وحدها، ولأنهم يخشون إن تركت الغرائز الفردية والميول الطبيعية حرة، أن تسلك الطريق المعوج كما تسلك الصراط المستقيم. وهم يعللون ذلك المذهب البيداجوجي الذي اعتنقه روسو ونادى به بأنه رد فعل للروح الاجتماعية والتربوية التي كانت سائدة في عصره والتي قيدت النمو السيكلوجي الطبيعي للطفل.(333/19)
وكل ما يهمنا من مذهب روسو في هذا البحث هو أن نُسجِّل أنه فطن كغيره من الفلاسفة والمربين الذين ذكرناهم في هذا المقال وسابقه، فطن إلى الفروق السيكلوجية عند الأطفال والى ضرورة تنمية الفردية وتربيتها عند الأطفال.
هذا وقد أصبحت الفروق السيكلوجية بين الأفراد من الحقائق المسلم بها بين المربين وعلماء النفس المعاصرين، وهم يوصون بأن تكون مناهج الدراسة وطرقها مختلفة باختلاف الأفراد، ولكن إقرار الحقائق شيء والقيام بتنفيذ مستدعياتها شيء آخر. ولا زالت هناك صعوبات مادية وعملية في سبيل تحقيق مستدعيات الفروق السيكلوجية بين الأطفال. ففصول الشواذ والمتخلفين وطرق التربية الفردية من الأشياء التي يشعر المربون بضرورتها وإن لم يستطيعوا تحقيقها بعد في كل معهد دراسي.
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(333/20)
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
نشيد الأحزاب
من وضع السيد الرسول صلى الله عليه وسلم
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
من من المسلمين لا يحفظ هذا النشيد؟
كلنا نحفظه، ولكن أكثرنا يرتلونه قعوداً بعد صلاة عيد الأضحى. ولا يزال في الريف من يرتلونه في موكب عند عودتهم من المسجد إلى القرية. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يرتله في وسط كوكبة من الجند، ووراء الكوكبة جيش جرار على صدر كل منهم درعه، وعلى رأسه اللأمة، وفي يده السيف المسلول.
كانوا رضوان الله عليهم أجمعين يمشون مشية المحارب ويرتلون هذا النشيد الرصين الهادئ القوي على نغمات المسير. فهو إن أردنا تسميته بالمصطلح العصري (مارش الإسلام) هو النشيد الذي أعد لمسير الجيوش التي فتحت فارس ومصر بعد عقدين من الهجرة النبوية الشريفة.
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
هذا الكلام البليغ ليس بالشعر، ولكنه قابل للتلحين. وقد حفظنا لحنه وأنشدناه ولا نزال(333/21)
ننشده في كل عام. وكل الفارق بيننا وبين قائليه الأولين أنهم كانوا يرددونه وفي أيديهم السيوف ونحن نرتله وفي أيدينا المسابح، وأنهم كانوا يرددونه وهم يمشون إلى القتال ونحن نقوله ونحن سائرون إلى الديار لشرب مرق الأضاحي التي أمرنا بذبحها للفقراء فذبحناها لنأكلها نحن هنيئاً مريئاً، وأنهم كانوا يرتلونه وتنبض قلوبهم بشعور حي لأنهم يفهمون لكلمة (وهزم الأحزاب وحده) معنى غير الذي نفهمه نحن. . . هم يفهمون أن الأحزاب هم فلان وفلان الذين رأوهم في يوم كذا من شهر كذا يذبحون فلاناً وفلاناً من أقاربهم وقد هزمهم الله بأن مات منهم فلان وفلان وأسر منهم فلان وفلان وأسلم منهم فلان وفلان.
(وهزم الأحزاب وحده) كلمة بليغة نقولها نحن، ونغمة شجية نطرب لها نحن، ولكنها غير مشفوعة في خيالنا بالصورة الواضحة التي يترسمها القائل المجاهد، وغير مشفوعة في مشاعرنا بذكريات الأرحام الممزقة، والمودات التي استحالت إلى عداوة، والعداوات التي استحالت إلى أخوة.
ألفاظ نقولها ونغمة نعيها ونفهم معاني كل كلمة فيها ونعي النغمة أيضاً، ولكننا بعد ذلك لا نفهمها الفهم الكامل لأنها لا تستثير في نفوسنا ذكريات حية واشجة بحياتنا الشخصية ولا تعرض على خيالنا صوراً رأينا مثلها بالحس:
صدق وعده ... ونصر جنده
وهزم الأحزاب ... وحده
نفهم كل حرف من هذا ولكننا لم نر النبي كما رأوه وهو يرتعد ويقول: اللهم وعدك الذي وعدتني. ولم نسمع أبا بكر يجيبه كما سمعوه حين أجابه وهو يقول: إن الله منجزك ما وعدك. فالألفاظ واحدة ولكنها أدت لدى الكثرة منا معاني فحسب، وأدت لدى من قالوها لأول مرة معاني وصوراً وانفعالات. بل لو شئنا لقلنا إنها أطلقت من غددهم إفرازات اختلطت بدمائهم فكونت في عروقهم لوناً آخر من ذلك السائل الكيميائي غير الذي يجري في عروقنا نحن.
هذا النشيد إذن بتأثيره في سامعيه نشيد غير الذي ننشده نحن وإن لم تختلف ألفاظه، وما قيمة الألفاظ التي لا تنقل نفس الأثر؟(333/22)
ولكن أحقاً أنها لا تنقل نفس الأثر؟
أحسب القول ذا إجابات تتراوح بين الإقرار وبين الإنكار، فإن الخيال والدرس والإيمان كل ذلك خلال تستبقي الأثر لكل لفظ قيل إذا تشابهت ظروف القول. وهذا النشيد ككل قول آخر ينطبق عليه قول أبي الطيب:
ولكن تدرك الأفهام منه ... على قدر القرائح والعقول
ولقد كان الذين دفعهم إيمانهم إلى دراسة السيرة النبوية دراسة تربط الفهم بالوجدان - كان هؤلاء يتأثرون بهذا النشيد حين يسمعونه كما تأثر به أوائل من سمعوه إذا اتفقت لهم مثل الظروف التي قيل فيها. فطارق بن زياد في فتح الأندلس قال في وسط الجند:
الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
قال لهم ذلك والسيوف في أيديهم ينقل إليهم مثل الإحساس الذي عالجه المهاجرون والأنصار وهم على أبواب المدينة في العام الثاني للهجرة والنبي واقف يقول إن المشركين قد اقتربوا من المدينة يريدون غزو المسلمين، وإنه يريد أن يخاطر بعض المسلمين بحياتهم فيذهبوا إلى حيث معسكر الكفار ليعرفوا مواقعهم ويبرزوا قوتهم ثم يأتوه بالأخبار.
سأل النبي أيهم يقدم على هذه المخاطرة، فتقدم منه الزبير يعلن استعداده لها.
ولكن النبي أعاد السؤال فكان الزبير هو الذي أجاب، وأعاد النبي السؤال للمرة الثالثة فكان الزبير هو الذي أجاب. فقال عليه الصلاة والسلام إن لكل نبي حواريين وإن حواريَّه هو الزبير.
أجميلة هذه الصورة؟
جميلة بلا ريب. لكن أجمل منها ذلك الشعور النبيل الذي جاش بنفس النبي وجاش بنفس كل جندي من جنوده، هو الشعور بأن الأحزاب إن هزمت فإن الذي سيهزمها هو الله وحده، ومن الذي يستطيع أن يهزم الأحزاب غير الله؟
إن أحداً لم يعد النبي بالنصر غير الله. فالله سيهزم الأحزاب لأنه سبحانه وعد بذلك. والأحزاب عدد كبير، ولكن الله أكبر.
كذلك تدفقت من فم النبي هذه الأنشودة التي ظل يرتلها في كل غزوة والمسلمون يرتلونها معه:(333/23)
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر
الله أكبر كبيرا ... والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا
الحمد لله وحده ... صدق وعده
ونصر عبده ... وأعز جنده
وهزم الأحزاب وحده
الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر. ولله الحمد
وبعد فهذا أول (مارش) في الاسلام، ولم يكن بالشعر ولكن صاحب الرسالة التي تحدت الشعر بالفواصل الكريمة: فواصل القرآن قد تحدت الأناشيد العسكرية بهذا النثر الموسيقي الذي فتحت به فارس وفتحت به مصر وفتحت به الشام وفتحت به أفريقيا وفتحت به الهند وفتحت به الأندلس وفتحت به بلاد البلقان وفتحت به بلاد النمسا الجنوبية وبولونيا. ثم ماذا؟ كان يفتح به سائر العالم لو فهم المسلمون فهماً مشفوعاً بالشعور العميق معنى!
الحمد لله (وحده)، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!
ولكن هل في هذا النشيد الهادئ القوي الرصين ما في أناشيدنا من الألفاظ الجوفاء كالنار والفداء والدماء؟
لا. لأن الجيش المحارب لا يستطيع الانتصار إلا إذا شعر بأنه من أجل الحياة يدافع، ومن أجل الرفاهية يهاجم، وأنه في سبيل الخير يتحرك، وأن الغرائز التي تستحثه هي الغرائز السامية لا شهوة الدم والنار.
عبد اللطيف النشار(333/24)
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
الرجل كابن ومحب
قابل بول فتاة أحلامه، وشعر بقلبه يخفق نحوها، وحاول أن يتصل بها فما أمكنه ذلك، لأنه كان عشيق أمه وخلها الوفي، وفي الوقت نفسه كانت الفتاة التي قابلها وليدة العصر الحديث وثمرته، ترى في الجنس عدوها اللدود، وترى في الرغبة الجنسية الشر الذي لابد منه. وكثيراً ما صرحت لبول برأيها في العلاقة الجنسية، ومن ذلك قولها له: (إن الزواج لا بأس به، ما خلا هذه العلاقة فلولاها لكان نعيماً ليس بعده نعيم، ولكن ما قدر يكون وليس علينا إلا الإذعان).
وبدل أن يكون الحب مصدر سعادة البنت وينبوع هنائها، صار سبب آلامها وأساس عذابها، فصارت تقضي جل وقتها واجمة مطرقة، تفكر وتمعن في التفكير، وكلما فعلت ذلك تضاعفت آلامها وزادت.
أحب بول ميريام وهام بها لكنه كان يريد أن يحبها حب الرجل للمرأة، ولكنها ما كانت لتستطيع التفكير في العلاقة الجسمية، وحتى القبلات الحارة كانت تؤلمها أيما إيلام. كان بول يفهم ذلك من حبيبته فما حاول أن يؤلمها أو يعذبها، وفضل أن يكبت غريزته على أن يجرح فيها تلك النقطة الحساسة. أما هي فشعرت برغبته الملحة إلى جسمها حتى دون أن يبديها بكلمة. أدركت الفتاة ذلك فأعطته ما يريد، أعطته إياه وهي تشعر بثقل التضحية التي تقدمها له، وهبت له جسمها، لا كما تهب المرأة جسمها للرجل ولكن كما توهب الضحية للآلهة. لم تكن تريد هذه العلاقة الجنسية، ولكنها كانت تريده هو، ولا سبيل إلى الاحتفاظ به إلا إذا أعطته ما يريد. وهذا ما دعاها للخضوع لمشيئته والاستسلام لرغبته. وإن ينس بول فلا ينس ذلك اليوم الذي أسلمت فيه له نفسها. لقد راعه في بادئ الأمر جمالها، فرأى فيها مثال الجسم الناضج الصحيح، فشعر بالدم يتدفق حاراً في عروقه، وأحس بجسمه يحن إلى الاتصال بها، فتقدم منها خطوة واحدة ثم وقف في مكانه لا يستطيع حراكاً. لقد رآها(333/25)
وقد رفعت يديها نحوه في حركة كلها توسل واستعطاف كأنما ترجوه أن يعفو عنها ويتركها دون أن يمسها بأذى أو مكروه. تطلع إلى وجهها فرأى عينيها الواسعتين ترقبانه في استسلام وخضوع وترجوانه أن يعفيها من هذه المهمة العسيرة. كانت كالذبيحة التي رقدت مستسلمة حتى يحين وقت تقديمها قرباناً للآلهة. . . فكان كل ذلك سبباً في برود كل عاطفة كان يشعر بها نحوها. . .).
وفضلاً عن ذلك كانت ميريام ابنة القرن العشرين، تؤمن بتلك النظرية المستحدثة التي تسوي بين الرجل والمرأة، والتي تقول بوجوب مزاولة المرأة لكافة أعمال الرجال، فبدلاً من أن تركز كان تفكيرها في حياتها المنزلية كانت تحن دائماً إلى ممارسة أي عمل من أعمال الرجال، وكثيراً ما كانت تقول: (أريد لو أتيحت لي الفرصة مزاولة عمل من الأعمال كما أتيحت لكثيرات قبلي. وهل كان ذنبي أنني خلقت امرأة، إن هذا أبعد ما يكون عن العدل).
ورغم أنها كانت تكره الجنس الآخر إلا أنها كثيراً ما كانت تتمنى لو خلقت رجلاً، وكان مقياس احترامها لأي شخص هو مقدار ما حصله من التعليم والدراسة.
وفي الوقت نفسه كان يشعر بول في قرارة نفسه أن حبه لأمه لا يترك له فرصة كي يحب امرأة أخرى غيرها، وكان يعرف أنه مهما أحب ومهما أخلص فحبه لأمه أقوى وأثبت. ومع ذلك كان يتمنى لو صادف المرأة التي تستطيع أن تحبه حباً جسيماً، حباً يستطيع أن يكسر تلك الأغلال التي تقيده بأمه وتربطه بها ولكن ما كانت ميريام أبعد ما تكون عن هذه المرأة، وكان هو يعرف عنها ذلك، فكان يحبها ويشفق عليها، ثم يعود يبغضها ويمقتها.
وأخيراً لم ير بداً من أن يطلب منها فصم تلك الصلة التي بينهما، فكانت الضربة القاضية التي هدمت حياتها.
ترك بول ميريام واتصل بكلارا، وعلى العكس من حبه لميريام، كان حبه لكلارا حباً حيوانياً لا غير، ففي أول مقابلاته لها نراه يسترق النظر إلى صدرها من تحت ثيابها منتهزاً فرصة انحنائها لاقتطاف زهرة، ثم نراه وقد انتقل ببصره إلى رقبتها وبقية جسمها، ورغم ذلك فقد باء حبه في هذه المرة بالفشل أيضاً نتيجة حبه لأمه، فعجز عن أن يهبها جسمه كله، فأعطاها جزءاً ومنع عنها الجزء الاكبر، وكانت كلارا امرأة ذات تجارب فلم(333/26)
يفتها ذلك ولم تتردد أن قالت له في يوم من الأيام بعد أن اتصل بها مباشرة: (إني أشعر وكأني لم أتصل بك ألبتة، أشعر كأنك بعيد عني كل البعد).
وفي آخر الرواية ترى الأم مقدار الضرر الذي تلحقه بأبنائها نتيجة استئثارها بحبهم، وترى كذلك أنها مهما خدمتهم ومهما تفانت في هذه الخدمة فلن تستطيع أن تجعله يعدل عن حب امرأة أخرى. فيتحطم قلبها ويذبل جسمها وتسير في طريقها نحو القبر بخطوات واسعة.
ويرمز لورنس بموت الأم إلى مآل المرأة التي تسير في الطريق غير الطبيعي، ذلك الطريق الذي لم تخلق له.
ويرى في ميريام وكلارا نساء القرن العشرين، فكل منهما امرأة لا تصلح لشيء سوى حضور المراقص وإقامة الحفلات واستغلال أصحاب الأموال واستعبادهم. ونرى شخصيتيهما تتكرر في رواياته الأخرى تحت أسماء أخرى.
فنجد أميلي في (الطاووس الأبيض) وهيلدا في (ظل الربيع) وهيلينا في (المعتدي).
ويرى في بول الرجل الذي يفيض قلبه بالعاطفة التي أشعلتها فيه أمه، وهؤلاء يظلون عذارى داخل أقفاص من حديد، يتمنون حب امرأة ليجرف أمامه حبهم لأمهاتهم، وعبثاً ما يتمنون.
وتتكرر هذه الشخصية كثيراً في روايات لورنس المختلفة، فهو شربنزكي في (قوس قزح) وألفريد دبرانت في (بنات القسيس) وجورج في (الطاووس الأبيض) وبرتي ريد في (العميان).
أما مورل الأب فهو مثال لورنس الأعلى ورجله الكامل، خلع عليه كل صفات الرجولة ومميزاتها، ونجد له أشباهاً في الروايات الأخرى، فهو أنابل في (الطاووس الأبيض) وهو ميلورز في (عشيق لادي تشاترلي).
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة اكسترا بإنجلترا(333/27)
الأسمار والأحاديث
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات:
بعد أيام يظهر كتاب (الأسمار والأحاديث)، وهو كتاب صورت به ما يصطرع في الجو الأدبي والاجتماعي من أحلام وأوهام، وحقائق وأباطيل.
وقد كتبت مقدمة ذلك الكتاب وأنا غضبان: فهجمت على أهل العصر بما أعتقد أنهم له أهل، وتوجعت من بعض ما عانيت من الأصدقاء والزملاء.
ومن حقي على مجلة (الرسالة)، وهي صديق، أن تنشر هذه المقدمة على ما فيها من قسوة وعنف، لأنها تصور بلائي بأهل زماني، ولأنها كذلك تؤرخ حياة باحث له بين قراء (الرسالة) أصدقاء لا يؤذيهم أن يفتن بنفسه وبأدبه أشد الفتون.
زكي مبارك
أيها القارئ:
هل تذكر ما يحدِّثك به مِراض القلوب إذ يقولون إني أُثني على نفسي في فواتح مؤلفاتي؟
أنت تذكر ذلك، ولا ريب، لأنهم يُعيدون هذه التهمة في كل وقت بغير حساب.
فهل ترى من حقي أن أدفع هذه التهمة في فاتحة كتابي هذا، لعلهم ينتهون؟!
إن الحاسدين والحاقدين لم يتركوا طريقاً إلا سلكوه لينفِّروك مني، أيها القارئ، ثم عادوا جميعاً خاسئين مدحورين، وتلك عاقبةُ البغي والعدوان.
لقد عابوا عليَّ أن أُفتن أشدَّ الفتون بما وصلتُ إليه من الظفَر بودادك، أيها القارئ، فهل كانوا ينتظرون أن يَغزُوا قلبك بعدْوَى الحِقد والضِّغن فأعيش في دنيايَ بلا صديق؟
إن ودادك، أيها القارئ، هو الذي أرهف قلمي، وصقل بياني، وهو العزاء عما أعاني في دهري وزماني من ظلم وعقوق. وما تذكرتُ حبك، أيها القارئ، إلا غفرتُ ذنوب الدهر وصفحتُ عن مكايد الزمان.
والآن - وقد رُفِع بيني وبينك الحِجاب - أَحِبُّ أن تعرف أني لم أسرق مودتك ولم أنهب ثقتك، وإنما غنِمتُ من مودتك وثقتك ما غنِمتُ بفضل الكفاح الموصول، وبفضل ما أنفقتُ من نور البصر تحت أضواء المصابيح، في زمنٍ تؤخذ فيه بعض المراكز الأدبية بالخداع(333/29)
والتضليل، وبيع الضمائر والقلوب.
إليك، أيها القارئ، أَنفُض أحزاني وأشجاني. ولو شئت لدللتُك على فيالق من المؤلفين في المشرق والمغرب شكَوْا دهرهم كما شكوتُ، وتوجعوا من زمانهم كما توجعتُ، وعانْوا من غدر الأصدقاء والزملاء بعض الذي أعاني.
فأنا لم أبتكر شكوى الزمان، وإن كنتُ أشقى المكْتوين بغدر الزمان.
أنا ما سرقتُ ثقتك، أيها القارئ، حتى ينفق ناسٌ من أعمارهم ما ينفقون لينفِّروك مني، فأنت تعرف أني قضيت أكثر من عشرين سنة في خدمة اللغة العربية خدمةً صحيحةً صادقةً، يعجز عنها الرجال (الأفاضل) الذين يُحسنون حِياكة الأقاويل والأراجيف، والذين تشهد سرائرهم بأنهم لو كلِّفوا نسخ مؤلفاتي ومقالاتي وقصائدي لانقضت أعمارهم قبل أن ينسخوا تلك الألوف المؤلفة من الصفحات العامرة بالأفكار والمعاني.
المخلصون في زمانك قليل، أيها القارئ، وهم مع ذلك لا يخدمونك إلا في ميدان أو ميدانين، أما أنا فقد خدمتك في كثير من الميادين:
نظرتُ فرأيت اللغة العربية تتشوق إلى من يحدد مقاصد النقد الادبي، فألفت كتاب (الموازنة بين الشعراء) وقد طُبِع مرتين. ورأيت لغة العرب تنتظر من يحقق بعض المؤلفات القديمة فنشرت كتاب (زهر الآداب)، وتداركتُ في الطبعة الثانية ما فاتني تحقيقه في الطبعة الأولى، فجاء صورةً من الأدب المخدوم بجدٍ وعناية، ثم نشرتُ (الرسالة العذراء) مصحوبةً بدراسات وتحقيقات، ثم عاونتُ على إخراج كتاب (الكامل) في صورة تسرُّ الناظرين. وتلك جهودٌ بذلناها لوجه الأدب، ولم نر من منافعها المادية غير أطياف!
ورأيت القرن الرابع هو الفَيْصَل بين عهدين من عهود الإنشاء، فألفت كتاب (النثر الفني)، الذي يُعدُّ بحق خير كتاب في بابه منذ العصر العباسي إلى اليوم، والذي أرغم الحاسدين والحاقدين على الاعتراف بأن الرجل الذي كوى قلوبهم وكبُدهم لم يكن في حياته من العابثين.
ورأيت المجتمع المصري في حاجة إلى من يدُّله على هفواته الذوقية والأدبية والخلقية، فألفتُ كتاب (البدائع) الذي أقبل عليه القراء فطُبع مرتين، وألفتُ رسالة (اللغة والدين والتقاليد) التي أجازتها لجنة المباراة الأدبية برياسة مدير الجامعة المصرية.(333/30)
وراعني أن يجهل الناس بعض مصادر التشريع الإسلامي، فنشرتُ رسالةً في تحقيق نسب كتاب (الأمّ)، وهي رسالة عدَّها السنيور ناللينو من الآيات، وسينتفع بها رجال الأزهر الشريف.
وعز عليَّ أن يقال إن شعراء أوربا قد تفرَّدوا بإجادة القول في الوجدانيات فألفتُ كتاب (مدامع العشاق) ليكون شاهداً على سَبْق العبقرية العربية إلى شرح مآسي الأرواح والقلوب، ومن قبله ألفت كتاب (حب ابن أبي ربيعة) الذي صور ملاعب الأفئدة في أيام الحجيج.
وساءني أن يقال إن راسين هو أعظم من شرَّح عاطفة الحب فألفت كتاب (ليلى المريضة في العراق)، لأقيم الدليل على أن في كتاب اللغة العربية من يتفوق أظهر التفوق على راسين.
ونظرتُ فرأيتُ أن الجمهور شغلته الشواغل عن الدراسات الفلسفية، فألفتُ كتاب (الأخلاق عند الغزالي)، وكتاب (التصوف الإسلامي)، وهما كتابان لن يجود بمثلهما الزمان. ولو قلت إن كتاب (التصوف الإسلامي) هو خير ما كان وما سيكون في التعبير عن العبقرية العربية لكنت أصدق الصادقين.
ورأيتُ الأدب العربي يحتاج إلى من يَعْرِض محاسنَه على العقول الأوربية فألفت كتاب:
'
ورسالة:
' ' '
لقد كان لهذين الكتابين صدىً في البيئات الأوربية والأمريكية عند من يهمهم الوقوف على ذخائر اللغة العربية. ورأيت جمهور أهل الأدب يظنون أن إمارة الشعر في السنين الخوالي لم يظفر بها غير أبي تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي، فألفتُ كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، وهو كتابٌ رضي عنه قومٌ وسخط عليه أقوام، ولكنه سيبقى من غرر المؤلفات الأدبية ولو كره الحاسدون والحاقدون.
ورأيت الناس في الشرق يكادون يجهلون أسرار الحياة الأوربية فألفت كتاب (ذكريات باريس) وهو كتاب يشرح ما هنالك من صراع بين الرُّشد والغيِّ والهدى والضلال.(333/31)
ورأيت الأمم العربية في شوق إلى من يحدِّد ما بينها من مختلف الصلات ومَن يعبِّر عما في ضمائرها من آلام وآمال، فألفتُ كتاب (وحي بغداد).
أترك ما شغلت به نفسي من الدراسات الأدبية في العوام الماضية، فالقراء يعرفون من ذلك أكثر مما أعرف، وإن كان يخفى عليهم أن لي مؤلفات جيدة تصدقتُ بها على بعض الأدعياء. وأنتقل إلى الحديث عن كتاب اليوم، وهو كتاب (الأسمار والأحاديث). فأقول:
هذا الكتاب جديدٌ من جميع نواحيه، ولن يحتاج إلى تزكية أحد من الأصدقاء، فهو حركة فكرية متوثِّبة تواجه القارئ في كل صفحة، بل في كل سطر، بل في كل جملة، إن لم أقل في كل حرف، وهو مجالٌ للتأمل والتفكر والتندر والاعتراض والاحتجاج.
في هذا الكتاب صور غريبة لعقول المصريين، وعقول من عرفت من الفرنسيين، وسيشقى به ناس، ويسعد ناس: لأنه سجِّل طوائف من أوهام العصر الحاضر أدق تسجيل.
أنا أعرف أن موتي يوم يحينُ سيكون فرصةً لقوم كدِّرت صفوَهم حياتي. ولكني مع ذلك راضٍ عما صنعتُ حين تصدقتُ فخلِّدتُ أسماءً لا تستحق الخلود من أمثال السادة: فلان وعلان وترتان! وهل في التصدق على الجاحدين من بأس؟ أولئك قومٌ مَنَّ الله عليهم بالوجود، وأمكنهم من النعيم بالأنوار والظلمات، وسمح لهم باستنشاق الهواء: فليس من الكثير أن أدعي أنهم يقرءون ويفكرون!!
في هذا الكتاب تنويه بأشخاص يوُّدون لو عميت عيونهم، وصمت آذانهم: فلا يرون وجهي ولا يسمعون أخباري، ولكنهم سيعرفون أني أكرم منهم وأشرف، لأني سجلت أسماءهم في كتاب سيغلِّف من جلود أحفادهم وأسباطهم بعد حين.
بقيت كلمة عن أسلوب هذا الكتاب:
وأنا أعتقد بلا زَهوْ ولا كبرياء أني وصلتُ باللغة العربية إلى ما كانت تطمح إليه من (البيان).
أنا أعتقد بلا استطالة ولا تزيُّد أني خلقت عذوبة الأسلوب في اللغة العربية، وقد صار البيان عندي طبيعة أصيلة لا يعتريها تكلف ولا افتعال، وما أذكر أني عرفت التسويد والتبيض فيما ألِّفت من الكتب أو نشرت من المقالات بعد زمن التمرين الذي سبق سنة 1916.(333/32)
وما أعرف بالضبط ما هي خصائص أسلوبي: لأني أصدر فيه عن السجية والطبع، ولكني أعرف بالتأكيد أن الذي يقرأ مؤلفاتي ومقالاتي يشعر بأنه يرى الحياة وجهاً لوجه، ويشهد صراع الأحلام والأوهام، والآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل.
تلك صفحات من أعمالي الأدبية، فيها القديم والحديث، فهل تراني تزيدتُ أو أسرفت؟
وأنت مع ذلك تعرف أني وقفت لأعداء العروبة والإسلام بالمرصاد فمزقت أوهام الخوارج على العروبة والإسلام شر ممزق، ودحرتُ من سولتْ لهم أنفسهم أن يتطاولوا على ماضي الأمة العربية، وكنت دليلك في التعرف إلى مآثر العرب في المشرقين والمغربين، وعاديت من أجل الحق رجالاً يضرون وينفعون، ويقدمون ويؤخرون، فكان اعتصامي بحبل الحق هو أقوى ما تدرَّعت به لاتقاء مكايد الناس ومكاره الزمان.
ولم أخدعك، أيها القارئ، فيما تعرضت لشرحه من الحقائق الأدبية والفلسفية: فلم أتهيب مساقط غضبك ولم أتلمس مواقع هواك، وإنما صدقت كل الصدق فرآني فريقٌ من الملحدين، ورآني فريق من المؤمنين، ونسبني قوم إلى المُجان، وعدني قوم من الصوفية، وما كنت من أولئك ولا هؤلاء، وإنما أنا سارٍ يبحث عن عَلَم الهداية في بيداء الوجود، وما بيني وبين الله لا يعرفه عدوٌ ولا صديق، وإنما عِلمُه عند علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وأنا أتقرب إليه بالصدق في درس شرائع الهدى وذرائع الضلال.
أيها القارئ!
أتراني أحسنتُ الدفاع عن نفسي؟
أترى أن الذين يضيِّعون أعمارهم في مناوشتي ومحاربتي لم يستطيعوا حرماني من ودادك؟ كمْ تألمتُ وتوجعت من مكايدة مَن أُعاصر من الرجال، وكنت في أحرج أوقات الضجر والغيظ لا أملك غير التعزِّي بهذه الكلمات:
(لِيَ قُرّاءٌ أوفياء في أكثر الأقطار العربية والإسلامية، وهم عَوْني على مصاولة الدهر، ومكايدة الزمان).
أما بعد فأنت الصديقُ الحق أيها القارئ، ولو شئتُ لقلت إنك أعزُّ عليَّ من سائر أصدقائي وأصفيائي لأنك تفهم عني أكثر مما يفهمون، وقد تفوقهم في رعاية العهد وحفظ الجميل.(333/33)
أيها القارئ!
لم يبق لي بعد الله غير ودادِك وعَطفِك. ودنيا الأدب بدون حبك سرابٌ في سراب.
ولولا الثقةُ بك أيها القارئ لكسْرتُ قلمي ورجعت إلى صحبة الفأس والمحراث في سنتريس، إن كان سهر الليالي من أجلك أبقى لي من القوة ما أستطيع به الرجوع إلى صحبة الفأس والمحراث.
ويرحم الله الشباب الذي بَدَّدته في صحبة الكتاب والدواة والقلم والقرطاس!
زكي مبارك(333/34)
بين المد والجزر
للأستاذ إيليا أبو ماضي
سيّرت في فجر الحياة سفينتي ... واخترت قلبي أن يكون إمامي
فجرَت على الأمواج قصراً من رؤى ... ملء الفضا، ملء المدى المترامي
وأقل منها البحر حين أقلَّها ... دنيا من الأضواء والأنغام
ومشى الخيال على الحياة بسحرهِ ... فإذا الهوى في الماءِ والأنسام
وإذا الرمال أزاهرٌ فواحةٌ ... والشط هيكل شاعرٍ رسام
وإذا العباب مَلاعب ومراقصٌ ... وإذا أنا من صبوة لغرام
أتلقّف اللذات غير محاذرٍ ... وأعب في الزلات والآثام
لا أكتفي وأخاف أني أكتفي ... فكأنما في الاكتفاء حمامي
وكأن هديي أن تطول ضلالتي ... وكأن رِيي أن يدوم أُوامي
مرَّت بي الأعوام تتلو بعضها ... وأنا كأني لست في الأعوام
كالموج ضحكي، كالضياء ترنحي ... كالفجر زهوي، كالخَضم عرامي
حتى إذا هتف المشيب بلمتي ... ودنت يد الماحي إلى أحلامي
صرخ الحجى بي ساخطاً متهكماً: ... هذا الغنى شرٌّ من الإعدام
حتى متى تمشي بغير نظام؟ ... حتى متى تمشي لغير مرام؟
أسلمتني (للقلب) وهو مضللٌ ... فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
يا صاح نجَّ النفس من سجن الرؤى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظام!
وأراد عقلي أن يقود سفينتي ... للشط في بحر الحياة الطامي
فطويتُ أعلام الهوى وهجرتها ... ونسيت حتى أنها أعلامي
وحسبت آلامي انتهت لما انتهى ... فإذا النهاية أعظم الآلام
وإذا الطريق وساوس ومخاوف ... وإذا أنا من هبوةٍ لقتام(333/35)
أبغي الثراء ولم يكن من مطلبي ... وأرى الجمال بناظرٍ متعام
وأشيد مثل الناس مجداً زائفاً ... وأشد حول الروح ثوب رغام
فإذا أنا - والأرض ملكي والسما - ... قد صرت عبد الناس، عبد حطامي
فتضايق القلب السجين وقال لي: ... يا أيها الجاني قتلت هيامي!
القفر بالأحلام روض ضاحكٌ ... فإذا تلاشت فالرياض موامي
أين العيون تذيبني حركاتها ... وتموت في سكناتها آلامي
وأطل من أهدابها السكرى على ... ظلٍ وأنداءٍ وزهرٍ نام
لما عصاني أن أشب ضرامها ... أعيا عليها أن تشب ضرامي
الخمر ملء الجام لكن قد مضى ... شوقي إلى الخمر التي في الجام
أسلمتني للعقل فهو مضللٌ ... فأضرَّني وأضرَّك استسلامي
أنظر ألست تراك في أوهامهِ ... أشقى وأتعس منك في أوهامي
المال؟ من ذا يشتريه كله ... منى بليل صبابة وغرام
يا صاح نجِّ النفس سجن النهى
أنا تائهٌ!
أنا جائعٌ!
أنا ظامي!
لا تسألوني اليوم عن قيثارتي ... قيثارتي خشبٌ بلا أنغام!
إيليا أبو ماضي(333/36)
رسالة الفن
دراسات في الفن
العيد فن الطفولة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
إلى الذين أسعدوني في أعيادي والذين ودوا ذلك، والى الذين سعدوا معي فيها فطاب لهم ذلك كما طاب لي، والى الذين وددت لو أسعدتهم بعد ذلك. . . حقق الله رجائي. . .
إلى أيام البهجة والصدق. إلى أيام الغفلة والحب
إلى رصيف الإسكندرية ورصافتها
إلى كل ما كان. . . تحية اللوعة والوفاء. . . يا ليت ما كان دام لولا أن من عاش رأى. ومن يدري فربما ود من رأى لو أنه لم ير. من يدري؟ لطفك اللهم!
كان العيد عيداً
كنا نتهيأ لفرصته من رمضان أو شعبان فكانت أيامهما أعياداً. وكنا نحلم بأيامه فكانت أحلامنا أعياداً، وكنا نتحدث بأحلامنا فكانت أحاديثنا أعياداً. وكان العيد يجيء وكنا نستغرق فيه، وكان العيد يمر، وكنا نذكره فكانت ذكراه أعياداً. وكانت نشوة العيد تأخذ الروح من العيد إلى العيد حتى لم نكن نحسب أن بين العيد والعيد أياماً ليست أعياداً.
. . . حتى جاء عام فطنت فيه إلى أن بين عيد الفطر وعيد الأضحى شهرين وبعض شهر، وأنهما ليسا أسبوعاً متلاحقاً: الثلاثة الأيام الأول منه عيد صغير، والأربعة الأخر عيد كبير. فكيف فطنت إلى هذا؟ وكيف عرفت أنها حقيقة جديدة لولا أني لم أكن أراها قبل ذلك، وأني كنت لا أميز الأيام من الأيام؟ وهل أنا وحدي الذي كنت هكذا؟ لا يمكن. . . وإنما كان مثلي كل الأطفال فهذا هو طبع الطفولة. . . لا تريد أن تعرف من الحياة إلا المرح والبهجة والفرح والعيد. . . فهل لم تكن تنغص عليَّ الحياةَ آلامٌ؟ كانت آلام ولكن كانت معها دموع تغسلها فتنقي الروح منها ولا تعود تذكرها.
ثم تعلمت الجلد. والجلد صبر على الألم، والألم كدر. . . فتراكمت في النفس أكدار فوق أكدار لعلها اليوم من كثرتها لم تعد تصلح علامة لتمييز الأيام من الأيام. . . ولكنها صلحت(333/37)
في الماضي كثيراً فقليلاً. . . فعرفت بها في البدء أن بين العيد والعيد أياماً لا زينة فيها ولا كعك ولا ضحية، ثم عرفت بعد ذلك أن هناك أياماً للمدرسة، وأن في المدرسة حساباً وعقاباً، ثم عرفت. . . ثم عرفت. . . حتى عرفت أن من الأعياد ما يقضى بين الجدران ووراء القضبان وكنت قد مررت قبل ذلك بسجن في عيد ولم أرض أن أفكر أن فيه ناساً يقضون العيد، ولم أطلب حتى لنفسي الرحمة من محنة كهذه المحنة.
كانت غفلة. ولكنها كانت سعادة. ولكنها كانت غفلة
فأي شيء نرجوك يا رب والسعادة تبدو كأنها من لوازم الغفلة. وأنت تكره الغافلين! نسألك العون على مرارة الفطنة. بل إنا نسألك الهدى إلى حلاوتها.
فكيف نكون إذا اهتدينا؟
فلنر إلى المهتدين
كان محمد يلعب مع سبطيه، وكان المسيح يدعو إلى ملكوت الأطفال، وكان في كل فنان من علامات الطفولة وإماراتها ما يشهد بأن في الطفولة ميزة لو أن الناس يحتفظون بها، ولا يجاهدونها بالستر والكبت والخنق، ولو أنهم يتركونها تنمو في حياتهم وتزدهر كما تنمو أبدانهم وتزدهر، لكبروا وكبرت هذه الميزة معهم واستطاعت أن تطبع حياتهم بذلك الطابع الذي تطبع به حياة الأطفال، وهو طابع السعادة. . . ولن تكون ثمة غفلة مادام العقل ينضج شيئاً فشيئاً، وما دامت هذه الميزة تهديه في نضجه فتحميه من الاتجاه إلى الخطيئة وتأخذه بالتصويب الحق الذي تأخذ به أهل الفن المهتدين. . . وإذا كانت الإنسانية قد غيرت في الماضي أهل الفن هؤلاء بشذوذهم عن أوضاع الناس المألوفة للزومهم هذه الطفولة والتزامهم منهجها فإنها إذا آمنت بها وانتهجتها هي أيضاً ستعرف أن محمداً لم يكن يعبث بوقته الغالي عندما كان يلعب مع سبطيه، وأن المسيح لم يكن يهرف حينما كان يلفت أنظار الناس إلى الأطفال ويؤكد لهم أنهم أقرب إلى الله والحق من الكبار وأشد به صلة، وأن موسى لم يكن مخطئاً حينما استنجده الذي من قومه وكان عدوه يضربه فلكم عدوه فقتله، فليس هذا إلا ما يفعله الطفل أو البدو وهم أطفال الشعوب بين حضارات البشر المكتهلة، وقد نجاه الله بعدها من الغم فلم تعد نفسه تنغص عليه حياته بالحساب والتأنيب والتعنيف. . .(333/38)
فأي ميزة هي هذه التي في الأطفال تسعدهم وتبرئهم وتستنبت الفن فلي نفوسهم فإذا كبروا اجتزوها واستأصلوا الفن معها، وصاروا بعد ذلك هكذا كما نراهم. . .
إنها لاشك الميزة التي تبعث الفن، إنها الصدق في الحس، والصدق في الاستجابة له، والصدق في التعبير عنه. . . وهذا الصدق إذا صين في النفوس كبر الأطفال وهم لا يزالون أطفالاً، وأقبلوا على الحياة كما يقبل عليها الأطفال مطمئنين مبتهجين، ولم يكن لهم شغل في الدنيا إلا اللعب والغناء والطرب والبحث عن السعادة. فتصبح أيامهم عندئذ أعياداً. . . كما كان آدم وحواء في الجنة: لا تكليف ولا حساب، لأن التكليف والحساب لم يجبا ولم يلزما إلا فيما جد على الإنسان من حياة بعد الجنة، وفيما يجد على الفرد من حياة بعد الطفولة. . . تمهيداً لعودة الإنسان إلى الجنة، ورقيباً عليه وصوناً حتى يعود الفرد إلى طفولته الثانية وهي الشيخوخة، وفيها تضعف عند الإنسان قوة الكبت التي يضغط بها الصدق في نفسه فيطفو الصدق من جديد ولكنه يسرى عندئذ في أعصاب منهكة تراكمت فيها الأكاذيب وآثار الأكاذيب، فهو لا يحظى من سعادة الطفولة إلا بمقدار ما خلصت نفسه في حياته من الشر ودواعيه. فإذا كان قد عاش على الصدق والفرح فهو في طفولته الثانية كما كان في طفولته الأولى تملأ نفسه البهجة ولا تفزعها الوساوس، وإذا كان قد عاش على الغش والختل فيا ويله من طفولته الثانية! ويا ما أشد الذي يلقاه فيها من الصراع بين الصدق الذي طالت غمرته والذي يريد أن يفيض، وبين الكذب الذي طال تشبثه بنفسه ثم ضعف فهو لا يقوى على البقاء. . . ومع هذا فإنه يأبى أن يزول في هدوء.
والآن. . . هل صحيح أن الطفولة تمتاز بالصدق؟ وهل صحيح أن الصدق مبعث الفن والفرح معاً؟
أما أن الطفولة تمتاز بالصدق فإنه من غير شك صحيح. لأننا إذا تتبعنا أكاذيب الناس رأيناها تنقسم إلى قسمين: قسم يراد به تحصيل نفع أو دفع ضرر، وقسم آخر يراد به التسلية والترويح عن النفس، والقسم الثاني يدخل من باب الفن لأنه تخيل يستكمل به صاحبه نقصاً يحسه، وهذا لا يؤذي صاحبه ولا غيره إن لم ينفع البشرية ويحضها على استكمال النقص الذي رآه صاحبه. وأما القسم الأول الذي يراد به تحصيل النفع أو دفع الضرر فهو من مستلزمات التكليف والحساب، فلو لم يشعر صاحبه بأنه مطالب بأداء عمل(333/39)
من الأعمال وأنه قاصر عن أدائه لما لجأ إلى الكذب يستر به عجزه، ويموه به على صاحب الحق مدعياً أنه قام بما كلف به، وهو يريد من وراء ذلك أن ينجو من حساب صاحب الحق، وهذا شعور ينافي طبيعة الطفولة التي حررتها الأديان والقوانين الطبيعية والقوانين الموضوعة من التكليف والحساب، لأنها فعلاً لا تطيق التكليف ولا الحساب.
فالطفولة إذن صريحة صادقة بطبعها، والأطفال إذن يتعلمون من الكبار الكذب فيما يتعلمون من ألوان الكفاح والصراع في سبيل الرزق وغير الرزق من مطالب الإنسانية الجوفاء، والكذب الذي يتعلمه الأطفال له ثلاث شعب: هذه الشعبة الأولى التي رأيناها تأخذ تعبيرهم عن أنفسهم وتصبغه بصبغة الغش، والشعبة الثانية تلك التي تمنعهم من الاستجابة إلى إحساسهم الصادق فتقعد بهم عما يحبون، وتلقي بهم إلى حيث يكرهون متبعين في هذا اعتبارات ليست من الحق المطلق في شيء وإنما صنعتها هذه الحياة الملفقة التي اختلقت المذاهب، والمواطن، والعلاقات البشرية المتناقضة المضطربة القائمة على النفع العاجل والزيف. ثم هذه الشعبة الثالثة تقيم بينهم وبين الحق سداً منيعاً وتغلف أنفسهم عنه، فتعمي أبصارهم، ولا يعودون يرون الشيء على حقه، وإنما يرونه حسبما تشتهي أنفسهم الكاذبة، وشتان ما بين الحق وبين الذي يشتهيه الكاذبون.
ولكي يدرك القارئ مدى الحق فيما أقول أدعوه إلى أن يتصور صاحباً له ممن عرف فيهم الميل إلى الكذب وإدمانه، والتعلق بالغش والإسراف فيه، فإذا ما استحضره في ذهنه فإني أطلب منه أن يتابع حياته وأن يرى كم يقع هذا الكذاب الغشاش في أحابيل الكذابين الغشاشين؟
أما أنا فأعرف أمثلة عديدة لهؤلاء المساكين، وأعرف أنهم أسهل فريسة للكذب والغش مع تفوقهم في تدبير الكذب، وتمكنهم من حبك الخديعة. . . فإذا اتفق صاحب القارئ مع أصحابي في هذا جاز لنا أن نعتبرها قاعدة مطردة، وحق علينا أن نستقصي أسبابها. ولن يجهدنا السعي إلى أسبابها كثيراً أو قليلاً لأن ذكرها تقدم في الذي انبسط أمامنا من الحديث عن شعب الكذب. فالأصل في الإنسان أن يستطيع التمييز بين ما هو خير وبين ما هو شر، وإذا جاز للإنسان أن يعجز عن التمييز بين الخير والشر فيما اختلف عن نوعه من المخلوقات والموجودات فإنه لا يمكن أن يلم به هذا العجز في صدد الكائنات البشرية التي(333/40)
هي من نوعه ومن طينته، فهو نفس أو روح، وبقية الناس نفوس أو أرواح، والتعارف بين النفوس والأرواح لا يحتاج إلى تعليم ولا تدريب، وإنما هو شيء يحدث بالسليقة والطبع كما يعرف الزيت الزيت فيسعى إليه ويمتزج به مهما فرق الماء بينهما. ونحن إذا تأملنا الأطفال عندما تجمعهم الظروف لأول مرة بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه خيِّر، أو بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه شرِّير وكان مظهر كل من هذين يشبه إلى حد كبير أو صغير مظهر الآخر. . . رأينا الأطفال يندفعون إلى الذي نعرفه خيِّراً، وينفرون من الذي نعرفه شريراً، وليس هذا إلا لأن الأطفال أطلقوا إحساسهم صادقاً يميزون به وحدة النفوس والأرواح بعضها من بعض، ولا يقيمون بعد ذلك وزناً للاعتبارات الأخرى التي نقيم لها نحن الأوزان، والتي نتأثر بها قليلاً أو كثيراً في إصدار أحكامنا على الناس فنصدرها أحكاماً اختلطت (حيثياتها) فبعضها من القانون الطبيعي الصحيح وأغلبها من قوانين أخرى وضعناها نحن، ووضعها الزمان، ووضعها المكان، وما أكثر هذه عند الكذابين الغشاشين، وما أشد تأثيرها في أحكامهم، وما أشد ما يبتعدون بها عن الحق في هذه الأحكام فيغشون أنفسهم كما يغشون الناس.
هذا من ناحية الإحساس وصدقه
والأصل في الإنسان أيضاً أن يستجيب لإحساسه هذا الصادق متى تمكن من نفسه، فإذا أحب اندفع إلى ما يحب، وإذا كره انقبض عما يكره، ونحن إذا تأملنا الأطفال رأيناهم يستجيبون إلى هذا القانون الطبيعي أكثر مما نستجيب له نحن الكبار، ومهما أخذنا على الأطفال الأنانية في مسلكهم هذا فإننا لا نستطيع أن نتهمهم فيه بالخديعة والغش، ثم إن هذه الأنانية نفسها التي نأخذها على الأطفال تنقحها الحياة الطبيعية شيئاً فشيئاً، وتمحوها شيئاً فشيئاً، فالطفل كلما كبر على سجيته أدرك العلاقات الحقيقية - لا الزائفة - التي تربطه بالمجتمع الذي يحيط به، ورأى نفسه مطالباً أمام نفسه - لا أمام غريب عنه صاحب حق مفروض وتكليف مصنوع وحساب مسلط - بأن يراعي حق هذا المجتمع عليه كي يراعي المجتمع أيضاً حقه عليه. . . وهذا شيء ملحوظ في مجتمعات الأطفال، التي تتألب بسرعة على الطفل الطاغية الذي يميل إلى قهرها وفرض سلطانه عليها زوراً، وهو ما تتحرج عنه مجتمعات الكبار وتحتار وتختبل وتتعثر في القيام به.(333/41)
وهذا من ناحية الاستجابة للإحساس الصادق. ويجيء أخيراً التعبير الصادق عن هذا الإحساس الصادق بهذه الاستجابة الصادقة، وأظن أنه لا أحد من القراء يختلف معي في أن الأطفال يمارسون هذا التعبير على طول الخط، وأنهم لا يتحرجون من مواجهة صاحب العيب بذكر عيبه أمام عينيه وفي مواجهته لا يخشون اللوم، ولا يحسبون حساباً لهذه المجاملات المعقدة التي يحسب الكبار حسابها والتي تحملهم على ابتلاع العيوب. . . ثم ابتلاع المحاسن أيضاً. . . ثم التحكم في تقرير الحكم على الأشياء وفق ما يعرض لهم بناء على هذا الحكم من نفع يكسبونه، أو ضرر يمنعونه. . .
الأطفال إذن هم الذين يحسون بالناس - على الأقل - إحساساً صادقاً، وهم الذين يستجيبون لهذا الإحساس الصادق استجابة صادقة، وهم الذين في آخر الأمر يعبرون عن هذا الإحساس الصادق في هذه الاستجابة الصادقة تعبيراً صادقاً. . . والأطفال بهذا سعداء. وهم بهذا أحب إلى الله من الكبار الكذابين. . . فهل كل الكبار كذابون؟ لا. . . بل أغلبهم. . . ونجا من الكذب الفنانون، أولئك الذين تحرر احساسهم، والذين لا يمنعهم من تلبية هذا الإحساس مانع، والذين يعبرون عنه في صدق وتحرر كالأطفال لا يعنيهم أن يسخط الناس عليهم أو أن يرضوا. . . وهم بهذا أطفال الرجال، وحياتهم على الرغم من الشقاء الذي يظهر لنا فيها حياة سعيدة لأنها حياة طبيعية تجري على سنة الله الأولى وفطرته.
عزيز أحمد فهمي(333/42)
رسالة العلم
لحظات الإلهام
في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
من الألياف إلى الثياب
لأحد الشعراء الإنكليز أبيات يقول فيها إن آدم كان فلاحاً يحرث الأرض وإن حواء كانت عاملة تنسج الغزل. ويتساءل هذا الشاعر أين كان أهل الكياسة والظرف في ذلك العهد؟
وإذا لم تكن حواء هي أو غازلة أو ناسجة فإن إحدى بناتها أو حفيداتها أو بنات الحفيدات كانت أول من فعل ذلك لأن فن النسج كان مما بدأت به الإنسانية في طفولتها، فقبل أن يصنع الرجل من الشماليين في العصور الأولى لنفسه ثوباً من فرو الحيوانات التي يصيدها كانت المرأة الجنوبية قد جدلت من النبات الطويل أو من ورق الأشجار المفتول أو من البوص سلالاً تحمل فيها من حاجاتها أكثر مما تتسع لحمله كفاها، وضفرت كذلك من هذه الأنواع حصيراً تغطي بها الأرض المرطوبة أو الصلبة في كهفها أو كوخها، وصنعت كذلك نوعاً من الثياب تستر به جسمها.
في العهد الذي أصبح فيه جوبال أخو توبال كين راعياً وأباً لكل الرعاة كانت أمه (آده) وزوجته وابنته إخصائيات في ضفر النبات والألياف لصنع الأغطية والحصر التي تصنع منها الخيام، وربما كانوا يفتلون الألياف لتصنع منها جدائل غير متقنة الصنع ويمرون هذه الجدائل بين ثقوب في قوائم الخيمة لربطها.
في هذه الأيام الأولى بدأت المرأة تهتم باللباس لها ولأسرتها كما تهتم بالطعام، وبدأت تزاول، بما كان بين يديها من الآلات الحقيرة، تلك الفنون الجميلة التي صارت فيما بعد من دواعي مجدها، لأنه لاشك في أن الغزل والنسج والصباغة من الفنون النسوية.
كانت المرأة أول من استخرج الألياف من نبات الكتان وصنع منه خيوطاً، وكانت زوجة أحد الرعاة الذين يقضون نهارهم البارد فوق الجبال. كانت تلك الزوجة أول من أخذ جانباً من صوف الغنم. ومنه صنعت ثوباً تدفئ به ابنها الطفل. وخطر ببال امرأة أخرى وهي(333/43)
تغزل خيطاً طويلاً متيناً من ألياف الكتان أن تضع جانباً من هذه الخيوط على عصاً وأن تلف بعضها على بعض حتى يتكون منها خيط متين، فكان اختراعها هذا أول نوع من المغزل. وكان يدار باليد ثم صار يدار كعجلة الغزل. وكانت محبة الجمال هي السبب الذي جعل المرأة تمل من اللون الساذج البسيط للأصواف، فوضعت المرأة المادة التي تصنع منها خيوطها في أثناء العمل في عصارات بعض النبات لتغير من لونها.
كان هؤلاء النسوة اللاتي نتحدث عنهن من نسوة القبائل الرحالة. وفي ابتداء العهد الزراعي وعهد إنشاء المساكن أتيحت الفرصة للمرأة لتوطد هذه الصناعة. ولم تعد أمامها ضرورة تقضي بالاقتناع بالمواد الخشنة التي تجدها في الحقول بل أصبح في وسعها زراعة الكتان والقطن لتكون ثيابها أرق وأخف وزناً مما يصنع من الصوف. وأصبح عمل الراعي أهم لما صارت الحاجة إلى صوف غنمه مثل الحاجة إلى لحومها في السوق.
وفي الكتاب المقدس أقصوصة تدل على أن ميشا ملك مؤاب قد دفع لمولاه ملك إسرائيل الجزية صوفاً لمائة ألف جمل ومائة ألف سخل. وقد كان حذق النساء صناعة المنسوجات الصوفية مما جعل لها قيمة تجارية.
وفي سفر الأمثال من الكتاب المقدس صورة جميلة لامرأة متخيلة في عهد كان قبل سبعمائة عام من التاريخ المسيحي، وكان كل ما منزلها بحاجة إليه من الفنون خاضعاً لسلطانها. وهذا الوصف جاء على لسان ملك ليمويل الذي علمته أمه ما ينبغي أن تكون عليه المرأة التي تصلح زوجة له. وهذا وصفها: (هي التي تبحث عن الصوف والكتان وتعمل بيدها راغبة في ذلك وهي التي تصنع بالمغزل وتمسك بيديها النسيج وتمد يدها بالبر إلى الفقير والى المضطر وهي لا تخاف على منزلها من البرد لأن منزلها مفروش بالبساط القرمزي وهي التي تصنع أغطية من الدانتللا وترتدي ثياباً من الحرير والقماش الأحمر).
الأميرة الصينية وثوبها الحريري
إذا كنت فتاة صينية معهوداً إليها بتربية دود القز لأمك فإنك ستملين سريعاً من جمع ما لا يحصى من ورق التوت لإطعام هذا الدود الجائع. ولكنك إذا شكوت إليها فإنها ستقول لك: (إن كانت الإمبراطورة (هسي لنج شي) العظيمة المقدسة تتعهد بيدها دود القز، وهي فتاة، فلأي سبب لا تفعل ذلك فتاة عادية مثلك؟).(333/44)
عند ذلك تطأطأ الرأس في خجل وتقول: (كلا يا أمي لن أمتنع عن هذا العمل بل سأؤديه في سرور).
ولكن عندما تنتهي الفتاة من عملها هذا فقد تطلب إلى أمها أن تعيد عليها قصة الإمبراطورة ودود القز. وهذه هي القصة التي ترددها الأم:
(منذ أجيال طويلة عندما كان كل سكان العالم همجاً كان الشعب الصيني وحده شعباً حكيماً، وقد حذق عدة أمور. وهذا هو عصرنا الذهبي الذي نزل فيه الإمبراطور الأصفر هوانج تي بين الخالدين وتولى بنفسه الحكم في هذه الأرض.
وكان هوانج حكيماً رحيماً في حكمه، واصطنع من أجل شعبه أموراً كثيرة فوضع للتجار قواعد الموازين والمكاييل والمقاييس لكي يعلم الفقير من الصينيين عندما يشتري الشاي أو الأرز مقدار الذي اشتراه فلا ينخدع عن الثمن. وعلم سكان الشواطئ النهرية كيف ينشئون السفن وبذلك أصبحت الصين متصلة بواسطة السفن التي تجري في الأنهار غادية رائحة.
وفي أثناء عهده الطويل استكشفت المعادن وصنعت الأطباق من الخزف لأول مرة، وأثرى الشعب الصيني كله في عهد هذا الإمبراطور الأصفر سليل الخالدين الذي عاش مائة عام على الأرض وباركها بحكمته.
ولكن مع أن هوانج كان أعظم العواهل فإنه بكل ما أوتي من حكمة وبكل ما بذله من جهد لم يفعل من أجل مستقبل البلاد ورخائها مثل الذي فعلته زوجته الجميلة الصغيرة هسي لنج شي التي استقرت بحديقة منزلها وأخذت تراقب دودة قبيحة الشكل في تلك الحديقة.
كانت حديقتها حافلة بأشجار التوت وهذا هو السبب في كثرة دود القز بها، لأن ذلك الدود يحب أوراق التوت كما تعلمين ذلك يا بنيتي.
وكانت تلك الإمبراطورة الصغيرة لا تزاول أي عمل فأتت لتستظل بأشجار الحديقة من حرارة الشمس.
وفي أحد الأيام وقفت في ظل شجرة وأصغت، لأنه كان يصدر عن تلك الشجرة صوت كأنه صوت تساقط ماء المطر. ذلك على أن الشمس مرتفعة في السماء. أصغت الإمبراطورة وراقبت ثم رأت أن الديدان الصغيرة التي كانت تراها من قبل متسلقة الأغصان والتي كانت تكرهها لأنها تأكل الاوراق، رأت تلك الديدان وقد كفت عن تناول(333/45)
طعامها وأخذت تصنع لنفسها لوزات، وأخبرتها تابعتان أن هذه الديدان تستمر في صنعها اللوزات ثلاث ليال وثلاثة أيام وأنها تسجن نفسها في داخل هذه اللوزات وقاية من الهواء ومن الشمس وتنام شهراً كاملاً ثم تثقب في نهاية هذه المدة طرفاً من اللوزة وتطير، لأنه ينبت لها في مدة سجنها أجنحة وتتحول إلى فراشة جميلة.
وكانت هسي لنج شي لم تر إلى ذلك العهد فراشة تخرج من اللوزة فراقبت الدود ثلاثة أيام كان في أثنائها مكباً على عمله، فلما انتهت هذه المدة امتنعت الأصوات التي كان يحدثها بعمله وعادت الهداة إلى الحديقة وأخذت الإمبراطورة تعد الأيام التي يخرج الفراش في نهايتها من اللوزات.
ولما عاد البدر إلى الاكتمال مرة أخرى خرج من اللوزات مئات من المخلوقات الطائرة الرقيقة الأجنحة، ولكن الإمبراطورة لم تكن مهتمة بهذا الفراش بقدر اهتمامها بالنسيج الذي تنسجه الدودة حول نفسها، وكان على أرض الحديقة عشرات من هذه اللوزات الذهبية المصفرة، فالتقطتها وعكفت على دراستها وسحبت خيطاً رقيقاً هو الذي تصنع منه هذه اللوزات.
قالت في نفسها: (هذا الخيط البديع أرق من الخيوط التي نسجت منها ثيابي فليتنا نستطيع غزل خيوط بهذه الرقة
وأخذت هسي لنج شي تعبث متبلدة بهذه اللوزات مجربة الخيوط وقد لاحظت مبلغ قوتها ومبلغ رقتها، ثم خطر ببالها خاطر فجائي فسألت نفسها: لماذا تتمنى صنع خيط مشابه لهذا؟ ولماذا لا تأخذ نفس هذه الخيوط التي تصنعها الديدان وتنسج منها ثوباً لنفسها؟
ولما جاء الموعد التالي لظهور دودة القز ذهبت الإمبراطورة الصغيرة إلى الحديقة، ولكن عملها في هذه المرة لم يقتصر على المراقبة، بل كانت تأخذ اللوزة وتحاول حل الخيط على عكس النظام التي كانت تلفها به الدودة وذلك قبل أن تثقب الدودة جانباً منها لتخرج منه.
في البداية انقطع الخيط في يدها ولكنها سرعان ما علمت أنها إذا غمست اللوزة في ماء حار فإنها تقتل الدودة ويسهل حل اللوزة.
وكان مقدار الحرير الذي يستخرج من اللوزة قليلاً جداً ولكنها كلفت أتباعها جمع اللوزات(333/46)
حتى أصبح لديها أكداس فوق أكداس منها. ولما وضعتها في الماء الحار جلست لتلف الخيوط على عصا لفةً فوق لفة حتى اجتمع لديها قدر كبير من هذه المادة الناعمة. ثم حملت هذه الخيوط إلى منسجها الذي كانت تنسج عليه التيل والصوف ونسجت قطعة صغيرة من هذا الحرير الذهبي اللامع.
من أجل ذلك نذهب كل عام يا بنيتي إلى المعبد في الوقت الذي تظهر فيه أوراق التوت ونصلي أنا وأنت وجدتك وأبوك وعمك - للإمبراطورة هسي لنج شي فهي إلهة الحرير لأنها بفطنتها وبعملها اليدوي قد استكشفت سر نسج الحرير ولقنت شعبها هذا السر.
وربما سألت الفتاة أمها هذا السؤال: (هل احتفظ كل إنسان بعد ذلك بدودة القز؟)
فيكون جواب الأم: (نعم لما سمعت سيدات القصر أن الإمبراطورة تحتفظ بهذا الدود رغبن جميعاً في محاكاتها، وقد اعتادت الإمبراطورة أن تخرج إلى الحديقة ومعها أدوات ذهبية لتقطع أوراق التوت وطبق من الذهب لتضعها فيه، وسمحت لهؤلاء السيدات بأن يخرجن إلى الحديقة بآلات وأطباق من الفضة لجمع هذه الأوراق، وقد رغب الشعب كله في أداء مثل الذي يؤديه أهل البلاط، فلم يمض عهد طويل حتى حذق الشعب تربية دود القز، ونسج حريره على المناسج ولبس كل الأغنياء ثياباً من الحرير. وكذلك صنعوا منها أحزمتهم وأغطية أثاثاتهم والحفتهم.
وقد تسأل الفتاة الصينية الصغيرة: (ولكن أليس كل إنسان في العالم يحتفظ بدود القز؟)
فتخبرها الأم بقصة الاحتفاظ بسر دودة القز وبسر نسج الحرير الذي تخرجه مدة ثلاثة آلاف عام في الصين.
السر المصون ثلاثة آلاف عام
هل تظن أن في وسع شعب كامل أن يحتفظ بسر ما مدة مائة عام أو مائتين؟
هل تظن أن نساء ورجالاً وأطفالاً يعرفون كلهم ذلك السر وأن الأجانب الراغبين في معرفة السر والآتين من بلاد بعيدة يمشون في الأسواق ويطوفون بالمدن متجسسين على هذا السر ولكن أحداً منهم لا يستطيع أن يكشفه؟
هذا هو الذي فعله الشعب الصيني بسر الحرير ثلاثين قرناً ثلاثة آلاف عام.
كان الصينيون في العهد الأول من إنتاج الحرير شديدي الزهو بالصناعة الجديدة التي(333/47)
ابتكروها فكانوا من أجل ذلك شديدي العناية برعاية هذا السر. وأصدر الحكام قوانين تحرم على أي إنسان إخراج الحرير من بلادهم. ولتجار الأجانب أن يشتروا ما يريدون من الخزف والشاسي والأرز ومن المحاريث ومن المعادن المطروقة ومن كل ما تنتجه الصين من صناعة. ولكن ليس لهم من النسيج اللامع الحريري إلا أن ينظروا إليه بأعين طامعة فإن هذا الحرير لم يكن يباع.
وكانت قوانين التجارة لا تكفي لمنع التجار عن تهريب الأقمشة الحريرية من حدود الصين فخرج الحرير من الصين حتى في العهد الذي كانت فيه القوانين صارمة وزاد مقدار المهربات زيادة مطردة في القرن الأخير بازدياد الاتصال بالشعوب الأخرى.
وكان بين الصين وبين إيران طريق منقطع بين الجبال ويقول بعض الناس إنه أقدم طرق العالم، وقد بدأ ضيقاً بحيث لا يتسع إلا لمرور رجل واحد فمن أجل ذلك كانوا يمشون فيه صفاً، وعلى التدريج كانوا ينظفونه من الصخور والأحجار التي تعوق المسير فيه حتى أصبح أعظم طريق للقوافل في الدنيا القديمة، وهو الطريق ما بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى، وهو الطريق الذي يسلكه أهل البلاد المجاورة للبحر الأبيض المتوسط للحصول على المصنوعات الجميلة من الصين ومن الهند.
ومن هذا الطريق كان التجار يهربون الحرير من الصين إلى الأغنياء في مصر وفي أشور وفي بابل وفي فينيقيا، ومع كثرة ما كان المهربون يهربونه من كميات الحرير التي تؤخذ سراً. أو تشترى علناً فإن تجار الفرس لم يعرفوا سر دودة القز.
وجاء الاسكندر الأكبر، وكادت فتوحاته تشمل العالم كله، وفي أثناء قيادته جيوشه في مناطق الشرق في القرن الرابع قبل المسيح رأى نبات القطن في الهند فنقله إلى اليونان، ورأى الثياب الحريرية يرتديها نبلاء الصين فأتى بشيء منها إلى بلاده وذهب إلى الأماكن التي يصنع فيها الحرير فلم يكتف بنقل كميات من المنسوج بل نقل كذلك أثقالاً من مادته الخام قبل نسجها، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يعرف من أين تأتي هذه المادة الخام.
هذا هو سر الصين الذي كتمته طول عمرها والذي لم يستطع معرفته حتى قاهر العالم الاسكندر.
وكان الرومانيون في بداية العهد المسيحي يختالون بقصورهم في ثياب حريرية اشتروها(333/48)
من تجار الفرس، وقد بلغ بهم الأمر أن حلوا النسيج الصيني واستخرجوا خيوط الحرير وأعادوا نسجها على أنوالهم ولكن هذا العمل كان كبير النفقات إلى أقصى حد. وكانت القوانين في الإمبراطورية الرومانية تحرم لبس الحرير على غير النبلاء وقد رفض الإمبراطور أورليان (712 - 275 قبل المسيح) أن يلبس الحرير أو أن يسمح لزوجته بلبسه لأنه غال جداً، وكان يدعوه باسم (الهواء المنسوج) وذلك بالقياس إلى المواد السميكة الأخرى التي كان الرومانيون يصنعون منها ثيابهم وأخيراً أفشت سر الحرير أميرة صينية مخترقة بذلك حرمة القوانين: كانت مخطوبة لملك هندي حوالي سنة 120 قبل المسيح، وهذا الملك هو خوتان. وكان يعلم أن أميرات الصين اعتدن لبس الثياب الحريرية دون غيرها فبعث إليها بأن الهند وإن كانت قد اشتهرت بقطنها فإنها لا تستطيع أن تزودها بشيء من الحرير فخاطرت مخاطرة جسيمة عند سفرها إلى منزل زوجها فخبأت في زينة شعرها بذور شجر التوت وبيض دود القز وغادرت الحدود دون أن يشتبه في ارتكابها للجريمة التي عقوبتها الإعدام.
ولما وصلت إلى البلاد التي اختارتها وطناً ثانياً بدأت زراعة التوت وتربية دود القز.
ولكن سفراء الصين لدى بلاط زوجها رأوا ما فعلته ولم يكن في وسعهم أن يعاقبوها لأنها أصبحت ملكة على بلاد أخرى وكانوا لا يزالون يريدون الاحتفاظ بالسر، فأخبروا زوجها الملك بأنها تربي الثعابين السامة فأمر الملك بإحراق المكان الذي يربى فيه دود القز معتقداً أنه ثعابين.
لكن السر تسرب إلى الهند في بداية العهد المسيحي؛ ففي سنة 289 بعد المسيح ذهب أربع فتيات صينيات إلى اليابان لتعليم اليابانيين تربية الدود. لكن إلى سنة 500 بعد المسيح كان صنع الحرير لا يزال مجهولاً في القسطنطينية وهي إذ ذاك عاصمة العالم الغربي، وكان الإمبراطور جوستنيان الذي يتولى شؤون الإمبراطورية في القسطنطينية رجلاً ذا مشاريع كبيرة حاذقاً في تغذية التجارة، وكان كالاسكندر الكبير دائم البحث عن شيء جديد مما يصنع في البلاد الأخرى. وعاد اثنان من الرهبان الفارسيين ومن أصحاب العهد النسطوري المسيحي إلى القسطنطينية بعد أن عاشا في الصين سنوات كثيرة. وعلما لطول مدة الإقامة ما لابد أن يعلمه من طالت مدة إقامتهم هناك من سر هاتين الصناعتين: إنماء(333/49)
شجر التوت وتربية الدود.
سمع الإمبراطور قصتهما فاشتد اهتياجه وحملهما على الوعد بأن يحاولا عند عودتهما إلى القسطنطينية في المرة التالية نقل شيء إليه من بيض دود القز. وفي سنة 555 عاد الرهبان وقد خبأه في تجويفي عصوين من الغاب. وقد اشتدت العناية في القسطنطينية بهذا البيض تحت إشراف الراهبين. وصنع الدود لوزاته وأخرج فراشه كما لو كان لم ينقل إلى مسافة تقرب من نصف طول العالم. وهكذا بدأ صنع الحرير بداية حسنة في عهد ذلك الإمبراطور.
وكانت كل هذه الإجراءات تعمل في داخل القصر وتحت إشراف الإمبراطور شخصياً بما في ذلك إقامة أنوال تشتغل عليها النساء في نسج الثياب بين جدران القصر وبملاحظة الإمبراطور.
لكنه لم يكن في الإمكان الاحتفاظ بسر في القرن السادس في الأستانة حتى ولو كان ذلك السر في البلاط الإمبراطوري كما كان ذلك يفعل منذ قرون في الصين. وعلى الرغم من أن جوستنيان قد احتكر صناعة الحرير ولم يكن يسمح لأحد بصنعه فسرعان ما تسربت هذه الصناعة إلى العالم الغربي. ومن البيض الذي كان في تلك العصا نشأت هذه الصناعة وازدهرت في جنوب أوربا وبخاصة بالقرب من البندقية مدة الألف والمائتي العام التالية. وانتهت أخيراً مدة السر المكتوم التي دامت ثلاثة آلاف عام.
(يتبع)
ع. أ(333/50)
من هنا ومن هناك
لماذا اتفقت روسيا وألمانيا
(ملخصة عن مجلة (كرستيان ساينس))
اصبح العالم اليوم يشاهد روسيا وألمانيا تتمشيان يداً في يد على خريطة أوربا السياسية، وقد يكون في ذلك شيء من الغرابة، ولكن الأيام من قبل قد أرتنا مثل ذلك.
فقد عاد ستالين وهتلر إلى تلك السياسة التي ترمي إلى تقوية موسكو وبرلين ضد قوى أوربا الغربية المتحدة.
وليس هذا كل ما في الأمر، فقد رأى هذان الرجلان المختلفان في الرأي والمبدأ أن يخضعا المبادئ والآراء، لضرورة الظروف الواقعة؛ فاختلاف المبادئ لم يكن له أثر يذكر في توثيق العلاقات التجارية بين روسيا الغنية بالخامات وألمانيا الحافلة بالمصانع والآلات. كما أن اختلاف الآراء والمناحي السياسية لم يكن ليحول دون هذا الاتفاق، وقد كانت الصلات السياسية والحربية بين موسكو وبرلين مبنية على قواعد وأسس وطيدة الاركان، حتى ظهر هتلر، وأعلنت مبادئه في ألمانيا؛ فتغيرت الأحوال، وحل الشقاق محل الوئام، وتبادل كل من الدولتين الدعاية المزرية ضد الأخرى، وتعددت الإهانات من الجانبين.
فنحن حين نذكر الاتفاق الروسي الألماني، جديرون بأن نذكر كلمة قالها سياسي فرنسي عظيم في هذا الاتفاق: (لقد عجبنا ولكننا لم نفاجأ).
على أن ألمانيا وروسيا وإن اختلفتا في المبدأ، فإن بينهما أواصر من التشابه تجمعهما في سياق واحد. ونعني هذا التشابه في الوسائل لا في الفكرة ولا في الفلسفة، فكلتا الدولتين تنفذان إلى أغراضهما عن طريق القوة، وكلتاهما تستخدمان أشد أنواع الإرهاب للاحتفاظ بكيانهما، وكلتاهما لا تعبئان باحتجاج الرأي العام أو تقيمان له وزناً، وكلتاهما تخضعان لحكم الأقلية وتسيران وراء نظام حزب واحد، وتهزئان بالنظم البرلمانية والأوضاع الشرعية، وكلتاهما تضطهدان الأديان، وتناديان بنوع جديد من الوطنية. ونحن نرى أن من المبالغة وسوء تقدير الموقف أن نقول إن هذه الأمور من شأنها أن تؤدي إلى تحالف دائم موطد الأركان ولكنها ولاشك تؤلف نوعاً من الوحدة بين الدولتين فلا تلبثان أن تتحدا إذا اصطدمتا عند غرض واحد.(333/51)
وليس معنى هذا أن الدولتين لا تختلفان من الوجهة العملية فنحن لم ننس بعد حملة الألمان على البلشفية، ولا ننس حملة البلشفيك على الالمان، ولا ما بين الدولتين من الاختلافات العديدة.
ولكننا إذا أردنا أن نتبين حقيقة الموقف بين روسيا وألمانيا يجب أن نقدر ثلاثة أشياء: وجوه الاتفاق بين الأمتين، ووجوه الاختلاف بينهما، ثم حكم الأمر الواقع. فهذه أمور يجب أن ينظر إليها بعين الاعتبار.
ولا يخفى أن رجال الجيش الأحمر لا يرضيهم ذلك الاتفاق بين روسيا وألمانيا، ويعدونه من مظاهر الضعف والخذلان، كما أن رجال (ليتفنوف) يؤيدونه ويعدونه من عوامل القوة ومظاهر الانتصار.
ومهما تختلف الآراء وتتباين الأغراض، فإن هناك مواضع عديدة للاتفاق بين الدولتين، فمن الواجب أن ينظر إليها بالحذر والاحتياط.
كيف أنشئ خط ماجينو؟
(عن مجلة (باربيد))
كان قواد الجيش الفرنسي في عام 1914 لا يهتمون كثيراً بفكرة التحصين. فكانت نتيجة ذلك أن الجنود الفرنسية دفعوا ثمن هذا الإهمال.
ولكن هذا الدرس لم يكن ليذهب سدى. فنحن نرى فرنسا اليوم تشيد نظامها الحربي على فكرة الحصون وتعتمد على قوة النيران ويعد خط ماجينو من الأمثلة العجيبة في قوة التحصين والدفاع.
وقد جرى العامة على تسمية هذا الخط (بحائط ماجينو)، وهذه التسمية في الحقيقة بعيدة عن الصواب. إذ أنها تمثله في صورة الأبراج المرتفعة إلى عنان السماء، والحقيقة أن هذا الحصن الفرنسي لا يرتفع عن سطح الغبراء. وقد صدق بعض الجنود في تسميته: (أديم الشرق).
ومما لاشك فيه أن ذلك الأديم العجيب، سيعد من أقوى وأعظم ما صنعته يد البشر في القرن الحديث.(333/52)
حفر خط ماجينو في المدة من سنة 1929 إلى سنة 1936 في مساحة قدرها اثنا عشر مليوناً من الأمتار المربعة، ووضع فيه ما لا يقل عن 50. 000 طن من الصلب، ويحتوي هذا الخط على كهوف وأنفاق تمتد من باريس إلى ليج في خط واحد، وبلغ عدد المشتغلين في بناء هذا الخط 15. 000 نفس، ومقدار ما أنفق عليه سبعة آلاف مليون من الفرنكات. ولم يقف العمل في هذا الخط إلى اليوم.
ومن المؤكد أنه لا يتسنى لقوة أية كانت أن تخترق هذا الحصن المكين، ولما كانت حصون ليج ونامور وانتورب في عام 1914 لم تقو على صد هجمات الخصوم لضعف مادتها، بينما أعيت حصون فردان المدافع الثقيلة، فلم تعد منها بطائل - فقد عرضت مادتها على هيئة من كبار المهندسين الفرنسيين فحصاً جيداً، ومعرفة ناحية المقاومة فيها للائتناس برأيهم قبل اختيار المادة التي يصنع منها خط ماجينو العتيد. وبعد التجارب المضنية التي قام بها خاصة الخبراء والمهندسين، قرروا أن يصنع الخط من مادة قابلة لاحتمال ثلاث قذائف متوالية على مكان واحد.
أما فيما يتعلق بالغازات السامة، فقد أعدت آلات كهربائية داخل الخط، ومن شأنها أن تجعل الضغط الجوي في الداخل أعلى من الضغط الخارجي، فيمتنع تسرب الغازات السامة داخل الخط وقد أعدت المدافع والبنادق لمطاردة الطيارات.
ولا تقف مهمة خط ماجينو على الدفاع، فلا يكفي المحارب أن يكون آمناً، فالدفاع هو الناحية السلبية في الحرب، أما الناحية الإيجابية، فهي الهجوم، وكلاهما ضروريان في الحرب.
ويستطيع الجنود في خط ماجينو وهم آمنون أن يسدوا وجه الأفق بطبقة من النيران تلتهم ما أمامه وما خلفهم.
كيف نصل إلى الله
(عن مجلة (سيكلوجي، ريلجن هلت))
العبادة فن. ولكي نعبد الله عبادة مقبولة يجب أن نعبده عبادة صحيحة، من الواضح أننا لا نستطيع في يوم من الأيام أن نصعد على خشبة المسرح ونتناول القيثارة، ثم نعزف عليها(333/53)
الأغاني والأناشيد دون أن نتعلم كيف نحمل القوس ونستعملها استعمالاً صحيحاً. فهل العبادة أقل خطراً من العزف؟ هل الحياة الروحية أقل أهمية من حياة اللهو؟ لاشك أن عبادة الله تحتاج إلى كثير من الجد والتأمل والمران الطويل.
يشكو الكثيرون الخمود في حياتهم الروحية. ويزعمون أنهم يخفقون كلما حاولوا الاتصال بالرفيق الأعلى. فهل حان لنا الوقت لنسأل أنفسنا عما إذا كنا نسلك الطريق الصواب في محاولاتنا الاتصال بالله؟ إن العبادة ككل شأن في الحياة لها طريقها الخطأ وطريقها الصواب.
ولا يفهم من كلامنا أننا نريد أن نقول إن الإنسان لا يستطيع أن يتصل بالله إلا إذا عرف طريق العبادة فهذا ما لا نرمي إليه، ولكننا نستطيع أن نؤكد هنا شيئاً واحداً وهو أننا لا نستطيع أن نصقل قوانا الروحية ونصل بها إلى غايتها العليا. إلا إذا عرفنا ما يجب عن الله جل شأنه، وما يوجبه علينا من الفروض في هذه الحياة، ونعد أنفسنا لطاعته على الدوام.
إن العبادة أمر طبيعي في الإنسان. فنحن في بداوتنا أو حضارتنا، إذا أصابتنا ملمة نفكر دائماً في تلك القوة التي تقينا شر العوادي، ونصور بألسنتنا أو قلوبنا ذلك الإحساس العميق نحو الخالق الذي بيده كل شيء. فبعضنا يلجأ إلى الرقي والتعاويذ وبعضنا يلجأ إلى الخلوات وبعضنا يتوجه إلى الكنائس وبعضنا يذهب إلى المساجد وبعضنا يجأر إلى القوة الإلهية مستصرخاً من شر ما يلاقيه، ومهما تتعدد الوسائل وتختلف الأسباب، فكلنا نتجه إلى قوة نسألها العون في جميع المطالب.
إن عقائدنا تصور نفوسنا. فمن الواجب أن نعرف الرأي السديد في معرفة الله إذ أن حياتنا وأخلاقنا يسيران خطوة خطوة وراء هذا الرأي.
نحن حين نعبد الله نعبد صفات. فماذا ترى أن تكون صفات الله. إن عبادتنا تتوقف على معرفة ذلك. فإذا عرفنا الله معرفة خاطئة لا يقبل عبادتنا. فلا يصح مثلاً أن نطلب إلى الله أن يقسو على أعدائنا، أو نطلب إليه تحقيق رغبة من الرغبات التي تبعثها الأنانية الشخصية، لأن الله له صفات فوق كل ذلك.
يجب أن ننظر إلى الله عن طريق الحق والجمال وحب الخير، وأن نعتقد بأنه منزه عن كل(333/54)
ما يخالف هذه الصفات.(333/55)
البريد الأدبي
في كلية الآداب
1 - جاءني صديق يدرس علماً من العلوم العقلية في كلية الآداب، جاءني يشكو. وهذا الصديق كان زميلي أيام التحصيل في جامعة باريس.
قال صديقي: أتدري ما يجري عندنا؟ قلت: خيراً! قال: إن أحد المدرسين من الأجانب لا يقنع بما تم له في جانب التدريس بفضل سعي مستشرق كبير، فها هو ذا يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة. وأعجب من هذا أنه يتلمس من الكلية استقدام زميل له شاب من أوربة، فيقول إنه من ذوي البسطة في اللغة العربية ومن أهل النظر في الاستشراق، وإنه لا غنى للكلية عنه في تلقين الطلبة (مناهج البحث في المشرقيات). ومما يورث الأسف أن آذان (قسم اللغة العربية) في الجامعة قد نشطت إلى هذه الأقوال. ولو تدري يا صديقي أن هذا العالم الشاب - واسمه سلومون بينيس - قد عرفناه في باريس قلت: لا أذكره. قال: إنه ذلك اليهودي اللتواني، وفي منطقه عِي. قلت حقاً لا أذكره؛ ألا تخبرني عن كفايته؟ قال: إنه لا يحمل سوى شهادة الدكتوراه من ألمانيا، وأنت تدري أن الدكتوراه الألمانية ليست بشيء يذكر إذ المعول عليه هنالك شهادة (الهابليتاتسيون)، وما الدكتوراه إلا في مرتبة (الليسانس) الفرنسية. قلت: هل ألّف الرجل شيئاً فنُعظم فهمه ونكبر عرفانه؟ قال: إنه صنَّف رسالةً في الفلسفة الإسلامية لم يشقَّ بها أفقاً ولم يكشف عن سر، فهو ممن يجري ويُجرى مَعَه. بالله خبِّرني: أكلُّ من خطر له أن يسقط إلينا يصيب الأذرع إلى العناق مشتاقة؟ ثم ماذا أقول عن هذا، وماذا يقول إخواني وجلُّهم من زملائي الباريسيين أو البرلينيين؟ إنَّ في مصر غير واحد ممن حصل في أوربة فن الاستشراق ومارسه وألَّف فيه وظفر برضا أهله وإعجابهم، وذلك فضلاً عن أن العربية لغتنا فقدُمنا فيها أثبت وبصرنا بها أعلى).
إني أنقل شكوى الزميل، وأملي أن يكون حديثه وهما من الأوهام.
2 - في كلية الآداب (معهد الدراسات الإسلامية) وهو اسم واقع على شيء غير موجود، بل على خزانة كتب (وهي غير وافية فلقد شكا إلى بعضهم أن ليس فيها (كتاب الشعر) لأرسطو، ترجمة أبي بشر متي بن يونس).(333/56)
وقال لي قائل: إن الوزارة السابقة وقفت دون إخراج هذا المعهد من جانب القوة إلى جانب الفعل، وذلك دفعاً لفتنةٍ قد تقوم بين كليتين في هذا البلد. فانظر كيف تُفسد السياسة مسالك العلم.
إن معهداً للدراسات الإسلامية مما لا معدِل عنه لمصر. وقد فصلت ذلك في العدد الخاص لمجلة (المكشوف) البيروتية (10 يولية 1939) فلا أحب أن أعود إلى ما جاء هنالك. غير أني أذكِّر بعضهم أنْ ليس في مصر - وهي مصر - مجلة محض علمية موقوفة على مسائل الإسلام وشؤون العرب، على حين أن في بيروت مجلة (المشرق) وفي دمشق (مجلة المجمع العلمي العربي). وأما أوربة وأمريكة فمجلات الاستشراق تزيد فيها على الثلاثين. وأغرب من هذا أن للفرنجة في مختلف البلدان الإسلامية مجلات رفيعة الشأن، وقد ذكرت بعضها في (المكشوف).
3 - منذ تسعة أشهر أو نحو ذلك أُلِّفت في كلية الآداب لجنة لوضع المصطلحات الفلسفية باللغة العربية. وأعضاء هذه اللجنة طائفة من الأساتذة والمدرسين من مصريين وأجانب. واللجنة على قسمين: قسم للتحرير وآخر للعمل. وهذا القسم الثاني على شعب، وإحدى هذه الشعب إنما همها منصرف إلى تأليف معجم المنطق من طريق استخراج المصطلحات فالتنقيب عن أصلها اليوناني ثم الاهتداء إلى نظائرها في اللغات الإفرنجية الحديثة. ومما نوته هذه الشعبة طبع منطق كتاب الشفا لابن سينا طلباً للوصول إلى مصطلحاته وبذلها للمراجعين. هذا وأعمال سائر الشعب على ذلك النحو.
ولاشك أن مثل ذلك السعي محمود، فمن ورائه تُسد حاجات التعبير الفلسفي بقواعد صحيحة. ولاشك في أن جُل رجال تلك الشعب أهل اطلاع ومعرفة، وإن نُحِّيَ عنهم غيرهم من المشتغلين بمصطلح الفلسفة الإسلامية.
غير أن أعمال تلك اللجنة لا تزال حديثاً يُتناقل في أندية الثقافة العليا، وإن كان حديث صدق. مصداق ذلك أن شعبة معجم المنطق لم تقم في أثناء تلك المدة إلا بتصوير منطق كتاب الشفا وهو مخطوط. وهذا البطء في الإنجاز قد دعا بعض المستشرقين المتصلين باللجنة إلى أن يكتب إليها يستخبرها الخبر على ما انتهى إليَّ.
فعسى أن تمنع اللجنة الناس أن يقولوا إن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أوفر نشاطاً من(333/57)
لجنة وضع المصطلحات الفلسفية في كلية الآداب.
بشر فارس
أعجب العجب
صديقنا الدكتور بشر فارس لا يسره كثيراً أن يعترف بالحق: فهو ينقل الجدل من ميدان إلى ميدان ليُنسيَ القراء موضوع الخلاف.
هو يقول بوجوب إلقاء الشعر كما يُلقى النثر، وأنا أقول إن الوزن من العناصر الأساسية في الشعر، ومن الواجب مراعاة ذلك عند الإلقاء.
هذا هو أصل الخلاف، فكيف استباح أن يعيد على سمعي مسألة بديهية تقرر أن الشاعر خير من الوازن؟ وهل يظن أن (زميله الباريسي) ممن تخفى عليهم البديهيات؟
ويقول: (إن الطرب لا يأخذ النفس اللطيفة من طريق الحس الظاهر) وهو في هذا الحكم من المخطئين: فالحواس هي أدوات النفس، ولكل صورة وجدانية أصل من الصور الحسية، وهذا بحثٌ مسهَب أودعته كتاب (التصوف الإسلامي) فلا أعود إليه: لأني أبغض الحديث المعاد، ولأني لا أحب أن أعود إلى درس هذا البحث من جديد، ولأن لمجلة (الرسالة) شواغل أهم من درس الموضوعات التي دُرست من قبل.
وأراد الدكتور فارس أن يداعب (زميله الباريسي) فسأله عن صحة (ليلى المريضة في العراق).
وأقول إن (ليلى) فوق التهكم والسخرية يا دكتور فارس فاتق الله في رأسك فقد يطيح في لحظة غضب إذا توهمت أنه يجوز المزاح مع الحب.
وتقل إني أردت أن أذيع فيكم أني مفتون بالجمال
فماذا تريدون! أتريدون أن أُفتن بالقبح كما تُفتنون؟
إن القاهرة لم تخلق فيكم شاعراً يصف أيامها الغُرِّ ولياليها البيض، وليس فيكم من تحدث عن شارع فؤاد كما تحدث طبيب ليلى المريضة في العراق، وهل ألهمتك باريس ما ألهمتْ صاحب كتاب (ذكريات باريس)؟
أحبك يا ليلى، وأحب من أجلك جميع اللائمين والعاذلين. ذكَّرتني يا بِشر بليلاي، فمتى(333/58)
أرى ليلاي؟ ومتى يهديك الله، أيها العذول؟!
زكي مبارك
1 - الروحانية، والفكرية
2 - اللفظة الإغريقية
1 - مما يُروى حاشية لمقالة المِعَن المِفَن الدكتور زكي مبارك الأديب المشهور في نعيم الجنة التي وُعد بها في الغد لا اليوم المتقون - خبر فرقة اسمها (الروحانية، الفكرية) تعجلت في الدنيا لذات وطيبات في الأخرى ولم تتمهل و (من طلب الشيء قبل أوانه مُنِي بحرمانه) وقد ذكر تلك الفرقة المستعجلة. . (أبو الحسين محمد بن أحمد الملَطي المتوفى سنة 377) في منصفه (كتاب التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) وهو من الكنوز العربية التي أظهرها العربانيون - لا العربيون - منذ ثلاث سنين. وفيه من أخبار النحل ما فات كتبها المشهورة مثل مقالات الإسلاميين، والفِصَل، والملل والنحل، والفَرْق بين الفرَق.
قال الملطي: (ومنهم الروحانية وهم أصناف، وإنما سموا (الروحانية) لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات وبها يعاينون الجنان، ويجامعون الحور العين، وتسرح في الجنة، وسموا أيضاً (الفكرية) لأنهم يتفكرون - زعموا - في هذا حتى يصيروا اليه، فجعلوا الفكر بهذا غاية عبادتهم ومنتهى إرادتهم، ينظرون بأرواحهم في تلك الفكرة إلى هذه الغاية، فيتلذذون بمخاطبة الإلهية لهم، ومصافحته إياهم، ونظرهم إليه - زعموا - ويتمتعون بالحور العين ومفاكهة الأبكار على الأرائك متكئين ويسعى عليهم الولدان المخلدون بأصناف الطعام وألوان الشراب، وطرائف الثمار. . . ولو كانت الفكرة في ذنوبهم الندم عليها والتوبة منها والاستغفار لكان مستقيما. وأما هذه الفكرة فبوبها لهم الشيطان لأنه لا يتلذذ بلذات الجنة إلا من صار إليها يوم القيامة، وهكذا وعد الله عباده المؤمنين والمؤمنات).
وذكر ذلك الكتاب صنفاً آخر (من الروحانية) أغرب من الصنف الأول وأنكر. . . قال: (ومنهم صنف من الروحانية - زعموا - أن حب الله يغلب على قلوبهم وأهوائهم وإرادتهم(333/59)
حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم. فإذا كان كذلك عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة ووقعت عليهم الخلَّة من الله؛ فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه الخلة بينهم وبين الله لا على وجه الحلال ولكن على وجه الخلة كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير إذنه، منهم رباح وكليب كانا يقولان بهذه المقالة، ويدعوان إليها. . . كذب أعداء الله وكيف يكون ذلك؟!).
إنه البشر حائر كيف يدين، حائر كيف يكون - لازال في حيرته! - وفي هذا الوقت في هذه (الكرة الأرضية) في هذه الاريضة الضيقة الضئيلة الحقيرة التي هي من ذنبات الشمس - أكثر من أربعة آلاف نحلة كما يقول جيو في كتابه ? ' (وكل يعظم دينه) ويقول: إن الحق عندي، والحق يسخر منهم.
ألاَ (إن الدين عند الله الإسلامَ) الصحيح.
2 - مقالة الباحث المفضال (الأستاذ محمد عبد الله العمودي) في الجزء (327) من (الرسالة الهادية) - مكتز بالفوايد، كشاف عن حقائق وسؤال منشيه حاذقي الإغريقية واللاطينية عما لا يدريه ولا ندريه من براهين فضله.
وقد تعديت في (كلمتي) السابقة البحث عن تلك اللفظة الإغريقية، وتركت مجادلة النابز في نبزه - إن كان يعني ما يعني - لأني إنما قصدت أن أبث ما بثثته، وأشكو - وقد ضيم العرب في كل إقليم - إلى سيدي (رسول الله) ما شكوته.
وأقول في هذا المقام في حكاية ذلك النبز: إن العربية الحرة ما أَمَت أو تأمت في حين. وإن لم تكن - يا أخا العرب - عِزوةٌ من العِزَواتُ التي خطها مؤرخون ولم يُحقها باحثون؛ فإن عربية محمدية إليها ننتمي لتتضاءل بل تضمحل قدامها في الكون كل نسبة.
(ن)
جوائز نوبل لسنة 1939
منحت جائزة نوبل الأدبية لسنة 1939 إلى الكاتب والأديب الفنلندي فرانز إميل سيلانبا.
ونالها في الطبيعة البروفسور أرنست أورلاندو لورانس الأستاذ بجامعة كاليفورنيا، مكافأة له على اكتشاف السيكلوترون وتحسينه والنتائج التي أمكن الحصول عليها بواسطته،(333/60)
وخاصة فيما يتعلق بالعناصر الصناعية في محطات الإرسال الأثيرية.
أما جائزة نوبل للكيمياء في سنة 1939 فقد نالها الأستاذان بوتناندت الأستاذ بجامعة برلين، وروزيسكاتوف الأستاذ بجامعة زوريخ.
وقد كانت جائزة الكيمياء لسنة 1938 مؤجلة، فمنحها في هذا العام البروفسور كوهن الأستاذ بجامعة هيدليرج.
وقف دور انعقاد مجمع فؤاد الأول للغة العربية
أصدر حضرة صاحب المعالي وزير المعارف القرار الوزاري الآتي:
بعد الاطلاع على محضر الاجتماع الذي عقد في يوم 2 نوفمبر سنة 1939 من بعض أعضاء (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) بشأن دور الانعقاد في هذا العام.
وبعد نظر المادة التاسعة من المرسوم الملكي الصادر في 14 شعبان سنة 1351 (13 ديسمبر سنة 1932) بإنشاء (مجمع ملكي للغة العربية).
من حيث أنه يتبين من مجموع الكتب الواردة في هذا الصدد من الأعضاء الأجانب أنه لا ينبغي الاطمئنان إلى توافر العدد الذي يكفل عقد جلسات المجمع في هذا العام.
ومن حيث أن التوجه بالدعوة مع ذلك إلى هؤلاء الأعضاء على وجه خاص، من شأنه أن يجشمهم مشقة السفر والتخلي عن الأعمال التي يعالجونها في بلادهم لو قدر لهم القرار فيها في هذه الفترة. هذا على حين لا يكفل عقد جلسات المجمع، لقلة العدد أو على الأقل انتظامها على فرض اكتمال الحد الأدنى الذي أوجبه المرسوم لصحة الانعقاد
المادة الأولى: وقف دور الانعقاد (لمجمع فؤاد الأول للغة العربية) هذا العام (1939 - 1940).
لمادة الثانية: على رئيس (مجمع فؤاد الأول للغة العربية) تنفيذ هذا القرار.
الأمير شكيب أرسلان في برلين
قالت جريدة (النهار) البيروتية:
اعتاد المذيع العربي في راديو الشرق أن يرد على أكاذيب المذيع العربي في راديو برلين على أثر تلاوة نشرة الأخبار المسائية. وقد تولى مساء الأربعاء تفنيد مزاعم راديو برلين(333/61)
التي طلعت بها على العالم العربي لمناسبة وصول الأمير شكيب أرسلان إلى العاصمة الألمانية والحفاوة التي قوبل بها.
وقد علقت الصحف السويسرية على زيارة الامير، فقالت إن رئيس الدعاية النازية اقترح منح الأمير شكيب لقب مواطن شرف الريخ، ولكن هتلر رفض العمل بهذا الاقتراح بحجة أن الزائر من الجنس السامي ولا يجوز أن يمنح لقباً يجعله في مستوى أبناء الريخ.
وإزاء إلحاح رئيس الدعاية رضي هتلر بمنح الأمير لقب مواطن شرف على أن يرأس الحفلة رجل غير آري فوقع الاختيار على البارون اليهودي اربنهايم الذي كان يرأس دوائر الاستخبارات في البلاد العربية في الحرب العظمى.
حول صوت من ألف عام
حمدنا الأستاذ الاعظمي قيامه ببعث ديوان الأمير تميم وإمتاع الناس به وإتحاف قراء الرسالة ببعض شعره، ولكن هل كان أفضل شعره ما عرض فيه للعباس وعبد الله بن عباس في قصيدة الرد على ابن المعتز؛ وهل ثم ضرورة داعية إلى هذا وشعر ابن المعتز في هذا الوجه لا يكاد ينتبه إليه أحد لإعراض الناس عن هذه المفاضلات السياسية التي كانت لها مناسبات درست؟ ولقد كان العباس وعبد الله بن العباس وعلي والحسين أسرة واحدة وبينهم من الحرب والتناصر ما التاريخ ممتلئ به، فما بالنا اليوم نثير فتناً حمدنا الله على موتها؟ والعجب أن الأستاذ الاعظمي قائم على جماعة الأخوة الإسلامية والدعوة لها، فهل تقوم الأخوة على تذكير الناس بهذا الجانب الطائفي من الماضي السحيق؟
محمد علي النجار
مدرس بكلية اللغة العربية(333/62)
رسالة النقد
في سبيل العربية
تصحيح نهاية الأرب
جزؤه الثاني عشر
بقلم الأستاذ عبد القادر المغربي
الأغلاط التي عثرنا عليها في هذا الجزء قليلة جداً، وقد يكون معظمها مما يسمونه خطأً مطبعياً، ومع هذا فسنذكر هنا هذه الأغلاط لتكون كاللحام يصل بين طرفي سلسلة التصحيحات التي خدمنا بها هذا الكتاب النفيس منذ أول صدوره ونشرناه على التوالي في أجزاء مجلة مجمعنا العلمي الدمشقي. وإذ قد توقفت مجلة هذا المجمع عن الصدور رأينا أن ننشر تصحيح الجزء الثاني عشر وما يليه في مجلة (الرسالة) وذلك لسعة انتشارها، ولأن معظم قراء مجلة المجمع الدمشقي من قرائها وهاهي ذي تصحيحات الجزء الثاني عشر.
ص 63 س 8 قوله: (ويؤخذ من السُكُّ الأصفر الطوامير مثقال) السُكُّ طيب ذكره المؤلف ووصف أنواعه. و (الطوامير) جمع طومار وهو الصحيفة. وفي اصطلاح كتاب الدواوين قديماً صحائف ذات شكل خاص تطوى طياً خاصاً. قال كعب بن زهير في وصف ناقته من شعر (طُمِّرت تطميراً) أي كأنها طويت طيِّ الطوامير. فكلمة الطوامير إذن لا تصلح أن تكون صفةً أو بدلاً من كلمة (السُك) فلعل صوابها (الطواميري) بياء النسبة. ويكون معنى نسبة السك إلى الطوامير أن ذلك السك مما يحفظ في الطوامير لا في أوعيةٍ أو ظروف أخرى، أو المعنى أن لون السُك الأصفر فاتح أو قاتم كلون الطوامير.
وقد تتبعنا ما قاله المؤلف في طريقة اتخاذ السُك فلم نجد ما يساعدنا على معرفة المراد من وصفه بالطواميري.
ص 90 س 5 قوله: (طبيخ ألبان بالأفاويه مع الماء أقوى له) الصواب أن يكون (طبخ) بصيغة المصدر إذ أن سياق الكلام والإخبار بقوله: (أقوى) يقتضيان هذا.
ص 121 س 2 قوله: (ثم دُقه بشيءٍ من ماء التمر) الضمير في (دقَّه) يرجع إلى الآس الذي دُقَّ دقاً جريشاً ثم عُجن بماء التمر إلى أن قال: (ثم دقه الخ). ولا يخفى أن قوله:(333/63)
(دقّه) بالقاف المشددة محرف أو مصحف وصوابه (دُفهُ) بالفاء الساكنة أمر من فعل داف يدوف. قال في (الأساس): (داف المسك بالعنبر خلطه به. وداف الزعفران أو الدواء خلطه بالماء ليبتل) ولا ريب في أن ماء التمر لا يتصور أن يدق به شيء من الأشياء وإنما يداف به ويخلط. وفعل (الدوف) استعمله المؤلف في غير ما موضع. ففي ص 132 س 5 (ويُدافان بالطلاء الريحاني) وفي ص 135 س 10 (الزعفران والمسك المدافين بدهن البلسان).
ص 128 س 10 قوله: (وصعده على هبال الماء) ضمير (صعده) يرجع إلى المسك المدوف بماء الورد (التصعيد) كما في القاموس وشرحه الإذابة ومنه قيل خلَّ مصعَّد. ويقال شراب مصعَّد إذا عولج بالنار حتى يحوَّل عما هو عليه طعماً ولوناً اهـ. وهبال الماء بخاره الساخن الصاعد عنه وهو على النار. وهي كلمة عامية كانت شائعة على ما يظهر في عهد المؤلف كما لا تزال شائعة في بلادنا الشامية غير أنا نلفظها نحن الشوام (هبلة) لا (هبال) على أن (هبال) قد تكون جمعاً لهبلة فإن (فعلة) تجمع على (فعال) قياساً نحو قصعة وقصاع. واليسوعيون في معجمهم العربي الفرنسي فسروا الهبلة ? وضعوا أمامها العلامة التي تدل على أن الكلمة ليست فصيحة وإنما هي مستعملة في اللغة العامية. وأذكر أن بعض العارفين باللغات السامية عدَّ كلمة (الهبلة) في جملة الكلمات الباقية في العامية الشامية من اللغة السريانية. ولا يخفى أن مؤلف (نهاية الأرب) يتسامح في استعمال الكلمات الدخيلة الجارية في لهجة عوام زمانه: فهو يقول (شوابير) ويريد بها القطع أو الفتائل المجعولة على طول الشبر. ويقول (الريم) ويريد به الزبد أو الرغوة التي تعلو المائعات وهي تغلي على النار فتلتقط وترمى. والكلمتان عاميتان شائعتان في مصر والشام إلى زماننا هذا. فلا حاجة إذن إلى جعل (الهبال) الواردة في كلام المؤلف محرفة عن كلمة (الهباء) بالهمزة وهو ما ارتفع من الغبار وأن المراد بالهباء حينئذ البخار الساخن مجازاً.
ص 144 س 2 قوله (ويغلى بزيت مغسول) لعل الأفصح في استعمال هذا الفعل هنا أن يقال (يُقلى) بالقاف لا (يُغلى) بالغين: فإن ما يطبخ بالزيوت والادهان من دون إضافة ماء يستعمل فيه فعل قلاه يقلوه وآلته (المقلاة). وإذا طبخ الطعام بالماء مع زيت أو دهن أو من دونهما ثم بقبق قيل إن الطعام يغلي غلياناً، وإن الطاهي أغلاه وطبخه لا قلاه وحمصه.(333/64)
على أن الغليان في عبارة المؤلف قد يكون له معنى ولكننا نستبعد أن يكون مراداً للمؤلف فهو في الراجح من تصحيف النساخ.
ص 160 س 10 ذكر المؤلف عقاقير سُحقت ونُخلت وعُجنت بعسل، ثم قال: (وتُبسط على جامٍ وتقطع وتستعمل) ثم قال في ص 161 س 6 (ويبسط على جام الخ) واستعمال الجام في الموضعين صحيح فصيح فلا حاجة إلى تصحيح الجام بكلمة (الرخام) وإن كان بسط الأدوية والطيوب على رخام كثير الوقوع، غير أن بسطها على الجام أقرب تصوراً وتعقلاً. وبيانه أن للجام معاني ثلاثة تختلف باختلاف اللغات الثلاث العربية والتركية والفارسية فالجام في العربية معناه الإناء من فضة، وقال علماء اللغة إنه بهذا المعنى عربي فصيح. والجام في التركية لزجاج كزجاج الشبابيك والمرايا. والجام في الفارسية القدح الذي يشرب به الشراب في الأكثر وغير الشراب في الأقل.
ولا يمكن أن يكون المراد من (الجام) في عبارة المؤلف هذا المعنى الفارسي أي القدح؛ وإنما الممكن أن يكون المراد الإناء من فضة (بالمعنى العربي) أو لوح الزجاج (بالمعنى التركي)، فإن بسط العقاقير ومعالجة تركيبها عليه أكثر الشيوع وشد ما رأيناه في الصيدليات. ولا سيما إذا لاحظنا أن طائفة من علماء اللغة قالوا إن (الجام) هو (الفاثور) وفسروا الفاثور بالطست يكون من رخام أو فضة. وخص الأزهري فقال: إن أهل الشام يتخذونه من رخام. فإذا كان الجام قد يتخذ من رخام فلا حاجة إذن إلى تصحيحه بالرخام. والفاثور أيضاً قد يكون بمعنى قرص الشمس وقد سموا قرصها بالفاثور على التشبيه. وهذا يدل على أن الفاثور الذي يسمى الجام لا يكون له حروف قائمة حواليه حتى قال في (الروض الأنف): (الفاثور سبيكة الفضة) والسبيكة لا حروف لها كما لا يخفى. ويؤيد هذا ما جاء في كتاب (الألفاظ الفارسية المعربة) من أن (فاثور) معرب (بتر) وهو كل ما صفح من ذهب وفضة ونحاس. ثم نقلوه إلى الآنية المعدنية التي لها شكل الصفائح كالخوان والطست وقرص الشمس، ثم شبهوا به صدر الحسان وخاصة صدر بثينة الذي قال فيه جميل:
سبتني بعيني جؤذر وسط ربرب ... وصدر كفاثور اللجين وجيد
وبالجملة فإن استعمال المؤلف لكلمة (جام) بمعنى الإناء أو الزجاج صحيح ولا حاجة إلى(333/65)
تصحيحه بالرخام وإن كان استعمال الرخام في هذا المقام ممكناً.
ص 169 س 6 قوله: (ويؤخذ ماء الصِلق المعتصر) الفصيح في (السلق) وهو الخضرة المعروفة أن يكون بالسين كما ورد في معاجم اللغة. لكن لما كان المؤلف يتسامح في استعمال الكلمات العامية كما قلنا وكان (الصلق) بالصاد مما ينطق به عامة زمانه كما ينطق به عامة زماننا - لما كان ذلك كذلك حَسُنَ الإبقاء على (الصلق) الواردة في عبارة المؤلف بالصاد ولا حاجة إلى تصحيحها بالسين، وهذا كما أبقينا على كلمة (ملو) بالواو وهي عامية مكان (ملء) بالهمزة في عبارة المؤلف (ص 140 س 5) وهي قوله: (ويكون العصير أقل من ملو القارورة) وقد أحسن المصحح الفاضل صنعاً في قوله: (أبقينا (ملو) على حاله حرصاً على استعمال المؤلف) وكذلك نبقي كلمة (الصلق) بالصاد على حالها حرصاً على استعماله: فإن في هذا الإبقاء على الكلمات العامية الواردة في عبارات علمائنا وكُتابنا الأقدمين - غرضاً له قيمته في معرفة تطور الألفاظ وتاريخ اللهجات كما لا يخفى.
ص 162 إلى 177 وصف المؤلف خلال هذه الصفحات أدوية مركبة من عقاقير لتنمية (القوة الجنسية) وقد ذكر في عنوان ثلاث (وصفات) منها أنها (تسخِّن الكلَى) بالخاء وفي ثلاث وصفات أخرى أنها (تسمِّن الكلى) بالميم، فإذا كانت كلتا الكلمتين صحيحتين غير محرفتين كان ذلك من أسرار الطب القديم، وإلا فإن طبيباً من فضلاء أطبائنا قال: (بعد أن اطلع على نصوص الكتاب) إن إحدى الكلمتين (تسخن وتسمن) محرفة عن الأخرى وأن الصواب في ظني هي (تسخن) بالخاء دون (تسمن) بالميم، واستدل على ذلك بأن المؤلف وصف هذه العقاقير بأنها (كثيرة الحرارة)، ولا ريب أن كثرة حرارتها تحدث حرارة في البدن عامة وفي الكُلية خاصة، قال: وهذا ما وقع لي مذ كنت في السودان فقد دعاني شيوخها إلى وليمة أكثروا في طعامها من الفلفل الحار فأدى ذلك إلى حصول التهاب ونزيف دموي في كليتي. فلا جرم أن يكون المؤلف في وصفاته إنما أراد أن العقاقير تسخّن وتحدث حرارة لا تسمّن الكلية وتضخمها. وفوق كل ذي علم عليم.
المغربي(333/66)
العدد 334 - بتاريخ: 27 - 11 - 1939(/)
خطاب العرش من الوجهة الأدبية
للدكتور زكي مبارك
أخي الأستاذ الزيات
أحب أن يتسع صدر (الرسالة) لموضوع لم يكتب فيه الباحثون من قبلُ: وهو نقد خطاب العرش من الوجهة الأدبية
وأسارع فأذكِّر القرّاء بأن هذا الموضوع لا يحتاج إلى تحفظ وإحتراس، لأن خطاب العرش ليس من إنشاء جلالة الملك، وإن كان يُلقى باسمه الكريم، وإنما هو إنشاء رئيس الوزراء، وهو الذي يحاسَب عليه أمام الشيوخ والنواب، بآية ما نشهد من تأليف اللجان البرلمانية للرد عليه، في حدود قد تصل أحياناً إلى الصرامة والعنف، وقد تعرِّض الوزارة إلى تعديل بعض النصوص أو تستقيل
ولعل هذا هو السرّ في أن جلالة الملك لا ُيلقى خطاب العرش بنفسه كما يصنع حين يتفضل بتوجيه الرأي والتحية إلى شعبه في فواتح الأعوام وفي المواسم والأعياد
وخطاب العرش في التاريخ الحديث يشبه العهود التي كانت تُكتب بأسماء الخلفاء في التاريخ القديم، ونحن نعرف أن كُتّاب (العهود) كانوا يُسألون عما يقع فيها من خطأ أو إسراف، لأنه كان مفهوماً أن الخلفاء لا يكتبون بأنفسهم تلك العهود، ولذلك تفاصيل يضيق عنها هذا المقال، وهي معروفة لجميع المطلّعين على تاريخ الحضارة الإسلامية
إن خطاب العرش من إنشاء رئيس الوزراء، ولكنه يُلقَى باسم جلالة الملك: فمن الواجب أن يكون صورة رائعة من الوثائق الأدبية التي تمثل عظمة مصر لهذا العهد، فهل كان كذلك؟
إن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا من رجال مصر المعدودين، وهو في أنفُس خصومه أهلٌ للتبجيل، فمن حقنا عليه ونحن نؤمن بكفايته الذاتية أن نطمع في أن يمنح خطاب العرش عناية خاصة من الوجهة الأدبية ليكون في نَسَق مع مطامحهِ العالية في خدمة البلاد، وليكون في طراز مع الخطب الجيدة التي كان يلقيها يوم كان وزيراً للمعارف في سنة 1925
وقد يمكن الاعتذار عن خطاب العرش بأنهُ خلاصة لآراء تصل إلى الرياسة عن مختلف(334/1)
الوزارات، ولكن تنوُّع المصادر التي تؤلف خطاب العرش لا يُعفي الرئيس من إنشائه بطريقة مُحكَمة تضعه في الصف الأول بين الوثائق الأدبية التي يعتز بها العهد الجديد: عهد فاروق بن فؤاد
ولكن ما هي المآخذ التي توجَّه إلى خطاب العرش من الوجهة الأدبية؟
نلاحظ أولاً أن فيه عبارات لا تقال في وثيقة رسمية كالعبارة الآتية:
(قد آن لنا أن نعمل وأن نلبي داعي الوطنية والإيمان، داعي الرجولة والتضحية والكفاح)
لأن الحكومة الجديدة ليست أول من يعمل حتى يشهد لها بذلك، وإنما عملُها حلقةٌ من سلسلة كونتها الحكومات المصرية من قبل، وقد شهد رفعة الرئيس بأن فيمن سبقوه رجالاً كانت لهم وطنية وتضحية وإيمان
وكذلك نقرأ في خطاب العرش:
(وقد فطن جدي الأعلى محمد علي الكبير إلى الصلة المتينة التي تربط الجيش الوطني القومي بفروع الإصلاحات والإدارة العامة: فما كاد الجيش المصري يظهر في الوجود حتى ظهرت في البلاد إدارة منظمة ومصانع ومعامل ومدارس لا عداد لها)
وليس هناك شكّ في أن المغفور له محمد علي الكبير نهض بمصر نهضة عظيمة، ولكن لا يقال إن عهد محمد علي كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود، فإن معنى ذلك أن مصر لم تكن أمة قبل أن تعرف محمد علي الكبير. والرأي الصحيح أن مصر كانت أمة لها وجود أدبي واجتماعي وسياسي، فلما جاء محمد علي عملت يداه في تنظيم ما كان في مصر من قوة أدبية ومعنوية فكان لها المكان الذي عرفته الأمم في التاريخ الحديث. . . كان محمد علي الكبير تركيّاً، وكان يسرهُ بالطبع أن تكون لغة مصر هي التركية، ولكنه رأى بثاقب الفكر المبدع أن اللغة العربية من أقوى مظاهر القومية المصرية فساعد على تقوية اللغة العربية ليتأصل حبهُ في القلوب المصرية، ومن كان هذا حاله لا يقال إن عهده كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود
وفي خطاب العرش أن مصر لذلك العهد ظهرت فيها مصانع ومعامل ومدارس لا عداد لها، وجملة (لا عداد لها) جملة يراد بها التفخيم، ولكنها لا تُقبَل في وثيقة مثل خطاب العرش، لأن هذا مقام يفضَّل فيه القصد في الإغراق(334/2)
وماذا يريد الخطاب من العبارة الآتية:
(مصر مهد المدنية، وعلى يديها نهضت، ومنها خرجت وإليها تعود)
أيكون معنى ذلك أن المدنية خرجت من مصر إلى مَعاد؟
أيكون معناه أن المدنية يوم تعود إلى مصر ستفارق ما سواها من الممالك والشعوب؟
ويقول خطاب العرش:
(إن التفاتنا إلى الماضي لا يُنسينا الحاضر، والذكرى تبعث الذكرى)
فما معنى عبارة: (والذكرى تبعث الذكرى)؟ أيكون الحاضر أيضاً من الذكريات؟
ويقول خطاب العرش:
(ومما تطيب له النفس أن الأمة متعلقة بعرشها)
فهل يظن أن هذا مما يُنص عليه؟
إن تعلق الأمة بالعرش لا يحتاج إلى هذا النص، لأنه من البديهيات، ولأنه من موضوع الخطاب.
ويقول:
(كان لابدّ من السير بسفينة البلاد في يقظة وأمن وحذر)
فما موقع كلمة (الأمن) بين اليقظة والحذر؟ لعله كان يريد كلمة: (الإيمان) أو (العزيمة) أو (الثقة) ولم يسعفه التعبير بما يريد.
ويقول بعد أن أشار إلى وجوب العناية بإصلاح جميع المرافق:
(فلا يجدي والحالة هذه أن نعدد برامج الإصلاح في الوزارات القائمة).
فما معنى (الوزارات القائمة)؟ وبأي حق يكون تعدد برامج الإصلاح شيئاً (لا يُجدي)؟
إن خطاب العرش يريد أن يقول: إن المقام مقام إجمال لا مقام تفصيل؛ ثم ضاقت به العبارة عما يريد، فرأى تعديد برامج الإصلاح من الفضول!
ويقول في إعادة إنشاء المجلس الأعلى للتعليم: إن الغاية منه أن (تتحقق مصلحة البلاد العليا التي يجب أن تعلو على كل مصلحة أخرى).
فما موقع كلمة (كل مصلحة أخرى)؟ وما الموجب للنص عليها في هذا الخطاب؟
ويقول:(334/3)
(وإن حرصنا على الدفاع عن أرض البلاد واستقلالها لا يحده حد ولا يدركه وهن).
وعبارة (لا يدركه وهن) لا تخلو من وهن!
ويقول:
(إن تعاوننا مع حليفتنا سيكون أكبر رائد لنا في العمل)
ونحن حلفاء الإنجليز، ولكن لا ينبغي أن نقول إن ذلك التحالف أكبر رائد لنا في العمل، لأن لنا إرادة ذاتية هي رائدنا الأكبر في السلم والحرب
بقيت مسألة على جانب من الأهمية وهي سكوت خطاب العرش عن الحياة الأدبية في هذه البلاد
العمّال موضع اهتمام، والفلاحون موضع اهتمام، والجنود موضع اهتمام، كل شيء في مصر موضع اهتمام في خطاب العرش إلا الأدب والأدباء، فكيف جاز ذلك، أيها الناس؟
إن خطاب العرش يتمدّح بما وصلنا إليه في توثيق الروابط الأدبية والثقافية بيننا وبين الأمم الشرقية
فهل يذكر خطاب العرش أن أدباء مصر هم الذين رفعوا القواعد من تلك الروابط؟
وهل يرى الشرق مصر إلا في مرآة الآداب والفنون؟
إن الأدباء هم سفراء الثقافة المصرية في الشرق، فكيف يكثر على منشئ خطاب العرش أن يشير إليهم بكلمة تشجيع وهو يتحدث عن صلات مصر بأمم الشرق؟
إننا نعتب على رؤساء الحكومات المصرية أشد العَتْب، فلكل هيئة من الهيئات حظ من الرعاية والتشجيع، إلا جماعات الأدباء والباحثين الذين يُقذون أبصارهم تحت أضواء المصابيح، فهم المنسُّيون، مع أنهم يحملون أكثر الأعباء، ويؤدون للأمة وللدولة أعظم الخدمات، وبأعمالهم تظهر خصائص الشعوب
أين حظ الأدباء من ألقاب التشريف ودعوات التشريف في المواسم والأعياد؟ وأين الوزير الذي يقترح رتبة لموظف أو غير موظف باسم المواهب الأدبية؟ بل أين من يعرف أن أدباء مصر رفعوا اللغة العربية مكاناً عليّاً لم تعرف مثله في عهد بني أمية وعصر بني العباس؟
إننا نرفع هذا الصوت إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول راجين أن يضع(334/4)
سُنّةً جديدة في تشجيع الأدب والأدباء تضاف إلى مآثره الغُر في عهده السعيد
زكي مبارك(334/5)
في مزارات الإسكندرية
مع الشيخ الخالدي
للدكتور عبد الوهاب عزام
لقيت الشيخ العلامة خليلا الخالدي في الأسكندرية، ففرحتُ بمقدمه إلى هذه المدينة، وكنت أحسبه لا يعرف كثيراً من مشاهدها وأخبارها. جلسنا نتحدث والشيخ إذا ترك لشأنه لم يتجاوز حديثه الكتب والمؤلفين ومعاهد العلم ودور الكتب. فلما تحدث عن خطوط العلماء الجيدة والرديئة - وقد ذكرت هذا في مقال سابق - قال: وكان الطرطوشي من أصحاب الخطوط الرديئة. فلما ذكر الطرطوشي وهو من علماء الإسكندرية نقلت الحديث إلى علماء هذه المدينة؛ فإذا الشيخ عالم بأخبارها خبير بمزاراتهم. ذكر من المحدثين والعلماء عبد الرحمن بن هرمز والسِّلفي والقاضي سند وابن المنّير. وذكر من الصوفية أبا العباس المرسي والبوصبري والأسمر وياقوت العرش. وتواعدنا يوماً نزور فيه هؤلاء الكبراء
وتلاقينا يوم الاثنين سادس رجب (21 أغسطس)، وكان معنا الأستاذان عبد الفتاح عزام وعبد الغفار الطنطاوي. فذهبنا صوب الميناء نسأل عن عبد الرحمن بن هرمز حتى وقفنا على مسجد صغير في أحد جوانبه حجرة يتوسطها قبر يقول الناس إنه لأبن هرمز، ورأينا لوحاً على الجدار كتب فيه أن هذا قبر عبد الرحمن ابن هرمز المتوفى سنة سبع عشرة ومائة. قال الشيخ: وهو ممن روي عن أبي هريرة: قلت: بل هو من واضعي علم النحو ومن تلاميذ أبي الأسود الدؤلي. قال ابن الأنباري:
وأما الأعرج فهو أبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. وكان مولى لمحمد بن ربيعة بن الحارث بن المطلب. وكان أحد القراء عالماً بالعربية وأعلم الناس بأنساب العرب. وخرج إلى الإسكندرية وأقام بها إلى أن مات سنة سبع عشرة ومائة
ونقل السيوطي عن الزبيدي أنه كان من أول من وضع العربية. ثم سرنا إلى مسجد آخر فألفينا في حجرة متصلة به قبرين كبيرين كتب على أحدهما: أبو بكر محمد بن محمد بن الوليد النهري الطرطوشي المتوفى سنة 521. قال الشيخ: له كتاب البدع وهذا الكتاب وكتاب البدع لابن وضاح مأخذ كتاب الاعتصام للشاطبي صاحب الموافقات. قال وبين وفاة الطرطوشي وابن رشد الكبير شهران أو ثلاثة(334/6)
أقول: هو أحد علماء المسلمين الأعلام ينسب إلى طرطوشة من بلاد الأندلس نشأ بها وطلب العلم في البلاد الأندلسية، أخذ عن أبي الوليد الباجي وابن حزم. ورحل إلى الشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة وحج ولقي شيوخ العراق وأقام بالشام زمناً ودرس بها. وله مؤلفات أعظمها سراج الملوك
ونقل ابن خلكان عن كتاب الصلة لابن بشكوال أنه: (دفن في مقبرة وعلة قريباً من البرج الجديد قبليّ الباب الأخضر في الإسكندرية)
والقبر الذي بجانب قبر الطرطوشي كتب عليه أنه قبر محمد الأسعد. ولست أدري من هو
تركنا مسجد الطرطوشي لنزور اثنين من جلّة العلماء القاضي سند والحافظ السِّلَفي، فدُللنا على مسجد صغير جداً فإذا قبر بجانب جداًره الغربي علّق فوقه لوح كتب فيه أنه قبر القاضي سند بن عنان الأزدي المتوفى سنة 541 هـ. قال الشيخ الخالدي: وهو شارح المدونة في فقه الإمام مالك. وقرأت في حسن المحاضرة أنه (تفقه بالطرطوشي وجلس في حلقته بعده وانتفع به الناس وشرح المدونة وكان من زهاد العلماء وكبار الصالحين، فقيهاً فاضلاً مات بالإسكندرية سنة إحدى وأربعين وخمسمائة)
وسألت أين قبر الحافظ السلفي فأشار خادم المسجد إلى موضع بجانب سارية أمام المنبر وقال: قد سوّي القبر بالأرض ليتسع المكان للصلاة. قال الخالدي وكذلك رأيت في مساجد المغرب يصلي الناس على بلاطات تحتها قبور
والحافظ السلفي ولد في أصفهان حوالي سنة 475 وشغل بالحديث ورحل في طلبه وورد بغداد وأخذ اللغة عن الخطيب التبريزي. وقدم ثغر الإسكندرية سنة إحدى عشرة وخمسمائة وأقام بها أكثر من ستين سنة حتى توفى سنة 576. وقصده الناس من مصر وغيرها يأخذون عنه وذاع صيته في الآفاق. وبنى له العادل وزير الظافر الفاطمي مدرسة في الإسكندرية وبقيت تعرف باسمه زمناً طويلاً ودفن في مقبرة وعلة أيضاً
وكانت مقبرة وعلة مقبرة كبيرة بالإسكندرية دفن فيها كثير من العلماء. وسمعت من الشيخ الخالدي ثم قرأت في رحلة ابن رشيد رواية عن النجيبي: (وكان شيخنا الحافظ السِّلفي رحمه الّله يقول لا أعلم في البلاد التي تطوفتها تربة جمعت قبور ثلاثة أئمة في ثلاثة مذاهب إلا التربة التي بمقبرة وعلة، وقبور الأئمة الثلاثة في الثلاثة المذاهب بالمقبرة(334/7)
المذكورة متلاصقة: قبر أبي الخطاب الشافعي، وقبر أبي بكر الطرطوشي المالكي، وقبر أبي بكر محمد بن إبراهيم الحنيفي) (يعني الحنفي على عادة الأندلس في النسبة إلى أبي حنيفة)
وقرأت في رحلة ابن رشيد أيضاً:
(زرنا بالإسكندرية حماها الّله تعالى قبر الإمام الزاهد المحدث، آخر الحفاظ بقية المحدثين أبي الطاهر السلفي داخل باب الأخضر على مقربة منه وله سنام كبير عال، وعلى مقربة من قبر الزاهد الفقيه الإمام أبي بكر الطرطوشي رحمه الّله، وعلى قبره مكتوب: توفى الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن الوليد الفهري في جمادى الآخرة سنة 520
وبمقربة من الجدار الغربي قبر يقال إنه قبر عبد الرحمن ابن هرمز الأعرج رحمه الّله) اهـ
وسرنا بعد إلى جامع المنير فراقنا جمال هندسته ونقشه وتهللت وجوهنا وانبسطت أنفسنا لمدخله حتى قلت: حبذا جلسة طويلة في هذا المسجد الطويل. وزرنا ضريح الشيخ ابن المنير وهو في جانب من المسجد عليه قبة شاهقة
وابن المنير هو عبد الواحد بن شرف الدين بن المنير. قال السيوطي نقلاً عن ابن فرحون: كان شيخ الإسكندرية ويلقب بعز القضاة فاضلاً أدبياً عُمّر وانتفع به الناس، أخذ الفقه عن عمّيه ناصر الدين وزين الدين، وألّف تفسيراً في عشرة مجلدات) (لعله يريد تفسيره المسمى الانتصاف من صاحب الكشاف)
ولد سنة 651 وتوفى سنة 736
ثم قصدنا إلى زيارة الصوفية فزرنا أبا العباس المرسي، وقبره الآن تحت المسجد العظيم الرائع الذي تشيده وزارة الأوقاف الآن ويرجى إتمامه قريباً. وهو أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري من كبار الصالحين، وأكبر أصحاب أبي الحسن الشاذلي. توفى سنة 686
وعلى مقربة منه قبر العالم الكبير عثمان ابن عمر المعروف بابن الحاجب أحد أئمة العلماء المصريين في القرن السابع. ولد بإسنا في العقد الثامن من القرن السادس وتوفى بالإسكندرية سنة 646. وله مصنفات في الفقه والأصول. وأما مصنفاته في النحو فقد طبقت شهرتها الآفاق وعدت من أمهات كتب العربية. وحسبك في النحو الكافية وشرحها(334/8)
وفي الصرف الشافية وشرحها
لم نستطع الوصول إلى قبره إذ حالت دونه العمارات القائمة في جامع أبي العباس. قال ابن خلكان: ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي أسامة
وخرجنا بعد زيارة أبي العباس فمررنا باثنين من كبار الصوفية: المكين الأسمر عبد الّله بن منصور الإسكندراني شيخ القراء بالإسكندرية في وقته. مات سنة 692
وقال ابن رشيد: (الشيخ المقري المجود مكين الدين أبو محمد عبد الّله بن منصور بن علي ويلقب بالمكين الأسمر أحد الصلحاء الفضلاء، وهو المتصدر لإقراء القرآن بالإسكندرية. قرأت عليه بدكان منزله - عمره الّله ببقائه - ضحا يوم السبت الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام أربعة المذكور، جميع المجالس الخمسية السلمانية التي أملاها الحافظ أبو طاهر السلفي الخ.)
وبجانب المكين قبر لياقوت العرش أحد الصالحين. وهو ياقوت بن عبد الّله الحبشي العارف تلميذ أبي العباس المرسي. وكان الناس يقصدونه للدعاء والتبرك. مات بالإسكندرية 732. قال الشيخ الخالدي: ذكره ابن عطاء الّله في تآليفه
وأما ابن عطاء الّله السكندري صاحب الحكم فهو أحمد بن محمد ابن عبد الكريم الجذامي الاسكندراني. كان صوفّياً على طريقة الشاذلية، جامعاً لعلوم شتى من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه، وأخذ عن أبي العباس المرسي، وأخذ عنه التقى السبكي، وله كتب منها كتاب الحكم وهو من أروع ما أثر من أدب الصوفية. وكتاب التنوير في إسقاط التدبير. وكتاب لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس، والشيخ أبي الحسن (أبي العباس المرسي وأبي الحسن الشاذلي)
ومات بالمدرسة المنصورية بالقاهرية سنة 709 ودفن بالقرافة
وعلى مقربة من ضريحي الأسمر وياقوت في الجانب الآخر من الشارع بناء جديد نقلت إليه بلدية الإسكندرية رفات جماعة من الصالحين كانت في قبور متفرقة في المدينة. وقد قرأت على الجدار من الخارج أسماء أحد عشر منهم. وأخبرنا الخادم أنهم تسعة عشر.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(334/9)
على هامش الأبحاث الفلسفية والنفسية
بين الفرض النظري والحقيقة الواقعة
للدكتور محمد البهي
- 1 -
للفيلسوف أن يفرض ما شاء من النظريات والمبادئ لإصلاح المجتمع وتهذيب الفرد، وللأخلاقي أن يتحدث عن كمال الإنسانية وفضائلها، وللواقع بعد ذلك أن يسطر حوادثه في سجل الوجود بأسلوبه الخاص وعلى النهج الذي ترتضيه الأيام ويضعها أمام الأفراد والجماعات
وضع أفلاطون (جمهوريته) وتكلم فيها عما يجب أن يتبع لقيام حكومة عادلة ونظام دائم يرعى مصلحة الفرد كما يحرص على نفع الجماعة. وأسهب في تفاصيل ذلك النظام وقسمه وفق طبائع الإنسان التي قدرها والتي يجب أن تسودها (العدالة) في نظره إذا قصد به إلى الكمال المطلق
وظن كثير من أتباع هذا الفيلسوف أنها أجود ما ينتجه عقل مفكر، وأن في نظامها خير ما تبغيه الإنسانية
إلا أرسطو - لأنه عاش بتفكيره في عالم الواقع ووجه عمله العقلي في أغلب الأحايين إلى إيجاد حلول لمشكلات وقته وأزمات شعبه - فقد تناول جمهورية أستاذه بالنقد مسترشدا بتجاربه ورد كثيراً من مبادئها لأنها قامت على الفرض الذي لا تمكن الأيام ولا طبيعة الإنسان من تنفيذه
كذلك شعّب كثير من علماء الأخلاق وجهات نظرهم فيما هو أسمى الفضائل التي تقرب الفرد والجماعة من (المثال الأعلى) وتضعهما في مستوى روحي يحول بينهما وبين الشقاء النفسي. وتحدثوا كثيراً عن العدل (المطلق) كتحديد لهذا الأسمى من الفضائل أو تقريب لمفهومه. وآمن رجال الدين بهذا المبدأ وبنوا عليه وعظهم الخلقي كما حاول المقنِّنون جعله غاية تقنينهم، سواء فيما يتعلق بنظام الحكم أو بمعاملة الأفراد بعضهم لبعض
ولكن الواقع أنكر هذا الإطلاق فيما مضى وما زال - وسوف - ينكره لأن ما يقع من(334/11)
تصرف الإنسان مهما كان العقل مستقلاً - عن الغرائز - في إصداره، ومهما بدت الدوافع التي بعثت عليه في مظهر التجرد عن الغايات الشخصية لا يخلو من تأثره (بالميول). وهذه لاشك تضيِّق من دائرة العدل وتقيد عمومه. ولذا يميل البحث الواقعي للمسائل الخلقية إلى الإكتفاء بطلب العدل النسبي في الإنصاف بوصف العادل. وفي هذه النسبية يتفاضل العادلون
كذلك قرَّ في النفوس البشرية إما عن رغبة في حسم النزاع بين الأفراد في الأصل تحولت فيما بعد إلى عرف بينهم أو عن دافع فطري، أن (الكفاية) هي المقياس الصحيح للفصل في أفضلية فرد على آخر. وهي تختلف طبقاً لما تتطلبه ميادين النشاط المتنوعة في الحياة. فالكفاية الدينية غير الكفاية السياسية، وهاتان غير الكفاية العسكرية والاقتصادية مثلاً. وكانت في جملتها مقياساً صحيحاً لأنها تكشف عن عنصر القوة الذي يُهيئ للبقاء الصالح ويُعده للفوز في معترك الوجود، ولأنها أضمن لتوجيه نظام الجماعة للإنتاج الإيجابي والعمل المثمر في سبيل الحصول على رغد العيش، فضلاً عن أنها أدنى لتحقيق العدل في توزيع منافع الحياة بين الأفراد
ويندر لذلك عدم تقرير مبدأ الكفاية من الناحية النظرية في نظام الحكومات مهما اختلفت الأسس التي قامت عليها تلك الحكومات، ففي عصرنا الحديث نجد الدكتاتورية، برغم ما يبدو في طابعها من تحكم الصفات الفردية، تنادي بالكفاية كشرط أولى لإنتاج الأداة الحكومية. والديمقراطية طبعاً بحكم ما ترتكز عليه نظريّاً من أصل المساواة ورفع أي اعتبار آخر في التفضيل للتكليف بالأعمال العامة سوى الجدارة المحض، أشد إيماناً في مجال النظر بمبدأ الكفاية من أي نظام آخر من نظم الحكم الحاضرة
ولكن إذا قطعنا على الفكر متعته العقلية حين استعراضه الآراء المختلفة المتعلقة بنظم الحكم وحملناه على ملاحظة ما يجري فعلاً في التفضيل والاختيار؛ لاشك أنه سينغَّص، وسيمتد تنغيصه كلما كان أشد إيمانا (بالمثالية)
وإذا عجزت الملاحظة السطحية عن أن تقدم أمثلة كثيرة لما يحدث في ظل الدكتاتورية من مخالفة لهذا المبدأ - لدقة الرقابة على النشر - فسوف تلمس في الديمقراطية البرلمانية عنصراً آخر - وهو العصبية الحزبية - له السيادة المطلقة على مبدأ الكفاية في الاختيار(334/12)
وإذا جاوزنا مثل هذه المبادئ الخلقية العامة التي لا ننكر ضروتها من الناحية النظرية في حياة الجماعة، والتي وجدت لها، منذ أن عرفت الجماعة البشرية النظام، أنصاراً مدافعين إلى حد التضحية بأرواحهم أو بمتعتهم الشخصية في هذه الحياة - إلى الصفات التي هي أقرب أن تكون مذاهب فردية، نجدها كذلك لا تنعكس على مرآة الواقع طبقاً للصورة التي صاغها العقل فيها
فالذي يدين بمبدأ الصراحة، إذا أراد أن يتخذها أساس تصرفه وقوام عمله، سوف يجد عنتاً في بيئته وسوف تعقد الأمور في طريقه لأن سبل الحياة نفسها ملتوية ورغبات الأفراد فيها مختلفة لا تنال إلا عن طريق إخفائها
والذي يقدر كرامته تقديراً مثالياً، ينفر أشد النفرة، مما يتوهم فيه جرح عزته والحط من مكانته، سوف يصطدم مع الواقع صدمات عنيفة لأن ما في الواقع منازع له ولغيره. والنزاع كثيراً ما يكون سبباً مباشراً في اعتداء أحد المتنازعين على الآخر، والاستخفاف بالمعتدي عليه أخص مظاهر الاعتداء
والذي ينزع إلى فهم الصداقة على أنها يجب أن تسود كل العلاقات الممكنة بين شخصين سوف تكون آلامهُ من جراء هذه الصداقة أكثر من سروره بها، لأن التنافس والعمل على تحقيق المصالح والرغبات الشخصية، وهما من الغرائز الفطرية في الفرد، مما يحول دون الوفاء بمقتضيات الصداقة على هذا النحو
فالمبادئ النظرية لم توجد بعد في الواقع كما حاكها العقل النظري، أو على حد تعبير (كانت) العقل الخالص، لا كما صورها الخيال
ولكن هذا لا يمنع من تأييد الفيلسوف إلى حد ما إذا دعا لمبدئه، ورجل الدين والأخلاق إذا نادى بالتقرب من المثل العليا لأن غاية كل منهما تقليل شرور المجتمع (وليس رفعها لأنها من طبيعة الإنسان)
وإنما على الذين عاشوا حتى الآن في حياة النظر، واسترسلوا في خيال الأمل وحددوا مصيرهم على فروضه ألا تدفعهم الرغبة في تقليد المثاليين (إلى طلب مثلهم العليا حقائق واقعة لأن المثل الأعلى لم يكن كذلك إلا لبعده عن تحديد المشاهدة - وما يشاهد قريب منه فقط -، عليهم أن يربطوا بين حياة النظر وحياة العمل حتى لا تكون خيبة الأمل فاجعة إذا(334/13)
هالهم فرق ما بين الحياتين، وحتى لا يكون الانتقال من الأولى وهي حياتهم حتى الآن، إلى الثانية، وهي حياتهم الجديدة، قاسياً صعب التحمل. فكثير من الناس اعوّج سلوكه، وكثير من الناس صحبه التشاؤم في عمله وسيطر على حياته، وكثير من الناس لم يصبر على مشاق الحياة الواقعية - في نظره - فذهب ضحية اليأس والقنوط والتململ، لا لشيء سوى أنهم كانوا جميعاً شديدي الإيمان (بالمثالية) واستمروا حديثي عهد بالواقع.
محمد البهي(334/14)
السراكينوي هم السرويون
للأب أنستاس ماري الكرملي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
7 - ما يحصل مما سبق الكلام عليه:
يحصل مما سبق الكلام عليه أن السراكين هم أهل السروات، وهم قبائل تقيم في داخل بلاد العرب من اليمن إلى ديار الأنباط، أو جنوبي اليهودية، بل إلى الشام
وأما (السكينتس) فليس اسم عرب، لا عند السلف ولا عند الرومان أو اليونان. وكيف يكونون كذلك والاسم يوناني معناه (أهل الأخبية) فقد يكونون من أبناءِ يعرب، كما قد يكونون من أبناءِ الغرب. فأهل الأخبية أو سكان الأخبية معناهُ: الرُحَّل، أو أهل البادية، الذين يثوون إلى الأخبية. فإذا علمتَ هذا، عرفت الحقيقة على ما هي بلا تناقض، ولا إشكال، ولا غموض.
وقال الأستاذ العمودي - وهو ينقل دائماً ما جاء في معلمة الإسلام، وإن لم يذكرها -: (أما (السراكينوي) فلم يُرْوَ لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية ما خلا رسالة وصفها برداسانيس (؟ كذا) السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان: ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله: إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرَّحالة.) انتهى
ففي هذا القول نظر، لأن ابن دَيْصان لم يذكر السراكينوس في تأليفه - بل ألـ (سَرْقابي) أي العرب السروبين، وذكرها بأحرف إرَميَّة بالصورة التي ذكرناها في العربية. وأنت خبير أن اليونان والرومان ومن نقل عنهم ذكروا أبناء عدنان وقحطان مرة باسم العرب، وأخرى بالسروبين (أو الساراكين أو السرازين أو السراكينوي)، وطوراً باسم سكان جزيرة العرب، أو نحو ذلك ولم يسموهم باسم واحد
أما أن المسلمين عُرفوا بعد ذلك عند الغربيين بالسرازين، فلأن الإسلام نشأ وترعرع واكتهل في الحجاز، سُرَّة السروات وقلبها، ومنهُ امتد إلى ديار العالم. فمن الحق أن يسمى الغربيون المسلمين بالسروبين أو بأهل السرَوَات، وهي تسمية مأخوذة من مسكنهم، أو وطنهم، أو منشئهم الأول، كما أن المسيحيين سموا نصارى، جمع نصراني، وأصلها(334/15)
ناصراني، نسبةً إلى الناصرة وهي المدينة التي طوى المسيح بساط أيامه أو معظمها فيها
إذن لا وَهْم ولا ضير في تسمية المسلمين: (سرويين) أما أن أبناء الغرب خصوا هذا اللفظ بالمسلمين الذين افتتحوا ديارهم، فلأنهم كانوا قد قدموا إليها عن طريق مصر وأفريقيا الشمالية
وأما أن الفرنسيين سموا العرب (سرازين)، أي الذرة السمراء، فهذا من رأي الأستاذ العمودي الخاص به، ونحن لا نوافقه عليه، ولم يقل به أحد. وذلك لأسباب منها: أن السرازين عند الفرنسيين، ضرب من القمح أو الحنطة أسمر اللون أو سوداؤه، وليس بذرة، واسمه بلغة علماء النبات ولم يعرف اللفظ (سرازين) في اللغة المذكورة إلا في المائة السادسة عشرة. أما (السرازين) بمعنى العرب، أو السرويين، أو المسلمين، فكان معروفاً عندهم منذ عهد الرومان واليونان
على أن الفرنسيين يسمون أيضاً سرازين ضرباً من الجاورس، يعرف عندهم أيضاً باسم أو وبلسان العلم فاسم النبات مأخوذ من اسم العرب لا العكس، كما ذهب إليه حضرة الأستاذ الفاضل
8 - تفنيد آراء المخالفين لرأينا
ذهب بعضهم إلى أن (سراكينوي أو سرازين) مأخوذ من اسم قبيلة بعينهِ، وكان يطلق عليهِ؛ إلا أنهُ ليس في التاريخ ما يثبت هذا الرأي، فهو زائف لا محالة
أما أنه مأخوذ من (الشرقيين)، فقد ذهب إليه جمهور علماء الغرب، أو يكاد، إلا أن العرب لم يسموا أنفسهم بشرقيين حتى ينقل عنهم. فالحقيقة تمزق هذا البرقع المهلهل
أما أنه من (سرَّاقين) وأنه منقول عن العرب المتحضَّرين نابزين بهذا اللفظ الأعراب الرُحَّل، احتقاراً لهم فهو محتمل، لكن الأقدمين من الرومان واليونان يذكرون بلادهم، وأنها من أقصى اليمن إلى اليهودية أو إلى الشام، فليس الاسم من أسماء البادية المتنقلة، بل اسم عرب يسكنون دياراً معينة، ليس إلاّ
وأما أن الاسم منحوت من (صحراء ساكن)، فهذا من أسخف الآراء، ولا يقول به إلا جَهلة اللغة العربية، إذ لا يُقدَّم في هذه اللفظة المضاف إليه على المضاف، بخلاف اللغات اليافثية، أو الآرية(334/16)
وأما أن الأنباط أطلقوا اسم (الشرقيين) على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق، فالتسمية سابقة لدولة النبط، كما لا يخفى على المطلع، وقد ذكرها اليونان والرومان في تواريخهم
بقي علينا أن نبيّن للقارئ معنى قول مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع (إن (السارازين) انضموا إلى (الإسماعيليين) الذين كانوا يقيمون في صحراء قدش (لا قادش كما قال الأستاذ) في مقاطعة فاران) اه. فهذا معناه أن السرويين، وهم أهل الجبال، انضموا إلى الإسماعيليين، سكان السهول والصحارى ليكونوا كتلةً واحدة. وليس ثَمَّ غير هذا المعنى. ولم يعرف الهاجريون باسم السرازين، إلا لأنهم كانوا منضمين إلى أهل السراة العليا، أو سراة الأزد
وقد أحسن الأستاذ العمودي في تزييف من قال إن السراكينوي لا تزال سلائلهم ممثلة إلى اليوم في قبيلة (السواركة) تلك القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزة، إذْ هذا حديث خرافة
فلم يبقَ لنا إلا القول بأن (الساراكينوي) أو (السارازين) أو (السرازين) هم (السرويون) أو أهل السراة أو السرَوات. وكانوا معروفين في صدر الإسلام بهذا الاسم. قال في التاج في مادة (س ر ى): (وكثيراً ما يذكر الدينوري في كتاب النبات عن السروبين أي من أهل السراة) اه
وفي الكامل للمبرَّد (2: 287 من طبعة مصر):
(. . . ومن اليمن من غيرهم، عبد الّله بن الطُفيل الأزدي ثم الدّوْسِيّ، ذو النُور، أعطاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً في جبينه، ليدعو به قومهُ، فقال: يا رسول الله، هذه مُثلة، فجعلهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوْطهِ، فلما ورد على قومه بالسراة، جعلوا يقولون: إن الجبل ليلتهب، وكان أبو هريرة ممن اهتدى بتلك العلامة) هـ
فهذه شهادة بَينة على أن أهل السراة عرفوا الإسلام منذ عهد الرسول. فلا عجب بعد ذلك إذا عرف المسلمون بلفظ (السرويين)
وأخذ السرويون ينافحون عن دينهم، ويفتحون الفتوحات مع كبار القادة منذ نأنأة الإسلام. ففي تاريخ الطبري في أخبار سنة 14 للهجرة (1: 2217 من طبعة الإفرنج): فخرج سعد ابن أبي وقّاص من المدينة قاصداً العراق في أربعة آلاف: ثلاثة ممن قدم عليه من اليمن(334/17)
السَّرَاة، وعلى أهل السروات حُمَيضة ابن النعمان بن حُميَضة البارعي، وهم بارق، وألمع، وغامد، وسائر اخوتهم في سبع مائة من أهل السراة وأهل اليمن ألفان وثلث مائة، منهم النخع بن عمرو، وجميعهم يومئذ أربعة آلاف، مقاتلتهم، وذراريهم، ونساؤهم)
وفي الأغاني (19: 54 من طبعة بولاق الأولى): (وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه (إسلام أسد بن كرز)، حدث بذلك عنه خالد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله، قال: أسلم أسد بن كرز ومعه رجل من ثقيف، فأهدى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قوساً فقال له: يا أسد، من أين لك هذه النبعة؟ - فقال: يا رسول الله، تنبتُ بجبلنا بالسراة. فقال الثقفي: يا رسول الله، الجبل لنا أم لهم؟ - فقال: بل الجبل جبل قسر، به سمى إبراهيم قسر عبقر. فقال أسد: يا رسول الله، ادعُ لي. - فقال: اللهم اجعل نصرَك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز) اه
فهذه الأدلة وغيرها، وهي لا تعد، تبين أن السرويين دانوا بالإسلام منذ عهد الرسول، وسعوا في نشره. ولا جرم إذا سمى العرب جميعهم باسمهم أو سمى الإسلام باسمهم، وجرى عليه الأعاجم جميعهم
لكن لما كانت السراة أو السرَوَات ممتدة بامتداد جزيرة العرب من أقصى الجنوب إلى الشام، كان فيها قبائل عديدة مختلفة الأسماء، أطلق الأدباء من عرب وغير عرب اسم السرويين على كل عربي. أما أن هناك سروات مختلفة القبائل، فيشهد عليها من كان فيها، فمنها سراة الأزد، وسراة أَلْهان، وسراة بجيلة، وسراة بلد وادعة، وسراة بني علي، وسراة جُبلان، وسراة جنب، وسراة الحِجْر، وسراة خولان، وسراة دوس، وسراة الطائف، وسراة عُذَر وهِنْوَم، وسراة عنز، وسراة غامد، وسراة فهم وعدوان، وسراة قُدم، وسراة مذحج، وسراة المصانع، إلى غيرها. وبهذا القدر كفاية في هذا الموضوع
9 - ملاحظاتنا
الملاحظة الأولى: رأينا بين مقال الأستاذ العمودي وما جاء في ترجمة من معلمة الإسلام مشابهة، وكان يحسن بحضرته أن يقول: إنه اقتبس أغلب كلامه من المعلمة المذكورة، حتى لا تبخس الناس حقوقهم، ولا تذهب أتعابهم سدى
الثانية: كنّا نود أن تكتب الأعلام على ما يرويها العرب لا الإفرنج، حتى لا يظهر للغير(334/18)
أننا نقتبس شرقياتنا من أبناء الغرب. فكان يجب أن يقال ذيوسقوريذس العَيْن زربي، لا أن يكتب بحروف إفرنجية، وفي كتابتها ثلاثة أوهام، إذا ما قابلناها برواية معلمة الإسلام. وكذلك يقال عن كتابة سائر الكلم التي دونت بحروف إفرنجية فإن الغالب عليها الخطأ
وقال (ص 1940) برداسانيس. والمشهور ابن دَيْصان أو برَدْيصان، وقال (في الصفحة المذكورة): البيزانطيون. والسلف لم يقولوا إلا (البوزنطيون) وبوزنطية أي بالواو لا بالياء، لأن اليونانيين كانوا ينطقون بها هكذا كما ينطقون بها اليوم. وهذه شهادة تاريخية على كيفية النطق بالحرف اليوناني في أيام العرب الأول
الثالثة: كنا نود أن يتحرى أفصح الألفاظ في الكلام. فالعرب لم تسمّ ملوك الروم: المصفرة، بل بنو الأصفر. أما المصفرَّة فهم الذين علامتهم الصفرة. وملوك الروم ما كان هذا اللون شعاراً لها
وقال الجبال السوداء. والعرب تقول: الجبال السوُد، كما تقول الرجال السود والنساء السود، ولم يقل أحد منهم الرجال السوداء، ولا النساء السوداء. وقال: من جنوب وشمال إيطاليا. ونظن أن الصواب هو: جنوبي وشمالي إيطالية. لأن الجنوب يدل على الجهة لا على قسم الأرض. وكذلك الشمال
وذكر الأديرة. والفصحاء قالوا ديارات أو دِيَرة أو أديار أو غيرها، لكنهم لم يقولوا أديرة.
هذا ما بدا لنا في أثناء المطالعة، ونحن مهتمون بأمور خارجة عن هذا البحث. ولعل خطأنا أكثر من صوابنا.
(بغداد)
الأب أنستاس ماري الكرملي(334/19)
عقيدة النازي الدينية
للدكتور جواد علي
تنص المادة 27 والمادة 28 من منهاج الحزب الوطني الاشتراكي على الحرية الدينية لجميع الألمان وبحماية الديانة المسيحية في داخل المملكة الألمانية، وقد طبقت الحكومة الهتلرية فعلاً هذا النص في جميع أنحاء الريخ فجعلت ضريبة الكنيسة ضريبة إجبارية على كل ألماني وألمانية حضر صلاة الكنيسة أم لم يحضر؛ وقاومت حركة الإلحاد ونكران الديانة المسيحية فطردت كل موظف يجاهر بهذه الفكرة وحكمت على كل رجل ينادي بها أو يربي أولاده عليها بأحكام تناسب ظروفه ومنزلته، وأجبرت الأولاد في المدارس على حضور دروس الديانة بعد أن كانت مسألة اختيارية قبل الحكم الهتلري تتعلق بإرادة الوالد. وقد شددت الحكومة في المراقبة لأن الذين كانوا يجاهرون بهذه الآراء كانوا إما من الحزب الشيوعي أو من الحزب الماركسي أو من الحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ وهذه الأحزاب الثلاثة هي من ألد أعداء هتلر، لذلك اختفت الحركة بسرعة طبعاً خشية التعرض لهذه التهمة
وحجة الوطنية الاشتراكية في ذلك هي أنها تقاوم المادية الصرفة البشعة التي تدعو إليها هذه الأحزاب وتدين بالمثل العليا وبالحياة الروحية وبقوة خارقة عليا يدعو هتلر ويشير في معظم خطبه إليها، ولكنه لا يصفها بالصفات أو ينعتها بالنعوت التي ترد في كتب الديانة واللاهوت. بل يراها كقوة مظلمة تشع أشعة مختلفة إلى النفوس حسب كفاية الأبدان التي يتمتع بها ذلك الشخص يظهر أثرها في الإرادة والعزم. والزعماء في نظره هم الذين يتمتعون بها أكثر من غيرهم ويمتازون على الأفراد بالعزم والإرادة. ويدعو ممثله ووكيله إلى هذه الفكرة في كتبه ومؤلفاته ويتوسع في نشر الديانة المسيحية الحقيقية لا الديانة المسيحية الحالية التي هي من مبتكرات اليهود على رأيه. وحاول كذلك دعاة النازي من رجال الكنيسة وعلى رأسهم رئيس أساقفة الريخ ملر توسيع دعوة هتلر ووكيله وتنقيح العقيدة المسيحية حسب التعاليم النازية؛ ولكنهم اصطدموا بمعارضة واسعة من البروتستانت بقيادة الباستور نيملر أسقف دالم في برلين الذي لا زال حتى الآن في السجن، ومن الكاثوليك بقيادة أسقف في إيبرك وكاردينال الراين(334/20)
والنازية نفسها عقيدة دينية تحاول تنظيم حياة الأمة والفرد على أساس العنصرية والزعامة، وتتدخل حتى في الأحوال الشخصية للفرد لتكيف حياته وفق التعاليم الجديدة، وهذا ما يصطدم طبعاً والعقيدة المسيحية التي تراها الوطنية الاشتراكية عقلية يهودية رومية من مبتكرات سكان البحر الأبيض المتوسط، لا تلتئم أبداً مع العقلية الجرمانية الشمالية. وهذا النقد اللاذع للديانة المسيحية يرجع في الحقيقة إلى أدوار تسبق هتلر والنازية بكثير، يكفي أن نتذكر هجمات الفيلسوف فويرباخ الألماني عليها (1804 - 1872)، وكذلك الفيلسوف نيتشه (1844 - 1900) والفيلسوف هوستن جامبرليني (1855 - 1927) مؤسس الفلسفة الوطنية الاشتراكية والمؤثر القوي على هتلر، والذي كانت بينه وبين هتلر صلات
وعند تسلم الوطنية الاشتراكية زمام الحكم أصبحت هنالك مشكلة الديانة المسيحية مشكلة خطيرة جداً إذ أنها تصطدم مع أصول العقائد النازية، لذلك ظهرت هنالك عدة محاولات لحل المشكلة حلاً يتفق مع المبدأ النازي، وظهرت جماعة من بين صفوف الحزب أطلق على مؤسستها اسم (المسيحيون الألمان) لم تر إلغاء المسيحية ولا مقاومتها، ولكنها رأت تجريد الديانة المسيحية من كل أصل أو عقيدة يهودية أو أية فكرة تراها النازية غير جرمانية، إلا أنها سرعان ما اصطدمت بمشاكل ذات خطورة عظيمة وهي تعيين الحدود بين اليهودية وبين المسيحية والى أي حد يجب أن يبلغه الحذف والإخراج من هذه الديانة، وعلى أي أساس يكون ذلك، أعلى أساس أقوال هتلر وروزنبرك أم على أساس التاريخ. وهذا ما يتعارض مع عقيدة النازي التي لا تؤمن إلا بأقوالها فقط. (أنظر كتاب ? وكان في نفس الوقت هنالك حركة أخرى أوسع من هذه أطلق عليها اسم الإيمان الألماني انضم إليها بعض رجال الحزب مثلت نزعات مختلفة، فمنيت بالتفرقة كذلك؛ فهنالك من اعتقد بوجوب الاعتقاد فقط بقوة عظيمة هي وراء الطبيعة وفوقها يطلق عليها اسم الإله كما هو في المسيحية، ولا يتوسع بعد ذلك ولا توضع قواعد ومواد لاهوتية أخرى؛ مثل هذه الحركة كراف ريونتلو المشهور بآرائه الفلسفية والدينية، وبكتبه في بادئ الحركة النازية وإن لم يظهر اليوم اسمه عالياً في صفوف النازي. ومنهم من أراد الاعتقاد بالمسيح ولكن بمسيح جرماني تكون حياته حياة جرمانية وأوصافه جرمانية كذلك، ذي شعر أشقر(334/21)
يميل إلى البياض، وعينين زرقاوين، طويل الجسم نحيف الوجه لم يخضع لإرادة أحد. وهذه هي آراء البروفسور مندل من جامعة كيل بألمانيا - وتطرف آخرون فقالوا بوجوب إلغاء الديانة المسيحية تماماً والاستعاضة عنها بالديانة الجرمانية القديمة، وإنشاء كنيسة ألمانية بحتة تمارس فيها الطقوس الألمانية؛ وقام بهذه الحركة -
وأخيراً اجتمع ممثلو هذه الحركة في شهر يولي من سنة 1933 في مدينة وار تبرك برآسة البروفسور هور ثم في سنة 1934 في تيبنكن حيث توصلوا إلى وضع الأسس التالية:
1 - يجب أن يكون الإيمان الألماني مستمداً من الروحية الألمانية
2 - إن النوع أو العنصر الألماني مستمد من الأزلية الإلهية، لذلك يجب إطاعة هذه الأزلية
3 - على حسب هذه العقيدة يجب أن تنصرف أعمالنا وأقوالنا
وقد ظهر بعض الكتاب يحاولون إثبات أن المسيح لم يكن يهودياً بل كان يونانياً أي آري الجنس، ومنهم من أثبته رومانياً، ومنهم من حاول البرهنة على أنه يهودي وأن القديس بولس اليهودي الأصل هو الذي اخترع تلك القصص، أو أنه أدخلها من اليهودية وساقها إلى روما فأوربا حيث حاربت الديانة الجرمانية والأخلاق الجرمانية العتيدة وقضت على العنصرية الجرمانية التي كان يدين بها كل جرماني حتى القرون الوسطى
غير أن أقوى حركة في صفوف النازي هي حركة ألفريد روزنبرك الذي يحاول إرجاع الديانة الجرمانية القديمة عن طريق التصوف الألماني فهو يحمل على المسيحية بنوعيها الكاثوليكية والبروتستانتية، لأن الكثلكة ليست في نظره سوى الفكرة الإمبراطورية الرومية القديمة تتمثل في محاولة البابوات تكوين سيادة عالمية. أضف إلى ذلك أن الكنيسة قد جردت الجرمان في نظره من عناصر الحرية والاستقلال والعزة الوطنية الذاتية باستسلامها إلى الآراء العالمية اليهودية، وسقوط آلاف صرعى في سبيل الإمبراطورية الرومانية التي ورثها البابوات. ويرى في الكنيسة البروتستانتية كذلك تدخلاً في السياسة وفي الشؤون العامة للشعب وفي المبادئ النازية كما حدث في مجمع الأساقفة البروتستانت في عام 1937 في مدينة أكسفورد حيث حمل حملة شعواء على النازية ومبادئها
والطريقة الوحيدة التي يراها هي الرجوع إلى الروحية الألمانية القديمة التي نادى بها(334/22)
المتصوف الألماني الشهير مايستر إيكهارت 1260 - 1327 أحد أساتذة الطريقة الدومينيكانية المسيحية وتلميذ اللاهوتي الألماني الشهير ألبرت فون بولشتيد ? 1206 - 1280 أحد رؤساء هذه الطريقة كذلك، وأحسن رجل اطلع على الفلسفة العربية اليهودية في زمانه، فقد درس اللغة العربية واللغة العبرية، وترجم كتب الفلسفة والطب والتصوف إلى اللاتينية، لغة العلم والدين إذ ذاك، وكان من أعظم المختصين بفلسفة ابن سينا. واليهودي ابن ميمون وقد تأثر به تلميذه هذا مايستر إيكهارت فمال إلى التصوف وصار الألمان يعتبرونه المؤسس لما يسمى بالتصوف الألماني
وقد أثرت آراء مايستر إيكهارت في عصره تأثيراً عظيماً ولاسيما في مقاطعات الراين حتى اضطرت الكنيسة إلى محاكمته بتهمة الهرطقة والخروج على الدين؛ وظل تأثيره مدة طويلة حتى عصر النهضة الأوربية. كان يرى أن المعرفة لا تكون بممارسة الطقوس الظاهرية؛ إنما تتم بالتفكير العميق، وخرق الحجب بالتأمل والتدقيق، بعبارته المشهورة (إن أردت اللب فعليك بكسر القشرة) , وكذلك بعبارته المشهورة: (تعميق البئر ينتج ماء أكثر) والمعرفة هي الوجود ذاته وبواسطة هذه المعرفة نتوصل إلى إدراك علة الوجود ولكن هذا الإله هو في كل مكان لم يكن شيئاً، فخلق نفسه بنفسه؛ خلق النفس وجعلها مساوية لنفسه تماماً فلا يستطيع أن يؤثر عليها أبداً إذ هي حرة طليقة؛ ومن هذه الروح وبواسطة الانهماك في معرفة الحقائق نستطيع الوصول إلى درجة الوحدة أو الاتحاد مع الله حيث تكون الروح كالمرآة بالنسبة لله تماماً، ويقول في ذلك:
(أحمل فيّ صورة الله: متى أراد رؤية نفسه نظر فيّ ولو أني مثله) والصلة بيني وبين الله هي المحبة وهي كذلك في جميع أجزاء العالم، والله نفسه يحب ذاته في مخلوقاته وأعماله، ولولا مخلوقاته هذه لما كان الله خالقاً بل ولم يكن الله موجوداً، فلولاي لم يكن الله، ويتصل شعاع الله بالقوى النفسية العلوية ? فيحصل من جراء ذلك إدراك الحقيقة والمعرفة
ويرى روزنبرك أن مايستر إيكهارت قد تكلم وعبر عن عقلية آرية جرمانية ومعتقد قديم، لذلك يريد إحياء تعاليمه هذه وبعثها على يد الوطنية الاشتراكية إذ لا طقوس ولا كنيسة كاثوليكية أو بروتستانتية، بل مبادئ صوفية يجب أن يخضع لها الجميع. وهذا هو خلاصة(334/23)
الديانة المسيحية في نظره والدين الذي يجب أن ينتشر في كل ألمانيا. ولعل ما في نفسية هتلر من اعتكاف وغموض وانزواء في وكره، وكذلك ما في نفسية روزنبرك من اعتزال عن العالم وحب الانزواء، هما اللذان جرَّا هذين الرجلين إلى التصوف مع ما بين التصوف والوطنية الاشتراكية من تباين في النظر إلى الحياة والكفاح
والواقع أن هذا التصوف ولو حاول روزنبرك وغيره إسناده إلى الجرمانية القديمة فإن من الصعب إثبات ذلك لعدم وجود نصوص تاريخية تثبت ذلك ولأن هذا الرجل كان هو نفسه تلميذ المتصوف (البرت فون بولشتيد) الشهير المترجم للكتب العربية والمتأثر بذلك، ولأن أفكار (مايستر ايكهارت) واصطلاحاته عبارة عن نسخة طبق الأصل للفلسفة الإسلامية واصطلاحاتها. ولو كان روزنبرك من المستشرقين لغير رأيه تماماً. وروزنبرك نفسه ليس من الاختصاصيين في هذه الموضوعات بل هو كاتب عاطفي ساعدته الظروف على ذلك
ويظهر من هذه التعاليم أن التصوف وهو (التسليم) والتعمق في البحث بإعطاء النفس في العرف الألماني، ونظرية الإشعاع الإلهي واختلافه باختلاف الناس، ثم في سهولة توجيه الرأي العام الذي أخذ يميل بعد الحرب العظمى إلى درس المسائل الروحية هي التي دفعت بالوطنية الاشتراكية إلى إحياء فكرة التصوف والبحث عن دين جديد يتفق مع مبادئ الوطنية أو يكيّف على حسب آراء هتلر ومبادئه.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(334/24)
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
نشيد العودة
من وضع السيد الرسول صلى الله عليه وسلم
ولقد تتخيل عظم الفارق بين مسير الجيش ذاهبا إلى المعركة وبين عودته آيباً منها فهو يذهب بالأمل في النصر ممزوجاً بالخوف من الهزيمة. يذهب ليلاقي العدو، ويعود بالنشوة ظافراً ليلاقي الأهل والأحباب.
ومن أجل ذلك، جاشت بنفس النبي عليه الصلاة والسلام عواطف سامية حين عودته من غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق في العام الرابع أو الخامس الهجري، غير تلك العواطف السامية التي اختلجت بنفسه عند ذهابه إليها. كلا النوعين من العواطف سام، ولكنهما في طبيعتهما مختلفان.
عاد النبي من غزوة الأحزاب وهو ينشد:
آيبون
تائبون
عابدون
ساجدون
لربنا حامدون
صدق الله وعده ... ونصر عبده
وهزم الأحزاب وحده
أترى كيف تكون الخطوات العسكرية عند الأوبة، مخالفة لها عند الذهاب؟
أما عن اللحن، فيقول العلامة القسطلاني في شرح صحيح البخاري، تعليقاً على نشيد آخر، هو قول عبد الله بن أبي رواحة أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع صوته بالكلمة الأخيرة من ذلك النشيد: (أبيْنا) ويقول: أبينا، أبينا، مرتين. وسيأتي نص هذا النشيد.
ويقول العلامة القسطلاني أيضاً في التعليق على نشيد آخر، وهو الذي قيل في أثناء حفر(334/25)
الخندق: إن النبي كان يقول فقرة ويرد عليه الصحابة بفقرة، (وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).
ومعنى هذين التعليقين أن هناك نغمة لكل هذه الأقوال، أي أنها كانت ملحنة. وما لنا نستدل على الترتيل أو التنغيم بمثل هذا الاستدلال ونحن نرتل نشيد غزوة الأحزاب بلحن موسيقي عقب صلاة العيد الأكبر؟ ثم مالنا نستدل على أن القول كان ملحناً بألحان موسيقية، وهو لا يمكن أن يقال إلا مصحوباً بنغمة موسيقية؟
فأنت ترى أن هذا النشيد هادئ رصين، وقد قاله النبي لأول مرة بعد عودته من غزوة الخندق، ولكنه صار يقال بعد ذلك عند العودة من كل غزوة، وكان يقال والجنود سائرون، وكان يقال ملحناً على لحن السير؛ فهو وفقاً للتعبير العصري: (مارش)
وليس يغير من طبيعته أنه ليس بالشعر، فليس من الضروري أن يدخل كل قول موسيقي في دائرة عروضية من دوائر الخليل بن أحمد. وإن تحدي الشعراء بما ليس من الشعر وليس من النثر، كان صبغة اصطبغ بها هذا الجيل.
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بألحان المسير، بل أعد أو أمر بأن تعد له ألحان للعمل أيضاً. ولقد تقدمت الإشارة في هذه الكلمة إلى لحنين رتلا في أثناء العمل بحفر الخندق وحمل التراب منه على المتون ليكون جسراً على الخندق. أما أحدهما فهو من جزأين: جزء يقوله النبي، وجزء يرد به الصحابة عليه. ويقول شارح البخاري: (وظاهره أنهم كانوا يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى).
لحن النبي:
لا هُمَّ إن العيش عيش الآخرة
فاغفر الأنصار والمهاجرة
لحن الصحابة:
نحن الذين بايعوا محمداً
على الإسلام ما بقينا أبداً
أما اللحن الآخر فقد كان يقوله النبي والصحابة جميعاً في أثناء حفر الخندق، وهو من وضع عبد الله بن رواحة أحد شعراء النبي وقائد من قواده، وهو:(334/26)
لا همَّ لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الذين قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
(أبينا)
وكان صوته يرتفع كما يروي البخاري عند كلمة (أبينا) التي كان يكررها عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه الموقعة أيضاً كانت أناشيد صغيرة تنشد تارة في أثناء المعركة، وطوراً في أثناء القتال مثل قوله عليه الصلاة والسلام:
يا منزل الكتاب
سريع الحساب
اهزم الأحزاب الخ
وقد استوفت هذه الأناشيد كل ما يشترط في أناشيد المسير، فهي قصيرة الفقرات بحيث تصلح ألحانها أن تكون على قدر خطى الجنود. وهي معبرة عما في أنفس الجيش من العواطف تعبيراً خالياً من التغالي المثير. وهي سهلة الحفظ، يتوافر فيها شرط السيرورة
هذه هي أناشيد الجيش، وهل يحسب الشعراء والموسيقيون أن لا غنى للشعوب عنهم؟
إن الشعوب لا تستغني عن الشعر ولا عن الموسيقى ولكنها تستغني عن الشعراء والموسيقيين إذا ما تعالوا عليها وترفعوا عنها.
هي تؤلف لنفسها إن لم تجد من يؤلف لها.
إنها تفكر على قدر طاقتها إن لم تجد فلاسفة ومفكرين، وإنها كذلك تعيش معيشة على وجه ما إن لم تجد من يجمع شملها ويؤلف لها نظاماً، وإنها كذلك تضع لنفسها الشعر والموسيقى إن لم تجد شعراء وموسيقيين.
كذلك الأرض التي نحن منها إن لم تجد مزارعين ينظمون لها طرق الري والاستنبات،(334/27)
فهي مخرجة من باطنها زرعاً غير منظم ولا منسق.
كذلك كانت الحال في مصر في الحرب الكبرى، فقد ألف الجيش الذي اشتغل في السلطة العسكرية لنفسه ألحاناً عبرت عما في نفسه وأنشدها بنفسه. فهل أنت من المخضرمين الذين حضروا الحرب الكبرى؟
لقد تذكر إن كنت من المخضرمين مسير المئات من الصعايدة المتطوعين وهم ذاهبون إلى حدود فلسطين وهم ينشدون:
يا عزيز عيني ... وأنا بدي اروَّح بلدي
بلدي يا بلدي ... والسلطة خْدِت ولدي
وهل تذكر لحن هذا البيت؟
في ذلك العهد لم تكن هناك قيادة للجيش المرابط ولا كانت السلطة الإنكليزية العسكرية تعنى بوضع ألحان للمصريين المتطوعين ولا كان هناك رجل كالشاذلي باشا يدعو الشعراء إلى تقديم أناشيدهم للجنة في وزارة الشؤون الاجتماعية، لجنة دائمة اسمها (لجنة الألحان)، ولا كان هناك قائد عظيم اسمه صالح حرب باشا يدعو الشعراء إلى وضع ألحان للجنود، ويعد بالمكافأة السخية. ولم يكن أمير الشعراء قد وضع لحنه (بني مصر مكانكمو تهيا) ولا كان أحمد رامي قد وضع نشيد الجامعة، ولا كان الأستاذ صادق قد وضع النشيد القومي.
لم يكن شيء من ذلك، ولكن كان مليون من المصريين في ساحات القتال في فرقة التشهيلات، وكانوا يسيرون، فكان لابد لهم من لحن عسكري. ولما لم يجدوا من يؤلفه لهم ألفوه لأنفسهم، ولحنوه بأنفسهم، فكان:
يا عزيز عيني ... وانا بدي اروَّح بلدي
بلدي يا بلدي ... والسلطة خدِت ولدي
ولكن ما رأيك في أن هذا النشيد لعذوبته ولصدق تعبيره بالنغمة الموسيقية عما في أنفس الجنود قد طغى على نشيد:
الإنكليزي فكان الجنود الإنكليز ينشدون في أثناء سيرهم:
يا أزيز إيني الخ. . .(334/28)
ثم ما رأيك إذا كان نشيد يا عزيز عيني هذا أبلغ في نغمته وفي معناه وفي روحه من نشيد شوقي ومن نشيد الجامعة ومن النشيد القومي ومن نشيد الرافعي
أتحسبني أتجني؟
لا والله، ولكن أرى أن هؤلاء الشعراء الاماجد لم يتصلوا بالطبقة التي تجند منها السلطات على اختلاف ألوانها وأزمانها ولم يتصلوا إلا بالطبقات التي تقيم حول حياتها سوراً من الأرستقراطية المترفعة. لم يتصلوا بالشعب فهم لا يعبرون عنه. لذلك يحفظ شعرهم أمثالهم من طلبة المعاهد العلمية ولكن لا يصلح شعرهم للسيرورة بين العامة. وإنما يراد بالأناشيد وبخاصة العسكرية منها ما يصلح للعامة
ولقد ظهر اليوم من يكتبون للعامة ولكنهم لم يتقربوا بعدُ إلى العامة بفهم أرواحهم وبالمشاركة في عواطفهم وبتفهم أحاسيسهم وإنما تقربوا بهجر اللغة العربية وبكتابة الأزجال
(يا قاعد في دارك ... والعالم في نار)
هذا كل مبلغ للتقرب للمجندين. والمجندون يفهمون اللغة العربية ولكنهم لا يفهمون التغالي في تصوير العواطف ولا يفهمون التكلف، ومن أجل ذلك سيضعون لأنفسهم ألحاناً جميلة مثل:
بلدي يا بلدي ... والسلطة خدت ولدي
ويتركون أناشيد الشعراء ما لم يدرس الشعراء أنفسهم وسائل الاتصال بالشعوب فيقولوا مثل نشيد:
صدق وعده
الحمد لله وحده ... ونصر عبده
وأعز جنده ... وهزم الأحزاب وحده
فإن أعجزهم مثل هذا وهو معجزهم بالطبع ففي رسائلي التالية نماذج لأناشيد أخرى عربية ومترجمة وجديدة مؤلفة.
عبد اللطيف النشار(334/29)
استطلاع صحفي
مدرسة المدفعية الجوية
كيف يتعلم الطيار تدمير أهدافه
لمندوب الرسالة
من المراحل الهامة في الطيران الحربي مرحلة القتال، فهي
الغاية التي استعملت من أجلها الطائرات في القتال، فأصبحت
أخطر الأسلحة وأشدها فتكا إذ لا تقف في سبيلها حصون ولا
تقفها اختراعات، فهي تصيب المحاربين والآمنين مهما ابتعدوا
منها.
خطوة أخرى
تكلمنا في مقالتينا السابقتين عن مدارس الطيران الحربي والميكانيكي والتصوير الجوي وهانحن أولاء نبر بوعدنا فنضيف حلقة أخرى من هذا الفن المتشعب الذي يقضي الطيار حياته في الهواء وهو يتعلم دروساً جديدة فيه. وموضوعنا هذه المرة هو مدرسة المدفعية الجوية.
فقد قرأنا كيف يتعلم الطيار قيادة طائرته وكيف يصلحها، ومزايا الاستكشاف والتصوير بها والآن ننتقل إلى مرحلة أخرى من أدق المراحل وأكثرها خطراً وأشدها حاجة إلى حسن التقدير والمعرفة.
فالمدفعية الجوية اليوم عامل من أهم عوامل الهجوم والدفاع. فتصور قواعد الطيران الإنجليزي وهي تبعد عن ميناء كييل الألمانية مئات الأميال ومع هذا فإن الطائرات تصل إليها وتصيبها بأهدافها فتسبب أضراراً فادحة للأسطول الألماني المرابط هناك.
كما تدمر المصانع والمعاهد العامة. وقد يكون الانتقال من ميناء بارموث الإنجليزي إلى كييل سهلاً بطريق الجو ولكن إسقاط القنابل الصائبة من أشق الأمور ويحتاج إلى خبرة(334/30)
كاملة وتمرين طويل.
ولننتقل بالقارئ إلى مطار مصر الجديدة الحربي لنشاهد في غرفه وحظائره كيف يجب أن يتلقى الطيار مرانه وماذا يتحمل لإتقانه، فهناك في إحدى الغرف تجد مجموعة كبيرة من مدافع الفيكرز والبرن ونماذج القنابل بأحجامها المختلفة وأشكالها المتعددة وبعضها عملت فيه قطاعات عرضية وبعضها الآخر عملت فيه قطاعات طولية، فانكشف داخلها وظهر الفراغ الذي تحتوي الخلطات المختلفة من المواد المتفجرة والتي تساعد على الانفجار فإن تركيب القنابل الآن من المسائل التي تحتاج إلي التخصص سنوات طويلة، ويصل ثمن الواحدة من بعضها إلى 1500 جنيه
تنافس على الشر
فقد تنافس المخترعون في استنباط خلطات الصلب والنحاس وغيرهما من المعادن، وأصبح لكل دولة خلطة خاصة تنافس بها منافسيها وتحرص على التفوق عليهم بها. فهناك قنابل تنفجر بمجرد اصطدامها بجسم صلب، وهناك قنابل تنفجر بعد زمن معين، وهناك قنابل عملت خاصة لاحتراق طبقات الصلب ثم الانفجار. وهناك أيضاً قنابل تغوص في لجج الماء ثم تنفجر
كل هذه الأنواع وغيرها احتاج إلى مجهود عقلي جبار وسنين طويلة ليظهر إلى عالم الوجود، ولكل نوع منها مزاياه الخاصة. وتبعاً لهذه المزايا اختلف التركيب واختلفت المواد المستعملة، وجميع هذه المتفجرات يستعملها الطيار. فإذا جاز له أن يجهل دقائق تركيبها فلا أقل من أن يعرف مميزاتها وطرق استعمالها والمدى الذي تصل إليه ثم تأثرها بالعوامل الجوية إذا أطلقها أو إذا تركها بدون استعمال
قتال الطائرات
والقتال الجوي بالطائرات نوعاًن: الأول باستعمال المدافع السريعة الطلقات، والثاني بإلقاء القنابل ولكل منهما دروسه وتمريناته. وبعض المدافع يطلقها الطيار بالضغط على زر مثبت على عصا القيادة فينطلق المدفعان الجانبيان في وقت واحد، وهما يثبتان عادة في الطائرات المصرية فوق عجلتي الطائرة بحيث تتقابل طلقاتهما أمام مقدمة الطائرة وعلى(334/31)
بعد 200 ياردة منها. فإذا أراد الطيار أن يهاجم عدواً ويطلق عليه مدافعه السريعة الطلقات فإنه يجب أن يحول مقدمة طائرته إليه. إذ لا يستطيع أن يتحكم في مدافعه بغير هذه الوسيلة
ولهذا كان استعمال هذه المدافع من الأمور الصعبة. وتزود طائراتنا عادة بمدفع ثالث خلف مقعد الطيار ويديره محارب خاص.
