ورأى فرسنيه أن تحاط روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا بما تتخذه إنجلترا وفرنسا حيال المسألة المصرية على أن تكون تعليمات تلك الدول إلى سفرائها في الآستانة عين تعليمات الدولتين
أما عن مركز الخديو فقد رجعت فرنسا عن رأيها في خلعه ذلك الرأي الذي كانت تراه لو اتبع قبل ذلك يقضي على كثير من الصعاب
وكان فرسنيه يريد من المظاهرة البحرية أن يلقي الرعب في قلوب الوزراء ليقلعوا عن مقاومة الخديو فتنتهي الأزمة التي كانت قائمة بينه وبينهم، ولقد وافق جرانقل على مقترحات فرسنيه في جملتها ورأى أن يبلغ الباب العالي مع الاحتياط في القول أنه قد تعرض عليه في المستقبل مقترحات أخرى، ولكن فرسنيه لم ير هذا الرأي لأنه كان يرغب عن التقرب من تركيا ولذلك رفضه بادئ الأمر ولكنه عاد فقبله بعد إلحاف جرانفل عليه وكتب إلى سفيره بالآستانة أن يبلغ السلطان أنه (ليس من المستبعد أن تقدم اقتراحات أخرى إلى تركيا فيما بعد)
وأراد جرانفل أن يبعد عن نفسه وعن حكومته تهمة الرغبة في التدخل في شؤون مصر فاقترح أن تدعى الدول الأوربية إلى إرسال سفن إلى الإسكندرية تقف إلى جانب السفن الإنجليزية الفرنسية؛ وما كان جرانفل جاداً فيما يقول فإنه كان على يقين أنه سيقابل من فرنسا بالرفض ولو كانت لديه شبهة أن ستقبله فرنسا لما تقدم به، بل لو كان هذا الاقتراح من جانب فرنسا لعارضت فيه إنجلترا أشد المعرضة؛ ولو أن إنجلترا كنت جادة في مقترحها هذا لبذلت قصارى جهدها لتحمل فرنسا على قبوله ولكنها اكتفت أن تبلغ فرسنيه على لسان وزيرها أنها تأسف ألا تقرها فرنسا على وجهة نظرها وأنها تعد من الخطأ عدم دعوة الدول إلى الاشتراك في تلك المظاهرة، ولكن بما أن فرنسا قد ذهبت في الموافقة على السياسة البريطانية إلى مثل هذا الحد فإن إنجلترا لا يسعها إلا أن توافق فرنسا على ما ترى
وآمن فرسنيه بنزاهة السياسة الإنجليزية، ولو كان غير فرسنيه في موضعه لآمن بها كما آمن هذا، فلم يكن يدور بخلد أحد يومئذ أن إنجلترا كانت تترقب الفرص لتنقض على الفريسة دون فرنسا ولا كان في عملها ما يستراب منه؛ ولكن الإنجليز في هذا العالم خير(323/38)
من انتصح بنصائح مكيافلي وخير من حذقها ولو قد تأخر الزمن بهذا الرجل لأخذ عنهم مبادئه ولوجد في أساليبهم وخططهم أبلغ أمثلة كتابه
الحق أن هذا المكر كان يدق على فرسنيه وغير فرسنيه من أولي الخبرة والدهاء من الرجال؛ وما كان ليفطن إلى هذا إلا من يسيء الظن بإنجلترا فيكون مبعث فطنته سوء الظن لا حسن الفهم وبعد النظر، ونحن إنما نفطن إلى هذه السياسة بعد أن تكشفت وتعاقبت عليها السنون، ولقد فطن إليها فرسنيه ورجال حكومته وشعبه لا ريب يوم وقعت الواقعة وانفردت إنجلترا بضرب الإسكندرية غير حاسبة لأي شيء من حولها حساباً
وكانت إنجلترا تبغي من سياستها هذه أن تصرف الدول عن مصر فإن دعوة تلك الدول إلى مشاركتها في المظاهرة البحرية يظهرها بمظهر من لا غرض له إلا الصالح العام في حين أن انفرادها هي وفرنسا بالأمر يغضب الدول ويجعلها تميل إلى التدخل لتنال حظاً من الغنيمة في مصر أو في غير مصر يوم يقوم الحساب وتوزع الأسلاب
وفضلاً عن ذلك فقد كانت إنجلترا تحذر أشد الحذر أن تغضب السلطان فينحاز إلى عرابي وحزبه ضد توفيق فيظهر هؤلاء بمظهر المحافظين على حقوق السلطان صاحب الحق الشرعي ضد الخديو ومشايعيه من الطامعين، وهنالك فكل تهمة بالعصيان ضد عرابي أمام الشعب المصري إنما تذهب أدراج الرياح
ولقد فطن ماليت إلى خطورة هذا الأمر وكتب إلى حكومته ينذرها أن إغفال تركيا من شأنه أن يضم النواب إلى العسكريين فيقفوا جميعاً صفاً واحداً ضد أوربا أو على الأقل إنه يقوي جانب عرابي وأشياعه
وودت إنجلترا لو طاوعتها فرنسا فيما أشارت به، ولما وجدت إصرارها على استبعاد تركيا والدول جميعاً لم تر بداً من أن ترسل إلى الدول قراراً ينفي أي نية في احتلال مصر ويؤكد أن إنجلترا لم ترد بالمظاهرة البحرية إلا إقرار السلام داخل مصر وأنها سوف تترك مصر وشأنها إذا قضي على ما فيها من القلاقل؛ وإذا لم تنجح تلك الوسائل السلمية فسوف تتفق إنجلترا والدول على ما تراه هي وفرنسا خير سياسة تتبع
وتحدث اللورد دوفرين سفير إنجلترا بالآستانة إلى وزير الخارجية العثماني في لهجة شديدة قائلاً: إنه إذا لم تعمل تركيا ما من شأنه أن يسهل على إنجلترا خطتها فسوف تزيد إنجلترا(323/39)
عدد القطع في الإسكندرية وتطيل أمد بقائها جميعاً هناك
ولكن السلطان آلمه وأغضبه أن توجد السفن الفرنسية الإنجليزية أمام الإسكندرية فلم يكف عن احتجاجه وإعلان سخطه مما زاد الموقف العام حرجاً وتعقيداً
وبينما كانت فرنسا وإنجلترا تتبادلان الرأي على النحو الذي نذكر، كان الحنق في مصر على الخديو يتزايد يوماً عن يوم، وما زال الناس في قلق وخوف من موقفه ومشايعته الإنجليز على هذه الصورة حتى وصلت السفن إلى الإسكندرية
ولقد أخذ بعض الناس على الوطنيين أنهم لم يخلعوا الخديو في ذلك الوقت ويتصلوا بتركيا طالبين تعيين غيره؛ والواقع أنها مسألة دقيقة، فمن الناحية الوطنية كان الوطنيون يرون ضرورة خلعه، وحجتهم أن السكوت معناه التفريط في جانب الوطن ولكنهم من الوجهة الأخرى كانوا يرون أن عملهم هذا ينقلب وبالاً عليهم في ظروف كتلك الظروف التي أذاعت فيها أوربا عنهم المزعجات من الشائعات
وفي هذه الآونة حدث في صفوف النواب ما نخجل أشد الخجل من ذكره، فقد انحاز كبيرهم سلطان إلى الإنجليز وشايعه عدد منهم ليس بالقليل ولم يكن للوطنيين من عاصم في تلك المحنة إلا الاتحاد والثبات فكأنما تأبى الأيام إلا أن تجعل من أبناء مصر بعضهم لبعض عدواً، وكأن ذلك لكثرة ما تكرر من طباعهم التي فطروا عليها؛ ولطالما نكب هذا الشرق المسكين بتخاذله وانقسام أبنائه بعضهم على بعض مع أنهم يرون الظالمين الطامعين فيهم من أهل الغرب بعضهم في الكيد لهم أولياء بعض!
وكان انحياز سلطان والمستضعفين من النواب معه إلى الخديو أولى ثمرات المظاهرة البحرية؛ فإن سلطاناً حينما علم بها من الخديو فكر وتدبر ورأى أن المستقبل للخديو؛ فلما حضرت السفن اطمأن إلى الخديو وآثر أن يبادر بالانضمام إليه لتكون له الحظوة والمكانة عنده وعند الإنجليز أولي الجاه والبأس؛ وأمثال سلطان هذا إنما يعملون لأشخاصهم فحسب، وعلى ذلك فهم عبيد القوة وإن تعاظموا، وهم أضعف الناس وإن تطاولوا، وهم أحرص الناس على المادة وإن تظاهروا بالنبل والعفة، وهم إنما يدلون بجاه من يستكينون إليهم إدلال الخادم بسيف سيده
ونشط ماليت وأعوانه من جديد يذيعون أسوأ الأنباء عن مصر وعن عرابي وحزبه على(323/40)
وجه الخصوص، حتى لقد وقف جرانفل في مجلس اللوردات في يوم 15 مايو يتوعد مصر ويتهدد ويصرح في غير تردد ولا استحياء أن النواب والأمة جميعاً في صف الخديو
وكان مستر بلنت لا يزال يسعى سعيه في إنجلترا لصالح الوطنيين وكانت بينه وبين عرابي مراسلات برقية قبل تصريح جرنفل يؤكد فيها عرابي الهدوء والسلام في مصر، فلما أعلن جرنفل تصريحه أرسل بلنت إلى عرابي رسالة برقية بتاريخ 16 مايو يقول فيها: (قال لورد جرانفل في البرلمان أن سلطان باشا والنواب قد انضموا إلى الخديو ضدك، فإن كان هذا القول غير صحيح فاطلب إلى سلطان باشا أن يرسل إلي تكذيباً، وإذا اتحدتم فلا تخشوا شيئاً. . . ألا يمكنكم أن تؤلفوا وزارة يكون سلطان رئيساً لها؟ وعلى كل حال عليكم بالثبات)
وأرسل هذا الرجل الحر إلى سلطان باشا في نفس الوقت برقية هذا نصها: (أعتقد أن جميع أولئك الذين يحبون مصر يجب أن يتحدوا فلا تتشاجر مع عرابي. إن الخطر عظيم) كما أرسل إلى كل من بطرس باشا وأبو يوسف ومحمد باشا الفلكي هذه البرقية (هل الحزب الوطني مع عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تدعي أنه ليس كذلك. إذا ذهب اتحادكم ضمتكم أوربا إلى أملاكها) ووصلت هذه البرقية أيضاً إلى الشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله أفندي نديم
وجاء بلنت رد سلطان فإذا به يقول: (لقد زال الخلاف الذي كان بين الخديو وبين الوزارة ولم يبق له أثر. وكلنا متفق على المحافظة على الأمن والسلام وعلى مناصرة الوزارة الحاضرة)
وتلقى كذلك مسير بلنت برقية من الشيخ الأمبابي شيخ الجامع الأزهر نصها: (من الشيخ الأنبابي شيخ الإسلام. سوى الخلاف بين الوزارة والخديو، والحزب الوطني راض بعرابي، والأمة والجيش متحدان)
وكتب الشيخ محمد عبده إليه أيضاً مثل هذا المعنى.
(يتبع)
الخفيف(323/41)
من نار الفراق
قبلما يتمرد القلب!
(سأغضب، فاخشى غضبتي، إن نارها=بقلبي بركان خفي
معربد)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
1 - الغضب الملتاع. . .
سأغضبُ. . . لا أجفو، ولا أتمرَّدُ ... ولكنْ ضبابٌ سوْف يَنْكى له الغدُ!
سأغضبُ. . . لا أسلو! وكيفَ؟! وإنما ... حَبيبُكِ تُضنيهِ الجراحُ فيزْهدُ
ويزْهدُ لا عنْ نُور عيْنَيْكِ. . . إنما ... أغاني الهوَى للقَصْر تَبْلى وتَنفدُ
ويُصبِحُ شادِيكِ المُعَذَّبُ غُنْوَةً ... مُكبَّلةَ الأنغامِ لا تَتَنهَّدُ
خَريفيَّةَ الأحلامِ، قَبْرِيّةَ الصَّدَى ... بها الحُبُّ مَخنوقُ الشُّعاعِ مُقَيَّدُ
تُولْوِلُ في صَمْتِ الدُّموعِ كأنها ... عَزيفُ الليالي. . . لا ربابٌ، ولا يَدُ!
سأغضب. . . فاخشيْ غضبتي! إنَّ نارها ... بِقَلْبي بُركانٌ خَفِيٌّ مُعَرْبِدُ
إذا ثارَ. . . يا ويْل الهوَى! ويْلَ صفوِهِ ... إذا هَبَّ إعصارُ الملالِ المبَدِّدُ
ويا ويْل ما غنَّت لكِ الرُّوح شِعرَها! ... سَيَصْمُتُ بي هذا العَذابُ المغرِّدُ
وتَثْمَلُ أوْتاري بخمْرٍ شَقيَّةٍ ... على كأسِها جِنُّ الأسَى مُتَمَرِّدُ
سَقَى كرْمَها دَمعُ الثَّكالَى، وهَزَّها ... أَنينٌ على لَيْل الحَزانَى مُتَردَّدُ
فإنْ رُمْتُ تَغْريداً لحُسْنِكِ لَفَّني ... جُنوني، وأعْياني السُّكون المشَرَّدُ
ويَغْدُو إلهُ الحُسنِ في عُزْلةِ الهوَى ... فلا الحُسن معبودٌ، ولا الصَّبُّ يعبُدُ. .
سأغضبُ. . . لكنْ غضبةَ الزَّهر حِينما ... يُجافيهِ ظِلٌّ في الهَجيرِ مُمَدَّدُ
سأغضب. . لكن غضبةَ اللَّحْن حينما ... يَدِفُّ به في قَفْرَةِ السمْعِ مُنشِدُ
سأغضب يا نَبْعَ الرِّضا وظِلالَهُ ... ويا مَنْ إليها جَذْوَتي تَتوَقَّدُ
فخِفِّي إلى أيَّاميَ السُّودِ، وامسحي ... جَبيناً على كفَّيكِ كم راحَ يَسجدُ!
وَزُفِّي خُطاكِ البِيضِ إني بِنورها ... إلى واحَتي الكُبرَى أَسِيرُ وأُرْشَدُ. .(323/43)
2 - التوبة الكبرى
(القبلة!. . .)
. . . وأَبْعَدُ آفاقِ الهَوَى مِنكِ قُبلَةٌ ... هِيَ الخُلْدُ أوْ في حبِّنا هِيَ أخْلَدُ
بَقيَّةُ آمالي من الكونِ طَيفُها ... أبِيتُ لهُ مِنْ لَوْعَتِي أتَهَجَّدُ
نَشُيدة أحْلامِي من الحبِّ، دُونَها ... وعُمرِي كَعصْفِ السّافِياتِ يُبدّدُ
فهاتِي لرُوحي خَمْرَها وجُنونَها ... فَمَا بِسِوَاهَا مُهْيجَتِي تَتَعَبّدُ
هِيَ التّوْبةُ الكبرى لِجسمي إذا غَدَتْ ... بِهِ شَهْوَةُ الآثامِ تُرغْى وتُزْبِدُ
فلا تحْبِسيها في الشِّفاه. . . وأقْبِلي ... بِثَوْرتها. . . فالعُمْرُ أوشكَ يَنْفدُ!
(سأغضب. . . لا أجفُو! ولا أتمرّدُ ... ولكنْ ضبابٌ سَوْف يبكي له الغَدُ)
(فخِفِّي إلى أيامِيَ السُّود، وامْسَحي ... جبيناً على كفَّيك كم راحَ يَسْجُدُ!)
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل(323/44)
كلمة ولوع
للأستاذ خليل شيبوب
غريبةٌ هذه الحياةُ ... وكل ما في الورى غريبُ
يا هند ما بال مقلتيك ... ملؤهما الدمع والصفاء
كأنما تحت حاجبيك ... من الدجى النجم والضياء
فكفكفي الدمع لا عليك ... تبتسم الأرض والسماء
هذا فؤادي يجثو لديك ... عبادة والهوى ضروب
غريبة هذه الحياة ... وكل ما في الورى غريب
لما سكرنا من التصابي ... صرنا بأمنٍ من الوجلْ
نحن حسبنا الهوى يحابي ... قلباً بقلبٍ قد اتَّصل
فضاع ما كان من حساب ... وخاب ما كان من أمل
الموت أشفى من بعض ما بي ... لو أنه حاضر قريب
غريبة هذه الحياة ... وكل ما في الورى غريب
نحن اجتمعنا ثم افترقنا ... وهكذا العمر ينقضي
الحب نار بها احترقنا ... والنار تفني وإن تُضي
بنا اشتفى من لو اتفقنا ... ما كان يرضى فلا رضي
يراقب السُّمّ قد شرقنا ... به ولا يشعر الرقيب
غريبة هذه الحياةُ ... وكل ما في الورى غريب
ما قيمة الكون والبرايا ... في عالم بارز الرؤى
لعلها هُيِّئَتْ ضحايا ... لعالَمٍ آخر نأى
وإنما هذه الرزايا ... أوجَعُها الحُب مخطئا
حسبت في نوره هدايا ... إذاً ضلالي فيه مريب
غريبة هذه الحياةُ ... وكل ما في الورى غريب
يا هند إني فقدت رشدي ... سامحك الله في رشادي
أضعته فيك وهو عندي ... أعز في العين من رقادي(323/45)
يا حبها ما نقضت عهدي ... لها ولا حُلْتُ عن ودادي
أدعوكِ هنداً وأي هند ... أدعو ولا سامع مجيب
غريبة هذه الحياةُ ... وكل ما في الورى غريب
نحن ضيوفٌ على الزمان ... منزلنا الليل والنهار
وما لنا فيه من أَمان ... ولا لنا فيهما قرار
من تحتنا لُجَّةُ المكان ... وفوقنا لُجَّةٌ تُدار
وعمرنا شرُّ ما نعاني ... فداؤنا ما له طبيب
غريبة هذه الحياة ... وكل ما في الورى غريب
(الإسكندرية)
خليل شيبوب(323/46)
العودة. . .
للأستاذ العوضي الوكيل
تَعودين لي. . . حبَّذا أن تعودي ... وأن تصِلِيني بعيْشٍ جديدِ
تعُودينَ أروعَ ما عادَ لي ... ربيعٌ تحلَّى بزاهي الورود
تعودينَ مُشْرقةً في الضميرِ ... ورائعةً كمعاني القَصِيد. . .
وفاتنةً كبناتِ الخيالِ ... وآخذةً بعِنانِ النَّشِيد
تعودينَ لمحةَ طَرْفِي اللهِيف ... ونبضةَ قلبي المشُوقِ العميد
تعودين أنساً لذي نُفْرَةٍ ... يَقِرّ به بعد طولِ الشُّروُد
وراحةَ ذي سفرٍ مُجهَدٍ ... يميل لها بَعدَ مُضنِي الجهود
كأنَّ النوى سَفرٌ في الهجيرِ ... بصحراَء ما إن لها من حدودِ!
تعودينَ. . . رُبَّتَمَا عودةٍ ... تَبُثُّ بشعري معاني الخُلودِ
فكم قَبْسةٍ منك في طَيِّهِ ... وأخرى بروحِيَ عندَ الوَصِيد
أهمُّ لألْقِيَها في الحروفِ ... فَتعْيا بها لهَجاتُ الوُجود
فاحبِسها في دمِي نَشْوَةً ... وروحِي تَهتف: هل من مزيد؟
تعودينَ. . . رُبَّتَمَا عودة ... تُضاعف إحساس قلبٍ رشيد
فيخلُقُ فيك المعاني العِذاب ... وينظمها في النُّضارِ النَّضيد
ويُخصِبُ في القولِ إخصابَهُ ... ويرفَعُ فيهِ رفيعَ البُنودِ. . .
ويُنهِلُ من شاَء منْ وِرْدِهِ ... ولا من ورودٍ كهذا الوُرودِ!
تعودين. . . يا حُسنَ أُنسِ اللقاءِ ... حُفْ بِثغْرٍ رَوِيٍّ وَجِيدِ
ألا فأطيلي الزمانَ القَصيرَ (م) ... نَغْنَمُهُ بَعدَ يأسٍ شديدِ
ومُدِّيه مَدَّاً ولا تَبْخلي ... على ذلكَ الطامِعِ المستزيدِ!
(دماس - دقهلية)
العوضي الوكيل(323/47)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الحرب والفن
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
الشعوب المحاربة بطبعها هي الشعوب التي تسكن الصحارى والمراعي، وما يشبه الصحارى والمراعي من الأرض القاسية على أبنائها التي لا تجود عليهم برزق كاف أو رزق منتظم، فيحملهم الفقر على هجرة أرضهم والإغارة على أرض غيرهم لينهبوها ويعودوا إلى أرضهم، أو ليغتصبوها ويستوطنوها سادة لأهلها. فإذا اطمأنوا في أرضهم الجديدة فإنهم على مر الزمن قالعون عن طبعهم داخلون في طبعها فلا يبقى لهم من نزوعهم إلى المحاربة إلا ما سمحت به
أما وهم على طبعهم الميال إلى الحرب فإن فنونهم تكون مما يلائم حياتهم. وهم في حياتهم رحالة، فقراء، مقاتلون؛ وقلقهم الدائم الذي يضطرهم إلى الهجرات المتتابعة لا يخلق عندهم الفنون التي تحتاج إلى أدوات ثقيلة، والى مكان تسكنه. لهذا لم يكن عند القوقاز تماثيل ولا صور، ولهذا لم يكن عند العرب موسيقى مما يستلزم عزفها الأدوات الثقيلة التي تزحم المحارب في المحارب. ولهذا لم يكد يكون عند الشعوب المحاربة من الفنون إلا الشعر والغناء والرقص
أما فقرهم فيصبغ روح الفن نفسها، فهو يخلق فيهم حباً للمال كما يخلق فيهم زهداً فيه. فهم يحبونه لأنه دليل على البطولة الواجبة للحصول عليه لأنه لا يستخلص إلا بالحرب والمجاهدة؛ وهم يزهدون فيه لأنه ليس دليلاً على شيء من هذا، فقد يبذل الكريم ماله للمحتاج حتى يفتقر فلا يأسف على ضياعه ولا يمكنه أن يعلن حسرته عليه إلا إذا أراد أن يعرض بأهله وأن يتهمهم بالتخلي عنه حتى ليستشعر الذل، أو إذا كان هذا الفقر نتيجة لكارثة لم يكن للإنسان يد في صدها كالطوفان أو
الحريق
ودأبهم على المقاتلة يشارك هذا الفقر في صبغة روح الفن كذلك، إذ يخلق لهم مثلاً علياً من(323/48)
البطولة، والشجاعة، والكرم والسماحة، والمروءة، والعزة، واحترام الكبير صاحب التجارب مهما هرم وضعف، واحترام الصغير الضعيف، واحترام المرأة العاجزة، إلى غير ذلك من أخلاق الفتوة والفروسية.
ومن أبرز ما تخلقه الطبيعة في نفوس هؤلاء المحاربين: شدة الإيمان بالقضاء والقدر، وبإسراع هذه الحياة إلى الذهاب، وبهوان شأن هذه الحياة نفسها؛ فيخلق هذه في فنونهم إلى جانب عنفها الأصيل، روحاً من المرح والمجون والاستخفاف الذي يشبه الطيش أحياناً، تشجيعاً لهم على الحرب، وتعزية لهم بين الحرب والحرب.
ويظهر هذا في الشعر، كما يظهر في الغناء، وكما يظهر في الرقص
أما الشعر، فتكاد لا تخلو قصيدة جاهلية مما يدل على طبيعة العرب الأولى من ذكر النساء والخمر، والعبث. . . فوق أساسها القائم على الفخر وتعداد المآثر، ودلائل البطولة، وأيام النصر
وأما الغناء فلم تجد به الطبيعة على العرب إلا لينفس به أفراد عن خوالج ذواتهم. وذلك أن الطبيعة في بلاد العرب تكاد تكون بكماء لا تعلم الآذان إلا حسن الإصغاء إلى الصمت، وذلك على خلاف أوطان القوقاز التي تشارف البحور من بعض أطرافها، وللبحور أصوات، والتي تنطوي على الجنات الصغار في بعض أنحائها، وفي هذه الجنات مياه وأطيار وأشجار ودواب، ولكل هذه أصوات، والتي قد تهب فيها على هذه الجنات نسائم، وقد تهب رياح، وللنسائم همسات، وللزوابع صرخات؛ وقد تعلم القوقاز من شدو الطبيعة هذا غناء أوفر مما تعلمه العرب، فكان لغنائهم ألوان للأفراد، وألوان للجماعات، وألوان أخرى لشتى المباهج والأحزان، وألوان طاوعتهم في التعبير عن أنفسهم وما في أنفسهم من الحماسة والفخر والبطولة. . . وإلى جانب هذا، فإن في غناء القوقاز ما يقوم دليلاً على حبهم للنساء والخمر والعبث
وأما الرقص ففيه هذا كله أيضاً. . . فهو رقص بالخناجر والسيوف. وهو ليس إلا تمثيلاً للحرب، فيه من عنفها وحدتها كل عنفها وحدتها، لا يخففها شيء إلا ما يذكره المحاربون دائماً وهم في (أوقات الفراغ) من جمال النساء، وحلاوة الخمر، وبهجة العبث.
فالراقص العربي والراقص القوقازي يكران ويفران، ويضربان ويطعنان، ولكنهما مع هذا(323/49)
يتثنيان ويتخلعان رشاقة وتلطفاً إرضاء للمرأة، كما يرتشفان الهواء وهما يرقصان ثم يترنحان سكراً أو تمثيلاً للسكر، كما يهزلان ويخلطان عبثاً ومرحاً ومجوناً
هذه هي فنون الحرب في الشعوب المطبوعة على الحرب وهي منطلقة بفطرتها في براح الأرض.
وعندما تستقر هذه الشعوب تبدأ فيها فنون الاستقرار، فينشأ الرسم والنحت والخط والعمارة والتمثيل. . . ولعل أقرب مثل لهذه الشعوب هو الشعب التركي، فإنه لم تنشأ عنده هذه الفنون الأخرى إلا عندما اطمأن في أوربا، أما قبل ذلك فقد كان الشعب كله جيشاً، والجيش لا يملك أن يستقر لفن ما. ولم يظهر النحت في الحضارة التركية العثمانية لأنها كانت حضارة إسلامية، ولأن المسلمين ظلوا زمناً طويلاً وهم يكرهون النحت لصلته القديمة بالوثنية الجاهلية التي أقام العرب فيها الأصنام ليعبدوها محاكاة لما كانت تفعله المدنيات التي كانت تطوق جزيرتهم. فالنحت ليس من فنون المحاربين، ولذلك فإننا لا نراه عند القوقاز الذين لم يتسرب إليهم مثلما تسرب إلى العرب من رشح المدنيات
وعندما تحارب الشعوب المستقرة بعضها بعضاً، أو عندما تصد هذه الشعوب غارة الغائرين عليها، تكف العمارة، ويكف النحت. وقد كان للرسم أن ينام أيضاً لولا أن الطباعة تمهد له الانتقال الذي يلائم الحرب. وقد كان للتمثيل أن يهدأ كذلك لولا أنه ينقلب دعايات حربية. أما الشعر والغناء والرقص فهي فنون الحرب التي تستطيع مصاحبتها ومعاشرتها في كل حين.
والعمارة تكف لأن الحرب تهدم القائم المبني فيما مضى، وهذا لا يشجع على البناء الجديد مادام البناء عرضة للهدم، والنحت يكف لأن صاحبه لن يجد عندما ينشغل الناس بالحرب من يزوره ليقرأ السلام على تمثاله، والرسم ليس من فنون الحرب الطبيعية لاستلزامه المكان والأدوات الثقيلة، وكذلك التمثيل، بل إن التمثيل يزيد على الرسم امتناعاً في الحرب لأنه يستلزم بطبعه كثيراً من الهدوء والاستسلام إلى حادثات الزمان ليستخلص منها موضوعات، والهدوء في الحرب منعدم، ولا حوادث في الحرب إلا هذه المآسي ذات اللون الواحد والطابع الواحد، وهي مما يحسه الأفراد العاديون إحساساً لا يمتاز عليه إحساس الفنانين امتيازاً كبيراً، وهي مما يعبر عنه الناس في كل ساعة بأقوالهم وأفعالهم فهم في(323/50)
غنى عن ترديده وترجيعه في رحاب الفن
ولكن الرسم أنقذته المطبعة فمكنته من الحياة في الحرب، والتمثيل استعانته الدعاية فأعانها وإنه لقدير على نجدتها
والرسم والتمثيل فنان، وهما لا يستطيعان متى تيقظا أن يستعصيا على دوافع الحياة ومؤثراتها فلا بد أن يخضعا لما تخضع له فنون الحرب من هذه الدوافع وهذه المؤثرات. ولا بد أن تدب إليهما ما تخلقه الحرب في الأحياء من الحماسة والفخر بالبطولة والفتوة وسائر فضائل الحرب، كما يجب أن يشيع فيها الميل إلى النساء والخمر والعبث. فهذا الموكب من الأحاسيس هو الذي تتجند له البشرية في الحرب
والعالم اليوم في حرب، فهل ستنطبع الفنون بهذا الطابع الذي تبصمها به الحرب؟
قد كان العالم في حرب منذ ربع قرن. ولقد حدث أن تأثرت الفنون بالحرب، فتوقفت العمارة والنحت، وانتعش الشعر بروح الحماسة التي استطاعت بقدرة الله أن تصل حتى إلى مصر وإلى أمير شعرائها المترف المرحوم أحمد شوقي بك فقال:
بني مصر مكانكمو تهياً ... فهيا مهدوا للملك هيا
خذوا شمس النهار له حلياً ... ألم تك تاج أولكم مليا؟
. . . ومع أن الشعب لم يكن يفهم هذا الكلام (النحوي) فقد أساغه في لحن صاغه له فرد من أفراده كان فقيهاً يقرأ القرآن في المقابر، وكان فقيراً يستعين على الحياة في محنته بدهن الجدران وطلائها، وكان يغني في المواخير حيث كان يستطيع أن يجد من لا يتكبرون على الاستماع إليه وهو المرحوم الشيخ سيد درويش الذي غنى هذا النشيد بين عشرات الأغاني الملتهبة الأخرى
وكما انتعش الشعر بهذه الروح الحماسية: سواء منه العربي والمصري الدارج، فقد انتعش الغناء بها في العالم كله وفي مصر أيضاً بفضل سيد درويش كذلك، ولم يبرأ الغناء في العالم كله، ومصر محسوبة في العالم، من الإسراف في ذكر النساء والخمر والعبث
أما الرقص فقد جن جنونه في الدنيا، وكف الراقصون عن التانجو والفالس والفوكس تروت، وعفرتتهم الشارلستون وأمثالها من الرقصات المجنونة المكهربة التي انتشرت في العالم على أثر هدأة الحرب، والتي أخذها العالم عن الجنود الذين اقتبسوها من زملائهم(323/51)
المحاربين الزنوج الذين كانوا يجمعون من المستعمرات، فرأوا فيها ما كانت تنزع إليه أجسامهم من الترنح والنزق. وقد مهد لهذه الرقصات الشعواء عند الناس حال النشاط الخارق وتوتر الأعصاب الذي استولى عليهم في الحرب
أما الرسم فقد سخرته الحرب، فكان من أقوى وسائل الدعاية فيها، وازدهر منه الكاريكاتير الذي يحتمل سخرية الخصوم بالخصوم، والذي ينفسح لكل خيال يحلق إليه الرسام
ومع هذا فلم يخل رسم الحرب من النساء والخمر والعبث، فقد انتشرت في الحرب العالمية الماضية صور النساء العاريات، والرجال العراة، كما ذاعت نكات السكارى المصورة وغيرها من النكات. . .
وكذلك التمثيل فقد احتضنت منه الدعاية جانباً كما احتضن منه المجون جانباً، فشارلي شابلن، وريجيدان , وكشكش بك، والبربري عثمان، كلهم من مواليد الحرب، وقد كانوا جميعاً في تمثيلهم يؤدون واجب الدعاية لأوطانهم وجيوشهم، كما كانوا جميعاً في يروحون عن الناس بتهريجهم. وإذا كانوا قد مثلوا شيئاً بعد الحرب فإن طابع الحرب ظاهر فيه إلى مدى بعيد، فالعالم لم يستطع أن يتحول بشعوره عن حالة الحرب إلا بعد وقت طويل من خمودها.
والذي يتابع روايات شارلي شابلن يرى أنها أخذت تتخلص شيئاً فشيئاً من التهريج المناسب للحرب، وتذهب شيئاً فشيئاً إلى نقد الحياة الإنسانية في جوهر نفسها وفي مظاهر اجتماعها حتى كانت روايته الأخيرة (العصر الحديث) نقداً عاماً للإنسانية عامة.
ولكن شارلي لا بد أن يعود إلى فن الحرب منذ اليوم. بل لقد أعلن العالم بروايته (الديكتاتورية) التي سيقارع بها ألمانيا وهتلر والتي أعتقد أن أثرها في النيل منهما سيكون أعظم بكثير من حملة تجردها جيوش كثيرة عليهما. . . فإن هذه الرواية ستكون حملة يقود فيها شارلي شعبه الهائل الذي يكاد يشتمل أفراد الإنسانية جميعاً.
وكذلك من يتابع روايات نجيب الريحاني يرى أنها كانت في أيام الحرب دعاية وبهجة وتهريجاً وعرضاً موسيقياً اتسع لثلاث زعامات فنية: هي زعامة نجيب الريحاني، وزعامة بديع خيري، وزعامة سيد درويش. . . ثم أخذ مسرح الريحاني بعد ذلك يهدأ قليلاً قليلاً، حتى مثل الريحاني في السنوات الأخيرة كوميديات تكاد تكون درامات من كثرة ما فيها من(323/52)
الجد إلى جانب الهزل، ومن وضوح الهدف الخلقي الذي كانت تنطلق إليه. فقد كان الريحاني أخيراً زعيماً مصرياً اجتماعياً مصلحاً، هو وشريكه بديع
وأجد الحق يجبرني على أن أشهد بها لله أن مسرح الريحاني هو البيئة الفنية التي تماشي الحياة الطبيعية في مصر أكثر من غيرها
ولابد أن يتغير الريحاني في الحرب. ولكنه في هذه المرة لابد أن يرتقي عما كان عليه في الحرب السابقة، ولابد أن ينثر الدعاية والتهريج الأصيلين بين درر من موسيقى زكريا أحمد وفن الجد، وإن له في شارلي شابلن أستاذه أو زميله الكبير أسوة
فإذا كان حال الفنون في الحرب العالمية الماضية هو هذا الحال الذي رأيناه فسيكون إذن حال الفنون هو هذا الحال نفسه في هذه الحرب العالمية القائمة إذا طال أمدها وتمكنت مؤثراتها من النفوس؛ وستكون هذه هي الحال في فنون الدنيا كلها، فإذا لم تظهر مثل هذه الفنون في مصر فان مصر إذن خالية من الفنانين. . .
وكل هؤلاء الذين يقولون نحن ونحن. . . عليهم أن يقروا في المخابئ وعلى أفواههم الكمامات. . . فهذا هو مجال الفن إذا كانوا يحسون أثر الحرب
- فإذا لم يكونوا يحسون الحرب؟!
- فقد يحسون القيامة. . . فصبراً إلى يوم يبعثون!
عزيز أحمد فهمي(323/53)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
2 - عصر النار
منذ عصور طويلة أدرك الإنسان وجوده في هذه الدنيا. ومع أنها وطنه ووطن أبنائه وأحفاده إلى مدى أجيال لا عداد لها فإنه كان غريباً فيها، وكان عليه أن يتعرف على كل شيء بها.
وكل طفل يولد في هذه الدنيا يولد غريباً، حتى في داره. فالوليد يتعرف في بطئ على الحجرة التي يقيم فيها، ثم على الطريق الذي به مسكنه، وعلى أبيه، وأمه، واخوته، وأخواته؛ ويتبين فيما بعد أنه يستطيع المشي، وأنه يستطيع الكلام!
وفي يوم ما ينتقل من هذا العالم الصغير عالم الدار إلى المدرسة فيجد دنيا أوسع من التي عرفها من قبل. وربما سافر بعد ذلك فعرف عن دنياه أكثر وأكثر
ومهما يؤد المرء من عمل فإن غيره قد هيأ له سبيله فسهل عليه تناوله، فعندما يتقدم الصغير في السن ويريد أن يشيد لنفسه منزلاً فإنه لا يحتاج إلى تعلم صناعة ابتناء المنازل فإن تلك الصناعة معدة متهيئة لما يقع عليه اختياره، وليس على من يريد التخاطب بالمسرة أن يخترعها، بل يدعو الأخصائيين فيضعون الأسلاك في منزله. وتنقل إليه الصحف واللاسلكية والصور المتحركة أخبار العالم وتخبره الكتب عن جغرافيته وتاريخه ويتهيأ العالم بسائر الوسائل العلمية
ومن بواعث السرور لنا نحن الذين وجدنا حياتنا مريحة ميسرة ممتعة أن نتعرف على الرجال والنساء اللذين هيئوا لنا العالم هذه التهيئة
إنهم أناس عاشوا في هذه الدنيا قبل أن نوجد بها، وعاشوا فيها في عصور بعيدة مظلمة. وليس في وسعنا أن نعرف شيئاً عن فريق منهم إلا بواسطة ما تركوه لنا من الأشياء كالأسلحة الحجرية والنقوش المرسومة على الكهوف ومعابد الآلهة. ومن هؤلاء الرجال فريق آخر عاش في عصر الأقاصيص والسير حين كانت أعمال الإنسان تنقل أخبارها إلى(323/54)
بقاع الأرض بالحديث الشائع الذي لا يدرون كتابته
ومنهم فريق ثالث عاش في بداية العصر التاريخي، وفريق عاش في القرون الوسطى، وآخر عاش في بضع المائتين الأخيرة من السنين، ولا يزال فريق غير هؤلاء يعيش بين ظهرانينا إلى الآن
لم يصل إلى الناس أي جزء من المعرفة إلا بواسطة استكشافه على يد إنسان. وقد كانت الأرض التي وجد الإنسان الأسبق نفسه فوق ظهرها حافلة بالكنوز كما هي اليوم، ولكنه لم يستطع استكشاف كنوزها لنفسه فلم تفض إليه بأسرارها، وكان عليه أن يتعلم إيقاد النار وإذابة الحديد الواشج بالصخور، وكان عليه أن يعرف مقاييس الزمن وأن يستخدم البوصلة في تسيير السفن، وكان البخار والكهرباء ينتظران استكشافهما على يده، والفحم والنفط لا يزالان مدفونين في باطن الأرض قبل أن يستخدمهما في إدارة الآلات
وكان إنسان العصور السابقة يستطيع لكل هذه العناصر أن يأتي بالعجائب ولكن كان لابد له قبل ذلك أن يستكشفها، وأن يعرف مزاياها.
وبسبب الحذق الذي أبداه الإنسان في أعماله أصبح اليوم غير غريب عن دنياه، وليس ذلك فقط، ولكنه أصبح السيد المنتصر في الدنيا
لقد اجتاب على مدى قرون طريقاً طويلاً جبلياً فأصبح هذا الطريق مهيعه إلى النصر
وكما أنه لابد أن يوجد دائماً رجل مشغوف بالمخاطر منتج من شأنه أن يضيف جزءاً من المعرفة إلى كنوز المعرفة وإلى الذهن الإنساني، فكذلك توجد دائماً لحظة في حياة كل رجل من هؤلاء الرجال هي التي يتبين فيها حقيقة جديدة تدفع إلى عمل شيء يجعله ويجعل جيرته أحكم أو أرغد أو أغنى أو أسعد. هذه هي اللحظات التي تدور حولها قصصنا هذه
إن العلم معرفة من المعارف الإنسانية وقد نمت المعرفة الإنسانية بما في الأنفس من نزعات وثابة جوالة جوابة، ومثل اللحظات العظيمة في حياة العلم على مدى العصور كمثل لحظات الإلهام والنصر في حياة الفرد، وفي هذه اللحظات يظهر الإنسان وهو المخلوق الذي ميزته الروح والعقل بمظهر الانتصار على دنيا المادة
سر صنع النار
كما يرويه أهل الجزر في المحيط الهادي(323/55)
منذ أجيال طويلة، كان أبناء الفناء لا يزالون حديثي العهد بسكنى الأرض، ولم يكن أحد منهم ليعرف سر صناعة النار، ولم يكن يعرف ذلك السر إلا آلهة العالم السفلي.
وكانوا يتولون حراستها دائبين خشية أن يعلم الإنسان ذلك السر، فيصبح من الحكمة في مستواهم. وقد كان موطن النار في العالم السفلي كما يعرف ذلك كل من رأى دخانها المتصاعد من فوهات البراكين. ولكن كان من الصعب تعرف الطريق إلى ذلك العالم، لأن الرقباء كان كثيراً عددهم على أبوابها.
وحدث مرة أن أقام بين الفانين في العالم العلوي شاب اسمه ماوي؛ ومع أنه فان كسائر من على ظهر الأرض، فإن أبويه كانا يعيشان في العالم السفلي بين آلهته، وكانوا يترددون إلى الأرض للقيام بمهام الآلهة.
وكانت أم ماوي واسمها (بوراتاتنجا) إذا أتت لزيارته أبت أن تؤاكله، وكانت في ذهابها ومجيئها تحمل سلة أتت بها من العالم السفلي، وهي تتناول الطعام على انفراد مما في تلك السلة. وفي أثناء نومها يوماً نظر ماوي إلى ما في السلة، وأخذ منها طعاماً، فذاقه، فوجده أفضل من كل ما ذاقه إلى الآن. ومع أنه كان من نوع سائر الطعام، فإن به شيئاً يجعله أفضل منه.
وعلم ماوي شيئاً عن النار وعرف أن الآلهة يطبخون الطعام على النار التي يصنعونها، فأصر على أن يملك النار ما دامت تجعل الطعام من الجودة كما رآه. وأصر على مراقبة أمه سراً عند عودتها، وعلى أن يخاطر بالذهاب إلى العالم السفلي ليحظى بهذه الهبة الغالية
واقتفى ماوي أثر أمه وأفلت من الحراس عند الأبواب الأولى؛ أما عند بعض الأبواب الداخلية فقد كان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يتبدل الحراس ليتمكن من الدخول أثناء اشتغالهم بالكلام
لكنه وصل بعد مخاطرات كثيرة إلى منزل أمه وقال لها: إنه غير راغب في العودة إلى العالم الأرضي حتى يعلم سر صناعة النار
قالت الأم: (ولكنني لا أعلم هذا السر ولا يعلمه أحد غير إله النار وهو لا يفشيه. ومتى احتجت إلى نار جديدة فإني أذهب إلى أبيك (بو) وهو يذهب إلى إله النار ويطلب إليه منحه جزءاً من الخشب المحترق(323/56)
قال ماوي: (إذن فسأذهب إلى إله النار وأطلب إليه تعليمي سرها)
فبذلت بوراتاتنجا كل ما في وسعها لتبعد ابنها عن إله النار لخشيتها أن يصاب ابنها الفاني في العالم السفلي. ولكن ماوي أصر على الذهاب وسأل عن موطن إله النار فدلته أمه على الطريق وكان اسم مسكنه (بيت شجر الموز)
وقالت له حين هم بالذهاب: (احترس يا ماوي فإن إله النار قوي جداً وقد يشتد به الغضب)
وذهب ماوي إلى بيت إله النار وعرفه للحال عندما رآه لكثرة الدخان المتصاعد فوق سطحه
وكان إله النار مشغولاً بطبخ طعامه، ولكنه وقف وسأل ماوي عما يريد
قال ماوي: (أريد جذوة من النار). فكان جواب إله النار - وهو يعود إلى الطبخ -: (لن ينال أحد الفانين جذوة من النار)
قال ماوي: (إن الفانين في حاجة إلى النار، وإنه قطع كل هذه المسافة أملاً في الحصول عليها) فقال الإله وقد ولاه ظهره: (لقد علم الفانون ما فيه الكفاية، ولو عرفوا النار أيضاً لصاروا آلهة). . .
وعاد ماوي حزيناً لأنه رأى إله النار لن يعلمه هذا السر. ولكنه عزم على البقاء مختبئاً بالقرب من منزل إله النار ليرى هل سيكون في وسعه أن يعرف بنفسه سرها. ومع أنه طلب جذوة من النار - كما أخبرته أمه أن أباه يفعل - فإنه أدرك أثناء نظره إليها أن جذوة لن تكفيه لأنه لا يستطيع أن يستبقيها مشتعلة أثناء رحلته إلى الدنيا
واختبأ ماوي بين أشجار الموز وراقب إله النار وهو يغذيها فلما تعب وجاع أسعده الحظ وهو يكاد ييأس ويعود إلى بيت أمه، فمن خلال الفوهة الجبلية التي كان إله النار يرسل منها دخان ناره إلى العالم (حيث لا يزال الناس يرونه إلى هذا اليوم) - من خلال هذه الفوهة انصب وابل من المطر، وكانت نار هذا الإله تحت هذه الفوهة مباشرة. وكان اندفاع الماء شديداً فلم يجد الإله فرصة حتى ولا لأخذ جذوة منها فانطفأت النار قبل أن يجد متسعاً من الوقت للالتفات.
وكان إله النار في البداية حاد الغضب فلم يستطع أن يفعل شيئاً سوى أنه لعن المطر الذي أطفأ ناره قبل أن ينضج طعامه أو يكاد. ثم التفت ليستوثق من أن أحداً ليس قيد النظر.(323/57)
ولكنه لم ير ماوي الذي كان على شجرة مشرفة على المنزل، ثم دخل حجرة أخرى وأغلق الباب، وأخذ من بعض أركانها قدراً من ألياف مجففة من الكاكاو وأخذ قدراً من ركن آخر نحو خمسة أو ستة من فروع الموز. وكان في وسط الغرفة كتلة صغيرة من خشب صلب بوسطها تجويف
وكان ماوي يراقب باهتمام ما يفعله إله النار فوجده ينتقي فرعاً خفيفا من فروع الموز ويفتله فتلاً محكماً ويمسك بقوة أطرافه المفتولة ويحكها بقاع الفجوة التي بالكتلة الخشبية
وكان في أثناء فتله ينشد:
شجر الموز يا شجر ... أعطني منك ما استتر
جذوة منك تختفي ... خلف غض من الثمر
أعطني منك جذوة ... حية تبعث الشرر
وفي هذه الأثناء رأى ماوي الدخان وقد بدأ يتصاعد من الفرع المفتول في الفجوة، ثم زاد تصاعد الدخان، فلما رأى الإله تصاعد الدخان ألقى في النار بألياف الكاكاو. ودهش ماوي إذ رأى ناراً محرقة ساطعة
لم يضيع ماوي وقته سدىً بل أسرع بالعودة إلى العالم وأخذ ألياف الكاكاو وفروع الموز وكتلة من الخشب الصلب وبدأ يجرب العمل بذلك ليعرف هل يستطيع الحصول على النار
وقد استغرقت منه التجربة وقتاً طويلاً لأن صنع النار ليس بالعمل السهل. وستدرك ذلك إذا حاولته. ولكنه استفاد من تجاريبه علمه كيف يمسك بورقة الموز الجافة وكيف يفتلها وكيف يشتد في حكاكها بالخشب
ولما وثق ماوي من أن النار تعيش في شجر الموز وأن في وسع أي إنسان أن يحصل على جذواتها - ذهب إلى رؤساء القبيلة فأخبرهم بذلك فجاءوا إليه خلسة وراقبوا صنعه النار
ومع أن بعضهم خافوا أن يحل بهم غضب الآلهة لأنهم تعلموا هذا السر غير المباح للفانين فإن أجرأ هؤلاء الزعماء طربوا لحصولهم على هذه القوة
بعد ذلك علم الناس أن النار تكمن في الخشب، وأنها تخرج منه طوع الإرادة، وأن أحدهم يستطيع أن يصنع النار كلما أراد فينضج طعامه ويدفئ نفسه(323/58)
وكان يوماً عظيماً في عمر الإنسان ذلك اليوم الذي عرف فيه كيف يصنع النار
(يتبع)
ع. ا(323/59)
من هنا ومن هناك
لغة الشعر وأثرها في الحروب الحديثة
عن (فيلادفيا انكويارار)
من الوسائل الهامة في أيام الحروب فن كتابة الرسائل السرية. وقد ألف مستر فليشر برات كتاباً جديداً بين فيه أصول هذا الفن منذ نشأ إلى أن ترقى وعم استعماله بين سائر الأمم.
وقول مستر برات في كتابه سالف الذكر: (إن سائر اللغات المكتوبة (شفر) وليس لرموزها معنى في ذاتها، إلا أنها تكون ذات معنى حينما تترجم بطريقة يعرف سرها الكاتب والقارئ؛ وإذا كان هذا قد غاب عن أذهان الناس، فذلك لأننا نتعلم القراءة ونحن على أبواب الحياة)
ولكي نفهم ذلك تمام الفهم، يجب أن نرجع بأذهاننا إلى العصور الوسطى، فقد كان اللذين يعرفون القراءة ندرة في تلك العصور؛ فإذا تسلم أحدهم رسالة، ذهب بها إلى شخص يعرف القراءة ليحل رموزها، كما نفعل حينما ترد علينا رسالة مكتوبة بالشفرة في هذه الأيام.
وكن طبيعياً بعد انتشار القراءة أن تظهر الحاجة إلى لغة الشفرة. أما لغة الأسرار الحربية في العصر الحديث فقد ظهرت الحاجة إليها متأخرة، ولم يصل فن الكتابة السرية إلى الدرجة القصوى من الأهمية إلا بعد نشوب الحرب العظمى. حتى أن كبار الضباط البريطانيين في حرب البوير كانوا يجدون سهولة في تبادل الرسائل باللغة اللاتينية التي تعد شفراً بالنسبة للبوير
وانتهى دور اللغة اللاتينية وبدأت محاولات كثيرة لوضع لغة سرية للميدان منذ سنة 1900 إلى سنة 1914 يراعى فيها البساطة وسرعة التلقين، وقد قامت كل من إنجلترا وفرنسا وألمانيا بدورها في هذا الشأن
فلما أعلنت الحرب العظمى في ذلك اليوم من شهر أغسطس أذاعت ألمانيا في جميع أنحائها كلمة (ولد اليوم مولود) وكانت هذه الجملة هي الرمز الذي وضعته لكلمة الحرب، ومنذ ذلك اليوم والنصر والهزيمة معلقان بصدى كلمة تسمع من وراء الحجرات لمعرفة شيء من تلك الرموز(323/60)
ومما يرويه مستر برات على سبيل المثال أن (فون كلوك) كان يقود جيشاً ألمانياً في مساء 2 من سبتمبر 1914، فأصدرت إليه تعليمات بالمذياع ليحول وجهته بعيداً عن باريس، متجهاً إلى جنوب شرقي فرنسا، فلم تصل إليه هذه الرسالة، ولكنها وصلت إلى الفرنسيين، حيث استطاعوا حل رموزها، وقد بادر الجنرال جوفر بتغيير الخطة التي كان قد وضعها، وتقدم الجيش الفرنسي من باريس إلى المارن حيث تم له النصر على الألمان
إن فن الشفرة على جانب عظيم من الخطورة، وله المكان الأول من اهتمام الدول وقت الحروب. فالنصر والوقيعة بالأعداء حيث تكون أسرار الكتابة في طي الكتمان، وفناء الأمم وضياع العروش والممالك، حيث تفشى هذه الأسرار
ستالين يفضل الاتجاه نحو آسيا
(عن مجلة (باريد))
لم توضح بالكلمات الخطة التي وضعها ستالين ورفقاؤه لروسيا إلى الآن. ولكنها قد تتبين بالحركات والأعمال. ونستطيع أن نحكم بناء على ما نراه من حركات ستالين، أنه يصور روسيا دائماً كإمبراطورية شرقية عظيمة، يبزغ نجمها من آسيا
وكثيراً ما يعتقد في نفسه أنه مبعوث لبناء إمبراطورية آسيوية كبيرة، تعيد الحياة إلى الأصقاع المهجورة في سبيريا، وأواسط آسيا؛ وقد سار بخطى واسعة لتحقيق أمله هذا في عشر السنوات الأخيرة
وقد يرى ستالين أنه مرسل لخلق جيل جديد من الشرقيين، يجمع بين العنصر الأسيوي والعنصر الأوربي على تخوم روسيا
وسياسة روسيا الخارجية كسياسة أميركا كلاهما مرتبط بمجرى الحوادث في أوربا وآسيا معاً. إلا أننا في الوقت الذي نرى فيه سياسة أميركا تتحول شيئاً فشيئاً على يد الرئيس روزفلت من الناحية الآسيوية إلى الناحية الأوربية، نرى مقاصد روسيا تتجه على النقيض: من الناحية الأوربية إلى الناحية الآسيوية
' ن نظرة واحدة إلى الحالة في أوربا تجعلنا نعذر ستالين في اتجاهه نحو آسيا، أو على الأقل اتجاهه إلى ذلك الجزء من آسيا الذي يقع على تخوم روسيا: إذ أن المساحة الشاسعة(323/61)
التي ستشغلها روسيا الآسيوية، وما تحوي من الموارد العظيمة لم يعرف تقديرها بصفة عامة
إن مطامع ستالين وعزيمته القوية لا تذهب إلى الاستيلاء عاجلاً على روسيا الآسيوية فحسب، ولكنها تمتد إلى الأصقاع والأقاليم المتفرقة في أواسط آسيا، خارج تخوم روسيا الحالية، حتى يكون للأجيال القادمة أرض جديدة يستغلونها بغير ثمن، بعيداً عن منازعات الدول
ويملأ الدنيا رجال الدعاية الروسية بأن روسيا السوفيتية لا تميل إلى التوسع، لأنها من الأمم الراضية القانعة. وهذا قول قد يبدو صحيحاً إذا أريد به أوربا، فحكومة السوفييت تبدو قليلة الاهتمام باسترداد أملاكها المغتصبة في أوربا، وإن كثيراً منها أخذ في ظروف قد تكون بعيدة عن الإنصاف. فإذا اتجهنا إلى آسيا وجدنا الموقف يختلف كل الاختلاف
فستالين لا ينوي استرداد الأراضي التي كانت يوماً ما في حوزة روسيا في الشرق الأقصى فحسب، ولكنه يعمل للاستيلاء على المواطن الهامة بعيداً عن الحدود الروسية الحالية أو تخومها السابقة
وقد أعلن أن الجيش الأحمر على استعداد لحماية أراضي منغوليا من أي اعتداء، والسوفييت يستغلون تلك البلاد منذ 1924، كما تفعل اليابان في منشوريا منذ 1931 على حد سواء
دخل الدكتاتورين
(عن (ذي برسباين تلغراف))
كان يتقاضى هتلر وهو مستشار الريخ 40000 جنيه في العام، فلما آل الأمر إليه في ألمانيا تنازل عن هذا المبلغ وقرر أن يكتفي بما ينال من أرباح كتابه (كفاحي)
أما ثروة الدكتاتور الألماني فهي في حيز الكتمان، إلا أنه مما لاشك فيه أن مجموع ما حصله من كتابه لا يقل عن مليون جنيه بحال من الأحوال
والمال - حتى في ألمانيا الحديثة - يعود على صاحبه بالمال، فمن الطبيعي أن تبذل المجهودات اللازمة لتنمية الثروة التي جمعها هتلر من حقوق طبع هذا الكتاب ومضاعفتها(323/62)
وإذا عرفنا أن الذين يديرون أمر هذه الثروة، يمتازون في عالم الاقتصاد بمعرفة الأحوال والظروف الاقتصادية قبل غيرهم تبين لنا مقدار ما يستفيدونه من استغلال هذه الثروة
ولم يستطع دكتاتور مدى التاريخ أن يجمع ثروته من مثل هذا المورد العجيب، فقد كانوا يجمعون المال من الأبواب التي يعتقدون صلاحها، وقد بذل هتلر كثيراً من نفوذه في نشر كتابه وترويجه. ومن الطرق التي يتبعها في ذلك - على سبيل المثال - أن كتاب كفاحي وإن كان القانون لا يمنع أن يباع منه نسخة مقروءة، إذا وجدت مثل هذه النسخة منه عند بائع الكتب، تعرضه لتهمة اليهودية بغير تردد
ولا يجهل أحد القانون الذي صدر في ألمانيا بإلزام كل شخص يريد الزواج باقتناء نسخة من كتاب (كفاحي)، ولكن الذي لا يعرفه الأكثرون أن هذه النسخة يجب أن تدفع ثمنها الحكومة. وبهذه الوسائل تتمشى الدعاية والمنفعة جنباً إلى جنب. فبينما لا يكلف الفوهرر رعاياه بنساً واحداً نظير خدماته بطريق مباشرة يتقاضاهم مبلغاً يتراوح بين 150000 و200000 بطريق غير مباشرة
على أن للفوهرر امتيازات أخرى غير هذه؛ فمن البديهي أن كل ما يحتاجه أو يستعمله في حياته الخاصة تلزم بدفعه الحكومة
أما موسوليني فيتقاضى من الحكومة 1500 جنيه في السنة، ولكنه يربح من الصحافة أضعاف هذا المبلغ؛ فهو يستغل باسمه صحيفة (بوبولو ديتاليا) وقد أصبح كل إيطالي يقرأ هذه الصحيفة لعلمه بأنها صحيفة الدتشي. وتقوم الحكومة بدفع مصاريفه الخاصة - كهتلر - فهو لا يحتاج إلى إنفاق شيء من ماله الخاص
ولعل أفقر الدكتاتورين هو ستالين. ويقال إنه يتقاضى 80 جنيهاً في العام. أما المبلغ الحقيقي الذي يتقاضاه فمن المحتمل أن يكون 500 جنيه على وجه التقريب
على أنه ليس لديه ما ينفق فيه هذا المبلغ، فالحكومة تقوم بدفع الثمن لكل ما يحتاج إليه(323/63)
البريد الأدبي
جواب عن أسئلة الأستاذ الطنطاوي
جاءنا من علامة حضرموت ومفتيها الأستاذ عبد الرحمن عبد الله هذا الجواب عن سؤال الأستاذ (الطنطاوي) المنشور في العدد 316 وقد أملاه على أحد تلاميذه قال:
يتعاظل الكلام من ازدحامه في الجواب عن هذا السؤال الخليق باللسان النضناض، والإفراد بالتأليف الفضفاض، حتى تبرد القلوب وتطمئن النفوس باتساع صدر الإسلام وضمانه للفوائد وقبول مبادئه للمصالح العامة إلى الأبد، وحتى تتأكد بأن الفقه الشافعي مبني على الأسس الثابتة من الكتاب والسنة. وخذ من عفو الخاطر ولسان البديهة ما يكون لهفة معجلة وتعلة للسائل إلى سنوح الفرصة للإفاضة فيما يشفي أوامه بالأدلة الناصعة والبراهين القاطعة.
أما أولاً فلأن في الاستعانة بالتوكيل في الرؤية والتسلم ما تندفع به المشاق في المتعارف بين التجار
وأما ثانياً فلأن مقابل الأظهر في المنهاج صحة بيع الغائب وإن لم يره البائع ولا المشتري، وبه يقول الأئمة الثلاثة. وقد جاء في فتاوى ابن حجر وأبي مخرمة أنه متى أمر السلطان باتباع مذهب معتبر في قضية وجب اتباعه، فما على الحكومة إلا أن تصدر أمرها بالعمل بذلك وينحل الإشكال
وأما ثالثاً فلأن الإمام النووي اختار انعقاد العقود بالمعاطاة، وتسامح في القول بها الإمام الغزالي وهو ممن لا يجهل مكانه من التصلب والورع في الدين. وقال في التحفة: وعلى الأصح لا مطالبة بالمعاطاة في الآخرة للرضا
وأما رابعاً فلأنه يسن للمقترض أن يزيد في الدفع على ما اقترضه لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: إن خياركم أحسنكم قضاءً. وإذا انضم إلى ذلك الأمر من السلطان بدفع الزيادة تحتم دفعها وصار واجباً كما بينت ذلك في كتابي (صوب الركام) ففي إمكان البنك المصري وأمثاله مع هذه المنادح الواسعة أن يتبسط في معاملاته ويفتنّ في مكاسبه بنجوة عما حرمه الله وأذن عليه بحربه من الربا
وأما خامساً فلأن القول بالمصالح المرسلة يمهد السبيل لكل مصلحه، ويفتح الباب لكل(323/64)
منفعة.
وأول من فتحه على مصراعيه الخليفة الثاني رضوان الله عليه. أوليس هو القائل: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحرمهما. وجاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، ثم قال عمر أن الناس قد استعجلوا ما كانوا فيه على إناءه، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
وقد أجمع الفقهاء الأربعة على نفوذ الثلاث باللفظ الواحد، وإنما أمضاه عمر لما ظهر له في إمضائه من المصلحة كما قاله النووي وتبعه السبكي. فهو إذن قريب من القول بالمصالح الذي عليه الأكثر من المالكية، وبه يقول كثير من الشافعية، منهم علامة اليمن ابن زياد. وتوسع فيه الحبر البدل شيخ مشايخنا الإمام عبد الرحمن ابن سليمان الأهدل، حتى لقد نقل عن العلامة الحشيبري الحكم بالعادة في القضية التي تخشى فيها الفتنة من الحكم بالنصوص الفقهية. فليهدأ بال السائل وليفرخ روعه، وليعلم أن من أرسخ القواعد لدى فقهاء الشافعية وأصولهم أنه إذا ضاق الأمر اتسع. وأن الفقه ليس إلا الخير العام الموافق لتيسير الإسلام، الضامن لمصالح الأمم على مرور الأيام. وإنما قد يؤتى من جمود بعض منتحليه فيظن به ما هو منه براء، وبينه وبينه سبل وعرة وأرض عراء. هذا ما سنح، والعذر ممهد للضعف والزيادة والنقص، لأنه كما قلنا بلا إعمال روية ولا إتعاب خاطر ولا مراجعة صحيفة، ومن ورائه تفصيل، أنا به عند الحاجة كفيل، إن شاء الله تعالى.
(حضرموت)
عبد الرحمن عبد اللاه
مفتي حضر موت
إلى الدكتور زكي مبارك
هل تسمح لي يا دكتور أن أسألك عن معنى جملة جاءت في مقالك الأخير؟
إنك تقول: (. . . فكل ما تقرءونه في الكتب التاريخية والدينية من وصف عرب الجاهلية بالغفلة والحمق والطيش والخيال وسوء الفهم وبشاعة التصور وخمود العقل وبلادة(323/65)
الإحساس، كل أولئك الصفات الذميمة وضعت لغرض خاص هو تحقير الوثنية الجاهلية، لتقوم على أنقاضها العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد)
(وكان من حق رجال الدين أن يضعوا في تشويه الوثنية الجاهلية ما يشاءون لأنهم كانوا يرونها زيغاً في زيغ. . .)
وقد عرض لي عند قراءتها إشكالات:
1 - إن التاريخ هو العلم الذي ينبئنا بأخبار من مضى، وكتبه هي مادة هذا العلم؛ فإذا كان في كتب التاريخ وصف للعرب بهذا الذي تقول أو بعضه أو ما يشبهه، فإنه يبقى صحيحاً معتبراً حتى يجيء من ينقضه بالأدلة العلمية المستندة إلى النص الصحيح. أما حكمك عليه بالوضع بلا دليل فلا يصنع في رده شيئاً، فهل لك عليه من دليل؟
2 - وردك لما روته الكتب الدينية، أو يفهم من كلامك أنها روته، وحكمك عليه بالوضع أشد، لأن هذه الكتب الدينية، من دواوين الحديث أو مجموعات التفسير أو تصانيف الأئمة، حجة للمسلمين في دينهم، ومصدر يأخذون منه شريعتهم، فإذا صح لكل أديب تكذيب شيء منها بلا دليل صارت كلها عرضة للتكذيب، وبطل الدين. وإذا كانت مسألة اليوم هينة لا تمس جوهر الدين فإنها تجر حتماً إلى ما ليس بالهين وتكون سنة في الناس سيئة - أعيذ الدكتور زكي مبارك أن يكون صاحبها الذي سيحمل وزرها ووزر من عمل بها
3 - ما الدليل على أن الرواة اختلقوا الأخبار لتحقير الوثنية أو أنهم منعوا من رواية أنبائها؟
4 - ليس في الإسلام طبقة خاصة تعرف برجال الدين، وإنما فيها العلماء من محدثين ومفسرين وفقهاء وأصوليين، وطبقاتهم طبقات الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين ومقلديهم، فأي أولئك الذين حكم عليهم الدكتور بصنع هذه الأخبار التي تشوه الوثنية ووضعها؟ وهل من الكذابين بين الصحابة والتابعون الذين نقل عنهم الشيء الكثير في ذم شرك الجاهلية وقبيح أحوالها؟
5 - وما معنى قول الدكتور بأن ما جاء في الكتب التاريخية والدينية من الأخبار الموضوعة (بزعمه) إنما أريد منها تحقير الوثنية لتقوم على أنقاضها عقيدة التوحيد، مع أن المعروف الثابت أن الوثنية هدمت منذ هدم الله أصنامها، ومحيت أنقاضها، وقامت عقيدة(323/66)
التوحيد قبل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ورست دعائمها؟
هذا وليثق الدكتور أن هذه أسئلة مستفهم، يجب أن يعرف جوابه عليها.
علي الطنطاوي
حول نعيم الجنة
قرأت في العدد (316) من الرسالة رد أستاذنا الدكتور زكي مبارك، فأجيب بالآتي: ذكر الدكتور ما يفيد أن هناك من يرى أن الجنة رمز ومجاز، ولكن لما كانت اللذات الأخروية هي لذات لا تدرك إلا بالعقل المحض، فقد قال مثل العلامة الأصفهاني: إنه لما أراد الله أن يقرب معرفة تلك اللذات من أفهام الكافة شبهها ومثلها لهم بأنواع ما تدركها حواسهم، فقال تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) ليبين للكافة طيبها بما عرفوه من طيب المطاعم، وقال: (مثل الجنة التي وعد المتقون) ولم يقل الجنة لينبه الخاصة على أن ذلك تصوير وتمثيل، وأن الإنسان إن اجتهد ما اجتهد أن يطلع على تلك السعادة فلا سبيل له إليها إلا على أحد وجهين: أحدهما أن يفارق هذا الهيكل ويخلف وراءه هذا المنزل فيطلع على ذلك. والثاني أن يزيل قبل مفارقة الهيكل الأمراض النفسانية فيطلع من وراء ستر رفيق على ما أعد له
ولكنا لا نستطيع الأخذ بنظرية التصوير هذه، لسبق وجود جنة بها أشياء مادية، وخرج منها أبوانا آدم وحواء لأكلهما من الشجرة المحرمة، ولا نريد أن ندخل في الخلاف الذي ذكره ابن قيم الجوزي في الجنة التي سبق لآدم السكنى فيها هل كانت جنة الخلد أم جنة أخرى؟ لأنه على أي حال يجب استبعاد النظرية التصويرية لمعارضتها لكثير من النصوص. إذن لم يبق إلا قول الدكتور زكي مبارك: (إن الإنسان مكون من جسد وروح، وهو كذلك في الحياة الأخروية). ولا أدري لماذا تشبث أستاذنا الدكتور بذكر هذا الشيء البديهي، ولكني أطمئن دكتورنا على أن الثواب والعقاب سيكونان للروح مع البدن. أذكر خلاصة ما ذكره الخوارزمي من أدلة على هذا من أن الأفعال والتدابير والآراء كلها تصدر من الجسد الحي، وأن الطاعة والمعصية حصلتا منهما جميعاً، وأن الثواب بالطاعة والعقاب(323/67)
بالمعصية إنما صدر من الجسد بواسطة الروح فيجب أن يكون العقاب والثواب لهما وأن كلاً منهما محتاج لصاحبه، لولا الروح لكان القالب خشباً مسندة، ولولا القالب لما كان روح. فكل راض فاعل وعامل من وجه فيكون الخطاب والثواب والعقاب لهما جميعاً، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: لم تزل الخصومة قائمة إلى يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فيقول الجسد: أي رب خلقتني كالجثة ولم تجعل لي يداً أبطش بها ولا رجلاً أمشي بها ولا عيناً أبصر بها حتى دخل هذا علي كالشهاب، فيه نطق لساني وسمعت أذني وأبصرت عيني وبطشت يدي، فأحل عليه العذاب ونجني من النار. فتقول الروح: يا رب خلقتني كالريح ولم تجعل لي يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً فلم أتحرك إلا بحركته ولم أسكن إلا بسكونه، فما ذنبي وما جرمي يا رب؟ أحل عليه العذاب ونجني. قال: فيضرب الله تعالى لهما مثلاً كالأعمى والمقعد يصطحبان، أما الأعمى فلا يبصر، والمقعد لا يقدر على المشي، فبلغا إلى بستان فجلسا وتشاورا وطلبا حيلة، فقال الأعمى: أنا لا أبصر فمر أنت وأت بالعنب، وقال المقعد: بل مر أنت فإني لا أقدر على المشي، ثم تناظرا وتناصفا وقالا: هذا أمر لا يتم بأمر دون الآخر، يا أعمى قم أنت فارفعني حتى أتسلق الحائط وأقطف العنب. فلما توافقا قطعا العنب وأكلاه. وقال المقعد: لولا أنت يا أعمى لما أكلت. وقال الأعمى: لولا أنت يا مقعد لما أكلت. ونحن لم ننكر تمتع الروح والجسد فقد قلنا في كلمتنا الأولى في العدد 315: (إن الإسلام دين روحانيات ومعنويات، وأن ليس معنى هذا أنه لا يعنى بالحسيات والماديات، بل هو يعنى بها وبتنظيمها التنظيم الذي يتصل بأن يرقى بالإنسان إلى الروحانيات. . . وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر مما تتصل بالروحانيات والمعنويات)، فالذي يحتمل الجدال ليس ذكر أن النعيم سيلحق الجسم والروح أم لا لأنا أجمعنا على ذلك، بل هل أغلب اللذات سيكون حسياً أم روحياً؟ أو بمعنى آخر هل تغليب اللذة سيصف لذات الجنة بأنها روحية أم بأنها حسية؟
على أنه يطربني أن أرى أستاذنا الدكتور زكي مبارك ينزع نزعة روحية من غير أن يشعر، إذ يقول في كلمته في العدد 316: (سيكون في المؤمنين من يكون نعيمهم برضوان الله أطيب بنعيمهم بما في الجنة من ثمرات وطيبات) وإن كنت لا أفهم كيف يرى عدم(323/68)
تعميم أن الرضى بالنعيم أطيب مما في الجنة من ثمرات مهما كانت درجة المرضي عنه. ولعل المخرج من هذا قول الدكتور في العدد 318 في الرد على الأستاذ الغمراوي: (إن العبادة الصحيحة هي رؤية الله في نعمه المشكورة) فإني أرى أنه بهذين قد زحزح نفسه كثيراً عن رأي حسية لذات الجنة، لولا ذكره ما ذكر من دعاء ناقشه فيه الأستاذ الغعمراوي مناقشة عنيفة في كلمتين، فكتب أستاذنا الدكتور زكي كلمة يحمد الله تعالى فيها على نعمة الإسلام
على أن وجود الأشياء الحسية في الجنة لا يعني أن التمتع سيكون حسياً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ملاحظة تغيير ما في طبيعة الإنسان في الدنيا عنها في الآخرة لوجود قوى نفسية نازعة للبهيمية وعدم إمكان تصور هذا في الآخرة، على فهم أن أصحاب الجنة لم يصلوا إليها إلا لأنهم فهموا خصائص الروح وتمتعوا كثيراً كل حسب درجته بلذتها، فلا يعقل أن يكون حبهم للذة الروحية في العالم الثاني أقل من حبهم لها في عالمهم الدنيوي. ثم إن للجو حكمة، فجو الجنة جو روحي لا يمكن أن يعمد إنسان إلى الخروج عنه؛ على أن الحسيات لها بعض العناية بها، وللذاتها بعض الرغبة فيها، على أن تكون ثانوية وتابعة، وعلى أن تنحو نحو الفكرة الروحية. وإذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى - كما في الحديث القدسي -: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار! فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ويكفي أستاذنا الدكتور زكي مبارك من علامات روحية اللذات في الجنة أن أصحاب الجنة سيكونون ولا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشية، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
محمود علي قراعة
المغرب الأقصى وفكرة الخلافة
قرأت متأخراً في العدد الممتاز من مجلة (الهلال) الأغر مقالاً للأستاذ عبد القادر حمزة باشا عن الخلافة الإسلامية وعدم إمكان قيامها في الوقت الحاضر، جاء فيه ما يلي:(323/69)
(وإذا قيل إنه من الميسور أن تقوم الخلافة بين الأمم الإسلامية المستقلة، وأن مصر أولى هذه الأمم بتلك الإمامة لأنها قلب العالم الإسلامي؛ إذا قيل هذا، فيجب ألا ينسى أن هناك من يعارض في الخلافة، ولا يعترف بها كتركيا والمغرب الأقصى وغيرهما، وما من فائدة في قيام نظام لا يعترف به الجميع)
أريد أن أسأل حضرة الكاتب عمن أخبره بأن المغرب يعترض على فكرة الخلافة.
فإذا كان هذا الفهم وصله عن طريق الصحف الاستعمارية، أو عن تصريحات الرجال الرسميين، وهو لن يصله إلا عن هذين الطريقين، فأريد أن أقول لسعادته: إن القول في مثل هذا الأمر ليس هو من حق هؤلاء ولا من أولئك. القول الفيصل في هذا إنما هو لإرادة الشعب المغربي؛ والشعب المغربي لن يعارض مطلقاً في كل فكرة يستمد منها الإسلام والعرب القوة والمجد، كفكرة الخلافة الإسلامية، أو الوحدة العربية.
وإذا كانت وضعية المغرب لا تسمح له في الوقت الحاضر أن يساهم في مثل هذه الأعمال الكبيرة، فهو يرجو أن تتحقق لأنه يعلم أن مثل هذه المشروعات العظمى ستعود عليه وعلى باقي الأقطار العربية التي تحت الاستعمار بأكبر المنافع، وسترفع عن كاهله كثيراً من القيود والسدود
على أن موضوع كلام الكاتب إنما كان في الأمم المستقلة، والغرب ليس كذلك، فهل نسي سعادته أن المغرب تحت حماية فرنسا؟ وما وجه قران المغرب بتركيا؟ إن المغرب يختلف تمام الاختلاف من حيث الأوضاع والنظم عن تركيا. والمغرب يمسك على دينه بأيد من حديد، ويريد اقتضاء قواعد الإسلام حذواً بحذو، كما سنها الرسول، وكما نزل بها القرآن
وأعود فأقول: إن الحركة القومية بالمغرب التي يترأسها الزعيم الأكبر محمد بن الحسن الوزاني - أطلق الله سراحه - كانت صرحت في جريدتها (الدفاع) أن من الأسس التي ترتكز عليها (القومية المغربية) (الامتثال لواجب الرابطة العربية، والجامعة الإسلامية)، وهي ما كانت لتقول مثل هذه الكلمة لو لم تكن شاعرة بما يختلج في ضمائر الشعب المغربي من حب الوحدة الإسلامية، والتضحية بكل غال في سبيلها
وهل كتب علينا الشقاء إلا يوم كتب على الخلافة الإسلامية بالعدم!