وهذا المدفع يتجه إلى عدة اتجاهات فيستطيع المقاتل أن يصوبه إلى الوضع الذي يلائمه. ويركب هذا المدفع على إطار مستدير حول مقعد العامل فيدور إلى الخلف وإلى الجانبين ولكنه لا يتجه إلى الأمام إذ في المنطقة الأمامية مقعد الطيار ويخشى أن تستولي حمى القتال على العامل فتنطلق من مدفعه رصاصة تقتل الطيار فتتحطم الطائرة ويهلك العامل أيضاً
1050 طلقة في الدقيقة
وتمكن الإنجليز في الحرب الحالية من تجهيز طائراتهم بثمانية مدافع سريعة الطلقات حتى أصبحت طائراتهم أشبه بقلاع جوية. ويجب على الطيار ألا يطلق هذه المدافع باستمرار عند اشتباكه مع طائرات الأعداء فبعض هذه المدافع يطلق 1050طلقة في الدقيقة فإذا استمر الطيار على إطلاق المدافع مدة طويلة فإن ذخيرته تنفد ولاسيما إن المدافع بعيدة عن متناول يده فلا يستطيع تعميرها. أضف إلى ذلك أن استمرار الضرب يرفع حرارة المدفع مما قد يؤدي إلى تلفه؛ ولهذا فإن الطيار يطلق مدفعه ثانية تقريباً ويستريح ثانية أخرى
ويجب على الطيار أن يدرس هذه المدافع دراسة جيدة حتى يستطيع إصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل، ولهذا فإن كل طيار يعرف أنواع العطب التي قد تطرأ على كل منها ويعرف كيف يعالجها بسرعة. فإذا سألت أحدهم عن الخلل الذي قد يصيب مدفع البرن مثلاً قال أربعة وذكرها هي وطرق علاجها
مدفع التصوير
وللاقتصاد في النفقات يستعمل الطيار في تدريبه ما يسمى مدفع التصوير وهو لا يطلق رصاصاً ولكن يسجل على شريط تصويري مقدار إحكام الإصابة. ويثبت هذا المدفع عادة(334/32)
على جناح الطائرة أو في جزئها الخلفي وهو عبارة عن آلة تصوير على هيئة مدفع فعندما يضغط الطالب على الزر الذي أمامه تنفتح العدسة وتسجل بعد الطلقة عن الهدف كما ترسم دوائر حول الهدف فتبين مدى الخطأ أو الصواب في الإصابة
ويحتوي كل مدفع على اثنتي عشرة صورة مربعة طول ضلعها ستة سنتيمترات، ويفضل استعمال هذا المدفع في التمرين على المدافع الحقيقية لسببين مهمين أولهما الاقتصاد في المال والذخيرة، وثانيهما أن يرى الطيار بنفسه مبلغ دقته في إصابة الهدف فيعرف الخطأ ويتعلم كيف يصححه. ويستمر على هذا التمرين مدة يتقن فيها استعمال المدفع. وتحفظ أشرطة هذا المدفع في إدارة المدرسة ليرجع إليها الطيار كلما احتاج إليها فتراها معلقة في أنحاء الغرفة الخاصة وقد كتب على كل منها اسم مطلقها
فإذا انتهت هذه المرحلة بنجاح انتقل الطيار إلى استعمال المدافع الحقيقية أولاً بذخيرة كاذبة وأخيراً بذخيرة حقيقية ثم يوالي مرانه في فترات السنة المختلفة للبرنامج المعد لذلك
ثلاثة أطنان في الطائرة
وينتقل الطيار بعد هذا إلى فترة تعليم إطلاق القنابل. وتختلف الطائرات في قدرتها على حملها والمكان الذي توضع فيه وهي غالباً في الطائرات المصرية تثبت تحت جناح الطائرة إلى حوامل مشدودة بأسلاك متصلة بلوحة أمام القائد. وبعض الطائرات تحمل ثقلاً يبلغ وزنه 660 رطلاً وهي طائرات صغيرة. وبعضها تصل حمولته إلى ثلاثة أطنان من المدمرات كما هي الحال في بعض الطائرات الإنجليزية التي تستطيع الواحدة منها أن تقطع مسافة 4500 ميل دفعة واحدة
وسبق أن بينا أن القنابل ذات أحجام وأوزان مختلفة يثبت منها الطيار ما يشاء بشرط ألا يزيد مجموع حمولته على الثقل المقرر تبعاً للأغراض التي يقصدها الطيار والأماكن التي يريد تدميرها
ولقذف القنابل شروط يجب أن يتقيد بها الطيار وإلا أفسد مجهوده، ففي الجو تيارات هوائية تؤثر على سير القنبلة عند سقوطها. أضف إلى ذلك سرعة الطائرة نفسها فإن القنبلة تأخذ سرعة الطائرة، ولهذا يجب على الطيار أن يحسب ويقدر هذين العاملين وما لهما من تأثير حتى تكون إصابته دقيقة أو تبعاً للاصطلاح العسكري أن يكون (نشانه(334/33)
مضبوطاً) فقبل أن يسقط الطيار قنبلته يجب عليه أن يعرف سرعة الريح واتجاهه، وهل هو مضاد لاتجاه الطائرة أو متفق، وثانياً ارتفاع الطائرة عن الهدف، وثالثاً سرعة طائرته، ويعمل بعقله عملية حسابية شفوية فإذا وجد أن حسابه مضبوط وأن موقفه يساعده على إطلاق قنابله ضغط على الأزرار وإلا صحح موقفه بما يراه مناسباً
جحيم المدينة
والقنابل ثلاثة أنواع، الأول للتدمير وشكلها انسيابي ولها زعانف تضبط اتجاهها ولها مقدمة نحاسية ثقيلة متحركة تصطدم بالأجسام الصلبة فتضغط المواد الداخلية وتفجرها فترسل جحيمها لتدمر ما حولها، والنوع الثاني للحريق وهو نوعان نوع يوضع في أوعية كبيرة من الصاج توضع فيها عدة قنابل يفتحها الطيار فتتساقط القنابل فإذا لامست جسماً صلباً احترقت مولدة حرارة شديدة تشعل كل ما يجاورها، وعيب هذه القنابل صعوبة ضبط اتجاهها ولا تستعمل إلا في القرى والأماكن السريعة الاحتراق، والنوع الثاني وهو قنابل كبيرة تشبه قنابل التدمير ويسهل ضبطها وتطلق مثلها بالضغط على الأزرار
والنوع الثالث من القنابل هو قنابل الغازات السامة على اختلاف أنواعها، وبعضها يطلق في قنابل وبعضها تقذفه الطائرة على هيئة رذاذ ينتشر في جو الأماكن التي يراد إصابتها، وكما يدرس الطيارون طرق استعمال هذه القنابل فأنهم يدرسون أيضاً طرق الوقاية منها وأهمها طريقة إخفاء المدن أو الجنود والمصانع وغيرها من الأهداف التي تقصدها الطائرات، ويضيق بنا المقام عن سرد تفاصيلها ولكننا نرجو أن نحدث القارئ عنها في مقال آخر
إلقاء القنابل
يبدأ الطيار مرانه على القتال بالقنابل باستعمال آلة التصوير وبها يسجل قدرته على إصابة الهدف. وليكون التدريب أكثر نفعاً وأوفى عناية، شيدت إدارة سلاح الطيران الحربي بناء من طابقين يجلس الطيار في الأعلى منهما حيث تسلط عليه التيارات المشابهة لتيارات الجو، ويوضع في الطابق الأسفل منهما خريطة صغيرة متحركة عليها علامات يحاول الطيار أن يصيبها بقذائفه وتسجل الإصابات بواسطة ضوء أحمر(334/34)
ومن وسائل التدريب المهمة استعمال القنابل الكاذبة الخالية من المتفجرات الضارة. فهذه الوسيلة أقرب إلى الحقيقة من سواها إذ يجلس الطيار في طائرته بعد أن يحمل حمولته المقررة من القنابل ثم يرتفع إلى طبقات الجو ومن هناك يسقط قنابله على الأهداف. فيستطيع بهذه الطريقة أن يتعلم دروسه العملية التي تعتبر المرحلة قبل النهائية. ففي الفترة الأخيرة يستعمل الذخيرة الحية
ولا يجوز للطيارين العودة إلى مطاراتهم والهبوط فيها إذا كانوا يحملون قنابل مستعدة للانفجار فيجب عليهم أن يهبطوا أولا في مكان منعزل حيث يتخذون بعض الاحتياطات الفنية التي تمنع حدوث انفجار هذه القنابل في حالة حدوث طارئ مفاجئ للطائرة عند هبوطها في أرض المطار كاصطدام جزئها الأسفل بالأرض مثلاً. وهذا الاحتياط ضروري للمحافظة على سلامة المطار وعماله ولتكون أرضه ممهدة صالحة لهبوط الطائرات.
فوزي الشتوي(334/35)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 4 -
على أن اليأس لم يعرف سبيلاً إلى قلبه الفتى حتى في مثل تلك المحنة؛ فراح بعد العدة لثورة جديدة يشعل نارها في بيدمنت، ثورة تأتي هذه المرة من الشعب وكان مازيني مختبئ في بيت أحد أصدقائه في مرسيليا إذ راحت الحكومة تطارده هو وأصحابه، فكان لا يخرج إلا تحت ستر الظلام متنكراً حتى لا يقع في يد الشرطة؛ ولما ضاق بسجنه هذا رحل إلى جنيف وأخذ يجمع المال في سويسرا لثورته الجديدة ولقد لاقى في سبيل ذلك من العناء ما لم يخففه على نفسه إلا شرف الغاية التي كان يسعى إلى بلوغها
وأعد في سويسرا من الرجال ألفاً وثمانمائة ليعبروا جبال الألب إلى بيدمنت، وكان يمني نفسه أن ينضم الناس في تلك الولاية إلى هؤلاء المغيرين فتشيع الثورة فيها وتتعداها إلى بقية الولايات، فيبرهن بذلك لشارل ألبرت أن جنده لم يهنوا من بطش أو يستكينوا إلى ما ضرب عليهم من ذلة، واختار لقيادة هؤلاء المجاهدين ضابطاً يدعى رامورينو حارب من قبل تحت راية بونابرت؛ ولكن رامورينو هذا قضى على الحركة بدل أن يسير بها إلى النجاح فلقد تلكأ في الحضور من باريس حيث راح يبدد المال الذي جمعه مازيني درهما إلى درهم؛ ولما حضر سار بجنده وإنه ليخفى في نفسه غير ما يبديه، وكان هؤلاء قد فترت الحماسة في قلوبهم لطول انتظارهم قائدهم، فما لبثوا أن ذهبت ريحهم وباءوا بفشل عظيم. . .
وأحس الغريب اللاغب بالهم والنصب يخترمان جسمه النحيل فسقط من الإعياء قوامه السمهري، وتمدد على فراشه أياماً كاد فيها المرض أن يودي بروحه فيطفئ ذلك السراج الوهاج ولما يؤد رسالته على تمامها(334/36)
وتداركه لطف ربه فبرئ مما ألم به؛ وكانت تخفف عنه آلامه وتسري عن فؤاده سيدة أحبها فكانت له في شدته ملاك الرحمة وذلك من فضل الله عليه
ولم يكد يستعيد قوته حتى ألفى الحكومة تطارد أنصاره فتخرجهم من سويسرا بأمر من الدول المسيطرة يومئذ؛ وعز عليه أن يبرح تلك البلاد فيبعد عن إيطاليا وإنه ليحس أن قربه منها يشد عضده ويربط على قلبه، وهو لا يعرف له مستقراً إلا أن يكون ذلك في إنجلترا أو أمريكا ولكنه لا يطمئن إلى أولاهما لا يطبق البعد في الأخرى
لذلك لاذ المجاهد المكدود بالهرب فقضى سنوات ثلاثا مختبئ في منازل بعض محبيه؛ كأنما قدر عليه أن يحيا حياة السجناء وما هو بمجرم ولا مجنون؛ وتوالت عليه المحن وانتابته النوازل، فتمشى السقم في بدنه وتراءت الصفرة في محياه، ولاحت اللوعة في عينيه؛ ونفد ماله حتى لجأ إلى طلب العون من أصحابه وكانت أمه ترسل إليه ما تستطيع أن ترسله كلما كتب إليها يسألها المعونة ورثت ملابسه وأعوزته الكتب التي كانت عزاءه في غربته وسلوته في وحدته؛ وحيل بينه وبين أنصاره فبرم بالوحدة واستوحش الغربة، وألح عليه مرض أسنانه فكان يتناوب هو والهم جسده المضني
وأحزنه ما ترامى إليه من الأنباء عن تخاذل الناس وفتورهم في إيطاليا، كما آلمه أن يجد بعض المنفيين يعودون باللائمة عليه فيما أصاب حركتهم من فشل؛ ولقد أدى ذلك إلى أن يضيق بالناس فما يصطحب إلا قطة أحبها!
وهكذا يجتاز الزعيم الطريد فترة من أشد فترات حياته المريرة فترة البلاء التي ما خلت من مثلها فيما نعلم حياة زعيم؛ وخيم عليه ذلك الظلام الذي يسبق في حياة القادة النور الوهاج الذي يبدد بقوته كل ظلام
وإنما يكون هذا البلاء في حياة الزعماء وحيالهم يشعرهم بسمو الغاية التي يجاهدون من أجلها، فيزيدهم هذا الشعور تعلقاً بمبادئهم وحرصاً على بلوغ غاياتهم حتى ليصبح الألم محبباً إلى أنفسهم أن كان مبعث اليقين والصبر، وتلك ناحية تمتاز بها كبار النفوس من سائر النفوس
ولن يكون عظيماً من تتعاظمه الشدائد فتلويه عن وجهته، وإنما العظيم من يسير على القتاد مغالباً كل ما يعترضه، وعلى قدر ما يجتاز من الصعاب تكون عظمته ويكون الأثر الذي(334/37)
تتركه في الناس حركاته، ومن هنا أيضاً كان ترحيب العظماء بملاقاة المكاره، ثم من هنا جاءت قيمة التضحية والفداء وولدت الزعامة
والألم فوق ذلك يمحص المجاهدين فيستخفون كل مرة بما يأتي بعدها من ضروبه حتى ليصير مألوفاً لديهم؛ وذلك ضرب من الغلب يأتيهم من بطلان سبب من أكبر أسباب الهزيمة
لذلك صبر مازيني، ومثله خليق أن يصبر وهو الذي جعل من مبادئ جمعيته التضحية والفداء والصبر على الآلام، بل والسعي إليها ومجابهتها، فلما كتبت إليه أمه تسأله أن يرجع عما هو بسبيله كتب إليها يقول: إنه كان يفعل ما تأمر لو أنه استطاع ذلك! فانظر إليه كيف لا يستطيع أن يبتعد عن المحن والآلام وخذ من رده هذا معنى من أبلغ معاني البطولة. . .
وكان له في وحشته نور من مبادئه ترى قبساً منه في قوله: (لقد جعلنا قضية الناس قضيتنا، ولقد حملنا على عانقنا باختيارنا آلام جيل بأجمعه؛ وقبسنا من الله الباقي شعلة، ووضعنا أنفسنا بينه وبين الناس؛ واضطلعنا بدور المحرر، وتقبلنا على ذلك الله)
وعلمه ما سبق من الفشل أن يصبغ مبادئه صبغة تجعل لها مثل قوة الدين، فتكون بذلك أسرع نفاذاً إلى القلوب، فإذا مستها علقت بها حتى ما تنتزع منها؛ لذلك جعل من تعاليمه الحث على المبادئ السامية التي بها تكمل الإنسانية؛ كأداة الواجب لذاته، ومحبة الناس جميعاً، والعمل لخير الإنسانية عملاً لا يبتغي المرء من ورائه جزاءً ولا شكوراً، والبذل والفداء في غير مَن، والصبر على المكاره في سبيل النصر
وراح يوحي ذلك إلى الناس بخيال شاعر ويقين نبي حتى أحيطت دعوته بروح مثل روح الدين، وأصبحت الكلمات التي لا تكون على لسان غيره أكثر من كلمات، قوة لها سحرها وفتونها على لسانه هو؛ وأصبح شخصه بين حوارييه وكأنما رفعته قوة خفية إلى مرتبة فوق مرتبة البشر وإن كانت دون مرتبة الأنبياء
وأصبحت وطنية الذين اتبعوه أكثر من أن تكون وطنية؛ فلقد ملأت قلوبهم الآمال واشرأبت نفوسهم إلى المثل العليا، وفي ذلك تتجلى رسالته الحق إلى الجيل، إذ قد جعل الناس يؤمنون أن في هذه الحياة غير الدين ما يستحق تضحية النفس في سبيله، ومن ذلك الوطن(334/38)
والحرية والكرامة الإنسانية
وكان يشتد به الحنين إلى وطنه وهو في سويسرا حتى ليفعل به الحنين ما يفعل المرض؛ وإنه ليعلق خياله بتلك السحب التي تجتاز الجبال لأنها تسير إلى إيطاليا؛ وإنه ليمد بصره إلى أقصى ما يستطيع نحو وطنه وكأنه يستأنس بهذه النظرات فهو يطيلها أحياناً كما لو بات في غيبوبة
على أن الأنباء التي كانت تصل إلى مسمعيه عن أهل هذا الوطن كانت تزيده غماً على غم، فهذه الرجعية العتيدة التي تؤيدها النمسا تزعم خاطره وتؤلم نفسه، وهذا الخور الذي حل بالرجال يغيظه ويحزنه، حتى ليصل به الأمر أحياناً إلى أن يتدبر أهو على صواب فيما هو فيه من جهاد يجر عليه عذاباً كذلك العذاب الأليم؟
ولكن نفسه كانت تحدثه أبداً أنه مهما قل أنصاره، ومهما مسه من الضر أو أصابه من الهم، فلابد أن تكون العاقبة بحيث تستحق ما يلاقيه؛ وكان قلبه يوحي إليه دائماً أن مبادئه محققة في غد لا محالة على يده أو على يد غيره؛ وكثيراً ما أعانه هذا الأمل على التغلب على كثير من الصعاب؛ ولقد يشتد هذا الأمل عنده حتى فكأنه يرى المستقبل فهو يبشر أبداً بالفوز كأنما كان يوحي إليه به من وراء حجاب. فهل كان مرد ذلك إلى شدة يقينه وقوة حماسته أم إلى جموح خياله وقلة تجربته؟ ألحق أن خياله كان ذا سلطان كبير عليه، ولكن جانب اليقين في نفسه لم يكن أقل من جانب الخيال، بل لقد نستطيع أن نقول إن قوة خياله كان مبعثها قوة يقينه فلولا ما أيقنه واعتزمه ما طمع في شيء ثم ما تخيل شيئاً
وجمع مازيني في سويسرا حوله نفراً من أهلها وأوحى إليهم أن يعملوا للحرية وأغراهم أن ينشئوا جمعية على غرار إيطاليا الفتاة فتألفت بذلك سويسرا الفتاة، وأصدر أعضاؤها صحيفة تعبر عن مبادئهم وعاونها مازيني بقلمه، ولقد كان مازيني يبغي من وراء ذلك أن تنتشر الحرية في كل مكان في أوربا لتتألف منها قوة عظيمة تجرف أمامها الرجعية، وتقذف بها إلى غير رجعة؛ وانتشار الحرية في سويسرا من شأنه أن يؤدي إلى تسربها إلى جارتها، هكذا حدثته نفسه الوثابة وخيلت له روحه المتوقدة
ولكن الحكومة السويسرية تقرر نفيه من بلادها مخافة أن يبذر فيها بذور الثورة، وتجد في البحث عنه وتقضي في غير إبطاء على حركته هذه، وهي في مهدها، فيجد نفسه مضطراً(334/39)
إلى الرحيل فيختار إنجلترا ويسعى إليها عام 1837 وهو في الثانية والثلاثين من عمره
وفي لندن يحيا حياة طليقة حرة فيظهر بشخصه في المجتمعات ولا يلجأ إلى الاختفاء ولكنه يضيق أول الأمر بجو لندن وحياتها الصاخبة وضبابها المقبض، ويذكر ما خلف وراءه من شمس منيرة وسماء ضاحية وفضاء رحيب منضور الجوانب مسكي النفحات، وهو بطبعه شاعر يهفو لجمال الطبيعة قلبه، فلا عجب أن تقبض صدره عيشة لندن التي أحس منذ وطأتها أقدامه أن المادية فيها هي أساس كل شيء، وأن الروحية فيها غريبة شريدة مثلما كان هو غريباً شريداً
ولئن منح حرية التجول والعيش السافر، فلقد وجد أمامه من دوافع العزلة والقبوع في داره ما لا يقل إيلاماً عن نوازع الرجعية والاستبداد وذلك هو الفقر؛ الفقر الذي تركه رث الثياب حتى ليتواري من الخزي عن الأعين، الفقر الذي جعله يرهن ما حمل معه من ضئيل المتاع ليقتات والذي اشتد به زمناً حتى لقد راح ذات يوم يرهن ملابسه من أجل بعض دراهم، وذهب مرة أخرى يرهن حذاءً له ليشتري به طعاماً لغده
وأخذ يبحث عن عمل يمسك من ورائه رمقه، فلم يجد إلا أن يكتب بعض المقالات في بعض الصحف، على أن أجره على ذلك كان ضئيلاً وكان المترجم الذي ينقل كلامه إلى الإنجليزية يحصل على نصيب من هذا الأجر
ومن غريب أمر هذا الطريد النازح أنه كان لا يبخل في غربته على غريب غيره بماله على قلته، فكلما اكتسب شيئاً منه أو أرسلت أمه شيئاً وجاءه أحد معارفه يسأله العون مدّ يده إليه بما تملك وهو في أشد الحاجة إلى من يعينه، حتى الملابس لقد كان يجود بما ترسله إليه أمه منها على الغرباء من بني وطنه لتقيهم غائلة البرد في لندن، وحسبه هو دفء قلبه وابتهاج نفسه بما تقدم يداه
وكان يستدين على ما كان في الدين من مذلة، ثم يحاول أن يسد دينه بقلمه فيفلح حيناً ويفشل أحياناً فأضاف ذلك إلى آلامه وأشجانه ما نعجب كيف أطاق احتماله!
على أن أعظم ما نال من نفسه بعده عن بلاده وقصر ذات يده عن مواصلة جهاده في سبيل تحريرها، ومخافته في هذا البلد النازح من أن تموت مبادئ جمعيته فتنحل وينساها أعضاؤها، وفي ذلك الطامة الكبرى والبلاء الذي لا يجدي معه صبر ولا تنفع فيه حياة(334/40)
ومما قاله في هذا الصدد: (لن يستطيع رجل أن يعيش وحده، وهاأنذا لا أجد حولي من يدري ما أفكر فيه وما أبتغيه) ووصف ذلك العصر بقوله: (إنه عصر انحلال خلقي، عصر إنكار، عصر كذلك الذي مات فيه المسيح)
وكأنه كان بينه وبين الدهر ثأر فهو لا يأبى إلا يتيه بالمحن بعضها في إثر بعض، فلقد جاءه وهو في غربته نبأ وفاة أخته العذراء، وقد كان يحبها أشد الحب إذ كانت تكبر مبادئه وتعجب به من أجلها، وكان إعجابها هذا به يزيده حماسة وأملاً. وكيف نستطيع أن نصف مبلغ حزنه على أخته التي ذهبت فلن يراها أبداً وهو ذلك الشاعر الرؤوف العطوف الذي يهب حبه الناس جميعاً؟
وكان الأسى يرمض فؤاده كلما مر ذكر ما عسى أن يكون عليه حال أمه المحزونة، ويتضاعف حزنه إذا حدثته نفسه أنه كان سبب كثير من شقائها بما جره على نفسه من العذاب والغربة، ولكن شيئاً واحداً كان يخفف عنه بعض ما به، وذلك شعوره أنه يلقى ذلك كله من أجل وطنه ومبادئه.
(يتبع)
الخفيف(334/41)
أنت. . .
(مهداة إلى الدكتور إبراهيم ناجي)
للأستاذ خليل شيبوب
النورُ في عينيكِ أُنشودةٌ ... تَروي عن البحر أعاجيبا
تُرقِصُ في هُدْبيْهِما ناظراً ... كاللجِّ بالخضرة مشبوبا
قد أَسمعتْ عينيَّ ألحانَها ... عيناكِ تنغيماً وتطريبا
خَدَّرَتِ النفسَ أهازيجها ... واقتدحتْ في القلبِ أُلهوبا
فاختبطتْ في الصدْر أغوارُه ... تهدر تصعيداً وتصويبا
لكِ ابتسامُ الصبحِ خطَّتْ به ... مغازلُ الشمس أساليبا
من خَطَفاتِ السحر موهومُهُ ... يُخالُ تفضيضاً وتذهيبا
أُحِسُ في النفسِ حفيفاً له ... أَزهقَها حبَّاً وتعذيبا
وشَعْرُكِ المرسلُ نَبتُ الدُّجى ... يموجُ تصفيفاً وترتيبا
ملتمعٌ من سافرٍ تحته ... أضفى ضياَء البدر مسكوبا
رعاه قلبي حَلَكاً هادياً ... يجلو عن النفس الغياهيبا
الحسنُ في الوجهِ وفي الشَّعرِ قد ... سافر تشريقاً وتغريبا
جيدُك أَعيى الفنَّ لما بدا ... في قَالَبِ الفتنة مصبوبا
لانَ لُجَيْناً وضياءً كما ... قام عمودُ الصبح منصوبا
سطَّر فيه الحسنُ أَطواقه ... دائرةً لم تكسُ مسلوبا
الحسنُ وُصفٌ لكِ والفنُّ قد ... أضحى لأوصافكِ تلقيبا
جسمُكِ قدسُ الحبِّ طافتْ به ... عبادةُ العابدِ مربوبا
في كل عضو منه أعلى الهوى ... معابداً لي ومحاريبا
أعبُدُ فيها اللهَ مستشعراً ... قُدرَتَهُ لا أختشي حوبا
وقفتُ عمري لكِ مستلحقاً ... بصدر أيامي الأعاقيبا
عواطفي في الصدرِ مكبوتةٌ ... أدبها حسبِّيَ تأديبا
لو أُطلِقَتْ لاندفقتْ مثلما ... تَدَفَّقَ الغيثُ شآبيبا(334/42)
أحْبَبْتُكِ الحبَّ جميعاً فهل ... أعيشُ محروماً ومحروبا
يا هند لا يُغْضِبكِ حبي فكم ... وَضْع صحيح بات مقلوبا
وإنني ما اخترتُه عامداً ... بل هو شيءٌ كان مكتوبا
أَخْفَقْتُ في سعيي إليه ومن ... أخفقَ في مسعاه ما عيبا
إن عاش بالآمال غيري فقد ... أموتُ بالآمالِ منكوبا
أو صَدَقَ الحبُّ لغيري فقد ... أعاد لي العمر أكاذيبا
(الإسكندرية)
خليل شيبوب(334/43)
لحظة
للأستاذ حسن حبشي
آهِ ما أجْمَلَها مِنْ لحْظةٍ ... حادَثتْ عَينيّ فِيها مُقْلتاكِ
لحظة مِنْ عُمُري خالِدَة ... لامَستْ كِّفيَ فيها رَاحَتاكِ
وأضاءتْ لَيلَ قَلبِي بَسْمَةٌ ... أطْلَعْتها كالأمَانِي شفتاك
فَصَحا القلب عَلى فِتْنتها ... وهَفا منْ شوقِهِ نحو عُلاك
أنت يا مَولاي عُلْوِيُّ السَّنا ... فاحبُني من نورك الزاهي شُعاعا
هاتِهِ أجْعلْ فُؤادي زوْرقاً ... وضِياك الحُلوَ في اللجِّ شِراعا
عَلَّهُ يُنقِذُ روحاً حُرَّةً ... سئمتْ في عالم الأرض الصراعا
وامضِ لا تَعبأ بِذيَّاك الورى ... فالورى قد أحسنوا فيها الخداعا
يا نجيَّ القَلبِ في عُزلَتِهِ ... رامَكَ القلبُ فهلاَّ تُشفقُ
لا تخلْ صمتي جحودا بالهوى ... أنا إنْ أسكُتْ فَعيْني تنطقُ
أنتِ في هذي الدُّنا زَنْبقةٌ ... عِطرُها الفوّاح فِينا يشرُقُ
عَطَّرَ الرُّوح فأمسى خاطري ... بالَهَوى العَفِّ طروباً يَخفقُ
حسن حبشي(334/44)
رسالة الفن
دراسات في الفن
مع هذه الأجسام
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- اسمعي! إذا كنت تريدين زوجاً صالحا فعليك بهذا الشاب الذي مر الآن ونظر
- أيهم؟ فهم كُثر، الذين مروا ونظروا
- نعم هم كثر، ولكنه هو واحد، وقد عرفك وأنت عرفتِه، وقد حياك وأنت حييته. . . فلم التجاهل؟
- أأنا حييت أحداً الآن وحياني؟ متى كان ذلك؟ وكيف كان؟
- زعموا أن آنسة كانت جالسة على قارعة الطريق في مقهى وكان معها دلو. . .
- دلو؟
- أي نعم. . . بمعنى رجل. . . وهو عند المرأة هكذا لأنها تلقي به حيث شاءت، وتملؤه بما يطيب لها، و (تدفقه) أينما أرادت، وتأخذ منه كل ما يحتويه فتختص به نفسها أو توزع منه على من تحب. . . فإذا انثقب رقعته، فإذا انكسر جبرته، فإذا تحطم حرقته واستدفأت بحطامه. . .
- يا له من ثأر بينك وبين المرأة. . .
- أنا؟ أنا ما بلغت إلى اليوم منزلة الدلو. . . مهما أكن فلن أزيد على لوح من ألواحه فلا يمكن أن يكون بيننا ثأر
- يا للفضيحة. . . ما علينا. . . أتمم قصتك. . .
-. . . وكان الدلو يتحدث إلى الآنسة بكلام تافه سخيف لا غناء فيه لأنه يدور حول أسرار الوجود. . .
- وهل يقال عن الحديث الذي يدور حول أسرار الوجود إنه تافه سخيف؟ فما الحديث الجليل الخطير؟
- هو عندكن ما يدور حول هذه الجثث التي هي أنتن، وحول هذه الخرق و (الهلاهيل)(334/45)
التي هي ثيابكن أو دروعكن وما أشد التباين بينها وبين دروع الرجال، فهم يتدرعون بما يقيهم الهجمات، وأنتن - يا ويلي منكن - دروعكن مغامز ومطاعن تكشفنها كشفاً، وتظهرنها عمداً ليسهل افتراسكن على الجرذ الضئيل كما يسهل على الأسد الضرغام
- يا أخي! أما تُتم قصتك وتدع هذه المهاترات. . .
- فلندعها. . . ومر بالآنسة وصاحبها. . . آخر. . . عريض المنكبين متين الألواح. . . طفت رجولته على جلده ولم يعد منها شيء في داخل نفسه. فلما رأى الآنسة، تجمعت قواه في عينيه، ثم انبثقت القوة تياراً، وانطلق التيار جارفاً قوياً، فصدم الآنسة في عينيها، وفيما بين عينيها، وفيما حول عينيها، فآلمتها الصدمة، فرفعت يدها إلى رأسها تحول بين رأسها وبين هذا التيار الذي لو ثقل عليها لتراخت وتخاذلت وتساقطت، ولنتحسس بيدها أيضاً مكان الصدمة تختبرها وتتعرف مداها، كما نصنع دائماً عند كل صدمة، ولكنها فطنت إلى أنها بين جماعة من الناس قد يكون فيهم من يتتبع حركاتها، فمررت يدها سريعاُ من جبهتها إلى شعرها حتى يظن الذي يراها أنها إنما رفعت يدها لتصلح من شعرها، لا لتتقي تياراً، ولا لتشد أعصابها. . . وجازت هذه الحركة على كل من رأوها. . . وصاحبها أولهم
- وما لنا وهذه الحكاية؟
- هذه الحكاية حدث الآن ما يشبهها، وكل ما في الأمر أني أردت ألا تفوت من غير أن ألفتك إليها لعلك تستغلينها، وتربطين إليك بسببٍ صاحبك هذا الذي مر، وهو فيما يظهر ممتلئ. . . رجولة وغروراً، ومالاً أيضاً. . .
- ولكن هذا أجنبي
- إذن فانتظري الذي ليس أجنبياً، والذي يؤثر فيك هذا التأثير، واعلمي أنه هو الأهل لك
- ولكن رجالاً كثيرين. . . كثيرين جداً يفضلون السحلب على (المغات). . .
- نعم لأن الكاكاو أطيب طعماً من جوز الهند
- عدنا إلى الخلط؟
- لقد مشيت معك. . . كنا نتحدث عن الرجال والنساء فانتقلت أنت إلى العطارة، فآثرت أن أجاملك وأن أمضي معك حيثما تريدين. . . فهل نعود إلى ما كنا فيه وتقولين لي مالهم الرجال الكثيرون الذين كنت تريدين أن تتحدثي عنهم. . . أو الأحسن أن ندعهم ونتحدث(334/46)
في الحمص وغزل البنات؟ مالهم الرجال الكثيرون. . . مالهم؟
- فأنت مصر على أن تهتك نفسي؟
- مهتوكة يا آنستي نفسك وكل نفس ما دامت الأنفس في الأجسام!
- إذن، فليست الأجسام حجبا كماً قلت مرات؟
- إنها حجب، وليست حجباً، كالنور يبصر فيه البلبل ويمشي فيه الخفاش. . .
- أو كالظلمة تبصر فيها البومة ويعمى فيها الطاووس. . . فهل أنت طاووس أو أنت بومة؟
- ولم لا أكون البلبل وأنت الخفاش؟
- لم أسمعك يوماً تصدح. . .
- لأنك تسهرين الليل وتنامين النهار. . . عيناك لهما الظلام ونفسك اطمأنت للسواد!
- قسمتي!
- ولماذا ترضين هذه القسمة وهي مما لم يكتبه الله على الناس فما كتب على المبصرين العمى، ولكنهم هم الذين يضعون أصابعهم في أعينهم كمن يخشى أن يرى، وكمن يجب أن تزل قدمه ليسقط فينهار! افتحي عينيك، وانظري، وابصري، وافهمي، والله لا يتعاطى من عبيده أجراً على ما يعلمهم، ولا هو يتقاضاهم رسوم الألعاب.
- وماذا تريد مني أن افعل؟
- ترقبي حركاتك، وترقبي دوافعها في نفسك، ثم ترقبي حركات الناس، تعرفي دوافعها في أنفسهم.
- وهل كل الناس يتشابهون؟
- من غير شك، هم يتشابهون في مقومات الإنسانية وأصولها كما تتشابه الأسود في مقومات (الأسدية) وكما تتشابه الأبقار في أصول (البقرية). . . وكل ما بين أفراد الناس من خلاف، فإنما يتناول الفضول والزوائد ولا يتعداها، فالأمير إذا مات وحيده حزن وبكى ومسح دموعه في منديل، والخفير إذا مات وحيده حزن وبكى ولكنه يمسح دموعه في ذيل ثوبه، وكل من المنديل وذيل الثوب، لا صلة له بالحزن ولا البكاء. . . أنت تضحكين فتكتمين صوتك تحشما، وأنا أضحك فأفزع الناس بقهقهة كالرعد ولكننا مع هذا نتساوى في(334/47)
أننا نضحك وإن كنت أنت تضحكين بقدر، وأنا أضحك بكل القوة التي في القدر والقضاء. وبهذه المراقبة يا آنستي تستطيعين أن تفهمي الناس، وتستطيعين بعد ذلك أن تكتبيهم وتصوريهم أو تعزفيهم أو تغنيهم أو تلعبي بهم ما شاء لك الفن. . . ولكن عليك - كما رأيت - أن تعرفي نفسك أولاً، وأن تحكمي عليها دائماً مهما آلمك هذا الحكم، وإذا كنت تكرهين الألم فحاولي أن تصلحي نفسك بالحق، واحذري أن تخدعيها بالباطل لأن الباطل يتلفها فلا تعود تصلح مقياساً للحق الذي تنشدينه، فالحق مستقيم، ولا يقيسه إلا ما استقام، ولا يمكن أن يحصره حلزون. . .
- وكيف تعرف الحق؟
- الحق معروف، هو ما فطر عليه الناس لا ما اصطنعوه، الله خلق الخلق بالحق. . . فالحق فيهم، وهو إلى اليوم على رغم ما جاهدوه طويلاً لا يزال فيهم، ونحن نعرفه في البشر بذيوعه بينهم على اختلاف ألوانهم وأجناسهم. فالموت حق لأنه يتناول الناس جميعاً، والحب حق لأنه يتمكن من قلوبهم جميعاً، والفن حق لأنهم يطربون جميعاً. . . هذا هو الحق. . .
- هذا حسن. فكيف تريدني أن أبدأ في تفهم هذا النوع من الحق الذي تدعي حدوثه بين الأجسام، والذي يخيل إلي أنك تجعله كتيار الكهرباء. أنظر مثلاً: هذا رجل ممتلئ رجولة، هو أيضاً كذلك الذي رأيناه في البدء، وهو ينظر إلى هذه السيدة ولكنها تتحسس رأسها من الخلف لا من الأمام، فهل حركتها هذه هي أيضاً تدل على أن تياراً أنبثق منه نحوها، وأن هذا التيار أثر فيها إلى آخر هذه الدعاوى التي تدعيها. ليست المسألة إلا ارتباكاً فقط
- ما الذي قلناه شك. وكل ما في الأمر أن هذه السيدة أنضج أنوثة من الآنسة الأولى التي هي أنت، وعينها أشد تبجحاً من عينك، وحيلتها أوسع من حيلتك، وأعصابها أقوى من أعصابك. . . لقد رفعت يدها لتمر بها على جبهتها مثلما صنعت أنت، ولكنها أفاقت ويدها في منتصف الطريق فبدلاً من أن تضع يدها على موطن (النغزة) في جبينها الفت بيدها إلى قفاها. . . وهذه هي الدرجة الثالثة من درجات الصد
- وهل للصد درجات. . . غير ما فعلتُ وما فعلتْ؟
- نعم. . . أولى درجاته هي ما يلجأ إليها الأطفال عندما يهاجمهم مهاجم بعينيه ونظراته. .(334/48)
فهم يرفعون أيديهم ويغطون بها أعينهم ويمسكون بها رؤوسهم، وهذه حركة من حركات الصد المكشوفة التي لا يلجأ إليها الواثق من ضعفه. . . وهي تشبه الجري والهرب. . . والدرجة الثانية هي هذه الحركة التي بدرت منك، والدرجة الثالثة هي هذه الحركة التي بدرت من هذه السيدة. . . والدرجة الرابعة هي الصد بالنظر. . . تيار ضد طيار. . . والفوز لمن غلب، والفشل لمن أرخى عينيه. . . ومن الناس مخادعون. . . يريد الواحد منهم عند الهجمة أن يغطي عينيه أو أن يغطي رأسه؛ فإذا رفع يده خشي أن ينكشف فعبث بعنقه أو بأذنه أو بأنفه. . . ألم تلحظي شيئاً من هذا. . . وبهذه المناسبة أريد أن أسألك سؤالاً لعلك تجيبين عنه. . . بعدما استنار لك الطريق
- اسأل. . . ولكن اجعل سؤالك خفيفاً فأنا لا أزال في السنة الأولى معك. . .
- ليتني أبلغ السنة الأولى أنا اسمعي، ألا تستطيعين بناء على ما تقدم أن تستنبطي للتحيات التي يتبادلها الناس منطقاً؟. . .
- وماذا تقصد بالتحيات؟
- التحيات. التحيات. رفع اليد إلى الرأس. أليست هذه تحيات؟
- الناس يحيي بعضهم بعضا لأنهم مؤدبون، والصغير يبدأ الكبير، لأنه مطالب باحترام الكبير. . .
- ليس لي شأن بهذه المطالبات. إنما أنا أريد التحيات الطبيعية التي لا يلحظ الناس فيها الفروق الصناعية. . . حتى فروق العمر والسن يجب أن تعلمي أنها ليست طبيعية في هذا الصدد فهناك صغار نفوسهم أقوى من نفوس الكبار. . . هاأنذا وضعت لك الأساس
- وبهذا الأساس زدتني اضطراباً. . .
- لا بأس. . . قوي وضعيف التقيا. . . يرفع الضعيف يده إلى رأسه بالتحية في هذا الزمن، ولكنه في الأصل كان يغطي عينيه ورأسه. . . والكبير يرد عليه بعد ذلك من باب (جبر الخاطر) لأنه في الواقع لم يشعر بالدافع الطبيعي الذي يحمله على أن يرفع يده إلى رأسه. . . ويلتقي القويان فيرفع أحدهما يده إلى رأسه في الوقت الذي يرفع الثاني يده فيه. . . وهكذا يفعل الضعيفان. هذا هو منطق التحية الذي أطلبه. . . والآن. . . وبعد هذا المثل. . . هل تستطيعين أن تستنبطي منطق التقبيل؟(334/49)
- وهل للتقبيل هو أيضاً منطق؟ إن التقبيل استجابة لعاطفة، والعواطف لا منطق لها. . .
- من الذي قال لك هذا؟. . . كل ما في الطبيعة له منطق وقانون حتى المفاجآت والمصادفات. . . وإن الذي نثر الكون في هذا الفضاء وحفظه هذه الدهور وهذه العصور لا يمكن إلا أن يكون حكيماً له سنن هي الحكمة. . فكري معي قليلاً. . .
- طيب! قل لي من أين أبدأ؟
- من حيث تشائين. ابدئي بالقبلة التي يطبعها الأب على جبين الابن. . . لماذا يختار لها الجبين؟
- لماذا؟
- ليعطيه شحنة من الكهرباء القوية في هذا الموطن الذي هو أصلح مكان في جسم الإنسان لاستقبال الكهرباء. . . والجبين هو المكان الذي يسلطون عليه الكهرباء في أجسام الذين يعدمونهم بها في أمريكا. . . أو هو المكان الرئيسي لهذا. . .
- كأنه معقول. . . والابن يقبل يد أبيه. . . ثم إنه يضع يد أبيه على جبينه. . . فلماذا؟
- الابن يقبل يد أبيه فيمتص شحنة من كهرباء أبيه، واليد من أطراف الإنسان التي تشع منها الكهرباء باستمرار وبسهولة. . . والمنوم المغناطيسي يستعين بيديه على تنويم وسيطه إلى جانب القوة التي تنبعث من عينيه. . . والابن يضع يد أبيه على جبينه لأن الجبين كما قلت لك من أطيب المواطن في الجسم لاستقبال الكهرباء
- والأخَوان؟ يقبل كل منهما الآخر في خده، أو يمسح الواحد منهما وجهه في وجه الآخر. . .
- ذلك لأن المفروض في الأخوين أن يكونا متساويين في كمية الكهرباء التي شحن بها كل منهما. . . فالواحد منهما لا يريد أن يكسب من الآخر شيئاً، ولا أن يعطي الآخر شيئاً ولذلك فأنهما يلتفان كل منهما حول الآخر ولا يتعاطيان. . .
- والعاشقان؟. . . يتبادلان القبل من الشفاة
- لأنهما يريدان أن يتعادلا. . . فمن كان منهما قوياً أعطى الآخر الفضل من قوته. . . حتى يتم التعادل. . .
- عجيبة. . . ولكن غاب عنك شيء يا سيدنا. . . إن القبل ليست شائعة بين البشر(334/50)
جميعاً. . . وهي أقرب إلى العادات المكتسبة منها إلى الأفعال الطبيعية. . .
- إذا كانت القبل على هذه الصورة التي نعرفها ليست شائعة بين البشر جميعاً، فللذين لا يعرفونها من البشر قُبَلٌ ولكن على صور أخرى. . . فمنهم من يحك أنفه في أنف صاحبه ومنهم من يحك رأسه في رأس صاحبه. . . وبالملاحظة نرى أن من يفعلون هذا هم المتأخرون من الشعوب الذين لم يهتدوا إلى القُبل. . . وهم بتقبيلهم أقرب إلى ما يصنعه الحيوان. . . والإنسانية تتفتق عن الجديد كل يوم. . . والذين رأوا القُبل من هؤلاء المتأخرين مارسوها واطمأنوا إليها. . . ولا تخشى أن في هذا تنكراً على الطبيعة وإنما هو ارتقاء بها. فإنه لا يزال في الدنيا ناس يعيشون على الأشجار. . . وهؤلاء إذا عرفوا الحياة على الأرض اطمأنوا لها وعاشوا عليها كما يعيش بقية الناس لأنها الطور من أطوار الحياة الذي يتلو ذلك الطور الذي عاش فيه الناس على الأشجار. . .
- كأنه معقول. . .
- أنا أعرف أنه لن يكون كلامي معقولاً إلا إذا كان مترجماً أو منقولاً، وكي تطمئني يا آنستي اعلمي أني أخذت هذا الكلام عن الأستاذ وهو أستاذ مشهود له في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا وهوتولولو أيضاً
- على أي حال إن كلامه لذيذ. ألم يقل شيئاً غير هذا؟
- يا ما أكثر الذي قال. . . ولكني أنسى كثيراً مما يقول. انظري. . . ألم تري. . .
- ماذا؟ هذه الفتاة الجالسة في الركن؟
- نعم. . . لقد نظرتُ إليها فماذا صنعت؟
- هل تريد أن تقول إنها رفعت يدها إلى رأسها فتستدل بهذا على أنك رجل قوي الكهرباء. . . لا يا سيدي لقد رأيتها وكنت مثبتة نظري عليها. . . هي لم ترفع يدها. . . ولم ترفع يدها. . .
- ولكنها فعلت ما هو أحلى من رفع اليد
- ماذا؟. . . كل ما كان منها أن أطلت بلسانها من فمها فمرت به بين شفتيها. . .
- علامة على أي شيء. . .
- إذا كان وراء هذا معنى، فلا معنى له إلا أنها تخرج لك لسانها استهزاء بك. . .(334/51)
- يصح هذا. . . ويصح شيء آخر. . . وهو أن يكون إخراج لسانها ترطيباً لشفتيها اللتين جفتا على أثر انطلاق التيار الكهربائي منهما، وهذا التيار لا ينطلق إلا في حالة التقبيل شوقاً إلى الازدواج. . . فهي قد شيعت لي قبلة في الهواء. . .
- كده؟ لقد اشتد البرد في هذا المكان. . . قم بنا. . . ألست تريد أن تدرك السينما من أولها. . .
- والله إني أفضل هذا (التياترو). . .
- وهذه الفتاة القبيحة التي تشيع للناس القبل في الهواء. قم. قم.
- قمنا. . .
عزيز أحمد فهمي(334/52)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
اختراع الألوان
تتعلق قصتنا التالية بالعصور الحديثة فقد حدثت في المائة والخمسة والسبعين عاماً الأخيرة. لكنه للوصول إلى مصدر هذه القصة يجب أن نعبر جسراً ضيقاً من الزمن يمتد إلى ألف عام
وكان في خلال هذه المدة فنان يتدرجان في سبيل التطور كلاهما يصلح للاستخدام في تهيئة الثياب للحالة التي هي عليها اليوم
أما أحد الفنيين فهو فن الصناعات الآلية فإن اختراع الآلات الميكانيكية في القرن الثامن عشر قد أفسح المجال للحذق في فن النسيج. وإذا أردنا أن نحدد تاريخ بدايات العهود لصناعة القماش وجدنا أنه من فجر التاريخ أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كانت عناصر النسيج في كل العالم بسيطة أولية هي المغزل بأنواعه ومنها المغزل الصيني للحرير والمغزل الهندي للقطن. ولم يكن أهل القرون الوسطى في أوربا قادرين على إحداث تغيير عملي كبير في صنع ألوانهم
فظل النسيج إلى منتصف القرن الثامن عشر على طريقته القديمة طريقة عجل النسج والنول الذي يدار باليد. وكان هذان العنصران هما كل ما لدى الغزالين والنساجين في إنكلترا من أدوات هذه الصناعة. لكن الناس كانوا قد بدءوا يسائلون أنفسهم: أليس من الممكن اختراع وسيلة يمكن بها أن تظل عجلة النسيج دائرة وأن تظل الوشيعة (المكوك) تتحرك فيصبح النسج أسهل مما كان بواسطة اليدين؟
وكان أحد الضباط البحريين في فرنسا في القرن السابق واسمه (دي جانس) قد اخترع آلة لصنع الأقشمة التيلية لا تحتاج إدارتها إلى عامل ولكن فكرته في الاختراع لم تنجح عملياً. وفي سنة 1733 اخترع جون كاي في مدينة بوري في مقاطعة لانشستر نوعاً جديداً من الوشائع وقد سمي باسم (مكوك الذبابة) لسرعته في الحركة سرعة خارقة للعادة(334/53)
وبعد اثني عشر عاماً صنع بالاشتراك مع جوزيف ستيل نولاً وصفه بأنه (يشتغل باليد أو بالماء أو بأية قوة أخرى) وكانت لحظة أحق بالذكر في تاريخ العلم الصناعي تلك اللحظة التي جاءت في سنة 1764 إذ اخترع (جيمز هارجزيفر) دولابا. وهو نساج يشتغل على النول وهو في الوقت ذاته نجار. وكان يقيم في بلاكبيرن. وقد قبل أن الفكرة قد أُوحى إليه بها عندما رأى عجلة المغزل يقلبها أحد أبنائه فرأى عند ذلك أنها استمرت تدور أفقية وأن المغزل ظل يدور عمودياً
وبواسطة هذا الدولاب صار في الإمكان غزل عشرين أو ثلاثين خيطاً في وقت واحد بنفس السرعة وبنفس السهولة التي يغزل بها خيط واحد
ولما عرفت هذه الحقيقة لدى زملاء هاجريفز انزعجوا خشية أن تكون نتيجة الاختراع تخفيض أجورهم وكثرة العاطلين بينهم فهاجموا بيت المخترع في أحد الأيام وأتلفوا جهازه
وكانت الخيوط التي يخرجها النول قبل أن يبدأ النساج عمله تعرف باسم السدى. أما الخيوط التي يخرجها المكوك فتعرف باسم (اللُحمة) لكن الخيوط التي يخرجها دولاب الغزل كانت كلها من نوع اللحمة فليست متينة ولا قوية مثل السدى الذي يمتاز بالطول وبالقوة
وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة عندما قدر أن يؤثر رجل آخر في حياة الملايين من زملائه، وهذه هي قصة صبي الحلاق الذي مات وهو حامل للقب ورتبة فارس وأصبح من كبار الأغنياء
كان رتشارد اركرايت (1732 - 1792) أصغر الأبناء في أسرة عدد أبنائها ثلاثة عشر. وكان أبواه فقيرين فلم يستطيعا تعليمه إلا إلى الحد التافه فاشتغل رتشارد صبياً لحلاق؛ فلما بلغ العشرين من العمر أنشأ لنفسه حانوت حلاق في بولتون ولم يكتف بأن يحلق لعملائه، ويمشط لهم الشعر المستعار بل كان يبيعهم شعوراً مستعارة مصبوغة على طريقة ابتكرها. وبهذه الوسيلة أدرك ثروة وصار في وسعه بعد ذلك أن يترك حرفة الحلاقة، وأن تنصرف عنايته إلى غزل القطن، وكان قد اهتم جد الاهتمام بدولاب الغزل فأخذ يجري تجاريبه ليعرف هل في وسعه أن ينشئ دولاباً من هذا النوع يخرج خيوطاً قوية تصلح للسدى، وقد استعان برجل اسمه جون كاي (وهو غير جون كاي مخترع المكوك السريع وربما كان من(334/54)
أقاربه) فصنعا دولاباً كان لأول مرة في تاريخ النسيج يخرج الخيوط القوية اللازمة بطريقة آلية
وكان أول مصنع أنشأه اكرابت في نوتنجهام سنة 1768 وكان يديره بواسطة الخيل. وبعد ثلاثة أعوام أنشأ مصنعاً في كروفورد في دربشابر، وكان يدار بالماء. وقد تعرض أيضاً لسخط الجماهير وتحطمت مصانعه أكثر من مرة بسبب غضب الجماهير
ولكنه عاش العمر الكافي للانتصار على كل المصاعب ولإنشاء مصنع بخاري للنسيج في نوتنجهام سنة 1790
وجاءت لحظة أخرى من اللحظات العظيمة في تاريخ الصناعة وهي قصة قسيس أديب هادئ هو الأب أدموند كارترايت وقد تغير كل نظام حياته بسبب زيارة زارها لمصانع السير رتشارد اركرايت
اخترع هذا القسيس في سنة 1785 نولاً آلياً كان على الرغم من كل عيوبه بشيراً بالنول الذي يستعمل اليوم. واشتد به التحمس للفكرة فأنشأ مصنعاً في دونكاستر وآخر في مانشستر، ولكن الرعاع المتسخطين الذين يرون في هذه المعامل عدوّاً لهم قد حطموها
على أن كاراترايت استمر على خطته وتحول من القطن إلى الصوف وعكف على دراسة مباحث وتجاريب كان يجريها مهندس أرلندي متأمرك اسمه روبرت فولتون، وهو أول من أدخل قوة البخار في الملاحة
ومع أن اختراعات كارترايت لم تعد عليه شخصّياً بالنفع الطائل فانه لم يمت قليل الاعتبار ككثيرين من المخترعين لأن البرلمان كافأه بمبلغ (10. 000) جنيه في سنة 1809
وآخر قصة نرويها هنا عن تطور الصناعة الآلية لنسيج القطن والصوف في إنكلترا هي قصة العازف على الكمان الذي استكشف طريقة جديدة لصنع القماش. وهو من أهل لانكشاير مثل هارجريفز اركرايت وهو مثلهما من الأوساط الوضيعة
اسم هذا الرجل صموئيل كرمبتون وقد ولد في فايروود بالقرب من (بولتوف أن ذي مورز) في سنة 1753 وقد مات أبوه وهو طفل؛ وكانت أمه الأرملة تشتغل بالغزل فساعدها على ذلك
وبعد قليل اشتغل عازفاً على الكمان في مسرح بولتون. وكان يقسم وقته بين العزف وبين(334/55)
الغزل. وكان يغيظه أن الغزل الذي يصنعه تتهدل أطرافه وخطر له أنه قد يستطيع تحسين عمله على طريقة دولاب هارجريفز فيمتنع هذا التهدل. واستمر خمسة أعوام يعمل على هذا التحسين. وفي نهاية هذه المدة اخترع آلة تغزل خيوطاً رقيقة ناعمة تصلح لنسيج الشاش
أراد أصحاب المناسج أن يعرفوا سره فحاصروا منزله ولما كان المبدأ الذي بني عليه عمله في نهاية البساطة بحيث يستطيع أي خبير بالصناعة أن يعرفه في لحظة فإن هذا المخترع المسكين قد اضطر إلى استئجار حرس حول المنزل طول الليل والنهار، وأخيراً أفشى سره لأحد أصحاب المصانع في بولتون. ومما يدعو إلى الأسف أنه لم يكافئه المكافأة التي وعده بها
وأطلق في إنكلترا وفي إبقوسيا على تلك الآلة اسم بغلة النسيج. وتشجع كرمبتون بما بذله البرلمان الإنكليزي من المكافأة لكارترايت، فاستجمع الأدلة على كثرة ما استُعمل من الآلة التي اخترعها في أنحاء البلاد، وطلب معونة الدولة فمنحه البرلمان ما يعدل نصف المكافأة التي منحها زميله المخترع القسيس وعاد كرمبتون المسكين إلى بولتون وهو يشعر بالخيبة والمضاضة
من الاستكشافات التي استكشفها هؤلاء الأربعة الحاذقون الموهوبون نشأت المراكز الصناعية للصوف والقطن في لانكشاير ويوركشاير وإبقوسيا، وأصبحت هذه اللحظات الهامة في أعمارهم حلقات في سلسلة متصلة في صناعة النسيج الآلي تربط مصانع اليوم بالغزل والطارة اللذين كانا يستعملان في أقدم العصور
وكان على الكيميائي أن يشترك بقسطه الوافر في صناعة القماش، فنشأ كيميائي في السابعة عشرة من العمر كان يشتغل في لندن، واستكشف في سنة 1856 استكشافاً يستحق أن بعد أوانه من اللحظات العظيمة العلمية في تاريخ العالم الحديث
ومن الغريب أنه بينا كان التقدم مطرداً في غزل الأقمشة العظيمة ونسجها كان فن الصناعة يكاد يكون من الوجهة العلمية واقفاً تمام الوقوف
كانت المواد النباتية مثل النيلة والفوة والمواد العشبية كحشيشة البحر والمواد الحيوانية كدودة القرمز والمعدنية مثل الدارصيني، كانت هذه المواد التي تستعمل في الصناعة إلى(334/56)
أن انقضى عهد ليس بالقصير من القرن التاسع عشر، وبهذه المواد المحدودة الناقصة التأثير كان النساجون في أوربا يلونون منسوجاتهم تلويناً بديعاً كما نرى في الحرير والشيت والقماش المطبوع الذي يوجد الكثير منه في المتاحف
ولكن لم يظهر إلى ذلك العهد ذهن عبقري من المخترعين يكشف أن مزج مادتين كيميائيتين يمكن أن يؤدي إلى استخراج ألوان كثيرة أخرى.
(يتبع)
ع. ا(334/57)
من هنا ومن هناك
ثروتنا تكسب الحرب
(ملخصة عن (الأوفر))
كانت ألمانيا عام 1914 تعتقد أنها ستمحو فرنسا في أسابيع معدودات. ولكن الحرب مع ذلك دامت أربع سنوات. وقد تكون الحرب الأسبانية أكثر دلالة على أن الحروب العصرية ليست من الحروب القصيرة المدى، وإن تفوقت الدول المحاربة في التسلح. لذلك نستطيع أن نقول إن الحرب الأوربية الحالية ستكون حرب اجتياح
وتدل الجهود المضنية التي تبذلها ألمانيا في سبيل إصلاح حالتها الاقتصادية، على أن الدول الدكتاتورية لن تجد الفرصة المواتية في مثل هذه الحرب
ويقول (ميجر - جنرال توماس): أن القوة الاقتصادية في الحروب الطويلة لها شأن أعظم من القوى الحربية، وقد برهنت الحرب العظمى عام 1914 - 18 على صدق هذا القول. وهو في الأيام الحاضرة يزداد صحة وتأييداً
إن نظام ألمانيا الاقتصادي يقوم منذ زمن طويل على أسس واعتبارات حربية، وتدل محاولاتها في غرب أوربا على حاجتها الملحة إلى الحنطة والبترول
ولا مفر من الاعتراف بأن ألمانيا أقل استعداداً للحرب من الناحية الاقتصادية مما كانت عليه سنة 1914. فالثروة الألمانية أقل مما كانت في ذلك العهد. والألمان لا يستطيعون أن يقوموا بإنتاج الأطعمة والسلع التي تسد حاجتهم أيام الحرب، بل لا يستطيعون كذلك أن يحافظوا على التوازن اللازم بين الصادر والوارد. فهم إذن إما أن يثقلوا كاهلهم بالديون أو يلجئوا إلى الاحتياطي الضئيل الذي لديهم من الذهب فينفقوه
ويعتقد (بول إبنزج) الاقتصادي الإنجليزي المشهور أن الاحتياطي الذهب سيكون له الشأن الأول في هذه الحرب دون سائر الشؤون الخاصة بالحرب. ومما لاشك فيه أن ألمانيا لم تكن في عهد من العهود أكثر استعداداً من الناحية الاقتصادية مما كانت عليه سنة 1914، ومع ذلك فقد ضاقت بها سبل الاقتصاد، ومن الحق أن يقال إنها جاءت وتسلحت، ولا يستطيع شعب من الشعوب أن يجابه الجوع والضغط أربع سنوات، تزداد حالته فيها سوءاً يوماً بعد يوم، ومن البديهي أن هتلر إذا استطاع أن ينال بعض الموارد عن طريق(334/58)
الاغتصاب، فإن هذه الموارد لا يمكن أن تزيد على موارد ألمانيا في الحرب السالفة؛ وهي مع ذلك لا تكفي لإقامة نظام اقتصادي ثابت يضمن لبلاده المال الاحتياطي الضروري لها عند الأزمات.
يقول الدكتور (فرد نزبرج) الأخصائي الألماني: إن ألمانيا تحتاج من البترول في زمن الحرب إلى ما يتراوح بين خمسة عشر وعشرين مليوناً من الأطنان كل عام، ولا يزيد ما يستخرج منها على ثلاثة ملايين في العام. وبقدر محصول رومانيا من هذه المادة بثمانية ملايين من الأطنان على أكبر تقدير، وإذا وجهنا نظرنا نحو الدول الديمقراطية، وجدناها أكثر استعداداً اليوم منها سنة 1914. فاحتياطي الذهب في إنجلترا وفرنسا يزيد خمسين ضعفاً على الاحتياطي الموجود بألمانيا الآن، وللدول الديمقراطية موارد أخرى فيما وراء البحار تستطيع أن تزودها بما يكفيها عند الحاجة. ولا ننس هنا أن أمريكا على استعداد لتمونها بما تحتاج إليه دون أن يؤثر ذلك في مركزها الاقتصادي العتيد.
من هنا يتبين أن الميزان الاقتصادي راجح في ناحية الدول الديمقراطية، ولا تجهل ألمانيا ذلك، ولكنها تمني نفسها بفكرة الهجوم السريع، ولكن الحرب في أوربا اليوم لا تعرف القصر
نشرة نازية!
(من بنك التوفير العام ببرلين)
حدث بعد إقالة دكتور شاخت من رآسة بنك الريخ تغيير كبير في سياسة ألمانيا المالية. فقد كانت أثمان الأطعمة والملابس حتى ذلك العهد تزداد زيادة لا تصل بها إلى حد التضخم، فقد علمتنا الأيام أن تضخم الأسعار يبدأ بزيادة الأثمان كل شهر، وتعلو ثم تعلو حتى تصير في كل أسبوع، ولا تنتهي حتى يصبح المبلغ الذي يدفع في يوم الجمعة لا يساوي شيئاً في يوم الاثنين الذي يليه. وقد تبين في عام 1938 أن إيراد الضرائب لا يكفي لسد ما تنفقه الحكومة في التسليح، فعمدت إلى سد هذه الثغرة ببعض القروض، ولكنها وجدت في عام 1939 أن تلك القروض لم تكن لتكفي لإمدادها بالمال الذي تريده. فلجأت إلى فرض الغرامة اللازمة على الأمة. وكانت حتى ذلك العهد مترددة بين أمرين: إما أن ترفع(334/59)
الضريبة، أو تزيد في عدد الأوراق المالية. وكان من رأي دكتور شاخت زيادة الضرائب. ولكن رجال المال وأصحاب الأعمال أشاروا على الحكومة باجتناب هذه الطريقة لأن ماليتهم لم تعد تحتمل زيادة في الضرائب على الإطلاق. وعلى ذلك فقد لجأت الحكومة إلى توسيع دائرة الأوراق المالية مع فرض بعض الضرائب. وكان من البديهي بعد ذلك أن ينحى دكتور شاخت عن منصبه، إذ لا يتسنى للحكومة أن تترك مالية الدولة في يد رجل رفع عقيرته بالاحتجاج عليها صراحة حين اعتزمت زيادة الأوراق المالية المتداولة
نحن لا نستطيع أن ننكر بحال من الأحوال أن السياسة المالية الجديدة قد جعلت المصارف على حافة الخطر، وعلى الأخص مصرف التجنيب (التوفير)
إننا لا نشك في فائدة التسليح، ونود أن يكون لألمانيا استعداد حربي يفوق كل أمة على وجه الأرض، ولا يمكننا أن ننصح لأصحاب الأموال بأن يسحبوها من المصارف إذ يصير من المتعذر على الحكومة أن تعقد قروضاً جديدة بعد ذلك، ولكننا على العكس قد أصبحنا مضطرين تحت ضغط بعض الظروف والاعتبارات أن نمنع سحب الأموال من المصارف لتبديدها بغير وعي في شؤون الرفاهية والأهواء. فحياة الدولة كما يقول الفوهرر في ثروتها. ونحن نعد أموال عملائنا من مالية الأمة ومرافقها العامة. فهي العمود الفقري لتسليح البلاد. لذلك نستطيع أن نقول لكل إنسان في ألمانيا دع أموالك لبنك التوفير
ألم الشعور بالوحدة
(عن (يور لايف الأمريكية))
في الحياة آلام كثيرة، ومن أقسى تلك الآلام الوحدة
والوحدة التي نعرفها بالانفراد، نختلف كل الاختلاف عن شعور الإنسان بأنه وحيد، كل إنسان يميل أن يكون وحيداً في بعض الأحيان. وقد يثير نفسه ويضجرها أن يكون قريباً منه أحب الناس إليه. والمرء ينشد الهدوء والعزلة في بعض الأوقات ليفكر ويستريح، ويبني قصوراً في الفضاء. إلا أن الوحدة تثلم القلب وتؤذيه وتؤدي إلى الكآبة، وتحرك في النفس أفكار السوء. والنفس الوحيدة تشعر على الدوام بأنها غريبة عن العالم مجفوة من بنيه، ومن العجيب أن صاحبها يشعر بالوحشة وهو في المدينة تعج بالملايين من السكان(334/60)
المحيطين به المجاورين لداره، كما لو كان وحده وسط صحراء قاحلة لا صديق فيها ولا أنيس
ومما يثير في نفوسنا شعور الوحدة، كبت بعض الغرائز التي تريد الظهور، ففي كل إنسان غريزة تدعوه إلى البحث عن رفيق من الجنس الآخر. وكبت هذه الغريزة يسبب له كثيراً من الآلام
من الطبيعي ولاشك أن يكون الإنسان وحيداً، ولكن الوحدة ليست من الأمور التي تؤخذ بالوراثة، ولا من الغرائز التي لا يمكن التغلب عليها وتغييرها. فنحن لم نخلق في هذه الحياة بهذا الضعف، إن الظروف هي التي جعلتنا كذلك، وفي وسعنا أن نغير هذه الظروف فلا نعود إلى احتمال آلام الوحدة بعد
ويختلف علاج الوحدة بالوحدة باختلاف الأشخاص والأحوال، فبعضنا يعاني آلام الشعور بالوحدة حتى يتزوج، وبعضنا يعاني الوحدة حتى يكون له أبناء، وبعضنا يؤنسه كلب صغير أو طائر جميل. وقد كان للمذياع فضل كبير في معالجة هذا الداء عند الكثيرين، كما أن للقراءة والأفلام المصورة فضلا يذكر في هذا الشأن.
من هنا يتبين أن علاج الوحدة يختلف باختلاف الظروف والبيئات. فقد يكون لعصفور صغير فضل كبير في معالجة إنسان من هذه الحالة، وقد يكون للطبيعة فضل في معالجة إنسان آخر. وقد يأنس بعضنا بمشاهدة حفلات الرقص، وقد يأنس البعض بمشاهدة بعض المباريات الرياضية والاندماج في غمار الناس
ومن واجب الشخص الوحيد أن يتعلم كيف يتصل بالناس، وألا يضيق على نفسه كثيراً في اختيار معارفه، فإن الأمور يؤدي بعضها إلى بعض
ونحن نستطيع أن نقهر الظروف وان نحكمها، إذا قوينا غرائزنا وأفسحنا لها الطريق المران. فإذا أخذنا بهذه الأسباب أتيحت لنا الفرصة للتغلب على أحوالنا، فأصبحت تأتمر بما نريد.
البريد الأدبي
تاريخ الآداب العربية لبروكلمن
سبق لي أن وصفت الجزء الأول والثاني والثالث لذلك الكتاب من غير توسع ولا إفاضة(334/61)
في الفحص عن المسائل المتناولة والتفصيلات المتفرقة في البحث. واليوم أعدل عن الوصف المجمل إلى تعقب الفقر بعض التعقب. وقد وعدتُ الأستاذ بروكلمن نفسه بذلك، ولا أدري هل يصله هذا العدد من الرسالة وقد انقطع حبل البريد بين مصر وألمانية
يجري الكلام في الجزء الرابع على النثر في مصر. وإليك أسماء الذين نظر المؤلف في آثارهم: فرح أنطون، محمد إبراهيم المويلحي، المنفلوطي، محمد حسين هيكل، منصور فهمي، محمد عبد الله عنان، شبلي شميل، سلامة موسى، يعقوب صروف، فؤاد صروف، محمد تيمور، محمود تيمور، نقولا الحداد، محمد فريد أبو حديد، خير الدين الزركلي، الهلباوي، حسين شفيق المصري، عبد الله حبيب، عبد العزيز عمر الساسي، توفيق الحكيم، طاهر لاشين، حسين فوزي. ثم عاد المؤلف إلى الكلام على أحدث ما أخرجه العقاد ومحمود تيمور بعد أن تناول هذا في صدر الجزء الرابع وذاك في الجزء الثالث. وهنالك طائفة من الكتاب لم يتمهل المؤلف عندهم بل قنع يذكر أسمائهم وإثبات كتبهم وتصانيفهم، والحق أن بعضهم، مثل إبراهيم المصري، يستحق فوق هذا، وكان أولى به أن يشغل المحل الذي ظفر به بعض صغار الكتبة (أنظر مثلاً ص241)
ولن أناقش هنا آراء المؤلف في كتابه، فقد قلت من قبل إني مرجئ هذا حتى تخرج الأجزاء كلها فينتظم سلك المناقشة وينبسط على ما تقدم وما تأخر. وإنما هي اليوم التنبيه على بعض الأوهام حتى يتمكن المؤلف من مراجعة ما فاته في المستدرك الذي أخبرني بأنه صانعه:
1 - رسم الكلمات العربية بالحروف الرومانية ورسم الأعلام الإفرنجية
ص 193: سياحة في أرز لبنان - لا: عرز لبنان - ابن الشَعب - لا: الشِعب
ص 214: مُقدمة السوبر من - لا مَقدمة
ص 217: أساطين العلم الحديث (لفؤاد صروف)، لا: أساطير
ص 220: مَهْزَلة الموت - لا مُهْزِلة
ص 226، 228: مسامرات الشَعب، لا: الشِعب
ص 228: مرقص فهمي، لا: مَرقوص
ص 233: محمد عَوض، لا: عِوض(334/62)
ص 234: شِحاته عُبيع، لا: شحّاته
ص 236: مصطفى الهِلباوي، لا: الهُلباوي
ص 241: لا: (وكان من المدرسين الإنجليز في كلية الآداب عندنا)
ص 243: لا: (وهو المؤلف المسرحي الفرنسي لهذا العهد)
ص 243: لا: (وهو الذي نقل إلى الفرنسية (شهرزاد) لتوفيق الحكيم)
ص 243: صلاح الدين ذُهني، لا: ذِهني
ص 248: كوم حمادة، لا: حمّادة
ص 266: رواية قَصصية، لا: قِصصية
2 - بعض الواقعات
ص 215 و 217: يجعل المؤلف لفؤاد صروف لقب دكتور ويقول إنه ابن يعقوب صروف، والوجه أن صديقي الأستاذ فؤاد ليس بدكتور وأنه ابن أخي يعقوب صروف
ص 235: أدخل المؤلف خير الدين الزركلي في كتّاب مصر باعتبار الإقأمة، وهو من أدباء الشام أصلاً
ص 240: جعل المؤلف أحدهم مهندساً في مصلحة السكة الحديدية وهو موظف صغير فيها
وبعد، فهذه مآخذ حقيرة الشأن لا تضير عمل الأستاذ بروكلمن وهو جليل، ولو كان الأستاذ يعيش بين ظهرانينا ما فاته مثل هذه الهفوات، إلا أنه بعيد عن البيئة التي يكتب فيها، أجنبي عن أهلها
بشر فارس
رجع
أقول لصديقي الدكتور زكي مبارك إني لم أقل (بوجوب إلقاء الشعر كما يلقى النثر). فليراجع كلمتي الأولى والثانية (الرسالة 330، 332) يقرأ ما حرفه: (فإن الشعر لعهدنا هذا في أوربا (وعنها نأخذ فن التمثيل) يلقى على المسرح كأنه نثر (إذاً: في أوربا وكأنه). وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها. . . وخير من إنشاد البيت(334/63)
بتقطيعه وفصمه مصراعين والضغط على القافية الراجعة أن يُنشَد على حسب انسياب المعنى في تضاعيفه) ثم (ومما يحق على الوزن أن ينتشر خفية في تضاعيف البيت). وعلى هذا فبيّن أن المحل الأول عندي في إلقاء الشعر على المسرح للمعنى واللفظ وأما الوزن فليكن كالنغم الخفي يذهب ويجيء من وراء ستار رقيق. وأظنني بينت الأسباب التي من أجلها أغلِّب إلقاء الشعر بحسب المعاني والألفاظ على إلقائه بحسب التفاعيل. فهل أعود إلى التبيين؟
وأما تهديد الصديق إياي من أجل ليلاه - حَفِظت لطبيبها العهدَ! - فمما أنشط له. ألا أعِدْ عليَّ يا زكيُّ صروف ليالي باريس ومحن أيامها، فقد لعمري سئمت حياة الطمأنينة ومصر كلها اطمئنان. ألا (أطمح رأسي عن كتفي) ولا تخشَ بأساً فلا ليلى لي فتنوح علي. وهل تكون ليلى، على مرضها، إلا لمثلك. يا للجمال والفتنة ووسوسة الشياطين! وأعوذ بالله من شيطان غير رجيم. . .
ب. ف
إلى مشيخة الأزهر فمشيخة المقارئ
ظهرت طبعة جديدة للمصحف الشريف بعنوان (التنزيل الرباني بالرسم العثماني) قام بطبعها ونشرها عبد الرحمن محمد الكتبي بشارع الصنادقية بميدان الأزهر
وقد وقع في يدي مصحف من هذه الطبعة، فسأني أن أجد بكتاب الله أخطاء منشؤها التهاون في التصحيح والإهمال في المراجعة، كما سرني أن أعلن للناس عنها، ليصلحها كل من كان عنده مصحف من هذه الطبعة ذات الحجمين وإليك البيان:
ص 9 س 4: ـم والصواب: نم
ص 64 س 13: الغيتوالصواب: العنت
ص 87 س 7: حاءتهموالصواب: جاءتهم
ص 97 س 4: ادكر والصواب: اذكر
ص 112 س 10: ـطعمهاوالصواب: يطعمها
ص 112 س 10: نشاء وزعمهم والصواب: نشاء بزعمهم(334/64)
ص 198 س 2: فيضلَّوالصواب: فيضلُّ
ص 249 س 15: يومئدوالصواب: يومئذ
ص 254 س 13: ءاينيوالصواب: ءايتي
ص 255 س 10: أتنا والصواب: أتينا
ص 258 س 1: أتوالصواب: أنت
ص 258 س 14: ميهاوالصواب: فيها
ص 260 س 11: ـجدلوالصواب: يجدل
ص 292 س 15: علهوالصواب: عليه
ص 302 س 1: ضللهموالصواب: ضللتهم
ص 309 س 16: من مضلهوالصواب: من فضله
ص 311 س 2: ـالحسنةوالصواب: بالحسنة
ص 312 س 12: ميهموالصواب: فيهم
ص 314 س 9: هده والصواب: هذه
ص 320 س 13: حلقكمموالصواب: خلقكم
ص 424 س 9: ولا حانوالصواب: ولا جان
هذه هي الأخطاء التي استرعت نظري. ولا أقول إنها كل ما في المصحف، بل هي ما عثرت عليه في فترات متقطعة. وكل ما نريده أن تتخذ مشيخة المقارئ وذوو الشأن إجراءات لتصحيح هذا الخطأ وتلافي ذلك الأمر
عبد الحفيظ أبو السعود
في كلية الآداب
قرأنا كلمة الدكتور بشر فارس في العدد السابق من الرسالة تحت عنوان (في كلية الآداب). ولا ريب أن هذه الكلمة أصابت الهدف ونبهت الأذهان إلى أشياء إن كانت معلومة عند أغلب الجامعيين إلا أنها خافية عن الجمهور الذي حقه أن يكون مطلعاً على ما يجري في دوائر العلم والثقافة(334/65)
وبهذه المناسبة يحضرني أمران عن ذلك المدرس الأجنبي الذي قال فيه الدكتور بشر أنه (يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة). الأمر الأول يتلخص في أن كلية الآداب كانت قد أخذت صورة فوتوغرافية للترجمة العربية من كتاب (الارغانون) (منطق أرسطو) وهو مخطوط في المكتبة الأهلية في باريس. فلاحظ بعضهم أن الهوامش غير واضحة في الصورة وكذلك كل ما هو مكتوب بالمداد الأحمر. فكلفت الكلية ذلك المدرس الأجنبي بان يراجع الهوامش ويتمها في باريس في صيف 1938 وصرفت له أجراً كبيراً لذلك، والذي حدث أن هذا المدرس عاد من باريس بدون أن يقوم بما كلف به، والدليل على ذلك هو أن كتاب أرسطو كان طول مدة صيف 1938 - أي أثناء وجود ذلك المدرس الأجنبي في باريس - بين يدي عالم مصري عاد من باريس في نهاية الصيف
أما الأمر الثاني فهو خاص بإعادة طبع كتاب (كليلة ودمنة)، وتفصيل ذلك أن مطبعة المعارف كانت قد عزمت على إعادة طبع هذا الكتاب ورأت أن تعهد بمراجعته إلى لجنة مكونة من بعض كبار رجال وزارة المعارف. فسألت في ذلك الدكتور بشر فارس فكان من رأيه أن تعهد بهذا العمل إلى رجال الجامعة لأنهم أدرى بفن مقابلة المخطوطات ومراجعة المصادر في السريانية والفارسية ثم اللغات الحديثة واقترح للعمل أسماء: الدكتور طه حسين لكتابة المقدمة والمراجعة الأخيرة للأصل العربي والأستاذ عبد الوهاب عزام للمخطوطات الفارسية، والدكتور مراد كامل للمخطوطات السريانية فضلاً عن استشارة المصادر الحديثة وبخاصة الألمانية. والذي حدث بعد ذلك أن المدرس الأجنبي حل محل الدكتور مراد كامل وأن كان الدكتور مراد كامل هو الذي يدرس اللغات السامية ومنها السريانية في كلية الآداب فهذان أمران يدلان على أن ذلك المدرس الأجنبي يحظى برعاية خاصة قد لا يحضي بها مدرس مصري
(جامعي)
يوميات نائب في الأرياف للأستاذ توفيق الحكيم
نقل هذا الكتاب إلى الفرنسية الأستاذان جاستون فيت وزكي محمد حسن، وقدم له صاحب السعادة الدكتور حافظ عفيفي باشا ونشرته (مجلة القاهرة) الفرنسية، وقد كتب عن الناقد(334/66)
الأدبي لمجلة (مريان) في أحد أعدادها الأخيرة ما يأتي: (قرأت في سرور عظيم (يوميات نائب في الأرياف) للسيد توفيق الحكيم. وهي صورة حية للريف المصري تغلب على أكثرها الفكاهة وتظهر في بعضها القسوة. رسمها رجل من رجال الضبط القضائي الذين لا يستطيعون أن يقفوا عند الألفاظ بحكم وظيفتهم. فبرز هذا العالم الصغير على صفحات الكتاب في خفة عجيبة وجلاء باهر. وفي الغالب ينسى القارئ الفكرة الإصلاحية التي حركت الأستاذ توفيق الحكيم حتى ليتمنى أن يبقى كل شيء في هذه المجموعة الإنسانية على حاله ما دامت الإمتاع والغرابة. ولكن من المؤكد أن كثيراً منها سيتغير.
إن المؤلف إذا لم يقنع بالألفاظ فانه لا يمضغها أيضاً. ومع ذلك فإن الذي يبقى في ذاكرة القارئ هو شعبية الحادث وطبعية الملاحظة واطراد السياق. إن الأستاذ توفيق الحكيم هو لا شك كاتب مطبوع. وهو يكتب ليرشد ويكتب وينقد ويعلن، وليسامحني إذا أضفت إلى ذلك أنه يكتب أيضاً لمجرد الرغبة في الكتابة)
حول الأمير شكيب أرسلان
. . . قرانا ما نشرتموه في الرسالة عن عطوفة مجاهد الإسلام الكبير الأمير شكيب أرسلان نقلاً عن إحدى الصحف اللبنانية. والصواب هو أن الأمير يقيم في جنيف وقبلها في لوزان منذ أعوام كثيرة يدافع عن الإسلام والأوطان العربية، ولما عاد إلى سويسرا بعد زيارته لمصر اقتضت ظروفه أن يزور ألمانيا لشأن يتعلق بمنزل يمتلكه في برلين منذ عشرين سنة، والبيت مرهون الآن ومحجوز عليه. وبعد أن سوى مسألته على وجه عاد إلى جنيف ليصوم رمضان في بيته بين عائلته. وأخر أخبار الأمير الجليل أنه كان في أواخر رمضان في مدينة زيورخ السويسرية لزيارة صديقه القديم صاحب المقام الرفيع عزيز عزت باشا، وقد بلغنا أن الأمير يفكر في ترك أوربا والسكنى في الحجاز إلى أن تنتهي الحرب والسلام عليكم.
عربي
صدى صوت من ألف عام
أشكر للأستاذ النجار نصحه وتنبيهه، فقد دلَّ في استهلال حديثه على براءة نقده ونزاهة(334/67)
قصده. أما ما نشرت من شعر الأمير تميم في مساجلة ابن المعتز العباسي، فما كان يسعني، وأنا أنشر الأنواع المختلفة من شعر تميم أن أهمل نوعاً منها، لأنه يتناول خلافاً سياسياً لا وجود له عند أحد من الناس، ولا عند الأستاذ النجار أيضاً.
وقد نشرت في هذا العصر عشرات الكتب وفي طليعتها عصر المأمون وبهذه المطبوعات الحديثة شعر يؤيد العباسيين وشعر آخر في هجائهم والطعن عليهم، فلم يوجه مثل هذا النقص الذي لو وجه إلى كل مؤرخ لبطل التاريخ من أساسه، أو اتهم المؤرخ على الأقل بإثارة الفتنة أو انتحال دين الأمة التي يؤرخ لها وقد تكون وثنية. وأنا حين أكتب عن الفاطميين لا أستطيع أن أهمل شأناً من شؤونهم، فلسنا في عصرهم ولا في عصر منافسيهم. وكتمان الحقائق العلمية خوفاً من فتنة موهومة من شأنه أن يطمس آثار العلوم ويضلل الأذهان ويترك باب الفوضى مفتوحا للأراجيف الباطلة التي شاع بسببها سوء الظن وانتشرت دواعي الفرقة بين شعوب الإسلام لجهل بعضهم ببعض.
ثم إني أعتب على الأستاذ تناوله موضوع الأخوة الإسلامية في موضوع كتبته أنا بصفتي الشخصية، ولم أذكر فيه الجماعة، ولا أني أحد أعضائها. فأرجو أن لا يغيب عن الأستاذ ولا عن غيره أنني حين أتناول الأدب أو التاريخ أو الفلسفة لا أكتب لحساب الجماعة ولا لغيرها، بل أكتبه للحق وللواجب.
محمد حسن الأعظمي
مصر في أفريقيا الشرقية للدكتور محمد صبري
الدكتور محمد صبري مدير الثقافة والنشر علم من فقه التاريخ وأصول الأدب. شغل الأذهان وملأ الأسماع حيناً من الدهر بمؤلفاته ومقالاته وبحوثه. ثم اعتكف منذ أعوام في دور الكتب ودواوين السجلات في مصر وفي أوربا يجمع النصوص، ويطلب الوثائق، ويستخرج الدفائن، ويسأل الآثار، حتى اجتمع له عن تاريخ مصر في القرن التاسع عشر ما لم يجتمع لغيره. ثم توفر على تحرير هذا التاريخ في عمومه وخصوصه بعدة المؤرخ الموهوب والقارئ المتتبع والكاتب المحلل؛ وهو في أثناء ذلك يفرد النقط المهمة بالتصوير الخاص بالتصوير والنشر المستقل جلاء لغامض أو تحقيقاً لفرية أو استنباطاً لعبرة. ومن(334/68)
تلك الموضوعات الخاصة التي أراد الأستاذ أن ينشرها تحديداً للذكرى (التي تنشر الأمل وتحفز الهمم وتجرف قوى الاضمحلال البادي في وجه الدولة وفي كل عضو من أعضائها) كتاب مصر في أفريقيا الشرقية: هرر وزيلع وبربرة.
وهو كتاب لطيف الحجم أنيق الطبع رائق الأسلوب، ألم فيه الدكتور بتاريخ هذه البلاد واستعمار إسماعيل لها وتاريخ الحكم المصري بها، معتمداً في ذلك على ما لم ينشر من مخطوطات قصر عابدين ومحفوظات وزارة الخارجية الإنجليزية وعلى ما نشر من المطبوعات الأوربية فجاء الكتاب حقيقياً بعبقرية الكاتب خليقاً بثقة القارئ
الطفل من المهد إلى الرشد للأستاذ محمد خلف الله
هو كتاب جديد في العربية، يتناول موضوعاً طالما شعر الآباء والمعلمون والمشتغلون بشؤون التربية عامة بحاجتهم إلى كتاب في العربية يتناوله على أسلوب من البحث العلمي يكشف لهم السبيل ويحدد لهم النهج في دراسة الطفل دراسة نفسية تعينهم على ما هم بسبيله من شؤون التربية
وإذا كانت أكثر المصادر في مذاهب التربية وعلم النفس أوربية لا يتأنى لغير الدارس المتخصص أن يلم بها إلماماً يعينه على القصد؛ فإن لنا أن نزعم أن كتاب (الطفل من المهد إلى الرشد) هو محاولة موفقة لتعريب هذا الفن
على أن فائدته إلى ذلك لا يستغني عنها أحد من رجال التربية، فإن فيه جهداً شخصياً يطبعه بطابع مؤلفه ويرفعه منزلة فوق كثير من الكتب المنقولة إلى العربية في هذا الفن. وحسب القارئ أن يعلم أن مؤلفه وضعه أول ما وضعه بالإنجليزية بعد دراسة تسع سنين وتقدم به إلى جامعة لندن فمنحته به درجة الأستاذية في علم نفس الطفل(334/69)
العدد 335 - بتاريخ: 04 - 12 - 1939(/)
جسومنا وعقولنا
بين الصحة والمعارف
إذا عجبت من أن تقوم فينا وزارة المعارف قرناً ونيفاً ثم يظل ثدرس في مانية أعشارنا أميين، فإن أعجب العجب أن تقوم فينا وزارة الصحة زهاء هذا العمر المبارك ثم لا يزال تسعة أعشارنا مرضى
ولا تحسبن ذلك لأن شعبنا بدع من الشعوب هواه في أن يجهل ومزاجه في أن يمرض؛ فإن الله لم يخلق إلى اليوم إنساناً يكره المعرفة ولا حياً يرفض السلامة. إنما السبب الأول في هاتين الظاهرتين الخاصتين بهذا البلد أن القائمين على ثقافة والمسؤولين عن سلامته قد حصروا همهم في الديوان، وقصروا جهدهم على الشكل، فلم يشغلوا ذرعهم إلا بالتعيين والنقل والترقية والميزانية والدرجات والامتحانات والتقارير والتجارب والدسائس، ولم يكلفوا أنفسهم النظر من نوافذ المكاتب الرسمية إلى هذا الشعب الذي يعيشون عليه ويعملون له، فيضعوا سياستهم على مقتضيات حالة، ويرسموا خطتهم على دواعي حاجته.
أما الحديث عن ماضي المعارف وخيبتها في كفاح الجهالة وتبعتها من هذه الخيبة، فقد جف من تكراره المداد والقلم، فلندعها في ذمة الرجلين العظيمين النقراشي والسنهوري، فعلى استقلالهما في الرأي يعقد الرجاء، وبإخلاصهما في العمل تناط الثقة؛ ولنمض في الحديث عن وزارة الصحة فقد رعانا أن يتخطفنا الموت احتضاراً وعلى حراستنا جيش من الأطباء له المستشفيات المنشأة على آخر طراز، والمعامل المجهزة بأحدث جهاز، والصيدليات المزودة بأندر الأدوية؛ وأصبحنا كلما رأينا القرى والقبور تكتظ بضحايا البلهرسية والأنكلستوما والطحال والملريا والبلغرا وداء الفيل ننكر الواقع ونفكر ونطيل التفكير، ثم نسأل ونكثر السؤال: هل في مصر وزارة للصحة؟ وهل في وزارة الصحة أطباء؟ وهل لأطباء الصحة ضمائر؟ ولا تكلفني الإبانة عن آراء الناس، فإنك تستطيع أن تسأل هذه الأسئلة فيكون لديك من الأجوبة عنها ألوف مختلفة الصيغ والأساليب في التألم والتهكم والالتهام والشكاية والزراية والضغينة واليأس. ثم تسمع عن المستشفيات الحكومية في حواضر الأقاليم شجوناً من أحاديث الإهمال والقسوة والفوضى وغير ذلك مما تمسك عن ذكره محافظة على ما بقي فيها من الثقة. ولكنني أحد اللذين جندوا في جيش الإصلاح(335/1)
وفرض عليهم أن تكون أقلامهم عارية كالسيف، وأصواتهم عالية كالمدفع، وألسنتهم صريحة كالحق، فأنا أروي لك حالة قريتي في وراثة المرض، ونصيب قريتي من وزارة الصحة، وحظ قريتي من الأدواء والأطباء هو حظ كل قرية: هي جزيرة من الأكواخ والحضائر في مستنقع وخيم من مصافي المزارع؛ نمت على عفنها وأسنها جراثيم الأمراض المتوطنة فجعلت كل وجه في صفار الخوف، وكل جسم في هزال الجوع، وكل حي في همود الموت. وقطعت مراحل عمرها الماضي على هذه الحال الشديدة، لا يزهر فيها شباب ولا تثمر بها كهولة. ولم يكن لمصلحة الصحة يومئذ إلا شبه طبيب في المركز لا تراه القرية إلا إذا أنتشر وباء أو وقعت جناية. وعمله كله مع حلاقي القرى: يصرح لهم بدفن الموتى من بعد، ويكلفهم جلب المرضى إلى عيادته من قرب، وعلاجه قائم على البركة والتوكل: ماء من الترعة القريبة يشتمل على عقور مسهل. فلما صارت هذه المصلحة وزارة أرادت أن يكون لها كالوزارات عمل، فأنشأت المستشفيات الثابتة والمتنقلة، ودرست الأمراض الوافدة والمستوطنة، وقررت تطهير القرى بقتل الأمراض وردم المناقع. وكان من نصيب حضرتنا مستشفى، ومن حظ مركزنا طبيب. فأما الطبيب فقد عجز عن ردم البركة لأن مالكها الباشا لا يريد، وإذا لم يرد الباشا وجب ألا يريد الناس، لأنه يملك الخراف والسمن والفاكهة والكلمة المسموعة. وأما المستشفى فقد دعي القرويين إلى طبه فهرعوا إليه من كل طريق. وأنحني طبيبه على الأذرع الذابلة بالحقن العنيف، فخشع الداء، وتنبهت العافية، وشعر الفلاح أن في (الاسبتالية) رجاء وفي الطب منفعة، فأزداد وفود المرضى على المدينة حتى شرقت الشوارع وغص المستشفى وضاقت المساكن. فلما وثق الطبيب من الإقبال جعل منزله عيادة خاصة، وسلط أعوانه على المرضى ينفرونهم من المستشفى، ويرغبونهم في العيادة، حتى أشاعوا أن الطبيب يحقن هنا بالماء، ويحقن هناك بالدواء. وأخذ هو يقسوا في المعاملة ويهمل في المعالجة ويشتط في القبول، حتى أشتد على الناس الأذى، وخرجت بهم الأخرجة، وكثرت فيهم الوفيات، فانقطعوا في دورهم مفضلين الموت البطيء الهادئ على الموت السريع المضطرب. وعادت الجراثيم الطفيلية ترتع في الكلأ الآدمي المباح، فلم يبقى في القرية من لم يخامره داء. ثم أنتشر من استفحال البلهرسية داء الطحال فانتفخت البطون واصفرت الأطراف(335/2)
وثقلت الجوارح، فمات به الأكثرون، ولاذ بعض الأقلين بالقصر العيني يرجون استئصال الداء بالجراحة؛ وقد سمعوا أن أساطين الطب من أساتذة الجامعة هم اللذين يتولون الفحص ويزاولون العلاج ويباشرون العملية، ولكنهم حين دخلوا لم يجدوا إلا أطباء كأولئك الأطباء، ونظاماً كذلك النظام، ومعاملة كتلك المعاملة. أما بقراط وجالينوس وأبن سينا فقد اتخذوا من (القصر) عنواناً ومن (الكلية) وظيفة. فهم يحضرون - إن حضروا - ساعة النهار، فيقابلون أطباء الامتياز، ويحادثون طلاب الطب، وغاية المقابلة أو المحادثة إشارة أو عبارة، ثم ينقلبون سراعاً إلى عياداتهم أو مستشفياتهم يعملون فيها بقية النهار وطرفاً من الليل بصبر الفقير إلى الناس، وعزم الكادح لنفسه.
هذه حال قريتنا في عهد من العهود وكل القرى المصرية على هذا الحال. وإن الناس لينسجون حول المستشفيات الرسمية من الحوادث والأحاديث ما لا يجرؤ القلم على روايته مهما شجع. ولعل في هذه الإشارة ما ينبه أولي الأمر في وزارة الصحة إلى شدة الحسابات ودقة المراقبة؛ فإن الاعتماد في كفاح المرض على التقارير والدفاتر والأرقام، أشبه بالاعتماد في كفاح العدو على رسم المعارك في الورق وكسبها بالكلام!
أحمد حسن الزيات(335/3)
مع أبي العلاء في سجنه
للأستاذ عباس محمود العقاد
قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: وستقول فانك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي؛ وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق؛ فأني لا أقدم إليك كتاباُ في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع؛ وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره؛ ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي والتي تكتب ابتغاء لرضى الأصدقاء واتقاء لسخطهم. .؟)
وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف. فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب. واراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون؛ والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين
وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قرأته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحداَ من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء. فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقاداً أن بغض الحياة اسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة اعم وأشيع وأقرب غوراً من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى. فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة. . . أما الفرح فهو القدرة والانتصار. والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته فيقول: (قل إني(335/4)
أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره فقد لا تخطى ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة إني لا أملي كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتاً ما)
فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة بل قلت إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم (خلاصة اليومية) أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال. فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعج ... ب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها مالا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامه الناس من التذمر من الحياة وتمنى الخلاص منها، لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشؤون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكداً أو رغداً؛ ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفى للحكم على ماهية الحياة
فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجرى فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام
وشيء آخر أخالف به الدكتور أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء
فأنا لا أذكر أنني كرهت أحداً أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحداً كان هو من كارهيه
أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب ثم يقول: (أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجاباً لا حد له، واعجب ببعضها الآخر إعجاباً متواضعاً أن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتاً شديداً، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقاً عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان(335/5)
يحسن أن يعرض عنه فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون)
ترى ماذا كان المعري قائلاً للدكتور لو سمع منه هذا المقال؟ أخشى أن تكون وقيعة بين الصاحبين وأن كنت لا أخشى أن يعود الشيخ إلى استحسان قصيدة أبي الحسين التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل
لأن الشيخ يعلم أن الدكتور لا يكره أبا الحسين كراهة الناقص للكامل ويستشفع له بشفيع من طيب النية وصدق الولاء والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلفه فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي وأن الأدب قد صل بصلاح شعره، وان لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير واحتملتهم الدنيا مع ذاك. . . أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟
هنا أيضاً أعود العاطفة والحجة واحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة ببني وبين شيخ المعرة، واقرب إلى الإنصاف
أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأى أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟
كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف هناك قول الدكتور تعقيباً على كلام الأديب الفرنسي بول فاليرى في المصور ديجاس (العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيراً من صفات هذا لمصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه وأجهل من أمره كل شي تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصي غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، في الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها(335/6)
القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصوراً رساماً والآخر كان شاعراً حكيماً. . .)
أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة لأنهما على نفسيها صارمان؟
هنا قسوة، وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟ أين اللزوميات وهي قيود، من (الأمبرشنالزم) وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام لتزداد جمالاً على جمال ونشاطاً على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافاً إلى الغني من الزهد في المال انصرافاً عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحياناً من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، هكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس
وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم
فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها: (يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، يسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النيروسنير حتى يريا كفرسي رهان)
ثم يعقب الدكتور على هذه الشذرة فيقول: (أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأى من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطراً وهو إنكار العلة الغائبة وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية من هذه الغايات التي نعرفها نحن ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها)
وعندنا نحن أن سماع الإنسان بيده أو شمه الروائح بمنكبه لا ينفي العلة الغائبة، لأن الوسيلة والغاية هنا موجودتان، ولم تختلف إلا الوسيلة التي تتحقق بها الغاية
وأصوب من هذا أن يقال إن رأى المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: (إن الوظيفة تسبق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة)
فإذا وجدت الرغبة في الحركة أو في هضم الطعام وجدت الأعضاء التي تتكفل بأداء هذه(335/7)
الوظيفة على اختلاف الأشكال والأوضاع في أجناس الحيوان
وللشاعر الإنكليزي (كولردج) على ما أذكر كلمة في مصور عظيم يقول فيها: (إنه لمصور ولو خلق بغير ذراعين) مريداً بذلك أن التصوير وظيفة قبل أن يكون عضواً من الأعضاء، فلو خلق المصورون بغير أذرع لخلقت لهم وسائل أخرى لإبداع مالا بد أن يبدعوه
وقال الدكتور يخاطب أبا العلاء:
(. . . أنت لا نعرف ما باريس وما أظنها قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد. أما أنا فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك، وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه. ومن يدري لعلي أسأم لذات باريس فأفزع منها إليك من حين إلى حين. فليكن وداعي لك الآن موقوتاً ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق: إلى اللقاء)
فالدكتور واثق بان أبا العلاء لن يكون في باريس إلا كما كان في بغداد
فما باله أراد مني أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون؟
في هذه أنا أيضاً أقرب إلى وفاق الصداقة من الدكتور
أنا ذهبت إلى باريس بالخيال فأخذت إليها صاحبي بالخيال، والدكتور طه ذهب إلى باريس حسا وخيالاَ فأبى على صاحبه المزاملة وهتف به:. . . إلى اللقاء؟
وما أردت علم الله أن أوغر صدر الشيخ على صديقنا الدكتور أو أن أظفر بنصيب من الحظوة عنده فوق نصيبه، ولكنني أحببت الحديث عن الشيخ ولم أحبب أن يكون تكريراً وإعادة تبطل بها متعة الحديث. فليكن خلاف وكان خلاف!! وإنما هو اتفاق في حب التحدث عن صاحبنا المحبوب
عباس محمود العقاد(335/8)
أبو كلثوم الوفدي!
للدكتور زكي مبارك
ما كنت أنتظر أن أجد في (شبرا) ما رأيت هذه الليلة. فشبرا حي صخاب لا مثيل له في الحركة والضجيج بين أحياء القاهرة. هو في الأصل من الضواحي الهادئة الوادعة المجَّملة الشوارع بأشجار الجميز والتوت، ثم تحول في مدة قليلة إلى محلة مزدحمة بالتجار وأرباب الأعمال
كانت سهرة هذا المساء في منزل صديق عزيز يسكن تلك المحلة، وكانت السهرة مثقلة بالحديث عن مشروعات وزارة المعارف، فلم يكن فيها جانب واحد من جوانب الهدوء والصفاء
ومن عيوب رجال التعليم في مصر أنهم يحملون شواغلهم في كل مكان، حتى لتحسب أن تلك الشواغل هي كل ما يملكون من زاد الحديث في سهرات الأندية والبيوت. . . لطف الله بكم يا زملائي!
وزاد في عنف الجدل معالي النقراشي باشا كان تحدث مع جريدة المقطم في أشياء تفتح المجال للنظر والتأمل، وتقدم للمشتغلين بالتعليم فرصاً كثيرة لحركة الأفكار والعقول وأردت أن أخرج قليلاً من ذلك الميدان الذي كنت أركض فيه وقت الصباح، ونويت أن أخلص من شواغله وقت الليل، فاقترحت أن تتفضل (روحية) فتقرأ علينا حديث النقراشي باشا بصوتها الذي يشبه بغام الظباء، وأنا أرجو أن أحول تلك المعضلات التعليمية إلى مشكلات وجدانية
ولكن روحية تلحن حين تقرأ، واللحن من مثلها لا يغتفر: لأنها طالبة بإحدى كليات الجامعة المصرية، ومن البعيد أن أطرب لكلامها الملحون، فقد كان المقام مقام تعليم، ولم يكن مقام تشبيب، وإن كنت قصدت أن يفيض صوتها على ذلك الموضوع الجاف نفحةً من نفحات الوجدان
فهل غيرتني الأيام حتى صرت أعد اللحن من ذنوب الملاح؟!
معذرة، يا روحية، فأن عمك نقله الزمان من إلى أحوال! خرجت مكروب الصدر أفكر في أشياء وأشياء، ولكن القمر طالعني بوجه أصبح وهاج، فنظرت إليه برفق وحنان، وكدت(335/9)
أنسى ما في الصدر من هموم وأثقال. . . والشعراء كالأطفال ينسون أشجانهم الفوادح في لحظات!
قال رفيقي: أين تقع هذه الليلة من الشهر؟
فنظرت في المقطم على نور القمر فرأيتنا في مساء اليوم الثالث عشر من شوال، فقلت: هذه ليلة البدر، يا رفيقي!
وما هي إلا لمحة حتى كان المذياع يصافح آذاننا بجلجلته من منزل بعيد فهرعت إليه وأنا مأخوذ، فجذبني الرفيق من يدي وهو يقول: إن لم يكن بد السماع فارجع بنا نسمع المذياع في البيت؟
فقلت: أريد أن أسمع مع قوم لا يعرفون وزارة المعارف، ولا يفكرون في المناهج، ولاتهمهم مصا ير التلاميذ!
وقفت أسمع كما وقف ابن عبد ربه يسمع منذ أكثر من تسعة قرون، ولم أخف مما وقع لابن عبد ربه؛ فقد طردوه بأسلوب قبيح حين رموه بجرة من الماء ليحرموا أذنيه ألحان الغناء! ثم نظرت فرأيت الدنيا حولي تذكر بمحلة الصدرية في بغداد هي والله محلة الصدرية بمنازلها المنثورة بلا نظام ولا ترتيب، وفي ثناياها نخلات طوال تخيلتها نقلت من هناك
قال رفيقي: إن المذياع في بيت ليس فيه ضياء
فقلت: إنه يغنى أهل البيت في لحظة صفاء
فقال: ألا يكون من الأدب أن نتصرف؟
فقلت: ومن الخير أن أرجع إلى داري لأكتب كلمة عن أبي كلثوم الوفدي، فقد تذكرته حين رأيت في شبرا صورة الصدرية في وطن الأهل والأحباب، إن بقي لي في الدنيا أهل وأحباب!
فمن هو أبو كلثوم الوفدي؟
هو أبو كلثوم: لأنه مفتون كل الفتون بأغاريد أم كلثوم، وهو يهذي بها في كل وقت
وهو وفدي: لأنه حقاً وصدقاً من أشياع الوفد المصري، وهو يهفو إليه في كل حين
فمن هو أبو كلثوم الوفدي الموزع القلب بين القاهرة وبغداد؟ هو الأخ العزيز الأستاذ محمد(335/10)
باقر الشبيبي أحد الشعراء المجيدين في العراق
وما كان باقر الشبيبي أول من فتن بأغاريد أم كلثوم، فقد فتن بها الزهاوي والرصافي والبناء، ولهم في الهيام بأغانيها قصائد جياد، وربما جاز القول بأن أم كلثوم شغلت جميع شعراء العراق، فمن النادر أن تمر أغانيها هناك بلا تشوف. وقد زاد الاهتمام بأم كلثوم عند أهل العراق بعد أن عرفوا أن حنجرتها مسروقة من الحمامة الموصلية التي تقيم بإحدى نوافذ المنارة الحدباء
لم يكن باقر الشبيبي أول المفتونين بأغاريد أم كلثوم، ولكن هيامه بها قد اتصل بنزعة نبيلة هي الجزع من الانشقاق الذي وقع في الوفد سنة 1932 وخرج به على الزعامة ثمانية أعضاء
في تلك الأيام ذهبت أم كلثوم لزيارة بغداد فاستقبلها الشاعر بخفقة من القلب والروح وهو يهتف:
على الشاطئ صيداحٌ ... هنيئاً لك يا دجله
سأرعَى النجم للصبحِ ... وأحْي الليل في الحفله
فأهلاً ظبية النيلِ ... ومَرحَى جارة الرمله
وبوركتِ على السيرِ ... وهُنِّئت على الرحله
هنيئاً لكِ بغدادُ ... فهذى أم كلثومِ
من الغِيد الأعاريبِ ... أتتنا، لا من الروم
لقد أحيتْ لياليكِ ... بتغريد وترنيم
فعذراً فرحة النفسِ ... إذا قَّصر تكريمي
أعيدي السجعَ والصدحَ ... غنِّينا إلى الفجرِ
فهذى الأنجمُ الزُّهرُ ... مُطلاّتُ مع البدرِ
فغنِّى أروع الشعرِ ... وصُوغيه من السِّحرِ
فمن نَحرك للثغرِ ... ومن ثغرك للنحرِ
أطِلّي بنت فرعونٍ ... على المسرح والملعبْ
ورفقاً ربَّة الصوتِ ... بأحشائي أن تُنهبْ(335/11)
فأنت الكاعبُ الرُّودُ ... فما الظبيُ وما الرَّبرب
خذي روحي إلى مصرٍ ... فمصرُ الوطنُ الأقرب
ثم تثور النزعة الوفدية في صدر الشاعر فيصيح:
سلى قلبي عن الحبِّ ... فقد ذاب من الوجد
فكم لابَ على الروض ... وكم حام على الورِدِ
سليني شاحبَ اللونِ ... فمن سُهدٍ إلى سُهدِ
خذي قلبيَ للوفدِ ... فأني في الهوى وفدي
ولم يكتف (وفديُّ الهوى) بهذه الزفرة، بل انتقل إلى انشقاق الوفد وهو يصرخ:
عجبنا أمَّ كلثوم ... من الحادثة الكبرى
لماذا انقسم الوفدُ؟ ... ومن ذا بَيَّتَ الأمرا؟
أَلاَ مَنْ يجمع الشَّملَ؟ ... ألا من يطرد الشرًّا؟
خُذِى حِذْرك يا مصرُ ... ورُدِّي الكيدَ والمكرا
وتوجع الشاعر لما صار إليه سعادة الأستاذ محمد نجيب الغرابلي باشا فقال:
رأيت الخصمَ جذْلانَ ... بما جَدًّ من الخُلف
أحقًّا فَصَلَ الوفدُ ... (نجيباً) وهو في الصفَّ
فهذا الحادثُ البِكرُ ... أرانا مواطنَ الضعفِ
إلى الوحدةِ يا مصرُ ... إلى الإشفاقِ والعطفِ
نظمت تلك القصيدة في مثل هذه الأيام من سنة 1932 فهل كانت آخر زفرة من زفرات الأستاذ باقر الشبيبي في التشوق إلى أم كلثوم وإلى الوفد المصري؟
إليكم هذا الخبر الطريف:
في بواكير الربيع من سنة 1938 اجتمع نادي القلم العراقي بمنزل سعادة الدكتور فاضل الجمالي، وكانت الجلسة برياسة معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي، وكانت الكلمة يومئذ للأستاذ عبد المسيح وزير، فما الذي قال؟ أخذ يقرأ قصة من قصصه فاشتركت مع الأستاذ عباس العزاوي في السخرية من خياله الجميل!
وعند نهاية القصة طلبت الكلمة لأحاسب (القارئ)، ولكن معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي(335/12)
خشي عاقبة الهجوم على الأستاذ عبد المسيح فاقترح ترك التعقيب، ثم قال أن عنده موعداً وانصرف
واستؤنفت الجلسة برياسة الدكتور الجمالي فقلت: إن معالي الرئيس أغلق باب التعقيب لأنه مشغول، وهو قد انصرف، فأنا أطلب الكلمة من جديد، ثم قلت: إن الغرض هو إلقاء محاضرة، لا قراءة قصة، فكيف جاز للأستاذ عبد المسيح وزير أن يحبسنا ساعة لنشهد طريقته في التلاوة؟ فقال الدكتور عقراوي: الأصل أن يلقى العضو محاضرة، ولكن ما الذي يمنع من أن يقرأ شيئاً من آثاره الأدبية؟ إن الأدب. هو الأصل والتعليق عليه هو الفرع، فالقصة كالقصيدة لون من الأدب الصرف
وقال الدكتور الجمالي: فليكن هذا تقليداً جديداً من تقاليد نادي القلم العراقي، ومن حق الشعراء من أعضاء نادي القلم أن ينشدوا بعض قصائدهم في الجلسة المقبلة، وستكون فرصة نسمع فيها صوت الدكتور زكي مبارك، فقد سمعت أنه شاعر، وله ديوان
فقال الدكتور عقراوي: ولا يشترط أن يكون الشعر جديداً، فالدكتور مبارك شاعر مقل، وعليه واجبات في دار المعلمين العالية قد تعوقه عن نظم قصيد جديد
وبهذا المحاورة نجا الأستاذ عبد المسيح من لساني، وما كاد ينجو، مع أنه أبو إيناس
أنا شاعر مقل؟
هذا صحيح، ولكن كيف ألقي نادى القلم العراقي بقصيد نظمته منذ سنين؟ وكيف أضيع الفرصة فلا أقرع أسماع بغداد بقصيد جديد؟ ومضيت وأنا أحاور شيطاني فنظمت قصيداً (في أحد عشر ومائة بيت) عنوانه:
(من جحيم الظلم في القاهرة إلى سعير الوجد في بغداد) وأنشدته في الأسبوع التالي بالرستمية. فقال معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي: كيف استجزت يا دكتور قتل هذه الشاعرية؟ فقلت: قتلها التأليف، وهو يشغل الفكر عن الغناء وصاح الأستاذ رفائيل بطي: أين الشاعر الذي يجيب الدكتور مبارك؟
فقال الدكتور الجمالي: سيجيبه الأستاذ باقر الشبيبي حين نجتمع في منزله بالزوية في الأسبوع المقبل، إن شاءت الشياطين!
واجتمعنا بالزوية في مساء مقتول النسيم ودجلة تصغي إلينا في تودد وترفق، والإخوان(335/13)
ينتظرون قصيدة السيد باقر الشبيبي، فهتف البلبل:
وفاءً بعهدي أو نزولاً على وعدي ... وقفت أُحِّي معشري وبنى ودي
وقفتُ أحِّي عُصبةً عربيةً ... بها نستبين الرشد حقاً ونستهدي
فأهلاً بكم في روضة الحب والصفا ... وأهلاً بكم عند المسرَّة أو عندي
وهيجني في الرستمية شاعرٌ ... به مثل ما بي من أنين ومن سُهد
به من هوى ليلي رسيسٌ من الهوى ... وبي لهب لا ينطفى من هوى هند
وما كاد يصل إلى هذا الحد حتى حدثني القلب بأنه سيتحدث عن أم كلثوم والوفد لأن القافية دالية، فقلت: أراهن أنك ستعلن انضمامك إلى الوفد! فضحك ضحكة كادت تزلزله من مكانه، ثم مضى يقول:
وذكَّرني عهد الصبا في نشيدهِ ... سلامٌ على عهد الصبا في ربُا نجد
هواه على أجراف دجلة وافدٌ ... وأما هوى قلبي فللنيل و (الوفد)
فصاح الأعضاء: صحت فراسة الدكتور مبارك في (الوفد) فهل تصح في (أم كلثوم)؟ فمضى الشاعر في النشيد:
فلا تحسبوه شارد اللب وحده ... ولا تحسبوني سادراً في الهوى وحدي
صريعَ الغواني، لا تُلمني فإنني ... صريع أغاني أم كلثومَ لا دعد
سلام على تلك الأغاريد إنها ... أغاريد من وحي الصبابة والوجد
أما بعد فهذا حديث أبي كلثوم الوفدي، أعزه الحب ورضيت عنه العروبة المصرية والعراقية، فأن كنت فضحت هواه فلا يلمني (فإني في الهوى وفدي) وربما صرحت فقلت إني شيوعي في الحب: فلي صبابات تغرب فتصل إلى باريس ولو أحق باريس، وتشرق فتصل إلى بغداد ولواحق بغداد من حواضر العراق، وهل تركتني دمشق وبيروت بلا عقابيل؟
إن حالي لعجيبٌ ... ما يُرَى أعجبُ منهُ
كلُّ أرض لِيَ فيها ... غائبٌ أسأل عنهُ
زكي مبارك(335/14)
أعرابي في المدنية
الأعرابي والشعر الحديث
للأستاذ علي الطنطاوي
أتاني منذ يومين (صلبي) فقال لي:
هل أنت من المعنيين بالشعر والأدب؟
قلت: نعم، فماذا عندك؟
قال: نعمة ساقها الله إليك، إن أنت أضعتها يوشك ألا تلقي مثلها يد الدهر
قلت: فاذكر لي ما هي، فأني أرجو ألا أضيعها
قال: أتعرف (السوالم)؟
قلت: نعم، جمع تكسير. . .
قال: ولا والله ما هم بجمع تكسير، إنهم أكرم من ذاك، هم والله جمع مبارك
قلت: إنما أردت الكلمة. . .
قال: كلمة ماذا؟ إنها قبيلة كانت متوارية في رملة من رمال (عالج) لا يدري بها أحد ولم يكشفها إلا حكم الإمام عبد العزيز أطال الله عمره، فعرفها العرب وعرفوا فيها العربية المبراة من العجمة، والبلاغة التي ما وراءها بلاغة، والنبرة الصافية التي إن سمعتها فإنما سمعت كلام سحبان، أو خالد بن صفوان. . .
قلت: ولكن ما أبعدك يا رملة عالج!
قال: بل ما أدناك يا شارع الحلبوني، ألا تعرف دار الباشا؟ قلت: القنصلية السعودية؟
قال: بارك الله فيك. إن شيخ السوالم نازل فيها وقد هبط دمشق ليلة دمشق، وهو أول (سالي) يهبطها بعد إذ فارقتها قبيلته قلت: متى فارقوها؟
قال: صبيحة الفتنة التي قتل فيها الوليد بن يزيد، الملك المظلوم الذي عبث خصومة بتاريخه، فقولوه ما لم يقل، ونسوا إليه ما لم يفعل، وروى هذا العبث مؤرخون هواهم عليه وميلهم مع أعدائه. . . وأدباء محاضرون لا يبالون ما يروون
قلت: إنك لنذكر تاريخاً قديماً!. . .
قال: هو ما قلت لك. غير أن (الشيخ) لا يحب أن يلقي أحداً، وقد حذروه قوماً يقال لهم(335/15)
أهل الصحف، يفضحون الناس: ينشرون من أسرارهم ما يطوون، ويعلنون من أخبارهم ما يسرون، ليسلوا بذلك من يشتري منهم هذه الصحائف، فاحتل للقائه بحيلة. . .
قلت: وأني لي الحيلة؟
قال: سمعت أن هاهنا عالماً جليل القدر يقال له الشيخ بهجة البيطار، لو أقسم على (الإمام) لأبره، ولو قال لسمع منه، وما كان الباشا ليرد له طلباً، وأننا إن قصدناه أوصلنا إلى (الشيخ). أفلك به معروفه؟
قلت: لي به معرفة؟ أقول لك هو أستاذنا وصديقنا ثم إننا إذا لم نلقه سرت بك إلى من مكانته عند (الإمام) مثل مكانته أو أعلى، الزعيم العالم المصلح الشيخ كامل القصاب رئيس علماء دمشق، ومدير معهدها العلمي
قال: إنه رئيسكم الذي. . .
- فقاطعته وأنا أقول: رئيسنا، ولكني لست من العلماء!
- قال: ولمه؟ أو أنت إذن من الجهلاء؟
- قلت: إن علماءنا (يا صلبي) لا يقبلون فيهم من كان مثلي، مخلوع العذار، محفوف اللحية والشاربين، يمشي في الطرقات حاسراً، ولا يرون الرجل عالماً إلا إذا اتخذ عمة طواها ثلاثون ذراعاً، ولحية لا تقصر عن مد قبضة، وأتخذ جبة تسع معه اثنين آخرين، ويضع من كمها وحده جبة ثانية. . . - فضحك صلبي وقال: ولكن هذه الكتب ما ألفتها الأكمام ولا العمائم، وهذا العلم ما جاءت به اللحى. . . أفلا يعلم أصحابك هؤلاء أن العلم دماغ وقلم ولسان؟
وتفضل أستاذنا البيطار فسعى لنا بجاهه عند الباشا (القنصل) حتى جمعنا بـ (الشيخ) فإذا هو فوق ما وصف لنا، وإذا لسان مبين ولغة معربة وحديث كأنك تقرأ في البيان والتبيين أو في عيون الأخبار. ولقد خضنا معه كل بحر، وعرجنا على كل منزل، فسألته عن الشعر واستطلعت رأيه في جديده، وسأله أستاذنا عن مسائل من اللغة والنحو، وعرض عليه أشياء من تمحلات النحاة وغلاظاتهم، فأجاب بأسد جواب وأحكمه، فما كان أعجب من سؤال الأستاذ إلا جوابه، وما تقول فيهما إلا الأصمعي يشافه بلغاء الأعراب من أهل زمانه. . .
وأني مثبت هنا طرفاً من حديثه في الشعر، بكلامي أنا لا ببيانه هو، فما استطعت حفظ ما(335/16)
قال بحروفه. ولعلي راجع يوماً فراوٍ حديث النحو، أو لعل الأستاذ البيطار يرويه بنفسه ليعلم القراء أننا نصف مجلساً قد كان حقا، ً لا نتخيل ولا نبالغ. . .
قلت له: كيف أنت والشعر؟
قال: أما ما قالت العرب فأني أرويه كل لا أخرم منه شيئاً، وأما ما قال المحدثون بعد إذ فشا اللحن في الأمصار وعمت (فيما بلغنا) العجمة فلا أعرف، ولا أرضى لنفسي روايته، لأن أصحابه أفسدوا على العرب ديوانهم، وجاءوهم بما ينكرون من القول
قلت: ولكنك رجل عادل حصيف، أفلا تسمع قول هؤلاء المحدثين قبل أن تحكم عليهم؟
قال: بلا والله أني سامعُ فأنشدني
فنظرت فكأن الله محا الشعر كله من قلبي إلا أبياتاً لأبي تمام في وصف الربيع نرويها للتلاميذ. فأنشدته إياها وفي ظني أنه لا يرضى عنها، بأنها ليست مما ألف، ولو أنشدته لغير أبي تمام أو أنشدته لأبي تمام غيرها، لكان ذلك أدنى إلى رضاه، ولكن ماذا أصنع وقد نسيت كل ما جاوزها من الشعر؟ قلت:
مطر يذوب الصحو منه وبعده ... صحو يكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر ... لك وجهه والصحو غيث مضمر
فرأيته قد طرب لها طرباً لم يخفه وصفق يداً بيد من الإعجاب وتمايل فقلت وقد قويت نفسي: كيف سمعت؟
قال: لقد أحسن وجاء بما لم يسبقه إليه سابق، وما أحسبه يلحقه فيه فيدرك شأوه لا حق: لقد عرف الناس ثلجاً يذوب، فأذاب لهم الصحو حتى سال ماء، ثم عاد فجعل الصحو من طراوته كأنه يمطر، فلم يخلهم في المطر من صحو ذائب، ولا في الصحو من مطر. ثم أصل وفرع، فجعل من الغيث ظاهراً ومضمراً، وما يكون مضمر إلا وثمة ضمير، ولا ضمير إلا في حي، أفلا تراه كيف أسبغ الحياة على الجماد؟ قلت: هذا مذهب في الشعر يعرفه أهل زماننا ويحسبون أنهم ابتكروه. . . يعطيك صورة جميلة ولكنها ليست بنية الحدود ولا واضحة المعالم، فأنت تستمتع فيها بكشف المجهول، وهو لعمري أصل الآداب، وأقوى الغرائز، ثم تملأ فراغها بعواطفك وتجعل حدودها من أفكارك، فتكون كأنك صغتها لنفسك، وتفهم منها ما لا يفهم سواك.(335/17)
قال: هذا شيء ما أعرفه لكني لا أعيبه، ولقد طربت لما سمعت منه. . . قلت: أفلا أسمعك من شعر أهل زماننا؟
قال متعجباً: وأن لأهل زمانكم لشعراً؟
قلت: ولم لا يكون؟ أسمع مقطوعة من حديث الشعر لشاعر أسمه فياض، قالها على لسان المتنبي أكبر شعراء العرب كأنه يعلمه بها كيف يكون القول
قال: هذا لعمري النبوغ فماذا قال؟ قلت: قال:
جسدي النازل من شهوته ... سلم العار وروحي السامية
يا لعمر مشياً فيه معاً
فوثب كمن داس على جمرة، أو لسعته عقرب، فأمسك بفمي فسكت فزعاً فقلت: مالك؟
قال: ما هذا؟ قلت: شعر جديد!
قال: أعوذ بالله (جسدي النازل من شهوته)؟ وهل كانت شهوته جبلاً عالي الذرى، أو قصراً شامخ الدعائم حتى ينزل منها؟ وإلى أين ينزل؟ وهل بعد الشهوة منحدر، أو دونها منزل؟ وما (سلم العار)؟ هل هو جسده؟ فكيف صار سلماً؟
قلت: لعله أراد أن جسده ينزل على سلم العار، أي ينحط في درك العار بسبب شهوته التي ركبت فيه، فما استقام له طريق القول؟
قال: برئت من العربية إن كان هذا يفهم من كلامه، أننا نعرف (ينزل فلان) إذا كان عالياً وهبط، و (وينزل البلد) إذا سكنه، و (ينزل بالقوم وعليهم) إذا حل فيهم، و (ينزل من الجبل) إذا كان قد صعد فيه، و (ينزل إلى الوادي)، (وينزل على الدرج)، ولا نعرف (نزل السلم) إلا إذا قام فيه، كما يقيم المرء في المدينة، ثم أن السلم يصعد عليه من يكون على الأرض، فأين كان هذا حتى نزل على السلم؟ هل ولدته أمه على المنارة فنشأ فيها، ثم بدا له فنصب له (سلم العار) لينزل عليه؟
قلت: أو لا تسمع سائر المقطوعة؟ قال: لا والله
قلت: ولكنه ألقاها على ملأ من الأدباء والشعراء في سوق من أسواق الأدب في دمشق، كان أقامها أديب من أدباء تنوخ أسمه عزالدين بن علم الدين، فسمعوها وارتضوها وما رأينا فيهم من أنكرها عليه(335/18)
قال الأستاذ البيطار: لقد كنت حاضر السوق وسمعتها ولكني لم أرتضها ولا ارتضاها صديقي أبو قيس
قال الشيخ: ومن أبو قيس؟
قلت: هو التنوخي الذي حدثتك عنه، وهذه كلها أسماؤه وله غيرها. قال: ما أكثر ماله من أسماء!
قلت: وما أكثر ما له من فضائل وحسنات، وكثرة الأسماء دليل على شرف المسمى
قال: هذا صحيح! قلت: أتحب أن أقرأ لك من شعر شوقي؟ قال: أسمع اسماً منكراً!
قلت: نعم، ولكن له شعراً معروفاً. إنه الذي يقول في الأزهر:
قم في فم الدنيا وحيَّ الأزهر ... وانثر على سمع الزمان الجوهرا
واخشع ملياً واقض حق أئمة ... طلعوا به زهراً وماجوا أبحرا
كانوا أجل من الملوك جلالة ... وأعز سلطاناً وأفخم مظهرا
فاستوى جالساً، وقال: لا جرم أنه شعر معروف، هذا هو الشعر لا ما صككت به سمعي آنفاً، هذا هو الشعر. لقد أنطق أعظم ناطق وهو الدنيا، وأسمع أجل سامع وهو الزمان، وجعل مدح الأزهر جوهراً، وهذا لعمر الحق أكبر مما صنع امرؤ القيس حين وقف واستوقف، وبكى وأستبكى. . . ثم وصف أئمته بخير ما يوصف به علماء، سمو كالنجم ونور كالنجم، وهدى كهدى النجم، وعلم كالبحر وهم بكثرتهم كماء البحر، ولو شئت لكشفت عن خمسين معنى مستتراً وراء قوله (طلعوا به زهراً وماجوا أبحرا) زدني من قوله. . .
فمضيت في القصيدة حتى بلغت قوله: (يا معهداً أفنى القرون جداره) فترنح، طرباً، وأعجبته صورة هذا الجدار، وهو قائم في وجه القرون كالصخرة تريد عنه القرون كليلة عاجزة، ثم تفنى وتضيع كما الأمواج عن الصخرة ثم تذهب وتضمحل والصخرة راسية ولا اضمحلت.
واستزادني من شعره فأنشدته قوله وهو لم يبلغ العشرين:
صوني جمالك عنا إننا بشر ... من التراب وهذا الحسن روحاني
أو فابتغي فلكاً كوني به ملكاً ... لا تنصبي شركاً للعالم الفاني
فهزه الطرب هزاً وقال: إن الشعراء يقولون ولكن مثل هذا ما يقولون. إنهم وصفوا حسن(335/19)
المرأة وجمالها، ولكن لم يستطيعوا أن يرفعوها فوق الناس وأن يجعلوها من طينة غير طينتهم، وأن يبرئوها من مادة التراب حتى تخلص لصفاء الروح ثم يجعلوها ملكاً يسكن السماء. أني لأعجب لكم!. . . عندكم هذا الشاعر ولا تفاخرون به شعراء الأرض؟
ثم قرأت عليه من شعر حافظ فأعجبه ولكنه قال:
هذا من عيار وذاك من عيار، وليست أسوى بينهما. إن الأول عبقري إمام، وهذا مقلد ذو بصيرة، وسباق ذو ثبات.
قلت: إن الناس كانوا يسوون بينهما أو يقاربون يوم كانا حيين، وللأحياء مقاييس من صداقة أو عداوة، ولهم صفات يحبون من أجلها أو يبغضون: كخفة الروح وبسطة الكف وحسن المجالسة. فلما ماتا ولم يبق إلا موازين الأدب بدأ الناس يدركون أن بينهما بوناً شاسعاً وأمداً بعيداً.
ثم أسمعته لكثير من الأحياء فلم يعدل (بأحمد محرم) و (بشارة الخوري) أحداً وفضلهما على كل من ينظم اليوم شعراً، وأعجبه غزل (رامي)، وأنس بجزالة شعر (البارودي) وحسن ابتكار (صبري). وقرأت عليه من أشعار الشاميين، فقدم (الزركلي) وأستقل شعره وعجب من سكوته الآن، لأن الشاعر عنده من ينظم أبداً لا ينقطع حتى ينقطع عن نفسه سيل العواطف ويجف منها معين الحس. ومن يقول مثل شعر الزركلي الوطني الذي يسيل منه الدمع، دمع القلب، لا يمكن أن ينضب ينبوعه. وقد كره قصيدته (العذراء) ورأى فيها ضعفاً في التأليف بيناً. وأعجبته جزالة شعر (محمد البزم) ولكنه رأى ألفاظه أجزل من معانيه ومفرداته أمتن من جمله، وأخذ عليه قوله:
إذا كان من أسدى لك الشر هيناً ... فقل لي أبيت اللعن من أين تثأر
وقال إن العرب تقول أسدى إليه يداً ولا تنطق بها في الشر، أما قوله (أبيت اللعن) فإقحام لا معنى له، لأنها كلمة كان يخاطب بها ملوك الجاهلية وقد بطلت، فأي ملك من ملوك الجاهلية يخاطب؟ وأخذ على (مردم) قوله في نشيده:
سماء لعمرك أو كالسماء
ورآه سبكاً مقلوباً، وكان ينبغي أن يقول هم كالسماء بل هم سماء، وكره منه قوله في مطلع النشيد:(335/20)
حماة الديار عليكم سلام
وقال بأن تنكير الإسلام يجعله أشبه بلغة مستعربة الروم يعني عمال الفنادق في الإسكندرية، وأعجبه شعر (مردم) الوصفي التصويري أما (الشعر الجديد) كشعر الرمزيين، والمهاجرين، فلم يفهم منه إلا بعض من مفردات من ألفاظه ولم يعدده شعراً ولا كلاماً عربيا! ً
وقد أستمر المجلس ساعات طويلة، ومال الحديث فيه على من يتلقى العربية على أبناء باريز، من أمثال الإمام اللغوي أبي جريجة الشيخ مارسيه أصمعي العصر. . . وكان مجلساً نادراً ما قمنا بمنه إلا ونحن كارهون. نتمنى لو أنه يمتد بنا أسبوعاً. . . وخرجنا وقد امتلأ وطابنا علماً وفوائد، هذا طرف منها وأنه (طبق الأصل) بشهادة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بهجة البيطار.
علي الطنطاوي(335/21)
من وراء المنظار
بيني وبين كتبي
ضقت بالكتب حتى لأخشى أن ينقلب هذا الضيق قطيعة ليس بعدها صلة. والحق أني حائر في تعليل هذا الضيق الشديد، وأنا الذي ظل الكتاب زماناً مبعث أنسي وبهجتي، فلا أمله إذا قعدت، ولا أدعه إذا خرجت، كأنما كان صار ضرورة كالهواء الذي أتنفسه، فلا تقوم حياتي إلا به، أو كأنه على أقل تقدير بعض ملابسي فلا أستطيع أن أبرح منزلي إلا وهو معي، بل كثيراً ما خيل ألي رفاقي - كما حدثوني - أني أستغني عن أي شيء ولا أستغني عن الكتاب، وإن لم أفتحه فيما بينهم إلا دقائق معدودات.
أيكون مرد هذا الضيق إلى ما تبعثه طول الألفة من السأم؟ أم يكون مرده إلى أن الكتب وقد صارت عندي درساً وملهاة قد شغلتني من متع هذه الحياة؟. . . فأنا أصدف عنها كيلا أنسى نصيبي من الدنيا فأحرم من زينة الله التي أخرج لعباده؟. . . ولكنني لا أرتاح إلى هذا التعليل ولا إلى ذلك. ففي نفسي مما يبغض الكتب إلى نفسي ما هو أعظم خطراً مما ذكرت!. . فلقد أستحوذ على لبي خيال، لا أدري إن كنت فيه مخطئاً أم مصيباً: وهو أن الكتب على طول صحبتي لها لم تعلمني شيئاً مما ينبغي لي أن اعلمه عن هذه الحياة، ولا يزال هذا الخيال يوسوس إلي أني إن لبثت بعد ذلك بين كتبي، فمصيري أن ينقطع ما بيني وبين هذا الوجود. . . ولا تحمل أيها القارئ كلامي هذا على المبالغة أو المزاح، فلو شئت لجئتك بألف دليل على أن لي العذر على فيما أقول. وحسبك أن الكتب قد بنيت لي كثيراً من أصول الفضائل وقواعد الخلق؛ فلما أتيح لي أن أتبين ذلك في سلوك من أخالط من الناس، وجدتني في حيرة مما تقول الكتب، وأنكرت أكثر هؤلاء الناس وأنكروني، ولا شك أنهم رموني بالغفلة والحمق كما رميتهم بالضلال والسفه. وحسبك أن كثيراً من ذوي قرباى ومن خلاني الأدنين، قد سخروا مني أكثر من مرة سخراً كان ينال من نفسي بعض الأحيان، حتى لأهم بالغضب منهم والثورة عليهم؛ فهم يتهمونني بالغفلة إذا جادلتهم في أمر كما أرى ذلك في أعينهم، وكما تفسره لي ابتساماتهم التي يعلقون بها على كلامي إذا خشوا أن يسيئوا إلي بألفاظهم. وكان مما يريد تبرمي بهم انهم يظنون بي الحمق بينما أعتقد أنا وفق ما علمتني الكتب أنهم هم بما يبدون من آراء أكثر الحمقى. ولقد يصارحني من يجد(335/22)
نفسه في مأمن من غضبي - إما لكبر سنه، وإما لسمو مكانته عندي - أن عيبي الأساسي هو أني رجل خيال، أو بعبارة أصح رجل كتب لا أدري شيئاً مما تقوم عليه الحياة بين من يفهمون الحياة، وهو - كما ترى - سب ولكن على صورة (ذوقية) إن جاز اصطناع الذوق في السب، وإلا فما الفرق بين هذا وبين قولهم: إني جاهل غر مثلاً؟
وأكثر من ذلك لقد كان مرد كثير من أخطائي في معاملة من تربطني بهم صلة العمل الذي أكسب قوتي منه إلي جهلي بطباعهم، وأقل إلي جهلي بمبادئهم. ولطالما سبب لي ذلك كثيراً من العنت. . . فأنا على حق إذا تدبرت ما تقول الكتب، وأنا على باطل إذا قست ما يصدر عني بأقيستهم. وأنا لا أدري أأسير طوع الكتب فلا أفرغ من الخصام والحرب وإن أرحت ضميري بذلك، أم أسير وفق تعاليمهم فأكسب الهدوء والسلام. وكادت تقل ثقتي بنفسي لما رأيت شبه إجماع ممن أخالط على إنكار مسلكي، حتى لقد وقفت أحياناً أسأل نفسي: أأنا الغر حقاً، أم أنهم هم الإغفال الأغرار؟
لذلك طويت كتبي زمناً ورحت أتعلم مكر الناس لا لأمكر مكرهم، ولكن لآمن منهم فلا يكون سبب كثير من متاعبي. ونظرت من وراء منظاري ورحت أتدبر فزادتني هذه التجربة اعتقاداً بأن الكتب جنت علي بقدر ما قدمت من قواعدها إليّ. . .
وما لبثت أن رأيت منظاري يقع على كثير مما أصيب فيه الدرس، حتى لقد أصبحت أشبه نفسي بأولئك الفلاسفة الأقدمين الذين لم يأخذوا فلسفتهم من الكتب، وإنما أخذوها من الحياة!
وليت لي مثل بصير هؤلاء. . . إذاً لأفدت من العلم من وراء المنظار ما لم يأتيني من جميع ما في دار كتبنا العظيمة من كتب، ولكن لا ضير أن أنظر وأن أطيل النظر، وأن أدور بمنظاري هنا وهناك في المدينة وفي القرية، في القصر وفي الكوخ، في (الدواوين)، وفي الطرقات والمتاجر والمنتديات ودور اللهو، في الحقول على المصاطب وفي الأسواق، وفي غير ذلك جميعاً من نواحي هذا المضطرب الواسع، أو هذا المسرح الهائل الذي تمثل عليه الحياة. ولعل طول النظر وتنوعه يعوض على ما فاتني من العلم فيما تصرم من سني عمري بين أوراقي وكتبي
(شين)(335/23)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
ذكرت في المقالين السابقين آراء بعض الفلاسفة والمربين ومعلمي البيان في الفروق السيكلوجية. وأشرت إلى أنهم طبقوا نظرية الفروة السيكلوجية في الحياة العملية. فقد بنى أفلاطون نظام التربية في المدينة الفاضلة على هذه النظرية، كما وجه فيتو رينو دافلتري تلاميذه إلى الدراسات التي يصلحون لها بطبعهم، وأوصى روسو أن تترك لأميل حرية اختياره العمل الذي يتفق وميوله الفطرية.
غير أن هؤلاء الفلاسفة والمربين قد استنبطوا آراءهم استنباطاً من الملاحظة العامة لتصرفات الأفراد وسلوكهم، فلم تكن إذاً هذه الآراء علمية مبنية على التجربة والبحث والإستقرائي، وذلك طبيعي لأن علم النفس ما أصبح علماً مستقلاً بالمعنى العلمي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأعني بذلك أنه اتبع في دراسة موضوعاته التجربة والإحصاء والطريقة الخطوات الأربع:
1 - ملاحظة الظواهر المختلفة للنوع الواحد في موضوع البحث
2 - جمع المتشابه من هذه الظواهر.
3 - اقتراح بعض الفروض لشرح هذه الظواهر وتعليلها
4 - إجراء بعض التجارب لإثبات صحة الفرض أو الفروض المقترحة.
ولم يعتن علماء النفس بموضوع الفروق السيكلوجية إلا في الربع الأخير من القرن الماضي. على أن دراسة الاختلافات البشرية بين الأفراد دراسة منظمة، وقياس هذه الاختلافات، وتحديد آثارهم لم تنشط إلا في القرن العشرين.
ويعتبر فرانسيس جولتن أول من بحث في موضوع الفروق الفردية بطريقة منظمة مبنية على الإحصاء. ومن الحق أن نذكر أن دارون هو الذي مهد السبيل له - ولغيره ممن عنوا بموضوع الفروق السيكلوجية الفردية - بنظرياته البيولوجية كنظرية النشوء والارتقاء، ونظرية الوراثة في النبات والحيوان. وقد عاصر جولتن دارون وصدق بنظرياته. وكان دارون وراثي المذهب، وفي هذا يقول: (أن التربية أو البيئة لا تؤثر إلا قليلاً في عقل الأفراد ومواهبهم، وأغلب صفات الأفراد وخواصهم ولدت معهم) أعتمد جولتن على(335/24)
نظريات دارون في بحوثه وبخاصة في علم إصلاح النسل البشري الذي لم يسبق جولتن أحد إلى الكتابة فيه. فهو أول من وضعه. ويعرف هذا العلم (بأنه دراسة العوامل الاجتماعية والبيئية التي يمكن ضبطها، والتي تؤثر بالإيجاب أو السلب في تحسين الصفات الجسمية أو العقلية للأجيال البشرية المقبلة) وتشمل هذه الدراسة دراسة الفروق السيكلوجية الموروثة، وأثر البيئة في هذه الفروق. ويمكن إجمال رأي جولتن في أسباب هذه الفروق في عبارته (لقد أصبح من المؤكد أن الإنسان إنما هو إنسان نتيجة لمؤثرين: أولاً لما به من الصفات الأبوية والجنسية الموروثة، وثانياً لما تحدثه فيه البيئة التي يعيش فيها)
وقد وقف جولتن حياته وجهوده على دراسة الفروق الفردية بين أشخاص بذواتهم، وأسرات بذاتها، وهو يقول في مقدمة كتابه المسمى (بحوث في القوة البشرية) ما يأتي:
(كانت غايتي فيما قمت به من بحوث أن أدرس القوى الوراثية المختلفة لأفراد مختلفين، وكذلك أدرس الخصائص المختلفة لأسرات مختلفات وشعوب مختلفة، وأن أعرف إلى أي حد يمكن أن نعوض عن النقص الوراثي بعناصر تربيوية، وقد فكرت في أن من الواجب أن نقوم بهذا التعويض بقدر ما تسمح جهودنا وظروفنا. وبهذه الطريقة يمكننا أن نعجل إصلاح الجنس البشري وتطوره حتى لا يقاسي من المتاعب ما يقاسي لو ترك وشأنه يسير في تطوره الطبيعي) وكان جولتن قد نشر سنة 1869 كتابه (النبوغ الوراثي) وبه كان أول عالم حاول دراسة أثر الوراثة في نبوغ الأفراد دراسة منظمة، وقد اتخذ في كتابه هذا منهجين علميين للبحث: أحدهما هو دراسة تاريخ الأسرة
طريق التلازم درس في كتابه هذا بعناية حياة أفراد 977 أسرة اشتهرت كل واحد منها بوجود نابغة فيها في ناحية: في الشعر أو الكتابة أو السياسة أو الخطابة أو العلوم أو الفلسفة الخ، كما درس أيضاً نوع المهن التي أحترفها كل واحد من هؤلاء الأفراد، وطبيعة هذه المهن، ومقدار إنتاج الفرد في مهنته، ثم عالج ما وصل إليه من معلومات بطريقة إحصائية لا حاجة لذكرها هنا. ولكنه استخلص من هذه الدراسات أن إمكانية وراثة النبوغ في الأسرة التي بها نابغة تبلغ 134 مثلاً لإمكانية وراثة النبوغ في أسرة عادية. ومن هذه النتيجة يرى أن المواهب العقلية عند الأفراد موروثة، وأن النبوغ الذي نجده بين عدد كبير(335/25)
من أفراد بعض الأسرات لا يمكن أن يعزى إلى التربية والبيئة، بل لا بد أن يكون نتيجة الوراثة. ولا شك أن القارئ يلاحظ مما سقناه من جولتن أنه من الأنصار المتعصبين لمذهب الوراثة، وأنه ينسب إليها كل الفروق السيكلوجية بين الأفراد. ومما يؤثر عنه في كتابه (النبوغ الوراثي) قوله: (إن الأفراد الذين ميزوا أنفسهم في الحياة الاجتماعية لا يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى مراكزهم الممتازة إلا بالمواهب الطبيعية)
وليست قيمة أبحاث جولتن محصورة في النتائج التي وصل إليها، بل إن الطريقة العلمية التي أتبعها في أبحاثه تعتبر بنت أفكاره، فقد أستخدم الإحصاء والتحليل العلمي في طرق بحثه. وكانت نتائجه العلمية مبنية دائماً على عمليات رياضية ومقاييس حسابية دقيقة. وقد اقتدى به في طرقه العلمية هذه خلفه الأستاذ كارل بيرسن رئيس معمل جولتن بلندن الآن، والأستاذ تشارلس سبيرمان السيكلوجي الشهير.
كان لجولتن أثر محسوس في إيقاظ الرغبة في بحث الفروق السيكلوجية بين الأفراد، كما كان ذا نفوذ علمي كبير في توجيه علم النفس التجريبي ومقاييس الذكاء. وذلك بواسطة الاختبارات التي أبتكرها لقياس قوة الخيال ودقة الإدراك الحسي. أبتكر جولتن مقياساً به نعرف دقة تمييز الأفراد للأثقال المختلفة اختلافاً بسيطاً، كما أبتكر الصفارة المعروفة (بصفارة جولتن) لقياس قدرة الأفراد المختلفة على سماع النغم العالي وتمييزه ووضع عدداً من الاختبارات لقياس قوة الشم والذوق واللمس وغيرها من الحواس.
وكانت هذه المحاولات من جانبه لمعرفة الفروق الحسية بين الأفراد ترمي إلى معرفة ما إذا كانت هناك علاقة تلازمية بين الذكاء وبين قوة الإدراك الحسي ودقته في نفس الفرد. ويؤيد ما نقول أنه كان دائماً يختار للبحث والقياس أفراداً بينهم تفاوت كثير في الذكاء. كان يختار عبقرياً وضعيف العقل ثم يجري عليهما تجارب في الإدراك الحسي ليعرف: هل هناك تلازم بين قوة الإدراك الحسي ودقته في الفرد وبين ذكائه أو غبائه.
غير أنه لسوء الحظ وبالرغم من مجهوده العظيم ومحاولاته الكثيرة لم يجد تلازماً يذكر بين ذكاء الفرد وقوة إدراكه الحسي. وبالرغم من هذا نجد أن بحوثه وطرقه العلمية كان لهم أثر عظيم في كل ما أجرى من تجارب سيكلوجية حتى نهاية القرن التاسع عشر حين ظهرت مقاييس الذكاء التي وضعها السيكلوجي الفرنسي الشهير ألفريد بينيه يقسم جولتن الأفراد(335/26)
إلى أنواع وفقاً لقوة خيالهم الحسي. فعنده النوع الإبصاري وهو الذي يغلب عليه الخيال البصري، والنوع السمعي وهو الذي يغلب عنده الخيال السمعي، والنوع الحركي وهو الذي يغلب عنده الخيال الحركي الخ. فالنوع الإبصاري مثلاً يفكر باستحضار الأشياء المرئية، بينما السمعي يستحضر الصور الصوتية، على حين أن الشمي يستحضر الصور الشمية الخ، ولكي يعرف أن فرداً يتبع للنوع الإبصاري أو السمعي أو الشمي مثلاً كان يجري عليه تجربة كالآتية: -
تصور أنك جالس في الصباح على المائدة لتناول طعام الإفطار. تخيل بدقة المائدة التي جالس عليها. هل الصورة الخيالية المرئية واضحة أم غامضة؟ هل ألوان الأطباق والفناجين والأكواب والخبز واضحة أو غامضة؟ هل تستطيع أن ترى بمخيلتك جانبي الكرة في وقت واحد؟ هل تستطيع أن تتخيل بوضوح تقاطيع الوجه لأقرب قريب لك (زوج أو أب أو أم الخ)، هل تسمع بمخيلتك صوت السيارة تمر تحت نافذة منزلك؟ هل يمكنك أن تتخيل حركة الفم والأسنان واللسان حينما تنطق بكلمة (عجب) أو كلمة (وطن)؟ هل يمكنك أن تسمع بمخيلتك سقسقة العصافير فوق الشجرة؟ هل تستطيع أن تشم بمخيلتك رائحة البطيخ أو القهوة أو البرتقال؟ هل تستطيع أن تتخيل طعم الشكولاته أو الليمون أو الكفتة؟
وهكذا وضع جولتن سلسلة من الأسئلة في أنواع الخيال الحسي المختلف، وقسم الإفراد إلى الأنواع السابقة كما قسم النوع إلى درجات تختلف من (قوي جداً) إلى (ضعيف جداً) باختلاف قوة الفرد على التخيل.
(بخت الرضا)
عبد العزيز عبد المجيد(335/27)
بين الأستاذين
أحمد أمين وزكي مبارك
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لما قرأت المقالة الأولى للأستاذ أحمد أمين في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي كان ذلك بحضرة الأستاذ الزيات صاحب مجلة الرسالة الغراء، فذكرت له أن الأستاذ أحمد أمين يرى في هذا ما سبقته إليه في كتابي (زعامة الشعر الجاهلي بين امرئ القيس وعدي بن زيد) وأخذت عليه أن يجعل الزهديات من أدب المعدة لا من أدب الروح، مع أنها أحق من غيرها بأن تكون من ذلك الأدب الذي ارتضاه، لأن اتجاه الزهاد إلى الروح من الأمور التي لا يجهلها أحد، وكل زهدياتهم تتجه نحو هذا الاتجاه، فلا يمكن مع هذا أن تكون من أدب المعدة.
وقد أنكر ذلك الرأي على الأستاذ أحمد أمين كما أنكر على قلبه، وكان ممن أنكره عليه الأستاذ زكي مبارك في مقالاته التي نشرتها له مجلة الرسالة، وقد سبق للأستاذ زكي مبارك أن أنكر علي أيضاً ذلك الرأي في نقده لكتابي (زعامة الشعر الجاهلي) بجريدة الأهرام، وكان مما ذكره في ذلك أنه لا يمكن القول بأن زهديات أبي العتاهية أبلغ في الشاعرية من خمريات أبي نواس، فرددت عليه بأن أبا نواس نفسه يشهد بتقديم أبي العتاهية في هذا عليه، وذكرت له ما رواه صاحب الأغاني عن هارون بن سعدان أنه قال: كنت جالساً مع أبي نواس في بعض طرق بغداد، وجعل الناس يمرون به وهو ممدود الرجل بين بني هاشم وفتيانهم، والقواد وأبنائهم، ووجوه أهل بغداد، فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد منهم، ولا يقبض رجله إليه، إذ أقبل شيخ على حمار بريسي، وعليه ثوبان دبيقيان: قميص ورداء قد تقنع به ورده على أذنيه، فوثب إليه أبو نواس، وأمسك الشيخ عليه حماره واعتنقا وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه فمكثا بذلك ملياً، حتى رأيت أبا نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى مستريحاً من إعياء، ثم أنصرف الشيخ وأقبل أبو نواس فجلس في مكانه، فقال له بعض من بالحضرة: من هذا الشيخ الذي رأيتك تعظمه هذا الإعظام وتجله هذا الإجلال؟ فقال: هذا إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية فقال له: لما أجللته هذا الإجلال؟ وساعة منك عند الناس أكثر منه، قال: ويحك لا تقل، فوالله ما رأيته قط إلا(335/28)
توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.
ولا شك أن هذه بعينه تقسيم الأستاذ أحمد أمين الأدب إلى أدب الروح وأدب المعدة، فأدب الروح هو الأدب السماوي، وأدب المعدة هو الأدب الأرضي. وخلاصة ما ذهبت إليه في ذلك أن الشعر لا يصلح أن ينظر إليه على أنه ليس إلا ألفاظاً وأخيلة من تشبيهات واستعارات ونحوها، ولا يليق أن نعده من وحي الشياطين، فيكون لهواً وعبثاً في الحياة لا غير، وإنما يجب أن يكون الشعر إلهاماً شريفاً، ووحياً صالحاً، وعملاً نافعاً في هذه الحياة، يدعو إلى النهوض، ويجهر بالإصلاح، ويوقظ النفوس النائمة، ويحرك العقول الجامدة، وبهذا يكون الشعراء في الأمة رسل إصلاح، وأئمة هداية فينفعون ولا يضرون، ولا يكونون في هذه الحياة أبواقاً للشياطين.
وهذا الأدب الذي دعوت إليه وذهبت إلى تقديمه على غيره هو الأدب الذي دعا إليه الإسلام، وجاء به القرآن الكريم، فذم شعر الجاهلية في جملته، وقبح موضوعه وأغراضه، وذلك في قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وفي قوله أيضاً: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقد ذمه الني صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغَّض إلي الشعر). وقال أيضاً: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ثم جاهد في إصلاح ذلك الأدب الجاهلي الضال جهاده في إصلاح عقيدتهم الضالة، وسلك سبيله في ذلك الخلفاء الراشدون فضربوا على يد كل شاعر أراد أن يستن في الإسلام سنة شعراء الجاهلية، فيجعل الشعر سبيلاً لجمع المال، ولا يعرف في ذلك إلا المدح والهجاء ونحوهما من تلك الأغراض التي وقف عندها الشعر الجاهلي، وجمد عليها جمود أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وقد حبس عمر الحطيئة في ذلك حتى أستشفع إليه بقوله:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
ألقيتَ كاسبهم في قَعرِ مُظلِمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عُمُر
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ... ألقي إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر(335/29)
لمُ يؤْثِروكَ بها إذ قدموك لها ... لكنْ لأنفسهم كانت بك الخِيَر
فأطلقه عمر وهدده بقطع لسانه إن هجا أحداً، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. وكذلك فعل عثمان رضي الله عنه مع ضابئ البرجمي، وكان قد أستعر كلباً من بعض بني حنضلة يصيد به، فطالبوه به فامتنع من إعطائه فأخذوه منه قهراً، فغضب ورمى أمهم بالكلب وهجاهم بقوله:
فيا راكباً إما عرضتَ فَبلِّغَنْ ... أُمَامَةَ عني والأمور تَدُورُ
فأُمَّكُم لا تتركوها وكلبكم ... فإن عُقُوقَ الوالدين كبير
فأنك كلب قد ضَرِيت بما ترى ... سميعٌ بما فوق الفراش بصير
إذا عَبِقَت من آخر الليل دخنةٌ ... يبيت لها فوق الفراش هَدِيرُ
فاستعدوا عليه عثمان فحبسه وقال: والله لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حياً لنزلت فيك آية، وما رأيت أحداً رمى قوماً بكلب قبلك.
ثم جاء بنو مروان بعد الخلفاء الراشدين فعادوا بالشعر إلى سنته الأولى قبل الإسلام، وعملوا على تقديم الشعراء الذين سلكوا في الشعر هذه السنة من جرير والفرزدق وأضرابهما، وعقدوا لهم لواء الزعامة على غيرهم من الشعراء، وتأثر علماء الأدب الذين كان يقربهم أولئك الملوك بهم، فذهبوا في الشعر والشعراء مذهبهم، وقدموا من الشعراء من قدموهم على غيرهم، حتى أن الأصمعي رحمه الله كان يقول: إن الشعر لا يقوى إلا في باب الشر، فإذا دخل في باب الخير لان، وإنما طريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة، من صفات الديار والرحل والهجاء والمديح والنشبيب بالنساء وصفة الخمر والخيل والحروب والافتخار وما إلى ذلك، فإذا دخل في غيره مما دخل فيه بعد الإسلام ضعف ولان. ألا ترى أن حسان بن ثابت كان شديداً في الجاهلية والإسلام، فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي صلى الله عليه وسلم وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم لان شعره
ولست الآن بصدد الدفاع عن ذلك الرأي في قياس الشعر بموضوعه وأغراضه قبل أن يقاس بألفاظه ومعانيه، وفي تقديم الشعر الجاد النافع في الحياة على ذلك الشعر الذي لا يعني إلا بالألفاظ، فالذي يهمني الآن أن أبين أن ذلك إذا كان جناية على الأدب الجاهلي،(335/30)
فأن الأستاذ زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عنه، وموعدنا بهذا المقال الآتي.
عبد المتعال الصعيدي(335/31)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 5 -
هكذا كانت حياة مازيني في لندن منذ رحل إليها عام 1837 حياة شقاء لم يكن يقوى على احتماله إلا من كان له مثل إيمانه، وظلت هذه حاله مدة أربع سنوات طويلة؛ وفي عام 1841 لانت الأقدار له بعض اللين، إذ أخذت يد الصداقة تخفف عنه بعض آلام الغربة والوحدة، وكان أكثر أصدقائه الجدد من الإنجليز، وقد حلوا في قلبه محل أصدقائه الأقدمين الذين نسوه وإن لم ينسهم والذين تركوه في غربته، وأنه ليغترب من أجل قضيتهم ويعاني من الآلام ما يعاني في سبيل تحريرهم.
وأعجب مازيني بأصدقائه الإنجليز وأعجبوا به، وكان يرى في صداقة هؤلاء القوم له ما يزيده تعلقاً بهم؛ فهو يحب إخلاصهم وصراحتهم ورقة آدابهم وظروف أحاديثهم؛ وود مازيني لو كان لديه من المال ما يكفي لأن يشتري الملابس التي تليق به ويدفع منه أجر تنقله من جهة إلى جهة ليتسنى له أن يكثر من الأصدقاء في هذا البلد العظيم، وكم آلمه وأحزنه فقره في هذه الغربة الطويلة
وكان ممن اتصلت بينه بينهم أسباب المودة والحب الفيلسوف الإنجليزي الشهير كارليل، فلقد أعجب كارليل بما انجلى لعينه البصيرة من معاني العظمة في نفس هذا المجاهد الغريب، وكانت قد ترامت إليه من قبل أنباء حركاته في سبيل بلاده؛ وكذلك كانت تربط قلبيهما دعوة كليهما إلى العناية بالجانب الروحي من حياة الإنسان ومحاربة النفعية والأنانية، ثم ذلك الحماس الذي كان يبث الحرارة والحيوية في كل ما يكتبان. وكثيراً ما كان مازيني يزور صاحبه في منزله، وقد اتصلت أسباب المودة كذلك بينه وبين زوج الفيلسوف الكبير، وأعجبت بخلاله وأكبرت مبادئه، حتى لقد كانت تجادل زوجها غالباً(335/32)
وتأخذ جانب مازيني فيما كان ينشأ بينهما من خلاف في الرأي، فإن الأمر لم يخل من خلاف بينهما، إذ كان كاريل يرى أن مبادئ مازيني غير ممكنة في هذا الوجود، الأمر الذي كان يغضب له الزعيم أكبر الغضب فيؤدي إلى احتدام الجدال بينه وبين صاحبه.
وكان عليه من أول الأمر أن يعمل ليكسب قوته، ولم يكن أمامه ألا الكتابة، فراح يكتب على الرغم مما كان يحسه من كآبة وهم، وكان مما يضايقه أشد الضيق أن يرى نفسه مقيداً في اختيار موضوعاته بما يلائم الذوق الإنجليزي، وإلا ردها إليه أصحاب الصحف معتذرين من نشرها؛ فكان لذلك كثيراً ما يتناول من الموضوعات ما لا يحس في تناوله بما ينبغي من الارتياح واللذة، وقد كانت أكثر كتاباته في الأدب، فجال في ميدانه جولات موفقة، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من نابهي الكتاب من الإنجليز، وعرف فيمن عرف من كتاب فرنسا يومئذ لامنيه، والكاتبة الفرنسية الشهيرة التي اتخذت لقلمها أسم (جورج ساند)؛ فتبودلت الرسائل بينه وبينهما. وصار لمازيني في الواقع شخصيتان، فهو الزعيم السياسي الذي تعرفه الجمعيات السرية، وهو الأديب الكاتب الذي يذيع أسمه في الأوساط الأدبية.
ورأى الزعيم أن الأدب قد يصرفه عن السياسة كما أوشك أن يفعل ذلك من قبل في مستهل حياته العامة، فمال إلى السياسة وراح من جديد يوليها من عنايته إلى جانب الأدب؛ وقد عز عليه أن تموت جمعيته إيطاليا الفتاة. فأخذ يزيح الرماد عن هذه الجمرة لتظهر من جديد متوقدة مستعرة؛ فأكب على مراسلة أعضائها في إيطاليا وخارج إيطاليا. وشد ما كان يزعجه ويؤلمه ألا تقابل حماسته إلا بالفتور، وكان يعظم حزنه كلما آنس ذلك الفتور فيمن كانوا بالأمس يتحمسون أشد التحمس للجمعية ومبادئها، ترى ذلك في مثل قوله: (إني لأحس بالخجل حينما أكتب من أجل إيطاليا كما لو كنت ألجأ إلى الكذب).
وكان يخاف أن يموت دون أن يتم ما بدأه، كما كان يعتقد أن التراخي في الجهاد تفريط في كرامة الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في سبيل وطنهم، وتفريط في حق الوطن الذي يتطلب من بنيه أن يموتوا كما مات غيرهم أو يهبوه الحرية والاستقلال. وكان يسأل نفسه ماذا عسى أن يصنع وحده وقد تخاذل الرجال وهانت الحرية على كثير من طلابها بالأمس؟ ولكن مثله لم يخلق له اليأس. ومتى كان اليأس من خلال الزعماء وهم الذين يبددون(335/33)
بإيمانهم ظلماته؟ وهل صرف ما ألح عليه من المحن والشدائد عن وجهته؟ أم أن الشدائد قد زادته صلابة ويقيناً وإن كان جسمه كان يشكو من التعب وسوء الغذاء وغيرهما مما يكون نتيجة للعسر المالي؟
الحق أنه كان يزداد إيماناً فوق إيمانه كلما تصرمت الأيام. ولقد كان على بينة من أن جهاده لم يذهب سدى، وأن هذه البذور التي بذرها فسقتها دماء الأحرار لا بد أن تنمو وتؤتي أكلها، وأن تلك الجمرة التي يخفها الرماد لا بد أن يتطاير الرماد من فوقه إذا نفخ فيها الشباب من روحهم فتعود كما كانت وهاجة مستعرة ولا تقوى بعد على إطفائها الأيام. ولئن تخاذل الرجال عن دعوته فذلك لأنهم فقدوا الثقة في الثورات وفي الحرب الهمجية، أما مبادئ الوطنية والحرية فقد تغلغلت في النفوس واستقرت في أعماقها، ولسوف تكون هذه المبادئ في غد أكبر حافز لأبناء إيطاليا أن يقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل وطنهم يوم يسيرون في حروبهم النظامية ليضربوا عدوتهم الكبرى، ألا وهي النمسا. ولئن تمت وحدة إيطاليا في غد بفضل مساعي كافور وبطولة غاريبلدي والبواسل الأشداء من رجاله، فإن التاريخ لن يستطيع أن ينكر أن دعوة مازيني كانت الروح المحركة في جميع هاتيك الخطوات، فهو الذي أعد الرجال وإن كان غيرهم ساقهم جنداً وهو الذي حشد من الأبطال ما لن يستطيع غيره أن يحصيهم عدداً؛ وفضلاً عن ذلك ففي حجر جمعيته ولد كافور وغاربيلدي فكان أحدهما رأس الحركة الوطنية وكان الآخر ساعدها.
دأب مازيني في غربته على العمل من أجل قضيته الكبرى؛ وما كانت الكتابة يومئذ إلا وسيلة لكسب قوته؛ ولئن لم يستطع أن يتصل بمواطنيه بإيطاليا إلا في مشقة شاقة، فقد أخذ يتصل بالإيطاليين في إنجلترا عامة وفي لندن خاصة ونشط في بث دعوة في قلوبهم؛ وكان يعني أكبر العناية بأن يقبل العمال على دعوته لأنه كان يقدر القوة التي يمكن أن تنبعث من صفوف هذه الطائفة.
ولم يحل الفقر بين هذا الرجل العظيم وأبناء وطنه في إنجلترا، فأنظر إليه على ما كان به من الفاقة كيف يفتتح مدرسة ليلية لتعليم أبناء إيطاليا الغرباء وتثقيف عقولهم حتى ينفذ إليها النور الذي يسعى به فيكونوا عوناً لبلادهم إذا رجعوا إليها ويكونوا عدتها غداً في كفاحها؛ ولك أن تتصور مبلغ ما عانى في سبيل جمع المال للإنفاق على هذه المدرسة، وهو الذي(335/34)
فدحه الدين وتركته الفاقة رث الملابس مضعوف الجسم؟ ولكن المدرسة قد نجحت على الرغم من ذلك، وازداد مازيني بها قدراً في أعين الإنجليز وهم الذين يقدرون مثل هذه الأعمال حق قدرها؛ وزاد نجاحها على نجاح المدارس فبثت الروح الوطنية في قلوب أبنائها، وبثت فيها غير الوطنية عرفان الجميل وشكر المحسنين، فهذا غلام يعود إلى موطنه فيأبى عليه شعوره النبيل إلا أن يسافر إلى جنوة ليحدث أم الزعيم عن أبنها العظيم ويعبر لها عن امتنانه وحفظه صنيع ذلك الرجل الذي علمه وملأ قلبه حماسة وإخلاصاً.
ونشر مازيني صحيفة للعمال يحدثهم فيها عن حقوقهم وواجباتهم ويرفع بها مستوى مداركهم لأن العلم عنده من أكبر أسلحة الوطنية، ولقد كان لهذه الصحيفة في صفوفهم أثر بالغ وإن لم يكن يستطيع أن يذيعها فيهم إلا في فترات متقطعة لحاجته إلى المال؛ وكثيراً ما كان يهرب العمال أعداداً منها إلى إيطاليا فيكون لها في قلوب العمال هناك أكثر مما قدر لها من التأثير إذ كان يحس قراءها أن هذا الكلام كلام زعيم إيطاليا، وأنه فوق ذلك منبعث إليهم من المنفى. . . وكان الزعيم لا يفتأ يحدثهم عما يعانون من البؤس ويلاقون من الإهمال ويبين لهم أسباب ذلك، ويبشرهم بمستقبل سعيد تسود فيه الحرية وتقرر فيه حقوق الأفراد فينالون حظهم من التعليم والرقي والرخاء.
أنكأ مازيني على نفسه على الرغم من ضنى جسمه وقصر ذات يده؛ وكلما أشتد الموقف عليه لاذ بالأمل فبدد أمله أشباح اليأس. ولئن كبر على نفسه أن تضعف (إيطاليا الفتاة) فلقد كان عزاؤه فيما بثته مبادئها في قلوب الشباب والشيوخ من الحماسة والعزم؛ فكان العمال يتلقفون صحيفته الخاصة بهم على الرغم من يقظة الرقيب والبوليس، وكان شباب الجامعات يتهافتون على كتاباته ويتلونها كما يتلون الإنجيل فلها في أنفسهم مثل جلال الإنجيل ومثل سحر الإنجيل.
وكانت النمسا تضيق بها أشد الضيق، كما كان يضيق به أنصار الرجعية في القارة كلها. وأصبح اسم مازيني يقض مضاجعهم وينذرهم بالويل في المستقبل القريب. وكان مما تطيب له نفس ذلك الغريب المجاهد، أن يصبح وهو فرد مبعث خوف هؤلاء الجبابرة الحاكمين.
وترامت إلى مازيني في إنجلترة نبأ دعوة جديدة أخذت تتسرب إلى أذهان الإيطاليين، وهي(335/35)
دعوة الإعتدال، ومؤداها الاقتصار في ذلك الوقت على المطالبة بالإصلاح الداخلي، حتى تتهيأ البلاد للاستقلال، فتكون وثبتها في غد وثبة قوية لا تخاذل بعدها. وكان أصحاب هذه الدعوة يتطلعون إلى ملك بيدمنت ليكون عوناً لهم في تحقيق آمالهم في الإصلاح. . . وغضب مازيني من هذه الدعوة وضاق بها صدره، إذ كان يرى النمسا أساس كل فساد. وكيف يتسنى للبلاد أي إصلاح وسلطانها مفروض على الأمراء ونفوذها متغلغل حتى الأعماق؟ أنه يرى أن سياسة المعتدلين قلب للوضع المعقول؛ فالوطنية هي الخطوة الأولى والثورة تأتي بعدها، ومن وراء الثورات المتلاحقة يأتي الغلب في النهاية، ويكون بعد الغلب الإصلاح كأسرع وأكمل ما يكون الإصلاح!
وإنه ليخشى أن يركن الناس إلى هذه الدعوة فتموت روح الوطنية في نفوسهم ويستطيع بعد ذلك المستبدون بهم أن يلهوهم عن غايتهم الكبرى ببعض مظاهر الرخاء المادي حتى تنحل عزائمهم وينسوا القبلة التي كانوا يتوجهون إليها، وتغرهم مطالع الدنيا فيصبح بعضهم لبعض عدواً، وقد كانوا بالوطنية والجهاد في سبيل قضيتهم المشتركة بعضهم أولياء بعض.
وأمض نفس الزعيم النازح أن يسفه بعض دعاة الاعتدال آراءه، وأن يهاجموا حركاته أقسى مهاجمة، فيتهموه بأنه يلقى بالشباب بين براثن الموت وهو بعيد، كل أولئك في غير جدوى، مرة بعد مرة. . . وأثارت هذه التهمة نفسه حتى لقد فكر أن يذهب إلى إيطاليا على الرغم من الحكم عليه بالإعدام، فيضحي نفسه في سبيل قضيته. فللموت أهون على نفسه من هذه التهمة، ولولا أن صدفة عن ذلك بعض أصدقائه لأقدم عليه في غير تردد. وكأنما أراد الغريب المناضل أن يرد عليهم بالعمل خيراً من القول، فأخذ يدبر ثورة جديدة يذيعها في طول إيطاليا وعرضها يكون مركزها هذه المرة الولايات البابوية، إذ كان قد علم أن وسط إيطاليا كان يزخر يومئذ بالمؤامرات السرية، وكان ذلك في عام 1843 واتصل مازيني بنبيلين ضابطين في بحرية النمسا، وهما أتيليو وإميليو من أهل البندقية، وأوعز إليهما أن يوقدا نار الثورة في وسط إيطاليا - ولكن البوليس - ألقى القبض عليهما بعد أن وثق من حركاتهما ومراميهما، فسيقا إلى الإعدام، وزادت دمائهما الزكية شجرة الحرية نماء وقوة. وعلم مازيني أن الحكومة الإنجليزية هي التي دلت عليهما، لأنها كانت تفتح رسائله(335/36)
إليهما ورسائلهما إليه، فاستشاط الزعيم غضباً، وأطلع أحد النواب في مجلس العموم، وكان من أصدقائه الأدنين على الأمر، فأحتج النائب في المجلس على مسلك الحكومة الإنجليزية، وسرعان ما شاع في المجتمع الإنجليزي شعور الخجل مما فعلت الحكومة، حتى لقد حار وزير الداخلية عما يدافع به عن نفسه أمام المجلس حين وقف على تسائل بعض النواب، وكان بينهم ماكولي الكاتب الإنجليزي العظيم. . . وكتب كارليل في جريدة التيمس يسفه عمل الحكومة فكان مما قاله: (إن فتح الرسالة المغلقة مسألة جد خطيرة بالنسبة إلينا، لأن هذه الرسائل كما كنا نظن تحترم في مصلحة بريد إنجليزية كما تحترم الأشياء المقدسة. إن فتح الرسائل المغلقة على غير علم من أصحابها عمل قريب جداً من سرقة جيوب الناس).
ودافع كارليل عن صديقه مازيني في تلك الجريدة. فكان مما ذكره عنه: (مهما يكن من رأيي في نظرات هذا الرجل العملية وفي خبرته بشؤون الدنيا، فإني أستطيع في غير تحرج أن أشهد أمام الناس جميعاً أن هذا الرجل - إن كنت قد عرفت شبيهاً له - رجل عبقرية وفضيلة، رجل شجاعة صحيحة ورجل إنسانية؛ وهو كذلك نبيل الفكر، فهو أحد هؤلاء النوادر الذين ترى عددهم في هذه الحياة وا أسفاه قليلاً، أولئك الجديرون بأن نسميهم الأرواح الشهيدة؛ أولئك الذين يسيرون على التقوى في حياتهم اليومية، والذين يدركون في صمتهم، ويسلكون في الحياة مسلكا يتفق على ما يفهم من ذلك).
(يتبع)
الخفيف(335/37)
هاتف من الحرب. . .
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
أَغَفى ربابُكَ لا شدْوٌ ولا طرَبُ ... وجفَّ حانُكَ لا كأس ولا عنبُ
وزَّفت الريح، هل زفَّ النشيد لها ... أم ظلَّ سأمان هذا اليأسُ التعِب
هذا الذي اهتزَّت الدنيا، وعازفُه ... ساهٍ على ضَّفة الأحلام مُكتئب
نَشوانُ يَمَرح في دُنيا محلِّقةٍ ... من الخيال ترامتْ دونها الشُّهُب
هزَّ الطموحُ جناحيْهِ وأَتعبَه ... أنَّ الطريقَ إلى الآفاقُ مضطرب
وأنَّ أيامَهُ من طول ما رَتَعَتْ ... بها النوائب أَدْمى فَجْرها العطب
تغدوا لجِراح مدِلاّت بشِقوَتها ... مادام فيها لأمجاد العُلا نَسَب
وجرْحه راعشُ الآهات تحسَبه ... هَشيمةً جُنَّ في تحريقها اللهب
ناشدْتُ لَوْعتَه السُّلوانَ فامتعضتْ ... كيف الهدوءُ وأنفاس الوَرَى تَجِب؟
والأرض موْقد أعمار قد اشتعلتْ ... في جمْره الناس لا الأعواد والحطب
كأنها رأسُ مجنونٍ قد احتدَمتْ ... به الهواجس واستشرى به الغضب
ترتجُّ في راحة الطاغي كجمجُمةٍ ... تحت القتام طوت أحلامها الكرَب
عَلا دُخانُ المنايا في سَماوَتِها ... فزُلزلتْ رَهبةً من هوْله السحب
وكُبكِب الناس للميدان لا فَرقَ ... من الحِمام، ولا خوْفٌ، ولا رَهَب
كأنما سئموا الدنيا وبَهجتَها ... فراحَ يُغريهمُ للفتكةِ الهرب
الأرضُ أُمُّ رءُومٌ ما جفت ولداً ... ولا تقطَّع مِنْ أرحامِها سَبب
تُقيتُ جائعَها حيّاً وتشرِبُهُ ... وما تضنُّ بسترِ الهالِكِ التُّرب
فَما لَهمْ مَزَّقوا أوْصالهَا طَمعاً ... وناهَشوا الوحشَ في الآطام واحْتربوا؟
ودوَّخوا كلَّ سَجواَء الظِّلالِ بِها ... وكلّ عَزلاََء فِيها السيفُ مُغترِب!
وكلَّ ناسكةِ الكفَّينِ في يدها ... غصنُ السلام يتيم العود مرتهِب!
وكلّ شلاََّء في الطُّغيان، باطِشةٌ ... في الخَير في يَدها الرَّيحانُ والفُضُب!
زيتونةُ السّلم خلوْها مُعفّرةً ... دمُ الضحايا عليها هاطلٌ سكِب
نوْحُ الليالي، وإعوال السنين على ... ترابها جَوْقةٌ خرسَاءُ تَنتحب(335/38)
وللثَّكالَى نَشيجٌ ردّ حرْقَتهُ ... في كلِّ بيت تداعى مضجع خرِب
ولِلأجنةِ همسٌ حول مصرعها ... كأفرخ فَتَّ في أكبادها اللغب
قد أعْجلتهْا يدُ الُفتاك مولِدَها ... فَعمرُها قصة فوْق الثرى عَجب!
هزَّ الصَّباح لها مَهْداً، وأرضعَها ... قطرَ النَّدى، وكساها ضوؤهُ القشِب
وفي الضحى نشقتْ آجالَها. . . وغَدتْ ... عُمراً حديثُ الأسَى عن أمسِهِ كذب
ميْدانُ حربٍ هُنا!؟ أم تِلك مجزرةٌ ... دمُ الحضارةِ فِيها رَاحَ يَنْسكِبُ؟
في البر، في البحر، في صدر السماءِ وغى ... لمخْلب الوحش فيها النصر والغلب
أتتْ إلى غابهِ الأشْلاءُ صاغرةً ... فعافها وتجافى نَتْنها السّغب
يا حان (عِزريل) إن الكرْم قد نضجت ... به القطوفُ وحيَّا كأسهُ العنب
قمْ أتْرع الدَّنَّ. أوْ لا! فَهْي مترعةٌ ... فاحبسْ خُطاك، عداها الأيْنُ والتعب
وادعُ الندامى، وقل للظامئين: هنا ... نبعٌ من الموت بالأرواح يصطخب
هيَّا اشربوها على نخبِ الطُّغاةِ فهُمْ ... من خمرِها في ليالي الحرب كم شربوا. . .
وكم تنادَى ضُحًى بالسِّلم عاهلُهم ... فما دجى الليْل حتى راح ينقلب
وأرسل البغتةَ النَّكراَء صاعقةً ... تدِفُّ من نارها الأرزاءُ والنُّوَب
الناسُ منها أعاصيرٌ مُزمجِرةٌ ... يرتجُّ في يدها الفولاذ واللهب
والموتُ شاعرُ آجالٍ على فمه ... ينعى النشيدُ، ويَرثى نفسه القصب
قد جُنّ فارتجلَ الأعمارَ قافيةً ... مزمورُها من قلوب الناس منتهب
تُرى الحضارةُ ثكلى في مآتمهِ ... ودمعُها من جِراح العصر مُنسرب!
يا قَومَنا وتُرابُ (النيل) ضجّ بنا. . . ... أما كفانا عليْه اللهو واللعب!
أما كفانا كرىً في جنَّة سجدت ... لها العصور وأحنت رأسها الحِقب!
وجاسَ (هاروت) يوماً في ظلائلها ... فردّه سحرُها حيْرانَ يرتْعب
تَبكي الرُّقَى بين كفَّيهِ تمائِمها ... بكاَء راجي الأماني خانه الطَّلب
وكيف؟ والسحرُ في أعتابها رصَدٌ ... وحُسنُها بشعاع السحرُ منتقب
هذى المحاريب كم ريمت دفائِنها ... فأقسمت أرضها لن ترفع الحُجب!
قد ختَّمتْ سرَّها الأقدار فانع لها ... مَن راحَ مِن فمَها للسرِّ يرتقب(335/39)
وكم تحَّطمَ جَبّارٌ على يَدِها ... ودُكَّ باغٍ قوىُّ البطش مغتصب
شُطآنُها الخضر ألواحُ مقدَّسة ... تنزيلُها عَجَزتْ عن حمله الكتُب
سمراءُ، مسكيَّة الأغراس طاهرة ... وفيَّةٌ ما دَنتْ من عهدها الرِّيَب
كانت مصلَّى جبين الدهر في زمن ... ملَّتْ قرابينَه الأصنام والنُّصب
والناس من نَزَق الفوْضى وظُلمتها ... ماجوا من الجَهل كالقُطْعان واضطربوا
كلنا لهم قبساً (فرَعوْن) أشعلَه ... كيْما تضِئ به للعالَم الشُّهُب
لولا شعاع سرَى من مَهدنا لغدتْ ... أَجيالهم في ظلام الفكر تحتجب!
والنخل فيها كفرسان على كثَب ... ترنَّحَ النصرُ فيهم بعدما غلبوا
ترجَّلوا، وشأت أعلامُهمْ، ومضتْ ... رُءُوُسهْم بِفُروع الْغار تَعْتَصِب
إنْ هَزَّها الرِّيحُ خِلتَ الجيش صاح به ... منْ بوق (رمسيس) صوتٌ صاخبٌ لجب
وإن سجتْ قلتُ عباد قد ابتهلوا ... في مَعبد حفَّهُ الإجلال والرهب
والنيلُ جبار آبادٍ كم احتُضرت ... بشاطئيهِ سنونٌ واختفت حِقب
الأسيَوُّيون حجوا فوق صفحته ... وأُنسيتْ مَهدها في ظِّلهِ العرب
وأَقبلَ الغرب أَرسالاً متيَّمةً ... كأنما عُلِّقت في زرْعه الصُّلُب
أمواجه هتفت بالناس: مِن زَبدى ... ومن رَشاش هَديري ينبت الذهب
دعوا الغمامَ وشوْق الموَعدين به ... فلجَّتي من سُفوح الخلد تَنسكب
كلَّت بأرضي خُطا الأيام من سفر ... ما مسَّ خطْوي به يأسٌ ولا تعب
علا وقارُ الندى كفى فما افتخرتْ ... على النزِيلِ بما تعطِي وما تهب
تَّسَّيْت كل غريب أهله، فغدا ... من ذاقني مرّةً للنيل ينتسب!
يا شعبَ (مصر) وَعظْتُ اليوم فاستمعوا ... فإنني لكُم يوْمَ الفَخَارِ أَبُ!
خلقتُ من أرضِكم للشمس رابيةً ... عِطرُ الخلودِ بها رّيان منسكب
النورُ فوق مَجانيها وأغْصُنِها ... متيَّمٌ شَفَّهُ الإغرادُ والطرَب
وحاملُ الفأس يسقيها حُشاشته ... وحظه من جَناها البؤس والوَصب
من عهد آدم يَرعاها. . . وشِقْوتهُ ... دمعُ السواقي لها غضبان ينتحب
الأسمَرُ القانعُ المسكينُ تحسبهُ ... في الكوخ بينَ حماهُ والبلَى نسب(335/40)
مُرُّوا بهِ مِثلما مَرّ النعيمُ بكم ... فما لكم بِسوى أجدادهِ حسب!
وأنقذوا مِصر من خُلفٍ يكاد به ... جَنانُها من صراع القوم يَنشعِب
كونوا لها صفَّ أبطالٍ على فمهمْ ... نشيدُ مجدٍ بِلحنِ النار يَلتهب
فإن دعا هاتفٌ للحرب أو رجفتْ ... من بوقها نذُرٌ بالشرِّ تقترب
هُبُّوا حُتوفاً وطِيروا أنُسراً وثِبوا ... صواعقاً بالمنايا الحُمْرِ تصطخب
وفي دَمي النغَمُ الجبّارُ يلهمُكم ... شجواً تعانقَ فيه السِّحرُ واللهب
والشِّعرُ دُنيا مِنَ الإعجازِ ساكنةٌ ... لولا الأسى رقْرقَتْ أنغامَها الشهُبُ!(335/41)
أنوار. . .
(مهداة إلى الأستاذ خليل شيبوب)
للدكتور إبراهيم ناجي
طابتْ بكِ الأيام وا فرحتاهْ ... أنتِ الأماني والغِنى والحياهْ!
قد وَجَدَ الضِّلِّيل نور الهدى ... يا حُلمه يا نجمه يا سماه!
فليذهبِ الليل، غفرنا له ... ما دام هذا الصبح عُقبى دُجاه
جمالك الطاهر عندي له ... إيمان قلب في خشوع الصلاه
ولي إلى ذاك الجلال اتجاه ... ولى بسلطانكِ عز وجاه!
قد طرق الباب فتى مُتعبٌ ... طال به السيرُ وكلَّت خُطاه
نَقّل في الأيام أقدامه ... يبغى خيالاً ماثلاً في مُناه
عندك قد حط رحال المُنى ... وفي حِمى حُسنك ألقى عصاه
أينَ شقاءٌ صاخِبٌ في دمي ... جرعني الضنك إلى مُنتهاه
له إذا دوّي به ساخراً ... ضِحك التشِّفي وجنونِ الطغاه
شكراً لذات هَبطتْ من علٍ ... تحدث النحس فَشُلَّت يداه
بأي كف طَعَنَتْ قلبه ... فمات في قلبيَ حتى صداه!
قد هدأ الليل وران الكرى ... إلا أخا سهد يُغَني شجاه
ناداكِ من أقصى الرّبى فأسمعي ... لِمَنْ على طول الليالي نداه
نادى أليفاً نام عن شجوه ... عَذْبٌ تَجَنبه عزيزٌ جناه
أحبك الحب وغَنّى به ... عفّ الأماني والهوى والشفاه
وإنما الحب حديثُ العُلى ... أنشودة الخلد ونحن الرُّواء
ناجي(335/42)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
اليد فاللسان فالقلب
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- أأنت الذي قطعت أوتار هذا العود هكذا؟
- نعم
- وتقول بكل وقاحة (نعم)؟! لم أعد أطيق معك صبراً!
- وبهذا أنذر الخضر موسى. ومع هذا فقد أصر موسى على صحبته. . .
- الخطر وموسى؟ إذن حكمة في هذا الخبل يا سيدي الخضر الثاني. . .
- من غير شك. فالمحروس أخوك الصغير خلقه الله معبداً بالغريزة والسليقة، وقد كان هنا طول الأمس، فلو أنه عثر على العود مشدود الأوتار لأبى إلا أن يطربنا ويشنف أسماعنا بنشيد (العنزة والضفدعة) وأغنية (الجحش النجيب)، وغير ذلك من محفوظاته الرائعة. . . فقطعت أوتار العود، ونجونا بذلك من الكرب
- أما كنت تستطيع أن تخفيه؟
- كان يستطيع أن يجده!
- فإذا وجدته أما كنت تستطيع أن تنهاه عن العزف؟
- بل كنت أستطيع أيضاً أن أدعه يعزف فلا أمنعه، ولا أنهاه، وإنما ادعوا الله في قرارة نفسي أن تنقلب أوتار العود ألغاماً فما يمسها حتى تنفجر في وجهه فنرتاح ويرتاح. . .
- يا حفيظ! ولماذا لم تفعل هذا يا سيدي الخضر فكنت ترينا كرامة من كراماتك؟
- لا يفعل هذا إلا من كان إيمانهم أضعف الإيمان
- الكرامات لا يفعلها إلا ضعفاء الإيمان؟ ما هذا؟ إنما الكرامات للأولياء. . .
- الكرامات للأولياء، وما أكرمه على الله عبده الذي يلهمه الصواب ويوفقه إلى فعله بيده. . . أتظنين أن هذا شيء يسير؟ هذه هي الكرامات، وأولياء الله هم الذين يفعلون الصواب ويقيمون الحق بأيديهم. . . والحق من الله. . .(335/43)
- كنت أحسب للأولياء آيات
- إن لهم آيات. بل أن الذين أقل منهم آيات أيضاً. . . بل إن في كل الذين ترين وتسمعين من هذا الوجود آيات. . .
- ما هذا التناقض؟ تنكر عليهم الكرامات، وتشهد لهم بالآيات، بل تمضي فتشهد لمن هم دونهم بها. . . ثم تذوب آخر الأمر في هذا الوجود الذي لا يمكن أن نحصره فتقول إنه كله آيات في آيات، فما الذي تحب أن أفهمه من هذا كله؟
- إذا استطمت فافهميه كله، ولكي تفهميه كله اذكري الحديث الشريف من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فأن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان. واذكري إلى جانب هذا الحديث قصة الخضر وموسى، واذكري مع هذا وذاك أن القرآن يروي عن حوار دار بين الكفار وبين النبي (ص) طلب فيه الكفار منه آيات ومعجزات فأوحى إليه الحق الجبار أن يقول لهم إن الوجود ملؤه الآيات والمعجزات. وأعذريني إذا كنت لا أحفظ نصوص الآيات فقد استعصى عليَّ الحفظ بفضل الطرق التي كانوا يحفظوننا بها في المدارس. . .
- إني أذكر هذه الآيات ولكني مع هذا لا أستطيع أن أخلص من جمعها إلى الحديث الذي ذكرته، وإلى قصة الخضر بشيء مما تريدني أن أخلص به. . .