(فاس)(323/70)
(أبو الوفاء)
حول معنى بيت
ذكر الأستاذ أحمد عبد الرحمن عيسى في العدد (322) من مجلة (الرسالة) الغراء أن هذا البيت المنسوب إلى معاوية في قصة سعد وسعاد:
قد كنت تشبه صوفياً له كتب ... من الفرائض أو آيات قرآن
لا يحتمل ما فهمته فيه من حمل كلمة - كتب - على ظاهرها، وإنما هي جمع كتاب بمعنى مكتوب، والمكتوب هو المفروض، فيكون المعنى له مفروضات من الفرائض، وإذا كان هذا هو معنى البيت فإنه لا يكون فيه دلالة على أن قصة سعد وسعاد موضوعة
وإني أرى أن هذا المعنى الذي ذكره الأستاذ يزيد في ضعف هذا البيت وسخافته ويجعله متهافت اللفظ والمعنى، وتهافته اللفظي ظاهر لا خفاء فيه؛ وأما تهافته المعنوي فلأن الصوفي لا يمتاز عن غيره بمفروضات مكتوبة يقوم بها، لأن المكتوبات واجبة على سائر الناس، وإنما يمتاز الصوفي بالخلوة ومداومة العبادة وغير ذلك مما اخترعه المتصوفة. وقد فهم الأستاذ أحمد عيسى الفرائض في البيت على ظاهرها فخفي عليه المعنى الذي فهمته فيه، مع أن الفرائض هي الأوراد ونحوها مما يفرضه الصوفي على نفسه، وهو إطلاق سائغ لا شيء فيه، ومعنى البيت عليه: له كتب من كتب الأوراد ونحوها
وأرى أيضاً أن البيت يدل على أن القصة موضوعة ولو حمل على المعنى الذي ذكره الأستاذ أحمد عيسى، لأن نظام التصوف الذي يشير إليه لم يكن حدث في ذلك العصر، وقد بنيت وضع القصة على هذا، كما بنيته على أنه لم يكن في ذلك العصر كتب تصوف، وكل منهما كاف في الدلالة على وضعها، وكذلك سخافة البيت وتفاهته، وما كان للأستاذ أحمد عيسى أن يهتم بعد هذا به.
عبد المتعال الصعيدي(323/71)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
النقاد وفرقة رمسيس
أحسن يوسف وهبي صنعاً بما ادعى لنفسه من صفة المؤلف فوق ما حظي به في الواقع من صفة الممثل. وقد كان من جميل حظه أن ظلت حقيقة رواية (المجنون) - التي افتتح بها مسرحه - خافية على الجميع من جمهور ونقاد أعواماً طويلة حتى عرضت رواية (وثيقة الطلاق) التي ظهر فيها جون باريمور في دور المجنون، وكاثرين هيبورن لأول مرة في دور ابنته، وحينئذ فقط عرف أن (مجنون) يوسف ليس إلا مجنون (وثيقة الطلاق)!
على أن يوسف كان قد ربح الكثير من هذه الصفة التي ادعاها لنفسه، والتي جعلته في نظر قومه مؤلفاً وممثلاً في عصر عز فيه المؤلف، ومع أن (المجنون) لم تكن الرواية القوية بالمعنى المفهوم إلا أنها كانت شيئاً جديداً وغريباً، وكما استرعى يوسف الأنظار في منولوج الجندي الجبان (متشكو) كذلك كان شأنه في دور المجنون، وهو ينجح في هذه الأدوار الشاذة التي تتطلب غرابة في الأطوار وشذوذاً في الطباع.
وليس من غرضنا أن نتحدث عن رواية المجنون أو عن غيرها من الروايات حديثاً مستفيضاً، وإنما أردنا بالحديث عنها أن نطلع القارئ على جانب من جوانب شخصية يوسف، وعلى سبب من الأسباب التي جعلت النقاد يهاجمونه بشدة ويعملون للقضاء عليه، ذلك أنهم استبعدوا أن يكون يوسف مؤلفاً، ولروايات أجنبية على الخصوص! ومع أنهم لم يستطيعوا في الوقت المناسب استكشاف حقيقة (المجنون)، إلا أن غريزتهم السليمة حملتهم على إنكار ما ادعاه يوسف لنفسه، وعلى إساءة الظن بزعيم النهضة المسرحية منذ البداية.
ومن بعد المجنون أخرجت (الشياطين السود)، وعلى ما أذكر حضر هذه الرواية بعض الوزراء والعظماء، ولما كانت النهاية فيها محزنة، فقد خطر ليوسف أن يقوم بتعديلها(323/72)
وجعلها نهاية أمريكية، حتى لا يدخل الحزن على قلوب ضيوفه العظماء. وأما في الليلة التالية، وفيما تلاها من ليال، فقد عاد يوسف إلى النهاية المحزنة!
وهذه الحادثة أيضاً ترفع الستر عن جانب من جوانب هذه الشخصية العجيبة، وتلقي ضوءاً على سبب آخر من الأسباب التي ألبت النقاد على يوسف، وأعطتهم سلاحاً لحربه. وفي الواقع مضى يوسف في السخرية بالناس، ومهما يكن من شأن النجاح الذي ناله وحظيت به فرقة رمسيس، فقد كانت هذه المعاول الهدامة شديدة الوطأة على ذلك البنيان الحديث، ولم يقدر يوسف برغم ذكائه أثرها فيه، وتعالى على النقاد، وشمخ بأنفه، وصعر خده للصحافة، واعتبر نفسه قوة هائلة لا تتأثر بحملات كان يراها طائشة يقوم بها جماعة من الجهلاء في زعمه. ولم يرد الإفادة من هذه الأغلاط التي ارتكبها، أو العدول عن الخطة العرجاء التي سار عليها؛ وقد كان دوام النجاح، وإقبال الجماهير على مسرحه دليلاً عنده على أن حملات النقاد لا أثر لها حتى لو كانت على حق، فالحق عنده هو الواقع. ولعل الفرقة القومية لم تأخذ بنصيبها من الموعظة بعد ذلك، ولعلها إن غلقت أبوابها يوماً تذكر أنا نبهناها إليه وحذرناها منه.
كان من أغلاط يوسف إذن أن ادعى لنفسه ما ليس له وأن قام عامداً بتعديل الروايات التي أخرجها في مسرحه لتوافق مزاجه وما يراه خضوعاً لأهواء الجماهير أو الخاصة حتى لو كان ذلك حرباً على الحقيقة وقتلاً للفن، ثم استهتاره من بعد ذلك بالنقد والنقاد. ورغم خطورة هذه الأخطاء وغيرها فقد كانت حملات النقاد في بدايتها كأنها إعلانات ضخمة عن فرقة رمسيس ودعاية بلا أجر عنها، وبينما أخطأ النقاد فهم قلة أثر النقد بسبب إقبال الجماهير على مسرح رمسيس فإن يوسف أخطأ الفهم كذلك فأكثر من أغلاطه وأصر عليها وزاد في استهتاره بالنقاد
وحينئذ شحذ هؤلاء أسلحة جديدة وتدخلوا في حياة الممثل والممثلة الخاصة وأعنفوا في حملاتهم حتى خرج الأمر عن حدوده والنفوس عن أطوارها. وسرعان ما انتفت الصلة الوثيقة التي كانت، والتي يجب أن تكون، بين المؤلف والمترجم والمخرج والممثل من جهة، والناقد من جهة أخرى، وأصبح بعض الصحف ميداناً للسباب وفحش القول على حين كان يوسف ماضياً في سخريته وازدرائه - غير حاسب للعواقب حساباً - حتى يصل(323/73)
به الأمر أن يرى في حرمان الناقد من المقعد الذي يهديه إليه انتقاماً منه أي انتقام. ولم يكن غريباً إذن أن نسمع بألوان من الخصومات تدعوا إلى الأسى والأسف حتى انقطعت الصلة تماماً بين فرقة رمسيس والنقاد. أو قل أصبحت هي الصلة بين المتحاربين في ميدان القتال.
(للكلام بقية)
السينما والحرب
السينما كالصحافة تجد من واجبها أن تسجل الأحداث التي تقع على النحو الذي تراه كفيلاً بفائدتها، وأصحاب الشأن في عالم السينما يرقبون الحوادث الجارية ويأخذون منها ما ينفعهم، فإذا وقع حادث فذ في الأوساط الاجتماعية أو الفنية أو الاقتصادية أو غير ذلك فإنهم يسرعون بتسجيله ويسرع الجمهور بالإقبال عليه. والحروب بلا ريب أعظم الحوادث التي تقع وأوسعها مدى وأقواها أثراً، ولهذا فإن السينما تسجل أحداثها وتستغل وقائعها أعظم استغلال. ومن رأي (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) يعرف إلى أي مدى تفيد السينما من الحروب. ولقد رأينا كيف كانت السينما إبان الحرب الكبرى وسيلة فعالة من وسائل الدعاية. وقد استغلها الحلفاء في تصوير أعدائهم أقبح تصوير وأفادوا من ذلك كثيراً، والى جانب هذا الاستغلال فإن السينما كانت وسيلة من وسائل التسرية عن الجنود في الميادين؛ وقام شارلي شابلن ملك المضحكين بنصيب وافر من هذا الواجب وقابل الجنود رصاص العدو وفي أفواههم بسمات استطاع شارلي أن يطبعها على شفاههم رغم الموت
وفي الأعوام الأخيرة شغلت الحرب أذهان الجماهير، ومن ثم بدأت مدينة السينما في إخراج روايات عن الحرب، وحينئذ واجهتها مصاعب كثيرة، فالوقت سلم وتصوير الحروب واصطراع المبادئ قد يرضي قوماً لكنه يغضب آخرين، ومعنى ذلك أن الرواية السينمائية التي ترضي الجبهة الديمقراطية تغضب حتماً الجبهة الفاشية أو النازية. والنتيجة أن الرواية السينمائية تخسر ميادين تباع فيها، وهذا ما حدث لرواية (كل شيء هادئ في الميدان الغربي) التي تناهض فكرة الحروب. فقد قوطعت ومنعت في البلاد التي تعيش(323/74)
على فكرة الحرب وتنشئ أبناءها جنوداً منذ طفولتهم. وكانت ألمانيا أشد البلاد حرباً لها رغم أن مؤلفها ألماني!
بيد أن مدينة السينما وجدت حلاً للمشكلة، ومن رأى روايتي (حصار) و (آخر قطار من مدريد) عرف كيف وفقت إلى هذا الحل العجيب. وسبيل ذلك أن وقفت الرواية نفسها على الحياد لا هي مع هؤلاء ولا هي مع هؤلاء، إنما هي مجرد استغلال لحوادث الحروب، مثل (آخر قطار من مدريد) التي طبقت عليها هذه الفكرة أتم تطبيق فكانت سلسلة من الحوادث الغريبة والوقائع المثيرة التي لا تقع إلا في الحروب. وأما (حصار) فكانت مناهضة لفكرة الحرب من الوجهة الإنسانية المحضة في الميدان الأسباني حيث يقتل الأخ أخاه واحتاطت الشركة التي أخرجت الرواية فلم تدع الملابس تميز الفريقين بعضهما عن بعض إلا بقدر يسير وكل ما رمت إليه هو استصراخ الضمير الإنساني أن يقف هذه المجازر البشرية
واليوم، والعالم يخوض غمار حرب ضروس، فإن السينما لن تتوانى عن القيام بواجبها. ويقيننا أنها ستكون وسيلة فعالة من وسائل الدعاية، وكذلك من وسائل التسلية والترفيه عن المقاتلين وغير المقاتلين في هذه الأيام العصيبة التي يجتازها العالم
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
(لوسيل بال)
وقد اشتركت في تمثيل رواية (باب المسرح) مع لويس رينروجنجر روجرز. وقد اهتمت بأمرها شركة ركو راديو واعتزمت أن تجعل منها واحدة ممن تعتمد عليهن
كلارك جابل
هل تعرف كيف أصبح كلارك جابل فلاحاً؟ إن لذلك قصة طريفة. . .
لقد أهدت إليه زوجته كارول لومبارد بغلاً فاشترى محراثاً. وأهدت إليه آندي ديفين خمسة فراريج فاشترى خمسمائة. وأهداه بوب كوب جردلاً لحلب اللبن فاشترى بقرة. وهكذا أصبح كلارك جابل فلاحاً يفلح الأرض ويحلب البقرة ويربي الفراريج.(323/75)
كاي فرنسيس
وقد سطع نجمها في رواية (الممر الوحيد) مع وليم باول ثم في (ثورة في الجنة) مع هربرت مارشال، وقد ظلت منذ البداية نجمة شركة وارنر ولم تنتقل إلى غيرها من الشركات؛ وأخيراً أعلنت أنها آثرت الزواج واعتزال الأعمال الفنية، وحتى الآن لم تنفذ عزيمتها
جنجر روجرز
وكانت تعرف باسم زميلة فريد استير، أما اليوم فإنها أصبحت حرة تعمل مع من تشاء وكانت تجربتها الأولى في رواية (سأهذبها بنفسي) مع جورج برنت، وفي هذه الرواية لم ترقص سوى رقصة فردية
فريد ماك موراي
يحب فريد ماك موراي صيد السمك حتى أنه ينتهز فرصة الفراغ من العمل في رواية (هل من ضرورة للأزواج) التي يظهر فيها مع مادلين كارول ويقضي وقته في صيد السمك. وهو ماهر جداً في الصيد حتى أنه يعود دائماً خالي الوفاض! وإذا ما سأله أحد في ذلك قال: إنه يلقي بالسمك إلى البحر مرة أخرى رحمة به وشفقة عليه!
(آنا نيجل)
بمناسبة آخر رواية لها (مس كافل)
وقد أخرجت هذه الرواية في وقتها وسوف تكون دعاية سيئة ضد الخلق الألماني، ويذكر القراء أن الحلفاء استغلوا في الحرب العظمى حادث (مس كافل) أعظم استغلال واكتسبوا عطف العالم باسمها(323/76)
العدد 324 - بتاريخ: 18 - 09 - 1939(/)
حربان عظميان
تثيرهما ألمانيا على نمط واحد
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
شهدت الحرب العظمى - أو التي كنا نظنها العظمى - وهي التي قامت في سنة 1914، وهأنذا أشهد حرباً عظمى أخرى بعد خمس وعشرين سنة؛ فأنا في هذا من المخضرمين. ويبدو لي أن ألمانيا الهتلرية هي ألمانيا القيصرية، لم تتغير روحها ولا نزعاتها ولا وسائلها ولا أساليبها. فليس البوربون - ملوك فرنسا الذين عصفت بهم ثورتها هم وحدهم الذين لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً. وعجيب أن يكون هذا هو طراز الحكام في بلد من أرقى بلاد العالم وشعب من خير الشعوب ثقافة وأدباً وفناً وعلماً وفلسفة. ولا بد - كما يذهب إلى ذلك الأستاذ العقاد - أن يكون في هذا الشعب عيب يسمح بأن يكون هذا طراز حكامه الذي لا يكاد يختلف
وقد عانت ألمانيا أقسى ما يمكن أن تعانيه أمة من جراء ما حملت من تبعة الحرب العالمية السابقة وبقيت عشرين سنة تنوء تحت هذا العبء وتجاهد أن تطرحه، فكان المنتظر أن تتقي أن تحمل عبئاً آخر مثله، فإن العائد إلى الجريمة لا يحق له أن يتوقع العطف أو يعول على ما في قلوب الناس من الرحمة، ولكن حكام ألمانيا في هذا الزمان لا يجعلون بالهم إلى بل يقدمون على إثارة حرب عالمية بعد أن أعدوا عدتهم لها غير عابئين برأي العالم أو مبالين بما يجره عليهم من السخط والنقمة. وما من شك في أن الهر هتلر نهج نهجه هذا عن (عمد وسبق اصرر) كما يقولون رجال القانون. ومراميه كلها معروفة من كتابه (كفاحي). وخطته هي أن يعد لبلاده أقصى ما يستطيع من قوة، ثم يتجه إلى الشرق فيبسط سلطانه عليه، حتى إذا تم له ذلك ارتد إلى الغرب فرمى عليه ظله وأذله. ومع أن هذا معروف ولا خفاء به، نراه يتعجب لبريطانيا وفرنسا ماذا يعنيهما من شرق أوربا ولماذا تحاولان صده عن غايته فيه كأنهما لا تعلمان أنه منقلب عليهما بعد أن يفرغ من هذا الشرق.
وكما تجنت النمسا بتشجيع ألمانيا على الصرب في سنة 1914 تجنى هتلر في هذه الأيام على بولندة. فقد ادعت النمسا أن ولي عهدها إنما قتل في سراجيفو بتدبير الصربيين وإن(324/1)
كان قد قتل في أرض نمسوية وبأيدي رعايا نمسويين. ولم يظهر أي دليل على وجود أية صلة بين الصرب وهذه الجريمة؛ ولكن الكونت برختلود رئيس وزارة النمسا كان غبياً قصير النظر، وكان همه أن يسحق الصرب، وقد حذره تيزا رئيس وزارة المجر وحذر الإمبراطور أيضاً ولكن الإمبراطور كان متهدماً وكان زمامه في يد وزيره الأعمى، فكانت الحرب التي ألوت بالنمسا وأذلت ألمانيا
واليوم يقلد هتلر هذا السلف الصالح فيتجنى على بولندة ويزعمها تهدده لأنها لا تذعن لمشيئته ولا تهدي إليه دانتزيج والممر البولندي والأرض التي فيها من الألمان نفر قليل أو كثير. والفرنسيون يقولون في بعض أمثالهم: (إن هذا الحيوان خطر لأنه يدافع عن نفسه حين يهاجم) وكذلك يقول هتلر عن بولندة فذنبها أنها لا تريد أن تخنق
وقد رسم هتلر خطته ببراعة فأعد في الغرب خط سيجفريد ليحول دون زحف فرنسا على ألمانيا من الغرب وليتسنى له أن يضع في هذا الخط أقل عدد يكفي للدفاع عنه، ثم يرمي بمعظم قوته على الشرق فيكتسحه في أوجز وقت، ويروع العالم بسرعة القضاء على الأمم في أيام معدودات، وبعد أن يفعل ذلك ويترك دول البلقان مرتعدة الفرائص ويفتح لنفسه الطريق إلى كل سوق ويكفل لبلاده كل ما عسى أن تحتاج إليه من أقوات وبترول وخامات وغير ذلك، وبهذا يحبط الحصر الذي عسى أن تضربه بريطانيا بحراً عليه - يرتد إلى الخط سيجفريد بقواته الأخرى ويقول لفرنسا وبريطانيا: الآن نستطيع أن نظل نقتتل نصف قرن إذا شئتما، أفلا ترون أن الصلح خير وأن التسليم بالأمر الواقع أجدى من هذه الحرب العقيمة. . .
وكذلك كان القيصر غليوم يعتمد على النصر (البرقي) أو (الخاطف) وكان همه يوم شن الغارة أن يحمل جيشه على جناحي نعامة ويطير به إلى باريس ويستولي عليها فإذا الحرب قد انتهت. . . واليوم يقلد هتلر سلفه ويزيد عليه الهجوم بغير إنذار وعلى يحن غرة وفي مأموله أن يقضي على بولندة ويمحو وجودها قبل أن تستطيع أن تجمع جيشها كله وتقذف به إلى ميادين القتال. فالنصر (البرقي) هو الذي عليه معول هتلر الآن كما كان عليه معول القيصر غليوم، وكما أخطأ حساب القيصر يخطئ الآن حساب خلفه هتلر، فإن بولندة تأبى أن تزول فيما (بين غمضة عين وانتباهتها) ولا عبرة بالاستيلاء على بلد هنا وبلد هناك(324/2)
فما دام الجيش المدافع سليماً فالحرب دائرة والمهاجم لم ينتصر، وإنما يكون النصر بالقضاء على القوة المدافعة لا بأخذ المدن. وخط سيجفريد قوي متين ولكنه أنشئ على عجل - في أقل من سنتين - وقد ظهرت فيه مواطن ضعف غير مأمونة، والجيش الفرنسي يختبره الآن ويلتمس هذه المواطن الضعيفة فيه ويحمل عليها، ويضطر ألمانيا إلى إرسال النجدات إليه (على جناحي نعامة) وبتوالي ورود هذه النجدات يخف الضغط الواقع على بولندة فتطول مقاومتها على خلاف ما حسب هتلر. ويجب أن يدخل في حساب الحاسب أن الجيش الألماني ليس كما يهولون به فقد كان جيش القيصر خيراً منه. ذلك أنه هو أيضاً أنشئ على عجل بعد أن ظلت ألمانيا عشرين سنة محرومة من جيش بالمعنى الصحيح بمقتضى معاهدة فرساي. ومن السهل أن تجند الملايين الرجال كما فعل هتلر ولكنه ليس من السهل أن تخرج العدد الكافي من الضباط الأكفاء في هذا العصر لهؤلاء الملايين من الجنود في أربع سنوات. فالجيش الألماني لا تنقصه الضخامة في العدد ولا في العدة ولكن ينقصه الضباط الأكفاء من الطراز الحديث بسبب هذه السرعة (البرقية) في تكوينهم
وقد كنا نظن من الواضح أن من العسير في هذا الزمان أن تسيطر أمة على العالم على نحو ما كان يحدث في العصور الماضية؛ فليس من الممكن في هذا الزمن أن تكون في العالم أمة واحدة لها شأن كما كان الحال في أيام الرومان والعرب وغيرهم. فما بين أكثر الأمم تفاوت يذكر إلا فيما يحدثه اختلاف الخصائص القومية؛ أما في العلوم والمعارف والمقدرة على الابتكار والاختراع وما إلى ذلك فالطبقة واحدة أو متقاربة. وقد رأينا الألمان في الحرب العظمى الماضية يفاجئون الحلفاء بالغازات السامة أو الخانقة أو الكاوية وما أشبه ذلك، ورأينا الحلفاء يسرعون إلى اختراع الكمامات الواقية ثم يصنعون هذه الغازات ويطلقونها على الألمان، وبذلك يضيعون عليهم هذه المزية. وأمثلة ذلك كثيرة وكلها شواهد على أن ألمانيا تكرر خطأها القديم ولا تعتبر بما كان في الحرب الماضية التي كان الظن أن عبرها ستظل ماثلة
ولعل هذه أول حرب تقدم أمة على إثارتها وهي جائعة، أو على الأقل وهي تعاني نقصاً شديداً في الأقوات والمواد الأخرى التي لا غنى عنها لا في سلم ولا في حرب. فلا عجب(324/3)
إذا كانت بريطانيا وفرنسا تشنان على ألمانيا حرباً اقتصادية فإنهما تعلمان ما تصنعان وتعرفان ما تكابده ألمانيا وما تظن أن في وسعها أن تعالجه وتتقي شره بسرعة القضاء على بولندة وهو حساب بدأ يظهر انه يخطئ. فالعجب لألمانيا التي تجعل حياتها كلها ومصيرها رهناً بحساب قد يخطئ أو يصيب. الحق أن هذه مقامرة فذة في تاريخ الأمم
إبراهيم عبد القادر المازني(324/4)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 15 -
كنت حدثت القراء فيما سلف أني لم أهجم على الأستاذ أحمد أمين إلا بعد أن صح عندي أنه يسئ إلى نفسه وإلى الأدب العربي إساءة خطرة تستوجب المسارعة إلى تعريفه بخطر ما يصنع عساه يثوب إلى رشده فيرجع إلى الصواب
وفي مطلع حديث اليوم أثير مشكلة تحدث بها إلى تلاميذه في كلية الآداب وكان لها صدىًّ، هو حيرة بعض الشبان الذين كانوا يثقون برجاحة العقل عند ذلك الأستاذ المفضال
وما الذي حدَّث به تلاميذه في تلك الكلية؟
حدثهم أن من رأيه ألا يدرس الأدب العربي في المدارس الثانوية ولا المدارس العالية، وأن الواجب أن يُقصَر درس الأدب العربي على المختصين في دراسة تلك اللغات (؟!)
هذا كلام نقله إلينا كثير من طلبة كلية الآداب، فهل هو صحيح؟
يجب على الأستاذ أحمد أمين أن يسارع إلى تكذيب هذا الكلام، إن كان من المفتريات، ويجب عليه أن يحدد الغرض منه إن كانت نسبته إليه صحيحة، لأنا نحب ألا يعرض مركزه لأخطار الإشاعات والأقاويل
والواقع أن الكلام المنسوب إلى الأستاذ أحمد أمين يتفق في روحه مع الآراء التي أذاعها في الأسابيع الأخيرة، فهو يقول صراحة بأن الأدب العربي في اغلب أحواله أدب له معدات لا أدب أرواح، وأنه لم يصور البلاد العربية والإسلامية، ولم يصف ما وقع فيها من أحداث اجتماعية، ولم يشهد بأن أهله أحسوا الطبيعة وتأثروا بألوان الوجود
ومن الواضح أن الرجل يحترس في مقالاته أكثر مما يحترس في محاضراته، فما قال أحمد أمين في مجلة الثقافة ليس إلا صورة مهذبة لما أذاعه في كلية الآداب
نحن إذن أمام فتنة جديدة، هي فتنة القول بأن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد. وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين، فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقضي بأن يوضع الأدب القديم في(324/5)
المتاحف، وألا يدرسه غير المتخصصين على نحو ما يصنع الأوربيون في الآداب اليونانية واللاتينية، ثم تُقبِل كل أمة على لهجتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أُماً أو جدة للغات الشعوب العربية، كما صارت اللاتينية أُماً أو جدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المسيو ماسينيون في خطبة ألقاها في بيروت سنة 1913 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى جريدة (البلاغ) من باريس
والحق أن الفتنة التي أذاعها المستعمرون والمبشرون كانت فتنة براقة خدّاعة تُزيغ البصائر والعقول، وقد انخدع بها من انخدع في الأعوام الماضية، فكانت المفاضلة بين الفصيحة والعامية من المشكلات التي تقام لها المناظرات في بعض المعاهد والأندية الأدبية. وقد وصل صدى هذه الفتنة إلى المجمع اللغوي بالقاهرة فانقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق يقول بدراسة اللهجات المحلية وفريق يقول بأن الأفضل إنفاق المال في إحياء الأدب القديم، وقامت بسبب هذه المشكلة مساجلات فوق صفحات الجرائد بين الدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين
والظاهر أن لأستاذ أحمد أمين من أنصار القول بإحياء اللهجات المحلية، فهو يدرس على صفحات مجلة الراديو المصري ألفاظ اللهجة المصرية باهتمام يدل على تأصل تلك الفتنة في نفسه الواعية!
فهل تكون مقالاته في مجلة الراديو المصري نواة لمحاضراته عن الأدب العربي المصري بكلية الآداب في الأعوام المقبلات؟
نحن فهمنا أن الغرض من إنشاء كرسي للأدب المصري بكلية الآداب هو درس الآثار الأدبية العظيمة التي أبدعها المصريون باللغة الفصيحة منذ فتح العرب مصر إلى اليوم لأن مصر تفردت بمزايا كثيرة بين الأمم العربية، فاعظم مكتبة عربية في العالم هي دار الكتب المصرية، وأعظم جامعة عربية في العالم هي الجامعة المصرية، وأعظم معهد إسلامي في العالم هو الأزهر الشريف، وأعظم صحافة عربية في العالم هي الصحافة المصرية، وأعظم معجم عربي وهو لسان العرب ألف في القاهرة، وأعظم كتاب في أسيرة النبوية وهو سيرة ابن هشام أُلِفَّ في مصر، وأعظم كتاب في تاريخ الإنشاء وهو صبح الأعشى ألفه أديب مصري هو القلقشندي، وأعظم موسوعة عربية وهي نهاية الأرب ألفها أديب(324/6)
مصري هو النويري، وأعظم شارح لمذاهب التصوف، وهو الشعراني، مصري من أبناء المنوفية. . . ومصر كانت الملاذ لعلماء العرب بعد أن اعتدى التتار الهمجيون على بغداد؛ ومصر كانت الملجأ لأحرار التفكير من العرب حين اضطهدهم الأتراك في سورية ولبنان؛ ومصر كانت ولا تزال صلة الوصل بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية، وبفضل سواعد المصريين اندحر الصليبيون؛ وبفضل مصر حبطت دسائس المبشرين في الشرق وهم أعوان المستعمرين في تقويض دعائم الحضارة العربية
فما الذي سيصنع أحمد أمين حين يدرس الأدب المصري بكلية الآداب؟
أترونه يفهم الغرض الأصيل من الأدب المصري فيرفع آصار الخمول عن مآثر المصريين في خدمة الأدب واللغة والتاريخ والتشريع؟ أم ترونه يتخذ مادة الدرس من الكلام عن أحاديث الحاجة خدُّوجة والمعلِّم مشحوت؟
إن كلية الآداب لن تعيش بمنجاة من رقابة النقد الأدبي، ولن يهمس أحمد أمين بكلمة أو فكرة بدون أن تصل إلى من يهمهم معرفة جوهر الرسالة الأدبية التي تذيعها كلية الآداب، ولن يرن في أبهاء تلك الكلية صوت ينطق بالحق أو بالباطل إلا وحوله أرصاد من عقول الشبان الأذكياء الذين توِّجههم عزائمهم وقلوبهم إلى أن يكونوا أبطال الفكر العربي الصحيح في العصر الحديث!
وإني لموقن بأن أصدقائنا من أساتذة كلية الآداب يعرفون جيداً أن الأمة تنتظر أن يكون ذلك المعهد العظم أهلاً في كل وقت للأمانة العظيمة التي عهدتْ بها إليه، فلا يكون مسرحاً للآراء الفطيرة التي يذيعها بعض الناس في إحدى المجلات
لقد رجونا ألف مرة أن تكون كلية الآداب بالقاهرة هي النبراس الذي تستضئ بها العقول في الشرق، وقد استطاعت تلك الكلية بفضل المتفوقين من أساتذتها وخريجيها أن ترفع لواء الدراسات الأدبية والفلسفية، فمن المجازفة بسمعتها العلمية أن تصفح عمن يقفون عند الحدود السطحية في فهم الأدب والتاريخ
أقول هذا وقد كتب إليَّ أحد المتخرجين في تلك الكلية خطاباً يقول فيه: إن اللغة العربية ليست لغة المصريين. ولو شئت لصرحت باسم صاحب ذلك الخطاب، ولكنه صديق عزيز لا أحب أن أعرضه للاتسام بسمة الخطأ الذي وقع فيه أساتذة أحمد أمين(324/7)
وإنما يهمني نقض هذا الرأي لأنه على ضعفه يرفع رأسه من وقت إلى وقت، ويخيل للناس أنه قادر على الحياة وأنه يستطيع أن يمشي على رجلين أو على أربع، وأنه خليق بأن تُنصَبْ له الموازين!
وهذه الشبهة لها صورة من صور الحق:
فاللغة العربية ليست لغة مصرية، وإنما هي في الأصل لغة أجنبية حملتها العقيدة الإسلامية
هذه الشبهة تحمل وجهاً جميلاً من وجوه الحق، ولكنها تذكر بحكاية اللص الذي رأى صاحب الدار يجول في أرجاء داره فصاح: من الذي هناك!
أيها القراء
أسمعوا الحجج الآتية، ثم كذبوني إن استطعتم، ولن تستطيعوا أبداً. أنتم تعرفون أن أهل مصر تكلموا اللغة العربية نحو ثلاثة عشر قرناً، فهل تعرفون أن المصريين تكلموا لغة واحدة ثلاثة عشر قرناً قبل أن يتكلموا اللغة العربية؟
هل يستطيع رجل من علماء الآثار المصرية أن يثبت أن أهل مصر كانت لهم لغة واحدة في أي عهد من العهود قبل أن يعرفوا اللغة العربية؟
إن التاريخ يؤكد أن المصريين قبل الإسلام كانت لهم لغة في الشمال ولغة في الجنوب، ويؤكد أنهم عرفوا لغة ثالثة هي اللغة اليونانية، وكانت لغة رسمية في بعض العهود، وربما استطاع التاريخ أن يقول إن مصر كان فيها ثلاث لغات: لغة لأهل مصر الوسطى ولغة لأهل الجنوب ولغة لأهل الشمال
وقد يستطيع التاريخ أن يؤكد أن بعض الأقاليم المصرية عرفت اللغة العربية قبل الإسلام. والتشابه بين اللغة المصرية واللغة العربية أثبته كثير من الباحثين منهم المرحوم أحمد باشا كمال وأحدِّد الغرض فأقول:
إن اللغة التي تسود سيادة تامة في قطر من الأقطار ثلاثة عشر قرناً لا تكون لغة أجنبية وإنما تكون لغة قومية. وسيأتي يوم تسمى فيه اللغة العربية باسم آخر هو اللغة المصرية، لأن العرب الأصليين في حوا ضرهم وبواديهم لا يتذوقون اللغة الفصيحة كما يتذوقها المصريون، ولولا مصر لانقرضت لغة العرب منذ أجيال طوال
يا بني آدم من أهل مصر، أسمعوا وعوا(324/8)
إن مصر - لحكمة أرادها الله بالعرب والمسلمين - هي البلد الوحيد الذي انقرضت لغاته القديمة لتحل محل اللغة العربية، وهذا حظ لم تظفر بمثله أمة عربية: فالأقطار الشامية تحيا فيها اللغة السريانية واللغة العبرانية؛ والبلاد العراقية تحيا فيها اللغة البابلية واللغة الكردية، ولغات أُخر يعرفها أهل تلك البلاد؛ والجزيرة العربية تحيا فيها لهجات مختلفات؛ والبلاد المغربية فيها ما تعرفون من لغات متنافرة بعضها قديم وبعضها حديث، والرجل العربي قد يحتاج في تلك البلاد إلى ترجمان
وقد عصفت عصور الظلمات بلغة القرآن في كثير من الممالك العربية، فاضطرت بغداد وكانت عروس العروبة إلى أن تتكلم اللغة الفارسية بضعة قرون، ثم قهرها الظلم بعد ذلك على أن تتكلم اللغة التركية زمناً غير قليل؛ والشام في مختلف أقطاره تعرض كارهاً لأمثال تلك الخطوب. ومع هذا لطف الله بمصر فظلت موئل اللغة العربية، وكانت المساجد في القاهرة وفي سائر الحواضر المصرية مدارس جامعة لنشر علوم اللغة والدين، وما يزال الناس يذكرون كيف حفظ الأزهر الشريف مخلفات الفُرس والهنود والعراقيين والشوام والمغاربة والأندلسيين في ميادين المعقول والمنقول
فالذين يهمسون بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية هم قوم مجرمون يستأهلون التأديب وكيف تكون لغة أجنبية وقد تغلغلت في دمائنا وأرواحنا نحو ثلاثة عشر قرناً، وكنا الدرَّع التي تصد ما يوجه إليها من سهام ونبال؟
إن اللغة العربية في مصر أرسخ من اللغة الفرنسية في فرنسا ومن اللغة الإنجليزية في إنجلترا ومن اللغة الألمانية في ألمانيا، لأن تلك اللغات بصورتها الراهنة لم تعش في بلادها ربع المدة التي عاشتها اللغة العربية في بلادنا، والفرق بيننا وبينهم أنهم سلموا من الدسائس وابتلينا نحن بالدسائس
وهل يستطيع شاعر مثل فيكتور هوجو أن يجد في أجداده من تكلم اللغة الفرنسية كما يجد حافظ إبراهيم من أجداده من تكلم اللغة العربية؟
وأين كانت اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية في الوقت الذي ظهرت فيه أشعار أبي تمام والبحتري، وأبن الرومي، والشريف الرضي باللغة العربية؟
وهل في الدنيا لغة عاصرت القرآن وبقيت مفهومة لأهلها على نحو ما يفهم القرآن في(324/9)
جميع البيئات العربية؟
إن مصر هي التي حفظت لغة القرآن بلا جدال ولا نزاع، فمن العار أن يوجد في أبنائها من يقول إنها لغة أجنبية
ومن أعجب العجب أن تحفظ لنا الأمم العربية هذا الفضل، ثم نتنكر نحن لهذا الفضل!
من اعجب العجب أن تذكرنا الأمم العربية بماضينا في خدمة اللغة العربية، ثم يكون فينا من يقول بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية
فما هي لغتنا إذن؟
إن اللغات المصرية القديمة لن تعود أبداً، ولو أنفقنا في سبيلها غاليات الأنفس والأموال، فهل ترون أن نتكلم بعض اللغات الأوربية، وهي أجنبية أجنبية أجنبية؟
وهل يدعو إلى هذا الرأي غير مخلوق جهول لا يعرف ما تعيش به الأمم من المقومات الذاتية؟
إن مصر ستحتفل بعد قليل بالعيد الألفي للقاهرة، فهل تستطيع مدينة في الشرق أن تقول إنها أدت للدراسات العربية والإسلامية ما أدت القاهرة؟
هل تستطيع مكة وهي مهد اللغة العربية أن تقول إنها تنافس القاهرة في ماضيها اللغوي والأدبي؟
وهل طبع المصحف في مكة بقدر ما طبع في القاهرة؟
وهل أذيعت تفاسير القران في أي بلد عربي بقدر ما أذيعت في القاهرة؟
وهل نشرت عيون المؤلفات العربة إلا بفضل مطابع القاهرة؟ وهل عرف التسامح في درس المذاهب الإسلامية كما عرف في القاهرة؟
احفظوا نعمة الله عليكم، يا أهل مصر، وكونوا عند ظن الأمم العربية بوطنكم المحبوب
ولنفرض أن العامية هي لغة المصريين وأنها ترجع إلى عهد سبق الإسلام هو عهد الهكسوس كما قال بعض المبشرين، فما عسى أن تكون تلك العامية المصرية؟ أليست لغة عربية فصيحة المفردات لا ينقصها غير الإعراب وهو ليس شرطاً أساسياً في الإفصاح؟
أنا لا أسمي هذه اللغة عامية، وإنما أسميها لغة التخاطب ولكل أمة في الدنيا لغتان: لغة تخاطب ولغة إنشاء(324/10)
ومن حدثكم أن أمثال الإنجليز والفرنسي والطليان والألمان يتكلمون كما يكتبون فاعرفوا أنه غافل جهول
وكيف تصح تلك الدعوى العريضة وقد عرف كل من عاش في البلاد الأوربية أن العوام لهم لغة سهلة بسيطة لا تقاس إلى لغة من يحيون في البيئات العلمية والأدبية؟
فمن كان في ريب من ذلك فليشهد بعض الأفلام الفرنسية التي تمثل لهجات الصناع والعمال أو تصور مناحي التعبير عند أهل الشمال أو أهل الجنوب، فإن فعل فسيعرف أن لغة التخاطب تختلف قليلاً أو كثيراً عن لغة الخطابة ولغة الإنشاء
إننا نعرف أن العصر العباسي كان عصر ازدهار اللغة العربية في العصور الماضية، فهل تظنون أن عامة الناس في البصرة والكوفة وبغداد كانوا يتكلمون كما يتكلم المبرد والجاحظ ومسلم ابن الوليد؟
إن في أدباء فرنسا لهذا العهد من يشكك في قدرة جمهور الأدباء هناك على التعبير الأصيل باللغة الفرنسية، ولأحد مؤلفيهم كتاب أسماه:
فهل يكون معنى ذلك أن اللغة الفرنسية خفيت أصولها على أدباء باريس وليون؟
أم يكون معناه أن الغيرة على اللغة تثور في صدور الأدباء من حين إلى حين بسبب التسامح الذي يشهدونه في تعابير بعض الكتاب كما فعل عبد القاهر الجرجاني في مقدمة دلائل الإعجاز حين رأى ما يشبه ذلك عند كتاب القرن الخامس؟
إن الناس عندنا لا يفرقون بين الحالات التي يختلف فيها بعض الكتاب عن بعض، وهم يظنون أن كل إنشاء يخالف إنشاء الجاحظ أو ابن العميد هو من شواهد انحطاط اللغة العربية؛ وهم يتوهمون أننا تفردنا بين الأمم بالحيرة بين لغتين: إحداهما لغة التخاطب والثانية لغة الإنشاء
ولو كان ذلك المتخرج في كلية الآداب قد تخرج في قسم اللغة العربية لا في قسم التاريخ لعرف أن الجاحظ على فضله نص على أن هناك مواطن لا يجوز فيها التعبير بغير اللغة العامية، وهذا يشهد بأن حياة اللغة العامية ليست نذيراً للغة الفصيحة بالهلاك، فالذوق يوجب أن يكون لكل مقام مقال وألا نحدث العوام كما نحدث الخواص
وهل كان أهل مكة والمدينة يتكلمون فيما بينهم بنفس الأسلوب المعروف في القرآن(324/11)
والحديث؟
إن القرآن نزل على العرب بلسان عربي مبين، ومع ذلك لا يمكن القول بأن العرب لذلك العهد كانوا يعبرون عن ذوات أنفسهم في شؤونهم اليومية والمعاشية بنفس الأسلوب الذي عبر به القرآن عن الشؤون الدينية والدنيوية
فكيف يطلب منا أن نتكلم كما يتكلم شعراؤنا وخطباؤنا في جميع الشؤون، وألا قيل إننا خوارج على اللغة العربية؟
وهل يطلب من تجار الغورية بالقاهرة أو تجار الشورجة في بغداد أو تجار الحميدية في دمشق أن يتكلموا كما يتكلم علماء مصر والشام والعراق؟
وهل يتكلم سكان محلة بِلْ فيل في باريس كما يتكلم أساتذة السوربون؟
أنا أعرف أن أستاذنا برونو كان يوصينا بأن نستمع إلى محاورات العوام في المترو، ولكن لهذه الوصية مدلول آخر، فهو كان يريد النص على أن لغة التخاطب فيها مرونة قد لا توجد في لغة الإنشاء، وأن من العقل أن ننتفع بتلك المرونة في بعض المقامات لأن انصراف العوام عن الزخرف والتنميق أعطى لغتهم خصائص من السهولة والوضوح، وهما من أهم عناصر البيان
وأؤكد للقراء أن الفرنسي الذي ينتقل من الشمال إلى الجنوب قد يجد من اختلاف الألفاظ والتعابير ما لا يجده العربي حين ينتقل من مصر إلى العراق
فكيف يجوز لبعض الناس أن يوهم القراء بأن العرب تبلبلت ألسنتهم وأن التفاهم بين خواصهم وعوامهم صار من المعضلات؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن اللغات العامية لها مكان في كل أرض، لأنها لغات بسيطة سهل تؤدي الأغراض اليومية في المعاملات. ولو فرضنا اللغة الفصيحة على جميع الناس لكان ذلك ضرباً من الإرهاق. . . ولا خطر على العرب من أن تكون لهم لهجات عامية تقترب أو تبتعد وفقاً للظروف الجغرافية، ولكن الخطر كل الخطر هو في جعل اللهجات المحلية أصولاً ثابتة يتدارسها العلماء ليعطوها من السلطة الأدبية ما يمكنها من الانفصال عن اللغة الفصيحة بعد جيل أو جيلين، كما يصنع الأستاذ فلان الذي يعد نفسه ليكون (أصمعي) اللهجة المصرية في هذا الزمان!(324/12)
وماذا يقول فلان وفلان وفلان إذا حدثتهم بأن اللهجات المحلية في البلاد العربية أصبحت تقترب من اللغة الفصيحة بسرعة عجيبة لم تكن تخطر في البال بسبب انتشار الصحافة والتأليف؟
إن العوام في جميع البلاد العربية يقرءون الجرائد والمجلات ويفهمون مغازيها ومراميها بلا صعوبة، وشاهد ذلك يعرفه أصحاب المجلات المصرية الذين يشهدون بأن قراءهم في خارج مصر يعدون بالألوف
فهل يمر ذلك بلا تأثير في تطور اللهجات المحلية؟
شرقّوا قليلاً أيها المصريون لتدركوا فضل اللغة الفصيحة في نشر معارفكم بأقطار الشرق، ولتروا كيف يعتز الرجل المصري حين يرى له إخواناً يفهمون عنه في أقطار تفصلها عنه البحار والصحارى والجبال
أنتم لا تعرفون قيمة الحرص على وحدة اللغة العربية، ولا تدركون قيمة النعمة التي خصكم بها الله حين جعلكم حَفَظَة التراث العربي، ولو عرفتم ذلك لأفضيتم حلل الثناء على من ينشدون أخوتكم من أهل الشرق، ويذكَرونكم في كل يوم بأنهم إخوانكم الأقربون وإن بعدت الدار، وشطَّ المزار
إن الأديب الذي طويت اسمه حفظاً لسمعته ينسى أن المزية الصحيحة التي رفعته مكاناً عليَّاً بين زملائه هي قدرته على مخاطبة الجماهير بلغة مصونة من اللحن والتحريف، فإن أصر على معاداة اللغة الفصيحة فليجرب حظه بطريقة عملية، ثم لينظر كيف تميد الأرض تحت قدميه
أما بعد فهل ينتهي صديقنا الأستاذ أحمد أمين؟
هل يدرك أن شبان اليوم يعانون أزمة خطيرة بسبب الدسائس التي يصوبها المستمرون والمبشرون إلى صدر اللغة العربية، وإن واجب الأساتذة بكلية الآداب هو حماية أولئك الشبان من تلك السموم الفواتك؟ هل يعرف أن فرنسا على عظمة إيمانها بسيطرة لغتها الفصيحة سيطرة قاهرة تحسب ألف حساب بخطر اللهجات المحلية وتتخوف من انتقاض (البروفانس) وإنها لذلك أعلنت غضبتها الأدبية على الشاعر ميسترال؟
من حق السيد فلان أن يتحذلق كيف شاء فيدّعي أن الأدب العربي لا يستحق الدرس في(324/13)
المدارس الثانوية والعالية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن اللغة العربية لغة أجنبية، ومن حق السيد فلان أن يقول بأن المصريين ليسوا من العرب؛ من حق هؤلاء أن يقولوا ما يشاءون ما دام القانون لا يحرم الاعتداء على اللغة كما يحرم الاعتداء على الدين. . . ولكنا سنريهم أن سيف القلم أمضى من سيف القانون
(للحديث شجون)
زكي مبارك(324/14)
دمشقيات
ليلة على سفح قاسيون!
للأستاذ علي الطنطاوي
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية ... سقى زمانك هطال من الديم
لم أفض منك لبانات ظفرت بها ... فهل لي اليوم إلا زفرة الندم؟
(الشريف)
يا ليلة ما كان أجملها وأقصرها. . . وذلك تكون ليالي الأنس فاتنات قصيرات العمار!
يا ليلة ستمر الليالي ولا تمحو من نفسي ذكراها ولا أستطيع أن أنساها. . .
يا ليلة. . . سكرت فيها بلا كأس ولا قدح. . . لقد علمتني السكر فسأسكر الليالي الآتيات بذكراك. . . ولكن ثمالة السرور لا يكون فيها إلا رحيق الألم. . .
صدق دانتي: إن ذكرى اللذائذ الماضية تؤلمنا!
تلك هي ليلتنا على سفح قاسيون، في قهوة (حسن آغا) نظم فيها قلادة الأصحاب والأحباب، شفاءُ الطفل المحبوب (إبراهيم الرواف) فأجتمع الشمل وتم الأنس وألفت الحلقة بين العلم والأدب والشعر والفن والنكتة والغناء، وجمعت القهوة بين العراق والشام، ودمشق وبيروت، فكان في المجلس كرام أهل كل بلد وكبار أهل كل فن. . . وشاركت الطبيعة الناس في فرحة الشفاء فتزينت بحلة الأصيل المنسوجة بخيوط الذهب، وماست أشجار الغوطة دلالاً، وهمست الأوراق بترتيلة المساء، وكان المشهد لا يفيد فيه الوصف، لأن مثله لا يرى إلا في دمشق أو في جنان الخلد، ودمشق جنة المستعجل. . .
وتحدث الأستاذ البيطار، وتطارح الأستاذان الأثري والتنوخي الأشعار، ثم تسلم المجلس الأستاذ سعدي ياسين خطيب بيروت فلم يبق لأحد مجال لمقال، وطفق يلقي النكتة إثر النكتة والنادرة تلو النادرة، ونحن نمسك بخواصرنا، ونضرب من الضحك بأرجلنا ونمسح دموعنا، وهو لا يكف ولا يقف، ففكرت كم يضيع بيننا من الآداب التي لو دوناها كما دون المتقدمون لكانت لنا ثروة هائلة. وحسبك من هولها أن ما رواه صاحبنا تلك الليلة وارتجله يملأ كتاباً كبيراً. . . حتى إذا انطفأ مصباح الكون، ولبثت عروس الطبيعة ثوبها الأسود، ووجب حق الله علينا، قمنا إلى الصلاة، فأذن مؤذن منا، فلم نفرغ من الصلاة حتى أذن(324/15)
مؤذن آخر أن حي على الطعام. . .
ولما فرغنا وامتلأت بطوننا، حسبت المجلس سينفض، وأن القوم قد طعموا فلابد أن يتسروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي يقدم المقدمات. . . ويتحدث عن الغناء والطرب، فما ظننت والله إلا أنه سيغني. ولقد سمعته حين أذن فسمعت صوتاً حلواً ورنة عذبة، ولكنى وجدته يشير إلى شاب ما فتح منذ الليلة فمه ولا تكلم بكلمة، فظننته يمزح وقلت إحدى هناته والله؛ غير أنه بالغ في إطراء الشاب وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمأن إلى حكمه وارتضى فهمه، فشككت ولم أصدق أن يكون في دمشق مغن مجود لا اعرفه، على ولعي بأهل هذا الفن، وعلى صلتي بالأديب الموسيقي الأستاذ حسنى كنعاة لولب أهل الموسيقى. . . وكان أشد ما أخشى منه أن يردد علينا اسطوانات عبد الوهاب وأم كلثوم ويحسبها علينا ليلة طرب، وتمنيت لو ارتجل ارتجالاً ولم يجاوز أنغامنا العربية إلى أنغام لا نألفها ولا نحبها، ولا يدعى محبتها إلا قوم يراءون بالطرب منها حتى يقال إنهم متمدنون وأن لهم بموسيقى أوربة بصراً، ولست بحمد الله من هؤلاء. . .
وما لبث الشاب أن غنى، فإذا صوت تمنيت والله أن يكون لي علم الأستاذ محمد السيد المويلحي لأصفه لقراء الرسالة كما يصف هو، فأقيسه ب ـ (الكونترالتو) الذي لا أعرف اهو شيء مأكول أم ملموس، وب ـ (الميزو سبرانو) الذي لا أدري أهو حيوان أم نبات أم جماد أم هو شيطان من شياطين الموسيقى؟ ولكني وا حسرتا جاهل بهذا الفن، وليس عندنا في دمشق مويلحي آخر يخلد ذكر هؤلاء النابغين المغمورين المساكين في الرسالة!
أفيصح أن أصفه كما اعرف؟
بدأ بـ (يا ليل) بصوت ناعم حلو، فأطربني صوته، وأعجبني نغمته، ولم أعب عليه إلا خفوته ونعومته؛ وصحت وأنا رجل طروب، وصفقت، فقال لي القوم: انتظر إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، فإذا له صوت قوي وضخم ولكنه واطئ كقرار عبد الوهاب؛ وإن كانت له قوة صوت صالح عبد الحي أو الشيخ صبحي الأمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو، حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً، وهو لا يزال على قوت ورجولته، فبالغت في الإعجاب وهزني الطرب، فقالوا انتظر، أن بعد هذا لشيئاً، فسكت انتظر وما أظن أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشاب (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا(324/16)
له صوت صبيّ برقته وحدته وصفائه، فاستخفى والله الطرب، حتى هممت لولا الحياء أن أقوم له فالتزمه وأقبله، وتركنا في هذا الأفق السامي، وهبط بآهة من آهاته إلى القرار، ثم تهاوت آهته واختفت حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. . . ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننا إلا أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة، والذكر الكامنة لا يعلمها إلا الله، وكانت لحظة صمت وخشوع، آمنت فيها بما تفعل الموسيقى. . . ثم انتبه القوم فزلزل المكان بالتصفيق والهتاف. . .
ثم عاد ينادي هذا الليل الأصم: (يا ليل - يا ليل) والليل يصغي ويطرب، ولكنه لا ينطق فيجيب. (يا ليل - يا ليل) كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! (يا ليل - يا ليل) يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، يا حبيب المتعبد الناسك، يا عدو المريض المتألم الحزين! (يا ليل) كم يخفى ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم (يا ليل) كم تضم أحشاؤك من الآم وآمال! كم تشهد من أفراح وأتراح! (يا ليل) كم يتمنى بقاءك سعيد جذلان، وكم يرقب فجرك ضائق حزنان (يا ليل - يا ليل) كم بين جوانبك من ساهر يراقب النجم يرقب حبيباً لن يعود أبداً. أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شكاة (يا ليل) يا رمز السرمدية، يا حليف المسرات، يا قرين الآلام!
امتلأت نفسي شجناً، وأحيت هذه (الليالي) ليالي الخاليات وملك نفسي شعور أعهده منها كلما سمعت الصبايا لسحر الصبا. . . ومضى الشاب يقلب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر. ثم كرّ كرة فجاء بنغمة متقطعة مرقصة. . . وأتى بدور يترع النفوس فرحاً، واضطر القوم كلهم أن يرددوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الدقيق العالي فيكون منه اتساق (آرموني) موسيقى عجيب، وعاد المرح إلى المجلس، وسقط الوقار عن أوقر أهله فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقص المطرب، وكان الشيخ سعدي لا يدخر سكتة بين نغمتين إلا أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها. وزلزل المجلس بأهله من الضحك والغناء، حتى لقد حسبت الدنيا ترقص معنا. ثم حط الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة (يا ميجنا - يا ميجنا) تلك التي تصور بمعانيها النفس الشامية، وتمثل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبي ومجال الابتكار، ومحك القريحة؛ فهي ترتجل أبداً ارتجالاً وتعقد لها المجالس، ويقوم(324/17)
الشاعران يتقارضان المدح أو الهجاء، وأهل المجلس يرددون اللازمة. . . (الميجنا) أنشودتنا الأزلية التي لا يعلم أحد من نظم أول مقطع منها ولا متى ينظم آخر مقطع. . . ثم أخذنا في الأغاني البلدية (هيهات يا بو زلف):
من هُون لَ أرض الدير ... من هُون لَ أرض الدير
والسّر اللي بيننا ... أيشْ وَصَّلُو للغير
وان كان ما في ورق ... لَ أكتب عَ جناح الطير
وان كان ما في حبر ... بدموع عينيّ. . . . . . . . . .
تلك الأغاني التي ولدت في أودية الشام المختبئة في سر الغيب لا يعلم بها إلا أهلوها والله العالم بكل شيء، وذراه التي لا يسكنها إلا أهلوها والنور
. . . فيا أيها المصطافون بالله عليكم، لا تقفوا عند صوفر وبحمدون وبلودان، بل تغلغلوا إذا أردتم أن تشاهدوا الجمال جمال الفطرة، واهبطوا أودية، وارتقوا ذرى، واركبوا الدواب، وسيروا على الأقدام، ولكن لا. . . لا أيها المصطافون بالله عليكم، انسوا ما قلت لكم، ودعوا الجبل على فطرته، اتركوه يعيش على جهله الفاضل، وفقره السعيد. لا تحملوا إليه الحضارة التي أفسدت بلودان وصوفر وبحمدون. . .
هذه الحضارة، ويل لنا من هذه الحضارة!
لقد سلبتنا كل شيء! فهل تسلبنا موسيقانا؟ إنا لا نجد ساعة الضيق إلا أغانينا وأنغامنا، نصب فيها آلامنا ونستوحيها الأمل ونمسح بها دموعنا. أفتريدون ألا يبقى لنا وزر نلجأ إليه ساعة الصبق؟
إن الموسيقى غذاء الروح، فشأنكم، قلدوا أوربة في كل شيء لكن دعوا لنا غذاء أرواحنا. أفتحبون ألا نجد لأرواحنا غذاء فنتركها تذوي وتموت؟
هذه صرخة قلوبنا، فهل يصغي إليها هؤلاء الذين وهبهم الله نعمة الفن ليحفظوا علينا فننا، فذهبوا يضيعون بهذه النعمة فننا؟ هل يصغي عبد الوهاب نابغة العصر؟
غني والله لأسمع في السينما أغاني القوم من أهل أوربة، فلا أحس طرباً ولا أرى فيها إلا اختلاطاً في الأنغام من باب. . .
سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة ... قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا(324/18)
وليقل عني من شاء ما شاء، ثم أسمع عبد الوهاب فاعجب، ولكني لا اطرب، فإذا سمعت علياً الكردي في الشام أو القبانجي في بغداد عرفت ما هو الطرب.
هكذا أنا، وهكذا الناس، فدعوا لنا أغانينا. . .
وضرب الشاب في كل فن من الغناء، ثم غنّى في أبيات أبي صخر الهذلي:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوىً كل ليلة ... ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
ويا هجر ليلي قد بلغت بي المدى ... وزدت على ما ليس يبلغه الهجر
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر
هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى ... وزرتك حتى قيل ليس له صبر
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى ... أليفين منها لا يروعهما الذعر
فنقلني إلى مجالس الخلفاء التي صورها أبو الفرج، ونال مني الطرب؛ فعرفت أن لقد كان حقاً ما ذكر الأصبهاني وأن المرء قد يمزق ثوبه من الطرب، أو يحرق لحيته بالسراج وينادي النار يا أولاد ال ـ. . . ومن يضع الوسادة على رأسه ويصيح (زلابية بعسل). . .
ولكن ماذا ينفع الشاب إعجابي، وماذا تفيده هذه العبقرية وهو مضطر إلى العمل في سوق الحميدية ليعيش؟ أفليس حراماً أن يدفن هذا النبوغ في دكان؟ أليس حراماً أن صبحي الحموي يعيش متنقلاً بين القرى يراقب إصلاح لطرق المخربة وهو من أقدر من أمسك بمضراب العود؟ أليس حراماً أن يكون عليّ الكردي شيخ الفن القديم في الشام دلال بيوت؟ أليس حراماً أن يشتغل تحسين بك سيد أهل الناي في البلاد كلها بإصلاح أنابيب المياه في البيوت وهو في الثمانين من عمره؟
وفي بغداد، أليس الشيخ حيدر الجوادي عاملاً في دار لتجليد الكتب؟ وفي مصر، أما فيها كثير من أهل الفن لا يعبأ بهم أحد؟
ولكن لا بأس
لقد عهدتك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي(324/19)
لا بأس أن يموت الفنان جوعاً، فسينصب له بثمن خبزه تمثال، ورحمك الله يا سيد درويش. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي(324/20)
حديث في القرن التاسع عشر
للأستاذ خليل هنداوي
التفت إلي محدثي - وهو شيخ وقور - وقال لي:
إنني محدثك حديثاً عجباً!
قلت: هات!
قال:
كنت في نهاية القرن التاسع عشر في وظيفة إفتاء للأسطول العثماني. وألزمت أن أركب البحر من الدار العلية إلى شاطئ المغرب لمشاغل دينية، على باخرة يونانية صغيرة تميل كلما مال عليها الموج. كنت في عزلة موحشة، لأني غريب لا تميل سحنة إلى سحنتي، ولا ينحني زي على زيي. وصدفة جلس إزائي على المائدة رجل قد تجاوز الأربعين، ولكن ملامح الأسفار على وجهه، وقد استبد الشيب بأكثر مساحة رأسه. أما همته، فلا تزال في صعود: يمشي فلا ينحني، ويتكلم فلا يتتعتع. . .
بادرني قائلاً بالألمانية:
- هل تحسن الألمانية؟
- لا.
سكت ريثما فرغت جفنة من الطعام وعاد سائلاً:
- هل تحسن الفرنسية؟
- لا.
- هل تحس الإنجليزية؟
- لا.
ثم قال بلسان فصيح طلق كأنه أحد البداة:
- وهل تحسن اللغة العربية؟
- أنا أبنها!
- ما اسمك، وما وسمك، ومن أين، وإلى أين؟
أجبته على سؤاله، وعجبت من أمر هذا الرجل الذي كان ينبغي له لما صادفه من زيي أن(324/21)
يسألني بالعربية. وقدم إلي نفسه بأنه مستشرق ألماني من هامبورج، قضى في الشرق زمناً طويلاً يبلو به الأخلاق، ويدرس العادات. وكانت صحبتنا خلال هذه الأيام المعدودة، صحبة متينة وثيقة، تجاذبنا فيها ما اختلف ألوانه من الأحاديث. وقبل أن يغادرني إلى بلده قال لي:
- والآن أريد أن أسألك عن مسألتين، ولكني رجل لا أُحب النقاش الممل، والجدل القائم على المكابرة. قال:
- إنني اطلب إلى الله أن يميتني على دين عمر بن الخطاب! قلت له:
- يا هذا! إن الدين دين محمد، فكيف تسنده إلى عمر؟!
أجاب:
- نعم. إن الدين دين محمد، ولكني أدعو الله أن يميتني على دين عمر. . . إن محمداً جاء بالدين ودعا إليه، وأبو بكر شد أًزره، وثبت أمره. وجاء عمر ينشره يؤيده وينفذه. . . ومات عمر والمسلمون من بعده لا يزالون يتخبطون في فتنة عمياء، عرفت أوائلها، ولا تعرف خواتمها! المسلمون اليوم على دين غير دين عمر. وماذا - لعمر الله - ير عون من هذا الدين إلا رسومه؟ دين عمر يأمر بالصلاح وهم فاسدون. دين عمر يأمر بالأمانة وهم خائنون، ويأمر بالصدق وهم كاذبون، ويأمر بالوفاء وهم غادرون. . .
سمعتُ هذا من محدثي، وبرقت لنفسي خاطرة أُحببت أن أوضحها، وأحببت أن الفت إليها أنظار المصلحين من رجال الدين: إن الأخلاق التي حث عليها الدين تنحصر في نوعين: الأخلاق الحسية، والأخلاق المعنوية. أما الأولى فهي تتناول الظاهر وتجعل من الرجل الذي يتمسك بها رجلاً فاضلاً محترماً. وإلى هذا النوع من الأخلاق يميل المصلحون، وعلى ممارسته يحثون. على أن المسلمين في الحقيقة لم يتردوا في هذا الدرك الأسفل من الذل، لأن بعضهم يشرب الخمر أو يفسق أو يقامر، وإنا لنرى اكثر الأمم المتسلطة علينا غارقة في خمرها وفسقها وقمارها. . . فلم يضرها ذلك شيئاً. أما الجانب الأكثر خطراً في الأخلاق، فهو الجانب المعنوي الذي تقاس به حيوية الأمم. ولعل هذا الجانب هو ما قصد إليه المستشرق، لأنه وجد أخلاقنا المعنوية، ومقاييسنا الروحية هزيلة جداً: فتاجرنا مثلاً يثرى بالخيانة والحيلة، وفقيهنا يرنع بالكذب، ومصلحنا يقصد جيبه قبل أن يقصد ربه. ومثل هذا الجانب هو ما ينبغي للمصلحين أن يعالجوه! وقد عرف رجال الدين كيف نعت(324/22)
الرسول (ص) الكفر بالشرك الأكبر والرياء في الأخلاق بالشرك الأصغر. ومن ذا الذي لا يذكر ذلك الأعرابي الذي قدم على رسول والرذائل حشو ثيابه، فقال له: إنه لا يستطيع أن يقعد عن الخمر، وعن الفسق، وعن القمار. فما عالجه الرسول الحكيم إلا من الناحية المعنوية التي تقوي الشخصية وتنقي النفس قال له:
- لا تكذب، وافعل بعد هذا كل شيء!
لكن الأعرابي بعد يومين ترك كل رذيلة.
وهاهنا روعة الفهم وروعة الحكمة!
ولكن كيف يعمل مصلحون يتاجرون بالأخلاق الحسية على حساب الأخلاق المعنوية؟
ألتفت المستشرق إلى محدثي عن المسألة الثانية:
- وما هو الفارق بين الشرقيين والغربيين؟
- فاعتذر صاحبي بأنه لا يعرف الغرب معرفة صحيحة، كما اعتذر الشيخ محمد عبده حين سأله الفيلسوف سبنسر عن أخلاق الإنجليز فاجاب المستشرق:
- إن الشرق كفرد له قيمته وطيبة قلبه، بعكس الغربي الذي فسدت ذاتيته، وتعطلت محاسن نفسه. ولكن الشرقي حين يندمج ويتكتل مع غيره لا يلد إلا كتلة فاسدة متفسخة، يسوقها الطمع، وتقتلها الأنانية. بعكس الكتلة الغربية التي يسودها النظام، وتذوب فيها المصالح الفردية. ولهذا يرجع سر نجاح الجمعية الغربية، وفشل الجمعية الشرقية!
ولقد أصاب المستشرق الهدف إلى حد بعيد، لأن تربية الشرقي تربية ذاتية أنانية تدور حول نفسها، لا تعمل الخير ولا تطلب الإحسان في العمل إلا إذا عملت لنفسها. بينما تربية الغربي تكاد تصبح تربية جماعية اجتماعية، كأنما أدركت هذه التربية قول الرسول (ص): يد الله مع الجماعة.
ولكن ما عسى يقول هذا المستشرق لو عرف أن الشرقي الذي كان يعرفه قد مات، وان الشرقي اليوم قد أضاع طيبة القلب وأمانة النفس كفرد، وبهذا أصبح لا يصلح للحياة كفرد في نفسه ولا في مجتمعه!
وهنا افترقنا. . .
لكن القدر هيأ لهما اجتماعاً ثانياً بعد أربعة أعوام في مدينة المستشرق - هامبورج -(324/23)
فاستقبل المستشرق صاحبنا وأحله في مثواه، لأنه عربي له عليه حق الضيافة. وفي اليوم الثاني عرَّج به إلى الجامعة، وقدمه إلى رئيسها، وهو شيخ مفكر، لكنه غير محلول اللسان
قال الرئيس لمحدثي بالعربية:
- كيف رأيت بلادنا؟
- البلاد جميلة!
- جميلة! الظواهر جميلة في انتظام، أما البواطن ففي انقلاب! ولكن إذا حكم الإنسان العقل أدرك الأمور بحقائقها
فالتفت محدثي إلى الرئيس وقال:
- على ذكر العقل وإدراكه للحقائق، أود أن أذكر هذه الفقرة من كتاب مخطوط قرأته في مكتبة - أيا صوفيا - وهو في التصوف، وأسمه (نور الأبصار) لمؤلفه الشيخ بهاء الدين اليانيلي من منطقة الألبان (صدر في سنة 1160هـ). قال عن الشيخ العارف الأكبر السيد محيي الدين بن عربي: (ما عرفت رجلاً عرف الله عن طريق العقل مثل أفلاطون. . . وأفلاطون فيلسوف يوناني تفتحت له الحكمة، وانزاحت عن عينيه الحجب. وقد أوصى بأن ينقش على قبره: (الحكمة سلم العالم الأعلى، من علمها فقد علم القرب إلى بارئه، من تدبر نظر، ومن نظر انفتح ذهنه وعقله صفت نفسه، ومن صفت نفسه وصل إلى خالقه بدون واسطة!)
وهنا طلب الرئيس إلى محدثي اسم الكتاب واسم مصنفه ومكانه. وطلب إلى أستاذ في الجامعة أن يسافر لغده إلى - الدار العلية - لاستنساخ الكتاب. ويضيف محدثي إلى ما قاله: وبعد شهرين علمت من قيم المكتبة أن أستاذاً ألمانياً نقل الكتاب، وأعطى القيم مكافأة حسنة. . .
خليل هنداوي(324/24)
يا رسول الله!
لأستاذ جليل
إن الدهر قد جار على قوم عرب!!!
روى المسعودي في (التنبيه والإشراف) إخبار طائفة من الأفدية بين العرب والروم، منها خبر هذا الفداء:
(الفداء الأول فداء أبي سليم، كان أول فداء جرى في أيام ولد العباس في خلافة الرشيد باللامس من ساحل البحر الرومي على نحو من خمسة وثلاثين ميلاً من طرسوس سنة 189 - والملك على الروم نقفور - وذلك على يد القاسم بن الرشيد وباسمه، وهو معسكر بمرج دابق من بلاد قنسرين من أعمال الحلب. حضر هذا الفداء وقام به أبو سليم فرج خادم الرشيد المتولي له بناء طرسوس في سنة 171 للهجرة، وسالم البربري مولى بني العباس في ثلاثين ألفاً من المرتزقة، وحضره من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمس مائة ألف، (وقيل أكثر من ذلك) بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة. قد أخذوا السهل والجبل، وضاق بهم الفضاء. وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي، ومعهم أسارى المسلمين وكان عدة من فودي به المسلمين في اثني عشر يوماً - ثلاثة آلاف وسبع مائة - (وقيل أكثر من ذلك). والمقام باللامس نحو أربعين يوماً قبل الأيام التي وقع الفداء فيها وبعدها).
وذكر المسعودي في ذلك الكتاب هذا الخبر:
(كانت ملوك الروم تكتب على كتبها من فلان ملك النصرانية فغير ذلك نقفور، وكتب (ملك الروم)، وقال هذا كذب، ليس (أنا) ملك النصرانية، أنا ملك الروم، والملوك لا تكذب وأنكر على الروم تسميتهم العرب: (ساراقينوس) تفسير ذلك عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها اسمعيل. وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب. والروم إلى هذا الوقت - يعني سنة 345 - تسمي العرب ساراقينوس).
قرأت ما روى المؤرخ المسعودي فرددت:
تذكرتُ والذكرى تهيج لذي الهوى ... ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
وخط القلم هذا المكتوب: أقمنا وجيراننا الروم - بضعة قرون - نتغاور ونتعارك ونتناحر:(324/25)
تصبح أجنادنا وبعوثنا: (الصوائف، والشواتي، والربيعيات) دروبهم ومدائنهم وتمسيها
لما حللتَ الثغر أصبح عالياً ... للروم من ذاك الجوار - جوار
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه، وجلت أوجه العرب
أنت طول الحياة للروم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول
وكيف ترّجى الروم والروس هدمها ... وذا الطعن أساس لها ودعائم
وتطلع على ربوعنا والعواصم ... بنودُ الروم يقاتلون مستبسلين
كنا نتحارب، وكنا نتهادن، ونفادي أسرانا عندهم، ويفادون أساراهم عندنا والحرب سجال
وكان تنابز بالألقاب، فكنا نقول لذوي القرون: يا أعلاج يا علوج!
ويقولون لنا ساخرين: سراقينوس!.
فلما وهنوا ووهنا وهلكوا وهلكنا أقبل قبيل كنا هديناه وعلمناه وهذبناه ومدناه - كما مدنا سواه - وقربناه، وإن شئت فقل: أنشأناه خلقاً آخر، وما كان يعد من الناس، وامتلك دار الروم و (رب ساع لقاعد). وقد كافأنا لئيم شر مكافأة:
جزتنا بنو (مُفل) بحسن فعالنا ... جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب!
خرب لنا حضارة في مصر، ونهب الناهب كنوزنا، وتمالأ هو والإفرنجي علينا في هذا الوقت، وابتّز المختلس الظالم حقاً هو لنا
فإن الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرت وذو طويت!
وضام - غير راحم ولا كريم - في الربع المحروب كل عربي نصراني أو حنيف! وشرّد العرب البائسين في البلاد تشريداً! وحقر لو غادته لغة (الكتاب) المبين - الله أكبر، الله أكبر! - وهي التي كوَّنت لسانه؛ فنطق الأعجم مثل الناطقين
ألا إن العربيين لمستأهلون - بما شقوا ليسعد غيرهم - أن يقول لهم الروم: (ساراقينوس) مستهزئين وشامتين
يا محمد! يا محمد!
لقد ضامنا في هذا الزمان الإفرنجي والتركي حتى ذاك الذي ضربت عليه الذلة - حيهلاً بك يا منيَّة حيهلْ - وكان ضعفنا ولؤمنا وتعادينا وصَدَعاتنا وغضبك علينا، غضبك على الخلف الخالف من أجل ذلك - أقوى معين للضائمين!(324/26)
فإن لم تمّن على المنتمين إلى عربية (قرآنك) العربي بشيء من عطفٍ ورضا هلك - يا سيدي أبا القاسم - أتباعك، خدام (كتابك) خدام (لسانك) خدامك - في الهالكين
يا سيد الوجود يا رسول الله! يا أبا بكر الصديق! يا عمر الفاروق! يا ذا النورين! يا أبا الحسنين! إن الدهر قد جار على قوم عرب!
(ن)(324/27)
إلى صديقي. . .