- هذه هي عادتك. . . فلو كان ما نناقشه حسبة فستان وروائح ومساحيق لخلصت منها كالجن بالذي تريدين. . . وأكثر! لا بأس فلنبدأ معاً. . . أنت تعلمين أن كل ما في هذا الوجود يتبع في حياته قانوناً خاصاً به. وأنه لو حاد عن هذا القانون أختل وأضطرب وفسد وقد يفقد الحياة. وأنت تعلمين إلى جانب هذا أن كل القوانين التي تخضع لها كل الخلائق لها هي أيضاً قانون تخضع له هو قانون التطور والارتقاء الناهض إلى الكمال والموصل إلى الله وأسمه الآخر، تباركت أسماءه. والخلائق متنوعة: منها ما يبدوا لنا بإدراك، ومنها ما لا يبدو له إدراك، ومن الخلائق التي لها إدراك الإنسان، وله إلى جانب الإدراك أو بهذا الإدراك إحساس وإرادة وعقل، ثم إن له آخر الأمر قدره على الإنتاج. وحياة الموجودات في مجموعها حين تنزع إلى الارتقاء والكمال لا تزحف بالتساوي ولا تتماسك في صف واحد، والذي صنع بها هذا هو تشابك القوانين المؤثرة فيها وتعقدها وتكاثر الظروف الفعالة(335/44)
فيها وتباين أصولها وأتجاهاتها، وهذا التشابك وهذا التعقد وهذا التكاثر وهذا التباين. . . كل هذه حين تتفاعل تغلي بالوجود غلياناً، وفي هذا الغليان تتناثر بعض الموجودات فتخرج عن محيط أخواتها متطايرة متطيرة، فأقوى ما في الموجودات هو الذي يستطيع أن يرد هذه الشاذة إلى مرجل الحياة بالدفع أو بالجذب، وأقل قوة من هذا هو الذي يدعوها بالكلام عسى أن تقتنع أو تعود إذا كانت مما يفهم الكلام. . . والأقل قوة من هذين هو الذي ينظر إلى هذه الشاذة نظرة العارف بمروقها والآسف لهذا المروق والراغب في عودتها، والعاجز عن إعادتها بالفعل أو القول. وهذا الذي وصفه النبي (ص) بأنه أضعف الإيمان، وليس الإيمان - كما لعله وضح - إلا الخضوع بالرضى لقوانين الحياة الساعية إلى الله، ومن أقوى هذا الخضوع ما لم يشبه التردد وما صاحبه الإدراك، كخضوع الخضر، ومن أضعفه الخضوع الذي لا إدراك فيه وهو خضوع الجماد والتراب، وبين هذا وذاك درجات للإيمان.
- والآيات. . .؟
- الآيات هي البراعة في هذا الإيمان. . . إن في تتابع الليل والنهار آية، لأن هذا التتابع بارع، فهو ماض منذ كان إلى ما شاء الله لم يضطرب يوماً ولم يتأخر يوماً، ولم يحدث أن تعاقب نهاران أو تلاحقت ثلاث ليال من غير أن يتوسطها نهاران.
- في القطب يطول النهار شهوراً. . .
- نحن نتحدث في التتابع لا في الطول والقصر فلهذين قانون آخر هو أيضاً آية لأنه أيضاً بارع
- طيب. . .
- وكما أن للشمس والقمر براعة في إيمانهما تحتم أن يكون للناس براعة في إيمانهم ما دام الناس هم أشرف المخلوقات. وقد حدث هذا. فإن من الناس من هم بارعون في إيمانهم براعة هي آية. . . فالخضر الذي ثقب سفينة الفقراء لينقذها من اغتصاب الحاكم الطاغية الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً إذا أعجبته، ولا تعجبه المثقوبة، كان في عمله هذا من أولياء الله، أي من ملازمي الحق، أي من الناس البارعين في خضوعهم لقوانين الحياة الصحيحة التي كان جديراً بالأفراد جميعاً أن يتبعوها فلا يعتدي منهم إنسان على ملك(335/45)
إنسان، أو على جهد الإنسان، والخضر - فيما يروي كتاب الله - كانت له أفعال كثيرة كهذه، وعلل بعضها لموسى حين ألح في سؤاله إياه عنها، وهذا التعليل يدل على أنه كان يستطيع التمييز بين الخلائق والحوادث المنتظمة في النهج الصحيح للحياة - أو بعض ذلك - وبين الخلائق والحوادث الأخرى التي تشذ عن هذا النهج الصحيح - أو بعض ذلك - وبراعة الإيمان في الخضر ليست هي مجرد الإحساس بهذا وإدراكه، وإنما براعة إيمانه في أنه يرد الحق إلى نصابه. . . وهذا فعلاً هو الأمر الجلل الذي لا يستطيعه كل إنسان. . . فنحن في كل يوم نرى عيوباً وشذوذاً عن الحق يصاب بها الناس وتصاب بها الأشياء، ولكن أكثرنا يتشاغل عنها بشئونه هو كأن شئونه لا تتصل بشئون الكون. وقليلاً جداً من الناس هم الذين يلفتون الناس بالكلام أو بوسائل أخرى من وسائل التنبيه تشبه الكلام إلى هذه العيوب ويطلبون منهم أن يصلحوها، وهؤلاء هم الفنانون فهم أيضاً من ملتزمي الحق أي من أولياء الله، ولكنهم ليسوا كالخضر إيماناً ولو كانوا مثله لتحولت فنونهم هذه إلى أفعال يؤدونها بأيديهم؛ فيقيمون بها الحق ويقومون بها المعوج بدلاً من الكلام وما يشبه الكلام، ولكنهم على أي حال أقوى إيماناً ممن لا يفعلون ولا يقولون وإنما ينظرون ويدركون ويأسفون ويعجزون. . . وحتى هؤلاء أصلح حالاً مما ينظرون فلا يدركون، ولا يأسفون ولا يحزنون!. . . وما أسعد الجمهور من الناس الذي يتولى أمره نفر من هؤلاء المؤمنين، أولئك الذين يقومون العوج بأيديهم. . .
- وما حال الجمهور الذي يتولى أمره الفنانون؟
- الفنانون فيهم عيب، وهو أنهم يقولون ما لا يفعلون. . . وقد وصف القرآن الشعراء بهذا. . .
- هذا صحيح، ولكن لماذا؟
- ألم نقل إن درجات الإيمان تختلف في الخلائق، وأن اختلافها يظهر في مدى خضوعها لقوانين الحياة المرتقية إلى الكمال بمظهر القوة على رد غيرها إلى مرجل الحق بالدفع أو الجذب، ثم بعد ذلك بالنداء أو الكلام ثم بعد ذلك بالأسف. . . إلى آخر هذا الذي قلناه
- هيه. . .
- الفنانون إيمانهم من الدرجة الثانية أو ينتجون من الفنون ما يشبه القول، وتنظرين بعد(335/46)
ذلك إلى أعمالهم فترين فيها ما قد يتناقض مع أقوالهم. . .
- أو لا يستطيعون أن يصلحوا من أنفسهم؟
- يستطيعون. . . فالله لا يمنع الرقي عمن أراد، وقد علمنا في القرآن وفي الإنجيل وفي التوراة أن نناديه وأن نطلب منه الهداية إلى الطريق المستقيم، وليس هذا الذي علمنا إياه عبثاً، وهو لم يقل لنا: (أدعوني أستجب لكم)، وفي نفسه ألا يستجيب. . . إنما هو الرحمن يريد أن يستجيب، ويطلب منا أن ندعوه ليستجيب. . . ففي يد كل إنسان إذن أن يطلب من الله ما يريد على أن يكون الذي يريده شيئاً مما يعطيه الله الذي هو الحق والذي هو الرحمن والذي هو العادل، والذي هو الهادي. . . فالهداية إذن بابها مفتوح. . . إنما علينا أن نطلبها. . .
- علمني كيف أطلبها لعل الله يهديني فأكون من أولياء الله الصالحين. . .
- أظن ذلك يكون بأن تعدي لها نفسك أولاً. . . أنت تريدين أن تهتدي للحق، فمهدي نفسك للحق. . . ثم اعرفي الحق ثم ابذريه في نفسك، ثم تعهديه بالحفظ والصون، ثم غذيه واسقيه حقاً وحقاً. . . عندئذ لا بد أن يثمر الحق في نفسه حقاً هو أزهى الحق وأزكى الحق. . . وسترين نفسك بعد ذلك، وتقولين الحق كما يفعل الفنانون، ثم إذا رضي الله عنك رأيت نفسك تفعلين الحق بيدك كما يفعله أولياء الله الصالحون رضي الله عنهم. . . أظن أن هذا هو الطريق. . . بل إنه الطريق
- فلماذا لا يمضي الفنانون في طريقهم هذا إلى نهايته؟ ما دام يستطيعون؟
- لعل إعجابهم ببراعتهم في إيمانهم يستهويهم.
- هذا الإيمان الشفوي الذي لا غناء فيه، والذي لعنهم القرآن من أجله. . .
- ليس إيمان الفنانون شفوياً يا هذا، وإن القرآن لم يلعنهم يا تلك. . . بل إن القرآن وصفهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون وهذا حق لأنهم هكذا، وقال عنهم القرآن إنهم يتبعهم الغاوون وهم الذين يستهويهم كلام الشعراء وفنون غيرهم من الفنانين، ويهيمون ورائهم في دنيا كلها خيال تريد الكمال ولكنها لا تطلب الكمال إلا بالكلام، بينما الكلام لا يحقق هذا الكمال، وإنما تحققه الأفعال. . . فالفنانون هم حقاً لا ينتجون إصلاحاً. . . ولكن دعوتهم إلى الإصلاح والكمال لا بد أن تصادف مؤمناً ممن يستطيعون أن يفعلوا بأيديهم فيحقق بهذا(335/47)
الإيمان الذي يستقيه منهم وبإيمانه الذي يهديه إليه الله. . . ذلك الكمال أو جانباً مما كانوا ينشدون. . . وحين وصف القرآن الشعراء بهذا الوصف الذي لا شك أن فيه كثيراً من التعبير كان الإسلام في حاجة إلى الذين يبذلون الأرواح والأجسام في تقويمه وتثبيته، ولم يكن في حاجة إلى من يقول شيئاً، لأن الله عندئذ كان هو الذي يقول. . .
- أذن فليسوا الآن ضالين. . .
- ولم يكونوا يوماً ضالين ما استوحوا الحق فنونهم، وإنما كان على أنوارهم أن تسجد لنور الله حين تجلى الله بنوره على محمد سيد العالمين. . .
- ولكن دفاعك هذا كله عنهم لا يزال عاجزاً عن رفع إيمانهم منزلة على الإيمان الشفوي كما أقول. . .
- أعوذ بالله منك ومن اللوغاريتمات. . . إن لإيمانهم هذا المظهر الشفوي الذي تقولين عنه لأن تعبيرهم عن هذا الإيمان يكون بالكلام، أو ما يشبه الكلام، ولكن إيمانهم نفسه ليس كلاماً ولا شيئاً يشبه الكلام. وإنما هو إحساس وفهم وإدراك وتمييز واهتداء إلى الحق. هم يشعرون بأنفسهم، ويشعرون بما يحيط بهم، ويشعرون بالحق في بعض هذا، وبالشذوذ عن الحق في بعضه، وهم يشعرون بالحق واتباعه خير من الشذوذ، فيرجوا أن يحدث هذا الحق، ويتصورون أنه قد حدث فعله لأنهم يستطيعون بعقولهم أن يرتبوا النتائج على المقدمات، ومتى اهتدوا إلى علاج للعيب الذي يرونه فإن أنفسهم تخيل إليهم أن هذا العلاج قد تم بالفعل وأن الخلائق قد صلحت بعد ذلك واتبعت قوانين الحياة الصحيحة. . . وهم يصفون هذا كله بفنونهم: يصفون رجاءهم، ويصفون علاجهم، ويصفون آثار هذا العلاج ويصفون قبل هذا وذاك الأشياء التي يرونها على ما هي عليه بما فيها من خير وما فيها من شر. . . ولوا أنهم عدلوا عن هذا الوصف إلى الإصلاح باليد لما قلت عنهم أن إيمانهم شفوي، وإنما الذي يسحبك إلى هذا المغالطة هو المظهر الشفوي لإيمانهم. وحرام عليك هذه القسوة
- ولكن من الفنانين عابثين، وإن منهم داعرين. . .
- ليس هؤلاء فنانين، وإنما هم حيوانات يتفننون.
عزيز أحمد فهمي(335/48)
رسالة العلم
أرقام تتحدث
وتنبئنا عن قصة الإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
- 1 -
لم يتطرق إلى ذهني أي وهن يمنعني عن متابعة الكتابة لقارئ (الرسالة) الذي وعدته المرة بعد المرة بأني منبئه بقصة الوجود، مطلعه قدر المستطاع على حلقة التفكير الإنساني في أحدث صوره، مستعرض أمامه مبلغ ما وصل إليه من السمو، مطلعه على الطفرة التي بلغتها العلوم الطبيعية والذروة التي ارتقى إليها العلم التجريبي محدثه في الأسباب التي دعت العلماء إلى الأخذ بفكرة معينة والإعراض عن أخرى. ولكن تطرق إلى جسمي نوع من الوصب ظننته بادئ الأمر وصباً دائماً، وحل بهذا التركيب الجسماني مرض عاقني عن الكتابة شهراً، أختل خلاله توازن الجسم ووصل الاختلال إلى العينين، فغير المرض فيهما معامل الانكسار ومنعني هذا عن المطالعة وأبعدني عن الكتابة. ولم تكن مقالاتي بالتي أستطيع أن أمليها على أحد، فأستطيع الاستمرار في الكتابة، إنما من الضروري مراجعة بعض المصنفات والاطلاع على بعض الجداول، نتاج البحث التجريبي وعماد الفلسفة الحديثة. وكان من اللازم تصفح عدد من النشرات العلمية لأستطيع أن أكون للقارئ هيكل موضوعاتي وأحدد معه مجمل مقصدي
وهكذا شاءت الظروف أن أحتجب عن الكتابة على غير إرادتي، وأبتعد عن القراءة على غير رغبتي، ولكن الاختلال أخذ طريقه في الزوال، والمرض بدأ يتضاءل، والعينين بدأتا عملهما كسابق عهدي بهما، فكان أول همي أن أتصل بالقارئ وأول أغراضي أن أتم له حديثي وليكن ذلك من حيث انتهينا آخر مرة. حدثنا القارئ عن الإلكترون الوحدة المكونة للكهرباء، هذه الشخصية التي هي أصغر ما نعرف في المادة يعتبرها فريق من العلماء جسيما ضئيلاً ويعتبرها البعض الآخر اتحاداً بين جسيم صغير وموجة مستصحبة لها. ووصفنا التجارب الشهيرة التي قام بها مليكان في خريف سنة 1909 التي استطاع بها أن(335/50)
يقيس شحنة الإلكترون، هذه التجارب التي فصل فيها هذا العالم جسيماً حاملاً إلكتروناً حراً واحداً، وقد وضعنا جهاز مليكان وشكله في مقال سابق، ويتكون من بخاخة تنشر رذاذاً رفيعاً من الزيت في غرفة عليا يسقط فيها هذا الرذاذ ويمر بعد سقوطه في غرفة سفلي فضاؤه صغير يبلغ ارتفاعه 15 ملليمتراً وواقع بين كفتي مكثف كهربائي. هذا الرذاذ مكهرب بسبب احتكاك جسيماته بعضها ببعض بحيث أن كل جسيم منه يحمل فريقاً من الشحنات الكهربائية بعضها سالب وبعضها موجب، ويمكن كهربة هذه الجسيمات بتسليط أشعة راديومية عليها تخترق الغرفة التي تحويها فتكسب هذه الجسيمات شحنات كهربائية، وترى هذه الجسيمات الميكرسكوبية بتسليط حزمة ضوئية عليها بشرط أن نراها في اتجاه عمودي على مسار الحزمة، عندئذ تبدوا كالكواكب اللامعة في فضاء الغرفة الصغيرة
ولا يجوز أن يختلط الأمر على القارئ فيظن أن هذه الجسيمات المتناهية في الصغر هي الإلكترونات التي نتحدث عنها ويعتقد بهذا أن مليكان رأى الإلكترون، والواقع أن هذه الجسيمات مهما صغرت كبيرة بنسبة الإلكترون، فهي عليها كالإنسان على الأرض أو كمخلوق على كوكب المريخ - إننا نستطيع في الليل أن نرى المريخ ينتقل في أبراجه السماوية ونتحقق بالمنظار من دورانه حول نفسه، ودورانه حول الشمس، ونرى ما يحيط به من سحب وما يعلوه من جبال ويكتنفه من هضاب ووديان، ولكننا لا نستطيع بما أوتينا اليوم من علم أن نرى رأى العين ما قد يعيش من حيوان أو نبات - كذلك الحال في تجارب مليكان. رأى جسيماً يحمل إلكتروناً أو بضعة إلكترونات أو عدداً عديداً منها، وكان على ثقة في كل حالة من وجود الإلكترونات على هذا الجسيم المضيء السابح في جو الغرفة الصغيرة كما يسبح المريخ حول الشمس وكما تسبح هذه في المجرة وكما تسبح المجرة في الكون المحدود، ولكنه لم يرى الإلكترونات بذاتها
على أني أزيد القارئ شرحاً: لو أننا استطعنا يوماً أن نتحقق من وجود مخلوقات في المريخ فلا يتحتم أن نرى هذه المخلوقات لنعرف عددها، ثمة وسائل أخرى يصح أن نجيل فيها النظر فإنه يكفي أن تتبادل هذه المخلوقات معنا رسائل مفهومة يستطيع هؤلاء فيها أن يوافونا بإحصاء عن عددهم، عند ذلك نقول: إن المريخ يسكنه كذا من المخلوقات الأذكياء دون أن نكون في حاجة لنرى أياً منهم.(335/51)
كذلك كان الحال في تجارب مليكان الخالدة التي يجذبني هيكلها الرائع منذ تجولت فيه بالمطالعة والدرس والذي أبسطه للقارئ قدر المستطاع - كان في استطاعته أن يرى الجسيم الزيتي المتناهي في الصغر، وكان يعرف عدد ما يحمله من الإلكترونات وهي جسيمات أصغر من الرذاذ المادي كما أن المخلوقات الفرضية في المريخ أصغر بكثير من الكوكب الحامل لها وكان مليكان يعرف عدد ما يحمله الجسيم المضاء من الإلكترونات عدد ما تحمله الأرض من مخلوقات بشرية، وليست ثمة فارق بين معرفتنا هذه ومعرفة مليكان إلا أننا لا نستطيع أن نعرف على وجه التدقيق عدد الأحياء من البشر في لحظة معينة، وتواجهنا في ذلك مصاعب يتفق القارئ معنا فيها، منها أننا لم نكتشف الأرض كلها ومنها أننا لا نستطيع في بعض الشعوب الاعتماد على وسائل الإحصاء الصحيحة بيننا نستطيع أن نعرف على وجه التحقيق عدد المخلوقات الإلكترونية التي يحملها كل جسيم، ولم يتطرق إلى ذلك أي خطأ
كيف تسنى لمليكان التحقق من وجود هذه الشخصيات التي لا ترى، هذه المكونات الأولى للخليقة؟ - كيف استوثق من عددها؟ - أمور أحدث عنها القارئ في الأسطر الآتية واحتاج في ذلك إلى بعض الشرح.
في باريس محلات للبيع يسمونها أي (أثمان موحدة) تشبهها في لندن محلات أسمها (ولورث) تدخل إليها فتجد فيها كل شيء، تجد جميع الأصناف من المأكولات فتجد الشكولاته كما تجد علب الأناناس والفواكه المحفوظة، كذلك ترى أطباقاً ساخنة للأكل تغنيك وأنت في عجلة عن الغذاء أو العشاء يسمونها (طبق اليوم) وترى أطباقاً باردة تقوم مقام (الساندوتش) وترى الأنواع المختلفة من لعب الأطفال أو أدوات النجارة والبرادة، وفي هذه المحلات توجد الملابس بجانبها الأدوات الكهربائية من مصابيح إلى أجراس وخلافه، وتوجد الأقمشة والأحذية بأنواعها؛ وتوجد أدوات الزينة للسيدات وأدوات الحلاقة للرجال، وطل ما يعوزنا نجده في المحلات من أدوات الحديقة إلى أدوات الحمام من المأكل إلى المشرب إلى كل ما يطرأ على بالنا من الحاجيات، وقد حددوا الأثمان فيها فجميع ما فيها يباع مثلاً بخمسة فرنكات أو بأعداد مضاعفة للخمسة مثل 10 أو 15 أو 25.
ثمة غاية لنا من وصف هذه المحلات يراها القارئ فيما بعد، ونكرر القول أن المعاملة في(335/52)
مختلف أقسام هذه المحلات تجري بخمسة فرنكات أو أضعافها، فإذا دخلها في اليوم الواحد ألوف من الجمهور فأننا على ثقة بأن كل شخص أشترى بضاعته بخمسة فرنكات أو بعدد منها، ثمة رجل أشترى بمبلغ 20 فرنكاً وآخر بمبلغ 35 وثالث بخمسة ورابع بمائة أو مائتين ولكنه لا يوجد متردد واحد أشترى بضاعة ثمنها 37 فرنكاً أو 102 من الفرنكات لسبب واحد، ولكنه سبب رئيسي، ذلك أن هذه البضاعة غير موجودة ولا يجوز شراءها بهذا الثمن.
ولو أننا الآن عرضنا على أحد الطلبة المبتدئين في الحساب الجدول الأتي من الأثمان المختلفة التي أشتري بها عدداً من الجمهور الباريسي. 10، 35، 45، 5، 105، 80، 60، 75، 65 وسألناه عن العدد الذي يقسم كل هذه الأعداد لأجابنا على الفور 5، ومعنى ذلك أن كل عدد من الأعداد السابقة يقبل القسمة على 5 فالعدد الأول يحوي أثنين منها والثاني 7 والثالث 9 والرابع 1 والخامس 21 الخ. هذه المسألة البسيطة التي يسميها المعلمون في المدارس القاسم المشترك الأعظم الذي هو 5 في المسألة السابقة، كانت المسألة الوحيدة التي أستنتج منها مليكان شحنة الإلكترون وتثبت من وجود عدد الإلكترونات الحرة المحمولة على كل جسيم كان ينظر إليها في الغرفة الدقيقة السابقة. وإلى القارئ كيف حدث ذلك: ترك العالم المعروف (مليكان) رذاذ الزيت يسقط في الغرفة الأولى، وتتبع بالميكرسكوب ما يمر من هذه الجسيمات الصغيرة في الغرفة الثانية، وكانت تسقط تحت تأثير جاذبية الأرض كما يسقط كل جسم عليها، وكان يراها كالكواكب تتألق ساقطة جميعها من أعلى إلى أسفل بين كفتي المكثف المكون لسقف وأرض الغرفة الصغيرة الثانية، وكان من الميسور باستعماله ساعة ثوان أن يقيس الزمن الذي يمر على أحد هذه الجسيمات لتقطع مسافة معينة، هي المسافة التي بين شعرتي عدسة المكرسكوب، مسافة تبلغ في تجارب مليكان خمسة مليمترات.
على أني ألفت نظر القارئ إلى أن كل جسيم يسقط في الفضاء بعجلة معروفة أي أن سرعته تزداد كلما أقترب من الأرض بمعدل في الزيادة معروف يسمونه (العجلة) بمعنى أننا لو تركنا كرة تسقط من أحد الأدوار العليا في منزل مرتفع فإن سرعة هذه تزداد كلما اجتازت الكرة الأدوار التالية حتى تبلغ أقصاها عند اقترابها من الأرض: أمر آخر يدخل(335/53)
في محل الاعتبار عند سقوط هذه الكرة، ذلك أن للهواء كما لكل سائل مقاومة للأجسام التي تتحرك فيه، وتزداد هذه المقاومة أيضاً كلما ازدادت السرعة بحيث تتعادل بعد فترة معينة هذه القوة المقاومة مع قوة جاذبية الأرض للكرة، عند ذلك تسير الكرة بسرعة منتظمة لتعادل القوتين، ويسمي العلماء هذه المنطقة (المنطقة ذات السرعة المنتظمة) ولقد كانت المنطقة المحددة بامتداد شعرتي الميكرسكوب والعين من هذه المناطق التي تسير فيها الجسيمات بسرعة منتظمة بالنسبة للجسيمات الكروية الصغيرة التي أستعملها مليكان، وقد أعطى (ستوكس) القانون الذي يمكن أن تحسب منه سرعة هذه الكرات من كتلتها أو بالعكس، وهو معادلة تجد في أحد طرفيها ثقل الكرة في السائل وفي الطرف الثاني مقاومة السائل للكرة ويحوي هذا الطرف الثاني سرعة الكرة أيضاً.
راقب مليكان سرعة أحد هذه الجسيمات الساقطة والمتناهية في الصغر بملاحظة الوقت الذي يمر على الجسيم لكي يقطع المسافة بين شعرتي الميكرسكوب، عند ذلك أوصل التيار الكهربائي بين كفتي المكثف، وشاهد أن هذا الجسيم الساقط بدأ يرتفع في جو الغرفة الضيقة المحدودة بكفتي المكثف - ذلك لأن الجسيم يحمل عدداً من الإلكترونات كما قدمنا أي أنه مكهرب، وطبيعي أن تجذبه الكفة العليا إليها، لأنها مكهربة من نوع من الكهرباء يختلف عن الكهرباء الموجودة على الجسيم - عند ذلك قطع مليكان المجال الكهربائي الموجود بين الكفتين، وفي هذه اللحظة ذاتها بدأ الجسيم في السقوط مرة أخرى تحت تأثير المجال الأرضي؛ فإذا أوصل التيار الكهربائي عاد الجسيم إلى الصعود وهكذا.
وقد لاحظ مليكان أن الوقت الذي يسقط الجسيم فيه المدى الواقع بين الشعرتين واحد لا يتغير - إلا في حدود الخطأ التجريبي - وأن الزمن الذي يمر لكي يصعد الجسيم فيه المدى عينه يتغير من وقت إلى آخر، ويتخذ فترات مختلفة إلا أنها فترات تتكرر دائماً أو تتكرر مثيلاتها؛ وهي كلها مضروبة في عدد واحد يقسمها جميعاً، بمعنى أن يسقط الجسيم مثلاً في 13. 6 من الثانية ولكنه يرتفع دائماً إما في 12. 5 ثانية أو 21. 8 أو 34. 8 أو 84. 5، ومهما أعاد التجربة على الجسيم ذاته فإنه يسقط دائماً تحت تأثير المجال الأرضي في 13 , 6من الثواني، ولكنه يرتفع تحت تأثير مجال كهربائي ثابت في عدد الثواني هو حاصل ضرب عدد معين يقسم الأعداد جميعاً(335/54)
لم يكن هناك إلا فرض واحد لتفسير الحادث الواضح لحركة الجسيم في المجال الأرضي وحركته في المجال الكهربائي، ذلك أن الجسيم يحمل باحتكاكه في الهواء أو بالتأثير الراديومي فيه كميات كهربائية ذات شحنات مختلفة إلا إنها لا يمكن أن تختلف بعضها عن بعض إلا بقدر معلوم
(يتبع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السربون
ليسانس العلوم التعليمية. لسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(335/55)
من هنا ومن هناك
السياسة والأخلاق
(عن (نشرة اكسفورد في الأحوال الحاضرة))
منذ عرف الإنسان السياسة لم يجد سبيلاً للتوفيق بينها وبين المثل الأخلاقية العالية. فهو أما أن يهجرها ويصد عن سبيلها كما يفعل رجال الدين في كل العصور، أو يشتغل بها ويواجه كل مواقف بما هو أهل له، فيرد ما لقيصر لقيصر كما يقول المثل المعروف. والسياسة لا تعرف غير الحقائق الواقعة، فليس من السهل أن نسألها العطف أو الرحمة أو الأناة أما إلى ذلك من الخلال التي نعرفها في حياتنا العامة.
ولعل من أهم الأسباب التي تجعل للسياسة هذا اللون، أنها تدين في الحياة للقوة، والقوة سلاح خطر، وإن كانت في ذاتها شيئاً لا هو من الخير ولا هو من الشر، شيئاً لا لون له ولا صفات فمرجعها في الحقيقة إلى الغاية التي تستخدم في سبيلها والوسائل التي تلتمس لها.
وقد واجه الحكماء والمحكمون هذه الصعوبات منذ عرفت السياسة. إلا أن ظروف العالم الحاضرة اليوم قد أمدتهم بشيء من الصرامة والتأييد. ويرجع ذلك إلى سببين: السبب الأول هو أتساع نطاق الحياة السياسية باشتباك الصوالح الدولية، فكثير من أحوال السياسة اليوم لا يرجع أمره إلى المصالح والأغراض الوطنية كما كان بالأمس، فللشئون الدولية أهميتها الكبرى في هذه الأحوال، ومن هنا يصير الاعتماد على القواعد الأخلاقية أشد صعوبة مما كان عليه في العهود السالفة.
أما السبب الثاني فهو أشد عمقاً من السبب الأول: وذلك أن الشعوب في هذه الأيام لم تعد تهتم بالدعوة الأخلاقية في العالم السياسي، لأنها غير واثقة من كيانها الأخلاقي نفسه.
لقد كانت الدول الأوربية منذ خمسين عاماً، بل - منذ عشرين عاماً كذلك - يربطها وثاق متين من الأخلاق المسيحية
- ولا أقول إن الحياة في تلك العهود قد وصلت إلى مستوى الأخلاق المسيحية السامية - ولكن هذا الباب كان مفتوحاً على كل حال. ولكنا اليوم نرى فجوة واسعة في العلاقات الدولية فلم يعد يصل ما بينها ذلك التعاون القديم الذي تقلصت ضلاله ولم يحل محل شيء(335/56)
على الإطلاق، وقد أصبحنا نرى على الصهوة رجالاً متعلقين بعنان القوة، وهم لا يخشون شيئاً غير الهزيمة، ولا يخجلون من شيء غير الانحدار. فهل من الغريب مع هذا أن تنحط القوى الأدبية والمعنوية في العلاقات بين الدول الأوربية إلى الحضيض الذي لم تنحدر إليه في عهد من العهود؟
نحن اليوم أمام موقف يدعونا إلى بعض التأمل. ومما يدعو إلى الأسف الشديد أن نرى الحالة السياسية والفكرية والأخلاقية يعروها هذا الجمود.
وإذا كنا هنا بصدد الكلام عن الأخلاق، فمن الواجب أن نقول: إن حكام ألمانيا الحاليين قد أساءوا استعمال القوة التي في أيديهم، فزادوا إلى ويلات الإنسانية بلاء لم يعهد له مثيل؛ ومن الحق أن نحملهم وزر ما جنوا على العالم الإنساني، ونجعل الدفاع عن الأخلاق من الواجبات العامة التي ينشدها الجميع لخير الإنسانية العام.
إن الدول الدكتاتورية ما زالت تعتقد أن القوة هي سيطرة الإنسان على الإنسان، لا سيطرة الإنسان على الطبيعة، وترى في الجار عدواً يجب أن تتحين الفرص لهلاكه. فالجار والجار عدوان على الدوام.
وتستبيح لنفسها الاعتداء على كل أمة وهبتها الطبيعة شيئاً من خيراتها، وهذه حالة ينهار معها كيان الشرف والأخلاق.
نحن نحارب لأجل المدنية
(نقلا عن مجلة بكشرز يوست)
نحن اليوم في حرب، فماذا نحارب من أجله؟ أنحارب لأجل بولندة؟ أجل، نحن نحارب من أجل بولندة، لا لأن في بولونيا شعباً ضعيفاً معزولاً هوجمت بلاده دون إعلان سابق للحرب، ولكن لما هو أكثر من هذا، وهو أنا منحنا هذا الشعب كلمتنا.
- وهي الكلمة البريطانية. . . ولكننا كذلك نحارب من أجل حياتنا. فنحن نعلم أن انتصار النازية ليس في الحقيقة انتصاراً على بولندا واستراليا وتشيكوسلوفاكيا فحسب، تلك البلاد التي وجدت وذاق أهلها أشد أنواع العسف في العصر الحديث. نحن نحارب لهذه الأسباب - ولا شك - ولكن هناك اعتبار أعظم وأسمى من تلك الاعتبارات، وهو أنا نحارب لأجل(335/57)
المدنية، فما هي المدنية؟ ليست المدنية لبس القبعة الحريرية، أو المعرفة بفن وجنر، أو الاضطلاع بعلم الكيمياء. ولكن المدنية هي معرفة فلسفة الحياة الحقة، هي أن تدرك تماماً أن القوة ليست الطريق إلى المجد، وأن المادية العمياء ليست كل شيء في الحياة، وترى راحتك في عمل الخير للصالح العام. إن الألمانيين ولا شك أكثر انهماكاً في دراسة الكتب من البريطانيين، ولكنهم لم يدركوا هذه الحقيقة، فهم أذن بعيدون كل البعد عن المدنية.
يقول بعض المتشائمين: إن كل شيء في الحياة قد تناولته يد الفساد فما أجدرنا بأن نهدم بيدنا كل شيء ونبني حياتنا من جديد! وما أجدرنا بأن نقتدي ببساطة ذلك الهمجي النبيل ولكن الهمجي النبيل ليس إلا أسطورة في خيال ذلك القائل المسكين، إن أهالي الشعوب الهمجية على ما عرف عنهم من الخرافات الكثيرة ليسوا بسطاء، فهم يطوون قلوبهم على الشحناء ويجدون فخارهم في الحروب.
إن الحياة ولا شك لم تصل إلى الغاية التي يستريح فيها كل إنسان، وعلى الأخص الفقراء، ولكن حالة الفقير اليوم خير منها بالأمس والعالم بمختلف طبقاته اليوم أكثر اتجاهاً إلى البر والإحسان والاعتراف بحقوق الفقراء مما كان عليه منذ مائة عام. لقد أخذت الشعوب تجني ثمار الراحة والرفاهية نتيجة جهادها الجهل والقسوة مئات السنين. ونحن مطالبون اليوم بأن نحارب تلك الدعاوى الباطلة التي غرس بذورها هتلر ولينين، ضناً بتلك الثمار النقية من الفساد
وإن بريطانيا وفرنسا لتزهيان بقيامهما بواجبهما في سبيل الدفاع عن المدنية، ضد هذه الحالة التي ترجع بالعالم إلى عصور الهمجية الأولى، ولا تختلف عنها إلا في استعمال الطائرات قاذفة القنابل والمدرعات الحربية بدلاً من القوس والنبال.
إن الكفاح العظيم الذي نراه اليوم قد أوجد بيننا نوعاً جديداً من الوئام والارتباط، ونحن نرى روح التعاون اليوم يشع نورها في كافة الأنحاء، ومن واجبنا إذا انتهت الحرب أنعمل على دوام هذه الروح، ومن واجب وزارة الخدمة العامة ألا تغلق أبوابها إذا دقت الأجراس مؤذنة بانتهاء الحرب ليدوم هذا التعاون الجميل لمكافحة الجهل والفقر والمرض.(335/58)
البريد الأدبي
في المسرح
1 - فجع المسرح الفرنسي بل العالمي في الإخراج والتمثيل بوفاة جورج بيتويف وقد شارك بيتويف المجددين من المخرجين الفرنسيين في فك قيود المسرح. فأتم هو وجوفيه ودولان وباتي مسعى كوبو (ومن قبله: في مسرحه الذي ثار فيه على الأوضاع المربوطة وأسم المسرح - والذي أحدثه هؤلاء النفر أنهم أنزلوا نص المسرحية في المنزل الأول فجعلوه كالصورة المنصوبة، وأخذوا هم يسلطون عليه الضوء من هنا والظل من هنا، من طريق الإخراج والتمثيل، حتى يبرز للعين وخصائصه تكاد تجسدها اليد، ودفائنه تتعلق بها البصيرة فتتصورها الحواس. وقديماً كان النص كالعجين يعجنه المخرج والممثل على أهوائهما. ومزية بيتويف أنه ذهب في الطريقة المستحدثة أبعد مذهب، وأشتهر بالبساطة بل بالسذاجة، وقد كنت أمل أداءه أو الأمر حتى فطنت إلى قوته المستترة وجلاله المتواري، فأدركت كم يجتهد الرجل (وزوجته أيضا: في ساعات التدريب حتى يبرز للنظارة كأنه غائب عنهم أو كأنه شبح يذهب ويجيء في عالم ثان. وكان بيتويف يختار من المسرحيات أبعدها غاية وأدقها لمحة وألطفها وضعاً. فأدى فيما أدى مسرحيات لأندرييف وتشيكوف الروسيين وإبسن النرويجي وشكسبير، وأقدم على بيرندللو الإيطالي فأقام باريس وأقعدها إذ أدى (ستة أشخاص يفتشون عن مؤلف) ثم أقدم على رابندرانات تاغور فأدى (رسالة أمال). فشق بتلك المسرحيات الدخيلة كوى ونوافذ في المسرح الفرنسي. وكان اعتماده على الجمهور المثقف، على الخاصة، وكثيراً ما راعتني قلة النظارة في مسرحه، ولكنه الفن الخالص، وبيتويف وأحزابه خدامه وسدنته. حتى أن الرجل كان يؤدي المسرحية الواقعية البينة المعالم في أسلوب يغلب عليه اللطف، رغبة في الإيحاء والإيهام؛ وهل المسرح سوى هذا؟
2 - وأما الفرقة القومية عندنا فلا تزال تقول: إن جمهورنا يريد كذا أو لا ينشط لكذا. بالله لم أنشئت الفرقة: ألتسلي الناس أم لترفع قدر المسرح وتستدرج النظارة إلى تذوق الفن الدقيق؟ إن في مصر عدداً من المسارح القائمة للتسلية وللترويج عن النفس، والربح من وراء ذلك. وإن كان هذا غرض الفرقة فلتهجر دار الأوبرة ولتقصد إلى شارع عماد الدين(335/59)
تنافس فيه ما تشاء. وإنا لنبرأ بالفرقة أن يستهويها مثل هذا. ولكن ماذا نصنع وهي تمنينا كذا وكذا ولا تصنع شيئاً. فإذا أصرت على أنها خرجت إلينا بأموالنا لتخدم الفن فهل راجعت ما هي عليه سائرة؟ هل نظرت في أمر لجنة القراءة التي تأذن في تأدية مسرحيات موضوعة قد نفض لونها وأختل أتساقها؟ هل جعلت لجنة من أهل الإطلاع والمعرفة تختار من المسرحيات الإفرنجية ما له شأن؟ هل عزمت على أن تطلب المدد ممن وقف حياته على فن المسرح؟ هل فطنت إلى إرضاء الخاصة؟ هل ذكرت أن في أوربة ما يقال له: (تأدية الشعر) وهي أن ينشد رجال الفرقة الحين بعد الحين قصائد ومقطوعات في كذا وكذا من الموضوعات؟
أن في رجال الفرقة وفيمن أقصوا عنها بغير حق من يقدر على معالجة الفن الخالص. فقد شهدت من سنوات (أهل الكهف). ثم شهدت أو من أمس (تحت سماء إسبانيا)، فرأيت إخراجاً حسناً وتمثيلاً صحيحاً؛ ولن أنسى مشهداً أجتمع فيه زوزو الحكيم وعلام ومنسي فهمي وعباس فارس فتجلى الصدق في الإحساس والتعبير، ومن وراء ذلك فتوح نشاطي. إلا أن المسرحية نفسها ليست بآية، وهي أقرب إلى رواية سينمائية منها إلى مسرحية، وذلك لما فيها من التأثير المباشر والحوادث النفاضة فكيف يكون السبيل إلى التلطف في الإخراج وبث الأوهام؟ ولم أر اسم المؤلف ولا عنوان المسرحية في لغتها على صفحات البرنامج الذي دفع إلي وأنا أدخل إلى دار الأوبرة، وهذا غريب. وعلى كل حال فإن في المسرحيات الإفرنجية ما هو خير وأعلى
وبعد فقد كتبت (الرسالة 332) أن إدارة الفرقة (وغيرها) تسرف في بذل تذاكر الدخول لهذا ولذاك على حين أنها تضن بها على الكتاب المقدمين والنقاد البصراء، فسألت من سألت أن يتدارك الأمر. وبلغني بعد ذلك أن وزارة الشؤون الاجتماعية جعلت للإسراف حداً عنيفاً. على أن التشديد هنا كالترخص؛ أفلا نطلب الاعتدال؟ والوجه أن تعمل قائمة تدون فيها أسماء الذين يدعون في الليلة الأولى وفيهم النقاد والكتاب. أما الممثلون فلهم أن يظفروا بعدد من التذاكر على ألا يدعوا حلاقهم وطباخهم وبقال الناحية. . . إلا إذا كانوا من طلاب الفن. ومتى أقول الفن الخالص؟
بشر فارس(335/60)
لغة الأدب ولغة العلم
من تقصى محققاً كما يتقصى الفاضل الباحث (الدكتور بشر فارس) الأديب العربي المشهور علم (أن اللغة لا تنحصر في الإنشاء الأدبي فثمة الإنشاء العلمي، وله أن يجري إلى جانب الإنشاء الأدبي: هذا في شعب وذاك في شعب، وفي تاريخ آدابنا ما يؤيد هذا. . .)
ولي شيء كنت قلته في تضاعيف كلام في خطبة طويلة منذ ثلاثة عشر سنة - يعضد المعنى الذي غزاه (أي قصده) الدكتور المفضال، وقد رأيت أن أشيع مقالة (الفارس) - وإن لم تفتقر إلى تقوية - بأن أروي اليوم في (الرسالة الغراء) ذاك الكلام:
. . . لا تلوموا العربية ولوموا أمة ركضت إلى الدعة (قبح الله الدعة) ثم قعدت
ليس المروءة أن تبيت منَّعما ... وتظل معتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتنعم، إنما ... خلقوا ليوم كريهة وكفاح
والحركة - كما قالوا - ولود والسكون عاقر، وقد قال أبيقور: أي معنى للكون بالسلم بفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهويني بالفتى أن تقطعا
وأبن نتشه يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال، وعمل النساء هو تمريض الجرحى. وليس القصد (يا بني) أن تغلب أو أنتغلب بل القصد أن تكون حرب، أن تكون حركة. . .
. . . فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهله أن تلام وأن تعاب، فإنها لا بست ضعفاء فلبست كساء ضعف، وعاشرت وضعاء فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها. ولو استمرت تلك القوة، ولو استمرت تلك المدنية، ولو لم يكن ما كتب في اللوح أن يكون - لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري رائع.
على أن لغة العلم في العربية، وللعلم لغة وللأدب لغة، لم تضم ضيم أختها، وما المقاصد والمواقف وشرحاهما، وأقوال أبن الخطيب ومقدمة أبن خلدون، وكلها في العصور المتأخرة، بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي) جملتها. . .(335/61)
(ن)
أصدقاء المؤلف!
أخي الأستاذ الزيات
يجب أن تصدق ما أقصه عليك:
هل تعرف أن مؤلفاتي ستضيع أصدقائي؟
هو، والله، ذلك: فكل صديق ينتظر أن أهدي إليه مؤلفاتي، فإن لم أفعل فأنا عنده من أهل العقوق!
وهل يصدق قراؤك ما أقص عليهم؟
ليسمعوا، إن شاءوا:
إن صداقتي لمجلة الرسالة لا تخفي على أحد، وقد بذلت في خدمتها ما أطيق، وجهد المقل قليل، ومع ذلك رفضت أن ترسل ألي هديةً، فأنا أشتريها من السوق كما يصنع سائر القراء، وكذلك حالي مع جميع الجرائد والمجلات، إلا ما يتفضل به كرام الصحفيين في مصر ولبنان والحجاز وسورية والعراق
وكانت حجتي يوم رفضت هديتك أني حين أشتري الرسالة أحس أني أقول: (صباح الخير، يا صديقي الزيات) وقد أشترى العدد الواحد مرتين أو ثلاثة مرات ليشعر الباعة الذين يعرضونها عليّ بأن الأدب شيء مقبول، وله أنصار أوفياء. هذا، وقد كان من عادتي أن أهدي مؤلفاتي إلى محرري الجرائد والمجلات ليؤدوا واجب النقد الأدبي في التنويه بالمؤلفات الحديثة، ولكني لاحظت أنهم يفرطون في هذا الواجب بحجة أني أقدم إليهم عدة كتب في العام الواحد وهم لا يستطيعون أن يتحدثوا عني في كل عام عدة مرات!
أفلا يكون من الذوق أن أعفى أولئك الأصدقاء من هذا الواجب؟!
قد أعفيتهم، فهل يعفونني من العتاب حين أبخل عليهم بمؤلفاتي وأنا أنفق عليها من رزقي وأرزاق أطفالي؟
وفي ختام هذه الكلمة أراني مضطراً إلى التنويه بفضل الأستاذ خليل بك ثابت فقد كان دائماً مثال الرجل الحريص على الواجب. أما الأستاذ حافظ محمود فقد حفظ لمؤلفاتي مكاناً في(335/62)
السياسة الأسبوعية، وأما الأستاذ المازني فهو من المعتوب عليهم. وهذا آخر العهد بإهداء مؤلفاتي إلى أصدقائي، ولا أستثني الأستاذ الزيات ولا الدكتور طه حسين ولا الأستاذ أحمد أمين!!
زكي مبارك
في كلية الآداب
أشار (جامعي) في العدد السابق من الرسالة إلى حوادث تدل على مقدار كبير من المحاباة يتمتع به أجنبي يدرس الآن في كلية الآداب، وعلى أنه يحظى برعاية لا يصيبها مصري أحق منه. وجاءت هذه الإشارة عقب كلمة الدكتور بشر فارس في العدد الذي سبقه وهي الكلمة التي كانت لها فضل كبير في تنبيه الأذهان إلى مدى الخطوة التي يجود بها بعضنا على الغريب على حساب دافعي الضرائب المصريين، فيطمع في المزيد منها ولو كان في ذلك حرمان للمصري. ولا شك أن كثيراً من شباب مصر الذي نبغ في معاهدها، ثم نال من الإجازات من معاهد أوربا أكثر مما نال هذا المدرس الأجنبي، ثم لا يجد بعد طول التحصيل عملاً يفيد به الأمة - يشكر للدكتور بشر فارس صراحته وشجاعته. وأني لأعرف بينهم من يود إعلان تأييده إياه وبسط شكواه من الواقع لولا خشية الذين يضرون وينفعون.
وإني أرجو أن تتفضل (الرسالة) بإفساح صدرها لشرح حقائق أخرى تضاف إلى حساب هذا الشاب الأجنبي الذي عين في كلية الآداب بمرتب يزيد على مرتب أثنين من المصريين الذين أتموا من الدراسة والتحصيل ما لم يتم، وحصلوا من الإجازات على ما لم يحصل عليه.
أن الرجل عين في مصر بسعي مستشرق فرنسي كبير ذي نفوذ واسع وكلمة نافذة في بعض الدوائر المصرية، وذلك بعد أن رفضت وزارة المعارف الفرنسية تجديد عقده الذي كان يمنحه سنوياً في باريس مبلغاً يقل بكثير - على حسب سعر العملة اليوم - عن مرتبه الشهري في مصر؛ وقد فعلت هذا حكومة فرنسا الغنية ابتغاءً للاقتصاد. وتم تعيينه عندنا في عام 1936. وفي عام 1937 منحته كلية الآداب مكافأة لتمضية العطلة الصيفية في(335/63)
فرنسا وفعلت مثل هذا في عام 1938. والمتداول عندنا أن المكافأة الثانية صرفت من الاعتماد المخصص لمكافآت الطلبة. ثم أن الكلية ذهبت في سخائها الحاتمي إلى زيادة مرتبه مرتين، وقررت أيضاً منحه مبلغ خمسمائة جنيه مصري إعانة له على طبع رسالته التي يتقدم بها أمام جامعة باريس لنيل الدكتوراه في الآداب. كل هذه الألوان المتعاقبة من المحاباة نفذت في زمن قصير بتوصية المستشرق الكبير الذي سبقت الإشارة إليه.
وأني لأعرف أديباً مصرياً مشهوراً طلب إلى كلية الآداب منذ عشرة أعوام أن تعينه على طبع رسالته للدكتوراه أمام جامعة باريس فلم يجد أذناً مصغية، وكان هذا الأديب في حاجة إلى الإعانة وقتئذ، إذ لم تجر عليه كلية الآداب راتباً شهرياً بل كان يجاهد بقلمه ليعيش أثناء إقامته للتحصيل في العاصمة الفرنسية. ولعل هذا الأديب يقرأ هذه الكلمة فيزكي هذه الذكرى بقلمه لينصف حقاً من حقوق الأمة.
وأني أتمنى أن يجرؤ كل عارف لمثل هذه الحقائق على نشرها ليمتنع حصول مثلها. وهذا أبر بالشعب من محاربة بعضنا لبعض واضطرار الكثير منا إلى الالتجاء إلى الأجنبي يشتري عونه وحمايته بأموال مواطنيه، وهو لا يبيعه العون والحماية إلا ليثبت مصلحة له يعلم من يعلم مقدار خطرها.
جامعي آخر
إلى الأستاذ الجليل (النشاشيبي)
كثير الجدال في صحة نسبة نهج البلاغة وتقارعت الأدلة. فمن يرى أنه للشريف الرضي لا للإمام عليّ يقول أن أسلوبه أسلوب العصر العباسي لا أسلوب الصدر الأول، ومن قابل بينه وبين آثار العصرين، والثابت من مأثور العهدين، وكان من نقدة الكلام وجهابذة القول حكم بإحالة صدوره عن الإمام. وإن فيه من الطعن على الصحابة ما ينزه عنه أبو الحسنين ويناقض ما روي عنه (بالتواتر) من الثناء على الشيخين ومبايعتهما والرضا باتباعهما، وإن فيه أشياء من مصطلحات أهل العلوم التي لم تكن قد وضعت على عهد الإمام أصولها، ولا أصطلح على تلك الألفاظ فيها، وإن فيه ما يخالف (طبائع الأشياء). فقد كان الإمام مدة خلافته كلها في حروب ومشاكل لا يفرغ معها ولا يجد داعياً ولا مجالاً لإلقاء خطبة طويلة(335/64)
في وصف الطواويس وأنواع الخلق أو البحث في فلسفة اللاهوت - هذه الحجج لمن ينفي، ولمن يثبت حجج دفاعية (يرونها) مقنعة - وقد كنا في مجلس (هو واحد من مئات أمثاله) أشتد فيه بيننا الخصام وامتد الجدال، ثم اتفقنا على تحكيم أعلم الناس بمراجع هذا البحث وأوسعهم اطلاعاً عليها، ومن قوله فيها القول، فوجدنا هذا الشرط في حجة الأدب النشاشيبي
فهل لك يا أستاذنا الجليل أن تقول (كلمة الفصل) في هذا الموضوع فتخدم بذلك الحقيقة ولأدب وأهلهما؟
(العراق)
(سائل)
اليونان والبلاغة العربية
ذهب الدكتور طه حسين بك في بحثه الذي صدر به كتاب نقد النثر لقدامة إلى أن قواعد البلاغة إنما أسست على ما وضع أرسطو، ونقله العرب عن اليونانية، وشايعه على ذلك الأستاذ البشري (الهلال يناير 1936) وقد وجدت في المثل السائر لأبن الأثير وهو من أشهر كتب البلاغة وأجودها كلمة في هذا الموضوع، رأيت أن أطرف بها من لم يطلع عليها من القراء قال: (. . . فإن قلت إن هؤلاء وقفوا على ما ذكره علماء اليونان وتعلموا منه، قلت لك في الجواب هذا شيء لم يكن (إلى أن قال): وهذا باطل بي أنا، فإني لم أعلم شيئاً مما ذكره حكماء اليونان ولا عرفته، ومع هذا فأنظر إلى كلامي (إلى أن قال): ولقد فاوضني بعض المتفلسفين في هذا وانساق الكلام إلى شيء ذكره لأبي علي بن سينا في الخطابة والشعر وذكر ضرباً من ضروب الشعر اليوناني يسمى اللاغوذيا (؟) وقام فأحضر كتاب الشفاء لأبي علي، فوقفني على ما ذكره، فلما وقفت عليه استجهلته فإنه طول فيه وعرض كأنه يخاطب بعض اليونان، وكل الذي ذكره لغو لا يستفيد منه صاحب الكلام العربي شيئاً)
ولست أنقض ما رآه الدكتور طه حسين ولا أثبته، ولكنني أردت إطراف القراء
(ع. ط)(335/65)
يوميات نائب في الأرياف بالفرنسية
وقع تساهل في ترجمة الفقرة الأخيرة من مقال مجلة مريان الفرنسية عن هذا الكتاب الذي نشرناها في العدد الماضي، فقد ورد فيها: (أنه يكتب لمجرد الرغبة في الكتابة). والأقرب إلى الصواب: (أنه يكتب لأنه يجد لذة في الكتابة).(335/66)
الكتب
الحكم في أصول الكلمات العامية
للدكتور أحمد عيسى
من العجيب أن الذين أجدوا على العربية وخدموها أجل الخدمات، ليسوا من أولئك الذين ربطوا أنفسهم بدراستها، وأفنوا أعمارهم بحثاً في أصولها وفروعها، ونحوها وصرفها، ولكنهم جماعة ابتدءوا حياتهم بدراسة لعلها آخر ما يتصل بالثقافة اللغوية، ثم دفعتهم الرغبة النفسية الخالصة فخاضوا لجج البحث اللغوي، وأمعنوا في دراسة فقه العربية وأصولها ومفرداتها فخدموا لغتهم وأمتهم خدمة أقل ما يقال فيها أن مجمع اللغة بجاهه وماله لم يبلغها في شيء. ولعل في طليعة أولئك الباحثين الهواة (كما يقولون) الدكتور أحمد عيسى بك، فهو طبيب نابه في مهنته، ثم هو باحث معروف في اللغة، وقد أخرج في خدمتها مؤلفات قيمة، آخرها ذلك الكتاب: (المحكم في أصول الكلمات العامية)
ووضع الدكتور الباحث كتابه هذا ليثبت به كما يقول: أن اللغة العامية التي نتكلمها الآن في مصر ليست بعيدة كل البعد عن العربية الفصحى، وهو تبتعد عن الفصحى في شيئين: الإعراب وتركيب الحروف، على أن أكثر الكلمات العامية التي ينفر منها الذوق الآن ويستنكرها الحس إنما كانت من أفصح الألفاظ العربية، وإن كثيراً منها قد استعملت فيه المجازات اللطيفة والاستعارات المستملحة التي تعد من أرقى أساليب الفصاحة في الكتابة والكلام.
ولا شك أن المؤلف قد استطاع أن يحقق رأيه بما جمعه وشرحه من المفردات العامية وردها إلى أصولها وبيان ما اعتورها من التحريف، وقد رتب سردها على حسب الحروف الهجائية، بذكر اللفظ العامي وبجانبه تفسيره عند العوام، ثم يأتي بالأصل الفصيح مبيناً ما فيه من الحقيقة والمجاز.
والمؤلف طبعاً لم يجمع كل الكلمات المستعملة في لغة العامة ولكنه قد جمع منها ما استطاع أن يرده إلى أصوله في اللهجات العربية، ومنها ما رده إلى أصله في الفارسية واللاتينية والتركية والسريانية وغيرها من اللغات التي دخلت على لهجات المصريين. وقد قدم لذلك كله ببحث وافٍ في أسباب التحريف في اللغة وتعدد اللهجات والفصيح منها والمرذول،(335/67)
ومخالطة العرب الأعاجم وتحديد الصلة بين العامية المصرية واللغة العربية، وكل هذا بأسلوب سهل مهذب، ودقة علمية فاحصة فجاء كتابه نافعاً لا للمعنيين باللغة فحسب! بل لكل أديب وطالب وقارئ.
تاريخ الطب في العراق
للدكتورين هاشم الأثري ومعمر خالد الشابندر
أشترك في تأليف هذا الكتاب الدكتور هاشم الأثري عميد الكلية الطبية العراقية من قبل، والدكتور معمر خالد الشابندرالمتخرج في تلك الكلية، وهو بحث تاريخي متصل، يتناول سير الثقافة الطبية، والأدوار التي اجتازتها في ربوع الرافدين منذ أيام العباسيين حتى تأسيس الكلية الملكية في العصر الحاضر
والكتاب في موضوعه لا يقف عند الناحية الطبية، ولكنه صورة رائعة لتاريخ العراق العلمي والعمراني، فقد قسم المؤلفان كتابهما إلى ستة فصول: الفصل الأول في الكلام عن موقع بغداد التاريخي، وما كان لها من جد ومجد، وما انتابها من الحوادث والكوارث؛ والفصل الثاني عن اتصال العراق بالثقافة الطبية ومدى ما بلغته في ذلك؛ والفصل الثالث يتناول الأحوال الطبية في العهد التركي؛ والرابع في توحيد المستشفيات والمعاهد الصحية وتوسيع المستشفى الملكي وتقدمه؛ والفصل الخامس في مشروع الكلية الملكية والفكرة في إنشاءها؛ والفصل السادس في تأسيس الكلية ومنهاجها وأساتذتها ونواحي الدراسة فيها
ولقد اعتمد المؤلفان الفاضلان في سرد الوقائع التاريخية على المراجع الصحيحة، والروايات البعيدة عن زيف الشكوك والأوهام، والمشافهة من الشيوخ الثقاة، وقد حرصا على الترجمة لأشهر أطباء والمترجمين العرب الذين أقاموا أساس الطب في العراق، والتعريف بكثير من المدارس والمعاهد والمستشفيات، كما حرصا على نشر كثير من الصور والرسوم للمعالم والشخصيات فجاء بحثهما وافياً من جميع جهاته، وخدمة جليلة نحو وطنهم ونحو بغداد العظيمة جنة الدنيا في القديم، ومحط العلم والعرفان، ومجمع العلماء والدارسين من أقطار الأرض وأقاصي المعمور.
ساعات في الجحيم(335/68)
للأديب يوسف عيسى البندك
(هذه شعل من اللهب الأحمر، فيها وصف لرجعية المجتمع الشنيعة، وفيها نقد لنظم الحياة الوحشية، ثم فيها تصوير لآلام الجماهير التي تقاسي أهوال الاستبداد والظلم، وتهرق دماءها جزافاً إرواء الجشع الرأسمالية المكتم أن تغرق الإنسانية في طوفان من النار)
بهذه الكلمات قدم الأديب يوسف عيسى البندك كتابه (ساعات في الجحيم)، وأنها لكلمات تحمل في أطوائها الفكرة التي عالجها المؤلف الفاضل بشعور ملتهب، وعاطفة فياضة، وثورة عنيفة على النظم المرهقة التي يدعمها الاستعمار والرجعية والجمود والتعصب، ولقد حاول المؤلف أن يسوق أفكاره مساق القصة، وأن يمزج الحقيقة بالخيال حتى تكون قريبة سائغة، ولكنا لا نستطيع أن نقبل كتابه على أنه قصة لها خصائصها ومميزاتها، إذ تنقصه الحبكة الفنية، وقوة الحوار والسرد القصصي
وأسلوب المؤلف أسلوب ملتهب، أسلوب أديب تفيض نفسه بحب الطبيعة وحب الحرية، على أنه يتهاون كثيراً بحق اللغة، وهو حق تجب العناية به، فإن الفكرة لا يمكن أن يتميز بها الفنان إلا إذا أظهرها في لبوس فن له روعته وله تأثيره
البلبل
للأديب حسين عفيف
هذه قصة، أو كما يقول المؤلف (شبه قصة) في مقطوعات غرامية من صنيع الخيال. ومؤلف هذه القصة الأديب حسين عفيف كاتب له أسلوب شعري يفيض بالموسيقى والعاطفة، وله قراء يتلهفون عليه، ويطيرون به
وأسلوب المؤلف أسلوب يشيع فيه التقديم والتأخير، ويقول حضرته: (إنه يلتزم ذلك وفقاً لما تقتضيه رغبة إشاعة النغم فيه) والواقع أن للبلاغة العربية قواعد مقررة، وهذه القواعد تحتم على الكاتب مراعاة الدقة في الأداء، ولكن هذه الدقة لا اعتبار لها في تقدير المؤلف، فكثيراً ما يغرق في تقديمه وتأخيره حتى من غير أن يكون هناك نغم ينشده، بل كثيراً ما يخل بقواعد العربية في سبيل ذلك فيقدم الصفة على الموصوف!
إن الكاتب الأسلوبي يجب عليه أن لا يكتب للإفهام فحسب، بل للتأثير الذي هو غاية(335/69)
البلاغة وروحها، ولن يكون التأثير إلا بمراعاة الدقة والقوة والجزالة؛ فإذا كان المؤلف الفاضل يريد أن يظهر بين الكتاب بأسلوبه، فليؤد له ما يجب من قوة الأداء، ودقة الصياغة، وسلامة التعبير، حتى يتم له الكمال، والنغم ليس كل ما هنالك من خصائص الأسلوب، كما أن الدنيا ليست كلها أشجاناً وآلاماً، فلا ينبغي أن تكون أنغام قيثارته كلها على هذا النحو.
م. ف. ع(335/70)
العدد 336 - بتاريخ: 11 - 12 - 1939(/)
سياسة السمك!
(إن الحرب الحالية ستزيل الدول الصغيرة من الوجود)
(هتلر)
يلتهم الدب الروسي الآن فنلندا كما التهم النمر الألماني من قبل بولندا! وما هذه وتلك - حفظك الله - إلا أكلة اليوم! أما أكلات الغد وما بعده فعلمها لا يزال عند هذين الوحشين اللذين ينقِّلان النظر المحمرَّ من أوربا الشمالية إلى أوربا الشرقية، ومن آسيا الصغرى إلى آسيا الوسطى؛ والدول الصغيرة ترى هذه العيون المتقدة والأفواه المتحلبة فترتعد فرقاً من الخطر المهاجم والعاقبة المبهمة. ولقد كان لهذه الدويلات الغريرة فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حرة آمنة لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني. فلما كفر النازيون والشيوعيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك التي تجعل الضعيف طعاماً للقوي، ففسد النظام وفقد السلام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق، وأخذت جماعات السمك الصغير الرخو تضطرب اضطراب القلق والحيرة بين الحيتان الدكتاتورية التي لا تريد أن تبقي على سمكة، وبين التماسيح الديمقراطية التي لا تريد أن تُبقي على حوت
كان ضمان العيش والاستقلال للدول الصغرى ذلك النظام السياسي الذي وضعته الدول الكبرى وسمته (التوازن الدولي) وحمته بالقوانين والمواثيق والمعاهدات والمحالفات وعصبة الأمم، فجعلت من بعض هذه الدويلات حدوداً فاصلة، ومن بعضها الآخر أسواقاً مشتركة، حتى لا يبغي حد على حد، ولا تطغى قوة على قوة. ولكن هتلر رسول الشيطان ونبي الألمان وخليفة نيتشه، قضى بالموت على الدول الصغرى وقرر ألا يحكم الأرض غير دولتين: دولة ملكة هي ألمانيا، ودولة وزيرة هي إنجلترا كما كان رأيه بالأمس، وروسيا كما أصبح رأيه اليوم! فليت شعري ماذا تصنع هذه الدويلات وصغرها عمل من أعمال الطبيعة لا حيلة فيه لمحتال، كما يقصر شخص عن شخص، ويصغر شيء عن شيء؟ ليس لها الآن إلا أن تنضوي إلى الأمم الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا أنتصر الأحلاف على هذا(336/1)
الطغيان المسلح الكافر الأثِر، نظرت هي في يومها وفي غدها فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود: وهو التجمع و (التكتل) والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة، كدول البلطيق وأمم البلقان وشعوب الإسلام، شبه ما بين الدول المتحدة في أمريكا من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام والدستور المشرع والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيرة يقوم على استعمارها النزاع، ويميل من جرّاها ميزان السلامة. واعتبر ذلك مثلاً ببلاد الوطن الإسلامي الأربعة عشر: مراكش وتونس والجزائر وليبيا ومصر والسودان وفلسطين وسورية والحجاز واليمن والعراق وتركية وإيران وأفغانستان إذا انتظمها كلها اتحاد كاتحاد الولايات الأمريكية الثماني والأربعين، وقدَّر في نفسك ماذا يقدم هذا الاتحاد القائم على صلة الدم أو على نسب الروح من الخير المتصل للعالم والضمان الدائم للسلام
إن الحلفاء الديمقراطيين المنتصرين متى جلسوا إلى مائدة الصلح سيذكرون ما صنعوا في فرساي من تقسيم الممالك وتمزيق الشعوب وتركها في حمى الضمير الإنساني والحق الأعزل دون أن يكون لها من شَرهَ الدول الكبيرة وشرها نصير ولا عاصم. وسيفكرون ثم يفكرون في هذا المخلوق العجيب الذي صوروه من مداد وورق ثم أسكنوه قصراً في جنيف وألزموه حماية السلام وجعلوا في خدمته قوماً من ذوي القبعات والقفازات والعصي، وقالوا له مرة: قف أمام الدتشي فانسرقت قواه؛ ثم قالوا له مرة ثانية: اثبت في وجه هتلر فارتهكت مفاصله؛ وهم يقولون له اليوم مرة ثالثة: خذ الطريق على ستالين؛ وأغلب الظن أنه لاستمرار الخجل وإلحاح الفشل وتتابع الخذلان لن يستطيع أن يتحرك.
نعم سيفكر المنتصرون فيما جنوا من (عصبة الأمم) ويقررون - إذا وفقهم الله - أن ينشئوا السلم العالمية الدائمة على قواعد من التركيب لا من التحليل، فيؤلفون من الأمم الصغيرة المتقاربة في الوطن والجنس والمنفعة اتحادات مستقلة تتحد في الرياسة والحكومة والدستور، وتشترك في الدفاع والسياسة والعمل، ثم يربطوا بين الدول العظمى والاتحادات الكبرى بروابط وثيقة من الاقتصاد العادل الذي يضمن لكل أمة سداد عوزها من خير الله وغلة الأرض.
على أننا الآن بسبيل الحرب لا بسبيل السلم، فلنَدعْ حديث الصلح إلى يومه، ولندْعُ الله(336/2)
مخلصين أن ينصر جنود الديمقراطية على أعوان الطغيان والبغي. فإن أوربا تكابد محنة لا سابقة لها في التاريخ. وهي بالحق أو بالباطل رأس العالم اليوم، وقد قضى عليها جنون رجل واحد أن تصبح كلها مخزناً هائلاً للبارود والغاز؛ فأينما تسر في قطر من أقطارها أو على بحر من بحارها تر الموت مشتعلاً يتلظى، أو كامناً يترقب؛ فإذا قضى عليها جنون الرجل الآخر أن تنفجر فتنهار على شمشون وأعدائه، زُلزلت بانهيارها القارات الأربع، وأصبحت النكبة نكبة العالم أجمع
إن مصرع بولندا وفنلندا على هذه الصورة الأليمة الأثيمة إنذار من الله للدول الصغيرة في الغرب والشرق أن فوز النازية والشيوعية معناه فوز الوحشية التي لا تعترف بحق الحياة لفرد، ولا بحق الاستقلال لأمة.
إن الشرف هو معنى الإنسانية وخصيصتها في الإنسان. وهو الضمان السلمي لأداء الحق واطراد المعاملة؛ فإذا انتقى الشرف عن الكلمة بين الرجل والرجل، وعن المعاهدة بين الدولة والدولة، لم يبق لضمان الحياة والحق إلا القوة؛ والقوة لا تتيسر لكل حي في كل وقت وفي كل حالة
احمد حسن الزيات(336/3)
كتاب الإمتاع والمؤانسة
مصالحة الأستاذ أحمد أمين
للدكتور زكي مبارك
لم يبق شك في أن الأستاذ أحمد أمين غضبان بسبب المقالات التي تجاوزت العشرين، والتي حرضت عليه بعض من خاصموه في مجلة المكشوف وأغرت بعض (أنصاره) في العراق، وأخرجته عن وقاره فشتمنا في مجلة الثقافة بأبيات جاهلية، سامحه الله وعفا عني!
وأقول اليوم إني استوحشت مما صنعت - والاعتراف يهدم الاقتراف - فمن واجبي نحو نفسي أن أقدم إلى الأستاذ أحمد أمين عملاً صالحاً يعطفه عليّ، ويرده إلى سابق عهده فيبدأني بالتحية حين يراني، ويذكرني بالجميل كما كان يصنع قبل أن أجترح في نقده ما اجترحت، وليس من الكثير أن أرجو عفوه، فقد عفا (أخٌ) له من قبلُ!
والأستاذ أحمد أمين يعرف أني رجل ممتحَن بعداوات الرجال، وقد عانيت من ذلك مصاعب لو صادفت رجلاً غيري لدحرته في أقصر وقت، فمن حقي عليه وهو صديقي وجاري، وزميلي كان في الجامعة المصرية، أن يتجاوز عن سيئاتي، إنه - ولله المثل الأعلى - غفورٌ رحيم!
ولكن كيف أتقرب إلى الأستاذ أحمد أمين وهو فيما يظهر أقسى من الجلمود؟
أتقرب إليه بالعلم الذي يقول إنه حارسه وراعيه، فأقدم إليه ملاحظات على تصحيح كتاب الإمتاع والمؤانسة الذي نشرته لجنة التأليف بتصحيح الأحمدين أمين والزين، كما صنعت يوم صحح هذان الفاضلان ديوان حافظ إبراهيم، فقد استدركت على الجزء الأول عشرين غلطة جوهرية اعترف بها الأستاذ أحمد أمين، ثم صرفتني الشواغل عن النظر في الجزء الثاني، ولعلي أرجع إليه بعد حين
ويجب قبل الشروع في سرد ملاحظاتي أن أقدم أصدق التحية إلي المصححين الفاضلين، فقد بذلا في إخراج الجزء الأول جهداً لا يعرف قيمته غير من عانى المصاعب في تحقيق بعض النصوص المخطوطة من الأدب القديم، جزاهما الله خير الجزاء.
ويجب أيضاً أن أنبه القراء إلى واجبهم في اقتناء هذا الكتاب، فهو تحفة أدبية قليلة الأمثال، ورواج مثل هذا الكتاب قد يشجع لجنة التأليف والترجمة والنشر على متابعة السير في هذا(336/4)
الطريق؛ فتنشر من ذخائر الأدب القديم ما يعجز عننشره الأفراد
وقد يلاحظ بعض القراء أن الكتاب غالي الثمن، ولكنهم سيعرفون أن ثمنه معتدل حين يذكرون أن أمثال هذه الكتب تستوجب في تصحيحها ونشرها كثيراً من التكاليف
وأعود إلى الموضوع فأقول:
كان في النية أن أتعقب الجزء الأول كله، وهو يحتاج إلى عدة مقالات، ولكن كثرة الشواغل حالت دون ذلك، فوقفت عند (الليلة الثامنة) وهي من عيون الكتاب
1 - جاء في ص 132 طريقة (الربانيين) ويقول المصححان الفاضلان: إن الأصل (الديّانين) ولكنهما لم يجداها في كتب اللغة بهذا المعنى
وتقول إن الديّانين جمع ديّان وهو الناسك، وهي كلمة قديمة في اللغة العربية، ولها شواهد في كتب التصوف، وهي كذلك من الألفاظ المألوفة عند التوحيدي، وقد استعملها في مواطن كثيرة سأدل عليها إن وجدت ما يوجب ذلك
والديان بمعنى الناسك كلمة عرفها الأدب الحديث: فقد رأيتها في مقال نشره الدكتور طه بك حسين في جريدة السياسة في صيف سنة 1926 وهو يقص حكاية ديكارت في السخرية من المرحومين علام سلامة ومحمد عبد المطلب
2 - جاء في ص 123 (وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا) ويقول المصححان الفاضلان إن (بودكم) هي في الأصل (قولكم)
ونقول إن عبارة الأصل هي الصواب، ويؤيد هذا أن المؤلف قال قبل ذلك (لأنكم لا تقولون بالكتب) ولم يفطن المصححان لغرض المؤلف فأثبتا في مكان (لا تقولون) عبارة (لا تفون) وبهذا ظلما المؤلف في صفحة واحدة مرتين
3 - وجاء في ص 119 (إذا حضرتَ الحلقة استفدت) ويقول المصححان الفاضلان إن (الحلقة) هي في الأصل (المختلفة) ولم يفهما معناها فغيراها إلى (الحلقة)
ونقول إن (المختلفة) كلمة يريدها التوحيدي، فمن الظلم تحويلها من وضع إلى وضع، والمختلفة هم طلبة العلم الذين يحضرون الدرس، وقد وردت بهذا المعنى في ص 129 إذ يقول المؤلف (وأحضرُ بركةً على المختلفة)
4 - وفي ص 112 (فإن علم العالم مبثوثٌ في العالمَ بين جميع من في العالمَ)(336/5)
ونقول إن السياق يوجب أن نقرأ (فإن علم العالمِ) بكسر لام العالم لا فتحها
5 - وفي ص 109 يقول المصححان الفاضلان إن (المِصاع) من صاع الشجاعُ أقرانه إذا حمل عليهم، وهذا خطأ في التصريف والصواب أن (المِصاع) مصدر ما صَعَ بمعنى جالَد، فهو من فصل الميم لا فصل الصاد، والسرعة هي التي أوقعت المصححين الفاضلين في هذا الغلط
6 - وفي ص 108 (بما حويناه من المنطق) ويقول المصححان الفاضلان إن (حويناه) هي في الأصل (جربناه)
7 - وفي ص 115 (وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة) ويقول المصححان الفاضلان إن (الترجمة) هي في الأصل (التجربة)
ومن هنا نفهم أن المصححين الفاضلين ظلما المؤلف في موطنين: فالتجربة كلمة مقصودة يريدها التوحيدي بالذات. فيجب في الطبعة الثانية أن تبقى كلمة (جربناه) في ص 108 وكلمة (التجربة) في ص 115 فتصير العبارة الثانية هكذا:
(وإذا لم يكن لك بد من قليل هذه اللغة من أجل التجربة فلا بدّ لك أيضاً من كثيرها من أجل الترجمة)
8 - وفي ص 111 (فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية)
ويقول المصححان الفاضلان إن (متحولة) هي في الأصل (مملوكة)
ونقول إن الأصل صحيح وتغييره ليس إلا تحكُّماً في توجيه غرض المؤلف
9 - وفي ص 110 (ليس كل ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن وفيها ما يكال وفيها يُذرعَ وفيها يُمسح وفيها ما يُحزر)
ومن كلام المصححين الفاضلين نفهم أن أصل عبارة التوحيدي (وفيها ما يمسح ويحزر) وأنهما زادا عبارة (فيها ما)
وبذلك نعرف أن دقة المؤلف في التعبير خفيت على المصححين الفاضلين، وتعبير التوحيدي جيد جداً؛ لأن ما يُحزر داخل فيما يمسح فلا موجب لتخصيصه في التفريع
10 - وفي ص 111 (الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة)(336/6)
ويقول المصححان الفاضلان: (ورد في الأصل بعد قوله (إلا) جيم وألف وذال وهي زيادة من الناسخ والصواب حذفها)
ونقول إن المصححين الفاضلين لم يفطنا إلى أن كلمة (جاذ) محرفة، وصوابها (مجاز) ويريد المؤلف أن يقول إن اللغة مجاز أي مَعبَر نصل به إلى المعاني والأغراض
11 - وفي ص 109 (الأسماع المصيخة والعيون المحدِقة والعقول الحادة والألباب الناقدة)
ومن كلام المصححين الفاضلين تعرف أن (المصيخة) كانت محرفة في الأصل، وأقول يجب أن تصير (مُصغية) ليمَ التزاوج بينها وبين (مُحْدِقة) ومن كلامهما نفهم أن العقول الحادة هي في معجم الأدباء العقول الجامدة، وأقول إن الحادة لا تتزاوج مع الناقد فيحسن أن نقول: (العقول الصامدة، والألباب الناقدة) والصمود له معنى يتسق مع مراد المؤلف ومع أسلوبه في إيثار الازدواج
12 - في ص 106 (ومتى انفق إنسان بهذه الحِلية) ويقول المصححان الفاضلان: لعله الجِبلة، ونقول إن (الحلية) معناها الصفة، ولها شواهد في القرن آثار الثالث والرابع
13 - وفي ص 115 (إنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها)
ونقول إن (وصفها) محرفة، والصواب (رصفها) وهي كلمة معروفة في اصطلاحات الإنشاء.
14 - وفي ص 116 (فلم يبق إلا أحكام اللغة) والسياق يوجب أن نقرأ (إحكام اللغة)
15 - وفي الصفحة نفسها (قبل واضع المنطق) والصواب (قبل وضع المنطق) وقد وردت كذلك في موطن آخر من الحوار بين متَّى والسيرافي (أنظر ص 126)
16 - وفي ص 117 (فهذا جهلٌ من كل من يدعيه، وخطلٌ من القول الذي أفاض فيه) والقول صوابها القائل، كما يشهد السياق
17 - وفي ص 119 (فأما وهو يريغ أن يبرر ما صحّ له بالاعتبار والتصفح)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (يبرر) أصلها (يزن) ونقول إنهما أخطأ في التصحيح: لأن (يزن) هي الكلمة التي يريدها المؤلف، وهو قد نص عليها في بعض المواضع وكلمة (يبرر) بهذا المعنى لا تعرفها اللغة(336/7)
18 - في ص 127 (فاعتقد فيه أنه (صحيح وهو) مريض العقل)
ويقول المصححان الفاضلان إنهما زادا عبارة (صحيح وهو) وتلك زيادة يضيع بها غرض المؤلف لأنه يريد أن يقول: إن الكندي اعتُقِد فيه أنه مريض العقل حين جاز عليه التلبيس
19 - وفي ص 134 (بَلل الريق، وغزارة النفث)، والصواب حرارة النفث
20 - وفي ص 116 ضبط المصححان (مسكويه) بفتح الميم، وكذلك صنعا في ص 32 والصواب مِسكويه بكسر الميم، وقد نص عليها صاحب القاموس، وقال إنها على وزن سيبويه.
21 - وفي ص 137 (ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (قرضه) هي في الأصل (عرصته) وأنا أفضِّل أن تبقى هذه اللفظة كما وردت في الأصل، ثم نقول (مثال) في مكان (منال) ونقول (مجال) في مكان (مثال) فتصير العبارة هكذا:
(ليس للعقل من شعره مثال، ولا له في عرصته مجال)
وهي أدل على المراد مما اختاره المصححان الفاضلان، أجزل الله لهما الثواب
22 - وفي ص 138 (وكان عجبي منك دون عجبك مني، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك)
وكلمة (دون) صوابها (فوق) وتنقل الواو فتصير العبارة: (كان عجبي منك فوق عجبك مني، ولو تقارعنا على هذا لفلجت عليك)
23 - وفي ص 139 (ولكنه يقرص فيحزّ، ويَشَمٌ فيهز) وكلمة (بَشَمٌ) من الغلط القبيح، والصواب (يَسِم) (من الوسم وهو الكيّ، بدليل قوله بعد ذلك (ويجرح فيُجهز)
24 - وفي ص 141 (وأما النصيبي فدقيق الكلام) و (دقيق) خطأ، والصواب (رقيق) ورقة الكلام هي ضعف الدين بدليل قول المؤلف في النصيبي:
(يشكّ في النبوّات كلها) والعقيدة الصحيحة يسميها التوحيدي (الدين الثخين) انظر ص 133
25 - وفي الصفحة نفسها (إلا أنه يأتي لابن عباد في سمته ولزوم ناموسه حتى خف عليه) والسياق يوجب أن نقول (تأَّتى) في مكان (يأتي) والتأتي هو التلطف.(336/8)
26 - وفي ص 142 (إن كثيراً من الذين لا يكتبون ولا يقرءون ولا يحتجون ولا يناظرون ولا يُكرَمون ولا يفضَّلون خيرٌ من هذه الطائفة)
ومن كلام المصححين الفاضلين نعرف أن (لا يُكرَمون ولا يفضَّلون) أصلها (يلزمون ولا يتفضلون)
وأقول إن الصواب (ويلزَمون ولا يَفصِلون) والمعنى أنهم يُلزمون الحجة ولا يستطيعون الفصل، وهو الحكم والتمييز بين دقائق الأغراض
27 - وفي ص 143 (وتَحِيلَ الحالَ به عند خوضك وفيضك)
كذلك ضبط المصححان عبارة (تَحيلَ الحال) والمعنى غير واضح، وأنا أحب أن تكون (وتُجيل المَحال)
والمحال بفتح الميم هو الحيلة، وهو يتسق مع المراد.
أما بعد فهذه سبع وعشرون ملاحظة قيدناها عند قراءة (الليلة الثامنة) من كتاب الإمتاع والمؤانسة، وفي هذا الفصل نفسه أشياء سكتنا عنها لأنها قليلة الأهمية
وهذه الملاحظات خليقة بأن تصلح ما بيني وبين الأستاذ أحمد أمين، فإن لم تكف للإصلاح فسأراجع الكتاب كله
ولكن أين الوقت؟
الوقت عند صديقنا الدكتور بشر فارس، وهو قد عزم على مراجعة كتاب التوحيدي، وأنا أنتظر أن يكون بحثه أوفى وأشمل، لأنه يملك من الفراغ ما لا أملك.
بقيت كلمة عن الأستاذ أحمد الزين وهو المسئول الأول عن تصحيح هذا الكتاب:
ألا يرى هذا الصديق أن بعض التصحيحات غلب عليها الارتجال؟
وإلا فكيف جاز أن يكون المصاع من صاع؟ وكيف جاز أن يكون الديان بمعنى الناسك أمراً غير معروف؟
وأمثال هذا الأغلاط تشهد بأن الأستاذ أحمد أمين لم يشترك في التصحيح بطريقة جدية، لأن من كان في مثل علمه وفضله لا يخطئ في هذه البديهيات.
وفي ختام هذا البحث أعتذر للقراء عن محادثتهم في شؤون لا يدركها غير من يملك نسخة من كتاب الإبداع والمؤانسة، فلولا الثقة بأنهم لن يضنوا على أنفسهم بنسخة من هذا الكتاب(336/9)
لطويت عنهم هذه الملاحظات
وذلك إعلان ننشره في (الرسالة) بالمجان مراعاةً للتضامن الأدبي بين المؤلفين والناشرين، فهل يكون القراء عند الظن الجميل فيُقبلوا على اقتناء هذا الكتاب؟
إن ثمنه لا يزيد على ثمن أربع عُلب من السجاير المصرية، فأين من يفكر في متعة العقل كما يفكر في مُتعة الحس؟ سارعوا إلى اقتناء الكتب الجيدة لتعرفوا أن العرب لهم أذواق وعقول
زكي مبارك(336/10)
البغاء في أوربا
للمستر إبراهام فلكسندر
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حمدي
سندرس موضوع البغاء في الصحائف التالية على أساس التجارب العلمية في الأمم الأوربية. وسينصرف الجهد إلى تحقيق أنواع الدعارة ومدى انتشارها والأسباب التي تزيدها اتساعاً أو تضيق من مجالها، وإلى تحقيق الجهود التي تبذلها الهيئات المختلفة حيال هذه الرذيلة والوسائل التي اتخذت إما لمحاربتها وإما للإشراف على تنظيمها والنتائج التي أسفرت عنها هذه الجهود.
وسيضاف إلى هذه التحقيقات نتائج بحث شخصي وتحريات وملاحظات في المدن الكبرى من إنكلترا وايقوسيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا والسويد وألمانيا والنمسا والمجر وسائر الأقاليم التي يطلق عليها اسم أوربا الغربية والتي يشتد التشابه بين بعضها وبعض في حياتها الاجتماعية ومُثُلها الوطنية العليا ومعاهدها السياسية
ولكن القوانين في تلك الأمم نفسها ليست متجانسة المواقف حيال مسألة البغاء؛ ومن أجل ذلك اختلفت الآثار المترتبة على هذه القوانين بين بعضها وبعض اختلافاً بيناً، ففي البعض أدت إلى كبح قوي، وفي البعض الآخر أدت إلى زيادة انتشار الرذيلة نفسها. على أنه بالرغم من اختلاف هذه المظاهر فقرار هذه الرذيلة متشابه من حيث المنشأ بحيث تصلح الوسيلة المختارة للعلاج في رأي هذا الكتاب لجميع هاته الأمم، ولن نتجاهل في أثناء البحث وجوه الاختلاف وإن تكن وجوه الخلاف نفسها دالة على وجوب اتخاذ وسائل متوافقة لمناهضتها، فإن البحوث الحديثة أسفرت عن تطابق بين هذه الأسباب إلى درجة أكثر مما كان مفترضاً. فأمر البغاء ينطبق عليه المثل القائل (لا جديد تحت الشمس) أكثر من انطباق هذا المثل على أي أمر آخر. كما دلت الكتب التي خلفتها القرون الوسطى في شأن البغاء على تطابق عجيب في حالة هذه الرذيلة بين تلك العصور وبين العصور الحاضرة
وإن وجوه الخلاف التي سبقت الإشارة إليها في الأمم التي ذكرناها بشأن وجوه النظر فيها وإما في حالة انتشار المرض وأما في السياسة التي تتبع حيالها - إن وجوه الخلاف هذه(336/11)
آخذة في سبيل الاضمحلال والتلاشي، فقد قرَّب ما بين مختلف الأمم انتشار الأفكار الديمقراطية وتوطد الحكم الديمقراطي. ولئن اصطحب ذلك تعديل في القواعد الخلقية، وبخاصة بعد أن شاع مبدأ التساوي بين الجنسين، فإن التأمل الحصيف يوجب سلوك مسلك متشابه بين هاته الأمم قائم على اعتبارات إنسانية أساسية، وإن الذي يدرس هذا الموضوع الخاص الذي نشتغل بدراسته الآن ليدهشه اتفاق المظاهر أكثر مما يسترعي نظره اختلاف البيئات المحلية أو الاعتبارات الأهلية في موضوع التحقيق الذي بدئ به في جلاسجو وختم في بودابست.
ومن أهم ما يلاحظه الناظر في هذا الموضوع عن بعد أن الدعارة في أوربا الغربية قد تطورت في مدى القرون القليلة الماضية على نظام واحد بين أممها المختلفة. وليس ذلك بدعاً، فإن مدى انتشار هذه الرذيلة مرتبط بمقدار اتساع المدن لأنه بعض ظواهر المدنية، وقد كانت المدن في أوربا الغربية في العصور الوسطى كلها مدناً صغيرة. أما المدن الكبرى في تلك العصور فقد كانت كلها إسلامية، فقد كان عدد السكان في كل من القسطنطينية وبغداد والقاهرة يربى على المليون. وكانت كل من اشبيلية وقرطبة تربو في عدد سكانها على نصف المليون في حين كانت باريس لا يكاد يصل عدد سكانها إلى 200. 000 وفينا 50. 000 ولوندرا 35. 000 وكولوتيا 30. 000 وهامبورج 18. 000 ودرسدن 5. 000. أما المدن التي لا تتصل بمواصلات مائية فلم يكن عدد السكان في إحداها ليزيد على25. 000. وكثير جداً من المدن التي تعتبر الآن ذات أهمية لم يكن عدد سكانها في القرون الوسطى يزيد على 5000. وما من شك في أن اتساع المدينة يؤثر في صبغة مدينتها ويكيف طبيعتها، فإذا نظرت إلى تاريخ الدعارة في أوربا في القرون الوسطى وجدت أن معظم مدنها إذ ذاك لم يكن إلا قرى يعرف بعض أهلها بعضهم الآخر، وكان كيان الأسرة لا يزال سليماً. ولقد يقال إنه كان في المدائن غرباء كالصليبيين والججاج والجيوش ولكن جموعهم لم تكن كثيفة وعلى أية حال فقد كان الغرباء معروفين كذلك كالأهلين. وكانت الدعارة في العصور الوسطى ذات نوعين أساسيين: نوع مستوطن ونوع متجول. أما الأول فيشمل العاهرات المقيمات أو المترددات على مساكن معدة للدعارة، وقد لا تكون الإقامة على صورة نظامية وهذه البيوت تدعى بالمواخير. وأما النوع(336/12)
الثاني فكان من المتشردات اللواتي يلحقن على صورة غير رسمية بمعسكرات الجيوش التي كانت في تلك العصور كثيرة التجوال في القارة. أو اللواتي يلحقن كذلك على صورة غير رسمية بالطبع برجال الطوائف الدينية المجتمعين في تجوالهم الموسمي وفاء منهن لنذور نذرنها. ولكن على أية حال فإن العاهرة كانت امرأة موسومة في العصور الوسطى التي امتازت بقلة عدد السكان في مدنها وما كان لينتفي هذا الموسم سواء بين المستوطنات أو المتجولات. وحتى لو أن إحداهن كانت تزاول رذيلتها سراً فسرعان ما تتلوث سمعتها وتوصف بالخطر، وبخاصة إذا كانت محترفة لأنها في هذه الحالة تكون مميزة بشكل ثيابها ومظهرها ومسكنها وطبيعة حياتها الخارجية، وكان الفارق في العصور الوسطى شديد الوضوح بين المرأة الشريفة والمرأة الداعرة.
أما في العصور الحاضرة فالتناقض بَيِّنٌ من هذه النواحي فالمدن كبيرة وقد أضيفت إليها لأغراض عملية ضواح تقوم منها مقام الحواشي المزركشة، فالفرق المتعلقة بالكمية بين المدينة في العصور الوسطى وبين المدينة في العصور الحديثة قد رتبت فروقاً متعلقة بالكيفية في أمر البغاء.
في أواخر عهد بابل أصبح نظام الأسرة يسمح بأن يتصل بها ألوف من الناس تتفاوت درجات الصداقة بينهم كما يختلف الشعور بالمسئوليات نحوها وفيهم الفتيات والفتيان ومعظمهم في ظروف تقضي على الأخلاق بالانحلال
ولقد أصبحت المدن الكبرى في العصور الحديثة في حالة أشد تعقداً بسبب المهاجرة إلى باريس وبرلين ولوندرا إما للاتجار وإما للهو وإما للشغب.
أما في الأوساط الضيقة المحيط فإن كيان الجماعة فيه لا يزال على سذاجته، فإفراد هذا المجتمع معروف بعضهم لبعض ومطالبهم المشتركة ومثلهم الأخلاقية العليا تخضع لتقاليد واحدة أو متقاربة من شأنها أن تسيطر على الأعضاء الضعفاء من هذا المجتمع. وفضلاً عن ذلك فإنه مهما يكن وصف هؤلاء الأفراد فإن بعضهم معروف لبعض.
وأما في المدن الحديثة، وكل منها بابل عصرية وهي التي أتحدث عنها الآن، فإن الفرد فيها لا يعرف جيرانه الأدنين. وهنا تشتد وسائل الإغراض بقدر ما تضعف وسائل الكبح والمنع فالأحوال ليست تقف عند الحد الذي يقل فيه الشعور بالمسئولية بل قد تصل إلى حد(336/13)
ارتفاع هذا الشعور.
ومن هذا يتبين أن مجرد زيادة العدد في مدينة من شأنه أن يقلل إمكان التقسيم بين رجالها ونسائها إلى طبقات من حيث العفة أو الرذيلة. ومن شأنه أيضاً تجهيل ماضيهم الخلقي وهذا فارق أساسي عظيم في موضوع الدعارة بين العصور الوسطى وبين العصر الحاضر، فقد كانت في العصور الوسطى محدودة واضحة وهي الآن لا بالواضحة ولا بالمحدودة
وثمت حقائق لها من الوجهة العلمية أهمية لا يستطاع جحودها فالمدينة التي فيها ثلاثون امرأة عاهرة وعدد سكانها 3. 000 تبدو كأن النسبة متجانسة فيها مع المدينة التي فيها من العاهرات خمسة آلاف وعدد سكانها نصف مليون. وذلك لأن النسبة المئوية في الحالتين هي واحدة في المائة. ولكن ضخامة العدد على الرغم من الاحتفاظ بالنسبة المئوية تؤدي إلى خلاف جسيم بين أمر الدعارة في المدينتين، فإن الإجراء الذي يتخذ لمناهضة الدعارة ضد ثلاثين عاهرة فينجح لا بد من حبوطه إذا هو اتخذ ضد خمسة آلاف عاهرة في مدينة كبيرة. وكذلك تتغير المسألة من النواحي الاقتصادية والإدارية والصحية إذا زاد العدد على حد معين
(يتبع)
ترجمة عبد اللطيف حمدي(336/14)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
كان كاتل السيكولوجي الأمريكي الشهير معاصراً لجولتن ومن تلاميذه وأتباع مذهبه وقد بحث باستيعاب موضوع الفروق السيكولوجية. درس كاتل في معمل جولتن بلندن، كما درس علم النفس التجريبي على يد فنت الألماني في معمل علم النفس الذي أسسه في ليبزج وتأثر به.
وتعتبر تجارب جولتن وكاتل أول مجهود علمي بذل في موضوع الفروق الفردية. ويحدثنا البرفسور ثورنديك تلميذ كاتل عن أستاذه فيقول (هذب أستاذي كاتل من طرق جولتن التي استعملها في قياس الفروق السيكلوجية بين الأفراد، وحاز اعتراف العلماء بما ابتكره من مقاييس القوى العقلية المختلفة. وبذلك جعل دراسة الفروق السيكلوجية فرعاً مستقلاً من فروع علم النفس. وكانت أبحاثه في الفروق العقلية ومقاييسها أول حلقة من سلسلة حلقات البحوث التي توالت بعد ذلك في السنوات العشر الأخيرة من القرن التاسع عشر. وبذلك وضع كاتل مقدمة موضوع السيكلوجية الفردية ويعزى إلى كاتل أنه أول من وضع اصطلاح (المقاييس العقلية) وذلك في سنة 1890 حينما طبع ملخصاً لتجارب مقاييس الذكاء التي أجراها في معمله بجامعة بنسلفانيا
وكانت تجارب كاتل التي أجراها لمعرفة الفروق السيكلوجية منصرفة لقياس الذاكرة، والمخيلة، وحدة البصر والسمع، ومقارنة الألوان والمفاضلة بينها، والدقة في إدراك الأصوات والأوزان، والإدراك الزمني، ودقة إحساس الألم، وسرعة الإدراك الذهني، وسرعة الحركة ودقتها وتكييفها، وزمن الرجع أو رد الفعل
وأهم ما يوجه من انتقاد إلى هذه التجارب التي أجراها كاتل أنها أولاً: إنما تقيس فقط العمليات العقلية البسيطة كالذاكرة مثلاً، أو المخيلة، أو قوة الإدراك. وثانياً: إن الطرق الإحصائية التي استخدمت مع هذه التجارب لم تكن مضبوطة ومطردة بحيث تعطى نتائجها حكماً صحيحاً على ذكاء الأفراد. وإذا فلا يمكن الاعتماد عليها في معرفة الفروق العقلية
أثار كاتل باستخدامه زمن الرجع ضمن مقاييس الذكاء اهتمام معاصريه ومن تبعه من العلماء حتى أصبح زمن الرجع مقياساً لقدرة الفرد على التمييز والاختيار وسرعته فيهما.(336/15)
وتستعمل لذلك آلة كهربائية خاصة يتصل بها مسجل الزمن ويجلس المختَبر أمام هذه الآلة، ويطلب إليه المختبِر أن يضغط على زر خاص في الآلة إذا رأى علامة خاصة كعلامة أو علامة مثلاً. ويثبت (مسجل الزمن) الفرق بين ظهور هذه العلامة وبين ضغط الزر، أي الزمن الذي استغرقه الفرد من حين رؤية العلامة إلى أن يحدث رد فعل منه (أو رجع) لهذه الرؤية بضغط الزر. ومثل هذه التجربة تجري في قياس زمن الرجع السمعي أو اللمسي، أي الذي تكون فيه العلامة شيئاً يسمع أو يلمس. وقد تكون التجربة أكثر تعقيداً فيطلب من المختبَر مثلاً أن يضغط الزر (1) إذا كانت العلامة المعروضة والزر (ب) إذا كانت العلامة وبذلك يكون على المختبَر أن يميز أولاً العلامة وأن يختار ثانياً الزر المناسب لها.
وبالرغم من شيوع تجارب زمن الرجع وتنوعها وتسجيل نتائجها لم يوجد بينها وبين الذكاء من التلازم الأطرادي إلا القليل بمعنى أنه لا يلزم أن يكون الذكاء أكثر كلما كان زمن الرجع أقصر. والواقع أننا لا نجد الآن بين مقاييس الذكاء الحالية مقاييس زمن الرجع التي استخدمها كاتل.
ويعود كاتل فيعترف بأن مقاييس زمن الرجع، ومقاييس الإدراك الحسي وغيره من الخواص الفردية ما قصد بها في الأصل قياس فروق الذكاء بين الأفراد، وإنما استخدمها لأنها ضمن موضوع علم (طبائع البشر) الذي كان معنياً بدراسته.
وعلى أية حال فقد كان لبحوث كاتل في الفروق الفردية أثر واضح في اتجاه التفكير العلمي. ففي سنة 1895 عينت (الجمعية السيكلوجية الأمريكية) لجنة لتعمل على إيجاد الصلات والتعاون بين معامل علم النفس الأمريكية لكي تجمع المعلومات الممكنة عن الصفات العقلية والجسمية المختلفة للأفراد، وتدرسها درساً علمياً إحصائياً. وكان كاتل عضواً في هذه اللجنة. وكذلك عنيت معاهد التعليم بمعرفة الفرق السيكلوجية بين الطلبة وقياسها ففي سنة 1899 أجرت جامعة شيكاغو تجارب لقياس ذكاء طلبتها وميولهم الخلقية لم تكن دراسة الفروق السيكلوجية بين الأفراد - بطبيعة الحال - قاصرة على إنجلترا وأمريكا، فإنا نجد في فرنسا عدة محاولات لمعرفة أثر كل من البيئة والوراثة في الفرد، كتلك المحاولات التي قام بها جولتن في إنجلترا، فقد ظهر عدد من الكتب حول هذا(336/16)
الموضوع منها كتاب (تاريخ العلم والعلماء خلال القرنين الماضيين) درس فيه المؤلف حياة كل عالم وأسرته وبيئته والعوامل التي أثرت في تكوينه. وكتاب (العلاقة بين الوراثة وانتخاب الأصلح من البشر)، وكتاب (أصل عظماء الرجال، ورجالُ الأدب الفرنسي المعاصرون)
عالج كاتل أيضاً ما عالج من بحوث - أثر البيئة والوراثة في إيجاد الفروق بين الأفراد. ففي سنة 1906 كتب في مجلة (العلوم) موضوعاً تحت عنوان (بحث إحصائي في حياة رجال العلم الأمريكيين) ذكر فيه أماكن ميلاد ألف من العلماء البارزين وأماكن إقامتهم وعوامل الوراثة في حياتهم وعوامل البيئة وإنتاجهم.
وقد أثارت النتائج التي وصل إليها عجب القراء. فقد وجد إن عدد العلماء في ولاية ماساشوستس 108. 8 في كل مليون من السكان، بينما هم 86. 9 في كل مليون في ولاية كونيكتيكوت، و 1. 4 في كل مليون في ولاية لويزيانا، و 1. 3 في ولاية ميسيسبي واستنتج من هذا الإحصاء (أن هذا التوزيع النسبي غير المنتظم لرجال العلم بين الولايات يدل دلالة قوية على أن الاستعداد العلمي ليس وراثياً كما قال جولتن وبيرسُنْ، وليس من المعقول أن ثمة فروقاً وراثية كبيرة بين الأسرات في الولايات المختلفة نتيجتها هذا الفرق النسبي الكبير بين عدد رجال العلم الذي قد يبلغ في ولاية مائة مرة عددهم في ولاية أخرى. صحيح قد يكون لجنس الزنوج أثر وراثي في ذلك، ولكن الإحصاء لا يثبت ذلك ويظهر أن العوامل الأساسية في المواهب العلمية والإنتاج الفكري هي الثروة، وازدحام السكان، الفرص الاجتماعية، والمؤسسات العلمية، والتقاليد، والمثل العليا للجماعات، وقد يمكن إرجاع كل هذه العوامل في النهاية إلى الوراثة الجنسية، ولكن هذا لا يمنعنا من القول بأننا إذا أخذنا أي جنس فإنه من الممكن بتسليط العوامل البيئية عليه أن تزيد في عدد ذوي المواهب العلمية، كما نشاء، وإن كان هذا ليس معناه أننا نستطيع تحسين هذه المواهب. إن الحقيقة المشاهدة هي أنه لا يوجد فرق كبير بين مقدرة العالم في هذه الولاية، ومقدرة العالم في الولاية الأخرى. ومعنى هذا أن الإنتاج العلمي هو أثر من آثار البيئة لا الوراثة). ثم يقول في مكان آخر (والرأي عندي أن أنواع المواهب والخلق إنما هي وراثية، أما الاتجاهات التي تأخذها هذه المواهب، فإنها خاضعة لتأثير البيئة)(336/17)
وبالمقارنة بين مذهب كاتل ومذهب جولتن وبيرسن نجد أن الأول يرى أن الظروف والبيئة لهما أهمية كبرى في الإنتاج العلمي وأن عامل الوراثة فقط لا يكفي لتعليل النبوغ العلمي. نعم يعترف كاتل بالوراثة وأنها البذرة الأولى التي تحمل معها خواص الفرد، ولكنه يؤكد أن الفروق الفردية التي تظهر في الإنتاج والابتكار والخلق إنما هي من صنع البيئة
وفي سنة 1915 نشر كاتل بحثاً جديداً عنوانه: (أسرات العلماء الأمريكيين)، وأستخلص في بحثه هذا أن 43 ? من آباء هؤلاء العلماء كانوا من الموظفين وذوي الحرف غير اليدوية وأن 35. 7 ? من التجار والصناع، وأن 21. 2 من الزراع. ويعلق كاتل على هذا الإحصاء فيقول: لو أن ظروف الحياة الاجتماعية، والفرص التربوية خاصة، كانت متشابهة بين هذه الطبقات الثلاث لكان توزيع النسبة المئوية لرجال العلم متعادلاً، ولما وجد ذلك الفرق بين رجال طبقة وأخرى. ولا يمكن أن تكون الوراثة هي التي أوجدت هذا التوزيع، لأن معظم سكان القارة الأمريكية منذ كانوا منذ قرنين من مستوى واحد تقريباً جسمياً وعقلياً. ويؤيد رأي كاتل هذا إحصاء آخر عمل سنة 1932 ظهر فيه أن أقل الولايات علماء أكثرها تأخراً في التعليم.
وقد اقتفى أثر كاتل غيره من علماء النفس، فاستخدموا مقاييسه وأخرى شبيهة بها في معرفة الفروق السيكلوجية للأفراد ومعظمها لقياس الإدراك وسرعة الحركة والقدرة على تكييفها ومن هؤلاء العلماء جاسترو الذي انتهز فرصة معرض شيكاغو العالمي الذي أقيم سنة 1893 فأستأجر (كشكا) وجلس فيه يجري بعض الاختبارات على من يقدم إليه نفسه من زوار المعرض. وكذلك أجرى جلبرت بعض الاختبارات على بعض تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات. فقاس الطول والوزن والقوة الرئوية ودقة الإحساس وزمن الرجع والذاكرة والتأثر بالإيحاء؛ وقارن نتيجة هذا كله بآراء المدرسين. ونشر في ذلك بحثين الأول سنة 1894 بعنوان (بحوث في النمو العقلي والجسمي لأطفال المدارس) والثاني سنة 1897 بعنوان: (بحوث سيكلوجية في أطفال المدارس وطلبة الجامعات)
(بخت الرضا) السودان
عبد العزيز عبد المجيد(336/18)
كتاب (الدين الإسلامي)
عودة إلى الموضوع فيهما إيضاح لعلمائنا وبيان
للأستاذ علي الطنطاوي
أما والله لولا اعتقادي بأن شباب المسلمين هم أحوج اليوم إلى هذا الكتاب منهم إلى الخبز الذي يأكلونه والهواء الذي ينشقونه، ما عدت بعد إذ تكلمت فيه، ولا ألححت عليه (هذا) الإلحاح، بعد أن وجدت من علمائنا (ذلك) الإعراض. وإني لأومن بما أقول، لا أبالغ ولا أغلو، وإن بالهواء والخبز لحياة الشاب في هذه الدنيا، ولكن بهذا الكتاب حياته في الأخرى وما الدنيا في الآخرة إلا هباء، ولا يؤثر الفانية على الباقية إلا جاهل أو غافل. ولو أن علماءنا داخلوا الشباب وخالطوهم وأخذوا منهم وأعطوهم، لوجدوا الكثرة منهم تجهل المعلوم من مبادئ الإسلام وتنكر المعروف من أحكامه، ولوجدوا فيهم من لا يعرف إذا أراد الصلاة كيف يصلي، وفيهم من لا يفرق بين كلام الله والثابت من حديث رسوله، وشروح الأئمة المعتبرين، وبين كلام المشعبذين والدجالين، ويضع ذلك كله في سطر واحد فيقرؤه جملة أو يطمسه جملة، ثم لا يعمل بشيء منه، ولا يراه لازماً له في حياته، ولا مرافقه في غدواته وروحاته، ولا يدخله في عداد الأمور الجدية التي يوليها عنايته ويجعل فيها همه. . . وإذا تكلم أحدهم في الدين. صلته بالحياة أو مِساسه بالسياسة، أعاد ما حفظ من أقوال الأوربيين والنافخين في مزاميرهم من الشرقيين.
ولقد غدا من المفهوم المشهور الذي لا يحتاج إلى إيضاح أن هؤلاء الشبان لا يمكن أن يقرءوا كتب الفقه والتفسير والحديث ولو طبعتها لهم على ورق أبيض. فأخرجتها عما ينبزونها به من أنها (كتب صُفْر. . .) ولا يمكن أن يدخلوا المساجد فيستمعوا فيها درس العلم، أو يحضروا مجالس الوعظ، لأنهم نُفّروا منها وأبعدوا عنها، ولا يمكن أن يتعلموا علوم الدين في مدارسهم (النظامية) الرسمية، لأن القائمين عليها، في مصر والعراق والشام لم يقتنعوا إلى اليوم بأن للدين علوماً محترمة تستحق أن تضيع في درسها سبع ساعات في الأسبوع، ولم يروا في علوم الدين ما هو أهل ليعنى به كعنايتهم بالرسم والغناء، ونسوا أو هم لم يعلموا أن من الأوربيين من يهتم بهذه العلوم ويرفع من قدرها، ويعلي مكانها، وأن رجلاً جرمانياً أسمه (بِرتزِل) قدم علينا الشام منذ سنوات، فعرفنا بنفسه، وأرانا بطاقته وإذا(336/20)
هو قد كتب عليها (فلان: متخصص بقراءة القرآن) يفخر بذلك ويعتز به، وسأل عن الذي طبع كتاب (النشر في القراءات العشر) فلما لقيه أكبره وعظمه، وعلمنا بعد أنه ملم بعلم القراءة عارف برواياتها، وقارئ للقرآن، ناشر لكتب في هذا العلم عدة، ومن شبابنا من لا يعرف ما الإدغام وما الإخفاء، وما المخارج وما الأداء، ويرى اشتغاله بذلك ذلة لأنه لا يشتغل به (على ما أفهموه. . .) إلا رجعي غير متمدن، وشيخ جامد. . . وأمثال (برتزل) أكثر من أن يحيط بهم حصر.
أصبحت الحملات على الإسلام منظمة مرتبة قوية، تأتيه من كل صوب، وتهاجمه من كل ناحية، من ناحية الأخلاق بنشر الفسوق والخمور، وتهوين أمر العرض، ونشر أدب الشهوة، وصورة العراة، ومن ناحية العبادات بصرف الناس عنها، والتزهيد فيها ومن ناحية العقائد بإدخال الشكوك عليها، ووضع الشبَه من حولها ومن ناحية العلم، بإبعاد الناشئة عن علوم الإسلام، بصرفهم عن كتبه، وتحقير علمائه في أنظارهم. فماذا فعل علماؤنا حيال ذلك كله؟
لا أشك في جلال العمل الذي قام به الشباب في مصر والشام ولا أبخسهم قيمتهم، ولا أهمل ذكر جهادهم؛ وإن للأخوان المسلمين في مصر، والشبان المسلمين في مصر وفي غيرها، ولشبان الأزهر، وشباب محمد، والتمدن الإسلامي في الشام: (دمشق وحلب وبيروت) وأمثالهم ممن اختصرت فلم أذكر، أو جهلت فلم أعلم، إن لهم بما عملوا لذكراً في الناس ومجداً، وثواباً عند الله وأجراً. . .
ولكن كلامي هنا عن (كبار العلماء) ماذا عملوا في رد هذه الحملات؟
أو أقل من أن يؤلفوا للشاب المسلم كتاباً يعرف به دينه إذا ألهمه الله الرجوع إلى الدين، وخلصه من كيد الشياطين؟
لقد فهمت من الرسائل الكثيرة التي جاءتني تبحث في فكرة تأليف الكتاب أن الذي يمنع العلماء من تأليف هذا الكتاب أن عندهم علوماً متميزة، وفنوناً متباينة، فهم لا يدرون أيجعلون الكتاب فقهاً أو حديثاً، أو أصول فقه، أو مصطلح حديث؟
وهذه إن تكن هي (العلة) فإن عندي (دواءها) الذي يشفيها بإذن الله:
يقسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب كبار: باب العلم، وباب العمل، وباب الاعتقاد.(336/21)
ففي (باب الاعتقاد) يبين للشاب كل ما يجب عليه الإيمان به بأسلوب (عصري) بيّن، بعيد عما أحدث من الخلاف، يعرض فيه عرضاً لأهم الشبه التي تتردد كثيراً فيجاب عنها جواباً حاسماً باتاً، ويكون (مقصد) هذا الباب تكليف الشاب بالإيمان بما لا يكفي أقلّ منه للنجاة في الآخرة. وهو الذي جاء في الكتاب والحديث المتواتر الذي يفيد العلم، أما ما لم يثبت بالتواتر كنزول المسيح، وظهور الدجال، ولا يفكر منكره، فلا يبحث فيه في هذا الكتاب.
وفي باب العلم يلخص له الأصول والمصطلح مع طرف من علوم القرآن، ويكون على فصول:
الفصل الأول: في الأدلة مجملة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبيان منزلة العقل من الشرع، وأن الحسن ما رآه الشرع حسناً، وأن العقل شارح لا شارع.
الفصل الثاني: في القرآن: نزوله وجمعه ومكيّه ومدنيّه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه (مع بيان أن النسخ الذي هو إبطال الحكم السابق وإلغاؤه بالمرة قليل جداً) وحكمة النسخ، وإعجاز القرآن، من جهة عجز فصحاء العرب (الفعلي) عن محاكاته، ومن جهة ألفاظه وأسلوبه، وعلاقته بالشعر والنثر العربيين، ومن جهة إخباره بالمغيبات، وإشارته لبعض نواميس الكون التي لم يكن يعرفها على عهد محمد بشر على ظهر الأرض، ومن جهة إحاطته بكل شيء وأن فيه الإيمان والعلم والقانون والأخلاق مع أنه ليس كتاب تاريخ ولا علم، وما أراد التقصي وإنما ضرب الأخبار أمثلة، وأمر بالنظر في نواميس الكون لإدراك عظمة الخالق، - والتفسير والمفسرين وطبقاتهم، والتلاوة والأحرف السبعة والقراءات السبع وأنها ليست هي الأحرف السبعة وإنما هي على حرف واحد، وعربية القرآن وترجمته، وأن ترجمته غير ممكنة لمكان المتشابه منه، ولأن الترجمة لا تمكن في بليغ الشعر فضلاً عن القرآن لأنها تفقده أحد عنصريه، وهو (موسيقية) الألفاظ - ثم تشرح آيات من القرآن.
والفصل الثالث: في الحديث، المتن والسند، ورجال الحديث وأقسامه المتواترة والمشهور والصحيح وما دون الصحيح، والمرفوع والموقوف والمرسل، وعن تدوينه وكتبه وما يوثق به منها، وتصح الرواية عنه مع شرح نماذج منه.
والفصل الرابع: في الاجتهاد، معناه وشروطه، وكبار المجتهدين، وأسباب الاختلاف بينهم،(336/22)
وكون الاختلاف في تأويل آية أو فهم حديث، لا في الأصول، وحكم التنقل بين المذاهب
والفصل الخامس في الإجماع وفي شرح القواعد الفقهية العامة: كالموادّ التي في صدر مجلة الأحكام الشرعية التي يفهمها الناس على غير وجهها، فيحسبون أن قولهم: (لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان) معناه تبديل كل حكم، مع أن الحكم الثابت بالقرآن والسنة الصحيحة القطعية لا يمكن تبديله. وفي المجلة أيضاً أنه (لا مساغ للاجتهاد مع ورود النص).
والفصل السادس في ميزة الإسلام ونظره إلى السياسة والقوانين والإدارة والأخلاق.
و (مقصد) هذا الباب أن يعلم الشاب قارئ الكتاب كل ما ينبغي للمسلم أن يكون عالماً به باختصار ووضوح، وبعد عن المصطلحات العلمية على الأسلوب الذي يدعونه اليوم بتبسيط العلم أو تعميمه
الباب الثالث في الأعمال ويشتمل على فصول:
الفصل الأول: حقوق الله على العبد، ويكون تلخيصاً لباب العبادات من الفقه بشرط أن تذكر كيفية العبادة وفائدتها من غير تفصيل لسنتها وواجباتها وفرائضها ومكروهاتها ومبطلاتها، وأن تقرن بما ورد في الترغيب فيها والترهيب من تركها
الفصل الثاني: حقوق النفس، كنحو تحريم الانتحار والإقدام على التهلكة، وإضعاف الجسم، وفضيلة السمو بالنفس عن الأخلاق المنحطة، والأدواء الباطنة
الفصل الثالث: حقوق الأسرة، كنحو حق الوالدين والأولاد والزوجة والأخ وفقراء الأسرة.
الفصل الرابع: حقوق المسلمين، من نحو عيادة المريض منهم ومساعدة الضعيف، ونصيحتهم وحرمة غيبتهم والنميمة بينهم الخ
الفصل الخامس: حقوق غير المسلمين، من نحو إحسان معاملة الذمي وحفظ ماله ونفسه وضمان حريته التي هي له، والوفاء لذي العهد من المحاربين، واحترام المبادئ الإسلامية الإنسانية في الحرب.
الفصل السادس: حقوق الوطن، من نحو احترام المصلحة العامة، والاستعداد للجهاد في سبيل الله والذود عن الحمى، والتهيؤ للتضحية، وتعلّم الإيثار ونحو ذلك.
الفصل السابع: درجة الورع والصلاح، وبيان الصورة الكاملة للمسلم، وأنه يعمل للدنيا ولا(336/23)
يجعلها في قلبه، ويعمل للآخرة ويستعد لها دواماً، وتضرب الأمثلة من أخبار الصالحين من طبقة الفضيل والسفيانين وأبن المبارك وابن حنبل ممن كان ورعاً وعالماً وعاملاً للدنيا في وقت واحد
فمن اطلع من علمائنا على هذا المقال، وكان قادراً على كتابة فصل من هذه الفصول، فلم يكتبه، ولم يمنعه منه مانع، فليعلم أنه يعين بسكوته أعداء الإسلام على ما هم فيه، وإن لنا معشر الشبان لموقفاً معه بين يدي أحكم الحاكمين، فنقول: يا ربنا سَلهُ لِمَ قدر على إرشادنا، فلم يرشدنا وهو يروي قول نبيك محمد (لأن يهدي بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)؟
فليهيئ لهذا السؤال جوابه. . . وهيهات!
(كركوك)
علي الطنطاوي(336/24)
بين الأستاذين
أحمد أمين وزكي مبارك
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
قلت في مقالي السابق إن الدكتور زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عن الأدب الجاهلي، وإنما قلت هذا لأنه هو وأستاذه الدكتور طه حسين لا يؤمنان بصحة ذلك الأدب، والدفاع عن الشيء لا يكون إلا بعد الاعتقاد بصحته، فقد ألف الأستاذ طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي) وكان أكبر جناية على أدب الجاهلية، إذ أنكر فيه صحة ذلك الأدب، وقلد في هذا الرأي أعداء الأدب العربي من المستشرقين، فلم يكن من الدكتور زكي مبارك إلا أن احتفل بظهور ذلك الكتاب، وعده فتحاً جديداً في الأدب العربي وقال في هذا من جريدة البلاغ الأسبوعي (3 ديسمبر 1926): (كان كتاب الشعر الجاهلي الذي ألفه أستاذنا الدكتور طه حسين فاتحة لعهد جديد في دراسة الآداب العربية، وحسبك أن ترجع إلى ما كتب في نقده من الرسائل المطولة، والأسفار الضخام، لترى كيف أثار ذلك الكتاب ما خمد من القرائح، وكيف أيقظ ما هجع من العقول)
والفرق كبير بين رأي الأستاذ طه حسين في الأدب الجاهلي ورأيي ورأي الأستاذ أحمد أمين فيه، فالأستاذ طه حسين يرمي في رأيه إلى الهدم والطعن في ثقة السلف ونحن نرمي إلى الإصلاح ونريد تقويم اعوجاج الأدب العربي، وهذه غاية نبيلة يكاد علماء الأدب يتفقون الآن عليها، لإجماعهم على أن الأدب العربي في حاجة إلى الإصلاح، وعلى أن إصلاحه يجب أن يكون من الناحية التي أشرنا إليها، حتى يكون أدب ألفاظ مزوقة ومعان خيالية لا طائل تحتها.
ومن الغريب أن الدكتور زكي مبارك يؤمن أيضاً بذلك الإصلاح، ويدعو إليه في كتابه (النثر الفني) ولكنه ينسى ذلك في حب التغلب على الأستاذ أحمد أمين، ويأخذ عليه تهوينه من شأن التشبيه وما إليه من المعاني الثانوية، ومما جاء في ذلك الكتاب: ونحن نرى أن سر الفصاحة والبلاغة يرجع إلى ما في المعنى من قوة وروح، وقد تجد من الشعر ما تخلو معانيه وألفاظه من الروعة الظاهرة، ولكن قوة الروح تصل به إلى أسمى غايات الإبداع، ومثال ذلك قول حِطَّانَ بن المُعَلَّي يشكو فقره، وما وضع القدر في رجليه من قيود الأهل(336/25)
والذرية:
أنزلني الدَّهْرُ على حكمه ... من شامخٍ عال إلى خَفْضِ
وغالني الدهر بِوَفْر الغنى ... فليس لي مال سوىِ عرضْيِ
أبكانَيِ الدهر ويَا رُبَّمَا ... أضحكني الدهر بما يُرْضِي
لولا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ الْقَطَا ... رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بَعْضِ
لكان لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعَرْضِ
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبَّتِ الريح على بعضهم ... لامتنعتْ عيني عن الْغَمْضِ
فقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ، ولا إلى الأسلوب. ومن ذلك يتضح أن من يزعمون أن القرآن ليس من جنس كلام العرب لم يفهموا شيئاً من أسرار الإعجاز، ولذلك نراهم يدورون حول الظواهر والمحسنات اللفظية، ويرجعون في ذلك إلى الناحية اللفظية أو الفنية، ونحن نرى غير ذلك، فنرى أن محمداً عليه السلام اجتذب العرب لأنه نبي، ولم يجتذبهم لأنه فنان، فالفن الكلامي لم يكن جديداً عند العرب، وإنما كان الجديد عندهم أن يأتيهم رجل منهم بأساليب من الفكر والعقل والوجدان غير التي كانوا يألفون، ومن العبث أن نظن أن البلاغة لا تخرج عن المناورات اللفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزخرف، وامتهان لصولة العقول، إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجزة حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً، ويجيء الورق ثانياً، كما يقول الفرنسيون)
وإنما أطلت النقل من كتاب (النثر الفني) لأقيمه دليلاً قاطعاً على أن الأستاذ زكي مبارك لا يؤمن بتلك الناحية الفنية التي أخذ على الأستاذ أحمد أمين تهوينه من أمرها، ويكاد يتفق معه في أن الشأن في ذلك لقوة الروح والفكرة، ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ زكي مبارك لا يفرق في ذلك بين قوة الروح في الخير والشر، ويرى أن الشاعرية روح يتمرد به الشاعر فيهز نفس القارئ أو للسامع هزاً عنيفاً يحمله على أن يؤمن وهو طائع ذلول بما يدعو إليه الشاعر من تزيين الإثم والبغي، أو تقبيح الغي والفسوق ومن الأول قول ديك الجن:(336/26)
لمَّا نظرتِ إليَّ عن حَدَق المَها ... وبَسمتِ عن مُتفتِّحِ النُّوارِ
وعقدتِ بين قضيب بانٍ أهيف ... وكثيب رمل عُقْدَة الزُّنَّار
عفَّرت خدي في الثرى لك طائعاً ... وعزمتُ فيك على دخول النار
ومن الثاني قول معن بن أوس:
لَعمْرك ما أهويت كفِّي لريبة ... ولا حملتني نحو فاحشة رِجْلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلَّني رأيي عليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تُصبني مصيبةٌ ... من الدهر إلا قد أصابتْ فتى قبلي
ولستُ بماش ما حَييتُ لمنكرٍ ... من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مُؤْثر نفسي على ذي قرابة ... وأوثِرُ ضيفي ما أقامَ على أهلي
ولكنا لا نحب للدكتور زكي مبارك أن يمضي في ذلك إلى حد التسوية بين روح الخير وروح الشر في الشعر، فيجعل قول ديك الجن مثل قول معن بن أوس بعد اتفاقهما في قوة الروح، لأنه يبقى بعد هذا شرف المعنى والغرض وهو مما لا بد من اعتباره أيضاً في المفاضلة بين شعر وشعر، أو كلام وكلام. ولا يمكن الدكتور زكي مبارك أن ينكر هذه الناحية في الموازنة الشعرية، فقد ذكرها في قوله تعالى: (وَلا يَجْرِ مَنَّكُم شَنَآنُ قَوْم على ألاَ تَعْدِلُوا)، فجعل الفضل فيه لهذا النصح النبيل والمعنى الشريف والدعوة إلى إيثار العدل في جميع الأحوال، من غضب وسكون، وحب وشنآن، وإذا لم يكن للدكتور زكي مبارك بد من اعتبار ذلك أيضاً فإنه لا يكون بيننا وبينه فرق فيما ندعو إليه من ذلك الإصلاح، ولا يكون له حق في تلك الحملات القاسية التي تقف عقبة في سبيل غايتنا جميعا.
هذا وإذا كانت اقتصرت في أول هذا المقال على موقف للدكتور زكي مبارك من كتاب (في الشعر الجاهلي) فلأني أحببت الترفق به، ولم أشأ أن أذكره بمواقف له جارى فيها أستاذه في الجناية على الأدب الجاهلي، وذهب إلى الشك في صحته كما ذهب إليه قبله، وتلك هي الجناية على الأدب الجاهلي حقاً، لا ما ذهبنا إليه من ذلك الإصلاح، والله الهادي إلى الصواب.
عبد المتعال الصعيدي(336/27)
من وراء المنظار
كرنفال!. . .
أبداً لا تقع عيناي أو لا يقع منظاري على هذا الذي أحدثك عنه إلا اعتلج في نفسي شعور من الهم والخزي يلازمني فترة طويلة بعد فوات المنظر، ويتجدد كلما تجدد في خاطري طيفه، وأنا أكتب هذا على أثر رؤية جديدة لذلك المنظر الذي أنكره أشد الإنكار، وما أزال أزداد إنكاراً له في كل مرة عني في سابقتها.
وإنما أكتب لأدعو القارئ إلى أن يغضب مني، فإن لم يغضب، ومر على هذا الذي أقول مر الكرام، فلا شك عندي أنه قوي الأعصاب جداً - على أحسن تعبير - قوة لا أدري أيحمد عليها أم يذم من أجلها؟!
على أني لا أشك في أن كثيراً من القراء غضبوا مثلما غضبت وسيغضبون كلما وقعت أعينهم على ذلك المنظر البغيض، منظر جنائزنا (البلدية) في أجمل وأعظم أحياء القاهرة العظيمة مهبط السائحين في الشتاء من إنحاء الغرب والشرق!. . .
وللقارئ أن يخطر في باله صورة لجنازة من هانيك الجنائز. . . فهناك في الطليعة أنماط من الناس منهم من يرتدون هلاهيل من القماش كانت من قبل جبباً وقفاطين، ويضعون فوق رؤوسهم ما يشبه العمائم، أو ما يصح أن يكون أبلغ صورة هزلية للعمامة، وكأنما يقول الواحد منهم (متى أضع العمامة تعرفوني) فهو كما أتخيل بل كما أكاد أعتقد يتخذ هذه الهيئة عن عمد ليكون جديراً بأن يظهر في الطليعة! وأنا أرى أبداً هذا الصنف من الخلائق على أشكال متقاربة في صورها.
ويندس بين هؤلاء (الفقهاء) الحمقى فريق من (الجدعان) من أهل الحي الذي خرج منه الميت وهم يخطرون جميعاً في جلابيبهم (البلدية)، وإنما رؤوسهم بأشكال من الطواقي و (اللاسات) وما شئت من أنواع (الكليوش) وألوانه. . .
وينطلق هؤلاء وهؤلاء في نشاط عجيب، وقد تأبط كل منهم ذراع جاره، ويطلقون حناجرهم بأفظع الأصوات وأنكرها، يستجمون لها كل قواتهم، ويمضون في ترديد عبارة حفظوها، أو يتغنون بورد من الأوراد، لا يفترون ولا تكل حناجرهم أبداً، كل أولئك وهم يتمايلون ويتسابقون في النعيق على صورة أجدر أن تكون فرحاً في موت هذا الذي(336/28)
يحملونه من أن تكون حزناً عليه، وإلا فكيف يكون هذا الزعيق وهذا التهريج حزناً في أي وضع من الأوضاع؟!
ولو أن متفنناً في التهريج أراد أن يحشد (كرنفالا) من المهرجين لما تعلق خياله بأبلغ وأروع من ذلك الكرنفال الجنائزي
وتأتي بعد ذلك الآلة الحدباء يحف بها من رهبة الموت وجلاله ما لا يتفق مع هذا التهريج المنكر أمامها. . . ومن ورائها ذيل أسود طويل بغيض لعله أشد نكراً من الطليعة؛ هؤلاء النسوة الماشيات أو الراكبات عربات (الكارو)، ومنهن من تدور طرحتها حول عنقها كالحبل، ومنهن المصفقة كفاً بكف، والمشيرة بمنديلها إشارات عجيبة مزعجة معاً، والمولولة المترنحة ذات اليمين وذات الشمال؛ وأفظع من هؤلاء الصابغات وجوههن (بالنيلة) في شكل لا يمكن أن يتخيل معه أنهن ينتمين إلى بنات حواء. . . ولا أريد أن أزعج خاطرك - أيها القارئ - بوصف أصواتهن التي تجيء مع ذلك الزعيق في المقدمة نشازاً على نشاز، وشناعة على شناعة. . .
وبعد، فهل في هذا شيء يتفق مع الدين أو يجوز في عرف معقول أو يليق بسمعة أمة؟. . . ولشد ما يوجع نفسي أن أذكر وا أسفاه أني رأيت مثل هذا المنظر مرتين في أسبوع واحد أمام دار الآثار ساعة (انصراف السائحين)؛ فسألت نفسي والألم والخزي يحزان في صدري: ماذا عسى أن يقول هؤلاء عن حياتنا الاجتماعية إذا رجعوا إلى قومهم؟ وهل هم يرون (الأنتيكة) التي جاءوا ليروها داخل (الأنتيكخانة) حقاً؟ أم أنهم يرون ما هو أبلغ في معناه منها في شوارع العاصمة الكبيرة؟!
يا وزارة الشئون الاجتماعية. . . هذا والله في صميم الشئون الاجتماعية. . . شيعي هذا المنظر إلى حيث لا يعود، فهذا لعمري وعمرك خير من إنشاء ألف حديقة في هذه المدينة أو نشر ألف صحيفة من صحف الدعاية عن مصر والمصريين.
(عين)(336/29)
الثقافة العسكرية
وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
في الثورة المصرية
ولقد مر بك أن (المتطوعين) المصريين في الحرب الكبرى لم يجدوا من يضع لهم أناشيد تعرب عن آمالهم، فوضعوا لأنفسهم تلك الأناشيد كما تخرج الأرض المهجورة زرعها (الشيطاني)، وكان بعض الذي وضعوه نظماً ولحناً مما يستحق الإعجاب لدلالته على خوالج نبيلة كالشوق إلى الوطن، وكالشكوى من تحكم السلطة العسكرية إذ ذاك في التجنيد باسم (التطوع).
ولقد قرأت في بعض الصحف الإنكليزية على أثر الثورة المصرية بحثاً ضافياً عن أسباب تلك الثورة، وقد عدَّ كاتب ذلك البحث مسألة (التطوع الإجباري) من أهم المسائل التي أدت إلى الثورة وأستدل على ذلك باللحن الذي أشرنا إليه في المقال السالف ونشره بلغته العربية بأحرف إنكليزية مع ترجمته إلى تلك اللغة، وهكذا كانت ترجمته:
والنص هو:
بلدي يا بلدي ... والسلطة خدت ولدي!
ومن البديهي أن الذين كانوا يتغنون بهذا النشيد ليسوا هم الذين أخذت السلطة أولادهم، ولكنهم هم الأولاد المأخوذون
وكان المأخوذة أولادهم مقيمين في مصر، أما الذين يرددون هذا اللحن فكانوا بعداء عنها يتحرقون تشوقاً إليها بدليل البيت الآخر وهو:
يا عزيز عيني ... وأنا بدي أروح بلدي
ولكن هكذا الشعر الذي ينال شرف السيرورة لا يمكن إلا أن يكون صادق التعبير عن البيئة التي صدر عنها.(336/30)
وكان هؤلاء (المتطوعون) يعبرون عن مصر كلها لا عن الفريق المتطوع حينما وضعوا هذا اللحن الذي سار والذي استدل به الباحثون فيما بعد عن أسباب الثورة المصرية، كما يستدل الطبيب بالنبض على حركة القلب.
وكذلك الشعر لم يكن قط قلباً للأمة، ولكنه نبضها الذي يستدل به على حالة ذلك القلب. وهذه الحقيقة هي أساس النقد الحديث الذي يذعن له النقاد منذ وضع سانت بيف كتابه (تاريخ الحضارة الإنكليزية كما يظهر من خلال أدبها).
ولم يكن المتطوعون في الحرب الكبرى كلهم من طبقة واحدة ولا كان تطوعهم ذا صبغة واحدة، ولا كانت أغراضهم واحدة، ولكن كانت الكثرة كما تقدم وصفها، وكان فيها فريق تطوع بمحض الرغبة فراراً من الفتك الاقتصادي وطمعاً في القوت.
وكان هذا الفريق من لابسي (الهلاهيل)، وقد أبت طبيعة الأشياء إلا أن يسجل هذا الفريق من البؤساء على جبين الزمن شكواه من ذهابه للقاء الموت من أجل الكساء الذي يستر العورة ولم توفق مصر إلى شاعر من أبنائها يحس إحساس الفريق فيعبر عن مشاعره. فأعرب هؤلاء الرعاع عن مشاعرهم ولحنوها بأنفسهم (ولا الحوجة للشعراء والموسيقيين).
وهكذا كان في متطوعي السلطة في الحرب الماضية مصريون كالعراة ينشدون هذا النشيد:
(يا اللي رماك الهوى ... حود على الكامبو
يقلعوك الهلاهيل ... ويلبسوك البلطو)
ومن الذي تراه كان من شعرائنا أو موسيقيينا يستطيع أن يقول ذلك القول أو يلحنه؟
لقد كنا. . .
ولا تسل كيف كنا. . .
نتعاطى من الهوى ما نشاء. . .
كان شعراء مصر في ذلك الحين يشربون الكوكتيل أو الويسكي على الأقل!
هل تصدق أنني كنت في سنوات الحرب أتقاضى مرتبي من وظيفتي في الحكومة، وكان مضافاً إليه علاوة الحرب مماثلاً لمرتبي الآن؟ لقد ترقيت ترقية طبيعية في مسافة العشرين عاماً بين الحربين ولكن الترقية في مسافة عشرين عاماً لا تكاد تبلغ المائة في المائة التي كنا نتقاضاها علاوة حرب، وكان في الشعراء الآخرين من هو أيسر حالاً وأهنأ بالاً، والعلة(336/31)
مقطوعة بطبيعتها بين شعراء مصر وبين لابسي الهلاهيل، فلم نضع ألحاناً لمسير المليون مصري الذين تطوعوا في الحرب الكبرى ووضعوها هم لأنفسهم. فإذا بعضها:
يا اللي رماك الهوى ... حود على الكامبو
والكامبو هو الـ أي معسكر الجيش الإنكليزي
وانتهت الحرب الكبرى ونشبت الثورة المصرية وكان لها شأن آخر. كانت هناك قيادة للثوار واتحاد في الغرض والوسيلة، واشترك في المشاعر الثائرة أصحاب (الفراك) و (البونجور) و (الردنجوت) مع أصحاب الهلاهيل. ومن أجل ذلك كان هناك الأناشيد التي يضعها الشعراء للمسير والتي نالت شرف السيرورة لصدق تعبيرها عن عواطف البيئة.
قد لا تكون هذه الأناشيد مما يسميه الشعراء غروراً (بالشعر الخالد) ولكنها على كل حال ستظل باقية ما بقى لتلك الثورة ذاكر. وإذا شئت أن تدرس طبيعة تلك الثورة وتعرف أسبابها فإن أهم مرجع هو الذي يدلك عليه سانت بيف وهو الشعر الذي قيل فيها، هو تلك الأناشيد:
نشيد شوقي. ونشيد العقاد. ونشيد صدقي. ونشيد الرافعي. ونشيد صادق. ومائة نشيد ونشيد غير أناشيد هؤلاء. . . ولكن هل كانت الثورة المصرية خالية من الأوشاب؟ وهل كانت كل العواطف من طراز عواطف هؤلاء النبلاء! كلا. فقد كان في المتظاهرين من لا يقنعه (حيوا العلم!) ولا (مكانكمو تهيأ) ولا (فحيي فتاك شهيد هواك) ولا أمثال هذه الاتجاهات السامية
ولم يكن في الشعراء من يستطع الإعراب عن عواطف الذين يلقون بالأحجار على اللوحات الزجاجية فيحطمونها ولم يكن فيهم من يستطيع الإعراب عمن لا يجد تعبيراً أطيب من قلب مركبة الترام أو قطع خطوط التلغراف. وكان هذا الفريق من الأوشاب موجوداً بالفعل وكان لا بد له من الإعراب بالموسيقى عن عواطفه تلك. والإنسان برغم أنف المناطقة حيوان موسيقى وليس فقط بالحيوان الناطق، بل أستغفر الله فهو برضى المناطقة وعن طيب خاطر منهم حيوان موسيقى لأن النطق لا يمكن أن يتم إلا والموسيقى جزء منه.
ظهر في الثائرين أيام الثورة المصرية من يحطم اللوحات ويقذف بالطوب ولم يكن بينهم(336/32)
شعراء من أمثال (فرلان) ذلك الوغد الفرنسي المتشرد الشاعر ليضع لهم نشيداً فوضعوا هم أناشيدهم نظماً وألحاناً ومن بينها:
مش عاوزين حد أبداً يحكمنا ... وإلا إن غلطنا حد يلومنا
كان هذا الفريق أقل من أن يعقل (حيوا العلم) فلم يثر من أجل كرامة العلم ولكنه فقد النظام فأبى أن يحكم أبداً كما يقول
وبعد فيما شعراء الجيل هل تريدون أن ينال شعركم شرف السيرورة؟ إذن فانغمروا في كل وسط تريدون أن ينتشر فيه شعركم. أنتم (وأنا من بينكم) من رواد المقاهي فلن يروج شعرنا إلا بين رواد المقاهي
ويا وزارة الدفاع ويا وزارة الشؤون الاجتماعية ويا قيادة الجيش المرابط، هل تريدون ألحاناً للجنود تعرب عن روح عسكرية قوية وتدعم الروح العسكرية وتصل بين حاضرها ومستقبلها.
لن تكون تلك الأناشيد من وضع الجالسين على مكاتبهم في الدواوين ولكن أفسحوا المجال في المعسكرات في ساعات التدريب لطائفة من الشعراء.
تقول قيادة الجيش المرابط إنها تريد أن يتعلم الفلاح المشية العسكرية والنظام في الجلوس والقيام وحالة المعيشة العامة. هذا جميل كله، ولكن إذا استثنينا الأستاذ الشاعر عباس العقاد فمن من بين شعرائنا يمشي مشية عسكرية؟
أتمنى أن أرى في ساحات التدريب الأساتذة حسين شفيق المصري والدكتور زكي مبارك وشاعراً ثالثاً على الأقل وسيرى الجميع بعد أيام من التدريب كيف يمشي هؤلاء الثلاثة مشية غير مشيتهم الحاضرة. وإلى الملتقى في ميادين التدريب.
عبد اللطيف النشار(336/33)
أحلام سوداء. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
رب ليل قد صفا الأفقُ به ... وبما قد أبدَعَ الُلهُ ازدَهرْ
قد سرَى فيه نسيمٌ عبقٌ ... فكأنَّ الليلَ بستانٌ عَطِرْ!
قلتُ، يا ربِّ، لَمِنْ جَمَّلتَهُ ... ولَمِنْ هذِي الثُّرياتُ الغُررَ
فَخَليٌّ نائمٌ عنه القَدرْ ... نام لم يَسعَدْ بِهاتيكَ الصُّوَر
وشجِيُّ القلبِ يشدو للذِّكَرْ ... دامِيَ الألحانِ مجروحَ الوَتر
كل شيء مأتمٌ في عينهِ ... لا الكرى طابَ، ولا طاب السَهر
غامَ وجهُ الأفقِ وأربدَّت به ... سُحبٌ حامتْ على وجهِ القمر
كلما تقربُ تمتدُّ له. . . ... كأكُفٍِّ شَرِهاتٍ تَنتظِر
قائماتٍ، كذئابٍ حُوّمٍ ... جائعاتٍ مثلَ غربانِ الشَّجر
صِحْتُ بالبَدْرِ، تَنّبه للنُّذُرْ ... أدْرِكِ الهالَةَ حُفَّتْ بالخطَر
لا تُبحْ مائِدَةَ النُّورِ لهمْ ... لا تبحها لسوادٍ مُعْتَكِر
قهقَهَ الرّعدُ ودَّوى ساخراً ... فكأنَّ الرعدَ عربيدٌ سَكِر
قمتُ مذعوراً، وهمَّتْ قَبضتي ... ثم مُدَّت ثم رُدَّت، مِنْ خَوَر
لَهَف القلبِ على الدنيا، إذا ... عجزَ القادرُ، والباعُ قَصُر
لَهَف القلبِ، على الحسن، إذا ... قهقهَ الغربانُ والذئبُ سَخِر
تحتمي الوردةُ بالشوكِ فإنْ ... كثُرَ القُطَّافُ لم تُغْنِ الإبَر
آهِ مِن غصنٍ غنيٍ بَالجنَى ... ومِن الطامعِ في ذاك الثمر
آهِ من شكّ، ومن حبٍ، ومن ... هاجساتٍ وظنونٍ وحَذَر!
كسَتِ الأفقَ سواداً لم يكن ... غير غَيْمٍ جائمٍ فوقَ للفِكَر
طالما قلتُ لقلبي، كلما ... أنَّ في جنبي أنينَ المحتضَر
إن تكن خانت، وعقَّتْ حُبَّنا ... فأضِفْها للجراحات الأخَر. . .
كان طيفاً من ظنونٍ لم تَدُمْ ... وسحاباً من جنون وعَبَرْ!!
ناجي(336/34)
شريد!. . .
للأديب محمود السيد شعبان
يا ليْل! هذَا شَريدٌ تائهٌ تَعِسٌ ... يحوطه الصمت في واديك والغلسُ
حيرانُ. . . يُدلج في طخياء مظلمةٍ ... تكادُ من خوفه الأنفاس تُحتبس!
لهفان. . . تحسبُهُ الأنظارُ واهمةً ... إنساً من الجنِّ أو منِ جنةٍ أنِسوا!
أَسوان. . . تنشدهُ الأوهام ساخرة ... لحْناً من البؤس فيهِ العيُّ والخرس
هَيمانُ. . . تَلقفهُ الاغلاسُ ذُاهلةً ... كأنما هو في كفِّ الدُّجى قَبس!
ظمآنُ. . . يرتشفُ الظلماَء يَحبسها ... كأساً من الدمع فيها الطهر والقدس
ندمانُ. . . يبحث عن ألف يُقاسمهُ ... جوْبَ الغياهبِ ما في طبعه دنس
نهمانُ. . . يُطعمِه ما ليس يُطعمه ... من السَّرابِ إذا ما لفَّه غلس!
أقولُ للنَّجم لمَّا لاح يرقُبُه: ... كِلاكما في الدِّياجي حائِرٌ تعِس
علامَ لا ترقدانِِ الليلَ وحدَكما؟ ... والكون أغفى وكل الناس قد نعسوا
وفيمَ لا تهجرانِ الليلَ ويحكما ... والليل للنفسِ ذات الشجو يفترس
أَأَنتَ يا ليلُ موجٌ ضلَّ غايتهُ ... تطوى دياجيهِ من عاشوا ومن درسوا؟!
علامَ يا ليلُ لم تفرحْ بمنْ سعدوا؟ ... وكيف يا ليل لم تحزنْ لمن تَعسوا؟
وفيم يا ليل لم تحفِل بمن ضحكوا ... ولا بمن فيك يا نبعَ الأسى عبسوا؟
سيَّانِ عنْدكَ من باتوا على أملٍ ... فيه النعيمُ ومن الليلُ قد يئسوا. . .!
يا سائلاً عن شبابي كيف تُعجبهُ ... تلك الأناشيدُ منها الدمع ينبجس؟
أقصِر بربكِّ!. . . فالآلامُ تَعرفُني ... لأنها في فؤادِ الفذِّ تَنغرِسُ!
محمود السيد شعبان(336/36)
حيرة!. . .
للأستاذ أحمد فتحي
جهلتُ حقائقَ الآمالِ، لكن ... قنعتُ بها من الزمن اللئيم
وحسبي من أعاجيب الأماني ... رِضاها بالخسيسِ وبالكريم
تكفكفُ من مدامعِ كل شاك ... وتحفِزُ هِمَّةَ الباغي الظلوم
ويزجيها خيالٌ كالليالي. . . ... فلا هوَ بالصحيحِ ولا السقيم
فكمْ يهوى إلى قاعٍ سحيقٍ ... وكم يسمو إلى هامِ النجوم
وكم يُغرى فؤادي بالدَّنايا ... وكم يُغريهِ بالشَّأْوِ العظيم
وما ألقاهُ يأسو مِنِ جِراحي ... ولا ألقاه يجلو من غيومي
ومن عجبٍ وصلتُ به حياتي ... كما اتصلَ الشرابُ إلى النديم
إذا أزمعتُ مِنْ أملٍ فِراراً ... فررتُ من الجحيم إلى الجحيم!
أحمد فتحي(336/37)
رسالة الفن
دراسات في الفن
ملامح الأرواح
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هل سمعت أن شارلس لوتون سيمثل هتلر للسينما؟
- قرأت ذلك ومن يومها وأنا مشتاق لمشاهدة لوتون في هتلر
- أظن أنه لم ينجح
- لماذا؟
- لأن لوتون طويل عريض، وهتلر ضئيل الجسم
- وأي شيء في هذا؟ إن الذي سيمثله لوتون من هتلر نفسه لا بدنه - ولكن هذه الصورة الحاضرة في أذهاننا والتي نعرف بها هتلر لا يمكن أن يمحوها لوتون بتمثيله، وسيذكر الناس عندما يرونه أنه ممثل يمثل، بل قد يرى بعض الناس أنه ممثل أغتصب دوراً ليس هو أهلاً له
- هذا يخيل إليك. وقد يكون الذي تقولين حقاً إذا كان الممثل ضعيفاً. . . ولكن لوتون. ألم تريه في هنري الثامن؟ لقد كان هو هنري الثامن
- لأنه يشبه هنري الثامن كثيراً في جسمه، وعلى الخصوص في وجهه. . .
- صحيح! فكيف رأيت هاري بور في بتهوفن؟ هاري بور طويل عريض هو أيضاً وكان بتهوفن ضئيل الجسم مثل هتلر، ومع هذا فلا أظن أحداً من النظارة أحس شيئاً من الكذب في بتهوفن الذي أخرجه هاري بور. . . اللهم إلا أولئك الذين يذهبون إلى السينما ليعرضوا على الناس أجسامهم وأزياءهم. . .
- قد يكون التوفيق أتيح لهاري بور في بتهوفن، لأن هاري بور ممثل وبتهوفن موسيقي، وليس عسيراً على الفنان أن يدرك الدخائل في نفس فنان مثله، فإذا حاكاه ومثله كان كمن يحاكي نفسه ويمثلها. . .
- والله إنها فكرة لم أكن أتوقع أن تجول في ذهنك، وإنها لجديرة بالتأمل والدرس، وإنك(336/38)
لجدير بالمكافأة عليها. . . خذي هذه النكلة. . .
- شكراً. سأعلقها على باب البيت تعويذة وحجاباً دون إبليس. . .
- بل أعيديها فقد وجدت الرد. . . هات. . . إن هتلر أيضاً ممثل
- رحت في داهية! هل أنت ممن يؤمنون بهذا الذي يدعيه من أنه فنان؟!
- ليس هذا قصدي، وإنما الذي أقصد إليه هو أن الناس جميعاً يمثلون
- آه. هذه فكرة أخرى. ولكن ألا ترين أن فكرتك هذه لو كانت صحيحة لما ارتفع سعر التمثيل
في الدنيا، ولما كان أجر الممثل المجيد آلاف الريالات ومئات الجنيهات في الدور الذي لا يستغرق منه إلا الساعات القليلة. . .
- الحق معك
- إذن فرأيك غير صحيح. . .
- لماذا؟ أفلا يستطيع الحق أن يكون معك وأن يكون معي في الوقت نفسه؟
- يستطيع. قادر على كل شيء. . .
- ولا قادر غيره. . . والتوفيق بين الذي تقولين وبين الذي أقول يسير. فأما أن كل الناس ممثلون فهذا حق. وأما أن أندر الناس هم الذين يستطيعون أن يمثلوا فهذا حق أيضاً، فالناس كالأواني: كل آنية تصلح لأن تعبأ بما يملؤها، فإذا امتلأت لم تعد تصلح لأن تمتلئ مرة أخرى، إلا إذا فرغت. ومن الناس من يملك نفسه يملؤها ويفرغها وهؤلاء هم الممثلون المجيدون، ومنهم من امتلأت نفسه مرة فاكتظت وجمد حشوها فيها فلم يعد ميسوراً أن تفرغ وأن تملأ. ومن هؤلاء محمد عبد الوهاب فهو يمثل على نفسه وعلى الناس دور الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء وقد (عقد) هذا الدور في نفسه فكلما مثل دوراً ظهر فيه بمظهر الأستاذ الموسيقار مطرب الملوك والأمراء والعظماء مهما تطلب منه هذا الدور الجديد شيئاً من البؤس، أو شيئاً من الخيبة، أو شيئاً من اليأس. زيدي على ذلك أن الصورة التي رسمها عبد الوهاب لنفسه في خياله صورة متكلفة ليس فيها من الحقيقة شيء، فقد عرف الناس هنا في مصر مطرباً كان الملوك والأمراء والعظماء يطلبونه حقاً ويسعون إليه ويكرمونه كل التكريم ولم يكن فيه شيء من هذه الأرستقراطية(336/39)
التي يلبسها عبد الوهاب فيتعثر في أذيالها، ذلك هو المرحوم عبده الحامولي تؤكد الروايات أنه كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
- وهل لا يأكل عبد الوهاب الطعام ويمشي في الأسواق؟
- حاشا لله. وإن أكل فتنازل، وإن مشى فكما كان يمشي هرون الرشيد
- إني لا أحب فيك هذا التعصب على عبد الوهاب. وإن الذي تأخذه عليه يمكن أن آخذه على شارلي شابلن نفسه، لشارلي أيضاً لوازم تبدو في كل أفلامه: قبعته وعصاه وشارباه ومشيته وحذاؤه وتلعيب فمه ومسحه الحذاء في البنطلون وهزة كتفيه.
- صحيح صحيح. . . ولكنك نسيت أن شارلي يمثل في كل أفلامه شخصاً واحداً هو ذلك المتشرد الحائر الذي يطارده المجتمع في أغلب الأحياء، ولا يعطف عليه إلا في أقل الأحيان. وروايات شارلي شابلن كلها يمكن أن توصل وأن تعرض على أنها حوادث حدثت لهذا المتشرد. وعلى هذا الأساس فإنه ليس عجيباً أن يلزم هذا المتشرد حركات وسكنات وإشارات خاصة هي هذه التي تقولين عنها
- طيب. ونجيب الريحاني الذي تشهد له بالتفوق. أليست له هو مواهب أيضاً لازمة لا تخلو منها رواية من رواياته هي هذه (المطة) التي يختم بها أكثر جمله وعباراته
- صحيح أيضاً. ولكنك أيضاً نسيت أن هذه (المطة) هي من آثار كشكش بك في نجيب الريحاني، فقد كان نجيب مثل شارلي يمثل شخصاً واحداً هو عمدة كفر البلاص، وكان هذا العمدة لا ينجو من مأزق حتى يقع في مأزق، وكانت الحيرة والدهشة و (اللخمة) تأخذه من أول الرواية إلى آخرها، وكان يستغيث، وكان يلوم، وكان يسترحم، وكل هذا يستدعي منه هذه (المطة) فلزمته ولكنه بدأ يتخلص منها فهي لا تعاوده الآن إلا نادراً
- ولم تلجأ إلى هذا التعسف ولا تقول إن لكل ممثل إسلوبه الخاص به
- لأن موضوعنا هذا لا صلة له بأسلوب الممثل. وإنما أسلوب الممثل شيء آخر
- هو الطريقة التي يتذوق بها الممثل الناس، والتي يعرض بها بعد ذلك هؤلاء الناس
- وكيف يتذوق الممثل الناس؟
- للأرواح ملامح كما للأجسام ملامح، ومن الممثلين من ينعم النظر في هذه الملامح حتى يحصرها كلها، ومنهم من يروعه بعضها فيقف عنده ولا يعود يرى غيره، أو يرى غيره(336/40)
ولا يهتم به. والممثل بعد أن يشبع من التمعن في هذه الملامح الروحية يبدأ فيرسمها في نفسه هو، ويشكل روحه بشكلها ويكون تمثيله بعد ذلك إبرازاً لها، وأقدر الممثلين على هذا من لم تكن لروحه هو ملامح قوية ناتئة تستعصي تغطيتها على الماكياج الروحي، وهؤلاء الممثلون القادرون هم الذين تكون نفوسهم شديدة الشبه بنفوس الأطفال فهي بريئة صافية تعيش على الفطرة والحق، ولعلك قد لحظت أن الأطفال أقدر من غيرهم على تقليد الناس وتصوير نفوسهم والمظاهر الواضحة التي تنثرها نفوسهم على أجسامهم. . . ولو كان الناس كلهم يعيشون على الفطرة وعلى الحق لكثرت بينهم أوجه الشبه، بل ربما كانت أشكالهم تتوحد فلا يكون بينها خلاف، والذي يعزز هذا الرأي هو ما نراه من توحد أشكال الحيوانات التي من فصيلة واحدة - ولا أقول ألوانها - فهذا التوحد لا مرجع له إلا أن الحيوانات تسلك في حياتها المسلك الفطري الحق
- فكأنك تقول إن اختلاف ملامح الوجوه في الناس يرجع إلى اختلاف الملامح في أرواحهم
- هو هذا. وإن كنت لا أنكر آثار البيئة والوراثة وغيرهما
- ومعنى هذا أن الذي يسيطر على حياة الإنسان نفسه وليس بدنه وغريزته الجنسية كما يقول فرويد
- لو كانت الغريزة الجنسية هي التي تسيطر على حياة الإنسان لما اختلفت أشكال الناس، وإنما الغريزة الجنسية نفسها تخضع لذوق الإنسان والذوق عامل نفسي لا بدني
- ولكنك قلت مرة إن له مرجعاً يرده إلى كهرباء الجسم
- وقلت لك وقتها إني أستعمل كلمة الكهرباء حيث أريد أن أقول (الروح) وإني أختارها لأضمن ارتياحك وارتياح الناس إليها فهي عند أهل هذا العصر أقرب إلى العقل من كلمة الروح. . .
- فهل تريدني أن أعرف الروح على أنها كهرباء؟
- يصح ولكن على أن تكون كهرباء لها إرادة ولها عقل ولها عواطف ولها ذاكرة ولها أمل ولها صلة بالماضي ولها صلة بالمستقبل ولها كل ما للحياة من مميزات تسمو بها على الجمود والموت
- ملامح الأرواح التي تتحدث عنها هي ملامح هذه الكهرباء. . .(336/41)
- ولم لا؟ فهناك إنسان قوته ألف شمعة، وهناك إنسان قوته خمس شمعات، وهناك إنسان كهرباؤه مائة فولت وهناك إنسان كهرباؤه عشرون. وهناك إنسان كهرباؤه مستقاة من دينامو، وهناك إنسان (ببطارية)، وهناك إنسان كهرباؤه صواعق، وهناك إنسان كهرباؤه شرر. . . وهناك وهناك. . . وكل هذا يحسه الممثل المجيد ويستطيع أن يقلده. . .
- فإذا قصرت قوة الكهرباء في الممثل عن قوة الشخص الذي يريد أن يمثله فماذا يصنع؟
- لا يمكن أن يحدث هذا إلا إذا أراد الممثل أن يقلد طفلاً صغيراً. . . وكلما كان أصغر كان تمثيله أصعب
- ومعنى هذا أن في الطفل كمية من الكهرباء أوفر مما في الكبير. . .
- لا. وإنما معناه أن درجة وضوح الروح في الطفل أكبر منها في الكبير. فالطفل إذا فرح ظهر عليه الفرح فياضاً جارفاً، وهو إذا غضب لم يمكنه أن يكتم غضبه وإنما أرسله قوياً عنيفاً وهذا شيء لا يقوى عليه إلا هو أو ممثل فيه من هذا الوضوح ما في نفوس الأطفال. وهذا الوضوح الذي يستوجبه التمثيل، وهذه البراءة التي تستلزمها المحاكاة هي التي تحول بين النساء وبين النبوغ في هذا الفن. . . إلا النادرات النوادر منهن. . .
- ولماذا؟
- لأن النساء لا يعشن على الفطرة مطلقاً وإنما كل منهن تمثل في حياتها دوراً خاصاً
- بل أدواراً
- لا. . . لو أن النساء كن يمثلن أدواراً مختلفة لقلنا إنهن قادرات على التمثيل، ولكن هذه الأثواب المختلفة التي تبدو عليهن إنما يلبسنها في دور واحد يظللن يمثلنه طول الحياة وهو دور حواء
- وهل سيطلب المسرح منهن أو السينما أن يمثلن دوراً آخر
- نعم، والمشكلة هنا أصلها أن الذين يؤلفون الروايات رجال، والرجل مهما ألم بنفس المرأة ومهما أحاط بها فهو لا يرضى أو لا يستطيع أن يظهرها في تأليفه على صورتها الطبيعية، وإنما يكتب لها عادة صورة أقرب إلى الروحانية من صورتها، وهذه الروحانية أمر صلة المرأة به صلة بعيدة ولذلك فإنها لا تدركها الإدراك التام ولا تخرجها الإخراج الصحيح(336/42)
- فهو عيب الرجال الذين لا يطبقون أدبهم على الواقع. . .
- إنه العيب الذي ينزعون إليه بأدبهم وفنونهم محاولين به أن ينقذوا الحياة من شر الواقع. . .
- ولكن لماذا نقول إن صلة المرأة بالروحانية صلة بعيدة
- لأن المرأة تبدأ في صناعة التمثيل من سن مبكرة فالتمثيل عونها على الإغراء، وهو ستارها، وهو سلاحها. . . وكي أثبت لك ما أقول أسألك كم مرة مثلت النساء في السينما مريم العذراء وجان دارك مثلاً وكم مرة مثلت النساء في السينما كليوباترا؟ إن مريم العذراء لم تمثلها إلى اليوم ممثلة وجان دارك مثلتها ممثلة فرنسية لشركة باتيه منذ خمسة عشر عاماً على ما أذكر. . . أو أكثر. . . أما كليوباترا فقد مثلتها ممثلات كثيرات وفي أوقات مختلفة. . .
- وعلى أي شيء تستدل بهذا؟
- أستدل به على أن النساء أقرب إلى كليوباترا منهن إلى جان دارك ومريم العذراء
- ولكن لمريم العذراء قدسية لا تحب شركات السينما أن تمسها
- لقد مثلت شركات السينما المسيح نفسه. . .
- طيب. . . وجان دارك هذه لم تكن امرأة وإنما كانت رجلاً. . .
- إنها التي بذلت نفسها في سبيل وطنها. . . أنا معك لم تكن امرأة
عزيز أحمد فهمي(336/43)
رسالة العلم
أرقام تتحدث وتنبأنا بقصة الإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
- 2 -
من تجارب ميلكان - رسالته الشائقة يطالعها في الطبيعة -
رقصة الإلكترونات وحركاتها الثابتة - مليكان كشامبليون في
تعرفه على اللغة الهيروغليفة - رقصة أخرى للجسيمات
بكشف عن مغزاها جان بيران
لا بد أن يكون قد أستشعر القارئ عظم المعنى الذي أدته هذه الرسالة، رسالة الجسيمات التي علقت بها الإلكترونات، ولا بد من أن يكون قد فطن إلى مبلغ الدقة الذي يُظهر جلال هذه التجارب الرائعة لمليكان التي ذكرناها في مقالاتنا السابقة، وهي التي حصل فيها على إلكترون حر واحد محمول على جسيم دقيق يتحرك في غرفة صغيرة، وما على القارئ إلا أن يستدرك في ذهنه أمراً سبق أن ذكرناه ليتأمل مقدار ضآلة الإلكترون الذي هو أصغر ما نعرفه من الوحدات المادية والكهربائية فيذكر أن ذرة الهيدروجين التي هي واحد على ألف مليون المليون من الجرام تكبر الإلكترون بحوالي ألفي مرة، وللقارئ بعد ذلك أن يتخيل مقدار صغر الإلكترون الذي يصعب استيعاب مبلغ ضآلته، ويذكر أن هذا الإلكترون بذاته هو الذي فصله مليكان وتحقق من وجوده حراً على هذا الجسيم طوراً يعلق به وتارة ينفصل عنه، ولا يسع القارئ مع دهشته إلا تصديق الحوادث بعد البراهين التي أدلينا بها والتي يثبت منها أنه كان يعلق بالجسيم إما قدر محدود واحدا أو قدران أو ما يزيد من الأقدار الصحيحة، ولكن لا يمكن أن يعلق به قدر ونصف القدر أو قدر وثلثان. كسور هذا القدر وأجزاء هذا الإلكترون غير موجودة، وهي حالة تشبه بالضبط تلك التي ذكرناها من قبل عن بعض المحال التجارية في باريس ولندره التي لا تبيع الأشياء إلا بأقدار معلومة هي ضعف أو أضعاف قدر أولى معين، فهي لا تبيع مثلاً إلا بخمسة فرنكات أو(336/44)
مضاعفاتها.
وإلا فلماذا لم يحدث مرة واحدة في آلاف التجارب التي أجراها (مليكان) وأجراها العلماء من بعده أن أخذ الجسيم طيلة ارتفاعه تحت تأثير المجال الكهربائي فترة تقع بين فترتين من الفترات التي كانت يختارها الجسيم لذاته ويلاحظها مليكان؟ لماذا تخيَّر الجسيم في الصعود فترات معينة لا تتغير؟
ثمة مخرج واحد وتفسير وحيد للظاهرة المتقدمة، ذلك أن يفرض مليكان فرضين:
الفرض الأول: وجود جسيمات صغيرة كهارب يسمونها ألكترونات يستطيع أن يعلق بالجسيم واحد منها أو اثنان أو ثلاثة أو ما يزيد، ولكن لا ينقسم إلكترون منها ليعلق بالجسيم جزء منه.
الفرض الثاني: أن وزن هذه الإلكترونات صغير بالنسبة إلى وزن الجسيم الحامل لها، وهذا يفسَّر السرعة الثابتة التي يسقط الجسيم بها دائماً عند انعدام المجال الكهربائي، هذه السرعة تتغير متى أخذ الجسيم في الصعود تحت تأثير هذا المجال، بحيث إذ علق بالجسيم إلكترونان صعد بسرعة تعادل ضعف السرعة عندما يعلق به إلكترون واحد، وإذا علقت به خمسة ألكترونات صعد خمسة أضعاف هذه السرعة الخ
ولا يتسع المجال هنا لنذكر للقارئ الذي قصدنا معه التبسيط المعادلات السهلة التي استنتج منها مليكان شحنة الإلكترون، وذلك من حساب المجال الكهربائي وسرعة الجسيم وهذه المعدلات التي استعملها من قبله توسنذ وغيره من علماء معمل كافندش بكامبردج، ولكنا نكرر أن مليكان استنتج هذا القدر الإلكتروني بطريق سهلة يستنتج طالب المدرسة المبتدئ في الحساب العدد خمسة في مثال محلات باريس الذي ذكرناه في مقالنا السابق، على أننا نورد للقارئ أمثلة من تجارب مليكان الأولى منقولة عن نشراته الخاصة:
الزمن مقدر بالثانية الذي سقط فيه جسم معين المدى بين شعرتي المكروسكوب
الزمن مقدر بالثانية الذي صعد فيه الجسم ذاته المدى السابق
13. 6
12. 5
13. 8(336/45)
12. 4
13. 4
21. 8
13. 4
34. 8
13. 6
84. 5
13. 6
84. 5
13. 7
34. 6
13. 5
34. 8
13. 5
16. 0
13. 8
34. 8
13. 7
34. 6
13. 8
21. 9
13. 6
13. 5
13. 4
13. 8(336/46)
13. 4
المسافة بين الشعرتين 0. 5222 س. م
ويلاحظ أنه خلال صعود الجسيم لثالث مرة تغيرت فترة صعوده من 12. 4 إلى 21. 8 ثانية، وهذا يدل على أن هذا الجسيم ذا الشحنة الموجبة أكتسب ايوناً جديداً، ثم أكتسب بعد ذلك ايونات أخرى حافظ عليها طيلة صعوده للمرة الخامسة والسادسة وفقدها في المرة السابعة فعاد إلى فترة من فترات صعوده السابقة وهي 34. 6 ثانية وهكذا، وفي الجدول الثاني تتضح فكرة وجود الشحنات الكهربائية بحالة متقطعة بسبب وجود الإلكترونات.
ويحوي العمود الأول الشحنة المرصودة والعمود الثاني مقدار هذه الشحنات لو أننا استنتجناها نظرياً بضرب عدد ثابت قدره 34. 6 في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4، 5 الخ، وفي العمود الثالث الأعداد الصحيحة التي بضربها في عدد ثابت تنتج أرقام تدل على الشحنات المقيسة.
الشحنة الكهربائية المرصودة
الشحنة المشتركة (4. 917) مضروبة في عدد صحيح قدره 1 أو 2 أو 3. . الخ
العدد الذي يضرب في العدد الثابت (4. 917) فنتج الشحنة المتقدمة
4. 917
1
9. 834
2
14. 75
3
19. 66
19. 66
4
24. 60
24. 59(336/47)
5
29. 62
29. 50
6
34. 47
34. 42
7
39. 38
39. 34
8
44. 42
44. 25
9
49. 41
49. 17
10
53. 91
54. 09
11
59. 12
59. 00
12
63. 68
63. 92
13(336/48)
68. 65
68. 84
14
73. 75
15
78. 34
78. 67
16
83. 22
83. 59
17
88. 51
18
وليس أبلغ من هذه الأرقام التي تحدثنا عن قصة الإلكترون وتعطينا شحنته، إذ يرى القارئ أن ثمة عدداً ثابتاً قدره 4. 917 إن ضربناه في الأعداد الصحيحة 1، 2، 3، 4 حتى العدد 18 في الجدول السابق تنتج الشحنات الكهربائية المرصودة
وهكذا استطاع هذا العالم الكبير الذي يسرنا أن نسمع أنه سيزور مصر قريباً أن يقيس قدر الألكترون، وأن يحصل على جسيمات صغيرة سخرها لتجاربه وأبحاثه جسيمات استوثق بالدليل أن بعضها كان يحمل إلكتروناً حراً واحداً ولا يحمل سواه. وكأني بمليكان في المريخ استطاع وهو فيه أن يعد سكان الأرض من البشر دون أن يكون بحاجة لأن يراهم. ذلك أنه كان أمام أرقام تتحدث وحقائق لا تقبل الجدل، بل أنه كان أمام رسالة علمية عرف كيف يطالع رموزها ويستخلص منها أمراً خاصاً بقصة الوجود، وكان شأنه في ذلك شأن شامبليون الفرنسي عندما استطاع أن يطالع اللغة الهيروغليفية من مجرد معرفته للغتين الإغريقية والقبطية القديمة، وذلك عندما وجد نصاً مكتوباً باللغات الثلاث على حجر رشيد المعروف، وعندما استطاع أن يجد في إطار بيضاوي الشكل اسم (بطليموس) ذلك الاسم(336/49)
الذي فَصَل شامبليون حروفه والذي بسببه قرأ الأسماء (برنيس) و (كليوبترة) و (اسكندر)، وتوصل منها إلى حروف أبجدية أولية ساعدته في معرفة اللغة المصرية القديمة بحذافيرها.
تُرى هل استوعب معنا أسطورة مليكان؟ وهل اطلع فيها على جانب من التطور العلمي وأدرك ناحية من نواحي البحث التجريبي؟ تُرى هل لمس القارئ أمراً خالداً تدل عليه تلك الأسطورة - أمراً في خلوده صورة من صور الأبد تختلف عن صور العاديات القديمة التي تبلى مع كر الزمن: الإلكترون المكون لنا - وجوده - قدره - كل ذلك نشهده في هذه التجارب الخالدة.
وعندما يتغير وجه المدينة، ويرقى الإنسان إلى المدنية أعظم شأناً، عندما ينمو فيه عقل أكثر رجحاناً من عقله الحاضر فتوجد جماعات تتسابق جميعها في سبيل تقدمه بدلاً من أن تتهالك أحياناً على تحطيمه، عندما يأتي عصراً تزدهر فيه دور الكتب والعلم، ويأتي إنسان أعظم، يطالع فيفهم ويتأمل فيُقِّدر، فإنه سوف يرى على ممر الأجيال أسطورة مليكان ويطالعها بين الأساطير البارزة التي يحفظها التاريخ، فإذا حصل هذا القارئ البعيد في الزمن على (بطارية) من صنع يديه، وصنع لنفسه مكثفاً كمكثف مليكان، وغرفة صغيرة كغرفة جهازه، وإذا وضع إزاء هذا ميكروسكوباً في اتجاه عمودي على خط الضوء الواقع على جسيمات دقيقة من الميسور الحصول عليها، استطاع أن يعيد رقصة هذه الجسيمات، واستطاع أن يراها تعلو وتهبط في فراغ الحجرة فيرى رقصات رذاذ الزيت كما تحددها للقارئ البعيد، يرى رقصة الأبد وهي بهذا ثابتة مهما كرَّ الزمن وأينما دارت الأرض، رقصة يلعب الراقصون فيها على أنغام ثابتة ويبدون في ذلك حركات لا يتغير شيء في جوهرها ولا يتعدل حدث في مسارها، وهي رغم الذي ذكرناه لم تكن الدليل الأول والأخير على وجود الإلكترون والتحقق من شخصيته ومن قدره. ثمة طريقة أخرى نلمس فيها هذا الكائن في ثوب جديد وبدليل يختلف عن دليل مليكان السابق.
ثمت شيخ بلغ اليوم السبعين حولاً لا يزال حياً يرزق، متوسط القامة ينتهي وجهه بلحية مدببة وخطها المشيب، قد تركت له الطبيعة التي تفني كل شيء شعره المنتشر كثيفاً على رأسه والذي يكسوه طوله هيبة وجلالاً. ولو أنك جلست ظهراً في أحد مقاهي الحي اللاتيني بباريس مر أمامك هذا الشيخ في تجواله كما يمر أي رجل من الشارع، وهو طوراً لا(336/50)
يعرفه أحد من الجالسين وتارة يشير إليه أحدهم من بعيد قائلاً: (هذا هو (جان بيران) مكتشف شحنة الإلكترون ومحدد عدد - أوفوجادرو). وإذا تركت المقهى ودخلت إحدى المكتبات أمكنك أن تشتري صورته إذ تباع للجمهور كما تباع صور الملوك والفاتحين، ذلك أن بيران من العلماء المعروفين فقد توصل في الوقت ذاته الذي قام فيه مليكان بتجاربه السابقة إلى شحنة الإلكترون وإلى النتائج ذاتها من سبيل جديد يختلف جد الاختلاف عن سبيل مليكان، ويتميز بدقة الموضوع ومهارة الطريقة وبساطة التجارب وقوة الاستنتاج وعظمة الاستقراء، فأنم هو أيضاً أسطورة جديدة نأتي عليها لنكون قد أنصفنا العلم وأرضينا التاريخ، وهي الأسطورة التي وإن كانت تمت فصولها في سنتي 1907، 1908 منتي تجارب مليكان، إلا أن معهد السويد منحه عنها جائزة نوبل في سنة 1929.
تحضرني ليلة في السوربون إذ كانت الساعة التاسعة مساء دخل هذا العالم بعد نيله الجائزة المدرج الكبير ليحدث العلماء والجمهور الباريسي عن أسطورته الخالدة، وتمر بذاكرته الصور العديدة التي عرضها، والجمهور الغفير الذي استمع إليه، هذه الأسطورة أخط فيها على صفحات الرسالة مقالاً أو اثنتين وأعنونها (أرقام تتحدث) وهو العنوان الذي اتخذته لموضع مليكان، ولقد كان في الواقع (بيران) هو أيضاً أمام أرقام تتحدث إليه، وفهم حديثها، واستطاع أن ينقل هذا الحديث إلى الناس، وأن يسطره في حالة مفهومة ومعقولة للأجيال القادمة
لي من هذه الأساطير غاية لقراء الشرق، الأدباء منهم والعلماء والمطلعون، أطمع أن تتعدى الحدود العلمية التي أردنا منها هذا النوع من الكتابة في التبسيط، ذلك أن يستنتج القارئ فوق ما قصدناه من علم أن العمل العلمي ككل عمل سلمي هو حجر الزاوية في مستقبل الإنسان، وأنه خير لسكان هذه المعمورة عن كل ما عداه من الأعمال، فالعلم يحمل في طياته سر الوجود وعليه وعلى المتصلين به تترتب حركة التقدم، وغرضنا أن يدرك القارئ من وقت لآخر أننا مهما أصبنا في هذه الأزمنة من محن فإن أنصار الإنسان موجودون وموجودون دائماً. ثمة أناس حريصون على الميراث العلمي الكبير يشعلون دائماً شمعة المستقبل، وغايتنا أن يدرك القارئ أن الإنسانية تخطو دائماً خطوات جريئة إلى الأمام وأن يلمس شيئاً من هذه الخطوات على حقيقتها فيلمس أثر ما بلغته الفلسفة وما(336/51)
وصل إليه الفكر.
هناك في السوربون استطاع بيران، كما استطاع مليكان في باسادينا وتومسون في كامبردج، أن يتعرف هو أيضاً بطريقته الخاصة الإلكترون، وفي هذه البيئة الجامعية، حيث الحسد أقل خطراً هناك منه عندنا، وحيث الهجوم الخفي لا يعرف طريقاً للدخول، وحيث الجميع يتعاونون على الخير وعلى رفعة حق الإنسان، رأينا (بيران) يحدث العلماء عن قصته مع الذرة والإلكترون في المدرج ذاته الذي رأى باستير وكيري وغيرهم.
من هذا الحديث الذي أصبح ملكا للبشرية، ومن هذه الذكريات العزيزة التي مضى عليها اليوم عشرة أعوام نستملي للقارئ مقالنا القادم الذي يرى فيه كيف عثر (بيران) على رقصة تشبه الرقصة السابقة، وكيف استنتج من طول ملاحظتها قصة خالدة من قصص الوجود، وكيف وضع بهذا حجراً أساسياً في بناء المعرفة.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(336/52)
من هنا ومن هناك
هتلر كما يراه علم النفس
(ملخصة عن (يوروب توفل) باريس)
كثر الكلام عن دكتاتور ألمانيا في هذه الأيام لمناسبة الحرب التي أشعلها في أوربا، والروح التي تسلط بها على البلاد الألمانية، وكثر القول في تحليل تلك العقلية الغريبة التي أورثت العالم كثيراً من النصب، وقد نشرت مجلة (أوروب نوفل) الباريسية حديثاً للعالم النفساني المشهور دكتور (كارل جنج) حلل فيه دكتاتور النازي من ناحية علم النفس فقال: (كان في العصور الأولى البائدة نوعان من الرجال الأقوياء الذين تخضع لهم الجماهير: الرئيس ويمتاز عن سائر رجاله بالقوة الجسدية، والعراف ويكتسب نفوذه عليهم بعقيدتهم فيه).
ولا شك أن بنية هتلر لا توحي بشيء من الصرامة الجسدية. وأكثر ما يلاحظ في أخلاقه هو ذلك المزاج الحالم العجيب، وتلك النظرات السماوية الرهيبة مما يجعلنا ندرجه في صف العرافين.
ولعل تلك النزعة الروحية في هتلر هي التي تحفزه إلى بعض الأعمال التي نراها بعيدة كل البعد عن المنطق والصواب لما فيها من الغرابة والشذوذ. وقد نستطيع أن نقول: إن تسمية الريخ الألماني بالريخ الثالث قد قصد بها إلى معنى روحي خاص. . . إن أحداً من الناس لم يفكر في تسمية إمبراطورية القيصر وليام الثاني: الريخ الثاني.
فاختيار النازي لكلمة (الريخ الثالث) لم يكن يقصد به معنى الكلمة في ذاته، وإنما اختارها النازي لأن كلمة (الثالث) لها معنى روحي يوحي في الباطن إلى القداسة المثلثة.
وقد أخذ الألمان يحيون نوعاً من التقليد تحت اسم (وتان) فما هو وتان؟ هو ألم الريخ، وقد أنشئوا بعض الكتائب تحت اسم كتائب (العاصفة النازية) يعنون العاصفة التي تتسلط فيها الرياح فتقتلع الأخضر واليابس وهي رمز الشر عند البوزيين.
فهذه الرموز والأسرار التي ابتدعها الريخ الثالث قد ساقت الألمان ونبيهم المزعوم تحت لواء الرياح ووراء تلك الشارة التي ترمز إلى معنى الزوبعة بغير وعي لا تعقل نحو ذلك الموقف الدقيق الذي لا يعرف نتيجته أحد.
ويعد هتلر مرآة لما هو مطبوع في نفوس تابعيه، فكأنه الصوت المكبر لما يجول(336/53)
بخواطرهم، وهو يستمد قواه من عقله الباطن الذي يتحول إلى عقل واع يسيطر عليه ويسوقه كيف شاء.
نحن نعرف عقلنا الباطن ولكننا لا نطيعه، ولكن هتلر يصغي إليه ويطيعه طاعة عمياء.
إن الألمان في موقفهم الحالي كاليهود في العهد القديم. فمنذ اليوم الذي هزموا فيه، وهم ينتظرون مسيحاً. فلما وجدوا هتلر تعلقوا به وألقوا إليه القياد. وقد جعل رسالته إليهم أن يوجد بينهم ويقودهم إلى الأرض الموعودة. ومن هنا نستطيع أن نعرف السبب الذي من أجله يحارب النازي كل ديانة لا تتفق ومبدأه.
الألمان قوم وجدانيون، يندفعون في كل شيء نحو غاياته. وقد كان يسرهم أن يظهروا في ثوب (الجنتلمان) الإنجليزي فنادى بهم هتلر: لقد آن الأوان لنكون ألمان. . .
إن هتلر كاهن وعراف، فإذا بحثنا عنه كرجل فقد لا نجده في الواقع. هو شتى أحلام وأحوال تكونت جميعها فأوجدت رجلاً
الغازات السامة منذ الإغريق
(عن (لارفي بلج))
قال أحد مؤرخي الإغريق الأقدمين في سفر من مؤلفاته: (إن الأعداء في أثناء حصارهم لمدينة (ميجارا) عام 470 قبل الميلاد حاولوا أن يغزوا المدينة ويستولوا عليها بتسليط الدخان، فحفروا حولها الأسوار وملئوها بالحطب والكبريت والقار؛ ثم أشعلوها حول المدينة، ولكن الدخان ارتد إليهم لتغير في مجرى الرياح فأضطرهم إلى الهزيمة والفرار.
ولكنهم أعادوا هذه التجربة في حصار (بلاتا)، وفازوا في هذه المرة بالاستيلاء على المدينة إلا أنهم ما كانوا ليدركوا أن أكسيد الكربون هو الذي ساعد على نجاحهم لا مجرد الدخان.
وقد استخدمت هذه الطريقة نفسها في العصور الوسطى؛ ويقال: إن أحد الأعداء كان يسكن في برج عال، فوصل إليه الدخان في قلعته وقضى عليه. إلا أن هؤلاء الذين كانوا يستخدمون هذه الوسيلة لم يدركوا أن الموت كان متسبباً عن أكسيد الكربون وكانوا يفضلون أن يدسوا في نيرانهم الكبريت والنا وهما يلتهبان حتى في الماء ويسمونها (نار الإغريق)، وكانت (نار لإغريق) هذه معروفة في عهد الإمبراطورية الرومانية،(336/54)
والإمبراطورية البيزنطية، والعصور الوسطى، وعصر النهضة.
وقد أشار أحد مؤرخي العرب في القرن الرابع عشر إلى إحراق الأفيون وإضعاف العدو بما ينبعث منه من الأبخرة السامة وقد وجد في مكتبة المواد السامة في برلين كتاب مؤرخ في سنة 1437 يعطي فكرة عن صنع القنابل السامة المحتوية على الزرنيخ. وقد أدرك المتقدمون أن بعض الغازات تحوي ثقلاً أخف من الهواء، ورأى العالم اللتواني (سيمونكسيس) في أواسط القرن السابع عشر أن يجعلها في ثقل الدخان الذي ينبعث من الحشائش المحترقة، ويزعم أنه بذلك يستطيع أن يخلق جواً ساماً لا ينجو منه إنسان.
وإلى هنا تنتهي المرحلة الأولى من تاريخ الغازات السامة، وإذا كنا لم نر أحداً أقدم على استعمالها حتى عام 1914 فليس ذلك لأن العاطفة الإنسانية هي التي وقفت دون ذلك، ولكن المحاربين كانوا يخشون عند إلقاء القذيفة السامة، أن يصيبهم دخانها كما يصيب أعداءهم وقد قدم كيميائي إنجليزي إلى نابليون اختراع قنبلة سامة فلم يوافق عليه. ثم كثرت المخترعات التي من هذا النوع وتعددت في القرن التاسع عشر، وفي سنة 1912 أجمعت جميع الدول في مؤتمر لاهاي على عدم استعمال الغازات السامة، ولم تسمح باستعمال شيء منها على الإطلاق، وقد أباحت استعمال الغازات التي تسيل الدموع لأنها لا تسبب للإنسان علة يعسر شفاؤها
ولكن ألمانيا استعملت الغازات في أواخر أكتوبر سنة 1914 مناقضة بذلك تعهدها في مؤتمر لاهاي. إلا أن القذائف التي استعملتها لم تف بالمرام، فقد كانت ضعيفة القوى سريعة الزوال فعدلت عنها بعد عدة محاولات، ولكنها عادت إلى استخدامها في فبراير 1916.
وقد أحرقت ألمانيا في ثلاث سنوات ونصف 75. 500 طن من الغازات السامة، وقد بلغ عدد الذين أصيبوا من الجنود الفرنسية بهذه الغازات 507. 000 جندي، وقد ثبت أن 27 % من الجنود الذين فقدتهم الحملة الأميركية في الحرب ماتوا بالغازات السامة
دراسة التوأمين
(ملخصة عن مجلة (بارييد))(336/55)
بدأت في أمريكا في السنين الأخيرة دراسات وأبحاث جديدة في علم النفس، وقد بذل الباحثون مجهوداً عظيماً في تحليل نفسية التوأم، واكتناه ما فيها من الأسرار والعجائب. وهي نفسية معقدة حار فيها الكثير من العلماء الذي قضوا حياتهم في دراسة الطفل. إذ أن حياة التوأم تختلف من الناحية العقلية والنفسية عن سائر الأطفال.
وتنقسم التوائم إلى نوعين، التوائم المتشابهة وهي التي يتشابه فيها التوأمان حتى يصعب على الإنسان التفريق بينهما، وهذان التوأمان يتكونان في الرحم من بويضة واحدة. تنشطر بعد أن يدركها النمو، إلى شطرين كل منهما يكون إنساناً منفصلاً عن أخيه
أما النوع الثاني فلا تكون المماثلة فيه بين التوأمين، إلا كما تكون بين سائر الأخوة الذين يولدون لأم واحدة. وهما على هذه الحال يتكونان من بويضتين منفصلتين تنموان - كيفما كانا - في وزن واحد.
وقد وضع الأسس العلمية لدراسة التوائم سير فرنسيس جالتون (1822 - 1911) واضع علم الوراثة، وقد أمد بمباحثه القيمة في الانتقال الوراثي، من جاءوا بعده بالحقائق الهامة، التي استطاعوا بواسطتها أن يجنوا أحسن الثمرات.
ومن الحوادث التي تسترعي الأنظار في هذا الباب: أن أختين توأمين إحداهما تعيش في باريس والأخرى في مرسيليا، أصيبت الأولى بتدرن في موضع في الرئة فأرسل الطبيب إلى زميل له ليكشف على الأخت الأخرى، ولشد ما كانت دهشة الطبيبين حينما تبين لهما أنها أصيبت بالتدرن في نفس الموضع الذي أصيبت به الأولى. فكان الأختان توأمين متشابهين، وقد أثبتت التجارب أن التوائم المتشابهة تصاب بالتدرن الرئوي والتهاب الأذن والحمى القرمزية في وقت واحد. . إلا أن هذه الحالة كانت أولى ما عرف في اتفاق التوأمين في موضع الإصابة وفي الوقت الذي حدثت فيه.
وقد يتفق التوأمان (المتشابهان) في الاتجاه الإجرامي إذا كانا من المجرمين، فيأتي أحدهما بنفس الجريمة التي يأتيها الآخر وقد يكون في معزل عنه منذ أمد بعيد، وقد أثبتت التجارب وقائع كثيرة من هذا النوع.
ومن التجارب النفسية المعروفة اختبار الورقة والحبر، فيلقى بقليل من الحبر على الصفحة من الورق وتطوى ثم تفتح. ويسأل الشخص الذي يراد اختباره عما قد تذكره به فيفسرها(336/56)
كل إنسان تفسيراً يختلف عن الآخر، فبعضهم يقول مثلاً إنها تشبه الثعبان، والبعض يقول إنها تذكر بالطائر أو المنزل أو الإنسان أو ما إلى ذلك. ولكن التوأمين المتشابهين، يجيبان في الغالب إجابة واحدة. فبقعة الحبر المرتسمة تثير في رأسيهما صورة واحدة في غالب الأحيان.(336/57)
البريد الأدبي
خطة إعداد النشء
كنا ضيفاً على بحر الروم، وكانت (للنيل) موضع رعاية الأمواج البيض القِصار وهُنَّ صواحب بطشٍ في غالب الأمر وأكثر الحال
جلس قوم بعضهم إلى بعض يتحدثون عند صدر الباخرة (أو مَرنَحتِها، كما كانت العرب تقول)، على عادة الذين يجتمعون في رحلة: معرفة مستطرفة أو لقاء على غير وعد. وانطلق الحديث في شؤون مصر؛ وركزه من ركَزَه في وجوه الإصلاح، حتى انساق إلى قصة التعليم وتنشئة أبناء الأمة. وإذا رجل، خافض صوته، قاصد في الإشارة، يندفع في حديث انعطفت إليه أذني. قال:
(ما أظن أحدكم يشك في أنّ وجهة التعليم الغالبة عندنا إنما هي إخراج كتبة وموظفين. وأما علة ذلك فكذا وكذا من الأمور المتصلة بالسياسة المفروضة أول الأمر، يوم كنا لا نملك لأنفسنا من النفع شيئاً. ثم ذهبت العلة الأولى، ولكن الآثار بقيت من طريق تسلط العادة وتجمد المنهج. ومن هنا اختل التوازن: تكسرت القيود الاجتماعية، فانفسحت مسالك الحياة وانبسطت مرافق العيش - والمدارس لا تنفك تخرج طوائف متماثلة من بغاة الرزق الهيِّن، لفتور في عزماتهم، وقصور في مداركهم. ذلك الرزق الذي تناله وأنت جالس إلى منضدة عليها ركام من الملفات والأضابير، فلا طموح ولا اعتماد على النفس ولا رغبة في التميز عن النظراء باقتحام باب من أبواب الاحتراف الصعب، وشق أفق من آفاق الارتزاق. . .
(بقيت هذه الآثار، على سعي أولى الأمر في محوها. وسبب ذلك أن الإصلاح، في مثل هذه الحالة لا يكون من باب التصور والتخيل. وشتان ما الإزماع والإنجاز. فعلى المشرف على التعليم أن ينظر في وجوه الحياة ويتتبع موارد الكسب. والحياة تقوم، أول ما تقوم، على المادة؛ وموارد الكسب إنما هي السوق على تفاريقها وتفاريعها. وهكذا تصح الوجهة إذ تعلم المقصد.
(وإذا قلت السوق عنيت التجارة والصناعة والزراعة، وما ينطوي تحتها جميعاً أو يأخذ مأخذها. والمدارس المصرية التي تعلِّم هذه الفنون الثلاثة قليلة، ونسبتها إلى المدارس التي تخرج الكتبة والموظفين حقيرة. ومن هنا ترى أن التوظف في مصر سيعاني ما يقال له:(336/58)
(التضخم) من وجهٍ، ويعجز عن ضم جميع طلابه من وجهٍ آخر. وينشأ عن هذا أمران: الأول بقاء سلطان الموظف البليد الحركة، والثاني البطالة. وينضاف إلى كل ذلك أن مرافق الحياة الاقتصادية مصيرها الانحلال أو تخرجَ من قبضة المصري إلى الأجنبي، بل قُلْ: أو تبقى في قبضة غير المصري.
(ثم إنه يحسن بنا أن نفسح من مجال السوق نفسها، فنشق سبلاً جديدة ثم نُعدّ لها الناس في المدارس؛ ولا يكون إلا بمعاونة وزارة المالية ووزارة التجارة والصناعة. وعلى هذا النحو نمطّ دائرة الحياة الاقتصادية ونوزّع همم النشء، فلا تنحصر وجوه النشاط في مصارف معلومة مربوطة، ولا تنقلب المنافسة إلى مناوأة. وفي ذلك كله أسباب غنى للبلد فضلاً عن استغناء.)
قال الرجل مقاله السديد، ثم نهض ونهضنا إلى الغداء فملت إلى صديق لي فسألته: من الرجل؟ فقال: الدكتور السنهوري. واتفق لي أن جلست إليه بعد ذلك، فإذا هو على أوفر علم وألطف أدب.
وجمعني بالسنهوري بك مجلس جِد، لأسبوعين مضيا. وجرى الحديث على خطّة وزارة المعارف في التعليم. فنطق الدكتور السنهوري - وهو الآن وكيل الوزارة - بما كان نطق به و (النيل) تحملنا إلى شواطئ أوربة. فأيقنت أن هذه الخطة مما ظفر بالرؤية والتثبت؛ فما هي بالمرتَجلة ارتجالا ولا المبتدعة بحكم العمل.
وقد بدا لي أن أسأل وكيل الوزارة في شأن الثقافة، وما تكون حالها إذا هو صرف همه إلى وجوه الحياة الاقتصادية. فقال: إني أدرك ما وراء سؤالك من القلق لأحب الأشياء إليك وأعلاها عندك. فلا عليك، لا عليك! إن الثقافة لا تزال موضع عناية. على أننا لابد لنا من السهر على مستقبل العيش من بسط مرافق الحياة المادية وإعداد النشء لها. هنا سهر وهنالك عناية؛ والتفاوت بينهما في الدرجة، لا في المرتبة، على قول الفلاسفة
قلت: لأهل الثقافة إذن أن يرقبوا الإصلاح هنالك. فهل تنظر الوزارة في إخفاق المعهد الملكي للموسيقى العربية، وتراجع طريقة إنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وتسال كلية الآداب عن صحة ما يقال فيها، وتردّ بعض كبار موظفيها عن الاستبداد بتقرير الكتب، وتجعل لتصرّف بعضِ موظفيها من الأجانب حداً واجباً (فلا تعود قصة (نفائس دار الآثار(336/59)
العربية): (الرسالة) رقم 304 و 306، ولا قصة المدرس الفرنسي: مازويل الذي نال - فيما قيل لي - شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس على حساب الحكومة المصرية)
ذلك قليل من كثير. وأجلّ من ذلك شاناً أن تصلَح طرائق التلقين فيخرج النشء للقراءة والتطلع والتفكير والمرح، لا للكسل والبلادة والتقبض. واظنني فصّلت ذلك في بحث نشرته (مجلة الدراسات الإسلامية) في باريس (1936)؛ ولا حاجة بمثل عبد الرزاق السنهوري بك إليه.
بشر فارس
النقد الأدبي
قراء (الرسالة) يذكرون مقالي في نقد خطاب العرش من الوجهة الأدبية، ويذكرون أن بعض الجرائد والمجلات قالت إني تخطيت الجانب الأدبي إلى شؤون وطنية ودستورية وتاريخية، ومن الصحفيين من أشار إلى أني موظف بوزارة المعارف، وهي إشارة لها مدلول!
فهل أستطيع أن أدافع عن نفسي؟
هل أستطيع أن أقول إن النقد الأدبي لا يُقْصَر على المفردات اللغوية كما قالت إحدى المجلات؟
النقد الأدبي هو درس الصلات بين التعابير والأغراض، فلو درست نصاً فقهياً لكان من واجبي أن أنظر إلى المعنى من ناحية فقهية، ولو كان النص فلسفياً لكان من واجبي أن أنظر إليه من ناحية فلسفية، ومع ذلك أظل في حدود النقد الأدبي
وخطاب العرش بطبيعة موضوعه يتعرض لشؤون وطنية ودستورية وتاريخية، فنقده من وجهة أدبية يستوجب أن ننظر فيما احتواه من هذه الشؤون، فكيف يستجيز بعض الناس أن يقول إني اتخذت من النقد الأدبي ستاراً لأغراض سياسية؟ ومعاذ الوطن أن أتبرأ من قول الحق، ولكن يجب أن أنصف نفسي فأقول إني لم أتجاوز الحدود الأدبية في نقد خطاب العرش، فمن طاب له أن يقول إني موظف بوزارة المعارف ليحدَّ من حرية الفكر فليمض(336/60)
في طريقه وهو مغفور الذنوب، لأنه على كل حال مواطنٌ عزيز.
وهنا مسألة يجب النص عليها لأهميتها من الوجهة القومية:
إن مقالي في نقد خطاب العرش مرَّ على الرقابة بوزارة الداخلية فأجازت نشره وهي تعرف أني موظف بوزارة المعارف، فما معنى ذلك؟
معناه أننا في مصر وطن الرأي والحرية ومَشرِق النقد الأدبي
فإن قيل إن هذه أول مرة يُنقد فيها خطاب العرش من الوجهة الأدبية فسيقال أيضاً إن هذا تقليد يصدر أول مرة عن وطن مصطفى كامل ومحمد عبدة وسعد زغلول.
والصحفيون الذين أرادوا أن يعدّوا هذا المقال من ذنوبي قد
نسوا أني زميل قديم، له عليهم حقوق، وفيهم من يذكر أن
(الموظف) هو أيضاً وطنيٌ له أهداف سامية، وبعضهم يحفظ
الآية الكريمة: (ولا يَجرِ منَّكم شَنَآنُ قوم على أن لا تعدلوا)
زكي مبارك
في كلية الآداب
في منذ أسابيع أقرأ (الرسالة) الغراء حملة على مدرس في كلية الآداب، حمل لواءها أول من حمل صديق للدكتور بشر فارس على لسان الدكتور بشر، وتلاه من بعد (جامعيان) آخران. ولا يعنيني من هذه الحملة إلا أن أراجع الوقائع التي سردها الدكتور بشر فارس نقلاً عن صديقه، ثم ما ذكره الآخران من وقائع أخرى. وإلى الدكتور بشر أولاً أسوق الحديث:
ذكر في حديثه عن هذا المدرس مسالتين: الأولى تتصل بمكتبة الجامعة؛ والثانية تتصل باستقدام الأستاذ الدكتور سالومون بينس
أما المسألة الأولى وما ذكره في شأنها من أن هذا المدرس (يتلطف ليظفر بإدارة شؤون مكتبة الجامعة) فلعله قد اقتنع من الحديث التليفوني الذي ساقه إليه أحد كبار الأساتذة في كلية الآداب، وهو ولي الأمر فيما يتصل بشؤون مكتبة الجامعة الخاصة بكلية الآداب، إن(336/61)
هذا (التلطف) نفسه لا أساس له من الواقع، وإنه من اختراع مخيلة صديقه الخصبة الجريئة. بل إن المسألة على العكس من ذلك تماماً. فإن صلة هذا المدرس بمكتبة الجامعة صلة يجب أن نشكره عليها كل الشكر، فقد أدى لمن يريدون البحث في المسائل الإسلامية أجلّ الخدمات دون أدنى مقابل. ويكفي أن تعلم أنه خلق قسماً خاصاً في المكتبة يجمع كل ما تحتويه من كتب إسلامية عربية أو غربية، وأنفق جهداً ضخماً في مساعدة القائمين على شؤون هذا القسم من موظفي المكتبة من حيث جمع الكتب وتبويبها ووضع الفهارس لها والإرشاد عن مظان المسائل الإسلامية المختلفة. كل هذا الجهد الهائل قد بذله دون أن يؤجر عليه، على أي نحو من الأنحاء. فصلته بالمكتبة إذاً صلة فضلٍ عليها لا صلة فضول، صلة يجب أن يسجل له الباحثون في المسائل الإسلامية من أجلها أعظم الشكر
وفيما يتصل بالدكتور سالمون بينس يجب أن تقرر أولاً أن هذا المدرس في كلية الآداب لم يقترح مطلقاً على الكلية أن تستقدمه. بل إن صلته بالدكتور بينس منقطعة منذ أكثر من سنة ونصف، وليس أدل على تهافت كلام صديق الدكتور من ذكره أن قسم اللغة العربية قد نشطت آذانه لسماع اقتراح هذا المدرس. فمثل هذا الاقتراح لا يتعلق بقسم اللغة العربية، وإنما بقسم الفلسفة، لأن الدكتور بينس يشتغل بالفلسفة الإسلامية فحسب، وليست له مشاركة في أية ناحية أخرى من نواحي الاستشراق؛ فإذا استقدمته كلية الآداب، فذلك لكي يكون مدرساً للفلسفة الإسلامية بقسم الفلسفة.
هذا هو الواقع في مسألة صلة هذا المدرس بالدكتور بينس وما قيل عن اقتراحه المزعوم.
أما مسألة استقدام الدكتور بينس فهي في ذاتها أمنية تجيش في نفوسنا نحن المدرسين المصريين المستقلين بالفلسفة الإسلامية وليس أدعى إلى اغتباطنا من أن يأتي إلى الكلية مدرس في تدريسه أعظم الفائدة للطلاب، ونهوض بمناهج الدرس للفلسفة الإسلامية. في كلية الآداب نهوضاً كبيراً. فالدكتور بينس مستشرق ممتاز، وقطب من أقطاب الجيل الذي بدأ يتبوأ مركز الصدارة في حركة الاستشراق بعد أن انقضى الجيل السابق من المستشرقين أو كاد بعد موت المرحوم نلينو. وأن أعجب لشيء فعجبي لجهل الدكتور بشر فارس بمكانة بينس مع أن الدكتور بشر فارس ممن لهم إلمام بحركة الاستشراق غير قليل، وأغلب الظن أنه إنما تجاهل بينس - ولم يجهله - حرصاً على إرضاء شهوة الصديق أن(336/62)
ينال من هذا المدرس في كلية الآداب. فيكفي أن يذكر المرء من أبحاث الدكتور بينس (رسالته في مذهب الجوهر الفرد عند الإسلاميين) فهذا البحث من أحسن البحوث التي كتبها المستشرقون في الفلسفة الإسلامية على الإطلاق؛ وسيرى ذلك قراء العربية حينما ننتهي من طبع ترجمتنا لهذه الرسالة. هذا ولم نذكر مقالاته العربية التي تظهر في مجلات المستشرقين وخصوصاً في مجلة (الحضارة الإسلامية) التي يصدرها بعض الهنود المشتغلين بالدراسات الإسلامية وهذه الأبحاث التي كتبها بينس تمتاز بالطرافة في النتائج التي يصل إليها، والاستقامة في مناهج البحث الفيلولوجي والعمق في فهم المذاهب الفلسفية الإسلامية وغير الإسلامية
فاستقدام الدكتور بينس للتدريس في كلية الآداب فائدة كبرى، وأمل اعز ما نرجوه من أجل مصلحة الدراسة في الكلية أن نراه عن قريب وقد تحقق.
ومن هذا كله يتبين أن الحال في المسألتين اللتين ذكرهما صديق الدكتور بشر ليست كما زعم الصديق. بل هي على العكس من ذلك تحملنا على تسجيل الشكر لهذا المدرس في كلية الآداب أما المسائل التي ذكرها الجامعيان الآخران فلا تستحق منا أن نرد عليها بأكثر من قولنا إن ما ذكر باطل كله. فالمرتب الذي يتناوله هو المرتب العادي الذي يتناوله أصغر المدرسين الأجانب بالكلية، وقصة الخمسمائة الجنيه قصة أقل ما تستحقه هو السخرية لبطلانها، وفي هذا فليرجع إلى كلية الآداب من شاء.
وأخيراً أقول لمن تحدث عن الحق منهم كما أقول لزميليه الآخرين: اتقوا الله في الحق أمام ضمائركم، قبل أن تدعوا اتقاءه فيه أمام الناس حتى لا تضطروا إلى الدفاع عن أجنبي مواطناً لا يؤذيه شيء قدر أن يلجأ إلى الدفاع عن أجنبي بازاء مواطنين
عبد الرحمن بدوي
المصريون في ميدان الثقافة
اطلعت في مجلة الرسالة بالعدد 333 على كلمة قوية على هدوئها للدكتور بشر فارس تحت عنوان (في كلية الآداب) أثار فيها مسائل هامة تمس الحياة الثقافية عندنا. واطلعت بعد ذلك في مجلة (المصور) تحت عنوان (النبوغ في مصر. هبوط سعره في بورصة(336/63)
الحكومة) على بيان للأستاذ فكري أباظة ذكر فيه حقائق خاصة بضياع حقوق الجامعيين من الشباب المصري. وقد تلت كلمة الدكتور بشر في الرسالة كلمة أخرى لزميل (جامعي) بيَّن فيها كيف يحظى المدرس الأجنبي بما يعز على المدرس المصري في بلده، ثم كلمة ثانية تعززها بقلم (جامعي آخر).
ولقد سمعت - حين كنت بباريس - أن بعض أولئك الأجانب - وكان قد قضى بمصر سنوات - لما سمع لأول مرة قدر المرتب الذي عرض عليه لم يصدق أذنيه؛ فلما رأى كشف المرتبات كاد لا يصدق عينيه! ومما لا نشك فيه أنه لو عرض على أمثاله نصف المرتب لقبلوه ولكانوا هم الفائزين. هذا مع العلم بأن في المدرسين والأساتذة الأجانب نخبة لا ينكر فضلها وعلمها عندنا جميعاً.
كيف يرفع المستوى الاجتماعي والأدبي عندنا وبين قادة الثقافة من ينتقص من أقدار مواطنيه وينظر إلى المتعلمين الأكفاء منهم كأنهم من طينة دون طينة الأجنبي إطلاقاً. . . أما تعلَّمنا لغة الأجانب على طول الاحتكاك بهم، أعني لغة الوطنية الصحيحة لا لغة الكرم والضيافة والدعاوى العريضة التي لا تجدي؟
ثم لِمَ تنفق أموال الدولة على أعضاء البعثات الذين يقضون في الخارج سنين أكثر أيامها جهد وكد، فإذا عادوا إلى الوطن أشد ما يكونون حماسة لخيره وتلهفاً إلى العمل لخدمته، رأوا زملاءهم الأجانب أوفر حظاً.
رحم الله شوقيَّاً إذ قال:
إحرام على بلابله الدو ... ح حلال للطير كل جنس؟
جامعي ثالث
حول المصحف المحرف
جاءنا من الأستاذ شيخ المقارئ ما يأتي:
اطلعت على الكلمة المنشورة بالعدد رقم 334 من الرسالة
الصادر في 27 111939 بشأن أخطاء في مصحف يسمى
(التنزيل الرباني): طبعه عبد الرحمن أفندي محمد - ورداً(336/64)
عليها أفيد أن المصحف المذكور قام بطبعه ونشره ذلك الملتزم
بدون مراجعة ولا إذن. وقد سبق لنا رفع أمره إلى مشيخة
الأزهر في شهر يناير سنة 1939، وطلبنا منها إلزام ناشره
بإصلاح أكلشيهاته ونسخه التي طبعت عليها مع منعه من
الاتجار بها بدون إصلاح. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الضباع
شيخ المقارئ
شمال أفريقيا والأستاذ الحصري
يقول الأستاذ الحصري في مقاله (بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية) الرسالة 328 - (إن العالم الإسلامي يشمل الأقطار العربية وتركيا وإيران والأفغان وتركستان مع قسم من الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس وأفريقيا الشمالية مع قسم في أفريقيا الوسطى)
فالأستاذ الحصري يوهم أن الأقطار العربية هي فقط مصر والشام والعراق والحجاز واليمن أما أفريقيا الشمالية التي تبدأ من تونس وتنتهي بمراكش فهذه عنده بلاد إسلامية وليست بعربية. فهل هذا هو الحق يا سيدي الأستاذ؟
لقد انصرم أكثر من اثني عشر قرناً على تعريب أفريقية الشمالية ودلت الحوادث على أن جريان الزمن لا يزيدها إلا تمسكاً بعروبتها وقوميتها؛ ولكن بعض إخواننا في الشرق ينكرون - عن غير عمد - هذه الحقائق البسيطة.
والأستاذ الحصري نفسه زار شمال أفريقيا منذ أشهر قلائل ووصل إلى المغرب فتطلعنا لرؤيته ورجونا خيراً من زيارته للقطر العربي الذي تجهله الأقطار العربية وبحثنا عنه في كل مكان فما أسعدنا الحظ بلقياه.
سلوه هل زار كلية القرويين وشاهد مكتبتها العربية؟ سلوه هل طاف بمدارس فاس الأثرية(336/65)
وشاهد ما تركته يد العرب بجدرانها؟ سلوه هل زار قصور إسماعيل بمكناس ومنارة الكتبية بمراكش ودار الآثار العربية بفاس وهو مدير لمثل هذه الدار ببغداد إن لم تخطئني الذاكرة.
سلوه بالله ماذا أفاد من رحلته إلى (مجاهل!) أفريقيا الشمالية كان يمكنه أن يعلم شيئاً كثيراً عن عربية هذه البلاد لو اتصل بعلمائها وأدبائها واختلط بالشعب الذي يود التعرف بأمثاله من نبهاء الشرق.
وعلاوة على ذلك فإن المغرب وهو جزء من أفريقية الشمالية يمتاز في عربيته بوحدة دينية مذهبية لا تجدها في غيره من الأقطار العربية كمصر أو سوريا أو العراق؛ فليس في المغرب أقليات دينية سوى أقلية ضئيلة من اليهود الذين يتكلمون باللغة العربية. وسوى أقلية تافهة من الأجانب الذين نزلوا المغرب بعد الحماية
أما الوحدة المذهبية فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وليس فيه طوائف دينية كالرافضة أو الأباضية أو غيرهما من بقية الفرق الدينية التي توجد كثيراً في بلدان الشرق العربي والإسلامي.
الحق أن النزعة القومية المتأصلة في دمائنا هي التي تضطرنا أحياناً لإصلاح أغلاط إخواننا العرب فينا، فمتى يكون بين البلاد العربية سفراء سياسيون وثقافيون يقومون بربط العلاقات الثقافية والسياسية بين أبناء البلاد العربية؟
(فاس)
أبو الوفا
الاحتفال الرسمي بضريح أبي العلاء
روت صحف سورية أنه احتفل بالمعرة بوضع الحجر الأساسي لضريح الفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري؛ وقد حضر هذه الحفلة رجال الحكومة وافتتحها السيد طالب الحراكي بكلمة ترجمها إلى الفرنسية السيد زكريا شكري وقد تقدم رئيس المديرين والمسيو هوتكلوك فوضعا الحجر الأساسي وألقى رئيس المديرين خطاباً تكلم فيه عن عبقرية أبي العلاء وأن الأمة التي أنجبته تنجب مثله ما دامت مياهها مياهها وسماؤها سماءها، ثم شكر رجال فرنسا والمندوبين وكل من شجع الحكومة بحضور هذه الحفلة. ثم وقف المسيو هوتكلوك(336/66)
فألقى خطاباً أعرب فيه عن سروره باشتراكه في الحفلة وذكر شهرة أبي العلاء وأنه كان أبدع مظهر للذكاء العربي، وأسهب المندوب في الكلام عن شعره، ثم شكر باسم المفوض السامي وباسمه الذين قاموا بهذا المشروع وهنأ المعرة وتمنى أن تحذو البلاد السورية حذوها.
جائزة مختار للنحت لعام 1940
تقيم جمعية أصدقاء مختار في هذا العام مسابقة في فن النحت إحياء لذكرى المرحوم المسيو فيس صديق المرحوم مختار الذي ساهم بقسط وافر في نهضة الفنون الجميلة بمصر وظل لآخر لحظة من حياته عضواً عاملاً في جمعية أصدقاء مختار.
وجائزة هذا العام قدرها خمسة وأربعون جنيهاً مقدمة من حضرة صاحبة العصمة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي. وهذه الجائزة على ثلاث درجات: الأولى 20ج والثانية 15 ج والثالثة 10 ج
وموضوع المسابقة (الحرف الجوالة) وللمشتركين في المسابقة الحرية في اختيار نوع الحرفة ووضع المحترف الجوال كأن يختار واحداً من هؤلاء:
بائع العرق السوس. قرداتي. مسحراتي. حاوي. نبين زين. سن السكين وسن المقص. بائعة اللبن. بائعة علي لوز. السقا. غزالك ربَّع. يا جابر. بخور عاشوراء. حب العزيز. . . الخ
وآخر موعد لقبول الاشتراك في هذه المسابقة هو 29 فبراير سنة 1940 ويجب أن يقدم المشتركون في المسابقة تماثيلهم قبل نهاية يوم 25 مارس 1940 بصالة العرض التي سيعلن عنها في الوقت المناسب
والمرجو من حضرات الفنانين الراغبين في الاشتراك في هذه المسابقة أن يقدموا طلباتهم إلى سكرتير (جمعية أصدقاء مختار) جبرائيل بقطر أفندي بشارع الأنتكخانة رقم 6 بالقاهرة ت 52947
رواية (الأمل) على مسرح الأوبرا
حسبك من هذه الرواية أنها تدعو الجيل الجديد للتحرر مما يرسف في أغلاله الجيل القديم(336/67)
وأنها تفتح عيون الشباب على حياة جديدة بهم
أما أنها تعبر أو لا تعبر عن الروح المصرية فهذا ما ندعه جانباً إلى حين، وحسبنا أن المؤلف (هنري برنشتين) كان فيها إنساناً أكثر من مواطن فرنسي، فهو لم يعبر عن حالة معينة في الخلق الفرنسي والبيئة الفرنسية وإنما أراد أن يرسم للشباب كله - الذي خرج من الحرب منهوك القوى محطم النفس. مندفعاً بكل قواه إلى الملذات والمباهج - حياة جديدة، وأن يدعو إليها طالباً منه أن تكون لديه الشجاعة الكافية للانتفاض على الجيل القديم وتقاليده وما عرف عنه من الاستسلام للأمر الواقع وانتظار حكم الزمن. . .
أما ممثل الشباب فإنه كان قوياً بحيث لم يخش الفضيحة وألسنة الناس وهو يسترد كلمة أعطاها ووعداً ارتبط به مع فتاة عابثة ليعطي كلمته فتاة جديرة بحمل اسمه، هي أخت الأولى ومن لحمها ودمها.
ولم يستطع ممثل الجيل القديم أن يكون الإنسان الذي يدافع عن سعادته وهناءته العائلية واكتفى بأن يكون سلبياً في انتظار حكم الزمن، أما ممثل الجيل الجديد فقد أصدر حكمه بنفسه وفي الحال، فآب الأول بحياة كسيرة وفاز الثاني بحياة حافلة بشتى ضروب السعادة والهناء.
وبعد فإن مقتبس الرواية أو على الصحيح اللذين قاما بترجمتها وتمصيرها قد فعلا القليل في هذا السبيل. ارتفعا بأشخاص الرواية إلى الطبقة الأرستقراطية كما يبررا هذه الحياة الأجنبية التي تحياها هذه الطبقة عندنا، وقالا في برنامج الرواية:
(وأن تفتح عينيها - أي الزوجة العابثة - على حقائق الحياة المصرية فتعلم أن التقليد الأعمى لعوائد الغرب إنما ينقلب في جونا الشرقي وبالاً وشقاء على الأسرة) فالمقتبسان على ذلك يأخذان الصورة كما هي بنصها وفصها ليكون لهما مجال للتنديد بهذه الطبقة الأرستقراطية التي تقلد تقليداً أعمى عوائد الغرب. على حين أن الرواية لا تقصد إلى شيء من هذا وإنما ترمي إلى ما هو أسمى وأعم نفعاً وأوسع مدى من هذه الفكرة المحلية، فهنري برنشتين يرى أن خضوع رجل الزوجية العابثة يفقده هناءه العائلي ويحطم كيان أسرته؛ وفرق كبير بين هاتين الفكرتين. وما دعا المقتبسين إلى الركون إلى ذلك إلا مخافة أن يقول النقاد إن أشخاص الرواية ليس في مصر من يشبههم، كما قالوا - أي النقاد - في(336/68)
رواية لهما من قبل هي (الزوجة الثانية)
وهذه الرواية هي الثانية التي يخرجها الأستاذ فتوح نشاطي. فأما الرواية الأولى (تحت سماء أسبانيا) فقد كان نجاحه فيها شاملاً. سيطر على المجموعة سيطرة تامة فنال عن طريق ذلك الفوز المبين. أما في هذه الرواية فقد أفلت منه البعض برغمه؛ فما يستطيع أن يقوم اللسان المعوج أو العود المائل اللذين لم يقومهما الزمن، ومع ذلك فقد نجحت الرواية. وقد كان بارعاً البراعة كلها في ترتيب وتنظيم المنظرين اللذين ظهرا في الرواية، فقد نثر الأثاث في ظرف وأناقة بحيث لا يعوق الممثلين ولا يقصر عن حاجتهم، وكانت الحوائط قد زانتها الصور والمرايا في تناسق مثير وأناقة بالغة؛ وكأني بالمخرج ينظم عشه ويجمل الإطار الذي يعيش فيه.
أما التمثيل فقد كان موفقاً في أغلب المواقف. وليس يعاب على البعض إلا تعثره في الكلمات التي لم تعها الذاكرة الكليلة؛ وبالتالي إخفاقه في إنجاح المشاهد التي تعثر فيها. وعلى أي حال فلا بد من التنبيه إلى أن أول ما يعنى به الممثل هو حفظه دوره حفظاً تاماً فإذا لم يفعل فليس غريباً أن يخفق مهما كان فاهماً لدوره
وبعد فقد نجحت الرواية نجاحاً حد منه أنها خرجت بغير ثوبها الأصلي، فإن من رأينا ألا تمصر الروايات وأن يكتفي بترجمتها وإخراجها كما هي منسوبة إلى مؤلفيها دون سواهم. ومن رأينا كذلك أنه إذا عن لبعضهم أن يقتبس فكرة من رواية فليؤد معنى الاقتباس أداء دقيقاً وافياً فيأخذ الفكرة ويخضعها للبيئة التي ينقلها إليها ثم يكتب روايته من جديد غير ناظر إلى الرواية المصرية، فلا ينقل منها حواراً بنصه بل بروحه حتى يكون له فضل التأليف لا فضل النقل.
فرعون الصغير(336/69)
العدد 337 - بتاريخ: 18 - 12 - 1939(/)
صاحب المعالي وزير المعارف
على ذكر مراقبة الثقافة العامة
عرفك الناس يا صاحب المعالي في جميع أطوار النهضة وأدوار الجهاد رجل جد وعزيمة، وصاحب رأي ونفاذ. ولعلك واحد الزعماء في حب الصمت وكراهية الإعلان وإيثار العمل. ولقد كان توليك أمور المعارف أمنية من أماني النفس المصلحة طالما هفت بقلبك وقلوب رجال الثقافة. فإن داء وزارة التعليم قد استفحل وأعضل حتى استيأس منه الطبيب والعائد، وأنت من الرجال القلال الذين عرفوا أن هذه الزَّمانة التي خزلت هذه الوزارة عن السير في عصر السرعة إنما هي الذبذبة في سياستها والفوضى في ساستها والتواكل في جنودها. وكنت تنظر إليها من بعيد وهي تمشي متخلجة متخلفة فترجو أن يتيح الله لها قوماً غير القوم فينفخوا فيها من روح العصر ونشاطه ما يساعدها على مسايرة النهضة ومواتاة الحاجة.
وهاأنت ذا قد أتاحك لها الله كما رجوت ورجا أنصارك، وقد استقر الأمر واتسق الحكم واستبان الطريق، وعلى رأس الدولة ملك ديمقراطي النزعة عُمَري الإصلاح، يريد أن يكون عهده السعيد عهد مصر الذهبي في العمران والعرفان والسلطان والمنَعة؛ وعلى رآسة الحكومة رجل قوي الإدارة نزيه السياسة حر الضمير، يود أن يكون حكمه حكم الأمة في إشاعة الخير، وتوخي المنفعة، وتعميم العدالة! ولك وكيل منطقي الرأي أصيل الثقافة يتساير هواك وهواه في الطريقة والغاية. فنحن إذن حريون أن نرى وزارة المعارف في عهدك شيئاً آخر يختلف عن هذا الشيء في روحه ونظامه وعمله وغرضه ومداه.
إن مراقبة الثقافة العامة يا معالي الوزير هي الناحية التي ستخرج منها الوزارة عن سياستها الديوانية التقليدية التي انحصرت إلى اليوم بين جدران المكاتب وأبواب المدارس فلم تتصل بالفكر العام اتصالاً مباشراً تغذيه أو تهديه أو تعاونه. في هذه الناحية الجديدة ستلتقي الوزارة بالشعب وترى بعينها أنها فرطت في جانب الثقافة العامة تفريطاً لا يسعها فيه عذر. فالأدب لا يزال ناقصاً في نوعه، قاصراً في بيانه، قليلاً في نتاجه، ضعيفاً في انتشاره. فهو ناقص في نوعه لأنه أنكر قديمه وجهل جديد الناس فلم يُغذِّه ماض ولم ينَمِّه حاضر، فبقي مُخْدَج الخَلْق لا هو ميت ولا هو حي. ولقد كان أدبنا القديم في حدود مراميه(337/1)
اللسان العام لخوالج النفس الإنسانية في أكثر بقاع الأرض، فلم تكن هناك فكرة تجول في ذهن كاتب، ولا صورة تتمثل في خاطر شاعر، إلا وجدت في هذا الخضَم المحيط صدفة تستقر فيها. فلما تحولت عن مذاهبه الأنهار وجفَّت على جوانبه الروافد، عاد كالبحيرة الراكدة المحدودة لا يمدها إلا قطرات المطر ودفعات السيل من حين إلى حين. فالقارئ العربي الحديث لا يجد فيما أثر منه ولا فيما استجد فيه غذاء عقله ولا رضى شعوره، لأن المأثور منه ناقص لانقطاعه عن سير المدنية، والجديد فيه ناقص لخلوه من الآداب الأجنبية. والغريب أن المرء يقرأ أي نابغة من نوابغ العالم في أي لغة من لغات التمدن إلا في اللغة العربية! فالتركي مثلاً يستطيع أن يقرأ في لغته هوجو كله، وشكسبير كله، وجيته كله؛ ولكن العربي لا يجد في لغته لهؤلاء العالميين إلا كتاباً أو كتابين اختارهما مترجم على ذوقه ونشرهما على حسابه. فإذا أردنا يا معالي الوزير لأدبنا أن يتسع في حاضره كما اتسع في ماضيه، فليس لنا اليوم غير سبيل الأمس: نرفده بآداب الأمم الأوربية، ونصله بتيار الأفكار الحديثة. فإن لكل أمة مزيا، ولكل بيئة خصائص. ولن يكون أدبنا عالمياً ما لم يلقح بآداب العالم. والمحاكاة والاحتذاء من أقوى العوامل أثراً في الأدب.
والأدب العربي قاصر في بيانه، لأنه مقطوع الصلة بحضارة العصر، فلا يستطيع أقدر كتابنا أن يتحدث عما يستعمل من ماعون وأثاث، ولا أن يصف ما يركب من باخرة أو طائرة. ومجمعنا اللغوي ليس في مقدوره بحكم تأليفه وطريقة عمله أن يقدم إلى الناس معجمه العتيد إلا بعد جيل أو جيلين، حين يكون كل شيء في العالم قد تغير أو تطور، فيصبح معجمه في الجدّة يومئذ كمعجم لسان العرب اليوم! فلا بد لهذه الحال من علاجك الحاسم يا معالي الوزير، فإن اللغة الناقصة هي نصف البَكم إن لم تكن أكثر الجهل!
والأدب العربي قليل في نتاجه ضعيف في انتشاره، لأن الأدباء ينتج بعضهم ليعض؛ فهم الذين ينشئون وهم الذين يقرءون. أما الخاصة فلجهالتهم لا يفهمونه، والعامة لأميتهم لا يعرفونه. وإذا حرم الأدب تشجيع الخاصة لا يزدهر، وإذا لم ينل إقبال العامة لا ينتشر، وإذا لم يكن حاجة هؤلاء وهؤلاء لا يتنوع. وعلاج ذلك يا معالي الوزير تعويض الأدب من تعضيد الجمهور بالمكافآت والجوائز؛ فإنها تحفز القرائح للعمل، وتضمن الإجادة بالتنافس، وترفع المستوى بانتخاب الأجود. وبضعة آلاف جنيه من الخزانة العامة ينفق(337/2)
أضعافها في تمهيد طريق أو تجميل بناء تخلق في الأمة أدباء عالميين، وتجمع لها من الأدب الصحيح ثروة.
ومِلاك ذلك كله يا معالي الوزير أن تفكر مراقبة الثقافة العامة في أمرين جليلين: أحدهما إنشاء دار للترجمة تنقل الآداب الأجنبية نقلاً كاملاً صحيحاً، فلا تدع نابغة من نوابغ العالم في العلم والأدب والفلسفة إلا نقلت كتبه ونشرتها على حسب ترتيبها وتبويبها في طبعاتها الأصلية؛ والآخر تأليف مجمع للأدب يقوم على رعايته وتوجيهه وتشجيعه ونشره؛ ثم يكون لقرائح الشباب وهي في أول الشوط مناراً وحمى، ولعبقريات الشيوخ وهي في آخره أمناً ومثابة. والأستاذ المراقب الذي اخترته يا معالي الوزير أقدر من يحقق الرجاء في هذه المراقبة متى ظفر بتسديدك وتأييدك وعطفك.
أحمد حسن الزيات(337/3)
الإنسان والحيوان والحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
حركة!
إذن هو الخطر بعينه!
وهل في موقف الحراسة من الميدان حركة لها أمان؟. . . كلا. بل هو الخطر جد الخطر على الحارس وعلى من يحرسهم، وهم مئات ألوف.
ثم حفيف بين العشب!
فهو الخطر إذن يقترب، وهو الانتباه أشد ما يكون انتباه، والاستتار أخفى ما يكون استتار!
وانبطح الحارس وانتظر، ولمعت عينان على مقربة، فإذا بالحارس كله عيون، لو قتل إنسان شيئاً بنظرته لمات صاحب تينك العينين في جنح الظلام!
وسدد الحارس الرامية، ومضت العينان تدنوان وتدنوان، وأوشكت القذيفة أن تنطلق لولا أن انطلاقها محظور لغير الخطر المحقق القريب، مخافة الانتباه من جانب الأعداء إلى موضع الحراسة وموضع المعسكر، فلا مناص من انتظار.
ثم بدا صاحب العينين برأسه وبشخصه:
الحمد لله. . .
هو كلب. . . وليس بإنسان!
تلك خلاصة قصيدة إنجليزية من قصائد الجنود في حرب الدردنيل الماضية.
حمد الشاعر ربه لأنه كان يحذر فصيلة الإنسان دون الفصائل جميعاً من عالم الحيوان، فهو من أخيه الإنسان على أخطر الخطر في ذلك الظلام. . . أما عالم الحيوان جميعاً، فهو منه في أمان!
لم أقرأ هذه القصيدة قط إلا ذكرت شاعرنا العربي حين يقول:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
نعم. وأصدق ما يكون ذلك في مقام حراسة وفي ميدان قتال!
ثم قامت الحرب الحاضرة، فإذا ببطل من أبطال الحيوان، يعلو ذكره في كل ميدان، ويستوحونه القصائد والألحان!(337/4)
ذلك توني المنسوف.
أو هو بالإنجليزية
أتعرفه؟
لم أزدك به معرفة على ما يظهر، فاعلم أنه قط من مشاهير القطط في الدنيا، أو هو الآن من مشاهيرها بعد أن لم يكن على بال أحد غير أصحابه وعشرائه قبل بضعة أسابيع.
كان يومئذ في سفينة إنجليزية أغرقتها الغواصات على مقربة من شواطئ السويد، وبصر به جندي في الماء فعاد إليه ونجاه ولم يحفل بما يصيبه من مكامن البحر (الملغوم) في سبيل هذه النجاة: نجاة توني المنسوف!
وضبطه رجال الميناء ميناء جوذنبرج فاعتقلوه، وقرروا إبادته في المحجر كما يصنعون بالحيوان من قبيله إذا خيفت منه العدوى أو احتاج أمره إلى الرقابة والتمحيص. وأين هي الحكومة التي تنفق على حيوان طريح من طرائح البحر حتى ينجلي الشك فيه، فإما سليم فيرسل، وإما مصاب فيباد!
يباد؟
إن الجنود الذين أنقذوه من الغرق لم ينقذوه من الماء ليقذفوا به إلى النار المحرقة أو إلى السم الزعاف.
فلن يباد توني المنسوف، وفي أولئك الجنود بقية من دماء.
واتصلت المشكلة بالصحيفة الوقور التي أسماها بعضهم بالدولة المستقلة، وهي صحيفة (التيمس) اليومية.
فكُتبت الحياة لتوني المنسوف!
وتقاطرت الهبات على ميناء جوذنبرج للإنفاق على ضيفها المضنون به على غير أهله، طوال مدة الرقابة الصحية وعدتها ستة شهور.
وجاشت قرائح المصورين وقرائح الشعراء.
فظهرت في الصحيفة صورة (توني) على لوحة تغوص وتطفو بين اللجج المزبدات، والحطام المتناثر من الأحياء والأموات.
وعلى رأسه طيارات، ومن حوله غواصات، وهو بينهن كأشجع ما يكون الشجعان من(337/5)
البطولة والثبات!
وكتب شاعر تحت الصورة هذه الأبيات:
(المخلوق الضعيف القليل النصير في ألعوبة من ألاعيب الأقدار، يبدو أنها ختام قدّر له
من وجود.
(تولته صداقة (التيمس) فامتدت به حبال الأجل الممدود.
(ووثب من ذراعي الموت إلى أحضان الشهرة والخلود.
(لقد كان مجهولاً لا عنوان له بين قطط العالمين.
(فارتقى سلم الشهرة قفزة واحدة إلى مكانها المكين.
(مذكور الأحزان والأشجان بين الناس، معروف الشجاعة على كل لسان مبين، من
المادحين والمعجبين.
(والآن تتلقى أنباءه أمواج الأثير، وهو قابع في المحجر مستقر أمين.
(يشرب اللبن ويستطعم الغذاء، ويلعب ويطرب ويستكين.
(وعلى ضفاف السويد من خليج بوهاس الجميل الموصوف.
(ينتهي منظر القصة المنظومة، وتبتدئ شهرة توني المنسوف.
(وتسري على (الكاتيجات) أنفاس الخضم، وآهات الخريف!).
اقرأ هذه القصيدة الظريفة وقل معي: يا لذلك القط من حيوان مجدود!
بل قل معي: يا للإنسان من حيوان مكدود منكود!
ولا تعجب أن تكون هذه عنايته بقط مسكين، وفي العالم حرب ضروس تنذره بهلاك الألوف أو الملايين.
أو إن عجبت فاعلم أنني لا أعجب مما أرى وأسمع من أشباه هذه الأنباء، ولا أراها أهون ولا أهزل من أن تشغلنا بعض الشغل في هذا البلاء أو عن هذا البلاء.
فأهون ما فيها أنها لا تيئس من العاطفة الإنسانية، وأنها تزيدنا علماً بسرائرنا النفسية، وأنها توازن ما في الحرب كلها من عداء، بما في ودائع القلب الآدمي من شغف بالمودة وحرص على الولاء، وشوق إلى الوفاء.
إن عداء الحرب لا يستنزف ما في النفس من ينابيع الرحمة بل ينبش عنها في الأعماق(337/6)
فيرسلها على شتى الصور وأغرب المناسبات.
فكلما اشتد العداء كان اشتداده مدعاة إلى اشتداد البحث عن جانب المودة والرفق، وجانب الألفة والمعونة، وجانب الطمأنينة إلى ملاذ في قرارة الحياة.
ولهذا تعظم الحرب لأنها تشمل الملايين من أفراد السلالة الآدمية.
وتعظم إلى جانبها حادثة (توني) الضعيف لأنها تشمل نفس الإنسان، أو تشمل جميع بني الإنسان.
ونحن بصدد الحيوان والإنسان فلنختم هذا المقال بقصة طريفة من قصص هذا المقام.
على الصفحة الأولى من الصحيفة الإنجليزية المصورة (اللستراتد) رسم كبير لكلب من فصيلة (البول دوج) المشهورة بين الإنجليز وعلى رأسه قبعة من قبعات الجنود.
ومناسبة هذا الرسم أن (المذياع الألماني) أشاع في الشهر الماضي أن الغواصات الألمانية أغرقت (السفينة) كستريل وليست هي بسفينة ولكنها نقطة تدريب برية يختبرون فيها سلاح السفن ويتبعونها من أجل ذلك لوزارة الشؤون البحرية.
فلما شاع هذا النبأ المضحك بين جنود تلك النقطة نقله الجندي الذي يخلع قبعته على كلبها المحبوب إلى ذلك الكلب الغافل عن مذياع الألمان ودعوة الألمان، وقال له مازحاً:
أتدري يا بوللي أنك الآن في عداد الأموات وفي سجل الغرقى؟ هكذا يزعم جوبلز يأيها الميت الذي يدعي الحياة!
قال الراوي: فزمجر بوللي غاضباً: (ومن هو جوبلز؟).
والحق أن بوللي ليقولها ويقول ألفاً من قبيلها!. . .
نعم. . . ومن هو جوبلز؟
ولهذا السؤال ولا ريب معناه!
عباس محمود العقاد(337/7)
إليك رجعت يا قلبي
(لكاتب من الكتاب)
ينم عليه أسلوبه
قلبي، ألم يأن لك أن تعفو وتصفح؟
أنت تعرف أني لم اقبل على التحرير والتأليف في شؤون الأدب القديم والحديث إلا طلباً للسلامة من ظلمك وعدوانك، ولم أشغل قلمي بوصف أوهام المجتمع إلا لأصرفه عن الشغل بأحلامك وأوهامك.
فهل تراني مع ذلك نجوت من شرك؟
أنت تعرف أني لا أرى الناس من وقت إلى وقت إلا رغبة في الانصراف عنك، فإن الخلوة إلى نَزَواتك وبدواتك تُشبه الخلوة إلى أوكار الأراقم، وملاعب الجنّ، ومساقط البراكين.
فكيف تريد أن أرجع إليك؟
إن لي عقلاً يعصمني من غيّك، فاصنع ما أنت صانع ألست أنت الذي أغراني بالتطلع إلى مشارق الأقمار والأزهار ومواسم الأفئدة والقلوب؟
ألست أنت الذي حدثني بأن النعمة الصحيحة هي جودة الفهم لأطاليب الوجود؟
فهل تراك صدقت فيما حدثت؟
وهل تراني أحسنت في الاطمئنان إلى وسواسك ونجواك؟
الدنيا في طاعتك ليست إلا مهالك ومعاطب، فكيف فاتني التوفيق فلم أتمرد عليك؟
ما رأيت إنساناً يعيش في سلام وأمان إلا حكمت بأنه يحيا بلا قلب.
ولا رأيت إنساناً مسلوب مَهْدود العافية، إلا عرفت أنه من أرباب القلوب.
فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟
إن اشتباك المهلكات والمدمرات في المعارك البرية والبحرية والجوية ليست إلا صورة مصغَّرة لما يقع بيني وبينك حين أخلو إليك فمتى أنجو من شرك يا قلبي؟
وما يضمر الأعداء المتحاربون بعضهم لبعض، وما تضمر الغابة الشَّجراء في ظلام الليل، وما يستتر في جوف المحيط من غَدَرات وفَتَكات، كل أولئك أخفّ وأهون مما تعدّه(337/8)
لمحاربتي أيها القلب!
إن الحرب بين الممالك والشعوب يسبقها النذير ليأخذ الرجال أهبتهم للصراع والقتال، والحرب بيني وبينك لا يسبقها نذير حتى استعد لمصاولتك ومغالبتك. فمن أنت بين المغتالين، أيها القلب؟
وقد دَرج المقاتلون منذ آماد طوال على الترفق بأسرى الحرب وأنت لا تعرف الرفق بأسيرك، أيها القلب!
فمتى ينصرني الله عليك فأجزيك ظلماً بظلم وعدواناً بعدوان؟
أنت الذي جعل إيذاء الصديق للصديق من شرائع الوجود، أيها القلب.
فكيف أعاتب أصدقائي وأنت على قربك أول من أتلقى منه الطعنة الدامية؟
أنت تظلم وتغدر وتفتك، وما أسأت إليك في سر أو علانية، وليس بيني وبينك واش ولا نمّام ولا رقيب.
فكيف ألوم صديقاً يغدر أو يخون وبيني وبينه ألوف من المفسدين والمرجفين؟
عنك تلقيت درساً لن أنساه، أيها القلب، فعدوانك وأنت صديق لا تصل إليه الوشايات والسعايات دليل على أن الدنيا قامت على أساس منخوب لا يصلح للخلود.
لو كانت الدنيا أهلاً للجمال لكان من المستحيل أن تكون الأشواك أطول أعماراً من الأزهار والرياحين.
ولو كانت أهلاً للقوة لما جاز أن يقضي الأسد دهره وهو محموم.
ولو كانت الدنيا أهلاً للرفق والعطف لصار من العسير أن يفسد ما بيني وبينك، أيها القلب.
إن آهة الألم من الحيوان الفاتك هي التي تدل عليه الصائد المغتال حين يطرق الغابة بليل.
وزقزقة العصافير في الظلمات هي التي ترشد الثعابين إلى عشها الأمين.
ورحيق الأزهار هو الذي يسلط عليها خراطيم النحل.
والنور الذي ينبعث من مخدع آمن قد يعرِّض مدينة برمتها إلى غارة جوية.
فما الذي دلَّك عليّ، أيها القلب؟
دلتك القوة؟ دلَّك الرفق؟ دلَّك الضعف؟ دلك الشعر والخيال؟
أنا أعرف أني كتلة جسيمة من الأحلام والأوهام والحقائق والأباطيل، فمن أي جانب نفذت(337/9)
إلي، أيها الغادر المغتال؟
تخلَّقْ مرة واحدة بأخلاق المحاربين الشرفاء، أيها القلب، وحدثني كيف استطعت النفاذ إلى ما أقمتُ من معاقل وحصون؟
أنت قوة خطرة مخوفة، أيها القلب، ومن حقك أن تَبغي وتستطيل، لأني سوّيتك بيدي، وطوفت بك في الشرق والغرب لأمدك بأصول القوة والعنف، وآية هذا العصر هي نكران الجميل، فلا عتب عليك ولا ملام إن بذلتَ في إيذائي كل ما زودتك به من جهد وعافية (ومَن غرس الرياح جنى العواصف)!
كل حرب إلى سلام، وكل شقاق إلى وفاق، إلا ما بيني وبينك، أيها القلب.
سيتعب أعدائي فينسحبون من ميدان القتال، ولن تتعب أيها القلب، لأنك جذوة من العواطف لا تخمُد ولا تبيد.
فهل تراني أتمنى لك الخمود وأنت صديق؟
الناس على دين زمانهم، أيها القلب، وأنت اصطنعت الغدر طاعةً لزمانك، فكيف لا أستبيح الغدر طاعةً لزماني؟
أتراني ألتفت إلى رعاية الجوار؟ وهل رعيت أنت الجوار ومثواك بين ضلوعي؟
المودّات في الدنيا أخذٌ وعطاء، فكيف تنتظر أن يكون أمري كله إليك، ولا يكون لي سلطان عليك؟
كيف تنتظر ألاّ أتقدم أو تأخر إلا بوحي منك وأنت لا تسمع دعائي مرة واحدة فتَصدِف عمن تسقيهم الشهد ويسقونك الصاب؟
أنت الشريك المخالف، أيها القلب، والشريك المخالف تعوّذ منه الآباء والأجداد. فكيف أسلم من شرك ولن يفرِّق بيني وبينك غير الموت؟
إن أمرك لعجيب غريب، أيها القلب، فأنت تغدر بي، ثم تفي لسائر أصدقائك وأصفيائك.
أنت والله لئيم، أيها القلب، فأنت لا ترعى عهدي لأنك وثقت بأمانتي ثقةً أبدية. وأنت تراعي غيري ممن أحببت لأنك تخشى أن ينقلبوا عليك. والاتجار بالصداقة من أخلاق زمانك، وأنت ابن زمانك، فشرِّق في مكايدتي وغرِّب، فسأبقى بجانبك يوم تنكشف لك أخلاق الزمان فتصبح بلا صديق.(337/10)
أراك انزعجت، أيها القلب.
الحمد لله، فلا يزال في الدنيا إخوان يزعجهم العتاب. وبالرغم مني أن يرقّ الصخر الذي جعلتُه علامة القِبلة في أوقات الصلوات لا تجزع، يا قلبي، فلن أعاتبك في كل يوم، فلست بالصديق الذي يشوك أصدقاءه بالعتب في كل حين.
أراك غضبت.
اتق الله والحب، أيها القلب، فقد صبرتُ على تجنِّيك عدداً من السنين، وما يجوز لك أن تثور على من ينطق بكلمة الحق مرة واحدة بعد أن صبر على كلمة الزُّور ألوف المرات.
كنت أودّ أن ألقاك بالهجر الجميل، أيها القلب، كما تعودت أن ألقاك في الليالي الخوالي، ولكني رأيتك تعدّ سكوتي علامة من علائم العجز أو دلالة من دلائل الشُّبهات، فاسمع صوتي يا جاحد، لتعرف أني أملك الثورة عليك حين أشاء.
ومن العجز أن تظن أن التفريط في حق الصديق يمرّ بلا عقاب، كما مرّت حسنات الصديق بلا ثواب.
تلك أيامٌ خَلَتْ. فأعدّ نفسك العاشق الذي صحا وأفق.
ما هذا؟ ما هذا؟
أراك تبكي وتنتحب أيها القلب.
أمن دعابة وجهتها إليك يتفجر حزنك وأساك؟
فكيف أكون وقد قضيت السنين الطوال في رأب ما يَصدَع الأصدقاء؟
كيف أكون ولي في كل يوم رفيق يغدر، وصديق يخون؟ أنا أثور عليك أيها القلب؟
وكيف وقد صفحت عن ذنوب قوم أسكنتهم في سوادك؟
أنا الأخير بين من تَعمَى عيونهم عن عيوب الصديق، أيها القلب.
وأنا الأخير بين من لا ترى عيونهم غير محاسن الصديق، أيها القلب.
فاغدر كيف شئت، وليغدروا كيف شاءوا، فأنا أحق من (الحجَر الأسود) بِحَمل الذنوب وسَتر العيوب.
ولن أنطق إلا يوم ينطق الحجر الأسود، فإن نطق فسأعتصم بالصمت.
أتراني أمنّ عليك، أيها القلب؟(337/11)
أنت الذي تمنّ عليّ، لو شئتَ، وأنت تشاء لأن زمانك منّان، ولكني سأعفيك من رذيلة المنّ على الأصدقاء.
أنا أختلق المحاسن لأصدقائي، فكيف أبخل بالثناء عليك بما أنت له أهل؟ وكيف أجاريك في طمس محاسن الصديق وأنا أقوى منك؟
لا تنزعج من كلمة الحق، أيها القلب، فستسمع مني بعد ذلك ما يرضيك. أنا راضٍ عنك مع جهلك، لأن شعرنا يقول:
ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير في يُمنَى بدون يسارِ
وعقلي محتاج إلى جهلك، أيها القلب ... أتذكر ما وقع في صباح اليوم؟
كنت في سيارة عمومية، وصعد زوجان إنجليزيان ومعهما طفل وطفلة، فوثب الطفل إلى صدري يسكن إليه، فنهرته أمه فغضب، وجذبه أبوه من يده فثار وجرى إلى باب السيارة لينزل وهي في جنون السرعة، وخاف والد الطفل فأشار إليه أن يتوجه حيث شاء، فأقبل الطفل على صدري من جديد، وأخذ يشير إلى أخته أن تصنع كما صنع، فقضيت المسافة وأنا أحتضن طفلين عزيزين في رقة الأزهار ونضارة الرياحين.
ونظر الأب والأم إلى هذا المشهد نظرة حنان وهما في عجب عُجاب، فقلت: لا تعجبا يا سيديَّ، فهذان الطفلان يعرفان بوحي الفِطرة أني رجل له قلب. . .
وشاءت ظروف عملي أن أنزل في منتصف الطريق فتشبث الطفل بي وهو دامع العين مكروب، فلثمت جبينه فاستراح، وأوى إلى صدر أبيه وهو جذلان.
وكان ذلك لأنك كنت في صحبتي، أيها القلب.
وأرادت إحدى الغوادر أن تنسى ما صنع قلمي في التشبيب بجمالها الفتَّان فدلت وتاهت، فأصليتها صدّاً بصد وإغضاءً بإغضاء، فهي منذ سبعة أشهر تترضَّاني برسائل تذيب الجلاميد وأنا ألقاها بصمت الأوثان، فهل كان يمكن ذلك إلا لأنك في صحبتي، أيها القلب؟
عندي ألوف من الشواهد على أنك المصدر الأصيل لما أملك من عنفوان القوة والعافية، فإن صح أنك أصل لما قد يساورني من ضعف فذلك دقة النصل في السيف الصقيل.
إليك رجعت يا قلبي، فارجع إليَّ كما رجعتُ إليك:
فاقد يُسعف الجريح أخاهُ ... ويواسي الغريب في الأحزانِ(337/12)
(كاتب من الكتاب)(337/13)
فنلندا أو سوومي
أحدث أمة في أقدم أرض
للدكتور مأمون عبد السلام
تقع فنلندا بين خطي العرض 60 - 70 شمالاً وخطى الطول 19 - 23 شرقاً، فهي في أقصى المعمورة شمالاً، وجوها أدفأ من جو البلاد التي تقع شرقيها على نفس خط العرض بسبب تيار الخليج الذي يمر بها. فمتوسط الحرارة في أبرد شهور السنة خمس عشرة درجة تحت الصفر في لابلندا شمالاً، و5 تحت الصفر في المقاطعات الجنوبية، ومتوسطها في الصيف 17 مئوية في الجنوب و14 في الشمال. ويكسو الثلج الأرض نحو مائة يوم في الجنوب ومائة وخمسين يوماً في الوسط ومائتين وعرين يوماً في لابلندا شمالاً، ويتساقط على ساحلها الجنوبي خمس وعشرون بوصة من الثلج والمطر، ونحو أربع عشرة بوصة في داخليتها الجنوبية. وكثيراً ما يشتد البرد صيفاً فيتلف الصقيع محصولاتهم كما في صيف سنة 1867 إذ أتلف المحصول فمات مائة ألف مزارع في الشتاء والذي تلاه واضطر عدد كبير من الفلاحين إلى النزوح إلى المدن للاشتغال في المصانع ليدفعوا عن أنفسهم غائلة الموت جوعاً.
وفنلندا سابعة دولة أوربية من حيث المساحة التي تبلغ 150. 005 أميال مربعة. فهي أكبر من الجزر البريطانية بما فيها ايرلندا، وهذه المساحة موزعة كما يأتي:
11. 5 % بحيرات أي 16150 ميلاً مربعاً، وأكبرها بحيرة لادوجا التي هي أكبر بحيرة في أوربا، ويصب في هذه البحيرات نهيرات صغيرة تتكون منها تتكون منها شبكة نهرية في جنوب فنلندا كلها صالحة للملاحة ويتولد من تياراتها القوية كميات هائلة من الكهرباء.
و1 , 6 % من الجزر في البحيرات أي 2385 ميلاً مربعاً.
و1 , 3 % من الجزر في البحر أي 1968 ميلاً مربعاً.
والباقي وهو 85 , 6 % عبارة عن أرض قارية.
و73. 6 % من أرض فنلندا تكسوها الغابات و6. 3 % أرض زراعية.
وتقع فنلندا بين بحر البلطيق والبحار المتجمدة الشمالية، وتحيطها الأراضي الروسية والسويدية وجزء بسيط من شمال النرويج، فهي أقصى جمهورية في شمال العالم. وتحتوي(337/14)
على جزء كبير من لابلندا، وفي جنوبها الغربي على جزائر خليج فنلندا وأرخبيل ألاند، وبه ما لا يقل عن ستة آلاف جزيرة.
وأرض فنلندا عبارة عن عدة هضاب يرتفع بعضها إلى 3750 قدماً عن سطح البحر. وكان عدد سكانها في سنة 1751 نحو 429900 نسمة فارتفع إلى 832650 بعد خمسين سنة، ثم إلى 1. 636. 95 بعد مائة سنة، وإلى 2. 520. 437 بعد مائة وخمسين سنة، وأصبح 2. 712. 562 في سنة 1904. وقد بلغ الآن ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف نسمة منهم 88. 7 % فنلنديون يتكلمون اللغة الفينية، و10. 1 % فنلنديون يتكلمون السويدية ثم ثلاثة آلاف من اللابلنديين.
وديانة الفنلنديين المسيحية ومعظمهم 96. 2 % بروتستانتيون لوثريون و1. 8 % روم أرثوذكس، والباقون وهم 2 % يتبعون ديانات مختلفة.
وفنلندا من أقدم أراضي العالم من الوجهة الجيولوجية. ونظراً لكثرة ما فيها من المستنقعات سماها أهلها بلغتهم سوومي أو سوومنما؛ وسماها السويديون فنلندا أي أرض الفِن (بكسر الفاء وسكون النون) بمعنى المستنقع.
وكان يسكن هذه البلاد في الأصل اللابلنديون، فغزاهم أسلاف الفنلنديين الحاليين وأجلوهم عنها فرحلوا إلى أقصى الشمال حيث لا يزالون يعيشون في بيوت يزرعون بجوارها مساحات صغيرة من البطاطس ويقتنون بعض البقر. وهم يحبون الحياة المنزلية الهادئة ويتمسكون بأهداب الدين، فإذا مات أحدهم يحفظون جسمه في صندوق إلى أن ينزل الجليد فيذهبوا به إلى أقرب كنيسة للصلاة عليه. وهم لا يهتمون بالسياسة وما تجره من الحروب، فإذا اعتدى أحد على أراضيهم تركوها له من غير حرب.
وتعيش العائلة في حجرة واحدة مع كلابها. وغذاؤهم السمك ولحم الرنة المجفف وقليل من البطاطس ونبات الخضر الوحيد الذي ينمو في بلادهم واسمه العلمي أنجليكا أركانجيليكا وهو من فصيلة الينسون وله طعمه ورائحته فيأكلونه نيئاً أو مطبوخاً. وهم مشغوفون بشرب القهوة المحلاة بالسكر الكثير؛ وقد ألفوا شرب لبن البقر، وكانوا في الزمن السابق يشربون لبن الرنة.
ويملك اللابلنديون نحو مائتي ألف رأس من حيوان الرنة يخص أغناهم منها نحو ألف(337/15)
رأس، وهم يجمعونها في الشتاء ويطلقون سراحها للرعي في مايو فتسرح في الوديان للرعي وتذهب إلى العوالي في الليل هرباً من البعوض. ويعرف كل منهم قطيعه بما عليه من علامات الوسم.
وأول من اتصل بهؤلاء الناس راهب روسي اسمه تريفون في سنة 1550 فأسس دير بتشينجا فنشر الرهبان المسيحية بينهم وزرعوا الأشجار وربوا الماشية وشيدوا الكنائس على الساحل، وملحوا الأسماك وبنوا السفن وحفروا طلباً للمعادن وتاجروا مع أركانجل وأنقرس وأمستردام فكانوا يصدرون إليها أسماك السالمون الأحمر. وفي سنة 1589 أحرق السويديون الدير وقتلوا الرهبان، وبذا أصبحت بلاد اللابلنديين فريسة للطامعين من دانمركيين ونرويجيين وروسيين، وصارت مشاعاً للجميع، فكان الكل يطلبها والكل يرسل إليها عماله لجباية الضرائب من أهلها المساكين الذين كانوا يدفعون الضرائب للروسيا والنرويج والسويد في آن واحد.
وقد ورد ذكر الفنلنديين في التاريخ من سنة 2500ق. م وهم قوم من الفرع الأوجرو الفيني فهم بذلك طورانيون من العائلة الألطية الأورالية التي انتشرت في كل فنلندا ولابلندا ومقاطعات البلطيق المسماة أستونيا وليفونيا وكورلندا، وعلى ضفتي نهر الفولجا وبيرم وفولوجدا، وغرب سيبيريا بين جبال الأورال وبنيسي، وفي بلاد المجر فهم يمتون بصلة الدم؛ إلى الأتراك والبلغاريين والمجريين.
وقد كانوا في مبدأ أمرهم بدوا رحلاً يعيشون من الصيد فنزحوا غرباً واستولوا على ما هي فنلندا الآن في القرن السابع أو الثامن الميلادي، وكانوا يعيشون إذ ذاك في مجاميع مستقلة وفي قرى لا يربطها أي نظام حكومي. وكانت ديانتهم الوثنية إذ كانوا يعبدون القوى الطبيعية فجعلوا للرياح إلهاً سموه (أوكو) وآخر للغابات سموه (تابيو) وثالثاً للماء اسمه (أهتى). وكانت الشجاعة والإقدام من صفاتهم فسببوا متاعب شديدة لجيرانهم فقد هاجموا شواطئ السويد مدة طويلة فجرد عليهم ملك السويد أريك التاسع في سنة 1157 ميلادية جيشاً عرمرماً وبصحبته بطريق أوبسالا المسمى هنري الإنجليزي فغزا البلاد وأدخل أهلها في المسيحية ورجع تاركاً جزءاً من جيشه ليتمم غزو البلاد، والبطريق هنري وقساوسته ليعمد أهلها فقتل البطريق هنري بعد مدة وأصبح فيما بعد قديس فنلندا وشفيعها.(337/16)
ولكن الفنلنديين دافعوا عن استقلال بلادهم ورفعوا نير السويد عنهم ثم ارتدوا إلى وثنيتهم الأولى إلى أن جاءهم في سنة 1209 مبشر إنجليزي آخر اسمه البطريق توماس فأعادهم إلى المسيحية ونجح في فصل فنلندا تقريباً عن السويد وجعلها مقاطعة تابعة رأساً للبابا.
وقد اضطرت السويد من جراء الحروب المتتالية بينها وبين الروسيا أن تحتل فنلندا فاحتلتها زهاء ستمائة سنة وأدخلتها ضمن مملكتها. وفي سنة 1323 جعلت حدود فنلندا هي الحد الفاصل بينها وبين روسيا. وقد نشر السويديون مدنيتهم وثقافتهم بين الفنلنديين فعلموهم الزراعة وشتى ضروب الفنون والصناعة، ومنحوهم نفس الحقوق التي يتمتعون هم أنفسهم بها.
وفي سنة 1528 أدخل جوستاف فاسا الديانة البروتستانتية في فنلندا التي رفعها الملك جون الثالث إلى درجة دوقية عظمى.
وقد خسرت فنلندا خسائر كبيرة من الحروب المستمرة بين السويد والروسيا والدانمارك.
وفي أوائل القرن السابع عشر أسس الملك جوستافوس أدولفوس مجلس النواب الفنلندي المسمى (ديات) وجعل أعضاءه من أربع طبقات: الأشراف ورجال الدين وأصحاب الأراضي والفلاحين. وقد شجع التعليم فأنشأ المدارس وأدخل الطباعة وشيد الكنائس.
وفي حكم شارلس التاسع (1692 - 1696) تحملت البلاد شدائد ومتاعب عظيمة من جراء ما حل بها من القحط والأوبئة فهلك في أبرشية (أبو) نحو ستين ألفاً في أقل من تسعة أشهر.
وفي سنة 1716 ضم بطرس الأكبر قيصر الروس فنلندا إلى أملاكه، ثم استردتها السويد بعد ذلك ولكنها تخلت عنها وعن جزر ألاند في سنة 1808 للروسيا، ونظراً لما رآه إسكندر الأول الروسي من شجاعة الفنلنديين فقد أبقى فنلندا كدولة شبه مستقلة وجعلها تحتفظ بقوانينها وعاداتها فاجتمع البرلمان الفنلندي ونادى به دوق فنلندا العظيم فأقسم على احترام دستور البلاد وديانتها وشرائعها وحريتها. واستمرت مدينة (أبو) عاصمة للبلاد حتى سنة 1821 ثم انتقلت إلى هلسنكي ولم يجتمع البرلمان بعد ذلك لمدة 56 سنة، ثم دعاه اسكندر الثاني في سنة 1863. وفي حكم اسكندر الثالث نقض الروس عهودهم وأنزلوا بفنلندا من ضروب الاضطهاد ما غرس بذور الحقد والكراهية لهم في قلوب الفنلنديين الذين(337/17)
حاربوا من أجل استقلالهم، فازداد الروس قسوة وطغياناً وحاولوا فرض لغتهم وديانتهم وقوانينهم قسراً على الفنلنديين وملئوا البلاد بالجواسيس، فهب الفنلنديون للدفاع عن حريتهم وأعلنوا الإضراب العام في سنة 1905 واشتركت الأمة فيه على اختلاف طبقاتها في كافة أنحاء البلاد فتعطلت المواصلات والبريد والتلغرافات والتلفونات وأغلقت المدارس ودور الحكومة والمتاجر، واضطرت الحكومة الروسية إزاء اتحاد كلمة الفنلنديين أن تجيب طلباتهم بمرسوم إمبراطوري صدر في 7 نوفمبر سنة 1905. ولكن الروسيا حاولت ثانياً حد سلطة البرلمان، فثار الفنلنديون في سنة 1908 وسنة 1910 وقاوموا الروس بشدة ورفضوا أن يتجندوا في الجيش الروسي الممقوت ودفعوا 20مليون مارك سنوياً ليعفوا من الخدمة العسكرية.
ولما استقرت نيران الحرب العظمى أعلن برلمان فنلندا حياد البلاد فقطع بذلك كل علاقة بين فنلندا والروسيا. وقد أعلن الفنلنديون أنهم لا يحاربون إلا من أجل فنلندا.
ولما أُلفت الحكومة البلشفية في الروسيا اعتقد بعض الفنلنديين أن من مصلحة البلاد الدخول ضمن الاتحاد السوفيتي فقامت من جراء ذلك حرب أهلية بين الحمر الفنلنديين والبيض من أهل فنلندا بقيادة المارشال مانرهايم بطل فنلندا الذي استولى على هلسنكي وطرد البلاشفة؛ وهو بعينه الذي يحاربهم الآن.
وفي سنة 1919 نودي بفنلندا جمهورية مستقلة لأول مرة في تاريخها، فهي بذلك أحدث أمة مستقلة في العالم.
وفي سنة 1920 التحقت فنلندا بعصبة الأمم وتنازلت الروسيا بمقتضى معاهدة دوربات عن الجزء الضيق الذي فيه ميناء بتسامو لفنلندا، وبذا أخذت في إنشاء الطريق القطبي العظيم الذي لا مثيل له في العالم.
والعَلم الفنلندي مكون من اللونين الأزرق والأبيض رمزاً إلى زرقة السماء والماء وبياض الجليد.
والفنلنديون أقوياء الأجسام وهم في الأصل ربعون ذو رؤوس مستديرة وجباه منخفضة وجلود تضرب إلى السمرة وعظام خدودهم بارزة وشعر ذقونهم خفيف؛ وشعرهم أسود لامع طويل، وهذه من صفات المغول ولكنهم تزاوجوا مع من جاورهم من الأمم فدخل فيهم(337/18)
الدم النوردي الأسوجي والصقلبي الروسي؛ فأصبح شعرهم بنيا أو أحمر أو أشقر، وتحسنت سحنهم عن أسلافهم.
ولا يزال الفنلنديون يحتفظون بعاداتهم البدوية التي ورثوها عن أسلافهم المغول، فهم كرماء للضيف محبون للحرية والاستقلال ميالون للانتقام، وهم أهل عفة وأمانة وطهارة وحسن خلق، يحبون وطنهم حباً يقرب من العبادة، لذلك لا يهجرون ديارهم إلا قليلاً.
والفلاح الفنلندي مجد صبور يجهد نفسه في استغلال أرضه. ويكون الفلاحون 87 % من الأمة الفنلندية. وألد أعداء الفلاح الصقيع الذي ينزل في يونيه فيتلف محصولاته الجذرية.
وقد ازدادت مساحة الأراضي المزروعة ولكنها ليست متصلة في مساحات شاسعة بل هي حقول منفصلة تتخللها غابات ومستنقعات. وتبلغ المساحة المزروعة نحو 6. 3 % من المساحة العامة. وتعمل الحكومة على إكثارها بتجفيف المستنقعات وإصلاح أرضها. ولكنها لن تبلغ أكثر من 12 % من المساحة العامة على أكبر تقدير. وتوزع الأراضي الزراعية بالنسبة المئوية الآتية:
52. 1 ملكيات فردية
39. 7 ملك الدولة
6. 5 ملك جمعيات تعاونية
1. 7 ملك جمعيات أخرى
ومحصولات فنلندا محدودة؛ فهي تقتصر على الغلال كالقمح والشعير والزمير والجويدار وبعض المحصولات الجذرية كبنجر السكر واللفت والبطاطس ونباتات العلف. وتزرع هذه المحصولات بالنسبة المئوية الآتية:
50. 7 نباتات علف
18. 9 زمير
9. 6 جويدار
5. 4 شعير
3. 3 بطاطس 12. 1 محصولات أخرى كالقمح والبنجر والكتان
وفنلندا غنية بنباتاتها، وقد درست الفلورا الفنلندية دراسة مستفيضة فقسم النباتيون البلاد(337/19)
إلى 28 مقاطعة بحسب ما فيها من أنواع النبات. وقد بلغ عدد الأنواع النباتية الفنلندية 1132 نوعاً موزعة كما يأتي:
318 - 400 نوع في لابلندة
508 - 651 في كاريليا
752 في فنلندا الأصلية
ولا يوجد في فنلندا نباتات ألبيه ولكنه يوجد منها في شبه جزيرة كولا 32 - 64 نوعاً.
وتبلغ مساحة الغابات في فنلندا نحو 63 مليون فدان، منها نحو 35 مليوناً ملك للدولة. وقد حصروا أشجار هذه الغابات فوجدوا أن مكعب جذوعها النامية يبلغ 57214 مليون قدم مكعب من الخشب. ومنها 60. 7 % من الصنوبر البري و28. 1 % من شجر الأسبروس و11. 2 % من خشب البيرش. ومن أشجار الغابات المهمة عندهم شجر البيرش القصير، والحور، واللارش السيبيري الذي أدخلوه في القرن الثاني عشر. ويبلغ مقدار ما يقطعونه من الأشجار سنوياً نحو ستة ملايين شجرة يلقونها في مجاري المياه المتدفقة التي يبلغ مجموع طولها في فنلندا نحو 65 ألف ميل فتعوم إلى أن تصل إلى الآلات الخاصة بقطعها ونشرها بالتيار الكهربائي المتولد من مساقط المياه استعداداً لتصديرها وصنع لب الورق ومشتقات الأخشاب منها.
ويوجد في فنلندا خمس مدارس للغابات، مدة الدراسة فيها سنتان. وتعطي جامعة هلسنكي دراسة في الغابات مدتها ثلاث سنوات. ويمكن للطالب أن يحصل منها على درجة الأستاذية والدكتوراه في الغابات. ولجامعة فنلندا غابات للتمرين. وقد أنشئت من ثلاثين سنة مضت جمعية للغابات يتبعها معهد للبحوث تديره الحكومة وتدرس فيه علوم الغابات ويتبعه عدة غابات للتجارب ولتدريب عمال الغابات. وتطبع هذه الجمعية ثلاثة أنواع من النشرات. وتنفق الحكومة الفنلندية على أبحاث الغابات مليونين من الماركات سنوياً.
وجميع مزارع فنلندا وطرقها تصرف في مصارف وخنادق عميقة. وأرضها غنية بالدبال، ولدفء جوها في الجنوب ينمو الخشخاش والبانزي والفوشيا وتكثر المزارع والحقول والضياع بما فيها من المناحل وأكوام الدريس والأخشاب المقطوعة.
ويشكر الفنلنديون الله على استقلالهم. فقد مكنهم من أن يمتلكوا أراضيهم إذ كان ذلك(337/20)
مستحيلاً تحت الحكم الروسي، ولكنه أصبح من الممكن في أوائل القرن العشرين أن يمتلك المزارع الفنلندي الأرض التي يزرعها فبلغ ما ملكه الزراع في سنة 1901 نحو 40 % من الأرض الزراعية والباقي أراض محكرة ولم تأت سنة 1929، حتى أصبح 90 % من أرض فنلندا ملكاً لفلاحيها. ويرجع الفضل في ذلك إلى قانون ليكس كاليو الذي صدر في سنة 1922 نسبة إلى كيوستي كاليو زعيم الحزب الزراعي الفنلندي. وبمقتضى هذا القانون أجبر كبار الملاك على بيع أراضيهم الواسعة بأثمان زهيدة جداً لصغار الزراع، فترتب على ذلك وجود طبقة وسط من صغار الملاك فأصبحت فنلندا في مأمن من انتشار الشيوعية. وتمد الحكومة صار المزارعين بالنصح والإرشاد والمساعدات المالية.
ويحصل المزارع من أرضه على جزء بسيط من غذاءه وغذاء عائلته، فهو يعتمد إذن في معيشته على ألبانه ومشتقاتها، وعلى ما يتقاضاه من الأجر من قطع الأخشاب وما يستعمله منها في بناء بيته وفي وقوده، فمن ذلك ترى أن فنلندا لا تقوم كقطر زراعي بحاجة سكانها.
ومعظم مزارع فنلندا صغيرة. ولا تزال مزارع شرق كاريليا وشمالها في حالة أولية محضة، ولكن المزارعين يقبلون على المستحدثات الزراعية بشغف، فترى كل جماعة منهم يشتركون في شراء آلة زراعية حديثة ليستعملوها شركة بينهم.
وقد توصل البروفيسور فيرتانين الأستاذ بجامعة هلسنكي إلى طريقة لحفظ العلف في الشتاء وذلك بعمل حفرة في الأرض يكوم فيها العلف الذي لم يتمكنوا من تجفيفه، ويكومون فوقه الأجزاء الخضر المتخلفة من المحصولات الجذرية المختلفة، ويرشون فوق الكومة محلولاً كيميائيا يجعل العلف طرياً ويحتفظ بخمس وتسعين في المائة من مواده الغذائية التي تبلغ في الدريس العادي 60 - 65 %. ويمتاز العلف المحفوظ بهذه الطريقة بأنه ليس له رائحة كريهة كالتي توجد في العلف المحفوظ بطريقة السيلو القديمة. ولذلك تقبل الماشية على أكله إقبالها على العلف الأخضر. وقد نجحت هذه الطريقة نجاحاً باهراً، وانتشرت في البلاد الأجنبية تحت اسم علف.
(البقية في العدد القادم)
مأمون عبد السلام(337/21)
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
ومن بين علماء النفس الألمان الذين ساهموا بنصيب في دراسة الفروق السيكولوجية بين الأفراد ووضع مقاييس للذكاء كريبلين وكانت مقاييسه لاختبار سرعة الإدراك أن يطلب إلى المختَبر (بفتح الباء) أن يعُدَّ بأسرع ما يمكن حروف الكاف (ك) الموجودة في مقالة، أو أن يضع بقلم الرصاص علامة على كل حرف (راء) في قطعة مكتوبة، أو أن يعرض على المختبر قطعة مطبوعة بها بعض الأغلاط الإملائية أو الحروف الساقطة ويطلب إليه أن يوجد مواضع الأغلاط والحروف المفقودة. كذلك وضع اختبارات لقياس الذاكرة الرقمية ليكشف الحد الأعلى من الأرقام التي تستطيع أن تستعيده ذاكرة الفرد إذا عرضت هذه الأرقام مدة خمس عشرة ثانية مثلاً، واختبارات أخرى لقياس القدرة على تذكر الكلمات (الفارغة) مثل: غضذ، ثظ، قصخ خخق الخ، وغير هذه الاختبارات التي أسفرت عن أن لكل فرد خواص عقلية وذوقية تميزه عن غيره. ولكن كريبلين أدركه اليأس حينما ساقه البحث إلى أنه لا يوجد تلازم مطرد بين نتائج هذه الاختبارات المختلفة للفرد الواحد. وقد حكم من عدم اطراد التلازم أنه لا يمكن الاعتماد على مجموعة هذه الاختبارات في قياس الذكاء. وهو يقول في ذلك: (إننا لا نستطيع أن نخفي عن أنفسنا أن النتائج التي وصلنا إليها بعد هذه الاختبارات والبحوث الطويلة لم تحقق ما كنا نتوقع من وضع مقاييس مضبوطة للذكاء، تقاس بها العمليات العقلية البسيطة).
كان لتقدم علم النفس التجريبي في أواخر القرن التاسع عشر أن ظهر علم النفس التطبيقي وفكر العلماء في كيفية الاستفادة من نتائج قياس الفروق السيكولوجية بين الأفراد، ومعرفة الخواص العقلية والجسمية والخلقية لكل فرد للاستفادة منها في المهن والصناعات، وكانت غايتهم هي أن يختاروا لكل مهنة الفرد الصالح لها، أو كما يقولون ومن الغريب أن أول من قام بتجارب الاختيار المهني هو مهندس ميكانيكي أمريكي لا علاقة له بعلم النفس، يسمى تيلور كان موظفاً في شركة لصنع العجلات. وكانت في مصنع العجلات مهنة فنية تحتاج إلى أفراد سريعي الرجع (رد الفعل). وقد اختبر المائة والعشرين فتاة المشتغلات في هذه المهنة فوجد أن عدداً كبيراً منهن بطيء الرجع، فاضطر إلى فصل(337/23)
البطيئات وإبقاء السريعات، وعددهن خمس وثلاثون. وكانت النتيجة أن هؤلاء الفتيات الخمس والثلاثين أمكنهن أن يعملن نفس العمل الذي كانت تقوم به المائة والعشرون فتاة وفي زمن أقل. وقد نشرت نتائج هذه الاختبارات في سنة 1903، وأثارت اهتمام علماء النفس وبخاصة القائمون منهم بدراسة الفروق الفردية السيكولوجية ومن بين هؤلاء الأفراد البروفيسور هوجو مونستربرج الألماني. وكان حينئذ أستاذاً لعلم النفس في جامعة هارفرد بأمريكا، فأجرى عدداً كبيراً من التجارب لمعرفة الفروق الفردية، وخصائص كل فرد، والمهنة التي تليق له أو يليق لها. وطبع في ذلك كتاباً سماه (علم النفس والكفاية الصناعية). وقد عالج مونستر برج في هذا الكتاب موضوع المواهب الطبيعية واللياقة المهنية. وهو يرى أن لكل فرد خواص ومميزات تجعل شخصيته أو تكوينه صالحاً لنوع من العمل دون نوع آخر. ومن العبث والإسراف الاقتصادي ألا يكون الفرد صالحاً للمهنة التي يقوم بها، أو أن يُعَدَّ لغير المهنة التي يصلح لها بطبيعته، ولا بد إذاً من اختبار الأفراد، ومعرفة مواهبهم واستعدادهم، ومقدار ذكائهم، ونوع ميولهم ومقدرتهم الجسمية وأمراضهم وأخلاقهم حتى يوكل إلى كل منهم العمل الذي يصلح له. فمن المعقول أن الرجل الذي يصلح لأن يكون سائق ترام قد لا يصلح لأن يكون ناظر زراعة، ومن يصلح لأن يكون محامياً قديراً قد لا يمكن أن نخلق منه طبيباً نطاسياً. وإذاً فلا بد من اللياقة المهنية - حتى يستطيع الفرد أن ينتج أكثر ما يمكن من إنتاج في أقل ما يمكن من زمن، وبأقل ما يمكن من مجهود، وهو في أكثر من راحة وسعادة. فلو نجحنا في كشف الرجل الصالح لمهنة بذاتها لأمكننا أن نقتصد في الزمن والمجهود والمال، وأن نرقى من نوع الإنتاج وكميته، وكذلك نجعل العامل سعيداً في عمله. يقول مونستربرج: (حينما نبحث في الفروق السيكولوجية بين الأفراد ونذكر كلمة (خصائص) الفرد نستعمل هذه الكلمة في معناها الأعم. فهي تشمل القوى العقلية للفرد التي قد تكون كامنة، والتي قد تظهر وتحيا تحت ظروف خاصة، وتشمل أيضاً الصفات الثابتة لشخصية الفرد مزاجية كانت أو خلقية، كما تشمل معارف الإنسان وتجاربه المكتسبة. ويدخل ضمن ذلك كل أنواع الإرادة، والشعور، والإدراك، والتفكير، والانتباه، والعاطفة، والذاكرة، والخيال. إن العالم النفسي حينما ينظر إلى الفرد يجده مجموعة من هذه القوى السابقة؛ ولكنا في الحياة العملية وحينما(337/24)
نريد أن نكل لفرد عملاً يجب أن ننظر أولاً إلى أخلاط الخصائص التي تكون شخصيته بغض النظر عما إذا كانت هذه الخصائص وراثية أو مكتسبة، وعما إذا كانت خاصة بالفرد أو شائعة في أسرته، أو في قبيلته، أو في جنسه ومن دراسة هذه الخصائص المتداخلة يتضح لنا أن بعض الناس أصلح من بعض للقيام بنوع من العمل).
ويحتج مونستربرج على جعل الامتحانات المدرسية والشهادات العلمية مقياساً لكفاية الفرد وصلاحيته للعمل الذي يقوم به، إذ أنه ليس من المعقول أن الامتحان المدرسي يقيس غير المعلومات المكتسبة، ولا يكشف لنا شيئاً من خصائص العقل وخصائص الخلق. ويعيب أيضاً على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الدراسات التي يرغبون فيها، فإن مجرد الرغبة ليس معناه أن هناك ميلاً طبيعيّاً حقيقياً إلى الشيء. فالأولاد في سن الصغر لا يعرفون شيئاً عن استعدادهم وميولهم الطبيعية. وقد يرغب اليافع في أن يكون طبيباً لأن أخته تتحدث بإعجاب عن زوجها الطبيب، أو أن يكون ضابطاً حربياً لأن قريبه ضابط حربي جميل المظهر. وقد يعرف الآباء حقيقة ميول أبنائهم واستعدادهم ولكن ذلك يجيء في الغالب متأخراً.
وضع الأستاذ مونستربرج اختبارات مختلفة لقياس الذكاء، ولقياس المواهب الخاصة، كاختبار القراءة المرتفعة السريعة، وكمطالبة المختبر بذكر ألوان الأشياء التي تتلى عليه، وكتقسيم مجموعات من النباتات أو المعادن إلى أنواعها المتشابهة، واختبار القدرة على الجمع والطرح بسرعة. وكذلك وضع اختبارات لقياس القدرة على تقسيم الخطوط إلى أقسام متساوية، أو رسم خطوط تساوي خطوطاً أخرى معينة، واختبارات أخرى لمعرفة مكان صدور الصوت ونوعه.
قلنا إن مونستربرج عالج موضوع اللياقة المهنية، ونادى بضرورة اختيار أنسب رجل لكل مهنة. ومن الأمثلة التي يسوقها لتأييد رأيه أن من الناس من هم (عمى الألوان) - فلا يستطيعون أن يفرقوا بين اللون الأحمر واللون الأخضر. فهؤلاء لا يصلحون لوظائف إشارات السكة الحديدية، ولا سياقة السيارات والقاطرات، إذ لا يخفى ما يحدث من خطر إذا التبس اللونان على السائق، وكذلك لا يصلحون لمهنة النقاشة التي تحتاج للتمييز بين الألوان في التصوير والتلوين.(337/25)
وقد أجرى بعض التجارب لمعرفة الصفات العقلية الضرورية لسائق الترام والسيارات، فوجد بطريق الإحصاء أن بعض السائقين لم يحدث منهم أي خطأ طول مدة سياقتهم، بينما غيرهم عرضة دائماً للأخطاء بالرغم من حرصهم الشديد. ووجد أن أهم صفات السائق هي حدة الانتباه واستمراره، وعدم تشتت الفكر بما يحدث في الطريق أثناء السياقة، ودقة الحكم في تقدير حركات الراجلين والسائقين، وسرعة الرجع وضبط الأعصاب. واخترع آلة بسيطة أمكن بها معرفة خير الأفراد لمهنة السياقة.
كذلك أجرى تجارب لمعرفة الصفات الضرورية لرّباني السفن الذين قد تودي غلطة واحدة منهم بأرواح الآلاف من الناس. واخترع لعبة مكونة من أربع وعشرين بطاقة استطاع بها أن يعرف الأفراد الصالحين لقيادة السفن.
وقد وُكِلَ إليه أن يضع مقاييس لمعرفة أليق العاملات في مركز التليفون (السنترال) فوضع مجموعة اختبارات للذاكرة والانتباه والذكاء والدقة والسرعة. وأجرى هذه التجارب على فَصْل من العاملات مكون من ثلاثين وهي تتلخص فيما يأتي:
الذاكرة: قراءة عددين مكونين من أربعة أرقام وعددين من خمسة وعددين من ستة وهكذا إلى اثني عشر، ثم مطالبة العاملات بكتابة ما يذكرن من هذه الأعداد كل واحدة في ورقتها.
الانتباه: أعطى كل عاملة نسخة من المقالة الأولى في جريدة يومية، وحدد لهن زمناً، وأمرهن أن يضعن علامة بقلم الرصاص على كل حرف في هذه المقالة.
الذكاء: قرأ على العاملات أربعة وعشرين زوجاً من الكلمات وكان بين كلمتي كل زوج ارتباط منطقي مثل: جوع وأكل، ونار واحتراق، وعين ودموع، وماء وبخار، وأسود وأبيض الخ ثم ذكر بعد ذلك أربعاً وعشرين كلمة مفردة على أن تقترح العاملة لكل كلمة كلمة أخرى ذات علاقة منطقية بها.
الدقة: تقسيم خطوط مختلفة الطول إلى أنصاف.
السرعة في حركة اليد: أعطى كل عاملة صفحة من أوراق المربعات، وطلب إلى كل العاملات في الفصل أن يرسمن في زمن مخصوص أكثر ما يمكن من أقطار المربعات على أن تكوِّن خطوطاً متصلة منكسرة.
ثم تبع هذه الاختبارات الجمعية باختبارات أخرى فردية لقياس دقة الحركة وسرعتها معاً.(337/26)
أما مقدار نجاح هذه الاختبارات فيحدثنا عنه مونستربرج بقوله: (لقد قارنت نتائج هذه الاختبارات بتقارير شركة التليفونات بعد أن مضى على هذه العملات الثلاثين ثلاثة أشهر في العمل فوجدت أن نتيجة المقارنة تؤيد تجاربي بصفة عامة).
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(337/27)
من وراء المنظار
دُبٌ في الترام!. . .
أرى الناس في هذه المركبة أبداً مرهفي الأعصاب، وقل من رأيته فيها مطمئناً هادئاً، وعلى الأخص في الصباح وعند الظهيرة؛ وليس الأمر قاصراً على الراكبين، فقاطع التذاكر عصبي اللفتة عصبي الكلمة عصبي الزمارة؛ والسائق من فرط يقظته، أو من فرط توجسه مما يخبئه له القدر، زائغ البصر، مذعور الوجه والعينين؛ يغضب لأي بادرة، وينفذ صبره - إن كان ثمة لديه من صبر - لأقل سبب أو لغير سبب!. . .
وأمر قاطع التذاكر وصاحبه يمكن أن نرده إلى أسبابه في غير مشقة. . . ولكنني من أمر الراكبين في حيرة! مم تضيق صدورهم وتنقبض نفوسهم، حتى لتقع العين منهم على قوم كأنما يساقون على رغمهم إلى ما لا يحبون؟. . . أيكون مرد ذلك إلى أنهم في الصباح مقبلون على عبء اليوم من العمل، فهم متبرمون عابسون، وأنهم في الظهيرة خارجون من أعمالهم فهم مكدودون ساهمون؟ أم يكون ذلك لأنهم يستبطئون هذه المركبة وليس لهم عنها منتدح؟. . .
ومهما يكن من سبب، فتلك ظاهرة أشاهدها في معظم الوجوه كل يوم، ولم أخل أنا منها، ولكنني لا أتبرم من العمل أو يؤودني حمله، وليصدقني القارئ في ذلك أو فليكذبني إذا شاء فليس هذا ما أردته بهذه الكلمة.
وإنما أردت أن أصور له منظراً رأيته جديراً بأن يغضب الراكبين جميعاً ولو كانوا كلهم هادئين: فهذا شاب من شبابنا المثقفين، أو ممن يدعون من الوجهة الرسمية (مثقفين)، انتهت المسافة التي تبلغه إلى نهايتها تَذْكرته؛ فطلب إليه قاطع التذاكر أن يدفع أجراً جديداً إذا شاء أن يستمر راكباً، ولكن صاحبنا أبى ذلك دون أن يبدي أية علة، ثم استكبر أن يجادل الرجل؛ فاتجه ببصره إلى الأمام، ورفع رأسه إلى آخر ما يستطيع حتى كادت تتدلى إلى الخلف!. . .
ونفخ الرجل في زمارته، فوقف الترام، وانتزع السائق مفتاحه، وجاء إلى حيث وقف صاحبه، ووقف خلف هذا الترام خمسة غيره أو ستة، وأخرج معظم الراكبين ساعاتهم، وشاعت في وجوههم إمارات الغضب والقلق والاستنكار. . .(337/28)
وجاء نفر من هؤلاء العمال، ووقفوا جميعاً ينظرون إلى هذا الذي كان سبباً في هذا التوقف: فرأوا فتى بادي الفتوة، عبل الساعدين، عريض المنكبين، غليظ العنق؛ ورأوه لا يلتفت إليهم، بل لا يعبأ بتلك النظرات التي رشقته من كل ناحية من نواحي العربة - وهو في جلسته - شامخ الرأس، هادئ المحيا كأن لم يجر حوله شيء!. . .
وحار هؤلاء العمال - أول الأمر - ماذا يصنعون، وليس فيهم من عابث من قبل دباً أو قرب منه؟!. . . ثم استجمع أحدهم قوته وقرب من هذا الدب وهو على أهبة أن يقفز إلى الخلف عند أية بادرة منه: ثم رجا منه أن يدفع الأجر حتى لا يتعطل الناس. فرماه الدب بنظرة كانت وحدها كافية لأن ينكمش ويتراجع من فوره!. . .
وازداد الناس ضيقاً وسخطاً وقلقاً، وبلغ حنقي غايته. . . ثم جرؤ أحد الراكبين فاقترب من الدب في هيئة لم يسعني معها إلا أن أضحك على الرغم من غيظي. فقد أخذ هذا الراكب يتلطف ويتظرف، ويحاول أن يبتسم، فلا يستطيع من فرط حنقه. . . فيرفع شفته العليا من إحدى زاويتيها، ويكشف عن أسنانه كأنه يبتسم! ثم يربت على كتف الدب ويقول وهو يلوي عنقه مبالغة منه في التواضع: (ألا ترى أنك بهذا تسبب عطلاً لنا جميعاً؟).
. . . وكأن الدب لم يعبأ به لضعفه فلم يزد على أن قال له في هدوء: (أنت حضرتك عاوز تتفلسف؟). . . وانكمش الرجل ولم يلتفت بعدها إلى الخلف أبداً. . .
وكان في العربة بعض الأجانب، فتخاطبوا بالأحداق، وعلقوا على المنظر بالإيماء والابتسام. . . وكان قاطع التذاكر المسكين قد ذهب ليحضر الشرطي، فعاد وهو في صحبته، وقد بلغ قلق الناس أقصاه! وسمع الشرطي القصة. . . فما كان أشد عجب الناس أن يسمعوه يعنف (الكمساري) ويلومه قائلاً له: (ياعني يا سيدي هم الستة مليم دول اللي حايزودوها؟ اطلع يا شيخ بلا عطلة دي محطتين أو ثلاثة وينزل)!!
وكان خزيي أمام الأجانب وخزي الراكبين جميعاً مما فعل الشرطي أعظم مما فعل ذلك الفتى المدل بقوته. ولعله خاف أن يقرب منه كما خاف غيره، وأمره في ذلك أدهى وأمر. . .
وقلت في نفسي: متى تشيع فينا الآداب الاجتماعية؟ ومتى نحس بالوسط الاجتماعي؟. . . ورجوت أن ينسى هؤلاء الأجانب هذا الحادث وأشباهه إذا حدثوا قومهم عن مبلغ ما(337/29)
وصلنا إليه من المدنية، فبهذا تقاس المدنية الحق، كما رجوت ألا يحكموا على شرطتنا جميعاً بما رأوا من هذا الشرطي.
(عين)(337/30)
أفانين
بين الخوارزمي والهمذاني
للأستاذ علي الجندي
- 1 -
من أروع ما وعاه تاريخ الأدب في صفحاته تلك المناظرة الحادة العنيفة بين إمامين من أئمة الأدب، أبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني، وقد أسفرت عن هزيمة أولهما هزيمة ساحقة، لم يقو على احتمالها فقضى نحبه بعدها بقليل!
ما ذكرت تلك المصاولة قط إلا غام الحزن على عيني، وملأ شِعاب قلبي، وشعرت للبديع بمقت شديد يكاد يعقل لساني عن الترّحم عليه!
ففي الحق أن هذا الرجل بالرغم من وصف الثعالبي له: بحسن العشرة، ونصاعة الظرف، وعظم الخلُق، وشرف النفس وكرم العهدة، وخلوص الود، وحلاوة الصداقة، قد التاثت نفسه بأمراض تتوارثها الكثرة الكاثرة من الأدباء جيلاً بعد جيل، وتتمثل في تلك الصورة الشوهاء من حدة الغيرة، وفرط الأثرة وحمل الحقد، وحب الانتقام والزراية على النظراء والسعي الجاهد في هدمهم بالحق والباطل، حتى كاد مدلول الأدب لطول ما اتسم أصحابه بهذه المثالب، يرادف في الأذهان نشوز الطبع وانحراف المزاج، وانحلال الخلق، والتمرد على الشرائع المرعية والارتكاس في الخلاعة والمجون، ورحم الله من قال:
ليس الأديب أخا الروا ... ية للنوادر والغريبْ
ولشعر شيخ المحدَثين (م) ... أبي نواس أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
ولد أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي (بخُوارِزْم) ونشأ بها متأدباً، وإن كان أصله من طبرستان ثم جاب الأقطار من الشام إلى أقصى خراسان في تحصيل العلم والأدب، فبرع في كل فن من فنون العربية، وغزر محصوله من اللغة والشعر حتى كان يحفظ عشرين ألف بيت من شعر النساء خاصة.
ورشحه فضله لخدمة الملوك والأمراء والوزراء في الدويلات المتفرعة من الخلافة(337/31)
العباسية، وكانت خاتمة مطافه، مدينة نيسابور من أعمال خُراسان، فاتخذها دار إقامة، واقتنى بها الدور الفاخرة، واعتقد الضياع المُغِلّة، وفرغ إلى الكتابة والشعر وتصدّر للتدريس، وظن أنه يستطيع أن يقضي بقية عمره هادئ النفس ناعم البال، في ظل النعمة الفاشية والثراء الواسع والجاه العريض، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد مُنِي بهذا الواغل الدخيل، فنغّص عليه عيشه، وشاب صفو حياته، وساقه إلى الفناء الذريع!
ولم يكن الخوارزمي دون الهمذاني في حوك القصائد، وتحبير الرسائل، وجمع اللغة، وحفظ الأشعر والأخبار، بل ربما كان أوفر منه حظاً في كل ما يتصل بالنقل والرواية؛ ولكن الهمذاني كان يمتاز بحدة القريحة وحضور البديهة وشدة العارضة وسرعة الخاطر وقوة الارتجال، وهي أمضى سلاح يملكه المناظر لقهر خصمه وإقحامه.
وما ظنك برجل كان يُنشد القصيدة تبلغ خمسين بيتاً لم يسمع بها قط، فيحفظها كلها ويؤديها لا يخرم منها حرفاً واحداً! ويُقترح عليه إنشاء قصيدة أو رسالة في معنى من المعاني، فيفرغ منها في الوقت والساعة! وينظر في أربع أوراق أو خمس من كتاب نظرةً طائرة فيحفظها ويسردها عن ظهر قلبه! ويُقترح عليه الكتاب فيبتدئ بآخر سطر منه، وينتهي بأوله ويخرجه كأحسن شيء وأملحه! وتُلقى عليه الأبيات الفارسية فيترجمها شعراً إلى العربية جامعاً بين الإسراع والإبداع! إلى غير ذلك من العجائب والغرائب التي يحلو لي أن أسميها بشعوذة البيان!
ومع أن هذه الصفات مواهب عظيمة لم يُرزقها كل إنسان ولا ينكر خطرها في ميادين المصاولة الأدبية، إلا أنها لا تصح أن تكون فيصلاً في الحكم على أقدار الرجال وآثارهم. فأبو العتاهية مثلاً وهو رأس شعراء البديهة لا يتسامى إلى منزلة مسلم بن الوليد وأبي تمام وابن الرومي من شعراء الرّوية، والمتنبي - على سنيّ مكانته - تعد مقطوعاته الارتجالية من سقط المتاع، حتى تمنى بعض شارحي ديوانه أنْ لو خلا من هذا السخف والهذر، وعبد المحسن الكاظمي أقوى شعراء العصر طبعاً وأسرعهم خاطراً، ولكنه لا يُوزن بشوقي من شعراء الأناة، بل لا يقاس بحافظ وهو أكثر الشعراء تعباً في نحت القريض وصوغ القوافي.
ولم يكن سلاح البديع مقصوراً على هذه المزايا الخارقة التي أوردناها، بل كان - إلى ذلك(337/32)
- في طراءة عمره وغضارة شبابه وكان الخوارزمي قد علت به السن فتحيفت جسمه وعقله معاً.
وأنكى من هذين على الخوارزمي أن جماعة من وجهاء نيسابور لا يخلو من أمثالهم بلد من بلاد الله، كانوا يكرهونه وينفسون عليه نعمته، فصاروا عليه إلباً في هذه المحنة، وشدوا أزر خصمه، ولا شيء أثلم للعزيمة وأقعد بالهمة من خذلان الآل والأقارب!
وهي حال شاذة ممضة أنطقت بالشكاة كثيراً من جِلّة الفضلاء! فقال في ذلك قاضي الأندلس وخطيبها المصقع المنذر ابن سعيد:
هذا المقال الذي ما عابه فنَدُ ... لكنّ صاحبه أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريباً كنت مُطَّرَفاً ... لكنني منهمو فاعتالني النّكد
وقال الفيلسوف ابن حزم:
أنا الشمس في جو السماء منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجدَّ علي ما ضاع من ذكرى النهب
هنالك تدري أن للعلم غصّة ... وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوفوا ... له، ودنوّ المرء من دارهم عيب
ولنأخذ الآن في إيراد هذه المناظرة، موفِّقين بقدر الإمكان بين الروايات المختلفة، فنقول:
في سنة ثمانين وثلاثمائة هـ فارق البديع بلده همذان التي نشأ به وتأدب، إلى حضرة الصاحب بن عباد وزير آل بويه وخليفة ابن العميد، وهي - إذ ذاك - مرمق العيون، ومناط الآمال، ومحطّ الرحال، فلقي فيها ما يلقاه كل أديب: من كرم الوفادة، وحسن الرعاية، وجميل التعاهد.
وكان مجلس هذا الوزير العالم الأديب، آخر مجلس لوزير ضم خيرة العلماء وصفوة الأدباء، وأعيان المصنفين والمتكلمين، وهم دائماً في حوار متصل، وجدال مستحر، ومذاكرة دائبة لا تهدأ ولا تفتر، فكان لذلك أثره البالغ في صقل مواهب البديع، وفتق جنانه، وتزويده بمعارف جديدة واسعة، وهو في مقتبل الشبيبة وميعة الحداثة.
وكان الظن بمثله أن يضن بمفارقة هذا الروض المونق والجناب الخصيب، ولكنا رأيناه في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة يشخص إلى خراسان، وبعد جولة قصيرة في ربوعها يرد(337/33)
نيسابور وقد سلبه قطاع الطريق ما يملكه من مال ومتاع!
ونيسابور هذه مدينة مقرورة يهرأ بردها الأجسام، ويُوسم أهلها بالجفاء والشغب والضعف والخبث وكراهة الغرباء! وفيها يقول السمعاني:
لا قدس الله نيسابور من بلد ... ما فيه من صاحب يُسلي ولا سكن
ويقول فيها المرادي:
لا تنزلن بنيسابور مغترباً ... إلا وحبلك موصول بإنسان
أولا، فلا أدب يغني ولا حسب ... يجدي ولا حرمة ترعى لإنسان
ويقول أيضاً:
قال المراديُّ قولاً غيرَ مُتهَّم ... والنصح - ما كان من ذي اللب - مقبولُ
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إن الغريب بنيسابور مخذول
فما هو سر اختيار البديع لها بالذات؟ وقد كان له في غيرها مَراد ومسرح. أهو حب التنقل والضرب في البلاد، للدراسة والاطلاع، واستفادة العلم والمال؟ وهو الطابع الغالب على علماء هذه العصور وأدبائها؟ أم هو القصد إلى مناضلة الخوارزمي وانتزاع صولجان الشهرة منه، حتى يقال عنه: إنه غزا النسر في وكره واقتحم على الليث عريته؟
على أن بعض المؤرخين يسوق لهذه الرحلة علة طريفة نذكرها للتفكهة: وهي أن البديع كان في مجلس الصاحب يوماً فخرج منه ما يخرج من غير المتمكن في قعدته؛ وكان خيراً له أن يعوذ بالصمت، ولكنه أراد أن يموّه على الصاحب فقال: هذا صرير التخت! فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت!
فخجل البديع خجلاً شديداً حمله على مفارقة حضرته والخروج إلى خراسان!
ويلذ لنا أن نقول - بهذه المناسبة -: إن مجلس الصاحب - على رفعة شأنه - كثيراً ما كان مهبّاً لهذه الزعازع! وكان الصاحب لا يمنعه وقاره أن يعقب على ذلك بالنكتة البارعة والتورية اللطيفة.
فمن ذلك أن الصاحب أخذته ليلة سنةٌ من النوم، وبين يديه جماعة من الأدباء شرع أحدهم في قراءة (الصافات) واتفق أن نام أيضاً بعض الحضور، فأحدث صوتاً منكراً أيقظ الصاحب من نومه! فقال - يخاطب سمّاره - يا أصحابنا، نمنا على (والصافات) وانتبهنا(337/34)
على (والمرسلات).
وأظرف من ذلك: أن الفقيه ابن الخضيري كان يحضر مجلسه بالليالي، فغلبته عينه مرة، فخرج منه شيء فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا ابن الخضريّ لا تذهبْ على خجَل ... لحادث كان قبل النّاي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ لست أنت سليمان بن داود
وكيفما كانت الأسباب التي حفزت البديع إلى انتجاع نيسابور فقد بدأت المناوشة بين الرجلين بكتاب أرسله الهمذاني إلى الخوارزمي، صدّره بهذا الكلام المعسول: إنا لقرب دار الأستاذ - أطال الله بقاءه - كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح إلى لقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
ثم ختم كتابه بأن طلب منه إرسال غلامه لينفض له جملة حاله.
والتقيا بعد ذلك على موعد مضروب في دار الخوارزمي، وما نشك في أنه أكرم مثواه، وأحاطه بألوان البر والرعاية، ولكن البديع كان مدخول النية مطويّ الجوانح على الضغينة! فخرج من دار مُضيفه غير حامدٍ لقياه، وأرسل إليه كتاباً حشوُه عتاب مرّ، يذكر فيه: أن الخوارزمي استزراه لغربته، واقتحمته عينه لرثاثة ملبسه، وأنه تكلف القيام له والسلام عليه، وأنه كان يكلمه بنصف طرفه، ويسير إليه بشطر أنفه، وأن أهل بلده همذان في الذؤابة من الشرف والسيادة، وفي الصميم من الجود والسماحة، ولو قد حل الخوارزمي بينهم لخبئوه في سواد العيون والقلوب!
وقد رد عليه الخوارزمي رداً جميلاً يستلّ السخائم، ويطفئ الأحقاد، ولكن موقف البديع منه أشبه بموقف الروسيا من فنلندا: إدلاءٌ بالباطل وتورُّط في الضلال، وتجن للذنوب، وتصيد للمثالب، ومن كان هذا شأنه فإرضاؤه محال!
وهكذا أخذت تتردد الرسائل بينهما وهي تزداد عنفاً وحدة، حتى انتهى الأمر إلى الخصومة الصريحة! التي كان يعمل لها البديع ومَنْ وراءه كل وسيلة!
وكان يمكن إطفاء هذه الثائرة لولا أن خصوم الخوارزمي الذين سبقت الإشارة إليهم انتهزوها فرصة للنكاية به، فأذكوا العداوة وأرّثوا النار!(337/35)
وكان أن أرسل نقيب الأشراف إلى الخوارزمي يستدعيه إلى داره ليجمع بينه وبين البديع، فترفع عن المجيء لأنه كان يعرف ما دُبّر له، فأحرجه النقيب بإرسال دابته إليه، وشفع ذلك البديع برسالة يستفزه بها! فلم ير الرجل بداً من الحضور يحف به تلاميذه البررة فالتقى الخصمان في بيت النقيب وجهاً لوجه وقد حُشرَ الناس ليروا لمن تكون الغلبة!
(يتبع)
علي الجندي(337/36)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
عول مازيني على استغلال هذا الحادث ليلفت الأنظار إلى حركته وأخذ ينشر الأحاديث عما يجب أن تسلكه الحكومة البريطانية تجاه الحركات القومية في القارة؛ وتزايد عدد محبيه في العاصمة الإنجليزية، وسعى كثير من ذوي المكانة والرأي إلى رؤيته؛ وكان الإنجليز يعجبون بمرأى هذا الزعيم الغريب في ملابسه السوداء ويرونه بمظهره وبما يرتسم على وجهه من سمات الصبر والعزيمة، ومن إمارات التعب وأثر الفاقة أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.
وكان مازيني فضلاً عن اهتمامه بمسألة إيطاليا لا يفتأ يتصل بكثير من ذوي الأفكار الحرة في أنحاء القارة، يريد بذلك أن يزيد شعور القومية والحرية في أوربا نماء وانتشاراً، ليكون من حياته حرباً متصلة على الرجعية والاستبداد الغاشم؛ ولذلك يعد مازيني إلى جانب كونه زعيم إيطاليا من أكبر المؤثرين في نمو الحركات القومية في القرن التاسع عشر. وظل مازيني يشكو العسر وما يجره العسر من إبطاء في السير نحو هدفه، وكان يفكر في بعث حركة ثورية جديدة في إيطاليا يقودها بنفسه. فأوحى إلى بعض صديقاته من الإنجليز أن يقمن سوقاً إيطالية خيرية بدعوى جمع المال لمدرسته وكان يريد من وراء ذلك جمع مبلغ أهلي يسعى به إلى الوصول إلى غرضه، وافتتحت تلك السوق عام 1847، ولكن ما جمعه من المال من ذلك المبلغ الأهلي الذي منى به نفسه لم يزد على مائة من الجنيهات!
وكانت الأنباء التي تأتيه من إيطاليا في ذلك العام تزيده غضباً ونكداً؛ فلقد اشتدت فيها دعوة المعتدلين، وكان هؤلاء المعتدلون فريقين: فريق الملكيين الداعين إلى الالتفاف حول شارل ألبرت ملك بيدمنت، وانتظار ما عسى أن تأني به الأيام؛ وفريق الاتحاديين المنادين ببقاء إيطاليا وحدات مستقلة بعضها عن بعض في شؤونها الداخلية مع ارتباطها في شؤونها(337/37)
القومية بإقامة اتحاد عام من ممثلين للولايات؛ وكان هؤلاء الاتحاديون يدعون إلى الالتفاف حول البابا ليكون زعيم الاتحاد المطلوب، وكان زعيمهم في ذلك جيوبرتي.
وكان مازيني ينكر دعوة هؤلاء وهؤلاء، فلم يكن يرضى إلا بأن تتحد إيطاليا جميعاً فتصبح شعباً واحداً وقطراً واحداً يخضع لحكومة واحدة جمهورية لا ملكية، حكومة مستقلة عن نير الأجنبي ونفوذه، وتستمد سلطانها من الشعب، وتعمل لصالح الشعب؛ على أنه في سبيل الحرص على مبدأ الوحدة قد صرح ذات يوم أنه يقبل أي شكل من أشكال الحكومة ما دامت تقوم على أساس وحدة البلاد. وكان قد استوى على كرسي البابوية عام 1846 بيوس التاسع، وكان معروفاً بعدائه للنمسا وبآرائه الحرة ورغبته في الإصلاح، فسرعان ما اتجهت الأنظار إليه في إيطاليا حتى خيل إلى الناس أن دعوة جيوبرتي وأشياعه هي الفائزة بين الدعوات؛ وخطا البابا بعض خطوات حرة كإصدار العفو العام عن جميع المجرمين السياسيين مما انزعج له كبير الرجعيين مترنخ أشد انزعاج قائلاً: (لقد كنا على أهبة للقاء أي نبأ إلا أن نعلم نبأ ظهور بابا حر، أما وقد ظهر هذا البابا، فلا حد لما سنراه في المستقبل).
وسرعان ما تحركت الولايات تطلب الإصلاح على نحو ما يصلح البابا في ولايته، ففي الصقليتين أرغم هياج الشعب الملك على إعلان الدستور، وفي نابلي عجل الملك فأعلنه قبل الهياج، وسرت العدوى إلى ولايات البابا فأعلن فيها كذلك، وكذلك أعلن في تسكانيا؛ وما لبث أن خطا شارل ألبرت هذه الخطوة في بيدمنت، فأعلن الحكم الدستوري على نحو ما حدث في تلك الولايات، وهكذا تشيع المبادئ الدستورية في طول إيطاليا وعرضها.
وانبعثت الثورة في فرنسا فطاحت بالملكية هناك وأعلن الأحرار فيها قيام حكومة جمهورية؛ ولم يقف الأمر عند فرنسا، بل لقد امتدت العاصفة إلى النمسا نفسها فزلزلت الحكومة فيها زلزالاً شديداً وأخذت مترنخ أخذاً أليماً فأسقطته من مركزه العتيد بعد طول تربعه فيه وانبعاث سلطانه منه. وهب الناس على أثر ذلك في لمبارديا يضعون عن أعناقهم نير النمسا، فلم يمض أسبوع حتى طردت الحاميات النمساوية هناك، ثم بادر ملك بيدمنت شارل ألبرت فأعلن الحرب على النمسا وتبعه أمير تسكانيا وسرعان ما أتى الناس من كل حدب ينسلون، كأنهم شعب السيل وساروا أنماطاً من كل طبقة ومن كل حرفة(337/38)
عالمهم بين جاهلهم وشيخهم بين فتيانهم إلى حيث يلتقون تحت راية بيدمنت، ولم يبق في إيطاليا ولاية لم تأخذ بقسط في هذه الحرب حتى لقد خيل إلى الناس أن حلم مازيني قد تحقق، فها هو ذا علم إيطاليا يخفق على رؤوس الإيطاليين من كل حزب ومن كل ولاية.
وكان الزعيم المجاهد يومئذ في باريس يؤلف قلوب المنفيين من بني قومه هناك على مبادئه، فما أن جاءه نبأ ما حدث في إيطاليا حتى هرع إليها وإنه ليكاد من فرط فرحه أن يطير ومن فرط حماسته أن يشتعل؛ ونزل الزعيم في ميلان إذ لم يكن يستطيع بناء على حكم الإعدام الذي حكم به عليه عام 1933 أن يذهب إلى بيدمنت أو إلى جنوة؛ وعرفه رجال الجمارك من صوره التي رأوها من قبل فكانوا يحيونه في حماسة بالغة ويسمعونه من عبارات الوطنية، واستقبله أهل ميلان استقبالاً رائعاً ومشى والزحام من حوله إلى الفندق الذي اختاره لإقامته.
وراح الزعيم القائد يعقد الآمال على فوز هذه الحركة، وكأنما حل اليوم الموعود فتمت رسالته بعد جهاد طويل لاقى فيه ما لاقى من أنواع العذاب وصنوف البؤس والشقاء. . . ووقف مازيني أول الأمر من الحرب موقف السياسي الرشيد، فوجه همه إلى نصرة بني قومه وترك الخلاف على الجمهورية والملكية جانباً فإن هذا أمر يمكن النظر فيه بعد النصر، وأخذ الزعيم يحث الرجال إلى التطوع لنصرة قضيتهم المشتركة لا يتوانى عن ذلك ولا يكل.
ولكنه ما لبث أن حاد عن هذه الطريق الخليق به وأخذ يذيع مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة راداً بذلك على الملكيين ودعاة الاتحاد؛ وكان عمله هذا وا أسفاه مما يعرقل سير الحرب فإن من شأن هذا الخلاف أن يشيع في الجند وأن يتسرب إلى المتطوعين؛ وكان الزعيم يعتذر عن فعلته بأن مخالفيه في الرأي هم بدءوا بإثارة الخلاف، ولكن عذره هذا سقيم لا يقبل ممن كانت له مثل مكانته ومثل ماضيه في الجهاد. . . ولعل مسلك مازيني يومئذ كان أكبر أخطاء حياته جميعاً.
وكتب إليه شارل ألبرت يدعوه أن يحث أتباعه الجمهوريين في شمال إيطاليا على الانضمام إلى القائلين هناك بالاندماج في بيدمنت وكانت قد بدأت تظهر لهؤلاء حركة قوية نحو هذا الغرض؛ وذكر الملك في خطابه إلى الزعيم الكبير أنه مستعد للقائه إذا قبل ذلك(337/39)
وعرض عليه أن يكون وزيره الأول وأن يكون له ما شاء من الرأي في وضع دستور تحكم به المملكة على أساس ديمقراطي.
ورد مازيني بأنه لن يرضى بغير الوحدة للإيطاليين جميعاً وما به حاجة إلى السلطة ولا نزوع إلى الجاه ونعيم الحياة لأن هذه أمور تصغر أمام غرضه الأسمى الذي تحمل في سبيله ما سلف من مصائب الحياة. . . ولم يرد الملك على الزعيم بعد ذلك فقد يئس من ضمه إليه.
ولا ريب أن إصرار مازيني على مبادئه وعدم التساهل فيها خلة من أبرز خلال الزعماء، بل هي عندي أكبر هاتيك الخلال وأهمها، وماذا يبقى للزعيم من زعامته إذا هو تهاون فيما يرى أنه الحق وفيما جاهد فيه جهاده؟
وما لبث أن تجمعت عوامل الهزيمة فأحاطت بجيش الإيطاليين فإن البابا بيوس التاسع ما لبث أن أعلن استنكاره رفع الحسام في وجه النمسا وهي من أكبر الدول الكاثوليكية؛ وقد أدى هذا إلى أن يسحب ملك بيدمنت جنوده من الميدان؛ كما أن الخلاف بين الزعماء قد فت في عضد المتطوعين فتخاذلوا ثم قعدوا وتركت بيدمنت وحدها تحارب جيوش النمسا. وما لبث شارل أن انهزم في كستوزا، فتراجع إلى ميلان وتبعته جنود النمسا إليها فسقطت في أيديهم بعد قتال شديد وانسحب منها شارل وجنوده.
وخرج مازيني من ميلان قبل أن يصل إليها جيش النمسا؛ وذهب يبحث عن المتطوعين من رجال غاريبلدي، وكان هذا المجاهد البطل قد أخذ بقسط من هذا الجهاد القائم، ولكن حماسة المتطوعين لم تغن عنهم شيئاً أمام تفوق النمسا في العدة والعدد فتفرقوا كما تفرق الجيش الرسمي، وتم للنمسا النصر على شمالي إيطاليا، ولحقت بالمجاهدين خيبة أخرى وكانوا من النصر على قاب قوسين. وحار مازيني ماذا يفعل وقد هده الإعياء وأحزنته الخيبة؛ ولكنه فكر في الذهاب إلى الولايات الوسطى ليدعو هناك إلى مبادئه الجمهورية على أساس الوحدة عسى أن يجد في القلوب بقية من العزم أو أثراً من الرجاء، وندم مازيني أشد الندم على أن لم يذهب إلى تلك الولايات الوسطى منذ قيام الحرب ليدعو أهلها إلى الجهاد القومي فتكون منهم قوة إلى جانب قوة الحرب الرسمية.
وكان البابا قد فر من أملاكه واعتصم بملك نابلي، فأمل مازيني أن ينشأ من أملاك البابا(337/40)
ومن ولاية تسكانيا وحدة على أساس جمهوري، وقد كاتب مازيني بعض الأحرار منذ أن فر البابا يدعوهم إلى ذلك، وبعد ذلك بنحو شهرين اتخذ طريقه إلى روما فبلغها في شهر مارس عام 1849 وكان ذوو الرأي من أهلها قد اجتمعوا في مجلس وأعلنوا أن مازيني من مواطني روما كما نادوا بالحكم الجمهوري وطلبوا من الزعيم أن يحضر إليهم.
وقد استقبل مازيني استقبالاً عظيماً في لجهورن وهو في طريقه إلى روما، ولاقى في روما من روعة الحفاوة به والتحمس لمبادئه ما أنساه مرارة العيش فيما مر به من الأيام.
واختاره أهل روما ومعه سافي وأرملليني نواباً عن الجمهورية فتكونت منهم حكومة ثلاثية، وجمعت أزمة الحكم في الحقيقة في يد مازيني فأخذ يتأهب لتحقيق مبادئه وسرعان ما أعد للجهاد عشرة آلاف من المجاهدين.
وعاش الرئيس الجديد عيشة في غاية البساطة؛ فكان يخفض جناحه للناس جميعاً، وكان لا يضع بينه وبن أحد حجاباً فبابه مفتوح لجميع من يريدون مقابلته لا فرق بين كبير وصغير؛ وهو في الحكم كما هو في حياته الشخصية مثال للنبل والنزاهة واللطف، أكبر همه أن يعتنق الناس مبادئه فيجعلوا وحدة إيطاليا قبلتهم التي لا يرضون غيرها.
وكان يحرص مازيني أشد الحرص أن تكون جمهوريته مثالاً يحتذى، وأن تكون في أسلوبها وروحها خير داعية إلى مبادئه، لذلك ضرب للناس أحسن الأمثلة في التسامح والعدالة وحب الخير للأهلين جميعاً؛ وكذلك رأى الناس من نشاطه وإقباله على عمله ما زادهم تعلقاً بشخصه وإيماناً بمبادئه.
ولكن هذه الجمهورية لم يقدر لها أن تعيش إذ ما لبثت أن جاءتها الضربة القاضية على يد دولة ما كانت ترجو منها الجمهورية الوليدة إلا العون، دوله طالما ترنم أهلها بالحرية وأشعلوا نيران الثورات في سبيل الحرية والديمقراطية، وأعلنوا أنهم أبداً على أهبة لتعضيد كل شعب يعمل على نيل حريته، وما كانت تلك الدولة إلا فرنسا التي قضت في أمسها القريب على الملكية، وأحلت محلها الجمهورية!
لم تتورع فرنسا عن توجيه حملة حربية لإسقاط الجمهورية في روما وهي بذلك ترتكب إثماً من أكبر آثام السياسة الدولية في العصور الحديثة، وكان ذلك الإثم مضاعفاً لصدوره عن فرنسا ذاتها، وإنما تكون الجريمة من أهل الشر جريمة فحسب؛ أما مجيئها على أيدي(337/41)
من يدعون أنهم أنصار الفضيلة ففيه معنى الجريمة ومعنى الفجور وخيبة الآمال جميعاً.
وأحاط جيش فرنسا بأسوار روما وحاول مازيني وغاريبلدي ومن انضم إليهما من الأحرار الدفاع عن المدينة، وكان مازيني يشخص بنفسه إلى مركز الدفاع، يأكل أكل الجند وينام نومهم ويبث فيهم روح الفداء؛ وجاء كثير من الناس من أنحاء إيطاليا للدفاع عن الجمهورية، ومنهم الملكيون ومنهم الأدباء والكتاب، ولكن المدينة لم تقو على الحصار، ولما رأى مازيني أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة استقال من منصبه.
وصمم غاريبلدي ومعه ثلاثة آلاف من رجاله على المقاومة إلى النهاية، ودعا مازيني إلى ذلك، ولكن الزعيم رأى مالا يراه ذلك الجندي المتحمس فذهب إلى مرسيليا؛ ثم لم يلبث أن انتقل إلى سويسرا، ولكن الحكومة السويسرية ضاقت بوجوده في بلادها كما فعلت من قبل وهو في أولى سني جهاده، ولذلك اتخذ مازيني سبيله إلى إنجلترا وراح يستأنف العيش فيها من جديد. وعاد إلى القلم والقرطاس يكتب ليعيش مما يكسب ولينشر مبادئه مجاهداً بالقلم بعد أن فشل جهاده بالسيف، وكأنما صارت إنجلترا موطنه الثاني، فلقد استراح إلى العيش فيها وأحبها هذه المرة أكثر مما أحبها من قبل، وكثر في المدينة العظيمة أصدقاؤه من الإنجليز ومن الفرنسيين والإيطاليين، فكانت تخفف صداقة هؤلاء عنه آلام الغربة ومصائب الزمن، تلك المصائب التي ذاق كبراها عام 1852 بموت أمه التي ظلت حتى وفاتها تعطف أشد العطف على حركاته، وتتألم أشد الألم لما يلاقي في سبيل بلاده.
(البقية في العدد القادم)
الخفيف(337/42)
بنت القرية
للأستاذ محمود الخفيف
أنا بنتُ الشمسِ والفجرُ أبي ... شيِّع النَّجمَ وراقِبْ مطلعي
كمْ سبقتُ الصبْحَ في طلعتِه
وسرَقتُ السِّحرَ منْ غُرتِه
وفمي كمْ صاغَ من بَسمته
أيُّها السائلُ هذا نسَبي ... مثلَ ذا فاطلبْ وإلا فَدَعِ
مِنْ جُمانِ الطَّلِّ عِقْدي انتظما
ولَكمْ صُغتُ بِليْلِي الأنجُما
وأخي البَدْرُ رَوَى لي حُلُما
أينَ مِن رُؤيايَ سِحرُ الذَّهبِ ... ومعاني السِّحرِ والطُّهرِ معي؟
لَستُ أُحصي مَنْ هَوَوْني عَدَدا
ثمَّ لم أُشرِكْ بِقَيسي أحدا
لا ولا أرخصتُ حُبِّي أبداً
بسمةٌ منهُ قصارَى طَلبي ... وهواهُ العفُّ أقصى مطمعي
أنا أغلى عندهُ من ناظِريْه
وهوَ؟. . . هل أبخلُ بالرُّوح عليه؟
إن يَشَأُ جُدْتُ بها بَين يَديْه
طيفُ أحلامِي ودُنيا طرَبي ... وشذا رُوحي وريَّا أضلُعي
أَمَلي. . . هل دونه مِن أملِ؟
وغَداً لَيسَ سِواهُ موْئِلي
أيُّ شيءٍ قُربه لم يكُ لي؟
كلما غازلني مِن كثَب ... لاحَ لي العهدُ الذي لم يُقطعِ
حُبُّهُ لحْنِيَ أيامَ الحَصادْ
وهُيامِي كلَّ يوْمٍ في ازدياد(337/43)
لا أُسمِّيهِ ولكنْ في الفُؤاد
شخصُه منذُ زمانِ اللَّعبِ ... يُنبِتُ الحُبَّ بهذا الموضعِ
إنْ جفانِي في منامي طَيفُه
أوْ رَنا يوْماً لِغيْري طَرفُه
أوْ تجنَّى فتَوَالى خُلْفُه
شاعَ في جِسْميَ بَرْحُ اللهبِ ... وجفا جَنْبِيَ فيه مَضجعي
يا ابنةَ الرِّيفِ هوايَ افتَضَحا
فِيكِ كم سَفَّهْتُ غِرّاً نَصَحا
ما انجَلَى رأييَ إلا رَجَحَا
ليتني قَيْسُكِ هذا أَرَبي ... لستُ بالعابثِ أو بالمدَّعي!
تنبتُ الزَّهرَةُ فَوْقَ الجبلِ
مِثلَما تنبتُ عند الجدوَلِ
إنْ تفُزْ هذِي بماءٍ سَلْسَلِ
حسب هاتيك دموع السُّحب ... ومن الصبحِ ندِيُّ الأدمعِ
زَهرةٌ أنتِ ترُوعُ الناظِرِينْ
فوقَ خَدَّيكِ وفي هذا الجبينْ
لَمحَةُ الوَرْدِ وطيْفُ الياسَمِينْ
ووَميضٌ كوميضِ الشُّهب ... ملَء عينيكِ سَنِيُّ الموْقِع
املِكِي. . . مَنْ يَمتلكْ هذا الجمالْ
حازَ ما لنْ يُشتَرَى يوماً بمال
الجَلالُ الحقُّ في هذا الجَلال
لا تقولي قد تَدَلّى حَسَبي ... لن يَضيرَ الشمسَ قرْبُ المطلع
إيهِ بنتَ الشمسِ أُختَ القمَرِ
يا خيالِي في لَيالِي السَّمَرِ
ونَصيبي من غِناءِ الوَتَرِ(337/44)
بَدِّدِي بالسِّحر وهْمَ الحِقَب ... وابزغي كالشمس وارقيْ واسطعي
أسْفري كالصُّبح نُوراً وابتسامَا
واخطُري كالغُصنِ مَيْساً وَقَواما
وامْلأِي دُنياكِ سِحراً وَهُياما
أبْلغي بِالحسن أعلى الرُّتبِ ... فذُبولِ الحُسنِ في أن تَقْنعي
أينَ في غَيرِ الحِمى هَذا القوام؟
أعَلى حُبِّكِ ذو لُبٍ يُلام؟
بَعضُ صُنع النِّيل هذا الانْسجام
أينَ مِنْ لحَظِكِ بنتُ العنبِ ... كدتُ من سحري به ألا أعي!
كمْ سقانِي الخَمرَ في لفْتَتهِ
فَمضَى قَلْبيَ فِي سَكْرتِهِ
وَيْحَهُ. . . كمْ هِمتُ في فِتنتهِ
كم رَوَى لي من حَديث عجبِ ... ثمَّ نادَى مُهجتي: لا تهجعي!
صَدرُكِ النَّاهدُ يَسِبي الأعيُنا
أبْلَغُ الفتنةِ والسِّحرِ هُنا
لم تَزَلْ لِلسِّحرِ مِصرُ الموْطِنا
مُنذُ (نِفريتيتَ) لم يغتربِ ... عن ثَرى الوادي البهيج الممرعِ
أُختُ بَطليموسَ سِحرُ القيْصريْن
لَمْ تَرِثْ فِتنَتها عَنْ أبَويْن
حُسنُها للنِّيل دَينٌ أيُّ دَيْن
لِسَوَى وَادِيهِ لم يَنتسبِ ... فاتَ مِنْ يونانَ ما لمْ يَرجع
يا ابْنةَ النِّيل نَميرُ النِّيل غالي
إمْلأِي الجَرَّةَ مِنْ هَذا الزُّلاَلِ
حَدِّثِي الضفَّةَ عِنْ خَطو الغَزال
آهِ كم طفتُ بها من كثَبِ ... أُطفئ الشَّوقَ بِقلبٍ مُولعِ(337/45)
نظرَاتٌ بَدَأتْ في خَافِقِي
أبداً لم أعْصِ فيها خالِقي
مِلْؤها كلُّ شُعُورٍ صادِق
صَلَواتٌ لم تُحَطْ بالرِّيَبِ ... في جَنانِي لِلعِليِّ المبدِع
اكْشِفي عن هذه السَّاقِ الثيابا
ملَكَتْ لُبِّي ظهوراً واحتجابا
كيف يسهو من يرى هذا الإهابا؟
وَيْحَ خَلخالِكِ كم يصنعُ بي ... لكِ ما شئتِ فما شئتِ اصنعي
اجْتَلِي وجهَكِ في هذا النميرْ
فهْوَ مِرآةُ مُحيَّاكِ النَّضير
واضْحكِي فِي الماءِ لِلوجهِ الغريرْ
كم نفى الكرْبةَ عن مُكتّئبِ ... بِسناهُ العَبقرِيّ الأرْوعِ
أبْهَجَتْنِي صِبْغَةُ اللهِ بِهِ
إنْ زَكا الوَرْدُ فَهَلْ مِنْ مُشبِه
لِلْجنِيِّ المشتَهى مِنْ رَطْبِه؟
اخلعي كلَّ طِلاءٍ كذِبِ=لكِ مِنْ غاليهِ ما لنْ تخلعي
الخفيف(337/46)
رسالة الفن
دراسات في الفن
يا سارية، الجبل!
(مع الإجلال إلى معالي الدكتور هيكل باشا بمناسبة حديثنا
الشفوي عن عمر)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- قرأت اليوم أن عمر. . . كان يخطب يوم جمعة في مسجد المدينة، وكان للمسلمين جيش في حرب مع بعض أعدائهم عند سفح جبل على حدود فارس، وكان على هذا الجيش قائد اسمه (سارية) وحدث أن كان الأعداء قد بدءوا في تطويق جيش المسلمين بحيث لم تكن له نجاة إلا أن يلجأ إلى الجبل، وحدث أن توقف عمر عن الخطابة وصاح: (يا سارية الجبل)، وحدث أن لجأ سارية إلى الجبل بجيشه، فنجوا، فلما عاد سارية إلى المدينة روى أنه سمع هتافاً يهتف في أذنه صارخاً: (يا سارية الجبل) فلجأ إليه فنجا، فقال له الناس إنه صوت عمر. . . أليست هذه قصة عجيبة؟ وهل تصدقها؟
- ولم لا؟ أو ما يهتف الآن الإنسان في لندن فيسمعونه في طوكيو؟ هذه كتلك.
- ولكنهم الآن يتصل بعضهم ببعض عن طريق التليفون.
- بل لقد اختصروا الآن التليفون، واستغنوا عن أسلاكه وجعلوه (راديو). الناس ارتقوا.
- فليكن. . . ولكن الراديو لا يزال أداة يستعين بها الإنسان على التخاطب من بعد، ولولاها لعجز عنه.
- لا بأس. ولكن الإنسان إذا واصل رقيه العلمي واصل اختصار الراديو والتقليل من أدواته حتى يبلغ من الرقي درجة يستغني بها عن اختراعه هذا واختراعاته كلها. . .
وعندئذ يستطيع أن يخاطب طوكيو وهو في لندن من غير أداة؟
- وأن ينتقل من طوكيو إلى لندن بغير أداة!
- في كم من الزمن؟(337/47)
- هذا يرجع إلى مقدرته على تحويل الزمن!
- تحويل الزمن؟ وإلى أي شيء يمكن أن يتحول الزمن؟
- إلى أزمنة وإلى غير ذلك مما يعلم الله. ما يخيل إلينا أنه مستحيل الحدوث، يمكن حدوثه، فالله قادر على كل شيء. . . انظري. . . أتصدقين أنني أستطيع أن أمسك هذه الزجاجة الفارغة وأن أقول فيها بعض كلمات ثم أسدها فإذا الزجاجة مصباح مضيء يلقي النور؟
- هذه لم يصنعها حاو، ولا نبي، فتصنعها أنت؟
- ولا أنا أصنعها. . . ولكني أسألك أين وجه الاستحالة فيها؟
- استحالتها في أن تتحول الكلمات إلى نور. . . هذا هو المحال المتعذر لأن الكلمات حروف والنور أشعة.
- وما رأيك في أن هذه الاستحالة قد ذللت واستطاع أهل السينما الناطقة أن يحولوا الكلمات والحروف والأصوات إلى أشعة ونور، بل إنهم يخزنون الصوت والضوء في أشرطة من (الباغة). . . ما رأيك؟
- هذا مفهوم ومعقول لأنهم يستعينون عليه بالآلات.
- أنت لم تقولي في البدء إن المعضلة معضلة آلات، وإنما قلت إنها مسألة استحالة طبيعية، وإنه ليس من شأن الصوت أن يتحول إلى ضوء. . . والآن، وقد رأيت أن الصوت قد تحول إلى ضوء، قلت إن ذلك تيسر بالآلات. . . وأنا أقول لك إن لكل شيخ طريقة وأدوات، فمن الناس من يستعينون بالحديد وبالمغناطيس والكهرباء يستعيرونها من الخارج، ومنهم من له عزم هو الحديد، ونزوع هو المغناطيس، وروح مؤمنة صافية هي الكهرباء؛ وقد كان عمر من هؤلاء، وقد اكتفى بهذا فانطوى له الزمان وانطوى له المكان، وهتف في المدينة فسمعه سارية وهو على حدود فارس. . . وإذا كنا نعيش في هذه الحضارة صماً بكماً عمياً فليس لنا أن نلزم السامعين الناطقين المبصرين بأن يكونوا مثلنا فلا يسمعون ولا يتكلمون ولا يرون إلا بالآلات والأدوات. . . أنا ولله الحمد نظري كامل وإن كان سمعي ناقصاً، أفإذا رأيت النملة في السقف أنكرت أنت علي أن أراها بغير منظار معظم، فإذا سمعت أنت دبيبها أنكرت أنا عليك أن تسمعيه بغير مكبر الأصوات؟ ليس هذا من حقي ولا من حقك، ولا من حق جيل الحديد والزلط الذي يريد أن ينكر على(337/48)
عمر إلقاء الأمر إلى سارية من المدينة وسارية على حدود فارس. وإن نسبة التقى بين عمر البشر وأستاذه الهادي الأمي محمد النبي الرسول صلى الله عليه وسلم، لتساوي فيما أرى النسبة بين هذه التي حدثت من عمر وبين تلك التي كانت من النبي إذ أسرى الله به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
- آمنت بالله ورسوله. . . إذن فقد انتقل النبي بجسمه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. . .
- انتقل بروحه وبجسمه وبكيانه كاملاً غير منقوص، وليس هذا من الله عجباً، وهو يرويه في القرآن، والقرآن كتابه، وإن كنت تنكرين فاجمعي الإنس والجن وائتوا بسورة من مثله.
- وأنى لي أن أجمع الجن. . . هل تعرفهم أنت وهل تستطيع جمعهم؟
- إني لا أستطيع جمعهم لأني أضعف من ذلك. . .
- ولكنك تعرفهم؟ ولعلك أيضاً تعرف الملائكة؟
- لم يقل لي أحد ما الملائكة، وإن كان أستاذي النائم عبد السلام شهاب قد عرفني بالجن. . .
- ما هذا الاسم العجيب؟ لم أره يكتب لا في الهلال ولا في المقتطف، ولا في الرسالة، ولا في السياسة، ولا في الثقافة. . . فأين تقرأ له.
- إني لا أقرأ له ولكني أسمع منه، وهو يكتفي بأن يقول لي وأن أكتب أنا، وقد قال لي إن الجن ناس، وأسمعني مرة إياهم وأراني مرة بعضهم. ولم يزد على هذا.
- وكيف يمكن هذا؟ أو أن له استعداداً خاصاً؟
- له، وهو مثل كل استعداد غيره يهبه الله لمن يشاء من عباده فيمكنهم به من القيام بما يعجز عنه غيرهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يستطيع به الفنان أن يلمح طبع الخير في بعض الناس وطبع الشر في بعضهم من غير أن يحتك بهم. . . وهو كذلك الاستعداد الذي يلمح به المهندس العلاقات بين النقط والمستقيمات والمنحنيات فيصل بعضها ببعض ويفرق بعضها عن بعض ويبني على ذلك ما يشاء وما لا يوفق إليه غيره. . . ولقد سمعتهم يطبلون طبلاً رهيباً في ليلة هادئة. . . وهؤلاء لم أرهم. . . أما الذي رأيته فواحد كان يسير في ليلة مظلمة في طريق قفر ضيق وراء بيت (عبد الرزاق) في عابدين.(337/49)
- ألم يقل لك (بخ)؟
لا. . . وإنما كان يهرول إلى جانب الجدران وقد انشغل كل الانشغال عن الدنيا وكل ما فيها بما لا يمكن أن يكون إلا تسبيحاً؛ فلما قرأ عليه الذي كنت معه السلام رد السلام في خفوت وسرعة ركبت فيها حروف السلام بعضها بعضاً. . .
- إذا كان هذا هو كل ما سمعته وأريته فإني أستطيع أن أقول إن الذين سمعتهم يطبلون الطبل الرهيب بشر، وإن الذي رأيتماه وحياه صاحبك بشر أيضاً. . .
- وعلى الرغم من أنه كان معنا ثالث لم ير شيئاً مم رأيناه. . . ولم يسمع، فأنا لا أقول غير ما تقولين.
- إذن فلا جن ولا عفاريت.
- إنكارك هذا راجع إلى أنك تتصورين الجن من غير الناس بينما هم ناس. وكل ما في الأمر، عندي، أنهم يختلفون عن الإنس بأنهم جنوا بمحبوب، لكل منهم محبوب. وهم ينطلقون إلى هؤلاء بإحساسهم وتفكيرهم وأخلاقهم وأجسامهم وكل كيانهم ولم يعودوا بعد ذلك يأتنسون بغيرهم من الناس، وقد يسندني في هذا أن العرب رووا أقاصيص كثيرة عن الجن وأنهم كانوا يظهرون للناس ويحادثونهم ويعاشرونهم أحياناً، والقرآن الذي نزل بلغة العرب ذكر الجن بلغة العرب وعني الجن الذين يعرفهم العرب. . . زيدي على ذلك أن بعض أئمة المسلمين أباحوا للمسلمين التزوج من الجن المسلمين وأهل الكتاب، ومعنى هذا أن الجن ناس يكونون جناً أحياناً، ويكونون إنسا أحياناً. أو يلزمون حالة الجنة إذا استغرقوا فيها.
- إذا كان هذا ممكناً فإنه ممكن أيضاً أن يتحول الإنسان إلى جن. . . أليس كذلك؟
- كل شيء ممكن. فقد كان إبليس ملكاً وتحول إلى جن بعد أن فسق عن أمر ربه، والملك الذي أرسله الله لمريم يبشرها بعيسى تمثل لها بشراً سوياً. وسئل النبي (ص) كيف يرى جبريل فقال: إنه يراه أحياناً في صورة دحية الكلبي، على ما أذكر، وهو إنسان. وتفسير قول النبي يحتمل فرضين: فإما أن يكون النبي في الخلوة فيحضره جبريل في صورة دحية، وإما أن يكون مع دحية على انفراد أو بين ناس فيستشف النبي في قرارة دحية. . . جبريل. . . وأنا أميل إلى الأخذ بالفرض الثاني، ولا أمنع الفرض الأول. . . وأعلل(337/50)
الرأي الذي أميل إليه بأن حالات من التقي والرحمة والصفاء تحل ببعض الناس، فإذا هم ينقون من نوازع الدنيا ويسمون إلى دعاء الله فهم عندئذ ملائكة. . . يشعرون بالخير والهدى لا يراهم إلا من فتح الله عليه، وهم أنفسهم لا يهدون وإن كانوا يلهمون الهدى لمن قسم له الله أن يُلهم وأن يُهدى بنظرة منهم أو إشارة أو كلمة أو سكتة أو حركة.
- ولكن هذا الذي تقول ليس في شيء من كتب الدين.
- وليس في كتب الدين حديث عن الألغام الممغطسة، وليس في كتب الدين ذكر التلفزيون. ولا تنس أن كثيراً من كتب الدين أحرق بعد سقوط بغداد، وأن ديننا إسلام وتفكير وتدبر، وللمجتهد المخفق فيه ثواب، وللمصيب ثوابان، والله يعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه. . . وإني سألته التوفيق فلا تقفي في طريقي، أو فمدي لي يد العون يكن لك عند الله الجزاء. . . أو تعرفين أنت الملائك والجن؟
- لا، وإنما أرى وصفك الملائك كأنه الشعر، وأرى وصفك الجن يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً هم الذين ينصرفون بكيانهم كله إلى هدف ما، ومن هؤلاء من هم خيرون، ومنهم من هم أشرار.
- إني لا أستطيع أن أدافع عن رأيي في الملائك بأكثر مما قلت إلا أن أزيد أني أراك كالملائكة أحياناً. . .
- إذن فرأيك صحيح. . .
- وأما الجن، فلا تتصوري أن وصفي إياهم يمكن أن يطبق على ناس كثيرين جداً كما تقولين، فليس من الميسور للكثيرين أن ينصرفوا بكيانهم كله إلى محبوب واحد يجنون به، ويستولي على جماعهم. . . وإنما أغلب الناس بل جلهم يتشتتون وتتوزع اتجاهاتهم ورغباتهم وأهواؤهم، وينزعون إلى الائتناس بغيرهم كلما استوحشت أنفسهم أهواءهم ورغباتهم واتجاهاتهم.
- ومع هذا القيد فإني لا زلت أستطيع أن أعتبر الإنسان العبقري المنصرف إلى فنه من الجن. . .
- إذا كان لا يأنس بغير فنه، وإذا كان لا يستوحش فنه مطلقاً، وإذا كان لا يشغله غير الفن شاغل. . . وكلما قل فيه هذا كان أقرب إلى الناس.(337/51)
- واتباعاً لما تقول أيضاً نستطيع أن نعتبر الإنسان الشرير المستغرق في الشر جناً. . .
- إذا كان لا يأنس بغير الشر، وإذا كان لا يستوحش الشر مطلقاً، وإذا كان لا يشغله شاغل غير الشر إذا ترك لنفسه يختار المشاغل، فهو إذا قابل الناس ابتدرهم بالأذى، وهو إذا غفلت عنه الدنيا أحرقها بناره. إنه الجن الشرير غير المسلم.
- ولكن الذين يعنون بهذه الأحاديث يروون عن الجن أنهم قادرون على الاختفاء، فكيف تعلل هذا الاختفاء. . .
- قلت لك إنها قدرة يعطيها الله لمن يشاء فيطوي بها المكان ويطوي بها الزمن، يقابلها في الناحية الأخرى عجز عن الملاحظة.
- لقد سكت عنك حين نسبت هذه الخوارق للإنسان الراقي ولكني لا أظن أنه يحسن السكوت عنك إذا نسبتها أيضاً للإنسان الشرير الذي يؤذي الناس.
- إن هذا الشرير الذي يؤذي الناس إنما ينزل بالناس قضاء الله الذي هم أهله، وإن لله حكمة في كل ما ترين من تصرفات عباده ألم يقتل الخضر طفلاً لحكمه؟
- كان الخضر شريفاً. . . وقوة كقوته إذا أعطيت لشرير كان فيها تشريف للشر.
- ليس التشريف في القوة، وإنما هو في استعمالها. . . كل الناس فيهم القوة التي تمكنهم من الارتقاء والتحول، أو فيهم نواتها، ومع هذا فأقلهم الذين يريدون أن يرقوا وأن يتحولوا. . .
- وهل تريد أنت أن تتحول؟. . . أظنك تريد أن تكون ملكاً؟
- لا. . . إني أريد حقاً أن أرقى، ولكني أريد أن أظل إنساناً فقد فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . ذلك أن الملك منصرف إلى الله يعبده فقط، ولإنسان يستطيع أن يعبد الله وأن يتأمل خلقه أيضاً، وأن يفكر فيه، وأن يتدبر حكمة الله، وأن يتحدث بنعمته، وأن ينشئ بعد ذلك من فنه عبادة ترضي وهي غير عبادة الملائكة. . . وإلا فقولي لي لماذا فضل الله الناس على خلقه جميعاً. . . إلا بالعقل، إن علينا أن نتجه إلى الله بعقولنا. . . كي نحقق أفضليتنا. إن فينا القوة التي تمكننا من التعالي على الملائكة. . . ولكن كم منا استطاع أن يكون ملكاً لا أكثر.
- ألست تقول إنني أحياناً أبدو كالملائكة؟. . .(337/52)
- لا تؤاخذني فقد نسيت. . . لأنك لا تكونين هكذا إلا نادراً.
- إذا كان عمر وهو عمر لم تحدث منه الخارقة فيما روى من حياته إلا مرة واحدة حسبما قرأت، فهل تظن أن غيره يمكن أن تحدث منه أمثال هذه الخوارق مرات؟
- كان موسى نبياً رسولاً، وقد ساير الخضر وكأنما كان طفلاً معه. . . فالله أعلم كم يستطيع كل إنسان أن يأتي من الخوارق. . . ولكن المؤكد أن الجُنة تصيب بعض الناس في لحظات خاصة يتلخص فيها وجودهم فيقومون بأعمال، أو يقولون كلاماً، ولو سئلوا كيف صدرت عنهم أعمالهم أو أقوالهم هذه عجزوا عن تعليلها، وقال بعضهم إنها إرادة الله، وقال بعضهم وجدت نفسي فعلت أو قلت، وقال بعضهم لا أدري، وقال بعضهم جننت، والحق أنهم جنوا بأهوائهم، وغلبتهم طبائعهم وانطلقوا غير مختارين ولا مقيدين بعقولهم إلى نحو ما كانت تنزع إليه أرواحهم، وما كانت ترتاح إليه أبدانهم تنفيذاً لشيء من قضاء الله سبحانه.
- وقد كان كذلك عمر؟
- كلا. . . إن عمر لم يجن، وإنما عمر رأى، وقال، وسارية سمع. . . فعمر إنسان ممن فضلهم الله على الجن وغير الجن من خلقه. . .
عزيز أحمد فهمي(337/53)
القصص
الإغماء. . .
أقصوصة مصرية
(مهداة إلى الأستاذ محمود بك تيمور)
بقلم الأستاذ خليل شيبوب
كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى. أما عزيز فترجع علاقتي به إلى عهد الحداثة الأولى. وأما سلمى فإن والدتها كانت وثيقة الصلة بوالدتي وكانت تصطحبها قي زيارتها إلى منزلنا حيث كنت أراها يافعة تبرق عيناها ذكاء وأستلذ محادثتها في فترات قصيرة بين والدتها ووالدتي.
ولعلي كنت السبب في زواجهما لأن عزيزاً قابلها في منزلنا غير ما مرة، ولم يصادف صعوبة حين عقد النية على الزواج منها لا من أهله ولا من أهل الفتاة. وعاشا عيشة رضية بضع سنوات ماتت في خلالها والدة سلمى ووالدتي. وكم مرة كنا نتحدث عنهما وتثير أليمة الذكريات. ولم يرزق عزيز ولداً فما اهتم للأمر كما أن سلمى أيضاً لم تهتم له ولم ينشب بينهما ذلك الخلاف العهيد الذي يبعث به عقم الرجل أو المرأة.
أجل، كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر وزوجته سلمى حتى أني كنت أتناول طعام الغذاء أو العشاء مرات كل شهر في منزلهما الذي اشتراه عزيز على ضفة المحمودية في عزلة عن الأوساط الصاخبة وفرشه بأفخر أنواع الرياش، ووسع حوله حديقة مغروسة بمختلف الأزهار والرياحين. ولا أزال أذكر مجالسنا فيها للأنس والسمر في أيام الربيع المزهرة، وليالي الصيف المقمرة، كما لا أزال أذكر مجالسنا بعد العشاء في قاعة التدخين على مقاعد الجلد العريضة في ليالي الشتاء الباردة، وأستار الحرير القاتم مدلاة على النوافذ، والطنافس المفروشة تحت أقدامنا تبعث في جو القاعة حرارة طيبة، بينما يتساقط المطر خارجاً بين هزيم الرعود، وولولة الرياح.
والأستاذ عزيز سامر محام معروف كثير الأعمال وافر الربح يعيش في يسر ودعة. وسلمى فتاة طيبة القلب، جميلة الوجه، أنيقة الملبس. تدير منزلها في كثير من النظافة والمرح،(337/54)
وتستلذ الخروج مع زوجها إلى مشارب الجعة ومساهر السينما ودور التمثيل. وكم صحبتهما إليها وكم احتدم الجدل بيني وبين سلمى على الملابس النسائية وائتلاف ألوانها، واختلاف أشكالها وطولها وقصرها، ومناسبتها وغير مناسبتها. وكانت سلمى تحب مداعبتي وإحراج زوجها وتهمته بفقدان الذوق في هذه الأمور الهامة.
ولا أعدو الحقيقة إذ قررت أن سلمى على جانب من الثقافة يجعلها تتذوق القراءة الأنيقة، وبخاصة هذه الأقاصيص التي اكتظت بها الكتب الحديثة. ولكنها كانت تعجب كل الإعجاب بالكاتب القصصي جي دي موباسان، لأن أقصوصته نيرة مشرقة مترعة بالحياة يتدفق الذوق الفني في سطورها البارزة حتى كأنها رسم بارع الألوان تامُّ التخطيطات تكاد الصورة تنطق بين ثناياه.
وإني لأشعر بكثير من الغبطة كلما ذكرت تلك الساعات الأدبية التي مرت بنا وبخاصة كيف كنت أضحك من الأحكام الجائرة التي كان يحمل بها عزيز سامر على الأدب والأدباء فيقول لزوجته:
- دعي عنك هذه السفاسف!. . إن أدباءك أناس أخفقوا في عواطفهم فقذفوا بها في وجه الناس وهم يظنون أنهم يأتون بالمعجزات.
فتقول له سلمى في كثير من التهكم:
- أنت يا عزيز لا تفهم إلا (حيث إنّ). . . تريد بذلك (حيثيات) الأحكام. . . وتضيف إلى قولها: أن الأدب مرآة الحياة كما يقولون ولكن (حيث إنّ) هذه لا حياة فيها.
فيجيبها عزيز بأن الأدب مرآة مشوِّهة للحياة لا تعكس إلا ما يظهر منها بينما ما خفي أكثر وأدق، وقد يكون أجل وأعظم. . .
فأتدخل بينهما وأقول:
- قد يكون ذلك كذلك وكلاكما على حق. والأدب دنيا والمحاماة دنيا، قد تلتقيان وقد تفترقان. . .
وكنا نفترق عادة ولم يقنع أحد فينا رفيقه.
ولكن هذه العيشة الراضية لم تدم طويلاً، لأن سلمى كانت تمر بها السنون مقفرة الأيام إلا من زوج تعودته وخدم ألفتهم وقليل من الأصدقاء ملّت صحبتهم. وصرت أشعر في(337/55)
أحاديثها بكثير من الضجر والسأم فأختصر الزيارة أو أعكس وجهة الحديث أو أنقطع عنهما أسابيع.
ولا أنس يوماً وأنا مكب في مكتبي على عمل هام إذ اندفع إليه عزيز سامر فجأة كأنه قذيفة طائشة فنهضت منذعراً أرحب به، وهو يقول:
- اسمع يا فريد! إن هذه الحياة لن تطول بي وإني لأختنق. لقد بلغت مناقشاتي مع سلمى درجة من الحدَّة حملتها على التفكير في الطلاق.
فسكنت روعه ولطفت من هياجه، وبين فنجان من القهوة ولفافة من التبغ فهمت أن سلمى اندفعت من طريق المطالعة إلى حد خرجت به عن التسلية إلى الجد، وأنها صارت تطبق على زوجها كل الآراء والأفكار التي تقرأها. وأنها تلح عليه في الجدل والمساجلة حتى يتبرم بها ويكاد يجنُّ من الأسئلة والأجوبة، وهو رجل لا يفكر إلا في قضاياه وملفاته، وقد أضحكني عزيز كل الضحك حينما سألته أن يضرب لي مثلاً لذلك فقال:
- تصور يا فريد أنها قرأت قصة من قصص موباسان حدثتني أن صاحبتها كانت إذا أرادت رجلاً لنفسها ورأت فيه شيئاً من الاستحياء والخجل تصنَّعت الإغماء بين يديه حتى يضمها إلى صدره ويغتنم فرصة إغمائها.
فتهالكت من الضحك وقلت لعزيز: إن هذا ايوجد إلا في القصص. فتغاضب عزيز وقال: لا تضحك بل اسمع ماذا سألتني سلمى.
قلت: ماذا؟
قال: سألتني بعد أن أعربت عن إعجابها بهذه الناشرة المريضة: ماذا أفعل لو أن سيدة أغمي عليها وألقت بنفسها بين يدي. . . فأجبتها بأني أستدعي لها الإسعاف. . . فقالت لي: أنت رجل مغفَّل! ومن هنا نشأ بيننا جدل عنيف لم ينته إلى الصباح، وقضينا ليلة ساهرة في المصايحة والمهاترة.
وزاد عزيز على قوله:
- لذلك أرجو منك يا صديقي أن تحاول ردَّ سلمى إلى صوابها، وتحملها على الإقلاع عن هذا الهذيان الذي يقودنا حتماً إلى المحكمة الشرعية.
ووعدت عزيزاً بالتدخل، وفعلاً خاطبت سلمى في الأمر وأخذت أخضد من رغبتها في(337/56)
قراءة الكتب الجامحة دون أن تسترشد بدليل يميز لها الغث من السمين، والنافع من الضار. ورضيت بي سلمى مرشداً أدلها على الكتب الطيبة والأقاصيص الطريفة الأدبية التي تمتزج بالحياة من جهاتها القويمة. وصرت أشتري لها بعض الكتب التي كنت أعرف في مؤلفيها ميلاً إلى إصلاح المجتمع والمحافظة على الأخلاق.
ومضت فترة من الزمن تبينت فيها أن سلمى لم تعد تلك الزوجة المفهومة التي ترتسم على وجهها كل معاني نفسها بل أصبحت كثيرة التأنق في ملبوسها وزينتها واختيار عطورها بل صرت أراها تتعمد إثارة الفتنة بملامحها وجلستها ومشيتها، وكأنما زاد بريق عينيها السوداوين الواسعتين بما كانت توسع من أشفارهما بالكحل، وتبالغ في توضيح أنوثتها بارتجاج جسمها في نقل خطواتها. وصارت تزيد أثوابها قصراً وتغالي في تعرية زنديها وصدرها، وصار زوجها يشكو من هذا كله فأقول له:
- دع سلمى، إنها فتاة طيبة، وإن الزينة حياة المرأة، ولا ضير عليك ولا عليها من الأناقة ومسايرة أزياء العصر.
وفي الواقع كان تطور سلمى بطيئاً وما كانت لتلفت نظري ونظر زوجها لولا بعض أثواب قديمة لها كانت ترتديها في بعض الأحايين فترينا الفرق بين ما كانت عليه وما صارت إليه، ولكنني وزوجها ما برحنا نعتقد أن شغفها بالزينة نتيجة التقليد فقط، وأن المرأة أكثر ما تتزين لتباهي بزينتها غيرها من النساء، وأن هذا كله بريء كل البراءة، لا يفضي ولن يفضي إلى ما لا يصح السكوت عنه.
ولقد صادفت سلمى مرات في الشارع منفردةً تدور على المخازن كما تقول ذلك كل النساء، وأظن أني لمحت مرة شاباً يترسم خطاها وهي تشجعه بابتسامتها له، ولكن ظهوري أمامها صرفه عنها وصرفها إليّ. وأذكر أني فسرت ذلك بأنه حادث عادي، ولم أشأ أن أفسر ابتسامة سلمى له سوى أنها محض توهم مني.
وسئمت سلمى من المطالعة ورغبت إليّ ألاّ أتعب نفسي في اقتناء الكتب لها، وكنت سئمت التفكير فيما أقدمه إليها، وهي مهمة محرجة، فحمدت لها رغبتها تلك وفي صدري منها مرارة مبهمة. وصرت ألاحظ أن سلمى إذا جلست إلى جانبي ألقت بنفسها متهالكة على المقعد في حركة غريبة، وكانت من قبل تقعد قعود الصراحة، وصرت ألاحظ أنها ترنو إلي(337/57)
خلسة بعض الرنو بألح اظ فاترة مستطيلة، وأني إذا حملت إليها على عادتي القديمة بعض الهدايا أخذتها بلا شكر كأنها فرض أؤديه ولكنها كانت تتحين فرصة يكون فيها زوجها بعيداً عنا فتخاطبني عن هديتي في لطف وهدوء لم أعهدهما فيها كأنما تجعل نفسها مقصودة بها باعثة عليها، لا المنزل ولا الصداقة القديمة.
وإننا معشر الرجال ليطيب لنا مثل هذا الجو الفاتر الذي تثيره المرأة حولنا ونشعر فيه بلذة غامضة، إلا أن هذه اللذة كانت مشوبة عندي بكثير من تأنيب النفس وكنت أشعر بأنني لست راضياً عن سلمى الجديدة لأنني كنت أكثر ميلاً إلى سلمى القديمة المرحة التي عايشتها مع زوجها عيشة الألفة البريئة الصريحة. ومما زاد في عدم رضائي عنها أنها صارت تكثر من مخاطبتي بالتلفون وتطيل صوتها في شيء من الدلال وتسألني دائماً عن صحتي وعن ليلتي وعن إصباحي وعن إمسائي كأنني مريض تريد أن تطمئن على سير مرضه.
ومرت الأيام وهذا الجو يزداد حرارة حتى إني صرت أحس بأن عينيَّ تثبتان على سلمى ثبوت تفحص لجسمها البض، ووجهها الغض، وقوامها المجدول وابتسامتها الساحرة وجبينها المشرق، وبخاصة بريق عينيها السوداوين الواسعتين.
(البقية في العدد القادم)
خليل شيبوب(337/58)
من هنا ومن هناك
حرب الحصار
(عن مجلة (تروث) لندن)
الحرب الحديثة حرب مصادرات وتضييق، فالجانب الذي يتغلب على الآخر في مصادرة بضائعة هو الذي يكسب الحرب.
إن الحصار البحري فضلاً عن أنه سلاح ناجح قد قل بواسطته عدد القتلى في الحرب، فإذا أخفق في مهمته لم تكن الخسارة بالشيء الذي لا يحتمله المحاربون، وقد جعلت البحرية البريطانية من همها أن يقل عدد السفن التجارية التي تغرق في عرض البحار.
إن الحصار البحري الناجح - مع ماله من القوة - لا يحتاج في تنفيذه إلى شيء من العنف، فقد تقضي السفن الحربية مدة الحرب جميعها دون أن تسمع كلمة (ارفع البندقية وكن مستعداً) وقد بلغنا عن طريق الأسر ومصادرة السفن ضعف ما بلغه عدونا بإغراق السفن بواسطة (الغواصات)؛ فإن الأسر والمصادرة (كالانتخاب ذي الصوتين)، ولكن أصحاب العقول المخربة، والنفوس المتعطشة للدماء، يظنون أن الحرب لا تكسب بغير القتل والتدمير؛ والحروب البريطانية على النقيض من ذلك، فهي تصل بنا إلى الغاية بالمصادرة لا بالقتل، وبالاحتفاظ ببضائع العدو التي تقع في أيدي رجالنا لا بتدميرها. فالجندي المخرب حين يرسل إلى البحار لا يفكر إلا في إغراق السفن، ولكن رجل البحار يصادر بضائع العدو ليستخدمها لنفسه، وبذلك يكسب الحرب.
إن سكان البلاد الشمالية وجيوشها ومصانعها لا تستطيع جميعاً أن تحصل على شيء من خيرات البلاد الاستوائية بغير إرادتنا.
وقد تذهب مجهودات الأمة المحاربة أدراج الرياح إذا هي حرمت من بعض المواد الأساسية: كالقطن والنترات والفوسفات والمطاط وزيت النخيل وغيره من المواد الدهنية والشحوم والبن والكاكاو وأطعمة البلاد الاستوائية جميعاً. بل إن شيئاً من صادرات تلك البلاد لا يمكن أن يصل إلى أوربا بغير إرادتنا. فجميع المضايق التي تمر بها تلك الصادرات تحت إشرافنا، ويكفي إرسال قوة من الطرادات والسفن الصغيرة تحت حراسة الأسطول لحصر التجارة بين مضيق جبل طارق البالغ اتساعه ثمانية أميال، ومضيق دوفر(337/59)
البالغ اتساعه ثمانية عشر ميلاً، ومائتي الميل الواقعة بين سكوتلاند والنرويج، وبذلك نستطيع أن نحاصر أوربا إذا اختارت أوربا أن تكون عدواً لنا، ومن هذه المضايق نستطيع أن نسمح بمرور ما نشاء لحلفائنا وأصدقائنا المحايدين سواء أكان وراداً إليهم من المناطق الاستوائية أو الأمريكيتين أو أفريقيا أو الدنيا القديمة. . .
ونستطيع أن نصادر ما يحمل منها إلى أعدائنا ونستغله لأنفسنا.
وقد اختفت من البحار فعلاً جميع السفن التي كانت تحمل البضائع لألمانيا، ولم يحاول أحد الآن أن يفر من حصارنا ويجازف بإرسال شيء إلى ألمانيا، لأن الجميع لا يشكون في أننا سنصادر بضاعتهم في الحال.
فالحصار البحري - وهو سلاحنا في الحرب - هو أقوى الأسلحة وأكثرها اقتصاداً في المال والأرواح. . .
يوم من أيام الحرب في برلين
(عن (لاربابليك دي لبه))
سكان ألمانيا اليوم يعيشون عيشة رتيبة، ويحيون حياة لا تختلف عن حياة الجنود: فالرجل الألماني يستيقظ من الساعة السادسة والنصف صباحاً - لا لسبب - إلا أن يكون أمام موزع الألبان قبل الساعة السابعة. . . فيتاح له أن يصرف البطاقة التي يستطيع بها أن ينال المقرر له من هذا الطعام!
وفي غالب الأحيان لا يصل إلى أيدي الباعة أكثر من ثلثي اللبن المطلوب. فيندفع الأهالي إلى شرائه، ويتزاحم المشترون بالمناكب. . . فإذا كانت الساعة السابعة والربع جاء موعد توزيع المقرر من الخبز: وهو خمس أوقيات ونصف أوقية؛ وعليك أن تطلبها ثلاث مرات في اليوم الواحد، حتى لا تحرم تصيبك من هذه المادة الأساسية في الطعام.
ولا يحتاج المشتري لحمل نقود معه لشراء هذه الأشياء، فيكفي أن تكون معه البطاقة ليصرف إليه المطلوب، وتجمع هذه البطاقات في نهاية الأسبوع وتخصم قيمتها من مجموع الأجور، ولا يتبقى بعد هذه المشتريات في غالب الأحيان غير النذر القليل من باقي الأجور. ونستطيع أن نقول: إن في مقدور الرنح أن يسخر الشعب على هذه الصورة وقتاً(337/60)
ما، كما يسخر الأرقاء، ولا يبذل (ماركا) واحداً في الأسواق.
وكما أن جميع سكان ألمانيا المتحضرين يستيقظون كالأبطال في ساعة مبكرة من النهار، وينتظرون في صبر وجلد توزيع الأقوات، فإنهم لفي حاجة شديدة إلى الانتظار لتوزيع البترول والفحم اللذين يوزعان بمقادير دقيقة.
فالألمان والحالة هذه لا يستطيعون أن يقوموا بتحضير طعام الإفطار قبل الساعة الثامنة، وفي هذا الوقت يستمعون إلى الإذاعة إذ أن التيار الكهربائي ينقطع بعد هذا الميعاد.
وقد وضع الفوهرر هذا النظام ليكون متفقاً مع النظام الذي وضعه للعمل. فقد لا تجد بعد الساعة الثامنة نازياً واحداً خارج العمل: إما داخل المصنع أو في الإدارة حيث يجب أن يكون خاضعاً لمثل هذه التعاليم، ويتسلم مثل هذه البطاقات شأن ثمانين مليوناً من الوطنيين. وفي الساعة العاشرة تماما يجب أن يقف على قدميه سواء أكان في المصنع أو المصلحة ليستمع إلى حديث الدعاية الرسمي ثم يعود فيعكف على عمله صامتاً حتى منتصف النهار، إذ يتناول بطاقته ويتبوأ مكاناً في المطعم، وعليه أن يقضي نصف ساعة في هذه الوجهة، ثم يعود إلى عمله.
ويظل في هذا العمل إلى الساعة الثامنة مساء. فإذا ما عاد إلى منزله، فعليه أن يسارع إلى استحضار الغذاء المقرر له، وعليه ألا يهمل حمل بطاقته. فإذا جاءت الساعة التاسعة وجب عليه ن يصغي مجبراً إلى الإذاعة ثانية، وقد لا يستطيع الخروج إلى نزهة خلوية، أو الذهاب إلى دور السينما لتتبع الأفلام الحديثة إذا فقد البترول وانقطعت السيارات لعامة. أما السهرات المنزلية المعروفة، فقد صدرت الأوامر بمنعها بتاتاً.
وهكذا ينقضي اليوم في ذلك البلد المسكين!(337/61)
البريد الأدبي
نهج البلاغة
إلى حضرة الأستاذ البارع الفاضل (سائل) من (العراق) في مجلة العرب (الرسالة).
(نهج البلاغة) يا أخي - من كتب إخواننا الإمامية، ومن الكنوز العربية، وهو مجموعة مصطفاة، وإن لم يحبره سيدنا عليّ (رضوان الله عليه) فقد انتقاه وحبره علويين كما زخرف محدثون و (كل حزب بما لديهم فرحون) وإن همهم تحقيق وتأريخ، فقد ابتهج الأدب واللغة. ولولا إبداع المبدعين أو صوغ الصياغين ما ورثنا هذه الثروة الفخمة الضخمة في الأدب العربي. وليس عندي اليوم مزيد على ما قلته في (نهج البلاغة) في (كلمة في اللغة العربية) وفي (الإسلام الصحيح) وإذا لم يكن ما خططته في الكتابين (كلمة الفصل) فربما كان (فصلاً من الفصول) المرْصَنة فيه.
محمد إسعاف النشاشيبي
في كلية الآداب
كتب الأديب عبد الرحمن بدوي في عدد الرسالة الماضي كلمة حاول الرد فيها على إشارة الدكتور بشر فارس ومقالات غيره من الجامعيين التي ظهرت متعاقبة في الرسالة تحت عنوان (في كلية الآداب) وكان الغرض منها ذكر ما ينعم به مدرس أجنبي عندنا من حظوة وما يلاقيه المصريّ المماثل له من ضيق. ونحن ندهش كيف لم يتعرض لنا غيره مع علمنا بانتشار ما أذيع هنا في الدوائر المسئولة وإحداثه ما يستحق من تأثير. ولولا الخوف من أثر ما قد يحدثه كلام الكاتب في نفوس بعض القراء ما تعرّضنا اليوم للكشف عن اغتصابه للدفاع وتهافته فيه.
يقول: (أما مسألة استقدام الدكتور بينس فهي في ذاتها أمنية تجيش في نفوسنا نحن المدرسين المصريين المستقلين أو المشتغلين بالفلسفة الإسلامية الخ)، والذي نعرفه - وأمامنا برامج دروس كلية الآداب لهذا العام - أن الكاتب لا علاقة له بتدريس الفلسفة السلامية في الكلية، وإنما هو طالب في قسم (الماجستير) فهو يتصف بغير صفته، وقد قال بعد ذلك إنه مصري يعز عليه الدفاع عن أجنبي إزاء مواطنين، ويحق له أن يعتذر عن(337/62)
ذلك ولا سيما إذا تذكر انتماءه إلى طائفة الشباب التي اشتهرت في حين ما بالعداء المتطرِّف لكل ما هو أجنبي. ألم تنشر (مصر الفتاة) صيف 1937 مقالاً تهكمياً عن هذا المدرس الأجنبي لما حظي إذ ذاك بمكافأة للسفر إلى باريس؟ وهذه المكافأة هي إحدى الحقائق التي ينكرها الكاتب ويحاول تكذيبها اليوم.
وعلى ذلك فإذا تعرض بدوي لما لا يعنيه، وتعامى عن الواقع الذي ثار له هو وإخوانه من قبل، فاغتصب الدفاع عما كاد يتم لولا ما كتب في الرسالة فهنالك ما أومن أنه دفعه إلى ذلك دفعاً، وبئس التوجيه في مثل هذه الحال، ومتى استقر التوجيه قام الشك. وعليه فإننا في هذه الكلمة نزدري دفاعه المغتصب، وإنما غرضنا أن نبين له كيف يجري قلمه بغير ضابط وهو يطلب العلم العالي.
على أن الكاتب المدافع لا يتردد في تعمد المغالطة. وبيان هذا أن الدكتور بشر فارس، وله الفضل في إثارة المسألة، أشار فيما أشار إلى (تلطف) ذلك المدرس الأجنبي للظفر بإدارة المكتبة العامة للجامعة. ولكن بدوي أفندي تكلم عن مكتبة الكلية ومكتبة معهد من معاهدها مع علمه أن الإشراف على مثل هذه المكتبات لا يحتاج إلى مدير. وأما إشادته بفضل المدرس المشار إليه في ترتيب المكتبة الخاصة بقسم اللغة العربية، فإننا نؤكد أننا لم نسمع من قبل مدحاً لهذا العمل، بل سمعنا من المختصين بفن المكتبات الشكوى منه. ويبرر شكواهم أن هذه المكتبة الفرعية لم يستقر لها نظام بعد، وأن وجودها على ما هي عليه معطل للنظام القائم في المكتبة العامة. وما دمنا ملزمين بالكشف عن تهافت السيد بدوي في دفاعه فإنا نزيد: كيف يأذن لنفسه أن يقول في وصف الشاب (بينس) بأنه (مستشرق ممتاز، وقطب من أقطاب الجيل)؟ وادَّعى أن الدكتور بشر تجاهل اسمه! أن (بينس) لا يحمل إلا الدكتوراه الألمانية العادية، وهي شهادة لا تقنع بها كلية الآداب ولا الجامعة الأزهرية من أعضاء بعثاتها إذ تلزمانهم نيل إجازة التدريس العالي في ألمانيا وهي (الهابلتاسيون). فضلاً عن أن دكتوراه (بينس) لم تقبلها جامعة باريس معادلة لشهادة (الليسانس في الآداب الفرنسية) يوم تلمس الرجل الانتساب إلى جامعة باريس ليظفر منها بالدكتوراه.
ومما يدل أيضاً على عدم تحوط المدافع في الكتابة أنه قال: إن (بينس) (بدأ يتبوّأ مركز(337/63)
الصدارة في حركة الاستشراق بعد أن انقضى الجيل السابق من المستشرقين أو كاد بعد موت المرحوم نلّينو). ألم يسمع الكاتب من أساتذته أنه لا يزال من المستشرقين على قيد الحياة أندادٌ لنلّينو العظيم ومن جيله، وبين قراء الرسالة من يعرف بروكلمَنْ ولتمْنْ وشيدَر ورِتَّر وفِشَر وهرتمَن في ألمانيا. ثم مارْسيه ودومامبين في فرنسا. ومرغوليوث ومِتْفُخ ورُسّ مثلاً في إنجلترا، وبالاثيوس في أسبانيا، ونيبرج في أسوج؟
ثم إن الكاتب يجدّ في ترويج البضاعة المزجاة فيترخص في استعمال الألفاظ ويسرف في سوء الظن ويقول: إن الدكتور بشر حرص على إرضاء شهوة صديقه (يعنينا) في أن ينال من هذا المدرس الأجنبي، والدكتور بشر وزملاؤه من الجامعيين لا يعنيهم أمر هذا المدرس على وجه التخصيص بقدر ما يعنيهم إنصاف المصري والرفق بماله، كما تعنيهم فوق ذلك مصلحة الثقافة إطلاقاً.
وأحب أن أختم هذه الكلمة بقولي للكاتب ومن دفعه إلى الكتابة إننا نعلم اليوم حق العلم أن كلية الآداب لن تستقدم (بينس) بالرغم من سعي بعضهم. والفضل في ذلك راجع إلى ما أثير في مجلة الرسالة.
(جامعي آخر)
1 - جائزة نوبل تمنح لأديب فنلندي
منحت جائزة نوبل في هذا العام لأديب بارع من فنلندا اسمه ? ?، وقد أجمع أهل الرأي في الأدب على أن هذا الأديب هو أعظم قصصي عرفته فنلندا في هذا القرن من حيث طرافة مادته، وخصوبة خياله، وغزارة بيانه.
ولد هذا الأديب سنة 1888، في أسرة فقيرة معدمة، بين أحضان إحدى القرى. فقضى طفولته، وشطراً من صباه، بعيداً عن المدن، بين غابات الصنوبر وشطآن البحيرات، ومال إلى الأدب والشعر مذ كان يافعاً. ثم انكب على المطالعة الشخصية حتى استطاع أن يصبح الأديب الأول في بلاده. فلما كانت سنة 1916 أخرج للناس كتابه الأول (الحياة والشمس) فبهر الناس بوصف رائع للطبيعة، يجذب ويغري. ثم أتبعه بكتابه الثاني (البؤس المقدس). وقد نقل هذا الكتاب إلى الفرنسية. ثم اختص بالأقاصيص، فأخرج: (وطني العزيز) و(337/64)
(بالقرب من الأرض).
وفي سنة 1928 أخرج (اعترافاته) فأحدث أثراً في فنلندا، وقد شبه الناقدون كتابه هذا، بالزهرة المتفتحة ذات الأريج العطر المسكر. لأنه كان فيه بعيداً عن التكلف والنحت، سهلاً متدفقاً رائعاً.
وكان يؤخذ على أديب فنلندا الأكبر الإطناب وعدم الدقة، وهذا المأخذ لا يأتي من ضعف الشخصية المبدعة، ولكن من قلة إعمال الفكر والملاحظة. على أنه نجا من هذا العيب في كتابه الذي أسماه (ماتت في ريعان الصبى)، وقد ترجم إلى كثير من اللغات ويعد أروع ما أخرجه للناس.
ونستطيع أن نقدّم لهذه القصّة خلاصة موجزة لشأنها الكبير: فقد كان لزوجين من أغنياء القرويين ولد فرد، تزوج فتاة من أقرباء أبيه. ولم يلبث طويلاً حتى قضى أبوه ولحقت به أمه. فبدأ يعاني جفوة الزمان وإهمال الزوج. فقد كانت زوجه ضعيفة الخلق مريضة الجسم، لا تستطيع أن تشد أزره أو تساعده على تدبير أطيانه واستثمار أمواله. ولم يكن ذا بأس شديد أو حزم ماض أو إرادة صلبة، فبدأ الناس يسلبونه ماله، ويوقعون بينه وبين أعوانه، فاضطر إلى بيع أراضيه الواسعة وحقوله الشاسعة، وداره التي رأى النور فيها، ومنزله الذي عاش فيه أبواه ومن قبلهما أجداده. فخشي الذل، ورحل إلى قرية مجاورة وعاش فيها يُعاني ألم الفقر وبؤس العوز، ثم فجع في زوجته التي قضت نحبها أسيانة حزينة.
وعاش الرجل (غوستاف) مع ابنته (سليجا) التي تركتها زوجته من خلفها، وكان شديد الحب لها، والتعلق بها، ولكنه لم يمتّع بالعيش معها طويلاً، بل مات وعمرها خمسة عشر عاماً. فاضطرها اليتم والفقر إلى الخدمة في قرية مجاورة. وكانت حلوة العينين، عذبة الكلام، أنيقة الجمال؛ وكانت تؤثر الوحدة والانفراد إذا فرغت من عملها على الاختلاط بالناس. وما كان أحد ليستطيع معرفة ما يجول في خاطرها ويعجّ في نفسها. فلما تخطت العشرين من عمرها التحقت بخدمة شيخ كان أستاذاً في إحدى الجامعات فحنا عليها بلطفه وآثرها بعطفه، فذاقت الراحة وعرفت لهناء وساعدها الزمان، فعرفها شاب اسمه (أرماس) أتى من المدينة ليصيف، فتحابَّا وقضيا ليلة (تدنيه ويدنيها) حتى إذا كان طفل الغداة تلقى(337/65)
كتاباً ينبئه بمرض أصاب أمه وكاد يهلكها فتفارقا، وكان العام 1917 في أوائله والحرب مستعرة الأوار، والفوضى ضاربة إطنابها في كل مكان.