حول زيارة لضريح ابن عربي
للأستاذ صديق شيبوب
هنيئاً لك يا أخي تنقلك بين مصايف لبنان المرتفعة منها والمنخفضة، بين الجبال الشاهقة والأودية السحيقة، بعيداً عما نعانيه من حر مضن ورطوبة قاتلة ونزلة وافدة. ولعلك بعد أن تتم طوافك في لبنان لا تنسى أن تزور دمشق لأنه لا بد لكل من يصطاف بلبنان من أن ينتهي بزيارة الفيحاء، أو وكما قال شاعرنا العربي
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام
ولدمشق سحر خاص تتميز به عن غيرها من البلدان العربية الكبرى. ولا أصف لك الحدائق الغناء التي تحيط بها، وهى نفحة من نفحات الجنان، ولا الآثار البديعة القائمة فيها وبعضها من الروعة بمكان. فإنك ستزورها وستشهد هذا جميعه وتعجب به
وزائرو دمشق يكتفون عادة من آثارها بالجامع الأموي ودار المجمع العلمي والمكتبة وبعض القصور القديمة وبعض المصانع الوطنية؛ وقليل منهم من يفكر في زيارة ضريح الشيخ محيي الدين ابن عربي، أو يفطن إلى أن (بحر المعارف الإلهية، وترجمان العلوم الربانية، الشيخ الأكبر، والقطب الأفخر)، كما يلقبه الشيخ عبد الغني النابلسي، مدفون فيها
ولقد زرت دمشق أكثر من مرة، وكنت في كل مرة أتردد على الأماكن التي تعود الناس زيارتها. ولم أفطن مرة إلى ضريح (الشيخ الأكبر) كما يلقب علماء الصوفية ابن العربي بالرغم من أني ركبت أكثر من مرة (تراماً) يعرف خطه باسم (الشيخ محيي الدين) في غدوي ورواحي إلى حي الصالحية حيث كنت أقيم
ولم يخطر ببالي في زياراتي الأولى أن أسأل من هو محيي الدين هذا. ولا أخفي عنك أني لو سألت يومئذ عنه وقيل لي أنه ابن العربي لما نبه في ذهني خاطراً بعيداً، أو بعث في نفسي شوقاً مزيداً إلى زيارة ضريحه، لأني لم أكن أعرف عنه أكثر من أنه إمام من أئمة الصوفية وأنه صاحب هذه الأبيات الجميلة التي كنت أحفظها من غير أن ألتفت إلى معناها الصوفي وهي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي ... إذا لم يكن ديني إلى دينه دان(324/28)
وقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لنيران ومعبد طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولم أكن أعرف ابن العربي، كما وصفه الشيخ صفي الدين ابن أبي منصور في تعابير صوفية رائقة، فقال إنه (الشيخ الإمام المحقق، رأس أجلاء العارفين والمقربين، صاحب الإشارات الملكوتية، والنفحات القدسية، والأنفاس الروحانية، والفتح الموثق، والكشف المشرق، والبصائر الخارقة، والسرائر الصادقة، والمعارف الباهرة، والحقائق الزاهرة، والمحل الأرفع من مراتب القرب في منازل الأنس، والمورد العذب في مناهل الوصل، والطول الأعلى في معارج الدنو، والقدم الراسخ في التمكين من أحوال النهاية، والباع الطويل في التصريف في أحكام الولاية. وهو أحد أركان هذا الطريق)
أو كما وصفه الذهبي: (وله توسيع في الكلام، وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيق في التصوف، وتآليف جمة في العرفان. ولولا شطحه في الكلام لم يكن به بأس. ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته)
أو كما وصفه المسدي: (كان ابن العربي ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الاعتقادات، خاض بحار تلك العبادات، وتحقق بمحيا تلك الإشارات، وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام، ومواقف الغايات في مزالق الأقدام)
أو كما قال أيضاً: (وكان جميل الجملة والتفصيل، محصلاً لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق)
أجل لم أكن أعرف هذا جميعه عن ابن العربي، بل لم اكن أعرف كثيراً أو قليلاً عن أئمة المتصوفين لأني وصلت إلى دراسة التصوف متأخراً. . . بل إني لم اكن أتذوق كما يجب أشعار ابن الفارض لأني لم أكن افطن إلى كل معانيها الصوفية.
وأذكر اليوم في شيء من الخزي أن كبيرة أديباتنا العربيات زارت منذ سنين ضريح ابن الفارض بالقاهرة بسفح المقطم، أو كما قال حفيده الشيخ علي في رثائه المعرف (بالقرافة تحت ذيل العارض) ثم كتبت عنه مقالاً كله إطراء وثناء؛ وكان أن لقيتها بعد ذلك بالإسكندرية حيث كانت تصطاف وقلت لها: إني لا أشاطرها إعجابها به. فأجابتني بأنه(324/29)
يجب أن أحاول فهم شعر ابن الفارض من الناحية الصوفية قبل أن أتحدث عنه كشاعر
ولعل هذا كان أول حافز لي لدرس الصوفية على قدر اجتهادي.
ولا شك أن لابن الفارض مكانة خاصة في شعرنا العربي لأنه يكاد يكون الوحيد الذي عالج شعر الصوفية على النحو الذي نحاه شعراء الفرس والترك الصوفيون المبتدعون أمثال العطار وجلال الدين الرومي وسعدي حافظ. ولا يدانيه في هذا الباب غير ابن العربي، وإن يكن قد قصر عنه. فابن الفارض إذن فارس هذه الحلبة في لغتنا العربية وبطلها الفرد، وقد قال فيه نيكلسون: (إن أشعار ابن الفارض غاية في اللطف). ولا أذكر الآن من قال في وصف ديوانه إنه (معجزة في عالم الأدب)
والصوفية في شعر ابن الفارض مراتب من حيث الوضوح والغموض. ولعل (خمريته) تحسب وسطاً بين شعره الغنائي الغزلي وبين (التائية الكبرى) المعروفة بنظم السلوك
وهل أروي لك للدلالة على تشعب معاني هذه القصيدة الأخيرة ما ذكروا من أن أحدهم قصد ابن الفارض يستأذنه في شرحها، فسأله عن مقدار الشرح، فقال: إنه سيقع في مجلدين. فضح الشاعر الصوفي وقال: (لو أردت لكتبت مجلدين تفسيراً لكل بيت فيها)
على أن المقريزي ذكر في ترجمة عمر بن الفارض أن محيي الدين ابن العربي بعث إليه في شرح التائية الكبرى فرد عليه الشاعر: (كتابك المسمى بالفتوحات شرح لها) إشارة إلى كتاب ابن العربي (الفتوحات المكية) الذي جمع فيه شتات العلوم الصوفية في خمسمائة وستين باباً
وبين ابن العربي وابن الفارض بعض الشبه. كانا متعاصرين فكلاهما من رجال القرن السابع للهجرة، أي القرن الثالث عشر للمسيح، فقد توفي ابن الفارض سنة 632هـ ـ (1235م) وتوفي ابن العربي سنة 638هـ ـ (1240م). وكان ابن الفارض يصاب بدورة إغماء وغيبوبة فإذا أفاق منها أملى أشعاره؛ وكان ابن العربي يعتقد أن ما يكتبه يتحول إليه بطريق الوحي في حالة الغيبوبة والمجاهدة. وكلاهما من أئمة الصوفية، ولكن بينما هي غامضة بعض الغموض عند ابن الفارض لأنه يرمز إليها في صور شعرية، نجدها واضحة عند ابن العربي لأنه يبحثها نثراً. وكان ابن الفارض ينظم غزلاً يرمز به إلى الله في غير حبيب مجهول، ويكثر فيه من أنواع البديع بينما نجد ابن العربي ينظم شعره من(324/30)
غير أن يتعمد أنواع البديع في فتاة مكية
أما من حيث المحسنات البديعية فلعل الفرق ناتج عن المحيط الذي نشأ فيه كل واحد من الشاعرين. فقد ولد ابن الفارض في القاهرة ونشأ في محيط شرقي فاكتسب شعره المميزات التي كانت بارزة في بيئته بين معاصريه. أما ابن العربي فقد ولد بمرسية (في 17 رمضان سنة 650هـ. أي 28 يوليو سنة 1165م.) ونشأ وتأدب في بلدان الأندلس بين أشبيلية وسبتة، وقد استقر في الأولى ما يقارب الثلاثين عاماً، ولم ينزح إلى المشرق إلا عندما شارف الأربعين سنة 598هـ (1201 - 1202) فأكتسب شعره مميزات مواطنيه، وكانوا أقل عناية بالمحسنات اللفظية من شعراء مصر والشام والعراق
أما معشوقته ففتاة مكية تسمى (نظاماً) وتعرف بلقب (عين الشمس). وكان والدها من علماء فارس الذين نزحوا من بلادهم وأقاموا في مكة. وكانت لما عرفها ابن العربي في الرابعة عشرة من عمرها على كثير من العلم والمعرفة، بليغة الخطابة، جيدة الكلام، بارعة الجمال. وقد لقيها أثناء إقامته بمكة عام 598 أي غب رحلته من بلاد الأندلس. ثم نأى عن مكة زمناً حتى إذا عاد إليها سنة 611 نظم فيها بعض القصائد فوصف جمالها الفتان وعلمها الواسع وذكر ما كان بينه وبينها من حب. ثم رأى بعد ذلك أن يتبع هذا الديوان الصغير بشرح صوفي
بعد بنا هذا جميعه عن ضريح ابن العربي وزيارته
وهنا يجب أن أذكر شيخنا التفتازاني رحمه الله. سألته مرة أين قبر ابن العربي؟ فقال بأسلوبه العذب الذي تذكره: كيف لا تعرف ضريح ابن العربي؟ وكيف تزور دمشق ولا تزوره؟ إنه فيها بعد (الجسر) وتصل إليه بخط ترام معروف باسمه (الشيخ محيي الدين). ألم تقرأ في الشعراني قوله: (وقبر ابن عربي في الشام، وقد بنيت عليه قبة عظيمة وتكية وفيها طعام وخيرات) قلت ولكني أعرف أنه توفي بدمشق ولكنه نقل إلى جبل قاسيون ودفن بسفحه. قال: وقاسيون هو الجبل المطل على دمشق والذي بنيت في سفحه في شكل مدرج المدينة الجديدة والحي الذي يعرفونه اليوم باسم المهاجرين
وكان أني زرت دمشق بعد ذلك ولآخر مرة في صيف سنة 1935، وأقمت فيها أياماً ضيفاً على أحد أقاربي، ولما كان يقيم بالصالحية، وهي في أول مرقى الجبل قبل المهاجرين، كنا(324/31)
نركب الترام في الغدو والرواح. وهناك خطان أحدهما يعرف باسم (المهاجرين)، والآخر باسم (الشيخ محيي الدين). والحق أني كنت نسيت ابن العربي ووصية الشيخ التفتزاني. وساقني الفضول مرة فسألت قريبي من يكون الشيخ محيي الدين هذا. فقال: انه عالم صوفي يعرف بابن العربي، وأن له ضريحاً ومسجداً في آخر خط الترام فدعوه باسمه. وهنا تذكرت الماضي وقلت: أجل يجب أن نزوره
وبعد ظهر ذلك اليوم أقلتنا عربة أخذت ترقى بنا الجبل حتى وصلنا إلى حيث المسجد بعد أن اجتزنا حياً وسوقاً تختلف أبنيتهما جدة وقدماً، وأكثرها قديم. وكان جماعة من الفقراء يزدحمون بباب المسجد؛ فإذا تجاوزت الباب استقبلك بهو واسع تتوسطه بركة ماء كبيرة، وفي آخر البهو إلى الشمال الضريح، وهي غرفة حسنة الاتساع طفت بها فإذا على حائطها كثير من الشعر المنقوش على رخام قائم في الحائط. وحاولت أن أقرأ بعض الشعر فوجدته باللغة التركية. وقبل أن أستطيع الإلمام ببقيته تقدم إلينا الشيخ وقال: قد أزفت صلاة العصر فهلما نصلي ثم تتابعان زيارتكما بعد ذلك
ولا أذكر الآن كيف تخلصت من الشيخ ودعوته إلى الصلاة، ولكني وجدت وقتئذ أننا في موقف حرج لأني أجهل ماذا يكون شعوره لو عرف أننا مسيحيان. وأشرت إلى صاحبي أن من الخير أن نغادر المكان على أن نعو في فرصة أخرى أكثر ملائمة من هذه، فخرجنا. ولم تتح لي فرصة أخرى للعودة
كانت العربة تهبط من الجبل، ونحن نستشرف تارة الحقول المنبسطة، وأخرى دمشق بقبابها اللامعة ومآذنها العالية تتخللها الأشجار الباسقة وتكتنفها الرياض والبساتين، ونستجلي هذا المنتشر في الأفق الحاني والطبيعة الساهمة والمدينة المنبسطة. وكنت لا أزال تحت تأثير زيارة الضريح أفكر في الأندلسي الذي طاف البلاد العربية فكان في كل مكان يحله كأنه بين أهله وإخوانه يتقرب إليه الناس ويجري عليه الحكام الأرزاق فيوزعها على الفقراء والمعوزين. أليس دينه الحب كما قال في أبياته التي ذكرها.
وهذا الجمال الذي نشرف عليه ونستجليه في هذه المناظر الخلابة، أليس من صنع الله، وما دام من صنعه فهل هو قائم فيه حقاً. وهل صحيح ما قاله ابن العربي (سبحان من خلق الأشياء وهو عينها) أو ما نظمه شعراً:(324/32)
يا خالق الأشياء في نفسه ... أنت لما تخلقه جامع
تخلق ما لا ينتهي كونه ... فيك فأنت الضيق الواسع
وذكرت هذه الفلسفة الشمولية التي نادى بها العربي والقائمة على مذهب وحدة الوجود. ولا عجب فقد كنت (مسافراً) على حد تعبير ابن العربي الذي قال إن (السفر) عبارة عن القلب إذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى. ولا شيء أدعى إلى هذا التوجه مثل التأمل بجمال الطبيعة.
وفهمت وقتئذ كيف شذ ابن العربي عن أشياع نظرية واحدة الوجود المادية فتوجه بها إلى عبادة الخالق والشعور بالافتقار إليه تعالى، وهي عبادة الضعيف للقوي والفقير للغني. وفهمت كيف انه بالرغم من شعوره الديني الإسلامي العميق قال بوحدة الأديان لأنها جميعاً تدعو إلى عبادة الواحد المتجلي في صورهم وصور جميع المعبودات
والحق أنني اليوم وأنا أكتب إليك بين جداران حجرتي أجد من الصعب أن أذكر كل هذه الخواطر التي مرت بذهني بينما كنت انحدر من جبل (قاسيون) إلى دمشق.
وبعد فإني أرجو ألا تجد في هذه الرسالة صورة كاملة لابن العربي، ولكنها خواطر جالت بفكري عندما أردت أن أنبهك إلى ضرورة زيارة ضريحه. وأنت تجد أني لم أحدثك عن حياته وآرائه ومؤلفاته وما قام حول مذهبه من جدل حمل بعضهم على رميه بالكفر وما كان من أثره بين أهل الشرق والغرب وخاصة ما وجده المستشرق الإسباني (ميجل اسين) من شبه بينه وبين (دانتي) فألف كتاباً قرر فيه أن الشاعر الإيطالي أخذ كثيراً عن المتصوف العربي وتأثر به في نظم قصيدته الخالدة (الكوميديا الإلهية) أو كما قال البحاثة الإنكليزي (ألفريد جيوم) إن ابن العربي كان من الذين (أخرجوا للناس النماذج المدهشة الأولى للكوميديا الإلهية)
على أنني لا أريد أن أختم رسالتي إليك قبل أن أروي لك قصة ذات دلالة كبيرة على طريقة هؤلاء الصوفيين ومنازعهم الفكرية والتأملية. فقد رووا أن ابن العربي اجتمع بالشهاب السهروردي فأطرق كل واحد منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام. فقيل لابن العربي ما تقول في السهروردي؟ فقال: (مملوء سنة من قرنه إلى قدميه) وقيل للسهروردي ما تقول في الشيخ محيي الدين؟ فأجاب: (بحر حقائق)(324/33)
ولعلك تكون يا أخي أكثر توفيقاً مني عند زيارة ضريح ابن العربي وأعمق شعوراً بما يطوف بك من جمال.
(الإسكندرية)
صديق شيبوب(324/34)
بطاقة. . .
للدكتور محمد ناجي
بطاقة تحمل على صدرها اسم صاحبها مجرداً من أي لقب، وخلوا من أي عنوان أو رقم تلفون؛ وكأني به لا يحمل لقباً ولا يعرف لنفسه عنواناً، ولا يملك رقم تلفون، ولم يمن الله عليه إلا ببضعة قروش ثمن بطاقته
مرت تلك البطاقة على ناظري، ثم جالت بخاطري، حتى شغلتني عن أمري، فعجبت لها أيما عجب!
بطاقة فريدة في نظمها، عجيبة في نثرها، قليلة في لفظها، فحرت في أمرها، وضاق بي تفسيرها، ولم أدر ما شأنها ومن يكون حاملها؟
إنها تخالف بطاقات العصر، هي في واد والعصر في واد. بطاقات العصر تحمل من الألقاب والعنوانات والأرقام ما ليس لها وما لها، كأن الشيطان أوحى لها، حتى لا تدع موضعاً للقب جديد، أو زيادة لمستزيد. . .
فمن يكون هذا الذي يخالف العصر في بطاقاته، ويبز أبا العجب في نزعته؟ انه محمد طلعت حرب. ذلك الرجل المتواضع حتى في بطاقته، ولو شاء أن يسطر اسمه والقابه وعنواناته وتلفوناته لكانت بطاقته كتاباً
إن بطاقته تحمل في نفسها أدب الإعلان عن النفس، إنها لحكمة بالغة، تسيطر على الحس والنظر والفؤاد، إذ لها في كل قلب مستقر وفي كل واد أثر. هذه هي البطاقة التي بزت الزمن وعلمت المصري ما لم يكن يعلم. إنها تذكرة القدر، وإنها لإحدى العبر، فطوبى لمن قرأ وادكر، وعرف قدر نفسه واعتبر. . .
محمد ناجي
عضو القومسيون الطبي العام(324/35)
عقيدة الزعامة في النازية
للدكتور جواد علي
لا تفهم وجهة النظر الوطنية الاشتراكية للعالم إلا إذا اطلع المرء على عقيدة الزعامة التي هي الأصل الأول من أصول المذهب النازي والعمود الذي ترتكز عليه جميع تعاليم الحزب ونظرياته. فلا تتساهل المؤسسات الهتلرية أبداً أمام التساهل بهذه العقيدة أو الكافر بها. لذلك سخرت جميع ما تمتلكه من وسائل في سبيل تأييدها وحض الناس على الاعتقاد بها. وطهرت السياسة والعلم والفن والصناعة - على حد تعبير الوطنية الاشتراكية - من جميع الأدران التي تراها تصطدم مع هذا الإيمان المطلق. ولم تتساهل حتى مع أكبر الأساتذة الذين لم تجد منهم ميلاً أو تأييداً في القول أو الفعل
وعقيدة الزعامة هذه تنحصر في زعامتين: الزعامة الفردية، والزعامة العنصرية، أو الأممية. ومتى عرفت هاتين الزعامتين اتضح لك سبب تهجم هتلر على الماركسية والماسونية واليهودية، وكل فكرة أو نظرية علمية أممية. أما الزعامة الفردية فتستند إلى قاعدة أن الأفراد ليسوا في الاستعداد على حد سواء. وكذلك في المؤهلات العقلية والإنتاجية. فهنالك درجات كل درجة أرقى من التي تحتها؛ وهكذا ترتقي الدرجات حتى تصل إلى درجة زعيم فوهرر وهو زعيم الزعماء، إذ أن كل فرد بالنظر إلى من هو أدنى منه عقلاً أو جسماً أو أضعف إرادة زعيم مفترض الطاعة. وعلى حسب هذه الدرجات تتوزع كذلك المسؤولية والوظيفة والواجب. وهذه المواهب والقابليات موهوبة فطرية لا تكتسب بعلم ولا يحصل عليها بتهذيب أو درس والزعيم الأكبر الذي يتولى قيادة الشعب العامة هو الذي يكيف الشعب حسب إرادته وروحه ويضع الخطط العامة. ولا بد لهذا الزعيم من مؤهلات روحية تميزه عن أفراد شعبه، وقوى خارقة ممتازة من أهم صفاتها الإرادة والشجاعة والخيال والتفكير والخطابة والمقدرة السياسية والتضحية والإنتاج
هذه الصفات كما ذكرنا فطرية مجبولة في الشخص، فالزعيم يولد زعيماً وتظهر عليه المؤهلات، ولكي تنمو فيه هذه المؤهلات وتينع وتمنع من الانحطاط لابد من العناية بتربية الأفراد خصوصاً الطبقة الصالحة منها للقيادة التي تمتاز بميزات جسمية كطول القامة والاتزان وحدة النظر مع الهدوء وتحمل المشقات؛ ولا يسمح لذلك بالزواج إلا بعد الفحص(324/36)
الطبي والتحقق من سلامة الزوج والزوجة من الأمراض الجسمية أو العقلية أو الاجتماعية كالإدمان على الشرب واللصوصية وغيرها. وهناك مدارس صارمة للزعامة يدخلها من يريد الانخراط في سلك الزعماء على اختلاف درجاته لها أنظمة شديدة، ومن هذه الطبقة تنشأ طبقة خاصة هي طبقة الأشراف، أشراف المستقبل الذين يقودون الجيل الجديد على طريقة فرسان الجرمان القدماء
أما الزعامة العنصرية أو الأممية فتتلخص في أن الأمم ليست متساوية كذلك في القابليات والأنتاج؛ وهي فطرية كذلك كما هي في الأفراد. والشعوب الآرية في نظر الوطنية الاشتراكية هي الشعوب المنتجة وحدها، وكل حضارة في العالم أو مدنية هي من صنعة هذا الجنس، وهذا ما يدعو طبعاً إلى قلب التأريخ ظهراً على عقب وإلى كتابة تاريخ عالمي جديد. لذلك حاربت النظرية المادية في التأريخ وهي نظرية كارل ماركس وزميله أنكل. وبيبل وهي النظرية المعروفة ب ? القائلة بأن التأريخ أو التطور البشري نتيجة من نتائج التطور الاقتصادي، وكذلك على وجود حضارات بشرية مختلفة، فهنالك حضارة بابلية وهناك حضارة مصرية، وهناك حضارة صينية، وهنالك حضارة عربية. كما أن هناك حضارة ألمانية أو حضارة إنكليزية، ولكل حضارة من هذه الحضارات نفسية خاصة (أنظر كتابه المشهور سقوط الغرب) وكذلك نظريات الكتاب الأحرار الذين يرون العالم ككتلة واحدة والمبادئ التي نشأت من الثورة الفرنسية
إن فكرة الزعامة العنصرية هذه ليست فكرة هتلر بمعنى أنه هو الذي ابتدعها وكوَّنها، بل هي فكرة عالمية قديمة كانت لدي اليونان إذ كانوا يحتقرون الشعوب الأخرى ولا يعترفون لها بالإنتاج؛ وكانت كذلك لدى الرومان والعرب، وظهرت في العصر الإسلامي باسم الشعوبية وهي حركة كانت ضد العرب؛ وكانت لدي الأمم الأخرى، والحركة المعادية للسامية قديمة أيضاً حتى أن لوثر المصلح الديني العظيم في ألمانيا كان من الذين يكرهون اليهود. ولكن تلك الفكرة لم تطبع بالطابع العلمي وتصبح عقيدة كما أصبحت في ألمانيا اليوم. وأشهر الذين نادوا بالزعامة العنصرية قبل هتلر هم الألماني (1802 - 1867) الذي بحث عن الشعوب الفعالة وانتشارها على الكرة الأرضية واعتقد بأن الشعوب الهندو آرية هي الشعوب المنتجة وحدها. وكذلك الفرنسي المشهور كراف كوبينو (1816 -(324/37)
1882) فيكتابه ' وقد توصل إلى نتيجة تفوِّق العنصر الجرماني على جميع العناصر؛ ثم الكاتب الفيلسوف الشهير هوستن شامبرلن (1855 - 1928) في كتابه 19 وهو إنكليزي الأصل ألماني الثقافة صديق الموسيقي الشهير ريشارد واكنر المعروف بكرهه لليهود أيضاً. وكان شامبرلن هذا يكره اليهود وحاول في كتابه بعث ألمانيا من جديد إثبات أن العنصر السامي هو عنصر غير منتج. ولأفكاره أعظم أثر في شخصية هتلر وآرائه. وقد زاره مراراً، وتعتبر كتبه من أهم الكتب التي كونت الوطنية الاشتراكية بجنب كتاب كفاحي ويرى من خلال دراسته المصبوغة بطابعه الجرماني الخاص أن الشعب الجرماني وحده له حق القيادة والزعامة إذ هو الشعب المنتج على الإطلاق، وأن اليهودية والشعوب السامية لم تنتج شيئاً وما أنتجه هو نتيجة العقلية الآرية فقط
كانت فكرة العنصرية قد توسعت منذ عهد بسمارك إذ أطلقت لليهود، لأسباب سياسية، الحرية المدنية وسمح لهم بالتوظف في الدولة من دون قيد ولا شرط. فازداد بذلك العداء وتوسعت الفكرة العنصرية ولا سيما بعد الحرب العظمى، وظهر مختلف الكتاب الذين شنوا الغارة على اليهود كالأستاذ أدولف بارتلز المشهور بكتابه (تاريخ الأدب الألماني) على الطريقة العنصرية، والبروفسور لدويك شيمان والبروفسور كنتر. وغيرهم، وأخذوا في دراسة العنصرية من جميع أوجهها متخذين للموضوع قواعد وأسسا وأدوات، وقد ساعدتهم الوطنية الاشتراكية طبعاً بكل قواها، وأسست معاهد للعنصرية في الجامعات والمستشفيات وجميع المؤسسات الشعبية. وظهر في عالم الدروس الجامعية فرع خاص يسمى باسم مبحث الأجناس وقد كيفت النازية السياسة والعلم والفن والرأي العام على هذا الاتجاه، إذ يرى هتلر أن مصدر كل بلاء نزل على ألمانيا هو إهمالها العنصرية وتصاهرها مع اليهود الذين أضروا بالأخلاق والتقاليد الجرمانية الموروثة، وكذلك المسيحية اليهودية التي لا تمثل إلا أخلاق اليهود. وهذه كانت نظرية الفيلسوف نيتشة الذي كان يصف الأخلاق المسيحية بأخلاق العبيد، وكذلك شامبرلن وغيرهما. لذلك أكره هتلر جميع العلماء والمؤسسات العلمية على تطبيق هذه النظرية، وقاوم كل نظرية تدعو إلى الأممية وإلى المساواة بين الشعوب كالهرم أيضاً، قاعدته متسعة يضم في أسفله الشعوب الزنجية والأقوام الابتدائية، ثم يضيق شيئأ فشيئاً حتى يصل إلى القمة حيث هناك الشعوب(324/38)
الجرمانية الألمان والسكاندناويين والدانمارك، وفي قمة هذا الهرم تماماً تكون ألمانيا. (أنظر كتاب ص 140) وهكذا طبق هتلر عقيدة الزعامة الفردية على الزعامة الأممية، فكما أن هتلر هو زعيم الألمان الذي يجب أن يطاع لما له من مواهب الزعامة الموهوبة الفطرية فكذلك يريد أن يجعل شعبه في قمة الزعامة الأممية التي لا يرتقي إلى مصافها شعب
كان من الطبيعي أن يعاني العلم والفن من جراء هذه النظرية مصاعب شتى ولا سيما العلوم العقلية منها كالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم التربية والسياسة والاقتصاد وخصوصاً التأريخ الذي يعتني به هتلر عناية خاصة، وخصص له عدة صحائف في كتابه كفاحي لأنه يرى في التأريخ خير درس وعبرة للأفراد والشعوب على الطريقة التاريخية القديمة التي تنسب إلى المؤرخ اليوناني توكيديدس (460 - 400ق. م) والمعروفة في التاريخ باسم أو التأريخ التعليمي. وبما أن الطريقة العلمية في مثل هذه الموضوعات حرة وآراء الأساتذة مختلفة طليقة تكره التحيز والتعصب، لذلك كانت مهمة العلماء في مثل هذه الموضوعات صعبة جداً. والنتيجة المنطقية لذلك كانت إحجام الكثير منهم عن التأليف وتبيان آرائهم بصراحة، وإجهاد الفكر لإيجاد براهين جديدة لتحقيق نظرية الزعامة وقلب العلم رأساً على عقب. ولو تصور القارئ مثلاً أن علم التاريخ حسب هذه النظرية يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً عرف صعوبة المهمة الشاقة ونظر العلماء الأجانب إلى أمثال هذه الآراء. فالنظرية النازية الجديدة في التاريخ ترى أنه من الكفر الابتداء منذ اليوم بالتاريخ القديم بممالك الشرق الأدنى كالمصريين والبابليين والأشوريين، بل ترى في ذلك الخطأ الفادح لأن من عقيدتها أن الحضارة الجرمانية أساس الحضارات، ومن الجرمان أخذت الشعوب الشرقية حضارتها مستدلة يذلك على نظريات الهجرة، وتوسع السكان الذي جرى ولا يزال يجري إلى الآن، وعلى حفريات تقوم بها المؤسسات الألمانية ثم تحكم هي بنفسها على تقدير أعمار المكتشفات الأثرية وقدمها. ولا شك أن ذلك مما يسخر منه علماء الأقطار الأوربية الأخرى ولا يدينون به، وكذلك علماء ألمانيا أنفسهم، ولكن السياسة طبعاً هي التي تتغلب الآن على العلم
يقسم علماء التاريخ اليوم في ألمانيا العالم إلى قسمين: شعوب سياسية تنشئ التاريخ وتكونه(324/39)
وهي الشعوب الجرمانية طبعاً، وشعوب غير سياسية وهي التي لا تلعب دوراً في التاريخ ولا في السياسة بل يلعب بها وهي الشعوب السامية والزنجية وغيرها. ويصرح هتلر بهذه الفكرة في كتابه كفاحي، ويرى فضلاً عن ذلك أن التاريخ هو محصول الأفراد لا الشعوب، أي أن الزعماء هم الذين يكونون التاريخ لا الجماعة، إذ الجماعة تساق فتنساق وتؤمر فتطيع ومن أجل ذلك أمر بكتابة تاريخ جديد، وأنشأ تاريخاً عاماً للعالم يستند إلى أساس العنصرية فيبدأ بالجرمان وبالشعوب الأوربية السياسية المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة المكونة للتاريخ وينتهي بالشعوب التي لم تلعب دوراً في السياسة، فتفحص فحصاً من جديد، وكل ما وجد فيها من حضارة يسند إلى الآرية كما فعل الفريد دوزنبرك في كتابه (خرافة القرن العشرين) 20 في الفصل الذي كتبه عن الحضارة العربية الإسلامية
وكان من جراء هذه النظرية تعديل الكتب التاريخية ومناهج البحث ووضع قواعد ثابتة للتأريخ وفق القيم النازية، ولقد لخصها الوزير الألماني ديترش كلاكس في كتابه التأريخ بما يأتي:
إن الحياة كفاح، والشعوب ليست بشيء أبداً دون زعيم، والشعب هو مستقبل الفرد، والمواطنين يرتبط بعضهم ببعض في السراء والضراء على قاعدة العنصرية والدم، وكل خائن عقابه القتل. يموت الفرد ويبقى الشعب، ولكن الشعب يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن يكون خالصاً نقياً كما أن الدولة يجب أن تكون نقية ذات عنصر واحد.
ولكي تعيش هذه الشعوب تحتاج إلى قوى وجهاد وأسلحة وعتاد إذ بدونها لا تعيش الأمم. وبين هذه الأمم اختلاف في العقل والجسم، وفي مقدمة هذه الأمم الأمة الألمانية؛ لذلك فإن كل من ينادي بالأممية وبالتطور البشري وبحقوق الشعوب يجب عقابه عقاب مفتر كذاب، إذ أن الطبيعة البشرية تناقض ذلك. والشعب السعيد هو الذي يخضع لزعيم مطاع. والعنصرية هي مفتاح تاريخ العالم. (أنظر ص 141 - 143).
هذه هي نظرية الوطنية الاشتراكية وعقيدتها التي تتمسك بها وكل ما يتعارض مع هذه العقيدة ينظر إليه نظر المسلم إلى الكفر والإلحاد، لذلك فالماسونية والشيوعية والديمقراطية والأديان العالمية التي تساوي بين الشعوب والأفكار الأممية كلها آراء فاسدة تتعارض(324/40)
حسب نظرها مع الطبيعة البشرية والتأريخ. هذه هي فلسفة النازية، من أدرك شكل هذا الهرم الذي يمثل الزعامتين عرف المذهب تماماً وأدرك سبب كره هتلر للمبادئ المذكورة. ولعل في نفسية هتلر وقسوة العالم الخارجي بعد الحرب العظمى على ألمانيا هي الباعث على تطرف الألمانية الوطنية هذه
جواد علي
خريج جامعة هامبرج بألمانيا(324/41)
من نار الفراق
أنا. . . وأنت!. . .
(لم يبق لي بعد اليوم في الدنيا أمل، فإذا لاحت في أفقك
شعاعة من رجاء فأتني بها قبل المصير!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
جُرْحانِ ظَلاَّ في سَعيرِ الزَّمانْ
لا يَهدآنْ!
وغُنْوَتا حبٍ بنايِ الهَوَان
مَذْبوحَتانْ!
وقَطرَتا دَمْعٍ بِوادي الحَنانْ
عِرْبيدَتانْ!
أذْراهُما في تَوْبةٍ عابِدانْ
مُسْتَغفِرانْ!
يا ربِّ أني لَشرِيد الجَنانْ
طَيْفُ الأمانْ!
بَيْتانِ مِنْ شِعْرِ سَقَاهُ الحَنين
كأسَ العَذابْ!
مَلاَّ صَدَى الدُّنيْا ونَجْوَى السِّنينْ
فوق التُّرابْ!
وَحِينَ. لاحَ الشَّطُّ غابَ السَّفِينْ
خَلْفَ الضَّبابْ!
فَلَمْ تَزَلْ كَفُّ الأسَى والجُنُون
تَسْقِي الرَّباب!
ولَمْ نَزَلْ نَشْدَو. . . وَشَدْوُ الحَزِين(324/42)
رؤيا خَرابْ!!
فَرْخانِ في أُفْقِ الهَوَى حَائِرَانْ
حَوْل الِّرياح!
مَاتَتْ أغَانيِنا بِظِلِّ الجِنانْ
قَبْلَ الصَّباح!
وَحَطَّم السَّاقِي بَقَايا الدِّنانْ
فوقَ الجِراحْ!
لَقَدْ سَقَيْنا حُبَّنا يَا زَمانْ
نارَ الْكِفاحْ!
فَخَلِّنا. . . إنَّا لِطوُلِ الهَوَانْ
عِفْنا النَّوَاح!!
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل(324/43)
أنشودة وفاء النيل
للأستاذ محمد فتح الباب
البحْرُ زَادْ ... عَمَّ البلادْ
والخَيْرُ جادْ ... كلَّ العِبادْ
إلى الحَصادْ ... البَحْرُ زادْ
مِصْرُ يا مِصرنَا افْرحي ... فَرْحةَ الطَّيْر بالريّاضْ
أَنتِ يا كلَّ مطمحي ... هِبَةُ النّيلِ يومَ فاضْ
اسرحي اليوم وامرحي ... نيلنا يَمْلاُ الحِياضْ
البحر زاد. . .
مِصرُنا زينةُ الأْمَم ... حَسْبُها النيل والهَرَمْ
أمَّةُ السيف والقَلَمْ ... رَبَّةُ المجد مِنْ قِدَمْ
نِيلُها كلّهُ عَجَبْ ... يَجمَعُ الأُنسَ والطرَبْ
ماؤه يَحْملُ الذَّهبْ ... وشِفاءٌ لِمَنْ شَرِبْ
البحر زاد. . .
نِيلٌ وَفَي لَيْلةَ الصَّفاءْ ... والنيل منْ دَأبهِ الوَفاءْ
والغِيدُ في خُضرةٍ وماءْ ... كالحوُرِ في جنَّةِ السَّماء
فَيضٌ غَزيرْ ... عذْبُ النمَّيرْ
لَهُ خَرِيرْ ... مِثلُ الزَّئيرْ
نِيلٌ جميلْ ... كالسلْسبيلْ
لَمَّا يَسيلْ ... بينَ النخيلْ
البحر زاد. . .
يا نيلُ عن مجدنا الأثيلْ ... خَبِّر وعن بَاعِنا الطويلْ
آثارُنا تعجِز العقولْ ... شهود حَقٍ لنا عُدُولْ
زهرٌ من (اللوتَس) البليل ... في حُسْنِهِ ما لهُ مثيلْ
يرْنو إلى الشمس كالخيلْ ... يرنو إلى الخِلِّ في الرحيلْ(324/44)
يطْفوا على سَطحكَ الجميلْ ... تاجاً على مفْرقٍ نَبيلْ
البحر زاد. . .
يَا نِيلُ أسلوُبُكَ الحكيمْ ... يَعلُو على القول والكلام
بِفَيضكَ المُصلح العميم ... يا نِيلُ زُر مِصرَ كل عام
فإنها جَنَّةُ النَّعيم ... لولاك لَمْ يَسقِها غَماَم
وَحيَّ فَاروُقَها العظيم ... وأنشُر على أهلها السَّلام
البحر زاد. . .
آمنْتُ بِاللهِ والكتابْ ... وأنَّ فِي خَلْقهِ عِبَرْ
الحَبُّ بالماء في الترَاب ... أضحَى نَبَاتاً لَهُ ثَمَرْ
أحلى من الشهد والرّضاب ... والحبُّ من قبل كان مُرُّ
الحَبّ بالماء في التراب ... يصير من أكْرمِ الزَّهَر
أنَّى لَهُ ذلك الخِضابْ ... ونفْحه الطيِّب العطِرْ
آمنتُ بالله والكتابْ ... النيلُ مِن روح مُقْتَدِر
(القناطر الخيرية)
محمد فتح الباب(324/45)
ظمئتُ. . .
للأستاذ صالح الحامد العلوي
ظمئتُ إلى الجداول حيث تجري ... مدردرةً كألواح اللُّجيْنِ!
عليها الطيَّر تمرح شادياتٍ ... على إيقاعها في الشاطئين!
ظمِئتُ إلى الخمائل زاهرات ... يراها الله بهجةَ كلِّ عيْن
بها الأزهارُ تضحك لاهياتٍ ... تُهَدهِدُها النُّعامى باليدين!
ظمِئتُ إلى النسيم يهبُّ رَهواً ... كوصل الخلَّ وافي بعد بَيْنِ
يُداعِبُني فيلثُمني دَلالاً ... وينشرُ فوق وجهي خُصلتين!
ظمئتُ لمن أراهُ حياةَ روحي ... وحبَّةَ مهجتي وسوادَ عَيني!
ومن رفَّت معاني الحسن فيه ... فكاد يطيرُ من لُطف وزيْن!
ومن في كل لحظٍ منه سِرٌّ ... أموت به وأحيا مرَّتين!
ومن هو من مزايا الحسن كونٌ ... حوىَ من كل لونً جنتين!
ظمِئتُ إلى الجمال بكلَّ معنىً ... عرى عن كل بهرجة ومَينْ!
ظمئت. . . وما عسى تُجِدي فتيلاً ... (ظمِئتُ)؟ ولو لقيت بذاكَ حيني
أما من حاكمٍ أشكو إليه؟ ... فيُنصف بينَ أيامي وبيني
فكم زادتْ على ظمأٍ - فوادي ... كأنَّ لديّ ثاراتٍ الحُسَين!
(حضرموت - سيوون)
صالح الحامد العلوي(324/46)
وحي الحرمان
لا تقولي نسيت. . .
(إلى الحالمة في أحضان النعيم. . . إليها في رأس البر. . .)
للأديب عبد العليم عيسى
صرخَ النايّ في يدي. . . فتعاليْ ... قبل أن تنهب الليالي لحونَهْ
ويحَ قلبي إذا غضَبتِ عليه ... وتجاهلت صوته وأنينه
من له. . آه. . من لأنغامه الس ... ودِ إذا شبَّت الليالي شجونه
أسْعديه على الحياة. . وردِّي ... نغماته إلى حياتي الحزينة
لا تقولي نسيتُ يا أُخت روحي ... أنت تدرين ما مضى وتَعينه
كيف تنسين يوم سرنا إلى الني ... ل وهِمنا على الضفاف الأمينة؟!
والدجى مسبل علينا ستاراً ... كشفته لحوننا المكنونة
رَقص البحر حين سرنا على الش ... ط وغنت أمواجه المفتونة
وهفَتْ حولنا العصافيرُ نشوى ... طِربات. . . سعيدة. . . مجنونة
فتملَّيتِ فتنة الحسن والنو ... ر وهوَّمت كالطيور الجنونة
واحتضنت العود الحبيب إلى النف ... س وأسكرتني بما تُنشدينه:
صلواتي أنتَ في الدنيا وأعراسي وفني
وسعادتي وصفوي، وتسابيحي ولحني
أنتَ في قلبيَ ينبوع من الخلد يغني
فجَّر الله على وجهك ما يمسح حزني
فتغنيتُ مع الأطيار ما يسعد كوني
ليتنا نحيا على الشط. . . تغني وأغني
وشجاك الهوى فنمت على صد ... ري المدمّى في خشعة وسكينه
وعلى وجهك الجميل شعا ... عات أثارت مستورة ودفينة
فبعثتُ الأنغام تسري مع اللي ... ل فتروي أشباحه المسجونة
ثم لما أفاق من نومْه الفج ... ر وأهوى عن راحتيه دجونه(324/47)
قُلتِ: يا شاعري الحبيب ترَّفق ... بفؤادٍ أهجت فيه حنينه
خذْ ذِراعي إلى ذراعك وانهض ... قبل أن يفتح الصباح عيونه
لا تقولي نسيت يا أخت روحي ... أنت تدرين ما مضى وتعينه
أسرعي قبل أن تموتَ ألا حي ... ني وترَدي قيثارتي المحزونة
فتصيري حكاية الغدر في الدن ... يا وأقصوصة الغرام الخؤونه
(دمياط)
عبد العليم عيسى(324/48)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
(ضيعت مستقبل حياتي!)
وفي 15 سبتمبر سنة 1923 مات
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
مات ولم يمكث في الأرض إلا واحداً وثلاثين عاماً. ولكنه قضاها كلها حياً، بل لقد كان يستعير مما له في الخلد ليالي وأياماً فأنهكته الحياة: أضنت منه الروح والبدن فانطفأ وهو في أشد اشتعاله وسطوعه
1 - بين الربوة والبحر
طفل، والطفولة صفاء. وفقير، والفقر نقاء. وعزيز، والعزة وقاء
كان هكذا منذ عرفته الحياة، وظل هكذا إلى أن غادر الحياة: طفلاً، فقيراً، عزيزاً لم يذل إلا الله في الحب والغناء
ويا طول ما ذل! فقد غنى منذ أحب، وقد أحب منذ أحس، وقد أحس منذ أمنت أمه أن تطلقه في ربوة (كوم الدكة) يرتع ويلعب مع الصبيان والبنات. فكان يجمعهم ويقوم بينهم على حجر يقرأ القرآن ويرتل الألحان، فإذا أخلصوا له الإصغاء أخلص لهم الإنشاد. . . ولم يكن أحد من هذا الجمع الحالم يدري لمن كان يغني هذا النشوان الضاحك إلا هو وتلك الصغيرة الطاهرة التي كانت تهفو إليه بروحها متلمسة فيه ما لم تكن تجده عند غيره من آيات الصدق ومن آيات الذكاء
وكان إذا افتقدها استوحش ربوته وأهلها، وفر إلى شاطئ البحر يكمن عند صخرة من صخور (السلسلة) يأخذ عن اليم معنى اللين إذا هدأ، ومعنى الثورة إذا اهتاج، ومعنى الكفاح إذا تصارعت فيه الأمواج، ويسرح بالطرف في آفاقه التي من بعدها آفاق، كأنه يستدرج الغيب من ورائها أن يستشفه لعله يرى في إطار منه الصورتين اللتين كان يحب أن ترتبطا. . . فكان يرى ما يشاء، أو لم يكن يرى شيئاً. . . ولكنه كان يسمع، وكان إذا(324/49)
عاد إلى ربوته تغنى بما سمع. . .
وكان يكره أن يعود من حجته إلى البحر خال اليد، فكان يجمل (إليها) من البحر محارة أو صدفة يرفعها إليها في صمت كأنما يؤكد لها أنه ما نسيها ولا غفل عنها إذ نأت وغابت. وكانت هي تقبل منه هديته الفقيرة الرخيصة والله وحده يعلم أكانت تقبلها حباً، أم كانت تقبلها إغراء
2 - الطعنة الأولى
وفي يوم طار إليها بمحارة عجب، فإذا هي تصده، بل وتحمله إليه ما جمعته من محاره وصدفه وتمد إليه به يدها وهي تقول: (منعتني أمي من قبول هدايا الصبيان!. . .)
ولو لم يكن يرى أمها تستميل إليها من أبناء الجيران صبياً مات أبوه عن ثروة، ما أحزنه هذا الصد وما أشقاه. . . ولكن الذي أدمى قلبه هو أن أدرك للمرة الأولى أن هناك فرقاً بين الأغنياء والفقراء. وأن هذا الفرق ملحوظ مرئي دون غيره من الفروق.
فحمل محاره وصدفه، وغسل بدمعه آيات غروره وجهله، ودفن المحار والصدف تحت عتبة مسجد سيدي (حذيفة). . . ثم دخل المسجد وتوضأ وصلى صلاة الجنازة على أمله
3 - الشيخ
وحسبوه من كثرة لزومه للمسجد ولياً من أولياء الله. وقد كان ولياً من أولياء الله. فوهبوه لكتاب الله. وألبسوه عمامة وجبة وقفطاناً، وأرسلوه إلى معهد الإسكندرية وعرفته (كوم الدكة) منذ ذلك الحين باسم الشيخ السيسي. . . لأنه كان صغيراً، وكان عجيباً في عمامته وجبته وقفطانه. . .
ولم يتأب هو على هذه (الشيخوخة) التي عاجلته، وإنما كان يجد فيها متعة ولهواً محببين، فقد يسرت له الحفظ والتجويد، والقراءة والغناء. . . وظل في (شيخوخته) هذه طفلاً كما كان يجمع حوله الفتيان والفتيات ويقوم بينهم على حجر أو كرسي. عريض من خشب يمدح النبي، ويرثي الحسين!
4 - مبيض الجدران
وقد كان أهل الحي أن يطلبوه في أفراحهم ومآتمهم، ولكنهم كانوا يطلبون غيره كلما(324/50)
اعتزموا أن يدفعوا أجراً؛ أما هو فكانوا يتزاحمون حوله كلما قرأ أو غنى في الطريق، أو في المقهى، أو في المسجد أو على الربوة. . . يسمعونه ويحيونه، ويتحدون به القراء والمغنين، ولكنهم لم يكونوا يملكون أن يستأجروه، لأنه لم يكن ينطلق إلا بإرادته، وبوحي من مزاجه، فإذا أكره على الشدو ثقل الشدو على نفسه وعلى نفوس مستمعيه. . .
ولهذا كان إذا أراد أن يرتزق بيَّض الجدران مع النقاشين والبناءين. . . وأعجب ما كان منه أنه كان ينطلق عندئذ بالغناء أنيناً وشكاية، أو بهجة واستبشاراً، وكان من زملائه من يحمل عنه عمله راضياً مسروراً
5 - في الأوحال
ترعرع وترعرعت. وكانا يلتقيان. وقد كان يغنيها وكانت تستمع إليه. ولكنه كان قد طوى نفسه على عزمة ملكته: ألا يدنس الحب، وأن يسلم أمره لله. . .
وتزوجت هي. . . وانهار هو. . .
فهجر (كوم الدكة) إلى حي الرجس. وأدمن النساء، وانكب على الخمر والمخدرات يتعجل الموت فلم يعد له في الدنيا رجاء
وقيل إنه أحب، وما أحب وإنما كان يبحث عن حب، ولم يكن المحروق القلب ليحب ما أكلت قلبه النار
ومن أعماق هذه الأقذار كان يتعالى صوت السيسي بألحان من وحي الطهر والعفة. كان يرسلها مع الدمع ونفحات الجحيم المتأجج بين جنبيه فكان فيها تطهير نفسه ونفوس هؤلاء الذين كانوا يتردون الخطيئة حوله، ويترددون عليه كأنه التوبة أو الصلاة.
6 - وهج الروح
وإلى جانب هذا الحب، وإلى جانب هذا اليأس، كانت حرب وكانت ثورة، واندلعت في هذا الأتون المستعر روح الشيخ السيسي
وكان قد عاد من الشام بعد رحلة بائسة اصطحب فيها ممثلاً سوريَّاً أراد أن يتحف به أهل وطنه ولكنهما أخفقا معاً.
وكان السيسي قد جرب نفسه مرة في القاهرة في مسرح الشيخ سلامة حجازي فثار عليه(324/51)
الجمهور وأرغمه على أن يتوارى خلف الستار قبل أن يتم غناءه فواساه الشيخ سلامة بأن خرج للناس وقال لهم: أحسنوا الاستماع إليه فهو الذي سيخلفني
ولكن الناس لم يحسنوا الاستماع إليه لأن غناءه لم يكن يشبه ما أعتادوه، وإنما كانت روح طلقة هبت من الشمال
وكان كل فشل مما لاقاه يزيده أيمانا بنفسه ومقدرته حتى واتاه الفشل الأخير، إذ لحن (فيروز شاه) لجورج أبيض فاندك جورج أبيض وبرز سيد درويش
وعرفه عندئذ نجيب الريحاني، فأفسح له مسرحه منبراَ يلقى من فوقه ما شاء من آيات
فنه
وأخذ بعدئذ نجمة يصعد، ويصعد، ويصعد. . . حتى جاء
وقت لم يتغن فيه مصر بلحن إلا كان من غناء سيد درويش
كان ربحه يصل أحياناً إلى ألف جنيه في الشهر، وفي هذه الأحيان كان يقترض القروش والملاليم
قل إنه مجنون! قل إنه سخيف! قل ما شئت؛ أما هو فكان محروماً من شئ لا يمكن أن يشترى بالمال وكان هو يحاول أن يستعيض عنه بما يشترى ويباع.
7 - شاعر
ولم يكن سيد مغنياً فقط، وإنما كان شاعراً أيضاً. . . وما كان في وسعه إلا أن يكون كذلك. فإن الذي بعثه على الغناء إحساس كان يخالجه ولم يكن يستطيع أن يعبر عنه إلا بالغناء، ولم يكن يستطيع أن ينتظر معه أن يبحث عن شاعر من الشعراء أو نظام من النظامين ليقول له إني أحسست الحب على وجه من الوجوه، أو أحسست اللوعة على نحو من الأنحاء، فصور لي هذا الإحساس بالكلام لأغنية. . . لم يكن يملك أن ينتظر كل هذا الانتظار وإنما كان يغني ما يريد عند ما يحس أية عاطفة أو أية نزعة
هو سكران مترنح. . . وقد حددت له صاحبته موعداً، وذهب إليها فتصدى له من يمنعه عنها، وهي معركة بينه وبين عذاله، فإذا حال بينه وبينهم أصدقاء له وأبعدوه عن الموقعة، ثم بدءوا يلومونه على سكره وعربدته غناهم:
وأنا مالي هي اللي قالت لي ... روح اسكر وتعال ع البهلي(324/52)
وهو جالس عند صديق له صائغ وتهبط عليهما غانيته مسرفة في التزين والتبرج، وتراه ممسكاً - بعوده فتعابثه وتطلب منه (غنوة) فما أسرعه إلى إنشاده. . .
الأستيك على صدركْ بِضوي ... ون قلبي مِتْعلَّ ساعة
ويصطدم بذات المحار والصدف فيتقارآن السلام ويتعاتبان وأعصابه ترتج وأنفاسه تضطرب فما تبرحه وما تنقضي ليلة أو ليلتان حتى تسمع البلد كلها تغني من لحن سيد:
زروني كل سنة مرَّة - حرام تنسوني بالمرة
ويغاضب إحدى صويحباته فيكيدها بغنائه:
يومْ تركت الحب كانْ لي ... في مجال الأنس جانب
والتقيت المجد عادْ لي ... بعد ما كانْ عني غايب
ولم يكن سيد يعبأ بأن يكون كلامه موزوناً أو مستوفياً لشروط الشعر وشروط صحته، فما كان يعرف إلا أنه يغني، وكان غناؤه سليماً!
8 - تلميذ
وعلى الرغم من المجد العظيم الذي أتيح له، فقد كان يرى نفسه جاهلاً بالفن وأصوله. ولعل ذلك راجع إلى أنه لم يتعلم الموسيقى على أحد، فقد خرج إلى الحياة ألفى نفسه يغني، ثم عرف أن للغناء قواعد وأصولاً، فراح يحصل منها ما يتاح له، ولكنه لم يتح له أن يروي غليله من علومها وفنونها، فكانت أمنيته الكبرى أن يتيسر له السفر إلى إيطاليا ليتعلم الموسيقى. . .
ولست أدري ما الذي كان يريد أن يتعلم سيد؟
ربما كان يريد أن يدرس أسلوب الغرب في صناعة الموسيقى. أما الفن، فأنا مؤمن بأن سيداً لم ينكب برزء أسود من نسبته إلى مصر، فلو قد كان إيطالياً، أو من شعب متقدم، لكنا نسمع اليوم ألحانه عن طريق السينما، وعلى اعتبار أنها معجزات من الغرب!
وهنا في مصر يحال بين ألحانه وبين المعهد الملكي للموسيقى الشرقية. . . لأن هذا المعهد لا يعترف بموسيقى المسرح، أو لأن حضرة صاحب العزة مصطفى بك رضا الموظف في وزارة الأوقاف ومدير معهد الموسيقى والمنصوب له تمثال على حياة عينيه في حوش المعهد، والذي لم يسمع له إنسان لحناً أو أغنية - قال له الأستاذ عزيز عثمان: إن ألحان(324/53)
سيد درويش (هلس). . .
والحق أنه صراع بين ذوقين فنيين: ذوق القاهرة القديمة، وذوق الإسكندرية الحديثة. أما ذوق القاهرة فيمثله مصطفى بك رضا وأبناء محمد عثمان. وألحان القاهرة كما يعرف الجمهور هي هذه الألحان الصابرة الناعسة النائمة الخانعة، التي كان يقصد بها قصداً أن تغني في الأفراح والليالي الملاح التي يقيمها البيكوات والباشوات، وقد كان محمد عثمان أبرز المغنين في هذا النوع، وكانت موسيقاه المخمورة هي الرائجة في عصر النوم والسهر. . .
أما ذوق الإسكندرية فغير هذا. . . ذوقها هو الظاهر في موسيقى سيد، هو هذه الحياة المنغمة، وهذه العواطف الملحنة التي نفثها سيد درويش في مصر، والتي أخذها عنه من بعده زكريا أحمد فوفق، ومحمد عبد الوهاب فأنحرف بها إلى تقليد الموسيقى الغربية لأنه حسبها تقليداً واقتباساً كما قرأ في المجلات، وهي بعد ذلك أساس المذهب الحديث الذي يقلده ملحنو اليوم!
واليوم ووزير المعارف هو معالي النقراشي باشا الإسكندراني ووكيلها هو صاحب العزة السنهوري بك الإسكندراني. . .
ألا نستطيع أن نأمل في إحياء موسيقى سيد درويش على أيد يهما؟ إننا نز جو هذا ما دام لها ذوق فني ناضج حي، وإن لها هذا الذوق
عزيز أحمد فهمي(324/54)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
3 - عصر النار
في الأيام الخالية وكانت الدنيا لا تزال في شبابها كان - كما علمنا - يقيم في واد شرقي عدن شاب اسمه (توبال قابيل) وهو حفيد ذلك الرجل الذي عاش على الأرض اكثر مما عمر أي رجل آخر وهو متوشالح
ذهب توبال قابيل إلى الجبال ليكون صياد قبيلته لأنه أوفر رجالها جسما وأوفاها قوة. وكان يستطيع لقوته أن يرمي الرمية فيصيب بسنانه المصنوع من الحجر المنحوت أي وحش يريد قتله. وكان كذلك حاد البصر سريع الحركة ففي وسعه أن يرى أي مخلوق يختبئ في الغابة ويتبعه في سرعة مطارداً إياه عند الهرب
وقد عرف توبال قابيل سر النار وصنع النار وكان ذلك السر مجهولاً من قبيلته منذ أجيال. وكان رجل من أهل الشمال لقنه سرها، وكان هذا الرجل وقبيلته قد قبسوا من نار البرق الذي مصدره السماء فاحتفظوا بذلك القبس حتى عرفوا في النهاية كيف يصنعونها بأنفسهم، وذلك باستدعاء روح النار الكامنة في أخشاب الغابة التي يقيمون بها. وكان توبال قابيل يصنع بالنار ما يصنع بالسحر فهو في الليلة الباردة يعيد الدفء باستخراج الألهوب الأحمر من الخشب وبتغذيته بالهشيم الذي يجمعه أثناء النهار، وقد وجد أن الوحوش المفترسة تخاف من روح النار فتهرب وأن الوحوش لا تزعج نومه ما دامت النار بالقرب منه ترعاه
وفي يوم شديد البرد جمع توبال قابيل مقداراً عظيماً من الغصون الجافة والخشب الجزل وسلط عليها الروح الحمراء لتأكلها لأنه كان شديد التألم من البرد فقد كان طول هذا اليوم في الجبال يطارد نمراً عظيماً، وكانت الريح شمالية عنيفة باردة فاستشعر البرد حتى كاد يسري في عظامه
حبس من أجل ذلك بجانب النار، ولما تأمل في قرارها رأى منظراً أعجب من كل ما رآه من قبل: رأى صخرة كانت في وسط الألهوب، قد تحول لونها إلى الاحمرار، وبدأت على(324/55)
حين فجأة تذوب. وكانت كلما اشتدت حرارة النار خرج من الصخرة الذائبة سائل ذائب كالماء الملوث بالطين حين يهم بالتدفق، ثم التفت أثناء جريها، وتحولت إلى ما يشبه حية سوداء هاربة من النار التي أخرجت من الصخر هذه المادة الغريبة.
لم يعرف توبال قابيل ما هو هذا السائل، ولكن هذه أول مرة رأى فيها الحديد أي إنسان على الأرض، فإن هذا السائل الناري لما جرى واستبرد أصبح معدناً ثميناً كان من قبل مختبئاً في الخام الصخري.
وانقضت أسابيع وشهور بعد رؤية هذا السائل المتدفق من الصخرة، وقد قضى هذه المدة في جمع الصخور المماثلة لما رآه من جوانب الجبل، وكان يجلب لها ناره ليرى هل هذه الصخور ستذوب أيضاً؟ فوجد أن بعضها الآخر أخرج نقاطاً لامعة متوهجة تتحول فيما بعد إلى معدن أرق هو الذي نعرفه باسم النحاس
وكان يجري تجربته في كل قطعة من الحجر الذي جربه أولاً ويراقب ما يصير إليه أمرها حين تبترد ليعرف إلى أي شكل تتحول
وفي أحد الأيام، حاول أن يصوغ المعدن في أثناء حرارته وابتراده، فطاوعه المعدن وتمكن من طرقه وتحديد طرفه كالسنان الذي يصنعه من الحجر.
وعند خروجه للصيد للمرة التالية رأى وحشاً يقبل نحو كهف في الجبل الذي يقيم فيه فرماه بسنانه الحديدي الجديد وأصابه السنان في جبهته وقتله للحال
وكان هذا أول سلاح معدني صنع في العالم؛ ورأى توبال قابيل أن في وسعه صنع أسلحة أخرى من هذه المادة الجديدة التي يمكن طرقها عند الحد أكثر مما تطرق الأحجار والفلزات التي يقضي في نحتها ساعات متعبة
ولم يقل شيئاً عن هذا السر للصيادين الآخرين الذين كانوا يأتون أحياناً إلى موطنه في الجبال ولا لسكان الوادي؛ ولكن الجميع دهشوا من وفرة قوته ومن حذقه الصيد لأنه كان يأتي بصيد أكثر مما يأتي به أي اثنين مجتمعين في هذه الجبهة الجبلية.
وكان أجدى على سكان الوادي من اثنين كذلك لحمايته إياهم من غارة الوحوش الضارية؛ ولكنه أفضى إلى جده متوشالح باستكشافه الغريب وأراه كل أنواع الأسنة والأسلحة المحدودة والآلات الحادة التي صنعها وصاغها بإحمائها وسكبها في حفر وأخاديد في(324/56)
الصخر أثناء خروجها حارة من النار وتركها حتى تبرد فتتجمد ويمكن عند ذلك طرقها
وكان متوشالح في النهاية حياته عندما أقبل عليه توبال؛ ولكن حكمته كانت تزداد على مدى الأيام. وكان ثاقب الفكر سريع الخاطر كحفيده الأصغر فأخذ القطع الغريبة من الحديد الأسود الذي جاء به توبال قابيل والقطع الساطعة من النحاس ووازن بين ثقليهما في يده وحاول اختبارهما بكل الأساليب، وأخبر توبال بأن هذا سر عجيب جداً مكتوم عن سائر العالم وأنه يجب أن يدرس هذه الصخور وأن يستمر في العمل بها وأن يتعلم ك الذي يستطيع تعلمه وأن يستعد لإشراك إخوانه الصيادين جميعاً وأهل قرابته هذه المعرفة ونشرها في أرجاء العالم
وعاد توبال قابيل إلى الجبال وأنشأ لنفسه مكاناً للنار أو فرناً ليحبس فيه روح النار ويستبقيها في خدمته، وأرسل كل الصيادين ليأتوا إليه بالأحجار من النوع الذي يذوب. وتعلم صنع قوالب من الطين يضع فيها المعادن الحارة. وليتمكن من إدخال الهواء تحت القدر صنع نوعاً من المنافيخ وصنع أسلحة لكل الصيادين والذين يتولون حراسة أهل الوادي
وكان الرجال يأتون من الأماكن البعيدة ومن الأماكن القريبة ليتعلموا فن توبال قابيل في صنع المعادن. وعلمهم وهو مسرور كل ما عرفه من الأسرار وكل الفنون التي كان يستفيدها من يوم إلى يوم
وكان الذي تعلمه خدمة لكل الناس لأنه كيف يمكن أن يعيش أهل الأرض وأن يغتنوا ما لم يتشاركوا - لمصلحة الجميع - فيما يستكشفه أي رجل أو فيما تصنعه أية قبيلة؟
تعلم كيف يحذق صنع الحديد ولم يكتف بأن يصنع الأسلحة للحرب بل صنع نصلاً ثقيلاً معقوفاً يستطيع الإنسان أن يحفر به الأرض اللينة قبل أن يلقي بها البذور، وأن يصنع نصلاً طويلاً وهو الذي نسميه الآن باسم المحراث. وبه استطاع أن يخط على الأرض خطوطاً طويلة يغرس فيها الحب
وصنع آلات أخرى كثيرة، واشتهر أمره في جهات بعيدة عن واديه، وعن الوديان المجاورة للجبال التي يقيم بينها، لا بل ذاع صيته عبر الأنهار وعلى حدود البحر الكبير، وذاع اسم توبال قابيل صانع كل سلاح قاطع أو منته بذبابة حادة، وأستاذ كل رجل يبغي العمل في(324/57)
النحاس أو الحديد أو أية مادة تسيل من الصخور. وكذلك دون في الكتب القديمة كما يستطيع أن يتبين من يريد
وكذلك أصبح عصر النار عصراً للمعدن أيضاً. ولا نزال نعيش في هذا العصر إلى اليوم
ومهما تكن الطريقة التي عرف بها الناس سر النار للمرة الأولى، فإننا نعلم أنهم عرفوها قبل أن يكون للعالم تاريخ مكتوب وأنهم عرفوا أيضاً سر المعدن المخبوء في الأرض.
ولما عرف كيف يصنعه، وكيف يصوغه بواسطة النار فإنه بذلك قد بدأ يسير في طريق المدنية، وسنظل متتبعين رحلته في هذا الطريق على مدى القرون.
(يتبع)
ع. ا(324/58)
من هنا ومن هناك
ألمانيا بعد سقوط هتلر
(عن (جوتبرج هاندل) السويدية)
لا يستطيع الباحث المدقق في حالة ألمانيا أن يحكم إذا كان ذلك النظام
الذي أقامه هتلر سينهار بقيام حرب عالمية، أو أن سيدركه الفناء تحت
تأثير عوامل وأزمات داخلية، يثيرها تدهور الحالة المالية والاقتصادية
بها ومهما تكن الأحوال.
فإن الدوائر السياسية العليمة في أوربا، أصبحت تعتقد أن سقوط النظام الهتلري سيكون في خلال سنة 1940. فإذا كان الأمر كذلك فيحق للإنسان أن يسأل كيف تكون ألمانيا بعد هتلر؟
لقد احتاطت الدعاية الألمانية لهذا السؤال، ونشرت ما شاء لها الهوى من الأقاويل بين العامة والخاصة معلنة أن سقوط هتلر يتبعه قيام البلشفية في ألمانيا. وهذا خطر تهون إلى جانبه كل الأخطار. وقد تمسك بعض الناس بالنظام القائم في ألمانيا الآن باعتباره أخف الضررين. على أن الدوائر الاقتصادية المطلعة والأوساط الدينية تقرر أن نظام ستالين ونظام هتلر لا يختلفان
والنازية لا تجد لها سنداً في خارج ألمانيا إلا في بعض الدوائر التي ترى أن البلشفية تعم ألمانيا بعد هتلر، ومن ثم يختل النظام وتنهار المدنية في غرب ألمانيا تحت تأثير هذه الكارثة الخطيرة. ولكن هل في الحق أن ألمانيا مهددة بخطر الاشتراكية؟
إننا نستطيع أن نقرر في تردد أن ألمانيا على وجه العموم أقل انخداعاً بالماركسية من أي دولة من دول أوربا. وإن كان بعض قصيري النظر يعتقدون أن الماركسية قد تنتشر في ألمانيا كرد فعل للنظام النازي
إن ألمانيا ولا شك ستكون عرضة لانقلاب قوي شديد كرد فعل للنظام الذي تحكم به الآن فتلك سنة الطبيعة، ولكن هذا الانقلاب سينحو ولا شك ناحية مناقضة لهذا النظام. ولكن الاشتراكية ليست الناحية المناقضة للنازية بحال من الأحوال. . . إن ألمانيا التي تتبرم(324/59)
بالهتلرية السمراء، لا تشوقها دكتاتورية البلشفية الحمراء. فالألمان يعرفون ما هو الضغط على حرية الفكر والاعتقاد تحت ظل الحكومة الآرية، ويبغضون من أعماق قلوبهم ضياع الحرية ومصادرة العقائد والأفكار في ظل نظام محو الطبقات
فماذا تكون إذن بعد سقوط هتلر؟ ستكون هناك أمة ألمانية يستمتع شعبها بحريته وحقوقه الاجتماعية، وتندمج روحه والروح الأوربية. وسيكون قوامها العمال والفلاحون والأعيان والموظفون والضباط وأساتذة الجامعات
ستكون ألمانيا بعد هتلر أمة يسوسها خيرة من رجال الجيش والعمال والفلاحين والمدنيين وفي مقدمة هؤلاء جميعاً الشباب الناهض
ستكون إذن ألمانيا التي قهرت الفاشية والبلشفية
وستكون وتظل جزءاً مسئولاً في أوربا الحديثة
أين يسكن هتلر؟
(عن مجلة (تورنتو ستار))
منذ اثني عشر عاماً كتب هتلر مؤلفاً عن الأعمال التي يقوم بها وكيف تثنى له أن يقوم بها، وأسمى هذا الكتاب (كفاحي) بيع منه 11000000 نسخة بلغت أرباحها مليوناً من الجنيهات. وقد بنى هتلر من هذه الأموال مساكنه الجديدة، وإنها لمساكن على جانب من الأبهة والعظمة
ومن المأثور عن هتلر أنه قال في حديث له: (ليس من العار أن يقتات الألمان بالعشب مادامت ألمانيا تعاني ما تعاني من الشقاء) ولكن هتلر لم يأكل العشب ولم يسكن في بيوت من القصب، فبنى القصور الفاخرة على قمم الجبال، وشاد لنفسه الدور المؤثثة بأفخر الرياش
ومن غريب ما جاء على لسانه وهو يفتتح دار المستشارية الجديدة منذ أسابيع: (إنني ما زلت كما كنت فيما مضى ولا أريد أن أكون غير ذلك. إن منزلي يماثل بالضبط المنزل الذي كنت أسكنه من قبل وسيضل كذلك)
إنه في هذا يتكلم عن مسكنه الخاص في ميونخ، ولكنه لم يقل شيئاً عن القصور التي بناها(324/60)
فوق قمم الجبال حيث يخلو إلى نفسه
فعلى ناحية من جبال الألب البافارية على بعد بضعة أميال مما كنا نسميه النمسا تقع قرية برخستجادن الجميلة، وعلى جانب من الجبل يرى قصر برجوف - مسكن هتلر - المحبوب. وقد كان هذا القصر مسكناً جبلياً بسيطاً فأعاد بناءه هتلر على طراز لا يحلم به أصحاب الملايين. وهو يقضي في هذا المنزل فسحة آخر الأسبوع في غالب الأحيان، فينتقل بالطيارة من برلين إلى ميونخ ومن ميونخ تقله سيارة سوداء سريعة السير إلى مسكنه الفاخر
ويقوم على حراسة هذا القصر قوة كبيرة وأسلحة واستعدادات عظيمة لا يقوم مثلها على حراسة بنك إنجلترا، وهو محاط في الليل والنهار بحصار شديد من الجند الأشداء.
وقد أقيم في الصخرة الصماء التي شيد عليها هذا القصر خندق حصين تحيط به قوة من المدفعية المضادة للطيارات تحميه وقت الهجوم. على أنه محاط بأبواب عظيمة من الفولاذ تجعله محجوباً عن الأنظار ولا يتثنى لأي زائر أن يقترب من هذه الأبواب دون إذن كتابي من البوليس السري
ولا يسمح لصحيفة ألمانية أن تذكر ما طرأ على هذا القصر من التجديد فهو لا زال في نظر الألمانيين ذلك الكوخ الجبلي الصغير.
ويقال إن حجرة الجلوس في هذا القصر من أفخر الحجر التي رأتها العيون. وهي تحتوي على نافذة واحدة ولهذه النافذة صفحة من الزجاج ارتفاعها عشرة أقدام وطولها 28 قدماً ولعلها أكبر نافذة في العالم. ومن هذه النافذة يطل هتلر ومن عسى أن يكون معه من الضيوف على مناظر جبال الألب الخلابة
ولعل أكبر متعة تصبو إليها نفس الفوهرر، هي أن يجلس إلى هذه النافذة ويمتع النظر فيما حوله من الوديان المخضلة النبات، بينما يعزف أحد أصدقائه بعض مقطوعات من موسيقى واجنر على البيانو على بضعة أمتار(324/61)
البريد الأدبي
المجمع والدكتور أحمد بك عيسى
كتبت في العدد الأسبق من الرسالة كلمة عن المجمع اللغوي قلت فيها - اعتماداً على ما رواه لي الدكتور أحمد بك عيسى - أن المجمع أهمل كتابه (المحكم في أصول الألفاظ العامية) ولمته على هذا
وقد بين لي صديقي الأديب الكبير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشرى (مراقب المجمع) أن اللوم في غير محله، وأن لجنة اللهجات العامية راجعت الكتاب وفحصته، وأن الدكتور عيسى بك نفسه حضر بعض اجتماعاتها، ووافق على ما اقترحته من زيادة (في مصر) على اسم الكتاب
وقرأ لي الأستاذ البشري كتابين بعث بهما باسم المجمع إلى وزارة المعارف يطلب في أولهما من الوزارة طبع الكتاب لتعميم فائدته، ويطلب في الثاني توزيعه على مكتبات المدارس
ويتضح من هذا أن المجمع لم يقصر ولم يهمل، وإذا كان لم يطبع الكتاب فذاك لأن المجمع لا مال له لطبع الكتب، ومطبوعاته هو تتولاها وزارة المعارف
ومن الإنصاف للمجمع أن أعلن هذه الحقائق التي تفضل الأستاذ البشري بإطلاعي عليها. ومن واجبي أن أشكر الصديق وأن أعتذر للمجمع وإن كان الذنب لغيري
إبراهيم عبد القادر المازني
صححوا هذين البيتين
يكثر استشهاد الخطباء والكتاب بقول شوقي:
في العلم تطَّغن العقو ... ل وليس تطَّغن الصدور
وكذلك ينطقون (تطغن) بالغين المعجمة في الصدر والعجز وهو صحيح في العجز ومحرف في الصدر. والصواب:
في الظلم تطْعِنُ العقو ... ل وليس تطَّغن الصدور
فنقرأ (تطعن) في صدر البيت بالعين المهملة من الطعن، ونقرأ (تطغن) في عجز البيت(324/62)
بالغين المعجمة من الضغن وهو الحقد
ومعنى البيت أن العلماء قد يتحاربون ولكنهم لا يتباغضون وشوقي لا يريد غير ذلك، وإنما نُشر البيت محرفاً ولم يفطن من يستشهدون به إلى ما وقع فيه من تحريف.
والقصيدة التي فيها (يا جارة الوادي) مطلعها هذا البيت:
شيعتُ أحلامي بطرف باك ... ولمحت من طرق الملاح شباكي
والناس يقرءون (لمحت)، وهي كذلك في الجزء الثاني من الشوقيات، وقد نُشر في حياة شوقي، ونقلها بعض المؤلفين عن نسخة الديوان بدون تصحيح، وأنشدها بعض الأدباء في محطة الإذاعة بدون تصحيح!
و (لمحتُ) فيها تحريف، والصواب (لممتُ) بلام وميمين من اللّم وهو الطي، وما أحسب شوقي يريد غير ذلك.
فأرجو القراء أن يصححوا هذين البيتين إن راقهم هذا التصحيح.