ومرضت (سيلجا) وما شفيت إلا بعد زمن طويل، وكان الأستاذ الشيخ قد اضطر إلى الرحيل، فتركته والتحقت بخدمة أناس آخرين، فعاودها المرض، وكانت تدعو ربها أن يعيد إليها (أرماس) وأن ينقذه من شر الحرب الأهلية التي قامت آنئذ وأن يقيه شر الجنود الحمر الذين هاجموا البلاد. وأضنى المرض جسمها فعجزت عن العمل، ولكن سيدتها أبقتها طمعاً في صُبابة مال كانت ادخرتها، وآوتها في غرفة حقيرة قطَّعت فيها أيامها الأخيرة وهي راضية مطمئنة لا تأبه بمرضها ولا تخشى الموت، معتقدة أنها ستلقى يوماً خطيبها الشاب الذي أحبته، والذي أصيب بمرض في صدره، وقطع الحمر رجله. وتفقدوها ذات يوم فألفوها ميتة وهي تبسم.
ويُعدُّ هذا الأديب مجدِّداً، فقد أعرض عن الأقوال السالفة والتعابير السخيفة التي لجأ إليها من سبقه من الكتاب، ولا تصلح الآن، وابتدع أقوالاً وتشبيهات كثيرة ترقص وتعجب.
صلاح الدين المنجد
2 - خير الدين الزركلي الكاتب
قرأت في ثنايا نقد الدكتور بشر فارس لتاريخ الآداب العربية لبروكملن أن هذا المستشرق قد جعل خير الدين الزركلي في عداد الكتاب. على أن خير الدين ليس بكاتب، ولا يصح أن نسميه كاتباً لئلا تنهار شهرته، لأن ما أخرجه للناس في النثر ليس بشيء، اللهم إلا (أعلامه) وكلها جمع.
أما ميزة خير الدين فهي في شعره. ولقد كان - وأعني خير الدين الشاعر، لا خير الدين الموظف - من أرق شعرائنا وأنصعهم ديباجة، وأحلاهم شعراً؛ ولقد كان في طليعة شعراء سورية المطبوعين السباقين.
ونقد الدكتور بشر يبين للناس خلط بعض هؤلاء. . . وهل من الدقة ومن البحث والتحقيق جعل الشعراء كتاباً ومنح الألقاب من لا ألقاب لهم!
ص. ا(337/66)
شعراء الشرق والطبيعة الغربية
اطلعت في عدد يوم الأحد الماضي من جريدة (الإجبشان مايل) الإنجليزية على كلمة كتبها مكاتب فاضل بمناسبة قصيدة أخي الشاعر الأستاذ علي محمود طه (أغنية الجندول) التي غناها الأستاذ عبد الوهاب في الإذاعة المصرية.
وكل ما جاء في الإجبشان مايل خاصاً بشاعرية صديقي فهو حق؛ وصديقي شاعر مجيد له وثبات وومضات معروفة. إلا أن الكاتب الفاضل ذكر أن علي محمود طه (هو الشاعر الشرقي الوحيد الذي سحر بجمال الطبيعة في الغرب وسجل هذا الجمال في شعره الغنائي).
والواقع أن هذا الكلام بعيد من الحق كل البعد. ففي الشرق شعراء كثيرون اطلعوا على مباهج الطبيعة في الغرب وسجلوها في شعرهم قبل أن يشدو علي محمود طه ببيت، وقبل أن يزور أوربا زيارته العابرة بزمن طويل.
وإذا خلَّينا شوقيّاً وحافظاً ومطران فهناك كثير من الشعراء الشرقيين تغنوا بمحاسن الطبيعة الغربية في شعر عربي جميل.
أين إيليا أبو ماضي وقصيدته (العوسجة) وأين مخائيل نعيمة وقصيدته الخالدة (النهر المتجمد) وأين شكر الله الجر وقصيدته (شلال تيجوكا) التي نشرت بالمقتطف سنة 1932؟
ولصديقي العتيق (في الصداقة لا في السن!) الدكتور بشر فارس قصائده الغنائية الخالدة في وصف الطبيعة الأوربية، وقد نظمها متأثراً بالجو الغربي الذي عاش فيه زمناً طويلاً، وقد نشر المقتطف أكثر قصائده منذ سنة 1928 كقصائده الأربع (الخريف، والشتاء، والربيع، والصيف في باريس)، ثم الخريف في برلين. وآخر قصائده (في جبال بافاريا) التي نشرت في مقتطف مارس سنة 1937 وأعادت نشرها مجلة (الجمهور) البيروتية في العام نفسه.
وأغلب شعر (الشاعر القروي) في وصف مجالي الطبيعة في أمريكا الجنوبية. ولزميلي الأستاذ فخري أبو السعود شعر كثير في وصف الطبيعة الأوربية وخاصة مقاطعة (ديفون) الإنجليزية التي عشنا فيها زماناً.
ولكاتب هذه الكلمة قصائد كثيرة تنشر في مجلة المقتطف من سنة 1935 إلى الآن تحت(337/67)
عنوان (وحي إنجلترا) نذكر منها (ديفون الجميلة) (وأرض شكسبير) (وبحيرة دندرمير) والقرية النائمة - مقتطف ديسمبر سنة 1939، وقد سجلت تذكاراً لزيارتي القصيرة للجبل الأبيض بفرنسا قصيدة في مقتطف ديسمبر سنة 1937 عنوانها: (ثلاجة الجبل الأبيض). . .
محمد عبد الغني حسن
طبع الكتب الدينية
على أثر ما نشرناه من بعض الأخطاء في طبع أحد المصاحف التي ظهرت أخيراً، اهتم فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بالأمر، وأخذ في تحقيقه تمهيداً لمنع تداول هذا المصحف.
وقد قابل فضيلته في مكتبه فضيلة شيخ المقارئ، وصاحب المطبعة التي طبعت هذا المصحف ودار البحث حول هذا الموضوع.
وقد اعتزم فضيلة الأستاذ الأكبر اتخاذ التدابير لتنظيم الإشراف على طبع القرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير والفقه والتوحيد وما إلى ذلك من الكتب الدينية، بحيث يراجع بعض حضرات العلماء هذه الكتب في أثناء طبعها، فلا يؤذن لدور الطباعة في إصدارها إلا بعد هذه المراجعة، إذ يرى فضيلته أن وقوع أي خطأ في هذه الكتب، قد يقوم عليه حكم شرعي غير صحيح، أو يتخذ منه دعاة التأويل وسيلة لتضليل العامة.
تاريخ الأمة المصرية
أصدر معالي وزير المعارف قراراً بترجمة كتاب (تاريخ الأمة المصرية) من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. وقد جاء في ديباجة القرار أنه بالنسبة لما لهذا الكتاب الذي ألفه جماعة من المؤرخين الفرنسيين برياسة المسيو جبربيل هانوتو والذي شمله بالرعاية السامية صاحب الجلالة المغفور له الملك فؤاد الأول، من القيمة العظيمة في تصوير تاريخ مصر في عصورها المختلفة.
ولما كان من الخير أن يعم به النفع ويستطيع الرجوع إليه والانتفاع به جميع المثقفين في مصر والشرق العربي من الذين لا يحسنون اللغة الفرنسية، وتحقيقاً لما ينبغي من إغناء(337/68)
اللغة العربية بأن تنقل إليها أمهات الكتب الجامعة في العلم والأدب والفن، فقد تقرر ما يأتي: تؤلف لجنة لترجمة كتاب (تاريخ الأمة المصرية) إلى اللغة العربية في أسلوب قريب يسير ولمراجعة هذه الترجمة.
يكافأ المترجمون والمراجعون على ما يبذلون من جهد.
يشرف الدكتور طه حسين بك على هذه الترجمة تحقيقاً لما ينبغي بين أجزائه المختلفة من الوحدة والاتساق.
والكتاب في ستة أجزاء نيط كل جزء منه بمترجم من وزارة المعارف ومراجع من كلية الآداب.
الجيش المصري قبل عهد محمد علي باشا
تناول أحد الكتاب الأفاضل خطاب العرش، فنقده نقداً أدبياً طريفاً على صفحات (الرسالة)، غير أنه أنكر ما جاء في هذا الخطاب من أن عهد محمد علي باشا كان أول عهد لظهور الجيش المصري في الوجود.
ولكن التاريخ يحدثنا بوضوح أن مصر لم يتكون فيها جيش مصري صميم من أبنائها الخلصاء قبل عهد محمد علي باشا الكبير بزمن طويل. ولا يمتد هذا الزمن إلى الفتح العربي فحسب، بل إلى ما قبل ذلك أيضاً. إنه يمتد إلى حكم البطالسة لهذه الديار. فمنذ حكمت مصر الملكة كليوباترا، وأدت سياستها إلى الاحتلال الروماني حوالي سنة 30 قبل الميلاد، فقضى بذلك على جيش مصر قضاء مبرماً. وظلت البلاد مزرعة للرومان نحو 670 سنة حتى استنقذها منهم العرب، ومن هنا انتقل إليهم أمر احتلالها حتى ولوا أمرها أحمد بن طولون سنة 254هـ وذلك في خلافة العباسيين.
وأحمد بن طولون رجل تركي، ولكنه صنع بهذه البلاد كما صنع محمد علي باشا من بعده إذ أداه بعد نظره إلى إصلاح مرافقها والسهر على مصالحها وتدبير أموالها وتثميرها وتكوين جيش قوي لها. ثم أعلن الناس باستقلالها.
هذا ما صنعه ابن طولون، غير أن أبناءه لم يحافظوا على استقلال مصر كما حافظ، ولم يدافعوا عنها كما دافع. أما أبناء محمد علي باشا فقد حافظوا على هذا الاستقلال ودافعوا عنه، ولا يزالون مدافعين. . . ليس هذا كل الفرق بين الرجلين، بل هناك فرق لا ينسى،(337/69)
وهو أن بن طولون لم يستخدم في جيشه جنوداً مصرية من صميم أبناء البلاد كما فعل محمد علي، بل كان جيشه من المماليك الأتراك الديالمة. وقد أخطأ بعض المؤرخين المعاصرين ودونوا في الكتب المدرسية الحالية أن أول من استخدم المماليك الأتراك في مصر وجلبهم إليها واستعان على تثبيت سلطانه، خلفاء الفاطميين تشبهاً منهم ببني العباس. والواقع أن أول من فعل ذلك هو أحمد بن طولون، فقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى ما نصه عند الكلام عن ابن طولون: (وفي أيامه عظمت نيابة مصر وشمخت إلى الملك. وهو أول من جلب المماليك الأتراك إلى الديار المصرية واستخدمهم في عسكرها). وقال ابن إياس: (قال ابن وصيف شاه: فلما تم أمر الأمير أحمد بن طولون في ولايته على مصر واستقامت أحواله بها استكثر من مشتري المماليك الديالمة حتى بلغت عدتهم أربعة وعشرين ألف مملوك).
وبعد قليل فتح الفاطميون مصر سنة 358هـ فاشتهروا باستخدام كثير من الجنود المرتزقة من أمم شتى، فتكوَّن الجيش في عهدهم من أتراك وعرب ومغاربة ومصامدة وصقالبة وروم وعبيد وغيرهم. وكان عدم التجانس بين فصائل الجيش الفاطمي سبباً قوياً لنزاع طال بين هذه الأجناس أدى إلى زوال الدولة.
وخلفها صلاح الدين الأيوبي عام 567هـ فقضى على نظام الجيش الفاطمي المضطرب، ورغب في توحيد جنس فصائل جيشه، ولكنه بدلاً من أن يتجه إلى أبناء مصر فيتخذ منهم حاجته من قادة وجند، استعار ذلك من الجنس الكردي.
وفي أواخر الدولة الأيوبية استكثر الملك الصالح الأيوبي من شراء المماليك الأتراك ونشأهم تنشئة عسكرية وأطلق عليهم اسم (البحرية) وهم الذين انتزعوا حكم البلاد من يد الأيوبيين سنة 648هـ وأسسوا دولة المماليك. . .
وفي عهد هذه الدولة الجديدة أصبح شراء المماليك الجدد وتزويد الجيش منهم سنة متبعة لبث زهاء ثلاثة قرون انقسمت فيها جنود المماليك إلى طوائف متنابذة كان تنابذها وبالاً على مصر، على الرغم من خدماتها الجليلة التي يعترف بها التاريخ.
وقد زالت دولتا المماليك بواسطة الاحتلال العثماني عام 923هـ ولم يعد في مصر جيش خاص بها لا من أبنائها ولا من الطارئين عليها. وتضافرت عليها الكوارث في ذلك العهد(337/70)
البغيض حتى أنقذها من براثن العثمانيين هذا العصامي النابه محمد علي باشا. وكان من جملة ما قام به وفي مقدمة حسناته إلى مصر أن دفع أبناءها إلى ميدان الجندية وفتح لهم المدارس الحربية وغرس فيهم معنى المصرية الصحيحة ونبه روح الإقدام والتضحية ونال من وراء ذلك جاهاً عريضاً وملكاً كبيراً. وعاد جيش مصر لأول مرة في التاريخ بعد زمن البطالسة.
محمود رزق سليم
ذكرى ابن الهيثم
ستحتفل الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية في الساعة السادسة من يوم الخميس 21 ديسمبر بقاعة الاجتماعات الكبرى بالجامعة المصرية بذكرى الحسن بن الحسن بن الهيثم العالم العربي الذي عاش في القاهرة، بمناسبة مرور تسعة قرون على وفاته. وسيكون الاحتفال تحت رياسة الأمير محمد عبد المنعم رئيس الشرف للجمعية، وسيلقي كلمة الافتتاح حضرة صاحب السعادة أحمد لطفي السيد باشا مدير الجامعة، ثم يعقبه معالي الأستاذ مصطفى عبد الرزاق بك وزير الأوقاف السابق؛ ثم يتكلم عن ابن الهيثم من نواحيه الرياضية والطبيعية والفلكية والهندسية الأساتذة: الدكتور علي مصطفى مشرفة بك عميد كلية العلوم، ومصطفى نظيف بك أستاذ الطبيعة بكلية الهندسة، والدكتور محمد رضا مدور مدير مرصد حلوان، والدكتور محمد محمود غالي بمصلحة الطبيعيات. وكلهم من أعضاء مجلس إدارة الجمعية. ثم يتناول الدكتور حجاب مدير مكتبة الجامعة الموضوع من الناحية الببليوغرافية. والاحتفال بذكرى عالم من علمائنا العظام على هذه الصورة العظيمة عمل عظيم يسجل لهذه الجمعية الجليلة بالحمد والشكر.(337/71)
رسالة النقد
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
بقلم الدكتور بشر فارس
صيف سنة 1930 قدمت من باريس إلى القاهرة أطلب فيها كتباً ومخطوطات؛ فاهتديت (دارَ العروبة)، فعرفت أحمد زكي باشا - رحمه الله رحمة واسعة - فكان بيني وبينه ما تشاء من الود: أُكبره ويأنس بي. وقد وقع إليَّ فيما وقع من خزانة كتبه الخاصة كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي. فأقبلت عليه، فإذا هو جليل نفيس. وكم تمنيت وتمنى (شيخ العروبة) أن يُنشر هذا المخطوط فتُذاع فوائده فتُدرَك على غير كلفة. وهذان الأستاذان أحمد أمين وأحمد الزين أقدما على طبعه وليس بين أيديهما سوى نسخة وبعض نسخة على جانب غير يسير من الاضطراب والتحريف (والنسختان مما خلفه زكي باشا). فما أحرى الأستاذين بالتهنئة والشكر! وكان الأستاذ أحمد أمين أخبر المستشرقين في مؤتمرهم (سبتمبر 1938، بركسيل) بأنه ناشر كتاب التوحيدي، فاهتز القوم لذلك.
ونشرُ كتابٍ ذاهب في التصرف بضروب الكلام، جامع لمنثور المسائل من أدبية وفلسفية، مع ما يفسد ألفاظه ويُسقم عباراته من جهة مسخ النسّاخ، ليس بالمطلب السهل. ومن هنا ما جاء في ضبط الكتاب من فَرَطات. وقد بيّن طائفة منها صديقي الدكتور زكي مبارك في العدد الماضي من الرسالة، ولا عجب فإن الدكتور زكياً بأدب التوحيدي عارف وبأسلوبه بصير؛ ألم يؤلف فيه فصولاً؟
والحق أني كثيراً ما توقَّفت وأنا أقرأ (الإمتاع والمؤانسة). فلا أرى بداً من التنبيه هنا على ما وقَفَني، وإنما مقصِدي تقويم الكتاب لوجه العلم وحدَه. وإني قاصر الاستدراك على الأربعين صفحة الأُوَل، على سبيل التمثيل (والكتاب في 226ص). ثم إني مقسم المآخذ على حسب المنهج الذي عليه يجري العلماء في تحرير المخطوطات.
1 - التباعد عن سياق النصّ:
ص 19 - 20: يروي التوحيدي كيف مثل في (الليلة الأولى) بين يدي الوزير، فأخبره الوزير بأنه استقدمه للمحادثة والتأنيس. فيكتب التوحيدي (ص20 س8): (فقلت: قبل كلٍ، شيءٌ أريد أن أُجاب إليه يكون ناصري على ما يُراد مني. فقال (الوزير): قل ما بدا لك.(337/72)
قلتُ: يؤذن لي في كاف المخاطبة وتاء المواجهة للفرار من مزاحمة الكناية ومضايقة التعريض. . .).
هذا وأما الناشران الفاضلان فقد دوّنا ذلك هكذا: (فقلت قبلُ: كلُّ شيء أريد أن أجاب إليه يكون ناصري. . .). وهذا غريب: فإن التوحيدي لم يبدأ بالكلام، وإنما قوله ذلك هو فاتحة نطقه في مجلس الوزير. فكيف يكتب: (فقلت قبلُ). ثم إن غرضه أن يقول للوزير ما تفسيره: (أجل سأحادثك وأؤنسك، ولكنْ قبلَ كلٍ هنالك شيء أريد أن أجاب إليه وهو أن تأذن لي قي استعمال كاف المخاطبة وتاء المواجهة فترفع الكلفة وتيسّر لي الحديث إليك).
وعلى ذلك اضطراب الترقيم، وهو كثير تصيبه في كل صفحة. ولن أتمهل عند هذا المأخذ خشية الإملال. وحسبك وضع نقطة في آخر السطر الـ14 من الصفحة الثانية، وأخرى بعد الكلمة الرابعة ص7 س4، وأخرى بعد الكلمة الثانية ص13 س11، وأخرى بعد الكلمة العاشرة ص14 س6، وأخرى بعد الكلمة السابعة ص15 س2؛ ثم ضع شولة منقوطة بعد الكلمة الأولى ص13 س11، ونقطتين بعد الكلمة العاشرة ص14 س5، وبعد الكلمة الثانية ص16 س13؛ ثم ضع علامة استفهام بعد الكلمة السادسة ص15 س14 والكلمة الثانية ص15 س16.
2 - التجافي عن أسلوب المؤلف:
ص14 س2، 3: (وصيانة النفس حسنة إلا أنها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تُجدُّها وفاشية (أي مال) تَمدُّها) - والوجه: تُمدُّها، موازنةً لتُجدُّها؛ والتوحيدي معروف بإيثار الازدواج (راجع مقدمة الكتاب لأحمد أمين ص: ق، و (النثر الفني في القرن الرابع) ج1 ص113، 115).
ص24 - س4، 5: (فأما الفَلك وأجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة، ومناطقِه الحفيّة، فقد. . .) - والصواب: (في معانِقِه). والذي هداني إلى ذلك كلمة (مناطقِه)، إذ قلت: إن التوحيدي أراد الازدواج هنا. وإذا (المعانق) جمع لمِعْنقَة ومعناها القِلادة، كما أن (مناطق) جمع لمِنطقة (وهو كل ما شُدَّ به وسطه كالنطاق: عن (لسان العرب)). ثم استُعملت المِنطقة والقِلادة والمِعنقة في مصطلح علم الهيئة (راجع مثلاً: (مفاتيح العلوم للخوارزمي) مصر 1342 ص128 و (محيط المحيط) مادة: ن ط ق، ق ل د، ونص التوحيدي). والدليل(337/73)
القاطع - بعد هذا كله - أن التوحيدي كتب خمس عشرة صفحة (ص39 س 4): (الصعود إلى معانق الفَلك).
3 - ترك الغامض على حاله:
ص14 س3، 4: (وتركُ خدمة السلطان غيرُ الممكن ولا يستطاع إلا بدينٍ متين. . .) - ما المعنى هنا؟ وما غيرُ الممكن)؟
ص25 س6، 7: (ما الفرق بين الحادث والمحدَث والحديث؛ فكان من الجواب أن الحادث ما يُلحظ نفسُه. . .) - فربما كان يحسن بالناشرين أن يهتديا بكتب الفلسفة ودواوين مصطلحاتها فيشرحا تلك العبارة. لغير قراء الفلسفة، على نحو شرحهما - في غير موطن - لألفاظ لغوية قد تدقّ على المتأدبين.
4 - التسرع في تصويب الأصل:
ص17 س12: (فذهب هذا كله، وتاه أهله). وزاد الناشران في الهامش: (تاه أهله: هلكوا. وفي الأصل: باه) - والصواب عندي: (باد) فهو أقرب إلى مدلول العبارة، فضلاً عن أن التوحيدي كتب بعدُ (ص111 س13): (وقد عفت (اللغة) منذ زمان طويل، وباد أهلها).
ص39 س3: (الشهوات الغالبة، والعقيدة الردئية، والأفعال القبيحة). وفي الأصل: (العالية) - وألصق بمادة النص عندي: (الغالية أو العاتية أو العائبة. ألا ترى التوحيدي يستعمل (الردئية) صفة للعقيدة، و (القبيحة) صفة للأفعال، فأين ما يفيد التهجين في كلمة (الغالبة)؟
5 - قلّة التقصّي:
ص38 س15، ص39 س1: (ولا عجب فإنه إذا كانت الركاكة العائقة تمنع الناس من العدو. . . لأن الحركة قد بطلت بالركاكة. . .). وهنا زاد الناشران في الهامش: (الركاكة: الضعف أو لعل صوابه: (الزمانة) إذ الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي، والمراد هنا ما يخص البدل).
فإن صح أن الركاكة كثيراً ما تستعمل في ضعف العقل والرأي (راجع (لسان العرب) أول مادة ر ك ك) فلا شك أنها استعملت أول الأمر في ضعف البدن، وذلك على حساب سنّةٍ من سنن فقه اللغة: مدارها أن الألفاظ تتدرج من جانب الحِسّ إلى جانب المعنى. والركاكة للبدن معروفة، من ذلك ما جاء في (باب ضعف الخَلق) من (مختصر تهذيب الألفاظ) لابن(337/74)
السكيت (بيروت 1897 ص88): (والركيك: الفَسل الضعيف (والفَسل بالفتح: الذي لا مروءة له، عن (القاموس) والمروءة هاهنا: الهمة) قال جميل بن مَرثد:
فلا تكوننَّ ركيكاً ثنتلا ... لعوًا وإن لاقيتَه تقهَّلا)
(وتقهّل: مشى مشياً ضعيفاً، عن (القاموس)). وعلى هذا فالذي جاء في الهامش لم يظفر بالتدبّر كله.
6 - التحكم في رفض رواية النصّ:
ص24 س13، 14: (وأما قولهم: هذا شيء خَلَق، فهو مضمَّن معنيين (كذا): أحدهما يُشار به إلى أن مادته بالية، والآخر أن نهاية زمانه قريبة). وفي الأصل (سايلة) - فرفض الناشران الفاضلان رواية الأصل إذ وجدا فيها (تحريفاً وقلباً). هذا وكان يحسن بهما أن يتبينا مُفاد كلمة (السايل) من دواوين الفلسفة، وكلام التوحيدي في هذا الموطن يدخل في فنها. فالسايل في الفلسفة العربية من السيلان الذي هو (عبارة عن تدافُع الأجزاء. . .) ((كشّاف اصطلاحات الفنون) كلمة (السيلان) و (السائل)). وفي (تهافت التهافت) لابن رشد مثلاً (بيروت 1930 ص137، 140، 572) يرد (السيلان) في سياق الكلام على الفناء، وتأتي صفة (سيْال) ضدّاً لصفة (ثابت). وقد جاء (السايل) (لا: السائل) في (كشاف اصطلاحات الفنون) من غير تفريق (واذكر قول المناطقة: (الألفاظ أعراض سيالة)). وعلى هذا فرواية الأصل صحيحة إذ يجري الحديث على الفناء في أسلوب فلاسفة العرب.
ص25 س14: (كله من ديوان واحد وواد واحد وسبك واحد). وفي الأصل، بدلاً من (وواد): (وهو) - فرفض الناشران رواية الأصل إذ قالا (لا معنى لها)، وكأني بهما عدّا (هو) ضميراً منفصلاً لا اسماً مُعْرباً. ففي (لسان العرب) ج20 ص251 س16: (هَوْ من الأرض: جانب منها). فالهَوْ إذن له معنى، ومعناه يفيد مُفاد الوادي وهو اللفظ الذي آثره الناشران بسلائقهما المُحدثَة على سلامتهما، ظناً منهما أن الهَوْ ليس في اللغة.
أذكر في لغتنا العامية: (الهِوْ)، وفصيحه: الهوة.
ذلك ما حقَّقتُه. ولعل الأستاذ أحمد أمين ينظر في سطور الكتاب على منهج قويم وهو به أدرى، فيستدرك عليه. فإني لا أشك - بعد الدكتور زكي مبارك - أنه لم يصرف إليه عند التحرير موفور هَمّه.(337/75)
بشر فارس(337/76)
العدد 338 - بتاريخ: 25 - 12 - 1939(/)
ذكرى مولد المسيح
وعلى الأرض السلام!
في هذا اليوم يحتفل المسيحيون بذكرى مولد المسيح عيسى ابن مريم. وفي ليلة هذا العيد المجيد بات القسس والرهبان يرتلون وحدهم بين أروقة البِيَع وصحون الكنائس ذلك القُنوت الشعري الجميل:
(المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة!) وربما تابعهم الأقوام فرتلوا وهللوا جرياً على التقليد وخضوعاً للعادة؛ ولكنهم وا أسفا لا يجدون في الآفاق ولا في أنفسهم معنى هذا النشيد، ولا حقيقة هذا العيد!
في أي جهة من جهات الأرض ذلك السلام؟ وفي أي قلب من قلوب الناس تلك المسرة؟ لقد عادت روح يهوذا الأسخريوطي في جسدي هتلر وستالين فدلا على السلام الإلهي أبالسة الشر وزبانية الجحيم فصلبوه في بولندة، ودفنوه في فنلندا، ومكَّنوا في الأرض لعوامل القحط والموت، فأوقروا مائدة عيسى سماً وصاباً، وأنبتوا شجرة ميلاده هماً وعذاباً، وحولوا أعشاش الأسر ورياض الحقول قبوراً موحشة على كل قبر منها ركام من الثلج وصليب من الخشب!
لكأني بك يا روح الله كنت تمشي من الناصرة إلى بحيرة الجليل، ومن صفد إلى كفر ناحوم، وأنت ناكس الرأس ساهم الوجه، يعتلج بين جوانحك الهم، ويجول في مآقيك الدمع، لأنك كنت ترى بعين الله التي تخترق الأزل والأبد كيف تَلازَم الشر والخير في ملكوته، فابتَلى آدم بإبليس، وموسى بالسامري، وعيسى بيهوذا، ومحمداً بأبي لهب؛ وقضى ألا تخلو الأرض من أتباع هؤلاء وهؤلاء، ليدوم صلاحها بمدافعة بعض لبعض، حتى إذا طغت قوى الشر وسادت عناصره أرسل عليها طوفان نوح بالماء أو بالوباء أو بالدم أو بالنار فترعوي وتهمد.
وكان الشر في عهد المسيح وقحاً يتعسر في عيون الروم، ويتنمر في نفوس اليهود، فأخذ هو وحواريوه يكفكفون طغيانه بالمسالمة، ويخففون عدوانه بالصفح، ويسعفون ضحاياه بالمواساة، ويشفون مرضاه بالدعاء، ويحاربون أولياءه بالوعظ. ولكن الشر كان قد تفاقم واستطار فلم يرتدع باللين حتى جاء محمد رسول الله فردَّ جماحه بالسيف. وظلت محنة(338/1)
عيسى عليه السلام ألماً واخزاً في ضمير الإنسانية لا يفتُر، وأنيناً موجعاً في أذن الدهر لا يخفت. وتوالت القرون وتعاقبت الدول وتتابعت الحضارات، ولا يزال إبليس والسامري ويهوذا وأبو لهب مُنظَرين في الأرض، يدعون إلى الشر ويُرَغبون في الرذيلة ويعملون للفساد، والعالم المسكين يتدرع في جهادهم بالدين والمدنية والتربية والعلم، ولكن ذلك كله لا يغني عنه إلا كما يغني السد في دفع الفيضان، أو الفرجة في كف البركان، أو الكوخ في اتقاء العاصفة.
يا راعي السلام وداعي المودة، لقد ضل قطيعك كله وشرَد! فاسأل الله أن يُطْلع في سماء أوربا القاتمة (نجم المجوس) فعسى أن يهتدي به إليك طاغية موسكو وجبار برلين. والله قادر على أن يحوِّل في يديهما القنبلة والطربيد واللغم إلى (ذهب ولبان ومز).
يا حامل الآلام ورسول المرحمة، كيف استحال حلمك وسلمك وهداك في ألمانِيَة لوثر وروسِيَة تولستوي سمائم قحط وزلازل دمار وطوفان هُلك؟! ألإنك لا تزال غريباً عن الغرب فلم يصادف دينك هواه، أم لأنك شرعت الألم تكفيراً عن الكفر بالله؟
لشد ما تختلف المسيحية في الغرب عنها في الشرق! إنها مع المسيح قد خرجت من الغسق إلى النور، ولكنها مع بولس قد دخلت من الشفق إلى الظلام! ومن سار في صحوة النهار اهتدى ودل، ومن ضرب في سُدفة الليل اعتسف وأضل.
بأية حال عاد عيدك يا رسول السلام وحامل الآلام على بولندة وفنلندة؟! هل قضى الآباء والأمهات ليلة البارحة مُشْبِلين على بنيهم وبناتهم وق الفرش الوثيرة حول المدافئ الواهجة وعيونهم تشرق بالغبطة وقلوبهم تفيض من السرور، وهم يتناغون بأحاديث الحنان والحب تناغي البلابل الآمنة، في أعشاش الربيع الساكنة؟ هل باتت الصغار الأبرار هذه الليلة في مهودهم الحريرية يحلمون في أحضان الكرى بباباهم (نويل) وهو يضع لهم الألطاف واللعب والحلوى تحت أفنان الشجرة وفي نواحي المدفأة؟
يا حسرتا عليهم! لم يأتيهم عيدك يا مبرئ المرضى ومحيي الموتى إلا وهم حطام وأشلاء. فلا الدار آهلة ولا الرزق موصول ولا الشمل جامع! إن نار الأعداء تحرق البلاد فلا مأوى، وصقيع الشتاء يهرأ الأجساد ولا دفء، وخوَي الأمعاء يلحس الأكباد ولا قوت، وبقايا القنابل والرصاص والغاز من النساء والأطفال والشيوخ مشرَّدون على الجليد(338/2)
يلتمسون الحياة الموقوتة في قرية بعد قرية!
وليت الخراب والعذاب كانا مقصورين على أمة أو أمتين فتمدهما الأمم الأخرى بالمواساة والعون! ولكن الخطب شامل والطامة عامة. فالأمم المحاربة والمحايدة في شقاء العيش وبلاء الموت على حد سواء. قضت عليهم هنا وهناك نزوات الفرد وبدواته أن يساقوا إلى الجزر سوق القطيع؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومن المنتظرين من يقتله الجوع والخوف، قبل أن يقتله المدفع والسيف. والله وحده يعلم بأي حال ستعود ذكرى مولدك المقبلة على هذا الصدام، أيقول الحي يومئذ: السلام على الأرض، أم يقول: على الأرض السلام!!
أحمد حسن الزيات(338/3)
حول مراقبة الثقافة العامة بوزارة المعارف
إلى الدكتور طه حسين بك
كلمة صريحة
للدكتور زكي مبارك
أيها الأستاذ الجليل:
أقدم إليك أصدق التحيات، ثم أذكر أن الصحف أخبرتني وأنا ماض إلى الإسكندرية لبعض الواجبات أن معالي وزير المعارف أصدر أمراً بندبك مراقباً للثقافة العامة، فخفق قلبي خفقة الفرح لأمرين: الأول هو الاطمئنان إلى أن للحق دولة في هذه البلاد، فقد كان قيل إنك انسحبت من عمادة كلية الآداب فراراً من المناوشات التي تعترضك من حين إلى حين. وكان قيل إنك طلبت إجازة طويلة تقضيها في جوّ هادئ، وإن معالي النقراشي باشا لم يسمح بذلك، وقد ظهر أنه كان يدخرك لهذا المنصب الرفيع، فكان معنى هذا التلطف أن كفاحك في ميدان الحياة الأدبية يجعلك دائماً موضع الحظوة عند كبار الرجال.
ومن المؤكد أن في الناس من يعترض على اختيارك لهذا المنصب، لأسباب لا تخفى عليك، ولكني مغتبط بما صرت إليه، لأنه شهادة بأن الكفاح له في مصر جزاء، وأنت برغم حسادك من أقطاب المكافحين.
أما الأمر الثاني فهو الاطمئنان إلى أنك أصبحت معنا في وزارة المعارف، وقد كان بيننا وبينك حجاب كثيف هو أشجار حديقة الارمان بالجيزة الفيحاء، فلن تملك بعد اليوم أن تُبرِم وتَنقُض بلا رقيب ولا حسيب كما كنت تصنع في (القصر المسحور): فصر كلية الآداب!
أصبحت معنا في وزارة المعارف، وصار من السهل أن نتعقبك حين نشاء بدون أن نتجشم عُبور النيل فوق جسر فؤاد أو جسر إسماعيل أو جسر عباس.
فماذا أعددت لصحبتنا بوزارة المعارف، أيها المراقب الحصيف؟
أتكون جئت وفي يمينك كتابك (مستقبل الثقافة في مصر)؟ إن كان ذلك فاعلم، أيها الأستاذ الجليل، أن هذا الكتاب لا يصلح أساساً لعملك الجديد، فقد ناشه الناقدون ممن كل جانب ولم يتركوا فيه أديماً صحيحاً!(338/4)
وأنت قرأت مقالي في نقد كتابك، وقرأت مقال الدكتور عبد السلام الكرداني بك، فهل قرأت مقالات الأستاذ ساطع الحصري بك، وقد نبهتك إليها منذ أكثر من شهرين؟
أنت صرحت مرات كثيرة بأن العقلية المصرية عقلية يونانية، وأن تلك العقلية تجب مراعاتها في التعليم والتثقيف، أفتظن أن هذا الأساس لا يزال صالحاً لأن تقيم عليه عملك الجديد؟
وأنت دعوت إلى تعلم اليونانية واللاتينية بحجة أنهما أصل للحضارة الأوربية، فهل تظن أن تلك الدعوة لا يزال لها في مصر والشرق مكان؟
أيها الأستاذ الجليل:
إنك لا تفرق بين ما يقال في حُجرات كلية الآداب لتثقيف عدد محدود من الطلاب، وما يقال في وزارة المعارف لتثقيف السواد الأعظم الذي تدخره الأمة للنهوض بأعباء العصر الحديث.
وإليك بعض التفاصيل:
أنت سعيت سعيك لسيطرة الجامعة على السنة التوجيهية، فهل تعرف كيف كانت العواقب؟
أردت بعقليتك (الجامعية) أن تفرض على الطلبة دراسة كتاب (نقد النثر) لقُدامة بن جعفر، فهل تظن أن نصوص ذلك الكتاب مما تسيغه عقول الطلبة في السنة الخامسة الثانوية؟
كان يجب أن تشتغل بالتدريس في القسم الثانوي سنة أو سنتين قبل أن ترشح نفسك لوضع منهج الأدب بالمدارس الثانوية.
كان يجب أن تذكر مصير كتاب (المجمل) عليه رحمة الله! وهو الكتاب الذي انتظم تاريخ الأدب من عصر امرئ القيس إلى عصر شوقي، ومع ذلك كان من الحتم على طلبة السنة الثالثة أن يدرسوه في عام واحد!
ولكن لا بأس، فقد أعانني الله على وأد ذلك الكتاب ومؤلفوه أحياءٌ ينظرون!
وأنت سعيت سعيك إلى أن يكون منهج الأدب في السنة الخامسة خلاصة لتاريخ الآداب اليونانية واللاتينية، وأتعبت نفسك في تأليف مذكرات يستعين بها المدرسون على فهم ذلك المنهج الطريف!
فهل تستطيع أن تدلني على أمة واحدة كان فيها منهج الأدب القومي خلاصة لآداب أمة(338/5)
أجنبية؟
وهل جشمت نفسك مشقة الانتقال لحضور الامتحانات الشفوية بوزارة المعارف عساك تدرك إلى أي حد نجح اقتراحك الجديد؟
إن وزارة المعارف سكتت عنك، لأنها كانت تعرف ما (ترجوه) منك، فقد قلت في كتابك: إن أكثر المراقبين لم يُثقفوا ثقافة جامعية. وأنت في الواقع خصمٌ مخيف، فليس من المستغرب أن يسكت عنك المراقبون وهم كارهون!
فهل تنتظر أن يطول هذا السكوت؟
هذا يوم له ما بعده، يا سيدي الدكتور، فقد تحدثك النفس بعد أسبوع أو أسبوعين بدعوة وزارة المعارف إلى فرض إحدى اللغات الميتة على بعض الأقسام بالمدارس الثانوية، وقد تحدثك النفس بوجوب القول بأن عقلية مصر عقلية يونانية لا عربية، وقد تحدثك النفس بأن الجهل بحياة البحتري لا يقاس إلى الجهل بحياة هوميروس!
هل تذكر خُرافة (تيسير النحو) التي شغلت بها وزارة المعارف؟
وهل تذكر أين صارت تلك الخرافة بين غيابات التاريخ؟
وهل تذكر ما قوبلت به من السخرية في الشام والعراق؟
إن محاسنك هي عيوبك، يا سيدي الدكتور، فأنت تفرّ من السكون لأنه ينافي الحياة، وأنت بالفعل من أقوى الأحياء، ولكنك مع ذلك لا تحب الحياة في الحقيقة كما تحبها في الخيال، وإلا فكيف جاز عندك أن تُدرس الخطب القديمة في وطن ديموستين قبل أن تدرس الخطب الحديثة في وطن زغلول؟ وكيف صح في ذهنك أن تُدرس مجادلات الأحزاب في أتينا قبل أن تُدرس مصاولات الأحزاب في القاهرة وبغداد؟
أن أرجو - وأنت مَن أعرفُ في رحابة الصدر ورجاحة العقل - أن تثق بأني لا أجامل وطني ولا أصانع زماني، وإنما أنا معلِّم يدرك أصول التعليم إلى أبعد الحدود، وهي مهنة سأصل بها إن شاء الله إلى ذروة المجد، فلا يعيبني أن أستطيل بها على من أشاء؛ ومعرفتي بهذه المهنة تفرض عليّ أن أصارحك بأنك قد تسلك مسالك لا تخلو من وعورة والتواء.
أنت تلوذ بالقديم في كل وقت لتأمن سيطرة الناقدين، ولكن القديم قد اندحر أمام الجديد، فمن(338/6)
واجبك أن تفكر فيما تقدم عليه قبل أن يذكرك ناقدوك.
فأين أنت من مشكلات العصر الحديث؟
هل ترى أن يظل شبابنا على جهل بالتطورات التي تثور في الممالك الأسيوية والأوربية والأمريكية، اكتفاءً بما تقترح أن نعلِّمهم من أخبار اليونان والرومان؟
وهل تظن أن العلم بمناوشات الأحزاب في أتينا القديمة يغني عن العلم باصطخاب المذاهب في لندن وباريس وموسكو وبرلين لهذا العهد؟
وهل ترى أن درس مخاطرات هانيبال أنفع من درس دسائس ستالين؟
وهل تظن أن النظر في أسباب سقوط الإمبراطور الرومانية أهم من النظر في أسباب سقوط الخلافة الإسلامية؟
وهل يخطر في بالك أن درس تاريخ الآشوريين والبابليين أهم من درس العراق الحديث؟
وهل تفهم أن درس الصلات بين مصر والشرق لعهد الفراعين أهم من درس الصلات بين مصر والشرق لهذا العهد؟
التاريخ واجب الدرس، ولكنه على كل حال تاريخ، فكيف يغيب عنك أن من العيب ألا نعرف من مذاهب روسيا وألمانيا وإيطاليا غير ما تسوقه إلينا بعض الجرائد الأجنبية؟
وهل تثق بأن تلاميذ المدارس عندنا يعرفون الفروق بين الاشتراكية والشويعية، مع أننا نعلِّمهم الفروق بين مذهب أهل السنة ومذهب الاعتزال؟
هل يعرف تلاميذنا ما النازية وما البلشفية وما الفاشستية؟
وهل يعرفون أصول العقائد التي تحترب في الشرق لهذا العهد؟
وهل في مصر كتابٌ واحد يؤرخ الثورة المصرية التي شبت في سنة 1919؟
وهل في مدارسنا تلميذ وحد علَّمه أساتذته كيف يقرأ أخبار الأسواق المالية في الجرائد؟
وهل تعرف مدرساً شرح لتلاميذه كيفية الاستفادة من الإذاعة اللاسلكية؟
وهل عندك في كلية الآداب مدرس يستطيع أن يُلقي محاضرة وافية عن الأفلام المصرية؟
وهل تعرف أنت كُنه الاتجاهات الأدبية في البلاد العربية لهذا العهد، كما تعرف كُنه الاتجاهات الأدبية في عصر بني أمية وعصر بني العباس؟
وهل عندك في مكتبة قسم اللغة العربية بكلية الآداب مجموعة من الجرائد والمجلات(338/7)
تصور عقول الكتاب والباحثين في مختلف الأقطار العربية تشبه مجموعة الكتب القديمة التي اشتركتُ معك في تكوينها سنة 1925؟
وهل يعرف طلبة الفلسفة عندكم عدد المذاهب الصوفية بهذه البلاد؟
وهل فكرتم في تصحيح الأغلاط التي وقعت فيها بعثة بونابرت؟
وهل أقمتم متحفاً لمخطوطات العلماء والشعراء والكتاب الذين حفروا الأساس لبناء العصر الحديث؟
وهل عندكم نبأ مما صنع النجاري في ترتيب (لسان العرب)؟
وهل فكرت كلية الآداب في البحث عن كتاب تيمور باشا في اللهجات العامية؟
يا سيدي الدكتور.
اسمع كلمة الحق من رجل كان تلميذك، وكان زميلك، ولا يزال أصدق أصدقائك، وهو يصارحك بأنك تجهل بلدك وعصرك بعض الجهل.
لقد جاورتَنا مدة في مصر الجديدة، فهل تعرف عدد المدارس في مصر الجديدة؟
في مصر الجديدة أربع وثلاثون مدرسة لا تعرف منها وزارة المعارف غير آحاد!
أنت جئت إلينا في وزارة المعارف، ولم يعُد بيننا وبينك حجاب من أشجار الأورمان، فأعدّ عزيمتك لحرب ضروس تنقلك من حال إلى أحوال.
أقول هذا وأنا أعرفُ الناس بفضلك وشهامتك، فإن استرحتَ لبعض ما قدمتُ إليك فذلك بعض ما عدتُ فيك، وإن ضاق صدرك من بعض ما أسمعتُك فلك عذرٌ مقبول: فأنت من أهل هذا العصر، وهم يتنكرون لكلمة الحق في بعض الأحيان.
لا تنزعج، يا سيدي الدكتور، فليس هذا المقال إلا صدىً لهدير البحر بالإسكندرية، ولن ألقاك في وزارة المعارف إلا بلسان معسول يشبه ألسنة الفنيين بوزارة المعارف!
زكي مبارك
(الرسالة) يظهر أن الدكتور المبارك فهم من (الثقافة العامة)
المرحلة الثانوية من السنة الأولى إلى الرابعة. والذي نعرفه
أن (مراقبة الثقافة العامة) لا يتصل عملها بالمدارس والمناهج(338/8)
وإنما يتصل بشؤون الثقافة الشعبية فيما وراء ذلك.(338/9)
في مزارات الإسكندرية
للدكتور عبد الوهاب عزام
(بقية المنشور في العدد 334)
سرنا إلى جامع البوصيري وهو من أجمل المساجد وأحبها إلى نفسي لا يمل زائره الجلوس فيه يقلب الطرف في جوانبه ويرى البردة منقوشة على أربعة جدرانه في إطار واحد، ويرى بين الحين والحين زرقة البحر والسماء فيطلق فكره من المعبد الصغير إلى المعبد الأكبر بين لجة المار ولوح الجو.
ذكرنا هناك المحدث الأديب الشاعر شرف الدين محمد بن سعيد البوصيري صاحب البردة والهمزية القصيدتين المباركتين اللتين خلدتا صاحبهما وخلدتا في صفحات الدهر ونالتا من الحفظ والإنشاد والكتابة والنقش والتذهيب والتحلية ما لم ينله شعر آخر في الجاهلية والإسلام.
وجلسنا في الإيوان المشرف على الصحن جلسة خفيفة أنشدنا فيها الشيخ الخالدي هذه الأبيات:
أما المحبة فهي بذْل نفوس ... فتنعّمي يا مهجتي بالبوس
بذل المحبّ لمن أحبّ دموعه ... وطوى حشاه على أحر رسيس
شرفاً لشاذلة ومرسية سرتْ ... لهما الرياسة من أجلّ رئيس
ما إن نسبت إليهم شيخيهما ... إلا جلوتهما جلاء عروس
وليست هذه الأبيات غريبة في مسجد البوصيري، وإن لم يذكر فيها، فهو تلميذ أبي العباس المرسي. وأبو العباس تلميذ الشاذلي.
وأبو الحسن الشاذلي هو الشريف تقي الدين علي بن عبد الله بن عبد الجبار شيخ الطريقة الشاذلية. كان عالماً واسع العلم وبلغ الدرجات العالية في التصوف وتوفى بصحراء عيذاب متوجهاً إلى مكة في ذي القعدة سنة 656 ونسبته إلى شاذلة إحدى قرى تونس.
وأردنا أن نزور قبر الشاطبي الذي ينسب إليه حي الشاطبي في رمل الإسكندرية فقيل لنا إن قبره قد اشتملت عليه العمارة الشامخة التي شادتها جمعية العروة الوثقى هناك.
وهذا الشاطبي غير صاحب الشاطبية، ولكنه من رجال القراءات كذلك ذكره السيوطي في(338/10)
حسن المحاضرة في عداد من كان بمصر من الصلحاء والزهاد والصوفية. وقد كتب لي العلامة الشيخ الخالدي ترجمته من كتاب (الزهر المضبي في مناقب الشاطبي) وهاأنذا أثبتها هنا:
(أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي نزيل إسكندرية ويعرف بابن أبي الربيع أحد أولياء الله تعالى شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة، جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس، والتمسك بطريقة السلف، قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد ابن سعادة الشاطبي وغيره، وقرأ بدمشق على الواسطي وسمع عليه الحديث ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب خادم أضياف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قبره ومنبره سنة 617، وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصري وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفا ابن عبد الحق وغيرهم. وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي عبد الله الراسي، وصنف كتباً حسنة منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب، وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة، وتفسير القرآن العزيز، وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكاتب المباحث السنية في شرح الحصرية، وكتاب الحرقة في إلباس الخرقة، وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذ الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية، ومولده بشاطبة سنة 585 ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672، ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته رحمهما الله).
ويوم الأربعاء التاسع والعشرين من رجب خرجت أنا والأستاذ الزيات لرؤية جامع الشيخ. وكنت واعدت الشيخ إبراهيم القادري شيخ التكية القادرية أن أمرّ به صباح هذا اليوم ووعد أن يكلف خازن مكتبة الجامع أن يكون هناك ليطلعنا على خزانة الكتب.
زرنا التكية وصحبنا الشيخ إبراهيم إلى الجامع، وكنت أسمع بجامع الشيخ وأود أن أراه فلم تتح الفرصة قبل.
الجامع مبني فوق سوق بها حوانيت كثيرة. دخلنا من الباب الخلفي فصعدنا درجاً وملنا ذات اليسار إلى مكتب لتعليم القرآن، ثم صعدنا درَجاً آخر إلى حجرات يسكنها طلاب العلم(338/11)
في ذلك الجامع. ثم هبطنا من حيث صعدنا فدخلنا إلى جامع واسع فيه مصلّى كبير تحيط به ثلاثة أروقة كبيرة، رواقان مستطيلان عن جانبي القبلة ورواق إلى الشمال كبير يفضي إلى باب المسجد الأماميّ وقد ألفيت المسجد أوسع واجمل مما حسبت قبلاً.
وسرنا في الرواق الذي إلى يسار القبلة إلى حجرة، وتقدم شيخ وقور هو إمام المسجد ففتح الَغلَق عن باب يؤدي إلى حجرة تفضي إلى حجرة أخرى فيها الكتب.
سمعت من قبل أن هذه الخزانة أغلقت أربعين عاماً ثم فتحت وقد فعلت الأرضة فعلها بالكتب فأتلفت كثيراً منها. ورأيت بقية الأرضة والإهمال من هذه الكتب مكدسة في رفوفها لا يدرى ما فيها. ولعل فيها من نفائس الكتب ما نتفقده في دور الكتب فلا نجده، أو ما نحن في حاجة إليه شديدة لتصحيح ما لدينا من الكتب المخطوطة. ولست أدري على من تقع التبعة فيما أصاب هذه الأسفار من التلف وما هي فيه من ضياع. إن أسرة الشيخ إبراهيم باشا الذي أسس هذا المسجد أسرة عريقة في البرِّ لها أياد على العلم والعلماء. وكانت دورهم مقصد رجال العلم من مصر وغيرها. وكان هذا الجامع معهداً في الإسكندرية قبل إنشاء المعهد الديني التابع للأزهر. فلماذا ترك الخلَف من هذه الأسرة سنن السلف وأهملوا آثار آبائهم؟ وإن كان لوزارة الأوقاف إشراف على هذا الجامع فعليها تبعة عظيمة، وعليها أن تستولي على المسجد ومكتبته أو تلزم القائمين عليهما أن يحسنا القيام.
لعل كلمتي هذه لا تذهب سدى بين الأوقاف وأسرة الشيخ إبراهيم باشا.
تركنا الجامع إلى مكتبة الإسكندرية في دار موصيري. وهناك لقينا الأخ الأديب الشيخ بشير الشندي، فأنسنا به وأفدنا من حديثه عن الكتب، وعن آثار الإسكندرية. وقد أطلعنا على رحلة ابن رشيد التي ذكرتها في المقال السابق. وفي المكتبة منها الجزء الثالث وهو المتضمن وصف مصر. وهو منقول عن نسخة في الأسكوريال. وهذه الرحلة ذات جدوى كبيرة في تاريخ مصر ولا سيما الإسكندرية، وهي جديرة بالعناية والنشر.
وكان من حديث الأخ بشير أن قال: أسمعتم عن بئر مسعود؟ قلنا: نعم هو على ساحل سيدي بشر. قال: لكن مسعود الذي أضيفت إليه البئر؟ قلنا: لا ندري. قال: عندي حديث عنه لا تجدونه في الكتب. كان شيخنا الشيخ عبد الفتاح شريف والشيخ جاد الحق يذهبان إلى تلك الجهة للرياضة والدرس وكنت أذهب معهما؛ وكان الشيخان ومن يصحبهما(338/12)
يجلسون على هذه البئر يتمتعون بمنظر البحر وهوائه. وكان فيمن يحضر هذا المجلس رجل ظريف موظف في الجمرك يسمى مسعود أفندي طراطيش فبدا لشيخنا أن يسمي البئر (بئر مسعود) فعرفت بهذا الاسم حتى اليوم قلت: هي فائدة لم يفكر فيها اللاهون حول البئر اليوم.
رجعت إلى داري وأنا أتمنى أن تمكن الفرص من بعد لرؤية ما لم نر من مشاهد المدينة العظيمة.
عبد الوهاب عزام(338/13)
فنلندا بلاد التعاون
مواردها والحركة التعاونية فيها
للدكتور مأمون عبد السلام
(بقية المنشور في العدد الماضي)
تعمل الحكومة الفنلندية جهدها لترقية الزراعة فأنشأت مدارس للزراعة وفلاحة البساتين وتربية الماشية وصناعة الألبان وتربية الخيل والتدبير المنزلي، وأنشأت معهداً للبحوث الزراعية يتبعه محطات تجارب لتربية النباتات وصناعة الألبان وإصلاح أراضي المستنقعات. ومما يدل على اهتمام الفنلنديين بالزراعة أن كل مزارع منهم ينتمي إلى جمعية زراعية، وجميع الجمعيات الزراعية تساعدها الحكومة.
والفنلنديون مغرمون من قديم بشرب اللبن فتراهم يدعون الله في صلواتهم أن يكثر ألبانهم. وهم مشغوفون بأكل الزبد فتحث الأم ابنتها على الإكثار من أكله وهي تنشدها قائلة:
كلي الزبد الطازج طول العام
كي يستدير جسمك
كلي لحم الخنزير طول العام
كي يزيد حسنك
كلي القشدة طول العام
كي يزيدك جمالاً
وكان الفنلنديون في سنة 1260 ميلادية يدفعون بعض الضرائب للحكومة أقراصاً من الزبد. وفي سنة 1560 بلغ الزبد الذي صدرته فنلندا إلى دنزيج ولويك والدانمارك وهولندا نصف مجموع صادراتها. أما الآن فعشرة في المائة من الصادرات من الزبد والجبن، وقد بلغت الحركة التعاونية في الألبان درجة لا تضارع في أي قطر آخر. وخمسون في المائة من أعمال الفلاح في فنلندا محصورة الآن في صناعة الألبان ومشتقاتها.
وقد كانت الأبقار الفنلندية رديئة ضعيفة صغيرة قليلة اللبن تجوب المستنقعات وراء الغذاء، فعملت الحكومة على تحسينها فأوجدت عترات نقية جيدة وعلمت المزارعين ضرورة إنتاج(338/14)
الألبان الجيدة فأسست المعاهد والمدارس لتدريبهم على صناعة الألبان بالطرق الحديثة وأوجدت معياراً ثابتاً للبن وللزبد وصدرتها على هذا الأساس.
ويوجد الآن في ميناء هانكو مخزن ومعمل عظيم للزبد المعد للتصدير فيفرزونه من حيث الرائحة والطعم والجودة ولا يصرح بالتصدير إلا للزبد المتفوق الحائز للشروط، ويعاد غيره إلى داخلية البلاد للاستهلاك المحلي بسعر يتناسب مع رتبته. وبذلك أصبح الزبد الفنلندي يضارع زبد الدانمارك، والجبن الفنلندي لا يقل في الجودة عن الهولندي والفرنسي، ويصدر 90 % من زبد فنلندا عن طريق الجمعية التعاونية المسماة فاليو.
وتعتمد فنلندا في ثروتها القومية على الزراعة وصيد الأسماك والتعدين، ففيها قليل من الذهب في لابلندا والنيكل والفضة والنحاس، ويستخرج الحديد من المناجم ومن قاع البحيرات.
وقد تقدمت الصناعة في فنلندا في السنوات الأخيرة مما يشهد لأبنائها بطول الباع واستحقاقهم للحياة، وإليك النسبة المئوية للفنلنديين من حيث حرفهم.
59 , 6 يشتغلون في الزراعة
و16 , 8 في الصناعة والأعمال اليدوية
و4 , 3 في التجارة
و3 , 8 في أعمال النقل
و15 , 5 في صناعات أخرى
وقد ازدهرت في فنلندا صناعة الأخشاب والورق والسليلوز ولب الخشب وخشب الأبلاكاش والبوبينات ويشتغل 35 % من الصناع في الصناعات الخشبية. وقد أسس أول مصنع يشتغل بقوة المياه من مائة سنة مضت. وفي سنة 1860 استكشفت طريقة صناعة لب الخشب، ومن ثم انتشرت مصانعه بفنلندا.
ومساكن العمال بالمصانع على جانب عظيم من النظام والنظافة. ويشتغل العامل ثماني ساعات في اليوم ويعطى في أول عام من التحاقه بالمصنع إجازة قدرها أسبوع ثم أسبوعان في السنة الثانية وهكذا إلى الخامسة إذ تزداد ثلاثة أسابيع. وفي سنته العاشرة تزداد إلى شهر في العام.(338/15)
وقد كانت حالة العمال قبل ذلك سيئة فقد كانوا لتفككهم وفقرهم وتحكم أصحاب الأعمال فيهم يشتغلون 14 ساعة في اليوم بأجور زهيدة، فتسربت إليهم التعاليم الحديثة الخاصة بحقوق العمال من ألمانيا، فألفوا اتحادات العمال في المدن، وكانت في أول أمرها غير سياسية، إذ اشترك فيها أصحاب الأعمال والعمال، ولكنها ما لبثت أن لبست ثوب الاشتراكية. وفي سنة 1899 تأسس حزب العمال ونشر برنامجه الذي طالب فيه بالمساواة في الحقوق وبجعل ساعات العمل ثمانياً في اليوم وتحريم الخمور. ثم تكون الحزب الصناعي وهو دائماً متحد مع حزب الفلاحين.
وتتجر فنلندا مع الروسيا ثم بريطانيا العظمى وألمانيا والدانمارك وفرنسا والسويد، وأهم وارداتها الغلال والدقيق والمعادن والآلات والمنسوجات. وأهم الصادرات الأخشاب. ومن مصنوعاته الورق ولبه، وبعض المنسوجات، والمصنوعات المعدنية والجلود.
وقد افتتح أول خط حديدي في سنة 1862 وأنشئ آخر يصل عاصمتها بعاصمة الروسيا (ليننجراد) أي سنة 1870. وفي فنلندا نظام بديع من الترع والقنالات أهمها القنال الذي يصل بحيرة سايما بخليج فنلندا، ويمكن بواسطته أن تتوغل البواخر من بحر البلطيق إلى 270 ميلاً داخل فنلندا.
ولفنلندا أسطول تجاري، ويمكن للمسافر السويدي أن يصل إليها في بواخر تبرح ستوكهولم في كل مساء عدا أيام الأحد فيصل إلى ميناء توركو الفنلندي وهو ميناء عظيم على أحدث نمط فيه مصانع للسجاير والخزف والمأكولات، والمصنوعات الحديدية والمخازن الكبيرة المملوءة بالبضائع. ومعنى توركو باللغة الفنلندية (السوق) وقد كانت كذلك أيام وثنيتها فأنشئت مكانها هذه المدينة في القرن الثالث عشر.
وفنلندا في مقدمة أمم العالم من حيث بواخرها التي تمخر في الجليد وقد صنعت لأول مرة في سنة 1890 وهي تجري على الجليد فتهشمه بثقلها وتشق لنفسها طريقاً في الماء، وبذا يمكنها أن تمخر طول العام إلى ميناءي توركو وهانكو.
ويؤمن الفنلنديون إيماناً صادقاً بنظام التعاون. فنظام فنلندا الاجتماعي مشبع بالجمعيات والمؤسسات التعاونية حتى لا يضارعها فيه أي قطر. فترى المزارع يبيع زبداً بواسطة الجمعية التعاونية لتصدير الزبد المسمى (فاليو) ويحصل على نقود من البنوك التعاونية(338/16)
ليوسع بها مصانع ألبانه ويبتاع آلاته الزراعية عن طريق الجمعية التعاونية الزراعية للبيع بالجملة المسماة هانكيجا. وتبتاع زوجته ما يلزم البيت من الشركة التعاونية المسماة إيلانتو، ويكتب ابنه الصغير بمداد من صنع الجمعية التعاونية المسماة وتبيع ابنته الصغيرة ما تجمعه من الثمار البرية من الغابات لجمعيات تعاونية خاصة لتصنع منها المربيات.
وقد أدخل نظام التعاون في فنلندا في منتصف القرن التاسع عشر ولكنه أصبح حقيقة واقعة في سنة 1899 وذلك بتأسيس جمعية بليرفو التي أخذت على عاتقها نشر الحركة التعاونية فنجحت في ذلك نجاحاً كبيراً. وكان من أكبر أسباب ضعف التعاون في فنلندا عدم ارتباط الجمعيات التعاونية بعضها ببعض. ولكنهم تغلبوا على ذلك في سنة 1915 بإنشاء المؤسسات التعاونية المركزية الآتية:
1 - جمعية وهي جمعية عظيمة تشتري جميع المواد الغذائية والبضائع المختلفة لحساب المخازن التعاونية المحايدة. وتصنع جمعية الكبريت والفرش والملابس الداخلية والورق والطوب والدراجات والأخشاب، كما أنها تحفظ الفواكه وتحمص البن. وقد شيدت بناء عظيماً زودته بآلات تولد الكهرباء بقوة المياه للإضاءة والصناعة، وهي تستورد الآلات ولها من أجل ذلك مكاتب في القارة الأوربية ولندن وأمريكا الشمالية والجنوبية.
2 - جمعية هانكيجا وتشتري الآلات الزراعية والأسمدة والبذور والسيارات والزيت والأسمنت وكل ما يحتاج المزارعون وتبيعها للجمعيات التعاونية والمزارعين، ولها محطات للتجارب ومشتل ومحطة لتنظيف الحبوب واختبار نقاوتها وآلة للطحن ومخازن لبيع الآلات.
3 - جمعية العمل وهي جمعية المزارعين التعاونية للجملة، وتختلف عن السابقة في تكوين عضويتها.
4 - جمعية بنوك التسليف الزراعي المركزي لتسليف البنوك الزراعية، وهذه تسلف أعضاءها لتحسين زراعتهم أو أعمالهم الأخرى التي يعيشون منها.
5 - جمعية فاليو لتصدير لزبد.
6 - الجمعية التعاونية الفنلندية لتجارة الماشية.
7 - جمعية ماتا للتصدير.(338/17)
8 - جمعية انيغتين لصناعة الألبان.
9 - الجمعية المركزية لأصحاب الغابات.
10 - جمعية التعاونية للجملة وهي فرع من جمعية السابقة.
ومما يلفت نظر زوار فنلندا وجود اسم أيلانتو في كل مكان وهو اسم جمعية للبيع بالقطاعي أنشئت سنة 1907 كمخبز. وهي لا تزال إلى الآن أكبر مخبز في فنلندا، ولكنها توسعت في اختصاصها فأصبحت تبيع مصنوعات الألبان والبقالة واللحوم والبيرة والعقاقير الطبية والملابس وإدارة المطاعم ويبلغ عدد أعضائها خمسين ألفاً.
والفنلنديون أهل ذمة وأمانة ووفاء. فحكومتهم هي الوحيدة من جميع الحكومات المدينة للولايات المتحدة التي تسدد أقساط دينها بفائدته مما جعلها محط احترام الأمريكيين ومحبتهم. فالفنلنديون بطبيعتهم مقتصدون حسنو التدبير. وهم يكرهون المضاربات والمساهمة في الشركات وكل أعمال البنوك اعتقاداً منهم أنها تخالف قواعد الأمانة وحسن الذمة، لذلك لا تجد فيهم أمثال كروجر وغيره من الدجالين النصابين من زعماء المال. وفنلندا هي الدولة الوحيدة التي أخفق كروجر في الحصول على احتكار الكبريت فيها.
وأنشئ بنك فنلندا في سنة 1811 في هلسنكي وله فروع في 13 مدينة أخرى، ومديروه ينتخبهم البرلمان وينتخب مجلس الإدارة رئيس الجمهورية مباشرة.
وأسست العملة الفنلندية في سنة 1860 وكانت تجري على قاعدة الذهب من سنة 1877 واحتفظت بها حتى أول يناير سنة 1926. أو وحدة عملتها المارك الفنلندي المجزأ إلى مائة جزء يسمى بنيا وقيمته سنتيمان.
وفي فنلندا تسعة بنوك للسندات وستة للرهنيات و482 بنكاً للإيداع وبنك مركزي للتسليف و1342 بنكاً تعاونياً للتسليف.
وتعتبر فنلندا من أرخص بلاد العالم، لأن أهلها لا يميلون إلى الكماليات إذ يعتقدون أن أحسن وسيلة للمعيشة هي اكتساب القوت من العمل في الحقل أو في المصنع لا عن طريق اللصوصية المقنعة بالمضاربة وغيرها.
ويعطي الفنلنديون كل عنايتهم لنشر التعليم، فخصصت حكومتهم 12 % من ميزانيتها له، وحتمت على كل طفل مهما نأى بلده أن يتعلم القراءة والكتابة، فترى في الدساكر والقرى(338/18)
والمدن المدارس الأولية الحرة ومدارس التعليم التعاونية والمدارس الصناعية والزراعية ومدارس التدبير المنزلي، والدراسة فيها باللغتين الفنلندية والسويدية على أحدث النظم الألمانية.
والتعليم عندهم ذو وجهة عملية يهيئ الطالب ذكراً كان أو أنثى ليكون عضواً نافعاً لبلاده جسميّاً وعقلياً، لذلك يتضمن التعليم التدريب الجسمي والفكري.
ويلتحق صار الطلبة من سن 7 إلى 13 أو 14 سنة بالمدارس الأولية الحرة التابعة للمجالس البلدية وبالمدارس التعاونية والمدارس التحضيرية. وتوجد كذلك مدارس أولية راقية للطلبة من سن 10 إلى 17 أو 18 سنة، ومدة الدراسة ثماني سنوات وتديرها الحكومة.
وبفنلندا ثلاث جامعات أنشئت في سنة 1640 وسنة 1917 وسنة 1920 على التتابع، منها اثنتان في مدينة توركو والثالثة في هلسنكي، وهي أكبرها وأعظمها استعداداً. والتدريس في الجامعات باللغتين الفنلندية والسويدية وهما اللغتان الرسميتان بحسب نص الدستور. وعلى الطالب الفنلندي أن يتكلم لغة إضافية كالألمانية أو الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية ليسهل عليه الاتصال بالعالم الخارجي. وكانت دراسة اللغة الروسية إجبارية في الزمن السابق فأبطلت، وتدرس علاوة على ذلك اللغتان اليونانية القديمة واللاتينية. ونسبة الأمية في فنلندا 9 و10 % من الذين يزيد سنهم على 15 سنة.
وتهتم فنلندا أعظم اهتمام بالرياضة البدنية. وقد اشتركت في الألعاب الأولمبية الدولية وحاز مصارعوها السبق أربع سنوات متتالية على أمم العالم، كما أنهم تفوقوا في كثير من الألعاب كالجري البعيد. وقد رفع العلم الفنلندي في سنة 1912 فوق بناء الألعاب الأولمبية الدولية بالرغم من احتجاج الروسيا. وفي سنة 1920 دخلت فنلندا دورة أنفرس الدولية كدولة مستقلة وتبوأت مكانها كالثانية أي بعد الولايات المتحدة وأرسلت 58 عضواً وقد احتفظت بمكانها في سنة 1924 في دورة باريس في جميع الألعاب التي اشتركت فيها. وسبقت فنلندا الأمم الأوربية في منح النساء حريتهن واهتمام الفنلنديين بشؤون النساء يرجع إلى عهد بعيد فإن أقدم مستند فنلندي تاريخي يرجع إلى سنة 1316 كان خاصاً بحقوق النساء. ويزاول الفنلنديات كافة الأعمال والحرف، فمنهن المهندسات والمعماريات(338/19)
والبناءات، وراصفات الطرق، وسائقات السيارات وما إلى ذلك. وقد منحن حق التصويت في الانتخابات من سنة 1906، وأصبح لهن الحق في أن ينتخبن لعضوية البرلمان في سنة 1907. ونسبة النساء في عمال المصانع 20 % كما أن 10 % من مخازن الأدوية يملكها نسوة و80 % من مستخدميها من النساء. وقد جاهدت الفنلنديات لمنع شرب الخمر وكان لهن الفضل في إجبار الحكومة على مراقبة بيع المشروبات الروحية. وقد تسبب عن اشتغال النساء بالحرف متاعب زوجية عظيمة. والفنلنديات ماهرات في فنون الطهي وتدبير المنزل.
وبرغم أن سبعة أثمان سكان فنلندا من الفنلنديين، وبالرغم من أنه لم يحرم عليهم التكلم بلغتهم في عهد تحكم الدول الأجنبية فيهم، فإن الأقلية التي تتكلم السويدية كانت تملك معظم الثروة وكل الإدارة والسلطة السياسية والمراكز الاجتماعية الهامة، ولم توجد كتب باللغة الفنلندية قبل سنة 1860 عدا الكتب الدينية. وقد ترجم ميخائيل أجريكولا (وهو تلميذ مارتين لوثر منشئ البروتستانتية كتاب العهد الجديد إلى اللغة الفنلندية في سنة 1548 وقد طبع أول قاموس لاتيني فنلندي في سنة 1826، وقد وضع لونروث في سنة 1831 وسنة 1835 قاموساً للغة الفنلندية وأصدر أول جريدة بهذه اللغة ولم يتكلم في عهده أحد باللغة الفنلندية سوى ست أسر إذ كان الفنلنديون يفضلون التكلم باللغة السويدية.
ولم تأت سنة 1841 حتى أصبحت اللغة الفنلندية تدرس بالمدارس الأولية، واعترف دستور سنة 1919 بلغتين رسميتين وطنيتين: اللغة السائدة الفنلندية ولغة الأقلية السويدية.
ويوجد الآن بفنلندا فئتان: الأولى فئة الفينومان الذين يرفضون التكلم بغير الفنلندية، وفئة السفيكومان ولا يتكلمون غير السويدية قائلين إن اللغة الفنلندية ليست إلا رطانة الفلاحين. ولكن لا دخل لهذا الخلاف في تفانيهم في حب بلادهم وأبناء وطنهم وفي سنة 1906 غير ستة عشر ألف أسرة أسماءها السويدية بأسماء فنلندية مدفوعين إلى ذلك بعوامل وطنية أو سياسية، وقد رجع بعضهم إلى اسمه الأسريّ القديم الذي غير مدة حكم السويد. فترى الآن أخوين يحملان اسمي أسرتين مختلفتين وأحدهما يتكلم السويدية والآخر الفنلندية.
واللغة الفنلندية صعبة وهي تشبه لغة استونيا والمجر وهي خالية من أداة التعريف ومن الجنس وليس في حروفها الأبجدية حروف وكلماتها طويلة جداً مثال ذلك:(338/20)
وحكومة فنلندا جمهورية دستورية على رأسها رئيس ينتخب كل ست سنوات وراتبه الشهري مائتا جنيه. والقوة التشريعية في يد برلمانها المسمى ديات، والقوة التنفيذية في يد مجلس الوزراء المسئول أمام الديات، وهو في بناء من أجمل أبنية أوربا، وعدد أعضائه مائتا عضو ينتمون إلى الأحزاب المختلفة كما يأتي:
حزب الاشتراكيين الديمقراطيين ويمثله 78 عضواً.
والحزب الزراعي ويمثله 53 عضواً.
والحزب السويدي ويمثله 21 عضواً.
وحزب الاتحاد ويمثله 18 عضواً.
والحزب الوطني الأهلي ويمثله 14 عضواً.
وحزب التقدم ويمثله ثلاثة أعضاء.
وحزب المزارعين الصغار ويمثله ثلاثة أعضاء.
وحزب الشعب ويمثله اثنان.
وأنشئ الجيش الفنلندي النظامي في سنة 1922، وسن الاقتراع 21 سنة ويمضي الفرد سنة في سلاح المشاة وخمسة عشر شهراً في سلاح آخر ويمكث في الرديف سبع سنوات وفي الجيش المرابط 24 سنة. ولفنلندا أسطول ولكنه ليس في قوة جيشها وهو يحتوي على سفن للحراسة ومراكب للطوربيد وغواصات. والفنلنديون من أحسن البحارة في العالم، لذلك استخدمتهم الروسيا في أساطيلها الحربية والتجارية. وللفنلنديين سمعة عالمية عالية في صيد الأسماك.
مأمون عبد السلام(338/21)
على هامش الفلسفة
للأستاذ محمد يوسف موسى
قرأت كلمة الأستاذ الكبير عباس العقاد بعدد الرسالة رقم 335 التي عنونها (مع أبي العلاء في سجنه) وفيها يتعقب الدكتور طه حسين بك في بعض ما ذكره في بحثه عن شيخ المعرة رهين المحبسين، إذ لا يرضى ما فهم من قول أبي العلاء في بعض فصوله: (يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) لا يرضى أن فيلسوف المعرة (قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطراً، وهو إنكار العلة الغائية وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن ونزعم أن الأشياء خلقت لتحقيقها). ويرى - أي الأستاذ العقاد - أن هذا الرأي من الدكتور فيه شئ من الصواب، ولكن (أصوب من هذا أن يقال إن رأي المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: إن الوظيفة تخلق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة).
هذه الكلمة أثارت مني رغبة كامنة في متابعة الكتابة في الرسالة - تحت عنواني الذي اخترته العام الماضي، وهو على هامش الفلسفة - لو إلى ذلك سبيل الآن! ذلك أن البحث الذي أعني بإعداده هذا العام أو بالتحضير له عن ابن رشد ومكانته في الفلسفة الإسلامية يملك عليّ كل أمري ويستأثر بكل وقتي أو لا يدع هذه الرغبة تخرج من القوة للفعل، إلى حين أرجو أن يقصر أمده إن شاء الله تعالى. إلا أن اتصال الموضوع الذي أثاره الأستاذان عن غير قصد بالدراسات التي أحبس نفسي عليها هذه الأيام، جعل من الواجب أن أكتب كلمة قصيرة أبين فيه أن التوفيق أخطئهما كليهما فلم يصيبا المحز. وإلى القارئ البيان:
تشير كلمة أبي العلاء - فيما أرى إن كان قالها جادّاً - إلى مسألة الأسباب والمسببات التي ثار حولها الخلاف الشديد بين الغزالي وبين الفارابي وابن سينا في تهافت الفلاسفة. ثم أثارها بعده ابن رشد في تهافت التهافت الذي كتبه دفاعاً عن الفلسفة والفلاسفة ضد ما وجهه الغزالي من هجمات نالت من الجميع نيلاً كبيراً، ولا تزال الفلسفة متأثرة بها حتى هذا العصر الذي نعيش فيه.
يرى الغزالي، ممثل المتكلمين في عصره، أنه كان من الممكن أن يكون العالم على غير ما(338/22)
نشاهد الآن، وأن ما نظنه سبباً للإبصار أو الكلام والموت أو الحياة أو ما نعتقده أداة لشيء من هذا ونحوه ليس كذلك في نفسه، بل لأن الله قدره هكذا أزلاً. وفي ذلك يقول: (الاقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا. . . فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر. مثل الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء. . . وإن اقترانهما لما سبق من تقدير الله سبحانه بخلقهما على التساوق لا لكونه ضرورياً في نفسه. بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل، وخلق الموت دون جز الرقبة، وإدامة الحياة مع جز الرقبة وهلم جرا إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته).
إذاً فعند الغزالي أنه يمكن أن يجعل الله العين أداة وسبباً للشم لا للإبصار، والأذن للشم لا للسمع، وأن يخلق الشبع دون سببه وهو الأكل، والري دون الشرب، وهكذا إلى سائر الأمور التي نعتقدها أسباباً تتلوها حتما مسبباتها.
أما ابن رشد - وقد جعل من نفسه مدافعاً عن الحكمة، وهي كما يقول: صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة - فيرى أن لكل شيء سبباً لا يتخلف عنه، ولكل عضو عملاً لا يعدوه، وأن (العقل ليس هو شيئاً أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها وبه يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وصناعة المنطق تضع وضعاً أن هاهنا أسباباً ومسببات، وأن المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم ورفع له) ثم يعود إلى تأييد نظريته هذه في موضع آخر فيقول: (ولو ارتفعت الضرورة عن كميات الأشياء المصنوعة وكيفياتها وموادها كما تتوهم الأشعرية مع الخالق لارتفعت الحكمة في الصانع والمخلوقات. . . إلى أن يقول: وهذا كله إبطال للعقل والحكمة).
على أنه لا يجب أن يتبادر للذهن أن ابن رشد، الرجل الدين كان يرى اكتفاء الأسباب بنفسها في خلق مسبباتها. فمن الحق أن نقول إنه يقرر (أنها ليست مكتفية بأنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج فعله شرط في فعلها بل في وجودها فضلاً عن فعلها).
أعتقد أن القارئ يرى معي بعد ما سقناه من كلام الغزالي وفيلسوف قرطبة، أن الدكتور طه(338/23)
حسين بك لم يكن مصيباً فيما أكده من أن شيخ المعرة كان يرمي بقولته التي أسلفنا إلى شيء من الفلسفة الأبيقورية، وأن الأستاذ الكبير العقاد لم يكن موفقاً كذلك في التعقيب عليه، وأن المعري لم يقصد بكلمته - إن كان سلك فيها مسلك الجد - إلا الإشارة لفلسفة المتكلمين الذين يدفعون التلازم بين الأسباب والمسببات على النحو الذي ذكرناه عن ممثلهم وزعيمهم في عصره حجة الإسلام الغزالي. وبالله التوفيق.
محمد يوسف موسى(338/24)
من وراء المنظار
حلاقو القاهرة. . .!
لا تفهم يا قارئي العزيز أني أعقد لك فصلاً تاريخياً عن منظر من
مناظر القاهرة العظيمة في زمن ابن طولون أو في زمن الحاكم بأمر
الله أو في زمن قلاوون عليهم رحمة الله، فإني لا أكتب هنا إلا عما يقع
عليه منظاري. . . وإنما أنا محدثك عن منظر من مناظر هذه
العاصمة الكبيرة في القرن العشرين بل وفي عام 1939 الذي أوشك
أن ينطوي على وجه التحديد.
ولا تتوهم أني فيما أصف لك أذهب بك إلى تلال زينهم أو إلى أعلى الدراسة أو إلى جوار المحمدي أو إلى ما وراء سيدي الحِلّي؛ فإنك قد تنكر على ما أقول لجهلك فيما أظن مظاهر العيش في هاتيك البقاع. . . على أنه لا يكون جهلك بها أكثر من جهلي.
وإن لك في أقرب شوارع المدينة غنية عن الذهاب إلى أطرافها فسر في شارع ماسبيرو على ضفة النيل أو في شارع شبرا حيث المدرسة التوفيقية أو في شارع الملكة نازلي أو حول حديقة الأزبكية وانظر ماذا ترى.
لاشك أنك رأيت هؤلاء الحلاقين الذين يتربعون على الأرض أو على الأسوار ويأخذون في حلق رؤوس زبائنهم ولحاهم في صورة تدعو إلى الاشمئزاز والأسف والضحك جميعاً.
وقفت على مقربة من أحدهم ورأيته وقد شمر عن ساعديه وأمسك بالموسى ودعا إليه من زبائنه الجالسين حوله من جاء دوره. ومثَل الرجل بين يديه وله لحية ما أحسبه أجرى الموسى عليها منذ مثل هذا اليوم من العام الماضي؛ ووضع الحلاق كفه في إناء بجواره فاغترف غرفة من الماء بيده ورشها على تلك الأشواك الكثيفة في وجه صاحبنا وأجرى عليها قطعة من الصابون، ثم شحذ الموسى على ذراعه بأن حكها بها عدة مرات في سرعة عجيبة ولما استيقن من مضيها راح يقطع هاتيك الأشواك، ثم يمسح ما تجمع منها على حافة سلاحه في ظهر يسراه أو يأخذها على سبابته ويقذف بها في الجو لا يبالي أين تقع ولا من يصيب برشاشها. . .(338/25)
ونظرت إلى الحلاق وزبائنه أتبين ماذا كان يخالجهم شعور من المبالاة، فلم أصب في وجوههم إلا مثل ما يرى في الحيوانات من عدم المبالاة فيما تأتيه من أعمالها جميعاً على أعين الناس؛ وكأن هؤلاء الناس جلوس في دكان لا تقتحهم فيه الأعين!
وهممت أن أدور بمنظاري عن هذا المنظر الذي لست أدري لم وقفت إليه تلك اللحظة، وقد كنت أبداً أمر به مسرعاً، وإني لأضيق به أشد الضيق، وكأن الظروف أرادت أن تكيد لي أشد الكيد فلا تقلع عن العناد حتى في مثل هذا الموقف التافه؛ فهذا غريب مقبل ومعه سيدة وفي يده آلة تصوير، وإنه ليضحك ملء شدقيه كأنما يقع من الحلاق وزبائنه على بغية طالما تمناها.
وأعد الفرنجي آلته للتصوير، ولشد ما غاظني أن أرى الحلاقة ومن حوله يضحكون ضحكة البلهاء كأنما يفرحهم أن يأخذ (الخواجة) صورهم، وسمعت ذلك (الخواجة) يقول لصاحبته بالإنجليزية ما ترجمته: (انظري فسنحصل على صورة ظريفة لحلاقي القاهرة).
ودنوت منهما فسلمت وتكلفت الابتسام أولاً، ثم عبست وبالغت في العبوس لأعبر عن احتجاجي، وتكلمت في لهجة استخذى لها ذلك الغريب، وحار ماذا يقول؛ وأشارت إليه صاحبته فطوى آلة التصوير؛ وكأنما أملى عليه إحساسه بالغربة أمام احتجاجي الشديد أن يتلطف فاعتذر، ولكنه أعقب اعتذاره بقوله: (جميل منك أن تغضب لسمعة شعبك ولكن أجمل من ذلك أن تزيحوا عن الأعين ما يشوه هذه السمعة).
وجميل من الرجل قوله هذا لا شك عندي في ذلك؛ ولكن ما حيلتي وما أملك غير القرطاس والقلم؟
ليس يهمني من هذا المنظر وأشباهه ما عسى أن يقول عنا الأجانب من أجله فحسب، وإنما أراه على ذلك شيئاً تتأذى به العيون وتشمئز منه النفوس. ولئن لم تقع عليه وعلى أمثاله أعين غير أعيننا، ففيه مما يشعرنا بالضعة والهمجية.
(عين)(338/26)
البغاء في أوربا
للمستر أبراهام فلكسندر
بقلم الأستاذ عبد اللطيف حمدي
البوليس والبغاء
فضلاً عما ينشأ في المدن الفسيحة من الصعوبة في تمييز الداعرات فهناك صعوبة أخرى مترتبة على الأولى: ذلك أنه حيث يكثر الداعرات المحترفات يكثر كذلك ما يسمونه بالدعارة السرية.
وقد كانت الدعارة السرية في العصور الوسطى على غير ما هي عليه الآن، فإن سهولة التعرف على الداعرات في تلك العصور، والنظرة التي كان ينظر بها إليهن، كانتا سببين كافيتين لحصر بؤرهن. فكانت المومس التائبة إن تركت حياة المواخير لا تجرؤ على السكنى في حي آخر، بل كن يقمن في تلك الأحياء؛ ولم يكن ثمة شك في أشخاصهن ولا في ماضيهن. وفي العصور الحاضرة فريق من الداعرات يحترفن ما يسمى بالدعارة السرية وهن مثل الداعرات في العصور الوسطى معروفات حق المعرفة لرجال البوليس، بل هن رغم التسمي باسم (السرية) معروفات كذلك لكل عابر سبيل وذلك لافتضاح أمرهن. ولكن على الرغم من ذلك هناك فارق مهم بين أنواع من البغاء السري في العصور الحاضرة. فالنوع الأقل عدداً والأقل خطراً هو الفريق المعروف باحترافه للدعارة.
أما الكثرة من البغايا السريات، فهن اللواتي لا يدل عليهن شيء من ثيابهن ولا مظهرهن ولا مسكنهن، وهن يعشن بين سائر النساء بحيث يتعذر تمييزهن، ولكنهن مع ذلك يزاولن البغاء السري بحالة مستمرة أو متقطعة.
إن المومس المجاهرة أقل أهمية؛ ودراسة حالتها أقل جدارة لدى من يحاول درس التطورات التي تحدث بالمدن الكبرى أثناء تقدمها من النواحي الصناعية وغيرها.
ولقد بذل جهد ليس بالقليل في سبيل تعريف الدعارة تعريفاً دقيقاً، لأن النظر إليها من وجوه مختلفة يسفر عن تعريفات مختلفة، فالداعرة من وجهة النظر الإدارية لدى رجال البوليس هي التي ليس لديها وجه من وجوه الرزق غير ابتذال العرض، وهذه هي التي توجب(338/27)
الإدارة تسجيل اسمها. فالأمر إذن لدى رجال البوليس يتعلق بالتسجيل. ولما كان موجبه هو الرزق قد وجد الكثيرات من البغايا مهرباً منه لأن هذه الشبكة واسعة الخروق، وأكثر البغايا حقاً يحترفن حرفة مكسبة. ففي ألمانيا نوع من الحانات تعمل فيه أجيرات. وفي أماكن أخرى مغنيات وراقصات وذوات حرف مماثلة، وكلهن في الواقع بغايا يتخذن هذه الحرف ذرائع لاستجلاب الرجال ويحتمين بها في نفس الآن من واجب للتسجيل على اعتبارهن محترفات. ومتى سقط عنهن التسجيل سقط كذلك عند البوليس وصفهن بالدعارة.
ومما يدل على أن هذه الحرف التي لا تقوم أجورها بالأود أو التي إنما تنتحل ستاراً دون قوانين البوليس، أن علاقة هؤلاء النسوة بحرفهن علاقة تكاد تكون اسمية من حيث المواظبة من جهة والأجر من جهة أخرى، وقد قام مستشفى زيوريخ بإحصاء للمريضات بأمراض تناسلية اللواتي عولجن فيه في عام واحد فكانت النتيجة أن عدد المريضات 1177 منهن 7 وتسعة أعشار في المائة من المومسات وستة وسبعة أعشار في المائة لا صناعة لهن وخمسة وثمانون في المائة وأربعة أعشار من ذوات الحرف. فمن الواضح إذن أن التعريف الإداري للبغاء إنما هو تعريف لا يتفق مع الواقع. ويرى الأب (دوشاتليه) في تعريف الدعارة (أنها هي الجرائم الخلقية التي يدفع عنها أجر وترتكب في أماكن أنشئت بمقتضى القانون، ولا تعتبر المرأة فيها مخالفة إلا بأن يشهدها شاهد غير متهماً وغير رجال البوليس).
وهذا التعبير يخرج الدعارة السرية إخراجاً تاماً من التعريف فهو لا ينطبق عليها. وإنما يكفي لتحديد الغرض الضروري في نظر رجال البوليس.
وعلى الخلاف من هذا التحديد الشديد الضيق أرى للأسباب التي سأسردها بعد قليل أن الدعارة تتميز باجتماع ثلاثة عناصر مختلفة. وهي (1) العوض (2) التعدد (3) فقدان العاطفة.
وليس من الضروري أن يكون العوض نقداً؛ فإن الهبات والهدايا والاصطحاب في مجال اللهو - كل ذلك وهو مما لا يحصل عليه إلا بالنقد يعتبر عوضاً.
وليس كذلك من الضروري أن يكون شرط التعدد مانعاً من الاختيار، فإن اتصاف المرأة بالدعارة لا ينفيه أنها تختار مَن تشاء وترفض حين تشاء.(338/28)
وأما شرط فقدان العاطفة فهو أوضح من الشرطين السابقين وعلى هذا الأساس تعتبر المرأة داعرة متى اتصلت اتصالاً جنسيّاً من أجل الأجر أو الهدايا برجال متعددين سواء كان هذا الاتصال عرضيّاً أو احترفته. وليس من الضروري بعد ذلك أن تكون مفضوحة السمعة ولا أن تكون قد اعتقلت ولا عديمة الكسب من حرفة؛ فقد لا تكون المرأة سيئة السمعة ولا من صواحب السوابق ولا من الخاليات من العمل لكنها مع ذلك بغي.
وعلى أساس هذا التعريف للدعارة يكون مداها قد اتسع وتكون ضرورة علاجها أمَسّ؛ وهذا الذي أرجو أن أدل عليه.
فالعوض وفقدان العاطفة وتعدد الرجال سواء قلوا أو كثروا، كل ذلك في المدن العصرية لا يميز العلاقة الجنسية للبغي المحترفة وحدها. بل هذه الصفات للداعرة السرية أيضاً، بل إن أردنا التسمية بالاسم الصحيح فهذا التعريف يشمل أنواعاً كثيرة من الداعرات المحترفات اللواتي لا يعرف حقيقتهن إلا زميلاتهن في البيوت السرية كما يشمل المرأة العادية التي تخرج بين حين وآخر من هدأة الحياة إلى هذا النوع الشاذ منها، ويشمل كذلك ذوات المراكز المصونة اللاتي قد يزاولن عرضاً هذه الرذيلة دون أن يمسسن ظاهر شرفهن. ويشمل كذلك المتسترات بحرفة من الحرف، واللواتي تتخذ إحداهن خليلاً واحداً ريثما تستطيع الاستبدال به من تراه خيراً منه، واللواتي تخادن إحداهن أكثر من خليل واحد لعدم استطاعة فرد من هؤلاء الأخلاء القيام بأودهن، واللواتي تخون إحداهن خليلها الواحد مع فرد أو أكثر طلباً للنفع. وأخيراً يشمل هذا التعريف النسوة المتزوجات ولسن جميعاً من الطبقة الدنيا بل فيهن من سائر الطبقات وكلهن في نظر العالم بريئات يرتفعن عن مظنة الكسب من الزنا ولكنهن في الواقع يحببن من يصحبهن إلى أماكن اللهو.
فهذه ثمانية أنواع تخرج عن التحديد الضيق الذي يقيد صفة الداعرة في نظر البوليس. ولكن هذه الأنواع جميعاً تدخل تحت عنوان الدعارة إذا ما تميز هذا العنوان (1) بالعوض (2) وبالتعدد (3) وبفقدان العاطفة. أي أن الدافع للصلة لم يكن وجدانياً بل هو نفعي. ولكن دون هذا كله سؤالاً لابد منه وهو لماذا نعترض على البغاء على أي نوع من أنواعه؟
والجواب واضح وهو أن الزنا بغيض لأسباب كثيرة. فأما أولاً فلما يترتب عليه من الانحلال الشخصي.(338/29)
وأما ثانياً فلأنه ضار بالمجتمع من الناحية الاقتصادية.
وأما ثالثاً فلأنه من الناحية الصحية ينشر أمراضاً تناسلية، ومن الناحية القضائية لأنه يرتبط بالإخلال بالأمن وينشر الجرائم؛ وما لا ريب فيه أن العاهرات اللواتي يقصر البوليس اهتمامه عليهن منحلات الأخلاق ينشرن الانحلال، ويسببن استهلاكاً اقتصادياً جسيماً، وينشرن الأمراض. والقاعدة أن بؤرهن مباءات للمجرمين. ولكن من الخطأ الفاحش أن تظن صواحب الأنواع الأخرى من البغايا أقل أثراً منهن على المجتمع في نشر هذه الويلات، فإن البغي العَرَضية أو المستمرة المحترفة أو الهاوية المتسترة بحرفة أو التابعة - كل أولئك يؤدين باتصالهن الأثيم إلى نفس النتائج ولقد تختلف آثار بعضهن عن بعض ولكنهن جميعاً خطرات.
(يتبع)
عبد اللطيف حمدي(338/30)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلي في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
(تتمة)
ود مازيني لو أنه استطاع أن يجعل للأدب من وقته أكثر مما جعل له، ولكن مشاغل السياسة حالت بينه وبين أمنيته؛ وكان منذ عودته إلى لندن بعد ثورة عام 1848 يوجه أكثر همه إلى الأدب الإنجليزي، وقد أكب على دراسة حياة الشاعر الإنجليزي العظيم اللورد بيرون الذي أحبه أشد الحب لأنه الشاعر الذي هز القلوب وأيقظ المشاعر بأناشيد الحرية والقوة، ولأنه ذلك الروح المتمرد على الطغيان والاستبداد، ثم لأنه لم يكن رجل الفن الذي يجلس في معزل عن عصره يتغنى بالجمال ويستغرق في الفن استغراق الصوفي المسحور، بل كان الرجل الذي كانت أغاني قيثارته صدى لآلام عصره وأحلامه، والذي ذهب إلى حيث لاقى الموت في مناقع مسولنجي في سبيل الدفاع عن حرية اليونان.
وجعل مازيني يوحي مبادئه إلى كل من يلاقيهم، يريد بذلك أن يكسب لقضية إيطاليا أكثر ما يستطيع من الأنصار؛ ثم أنشأ عام 1851 جمعية أصدقاء إيطاليا لهذا الغرض وسرعان ما انتظم في صفوفها كثير من ذوي المكانة من الإنجليز، وفتحت لها بعض الجرائد الذائعة أبوابها؛ فكانت من أكبر وسائل مازيني في الدعاية عن قضية وطنه. وكان لهذا الرجل أن يفخر يومئذ بأنه أدى إلى بلاده من جليل الخدمات ما لم يؤد مثله رجل غيره، بل لقد كان له أن يفخر بأنه أدى إلى الجليل كله ما يجعله في مصاف قادته ويسلكه في سجل القلائل الأفذاذ الذين يباهي بهم تاريخ أوربا.
لقد ملأ قلوب المستنيرين في إيطاليا كلها بمعاني الوطنية والحرية ولقنهم مبادئ الديمقراطية وسيادة الشعوب، ونشأ الجيل كله في إلهامه، فما من رجل من رجل السياسة وقادة الرأي في الولايات جميعاً إلا من تأثر بتعاليم هذا المجاهد العظيم؛ ولئن كان فيهم من(338/31)
يخالفه في الوسيلة، فما كانت الغاية التي يعمل على بلوغها إلا أنشودة كل وطني حر.
على أنه وجد البلاد تتأثر بعد فشل حركات سنة 1848 بسياسة بيدمنت، تلك السياسة التي كان يمثلها كافور، ذلك السياسي الفذ الذي يعد في حركة إيطاليا رأسها المفكر؛ وكان كافور ومازيني على طرفي نقيض؛ إذ كان أولهما رجل لعمل الدبلوماسي الرشيد الذي يتحين الفرص ويسير إلى غايته في حذر وبطء، ولكن في وثوق، والذي جعل خطته تقوية بيدمنت أولاً، ثم دفعها إلى الحرب متى آنس فيها القوة ووجد لها الفرصة؛ وكان ثانيهما الزعيم الثائر الذي لا يفتأ يدعو البلاد إلى العصيان والتمرد لتبقى شعلة الجهاد متوهجة، وتظل نار القلوب متأججة، فلا يركن الشعب إلى القعود، فينسى تلك الغاية التي تهيب بالرجال وتشد عزائم الأعزال وتوحي إليهم اليأس والاستبسال. وضاق الرجلان أحدهما بالآخر، وكان كل منهما حرباً على صاحبه؛ وهذا مما نعده على مازيني الذي وضع إصبعيه في أذنيه تلقاء كل دعوة إلى مشايعة أنصار بيدمنت وتعضيدهم، والذي اعتبر كل قاعدة غير الوحدة والاستقلال مروقاً وإلحاداً في مبادئ الوطنية ودين الحرية. . . وليت شعري ماذا كان يضيره لو أنه عضد كل حركة تقرب البلاد من غايتها؛ على أنه لم يقف عند هذا الحد، بل لقد أخذ يدعو إلى الجمهورية ضد الملكية، جاعلاً بمسلكه هذا تلك المسألة الثانوية مقدمة على المسألة الرئيسية مما أضعف دعوته وزاد الناس إقبالاً على كافور وسياسته.
وكذلك أخذ كثير من الناس يعيبون على مازيني اتخاذه الثورات وسيلة إلى تحقيق آماله؛ وعابوا عليه أكثر من ذلك تدبيره مؤامرات الاغتيال، ولكنهم كانوا في ذلك يرمونه بتهمة هو منها براء، وقد رد مازيني على متهميه بأنه يرى الثورات ضد الغاصب المسلح وسيلة شرعية، أما الاغتيال فإنه يعده جريمة إذا أريد به الانتقام أو إذا أدى إلى القضاء على شخص لا يذهب الاستبداد معه إلى القبر؛ وكأنما كان يبرر اغتيال من يموت بموتهم الظلم؛ يتجلى ذلك في رده على اتهام كافور إياه بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال الملك فكتور عمانويل، قال مازيني: (إن حياة الملك في مأمن وذلك لسببين أولهما أخذه بقواعد دستورية في حكمه، وثانيهما أنه ليس ثمة من جدوى لهذه الجريمة).
على أن مازيني لم يعبأ بما يقول مخالفوه وما فتئ يترقب الفرص لإثارة الثورات من جديد؛(338/32)
وما لبث أن جاءته الأنباء عام 1852 عن ثورة تدبر في ميلان ضد النمسا بين صفوف العمال وكان في هؤلاء كثير من شيعته، فخف إليهم متنكراً حتى صار على مقربة منهم، ولكن ثورتهم كان نصيبها الفشل السريع، فاضطر الزعيم إلى العودة إلى إنجلترا وفي نفسه من الألم والحزن والشعور بالخجل ما جاء عبأ جديداً فوق أعبائه؛ ولقد حملت عليه صحافة بيدمنت حملات عنيفة وحملته مسؤولية هذه الحوادث وما ذهب فيها من ضحايا، فازداد بذلك حنقه على الملكيين وتوالت حملاته هو أيضاً على خطتهم وعلى زعيمهم. وظل في إنجلترا يتربص ويتصل بشيعته في وسط إيطاليا وشمالها؛ وقد عقد النية على بعث ثورة كبرى في الوسط والشمال تكون أبلغ رد على الملكيين، وتكون قائمة على أساس وحدة إيطاليا وطرد النمسا وإقامة الحكم الجمهوري في إيطاليا الموحدة؛ واتصلت أسباب المودة بينه وبين قنصل أمريكا في لندن ومناه القنصل بمعونة حكومته أن كان من أكبر دعاة الديموقراطية في أوربا.
وذهب مازيني عام 1854 متنكراً إلى باريس ثم إلى إيطاليا حيث كان يلتقي سراً بأنصاره ويوحي إليهم من خططه ما يوحي، وكان يقضي أكثر وقته في جنوة، وكان تنكره يحير الشرطة ويزعجهم، وهو في الحق يعد من أغرب نواحي كفاح ذلك الرجل الذي قضى في الجهاد إلى ذلك الوقت أكثر من ثلاثين عاماً بين اغتراب وسجن اختياري وتنكر، فما صرفه هذا العذاب عن وجهته وما قعد به الجهد عن غايته، الأمر الذي يكفي وحده لأن يسلك هذا الرجل العظيم في سلك أكبر زعماء الحرية في جميع العصور ويلحقه بالشهداء والقديسين الذين وهبوا أرواحهم لخير الإنسانية.
وبينما كان مازيني يعد العدة لثورته الجديدة كان كافور يمشي إلى غايته بخطى حكيمة تضعه هو أيضاً في صف أعاظم الساسة في تاريخ الأمم؛ انتهت إلى كافور رياسة الحكومة في بيدمنت عام 1852 فجعل أولى خطاه إصلاح مرافق الولاية والنهوض بماليتها وبناء قوتها الحربية على أساس متين، ولما تم له ذلك على خير ما يرجى أخذ يخطو خطاه السياسية وكانت تتجه إلى مكافحة النمسا بالأساليب الدبلوماسية أولاً ثم بالحرب آخر الأمر؛ على أن يكون بدء الحرب من جانب النمسا فتكون هي المعتدية، ويعتبر مسير كافور إلى غايته من أجمل وأقوى الحركات في تاريخ السياسة الدولية.(338/33)
بدأ أولاً بالتدخل في جانب المضطهدين السياسيين في لمبارديا وفينشيا الذين صادرت النمسا أملاكهم عام 1853، فجعل بيدمنت في ذلك زعيمة المضطهدين في إيطاليا، فولى الأحرار شطرها وجوههم؛ ثم واتته الفرصة في حرب الفرم فأرسل جيوش بيدمنت لمساعدة قضية الحلفاء ضد الروسيا، فلما عقد مؤتمر الصلح في باريس عام 1856، كان لبيدمنت مقعد فيه وهي مزية سياسية لها مغزاها بالنسبة لنفوذ النمسا؛ وشكا كافور إلى رجال المؤتمر وقد كسب مودتهم بمساعدته قضيتهم من مسلك النمسا في إيطاليا فهيأ بذلك الجو الصالح لخطواته في المستقبل.
واتجه كافور بعدها إلى فرنسا، ومال إلى محالفة نابليون الثالث، وكان نابليون يعطف على حركة إيطاليا إذ كان يرى نفسه وريث مبادئ سميه العظيم، كما كان يطمع أن ينقض ما وضعه الساسة عام 1815 عقب هزيمة بونابرت؛ لذلك اتفق كافور ونابليون سراً في بلومبير عام 1858 على أن يساعده نابليون ضد النمسا نظير أن تضم مقاطعة سافوي إلى فرنسا.
وأوحى كافور إلى الملك في بيدمنت أن يستفز النمسا، فكان مما جاء في خطاب العرش الذي ألقاه فكتور عمانويل في تلك السنة: (إننا مع احترامنا جميع المعاهدات لا يمكن أن نصم آذاننا عن صيحات الألم التي تنبعث إلينا من نواح كثيرة في إيطاليا)؛ وسرعان ما توجه الأحرار إلى بيدمنت بآمالهم في انتظار ساعة الخلاص على يديها.
هكذا كسب كافور حليفة قوية وكسب الرأي العام في إيطاليا وبقي أن تعلن النمسا عليه الحرب ليتم رسالته؛ وكان كافور يستعجل هذه الحرب! إذ كان يعلم أن نابليون رجل قلب كثير الأهواء والنزعات، فكان يخشى أن يتخلى عنه؛ وكانت الحكمة تقضي على النمسا أن تتريث حتى ينقضي ما بين كافور ونابليون؛ ولكن رأي الحزب الداعي إلى الحرب فيها تغلب على أولى الحكمة فأعلنت الحرب واحتلت جنودها بيدمنت. ومشت جنود بيدمنت وفرنسا فأوقعت بالنمسا هزائم متلاحقة كانت كبراها في سلفرينو؛ ورأى كافور والفرح يملأ فؤاده أنه من النصر النهائي على قاب قوسين؛ فما هي إلا أيام ثم تطرد النمسا من إيطاليا؛ ولكن شد ما أزعجه وآلم أن يرى نابليون يخذله على حين غفلة فيعقد الصلح مع النمسا في فلافرنكا في يوليو عام 1859.(338/34)
حنق مازيني على كافور أشد الحنق لانضمامه إلى نابليون؛ إذ كان الزعيم لا يؤمن بغير قوة الشعب، ويخشى كما خشي في أول سني جهاده من الاعتماد على قوة خارجية قد يأتي من جانبها الخذلان بدل النصر؛ وكان الخصام قد بلغ أشده بينه وبين كافور منذ عام 1857، ففي تلك السنة فكر كافور في بعث ثورة في مودنيا وقابل مازيني شخصياً في جنوة لهذا الغرض، ووعده مازيني بالمساعدة؛ وفي العام التالي رأى مازيني أن تكون الثورة في الجنوب أيضاً في صقلية ونابلي، وكان قد أعد عدته لذلك؛ ولكن الحكومة في بيدمنت أساءت فهم أغراض الثوار في جنوة فحسبتهم يعملون لإقامة الجمهورية وإسقاط الملكية، فشتت شملهم وأصدرت ضد مازيني ونفر من أصحابه حكماً غيابياً بالإعدام.
ولما خذل نابليون كافور استقال هذا من منصبه؛ فجاء مازيني إلى إيطاليا وإنه ليرجو أن يبعث الثورات الشعبية في ولايات الوسط والجنوب عسى أن يصل بها إلى تحقيق ما عجز الزعيم السياسي عن تحقيقه، واختفى الزعيم الشعبي الكبير عند حاكم تسكانيا من ولايات الوسط، فقد كان هذا الحاكم يجله ويؤمن مثله بالوحدة وإن لم يأخذ إخذه في الاعتماد على الثورات؛ وحاول مازيني أن يضمه إلى رأيه فلم يفلح.
وأخذ الزعيم في مخبأه يتصل بأعوانه ويحثهم على النضال؛ وكان يرمي إلى اكتساح الولايات البابوية أولاً ثم يسير منها الثوار إلى ولاية نابلي فيتم بذلك توحيد نصف إيطاليا الجنوبي؛ وكان كافور بينه وبين نفسه يعطف على هذه الحركة ويتمنى نجاحها لتكون أجمل رد على النمسا وفرنسا؛ وفرح أن يسمع عن مازيني أنه يدعو إلى ترك الخلاف الحزبي والعمل للوحدة فحسب، بل لقد كان لا يرفض يومئذ ضم الولايات الجنوبية إلى بيدمنت.
ولكن حاكم تسكانيا خاف من بقاء مازيني مختبئاً عنده، ففي تهديد ولايات البابا ما يدعو إلى تدخل النمسا، ولذلك طلب إلى مازيني أن يرحل فلم يسعه إلا الطاعة، وخرج وإنه ليأسف الأسف كله أن يعامل هذه المعاملة من بني وطنه وأن يكون في إيطاليا سجيناً وهو ما يجاهد هذا الجهاد الهائل إلا من أجلها، ولكنه تعود الألم وألف الصبر في هاتيك السنين الطويلة؛ واتخذ الزعيم سبيله إلى إنجلترا من جديد.
ومتى يهدأ هذا الثائر المجاهد؟ إنه لن يعرف الهدوء حتى تتحقق آماله أو يموت، ذلك ما عقد النية عليه من أول الأمر، وذلك ما درجت عليه نفسه الحرة وصمد له قلبه الكبير.(338/35)
وعاد كافور إلى الحكم واتجه صوب فرنسا من جديد وقدم نيس وسافوي إلى نابليون ليكون ظهيراً له مرة أخرى؛ ولقد حنق مازيني وغاريبلدي على ذلك أشد الحنق. على أن مازيني أخذ من جديد يفكر في بعث ثورة في الجنوب يؤيدها كافور، وصرف إلى ذلك همه وما زال بغاريبلدي حتى حمله أن يسير هو والبواسل الألف من رجاله إلى صقلية، وقد جاء مازيني إلى إيطاليا متنكراً ليكون على مقربة من الأبطال المجاهدين، وحل بجنوة وأقام بها في مخبأ لا يراه أنصاره فيه إلا تحت ستار الليل، وراح يمد غاريبلدي ورجاله بكل ما يصل إلى يده من المال؛ وحالف النصر غاريبلدي فعبر من صقلية إلى نابلي، وطرب الأحرار في إيطاليا كلها لهذه الحركة العجيبة تأتي على يد ذلك البطل العظيم؛ وانتعشت آمال مازيني وذهب إلى نابلي ليستحث المقاتلين وكانت قد سقطت تلك المدينة في يدهم، وأخذ كافور يترقب في حذر على عادته ويخشى أن يعتدي غاريبلدي وجنوده على أملاك البابا فتتدخل أوربا، ولكنه ما لبث أن وجد الفرصة المرجوة فأرسل جيشاً دخل أراضي البابا، ثم تقدم فكتور عمانويل على رأس جيش فدخل نابلي وقابله غاريبلدي وقدم له الطاعة؛ ورأى الأحرار أن الوحدة المرجوة أوشكت أن تتم.
ولما صار مازيني على مقربة من النصر أخذ ينادي بمبادئه الجمهورية من جديد فأدى هذا إلى حنق كثير من الناس عليه حتى لقد ألقيت قنبلة في نابلي تحت نافذة مسكنه، وطلب إليه أصدقاؤه ففعل بعد احتجاج شديد وعاد إلى إنجلترا في نهاية ذلك العام 1860؛ ولكنه عاد هذه المرة مسروراً بما تم تحقيقه من آماله، تطيب نفسه بما يحسه من شعور الناس جميعاً نحوه حتى الملك فقد قال حينما طلب إليه الخروج: (دعوا مازيني حيث هو؛ إذا نحن عجزنا عن بناء إيطاليا فليبنها هو، ويومئذ أكون أول المصفقين له) وإن الملك ليشعر في قرارة نفسه أن ما تم بناؤه حتى ذلك اليوم من هذا الصرح إنما قام أكثره على كاهل ذلك المجاهد الصبور.
لم يبق إلا روما وفينسيا كي تتم الوحدة؛ وذلك ما كان يشغل مازيني بعد عودته إلى لندن. وكان لابد من حرب ضد النمسا كي تضم فينسيا، أما روما فقد كانت بها حامية فرنسية وقد تعهد فكتور عمانويل ألا يمسها بسوء بعد أن رفضت الانضمام إلى بيدمنت.
ولم يكن مازيني بالرجل الذي ينتظر ما عسى أن تفعل حكومة بيدمنت، ولذلك جعل يتصل(338/36)
بغاريبلدي لكي يحل العقدة أو يقطعها. وقد آلمه موت كافور عام 1861 على الرغم مما كان بينهما من خلاف.
وفي سنة 1862 هجم غاريبلدي ورجاله على روما فردته جنود عمانويل وأصيب البطل في هذا الهجوم بجرح بالغ على يد رجل من بني وطنه. وكان مازيني قد حضر إلى لوجانو ليكون على مقربة من هذا الجهاد الجديد، ولقد آلمه ما حل بغاريبلدي وبخاصة عندما علم بإلقاء القبض عليه وسجنه، فراح يندد بالملك وحكومته في حماسة وسخيمة لم يسع الملك إزاءها إلا أن يصدر حكم الإعدام عليه للمرة الثالثة.
ولما فشلت حملة غاريبلدي، عاد مازيني إلى إنجلترا، وكان يومئذ في الثامنة والخمسين، إلا أنه كان لطول ما أبلى وناضل يبدو أكبر سناً. على أنه لم يفقد شيئاً من حميته، وظلت له حرارة قلبه وقوة روحه وحماسة عبارته وسحر نظرته؛ وعاودته الفاقة في غربته، ولكنه ازداد أنصاراً ومحبين. وكان يؤلم نفسه أن يرى عمره يتصرم دون أن يستطيع أن يجعل للأدب ما أراد من خدمة. وكان في تلك السنين يتتبع أخبار الحرب الأهلية في أمريكا، واتصل بجماعة التحرير الإنكليزية في لندن. وكان يبدي إعجابه ببطولة الرئيس لنكولن وجهاده في سبيل الوحدة والتحرير ويتمنى لو كان له مثل ما كان لذلك الرئيس العظيم من النفوذ الرسمي. ولما اغتيل الرئيس لنكولن حزن عليه مازيني أشد الحزن، ولكنه كان يرى الفرق بينهما جلياً، إذ لو حضره الموت الآن لمات قبل أن يرى وحدة بلاده، ولم ينعم بها ساعة كما نعم لنكولن قبل موته.
وحاول ملك بيدمنت أن يستعين بمازيني على بعث ثورة في فنسيا وفاوضه فعلاً في هذا، ولكنه عاد فتركه أمام اعتراض رجال حكومته. وفي سنة 1866 أعلنت حكومة بيدمنت الحرب ضد النمسا منتهزة فرصة انشغالها أمام ألمانيا، ولكن جيوش بيدمنت هزمت في البر والبحر هزائم كانت مخزية للملك ورجال حكومته، ولقد أدت هذه الهزائم إلى نشاط دعوة مازيني من جديد إلى الجمهورية، ولقد لقي في تلك الظروف من الآذان الصاغية إليه أكثر مما لقي من قبل؛ والحق لقد أصبح هذا الأعزل الشيخ رجل إيطاليا كلها. وأي رجل يبلغ منزلته وله من جهاده في سبيلها زهاء أربعين عاماً لم يعرف خلالها إلا الغربة والفاقة والعذاب الشديد؟ إن مخالفيه في الرأي ومؤيديه جميعاً ليرون فيه الروح الذي علم الجيل(338/37)
وأوحى إليه الإيمان والفداء. وهاهي ذي العرائض عليها أكثر من أربعين ألف توقيع ترفع إلى الملك بطلب العفو عن الغريب المجاهد كيلا يغمض عينيه إغماض الأبد في بلد غير إيطاليا التي وهبها حياته، وهاهي ذي ولاية مسينا تختاره أربع مرات متتالية ليمثلها في برلمان إيطاليا كلما أبطلت الحكومة انتخابه عادت الولاية فاختارته.
وبقيت روما لتتم الوحدة وكان قد عاد غاريبلدي عام 1867 بهجوم عليها ولكن الحامية الفرنسية انتصرت عليه فردته عنها. على أن مازيني كان يرجو أن تعلن روما الجمهورية فتكون عاصمة إيطاليا الجمهورية؛ وقد عاد ينشر مبادئه الجمهورية ويأمل أن يبعث آخر ثورة في البلاد تكون هذه المرة ضد ملكية بيدمنت وتكون غايتها إقامة الحكم الجمهوري؛ وقد اتصل مازيني برجل ألمانيا بسمارك ورجا منه المساعدة فماطله بسمارك ثم انقطعت الصلة بينها.
وفي سنة 1870 رحل إلى صقلية ليبدأ الثورة فيها على الرغم من توسل بعض أصدقائه إليه ألا يفعل، وهناك ألقي القبض عليه في بالرمو حيث سيق إلى السجن في جيتا؛ ودخل السجن الزعيم الشيخ وبود حراسة لو لم ينط بهم حبسه. أنظر إلى حارس السجن كيف يدير المفتاح في مدة ثلاث دقائق حتى لا يسمع الزعيم أنه يغلق الباب عليه. . .
ولبث في السجن بضعة أسابيع يقرأ شكسبير وبيرون، ثم أفرج عنه عقب سقوط روما في تلك السنة في بيدمنت وأصدر الملك عفوه عنه ولكنه رفض أن يقبله؛ وشهد الزعيم في أواخر أيامه وحدة إيطاليا، ولكنه كان لا يفتأ يعمل للجمهورية!
وقضى سنتين متنقلاً بين بعض البلاد تحت اسم مستعار حيث زار قبور الشهداء من رجاله وحج إلى قبر أمه في جنوة. وفي مارس من عام 1872 سكت هذا القلب الكبير وانطوت هذه الحياة الحافلة بالجهاد المرير الطويل، وبكت إيطاليا كلها الرجل الذي ظل حتى آخر عمره يكدح ويلاقي صنوف العذاب من أجلها.
(تم البحث)
الخفيف(338/38)
رمَاد. . .
للأستاذ محمود محمد شاكر
لا تَعْبَثي بفؤادِي ... وأَكْرِمي آلامِي
شَبَبْتِ في القلب ناراً ... من لَوْعةٍ وهُيَام
أضْللتِني عن حَياتِي ... بِلَذْعةٍ واحتِدام
فما أخافُ وَرَائي ... غَيْباً، أراهُ أمامي
أرتابُ حَتَّى أرانِي ... في حَيْرةٍ وظَلاَم
في مَهْمَهٍ من شكوك ... قَفْرٍ من الأعلام
لا أهتدِي لِنَجَاةٍ ... في أُفْقِهِ المُتَرَامي
اسوَدَّ ليْلِي وصُبحي ... مُلفَّفٌ في قَتَام
فلا أرى من دَليلٍ ... يَهْدِي خُطَى أقدامي
صَحِبتُ نفسي، ونفسي ... من صُحبَتي في اضطرام
كأننا في زِحام ... يَرمي بنا في زِحام
مجَرَّحيْن كُلُوماً ... من صَدْمةٍ ولِطام
حتى أُبِيدَتْ قُوَانا ... فنحنُ صَرْعَى مُدَام
ثم استفقتُ فطارتْ ... لَوَاهِبٌ في عظامي
قلبي ورُوحي وعَيْني ... - وكلهن ظَوَامي -
لا يَهْتَدِينَ لِبَرْقٍ ... مُبَشِّرٍ بِرِهام
ولا لِنُطْفَةٍ ماءٍ ... تَبُلُّ حَرَّ أُوَام
وعُدْتُ فرْداً وحيداً ... يَجُوب غَوْلَ المَوَامي
حَيرانُ أعمى عَجولٌ ... مُصَوَّرٌ من سَقَام
يكادُ يعثُرُ وَهْناً ... بنفسِه في القِيام
تخطَّفَتْهُ شكوكٌ ... جياشةٌ كالضِّرام
لمْ تُبْقِ إلاّ حُطاماً ... يَنْقَضُّ فوقّ حطام
تستقبلُ الأذْنُ منه ... حسّاً كميْتِ الكلام(338/39)
تخالُه من فُتُورٍ ... مَناحَةُ الأيتام
مُفزَّعِينَ وُجُوماً ... يبكونَ فوقَ رِجَام
يا مَاثِلاً لعُيونِي ... وطائفاً في منامي
وسابحاً في سُكُوتِي ... وسارباً في كلامي
وحاسِراً عن فؤاد ... صَبٍّ فضُولَ اللِّثام
أفْنَى شَكاتي، وأَوْدى ... بِعَتْبِهِ ومَلامي
ما كنتُ أحسبُ دَلاَّ ... يَسيلُ سَيْلَ انتقام
أو أنَّ سُكْرَ شبابٍ ... يحورُ سُكْرَ عُرَام
يَقسُو فيرمي بسهمٍ ... مَهْدَ الجُرُوح الدوامي
أحببتُ مِلَْء فؤادي ... ومِلؤُهُ أوهامي
حتَّى وجَدْتُ كأني ... أعيشُ منْ أحلامي
ملأْتِ دُنيايَ نوراً ... يُضيءُ دُنيا الأنام
فكلّ مَرْأى عليه ... حَلاوَةٌ من وَسام
يَغْذُوهُ نورُكِ حُسناً ... حيّاً كصَوْبِ الغَمام
فما ترى العينُ إلاّ ... زَهْراً على أكمام
أنفاسهُ عَطِراتٌ ... نشوَى بغير مُدَام
ممثَّلاتٌ لرُوحِي ... مُعَرْبِدَاتَ القَوَام
أُصْغِي، إخالُ، كأني ... أُصْغِي إلى أنغام
تدنو فأدنو، فتفنَى ... أنغامُها في ظَلام
وتارةً هي هَمْسٌ ... كلمحَةٍ من سَلاَم
كأنها في ضميري ... تُسِرُّ بعضَ الغَرام
أو يستطيرُ سَنَاها ... في القلب ضوَء ابتسام
أوَّاهُ من خَطَراتٍ ... تقودُني بزِمام
لا تملكُ النَّفس منها ... إلاّ رمادَ الكلام
قد كان جَمْراً فنامتْ ... أيقاظُهُ في النِّيام(338/40)
واستيقظتْ لي هُمُومٌ ... حياتُها من خِصام
أفننتْ شبابَ خيالِي ... وعيَّثَتْ في نِظامي
حتى رأيتُ الليالي ... تطوفُ في أيامي
محمود محمد شاكر(338/41)
أنا والبحر
للأستاذ خليل شيبوب
أيُّها البحرُ رَجِّحِ الأحلاما ... مثلَ ترجيحِ موجِك الأنغاما
في ظلام الدُّجى تبثُّ شكاوا ... كَ الحزيناتِ تستثيرُ الظلاما
غير أن النِّيامَ لم يسمعوها ... إيهِ ليتَ النيامَ ظلُّوا نياما
ليس فيهم سوى الأذى لمحبٍّ ... موجعِ القلبِ لا يُطيقُ مَناما
في فؤادي موجٌ كموجكَ يبكي ... بدموع الألحانِ تجري انسجاما
ظلماتٌ من فوقها ظلماتٌ ... في فؤادي دَوِيها يَتَرامى
لا تهُم الصخور شكواكَ تَرويها ... كشكوايَ لا تهُمُّ الأناما
نحن إلفانِ ساهران ولكنْ ... ثُرْتَ ماءً وثارَ قلبي ضَراما
إن شكواكَ حالةٌ ثم تمضي ... لا كشكوايَ من شقاءٍ أقاما
أنتَ تصفو حيناً وتهتاجُ حيناً ... وحياتي ما تَستَقِرُّ احتداما
لكّ هذي الآفاقُ تمرحُ فيها ... وفؤادي في الصدر جُنَّ اكتتاما
وإليكَ الأقمارُ ترنو ولكنْ ... كلُّ من قد أحبَبتُ عني تعامى
لك بأسٌ يغادرُ الريحَ صرعى ... لا كضَعفي يصارعُ الآلاما
ويوالي النسيمُ تقبيلَ أموا ... جكَ منشورةً تُرَاحُ جماما
ويوالي الغرامُ نَفْسيَ تعذي ... باً ويُغري السقامَ بي والحِماما
وبقلبي كما بقلبكَ دُرٌّ ... أنْبَتَتهُ الحياةُ خيراً لَزاما
وكِلانا ضَمَّتْ قَراراته الهوْ ... لَ وراعتْ أسرارُها الأفهاما
واصِليني أو قاطِعيني سِيَّا ... نِ إذا كنتُ لا أرومُ مَراما
حبَّذا هجرُك الطويلُ إلى نف ... سي ويا ليتَهُ يدومُ دَواما
إن في لذَّةِ الوصالِ شكوكاً ... قد أحالتْه عَلقماً وسِماما
لستُ أخشى إلا الشكوكَ التي بي ... كالأعاصيرِ تَكْسحُ الآجاما
ليتني لا أحنُّ وجداً ولا أش ... تاقُ تلكَ العهودَ والأيَّاما
كيفَ لي بالحياة من بعد ما أص ... بحَ يُقْذِي الجمالُ عيني ابتساما(338/42)
سَوْأةً للحياةِ ما كان أغنا ... نِيَ عنها لو استطعتُ انعداما
وأقولُ الزمانُ يُصلِحُ قلبي ... ويداوي الجِراحَ والأسقاما
وعليَّ الصبرُ الجميلُ لذا رُح ... تُ أعدُّ الشهورَ والأعواما
غير أني أزيدُ يأساً على يأ ... سٍ وأستنجدُ الرَّدى استرحاما
خجِلاً من عواطفي غاضباً كي ... ف أراني معذَّباً مُستضاما
مستلِذّاً ما بي أُغالط نفسي ... مُستطارَ النهى رضىً ومَلاما
أيها البحر هاجني نغَمٌ كِد ... تَ به توقظ الصخورَ النياما
أَبديٌّ تصغِي إليه الدراري ... رانياتٍ ترُدُّ عنكَ الظلاما
حَمَلَتهُ الأنسامُ فالتفَّ بالمو ... ج يُعاصي الأمواجَ والأنساما
أيها البحرُ ثُرْ وَرُقْ واصفُ واكدُرْ ... قد رَضينا حياتَنا استسلاما
(الإسكندرية)
خليل شيبوب(338/43)
رسالة الفن
دراسات في الفن
آلو. . . الدكتور عزام؟!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- يا للنهار! مالك أنت والغناء؟ لك ساعة وأنت تعوي وتنهق بأكره الصوت جادا مجتهداً كأنما تجرب إذاعة لهذا المساء؟ هل زيفت نفسك على ماركوني وألقيت في روعه أنك موسيقي مغن مطرب ملحن؟ أما إذا كنت فعلتها فهي كبرى المصائب، ونكبة النكبات.
- إني لم أفعلها إلى الآن. ولكني أعد نفسي لها، وهي من غير شك أربح الأشغال في هذه الأيام. فقد وصل سعر اللحن عند ماركوني إلى مائة جنيه، ينفق عليه منها عشرة على الأكثر يأخذها تخت كامل وفوق الكامل. ثقي أني سأبدأ العمل وثقي أني أعرف طرق النجاح فيه.
- قل شيئاً غير هذا، وامح علامات الجد هذه من على وجهك فقد كدت أصدقك. . . أمجنون؟!
- سترين أني عاقل عندما تسمعين مصطفى بك رضا بنفسه يقدمني للجمهور من خلال الميكروفون وهو يقول: (آنساتي سيداتي سادتي. أقدم لكم الآن بكل فخر كوكب الإذاعة الجديد الموسيقار العبقري البروفيسور عزيز فهمي في أغنيته الأولى (التختروان) وهي من تأليفه وتلحينه. . . على تخت مكون من كبار رجال الفن).
- وما الذي يمنعك ما دمت واثقاً أن هذا ممكن؟
- لا شيء يمنعني. وإنما كانت الفكرة غائبة.
- وقد جاءت الفكرة وستنفذها. أليس كذلك؟ قل لي الآن بم ستبدأ.
- بالشعر. . . صحيح أني لست شاعراً ولكني أعرف من العروض وأوزان الشعر ما أستطيع به أن أنظم الكلام. ثم إني أعرف الكلام الذي يحبه الجمهور وليس علي أكثر من أن أرصه في النظم رصّاً وهو لا يعدو (النوح والدوح)، والأغاني والأماني، والدموع والخضوع، والغزل والأمل) وسائر هذه الألفاظ التي يقولها القمر للأستاذ أحمد رامي وهو(338/44)
نائم تحت السرير في الغرفة الغربية المطلة على الحقول من منزله في حدائق القبة. . . فإذا ما انتهيت من القصيدة شعراً بدأت في تلحينها، وهذا شيء أيسر من الشعر، وهو لا يكلفني أكثر من مراجعة ألحان سيد درويش وبعض الألحان الشرقية والغربية مما لم يسمعه الجمهور أو مما قد سمعه، وآخذ لكل شطر أو لكل بيت من أغنيتي لحناً من هذه لألحان، فإذا لاحظت في هذا الترقيع أن يكون منسجماً يمشي بعضه مع بعضه من ير تنافر فإني قد جئت بما لم يجيء به الأستاذ محمد عبد الوهاب نفسه، فنحن لا نزال نرى في مقطوعاته جميعاً التنافر ظاهراً بين أجزائها المجموعة من الشرق والرب. . . فماذا تريدين مني أكثر من التفوق على عبد الوهاب؟
- وبعد؟
- أتفق مع الأستاذ محمد القصبجي على أن يتعهد بمراجعة اللحن مع أفراد التخت بخمسة جنيهات يأخذها ربحاً حلالاً على هذا، وعلى أن يعزف معي بعوده الممتاز في الإذاعة. . . وهو لن يرفض خمسة جنيهات حلالاً. . . وإذا أخذ الأستاذ إبراهيم العريان وهو سيد العازفين على القانون في مصر جنيهاً واحداً ليشترك معي في الإذاعة فإنه سيدعو لي ليلاً ونهاراً لأنه يقضي الشهور معطلاً لا يكد يدعوه أحد إلا زكريا أحمد الذي يعرف قدره وقدر فنه ولأن الباقين يتقونه خشية أستاذيته. . . وتبقى أربعة جنيهات بعد ذلك أوزعها على أفراد التخت، ولا شيء أخيراً إلا وليمة لرجال الصحافة وبعض الملق والمداهنة وأنا زميل لهم وأظن أنهم يجاملونني.
- طيب والغناء؟ أتغني بصوتك هذا نفسه؟
- ولم لا؟ أليس صوتي أرخم من صوت الأستاذين حسين المليجي وحامد مرسي؟ وما دامت الصحافة ستقول هي وماركوني إني مفن ممتاز عبقري، فلا بد أن يصدق الناس أني كذلك. . . والحق أني كذلك. . .
- تريد أن يجوز هذا عليّ أنا أيضاً؟
- الفنان الحق يا آنستي لابد أن يؤمن بفنه قبل أن يؤمن به الناس. . .
- يا عينك! ولكنك لم تقل لي كيف تستطيع اجتياز العقبة الأولى وهي إقناع مصطفى بك رضا بأنك فنان. . .(338/45)
- هذه أهون الهينات. . . وهي بيد الدكتور عبد الوهاب عزام الذي لا يزال يذكر أني تلميذه، والذي يعطف عليّ فيما يبدو لي، والذي أعتقد أنه لا يتأخر عن مساعدة رشيقة كهذه. .
- وما للدكتور عزام الأستاذ في الجامعة والذي يكتب عن رحلاته في الشرق والغرب، وهذه (الألعوبة) أو (الألعبانة) التي تريد أن ترتكبها. . .
- الرجل رجل طيب، فذا التصقت به لم يجرؤ على طردي لأنه حيّ خجول، ولأني سأذكره بالحكمة لتي تقول: (من علمني حرفاً صرت له ضيفاً) وقد علمني هو اللغة الإيرانية كلها. . . ولدكتور عزام قريب صاحب المعالي عبد الرحمن عزام بك وزير الأوقاف، والأستاذ مصطفى بك رضا موظف في وزارة الأوقاف فإذا رآني حول الوزير مرة أو مرتين أصبحت عنده شيئاً مذكوراً. . . فإذا دعوته يوماً إلى سماعي ونبهته إلى أن الدكتور عزام سيسمعني معه خف إليّ كالبرق الخاطف حباً في مجالسة الناس الطيبين، فإذا لبى الدعوة هؤلاء الناس الطيبون الذين من عادتهم ن يجبروا خواطر الناس، بدأ الإيمان بي وبفني يدخل نفس ماركوني، فإذا جاملني أحد الناس الطيبين (بآه) أو (بأحسنت) كان هذا مستنداً لي على أني فنان مقتدر. . . فإذا قلت عن نفسي بعد ذلك بأني عبقري وأني نابغة العصر والأوان زيادة على أني شاعر كبير ومثقف مطلع ومفكر عظيم فإني من غير شك واصل إلى الاتفاق الذي أرجوه. . .
- ولكن هذا كله لا يساعدك في شيء. . . فمصطفى بك رضا نفسه موسيقي، وهو نفسه حَكَمٌ في الفن لا يمكن التدليس عليه.
- قد يكون هذا حقاً، ولكن الرجل أعقل من أن يحكم بالفن وحده. . . فهو بلا شك يقيم إلى جانب الفن اعتبارات أخرى يستعينها في الحكم على الفنانين الذين يعملون في الإذاعة. . وإلا فكيف يسمح بالغناء لمن تعرفينهم من المغنين الذين لو استمعوا إلى أنفسهم لما رضوا أن يغنوا. . . ألا يذيع كثيرون من هؤلاء؟
- ولماذا يفعل هذا؟
- اسأليه. . . واعلمي أنه محسوب على السيدة نفيسة فهو تقي جداً وورع جداً ولا يمكن مطلقاً أن يقول غير الحق ولا أن يظهر غير ما يخفي. . . زيدي على ذلك أنه من أسرة(338/46)
كبيرة غنية، وأن له من الحسب والنسب ما يدرأ عنه كل شبهة. . . وإن كان فيه عيب فهو أنه رجل طيب. . . طيب جداً، سبحته لا تفارقه، وشفتاه لا تكفان عن التمتمة والتسبيح، ولعل ماركوني لم يأخذه إلا لأنه بركة.
- إذن فقد انتهى الأمر، وإني أوصيك بأن تبدأ. . .
- اسألي لي عن الدكتور عزام بالتليفون، فذا وجدته فقولي له: إن هيئة كبار العلماء ستتغدى عندك اليوم.
- وما لهيئة كبار العلماء هذه أيضاً؟
- هذا اسم كان يطلقه الدكتور عزام على فرقتنا التي كانت مؤلفة من ثلاثة. قال الأستاذ أحمد أمين يوماً: إن كلية الآداب لم تر مثلهم ولن ترى مثلهم.
- في الجد والتحصيل؟
- لا. في العنف والكفاح والرجاء والإيمان. دعينا من هذه الذكريات. هل وجدت الدكتور؟
- لا. فلننتظر ساعة. والآن قل لي: لماذا اخترت أن يكون اسم أغنيتك (التختروان)؟
- أنا لم أختر هذا. وإنما هو الرد الطبيعي على أغنية (الجندول) التي غناها عبد الوهاب. (فالجندول) هذا مركب أوربي يسير في شوارع البندقية - وهي مياه - ولا يعرف هذا (الجندول) إلا فئة خاصة من المصريين؛ أما (التختروان) فيعرفه المصريون جميعاً والعرب جميعاً، لأنه (الهودج) الذي يوضع على ظهر الجمل فإذا كان (الجندول) الذي لا يعرفه المصريون قد أصبح أغنية فلا عجب في أن يتغنوا (بالتختروان)!
- ليس الذنب في (الجندول) ذنب عبد الوهاب، وإنما هو ذنب الأستاذ الشاعر علي محمود طه المهندس الذي زار البندقية وحدث له (الجندول) فيها فسجله شعراً، ولحنه عبد الوهاب.
- قد يغتفر للأستاذ الشاعر هذا الجندول ما دام قد حدث له ولكن لماذا يغنيه الأستاذ عبد الوهاب؟ وقد خلق الله له موهبة التقليد التي يأبى أن يستغلها.
- لم أسمع أن التقليد موهبة فنية لها مكانتها بين الفنون إلا الآن.
- هي موهبة من غير شك، وهي موهبة عبد الوهاب؛ وهي التي ظهرت فيه منذ طفولته، فقد كان وهو غلام يغني كل ما يسمعه ويوفق في تأديته خير التوفيق، حتى أن المرحوم الأستاذ عبد الرحمن رشدي أخذه معه، وأخذ يعرضه بين الفصول يغني للنظارة بعض(338/47)
أناشيد المرحوم الشيخ سلامة حجازي على ما فيها من قسوة وجبروت، فكان ينال إعجاب الناس، وسمعه بعد ذلك المرحوم أحمد شوقي بك فطرب له فاحتضنه وتبناه وقدمه لأصفيائه وللبيئة التي كان يعيش فيها وهي بيئة الأمراء والكبراء فكان عبد الوهاب يغنيهم من محفوظاته وكان عليهم ن يستحسنوا غناءه؛ فلما مات سيد درويش فوجئ الجمهور بعبد الوهاب الملحن الموسيقار، وكانت المفاجأة بالطريقة التي أريد أنا أن أفاجأ الجمهور بها ومنذ ذلك الحين بدأ عبد الوهاب يتعثر إذ عدل عن الموهبة التي خلقها الله له إلى ما لم يسمح الله له به. على أنه كان غالباً ما ينجح إذا غنى المواليا، ذلك أنها غناء مصري للقاهرة، فيه أسلوب خاص تأثر به عبد الوهاب كل التأثر منذ صباه، وقد سلمت بعض قصائده من التنافر والتخبط لكثرة ما غنى في ماضيه للمرحومين: الشيخ سلامة حجازي، والشيخ أبو العلا محمد؛ أما ما عدا ذلك من الأغاني، فعبد الوهاب يعاني الأمرين في غير شك في صوغه. وقد كان المرحوم شوقي بك يغربل له موسيقاه فلما مات لم يعد عبد الوهاب يسمح لأحد بأن يكون له في موسيقاه رأي إلا السجود لها ولا أقل.
- يا شيخ! لا تكن ظالماً.
- لست أظلمه. ولو أنصف عبد الوهاب لظل كما كان مغنياً يغني لغيره ممن يستطيعون التلحين، أو أن يكون مغنياً بلدياً كغيره من أولاد البلد الفنانين البارزين، وليس هذا عيباً، وليس فيه حطة، فالناس كلهم أو أغلبهم مجمعون على استحسانه في المواليا، وفي القصائد قبل أن يفرنجها. . . أليست (يا جارة الوادي) خيراً من (الجندول)؟ ولكنه أصيب بما في رأسه، وهو لا يريد مطلقاً أن يذكر الجمالية، ولا يأب الشعرية، ولا (حوانيت الترزية. . .) مع أنه أنفق حياته الأولى في هذه. . . وهو فنان، والفنان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغفل ماضيه. . . وإن حياة الفنان الأولى التي قضاها وهو بعيد كل البعد عن التفكير في مشاغل الدنيا وأرباحها وخسائره لهي المعين من الفن الذي لا ينصب. . . وإنها أصدق ما يمكن أن يبرزه من الفن، وأصفى ما يمكن أن يطالع به الناس من عواطفه وخلجات روحه. أليس كتاب (الأيام) هو أروع ما أخرجه الدكتور طه حسين بك. وأي شيء في كتاب (الأيام) غير قسط ظاهر من الصدق. . . إن الدكتور طه حسين قد تحول اليوم إلى إنسان آخر غير الطفل بطل الأيام. . . وهذا الإنسان الآخر له مجد وله مكانة وله شهرة،(338/48)
وله منصب وله رتبة، ومع هذا فالطفل (طه حسين) بطل الأيام أحلى من الدكتور طه حسين بك، والدكتور طه حسين بك نفسه يعترف بهذا فلا يهمل هذه المرحلة من حياته وإنما يكتبها وتخرج من بين يديه خير ما كتب. . .
- إذن فعلى عبد الوهاب أن يغني غناء بلدياً أو يقلد الشيخ سلامة حجازي وغيره. . .
- من غير شك هذا هو خير ما يستطيعه عبد الوهاب، لأن أحلى ما فيه، ولأنه كان هكذا في طفولته. . . فهذا هو ما خلقه الله له لا ما اختاره هو لنفسه. . .
- ولكن هذا الطريق لن يجدي عليه نفعاً كبيراً. . . فمن الذي يعطيه مائة جنيه في أغنية قديمة؟
- الرزق هذا شيء لا حيلة للإنسان فيه، وإنما حيلة الإنسان في عمله والله يعطي بعد ذلك من غير حساب. . . إن بيتهوفن وسيد درويش ماتا معدمين ولم يجمعا في حيتهما عشر معشار ما جمعه عبد الوهاب فهل هو أنصع منهما فناً؟. . . إن كرستوف كولمبس الذي عثر على أمريكا لم يمت إلا بعد أن استجدى في شوارع نابولي على ما أظن. . . فالرزق شيء والعمل شيء. . . والفرقة القومية بدأت تفكر في تقديم الأوبرا والأوبريت، وعبد الوهاب من غير شك هو المغني الأول الذي أرشحه لها. . . فمن ذا الذي يستطيع أن يقنعه بقبول هذا العرض؟. . .
- يهديه الله. . .
- سيهتدي عندما يراني أزاحمه، وعندما يجد معي سر نجاحه، وعندما يلحظ أني سأحسن استعمال هذا السر أكثر مما يحسنه.
- إذن. فأنت لا زلت مصراً.
- من غير شك. . . اسألي عن الدكتور. . .
عزيز أحمد فهمي
(الرسالة) لا نظن كثيراً من النقاد يشاطرون الأستاذ عزيزاً
رأيه في الأستاذ عبد الوهاب.(338/49)
رسالة العلم
الهندسة وابن الهيثم قديماً وحديثاً
للدكتور محمد محمود غالي
أفاض المتكلمون وأبدعوا، وأخرجوا للعالم العربي ما في بطون الكتب من مآثر، لم نكن نُوليها انتباهاً، فلم يدعوا لي شيئاً بارزاً أذكره لابن الهيثم، ورسموا صوراً هي أقرب الصور إليه سجلوا فيها أعماله ومبلغ تحليله للمسائل وفهمه للأشياء. هذا هو ابن الهيثم، عالم طبيعي له مشاركة في الفلك والعلوم الرياضية والفلسفية وفضلاً عن ذلك نرى الهندسة تقترن باسمه، بل إن شهرته كمهندس غلبت على بقية صفاته، من ذلك ما ذكره القفطي في كتابه: (أخبار العلماء) من أنه الحسن بن الحسن بن الهيثم المهندس البصري، وأنه صاحب التصانيف والتآليف العديدة في علم الهندسة، وهو بعد ذلك يتحدث عنه في بقية الكلام كمهندس أكثر منه عالماً طبيعياً.
والواقع أن دراسة تحليلية لابن الهيثم لقمينة أن تضعه في صفوف علماء الطبيعة أكثر من أن تعده بين المهندسين، وإنما وصل إلى هذه النتيجة من أثره التجريبي لا من أثره في التأليف، ولكنا لا نجزم بهذا الرأي كنتيجة نهائية لبحثنا هذا. فتجاريبه في علم الضوء معروفة، وقد شرحها بمهارة زميلي الأستاذ مصطفى نظيف بك، ولا نزاع في أننا متفقون في التفريق بين الهندسة كجزء من علم الرياضة وبينها كمجموعة لأعمال فنية أو إنشائية. إنما يُعرف المهندس بآثاره الإنشائية أكثر من أثره في التأليف. فأمحوتب مهندس الملك زوسر بأني هرم سقارة، مهندس كشف عن استعمال (الطوبة) وهي تدعو للإعجاب؛ وكيف لا نعجب له حين عرف كيف يُكوِّن من اللَّبِن والحجارة أشكالاً منتظمة، أشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع، فيها كل هندسة إقليدس وأكتنيوس ومساعده كليكراتس، عندما شيدا البارثينون أهم معبد فوق الأكروبول، وهو الذي تم تحت إشراف النحات المعروف فيدياس في عهد بركليس الذهبي، كانا مهندسين عظيمين، فإن عملهما الإنشائي لا يزال إلى اليوم جديراً بالتقدير؛ وجارنييه باني أوبرا باريس وإيفيل الذي شيد بها البرج المعروف مهندسان أحدهما في العمارة والثاني في الإنشاءات الحديدية وكلاهما باعث دهشة. تُرى هل كان لابن الهيثم من عمل إنشائي يضعه بين المهندسين الذين يذكرهم التاريخ؟ هذا ما(338/50)
لم يقم دليل عليه كما لم يقم دليل على بطلانه، ومع ذلك فهو صاحب كتاب العقود الذي لم نعثر عليه لنتبيّن غاية ما بلغه من التقدم في أعمال ما زالت أهم ما يقابل المهندس عند تصميم القناطر والخزانات والأبنية الكبيرة.
ولسنا نغض بهذا من شأن ابن الهيثم كمهندس وهو الذي بين تصانيفه كتب عديدة تمت إلى علم الهندسة وتبحث في علم المساحة والتخطيط، وقد ذكر الكثير منها الدكتور مشرفة بك، وأضيف إلى ما ذكره كتاب العقود، وكتاب أصول المساحة، واستخراج أربعة خطوط، وحساب الخطين، وحلل الحساب الهندسي، ومسألته في المساحة وغيرها.
نرى هل خرج ابن الهيثم من مجال التأليف إلى مجال الإنشاء؟ يغلب على ظننا ذلك، وقد يدلنا التاريخ أو البحث يوماً عن آثار له في هذا، فإن شهرته كمهندس بلغت من الذيوع والانتشار ما جعل الحاكم صاحب مصر من العلويين يتوق إلى رؤيته، وقد نقل له عن ابن الهيثم أنه قال: (لو كنت في مصر لعملت في نيلها عملاً يحصل منه النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال وهو طرف الإقليم المصري) فازداد الحاكم شوقاً إليه وأرسل في طلبه ورغَّبَه في الحضور؛ فشّدَّ ابن الهيثم رحاله إلى مصر ولما بلغها خرج الحاكم للقائه على باب القاهرة وأمر بإكرامه، وطالبه بما وعد به من أمر النيل؛ فسار ومعه جماعة من الصناع ليستعين بهم على ما خطر له، فلما جال الإقليم بطوله وتبين آثار الأقدمين، وهي تعد بدعة في الصناعة وآية في الهندسة، تحقق أن الذي يقصد إليه خارج عن طوقه، فإن من تقدموه لم يكن ليغيب عنهم على ما يعلم ولو أمكن لفعلوا، ففترت همته، ووهنت عزيمته، ووصل إلى موضوع الشلالات بعد أسوان وعاينه واختبره فوجد أنه يختلف عما كان قد فكر فيه، وتحقق الخطأ فيما وعد به واعتذر للحاكم.
وليست هذه الواقعة التي سردها بعض المؤلفين لتُقلل من شأن الرجل العالم الذي نحتفل بذكراه، ففي بناء هيكل المعرفة خطا ابن الهيثم المهندس البصري الخطوة الكبرى إلى الأمام، وكان ممن وضعوا حجراً أساسياً في العلوم نتوارثه جيلاً بعد جيل.
جيل يتلو جيلاً، جيل يتَصرَّم ويحل جيل، وطوى الزمن تسعمائة عام على هذا العالم، تغيَّر خلالها وجه الأرض، وحلت مدنية تختلف عما تقدمها من مدنيات، وعصر لا يشبه ما خلا(338/51)
من عصور، وألفينا أنفسنا أمام صورة جديدة للفن الهندسي ارتبط بالتقدم العلمي ارتباطاً وثيقاً وتفرَّعت الهندسة في غير العمارة إلى هندسة آلية وكهربائية بل وموجية، وأثَّر هذا في مقدرتنا على العمل وأثرنا في الإنتاج، ولو أننا نظرنا إلى أحد هذه الفروع وإلى الهندسة الموجية لوجدنا أننا وصلنا إلى نتائج تستوجب النظر.
أولاً: في الانتشار الصوتي وعلى مَتنِ الأسلاك يستطيع أن يتخاطب بالتليفون مئات الأشخاص أو أكثر على سلك نحاسي واحد في وقت واحد، أمر يحدث اليوم بين العواصم الكبيرة. أذكر على سبيل المثال الخط بين لندرة وبرمنجهام، حيث يتكلم على سلكين للمخاطبات التليفونية وُضِعَ بجانبهما سلكان للتوسع المنتظر في استعمال التليفيزيون حوالي 350 شخصاً في آن واحد، ويفهم كل منهم أخاه دون أن تختلط هذه الأصوات العديدة. بل أُرجع السامع إلى محاضرات فورتيسكيو أستاذ جامعة لندن عند زيارته لكلية الهندسة العام الماضي بدعوة من العميد، بل أُحِيلُه إلى ظواهر يعرفها منذ عدة سنين كل الذين شغلوا أنفسهم في المختبرات بظاهرة الانتخاب في الظواهر الدورية.
ثانياً، في الانتشار الموجي والتبادل الضوئي الكهربائي استطاع الإنسان أن ينقل الصور الفوتوغرافية إلى مسافات بعيدة، دون استعمال الأسلاك، وكان تطبيق ذلك في نقل الرسائل في الصين بلغتهم المعروفة بحروفها العديدة مما يدعو للإعجاب، وهو الإعجاب الذي استولى على كل منا عندما طالعنا من أربعة أيام في الصحف كيف نقلت باللاسلكي الصور الفوتوغرافية للحوادث البحرية التي جرت في الأورجواي، وهي الحوادث الخاصة بالبارجة (فون شبيه) وكيف رأى البرلينيون صورها ولم يمر على أخذ الصور التي يبعد مكانها عنهم بنصف محيط الأرض إلا كسر ضئيل من الثانية.
ثالثاً: في الانتشار الكهربائي استطاع الإنسان بغير أسلاك أن يسمع الأصوات ويتكلم على مسافات بعيدة تبلغ محيط الأرض بل استطاع أخيراً أن يرى عن بعد الأشياء المتحركة كما لو كانت أمامه.
هذا ما حدث من الهندسة التطبيقية، ولقد كانت خطوات العلوم البحتة أوسع بكثير من هذه، وجرى العلم الحديث شوطاً لم تستطع الهندسة التطبيقية أن تلاصقه فيه: ثمة اكتشافان عظيمان، النشاط الإشعاعي والتفتت الذري. تُرى ماذا سيحدثه الإنسان الدائب التفكير(338/52)
الموفور الذكاء في أثرهما من تطبيقات تنشأ عنها مدنية تختلف عن مدنيتنا جدَّ الاختلاف بل تختلف عن كل ما عهدناه من مدنيات.
أو يصبح عصر الكمّ والنسبية والموجية الذي نعيش فيه بداية لعصر أعظم شأواً وأهم قدراً وأعجب في الحوادث؟
إنما يلزم لذلك أناس أذكياء تعودوا الإقامة في المختبرات والتردد على دور الكتب؛ هؤلاء الذين أسميهم أنصار الإنسان موجودون وموجودون دائماً.
عند ذلك يختلف العهد، وينظر اللاحقون لنا نظرة جيلنا لزمان ابن الهيثم. ومع ذلك وبعد الذي ذكرناه لا يجوز لنا أن نذهب في المبالغة شوطاً بعيداً لما حدث بعد عهده، فإن المواد ما زالت تُستعمل في عصرنا على النحو الذي عرفه ابن الهيثم، بل إن هندسة أقليدس القديمة ونظرياته الأربع والعشرين المعروفة التي كانت حجر الزاوية لكل معارفنا الحالية هي الهندسة ذاتها التي تعلمها ابن الهيثم وعرفها وجدد فيها ونقلها قوية مجددة للأجيال التي تلته.
إن الخط المستقيم والدائرة والمثلث وعلم الهندسة وعلم المساحة وما يتعلق بكل هذا من نظريات كان لازماً لنستمتع بما نستمتع به اليوم، وكان من اللازم وجود أمثال ابن الهيثم ليرى الإنسان بعده جاليليه ونيوتن وإلا صادف عصراً بدائياً لا يصلح للتجديد.
نعم إن المعارف القديمة لم تعد تقدم لنا صورة صحيحة لهذا الكون، وقد غدت لدينا صورة جديدة تغاير تلك الصورة البسيطة التي عللها لنا الأولون بقوانين بسيطة سواء في الميكانيكا أو الطبيعة ولا يزال الجامعيون يشهدون يوماً بعد يوم انقلابات في التفكير، ويقفون على أوصاف للكون أدق من صورته التي عهدناها حتى عصر ابن الهيثم، بل عصر جاليليه ونيوتن؛ فلا مادة بالمعنى القديم، بل إن المادة جسيمات صغيرة في حركة دائمة، وفي هذا الكون المتكون من هذه الدقائق المتحركة لا ضوء هناك ولا لون ولا صوت، وكل هذه مظاهر لا تختلف إلا بعدد في الذبذبات والتردد، والذي نسميه مادة أو ضوء ما هو إلا كهرباء، بل لا فارق بين الطاقة والمادة، ويمكن القول اليوم إنهما تمُتَّان إلى أصل واحد، بل إن المادة ذاتها كهرباء والكهرباء مادة.
أجل. إن قوانين هذا العالم المضطرب باتت تختلف وفق صورته الجديدة اختلافاً كبيراً عن(338/53)
القوانين القديمة التي لم يظهر أنها صحيحة إلا لأنها متوسطات للقوانين الحقيقية للعالم، وقد تعدى هذا الاختلاف في فهمنا لظواهر العالم كل شيء، حتى إن القوانين العادية الخاصة بالزمن والحيز اللذين يحكمان العالم باتت تختلف عن التي تعلمناها في المدارس، والحيز الذي اعتدنا أن نتصور فيه طوبة أمحوتب هو حيز معوج، والمثلث الذي جرينا على اعتبار أن مجموع زواياه يساوي قائمتين هو في الواقع ليس كذلك، والخط الذي اعتدنا اعتباره مستقيماً يلتف من النهاية حول نفسه، والكون الذي اعتبرناه لا نهائياً هو في الحقيقة محدود، بل إن الزمن ذاته يحمل في طياته أغرب القضايا التي تفتقر إلى المعرفة والتعيين.
نعم قد حدث هذا كله، ووصلنا إلى نوع جديد من التفكير والتطور، ترى ماذا سيكون من أثر المعارف الجديدة في الإنسان القادم؟ ومع ذلك فإن هذا النوع من التفكير قد وصل به الإنسان إلى ما وصل إليه لأن البناء كان صالحاً، كل هذا ترتب على هذا النحو لأن المعرفة القديمة كانت عظيمة الأثر، ولأن ثمة رجالاً كابن الهيثم زرعوا فحصدنا ونزرع اليوم ليحصد الغير.
في كثير من المحاضرات نشيد بذكر العلماء الحديثين الذين يساهمون في تشييد صرح العلوم، وقد توجهنا فيما كتبنا هذا العام بمثل هذه التحية لكثير منهم أمثل بلانك وبيران ودي بروي، وجدير بنا ولا ريب أن نحيي في هذه القاعة أولئك الأعلام الذي وضعوا أساس الصرح. لهذا أتقدم في ختام هذه الكلمة بالتحية والإجلال لابن الهيثم، ولست أيأس من أن يقدره مجلس الجامعة قدره فيقرر إطلاق اسمه على إحدى درجات كلية العلوم.
لشد ما يتزايد الميراث العلمي، ولشد ما يشتغل أنصر الإنسان!
في مزاد للكتب كان في القاهرة هذا الأسبوع تصفَّحت الكراسة التي تحوي أسماء الكتب والمؤلفين فإذا بها ما يزيد على عشرين ألف مجلد في الأدب، إنما لفت نظري العدد الكبير من الأسفار للمؤلف الواحد، وقلت في نفسي: من أين الوقت لإخراج هذا الميراث، فلكليمنسو 11 مؤلفاً من هذه المكتبة الخاصة، ولديهامل 28، وللكاتب موروا 24 ولغيرهم الكثير؛ ولما رأيت أن لابن الهيثم ما يربو على السبعين سفراً، وأن من بينها ماله القيمة التي ذكرها إخواني، أدركت حقاً أننا بصدد عالم كبير جدير بهذا الاجتماع العظيم.
محمد محمود غالي(338/54)
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(338/55)
القصص
الإغماء!. . .
أقصوصة مصرية
(مهداة إلى الأستاذ محمود بك تيمور)
بقلم الأستاذ خليل شيبوب
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
زارتني سلمى مرة في مكتبي وطلبت مني أن أصطحبها إلى مكتب زوجها، ففعلت، ولما كنا في الشارع، علَّقت يمناها بيسراي كأن ذلك طبيعي بيننا، ولم يظهر على وجهها أي استغراب لما فعلته، وصارت إذا جزنا عرض الشارع من رصيف إلى رصيف احتمت بي من السيارات المسرعة، وشدت بذراعها على ذراعي في حركة عصبية عنيفة.
وصرت أفكر طويلاً، هل بدر مني شيء يدل على رغبتي في استدراجها إلي، لأن سلوكها معي لم يعد يحتمل الشك في رغبتها في استدراجي إليها؟ ووقفت حائراً بين أن أفقد صديقين أحبهما حب الإخلاص الصحيح، وبين أن أخون صديقاً ألفته منذ الصبا وأحول صداقة فتاة عرفتها متدارية بثياب والدتها ووالدتي، إلى حب لا أقدر مداه ولا نتيجته.
وكانت كل هذه الأمور تجري وسلمى لم تحرك شفتها مرة واحدة بكلمة ملتوية، ولا تنهدت مرة واحدة في وجهي، ولا لمست مرة واحدة يدي لمسة تحتمل تفسيراً أو تأويلاً. ولكن سرعان ما زحمتني الحوادث وبعدت بي عن تلك الحياة الطيبة التي أذكرها اليوم والأسى يملأ صدري، والدمع يكاد يتفجر من مقلتي.
أجل خاطبتني سلمى بالتليفون تقول: ألا تشرب الشاي معنا اليوم فإني بانتظارك في الساعة الخامسة تماماً لعلنا نخرج في السادسة والنصف إلى السينما.
وإني اليوم بعد طول العهد لا أزال أراني نازلاً من العربة أما باب الحديقة سائراً في الممشى القصير إلى باب المنزل أقرعه قرعة تعرفها الخادمة فتخف إلى الباب تفتحه وأدخل إلى القاعة التي ألفت كل أثاث من مفروشاتها. فهذه مقاعدها المذهبة وحريرها(338/56)
الأحمر المجزع بالبياض، وهذه خزانة البلور التي حفلت بقطع النفائس التي يتأنق عزيز في اقتنائها، وهذه مائدة الرخام المستديرة عليها طاقة الورد الصناعي، وهذه الرسوم المعلقة التي أعرفها وتعرفني، وأحسن ما فيها صورة سلمى الزيتية متقنة كل الإتقان أم صورة عزيز ففيها سطور غامضة والنور منعكس عليها من فوق بينما وجب على الرسام أن يعكسه عن اليمين، وطالما تناقشنا في هذا الرسم وبحثنا في نظرية النور والمنظر. وهذا صندوق اللفائف مصنوعاً من الآبنوس الملبس بالأصداف أتناول منه واحدة أشعلها وأقف أمام النافذة المطلة على المحمودية أنظر مياهها الكدرة المتدفقة إذ كنا في أول سبتمبر وفيضان النيل على أشده.
نعم لا أزال أفكر في هذا كله كأني أراه الآن ماثلاً أمام عيني. ثم طال انتظاري فقرعت الجرس وجاءت الخادمة، فقلت لها: أين الجماعة؟. . . فأجابت: إن سيدتي ترتدي ثيابها، وأما الأستاذ فقد ذهب منذ هنيهة. ثم نظرت إلى الخادمة نظرة لم أرتح لها. وما هي إلا ثوان معدودة حتى جاءت سلمى يموج جسمه في دثار ياباني قد التفت به حاسرة عن ذراعيها وصدرها. وقد صففت شعرها وعقصته بمشط لين العاج قد انتظمت على حافته حجارة مبرقة، وأصلحت من شأنها في كثير من الاختصار والانسجام. فما أن رأتني حتى مدت إليّ يدها مصافحة، وقالت وهي تبتسم عن مثل اللآلئ صفاء: عفواً لقد جرى ما لم يكن في حسابي، فإن عزيزاً قد استدعي فجأة لأمر هام وهو يأسف لأنه لا يعود قبل الساعة الثامنة. وقد أوصاني أن أحتبسك حتى عودته لنصل جلسة بعد الظهر بالسهرة. . .
ولم أجد رابة في هذا كله بل وجدته طبيعياً وقلت لها: لعلك لولا حضوري كنت تخرجين مساءً. قالت: لا وحقك إني متعبة فاجلس نثرثر قليلاً. . .
وأخذنا في حديث عن الفيضان والبعوض، وكانت سلمى تقول إنها لم تعد تطيق السكنى في هذا المنزل وإنها سوف تنتقل إلى ضاحية الرمل حيث أكثر الأصدقاء والمعارف، ثم اندفعت في امتداح ضاحية الرمل بينما كانت الخادمة تحضر مائدة الشاي، فأصبت كوباً منه وأكلت قطعة من الحلوى، وقدمت إلى سلمى لفافة من التبغ شرعت في تدخينها، وقد قامت وقعدت مراراً تستحضر إما منديلاً أو صحفة أو ملعقة، ورأيت في تثنيها شيئاً من التصنيع والارتباك، ثم نادت الخادمة وقالت لها: إنه يمكنها الانصراف على أن تكون في المنزل في(338/57)
حدود الساعة الثامنة.
وشدت سلمى ثوبها على جسمها، وقعدت بجانبي، فصور الثوب أعضاء جسمها تفصيلاً، وهبَّت منها رائحة عبقة تغلغلت في دماغي، ثم مدت ذراعها وألقتها على ظهر المقعد ورائي دون أن تمسني، ونظرت إليّ نظرة كدت أستريب منها وقالت: ما رأيك في كأس من الكونياك؟ ولم تتم كلمتها حتى وثبت إلى غرفة الطعام، وفتحت خزانة واستحضرت منها زجاجة وهي تقول: إن هذه الزجاجة تزعم أن هذا الكونياك كان شراب نابليون.
فضحكت وقلت: ونحن الآن نقلد نابليون بشربه.
وسكبت لي كأساً ومثلها لنفسها فشربنا وقد تذوقت الكأس وأعجبت بجودة الصنف فعلاً، أما هي فترشفت نصف كأسها، ثم سكبت لي الثانية.
وقد جرى هذا كله في سهولة وبساطة، وسلمى تقول: إن خياطتها أصبحت من الطمع بحيث صارت تفكر في استبدالها وقالت: إنها خاطت لها قميصاً من الحرير هو هذا الذي تلبسه - ثم كشفت دثارها عنه فإذا به يضم نهديها إلى ركبتيها في تموج غريب - وإنها تقاضت منها أجرة وكلفة لا يحتملها القميص.
وكنت تجرعت الكأس الثانية فسكبت لي كأساً ثالثة رفضتها رفضاً قاطعاً لكنها لم تصغ إليّ. ومضت في حديثها عن القميص بينما أخذت أتمصص الكأس، ثم وقفت أنظر إليها مصغياً إلى حديثها أقول: أنتن السيدات لا تعرفن اهتماماً إلا بهذه الخرق الحريرية. . . فقالت: ألا يعجبك حرير هذا القميص. فابتسمت، فإذا بها واقفة حيالي فاترة العينين ملتهبة الخدين، ثم رفعت ذراعها إلى جبينها وهي تقول: لا أدري ما بي. . . لعل هذا الكونياك قد دار رأسي به. فقلت: لا عليك اجلسي. ولكنها تثنت قليلاً وقالت كأنها تريد أن تصيح: فريد! فريد! اسندني إليك. . .
فذعرت كل الذعر؛ وما أن أسندتها إليّ حتى استرخت بين يدي وضمتني إليها متعلقة بي متثاقلة بجسمها عليّ وأنا أدفع بها في لطف وتؤدة حتى أجلستها على المقعد وقد تلاصقت بي تلاصقاً غريباً وشدتني إلى صدرها شدّاً عنيفاً.
وأردت أن أهرع إلى حيث أستحضر لها كوباً من الماء، ولكن تعلقها بي منعني من ذلك. ولا أدري لماذا خطر لي في إبراق عجيب ذاك الحادث الذي حدثني به زوجها عن تصنع(338/58)
الإماء. فرأيتني في موقف مدهش يقتضي بتّاً سريعاً: إما الخيانة ومسايرتها أو القطيعة والجفاء. وكان دمي يفور ويغلي والعرق يتصبب مني ولا أعرف كيف ولا لماذا قلت لها:
- إياك أن يغمى عليك فإني حينئذ أستدعي لك الإسعاف.
ولا شك أنها سمعت كلامي ولم تأبه له وحسبت أكبر حساب لغريزة الرجل فأصرت على إغمائها، وتلطفت في التملص منها وتباعدت عنها ونسيت الماء والكوب والإسعاف وبقيت واقفاً حائراً، وسلمى قد فتحت دثارها وكشفت قميصها وزاد خفقان صدرها ثم أنَّت قليلاً في خفوت واختناق ثم لزمت الهدوء.
فأشعلت لفافة من التبغ وصرت أذرع الغرفة ذهاباً وإياباً وأنا لا أعي ما أطأ حتى عيل صبري. وكلما طال انتظاري وتمادت في غيبوبتها كان الغضب يطرد في صدري وتقوي عوامل الشرف والصداقة والإخلاص، حتى رأيتني واقفاً أقول:
- هذه مهزلة مألوفة وليس مثلك من يمثلها مع مثلي. ونحن أصدقاء العمر فقد أخطأ حسابك، وإذا كنت أتقنت مثل هذه المهازل فجربيها مع سواي.
وإني لأذكر تمام الذكر أن سلمى انتفضت عن مقعدها كالنمرة الضارية، ثم لمَّت دثارها والتفت به ووقفت في وجهي تلهث من الخيبة وتحدجني بلحظ يتقد غيظاً وقالت وهي تتلظى غضباً:
- أنت رجل مغفَّل.
واليوم إذ أستعيد هذه الذكريات أحاول عبثاً أن أستبين كيف مضت الأيام التي تلت هذا الحادث وكيف نزلت بي حمى شديدة استوجبت نقلي إلى المستشفى حيث قضيت أشهراً بين الموت والحياة علمت بعدها أنه لم تعدني فيها سلمى ولا زوجها. وقد فتَّت الحمى في عزيمتي وغادرتني شائب الرأس مهدوم الجسم؛ وهاأنذا اليوم بعد خمس سنين أراني قد انحدرت بي السن أشنع انحدار وتوغلت في الكهولة أيما توغل.
وفي كل هذه المدة لم تقع عيني على الأستاذ عزيز سامر ولا على زوجته سلمى، ولكنني لا أزال أذكر والأسى يملأ صدري والدمع يكاد يتفجر من مقلتي أنني كنت صديقاً حميماً للأستاذ عزيز سامر ولزوجته سلمى.
(الإسكندرية)(338/59)
خليل شيبوب(338/60)
من هنا ومن هناك
هتلر والهتلرية
(من تقرير السفير البريطاني ببرلين (سابقاً))
ظهر الهر هتلر والاشتراكية الوطنية نتيجة لهزيمة أمة كبيرة في الحرب وما تبع هذه الهزيمة من الفوضى واليأس. والاشتراكية الوطنية في ذاتها ثورة، وهي كذلك مذهب في الفلسفة الوطنية وعلى النقيض من الديمقراطية التي تجعل الحكومة خاضعة للجمهور تقوم النازية على جعل الجمهور تابعاً للحكومة خاضعاً لها بل للفرد الوحيد الذي يدير دفتها.
كان العالم خارج الحدود الألمانية، لا ينظر إلى الاشتراكية الوطنية بكثير من الاهتمام ما دام أمرها مقصوراً على داخلية البلاد. وكان بعض الناس يذهبون إلى نقد صاحب هذه الحركة وبعضهم إلى استحسانه وبعضهم يراقب حركاته بشيء من القلق؛ ولكن الحكومة الألمانية كانت على الدوام شأناً من شئون الشعب الألماني وحده. فلما انتقلت نظرية الوطنية الألمانية خارج الجبهة الألمانية بدأت الفلسفة النازية تبرز رأسها خارج حدود السلام.
ومن الجهل أن ننكر الإصلاحات التي قام بها ذلك الرجل الذي يقود ألمانيا اليوم داخل بلاده. إلا أن الوسائل الظالمة التي اتبعت في سبيل تنفيذها كانت مما يمجه الذوق الإنساني، وإن كانت لاتهم أحداً غير الألمان.
ولم يكن ضم النمسا والسوديت الألماني هو الذي أثار شعور الكراهية ضد الهر هتلر، وحرك ضده الرأي العام في جميع أنحاء العالم. فإن العالم الذي ذاق مضاضة الحرب 1914 - 1918 كان على استعداد لاحتمال ذلك. فقد كان منتظراً أن تضم إليه تلك البلاد طائعة مختارة ولا يمس السلم بشيء. إلا أن هتلر لم يكن ليقبل الاعتراف بحقوق الغير التي يريد أن يغتصبها لألمانيا. . . والثورة آلة طائشة، إذا تحركت لا تقف، حتى تصل إلى الغاية التي تتحطم عندها. والتاريخ وحده هو الذي سيقول إذا كان في مقدور الهر هتلر أن يسير بالنازية في الطريق المعتدل القويم، أو أنه كان ضحية الحركة التي بدأها، أو أن نوعاً من جنون العظمة هو الذي دفع به إلى تلك الغاية التي كانت المدنية على استعداد لمجابهتها.(338/61)
خلقان لا يفارقان طبيعة الألماني: عجزه عن إدراك أمر من الأمور إلا من وجهة نظره الخاصة، وقصوره عن فهم معنى الاعتدال.
إن مأساة الدكتاتور كائناً من كان، هي أنه بتقييده حرية الرأي، يفقد معونة خير رجاله وأصلحهم، وأنه لا يحتمل معارضة أي إنسان. فكل من وهبهم الله شيئاً من الشجاعة لإبداء آراء مخالفة لوجهة النظر التي يراها، يضحي بهم واحداً بعد الآخر، حتى يصبح وليس معه إلا بعض الأفراد المتملقين الذين لا يعرفون غير كلمة (نعم) في سائر الأحوال.
وإذا كان الدكتاتور يتأثر إلى حد ما بمن يلتفون حوله، فإن الهر هتلر لا يعتمد إلا على رأيه في كل ما يتوجه إليه. وقد قل لي (الفيلد مارشال جورنج) ذات مرة: نحن عند البت في أمر من الأمور لا نكون إلا كالحجر الذي تقف عليه الآن، فللفوهرر وحده يرجع البت في كافة الشؤون. . .(338/62)
يجب أن يتحرر التشيك
(لماذا يجب أن يتحرر التشيك؟): هذا عنوان رسالة للاتحاد الوطني التشيكوسلوفاكي بأمريكا جاء فيها: التشيكوسلاف أمة قديمة في أوربا، يرجع تاريخهم إلى العصر المسيحي القديم.
وهم جزء من ذلك العنصر السلوفي الذي حكم أواسط أوربا يوماً ما، وامتد ملكه إلى حدود نهر الألب وجبال الألب من الناحية الغربية، وبحري البلطيق والإدرياتيك من ناحيتي الشمال والجنوب. . .
والثقافة التشيكية تعادل أرقى الثقافات التي ظهرت في قارة أوربا. فقد أتيح لها أن تجمع كثيراً من المدنيات العظيمة، فحملت شجرتها للعالم ثمار المدنيات البيزنطية والألمانية والفرنسية وللتشيك أثر عميق في المدنية الأوربية، وعلى الأخص العصور الوسطى وفجر العصور الحديثة، وقد كان الشعب التشيكي فيما بين القرن الثالث عشر والقرن الخامس عشر عاملاً هاماً في حمل رسالة القرون الوسطى، وكان ملوك (التشيك) رءوس الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولهذه المملكة الفخر في إنشاء أول كلية في أواسط أوربا؛ ولمركزها الممتاز بين مختلف الدول كان لها أعظم شأن في عالم التجارة وبيوت الأموال؛ وقد انتعشت فيها الفنون والعلوم بانتعاش الحالة المالية وتوفر أسباب الترف والعيش الرغيدين للأهلين.
كان التشيك في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر أبطال حرية الفرد وأنصار الديمقراطية الصحيحة. وكان (جورج بودبراد) ملك التشيك، يدعى دائماً لفض الخلاف الذي يقع بين الألمان أو السادة الهنجاريين، وكان في مقدمة رجال السياسة الأوربية الذين يدعون إلى فكرة الاتحاد الدولي لمحبي السلام من الأفراد والممالك، وإيجاد رابطة قوية منهم لحماية القانون والنظام العام.
ولما فقد التشيك حريتهم في عام 1620 نجحوا في الاحتفاظ بلغتهم وثقافتهم وتقاليدهم على الرغم من المظالم التي أحدقت بهم. وقد أخرجوا إلى العالم في تلك الفترة المظلمة في تاريخهم (كومنسكي) المشهور، وهو من أكبر رجال التربية الذين عرفهم التاريخ.
ولما كان القرن التاسع عشر وضع التشيك لأنفسهم مبادئ عملية لنيل حقوقهم السياسية والوطنية وكانت الديمقراطية والسلم رائدهم في كل الخطوات، وقد برهنوا دائماً على(338/63)
مقدرتهم على حكم أنفسهم. وكانوا على الدوام أصدقاء مخلصين مسالمين. عرف عن بلادهم أنها ترحب دائماً بالمظلومين والمضطهدين الذين يأوون إليها من البلاد الأخرى.
فالتشكوسلافيون ليسوا حديثين في أواسط أوربا، ولهم حضارة قديمة لا تنكر وأثر خاص في الثقافة الأوربية على وجه العموم؛ وقد برهنوا في حياتهم القديمة وحياتهم الحديثة على مقدرتهم على السير إلى الأمام، والتغلب على القوى المنافسة. وساروا خطوة خطوة مع تقدم الحالة الثقافية والسياسية في أنحاء العالم. وجعلوا مبادئ مزاريك الإنسانية أساساً لمعاملاتهم فيما بينهم وما بينهم وبين العالم، وهي مبادئ تقوم على حب الخير والشرف والتواضع.
الرجل الذي يهابه هتلر
(عن (ورلد مجازين))
من هو الشخص الذي يسند بيده الحديدية عرش هتلر ويحمل وزر تلك الأعمال القذرة، من هو الشخص الذي يدير دفة الحركة النازية في الحياة العملية؟ الجواب: هو هنريك هملر رئيس قوة (الجستابو) الرهيب (البوليس السري) و (الجستابو) ذلك الجيش المدني المتسلط على الأهلين في ألمانيا بجواسيسه ورجاله السفاحين، قد جعل من رئسه (هنريك هملر) أكبر الطغاة الظالمين في العصر الحديث. وقد تبوأ هملر مركزه من العصابة الهتلرية حين استولى هتلر على الحكم في ألمانيا سنة 1933 وكان إذ ذاك في الثالثة والثلاثين من عمره، ومنذ ذلك الوقت وهو منساق في تيار الظلم والإرهاب بغير هوادة أو تردد.
فقام بعملية التطهير في الحزب النازي، وقضى على الرئيس الأعلى للجيش، وسلط النار والحديد على اليهود. فإذا نظرنا إلى أعماله وأنعمنا النظر قليلاً في تاريخه الحافل بالمخازي لم نشك مطلقاً في أنه يضرب بسهمين على الدوام، فقد كان والده مدرساً بمدرسة كاثوليكية في ميونخ وتربى تربية كاثوليكية واليوم هو يحارب الكنيسة الكاثوليكية بغير رحمة، ويضطهد رجالها بغير وازع أو رادع، إلى درجة لا يجاريه فيها رجل في أوربا غير ستالين.
وقد تطوع في الحرب العظمى سنة 1917، ولكنه عمل على أن يكون دائماً بعيداً عن(338/64)
خطوط الدفاع. والتحق بجماعة هتلر - التي كان نصيبها السقوط - عام 1923، ولكن سرعان ما ابتعد عن ناحية المخاطر، فلم يدع للمحاكمة، وكان أول عمل كبير التحق به هو اشتغاله سكرتيراً خاصاً (لجرجورسترسر)، وقد أثنى هذا على مواهبه، وتوسط إلى هتلر في تعيينه رئيساً لفرقة من القمصان السود، فلما كانت سنة 1934 صوب فريق هذه القمصان رصاص بنادقهم إلى صدر سترسر بأمر هملر في (حمام الدماء) المعروف. . . وقد كان (روهم) صديقاً حميماً له في فرق العاصفة، ولكن هملر كان الرجل الذي نفذ إطلاق الرصاص على روهم تحت إشرافه في (ليلة الدماء).
وقد عينه هتلر لتأليف فرقة قوية، تقوم تحت إشرافه لحمايته شخصياً فلم ينته ذلك العام حتى كان لديه 100 , 000 رجل لهذا الغرض. وقد أسس هملر فريق (الجستابو) بعد ذلك ونظم له المعسكرات وأعده بالمعدات. وأوجد للريخ منه 138 , 470 رجل عام 1933، وبلغ عدد الرجال الذين هم تحت إمرته اليوم 437000 رجل لكل 135 نفساً من سكان ألمانيا. وللجستابو قوة قاهرة في حياة ألمانيا اليوم، فلا يخلو من رجالهم ناد ولا يخلو منهم مصنع. وينبث بوليس (الجستابو) في المصالح والوزارات بما فيها وزارة الحربية ووزارة الخارجية، وتصدر عنه التقارير إلى هملر كل يوم. مثل هذا الرجل لا غنى عنه للدكتاتور ما دام قائماً بواجباته، ولكن هملر معروف بأنه يضرب بسهمين على الدوام، فإذا انقلب على زعيمه أصبح الأخير في مركز لا يحسد عليه. وهذا ما لا يجهله هتلر الآن.(338/65)
البريد الأدبي
في شمال فنلندة
كان ذلك في (الزمان الطيِّب)، في مزدهر (الشباب الرِّيق). فررت من مصر في شهر يونية لسنة 1934 والحرّ يفتك بالقرائح، أقصد إلى ألمانيا، ومنها إلى بلدان الشمال. وبعد إقامة قصيرة بأسطونية صعدت إلى هلسنكي عاصمة فنلندة، ومن هناك أخذت أتنقل في نواحي الشمال بين البحيرات والغابات حتى (بتسامو) عند بحر الشمال الجامد.
ولن أحدثك هنا كيف هزّتني تلك الطبيعة الغريبة، فلي في ذلك كلام يطول. وإنما أريد أن أروي لك قصة أظنها لطيفة، فأنقلك معي تخيُّلاً إلى بلد هو حديث اليوم في كل مكان، ردَّ الله عنه كيد الظالم العاتي!.
في الطريق الخارج من هلسنكي إلى الشمال عدد من الفنادق ينزل فيها السياح يوماً أو أكثر من يوم. ونزلت مع غيري في فندق نطلب العشاء والنوم؛ فجعلت أرقب موعد الطعام وأنا أتصفح الملحمة الفنلندية الشعبية (كاليفالا في ترجمة فرنسية. وبينا عيناي في الكتاب إذا فتاة تذهب وتجيء وفي يديها أطباق وأكواب فتنضدها على مائدة مبسوطة. وكانت كلما دنت مني تتمهل في لطف وترسل إلى الكتاب نظرة أو نظرتين؛ ولما فرغت من عملها أتتني فقالت: عفواً! أتقرأ (الكاليفالا)؟ قلت: نعم، إني أُحبُّ أن أطَّلع على هذه الملحمة الخارجة من غاباتكم وبحيراتكم وهضبتكم. قالت: أتعلم قصتها؟ قلتُ: أعلم أن (إلياس لونروت) ? جمعها ونشرها. قالت: هل تحب أن أعلمك القصة كلها، فهذه الشمس لم تمل بعدُ؟ قلت: بالله اجلسي وخبريني.
فروت لي الفتاة كيف خرج (لونروت) إلى فيافي منطقة (كاريليه) فمكث فيها زمناً يدوِّن أغاني المنشدين حتى استقامت له عناصر الملحمة فربط بعضها ببعض وفضل رواية على رواية وأسقط الضعيف والمُعاد والتافه. إلا أنه أقام الملحمة ونظر فيها وسوّاها كأنه أحد أولئك المنشدين لاتصاله بهم واستقائه منهم. ثم أخذت الفتاة تحلل لي خصائص (الكاليفالا)، وجعلت تصف وتبين وتستطرد وتعارض في منطق عجيب ودراية نادرة، حتى إنها ذهبت في الموازنة بين طائفة من أغاني الملحمة وأسطورة أرفيوس الإغريقية. فما كادت تتم حديثها حتى سألتها: من أين لك كل هذا العلم؟ قالت: إني دكتورة في الآداب من جامعة(338/66)
هلسنكي، وإنما أجيء هنا في الصيف أطلب الراحة فأخدم في الفندق فأدفع بذلك ثمن ما أطلبه وعلى هذه الحال كثير من زميلاتي.
وهنا كان موعد العشاء فجلست إلى المائدة وما كانت الفتاة تأتيني لنقضي لي حاجة إلا نهضت أمنعها فتقول: لِمَ تمنعني من أداء الواجب؟ أنا هنا لأخدمك. فأقول: لا أدع دكتورة في الآداب تخدمني، فتضحك من حيائي.
قد كنت نويت في ذلك اليوم أن أبيت الساعة التاسعة فلم أغمض عيني قبل الواحدة. كرّت الساعات وأنا يقظ أستمع إلى أحاديث الفتاة؛ فوقفتني على تاريخ الثقافة الفنلندية وهو قصير؛ ولم تترك باباً إلا طرقته: موسيقى وتصوير ونحت وأدب وفلسفة. وكنت أجاذبها الحديث كلما أجرته في جانب لا أجهله. من ذلك أني شرحت لها كيف تباعد (وِسْتِرْمَرْك) العالم الاجتماعي الفنلندي عن الواقع عند كلامه على (المهر) عند العرب في كتابه: (نشأة المعاني الأخلاقية وتحولها) إذ يرى أن المهر إنما هو تعويض للأب مما بذله في سبيل تنشئة ابنته.
حدثتني الفتاة عن استواء الثقافة الفنلندية القومية بفضل الموسيقى والمصور والمهندس والقصّاص ? ?. وهنا وقفتني على دقائق الطبيعة الفنلندية، فتذاكرنا قصة (سالانبا): (البؤس القدسي) وراجعنا ما فيها من بساطة جليلة وقوة مطمئنة وبصيرة وقادة.
ولما فرغت من حديثها قلت: أحب أن أخبرك بشيء لعلك أن تجهليه. قالت: أيتصل بأمر وطني؟ قلت: نعم. قالت: أي شيء يكون؟ قلت: إن أول كتاب بُسطت فيه جغرافية فنلندة إنما كتب باللغة العربية وصاحبه الشريف الإدريسي واسمه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)؛ وقد نشره من أربع سنين مستشرق من عندكم اسمه (تلجرين توليو). قالت: وما أدرى العرب بنا؟ قلت: سمعت رفيقة لك تدعوك سلمى. قالت: هذا اسمي. قلت: هو اسم عربي ولديكم غيره. إن في نسائكم من تسمى سليمى وعدلة وسوسانة، وفي رجالكم من اسمه: ألي وأُمَر وسالم. قالت: هذا حق! ذلك زمان اتصال من طريق التجارة. وهذا زمان اتصال من طريق الثقافة. مساء الخير! وانصرفت. وإذا الفتاة تجعل على الحاكي أسطوانة للموسيقى (سيبيليوس) اسمها: (فنلندا) أصبت فيها وأنا أعرج في السلَّم كآبة تلك الفيافي المترامية وبطء تلك الثلوج المنسابة في بحر يريد أن يجمد.(338/67)
بشر فارس
شعراء الشرق والطبيعة الغربية
كتب الأخ الأستاذ محمد عبد الغني حسن يعقب على الكاتب الذي أشاد بذكر الشاعر العبقري علي محمود طه وينحى عليه باللائمة أنه نسي كثيراً من الشرقيين الذين وصفوا الطبيعة الغربية في شعرهم.
وإني أعتقد - ومعي كثير - أن وصف طبيعة الغرب ليست موضع فخر للمصري ولا للشرقي ولا تشرفهما في كثير أو قليل.