زكي مبارك
سؤال عن الربا
ذكرني السؤال الذي وجهه الأستاذ علي الطنطاوي إلى (المفكرين) من علماء المسلمين بسؤال كنت بعثت به إلى فقيد الإسلام المرحوم الأستاذ الإمام رشيد رضا في موضوع الربا بتاريخ 4 شعبان سنة 1352هـ ـ، وقد أجابني بجواب مختصر أحالني فيه - كعادته - على مجلة المنار. فإذا كان في الرسالة الغراء متسع لنشر هذا السؤال، تعضيداً لسؤال الأستاذ علي الطنطاوي فها هو ذا:
حضرة الأستاذ العلامة. . . . . . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وهنا قدمت بمقدمة شرحت فيها سوء حالة فلسطين الاقتصادية التي أوقعت فيها قسراً ثم قلت) فرأى المخلصون من رجال الاقتصاد أن خير وسيلة لإنقاذ الفلاحين من هذا الشقاء، ولتخليص البلاد من شره اليهود، هي إنشاء بنك زراعي عربي بأموال العرب يعقد قروضاً زراعية للفلاحين برباً قليل إلى وقت طويل. ويقدم إليهم آلات زراعية حديثة، إلى غير ذلك من الوسائل التي تخلصهم من ظلم(324/63)
المرابين، وتوسع عليهم، وتحفزهم للعمل والتثمير حسب الأصول الحديثة، فتجلب الخير والمنفعة، وتغنيهم عن بيع أراضيهم لليهود
والمسئول عنه الآن: هل يكن ديننا الحنيف في هذه المعضلة الاجتماعية كشأنه في سائر المعضلات سمحاً سهلاً يتمشى مع المصلحة، وينطبق على ما تقتضيه نظم العصر الحاظر، فيجد الناظر فيه رأياً لا يخالف القرآن الكريم، ولا يصادم السنّة الشريفة، يجيز أمثال هذه المعاملات (المصرفية) من عقد قروض بربا قليل لا يضر بمصلحة الآخذ ويفيد المعطي، لا سيما أنه يؤخذ من ظاهر بعض الآيات، ويؤخذ من حالة العرب قبل الإسلام في مداينهم بالربا، أن المقصود بالنهي الربا الفاحش الذي يؤدي إلى خراب بيت المدين كما حصل ويحصل مع كثير ممن لو تداينووا بربا قليل لوفوا ديونهم وعادوا سيرتهم الأولى من السعة والغنى. وهذا الربا الفاحش هو ربا الجاهلية (وربا الجاهلية موضوع) وهو (الأضعاف المضاعفة) وبه يحصل التقاطع والتباغض بين الناس. أما الربا الخفيف فلعله يكون من أسباب المودة بين المتداينين
ثم ألا يجد الناظر في الدين حرجاً بناء على هذا - إذا صح - أن يحمل الآيات الشريفة المحرمة للربا على الربا المعهود (أي ربا الجاهلية، وهو الربا الفاحش) ويحمل الأحاديث على هذا المحمل. وتبقى الحكمة في عدم التحديد حث الناس على التعامل بقروض المجانية تنزهها عن شبهة الربا، ليكون ذلك أدعى للتآلف والتعارف؟ وإذا أبى نص حديث - والنص من الراوي - هذا المحمل، أفلا نتركه؟ إذ لا يصح أن تقف أحاديث الآحاد في وجه المنفعة والعمران وتقدم المسلمين؛ والعمران وتقدم المسلمين وقوتهم يغلب على الظن أنها مقصد من مقاصد الدين حتى يكون الدين كله لله
أقول: هل يجد الناظر في الدين رأياً كذلك؟ فإن كان فالرجا أن تفصلوا علله وأسبابه وأدلته، وإن لم يكن هناك ما يساعد على هذا الرأي فأرجو بيان ذلك مع الحكمة أيضاً وهل هناك إجماع يكون خرقه كفراً على تحريم الربا مطلقاً قليلة وكثيره؟ أم لا يكفر المتأول، ومن يأخذ بالظاهر؟ أفتونا. . .
وهذا جواب الإمام رشيد رضا رحمه الله بحروفه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إن من الإرهاق لي أن أكلف أن أجيب عن الأسئلة التي(324/64)
تأتيني من أنحاء العالم في مكتوبات خاصة مع أن ما ينشر منها في المنار لإفادة الجميع قد عجزنا عن الإجابة عنه كله. ومن المعلوم لكل مسلم أن البنوك كلها فيها ربا وأن الربا محرم ولكن في بعض أعمالها وشركاتها ما ليس كذلك. ونحن ننشر في المنار بحثاً طويلاً سيصدر بعد إتمامه في كتاب مستقل والسلام.
رشيد
ولم أطلع على ما نشر في المنار، كما لم أعلم أتم البحث وصدر في كتاب مستقل أم لا؟
فعلى من يستطيع الحصول على المنار أن يرشدنا إلى ذلك.
(سائل)
كلمة أخيرة في نعيم الآخرة
أطال الأستاذ محمود على قراعة في الاستشهاد بأقوال بعض العلماء والصوفية وفلاسفة الأخلاق، وملأ أربع صفحات من الرسالة الغراء (العدد 321) ليثبت أن لذة الروح أرقى من لذة الجسم حتى يتسنى أن يثبت أن نعيم الآخرة روحي. وأنا لا أنكر أن لذة الروح أرقى من لذة الجسم، ولا أحتاج عليه إلى دليل من كلام أحد، وأرى الأمر أهون من أن يحتفل به هذا الاحتفال مادام الله تعالى لم يكلفنا - بعد الإيمان بالآخرة والجزاء فيها - أن نعلم نوع هذا الجزاء أهو حسي أم روحي
على أن جميع ما أتى به الأستاذ - ومثله معه، وإن كان من نوعه طبعاً - لا يجدي شيئاً في تأييد دعواه. وأما دعوانا فهي واضحة جلية أعجب كيف يكابر فيها وهي تستند إلى هذه الأمور المسّلمات:
1 - إن جميع النعم الحسية التي ذكرت في القرآن الكريم كالمأكولات والمشروبات والأزواج ورؤية الله تعالى، هي حسية حقيقية لا مجازاً، وإن كانت على غير ما نتصوره في الدنيا؛ فالتفاح والرمان مثلاً هو تفاح ورمان، وإن كان من الجودة بحيث لا نعلم.
2 - أجسامنا في الآخرة - كيفما كان الرأي في إعادتها - هي أجسام، وإن كانت على نشأة أخرى كما تقتضي إرادة ربنا تعالى
3 - مادامت النعم الحسية لا تتغير أسماؤها هناك، ومادامت الأجسام لا تصير أرواحاً(324/65)
هناك، فإدراك الأجسام لتلك النعم إدراك حسي، وإن كانت حسيته بحسب قابلية الجسم في ذلك الوقت
فإذا سُلم هذا - وهو مسلم - يُبرهن على دعوانا بقياس منطقي اقتراني من الضرب الأول من الشكل الأول، تؤخذ مقدمتاه من هذه المسلمات، فيقال:
(النعم في الآخرة تدرك بالحواس الجسمية؛ وكل ما يدرك بالحواس الجسمية فهو حسي؛ فالنعم في الآخرة حسية). ونتيجة هذا القياس لا تنقضُ حتى تنقضَ المقدمات، وهيهات.
وبعد فلا أضن الأستاذ قراعة يفهم من هذا أننا ننكر أن النعيم الحسي لا يتصل بالروح، ولكن اتصاله بالروح، لا يمنع أنه نعيم حسي. والسلام على الأستاذ ورحمه الله.
فلسطين
داود حمدان
حول الوحدة الإسلامية والقومية العربية
كتب إلى فلسطيني فاضل يلومني في بعض فقرات من كلمتي المنشورة في الرسالة العزيزة عدد (320) فقال: (إن قولي: (يقف المسيحي في فلسطين في جانب المسلم يدفعان معاً شر المغتصب المستعمر) يخالفه الواقع) وقال الفاضل: (وإن كانت تركيا وهي المسلمة لم تتحرك من أجل فلسطين فما ذاك إلا لأننا لا نعرف وحدة إسلامية اليوم ولا ندعو بها). وقال أيضاً: (إن المستعمرين لا يخرجون من البلاد وإن أقرت الأقليات بأنها من صميم الأمة). ثم يختم كتابه إلى بقوله: (ولعل رسالتي تخفف من غلوائك في هذه الدعوة البريطانية)
فأود - قبل كل شيء - أن ألفت نظر الفاضل إلى أنني لم أزعم أن المسيحي السوري أو العراقي مثلاً هب يحمل السلاح للدفاع عن القضية العربية في فلسطين، وإنما قلت إن مسيحي فلسطين يدافعون مع المسلمين ويحاربون عدوهم القوي، وهو واجبهم في الذود عن أرضهم وفي حماية أهليهم. ولعل الفاضل يعلم أن كثيراً من المسيحين العرب وقفوا ألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن فلسطين المجاهدة كالأساتذة الشعراء بشارة الخوري وحليم دموس والشاعر القروي: اللبنانيين؛ والكتّاب أمين الغريب وكرم ملحم كرم ولبيب الرياشي، وهم(324/66)
لبنانيون أيضاً. كما أن في سورية وفي مصر وفي العراق مسيحين عرباً خلصا خدموا القضية الفلسطينية خدمات لا تنكرا لا تجحد
وأحب أن أناقش الفاضل في قوله: (إن تركيا لم تحجم عن مساعدة فلسطين إلا لأننا لا نعرف الوحدة الإسلامية) فهل يريد الفاضل بالوحدة أن تتفق تركيا وإيران الدولتان المسلمتان القويتان مع العرب المسلمين المشتتين في كل صقع والمحكوم أكثرهم من قبل الدول الأجنبية؟ وهل هذا ممكن؟ ثم لنفرض إمكان التحاق المسلمين العرب بهاتين الدولتين أو بإحداهما فهل يقبل العرب وهم كثيرو العدد ووافرو الثقافة أن ينضووا تحت لواء دولة صغيرة؟ ثم هل يقبل الأتراك هذه المحالفة وهم يعرفون قوة العرب ووفرة عددهم؟ وإذا قبلوا أفلا نعتقد أن العرب لا تكون كلمتهم هي العليا في جانب تلك الدول القوية التي تخشى سيادة العرب وحكمها؟ وهل من المنطق أو المعقول أن يكون العرب تبعاً لغيرهم وأين نذهب بقوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم) وقد قال بعض جهابذة المفسرين: المراد بقوله تعالى (منكم) تخصيص الأمة العربية. . .
أما قوله: (إن المستعمرين لا يخرجون من البلاد وإن أقرت الأقلية بأنها من صميم الأمة إلا إذا كانت قوية عزيزة الجانب) فيرده أن الأمة لا تستطيع أن تصل إلى درجة من القوة والمنعة إذا وقف مسلمها في جانب ومسيحيها في جانب آخر
وكنت أحب ألا يفهم الفاضل عكس ما أردته فقد قال: (ولعل رسالتي تخفف من غلوائك في هذه الدعوة البريطانية)
ولو كان الفاضل يعلم أنني كنت ولا أزال بحمد الله من مؤسسي القضايا الدفاعية عن فلسطين المقدسة وأنني نشرت عشرات المقالات وألقيت مئات الخطب في سبيل هذه القضية المشرفة وأنني كدت أسجن مراراً من أجل هذا الواجب، أقول لو علم الفاضل شيئاً من هذا لكتب بلسان العقل لا بوحي العاطفة
فليطمئن الفلسطيني الفاضل وليعلم أننا أشد منه غيرة على الإسلام ولكننا نحكم العقل فنجازي المحسن بما فعل ونقابل المسيء بما قدم.
طرابلس
محمد علي عكاري(324/67)
جيرون وربوة في كتاب هبة الأيام
أورد البديعي في كتابه (هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام) قصيدة للعماد الأصبهاني يجاوب بها أبا الفتح التعاويذي في الصفحة 277 وهي قصيدة طويلة مطلعها:
بأبي معتدل القا ... مة في عطفيه نشوه
ومن أبياتها:
ما تسليني عن دجلة جيرون و (بروه)
هكذا أورده ناشر الكتاب الأستاذ الفاضل محمود مصطفى وعلق عليه بقوله: (لعل جيروناً وبروة اسما نهرين بدمشق). وهذا عدم تحقيق من الأستاذ الفاضل
فإن بروة تحريف ظاهر لا يخفى على أديب باحث في اللغة العربية، ولا يوجد نهر أو موضع بدمشق بهذا الاسم. وإنما هي ربوة وهو متنزه جميل وجنة غناء قرب دمشق. . . قال ياقوت في معجم البلدان: ربوة بضم أوله وفتحه وكسره. إلى أن قال: بدمشق في لحف جبل على فرسخ منها موضع ليس في الدنيا أنزه منه لأنه في لحف جبل تحته سواء نهر بردى وهو مبني على نهر توري وهو مسجد عال جداً وفي رأسه نهر يزيد الخ اهـ. وقيل: إنها دمشق نفسها، ولكن المعروف إلى اليوم هو المكان المنتزه الجميل. وقد تغنى به أمير الشعراء المرحوم شوقي بك في قصيدة: (قم ناد جلق. . .) فقال:
وربوة الواد في لجلباب راقصة ... ألساق كاسية والنحر عريان
والطير تصدح من خلف العيون بها ... وللعيون كما للطير ألحان
وأقبلت بالنبات الأرض مختلفاً ... أفوافه فهو أصباغ وألوان
أما جيرون فقد قيل إنها دمشق نفسها، وقيل إنها حصن بدمشق أو بناء عظيم لبعض الكواكب الخ. قال في معجم البلدان هذا قولهم. والمعروف اليوم أن باباً من أبواب الجامع بدمشق وهو بابه الشرقي يقال له باب جيرون، وفيه فوارة ينزل عليها بدرج كثيرة في حوض من رخام وقبة خشب يعلو ماؤها نحو الرمح الخ
وجاء في الصفحة 280 من القصيدة نفسها
وهو في الشعر وفي العل ... م كحسان وعروه(324/68)
فعلق عليه الأستاذ بقوله: (حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله وأمره مشهور، وعروة من شعراء العرب كثيرون، فمنهم عروة بن حزام ومن شعره قوله في عفراء:
متى تكشفا عني القميص تبينا ... بي الضر من عفراء يا فتيان
إذا تريا لحماً قليلاً وأعظماً ... بلين وقلباً دائم الخفقان
جعلت لعراف اليمامة حكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني. الخ
ومنهم عروة بن الورد الذي يسمى عروة الصعاليك لأنه كان كالرئيس عليهم ويجمعهم ويقوم بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم. مع أن المراد هنا بعروة عروة بن الزبير بن العوام أحد فقهاء المدينة السبعة العالم المشهور، والمحدث الكبير تلميذ خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها المتخرج في مدرستها وهو مشهور غني عن التعريف.
وبيت العماد يقول: وهو في الشعر كحسان، وفي العلم كعروة، وهذا في البديع يا سيدي الأستاذ لف ونشر مرتب. وهذا الذي جعلنا نحمله هذا المحمل، والمعروف أن عروة بن حزام وعروة بن الورد وغيرهما من شعراء العرب لم يشتهر أحدهم بالعلم.
وإن الأستاذ محمود مصطفى ليشكر على مجهوده في هذا الكتاب وعلى إخراجه في هذا الثوب القشيب، وأرجو أن يتقبل مني هذا التعليق بقبول حسن.
إبراهيم يسن القطان
الشطر المسروق
سيدي صاحب الرسالة:
لقد قرأت في العدد (320) من الرسالة الغراء قصيدة الأستاذ (العوضي الوكيل) فأعجبت بما فيها من المعاني الدقيقة والخيالات الرائعة ولكنما استوقف نظري هذا الشطر:
(أواه لو تنفع المحزون أواه)
فرجعت بالذاكرة إلى الماضي فتذكرت أنه مرّ عليّ منذ أربع سنوات في قصيدة للأستاذ (محمود غنيم) في العدد الممتاز من الرسالة من السنة الثالثة ص (591) تحت عنوان (مجد الإسلام - وقفة على طلل) وهاهو ذا البيت بأكمله:
(لي فيك يا ليل آهات أردده ... أواه لو أجدت المحزون أواه)(324/69)
فرأيت الأستاذ (العوضي الوكيل) لم يغير في الشطر غير كلمة (أجدت) وأبدلها بكلمة (تنفع)
محمد إبراهيم شلتوت(324/70)
رسالة النقد
نظرات في كتاب:
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
للأديب خليل أحمد جلو
- 2 -
لا شك أن ما روى الدكتور عن حياة امرئ القيس منسجم مطرد، وهو حجة دامغة معقولة، لو أن ما كتبه (وهو عين ما يدرسه طلاب الصف الثالث الثانوي)، هو كل ما يروى في الكتب ويُستنتج بعد المحاكمة، ولو أنه صحيح ثابت، ولكنه ناقص سقيم حين سمع الناس أن امرئ القيس شخصية خيالية، وحين يعلم أن الرواة اختلفوا في اسمه وكنيته وذريته: فهو حندج وهو قيس، واسم أبيه عمرو واسم أبيه حجر، واسم أمه فاطمة واسم أمه تملك، وكنيته أبو لهب وكنيته أبو الحارث، وأنه لم يكن له ولد ذكر، وأنه يئد بناته جميعاً، وأن له بنتاً يقال لها هند، وأنها لم تكن بنته، وإنما كانت بنت أبيه، وأنه يعرف بالملك الضليل، وانه يعرف بذي القروح.
فكان عليك يا دكتور أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما نستطيع أن تسميه (منسجم مطرد)، وما تستطيع أن تسميه حقاً أو شيئاً يشبه الحق ليجوز لك أن تسلم بوجود امرئ القيس وأن تقول: (إن ما يروى عنه (لم يكن أكذوبة) من أكاذيب القصاص).
أليس جديراً بكتاب يسمى (بعث الشعر الجاهلي) أن يستعرض ما ذكرت، وزيادة عليه مما يشم منه رائحة الأساطير والأكاذيب، ثم يعرض لها بالبحث والتحليل، والاستقراء ولاستنتاج، والتعقل والمحاكمة، لينسج منه المؤلف بحثاً يستطيع بعده أن يقول: قد بعثت امرئ القيس حقاً؟ ولكن الدكتور أغرق في تجنب الآراء المتضاربة والاختلافات المتناقضة، وما جرب أن يشطح وينطح، وابتعد عن كل أناة ونثبت فيما نقض وأبرم. فهو يجحد جحوداً مطلقاً، وينكر بغير حق شأنه في التصديق، ويروي ما يدعم مزاعمه، ويغفل(324/71)
عما يدحضها، وهذه خصال يتبرأ منها الباحث العلمي.
إذا أردت أن أنتهي من نقد طريقته السقيمة في البحث فأسمح لي أن أحدثك يا قارئي عن برهانه على حقيقة نسبة (قفا نبك). وما هو برهانه؟ لا يتجاوز ما يذكره في ص 10 (أن القصيدة رويت في القرن الثاني، وأن كبار الرواة وثقاتهم كالمفضل الضبي وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي أحياء لم يطعنوا فيها). . . يظهر من هذا أن الدكتور مطمئن إلى ما يرويه هؤلاء كل الاطمئنان، ولم ير حاجة في الإطالة، فقد جاء بالبرهان الناصع والدليل القاطع
هل يستطيع الدكتور أن يقول إن كل ما رواه هؤلاء صحيح سالم من التجريح؟
لا شك أن هؤلاء ممن لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية، والعجب أنهم قد كذبوا أيضاً وانتحلوا. فأبو عمرو بن العلاء يعترف بأنه وضع على الأعشى بيتاً هو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ويعترف الأصمعي بشيء من ذلك. ويقول اللاحقي إن سيبويه سأله عن إعمال العرب (فَعِلا) فوضع له هذا البيت:
حذرٌ أموراً لا تضير وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار
وهل من صفة البحاثة العلمي أن يقف جامد العقل إزاء ما يروى عمن عاشوا في القرن الثاني مهما ابتعدوا عن السذاجة وفساد الذمة؟
وإذا سلمنا جدلاً أن القصيدة من ناحية السند صحيحة، أليس يحسن به أن يمتحن صحة متنها؟ إنه لم يتكلف عناء ذلك في جميع ما روى من المعلقات
يا دكتور أن أكاذيب كثيرة حملت على الجاهليين ونسبت أحاديث خرافة لا تحصى إليهم في عهد الإسلام، وأضيفت مقادير وافرة من الأباطيل إلى تاريخ كل شعب وكل جيل، وحاشاك أن تجهل الافتعالات التي يمليها تضارب المصالح والأهواء ويقتضيها تطاحن الأفراد والجماعات، مما يجب ألا نتواطأ عليها بالسكوت والتسليم، فلا تحسب أنك حين نزهت بعض الرواة عن الاختلاق والكذب يحق لك أن تقول بكلام المنتصر الغالب: (إذن لنفرغ لدرس هذه القصيدة (ص 19)، فإن الباحث المنصف من شأنه أن يحتاط ويحترس(324/72)
من كل ما يروي، وليس من الصحيح أن تقول إن فلاناً مشهور بالصدق فيجب أن نأخذ عنه كل شيء على علاته مطمئنين راضين
هل تعرف عن (مدرسة الرأي) التي انتشرت في القرن الأول والثاني للهجرة التي كانت تشترط فيما يؤخذ به حديث شروطاً لا يسلم معها إلا القليل، حتى غالى قوم فرأوا عدم الأخذ بالحديث بتاتاً؟
أليس جديراً بك يا دكتور أن تقف موقف (اللارأيين) الذين شكوا في صحة الأحاديث ولم يكن بينهم وبين قائلها صلى الله عليه وسلم أكثر من قرنين؟ تذكر أنك في القرن الرابع عشر للهجرة، وأن الذي نرويه شعر وليس حديثاً لا يختلقه إلا من عرض نفسه لغضب الله وناره
يقول الدكتور (ص 92) (إني أحاول في هذا الفصل أن أثبت جاهلية المعلقات أو - المطولات السبع - ومتى تم لنا القول بأن هذه القصائد السبع جاهلية حقاً، فإننا نكون قد أنقذنا أمجد صفحات الشعر الجاهلي من الجحود والإنكار. ذلك لأن هذه المطولات أقوى وأجمل وأمتع ما وصل لنا من الشعر الجاهلي على الإطلاق)
إن الدكتور يريد أن يثبت (بالجملة)
هل تعلم ما هو السلاح الذي دافع به عن المعلقات حتى خيل إليه (أن القصائد السبع جاهلية حقاً؟) إنك لا تعلم حتى أقول لك! إنه اقتصر على تبرئة حماد الرواية عن قولها لا غير!
ولكن كيف برّأه ودافع عنه دفاع المحامي المحرج البرهان والدامغ الحجة؟
إنه يقول (ص 93) (إن حماداً يستطيع أن يقول البيت أو الأبيات القليلة من الشعر المبتذل وأن يدسها في شعر أحد الجاهلين ليدل بذلك على أنه أغزر علماً وأصدق رواية من غيره من الرواة، ولكنه لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية) ثم يقول إن شاعرية حماد لا تساعده (على وضع الشعر البليغ وإضافته إلى فحول الشعراء)
لا تطلب مني أن أضايق الرسالة بما يروى عن حماد وبما يؤثر عنه من شعر جيد رصين، وفن في النظم فريد، وشيطنة في الانتحال عجيبة، وتقليد للشعراء يعجز عنه أعظم شاعر فحل؛ ويكفي أن أذكر أهل الكوفة مجمعون على أن أستاذهم في الرواية حماد: عنه أخذوا(324/73)
شعر العرب، وأنه شاعر مجيد يصل من التقليد والمهارة فيه إلى حيث لا يستطيع أحد أن يميز بين ما يروي وينتحل
ويقول المفضل الضبي - والدكتور يثق به كل الثقة - إن حماداً قد افسد الشعر إفساداً لا يصلح بعده أبداً. فلما سئل عن ذلك: ألحن أم أخطأ؟ قال: ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
ويحدثنا عنه محمد بن سلام - والدكتور لا يشك في روايته أيضاً - أنه دخل على بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال له بلال: ما أطرفتني شيئاً؟ فعاد إليه حماد فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة في مديح أبي موسى. قال بلال: ويحك! يمدح الحطيئة أبا موسى ولا أعلم به، وأنا أروي شعر الحطيئة! والرواة أنفسهم يختلفون في قائلها فمنهم من يزعم أن الحطيئة قالها حقاً
وكان يونس بن حبيب يقول: العجب لمن يروي لحماد، كان يكسر ويلحن ويكذب
وثبت كذب حماد الرواية للمهدي فأمر حاجبيه فأعلن في الناس أن يبطل رواية حماد
فهل صحيح يا دكتور ما تقوله من أنك قد (أحصيت ما عرف لحماد من الشعر، على أنه له، أو على أنه محمول على بعض الشعراء الجاهليين أو المخضرمين، فكان كله أربعة وعشرين بيتاً)، وأن حماداً لا يستطيع أن يقول قصيدة واحدة ذات شخصية أدبية وقيمة فنية، وأنه لم يدس في الشعر غير البيت أو الأبيات القلائل؟
وما لنا والإطالة؟ فهل يشك أحد - غير الدكتور مهدي البصير - في أن حماداً كان يسرف في الرواية والتكثر منها، وأن له في ذلك أخباراً لا يكاد يصدقها أحد؟ فلم يكن يسأل عن شيء إلا عرفه! وقد زعم للوليد بن يزيد أنه يستطيع أن يروي على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة لم يعرفهم من الشعراء. قالوا: وامتحنه الوليد حتى ضجر فوكل به من أتم امتحانه ثم أجازه
لا تظنوا مما حدثتكم به أني أريد أو أحاول أن أبدي رأياً في الشعر الجاهلي، وإنما كل ما طمعت فيه أن أبين لكم أن الكتاب الذي بعث الشعر الجاهلي، كما يخيل إلى صاحبه، برئ(324/74)
مما يدعي أو يتخيل، وأنه خال من العمق، وهو سطحي كما يقولون. أو قولوا إنه شرح لمعاني المعلقات على أنها آيات منزلات أكثر منه محاولة لبعث الشعر الجاهلي، وهو قائم على الإبهام والتضليل لمن لم يؤت نصيباً من الأدب، وعلى الغفلة والانخداع. والباحث يخيل للقراء أو قل يخيل إليه أنه قد أحاط بالأدب والأدباء الجاهلين مع أنه لم يحط من ذلك بشيء. وإنما عرف صياغة بعض الجمل، وعلماً عامياً اقتطفه من الكتب اقتطافاً. . وآية ذلك أنه في بحثه الجديد الذي سماه (بعث الشعر الجاهلي) لم يكشف للناس عن شيء جديد في أمر هؤلاء الشعراء الجاهليين وشعرهم، وإنما ظل هؤلاء عند من يشك كما كانوا، بل زادوا شكاً وارتياباً.
هذا النحو من البحث السطحي شر، لأنه قاصر وعقيم، ولأنه لم يأت بالثمرة المطلوبة أو بما يشبهها، ولأنه لا يمت إلى العلم بصلة، ولأنه لا يصلح إلا للمتوسطات من المدارس.
لقد حدثتك عن الوجه الأول والثاني، وقد كدت أن أنسى الوجه الثالث وفيه اقترف المؤلف من الأحكام الخواطئ والتفسيرات السقيمة والآراء الفطيرة ما جعلنا نتذكره ونشعر بضرورة الهداية والإصلاح والجهاد في سبيل الأدب والأدباء.
يشرح الدكتور معنى البيت:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
قائلاً: إن الشاعر (يعلن أنه يعرف ماضي الحياة وحاضرها لأنه رآهما، ولكنه يجهل مستقبلها) (ص 41) وهذا الشرح معقول مقبول لا يختلف فيه اثنان، ولكن مما يدعو إلى النظر والتروي ما يستنتجه الدكتور من قول الشاعر: (ولكنني عن علم ما في غد عم) إذ يزعم (أنه لا يؤمن بالبعث) (ص41). إن هذا الإدعاء باطل؛ فإن الرواة يتحدثون أنه تنبأ بظهور الإسلام وأوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما. وهم يروون له أشعاراً كثيرة فيها أصول دينية. وذكر أبو عبيدة عن قتيبة ابن شبيب بن العوام بن زهير عن آبائه الذين أدركوا بجيراً وكعباً ابني زهير قال: كان أبي من مترهبة العرب وكان يقول: (لولا أن تفندوني لسجدت للذي يحي بعد الموت! قال: ثم إن زهيراً رأى قبل موته بسنة في نومه كأنه رفع إلى السماء حتى كاد يمس السماء بيده ثم انقطعت به الحبال، فدعا بنيه فقال: يا بني، رأيت كذا وكذا وإنه سيكون بعدي أمر يعلو من اتبعه ويفلح، فخذوا بحظكم منه، ثم لم(324/75)
يعش إلا يسيراً حتى هلك فلم يحل الحول حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولنسلم أن هذه الروايات مُفتَعَلة محمولة على زهير ولندعها جانباً، ولنرجع إلى الشاعر نفسه نسأله عن رأيه في البعث فسيقول لنا دون تردد:
فلا تكتمن الله ما في صدوركم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم
فاتق الله يا دكتور في دين الناس، ولا تضلك ظواهر الكلم، فإن الشاعر يريد أن يقول في بيته الذي آخذته عليه:
وما تدري نفس ماذا تكتسب غداً، وأنها لا تعلم الغيب
عفا الله يا دكتور! فلولا أنك كنت تلبس العمة وترتدي القباء وكنت شيخاً في الظاهر والباطن، كما هو معروف عنك قبل أن تقصد باريس، لاتهمناك بنكران الحساب وبرأنا زهيراً! ألست أنت الذي تقول في قصيدة وجدانية قلتها في نهر الليس (ص151)
لا تحسبن لماض ... ولا لآت حسابا
من يدري! لعل الدكتور قد زاغ قلبه حين أحس بجلال طبيعة فرنسا وحين تضاءل جلال الله أمام جلال نهر الليس!؟ سبحانك يا رب!
(يتبع)
الاعظمية
خليل أحمد جلو(324/76)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
غادة الكاميليا
لا يعدو الحقيقة من يقول إن رواية غادة الكاميليا قد أفاد منها المسرح المصري أضعاف ما أفاده من رواية بل من روايات عديدة غيرها، وإن النهضة المسرحية تدين لها بالشيء الكثير. ويمكن أن ينسب جزء كبير من النجاح الذي لاقته فرقة رمسيس إلى هذه الرواية التي فتنت الجماهير ولعبت بألبابهم. وكما كانت (أوديب) الرواية التي جعلت لجورج أبيض شأناً أي شأن؛ وكما كانت (الموت المدني) الرواية التي نال بها عبد الحمن رشدي تقدير الجماهير، كذلك كانت (غادة الكاميليا) الرواية التي بلغت بها فرقة رمسيس أوج المجد، ومهدت الطريق لانتصارات كثيرة بعدها، وإن كان من شأن يوسف وهبي فيها غير ذي خطر إلى جانب السيدة روز اليوسف التي قامت بدور الغادة الفاتنة فوفقت فيه أعظم توفيق ووضعت اسمها به في ثبت الخالدين. إلا أن يوسف استطاع أن يفيد منها كما يفيد الأذكياء من توافه الأمور. وهكذا جعل من دور (أرمان) شيئاً يذكر وبطلاً يشار إليه بالبنان. بيد أن النقاد كانوا له بالمرصاد، وكان لأنفه - أنف يوسف لا أنف أرمان - قصص وحكايات كانت موضع تندر النقاد وسخريتهم على غير طائل، فقد ارتفع شأن فرقة رمسيس أيما ارتفاع، وصار جمهور الخاصة ينظر إلى الفرقة بعين الاعتبار، ويقدر مجهودها ونشاطها، وبذلك أصبح مسرح رمسيس وصالة التدخين التي جعلها يوسف إلى خلف المقاصير منتدى الطبقة الراقية في مصر، ومكان لقياهم المفضل في الليالي الساهرة، وكانت الفرقة تخرج كل أسبوع رواية، وكان لكل يوم من أيام الأسبوع طبقة خاصة أو طائفة خاصة من الناس، كما هو الشأن في بعض دور السينما اليوم.
وهكذا في أسابيع معدودة احتلت فرقة رمسيس مكاناً سامياً وغدا اسمها وأسماء أبطالها على كل لسان.(324/77)
وللتاريخ نضع ثبتاً بأسماء هؤلاء الممثلات والممثلين الذين ارتفع عنهم ستار رمسيس في عام 1923 وهم:
يوسف وهبي - عزيز عيد - حسين رياض - أحمد علام - مختار عثمان - إستفان روستي - أدمون تويما - حسن البارودي - علي هلال - أحمد عسكر - عبد العزيز محبوب - توفيق صادق - صادق عارف - محمد إبراهيم - حسن شلبي
ثم السيدات: روز اليوسف - زينب صدقي - فاطمة رشدي - سرينا إبراهيم - ماري حداد - نعمت كمال
وكان مخرج الفرقة هو عزيز عيد، وحسن شلبي ملقنها. وكان أحمد عسكر أحد الممثلين، بيد انه أصبح بعد قليل الداعي الأكبر للفرقة وصوتها المسموع في كل مكان إذ أحتل من الفرقة المكان الذي يحتله اليوم من الفرقة القومية، وهو جدير بالمكان الذي يشغله ما دام يلتزم حدوده فيه؛ وكان على هلال (ريجسير) الفرقة؛ أما أدمون تويما فلم يكن طوال عمره الممثل الذي يعتمد عليه، بيد أنه كان دائماً البطل الذي يعمل من وراء ستار كما هو شأنه اليوم في الفرقة القومية أيضاً، فلهذا الفنان خبرة تامة بشؤون المسرح وتستطيع أن تضعه في مصاف المخرجين وإن تكن ثقافته ومعارفه ودرايته تفوق بعضهم بكثير.
(للكلام بقية)(324/78)
ملاحظات
البعثات الفنية
من المفارقات العجيبة التي لا تحدث في غير مصر أن اللوم يقع شديداً على الحكومة لأنها تعني أكثر العناية بمبعوثيها ما داموا في بعثاتها فإذا عادوا أهملتهم كل الإهمال ولم تستفد منهم وكأنما أرسلتهم لغير غرض وبلا أدنى تفكير في مصيرهم
بيد أن الفرقة القومية، وصلتها بالحكومة غير بعيدة، قد خالفت هذه القاعدة الذهبية وعنيت بمبعوثيها في الخارج وزادت عنايتها بهم عند عودتهم. على أن أغلبهم لم يذكر يدها عنده وأنكر فضلها وآثر التمرد والعصيان. فمنذ بضعة شهور عاد أحد المبعوثين رافعاً راية العصيان قبل أن يصعد ظهر الباخرة وظل رافعاً الراية الحمراء حتى وصل وحتى استقال أو أقيل ساخطاً متبرماً في غير داع للسخط أو التبرم إلا أنه شعر بضعفه وعدم قدرته على الاضطلاع بالمهمة التي بعث من أجلها. . .
ومنذ أسابيع عاد آخر بعد أن تسلم الراية الحمراء من زميله وأعلن في غير حياء أن مرتبه ضئيل طالباً رفعه ومساواته بكبار المخرجين!
أما الذي عاد آخرهم فقد تذرع بالصمت وراح يعمل أو ينتظر أن يعمل في هدوء راضياً قانعاً بنصيبه المتواضع. وإنها لمعجزة!
ترى هل يعرف المتمردون أنهم يجرمون في حق الفن وفي حق أنفسهم وأن عقابهم يجب أن يكون شديداً؟
إن الفرقة القومية لم تبذل في سبيلهم هذه الآلاف من أجل أن يعودوا فينتقضوا عليها! إنها سرقة علنية، فإما أن يكلف هؤلاء برد الآلاف التي صرفت عليهم، وأما أن يجلدوا أو يسجنوا وفاء لديونهم
اختيار الروايات في الفرقة القومية
تحدثنا في عدد مضى عن السياسة العجيبة التي تسير عليها الفرقة القومية في اختيار الروايات، وذكرنا قصة (جنون الشرف) التي رفضت و (الخطاب) التي قبلت
وقد ضاق المقام عن إيراد بعض الأمثلة التي وعدنا بها القراء الكرام، واليوم نعود إلى مواصلة الكلام(324/79)
ويجرنا الحديث عن اختيار الروايات، إلى الحديث عن لجنة القراءة التي تختار هذه الروايات، أو التي يقولون إنها تختارها.
منذ عامين تقدم الأستاذ حسين عفيف بروايته: (وحيد) إلى الفرقة القومية، وعرضت الرواية على لجنة القراءة فقبلتها وهنأت صاحبها، وقدرت إدارة الفرقة ثمنها وصرفته له.
ثم تبين بعد ذلك أن الرواية لم تعرض على قلم المراقبة بوزارة الداخلية، فأرسلت إليه فرفض إجازة تمثيلها، لأن فيها أموراً تخدش الشرف والعرف العام
ومن العجيب أن يكون هذا رأي موظف في الدرجة الثامنة أو السابعة، على حين أن في لجنة القراءة شيوخاً معممين وعلماء جهابذة، وزعماء في الأدب والفن والأخلاق، ومن العجيب أيضاً أن ينتصر رأي هذا الموظف ولا تمثل الرواية.
ولنا أن نتساءل إذن عن وقع هذه اللطمة على لجنة القراء؟ على أن هذه اللجنة تستأهل ما جرى لها. فقد ترجم بعضهم رواية (البيت المهدم) لأميل فابر، وعرضت على اللجنة فرفضتها. وترجم آخر الرواية بعينها، بيد أنه كان ماكراً خبيثاً فأبدل اسم جورج بمحمد، وغير اسم ماري بزينب؛ أما أسم الرواية فقد جعله (الأفاعي) وزعم إنها من تأليفه
وعرضت الرواية في نفس الوقت على اللجنة الموقرة، فقبلتها ودفعت لصاحبها الثمن، ولم تفطن إلى أن هذه من تلك!
فلما قُرأت الرواية على الممثلين عرفوها وقرعوا أجراس الفضيحة غير نادمين؟
وبعد فقد أدى إهمال اللجنة إلى الخسارة أكثر من مائة جنيه أو يزيد، وفي نفس الوقت كان دليلاً رائعاً على أنها لا تصلح للمهمة التي وكلت إليها! وهل بعد ذلك من دليل؟
(فرعون الصغير)(324/80)
أخبار سينمائية
(جوان بلوندل) زوجة ديك باول وإحدى فاتنات هوليود وبطلة عدة روايات موسيقية ناجحة ومن اظرف رواياتها (الملك والراقصة) التي عرضت منذ عامين في دار سينما ستوديو مصر. وكان يقوم بدور القيادة أمامها الممثل البارع (فرنان جرافيه) بطل (الفالس الكبير)
شارلز لافتون
يظهر أن هذا الممثل الإنجليزي البارع يحب البحر أو أن البحر هو الذي يميل إليه. كانت أول رواياته في هوليود (الشيطان في الأعماق) مع (تالولا بانكهيد) وكان يقوم فيها بدور ضابط بحري في غواصة. وهل يمكن أن ينسى القراء دوره العظيم (كابتن بلاي) في رواية (الثورة على السفينة بونتي) ثم دوره في رواية (سفينة الغضب) وأخيراً فإنه في رواية (خان جاميكا) يعود إلى البحر مرة أخرى!
(بيتي ديفيز) نجمة شركة وارنر وقد سطع نجمها في وقت كان يظن فيه أن حياتها الفنية قد انتهت، وذلك أنها قبلت القيام بالدور المكروه في رواية (الاستعباد) مع لسلي هوارد فنجحت فيه نجاحاً رفعها دفعة واحدة إلى مرتبة النجوم. ثم توالت انتصاراتها من بعد ذلك.
(السيدة عزيزة أمير) كما سنراها في الفلم المصري (بياعة التفاح) الذي سيظهر في الموسم السينمائي الجديد. ومما هو جدير بالذكر أنها أول من ظهرت على الشاشة من الممثلات المصريات، وكان لها فضل إدخال الفن السينمائي في مصر، وهي إلى جانب ذلك ممثلة مسرحية مجيدة
سيجريد كوري
يخرجون الآن شركة يونيفرسال رواية (النساء المنسيات) للنجمة البارعة (سيجريد كوري)
الطفل سابو
يتمرن الآن الطفل سابو على صناعة النشل ليقوم بدوره في رواية (لص بغداد). وقد أمكنه أثناء مدة التمرين أن ينشل بضعة أشياء ثمينة من رجال الأستديو مما دعاهم إلى الثناء عليه. وهذه أول مرة يثنى فيها على فرد لأنه قام بمهمة النشل خير قيام!
(باتريشا موريسون)(324/81)
وقد سطع نجمها فجأة هذا العام ويتوقعون لها صعوداً سريعاً إلى مرتبة النجوم، وهي قريبة الشبه إلى ميرل أوبرن كثيرة التشبه بها. وقد بدءوا يحيكون حولها شبكة من الحكايات والأقاصيص ليملئوا الأفواه باسمها كيما تجري الألسنة بذكرها(324/82)
العدد 325 - بتاريخ: 25 - 09 - 1939(/)
سيجفريد في الأدب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أصبح خط سيجفريد مشهوراً في السنوات الأخيرة، وقد كان معروفاً في الحرب الماضية على غير الوصف الذي اشتهر به الآن، لأنهم كانوا يطلقونه يومئذ على مواقع الجيوش الألمانية خلف (السوم) ما بين كنتان ولاون، ولم يكن فيه حصون ولا أنفاق ولا مكامن كالتي بنوها في هذه السنوات محاكاة لخط (ماجينو) المعروف
وليس للتسمية مصدر من التاريخ ولا من فنون الحرب، وإنما مصدرها كله أساطير وأناشيد وخيال
خرافة شمالية قديمة نقلها الألمان عن أمم (الاسكندناف) ما بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، وجاء (فاجنر) فأدار عليها بعض رواياته الموسيقية ومنها واحدة باسم البطل سيجفريد سليل ملوك البلاد الواطئة وسليل الأرباب العلويين من قبل ذاك
وقد سمى الخط بهذا الاسم لأن نشأة سيجفريد وتربيته كانت بين البلاد الواطئة ووادي الرين حيث يقوم الخط الآن
وهناك مشابه تجمع بين البطل والخط في مجاز الأساطير
فقد كان سيجفريد يملك طيلسان الإخفاء فيلبسه فيصبح في قوة أثنى عشر بطلاً ولا تراه عين الناظر من أبناء الفناء
وكان جلده منيعاً على طعن الحراب والسيوف، لأنه قتل التنين الحارس لذخائر الرين وسبح في دمه فنشأ له جلد خشن سميك في صلابة القرون التي كانت على التنين
وكان له سيف صاغه بيديه من سيف أبيه المكسور، يقصم كل شيء ولا يقصمه شيء من الأشياء
لكن الأسطورة لا تقف عند هذه المشاية بل تعدد صفات أخرى لسيجفريد ليست مما يرتضيه هتلر وتابعوه
فقد كان النحس مظلاً للبطل المحبوب من مولده إلى مماته
مات أبوه قبل ولادته وماتت أمه بعد ولادته بقليل، ورباه قزم بغيض كان هو أول العاقين له المبغضين لمرآه(325/1)
وسبح في دم التنين فلصقت بين كتفيه ورقة من شجر الزيزفون فحالت بين الدم وجلده فبقى موضعها مقتلاً يعرف سره بعض شانئيه. وقد طعنه منافس له في هذا الموضع وهو يميل إلى نبع ليشفي غلته، فقضى عليه!
فهل في خط سيجفريد موضع مثل موضع هذه الورقة؟ وهل يهتدي إليه خصم فينفذ فيه ويقضي على البطل المنيع من كل مكان، إلا من ذلك المكان؟
وهل يلازم النحس هذا الخط كما لازم سميه في الأساطير؟
لقد وصف برناردشو سيجفريد كما مثلته الأساطير وكما مثله (فاجنر) في روايته فقال في كتابه (الفاجنري الكامل):
(كان لا يعرف قانوناً ولا شريعة غير هواه، كان يمقت القزم الدميم الذي رباه، ويتميز من الغيظ كلما تقاضاه حق الوفاء. وكان على الجملة مخلوقاً براء من الأخلاق ومن قيود العرف والآداب) أليست هذه هي النازية بعينها، أو الآرية كما يصفها فلاسفة هتلر المسخرون للأوامر العسكرية؟
أليس سيجفريد الحديث خليقاً بمصير سيجفريد القديم؟
على أننا لا ننسى نصيب سيجفريد من الفكاهة وقد أجملنا نصيبه من القصص والخيال
فالإنجليز يقولون فيما شاع من (قفشات) الحرب أن خط سيجفريد (ارساتز) كسائر ما يصنعه الألمان
وما (ارساتز) هذه يا ترى؟
كلمة تحتاج إلى تفسير في عرفنا الدارج. وأقرب تفسير لها في هذا العرف أنها تقابل كلمة (التقليد) أو الصناعي التي نقصدها حين نقول في معرض التهكم: (هذا إنسان تقليد!). . . أو نقصدها حين نقول في معرض الجد: (هذه زبده صناعية!)
ويروي (قفاشو) الإنجليز والعهدة عليهم أن رجلاً ألمانياً ضاقت به الدنيا فعمد إلى بخع نفسه، واستخف الموت شنقاً فاشترى حبلاً ووضع فيه عنقه وضرب الكرسي الذي يقف عليه بقدر ولكن الحبل كان (ارساتز) فانقطع ولم يصبه شيء
وفكر في السم فذهب إلى صيدلية فاشترى مقداراً من السم يكفي لقتل خمسة وتجرعه مرة واحدة ثم انتظر فإذا هو كأصح ما كان، لأن السم كان أيضاً (ارساتز) فأفاد من حيث أريد(325/2)
به الإضرار، وانقلب إلى نوع من الدواء
واشترى من فرط يأسه رصاصاً فوجده بعد التجربة (ارساتز) لا ينطلق ولا تنقدح فيه نار
قال الرجل: لقد خلقت للحياة إذن، ولم أخلق للموت، وفي العمر بقية لا محالة
ومضى وهو ينوي أن يستمتع بالحياة جهد ما وسعته المتعة من طعام وشراب وسرور
وانحرف في طريقه إلى مطعم كبير فأمر بأصناف كثيرة وصحاف متعددة وأكواب مترعة، ومنادمة مشبعة، وأفرط ما شاء، وهو يحسب أنه قد امتلأ بالغذاء
ولكن ذلك كله كان أيضاً (ارساتز). . .
فمات!
قال القفاشون: وإن بين سيجفريد وماجينو من المشابهة لنظير ما بين زبدة الكيمياء وزبدة البقر والشاء، أو نظير ما بين الجلد (التقليد) والجلد الصحيح، أو نظير ما بين (الضولمة) الكذابة والضولمة الصادقة في لغة الآكلين!
عباس محمود العقاد(325/3)
للتاريخ السياسي
قنبلة سياسية
للدكتور يوسف هيكل
في 22 أغسطس 1939 انفجرت قنبلة سياسية في برلين سمع دويها في جميع أنحاء العالم؛ فهاله الأمر وناله الفزع. ولما لم يكن يعلم ما تحتويه من مواد، أخذ يرجو أن تكون محتوياتها غير مبيدة ولا قتالة، وكانت تلك القنبلة إعلان اتفاق ألمانيا وروسيا على توقيع ميثاق عدم الاعتداء بينهما
فوجئ العالم بهذا النبأ واستغرب وقوعه، لما بين ألمانيا وروسيا من عداء مستحكم، وما لهتلر من مطامع في البلاد السوفيتية كان يعمل على تحقيقها تحت ستار مكافحة الشيوعية. ومما زاد الصدمة شدة وخطورة، انقطاع الأمل في انضمام الروسيا إلى (جبهة السلام) ليتحقق بذلك إيقاف دولتي المحور عند حدهما، ولتتم سلامة دول أوربا من اعتداءاتهما. على أن العالم فوجئ بنتيجة معاكسة للتي كان ينتظرها، فوجئ بانضمام الروسيا إلى ألمانيا تحت ستار ميثاق عدم الاعتداء، فكيف تم هذا الميثاق؟ وما هي محتوياته؟ وما هي الدواعي التي حدت بألمانيا إلى مصافاة عدوتها اللدود روسيا، وما الذي دفع السوفييت إلى مد يد المساعدة لمنشئ (جبهة مكافحة الشيوعية؟) وما هي نتائج هذا الانقلاب الخطير في الحالة الدولية؟
لم تصب الدول الديمقراطية في اتفاق مونيخ الهدف الذي كانت ترمي إليه من تهدئة الخواطر وتحقيق السلام بإنالة الهر هتلر ما دعاء (آخر مطالبه في أوربا). وسبب ذلك سوء نية زعيم ألمانيا، وعزمه على استعمال التهديد والقوة لنيله مطلباً بعد آخر. فالدول الديمقراطية لم تنل السلام في مونيخ، بل سبب لها ذلك الاتفاق مشاكل ومصاعب جساماً، كنا قد نوهنا عنها حينئذ على صفحات (الرسالة) الغراء. وما الميثاق الألماني - الروسي الذي هز أركان العالم وزج بأعظم أممه في حرب ضروس، إلا نتيجة طبيعية لتسامح الدول الديمقراطية في 30 سبتمبر عام 1938. وهذا الميثاق الذي نظر إليه العالم نظرة الدهشة والغرابة لم يكن ابن ساعته، بل كان نتيجة لمفاوضات بين برلين وموسكو بدأت منذ استقالة الرفيق ليتفينوف من وزارة الخارجية الروسية وأدت إلى توقيع الاتفاق الألماني(325/4)
الروسي الاقتصادي في برلين في التاسع عشر من أغسطس هذا العام، ثم إلى توقيع ميثاق عدم الاعتداء الذي نحن بصدده
ولما تم التفاهم والاتفاق بين الدولتين ولم يبق عليهما غير توقيع الوثائق، أعلن النبأ في برلين في 22 أغسطس. وفي صباح اليوم التالي سافر الهر فون ريبنتروب، وزير خارجية ألمانيا إلى موسكو بطريق الجو يصحبه اثنان وثلاثون من كبار الموظفين في وزارة الخارجية الألمانية. وعلى أثر وصوله العاصمة السوفيتية بساعتين اجتمع بالرفيق مولوتوف رئيس وزارة الروسيا ووزير خارجيتها. وفي مساء اليوم نفسه وقع الوزيران ميثاق عدم الاعتداء بين الدولتين، وكان التوقيع بحضور الرفيق ستالين رئيس الدولة السوفييتية. وفي ظهر 24 أغسطس عاد الهر ريبنتروب إلى العاصمة الألمانية.
لم يكن ميثاق موسكو قليل الأهمية، كمواثيق عدم الاعتداء التي اعتادت بعض الدول إبرامها بسهولة والتخلص منها في أي وقت أرادت، كما أنه لم يكن تجديداً لميثاق (رابالو) الذي عقد عام 1922 وتجدد عام 1928 وعام 1923. بل كان ميثاقاً أقرب إلى معاهدة حربية منه إلى ميثاق عدم اعتداء. فبهذا الميثاق ضمنت كل من ألمانيا وروسيا عدم اعتداء إحداهما على الأخرى منفردة أو مشتركة، كما أن ألمانيا أزالت عنها خطر اشتراك الروسيا في أي حركة ترمي إلى تطويقها مباشرة أو بصورة غير مباشرة. وبذلك أزالت ألمانيا مفعول المعاهدة الفرنسية الروسية لعام 1935، تلك المعاهدة التي أثارت ثائر هتلر، ودفعت به إلى عمل ما في وسعه لحمل فرنسا على إلغائها، فلم يوفق حينذاك. وقد تمكنت ألمانيا في هذا الميثاق أيضاً من منع كل مساعدة روسية للدولة التي يكون معها الريح مشتبكاً في حرب، وخصت نفسها بالمساعدة الروسية الواسعة في الحرب وفي السلم. وفي الوقت نفسه هدمت السوفيت جبهة مقاومة الشيوعية، وباعدت ما بين ألمانيا واليابان
ومما هو جدير بالذكر أن الروسيا لم تضمن ميثاق موسكو المادة التي كانت حريصة عليها في المواثيق السابقة، والتي تخولها حق نقض الميثاق عند اعتداء المتعاقد معها على دولة ثالثة
ومن الأكيد أن مباحثات الهر ريبنتروب مع الرفيق مولوتوف لم تكن قاصرة على مضمون ميثاق عدم الاعتداء بل تعدتها إلى تحديد وضعية كل من الدولتين في أوربا وآسيا. وتقول(325/5)
الدوائر السياسية في بعض العواصم إن الدولتين اقتسمتا بولندا، وتعهدت ألمانيا بالتنازل عن مطامعها في التوسع في أكرانيا، كما أن الروسيا تعهدت بالضغط على رومانيا وعلى تركيا لحملهما على الوقوف موقف الحياد حين نشوب الحرب
فميثاق موسكو لم يكن بعامل جديد على توطيد السلام، بل كان عاملاً مشجعاً للهر هتلر على المغامرة في إشعال نيران الحرب، باعتدائه العسكري على بولندا تلك البلاد التي كانت صديقته بالأمس والتي عقدت معه ميثاق عدم الاعتداء لمدة عشر سنوات
إن التقرب بين برلين وموسكو من الأحداث الدولية الخطيرة ولهذا الحادث أسباب هي في برلين تختلف عنها في موسكو. أما العوامل التي دعت الروس إلى قبول فكرة التقرب من ألمانيا فقد ذر قرنها منذ عقد مؤتمر مونيخ في 30 سبتمبر عام 1938
أصرت ألمانيا في أزمة سبتمبر من العام الفائت على إبعاد السوفييت من المجتمع السياسي الأوربي، ورفضت حينئذ الجلوس مع ممثليها رفضاً باتاً، وآثرت فشل المفاوضات وتعقيد حلها على أن تشترك في مؤتمر تكون السوفييت أحد أعضائه ولما رأت بريطانيا وفرنسا أن الهر هتلر جاد في ذلك، وأن إصرارهما على وجوب اشتراك السوفيت في مؤتمر مونيخ قد يؤدي إلى الحرب، رضيتا بالنزول على إرادة دكتاتور ألمانيا، وقبلتا ما طلبه حفظاً للسلام.
رأت الروسيا في تصرف دول مونيخ ضربة لنفوذها السياسي في أوربا، وسبباً في عزلتها، فعز ذلك عليها وأخذت تنتهز الفرص للتعويض عما أضاعه عليها مؤتمر مونيخ من نفوذ وأعوان.
لم يحافظ الهر هتلر على اتفاق مونيخ الذي ما تم إلا لإرضائه، ولم يعمل بتصريحاته الرسمية العديدة القائلة بأن ليس له مطالب إقليمية في أوربا بعد السوديت، بل برهن على أن لا قيمة لتوقيعاته ولا أقواله بضمه بلاد التشك والسلوفاك وميمل إلى الريخ.
عندئذ أيقنت بريطانيا وفرنسا بأن لا فائدة ترجى من سياسة تهدئة الخواطر، إذ أن زعيم ألمانيا يعتبر النيات السليمة والإنسانية ضعفاً، ويتخذ من حسن النية عاملاً مشجعاً على الاعتداء على الدول المجاورة للوصول إلى هدفه في السيادة على أوربا أولاً وعلى العالم أخيراً. أمام هذه النفسية الألمانية التي لا تعرف حداً لمطامعها عزمت بريطانيا وفرنسا على(325/6)
إيقاف العدوان، فأمنتا سلامة بولندا ورومانيا ضد الاعتداء. وكان هذا التأمين واسع المدى حتى أنه ترك لبولندا الحكم فيما إذا كان استقلالها ومصالحها الحيوية في خطر. وعملتا على لإيجاد (جبهة سلام) قوية لا يستطيع العدوان أن يجد أمامها متسعاً. وكانت الغاية من هذه الجبهة المحافظة على السلام والتوكيد لهتلر أن بريطانيا وحليفاتها عازمات على إيقاف اعتداءاته عزماً صحيحاً لا محيد عنه.
ومن الطبيعي أن تفكر بريطانيا وفرنسا في ضم روسيا إلى (جبهة السلام) إذ أن الروسيا حليفة فرنسا، والنازية عدوة الشيوعية اللدود. يضاف إلى ذلك أن روسيا لها مكانتها في أوروبا الشرقية. فبدأت المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا من جهة، والروسيا من جهة أخرى. غير أن هذه المفاوضات تعقدت وطالت لأسباب لا مجال لبحثها هنا. وقد أصرت بولندا على رفض مرور الجيوش الروسية في بلادها حين وقوع الاعتداء عليها والاكتفاء بمساعدة الروس لها بالأدوات الحربية. غير أن السوفييت رأت في رفض بولندا عدم ثقة بها وبجيشها
هذه الأسباب وغيرها أثرت في الحكومة السوفيتية وجعلتها تنشد سلامة بلادها عن طريق غير طريق التحالف مع بريطانيا وفرنسا، أي عن طريق التفاهم مع عدوها اللدود الذي يهدد بلادها ويؤلب عليها الدول تحت لواء (ميثاق مكافحة الشيوعية) وبذلك تكون أيضاً قد خرجت من العزلة الدولية التي فرضها عليها مؤتمر مونيخ، وأزالت خطر مطامع هتلر والتحارب معه
أما من الناحية الألمانية فإن الهر هتلر وجد بريطانيا وفرنسا عازمتين على وقف عدوانه، وأن سياستهما آخذة في النجاح شيئاً فشيئاً. ورأى في جبهتهما جبهة حصار لبلاده، إن تمت بدخول الروسيا فيها حيل بينه وبين ما يطمع من تحقيق مشروعاته في السيطرة على أوربا. . . أمام هذا الخطر، وأمام الصعوبات الداخلية من سياسية واقتصادية، رأى الهر هتلر أن يخرج من المأزق بعمل يزيده ثقة بتحقيق أطماعه من جهة، ويضعف القوى المقاومة لتلك المطامع من جهة ثانية. فتقدم إلى عدوته السوفييت وعرض عليها المصافاة والصداقة. فصادف ذلك هوى في نفسها ولم تتردد في قبول ما عرض عليها. وبذلك تم ما أسموه (ميثاق عدم الاعتداء) بين موسكو وبرلين(325/7)
وكان لهذا الميثاق نتائج هامة غير الحرب التي تدور رحاها الآن في أوربا، في ميادين القتال الثلاثة، البر والبحر والجو
كانت النازية تعتمد في توحيد الصفوف الألمانية وفي إيجاد الحلفاء والأصدقاء على مبدأ (عداء الشيوعية). ولم يخل كتاب هتلر (كفاحي) ولا أية خطبة من خطبه من التنديد بالشيوعية وذكر أخطارها. وكان هذا السلاح الذي استعمله الفور هرر مفيداً ومساعداً له على الوصول إلى ما وصل إليه من توحيد الصفوف في ألمانيا وإيجاد حلفاء وأصدقاء له وقعوا على ميثاق (مكافحة الشيوعية). ولكن تغيير هتلر لاتجاه سياسته الخارجية تغييراً كليا أذهل الشعب الألماني وجعله يرى في تصرفات زعيمه ما يناقض المبادئ التي كان يحمله على الإيمان بها
وكان لتغيير سياسة هتلر الخارجية أسوأ الأثر في اليابان. فاجتاحتها موجة بغض شديد للألمان، كان من نتيجتها استقالة الوزارة في طوكيو وتغير سياسة اليابان الخارجية. وبدأ التقرب بين اليابان وصديقتها القديمة بريطانيا العظمى.
أما في بريطانيا فلم تكن الحكومة والشعب براضيين عما قام به الهر هتلر. وليس ذلك بغريب، لأن للحكومة الإيطالية كرامة عزيزة عليها. وهذه الكرامة تحول بين ألمانيا وبين مرادها في أن تكون إيطاليا أداة لتحقيق مطامعها، حتى على حسابها.
إزاء هذا التأثير السيئ، حاول الهر هتلر إقناع أصدقائه بأن (ميثاق عدم الاعتداء) بين ألمانيا وروسيا لا تأثير له قط على مفعول (ميثاق مكافحة الشيوعية). فكان ذلك مهزلة قبيحة في وسط مأساة مؤلمة.
وكما أن ميثاق موسكو أثر في وضعية ألمانيا الدولية، فقد أثر أيضاً في وضعية الروسيا ومبادئها الشيوعية. من موسكو تتلقى الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى تعاليمها وروحها؛ وكانت هذه الأحزاب آخذه في الانتشار استناداً إلى الصراع المستمر بين الشيوعية والاشتراكية من جهة، والنازية والرأسمالية من جهة ثانية. ولما رأت الأحزاب الشيوعية في الدول المختلفة أن موسكو مصدر الشيوعية قد حالفت أكبر عدو لها داخلتها الريبة في حسن نية السوفيت، وغاض لديها التشيع لها والدعوة إليها. ولعل أبرز مثال لذلك موقف الحزب الشيوعي في فرنسا، وما استهدف له من فقدان نفوذه على الجماعات الفقيرة(325/8)
وطبقات العمال
على أن أهم نتيجة كانت للتقرب بين موسكو وبرلين، هي نشوب الحرب الحالية باعتداء هتلر الجنوني على بولندا واقتحامه لبلادها دون داع ولا مبرر إلا طمعه في بسط سيادته عليها وعلى أوربا أولاً والعالم أخيراً، ذلك الاعتداء الذي قام به زعيم ألمانيا رغم الجهود العديدة الجبارة التي بذلت من كل جانب لصون السلام والإبقاء على المدنية. فما هي تلك الجهود، وماذا كان رد هتلر عليها وما هي الفصول التي مثلتها الدبلوماسية الألمانية لتبرر تعديلها على بولندا؟ هذا ما سنعرضه في مقال آخر.
يوسف هيكل(325/9)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 16 -
كان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام شرع في الرد على الأستاذ أحمد أمين، فقلت في نفسي: يحسن ترك المسائل التي نقدها الدكتور عزام حتى لا يكون في هذه المقالات حديث معاد. وهل كان الغرض من هذه المقالات إيذاء الأستاذ أحمد أمين بالذات حتى نعيد القول فيما نقده الدكتور عزام؟ إن الغرض هو التنبيه على أغلاط الأستاذ أحمد أمين حتى لا يفتن بها من يثقون بكفايته العلمية من طلبة الآداب في مختلف المعاهد العالية، وقد حمل الدكتور عزام بعض تلك الأعباء
كذلك حدثت نفسي حين قرأت ما كتب الدكتور عبد الوهاب عزام في كشف أغلاط الأستاذ أحمد أمين
ولكني رجعت عن هذه النية فيما بعد حن رأيت أن لي مسالك في النقد تغاير مسالك الدكتور عزام وتجعل القراء في أمان من ضجر الحديث المعاد
زعم الأستاذ أحمد أمين أن علماء العرب (رفعوا من قيمة كل شيء جاهلي وغلوا في تقديره: فالماء الحقير في مستنقع جاهلي خير من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا، والجرادتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيراً من كل صوت وكل غناء، ودوسر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعها الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين، وجبلا طيئ خير جبال الدنيا، وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم. حتى الرذائل لا يصح أن يساوي برذيلتهم رذيلة، فليس أبخل من مادر، ولا أشأم من البسوس، ولا أسرف من شظاظ)
أتدرون ما الذي قال الدكتور عزام في نقد هذا الكلام الأجوف؟
قال إنه يقوم على أساس المبالغة والإغراق
وهذا نقد جارح: لأن اتهام أستاذ من أساتذة الجامعة بالمبالغة والإغراق له عواقب سود. وما الذي يبقى لأساتذة الجامعات إذا حرموا مزية التحديد في شرح المقاصد والأغراض؟
وهناك كلمة طواها الدكتور عزام وهي كلمة (الافتراء)، فقد افترى أحمد أمين على علماء(325/10)
العرب حين زعم أنهم لا يرون أن أي يوم من أيام المسلمين يعادل أي يوم من أيام الجاهلية، ونحن نتحداه أن يثبت انه رأى شواهد هذا الرأي في أي مكان من كتب الأدب أو التاريخ. نتحداه، نتحداه، فلينطق إن كان من كلامه على يقين
وهل شغل المؤلفون بتدوين أخبار الحروب في الجاهلية كما شغلوا بتدوين أخبار الغزوات والفتوحات؟
وما هو النص الذي يشهد بأن الماء الحقير في مستنقع جاهلي كان عندهم خيراً من دجلة والفرات والنيل وسائر أنهار الدنيا؟ وما هي العبارة التي تنص على أن جبلي طي كانا عندهم خير جبال الأرض؟
وإذا كانت الجرادتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيراً من كل صوت وكل غناء فكيف استجار أدباء العرب أن يشغلوا أنفسهم بتقييد أخبار الأغاني والمغنين في عصر بني أمية وعهد بني العباس؟
إن أحمد أمين قد يستطيع النهوض من كبواته الكثيرة، ولكنه لن ينهض أبداً من هذه الكبوة. وستظل شاهداً على أنه يكيل الأدب والذوق بمكيال، مع أنه بحكم منصبه مسئول عن إدراك دقائق الفروق بين الألفاظ والمعاني
أترونني أقف عند الحد الذي اكتفى به الدكتور عزام حين قال: إن كلام الأستاذ أحمد أمين في هذه النقطة يقوم على أساس المبالغة والإغراق؟
هيهات، هيهات!!
سأقول إن كلام أحمد أمين صدق في صدق، وسأرجوه أن يتحمل الصدمة برباطة جأش
أفي الحق أن العرب يرون الماء الحقير في مستنقع جاهلي خيراً من دجلة والفرات والنيل؟
وهو كذلك. . .
ولكن ما رأيك إذا صارحتك بأن كلامك هذا هو الحجة عليك. . .؟
ألم تقل بأن العرب لم يحسوا الطبيعة في بلادهم؟
فكيف يصح هذا وكان الرجل منهم يتعلق بما يراه إلى الحد الذي عبته أنت على أولئك الرجال
المسألة تحتمل وجهين: الوجه الأول أن يكون العرب في كلامك هم أهل الجاهلية، والثاني(325/11)
أن يكون العرب في كلامك هم المسلمون
ولا صحة للوجه الثاني لأن العرب بعد الإسلام تغنوا بأنهار مصر والشام والعراق والأندلس غناء يشهد بأنهم فتنوا أشد الفتون بأنهار تلك البلاد حتى صح لعمر بن أبي ربيعه أن يضرب المثل بعذوبة ماء الفرات فيقول:
أسُكَيْن ما ماءُ الفرات وطيبهُ ... منى على ظمأ وَبرد شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما ... يرعى النساء أمانة الغُيّاب
وحسان في جاهليته جعل ماء بردى يصفق بالرحيق. واتفق لبعض المسلمين أن يقول بأن بردى أنزه بقاع الأرض، فكيف يجوز مع هذا أن يحكموا بأن الماء الحقير في المستنقع الجاهلي أعذب من سائر المياه في الأرض؟
واتفق لأحد شعراء الأندلس، وهو ابن خفاجة أن يحكم بأن الأندلس هي جنة الخلد، ولذلك اتهم بالمروق من الدين، فهل يصح في ذهن ابن خفاجة أن تكون المستنقعات الجاهلية أطيب من المياه الأندلسية وهي تجري في رعاية الرياض والبساتين؟
وتحدث النويري والعمري عما عرف العرب من بحار وأنهار وغدران حديثاً يشهد بأن العرب بعد إسلامهم فتنوا بما رأوا من طيبات الوجود كل الفتون
يبقى الوجه الأول وهو أن يكون العرب في كلام أحمد أمين هم أهل الجاهلية
وأعترف بأن الجاهليين فضلوا مياههم على سائر مياه الأرض ولكن هل يدرك أحمد أمين سر هذا التفضيل؟
إن العربي في جاهليته كان يرى ماءه خير المياه، لأن كلمة (ماء) عند أهل الجاهلية ترادف كلمة (الوطن) ومن حق الرجل الكريم أن يرى وطنه خير الأوطان
وأتصدق على الأستاذ الناقد فأقول إن الكتب المؤلفة في (مياه العرب) لم يكن يراد بها وصف تلك المياه من وجهة طبيعية كأن يقال هذا ماء عذب وذاك ماء أجاج، وإنما كان يراد بالحديث عن (مياه العرب) وصف المواطن التي تجمع فيها العرب أيام الجاهلية، فهي دراسة لطبائع السكان في تلك البقاع، وتعريف بقواهم المعاشية
وإذا صح للشاعر الحضري أن يفضل أروند على بغداد فيقول:
وقالت نساء الحي أين ابن أختنا ... ألا خبِّرونا عنه حيّيتُمُ وفدا(325/12)
رعاه ضمان الله هل في بلادكم ... أخو كرم يرعى لذي حسب عهدا
فإن الذي خلفتموه بأرضكم ... فتىً ملأ الأحشاء هجرانه وجدا
أبغدادكم تُنسيه أَرْوَنْد مربعاً ... ألا خاب من يشري ببغداد أروندا
فدتهن نفسي لو سمعن بما أرى ... رمى كل جيدٍ من تنهده عقدا
فقد صح للشاعر البدوي أن يفضل ماء (الوشل) على جميع المياه فيقول:
أقرأ على (الوشل) السلام وقل له ... كل المشارب مذ هُجِرت ذميمُ
سقياً لظلك بالعشيّ وبالضحى ... ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق ... ما في قِلاتك ما حييت لئيم
وهذه الأبيات تبلغ الغاية من المعاني الوطنية، وفيها تتوقد جذوة الصدق
وقد أُغرم العرب بعد الإسلام بتقديس ما عرفوا من المياه والأنهار فزعموا أن النيل ينبع من الجنة، ولهم في ذلك أساطير يعرفها قراء كتب الأدب والتاريخ. وأروند التي ذكرناها آنفاً عرفت الأسطورة التي تقول بأن في جبلها عيناً تتفجر من الفردوس.
وما دخل العرب بلداً إلا رأوه خير البلاد: فمصر عند أهلها أطيب البلاد وهي كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصم الله ظهره. والعراق عند أهله أجمل بقاع الأرض وفي رحابه تنبت عرائس الشعر وتسيطر العيون السود. والشام عند أهله جنة الأرض وفي عرصاته يقوم الناس يوم الحساب. وهضاب فارس كانت في أنفس شعرائها ملاعب الأفئدة والقلوب. وتونس والجزائر ومراكش كانت مركز الجيش المرابط الذي صدَّ الغارات الأوربية حيناً من الزمان
ولو أردنا أن نستقصي أشعار العرب في وصف ما عرف المسلمون من البلاد لجمعنا من ذلك مجلدات ضخاماً تصور غرام العرب بما شهدوا من أطايب الوجود
فمن أين عرف أحمد أمين أن الماء الحقير في مستنقع جاهلي كان عند العرب خيراً من دجلة والفرات والنيل وسائر أنهار الدنيا؟
من أين استسقى مصدر هذا الحكم الخاطئ الأثيم؟
إن أحمد أمين يمزح في مواطن لا يُقبَل فيها المزاح. ولو كان ينتظر أن يتناول الناقدون كلامه وأحكامه بالتجريح والتزييف لأقلع عما تورط فيه من مبالغة وإغراق، فليلق جزاء ما(325/13)
صنع، وكان لنفسه من الظالمين
ثم ماذا؟
ثم نسوق القول في أيام الجاهلية التي ندد بها أحمد أمين
إن أيام الجاهلية كان لها في الواقع صدى رنّان في أسماع العرب بعد الإسلام، وقد شُغِلَ بها كثير من المؤرخين، ولكن هل تدرون لأية غاية شُغِلَ العرب بذلك التاريخ؟
إن وقائع العرب في الجاهلية لها ألوان مختلفات، فبعضها يصور ما كان بين قبائل العرب من نزاع وشقاق قضت بهما منافع المعاش أو مَطالب المجد، وبعضها يصوَّر مغالبة العرب لطغيان الأحباش والفُرس والروم
أما التاريخ الذي يصور ما كان بين القبائل من حروب فكان الحرص عليه يرجع إلى غاية سياسية، ولتلك الغاية صورة هي اشتباك الأورمات العربية في الخصومات حول المناصب الرئيسية بعد أن مكّن لهم الإسلام من نواصي المجد والمعاش، وكذلك كانت القبائل تحيي وقائع الجاهلية لتأخذ منها وقوداً لأتُّون المنازعات حول الرياسة والملك. . . ولا يعاب على أمة أن تحيي ماضيها لتنتفع به في إذكاء العزائم والقلوب
وأما التاريخ الذي يصور وقائع العرب مع الأحباش والفُرس والروم فكانت له غاية قومية، هي تكذيب ما ادعاه الشعوبيون من أن العرب لم تكن لهم ذاتية قبل الإسلام وأنهم لم يذوقوا طعم المجد إلا بفضل الدين الحنيف
وما كان يؤذي العرب أن يعترفوا بنعمة الإسلام عليهم، ولكنهم كانوا يكرهون أن يقال إنهم كانوا في كل عهود الجاهلية أذلاّء
ومن هنا رأيناهم يبدءون ويعيدون في عدّ أيامهم الغُرّ حين أُتيح لأسلافهم أن ينتصروا في بعض المواقع التي نازلوا فيها أعداءهم الأشداء
وهذا يفسَر إكثارهم من الطنطنة في أشعارهم بيوم ذي قار الذي انتصر فيه العرب على الفُرس انتصاراً أشعرهم بما في قلوبهم وعزائمهم من صلابة ومتانة وحيوية. ويوم ذي قار في الجاهلية كان له فضل في إذكاء حمية العرب يوم القادسية، وهو اليوم الذي عرف فيه العرب أنهم قادرون على امتلاك ناصية الشرق.
وقد ظل يوم ذي قار يذكر في الأشعار بعد الإسلام بأجيال طوال، وأظنه سيذكر بعد هذه(325/14)
الأيام، فإن وقائع التاريخ لها رجعات، والأحقاد الدفينة تنشرها الحوادث من زمان إلى زمان
فإن زعم أحمد أمين أن دوسر كتيبة النعمان بن المنذر كانت عند العرب أقوى جيش عرفه التاريخ فليعرف إن شاء أن تلك الكتيبة تستحق ذلك التهويل لأنها كانت نواة الجيش الذي:
به علمتْ صُهْب الأعاجم أنه ... به أعربتْ عن ذات أنفسها العرْبُ
وليس يهمني بعد ذلك أن أنقض قول أحمد أمين إن العرب يرون فضائل الجاهليين خير الفضائل ورذائلهم شر الرذائل، لأن هذا الكلام لا يحتاج إلى نقض فهو أوهى من بيت العنكبوت. ولو صح أن العرب كانوا يرون حاتماً أكرم الناس جميعاً؛ ويعتقدون أن مادراً أبخل الناس جميعاً لما كان في ذلك بأس من الوجهة الذهنية، لأن تجسيم الصفات وتضخيمها من الأمور التي استساغها العُرف في جميع البلاد. وهل يعتقد أحمد أمين حقيقة أن العرب كانوا يريدون القول بأن حاتماً أكرم من جميع الناس في سائر بقاع الأرض، وأن ما دراً أبخل من كان ومن سيكون في المشرق والمغرب؟ ذلك غير معقول
لا يهمني أن أنقض هذا الجانب من كلام أحمد أمين فهو إغراق في التوهم والتخمين، وإنما يهمني أن أشرح مسألة نقدها الدكتور عزام بصورة تغاير الصورة التي عرضها بلطف ورفق مراعاة لمزاج الأستاذ أحمد أمين الذي يتأدب في معاملة الأحياء ويتمرد في محاسبة من أصبحوا في غيابه التاريخ!
إن أحمد أمين حكم بأن العرب في جاهليتهم انتزعوا صور التعبيرات والتشبيهات والمجازات والاستعارات من البيئة التي عاشوا فيها، فما يجوز لنا نحن أن نجاريهم في تشبيهاتهم ومجازاتهم واستعاراتهم لأننا نواجه بيئة غير بيئتهم
وهذا الحكم صحيح، ولكن يجب أن يفهم أحمد أمين الحقيقة الآتية:
في اللغة العربية تعابير كثيرة نشأت في الأصل مصبوغة بالصبغة البدوية، ولكنها صارت على الزمن ميراثاً حلالاً يملكه أبناء العرب من جيل إلى جيل، وقد نُسَي معناها الأول أو كاد بحيث لا يفطن الكاتب أو القارئ إلى أنها منقولة عن صورة بدوية
فالذي يقول: (دون ذلك خرط القتاد) لا يتصور الخرط ولا القتاد حين ينطق بهذا التعبير. والذي يقول: (هذه مشكلة أعقد من ذَنَب الضَّب) لا يتصور العُقَد في ذيل ذلك الحيوان، وإنما يأخذ هذا التعبير قوته من الصورة المرسومة في أذهان من تداولوه على اختلاف(325/15)
الأحوال، وذلك معروف في اللغات الأجنبية ففيها تعابير منسية الأصول وهي تؤدي المراد منها بلا عناء
وهنا يزعم أحمد أمين أن الشاميين والعراقيين لم يروا الضب ولم يعرفوا عنه شيئاً؟
وأعتقد أن الصواب غير ما قال، فالشاميون والعراقيون عرفوا الصحراء وما فيها من ضباب ويرابيع
واستنكر أحمد أمين أن يقول المصريون والعراقيون والشاميون (عيون المها وجيد الغزلان) وتعجب من أن يقول ابن الجهم
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم قال: وأين المها في بغداد أمام عليَّ بن جهم وأين المها في مصر والأندلس؟
وأنا لم أزر الأندلس حتى أقر أو أنكر كلام أحمد أمين، فقد لا يكون فيها غير الظباء الإنسية، وإنما أستطيع أن أحكم بأن أحمد أمين ينكر الواقع المحسوس حين يقول بأن أهل بغداد لا يرون الظباء، فقد رايتها بعيني تباع وتشترى في شارع الرشيد ولا يزال البغداديون يذهبون لصيد الغزال في نواح كثيرة منها سامراء. وعفا الله عن السيد حسين النقيب الذي مناني بالخروج لصيد الغزال ثم اعتذر بشواغل مجلس النواب
ومن تقاليد أهل بغداد أن يربّوا الظباء في دورهم كالذي رأيت في دار الشاعر ناجي القشطيني، أراني الله وجهه الأصبح في خير وعافية!
ومن أطعمة أهل بغداد لحم الغزال، وقد أكلته بشهية في دار ظمياء أعزها الحب!
والبصريون يرون الغزلان حين يشاءون، فمنها أسراب تمرح وتلعب بالقرب من بلدهم الجميل
والشاميون يعرفون الغزلان معرفة أكيدة لأنها تجاورهم في الصحراء الشامية
أم المصريون فهم يعرفون الظباء، وهي كثيرة جداً في الصحراء الغربية، وهم يطاردونها من وقت إلى وقت، وقد حدثنا الأستاذ محمد خالد بأنه اشترك في مطاردة غزال، وتلك إحدى الأعاجيب، فقد كنت أحسبه من طراز الأستاذ أحمد أمين
وكلمة (طراز) تدخل في الموضوع، فهي في الأصل علم الثوب، كما يعبر صاحب القاموس، ثم نسى ذلك الأصل وصار الغرض هو المماثلة في الشمائل والخصال(325/16)
ومن حقنا أن نقول: إن أحمد أمين ينسج على منوال طه حسين في نكران الحقائق
وليس لأحد أن يعترض بأن المنوال لا تراه العيون إلا في قليل من الأحايين، لأننا حين نعبر بمثل هذه العبارة لا نفكر في ثوب ولا منوال، وإنما نسوق التعبير حيث وقع في كلام الأسلاف ونفهم المراد منه بلا عناء
وفي اللغة العربي تعابير لا نكاد نفهم الغرض منها بالتحديد، ولكنها في غاية من الانسياغ
ومن شواهد ذلك ما وقع بين الأستاذ سعد اللبان والدكتور هيكل باشا في مجلس النواب. فقد هجم الأستاذ سعد اللبان على إحدى كليات الجامعة المصرية هجوماً عنيفاً، فقال الدكتور هيكل باشا: هذا كلام يلقى على عواهنه!
ومن المؤكد أن أكثر النواب لم يفهموا المراد بالعواهن، ولكن هذه العبارة وقعت منهم موقع القبول، لأنها خير عبارة تقال في ذلك المقام الدقيق، وهي على عنفها لا تجرح الذوق
واعترض الأستاذ أحمد أمين على قولهم: (فلان يعرف من أين تؤكل الكتف) وعدها عبارة بدوية لا يجوز لحضري أن يدونها في مقال أو ينطق بها في حديث
والظاهر أن الأستاذ أحمد أمين يظن أن أهل الحضر لا يأكلون الحُملان إلا مقطعة بأيدي القصابين فهو لذلك يتوهم أنهم لا يحتاجون إلى الاحتراس عند أكل الكتف
فليعرف (إن شاء) أن الناس لا يزالون يدركون هذه العبارة في أصلها الأصيل، وقد رأيت الرجل البدوي الحضري عبد الستار بك الباسل يداعب أحد ضيوفه بتسليط تيار الكتف عليه، وهو تيار قد يسلَّط مرة على الأستاذ أحمد أمين فيعرف من أين تؤكل الكتف!
من حق أحمد أمين أن يرى الناس جميعاً مقلدين في الأخيلة والتعابير، لأنه من أبعد الناس عن مواجهة الحياة، وأكاد أجزم بأنه لا يساير الحياة الأدبية والفنية والاجتماعية إلا عن طريق القراءة أو السماع، وإلا فمن الذي رآه مرة يشهد رواية سينمائية أو يشهد حفلة من حفلات التمثيل؟
وأعيذكم أن تظنوا أني أتجنى على الأستاذ أحمد أمين، فهذا الرجل على فضله قليل الخبرة بألوان الوجود، وقد تقع منه أحياناً عبارات تضحك الحزين. أليس هو الذي يقترح أن (نميت العَرار ونحيي الزنبق، ونميت الكمأة ونحيي ألمانجو، ونميت القوس ونحيي القنابل، ونميت اُلخرثي ونحيي ما يدل على الموبليا)؟(325/17)
ذلك كلامه بالحرف، وهو يدعو إلى النظر في الألفاظ المتماثلة أو المتقاربة، لنميت القديم ونحيي الجديد، ومن كلامه هذا تفهمون أن (الكمأة) نوع من الفاكهة، بدليل أنه يقابلها بألمانجو!
فهل سمعتم أن الكمأة اسم فاكهة قبل أن يحدثكم بذلك الأستاذ أحمد أمين؟
إن الكمأة معروفة لأهل الشام والعراق، ومعروفة لبعض أهل مصر من الذين يتصلون بالأُسر السورية واللبنانية والفلسطينية. وقد عرفتها في القاهرة قبل أن أعرفها في بغداد، فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يظنها من الفواكه؟ تلك والله إحدى الغرائب!
أما بعد، فقد كنت أرجو أن يترفق الأستاذ أحمد أمين بسمعته الأدبية فلا يعرَّضها لهذه المزالق، وكنت أتمنى أن يكف عن السخرية من ماضي الأمة العربية، ولكنه أراد أن يمضي في العناد وفي اللجاجة إلى آخر الشوط فيزعم أن شعراء العرب وكتابهم لم يعرفوا الثورة على المظالم، ولم يعرفوا تحليل المقاصد والأغراض في الشعر والإنشاء
وذلك كله ظنٌّ وترجيم، وسنحاسبه أشد الحساب، عساه ينتهي عن اللجاجة والعناد
وإني لواثق بأنه يطرب لهذه المباحث التي تكشف له آفاقاً من الحقائق الأدبية، وتعينه على فهم ما خفي عليه من مكانة العرب في التاريخ
(للحديث شجون)
زكي مبارك(325/18)
صفحة من التاريخ المغربي المجهول
تاريخ سلطنة الطلبة
للأستاذ إدريس الكتاني
كان فتى شهياً تأكله العين، قوياً في ميعة الشباب، أرسله الوالد الزعيم من ساحة الثورة والزعامة إلى معهد العلم والثقافة، ليربي الفكر الناشئ، والعقل الطري، ويعلم النفس المستكينة سبيل المجد، وطريق الحياة.
سار الفتى يقطع الفيافي والقفار على متن الأفراس العربية إلى حيث الجامعة المغربية (القرويين) بفاس، ليكون طالباً من طلابها، يسكن إلى مدارسها، ويتعيش من هبات أوقافها، ويغمر فكره بهدي علمائها.
قال الراوي: وكان في المدرسة التي حط الفتى رحله بها شيخ زاهد، قالوا: إنه من الإبدال، فكان يقوم بخدمة طلبة العلم هناك، ويتعيش من فتات موائدهم وفضلات مآكلهم. واتفق ذات يوم أن أقام فريق من الطلبة مأدبة لعموم من بالمدرسة من الطلاب، فكان من الذوق أن يتصدر الشيخ الوقور مائدتهم، كوالد عطوف أو كخادم أمين.
ونصبت موائد الطعام، فكان الشيخ يتوسط واحدةً منها. وعلى فجأة من القوم أرسل الزاهد بَصرهُ، فما حطه إلا على وجه ذلك الفتى الناعم، وهو ما يزال حديث العهد بهذه المعالم، وأرسلها الشيخ نظرات متعاقبة كأنما كانت شعاعاً كشافاً أرسله إلى مجهول من الغيب ليعرف!
قال الراوي: وأخذ الارتياب يداخل نفوس الحاضرين من الطلاب في أمر الشيخ الزاهد، فتراشفوا بنظرات حادة فيها كثير من الكلام، كان الشيخ البريء يصاب منها في الصميم، ثم قطع هذه الحيرة واحد من أولئك كان له في الشيخ وثوق واعتقاد، إذ صاح به قائلاً: هل من نبأ وراء هذه النظرات يا عماه؟ ورفع الشيخ بصره ببطيء يتفرس في هذا الذي قطع عليه إلهاماً كان يتلقاه من السماء. وقال في شيء من التأفف والبغتة: نعم يا ولدي، أُلهمت الساعة أن هذا الطالب سيكون بعد حين ملكاً على المغرب من أقصاه لأقصاه، وسيؤسس دولة لها سلطان وأعوان، ورايات خافقات!. . .
ضج الطلبة وتصايحوا لهذا الخبر المباغت، وتعالت أصواتهم من هنا ومن هناك يصححون(325/19)
النبأ العجيب عن زاهد المدرسة. أما الشيخ فكان يتكلم في هدوء ووداعة مؤمناً بقوله متأكداً منه، كأنما يخبر عن شيء يدرك بالبداهة من غير أن يكون للعقل فيع نقاش، وكان الفتى مأخوذاً بشيء من الدهشة والاستغراب كأنما يحاول ألا يصدق هذا الخبر الذي ما مر له بخاطر من قبل، ولكن نفسه كانت تميل إلى تصديقه مقتنعة بصلاح الشيخ وتقواه، ذاكرةً أنه لا شيء يدعوه إلى اختلاق فرية كهذه. وحدثته نفسه أن يقطع هذا الحديث عن الأفواه، فصاح في الطلبة يقول: إن صدق الشيخ في دعواه، فسأبتني لكم مدرسة تفوق هذه روعةً وجمالاً، وسأغمركم بهبات وعطايا لا ينضب معينها، وسأجعل لكم فوق ذلك سلطنة منكم تقوم دعائمها على كواهلكم في ربيع كل عام، وكأن الفتى النابه أراد بهذا كبح الغيرة التي رأى ملامحها تتسرب إلى نفوس بعض الطلبة، وفي الناس من تركبه الغيرة بمجرد الوهم والخيال.
كان هذا الطالب من أسرة شريفة نبيلة، وردت من الحجاز منذ أمد بعيد، وأقامت في جنوب المغرب ببلاد سجلماسة، وكان يدعى الرشيد بن الشريف بن علي، وأبوه هذا كان له وقتئذ مقام محمود ومنزل محترم بين أهالي البلاد، بفضل انتسابه للبيت النبوي ودعوته المخلصة للإصلاح والإرشاد.
قال الراوي: وجاء الزمن فطوى من التاريخ مراحل، وجعل في الأحوال الاجتماعية مشاكل، ومهد للساسة والعظماء سبلاً وطرائق، ولم يشعر القوم حتى كان الجالس على عرش المغرب، والمسيطر على دولته هو الرشيد، ذلك الفتى الذي كان طالباً في جامعة القرويين وتنبأ له الشيخ الصالح بالملك وهو في مطلع الشباب.
لم ينس السلطان مولاي الرشيد وعداً كان قطعه على نفسه للطلاب، وهو حول مائدة العشاء يوم كان طالباً عادياً لا أقل ولا أكثر. فلقد وفى بوعده خير وفاء، ولم تُنسه مشاغل الملك حياة الجامعة وملاهي الصبا.
فأما المدرسة، فالتاريخ نفسه يؤكد بناءَ الرشيد للمدرسة التي بحي الشراطين، والتي تدعى اليوم بمدرسة الشراطين، وكان الشروع في بنائها عام 1081، إلا أنها لم تتم إلا في عهد أخيه إسماعيل من بعده سنة 1089، وهذه المدرسة - كباقي المدارس الأخرى - كانت في القديم لدراسة العلم وسكنى طلابه في آن معاً، أما اليوم فهي لمأواهم ليس غير.(325/20)
وقد جعل الرشيد لمدرسته هذه طبقات ثلاثاً تشتمل على 232 بيتاً وعلى قبة للصلاة، وكان قد صرف لها عنايته فجاءت آية من آيات الفن المعماري الجميل الذي ورثه المغرب فيما ورث عن الفردوس المفقود.
وأجمعت الأساطير وغير الأساطير على أن الرشيد هو أول من ابتكر (سلطنة الطلبة) بالمغرب وجعلها سنّة قائمة بفاس ومراكش.
فهذه الأطروفة التي قصصناها تستند في النتائج إلى شيء من الحقائق التاريخية، وقد كان حدثني بها واحد من أشياخي الطاعنين في السن قائلاً: إنه رواها عن بعض شيوخه الثقاة، وهي عندي رغم ذلك أسطورة تمت في الأغلب إلى عقلية الشعب وقتئذ بسبب من الأسباب، ولكيلا أكون متجنياً على رواة هذه القصة أو على القصة نفسها أراني مضطراً لأن أبين سخرية التاريخ من حوادثها.
قامت الدولة العلوية المالكة اليوم إثر الدولة السعدية التي تضعضعت أركانها وانحلت عراها بعد وفاة المنصور السعدي وتنازع أولاده من بعده على الملك، وتطاحنهم عليه، وكان طبيعياً أن ينقسم المغرب بين هؤلاء وغيرهم من الزعماء والرؤساء على شكل مقاطعات مستقلة يحكمونها كما شاءوا وكيف شاءوا من غير أن يكونوا مسؤولين أمام سلطان أعلى.
وعلى هذا النحو قصد أهل سلجماسة - قاعدة الصحراء - مولاي الشريف بن علي (والد الرشيد)، وسبق أنه كان لأسرته منزل محترم في قلوب هؤلاء - فطلبوا إليه أن يتولى أمورهم بكل حزم وعزم، وبايعوه ملكاً على الصحراء عام 1041 لكي يتأهب للذب عن بلادهم وصد هجمات المعتدين عليها، وكان الباعث لهم على هذا قيام محمد الحاج الدلائي واستيلاؤه على تادلة وسلا وجبل درن، ووصوله لنهر ملوية حيث امتدت أطماعه إلى بلاد الصحراء، والسلطان عبد الملك بن زيدان بمراكش على لهوه، ورأسه من حوادث البلاد فارغ أو هو كالفارغ، إذ لا مطمح له في القضاء على كل مناوئيه بالقوة وهي منه براء.
والشريف بن علي على هذا يعتبر أول ملوك الدولة العلوية وإليه يرجع انتسابها؛ أما الرشيد فكانت ولادته سنة 1040 أي قبل بيعة أهل الصحراء لوالده بعام فقط، ثم وقعت حوادث بين الشريف بن علي وبين أبي حسون السملالي الذي كان مستولياً على سوس(325/21)
ودرْعة أدت إلى أسر الشريف وبقائه سجيناً بسوس سنة 1045، ولكن سرعان ما بلغ الخبر إلى ولده البطل المقدام محمد، فنهض هذا وتقدم إلى شيعته من أهل سجلماسة يستحثهم على إنقاذ والده والدفاع عن كرامتهم المهانة، ولم يلبث أن جمع جموعاً غفيرة، قادها بعد ذلك إلى معارك كثيرة، كان له النصر في أغلبها، ثم اجتمعت كلمة أهل الصحراء على مبايعته، فبايعوه بسجلماسة سنة 1050.
وحدث في سنة 1069 أن مات الشريف بن علي، وكان ابنه الرشيد يومئذ شاباً متوقداً يبلغ من العمر 29 سنة فخرج هذا من سجلماسة فاراً بنفسه إلى تدغة خوفاً من أخيه محمد الذي أصبح ينظر إليه بعين مرتابة، خشية أن يطمع في السلطان أو يصبح شريكاً له في الأمر. والحق أنه كان في نفس الرشيد ما كان يتوقعه أخوه محمد ويخشاه؛ فمنذ أن خرج الرشيد من حكومة أخيه وهو يجمع الجموع عليه، ويقوم بدعاوة واسعة لنفسه في طول البلاد وعرضها؛ متنقلاً بين الحواضر والبوادي، وأخوه في كل ذلك يراقبه عن كثب لا يستطيع أن يناله بسوء وهو عنه بعيد
فلما أحس الرشيد من نفسه القدرة على الحرب وشعر بتمكن مركزه من الناس، قام في سنة 1075 بأنفاد ودعا لنفسه بها، فاجتمع عليه عرب المعقل وأحلافهم من بني يزناتن وبايعوه ثم دخلوا مدينة وجدة. فلما وصلت هذه الأنباء إلى أخيه محمد توقع الشر منه، فخرج إليه من سجلماسة بمن معه من العرب والبربر وقصده بأنفاد فخرج الرشيد لملاقاته، والتقى الجمعان في حرب شعواء كان محمد أول ضحاياها بعد أن دخلت الهزيمة إلى جيشه. وخرج الرشيد منتصراً من المعركة يحمل جثة أخيه إلى مضجعها الأخير
ثم سار الرشيد إلى سجلماسة فحاصر ابن أخيه محمد تسعة أشهر حتى غلبه عليها، فدخلها ومهد أطرافها، ثم رجع لمدينة تازة. وتطايرت أنباء انتصاراته إلى فاس فتأهب أهلها لقتاله ولكنهم انهزموا أخيراً. وفي عام 1077 زحف إلى فاس فاتحاً ودخلها منتصراً بعد أن فر ولاتها، ثم عقدت له البيعة من رجال الحل والعقد بها
وبدخول الرشيد إلى فاس ومبايعة أهلها له أصبح السلطان الرسمي للبلاد المغربية وكل من عداه من رؤساء المقاطعات المستبدين هم ثوار في اعتبار الشريعة والأعراف. لهذا كان لزاماً على الرشيد أن يتتبع أعقاب الثائرين ويستأصل كل إمارة تريد الاستبداد بمقاطعتها.(325/22)
ولقد فعل الرشيد كل هذا حتى أصبح سيد البلاد المطلق لا ينازعه في سلطانه ثائر أو أمير
ثم بعد أن ساد نفوذ الرشيد في عموم البلاد المغربية باستثناء بعض الشواطئ أخذ يهتم بالإصلاح الداخلي فعمر المساجد وبنى الجسور ومهد الطرق وأسس معاهد العلم وكان إذا دخل بلدة تعاهد جوامعها ومدارسها، وسأل عن مجالس العلم بها وعمن يحضرها، وكان إلى هذا محباً للعلماء مولعاً بمجالستهم، محسناً إليهم يفيض عليهم من عطاياه، ويغمرهم بعطفه وإحسانه، وفي أيامه كثر العلم، واعتز العلماء والأدباء على السواء
وأخيراً، وبعد كل هذا، كان الرشيد بمراكش يشم النسيم في بستان المسرة، وأبت ثقته بقوته إلا أن يركب فرساً جموحاً فطار الفرس به بين الأشجار المتعانقة وإذ بغصن من شجرة نارنج يهشم رأسه فيخر إلى الأرض صريعاً؛ وشاهد الناس مصرع هذا الملك العصامي آسفين في 11 من ذي الحجة سنة 1082، ودفن بمراكش إلى أن نقل منها إلى فاس وأقبر بروضة أبي الحسن علي ابن حرزهم بوصية منه بذلك
(للكلام بقية - فاس)
إدريس الكتاني
ملاحظة: وقع في المقال الأول المنشور في العدد (310) من
الرسالة لفظة (الذعيرة) وهي في اللهجة المغربية بمعنى
الغرامة، وقد فاتني التنبيه عليها وقتذاك.(325/23)
استطلاع صحفي
فن التصوير الجوي
أهم أدوات الحرب الحديثة
(لمندوب الرسالة)
أنبأتنا التلغرافات بأن سلاح الطيران الفرنسي أمكنه أن يصور خريطة دقيقة لخط سيجفريد الأماني. وعلى ضوء هذه الخريطة يصبح من السهل على قيادة الجيش الفرنسي أن تحدد المناطق الضعيفة منه وتعين أماكن الاستحكامات فيه
ولدينا في مصر قسم خاص بالتصوير الجوي أنشئ سنة 1933 يستطيع رجاله أن يؤدوا نفس المهمة التي قام بها زميلهم الفرنسي. وفي هذا المقال يجد القارئ عرضاً عاماً لطرق التصوير الجوي ومدى فائدته في الأعمال العسكرية والمدنية، وما يحتاج إليه من خبرة ودراية.
عملية استكشاف
من النواحي الهامة في سلاح الطيران الحربي قسم التصوير؛ وهو لا يقل خطورة عن قسم المدفعية. فبواسطته يمكن تصوير سطح الأرض وتوضيح ما عليها من مرتفعات ومنخفضات تبين مسالك الأرض وطرقها فيسهل على القوات العسكرية كشف طريقها ومعرفة اتجاهاتها، كما يسهل معرفة إمتدادات خنادق العدو وتعيين مواقع مدافعه ومعداته فيتيسر للقوات الموالية تدمير هذه الاستحكامات وشق طريق للجيوش البرية وهذه العملية إحدى خطوات الاستكشاف في الحرب.
ولهذا كان من أهم التدابير التي تتخذها الحكومات ويقرها القانون الدولي منع الطيران أو التصوير فوق المناطق العسكرية، وأبيح لها حق تفتيش الطائرات التي تخالف هذه القاعدة كما أبيح لها حق إسقاطها بإطلاق النار عليها مما يعتبر عملاً عدائياً في المناطق المدنية.
مران وتضامن
وتختلف أدوات التصوير بالطائرات عنها في الحالات العادية. يضاف إلى ذلك ما تستلزمه(325/24)
من مران وتضامن بين الطيار والمصور. فالتصوير من الجو نوعان: ففي الأول تثبت الآلة في أسفل الطائرة على قواعد خصصت لذلك فإذا أراد الطيار تصوير منطقة معينة يجب عليه أن يطير بسرعة ثابتة وعل ارتفاع ثابت حتى تكون المساحات الظاهرة في الصورة واحدة؛ فمن المعروف أنه كلما بعدت آلة التصوير شغل هذا الجسم مساحة أقل من مساحة الصورة، وبالتالي تزيد مساحة سطح الأرض التي تلتقطها الآلة؛ وعندئذ يتعذر تحديد أبعاد المكان فيظهر على الصورة مساحة كبيرة أو صغيرة تبعاً لارتفاع الطائرة وسرعتها
ويختلف عدد صور شريط تصوير هذه الآلة باختلاف الأغراض المطلوبة منه فأحياناً يكون 25 صورة وأحياناً 50 وأحياناً 125 صورة. ولا يحتاج المصور إلى تكرار الضغط على مفاتيح الصور عند تصوير كل منظر. فإن الآلة تسجل المناظر بطريقة آلية كل مدة من الزمن إلى أن ينتهي شريطها أو يقف المصور الآلة
وطريقة التصوير الجوي الأخرى هي المعروفة بالتصوير الجانبي إذ يمسك المصور بآلته ويلتقط الصور التي يريدها. وفي كلتا الحالتين يحتاج التصوير إلى طيار ماهر حتى لا تهتز الآلة، وغالباً يكون ارتفاع الطائرة مقدار ثلاثة آلاف قدم. وقد يبدو هذا البعد كثيراً على عين آلة التصوير، ولكن عدساتها برغم أنها عدسات عادية وليست مقربة تستطيع التقاط جميع تفاصيل الأرض لدقتها ولخلوها من الفقاعات الهوائية التي قد تفسد وضوح المرئي.
تأثير الضوء
فإذا انتهى المصور من التقاط المناظر التي يريدها هبطت الطائرة إلى الأرض وبدأت عملية ثانية لا تقل دقة عن سابقتها إذ يبدأ العمال بتحميض شريط الصور السالبة. ومن المسائل التي يجب مراعاتها أن يكون هذا التحميض مساوياً لجميع أجزاء الشريط، ثم تبدأ عملية الطبع وهي اكثر دقة من أية عملية أخرى، إذ يجب أن يحافظ العامل في طبع الصور الموجبة على أن تكون كلها من لون أسود واحد، فلا تظهر إحداها ضعيفة اللون والأخرى قوية، حتى إذا جمعت الصور بعضها إلى بعض ظهرت كأنها صورة واحدة.
وتحتاج هذه العملية إلى كثير من الخبرة فتوزيع كمية الضوء على الأرض لا يكون بنسبة(325/25)
واحدة؛ ففي مناطق تكثر الظلال، وفي مناطق أخرى يكون سطح الأرض مكشوفاً لضوء الشمس؛ وهذا يؤثر على تشبع الصورة السلبية بالضوء فيظهر بعضها أسود والآخر أقل سواداً تبعاً لكمية الضوء التي تعرضت لها الصورة والتي لا يستطيع المصور ضبطها
وتجمع الصور الموجبة ويلصق بعضها إلى بعض حيث تكمل الصورة التي تليها حتى إذا تمت المجموعة ظهرت صفحة الأرض واضحة لعدة أميال. وقد تمكن قسم التصوير بسلاح الطيران الجوي المصري من تصوير جميع مناطق القطر المصري فيمكنه أن يقدم لمصالح الحكومة ولأقسامها المختصة صورة أي بلدة فيظهر عليها ما في تلك البلدة من مرتفعات ومنخفضات وما فيها من طرق مائية وبرية أو جسور
تحليل الصور
ويسهل على الأخصائيين في التصوير تحليل الصور كما يسهل على الكيميائيين تحليل المواد. فبعد أن ينتهي المعمل من صنع الصورة فإنها تحلل بأن توضع تحت مجهر خاص يكشف أسرارها فما يرى خطاً ضعيفاً بالعين المجردة قد يكشف عن خندق مسلح وما يظهر نقطة سوداء على الصورة قد يظهر مدفعاً بالتحليل الفني وأمام العين العسكرية والخبرة الحربية
ويتدرب كثير من رجال الطيران على فنون التصوير الجوي ومنهم من يتخصص فيه. ومن الضروري أن يلم كل طيار بمبادئه الأولية حتى يدرك مدى المعونة التي يقدمها للمصور إذا اشتغل أحدهما مع الآخر وحتى يدرك أهمية المناطق التي يمر بها أثناء انتقاله في الجو من جهة إلى أخرى
ولا تقتصر عملية التصوير الجوي على الفوائد العسكرية بل تتعدى إلى الفائدة العلمية؛ فبالتصوير الجوي نستطيع أن نحصل على صورة دقيقة للتعاريج الساحلية أو النهرية وضبط مواقعها ومسافاتها بالضبط. وقد أتيحت لي الفرصة فشاهدت مدينة القاهرة التي التقطها سلاح الطيران لبريطاني فرأيت فيها شوارع المدينة في أتم وضوح كما شاهدت جزر النيل وجسوره وإنحناءاته ظاهرة بكل تفصيل
4000 صورة في صورة(325/26)
وفي آخر مرة زرت فيها قسم التصوير الجوي شاهدت العمال يعدون صورة لفرع رشيد بلغ طولها بعد لصق أجزاء الصور ما لا يقل عن عشرين متراً، كلف التقاطها وطبعها القسم 300 جنيه، إذ تتكون الصورة من 4000 جزء كان التقاطها بمعرفة سلاح الطيران الجوي البريطاني يكلف الحكومة المصرية أربعة آلاف جنيه.
وقد أنشئ قسم التصوير الجوي المصري سنة 1933 فعين فيه ثلاثة أفراد مصريان وصول إنجليزي، ثم ازداد عدد العمال تبعاً لنمو الجيش وحاجة سلاح الطيران. فاقتنى من آلات التصوير وأجهزته أدقها، وعين من الأخصائيين المهرة الذين حذقوا هذا الفن ودرسوه في بعثات أرسلت إلى البلاد الإنجليزية حتى أصبح استعداد القسم ينافس أحسن الأقسام في البلاد الأوربية
ففي استطاعة قسمنا المصري أن ينتهي من عمل خريطة مكونة من 65 صورة في مدة 24 ساعة بأي مقياس مطلوب رغم ما في هذه العملية من صعوبات فنية. وقد أثبت رجال القسم جدارتهم وسرعتهم في مناسبات كثيرة في الحفلات العسكرية الرسمية المختلفة، فأمكن إخراج الصور وتجفيفها ثم إهداؤها للزائرين في مدة نصف ساعة. وعند زيارة سمو الأمير محمد رضا ولي عهد إيران للكلية الحربية قدمت لسموه صور زيارته للكلية قبل أن يغادرها رغم بعد المسافة بين الكلية وبين مطار ألماظة مركز القسم
معامل متنقلة
وأعد القسم عدته حتى لا يقتصر نشاطه على منطقة واحدة، فجهز سيارات خاصة بجميع الأجهزة اللازمة حتى تكون معمل تصوير متنقلاً يستطيع تحميض الصور وطبعها وتكبيرها في أي زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال. وخصص لكل سيارة عمالها كما وزع بعض رجاله في المناطق التي تمس الحاجة العسكرية إلى وجودهم فيها.
فمنذ سنة 1933 وقسم التصوير الجوي يؤدي مهمتين: أولاهما العمل الفني المطلوب، والثانية تعليم الجنود والضباط. فهو من هذه الناحية معمل ومدرسة يقضي فيه الطالب ثمانية أشهر يتلقى فيها جميع الفنون التي يحتاج إليها المصور البارع من نظريات لفهم التصوير وتركيب حوامض التحميض والطبع ثم التكبير وضبط الصور وتحليلها وتأثير(325/27)
الحرارة على الأفلام والأحماض وبهذا المجهود الكبير أمكن لقسمنا المصري أن يسجل لنفسه طريقة جديدة في طبع الصور ذات الألوان المتعددة. وهي طريقة معقدة ولكنها أسهل من الطرق المتبعة في البلاد الأخرى وتحتاج إلى خبرة ودقة كبيرتين، ففي وسع قسم التصوير أن يقدم لك صورة أي منظر طبيعي أو صناعي بألوانه الأصلية مهما تباينت ألوانه. وهو يقدم للصحافيين الأجانب أحسن مناظر مصر الطبيعية بألوانها الأصلية، فأضاف إلى مهمته العسكرية مهمة جديدة هي الدعاية لمصر بتقديم صورة ناطقة عن الحياة وسحر الطبيعة فيها.
فوزي الشتوي(325/28)
كان ما كان!. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
ترى لم تحط هذه الطيوف بمضجعي. . . في هذا الليل الوسنان، فتملأ نفسي حنيناً إلى أيام الطفولة اللاهية، ومرابع العيش الرغيد؟. . . ولم ترقص حولي، قافزة من حفافي السرير، رائعة في حنايا الستور. . . فتدفعني إلى إغماض جفني، أستشف من خلل الهدب الرفاف بالدمع، تلك المغاني الحبيبة، التي فارقتها منذ بعيد. . . فأضحت - يا رحمتا لها - خلاءً، لا البشر يضحك في جنباتها، ولا الأم الرؤوم تناغي فيها الوليد. . .!
لقد رأيت الآن. . . ذلك الطفل الذي درج بالأمس على قبلات الأهل، وبسمات الجيران؛ وتمثلته، وقد نبت بين الفضة الباهية والذهب الرّنان. . . ولمحت أمه تنظر إليه ضاحكة جذلى؛ ترى فيه منية النفس ورغيبة الشباب، ثم أراه. . . يرتع فوق الأرائك مع أخيه، في غرفة واسعة، وقد روّق الليل، وانتشر الظلام، وأرنو إليه يرسّ حديثاً في نفسه، كان قد سمعه من جارته الصغيرة تحت شجرة الليمون في النهار. . . ثم يسمع إلى أبيه يهمس في أذن أمه أن (سأودعه دار الشيخ غداً. . .!)، فلا يفهم الطفل عنه، ولا يحاول الفهم، على الرغم من حبه للاستطلاع، ورغبته في الكلام. . . فقد كان له في كرته الصغيرة، وفي أخيه الحبيب، غني عن السؤال، وغني عن الكلام!. . .
ويتهادى الصبح باسماً كغانية خلوب، فينتشر النور وينقشع الظلام. فإذا كان طفل الغداة، نادى الأب ابنه، ليرافقه إلى البستان. وتسرع الأم فتلبسه الرداء الفاخر والحذاء اللامع. لقد غضب آنئذ، وعلم أن الرداء يمزق فوق الغصون الدوالي. . . وأن الحذاء سيبلى في التراب الأحمر الناعم. ولكن الأب يمسك بيد ابنه ويمضي. . . وقد أطرق الوليد يفكر في الشجيرات التي يجعلها أرجوحة له، والفراشات التي سيطاردها في كل مكان. . . والعصافير التي سيقفز ليقبض عليها. . . فتفلت منه. . . والأزاهير التي يحملها إلى جارته الصغيرة إذا رجع إلى الدار مع المساء. ثم يحدث نفسه عن رفقائه المساكين الذين لم ينعموا بما ينعم به من عيش ليّن ولهو كثير؛ ولا ينسى أن يروّر في نفسه كلاماً يتأبه به عليهم إذا رآهم في الزقاق عند العشاة. ولكن الأب يمضي. . . لا يلتفت إلى ثرثرة الطفل، مسرعاً في مشيه، موفضاً في خطاه؛ والطفل يقفز وراءه كعصفور جذلان، ثم يقصد زقاقاً(325/29)
مظلماً من تلك الأزقة التي تعج فيها رائحة العفن ويتعالى الغبار. . . فينقبض صدر الطفل. . . فقد حدثوه أن الشيخ كامل، وهو مصدر التقوى والعفة والصلاح - كما حدثه أبوه - ومصدر الخبث والشر والفساد - كما حدثه رفيقه - يقطن بهذا الزقاق. فيبكي الطفل بدموع غزَّر ويحاول الفرار، ولكن الأب ممسك بيد ابنه يجره ويدفعه ويغريه باللعب إذا بلغ البستان، وينفحه (بنصف مجيدي) لينقطع عن البكاء. حتى إذا بلغ غاية الزقاق، عرج به فطرق باباً غليظاً. ويقف الطفل، ما يدري لِمَ يجره أبوه وهو الذي يحبه، ولم يدفعه وهو الذي يؤثره على نفسه.! ويفتح الباب شيخ هم، كان كلما تمثله في خاطره بعد ذلك اليوم قف شعر رأسه، وأغمض عينيه من الاشمئزاز: فقد بقى في ذاكرته، أنه كان ذا قامة فارعة، مسنون الوجه أسمره، خفيف العارضين، لم تبق الأيام من لحيته إلا شعرات لا لون لها نبتت هنا وهناك، تقفز وتهتز كلما ضحك أو تكلم. وبقى في ذاكرته أيضاً أنه كان أدرد، إلا من بضعة أسنان ملتوية صفراء تبعثرت في فمه الذي حسبه مغارة الجن ومأوى الشيطان. أما عيناه فكانتا غائرتين صغيرتين. . . يرد الذباب على موقيهما ليرتشف الطيبات، وهو يذكر أيضاً تلك السبحة الطويلة التي علقها في عنقه. . . وحسب حباتها الكبيرة (دحاحل) رفقائه الصغار، وتلك الجبة التي حال لونها وسخف نسجها. ويبادره الأب بالسلام، فيهش الشيخ ويبش، ثم يرحب ويقول: ما شاء الله. . . ما شاء الله. . . ثم يربت على كتف الطفل مردداً كلمات وتعاويذ لم يفهم الطفل لها معنى وإن كانت أطربته فأنصت لها. ويدخل الأب ويتبعه الطفل قائلاً بصوت حزين: (أهنا البستان يا بابا؟) ولكن الأب يحتال عليه ويسلمه للشيخ ليطعمه من نقله المبارك. فيدخل الطفل تتنازعه الرهبة من أبيه والرغبة في نقل الشيخ، ويرى فيما يراه آنئذ غرفة مظلمة سوداء لقي فيها رفقاءه الصغار؛ وقد جلس أحدهم فوق قطعة من الحصير البالي، يردد كلمات أفزعته وأضحكته، منحنياً إلى الأمام وإلى الوراء؛ ووقف ثانٍ يحملق فاغراً فاه؛ وانحنى ثالث يبكي بكاء كعواء الكلاب؛ فتستولي الكآبة على الطفل وينقبض صدره، ويرتد راجعاً ليرى أباه، فإذا بأبيه قد فر، وإذا بالشيخ يلحق به ليرجعه وفي يده بضع (سكرات) يدفعها إلى فمه الصغير. ويجلس الطفل بجانب الشيخ على دكه من القش. لقد جال بصره في هذه الغرفة الحقيرة، فرأى أشياء أنكرها، ولم يكن له بها عهد من قبل: شعر بهذا الظلام الذي يرفرف فوق الغرفة فيجعلها(325/30)
كالقبو الذي تضع فيه أمه ما رث من الأثاث، ورأى هذه العناكب التي امتدت في أعالي الجدران كأنما تريد أن تزّين الغرفة كما تزّين أمه الجدران بأوراق الشجر وأزاهير البستان، ولمس الحصير البالي فأبصر الخشب وقد نخره السوس، وحدق بتلك الخشبة المستديرة المستطيلة كبندقية خاله التي ودّ لو يحملها ليصبح جندياً فأبوا عليه ذلك، فتساءل لم عّلَّقها الشيخ ولم يهدد بها الصبيان؟
عندئذ ضاقت نفس الطفل فانفجر باكياً. . . ويقوم الشيخ ليخفف عن الطفل حزنه. . . ويكفكف دمعه، والصبيان يرمقونه دهشين، يحسدونه على ما يلقى من عطف، وما يظهره الشيخ من لطف، على حين يضربهم ضرباً ويصفعهم صفعاً. . . ولكن الطفل لا يهدأ، بل يزداد بكاءً وصراخاً، شأن الأطفال كلهم، فينادي الشيخ زوجته (الشيخة صفية)، التي علم الطفل أنها تجمع النساء يوماً في الأسبوع، ليقرأن معها (الوردُ)، وينقرن الدفوف، ويهززن الروادف والبطون ابتغاء مرضاة (الشاذلي) وتقرباً من الرسول. . . وما يكاد يراها طفل حتى يتولى عنها؛ فإن تلك الشعرات الطويلة التي تنبت على شفتها العليا، وتدلت فوق فمها الرخو أزعجته، على الرغم من دعائها له، وصلاتها على النبي، وقبلاتها التي اقشعر منها بدنه. . . فيعود إلى غرفة الشيخ يسأله عن أبيه، فإذا يجده يصرخ برفيق له، ثم يدفعه إلى الأرض ثم يعمد إلى تلك الخشبة المستديرة، فيجعل رجلي الطفل بين الحبل والخشب، ويفتل الخشبة مع صبي آخر. . . ويضربه بقضيب من خيزران ضربات موجعات فيصيح الصبي ويستعطف الشيخ، ويقسم لئن تركه ليحفظن الدرس ولكن الشيخ لا يلتفت إليه، فهو لاه عنه بعدّ الضرباتّ. . .
ويرأرئ الدمع في عيني الطفل - شفقة على رفيقه الصغير - فيهب منادياً: (هذا رفيقي. . . ليش تضربه؟)
فيحدق الشيخ في الطفل يوعده بالجزاء، فترعبه نظراته ويلجأ إلى البكاء. . . ويصرخ ويصيح. . . وينادي أمه وأباه، ويضرب وجهه بكفيه والأرض بقدميه، فيحوقل الشيخ ويرجع ويترك الصبي ليرضى الطفل، والطفل يبكي ويصيح. . . فيمضي الشيخ. . . ليأتي (بسكاكره) المحورة، فينقطع الطفل فجاءة عن البكاء. وينظر إلى رفاقه ويقول:
(راح. . . هيّا. . . تعالوا نهرب قبل أن يجئ. . . نغلق الباب. . . ألسنا أقوياء. . .(325/31)
نختبئ في الزقاق. . . قوموا. . . قوموا. . .) ولكن الصبيان الذين ألفوا الذل واعتادوا الضرب، أنكروا ما قاله الطفل. . . فلم ينتظرهم بل تأبط حذاءه. . . وقام يعدو نحو صحن الدار. . . ثم فتح الباب وخرج إلى الزقاق يتنفس الصعداء. . .
ويعود إلى الدار كالقائد الظافر. . . فيستعيذ أبوه من الشيطان عند ما يراه، وتشهق أمه من العجب فتسأله كيف فرّ من الكُتاب! ولكنه يطأطأ رأسه ويسرع فينزع ثيابه. ثم يتسلق خشب العريشة، وينادي ابنة جاره الصغيرة فيسألها:
- أتلعبين بالدحاحل يا حسنا. . . لقد عدت من البستان! أما الأب فيعبس ويثور. وأما الأم فتضحك وتقول:
دعه. . . فإنه صغير
وانغمس في الفراش، وفي العين دمعة، وفي الصدر آهة، وفي النفس آلام
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(325/32)
رد على تعقيب
الجبر والاختيار
للأديب السيد محمد العزاوي
طالعت في البريد الأدبي لعدد الرسالة - 322 - ما تفضل بع عليّ الأديب الفاضل داود حمدان من ملاحظات قيمة على مقالي الأول في الجبرية والاختيار؛ وعنت لي ملاحظات على رده سيتسع صدره لها دون شك، والله المستعان
أما اعتراضه على أن المسلمين لم يقل منهم أحد بأن (الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب) فواضح أن أحداً لم يقل بذلك. وما هو يخاف، ولكني أردت أن أذكر حدي القضية الذهنيين، بغض النظر عن أن الكلاميين تكلموا في الطرف الثاني أو لم يتكلموا. وهذا أسلوب واضح: أن يذكر الكاتب حدي القضية على السواء في ذلك المعقول وغير المعقول الممكن والمستحيل، ما تكلم فيه وما لم يتكلم فيه. ولعله فهم أني أريد أن المتكلمين قد تكلموا في هذا الوجه ما داموا قد تكلموا في الوجه الآخر، ويبدوا أن هذا ما بنى اعتراضه عليه
أما ذهابه إلى أن المسلمين قد أجمعوا على أن الله تعالى عالم بكل ما يحدث قبل حدوثه ففيه نظر؛ إذ قد اختلفت وجهات النظر بين الفرق اختلافاً لم يجعل وجهاً لادعائه بأن فرقة واحدة من القدرية هي التي قالت: (إن الله لا يقدر الأمور أزلاً، ولم يتقدم علمه بها، وإنما يأتنفها علماً حال وقوعها). فقد ذهب إلى ذلكم مفكرون عدة سأذكر بعضاً منهم على سبيل المثال. فالجهم بن صفوان رأس الجهمية قال: (لا يجوز أن (الله) يعلم الشيء قبل خلقه لأنه لو علم ثم خلق أفيبقى علمه على ما كان أو لم يبق؟ فإن بقى فهو جهل: فإن العلم بأن سيوجد غير العلم بأن قد وجد؛ وإن لم يبق فقد تغير، والمتغير مخلوق ليس بقديم. . وإذا ثبت حدوث العلم فليس يخلو إما أن يحدث في ذاته تعالى، وذلك يؤدي إلى تغير في ذاته، وأن يكون محلاً للحوادث، وإما أن يحدث في محل فيكون المحل موصوفاً به لا الباري تعالى فتعين أنه لا محل له. فأثبت علوماً حادثة بعدد المعلومات الموجودة)
وهشام بن الحكم قال بأن (الله سبحانه) لم يزل عالماً بنفسه، ويعلم الأشياء بعد كونها بعلم لا يقال فيه محدث أو قديم لأنه صفة والصفة لا توصف(325/33)
وهشام بن عمرو الفوطي كان يقول بأن الأشياء قبل كونها معدومة ليست أشياء، وهي بعد أن تعدم عن وجود تسمى أشياء ولهذا المعنى كان يمنع القول بأن الله تعالى قد كان لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها فإنها لا تسمى أشياء
فأي هذه الفرق - على قلة ما اخترت منها - يريد أن تكون الفرقة من القدرية؟ الجهمية أو الهشامية أو الفوطية، وغيرها كثير؟ ثم ألا يكفي كل هذا لأن أجعل هذا القول مقابلاً لقول سائر المسلمين، أو على الأقل لأن أدعي أن هذا كان تفكيراً لرجال الدين والمتكلمين؟ أم أن تكفير الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأمة لهذه الفرق يخرج بهذا التكفير عن أن يكون (إسلامياً): إن لم يكن بالمفكرين فيه فلا أقل من أن يكون بالموضوع الذي دار حوله هذا التفكير؟ صحيح أن النزاع في مسألة سبق علم الله بما يحدث أو ائتنافه له علماً حال وقوعه قد اندمج في (النزاع في أنه كما أن للعالم منا علماً هو عرض قائم به زائد عليه حادث، فهل لصانع العالم علم هو صفة أزلية قائمة به زائدة عليه، وكذا جميع الصفات) وتشعب القول بين الفرق في الأمر، وأصبح سبق علم الله أو ائتنافه حدا من الحدود هذه القضية. واختلف القول فيه إلى ما قد فرغت من إيراد بعضه، واتضح منه أن المسلمين لم تجمع كلمتهم على ما أورد الأديب الفاضل. ولنفرض جدلاً بأن طائفة واحدة من القدرية قالت بأن الله لم يتقدم علمه بالأشياء، أليس من العدل أن أذكر ذلك حتى أبين أقصى مدًى بلغته الفكرة، وأوسع عرض حازته هذه الدعوى؟
أما اعتراضه على اشتراك الجهمية والمعتزلة في نفس الصفات عن الله ففيه نظر كذلك؛ فقد طلب الأديب الفاضل أن أفصل قول المعتزلة حتى لا أوهم إنكارهم الصفات إنكاراً غير حميد، ولم يكن المقام مستلزماً أن افصل قول المعتزلة أو غيرهم فإني كنت أود أن أبين اشتراكهم والجهمية في اختصار أتحرز به تهويش ذهن القارئ حتى أستطيع بعد ذلك أن أطلعه على رأى أبي العلاء
على أن الجهمية وافقت المعتزلة في نفس الصفات الأزلية. فنفى جهم أن يكون لله صفات غير ذاته وزاد عليهم (على المعتزلة) بأشياء منها قوله لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقتضي تشبيهاً. فنفى كونه حياً عالماً، وأثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً. . .(325/34)
فنفى الجهمية للصفات ناشئ من أن التشبيه بالمخلوق مستحيل على الله فوجب أن يؤول ما يرد في القرآن بهذا المعنى، ويؤخذ على غير ظاهره. فالحياة والعلم الإلهيين - في رأى الجهمية - ليس حياة وعلماً كحياتنا وعلمنا تحرزاً منهم من التشبيه، فليس نفيه - والحال هذه - (يعطل الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات المقدسة.
ونفي المعتزلة للصفات ناشئ من أنهم لو أثبتوا الصفات، فإما أنها صفات قديمة قائمة به زائدة عليه فيلزم تكثر في الذات، وتعدد في القدماء والواجباتْ، ومن المستحيل تعدد الذوات القديمة. وإما أنها صفات محدثة فهي عرض لذات قديمة والعرض قابل للتغير والزوال، ومحال على الله التغير. فالمتغير مخلوق ليس بقديم. وإن كانت صفات قديمة أزلية، فإما أن تكون خارجة عن الذات فتعدد القدماء (وأنكره الفلاسفة والمعتزلة وزعموا أن صفاته عين ذاته بمعنى أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالماً، والمقدورات قادراً ولصعوبة هذا المقام ذهبت المعتزلة، والفلاسفة إلى نفي الصفات، والكرامية إلى نفي قدمها، والأشاعرة إلى نفي غيريتها وعينيتها)
فالفرقتان كما ترى من المعطلة، قد اتفقتا في النتيجة، وإن اختلفتا في الأسباب. وقد كانت مشاركتهما في هذا الأصل داعياً إلى تلقيب المعتزلة بالجهمية (لا لأنهم وافقوا الجهمية في القدر. . . ولكن لأن المعتزلة وافقوا الجهمية في نفس الصفات عن الله،. . .،. . .، وقد ألف البخاري والإمام أحمد كتابين في الرد على الجهمية وعنيا بهما المعتزلة)
فهل رأيت إلى هذا التشارك الذي حلل أن تدعي المعتزلة بالجهمية؟ ذلك معناه أن الجهمية إن كانت من هذه (الطوائف الملحدة) فأنت مضطر إلى أن تعترف بأن المعتزلة من هذه الطوائف الملحدة كذلك. وهذا ما لا يسلم به الأديب الفاضل، وما لم يقل به أحد
هذا ما أحببت أن أوجه هم الأديب الفاضل إليه، وأرجو أن يتقبله بقبول حسن. على أني قبل كل شيء وبعد كل شيء أشكر له صنيعه هذا شكراً جزيلاً
السيد محمد العزاوي(325/35)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
502 - ولكن لا نستطيع أن نتكلم
في (العقد): قال الرجل لهشام بن الحكم: أنت تزعم أن الله في فضله وكرمه وعدله كلفنا ما لا نطيق، ثم يعذبنا عليه.
قال هشام: قد (والله) فعل ولكن لا نستطيع أن نتكلم
503 - ميمونة الزنجية تطيب بذلك
في (الموشح): قالت امرأة لكثيّر عزة: أأنت كثير عزة؟ قال: نعم. قالت: تبا لك! أتعرّف بامرأة؟! قال: وما يضيرني من ذاك؟ فوالله قد رفع الله بها ذكري، ونشر فيها شعري، وأغزر بحري. قالت: أفلستَ القائل:
فما روضةٌ بالحَزن طيبةُ الثرى ... يمج الندى جَثجاثُها وعرارُها
بأطيب من أردان عزة موهناً ... وقد أُوقدت بالمندل الرطب نارُها
قال: نعم، قالت: فض الله فاك! تالله ما رأيت شاعراً قط أقل عقلاً ولا لأضعف وصفاً منك. أرأيت لو أن ميمونة الزنجية بُخرت بمندل رطب، أما كانت تطيب؟ ألا قلت كما قال سيدك:
ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تَطيَّب
فنصرف كثير وهو يقول:
الحق أبلج لا يُخيلُ سبيله ... والحقُّ يعرفه ذوو الأحلام
504 - ضحكت على لحيته
في (طوق الحمامة) لابن حزم: كان لسعيد بن منذر بن سعيد صاحب الصلاة في جامع قرطبة (أيام الحكم المستنصر بالله) جارية يحبها حباً شديداً، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها فقالت له ساخرة به - وكان عظيم اللحية -: إن لحيتك أستبشع عظمها فإن حذفت منها كان ما ترغبه. فأعمل الجلمين فيها حتى لطفت، ثم دعا بجماعة شهود، وأشهدهم على عتقها ثم خطبها إلى نفسه فلم ترض به. وكان في جملة من حضر أخوه حكم(325/36)
بن منذر فقال لمن حضر: أعرض عليها أني أخطبها أنا، ففعل، فأجابت إليه فتزوجها في ذلك المجلس بعينه، ورضى (سعيد) بهذا العار الفادح على ورعه ونسكه واجتهاده. . .
505 - لا يحتاجون هذا منك
صلى الأعمش في مسجد قوم فأطال بهم الإمام. فلما فرغ قال له: يا هذا، لا تطل صلاتك؛ فإنه يكون خلفك ذو الحاجة والكبير والضعيف
قال الإمام: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)
فقال له الأعمش: أنا رسول الخاشعين إليك، لا يحتاجون إلى هذا منك
506 - فيم تدخل الجنة أذن؟
في (تاريخ بغداد): قال بشير بن الخصاصية: أتيت النبي (صلى الله عليه وسلم) لأبايعه، فقلت: علام تبايعني يا رسول الله؟
فمد يده ثم قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وتصلي الصلوات الخمس المكتوبة لوقتها وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله
فقلت: يا رسول الله، كُلاَّ أطيق إلا اثنتين: أما الزكاة فما لي إلا حمولة أهلي وما يقوون به، وأما الجهاد فإني رجل جبان فأخاف أن تجشع نفسي فأبوه بغضب من الله
فقبض رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يده، ثم قال يا بشير، لا جهاد ولا صدقة، فيم تدخل الجنة إذن؟
قلت: يا رسول الله، أبسط يدك أبايعك، فبايعته عليهن
507 - وبعثنا إليك بك
في (سمط اللآلي): أهدى شاعر نرجساً إلى غادة اسمها نرجس، وكتب مع الهدية:
كنت أبغيك في البسا ... تين شوقاً لرؤيتك
فإذا نرجس ينا ... دي بلفظ كلفظتك
أنا شبه لمن هوي ... ت فخذني لبغيتك
فجنيناك ناضراً ... وبعثنا إليك بك(325/37)
508 - لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ
في (مفاتيح الغيب) للرازي: (أتَدْعون بعلاً، وتذَرون أحسن الخالقين) كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول: لو قيل أتدعون بعلاً، وتدعون أحسن الخالقين، أوهم أنه أحسن لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين. وجوابه أن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ(325/38)
حينما تهجعين يا ملاكي. . .
(نجوى حنين عاودتني بين دخان الغضب والملال!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
حينما تَهجعين في مهدكِ الطا ... هر والسحر متعَب في جفوِنكْ
حينما تُسلِمِينَ قَلبكِ للأحلا ... م والفجرُ ذاهلٌ في سُكونك
حينما تَطَرحين شَعركِ في الدِّيباج ... لحناً مبعثراً من شجونك
حينما تُغمضين عينيك للنَّوْ ... م على جذوةٍ ذكَتْ من حَنينك
حينما يُصبِحُ المِهادُ خميلاً ... في رُبَى الخُلد زهرُه في يمينك
حينما يُسبلُ الإله على وجهك ... ستراً يصُون طهر جبينك
حينما تَسجدُ الملائكُ حوْليك ... حياءً وهيْبةً من فُتونك
حينما تَسْهَرُ الغيوب لترعَى ... صلوات النجوم حوْل عيونك
حينما تَنفضين عنكِ أَسى الدنيا ... وتَنسْين نارها في أنينِك
حينما تُصبحين شَبَّابَةَ الفجر ... وعمري يَطوفُ حول رنينك
حينما تَسبحينَ في كَوْنك العا ... ليِ وروُحيِ مُعلَّق بسفيِنك
حينما يا نَبيَّة الحُبِّ تُغْفين ... وأغدوِ عبادةً في يَقيِنك
لو تَسمَّعتِ خافِقي في دُجَى الليل ... وشكوى جراحه في سكونك
لرأيتِ الغداة طيْراً شَقيَّاً ... أقصتِ الريح عشَّه عن غصونك
شاردٌ في ربُاكِ لا جادَهُ الظلُّ ... ولا جُرحُه ارتوى من معينك
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل(325/39)
أنا. . .
للأستاذ فؤاد بليبل
أنا مَنْ أنا؟. . . يا للَتْعا ... سةِ منْ أنا؟ شَبَحُ الشقاءُ!
بَلْ زَهرةٌ فواَّحةٌ ... عَبَثَتْ بِها أيْدِي القَضاءُ
عِنْدَ الصبَّاح تَفَتَّحَتْ ... وَذَوَتْ وَلَمْ يَأتِ الْمساء
وَطَغَى الْفناءُ على الشَبا ... بِ فَغَالَهُ قَبْل الْفناء
بِاْلأمْسِ كانَتّ مَلَعَب أل ... عصفُورِ في ذاك العَراءُ
يِشفي الْعليلَ أريجُها ... وبَهاؤها يُحْيي الرَّجاءُ
بَسَّامَةٌ لَمْ تدْر ما ... مَعْنَى السآمةِ والْعنَاء
وَاليَوْمَ بَاتَتْ يا لتَعْـ ... س نصيبها! هَدَف الْبَلاء
قد حَوَّلُوا عنها الغَد ... يرَ فلا خريرَ ولا رِواءُ
فَذَوَتْ عَلى أكمامِها ... عَطشاً وَبَعْثَرها الْهَوَاءُ
(دار الأهرام)
فؤاد بليل(325/40)
النهر المتجمد
للأستاذ ميخائيل نعيمة
يا نهر هل نضبَتْ ميا ... هك فانقطتَ عن الخريرْ؟
أم قد هرمتَ وخار عز ... مك فاثنيت عن المسير؟
بالأمس كنت مرنحاً ... بين الحدائق والزهور
تتلو على الدنيا وما ... فيها أحاديث الدهور
بالأمس كنت تسير لا ... تخشى الموانع في الطريق
واليوم قد هبطت علي ... ك سكينة اللحد العميق
بالأمس كنت إذا أتي ... تك باكياً سلَّيتني
واليوم صرتَ إذا أتي ... تك ضاحكاً أبكيتني
بالأمس كنتَ إذا سمع ... ت تنهدي وتوجعي
تبكي، وها أبكي أنا ... وحدي ولا تبكي معي
ما هذه الأكفان؟ أم ... هذي قيود من جليد
قد كبْلتك وذّللتك ... بها يد البرد الشديد؟
ها حولك الصفصاف لا ... ورق عليه ولا جمال
يجثو كئيباً كلما مرّت ... بِهِ رِيحُ الشَّماَلْ
والحورُ يندب فوق رأ ... سك ناثراً أغصانه
لا يسرح الحسّون فيه ... مُرَدّداً ألحانه
تأتيه أسراب من الغر ... بان تنعق في الفضا
فكأنه ترثى شباباً من ... حياتك قد مضى
وكأنها بنعيها عند الص ... باح وفي المساء
جوف يشيّع جسمك الصا ... في إلى دار البقاء
لكن سينصرف الشتا ... وتعود أيام الربيعْ
فتفك جسمك من عقا ... ل مكّنته يد الصقيع
وتكرّ موجتك النقيّ ... ة حرّة نحو البحارْ(325/41)
حُبلى بأسرار الدجى ... سكرى بأنوار النهار
وتعود تبسم إذ يلا ... طف وجهك الصافي النسيمْ
وتعود تسبح في ميا ... هك أنجم الليل البَهيم
والبدر يبسط من سما ... هـ عليك سترا من لجينْ
والشمس تستر بالأزاهر ... منكبيك العاريَيْن
والحور ينسى ما اعتراه ... من المصائب والمِحنْ
ويعود يشمخ أنفه ... ويميس مخضرّ الفَنَنْ
وتعود للصفصاف بع ... د الشيب أيام الشبابْ
فيغرّد الحسون فوق غصونه ... بدل الغراب
قد كان لي يا نهر قل ... ب ضاحك مثل المروجْ
حرٌّ كقلبك فيه أه ... واء وآمال تموج
قد كان يضحى غير ما ... يمسي ولا يشكو المللْ
واليومَ قد جمدت كوج ... هك فيه أمواج الأمل
فتساوتِ الأيام فيه ... صباحها ومساؤها
وتوازنت فيه الحياة ... نعيمها وشقاؤها
سيّان فيه غدا الربيع ... مع الخريف أو الشتاءُ
سيان نوح البائسي ... نِ وضحك أبناء الصفا
نَبَذَتهُ ضوضاء الحيا ... ة فمال عنها وانفرَد
وغدا جماداً لا يحنّ ... ولا يميل إلى أحد
وغدا غريباً بين قو ... مٍ كان قبلاً منهمُ
وغدوتُ بين الناس لغ ... زاً فيه لغز مُبهم
يا نهر، ذا قلبي، أرا ... هـ كما أراك مكبّلا
والفرق أنك سوف تن ... شط من عقالك، وهو لا
ميخائيل نعيمة(325/42)
ابنتي كوثر
للأديب محمود إلهامي
أشهى إلى نفسي وأرضى لها ... إذا تمنت غالياً كوثر
صغيرة لم يسر في طبعها ... لؤم ولم يعلق بها منكر
فتانة الدَّل إذا ضوحكت ... خِلت المنى من ثغرها تنثر
نبع من الإشفاق يروي صدى ... نفس بأنواع الأسى تزخر
وطائر في السمع تغريده ... لا العود يشأوه ولا المزهر
يشدو فيشدو القلب في إثره ... ألحان صفو طيبها يسحر
إن كان لي في العمر من فرحة ... فهي لعمري الفرح الأكبر
كل أمانيها وأحلامها ... عطف إذا داعبتها يغمر
والمال، أغلى المال في زعمها ... من دمُية تلهو بها، أحقر
يا ويح من يشقى به إنه ... بكل خزي سافر يعبر
يحنو عليها وهي في لهوها ... قلب بزخَّار الأسى يقطر
يخشى عليها بعض ما راعه ... من قسوة الدهر وما يستر
والدهر لا يرحم أبناءه ... يا ويل من في صخره يعثر
كم هدَّ من ركن أشم الذرى ... وراح من أُسد الشرى يسخر
يا زينة الدار ولآلائها ... وجنة يجري بها الكوثر
إني لأرجو أن تكوني غداً ... مبينة يزهو بك المنبر
وثابة للمجد لا تنثني ... لا تعرف الختل ولا تغدر
من اللواتي عند ذكر الحجى ... والرأي فالوادي بها يفخر
محمود إلهامي(325/43)
رسالة الفن
دراسات في الفن
خمسة أيام طاهرة
بين الفن والإسكندرية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ليتني ما جئت القاهرة. بل أحمد الله لأني جئت. وأستغفرك اللهم إذ تمنيت غير ما كان من إرادتك. فقد رأيت القاهرة لوثتني ونسيت أنها علمتني، وقد حننت إلى الإسكندرية التي دللتني ونسيت أنها خلبتني. وهأنذا أعيش في القاهرة راضياً، وهاأنت ذا يا رحمن تأذن لنا أن نجتمع بين يديك يوماً أو أياماً كلما شئت فلا تحرمني من الإسكندرية يا رب كما يسرتها لأستاذي أحمد الشايب
يا رب!
عجيبة الإسكندرية! ولست أدري إذا كنت أحبها لأنها بلدي، أو أني لأحبها لأنها الإسكندرية. ولكني أشعر وأومن بأنها أقرب إليك. . .
وشتان ما بينها وبين القاهرة.
عندما يريد أهل الإسكندرية أن يسبوا واحداً منهم أو من غيرهم يعيرونه بأنه (صايع) وهو عندهم من لا يعمل عملاً شريفاً يأكل منه
وعندما يريد أهل القاهرة أن يمدحوا واحداً منهم أو من غيرهم ويعظموه، يصفونه بأنه (وجيه) وينعمون عليه برتبة (البيكوية) من عندهم. والوجيه في القاهرة هو من لا يعمل عملاً مطلقاً ويأكل ويشرب من حيث يعلم الله، و (البيك) فيها هو هذا الوجيه نفسه، أو ذاك الموظف في الحكومة الذي ينفق في الخلاعة مرتبه وزيادة تأتيه من حيث يعلم الله
وأهل الإسكندرية لا يصفون إنساناً بأنه (صايع) ويعدلون بهذا الوصف عن الحق إلا إذا تهاجموا، وفي التهاجي عداوة، والعداوة نكد، والنكد ضرر، فالعدول عن الحق في الإسكندرية ضرر فيه شر
وأهل القاهرة قد يصدقون حين يصفون إنساناً بأنه (وجيه أو بيك)، ولكنهم غالباً ما يصفون(325/44)
بهذين الوصفين أناساً ليسوا أهلاً لهما فيعدلون بذلك عن الحق، ويصيبهم من هذا رضاء موصوفيهم، وعندما يرضى الإنسان يجود على الذي أرضاه ووصفه بغير الحق، فالعدول عن الحق في القاهرة نفع فيه خير
والذي يتجول في أحياء الإسكندرية لا في القاهرة المصطافة المتهتكة عند الشاطئ، لا يفتأ يسمع كلمة (صايع) تُردد مع خطاه. فالخلاف على الرزق في الإسكندرية كثير بحكم أنها بلد صيد وبيع وشراء وكفاح، ولكن هذا الخلاف صريح مكشوف لأنه نما وترعرع مع الأجيال، والخلاف لا يمكن أن ينمو وأن يتضخم وأن يظل مع نموه وتضخمه مكتوماً مستوراً، فإذا انكشف لم يكن غير معركة، والناس لا يستطيعون أن يتعاركوا ليلاً ونهاراً، فهم يعدلون عن العراك أحياناً إلى السب والتعبير، فإذا كثر سبهم بوصف من الأوصاف، كان ذلك دليلاً على أن هذا الوصف هو أبلغ السب عندهم، وأبلغ السب يكون بنعت المشتوم بأقبح النعوت في رأي الجمهور وأكره ما يكرهون، (فالصياعة) أذاً هي أكره ما يكره أهل الإسكندرية وضدها هو أحب ما يحبونه، وهو أن يكون الإنسان عاملاً
والعمل في الإسكندرية بطولة. لأن الناس محتاجون إليه فهم يقظون، عيونهم مفتحة، متصارعون عليه في لهفة واستماتة وإجادة، فإنه إذا لم يكن العامل قوياً خر في الميدان. وهذه البطولة لها قيود كان لا بد منها لأمان المجتمع، فإنها لو تحررت يسعى إليها كل إنسان بطريقته هو فاستباح بعض الناس الحرام، وأكلوا جهود غيرهم. وكل مجتمع تكونه الطبيعة يصنع قوانينه وقيوده بنفسه لأنها من أسباب حياته، ويحرص كل الحرص على صيانتها، ويثور كل الثورة على من يهم بخدشها. وقيود البطولة في الإسكندرية هي القوة الصريحة في العمل الجد.
فإذا انحدرنا إلى القاهرة سمعنا رتبة (البيك)، والوصف بالوجاهة ينعم بهما على كل من هب ودب حتى نحن. ومعنى هذا أن أهل القاهرة جميعاً يحبون أن يكونوا (بكوات) ووجهاء هكذا ويأكلون ويشربون من حيث يعلم الله ولا يعلم الناس.
وهم في هذا كما يكره أهل الإسكندرية أن يكون الواحد منهم هكذا
وهذه حال تستلزم أن نتنزع لها من الطبيعة قوانين تصونها، كما أنها تستلزم أن يكافح الجموع من أجلها، وأن يقاوم الخارج عليها الذي يهم بخدشها، والقانون الذي تلتزمه(325/45)
الطبيعة في هذه الحال هو قانون (الستر) ما دام الناس لا يريدون أن يعلم غير الله من أين يأكلون ويشربون. و (الستر)، و (التستر)، و (الستائر) جميعاً تخفي وراءها ما لا يعلمه أيضاً إلا الله. وقد يعلم الناس منه الكذب والغش.
وأهل القاهرة يسترون هذا التلوث الخلقي لأنهم يسترون كل شيء، حتى أنفسهم يسترونها عن عيونهم.
فالكذب إذا حدث في الإسكندرية حاربه أهلها، وإذا كان في القاهرة حاباه أهلها. وهكذا يسري الكذب في القاهرة حتى يتغلغل في حياتها إلى أن يركب الفن. . . الفن العطية من الله. إذا ادعاها في الإسكندرية مدع قتلته الإسكندرية، فإذا ادعاها في القاهرة مدع سترته القاهرة
وقد يصبر أهل الإسكندرية على مدع في غير الفن، ولكن هذا الذي يتلف عليهم الوقت الذي يطلبون فيه متعتهم الروحية التي يشترونها بدمائهم ويكدحون طول النهار لها، هذا المدعي يضربه أهل الإسكندرية ضرباً بالأيدي وبالأرجل وبالكراسي وبالزجاجات الفارغة وهم يصيحون: (هاتوا فلوسنا)!
ومع هذا العنف في طلب الحق فإن في أهل الإسكندرية عيباً عجيباً هو أنهم يلينون لكل ما يجيء من القاهرة سواء أكان فناً أم غير فن، لا يفتحون عيونهم عليه، ولا يحاولون التفرس فيه وانتقاده، لا لشيء إلا أنه من العاصمة وأنهم لا يظنون بالعاصمة إلا خيراً، فلا يمكن أن يتصوروها أقل منهم فراسة وصدق نظر! وإلا فلماذا كانت القاهرة العاصمة؟ ليس من شك في أن الله جزى القاهرة ستراً بستر، إذ خيل لأهل الإسكندرية أنها ما استحقت أن تكون العاصمة إلا لأنها جديرة بأن تكونها. . ولولا هذه العقيدة لزحفت الإسكندرية على القاهرة. . .
صحيح! هذا هو إحساس الإسكندرية وتفكيرها، فهذه الثقة المتعامية بالقاهرة هي وحدها التي تروج بضائعها في الإسكندرية ومنها الفن. فإن لم يكن هذا فكيف ذاق سيد درويش الويل في الإسكندرية حتى اعترفت به، وكيف هللت الإسكندرية وكبرت للأستاذ عبد اللطيف ألبنا عندما استجلبه لها متعهدو الحفلات من القاهرة؟. . . القاهرة العاصمة!
والفن عند أهل الإسكندرية قد يسرع إلى أن يكون حرفة لأنه موهبة، والمواهب عند(325/46)
العاملين رأس مال. ولا يمكن أن يحترف الفن في الإسكندرية إلا الفنان الصادق، ومتى ظهر صدقه في فنه وتمكنه منه، أقبل عليه الناس وشجعوه، ولكن إلى أن يظهر هذا الصدق، ويجوز رضاء أهل الإسكندرية، ثم يكون له بعد ذلك تعصبهم البلدي يذوق فنان الإسكندرية الأمرين من نقدهم القاسي الصريح الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بعزم من فولاذ، وأكثر الناس تعرضاً لهذا النقد وهذا التهشيم هم أصحاب الفنون الجميلة، التي لا يأكلها الناس ولا يشربونها، فإذا لم تكن فنونهم إلهاماً من الله يهبط على الجمهور من خلال أرواحهم، فإن كل ما فيه من صنعة يتعرض للنقد، والصنعة ينفسح المجال في نقدها للعالمين والجاهلين، ما دام الأمر في النقد راجعاً إلى المنطق والحجج والبراهين والكلام، وما دام الأمر في هذا كله راجعاً إلى وجهات النظر الفردية. . . على العكس من إلهام الله وهو الحق الذي لا مراء فيه. والفن الملهم هو باعث الحق في الحس، والناس إذا أحسوا الحق لم ينكروه إلا كما ينكر المحروق شيّ النار.
ومع أن الفن الملهم هذا قد يسرع إلى أن يكون حرفة في الإسكندرية لإسراع الناس فيها إلى العمل والإنتاج بحكم الحاجة، فإنه لم يكن إلى اليوم فيها تجارة مثلما أصبح في القاهرة على أيدي إخواننا السوريين الذين تأصلت فيهم طبيعة التجارة منذ كان أجدادهم الفينيقيون يحملون لواءها في العالم القديم ووجدوا في القاهرة المتسترة ميدانهم. . . فأهل الإسكندرية صيادون يبيعون ما يجود الله به عليهم من سمك أو فن، ولكنهم لا يستطيعون تلفيق السمك ولا يستطيعون تلفيق الفن، كما أنهم لا يعرفون الإعلان عما عندهم إلا بعرضه، كما أنهم لا يوقتون مواسمه ولا ينظمونه، فالطبيعة هي التي توقته لهم وتنوعه، فأيام الصفاء لها سمك ولها فن، وأيام النوء لها سمك آخر ولها فن آخر. وما أكثر تقلبات البحر الذي يجود بالسمك! وما أكثر تقلبات الحياة التي تجود بالفن! وما أكثر تلون الصروف التي تجود بما بين السمك والفن. . .
أما القاهرة فكان من نتائج الاتجار بالفن فيها أن أصبح له أسواق منها شارع عماد الدين، كما أن للخردوات فيها أسواقاً منها شارع الموسكي. والأسواقيتسلل إليها السماسرة، ومتى دخل السماسرة دخل الزيف والبهرج اللذان لا صلة لهما بالفن وإن كانت لهما صلة بما هو دونه(325/47)
هذا هو ما يختص بظهور الفن في كل من الإسكندرية والقاهرة. . . فما هي طبيعة فن الإسكندرية، وما هي طبيعة فن القاهرة؟
طبع الفن في الإسكندرية يشبه طبعها، وطبع الفن في القاهرة يشبه طبعها، وأصدق الفن في الإسكندرية ما كان صدقاً، وأصدق الفن في القاهرة ما كان غشاً وكذباً!
الإسكندرية تعاشر البحر في كنف الصحراء. . . وكل منهما مكشوف. وفيها منهما. والقاهرة يحتضنها جبل أغبر ليته ما كان فانطلقت صحراوية خالصة، وانكشف عنها هذا الرجم الثقيل الجاثم على صدرها وعينيها. . . فربما كانت تسمع وترى وتعي!. . .
لقد طبع البحر الإسكندرية وأهلها وفنها. فالأدب فيها نقد عنيف قاس يشبه أن يكون إعصار، فإذا رق فهو إخلاص البحر واستسلامه على جبروته وعظمته، والموسيقى فيها صفاء وصدق ما هدأت أو ثارت. والرسم فيها هو هذه الصور التي تعرض البحر وطيره وسمكه، والصيد ومراكبه ورجاله، وهي التي نرى فيها من نشاط الإسكندرية وتوثبها ما يميزها من غيرها. . .
وفن الإسكندرية فيه من روح أوربا أنقاها لا البراق الباطل منها، وذلك لاختلاط المصريين فيها بالأجانب اختلاطاً لا يشبه اختلاطهم بهم في القاهرة، فالأجانب في القاهرة يكادون يعيشون في أحياء خاصة، فيها بيوتهم ومتاجرهم وملاهيهم، أما في الإسكندرية فهم منبثون في أنحائها جميعاً يتخللون الوطنيين، ويعاشرونهم كأنهم منهم، وقد لا يشعر الأجنبي في الإسكندرية بالغربة، كما أن الوطني لا يشعر فيها بغرابة الأجنبي، وهذا راجع إلى أن الإسكندرية تصبغ سكانها جميعاً بصبغتها، وأنها تعدهم جميعاً لنوع واحد من الحياة يتعاون فيه سكانها. وقد يعجب القارئ إذا قلت له إني سمعت روميا يلعن روميا آخر ويلعن الباخرة التي قذفت به في بر مصر، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من وطني يغار على بلده ولا يريد أن ينهال عليها إلا من هو جدير بالحياة فيها، ولا يحابي في هذا من كان من وطنه الأول أو من كان من أهل البلاد نفسها. والأجانب في الإسكندرية كثيرون، وهم كما يعطونها أرواحهم يعطونها تفكيرهم، وإحساسهم، فيأخذ عنهم الوطنيون ألواناً من أساليب العرض الفني، كما يتعلمون منهم أشياء رقت بهم على المصريين وجودت فنونهم
هذا هو فن الإسكندرية(325/48)
وأما فن القاهرة فأستره إرضاء للقاهرة.