وإنا لفي حاجة لفي حاجة إلى الشاعر الذي يشيد بذكر مصر خاصة والشرق عامة. ومصر - بحمد الله - جميلة ساحرة، والشرق كذلك جميل فتان.
فمتى ينقل شعراؤنا الغربيون - رحمهم الله - معازفهم ومزاهرهم وناياتهم من لندن وباريس وروما، إلى القاهرة ودمشق وبغداد، حتى يعيدوا إلينا عهد بنتاءور، والبحتري، وشوقي وغيرهم من أساطين الشعر في الشرق. ورحم الله شوقي إذ يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
محمد عبد المنعم سالم
مدرس بمدرسة الخديو إسماعيل بالإسكندرية
مجلات الاستشراق في إيطاليا
(1) مجلة الدراسات الشرقية
تعتبر هذه المجلة العلمية أكبر مجلات الاستشراق في العالم، يصدرها أساتذة المدرسة الشرقية في جامعة روما، ويقوم بإدارتها كبير المستشرقين الإيطاليين البروفيسور مجلنجلو جويدي، مدير المدرسة الشرقية وأستاذ الأصول الإسلامية في جامعة روما ومدير المعهد الشرقي في نابولي وعضو المجمع العلمي الإيطالي.
ونشرت هذه المجلة أقوم المباحث العلمية في الاستشراق لجميع المستشرقين الأوربيين.
ومن أهم مباحث أعداد هذا العام 1939 المجلد الثامن عشر: في تفسير جميل بثينة للأستاذ(338/68)
فرنشكو جبربيلي أستاذ اللغة والآداب العربية في جامعة روما.
والقصيدة في الفقهاء لموسى بن عبيد الله بن حاقان: للدكتور باولو بونسكي.
(2) الشرق الحديث وهي مجلة شهرية في الاستعلام والدراسات لتعميم معرفة الشرق ولا سيما الإسلامي يقوم بنشرها (المعهد الشرقي) بروما.
وقد أسسها المستشرق الكبير المرحوم نالينو وقام بإدارتها مدة 18 عاماً حتى وفاته؛ وقد خلفه في الإدارة الأستاذ أتوري روسي، أستاذ اللغة والآداب التركية في جامعة روما.
وتبحث هذه المجلة ذات المكان الممتاز في جميع أوساط الاستشراق عن جميع ما يهم حياة الشعوب الشرقية الإسلامية.
وتنشر كل شهر مختصراً عن الحوادث السياسية والاقتصادية والثقافية في البلاد الشرقية، ولا سيما العربية؛ وتنشر جميع الوثائق الرسمية المتعلقة بهذه البلاد. ونذكر هنا بعض أبحاثها في هذا العام (المجلد التاسع عشر):
الحقيقة في مسألة قناة السويس للدكتور انجلو سنمركو. تاريخ نهضة الشعوب العربية في كتاب حديث لجورج أنطونيوس للمستشرقة فرجينيا فكا. حوادث تركستان الشرقية الأخيرة للبروفيسور أتوري روسي. الحركة الوطنية في منطقة المغرب الأقصى الفرنسية للبروفيسور أتوري روسي.
(3) المجلة الشرقية الحقوقية
وهي مجلة حقوقية تبحث في العلوم والحقوق والتشريع ويديرها المحامي فنشنزو تاورمينا. وهي مجلة شهرية في عامها الرابع نتناول في أبحاثها الحقوقية ما يتعلق بالشرق المتوسط والشرق الأقصى والمستعمرات. ثم يلي ذلك باب الأخبار التشريعية والحوادث في الشرق فالمباحث العلمية. وهذه المجلة فريدة في نوعها في أوربا.
(عن النشرة الشهرية لمحطة باري)
عدد سكان الأرض
نشرت عصبة الأمم إحصاء بعدد سكان الكرة الأرضية، وهو إحصاء ناقص، لأنه لم يشتمل على التعداد الصحيح لسكان أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية واستراليا. ويتضح(338/69)
من ذلك لإحصاء أن عدد سكان الكرة الأرضية ملياران و134 مليون نفس. وفيما يلي تعداد بعض البلاد:
الصين 450 مليوناً - روسيا 178 مليوناً - الولايات المتحدة 130 مليوناً - ألمانيا 79 مليوناً
اليابان 72 مليوناً (يضاف إليها 31 مليوناً عدد سكان الأراضي الملحقة بها)
بريطانيا العظمى 47 مليوناً (يضاف إليها 495 مليوناً عدد سكان مستعمراتها والمملكات الحرة)
إيطاليا 43 مليوناً (يضاف إليها أكثر من 8 ملايين في مستعمراتها)
فرنسا 42 مليوناً (يضاف إليها أكثر من 75 مليوناً في ممتلكاتها وراء البحار)
بلجيكا 8 ملايين (يضاف إليها أكثر من 14 مليوناً في مستعمراتها)
هولندا 8 ملايين (يضاف إليها أكثر من 67 مليوناً في مستعمراتها)
البرتغال 7 ملايين (ويضاف إليها أكثر من 10 ملايين في مستعمراتها)
وقد رؤى بعد الحساب أن عدد سكان الكرة الأرضية قد زاد في خلال سنتين 18 مليوناً. . .
تصويب
ورد البيت الآتي في مقال الخوارزمي والبديع هكذا:
لا تنزلنّ بنيسابور مغترباً ... إلا وحبلك موصول بإنسان
وصحته: إلا وحبلك موصول بسلطان
علي الجندي
أصل النور
يبحث كثيرون عن أصل النوَر (الغجر) وكيف وصلوا إلى أوربا فلا ينصرفون من بحثهم إلا بالعجز. وقد وقع لي في بعض مطالعاتي رأي استنتجته من نصوص التاريخ لعل فيه حل هذه المشكلة.
في كتب التاريخ عند الكلام على فتنة الزُطْ (وهم النور) في البصرة، أن أصلهم من أواسط(338/70)
آسيا (غلبوا على طريق البصرة، وعاثوا فيها، وأفسدوا البلاد) إلى أن تغلب عليهم قائد المعتصم (عجيف بن عنبسة) وأضطرهم إلى التسليم فوجد عدتهم نحو ثلاثين ألفاً بين رجل وامرأة وصبي، فنقلوا بأمر المعتصم إلى قرية من قرى الثغر فلبثوا فيها إلى سنة 241هـ فأغار الروم على القرية وأسروهم جميعاً فاستاقوهم معهم.
فهل يمكن أن يكون انتقالهم إلى أوربا من ثمة؟
هذا افتراض، ولعل في أهل هذا الفن من ينتدب لبحثه وقبوله أو رده. . .
ع. ط
قصر هشام بن عبد الملك ونقله إلى الشام
من أجمل الآثار العربية التي تمكنت دار الآثار في الشام وبعثات النقيب من كشفها في ديار الشام، القصر العربي الأموي الجميل الذي عثر عليه في طريق تدمر، وعرف أنه (قصر الحير) أو قصر هشام بن عبد الملك.
وقد نقل هذا القصر من المكان الذي كشف فيه إلى متحف الآثار في دمشق، حيث يتوفر المهندسون والعمال على وضعه كما وجدوه دون أن ينقص من بنائه وحجارته وزخرفته وكتابته قليل أو كثير. وقد خصصت لهذه الغاية مبالغ كبيرة من ميزانية متحف الآثار أنفقت عليها حتى الآن ثمانية وثلاثون ألف ليرة سورية.
وقد تم بناء نصف هذا القصر، والأعمال لا تزال مستمرة لإنجاز نصفه الثاني.
وشغلت المساحة التي يستوعبها هذا القصر مكاناً لا يقل عن مساحة متحف الآثار كله.
حول ابن تيمية وابن بطوطة
إتماماً لكلمتي المنشورة في (الجزء 331 من الرسالة الغراء) وتأييداً لما ذهب إليه الدكتور عبد الوهاب عزام في (الجزء 330) حيث قال: (لا أجد ما يحملني على تكذيب ابن بطوطة في أمر يدعي أنه رآه وسمعه)، أنقل ما أورده العلامة النقاد ابن خلدون في مقدمته (في الصفحة 89 من طبعة بولاق):
واعتبر ذلك بما نقصه عليك من هذه الحكاية المستطرفة، وذلك أنه ورد المغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة، كان(338/71)
رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي حاضرة (عاصمة) ملك الهند، وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروز جوه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية في عمله؛ ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان. وكان يحدث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون. . . وأمثال هذه الحكايات، فتناجي الناس بتكذيبه. ولقيت أيامئذ وزير السلطان فارس بن ودرار البعيد الصيت ففاوضته في هذا الشأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه؛ فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا بما أنك لم تره فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن، وذلك أن وزيراً اعتقله سلطانه ومكث في السجن سنين ربى فيها ابنه في ذلك المحبس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها؛ فقال له أبوه: هذا لحم الغنم، فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول: يا أبت تراها مثل الفأر؟ فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر؟ وكذا في لحم الإبل والبقر، إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر. وهذا كثيراً ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب. . . إلى آخر ما أورده ابن خلدون.
سيف الدين الحليلي
تحقيق
قرأت للأستاذ عبد المتعال الصعيدي مقالة: بين الأستاذين أحمد أمين وزكي مبارك، ولقد استوقفني فيها شاهد جاء به من الحديث في ذم الشعر إطلاقاً إذ يقول: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً. وما كنت لأبدئ أو أعيد لو أن الحديث صحيح، أما وهو غير ما ذكرت فإني مورد هنا قصته.
فقد جاء في رسالة (الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة) أن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) ولما بلغ السيدة روايته ارتاعت لها وقالت: (لم يحفظ أبو هريرة الحديث، إنما(338/72)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً هجيت به) وهكذا أنقذت السيدة - رضي الله عنها - بسعة علمها ودقة روايتها ثروة طائلة من الكلام الجميل حرَّمها أبو هريرة - غفر الله له ورضي عنه - برواية الحديث ناقصاً!
والغريب أن كثيراً من العلماء، يولون وجوههم شطر هذا الشطر من الحديث يستشهدون به في ذم الشعر! وما جنى الشعر ولا جنى الشعراء، وإنما بغض الشعر إلى النبي، لأنه يجري وراء الخيال، وأن الشاعر يقول ما لا يفعل. فأما النبي فقد اتخذ من الحق نوره، ومن الحقيقة غايته، ومن أجل هذا ولد، وكذلك عاش، وهكذا مات.
عبد الرزاق أمان الدين(338/73)
الكتب
رحلات
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه رحلات وأسفار، صور شاهدها قلم مبين، وناهيك بقلم يحمله الدكتور عبد الوهاب عزام.
وقراء الرسالة لا شك يعرفون الدكتور الفاضل باحثاً مدققاً وعالماً متمكناً، وناقداً بارعاً، ورجلاً تتمثل كل معاني الرجولة في أخلاقه وفي سلوكه، ولكن قلّ فيهم من يعرفه شاعراً موهوباً من الطراز الأول، يستطيع أن يجري في الحلبة فيسبق، لأنه رجل لا يحب أو قل لا يحسن الإعلان عن نفسه، فهو يجاهد ويجاهد حتى يرضي بالجهاد ربه ونفسه، ثم لا يعنيه بعد ذلك مأرب، فيرضى من الغنيمة بالإياب.
وشاعرية الأستاذ عزام تتجلى في قصائده (المكتمة) أو قل الموءودة، وهو لا شك محاسب بين يدي الله (إذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت)، وإن هذه الشاعرية لتتجلى أيضاً في آثار قلمه في الوصف والإفصاح عن إحساسه بالمرئيات، فأنت إذ تقرأ هذه الرحلات، فستجد فيها دقة الباحث، وحكمة العالم، وظرف الأديب، وخيال الشاعر وعاطفته. وأي شعر أبلغ من قول الدكتور، وهو يجيل النظر في أرجاء سيناء: (وأصبحنا نطل على بيداء ليس فيها إلا رمال تتخللها أعشاب وأشواك، ولكنها سيناء! والله ماذا ضمنت سيناء من الخبر والعبر! فيها الطور الذي آنس موسى من جانبه نور الهدى، وعليها مدَّ الزمان وجزر بالغير سعيدة وشقية، والجيوش هازمة ومهزومة، فتمثّل جيوش الفراعنة ذاهبة إلى الشام وآيبة، أو جيوش بابل وفارس مطرودة وطاردة، ثم جيش الإسكندر وجيوش الرومان، ثم جيوش العرب والترك دول بعد دول، وسطور تمحو في صحائف الزمان سطوراً، كما خط في القرطاس سطر على سطر، تزاحمت الذكريات، وترادفت العظات).
بل أي شعر أفصح من قول الدكتور على قبر صلاح الدين الخالد: (ثم رقينا درجات قليلة إلى باب آخر؛ فيالك حجرة جمعت من العظمة سورة متلوة على الدهور، وحوت من عبر التاريخ ما تضيق به السطور! يالك حجرة كعنوان الكتاب الكبير يقتحمه النظر في لحظة، ثم لا يزال ينفتح على الصفحة بعد الصفحة! يالك من مكان وسع ملء الزمان! ويالك من(338/74)
أحجار طويت على إعصار! مجدر جف به الشرق والغرب، وطأطأ له الصديق والعدو. هذا مرقد (صلاح الدين)، طفنا بالقبر ووقفنا هنيهة خاشعين، ووقعت أبصارنا على صورة تمثل المجاهد العظيم؛ ثم قال أحدنا: أين التاج الذي وضعه على القبر ملك الألمان غليوم؟ قال دليلنا: أخذه الإنكليز! قلت: إن مجد (صلاح الدين) أعظم من أن يزيده غليوم وأجل من أن ينقصه الإنجليز، فليعطوا أو فليأخذوا، وليمدحوا أو يذموا، فذلك صرح لا تناله أيديهم، ومجد قصرت عنه أمانيهم، وحلبة التاريخ تشهد من كان الفارس الأمجد؟!).
فهذا هو إفصاح الشاعر وخياله وإحساسه. . . وهذا هو الأسلوب الذي صور به الدكتور الفاضل كل المشاهد التي رآها والآثار التي وقف بها في حلب ودمشق وبغداد وبلاد الفرس وموطن الأتراك، ثم في الحجاز مشرق النور المحمدي، وفي أوربا حيث السفوح كلها البهاء والرواء والشعر، فجاءت هذه الرحلات صورة قوية من عقل الرجل وقلبه، فهي فوق ما فيها من علم وتعريف آيات بينات من الأدب الوصفي الرائع، وقطع من العشر المرسل تفيض بالعواطف والأحاسيس، وتملأ نفس القارئ بالعظات والعبر، والحكمة والبهجة. وبهذا المعنى ستظل رحلات عزام خالدة خلود العواطف الإنسانية، باقية بقاء الإحساس القوي في نفس الكبير.(338/75)
ليلى المريضة في العراق
للدكتور زكي مبارك
هذا كتاب يأخذ موضوعه من التاريخ والعلم والأدب والشعر والحب والبغض والخير والشر، فهو كما يقول المؤلف الفاضل (تاريخ يفصل وقائع ليلى بين القاهرة وبغداد من سنة 1926 إلى سنة 1938، ويشرح جوانب من أسرار المجتمع، وسرائر القلوب).
ولا شك أن قراء الرسالة الكرام يعرفون بعض الشيء عن كتاب ليلى المريضة في العراق، نعم بعض الشيء فإن الدكتور الفاضل قد نشر صدراً منه في الرسالة، ثم أمسك على بقية الحديث، وطوى جوانحه على ما بقي من الشؤون والشجون.
ولقد يبدو هذا الكتاب هيناً في تقدير بعض الناس، على حين تجد بعضهم يمجده حتى ليرتفع به عالياً عالياً. . . إلى السماء، ولا غرو في ذلك، فقديماً كان كتاب (كيلة ودمنة) لمن يقف عند الظاهر ملهاة وتسلية، ولعلم موعظة وحكمة، وللأديب جمال وجلال. وكذلك كتاب صديقنا الدكتور، فهو في ظاهره شيء، وهو في دلالته ومغزاه أشياء. . . ثم هو في التقدير الصحيح صورة لما في الإنسان من عواطف الخير والشر، وما يصطرع في عالم الناس ودنيا الأدباء من الحلم والجهل، والرشد والغي، والهدى والضلال.
إنها آفاق من المعاني يتحاماها كتاب العصر الحديث، ولقد أراد الدكتور زكي مبارك أن يكفر عن سيئات أولئك الكتاب فيتحمل المشاق في ارتياد تلك المجاهيل، يقول الدكتور: (ولقد اقتحمت تلك الآفاق بلا زاد ولا ماء، وأنا أعرف أني أعرض سمعتي للأقاويل والأراجيف، لأن الناس عندنا لا يفهمون كيف يدخل الطبيب على نفسه ليشرح على حسابها أهواء النفوس والقلوب والعقول.
اقتحمت تلك المهلك وليس لي إلا سناد واحد هو الشعور بأني أؤدي خدمة للأدب والطب!! وهل كنت أملك الفرار من الصنع الذي صنعت).
وصدقني أيها القارئ أن الدكتور ما كان يلك هذا الفرار ولو استطاع ذك لنكص على عقبيه وكان بذلك من القاعدين الغانمين، ولكنه رجل ابتلاه الله بالصراحة والصدق، فهو لا يدين بمذهب (النفعية) في شيء، ولو استطاع زكي مبارك - كما يقول أستاذنا الزيات - أن يتملق الظروف، ويصانع السلطان، ويحذق شيئاً من فن الحياة في المواربة والمداورة،(338/76)
لاتقى كثيراً مما جرته عليه بداوة الطبع، وجفاوة الصراحة.
ولكن أيفلت مني الدكتور فلا أمسكه بشيء؟ كلا! فأنا أحب أن أسأله عن ذلك التكرار، وتلك الكركرة (الطهوية) إذ يقول: من الذي يستطيع أن يتعقب حركات العقول والأهواء في القاهرة؟ من الذي يستطيع أن يحاور في الصباح والمساء رجال الصحف الصباحية والمسائية؟ من الذي يتسع وقته لمسامرة الصحفيين القاهريين بعد نصف الليل؟ من الذي يستطيع أن يسجل حركات القاهريين قبل الشروق؟ من الذي يفهم أن أهل القاهرة يموتون قبل الأوان بسبب الإفراط في الكدح والكفاح! من الذي يصدق أن من أهل القاهرة من يملأ الدنيا بالنشط والحركة وفي جوفه خمسون علة؟ من الذي يصدق أن في القاهرة ألف خطيب في فصاحة سحبان، من الذي يصدق أن الأمان ذهب من القاهرة بسبب الإفراط في المنافسة والنضال؟ من الذي يصدق أن زكي مبارك سيؤلف كتاباً في مثالب زكي مبارك؟
أما أنا يا دكتور فذوقي لا يحتمل كل هذه (المنمنة)، وأنا أسألك ولا أريد الجواب، فإني أعلم أن أزمة الورق ستردك إلى ما كنت عليه من الإيجاز في التعبير، والقصد في البيان!
م. ف. ع(338/77)
العدد 339 - بتاريخ: 01 - 01 - 1940(/)
الرسالة في عامها الثامن
في صباح هذا اليوم يستقبل الناس عامهم الجديد وهو يبرز من حجاب الغيب بروز الجنين من كمام الحياة لا تدل معارف وجهه على خير ولا شر؛ وتستقبل الرسالة معهم عامها الثامن وهو يبصر في ظلام الغد بصيص الأمل في حواشي اليأس لا يُخلد إليه ألا ريب الحذر بعرف ولا نكر. وفي مساء البارحة شيع الناس سنتهم الفارطة وهي ترزح بالحوادث الحسام، وتسفح بالدماء الحرام، وتنذر بالقارعة العامة؛ وشيعت الرسالة معهم سنتها السابعة وعليها سمات وندوب من جهاد الرأي ونضال العيش وعنت الخصومة. وبين الساعة التي نشيع فيها العام الفقيد، والساعة التي نستقبل فيها العام الوليد، يرتسم الحد الفاصل بين ذكرى وأمل، وبين ماض ومقبل، وبين مرحلة ومرحلة من طريق الحياة الطويل الغليظ المبهم. وما يوم الناس إلا ذكراهم للأمس ورجاؤهم في الغد. وما حاضرهم إلا التحسر على الماضي والتخوف من المستقبل. وما عيدهم بين سنة وسنة إلا وقفة استجمام بين سُرىً ملغب أمنوا ضلاله وعلِموا صباحه، وبين سير مجهد يخشون أهواله ويجهلون ليله!
الدنيا حرب دائمة بين الحياة والموت والصلاح والفساد والخير والشر؛ ولكن هذه الحرب الخفية قد أصبحت لضرورتها ولزومها جزءا من نظام الوجود إن لم تكن هي ذلك النظام نفسه. ومن أجل ذلك ألفناها إلفنا قوانين الطبيعة فلا نتبرم بها ولا نضيق. فأنا ونفسي، ومنفعتي ومنفعتك، ورأيك ورأيه، ورغبتها ورغبته، في حرب مشبوبة لا تنطفئ، وعداوة منصوبة لا تنكسر. والحياة مع هذا الصراع المستمر زاخرة، والكون مع هذا الدمار الشامل قائم. ولكن الحرب التي تشنها أمة على أمم فتزلزل الأرض بالقذائف، وتشق السماء بالرصاص، وتخسف البحر بالألغام، وتهلك الحي بالهم والسم والنار والقحط، مثلها كمثل الزلزال والطوفان والزوبعة، لا يتسق معها نظام، ولا يتصل بها عيش، ولا يستقيم عليها أمر؛ ثم لا يميز شياطينها المجرمة المحطمة الهوجاء الضار من النافع، ولا المذنب من البريء.
من الجائز أن تنجو الرسالة من حزب الهوى والخصومة والمنافسة. فإن الحرب في تنازع البقاء هي السلم، والثورة لبقاء الأصلح هي النظام؛ والسلاح الذي لا يخذل في هذه الحرب هو الصدق والصبر والإيمان والمثابرة، وكلها في مقدور المجاهد الصالح. ولكن من المستحيل أن تسلم الرسالة من شر هذه الحرب الهتلرية الطاحنة؛ فإنها على ضراوتها بكل(339/1)
شر وإضرارها بكل شيء، كانت أقسى ما تكون على الصحافة: قطعت عنها الوارد من الورق والحبر وأدوات الطباعة، فنقصت في الكيف والكم، بقدر ما زادت في النفقة والهم. وقطعت عليها السبيل إلى الأقطار الأخرى بصعوبة النقل وشدة المراقبة وضيق المعاملة، فتعذر وصولها إلى البلاد المحاربة، وقل انتشارها في الأقطار البعيدة. وشُغِل الناس بأخبار الحرب وأفكارها وأوزارها وأطوارها وأزمتها ونتيجتها عن النظر في الأدب اللباب والفن الخالص، فلم يقرءوا إلا ما يتصل من قريب أو بعيد بهذه القيامة القائمة
كان من شر هذه الحرب على الرسالة أن كابدت ما كابد غيرها من صحف العالم أزمة الورق، فاضطرت إلى أن تنقص حجمها بعض النقص، وتقتصد في زينتها بعض الاقتصاد. ورأت أن تضمن لنفسها استمرار الحياة في هذا الدهر العصيب فطوت (الرواية) في أحشائها إلى حين ليتوفر لها ما كانت تنفقه أختها من الورق وتهلكه من المادة. وكل ذلك في رأينا ورأي القارئ الصديق أهون من التهور في الهجوم القاتل، أو التعرض للأشر المعطل
على أن هذه الحرب كربة ستنجلي وأزمة ستنفرج. ثم يعود كل شيء إلى خير مما كان وأحسن. ولئن ظهر أثر هذه الحرب الضروس على سمت الرسالة وحليتها، فمعاذ الّله أن يمتد ذلك إلى تحريرها وخطتها؛ فإن التأثير الخارجي لا يتجاوز الخارج ولا يتعدى الشكل؛ وأما التأثير الداخلي الذي يمس الموضوع والجوهر والكنه فهو انبثاق الإيمان والفن من قلب الكاتب، وانتشار الاطمئنان والثقة من روح القارئ! وهيهات أن يعتور هذين المؤثرين فتور أو قصور أو وهن. وبين الرسالة وقرائها ولله الحمد ألفة وثقة وتعاون؛ ولولا ذلك ما ثبتت هذه الصحيفة الضعيفة على عرك الخطوب وكيد المطامع. ونحن لا نزال نأنس في أسرة الرسالة الكفاية والقدرة على إرضاء القارئ في كل جهات عقله وقلبه إذا استمر يوليها الثقة والمعونة. وسيرى أن الرسالة من غير أن تقطع وعداً أو تجدد عهداً تسير في طريق الكمال بقدم ثابتة وخطى متزنة، فلا تعسف لتضل، ولا تسرع لتكل، ولا تجازف لتنقطع. والرسالة في أناتها وثباتها لا تخرج عن سنن الطبيعة؛ فهي مظهر لرقي الأمة العربية في الفكر والخيال والشعور؛ وهذه المواهب لا ترقي في الفرد والأمة إلا بمقدار
صديقي القارئ، تعودت في مثل هذا اليوم من كل عام أن أستريح إليك بذكر ما لقيت(339/2)
الرسالة في طريقها الجاهد من أشواك وأشراك؛ ولكنني أخذت أستحلي الصَّاب في سبيل المبدأ، وأستعذب في بلوغ الفوز، وأستبقي لنفسي لذة الصبر وثواب الألم. ولئن شكوت لأشكون إلى الله أن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فلم يعودوا يدركون معنى الجميل؛ وأن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل؛ وأن زعماءنا تفرقت بهم السبل بتفرق الغايات، فلكل غاية دعوة ولكل دعوة سبيل.
(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين) صدق الله العظيم.
أحمد حسن الزيات(339/3)
الإنسان والحيوان والحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
غير قليل ما يمكن أن يقال في الإنسان والحيوان والحرب، فإن الحرب تفتح المسارب بين الإنسانية والحيوانية على المصراعين بل على شتى المصاريع. وقد تفتح ما بين الإنسان وبين عالم البطولة والملأ الأعلى كذاك.
ففي وسعنا أن نزيد مقالاً آخر لأصدقائنا القراء الذين استزادونا من الكتابة في هذا الموضوع، وما أحفله بالحقائق والمشاهدات، وما أوسع منادح القول فيه.
الإنسان يتهم الحيوان بعدوى الحرب، ويزعم الحربيون من الأناسي أنها آفة لا معدي عنها ولا دواء لها، مذ كانت وراثة الطبع الحيواني حيث كان، مبتدئاً من الجراثيم ومنتهياً إلى الحيوان وفريق من بنى آدم يبرئون الحيوان من هذه التهمة ويحصرون آفة الحرب في أبناء آدم دون سائر الأحياء.
أمنصفون هم لذرية آدم؟ أصادقون هم في تبرئة الحيوان؟ بعض الإنصاف وبعض الصدق لا مراء.
فهم يسألون: أين الحيوان الذي يحشد الأسراب والقطعان لقتال سرب أو قطيع من جنسه؟ بل أين هو الوحش الذي يجمع أبناء جنسه لقتال جنس آخر من الوحش في الغاب أو في العراء؟ والحق أنهم في هذا السؤال محرجون، فالحرب كما نعلمها في ميادينها البشرية إنما هي خاصة من خواص أبناء آدم: هم دون غيرهم من الخلائق الحية يجمعون بعضهم لقتال بعض، ويخرجون على نية القتال حيث لا يقاتل حيوان وهو يعلم أو ينوي أن يقدم على قتال.
فالحرب ولا جدال إنسانية مقصورة على أبناء آدم، وإن كان العراك قسطاً مشتركاً بين جميع الأحياء.
وآخرون من الأناسيّ الحربيين يزعمون أن الحرب لا تزول لأن الطبيعة لا تتبدل. . . فما كان في النفس قبل آلاف السنين سيبقى في النفس بعد آلاف السنين!!
أصحيح ما يزعمون؟
صحيح بعض الصحة، لأن رأياً من لآراء لن يكون صحيحاً كل الصحة في جميع(339/4)
الأحوال.
صحيح، والشاهد من عالم الحيوان الذي يحتجون به في استدامة البغضاء والشكاسة والقتل والقتال.
فأين كلب اليوم من أجداده بين الذئاب وأبناء الذئاب وأبناء آوى ووحشي الكلاب؟
كلب اليوم يحرس الحملان والأطفال، ويموت في سبيل الود والولاء. . .
وكلاب الأمس كانوا أخطر شيء على الحملان والأطفال، وأجهل خلق بالمودة والولاء.
فإذا جاز أن ينتقل الكلب هذا الانتقال وليست له حضارة ولا علوم ولا فلسفة ولا حالة عليا يصير إليها من حالته السفلى. . .
ألا يجوز أن ينتقل الإنسان مثله أو مرحلة أوسع من مرحلته، وهو يعبر المسافة بين الجهل الهمج وثقافة المهذبين؟
وللحيوان أنصار كثيرون بين أبناء آدم، أعجب ما في أمرهم أنهم أرفع الآدميين خلقاً وأبعدهم من الحيوانية شقة وأوفرهم من التقدم نصيباً، فهم - من بعض الوجوه - أحق بالانحناء على الحيوان من أولئك الذين يتعقبونه بالانحناء والتنديد، وهم أقرب الناس إليه!
أنصار الحيوان هؤلاء يكتبون العجب هذه الأيام في الذود عنه والرجعة بسيئاته إلى أصحابه من الآدميين. وقلما تخلو كتاباتهم من ظرف وفكاهة. . . أما العلم والإدراك فهما ماثلان أبداً فيما يطرقون من هذه البحوث.
لاحظ بعض العلماء المتفرغين للبحوث النفسية والحيوانية من الإنجليز أن الشجار قد ازداد بين الكلاب بعد نشوب الحرب الحاضرة، فبلغ عدد الكلاب العضوضة التي عالجتها مصحات الشرطة في لندن خلال شهر أكتوبر الماضي أربعمائة وعشرة، ولم يتجاوز في الشهر الذي قبله مائة وثمانية وتسعين!
أكثر من الضعف في الشهر التالي لنشوب القتال. . . فما تعليل ذلك؟
يقول مستر جونت خبير هذه المصحات: إنها عدوى الإنسان!!
فالكلاب، كما يقول: (مرهفة الحس بما يخالج نفوس أصحابها، تضيق صدراً إذا مَلكت صاحبها الحالة التي نسميها بالعصبية الحربية. وأنت إذا غضبت يوماً من قراءة أخبار الغارات الجوية خرج كلبك متحفزاً للوثوب على أول كلب يراه، ولا يعلم في أي شئ(339/5)
يقاتل، وليس لديه ما يسميه الساسة: أغراض حرب أو شروط سلام؛ وحسبه أن صاحبه ثائر، فهو مثله يثور!)
ثم يقول الأستاذ جونت: (ويجوز أن يرجع هذا المزاج الكدر في كلاب العاصمة إلى قلة الرياضة لكثرة الوقايات الهوائية وضرورة المكث الطويل في البيوت، أو لسفر أصحاب الكلاب إلى الريف، ولكن السر الأكبر ولا ريب، إنما هو تلك النزعة القتالية التي تسري إليها من عشرائها الآدميين).
أرأيتم إذن؟
إنه الإنسان الذي يلقح الحيوان بلقاح الحرب والعدوان، وليس الحيوان بالأستاذ السابق له في هذا الميدان.
والمسألة بعدُ واضحة من غير حاجة إلى هذه الدراسات الحديثة وإن كانت هذه الدراسات مضيفة في الغد بعض المعرفة الجديدة بالطبائع والأخلاق.
فواضح قبل هذه الدراسات أن الإنسان يستعين بالحيوان في حروبه، ولم يحدث قط أن حيواناً استعان بإنسان في افتراس ضحاياه واغتيال أعدائه.
ومن قديم الزمن يستعين الإنسان بالحصان والكلب كلما وقع في نزاع بينه وبين أبناء جنسه، وأقل من ذلك عذراً أنه يستعين بالحمامة وهي رمز السلام والسلامة في تبليغ أوامر الفتك والهجوم. فقد يعذر المستعين بالحصان والكلب على أغراض الحرب لأنهما كانا عصراً من العصور الغابرة معدودين في حساب الوحوش. . . أما الحمامة فما عذر من يقحمها هذا المقحم المخيف، وهي في غير ما قاله المعري عنها:
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت ... في الصالحات كظلم الصقر والباز
لا تتعرض لاتهام!
ومضى الناس في الحرب الحاضرة على سنة آبائهم من قديم الزمن، فلم يعتقوا الحصان بعد كل ما كشفوه من الآلات والمركبات. ولا يزال رجال من قادة الحرب يقولون إن له لدوراً لا يغنى فيه غناءه شيء ولا يلحقه فيه اختراع.
ولم يعتقوا الكلب بعد اختراعهم من أدوات التجسس والاستنشاء ما يرغم أنوف الكلاب، بل ضاعفوا الحرص عليها وصدرت أوامر الحكومة الروسية بتحريم خروجها من أرضها إلا(339/6)
أن تكون معها شهادة إعفاء تثبت إنها (غير صالحة للخدمة العسكرية!)
والجديد فيما سمعنا به من مخترعات الحرب الحاضرة أنهم استخدموا الخنازير في بعض الجزر ببحر الشمال للتنبيه إلى الغارات الجوية، فإذا هبطت الطيارة المغيرة إلى الأرض على غرة من الرقباء صرخت الخنازير صرخة معلومة فتنبه الحراس إلى مكان الغارة.
كان الخنزير متهماً بالخبث قبل اليوم في غير برهان
أما اليوم فيحق لمن يقع في شراكه أن يقول مقال الغيظ أو مقال الاعتراف: ياله من خنزير!
ولكن في الحرب براً من الإنسان بالحيوان وليست كلها شراً في شر وعدواناً على عدوان
فإذا قلب الناس غداً صفحات الحروب الناصعة فسيجدون بينها صفحة من أنصع صفحاتها في هذه الحرب الحاضرة: تلك هي المصلحة التي أنشئت خصيصاً بالجزر البريطانية لوقاية الحيوانات أثناء الغارات الجوية. فأعدت الحكومة مئات الألوف من الصفائح التي تنقش عليها مواطن تلك الحيوانات وأسماء أصحابها وعنواناتهم للدلالة عليها وردها إلى مواطنها كلما شردت من الذعر إلى مكان بعيد عنها، وندبت الحكومة ألوفاً من متطوعيها للطواف على البيوت والحقول ابتغاء تسجيل ما فيها من فصائل الحيوانات المختلفة وتزيدها بالعلامات الدالة عليها. وأقامت ملاجئ للإسعاف متفرقة هنا وهناك لإيواء ما يحتاج إلى العلاج والإنقاذ من الحيوانات المصابة أثناء الغارات، ودبرت الأمر للعناية بالآدميين.
صفحة ناصعة في التاريخ الحديث، وحيوان من يجهل أنها مكسب روحي للإنسان قبل أن تكون مكسباً جسدياً للحيوان المصاب، حتى لو كان باعث التدبير فيها مقروناً بباعث العطف والإشفاق.
عباس محمود العقاد(339/7)
فن كتابة القصة
للأستاذ محمود تيمور بك
يجمل بي قبل الشروع في الموضوع أن أشيرَ إلى أن الكتابةَ القصصية يجب أن يتوافرَ فيها ركنان: الأولُ: الموهِبة، والآخر: جريُ القصة على قواعدَ وأساليبَ متعارَفة. شأنها في ذلك شأنُ الشعر، لابد من توافر ركنين فيه: الشاعرِية، وصحةِ النظم
ومما لا جدالَ فيه أننا قد نجد الشاعر الموهوب، أعنى من يَلْهم المعانيَ الشعرية، فيفيض بها وجدانه من غير تعمّل، فإذا حاول النظمَ لم تستقم له الأبيات، لقلة بِضاعته من قواعد العَروض، وحداثة عهده بصوغ الشعر. ومثلُ هذا لا يُعد شاعراً تاماً حتى يُكمل ما نقصه بالتعّلم والمرانة
وكذلك الشأن في القاصِّ، فقد نجد من أوتى الموهبة، أعنى الذي يُلهم فكرةً أو موضوعاً قصصياً له قيمة؛ ولكنه ناقصُ القدرة على معالجة موضوعه أو فكرته بالأساليب المقبولة عند أهل الفن في نَسْق القصة. وفي مثل هذه الحالة لا يسعنا أن نعتبر ذلك الموهوبَ قاصّاً مكتملَ النضج
وإذن يجب أن يتوافر للقاص الكامل هذان الركنان معاً؛ فأما الأول، وهو الموهبةُ، ومَعِينها الخيالُ المنسرح، والذهنُ المتوقد، والعاطفةُ المشبوبة، فلا كلام لأحد فيه، إذا هو شئ طبيعي، فإن وُجد في الكاتب تهيأ ليكون قاصّاً في المرحلة الأولى. وأما الركن الآخر، وهو الاستئناس بالأساليب المتعارفة، فذلك الذي نخصه بالكلام، لأنه صناعة، مرجعُ الأمر في امتلاك ناصيتها للتمرين والاكتساب
وقد يتوهم البعض - ونحن نذكر القواعد التي يجب على الكاتب القصصي مراعاتها - أننا إنما نطغى على حقه في اتخاذ طريقة خاصة تلائم هواه، ونحدُّ من حريته في اتباع المذهب الذي يراه. والواقع الذي لا يمكن التغافل عنه أن هناك قوانينَ عامةً مرعية الجانب في التأليف القصصي، على اختلاف المذاهب والأهواء، وأنه إذا خلت القصة من مطابقة هذه القوانين العامة، شعرَ الناقد لأول وهلة بأن هنا اختلالاً ظاهراً، وأن هنا شيئاً يجب أن يُبدَل به شيء، لا دَخْل في ذلك للطريقة الخاصة، ولا للمذهب الخاص
وهل ينكر أحد أن كل شأن في الحياة يسير - في جوهره ولُبابه - وفَق نظام وقانون؟ تلكم(339/8)
هي السيارة، فربما اختلفت أصنافها وأشكالها وعُددها أيّما اختلاف؛ بيد أنها - مع هذا كله - يجب أن تكتمل فيها أدوات عامة مشتركة، إذا فقدت واحدة منها تعطلت السيارة على الفور. وما القصة إلا عمل فنّي من نتاج الفكر، يسير كأمثاله من الأعمال الفكرية على نظام دقيق، خاضع للناموس العام المعترف به في جميع ألوان الأدب
كذلك قد يعترض علينا معترض فيما نلزم الأخذ به من هذه الأصول والقوانين، فيرى أن الفنان العبقريّ يصدر عنه العمل الفنيّ المشهود له دون تعلم ودراسة، ودون تدّرج وتدريب. وجواب ذلك أن كبار الفنانين العباقرة، إنما يفهمون هذه الأصول والقوانين بالفطرة الفذّة، ويهتدون إليها بالسليقة النيرة؛ فهم يخرجون أعمالهم الفنية بوحي من قرائحهم الممتازة التي يكمن فيها النبوغ. وليس أدلَّ على ذلك من أننا لو سألنا أحدهم عما صنعه في تأليف هذه القطعة أو تلك، وماذا لاحظ، لم يُحرْ جواباً. لأن ما أنتجه صدر عن غير وعي منه
وقصارى ما نقرره، أن هذه الأصول والقواعد التي نلخصها في العُجالة التالية، ليست إلا أقيسةً وموازين استخلصت لتكون أساساً تُبنى عليه الأحكام في تقدير القصص الفني؛ فأن حرمت أن تكون عادلة كل العدل، لم تحرَمْ أن تكون أدنى إلى الصدق وأحق بالاعتبار
ثم إن هذه الأصول والقواعد، تبِّصر القَصصي إلى حد ما بصناعة الكتابة في هذا النوع من الأدب، وترشده إلى الخطوط الرئيسية في القصة، وتَقِفُه على المميزات الأولى بين الخطأ والصواب في النسق. وما أشبهها في هذه الحالة بعلم البيان والمعاني والبديع، فعلى الرغم من أن الكلمة الأولى والأخيرة في البلاغة للذوق السليم، وخضوع الكلام لمقتضى الحال - وضع العلماء قواعد وأصولاً تتوضح بها أركان البلاغات، فقالوا: هذه كلمة فصيحة، وهذه جملة بليغة، لتُميُّزها بكيتَ وكيتَ، وخلوِّها من كذا وكذا. ومعلوم أن هذه القواعد لم توضع أولاً، ثم طلب من الكتاب والمنشئين أن يَجْروا عليها؛ وإنما كانت هذه القواعد نتائج مستخلصة من أمثلة بليغة، أقر أهل البلاغة بسموها، واتفقوا على جودتها، فاستخرجوا منها الأسباب التي رفعتها إلى هذه الدرجة، وسرعان ما تحولت هذه الأسباب إلى قواعد.
وذلك هو صنيعنا نحن الآن في القواعد والأصول التي نعالج بسطها، ونقول إن القصة(339/9)
الجيدة تتميز بها
وأَمَا وقد بدأنا نمسّ جوهرَ موضوعنا، فلنتذكر أولاً أن القصة هي عرضٌ لفكرة مرت بخاطر الكاتب. أو تسجيلٌ لصورة تأثرت بها مخِّيلَته، أو بسطٌ لعاطفة اختلجت في صدره فأراد أن يعبر عنها بالكلام، ليصل بها إلى أذهان القراء، محاولاً أن يكون أثرُها في نفوسهم مثل أثرها في نفسه، وهي تتألف عادة من ثلاثة عناصِرَ رئيسية، هي: الموضوع، والشخصيات، والحوار. وهذا العنصر الثالث ليس من المقوِّمات المحتومة دائماً، ولكنه لازم في أغلب الأحيان. فتبدأ القصة بالتمهيد للفكرة، ثم تتطرق إلى ظهور العقدة، ثم تتوصل إلى حل هذه العقدة أو ما يشبه الحل، وهذا هو الهيكل المألوف في بناء القصة على وجه عام.
فمن القواعد في كتابة القصة، ما نذكره فيما يلي:
أولاً: أن تكون للقصة وَحدةٌ فنية. وبهذه الوحدة تتوافر فنية القصة. وما الوحدة الفنية إلا أن يجعل الكاتب همه مقصوراً على إبراز الفكرة الأساسية، مجتنباً جُهدَ الطاقة أن يتطرقَ إلى أفاق أخرى. وإيضاحُ ذلك أن يُراعِىَ الكاتب حصر عمله في جوهر الموضوع، خالصاً من طغيان الزخرف، فلا تَطمسُ التفاصيل الثانوية ذلك الجوهرَ الجدير بالعناية والإيثار. والقدرةُ الكتابية تظهر في التملك لزمام الصميم من الموضوع، كالفارس القابض على زمام جواده لا يدعه يجمحُ به ما طاب له الجموح.
فواجب إذن أن يُخضعَ الكاتب جراِت قلمه لموضوعه، ولا يدع الموضوع خاضعاً لقلمه يجرّه حيث شاء. فإن استطاع أن يخلص لموضوعه هذا الإخلاص ظهرت أفكار القصة متعاشقة، وخرجت القصة بنياناً متراصاً لا حجر فيه لغير معنى.
ثانياً: أن يُراعى في عرض الموضوع جانب التلميح ما أمكن وأن يُحذَرَ جانب التصريح. فلا يشرحُ الكاتب الموضوع ويحلل الشخصيات في شكل مهلهل، بحيث لا يترك شيئاً لفطنة القارئ وذكائه. فإذا لم يعن الكاتب بهذا الجانب كان مُتهماً قارئه بالغفلة وجمود الذهن إذ يوضح له ما ليس بحاجة إلى توضيح؛ وإذن تخرج القصة مكشوفة لا يجد فيها قارئها لذة التعرف بنفسه ولا يشعر بشوق إلى ما يجئ منها بعد. فلا بد أن يدع الكاتب للقارئ فرجة يستطيع بها أن ينتهي إلى التصريح من التلميح، وأن يُشيدَ الكبير من الصغير، وأن(339/10)
يشقِ بمخيلتهِ - فيما يقرأ - آفاقاً من التصور والتفكير. وكما أننا نشير بضرورة أخذ الكاتب بالتلميح، نشير كذلك بألا يجنح إلى الإغراق فيه، مخافة التورط في الغموض والإبهام، فيضل القارئ في فَيافٍ لا يقر له فيها قرار
ثالثاً: أن يعني الكاتب برسم شخصياته، وأن يجعلها تصدر في أقوالها وأعمالها من منطق الحياة التي أراد لها المؤلف أن تعيشها بواعيتها الظاهرة، وواعيتها الخفية أيضاً؛ حتى إذا مضى القارئ في تفهم هذه الشخصيات، وتصور ما يقع من أمثالها، لم يجد نفسه مصطدماً بشيءٍ غيرِ مألوف يأباه المنطق أو الذوق. وما أجدر أن يلقيَ الكاتب كلَّ باله إلى هذا الجانب من البراعة في التحليل النفسي، فإنه يتوقف عليه شطر عظيم من فنية القصة.
رابعاً: ألا تكون الشخصيات بوقاً ينقل ما يلقى إليه المؤلف من الكلام، فيكون المتكلم هو المؤلف نفسه على لسان هذه الشخصيات الببغاوية. والواجب أن يكون للشخصيات كيانها المستقل، وأن تكون حية في حركاتها وسكناتها، وأن يُحس القارئ من أعمالها حرارة هذه الحياة، ويتعرف من فِعالها ما تتميز به من شمائل وحقائق. فلا تتكلم هذه الشخصيات إلا بالأسلوب الطبيعي الذي يلائم نفسيتها، ولا تعمل إلا وفق الحوادث على منهجها المرسوم لها. وبناء على هذه القاعدة، لا يجوز أن يدلنا الكاتب على شخصية بائسة، بأن يجعلها تقول: أنا بائسة. ولكن يعالج أن تُفصح الحوادث نفسها عن بؤس هذه الشخصية. وهذا إلا إذا كان الموقف بطبيعته يستدعي أن تتكلم الشخصية بلسانها، لتفصح عن حالها
خامساً: حتم أن يكون لكل قصة معنى، وإلا كانت القصة لغواً لا جدوى له. والقاص - ككل فنان آخر - مصور للحياة في مختلف ألوانها، مترجم عما يعتلج في رأسه وما يجيش في صدره من معان ومشاعر؛ فهو إذا كتب فإنما يكتب لتصوير هذه المعاني وإيضاح هذه المشاعر. ويصح أن نشير في هذا الصدد إلى أن معاني القاص في الغالب، إما مستمدة من الواقع الذي هو ملء مسموعه ومشهوده، وما هو في نطاق الجو المحليّ الذي يعيش فيه. وإما أن تكون هذه المعاني مستخرجة من صميم النفس البشري، تلك النفس الثابتة بميولها، الخالدة بغرائزها. إلا أن المجد الأدبي لا يكون من نصيب القصة التي يحذق كاتبها رد أصولها ومعانيها إلى أوصال الإنسانية الباقية بتلك الميول والغرائز. فرغبتنا إلى القصاص ألا يعنوا كثيراً بالموضوعات العابرة التي تتغير معالمها بتغير الزمان، وللناس حولها في(339/11)
كل يوم شعور خاص، وحل خاص؛ فإنه إذا تبدل الوقت أصبحت هذه الموضوعات نسياً منسياً، وذهبت قيمتها الاجتماعية والمحلية
سادساً: يجب ألا تكون الفكرة التي يعالجها الكاتب في قصصه مصوغة في قالب موعظة أو حكمة، وألا يظهر فيها تحبيذ شيء أو النهي عن شيء. بل يجب أن تكون الحكمة أو الموعظة مطوية في غضون الحوادث، خالصة إلى القارئ دون معونة ظاهرة من المؤلف؛ وأن يكون التحبيذ أو النهي كامناً في أعطاف السرد، غير ملموس بالكلام المكشوف.
وذلك هو الفرق بين القصة والمقالة، فالقصة ليست منبراً للخطابة وإلقاء المواعظ، بل هي معرض للتصوير والتحليل، يوحي برموزه وظلاله وإشاراته إلى القارئ بالغرض الذي رمى إليه الكاتب القصصي.
سابعاً: يحسن ألا تخلو القصة من عنصر التشويق، وأعني به أن تستحوذ على القارئ في أثناء قراءته نشوة وروعة تدفعانه إلى متابعة القراءة في نشاط وانتباه. ونلفت النظر إلى أننا لا نبغي بعنصر التشويق أن ينقلب الكاتب مهرِّجاً يفتعل الحوادث افتعالا ليصل إلى هذا الغرض، حاسباً أن ذلك هو الذي يبعث الشوق، فإنه حينئذ يقع في أشياء سخيفة مفضوحة يبدو عليها التكلف والاجتلاب. فلابد من الحذق واليقظة في هذه الناحية بحيث يكون فن الكاتب قادراً على أن يجعل مظاهر التشويق جزءاً طبيعياً من سياق القصة، فإنه بذلك يضمن انتباه القارئ ونشاطه، ويوفر له وسائل اللذة والاستمتاع.
ثامناً: ما يجب أن يجري عليه الكاتب في تحري قصته من وجهة اللغة. ونقدم لذلك بأن اللغة العربية في ذاتها لغة موسيقية، لألفاظها وأساليبها رنين وإيقاع. وقد أرف كتاب العصور المتأخرة في استغلال هذه الموسيقية بالمغالاة في الاستعارة، والإكثار من الترادف، والتزام السجع والطباق وما إليه. فبلغت الصناعة اللفظية مبلغاً كان فيه القالب أكبر من المعنى وأوسع مجالاً. ثم جاء العصر الحديث يزخر بموضوعاته العلمية، وبحوثه الاجتماعية والفنية، مما لا يحتمل البرشقة والزخرف. فأريدت اللغة على أن تكون القوالب على قدود المعاني، في غير إهمال لما تقتضيه خصائص اللغة من الموسيقية الأخاذة. فيجب أن يُعنى الكاتب إذن بلغة قصته، فلا يبالغ في التحاسين البيانية من نحو الاستعارة والتشبيه والترادف، بل يجعل الألفاظ على أقدار المعاني جهد المستطاع. ولا ينسينا هذا أن(339/12)
بلاغة الكتابة تكون بمراعاة المقام، فالإطناب مستحب في مواقف الإطناب، والإيجاز مطلوب في مواقف الإيجاز. بيد أن هناك شيئاً تجب مراعاته على كل حال، وهو تجنب الأسلوب المبتذل، ونعنى بالابتذال في الأسلوب استعمال الألفاظ الشائعة شيوعاً يفقدها الرونق والرواء، والوقوف عند التراكيب الركيكة التي لا تستبين بها قدرة اللغة على التصرف في الأداء والتعبير. وإذا كان على القصصي أن يعرف للمعنى حدوده في الأداء، فإنه باعتباره أديباً عليه أن يتخير اللفظ الرشيق والتركيب الشريف.
وبعد فليست هذه كل القواعد التي يجب أن تبنى عليها القصة. وإنما هي معالم رئيسية اجتهدنا في استخراجها، ونرى وجوب اكتمالها في القصص الفني.
ونختم كلمتنا مصرحين بأن هذه القواعد نفسها لا تهدي القاص الناشئ، قدر ما يهديه اكتسابه للملكة التي يستفيدها من موفور إطلاعه على الآثار الفنية المعترف بها، وحسن تفطُّنه إلى ما فيها من أسرار الجودة والإبداع.
محمود تيمور(339/13)
نميمة الأسلوب
(لكاتب من الكتاب)
(ينم عليه أسلوبه)
كنت أرسلت إلى مجلة الرسالة كلمة أُحاور بها قلبي، ولم أُذليها باسمي الصريح، وإنما اكتفيت بالإشارة إلى أني (كاتب من الكتاب) فرأيت صاحب (الرسالة) يضيف إلى هذا الرمز عبارة (ينم أسلوبه عليه)
فهل كُتِب عليّ أن أعيش فريسة النمائم فأنتقل من كرب إلى كرب إلى أن تدركني نميمة الأسلوب؟!
وأين المفر من مظالم النمائم إذا صح أني لن أنجو من نميمة قلمي؟. . .
إن الرجل لا ينمّ أسلوبه عليه إلا بعد أن يصبح (كاتباً من الكتاب) تُنصَب لرأيه الموازين، وأنا كاتب من الكتاب منذ أعوام طوال، فما الذي غنمتُ من براعة القلم ورشاقة الأسلوب؟
ما الذي غنمتُ وأنا أمتشق القلم منذ أكثر من خمس وعشرين سنة بعزيمة أقسى من الصخر وأصلب من الحديد؟
ماذا غنمت وقد كنت كاتباً وشاعراً قبل أن يولد فريق من الذين تؤذيني عندهم نميمةُ قلمي؟
وهل أستطيع أن أطمئن إلى أن قلمي سيشفع لي إن قلتُ إن صحبته أضرعتني وإني أحتاج إلى الراحة بضعة أسابيع؟
وهل للقلم دولة في هذه البلاد حتى نجعله وسيلةً إلى الراحة من بعض المتاعب؟
وكيف وما كانت متاعبي في دنياي إلا مكاره ساقها قلمي إلى قلبي؟
وهل يُراعي القراء ما نطوِّق به أعناقهم من ديون؟
لقد غنّيت أهل زماني أناشيد أيقظتُ بها في صدورهم من أحلام غافيات، وأحييت فيها ما في قلوبهم من مَوَات، فأين من يُسعدني بكلمة صدق أدفع بها عُدوان زماني، لأمضي على سجيتي في السجع والغناء، ولأضمن السلامة من نميمة الأسلوب؟
وأين في الدنيا كلها من يتوجع لمصير البلبل حين يسكته المرض أو الموت؟
احتجزني فلان في الطريق ساعة أو بعض الساعة وهو يحاورني في شؤون دقيقة من خصائص حيات الأدبية، فظننته - وهو من أهل الجاه - يحاول أن ينصفني من زماني. ثم(339/14)
عرفت - وا أسفاه! - أنه يجمع المصادر لمقال يكتبه عني يوم أموت!
وفلان الذي صرح ألف مرة بأني شعلة من اللهب المقدَّس هو نفسه فلان الذي يرى اليوم أن أدبي من أعظم ذنوبي، وأن من الواجب أن أتوب!
أتوب؟ أتوب؟
أنا أحب أن أتوب من صحبة القلم، ولكن أين السبيل إلى المتاب؟ وهل يمكن ترك الصديق بسهولة، أيها الناس
أعطوني شيئاً من قدرتكم على نسيان حقوق الأصدقاء، لأتناسى حقوق قلمي!
علِّموني كيف أغدر وكيف أخون، لأستطيع التمرد على عقلي وبياني!. . .
خذوني إليكم، أيها الساخرون من صولة العلم والحق، لأخلُص من صحبة العلم والحق!
خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسي جاذبية البؤس في صحبة قلي وكتابي!
لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكثرني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنَتْ أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبريق الذي أزغتم به فؤادي؟
أين؟ أين؟
أتذكر الآن كتاب لامرتين عن سِفر أيوب
فقد صْرح بأن الدنيا لو دُكتْ صروحها وذهب ما فيها من روائع الفنون والآداب ولم يبق غير سِفر أيوب، لكان كافياً في تسجيل ما تعاني الإنسانية من معاطب وحتوف.
وهل عانى أيوب في زمانه بعض ما عانيت في زماني؟
أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين!
وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني!
وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنّان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان.
وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات وخوفاً من نميمة الأسلوب!!!
وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟(339/15)
كان الدينار لعهد أيوب يُموِّن الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهد يهان فيه الرجل أن أكتفي بالدينار يوماً أو يومين، فمن يُسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟
وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف يشاء، وهي اليوم مقسمة تقسيماً يصدّ المجاهدين أعنف الصدود.
وكانت البحار لعهد أيوب مصادر خيرات، وهي اليوم مواقع ألغام ومسارب غواصات.
وكانت السماء لعهد أيوب مساقط غيث ومذاهب نسيم، وهي اليوم معارج طائرات ومصادر خطوب.
وكان النمام لعهد أيوب يؤلب عليه رجلاً أو رجلين أو بضعة رجال، لأن النمام لم يكن يملك غير سفاهة اللسان، أما النمام في هذا العهد فيستطيع أن يؤذيني بمقال في جريدة أو مجلة يقرأها ألوف أو ملايين، ويذهب شرها إلى من أعرف ومن أجهل في المشرق والمغرب.
وكان قوم أيوب يعدون بالألوف، أما قومي فيعدون بالملايين فبلواي بالخصومات أعرض من بلواه.
وكان لأيوب أعداء وأصدقاء، أما أنا، فلي أعداء وليس لي أصدقاء.
وكان أيوب نبياً تهابه الأرض وتؤيده السماء، أما أنا فكاتب من الكتاب تنفر منه الملائكة ويأتمر به الشياطين.
وصارت ثورة أيوب على بلاياه لحناً خالداً يُرتل في الكنائس والصوامع، أما ثورتي على زماني فستضاف إلى الأدب الحزين الذي لا يقام له ميزان.
ومع ذلك كان حزنه أهلاً للحمد، وصار حزني أهلاً للملام!
أيوب!
اسمع كلمتي، أيها الزميل في الأحزان!
إن النبوة عصمتْك من كيد الخاتلين والحاقدين، فلم نذق طعم الإيذاء في سبيل الحزن النبيل، والله الذي لم يولني شرف العصمة أولاني شرف إيذاء في سبيل الحزن النبيل.
فأين مكانك من مكاني، مع أني عبد مذنب وأنت نبيّ معصوم من الذنوب؟(339/16)
كانت المدائن لعهدك لا تملك من المصابيح ما يشغل بصرك عن نجوم السماء، أما المدائن لعهدي فتعرف المصابيح في النهار قبل أن تعرفها في الليل، ومع ذلك لم تشغل بصري عن نجوم السماء
وكانت الدنيا لعهدك لا تعرف الضجيج، فكانت تملك الخلوة إلى خواطر قلبك
والدنيا لعهدي كلها ضجيج وأزيز وهدير، وأنا مع ذلك أخلو إلى قلبي وأدرس ما فيه من عناصر الوسواس والأحلام والأضاليل
فأن لقيت ربك وفي يمينك كتاب النبوة فسألقي ربي وفي يميني كتاب المحنة بوطني وزماني
فيا نبي الله، كيف تسبقني إلى رحمة الله وأنا أفقر أتليها منك، وأن كنت أحق بها مني؟
أيوب!
أنت تألمت وتوجعت لأن الوباء كان أغتال إبلك وغَنَمك فكيف ألام على التألم والتوجع وقد أهلك الطاعون أصدقائي وأحبابي؟
أيوب!
هل تعرف أني أملك من العزاء ما لم تكن تملك؟
فلو أنك قرأت تاريخ المسيح كما قرأتُ لخّفت مصيبتك وهانت بلواك
المسيحُ، يا أيوب، قد اكتوى بنار حامية هي غدر الصديق.
وقد صارت قُبلة يهوذا مثلاً سائراً في التاريخ، فهل تعرف كيف تكون القبلة شارة الحتف، وهي في الأصل لغة القلب؟
وأنا قرأت من تاريخ محمد ما لم تقرأ، يا أيوب، فقد لقي كثيراً من كيد المنافقين من الأصدقاء
فهل تظن مع هذه الشواهد أنك أجدر مني بالصدارة بين البائسين واليائسين؟
أنت على ما عانيتَ لم تعرف خيانة الصاحب ولا غدر الصديق، ولم تشهد كيف تُعدُّ حسناتك سيئات، ولم تقاس نمائم الأصحاب ولا (وشاية الأسلوب) ولعل الله كان رعاك فلم تر شخصاً تحسن إليه ويسئ إليك
فكيف تسبقني إلى رحمة الله، يا أيوب؟(339/17)
خذ حظوظي كلها، يا أستاذي في الألم والوجيعة والحرمان، فأنا أحب أن أخرج من الدنيا بلا جزاء، لأستطيع القول بأني عانيت من البلاء ما لم يعان أيوب، عليه الصلوات!
وأنا مع هذا أعترف بأني ساعدت الزمان على نفسي، لأني تجاهلت أخلاق الزمان
وما الناس؟ وما الزمان؟
يكفي أن أصبح وأنا برغم الناس والزمان:
كاتب من الكتاب(339/18)
الأدب الفنلندي
للأستاذ صديق شيبوب
بينما تتجه أنظار العالم إلى فنلندة بمناسبة الحرب الغاشمة التي تخوض غمارها في جرأة وهدوء، جرى حادث أدبي نبه الأذهان إلى آداب هذه الأمة الباسلة، فقد فاز الأديب الفنلندي سيلانبا بجائزة نوبل التي يطمح إلى نيلها كبار الأدباء وعظماؤهم لأنها ذات خطر عالمي.
وقد كان هذا الحادث الأخير مفاجأة لجمهور الأدباء والمتأدبين في العالمين القديم والجديد، لأن الفكرة التي كانت شائعة عن الفنلنديين تتركز في ولعهم بالألعاب الرياضية وتفوقهم فيها، إذا كانوا يشتركون في الألعاب الأولمبية التي تقام في شتى بلدان العالم فيفوز لاعبوهم بأكثر من بطولة.
وقد رأينا - لهذه المناسبة - أن نلم بالأدب الفنلندي لبيان تاريخه ومناحيه.
ينطبع الأدب الفنلندي بطبيعة البلاد التي نشأ فيها وبأخلاق سكانها. وفنلندا قائمة في الشمال الأقصى من أوربا، ذات غابات كثيفة وبحيرات عديدة، شتاؤها طويل، وصيفها نهار دائم. يسكنها شعب قاسي طول تاريخه أهوال البرد والجوع والحروب، فأكتسب مما قاساه صلابة وقوة، ومن طول الشتاء ميلاً إلى الخيال والأحلام. فلا عجب إذا اختلف في طبيعته عن الشعوب اللاتينية وعن الشعوب الجرمانية التي يمت إليها في أصله، وإذا ظهر أدبه في شكل يلائم أحواله وبيئته.
إنه يبحث في الأدب والفنون عن وسائل للتعبير عما يجول في نفسه تختلف عن وسائل الأمم الأخرى. وقد تظهر هذه الوسائل غريبة عجيبة، أو على الأقل غير منتظرة لشعوب تعودت دقة التعبير ووضوحه، وهما من مميزات شعوب البحر الأبيض المتوسط.
والأمم الغربية قد تأثرت بثقافة فكرية وفلسفية واحدة، غير أن المناحي الثقافية اضطرت أن تتأقلم وفاقاً لطبيعة كل إقليم، فظهرت في شكل يوافق كل بلد، وبدت كأنها تختلف عما هي في البلاد الأخرى.
لذلك نجد الأدب الفنلندي يعبر عن أخلاق سكان هذا الإقليم وما تتميز به من رجولة بارزة، وخيال واسع ذي ميول إلى الكآبة والحزن، وسذاجة القلب والطبع، كما يعبر عن طبيعة البلاد القاسية فيظهر في أسلوبه كأنه قبس مستمد منها، فضلاً عن عناية أدبائه بوصف هذه(339/19)
الطبيعة وقواها وعناصرها
كان قدماء الفنلنديين يعيشون بين أحضان الطبيعة القاسية، فلا عجب إذا رأيناهم، في عصرهم الوثني، يؤلمون عناصرها ومظاهرها. وقد أستدل الباحثون من الأناشيد التي ترجع إلى ذلك العهد، على أنهم كانوا يصفون بالألوهية كل شجرة أو صخرة، ويعتقدون أن الغابات والبحيرات مأوى للآلهة. وسنعود إلى هذه الاعتقادات في معرض كلامنا عن ملحمة (كاليفالا)
وقد ظل الفنلنديون يدينون بالوثنية إلى القرن الثاني عشر، أي إلى أن بشرهم الأسوجيون بالنصرانية. ولكنهم ما زالوا إلى اليوم متأثرين بتاريخهم وعقائدهم القديمة. ولما شع عصر الإصلاح في أوربا تأثر به الفنلنديون في أوائل القرن السادس عشر، فصدفوا عن التصوف الذي تميزوا به من قبل وأخذوا بتحكيم عقولهم في أمور الدين المسيحي وتفسير كتبه
مر قرنان بعد ذلك، وجاء القرن التاسع عشر، والأدب الفنلندي في سبات عميق لا يظهر له أثر. ولعل ذلك يعزي إلى أن دولة أسوج التي استولت على فنلندا منذ القرن الثاني عشر نشرت فيها لغتها حتى طغت على لغة أهل البلاد الأصيلة وكادت تزيلها من الوجود لولا أن القبائل المنتشرة في مقاطعة (كاربلي) احتفظت باللغة الفنلندية ونظمت فيها أغانيها الشعبية في تمجيد أبطالها ووصف شجاعتهم وحروبهم
وظلت فنلندا محتفظة بتقاليدها وبتأثرها بالأدب الأسوجي بالرغم من استيلاء روسيا عليها سنة 1809 وضمها إلى إمبراطوريتها.
ولكن الروابط الأدبية والثقافية بين روسيا وفنلندا جاءت على عكس الروابط السياسية. فكلما حاولت روسيا ربط الصلات السياسية والإدارية بينها وبين دوقية فنلندا الكبيرة أزداد الفنلنديون شعوراً بقوميتهم وتعلقاً بمدنيتهم. وهكذا أخذ الأدب الفنلندي يزدهر في أوائل القرن الماضي ولم يلبث أن أرتبط بالحركة الابتداعية التي كانت قائمة في أوربا في ذلك العهد.
كانت العناية بجمع الأغاني والقصائد الوطنية الحماسية وضمها في شكل ملحمة أول مظهر للأدب الفنلندي(339/20)
كان الشعب يحفظ هذه القصائد ويتناقلها بطريقة الرواية، وكان لزاماً على من يعني بجمعها أن يطوف بالبلاد للبحث عن رواتها ونقلها عنهم
وقد قام (لياس لونرو) بهذه الرحلات فجمع ما استطاع جمعه من تلك الأناشيد الوطنية. وكان يعتقد أن هذه القصائد الشتيتة أجزاء متناثرة من ملحمة شعبية مفقودة زالت لحمتها خلال القرون المتتالية. ويقول النقاد إن هذا الاعتقاد خاطئ، ولكنه نتج عنه عمل يعد نسيج وحده في الأدب العالمي: ذلك أن (لونرو) كان شاعراً، وقد ساعدته هذه الميزة على ضم القصائد وإنشاء لحمة بينها حتى برزت في شكل ملحمة قد لا يجد فيها بعض النقاد الشروط الفنية لنظم الملاحم كما يجدونها في الإلياذة مثلاً، ولكن الذين يوجهون إليها هذا النقد يقررون أنها فريدة في بابها من حيث أنها الملحمة الوحيدة التي أشترك في وضعها جمهور الشعب.
أما القصص المروية في هذه الملحمة، التي أسماها جامعها (كاليفالا) فساذجة بسيطة. كان الشعب الفنلندي وثنياً يؤمن بالرقي والتمائم ويعتقد أن الطبيعة ملأا بالجن، بعضهم للخير وبعضهم للشر، وأن الجن لا يتداخلون في شؤون العالم إلا إذا طلب إليهم السحرة ذلك. فالسحرة هم بمنزلة الكهان يحفظون عبارة الطلاسم العجيبة التي يستطيعون بها أن يتحدثوا إلى الشياطين لاجتناب أذاهم أو اجتناب خيرهم. وهكذا جعلت هذه الديانة الساحر شخصاً عليماً بكل شؤون الحياة، فهو الحكيم العليم ببواطن الأمور، وهو الطبيب الشافي من كل داء، وهو الشاعر المنشد والمغني المطرب. ويظهر أن الشاعرية عند هذا الشعب قد تفتقت من ألفاظ السحر الغريبة.
وهذه السذاجة في العقيدة لم تساعد على خلق ميثولوجي على الطريقة الرمزية المعروفة عند الشعوب الأخرى حيث نجد العقل المفكر يخلق الآلهة التي ترمز إلى الحياة بأكملها. أما عند الفنلنديين فالحالة على غير هذا، لأن الباحث في ديانتهم يجد آلهة لا يفهم معنى وجودها أو ما ترمز إليه. ولم تحتفظ ملحمة (كاليفالا) بما يستدل منه على الرمز الذي تعبر عنه الآلهة.
فمن أمثلة ذلك خلو الملحمة مما يشير إلى مركز (فانيا موينن) بين الآلهة، ويقول الباحثون إنه كان إله البحر في ديانة الفنلنديين القديمة(339/21)
ولعل السذاجة في الدين هي التي جعلت هذا الشعب ساذجاً في قصصه، لأن ما ترويه ملحمته الطويلة ليس سوى حكايات أطفال وهو وجه الغرابة فيها، وهو أيضاً ما يجعلها في أكثر الأحيان عذبة جذابة. إن الأطفال إذا وضعوا قصة جاءت لا رأس لها ولا ذنب، كما يقولون، أو لا أول لها ولا أخر، لأنها تعتمد على المفاجآت الغريبة والأعمال العجيبة أكثر مما ترمي إلى أي غرض آخر. ويظهر أن خيال الشعوب في عصرها البدائي لا يختلف عن خيال الأطفال الصغار.
وهناك ظاهرة أخرى تجعل ملحمة (كاليفالا) تختلف عن غيرها من الملاحم. ذلك أن الملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة وغيرهما ترمي إلى غايات مقررة لأنها وليدة مدنية قائمة، بينما لا نجد في الملحمة الفنلندية شيئاً مثل هذا، لأن قصصها وليدة خيال ساذج جامح، بحيث نبحث فيها عبثاً عن رمز للناس والأشياء والآلهة والديانة والأخلاق.
على أن أجزاء من هذه الملحمة تحوي اعتقادات الشعب الفنلندي وتصف العواطف الأصلية في قلب الإنسان.
وقصة الخليقة كما جاءت فيها قطعة لها نضارة الشباب وسذاجة القلوب الطاهرة، وهي تصف في مستهلها العذراء (أيلماتار) إلهة الهواء تزوجت من الموجة وظلت تتقاذفها الأمواج في وسط المحيط العظيم حتى جرى مما ننقله عن الترجمة الفرنسية:
(جاء طائر جميل من نوع البط فطار محلقاً باحثاً عن موضع ليبني فيه عشه. . . فطار شرقاً وغرباً، وطار جنوباً وشمالاً، فلم يقع على موضع يبني فيه عشه الصغير ومسكنه الجميل
طار طويلاً محلقاً في الفضاء يفكر قائلاً (ترى هل أضع عشي على متن الهواء، أم أبني بيتي على صفحات الماء، فيذرو الهواء عشي، وتتقاذف الأمواج بيتي
(عندئذ أخرجت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة من الخضم الواسع ركبتها متيحة بذلك مكاناً للعصفور ليبني فيه عشه العزيز.
(كان العصفور الجميل لا يزال محلقاً فرأى ركبة العذراء قائمة على صفحات المياه الزرقاء كأنها قطعة أرض معشبة
(فخفف من طيرانه، وحط على الركبة فبنى عشه، ووضع فيه بيضه، وكانت ست منها(339/22)
ذهباً وواحدة حديداً
(وأقام الطائر على البيض يحضنه للتفريخ حتى وصلت الحرارة إلى ركبة الإلهة، حضن العصفور بيضه يوماً، ويوماً آخر، وفي اليوم الثالث شعرت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة بحرارة حتى ظنت أن ركبتها تحترق وأن جسمها يذوب
(فنفضت ركبتها ومدت رجها فجأة فهوى البيض في اليم وغاص في جوف الخضم وتكسر
(ولكن البيض لم يصل إلى قعر البحر، ولم يقم في جوفه، لأن كل جزء منها تحول إلى أشياء نافعة صالحة، تحول أسفل قشرة البيض إلى الأرض وأعلاها إلى قبة السماء، وصار ما يعلو الصفار الشمس الساطعة، وما يعلو المح القمر المنير، وانتثرت قطع صغيرة من القشر نجوماً ترصع السماء. . .)
يقول بعض النقاد إن في هذه القصة إبهاماً كثيراً، لأنه لا يفهم جيداً ما ترمز إليه الأشياء المذكورة فيها، فلماذا اختير طير البط؟ ولماذا جعل عدد بيضه ستاً ذهباً وواحدة حديداً؟ ولعلها كانت وسيلة لخلق صور جديدة، وهي على كل حال صور خلابة ساحرة
إذا تناولت ملحمة (كاليفالا) موضوعاً يمت إلى العواطف الإنسانية كانت مثيرة مشجية. من ذلك قصة الأم التي فقدت ولدها فسارت في الأرض باحثة عنه حتى وجدته مجندلاً، فنفخت فيه حياة جديدة؛ وهي ترمز إلى الأمومة بطريقة شعرية بسيطة.
أنظر كيف أخذت الأم تبحث عن أبنها:
(بحثت الأم عن الضائع، ونادت أبنها المفقود، فاجتازت المستنقعات كما تجتازها الدببة واخترقت البحار كما تخترقها الأسماك وطافت بين الحقول والشواطئ وبحثت بين الأشجار ثم نبشت الأرض لتنظر ما تحت الطرق وجذوع الأشجار
(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً وتحدثت إلى الأشجار لتسألها عن المفقود، فاضطربت شجرة الصنوبر، وقالت شجرة السنديان: إن لدي من الهموم ما يلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، خلقت لوقيد النار أو بناء الأهراء
(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم الطريق إليها فانحنت أمامه وقالت له: أيها الطريق العزيز الذي عبَّده الله، ألم تر أبني، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟(339/23)
(فأخذ الطريق يتكلم، وهذه هي العبارات التي قالها لها:
لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، صنعت لتدوسني الكلاب وتطأني أقدام الفرسان، وتسحقني الأحذية الثقيلة
(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدم إليها القمر فانحنت أمامه وقالت له: أيها القمر، أيها الكوكب الذي خلقك الله، ألم تر ولدي، تفاحتي الذهبية، عصاي الفضية الصلبة؟
(أجابها القمر، وهو الكوكب الذي خلقه الله، وقال في لباقة: لدي طائفة من الهموم تلهيني عن أبنك، خلقت لمصير قاس واحتمال أيام مؤلمة، يجب عليّ أن أهيم على وجهي فريداً الليل بطوله.
يجب أن أنير في ليالي البرد القاسية، وأن أسهر ليالي الشتاء الطويلة، وأن اختفي في فصل الصيف
(بحثت طويلاً عن ولدها، بحثت طويلاً فلم تهتد إليه. وتقدمت الشمس إليها، فانحنت أمام الشمس وقالت لها: أيتها الشمس العزيزة التي خلقك الله، ألم ترى ولدي، تفاحتي الذهبية الثمينة، عصاي الفضية الصلبة؟
(وكانت الشمس تعرف شيئاً عنه، فأجابها كوكب النهار: أسفاً، إن أبنك التاعس قد اختفى فاقداً الحياة في نهر (تيوني) ذي المياه السوداء، في مياه (مانا) الأبدية، لقد أحتمله التيار إلى منازل (تيوني) في وادي (مانالا. . .)
يلاحظ على هذه المقطوعة أنها في شكل أغان شعبية بما فيها من ترديد يزيد في جمال الشعر، وبما تعبر عنه من عواطف بدائية. والمعروف أن الأغاني الشعبية تعبر عن مشاغل الحياة وهمومها، ولا تعرض للحياة بمعناها العام وما تبعثه في النفوس من إحساس عنيف، لأن الشعب لا يهتم إلا لما هو فيه ولأن التعبير عن الحياة بمعناها المطلق وليد المدنية والثقافة.
(للبحث صلة)
صديق شيبوب(339/24)
تحية الرسالة في صباح عيدها الثامن
للأستاذ محمود الخفيف
صباحك مثّل أحلامها ... وجدد يا عيد أيامها
صباح تهلل في المشرقين ... وضئِ الأسِرَّة بسامها
على جانبيه ترُّف المنى ... وقد فتَّق البشر أكمامها
وتنفى أهازيجه الضاحكات ... كروب الحياة وأوهامها
تهز الفُراتين أصدقاؤها ... وإن من النيل إلهامها
تجاوب بغدادُ هذا الغناَء ... وكم عشقت مصر أنغامها
وكم هزت الكونَ دارُ الرشيد ... وأسمعت الدهر ترنامها
تحمِّلها ودها جِلَّق ... وقد عودت مِصر إعظامها
وكم بعثت من ربُاها الهتاف ... فحيت على النيل أهرامَها
خمائلُ لبنان تهفو لها ... ويستروحُ القدس أنسامها
لها منهما اللمحاتُ الوضِاءُ ... إذا استلهم الرأيُ أفهامَها
ويصبو الحجازُ وكم طاف منه ... خَيالُ يساور أحلامها
ويزجى الأغاريد سودانُ مصر ... ويختصُّ بالودِّ أعلامها
تهش لألحانه الغاليات ... وتعزو إلى الحبِّ إحكامها
تلقَّى الرسالة في المشرقين ... بلاد تُوِّشج أرحامها
تلاقى على الضاد أبناؤها ... وإن فرّق الملك أقوامها
لها الشرق إما مضت موطناً ... ويهوى بنو الشرق إكرامها
يطوف به إذ تُلِمُّ اليقين ... فإن من الرُّوح إلمامها
يحبُّ تسامحها كل حُرّ ... وما انفكَّ يكِبرُ إسلامها
يَدين بشِرعتها في الجهاد ... ويعلى عن الشك أحكامها
ألم يَرَ ماضيهَا العبقريَّ ... وقد أرهف الحق أقلامها؟
وَيبْلُ عزيمتها في الأمور ... إذا استعجل العصر إبرامها؟
وكيف مشت تستحث النفوس ... وتكشف في الشرق أسقامها؟(339/26)
تعلمها كيف تأبى الهوان ... وترغم من رام إرغامها
تروض على البأس في قولها ... شبول البلاد وآرامها
وكم بدعة ساقها المبطلون ... فراحت تحطم أصنامها
غداً يحتمي ببنيها الذِّمار ... كما حمتِ الأسد آجامها
تجدد في العيد عهد الوفاء ... وقد صحب الصدق أقسامها
إذا أبهمت في الخلاف الأمور ... جلت بالصراحة إبهامها
ويعجزُ عن حلمها شانئٌ ... يحاولُ بالمْين إيلامها
وتقدِم لَكنها في الحياِة ... تريك عن الُهجر إحجامها
لها صفحة في سجل الخلود ... تعاجز في الشرق من رامها
تنزه شعري فلم أُزجه ... رخيص المدائح نمامها
وما اهتز يوماً لغير العلي ... فغنى هداها وإلهامها
عرفت علاها فغنَّيتها ... وحليتُ بالدُّرِّ أعوامها
بدأت لها أمس غالي العقود ... ولن أبلغ الدْهرَ إتمامها
-(339/27)
وصف ديك
للأستاذ عبد الرءوف جمعة
وديك كأَن الشمس يسطع ضوءها ... عليه بألوان ترفّ وتزهر
على رأسه المرجان تاجاً يزينه ... ومنقاره العقيان أو هو أنضر
على جيده فُوفُ من الخز لامع ... كمثل ضياء الشمس في الصبح أصفر
وعيناه أصفى من مُدام ابن هانيُ ... ومن طَل نيسان من الورد يقطر
إذا صاح في جوف الدياجى حسبته ... يقول لأهل النسك: الله أكبر
وإن صاح في وجه النهار حسبته ... يقول لمن ناموا: هلاً ويزمجر
أحسّ بما فيه من الحسن فأزدهى ... وراح بصحن الدار نشوان يخطر
ألست تراه شامخ الرأس مثلما ... يتيه على الألمان هِيس وهِتلر(339/28)
من وراء المنظار
صنع في إنجلترة!. . .
جلسنا نتحدث فمال بنا الحديث فيما مال إلى مبلغ شعورنا بقوميتنا ومبلغ حرصنا على مظهرها، ورحنا نتساءل هل نحن كرماء لضيوفنا حقاً، أم أن في الأمر شيئاً غير الكرم؟ واحتدام الجدال كالمعتاد وعلت الأصوات، وتشعب الكلام واضطرب نظامه، وضاعت الحجج جميعاً سليمها وسقيمها في ذلك الضجيج المتصل. وكانت أشد الدعاوى إيلاماً لنفوسنا أننا قوم نتلاشى في غيرنا ويسهل على أي قوة أن تسوقنا حسبما تريد
وقطع هذا الضجيج دخول صديق لنا في رفقته شاب أخذ يقدمه إلينا، فحيا وحيينا، ثم جلسنا برهة صامتين، ومالت أنظارنا إلى هذا الشاب الذي بدأت معرفتنا به. وما هي إلا برهة حتى فطنت إلى أن منظاري قد وقع منه على شخصية أضيفها إلى ما عرفت من أشباهها من الشخصيات التي لا تكاد تفترق إحداها عن بقيتها في شيء
وفي نفسي عن هذه الشخصيات التي عرفت معان استيقنتها فما أشك فيها أبداً، بيد أني أميل إلى تبينها في كل شخصية منها، فقد جرى الأمر في ذلك عندي مجرى التسلية، إن جاز أن فيما يؤلم ما يسلي كما جاز أن في المصائب ما يضحك!
ونظرت فإذا صاحبنا يضطجع في مقعده ويشمخ بأنفه، ورأينه يضع إحدى رجليه على الأخرى أولاً، ثم يمدهما معاً إلى حيث يستقر قدماه على مقعد خال ونعلاه قبالة الجالسين في غير تحرج ولا استحياء. . .
وأدخل يده في جيبه فأخرج بيبته وحشاها وأشعلها، وراح ينفخن في الجو من دخانه، دون أن يشاطرنا ما أخذنا فيه من الأحاديث. وشعرت وشعر أصحابي جميعاً بهذا التكبر السخيف، كأننا لم نكن أهلاً لمحادثيه. وكيف نكون عنده أهلاً لذلك، وليس فينا من خرج من مصر، كما تبين له من كلامنا؟
وكانت تختلج على شفتيه ابتسامة ليس فيها إلا معاني السخرية من عقولنا أو قل من جهلنا، وفي نفسه أننا لا زلنا على عقليتنا الشرقية جامدين ضيقي المعرفة، وتمنيت أن يتكلم لأرى شيئاً من عقليته الغربية التي عاد بها من إنجلترا. . .
ولم يطل تطلعي فلقد أخذ يجيب على سؤال وجه إليه، فسمعت وأنا أجهد في يكتمان(339/29)
ضحكي عبارة بين العربية والإنجليزية، فهي عربية الحروف إنجليزية النطق، الأمر الذي جعلها في جملتها قردية اللهجة والجرس. . . وكانت لا تسعفه ذاكراته أو كان يتكلف أن ذاكرته لا تسعفه ببعض الألفاظ العربية، فكان ينطق بها إنجليزية ثم يسرحها لنا كأنما يثق أننا لا نفهم تلك اللغة فهمه؛ وكان يكرر قوله: (لما كنت في إنجلترا. . .) كأنما يخشى أن ننسى أنه كان هناك، وهو يقدم تلك الحقيقة بين يدي حججه ليجعلها بذلك قاطعة صادعة
وليته ظل ساكتاً فلقد حمدت الله تعد كلامه الطويل على عقليتي الشرقية. . . وحيا الشاب تحية نصفها شرقي ونصفها غربي، وانطلق هو وصاحبه، والتفت إلى أحد أقراني وقال: أرأيت الدليل المادي على صحة ما أقول؟ وقال آخر: ما لهؤلاء لا يتكبرون ولا يزهون وقد افترضت الدولة فيهم الكفاية لمجرد ذهابهم إلى أوربا وإن بدا لها من أكثرهم تقصيرهم في أعمالهم، وافترضت في كثير غيرهم ممن لم ينالوا شرف الاغتراب الجهل وإن بدا لها فطنتهم فيما يناط بهم؟
وقلت في نفسي متى يفهم هؤلاء أن ليس بين التكلف والصعلكة كبير فرق؟ وأن في المصريين من سافروا مثلهم فتلقوا العلم في أوربا، ثم عادوا إلى وطنهم محتفظين بمظاهر قوميتهم فإن قلدوا غيرهم قلدوهم في العظائم، وأخذوا عنهم ما يشرفهم أخذه، ونبذوا ما يشينهم من سخيف المحاكاة. . .
وساورني خيال غريب عن أولئك المتكلفين، وذلك أنهم يضعون أنفسهم موضع السلعة في السوق، والسلع الإنجليزية يكتب عليها عادة (صنع في إنجلترا) لتزحم غيرها في الأسواق، وهؤلاء يباهي الواحد منهم بأنه - على حد تعبيره -
(عين)(339/30)
الملاحة عند العرب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
يهتم الغربيون بالملاحة وينفقون علها الأموال الطائلة لِمَا لها من أثر في الحروب والتجارة وسير العمران. وقد أصبحت مدنية الأمم تقاس إلى حد كبير بدرجة اهتمامها وعنايتها بالشؤون البحرية وبراعتها في بناء الأساطيل. وكان لها - ولا يزال - شأن خطير في مصير الشعوب، وكثيراً ما غيّرت المواقع البحرية مجرى التاريخ واتجاه الحضارة
والأمة العربية - وهي من الأمم التي لعبت دوراً هاماً في التاريخ وكان لها أكبر نصيب في تقدم المدنية - قد وّجهت بعض جهودها إلى ناحية الملاحة وخلّفت قيها مآثر خالدة اعتمد عليها الأوربيون في ترقية الملاحة والتقدم في صناعة السفن. وقبل البدء في حديثي عن الملاحة لا بد لي من القول إن ناحية الملاحة عند العرب لا تزال غامضة لم تعط حقها من البحث والتنقيب. والذي نرجوه أن يحفز حديثنا هذا الهمم للعناية بالمآثر الإسلامية والآثار العربية في مختلف النواحي التي أدتْ إلى فتوح العرب الواسعة، والتي لا تزال محل دهشة علماء التاريخ
إن في بقض هذه النواحي صفحات لامعة يحق لنا أن نباهي بها أمم الأرض وأن نأخذ منها إلهاماً للاقتداء بالسلف والسير في خطاهم
ومن المؤلم حقاً ألا نجد أحداً من باحثي العرب ومنقبيهم عُني بناحية الملاحة عند العرب وتاريخ إنشاء الأساطيل. وعسى أن تلتفت جامعة فؤاد الأول والكليات الحربية بمصر إلى هذه الناحية، وأن تعمل على إظهار المآثر العربية فيها، وبذلك تكشف عن روح المغامرة التي امتاز بها العرب على غيرهم من الأمم، وتكون قد مهّدت السبيل لخلق روح الإقدام والشجاعة في أبناء هذا الجيل والأجيال التي تليه
والآن نأتي إلى موضوع الملاحة فنقول:
كان العرب في بدء فتوحاتهم يخافون البحر ويهابونه، وكيف لا يخافونه ويهابونه وهم أهل صحراء منقطعون عنه لم يتعودوا رؤيته فكيف بركوبه. ولم يكن الخلفاء الراشدون يشجعون ركوب البحار لخوفهم على أرواح المسلمين، ويُقال إنه حينما استولى المسلمون على مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف له البحر فكتب(339/31)
إليه (. . . إن البحر خلق كبير يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء. إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة. هم فيه دود على عود. إن مال غرق، وإن نجا برق. . .) فكان هذا سبباً في منعه المسلمين من ركوبه. وجاء أيضاً أن عمر بن الخطاب كثيراً ما عنف الذين يخوضون عبابه، فقد عنف عرفجة بن هرثمة الأزدي لركوبه البحر حين غزوه عمان. ولا شك أن السبب في منع الخلفاء هو خوفهم على أرواح المسلمين لأنهم لم يكونوا أهل بحر ولم يتعودوا السير على أعواده. وبقي الأمر على هذه الحال إلى أن اتسعت الفتوح الإسلامية وأصبح من العسير بل من المستحيل حماية بعض البلاد ولا سيما وقد أصبح العرب مجاورين الرومان ورأوا أن الحاجة ماسة لحماية الشواطئ، ومن هنا بدأ اعتناؤهم بالملاحة فأخذوا في إنشاء السفن مثل الرومان، وفي مدة وجيزة صارت لهم دراية وخبرة بالبحار وركوبها وطافوا أشهرها وقهروا محيطات العالم واتصلوا بالبلاد البعيدة وعرفوا عنها الشيء الكثير. مهروا في صناعة السفائن وأنشئوا لذلك دوراً عظيمة وصار لهم في مختلف الأنحاء أساطيل أصبحت عرائس البحار وزينة الشواطئ متقنة الصنع كثيرة العد، تفننوا في صنعها وأدخلوا تحسينات جمة على آلاتها ومعداتها، ووضعوا لها الخرائط والمصورات البحرية وكانوا على علم بالأوقات الملائمة لخوض البحار وعلى معرفة تامة بأوقات هبوب الرياح. اتخذوا المنائر في المرافئ وفي المواضع الخطرة لهداية السفن واستعملوا الإبرة المغناطيسية لتعيين الجهات
ولا حاجة إلى القول إن أساطيلهم كان لها أثر كبير في ازدياد قوة الإسلام واتساع رقعته، فلقد تمكن العرب بواسطتها من فتح سردينيا وصقلية وقبرص ومالطة وكريت، وكذلك تم لهم الاستيلاء على كثير من شواطئ البحر الأبيض المتوسط وبعض شواطئ فرنسا. ولقد وصل الأسطول الإسلامي الأندلسي في عصر عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب، وكذلك أسطول أفريقيا إذ وصلت أساطيل المسلمين في دولة الموحدين من العظمة والفخامة إلى ما لم تصل إليه في أي عصر آخر وبلغت في أيام المعز لدين الله بمصر ستمائة قطعة. وجاء في مقدمة ابن خلدون أن عدد أساطيل المسلمين في أوربا وأفريقيا في القرن الخامس والسادس للهجرة وصل إلى مائة أسطول!. . . وكانت أساطيلهم هذه على أنواع، منها التجارية ومنها الحربية، والأخيرة تتركب من سفن ومراكب مختلفة منها ما هو خاص(339/32)
للدفاع يقيمون فيها الأبراج والقلاع أطلقوا عليها اسم (الشونة). ومنها ما هو خاص بحمل المنجنيقات التي يُرمي بها النفط المشتعل على الأعداء، وقد أطلقوا عليها اسم (الحراقة)، ومنها الطرادات وهي سفن صغيرة سريعة الجري، ومنها سفن تختلف عن التي ذكرنا لأغراض حربية وغير حربية. وللسفن الحربية معدات وأدوات منها (الزَّرَد) و (الخود) و (الدَّرَق) - والأخيرة أتراس من جلد ليس فيها خشب. وكانوا يستعملون عدا هذه الرماح والكلاليب وسلاسل في رؤوسها رمانات من حديد. وكثيراً ما كانوا يستعملون قوارير النفط يرمون بها الأعداء وهي في حالة اشتعال. ومن العجيب أنهم كانوا يستعملون أيضاً مسحوقاً ناعماً من مزيج الكلس والزرنيخ يرمون به مراكب العدو فيعمى الرجال بغبارها. وكانوا يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء والشب والنطرون أو الطين المخلوط بالبورق والنطرون ومواد أخرى لتخفيف أثر النفط المشتعل. وقد وفق العرب على سر تركيب النار اليونانية بعد أن فتكت بهم في مواقع حربية كثيرة وأوقعت في بعض الحالات خللاً وفوضى في معسكرا تهم وسفنهم وصاروا يستعملونها في حملاتهم البحرية على شواطئ إيطاليا وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط. ويرجع بعض الباحثين أنها تتركب من (زيت النفط) والكبريت والجير والقار بنسب لا تزال مجهولة، وينتج عن هذه المركبات سائل ملتهب يحدث دخاناً وانفجاراً عظيمين كما تخرج منه نار تشعل الأجسام التي تلامسها أو التي تقع عليها. واستعمل الموحدين هذه النار في حصار (لبلة) من أعمال البرتغال في القرن الثالث عشر للميلاد لدفع جيوش ألفونسو العاشر ملك قشتالة. ويقال إنهم (أي العرب) استعملوا آلات يقذفون منها على الأعداء حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوي كالرعد، ويرى بعض العلماء أن هذه الآلات ليست إلا قاذفات النار اليونانية
ومن طريف ما يروى أنهم كانوا يستعملون طرقاً مبتكرة أثناء الحروب تدل على فطنة وذكاء وشدة حذر وبراعة في وسائل الحيطة، فقد كانوا يطفئون الأنوار (أي لا يشعلون ناراً)، وكانوا إذا أرادوا تضليل الأعداء والمبالغة في الاختفاء يسدلون على مراكبهم قلوعاً زرقاء حتى لا تظهر عن بُعْد. وهذا يذكرنا بوسائل الوقاية التي تستعملها الدول الأوربية المتحاربة من إطفاء النور واستعمال الضوء الأزرق في السيارات. وجاء في بعض الكتب(339/33)
أن العرب كانوا لا يتركون ديكا في (المركب) أثناء الحروب، وذلك خوفاً من صياحه الذي قد يستدل منه على مكان المركب
ولسنا الآن في موقف نستطيع معه تفاصيل المعدات الحربية الأخرى التي كانوا يستعملونها، كما أنه ليس هناك مصادر نستطيع منها سرد الطرق التي كانوا يتبعونها في البحار، وقد يطول المقال إذا أردنا وصف الاحتفالات الرائعة التي كانت تجري عند إخراج الأساطيل للحرب. وهذه كلها لا تزال في حاجة إلى من يتعهد جلاءها ويقضي على غموضها. ويؤلمنا أننا لم نسمع عن هيئات علمية أو أفراد اهتموا بهذه الموضوعات أو صرفوا لها بعض جهودهم وعنايتهم. وعلى كل حال فمن مطالعة لبعض الكتب القديمة ومؤلفات جديدة تمكنا من تهيئة هذا الحديث. وقد تجلى لنا منه أن العرب وصلوا في الملاحة إلى درجة لم يصل إليها غيرهم من قبلهم إذ جعلتهم سلاطين البحار وغزارة المحيطات، وكان لذلك تأثير كبير في فتوحاتهم وفي اجتياح كثير من الجزر البحرية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط. وبقى العرب أسياد العالم في البحار إلى أن قامت عليهم قيامة الغرب بحروبه الصليبية وقيامة المغول والتتار وهبت عليهم عواصف الفتن والقلاقل فضعف شأنهم وأضاعوا عزهم ومجدهم واستولت عليهم غفلة طويلة وجمود مروع كاد يذهب بالكيان والخصائص التي يمتاز بها العرب على غيرهم وكاد يستحيل كل هذا إلى اضمحلال وفناء. . .
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(339/34)
رسالة الشعر
صلاة محترقة!
إلى بنفسجتي
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
خانَكِ النُّورُ - فلا كان - ودَّستْكِ الغيوبُ
فَوْقَ سَفْحٍ أُفْقُهُ الغَيمانُ مشبوبُ كئيب
وكَثيبٍ صمتُهُ في الرُّوح وَسواسُ رهيب
تَدْرُجُ الشمسُ عليهِ الرَّوابي وتَغيبُ. . .
. . . وْهوَ مفجوعُ الثَّرَى يا زهرتي يَبكيِ لوَجْدِكْ
مُزْعِج الوَحشيَةِ كالمصْلوب لهفانُ لِبُعدِكْ!
زُرْتُهُ والفجرُ - يا فجِرىَ - في الوادي ربيبُ
خَطْوُهُ نحوَكِ سحرُ وصَلاةُ وطُيوب
وأنا خَطْوِيَ أّناتُ وشجوُ ونحيب
فالتقى عندَكِ ضِدَّانِ: شروقُ، وغروبُ. . .
. . . أَلَقُ الشمسِ منِ الذُّعْرِ شَليلُ حوْلَ مَهدِكْ
ودُجَى الأحزان في نفَسِيَ صخَّابُ لِقيدِكْ!
والنَّدَى أدمُعُ أرْواحٍ حزانى، وقُلوبُ
راعها حُزْنكِ في الفجر فأمستْ لا تجيب
كلما ساءَلْتُها عَنكِ تَغشَّاها شُحوب
وبكتْ مِثلي وقالتْ وهْيَ في الضَّوْءِ تَذوبُ:
لَيتنا حبَّاتُ ساجداتٌ فَوْقَ عِقْدِكْ
أوْ شُعاعاتٌ بَراها الله أكماماً لِوَرْدِكْ!
أنا يا دُنيايَ منبوذٌ على الدُّنيا غَريبُ
ودُموعي في تُراب الدّهر أبلاها المشيب(339/35)
كلما شارفْتُ أنواركِ صدّتْني الخطوب
مِثلَما شارفْتُ عن الجاثِينَ لله الذُّنوبُ. . .
. . . فابعثي يا ربَّتي طيفاً من النُّورِ لِعبْدِكْ
فهْوَ في ظُلمتهِ الَخرساءِ تمثالٌ لعِهْدِكْ!(339/36)
وعد!. . .
(مهداة إلى شاعر الإسكندرية الأستاذ خليل شيبوب)
للأستاذ أحمد فتحي
لِمَ أَخلفْتَ موْعِدي ... يا حبيبي، وسيِّدي؟!
هل تناسيتَ، أم نسي ... ت، على غيرِ مَقصدِ
أمْ تَلَكأتَ في التَّجَمْ ... مُلِ، إذ قُمْتَ تَرْتدي
زينةُ الُحسنِ عَوَّقَت ... كَ، فأخلفتَ مَوعدي
لستُ أنسى سُوَيْعةً ... قلتُ: يا (ساعةُ) اشهدي
أخلفَ الُحلوُ وَعدَهُ ... ليتهُ كانَ مُسعِدي
ليتهُ كان شاهداً ... واصِلاً، غَيْرَ مُبعِدِ
لِيرَى أنْ وقْفَتي ... جَمْرَةٌ. . . في تَوَقُّدِ
عقرَبا الساعةِ البطي ... ئانِ خانا تجُّلدي
فَكأني وقَفْتُ مِنْ ... صُبْحِ أمسى إلى غَدي!
عُدْتُ يَحدُونيَ الملاَ ... لُ، إلى رُكنِ مَعبدي. .
عَبَثاً أْطلُبُ النعا ... سَ لِطرْفِي المُسهَّدِ!
أوْ أُسرِّى لَوَاعِجاً ... عَنْ فُؤَادِي المشرّدِ
ثمّ ناجَيْتُ صُورَةً ... لَمَعتْ لَمَع فَرْقد. . .
سَحرَتْ جَوْ مَعبدِي ... واسْتعزتْ بها يَدِي
قلْتُ: يا رَسْمَ سَيَّدي ... آهِ، لَو كُنتُ أغتَدي
آهِ، لَو كُنتُ أغتَدي ... مِن حَبِيِبِي بِمشهدِ
لِيَرَى مِن صَباَبِتي ... كلَّ مَعَنى مؤكَّدِ. . .
وَأرَى مِنْ جَمالِهِ. . . ... كلْ فَنْ مُجدّدِ. . .
وأُغَنِّيهِ فِي الهَوَى ... كلّ لحْن مخلَّدِ. . .
يَا حَبِيِبِي، وَسَيَّدِي ... لِمَ أخْلفْتَ مَوْعِدِي!(339/37)
تحية الرسالة في عامها الثامن
جان دارك بين العرب
للأستاذ محمود غنيم
مشتْ مثل جان دارك بين العرب ... تشُدُّ عراهم بأقوى سببْ
تشقُّ الصُّفوفَ بعزم وتهتِ ... فُ باسم العروبة واسم الأدب
إذا هتَفتْ قلبَ طيرٌ شدا ... وإن خطرتْ قلتَ ليثُ وثب
تبِّشرُ بالضاد بين بنيها ... وأَكرِمْ بحرمة هذا النسب
وما وحَّدَ الجمعَ مثلُ اللسان ... ولا اتحد الجمعُ إلا غلب
إذا اتحد الفكر في أمة ... تجمَّع من شملها ما انشعب
قد انتظمت أمم الضاد طُرَّا ... فكانت كعقدٍ وكانوا كحَب
بها تتلاقى العقولُ كما تَ - تلاقى الروافدُ عند المصَب
فذا كاتبٌ من أعالي الفُراتِ ... وذا من دِمشق وذا من حَلب
بكل يراعٍ أسدَّ من السه ... مِ يغزو القلوبَ إذا ما كتب
فطوراً يمجُّ لُعابَ الأفاعي ... وطوراً يمج عصيرَ العنب
وطوراً له أحرفٌ من ضياءٍ ... وطوراً له أحرف من لهب
تطلُّ على العالم العربيَّ ... وترقُبُ أحداثه عن كثَب
إذا حرَّكتْ غيرَها الشهواتُ ... فلا رغَبُ عندها أو رَهَب
وتعلنُ عن نفسها بالسكو ... تِ عالمةً أنه من ذهب
وما أعلن المرءُ عن نفسهِ ... بمثل الأناةِ ومثلِ الدَّأَب
ألا ما أقلَّ الثمار إذا ما ... تعالى الضجيجُ وزاد الصخب
بدَتْ ولها يومُ وضعِ المسيح ... وعمرُ المسيح الطويلُ الحِقب
تكلم هذا صبيَّا وتلك ... أتتْ وهْيَ في مهدها بالعجب
لقد جاء من خير أمٍّ وجاءت ... سليلةُ (أحمد) من خيرِ أب
فتاةٌ كفاها فخاراً أبوها ... إذا افتخرت غادةٌ بالحسب
تكادُ تسائلُ حين تراها ... هل الوحي بعد الرسول احتجب؟(339/38)
وكم (للرسالة) من نُدماَء ... هي الكأسُ عندهمو والحَبب
إذا طلعتْ في سماءِ البيا ... ن لم يَسألوا: أيُّ نجمٍ غرَب؟
وقالوا: الرسالة قلتُ: وهل ثمَّ (م) ... أجدرُ منها بهذا اللقبِ؟
مشتْ بالسَّفارة بين البلادِ ... تخطَّى الوهادَ وتَرقي الهضَب
فأُقسمُ ما قَّصرَتْ في الأداءِ ... وإن قصَّرَ القومُ عما وَجب
متى يعرفُ الناسُ أن الفتى ... - بلا أدب - دميةٌ من خشب؟
فما هوَ شعرٌ ونثرٌ ولكن ... هو الرُّوح للجسم وهو العصَب
يُمِدُّ الشعوب بكلِّ قواها ... وتذهبُ شوكتهم إن ذَهبْ
(الإسكندرية)
محمود غنيم مدرس بالمعلمين
-(339/39)
رسالة الفن
دراسات في الفن
388
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- حقك اليوم أن أبخرك. . . كتاب في يدك، وتقرأ في الطريق؟
- ليس هذا كتاباً، وإنما هو دليل المعرض الدولي لفن التصوير الشمسي الذي تقيمه الآن جمعية محبي الفنون الجميلة. . . هل لك أن تصحبيني إليه لعلنا نرى شيئاً جميلاً؟
- يسرني هذا. . . هيا. . . فهي فرصة قد أقتنع فيها بأن التصوير الشمسي فن.
- أو لم تقتنعي بذلك إلى اليوم؟
- أحياناً أقتنع، وأعود في أغلب الأحايين فأشك، وتجئ أحيان أنكر فيها إنكاراً.
- ما دمت تقتنعين أحياناً، ولو قليلة، فإن هذا يدل على أن التصوير الشمسي فن، أما هذه الأحيان التي ينبعث فيها الشك من نفسك، والتي ينبعث فيها الإنكار، فلذنب فيها ليس ذنب التصوير الشمسي، وإنما هو ذنب المصورين الشمسيين، ولكي يتضح لك هذا عودي بالذاكرة إلى الصورة التي أعجبتك، والى الصور التي لم تعجبك، وحاولي أن تلمسي الفروق بين هذه وتلك لترى أنها كانت إصابات من مصورين وإخفاقات من آخرين. . . فبين المصورين من يطوف بآلته يلتقط الصور لكل ما يراه، وهذا يشبه في الشعراء الدكتور زكي أبا شادي الذي لا يستعصي شئ على شعره، فهو يستطيع بقوة الله أن يقول الشعر في الزهرة، وفي السحابة، وفي النملة، وفي البلاطة، وفي القمر، وفي القلقاس وفي كأس الخمر، وفي (كوز حمام)، وفي الراقصة الرشيقة، وفي (الترسة) المتثاقلة، وفي الزمرد والياقوت وكلورور الصوديوم وبيكربونات الصودا وهناك نوع آخر بين المصورين للواحد منهم محل يذهب إليه الناس ليصورهم بالأجر، وأغلب هؤلاء يشبهون الكتاب العموميين الذين يكتبون للناس ما يريدون كتابته بالأجر أيضاً، والذين يكتبون فيما يكتبون فرحاً وحزناً، وبشرى وإنذاراً وحوادث وأخباراً من غير أن تهتز في أنفسهم خلجة ولا عاطفة، وأقلهم تطيب لهم بعض الوجوه فيخرجون لها أحسن الصور. . . وفي الكتاب(339/40)
العموميين أيضاً من يفعل مثل هذا إذ تطيب له بعض الموضوعات فينطلق قلمه بأحسن ما يكتب. . . وهناك نوع ثالث بين المصورين له اتجاه خاص، فهو لا يصور كل شئ، وإنما يصور ما يروقه فقط، وإنما تنجذب نفسه إلى معان خاصة يرتاح لها، ومن هذه المعاني ما قد يُسعد ومنها ما قد يغذي الألم في نفس الفنان ويسقيه، وهؤلاء المصورون يشبهون كل فنان من أولئك الذين يمتاز الواحد منهم بطابعه الخاص وبلونه النفساني. . . وفي هؤلاء المصورين جميعاً الصادقون، وفيهم الكاذبون، وفيهم الهادئون، وفيهم المتكلفون وفيهم الجادون، وفيهم الساخرون. . . وللتصوير الشمسي بعد ذلك عالم كما أنه لكل فن عالم، وفي عالم التصوير الشمسي تجار يبيعون ويشترون، وفيه سماسرة يروجون، وفيه ناس طيبون يستهلكون، وفيه أدعياء يتحككون بالفن ويقتنون الصور، ويتأنقون في صنع (براويزها) وهم أبعد ما يكونون عن الفن، أبعد ما يكونون. . .
- كأني بك تريد أن تقول شيئاً في نفسك ولكنك تمسكه
- وهل خلًّيت شيئاً لم أقله؟ إلا أني معجب برئيس مجلس شيوخنا الذي يهتم كثيراً بالفنون الجميلة، وبهذه الروح الطيبة التي يرعى بها الفن كل من المسيو مارسيل فنسينو رئيس البنك العقاري المصري، ورينيه قطاوي بك مدير شركة وادي كوم امبو ويوسف قطاوى باشا الوزير السابق، والدكتور على باشا إبراهيم، وحافظ عفيفيي باشا، وسعادة محمد طاهر باشا رئيس لجنة الرياضة الأهلية، وفؤاد أباظة باشا المدير العام للجمعية الزراعية الملكية والمسيو نوس مدير شركة السكر، والمسيو ريشارد موصيري الوكيل المفوض لبنك يوسف نسيم موصيري (أولاده وشركاهم)، وسائر أولئك النبلاء الذين يعطفون على الفن. . . ليس في نفسي إلا أن أنتهز هذه الفرصة لأشكر فيها هؤلاء الرجال الكبار باسم الفن. فهم من غير شك يضحون كثيراً من وقتهم الغالي، والغالي حقاً في سبيل التهذيب الروحي يرقون عن طريقه بأبناء هذه البلاد.
- هل تعرف أن هؤلاء لو اهتموا بالفنانين الذين تؤثر فنونهم في الشعب تأثيراً قوياً لأجدوا على بلادهم خير جدوى. ولازدهر الأدب والتمثيل والموسيقى و. . .
- الله حبب هؤلاء في التصوير الشمسي، وللفنون التي تتحدثين عنها قضاء آخر عند الله هو مقدِّرُه، فاشكري الله على ما قُسم. . واسكتي الآن فقد وصلنا. . .(339/41)
- الله. . . تعال هنا. . . عند (41) إنها فتاة حلوة رائعة، أليس كذلك. . .
- من غير شك. . . و (28) أيضاً رائعة. . . وأظنك ترين الفرق واضحاً بين هذه وتلك. . (41) فتاة مليحة اعجب بها مصورها (عزام جمال)، ولا ريب أنه شاب عذب القلب فيه كثير من أخلاق الصبيان. . . و (28) شاب في أواخر الشباب أعجبت به مصورته (آسيا)، وهي لا ريب فتاة عاتية، فإذا كانت رجلاً متنكراً باسم مؤنث، فهو رجل فيه رحمة وفيه حنان ولين. . .
- وهل تعرف أنت (عزام جمال) و (آسيا) وتعرف أخلاقهما؟. . .
- لا يا روحي. . . وإنما نفساهما في هاتين الصورتين. . . فالذي اختار هذا الوجه الصبوح الضحوك المنبسط الذي لا تجاعيد فيه ولا حزون تصوره هذه الصورة، لا بد أن يكون من عشاق الصباحة والضحك والانبساط والصراحة والوضوح. . . وإلا فلماذا اختار هذا الوجه وصوره؟. . . أما (آسيا) فقد صورت هذا الشاب المتكسر الشباب الذي يطل الشقاء من إحدى عينيه ويطل الصبر من الأخرى، فلا بد أن تكون من اللواتي يستهويهن الشباب الموَلى واللواتي يطربن إذا رأين في عيون الناس صبراً وشقوة، وهذا لا تحبه إلا نفس الأنثى العاتية. فإذا طرب له رجل فبالرحمة يطرب له، وبالشفقة يستجيب إلى صبره، وبالتعزية يواسي شقاءه.
- ولم لا يكون الرجل قاسياً عاتياً هو أيضاً يحب أن يرى في عيون الناس الصبر والشقاء
- هذا لا يكون إلا في الرجال الجلادين، وأنا لا أظن أن الذي صور هذه الصورة هو (عشماوي) متنكراً باسم آسيا. من يدرى. . . تعال إلى (38) هذه. . . امرأة تنظر من النافذة مهتمة متلهفة هذه الصورة روماني اسمه افرامسكو ويسمنها (انتظار)
- ليت هذا المصور ذاد هذه المرأة عن النافذة قبل أن يلتقط هذه الصورة. . . فقد كانت عندئذ تظهر صورة ساكنة لبيت ساكن. . .
- ولكنه يخيل إلى أنه هو الذي دعاها لتقف في النافذة هذه الوقفة، ولتطل هذه الإطلالة، ولتهتم هذا الاهتمام، ولتتلهف هذه اللهفة. . .
- وأنا يخيل إليّ هذا أيضاً، وهذا هو ما يفسد عليّ الاستمتاع بهذه الصورة، ذلك أن هذه السيدة عند ما أرادت أن تلبي دعوة هذا المصور لبتها بإخلاص شديد جداً له هو، فقد مطت(339/42)
نفسها في النافذة مطة ثعبانية، ثم نثرت في وجهها من علامات الاهتمام ما لا يمكن أن يبدو على وجه إنسان إلا إذا كان يرقب موكب الملائكة يوم الحشر، وتلهفت تلهفاً لا يمكن أن يتلهفه إنسان إلا إذا كان يرقب انشقاق السماء ليلة القدر حسبما يقولون ويروون. . . ومع أنها أدت هذه النوازع هذا الأداء المكبر، فإنها لم تستطع أن تخفي ما كان يجب عليها أن تخفيه وهو شعورها بأنها تعمل هذا كله كي يصورها الأستاذ أفرامسكو
- إذن فهذه صورة فاشلة. . .
- يؤلمني أن أقول هذا. . . ولكني أعتقد أن في هذا تعزية كبيرة للأستاذ أفرامسكو، فهو دليل صادق جداً على أن هذه الشابة مطاوعة له مخلصة لفكرته تود له من صميم قلبها أن ينجح. . . وهذا أمر من غير شك يرضيه. . .
- من يدري مرة أخرى. . . فلربما كان يريد أفرامسكو أن تفوز صورته بإعجابك وإعجاب غيرك من النقاد، ولو كان ثمن هذا الفوز روح هذه التي تقول إنها مخلصة. . . الست تعرف أصحاب الفن وسخفهم. . . من منهم جازي المخلصة إلا بكارثة. . .
- خذا موضوع آخر لا أوافقك فيه على رأيك هذا على الرغم من أن بعض الظواهر قد تؤيده. . . ولكن هذا ليس وقته. . . تعالى. . . سأختار أنا لك صورة. . .
- تعالى، انظري إلى هذه. . . (388). . .
- انتظر لأرى من صاحبها. . . إنها من رسم سيدة أسمها مدام رايفون وهي من لندن، وقد سمت هذه الصورة (صورة). . فقط. . . وهي صاحبة (389) أيضاً وقد سمتها (عيد). . .
- عظيم. . . وهل تعجبك (389) هذه؟ فيها جمال حقاً ولكن (388) أبدع، وهي من غير شك أبدع ما في هذا المعرض. . .
- ولكن لا يزال أمامنا جزء من المعرض لم نره لعل فيه ما هو أبدع من هذه الصورة
- قد يكون هناك ما يساويها. ولكن لا أعتقد أن هناك ما هو أبدع منها. . . فقد قالت المصورة في هذه الصورة كل ما يمكن أن يقال.
- ولكني أرى في هذه الصورة تكلفاً كالذي رأيته أنت في صورة التي تنظر من النافذة. . .
- خسئ ما ترين. . . أين هو التكلف؟. . .(339/43)
- الصورة صورة شاب لا شك في أنه أوربي، ومع هذا فهو يلبس ملابس المماليك الأتراك أو الشركس، طربوش يوناني أو عثماني كبير كطربوش تمثال إبراهيم باشا، وقميص من الحرير، وصديري مفتوح، وحزام حرير يطل منه خنجر، و (سروال) ارتفع إلى مادون ركبتيه بقليل من أثر جلسته، فظهر جزءان من ساقيه. . . ثم هذه (البلغة الفاسية) التي أظن أنه كان يجب أن يكون مكانها (مركوب) أحمر أو أخضر ليماشي هذه الملابس التي لم يكن أهلها يعرفون (البُلغ) وأخيراً هذه الجلسة نفسها على هذه القطعة المخروطة من الخشب التي لا طبيعة فيها ولا صناعة والتي لا تشبه جذع الشجرة، والتي ليس مثلها كرسي، التي تكاد تكون صنعت خاصة لهذه الصورة. . . أو هناك تكلف بعد هذا كله؟
- هذا الذي تسمينه تكلفاً هو ما أسمه أنا إخراجاً. . . فصاحبة هذه الصورة لها خيال تحبه حققته فيها بهذا الأسلوب الذين ترين. فاختارت هذا الفتى الذي فيه ملامح خيالها المحبوب والذي تتعسفين كثيراً إذ تؤكدين أنه أوربي، لأنه قد يكون كما تقولين وقد يكون شرقيَّا أيضاً، وهو كما ترين ممن يشهد الرجال لهم بالحلاوة والعذوبة، فما بالك بشهادة النساء؟ جبهة عريضة لم يغطها هذا الطربوش العميق الضخم وإن كان أخفى منها جزءاً وهي جبهة تدل على الذكاء والذكاء محبوب، وعيناه دعجاوان تنبعث منهما نظرة مرتاحة متأنقة كأنما تنتقي وتختار، وأنفه دقيق منتظم جميل، تناسق بتناسق نفسه واعتدل باعتدال مزاجه، ووجنتاه بارزتان بروزاً خفيفاً ينفي عن وجهه تراكم اللحم وغلظ الجلد، وعن روحه ثقل الظل وجمود الحس، وفيه واسع ولكنه يبدو كالضيق لأنه مكون من ثلاثة مستقيمات: واحد منهما متقدم والآخران منكسران عنه بزاويتين إلى الوراء فكل منهما في جانب والفم الواسع ترينه دائماً للمغنين والمتحدثين ذوي اللباقة وحسن التأثير، كما أن له أذنين مرتفعتين غير صغيرتين تفتحتا للسمع والإصغاء وشفتاه لا هما رقيقتان قاسيتان ولا غليظتان بربريتان، وذقنه صغير طرى كذقون الأطفال الأصفياء، وأصابعه طويلة دقيقة خلقت للترفه والعبث وفي إحداها هذا الخاتم المرصع باللآلئ والياقوت استغراقاً منه في جو النساء واصطناعاً منه لما تحبه النساء، وصدره قد انكشف عن القميص فبدا شعره كما بدا الشعر في ساقيه، والشعر في الرجل خشونة تنجذب إليها المرأة الناعمة. . . وهذه الملابس الشرقية التي تسخرين منها هي حلم من الأحلام يتردد في نفوس أهل الغرب، كما يتردد في نفوس(339/44)
الشرقيين الأمل في مشاهدة باريس وفيينا وبوخارست. . . وهذه القطعة من الخشب التي تعيبينها هي القاعدة التي أقامت المصورة عليها هذا الموضوع كله بما فيه من الفكرة والعاطفة والخيال بهذا الأسلوب الواضح المستقيم، والذي لا أظن أن غيرها يشاركها فيه إلا من كان مثلها منساقاً في فنه إلى طبيعته وفطرته. وهذه هي المرتبة العليا من مراتب الفن
- وما رأيك في (389)؟
- هي غطاء لهذه الصورة الجريئة الحلوة، فالسيدة رايفون لم تشأ أن تعرض (388) وحدها لئلا يفهم أن لها اتجاهاً نفسانياً خاصاً فجاءت بهذا (العيد) كما تسميه، وصورته فتاتين أسبانيتين بينهما شاب جميل المظهر حقاً، ولكنه كالدمية البلهاء، حتى إذا رأى الناس هذه الصورة رأوا فيها طهارة تجري مع التقاليد والعرف والآداب العامة، وتمحو أثر الصورة السابقة أو ما يمكن أن يكون لها من أثر، ولعلها جعلت (العيد) تالياً لصورة هذا الفتى تجيء بعدها في الترتيب لهذا الغرض نفسه، ولعلها أمسكت عن تسمية صورة الفتى بأي اسم من الأسماء تكتما أيضاً. . .
- وهل الفن عيب يتكتمه الناس؟
- ليس فيه من عيب، ولكن ناسا يخشون ما فيه من الحق وناساً يسيئون تفهم هذا الحق، وناساً يتخذون الحق سلاحاً يقتلون به الفنانين في نظر الجمهور قتلاً باطلاً وبهتاناً. . . على أي حال. . . إنك فتاة وتستطيعين عني أن تشيعي قبلة الإعجاب إلى صاحبة (388). . .
عزيز أحمد فهمي(339/45)
الأدب في أسبوع
منهجي في هذا الباب
للأستاذ محمود محمد شاكر
عهد إليّ الأستاذ (الزيات) أن أتولى تحرير هذا الباب من (الرسالة)، فأجبت إرادته بالتسليم، وأنا أجد المعاني في نفسي حائرة لا تكاد تقر؛ فقد لحقتني إرادته والحياة من حولي تفتِّرني حتى ما أحس من فورتها إلا القليل، والنفس منبوذة على حدود النشاط في كسلٍ مجدب بالقحط والظمأ لا يهتدي إليه رِيٌّ ولا شِبَع. وإذا كانت النفس كذلك لم يأت خيرها إلا من طول الإحساس بالحرمان والألم، فهي تريد أن تتكلم من نوازعها بألفاظ ثائرة ضائعة حائرة كأنما تبحث عن نفسها في معانيها. . . ثم لا تتكلم، وثن على ذلك لا تطيق التأمل في المادة التي تعرض لها إلا بمقدار من الرغبة في البحث عن نفسها في سر نفسٍ غيرها لتجد عند ذلك أسباباً تهتاج بها وتضطرب. وإذا لم تجد النفس لذتها المؤلمة إلا في انتزاع الآلام المحرقة مما ترى وتسمع وتتخيل، فكيف تعيش أفكارها إلا في دخانٍ من الأحزان الصامتة صمت الفكرة المختنقة التي لا تجد أنفاسها ولا جوّ أنفاسها. هكذا أَجدُني
وهذه النفس المنبوذة بما جنت وبالذي لم تجن من شيءِ، هي النفس التي أريد أن أتولى بها النظر فيما يعرض لي من شؤون الأدب في أسبوع من أسابيع (مصر)، ولقد تشاكلا ووقع حافرٌ على حافر في حَلْبة مغلقة. فنفسي الآن هي نفسي التي لا أكاد أجمعها وألم أشتاتها إلا قليلاً، وما هو إلا أن أراها مبعثرة تَفِرّ مني أوابدها في كل وجه، وأقف أنا أتلفت. . . أنظرها وهي تغيب في ظلام الأحزان، وتترك عندي أطيافاً من الذكرى تطوف في تأملاتي مرسلة من مزاميرها ونايها أنغاماً حزينة مهجورة متفجعة كأنما تقول هذا مكان كان أهله ثم بادوا. وهكذا أيضاً أجدني
في بعض الإنجيل هذه الكلمة: (من وجد نفسه أضاعها، ومن أضاع نفسه من أجلي وجدها)؛ أفيكون معنى ذلك أن النفس الإنسانية لا توجد باقية أبداً إلا وهي مستهلكة، وأن الأشياء الشريفة التي تهلك هي بعينها التي تحيى، وأنه لا معنى للشيء الحي إلا أن يجتمع فيه معنى الأشياء الشريفة الموت والحياة معاً؛ وأن استغرق النفس واستهلاكها في الأحزان النبيلة وتعذيبها بها هو استحياؤها وتنعيمها، وأن العمل المهلك والفكر المهلك هما العمل(339/46)
الإنساني الجليل الذي خلقت من أجله الحياة على الأرض! وعلى ذلك لا تكون النفس حية أبداً إلا وهي سائرة بالحياة في مسبعة من الموت، يتخطفها كل شئ حتى الأسباب التي يستوجب بها الحي صفة الحياة! إذن ما أعجب الحياة
وإذن فقد فرت مني المعاني التي أحمل نفسي الآن على علاجها، واستجهلتني الآلام في عواصفها حتى ذهبت هذا المذهب المزين من القول لأقدم به الكلام في هذا الباب الذي عقده (الزيات) للأدب، ومع ذلك فإني لأرى الصلة التي تصل أصل هذا الباب بالأصل الذي في نفسي، فإن تتبع (الظواهر الأدبية) ينبغي أن توفر له أسباب الاستقرار النفسي حتى يستطيع الكاتب أن يجمع إليه المعاني ويضرب عليها الحصار حتى يفندها أو ينقدها أو يحصيها أو يبين عن غامضها أو يكشف أستارها أو يقدم لها بالنظر والفكر والتوهم - ما يوجب بعض النتائج التي تفضي به الآراء إليها، وذلك يمكنه أن يوجد للأدب ميداناً تستعرض فيه أعماله التي يدأب الأدباء والكتاب والشعراء وأصحاب الرأي في صنعها وتجويدها. فإذا تناول هذا الأمر بالنفس التي لا تستقر ولا تهدأ كان عمله أقرب إلى الثورة - أي إلى الفوضى - من حيث يريد أن ينظم، ومع ذلك فإن الخير كل الخير أن نحاول الحياة كما تحاولنا بالاقتسار والعنف، وأن نقبل عليها وهي مدبرة بالبرهان على إمكان احتمالها جافية كانت أو ناعمة، ومؤلمة كانت أو مريحة، ومنصفة كانت أو باغية، وأن نأخذها من حيث نرى الرأي أنه هو أجدى وأنفع، وأيضاً فإن المصدر الحي للأدب إنما هو النفس، فهو يصدر عنها موسوماً بسمتها، أما مستقرة هادئة مفكرة في جو من الراحة، وأما ثائرة لماحة متخطفة في مسبح الأحلام والآلام والأماني المعذبة بالحرمان، فليس إذن من المنكر أن ينصب امرؤ لا تهدأ نفسه لمثل هذا الباب الذي وصفناه وأن يتناول هذا الأدب بما يتداوله من الإحساس المشبوب والنظر الخاطف والرأي العنيف أو أي ذلك كان
وأحب أن أعهد قبل أن أتكلم، فإني رأيت الأدباء قد أكل بعضهم بعضاً بألسنة كظهر المبرد، وتشاحنوا بينهم للكلمة التي لا ترفع ولا تضع، وتنابذوا على الأهواء الغالبة المستكلبة، ومن كان ذلك هجيراه ودأبه، فهو عند النقد أو الاعتراض كالوحش المجوع الغرثان قد أجهض عن أشلاء فريسته، يكاد ينقد عليه إهابه من الغيظ والحقد والرغبة في الإيقاع بمن يصرفه عن أحلام معدته. وهذا أسوأ الخلق وأبعده عن صريح نهج الأدب،(339/47)
وأقله غناء في تهذيب الأديب، وما أظن أن في الدنيا العاقلة أديباً تخيل له أوهام (العبقرية) للطائفة به أنه قد سبق السهو والخطأ وبقي النقد والنقاد لقي وراءه يتلوذون بظلاله - في طلب البركة! ومع ذلك فأن بعض من عناه القدر فرمى به في غيل الأدب العربي يتصيد،. . . يقتات من أوهام العبقرية حتى حبط بوهمه في نفسه، واستكرش ونفش بما أكل حتى تضلع، ثم استلقى على الأفياء يتخيل أن الأدب كله قد وقف عليه من عند قدمه إلى رأسه يهدهده حتى ينام في ظلال الملك الهنيء. ومن كان هذا مثاله من الأدباء، وعرضنا لبعض قوله بالنقد، فلا يتخيلن أنَّا نعنيه هو بذاته - فهو موفور الأحلام على نفسه أن شاء الله - وإنما نعرض للقول على أنه كلام مقول يقع فيه السهو والخطأ، وتتعاوره الصحة كما يتعاوره السقم، وأنه كلام مصبوب على الناس وعلى أسماعهم وأذهانهم، فنحن بنقدنا كلامه، إياهم نريد، وإياهم نخاطب، وعسى بعد أن يكون له في هدأة من نفسه رأي يتابعنا به إن أصبنا أو يسددنا ببيانه إن أخطأنا، وما نألو في الاجتهاد، ولكن ربما حرم الإنسان التوفيق فيما يأتي وما يذر
هذه واحدة فيما نبدأ به؛ أما ما يقع بين الأدباء من المجادلات والمنافرات، فحقها من هذا الباب التسجيل، فإن بقي لنا في القول مقال نقوله - نتعقب به الأصل الذي يقع عليه الاختلاف والتنافر - لم نقصر في تحقيق البيان وتحريره، متعاونين في جعل الحقيقة أسرع إلى إثبات وجودها والدلالة على نفسها حتى تتجلى
وأما الشعر والشعراء وما يلوذ بهما، فأنا حين أغمض عيني لأجمع عليّ خيالي ورأيي وفكري، أنتهي إلى مثل الغيبوبة من الحسرة واللهفة والألم. فقد فرغ الشعر من بيانه ومعانية ومعارضه الفاتنة، ووقع إلينا أوزاناً تتخلَّج بما تحمل تخلج المجنون في الأرض الوحلة، وما أظنه يعتصم في هذه الأيام إلا بشاعرين أو ثلاثة، ولكل منهم مذهب، وكل قد قذفت به الحياة في مهنتها وابتذالها حتى صار أكثر فراغه مستهلكاً على صناعة أو وظيفة تطعمه العيش وتحرمه لذته، ومع ذلك فهم يقولون ويتكلمون والسامعون ينصرفون عنهم لسوء رأيهم في الشعر الحاضر أول، ثم لكثرة ما يسمعون من كلام لا يحرك عاطفة لأنه لا يصدر عن عاطفة، وما يزال ذلك يتوالى عليهم، حتى أنهمك لا يكادون يعرفون السعر إلا هكذا ثقيلاً غثاً بارداً، فكيف لا ينصرفون عنه، ومن ذا الذي يرضى أن يحمل نفسه إلى(339/48)
(ثلاجة) وهو يعد في العقلاء. فكذلك ضاع شعر هؤلاء الثلاثة في غثاثة الكثرة، ثم فترت أنفسهم ولا تزال تفتر - إلا أن يشاء الله - لما يجدون من غفلة السامعين عنهم، وليس كلهم يستطيع أن يقول كما قال صاحبهم الأول:
لم يَبْقَ من جُلِّ هذا الناس باقيةٌ ... ينالها الفَهْمُ إلاّ هذه الصُّوَرُ
أهزُّ بالشِّعر أقواماً ذوي وَسَن ... في الجهل، لو ضُربوا بالسيف ما شعروا
عليَّ نَحْتُ القوافي من مَقَاطِعها ... وما عليَّ لَهُم أن تَفْهَم البَقَرُ
وكذلك نخشى أن يأتي على الناس زمان يضيع فيه الشعر الجيد أو يرفع حتى من صدور هؤلاء الثلاثة. ولست أدري الآن كيف يتاح لي أن أنهج مع الشعر والشعراء نهجاً يكون رضي ومقنعاً وباعثاً على تجويد الأساليب والمعاني حتى ينقذ الشعراء فنهم من الضياع؟ فلتدع هذا إلى حينه، والى رأي الشعراء في (مطالبهم)، فقد صار لكل أصحاب صناعة مطالب وحقوق - حتى النساء، فكيف لا يعرف الشعراء مطالبهم وحقوقهم وهم أرهف إحساساً وأنبل مقصداً وأبين بياناَ!!
وأما الكتب التي تصدر في خلال الأسبوع أو قبله بكثير أو قليل فسننهج لها نهجاً مخالفاً لمنهج العرض الكامل أو النقد الشامل، فإن هذا أحق به باب (الكتب) و (النقد)، وإنما نعرض لها من حيث يتوجه لنا الرأي في غرض الكتاب الذي يرمي إليه، وأين يقع منه. ورب كلمة واحدة في صدر كتابٍ أو ذيله، لم يعرض لها الكاتب إلا شارداً أو كالشارد، ثم تكون هي ترج بمعانيها على الكتاب كله وعلى أغراضه أيضاً، فربما وقفنا عند هذه وقفة تجيش لها النفس من نواحيها، فنحتفل لها أشد احتفال وأعظمه لتكون كالعلم على المعاني النبيلة التي تضيع في خرائب الكتب
وبقيت كلمة. . .، فقد أحسن (الزيات) إذ تنبه إلى هذا الباب - الآن - من أبواب مجلته وقد أغفله كل هذه السنين. فإن الحرب والثورة وما في معناهما هي اضطراب عنيف يهز أعصاب الحياة ويقضقض أوصالها، فلا جرم إذن أن تدور الرؤوس وعقولها دورات كثيرة حول نفسها، فتختل الأوزان والمقاييس في كل شئ، وأن تبدأ الحياة بعد الحروب بدءاً جديداً؛ ويكون الناس إذ ذلك كالناشر من باطن الأرض وقد خرج من أكفانه ليرى ظاهرها كل شئ غريب وغير مفهوم، ومع ذلك فهو جديد لذيذ لا يمل وإن كان كله خطأ وفساداً(339/49)
واستحالة وسبباً من أسباب الفناء؛ وكذلك يكون الأدب والأدباء بعد الحرب، كما أخرجت الحرب الماضية ثم الثورة المصرية سنة 1919 جيلاً من الأدباء استفحل أمرهم وذاع صيتهم وضربوا في الأدب بأسهم مفلولة محطمة، ومع ذلك. . .
فهذا الباب في هذه الأيام إلى ما بعد الحرب - يصور بعون الله وتوفيقه وهدايته الطرق الذي كان عليه الأدب إلى اليوم، ثم أين انتهى وكيف؟ ثم غيب ذلك كله موقوف على نوع الحرب وأساليبها وما تبدع من فنون الشر، وما تثير من طبائع الإنسان - من أنثى وذكر -، وما تحفز أو تبير من أحلام الإنسانية المتحدرة من أطباق الماضي البعيد مع الإنسان الوارث الحي على هذه الأرض
محمود محمد شاكر(339/50)
رسالة العلم
عام جديد
للدكتور محمد محمود غالي
قدمنا إلى القراء في مستهل العام الماضي العلامة الدكتور محمد محمود غالي. ويجب علينا في مستهل هذا العام أن نشكر له باسم القراء في جميع الأنحاء جهده الموفق في وصف الصورة التي يعرفها العلماء اليوم عن الكون، وما وصلت إليه الآراء الفلسفية فيه، وما بلغه العلم التجريبي من تقدم. وقد تابع العلماء والأدباء والطلبة مقالاته الثلاثين في تبسيط هذه الموضوعات العويصة بأسلوب سهل وعرض جميل وقريحة متمكنة. وسيتابعون هذا العام برنامجه الذي عرضه في هذه المقالة مدفوعين بما غرسه فيهم من رغبة الاطلاع ولذة المعرفة.
يسمونه عاماً جديداً، وليس للتسمية من معنى علمي سوى أن الأرض أتمت دورة كاملة في دورانها حول الشمس، شد كوكبنا النشيط فيه رحاله كعادته من نقطة معينة في الفضاء وظل دائراً كعهدنا به إلى أن عاد إلى النقطة التي بدأ منها المسير، واستأنف الكوكب مسيره من جديد فدخلنا فيما نصطلح على تسميته عاماً جديداً، وهو اصطلاح له معناه عند الإنسان. ذلك أنه فد مر من العمر الذي يتطلع إليه كل كائن - جزء له شأنه، فما الحياة إلا بضعة عقود مثل هذا الجزء الذي قد لا يعاود الكثيرين ممن جاوزوا العقد الرابع أمثال له كثيرة. أجل فهو جزء له خطره ومرحلة لها قيمتها من مراحل الأجل المحدود. وقد يتساءل كل امرئ عما قدم من عمل في عامه المنصرم وما اعتزم أن يقوم به في عامه الجديد
ولقد كانت غايتنا في العام الماضي أن نقوم بدورنا في تبسيط العلوم وفي تقريب الميراث العلمي للذين يريدون أن يتذوقوه. وكان ذلك لنا بمثابة مرحله من مراحل الراحة بعمد ما استلزمته السنوات التي قضيناها في أعمال البحث من تعب متواصل في الفكر وفترات طويلة في العمل. وكان واجباً علينا أن نقوم بهذا النوع من التبسيط نحو القراء من المصريين وأهل الشرق بل نحو اللغة العربية، ففي عالم الغرب مئات من المؤلفات في هذه الموضوعات وأمثالها، وقد قام بتأليفها لفيف من كبار العلماء والكتاب في وقت خلت مكتباتنا من أمثالها من المؤلفات، وفي هذه البلاد الغربية لم يتأخر علماء معروفون عن(339/51)
المضي في كتابة المقالات العلمية في المجلات الأسبوعية أو الشهرية يقربون فيها للقراء أقصى ما بلغه العلم وأعظم ما وصلت إليه المعرفة. ويحضرني في الذاكرة مقالات جان فابري القيمة التي نشرها في مجلة (العالمين) ومقالات غيره من العلماء المعروفين في مجلة (الشهر) تعتبر من أرقى وأشهر المجلات العالمية في الوقت الحاضر. بل لم يتردد آخرون في القيام بتأليف الكتب المبسطة كالتي نراها للعالم الكبير لويس دي بروي وشقيقه الدوق موريس دي بروي (وقد أخرجا في العام الماضي ثلاثة كتب من هذا النوع) وكالتي نطالعها للسير جين والعالم الفلكي أرثر أدنجتون، وهم من مشاهير الإنجليز وممن خطوا كتباً رائعة في باب تبسيط العلوم. وقد ظهر للأخير منهم هذا الشهر كتاب في فلسفة العلم الطبيعية لا زالت الحرب تمنع أن تصل إلينا نسخة منه، نستمتع بها فيما نستمتع به من كتبه العديدة التي هي من أبدع ما جاء بها الكتاب في عالم التأليف
ولقد أفسحت لنا الرسالة، وهي التي تسجل مظاهر التجديد في الآداب العربية، المجال للتأليف العلمي، وخصصت لذلك صحيفة معينة، وجعلت في برنامجها رصد ظواهر التطور في الحركة العلمية، وبدأنا استعراضنا في العام الماضي بمقدم استغرقت ثلاث مقالات ذكرنا فيها: لماذا نحاول تصوير الكون وفق الآراء الحديثة؟ وتناولنا بعد هذه المقدمة ثلاثة موضوعات رئيسية، استغرق كل واحد منها سلسلة من المقالات المتتابعة.
الموضوع الأول تكلمنا فيه عن الحياة وهل هي وليدة المصادفة وشرحنا فيه شيئاً عن علاقة ذلك بالنظام الشمسي للمادة. والموضوع الثاني تكلمنا فيه عن الكون، وبينا للقارئ كيف يكبر الكون في مجموعه، وكيف تبتعد جميع العوالم فيه بعضها عن بعض، وكيف استدل العلماء على ذلك من البحث التجريبي، وكيف أثبت البحث النظري صحة ما ذهبوا إليه. ولعل أظهر ما في هذا النوع من الأبحاث ما ذكرناه للقارئ من وجود علاقة بين الكون في مجموعه وبين أصغر ما فيه وهو الإلكترون. والموضوع الثالث عالجنا فيه الأشعة الكونية، وأردنا بذلك أن نطلع القارئ على أعجب ما نعرفه من الأشعة، وهي الأشعة الخارقة التي تستطيع أن تخترق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص بينما لا تخترق أشعة الشمس غلافاً رفيعاً من الورق، وشرحنا كيف يستدل العلماء على مرور جسيمات هذه الأشعة الخارقة بسماعها، ويحصلون على صور مسارات هذه الدقائق(339/52)
المتناهية في الصغر، ووصفنا في موضوع الأشعة الكونية الذي بلغ خمس مقالات غرفة ولسون المشهورة التي هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة، ووجهنا القارئ بهذا إلى نواح حديثة في العلم التجريبي تبين له منها مسائل جديدة وبحوث عظيمة الأثر، فرأى القارئ مثلاً كيف ساعدت هذه الغرفة في الكشف عن البوزيتون، الذرة الموجبة للكهرباء، وما تبع ذلك من فروض في ماهية وكنه هذه الأشعة العجيبة التي تخترق أسقف منازلنا أينما وجدت وأجسامنا أينما تكون
والموضوع الثالث استغرقنا في كتابته اثني عشر مقالاً ولم ننته منه بعد، وقد تناولنا فيه حبيبات المادة والكهرباء والضوء فتكلمنا عن الجزيء، وبينا أن حركة الجزيئات سبب العمليات الحرارية، وشرحنا فلسفة ليبنز وفكرته في إرجاع الحرارة والحركة إلى أصل واحد، وشرحنا المبدأ الثاني للترموردينامنكا، وذكرنا تفسير بولتزمان لهذا المبدأ الثاني فشرحنا كيف تحتم قوانين المصادفة على الجسم المرتفع الحرارة أن يعمل على تسخين الجسم المنخفض الحرارة، ولماذا لا يكون العكس صحيحاً؟ وخرجنا من ذلك بذكر عقيدة العلماء في الطريقة المحزنة التي ينتهي بها الكون، وهي عقيدة لم نوافق عليها. ولم نستند حتى الآن في عدم موافقتنا هذه إلى أسباب علمية، بل اعتقدنا تعذر قبول الامتداد في الظواهر وقنعنا بصعوبة الحكم على مستقبل الزمن، وكانت الحياة وما تبعث فينا من دهشة، واختلافها عن كل ما نعرفه من الظواهر، سبباً عندنا لمخالفة العلماء الحراريين فيما ذهبوا إليه، وانتقلنا من الكلام عن الجزء إلى الكلام عن الذرة، فذكرنا عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف، وبينا وجه الشبه بين عمل الأخير في الكشف عن العناصر، وعمل في الكشف عن الكواكب الجديدة، التي لم تكن معروفة لسكان الأرض، وانتقلنا بعد ذلك من الذرة إلى الإلكترون فتكلمنا عن الكهرباء وذكرنا أنها كالمادة ظاهرة ذرية، وتحدثنا عن الشقيقين، الإلكترون والبوزيتون، أو السالب والموجب، وأتينا على تجارب مليكان الخالدة التي استطاع بها أن نفصل جسيماً حاملاً لإلكترون حر واحد، وبينا كيف تحدثت الأرقام إلى هذا العالم، وكيف أنه، من عملية حسابية بسيطة هي عملية القاسم المشترك الأعظم استنتج وحدة الكهرباء وقاس شحنة الإلكترون وتوصل بعد ذلك لمعرقة وحدة من أهم وحدات الوجود. هذا ما استعرضناه في عام، وما انتهينا إليه في مقالاتنا السابقة التي(339/53)
أرجو أن يكون قد أفاد منها عدد كبير من القراء الذين أردت أن أوفر عليهم عناء كبيراً في مطالعة موضوعات باتت من أصعب المسائل العلمية وباتت رموزها لغير المختصين في هذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لم يدرسها
وجب علينا بعد ذلك، وقد بدأ عام جديد، أن نتم هذا الموضوع الأخير الذي تعرضنا فيه لحبيبات المادة والضوء والكهرباء، فننتهي من قصة الإلكترون الرائعة ونذكر عمل جان بيران ونتكلم عن حبيبات الكون الأخرى: كالفوتون والنيترون والديترون، وغيرها من المكونات الأولى للخليقة، التي تلعب على مسرح الوجود دوراً هاماً، والتي يجد الإنسان في دراستها علاقات تساعده على فهم الكون وقصة الوجود. فإذا انتهينا من هذا تناولنا على الأثر، وفي بدء هذا العام موضوعات رئيسية ثلاثة: نتمم بها وصف الهيكل الرائع للكون وما يحدث فيه، ونعالج فيها أقصى ما بلغه الإنسان المفكر في المعرفة:
الموضوع الأول يخص فكرة النسبية عند أليرت أينشتاين وهي الفكرة التي أدخلت تفكيراً عميقاً على معارف البشر. والموضوع الثاني يخص التفتت الذري وهو الموضوع الذي يصبو العلماء الآن في تياره إلى الوصول إلى نوع جديد من المدنية، يصبح الإنسان فيه أعظم سيادة في استعمال الموارد الطبيعية، وأعظم شأواً في الاستمتاع بالحياة في وجوه لا نعرفها نحن اليوم. والموضوع الثالث موضوع الكم وعلاقة ذلك بفكرة القضاء والقدر، وهو موضوع يعتبر العارفون اليوم أن لا غنى عنه في دراسة الفلسفة الحديثة، والتقرب من معرفة قوانين الكون. ونرجو ألا يفوتنا أن يذكر للقارئ شيئاً عن الموجية ومؤسسها دي بروي وشيئاً عن تيارات التفكير الحديث، وأن نختم موضوعنا بكلمة عن الإنسان القادم والآمال المعقودة عليه. بذلك نكون قد تناولنا سلسلة من الموضوعات المتصل بعضها ببعض، يستطيع القارئ عند مطالعة إحداها أن يعرف شيئاً عن أحدث ما نعرفه في التفكير، وعند متابعتها أن يقف على صورة هي أقرب الصور لحقيقة الكون والوجود
ولو أننا أردنا أن نتناول الموضوعات الثلاثة المتقدمة بالعناية والدرس لأمكن أن يستغرق كل منها عاماً أو ما يزيد، ولكنا ونحن نتوجه بكتاباتنا أيضاً لغير المختصين في العلوم، ولأولئك الذين يبغون ألا تظل العلوم الحديثة غريبة عنهم، نكتفي بضع مقالات بحيث نستطيع بعد مضي ثلاثة أو أربعة شهور من العام الجديد أن ننتهي من هذه الموضوعات(339/54)
العلمية والدراسة الفلسفية ونبدأ عرضاً من نوع جديد
وغرضنا في هذا العرض الجديد أن يقف القارئ على معرفة بعض الاختراعات التي يقابلها في حياته اليومية ويستعملها في كثير من شئونه، ويشعر إزاءها بشيء من الإعجاب. من هذه الاختراعات الراديو ونقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، كذلك (التليفزيون) أي الرؤية من بعيد
على أن بعض هذه الموضوعات تتصل بعلماء ومخترعين ساقني الحظ للعمل معهم أو التعرف إليهم. أذكر على سبيل المثال بيلان مخترع البلانوجرام، وهو الجهاز المعروف باسمه الذي يستعمل لنقل الصور الفوتوغرافية باللاسلكي، وهو الذي ترك لي بعض هذه الصور المنقولة بهذه الطريقة، والتي تمت في بدء نجاحه، وأذكر روبير بيروه مكتشف (البالون الكاشف) الذي منحني كثيراً من الصور الخاصة باختراعاته، والتي لا يصح أن تكون ملكا لي، بل يجب أن يستمتع بها كل قراء العربية.
ولعلي بهذا وذاك أكون ق وصلت مع القارئ إلى أحد أغراضي في أن يتتبع أحدث ما نعرفه في العلم ويقف على أعجب ما نعلمه من الاختراع، ويكون قد تعود ذهنه على تتبع مسائل تعد في الواقع من باب الموضوعات الصعبة، إلا أنها موضوعات أصبحت لازمة لإتمام حلقة المعرفة.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(339/55)
القصص
سيدنا. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
كنا في مجلسنا من شرفة النادي حين لمحنا صديقنا الأستاذ ع مفتش التعليم الأولي قادماً من بعيد، يتوكأ على عصاه وهو يميل يمنة ويسرة، ويطول في مشيته ويتقاصر؛ إذ كان في رجله عرج قديم من التواءٍ في إحدى قدميه؛ فلما بلغ حيث كنا جالسين، ألقى إلينا التحية ثم اتخذ له مقعداً على مقربة
ومضينا فيما كنا من الحديث. نتسرح من فن إلى فن، وشئون الحديث تتداعى معنى إلى معنى وحادثة إلى حادثة. وقال واحد من السامرين: (رحم الله سيدنا. . . . . . . . .!) فلم يكد يتم عبارته حتى اعتدل المفتش في مجلسه واختلجت شفتاه في تأثر وانفعال، ثم اهتبل الحديث يقول:
(سيدنا؟. . . رحمه الله وغفر له!)
وتوجهنا بأبصارنا إلى الأستاذ ع، وقد أدركنا من حاله أن خاطراً من ذكرياته قد ألم به الساعة، وأن شيئاً ذا بال في كلمة (سيدنا) قد أيقظ نفسه وهاج عاطفته، فرغبنا إليه في أن يقص قصته؛ فمضى يقول: كان سيدنا الشيخ عبد الجليل له في القرية مكان واحترام، لا يبلغ منزلته أحد من أهل القرية جميعاً. ولا عجب، فهو شيخ القرية وعالمها ومعلم بنيها؛ يستفتونه في أمر دينهم، ويستشيرونه في شئون دنياهم، وما منهم أحد إلا له عليه يد، ولا ذو حاجة إلا كانت حاجته عنده، ولا ذات أمل إلا بلغت مأمولها برقية من رقي الشيخ أو تعويذة من تعاويذه
وكان له (كتّاب) يختلف إليه طائفة غير قليلة من صبيان القرية يحفظون القرآن ويتعلمون القراءة والكتابة، ويقصد إليه ذوو الحاجات يطلبون مشورته أو يلتمسون بركاته
وكنت - ككل فتى في القرية - أسمع باسم الشيخ وأضمر له في نفسي من المحبة والاحترام مثل ما يضمر له الجميع، وإن لم يتهيأ لي مرة أن أراه رأى العين. وذات صباح صحبني والدي إلى مكتب الشيخ نعبد الدليل ليكل إليه تعليمي. وكنت يومئذ في التاسعة من عمري وقد شدوت من العلم شيئاً في مدرسة أولية بالمدينة حيث كنت أقيم عند خالي.(339/56)
ومضيت خلف أبي على طول الطريق لا أفكر إلا في السعادة التي تنتظرني ساعة أجلس بين يدي الشيخ المبارك أنظر إليه وأسمع عنه وأحفظ من علمه. . .
ورأيت الشيخ يومئذ لأول مرة. لقد بدا لي أصغر سناً مما كنت أتصوره في خيالي؛ وأحسبه كان صغيراً حقاً؛ فإنه على ذيوع صيته وامتداد شهرته في القرية، لم يكن قد جاوز الأربعين بعد. عرفت ذلك من لحيته السوداء وشاربه المحفوف. وكان في وجهه ذبول وعليه مسحة من صور الزهاد، أنبأتني بذلك عيناه الناظرتان أبداً إلى تحت؛ ولكنه على ما كان يبدو في وجهه وفي عينيه من التواضع والانكسار، لم يكد يرى أبي مقبلاً عليه بالتحية، حتى مد له يمناه؛ فطأطأ أبي رأسه ومال على يده فقبلها! حينئذ لم أملك إلا أن أفعل مثله، أنا الذي لم يقبل يداً قط، حتى يدي أبيه وأمه!
ومنذ ذلك اليوم، صرت تلميذاً من تلاميذ سيدنا الشيخ عبد الجليل. على أني لم أجد في نفسي لذلك من السعادة ما كنت أتوقع؛ فما هي إلا ساعة أو ساعات في مكتب سيدنا، حتى ضاقت نفسي وأحسست مثل إحساس السجين يحاول أن يفر من حراسه!
كان الشيخ جالساً في صدر المكان على فروة قديمة ناحلة، وظهره مسند إلى وسادة حائلة اللون، وبين يديه قميص يرقعه، وعن يمينه دلوٌ فيها جدائل من خوص أخضر؛ وتحت رجليه عصا غليظة يبدو طرفاها من تحت الفروة التي يفترشها؛ وأمامه صبيٌّ من صبيان المكتب متربع في مثل جلسة المعبود (بوذا) وهو يهتز بين يديه في حركة رتيبة؛ ويقرأ شيئاً من غيب صدره في نعمة واحدة ليس لها لون ولا فيها معنى، وسيدنا مكبٌّ على عمله يرقع قميصه وهو يستمع إلى الصبي، لا يزيد على أن يرفع عينيه إليه بين لحظة وأخرى. وفي المكتب عشرات من مثل هذا الصبي، قد تربعوا أفراداً وأزواجاً على حصير كبير يغطي أرض الغرفة جميعاً، وبين أيديهم كتب وألواح يقرءون مما فيها حيناً، ويتبادلون الحديث من ورائها في نظرات صامتة حيناً آخر؛ والشيخ يخيط أو يجدل ضفائر الخوص، والصبي بين يديه يقرأ. . .
وكنت غارقاً في تأملاتي لا أكلم أحداً ولا يكلمني أحد، لا لحظة عين ولا بنت شفة، حين دوي صوت سيدنا غاضباً يتوعد. . . ومال على فخذ الصبي أمامه يقرصه بغيظ والصبي يتلوى من الألم لا يكاد يسمع صوته من خوف سيدنا!(339/57)
وكان هذا أول الشر؛ ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر؛ ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه. ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه، فندت من بين شفتيه صرخة ألم! حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه (العريف) يعاونه على تأديب الصبي؛ وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولاً على الأرض معلقاً من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوى على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى وبعض على شفتيه من ألم الضرب!
أحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقاً وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعاً منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتبابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور. ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين لدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرأها لترد عني الشر الذي أخاف!
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان المكتب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير؛ ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه. وأني لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعاً ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يتسمحون لواحد من بينهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن (عصا سيدنا من الجنة!)
منذ تلك اللحظة، تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شئ إلى، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. ومالي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسئ إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها، لا أدع قلماً منها له سن تصلح للكتابة؛ وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها تراباً وحصى، وتارات أخرى. . . وما كان سيدنا يعلم من يفعل ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان المكتب جميعاً غرماؤه. . .!
قضيت في مكتب الشيخ عبد الجليل شهراً وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم!(339/58)
كان عليَّ في ذلك اليوم أن أحفظ جزءاً من القرآن الكريم فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل؛ وحلّ ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفاً من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش؛ وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري، حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض ويهوى على رجلي بعصاه!
ومضت ساعة قبل أن يحلَّ ميعاد صبيٍ من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل لنصيد العصافير؛ فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد. . .
وجلس الفتى بين يدي سيدنا مضطرباً منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا؛ وطرق مسمعي قوله: (وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير. . .؟)
ونادى عريفه فأسرع بأداته إليه، وناداني. . . . . .
وقبل أن أرى صاحبي مجدولاً على الأرض، معلقاً من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة؛ فاستجمعت قوتي ووثبت!
لم أدر بعد ذلك شيئاً مما كان إلا وأنا راقد في فراشي، ورجلي مشدودة إلى خشب بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت!
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غالياً، فانكسرت رجلي؛ ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستنداً على عكاز!
وتأوه المفتش وهو يبعث في الأرض بعصاه؛ وغرق السامرون صمت؛ ثم عاد المفتش إلى حديثه:
لم يكن لي طبعاً أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان؛ فدخلت المدرسة الأولية في المدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه؛ ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤلمة مرة؛ ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني؟(339/59)
وتأرث الحقد في قلبي يومئذ لسيدنا، فما كان يخطر ببالي مرة إلا ثارت في نفسي شياطين الشر. . .!
وأتممت التعليم الابتدائي والثانوي؛ وكنت أقضي الصيف من كل عام في القرية؛ فكان لابد لي أن ألقي سيدنا أو تلميذاً من تلاميذه عابراً في الطريق، فأطأطأ رأسي وأوفض في السير خشية أن تنزو بي نازية من الشر فأهوى بعصاي على رأسه فأحطمه!
ترى أكان ذلك شعوري وحدي، أم هو شعور الكافة من تلاميذه الذين ذاقوا من قساوته وعنفه ما لا طاقة لأحد باحتماله؟. . . ولكني أكاد أعرف تلاميذه جميعاً. وهل في القرية كلها رجل واحد لم يكن من تلاميذ سيدنا في يوم ما؟ وإنهم مع ذلك ليوقرونه ويرفعون مكانه؛ وإن منهم لرجالاً في مناصب رفيعة، وإن لي منهم لأصدقاء وزملاء!
وأتممت دراستي العالية، لأكون في أول عملي مدرساً في مدرسة من مدارس البنات الابتدائية، تتبعها روضة من رياض الأطفال، بضم شتيتاً من الصبيان والبنات بين الخامسة والثامنة تعلمهم وتهذبهم على نمط من التربية لم يكن معروفاً لعهدنا في مثل هذه السن. . .
وكنت أغدو وأروح كل يوم من عملي على هذه الروضة الضاحكة، فيسرني مرأى هؤلاء الأطفال الصغار في ثيابهم المتشابهة، يلعبون ويمرحون في بسيط من الأرض تحت رعاية معلمة عطوف، لها قلب الأم وحرص المربية، تأخذهم في اللعب؛ وتنفذ بكل أولئك إلى قلوبهم وعقولهم؛ فتنشئهم نشأة رقيقة، وتصقل وجدانهم وعواطفهم، وتطبعهم من لدن نشأتهم على الخير والمحبة والسلام!
وعلى قدر ما كان يسرني مرأى هؤلاء الأطفال، كان يتولاني شعور بالأسف على أني لست صبياً. . .!
وكان أدنى هؤلاء الأطفال العزاز منزلة إلى قلبي، هو الطفل (فؤاد)، فإني لأعرفه ويعرفني، وبيتي وبين أبيه صلة من الود؛ إذ كانت نشأتنا في بيتين متجاورين من القرية التي فارقناها معاً منذ آثرنا أن نكون في خدمة الحكومة، وكان أبوه زميلي في كتاب سيدنا، ولكنه لم يفارقه حتى أتم القرآن!
وكان فؤاد يلقاني صباح كل يوم فيحييني تحية طفلية رقيقة، ويود عني في العصر بمثلها، فلا أزال من تحيته بين الصباح والمساء في نشوة وطرب. وكثيراً ما كانت تحضرني إلى(339/60)
جانب صورته - صورة أبيه في صباه، جالساً على الحصير من كتاب سيدنا، وبين يديه لوحه وكتابه، وهو يهتز هزات متوالية، ويدور بعينيه بين الصبيان يبادلهم الحديث غمزات ونظرات. . . . . .
واستمر المفتش في حديثه يقول:
هل كان هذا الطفل ومثله معه من أطفال الروضة، إلا لعنة حية تذكرني ما كان من جناية سيدنا علي في صباي وتؤرث البغضاء في قلبي!
. . . وتنقلت في مدارس عدة، حتى بلغت أن أكون مفتشاً. . وعلى أني كنت أعلم ما يلقاه المفتشون من المشقة والجهد، وما يتحملون من النصب حين تضطرهم تكاليف الوظيفة أن يبيتوا ليالي عدة بعيدين عن أسرهم وأولادهم متنقلين بين القرى والدساكر - فإني كنت جدَّ مغتبط بما أُسند إليّ من عمل؛ لا زهواً بالمنصب، ولا رغبة في الجاه؛ ولكنها كانت أمنية قديمة في نفسي، ليكون لي منها فرصة لتطهير القرى من مثل كتّاب سيد الشيخ عند الجليل. . .
أكان ذلك مني عن إخلاص وحرص على مصلحة التعليم، أم كان إيحاء من الواعية الباطنة التي تختزن الذكريات إلى إبانها، تحاول أن تخدعني به عن حقيقة الشعور الذي يضطرم في نفسي بالحقد والبغضاء لسيدنا؛ فتدفعني إلى محاولة الثأر والانتقام وهي تسمى ذلك إخلاصاً في العمل وحرصاً على مصلحة التعليم. . .؟
لست أدري، ولكن الذي كنت أوقنه يقيناً لا شبهة فيه، هو أنني كنت فرحاً بذلك، طيب النفس به؛ فما كان لي من بعد إلا أمنية واحدة، هي أن يكون كتاب سيدنا الشيخ عبد الجليل في دائرة عملي!
ومضت سنوات قبل أن تتحقق لي هذه الأمنية!
. . . ورسمت خطتي وحددت نهجي، ودنا اليوم الذي اخترته ميعاداً لزيارة الكتاب الذي دخلته أول يوم ترف على شفتي بسمة الرضا والسعادة، وفارقته يوم فارقته محمولاً على أكتاف الناس غائباً عن الوعي مما نالني من خوف سيدنا؛ ثم لم أمش بعدها إلا متوكئاً على عكاز! وصحبتني أبالسة الشر يومين كاملين في يقظتي وفي منامي قبل أن يحين موعد هذه الزيارة؛ فما انتفعت فيهما بنفسي ولا انتفع أحد(339/61)
وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما غرمت عليه يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني!
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ! ودنا مني الصوت رويداً رويداً، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا. . . وما كان لي أن أفعل غير ذلك. . . وأعظم الناس هذه الوفاء، إذ حسبوني لم أقدم إلا لذلك، بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعدّ دون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر!
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكراً، فلم ألق أحداً من الزملاء أحدثه بحديثي؛ وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، لا، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها؛ ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء، وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي!. . . لقد كان قاسياً، جباراً، عنيفاً؛ ولكنه مع ذلك كان رجلاً للناس لا لنفسه؛ وما نالتْه في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد!
. . . فإني لغارق في خواطري وذكرياتي، إذ دخل إليّ صديق من أصدقائي ينقل إليّ النبأ الفاجع:
(فؤاد ابن صديقنا فلان. . . لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له النصح أن يكون رجلاً، ودعا حلاقاً فقص له شعره. . . وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه. . . هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد(339/62)
ليحمل تبعات الغد. . .!)
فؤاد! وا حزناه!
وحضرتني في تلك اللحظة صورة فؤاد الطفل الضاحك يلقاني كل يوم بالتحية في غدوي ورواحي على روضة الأطفال، ثم صورة فؤاد الصبي العابث يمزح مع أبيه في مجلس أصحابه وينضح وجهه بالماء يوهمه أنه عطر، ثم صورة فؤاد الفتى الخليع يمشي في الشوارع يتثنى ويتخايل بزينته، وعيناه إلى كل غادية ورائحة؛ لا يعنيه من أمر شيءٌ إلا ثيابه وزينته وشعره المرسل المصقول بالدهان والعطور كما تصقله الفتاة الناعمة؛ ثم صورة فؤاد الصريع مسجي في أكفانه، ومشيع جنازته أول من يلعنه!
وسكت صديقي وسكت، ولكن روح سيدنا الشيخ عبد الجليل ظلت تتحدث حديثها في نفسي. . . . . .
ولأول مرة منذ بضع وثلاثين سنة، شعرت بأن سيدنا كان هبة الله لهذه القرية التي أخلص لها الحب ووقف عليها جهده حتى قبضه الله إليه؛ فهتفت في تأثر:
(سيدنا. . .؟ رحمه الله وغفر له!)
محمد سعيد العريان(339/63)
من هنا ومن هناك
هل يستطيع هتلر أن يغزو أمريكا
(عن مجلة (كرانت هستري))
لعل أهم ما يشغل عقول رجال السياسة في أمريكا اليوم هو هذا السؤال
(إذا انتصر أدولف هتلر في الحرب الأوربية الحاضرة فهل يكون
انتصاره هذا مهدداً للولايات المتحدة من الناحية الحربية؟) وعلى
جواب هذا السؤال يكون رأينا في دخول أميركا الحرب الحالية أو
الوقوف بمنجاة منها. فإذا دخلنا الحرب فمن المشكوك فيه أن يبقى
نظامنا الاقتصادي الحر على هو ما عليه اليوم، وأن تبقى سياستنا
الديمقراطية سليمة مع الدكتاتورية التي تفرضها ضرورات الحرب.
لذلك أستطيع أن أقول إن احتمال مهاجمة هتلر لنا، من المسائل التي
نفكر فيها بروية واهتمام
فإذا كانت الضرورة تقضي علينا بأن نقف هتلر عند حده من الآن، حتى يتيسر لنا أن نفوز في الدفاع عن أنفسنا في المستقبل، فمن واجبنا بلا شك أن نعلن عليه الحرب من الغد. ولا تستطيع سلطة حربية أيا كانت أن تقول غير ذلك، ولكن هل يستطيع هتلر أن يغزو أمريكا؟ الجواب (لا) بأوسع ما تحوى هذه الكلمة من المعاني. فكل من له خبرة بالفنون الحربية والبحرية في أمريكا يعد الإدعاء بأن في مقدور هتلر أن يهاجم شواطئنا، باطلاً لا يستند إلى شئ من الحقيقة. فلننظر إلى الأسباب التي تدعو إلى ذلك
يجب أن نضع نصب أعيننا قبل كل شئ أنه لا توجد قوة تستطيع أن تهاجم شواطئنا الشرقية إلا إذا وضعت يدها على المحيط الأطلنطيقي. فهل في مقدور هتلر شئ من ذلك؟ إن قوة هتلر البحرية معروفة وهي لا تزيد على ربع القوى التي لدينا الآن، فإذا وقعت الحرب قريباً من ديارنا، وكان على هتلر أن يحارب على مسافة ثلاثة آلاف ميل من(339/64)
دياره، فإن هذه الميزة وحدها تعد بمثابة واحد إلى اثنين أو تزيد
وقد يقول بعض الناس إن هتلر إذا انتصر فمن المحتمل أن يستولي على الأسطول الإنكليزي فكيف نستطيع أن نقفه عند حده آنذاك؟ إنني أستطيع أن أتحدث عن تجربة شخصية في هذا الموضوع، وأستطيع أن أؤكد أن الأسطول البريطاني لا يمكن أن يحاصر أو يقع في أيد غير بريطانية. فإذا قدر لهذا الأسطول المظفر أن ينهزم، فإن النتيجة لا تعدو أمراً من اثنين: إما أن يلجأ إلى شواطئ بعيدة يتحصن بها كشواطئ كندا، ويجعلها قاعدة له، أو يغرق بيد بحارته في أجواف المحيط كما تفعل قطع الأسطول الألماني اليوم
إن نابليون لم يستطع أن يغزوا أمريكا بعد انتصاراته العظيمة، وهي بعد أمة ناشئة، فهل يستطيع هتلر أن يهدد قوانا الحالية بعد هذه لحرب التي تنذره بالدمار؟ إنني أعرف كثيراً عن الحرب، وأعرف كثيراً مما لا يجوز ذكراه الآن، وأستطيع أن أؤكد أن أمريكا إذا احتفظت لنفسها بنظام حربي معقول، فليس لقوة في الأرض أن تهددها أو تتغلب على جيوشها في يوم من الأيام.
من النبات نستمد كل شئ
(عن (ديرلد ديجست))
كم نوفر من المال وكم ندخر من الجهد، إذا أتيح لنا يوماً ما أن نخرج إلى الغابات أو نتمشى في الحدائق، فتقتطف جواربنا من بعض النبات وسجائرنا من آخر، وأطعمتنا من نباتات أخر، ونتناول اللعب لأطفالنا من نبات غير هذا وذاك! هذا حديث قد تبدو عليه سمة من الهزل، أو قد يظهر شئ من الاستحالة في إمكان وقوعه، ولكنه في الحقيقة في حكم المستطاع. ففي عالم النباتات وعالم الأشجار ما يمدنا بهذا جميعه، بل وبأكثر منه إذا أردنا. فإذا تيسر أن يوجد في مكان واحد كل ما نريد من هذه المواد، كان لدينا منها (مخازن نباتية) عظيمة تمدنا بما نشاء مما يوفر لنا أسباب الراحة
فإذا ظمئت في غابة من الغابات الاستوائية، ولم تجد قطرة ماء تبل بها ظمأك، أمكنك أن تروي غلتك بينبوع من ماء النباتات، فإذا كنت تفضل اللبن على الماء فلديك شجرة البقرة، وهي شجرة تشبه شجرة المطاط، وتختلف عنه بعصيرها العذب ذي الطعم الشهي اللذيذ،(339/65)
ويشبه طعم اللبن إلى حد كبير
فإذا احتجت إلى ملابس جديدة فلديك ما يكفيك مشقة البحث عنها، وما عليك إلا أن تمد يدك إلى شجرة (الدنتلا) وهي من أعجب أنواع الأشجار وأنفسها، فتأخذ منها ما تريد. وتتكون أفنان هذه الشجرة من لفافات صغيرة، أشبه بلفافات الورق، فإذا نشرت واحدة منها رأيتها كالصحيفة الرائعة البيضاء. أما جذع هذه الشجرة وساقها والفروع الأكبر سمكا منها فتحتوي على الأقمشة القوية المتينة المحكمة النسج. وتستعمل القطع الرقيقة من هذه المادة غلائل وأغطية للسيدات؛ أما القطع السميكة فيستعملون منها الملابس الثقيلة والسجاد وما إلى ذلك؛ وهي من القوة والمتانة بحيث تصلح لعمل الحبال والسياط
ونستطيع أن نستمد من الأشجار قبعات جميلة معدة للاستعمال وليس علينا إذا أردنا ذلك إلا أن نتسلق شجرة من شجرات البندق، لنجد في أعاليها طلبتنا من القبعات الناعمة الجميلة المحلاة بالأزهار المعدة للرؤوس
وإذا كان من السهل أن نجد في مخازن النبات ما يصلح قبعات لرؤوسنا، فأسهل منه أن نجد فيها أحذية لأقدامنا. ففي غابات المنطقة الحارة أشجار سامقة مهجورة، لا يعني بها أحد وهي صالحة تماماً لعمل أحذية متينة منها. فجذوع هذه الأشجار قوية محكمة النسج من الداخل. فإذا أردنا أن نصنع حذاءنا فمن السهل أن نقطع منها ما يغطي القدم وننظفه وننقيه ونعده للاستعمال
وقد تظن أن هذا كل ما نستطيع أن نناله من مخازن النباتات أو أننا قد أحصينا كل ما يمكن استغلاله منها، والحقيقة أننا نستطيع أن نستمد منها أشياء كثيرة لا يدركها الحصر
حتى أمواس الحلاقة تنمو على رءوس النباتات، فهل تعرف أن بذور بعض الحشائش المتسلقة تصلح لإزالة اللحى، فتجد في كل منها سلاحين حادين لا يقلان عن أقوى أنواع الأسلحة التي تصنع من الصلب
حياة الطالب في باريس
(ملخصة عن (همت جورنال) ستوكهلم)
يقيم في باريس ثلاثون ألف طالب من أبناء فرنسا، وعشرة آلاف من الطلبة الأجانب،(339/66)
ويقطن أكثر هؤلاء الطلاب في الحي اللاتيني حيث يخلعون عليه طابعاً عالمياً فريداً في نوعه. والطالب الفرنسي يختلف عن أمثاله في سائر الأمم. فهو مكلف بأن يعتمد على نفسه في حياته الدراسية على الدوام، وقل أن تمد له الحكومة يد المساعدة في شأن من الشؤون، فعليه إذن أن يعول نفسه مما يدخره هو وما تمده به عائلته من حين إلى حين. والطالب الفرنسي ثالث ثلاثة قيل إنهم يستطيعون أن يعيشوا على الزهيد من العيش الذي يجئ في المرتبة بعد العدم أو اللاشيء وهم الفقير الهندي والعامل الصيني والطالب الفرنسي
فإذا ما دفع الطالب نفقات المدرسة، وثمن الكتب المطلوبة منه للدراسة لم يتبق معه لمطالب المعيشة إلا النذر القليل. فيلجأ - وكذلك الغالبية العظمى من رفقائه - إلى تأجير غرفة في الحي اللاتيني بمبلغ قد لا يتجاوز جنيهاً واحداً أو ثلاثين شلناً في الشهر. ويقوم بنفسه على تحضير وجبة الصباح وعمل القهوة الفرنسية المعتادة أو القهوة الممزوجة من اللبن
ويقضي الوقت من الساعة التاسعة والنصف إلى الساعة الثانية عشرة في سماع المحاضرات، وعليه أن يتناول غداءه بعد ذلك من نقوده الخاصة. وينفق الطالب في غدائه شلناً واحداً وثلاثة بنسات في المطاعم المتوسطة. ولكن قليلاً من الطلبة الذين يستطيعون أن ينفقوا هذا المبلغ، فيلجأ بعضهم إلى تناول بعض الخضراوات أو اللحم البقري في مطعم صغير بما لا يتجاوز ستة بنسات؛ ثم ينفق بنسين في الفاكهة ونصف بنس في قدح من القهوة بأحد مشارب الحي اللاتيني، وعلى ذلك فالطالب يستطيع أن يتناول غداءه ويصرف بعض الوقت في الراحة والتنزه بمبلغ لا يتجاوز ثمانية بنسات ونصف
ويعود الطلاب من الساعة الثانية إلى الساعة السادسة بعد الظهر إلى سماع المحاضرات، فإذا انتهت هذه الفترة وانتهى معها النهار جاء وقت العشاء. ويتولى بعض الطلاب طهي الطعام بأيديهم ويذهب بعضهم إلى تناول عشائهم في مطعم معتدل الأسعار. ثم يأتي وقت السهر لاستذكار الدروس، فإذا تجولت في شوارع الحي اللاتيني وأزقته الضيقة بعد منتصف الليل أبصرت الأضواء الشاحبة تنبعث من خلال النوافذ، وقد تظل كذلك إلى الثلث الأخير من الليل
وفي مساء السبت يجد الطالب وقتاً للتسلية والمرح، فيجتمع بإخوانه في بعض المقاهي والمطاعم - إذ لا توجد نواد رسمية للطالب الفرنسي - فيستطيع أن يتناول معهم كوباً من(339/67)
النبيذ ويقضي بعض الوقت في التحدث. فإذا أراد تسلية أكثر من ذلك ذهب إلى بعض صالات الرقص حيث يقضي ليلة ساهرة بما لا يتجاوز شلنين.(339/68)
البريد الأدبي
شمال أفريقيا والعروبة
صديقي الأستاذ الزيات
قرأت الكلمة المنشورة في العدد 336 من الرسالة الغراء بتوقيع (أبو الوفاء) وتحت عنوان (شمال أفريقيا والأستاذ الحصري)، ووقعت في حيرة عميقة، عندما علمت بأن الكاتب قد ظن أنني لا أعتبر تونس ومراكش من البلاد العربية. . . في حين أنه لم يخامرني أدنى شك في عروبة تلك البلاد في وقت من الأوقات. . .
لقد نقل الكاتب من مقالي (بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية) بعض العبارات التي قد تفسح مجالاً لمثل هذا الظن غير أنه لو التفت إلى الأسطر التي تلت في مقالي تلك العبارات، لوجد فيها ما ينفي ذلك الظن نفياً باتاً:
فقد قلت - بعد عشرة أسطر من العبارات التي نقلها الكاتب - ما يلي حرفياً:
(لا يمكن لأي عاقل كان أن يتصور حصول اتحاد بين القاهرة وبغداد وأنقرة وطهران وكابل. . . الخ دون أن نحصل اتحاد بين القاهرة وبغداد ودمشق ومكة وتونس. . .)
فأطمئن الكاتب بأنني لم أقل طول حياتي ولا لحظة واحدة: إن (شمال أفريقية التي تبتدئ من تونس وتنتهي بمراكش ليست بعربية)
بل على عكس ذلك، قلت - في المحاضرة التي ألقيتها في بغداد، على جمع غفير من الشبان - بعد عودتي من المغرب الأقصى: (إن مراكش أجمل البلاد العربية على الإطلاق) كما حاولت أن أصف مدينة مراكش وضواحيها بقولي: (إنها تجمع بين جبل لبنان وغوطة دمشق ونخيل بغداد، وتخلط الأرز والنخل والزيتون بأجمل الصور وأبدع الأساليب)
هذا وأود أن أطلع الكاتب على الأمور التالية، لإظهار مبلغ اهتمامنا ببلاد المغرب، كجزء مهم من العالم العربي
أ - لقد أسسنا في القصر العباسي الكائن في قلعة بغداد معرضاً دائماً لصور الريازة (العمارة) العربية. وخصصنا غرفتين من غرفه لبلاد المغرب، يرى الزائر فيهما صوراً شمسية مكبرة، لأكثر من أربعين بناية عربية، بينها القرويين والكتبية
ب - لقد أسسنا في الباب الأوسط من أبواب سور بغداد الباقي من العهد العباسي متحفاً(339/69)
للأسلحة، عرضنا فيه أنواعاً كثيرة من الأسلحة العربية، والقسم الأعظم من هذه الأسلحة يعود إلى مراكش وتونس، وكنا اقتنيناها باسم دائرة الآثار القديمة خلال رحلتنا الأخيرة
ج - لقد خصصنا غرفة لـ (فنون المغرب الأقصى)، في (متحف الآثار العربية) عرضنا فيها كمية من الأواني الخزفية والمصنوعات الجلدية كنا جمعناها خلال رحلتنا الأخيرة، لزيادة معرقة الناس بتلك البلاد العربية
ولهذه الأسباب كلها، قد تألمت من قراءة الكلمة التي تتهمني بإنكار عروبة أفريقية الشمالية. غير أن ألمي هذا، قد انقلب إلى سرور عميق، عندما قرأت العبارات التي ختم بها الكاتب كلمته وهي: (أن النزعة القومية المتأصلة في دمائنا تضطرنا أحياناً إلى إصلاح غلط إخواننا العرب فينا). . .
إنني أقدر هذه النزعة القومية، وأبجلها، حتى عندما ما تجور عليَّ، وتتهمني بما أنا براء منه. . .
أبو خلدون
ملحوظة: إنني مستعد لإرسال صور القاعات التي ذكرتها آنفا، حالما أطلع على عنوان الكاتب، لزيادة اطمئنانه على اهتمام مشرق العالم العربي بمغربه
الجواب حاضر!
قرأت الكلمة الكريمة التي نشرتها (الرسالة) لحضرة الأستاذ (م. ف. ع) في نقد كتاب (ليلى المريضة في العراق) وقد شاء له فضله أن يقول: إن بعضهم يمجد ذلك الكتاب حتى ليرتفع به عالياً إلى السماء. وكنت أحب أن يحدث القراء بوضوح عما لم يعرفوا من كتابي، ولو أنه فعل لعرفوا عن طريقه أن هناك فرقاً بين ما نشر في (الرسالة) وما لم ينشر. فالذي نشر في (الرسالة) هو الجزء الأول، وهو جزء مصقول: لأن الزيات - سامحه الله - كان يحذف منه أشياء. وقد ضاعت الأصول الخطية ولم يبق أمامي غير ما وعت صفحات (الرسالة) فاكتفيت به، وقليل النار غير قليل!
أما الجزء الثاني والثالث، فقد أنقذتهما من يد الزيات، فهما صورة صحيحة من عقلي وجنوني، وهما أعز على من الجزء الأول المهذب المصقول بالرغم مني. فمن أراد أن(339/70)
يعرف الفرق بين الأدب المقيد المرسل، فلينظر كيف كانت إساءتي إلى نفسي أجمل من إحسان الزيات حين حذف من الجزء الأول أشياء
ثم ماذا؟ يريد حضرة الناقد أن يمسكني بشيء، فما هو ذلك الشيء؟
تفضل فنقل فقرات جميلة من الجزء الثالث تكررت فيها كلمة (من) وسماه (منمنة) فما رأيه في كلمة (يا لك) التي كررها الدكتور عزام في كلمة نقلها الناقد نفسه؟ هل يسميها (لكلكة)؟
وما رأيه في معلفة زهير، وقد كرر كلمة (من) أربع عشرة مرة في عشرة أبيات؟
وكيف يحرم على ما قلبته الأجيال الطوال من زهير؟
وهناك فقرات للكاتب الشاعر لامرتين ورد فيها مثل هذا التكرار، فهل يحب أن أنقلها إليه ليعرف أن التكرار قد يكون جميلاً جداً إذا اقتضاه المقام؟ وهل يسره أن أفحمه بذكر شواهد من السور القرآنية كان فيها التكرار من أقوى عناصر البيان؟
وما تلك الكركرة الطهوية التي يشير إليها الناقد المفضال؟ هل يظن أن في أسلوبي مشابه من أسلوب الدكتور طه حسين؟ أنا أكرم على نفسي وعلى حضرة الناقد من أن يكون أسلوبي صورة لأسلوب قديم أو حديث، وإن يسرني أن أحاكي الكاتب:
زكي مبارك
شعراء الشرق والطبيعة الغربية
حضرة الأستاذ الفاضل الجليل محرر الرسالة
قرأت مقالة طويلة في جريدة يومية سياسية تعليقاً على التصحيح الذي نشرته في الرسالة بعنوان (شعراء الشرق والطبيعة الغربية). وكأن حضرة الكاتب الفاضل لم يحسن الدفاع عن أخي علي محمود طه المهندس فوقع في الإساءة إليّ. وأنا غير مؤاخذه على ما ظهر من مكنون نيته لأمرين: أما أولهما فلأنه (عابر سبيل) كما وقع مقالته. و (عابر السبيل) إن لم يكن موضع إكرام فهو موضع إشفاق. وأما ثانيهما فلأني لا أريد أن أنقل ميدان الأدب السامي من التصحيح إلى التجريح. . .
وأنا لم يؤلمني ثناء (الاجبشان مايل) على شاعرية صديقي علي محمود طه كما يتهمني حضرة (عابر سبيل) ولم يؤلمني إيثارها (علي محمود طه) بالذكر، فذلك موضع الفرحة لا(339/71)
موضع الألم. وإنما آلمني أن يضع كاتب (الاجبشان مايل) حجاباً على عينه وعلى أعين القراء ليقول لهم: أن شعراء الشرق الذين طافوا بالغرب أو عشوا فيه لم يهتموا بوصف جماله وهم أكثر الناس استجابة لداعي الجمال إذا أهاب
وأنا ما زدت في كلمتي في الرسالة الماضية على أن صححت وهم مكاتب (الاجبشان مايل). وإذا كنت قد ذكرت نفسي في عداد من ذكرت من الشعراء الذين وصفوا الغرب فهو أمر ما كنت لأذكره لولا أن أرادني عليه صديقان من أعلام الصحافة والأدب والعلم في مصر. وما كان من طبعي الحديث عن نفسي في مجلس أو مكتب. فتلك خطتي يعرفها عني أصدقائي ومعارفي
ويتهم حضرة (عابر سبيل) شعراء مصر بأنهم قد قصروا عن إخوانهم شعراء الشام في وصف بلادهم ومهد أحلامهم ومراتع صباهم. وهو اتهام لا أجد له نصيباً من الحق ولا مؤيداً من الواقع. وإذا كان إخواننا شعراء الشام قد وصفوا لبنان الخالد والأرز الظليل قبل أن يصفوا الغرب، فإن إخواني شعراء مصر لم يقصروا في حق نيلهم وتاريخهم وبقايا مجدهم قبل أن يصفوا الغرب. ونهار هذه لقضية لا يحتاج إلى دليل؛ فشوقي وصف النيل بقافيته التي مطلعها:
من أي عهد في القري تتدفق ... وبأي كف في المدائن تغدق
قبل أن يصف (التيرول) في النمسا وإيطاليا في قصيدته التي يقول فيها:
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري ... حتى أريك بديع صنع الباري
وصديقي الدكتور بشر فارس وصف الطبيعة المصرية في شعر لم ينشر، قبل أن يصف الفصول الأربعة في باريس وبرلين وفنلندا
وإذا كان ذكر الواقع يؤلم حضرة الأستاذ (عابر سبيل) فإنني أستأذنه في أن أذكر له لآخر مرة أن كاتب هذه الكلمة له قصائد في (النيل) تفضلت الأهرام الغراء فأفسحت لها مكاناً طيباً
وما نسى الشاعر مصري ممن أقاموا في أوربا الحنين الدائم إلى وطنه الغالي، ولم تشغله مرابع أوربا ومراتعها عن ذكر النيل وترانيم السنين فيه. . . فقد كان شوقي رحمه الله في أسبانيا وقلبه في مصر(339/72)
ولعل بشر فارس كان أقرب الناس روحاً إلى مصر وهو أبعد الناس عنها في شمالي أوربا
وهناك شاعر ثالث - لا نذكره هذه المرة لئلا يتألم عابر سبيل! - نشر في الأهرام سنة 1934 أبياتاً في الربيع يقول فيها:
يا طيور الربيع في أرض مصر ... أن قلبي إلى الحمى يتحرق
طال شوقي له وطال حنيني ... كل طير لغصنه يتشوق
وقد أرسل هذه الأبيات إلى مصر الغالية من مقاطعة (ديفون) الجميلة بإنجلترا
وبعد: فلقد أكسبتنا (لأجبشان مايل) بحديثها عن أخي المبدع علي محمود طه موضوعاً طيباً للكلام كما ذكر ذلك لي ولعلي طه، أحد أدبائنا العلماء
وأرجو أن أكتسب معرفة (عابر سبيل) القاهرة) حتى أؤدي له واجب الضيافة فهو له في عنقي دين
والشكر للرسالة الغراء أولاً وأخيراً
محمد عبد الغني حسن
معنى بيتين
سيدي صاحب الرسالة
في الصفحة السابعة من الجزء الأول من كتاب الأمالي لأبي علي القالي عثرت على الآتيين لشاعر لم يذكر اسمه، هما:
وما هاج هذا الشوقَ إلا حمامةُ ... تغنت على خضراءً سُمرُ قيودها
صدوحُ الضحى معروفة اللحن لم تزل ... تقود الهوى من مسُعِدٍ ويقودها
وقد التبس على معنى (سمر قيودها) في عجز البيت الأول. فأرجو شرحه على صفحات الرسالة الغراء.