عزيز أحمد فهمي(325/49)
رسالة العلم
فَلْنَسْتَمر
خواطر الحرب - صوت العلم بين صليل السيوف ودوي المدافع - إستكناه الذرة وقضية الإلكترونات - جحافل العلم في ميدان التجارب - قصة مليكان - إذا عمت السكينة.
للدكتور محمد محمود غالي
كنا نتابع قصة الخليقة ونذكر عمل الإنسان، ونستعرض الخطوات الكبرى التي تمت في السنوات الخمسين الأخيرة، وبدأنا هذا العمل في يناير الماضي بدء العام السابع للرسالة، وما نعد أنفسنا إلا في منتصف الطريق، مهمتنا أن نعرض على القارئ صوراً من المراحل المختلفة التي بلغتها العلوم، تلك المراحل التي فتحت مجال الذهن وفتقت حواشيه وحولت التفاتاته إلى الناحية التي جعلت من الإنسان على مرَّ الأيام أنموذجاً أرقى ومثالاً أكمل. وقد تابع مقالاتنا هذه عدد غفير من القراء ما زالت تردنا رسائلهم من كل صوب.
وبينما نحن نتابع عملنا إذا بالعالم يُفاجأ بما يُغير مسرى الحياة الفكرية فيه، ويحولها من طريقها إلى آخر تكتنفه الآلام والمصائب، فمن اطمئنان وسلام، إلى حرب واصطدام، أكثر ما يُروَّعني فيهما أن يُقْضى خلالهما على الملايين من الأبرياء، وأن تهدم أسس الحضارة وتُدكَّ صروح المدنية، ولكن هذا التغيير في حالة العالم لم يك ليُقْعدني عن مهمتي في الكتابة ويصدني عن غرضي في التأليف؛ فإن النفوس الواجمة من شبح حرب مروعة، والأفكار المضطربة من صراع عنيف في حاجة من وقت إلى آخر أن نرفه عنها، ونعمد إلى تهدئتها ونبث روح السكينة فيها. لذلك أخذت على عاتقي أن أستمر في مهمتي العلمية حتى أساهم في الساعات التي أعطيها كل أسبوع لقراء الرسالة في دفع كابوس الحرب الجاثم على العالم في هذه الآونة.
لعل القارئ يشعر معنا أن نغمات حزينة تتجاوب أصداؤها الآن في آذان العالم نرى لزاماً علينا إبعاد الأذهان عنها، وأن فكرة تحمل في طياتها الدمار والخراب وتغيير معالم الحضارة والعمران تسري الآن سريان النار في الهشيم، نرى لزاماً علينا أن ندفعها بكل عناية وأن نحطمها بكل قوة
إن الظلام حالك مدلهم، والنجوم تنشر في الفضاء وتملأ، والمشتري والمريخ يطلان علينا(325/50)
من علياء السماء، وكأن ما بهما من مخلوقات فرضية تشاهد مأساة الإنسان التي بدأت تعرض دورها في ثالث الكواكب فتعجب لها ولا تقف على الغرض منها. ألا بئس الطمع وشر ما يجلب! الآن بعض شروط من معاهدة وضعها نفر من الساسة منذ عشرين عاماً ولا يريد هذا النفر تغييرها، ولأن هذه لا تروق لبعض الزعماء تقع شعوب الأرض في حرب ضروس؟ الآن لقطر أشباراً من الأرض في قطر آخر تمتشق الأمم الحسام وتأبى التفاهم ويحمل الطيارون وسائل التهلكة وتتخيَّر الناس حد الظبى فاصل إشكالها، ونُساق إلى حيث لا نعرف المصير؟
ولو أنه يتأتى من هذا أنه يصبح في العالم خلف خيرا من السلف، لو أننا مسوقون حقاً إلى هدف أسمى يستجلي منه الإنسان عهداً أرقى في الحضارة وأبقى في العدالة وأعظم في التقدم، عهداً لم يعهده من قبل - لوجدنا أن الخير كل الخير في حمل السلاح وطرح الراحة، ولطاب لكل إنسان أن ينقلب مجاهداً بين المجاهدين. أما والبشر يتقاتلون لغير غاية مفهومة، أو مأرب معقول، فكل ما نتمناه أن تنحصر الكارثة وألا تطول هذه المحنة، وأن يتغلب حكم العقل على الهوى ويعود السلام فيرفرف على الربوع والأمصار من جديد، ونرى العلماء يتفرغون لاكتشافاتهم العلمية المجيدة ومباحثهم اللانهائية وتصبح المختبرات مخابر سلم ووسيلة للتعمير لا للتخريب
هذا السلام لبني الإنسان طُرّا، للفقير قبل الغني، للضعيف قبل القوي، هو أمنيتنا وله نعمل من قلوبنا، وهانحن أولاء نرقب عودة عهد هدوء العالم ورفاهيته ونتم للقراء قصة العلوم ففيها القسم الإيجابي من حظ البشر، أما القسم السلبي الذي يشغل الآن رجال الحرب ويندفع إليه فريق من بني الإنسان فهو ما سيأسف له العقلاء في النهاية
وبراً بما وعدنا نعود الآن إلى الكتابة في الموضوعات التي سرنا فيها شوطاً فليس أحب إلى نفوسنا من المضي في سرد قصص العلم والعلماء وفي تبسيط أهم ما وصل إليه الإنسان المفكر من اكتشاف واختراع، ذلك لأن أسعد الساعات عندنا هي تلك التي نسطر فيها مفاخر الإنسان العاقل الدارس، وأعمال الرجل الكاشف العالم: فهيا بالقارئ خطوة أخرى إلى الأمام نزيده فيها كلمة يخلق بنا أن ندعوها باسم العالم الذي هو بطلها فندعوها قصة (مليكان)(325/51)
تكلمنا في مقالنا السابق عن الإلكترون أصغر جزئ في الكهرباء أو وحدة الكهرباء السالبة وزميله البوزيتون الوحدة الموجبة، وهما الشقيقان اللذان يلعبان دوراً هاماً في معارفنا الكهربائية بل يتصلان اتصالاً وثيقاً بمعرفتنا عن المادة وكل ما هو كائن، فالإلكترون هذا المهاجر الحائر، نعرفه في المادة على أشكالها الثلاثة الغازية والسائلة والصلبة، فذرة غاز الهيدروجين وهو أخف ما نعرفه من العناصر تحوي نواة وسطى كالشمس يدور حولها إلكترون واحد وتتميز به عن سائر العناصر وذرة الماء مكونة من ذرتين من الهيدروجين السابق الذكر وذرة واحدة من غاز الأكسيجين، وهذه الذرة الأخيرة مكونة من نواة وسطى يدور حولها ثمانية إلكترونات وذرة الأيرانيوم أثقل العناصر ذلك العنصر الصلب المشع الذي كان حجر الزاوية في اكتشاف عنصر الراديوم العجيب تتركب من عدة شموس يدور حول كل منها عدد معين من الإلكترونات، ويبلغ مجموع إلكترونات هذه الذرة اثنين وتسعين إلكترونا أي أكثر من ضعف ما يدور حول شمسنا من كواكب وأقمار، فهي مهما بلغت من الصغر عالم يتعين بعدد من الشموس وعدد من السيارات التي تجري في أفلاكها وتشبه عالمنا الشمسي، وما اختلاف العناصر إلا في اختلاف عدد الإلكترونات التي تدور حول شموسها، واختلاف المسافات التي تبتعد بها هذه الإلكترونات عن الشموس، بحيث يعد هدم النواة الوسطى، وطرد بعض الإلكترونات المحيطة بها تحولاً في المادة وانتقالاً من عنصر إلى عنصر آخر يتعين بالعدد الجديد من هذه الإلكترونات السابحة، وهذا ما استطاعه العلماء أخيراً يتقدمهم (رذر فورد) المتوفى منذ عامين في إنجلترا، والدوق موريس دي بروي في فرنسا، وبرايش في ألمانيا، والعالم الشاب فرمي في إيطاليا. . . وهو ما سنتبسط فيه عندما نتكلم عن التَّفتت الذري تحت تأثير الإشعاع.
وإذا كان هذا الإلكترون أصغر ما نعرفه من مادة لها وجود مادي، فهو أصغر ما نعرفه مما له وجود كهربائي، فهو المكون الأول للكهرباء، بل وجميع الإلكترونات هي التي تُحدث كل الظواهر الكهربائية التي أهم ما يعرفه الشخص غير المشتغل بهذه العلوم ظواهر الإلكترونات المهاجرة التي قدمنا أنها تكون الأساس في فن الراديو بل الأساس في كل الكهرباء اللاسلكية منها، والسلكية، والتي يهاجر منها عند المخاطبات التلفونية أو الإذاعة اللاسلكية ملايين الملايين في كل واحد على عشرة آلاف من الثانية. عندما تشتري من(325/52)
التاجر بضعة أمتار من السلك لتوصيل جرس كهربائي في مكتبك، فإنك تشتري طريقاً صالحاً لهجرة بلايين البلايين من الموجودات الصغيرة التي أطلقنا عليها إلكترونات، وهي التي شغل العالم مليكان بدراسة أحدها والتي تسري في السلك من طرف إلى طرف. وعندما تشتري من التاجر ذاته صماماً - أي مصباحاً للراديو - من هذه المصابيح الخاصة التي منها الثلاثي الأقطاب (تريود) أو خماسي الأقطاب بنتود والتي تتفنن الصناعة الحديثة في تقديمها إليك بدل مصباح تالف، فإنك تشتري في الواقع مكاناً صالحاً لإحداث هذه الإلكترونات التي تهاجر بين الكاثود القطب السالب والأنود القطب الموجب بعدد لا يمكن أن يتصوره العقل.
ترى كيف يمكن العثور على جُسيم مادي يعلق به أحد هذه الموجودات الدقيقة التي تعد أصغر ما نعرفه من الكون؟ كيف يتسنى لنا أن نستوثق من ذلك؟ بل كيف يتسنى لنا أن نرفع ونخفض الجسيم الحامل لأحد هذه الإلكترونات وفق إرادتنا؟ وكيف نعلم علم اليقين أنه حامل إلكتروناً طليقاً كما نعلم أن سيارة تنساب في الشارع بسرعة عظيمة تحمل السائق ولا تحمل غيره من الركاب؟
لقد أمكن للأستاذ الكبير مليكان أن يقوم بتجارب دقيقة حصل فيها على إلكترون حر واحد، وتيقن فريق العلماء معه أن هذا الذي حصل عليه مليكان في تجاربه هو إلكترون حر واحد. وسأشرح للقراء تجربة مليكان وهي مهمة أحاول تبسيطها للقارئ رغم صعوبتها. وأمامي الآن المذكرات العديدة التي نشرها الأستاذ مليكان، وأهمها نشرته التي قدمها لمؤتمر عقد في وينبج في أغسطس سنة 1909 أي منذ ثلاثين عاماً، والمذكرة الإضافية التي ظهرت خلاصتها في المجلة الطبيعية ديسمبر من نفس السنة، ثم نشرته التي ظهرت في السنة التي تليها في الجريدة الفلسفية كذلك أمامي كتابه (الإلكترون) ' ولقد طالعنا هذه المذكرات في سنة 1928 عندما أتيحت لنا فرصة الاشتغال بالأبحاث الطبيعية في معامل البحث بالسوربون بباريس، وهأنذا أعيد مطالعتها كما أعيد مراجعة الكتاب المتقدم لنستطيع أن نحدث قراء (الرسالة) عن علم، بوصف تجارب مليكان الخالدة، تلك التجارب التي مهدت لها أعمال كثير من الباحثين أمثال تونسند وولسون وهم من أعلام مختبر كافاندش الشهير الذي يكون جزءاً من جامعة كامبردج المعروفة(325/53)
وغني عن البيان أننا سوف لا ننقل للقارئ خلاصة هذه النشرات العديدة التي برزت في تاريخ المعارف والتي عدها الكثير من العارفين خطوة موفقة من أكبر مفاخر العلم الحديث، فليس المجال هنا أن نلخص مسائل علمية يعد الدخول في تفاصيلها من الموضوعات الفنية التي لا تروق غير المختصين، وإنما غايتنا أن نعرض على القارئ صورة سهلة واضحة هي تلك التي تبقى في الذهن بعد طول المطالعة وتمثل حقيقة هذه الأسطورة التي تعد من أعظم ما نعرفه في العلم التجريبي وتوضح هذه التجربة التي حاولنا إعادتها في يوم لا زال عهدنا به قريباً.
وموعدي إذن مع القارئ الأسبوع القادم إذ احتاج إلى سبعة أيام لمراجعة أعمال هي عندي نتاج الإنسان الراقي لا عمل الإنسان المتوحش. ولَشدَّ ما يغلب على النفس نوع من الاطمئنان عندما تسوقنا الكتب إلى أعمال هؤلاء الأعلام، وثمة فارق كبير بين ما نستشعره في أعماقنا حيال مجهوداتهم وبين ما نلحظه في مجهودات هؤلاء المقاتلين، مهما كان السبب الذي يناضلون من أجله. ما أكثر تعاقب الحوادث هذه الأيام كل أسبوع تدخل فيه أمة في الحرب، ويخيل إليّ أن سبعة أيام لمطالعة (مليكان) فترة طويلة في هذا الزمن الكثير المفاجآت، فإذا لم يقفنا عن عملنا ظرف مفاجئ؛ وإذا ظل السلام مخيماً على ربوع مصر والبلاد الشرقية ناشراً لواءه على ذلك المسكن الواقع في هذه الجزيرة الهادئة بين النيلين، وإذا ظل النيل السعيد بهذا البهاء أرصده من هذا المكان، وظلت الدور هادئة كعهدنا بها، وظلت السعادة ترفرف على الربوع ودامت لنا رؤية أطفالنا هانئين مرحين، ولم تلجئنا الظروف إلى أن نبعث بهم إلى الريف البعيد - فإني مُعط أوقات فراغي هذا الأسبوع لقارئ الرسالة، أحدثه في المرة القادمة عن مكنون هذه النشرات ودخائل هذه الكتب، وسر هذه الأسطورة العلمية، وبذلك ربما فزت بأن أجعله يعجب بهؤلاء العلماء إعجابي بهم ويشيد معي بذكرهم.
عندما نطالع العمل المضني الذي قام به هؤلاء الأعلام ونطالع بعد ذلك أخبار الفواجع التي تغمرنا بها الجرائد وتبعث بها إلينا محطات الإذاعة المختلفة أشعر براحة في الأولى وامتعاض في الثانية
فإلى العلوم هذه الأيام العصيبة نقص لك منها أحب سيرها ليزيد إيماننا وإيمانك بمستقبل(325/54)
الإنسانية ومبادئ السلام والعدل. وعسى ألا تُفرَّقنا الأيام، فأظل أشتغل، وأظل أكتب إليك؟
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة
-(325/55)
من هنا ومن هناك
حلم ألمانيا
(عن (هاربرز مجازين))
قال هتلر في بعض أحاديثه: (إن ضربتي العاجلة ستكون كالنور ينتشر في الظلام). وقال جورنج وهو بصدد المفاخرة بالطيران الألماني في أزمة سبتمبر المنصرم: (أنتم معشر الألمان تعرفون أن قوة الطيران الألماني التي لا تقهر أبداً كانت على أتم استعداد، وكلمة واحدة كانت كافية لإشعال مارج من النيران تبتلع خصومنا، وما هي إلا ضربة عاجلة، ولكنها ضربة قاضية لا تبقي منهم باقية)!
ولا شك أن ألمانيا وضعت آمالاً كبيرة في طيرانها، واغترت كثيراً بقوتها الحربية، وقد آذن ذلك الغرور أن يلعب دوراً محزناً في تاريخها، على يد الريخ.
فقد وضع النازي كل همهم في كسب حرب سريعة قاضية بواسطة الطيارات والمصفحات الحربية (تانكس) والغواصات
وهكذا يطلبون النصر المعجل في تلك الحرب السريعة. وتبدأ هذه الحرب - كما يؤملون - بهجوم جوي عنيف تشترك فيه جميع قوات الطيران الألماني والإيطالي والياباني - إذا تيسر - على مواطن البحرية البريطانية والفرنسية في مختلف الجهات، حتى يدمر ذلك السلاح الذي يعطي الدولتين البحريتين السلطة والنفوذ في العالم. وفي أثناء هذه الغارة الجوية تنتشر الغواصات الألمانية في كل مكان؛ ويعجل بالهجوم على المطارات البريطانية والفرنسية، ومراكز القوة، ومصانع الأسلحة، والمواطن الآهلة بالسكان. ويتبع ذلك الغزو عن طريق الجو، هجوم عنيف على الأراضي الفرنسية من الناحية البرية في كل موضع وكل مكان
ولكن هل من الممكن أن يدمر أسطول حربي عظيم بواسطة الطيارات؟ لقد برهنت التجارب العديدة على أن المدافع المضادة للطيارات تقوم بعملها في مطاردة الطيارات على أكمل وجه. وقد أرصدت إنجلترا خمسين طراداً حربياً للمساعدة في مكافحة الطيارات وليس لهذه الطرادات القوية عمل غير هذا العمل. على أن الأسطول البريطاني مجهز بقوة من سلاح الطيران معدة لحمايته في كل وقت. فهل من المعقول أن تغرق جميع السفن(325/56)
البريطانية والفرنسية في غزوة فجائية تنقذ ألمانيا ومن يعاونها من ذلك الموقف الضعيف الذي يجرعها غصص اليأس؟
إن قوة البحرية الألمانية ضعيفة جداً بالنسبة للقوتين الإنجليزية والفرنسية. فإذا قامت بمثل هذه التجربة فسترى أنها كانت واهمة، وأن القوة البحرية ما زالت تلعب دورها التقليدي في الحروب، وأن مركزها البحري سينتهي إلى اليأس المحقق
لقد جربت تلك الغزوة الجوية في برشلونة في 16 مارس 1938 فقد استمرت قوة الطيران الإيطالية الرابطة في ماجوركه تلقى عليها وابلاً من القذائف ثلاثة أيام وثلاث ليال، وكانت طياراتها تحمل أثقل أنواع القذائف وتلقي بها على تلك المدينة التي يسكنها مليونان من الأنفس، فماذا كان تأثيرها؟ لقد قتل في تلك الغارة ثلاثمائة نفس، ولم تنقطع حركة العمل بالمدينة، بل لقد ظلت دور السينما مفتوحة الأبواب للرائد فحلم ألمانيا بحرب جوية سريعة حلم خلاب ولكنه بعيد عن التحقيق
النازي وطبيعة المرأة
(عن مجلة (تايدين) استوكهلم)
قبل أن يستولي النازي على زمام الأمور في ألمانيا كان زعماؤه القائمون بالأمر الآن، ونذكر منهم على سبيل المثال دكتور جوبلز يقولون: (إن المكان الوحيد للمرأة هو المنزل، فقد خلقتها الطبيعة وأعدتها لحمل الأطفال والعناية بزوجها وبيتها) وذكر (ألفرد روزنبرج) في الكتاب الذي أخرجه تحت عنوان: (خرافة القرن العشرين) حديثاً عن المرأة قال فيه: (إن نفوذ المرأة في الدولة يحمل في طياته أسباب سقوطها، وكما أن اليهود في أنحاء العالم يدعون إلى المساواة، ولا هم لهم في الحقيقة إلا جلب المنفعة لأنفسهم، فالمرأة التي تطالب بالحرية لا تطلب المساواة في الحقوق كما قد يتراءى، ولكنها تنشد الصعود على ذمة الرجل. وفي اجتماع للنازي عام 1934 قال هتلر نفسه في حديث موجه إلى النساء والفتيات من حزبه: (إن الرجل عالمه الدولة والكفاح؛ أما المرأة فعالمها بيتها وأسرتها وأطفالها)
إلا أن هذه الكلمات وما تبعها من الأعمال لم يكن المقصود بها طبيعة المرأة ووظيفتها في(325/57)
الحياة كما قد يبدو، ولكنها كانت سياسة مرسومة لمحاربة البطالة، إذ ما كادت تنصرم تلك الأيام حتى تغيرت الفكرة من الناحيتين النظرية والعملية فلم نعد نسمع أو نقرأ في ألمانيا كلمة واحدة عن الأمومة وطبيعة المرأة
لقد كان النساء يفصلن من أعمالهن بالمئات في المدة من سنة 1931 - 1935 بغير رحمة ولا شفقة، والآن أصبحنا نراهن يسقن إلى تلك الأعمال بالطريقة نفسها. فالنظرية القائمة في ألمانيا الآن هي نظرية الحرب وحاجة الحرب، فسواء كانت طبيعة المرأة تدعوها إلى ملازمة المنزل أولاً، فإن النظام القائم يدعو النساء إلى أن يحللن محل الرجال في أعمالهم التي تخلو باستدعائهم إلى الأعمال الحربية، سواء أكانوا مطلوبين للخدمة العسكرية أو للعمل في زيادة السلاح تلك الزيادة التي
لا تقف عند حد
وفي ألمانيا الآن كثير من النساء يشتغلن بالأعمال الزراعية الشاقة، حيث يسقن إليها بطريق العنف والقوة تحت أحكام قانون العمال. ومما يدعو إلى العجب أن بعض هؤلاء النسوة كن يطردن من أعمالهن التي ينشدن فيها الرزق لحماية أنفسهن بدعوى الرأفة بهن في عهد هؤلاء الذين يسوقونهن إلى الأعمال المرهقة بغير تدبر ولا رحمة
كل هذا يحدث في ألمانيا باسم الحرب والتأهب لها، فالنساء والرجال في ألمانيا يباغتون بقسوة وشدة، فيفصلون من أعمالهم ووظائفهم التي تعودوها وأحرزوا فيها قصب السبق والنجاح، ليلحقوا ببعض الأعمال الخاصة بالتسلح والتأهب للحرب، ولا عبرةً بما يقال عن إرهاق المرأة وتحميلها ما لا تطيق.
ومما قالته جريدة (أنجريف) في يوليه سنة 1938، وهي لسان حال الدكتور جوبلز: (يجب أن تشتغل النساء الآن مع الرجال في أعمالهم. فجسم المرأة مطالب بان يؤدي للدولة العمل الذي يؤديه جسم الرجل). ولا فرق بين الرجل والمرأة في ألمانيا إلا في أن المرأة تتقاضى 40 % من الأجر الذي يتقاضاه الرجل.
الساعة الرهيبة في آسيا
(عن مقال بقلم (مدام شيانج كاي شك))(325/58)
نحن نخسر كثيراً من المواقع الحربية - ولكننا ولا شك سنكسب الحرب. هذه كلمة قالها أحد ضباط الصين في العام المنصرم، وهي كما تبدو كلمة كثيرة التناقض، ولكننا نعيش اليوم في عالم عجيب، فالنصر اليوم لا يعني النجاح، والتقهقر لا يعني الهزيمة. وقد يكون اللاشيء معناه الكثرة، وكل شيء قد لا يدل على شيء فالكلمات تفقد معناها على مر السنين والأيام، حيث تدركها الشيخوخة.
ونحن في الصين بعد أن خسرنا عدة وقائع ما زلنا نحس الانتصار على مقربة منا كأننا لم نصادف في هذه الحرب غير النجاح
ولكن هل يبقى العالم معصوب العينين أمام الحالة التي تعانيها الصين منذ سنتين؟ هل ينتظر حتى يفنى أبطال الصين على بكرة أبيهم في ميدان الحروب ثم يفتح عينيه فإذا العالم كله على أبواب خطر جسيم؟ لقد أفنت الحرب ملايين من أبناء الصين ولم يفطن أحد إلى المثل السامية التي ذهبوا في سبيلها
فالحرب اليابانية كما هي اليوم ليست إلا مقامرة كبيرة بين اليابان التي تعد نفسها دولة أوربية وبين القارة الغربية
وقد كان في وسع أوربا أن تقف تلك الحرب الأسيوية التي تنذرها بأشد الأخطار منذ اللحظة التي نشبت فيها بدلاً من تشجيعها وتقديم الوقود لإشعال نيرانها
لقد كان هذا في الإمكان، بل لقد كان أمراً سهل الوقوع؛ فكلمة واحدة كانت كافية لإنهاء كل شيء. ولكن أوربا لم تدرك بحصافتها أنه متى أذنت الساعة الرهيبة فقد فقدت مركزها في آسيا
إن الصين لا تستطيع أن تميز بين المبدأين المتقاتلين في أوربا، ولكنها تستطيع أن تقول اليوم إن أوربا إذا فقدت مركزها في آسيا لن تستطيع أن تستعيده مرة أخرى
إن الصين تكافح في حرب غير متعادلة. وهي وإن كانت لا تزال محتفظة بداخلية البلاد، فقد فقدت كثيراً من مدنها الجميلة، تلك المدن التي تدين لأوربا في أنظمتها ومظهرها قد سقطت في أيدي الأعداء
إننا ما زلنا نؤمل في أوربا أن تفطن إلى حقيقة الموقف. فقد تستطيع أن تقوم بعمل حاسم لإنقاذ الشرق مما يعانيه(325/59)
البريد الأدبي
إلى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
السلام عليك ورحمة الله، وليس يعيب الرجل أن يروي خبراً عمن يظن به الثقة إذ الخبر غير صحيح؛ ولا يعيبه أن ينقد بناء على هذا الخبر ويلوم، وأن يشتد في النقد والملام؛ وليس يعيب الرجل الفاضل أن يسرع إلى بيان الحق متى عرفه، بل الذي يعيبه ويضع من قدره ألا يفعل، وهذه الخلة مع الأسف العظيم شائعة في كثير من نقدتنا، كأن يروعهم ويتعاظمهم أن يرجعوا عما مضوا فيه ولو إلى الحق الصريح
ولولا ما أعرف يا أخي من نزاهة قصدك وسعة فضلك. وتمكنك من نفسك وضنك بها على كتمان الحق، ما راجعتك في شأن ما كتبت من كتاب حضرة الدكتور أحمد عيسى بك، ولا أطلعتك على ما هو مسجل في الوثائق الرسمية
فالحمد لله الذي لم يخلف ظني ولم يخيب رجائي
وإنني أدعو الله جاهداً أن يكثر بين نقدتنا من أمثالك، ولا أقول إنني أسأل الله شططاً، وأستغفر الله، فإنني مؤمن بأن الله على كل شيء قدير
والسلام عليك والشكر أبلغ الشكر لك
عبد العزيز البشري
لكل سؤال بابتين جواب
1 - اهتم الأستاذ محمود على قراعة بشرح آراء العلماء في نعيم الجنة ولم يفته أن يحاول إقناع الأستاذين داود حمدان ومحمد علي حسنين بأن نعيم الجنة تغلب عليه النزعة الروحية
وقد كان الأستاذ قراعة في غاية من اللباقة، فقد رجع بانتظام عن رأيه الأول الذي صرح فيه بأن نعيم الجنة روحي صرف وأن ما جاء في القرآن من أوصاف النعيم المحسوس ليس إلا رموزاً وإشارات
ونحن لم ننكر أن الجنة فيها نعيم روحي بجانب النعيم الحسي، وإنما أنكرنا أن تؤول نصوص القرآن تأويلاً تنكره أصول الشرع الشريف
والآن وقد اعترف الأستاذ قراعة بأن القرآن يشهد حقاً بأن المؤمنين سيكون لهم في الجنة(325/61)
(أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى) الآن وقد اعترف بذلك هل يسمح له ذوقه بأن يحكم بأن الآيات التي تحدثت عن هذه الطيبات تعد من أدب المعدة الذي ينكره الأستاذ أحمد أمين؟
2 - صال الأستاذ الغمراوي وجال في مجادلتنا بالتي هي أقبح، وشاء له أدبه أن يقول إننا غير متمكنين من علوم الدين، كأنه صار من علماء العصر والأوان! ونقول إن دعواه باطلة: فنحن بحمد الله وتوفيقه نعرف من علوم الدين أضعاف ما يعرف الذين يدعوهم الكبر الممقوت إلى مجادلتنا في شؤون الدين وهم لا يعرفون من أصوله بعض ما نعرف
3 - قدم إلينا الأستاذ علي الطنطاوي أربعة أسئلة وهو ينتظر الأجوبة
وكنت أحب أن أسارع إلى إجابته، ولكني رأيت أن الأسئلة التي ساقها قد تعرض القراء لفتنة شديدة إن استبحنا الإجابة بلا ترفق وبلا رعاية للمأثور من الأفكار الدينية
وهو نفسه قال (إن مسألة اليوم هينة لا تمس جوهر الدين) فليترك هذه القضية إلى اليوم الذي نتعرض فيه لشؤون تمس جوهر الدين
وأنا لا أبالي أين يقع قلمي، ولكن لا بأس من التأسي بالحكمة التي تقول: أترك الشر ما تركك
وهل قلّت اعتراضات رجال الدين حتى تتطوع لتحريكهم يا سيد طنطاوي؟
على أنني أقول بصراحة إنني أضع كل شيء في الميزان مهما تقادم العهد عليه. ومن حقي شرعاً أن أنظر في القرآن نفسه بدون اعتماد على أقوال المفسرين، لأني مسئول رأساً أمام الله لا أمام الناس. وليس لأحد أن يطالبني بان أومن كما آمن. وهل منحنا الله العقل إلا لنواجه العقائد عن بصيرة ويقين؟ إنني راض عن طريقتي في درس الشؤون الدينية، والاحتكام في فهم الكتاب والسنة إلى المنطق والعقل، فليقل من شاء ما شاء، وبالله أعتصم من كيد الخائنين.
زكي مبارك
عود إلى اقتباس الكتاب
يذكر القارئ هذا الباب من الرسالة أني أخذت على الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم اقتباسه(325/62)
لبعض ما جرى على قلمي في حديث الرمزية معنى ومبنى (راجع الرسالة رقم 312 ص 1271) وقد تعذَّر على المقتبس أن ينكر ذلك، فقال يتعذر: (إنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغةٍ غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجئ على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استدراكا للمعنى الذي في ذهني. . .) (الرسالة رقم 313 ص 1331)
والحق أن الأستاذ أدهم يقتبس المعنى فضلاً عن المبنى. ومن مقتبساته الأخيرة أنه أغار على نقدي لكتاب صديقي محمود تيمور وعنوانه (فرعون الصغير) فقد كتبت في مقتطف يولية الأخير (ص 252 أول باب المكتبة): (في فرعون الصغير تخف وطأة الواقعية بحيث لا تملك على بعض القصص مداخلها ومخارجها. ففي القصة الأولى وعنوانها (فرعون الصغير) يشغل خيال المكان الأول حتى إنه يردّ القصة إلى لون معروف هو اللون التخيلي وفي القصة (المخ العجالي) يسطو اللون الباطني المستمد من علم النفس الفرويدي على المجري الواقعي للحوادث والأحوال). ثم كتبت: (بهذه المجموعة من الأقاصيص تأخذ طريقة الأستاذ محمود تيمور، على ما يبدو للناقد، في جهة جديدة. وذلك أن تيمور كان منصرفاً إلى طريقة الواقعية)
وإليك الآن ما نشره الأستاذ أدهم في الرسالة (العدد 319 ص 1621 و1622): (. . . وأقصوصة فرعون الصغير يبرز فيها اللون التخيلي حيث يتغلب على بناء الأقصوصة الجو الخيالي. وفي الأقصوصة الثانية وهي (غريم) تجد تيمور بك يقيم هيكل أقصوصته على أساس من تنازع العواطف. وهذا اللون الباطني، وإن كان خفيفاً في هذه الأقصوصة، فهو يعود إلى علم النفس الحديث، والتأثر بالفرويدية واضح فيها) (ص 1622 ع1 س 9 - 12؛ 20 - 24). ثم كتب: (وهكذا يمكنك أن ترى من مجري حوادث الأقاصيص أن التخيلية من جهة والباطنية من جهة أخرى أخذت تطغى على الواقعية الساذجة ولكن بدون أن تفوقها وهذا التطور عند تيمور بك طبيعي. . .) (ص1622 ع2 س3 - 6) ذلك ما جاء على قلمي في أول يولية وما جرى به قلم أدهم في الرابع عشر من أغسطس. والموازنة ميسورة للقارئ
على أني أظن أن فطنة المقتبس حدثته بأن يبدَّل من الأصل فمسخه. ألا تراه ينسب (اللون الباطني) الذي أصبته في قصة (المخ العجالي) إلى قصة (غريم)؟ ثم ألا تراه يجعل الكلمة(325/63)
الإفرنجية إزاء التعبير العربي (اللون التخيلي) على حين جعلت إزاءه كلمة وكأني بالمقتبس أراد أن يستر طرفاً من اقتباسه فيأتي بشيء من عنده، شأنه مع حديثي في الرمزية إذ كتب: (لوامع النفس وبوادرها)، وفي الأصل: (اللوامع والبواده) فأجرى البوادر مجرى البواده (راجع الرسالة رقم 312 ص 1272). وكما أنه مسخ هذا التعبير من قبل كذلك مسخ نقدي لفرعون الصغير
وبيان ذلك أن قصة (غريم) لا شأن لها باللون الباطني. وأظرف من هذا استبدال الكلمة الفرنسية في نقدي. ذلك أن الكلمة التي تنظر إلى اللغة الألمانية هي وأما التي أتى بها المقتبس فتدل على شيء آخر. وحسبك أن تعرف أنها تقع صفةً للغات المنحدرة من اللاتينية كالإيطالية والبرتغالية والرومانية، وصفةً لفن العمارة في البلدان اللاتينية من المائة الخامسة إلى الثانية عشرة
والآن دعني أقص عليك كيف زلَّ قلم المقتبس هنا، والقصة مُلحة، والملح في هذه الأيام السود من نعم الله
قرأ المقتبس في المقتطف كلمة إزاء هذا التعبير: (اللون التخيلي)، فقال في نفسه: أُغير على التعبير العربي، لأن العربية ليست لغتي الأصلية وفي ذلك معذرة، ولكني أبدل الكلمة الفرنسية. وإذ المقتبس لا يعرف من الفرنسية إلا الشيء القليل كما بينت في الرسالة (رقم 314) والمقتطف (أغسطس 1939) طلب معنى الكلمة الفرنسية في معجم إنجليزي، ظناً منه أن الكلمة بمعنى واحد في اللغتين لأن هجاءها واحد فيهما. ولكن كيف يأتي المقتبس بشيء من عنده وهجاء الكلمتين واحد؟ فتحول إذن إلى اللغة الألمانية وطلب في معجم من معجماتها ما ينظر إلى الكلمة الإنجليزية: له كلمة وذلك لأن الإنجليزية تقع فيما تقع صفةً لفن العمارة المذكور فوق هذا الكلام، وللغات المنحدرة من اللاتينية
بشر فارس
بين الدكتورين بشر وأدهم
أرسل إلينا منذ أسبوعين الدكتور إسماعيل أدهم رداً مسهباً على الدكتور بشر فارس جعله فصل المقال فيما شجر بينهما من خلاف، ولعلنا نستطيع أن ننشر منه في العدد المقبل.(325/64)
حول الشراة
جاء في الرسالة عدد 318 في (خليل مردم بك) لأستاذ جليل هذه الكلمة
(لولا أن يغضب أو أن يشرى صاحبنا الأستاذ أبو اسحق اطفيش نزيل القاهرة، ومن علماء إخواننا الأباضية وفضلائهم لشننا على (الشراة) غارات، وفندنا (مقالاتهم) الخارجية بمقالات في (الرسالة الغراء) متلاحقات)
أيها الأستاذ الجليل - إني أنزهكم أن تتركوا ما تعتقدونه حقاً لغضب أستاذ أو صاحب. وهل يصح للموازين والنقاد الذين يسخطهم تفضيل شاعر على شاعر بباطل أو باعتقاد أنه باطل - إهمال فريق من الأمة له تاريخه وماضيه المبنيان على أساس مفند؟ سامح الله الأستاذ زكي مبارك فقد باع جميع أصدقائه لقوله حق يقولها أو فكرة يعتقد صوابها: فأرادنا كيف تنبذ الصداقات وتتضاءل قيم الرجال بجانب الحقائق
أنا أعتقد أن الأستاذ أبا اسحق لن يغضبه ما تكتبه، كما أعتقد أنه سيرد عليك إن تنكبت السبيل السوي
إن الأستاذ إبراهيم اطفيش كغيره من الأباضية ليسوا فئة متعصبة لرجال أو طوائف على بطلان وضلال؛ وإنما يتعصبون لحق يرونه مع إمام أو طائفة، فإذا اتبعوا مذهباً أو أخذوا بقول إمام - فلأنهم درسوه فوجدوه صحيحاً فاتبعوه. ولو أبنت لهم اليوم بطلان ما يذهبون إليه لنبذوه ورجعوا إلى الحق. ولا تخش أن تلاقي منهم عناداً ومكابرة؛ وإنما عليك بالحجة تجدهم لك أطوع من البنان
فأقدم أيها الأستاذ على عملك، ولا تخش غضباً، ما دمت مع الحقيقة والواقع
الشراة - يا أستاذ - طائفة من الناس حيروا العالم ودوخوا الدنيا وملئوا التاريخ ولم تخلص حقيقة القول فيهم إلى اليوم. ولقد يسرنا جداً أن تكتب فيهم مقالات متلاحقات تظهر ما أنبهم من أمرهم وجار من حكمهم وزاغ من عقائدهم، فتكون بذلك من المحسنين إلى التاريخ والحقيقة، ومن المحسنين إلى الشراة واتباع الشراة
ولقد يسرون - وهم في الأجداث - بما تكتبونه لأنكم تطلبون حقا - وقد كان شعارهم طلب الحق؛ فإن فعلتم أسديتم إليهم والينا جميلاً تطوق به الأعناق إلى يوم يحاسب على الجميل و (لا حكم إلا لله). وهل أجمل من إظهار حق غمطته السنون وغمرته (مقالات خارجية)(325/65)
مدة ثلاثة عشر قرناً؟
أراني قد أطلت وجرني الحديث إلى ما ليس من غايتي، فهل تسمحون أن أطلب إليكم إظهار اسمكم، فلطالما رغبت في معرفتكم، وكيف لا أرغب وقد كشفتم لنا ببحوثكم القيمة أنواعاً من حقائق أخفاها الدهر مما يدل على عظيم اطلاعكم وحسن تمحيصكم. . . وتقبلوا خالص احترامي. . .
القرارة: (جنوب الجزائر)
علي معمر الطرابلسي
برنامج وزارة الشئون الاجتماعية
وافق حضرة صاحب المعالي الأستاذ عبد السلام الشاذلي باشا وزير الشئون الاجتماعية على برنامج هذه الوزارة. ونحن نذيع نصه الكامل فيما يلي لاتصاله الوثيق ببرنامج الرسالة وهو:
1 - وضع تشريع لإلغاء البغاء ومحاربة الدعارة السرية
2 - العمل على إنقاذ الفلاح وإسعاده من طريق التعاون الإجباري وإنشاء بنك للتعاون المركزي
3 - وضع تشريع لحماية الطفولة المشردة يراعى فيه سلب الولاية من الآباء غير الصالحين للإشراف على أولادهم
4 - وضع تشريع لصيانة النسل وذلك بوضع رقابة خاصة على الحالة الصحية للأزواج قبل عقد الزواج بقصد العمل على إعداد جيل قوي شديد
5 - وضع تشريع لمنع الأطفال والبنات إلى سن معينة من التردد على السينما إلا في حالة عرض أفلام تعليمية تهذيبية أو أفلام خالية مما يؤثر تأثيراً سيئاً في الخلاق ومنعهم من ارتياد محلات الخمور وصالات اللهو وأمكنة القمار ومنتدياتها
6 - وضع تشريع لمقاومة التسول والقضاء على أسبابه
7 - الانتفاع الكامل بالإذاعة والعناية بنشرها في القرى لكي تتصل الحكومة بالفلاحين اتصالاً مباشراً وذلك بأن يخصص لهم برنامج خاص يبدأ بالقرآن الكريم ثم بنصائح صحية(325/66)
وزراعية وأخلاقية واجتماعية، وكذلك بعض أسباب التسلية التي تسري عنهم وتتفق مع حالتهم
8 - العمل على توحيد موارد الإحسان وجمعها وتوجيهها الوجهة النافعة، وتنظيم الجمعيات الخيرية والاجتماعية بما يكفل إنعاشها وبقاءها وتوجيهها الوجهات الخيرية الملائمة لحالة البلاد الاجتماعية
9 - محاربة البطالة وتوجيه الشباب إلى العمل الحر وتحسين حالة العمال وتنظيم شؤونهم ورفع مستوى معيشتهم
10 - بحث حالة السجون وتوجيه نظمها وجهة اجتماعية صحيحة، واستخدام المسجونين في أعمال التعمير كإصلاح الأراضي الحكومية والعمل على عدم عودتهم للإجرام وذلك بمعاونتهم بعد انتهاء مدة العقوبة على كسب عيشهم من طريق شريف
11 - توجيه الشعب توجيهاً يحقق وحدة البلاد وتمكين روح الإخلاص والتضحية للوطن والعرش والعمل على سلامة الأخلاق وتقوية الروح القومية وروح التعاون والاقتصاد بين طبقات الشعب بوسائل الدعاية المختلفة كالصحافة والخطابة والتمثيل والسينما
12 - الأخذ بالروح الصحيحة للتعاليم الإسلامية للوصول إلى مقاومة فوضى العلاقات الزوجية وما يترتب على هذه الفوضى من تفكك روابط الأسرة وانهيار العائلة
13 - تنظيم النشاط الرياضي للشعب وتنظيم أوقات الفراغ واستثمارها
14 - توجيه بوليس الآداب للعمل على صيانة الآداب العامة ومحاربة البدع السيئة والمنكرات في غير تعسف ولا جمود وزيادة قوته ليستطيع مواجهة هذه الأعمال
15 - بحث توحيد الزي وتحسينه بما يلائم أحوالنا وعاداتنا وجو بلادنا
لا تقولي نسيت
في قصيدتي (لا تقولي نسيت) التي تفضلتم فنشرتموها برسالة الأسبوع الفائت ورد هذا البيت:
من له. . . آه. . . من لأنغامه السود ... إذا شبت الليالي شجونه؟
والبيت يا سيدي ليس لي إلا قافيته، بل هو لصديقنا شاعر الشباب الأستاذ محمود حسن إسماعيل. . . وقد نسيت أن أقوس عليه. لذلك وجب التنبيه(325/67)
عبد العليم عيسى
سؤال؟
إلى (الأستاذ الجليل) اللغوي الكبير
تحية طيبة؛ وبعد فهذا سؤال في نظري عويص سألنيه صديق فعجزت عن الجواب عنه بعد أن بحثت فيما لدي من المعاجم، فلم يسعني إلا أن ألجأ إليكم للإجابة عليه وهو:
تسمى العرب فاقد البصر أعمى، وفاقد السمع أصم، وفاقد الشم أخشم. فماذا يسمى فاقد الذوق؟
أرجو الجواب على صفحات رسالتنا المحبوبة ولكم الشكر
ع. م. ح
كتاب البستان
أعاد الناشر المعروف (مكميلان) طبع كتاب البستان لأديب العربية الأستاذ الجليل والعلامة المحقق محمد إسعاف النشاشيبي بك. فرأينا أن نطرف قراء الرسالة بمقدمته ليعرفوا طريقته فيه وغايته منه. على أن من قرأ مقالات النشاشيبي لا ينكر علمه وفضله، ومن تتبع نقل الأديب للنشاشيبي لا يجهل ذوقه وعقله
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد
ما الكبير بأحق بالعناية بشأنه من الصغير. وليس الشادي بأحوج إلى كتب في العلم والأدب يحتفل فيها العلماء من البادي. بل الثاني في هذا الأمر هو الأول، (والأهم مقدَّم) وإن على الذي يُلقنه في بدء تثقيفه المعوّل. وقد فطن لذلك فريق من عرب الدهر القديم وإفرنج هذه العصور، فخصوا تلك الطائفة من الطلاب بكتب جمة محكمة، وشرعوا لها في التهذيب شرائع بينة؛ فمشى الطالب في طريق معبد حافظ. وإني لما تقربت إلى عربيتي بتأليف مجموعتي (مجموعة النشاشيبي) لكي يرويها نشءُ العرب، ويستظهرها الشادون من الطالبين، ورأيت أن أجمع (لتلاميذ المدارس الأولية والابتدائية) أقوالاً قديمة عربية غير منقولة عن لغة غربية (ومن ورد البحر استقل السواقي، ومن لقي جالينوس استجهل الرواقي) وقد تحريت أن يدنو إليهم منالها، وتسهل لهم معانيها، ولا يلؤُم نظمها وسبكها.(325/68)
والكلام يلؤم (يا فتى) كما يلؤم المرء، واللؤم شر الخلائق، واللئيم شر الناس، ولا خير في قول لم يكرم لفظه وتأليفه، وإن اجتافته حكمة الحكيم. وقد ضل السبيل جل الجامعين ولم يسلك النهج إلا الأقل. وظني أن سينشط ذهن الطالب الصغير لما أطرفته إياه فلا يجهد يوم الاستظهار نفساً ولا يدهمه ما لا يفهمه إلا من بعد سنين. ولله (القاضي أبو بكر بن العربي) الذي عيَّب في (كتاب رحلته) سنة المؤدبين في تدريس الصغار (الكتابَ) الكريم المعجز ودلهم على المهيع المستبين. فقد تنبه على هذا الأمر الجلل والقوم رقود، وهدى إلى الحق وهم في ضلال بعيد.
محمد إسعاف النشاشيبي(325/69)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
رواية الذبائح
كانت رواية غادة الكاميليا خيراً وبركة على المسرح المصري وبسببها اتجهت الأنظار إلى فرقة رمسيس، وارتفع قدرها وكبر شأنها، فازداد النشاط فيها وعظم الإنتاج.
ولا نتعرض للعدد الوفير من الروايات التي أخرجتها، فإن هذا ليس سبيلنا، وإنما يكفي أن نضع أمام نظر القارئ أسماء بعض هذه الروايات:
غادة الكاميليا، المجنون، كرسي الاعتراف، الاستعباد، الذبائح، ناتاشا، الجبار، راسبوتين، توسكا، الصحراء، فيدورا، انتقام المهراجا، القضية المشهورة، ملك الحديد، النسر الصغير، الولدان الشريدان، الذهب، في سبيل التاج، عطيل، يوليوس قيصر، المائدة الخضراء، جاك الصغير، الشرك، البرنس جان، نيرون، لوكاندة الأنس، حانة مكسيم، الرئيسة، القبلة القاتلة، الفريسة. . .
وليست هذه الروايات إلا قليلاً من كثير أخرجته الفرقة في أعوامها الأولى التي نالت فيها نجاحاً منقطع النظير في تاريخ المسرح المصري
وكما كانت (غادة الكاميليا) سبباً من أسباب اهتمام الجمهور بالمسرح كذلك كانت رواية (الذبائح)، بيد أنه كان لهذه أثر يخالف تلك، ونتائج خطيرة غيرت من اتجاه سير النهضة وقلبتها رأساً على عقب.
لم تكن الذبائح رواية عادية، بل كانت حدثاً في تاريخ التأليف المسرحي، فاللغة التي كتبت بها غريبة كل الغرابة، هي لغة عامية صيغت في ألفاظ ومعانٍ عربية، أو دخلت عليها ألفاظ ومعان أرقى من مستواها اللفظي ولهجتها الشاذة، وهي بعد ذلك ذات رنين عجيب، أحياناً تراها كأنها نوح النائحات، وأحياناً تسمعها كأنها شدو الحمائم، وأحياناً أخرى تنظرها فكأنها حكم وأمثال للحكيم سليمان أو لغيره من الحكماء، ثم لا ترى بعد هذا أنك في جو(325/70)
تعرفه، ولا تشعر أنك في حياة ألفتها، بل أنت في دنيا غريبة وحياة غريبة، وبين أشخاص غرباء، وكأنهم خارجون من القبور، أو آتون من بعيد حيث الظلام الدامس يعم الأرجاء، والغموض والإبهام يلابس الأشياء. هم مخلوقات آدميون في الظاهر لكنهم ليسوا من أهل هذه الدنيا. لعلهم من سكان المريخ، ولعلهم من سكان غير المريخ من هذه العوالم التي تجري في نظامها الرائع مع أرضنا سيدة هذه العوالم بلا منازع.
فلم يكن غريباً أن يكون لهؤلاء الأشخاص أثر في الجمهور، ولم يكن غريباً أن يفتتن بهذه الرواية الناس، وأن يترنم بعضهم بألفاظها الغريبة في منتدياتهم، حتى في الطرقات كان البعض ينادي أمينة رزق وفتوح نشاطي بطلي الرواية بتلك اللهجة الغريبة التي تقرع الأسماع.
وكما أثرت الذبائح في عقول الجمهور، كذلك أثرت في عقول أصحاب المسرح وسادة النهضة فيه، وبدأ يوسف وهبي ينسج على منوالها، فكتب (الصحراء)، بيد أنه حاول إخفاء الحقيقة فكتبها بلغة عربية ليدخل في روع الناس أنه غير مقلد على حين أن كل شيء فيها قد نم عن تأثر صاحبها بالذبائح وأسلوبها ولهجتها وما فيها من بكاء وعويل.
(للكلام بقية)
ملاحظات
اختيار الروايات في الفرقة القومية
نعود إلى هذا الموضوع فنقول إن الرواية (محمد علي الكبير) التي قبلتها لجنة القراءة وقبض أصحابها ثمنها قد رفضها أفراد الفرقة لعيوب فنية وموضوعية لمسوها فيها، فالرواية عبارة عن عرض تافه لسيرة منشئ مصر الحديثة، وهو عرض غير جدير بذلك البطل الذي أظهره المؤلفان بمظهر السفاح الذي يجتذب إليه أعداءه ليغدر بهم، هذا إلى أنها من الوجهة المسرحية لا قيمة لها
وهنيئاً للمؤلفين ما قبضا من ثمن!
خطوة مباركة
علمنا من مصدر نثق به أن لجنة من الممثلين والمخرجين بالفرقة القومية قد عهد إليها(325/71)
بصفة غير رسمية قراءة الروايات التي تقدم للفرقة وانتخاب ما يصلح منها لعرضه على اللجنة الرئيسية. هذا بلا شك يعد خطوة مباركة لها ما بعدها من نتائج حاسمة في اختيار الروايات الذي يعد عقدة العقد ولغز الألغاز في هذه الفرقة. ونحن نرحب بهذا العمل ونرجو أن يصبح رسمياً على أن ينضم إلى هذه اللجنة التمهيدية فريق من النقاد للانتفاع بخبرتهم ودرايتهم بشئون المسرح.
سراج منير
ترامى إلينا أن الأستاذ فتوح نشاطي توسط في الصلح بين الأستاذ سراج منير وإدارة الفرقة القومية، فعاد سراج إلى عمله كمخرج وبدأ فعلاً في إخراج (مصرع كليوبطرة)، ونحن نحمد هذه الروح التعاونية بين أفراد الفرقة ونتمنى دوامها.
الفرقة الموسيقية
يقولون إن هناك فكرة لتوفير أكبر عدد ممكن من أفراد الفرقة الموسيقية التي تعمل مع الفرقة القومية.
وبهذه المناسبة نذكر أن عدد أفراد هذه الفرقة 15 عازفاً، وهم يكلفون الفرقة القومية ألفاً من الجنيهات كمرتبات
وفي الواقع أن الفرقة القومية ليست في حاجة إلى فرقة موسيقية بهذه الضخامة لأنها لا تخرج روايات أوبرا أو أوبريت
مصر الخالدة
قدم الأستاذ فتوح نشاطي إلى إدارة الفرقة القومية، رواية (مصر الخالدة)، وهي مأساة فرعونية أشاد فيها بالعبقرية المصرية القديمة
الإخراج في الفرقة القومية
بدأ العمل في إخراج الروايات وتوزيع الأدوار على النحو الآتي:
عهد إلى الأستاذ فتوح نشاطي إخراج الروايات الآتية:
(ماريا)، وهي درامة إسبانية عنيفة تصور رجلين يتنازعان حب امرأة.
(الأمل)، وهي رواية مقتبسة بقلم الأستاذين: سليمان نجيب وعبد الوارث عسر، وهي(325/72)
عبارة عن تصوير للجيل الحاضر الذي يريد أن يشق طريقه إلى الحياة بصدق وعزم، دون أن يأبه للتقاليد الموروثة.
وعهد إلى الأستاذ عمر جميعي بإخراج (امرأة تستجدي)
كما عهد إلى الأستاذ سراج منير بإخراج (مصرع كليوبطرة)
وبهذه المناسبة نذكر أن الروايات الثلاث (ماريا) و (مصرع كليوبطرة) و (الأمل) قد وزع أدوارها المسيو فلاندر
ثقافة مخرج
كتب أحد المخرجين كلمة يدافع بها عن السيدة فاطمة رشدي في نوعها الجديد حيث هبطت إلى فن الصالات فقال: إن موليير حين طرد من فرقة الكوميدي فرانسيز افتتح مقهى أمام المسرح وكان الممثلون يأتون إليه ذرافات ووحداناً يتناولون عنده شرابهم وطعامهم، فلما سويت الأمور بينه وبين إدارة الفرقة بعد سنوات عاد إليها ولم يكن فنه قد تأثر بإدارة المقاهي
وللحقيقة والتاريخ نقول: إن موليير مات قبل إنشاء فرقة الكوميدي فرانسيز ببضعة أعوام لعلها خمسة، وأن موليير لم يفتح مقهى وإنما كان صاحب مسرح اسمه (مسرح موليير)
ولسنا نعيب على مخرجنا الجهل، وإنما نعيب عليه التبجح في إيراد هذا الدفاع وهذا الدليل الذي لا يأتيه الباطل!
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
(شارل بواييه وجريتا جاربو) في رواية (ماري والوسكا) التي قام فيها شارل بدور (نابليون) وجريتا بدور (صديقته). وقد زعم بعض النقاد ان شارل تغلب على جريتا في هذه الرواية والصحيح أن شخصية نابليون كانت أقوى من شخصية مارى والوسكا. وبهذا طغت شخصية شارل على شخصية جريتا.
كارول لومبارد
يقول أصدقاء وصديقات كارول لومبارد إنها ستعتزل السينما لتكون زوجة كلارك جابل(325/73)
ومع أن للحياة الزوجية جمالها إلا أننا نشك كثيراً في أن ممثلة عظيمة مثل كارول لومبارد في إمكانها أن تستعيض عن مجدها بحياة منزلية مهما بلغ من سعادتها. إنها إحدى ملكات السينما فكيف ترضى بالنزول عن عرشها بهذه السهولة. لقد جربت كثيرات غيرها هذه التجربة فعدن بالفشل الذريع
(كونستانس بينيت) نجمة متروجولدوين ماير. وكانت يوماً ما الممثلة الأولى في هوليود وما زالت تحتفظ ببعض مكانتها فيها وتظهر في روايات قوية.
وهي تعد في الطليعة بين قائدات المودة في مدينة السينما
نلسون أدي وجانيت ماكدونالد نجما شركة مترو جولدوين ماير ومن أبرع المغنين في العالم ظهرا معاً في روايات موسيقية كثيرة آخرها (روزالي) التي عرضت في بداية الموسم الماضي.
وأشهرها (أيام الربيع) التي ما توال تعرض حتى الآن في دور السينما الصيفية
جمال الساق
جمال الساق في عالم هوليود من شرائط الجمال الأولى. والمقاييس لجمال الساق تحتم أن تكون كما يأتي:
الكاحل: ثماني بوصات ونصف - سمانة الرجل: اثنتا عشرة بوصة ونصف - الفخذ: تسع عشرة بوصة ونصف
ويقولون إن سر جمال السيقان هو في رياضة المشي العادي
والشهيرات بجمال السوق في هوليود هن: كلوديت كولبيرت جنجر روجرز: أليس فاي. ألينورا باول. بيتي جرايل. مارلين ديتريش
(ماجوري ويفر) التي نالت عقداً سينمائياً عن طريق التربع على عرش الجمال. فقد تسارعت إليها الشركات السينمائية بعد أن أصبحت ملكة للجمال في أمريكا، واستطاع دافيد زانيخ أن يقتنصها ويعطيها دوراً في رواية (شهر العسل الثاني)(325/74)
العدد 326 - بتاريخ: 02 - 10 - 1939(/)
قالوا استقال طلعت حرب!
قلنا وكيف يستقيل طلعت حرب من عمل هو فكرته وكلمته وطريقته وغايته ورمزه؟ إن في الاستقالة معنى التفريق بين العامل والعمل، ينتسب إليه ما دامت يده فيه، فإذا خلاه لسبب من الأسباب أصبح غريباً عنه؛ ولكن طلعت حرب معناه بنك مصر وشركات مصر واقتصاديات مصر، فلا تجد بين اسمه وبين هذه الأسماء تفاوتاً في الدلالة لا في الذهن ولا في الخارج. فالتعبير بالاستقالة عن راحته الضرورية بعد الجهاد الطويل والجهد الثقيل والحركة الدائبة تعبير مباين لوجه الصواب في اللغة وفي الواقع
إن طلعت حرب موجود في مؤسساته وجود الروح في الجسم العامل، لا ينفك عنها ما دامت قائمة؛ وقيامها الثابت بعمائرها ومظاهرها وإنتاجها تماثيل خالدة لهذا الزعيم الوطني العبقري الموفق. وإذا حق للتاريخ أن يجادل في أقدار العظماء وآثار الزعماء الذين برزوا في ميادين النهضة المصرية الحديثة، فإن قدر طلعت حرب، وأثر طلعت حرب، لا يمكن أن يكونا في يوم من الأيام مثار جدل ولا موضع شك. وإذا جاز للتاريخ أن يعزو نجاحنا السياسي إلى أسباب خارجية أهمها اضطراب العالم واصطراع الدول، فإنه لا يستطيع أن يعزو نجاحنا الاقتصادي إلا إلى عوامل داخلية أولها وأهمها كفاية طلعت حرب، وجهاد طلعت حرب!
ولقد كان هذا النجاح الاقتصادي الماثل في بنك مصر وشركات مصر هو وحده الحجة الناهضة على رشد هذه الأمة الكريمة: رحض عن سمعتها الأذى، ودحض عن كفايتها التهم، وجلا عن نهضتها الشكوك، وبدد عن مستقبلها السحب؛ لأنه نسقٌ من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يدوم على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئاً وراء الزعامة المترددة. ثم انتشر هذا الفوز الاقتصادي وانبسط أفقه واتسع مداه حتى أصبح نهضة اجتماعية شملت مرافق البلد من كل نوع، وتناولت أمور الناس من كل جهة: أجْدت على العلم ففتحت له أبواب العمل، وعلى التعليم فمهدت له سبل التطبيق؛ وعلى الأدب فاستعملت اللغة في أعمال المال، ونشرت الثقافة بالطباعة والإذاعة والتمثيل؛ وعلى الأخلاق فأحيت في الرجال الثقة وقوّت في الشباب الرجولة؛ وعلى الاجتماع فوقت الأمة شر العطلة المجرمة والأزمة المستحكمة باستخدامها الألوف من الموظفين والصناع والعمال في شركات البنك وفروعه؛ وعلى القومية فخلقت(326/1)
الروح الجماعية بإنشائها الأعمال التي تقوم على رءوس المال وتَوَزُّع العمل وتساند القوى وتضامن الجماعة؛ وعلى السياسة فكفكفت عنها شِرَّة النفوذ المالي الأجنبي بمنازلتها الجريئة له في ميادينه القوية الحصينة؛ وعلى الإسلام فساعدت على إقامة ركن من أركانه، وكشف الضر عن منزل وحيه وقرآنه؛ وعلى وحدة العرب فوصلتها بأسباب التعاون ووثَّقتها بسلاسل الذهب. والاقتصاد اليوم وقبل اليوم كان دستور الحياة وعلة السعي لها وغاية الجهاد فيها، فلا بدع إذا أثر في كل شيء، وعمل في كل حركة، وهاج في كل ثورة، وصاح في كل نهضة
ذلك هو مدى الاستقلال الاقتصادي الذي يتبوأ عرشه اليوم طلعت باشا حرب، والشعب كله على عُدوتي واديه يعتقد له الحب، ويعرف له الجميل، ويخلص له الشكر، ويختلف في كل شيء إلا في فضله. وتلك منزلة من تكريم الله وتقدير الوطن لا يبلغها إلا الأفذاذ المخلصون الذين شغلهم حب الخير ففكروا وأمِلوا، ثم آمنوا وعملوا، ثم استمسكوا بروح الله وقوة الأمة على عصف الخطوب وإلحاح المكايد، حتى استقر بهم الإيمان على الفوز، واستقام بهم الإخلاص على الطريقة؛ فكانوا مثلاً للجهاد الصابر المثابر الذي يتلمس القوة من جوانب الضعف، ويتطلب الكثرة من أشتات القلة، ويخلق النجاح اليقين من أحاديث المنى، ويرفع في معترك الشبه والظنون هذا الصرح الباذخ فيكون قاعدة للمصلح ومنارة للمتخلف ومثابة للشريد
فليت شعري هل تملك الأحوال الحاضرة عن أن تعوقنا عن أداء الواجب الوطني لهذا الرجل العظيم؟ إنا لا نريد أن نقدم إليه ثروة ولا عمارة ولا شارة؛ إنما نقترح أن تجعل له الأمة يوماً من أيامها الغر الحوافل، تفد عليه فيه طوائفها المختلفة من زراع وصناع وتجار وموظفين وطلبة، فيقدمون إليه شكران الوطن منظوماً في عقود الزهر، وقصائد الشعر، وهزج الأناشيد، وحماسة الهتاف، ليشعر هذا المجاهد البطل، وهو ينفض غبار المعارك الغالبة عن جبينه المتوج، ويمسح أذى السنين الناصبة عن جسده المهدود؛ أن الأمة التي شغل بنهضتها فكره، وقضى في خدمتها عمره، وأنفق فى سبيلها قواه، لم تفرط في جانبه، ولم تقصر في واجبه، ولم تعدُها عن شكر أياديه عوادي الخطوب الراصدة
ذلك الشكر الوطني العلني الحاشد هو في رأينا خير ما يقدم اليوم إلى رجل مثل طلعت(326/2)
حرب غمره خير الله حتى شرق به، ولزمه مجد الحياة حتى غرِض منه، وخدمه سلطان الجاه حتى زهد فيه؛ فلم يعد يطمع إلا في خفقة الحب من فؤاد شاعر الإخلاص من لسان شاكر
أما قيام حافظ عفيفي على ما أسس وشاد طلعت حرب، فذلك هو ضمان الله وأمان القدر. لأنه بإجماع الرأي أجدر من في مصر لخلافة الزعيم العظيم، وما رأينا الناس يخلدون بثقتهم بعد طلعت حرب إلا إليه، لاعتقادهم أنه كذلك رجل إنشاء وعمل، وصاحب رأي وعزيمة، ورسول إصلاح وخطة، ولم يتول عملاً من الأعمال إلا وضع فيه النظام والدقة والثقة والنزاهة. وكذلك عوّد الله الكنانة أن يلطف بها في القضاء ويُخلف عليها في القدر!
احمد حسين الزيات(326/3)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 17 -
أراد صاحبنا أن يقسم الأدب إلى قسمين: أدب تركيبي وأدب تحليلي، ثم بنى على هذا التقسيم أحكاماً خواطئ، كعادته في كل ما يتناول من الشؤون الأدبية وإلا فمن الذي يصدق أن التشبيهات تُعاب بحجة أنها صور تركيبية، وبحجة أن الأمم لا تهتم بالتشبيهات إلا في حالتها الفطرية؟
إن أحمد أمين أفرط في تحقير التشبيه اقبح إفراط، ونسى أنه عمليةٌ ذهنية تشهد بقوة الذكاء، ودقة الملاحظة، والقدرة على ضم الصور بعضها إلى بعض
ولو جارينا أحمد أمين في أحكامه الجائرة لأغضينا عن جمال التصوير في قول ابن المعتز:
لا مثلَ منزلة الدويرة منزلٌ ... يا دار جادكِ وابلٌ وسقاكِ
بؤساً لدهر غيرتك صروفهُ ... لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحلُ للعينين بعدك منظرٌ ... ذُمّ المنازلُ كلُّهن سواك
أي المعاهد منك أندبِ طيبهُ ... ممساك بالآصال أم مغداك
أم بَرد ظلك ذي الغصون وذي الجَنَي ... أم أرضك الميثاء أم ريّاك
فكأنما سُعِطتْ مجامر عنبر ... أوفُتَّ فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباءُ أرضك جوهَرٌ ... وكأن ماَء الورد دمع نداك
وكأنما أيدي الربيع ضحيةً ... نشرت ثياب الوْشي فوقُ رُباك
وكأن درعاً مُفْرغاً من فضة ... ماءُ الغديرِ جَرَتْ عليه صباك
وقد أشرنا من قبل إلى أن أحمد أمين يرى التشابيه ضرباً من الألاعيب، وليس من الكثير عليه أن يرى ذلك فقد رأيتم فيما سلف وسترون فيما بعد أن للرجل طريقة في الفهم تخالف طريقة أهل الأدب
وأُدعم هذا الهجوم بالشاهد الآتي لتسقط حجة من يدّعون أننا نظلمه ونتناسى مكانته الأدبية
قال أحمد أمين إن الأدب العربي جنح إلى التركيب وغفل عن التحليل، وكان دليل ذلك(326/4)
عنده (أن علماء البلاغة العربية عُنُوا بالإيجاز أكثر من عنايتهم بالإطناب، وأُعجبوا بجوامع الكلم أكثر من إعجابهم بالكلام الطويل المنبسط، بل إن بعضهم كأبي هلال العسكري فهم أن الإطناب تكرار المعاني وطول الألفاظ، وقال: (إن كتب الفتوح وما يجري مجراها مما يقرأ على عوامّ الناس ينبغي أن تكون مطوّلة مطنباً فيها) فكأنه يريد أن يجعل الإطناب أدب العامة، والإيجاز أدب الخاصة)
ذلك كلام أحمد أمين، وهو يدل على أنه لم بفهم كلام أبي هلال وإليكم البيان:
إن كلام أبي هلال معناه أن الكلام له مقامات، فإن خاطبت رجلاً ذكياً فأوجز: لأن الإطناب في مخاطبة الأذكياء يعدّ من التطويل وهو فضول، وأن خاطبت الجمهور فأطنب: لأن الجمهور مكوّن من عناصر كثيرة تتفاوت في الفهم والتمييز والإدراك، والحزم يوجب أن نطنب حين نخاطب الجماهير لنصل إلى إفهامهم ما نقصد إليه من المعاني والأغراض
ذلك معنى كلام أبي هلال، فهو لا يريد أن يقول بأن الأدب يكون أدب خاصة عند الإيجاز وأدب عامة عند الإطناب، وإنما يريد أن يحدد واجب الشاعر والكاتب والخطيب، ودليل ذلك أن علماء البلاغة مجمعون على أن الإيجاز في مخاطبة العامة خطأ، والإطناب في مخاطبة الخاصة ضياع
وعلى ذلك يكون شرف البيان موقوفاً على فهم مقتضيات الأحوال، فالأديب الذي يوجز حين يخاطب الخاصة ليس أعلى منزلة من الأديب الذي يطنب حين يخاطب العامة، كما يتوهم أحمد أمين الذي يكيل الحقائق الأدبية بأوسع المكاييل، مع أنها لا توزن إلا بأدق الموازين
فمن أين فهم أحمد أمين أن الإطناب يراه العرب من المبتذلات حتى يحكم بزهدهم في الأدب التحليليّ الذي يستوفي عناصر الموضوعات؟
وعاب أحمد أمين على العرب أن يهتموا بجمع الحكم والأمثال وعدّ ذلك نتيجة حتمية للأدب التركيبيّ، ولو كان أحمد أمين من المطلعين على الآداب الأجنبية لعرف أن الاهتمام بجمع الحكم والأمثال هو من الأغراض التي يهتم بها أكثر الشعوب. ويقول أحمد أمين إن (الخطب والكتب في كثير من الأحيان عبارة عن جمل قصيرة مركزة محكمة، كالذي نلاحظه في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري في القضاء وكخطبة زياد(326/5)
وخطبة الحجاج، ولو تناول الأدب التحليلي كل جملة من هذه الجمل لصاغ منها صفحات)
فهل يدرك الأستاذ أحمد أمين وجوه الخطأ في كلامه هذا؟
إن خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري من أنفس الخطابات في تحديد أصول القضاء، فهل كنت تنتظر أن يؤلف عمر بن الخطاب كتاباً في مجلد أو مجلدين يشرح فيهما لأبي موسى فروع القضاء؟
وما الذي تعيب على خطبة زياد وخطبة الحجاج؟
أتعيب عليهما الإيجاز؟ وما الموجب للإطناب وقد وقعت الخطبتان على رؤس من سمعوها وقوع الصواعق، وظلتا حديث الناس من جيل إلى جيل؟
ما رأيك في المستر تشمبرلن وقد ألقى خطبتين وجه إحداهما إلى مواطنيه الإنجليز، ووجه الثانية إلى أعدائه الألمان؟
ألا ترى أن هاتين الخطبتين أوجز من خطبتي زياد والحجاج؟
هما أوجز بلا جدال
فهل سمعت أن ناقداً أدبياً في فرنسا أو إنجلترا عاب على المستر تشمبرلن أنه أوجز ولم يطنب؟ هل سمعت؟ هل سمعت؟
وا أسفاه!!
إن المستر تشمبرلن حوله أمة تفهم أقدار الرجال، فقد أعلن الإنجليز عطفهم عليه حين رأوه يبكي جهوده الضائعة في الدعوة إلى السلام
وكان العرب أمة تفهم أقدار الرجال إلى عهد الحجاج: فقد كان مالك بن دينار يظهر عطفه على الحجاج كما أعلن الإنجليز عطفهم على تشمبرلن. كان مالك بن دينار يقول: ما سمعت الحجاج يشكو أهل العراق إلا رحمته منهم!
إن أحمد أمين يقول إن كل جملة من كتاب عمر بن الخطاب وخطبة زياد وخطبة الحجاج يصاغ منها عند التحليل صفحات، ويعد ذلك شاهداً على ميل العرب إلى الأدب التحليلي، فما الذي يقوله أحمد أمين في خطاب تشمبرلن إلى الألمان؟
إن خطاب تشمبرلن قد يصاغ منه عند التحليل مجلدات لا صفحات، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذا الخطاب شاهد على أن الإنجليز لا يحسنون تحليل المعاني والأغراض(326/6)
إن المستر تشمبرلن يفهم ما كان يفهمه زياد والحجاج
هو يفهم أن الجمل القصيرة المركزة المحكمة هي التي تبقى في الأذهان والقلوب، ويدرك أن التهديد الذي يصبه الخطيب في جملة أو جملتين، والسخرية التي يصوغها في كلمة أو كلمتين، أبقى أثراً من الكلام المطول المبسوط الذي يصاغ في صفحات
أيعرف أحمد أمين ما الذي سطره الفرنسيون على مدخل البانثيون؟
سطروا هذه العبارة الموجزة:
وهي عبارة تُشرح في مجلدات لا صفحات
أيعرف أحمد أمين الجملة المسطورة على باب قصر التين؟
هي الجملة القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني الجملة التي تقول:
(العدل أساس الملك)
وهي أنفع من ألف كتاب في شرح مزايا العدل وأثره في حياطة الملك
أيذكر أحمد أمين الآية المكتوبة في جميع المحاكم المصرية فوق منصة القضاء؟
هي كلمة القرآن المجيد:
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)
فهل يعدّ ذلك الإيجاز من الخطأ؟ أم يراه غاية في تذكير الناس بأصول الحقائق؟
يجب أن يعرف الأستاذ أحمد أمين أن العرب لم يستهينوا بالإطناب ولم يعدوه من المبتذلات حتى يحكم بأنهم يرونه من أدب العوامّ لا أدب الخواصّ. فالإطناب أسلوب من البيان يقصد إليه الشاعر والكاتب والخطيب حين يدعو المقام إليه، وهو أسلوب شريف لم يحتقره أحد من أهل البلاغة كما توهم أحمد أمين
وهل كانت سائر الكتب على نمط كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري؟
أين هو من الكتب المطولة التي كان يبعث بها علي بن أبي طالب إلى عماله في الأقاليم البعيدة والأقطار القصية؟ وأين هو من كتب العهود التي صارت بعد ذلك من تقاليد الحكومة الإسلامية؟
وهل كانت سائر الخطب كخطبة زياد وخطبة الحجاج؟
أين هو من الخطباء المطنبين الذي تحدث عنهم الجاحظ في البيان والتبيين؟(326/7)
أين خطب سحبان الذي كان يهدر بها من الظهر إلى الأصيل؟
أين أحاديث صعصعة بن صوحان؟
أين مشاورة المهدي لأهل بيته، وهي من أنفس الذخائر الأدبية؟
وتحدث أحمد أمين عن الإيجاز الذي التزمه مؤرخو العرب في كتب التراجم وعده من عيوب السليقة العربية، فهل كان ينتظر أن تصاغ تلك التراجم على نحو ما نصنع اليوم، وعلى نحو ما يصنع الأوربيون؟
كان هذا ممكناً لو أن المؤرخ العربي كان يقصر جهده على الترجمة لرجلين أو عشرة رجال، ولكن هذا كان من المستحيل على من يترجمون لعشرات أو مئات أو ألوف
وما الذي قرأ أحمد أمين من كتب التراجم؟
هل عرف كتب الطبقات: طبقات النحويين واللغويين والفقهاء والصوفية؟
إن كان عرف تلك الكتب فليحدثني كيف كان يمكن لرجل مثل السبكي أن يصنع أكثر مما صنع في طبقات الشافعية؟
وليحدثني كيف كان يمكن لأبي الفرج أن يصنع أكثر مما صنع في كتاب الأغاني؟ وليحدثني كيف كان يمكن لياقوت أن يصنع أكثر مما صنع في كتاب إرشاد الأريب؟ وليحدثني كيف كان يمكن للمقري أن يصنع أكثر مما صنع في نفح الطيب؟
لو أن هؤلاء الرجال ترجموا للشعراء والكتاب والخطباء والمؤلفين على نحو ما نصنع اليوم لأضاعوا علينا فرصاً لا تعود أبد الدهر، لأنه كان يستحيل عليهم أن يحدثونا عن جميع تلك الطوائف، وكانت هممهم ستقف عند الترجمة لعدد قليل من أصحاب المواهب في الأقطار العربية والإسلامية
فما الذي يستفيد أحمد أمين حين يغض من أقدار أولئك الرجال، وهو من فضلاتهم يعيش؟
هل يعرف كم ألوفاً من الأدباء والمؤرخين انتفعوا بجهود مؤلف الأغاني؟
هل يعرف أن ابن خلكان الذي احتقره وازدراه أدى مهمة يعجز عنها الأكثرون؟
إن أحمد أمين يعيش في عصر المطبعة، والسبل أمامه ممهدة لنشر ما يشاء، فما الذي صنع، وما الذي صنع زملاؤه في الترجمة لأعلام العصر الحديث؟
ليت دنيانا الحاضرة تعرف رجلاً مثل ياقوت يترجم لأقطاب الفكر والبيان في مصر(326/8)
والمغرب واليمن والحجاز والشام والعراق!