(الخرطوم بحري)
ا. م. س
(الرسالة): البيتان من شعر لعلي بن عميرة الجرمي، وبعدهما:
جزوعُ جَمودُ العينِ دائمةُ البُكى ... وكيف بُكى ذي مُقلةٍ وجُمودُها(339/73)
مطوَّقةُ لم يضرب القْينُ فِضَّةً ... عليها، ولم يَعطلْ من الطَّوْقِ جيدُها
هكذا ذكر الأبيات أبو عبيد البكري في (سمط اللآلي شرح أمالي القالي). قال أبو عبيد: (ولم تختلف الرواية عن أبي علي يعني بها الشجرة وقيودها: أصولها وهم يصفون ما كان متمكن الري من الشجرة بالحوَّة والسواد).
وأما رواية (سمر قيودها) بالرفع فهو من صفة الحمامة، ويعني بالقيود قيود الحمامة وهي ما أحاط بساقها من صغار الريش.
بين ناقد وموسيقار
نشرت (الرسالة) في عددها السابق (338) مقالاً للأستاذ عزيز أحمد فهمي تحدث فيه برأي موزع في اتجاهات عدة أقحمها في دائرة الفن. والعابر بحديثه لا يشك في أن أهداف الكاتب اتجهت في غالبها اتجاهاً شخصياً استعان له بعدة أسماء لشخصيات مشتهرة الشأن في المجتمع المصري ما بين شعراء وموسيقيين وكتاب. وإنه ليحزنني أن أتكلم على غير عادتي فأصارح القراء بما صدمني من امتعاض شديد حين طالعت حديث الكاتب ووقفت على وجهته الأصيلة التي قد ترمي إليها نفسه لا قلمه، وهي محاولة الغض من شخصية الموسيقار النابه النابغ الأستاذ محمد عبد الوهاب على حساب الحديث عن فنه، وإني مع تقديري وإعجابي لكثير من الأبحاث الفينة التي يعرض لها الأستاذ عزيز فهمي على صفحات الرسالة، إلا أنني أرخص هذه النزعة المتفشية بين الأدباء والفنانين المصريين على الإطلاق وهي أخذ الطريق من بعضهم على بعض، والاعتصاب لكل ذي خطوة جديدة في فنه بالغض والتشهير
يا قومنا! إن الفنون لا تمرع في مثل هذه الأجواء الملوثة بالشحناء والسخائم، فدعوا حملة المشاعل يسيرون في طريقهم إلى إنقاذ هذا الوطن المسكين من الجمود الذي ضرب على الفنون الرفيعة فيه. ومن هاجت في قلبه عبقرية النقد فليعلم أن للفن عرضاً يصان ويشان. ومن كان في روحه وإحساسه بريق من إشفاق على سمعة الفن في بلاده، فعليه بالنقد العف البريء والتوجيه السديد. . . وإلا فما كان أغناني عن هذه النبأة التي أهجس بها في سبيل حق لا أعرف ولا يعرف معي إنسان أين مكانه من الأرض!
(م)(339/74)
إنشاء مكتبة إلى جانب ضريح أبي العلاء
زار مسيو بونور مستشار المعارف في المفوضية الفرنسية العليا ببيروت، معرة النعمان في شمالي سوريا، للإشراف على إنشاء قبر للشاعر العربي الفيلسوف أبي العلاء المعري
وقد درس مسيو بونور، وهو من كبار الأدباء المستشرقين مع السلطات المحلية مشروع إنشاء مكتبة عربية وأجنبية إلى جانب القبر، تجمع فيها مؤلفات الشاعر والكتب التي تحدثت عنه وعن أدبه وشعره في جميع اللغات والأمصار. على أن يجري الاحتفال بافتتاح هذه المكتبة بعد تشييد الضريح والبناء المجاور الذي سيضم مدرسة للذكور والإناث بحضور مندوبي جميع الممالك الشرقية والأقطار العربية وممثلي جامعاتها وكبار أدبائها وشعرائها
وسيكون هذا المهرجان على مثال المهرجان الألفي لشاعر إيران الفردوسي الذي أقيم منذ سنوات في طهران
وتتقبل بلدية المعرة منذ الآن مع الشكر كل ما يريد المؤلفون والعلماء والمستشرقون وأصحاب المكاتب الخاصة في الأقطار العربية وغيرها إهداءه إلى هذه المكتبة من الكتب المطبوعة والمخطوطة والمجلات التي تحوي أبحاثاً خاصة بأبي العلاء على أن تسجل كل كتاب على اسم مهديه في سجلات البلدية والمكتبة. والبلدية مستعدة لدفع أجور البريد لهذه الكتب المهداة إذا لم يلصق عليها مهدوها الطوابع اللازمة. وهي على ثقة من أن هذا المشروع سيلقى ما يستحقه من المساعدة والتشجيع في جميع الأقطار العربية وغيرها من البلاد الكثيرة التي تعرف أبا العلاء المعري وتحرس على إحياء ذكراه
حديث أبي هريرة في ذم الشعر
قرأت ما جاء في عدد 338 من مجلة الرسالة الغراء عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً فَيَرِيَهُ خير له من أن يمتلئ شعراً) وهذا الحديث رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن أبي هريرة وغيره، وقد جاء في وراية ابن عدي جابر (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً أو دماً خير له من أن يمتلئ شعراً مما هجيت به) والروايات يفسر تعضها بعضاً كما هو مشهور في علم(339/75)
الحديث، ولا يصح أن يفهم من رواية أبي هريرة ذم الشعر على إطلاقه، وتهجين حسنه وقبيحه، وهذا مع أني لم أسقه هذا المساق، لأن أصل كلامي في تفضيل بعض الشعر على بعض، لا في ذم الشعر على الإطلاق. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر أيضاً (إنما الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح) رواه الدارقطني في الإفراد عن عائشة، والبخاري في الأدب، والطبراني في الأوسط، وابن الجوزي في الواهيات، عن عبد الله ابن عمر، والشافعي والبيهقي عن عروة مرسلاً
وجاء فيه أيضاً: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً) وهو حديث مشهور رواه أصحاب الصحاح وغيرهم
عبد المتعال الصعيدي(339/76)
المسرح والسينما
على مسرح الأوبرا
تستعد الفرقة القومية لإخراج مسرحيتين جديدتين في الفترة الباقية من هذا الموسم، أولاهما رواية تركية ترجمها الأستاذ مطران أسمها في الأصل (كسمت)، وصار الآن (القضاء والقدر)، وهي عربية الموضوع. ويشرف على إخراجها (سراج منير). أما الرواية الأخرى، فهي مصرية موضوعة من تأليف الأستاذ صبري فهمي عضو بعثة معهد التمثيل في فرنسا. وسيخرج هذه الرواية عمر جميعي، ويضع أزجالها بيرم التونسي، وموسيقاها زكريا أحمد؛ إذ أنها تميل إلى (الأوبريت) كثيراً. أما بقية برنامج الفرقة فيما بقي من وقت الموسم، فلم يستطع أحد أن يدلى إلينا بخير قاطع عنه. ولكننا نستطيع القول بأن الفرقة لا تنوي إخراج روايات جديدة في هذه الفترة الباقية. وسيعاد تمثيل بعض المسرحيات التاريخية القديمة الموثوق من نجاحها.
الموسم الأجنبي
كنا نظن أن منع الإعانة الحكومية عن الفرق الأجنبية التي تزور مصر في موسم السياحة في الشتاء، وقيام الحرب في أوربا بين دول تزور مصر في موسم السياحة في الشتاء، وقيام الحرب في أوربا بين دول كثيرة، أن هذين السببين كافيان لامتناع الفرق التمثيلية عن زيارة مصر في هذا العام. غير أننا علمنا أن الفرقة الإنجليزية فضلاً عن فرقة إيطالية لا يحضرنا أسمها. وعلى ذلك فلن يحرم رواد المسرح الفرنجي هذا العام متعة عرض بعض المسرحيات الأوربية برغم كل العوائق
رقابة السينما
رقيب السينما في مصر موضع شكايات متصلة، وأحاديث تهمس بخليط من الضيق والاستنكار؛ وسبب عناء دائم للمشتغلين بإنتاج الأفلام المصرية ولمستوردي الأشرطة من الخارج على السواء
ولعل الجمهور لم ينس مهزلة فلم (ماري أنطوانيت) الذي لم يصرح الرقيب بعرضه في القاهرة ثم عاد فأجاز عرضه، ثم منع عرضه مرة ثانية، ثم صرح بعرضه في الإسكندرية،(339/77)
مثلما حدث في عرض شريط (هنري الهامن) الذي منع عرضه مدة من الزمن بحجة أن فيه تعريضاً بملك إنجليزي سابق، ولم يلبث الرقيب أن صرح بعرضه بعد أن تلقى تصريحاً من السفير البريطاني بأن هذا الشريد قد صنع في بريطانيا وعرض فيها وفي سواها من بلاد العالم! وقد عانى مخرج فلم (العودة إلى الريف) كثيراً من عنت الرقيب، لأن الرقيب لم يهضم فكرة أجزاء من الحوار تقوم على الدعاية للريف من طريق مناقشة يحمل أحد طرفيها على الريف فيدافع الطرف الآخر عنه دفاعاً مفحماً مجيداً!
ولا يمكن أن ننسى الصورة الشائنة التي رسمها شريط (أربع ريشات) للمصريين وموقفهم من فتح السودان، ومع ذلك مر الشريط من الرقابة ولم يحظر عرضه!
وفي مصر عدد وافر من الشبان ذوي الثقافة السينمائية الممتازة لا ندري لماذا لا تستخدم الحكومة في رقابة الأفلام؟ بينما تسند إنجلترا مهمة الرقابة السينمائية إلى رجل ممتاز الكفاية والمركز كاللورد (تيرل)، وتسند الولايات المتحدة نفس المهمة إلى رجل نابه كالمستر (جوزيف براين)؛ كما استعانت فرنسا بأديبها الأكبر (جان جيرودو) فعينته رقيباً عاماً بعد إعلان هذه الحرب، ولكننا بعد في مصر
لجنة الأغاني
في محطة الإذاعة لجنة يقال لها لجنة الأغاني، أعضاؤها جميعاً من موظفي القسم العربي في المحطة، وكلهم مرهق بالعمل في الواقع، وقد نجم عن ذلك أن تعطلت أعمال اللجنة بحيث ظلت لديها بعض الأغاني بضعة شهور بغير أن تنظر فيها أو تقضي برفض أو قبول. مما يجعلنا نطالب الأستاذ لطفي بك بحل هذه اللجنة وإحالة أعمالها على بعض الثقات من موظفي المحطة أو غيرهم
(أبو الفتح الإسكندري)(339/78)
العدد 340 - بتاريخ: 08 - 01 - 1940(/)
هل خصب الأرض
يستلزم جدب القرائح؟
من الأقوال المأثورة أن الحاجة تلد الاختراع وتفتق الحيلة. وهذه الحاجة التي ضمَّنها الله عمارة الأرض ورقي العالم، هي التي جعلت بيئة الفقر مهبط الإلهام ومنبت العبقرية. فأينما تجد الحاجة تجد العمل والذكاء والقوة، وحيثما تر الغنى تر الكسل والغباء والرخاء. ذلك لأن الفقير يضطره العيش إلى أن يفكر فيجيد التفكير، وإلى أن يعمل فيتقن العمل، وإلى أن يهاجر فيزداد بممارسة الشدائد ومنافسة الناس جلاء في الذهن وبسطة في العلم وسعة في الحيلة. ومواهب العقل كأعضاء الجسد تقوى وتنمو بالكد، وتضعف وتضمر بالعطلة. ولا يصعب عليك أن ترى مصداق ذلك في الفروق الذهنية والعلمية الواضحة بين أبناء الفقراء وأبناء الأمراء، وبين سكان مصر العليا وسكان مصر السفلى، وبين بلد كدمياط وبلد كالفيوم، وبين مدينة كأتينا ومدينة كرومة في الغرب القديم، أو بين قطر كفينيقية وقطر كالعراق في الشرق الغابر. ففي كل من ذكرت لك ترى أن جدب الأرض وضحولة الموارد كانا علة في إخصاب العقول وإنما المدرك وكثرة الإنشاء ووفرة الإنتاج، وأن خصب البلد وسهولة الأرزاق كانا سبباً فيما أصاب بعض الناس وبعض الأجناس من البلادة والقعود والترف والغفلة
تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني يؤتي أُكله كل حين بيسير الجهد وقليل النفقة. فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك روحه بنصف قرش، وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف. ومتى حصل المرء من بلده على الكفاف والراحة والأمن، نشأت في نفسه فضيلة القناعة الزائفة. والقناعة في الفقير كالثروة لدى الغني، كلتاهما تقتل طموح النفس، وتسكِّن قلق الروح، وتخمد نشاط القريحة، وتحمل الرجل على الرضى بالدون والتسلم بالواقع
هذا الفقير القانع الذي لا يحس بالحاجة فلا يسعى للغنى، وهذا الغني الوادع الذي لا يشعر بالنقص فلا يطمح إلى الكمال، هما الأثر السيئ لتدليل النيل لبنيه وحَدبَه البالغ على أهله. فالفلاح لا يزال يزرع الأرض بالآلة القديمة على الطريقة القديمة، لأنه لا يجد في نفسه الحاجة التي تحفزه إلى اختراع آلة وابتكار طريقة ما دامت أرضه تغل عليه ما يكفيه بهذه(340/1)
الأداة الرخيصة السهلة
والصانع لا يزال يصنع بيده كل اليوم ما تصنعه الآلة في بعض الساعة، لأنه يجد في جيبه آخر النهار ما يملأ به بطنه بخسيس الطعام وغليظه؛ فعلام يشغل ذرعه بما يقلل النفقة ويكثر الإنتاج ويحسن النوع؟
والطالب يقصر جهده على استظهار المختصرات لأن الامتحان لا يخرج عن هذه المذكرات، والوظيفة لا تطلب إلا بعضاً من الحساب وشيئاً من المصطلحات؛ وما غناء العلم بعد أن ينال المتعلم الشهادة والوظيفة؟
والمعلم يحصر نشاطه في كتب الدراسة وما يتصل بها من مقترح التمارين وموضوع الأسئلة ومحلول المسائل، ثم لا يفكر بعد ذلك في درس مشكلة من مشكلات التربية، ولا حل معضلة من معضلات المجتمع، لأنه ضمن لنفسه المراتب آخر الشهر والعلاوة آخر المدة
والكيميائي أو الفيزيائي يبلغ الدرجة الجامعية العليا في الكيمياء أو الفيزياء، ثم يعلم أن أقرانه في البلاد العاملة الجادة لا ينفكون يسخِّرون للمدنية والإنسانية قوى المادة وأسرار الطبيعة في شكول مختلفة ومظاهر متعددة: في البيت والمدينة، وفي السماء والأرض، وفي السلام والحرب، ولا يفكر عالمنا الكبير أن يزيد في العلم بكشف مجهول، أو يرفه عن العالم باختراع آلة، لأنه لا يبتغي شيئاً وراء اللقب الفخم والمرتب الضخم والحياة الوديعة
والطبيب أو الصيدلي يجعل كل همه في رواج عيادته أو صيدليته، لأن المال هو غايته من الطبابة أو الصيدلة، فإذا بلغها على حساب الطب المحفوظ أو الدواء المجهز فلماذا يكدر صفو عيشه بالاحتباس في معمل ينقب عن جرثومة مرض، أو يجرب مفعول مصْل؟
والسياسي أو المصلح يتوخى بعمله مجد الشهرة وجاه الحكم، فإذا أدركهما بتملق الجمهور أو بعصبية الحزب فلا عليه بعد ذلك أن يظل حزبه من غير منهاج ولا غاية، وأن يزاول عمله الخطير من غير خلق ولا دراية. وإذا كان الرمق في هذا البلد بسد بنصف القرش، والوظيفة تنال ببعض العلم، والمنصب والمراتب يعظمان بمضي المدة، والشهرة والجاه يدركان بإرضاء العامة، والزعامة والحكم يبلغان باحتراف السياسة، فأي شيء يدعو إلى زيادة العلم وإطالة الفكر وإدامة العمل وإضاعة الجهد والعمر في تحرير مسألة، أو تأليف(340/2)
كتاب، أو متابعة كشف، أو محاولة اختراع، أو وضع خطة للإصلاح، أو تدبير سياسة للحكم؟
حاولوا يا قوم أن تهذبوا القناعة في ذهن الفقير برفع مستوى عيشه وإصلاح فساد ذوقه؛ وحاولوا أن تخلقوا الحاجة في نفس الغنى بتشويقه إلى الكمال المطلق وترغبيه في المثل الأعلى، فإنكم إن نجحتم في زعزعة الرضا في القانع المعتر وفي الواجد المغتر، ساورهما القلق الروحي الحافز الذي لا يقنع بما دون الغاية، ولا يرضى للغير بأقل مما يرضي للذات
حاولوا أن تحملوا العلماء والأدباء والأطباء بالجوائز والألقاب على الإنتاج الأصيل والتأليف المبتكر والبحث المنتج حتى ينشأ فيهم على الزمن والمران حب البحث لفائدة العلم، وحب العمل لمنفعة الناس
ثم حاولوا وحاولوا أن تقيسوا كفايات العاملين وأقدار النابغين بغير مقاييس المحاباة والزلفى والقرابة، فإن كثيراً من الأكفاء إنما يزهدهم في العمل والإصلاح اليأس من الإنصاف والقنوط من المكافأة!
أحمد حسن الزيات(340/3)
ماذا ربحت وماذا خسرت
من أسواق السنة الماضية؟
للدكتور زكي مبارك
كتب إليَّ أحد تجار الورق يقول: إنه يرجو أن أرسل إليه ما بقي عندي ليسوي حساب تجارته في سنة 1939
وأنا أيضاً أريد أن أسوي حسابي مع قومي وزماني، حساب سنة 1939 فقط، أما حساب الأعوام السوالف فهو عبء ثقيل والرجوع إليه ضرب من الخذلان. وأين أنا مما فات ومات؟ يرحم الله جهادي في سبيل الأدب والبيان!
ربحت في العام الماضي أشياء، وخسرت أشياء!
وأعظم ربح ظفرت به في السنة الماضية هو الصداقة العظيمة التي تفضل بها قراء مؤلفاتي ومقالاتي، فأنا اليوم أشعر شعوراً قويَّاً بأن لي أهلاً وعشيرة في سائر الأقطار العربية، وهذا الشعور يزحزح ما يعترض طريقي من عقبات وأشواك، وبفضل ذلك الشعور أكاد أنسى الأعاصير التي تثور في وجهي من حين إلى حين
والكاتب كالموسيقار يسره أن يعرف أنه موصول الأواصر بالعواطف والقلوب، فمن حدَّثكم أنه لا يهتم بسخط القارئ أو رضاه، فاعرفوا أنه يقترف إثم الغرور البغيض، أو الكذب السخيف.
وتعظُم قيمة هذا الربح في قلبي كلما تذكرت أنه بشيرٌ بقيام دولة قوية للأدب العربي، وهو أدب كان يسيطر في ماضيه على كثير من الأمم والشعوب، فإن استطعنا أن ننتفع بعواطف القراء ونجذبهم إلى الأدب من جديد كان ذلك مجداً ندفع به عدوان أهل البغي على الآداب والفنون
وما الذي يمنع من أن يكون للقلم دولة في هذه البلاد؟
أتصدِّقون ما يمليه الضجر على أقلامنا من وقت إلى وقت حين نتهم مصر بالجحود والعقوق؟
إن مصر في تاريخها القديم والحديث قد استمعت كل قول، واستجابت لكل نداء، فكيف يتوهم الكاتبون والباحثون أنهم لن يلقوا فيها غير الضياع؟(340/4)
ثم أقول إن العام الماضي كان من الأعوام التي اختبرت فيها أخلاقي. ومعاذ الأدب أن أدَّعي التفرد بكرم الأخلاق، وإنما هي حيلة أتوسل بها لخلق فرصة أنوح فيها على أخي وصديقي محمد الهراوي. وهل ذرف الزيات من الدموع على أبنه رجاء، أو ذرف هيكل من الدموع على أبنه ممدوح، بعض ما سكبت من دم القلب على صديقي محمد الهراوي؟
كان من عادتي أن ارتاد ملاهي القاهرة في المواسم والأعياد لأفهم شيئاً من أسرار المدينة التي تصنع اليوم بأذواق الشرق ما تصنع. فمن يصدق أن شارع فؤاد صار في عيني صورة من صور الإقفار والإمحال، لأنه خلا من وجه الصديق الغالي، وجه محمد الهراوي، وجه الأخ الذي عرفت بفقده كيف يكون الجزع من فقد الرفاق
وهل تسمح الدنيا مرة ثانية بصديق مثل ذلك الصديق؟
وأين الصديق الذي تصحبه عشرين سنة فلا ترى منه غير كرم العهد وصدق الوفاء؟
أين الصديق الذي يرى من السعادة أن يكون رأيه من رأيك وهواه من هواك؟
إن دموعي على محمد الهراوي دلتني على جوانب من أخلاقي، وشرفتني أمام نفسي، وفرضت عليَّ أن أومن بأني رجل له قلب. فلا كان الصبر عنك يا أكرم ذاهب وأعز فقيد
وكان من مغانم السنة الماضية أن تصير اللغة العربية لغة الدرس في كلية الطب وكلية العلوم، وهي دعوة عانيت فيها من الشقاء ما عانيت. فمن قال إنه دعا إلى هذه الفكرة مرة أو مرتين أو مرات فأنا جعلتها حلماً أهتف به في يقظتي ومنامي أكثر من خمس عشرة سنة. وبسب الإلحاح في نشر هذه الدعوة رآني بعض أقطاب الجامعة المصرية من الثقلاء، وأوصدوا في وجهي كثيراً من الأبواب. فإن قال أعضاء المؤتمر الطبي العربي بعد أسبوعين إنهم قرروا تدريس الطب باللغة العربية في كلية الطب بالقاهرة فليذكروا مشكورين أنهم سفَّهوني علانية يوم التقينا في بغداد سنة 1938
وفي العام الماضي قدمت لكلية الحقوق رسائل لامتحان الدكتوراه باللغة العربية، وقال قائل: إن في ذلك مجاراة للنزعة القومية، فمن واجبي نحو نفسي وأنا رجل مظلوم في وطني أن أقول إن ذلك لم يقع إلا طلباً للسلامة من القلم الذي شن الغارة على من يقبلون رسالة باللغة الفرنسية عن الديِّة في الشريعة الإسلامية ولتلك المعركة ذيول فصلتها في كتاب (البدائع) وفي رسالة (اللغة والدين والتقاليد) وفي كتاب (الأسمار والأحاديث) فأن غضب وزراء(340/5)
المعارف اللذين حاربتهم من قبل فليعرفوا أني أديت لهم بذلك التوجيه أعظم الخدمات. وحسبهم من الشرف أن يسمعوا كلمة الحق من رجل ليس له في الحكومة عمٌ ولا خال
وفي العام الماضي قررت وزارة المعارف تأليف كتاب للمطالعة في المدارس الثانوية من صميم الأدب الحديث، وأنا صاحب هذا الرأي وقد شغلت نفسي بالدعوة إليه أكثر من عشر سنين.
وفي العام الماضي قضت الظروف بأن تقبل وزارة المعارف إسناد تعليم اللغات الحية في المدارس الثانوية إلى المصريين، فليتها سمعت الدعوة التي أذعتها منذ أعوام طوال، الدعوة إلى أن يكون مدرسو اللغات الحية من المصريين لنخلق جيلاً من المتفوقين في اللغات الأجنبية، وليكون بيدنا الأمر في تكوين الثقة بالعزيمة الوطنية
وفي العام الماضي. . . ما هذا؟ ما هذا؟
أراني أنحدر إلى هاوية المنْ الممقوت، فلأرجع إلى تدوين ما خسرت في السنة الماضية:
في سنة 1939 نسيت أني موظف بالحكومة المصرية فوقع قلمي في أغلاط لا يقع فيها الموظفون (العقلاء)
أنا من كتّاب الطبقة الأولى بشهادة أعدائي، ولكني لم أخط خطوة واحدة في كسب حق جديد لحرية الأقلام. كنت أستطيع أن أنتفع بالدكتور هيكل باشا، ولكنني لم لأقابله إلا حين دعاني، وقد هجمت عليه في جريدة المصري مرتين، وكنت أستطيع أن أنتفع بمعالي النقراشي باشا، وهو رجل مُشرق العقل، ولكني قصرت فلم أقابله غير مرتين، كنت في الأولى مهنئاً، وهي زيارة لا تتسع لبحث ولا درس، وكنت في الثانية مقروناً بجمهور المفتشين بالتعليم الثانوي، وهو مقام لا يتسع فيه المجال لغير الشؤون الرسمية
أليس من سوء البخت أن يكون لنا وزير مثل النقراشي باشا ولا أظفر منه بشيء لحرية الأقلام؟
كنت أحب أن أطلب إجازة طويلة لعام أو عامين لأحقق مشروعاً عجزت عن تحقيقه في بغداد وهو تأليف كتاب عن أبي تمام إمام المبتكرين في القرن الثالث، فهل شغلت نفسي بتقديم هذه الرغبة إلى معالي النقراشي باشا وهو من وزرائنا الأدباء؟
وكنت أحب أن أقترح إنشاء قلم خاص بمراجعة ما يُكتب عن مصر في الأقطار العربية،(340/6)
فهل شغلت نفسي بتقديم هذا الاقتراح إلى رئيس الوزارة المحمدية أو رئيس الوزارة الماهرية؟
دونت هذه الآراء في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولكن من يضمن أن يكون هذا الكتاب مما يقرأ الوزراء؟
ماذا خسرتُ في العام الماضي؟ ماذا خسرت؟
كان عندي مشروع عظيم هو ربط الأمم الإسلامية برباط وثيق من الحب والعطف
فما الذي صنعت لتحقيق ذلك المشروع العظيم؟
ضيعت العام الماضي - وا أسفاه! - في مجادلات ومشاغبات نفعُها قليل، وانصرفت عن تحقيق ذلك المشروع الجليل
فمن يُسعدني على بكاء ما ضيعت من أمانيَّ وأحلامي؟
وكان في نيتي أن أخلق عُصبة للخير من أصدقاء كلية الآداب، كنت أحب أن أنِّظم سلسلة للدراسات الأدبية والفلسفية أصنع بها في القاهرة بعض ما يصنع أساتذة كلية الآداب في الجيزة، فأين أنا مما أردت؟ وأين ما صنعت لكلية الآداب وفوق ثراها سكبت عُصارة صباي؟
وكان في نيتي أن أكوِّن مكتبة عظيمة مما أصدر المتخرجون في كلية الآداب ثم أسوقها في عربات رزينة إلى قصر صاحب الجلالة الملك فأين ضاعت تلك النية؟ وما مصيرها في تاريخ العقول؟
وكنت أحب أن أقوم بدراسات قوية أحدد بها اتجاه الأدب الحديث في مصر والمغرب العربي والشام والعراق، فأين من يعزيني على ضياع هذا الأمل الغالي؟
وكنت أشتهي أن أزور الحجاز لأكتب عن وطن الرسول كتاباً لا يعرف الزوار ولا الرياء، فأين ضاعت أحلامي؟
وكنت أتمنى أن أؤرق غفوات المغرورين من (أعلام) الأدب الحديث، فإلى أي أفق من آفاق الضياع ضاع أملي في تأديب أولئك (الأعلام)؟
كنت وكنت وكنت، فما الذي صنعت السنة الماضية بأغراضي وأحلامي؟
(للحديث شجون)(340/7)
زكي مبارك(340/8)
ألمانيا بين نيتشه وهتلر
(دين القوة)
للأستاذ عبد المجيد نافع
حين أوشكت صحيفة القرن التاسع عشر تطوي نشرت في أوربا راية دين جديد، ذلك هو دين القوة، وكان حامل لوائه بل رسوله المبشر به هو الفيلسوف الألماني فريدرش نيتشه
على أنَّا نحب أن نبدد وهماً قد يعلق بالأذهان، فنسارع إلى القول بأن عبادة القوة والأيمان بأثرها الحاسم في حياة الأفراد والشعوب، دين قديم جديد، اعتنقته الإنسانية في كل مراحل التاريخ من غير أن تجهر به، فكبدها ما أنفقت من دموع ودماء
وفي الحق أنك لو جردت الإنسان من الطلاء المدنية، ذلك الطلاء الذي هو بمثابة القشرة الخارجية التي يصطنعها ليخفي تحتها أطماعه تارة، وضعفه طوراً، لتبدَّى في ثياب الإنسان الأول بكل ما فيه من مظاهر الوحشية والهمجية والقسوة
والحق للقوة - كلمة قالها بسمارك الألماني رجل الدم والحديد. ولو أن النصر لم يعقد بلوائه في حروبه مع الدانمارك والنمسا وفرنسا لنادى بأن الحق فوق القوة. ولو أن القوة حالت بين هتلر وبين أن يزدرد النمسا، ويثني على ازدرادها بتشيكوسلوفاكيا لملأ فمه بكلمات العدالة والحق والمساواة والحرية
ولكن نيتشه، رسول القوة، يتفرد بأمور: منها أنه صبغ الدين الجديد بالصبغة الفلسفسة، ورسم له الحدود والمعالم، ودعمه بأسانيد الواقع والتاريخ. ولعله يتميز بين جبابرة العقول وحملة لواء الفكر الإنساني، بصراحته الوحشية التي مزقت قناع الرياء عن وجه الإنسان
ولا نحسب أن مفكراً طبع العصر الحديث، في الغرب، بطابعه الفكري، مثل نيتشه. وإذا كان ماكيافيللي أستاذ كثير من السياسيين، فإن نيتشه أستاذ الدكتاتوريين، وخاصة زعيم النازية
نعم، هو ملهم النازيين ومهبط وحيهم، هتف بدين القوة والسلطان، وتلقف زعماء ألمانيا الحديثة تعاليمه، فأفرغوها في قوالب التطبيق العملي، غير متأثمين ولا متحرجين، إذا كان تطبيقها يحرج شعور العدالة، أو يثير الضمير الإنساني
كان صاحب دعوة القوة يحمل على الديمقراطية حملاته الشعواء بدعوى أنها من أقوى(340/9)
مظاهر الانحطاط والانحلال في أوربا العصرية، وكذلك يذهب دعاة النازية هذا المذهب. فما كادت ألمانيا تنسحب من عصبة الأمم في عام 1933 حتى قال هتلر، في أعقاب ذلك الانسحاب، لبعض صحبه: (لن تعود ألمانيا إلى عصبة الأمم الديمقراطية بحال. فقد دبت فيها عوامل الفساد، وقضت عليها الديمقراطية بالفناء والدمار)
وينادي زعماء النازي بأن ألمانيا تهيئ الجو لانقلاب جديد، وأن على العالم أن يمشي تحت رايتها. وكان المبشر بدين القوة، بعد أن ظن أنه حطم أصنام الأوهام الموروثة من دين وعلم وفلسفة وأخلاق وديمقراطية، ولأقام على أنقاضها القيم الأخلاقية الصحيحة، واكتشف الإنسان الأعلى، أنه قد مهد الطريق لظهور الإنسانية الجديدة البريئة من شوائب الضعف والانحلال المرتكزة على دعائم القوة والسلطان
وأسر الفوهرر إلى بعض رفاقه أنه على تمام الهبة لأن يضع توقيعه على اتفاق، ويضمن أية حدود، ويمضي ميثاق عدم اعتداء مع كائن من كان، على أن ينقض كل أولئك، في دم بارد وضمير جامد، إذا اقتضته قوة ألمانيا وعظمتها. وجاهر رسول القوة بأن الضعيف يبتغي السلام والوفاق والمساواة والحرية، لا يشرئب بآماله إلا إلى الاحتفاظ بذاته. ولكن القوي يؤثر أن يثير المشكلات وعظائم الأمور. الضعيف يضمر الكيد فحسب؛ فأما القوي فيهجم غير وان ولا متردد، فإن القوة التي تفيض بها جوانب نفسه تحفزه إلى التوثب والانقضاض
وأعمل نيتشه معاوله حتى ظن أنه نقيض القيم الأخلاقية من أساسها. فالشفقة لديه بغيضة لأنها من أخلاق العبيد، والقسوة في عرفه مرضية لأنها من أخلاق السادة. تلك شرعة الأقوياء. ولا يتحرج من أن يجهر بأن الشفقة هي فضيلة المومس، وينادي مع الشاعر الأساطير الشمالية القديمة: (إن فوتان (كبير الآلهة في تلك الأساطير) قد وضع في صدري قلباً قاسياً). ثم يهتف: (من الواجب عليك القسوة. فعن هذا الطريق وحده يسمو الإنسان إلى أعلى حيث يقابله البرق ويحطمه: فلترتفع إلى البرق ارتفاعاً كافياً). ذلك بأنه يرى القسوة أعظم شيء يفضي إلى تقوية الإنسان وترويضه على ملاقاة الأخطار، وشحذ همته للنهوض بجلال الأعمال، على حين لا شيء أخطر على المجتمع من الرحمة بالضعفاء والعاجزين، إذ تنهض عقبة في سبيل قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح. فنواميس(340/10)
الطبيعة تقضي بإبادة الكائنات الضعيفة وإفنائها من الوجود. وأما نحن فنتحدى قوانين التطور، ونعمل على أن نحيل العالم إلى ملجأ الضعفاء والعاجزين.
ومن ذا الذي تداخله إثارة من الشك في أن هذا ما يدين به جماعة النازي؟ أرأيت كيف نكلوا برفاقهم في الجهاد يوم قاموا بعملية التطهير بين صفوفهم في عام 1934 حين زعموا أنهم وقد اختمرت في رؤوسهم فكرة الجريمة، أخذوا يدبرون في الظلام ومن خلف الأستار مؤامرة واسعة النطاق ترمي إلى هدم نظام الحكم النازي، وتحت ستار هذه الدعوى أجهزوا على طائفة من رؤوسهم وفي طليعتهم رويهم، وكذلك لم يبقوا على شليخر وزوجه!
وهل أتاك حديث الجستابو وما يجري من أعمال القسوة في معسكرات الاعتقال التي تضم الخصوم السياسيين الذين يظن فيهم أو يلمح من ثنايا حركاتهم أنهم يعتزمون الانتقاض على الحكم النازي؟
ثم هل جاءتك أنباء تنكيلهم بكل من يحاول كسر القيود من الأمم التي غلبوها على أمرها لحكمهم عنوة واقتدارا؟
ويبرر أولئك الدكتاتوريون قسوتهم بأن سلامة الدولة قبل كل شيء وفوق كل اعتبار
ويتخذ النازيون العنف عقيدة ويعدون الرحمة خوراً في الطبيعة ويؤمنون بالقوة إيماناً عميقاً، القوة الخالية من شوائب الشفقة والرحمة، المتجردة من هواجس الضمير ومن عوامل الضعف الإنساني، القوة التي تذهب إلى حدود الوحشية أحياناً؛ فإذا وقف الضمير في وجه القوة، وعاق نهوضها إلى الأمام، كان ذلك آية على الضعف والانحلال، ومظهراً من مظاهر انحطاط الفرد والجماعة
وفي كتابه (كفاحي) لا يكتم زعيم الريخ الثالث ازدراءه لما تواضع الناس على أنه رحمة، وما اصطلحوا على أنه إنسانية.
ويدين جماعة النازي بالمبدأ القائل: (الحرب الدائمة) هي حالة المجتمع الإنساني في المستقبل، وأن على كل أمة أن تعد لها العدة، وأن تتنكر للسلام، ولا تتجهم للحرب. فالسلام يقتل حيوية الأمم، فأما الحرب فتغذي تلك الحيوية، ولا يجنح للأول إلا الأمم المترفة المستسلمة، ولا ينزع لخوض غمرات الثانية إلا الذين يفيضون بالقوة والعزة. فألمانيا تبتغي (تقسيم العالم من الجديد) كما يقول وزير دعايتها جوبلز. لا، بل يزعم فيلسوف(340/11)
النازية روزنبرج أن الشعب الألماني خلق للسيادة، ولا مندوحة عن أن يبسط سلطانه على العالم، ليهيئ حضارة أعلى
وفي سبيل فرض السيادة على الدنيا يرى القابضون على مصاير ألمانيا أن لابد لها من التسلط على المستعمرات والطرق الرئيسية للبحار
وتطوف بأحلام النازيين خيالات غريبة، وتصور لهم أوهامهم ما لا يمكن أن يتعلق به أمل، فتراهم يقولون إن مأساة مونيخ قد كشفت عن ضعف إنجلترا وشيخوختها، وأن لا بد لهم من إضعاف إنجلترا، وتحطيم الإمبراطورية البريطانية، تلك الإمبراطورية التي قال عنها كبيرهم أدولف هتلر وهو يحلق في أجواء الخيال: (إن الإمبراطورية البريطانية تمثال ضخم هائل يقوم على رجلين من طين)
فأما فرنسا فيجمح الخيال بزعماء النازي عنها إنها (أمة تحتضر) فلا يقوم لها ميدان الصراع الدولي وزن أو اعتبار!
ولسوف تصدم الحقائق زعماء النازي صدمات قاسية أليمة، وتوقظهم من أحلامهم إيقاظاً خشناً، وإذ ذاك يعلمون إلى أعماق أية هوة ساقوا بلادهم!
ولعلهم حين تساورهم الأحلام فيتعلقون بأهداب تلك الأماني الباطلة يؤمنون في أعماق نفوسهم يقول الفوهرر: (إن كل أكذوبة يمكن أن تساغ وتهضم، على شرط أن تكون من الضخامة بمكان)
وليس يطمح الريخ الثالث في أن: (يتخذ له مكاناً ليعيش فيه) وإنما يتشبث بالأماني الكاذبة فتجمح به القوة الغاشمة إلى حد الطموح إلى ضم الدنيا بأسرها تحت علم الصليب المعقوف! والسياسة العنصرية التي طبعت تصرفات حكومة النازي إنما هي منبعثة عن تلك العقيدة الخاطئة وهي أن العنصر الآري قد خلق للسيادة بينا خلقت العناصر السامية للعبودية!
وترى النازيين ينفخون تلك الروح في شبابهم، ويملئون بها جوانب نفوسهم فينادى نشيد الشبيبة الهتلرية:
(اليوم نملك ألمانيا، وفي الغد نملك العالم بأسره)
والآن فمن الذي أضرم نيران المطامع في نفوس الألمان حتى أشعلوا الحرب الحاضرة؟ إن(340/12)
الذي أجج تلك الروح إنما هو داعية دين القوة، والمبشر بالإنسان الأعلى، فريدرش نيتشه
لقد تروعك مبادئه وتعاليمه، بل لقد تهولك قسوته وعنفه، ولكن لا مفر من إجالة الفكر قي تلك التعاليم والمبادئ إن كنت تبغي مواجهة الحقائق مهما كانت قاسية وأليمة، وكنت تريد أن تعلم من هو موقد نيران الحرب الحاضرة، ومشعل الحرب العالمية من قبل
يذهب نيتشه إلى أن من أقوى الدلائل على الخور والاستسلام الذي أصاب المدنية في القرن التاسع عشر، وتفشي بين صفوف أبناء الغرب، تحصنهم خلف ما يسمونه السلام الدائم، وتذرعهم بما يدعونه الإنسانية التي هي أنشودة الضعفاء، ورمز الانحلال، وعنوان الاضمحلال؛ لأن الحرب الدائمة، على ما فيها من الكوارث وويلات هي الحالة الضرورية لنهضة الأفراد والشعوب.
ويذهب الفيلسوف الهدام إلى الغريزة التي تسير الإنسان وتطبع كافة تصرفاته، إنما هي غريزة حب السيطرة، وإرادة القوة. وعنده أن الخير هو كل ما يعلو في الإنسان بشعور القوة وإرادة القوة، والقوة نفسها؛ وأن الشر كل ما يصدر عن الضعف، وأن السعادة في الشعور بأن القوة تنمو وتزيد، وأن لا رضى، بل قوة أكثر وأكثر، ولا سلام مطلقاً بل حرباً، ولا فضيلة بل مهارة، وأن الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا، وأن هذا هو أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية، وأن أشد الرذائل ضرراً إنما هي الشفقة على الضعفاء العاجزين.
وينادي نيتشه بأن مذهب دارون في (تنازع البقاء) مذهب بالطل، فليست الحياة تنازع البقاء، وإنما هي تنازع القوة وتنازع القوة وتنازع السيطرة. وما تاريخ الإنسانية إلا سلسة متصلة الحلقات من تنازع السلطان والغلبة والقوة بين السادة وبين العبيد. فأما العبيد فيخترعون قيماً أخلاقية لا غاية لهم منها إلا إخضاع السادة لهم عن طريقها، وإن هي إلا أسلحة مسمومة يستخدمونها رجاء أن يتحرروا من نير سادتهم، ثم الطمع في السيطرة عليهم بمجرد زوال سلطانهم
ويذهب ذاك الذي لا يؤمن بالقوة إلى أن الضعيف يريد السلام والوفاق والحرية والمساواة، لا يبتغي من الدنيا شيئاً إلا الاحتفاظ بالبقاء. ولكن القوي يؤثر أن يخوض غمار المشكلات، ويواجه العواصف والأهوال غير وجل ولا هياب، ويشرئب بآماله إلى تسنم الذروة، وبلوغ العظيم من الأمور. الضعيف لا يرضى أن يخاطر بشيء، فأما القوي فيغامر بكل شيء، إذ(340/13)
أن حياته كلها عواصف وأخطار، بل يبذل له نيتشه النصح أن (يعيش في خطر) فذاك هو المبدأ الذي يكفل له الاحتفاظ بكل مظاهر القوة
ويبشر نيتشه بظهور الإنسان الأعلى. ولكن كيف السبيل إلى ظهوره حتى ينهض بالإنسانية من كبوتها، ويقيل العالم من عثاره. السبيل أن يؤمن الناس بالأرستقراطية والتميز، ويكفروا بالديمقراطية والمساواة! فبين الكيف والكم خصومة عنيفة. فأما الأول فينادي بالتفرقة وينكر المساواة، ويؤمن بالفرد ولا يعنيه شيء من المجموع باعتباره مجموع وحدات متساوية، فالكومة المكدسة من الرمال لا تساوي كلها مما تساويه حبة رمل واحدة. فأما الكم فكل شيء عنده سواء، يريد أن يخرج الناس جميعاً في صورة واحدة، ويطبق عليهم مقياساً واحداً. فصيحته (المساواة! المساواة) وشعاره (نحن جميعاً متساوون! وليس هناك أناس أعلى من أناس!) وترى أصحاب الكم يتحدثون عن (الأغلبية) و (المجموع) و (أكبر عدد ممكن) حتى انحطت الحياة في جميع مظاهرها إذ أصبحت السيادة والسلطان للدهماء على أصحاب الرؤوس المفكرة والشخصيات الخصبة الممتازة
فأي عجب وتلك تعاليم نيتشه التي تشبع بها جماعة النازي، أن نسمع كبيرهم أدولف هتلر يقول عن أعضاء مجلس الرايشستاج: (لست أدري كيف يعهد بإدارة السياسة العليا للدولة لقطيع من الخراف رؤوسها خاوية)
بل كيف نعجب من إشعالهم الحرب الحاضرة والتهامهم الشعوب، إذا كان أستاذهم نيتشه ينادي بأن الإنسان الأعلى رجل نضال دائم من أجل السيطرة والغزو والظفر، لا يعنيه إلا أن يسير نحو الغاية التي رسمها لنفسه، وأن أبغض شيء إليه السلام، والحرب عنده أقدس شيء
وإذا أنت اطلعت على رأي نيتشه في القيم الأخلاقية لم تدهش لتصرفات بني قومه في أي بلد اجتاحوه. فعنده أن الضعيف يسمى العجزة (إحساناً وطيبة) ويسمي عدم الانتقام والأخذ بالثأر: (صبراً) ويسمى حاجته إلى الآخرين وقصوره عن الاعتماد على نفسه: (رحمة) ويسمي عجزه عن إدراك المطامع السامية والغايات العالية: (تواضعاً). فأما الأقوياء فيسمون الأشياء بأسمائها ولا يبتغون إلا الظفر والانتصار وتحطيم كل من يقف في سبيل تحقيق آمالهم السامية في الحياة غير حافلين بدموع تسكب، أو دماء تسفك، لأن قلوبهم(340/14)
الصخرية، وعواطفهم المتحجرة، تملأها المطامع والغايات، ولا تجد إليها سبيلاً
ولعلك تسأل عن السر في مغاضبة النازية للمسيحية وإرهاقهم لدعاتها، وتنكيلهم بهم أحياناً؛ وعندنا أنه لاكتشاف هذا السر ينبغي أن نقول لك: (فتش عن نيتشه). فحملته الشعواء على دين عيسى، ورميه هذا الدين بالضعف والانحلال الذي أصاب أوربا في زعمه إبان القرن التاسع عشر، كل أولئك حمل دعاة النازية على أن يعملوا كي تقفر جوانب نفوس الألمان من تلك العقيدة التي تدعو للسلام والرحمة وبذلك تجر للضعف والاستسلام وهم شعب الله المختار الذي خلق لسيادة الدنيا في غير ضعف أو تخاذل!
ولا تحسبن الألمان ينكلون ببني إسرائيل اعتقاداً منهم بأنهم سبب نكبتهم وباعث هزيمتهم في الحرب العظمى. فاليهود في نظر نيتشه هم أول من قاموا بثورة العبيد، وهم الذين حاربوا السادة حرباً لا هوادة فيها، وأذَّنوا في الناس بأخلاق العبيد لتكون سبيلهم إلى التسلط على السادة. وكذلك كانوا يوم قاموا في وجه روما. وهكذا فعلوا حين أشاعوا في الناس أخلاق الضعف والحين والعجز والخور تحت أستار الحرية والمساواة!
والآن أرجو أن أقول إن الذي أوحى إليّ بهذا البحث هو الكتاب القيم الممتع الذي وضعه عن (نيتشه) صديق العالم الشاب الأستاذ عبد الرحمن بدوي. وإن أسلوبه الحار الملتهب، وعباراته التي تنبض بالحياة في كل موطن، وإلمامه الشائق بحياة نيتشه ومبادئه وتعاليمه، وتبسيط لمبادئ الفلسفة الجافة حتى تسيغها العقول والنفوس، وطريقته في عرض الآراء وبسطها كل أولئك قد أغراني بأن التهمه التهاماً فأحببت أن أغري الشبان بمشاركتي في هذا المتاع العقلي.
عبد المجيد نافع(340/15)
على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية
الفصل بين القيم الذاتية
ظاهرة من ظواهر الرقي
للدكتور محمد البهي
كما أن من ظواهر المدنية والحضارة في سياسة الأمة الفصل بين السلطات المختلفة، كذلك من ظواهرهما في وزن الأعمال وتقدير الإنتاج الفردي (الفصل بين القيم الذاتية)، لأن الثقافة تنوعت تبعاً لتنوع الحياة، واصبح لكل نوع من أنواعها قيمته الخاصة لأنه يؤدي غرضاً في الحياة بعينه لا يعوض من طريق آخر.
والنظرة إلى إنسان اليوم غيرها إلى إنسان الأمس، أو يجب أن تكون غيرها، لأن له واجباً في الحياة، وعليه تبعة نحو المجتمع، وله قيمة في أية ناحية من نواحيها. فالشعبي والأرستقراطي سواء في القيام بالتكاليف العامة، وفي استحقاق التقدير على أداء الواجب المكلف به. إلا أن بعض القيم، قد يختلف لا من حيث ذاته، وإنما من حيث نظرة المجتمع إلى ناحية من نواحي الحياة التي تتصل به.
فقيمة الفرد قد تكون في علمه، فهو صاحب قيمة علمية؛ وقد تكون في فنه، فهو صاحب قيمة فنية؛ وقد تكون في سلوكه، فهو صاحب قيمة خلقية؛ وقد تكون في موهبته الاقتصادية، فهو صاحب قيمة اقتصادية؛ وقد تكون في إصلاحه، فهو صاحب قيمة إصلاحية. . . وهلم جرا. وكلها متساوية في ذاتها إلا أن المجتمع وما يسود فيه من نظرة إلى الحياة هو الذي يخص بعضها بالتفضيل. فإذا كان المجتمع مثلاً متشعباً بفكرة الإنسانية كان اتجاه تقديره إلى الصفة العلمية. وإذا كان متديناً أو يغلب عليه إقحام الدين والعادات والتقاليد في آرائه كانت نظرته الأولى في التقويم إلى الصفة الخلقية. وإذا كان في حاجة ماسة إلى الإصلاح الإداري أو الاجتماعي لم يكد يعرف في حكمه على الإنتاج الفردي غير القيمة السياسية. وهكذا في الناحية الفنية من أدب وموسيقى وتمثيل وتصوير. . . الخ
وعلى الفصل بين هذه القيم والاعتراف باستقلالها الذاتي درجت مدنية القرن العشرين، وقام التهذيب الحديث، وتأسس الإصلاح الاجتماعي(340/16)
فغاية مدرسة اليوم أعداد الفرد للتمييز بين نواحي الحياة والاعتراف أدبياً. بكل مجهود في أية ناحية من نواحيها. غايتها عداده لأن يكون موضوعياً في حكمه على الإنتاج الفردي غير متأثر بميوله ورغباته أو بالإيحاء والتقليد. غايتها تهيئته لأن يكون مستقلاً، وهذا هو السبب الذي من أجله لا يأنف الأوربي أو الأمريكي من مزاولة أي عمل. ومن أجله لا يبخس الغربي قيمة أي فرد في إنتاجه ولا ينظر إليه شزرا إذا كان دخله من عمله أقل من دخله هو مثلاً. هذا هو السبب الذي من أجله ملك الأوربيون كل ميادين النشاط الاقتصادي تقريباً في البلاد الأسيوية والأفريقية
والإصلاح الاجتماعي الحديث يقوم أيضاً على الاعتراف بالفرد - وهو غير الفردية - وهذا معناه الاعتراف بقيمته في أية ناحية. هناك طبقات، ويظهر أن وجودها ضرورة اجتماعية لداعي رابطة خاصة تربط فريقاً من الناس، ولكل طبقة قيمتها. وتفضيل طبقة على أخرى لغلبة نظرة من نظرات الحياة في وقت بعينه؛ ولكن ليس معنى هذا التفضيل احتقار الطبقة الأخرى وإهمالها، لأن الإهمال لم يعد الآن وسيلة من وسائل الحياة المتحضرة، كما أن الاحتقار لم يصبح في جملة الأحكام التقديرية
والطابع الاجتماعي للقرن العشرين الآن هو المساواة. وطابعه السياسي الديمقراطية. حتى داخل الحكومات الديكتاتورية، فهذه قامت على هدم تحكم إحدى الطبقات في الأخرى. قامت على الحدِّ من الرأسماليين والتضييق على الأرستقراطيين
وحقاً إن الفصل بين هذه القيم والاعتراف بذاتيتها من ظواهر التمدن ورقي الإنسان، لأنه دليل على عدم على عدم إدخال الرغبات والميول، أي على عدم إدخال الناحية الشخصية في الحكم على عمل الغير وإنتاجه. والفرد لا يطلب حقاً في الحياة أكثر من الاعتراف بقيمته الذاتية في أية ناحية، لأنه على أساس هذا الاعتراف سيعيش معتداً بنفسه، وسيعمل جاداً في عمله، ومسروراً من عمله لأنه لا غنى - في نظره إذاً - لمجتمعه عنه. والمجتمع لا يطلب أكثر من اشتراك أفراده في بناء صرحه، ولا أكثر من أن يشعر كل فرد بسعادته الشخصية ومتعته النفسية
والعصور الماضية إذا قيست بعصرنا الذي نعيش فيه كانت ميزتها في الخلط بين هذه القيم وعدم التفريق بينها عند إصدار الأحكام التقديرية. فقيمة الفرد تهمل، ووجوده يهمل كذلك(340/17)
إذا كان إنتاجه في غير الناحية التي ينظر إليها المجتمع ويطلبها لعوامل خاصة. فالعالم صاحب القيمة العلمية أو الفنية كثيراً ما اضطهد، ولم يهمل وجوده فحسب، لأن سلوكه في بحثه كان على أساس النقد وعدم التسليم مبدئياً بما فرضه عليه وقته من عقيدة وقد كانت الناحية التي تقوم في ذلك الوقت، وبجانبها تهمل كل ناحية أخرى في التقويم، هي الناحية الدينية أي السلوك طبقاً لأوامر رجال الدين. وبعض الطبقات كان يستعبد ويباع ويشرى، وهي طبقة الرقيق، لان الناحية التي كانت تقدر حينئذ ناحية الشرف والجاه، وليس لهذه الفئة من جاه من ثروتها أو ثقافتها
وهذه الظاهرة، وهي ظاهرة الخلط وإهدار القيم الأخرى ما عدا قيمة الناحية المطلوبة، تشبه في تطور الأمم ظاهرة الطفولة في أدوار نمو الإنسان. فالطفل لا يميز ذاته عما في بيئته؛ وبعبارة أخرى لا يعرف قيما للأشياء إلا بقدر ما تشبع بعض رغباته أو تلبي بعض ميوله. فالحسن عنده ما انتفع به، والقبيح هو ما لم يستطيع السيطرة عليه؛ فأمه (حُوَّة) إذا لبت رغبة له، و (كُخَّة) إذا منعت عنه بعض ما يطلب
وبالتالي ظاهرة الفصل بين القيم والاعتراف باستقلالها عند أمة من الأمم تحاكي دور النضوج وبلوغ الرشد العقلي لدى الإنسان. فقدرة تصرف الرشيد معناها التمييز بين النافع في ذاته والضار في ذاته. معناها الاعتراف بالقيم الذاتية واستقلالها
لنا الآن أن نسأل أنفسنا: في أي طور من أطوار النمو تعيش الأمة المصرية؟ هل بلغت طور الرشيد أم تجاوز بعد دور الطفولة؟
لنرجع إلى وصف ما يسود فيها من طاهرة تتعلق بإصدار الأحكام التقديرية، وعلى أساس هذا الوصف المميز يمكن أن نعرف في أي طور تعيش
طبيعي أنه يسود مجتمعنا ككل مجتمع إنساني نظرة معينة في الحياة. والنظرة الغالبة في مجتمعنا النظرة الدينية أو نظرة التقاليد. وسواء أكانت سيطرة هذه النظرة على مجتمعنا الآن دليلاً على تغلب الناحية (اللاشعورية) وهي ناحية النزعات، أم دليلاً على (إدراكه) لأهمية الدين في تكوين المجتمع فإن ذلك لا يعنينا فيما نحن بصدده.
هل مجتمعنا يعترف بقيمة الفرد العلمية أو الفنية، السياسية أو الإصلاحية أو الاقتصادية إن خرج في سلوكه الفردي عما رسمته التقاليد؟ ألا يحكم عليه بالفسوق والمروق - على الأقل(340/18)
- عن التقاليد والأخلاق القومية إذا ما أنكر في بحثه بعض التقاليد أو بعض مبادئ هذه الأخلاق؛ وبعبارة أخرى إذا لم يسر وفق ما تتطلبه نظرتنا في مجتمعنا إلى الحياة؟
أغلب الظن أن هذا هو الذي يقع بالفعل. فالعالم جاهل لأنه (متفرنج) أي مقلد غير ما هو شعبي مألوف بيننا، وزنديق لأنه يرى (الاجتهاد) من ضروريات العصر، وهو غير مألوف أيضاً في أبحاثنا. والمفكر لا خلق له، أي ليست له قيمة بحسب نظرة المجتمع لأنه يميل إلى النقد وعدم الإذعان لكل ما هو مألوف في نقلنا الثقافي
وإذا تجاوزنا دائرة العلم والبحث إلى العلاقات الاجتماعية، وجدنا الصديق ينكر على صديقه بالأمس كل قيمة لأنه لم يف بوعد ربما ألجئ لأسباب خاصة إلى عدم الوفاء به. ووجدنا الزميل يأبى إلا تجريد زميله من كل اعتبار لأنه ينافسه في زمالته، وربما كان شريفاً في منافسته. ووجدنا الرئيس يفحص قيمة مرؤوسه لأنه أخذ - أي المرؤوس - عليه خطأ في تصرفه أو خالف المألوف من تملقه. . .
كذلك نجد بعض الأعمال مفضلاً على بعض، وبعض المهن يرفع حتى الذروة، والبعض الآخر يحط من شأنه حتى الحضيض. نجد عامة الشعب لا يُعتَرف بوجودها عملياً، بينما نجد خاصته تمثل دور حكام الإقطاعيات
فنواحي النشاط المختلفة في الحياة، وأنواع الثقافات المتعددة، لم تأخذ بعد في مجتمعنا قيمتها الذاتية. وتقديرها في الغالب مبني على التأثر بما يسود المجتمع من نظرة إلى الحياة ورأى بعينه فيها، مبني على التأثر بالعنصر الشخصي والرغبات والميول
ولهذا أظن أن مجتمعنا لم يزل دور الطفولة، لأنه لا يفصل في تقدير الأعمال وتقويم الإنتاج الفردي بين القيم الذاتية بعضها تجاه بعض، كما لا يفرق بينها وبين ذاته وشخصه.
محمد البهي(340/19)
في النحو
قد لا يكون
لأستاذ جليل
قال الأستاذ أحمد بك العوامري في (بحوث وتحقيقات لغوية متنوعة) في مجلة (مجمع فؤاد الأول للغة العربية):
(نسمع كثيراً، ونرى في الصحف نحو: قد يجئ محمد اليوم، و (قد لا يجئ)؛ ونحو: (قد نكون لا منصفين إذا قلنا كذا. . . وهو ما لم يرد في كلام العرب. فقد قال ابن هشام في المغنى: وأما (قد) الحرفية، فمختصة بالفعل المتصرف الخبري المثبت المجرد من جازم وناصب وحرف تنفيس. وهي معه كالجزء، فلا تنفصل منه بشيء، اللهم إلا بالقسم أ. هـ ونحو هذا في القاموس. وقال في شرحه عند قوله المثبت: اشترطه الجماهير أ. هـ فلإصلاح العبارة يعتاض من (قد لا يجئ) مثلا قولك: (ربما لا يجئ).
أقول: وقال ابن يعيش في شرح المفصل: (أعلم أن قد من الحروف المختصة بالأفعال، ولا يحسن إيلاء الاسم إياه، وهو في ذلك كالسين وسوف. وهي (أي قد) بمنزلة الألف واللام التي للتعريف، فكما أن الألف واللام اللتين للتعريف لا يفصل بينهما وبين المعرّف كان هذا مثله إلا أن قد اتسعت العرب فيها لأنها لتوقع فعل، وهي منفصلة مما بعدها (فيجوز الفصل بينها وبين الفعل بالقسم)، لأن القسم لا يفيد معنى زائداً، وإنما هو لتأكيد معنى الجملة، فكان كأحد حروفها). وقال الرضيّ في شرح (الكافية): (ولا يفصل قدمن الفعل إلا بالقسم).
قد عناني من أمر هذا البرزخ، هذا الحائل: (لا) ما عني الأستاذ الفاضل العوامري فاستقريت وفتشت فوجدت ما أنا ممليه اليوم في (الرسالة) الغراء. ولو أدمنت على التنقيب لضممت إلى هذا (الإملاء) شيئاً كثيراً:
1 - كتاب (الأم) للإمام الشافعي الجزء (3) الصفحة (65): (. . . كما أكره للرجل أن يشتري السيف على أن يقتل به، ولا يحرم على بائعه أن يبيعه ممن يراه أنه يقتل به ظلماً، لأنه (قد لا يقتل) به، ولا أفسد عليه هذا البيع)
2 - لسان العرب. الجزء (2) الصفحة (311): قال الخليل بن أحمد: الأمور على ثلاثة أنحاء، يعني على ثلاثة أوجه، شيء يكون البتة، وشيء لا يكون البتة، وشي قد يكون و(340/20)
(قد لا يكون). . .
3 - الخصائص لابن جني الجزء (1) الصفحة (19). . . كما أن القول (قد لا يتم) معناه إلا بغيره
4 - الأنموذج في النحو للزمخشري الصفحة (102): ولا لنفي المستقبل، والماضي يشرط التكرير و (قد لا يتكرر) نحو لا فعل
5 - إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن للعكبري الجزء (1) الصفحة (135): (أن قد صدقتَنا) أن مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، وقيل أن مصدرية و (وقد لا تمنع) من ذلك
6 - الفروق لأبي هلال العسكري الصفحة (182): الفرق بين الطاعة وموافقة الإرادة أن موافقة الإرادة قد تكون طاعة، و (قد لا تكون) طاعة
7 - شرح شذور الذهب لابن هشام الصفحة (138): تنعت أي باسم الإشارة كقولك يا أيهذا، والغالب حينئذ أن تنعت الإشارة كقولك:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
و (قد لا تنعت) كقوله: (أيهذان كلا راديدكما) ومثل ذلك في الصفحة (205) والصفحة (395)
8 - شرح الكافية للرضيّ الجزء (2) الصفحة (373): وأما المنقطعة (يعني أم) فـ (قد لا يتقدمها) الاستفهام، وقد يتقدمها الاستفهام بالهمزة أو بهل. . .
9 - المقابسات لأبي حيان التوحيدي الصفحة (181): سئل أبو سليمان هل يجوز أن يقال: الإنسان ذو نفس كما يقال هو ذو ثوب وذو مال؟ قال: أما على التحقيق فلا، وذلك أن الإنسان قد يكون ذا ثوب وذا مال و (قد لا يكون) ويستحيل أن يكون الإنسان إنساناً إلا وهو ذو نفس إلا على السعة والمجاز. . .
10 - مفاتيح الغيب للرازي الجزء (4) الصفحة (130): (ثم ههنا بحث آخر، وهو أن العداوة والصداقة تمنع أن تحصل باختيار الإنسان، فإن الرجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه، بل (قد لا يقدر) على إخفاء تلك العداوة. ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه. ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار(340/21)
الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد. وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع؟ قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه. ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته) ومثل ذلك في الجزء الثالث الصفحة (19) والجزء الثاني الصفحة (352)
11 - الإيضاح للخطيب القزويني الجزء الأول الصفحة (106): (. . . لأن الجملة (قد لا تكون) طلبية كقولنا: نعم الرجل زيد)
12 - الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي الجزء (2) الصفحة (200): (وغائبات الأمور (قد لا تكون) معلومة) ومثل ذلك في الجزء (4) الصفحة (8)
13 - البصائر النَّصِيرية لزين الدين الساوي الصفحة (4): وقد يتردد في أمور بعد إدراك المحسات وانتزاع القضايا منها، و (قد لا يجد) إلى الحكم الجزم في بعضها سبيلاً
14 - الفرزدق - وبين الحليفتين عصبة حروف، عصبة أمم. . لا (لا) فقط، والفعل ماض فالخطب أطم -:
فقالت: سوى ابني لا أطالب غيره ... و (قد يك عاذت) كلثم وغلابها
أرى ابنَي نفيل من يكون أباله ... وعما ف (قد يوم الرهان تمهلا)
على من جرى والرافعين أكفهم ... إلى كل فرع كان بالمجد أطولا
تلكم أقوال نحويين ولغوين وأدباء وعلماء متقدمين ومتأخرين، فليس ذاك القول بجرَدى عصري كمما حسب الأستاذ العوامري حتى نحايده. وإن لم تقله العربية الأولى فقد نطق به الآلي تلوتَ كلامهم، وفيهم من فيهم. والنحاة يقولون كثيراً: (هذا جائز وإن لم يرد) وإذا أنتجت الحاجة في الحضارة العربية هذا المسمى بالمولد فجاء من (الكُنْه) (اكتنهه) وما أشبهه، وتقبله الأدب والعلم، ألا يسوغ أن يُتبحبح في (القواعد) بعض تبحبح يُمد اللغة العربية، فتجئ قاعدة مولدة كما جاءت الكلمة المحدثة. وقد قرأنا في (الكليات): (كل مبتدأ عقب بان الوصلية فإنه يؤتى في خبره بالا الاستدراكية أو بلكن مثل (هذا الكتاب وإن صغر حجمه لكن كثرت فوائده) وذلك لما في المبتدأ باعتبار تقييده بأن الوصلية من المعنى(340/22)
الذي يصلح الخبر استدراكا له، واشتمالاً على مقتضى خلافه)
والمثل الذي أورده أبو البقاء إنما هو محدث والقاعدة مولدة
وإذا قال أبو حيان في شرح التسهيل: (العجب ممن يجيز تركيباً ما في لغة من اللغات من غير أن يسمع من ذلك التركيب نظائر. وهل التراكيب العربية إلا كالمفردات اللغوية، فكما لا يجوز إحداث لفظ مفرد كذلك لا يجوز في التراكيب. لأن جميع ذلك أمور وضعية، والأمور الوضعية تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان. والفرق بين علم النحو وبين علم اللغة أن علم النحو موضوعه أمور كلية، وموضوع علم اللغة أشياء جزئية، وقد اشتركا معاً في الوضع) - قيل لشارح التسهيل: إن القوم في الحضارة قد أحدثوا - محكمين مدققين - ألفاظاً ما عرفتها العربية السالفة. وإذا كان ذلك ولم ينكر فهل يُصدُّ (احتياج) أحدث لفاظاً رأى إحداثه، أن يبدع - محتاطا - تراكيباً؟
وهنا هذا الحديث: إن اللغويين لم تحوّش كتبهم ألفاظ اللغة كلها، وقد فر شيء كثير. فهل يستطيع الناحي أن يقول معتزاً: (علُمنا علُم إحاطة) وقد استقْرًت قواعدنا كل تركيب في كلام العرب، وما فرّط (الكتاب) من شيء
هل يستطيعنَّ. . .!؟
(ن)(340/23)
من الأدب الرمزي
هكذا تكلم بَرَدَى!
للأستاذ علي الطنطاوي
تفتحت أبواب السماء بغيث منهمر استمر ليلة من (تلك) الليالي طولها عشرة آلاف سنة، فأغرق البحر وابتلع البر، ومدْ أصابعه من خلال التراب وادخلها من شقوق الأرض حتى بلغ (بردى) وهو (جنين) في بطن أمه الأرض، تطيف به أحشاء لينة من جَلمَد الصخر، تحنو عليه وتغذيه، فغمره بالماء حتى ضاق به مكانه، وامتد البلل إلى عظامه فخرج. . .
وكانت الشمس قد طلعت على الأرض بعد (تلك) الليلة تمنحها الدفء وتغمرها بالنور، و (تحدّد) فيها مملكة البر والبحر بعد أن كانت بحراً كلها؛ فوقف (الوليد) ينظر مشدوهاً فيرى سهلاً أفيح جميلاً تحيط به جبال يتهن شبابا ويمس جمالاً، ولكنه عارٍ اجرد، فآلمه عريه وتجرّده، وود لو سعى في أرجائه يزرع فيه الحياة ويضع في تلك السفوح (بذور) المدن والقرى. ولكنه كان ضعيفاً (فلم يستطع أن يمشي)، وتصرم النهار وهو جاثم مكانه لا هو قادر على الرجوع إلى بطن أمه، ولا هو قادر على السير، وأوحشه سكون الليل وظلامه، ولم يعطف عليه الجبل ولا سامره السهل، فلبث وحيداً حتى جاءت فتاة من بنات (الدَّلْب) كانت قد سمعت به فأحبت أن تراه، فلما أبصرته عشقته وحنت عليه، وأضجعته على ركبتيها (تهمس) في أذنيه، أحاديث المدن البعيدة الحلوة والأودية المسحورة. . . حتى نام!
ومرت أيام نما فيها الوليد، فغدا (صبيا) يمشي في السهل، ثم شب فصار (فتى) قويَّا، (يعدو) نحو الوادي عدواً. . .
راع ظهوره أهل تلك الديار فأعرضوا عنه بادي الرأي، ثم مالوا إليه فأحبوه، واتخذوا مولده عيداً، فنشر له السهل أعلامه الخضر، وجمع له باقات الزهر، وفرش له الجبل سفوحه، وزّينها بالورد، وملكوه عليهم. . .
وكان (بردى) الشاب، طموحاً عالي الهمة، فلم يقنع بملك ذلك السهل، سهل الزبداني، ولم يكفه أن خضعت له جبال مضايا وبلدون، وأبى إلا أن يخرج فاتحاً لا يقف حتى يملك الوادي كله، فحشد عسكره، ودخل الوادي بطبوله وراياته يثب على الصخر وثباً، ينشد أنشودته (الهادرة)، ولم يكن في الوادي إلا أميرات صغيرات، ملكهن صخرة يخرجن من(340/24)
تحتها، وساقية يجرين فيها، فلم يلبثن أن بايعنه وخضعن له، واندمجن في جيشه، وسمعت الأشجار بمسيره فقامت على طريقه صفين تحييه و (تصفق) له
حتى إذا أقترب من (الفيجة) جاءه رائده فقال له: قف، فإن ههنا ملكة جبارة عرشها صخرة هائلة، وجيوشها تملأ الوادي وتمتد إلى أبواب المدينة الأبدية الأزلية التي كانت من قبل، وستبقى بعد المدائن كلها: دمشق!
(فقهقه) بردى ضاحكا من حماقة رائده. أي مدينة وجدت من قبله؟ وأي شيء يعرف القدم والبقاء إلا الله القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء؟ ثم زمجروا أقسم لئن وجد تلك المدينة قائمة من قبله ليدكنها دكا. وإن وجدها تنتظره ليجعلنها بإذن الله سيدة مدن الأرض وأمها ووارثتها. أما تلك الملكة فليحطمنّ عرشها، ويبددن جندها. . .
وتقابل البطلان بردى (الأسمر) القوي (سلطان الزبداني) الغازي الفاتح، والفيجة (البيضاء) الفتانة (ملكة الوادي) واصطف الجيشان هذا من هنا، وهذا من هناك لا يختلطان. ثم أقبلا فاصطرعا. فغلبت رجولة بردى وخضعت له الفيجة وسارت تحت ركابه ذليلة صاغرة، وهي أعزّ منه جنداً، وأسمى نسباً، وأكرم عنصراً
ومشى يجول في الوادي ويصول، ويملأ أرجائه بنشيده الحماسي المرعد
لم يجاوز إلا قليلاً حتى قابل أميرة صغيرة تخطر على السفح الجميل، وفي (عينيها الخضراء) صفاء وفيها وداعة ولها سحر، كأن الناظر إليها يشرب منها خمراً، تلقي أغنيتها بصوت ناعم حالم. كأنه همس القلب في أذن الطيف الحبيب. فأصغى إليها الجبل الأصمّ، ومال من الحنو عليها، وعانقتها الشمس. فلما اضطرت إلى فراقها أحمر جفناها من كثرة البكاء. فذابت من حرارة الوجد قلوب (الثلج) وسالت مدامعها على خدود الجبال فاخضرت منها السفوح، فمن ذلك سميت (الخضراء). ثم لما عادت الشمس بسم الوادي، فمن ذلك سمى وادي (بسيمة) وكان لهذه الفتاة أم وصتها حين ألقتها في لجة الحياة أن تحترس من النهر، وتحذر أن (يخطفها) ثم (يبتلعها) فإنه شاب غدار طياش. . .
لما أحس بها بردى صرخ مختالاً: كم هذا الذي جرؤ على أن يمشي معي في الوادي، وينتزع مني مجدي، وتبسم له الشمس من دوني، وتحنو عليه وتسمع نشيده الصخور الصم ولا تميل عليّ ولا تصغي لنشيدي؟. . .(340/25)
فلما أبصرها شغفته حباً، ودلهّته غراماً، فعمد إليها ليخطفها، فقامت دونها الصخور ووقفت تحميها (الدلبة) العظيمة التي تعيش هناك، وتلوح بأذرعها مهددّة، فعجز عنها. وأنى له الوصول إليها وهي نائمة في حضن الجبل ومملكته لا تتجاوز الوادي. . . فحطم الحب كبرياءه، وما أجل ما يفعل الحبّ! فتطامن ومشى ذليلاً. فلما رأته فتنته بصمته، وحرْك قلبها بأحزانه فمالت إليه، وشغفت (ببيرق) عينيه وقوته وشبابه، فنسيت وصاة أمها، وتمنّت لو نامت على ذراعيه. فلما جرّبت ذلك حملها وطار بها إلى دمشق
ومر على بردى نصف مليون من السنين، وهو السيد المطلق، يجري حراً أبياً، لا يقف في وجهه شيء، حتى يجوز بدمشق، ثم يذهب فيستريح في (العُتيبَة). . . ثم ظهر الإنسان على الأرض، وظهر بردى على الطبيعة، فويل له من للإنسان!
وفي ذات صباح جاءه طائر يلهث عطشاً. فلما سقاه أحب الطائر أن يجزيه خيراً، فخبره أنه رأى هناك في الرمال المحرقة التي تملأ (الجنوب) أمة من الناس، يمشون في طلب الماء. وقال له: إني أخاف عليك منهم، فهم من أهل الجزيرة التي لا تغلب. من العرب. إنهم بنو الشمس، بنو الصحاري، بنو الموت، أفتظن أن الموت يمس أبناءه؟
فضحك بردى وصرفه بسلام!
ووصل أول رجل من القافلة، وكان من أهل (الجزيرة). وهل خرج إلى الدنيا في فجر الحياة غيرهم؟ فلما رآه صاح باخوته أن تعالوا انظروا كم يحمل من ماء الحياة ونحن هالكون عطشاً. فاقبضوا عليه كي لا يفلت من أيدينا. ضعوا له الحواجز في طريقه كيلا يهرب. . .
وأراد أن يضربهم ضربة واحدة فيهلكهم فلم يقدر عليهم. وقدروا هم عليه فأحس أن نجمه قد شرع في الأفول. . . عطلوه عن سيره، وغلبوه على أمره، ثم صنعوا معه صنع كل عدو غالب. فرّقوا جماعته، وجعلوا أمته الواحدة أمماً سبعاً، فبعد أن كان كله بردى صار بردى ويزيد وتورا وبأناس والقنوات والديراني والقناة، ثوّروا عليه أبناءه حتى استقلوا عنه واعتصموا منه بأكناف الجبلين. . . ثم سلبوه الفيجة واستاقوها (مقيدة بالحديد) إلى دمشق. . .
ولقد غضب بردى مراراً وهاج، فكان يهجم على المنازل وساكنيها، فيشردهم شذر مذر،(340/26)
ولا يبقى منها حجراً على حجر، ويحسب أنه انتهى منهم، فإذا هم يلدون غير من مات، ويبنون غير ما إنهدم. . . فكل وأيس. . . وأحس أنه صار شيخاً!
ووقفت على بردى وهو يمشي في (المرجة) رحبة دمشق تحت قصر أمية مشية الشيخ العاجز المتهافت، فقلت له: هيه. . . مالك؟ تعًبت؟ أو قد شِخت؟
قال: دعني يا غلام، فإني أساير الأيام، فلما كانت مقبلة جادة كنت أقبل معها عدواً، فلما توْلت وهزلت. . . تولّيت. .
ومالي لا أني، وقد باد مجدي، وساء جدي؟ ألا يا ليتني ما عرفت الإنسان!
وسكت لحظة، ولاحت على خدّه دمعة تجري مع الماء، ثم قال: على أني رأيت والله ناساً كراماً. . . أجّلوني وعرفوا قدري، وكنت أمرّ بين أيديهم مر الرحيق السلسل. . . وكنت أمشي في الرياض على فتيت المسك، وأنام على غناء، وأصبح على شعر، واضحي على كرم ومجد ونبل. . . فأين أنت يا قصر البريص
وأين أولئك الذين كانوا لباب البشرية، وكانوا مثلها العليا مجسّمة، أولئك المسلمون الذين شادوا مجداً جدع أنف الدهر؟ أين ذلك الرجل الذي مرّ عليّ يوماً وكنت أمشي في الربوة على باب دمشق في الموضع الذي امتلأ هواؤه بجراثيم ذلك المرض الفظيع، فلا مر به أحد إلا أصيب به، المرض الذي يسمونه الحب فلا يذهب إلى الربوة من كان يخاف الحب، لأنه لا يرى هذا الجمال إلا تفتّح له قلبه، فذهب يفتش عمن يحب. . . مرّ عليّ ذلك الرجل العظيم، فرأى الأغنياء لهم في الربوة قصور ومنازل، والفقراء ما لهم إلا حجارة الجبل وحصى الوادي، فلم ينصرف حتى أقام لهم متنزهاّ ما رأى الناس مثله، يجري تحته (تورا)، ويجري فوقه (يزيد)، وهو بينهما جنّة، فيهما ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فإن اشتهوا تمراً مدوا إليه أيديهم، وإن اشتهوا لحماً ناولته السمك حياً، فنقلوه من الماء إلى المقلاة، وإن أرادوا لذة العين وجدوا ما لا مزيد عليه في دار الدنيا، وعند الله في الآخرة مزيد. . .
فأين أولئك الناس، وأين اليوم أمثالهم؟
وسكت بردى هنيَّهة، ثم رجع يقول. . .
لقد شاقتني أمس تلك القصور وهاتيك المنازل، وقد سدّوا إليها الموارد، وأقفلوا الأبواب،(340/27)
(فانسللت) من شقوق الأرض حتى بلغت قاعة في الدار العظيمة، دار القوتللي، التي ترى عرصاتها من (منارة العروس) إذا أنت صعدت إليها، ونظرت إلى ما تحتك إلى شمال، وراء قبر الملك الظاهر، ترى عرصاتها فتحسبها حيّا كاملاً، أو أطلال قرية كانت هناك. . . دخلت القاعة فيا أسفي، ماذا وجدت. . .
لا الروض باقٍ ولا أهلوه باقونا. . . ذوى الزهر، وجف الماء، وصارت البرك حفراً قاحلة، وقد كانت تضحك فيها أوانس الماء متراقصة ضحك الحياة في هذه الدار. . . وتعرت الجدران، وقد كانت نقوشها ومُقَرنَصاتها آية في مصحف الفن. . .
اللهم إني استغفرك - ولم يبق من ذلك (الصيني) الذي يملأ (الكبيَّات) والرفوف إلا قطع غاصت في التراب فبدت منها أطرافها، ولا من السجاد الثمين إلا خيوط الله أعلم كم بللتها الأمطار، وكم جففتها الشمس، حتى غدت وليس لها لون يعرف. والرخام الأبيض الذي كان كالمرايا. . . والأشجار والأوراد. . .
لقد انصرف الدمشقيون عن هذه الدور التي كانت مصدر الفن العمراني الأندلسي، منها أخذ وعنها نقل، وكرهوا هذه الجنان، واتبعوا الإفرنج إلى (جحر الضب. . . فآثروا عليها هذه الصناديق المغلقة التي يسمونها دوراً. فمن يفهمهم أنهم يخطئون، وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بالبقية الباقية من دور دمشق القديمة، قبل أن تهدمها حماقة المالكين، وفتنتهم بتقليد الغربيين؟
ومتى يعلمون أن أوربة ليست أرقى منا في عادات ولا دين، ولكنها أرقى في الصناعات. فيا ويح القردة المقلدين لقد ذهبوا يدرسون العربية، حتى العربية لغتنا، ذهبوا يدرسونها في باريز!
(قال): ودخلت تلك البركة التي طالما شهدت فيها أعراس الحياة أتذكر، فرآني خادم هرم، فصاح بابنه أن تعال أخرج هذا الماء الآسن من هنا. . .
ماء آسن؟ أنا آسن؟ يا ويحكم. أما كنت طاهراً نقياً أسير في الوادي كما خلقني الله؟ أما أكرمني من كان قبلكم، ورفعوني بالنوافير على الرؤوس، وكانوا يتقون الله فيَّ فلا يمسوني بأذى؟ ويلكم اينا الآسن يا ذوي النفوس الآسنة؟ كنت أصافح من أجدادكم عند الوضوء وجوهاً مشرقة نورانية وأيدياً طاهرة معطرة فصرت لا أرى منكم إلا السوء. دنستموني(340/28)
وآذيتموني، وألقيتم عليَّ أو ضاركم، وتدَّعون أنكم في عهد النور، وأن عهد أولئك كان عهد ظلام. . .
أعهد ظلام كان، وقد سطع فيه من عندكم نور العلم حتى ملأ الدنيا، وامتد في شعاع الفضيلة حتى أضاء غياهب القلوب فبدد ظلمة الشهوات؟ ورفرفت فيه الراية - رايتكم على نصف المعمور من الأرض - ولو اجتزتم نهراً عرضه خمسون متراً، ولو أخر الله موت عبد الرحمن ساعتين، لرفرفت على النصف الآخر، ولنجا العالم من وحشية الشُّقر الآريين الذين الذين يدعون كذباً أنهم أفضل منكم. دعوى إبليس حين قال: (أنا خير منه)!
لقد هدمنا مجدنا بأيدينا، وأعنَّا عدونا على أنفسنا، فذللنا حين انقسمنا، وأضعنا كل شيء حين ذللنا. أفلا يقظة بعد هذا النوم؟ ألا نظرة بعد هذا العمى؟ ألا زعيم مصلح حقَّا يرجع الناس إلى الجادة التي ضلوا عنها، إلى كتال الله وسنة نبيه، ويخلصهم من بليتين: من إلحاد المتفرجين، ومن شعوذة أصحاب الطرق الحشْويين الجاهلين؟
اللهم تباركت ربنا، لك الملك ولك الأمر، ولا شكاة إلا إليك ولا خير إلا منك. اللهم ما شخت ولا أصابني الونى، ولكن أمرضتني الأقذار التي ألقوها عليّ وهذه البنى المنتنة التي أنشئوها على جوانبي: كعبات الشيطان: تريانون وأولمبيا والليدو وبناية الروكسي (السينما وما فوقها. . .)!
وسكت بردى، وعاد يمشي مشية الشيخ العاجز حزيناً متألماً!
هكذا تكلم الشيخ بردى. . .!
(دمشق)
علي الطنطاوي(340/29)
الأدب الفنلندي
للأستاذ صديق شيبوب
(بقية الحديث عن ملحمة كاليفالا)
ظهرت الطبعة الأولى لملحمة (كاليفالا) يوم 28 فبراير سنة 1835. ولعل النجاح الذي صادفه هذا الأثر الفني شجع (لونرو) على متابعة رحلاته، وكان قد عنى من قبل بجمع القصائد التي ينشدها سكان مقاطعة (كاريلي)، فتوجه إلى المقاطعات الشرقية ونقل القصائد الشائعة فيها، ثم ضمها إلى ما سبق له جمعه بحيث اكتملت هذه الملحمة وطبعت للمرة الثانية في شكلها الجديد سنة 1848 في ثمانمائة واثنين وعشرين ألف بيت من الشعر وهي الطبعة التي يعتمد عليها اليوم. وقد نقلها إلى الفرنسية في شعر مطلق مقطع وفقاً لتقاطيع الشعر الفنلندي المسيو جان لوي بيريه الأستاذ المعيد للأدب الفرنسي بجامعة هلسنكي.
كان لظهور هذه الملحمة فضل بعث الروح القومية في نفوس الفنلنديين. ويهمنا في هذا البحث من أثرها أنها حملتهم على العناية بلغتهم الأصلية.
قلنا: إن الأسوجيين بعد أن فتحوا فنلندا فرضوا لغتهم على سكانها، فصارت اللغة الأسوجية لغة العلم والأدب، بينما ظلت اللغة الفنلندية شبه لهجة يتحدث بها الشعب. فظلت متأخرة لا سبيل إلى التعبير فيها عن حالات النفس ورغباتها. وظلت اللغة الأسوجية مسيطرة على اللغة الفنلندبة، حتى بعد استيلاء روسيا على دوقية فنلندا الكبيرة. وكانت تعلم في مدارسها وجامعاتها.
ولما أخذ الفنلنديون يشعرون بقوميتهم بفضل ظهور ملحمة (كالفالا) ابتدأ الشعب يناضل للتخلص من اللغة الأسوجية التي لا تزال الطبقة الأرستقراطية متمسكة بها إلى اليوم
فلا عجب إذا احتفى الفنلنديون بهذه الملحمة واحتفظوا بها كاحتفاظهم بمفاخرهم القومية وآثارهم الوطنية التي كشفت لهم عن كنوز ماضيهم الدفينة وأوحت إلى نفوسهم الثقة بمستقبلهم وقوت عزيمتهم لنيل استقلالهم. وقد خصوها بغرفة في المتحف الوطني بهلسنكي جمعوا فيها مختلف طبعاتها وترجماتها
ومن أدلة حفاوتهم بها الحفلات العظيمة التي أقاموها سنة 1935 بمناسبة مرور مائة عام على ظهورها في عالم الطباعة(340/30)
بقي أن نشير إلى الجدل الأدبي القائم بين الروس والفنلنديين بصدد هذه الملحمة وأصلها، وهو جدل له مظهره الخاص إذا نظرنا إليه على ضوء الحرب الناشبة اليوم بين الدولتين
يقرر علماء (الفولكور) الفنلنديين والألمان أن أناشيد هذه الملحمة جمعت من المقاطعات الواقعة حول مدينة هلسنكي ويتوسلون بها لتدعيم مطالبتهم بمقاطعات (كاريلي) و (إنجري) وغيرهما من المقاطعات الروسية
وينفي علماء (الفولكلور) الروس هذه المزاعم ويؤكدون أن (لونرو) لم يجمع هذه الأناشيد من المقاطعات التي تتألف منها فنلندا اليوم بل من الجزء الشرقي لمقاطعة (كاريلي) وهي المعروفة باسم (جمهورية كاريلي الاشتراكية السوفيتية المستقلة)
وقد نشرت صحيفة (فيتشرنيا ياموسكوفا) الروسية بتاريخ 26 يونيو الماضي مقالاً عرضت فيه لهذا الجدل جاء فيه أن القصائد التي جمعت في الطبعة الأولى التي ظهرت سنة 1835 تلقاها (لورنو) من فلاح يدعى (برتونين) كان يسكن في ناحية (أولونه) من مقاطعة (كاريلي). وقد ذكر المسيو (بيريه) الذي يعد اليوم أكبر حجة في فرنسا في الأدب الفنلندي، أنه ذكر في كتابه (مظاهر الأدب الفنلندي المعاصر) أن الشعب الفنلندي الأمي الذي يدين بالأرثذكسية والذي يقيم بمقاطعة (كاريلي) الروسية قد أحتفظ بتقاليد القبائل القديمة، وأن هذه التقاليد بادت في فنلندا نفسها بتأثير التعاليم البروتستانتية. وأضافت الصحيفة الروسية إلى ما تقدم أنه بينما لا نجد واحداً في الجزء الغربي القبلي من فنلندا يروي هذه القصائد والأناشيد، نلفي شيوخاً كثيرين في (كاريلي) يحفظونها ويروونها، وذكرت اسم سيدتين تسكن إحداهما موسكو. ثم قالت: إن بدعة نسبة أناشيد (كاليفالا) إلى فنلندا لم تظهر إلا في أواخر القرن الماضي، وحملت الصحيفة الروسية على الذين قاموا بطبع هذه الملحمة باللغة الروسية سنة 1833 لأنهم نسبوا هذه الملحمة لفنلندا ولم يمحصو ما قرره علماء (الفولكور) الفنلنديون
وهكذا يحاول الروس أن ينتزعوا من الفنلنديين ملحمتهم الوطنية التي تعد مصدر إلهام عظيم لشعرائهم وفنانيهم، ومبعثاً للحماس وروح الوطنية في نفوسهم
صديق شيبوب(340/31)
144
عن جريدة حشرة الملاريا
أنا أدعى أنوفيل ولست يونانيا أو مصريا بل أنا دولي ونحن نسكن في جميع الأقطار ويخشى الناس بأسنا في كل مكان
لقد مضى زمن كنا فيه أقوى من الملوك والقواد وكنا حال ظهورنا
مرهوبين كالموت نفسه
آه كم كنت أتمنى لو كنت من جملة السرب الذي قهر بريروس في إيطاليا وطرد الموغول الكبير باربار البنجابي.
فان حشرة واحدة منا تكفي لكي تمحي تماما كل المشاريع الجميلة والسبب كان خفيا لأن هذه الحشرة كانت تعمل في الظلام
ولكننا لم نركن إلى الهدوء خلال هذه القرون الأخيرة فلا يمكن إحصاء المشاريع التي أخفقت بسببنا والسكان الذين محوناهم فنحن نعكر صفاء كل شيء. فلا يزال الإنسان يبني ويهتم بأشغاله وبملذاته وبغتة أظهر أنا أنوفيل وأنا أطن فرحا بهدوء مفتشا عن محل صغير جميل حيث أركز بسرور وأحفر حفرة صغيرة جداً في جلد المسكين فامتص بعض نقط صغيرة من الدم وينتهي عملي فأعيد الكرة وأهدم في ثانية واحدة عملا دام سنين طوالا يظن أني بعوض اعتيادي ولا يعرف أني أنا الأنوفيل ولكن عندما يرتجف من الحمى حينئذ فقط يذكرني
ولكن خطراً كبيراً يهددنا. فيكفي حسب رأي لجنة الملاريا في جمعية الأمم 400 ملليجرام يوميا مدة موسم الحميات حتى يقي الإنسان نفسه من العدوى التي أحملها أنا وقد وصفت هذه اللجنة لمعالجة إصابة الملاريا كمية جرام واحد أو جرام وثلاثين سنتجرام من الكينا يوميا للأخذ منها مدة خمسة أو سبعة أيام فسمي ليس له هذه المقدرة كي يقاوم علاجا بهذه القوة.(340/32)
من وراء المنظار
القاهرة ليلة الجمعة!. . .
أحب الطواف بأنحاء العاصمة ليلة الجمعة من كل أسبوع فأسير أينما اتجهت بي قدماي لا أدري متى أقف ولا من أي طريق أعود، ولقد أقصد أحياناً إلى حيث تقوم دور الملاهي، وأنا لسوء حظي أو لحسنه - حسبما يرى القارئ - أجدني أبداً غريباً في ذلك الحي، بل إني في الواقع غريب في المدينة كلها على الرغم من أني قضيت فيها من عمري سنين!
وعين الغريب كثيراً ما ترى مالا تراه الأعين التي ألفت ما تقع عليه. ولعل هذا هو الذي يحبب إلي ذلك الطواف الطويل. ولقد كانت آخر مرة طفت فيها بذلك الحي ليلة الجمعة الماضية. . . على أني وددت ليلتئذ لو أن قدمي سارتا بي إلى مكان غير ذلك المكان، فلقد كنت أحس شيئاً من الهم على الرغم من أن جيبي كان لا يزال عامراً بمرتبي الذي تناولته قبلها بيوم، وخشيت أن يؤثر ذلك الهم في تصوير ما تقع عليه عيناي
ووقع ما خشيته فأنا أرى كل شيء بقلبي لا بعيني. فها هي ذي مناظر شاهدت مثلها كثيراً ولكنها تزيدني هماً على هم
هذه (شلة) من الرفاق أنستهم جيوبهم التي أحسب أنها كانت لا تزال عامرة مثل جيبي، وأنساهم شبابهم ما يجدر بأمثالهم من (الأفندية) فأخذوا يتصايحون ويهوشون وينادي الواحد منهم صاحبه بأفظع ما يتصور من عبارات السباب كأنما راحوا يتنافسون في فحش القول. . . ولمحني أحدهم وهو يعرفني، وقد عرفته من قبل وقوراً هادئاً فاندس من الخجل واختفى في أصحابه
ودرت بعيني، ولكنهما وقعتا على قوم آخرين أراهم أجدر من سالفيهم بالوقار والتحشم، فإن ذلك مما تقضي به على الأقل طرابشهم (الميري) وسراويلهم التي تزينها الأشرطة الحمر المهيبة، ولكنهم كانوا أكثر من السابقين تهريجاً وتبذلاً. ولا عجب فهم فرحون مزهوون بهذه الملابس التي باتوا يخطرون فيها على أعين الناس.
ولكم كنت أضيق بهم حينما كانوا يزحمون الغادين والرائحين وعلى الأخص الغاديات والرائحات. . .
والتفت على صوت هرج شديد فرأيت في مقهى قريب معركة حامية وعلمت من أمرها أن(340/33)
أحد (اللاعبين) هجم بسكين المائدة على صاحب له لأنه أخذ منه آخر قرش بقي معه ولم يشأ أن يقرضه من تلك القروش شيئاً يعود به إلى عياله
ورأيت حول المائدة الممدودة أولئك الغلمان الذين يلقطون بقايا الدخائن ويترامون على ما يلقى إليهم من فتات تلك الموائد ينازع بعضهم عليها بعضاً كما تفعل الكلاب فيزيدون المنظر بذلك سوءاً وقبحاً
ومضيت أخرج من هذا الحي فلم يعد لي تلك الليلة جلد على رؤيته، فما كدت أنعطف في أول شارع حتى لقيت في المنعطف (لقاء) تكنفه الريبة، فهو يضحك مرتبكاً وهي لا تكاد تضحك حتى يطفئ الخوف والقلق ضحكها. . . ومررت بهما وأنا أسائل نفسي: أله زوجة ولها زوج؟
وكأنما تأبى المكاره إلا أن تأتي في وقت معاً! فهذا مترنح متخلج يمسك أصحابه بذراعيه مخافة أن يقع، وهو شاب بادئ الوجاهة، ولقد سقط طربوشه حينما قربت منه، ولست أدري لم قصدني أنا فالتفت إليَّ ضاحكاً وقال: (من فضلك ناولني البلغة يا أفندي)
وألفيت عند محطة الترام أنماطاً من الشباب فرادى وجماعات، ورأيت منهم من مرت بهم جميع المركبات وهم مع ذلك وقوف في أماكنهم يمدون أعينهم إلى كل مركبة في مكان معين منها. وعلام يستعجل هؤلاء العودة إلى منازلهم ولا تزال بينهم وبين امتحاناتهم شهور؟
وأراد نكد طالعي أن يكون آخر ما يقع منظاري عليه جماعة من الغلمان في إحدى الطرق ينبشون صندوق القمامة يبحثون فيه عما يقتاتون به. . . فرفعت بصري إلى أعلى وقد ضاق بالأرض وما عليها فوجدت القمر من فرجة بين بيتين عاليين، وأحسست أنه في تلك المدينة غريب مثلي. ولست أدري لماذا فسرت ابتسامته في تلك الساعة بأنها سخرية من حياة المدينة هذه ومفارقاتها؟. . . وأشد ما أمضني، أني لم أر شيئاً مما كرهت من أحد غير بني قومنا الأعزاء، على كثرة ما بين ظهرانينا من النزلاء!
(عين)(340/34)
الأدب في سير أعلامه
بيرون
ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية
للأستاذ محمود الخفيف
نشأته وطفولته
ستمضي السنون ويبقى بيرون في الغرب كالمتنبي في الشرق يحمل النفوس على الإعجاب به، من أحبه ومن لم يحبه في ذلك سواء. وستظل عبقرية هذا الشاعر الشاب كالشعلة تنتقل من جيل إلى جيل فلا تزداد على الأجيال إلا تألقاً وإيماضاً. وما كان لشعر كذلك الذي جاشت به تلك النفس المتوثبة الثائرة، وغنت به تلك القيثارة الملهمة الساحرة، أن تذهب الأيام بروعته وسحره، مهما تغيرت فنون القول واختلفت ضروب البيان
وما عرفت إنجلترة، بل وما عرفت أوربا كلها شاعراً كاللورد بيرون بلغ في مثل سنه مبلغه من نباهة الاسم وبعد الصيت في القارة جميعاً. وما عرف تاريخ الآداب رجلاً هز عصره هزاً متوالياً عنيفاً كما هز عصره ذلك الشاعر الذي تمرد على كل شيء حتى على نفسه. وما لقي بيرون من الإعجاب الشديد والسخط الشديد. ثم ما أختلف النقاد في رجل اختلافهم في ذلك الذي كانت شخصيته الفذة مجموعة عجيبة من المتناقضات، ذلك الذي بلغ قمة المجد الأدبي وهو في الرابعة والعشرين ثم غيب في لحده ولم يتجاوز السادسة والثلاثين
ولد جورج بيرون في لندن عام 1788، أي قبل أن تنبعث الثورة الكبرى في فرنسا بعام واحد، كأنما أراد القدر أن تستقبل هذه النفس الثائرة الحياة في عصر كانت تعصف فيه أنواء تلك الثورة العاتية بأوربا كلها. وكانت الأسرة التي انحدر منها ذلك الشاعر من أعرق الأسر في إنجلترة كلها، فلقد جاء رأسها مع وليم الفاتح عند الفتح النورمندي في القرن الحادي عشر؛ وكان بيرون يفخر أشد الفخر بانتمائه إلى تلك الأسرة حتى لقد قيل إنه كان يزهى بحسبه هذا أكثر مما كان يزهي بأنه مؤلف تشايلد هارولد ومنفرد(340/35)
على أن الشاعر قد ورث من بعض أفراد أسرته هذه بعض ما لا يحمد من الصفات؛ فكان سيئ الحظ من هذه الوجهة بانتمائه إلى هؤلاء. وحسبنا أن نشير منهم إلى اللورد الخامس في هذه الأسرة، ذلك الذي كان ينعت باللورد التعس، فقد كان شاذاً إلى حد يقرب به من الجنون، فهو يبعثر أمواله وهو يحتجب عن الناس، وهو لا يهدأ ذات ليلة حتى يقتل قريباً له في مبارزة دعاه إليها على ضوء شمعة في غرفة مغلقة على أثر خلاف نشأ بينهما وهو يأتي من ضروب اللعب والعبث مالا يفترق به عن الصبية!
وكان لهذا اللورد التعس أخ يعمل في البحرية وقد وصل بجده إلى مرتبة الأدميرال ولكنه كان يعرف بين زملائه ومرءوسيه باسم (الجو العاصف) لأنه ما ركب البحر إلا هبت في إثره عاصفة، وأنجب هذا الأدميرال ولدين كان كبيرهما قسيم المحيا وجيه الطلعة حسن السمت، وقد انتظم في سلك الجندية وهو في سن اليفاعة وخاض غمار الحرب الأمريكية فيمن خاضوا، ثم عاد إلى انجلترة وهو في العشرين من عمره، فكانت وجاهته تحصر الإحداق فيه، إلا إنه عرف بحدة عواطفه وعدم مبالاته وجرأته أكثر مما عرف بجماله، حتى لقد حمل هو أيضاً بدوره لقباً، ذلك هو جاك المجنون
وفتن جمال جاك إحدى الحسان وكانت زوج أحد اللوردات حتى هامت به. ولم تتردد حينما مات أبوها وخلف لها أربعة آلاف من الجنيهات كل عام أن تهرب معه إلى فرنسا، حيث خملت منه ثم وضعت بنتاً، ولكن هذه المرأة المسكينة ما لبثت أن قضت نحبها إثر مرض كما يقول بعض الناس أو من جراء سوء معاملة زوجها إياها كما يقول آخرون
على أن جاك ما لبث أن أوقع في حبائله سيدة اسكتلندية إلا تكن جميلة كسابقتها فقد كانت ترث عن أبيها ثروة قدرها ثلاثة وعشرون ألفاً من الجنيهات، وقد شغفها حباً ذلك الشاب الغريب الأطوار ثم بنى بها فأنجبت له بعد أربعة أعوام طفلاً هو الشاعر الذي نحدثك عنه
كانت هذه السيدة الاسكتلندية تدعى كاترين جوردون، وكانت تزهي هي أيضاً أشد الزهو بالأسرة التي تنتمي أليها، فقد كانت تجري في عروق أفرادها دماء من أسرة استيوارت الملكية؛ ولكن هذه الأسرة لم تكن في تاريخها أسعد حضاً من أسرة بيرون، فقد قتل بعض أفرادها، وأعدم البعض، وانتحر آخرون في عدة حوادث، وكان آخر هؤلاء والد كاترين الذي انتحر غرقاً وخلف تلك الثروة لأبنته. وطالما كان رجال هذه الأسرة مصدر رعب(340/36)
للإسكتلنديين، إذ كانوا يلاقون على أيديهم كثيراً من البطش والانتقام. . .
عاشت كاترين مع زوجها أول الأمر في اسكتلندا وما لبثت أن هالها منه إسرافه وعبثه بثروتها، وقد كان لا ينقطع عن المقامرة، ولا يكاد يفيق من سكره. ثم رحلت معه إلى فرنسا حين ضاقت باحتقار الناس إياها وزوجها المستهتر الماجن؛ وراح زوجها يبعثر الأموال في باريس بغير حساب، وهو لا يسد ديناً إلا وقع في دين. وانتقل الزوجان إلى لندن بعد ذلك، ولكن جاك ترك زوجه هناك وعاد إلى باريس، وصار لا يزورها إلا حين يطلب المال. على أنها ظلت على الرغم من ذلك مفتونة به، وقد ازدادت به تعلقاً حينما وضعت ذلك الغلام الجميل الذي سمته جورج جوردون في مستهل عام 1788
وبدد زوجها ثروتها، حتى لم يبق لها منها إلا ثلاثة آلاف من الجنيهات كان دخلها منها مائة وخمسين كل عام، واضطرت المرأة المسكينة أن تعيش بهذا القدر من المال، ومعها طفلها وخادمتان له، وأخذت نفسها بالاقتصاد الشديد. ورحلت السيدة إلى أبردين، وجاء زوجها فاختار له مسكناً بقربها، وصارا يتزاوران من حين إلى حين، ولكنهما بقيا منفصلين. وطلب الرجل يومئذ ثلاثمائة من الجنيهات فاستدانها وصارت تدفع رباها من دخلها حتى أصبح ما تعيش به مائة وخمسة وثلاثين، ولكنها ظلت حتى بعد ذلك تحب هذا الرجل حباً شديداً، ولم ينقص من ذلك الحب أنه عاد ثانية إلى فرنسا وتركها وابنها في ابردين، على أنها لم تره بعد ذلك، فقد لقي حتفه منتحراً كما أشيع، وابنه في الثالثة من عمره
وعاش الطفل مع أمه وخادمتيه، وكان شذوذ هذه الأم في كثير من سلوكها لا يقل عن شذوذ أبيه؛ كانت تحنو عليه أحياناً أشد الحنو، وتقسو عليه أحياناً أشد القسوة، حتى لتضربه ضرباً شديداً. ولقد قذفته ذات يوم بملقط النار وهو محمي فكادت تقتله؛ وكثيراً ما رآها في ساعات غضبها تقذف الخادمة بالأطباق فإن لم تجد أمامها أحداً مزقت ثيابها ولطمت وجهها وحطمت قبعتها كأن بها جنة. وينظر الطفل إلى أمه فيعتلج في نفسه الصغيرة الألم والرثاء والإشفاق، وقبل ذلك رأى أباه ورأى مواقفه من أمه ومواقف أمه منه، فكان يتساءل عما يرى مندهشاً لا يقتنع بما تجيبه به خادمته
وكان الطفل جميلاً كأبيه، ولكنه ولد وفي إحدى قدميه عاهة فكان لا يستطيع أن يطأ بها الأرض إلا على أطراف أصابعها، ولذلك كان في مشيته عرج ظاهر وكان يتألم من ذلك(340/37)
أشد الألم، وما كان أشد الألم حينما كانت أمه تعيره بهذا إذ ترميه بالسيل الذي لا ينقطع من شتائمها، ولكنه كان يكظم غيظه وإن نفسه لتنطوي على ثورة صامتة، ولم يتمالك نفسه ذات يوم، حينما دعته بالأعرج، أن يجيبها قائلاً: (هكذا ولدت يا أماه!) وفي هذا الرد نلمس نغمة الشاعر المستقبلة حينما يجري الحوار على ألسنة أشخاص قصصه. ولقد أتى بموقف شبيه بهذا في إحدى رواياته فلقد استقرت مواقف الطفولة في نفسه وما برحت بعد ذلك تظهر في آثاره. وما كان الطفل يصبر على أحد غير أمه يشير إلى عرجه؛ لقيته ذات مرة في الطريق إحدى السيدات وهو لم يتجاوز الثالثة فقالت لخادمته: (ما أجمل هذا الطفل لولا أن له وا أسفاه مثل هذه الساق). فبدت على وجهه إمارات الغضب وصاح بها قائلاً: (كفي عن هذا)، ثم ضربها بكرباج لعبته محتجَّاً محنقاً
ويطول بنا الكلام لو رحنا نسرد ما كان يلاقيه الطفل على يد أمه من عذاب؛ وحسبك أنهم انتزعوا منه ذات يوم سكيناً أوشك أن يجريها على عنقه يريد أن يقتل نفسه وقد ضاق بما كان من أمه. على أنه ما كان يفكر في الانتحار وحده فكانت تحدثه نفسه أن أمه تنتوي ذلك. ومما يذكر عنهما أن كليهما ذهب على غير علم من الآخر إلى بائع العقاقير وطلب إليه ألا يبيع الآخر سمَّا إذا هو رغب في شرائه
(يتبع)
الخفيف(340/38)
رسالة الشعر
الخفاش
حين تميل الشمس عن عرشها ... وتختفي حيناً إلى موعد
تطير في الآفاق روح الأسى ... جوالةً في ثوبها الأسود
خفاشُ عبدَ الليل ماذا ترى ... والفجر في الآفاق لم يولد
وكيف ترضى العيش في ظلمة ... ضل بها الحب فما يهتدي
لما أفاق الصبح وشّى الربى ... وعطَّر الكون بأزهاره
ونقَّط العشب بأندائه ... وحرك الأرض بأوتاره
في كل روض وتر ناعم ... يدعو إلى الحب وأسراره
عرس من النور لها قائم ... الورد فيه بعض زواره
انسل في أثنائه طائر ... واندس في كهف له مظلم
عبد من النور مضى هارباً ... لم يعرف الحب ولم يحلم
حط عليه الليل أعباءه ... وراح في تياره يرتمي
يشاهد الأعراس مجنونةً ... فيه ولا ينفك في مأتم
يا عبدُ حطم من قيود الدجى ... واخرج إلى النور ولا تجزع
أما تمل العيش في ظلمة ... حيران في أطباقها ما تعي
منكصاً ترنو إلى أسفل ... والطير في سلطانها الأرفع
تشاهد الأشياء معكوسة ... وتدَّعي روحك ما تدَّعي
يا عبد، لا تشفق على ظالم ... يا عبد، إن الحر لا يخضع
يا عبد، إن الطير في شدوها ... تدعوك للعود فهل ترجع
يا عبد، اسمع ما تقول المنى ... يا عبد، انظر فالضحى يلمع
العبد في ظلمته قابع=لا يبصر النور ولا يسمع
(حلب)
عمر أبو قوس(340/39)
موكب النور
(أيها النور: إن أجمل ما في الوجود قبس من جمالك!)
(بيرس شللي)
يا مَوكِبَ النُّورِ أمَا زَوْرَةٌ ... للناسكِ الصوفيِّ في خلوتهْ
كبَّلَهُ الدّهرُ بأمراسهِ ... فباتَ يبْكِي الكون من شقوَتِهْ
ظَمآنُ للنُّورِ فهلْ رَشفةٌ ... مِنكَ له تُطفي صدى غُلَّتهْ!
أَسرجْ لهُ مِصباحَهُ بَعدَ ما ... أَطفأهُ الشيطانُ مِنْ غَيرتهْ
أسرِجهُ واسكب ضوءكَ الحلو في ... فؤادِهِ - أنْ شِئت - أو مُقلَته
يا موكِبَ النورِ أصخْ فالدُّنا ... خرْساءُ إلا من لُحُونِ الألم
يَزُفرُها الناسكُ فاسمعْ صدَى ... أناتِهِ مِنْ قَلبهِ المضطرمْ
آمنتُ بالحبِّ فلا تجحدِي ... ما قدَّمتْ رُوحي لذاكَ الصنم
عَفَّرتُ في مِحْرابهِ جَبهتي ... فما أصاخَ الحبُّ لِي أوْ رَحِم
وَعُدْت مِنْ هَيكلهِ ذاهلاً ... كأنني (يا أنت) صخرٌ أصمْ
عِفْتُ الأناسِيَّ فلا مُؤْنِسي ... في وَحدتي غير طُيوفِ العناء
قدّتْ مِنَ النِّيرانِ أثوابُها ... وَحوَّمتْ عندِي ترومُ البقاء
في عَينِها الأهوَاءُ مَجْنونة ... ورِيُّها في الدهرِ مِنّا الدّماء
وْلحُنها مِنْ نَغَمٍ صادىءٍ ... مَرّ عَلى البحرِ فكانَ ألهباء
فَيا شُعاعَ النورِ هاتِ المنى ... فأنت سِرُّ الكون: أنتَ الذّماء
(بني سويف)
حسن حبشي(340/41)
مناجاة. . .
ريقُك الخمرُ. . . سِوَى أنّ لهُ ... نَشوَةً لا تَعرفُ الخمرُ مداها
فأنِلُني منهُ ما يُسْكِرنُي ... سَكرَةً تَطرَبُ رُوحيِ لرُؤاها
يا حبيبَ الروح دَعني أرْتشِف ... وأَزِلْ عن هذه النفسِ ظمأها
لا تَقُلْ لي غَدٍ. . . إنّ غداً ... حُجُبٌ صَمَّاءُ قد عَمَّ دُجاها
هذه البسمةُ ما أجمَلَها. . . ... حينَ يَهتاجُ فوادي لِسَناها
كلمَّا عانَقها خُيِّل لي ... أنني أصبْحتُ للحبِّ إلاَها
تسْمُرُ الأنغامُ في آفاقِها ... إنما الأنغامُ مِن رُوحٍ لغاها
حَلتْ الّلثمةُ لي يا صَاحبِي ... بعد أن كانت حراماً وسِفاها
فأنِلنيها إلَى أنْ يَرْتوي ... خَلَدٌ يَعبدُ هِاتيكَ الشفاها
هِيَ لِيَ وَحديَ حلالٌ سائغٌ ... وبِمُلْكيَها فؤادي يَتباهَى
رَبطَتْ ما بيننا رابطةٌ ... أبْلغَتْ قوة حبِّي منتهاها
لا تَسلني كيف تُمسي. . إنني ... أَقطعُ الليلَ أدِّكاراً وانتباها
أَنَسَ الليلُ فآويتَ إلى ... حُلكةِ الليل وأطياف دُجاها
وكأنَّ الليلَ مَهْدٌ ناعمٌ ... لشريد ضلّ في الدُّنيا وتاها
يا نَجيّ النفسِ في خَلوَتها ... كن لنفسي. . أنت أقصى مبتغاها
إن يكنْ حبُّكَ ناراً تلتِظي ... فليكن فردوسَ أحلامي لَظاها!
(الزقازيق)
العوضي الوكيل(340/42)
الأدب في أسبوع
الإصلاح الاجتماعي
من عادتي - إذا ما استبهمَ عليَّ نفاذ الرأي - أن أعدل بأفكاري إلى الليل، فهو أحصنُ لها واجمع. فإذا كان الليلُ، وهدأت النائرة، وأَوى الناسُ إلى مضاجعهم، واستكنت عقاربُ الحياةِ في أحجارها - تفلَّت من مكاني إلى غرفتي أُسدلُ ستائرها وأغلِّق أبوابها ونوافذها، وأًصنع لنفسي ليلاً مع الليل، وسكوناً مع السكون؛ ثم أقعد متحفِّزاً متجمعاً خاشعاً أملأ عيني من ظلام أسود، ثم أدعُ أفكاري وعواطفي وأحلامي تتعارف بينها ساعة من زمان، حتى إذا ماجت النفس موجها بين المد والجزر، ثم قرَّت وسكنت، وعاد تيارها المتدفق رهواً ساجياً كسعادة الطفولة، دلفت إلى مكتبي أستعين الله على البلاء.
وأمسِ، حين أيقظني من غفوتي داعي (الرسالة) جمعت إلى ما عزمت على قراءته من الصحف والمجلات والكتب - التي هي مادة هذا الباب - وطفقت أقرأ وأقرأ، ولا أكتم أني كنت قرأ في هذا اليوم - على خلاف عادتي في أكثر هذه الأيام - قراءة المتتبع اليقظ المتلقِّف لأضع يدي على أغرز الأصول مادة وأعظمها خطراً وأشدها بنية. . . وأدسمها شحماً، فإن حق القراء علينا أن نتخذ لهم صنيعاً ومائدة تكون أشهى وامرأ وأقرب متناولا وأردَّ على شهواتهم عائدة. فلما فرغت من إعداد ما أعددت لهم وأويت إلى ليلي المختلق المزيف، جعلت أستعيد في نفسي ما قرأت، وأين وقفت منه، وما تنبهت له مما تعودت أن أستشفَّه من وراء الألفاظ المعبرة، ومن تحت السياق المهدف إلى غرضه - مما هو بأخلاق الكتاب وعاداتهم ونوازعهم وخفايا نفوسهم ألصق منه بأغراض الكاتب فيما كتب. فما كدت أقدح الظلام بعيني وأفكر في هذا الأمر وأستدرجه إلى نفسي حتى رأيتني أكاد أنفر من مكاني لما عراني من سوء الرأي وقسوة الظن، فإن طول تغلغلي في معاني الكتاب والشعراء، أو في معاني أنفسهم، يدلني على أن أكثر من يكتب إنما يدفع بعض الكلام إلى قلمهم ليعبر عنه، غير محتفل بما يقول، فكذلك يخرج الكلام متخاذلاً مفككا كأنه ناقةٌ من وباء مرض، ويخيل إليّ أن أكثر كتابنا إنما يتناولون المعاني والأغراض من عيبةٍ جامعة غير متخيَّرة ولا منتقاة ولا مصنفة، وأنهم إنما يعرض لهم اشتهاء القول فيقولون للشهوة المستبدة لا للرأي الحاكم، وأنهم إنما يكتبون ليبقوا كتاباً في عقول الناس وعيونهم من طول(340/43)
ما تعرض عليهم المقالات متوجة بالأسماء مذيلة بها، وأن الكلام عندهم هو أهون عليهم من ضغطة النائم المتلفف على زرَّ الكهرباء فإذا هو نور مستفيض
لابد للعرب والعربية أن يبرأ هؤلاء من أمراضهم ثم يقولون، وأن يعتدُّوا بجمهرة القراء اعتداد من لا غنى له عنهم ولا فقر بهم إليه، فبذلك أيضاً يصلح ما فسد من القراء الذين يقرءون الأسماء دون معاني هذه الأسماء. ويومئذ لا يشكو الكتاب من بوار أسواقهم، لأنهم يعرضون للناس الحسن الذي ينشئ في القلوب الإحساس بالحسن والرغبة في اختيار الأحسن، ويتشوق الناس الجميل لأنه جميل يسمو بالروح في سبحات المثل الأعلى من الجمال الروحاني. . . ثم لا يجيزون إلا الجميل. وكذلك يترافد الكاتب والقارئ ويمدُّ أحدهما الآخر بأسباب حياته وخلوده بين خوافق الأدب السامي الرفيع. هذا هو بعض الرأي أدعو إليه كتابنا، والأدب على شفا جرف هار إلى البوار والبلى والفساد
والآن، وقد تحدَّثتْ النفس ببعض كلامها، أعود إلى (أدب الأسبوع) ويخيل إليّ أن (وزارة الشؤون الاجتماعية) هذه التي استحدثت بعد أن لم تكن، قد كان من فضل اسمها أن أيقظ أكثر كتابنا إلى حقيقة ملموسة كانوا يغضون دونها أبصارهم لما تلبس صاحبها من لباس الخزي والعار: وهي بقاؤنا بين الأمم أمة لا قوام لها من نفسها وأصلها وتاريخها، وأن مركز مصر الاجتماعي والسياسي والشرقي أيضاً قد سما في ظن الناس ولكنه في حقيقته أقل مما يُحمل عليه من الزينة والتألق والزخرف المستجلب بالإيحاء وإرادة الاستغلال. فقد كتب الدكتور هيكل في (السياسة الأسبوعية) عدد (152) كلمة في (نهضة الإصلاح في مصر) استقصى بها تاريخها وقواعدها وأغراضها من عهد الثورة الفرنسية إلى هذا الوقت. وكذلك كتب الدكتور (طه حسين) في (الثقافة) عدد (52) يقترح إنشاء (مدرسة المروءة). وجاء (الزيات) في ختام فاتحة (الرسالة) لعامها الثامن يشكو إلى الله: (إن كبراءنا عطلوا في أنفسهم حاسة الفن فلم يعودوا يدركون معنى الجميل، وإن أدباءنا قتلوا في قلوبهم عاطفة الأدب فليسوا اليوم من كرمها في كثير ولا قليل، وإن زعماءنا تفرقت بهم السُّبل بتفرق الغايات، فلكل غاية دعوة ولكل دعوة سبيل). وكل هذه تلتقي على أصل واحد، وهو أن الحياة الاجتماعية لا تزال تحبو في مدارجها، وأن (لين العظام) يُخشى أن يطول علينا بقاؤه في صدر الحياة حتى نقعد دون شبابها، وأن الإصلاح لا بد أن يتعجل حدوثه. . .(340/44)
ولكن كيف يكون ذلك؟!
وقد ساق الدكتور طه حديثه عن المروءة ساخراً من هذا الجيل الذي طبع على سفاسف الأخلاق، وتحطمت عنده مكارم الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضرباً من التجارة يلبِّسها الغش والخلاب والمواربة وتلقي التاجر للبائع بالدهان حتى يكون هو في باطنه أظلم شيء، وظاهره يتلألأ بمعاني الشرف والأمانة والنزاهة وإرادة الموافقة وتغليب منفعة المشتري على منفعته، وغير ذلك من حيل التُّجار والسماسرة. فأراد أن يمزح، فيدعو إلى اقتراحه إنشاء مدرسة للمروءة ليسخر من (تنازع الاختصاص) في وزاراتنا بل في أعمالنا كلها. وهذا كله في مدرجه جيد لا يحاول أحد أن ينازع عليه أو يختلف فيه، ولكن التهكم في هذا الدهر المائج بصنوف العذاب والبلاء لا يكاد يجدي شيئاً في الإصلاح. وهل يظن الدكتور طه أن كل هؤلاء الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة شؤونها ومرافقها وأسباب عيشها - لا يستشعرون من ذلك ما نستشعر، ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد؟ أجل؛ ولكنهم كالذي يصف هو فيما ساق من الحديث، فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كلُّ الطبيب هو بعض المريض! إن أعمال الإصلاح الكبرى لن تأتي من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا وزارة المعارف، ولا غيرهما إذا بقي الشعب ينظر إلى هذه كلها ليرى ما تعمل. والرأي لا يمكن أن يتجه في هذا الأمر إلى تسديد وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وتوقيفها على ما يجب عمله باقتراحات ومذكرات وبيانات. . . إلى آخر هذه الجموع. إن عمل الإصلاح الآن موقوف على شيء واحد، على ظهور الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلم يحمل في رجولته السراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة (الإنسان). وليس ظهور هذا الرجل بالأمر الهين، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون؛ بل هنا موضع للعمل وللإنشاء. وكبر ذلك مُلقىً على الأدباء والكتاب والشعراء، وعلى كل إنسان يحترم إنسانيته؛ فالأدباء ومن إليهم قد وقع عليهم التكليف أن يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل نائمة من عواطف الإنسان، وإلى إثارة كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد، ولا يكون ذلك شيئاً إلا بأن يعد كل أحد(340/45)
نفسه كالجندي عليه أبداً أن تكون حماسته هي روح الحرب فيه، فهو يمشي بها في كل عمل، ولو في نقل البريد من مكان إلى مكان. إذن فأول الإصلاح الاجتماعي هو إدماج عواطف الفرد في مصالح الجماعة على أتم صورة من صور الحماسة إي القوة التي تنبعث من الدم لتطهير الدم؛ وهذا بعض ما نتوافى عليه مع الدكتور هيكل إذ يقول في مقاله الذي أشرنا إليه آنفاً (لم يفكر أحد في مشكلاتنا الاجتماعية واضعاً نصب عينيه غاية قومية يريد أن يحققها، بل ترانا إذا فكرنا في الأمر كان الدافع لتفكيرنا فيه عواطف الشفقة أحياناً، والبر بالإنسان أحياناً أخرى، وهذه عواطف قد تحمد في الأفراد، لكنها لا قيمة لها في حياة الجماعة. ويوم فرض الله الزكاة في الإسلام وقرن بها الصدقة لم يقيم الشارع ذلك على أساس العاطفة الفردية، بل أقامه على أساس النظام الاجتماعي).
والكتابة هي زكاة العلم، فيجب أن تقوم على هذا الأصل الفردي المتحمس المتدفق بتياره في أعصاب النظام الاجتماعي، فإذا اتخذها كتابنا على هذا وتكلموا بقلوبهم قبل ألسنتهم وأقلامهم كان ذلك قميناً أن يبعث الرجل الذي سوف يضيء للحياة الاجتماعية سُدَف الجهل والضعة والبغي والاستبداد
أبو العباس السفاح أمير المؤمنين
أثار الأستاذ العبادي في (الثقافة) عدد (47) مشكلة ابتغي حلها، وذلك أنه وصف حلية (أبي العباس أمير المؤمنين) أول خلفاء بني العباس كما رواها المؤرخون من أنه كان (ذا شعرة جعده، طويلاً أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية) وكان (شاباً متصوِّناً عفيفاً حسن المعاشرة، كريماً معط) إلى نهاية ذلك من كريمات الخصال. ثم استبعد أن يكون هذا الإنسان الرقيق أهلاً لتلك الصورة البشعة الطاغية التي تخلعها عليه معاني هذا الحرف (السفاح) من الجريمة وسفك الدم والرغبة في ذلك والمبالغة فيه. واحتفل الأستاذ للحوادث التاريخية فلم يجد فيها ما يسوِّغ أن يكون (أبو العباس أمير المؤمنين) سفاحاً سفاكا للدماء، وزاد أن ثقات المؤرخين كالطبري والدنيوري لم يذكروه إلا مجرد من هذه الصفة، ثم رجح بدليل بياني جيد أن السفاح محمول هنا على الأصل اللغوي أي الكريم المعطاء الذي يتلف الأموال ولا يبخل بها. ولكن الأستاذ (أحمد أمين) رد عليه بعض أدلته في العدد (49) فردها الأستاذ العبادي عليه في العدد (50) وهكذا إلى العدد (52). وأنا قد أعجبت كل(340/46)
الإعجاب ببحث الأستاذ العبادي، وإن كنت أخالفه كل المخالفة، وذلك لأنه مبني على منطق تاريخي جيد، ولأنه أراد لأن يفرق فرقاً جيداً بين كتب التاريخ وكتب الأدب القديمة من حيث الحجة في برهانات التاريخ. فإنا نجد كتباً من أعظم كتب الأدب تحمل على الخلفاء من غث الأخلاق ما تناقضه سير هؤلاء الخلفاء كالذي يروون عن الرشيد - وهو بالمنزلة من الشرف والعلم والسياسة وطول الانبعاث للغزو والحجِّ - من معاقرة الخمر والملاهي والاطلاع على الحرم واستباحة الأعراض وغير ذلك مما لا يمكن أن يصح بوجه من الوجوه
هذا، وإني أخالف الأستاذ العبادي، فإنه حين رده الأستاذ (أحمد أمين) رجع عن تفسيره لفظ (السفاح) بالكرم والسخاء لغير علة ظاهرة وأصر على أن (أبا العباس أمير المؤمنين) لم يلقب (بالسفاح) البتة في حياته، ولا ذكر ذلك عنه أئمة المؤرخين وأصر مع ذلك أيضاً على صفات أبي العباس وحيلته تنفي عنه أن يكون سفاكا للدماء؛ ولا كل هذا! فإن هذه الصفات لم يرو لنا إلا أقلها حتى يمكن أن نجعلها أصلاً يستشف خلق أبي العباس من ورائها، وإن الرقة والدعة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا تدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرِفن بين الناس بالرقة (وهن أغلظ أكباداً من الإبل) وإن المرأة إذا ثارت لم يبلغ مبلغها في القسوة (أقْعد) الوحوش في باب الوحشية! ومع ذلك. . . فهي الزهرة غِبُّ الندى، وهي النسيم في السَّحَر، وهي. . .
وكنت أحب أن استوفي هنا القول في تحقيق هذه الصفة لأبي العباس أمير المؤمنين، ولكني رأيت أن الكلام قد جاوز حده، وأن الدليل يقتضي إثبات كثير مما يخل تركه بالفائدة، فموعدنا الكلمة التالية إن شاء الله.
محمود محمد شاكر(340/47)
رسالة الفن
دراسات في الفن
أعوذ بالله إنه (مكياج)!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- ما هذا التخطيط؟ أردت بالأمس أن تلحن فأخفقت، واليوم تصور وتريد أن تكون رساماً؟
- أبعدتموني عن الألحان وقلتم كلاماً معناه: (أسكت)، فهل تريدون اليوم أن تخطفوا من يدي الريشة فلا أصور. . . خذوها أيضاً!
- لا تُغَنِّ ولكن لا تغضب، وارسم وسنرى في رسمك رأياً. . فما تريد أن ترسمه. . فكرة؟ أو إنسان؟ أو عاطفة؟ أو عاصفة؟. . .
- لا لا. . . إنسان، كل ما أعرفه عنه هو أنه (كاتب من الكتاب) كتب فصلاً في عدد الرسالة الأخير يوازن فيه بين نفسه وبين سيدنا أيوب
- إذن فستكون صورته أشبه الصور بالصورة التي نتخيلها لسيدنا أيوب
- لا. . بل ستكون صورة أخرى. لأن هذا الكاتب نفسه أراد أن تختلف صورته عن صورة أيوب اختلافاً كبيراً
- وأنى لك ذلك؟
- من كلامه هو فهو يقول: (أيوب فقد الثروة والعافية ولم يفقد اليقين، وأنا فقدت الثروة والعافية واليقين. أضاع الله من أضاعوني! وأيوب استطاع أن يعاتب ربه بقصيد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور، فظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان، وأنا لا أملك معاتبة ربي بسطر واحد خوفاً من رئيس التحرير، وخوفاً من شيخ الأزهر، وخوفاً من محكمة الجنايات، وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟ كان الدينار لعهد أيوب يمون الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهدي يهان فيه الرجل إن اكتفى بالدينار يوماً أو يومين، فمن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود فكان المجاهد ينال منا ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود). . . وهو قبل ذلك يقول للذين أضاعوه - فيما(340/48)
يظهر - (لقد أفلحتم في زعزعة اليقين الذي كنت أفزع إليه حين تكرثني صروف الزمان، فأين أنتم لأشكو إليكم ما جنت أيديكم؟ وأين السبيل إلى ترميم البناء الذي كنت أستظل به من قبل أن أنخدع بالبرق الذي أزغتم به فؤادي. . .؟) فهلا ترين أن هناك خلافاً بين الذي يقول هذا الكلام وبين أيوب؟
- أنا لم أقرأ سفر أيوب
- هو رجل أعطاه الله كثيراً، فابتلاه الله، فصبر، فرفع الله البلايا عنه وفاز. فاختاري له ما تشائين من صوره، وانظري معي في هذه الصورة الجديدة فقد يحتمل أن تشبه إحدى صور أيوب
- وأين هي الصورة، فأني لا أرى في الورقة غير خطوط
- الصورة لا تزال في الغيب وسنستدرجها معاً. . . ولنبدأ بتصوير الرجل الذي فقد الثروة والعافية واليقين. . . هذا الرجل ما مظهره؟ وكيف نرسمه؟
- نرسمه أول كل شيء في أثواب من فقد الثروة، وهي ليست أنيقة ولا غالية، وهو بعد ذلك هزيل ضعيف لا قوة فيه ولا صحة، ولا بد أن تظهر الحيرة في عينيه ما دام قد فقد اليقين. وقد يكون بدل الحيرة جزع، وقد يكون بدل الجزع حذر، وقد يكون بدل الحذر قسوة، وقد يكون بدل القسوة غيرها من سائر النزعات التي تستولي على من فقد اليقين. . .
- بعد أسبوع واحد سأنشئ أنا وأنت استديو نصور فيه العفاريت. . . وما رأيك في قوله: أضاع الله من أضاعوني؟ أهي كراهة منه لمن أضاعوه فنرسمها على وجه، أم هي اعتذار عن فقدانه الثروة والعافية واليقين؟. . . فهو يريد به أن يغفر الناس له مظاهر هذا الفقدان؟
- أظنها كراهة، وأظن هذا الرجل مجنياً عليه، وأظنه لو تمكن من الذين أضاعوه لأضاعهم. . .
- وأنا يخيل إلي أن قوله هذا لا هو كراهة ولا هو اعتذار فقد نسيت أن أقرا عليك من كلامه قوله للذين أضاعوه: خذوني إليكم في ملاعبكم وملاهيكم، عساني أنسى جاذبية البؤس في صحبة قلمي وكتابي!
- عجباً!. . . فهو إذن لا يكره الذين أضاعوه، وإنما يريد أن يكون معهم. فلنرسم إذن على(340/49)
وجهه شيئاً من الغيرة. . . أو لعلها سخرية. . .
- سخرية ممن؟ من الذين يريد هو أن يكون معهم؟ لا. ليست سخرية. وهو بعد ذلك يريد أن يعاتب الله الذي هو الله معاتبة لا تكون إلا من صاحب حق عند نائل منه، ومع هذا، فهو يخشى رئيس التحرير، وشيخ الأزهر. . . فكيف نرسم الرجل الذي له حق عند الله، وعلى علمه بهذا يخشى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وفضيلة الأستاذ المراغي. . . كيف يمكن أن نتصور هذا؟ إني لا أتصوره!
- ولا أنا!
- ولا أي إنسان، فأولئك الذين يقرضون الله، ويعطون الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهم يعرفون هذا من تلقاء أنفسهم لأنهم يعرفون الله ويعرفون أنهم يقرضونه ويعطونه، ويعرفون من هو الله، ومن إلى جانبه رئيس التحرير وشيخ الأزهر. . .
- إذن فأنت تريد أن تقول إنها ناحية مبهمة في الصورة. . .
- بل أقول إنها مكياج. وإنها تشبه دعاءه على الذين أضاعوه في الوقت الذي يريد فيه أن يكون مع الذين أضاعوه في ملاعبهم وملاهيهم. . .
- فكأنه لا أعطي الله ولا أقرضه. . .
- الله أعلم. . . وهو يحسب لأيوب من النعمة أنه ظفر بالخلود في عالم الفكر والبيان لما عاتب ربه بقصد رنان وهو في أمان من ثورة الجمهور. . . فما الذي يبديه هذا الإحساس في وجهه من الإمارات؟
- إمارات الفكر، لاشك، وعلامات عشاق الخلود. . .
- كلا. فلو سئل أيوب أن يتحدث مرة أخرى عما نال من نعمة الله في عتابه ربه، لذكر أنها هدى ربه، ولما ذكر بيانه ولا قصيده ولا فكره، فما كان أيوب يسعى إلى كلام ينمقه فيحفظه الناس عنه ويروونه له بعد موته، وإنما كان أيوب يتجه إلى الله يطلب منه أن يصلح نفسه، وأن يكشف له عن حكمته فيما ناله من بلوى استعذبها وصبر عليها. . . فأيوب الذي كانت هذه هي نفسه هو الذي تبدو عليه إمارات الفكر لا شك، وعلامات عشاق الخلود
- فمكياج هذه أيضاً؟(340/50)
ولم لا. . . هذا مقال ظهر في رأس السنة، ورأس السنة عيد يتنكر فيه أصحابه لهواً وعبثاً. . . فلنمض مع صاحبنا هذا، فإنه من غير شك لذيذ. . .
- وهبك وصلت إلى تصويره حقاً. . . فهل تجرؤ على نشر صورته، وهو رجل لا تعرفه، وقد يغضب عليك وأنت أحوج ما تكون إلى عطف الناس لا إغضابهم. . .
- ولماذا يغضب (أيوب الثاني) من كلمتين يقولهما كاتب صغير مفضوح مثلي. . . إنه لو غضب لأكد غضبه لنفسه ما أدعيه من أن صورة أيوب التي يريد أن يرسمها على نفسه إنما هي مكياج. . .
- إذن فامض هداك الله، وهداه معك، وهداني معكما. . .
- آمين. لو كنت قرأت سفر أيوب لكنت رأيت فيه أن أيوب لم يتفجع من فقدان الثروة إلا على أنه مظهر من مظاهر غضب الله. . . ولكن أيوب الثاني هذا الجديد يذكر الفجيعة في الدنيا على أن أفجع ما فيها هو أنها أصابت دنياه فيقول: (وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟) فبأي الصور تتصورين أيوب الثاني. . .
- بصورة الرجل الذي تهون فجيعة أيوب في دنياه إلى جانب فجيعته فيها. . . وأيوب على ما أظن فقد في الدنيا من الفقر والمرض الخبز وأدنأ ما يسد الرمق، كما فقد الملبس وأهون ما يستر الجسد.
- فهل تظنين كاتباً من الكتاب الذين يكتبون لمجلة رائجة مثل الرسالة تصل به الحال إلى هذا ولا يعاونه صاحب الرسالة وكتابها وقراؤها ولو برغيف وبنطلون؟ أنا لا أظن ذلك. . . وهذه أيضاً مكياج. . .
- إن الرجل يتكلم كلاماً يعتمد فيه على النسبة بينه وبين أيوب، وزمانه وزمان أيوب. . . فأيوب نبي، وعاش في عصر أوفر رغداً من عصرنا. . .
- وهذا هو الذي يقوله هو. . . ولكن لا تنسى أنه يوازن بين نفسه وبين أيوب من ناحية واحدة فقط، وهي هذا الشقاء الذي يفرض أنه قد مسه، وينسى بعد ذلك لأيوب بقية نواحيه وأولها أنه لم يكن يعرف (المكياج) وهي ناحية أساسية في أيوب وفي كل من يريد أن يكون كأيوب.
- فلندع هذه أيضاً. . .(340/51)
- ولنر إلى قوله إن الدينار والدينارين. . .
- لا لا. . . فلندع هذه. . . فإن الكاتب من الكتاب الذي يشعر بأن الإنسان يهان في هذا العصر إذا اكتفى بالدينار في اليوم أو اليومين. . . فهو من غير شك قد رحمه الله من إهانات يالها من إهانات لو لم يكن ينفق الدينار في اليوم أو اليومين. . . كان الله في عون الكتاب وغير الكتاب من أبناء اليوم الذين ينفقون الدينار في الأسبوع أو في الشهر أو في العام. . . إن هؤلاء هم الأيوبون
- بعدها يا سيدتي قوله: ومن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟ فهو لا يسجل على دهره الرزايا إلا إذا سلطه على الدهر أحد، على الرغم من قوله إن الدهر أوجعه وأشقاه. . . فكيف نصوره أمام الدهر؟
- لو كان خائفاً من الدهر لكان قد سكت على الدهر ولم يناوشه ولم يصارحه العداء، ولو كان هاجماً على الدهر لما عبأ بالدهر ولما طلب الذي يسلطه عليه ويمكنه منه، فلا هو خائف ولا هو هاجم. . .
- فماذا يكون إلا أنه صاحب سياسة مع الدهر حكيمة فهو لا يهاجمه على الرغم من عدائه له انتظاراً لمن يسلطه عليه؟. . .
- ولكنه على هذه الحكمة يصارح الدهر بالعداء. . . وليس من الحكمة في شيء أن يصارح الإنسان عدوه بالعداء وهو عاجز عنه خائف منه. . .
- فهذه الحكمة أيضاً مكياج أو هذه الصراحة هي المكياج. . والله أعلم. . . على أنه قد خطرت لي الآن صورة مضحكة قد تجتمع فيها ملامح هذا الاضطراب كله: في الريف عندنا ناس يسلطهم الأعداء على أعدائهم. . . فيكرهون ويعادون ويحاربون ويقهرون؛ تبعاً لما يوحي به إليهم من يسلطهم. . . وهؤلاء من كثرة تدربهم على التسلط والتسليط أصبحوا يتسامحون فيما ينالهم هم من الأذى فلا يأخذون بالثار لأنفسهم ولا يستردون حقوقهم، لأنه لا أحد يسلطهم إلا على أعدائه هو لا على أعدائهم هم. . . فما رأيك؟
- ولكن هذه لا يمكن أن تكون صورة كاتب من الكاتب
- إني قلت ذلك. . . فالمفروض أن الكاتب من الكتاب له رأي خاص وكيان خاص وتفكير خاص؛ وهو يموت ولا يحتمل أن يسلطه إنسان على شيء. . .(340/52)
- ولكن كيف ذكرت الريف وأنت لست منه ولم تحل به إلا خطفات؟
- لعل الذي دفع صورة الريف إلى ذهني هو قول صديقنا: وكانت الأرض لعهد أيوب بلا رسوم ولا حدود، فكان المجاهد ينال منها ما يشاء كيف شاء، وهي اليوم مقسمة تقسيما يصد المجاهدين أعنف الصدود. . . فالأمر الذي لا شك فيه هو أن ذكر الأرض يكثر على ألسنة الريفيين.
- ولكن الرجل ذكر بعد الأرض البحار فقال إنها كانت مصادر خيرات، وذكر السماء وقال إنها كانت مساقط غيث ومذاهب نسيم وهذا هو ما يدعوني إلى القول بأنه كاتب من الكتاب يزن الكلام ويوازن المعاني، أفكنت تريدين أن يسكت عند ذكر الأرض فقط فتكون منه هذه هي الواحدة التي يهمل فيها (المكياج)؟ إنه كاتب من الكتاب. . . وهو إلى أنه كاتب يرى نفسه مجاهداً، وكان يجب أن تكون الأرض بلا حدود ولا رسوم لينال منها المجاهدون - وهو منهم - ما يشاء كيف شاء. . . إنه يريد الأرض ويريد أن ينال. . . والآن أرشديني وقولي لي كيف تكون صورة هذا الكاتب الصديق. . . هل تستطيعين أن تبحثي لي عن (موديل) له أرسمه. . .
- لا. . .
- وأنا قد بدأت واعترفت بالعجز، ورسمت هذه الخطوط التي رأيتها في الورقة فلم ترضي أن تقري في البدء بأنها صورة إنسان. . .
- ولكن هذا الذي رسمته يا شيخ ليس صورة ما. أعوذ بالله
- هي صورة، ولكنها مرسومة بالأسلوب (المودرن). . . وكم أحب أن أعرف رأي صاحبها فيها - من غير غضب - وعليه مني السلام ومن الله الرحمة والبركات.
عزيز أحمد فهمي(340/53)
رسالة العلم
قانون نيوتن الثالث
وارتباطه بحياتنا العامة
للأستاذ إبراهيم زكي أباظة
إن معظم القوانين الطبيعية التي وصلنا إليها كانت نتيجة تجارب جاءت إما عفواً، وإما استنتاجاً من قوانين أخرى سابقة. وكثيراً ما عد العلماء ورجال البحث أهمية القانون بتعقده وصعوبة الوصول إلى الحلول التي كشف عنها أكثر مما يلعبه من دور هام في مناح مختلفة من حياتنا العامة، سواء أكانت هذه النواحي مباشرة في ظهورها، أم غير مباشرة في تأثيرها. ولعل الشهرة التي يتمتع بها السر إسحاق نيوتن تتمركز في المكان الأول على قانون الجاذبية العام الذي وضعه، ثم ما تفرع عنه من مشاكل ومسائل طبيعية ورياضية جعلت صاحبه من أعظم الرياضيين.
ففي نفس الطريقة التي كشف بها قانون الجاذبية العام عن مظاهر طبيعية عدة، كان الإلمام بها يعد قديماً من عمل الخوارق. كذلك يمكننا بواسطة عدة تحاليل علمية ومنطقية أن نتوصل إلى أن قانون (نيوتن الثالث)، لا يترك ناحية من نواحي حياتنا إلا وله فيها تطبيق وعمل. وعلى مدى مرونة هذا القانون تبنى أهميته وتجعله في مقدمة القوانين العامة التي تشترك بها جميع العلوم.
ينص هذا القانون على أن لكل فعل رد فعل مساوياً له وفي عكس الاتجاه:
فإذا تكونت في جسم ما قوة من نوع (سالب) عندئذ وجب وجود قوة معاكسة ومساوية لها من نوع (موجب). فإذن وجود الواحدة يعني وجود الأخرى أو الاثنين. فإذا لاحظنا الأمور التي تجري أمامنا، وتبصرنا كل جسم وحيز، كل جماد وحي، وكل غاز وصلب، وجدناها تقع تحت مؤثرات تختلف باختلاف أنواعها ومصادرها. حتى الفكر والعلم والزمن وكل شيء معنوي تتجاذبه مؤثرات متعاكسة النوع تؤثر فيه حسب ناموس قديم متناسق تناسقاً منطقياً يستند على هذا القانون؛ وهذا هو التفسير الذي نبني عليه هذا البحث
فلو أراد شخص رفع ثقل عن الأرض كحجر بواسطة حبل فاقتلعه بقوة لانقطع الحبل، لأن(340/54)
قوة كبيرة تساوي القوة التي بذلها الرجل في الرفع قد وجدت في الحجر، ولكنها تسير مضادة للأولى، وهكذا تتكون قوتان متعاكستان في المفعول فينتج عن هذا التدافع العكسي تأثير على الحبل يتناسب مع حدة هاتين القوتين المتحاربتين فينقطع. ولكن لو رفع بلطف لما انقطع، لأن القوتين اللتين تعملان في اتجاه معاكس تخف وطأتهما على الحبل لدرجة يستطيع تحملها بعكس ما يحدث في الحالة الأولى
هذا مثل من أمثلة عديدة لها أهمية خطيرة في علم الطبيعيات. ولا أظن أن تطبيق هذا القانون في بقية العلوم إلا كاشفاً عن أسرار تساوي أخوتها في الطبيعيات إن لم تفقها.
لقد أثبت علم النفس أن الشرير مهما تمادى في شره، وأن المرأة الساقطة مهما تطرَّفت في انحطاطها، يُكِنان في فؤادهما من الروح الصالح والطينة الطيبة ما يمنع قطع الأمل من إصلاحهما. فكم من متهتكة عاهر أصبحت يوماً ما من أرق القلوب وأعطفها على المظلومين والضعفاء والمرضى، فذهبت تجعل ما بقي من حياتها وقفاً على مواساة المريض وإعانة الضعيف. فبمقتضى هذا القانون - وإن كان طبيعياً - نثبت أن المقدار أو النسبة المئوية من الخلق الشرير لا بد وأن يوجد مقدار مساو له تماماً، ولكن من الناحية المضادة، أي من الخلق الحسن المحمود. وأما تعليل تفوق عنصر على ضده فهو أن ظروف الحياة والبيئة ساعدت على نمو الواحد وعرقلت نمو الآخر بنفس الطريقة التي يبيد بها نوع من المكروبات إناثي حشرة ما، بينما يساعد على بقاء ذكورها، أو يقتل نوعاً من الحشرات ويبقى على نوع آخر. فإن امتد الأجل بذلك الشرير ضعفت العوامل التي ساعدت على تيقظ خصلة خلقية فيه وقتلت المضادة. عندئذ تسنح الفرصة لظهور الطرف الثاني من الكيان الخلقي الذي لبث دهراً مديداً طي الخفاء
ومما نلاحظه كثيراً وأثبته علم النبات أنك إذا بترت غصناً من شجرة فلا بد من ظهور طلع في مكان آخر من الشجرة: أي أن العضو الذي يُعاق نموه في مكان ما يسير اتجاه نشاطه إلى مكان آخر؛ وربما لم يصلح جذع الشجرة كله لظهور طلع جديد بدل المبتور، عندئذ نلاحظ أن طلعاً أو عدة طلوع برزت قرب الجذر. هذا في أغلب الحالات وفي بعضها تحول فاعلية العضو المبتور إلى عضو آخر فتزيد نشاطه مثلاً كأن تزيد نضرة الورق أو نضوج الفاكهة. ونفس النظرية يمكن تطبيقها في جسم الإنسان أو في أي جسم(340/55)
حي
هذه الأمثال من حيث الظواهر الطبيعية التي فسرت حسب هذا القانون. فنستنتج من ذلك أن كل جسم في الكون حياً كان أم جماداً يتكون من عنصرين: سالب وموجب. ففي الوقت الذي يسيطر فيه أحد العنصرين على الحالة القائمة في الجسم يختفي الثاني - ولكنه لا يزال موجوداً - فكأن نظام تسلط الفرد أو مجموعة من الأفراد التي هي عنصر واحد قائم حتى في خفايا التراكيب الكونية مهما تنوعت أصنافها. وهنا تتاح الفرصة للظروف أن تقرر سيادة أحد العنصرين واختفاء الآخر مؤقتاً - كما في الأخلاق - مع أن توازن الجسم لا يتوفر إلا بوجودهما معاً وإن نشط الواحد وفتر الآخر
ففي المثل الأول من مقالنا قلنا إن رفع الحبل بعنف أو بلطف سبب الحالة التي قررنا. فهنالك قوتان تسيران متعاكستين في الحبل وجدتا وتركزتا فيه عندما تم فتله. وهاتان القوتان متساويتان في الجذب؛ وبهذا نعلل كون الحبل لا يتحرك أو لا يتحرك في حالة عدم وقوعه تحت مؤثرات خارجية، فتبقى القوتان ساكنتين، حتى يجيء باعث أو محرك خارجي فيثيرهما ويجعل لواحدة السيطرة على الأخرى. ففي حالة هذا الحبل سيطرت القوة المعاكسة لثقل الوطأة فقطع، وبالتالي سيطرت القوة الأساسية التي بذلها الرافع فلم ينقطع. فالسالب والموجب إذن موجودان في أي كيان لا يلزمه سوى باعث يثير الواحدة على الأخرى والنصر يعتمد على شدة هذا الباعث أو المحرك
وهنا نظفر بحقيقة في علم الأخلاق على جانب من الخطورة عظيم، إذ يمكننا تحت ضوئها أن نصلح أي خلق شاذ في أي شخص إذا فهمنا روح النظرية وسرنا في تطبيقها بخطوات منطقية متوازنة. فإذا فرضنا أن شخصاً مصاب بعادة الحياء أو الخوف أو الاستكانة، فما علينا إلا أن نعمل على إيجاد الظروف والمناسبات التي تكثر فيها الحوادث التي يعاوده في أثنائها مفعول استحيائه أو خوفه مع الاستعانة في تنبيه فكره بواسطة غير مباشرة إلى ملاحظة ما يترتب على عمله، ولتكن هذه المصادفات متتابعة متلاحقة - ولكن بشرط إعطائه الوقت الكافي للتأمل في أعماله - بحيث يتركز مفعولها وأثره. فما من شك مطلقاً في أن صفة خلقية معاكسة تنشأ وتترعرع حالاً بقوة وتطرف موازيين للقوة والتطرف في الحالة الأولى أي في حالة وجود الاستحياء والخوف، فتنشأ الجرأة بدل الأول والشجاعة(340/56)
بدل الثاني
واستناداً إلى تفسير هذا القانون والنظرية العملية التي استخلصت منه يصبح في مقدورنا التنبؤ بعدة نظريات وآراء علمية عديدة منها ما ظهر وبرهن على وجوده في العلم الذي يتعلق به، ومنها ما يمكن التنبؤ به استناداً إلى هذا القانون، إذا تحرينا في استنتاجاتنا الخطوات المنطقية. ومن النظريات التي تنبئ بها على ضوء هذا القانون - طبعاً بصورة غير مباشرة - نظرية تركيب الذرة ففي الوقت الذي عرفت فيه بواسطة التفاعلات الكيميائية بين المركبات من نوعي الكهارب التي تسير في مداراتها حول نواة الذرة وهذه ما تسمى بالـ عندئذ - عرف وجود البروتون لأن الكهارب هي الشحنات السالبة والبروتونات هي الشحنات الموجبة ووجدت هذه الشحنات المختلفة بنسب متساوية تماماً في الذريرة
وهنالك من الأحياء في الطبقات الدنيا ما لا يزيد تركيبه على خلية واحدة تقوم في نفس الوقت بجميع عمليات الجسم الضرورية كالهضم والتنفس والإفرازات، ومن هذه الحيوانات الـ والـ فلو تصورنا وجود هذه الحيوانات ذوات الخلية الواحدة في أقصى طرف من عمود خشبي يستدق في طرف ويتدرج في الغلظ وتخيلنا هذه الحيوانات الدنيا كأنها تشكل نهاية الطرف المستدق فلا بد إذن من وجود حيوانات تقابل هذه على الطرف الآخر من العمود، وأنها تكون نهاية في الغلظ لوجدنا أنه يتحتم وجود حيوان متناه في قوته وجرمه فائق في دقة تراكيبه الجسمية ووظائف الأعضاء فتكون قوته وحجمه متطرفين بل متناهيين في التطرف بالقدر الذي تكون فيه الأميبا متناهية في الضعف والتلاشي ودقة الحجم. فلو احتجنا إلى مكرسكوب قوي لمشاهدة الأميبا بما فيها من تراكيب غاية في البساطة، لأمكننا أن نتصور بل نتأكد من وجود حيوان كبير جداً يعجز نظرنا عن الإحاطة بجرمه إلا إذا ذهبنا لمسافة بعيدة حيث نتمكن من رؤيته كله. ولهذه الحقيقة ما يؤيدها تاريخياً وهو وجود حيوان يسمى بالدينصور الذي زعم المؤرخون أنه كان هائل الجسم والبطش إلا أنه أنقرض بفعل الثلج في العصور الجليدية. وكذلك الحيوان الذي يقال بوجوده أيضاً ويسمى بالتراخودن من فصيلة الدينصور، ويقدرون قوته وسرعته بأنه يقطع مسافة سبعة أميال بخطوة واحدة من خطاه. وفي البحار ما يقارب هذه الحيوانات كالحيتان،(340/57)
فمنها ما يقابل - تقريباً - في الكبر الأميبا في الصغر
ولا شك أن الحيوان الذي يتمم هذا التقابل قد وجد ورتع يوماً ما على ظهر الأرض وسوف يكشف عنه العلم والتاريخ يوماً ما.
هذه حقائق يمكن أن نتلمسها بالفكر والنظر البعيد. كما أنه من الممكن بهذا القانون التنبؤ بنظريات واقعية تجري مبادئها مجرى العمل في كل مضمار من مضامير العلم. واعتقد اعتقاداً راسخاً أن العلم السائر دوماً إلى الأمام سوف يبرهن عليها بقوانينه وحسابه وملاحظاته وتجاربه إن لم يكف قانون نيوتن الثالث للبرهنة عليها بصورة حاسمة
كما لا شك في أن ما نجده من تناقض واختلاف - حسب ما نعتقده - سواء في مجرى الأحداث الطبيعية أو شتى شؤون الحياة المتنوعة أو طباع الناس وأخلاقهم، لا نجد له تعليلاً منطقياً غير الرجوع إلى هذا القانون. ولو نجحنا في بعض الأحيان في إيجاد تعليل إلا أن المصدر الأعلى الشامل لتعليل جميع ما نرى من متناقضات وأضداد في مجرى الطبيعة والحياة اليومية وسير التاريخ العام هو هذا القانون الخالد ما خلد صاحبه
(نابلس)
إبراهيم زكي أباظة(340/58)
القصص
الأب. . .
لجي دي موباسان
بقلم الأستاذ مراد الكرداني
تعلقها لحظة سنحت لعينيه. فقد كانت ذات جمال هادئ صارخ، يتسلل إلى الحواس في دهاء ولطف، حتى إذا تمكن واستوى، فعل فعله، ودار فيها على طبيعته حنيناً ورغبة ونداء. ثم كان لِزاماً عليهما أن يتراءيا كل صباح، لأن عملهما كان يقتضيهما أن يهبطا باريس كل يوم مع الهابطين.
لم يكن يعرفها، وما كان رآها، إنما كان يجد نفسه في كل صباح جالساً تجاه فتاة جميلة، سرعان ما أحبها، وسرعان ما ألقت أنوثتها في ذهنه إنها امرأة وديعة لينة، ضعيفة، فشرع يغزوها
كان يحملق في وجهها، وخديها، ثدييها بشراهة عجيبة. وكانت إذ تدرك منه ذلك تحملق فيه، فلا يردُّ عينه عنها، فتضطرب، ويصعد الدم وفيراً إلى وجنتيها، فتزداد جمالاً وفتنة، فيزداد هو شوقاً ورغبة. . .
ولا يدريان: لا هو، ولا هي، هل كان واحد منهما يحرص أن يكون جار صاحبه في مقعد المركبة كل يوم؟ أم هي مصادفة ساقها القدر وفّقت أن يلتقيا هكذا أسبوعاً كاملاً؟. . . كان لا مفر بعده من أن تجري بينهما بضعة كلمات خفاف قصار في ابتسامة أخف وأقصر، لعلهن كن تمتمة شكر لقاء أن آثرها وأجلسها في مكانه في يومٍ كانت العربة فيه ملأا بركابها. . .
وفي اليوم التالي تصافحا يداً بيد، ثم تكلما، ثم تصادقا. . . ثم كانت له برغم ذلك شاغلاً يملأ خلايا مخه طول يومه وسواد ليلته، إلى أن يلقاها. . . وإنه ليرقب مشرق وجهها على فؤاده بشوق وحنين، وإنه ليفكر في نصف الساعة التي ينعم فيها بها، حتى إذا بلغا غايتهما، وآن لهما أن يفترقا، شعر بفراغ هائل يداخل نفسه؛ وتعاظمته تلك القسمة الحرام التي قسمت له من زمان حبيبته جزءاً واحداً من ثمانية وأربعين جزءاً. . .(340/59)
ولما توثق ما بينهما اشتهى أن يكون وإياها رجلاً مع امرأة؛ ولعلها اشتهت مثلما اشتهى لأنها قالت له في صباح يوم سبت من أيام الربيع، وهما يتواعدان أن يلتقيا غداً في مطعم فاخر:
- قبل أن نذهب أحب أن أقول لك كلمة، وأمامنا عشرون دقيقة نستطيع أن نقول فيها كلمات. . .
وتغافل هو عما أحس من اضطراب جسمها واهتزاز ذراعها في ذراعه وهي تلقي إليه قولها، قالت في صوت خافت:
- أحب أن تعلم أنك ستطوي نهارك مع فتاة شريفة لا تحب أن تذهب مع رجل حتى يتعهد باحترامها. . .
وتوهج خداها وحرّت أنفاسها وتعنّف اضطرابها، فلم تعد تملك أمر نفسها فسكتت، وسكت هو لا يدري ماذا يقول فقد كان في حسابه أنه سيمتع نفسه بكل ما يمكن أن يفعله رجل يحب فتاة. وإذ لم يحر جواباً ثنت هي تقول:
- إنني لن أذهب معك حتى تتعهد باحترامي
ولما برحا المطعم الموعود سارا معاً على ضفة النهر يمتعان أعينهما بالماء الحالم في هُدأًةِ الأصيل وبالجو السجسج الدافئ. وكانت لمعة الضوء تتكسر على صفحة الماء الحابي، والأسماك تتواثب وتتلاعب ثم تنغمر في الماء. وأشعت الشمس تسيل فتصبغ الماء والحشائش والأفق بلونٍ رهيب. . . كان كل ذلك يزيد من جمال النهر ويكسبه روعة وجلالا
وتفاعلا في روعة هذا الجمال الضافي فراحا يلعبان ويثبان. وراحت هي تشتبك في ذراعه ثم تتركه لتدفعه من ظهره. ثم تجري منه ضاحكة ثم تؤامنه لتنحني فتجمع له الزهر النامي على حافة النهر وتقدمه له أو تلقيه في الماء. وظلا هكذا - كطفلين غريرين - حتى جرت دمائهما. ثم سارا هادئين لحظة لأنها بدا لها أن تقول له:
- ماذا تضن فيّ وقد جئت معك منفردة!
- إن هذا أمر عادي مألوف
- لا. ليس عادياً ولا مألوف، ولكني مع ذلك لا أظن إنني أكره مثل هذا الطيش، ولي أم(340/60)
مريضة ومتعبة كانت أولا بوقتي هذا، ولم يكن يليق أن أتركها وألهو ولكن. . . أرجو أن لا تسيء بي الظن
ولم يكن لديه لهذا الخلط الذي لم يفهمه سوى أن مال عليها فقبلها قبلة أخطأت خدها وأصابت أذنها. فنفرت منه كظبي مذعور وتغاضبت عليه. ولم تطل. . . بل أقبلت عليه تذكره بوعده لتمهد أن يعودا - كما كانا - مرحين لاعبين
وكان الهواء قد رق وصفا. وسرا عطريّ الروحة والغدوة يحمل في طوايا هبته شذاً قوياً يدير الرأس حين يدور فيها عندما بدت لهما من بعد حديقة لفاء يحبو تحتها ماء النهر، وتذِّهب ذراها أشعة الشمس الغاربة، كانت تبدو من بعد كسرادق مظلم أو ككهف عظيم. ولما قارباها أخذت هي تحدق فيها بعين بارقة مفتوحة، وقالت في صوت خافت كأنه يأتي من أعماق أعماقها
- ما أجملها. . . ما أجملها!
ولما اقتحماها وسارا فيها بلغا فيها خباء بين دوحتين فارعتين لا تبلغه العين، ولا يبلغه الضوء، إلا قطعاً نثاراً كنقوش الثوب، وملأت رأسيهما فيه ريح عطرة مثيرة قوية! فجلسا حالمين تائهين. . . ثم تقاربا في بطئ وسكون، ثم تضاما، ثم عصفت بهما نار الرغبة فلم تملك إلا أن تحسس فمه بشفتيها. فجعل يعتصرهما بجنون، ويضمها إلى صدره بشوق وقوة وعنف، وقد غابا ونسيا نفسيهما. . .!
ولما أفاقت لم تكن تريد أن تصدق. . . ثم أخذت تصيح وتصرخ. . . ثم هدأت لتبكي. . . ثم لما فرغت لم ترد أن تسمع لكلماته وهو يفرغها في أذنيها ليخفف عنها ما بها من جزع وأسى، بل جعلت تهتف في صوت خافت ضعيف:
- رب ماذا فعلت. . . ماذا فعلت!
وساوره الخوف والفزع مما رأى من حمرة خديها وعمق عينيها وجعل يرتعد وهو يرجوها أن تبقى ليتفاهما، وليدبرا الأمر على قانون الواقع ولكنها تركته دون كلمة أو وداع. . .
ولما لقيها في اليوم التالي ألفاها ساهمة شاحبة ظاهرة الأسى، كأنها خالصة من أعقاب مرض طويل أضناها وذوب قواها. قالت له حين تصابحا في همس:
- أريد أن أتحدث إليك قليلاً. . .(340/61)
ولما انفردا قالت له في ألم وجد:
- أنه ليحسن بنا أن نفترق، فإن من الخير أن لا نلتقي بعد ذلك، وبعد الذي كان لا أحب أن أراك لأنني كنت ضعيفة ومجنونة، فليس هناك ما يبرر أن أعود لهذا الجنون وذلك الضعف مرة أخرى!
فجعل يتوسل إليها أن تلحق به وهو يؤكد لها أنه سيصلح ما أفسده. وأنه سيتزوجها إن شاءت ومتى شاءت ولكن عبثاً ما حاول فقد رفضت أن تسمع له وتركته ومضت
ولم يعد يراها. ومر أسبوع وأسبوع، ولم يكن يعرف مأواها، ولعله أيس منها أو لم يقطع في أمرها بأمر، لأنه ذهب مرة يفتح الباب لطارق فوجدها هي. وأثلج صدره أن شعر بها فيه، تملأه وتهدهده، ورأى ذراعيه قد التفتا عليها، وجعلتا تضغطانها في رفق وشوق. . .
وعاشا معاً ثلاثة شهور شعر بعدها بالملل منها، فتهابط حبه لها وشغفه بها، ونقصت رعايته إياها وعنايته بها. . . ثم جبن وتسافل حين ذكرت له إن جنيناً يتواثب في أحشائها فكأنما كان هذا النبأ عصاً ألهبته، لأنه فر من وجهها مسرعاً لا يلوي. واختفى. . . لا حذرها ولا أخبرها إلى أين. . . ولا هي ارتضت لنفسها أن تبحث عنه
لقد طاوعت كبرياءها فلم ترد أن تفعل، ولم تجد في وسع عينيها سوى أمها. . . فتهاوت في صدرها حزينة باكية تشكو لها بثها، وترجو عندها الستر والصفح والسلوى. . .
وفي الجانب الآخر عاش الخاطئ المسكين عيشة مضطربة قلقة سمجة، لا معنى لها ولا غناء فيها. . . عاش وحيداً منعزلا، لأن عليه أن يعيش. . . كانت الدنيا في عينيه مظلمة قاتمة سخيفة لا خير فيها. ولو لم يكن لديه إلا عمله يرى فيه بضعة وجوه لمات كمداً ومللاً. . . فتخامد شبابه وانطفأ نور حياته في حضيض خطيئته. وغدا على الدنيا شبحاً يود لو ينتهي
وكان يقسو عليه ألمه أحياناً فيضيق بوحدته فيخرج في آصال أيام الأحد ليسير ثقيلاً متباطئاً، وما هي إلا خطى معدودة حتى يجلس ملولاً ضيق الصدر، ليرى الأسر السعيدة مغتبطة هانئة بأطفالها التي تجري حولها بوجوه ضاحكة مستبشرة. وكان هذا المرأى في ذاته يزيد ألمه وحزنه، ويسلمه إلى شعور عنيف يستبد به فيشعر أن قلبه ينسحق تحت معول ضخم، فلا يملك لنفسه إلا أن يطرق ويصمت(340/62)
وفي ذات صباح وكان يسير شريداً مضيعاً، لمح امرأة تتهادى بين طفلين يلعبان حولها، أما أحدهما فطفل لم يجاوز الرابعة، وأما الثاني فغلام تشرّف على العاشرة
اهتز حين رآها وداخله نحوها شعور ما، ولما لم يكن مخطئاً جمد ولم يستطع حراكاً، فقد فَقَدَ هيمنته على نفسه، ولم يعد إلا عيناً تدور وراءها وتتابع حركاتها. وازداد يقينه حين شعر بحنين عنيف يثور في صدره نحو أكبر الطفلين عندما التفت مرة فوضحت ملامحه. . .
في تلك الليلة لم ينم، فقد سهَّده أمل أشرق ثم خبا. فبات فريسة تفكير مضنٍ طويل: تُرى هل هذا ابنه. . . وهل هي هي. . .؟ وإذا كان فماذا أستطيع أن أفعل. . .؟
وزاد بلاؤه أن طُمِس على ذهنه فلم يدر ماذا يستطيع أن يفعل. . . ولكنه غَنِمَ أن عرف أنها تزوجت رجلاً من جيرتها وكان شهماً فاضلاً غفر لها واعترف بابنها وعُنِي بهما. .!
وكان إشراق وجه ابنه في سماء حياته المظلمة ألماً جديداً فوق آلامه، إذ أشعره ذلَّ الوحدة وعذاب الحرمان، فاضطرب اضطراباً شديداً، وامتلكه اليأس والأسى، وأصبح لا يرجو إلا أن يضم ابنه إلى صدره ويقبله ليشبع منه شوق السنين، وليطفئ لوعة الحرمان التي شبت في نفسه فغطت آلامه جميعها
وقام في ذهنه أن يعترض طريقها، فأسرع نحوها فأخذها من كتفها؛ فلما التفتت إليه صرختْ صرخة رعب مكتومة، وحنَتْ على ولديها فطوّقتهما وأسرعت تجري بهما
ومر شهران يئس فيهما أن يراها أو يرى ولده. وحنق على نفسه أن حرمها رؤية ولده ولو عن بعد. فجعل يكتب لها. . . كتب لها نحو عشرين رسالة لم يتلقّ رد واحدة منها! فأحس مرارة الخيبة تمور في ألم الحرمان فترهقانه وتعذبانه عذاباً أليماً
ولما يئس أن يراها فكر وقدّر، ثم فكر وقدر، فلمعت له في ظلمة يأسه خاطرة هي أن يكتبَ لزوجها. . . ولما جاءه الرد أنه يسره أن يلقاه في مساء يوم معين لم يكن بأسعد حالاً مما لو كان أهمله كما أهملته هي من قبل. فقد كان دَقُّ قلبه - وهو يصعد الدرج - سريعاً مزعجاً. وكان ينتزع رجليه انتزاعاً ويراود نفسه - وهو صاعد - أن يرجع!
وكانت ثيابُ الرجل السود ورهبته فيها وسحنته المتزنة الوقور التي طالعه بها. . . كان كل ذلك قد خلع قلبه وطير ما بقي له من قوة واتزان. وحين أشار له الرجل أن يجلس،(340/63)
جلس متداعياً مذهوب العقل، ضائعاً. . .
قال الرجل في لهجة عميقة ورنة آسفة:
- إن زوجتي حدثتني عنك. . .
فرد يقول في صوت خفيض متقطع:
- إنني يا سيدي غير سعيد لأنني لا أستطيع أن أرى ولدي وهب الرجل فنادى. . . فدخل غلام في نحو العاشرة مسرعاً إلى الرجل الذي يعيش معه على ظن أنه أبوه. . . ولكنه وقف فجأة حين انتبه إلى أن بالحجرة رجلاً غريباً. . .
وقبله أبوه قبلة كلها حنان وعطف. وقال له مشيراً:
- اذهب وقبل هذا السيد الجالس هناك. وسار الطفل نحو (السيد الجالس هناك) وديعاً خجلاً، ضيق الخطى. وأحس هو - وطفله مقبل عليه - أن دُوَاراً شب في رأسه حين نظر إلى عيني ابنه وهما تطالعانه وتنظران إليه
وقام الرجل (صاحب البيت) فدار على نفسه واتجه صوب النافذة، حين وافى الولد أباه، وحين فتح له هذا ذراعيه فاحتواه فيهما، وحين أخذ يقبله بجنون في شعره وعينيه وخديه وفمه وذقنه وكل وجهه، وحين انزعج الطفل من هذه القبلات العنيفة وأراد أن يتحاشاها ويبعدها عنه، وهو يدير رأسه إلى كل ناحية ليتخلص منها فلم يستطع، لأن الذراعين اللتين أحاطتا به قد تصلبتا عليه. . . . . .
. . . . ثم تراخيا عنه، لأن رقة قلبه شاعت في كل جسمه، فَرَحِمه وتركه، ليمسح دموعاً انسابت من عينيه، ونهض صارخاً يقول:
- وداعاً. . .
وأسرع فنزل الدرج قافزاً كالهارب، وحين احتواه الطريق انغمر في الظلام كاللص.
مراد الكرداني(340/64)
من هنا ومن هناك
هذه الحرب ستزيل الحرب
(ملخصة عن (فورتنايتلي)
منذ أربعين سنة كان الناس يظنون أن الحروب الدولية هي الطريق الطبيعي الذي يدل عليه المنطق وتستحث إليه البطولة في فض المنازعات. فإذا قتلت إنساناً - وكثيراً ما يحدث هذا - فأنت تقتل شخصاً أجنبياً عنك. أما الحروب الأهلية، فقد كانت من الأعمال الممقوتة، لأن القتل في هذه الحروب كان بمثابة قتل الإنسان لأخيه؛ فكانوا يعدونه خروجاً عن حدود الطبيعة لا يصح أن يقترف على وجه الإطلاق.
وقد كنت مخالفاً لهذه الفكرة منذ عدة سنين. فلم أعتقد في ذلك الحب الأخوي المزعوم، ولم أظن في يوم من الأيام أن الإنجليزي أحق بالحب من الفرنسي، أو الألماني، أو الأمريكي. إن الإنسان حر في أن يحب هذا أو يكره ذاك. ولكني أعتقد أن الحرب الأهلية أقل خروجاً بنا من الحدود الأخلاقية من الحرب الدولية لسببين:
السبب الأول: هو النضال في هذه الحرب لا يقوم لأجل انتزاع الأرض، أو الاستيلاء على المعادن، أو التهافت على السيادة وإنما يقوم على فكرة أو مبدأ.
والسبب الثاني: أن تلك الحرب، حرب شعبية، وثورة ضد الحكم السيئ، تترك فيها الحرية لرجل الشارع في اختيار الناحية التي يريد أن ينحاز أليها.
ويخيل إلي أن الحرب الحاضرة هي من نوع الحرب الأهلية فهي حرب مبادئ، هي ثورة يناضل فيها الألمان إلى جانبنا، أو نحن نناضل إلى جانبهم لمكافحة نوع من الحكم الذي لا يطاق
فليست هذه حرباً دولية، ليست حرباً بين حكومتين، ولكنها حرب بين نوعين من أنواع الحكومات، حرب بين الديمقراطية والدكتاتورية، أو بعبارة أخرى هي حرب بين الحرية والاستعباد
لقد كتب كثير من اللغو عن كلمة الحرية. وأنا أقرر هنا أن الحرية المطلقة أمر ليس في الإمكان. فأنا إذ أقول إنني حر في أن أكتب ما أشاء - هنا - فما لا أستطيع أن اكتبه في ألمانيا أو إيطاليا أو روسيا، لا يصح أن يقال لي أن الصحافة هنا في أيدي أصحاب رؤوس(340/65)
الأموال، وهم لا يسمحون لك بأن تنشر إلا ما يتفق وأغراضهم. فأنا حر في أن أكون من الرأسماليين، وأخرج صحيفة خاصة بي إذا استطعت، وأنا حر كذلك في أن أنشر آرائي في كتاب خاص بي إذا وجدت الناشر، والناشر حر في أن يقبل أو يرفض نشر هذا الكتاب. وأنا حر في أن أصبح في شلالات نياجرا إذا لم تحد من حريتي قوة المياه المتدفقة. فالإنسان لا يكون محروماً من الحرية إلا إذا حرم القدرة لفعل كل ما يريد
فالحرية التي يزدهر نجمها في البلاد الديمقراطية هي حرية الروح، هي حرية الفرد في أن يفعل ما تؤهله له كفاياته وظروفه الشخصية إذا لم تصطدم وحقوق غيره ممن لهم الحق كذلك في الاستمتاع بحرياتهم، وتلك ليست بالحرية الكاملة. فالحرية الكاملة شيء لا وجود له. وكذلك نحن نحارب هتلر لأنه يزعم لنفسه الحرية التامة في أن يفعل كل ما يريد. فهذا نوع من الحرية ترى الحكومات الديمقراطية أن من واجبها أن تكافحه بكل ما لديها من قوة لأنه يتعارض وحرية الأمم المجاورة له
لقد عدنا إلى حياة الغابة اليوم، لآن هتلر يريد ذلك. أليس هذا نوعاً من الجنون؟ فإذا كان في العالم أمة تخضع لشخص واحد أو ليس من الجنون أن يبقى شبحه مهدداً للسلام
إن فكرة الحرب مقضي عليها إذا ارتفعت كلمة الشعب. فإذا كان الأمر على النقيض، وكان صوت الأوتقراطية هو المسموع فسوف لا يرتاح العالم من شر الحروب
إن طريق السلام عسير ولا شك، ولكنه واضح النهج بادئ المعالم، يراه كل بصير
لا هتلرية في أرض الوطن
(ملخصة عن (سبكتاتور، لندن))
لم يمر على البرلمان ولا على الصحافة وقت أصبحت فيه المهمة الموكولة إليهما في حاجة إلى عناية ويقظة كالوقت الذي نحن فيه. ومما لا شك فيه أن الديمقراطية لا تقدم على الحرب إلا إذا أفرغت كل ما لديها من الوسائل لاجتنابها. إذ الحرب وعلى الأخص الحرب العصرية - لا تخلو من خسارة موقوتة تقع على الديمقراطية نفسها. فالحكومة في هذه الظروف على ثقة من أن حالة الحرب ستبرر كل ما تطلبه من النفوذ الدكتاتوري، ومن ثم تعمل تحت تأثير هذا الشعور. فالحرية الشخصية يجب أن تحد إذا دعا الداعي إلى التعبئة،(340/66)
وإعداد العدة لحماية الوطن من الأعداء. وسائر قوى الشعب يجب أن تكون واحدة لنظام معين، تسير عليه مجبرة إذا اقتضى الحال
هذه الحقيقة لا جدال فيها. ولكن هل معنى ذلك أن قبول الحرب أو الدخول فيها يقضي على الديمقراطية، ويمحو وجودها بحيث يصبح الشعب البريطاني كالشعب الألماني خاضعاً خضوعاَ تاما للدكتاتورية العمياء؟ الجواب لا، بلا شك. فهذه الأمة لا ترجو يوماً من الأيام أن تعمل على رفع مستواها الحربي بتوجيه النقص إلى تلك المميزات التي كانت مصدر قواها وفخارها أيام السلم
إن العقلية الإنكليزية ليست كالعقلية الألمانية. فالألمانيون سواء في الحرب أو السلم لا يكرهون الاستعباد، ويريدون أن يكونوا على الدوام تروساً في الآلة الحكومية التي يديرها الحاكمون
ولكنا لا نستطيع أن نستغل الشعب البريطاني إذا حاولنا أن نعامله على هذا النحو من المعاملة. فالإنجليز يفهمون روح التعاون الرياضي فهم يقادون ولكن لا يساقون. فإذا أردنا أن نفوز في هذه الحرب فلن يكون ذلك بمحاكاة الروح الألمانية. ولكن بالمحافظة على روحنا الخاصة، وتنمية فضائلنا المتأصلة وإذكاء روح الحرية وتوجيهها ضد قوى الاستعباد
إن الحرب تجابهنا مرة واحدة بنقائض الديمقراطية جميعاً وهي في أشد أحوالها. فالحالة تقضي بأن يساس أبناء الأمة بشيء من القوة، ولكن دون أن يفقدوا هم سياسة أنفسهم. ولحل هذه المشكلة لجأت الحكومة إلى وجهتين: الأولى هي الاحتفاظ بالحياة النيابية كاملة، وإعطاء الأعضاء الحرية التامة في مناقشة كل شيء. والثانية: حرية الصحافة، ولم يسيء البرلمان ولا الصحافة استعمال هذه الحرية. بل لقد كان الأمر على نقيض ذلك، فقد ظهر كل منهما - وعلى الأخص مجلس العموم - عزمه الصحيح على توحيد الرأي، والعمل على محو كل اختلاف، وقبول كل تضحية في سبيل المصلحة العامة.(340/67)
البريد الأدبي
اتحاد دولي لضمان السلام
افتتحنا العدد 336 من الرسالة الذي صدر بتاريخ 11 ديسمبر سنة 1939 بمقال عنوانه (سياسة السمك) قلنا فيه أن الدويلات الصغيرة ليس لها بعد انتصار الديمقراطية إلا أن تنظر (في يومها وفي غدها فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل وهو التجمع والتكتل والتعاون، فيكون بين البلدان المتجاورة كدول البلطيق وأمم البلقان وشعوب الإسلام شبه ما بين الدول المتحدة في أمريكا من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام والدستور المشرع والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيرة يقوم على استعمارها النزاع، ويميل من جرائها ميزان السلامة) ثم ضربنا مثلاً باتحاد بلاد الوطن الإسلامي الأربعة عشر، وقلنا بعد أن ذكرنا الخطأ الذي قام عليه صلح (فرساي): (سيفكر الحلفاء الديمقراطيون متى جلسوا إلى مائدة الصلح فيما جنوا من (عصبة الأمم) ويقررون إذا وفقهم الله أن ينشئوا السلم العالمية الدائمة على قواعد من التركيب لا من التحليل، فيؤلفوا من الأمم الصغيرة المتقاربة في الوطن والجنس والمنفعة اتحادات مستقلة، تتحد في الرياسة والحكومة والدستور، وتشترك في الدفاع والسياسة والعمل، ثم يربطوا بين الدول العظمى والاتحادات الكبرى بروابط وثيقة من الاقتصاد العادل الذي يضمن لكل أمة سداد عوزها من خير الله وغلة الأرض. . .)
ذلك ملخص ما قلناه في ذلك المقال. ومن توارد الخواطر أننا قرأنا في عدد الهلال الذي صدر في أول يناير من سنة 1940 صفحة 357 أن الكاتب الصحفي الأمريكي (كلارنس سترايت) أصدر كتاباً سماه (الاتحاد الآن) دعا فيه إلى إنشاء ولايات متحدة عالمية على نسق الولايات المتحدة الأمريكية. فهو يقترح أن تتحد الدول الديمقراطية الخمس عشرة معاً ليتألف من جميع شعوبها شعب واحد له حكومة واحدة وبرلمان واحد وقوة حربية واحدة) ثم ذكر الديمقراطيات الخمس عشرة كما ذكرنا شعوب الإسلام الأربعة عشر، ثم قال: (وتحتفظ هذه الدول بملوكها ورؤسائها ووزرائها كما تبقى على لغتها وثقافتها وكتبها التاريخية وألويتها المميزة لها، وتستقل كل منها بإدارة شؤونها الداخلية. أما جيوشها وأساطيلها وسياستها الخارجية فتوحد معاً في قبضة هيئة واحدة تتخذ لها مقراً في جنيف أو أتاوا) إلى(340/68)
أن قال: (وقد تبدو هذه الفكرة خيالاً بعيد المنال، ولكن هكذا كان الأمر قبل أن تأتلف الولايات المتحدة الأمريكية في شعب واحد وتحت حكومة واحدة. كانت هذه الولايات متعادية متنافرة ولكن حرب الاستقلال ألفتها ووحدتها. فلم لا تؤلف الحرب القائمة هذه الديمقراطيات التي تتهددها الدول الطاغية وتحاول أن تفترسها واحدة بعد أخرى؟)
الشيخ عبد العزيز البشري والعريان
لا تنسينْ تلك العهود، فإنما ... سميت إنساناً لأنك ناس
اختلاف النهار والليل ينسي ... اذكرا الصبا وأيام أنسى
أنشدت بيت حبيب وبيت شوقي لما قرأت هذه الجملة في الثقافة الغراء في آخر أجزائها: (لا أدري لماذا ترك المسكين عريان، لا أثر للنقش، ولا للكتابة فيه؟). وهي في مقالة لآخينا العالم الأديب الكبير الشيخ عبد العزيز البشري عنوانها (فن الإعلان) وقلت: لقد أنسى الشيطان فضيلة الشيخ الأستاذ بيتي الألفية:
وزائدا فعلان في وصف سلم ... من أن يُرى بتاء تأنيث خُتم
ووصفٌ أصلىّ ووزن افعلا ... ممنوع تأنيث بتا كأشهلا
وقال صاحب (جوف الفرا):
وكل وصف، تاء أنثى لا تلي ... فاصرف كعريانٍ وما كأرمل
إن العلماء لينسون، وإن الأئمة ليخطئون، وإنما العصمة لله ولرسوله محمد وحدهما.
(طنطا)
أزهري
حساب الخطأين لا حساب الخطين
إن إحياء ذكرى ابن الهيثم من أجل الأعمال التي قامت بها الجمعية المصرية للعلوم الرياضية والطبيعية بالقاهرة. وقد قابله العرب في مختلف الأقطار بالشكر والرضى والتقدير، إذ يرون فيه خطوة نحو بعث الثقافة العربية ومحاولة موفقة لأحياء علماء العرب ونوابغهم الذين خدموا الإنسانية وكان لهم فضل كبير على تقدم الحضارة.