ليت ثم ليت! فأحمد أمين نفسه لا يعرف شيئاً من التيارات الفكرية في البلاد العربية والإسلامية لهذا العهد، وهو محتاج إلى ثعالبي جديد يعّرف الناس بفضلاء عصره كما صنع أبو منصور حين ترجم لأقطاب القرن الرابع
فما هذه الغطرسة على أسلافكم يا أدباء آخر الزمان؟
وبأي حق تتجنون على رجال أدّوا واجبهم أحسن أداء وهم في قلة من أسباب الرزق؟
إن أحمد أمين لم ير بلداً غير مصر إلا وهو مكفيّ المؤونة بأموال الحكومة المصرية. . . فهل يعرف كيف كان يصنع رجل مثل ياقوت وهو يطوّف بالمغرب والمشرق وعلى ظهره حقيبة يحمل فيها ما يتّجر به ليعيش؟
وأبو هلال الذي يستشهد أحمد أمين بكلامه في الإيجاز والإطناب؟
أبو هلال هذا لم يعرف سهولة العيش التي عرفها أحمد أمين، فقد قست عليه الأقدار حتى اضطرته، وهو من نوابغ الأدباء والمؤلفين إلى كسب قُوته من مزاولة التجارة بالأسواق، وهو الذي يقول:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليلٌ على أن الأنام قُرودُ
ولو اضطُر أحمد أمين - لا قدر الله ولا سمح - إلى كسب رزقه من مزاولة التجارة في الأسواق لنضب معين فكره وشُغل عن مضغ الكلام في أدب المعدة وأدب الروح. . .!
أُحب أن أعرف ما هي الغاية من تحقير ماضي الأمة العربية؟
أحب أن أعرف لأي غرض شغل أحمد أمين نفسه بالنص على أن عبد الحميد الكاتب فارسيّ الأصل؟
هل يريد القول بأن الأدب التحليليّ وصل إلى العرب من أدباء ليسوا من الأرومة العربية؟
وهو كذلك!
ولكن ما رأيك إذا حدثتك بأن الحضارة العربية هي صاحبة الفضل على عبد الحميد وابن المقفع وسائر من نبغوا في الممالك الإسلامية وهم من أصول أجنبية؟
إنك تعرف أن أعظم ما بقى من آثار ابن المقفع هو الحِكم المبثوثة في الأدب الصغير والأدب الكبير، وهي حِكم يغلب عليها الإيجاز، فهل تعدُ الإيجاز من عيوب تلك الحكم(326/9)
الخوالد بحجة أن الإيجاز من خصائص البلاغة العربية؟
اتق الله في نفسك، أيها الصديق، فللناس أذواق وعقول وتقول إنك لا تعرف في العربية غير شاعر واحد هو ابن الرومي وكاتب واحد هو ابن خلدون. . . وسترى في الأسبوع المقبل كيف نلتقي في تحرير هذا الموضوع الدقيق.
(للحديث شجون)
زكي مبارك(326/10)
هل آن للأزهر أن يبعث؟
للأستاذ محمد يوسف موسى
تصفحت بعض أعداد الرسالة الغراء التي صدرت وأنا بفرنسا صيف هذا العام، فرأيت في أحدها كلمة عن إهابه الأستاذ الكاتب علي الطنطاوي بعلماء الأزهر لمساعدته في تأليف كتاب عن الدين الإسلامي، يفيد منه العامة والخاصة والعرب والعجم والمسلم وغير المسلم، وأن هذا الاستنجاد لم يجد له سميعاً فضاع صرخة في وادي كما يقولون
ليطمئن الأستاذ نفسه فليس إلى بلوغ ما يريد من سبيل إلا إذا اعتمد على نفسه وأمثاله من الكتاب الذين يلذ لهم أن يقفوا بعض جهودهم على الدين ونشره، ويجدون التعب في ذلك عذباً جميلاً. أقول ذلك وأنا واثق مما أقول؛ فقد دعوت في أوائل هذا العام المنصرم إلى مثل ما يدعو إليه الآن فما وجدت غير التثبيط وأمثال هذه الكلمات: خَلّ عنك، الله قد وعد بأنه سيظهر الإسلام على الدين كله، وهو ليس في حاجة إلى مثل جهودك وجهودنا! وإلى القراء الأمر على جليته:
نزلت في صيف العام الماضي بفرنسا بعائلة محترمة بمدينة (ليون)، وتأصلت بيني وبينها الروابط لتقارب في العاطفة وتشابه في الميول. ولأنها عائلة محافظة، أعجبها مني قيامي ببعض ما يجب عليّ لله من الصلاة وتلاوة القرآن؛ فكانت أحاديثنا في أوقات الفراغ تدور كثيراً على الإسلام وما فيه من آداب عامة، وشرائع في مختلف مناحي الحياة تصلح للناس جميعاً. وبلغ بهم الأمر أن كانوا يطلبون مني تفسير بعض الآيات التي تشتمل على تلك الآداب والتشريعات، والآيات التي تضمنت أخبار عيسى عليه السلام وأمه العذراء.
وبديهي أن ذلك كان يسرني، وكنت أعمل على تحقيقه جهدي. ثم بدا لي فأعطيتهم القرآن مترجماً للفرنسية ترجمة مناسبة تقريباً.
ولما حان موعد سفري إلى مصر رجوني أن أرسل إليهم كتاباً بالفرنسية جامعاً لأصول الدين التي قام عليها، ومبادئه التي يدعو إليها. . . هنا وقف حمار الشيخ! إذ اعتذرت وأنا خجل بأن مثل هذا الكتاب لم يوضع بعد في اللغة العربية، بل إن أحداً لم يفكر في مثل هذا العمل.
وأخيراً رجعت للوطن بعد أن وعدتهم ببذل الجهد في تحقيق ما يرجون - من وضع كتاب(326/11)
كهذا يترجم للغات الحية ويوزع في مشارق الأرض ومغاربها بالمجان - لما في ذلك من خدمة عامة وتعريف بالإسلام لدى أقوام لا يعرفون عنه شيئاً، أو لا يعرفون إلا ما ينقله لهم جماعة ساءت نياتهم، فحرفوا واختلفوا وشوهوا الإسلام بما كتبوا.
إلا أني بكل أسف، كما أشرت أولاً، لم أجد هنا مساعداً أو مشجعاً؛ فقد تحدثت في ذلك إلى كثير من إخواني النابهين المدرسين بالكليات - الذين كان لي ملء الثقة في غيرتهم على الدين ونشاطهم في العلم - فكان الإعراض والتثبيط مما جعلني أسوف في الأمر من يوم لآخر حتى انقضى العام الدراسي أو كاد. ويعلم الله أن من بين هؤلاء الإخوان من إذا كلفه أحد الناشرين بمثل هذا العمل أو أشق منه نظير دراهم معدودة لشكر الله على هذا الرزق الذي سيق إليه، ولأعطى من نفسه فوق طاقته حتى ينجز له ما طلب فينقده أجره!
أخيراً جاء أوان السفر هذا العام فسافرت ونزلت بين العائلة نفسها فكان من أول ما سئلت عنه أمر الكتاب الموعود.
لي الله، فما كان أشد خجلي وأعظم حيرتي! وبعد لأي وجمجمة اعتذرت بأن مثل هذا العمل، لخطره ومسئوليته، يتطلب الأناة وطول الوقت حتى يخرج كاملاً بالقدر المستطاع. فهل يرضى السادة شيوخي وإخواني هذا التقصير في أداء واجب ديني يقوم بأكبر منه وأشق مرات ومرات رجال الأديان الأخرى، بينما نقضي أوقاتنا في قال وقيل وأخبار العلاوات والدرجات والسعي لها بمختلف الوسائل!
يميناً بالله أنه لا يخطر لي بالبال تنقص أحد يشرف بالانتساب للأزهر - فلست إلا واحداً منهم ينوبني ما ينوبهم - وإنما هو أمر أحرجني وأخجلني وآلمني فوجدت فرجة للتنفيس عني، وإنما هو إحساس عميق ببعض ما فينا من عيوب؛ والإحساس بالنقص أول الخطوات للسعي نحو الكمال. على أنه لولا حرصي على أن يظل (الطابق مستوراً) لأشرت إلى بعض المقارنات بين كثير من علمائنا ورجال الدين في أوربا، الذين لقيت منهم الكثير من ناحية الثقافة الواسعة الكاملة، وقضاء العمر في طلب العلم وخدمة الدين بدافع من أنفسهم وتربيتهم التي نشأوا عليها، حتى ليصح بحق الكثير منهم ما كنا استأثرنا به طويلاً من أوصاف مشرفة: حبر، بحر، علامة!
وبعد، فهاأنذا - رغم عملي بالأزهر والدراسة الخاصة التي ندبت نفسي لها بفرنسا والتي(326/12)
تأخذ كل وقتي حتى أيام العطلة - أمد يدي للأستاذ الطنطاوي شاكراً له غيرته التي دعته للتفكير فيما دعا إليه، واعداً حضرته بمساعدته بجهدي القليل وبجهود من أستطيع إقناعهم وضمهم لنا من زملائي، والله يهدي السبيل
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين(326/13)
بحث قانوني مقارن
القتل الخطأ
في الشريعة الإسلامية وفي القانون المصري الحديث
للأستاذ أحمد مختار قطب
من أمد غير طويل ارتفعت صيحات متفرقة تنادي بوجوب بسط القوانين الشرعية على البلاد. . . ولقد وجدت هذه الدعوة مرتعاً خصباً في نفوس عامة الناس. ولما كان من الثابت قطعاً أن السواد الأعظم من الجمهور لا يعرف عن القوانين الشرعية إلا فكرة ضئيلة مشوهة رأيت من ألزم واجبات الرجل القانوني أن يتيح لتلك النفوس فرصة تذوق ما في القوانين الشرعية من صلاح وعدالة وقوة مع مقارنة هذه القوانين بالقانون المصري الحديث
ولقد اخترت القوانين الجنائية لأنها هي التي يظهر فيها الفرق جليّاً بين الشريعة الإسلامية والقوانين الحديثة، ولأنها من جهة أخرى ألصق القوانين بالحياة البشرية. وسأبدأ أبحاثي بجريمة القتل بنوعيها سواء الجريمة العمدية أو غير العمدية
فنبدأ الآن بجريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية ثم في القانون الحديث حتى يتسنى لنا أن نحصر أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين التشريعين
في الشريعة الإسلامية
أحكام هذه الجريمة مستمدة من الآية الكريمة: (وما كان لمؤمنٍ أن يقتلَ مؤمناً إلا خطأ؛ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحريرُ رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله إلا أن يصدقوا. فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمنٌ فتحريرُ رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهَرَينِ متتابعينِ توبةً من اللِّه وكانَ اللُّهُ عليماً حكيماً)
أجملت هذه الآية الكريمة أحكام القتل الخطأ، وبالاستعانة بالسنة النبوية وبأقوال الشراح نستطيع تفصيل هذا الإجمال
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) والخطأ الوارد هنا هو بمعنى عدم القصد. وعدم(326/14)
القصد هو مناط الإباحة. . .
فالأصل أن الخطأ لا يعاقب الإنسان عليه (ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به) ولكن لما نتج عن هذا الخطأ إزهاق روح بشرية صار إثماً ووجب عقاب فاعله على رعونته وإهماله
ولقد عدّد الفقهاء صور الخطأ وأوجهه فقالوا: إن وجوه الخطأ لا تحصى ويربطها جميعاً عدم القصد مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلماً، أو يسعى بين يديه من يستحق القتل من زان أو محارب أو مرتد فطلبه ليقتله فلقي غيره فظنه هو فقتله فذلك خطأ
وعقوبة هذه الجريمة تختلف باختلاف الشخص الذي وقعت عليه، فإن كان المجني عليه مؤمناً من قوم مؤمنين فله حكم خاص؛ وإن كان مؤمناً منتمياً إلى الأعداء ومقيماً معهم فله حكم آخر؛ وإن كان من قوم معاهدين فله حكم مخالف لما سبق
فإن كان المقتول خطأ مؤمناً من قوم مؤمنين فقد قالت في حكمه الآية الكريمة: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله)
فبناءً على ذلك يلتزم القاتل بتحرير رقبة مؤمنة وتسليم دية إلى أهل القتيل، وعلّة إلزام القاتل بتحرير رقبة مؤمنة هو أنه قد تسبب بإهماله ورعونته في قتل نفس مؤمنة كانت تعبد الله فتعين عليه إقامة نفس أخرى محلها، ولا يمكنه ذلك بالإحياء فلا مناص إذن من العتق. ولا تنس ما في هذا العمل من حض ظاهر على إزالة الرق
وهذا العتق من قبيل الكفارة التي ترفع عن المذنب عقوبة الآخرة.
ولقد اشترط العلماء في هذه الرقبة المؤمنة أن تكون رقبة قد عقلت الإيمان، لأن الغرض هو تنصيب إنسان للعبادة بدل الإنسان المقتول، فلا يصلح إذن إعتاق المجنون جنوناً مطبقاً، ومن كان في حكمه.
والعقوبة الثانية هي دفع دية إلى أهل القتيل عوضاً عن دمه، ولقد ذكر القرآن الدية إجمالاً، ولكن السنة وضحت هذا الإجمال إذ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الدية مائة من الإبل
ولقد توسع العلماء بعد ذلك فقالوا: إن الدية قد لا تدفع من الإبل، بل قد تستبدل ذهباً، فهي عند أهل الذهب ألف دينار، وعند أهل الفضة اثنا عشر ألف درهم، وعند أهل الشاء ألف شاة، وعند أهل الحلل مائتا حلة. . .(326/15)
على أن دفع هذه الدية حق خالص لورثة القتيل إن شاءوا تنازلوا عنه، وإن شاءوا احتفظوا به؛ أما الكفارة، وهي إعتاق الرقبة المؤمنة، فلا تسقط بإبراء الورثة لأنها حق لله تعالى.
أما إن كان المقتول مؤمناً منتمياً إلى الأعداء، وكان القاتل يعتقد أنه كافر، فقد جاء حكمه في الآية: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) أي أن العقوبة هنا قاصرة على الكفارة، وهي تحرير الرقبة المؤمنة، فلا يلتزم القاتل بدفع دية إلى أهل القتيل، وسقطت الدية لوجهين أحدهما أن أولياء القتيل أعداء للمسلمين، فلا يصح أن تدفع إليهم فينتفعوا بها، والثاني أن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة فلا دية له لقوله تعالى: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا.
والحالة الثالثة تتحقق عندما يكون المقتول خطأ من قوم معاهدين أو ذميين، ففي هذه الحال يجب تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية إلى أهله. ونلاحظ أن هذه الحالة لا تفترق عن الحالة الأولى، وسبب الإلزام بدفع الدية هو أنه ما دام المقتول من قوم معاهدين فهم إذن أولى بديته
ثم قالت الآية في آخر الأمر: (ومن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) أي من لم يجد الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها، فصيام شهرين متتابعين يعفيه من هذا الواجب
هذه هي أحكام القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية وقد أوردتها بإيجاز يعفي القارئ من التفصيلات المسهبة
في القانون المصري
أما أحكام القانون المصري بالنسبة لهذه الجريمة، فقد وردت في المادة 238 من قانون العقوبات الجديد ونصها (من قتل نفساً خطأ أو تسبب في قتلها بغير قصد ولا تعمد بأن كان ذلك ناشئاً عن رعونة، أو عدم احتياط وتحرز، أو عن إهمال وتفريط، أو عن عدم انتباه وتوق، أو عن عدم مراعاة واتباع للوائح، يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تتجاوز مائتي جنيه)
هذه المادة تنص على أن هذه الجريمة نحتاج لنكوّنها إلى الأركان الثلاثة الآتية:
الركن الأول يتلخص في ضرورة صدور خطأ من الجاني، والخطأ هو سبب العقاب، إذ بدونه لا يكون هناك محل لتوقيع العقوبة. . . ويعتبر الخطأ موجوداً كلما ترتب على فعل إرادي نتائج لم يردها الفاعل مباشرة، ولا بطريق غير مباشر، ولكنه كان في وسعه تجنبها(326/16)
ولقد حدّدت المادة أنواع الخطأ وحصرت هذه الأنواع في الصور الخمس الآتية: وهي الرعونة وعدم الاحتياط والتحرز والإهمال أو التفريط وعدم الانتباه أو التوقي وعدم مراعاة اللوائح
ومما هو جدير بالملاحظة أن عبارات القانون واسعة يندرج تحتها كل أنواع الخطأ
والركن الثاني ضرورة وجود رابطة سببية بين الخطأ والنتيجة؛ وبتعبير آخر ألا يكون من الممكن تصوّر وقوع الجريمة بدون وجود الخطأ. فإن كان الموت مستقلاً عن الخطأ فلا محل للعقاب.
وبتعبير أكثر دقة يجب أن يكون الخطأ من أسباب وقوع الجريمة
وقد يحدث في الحياة العملية أن يساهم المجني عليه بخطأه في إحداث الجريمة؛ ففي هذه الحالة لا ترتفع مسئولية الجاني بل يظل مسئولاً، وإنما تخف مسئوليته بقدر خطأ المجني عليه وأثره في إحداث النتيجة
أما الركن الثالث فهو ضرورة وقوع الموت، وإلا فلا عقاب مهما كان الخطأ في ذاته. وهذا الشرط بديهي لأن الجريمة لا تتم بدونه، إلا أن الخطأ قد يكون في ذاته جريمة يعاقب عليها القانون
هذه هي الأركان التي تتكون منها الجريمة، وبمجرد استيفائها يجب عقاب فاعلها بإحدى العقوبتين الواردتين بالمادة إما الحبس لمدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وإما غرامة لا تزيد على مائتي جنيه
ولقد كانت هذه العقوبة في القانون القديم أخف وطأة منها في القانون الحالي، لأن العمل أظهر أن العقوبة المنصوص عليها في القانون القديم وهي الحبس لمدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تتجاوز خمسين جنيهاً مصرياً لا تكفي في الأحوال التي يكون فيها الخطأ جسيماً أو التي يتعدد فيها المجني عليهم
هذه هي جريمة القتل الخطأ في الشريعة الإسلامية، وفي القانون المصري الذي هو صورة للقانون الفرنسي، ويبدو لنا أن الشريعة الإسلامية تقارب القانون الحديث في بعض الأحوال وتفترق عنه في غيرها. فهي تشبهه في الوجهة العامة من حيث اشتراط الخطأ وصوره وأوجهه، ولكنها تختلف عنه اختلافاً بيناً في العقوبة. وعندي أن أساس هذا الاختلاف(326/17)
هوتغير الأوضاع الاجتماعية، فعقوبة إعتاق الرقبة أساسها نظام اجتماعي يسود فيه الرق
ولكني أعتقد أنه بقليل من الاجتهاد نستطيع التوفيق بين القانون والشريعة فنطور القانون إلى أن يوافق الأسس الشرعية التي لا تقبل التغيير، ونطور بعض الأحكام الشرعية التي روعي في وضعها تغيرها بالزمان والمكان
أحمد مختار قطب المحامي(326/18)
صفحة من التاريخ المغربي المجهول
تاريخ سلطنة الطلبة
للأستاذ إدريس الكتاني
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وعلى ضوء ما تقدم من حياة السلطان الرشيد نستطيع الآن أن نقول: إن الرشيد كان والده ملكاً على الصحراء بعد أن ولد هو بعام فقط، ثم تولى أخوه محمد الملك يوم أن كان هو لا يتجاوز من العمر عشر سنين، فقد نشأ الرشيد بين أحضان الملكين والده وأخيه؛ ثم إن السن التي يمكن أن يكون الرشيد فيها طالباً بجامعة تبعد عن بلده بعشرات الأيام، لا تقل مطلقاً عن خمسة عشر عاماً إن لم تكن فوقها بكثير. . . والرشيد في مثل هذه السن كانت دولة أخيه وقتئذ آخذة في القوة والانتشار، لكنها لم تبلغ فاسا. . . فلو أن الرشيد سار إلى جامعة القرويين طالباً، لسار إليها على أنه ابن ملك وأخو ملك، لا على أنه طالب عادي كما في القصة الآنفة الذكر. فإذا ذكرنا أيضاً أن الخصومة السياسية بين السلطان محمد ملك الصحراء وولاة فاس قد تكون حجر عثرة في ذهاب الرشيد إلى فاس تأكد لدينا بطلان تلك القصة. . . أضف إلى هذا أن كل من أرخوا للرشيد لم يذكروا أنه دخل فاسا إلا يوم أن دخلها فاتحاً
وهذه أسطورة أخرى لا تقل في التنسيق وبراعة الحبك عن سابقتها. تتحدث الأقوام التي رام على قلوبها الجهل فتبدع قصة من الخيال لتكون تاريخاً لسلطنة الطلبة. ولماذا نعيب على هؤلاء الأقوام جهالتهم وقد سكت حضرات المؤرخين عموماً عن صفحة ناصعة من التاريخ المغربي المشرق، ولم يستفز شعورهم مغزى تلك السلطنة التي تحمل في جوانبها نبل الغرض وشرف الغاية، وكان خليقاً بهم أن يكتبوا تاريخ (سلطنة الطلبة) بإسهاب ويبدعوا في وصف تلك المظاهر والمناظر أبدع الوصف، وحتى الشعراء - وهذا هو الغريب - كان لهم وجوم غامض أمام هذه السلطنة لست أدري أكان ناشئاً عن عدم تقديرهم لمغزاها السامي أم أن شعورهم كان قد انحط في هذين القرنين المتأخرين فلم يعد منهم من يذكرنا بمثل أبي تمام وأبي العلاء والمتنبي من شعراء القديم، أو بمثل شوقي وحافظ وإقبال(326/19)
من متأخري الشعراء، وإنما كان هناك شعراء حافظوا بكل أمانة على أوزان الشعر وقوافيه، ولم يخرجوا قيد شبر عن بحور الخليل وأنهار تابعيه، وأحسب من هنا جاءت العلة الأولى أيضاً، فكان مفهوماً ألا يهتم شعراؤنا - سامحهم الشعر - بسلطنة الطلبة وما تحويه من معاني الشعر والخيال. وأنى لهم ذلك الحس المرهف، والفكر المصقول، والقلب الشاعر، وهم إنما دخلوا إلى الشعر من باب الأوزان والقوافي؟!
قال رواة الأسطورة التاريخية: عندما أخذت الدولة السعدية في الانحلال والانخذال بعد وفاة المنصور السعدي، نشأ في كل مقاطعة من أرض المغرب رؤساء وزعماء يتولون حكم مقاطعتهم مستقلين تمام الاستقلال عن باقي المقاطعات الأخرى، فكان من سوء حظ مدينة تازة أن جار على مقاطعتها يهودي يدعى ابن مشعل، وامتد نفوذه إلى فاس فأرغم أهلها على تقديم هدية رسمية إليه عند رأس كل سنة. وليس هذا هو الغريب إنما الغريب أن تكون هذه الهدية عبارة عن أجمل فتاة في أكبر أسرة بفاس تقدم إلى ابن مشعل لتكون واحدة من جواريه وخدمه في قصر إمارته، كدليل على إخلاص الفاسيين له، وخضوعهم لحكمه
يالها من خرافة ما أشد سخافتها وبلاهتها عند من يعرفون المغاربة عموماً وأهل فاس على الخصوص! أتبلغ الجرأة بيهودي حقير إلى أن يصير حاكماً على بلد إسلامي، ثم يتجاوز هذا فيرغم بحكم سلطته بلداً عريقاً في الأسلام على أن يقود له أجمل وأشرف فتياته إلى دار الفسق والهوان؟
عندما تسيل آخر نقطة من الدم العربي الطاهر الذي يعيش على وجه البسيطة في المشارق والمغارب، عند ذلك يصح أن يكون لليهود حكم على العرب، أعني على أرض العرب
إيه يا فلسطين، عشت للعرب وعاش العرب لفلسطين
وعادت الأسطورة فقالت: ثم ما لبث أمر اليهودي أن سمع به شاب عربي صميم يدعى الرشيد بن الشريف فأخذته النخوة العربية ونفخت في أعصابه روحاً من الشهامة والإباء وكان طالباً من طلبة الجامعة القروية
فماذا فعل الرشيد يا ترى؟ لقد جمع حوله أربعين شاباً من صناديد الطلاب، ثم تم الاتفاق بينه وبين القائمين بأمر الهدية التي تقدم لليهودي على أن يكون هو هذه الفتاة العذراء التي(326/20)
ستهدى هذه المرة، وأن يكون أصحابه الأربعون في مكان (شورة) العروس، والمراد أن يندس هؤلاء الشبان داخل القبب التي تكون في صحبة العروس، وأن يكونوا عوناً لزعيمهم على ما يريد.
وتم كل شيء، فتسلح زعيم الطلبة الرشيد بن الشريف كما تسلح أبطاله الأربعون واتخذوا مطاياهم من الجمال فوقها الأخبية والقبب، وسار موكب الفتاة من فاس إلى ضواحي تازة من غير أن يكون فيه ما يبعث على الارتياب والظنون.
ولو كان لابن مشعل قليل من دهاء الزباء لأنشد مثل ما أنشدت هي في قصتها الشهيرة إذ قالت:
ما للجمال مشيها وئيداً
أجندلا يحملن أم حديداً
أم صَرفَانا تارزا شديداً
ولو أن ابن مشعل قال هذا لأجابه الرشيد في نفسه:
بل الرجال قبضاً قعودا
ثم قالت الأسطورة: ووصل الركب إلى دار ابن مشعل من غير أن تحوم حوله ريبة أو شكوك، فاستقبله اليهودي بسرور الظافر، وغبطة المنتصر، وأمر في الحال بإغلاق أبواب الدار، إذ كان قد استعجل لقاء الفتاة التي لن يجد شبيهتها في بنات إسرائيل، ولكنه ما استعجل إلا لقاء حتفه؛ فلقد حدث ما لم يكن في الحسبان من قبل. لم يشعر المسكين أن رأى جيشاً من الأبطال الغائصين في سلاحهم قد أحاطوا به إحاطة الجزارين بالذبيح؛ ثم سالت الدماء في بطاح دار ابن مشعل، حتى لم يبق بها دم حي
وفي صباح اليوم التالي أجمعت كلمة الطلبة الأربعين على مبايعة زعيمهم الرشيد فبايعوه على سنة الله ورسوله ملكاً على المملكة المغربية.
وأراد الرشيد أن يكافئ رجاله الأشداء على ما قاموا به من أعمال جسام، فأقام لهم سلطنة هزلية مؤقتة، وجعلها إرثاً مشاعاً بين جميع طلاب الجامعة القروية - عدا الفاسيين - يتبوأن عرشها أسبوعاً واحداً في العام كله
تلك هي الأسطورة التي تسير على أفواه رواة التاريخ المجهول؛ ولعلنا لا نحتاج إلى(326/21)
تضعيفها من الوجهة التاريخية بعد ما ذكرناه عن حياة السلطان الرشيد وكيفية جلوسه على عرش الملك المغربي العتيد
وبرغم ما في هذه الأسطورة من التزيد والتلفيق فإنها تستند في أصل وضعها إلى شيء من الحقائق التاريخية التي أشار إليها بعض الثقات من المؤرخين، فإنه قال ما معناه: وفد السلطان الرشيد يوم كان يتهيأ للجلوس على عرش المغرب ويعمل على إفهام الشعب أنه خليق بهذا العرش على رئيس يدعى الشيخ اللواتي، وبينا هو في ضيافته إذ رأى رجلاً يصطاد في هيئة الملوك وحوله حاشية من المماليك والفرسان فسأل عنه فقيل هو ابن مشعل من يهود تازة وقد عتا فيها وتجبر. فتنحى الرشيد سريعاً وجعل السكين في فمه (وذلك علامة تأكيد الاستعطاف والاستنجاد في أخذ الثأر ونحوه) واستقبل الشيخ اللواتي، فلما رآه هذا بادر إليه قائلاً: لبيك يا سيدي! نفسي ومالي طوع يديك. فأخبره الرشيد بما رأى ورجاه أن يؤلف له كتيبة من إخوانه الأشداء ليفتك بهذا اليهودي الذي يستطيل بنفسه على المسلمين وهو تحت حكمهم وفي أرضهم. فجرد له الشيخ اللواتي جيشاً من العرب البواسل تبلغ عدته نحو الخمسمائة وتواعد الرشيد مع جيشه الصغير على أن يلحقوا به متفرقين مختفين تحت أستار الظلام
وسار الرشيد إلى دار ابن مشعل التي تبعُد عن تازة ببضعة أميال، واستضاف اليهودي فأضافه. وعندما جن الليل، وهجع الناس كان رجال الرشيد قد أحاطوا بالدار وهم تحت السلاح، وعندئذ تسلل الرشيد من مضجعه، واحتال في دخول بيت ابن مشعل فبطش به في صمت ثم أشار لأصحابه فتسلقوا الأسوار وهجموا من كل جانب، ولم يشعر ساكنو القصر حتى وجدوا أنفسهم مغلولين في الأصفاد لا يستطيعون خلاصاً مما وقعوا فيه
وهكذا نجح الرشيد في هذه المؤامرة وأضاف إلى نفسه ما وجده من الأموال والذخائر فاشتد بها ساعده وقوى نفوذه
ويقف بنا المؤرخ عند هذا الحد فلا يذكر شيئاً عن سلطنة الطلبة. غير أنا نستطيع نحن أن نتم القصة بما رواه أحد العلماء استطراداً إذ قال: إن مولاي الرشيد هو الذي سن نزهة الطلبة التي جرى بها العمل كل سنة بفاس ومراكش أيام الربيع وذلك أنه لما فتك بابن مشعل واحتوى على ما كان لديه من الذخائر جعل لمن كان في معييته من الطلبة نزهة(326/22)
فاخرة، وقد كانوا نحو الخمسمائة ومن يومئذ اتخذت عادة سنوية مدة حياته وبعد موته
هذا هو التاريخ المفصل (لسلطنة الطلبة)، وهو تاريخ طويت صحائفه وجهلت أطواره منذ نشأته الأولى حتى الآن، ومن عجيب الصدف أن يقرأه الشرقيون - والمغاربة منهم - في آن واحد لأول مرة. ولعل من المؤلم أن أذكر هنا أن كثيراً من سلاطين الطلبة الذين سبق لهم أن جلسوا على عروش مملكة الطلاب كانوا يجهلون تمام الجهل تاريخ مملكتهم وعروشهم. ولو سألت آخر سلاطينهم - كما سألت أنا - عن سبب زيارتهم لضريح أبي الحسن علي بن حرزهم، لأجابك بما لا يرضي الحقيقة والتاريخ. ويجهل أن ذهابه لذلك الضريح إنما كان للترحم على الروح الشريف الذي كان السبب في جلوسه على عرش تلك السلطنة.
ولكن هل كان يضره هذا الجهل المعيب؟
حسبي أن أسكت الآن. وهل كان يهمني من كل هذا إلا أن ألفت نظر أبناء عمومتنا وخئولتنا في أقطار العروبة والإسلام إلى هذه القطعة الواسعة من دنياهم الإسلامية ليطلعوا على صفحة من تاريخ مجدها ألتالد والطريف؟
فيا شباب العرب سددوا سواعدكم لتحيوا مجد العرب
واذكروا دائماً أن لكم قطراً عربياً طالما صدفتم عنه وفيه أمة تريد أن تعيش لتحي مجد الإسلام والعرب
عاش العرب، وعاش الإسلام
(فاس)
إدريس الكتاني(326/23)
من الأدب الفرنسي
امرأة نوح. . .
للأستاذ ناجي الطنطاوي
تناول الكاتب الكبير (جان نوروا) في هدأة من الليل، في غرفة عمله المنعزلة، الكتاب الذي وقع تحت يده وفتحه، فالتقت نظراته بهذه الجملة:
(. . . عندئذ أمطر الله من السموات على سدوم وعمورة الكبريت والنيران. . .
ولكن امرأة نوح نظرت خلفها، فانقلبت في الحال تمثالاً من الحجر. . .)
فقرأها، ثم أغلق الكتاب المقدس
لقد كان هذا مع خياله الواسع، نقطة ابتداء كافية جداً. . . لقد وجد قصته. لم يبق إلا أن يسكبها في قالب جديد. ولفت نظره، في جريدة بجانبه، هذا العنوان الضخم:
(انتحار شاب في مطعم ليلي)
فقرأه وابتسم. . . لقد تم له ما يريد، وتألفت القصة. ليس هناك حاجة إلى النظر في أعمدة الجريدة. لقد كان بطله ماثلاً أمامه، يراه بوضوح: فتى ممشوق القد، في العشرين من سنه، أحرقته حمى حب ملتهب، ولم تكن لديه الشجاعة الكافية للفرار فهلك. وما الفائدة من الاطلاع على التفاصيل التي توصل إليها مخبر الصحيفة؟ لقد كانت عناصر الموضوع وتفاصيله التي تبعث فيه الحياة، كانت تتجمع لديه شيئاً فشيئاً: المرأة الأفاقة، والفتى الضحية. . . وأخيراً الحكيم الذي تجده في كل قصة (صورة المؤلف ذاته)
كان جان نوروا يحس لذة فائقة في هذا التلاعب. ولكن كان يخيل إليه أن الكلمات والحوادث تأتيه هذه المرة بأسرع وأحسن من كل يوم.
وانقبض صدره فجاءة. لماذا تسيل الكلمات بهذه السهولة على ريشته هذا المساء؟
وتذكر أن هذه الكلمات ذاتها خرجت من بين شفتيه قبل الآن. . . ومنذ وقت قريب. . . على أثر مأساة كادت تزعزع كيانه
وأخذ يفتش، كالمحموم، بين أوراقه المبعثرة على المكتب. . .
وكان يتمتم: (مستحيل! ليس من الممكن أن يكون (هو) قد وصل)
و (هو) كان ولده الذي تبناه، موريس لا ندري، ابن أعز أصدقائه عليه. شاب حدث، قاد(326/24)
خطواته في الحياة. يتيم، أخلص له، هو، جان نوروا، الأعزب الأناني.
لقد كان يذكر كيف تقبله عنده، وكيف أخذ يملأ قلبه وعقله من عقله وقلبه.
أجل، لم تكن جائزة جونكور التي نالها موريس في السنة الماضية إلا له هو، جان نوروا، ولولاه ما نالها. . .
ولكن ما كان أشد المأساة التي تبعت هذا النصر!
لقد علقت بموريس امرأة خطرة، فتأثر بها بشكل مزعج، بحيث أصبح من الضروري أن يتدخل جان نوروا، بقسوة في الأمر.
أين كانت ستقوده هذه المخلوقة بعد تبديد دراهمه القليلة؟ إلى الجنون؟ إلى السرقة؟ إلى الجريمة؟ ربما
لقد قال له وهو يعظه: (انتقل من هذا البلد. غيّر هذه الحياة. سافر دون أن تلتفت وراءك، وإلا فأنت هالك)
هه!. . . جملة التوراة بذاتها
وكانت تضطرب في يده إشارة تلغرافية من سَيْفون (الهند الصينية):
(ضجرت جداً. . . سأعود. . . أصدق عواطفي. . . موريس)
لقد غاظته هذه الإشارة حين تلقاها. النذل! وأخيراً، لا مناص من الحزم. لشدّ ما ساءه هذا
وهاهي ذي إشارة أخرى بين يديه:
(سَفْرة هانئة. . . سأكون في فرنسا قريباً. . . أعانقك)
وإذن ماذا؟
وكان جان نوروا يلتهم خبر الجريدة بنظراته. ما كان أروع هذه التفاصيل:
(بعد أن تعشى في المكان المذكور مع امرأة ذات هيئة غريبة، وبعد أن ذهبت صاحبته في الصباح الباكر، طلب الفتى غرفة خاصة وأخذ يحتسي فيها وحيداً أكواب الشمبانيا. وبعد نصف ساعة كانوا يخرجون به منها وقد اخترقت صدغه رصاصة. والبحوث الأولى تحمل على الظن بأن الفتى عائد من المستعمرات. ومع ذلك لم يتمكن من معرفة هويته)
وكان صوت خفي يصيح بجان نوروا: (ليس هناك أي شك، هذا الشاب المجنون هو موريس. . . موريس العزيز! وليس عليّ إلا أن أعدوا، لا أدري أين، للتعرف على جثته!)(326/25)
وكان جان قد وقف
وطُرق الباب في تلك اللحظة. . . فعرته رعشة وتمايل أليس هذا هو الخبر المشؤوم يحملونه إليه؟ وقفز. . .
ومع ذلك كان يتردد ويده على الباب
ولكن القرع عاود. . .
- أبي العزيز، أبي العزيز! هذا أنا! هذا ما كان يصيح به صوت عزيز عليه. . .
وفتح الباب سريعاً. . .
وبدا موريس جميلاً كالشبح
- أنت؟ أنت؟ أهذا أنت؟
- ولم الدهشة؟ ألم أخبرك بقدومي؟
- و. . . قدمت. . . من المحطة؟
- ومن أين تراني إذن أقدم؟
ومد له (جان) ذراعيه، فاندفع فيهما
ثم قال موريس:
- ما أشد سروري برؤيتك! كم ضجرت، باريز. باريز العزيزة! لم أكد أخترقها، حتى أحياني جوها!
وكان سكون. . . كان (جان نوروا) يفترس ابنه بنظراته كما لو كان يحاول الوصول إلى أعماق فكره. ثم صاح به وقد اصطكت أسنانه:
- لماذا عدت؟
فأجابه موريس مازحاً:
- لأني عاشق
- أتجرؤ؟
- ولم لا، يا أبي العزيز؟ فكرت فيها فوجدتها ساحرة ولا أدري في الحقيقة ما الذي يمنعني من زواجها. . .
- هم؟!(326/26)
وكان جان نوروا قد رفع قبضته. وصاح به:
- أنت مجنون
- أوه، ما هذا الذي تقول؟
- ما أقول؟ ستعود إلى السفر حالاً دون أن ترى (كريستيان) امرأة السوء هذه
فانفجر موريس ضاحكاً:
- ولكنني لا أتكلم عن كريستيان! هه، لقد نسيتها منذ زمن. . . أريد أن أتزوج فتاة - فتاة حقاً - لاقيتها هناك مع أسرتها، وقد عادت إلى باريس
ولم يعد جان يصغي إلى ما يقول، بل كان يضمه إليه
وقال موريس:
- ما أحسنك الآن! لقد قطعت عليك عملك فيما أظن، فأنت فيما أعرف لا تنقطع عن العمل، أليس كذلك؟ لقد قرأت هناك مؤلفك الأخير. بماذا تشتغل الآن؟
فرمى جان نوروا قطعة من الورق على ما كان يكتب، ولكنه لم يصب الهدف، وصاح موريس:
- امرأة نوح! هه، هذه القصة القديمة! مسخت تمثالاً من الحجر جزاء التفاتة! أعجب دائماً برموز الكتاب المقدس!
أما هذه النقطة فلن نتفاهم عليها قط.
فأجاب جان بحرارة:
- كلا، لا تستطيع أن تفهم، ولن تتخيل يا صغيري كم يسرني هذه المرة ألاّ تفهم!. . .
(دمشق)
ترجمة
ناجي الطنطاوي(326/27)
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
3 - السبيل إلى فهم فلسفته
يعجز الكثيرون - ومن بينهم كبار النقاد ومشهورو الكتاب - عن فهم لورنس وفلسفته، وما ذلك إلا لأن سلاحهم هو العقل وحده، وعمادهم هو المنطق والقوانين المنطقية.
فأول ما يجب أن يراعيه دارس لورنس هو أن هذا الكاتب ليس مما يسهل فهمه بالعقل، وإنما إلى جانب ذلك يجب أن يستعين القارئ بخياله وتجاربه وشعوره الجسماني. فلورنس قبل أن يصل إلى آرائه وقبل أن يستخلص فلسفته لم يلجأ إلى العقل أو التفكير بل كان عماده الغرائز الطبيعية ووحيه الرغبات الجسمية. والحقيقة أن لورنس رجل نحسه في دمنا، وفلسفته تختلف عن فلسفة كل من سبقه من الكتاب والشعراء، فهي ليست بناء شامخاً من العقل والتفكير، وإنما هي تجربة أو سلسلة من التجارب أحسها صاحبها في دمه ثم نقلها إلينا في صورة كلمات. وواجبنا نحن عند دراستها أن نرد هذه الكلمات إلى أصلها فنحسها كتجربة تجري في دمنا، كما كان الحال مع صاحبها في أول الأمر، فنحن إذ نقرأ لورنس فإنما نصحبه في رحلة طويلة في عالم جديد علينا.
ولما كانت كتب لورنس هي عبارة عن قصة روح تجول في العالم الإنساني تبرز ما في المجتمع من عيوب، وتحذر الناس من تيار المدنية الحديثة الذي قد يجرفهم إلى هاوية لا يعرف لها قرار، فواجبنا عند دراسة لورنس أن ندرس تجاربه التي على ضوئها وصل هو إلى آرائه وأفكاره التي ضمنها كتبه. ويجب أن نذكر دواماً أن لورنس كان فناناً قبل أن يكون كاتباً، حتى نفهم أن تجاربه وحدها ما كانت لتكفيه، فعمد إلى توسيعها والتعمق فيها، بل والتفاني في وصفها أحياناً. ومن ثم كانت شخصيات رواياته حقيقية وغير حقيقية. فهي حقيقية لأنها منقولة من الحياة وأصلها في الحياة، وغير حقيقية لأنها تأتي من الأعمال ما قد يختلف عما تأتيه مثيلاتها في الحياة. وقد كانت هذه الظاهرة أو هذا التناقض سبباً في فشل كثير ممن حاولوا دراسة لورنس، لأنهم لم يحسبوا لهذه النقطة حساباً(326/28)
ويختلف لورنس عن غيره من كتاب عصره في توجيه اهتمامه إلى اللاشعور أكثر منه إلى الشعور. ومن ثم كان الاختلاف البيَّن بين شخصيات رواياته وبين شخصيات الروايات الأخرى. فالأولى تعمل مدفوعة بقوانين أعمق من قوانين شخصيات الروايات الثانية، فهي أكثر حساسية وطواعية لقانون اللاشعور من الأخرى، وكان هذا الاختلاف مصدر صعوبة كبيرة في فهم ما يرمي إليه لورنس في بعض كتبه.
ولم يغب عن الكاتب مبلغ ما سوف يلاقيه قراؤه من العناء في فهم هذه الكتب فعمد إلى بسط آرائه وشرحها بطريقة مباشرة لا رموز فيها ولا أحاجي في بعض كتبه التي من أهمها كتاباه عن تحليل اللاشعور وكتابه الذي يحتوي على مقالات متنوعة؛ وأخيراً كتابه الذي طبع بعد وفاته واسمه (فينكس)
ومن أكبر الصعاب التي صادفت لورنس أنه قام يبشر بدين الجسم ويبث الدعاية له بين قوم عبدوا العقل ونصبوه إلهاً عليهم، وكان لزاماً عليه أن يأتي بالمعجزات قبل أن يستطيع تحويل الناس عما يعتقدون إلى ما يعتقده هو.
رأى لورنس هذه الصعوبة، ولكنه كان لا يعرف لليأس معنى، ولا كان الفشل يعرف له طريقاً رغم أنه كان يصدم المرة بعد المرة، وما ذلك إلا لأنه كان واثقاً من صدق رسالته، ومن الفوز في النهاية. لقد شعر في داخلية نفسه بالصراع العنيف بين الجسم والعقل، كل يريد أن يبسط سلطانه ويسيطر على الآخر. وهذا هو السبب في أن القارئ المدقق يجد دائماً في كل شخصية من شخصيات روايات لورنس تيارين من الحياة: تيار الحياة العادية وتيار الحياة الرمزية، بمعنى أن لورنس كان يرى في كل شخصية قوتين: قوة العقل التي تحاول أن تجعل كل شيء يبدو صحيحاً، حتى ولو عاد على صاحبها بالضر، والقوة الثانية هي قوة الجسم الغريزية، وهذه لا تخدع ولا تُخدع، فما يعود على صاحبها بالضرر تجنبته، وبالعكس تقبل على ما فيه مصلحة صاحبها لا يؤثر فيها مؤثر ولا يثنيها عن طريقها مغر من المغريات الصناعية. ولقد لاحظ لورنس على حياتنا الحديثة أننا بدأنا نضرب بقوة الجسم ورغباته عرض الحائط، وبذلك نمهد السبيل لسيادة العقل ويسطرته علينا. ومن ثم كان الصراع العنيف الذي يجري في داخل شخصيات لورنس التي ترمي إلى كسر قيود العقل والتحرر من ربقة استعباده، حتى توفق إلى الاستماع إلى رغبات الجسم ثم العمل(326/29)
على تحقيقها، وبهذه الطريقة تستكمل الحياة الصحيحة الحقة. ويرى لورنس أن رغبات الجسم لا تكذب قط، فالجسم هو الذي يشعر بالجوع والعطش، وهو الذي يشعر بالفرح والحزن، وهو الذي يشعر بالحب والكره، وهو الذي يشعر بالعطف والنفور، وهو الذي يشعر بالحنو والصد وما إلى ذلك من العواطف التي مرجعها الجسم وحده، وأما العقل فلا تتعدى وظيفته تسجيل هذه العواطف والاعتراف بها
وإن حياة الجسم لتظل طبيعية حتى يتدخل فيها العقل، فيحدث الانقسام ويبدأ التفريق بين الخير والشر، وهذا أساس شقاء البشر، وهذا الانقسام هو نتيجة لرغبة العقل في تقييد الجسم والحد من حريته، فهو لا يريد أن يتركه يشعر كما يشاء أو يطلب ما يريد، ثم لا يقتصر الأمر على ذلك، بل يحاول العقل أن يملي على الجسم طائفة من العواطف ينعتها له بأنها الخير، ويحرم عليه طائفة أخرى على اعتبار أنها الشر، وبمعنى آخر يحاول العقل أن يبسط علينا سيطرته ثم يتحكم فينا بعد ذلك فيفرض علينا ما يجب أن نشعر به وما لا يجب أن نشعر به؛ ثم بعد ذلك يفرض علينا كيف نشعر بهذه العواطف التي اختارها لنا، ويستمر العقل على مسلكه هذا كلما أنس من الجسم خضوعاً وخنوعاً، حتى يأتي الوقت الذي تموت فيه كل مشاعر الجسم وعواطفه، ولا يبقى سوى هذه العواطف المصطنعة المتكلفة التي صاغها لنا العقل وخدع بها الجسم. وقد مثل لورنس شخصية الرجل الحديث في روايته المصادرة (عشيق لادي تشاترلي) تحت أسم كليفورد الذي يدعو إلى العواطف المنظمة التي يرسمها لنا العقل، ويدعو كذلك إلى استئصال العواطف الجائشة الطبيعية التي لم يتناولها العقل بالتهذيب والتشذيب
ويرمي لورنس من كتاباته سواء في ذلك رواياته الطويلة أو قصصه القصيرة، أو مسرحياته الأربع، أو كتب أسفاره، أو مجموعة أشعاره، إلى فك قيود الجسم وتخليصه من الأغلال التي أصبح يرسف فيها منذ أمد طويل. ويرى لورنس أن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هذه الغاية لا تكون إلا بترك الجسم يستمع إلى أحلامه، وينفذ رغباته دون أن يكون عليه من العقل رقيب أو محاسب، وبمعنى آخر يريد لورنس أن يوقظ الجسم من سباته العميق، أو يبعثه من رمسه بعد أن دفنته المدنية الحديثة ووارته التراب. ففي القصة القصيرة المسماة: (شمس)، ترى المرأة وقد استلقت عارية، لتهب نفسها للشمس، لأنه(326/30)
شعرت برغبة جسمها في ذلك، وبذلك تتغلغل الشمس في جسمها وتشعر المرأة بالحياة قد دبت فيه، وتسير، وقد امتلأت حيوية وجمالاً. لم تسأل المرأة نفسها: لِمَ يطلب جسمها الشمس، ولِمَ رغب فيها، لأن هذه الأسئلة هي من صنع العقل وابتكاره. لم تفكر المرأة في العقل ولا في أسئلته أو منطقه، وإنما حصرت كل تفكيرها في جسمها، فعمدت إلى إعطائه ما يطلب، حتى إذا فعلت شعرت كأن ينبوع الحياة قد تفجر من جسمها من جديد، بعد أن جف ماؤه أو كاد. . . ولقد اختار لنا لورنس هذه المرأة مثالاً نحتذيه ونقلده، بعد أن رأى الناس قد أعطوا العقل أهمية لا يستحقها، ورفعوه إلى مكانة ما كان له أن يرتفع إليها. لقد أولوا أسئلته أذناً صاغية، وكان من أثر ذلك أن تحكم فيهم العقل وتسيطر عليهم، وكل ذلك على حساب الجسم، وكانت النتيجة الحتمية أن بات الناس يعيشون، وما هم بأحياء. خلق لهم العقل حالة وأجبرهم على الاستقرار فيها دون تغيير أو تبديل، وهذا أبعد ما يكون عن الحياة الصحيحة. ونحن نشاهد أثر ذلك في فشل كثير من الزيجات في عصرنا هذا، لأن حبنا في الحقيقة إنما هو وليد العقل لا دخل للجسم فيه، وأما الزواج الحقيقي فأساسه الجسم وعماده الرغبات الجنسية، ولذلك نجد أن زواج العقل الحديث مآله إلى فشل ثم إلى طلاق.
ونحن لا ننكر أن كثيراً من علماء علم النفس أمثال ولجوا باب اللاشعور قبل لورنس وحاولوا تحليله، ولكنهم اتبعوا في ذلك الطريقة العلمية التي تعتمد قبل كل شيء على العقل، وحذا حذوهم بعض الكتاب العصريين أمثال أندريه هكسلي فلم يتركوا باباً دون أن يلجوه، فكتبوا في اللاشعور، ولكن كان رائدهم في ذلك العقل والتفكير، حتى تجاربهم العلمية أعطوها صبغة عقلية محضة، ولذلك فشلوا حيث نجح لورنس لأنه لم يعتمد على غير تجاربه الخاصة التي ترجمها إلى لغة جسمانية صريحة أثارت المجتمع وأقامته ضده
حتى في خلق شخصيات رواياته، لم يستلهم سوى غرائزه وحواسه. وكان هذا سبباً في عجز كثير من الكتاب العقليين عن فهم لورنس وإدراك فلسفته، ولكنهم لم يترددوا في الاعتراف له بقصب السبق وتفوقه عليهم في مضمار العبقرية والنبوغ. فنرى لورنس الحميم أثناء حياته وعدوه اللدود بعد مماته يقول في كتابه المسمى (ذكريات عن لورنس): (إن للورنس من التجارب ما لا طاقة لنا على فهمه أو إدراكه. ولم يكن أصدقاؤه ليستطيعوا أن يجاروه أو يسيروا معه جنباً إلى جنب نظراً لأن ما يراه هو سهلاً بسيطاً يدق على إفهام(326/31)
الكثيرين ويصعب فهمه). ثم يقول هكسلي في أحد كتبه عن لورنس: (إن صحبة الإنسان للورنس عبارة عن اشتراكه وإياه في مغامرة استكشافية يرى فيها الإنسان كل ما هو جديد عليه. وذلك لأن لورنس يعيش في عالم غير عالمنا، ويرى ما لا نرى، ويستخلص مما يرى ما نعجز نحن عن استخلاصه. والحياة في نظر لورنس ما هي إلا دور نقاهة طويل يشعر فيه الإنسان وكأنه قد خلق من جديد في كل يوم وفي كل لحظة. . . ولورنس يعرف كل شيء عن كل شيء، فهو يعرف الشجرة وكنهها، والزهرة وأصلها، والقمر وما يحيط به من إبهام وغموض، وفي مقدوره أن يتقمص جسم أي حيوان ثم يحدثنا بإسهاب وتطويل كيف يشعر هذا الحيوان وكيف يحس وكيف يفكر)
وهناك نقطة أخرى يحار كثير من القراء في فهمها، لأنها غير مألوفة لديهم، وهي أن شخصيات روايات لورنس سهلة الانتقال من النقيض إلى النقيض في أقصر وقت، فمن اليأس إلى الأمل، ومن الحزن إلى السرور، أو من الغضب إلى الرضا، ومن الانفعال إلى الهدوء. وهذه الظاهرة وإن كنا لا نلحظها في حياتنا العادية إلا أنها موجودة حقاً بين الشعراء والفنانين. ولما كان لورنس نفسه شاعراً فناناً فقد عمد إلى خلع بعض مواهبه على شخصيات رواياته بأن خلق فيهم هذه الحساسية المرهفة. ولورنس ليس من أولئك الذين يرون حداً فاصلاً بين الحقيقة والخيال، بل يراهما متداخلين تداخلاً تاماً، وهذا ما عنى بتصويره في رواياته نقلاً عن الحياة. ففي رواياته (سانت مور) و (قوس قزح) و (غرام النساء) لا يكاد القارئ يتبين الخط الذي يفصل بين الحلم والحقيقة ولا يسهل عليه أن يتعرف من أين تبدأ الحقيقة ومن أين يبدأ الحلم وأين ينتهي كل منهما. وهذا الرأي وإن يكن غير مألوف في روايات كتاب العصر الحالي إلا أنه موجود حقاً في الحياة، ولورنس إذ يكتب يصور لنا الحياة كما يراها هو لا كما اتفق الناس على أن تكون.
وثمة صعوبة أخرى تعترض بعض قراء لورنس وتقعدهم عن فهمه أحياناً، ألا وهي اللغة التي يستعملها في نقل فلسفته غير المألوفة لنا. فلورنس وهو يترجم تجاربه في صورة كلمات يحاول جهد طاقته أن يشرك القارئ في نفس التجربة التي مر بها هو ويشعره بها كأنها تجربته الخاصة، وطريقة إلى ذلك هو صوغها في لغة تتفق والتجربة تماماً. فهو يبذل المستحيل كي ينتقي من الكلمات ما يناسب كل إحساس جسماني، كما يحاول في(326/32)
الوقت نفسه أن يتخير التعبيرات التي توافق كل فعل منعكس يصحب هذه الاحساسات الجسمانية. وقد وفق لورنس في محاولاته هذه كل التوفيق مما وضعه في مصاف كبار اللغويين وقادتهم. ولم تكن مهمة لورنس بالسهلة اليسيرة، ولكنه ما كان لييأس أو يستسلم، ولم تقف مجهوداته الجبارة عند حد إيجاد الكلمات التي تعبر أصدق التعبير عن الاحساسات الجسمانية والعواطف العميقة التي تصحبها بل عمد أيضاً إلى خلق لغة خاصة للاشعور. وهذه وإن بدت غريبة غير مألوفة لدى القارئ عند أول وهلة إلا أنه لو درست ووفيت حقها من الدراسة لوجد أنه بغيرها لا يمكن التعبير عما أراد لورنس التعبير عنه. ونقطة أخرى يجب أن نلفت نظر دارس لورنس إليها وهي تمت إلى موضوع لغته بصلة، هي أن هناك بعض كلمات يجب أن تفهم كما فهمها لورنس نفسه لا كما أجمع الناس على فهمها، ومن أمثال هذه الكلمات: (الظلام) و (الكهرباء) و (الرجل) و (المثل الأعلى) و (الغيرية) فهذه الكلمات وأمثالها استعملها لورنس وقصد منها غير ما أتفق الناس عليه ويبوء بالفشل كل من يحاول أن يستخلص من كتابات لورنس وفلسفته طريقة ثابتة للحياة على اعتبار أنها المثل الأعلى، وذلك لأن لورنس كان عدو الاستقرار اللدود، وكان يعتقد أن كل محاولة لخلق طريقة يعيش الإنسان على منوالها طول حياته هي الخطأ كل الخطأ، بل هي الموت بعينه وإنما في صيغة أخرى. فلزام على الإنسان أن يتغّير ويتلوّن حسب مقتضيات الأحوال لا أن يعيش على وتيرة واحدة. ويقول لورنس في أحد كتبه: (لا يجب أن تبقى الوصايا الدينية ثابتة دون تغيير. بل يجب أن تذبل وتذوي وتموت كما تفعل الزهور تماماً، فهي ليست أفضل منها في شيء؛ وإن مقاومة ناموس الحياة لهو الشر بعينه. فإذا أحب الإنسان الحياة حقاً وإذا كان يشعر بقدسيتها يجب أن يعترف دائماً أنها تتطلب منه اليوم غير ما تطلبت بالأمس، وأنها في الغد ستكون مختلفة عما كانت عليه اليوم، فعليه إذن أن يلبس لكل حال لبوسها وألا يقاوم رغباتها ومقتضياتها، وإلا فهو ميت حي، لأن سر الحياة هو الطاعة، طاعة الدوافع التي يشعر بها الجسم ثم العمل على تحقيقها) ويعتقد لورنس أنه ليس بين الحياة والموت وسط وما على الإنسان إلا أن يختار بينهما، وهو بكتاباته يرمي إلى إرشاد الناس كيف يعيشون عيشة هي الحياة نفسها
وبرغم أن المعجبين بلورنس وأتباع مدرسته يتزايدون يوماً بعد يوم إلا أنه لا بد أن يمضي(326/33)
قرن من الزمان قبل أن يتبوأ لورنس مكانته التي تليق به بين كتّاب العصر الحديث كما حدث للشاعر الإنجليزي وليم بليك من قبل.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة اكسترا بإنجلترا(326/34)
من ذكريات الحرب الماضية
أخي. . .
للأستاذ ميخائيل نعيمة
أخي، إن ضجّ بعد الحر ... ب غربيٌّ بأعمالهْ
وقدّس ذكرَ من ماتوا ... وعَّظم بطشَ أبطاله
فلا تهزج لمن سادوا ... ولا تشمت بمن دانَا
بل اركع صامتاً مثلي ... بقلبٍ خاشعٍ دامٍ
لنبكي حظَّ موتانَا
أخي، إن عاد بعد الحر ... ب جنديٌّ لأوطانه
وألقى جسمه المنهو ... ك في أحضان خلانه
فلا تطلب إذا ما عد ... ت للأوطان خلانا
لأن الجوعَ لم يتركْ ... لنا صحباً نناجيهِمْ
سوى أشباحِ موتْانا
أخي، إن عاد يحرث أر ... ضه الفلاح أو يزرَعْ
ويبني بعد طولِ الهج ... ر كوخاً هدّه المدفع
فقد جفت سواقينا ... وهد الذُّل مأوانا
ولم يترك لنا الأعدا ... ء غرسا في أراضينا
سوى أجياف موتانا
أخي، قد تمَّ ما لو لم ... نشَأْهُ نحن ما تمَّا
وقد عمَّ البلاءُ ولو ... أردنا نحن ما عمَّا
فلا تندبْ فأذن الغي ... ر لا تصغي لشكوانا
بل اتبعني لنحفر خن ... دقاً بالرفش والمعولْ
نواري فيه موتانا
أخي، من نحن؟ لا وطنٌ ... ولا أهلٌ ولا جارُ
إذا نمنا إذا قمنا ... ردانا الخزيُ والعارُ(326/35)
لقد خمّت بنا الدنيا ... كما خمت بموتانا
فهات الرفش واتبعني ... لنحفر خندقاً آخر
نواري فيه أحيانا(326/36)
وحدة العمر
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
تعال فقد عرفتُ حدود نفسي ... وأدركتُ السعادة ملَْء كأسي
تعالَ إليَّ واملأْ رَحْب حسِّي ... فإني اليومَ لست خيال أمس!
تعال فقد تحطَّمتْ الكؤوسُ ... ومالت من تَفاعُلِها الرؤوسُ
وشاهتْ في ضلالتها النفوسُ ... تعال إليَّ تتبعُك الشموسُ!
تعالَ إليَّ يتبعُكَ الشُّروقُ ... وتلمعُ في خواطرك البروقُ
فقد سَكِرَ الظلامُ فما يفيق ... وطال على مُناجيكَ الطريق!
تعال، تعال أْسمِعِني غناَءكْ ... تعال، تعال صوِّرْ لي سماءكْ
تعال، تعال أْشرِْبني ضياَءك ... فإني اليوم ظمآنٌ إزاَءك!
تعال فحيرتي أخذت تولِّي! ... تعال فرغبتي بدأت تصلِّي
وتنزع عن تساميها التدّلي ... تعال فأنت أسرَارُ التجلِّي!
تعالَ، تعال طهِّرْني بنارك! ... وأهِّلْني لأمزَجَ في سوارك
تعالَ إليَّ طهِّرْني وبارك ... فؤاداً ظلّ يفنى في جوارك!
تعالَ فأنقذِ الإيمان مّما ... يحاول أن يحيلَ الطُّهْرَ إثما
ويمعن في اجتذاب النفس رغما ... فما أقسى الحياةَ، تفيض لؤما!
تعالَ فهذه كأسُ الليالي ... يحوم على حفافيها خيالي
وتلمسها يَدٌ تدري مآلي ... فتقصيني، وأيَّ يدٍ أبالي!
تعال فهذه اليد كم أشارتْ ... وحامت في الظلام وما توارت
وأزهجت النفوس وما استثارت ... يداً أقوى تحطمها. . . فجارتْ
يد الأقدار تزعجني دواماً ... وتشهر في سكينتي السهاما
وتملأ رحب إحساسي زحاماً ... تعال فحوِّل الدنيا سلاماً!
سألزم كُوّتي وأظلُّ أرنو ... إلى الأُفق البعيدِ وأنت تدنو
ونور الفجر يغمرني ويحنو ... عليَّ صباحُهُ، وسَناكَ يدنو
ستختلف الحياةُ أمام عيني ... تمرُّ طيوفها وتغيب عني(326/37)
وتفنى في محيطٍ من تَمَنِّ ... وأحلام تلوحُ بكل لونِ
وما أنا غيرُ طيف من رؤاها ... تأخَّر حَيْنُه حتى يراها
ويعرفَ ضعفها ومدى قواها ... وتفرحَهُ وتبكيه مُناها
تعالَ فربما جاوزتُ داري ... فتجذبني الحياةُ إلى قراري
فأمشي بين أضواءِ النهارِ ... إلى ليلي، ويهزأُ بي انتظاري
تعال وفيّ أحلامٌ وروح ... تعال وفيّ أطيافٌ تروحُ!
تعال وفيّ أضواءٌ تلوح ... تعال وفيّ أعطارٌ تفوحُ!
تعال فقد بلغتُ حدودَ نفسي ... وأطمع أن أحقِّق طيف حدْسي
فهل لك أن تُذيبَ ثلوجَ يأسي ... وتمزج حاضري بغدي وأمسي. .
حسن كامل الصيرفي(326/38)
النائح الشادي
للأستاذ فؤاد بليبل
كُفَّ النُواحَ فقد أثرْتَ توجُّعي ... إنَّ الذي أشْجاكَ مزَّق أضلُعي
يا نائحاً في الدوْح يندبُ حظه ... دع عنك لحنَ اليأس واهجرهُ معي
قلبي كقلبِكَ موجَعٌ متألم ... أعجِبْ بقلبي الضاحك المتوجِّع
لك يا هزارُ بما أكتِّمُ أُسوة ... فاصدح على فنن الأراكة واسجع
كفَّ البكاَء ودع أناشيد الأسى ... لا أنتَ في قفصٍ ولا في بلقع
وارقُصْ على الغصنِ النَّضيرِ مرجِّعاً ... في كلِّ مؤْنقَةٍ وَرَوْضٍ مُمْرعِ
فعلامَ تبكي فوْق أشواكِ الرُّبى ... بين الطول ودراساتِ الأربُع
وأمامَكَ الَمرْجُ الخصيبُ ودونَكَ ال ... روضُ القشيبُ وصافياتُ الأنبع
وَحيالكَ الآمال ملأَي بالمُنى ... وتجاهكَ الأُفقُ الرحيبُ المرتع
لكَ منزلٌ في الدُّوْح لَو أُنزلتُه ... لأُديلَ من حُزني وزالَ تفجُّعي
ناءٍ عن الظلم المضيمِ مكانةً ... مخضوضَر الشرفاتِ حلو الموقع
بَسَمتْ لكَ الدنيا فمالكَ عابسا ... وتجهَّمتْ لي فابتسمتُ لمصرعي
أشجاكَ أنك قد شُغفتَ بِوردة ... غذَّيتَها بفؤادِكَ المتقَطِّع
وسقيْتها ماَء الشئونِ فأينعتْ ... بَين الوُرودِ وليَتها لم تيْنع
وتفتحتْ أكمامُها وتَرَعرَعت ... في الروضةِ الغنّاءِ أيّ ترَعرُع
وكأنما اغترَّت بِفاتِنِ حُسْنِها ... فمضتْ تَتِيْه بهِ بِغيرِ تورُّع
والحسنُ كان ولا يزالُ وسيمه ... شركَ القلوب وقبلةَ المتطلع
وتلاعبتْ فيها الأكفُّ ودُنّست ... بأصابعٍ شتى وأيدٍ قطّعٍ
واستنفرَت لمّا رأتْكَ وقد أتى ... زَمَنُ الحصادِ وآذنتْ بتمَنع
فاقلبْ لها ظهرَ المجنِّ فليس في ... أكمامِها للحرِّ أدنى مطمع
وأربأ بنفسِك أن تكون ذَليلةً ... فالمورد ملء الروض فاختر واقطع
واملأ سماَء الشعر ألحاناً ولا ... تكُ في وجومكَ كالغراب الأسنع
يكفيكَ أنك كنتَ أوّل ناشق ... دون الطيور لعَرفها المتضوّع(326/39)
يكفيكَ أنكَ قد رشفتَ رضابها ... فاترك بقاياها لغيرك واقنع
دَعها لسافلةِ الطيور غنيمةً ... وانشدْ سواها في مكانٍ أرفع
في موضعٍ أقوى الفساد عراصَه ... وا روعتاهُ لطهر ذاك الموضع!
وإذا ظمئت ولم تجدْ لك منهلا=عذْب المياه كصافياتِ الأدمع
فاطوِ الضلوعَ على الصدى أو مُتْ به ... حرّاً أبيّ النفسِ غير مروّع
لَلموتُ خيرٌ من ورودكَ موردا ... ولغَ الكلابُ بمائِه المتجمِّع
من كان لا يرضى المجرة مشرباً ... هيهات يغشى كدرة المستنقع
ومغيظةٍ أنحتْ عليَّ بلومِها ... راحتْ تصبُّ عتابها في مسمعي
قالت (وما كذبت) أراك سلوتنا ... ودنت تعانقني فقلت لها ارجعي
فاستَغربت مَّما رأته وهالَها ... ألاّ أطاوعَها على ما تدَّعي
قالت أتذكر حينَ كنتَ مُتَيّماً ... تشكو لهيب فؤادِكَ المتصدّع
وتروح تُقسم أن تصون عهودنا ... فعلام خنت إذن أجب أفلا تعي؟
فأجبتها قَدْ كان ذلك والهوى ... عَفٌّ وثوبُ الطهر غير مرقع
أغراك أني شاعرٌ متعِّبدٌ ... للحسنِ أرعاهُ بقلبٍ موَجع
أهوى، نَعمْ أهوى الجمال مبرقعاً ... بالطهر لا أهواهُ غيرَ مبرقع
أهوى الجمال عفيفَهُ وبعيدَه ... عن كل شائنةٍ وفحش مُقْذع
ولقد أعافُ الشيء مع أني به ... كلف شديد الوجد صعب المنزع
وأعودُ عنه وملء نفسي شهوة ... وكما علمتِ تعفّفي وترفعي
كم منهلٍ يمَّمْتُهُ متجرِّعاً ... سقطَ الذبابُ به فلم أتجرع
قد كان حسنكِ قبل ذلك ملهمي ... واليومَ بات وقد تدَّنس مُفزعي
عودي إلى ما كَنِتهِ من عفةٍ ... أو فاتركيني لا تقضي مضجعي
ودعي التصُّنعَ بالغرام فما أنا ... ممن يبالي بالهوى المتصنَّع
إن تبتغي وصلاً فلستُ بمْبَتغ ... أو تزمعي صلحاً فلست بمزمع
أو كنتِ مولعةً وأنت كما أرى ... تبغينَ تَضليلي فلستُ بمولع
(دار الأهرام)(326/40)
فؤاد بليبل(326/41)
رسالة الفن
دراسات في الفن
كنت أحسبك رجلاً!
بهذا ودعت استراوس عشيقة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كان لاستراوس عاشقتان، وكان لكل واحدة منهما اتجاه في الحب، وكان هو يحبهما معاً، وعلم الله أنه كان يود بكامل صدقه وإخلاصه، لو أنهما كانتا عاشقة واحدة، فقد كانت كل واحدة منهما تكمل أختها، ولم يكن يعيب إحداهما إلا أنها استقلت عن الأخرى بجسد وحدها. . .
ولكنها حكمة الله التي شاءت أن تتبعثرا اثنتين!
تزوجته منهما واحدة، وشالت عنه واحدة بعدما ظلت تحوم حوله زمناً لم تهمل فيه حيلة من حيل الإغراء التي تستولي بها النساء على الرجال، ولم تستر فيه حسنة من حسناتها، وقد كانت كلها حسنات مما يخلب الألباب، ولم تحجب فيه بريقاً تألقت به روحها، بل كانت تحرق فيه روحها لتتألق أمامه متفانية، لعلها تستهويه إذا احترقت ونورت، ولم تدع فيه قوة من قوى الأنوثة التي حبتها الطبيعة بأقواها وأشدها وأحكمها، إلا سلطتها عليه لتخذله بها. . . فما استطاعت أن تصل منه إلى شيء أكثر من أنه أحبها كما كان يحبها، وما كان هذا الذي تقصده، وإنما كانت تريد أن تأخذه أخذ النساء اللواتي تعرفهن للرجال الذين تعرفهم. فلما عجزت وسائلها عن تمكينها من غرضها يئست وأعلنت إفلاسها وهجرته، وقالت له وهي تودعه متعشقة في حنقها: (كنت أحسبك رجلاً). . . قالتها وهي تظن أنها سممته بها، وتركته ومضت. . . لو عرفت أن أشد النساء عداوة لها أوشكت أن تحب استراوس وأن تهيم به، لحذرتها منه رحمة وبراً بالأنوثة أن يذلها هذا الذي كانت تحسبه رجلاً. . . فتبينته غير رجل!
ولو علمت هذه الصغيرة أنها حين رأت استراوس في صورة غير صورة الرجل، رأت منه جوهر نفسه. . . إذن لما تركته ولا هجرته ما دامت تحبه، ولبدأت تعالج الحب على(326/42)
أساس جديد غير ذلك الأساس الذي يقوم عليه الحب بين المرأة والرجل. فقد كان استراوس غير رجل حقاً، ولكنه في كونه التائه كان لا يزال يحب المرأة، ويستسلم لها، ويفزع كلما خيل إليه أنه قد يقضي الحياة من غير امرأة.