ولقد سبق أن نشرنا عدة مقالات عن ابن الهيثم في المقتطف والمعرفة (أيام صدورها)(340/69)
والرسالة. وأتينا على بعض مآثره في كتاب (نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية) وأذعنا عنه حديثين في لاسلكي فلسطين ودعونا (ولا نزال ندعو) إلى تمجيد علماء العرب الذين أضافوا إلى كنوز المعرفة إضافات أدت إلى نمو العلوم واتساع أفق التفكير كما دعونا إلى نفض غبار الإهمال وإزالة غيوم الغموض المحيطة بآثارهم ومآثرهم
لهذا كان سرورنا عظيما حينما قرأنا في الصحف نبأ الاجتماع الرائع الذي عقد في قاعة جامعة فؤاد الأول الكبرى إحياء لذكرى ابن الهيثم، وقد شهد هذا الحفل أمير عظيم من أمراء البيت المالك الكريم وجمهور كبير من أساتذة الجامعة وصفوة مثقفة من رجال مصر، وتكلم فيه عدد من أساطين العلم وأمراء البيان
وظهر في الرسالة عدد 338 الكلمة التي ألقاها الأستاذ الدكتور محمد محمود غالي في الحفل المذكور عن (الهندسة وابن الهيثم قديماً وحديثاً) فأقبلت على قراءتها برغبة وشغف. وقد لفت نظري اسم كتاب ورد في الكلمة فذكر الدكتور كتاب (حساب الخطين) من بين أسماء تصانيف ابن الهيثم التي تمت إلى علم الهندسة مع أن المصادر (أخبار العلماء وطبقات الأطباء وغيرهما) لا تشير إلى كتاب بهذا الاسم، بل تشير إلى كتاب آخر موضوعاته حسابية ليس فيها شيء من الهندسة، والكتاب الذي تشير إليه هو (حساب الخطأين) الذي يبحث في إيضاح طريقة حساب الخطأين - وهي إحدى الطرق الأربع التي كان يستعملها العرب لاستخراج المجهولات. أما الطرق الأربع فهي: طريقة الأربعة المتناسية، وطريقة حساب الخطأين، وطريقة التحليل والتعاكس، وطريقة الجبر والمقابلة
هذه ملاحظة بسيطة على كلمة الدكتور القيمة، ولي من إخلاصه للحق والحقيقة ما يشجعني على إبدائها ولفت نظره إليها
(نابلس)
قدري حافظ طوقان
تكريم الأساتذة المصريين في كلية الحقوق العراقية
طلاب كلية الحقوق العراقية مشهورون بوفائهم لأساتذتهم فهم لا يألون جهداً في إكرامهم وطاعتهم. وقد أقاموا أمس حفلة شائقة تسر الناظرين تكريماً للأساتذة المصريين الجدد(340/70)
الذين شرفوا بغداد في هذا العام. وكان يتقدم المدعوين أصحاب المعالي وزراء الحكومة العراقية، وأمراء الجيش وقادتهم، وقناصل الدول العربية وكبار الموظفين. وكانت الحفلة رائعة كل الروعة خطب فيها خطباء كثيرون، وكل منهم أثنى على مصر ثناء عاطراً. وألقى الشاعر مصطفى كامل يأسين قصيدة عصماء استعيد أكثر أبياتها. وبعد أن انتهى الخطباء العراقيون تفضل الأستاذ الدكتور عثمان خليل عثمان فارتجل خطاباً ممتعاً بالنيابة عن إخوانه الأساتذة المصرين كان له أبلغ الأثر في النفوس. وكان مسك الختام خطاب عميد كلية الحقوق الأستاذ الكبير منير القاضي. ودامت الحفلة ساعتين وانفض المدعوون وكلهم يلهجون بالثناء على عميد الكلية وأساتذتها وطلابها
ضياء شيت الخطاب
عبث الناشرين وأصحاب المكاتب
زور أحد الناشرين كتاباً على الدكتور طه حسين بك وقد رأينا في العام الماضي شيئاً مثل ذلك منسوباً إلينا والى الأستاذ توفيق الحكيم. وقد اشترى صاحب مكتبة الجامعة مائتي نسخة من رواية اللصوص كانت باقية لدى مترجمها الأستاذ عبده حسن الزيات. ثم شاءت ذمة التاجر أن يستبدل بغلافها غلافاً آخر كتب عليه من الصفات والألقاب ما أنكره الأستاذ واحتج عليه. وهذه حال من الفوضى المحزنة لا يليق بحماة الحق وحراس العدالة أن يدعوها تستمر.
كلبة يزيد
سألتنا الآنسة فوقية كامل عن تاريخ كلبة يزيد بعد أن سألت (الأهرام) فلم تجد الجواب. وقد بحثنا فيما بين أيدينا من كتب الأمثال واللغة فلم نجد لهذه الكلبة ذكراً ويظهر أن إيراد المثل على هذه الصورة خطأ، فإن أكثر الناس بروية: (أنحل من كلبة ميت يزيد) وميت يزيد قرية من قرى مديرية الشرقية فلعل أديباً من أهلها يروي لنا ما يتناقلونه من قصة هذه الكلبة البخيلة
حول مقال
سيدي الأستاذ الكبير زكي مبارك:(340/71)
أحييك تحية مصدرها إعجاب بأدبك العالي وحسن نقدك وغيرتك على اللغة العربية والدين. وبعد، فقد وقع في يدي منذ مدة عدد الهلال الممتاز (العرب الإسلام)، فوجدت فيه مقالة عنوانها (تركيا المسلمة ومصطفى كمال والإسلام) بقلم الأستاذ حسن الشريف، وفيها ينتقد اللغة العربية ويقرر أنها غير صالحة للعصر الحاضر من حيث صعوبة حروفها في القراءة والكتابة، وعدم قبولها للاختزال، وتعدد معانيها. ويقول أيضاً: إن الطفل في المدارس الابتدائية يستطيع بعد ستة شهور أن يقرأ معظم المكتوب باللاتينية قراءة تكاد تكون صحيحة، بينما هو لا يستطيع أن يقرأ سطراً عربياً من دون أن يخطئ في قراءة كل كلمة. بل إننا نحن الكبار، وقد درسنا العربية دراسة لا بأس بها لا نسلم من التعثر في دواوين الشعر. . . وقد أورد هنا بيتين من الشعر دليلاً على ذلك. كما أنه قد تعرض فيها إلغاء مصطفى كمال للمادة التي تنص على أن (الإسلام دين الدولة).
فأرجو من سيدي الأستاذ أن يطلع على هذا المقال ويبين رأيه فيه، ويمحصه على صفات مجلة (الرسالة) الغراء.
سليم الحجيري
اختلاف الأزياء المصرية
إلى حضرات أساتذة العلم ورجال البحث والتاريخ أتقدم إلى ساحة علمهم بالسؤال الآتي وهو: (ما سبب اختلاف زي المصرين)؟
إن الناظر إلى الزي المصري يرى أن له أشكالاً عدة وأنواعاً مختلفة سواء في ذلك ما كان خاصاً منه بالنساء أو الرجال حضريهم وريفيهم، حتى ليختلف زي ريف عن آخر. فنرى أن ما تتحلى به زوج السويفي أو المنياوي ترفضه زوج المنوفي أو الشرقاوي. وقل مثل هذا في أنواع البرد والملاءات حتى في الأحذية
ولقد شغلت ببحث هذا الاختلاف عدة سنين غير أني لم أوفق توفيقاً يرتاح إليه الضمير. فإني إذا رجعت إلى العصور القديمة وقابلت بين أهلها حتى العصر الحديث كما فعل العلامة حفني بك ناصف - رحمه الله - لمعرفة أسباب اختلاف الأزياء وتعدد اللهجات المصرية، غم على الأمر وأشكل؛ فإني إذا عللت مثلاً لبس العمامة الكبيرة البيضاء في(340/72)
بعض مديريات الجنوب بأنها لاتقاء وهج الشمس فلا أجد علة للبس الزعبوط الأسود فوق كل منمنم ومعلم من الثياب. الأمر الذي لا يتفق مع الطقس أو الطبيعة في شيء هناك. فهل ذلك راجع إلى عادات مصرية قديمة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل لتعدد الإقطاعيات والمعودات دخل في ذلك؟ أو أنه راجع إلى حالات نشأت من تعدد الفاتحين لمصر. وإذا كان ذلك كذلك فأيها بقي وأيها ذهب وما علة كل؟
وإذا كان الجواب نفياً فهل يرجع ذلك إلى عوامل محلية للطبيعة والجو والحالة الصحية أو العلمية والفكرية دخل فيها؟ وإذا كان الجواب نعم فبماذا نعلل بقاء ما لا يتفق منها مع هذه العوامل؟
فهل يتفضل حضراتهم ببحث واف شاف في هذا الموضوع
محمد عبد الجواد حبيب
تصويب
ذكرنا حين تكلمنا عن كتاب تاريخ الطب في العراق بالعدد 335 أنه من تأليف الدكتورين: هاشم الأثري، ومعمر خالد الشابندر. وصحة الاسم الأول: هاشم الوتري لا الأثري.
اختلافهم رحمة
قرأت في عدد (الرسالة) المؤرخ 13 نوفمبر سنة 39، مقالة الأستاذ الطنطاوي: (من هو المسلم؟). والأستاذ مهما كان موضوعه عادياً لا بد أن يكسوه بقلمه البارع وإيمانه البالغ حلة قشيبة تستدعي الالتفات إليه والاهتمام به. وهو في نظري من أدبائنا الذين يخدمون بقلمهم الإسلام ويعملون على تجديده، يمدهم في ذلك اطلاع على روح الإسلام ونصوصه لم يتهيأ لغيرهم، ولذلك لا يحق لنا أن نمر بما يكتبه في هذا الصدد مر الكرام. وبهذا النظر أحب أن تتفضل عليّ الرسالة بشطر من صفحاتها القيمة لأشارك الأستاذ في هذا البحث وفي مسألة هامة من مسائله التي ألم بها إلمام المرشد، وهي مما لا يسوغ تعريف جمهرة القراء بها على هذا النمط لا سيما أن الأستاذ لم يتناولها بما عرفنا عنه من النظر المنقب والفكر المجدد، بل اتبع فيها القول الشائع. وأنا لم أتوفر الآن لإعطاء هذه المسألة حقها من البحث، وإنما أريد أن أصحح هذا القول الشائع حتى لا يمر به بعد اليوم من أدبائنا(340/73)
ومفكرينا من يقيم له وزنا، قال الأستاذ: (إنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الأمة. ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي (ص) وأصحابه والقرن الأول خير القرون)
فالذي يبدو من هذا الكلام أن الأستاذ يجاري متأخري الفقهاء من جعلهم اختلاف الأئمة رحمة للأمة وتوسيعاً على الناس في عباداتهم ومعاملاتهم ليختاروا من أقوالهم ما فيه اليسر لأحوالهم، كما أنه يرى أن اختلاف أنظار المجتهدين في الأصول ممنوع لأنه يستدعي اختلاف الحق وتعدده. وهذا التعليل نفسه يرد على اختلافهم في الفروع أيضاً. والحق الذي لا ريب فيه أن الاختلاف لم له يكن مورد إلا في الأمور الظنية والمشاكل الجزئية التي يتسع فيها مجال القول ويختلف النظر إليها باختلاف الأحوال والأزمان. وطبيعة الأصول تتنافى مع ذلك فإنها لم تسم كذلك إلا بعد أن أجمع عليها النظار وتناولتها الأجيال بالتسليم والقبول لأنها ليست مظنة اختلاف ولا موضع تأويل بخلاف الفروع. وقد بحث هذه المسألة الإمام الشاطبي في كتابه: (الموافقات) ج4 ص71 فأبان أن الشريعة لا خلاف فيها بالحقيقة أصولاً وفروعاً، وأن منشأ الاختلاف في الفروع الأمور الظنية التي يتسع فيها مجال القول بالنسبة لأنظار المجتهدين لا بالنسبة للشريعة التي نفى الله عنها في كثير من آيات القرآن الاختلاف والتفاوت. وقد تعرض بعد ذلك للحديث المأثور: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فذكر أنه مطعون في سنده، وهو لا يعارض الآيات الصريحة من حيث التزام لوفاق في أحكام الشريعة. ثم استطرد إلى موقف المكلفين من الاختلاف وقال إن المجتهد لا يسوغ له العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح كما لا يسوغ للمقلد العمل بقول المجتهد إلا بعد الاطمئنان والتبصر في حال المجتهدين أن تيسر له ذلك وإلا فلا يحق له اتباع أحد القولين كما يستدعي هواه ويقتضيه حاله (وعليه أن يستفتي قلبه) كما قال الرسول (ص)
وأما ما أثر من مدح لاختلاف في الفروع كما روى عن عمر ابن عبد العزيز إذ قال في اختلاف الصحابة (أما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم) فمناط هذا عدم الحجر على(340/74)
الأنظار فيما ليس فيه قطع وهذه هي السعة التي شرع من أجلها الاجتهاد لا ما يجعل المكلف في حيرة من العمل بالأقوال المختلفة دون تبصر واطمئنان. ثم قال في فصل ثان ما نصه: (وقد أدى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال اتباعاً لغرضه وشهوته أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ولقد وجد هذا في الأزمنة السالفة فضلاً عن زماننا هذاً كما وجد فيه تتبع رخص المذاهب اتباعاً للغرض والشهوة) أقول وفي زماننا هذا أصبحت هذه القضية مصدر الحيلة لتجار الشيوخ في إجابة المستفتي لحل مشكلة أو تفادي حرمة في الدين. وعلى قدر ما يدفع السائل من المال، تتسع أمامه الحيل وتكثر الأقوال. فماذا يقول أمثال هؤلاء في قول الله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)
(نابلس)
حلمي الإدريسي(340/75)
المسرح والسينما
اقتباس الروايات
والاقتباس من المسرحيات الأجنبية عمل على كثير من الصعوبة؛ ولكننا نلاحظ دائماً أنه يحول دون تصوير جو المسرح الذي يريده المؤلف. ولسنا نعلم لماذا لا تخرج الفرقة ما تريد من المسرح الفرنجي كما هو؟ ولا نعلم سر غرام الأستاذين سليمان نجيب وعبد الوارث عسر بهذه الطريقة! فلا الروايات تبقى فرنجية الحوادث والمناظر والجو، ولا هي يمكن أن تلبس قناعاً مصرياً كاملاً يخفي ملامحها الحقيقية! ونحن نطالب الفرقة في إلحاح بأن تكف تماماً عن إخراج الروايات المقتبسة، فضلاً عن الروايات الفرنجية التافهة التي يضعها كتاب مغمورون. وما دام الأدب المسرحي في بلاد الغر ب دائم التجدد، فلماذا لا تعهد الفرقة إلى بعض المجيدين بترجمة أحدث المسرحيات الناجحة لكبار المؤلفين كبرناردشو وسواه؟!
القاتل!
الأستاذ يوسف وهبي ممثل قديم ومؤلف مسرحي قديم أصبح له طابع خاص يميزه ولا يشذ عن معالمه
وهو يذكرنا - مع الفارق - بالفنان الإنجليزي المعاصر العظيم (ناول كوارد) من حيث أن كليهما يضع المسرحيات بقلمه، ويقوم بالإخراج ويرتب المناظر ويوزع الضوء وغير ذلك مما يمكن الفرد الواحد أن يقوم به من أعمال المسرح
وهو يميل إلى الروح المصرية البحت ويصور العقلية والتقاليد والمعتقدات الشعبية بقدر ما يواتيه التوفيق. فهو أحياناً يساير طبيعة الأشياء وجريان أحداث الحياة فتكون العبرة والموعظة الحسنة. وهو أحياناً يسخّر من قلمه أقداراً مجنونة تقتل وتفسق وتسفك الدماء. فيبتعد بهذا كله عن طبيعة الأشياء فيكون الفشل والبعد عن إرضاء الجماهير
ومسرحيته الجديدة (القاتل) هي من طراز مسرحياته الأخرى، مصرية صميمة في كل كبيرة وصغيرة. وليس هنا مجال عرضها أو نقدها في تفصيل. وهذا لا يحول دون التنبيه إليها بوصف أنها عمل فني جديد
دنانير!(340/76)
جارية كانت لجعفر البرمكي، نسج حولها صديقنا (رامي) هيكل قصة سينمائية تخرجها شركة أفلام الشرق وتلعب دور البطولة فيها (أم كلثوم) وهي تصور عصر الرشيد ونكبة البرامكة، وتعرض لكثير من شخصيات هذا العصر في مقدمتهم الخليفة هرون الرشيد نفسه، والشاعر الأشهر أبو نواس. وسوف يبدأ العمل في استديو مصر في منتصف فبراير القادم
لجان محطة الإذاعة
في محطة الإذاعة لجان كثيرة جديرة بالحديث. هنالك لجنة البرامج العليا يرأسها الدكتور علي إبراهيم باشا وتنظم في عضويتها حسن باشا رفعت وطه حسين بك ممثلين للحكومة، وكلا من المستر (ويللان) والمستر (فرجسون) ممثلين لشركة ماركوني اللاسلكية، ويحضر اجتماعاتها الأستاذ سعيد لطفي بك لتقديم البيانات والإيضاحات التي توضح للأعضاء المجتمعين سبيل بحث ما يعرضون له من المسائل
وهذه اللجنة استشارية تقريباً، ولا تعرض لتفاصيل البرامج إلا في النادر، وتجتمع قليلاً جداً، ولا ندري السر في وجودها وتأليف على هذا النحو المختلط
وهنالك لجنة الأغاني، وقد غمزناها لتتحرك في الأسبوع الماضي ولكنها لم تفعل! وهي مؤلفة من رؤساء أقسام المحاضرات والمسرحيات والموسيقى الشرقية والاسطوانات ومساعد المدير الفني الشرقي وهو الأستاذ عبد الرحمن سامي
وقد ناقشنا الأستاذ لطفي بك في تأليف هذه اللجنة على هذا النحو الذي يتيح لغير الفنيين أن يحكموا على آثار شعراء البلاد ومؤلفي الأغاني فيها، فقال إنه يريد أن يعطي لكل الموظفين أقساطاً من العمل والمسئولية، لأنهم شبان يجب أن يتاح لهم حظ كاف من المرانة حتى ينضجوا في المستقبل!
والمعروف أن الشعراء الذين تفجعهم هذه اللجنة في آثارهم ليس لهم ذنب في أن موظفي المحطة شبان يجب لهم التشجيع!
هذه اللجنة مفترض في وجودها أن تجتمع كل أسبوع للنظر فيما يقدم إليها من الأغاني، ولكنها لا تجتمع فعلاً إلا كل بضعة أسابيع. وقد تستعلم عن هذا فيقول لك كل عضو فيها(340/77)
إنه مرهق بعمله الخاص بمكتبه، وعمل هذه اللجنة إضافي (كالسخرة)! وقد بلغ (المخزون) من الأغاني لدى اللجنة ثلاثمائة قطعة. وقد مضى على بعض القطع بضعة شهور وأصحابها لا يعرفون عن قبولها أو رفضها شيئاً!
وثالثة الأثافي أو اللجان هي لجنة البرامج المحلية التي تجتمع يوم الأربعاء من كل أسبوع. وأعضاؤها هم رؤساء الأقلام؛ ويشهد اجتماعها مدير الإدارة الإنجليزي. وعملها قاصر على تنظيم الإذاعات التي وافقت عليها المحطة، حتى لا تصطدم أجزاء البرامج أو تزيد أجورها عن الاعتمادات المالية المرصودة في ميزانية كل أسبوع
وليس على هذه اللجنة لوم فيما قد يأخذه المستمعون على البرامج فعملها قاصر على الترتيب كما قدمنا. وليس لها دخل في قبول الإذاعات أو رفضها إذ أن سلطة القبول والرفض هي بيد الأستاذ لطفي بك فيما يختص بجميع البرامج العربية. سوى الموسيقى، والأخيرة من اختصاص الأستاذ مصطفى بك رضا وهو رجل مشهور بطيبة قلب لا نظير لها.
هذه هي لجان الإذاعة وأعمالها وأعضاؤها، فلمن الشكوى!
(أبو الفتح الإسكندري)(340/78)
العدد 341 - بتاريخ: 15 - 01 - 1940(/)
من مذكراتي اليومية
من عادتي كلما ثقل على الحاضر وضاقت بي الحال أن أعود إلى ماضيَّ فأنشر عهوده وأَجْترَّ ذكرياته. وسبيلي إلى ذلك استغراق الفكر فيما سجلت صحائف الصبي من حوادث، أو العيش مع إخواني الذاهبين فيما كتبت وكتبوا من رسائل، أو الرجوع إلى ما دوَّنتُ في مذكراتي اليومية من خواطر. وكان ليناير من دون الشهور نوطة شديدة بالقلب وأثر بالغ في الذاكرة؛ فوقع في نفسي وأنا أهم بالكتابة فيما أوحاه إلىَّ أسبوعه الثاني، أن أتصفح مذكراتي لأقرأ ما كتبته فيه سنة من السنين.
فتناولت جزءاً من أجزائها المتروكة وفتحته على موضوع هذا الشهر منه فإذا بي أقرأ في يومه الرابع عشر ما أنقله إليك بحرفه:
يوم الجمعة 14 يناير سنة 1938
في مثل هذا اليوم من سنة 1932 وُلد لي ولدان: طفل وكتاب. اذكر هذا كل الذكر، لأنني في ذلك اليوم المقرور عدت في مُتوع الضحى من دار المعلمين بالكرخ إلى داري بالرصافة، فلزمتها جالساً أمام المدفأة الموقدة أكتب الفصل الأخير من كتابي؛ (العراق كما رأيته). ثم جاءني النبأ من مصر بعد ذلك بأن (رجاء) ولد في هذا اليوم نفسه. وكان طفلي وكتابي أعز شيء عليّ؛ لأن ابن نفسي كان نتيجة أربعين سنة من خير عمري، وأبن فكري كان نتيجة ثلاث سنين من خير عملي
أجل، قضيت ثلاث سنين في تأليف (العراق كما رأيته)! جمعت مادته من الآثار والأسفار والأساطير والكتب والمناظر والأحاديث في سنتين، ثم حررته وأنشأته ببغداد في سنة؛ فلم أكتب منه في القاهرة إلا رحلتي إلى كردستان والموصل وجبال عبدة الشيطان، وإلا عودتي إلى سورية عن طريق دير الزور وحلب. ثم وجهت عزيمتي إلى نشره فهيأته للطبع وتربصت به مواتاة الفرصة. ولكن اثاقلت حتى وفد إلى مصر صديق من رجالات العراق له بصر وخطر، فرغب أن يقرأ فيه ما كتبت عن بعض الناس وما علقت على بعض الحوادث، فحملته إليه في (الكنتننتال) فحبس نفسه عليه نصف نهار لم يبرح فيه الفندق. ثم رده إلى في المساء وهو يقول في سمته الرزين ومنطقه المتئد: (أشهد أن كتابك أول ما كتب عن العراق في صراحة ولباقة وإخلاص وصدق. ولقد طويت عني ما قلته فيَّ، ولكنني بعد أن قرأت ما قلته في غيري أكاد أعرفه بالاستنتاج والحدس. ولعل من(341/1)
الخير لنا ولك أن تؤخر نشر القسم السياسي منه إلى حين. إما قسمه الأدبي والاجتماعي فستكثر حولهما الأحاديث، ولكنهما في الأدب والنقد والتاريخ نصر وفتح)
نزلت على رأي الصديق العظيم وعدت بالمخطوط الغالي إلى موضعه من المكتب. ثم أعلنت أني سأنشر بعض صوره الأدبية في (الرسالة)، وقد نشرت بالفعل منه فيها صورتين أو ثلاثاً رفَّت لها الآذان وأصغت إليها الأفئدة
ولكني وا أسفاه! لم يعد للطفل الحبيب نفَس ينسم على نفسي ببرد الجنة، ولم يبق من الكتاب العزيز سطر يشعب فؤادي بذكرى العراق!
وا لهفتاه على ولدي الذي أبدعه الله، وعلى أخيه الذي أبدعته! جاءا معاً في الشتاء، فلم أجد لوجودهما برداً ولا عبوساً ولا كآبة؛ وذهبا معاً في الربيع، فلم أحس لفقدهما دفئاً ولا طلاقة ولا بهجة. أودي بهما القدر العابث خداعاً وغيلة، فسلب العين الكلوء ريبة الحذر، وجرد الدفاع اليقظ من فرصة الحيلة. دب للطفل الموت الوحيُّ في وعكة خفيفة من البرد ظنها الطبيب زكاماً عارضاً فإذا هي الخناق القاتل. ومشى للكتاب القدر المحتوم في ركام من الورق المتروك فذهب به خلسة إلى النار المبيدة!
أخذت ذلك الكتاب ذات يوم من درج المكتب لأختار منه فصلاً للرسالة، ثم جلست في البهو على كنبهُ بعثرت من فوقها وأمامها تجارب المجلة وأصول المقالات، فاخترت من المخطوط قطعة أدبية ثم ألقيته إلى جانبي، وأخذت أصحح (الملازم) وأطرح (الأصول) حتى فرغت من ملزمتين فدفعتهما إلى غلام المطبعة، وخرجت من البهو لا في يدي ولا في جيبي لأترك هذا الورق المهمل لخادم البيت تكنسه من هنا وهنا، ثم تطرحه على عادتها كل يوم في صندوق الكناسة، ويأتي الزبال فيأخذ ما تجمع في الصندوق ويحمله على عادته كل يوم في زنبيله إلى المستوقد!
وهكذا قضى الله أن تذهب إلى العدم خلاصة العمر وعصارة الفكر في فترة ضائعة من فترات الغفلة! وهيهات أن يكون لهما في الحياة عوض، فإن الفلذة إذا اقتطعت من الجسم لا ترجع إليه ولا تتجدد فيه، وسحر المنظر الجديد لا يتكرر أثره في نفس زائره ومجتليه
حولت بصري عن الصفحة ثم أطرقته. ولجّ بي الإطراق والاستغراق حتى سقط الدفتر من يدي، وتلاشى الحاضر من نفسي، ووثب الماضي إلى خاطري، ووقفت أما الفاجعتين وجهاً(341/2)
لوجه، فكأنما لبث من الزمن واقفاً حيث كان، وظل الجرح نازفاً حيث طُعن، وبقى القلب واقداً حيث اشتعل؛ وكأنما أسلمني كل ضعف إلى الجزع، وخذلتني كل قوة حتى الأيمان!
تفصد جبيني بالعرق، ثم أخضل جفني بالدموع، فأخذت نفسي تثوب رويداً إليّ، وتحركت يدي في فتور فتناولت الدفتر ثم جعلت أصحفه، فعثرت في ثناياه على ورقة بالية من مسودات كتابي الفقيد؛ فنشرتها بين يدي ثم أقبلت على قراءتها لهيف القلب زائغ البصر فقرأت:
(. . . هذه القهوة الضّحيانة التي رقدت على صدر دجلة النابض، واستغرقت في الدفء والضوء والسكون، كانت أحب القهوات إلى القلب العميد والخيال الشاعر. وكنت كثيراً ما أغشاها بُعيد الغداء فأجد جماعة أو جماعتين يلعبون الورق هنا، وفتى أو فتيين يتساقطان الحديث هناك، وبائع (الأبيض والبيض والعَنْبا) يسرق خطاه بين هؤلاء وأولئك فيذكر بندائه الخافت البطون التي شغلها عن طلب الطعام سكرة القمار أو نشوة المنادمة، فأجعل ظهري إلى أحلاس القهوة، ووجهي إلى وجه دجلة، وعيني إلى جسر مود، ثم أشاهد فلماً عجيب الألوان من الناس والأجناس والصور: فهذا قطيع من الغنم يعبر إلى جسر المجزرة في حمى راعيه، وهو مستسلم لصوته ومنقاد لعصاه استسلام الأمة للطاغية يقودها إلى الحرب، وانقياد الخليقة للقدر يسوقها إلى الموت! وهذا الملك فيصل يعود من قصر العرش إلى قصر الزهور من غير حرس ولا جلبة، فيقف في غمرة الناس على فم الجسر ينتظر أن يعبر القطيع وراعيه! وهنالك تلاقى راع وراع، وتقابل قطيع وقطيع! ولكل إنسان في دنياه مملكة ينفذ فيها حكمه، ودائرة ينعقد عليها افقه. . .) ثم حاولت أن أقرأ بقية الورقة الذابلة الحائلة فلم استطع!
احمد حسن الزيات(341/3)
فكاهات الحرب
للأستاذ عباس محمود العقاد
الجد ضد الهزل والعبث، ولكنه ليس بضد للفكاهة وملكة السخرية، بل لعله يثيرهما في النفس ويدعو إليهما
فأنت تستغرب استغراب الإنكار والازدراء إذا رأيت رجلاً يهزل ويعبث وهو يواجه الشدة ويقف في الموقف الذي يتطلب العمل والجهد والهمة، ولكنك لا تستغرب هذا الاستغراب إذا رأيته يواجه الشدائد وهو يستخف بها ويتخذ منها موضعاً للفكاهة والسخرية، بل تحمد منه هذه الفكاهة وتعدها ضرباً من القوة والشجاعة، لأن العبث بالجد يفسده ويضعف النفس عن احتماله؛ أما الفكاهة مع الجد فهي معوان عليه
ولا شك في أن سليقة الفكاهة مصرف للنفس الإنسانية وعصمة لها وحافز على النهوض بما يثقل عليها من أوقارها
ولهذا تروج النكات و (القفشات) في إبان الحروب والمصاعب. وتعد (النكتة) امتحاناً لطبائع الأمم وعقولها في هذه الأحوال، فلا تجفل من الخطب أمة تستطيع أن تواجهه وهي باسمة، ولا تبتسم الأمة للخطب إلا وعندها قدرة على النهوض به والتصرف فيه
وسننقل في هذا المقال بعض الفكاهات التي أسفرت عنها الحرب الحاضرة، ثم نعقب عليها بعض التعقيب الذي يخلق بطائفة من المصريين أن يلتفتوا إليه
تحدث الألمان والروس كثيراً بالحرب الخاطفة أو بضربة البرق العاجلة كما يسمونها بها اكتساب النصر في معركة حاسمة سريعة
فزعم الراوية أن إنجليزياً يسال صاحبه ما هي الضربة الخاطفة؟
فيجيبه الصاحب: إنها هي الضربة التي لا تقع مرتين في مكان واحد
فيصمت السائل قليلاً ثم يقول مصححاً!!. . . يخيل إلى يا صاح أنها شيء أسرع من ذلك: يخيل إلي أنها هي الضربة التي لا تقع مرة واحدة في مكان واحد!
والمعروف عن مولوتوف الوزير الروسي أنه تمتمام يتلعثم في كلامه. فذكره أحد السامعين له في المذياع لصديقه وهو يقول: أليس بعجيب أن يتكلم هذا التمتمام أمس ربع ساعة ولا يتلعثم مرة واحدة؟(341/4)
قال الصديق: كلا! لأنه كان يكذب!
ويعرف بعض القراء تمثال الحقيقة وهو على صورة فتاة رزان تحمل مصباحاً وتستقبل السماء بوجه وقور
فنشرت إحدى الصحف هذا التمثال منكساً وقد أخذ بقدميه على الجانبين كل من مولوتوف وجوبلز وهما يقولان:
هذه هي الحقيقة. . . أليست هي بعينها؟
واشتهر جورنج بحب الألقاب حتى ما كاد يرى إلا وعلى صدره صفوف منها يغيرها بين ساعة وساعة
فزعم الراوية أنه قد بات يخشى أن يأتي بعد اليوم بعمل مجيد يستحق من أجله نوطاً من أنواط الفخار
لأنه إذا استحق هذا النوط لم يجد لتعليقه إلا موضعاً واحداً من كسوته
وعندئذ لا يستطيع الجلوس على كرسيه
وقيل إنه مات فأصبح مستريحاً في قبره، لأنه يحب أن يشعر بشيء على صدره!
وقيل إنه ذهب في زيارة إلى مستشفى المجانين فبدا له أن واحداً منهم لم يكترث له ولم يتحرك لوجوده، فأقترب منه وسأله: ألا تعرفني؟
فأجاب المجنون: كلا!
قال: أنا هرمان جورنج
فظل المجنون على قلة اكتراثه كما كان قبل أن يتحدث إليه (الماريشال العظيم) وكأنما على وجهه علامة استفهام إلى جانب علامة الاستفهام الأولى
فعاد الماريشال العظيم يقول: هلم، هلم، هلم يا صاح! كيف لا تعرف هرمان جورنج رئيس الوزارة البروسية؟
فلم تنقص علامتا الاستفهام على وجه المجنون بل زادتا واحدة جديدة
ومضى الماريشال العظيم يقول: جورنج وزير الطيران!
والمجنون صامت ينظر
ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا رئيس مجلس الريشستاج!(341/5)
والمجنون في صمته وقلقه وقلة اكتراثه
ثم يقول الماريشال العظيم: جورنج يا هذا. . . جورنج!. . . ألا تعرف جورنج الصياد الأشهر؟
عندئذ يتجاوز الأمر حد الاحتمال في رأي المجنون، فينصرف مشفقاً وهو يردد بين شفتيه:
مسكين!. . هكذا يبدأ الحال معنا جميعاً في هذا المكان. . .
ويعلم القراء أن ريبنتورب كان يتجر بالشمبانيا والخمور قبل ولايته الوزارة
فكتب أحد الناظمين تحت صورته: هذا هو ريبنتروب، هذا هو صانع المعاهدات الآن صانع الشمبانيا من قبل. ولكن لا يعلم أحد أيهما ينطلق فقاقيع في قوارير، وأيهما يسيح بغير صوت!
وصاح المذيع النازي في إحدى الليالي بعد الإشارة إلى ما يقال عن نقض هتلر لمواثيقه:
زعيمنا يا قوم لم يتعود قط أن يكسر كلمة من كلماته
فنشرت صحيفة إنجليزية هذه الإذاعة في اليوم التالي وأضافت إليها هذا الكلمات: (نعم. . . لأن الكسر من خواص المادة نفسها)
وقال هتلر لجورنج عن عرض الصلح:
حسن. . . إذن سأعرض بطاقاتي على المائدة
فأطرق جورنج قائلاً: ليتها بطاقات طعام!
وشاع بين الألمان أن هتلر لا يرى الحقيقة على جليتها فيما يجري من شؤون الحرب والسياسة. فقال القائلون: نعم. يجب أن يتنحى جورنج قليلاً!. . .
وكتبت صحيفة فرنسية بعد غارات الشيوعيين أو الجنود الحمر على شواطئ البحر البلطي، تسأل الجغرافيين: أيصبح البحر الأحمر؟!
وللقريب نصيب وافر من فكاهات الصحفيين الذين لا يشفع لديهم فيه أنه يجيز هذه الفكاهات
ونجتزئ منها بالأبيات التي كتبها ناظم هجاء على (ضريح الرقيب المجهول) قال:
(هنا يرقد في النهاية رقيب ثار عليه الصحفيون المحنقون فنام محشواً برصاص مثل الرصاص الذي لا ينفذ. . . ولعله - والله اعلم - قد تنبه بعد الرقاد فمر على اسمه بذلك(341/6)
القلم المعهود)
تلك نماذج متفرقة من (القفشات) الحربية التي تروج هذه الأيام في البيئات الإنجليزية والفرنسية، وهي كما يرى القارئ على نسق يوشك أن ينتظم في سلك القفشات التي ألفناها من جماعة (أبناء البلد) في هذا الديار، لولا ما يلاحظ على أغلبها من قلة اللعب بالألفاظ وكثرة الاتجاه إلى اللباب
والطائفة التي نود أن نستخرج من هذه القفشات مغزاها الذي هي في حاجة إليه هي طائفة (أبناء البلد) نفسها
لأن الذهن الذي تعودنا أن نسميه بالذهن (البلدي) مصاب بآفة تحجب عنه الكثير من حقائق الدنيا، وهي آفة النظر إلى الأشياء على وجه واحد وصورة واحدة. فإذا ألف أن يقرئ الناس السلام بأسلوب متواتر وألفاظ محفوظة فمن الإخلال بالذوق عنده أن تبدل لفظاً من تلك التحية أو تجريها مرة واحدة على خلاف ذلك الأسلوب
وإذا ألف أن يسمع (القفش) والضحك في مجلس من المجالس وعلى هيئة من الهيئات فليس في وسعه أن يتخيل (تنكيتاً) يدور في غير ذلك المجلس وعلى غير تلك الهيئة وبين أناس غير أولئك الناس
ولعل أكثرهم يفغر فاه من الدهش إذا قيل له أن الأوربيين (يدخلون قافية) كما يفغره دهشاً لو رأى خارقة من خوارق الطبيعة وانقلاباً في أوضاع الحياة، وسمع الخرس ينطقون والعجم يعربون
وإنها لآفة (ذهنية) لا ضير منها على الأمم التي يجهلونها ولا يفهمونها، ولكن الضير الأكبر منها على من يحرمون نعمة النظر الصحيح إلى حقائق الوجود
عباس محمود العقاد(341/7)
تلك أيام خلت
للدكتور زكي مبارك
في الكلمة الماضية دونت بعض ما ربحت وبعض ما خسرت؛ وسأقصر كلمة اليوم على التنويه بأمور ينفعني النظر فيها من وقت إلى وقت، فأن صح أني قليل الاعتبار بحوادث الأيام، فقد يكون في القراء من ينتفع بالعبرة التي يسوقها هذا الحديث. وآفة الأدب في بلادنا أن الأدباء لا يتحدثون عن عيوبهم إلا قليلاً، وهذا التحرز من سرد العيوب قد يوهم فريقاً من القراء بأن الأدباء تعصمهم مواهبهم من الوقوع في الأغلاط والهفوات. ولو أنهم عرفوا أن الأديب يخطئ ويصيب كسائر الناس، لأدركوا أن التفوق في الأدب ميسور لكل من يتوجه إليه، وهو مزودٌ بقوة العزيمة، ورجاحة العقل، وصدق الوجدان.
فما الذي فاتني من الفوز والنصر في السنة الماضية حتى أرجع على نفسي باللوم والتثريب؟
أعتقد أني ضيعت على قلمي فرصاً لن تعود: كنت في العام الماضي مرهف الإحساس، ولكن قلمي لم يستفد من ذلك.
والكاتب المخلص لفنه لا يترك عواطفه تتبخر وتضيع، وإنما يسارع إلى الاستفادة من فورتها، فيكتب وهو مشبوب القلب ليستطيع السيطرة على القلوب. . .
وما أقول: إني انصرفت عن مصاولة الأزمات الوجدانية، فقراء (الرسالة) يذكرون أني كنت أواجههم بهذه الشؤون من حين إلى حين، ولكني أعترف بأني ظلمت نفسي أقبح الظلم حين تغافلت عن تسجيل ما كان يثور في صدري من العواطف في بعض الأحايين.
حدثني الأستاذ الزيات قال: إن بعض القراء لا يستريحون إلى بعض ما تكتب في الشؤون الوجدانية، وإن من الخير لمن كان في مثل مركزك أن يقف عند حدود الأدب الرزين!
و (بعض القراء) هم المشايخ الذين يسمرون في نادي (الرسالة)، ليجادلوا الزيات فيما يباح وما لا يباح من المذاهب والآراء، وفيهم من لا يرضى عن كاتب مثلي إلا إن شغل نفسه بشرح (دلائل الخيرات)!
والحق أني راعيت رأي هذا الصديق بعض المراعاة، والزيات صديقٌ أمين، والانتفاع برأيه من أوجب الفروض، ولكن كيف كانت العواقب؟(341/8)
أضعت على نفسي وعلى (الرسالة) فرصاً لن تعود. . . وهل أملك ردّ العواطف التي ثارت ثم خمدت في تباريح السنة الماضية؟
(تلك أيامٌ خلت) ولن يردها أسفٌ ولا بكاء!
إذا صح أني مفطور على إحساس الفرح والحزن في الحياة، وإذا صح أني أقوى ما أكون حين أفرح أو حين أحزن، فكيف يضيق صدر وطني وزمني عن سماع سجعاتي وزفراتي؟ وبأي حق يحرم عليَّ ما يباح للشعراء في جميع البلاد؟
وهل تصدقون أن الناس يكرهون حقيقةً أن تحدثهم عن أزمات الأفئدة والقلوب؟
وهل صدق الأستاذ فكري أباظه حين حدّث الناس عن طريق المذياع باندهاشه من أن يسمع أغاني الهجر والوصل والدنيا في حرب؟
وهل تظنون أن هذا الخطيب يقضي أيام الحرب في التخشُّع والقنوت أمام المحراب؟
الدنيا في حرب، وسيعقب الحرب سلامٌ بعد عام أو عامين، ولكنكم تنسون أن الشاعر يعاني حرباً لا يصد شرها عنه غير الموت، إن صح الموت يريح أرواح الشعراء من البلاء بالتفكير في أسرار الوجود
وما الذي يوجب الخضوع للأفكار العاتية التي تتوهم أن الحرب تقدر على زلزلة السريرة الإنسانية؟
الحرب تستطيع أن تصنع بالسريرة الإنسانية ما تصنع العواصف بأمواج المحيط، فهي تقلقل المنافع من وقت إلى وقت، ولكنها تعجز عن اقتلاع ما في السرائر من جذور الحب والبغض والهدى والضلال
والشاعر ينظر إلى من حوله من الناس نظرات مختلفات: فيرى بكاءهم مرةً كبكاء أطفال، ويراه مرةً زئير اسود. فالطفل لا يذكر من الحرب غير تنقل (التسعيرة) من وضع إلى وضع، ويكون مثله مثل الطباخ الذي انزعج لارتفاع أسعار القطن لأنه رأى ذلك نذيراً بارتفاع أسعار الزيت!
أما الرجل - والشاعر الحق هو الرجل الحق - فيرى أن الحرب لا تكون سيئة العواقب إلا أن استطاعت بفواجعها أن تقتلع من السريرة الإنسانية جذور الإحساس بمعاني الحياة.
وهل في الحياة معانٍ أشرف وأفضل من الحرص والشره والطمع في أنتهاب أطايب(341/9)
الوجود؟
شغلت نفسي مرةً بتأريخ ملاهي الحي اللاتيني في باريس، فجمعت أكثر من خمسين كتاباً تحدث مؤلفوها عن ملاهي ذلك الحي، ثم راعني أن ألاحظ أن تلك المؤلفات كتبت قبل الحرب العالمية، فعرفت أن الباريسيين بعد تلك الحرب فقدوا شعورهم بتذوق الحياة فلم يعودوا يهتمون بتسجيل ما يصادفهم من النعيم في ذلك الحي البهيج
فإن استطاعت الحرب الحاضرة أن تشغلنا عن أحاديث الهجر والوصل فسيكون معنى ذلك أننا صرنا أطفالاً ضعافاً لا يهمهم من الدنيا غير اعتدال أسعار (اللِّعب والصواريخ)!
أقول هذا وفي مكتبي مقال لم يسمح بنشره الأستاذ الزيات، لأنه خشي أن يفتح لخصومي باب الأقاويل والأراجيف، وهو مقال سجلت فيه إحساسي بفراغ شارع فؤاد من أقدام الملاح يوم تجربة الغارة الجوية. فهل من الحق أن الحرب رجت مصر رجةً تذهب بما يملك شعراؤها من عواطف وأحاسيس؟
وهل من الحق أن أهل مصر لم يعودوا يأنسون بغير حديث البقول؟
أعترف بأني توجعت مرة على صفحات الرسالة من غلاء الورق، وذلك توجُّع مشرِّف، لأن الأمة التي تشكو غلاء الورق هي الأمة التي تُعزّ الأفكار والعقول، وكل شيء في دنيانا من الكماليات إلا الورق فهو عندنا من الضروريات، والمصري المثقف قد يكتفي بالقليل من القوت، ولكنه لا يستغني أبداً عن زاده من الحبر والورق
ونحن قومٌ آذتنا الظروف الدولية أقبح الإيذاء، فليس لنا من السيطرة الاقتصادية أو الحربية ما للأمم الديمقراطية أو الدكتاتورية، ولكن لنا مع ذلك سيطرة عقلية نصول بها في أقطار الشرق.
ولو شئت لقلت أننا نملك من هداية الشرق ما لا يملك الإنجليز والفرنسيس والألمان، ولهذه الدولة الروحية سلطانٌ يحسدنا عليه من يملكون في تصريف السلم والحرب ما لا نملك، فليس من العجيب أن نشكو غلاء الورق في زمن لا يشكو فيه المسيطرون غير غلاء القوت
والشرق ينتظر أن نحدثه عن نفسه بما لا يعرف
فكيف يغيب عنا أن من الواجب أن نكون أفصح من يذيع في الشرق أحاديث السريرة(341/10)
الإنسانية؟
استيقظوا، أيها الغافلون، واعلموا أنكم لن تكونوا شيئاً مذكوراً إلا إذا استطعتم أن تشغلوا الشرق عما في الغرب من ألحان وأغاريد
هل فكر واحد منكم فيما عرف الشرقيون من الآداب الفرنسية والإنجليزية؟ وهل خطر في بالكم أن الأقطار الهندية والأفغانية والإيرانية أقواماً يقرؤون عن العقول الفرنسية والإنجليزية أضعاف ما يقرؤون عن العقول المصرية؟ وهذا يقع مع أن مصر في هذا العهد تستطيع أن تكون قيثارة ترجِّع ألحان السماء لو تركت التزمت الممقوت الذي يفرض التغاضي عن أحاديث القلب والوجدان
سألني أحد الأصدقاء منذ أيام عن الظروف التي ألفيت فيها كتاب التصوف الإسلامي وهو يتوهم أنني لم أذق قطرة من رحيق التصوف، فقلت: ذلك كتابٌ زكّيتُ به عن قلبي. فقال: وهل على القلب زكاة؟
فقلت: آفة الآفات أن تظن أن الزكاة لا تجب على القلوب
والأحاديث الوجدانية التي أهتف بها من حين إلى حين هي نفحة من نفحات التصوف، فكيف يراها بعض القراء من مظاهر الفتون؟ وكيف يرى صديقي الزيات أن نشرها يقوى حجة خصومي واعدائي؟
بل كيف استبحت ظلم نفسي فلم اهجر مجلة الرسالة لأتحدث عن فؤادي بما أشاء؟
تلك أيامٌ خلت! فمتى أرجع إلى مناجاة أو ما هي وأحلامي؟
إن الحديث عن الظواهر لا يحتاج إلى عبقرية، أما الحديث عن ضمائر النفوس وسرائر القلوب فلا ينهض به غير أفذاذ الشعراء. فمتى أجد آذاناً تطرب لأسجاع الروح المفتون بتهاويل الوجود؟ ومتى أجد قلباً يسمع وسواس قلبي؟ ومتى أجد روحاً يأنس بغناء روحي؟
هل سمعتم بما صنعت وما تصنع مشيخة الأزهر؟
هي تستعدي الحكومة المصرية على كل من يطبع كتاباً دينَّياً تقع فيه غلطة نحوية أو صرفية أو إملائية!
فهل علمتم في يقظة أو في حلم أن مشيخة الأزهر شغلت نفسها بطبع طائفة من الكتب الدينية؟(341/11)
كذلك يصنع معي خصومي واعدائي، فلا هم يؤدّون زكاة القلوب، ولا هم يسكتون عمن يؤدي زكاة القلوب
زرت السيد آل كاشف الغطاء في النجف على غير معرفة فقال: من أي بلد قدمت أيها السيد؟ فقلت: قدمت من وطن أبن الفارض. فقال: وطن الذي يقول:
كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا
فقلت: بل وطن الذي يقول:
أنت ورد فَهَب محبَّك شوكاً ... أترى الوردَ عاش من غير شوكِ
فإن كنتُ من الشوك فلا بأس، فالورود لا تعيش إلا في حماية الأشواك، والروح اللطيف لا يعيش إلا في قفص من الجسم الكثيف
وسمعت في الأيام الأخيرة أن إحدى المجلات تنوشني منذ أسابيع فرفضت الاطلاع على تلك المجلة لأني أخشى أن تروضني على الشراسة والحقد، وأنا أحب مسالمة الناس لأفرغ لمحاربة قلبي، القلب الجامح الذي يقهرني على الوفاء لأقوام لا يعرفون معنى الوفاء
ثم ماذا؟ سأتحدث في الأسبوع المقبل عن لواعج وشجون يضيق عنها حديث اليوم
زكي مبارك(341/12)
ذريني. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
(. . . ورأيت النار فلم أر منظر كاليوم قط أفظع، ورأيت
أكثر أهلها من النساء). قيل: بم يا رسول الله؟ قال: (بكفرهن).
قيل: أيكفرن بالله؟ قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو
أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأيت منك شيئاً؛ قالت: ما
رأيت منك خيراً قط)
حديث شريف
ذريني أطِر بين فلجأت الأرض ومضّلات السماء، أستشف بهاء الحياة وجمالها!
ذريني أحطم الأغلال الثقال التي أرسف فيها، لأفر من هذا السجن الأسود، أتنسم روح الحياة والحرية!
ذريني أنحلل من هذا العبء الفادح، فلقد آدنى، فما عدت أطيقه!. . .
ذريني أر الدنيا، فلقد وجدت فقدها بين طيّات نفسي الوثّابة!
يا عجباً! لقد جفّ قلبي وذوت سعادتي!
فهذا هو القمر يتألق في السماء، والأرض نائمة في سكون، وأنا أرمقه من خلال همومي، فلا أحس فيه الجمال ولا المتعة. . .
وتنفّس الفجر، فما لمست في نسماته النديّة بَرْدَ الراحة ولا نشوة اللذة. . .
وافترّ ثغر المشرق عن ابسامة الشمس، وأنا - وحدي - جاثم على نشز لا أستبشر لبسماتها. . .
وإن الروض ليضحك، فما أرى في ضحكاته سوى فنون من الكآبة والحزن. . .
وإن الغدير ليعزف على قيثارة لحن الخلود الشجي، فما تتطرب له نفسي. . .
يا عجباً! أفكل هذا لأنك - أيتها المرأة - إلى جانبي تنفثين فيّ روح الشر؟
أيتها المرأة، لطالما فوّقت إلى قلبي سهامك المراشة، فاضطرم بالهوى وتلهب بالشوق.(341/13)
والآن ها هو ذا قد شاط بينها فما عاد قلباً، ولكن مضغة لا تتحرك.
ولطالما سهرتُ أُناجيك - وأنتِ في منأى عني - والآن هدّني الإعياء؛ فذريني أقذف بأعبائي جانباً، لأتوسّد ذراعي على الحصا، في ظلال شجرة وارفة، إلى جانب غدير، تسكرني نسمات الربيع الهينة، فتستمتع نفسي بحنان الطبيعة وهدوء الكرى
ولطالما أوحى أليّ شيطاني أنك أنت فوق البشرية، أنك بسمة الخالق على الأرض الحزينة، فماذا. . . ماذا رأيتُ الآن؟
ولطالما استلهمتُ منك جمال الفن، ورسمتك بريشة الخيال في أضعاف قلبي، ثم لمستكِ، فماذا. . . ماذا وجدتُ؟
أفحقاً أنكِ أنتِ مادة الشاعر حين يتغنى بكلمات تتدفق النشوة واللذة من خلالها؟
أفحقاً أنكِ أنت ريشة المصور التي تعبث بالألوان فإذا هي حياة؟
أفحقاً أنكِ أنتِ لحن الموسيقى السماوي حين يُداعب أوتار قيثارة فتتحدث عن خلجات القلوب؟
أفحقاً أنكِ أنتِ لمعة الحياة إن شمل الكون ظلام الموت؟
كلا. . . كلا! إنه هو خيال الرجل يُضفيه عليك - حيناً بعد حين - فيبعث فيك الكبرياء البغيضة، ويسمو بك إلى آفاقه هو، في حين أنك أنتِ. . .
كان هذا خيالي حين استهوتني شياطينك فتمنيتُ. . . ولما خبرتك فزعتُ عنك، لا أطمع في حديث، ولا أرنو إلى لقيا
ليت هذا الرجل يعلم. . . ليته يعلم أنك قد مرنتِ على الختل والخداع، ودَرِبتِ على الشغب والمكيدة، وأحببتِ نفسك فشغلتك فألهتك عن أن تكوني امرأة لرجل، ونزت بك نزوات الكبرياء فذهبتِ تفزعين من أنوثتك الوضيعة. . . ذهبت تفزعين منها لتكوني بدعاً في الرجال!
إنني أفرق من جمالك وقبحك، وأفزع من ابتساماتك وعبراتك، وأخاف رضاك وسُخطك، وأجزع من عطفك ومقتك، وارهب صحبتك وفراقك. . . فماذا. . . ماذا بقى فيك أطمئن إليه؟
هذه الدار الهادئة قد ملئت بك ضجة تحطم فيّ خواطري الجميلة(341/14)
وهذا القلب الشاب النديّ قد استشعر الوهن حين مسحت بجمالك على شغافه
وهذه الحياة الوضاءة قد أظلمت حين أشرقتِ في جنباتها
فذريني. . . ذريني - أيتها المرأة - أفتش عن شباب قلبي!
ذريني. . ذريني، يا شقّاء القلب!
ولكن، آه، أين منك الخلاص؟
إن شيطانك ما يفتأ يلاحقني، فإذا أعجزه أن يسيطر علىّ في يقظتي، تبدّى لي، بين أحلامي، في زينته الجذابة
وهذا الجمال الذي تتقزّز منه نفسي لأني أنفذ إلى حقيقته القبيحة، يتراءى لي - في منامي - في صفاء قطرة الندى على الزهرة البيضاء النضيرة، فيأسرني رويداً رويداً
وهذه النظرات التي أرى من خلالها الدَّغل والشر والرياء جميعاً، تنفذ إلى قلب أحلامي فتستخرج أضغان صدري
وهذا القد المضطرب المتكسر يهفو إلىّ فيما يرى النائم حلواً يميس في خطرات النسيم بين رؤى نومي
وهذه المرأة التي أنبذها، تسعى إليّ - دائماً - حين يأخذ بنفسي الكرى. . . تسعى لتضمني إليها، خشية أن أفلت منها ومن متاعبها في وقت معاً
ولكن. . . ولكن ذريني، يا شقاء القلب!
آه، لقد طرحتك، أيتها المرأة، فلا أحس بالعطف عليك، وفررتُ منك فلا أحن إليك، وصدفت عنك فلا أصبو إليك، وطرت عنك فلا أسقط عليك. . .
ولكن كيف؟ وقلبي ما يزال يتصدع عن ثغرة يتوثب منها الهوى والحنان، لأن روح الأبوة تتأجج في أعماق قلبي فتسلبني الهدوء والاستقرار
فأين أجد أبني؟. . . وهو جمال الحياة، وبهجة القلب، وفرحة النفس، وزهرة الدار، وشبابي اللمّاع حين يوشك أن يَنْبَتَّ حبل العمر. . .
وا حسرتا! إنني لن أجده إلا فيك. . . فيك أنت أيتها البغيضة!
ويا بني، لست في غنى عنك، فأنا أجد في نأيك فراغ الحياة، وظلام العيش، ووحشة الطريق. . .(341/15)
فتعال. . . تعال إلى - يا بثِّي - علِّي أجد فيك صورة من طفولتي الجميلة المرحة، أو أجد سعادتي المفقودة. . . حين أجد أبني!
كامل محمود حبيب(341/16)
النَّاي
(هذه الأغنية منظومة على بحرين مختلفين رغبة في تنويع
مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه: فاعلاتن
مفاعلتن (مرتين)، وليكن أسمه: المنطق. وأما البحر الثاني
فمن البحور المعرفة.)
جَنِّبوا النَّايَ عن أُذُني ... أُذُني زُلْزِلَتْ طَرَبا
مثْلَ قَلْبٍ تُحَدِّثُهُ ... سَرَّهُ السَّرْدُ فاضطرَبا
أَوْتارُ الخاطرِ تَغمِزُها ... أنّاتُ النايِ فَتَرْتجِفُ
فَيَضِجُّ الجَنبُ بِأغنيَةٍ ... حمراَء قَرارَتُها التَّلَفُ
نَغمٌ جاَء يَفْتِكُ بي ... ذاعَ في السَّمعِ مُصطَخِباً
مِثْلَ دَمْعٍ يُغالِبنُي ... دارَ في العْينِ مُلْتهِبا
عَطَفاتُ النايِ مُصَعِّدَةً ... في الليل ضُلوعاً تَنقصِفُ
صبَواتُ الرُّوحِ يُطوِّحها ... في اليومِ العابسِ مُلتهِفُ
القاهرة، مايو 1934
بشر فارس(341/17)
صفحة مجيدة من تاريخ المسرح المصري
عبد الرحمن رشدي وأثره في تاريخ المسرح المصري
للأستاذ زكي طليمات
(نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شئون
التمثيل بوزارة المعارف في حفلة التأبين التي أقيمت بدار
الأوبرا الملكية يوم 4 فبراير سنة 940 برياسة معالي وزير
المعارف أحياء لذكرى مرور أربعين يوماً على وفاة الممثل
الكبير الأستاذ عبد الرحمن رشدي المحامي.)
في هذا المكان وعلى هذا المَمْثل، منذ نيف وسبعة وعشرين عاماً خلت وقف شاب غض الإهاب، فياض القوة، في عينيه بريق، وفي صوته فورة العزيمة وعناد التصميم، تلطف نبراتها حلاوة الحلم الممتع. وقف هذا الشاب في ثياب الممثل يؤثر ويبهر، فحط تاريخ التمثيل العربي الناشئ صفحة المجد الأولى، وأشرق على المسرح المصري فجر وردي جديد
وقف هذا الشاب يمثل، وارتفع الصوت الجهير في رنين أجراس الذهب، فجاوبته صيحات مدوّية منكرة، هي أشبه شئ بصوت انهيار الأنقاض وتصدع الجدران. ذلك لأن العرف المصري الجاري في ذلك الوقت أصيب في أعشاره، وتصدعت منه دعامة قوية شامخة
هذا الشاب هو (عبد الرحمن رشدي) الذي ترك حلبة المحكمة إلى خشبه المسرح، ونضا عنه حُلّة المحامي ليلبس حُلّة الممثل، وهجر عالم القضاء ودنيا الوظائف الحكومية إلى عالم التمثيل ومستراد المرئيات ومجال والوهم المجسم، وزهد فيما كان ينتظره من شارات الشرف في عالم القضاء من أجل تيجان من الورق، وأسمه من الصفيح، وسيوف من المعدن الزائف. . .
أتى كل هذا طائعاً مختاراً وهو في تمام عقله وكامل صحوه، وافتدى صحو العيش بكدره. . . وحياة المسرح في مصر أكدار ومآسٍ. أتى ذلك لأن هاتفا خفياً أهاب به في الساعة التي(341/18)
ترسم الأقدار فيها رجالها وتختارهم للقيام بأعظم الأحداث وجلائل الأمور
أجل أيها السادة، كان احتراف عبد الرحمن رشدي التمثيل في ذلك العهد حَدَثاً من الأحداث الاجتماعية في مصر
ولماذا. . .؟
كان المسرح المصري يرقى الدرج الأول من مرحلة جديدة. كان يحاول متطوحاً فيها أن يستخلص لذاتيته طابعاً جدياً يمت إلى الفن الخالص من حيث فن التمثيل وإخراج الرواية، بعد أن مهد له (سلامة حجازي) و (عزيز عيد) سبيل ذلك بقدر ما وسعه علمهما وسمح به زمانهما. وكان العاملون في المسرح رجالاً ونساء، أخلاطاً سقيمة ممن خفت حمولتهم في التعليم والتهذيب والتثقيف، ولا أقول من حسن الاستعداد وخصب الموهبة. وكانت كثرتهم الغالبة، ما عدا النذر اليسير الذي لا يؤبه له، ممن تقطعت بهم أسباب العيش عن طريق احتراف المهن المألوفة. وكان الجمهور من أجل ذلك يرمق المسرح المصري والمشتغلين فيه بعين ملؤها الازدراء والحذر، إذ يرى فيهم قطيعاً من شذاذ المجتمع، ونفايات الأوساط، وقناصي الكسب السهل عن طريق حلق الشارب، وتخطيط الوجه، ورفع الصوت بالصياح والضجيج
في ذلك العهد جاء الأستاذ جورج أبيض من أوربا، وشاءت إرادة سيد البلاد إذ ذاك أن يكون للأستاذ أبيض يد في ترقية المسرح، فكان أن ألف فرقته العربية الأولى من أقرب ما بين تلك العناصر التي أجملت وصفها إلى شخصية الممثل الحق علماً وأدباً
وهنا جرت الأعجوبة إذ تقدم إلى الصف (عبد الرحمن رشدي) محطماً العرف الاجتماعي السائد، في الأسرة وفي الحرفة التي ينتمي إليهما، مضحياً بمركزه الاجتماعي وبكرامة الرجل الكامل. أقول هذا أيها السادة وأكرر وأؤكده لأنه كان يوجد من الممثلين قبيل ذلك العهد من يحترف كي الطرابيش وبيع الأشربة والمثلجات بالنهار ليحترف التمثيل بعد ذلك في الليل
ولا لوم ولا تثريب على فن التمثيل في ذلك، فقد أتى التمثيل مصر دخيلاً، وفرض نفسه على المجتمع المصري الذاهل كلون جديد من ألوان التسلية. والجديد الوافد من الحرف لا يلقي صدراً رحباً في أول الأمر إلا ممن يعيشون على هامش بيئاتهم الاجتماعية ولا يعمل(341/19)
فيه غير من نبت بهم طرائق الكسب المألوفة، أو من لم يحظوا منها بما يقوم بحاجاتهم
مضى الأمر واحترف عبد الرحمن التمثيل فكانت بداية ملحمة جديدة قوامها نزول شاب مثقف عامل مستكمل لمقومات شخصيته الاجتماعية الرفيعة إلى عالم ضليل لا يصول فيه غير المكابر، ولا تطولفه غر قامة المشاغب والمداجي والعريض الصوت والمنكبين، عالم تحيط به الريب والشكوك، ويغلفه الكثير من سوء الظن، نزل إليه عبد الرحمن بأقدام ثابتة، يَعمُرُ قلبه عقيدة راسخة بأن المسرح كالمسجد يؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر
نزل وملء حواسه إيمان صادق بأن المسرح المصري الناشئ لن يرقى ولن يؤدي رسالته في التثقيف والتهذيب، ما لم يتوله جماعة على قسط وافر من الثقافة والتهذيب، وما لم يشرف عليه من يعيش له لا من يعيش منه، وما لم يكفله الكفيل الصالح
كان عبد الرحمن محامياً في نظارة الأوقاف، وكان يتقاضى مرتباً شهرياً ثابتاً قدره أربعة عشر جنيهاً، فرضى أن يعمل ممثلاً بمرتب قدره أثنا عشر جنيهاً في هيئة غير ثابتة في فرقة تسير - كما سبقتها الفرق التي تقدمتها - مضطربة حائرة، كسفينة هزيلة البناء في بحر عجاج، وفي هذا ما ينهض دليلاً على أنه لم يحترف التمثيل ليزداد مرتبه، أو ليجمع مالاً عجز عن جمعه في حرفة المحاماة
ومثل عبد الرحمن أدواراً سجلت مواهب الممثل في نسقها العالي؛ ودوّي مجده دوياً أخذ على هواة التمثيل مشاعرهم، فتحركت نفوسهم، وتطلعوا وتتطلع غيرهم ممن أخذوا يعرفون محاسن التمثيل على يد المحامي الممثل، وقامت فرقة جماعة أنصار التمثيل تعمل للفن برياسة المرحوم محمد عبد الرحيم الذي كان يشغل وظيفة أستاذ بالمدارس الثانوية
ولكن عبد الرحمن اضطر بعد شهور - ويا للعجب - أن يترك فرقة أبيض مرفوع الرأس، لأن النزعة المادية كانت تغلب كثيراً نزعة الفن الخاص لدى بعض مديري الفرقة المصرية، فتأذت نفسه من ذلك وفترت آماله. . .
وعاد إلى المحاماة الحرة في مكتب أنشأه بمدينة الفيوم لقي فيه نجاحاً كبيراً. وهكذا عاد النازح إلى بيته واستقر فيه، وحسب الناس أن مغامرة عبد الرحمن في احتراف التمثيل إنما كانت بدوة من بدواة النفس الفتية
يا للهاتف الغامض الذي ينادي النفس فتلبي النداء، ويُغلّبُ القلبَ على الحجا والرواية؟؟(341/20)
لم يمض زمن طويل حتى رأينا عبد الرحمن يعاود مغامرته الأولى بنفس الحماسة الأولى ويضحي بالربح والواسع الذي كان يدره عليه مكتبه بالفيوم. أتى كل هذا ناسياً ما جرته عليه مغامرته الأولى، ضارباً عرض الحائط بنصائح أصفيائه ممن راعهم أن المسرح المصري ما برح غير جدير بالتضحية من جانب صفوة المتعلمين
ولكن الهاتف المجهول كان يسد مسامعه، والقدر يدفعه إلى أن يستقيم على محتوم قضائه
عاد عبد الرحمن إلى العمل في فرقة الأستاذ أبيض بعد أن أنضم إلى فرقتها وجيه من وجهاء مصر، وسليل بيت كبير من بيوتاتها، وهو عمر سري بك نجل المرحوم حسين سرى باشا؛ وكاد وجيه آخر من طرازه، وهو المرحوم محمد تيمور بك، نجل المرحوم أحمد تيمور باشا، وتشريفي حضرة صاحب العظمة حسين كامل سلطان مصر، كاد أن يأتي نفس المغامرة؛ وكدت بدوري، على الفارق البين، أن أركب نفس الطريق وأترك دراستي الثانوية في مرحلتها الأخيرة. . .
ومهما انتحلت للمرحوم تيمور ولنفسي من الأعذار التي حالت دون احتراف التمثيل في ذلك العهد، فلا أجد بدَّاً من المصارحة في هذا الموقف الذي أعطى فيه (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر) بأنني وتيمور كنا أوهن من عبد الرحمن عزماً وألين عوداً
وبدأ الدور الثاني من جهاد عبد الرحمن وبدأت معه الجمعيات التمثيلية مرحلة جديدة اتسمت بالجهاد الصادق وبوفرة عدد العالمين في الجمعيات، وجعلهم من صفوة المتعلمين طلبة كانوا أو موظفين
ونضجت لعبد الرحمن طريقة في التمثيل حاكاه فيها ضعاف الشخصية من الهواة والممثلين، وتنبهت الأقلام المصرية إلى واجبها فقام الأستاذان إبراهيم رمزي ولطفي جمعة يدعوان إلى استقلال المسرح المصري برواياته
أيها السادة:
يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. . . وما أصدق هذا حتى في أتفه الأمور!
لم يمض وقت طويل على عبد الرحمن في هذه الفرقة حتى اضطر إلى تركها لأسباب لا يسمح المقام بذكرها، ولكنها أسباب تشرف عبد الرحمن، الرجل والممثل، الذي لم يعمل في التمثيل ليجمع المال من ورائه، وليستثمره كما يستثمر التاجر الملهوف على الكسب متجراً(341/21)
انتهى إليه في آخر الزمان!
ورجع عمر سري بك إلى قصره العاجي ينفض عن أقدامه غبار طريق شائكة بعد أن ضاق ذرعاً بالفرقة وبنفسه، وبقى عبد الرحمن واقفاً مثبتاً في حلبة الجهاد رجله، وليس لديه ما يدفع عنه غائلة الأيام، بل وآلام الحاجة والضيق إلا قلب كبير يعمره الإيمان بالله، وبالمبدأ، وبالفكرة العاملة
أيتها الحاجة، أنك قاسية!
أيها الجوع أنك كافر، إنك كافر!
ولكن يشاء الله أن يسكب في نفوس أصفيائه من البشر ما يجعلهم يزدرون بالمحن، فتراهم يدفعون الحاجة بالصبر، ويستعينون على الجوع بالكفاف من العيش.
وقف عبد الرحمن هذا الموقف الرائع، فتجلى عناد التصميم وثبات العقيدة وجلال الرجولة في اكمل معانيها.
كان في وسعه أن يعود إلى المحاماة، أو أن يلتحق بوظيفة حكومية تقيه شر ما يلقي. كان سبيل الخلاص ممهداً أمامه، ولكن عبد الرحمن أبى أن يفعل شيئاً من هذا، لأن رسالته في المسرح المصري لم تكن قد تمت فصولها، وصاحب الرسالة مجاهد وشهيد، والشهداء يأبون إلا أن يكونوا شهداء وقد يكون خلاصهم بين أيديهم.
وسرعان ما انتهى دور الاستجمام والتفكير إلى دور الوثوب والعمل. فألف عبد الرحمن فرقة تمثيلية باسمه، على نظام الحصص وهو نظام جديد، يقضي بتوزيع قدر من الدخل الوارد من أيراد الحفلات تبعاً لما خصَّ به كل ممثل أو ممثلة.
فلا مرتبات ثابتة، ولا أجور مقيدة.
كان تأليف هذه الفرقة حدثاً جديداً في المسرح المصري، لأنها لم تتألف من أنقاض الفرق العاملة، وإنما تألفت في جملتها ولا سيما في عنصر الرجال فيها من شباب جدد مثقفين، ينتمون إلى بيئات اجتماعية لم تسخ بأبنائها على التمثيل، جمعت الفرقة الجديدة الموظف الذي هجر وظيفته، والطالب الذي قطع دراسته العالية أو الثانوية، اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، بعد أن أنضجتهم الهواية الصادقة بالعمل في الجمعيات التمثيلية، اجتمعوا بعد أن ترسموا طريق الفداء الذي شقه الزعيم المجاهد عبد الرحمن فضحى كل منهم بما كانت(341/22)
تعده لهم وظائفهم أو دراساتهم من مستقبل زاهر، أقل مزاياه أنه مستقبل لا يسلم أصحابه إلى العيش من وراء مهنة مضطربة حائرة، غرمها مضمون، وغنمها مشكوك فيه، تكابد إغفال الناس، بل واذدراءهم.
على هذا النحو، ألفت أول فرقة مصرية من عناصر نابهة، فما لبثت أن أثبتت حسن اضطلاعها بمهمتها، واستطاعت أن تشق طريقها، وتركز أعلامها في القطر، من الثغور إلى أقصى الصعيد، ورددت أرجاء هذه الدار نبرات حارة لأصوات فنية، وصارت الفرقة بهيئتها ورئيسها رمزاً للتضحية في سبيل المبدأ، ومظهراً من مظاهر النهضة المصرية، ووجهاً من وجوه اليقظة القومية
في هذا الفرقة عمل الأساتذة سليمان نجيب مدير هذه الدار، ومحمد عبد القدوس، ومحمد فاضل، ومحمد وفيق، والمتكلم أمامكم، عملوا ممثلين محترفين!
أيها السادة
حاذروا زوالاً إذا قيل تم الأمر وبلغ مداه. وحقق مقاصده!
بعد جهاد مستمر، دام ثلاث سنوات وشهوراً، اضطر عبد الرحمن أمام الأزمة الاقتصادية التي شملت العالم بأسره، بعد انتهاء الحرب الماضية، أن يفض الفرقة، وأن يترك الميدان مفتدياً ذلة الخاضع بعزة المغلوب، لأن الكساد الذي شمل سائر مرافق الحياة الاجتماعية بفعل تلك الأزمة، كاد يفرض عليه فرضاً أن ينزل إلى مستوى السواد الأعظم من الجمهور، وأن يتملق رغباته، وكانت رغبات الجمهور في ذلك العهد، عهد الثورة المصرية، متقلبة لا تستقر على حال، ولا تغنى من التمثيل، وهو لون من ألوان التسلية، إلا بما هو سطحي وعابر، لا يكد الذهن ولا يجهد الخاطر
حلت الفرقة، ولكنها حققت الغرض الأول من قيامها، وهو جعل المسرح في ممثليه والقائمين عليه من الطبقة المثقفة التي اجتلبت حسن الظن بفن التمثيل
حلت الفرقة، ولكن بعد أن جعلت من التمثيل العربي حقلاً جديداً للنشاط الذهني من جانب طبقة من الناس ما كنت تأبه له قبل قيامها. وهكذا بدأ عهد اصطلاح في المسرح المصري، وانفتح باب للتجديد فيه، لم يلبث أن ادخله الأستاذ (يوسف وهبي)، نجل المرحوم عبد الله وهبي باشا، ليأخذ المشعل من يد قائد الطليعة، ويعمل للمسرح مجداً متفانياً في جهاده،(341/23)
مضحياً بثروته الشخصية، وما آل إليه من مال أبيه الراحل
هذا هو مجد عبد الرحمن رشدي، وبهذا يستقر اسمه في رأس قائمة أبطال الطليعة الذين عملوا للمسرح المصري مخلصين للمبدأ
عاد الممثل ومدير الفرقة إلى المحاماة للمرة الثالثة، ولكنه عاد إليها في هذه المرة كسير القلب، لأنه استيقن أن الزمان يضيق به وأن لا سبيل إلى فرض إرادة على هذا الزمان، الذي يأخذ من المصلحين بقدر ما يريد، لا بالقدر الذي يريدونه ويستطيعون تقديمه
وكان ينتابه حنين إلى المسرح، وهو يجالد الأيام وتجالده، فكتب له أحياناً، وعمل عضواً عاملاً في اللجان التي ألفتها الحكومة لترقية التمثيل، وأذكر من مسرحياته:
(تخت العلم)، و (البؤر المرخصة)، و (المأمون)
وألفت الفرقة القومية بمال وزارة المعارف، فلم يتوان عن تلبية النداء، ورجع القائد والزعيم جندياً متواضعاً يعمل في الصف بالإشارة ولا كبر ولا خيلاء!
أحبك يا عبد الرحمن في تواضعك وسماحتك، وأحني الرأس إجلالاً لك، قائداً كنت وزعيماً، ومؤتمراً أصبحت وجندياً
ولم يطل مكث (عبد الرحمن) في الفرقة القومية، لأسباب خاصة، فتركها في نفس الوقت الذي زهدت فيه العمل فيها
وشاء القدر أن يجمع شملي وشمله للمرة الثالثة في مكان واحد، وأن نعمل لغرض واحد في وزارة المعارف، وهو تهيئة جيل جديد للتمثيل، يقبل عليه ويعمل له، إذا استطاع، مخلصاً ومجدداً
هذا هو بعض عبد الرحمن رشدي، الذي اجتمعنا اليوم مختارين لتأبينه، وتكريم ذكراه، فيبكي كل واحد منا في شخصه قطعة من ماضيه، أو صفة من صفات الرجولة الباهرة، أوسمة من سمات البطولة الحقة، أو مظهراً من مظاهر الجهاد والتضحية
هذا هو عبد الرحمن رشدي الممثل فحسب، وأتجاوز عن سائر نعوته وألقابه، وقد كان المحامي القادر، والموظف الكبير، وأبن البيت الكريم. أفعل هذا عامداً مزهوَّاً، لأن الممثل عبد الرحمن رشدي، أكبر من كل هذا، وأنبه ذكرا، وأبعد أثراً من كل هؤلاء في الدور الذي لعبه في حياته، لان الممثل عبد الرحمن رشدي، واحد في نسجه، منفرد بما آل إليه(341/24)
أمره، وما استقام عليه بمحتوم قضائه
وهاأنذا أختم كلمتي بالهتاف لهذا القائد الذي سقط في حومة الجهاد، وسيفه في يمينه، بعد أن أفرغتُ كلمتي هذه في سمع الزمان الواعي، وهي كلمة تتسم بوفاء التابع الأمين، وخبرة الصديق، وصراحة الفنان.
أقف بعد ذلك صامتاً، وأمسك عامداً عن استنزال شآبيب الرحمة على البطل الراحل، كما تجري بذلك تقاليد البيان في هذا المقام، لأن هذا البطل الحر الطليق، كان يمقت التقاليد؛ وكانت حياته حرباً على التقاليد، ولأن العناية الإلهية التي رسمته مجاهداً، وجلبته مصلحاً ومغامراً، أجل وأرفع من أن يتطاول عليها بالنداء والتنبيه صوت شخصي الضعيف الحزين
بل أن هذه العناية الإلهية الرحيمة، قد شملته منذ أن حان حينه، وتهيأ للقاء الرفيق الأعلى، فعجلت نقلته من هذه الدنيا، ومضى عنها ما بين غمضه عين وانتباهتها. وكأني بها نفست به على المرض الطويل، وضنت به على تجارب الأطباء. وعبث الممرضين، وعصمته من عذاب دونه كل عذاب، وهو صمت الجسد المتداعي عن إجابة الروح القوي، والنفس الوثاب
أعود فأقول: إنني لا أفعل هذا، لأن عبد الرحمن رشدي مبعوث عناية، ورجل أقدار، ونفس من أنفاس الرحمن الرحيم.
زكي طليمات(341/25)
كبرياء. . .
للدكتور إبراهيم ناجي
نِداؤكَ يا فؤادُ. كفى نداَء ... عفاءً أنضرةَ الدنيا عفاَء
رُوَيدك أيها الجاني، كلانا ... لصاحبه وما يدري أساَء
أنا ظمآنُ لم يلمع سرابٌ ... على الصحراء إلا خِلْتُ ماء!
وأنتَ فَراش ليلٍ كلَّ نور ... تبِعتَ وكلَّ برقٍ قد أضاء
عشقتُ فما شدَوْتُ الشعر شعراً ... ولكن اعتصرتُ لكِ الدماء
فإن أكُ في هواك أضعتُ قلبي ... فلست أُضيعُ فيك دمي هباء
غرامك كان محراب المصلي ... كأني قد بَلْغتُ بك السماء
خلعتُ الآدمية فيه عني ... ولكن ما خلعتُ به الأباء
فلم أسجد بساحته رياء ... ولا كالعبدِ ذُلا وانحناء
ولكني عشقتك عشقَ حُرٍّ ... يموت متى أراد وكيف يشاء. . .
ناجي(341/26)
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
أشرت في المقابلة السابقة إلى التجارب التي أجراها مونستربرْج لاختيار سائقي الترام والسيارات وعاملات التليفون وإلى المقاييس التي وضعها لمعرفة الأفراد الصالحين للمهن المختلفة. وأنه لمن الأنصاف التاريخي ألا نترك موضوع (اللياقة المهنية) من غير أن نذكر كلمة عن الدكتور فرانك يارسونز أحد موظفي (إدارة الخدمة الاجتماعية) في بوستن بأمريكا.
كان ذلك في سنة 1908 حينما جمع الدكتور بارسونز التلاميذ الذين أتموا التعليم الأولى في الحي الذي يقطنه والأحياء المجاورة، وكانت الغاية من هذا الاجتماع أن يبحث مع هؤلاء المراهقين أمر مستقبلهم، ونوع المهن التي يريدون احترافها، ولِمَ يؤثرون مهنة غيرها، وما هي الصفات الشخصية والكفايات الفردية التي يتقدم بها كل منهم للمهنة التي يختارها. وما كان اشد عجبه حين ظهر له أن هؤلاء المراهقين لم يعرفوا شيئاً عن الحياة العملية التي يواجهونها، ولا السبب في تفضيل نوع من العمل على غيره، وما الذي تتطلبه كل مهنة من المؤهلات الجسمية والمقدرة العقلية والخلقية. ولقد استطاع بارسونز أن يسدي لهم نصائح فردية، وأن يوجه كلاً منهم إلى الناحية التي تتفق ومواهبه الشخصية ومعلوماته. وكان هذا الاجتماع التاريخي النواة الأولى لتكوين (مكتب الإرشاد المهني) الذي افتتح في نفس العام. وقد أسرع إلى هذا المكتب البنون والبنات بعد إتمام الدراسة الأولية للاستشارة، ومعرفة أنسب الحرف لهم ولهن. ولقد كان الدكتور بارسونز موهوباً القدرة على معرفة خواص الأفراد، ومزاياهم العقلية والخلقية والجسمية، واختار ما يناسب كل فرد من عمل. ولذلك صادف مشروعه هذا نجاحاً وإقبالاً
لم تكن نصائح بارسونز مبنية على اختبارات ومقاييس علمية ولكنها كانت نتيجة لفكرة يكونها عن طالب التوظف بعد سؤاله عدة أسئلة عن ماضيه وحاضره واستعداده ونوع دراسته وآماله
وقد شعر بارسونز بنقص طريقته هذه فوضع نظاماً أحكم ذا ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول درس كل مهنة من المهن الممكنة ومعرفة نوع العمل فيها، وظروف هذه المهنة(341/27)
الاقتصادية والصحية والاجتماعية والفنية، وبذلك يعرف الطالب أو الطالبة في وضوح ما تتطلبه المهنة من الممتهن ومستقبلها. والعنصر الثاني أم يكون على صلة بنظار المدارس ومدرسيها، وأن يخبرهم بنتائج أبحاثه ودراساته الفنية المهنية، ويطلب إليهم ملاحظة التلاميذ أثناء الدراسة وكتابة تقريرات عن تحصيلهم ونشاطهم المدرسي، واستعدادهم الفردي وميولهم، والناحية الممتازة في الفرد، حتى يرجع إلى هذه التقريرات عند الحاجة. والعنصر الثالث أن يصلح من الطريقة التي كانت متبعة باستقبال طالبي المهن ووضع أسئلة عامة لهم، حتى يستطيع بالطريقة الجديدة أن يجمع أكثر ما يمكن من معلومات منظمة عنهم
كان أثر هذه الحركة أن انتبهت مجالس التعليم المختلفة وجمعياته في الولايات والمدن الأمريكية لدراسة مشكلة اللياقة المهنية، والخصائص السيكولوجية للأفراد، فعقدت المؤتمرات، وأسست مكاتب الإرشاد المهني، وعين مستشارون مهنيون لزيارة المدارس - كما يزورها الأطباء - ولإبداء رأيهم في صلاحية من أنهَوا دراستهم من التلاميذ لأنواع المهن المختلفة، كما نشطت المدارس، والمؤسسات العلمية، والمعامل والشركات، والجمعيات، لإمداد مكاتب الإرشاد المهني، والمستشارين المهنيين بالمعلومات التي يحتاجون إليها، وكثرت هذه المعلومات وازدادت. وغدا المستشارون يسدون نصائحهم مبنية على الاجتهاد والتجربة من غير أن يقوموا باختبارات لقياس الذكاء، أو الاستعداد الخاص، أو الصفات الفردية الأخرى، فكانوا ينصحون ضعاف الرئة مثلاً ألا يشتغلوا في المعامل التجارية، أو المصانع ذات الهواء الرطب أو كثير البخار، ولا يشجعون على التوظف في الشركات ذات المستقبل الغامض. وهكذا ابتعدت هذه المكاتب عن الغرض السيكولوجي الذي أنشئت من أجله، وأصبحت (مكاتب استخدام). وقد اعترف المستشارون بذلك، وكانت حجتهم أنه لم تظهر بعد المقاييس السيكولوجية المقنَّنة لمعرفة الفروق الفردية وحتى يمكن الحكم على صلاحية نوع معين من الأفراد لنوع معين من المهن
وضع بارسونز مجموعة من الأسئلة لاختبار طالبي المهن، استطاع بها أن يكشف عن عادات المختبر وميوله وتجاربه، ومن بين هذه الأسئلة ما يأتي:
هل تصرفاتك هادئة أو هائجة، حكيمة متواضعة أو ترمي للإعلان عن النفس؟(341/28)
إذا كنت مع جماعة فهل تفكر في راحتهم وتعمل عليها؟
هل ابتسامتك طبيعية وبسهولة أو متكلفة؟
هل أنت صريح في رأيك، شفيق في معاملاتك، حريص على اختيار أقوالك وأفعالك؟
هل تخيلاتك وأفكارك طبيعية ومتواضعة، أو اعتدائية، أو مغرورة، أو متشائمة، أو ثائرة؟
ما مقدار درجة انتباهك للشيء إذا كانت الدرجة القصوى الممكنة للانتباه هي مائة؟ ودرجة ملاحظتك، ودرجة ذاكرتك، ودرجة تعقلك، ودرجة تخيلك، ودرجة إدراكك، ودرجة رد فعلك (الرجع) للبيئة الطارئة، ودرجة قدرتك التحليلية للظروف، ودرجة تفكيرك الإنتاجي
هل تستطيع أن تخلق علاقات طيبة بسرعة مع من تتصل بهم؟
هل أرادتك قوية أو ضعيفة، مترددة أو عنيدة؟
أتتمتع بوجودك في المجتمعات، وهل يسر الناس وجودهم معك؟
وكثير غير هذه الأسئلة
وربما كانت هذه الأسئلة مفيدة عملياً لو أن الإجابة كانت عنها صحيحة مبنية على علم المختبر نفسه وميوله وعاداته. وإلا فمن القراء من يستطيع أن يجيب عن كل هذه الأسئلة بدقة وهو مقتنع بصحة الإجابة؟ وما دامت الإجابة موضع شك فما يبنى عليها أيضاً من النتائج موضع شك. وإذاً فطريق الأسئلة هذا لا يمكن الحكم به على خصائص الأفراد وشخصياتهم، ولا أن تكشف عن الفروق السيكولوجية بينهم
وتسمى طريقة استخدام الأسئلة في الدراسات النفسية والإجابة عنها طريقة (التأمل الباطني) وهي طريقة لها عيوبها الكثيرة، ومن بينها أنها ليست موضوعية محضة ولكنها ذاتية شخصية خاضعة لعواطف الشخص وأهوائه وذاته وحالته النفسية لحظة الاختبار والعلوم إنما تعتمد في بحوثها ونتائجها على الطريقة الأولى لا الثانية
وبعد فقد عرضنا حتى الآن تاريخ الفروق السيكولوجية بين الأفراد عرضاً عاماً، وتطورت الاختبارات والمقاييس التي وضعت حتى أول القرن الحاضر. غير أن علم النفس بفروعه المختلفة قد نهج خلال الخمس والعشرين سنة الماضية منهجاً علمياً أكثر دقة، في الطريقة، وفي إحصاء النتائج. كذلك درست خصائص الأفراد العقلية والجسمية والخلقية والمزاجية، كلُّ طائفة منها على حدة، ووضعت لها مقاييس تختلف كثيراً أو قليلاً من إقليم لإقليم، وقُنِّنَ(341/29)
بعض هذه المقاييس
ويمكن حصر أنواع هذه المقاييس التي استخدمت لمعرفة الفروق السيكولوجية بين الأفراد فيما يأتي:
(1) مقاييس الذكاء العام. ويقاس بها الذكاء العام للأفراد
(2) مقاييس الذكاء الخاص. وتقاس بها المواهب العقلية الوراثية الخاصة، كالموهبة الموسيقية والموهبة الرياضية
(3) مقاييس الأمزجة والخلق. وهي تقيس عواطف الأفراد ونزاعاتهم الخلقية للأجرام أو الإصلاح
(4) مقاييس التحصيل المدرسي أو البيئي اللغوي والعلمي
(5) المقاييس المهنية المحضة
وسنعالج كل مجموعة من هذه المقاييس في مقالات قادمة إن شاء الله.
(بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد(341/30)
الأدب الفنلندي
للأستاذ صديق شيبوب
بينما كان الشاعر (لياس لونرو) يعنى بجمع قصائد كاليفالا وضم أجزائها، وإنشاء لحمة بينها لتتألف منها ملحمة وطنية قديمة
قام شاعر آخر بنظم ملحمة وطنية عصرية يتغنى فيها ببطولة الفنلنديين في العصور الحديثة، وكان اسم هذا الشاعر (جوهان لودنيج أونبرج)
ولد أونبرج سنة 1804 وتوفي سنة 1877، ودرس الطب وامتهنه واشتغل بالأدب والشعر. وفي شبابه وجه عنايته إلى درس أخلاق مواطنيه في كثير من العطف، ثم كتب في ذلك رسالة طويلة كما تناول مظاهر هذه الأخلاق في الأقاصيص العديدة التي كتبها بعد ذلك. وهذا ما جعله في طليعة الأدباء الذين عملوا على إنشاء الأدب الفنلندي بالرغم من استعماله اللغة الأسوجية فيما كتب ونظم، لأنه عرف كيف يصف روح مواطنيه وكيف يعبر عنها تعبيراً صادقاً. وقد تجلت هذه الميزة خاصة في كتابه: (أقاصيص حامل الراية) '
كان الشعر أبرز ما في أدب هذا الطبيب، وله قصائد يعدها النقاد الأسوجيون والفنلنديون من خير ما نظم في هذين البلدين، وهم يقرون أن أحسن شعره ما جمعه في كتابه الذي ذكرناه: (أقاصيص حامل الراية)، وهو في جزأين، ظهر الأول منها سنة 1848، والثاني سنة 1860.
تتألف هاتان المجموعتان الشعريتان من أقاصيص رواها على لسان جندي قديم اشترك في الحرب التي اضطرت أسوج في نهايتها إلى التنازل عن فنلندا لروسيا فوصف معاركها وقص أنبائها، وسجل أخبارها. وقد كان من الجرأة بمكان عظيم أن يختار الشاعر موضوعاً لملحمة وطنية حرباً ختمت بالانكسار والخذلان؛ ولكن التاريخ كان قد سبق الشاعر فدّون الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الجيش وحملها مسؤولية الاندحار ووصمها بالجبن والخيانة.
فقائد الجيش الأعلى لم يصدر غير أوامر تقضي بالارتداد والتراجع، وسلم قائد آخر حصن (سيفبورج) الحصين من غير قتال. بينما ناضل الجنود المشهورون ببسالتهم وصبرهم على الأهوال نضال المستميت فأنقذوا شرف الجندية ولكنهم لم يستطيعوا أن يفوزوا وينتصروا.(341/31)
وقد حمل (رونبرج) في شعره على قائد الجيش وفضح خيانته، ومما قال فيه: (ليغفل ذكر أصله وسلالته حتى لا يتحملوا وزر جرمه، ليحمل وحده عاره، لأنه وحده جدير بالازدراء. ليس لمن خان وطنه أصل ولا سلالة، ليس له ولد ولا والد.)
على أن شجاعة الجنود المقاتلين كانت كافية لتوحي للشاعر قصائده الحماسية التي تغنى فيها ببسالة مواطنيه. وقد قص في شعر رائع أخبار المعارك الصغيرة التي ظهرت فيها بطولتهم والتي تمكنوا فيها من التغلب على الجيش المهاجم فردوه مندحراً. وعنى الشاعر خاصة بأعمال البطولة الفردية التي تجلت فيها المزايا التي تتحلى بها روح الشعب الفنلندي
وصف الشعر الجيش وتحدث في أكثر من أقصوصة عن العلاقات الوثيقة التي استحكمت بين صغار القواد والجنود. وقد أجاد كل الإجادة ووصل إلى أبعد الغايات عند تناول وصف الجنود من طبقة الفلاحين. هذا (ستين دوفا) الذي كان يظنه رفاقه معتوهاً، ولكنه استطاع منفرداً أن يدافع أن أحد الجسور وأن يدفع عنه العدو حتى جاءت نجدة تمكنت من رده.
وهذا (مونتر) الجندي الباسل الذي كانت شجاعته تنبعث من أعماق نفسه في كثير من السذاجة والتواضع. وقد مات صريعا في ساحة القتال بانفجار قذيفة رماها أحد جنود الأعداء فتلقاها (مونتر) بيده ليردها إليه. وقد رثاه (رونبرج) في ختام قصته بقوله: (لقد كان فنلندياً)
ويطول بنا الحديث إذا شئنا عرض صور البطولة المختلفة الأشكال والأوضاع التي رسمها الشاعر في هذين الديوانين، وقد كان طبيعياً أن يستهل (رونبرج) الجزء الأول منهما بقصيدة حماسية في تمجيد وطنه والإشادة بذكره، ننقل منها بعض شعرها للدلالة عليها. قال:
بلادنا، بلادنا، وطننا،
دَوِّ عالياً أيها الاسم المحبوب،
لا يوجد في بلاد الشمال رواب ترتفع نحو السماء
ولا أودية تنخفض، ولا شواطئ تغمرها الأمواج،
أحب إلى القلوب من بلادنا
من أرض آبائنا(341/32)
من يستطيع أن يحصي عدد المعارك
التي خاضها غمار هذا الشعب،
عندما كانت الحرب تستعر في واد بعد واد،
عندما كان يحل البرد القاسي حاملاً معه الجوع المضني
من يستطيع أن يحصر الدماء التي أراقها
وأن يصور شدة صبره على احتمال الأهوال
هذه هي (أقاصيص حامل الراية) التي يعتبرها الأسوجيون كأجمل ما كتب بلغتهم. وقد أخذ عليها بعضهم أن ناظمها تحرر في بعض الأحيان من نصوص التاريخ فلم يحترمها، بينما يرى البعض الآخر أن هذا النقد لا يحط من قيمتها لأن (رونبرج) إذا تجاوز ما قرره التاريخ فإنه لم يتعد الحقيقة فكان صادقاً في الصور التي رسمها والوصف الذي أجراه لنفسية الشعب الفنلندي وأخلاقه ومزاياه
(للبحث صلة)
صديق شيبوب(341/33)
هكذا تكلم هتلر!
(هذه القصيدة مترجمة عن الإنكليزية، وهي تنطوي على
دعاوى هتلر وأمانيه، منقولة على لسانه في تهكم لاذع)
طيب القلبَ، محبَّ ال ... خير للناس، أَراني
فلماذا صار كل ... الناس يرتابون منى؟
كل فعل لي يسو ... ء الناس بل ودّوا لو أني
مقعدٌ، لم أَسْدَ ما أسدَ ... يت عن طيبة قلب
يتبع الألمان ما أو ... حى بتفكير ولبس
بحماس حوليَ التف ... وا، تخطى كل حدس
كلهم عاد بهديي ... ملَكاً في ثوب إنسي
كان هذه بعض ما أسد ... يت عن طيبة قلب
هِمت بالسوديت فإن ... نضم إلى الحِب الحبيبْ
وهفت برلين واستُنن ... شِد (غوبِلْز) الخطيب
وهوى (كورنك) تقبي ... لاً على (روبنتروب)
فعلوا إذ فعلوا ذ ... لك عن طيبة قلب
أنا حررت بلاد للتْ ... شيك من حكم غشوم
وعليهم لم أزل أس ... هر كالأم الرؤوم
منفقاً ما ادخروا بال ... أمس من مال عقيم
كان هذا بعض ما أسد ... يت عن طيبة قلب
عدت بالنمسا فأضحت ... تحت ظلي تستضيء
وكما قد حدثوني - ... بنبوغي تستفيء
وهي ذي في قبضة الجس ... تابو كالجدْي البريء
تلك مني منَة تف ... صح عن طيبة قلبي
أسعد الحظ (السلو ... فاك) فشاءوني خليلا
صرت احميهم وأرعى ... ملكهم كيلا يدولا(341/34)
وعليهم أسبغ الججود ... ولا أبغي بديلا
كان هذا بعض ما أسد ... يت عن طيبة قلب
عمت الفوضى ببو ... هيميا فتاقت لاحتلالي
وغدت (محمية) تن ... عم في أحسن حال
وهي ذي اليوم (بفض ... لي) مضربٌ للاعتقال
تلك مني منة تف ... صح عن طيبة قلبي
ساءني تسويف (بولن ... دا) بتسليم الممرّ
فشننت الحربَ لم ... تبق عليها أو تذر
ويح قلبي، كلما أذ ... كر (بولندا) انكسر
غير أني قد شننت ال ... حرب عن طيبة قلب
عند إغراق (أثينا) ... ساور البعض الهموم
فاتهم ما قاله من ... قبل (صولون) الحكيم:
(يسعد المرء إذا ما ... ت ويحظى بالنعيم)
فبإغراقي لها أف ... صحت عن طيبة قلبي
أكره الغاز فما استع ... ملته في غزواتي
وكذا الحرب، فإن أحر ... قتُ أطفال العداة
ولئن أغرقت من أس ... طولهم بالعشرات
فأنا أفعل ما أفعل ... عن طيبة قلب
لجَّ قلبي ببلاد ال ... أرض حباً واستعر
وتمنى ضمها فيه ... وإشباع الوطر
أنا موهوب، بوسعي ... حكم مجموع البشر
وسأمضي لاحتمال ال ... عبء عن طيب قلب
(بغداد)
(رسول)(341/35)
-(341/36)
الأدب في سير أعلامه
بيرون
(ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية)
للأستاذ محمود الخفيف
أرسل جروج بيرون إلى مدرسة صغيرة في أبردين وهو دون الخامسة، ولكن أمه لم تطمئن إلى تعليمه فيها فعهدت إلى أستاذين بتعليمه في المنزل إلى جانب المدرسة وقد حبب إليه إحداهما التاريخ وعلى الأخص تاريخ الرومان، فراح يقرأ منه في غير ملل، وعلمه الآخر اللاتينية، بينما أخذ يوحي إليه مبادئه الكلفنية، والطفل يستمع إليه في ذلك مندهشاً متحيراً يتساءل في صمت كيف يقدر الشقاء على قوم قبل مولدهم، وما جريرتهم حتى يشقون وأي فرق بينهم وبين الذي قدرت عليهم السعادة؟ ويستمع الصبي إلى مثل هذا في حديثه مع خادمته ماري، حينما يسألها وهي تتلو الإنجيل قائلاً: وما ذنب قابيل قبل أن يقتل أخاه؟ ويضيق حين تجيبه أنه قدر عليه الشقاء، فيقول في غضب: وكيف يسأل عن جريمته إذاً؟ على أنه يطرب للغة الإنجيل وإن لم يفهم أكثرها ويهتز قلبه لما يتخيله عقله الصغير من صوره
والصبي قوى الخيال يصور له خياله كل شيء ويلازمه ما يتخيل أينما ذهب، وكانت صورة الشيطان الذي طالما حدثته عنه ماري تتملك لبه وتصحبه في الغداة والعشي، فإذا ترك في مخدعه وحده نفت النوم عينيه صورة الشيطان حتى لتمتلئ الغرفة حوله بالأشباح، وإذا أطل من نافذته وجد المقبرة القريبة منه ملأى بالشياطين من كل هيئة ومن كل طول وهي تتعابث وتتراقص
ويستمع الصبي أيضاً إلى أحاديث أمه وخادمته عن أجداده لأمه وأجداده لأبيه وكيف قرنت بالشر أيامهم فيعزو ذلك إلى أنه قد قدر عليهم الشقاء من قبل فكانوا من حزب الشيطان كما كان قابيل من حزب الشيطان، ويخاف الصبي أشد الخوف أن يكون نصيبه من الحياة مثل نصيب هؤلاء وهو يرى من أثر الشيطان في خلق أمه ما يرى ثم يرى منه في نفسه ذلك(341/37)
العرج الذي أزداد ألمه منه حينما بلغ السابعة
ويعرف الصبي في المدرسة بحدة ذكائه بقدر ما يعرف بإهماله وانصرافه عن دروسه، ويسمع منه معلموه عبارات يبدو بها أكبر من سنه ويدهشهم منه قراءته الخارجية التي لن يبلغ نصيبه منها عشرة من أقرانه مجتمعين، وكان شغفه بالشرق عظيماً فقرأ قصص ألف ليلة وليلة وألم بقدر كبير من تاريخ أمم الشرق، وفي مقدمتهم الترك، كانت أمه على قصر ذات يدها لا تضن عليه بما يطلب من الكتب، فكان يعد ذلك من أكبر حسناتها إن كان ثمة لها غير هذه من الحسنات
وعرف شاعر الغد بحدة عاطفته وتمرده على القوانين والأوضاع الرتيبة، وعرف كذلك باستعداده للنضال والهجوم إذا استفزه إلى ذلك أحد. عاد إلى منزله ذات يوم يلهث وفي وجهه آثار معركة، فأجاب على تساؤل خادمته عن هذا بأنه تربص بغلام كان أهانه فتوعده حتى وقع عليه في الطريق فأذاقه من بطشه وأتم حديثه قائلاً: (وكيف لا انفذ ما توعدته به؟ ألست بيروني النسب)؟
واستقرت في أعماق نفسه الصغيرة مناظر اسكتلندرة برواسيها الشامخات التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض قممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام التي تجلل رؤوسها الثلوج وتعلو بعض فقممها على السحاب، وكانت هذه الأجرام الهائلة تهز نفسه وتستميله أكثر مما تفعل الزهور والرياض وأشباهها من مناظر الطبيعة الهادئة الوديعة. . .
وتفتح قلب الصبي للحب وهو في الثامنة، فقد رأى في إحدى جولاته مع أمه ابنة أحد الفلاحين فأحبها حتى ما يطيق أن يفارقها؛ ولما فارقها على رغمه كانت تجيش نفسه وهو في تلك السن بمعاني الوجد والحنين. . . على أنه ما لبث وهو في التاسعة أن هام بابنة عم له هياماً استأثر بلبه، فما يفكر إلا فيها وما يرى حسناً يقاس إلى حسنها، وإنه ليحس إذا جالسها بما يملأ قلبه من معاني الوداعة واللين واللطف حتى لينسى عنفه وحدته أتم النسيان، ولا يزعجه إلا خجله من عرجه، وكم يتمنى أن لم تكن العاهة التي يعظم خجله منها أمام ابنة عمه ماري أكثر مما يعظم تلقاء غيرها من الناس. . .
وكانت أمه توقن في قرارة نفسها أن أبنها سيكون رجلاً عظيماً في غده. ولعل مرد ذلك ما تتمناه الأمهات عادة لأبنائهن، ولعل مرده إلى ما أخذته من عرافة ريفية نبأتها بما سيكون(341/38)
له من خطر في غده. وها هي ذي الأيام توشك أن تحقق جانباً من نبوءة العرافة، فلقد كان للورد الخامس في الأسرة وهو شقيق جده حفيد هو الذي يرث اللقب من بعده فمات هذا الحفيد عام 1794 فلم يبق بين الطفل واللقب إلا أن يموت ذلك اللورد الشيخ، وما لبث أن مات ذلك الشيخ بعد ذلك بنحو أربعة أعوام، فانتقل لقب الأسرة الوراثي إلى الطفل وهو في العاشرة.
وفرحت أمه أشد الفرح ولكن الطفل يتجه إلى المرآة ويسأل أمه عما إذا كانت ترى فيه فرقاً بين يومه أمسه لأنه لا يرى شيئاً من ذلك.
ولكن هذا اللقب سوف يكون عظيم الأثر في حياة شاعر الغد وموقف المجتمع منه، إذ سيكون من أهم ما توافي له من أسباب الإعجاب به وذهاب صيته في الأوساط جميعاً
وتأهبت أمه لتذهب به من أبردين إلى حيث يستلم ما ورثه مع لقبه الجديد من ثروة، وكان الصبي يومئذ في سنته الحادية عشرة، ولقد عز عليه أن يغادر أبردين فيبتعد عن ابنة عمه ماري التي أحبها ذلك الحب الشديد وعن مناظر أسكتلندرة، ويحرم مما باتت توحيه إليه شواهقها ووديانها، تلك الشواهق التي ألف تسلق جوانبها على الرغم من عاهته والتي زلت قدماه على سفح من سفوحها ذات يوم حتى أشرف على الموت لولا أن تداركه بعض من كان معه، فلم يزده ذلك إلا تعلقاً بها وأقداماً على معاودة تسلقها
ورحلت الأم وولدها وخادمتهما، وأحس الصبي أنه ينتزع نفسه من ملاعب طفولته انتزاعاً، ولقد استقرت في نفسه مناظرها وطيوفها، وما أعظم ما سيكون لهاتيك الطيوف في غد من الأثر في شعره وخياله
وانتهى بهم السير في نيوستد وحطوا رحالهم في مهد الأسرة العتيق، في ذلك القصر الذي أفنت جدره العتيدة السنين الطوال. ولشد ما أحبه الصبي وآنس في هيكله وأبهائه وحجراته أحلاماً جديدة أضافها إلى سالف أحلامه. . . وأقبل على الخدم يسألهم عما تقع عليه عيناه وعلى الأخص عن تلك الصور المعلقة على الجدران. . . فهذه صورة اللورد التعس الذي ورث عنه الصبي ما ورث، وتلك صورة أحد أجداده الذي أبلى أحسن البلاء في الحروب الصليبية ومات في الأرض المقدسة، وهذه. . . وهذه. . . والصبي معجب بذلك كله إعجاباً شديداً وإنه ليزهى أشد الزهو بأنه اللورد الجديد الذي آل إليه ذلك القصر وما فيه(341/39)
جميعاً. وغرس الصبي بيده شجرة هناك لتكون ذكرى له
على أن ذلك القصر لم يعد يصلح للسكنى بسبب ما أصابه من التخريب أيام ذلك اللورد التعس، ولم يك لدى أم الصبي ما يتطلب إصلاحه من المال، ولذلك لم تلبث أن تركته وأبنها إلى مدينة نوتنجهام. . . واعتلج في نفس اللورد الصغير الألم لفراق قصره السحري، الذي أمل أن يتسلى به عن ماري دف وقد شف قلبه الوجد لبعده عنها. ولقد كان عجيباً أن يحبها مثل هذا الحب في التاسعة وأن يأسى على فراقها هذا الأسى وهو بعد لم يتجاوز الحادية عشرة، ويذهب بعض علماء النفس إلى أن مثل هذه العاطفة الباكرة بشير بنبوغ صاحبها غداً في مجال الفن؛ ويروي عن دانتي أحد شعراء الدنيا الأفذاذ أن قلبه الغض نبض بحب بياتريس وهو لا يزال في التاسعة من عمرة.
(يتبع)
الخفيف(341/40)
الأدب في أسبوع
أسواق النخاسة
مازلت أضحك إِبْلى كلما نظرَت ... إلى من اختضبتْ أخفافها بدم!
أسيرُها بين أصنام أشاهِدُها ... ولا أشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصنم
هكذا يقول المتنبي في صفة أصحاب السلطان الأدبي والسياسي من أهل عصره، ولا يزال هذا ينطبق إلى اليوم على البلاد الشرقية والعربية إلا قليلاً قليلاً. لقد أذكرتني أشياءُ رَمَت إلى - ما كنت أسوس النفس على تناسيه ونبذه والتباعد عنه، ولكن صِناعة الأدب هي من بين الصناعات أشدُّها التحاماً بالحياة. . . لا، بل بالأصول النفسية التي تقوم عليها وبها أسواق المجتمع الإنساني، وهي ترمي بالأديب في تنّور متسعِّر من نزاع الغرائز والشهوات والأحقاد، وهو بين اثنتين: إما أن ينحط في هوى غرائزه التي تثيرها هذه النار الآكلة، فيفسد بفسادها، وإما أن يتحصن دونها، فيروض غرائزه الوحشية، حتى تألف وتنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية. فكذلك يوطن نفسه على الحرمان والألم والتفرد والوحشية. . . ثم على الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة بين تضرُّم النزعات المستبيحة، وبين زهادة النفس المتورعة المطمئنة. وكان أحق الناس بالتسامي ومطاولة الغرائز في هذه الحرب الموقدة - الأدباء، فالأدب في اصله تنزيهٌ للنفس وكبحٌ من جماحها، ورفق في سياستها؛ فإذا انقلب الأدب تضريه للوحوش الرابضة في الدم من الطبائع والغرائز، خرج عن أصلة وفقدت ألفاظه معانيها، وصارت أسواق الأدب تعتمد في معاملتها على البغي والظلم والعدوان والتهجم والاستبداد.
وفقدت كل معاني الحرية والعدل والإنصاف والتمييز بين الخبيث والطيب، وهي أصول الفطرة الأدبية السامية.
إن الأديب الحر ينتفض تقزُّزاً واشمئزازاً كلما انبعثت روح حقارة المجتمع من وراء الرّمم الأخلاقية المموَّهة بالنفاق، والتي أقيمت عليها أصنام منصوبة للعظمة الباطلة الجوفاء، وهو أشد انتفاضاً وانتقاضاً حين يرمي ببصره إلى الأدب والعلم وهذه المعاني السامية فيرى الأدباء والعلماء أذلاء مستعبدين قد خضعت أعناقهم للحاجة والضرورة والبؤس، فهم نواكس الأبصار إلى الأرض بين يدي فئة منهم قد أخذوا عليهم أفواه الطرق المؤدية إلى(341/41)
بعض الرزق، حين واتاهم القدر ببعض السلطان والجاه والسيطرة، وأقامتهم الشهرة الذائعة أنصاباً تهوي إليها الأغراض، وتناط بها الوسائل، وتعتمد عليها الحكومات في تقدير العلم والأدب وأهلهما والعاملين عليهما، وكذلك من لا يستطيع أديب أو عالم أو فيلسوف أن يجتاز إلا بإجازة من أيدهم وبأختامهم، وإلا أن يشهدوا له شهادة التقدير، وأن يعبروا له السِّعر في (تسعيرة) السوق الأدبي الذي أقامتهم الحظوظ عليه حكاّماً ومقوِّمين
إن الشهرة والشهادة هما شيئان لا قيمة لهما في العلم والأدب فبناءُ العلم على نجاح التجربة واستواء المنطق وإقرار العقل، وبناء الأدب على صدق الإحساس وحدة الإدراك وسمو العاطفة وقوة الحشد وبراعة العبارة والأداء. فإذا لم تكن الشهرة من هذا تستفيض وعنه تشرع، فما غناؤها على صاحبها إلا بعض الأباطيل التي تنفش في عقول الأمم الضعيفة والأجيال المستعبدة بالأوهام والتهاويل. والشهادة ما هي إلا إجازة الدولة لأحد من الناس أنه قد تحرر من طلب العلم والأدب على القيود التي تتقيد بها المدارس والجامعات في أنواع بعينها من الكلام، وأنه قد حصل في ورقة الامتحان ما فرض عليه في تحصيله بالذاكرة، ثم ترفع الشهادة يدها عن معرفة ما وراء هذا التحصيل وما بعده وما يصير إليه من الإهمال والنسيان أو الضعف أو الفساد. فحين يغادر أحدهم الجامعة حاملاً شهادته مندمجاً في زحمة الجماعة تفقد الشهادة سلطانها الحكومي - أو هكذا يجب أن يكون - ولا يبقى سلطان إلا للرجل وأين يقع هو من العلم أو الأدب أو الفن؟
وهل أصاب أو أخطأ؟ وهل أجاد أو أساء؟ وهكذا فهو لا ينظر إليه مغسولاً غفلاً من (مكياج) الدبلوم والليسنس والماجستير والدكتوراه. . . وما إليها، وإذَن، فأوْلى ألا ينظر إليه عن شهادة قوم لم يكن سبيلهم إلى التحكم في أسواق العلم والأدب إلا الشهادات المستحدثة، والشهرة النابغة على حين فترة وضعف واختلاط وجهل كان في الأمة حين كان أقل العلم وأشفُّ الأدب يرفعان صاحبهما درجات من التقدير والإجلال والكرامة
إن هذه التجارة التي تقوم على استعباد العلم والعلماء والأدب والأدباء تجارة باغية ينبغي أن تفنى نخاستها وأن تغلق أسواقها، وينبغي أن يتحرر الأدباء والعلماء المستعبدون قليلاً من أغلال الضرورات المستحكمة ليحاربوا بغي هذه التجارة بالنبل والسمو والترفع، وليهتكوا تلك الأستار الحريرية الرفيعة المسدلة على بيوت الأوثان الجاهلية التي تستعبد(341/42)
الأحرار باستغلال ضراعة الضرورة والحاجة والفقر؛ ينبغي. . .
وينبغي لكاتب هذا الباب الجديد في (الرسالة) أن يرفع القلم عند هذا القدر الآن، ويعود إليه بالتفصيل والبيان فيما يستقبل
معهد الصحراء بيت الحكمة
كتب صديقي (إسماعيل مظهر) - في مقتطف يناير سنة 1940 - كلمة بليغة يصف فيها (رهين المحبسين) محِبس الصحراء، ومَحْبس النسيان، وهو معهد الصحراء القائم على مشارف الصحراء المترامية، في (مصر الجيدة)، وقد شيده (الأسد المصريُّ) الملك فؤاد رحمة الله عليه من ماله خاصة، ليكون مأوى للعلماء الذين يدرسون طبائع الصحراء ومعادنها وأجوائها، ولكنه لم يتم بناؤه لما عرض من مرض الملك العالم ثم وفاته على شدة الحاجة إلى جرأته وإخلاصه وعزمه، وإنفاذ هذا العزم بالبصيرة والحكمة والمثابرة
وكنت كلما صحبت أخي (إسماعيل) لبعض الرياضة، تهاوينا إلى البيداء المقفرة الصامتة بأحزانها الحائرة، وسرنا نتقاود في جوفها فترمي بنا أرجلنا شامخ قد أقعى على ربوة من الأرض كأنما يتجمّع للوثبة، ومع ذلك فأكاد أجد في سمعي بيان هذا الأعجم الصموت، وهو يهمهم بأنَّاته من ذُلّ الوحشة والأسر والنسيان والخراب، فأنشد (إسماعيل) قول الرضيّ:
ولقد رأيتُ (بدْير هِنْدِ) منزلاً ... أَلِماً من الضَّرَّاءِ والحَدَثانِ
أغضى كمستَمِعِ الهوانِ، تغيَّبَتْ ... أنصارُهُ وخلا من الأعوانِ
وكان هذا البناء المسكين همةً من همم الملك النبيل رحمه الله. ولقد سمعت أنه قد أحاطه بما يزيد على عشرة أفدنه ليقوم فيها، وفي منتزهاتها، وليؤدي أهله إلى صحراء مصر المجهولة حقَّها من الدرس والكشف والاستنباط
هذا، وقد ضرع (إسماعيل) إلى خليفة (فؤاد) في ملكه وعلمه وعزمه وبصيرته، إلى (الفاروق) صاحب مصر الأعلى وحاميها وهاديها إلى الخير، أن يُتمّ ما بدأ الملك الأول من البناء، وأن يعيد لملكه الزاهر تاريخ العرب والعربية في عصر المأمون الذي أنشأ (بيت الحكمة)، وجعله مستقر النقلة من العلماء الذين استوعبوا نقل حكمة (يونان) إلى اللسان العربي؛ فأسسوا للعلم ملكاً لم يطاوله في العصور إلا عظمة المأمون. . . قال:
(ومعهد الصحراء - يا مولاي - عظيم الإرجاءْ اتساع العقل الخالد الذي فكر في إنشائه،(341/43)
فهل نطمع في أن يضم إليه بضعة علماء يقفون جهودهم على ترجمة علوم أوربا إلى اللغة العربية؟
وفي مصر - يا مولاي - علماء أقعدهم النسيان عن العمل ومنعهم الخجل عن السؤال، وعزَّ عليهم أن يهينوا العلم باستجداء العطف.
أنطمع - يا مولاي - أن تفيض عليهم من فضلك الواسع ما يسدُّ حاجتهم من حطام الدنيا، ليكونوا نواةً لبيت الحكمة في عهدك، فيتركوا للأجيال القادمة آثاراً لا يبزها من حيث الأثر في العالم العربي إلاّ عظمتك، ولا يفوقها في الجلال إلاّ جلالتك؟)
وكل أديب وعالم مفكر في العالم العربي يضم صوته إلى صوت (إسماعيل) في هذه الضراعة النبيلة إلى (وارث مُلك مصر، ومجد العرب) ويستيقن في قلبه أن (الفاروق) سيحمي العلم والأدب بحماية ملكية ترفع عنه الظلم والاستعباد، وتحرر العلماء والأباء من غطرسة الأدعياء المتشدقين بقليل العلم ومنقوص الأدب، مما أطاقوه وحملوه بفضل الرحلة إلى أوربا بضع سنين، تزودوا فيها بالمعاشرة والمخالطة - لا بالدرس والمثابرة - بعض ما جهله أصحاب الفضل والعلم والأدب من قومهم لقعودهم بالضرورة والعجز عن مثل الذي ساروا إليه، وهم بالعلم والأدب أقوم، وعليه أحرص، وطبائعهم إليه أشد انبعاثاً
الشباب والسياسة
في يوم الخميس السالف (4 يناير سنة 1940) ألقى بهي الدين بركات باشا محاضرة عظيمة القدر فيها معنى (السياسة) وحق (الشباب) في المساهمة في أصولها وفروعها، ودافع عن حرية الشباب في أن يهتم (بالعمل العام الذي يتصل في وقت من الأوقات بتيسير دفة الحكم في البلاد). وهذا هو تعريف السياسة عنده؛ وبذلك يخرج منها النزاع الحزبي الذي شهدته السياسة المصرية خاصة، على وجه من التنابذ والتعادي والتسفيه والاعتداء على حرية الفرد وحرية الجماعة. فإذا أخرج هذا الضرب من معنى السياسة أوجب العقل أن يكون لكل أحد الحق في أن يشارك أصحاب الرأي في آرائهم، بل إن الشعور بالحرية الفطرية توجب عليه أن يشارك بالرأي وأن يضِّحي في سبيل المبدأ الوطني العام الذي لا تقوم الدولة إلا بقيام معانيه في أعمال الأفراد والجماعات، وقد ناقش المحاضر جماعة من الأستاذة ولكنهم في مناقشتهم كانوا لا يزالون متأثرين بالمعنى(341/44)
(المصري القديم) للسياسة، وغفلوا عن الغرض الذي رمت إليه محاضرة المحاضر في الفصل بين ما كان وما يجب أن يكون عليه معنى السياسة؛ وكيف يشارك الشباب فيها بالرأي والعمل. والسياسة - كما قال عزام بك في موقفه - لا يمكن أن تكون بحثاً فلسفياً مجرداً، لأن الإيمان بعقيدة ما يقتضي التضحية في سبيل الدفاع عنها، فإذا كانت السياسة عملاً قومياً يراد به المصلحة العامة ومجد الوطن، فهي أمر يستحق كل تضحية. وأما إذا صارت السياسة إلى المعنى الذي شهدناه في مصر من الخلاف الحزبي على مطامع الحكم فهي أمر لا يستحق أتفه التضحية
ونحن نعتقد أن الإنسان الحر لا يعرف معنى لهذا السؤال القديم: (هل ينبغي أن يشتغل الشباب بالسياسة أو لا ينبغي؟)
فهو سؤال عليه سيمياء الذل والعبودية! إن كل أحد في مصر وغيرها من بلاد العالم - شاباً أو شيخاً غنياً أو فقيراً - عليه دين للأرض التي تغذوه وتعوله وتؤويه وتمده وتحفظ له نسله جيلاً بعد جيل، وأداء هذا الدين لا يكون إلا عملاً في حفظها وحياطتها والمدافعة عنها بالسلاح والعلم والعمل والفكر والنفس، فإذا أخل أحد بشيء من ذلك خان أمانة هذا الدين وأسقط مروءته
وكيف يمكن أن يمتنع الشباب أو الطالب عن الاشتغال بالسياسة؟ أيمتنع عن قراءة الصحف والكتب لئلا يعرض له الفكر في ذلك والتمييز بين صوابه وخطأه والعمل على بيان مواضع الخطأ ومعاونة الصواب على الاستمرار؟ أم يقرأ أخبار الأمم وأحداثها فإذا أقبل على أمر بلاده طوى الصحيفة واستغفر؟ أم يقرأ ويقرأ ولا يكون إلا كالخزانة، يلقي فيها ما يلقي ليحفظ ويصان من لصوص الفكر التي يطلقها عقله في آثارها؟ أم يقرأ ويفكر، ثم يحبس آراءه بين جدران الجمجمة إلى أن يذهب بها إلى الإهمال؟
وكذلك تضعف النفس وتصدأ وتتآكل، لأن الإيمان بالعمل بأمره هما جلاءُ النفس وصقلها لتبقى أبداً مشرقة.
إن الشباب - ولا بد - مشتغل بالفكر بالسياسة ونصرة مذاهب الحق فيها - كما هو - مشتغل بالعلم والأدب والفن؛ ولكن الإشكال كله في انفساخ القوة الخلقية التي يجب أن يقوم عليها العلم والأدب والفن والسياسة، وكل عمل؛ فتربية الخلق أوَّل، ثم ارموا - بالشباب -(341/45)
حيث شئتم: فإنهم عصام الشعب، وهم ذادة الوطن، وهم أصحاب المستقبل
المرأة والرجل
لشد ما اجترأت المرأة في هذا العصر!! وإذا أخذت المرأة أسلحتها - من الزينة والتطرية والجمال والفتنة، وجيّشت غرائزها - من الحذر والحيلة والضعف والأغراء، لم يبق للرجل إلا أن يستقتل أو يفر. . . وقد أقامت (وزارة الشؤون الاجتماعية) مناظرة بين الأستاذ (محمد فريد أبو حديد) والسيدة (زاهية مرزوق) وكان غرضها هو (كيف تنهض بالأسرة؟). والظاهر أن السيدة الكريمة قد اعتقدت في قلبها معنى (حرية المرأة) بالإصرار والتعصب فأخذت تنتزع رجولة الرجل شيئاً فشيئاً حتى ليخيل لسامعها أنه مخلوق وحشي منطلق من كل قيود النبل، فهو عندها أناني لا يؤثر على نفسه، وهو معنى متجسم للفوضى في بيت الأبوة والأمومة، وهو جاهل متحامل على ضعف المرأة لا يرحمها ولا يحس بآلامها، وهو فاجر متوقح يستجر الأخطاء ويجنيها ثم يرمي المرأة بها وينسلّ منها
وأنا لا أريد الآن أن أدافع عن الرجل، ولكني أريد أن أسأل السيدة الكريمة ومن يذهب مذهبها من النساء: إذا كانت هذه صفة الرجل في أنفسكن، وإذا تحدثتن بمثله فبلغ الأسماع في بيوت العقائل، فوقع في آذان الأم والزوجة، والفتاة الجاهلة الطياشة، فاعتقدته ومالت إليه أهوائهن، فبآي عين تنظر المرأة إلى زوجها والفتاة إلى خاطبها؟ وأيُّ معاملة يلقاها الرجل بعد على أيدهن وبألسنتهن؟
كلا يا سيدتي، أن المرأة هي تجني أكثر الذنب فيما نعلم، ثم تتنصل، وهي كل الأنانية إلا أن يتصل أمرها ذلك بمصدر الأمومة في غرائزها، فهي عندئذ مثال الإيثار والتضحية،. . .
وهي صاحبة الفضائل كلها إذا أثيرت أمومتها وإحساسها بالمحافظة على النوع الإنساني؛ وأما بغير ذلك، فهي المرأة بضعفها وأنوثتها وحاجتها إلى عون الرجل وتضحيته ورحمته. وليس للمرأة عمل إلا أن تعمل دائماً على أن تجعل الرجل في عينها تمام إنسانيتها، وبذلك تستصلح منه ما عسى أن يكون فاسداً، وتتم ما وقع إليها ناقصاً، ويبني البيت - بَيتهما - على أساس من القوة الداعية للبقاء، فمن الرجل الرحمة والإخلاص، ومن المرأة الاحترام والعفاف، ومنهما النسل الجميل المحفوف بالفضيلة من جميع نواحيه.(341/46)
أبو العباس السفاح
لم تتسع كلمة هذا الأسبوع لتحقيق لقب السفاح أبي العباس عبد الله بن محمد أمير المؤمنين، فأرجأنا ذلك إلى العدد القادم.
محمود محمد شاكر(341/47)
رسالة الفن
دراسات في الفن
هشْت. . .!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- هشت!
-. . . ما قلة الحياء هذه؟ أنداء هذا تنادينني به في الشارع؟
- وماذا أيضاً في هذه النداء يغضبك؟ إنه النداء الذي كان لابد أن تلبيه. وقد لبيته
- ومن أين جاءك هذا التأكيد؟ هل جاءك أني تسميت أخيراً (هشت)؟ أليس لي أسم تنادينني به؟
- ومن أين جاءك هذا الاسم؟
- سماني به أبي. . . ثقلت عليك الثواقل. . . ألست تعرف أن لي اسماً؟
- أعرف أنهم يطلقون عليك لفظاً يعلمونك به بين سائر الناس، وأعرف أيضاً أنك رضيت بهذا الاسم وسكت عنه ولم تعارضي فيه، ولكنني لا أذكر أنك أخذت رأيي في هذا الاسم وفي مدى صلاحه لك، وفي قيمة المؤثرات التي أنتجته، وفي تحديد ما كان من هذه المؤثرات طبيعياً، وما كان منها مصطنعاً متكلفاً. . .
- يا دين النبي! أتريد أن نعقد المفاوضات في هذا كله، ثم نتفق على هذا كله قبل أن تناديني باسمي؟ من يدريك أننا قد نقضي العمر في هذه المناقشات قبل أن نتفق على أسم كل منا، فإذا فرغنا من هذا كنا قد أفرغنا قوانا فيه فلا نستطيع بعد ذلك أن نتحدث في موضوع ما، فإذا اجتمعنا بعد ذلك قلت لك وأنا ألهث من متاعب اسمي واسمك: تشرفنا يا من الله أعلم باسمك، فتقول لي: (حفظتم)، ومن يدري فلعلك تسألني: (ومن أين جاءك أننا تشرفنا)؟
- هو هذا. فالاسم إذا لم يكن تعبيراً صادقاً عن المسمى كان اسماً كاذباً، وقد اعتاد الناس أن يسموا أبناهم عند ولادتهم وهم لا يعلمون من أمرهم شيئاً ولا من صفاتهم شيئاً فيسمون (عفيفاً) من قدر الله له أن يكون (دنيئاً) ويسمون مؤمناً من قدر الله له أن يكون (كافراً). . .(341/48)
ويسمون ما يشاءون، ولله في عبده أسماء وعلامات قد تتفق مع أسمائهم، وقد لا تتفق وكان يمكن للأسماء جميعاً أن تتفق مع مسمياتها ولو في الظاهر، إذا لم يتعجل الناس ويسموا أبناءهم، وإذا تريثوا حتى يقضي كل فرد حياته المقسومة له في الدنيا فينظروا فيها ويستخلصوا منها الوصف الذي غلب عليه فيسموه به. . . هذا هو ما كان يجب أن يحدث ولكن الناس متعجلون، وقد رأوا أن الله وهب لهم ميزة النطق فاستغلوها بالحق وبالباطل، وأعملوا فيها عقولهم، وراحوا يخترعون الألفاظ والكلمات ليقضوا بها حاجاتهم العاجلة، ونسوا أن القدر الذي هيأ لهم النطق قد هيأ لهم اللغة. . . أو هم قد حسبوا أن أمر اللغة هذا موكول لهم فحرروا تصرفهم فيه، ولم يقيدوه إلا بإرادتهم، وإرادتهم كانت في البدء سليمة، ولكنها أخذت تهلهل وتتمزق وتتشعب فأصبحوا يريدون ما لا يصلح أن يكون موضع إرادة، أو متجهاً لرغبة، فبدءوا منذ ذاك الحين يخطئون الكلام، حتى تفرقوا شعوباً لكل شعب إرادة، فتبلنات ألسنتهم وأصبح لكل شعب لسان، ويا ما في هذه الألسنة جميعاً من كلام ما أنزل الله به من سلطان. . .
- يخيل إلى أنك كنت تفضل أن يكون الإنسان حيواناً صامتاً
- بل كنت أفضل أن يتكلم الناس كلهم لغة واحدة. . .
فقد خلقهم الله ناطقين وليس عليهم أن يصمتوا بينما أراد الله بهم أن يسبحوه بكرة وعشياً. . .
- ولماذا لا تدعوه إلى الاسبرانتو. . . مادمت تريد أن يتكلم الناس جميعاً لغة واحدة. . .
- الاسبرانتو لا يمكن أن يتعلمها الناس إلا بالتلقين في المدارس، أما اللغة التي أطلبها فلغة ينطق بها الناس أينما كانوا من تلقاء أنفسهم بلا معلم، ويفهمها الناس أينما كانوا من أنفسهم بلا معلم أيضاً. . .
- وهل هذا ممكن؟ أو أنت لم يعد يريحك إلا أن تشرأب إلى المستحيل؟
- أن الذي أطلبه ممكن وممكن؛ بل أنه أكثر إمكاناً من الممكن، فهو كائن وحادث
- في أي عالم كائن هذا وحادث؟ في أي دنيا وفي أي أرض؟
- في أرضنا ودنيانا هذه، ولكن ليس في عالم البشر، وإنما هو عالم الحمير، وفي عالم الخراف، وفي عالم القطط، وفي عالم الكلاب. . . في هؤلاء العالمين وفي غيرهم. هات(341/49)
قطاً من أمريكا، وهات قطاً من أفريقيا، وهات قطاً من أوربا، وهات قطاً من حيثما شئت، واجمعيها في صعيد وانظريها واسمعيها وهي تموء وتقول (نو) ثم قولي لي بعد ذلك أرأيت أنها تتفاهم أم لم ترى؟
أما أنا فأقول لك أن كلا منهما يفهم صاحبه، ويعرف ما الذي يريد وما الذي ينزع إليه. . .
- أن كل قط يراقب حركات صاحبه فيعرف منها الذي يريده
- أخفى القط عن صاحبه ترى أنهما لا يزالان يتفاهمان
- بأي شيء يتفاهمان؟
- بلغة القطط
- وهل للقطط لغة؟ أنا لم أسمع قطاً يقول غير (نو) فإذا فرضنا أنها لفظة فهل يمكن أن يقال عن اللفظة الواحدة إنها لغة؟
- إنها لغة، وإنها لغة كاملة، والقطط في الحياة الطبيعية تقضي حاجاتها جميعها بها، وهي على هذا الفقر والجدب الذي ترينه تحتفظ بمكانة لا بأس بها بين لغات الأرض، فالنسبة بينها وبين اللغة الصينية كالنسبة ما بين 1، 3000 أو 6000 وهو أقصى إحصاء لاقاني للغة الصينية. . . وهذه نسبة تذكر من غير شك وتستحق التأمل من غير شك. . . فليس هيناً أن يكون شعب من الشعوب عتيقاً مثل الشعب الصيني، ولا تتباعد النسبة بين لغته ولغة القطط أكثر من هذا البعد الطفيف. والنظرة التي أنظر بها أنا إلى الشعب الصيني هي نظرة إجلال وإكبار، فأنا مؤمن بأنه شعب مغرم بالقداسة والطهر والاتجاه بالنفس إلى إرضاء سنن الطبيعة المتطورة المرتقية التي سنها الله، وهذه هو السبب في أن اللغة الصينية لا تزال قليلة الكلمات إلى جانب غيرها من اللغات، فإن أهلها لا يحبون الثرثرة ويستغرقون في التأمل طويلاً، يبحثون عن أنفسهم، وهم لا يتكلمون إلا في الضروري من الحاجات، وضرورياتهم الخاطئة قليلة إلى جانب ضروريات غيرهم الخاطئة العاجلة. . .
- إذا وافقتك على أن الميل إلى الصمت والاستغراق في التأمل هما السبب في قلة الألفاظ عند الصينيين فلا أظن أني أستطيع موافقتك على أن التأمل هو السبب في قلة الألفاظ عند الحيوان. . .
- لماذا لا يكون هذا هو السبب. . . أتنكرين على الحيوان أنه يتأمل وأنه يتفكر؟. . . من(341/50)
التعسف الشديد أن نقول هذا، فالحيوان يتأمل ويتفكر، ويبدو عليه ذلك، وإن للحمار والحصان إطراقة بينة ولها معان، وقد أحس بعض الشعراء والأدباء والفنانين الصادقين هذه المعاني فناجوا الحيوان. . . أفكان هؤلاء مجانين فنانين أصحاب خيال؟ طيب، وما رأيك في سيدنا سليمان الذي كان يكلم الطير والدابة. . . أفكان هذا نبياً وكانت هذه معجزة؟ طيب، وما رأيك في مدربي شركات السينما الذين عملوا رن تن تن وغيره من النجوم الحيوانات التمثيل؟ أليس هؤلاء ممن يتفاهمون مع الحيوان؟ إن التفاهم مع الحيوانات ممكن، وإن للطبيعة لغة! وإن من المخلوقات ما لا ينطق إلا ما توحيه الطبيعة من الكلمات والألفاظ وأن منها ما يثرثر، وليته يثرثر فيما ينفع. . .
ثقي أن الإنسان لو كان قد صبر حتى تعلمه الطبيعة الكلام لكان قد اهتدى إلى ألفاظ ينادي بها الجماد فيلبيه
- الجماد الجماد؟
- الجماد وما هو اجمد. ألم يقل الله في قرآنه أن هذا القرآن لو قرء على جبل لاندك؟
- والقرآن عربي
- وهل قلت لك إنه لاتيني أو يوناني. . . ولكن أذهبي وأقرئيه على جبل وانظري أيندك أم تندكين أنت؟ أن الذي يدك الجبل هو القرآن العربي لو قرىء بالروح والإرادة
- ولكن اللغة التي كنا نتحدث عنها لغة قلت لي إن لها ألفاظاً
- وهل أنكرت أنا أن هذه الألفاظ عربية؟! إنما الذي أنكره هو أننا ننطق هذه الألفاظ من أعماقنا. . . أقول لك هذا وأذكرك بأن في القرآن ألفاظاً لم يعرفها العرب قبل القرآن
- تريد السندس والإستبرق وما إلى ذلك؟
- لا. فهذه من صنع الناس أيضاً. . . وإنما أريد (كهيعص)، و (حم)، و (يس)، و (طه)، و (الر) وما إلى ذلك. . . هل تعرفين معاني هذه الألفاظ؟
- لقد اختلفوا فيها أيما اختلاف. . . فهل اهتديت أنت إلى معانيها. . .
- ليتني أعرف معنى إحداها، من يبيعني (يس) بليسانس الآداب ودبلوم التربية؟! هاتين الهباءتين اللتين لا تشهدان على شيء إلا على الاطلاع على ما قال القبعثري وما قالت مونتسوري! هف! أريد أن أتكلم يا رب. . . ولكني أحرك شدقي وأصوت فيتعثر لساني(341/51)
في حروف صفها أجدادي بعضها إلى جانب بعض.
هل سمعت حيواناً يتلعثم؟ هل سمعت يوماً ثوراً أراد أن يقول (بع) فقال (كع) او قال (سع) ولكن الناس يتلعثمون فلماذا يتلعثمون؟ ولماذا لا يتلعثمون إلا عندما يلتفتون إلى أرواحهم وأنفسهم عند التدبر أو عند الحذر؟ أليس ذلك لأن هذه الألفاظ التي نصطنعها ليست من الطبيعة في شيء وأنها تفلت منا ما لم نوجه إليها انتباهاً خاصاً؟ أليس كذلك؟. . .
- إن هذا سبب لا يمكنك أن تقطع بأنه السبب
- أني أعلم هذا، وأعلم أيضاً أن كل ما قلته لك لا يمكنني أن أقطع به، كما أعلم أن القطع به يحتاج إلى تجنيد علماء النفس، وعلماء اللغات، وعلماء كثيرين غير هؤلاء يتقصون ويدرسون ويشاهدون ويجربون ويقضون في بحثهم هذا السنين، وربما القرون. وقد ينتهون إلى تكذيب هذا الكلام وتسخيفه، ولكن ليس معنى هذا أن أحداً من الناس يستطيع منذ الآن أن يرفض هذا الكلام، فرفضه يحتاج إلى تفكير مثلما يحتاج إلى التفكير قبوله، وأن معي من القرائن والأدلة ما يحتاج إلى جهد قبل تحطيمه. . .
- علىّ منها بدليل وقرينة
- أما دليلي على أن للطبيعة لغة تعلمها للناس فإجماع الأطفال في الدنيا كلها على نداء الأب بقولهم (بابا) وعلى نداء الأم بقولهم (ماما). . . ولا تزال اللغات تحتفظ بالباء أو ما يشبهها فيما أطلقت على (الأب) من أسماء كما لا تزال تحتفظ بالميم وما يشبهها فيما أطلقت على (الأم) من أسماء. وأما القرينة. .
- أن الأطفال يقولون بابا وماما لأن الباء والميم حرفان مفرقعان من حروف الشفتين، وحروف الشفتين هي أسهل الحروف وأسرعها إلى الخضوع والانسياق للإنسان
- طيب، ولماذا لا يخطئ طفل فيقول لأمه (بابا) ولأبيه (ماما)؟ هل يعلمه أحد هذا؟ الطبيعة تعلمه إياه.
وفي لفظة (ماما) ما يشبه حركة الامتصاص والرضاعة، وإن في لفظة (بابا) ما يشبه الاستنجاد بقوة الأب. . .
- صحيح أو كأنه صحيح. . . وكنت تريد أن تستشهد بقرينة. . .
- نعم. أن الأرض في اللغة العربية أسمها (أرض)، وفي اللغة الإنجليزية أسمها تنطق(341/52)
إرث و (الإرث) في اللغة العربية ما يورث، والإرث في الأديان جميعاً هو الأرض أورثها الله للإنسان. . . واللغة العربية بعيدة كل البعد عن اللغة الإنجليزية، وعلماء اللغات يوسعون الشقة بينهما، فلا بد أن تكون كلمة الأرض علمته الطبيعة للناس اسماً للأرض، لأن هذه التشابه لا يحدث إلا في هذه الحالة، أو في حالة أخرى، وهي أن تكون لغة من هاتين اللغتين قد أخذت هذه الكلمة من اللغة الأخرى وهذا يستبعد أن يحدث في أسم الأرض التي هي أم الناس جميعاً والتي يعرفها الناس جميعاً، والتي لا يمكن أن يظل شعب من الشعوب غافلاً أو عاجزاً عن تسميتها، حتى يأخذ أسمها عن غيره
- وماذا أيضاً؟. . .
- ليس علىّ أن أصل بك إلى نهاية الطريق، بل يكفيني معك أن أشير إليه، فأسعى إذا شئت، ولكل إنسان ما سعى.
- وهبنا وصلنا إلى هذه اللغة الطبيعية التي تقول عنها. فماذا نصنع بها أكثر مما نحن صانعون بلغاتنا. . .
- أول ما يحدث أن ينمحي من الدنيا الكذب، فكلمات الطبيعة لا يلفظها إلا الطبع. . . عندئذ يستطيع الإنسان أن يستمع إلى صاحبه بإذنه فقط، وألا يتفرس في وجهه بعينيه، ليرى مدى ما ينطق كلامه على ما يختلج في نفسه. . . عندئذ سنكشف الأنفس وتخاطب الضمائر الضمائر. . . فإذا قلت لك (هشت). . .
- قلت لك (كش). . .
- فقلت لك (هم). . .
عزيز أحمد فهمي(341/53)
القصص
بعد الأوان. . .
للأستاذ محمد سعيد العريان
يا الله! وفي الدنيا هذا الجمال؟
فتاة، وما اعرف مثلها فيمن رأيت!
أتراها كانت تعرف أين هي من أحلام فتيان الحي؟
وكان لها من جاه أبيها جمالٌ إلى جمال، فاجتمعت لها أسباب الفتنة والإغراء. . .
ورآها صديقي فتبدل غير ما كان، وأنه لشاب وإنها لفتاة، ولكنها. . . ولكنه. . .
وجاءني ذات مساء وفي عينيه دموع. . . يا لي مما أرى! صديقي يبكي! هذا الذي كنت أظنه لا يحمل من هم الدنيا إلا مثل ما تحمل نعله من تراب الأرض! يا عجباً!
وفتحت له صدري فآوى إليه، ومضى يحدثني بخبره
(. . . وما يليق أن أبقى اليوم عزباً. . . وقد جاوزت الخامسة والعشرين!)
وابتسمت؛ فما سمعت صديقي يتحدث قبل عن الزواج بمثل هذا الوقار المحتشم. لقد استطاعت امرأة واحدة أن تحمله على رأي لم يكن واحد من أصاحبه جميعاً يستطيع أن يحمله على الإيمان به.
ويا طالما قلنا ويا طالما أجاب. . .!
ومضى صديقي في حديثه:
(وأجمعت أمري على أن تكون لي؛ فما يرضيني أن لي بها كلّ متاع الدنيا. لقد وجدتها، وهي حسبي من دنياي!
(وراح الرسول عن أمري يؤامرها ويرود لي الطريق؛ وكتم عنها أسمي وخبري ومكاني بين الناس؛ فما كان إلا أن سألته: وكم جنيهاً يقبض في كل شهر؟
(وأجابها الرسول بما أجاب، فضحكت ساخرة وقالت: أثني عشر جنيهاً؟ ياله من عروس! فكم يعطي الطباخ وكم يعطي السوّاق. . .؟
(وعاد إليّ الرسول بجوابها. . .!)
واطرق صديقي برهة، ثم رفع رأسه وشفته تختلج وفي عينيه بريق. وابتسمت ثانية،(341/54)
وقالت: فما غضبك يا صديقي مما قالت؟ أن لها في الحياة ميزانها الذي تقيس به أقدار الرجال؛ وأن للحياة موازينها؛ فما ضرك أن تكون في ميزانها ما تكون وأنت أنت.
إن معك الشباب والقوة، وأن لك غداً يبتسم ويرفّ، وإن دماً في أعراقك يتحدث به التاريخ؛ فهل يخدعك عن كل أولئك أن فتاة تقول. . .؟
وأمسكت عن تمام الحديث؛ فقد رأيت في عيني صاحبي ما قطعني وردني إلى الصمت!
وعاد إلى حديثه:
(وددت يا صاحبي لو لم يكن كل أولئك وكانت هي. . .؟)
ورأيتني منه على حال لا يجدي معها إلا أن أسكت؛ فسكت! وودّعني صديقي بالوجه الذي لقيني به، ومضى لشأنه
يا لقلوب الشباب من سلطان الحب!
ولقيته بعد ذلك مرات؛ ولكنه كان شابّاً غير من أعرف
هذا الذي كان لا يعرف من فروض الحياة على الحي إلا أن يبتسم ويضحك، ويعبث بكل شيء، ويسخر من كل شيء - قد عاد في عبوسه وتزّمته وصرامة نظرته إلى الحياة خلقاً آخر!
يا عجباً! أين ما صار مما كان؟
تمرُّ به الجملية الفاتنة قد أخذت زخرفتها وأزَّينت، فما تظفر منه إلا بالنظرة العابرة!
ويسمع النكتة البكر تضجّ لها جنبات المجلس بالضحك والتهليل فما تنال منه إلا بسمةً خاطفة!
وتتداعى أمانيُّ الشباب في معترك الحديث من حوله فما تسمع منه إلا أنةً خافته!
ويتبارى الفتيان فيما يحكون من أقاصيص الحب وغزوات الشباب فما ترى على وجهه من دلائل يقظة الوجدان إلا سبْحة لطيفة من سبحات الذكرى، ثم خفقة طرف وخلجة شفة!
ثم يسمع أحاديث الزواج والخطبة. . . فتراه كما ترى جنديَّاً في إجازة يتلقى أخبار معركة حربية مظفرة وبينه وبين الميدان أبعاد وأبعاد!
ترى ماذا يتوقع أن يسمع؟
شئ واحد لم يغيِّره الزمن من أخلاق صاحبي: هو سخاء يده؛ فما عرفت في أصحابي من(341/55)
قبل ومن بعد أكرم يداً منه بما يملك!
وترادفت الأعوام، ولم يتزوج صديقي. . . ولم تتزوج صاحبته!
أتراها كانت تعلم من خبره ما أعلم؟ ومن أين لها؟. . . أن لصاحبي من الكبرياء ما يمنعه أن يلتمس إليها الوسيلة بعد ما كان. . . وإن. . . وأن الخطاب لتزدحم أقدامهم على بابها فما تعرف كم ردّت بالخيبة والخذلان!
أم تراها تعرف أسمه؟. . . هذا الذي لا تذكر من صفاته - إن ذكرتْ - إلا أنه شاب يبلغ دخله في الشهر اثني عشر جنيهاً، بعث إليها مرة يخطبها فردّته. . . وكم في خدمة الدولة من شبان يبلغ دخلهم ما يبلغ دخله؛ وحسبه هذا تعريفاً بين آلاف من النكرات!
ولكن صديقي اليوم في منصب رفيع. لقد سماه به جده وعمله إلى ما لم يبلغ أحد من نظرائه! أتراه يوازن اليوم بين ماضيه وحاضره؟
لقد مضى منذ تلك الليلة التي زارني فيها صديقي زيارته خمس عشرة سنة!
ياه. . .! ما أسرع ما تمرّ السنون!. . . أين أنا اليوم مما كنت يومئذ؟
لقد كنت يومئذ فتىً في باكر الشباب، ولم يجر حدّ الموسى على عارضه بعد؛ وأنني اليوم لزوجٌ وأب، وإن في رأسي لشعرات بيضاً ما أن يخفيها ميل الطربوش ولا صنعة الحلاق!. . .
وصديقي لم يزل عزباً. . . صديقي الذي كان يخشى أن تفوته سن الزواج، منذ خمس عشرة سنة!
أين هو اليوم؟ وأين حاضره وماضيه؟
لقد ضربت بيني وبينه ضربات الدهر فلم ألقه منذ أعوام. وددت لو أعرف من خبره!
وخرجت أمس من داري على ميعاد. فأني لفي طريقي إذ لقيته! يا للحظ!
وأقبلت عليه وأقبل عليّ؛ وهممت أن أسأله حين بادرني بقوله: (إنني أدعوك بعد غد إلى داري. . . . . .)
- تدعوني؟. . .
- نعم، لقد اتفقنا أن يكون الزفاف بعد غد!
- بمن؟(341/56)
- وهل حسبتني أرضى يوماً أن لي بها كلَّ متاع الدنيا!
إنها هي. . . لقد ضرب القدر بيننا موعداً فلم يخلفه. إن لكل شئ أوانه!
. . . وكما جلس صديقي مني مجلسه ذات مساء، منذ خمس عشرة سنة ليحدثني بخبره - كان مجلسه الليلة مني. . .
وكان في عينيه غير البريق، ولصوته لحن ورنين، وفي عينيه دموع؛ وكانت الكلمات ترتعش على شفتيه؛ لأن فيها نبضات قلب حي. وصعّدت نظري إليه؛ فرأيت في فوديه شعرات سوداء في شعر أبيض، كأنما كانت لتشير إلى أنه مازال هنا بقية من شباب.
ومضى صديقي في حديثه. . .
(. . . ولم يعد إليها رسولي منذ كان ما كان؛ وما عرفت أسمي ولا جاءها خبر من خبري بعد؛ وكأنما كان يدخرها لي القدر، فلم تتزوج، وأرتد الخطاب جميعاً عن بابها مخذولين، وآن الأوان. . . . . .
(هل جاءك يا صديقي أن مرتبي اليوم في الحكومة ثلاثون جنيهاً في الشهر، غير ما أكسب من أعمالي الخاصة؟. . . . . . . . .
وبعثت إليها رسولاً آخر يؤامرها للمرة الثانية. . .)
وضحك صديقي ضحكة مرحة، ثم عاد يقول:
- أتذكر ليلة جلست إليك أحدثك مثل حديث الليلة، منذ. . . منذ كم. . .؟
(. . . وقالت للرسول وقال لها؛ ثم سألته: وكم دخل صاحبك في الشهر؟ فأجابها. . . وكان القدر قد هيأ أسبابه، فأجابت. . . وزرتها من بعد، وتم الاتفاق!)
قلت لصاحبي:
- فهل عرفت هي أنك أنت أنت،. . . هل عرفت أنك سعيت لخطبتها مرة منذ خمس عشرة سنة فردتك؟
فقال:
(وماذا يعنيني، عرفت أو لم تعرف؟ حسبي إنها اليوم لي؛ وأن ما أرادته قد كان!)
ووجد المسكين تعبير رؤياه بعد خمس عشرة سنة من عمر الشباب، ووجدت تعبير أمانيها. وباعت المسكينة شبابها وشبابه بثمن بخس، حين تأبتْ عليه، ومعه حرارة الشباب ونضارة(341/57)
العمر وسعادة الحب لترضاه من بعد وهو شبابٌ مدبر، ونجم آفل، وشعلة إلى رماد!. . .
محمد سعيد العريان(341/58)
من هنا ومن هناك
قيصر ستالين الرهيب
(ملخصة عن مجلة (باريد) الإنجليزية)
كلما مرت الأيام زادتنا اعتقاداً بأن حالة روسيا الاشتراكية اليوم ينطبق عليها المثل الذي يقول: (تتغير وحالها لا يتغير)
ويقول (هارولد وني) في مجلة (نيويورك مجازين): (كانت روسيا القيصرية فيما مضى توصف بأنها ولاية تحكمها طائفة من السفاحين) ووصف كاتب بلاد السوفييت في عهدها الحديث فقال: (هي دولة بيروقراطية يأتمر بها زمرة من الجلادين).
وهذا قول صحيح إلى حد بعيد، إذا أعدنا إلى الذاكرة عملية التطهير الكبرى التي اجترمت في روسيا ما بين عام 1936 وعام 1938. أما اليوم فقد نكون أقرب إلى الدقة والصواب إذا قلنا أن النظام الحكومي الذي تسير عليه روسيا الآن، هو نوع من الحكم الاستبدادي الشرقي القديم
فروسيا يحكمها رجل واحد هو (جوسيف ستالين) ينفذ إرادته المطلقة فيها بطريقة لم تتح للقيصر في جبروته، بل لم يظفر بها هتلر، وذلك أن النظام السوفييتي متوغل في حياة الشعب الداخلية والخارجية، بطريقة لم يسبق لها مثيل في حياة الإنسان
ومن ثم كان من السهل على (الكرملين) أن يعلن الرأي النهائي في السياسة العالمية - ما بين عشية وضحاها - كما فعل في الوقت الأخير إذ أعلن فصم العلاقات الروسية بالأمم الديمقراطية الغربية وارتباطها بألمانيا. ففي مقدور ستالين أن يتصرف كيف يشاء في سياسة روسيا الخارجية. ولا يجسر أحد أن يرفع صوتاً ما بمعارضته بحال من الأحوال
فروسيا وإن كانت تعد من الناحية النظرية أمة ديمقراطية، بعد أن كانت - نظرياً - تحكم حكماً دكتاتورياً بواسطة الطبقة العاملة، فهي في الواقع لم تكن قط هذا ولا ذاك. قد يكون لينين ورفاقه يرمون إلى قيام دكتاتورية من العمال، وقد يكون في دعوى نظام الديمقراطية الروسية عام 1936 شيء من الإخلاص
إلا أن التجارب التي أكتسبها الاشتراكيون بسلطتهم المطلقة قد أقنعتهم بأن الشعب الروسي يجب أن يقاد، يجب أن يقهر ويقبض عليه بيد من حديد. فأصبح لينين دكتاتوراً ولكن بعقله(341/59)
وأخلاقه قبل أن يكون دكتاتوراً بقوته وجبروته
وقد تولى ستالين الزمام بعد لينين، فصار دكتاتوراً مطلق الحرية أكثر مما كان لينين. ويرجع نجاح ستالين كحاكم مستبد منقطع النظير في العصر الحاضر، إلى خبثه الزائد واستهتاره الذي لا حد له
ولعل قوة البوليس في روسيا هي المصدر الحقيقي لنفوذ ستالين والبوليس الروسي يقوم على نظام لا يتفق مع العقلية الأوربية على الإطلاق، وهو يقوم بأعمال واسعة النطاق في التجسس وسفك الدماء، وتشجع السلطة السوفيتية التجسس بين أبناء الشعب حتى أن الجار في روسيا يتجسس على جاره والشخص يشي بأفراد عائلته، وقد تصل بلاغات البوليس إلى حد الاختراع ويضيع بسبها كثير من نفوس بريئة
فكل إنسان في روسيا اليوم خاضع لستالين، وفي اللحظة التي تقع فيها الشبهة على إنسان يختفي أثره من الجود
على أن ستالين لا تعوزه الوسائل التي يستحوذ بها على الرأي العام في روسيا. فهو يضع تحت يده الصحافة العامة والإذاعة والمسرح والسينما وكل ما عدا ذلك من وسائل التعبير. فإذا أراد أن يطلب كلمة الرأي العام في المساء كانت بين يديه في الصباح بغير كد أو عناء
فإذا نظرنا إلى ضحايا ستالين من النفوس، وإلى اليد الحديدية التي استولى بها على الشعب الروسي أفراداً وجماعات، أيقنا بأن الحاكم المستبد المعروف باسم (قيصر إيفان الرهيب) لم يكن شيئاً إلى جانب ستالين
التحالف الدولي لأجل السلام
(ملخصة عن (وسترن ميل) نيوكاسل)
منذ بضعة قرون خلت خرّبت أوربا، وشطرتها الحروب بإسم الدين وتأثرت نيران القتال بين البروتستانت وبين الكاثوليك في سبيل السيادة والسلطان، وعادت حروب الأسر التي كان يثيرها الملوك والأباطرة، إذ كانت الشعوب تعامل لديهم كالرهائن، فانصرفت إلى تلك الناحية القائمة على التعصب الديني، وصار كل يعمل من جانبه لإيقاع الشر بالآخرين، بدعوى أنه يؤدي واجبه نحو الله، بدفع أعدائه إلى الجحيم(341/60)
وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، بدأت تظهر فكرة الوطنية، وأخذ التنافس يدب بين الأمم الأوربية في سبيل السيادة فيما وراء البحار، فزالت فكرة الحروب الدينية، وخلفتها حروب أخرى قائمة على الغلبة، والمنافسة في التوسع التجاري، وإفساح الطريق أمام المهاجرين
ومن ثم تغيرت صفة الحرب، فلم تعد آلة لتنفيذ شهوات الحاكمين أو سلاحاً يشهره رجال الدين لنصرة مذهب على مذهب آخر، فهي وسيلة للحكومات الوطنية التي تسعى وراء التوسع والسلطان.
فما هو الدرس الذي يمكننا أن نستخلص من هذا، للحالة القائمة في أوربا اليوم؟ أن المشاغبات الدينية التي كانت تقع في أوربا في القرن السادس عشر، والقرن السابع عشر، أصبح لها مشابه في مبادئنا السياسية اليوم. فالدكتاتورية والفاشية والبلشفية والديمقراطية لكل منها دعاتها المتعصبون لها، الراغبون في فرض نظامهم السياسي على الأمم الأخرى
نحن نؤمن بالديمقراطية، وبل ونحن على أتم الاستعداد للدفاع عن نظامنا الديمقراطي العتيد، ولكنا لا نرى معنى لفرض هذا النظام على أمة أخرى. فنحن على ثقة بأن الديمقراطية سيكون لها الفوز في كل أمة في النهاية، لأنها خير الأنظمة الحكومية وأليقها ببني الإنسان
فإذا كنا نحارب ألمانيا اليوم، فنحن لا نحاربها لقسوة الحكومة النازية وظلمها، فهذا شأن من شؤون الألمان؛ ولكنا نحاربها لاعتدائها على بولندة وتشيكوسلوفاكيا، فإذا رد الشعب الألماني إلى هذه البلاد استقلالها كان من السهل أن نضع يدنا في يده، وأن ندخله معنا في تحالف دولي عام
إن النازية سوف لا تتفق معنا على مثل هذا التحالف؛ ولكن الشعب إذا أعد نفسه لقبول هذه الفكرة التي لا بد منها لإقرار السلام في العالم، لن يقوى هتلر على مقاومته، ولا يقف أمام إرادته، بل يختفي أثره فتذهب مجهوداته أدراج الرياح
كيف نضطلع بأعباء الزواج
(ملخصة عن مجلة (يو))(341/61)
نحن نقبل الزواج في العادة لأننا نريد أن نشبع في أنفسنا الرغبة في أن نحب وأن نحب، وأن نظفر بالرفقة الطيبة، ونشعر بالدعة والسلام، ونحس في أعماقنا بأننا نعيش كيف نشاء.
تلك هي الأسس التي تدعم في أنفسنا فكرة الزواج وليست الفكرة الجنسية كما يظن بعض الناس. فإذا أتيح لنا أن نشبع في أنفسنا ذلك الشعور المتأصل في أعماقها جاء التوافق الجنسي تبعاً لها ولا محالة
أن الناحية الجنسية ضرورة فسيولجية ولا شك، ولكني أستطيع أن أقول هنا أنني قد تبينت في تجاربي النفسية، وأنا أصغي إلى حديث الزوجات والأزواج وهم يفرغون على أذني ما بدا وما استقر من متاعبهم الزوجية، حقيقة تتأكد لي صحتها كل يوم، وهي أن الدواعي النفسية هي أهم شيء في الزواج. فإذا نبذت هذه الناحية أو مست بسوء أو عدت عليها بعض المتاعب التي تكدر صفاء تلك الرابطة وتحرمها الأمن والسكينة، تبدد التوافق الجنسي تبعاً لها
إن الزوج الذي لا يعرف التبصر في النهار، جدير بأن يجد زوجته عاجزة عن مبادلته الحب في الليل، والزوج الذي تستهين به زوجته وتمتهنه لا يجد سبيلاً إلى أن يشتهيها أو يشتهي أي شيء آخر، وليس العلاج في هذه الحالة عند الطبيب الذي تندفع إليه ليعالجك ببعض العقاقير أو المحامي الذي تلجأ إليه ليضع حداً بينك وبين زوجك، ولكن العلاج هو حسن التفاهم الذي يظهر بمرور الأيام فيزيل ما في النفوس من الآلام ويمحو ما يخالجها من النزق وقلة الانسجام. وخلاصة القول أننا جديرون في هذه الحالة بأن نجعل الزواج متفقاً بقدر الإمكان مع الحاجات النفسية التي يريدها كل من الآخر(341/62)
البَريدُ الأدَبي
عودة إلى المسرح
قلت في مقالي السابق في المسرح (335) إن الفرقة القومية إذا أصرت على أن تتجافى عن الفن السليم الرقيق - ولا أقول الخالص بعد - فلتهجر إلى شارع عماد الدين تنافس فيه ما تشاء.
فهنالك معترك المسرحيات الرثة. و (لويس الحادي عشر) من البضاعة المبتذلة. وإن خطر لك أن تستوحش من ناحيتي فتتوجس مني التشدد، فخذ حكم ناقد بصير من نقاد المسرح في فرنسة وأسمه لوسيان دوبيك و (لويس الحادي عشر) من تأليف ك. ديلافني وهو فرنسي؛ وفي فرنسة برزت تلك المسرحية، وأديت غير مرة.
يقول دوبيك في مؤلفه الضخم: (التاريخ العام المزوّق للمسرح) (باريس 1932 ج 5 ص 45 ي ي): (أن مسرحية الحادي عشر ليست بأحسن من أرذل المآسي الابتداعية (الرومنتيكية)). ثم يبين دوبيك مقدار فساد المسرحية من جهة حقيقة التاريخ وحبك الموضوع ونسج المشاهد
تلك هي قيمة المسرحية، وهي من نوع المأساة المفرطة الملفَّقة تلفيقاً وأما تأديتها على مسرح الأوبرة فلولا براعة الأستاذ جورج أبيض واقتصاده في الأداء، في الفصل الأول والثاني، لانقلبت المسرحية كلها (مهزلة) وضربت إلى لون التهريج وقد لمس النظارة ذلك اللون في الفصل الثالث إذ غالى أبيض في الرجفان واللهاث والحشرجة والتضوّر.
وأثار هذا المشهد من حولي الضحك الفاتر، فحمدت الله على أن زمن طلب الانتفاض الرخيص قد وّلى. وكأني بالأستاذ أبيض - مع إكباري لمسعاه - عزّ عليه أن يترك في ذلك الفصل طريقته الأولى، وقد فاته أن الذوق يسيل ويتحول
وفي الإخراج نفسه مآخذ. من ذلك موقف الأستاذ حسين رياض في حجرة الملك، فأنك تراه ينوي اغتيال الملك فيصيح صياح الذبيحة - كأنه يغالب أبيض في المغالاة - وخلف باب الحجرة حراس كماة ساهرون. إن ذلك الموقف يتطلب الهمس المضطرب والقرّ في الأذن؛ وذلك آخذ للأعصاب من الصياح والولولة. ومن المآخذ أيضاً أن كراسي المخدع كانت منجدة تنجيداً، والمتعارَف أن فن الأثاث في عهد لويس الحادي عشر - أي قبل تأثير الفن(341/63)
الإيطالي ' في بقايا فن القرون الوسطى - يجهل الفُرُشَ المنجدة، بل يطرح الطارح على المقاعد المختلفة نمارقَ وُبسُطاً ووسائدَ.
ومن المآخذ أيضاً على المخرج لم يُفد من الدَّرَجِ القائم في منتصف الحجرة، المؤدي إلى مخدع الملك. فإنما على ذلك الدرج كان يحسن بالمغتال أن ينقضّ على الملك. وهكذا يكون الانقضاض من علٍ، ويكون الصراع، مع ما يليه من تقلب الملك على الأرض، بيِّناً للنظَّارة
أضف إلى كل هذا أن نفراً من الممثلين لم يحسنوا الإلقاء ولا تنغيم الكلام. ويحزنني أن أخصص فأذكر الآنسة فردوس حسن والأستاذ زكي رستم
بقي أن في الفصل الثاني مشهداً لطيفاً. وهذا المشهد إلى نوع المهزلة قريب، والمهزلة فن نحكمه في مصر، ولذلك يستغيث به المخرجون عندنا لعلمهم أنه عمود النجاة
وهنا ألتفت إلى الأستاذ فتوح نشاطي الذي أخرج منذ عودته من باريس مسرحيتين: الأولى (تحت سماء أسبانية)، وأظنني قلت في تأديتها قولاً حسناً؛ والثانية (لويس الحادي عشر).
ألتفت إلى الأستاذ فتوح نشاطي أصارحه بأني أراه يخرج مسرحيتين يعرف أنه يظفر من ورائهما بالنجاح السهل، إذ أنهما من النوع الذي يرضي من قلت درايته وجفت ثقافته. وهذا نوع يلوذ بالتأثير المباشر والحادث النفّاض، فضلاً عن إغراقه في الأبتداعية الكريهة. ومتى نتخلص منها؟ ألا قد حان الزمن يا أيها الناس!
وكم كنت أود أن أرى الأستاذ فتوح نشاطي يهمس في أذن الأستاذ أبيض: أتريد أن تمثل لويس الحادي عشر، فأعدل عن تلك المسرحية البالية التافهة إلى إحدى مسرحيتين لبول وأما الأولى فعنوانها (لويس الحادي عشر الرجل الشاذ) , وقد برزت على مسرح (الأوديون) سنة 1921. وأما الثانية فعنوانها (أصفياء الملك لويس الحادي عشر)
وقد برزت على مسرح (الكوميدي فرانسيز) سنة 1926. فهنا تصيب اللطف والنسق فضلاً عن الجدّة والروح الشعري
إن الأستاذ نشاطي أنطلق إلى باريس وأقام بها سنة ونحو سنة ليقفل وبين يديه الطرائف وبين جناحيه ولع بالفن الرقيق
أمنية أرقب من يحققها: جماعة أو فرقة أو شعبة للفن الخالص، الفن الطالع(341/64)
بشر فارس
نهج البلاغة أيضاً
إلى الأستاذ الكبير النشاشيبي
قرأت بلهفة شديدة فتواكم الأدبية على استفتاء السائل العراقي حول نسبة (نهج البلاغة) وذلك قبل أن أسبر موضوعات الرسالة الغراء، لظني أن جواب حجة الأدب وأعلم الناس بمراجع هذا البحث، كما أتفق على ذلك السائل وخصومه، سيكون شافياً كافياً. ولكن مع الأسف لم يكن كذلك، لأن الأستاذ اكتفى بترجيح قول المنكرين بلا مرجح حيث لم يدعم فتواه بالدليل والبرهان شأن غيره من أهل البرهان وفرسان الأدب وحجاجه. كما أن إحالة السائل ومناظريه على كتابيه حفظه الله (كلمة في اللغة العربية) و (الإسلام الصحيح) غير كافية للحكم.
ثم أن قول حجة الأدب (أن نهج البلاغة من كتب إخواننا الإمامية وهو مجموعة مصطفاة إن لم يحبره سيدنا عليّ (رضي الله عنه) فقد انتقاه وحبره علويين كما زخرف محدثون (كل حزب بما لديهم فرحون)) قول مجرد لا يقنع الخصم. وكان الأجدر بأعلم الناس بمراجع هذا البحث المهم أن يزيح العلة ويشفي الغلة بما لديه من حجج وبراهين وإن كانت التي أوردوها في كتابيه (كلمة في اللغة العربية والإسلام والصحيح) ذلك ليكون القراء على بينة من حقيقة هذه الدعوى وحجة الفتوى التي اضطرتني إلى أن أطلب إلى الأستاذ الحجة وألتمس منه تنويري وأرشاد طلاب وهواة التاريخ بإيضاح النقاط التالية:
1 - من هم العلويين الذين حبروا مجموعة كتاب (نهج البلاغة) المصطفاة، لأن كلمة المنكرين تكاد تتفق على أنه واضعه هو الشريف الرضي وحده بلا معين ولا شريك
2 - هل يقصد بكلمة العلويين الذين يمتون إلى عليّ بصلة النسب أم بالمبدأ والتشيّع له؟
3 - هل تمت مجموعة النهج في عصر واحد أم في عصور مختلفة مع بيان الأسباب والدواعي لوضعها على قدر المستطاع
4 - ما قولكم دام فضلكم فيما أثبته المؤرخون وجهابذة الأدب من قدماء ومتأخرين من غير العلويين في صحة نسبة أغلب المجموعة المصطفاة لسيدنا عليّ كرم الله وجهه(341/65)
5 - إرشادنا إلى الخطب التي تثبت صحة نسبتها لأبي الحسين عند الأستاذ
6 - إذا عسر على حجة الأدب أن يزيل عنا الإبهام الوارد في جوابه الذي أجاب به السائل العراقي والمنحصر في النقاط المتقدمة، فإلى من تنتسب مجموعة (نهج البلاغة) وهو الكتاب العظيم بعد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. هذا ما نود من صميم الفؤاد ألا يضن حضرة الأستاذ بإعطاء الجواب الشافي عليه، وبذلك يكون قد أسدى خدمة جليلة جديدة للأدب العربي الصحيح.
(بعضوية - عراق)
توفيق الفكيكي
في معنى بيت وإعرابه
قال أعشى قيس في مطلع قصيدته في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ألم تَغتمِض عيناك ليلة أرْمَدَا ... وبت كما بات السَّليم مُسهَّدَا
فقال النحاة: إن (ليلة) فيه ليس منصوباً على الظرفية، لأنه يكون المعنى على ذلك ألم تغتمض عيناك في ليلة أرمد، وهو الذي يشتكي عينيه من الرمد، وذلك معنى فاسد، وإنما هو منصوب على أنه مفعول مطلق، والمعنى عليه: ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد، أي اغتماضاً يشبه اغتماضه، فحذف المصدر المضاف إلى الليلة وأقيمت مقامه، فصار إعرابها كأعرابه
وقال صديقي العالم العلامة أبو رجاء في تعليقاته على سيرة أبن هشام: هذا الذي ذكره النحاة مبنى على ان (أرمد) صفة معناها الذي أصابه الرمد، والألف فيه ألف إطلاق، وعندي أن خيراً من هذا كله أن يكون قوله (أرمدا) فعلاً ماضياً مسنداً إلى ألف الاثنين التي تعود إلى قوله (عيناك) وعليه يكون ليلة منصوباً على الظرفية. قال الفيومي في المصباح: (رمدت العين من باب التعب وأرمدت بالألف لغة) ويكون قد حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المثنى المؤنث
وقد تكلف صديقي أبو رجاء هذا الإعراب بناء على تلك اللغة التي ذكرها المصباح، وعلى أن الفعل المسند إلى ضمير المؤنث المجازي يجوز تجريده من التاء في ضرورة الشعر.(341/66)
ولو أن الأمر يقف عند هذا لسهل الخطب، ولكن المعنى الذي أراده الأعشى لا يتفق مع هذا الأعراب، وهو معنى متقرر عند الشعراء لا ينفرد به الأعشى وحده، وقد ورد في قول أمرىء القيس بن عانس الكندي:
تطاوَلَ ليلك بالأثمُدِ ... ونام الخَليُّ ولم تَرْقُدِ
وبات وباتتْ له ليلةٌ ... كليلة ذي العائر الأرمد
فالأعشى يريد هذا المعنى الذي صرح به أمرىء القيس، وهو ظاهر جداً في أعراب جمهور النحاة، ولا يريد الأعشى أن عينيه اغتمضتا في ليلة إرمادهما، لأنه لم يكن في موقف الشكوى من هذا، وإنما كان في موقف النسيب الذي يبتدأ به القصيد، وهذا ما قررته لطلابي في القسم العام بالجامع الأزهر عند موضعه من المفعول المطلق
عبد المتعال الصعيدي
في عيد القاهرة الألفي
مما عنيت به الجمعية الجغرافية الملكية - لمناسبة عيد مدينة القاهرة الألفي - إصدار كتابين عن المدينة، أحدهما باللغة الفرنسية، وهو يتناول الكلام عنها منذ نشأتها إلى ما قبيل حملة نابليون، كما رآها الرحالون الأوربيون. وقد أضطلع بتأليفه الأساتذة: فييت ومونييه ودوب؛ وأتموا جانباً كبيراً منه.
وسيضم هذا الكتاب الأحاديث الممتعة التي كتبها عن القاهرة كثير من الرحالين الذين زاروها حين كانت أغنى مدن الشرق وأعظمها أتساعاً. ويشتمل إلى هذا، على وصف معالمها والمراسم التي كانت تجري في استقبال سفراء الدول الأوربية في بلاط السلاطين والخلفاء.
وأما الكتاب الآخر، فيتناول موضوع (القاهرة عند الرحالة الشرقيين)، وسيصدر باللغة العربية، وقد أخذ في تأليفه الدكتور زكي محمد حسن والنقيب عبد الرحمن زكي، وهو يتمم الكتاب الأول.
وستعرض الجمعية نموذجاً كبيراً مجسماً لمدينة القاهرة بدئ بعمله منذ حوالي عشر سنوات بفضل رعاية المغفور له الملك فؤاد.(341/67)
وقد أتمه المختصون في مصلحة التنظيم فجاء مشتملاً على كل مبنى وشارع وبيت في المدينة.
وكذلك تعرض الجمعية مجموعة كبيرة من المصورات الجغرافية والمستندات واللوحات والصور التي تتعلق بعاصمة البلاد وتاريخها في مختلف العصور.
إلى الأستاذ الجليل (ق)
اطلعت في الجزء (340) من الرسالة الغراء على مقالكم القيم (قد لا يكون) وفيه سقتم شواهد على صحة توسط (لا) النافية بين (قد) والفعل. وأنه لعمل عظيم تضيفونه إلى ما أسديتم إلى قراء العربية من أياد يشكرونكم عليها. . .
غير أنه لفت نظري نقلكم هذه العبارة من كلام العكبري - أن قد صدقتنا - أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف وقيل: أن مصدرية (وقد لا تمنع) من ذلك إلى منتهى كلام العكبري.
فأنت ترى معي يا سيدس الفاضل أن (قد) في كلام العكبري مبتدأ خبره قوله: (لا تمنع من ذلك) أي أن وجود (قد) في الكلام لا ينافي أن تكون (أن) مصدرية. فليس مما أنتم بسبيله.
وتقبلوا تحياتي وإجلالي
عوص السيد السمل
ويل للحقائق منا
في العدد (339) من الرسالة الزهراء كتب الدكتور زكي مبارك - وإن يكن أخفى اسمه فقد نم عليه أسلوبه - مقالته (نميمة الأسلوب) وفيها يلوم زمانه وأهل زمانه، ثم يقارن بين حاله وحال النبي أيوب شيخ الصابرين فيقول: (وأين فجيعة أيوب في دنياه من فجيعتي في دنياي؟. . . كان الدينار لعهد أيوب يمون الرجل شهراً أو شهرين، وأنا في عهد يهان فيه الرجل إن اكتفى بالدينار يوماً أو يومين، فمن يسلطني على دهري فأسجل رزاياه على نحو ما صنع أيوب؟)
وفي العدد (340) كتب أستاذنا الزيات آيته: (هل خصب الأرض يستلزم جدب القرائح) فكان مما قاله فيها: (تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني، يؤتى أكله كل حين بيسير من الجهد وقليل النفقة، فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك(341/68)
روحه بنصف قرش! وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف)!. . .
هذا قول الزيات وذلك قول مبارك، وبينهما التناقض الواضح، لأن الفقير عند الزيات يضمن قوته بنصف قرش، فلا يصعب أن يضمن الغني قوته بقروش. . . ولكن المبارك يوهمنا بأن المكتفي بيننا بالدينار بنفقه في اليوم أو اليومين مهان محتقر!
فأين يقف القراء المساكين من هذين القولين؟. . .
أصرح برغم صداقتي بالدكتور مبارك أن هواي مع أستاذي الزيات، وفكري يميل حيث مال فكره العبقري، والصداقة شيء والرأي شيء آخر يا دكتور. . .
ولقد كان الأستاذ عزيز فهمي المداعب المدقق البارع موفقاً حين أزال عن الدكتور مبارك (مكياجه) و (رتوشه) فقال ساخراً متهكماً: (أن الكاتب من الكتاب الذين يشعرون بأن الإنسان يهان إذا اكتفى بالدينار في اليوم أو اليومين. . . فهو من غير شك قد رحمه الله من إهانات يا لها من إهانات لو لم يكن ينفق الدينار في اليوم أو في اليومين. . . كان الله في عون الكتاب وغير الكتاب من أبناء اليوم الذين ينفقون الدينار في الأسبوع أو في الشهر أو في العام. . . إن هؤلاء هم الأيوبيون - لا الأيوبون يا أستاذ عزيز! -)
سامحك الله يا دكتور مبارك وغفر لك قولك!. . . إذن ألف رحمة وحسرة على كثير من الأدباء في مصر لا يجدون الخبز الأسود إلا بشق الأنفس، وقد ينفقون القرش - القرش لا الدينار يا دكتور! - في اليوم أو اليومين!. . . إذن ألف أسف لذلك العدد الضخم من الكتاب والصحافيين الذين تتلقفهم المقاهي وتتلاعب بهم الأندية أو الطرقات، وهم إلى الصعاليك والمشردين البؤساء أقرب منهم إلى الكتاب والأدباء!. . .
إنك سعيد ومحظوظ ومحسود يا دكتور، أنك تعتبر نفسك مهاناً لأنك تنفق في اليوم أو اليومين - على الأكثر - ديناراً بأكمله. . . يكاد قلمي أن يسطر عبارة لوم واتهام لك، إذ تسبح في بحار النعيم وتخطر في فردوس الغنى، وأمامك الكثير من إخوانك تصرخ أمعائهم جوعاً، وأجسامهم ضنى ومرضاً؛ وأنت لا ترق ولا تلين، فتعطيهم ما يفضل من دنانيرك من قروش ومليمات!. . . ثم لا تكتفي بذلك، بل تذهب فتغالط وتشكو وتتألم!!. . . ويل للحقائق منا يا دكتور!. . .(341/69)
(كلية اللغة)
أحمد جمعة الشرباصي
أعراب جملة
سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة الغراء
في الوسط الأدبي الذي أعيش فيه خلاف على أعراب الجمل الآتية وما في حكمها:
يريد أن يعرب البيت فيعجمه
يريد أن ينجح فيرسب
يريد أن ينهض فيكبو
فهل (الفاء) للعطف فينصب ما بعدها؟ أن يكن ذلك فإن الإرادة تنسحب إلى الفعل الثاني، ومدلوله غير مراد. فلإعجام والرسوب والكبو غير مقصود
وإن لم تكن الفاء للعطف فما معناها وما عملها في الجملة؟
(ديروط)
ع. مصطفى
الوحدة المذهبية في شمال أفريقيا
جاء في الرسالة الغراء بعدد 336 من مقال الأستاذ أبي الوفا بعنوان: (شمال أفريقيا والأستاذ الحصري) العبارة التالية:
(أما الوحدة المذهبية فالمغرب من أقصاه لأقصاه على مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس وليس فيه طوائف دينية كالرافضة والأباضية وغيرهما (كذا) من بقية الفرق الدينية التي توجد كثيراً في بلدان الشرق العربي والإسلامي
إن مقال الأستاذ يشعر أن الأباضية ليسوا من الفرق الإسلامية. والذي يلفت النظر أن مقاله هذا جاء عقب قوله: (وليس في المغرب أقليات دينية سوى أقلية ضئيلة من اليهود)
كان الأولى بالأستاذ أن يقول بدل جملة الطوائف الدينية:
وليس فيه (أي شمال أفريقيا) مذاهب إسلامية أخرى كالمذهب التي توجد كثيراً. . . الخ.(341/70)
أما نحن فلسنا الآن بصدد الرد على الأستاذ أبي الوفا لقوله بعدم وجود أباضية بشمال أفريقيا، لأني أعتقد أن العلامة الأستاذ أبا إسحاق اطفيش نزيل القاهرة الآن، وهو من جلة علماء الأباضية بشمال أفريقيا لن يسكت عن الجواب وإيضاح الحقيقة لمن يتجاهل أو يجهل وجود الأباضية المسلمين بشمال أفريقيا بأهم مدنه من طرابلس الغرب وتونس والجزائر ووادي ميزاب وغيرهن من المدن المشهورة، من أقدم التاريخ حتى الآن وإلى ما شاء الله من الزمن، وحسبهم مفخرة تمسكهم بالعروة الوثقى من الدين الإسلامي الصحيح
الحق أن النزعة الإسلامية المتأصلة في قرار نفوسنا تضطرنا لإصلاح أغلاط إخواننا فينا. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والسلام عليكم
أحمد الكندي
مراقب بعثة سلطنة مسقط - عمان
القصص المدرسية
أخرج الأساتذة سعيد العريان، وأمين دويدار، ومحمود زهران، حلقة جديدة من سلسلة القصص المدرسية التي يوالون إصدارها منذ سنين، ليسدوا النقص البادي في أدب الأطفال العرب؛ وهذه الحلقة الجديدة هي مجموعة من أربع قصص في 160 صفحة: اثنتان منها لكبار التلاميذ في المدارس الابتدائية، والاثنتان الأخريان على المنهج الجديد لتلاميذ السنة الأولى في المدارس الابتدائية لدروس القصص، ورياض الأطفال
والقصص الأربع مكتوبة بأسلوب سهل ممتع، معروضة عرضاً فنياً بليغاً يشوق الطفل ويلذه، ويقدم له الفائدة في أسلوب رشيق طلي
وثمن القصص الأربع جميعاً عشرة مليمات
فنرجو أن ينتفع تلاميذ المدارس الابتدائية، ورياض الأطفال بهذه المجموعة الجديدة من القصص المدرسية، وأن يجد مؤلفوها من التشجيع ما يعينهم على الاستمرار في هذا الباب الجديد من أبواب الأدب(341/71)
رسالة النقد
كتاب (الإمتاع والمؤانسة)
أتحدث إلى القراء عن طرفة من أثمن طرائف الأدب القديم يعد ظهورها في هذا العصر من خير ما أثمرت المطابع المصرية من كتب الأدب الرفيع، كما يعد الاتجاه إلى نشرها من أحسن ما وقفت إلى التفكير فيه لجنة التأليف والترجمة والنشر، على كثرة ما وفقت إليه في تفكيرها. وتلك الطرفة النفيسة هي كتاب:
(الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي)
وإنك لتقرأ هذا الكتاب من أوله إلى آخره، فيملأ نفسك روعة، قبل أن يروعك أدب مؤلفه الفذّ بما تراه فيه من براعة الحسن في جودة طبعه، ودقة في تصحيحه، وصدق النظر فيه، وكمال العناية بكل لفظ من ألفاظه.
وقد قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب، وكنت قد اطلعت على عدة صفحات من نسخته الأصلية المأخوذة بالتصوير الشمسي المحفوظة بدار الكتب المصرية، وهي النسخة والوحيدة لهذا الجزء رغبة في تتميم بعض البحوث عن مؤلفه أبى حيان التوحيدي، وإذا بي أرى جميع سطورها مغمورة بالتصحيف والتحريف، والنقص والزيادة؛ فلا يهتدي الساري في ظلمات هذه النسخة إلا بمصباح قوي من الأدب القويم، والذوق السليم، والمران الطويل، والصبر الذي لا يعرف الضجر.
وقد بعثني على تناول الكتاب من هذه الناحية مقالان قرأتهما في مجلة الرسالة للدكتورين زكي مبارك وبشر فارس تغاضيا فيهما كل التغاضي عما ملئت به صحفه من حسن وإحسان رائعين، وأغفلا كل الإغفال تلك الجهود القوية الملموسة في كل ناحية من نواحيه، وشغلا بعدة كليمات تافهة قد تسقطاها في هذا الكتاب، زاعمين في بعضها زعماً لم يؤيده الواقع في شيء أن مصححيه الفاضلين قد فاتهما تصححيه أو شرحه، وفي البعض الآخر منها أنهما قد صححاه تصححياً أو شرحاه شرحاً لا يلائم الصواب.
وقبل أن أتحدث إلى القراء عن هذين المقالين أريد أن أنبههما وأمثالهما من النقاد إلى أنه لا ينبغي أن ينشر في الصحف في نقد أي كتاب إلا ما يتعلق بقيمته الفنية ومنزلته بين أشباهه من الكتب، والمميزات التي تميز بها عن غيره من المؤلفات في فنه، وما كان يفقد هذا الفن(341/72)