وكانت زوجه تعرف فيه هذا، وإن لم تكن ترى شيئاً وراءه فكانت تظله بالذي يطيب لها من ظلال أنوثتها وحبها فاشتد سلطانها عليه، وتحكمها فيه حتى كانت النظرة اللائمة منها تهطل على أشد ثوراته اندلاعاً فتطفئها وتخمد أنفاسها
فماذا كان استراوس؟
كان إنساناً كبقية الناس، ولكنه كان إلى جانب هذا قليل الصلة بالدنيا لأنه كان شديد الصلة بما في أعماقها، وكان قليل الحيلة في اصطناع حركات الناس وسكناتهم لأنه كان شديد الخبرة بدخائل نفوسهم، شديد المراقبة لخلجات هذى النفوس ونبضاتها، شديد الموازنة بين ما يراه وبين ما ينزع إليه من الكمال، شديد النقد لما يبدو له من النقص والعيب. والذي ينفذ هذا النفاذ إلى ما تستره مادة الدنيا لا يمكن أن يشبه الرجال الذين يعيشون على سطحها، والذين يسعون على وجهها سعي الهوام والماشية. وإنما له كيان آخر، دلائله وآياته فنونه. وقد كان استراوس فناناً، وكان فنه يستدعيه إلى الأعماق، وكانت عاشقته التي نفرت منه تغوص معه إلى الأعماق أحياناً فيتزاوجان ولكنها كانت تنسى إذ ذاك أنه رجل وأنها أنثى، فإذا ذكرت هذا طفرت إلى السطح وأرادته أن يسعى إليها طفراً هو أيضاً، ولكنه كان يظل حيث هو ويناديها إليه فلم تكن تستطيع أن تعود إليه إلا إذا نسيت أنها الأنثى التي تريدها هي
فهل لم يكن ميسوراً أن تدرج إلى مغاوره وكهوفه في ثوب من الأنوثة يخلبه؟ قد كانت تستطيع لو أنها تطلعت إلى أزياء الأنوثة في المغاور والكهوف كما كانت تتطلع إلى أزيائها في (فيينا)
في المغاور والكهوف لا يتعلق الناس إلا بالحق، ولا يفتنهم إلا الصدق، ولا يمكن أن يتبادلوا العواطف إلا بوحي من الطبيعة لا بوحي من الحاجة، وبنداء من الروح لا بنداء من المادة: ذلك أن العواطف لهفات الروح لا البدن. وهم أقرب الناس إلى الأطفال. بل إنهم الأطفال ينمون في طفولتهم، ويكبرون في صغرهم. ولولا هذا لخرجوا من هذه المغاور(326/43)
والكهوف إلى حيث يستطيعون أن يصارعوا الرجال في الحياة القائمة على وجه الأرض، والتي يتراشق الناس فيها بقنابل من الأباطيل والأكاذيب والحيل والمخادعات
إنهم عاجزون، والله مع العاجزين هذا العجز، وهو يعوضهم عنه قوة أخرى هي هذه الحاسة النادرة التي لا يجاهد في سبيل اكتسابها إلا أقل الناس، والتي تقتصد الطبيعة كل الاقتصاد في تهيئة عناصرها في النفوس، والتي يدرك بها هؤلاء الأطفال الكبار العاجزون من حقائق الوجود ما يغيب عن إدراك الكبار الرجال الذين ليسوا أطفالاً
ولم تكن البارونة الصغيرة تلمح هذا ولا كانت تعرفه، وإنما كانت تسحرها أغاني استراوس وألحانه، وكانت تؤديها كأطيب ما تصبو إليه نفسه هو فتشعر حينئذ بأن روحه من روحها، وأن روحها من روحه، فإذا ادلهمت عليه بأنوثتها رأته كالمسحور أو المعمول له عمل، فلما طال هذا وتكرر أدركت أنه غير رجل، ولكنها زعمت أن هذا الإدراك يجب أن يكون نهاية الصلة بينهما، فقطعت صلتها به وما فكرت في هذه الحالة الشاذة ولا في طريق علاجها، ولم تذكر أنها أنشدت له لحناً صاغه هو لتتبرج به هي في حفلة من حفلاتها، ولم يكن هذا اللحن إلا آهات كل آهة منها حكم تصدره على رجل بعينه من النظرة الأولى التي تلقيها عليه، فللمغرور المعجب بنفسه آهة فيها السخرية بغروره وتيهه، وللحالم المتغائب عن الوجود آهة مرسلة شاردة كأنما تصاحبه إلى الملكوت الأعلى، وللسمين القاعد على روحه آهة دسمة كأنما هي الرغيف المحشو برغيف آخر فيه خروف صغير، وللمهندم المؤدب الأنيق المتزجج آهة مرتعشة مخنوقة كأنها محرجة وجلة. . . ولم تذكر أن هذه الآهات تعددت في اللحن وتكاثرت بألوانها ودلائلها حتى لم يعد من المعقول أن يقال بعدها إن استراوس بعيد عن نفس المرأة وعقلها، جاهل طريقة تفكيرها، غافل عن أحكامها و (حيثيات) هذه الأحكام
وقد كان هذا اللحن وحده يكفي لكي تعلم البارونة الصغيرة أن استراوس الذي يتسمع إلى الصمت في الطبيعة كما يسمع أصواتها وينظم من هذا وتلك ألحانه المعجزة. . . بصير أيضاً بالنفوس عامة سواء منها نفوس النساء ونفوس الرجال، والبصير بالشيء لا يعجز عن نيله، ما دامت فيه القوة التي تمكنه من نيله وقد كان استراوس في أزمته الغرامية هذه شاباً فتياً له جسد الإنسان الرجل النزاع إلى جسد الأنثى. . . فما الذي منعه عنها؟(326/44)
أمانة الزوجية؟
قد يكون هذا، ولكنه بعيد لأن حياة استراوس مع البارونة الصغيرة لم يحدث فيها ما يدل على أنه استشعر الأنوثة التي ترضيه فيها - وهي أنوثة المغاور والكهوف - تحاول أن تغزوه فيصدها بهذه الأمانة. بل الذي حدث هو عكس هذا فقد قدم استراوس عاشقته هذه لشعب من اصحابه في ثورة من ثورات فيينا على أنها فنانة مغنية فقط، ولم يكن في هذا كاذباً ولا مجاملاً، بل كان صادقاً لأنه لم يشعر منها إلا بأنها كما قال. فلم تكن الأمانة الزوجية هي التي حالت دون استراوس وعشيقته، وإنما هذه العاشقة نفسها هي التي التوت على حبها، والتوت على نفسها، والتوت على حبيبها، وكان بيدها ألا تلتوي
وقد يسائلنا سائل عن هذا الذي نطلبه من المسكينة الصغيرة ما هو؟ أكنا نريدها أن تخرج على طبيعة المرأة أكثر مما خرجت فتدعو إليها استراوس بالذي دعت به امرأة فرعون إليها سيدنا يوسف الجميل؟!
ونحن نقول لا. ونقول إن الحب لا ينتج إلا من صراع في الغزل، والصراع في الغزل إذا انتهى إلى حب فهو واحد من حبين في نفس كل من العاشقين: إما حب الحنو، وإما حب الإعجاب، ولم تكن لاستراوس قوة يعتز بها غير قوة الفن، وكان فنه الموسيقى، فلو أن البارونة الصغيرة ناوشته بألحان فإنه لم يكن هناك بد من أن تقهره: إذا فاقت ألحانها ألحانه خلبته واستحوذت عليه عاشقاً وتلميذاً لها، وإذا فاقت ألحانه ألحانها حنا عليها، واحتضنها وراح يسقيها ما هي ظمأى إليه، ورباها كما تربى الدجاجة أفراخها، ولكن البارونة الصغيرة لم تصنع شيئاً من هذا، واكتفت بأن تغني له فكان يرى فيها نفسه هو، ولم يكن ير نفسها. . .
قد كان عليها أن تريه نفسها صريحة واضحة في الفن مهما خشيت أن تتضاءل إلى جانب صفائه وقوته
ربما كانت تنتظر أن يقول لها: (لحني!) بل ربما تكون قد استأذنته في التلحين بأسلوبها المعوج الملتوي فهل عرفت البارونة لماذا لم يأذن لها، ولماذا لم يطلب منها أن تصوغ الألحان. . . ذلك أنه حين أراد أن يلحن. . . لحن، وحين كان يريد أن يغني لم تكن قوة تستطيع أن تحبس صوته. . . فلعله لم يصدقها، أو لعله خشي أن يدعوها إلى شيء قد(326/45)
تكون عنه عاجزة. . . أو لعله كان يرحمها فيحررها من طلب إذا أجابته فإنما تجيبه إرضاء له هو لا إرضاء لنفسها. . .
وأغلب الظن أنها كانت عاجزة لأنها كانت بارونة. وأغلب الظن أنها كانت تستطيع أن تطاوله، وأنها انطلقت في الحياة كما كان هو منطلقاً فيهما، فإنها ركبا يوماً عربة معاً، وسرحت بهما العربة في أحراش وغابات، وأثارت خطى الجواد الذي كان يجر العربة - وكانت خطى منتظمة على ضرب متسق - بواعث الشدو في نفوس الطير وفي نفسيهما وفي نفس الحوذي الذي كان معهما، فأنشد الطير، وأنشدهما، وأنشد الحوذي، وكان من نشيدهم جميعاً لحن الفالس الكبير الذي لا يمكن أن يقال إلا أن الطبيعة والجواد والطير والعاشقين والحوذي، اشتركوا جميعاً في توصيله من الغيب إلى هذا الكون.
وعلى هذا فقد كانت البارونة من معدن استراوس. كانت هي الأنثى غير الأنثى لهذا الرجل غير الرجل. ولكننا لا ندري كيف أنكرت منه شروده عن رجولة السطح، ولم تذكر أنها حين أفاقت من الفالس الكبير وهي في العربة ألفت نفسها مطوية بين ذراعيها المتشنجتين اللتين كادتا تهصرانها هصراً؟
كان عليها أن تدرك إذن أن له لوناً من الأنوثة خاصاً يخلبه، وهو هذا اللون الشائع في أعماق الطبيعة والذي فاض في نفسها هي عندما كانت تشدو مع الطير ومع الطبيعة ومعه
كان عليها أن تدرك هذا، ولكنها لم تدركه فأي شيء دهاها؟
دهاها هذا (الإتيكيت) الذي نشأت عليه في القصور، ودهتها هذه التقاليد التي علمتها أن تطلب الطعام إذا جاعت بالحديث عن لوحة زيتية تفنن مصورها في رسم تفاحها وكمثراها. . . فإذا سمع استراوس كلامها هذا نظر هو أيضاً إلى الصورة، وتفحص فيها التفاح والكمثرى ولم يفهم بعد ذلك شيئاً. . . فعيناها. . . عيناها تنظر في صدق عجيب إلى جمال التفاح والكمثرى كأنما هي معجبة به حقاً. . . فكيف لا يصدق استراوس إعجابها بالرسم وكيف يعرف أنها جائعة
لا بد أن يشعر وأن يحس؟ أليس هو الحساس الموهوب أكثر مما وهب البشر؟ أليس هو الناقد المتفرس إلى ما وراء المادة والحجب؟ نعم إنه كذلك حقاً. . . ولكنه يلقي هذا السلاح بين يدي محبوبته، فهو يصدق كل ما تقول. . . ويجول معها أينما شاءت، ويسلم لها قياده(326/46)
فهي المسئولة عن عقله وهو بين يديها، وهي التي تقوده إلى هذه الوديان القاحلة. . .
ولم تكن زوجته هكذا على قلة ما كانت تدرك من جمال فنه وروعته. فهي لم تغازله بالفن، ولم تناوشه بالنغم، وإنما هجمت عليه بإخلاصها وعطفها ورعايتها، ولمست فيه طفولته وحيرته في الحياة خارج ميدان الفن، ولقد أرشدت هذه الزوجة البارة بارونة زوجها إلى هذا الطبع في نفسه يوم أرادت البارونة أن تأخذه منها فقالت لها: (لا تأخذيه على أنه رجل فهو لا يعرف من أموره أمراً، ولا يمكنه أن يدبر شأناً من شؤونه لأنه طفل!)
كان هذا تعبير زوجة استراوس، وكان هذا التعبير هو الصدق وكان هذا الصدق نتيجة ما كان بينها وبينه من صراع في الغزل والحب، فقد عجزت عن الفن كل العجز أمامه، وعجز هو عن إدراك ما كان في نفسها من قوة الرعاية والحدب كل العجز أيضاً فاندمجا وتشابكا
فلو كانت هاتان العاشقتان واحدة!
أما زوجة استراوس فما كانت تستطيع أن تستكمل نقصها بمثل ما كان في البارونة من فطرة الفن، فالفن موهبة. وأما البارونة فقد كانت تستطيع أن تتعلم من زوج استراوس طريقة ترويضه وصيانته، إذا احتاجت إلى شيء من هذا. . . ولم تكن لتحتاج لو أنها أعملت الفن. . .
ولكنها كانت بارونة. . .
عزيز احمد فهمي(326/47)
رسالة العلم
أندروز مليكان والإلكترون
للدكتور محمد محمود غالي
الرياضي هلبرت بين نظرياته والطبيعي مليكان في معمله - كيف حصل مليكان على جسيمات صغيرة من الزيت، وجعلها تصعد وتهبط وتقف وفق إرادته - وصف جهاز مليكان - كيف شاهد مليكان هذه الجسيمات في غرفة يبلغ ارتفاعها 16 مليمترا - كيف تحقق من حمل هذه الجسيمات لعدد من الإلكترونات.
منذ أربعين سنة في سنة 1899 قاد الفكر أحد الذين يتابعون الدرس ويواصلون العمل، الرياضي هِلْبرت إلى فكرة جديدة وباب لم يطرقه أحد من قبل، ذلك أنه كوَّن نوعاً جديداً من التفكير الهندسي يخلق بنا أن نسميه هندسة هلبرت تختلف في طريقتها عن الهندسة التي تبعناها منذ عن هندستي
هذا العالم الألماني هلبرت الذي ما زال في اعتقادي حياً بين سكان الأرض في من أعمال ألمانيا لم تحصده قنابل المحاربين، ولم يعبث بجسده غرض الفاتكين، ويبلغ من العمر اليوم 78 سنة وجد أسلوباً جديداً لتأسيس الهندسة الأقليدية التي تلقاها كل منا في المدارس، وغير الهندسة الأقليدية التي لم يتلقها إلا نفر قليل بعد التخرج في الجامعات، كما أثبت عدم تعارض الفروض فيهما، ذلك أنه استعمل لبناء علمه الجديد ثلاثة النقطة والخط والمستوي، وخمسة كلمات هي: عنها اصطلاحياً بموجودة واستطاع باستعمال هذه المعاني الخمسة فقط أن يقيم هندسته الكاملة، وخرجت من هذه (العناصر) الثلاثة، (والمعاني) الخمسة هندسة منسجمة نستطيع تتبعها والاقتناع بوجودها، وقد تتبعها في مصر في العام الماضي كل الأعضاء الذين حضروا محادثات الرواق الرياضي الطبيعي، والذين قضى بعضهم نحبه خلال الحرب القائمة، وهم من أصدقائنا الحميمين، ونأسف لهذه الحوادث التي ترجع بالإنسان إلى الهمجية، عندما حاول صديقي الدكتور أن يتابع عرض هندسة هلبرت بين إخوانه من المصريين والأجانب الطبيعيين والرياضيين المقيمين في مصر، وهي رياضة صعبة نوعاً ما ويكفي لإدراك صعوبتها أن تعلم مثلاً أنك في حاجة بادئ هذه الرياضة أن تثبتَ إمكان وضع نقطة على خط مستقيم، وإنك لتستغرق بعض(326/48)
الوقت لإثبات ذلك الذي تظنه بديهياً. ليست هندسة هلبرت الجديدة التي ما زالت تجد قليلاً من المطلعين هدفي في هذه الكلمة، وأعتقد أنها سوف لا تكون موضوع كلمة لي في (الرسالة) في الأعداد القادمة. فموضوعها صعب على القارئ، وغايتها أصعب عليه، إنما ذكرتها وأنا في طريق شرح أعمال مليكان - رجل التجارب والمعامل - لأضع أمام القارئ مثالاً للتباين بين النظريات يتبعها المنطق والخيال في أقصى درجاتهما، وبين العلوم التجريبية يتبعها التحقيق والمشاهدة في أقصى حدودهما، فبقدر ما في رياضة هلبرت غير المعروف لكثير من المطلعين من خيال وصعوبة بقدر ما في تجربة (مليكان) من تحقيق تجريبي وسهولة، تحقيق يبعد كل البعد عن التحايل اللفظي.
ليس إذن في قصة مليكان ما يدعو لإثبات مسائل تلتبس علينا مع البديهيات التي يقبلها الذهن، إنما هي في الواقع سلسلة لمشاهدات علمية وتجارب طبيعية، ولو صح لنا أن نتساءل عن تعريف ما نسميه تجارب طبيعية صحيحة (لقلنا إنها تلك التي تؤيد النتائج ذاتها بلغ تكرار هذه التجارب ما بلغ. . .)
ونوجز تجربة مليكان التي قام بها سنة 1909 في قياس شحنة الإلكترون أصغر ما نعرفه أو نعيه من الموجودات، وإثبات وجوده كجوهر فرد مستقل يلعب أكبر دور في الكون الذي نشعر بوجودنا فيه، ومن العدل أن نذكر أنه قد تقدمت تجارب مليكان أبحاث علماء عديدين كان لهم الفضل الأول في تهيئة السبيل للقيام بهذه التجربة التي تعد من أعظم مفاخر العلم التجريبي في القرن الذي نعيش فيه، وإذا لم نأت في هذا المقال على أسماء هؤلاء جميعاً، فإن رجال معامل هو في الواقع أول من قام بتجارب فريدة لقياس شحنة الإلكترون التي يرمز لها العلماء عادة
ونعود الآن لشرح عمل مليكان، ولتسهيل الموضوع على القارئ نعمد إلى تقسيم عمله إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول هو الذي نذكره اليوم ونصف فيه الجهاز الذي استنبطه والتجربة التي قام بها هذا العالم لقياس شحنة الإلكترون بل لملاحظة جسيمات منعزلة لا تحمل أحياناً إلا إلكتروناً واحداً، ولا نعرض في هذا القسم لنتائج هذه التجربة ولا نذكر كيف استنبط مليكان من تجربته شحنة الإلكترون وحدة الكهرباء وأصغر الجسيمات التي نعرفها في الوجود، وفي القسم الثاني وهو برنامج الأسبوع القادم نذكر الطريقة التي حسب(326/49)
بها مليكان شحنة الإلكترون ونبين كيف من عملية القاسم المشترك الأعظم البسيطة التي تعلمناها كلنا في التعليم الابتدائي بيّن مليكان من تجاربه وسيلة لإثبات وجود الإلكترون وحساب شحنته وإثبات تعلق إلكترون حر واحد ببعض هذه الجسيمات أثناء تجاربه العديدة
والآن نبدأ بشرح الوقائع الأولى وتفسير دخائل الجهاز الذي ابتدعه مليكان واستعان به للوصول لغايته
استعمل مليكان لمقارنة شحنة الجسيمات الصغيرة المختلفة الحاملة للكهرباء والذي يسميها العلماء (يونات) الإلكترون رشاشة أي (بخاخة) تبخّ غيوماً من الزيت في غرفة عليا نرمز لها بالحرف غ كما يرى القارئ في الشكل
وينقى الهواء قبل إطلاقه ووصوله للرشاشة بمروره في أنبوبة
تحتوي على قطن مندوف، وينشر هذا الرذاذ الرفيع من الزيت
الذي يبلغ قطر معظمه 1000 2 من المليمتر في الغرفة
المتقدمة ويبدأ تساقطه غيوماً كالضباب الذي نصادفه في
الشتاء صباحاً جوار النيل أو الأراضي الزراعية. ويحدث من
جراء هذه العملية الأولى أنه يتصادف من وقت إلى آخر
مرور واحدة من هذه الجسيمات الزّيتية الصغيرة من الثقب
الصغير الموجود في مركز قرص من النحاس قطره 22
سنتيمترا موجود في أسفل هذه الغرفة، وتكون إحدى كفتي
مكثف كهربائي يتكون من كفتين بينهما الهواء، كفة عليا (ق)
هي هذا القرص والثانية كفة سفلى (ك) وهذه الكفة الثانية
مثبتة بالكفة الأولى بواسطة ثلاثة أعمدة من الأبانوس (د)(326/50)
وهو مادة عازلة كهربائيا، وهذه الكفة محمولة على بعد 16
مليمتراً من الأخرى وفي هذه الغرفة الثانية المحصورة بين
هاتين الكفتين والتي لا يرتفع سقفها عن أرضها إلا بمقدار 16
مليمتراً، شاهد مليكان هذه الجسيمات الصغيرة من الزيت التي
يتصادف مرورها من الثقب، والتي أثبت هذا العالم كما سيرى
القارئ في المقال القادم أن بعضها كان يحمل إلكترونا واحداً.
وتتصل هاتان الكفتان بمفتاح (م) يتصل ببطارية كهربائية
(ب) تبلغ القوة الدافعة الكهربائية بين طرفيها عشرة آلاف
فولت وذلك لإيجاد مجال كهربائي قوي، ومتغير بين الكفتين
ويُتممُ هذا الجهاز أجهزة ضوئية أخرى تكوّن خارجه حزمة من الضوء شديدة تمُّر من نوافذ أو بالأحرى من ثقوب موجودة الواحدة منها تجاه الأخرى ومحفورة في حلقات من الأبانوس (ح) موضوعة في اتجاه الشخص الراصد. وتضيء هذه الحزمة الضوئية الجسيمات أو رذاذ الزيت الذي يتصادف مروره من الثقب (ث)، هذا الرذاذ الذي يصبح بمروره من هذا الباب عرضة للمشاهدة والاختبار
وقد أمكن لمليكان أن يرى هذه العوالم من ثقب ثالث صغير بواسطة الميكروسكوب الذي يلعب في هذه التجربة دور الألتراميكروسكوب، وقد رتَّب جهازه بحيث يقع الضوء على هذه الجسيمات من جهة ويراها هو من جهة أخرى عمودية عليها، وهي الطريقة ذاتها التي نرى بها الكواكب السيارة في الليل، إذ يقع عليها ضوء الشمس من جهة تختلف عن التي نراها منها، بل هي الطريقة التي نرى بها جسيمات من التراب الرفيع العالق بهواء غرفنا والذي تستنشقه رئاتنا طوال النهار، عندما تدخل أشعة الشمس من جهة غير الجهة التي نشاهد بها هذه الذرات الترابية التي تبدو لنا في هذا الوضع مضيئة تحت أثر أشعة الشمس(326/51)
الساقطة عليها، وهكذا كانت تظهر النقط الصغيرة التي يتصادف مرورها من الثقب (ث) كما يظهر نجم ساطع في ظلام الليل الحالك
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الجسيمات التي تمر من الثقب مكهربة، وقد حدثت الكهرباء فيها من احتكاكها بعضها ببعض عند خروجها من الرشاشة التي حولت السائل بفعل الهواء إلى رذاذ أو ربما عند ظني أثناء احتكاكها بذرات الهواء المنتشر في الغرفة، وثمة طريقة أخرى لكهربة هذا الرذاذ عند اقتضاء الحال وذلك بتسليط أشعة راديومية عليه بتقريب عنصر الراديوم المعروف من الجهاز، بحيث تتصادم الجسيمات الراديومية المتناثرة من الراديوم المشع بهذا الرذاذ الرفيع فتعلق به جسيمات كهربائية سالبة كالإلكترونات أو جسيمات كهربائية موجبة كالبوزيتونات
وتتلخص التجربة في نشر رذاذ الزيت في الغرفة العليا، ثم انتظار مرور أفراد من هذا الرذاذ في الغرفة الثانية أي بين كفتي المكثف، ثم في كهربة القرصين باستعمال المفتاح م كهربة موجبة في إحدى الكفتين سالبة في الأخرى، وذلك باستعمال البطاريات السالفة الذكر، بحيث أنه بإدارة المفتاح إلى الجهة اليسرى مثلاً تتصل الكفتان وينعدم المجال الكهربائي، وبإدارته إلى الجهة اليمنى يتولد مجال كهربائي يختلف وفق المقاومات الكهربائية التي في طريقه تبع إرادة الراصد
وتتضح الكهرباء أو الشحنات الكهربائية الموجودة على هذا الرذاذ من أنه عندما نوصل المفتاح الكهربائي، ونجعل فارقاً في الضغط الكهربائي بين الكفتين، أي عندما نعمد على إيجاد مجال كهربائي قوي - في الاتجاه المناسب - تنجذب هذه الجسيمات بسرعة نحو القرص ن مظهرة بذلك شحنتها الكهربائية
على أنه إذا أعدمنا المجال الكهربائي بتوصيل الكفتين؛ فإن هذه الجسيمات من الرذاذ الزيتي تبدأ وقوعها رأسية تحت تأثير جاذبية الأرض حتى تقترب اقتراباً شديداً من الكفة ك، وهكذا كلما أعدنا المجال الكهربائي فإن هذه العوالم الصغيرة تغير اتجاهها من جديد وترتفع إلى سقف الغرفة ق. وبهذه الطريقة أمكن الحصول على حركة مستمرة صعوداً وهبوطاً لرذاذ الزيت بين الكفتين، وفي الغرفة الضيقة الثانية باستعمال المفتاح م
وقد أمكن لمليكان أكثر من ذلك، إذ تمكن من شل حركة هذه النقطة الحائرة من الزيت التي(326/52)
يريد أن يرصدها في غرفة هذا الجهاز، هذه النقطة من الرذاذ الواقعة بين قوة مجالين: المجال الأرضي الذي يجذبها إلى أسفل كما يجذبنا معشر البشر والمجال الكهربائي الذي يجذبنا إلى أعلا، بأن ساوى بين قوة المجالين المتعارضين، وذلك بجعل قوة المجال الكهربائي معادلة لقوة المجال الأرضي. عند ذلك تقف النقطة الحائرة والجسم التعب بين الكفتين. وعند ذلك عين مليكان القوة الكهربائية اللازمة لإيقافها والتي لها علاقة كما سيرى القارئ بما يحمله هذا الجسيم من الإلكترونات.
وسيرى القارئ أن هذا كان كافياً لمليكان لحساب شحنة الإلكترون ولأن يُتيقن أن في كثير من تجاربه وجدت ذرات زيتية كانت تحمل إلكترونا واحدا
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(326/53)
من هنا ومن هناك
دانزج موطن النزاع
(ملخصة عن (باري ميدي))
لم يكن يخطر ببال أحد في السنين الأخيرة أن مدينة دانزج التي كانت
موضع نزاع الدول في غابر الأزمان، ستحتل المكان الأول في سياسة
أوربا المسلحة اليوم
وتعد دانزج من أقدم مدن العالم، فقد ظهرت في عالم الوجود منذ ألف سنة وكانت في العصور الوسطى تدعى (ملكة البلطيق) نظراً لمركزها الممتاز على شاطئ هذا البحر
وقد حاربت في سبيلها الأمم البروسية والدانمركية والبولونية، والبرانبرجرز، والتوتون منذ بدء القرن الثاني عشر إلى اليوم
فاحتلها الفرسان التوتون في بداية القرن الرابع عشر، ولكن سرعان ما انتهى أمد احتلالهم لها وصارت إلى أيدي البولونيين في سنة 1454، فتركوا لها الحرية في الاحتفاظ بقوانينها القديمة، وجعلوا لها الحق في سك العملة باسمها باعتبارها (مدينة حرة) تحت حماية بولندا. ولم تقع في أيدي بروسيا إلا سنة 1793، وبعد أربع سنوات من هذا التاريخ فتحها جيش فرنسي تحت قيادة (مارشال لففر). وظلت دانزج مدينة حرة في أيدي الفرنسيين إلى سنة 1813
ولكن الجيوش البروسية احتلت دانزج للمرة الثانية بعد موقعة (واترلو). لا لتكون تابعة لها إلى الأبد، فقد انتزعتها معاهدة فرساي من الريخ وعادت دانزج (مدينة حرة) للمرة الثالثة - تحت إشراف عصبة الأمم - وأعطيت بولندا الحق في استغلال مينائها، ومنحت كذلك الحق في تمثيلها من الناحية السياسية.
فدانزج لم تكن ملكاً للألمان إلا منذ سنة 1815 إلى سنة 1918 أي قرناً من الزمان. وقد ظل العلم البولوني يرفرف عليها منذ سنة 1454 إلى سنة 1793 أي ثلاثمائة سنة على التقريب. وقد أعطيت دانزج إلى بولونيا بحكوماتها الحرة ومساحتها التي تقدر بثمانمائة وخمسين ميلاً مربعاً، وسكانها الذين يقدر عددهم بمائة ألف نسمة، ليكون لها منفذ إلى(326/54)
البحر. فكانت هذه المدينة المنفذ الوحيد لتلك المملكة العظيمة حتى سنة 1928، وقد ازدادت الحركة بمينائها على أيدي البولونيين فوصلت إلى ثمانية مليونات طن سنة 1930 بعد أن كانت لا تزيد على مليونين قبل الحرب. فقد أنفقت بولندا مائة مليون من الجنيهات لاحياء هذه الميناء. وأنشأت قاعدة هامة للملاحة والتجارة في (جيدنيا) على مقربة منها. ومن المعلوم أن ثلثي تجارة بولندا التي يقدر عدد سكانها بـ 35000000 نفس تمر من تين الميناءين، وأسطول بولندا ليس له قاعدة غيرهما وتقع دانزج على مصب نهر الفستيولا ولهذا النهر صفة ممتازة في بولندا، فإذا ضمت دانزج إلى الرايخ أصبحت المواصلات الحيوية لبولندا تحت رحمة ألمانيا
فالفوهرر كما يظهر لا يريد أن يضم بلداً ألمانياً إلى الريخ، ولكنه يريد أن يعزل بولندا عن البلطيق، ويطوقها من البحر والبر حتى تضطر سياسياً واقتصادياً إلى الانضمام إلى الريخ، وهذه كارثة تدفعها الآن بولندا بكل ما لديها من قوة. وتريق دماء الملايين من أبنائها لكي تتحامى وقوعها
الفاشية في الهند
(عن مقال بقلم خواجة عباس أحمد)
نظرة بسيطة إلى خريطة العالم تدل على مقدار اهتمام القوات النازية والفاشية واليابانية بالهند. فالهند هي أقوى دعائم الإمبراطورية البريطانية في الشرق، وهي بكثرة سكانها، وأهميتها التجارية والسياسية ومركزها الحربي وحدودها المتاخمة لأفغانستان وإيران والصين وروسيا السوفيتية. . . تعد عاملاً قوياً في السياسة الفاشية فالهند الحرة حليفة للديمقراطية، يحسب حسابها إذا سارت مؤيدة لصفوفها، وهي عدو يخشى بأسه، إذا سارت تحت النفوذ الفاشي سواء من الوجهة السياسية أو الفكرية.
ولقد دأبت الدعاية الفاشية على بث بذور العداء نحو بريطانيا واستغلت لذلك الحركة الوطنية وأملها أن تجتذب إليها القلوب، وتستهوي النفوس. ولهذه الحركة الجديدة قصة قديمة. فمن المعروف أن رجال السياسة الألمانية كانوا على اتصال دائم ببعض الهنود الثائرين في منفاهم في أوربا إبان الحرب العظمى. وكان حلم ألمانيا بإنشاء إمبراطورية(326/55)
ألمانية تمتد من برلين إلى بغداد فدلهي، يشعل فيها ضياء الأمل؛ فلجأت إلى مد يد المساعدة إلى هؤلاء في منفاهم، وعادوا بدورهم ينشرون الدعوة إلى المطالبة بحرية الهند بمعاونة الألمان
ولكن وجهة نظر الزعماء الهنود اتجهت في السنين الأخيرة اتجاهاً مخالفاً لدول المحور.
ولم يغب عن البال الحماس الذي كان يقابل به زعماء تلك الدول منذ ثماني سنوات، حين كان الشباب يقرنون أسماءهم بأسماء مازيني وجاريبلدي ودان برين وغيرهم من الزعماء. وكان الهنود الذين يعودون من دراستهم بألمانيا يتغنون بالاشتراكية الوطنية، وكنا في الهند نمدح اليابان ونعطف عليهم، ونقابل بالزهو والإعجاب كل انتصار لهم على الروس: كأمة أسيوية تنتصر على أمة أوربية
فما كاد يظهر العهد الدكتاتوري على حقيقته، وتنكشف نيات أصحابه بظهور أعمالهم، حتى تغيرت الحال وأخذ الهنود ينفضون عنهم ويشعرون بالاستياء عند ذكرهم؛ فاضطهاد ألمانيا لليهود ذلك الاضطهاد الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم، وقتل الاشتراكيين في إيطاليا وغزو الحبشة العزلاء كان لها أسوأ الأثر في نفوس الهنود الذين أعلنوا سخطهم على هذه الأعمال بواسطة المجلس الوطني
فالدعاية النازية والدعاية الفاشية قد أخفقتا كل الإخفاق في اجتذاب نفوس الهنود الذين أعلنوا رأيهم بلسان المجلس الوطني
إلا أن بعض النفوس المولعة بالأسرار والأعاجيب، من الهندوس والمسلمين، قد تأثرت إلى حد ما بتلك الدعاية التي تنسب فلسفة هتلر إلى الهند وسزم في معاملة المنبوذين، وتنظر إلى البابا من ناحية الديانة البوذية التي يدين بها سكانها، وتحرك عوامل الضغينة في نفوس المسلمين - الذين يميلون بطبيعتهم إلى العرب - بإثارة مشكلة فلسطين. ومهما تبلغ تلك الدعاية من المقدرة على التضليل، فلن تزيل من النفوس أثر تلك الأعمال التي تقضي على آمال المدنية في العصر الحديث
تجفيف مياه بحر الروم
(ملخصة عن (ذي أمريكان ويكلي))(326/56)
وضع مهندس ألماني مشروعاً عجيباً لتخفيض مياه بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) ستمائة قدم بإقامة سد عظيم على بوغاز جبل طارق المتقارب الشاطئين.
ويقال إن إيطاليا التي تطلب مزيداً من الأرض، سوف يمنحها هذا المشروع ما تريد من الأرض الواسعة، لا من الدول الأخرى التي تمانع في ذلك كل الممانعة، ولكن من البحر. ومن المعلوم أن إيطاليا تريد أراضي متاخمة لمستعمراتها، وهذا من السهل أن تحصل عليه إذا نفذ هذا المشروع.
ولكن ماذا عسى أن تقول فرنسا واليونان ومصر عن هذا المشروع؟ إنها ولا شك ستستفيد أصقاعاً فسيحة من الأرض الخصبة؛ وستكون لديها فرصة عظيمة لاستغلال القوى المائية في مختلف الصناعات.
ولعل بريطانيا وغيرها من الدول التي تعول على الملاحة في هذا البحر هي وحدها التي تخشى الخسارة من تنفيذ هذا المشروع. ولكن هذه الدول قد لا تتأثر بتنفيذه إذا أنشئت الممرات والخلجان التي تسهل لسفنها السير وتجعل حركة الملاحة متيسرة على الدوام
ومما يجعل هذا المشروع محتمل التنفيذ أن مياه البحر الأبيض المتوسط بطبيعتها تسير نحو النقصان. فإن الأنهار العظيمة التي تصب فيه، وهي نهر إلبو الإيطالي ونهر الرون الفرنسي ونهر النيل المصري وبعض الأنهار الصغيرة - تعد قليلة لا تعوض المياه التي يفقدها هذا البحر بالتبخر. ولا بد من وصول فيض من المياه إليه عن طريق البحر الأسود وبوغاز جبل طارق الذي يمده بمياه المحيط الإطلنطيقي
فإذا وضع سد محكم على بوغاز جبل طارق، ووضع سد آخر على باب البحر الأسود بوغاز الدردنيل، فإن مستوي مياه البحر الأبيض يهبط بالتدريج، إذ أن مقدار المياه التي يفقدها بالتبخر ستزيد على المقدار الذي يصب فيه
وإذا كان المشروع يرمي إلى تخفيض مياه هذا البحر ستمائة قدم فحسب، فمن الميسور بعد أن يتم هذا التخفيض أن يسمح لمياه البحر الأسود، ومياه المحيط الأطلنطي أن تصب فيه بمقادير معينة تمنع الخطر المنتظر من حبس هذه المياه
فالمشروع كما هو ظاهر لا يستعصي على التنفيذ، وهو من المشروعات التي تدر الخير والنفع على كثير من الأمم الواقعة على هذا البحر.(326/57)
أما الاعتراض الذي يوجه إليه فهو اختلال سطح الأرض بعد أخذ هذه المقادير العظيمة من المياه، وتعرضها للزلازل والبراكين التي تقتلع صخور هذا البحر بعد زوال ذلك الثقل العظيم عنها، وقد يعود بركان أذنة وبركان فيزوف إلى الانفجار من جديد
لذلك كان علماء طبقات الأرض وحدهم دون سائر العلماء هم الذين يعارضون في تنفيذ هذا المشروع، ويرفعون صوتهم بالتحذير من الإقدام عليه. ومما يقولونه بهذا الصدد أن الزلازل قد تكون من القوة بحيث تحطم السدود والحواجز المراد وضعها، بحيث لا يمكن إصلاحها وتعيد فيضان المياه إلى البحر
الجوائز الأدبية في فرنسا
(عن مجلة الآداب والفنون)
في فرنسا كثير من الجوائز الأدبية التي ما زالت أكبر مشجع للأدباء على الإنتاج. فهناك جوائز المجمع العلمي الفرنسي وجوائز المجامع الأدبية، وجائزة (النهضة) وجائزة النقد، وجائزة (الجزائر) الأدبية، وغيرها من الجوائز الفردية
وقد نال الجائزة الكبرى للآداب هذا العام الكاتب جاك بولانجير، تقديراً لإنتاجه الجيد. ونال جائزة الرواية الكاتب (أنطون دسانت اكسوبيري) من أجل كتابه المسمى (أرض الرجال) الذي يعد من الكتب الرائعة وإن كان لا يعد رواية حقا. ونال جائزة (لويس بارتو) الكاتب شوفاليير شيخ معهد غرونوبل
أما جائزة (النهضة) فلم تعط - كما علمنا - لأحد بعد، وقد قدم إلى جمعية هذه الجائزة التي تضم كبار الأدباء، ومنهم إدوارد هريو، كثير من الكتب والروايات. ويقولون إن الجائزة ستعطى للكاتب (ماريوس ريشارد) مؤلف رواية (جان التي ذهبت) لأن له كثيراً من الأنصار. وربما زاحمه (رايموندمّييه) مؤلف (مَلَك الثورة)، و (كريستيان ميغره) الذي سحر أناساً كثيرين بروايته المشهورة (ما يزالون رجالاً)
وفي الجزائر جائزة أدبية قيمتها 10 آلاف فرنك، وستعطى في نهاية هذا العام لأعظم كتاب يستهوي الجمهور سواء أكان موضوعه في الأدب أو التاريخ أو الاقتصاد السياسي أو علم الآثار أو علم الاجتماع. وتعطى هذه الجائزة للجزائريين وللفرنسيين فيها(326/58)
أما جائزة النقد وقيمتها 6 آلاف فرنك، فقد نالها لهذا العام (جوهن شاربانتير) النقادة الكبير للروايات في (ميركورد فرانس) وقد لاقت هذه الجائزة الرضى التام. وجوهن شاربانتير هذا أيرلندي فرنسي الأب، وهو في إنتاجه الأدبي يعني بإنكلترا وفرنسا معاً فلقد أصدر فيما يتعلق بإنجلترا: (صديقتنا إنجلترا) و (التصوير الإنكليزي)، ثم أصدر (تطور الشعر الغنائي في فرنسا بين 1830 - 1930) ثم (الشعر الرمزي)، إلى جانب دراسات كثيرة نقدية كتبها عن (تيودور بانفيل) و (جان جاك روسو) و (الفرد دموسيه) و (بودلير) و (فولتير).
فمتى تنظم عندنا جوائز كهذه لتشجيع الأدباء. . .؟ الحقيقة أن هذا الشرق لا يعرف إلا قتل الأدباء والاستخفاف بهم. . .!(326/59)
البريد الأدبي
على هامش خطاب رئيس الوزراء
صاحب هذه المجلة وكاتب هذا المقال لم ينفكا يناوئان عدوَّين لمصر، أحدهما تسلّط الموظف بغير حق، والآخر (الخدر والنعاس). وفي الخطاب الرصين الذي ألقاه رئيس الوزراء في التاسع عشر من هذا الشهر ما حرفه:
(وكم رأينا ببعض الموظفين من ضجيج كاذب وحركات لا خير من ورائها ولا بركة. وكم شاهدنا القادرين من أهل الفن والمعرفة يُقصون عن العمل فيما هم أهل له، في حين يشغل بعض المراكز الكبيرة ويتقاضى المرتبات الضخمة من يكتفي من الوظائف بمظهرها وجاهها دون أن يستطيع الاضطلاع بمسئولياتها حق الاضطلاع)
ثم (نعتمد على الشباب. . . وليعلم الشباب أن الباب مفتوح أمامه، وأن الحكومة تريد أن تنتفع بالكفايات والروح الفتية حيثما وجدت، وليس كل شاب فتياً، وعند بعض الكهول شباب متوقد)
هذا كلام يطرب له من يريد التقدّم الحق لهذا البلد: بلد الموظف المتعجرف والناعس المطمئن. أمران ثنتا عندنا بفضل عهدين كريهين: كلاهما نشَّأ الناس للقناعة بخدمة الحكومة القائمة مع حصر الفخر في ذلك، فانهدمت الروح الوثابة والهمة العالية. وعلى هذا جرت الأمور في خطٍّ لا يمتد طرفاه فجمدت حيث هي
الموظف خادم الأمة، منها يتلقى راتبه ولأجلها أنشئت وظيفته. وجاء الوظائف بالقياس إلى جلال الخدمة لا بالنسبة إلى مبلغ الراتب. وإذا شغل الوظيفة من لا يستحقها فذلك مسلَبَة لمال الأمة وعدوان على حقها. وعلى هذا فاستثمار الوظيفة لغير خدمة الأمة إثم، و (المحسوبية) إثم، والتهاون بالمصلحة العامة إثم. ففي وزارة المعارف مثلاً من يستعين بوظيفته على تقرير كتاب من كتبه، وفي كلية الآداب من يدرِّس مادةً زميله المصري أحقُّ بتدريسها، ومعهد الموسيقى يكلفنا مالاً كثيراً ولا يصنع شيئاً
هذا وفي حِسبان بعض الشرقيين أن المقدرة لا تؤاتيك إلا إذا تدلت لحيتك وتخدّد وجهك وارتعشت يدك وثقلت رجلك وأعانت العين صاحبتها على فتح باب وإغلاق نافذة
وأكبر الظن أن الشيوخ في هذا البلد يحذرون الشباب بعض الحذر أو كله. ذلك لأن الشبان(326/60)
المثقفين ولا سيما الذين تخرجوا في جامعات أوربة ربما أصابوا من العلم والخبرة ما فات الشيوخ. دليل ذلك مثلاً أن البعثات الأولى كانت تقنع بنيل إجازة كذا. وأما البعثات الأخيرة فقد أدركت أن هذه الإجازات ليست كل شيء: ذلك أن في مصر من يحملها فليست هي بالعزيزة ولا بالنادرة؛ ثم الإجازة شهادة، والمقدرة فيما وراء الشهادة، المقدرة في الاطلاع الواسع والتأليف الرفيع والإنجاز. هذا في باب العلم وعليه قس أبواباً أخرى
تلك حقائق فطنت إليها الوزارة الجديدة وأعلنها رئيس الوزراء ونحن نرقب ما يكون. نرقب وضع الشيء موضعه، فتُسند الوظيفة إلى من هَمُّه خدمة الأمة وباعثه الإخلاص ومقصده التقدم؛ ويشغل المنصب، سواء رفع أو وضع، صاحب الكفاية، والكفاية دليلها العمل المُنجَز؛ وببُعْد من الأجانب مَن في المصريين غنىً عنهم؛ وتُغلق المعاهد والمصالح التي لا تثمر أو تصلح من الأساس بغير تلطف ولا ترحم
بقي أن رئيس الوزراء قال: (كذلك نود أن لا يفوتنا الاتصال بالكتاب والمفكرين، فإنه يسرنا أن نحصل على تحقيق رقابة الأمة في مختلف صورها)
وفي هذا دلالة على أن الحكم في مصر بعيد عن الاستبداد بالرأي وأن للفكر دولته وعزته. ومن العسْف أن يهمل الحاكم نظر المستنيرين، فهم هم الذين يؤدبون الأمة ويهذبون الأذهان من طريق الكتابة والتعليم العالي. وعسى أن تنفسح المجلات الراقية - وفي مقدمتها الرسالة - لإشارات أهل الدراية والخبرة من الكتاب، فهذى الصحف اليومية مشغولة عن الجانب الفكري بسرد الأخبار المحلية الخاصة بالقطن والدفاع وغيرهما ثم ببرقيات السياسة الخارجية ومسير الحرب القائمة في أوربة الضائع حظها لانصرافها إلى المادة المطلقة وهيامها بالسلطان فالبطش
وإشارات أهل الدراية والخبرة من الكتاب يحق لها أن تتعدى جانب الثقافة إلى جوانب نشاط الأمة كلها. حتى الدفاع الوطني يلفت نظر المفكر الذي شهد وسمع من قبل. وأما الشؤون الاجتماعية فهي محور نظره، ذلك أن الحياة الاجتماعية تحكم جميع ألوان نشاط الأمة. وفي العدد المقبل - إن شاء ربك - حديث يجري على قلم الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية.
(الإسكندرية)(326/61)
بشر فارس
وفاة الأستاذ سجموند فرويد
توفي الأستاذ سجموند فرويد في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر سبتمبر في منزله بهامستيد عن ثلاثة وثمانين عاماً قضاها في خدمة الطب وعلم النفس وشؤون الاجتماع دارساً وباحثاً ومعلماً ومؤلفاً حتى ترك للعالم والعلم ثروة من نتاج الفكر العبقري الخالق كان لها الأثر العظيم في توجيه علم النفس إلى وجهة جديدة
ولد هذا العلامة الكبير بمدينة فريبرج الصغيرة في اليوم السادس من شهر أغسطس سنة 1856 ثم تلقى ثقافته العامة في فيينا ورحل بعد ذلك إلى باريس فدرس نظريات الدكتور شركون في الأعصاب وخواصها وأوضاعها. ثم عاد إلى فيينا فتولى التدريس في جامعتها وتقدمت به كفايته حتى عين فيها أستاذاً لأمراض الأعصاب وعلاجها سنة 1902، وفي خلال ذلك توفر على البحث والتأليف فلفت إليه أنظار العلماء بأصالة فكره وثقوب ذهنه وطراقة رأيه، ونال الدكتوراه الفخرية في سنة 1909 من جامعة كلارك ووستر بأمريكا. ثم عين في السنة التي بعدها عضواً أجنبياً في الجمعية الملكية ببريطانيا. وظل في وطنه يخدم العلم والتعليم وهو موفور العيش مرفوع المكانة حتى ضمت النمسا إلى ألمانيا فاضطهدته العصبة النازية لأنه يهودي فهاجر بزوجته وأولاده إلى لندن فعاش بها إلى أن توفاه الله
كان فرويد بطلاً من أبطال العلم جاهد فيه وصابر حتى انتصر وفتح. فهو صاحب مذهب جديد في علم النفس قوض أسسه القديمة، وقلب أوضاعه القائمة، ولقي في سبيل تأييده ونشره ما يلقاه المجددون من عنت الجدل وسفه الخصومة. ورماه الناس بالدجل والشعوذة حين قرر أن الأمراض العصبية تشفى بالتحليل النفسي؛ ولكنه يثبت لخصومه يقارعهم بالحجة ويأخذهم بالتجربة حتى انظم إليه طائفة من صفوة العلماء فاعتقدوا مذهبه وأعانوه على ضبطه وبسطه
وخلاصة مذهب فرويد في علم النفس أن الغريزة الجنسية هي علة الاضطرابات العصبية، وأن ما يختزنه العقل الباطن في جميع مراحل العمر هو الذي يؤثر فينا ويهيمن علينا؛(326/62)
والعقل الباطن إنما يمثل رغبات النفس الحقيقية؛ أما العقل الواعي فيمثل رغباتها العرفية التي أقرتها البيئة وارتضتها التقاليد؛ وذلك الصراع الذي ينشأ بين رغبات العقل الباطن ورغبات العقل الظاهر هو الذي ينتهي أحياناً إلى الاضطرابات العصبية. فإذا نجحنا في إطلاق الغرائز المكبوتة نجحنا في توفير الهناء المعنوي للنفس. لذلك أخذ فرويد يعالج الأمراض العصبية بالكشف عن مخزون العقل الباطن وهو ما يسميه بالتحليل النفسي. ويقول فرويد إن الأحلام هي تعبير عن رغبات العقل الباطن فلا تنبئ عن المستقبل ولا تدل عليه.
وله في تفسير الأحلام كتاب ضخم يؤيد به هذه النظرية من طريق التحليل العلمي والمنهج القويم
وقد انبسط سلطان المذهب الفرويدي على الأدب والفن والفلسفة والتشريع، وأحدث موجة من التفكير في أحوال الإنسان الداخلية سيكون لها الأثر البالغ في توجيه حياته وتقدير عمله
خطبة منبرية من نوع جديد
ألقى الخطيب الكاتب الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي مدير قسم المساجد بوزارة الأوقاف خطبة الجمعة الأولى من شعبان في مسجد يحيى باشا الذي صلى به صاحب الجلالة الفاروق المعظم، فكانت الخطبة في إنشائها وإلقائها ومغزاها نمطاً عالياً في فن سحبان الذي ضعضعه الزمن حتى انقلب بيانه لغواً على الألسنة، كما انقلب سيفه خشباً في الأيدي. وطرافة هذه الخطبة أنها تشعرك بجدة الدين ومسايرته لكل عصر ومطابقته لكل حالة؛ فقد عالج فيها الخطيب أعراض الحرب القائمة من الخوف والتخاذل والأثرة والادخار والاحتكار بطب من كلام الله وحديث الرسول كأنما نزل به الوحي أمس. ولقد كان أثر هذه الخطبة بليغاً في نفوس من سمعوها في المسجد أو في المذياع حتى كتب إلينا كثير منهم يطلب إلى وزارة الأوقاف أو وزارة الشؤون الاجتماعية أن تضع أمثال هذه الخطبة فيما يحزُب الناس كل يوم من أمور العيش ومشاكل الحياة ثم توزعها على الخطباء في المدن والأقاليم، فإن في ذلك توثيقاً لنظام الجماعة بقانون الله، وتحقيقاً لغرض الشارع من سن هذه الخطبة
ماذا تركة روما وماذا خلفة أثينا؟(326/63)
أشار صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا في البيان الذي أذاعه إلى ما جناه الخلاف على المدنية الأثينية، وإلى ما جناه الترف على الحضارة الرومانية، وناشد أبناء مصر أن يتعظوا بأخبار الدول السالفة فيجعلوا القصد والاتحاد وسيلتهم إلى المجد المنشود.
ولقد ذكرت بمناسبة إشارته إلى روما وأثينا أن رفعته لما كان وزيراً للمعارف قد أعلن مباراة في ترجمة كتب مختارة من روائع الأدب الغربي منها كتابان: (تركة روما) و (تركة أثينا).
ومع أن المباراة ألغيت في عهد الوزارة التالية فإني أعتقد أن كثيرين من الأدباء قد أفادهم اختيار تلك الكتب، وأن محاولات بذلت لترجمة هذين الكتابين بالذات من بين الكتب المختارة. . .
فهلا أعادت وزارة المعارف النظر في قرار الإلغاء لهذه المباراة، أو هلا نشط من يمكنه وقته وظروفه إلى ترجمتها بغير حاجة إلى جوائز الوزارة؟!. . .
عبد اللطيف النشار
المنضدة في اللغة
في مقتطف يونيه أخذ العلامة الأب الكرملي على صاحب كتاب (مباحث عربية) استعماله لفظة الِمْنضَدَة بدلاً من النضَد إذ قال إنها لم ترد في كلام فصيح. وذكر كاتب جعل توقيعه نجماً - في الرسالة رقم 317 (البريد الأدبي) أن المنضدة وردت في (أساس البلاغة) هكذا: (المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم). وقد راجعت مادة ن ض د في (أساس البلاغة) ولم أعثر على هذا النص. فهل هو في مادة أخرى؟
عسى أن يرشدنا الكاتب الفاضل إلى مظنة النص فيفيد
قارئ
رد على (اقتباس الكتاب)
حضرة الفاضل الأستاذ محرر (الرسالة).
تحية وسلاماً. . . وبعد، قرأت في عدد (الرسالة) الأخير الكلمة التي تهجم فيها الدكتور(326/64)
بشر فارس من جديد عليّ. والرد على تهجمه أن كتاب (فرعون الصغير) للأستاذ محمود بك تيمور وصلني صبيحة 15 يونية سنة 1939، والكتاب يحمل إهداء تيمور بك، والتاريخ 14 يونية مرقوم تحت التوقيع. وكتبت كلمتي في الأسبوع الثالث من شهر يونية، وقرأتها على الأستاذ صديق شيبوب في حينها، وبعثت بها إلى (الرسالة) بتاريخ 27 يونية - أعني قبل صدور مقتطف يولية بأيام -
على أن كلمتي وإن تأخر نشرها للعدد الصادر في 14 أغسطس سنة 1939، فذلك على ما يبدو لي راجع إلى تقديم بعض كلمات أرسلتها للرسالة، وكانت لمناسباتها تتطلب نشرها في وقتها، من ذلك كلمتي عن المرحوم فليكس فارس، وردودي على الدكتور بشر فارس، وردي على الدكتور غالي والأستاذ المنقبادي.
وأظن أن في هذا البيان ما يقطع كل مظنة للاقتباس
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم
مهرجان للأدب في السودان
عزم شباب السودان على أن يجعلوا من عيد الفطر المبارك عيداً قومياً آخر. فقرروا أن يقام في أيامه الثلاثة مهرجان للأدب في واد مدني عاصمة الجزيرة
وفي هذا المهرجان ستعرض جهود السودان المتعلم، وما ناله من حظ في العلم والأدب. وسيكون العرض شاملاً لمختلف نواحي العلوم والفنون والآداب من أبحاث فلكية وطبية واجتماعية وتاريخية.
وهذه فرصة طيبة لتقوية الصلات الثقافية بين مصر والسودان يجدر بأبناء الشقيق انتهازها حتى يكون لنا من العيد أعياد. فهلا يبادر الكتاب والأدباء لزيارة السودان في رحلة شتوية ممتعة ليروا أثار النهضة الأدبية؟ وعلى أرباب الصحف ومحرريها التي لا تخلو منها دار سودانية واجب كبير في هذا الصدد. وسيجد مندوبوها مادة غزيرة للكتابة عن ناحية مجهولة في السودان الذي لا يعرفه وا أسفاه إلا قلة من أبناء مصر. وما أسعد قلوب السودانيين جميعاً إذا ساهمت مصر بكتابها ومفكريها في ذلك المهرجان، فيروا بينهم توفيق(326/65)
الحكيم والعقاد والزيات وزكي مبارك والمازني وفكري أباظة وفتحي رضوان وإبراهيم المصري
وللسودان على هؤلاء جميعاً دين يجب أن يؤدوه، فهو يدرس أدبهم، ويقرأ كتبهم، ويعيش معهم دائماً بروحه وعطفه، وهو لا يرجو إلا أن يزوروه بهذه المناسبة ليصفوه ويعرفوه وينصفوه وينعموا بجوه الشتوي الجميل.
هذا، ومن لم يستطع الحضور، فلا أقل من أن يرسل تحيته إلى السودان على عنوان سكرتير المهرجان أحمد محمد خير السوداني واد مدني.
سكرتير المهرجان
حول رواية محمد علي الكبير
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
قرأت لمحرر الرسالة الفني كلمة عن رواية (محمد علي الكبير) هنأنا فيها على قبض ثمنها من الفرقة القومية وعزا عدم إخراجها إلى أسباب غير صحيحة
والواقع أن الرواية مأخوذة عن قصة (ابنة الملوك) للأستاذ محمد فريد أبو حديد، وقد فازت بجائزة ممتازة في مباراة التأليف المسرحي عام 1929 بين ما يربي على مائة رواية لمؤلفي المسرح المصري.
وقد نشرت (الرسالة) منظراً تمثيلياً منها في العدد الخاص الذي صدر بمناسبة تولي صاحب الجلالة الملك سلطته الدستورية. وحاشا أن أصور محمد علي باشا في صورة السفاح كما توهم المحرر، فإني أعقل من أن أصور منشئ مصر الحديثة في هذه الصورة.
وستعرض الرواية في الوقت المناسب، وسيراها رواد المسرح والنقاد ويصدرون حكمهم على موضوعها وقيمتها
أما السبب الصحيح في تأجيل تمثيلها فهو اشتمالها على مواقف حربية بين محمد علي والإنجليز، وقد ورد فيها انتصاره عليهم في موقعة رشيد، فرأوا من المناسب ألا تمثل في الظروف الدولية الحاضرة
أما المكافأة عليها فلم تدفعها الفرقة وإنما فازت بحق تمثيلها من غير مقابل، لأن شرط(326/66)
مباراة التأليف كما وضعته وزارة المعارف يعطي الفرقة هذا الحق. وقد صرفت الجائزة من هبة المرحوم عليوه بك التي رصدها تشجيعاً للتأليف المسرحي. . .
يوسف تادرس
حول الفن والحرية أيضاً
تتبعت الدوائر الفنية والأدبية في مصر باهتمام شديد كل ما كتب حول جماعة الفن والحرية في مجلة (الرسالة) الغراء. ولقد ضمت هذه الجماعة مجموعة من الشباب المصري المثقف تلمس فيهم كل إخلاص وحب للوطن العزيز. ولا شك في أن كل ما كتب في (الرسالة) ما هو إلا كتابات سطحية عن أغراض الجماعة لم توف حقها من البحث حتى نطمئن جميعاً إليها حتى إنني لم أكد أدرك ما يريده أعضاء الجماعة من حركتهم الجديدة.
بقي سؤال، وهو أليس للجماعة حساب على جماعة (الفن والحرية)، وهي تؤمن به كما علمت حتى تفصح عن أغراضها الحقيقية، وتوضح بكل جلاء ما ينتجه أعضاؤها من الفنانين أو الأدباء - من فنون حديثة سواء في الرسم أو في الأدب أو في الشعر. ومقال الأستاذ (كامل التلمساني) الذي نشر بالعدد (321) ودافع فيه عن فنه وفن زملائه (فتحي البكري) و (كمال وليم) والأستاذ (حسين يوسف أمين) و (أبو خليل لطفي) ثم الأستاذ (يوسف العفيفي) و (فؤاد كامل) لم يوضح فيه بشكل قاطع وغير قابل للشك ماهية فنونهم هذه؛ بل ترك مقاله خالياً من أي نتيجة حاسمة نطمئن لها. ثم جاء بعده مقال للأستاذ (رمسيس يونان) نشر بالعدد (322) عرض فيه عرضاً عاماً شاملاً سريعاً لحركة (السيرريالزم)، وبعض أساليبها في التعبير. وفي هذا المقال أيضاً لم يخرج القارئ منه بنتيجة حاسمة
وأذكر أيضاً كلمة جاءت في صفحة (البريد الأدبي) في أحد أعداد (الرسالة) الغراء كتبها الأستاذ (أنور كامل)، وهي لا تقل في غموضها وشمولها عما كتب من قبل
أليست الحكمة إذن أن تفصح جماعة (الفن والحرية) عن فنها وعن أدبها في صراحة تامة دون مواربة أو إبهام؟
وبعد، فإنني أرى أن أعضاء هذه الجماعة تغمرهم عواطف حارة جياشة في صدورهم(326/67)
الرحبة لخلق فن جديد، وأدب جديد ينبت حقاً من تربة مصر رأساً
ولكن لا بد من إفصاح ولابد من بيان. فهل تتقدم جماعة (الفن والحرية) فتبين لنا ماهية هذه التحولات الجديدة في الفنون وتذكر لنا أثرها في مستقبل مصر الفني والأدبي والمعنوي، على أن يكون بيانها مبنياً على أسس متينة من البحث العلمي أو الفني، معترف بها لدى الجميع.
حسين عبد الله السيد
ليسانسيه في الآداب(326/68)
الكتب
التربية النظامية
لصاحب العزة القائمقام علي حلمي بك
مدير شرطة مديرية البحيرة
بقلم الأستاذ عبد المنعم خلاف
تفضل سعادة المؤلف بإهداء هذا الكتاب القيم إليّ؛ وهو الكتاب الأول من نوعه باللغة العربية فيما أعلم، عولجت فيه أوضاع الحياة الشخصية والاجتماعية بوضوح وتفصيل وضبط وبيان رصين على الأسلوب المتكافئ
وقبل أن أتحدث عن الكتاب يسرني أن أتحدث قليلاً عن مؤلفه: فهو مثال للرجل العسكري الكامل الذي يعلن بشخصيته وخلقه عن الفضائل العسكرية التي تقوم لنا قائمة ما لم يعد إلينا الاعتزاز بها والعمل على إحيائها في نفوس الشباب بالقدوة والتعليم. فإنها فضائل تملأ الحس والنفس لأنها في الجسم والفكر والروح
وقد تقلب سعادته في كثير من المناصب في الجيش والشرطة منذ سنة 1911 إلى الآن، وكان معنيا دائماً بدرس شئون الحياة النظامية التي تستلزمها مهنته في القرى والمدن والبيت والشارع. وقد رحل إلى كثير من ممالك الشرق والغرب، فسافر إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ويوغوسلافيا وتركيا واليونان والحجاز وسوريا ولبنان وفلسطين.
قال في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه: (وقد عنيت في أثناء هذه الرحلات بالبحث عن كل ما يتصل بالتربية النظامية وأنظمة البوليس والإدارة والنظم القضائية والاجتماعية وكل ما يتصل بالأمن وشئونه وكذا السجون والإصلاحيات ومصير المفرج عنهم والبلديات والمجالس المحلية
(وفي الدول التي زرتها بحثت أيضاً في الوسائل التي تتبعها حكوماتها وطوائفها لغرس روح النظام في أبنائها وإذكاء الروح الحربية والقومية فيهم، وما تقوم به الهيآت لترقية الحياة الاجتماعية وخاصة عامة الشعب(326/69)
(كذلك حضرت المؤتمر الرياضي العسكري السنوي بمدينة (نورنبرج) بصفتي الشخصية بدعوة من المدير العام للبوليس الألماني مدة أسبوع في صيف 1937. . . وقد شاهدت ودرست معهم أنظمة المعسكرات والتشكيلات الرياضية والعسكرية لملايين الشباب والشابات. . .)
وكان يوالي الجمهور عقب عودته من كل رحلة بمحاضرات يلقيها في الأندية والمعاهد وقاعات الجمعيات المختلفة وفي محطة الإذاعة اللاسلكية. فهو من المؤمنين بنقل الجماهير من حياة الفوضى إلى حياة النظام عن طريق التمهيد بالدعوة والإرشاد والإذاعة قبل النقل بالقوانين. وهو الآن مستشار عتيد في الجيش (المرابط) الجديد، وقائم خبير من القائمين على تنظيمه. ونرجو الله أن ينفع به دائماً
أما الكتاب فلم يترك ناحية من النواحي التي فيها فوضى أو نقص أو قصور في حياتنا المصرية إلا عالجها واقترح لها وأرشد إلى خير الطرق لتنظيمها أو تكميلها مسترشداً بما في الممالك الغربية. فهو كتاب في (فن) الحياة و (إخراجها) في البيت والشارع والمدرسة والملعب والقرية والمدينة على خير أساليبها وأنماطها
تحدث عن النظام ونهضات الأمم، وتنظيم الاستعداد في السلم والحرب، ووسائل مكافحة الغارت الجوية وحماية الآهلين منها، والقرية المصرية والإصلاح الاجتماعي، وسلامة الدولة، والبوليس والجمهور، ومقاومة الجرائم، وبعض النظم الأوربية الملائمة لعاداتنا وتقاليدنا، والتربية البدنية، والتدريب العسكري، ومفاخر الجيش المصري، والروح القومية. ذلك عرض لأمهات مسائل الكتاب يضاف إليها مسائل عدة يطول بنا الحديث إذا ذكرنا عنواناتها
وهو يقع في 355 صفحة محلى بكثير من الصور الفوتوغرافية. ولو أن مثل هذا الكتاب وزع على طلاب المدارس الثانوية والمعاهد الدينية للمطالعة لكان أفضل بكثير من الكتب التي تتحدث في موضوعات لا تتصل بصميم التربية والسلوك في الحياة، وإنما تتحدث بمقالات كلها (ترف) أدبي أو علمي يحشو الأذهان بالحروف والأرقام وألوان التعبير الجميل والرشاقة البيانية. أما هيكل الحياة الفردية والاجتماعية وأساسها فذلك أمر لا ينظر إليه إلا عرضاً(326/70)
لقد آن لوزارة المعارف أن تبني النفس المصرية من جديد وأن تجعل همها الأول التربية والإشراف على الناشئين في البيت والشارع والمائدة وطريقة الحديث والمرور والملعب والمجتمعات والملاهي والأفراح والمآتم، وأن تجعل وكدها في أن يخرج الطالب من المرحلة الثانوية وهو راشد التصرف مهذب السلوك قبل أن يكون عالماً علم الأولين والآخرين
نريد أن تبيد وزارة المعارف بكل طالب من طلابها خمائر الفوضى والخرافات الشائعة في بيوتهم، ولن تتمكن من ذلك إلا إذا استولت على أفئدتهم وملأنها بحب الانتصار لحياة النظام والتنسيق وأفهمتهم أنه من الواجب عليهم أن يجندوا أنفسهم دائماً لحرب الفوضى في بيوتهم ومجتمعاتهم وألا يخضعوا أمام جهل آبائهم وأمهاتهم. والكتب الموضوعة في هذا أولاً والتدريب الطويل ثانياً هما الوسيلة إلى ذلك
(الإسكندرية)
عبد المنعم خلاف(326/71)
عبث الأقدار
تأليف الأستاذ نجيب محفوظ
للأديب محمد جمال الدين درويش
القاص نجيب محفوظ شاب حديث عهد بالقصة، ولكني أعده في الصف الأول ومن المبرزين فيها وخاصة في القصة القصيرة، وأقاصيصه في مجلة الرواية تؤيد ما ذكرت، وتجعلنا نشد على يده إعجاباً بفنه، وتهنئة بفوزه، واستبشاراً بمستقبله في عالم القصة
وهو يمتاز بذوقه الخاص، وطريقته التي اكتسبها من القاص الكبير محمود بك تيمور في كتابه الأقاصيص، ومقدرته الفنية على كتابتها. . . وهو يتخذ مما يشاهده، وما سطرته الأيام والحوادث في سجل المحيط المصري مادة لأقاصيصه، ولذا نرى قصته الجديدة عبث الأقدار مطبوعة بالطابع المحلي. . . تصفحها تجد أنه قد أظهر خوفو فرعون مصر وباني الأهرام كأنه بين ظهرانينا يتمتع بالحياة، والأهرام نلاحظ ونشاهد طريقة بنائها وضجيج العمال وغناءهم. وقصارى القول أن القصة ترينا ما وقع من الحوادث في عهد باني الهرم. كل هذا بأسلوب سهل خال من الكلفة يخطه قلمه على نهج نفسه التي تركها على سجيتها تسجل أفكاره بكل بساطة كأن الفن طوع أمره. وقد نفخ في كلماته من روحه فجعل العبارات كأنها قلوب تنبض وتجيش بالحياة والعواطف تشوق القارئ إلى قراءتها فتتسلسل فصولها تحت أعينه كشريط السينما حادثة في إثر أخرى وتجبره على ألا يلقيها من يده إلا بعد أن ينتهي من قراءتها. . . فيرى أن الأستاذ نجيب عرضها بأسلوب الوصاف أو خلقها بريشة الرسام أو كونها بعدسة المصور
وعلى رغم طول القصة تمكن الأستاذ نجيب من السيطرة على أعصابه ووجدانه حتى أخرج عبث الأقدار كما هي الآن محبوكة كما ينبغي فن القصة. . . وإذا عرفنا أن هذه أول قصة يكتبها طويلة نغتفر للقاص بعض هنات ومآخذ في القصة، ولكني أحاسبه على سوء طبعها وحشوها بالغلطات المطبعية وهي تقع في 160 صفحة من القطع الكبير
وآمل أن تلقى عبث الأقدار من الرواج ما هي أهل له وهي خليقة بالعناية والاعتبار
محمد جمال الدين درويش(326/72)
رسالة النقد
فصل المقال
فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
أخذنا في نقدنا لكتاب (مباحث عربية) أن مؤلفه في بحثه عن (المسلمين في فنلندة)، وقف عند مجرد الأقوال التي سمعها، ولم يتعدها إلى التحقيق. والحق أن هذا المبحث لا يتعدى كونه استطلاعاً صحفياً، ومن هنا جاء ما فيه من الضعف. فالدكتور بشر يرى أن المسلمين الذين اكتشف وجودهم في فنلندة أصلهم من (الترك - التتر)، الضاربين أصلاً فيما وراء جبال أورال، رحلوا إلى فنلندة عقب الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا. وقد لاحظت أنا أن المسلمين من (الترك - التتر) ينتشرون في شمال وشرق أوربا بكثرة. فمنهم جموع في لابلاند وفي فنلندة وفي استونيا وفي ليتونيا وفي بولندة. . . وقد تحدث عنهم المستشرقون الروس والبولنديون كثيراً - خصوصاً اليهود من الأخيرين - وكان من الروس المستشرق بارثولد، وهو من شيوخ الاستشراق في أوربا؛ فقد كتب بحثاً نفسياً عن (الأتراك في أوربا الشمالية) تجده في مجلة الشرق الجديدة الروسية م 8 ج 4 ص 311 - 336 كذلك كتب بحثاً قيماً الأستاذ فيسفولد كزمبرسكي، وهو من أعلام الاستشراق في روسيا الآن في نفس المرجع. م 10 ج 2 ص 101 - 140 وهو عن (بقايا جموع التتر القديمة في دويلات البلطيق) واعتماداً على هذه المعرفة نظرت في المراجع التركية التي تحت يدي، فوجدت أن جموعاً من الأتراك المسلمين، رحلوا إلى الشمال في القرن السادس عشر، واستمروا في بلاد الفنوا (فنلندة)، ومن هنا جاء تساؤلي: هل تأكد الدكتور بشر فارس من المعلومات التي ألقيت إليه من الأشخاص الذين قابلهم في فنلندة من جمهور (الترك - التتر) فيها عن أصلهم؟
وقد عمد الدكتور بشر إلى المغالطة في رده فقال: إنه اهتدى إلى هؤلاء المسلمين، وأنهم خبروه بما دوَّن. وأنا وإن كنت لا أحب أن أشجب رواية الدكتور بشر واتهمه في كلامه، إلا أن الذي أحب أن أقوله: إنهم قد يكونون خبروه أن أصولهم من وراء جبال أورال،(326/74)
وأخطأ هو فهم كلامهم فظن أن هذا يعني أنهم حديثوا العهد بفنلندة أتوها بعد الانقلاب السوفيتي من وراء جبال أورال!. . .
2 - قال الدكتور بشر: إن بعض هؤلاء الأتراك (التتر) يقيمون بمدينة أعمال فنلندة. وقد علقت على هذا الكلام في ردِّي فقلت: (ما صلة اسم هذه المدينة بلفظة ترك)، لأن المشابهة قوية بين اسم المدينة واسم الأتراك، مما يدل على أن المدينة اشتق اسمها من جموع الترك - التتر - التي نزلتها في زمن من الأزمان فجاء الدكتور بشر في ردّه يغالط ويقول: إن مدينة توركو كانت عاصمة فنلندة في المائة الرابعة عشرة للمسيح، وبذلك ينفي تأثير جماعة الترك الذين نزلوا ربوع بلاد الفنوا في القرن السادس عشر
والمغالطة واضحة، لأننا لم نقل في ردّنا إن هنالك صلة بين نزول الجموع التركية في القرن السادس عشر وبين تسمية المدينة باسم توركو، ذلك أننا نعرف أن المدينة أقدم عهداً من ذلك التاريخ، وإليك الدليل:
قلنا: (ومسألة أخرى في هذا البحث، فالباحث يذكر أن جموع هؤلاء المسلمين الأتراك تنزل العاصمة ثم بمدينتي تميري وتوركو. وهو لم يذكر لنا شيئاً عن المدينة الثانية، وهل هنالك صلة بين اسمها ولفظة (تورك)
فأين هذه الملاحظة من ردّ صاحبنا القائم على المغالطة والإيهام والتهويل؟
3 - نعرف من كتب الأثنولوجيا أن الفنلنديين يردّون إلى أصلين: الشمال من فنلندة تنزل بعض الجموع الذين يردّون إلى قلة ضئيلة في فنلندة اليوم. ونزول النورديين في دويلات البلطيق من القرن الخامس عدل الصفات الاثنولوجية للفينوا الأول. ومجيء بعض الجموع من (الترك - التتر) إلى دويلات البلطيق واستقرارهم فيها، وكان من الموجتين المغوليتين العظيمتين اللتين جرفتا روسيا عام 1237 وعام 1239، إذ نزل شواطئ البلطيق جماعات من (الترك - التتر) الذين دفعتهم أمامها الموجة المغولية. ثم جاء من الشرق ومن الجنوب عبر بحر البلطيق عن طريق بولندة جموع من الأتراك العثمانيين، نزل بعضهم بولندة واستقر فيها والبعض الآخر ركب البحر إلى الشمال واستقر في استونيا ولتوانيا ولتفيا وفنلندة. وكان مجيء هذه الجموع على دفعات. ولا شك أن بعض هؤلاء كانوا من الأتراك العثمانيين الذين أسروا في الحروب التي شنها الأتراك على أواسط أوربا وعلى جنوب(326/75)
بولندة (التوران في مجرى التاريخ - ج 3 المقدمة بعدها وكذا بارولد في مبحثه السابق الذكر)
ومن هنا يتبين قيمة رد الدكتور بشر من الحقيقة. هذا إلى أن أصل اشتقاق الفنلندية يعود إلى مادة ترك كما تحقق هذا معنا من مراجعة مادة (ترك) من أعمال معهد التاريخ التركي (السلسلة الأولى - المجلد 4 ج 3 ص 117 - 118)
4 - قلنا إن الدكتور بشر فارس لم يتعمق في بحثه، وكان آية ذلك عندنا أنه يقول: إن لغة التعليم عندهم هي التركية وحروف هجائهم هي الحروف اللاتينية التركية التي وضعت وشاعت بأمر أتاتورك (ص 24) وهو يستدل بهذا على أنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23) لأننا نعرف أن هناك ضربين من الهجاء اللاتيني للغة التركية، الأول يتخذه أتراك الاتحاد السوفيتي والثاني يتخذه أتراك الجمهورية التركية. وهنالك من الفروق بين الضربين ما يجب تفرقة بعضها عن بعض. وقلنا في ردنا عليه: (وفي إمكان الباحث بمراجعة هذه الفروق أن يدلي برأي نهائي في الموضوع) فحرف الدكتور بشر كلامنا فقال: (إنني أخذت عليه عدم التثبت في بحثه لأنه لم يقرر أن الحروف التي يستخدمها هؤلاء المسلمون في فنلندة، ليست هي تلك الحروف التي توافق عليها أتراك الاتحاد السوفيتي) وأين هذا الكلام من كلامي؟!
إن الكماليين استعملوا الهجاء اللاتيني في 3 نوفمبر عام 1929 288 سطر 24 الاتحاد السوفيتي اتخذوا الهجاء اللاتيني في مؤتمر باكو عام 1924، ثم حدث بعض الخلاف سوّه في مؤتمر تفليس عام 1925 ومصطفى كمال اعتمد على الهجاء اللاتيني الفرنسي في وضعه الهجاء اللاتيني التركي، وإن نظر لنظام أتراك الاتحاد السوفيتي
ولا زلت أنا عند رأيي الأول أنه كان في مستطاع الدكتور بشر أن يرجع لنظام الهجاء اللاتيني لهؤلاء المسلمين، ويقارنه بما يقابله عند أتراك الاتحاد السوفيتي ثم أتراك الجمهورية التركية وبذلك يدلي برأي نهائي في الموضوع. أما القول بأنهم أخبروه بذلك، فهو من اجتلاب القول، فضلاً عن أنه موضع نظر حتى يمكن الجزم في نظام أحرف الهجاء اللاتيني التي يستخدمونها في الكتابة
وإذا كان عند الدكتور بشر فارس نماذج من كتاباتهم فليبعث إلي بواحد منها، وأنا ضمين(326/76)
بأن أقطع الشك في هذه المسألة بحكم درايتي بهذه الدقائق نتيجة تقلبي في بيئات تركيا والاتحاد السوفيتي ردحاً من الزمان
بقيت بعض ملاحظات على الجملة التي دار حولها النقاش من مبحث الدكتور بشر فارس، من ذلك أنه استدل من أن لغة التعليم عند هؤلاء المسلمين الفنلنديين هي التركية بأنهم صرفوا هواهم عن روسية الجنوبية (ص 23 من كتابه) ولست أعرف ما موضع روسية الجنوبية في هذا التعبير؛ لأن هؤلاء إن كانوا من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال فلا صلة لهم إذن بروسية الجنوبية (القرم وقازان وأكرانيا)، وإن كانوا من الجنوب من روسية فلا معنى للقول بأنهم من الترك الضاربين فيما وراء جبال أورال. . . والذي عندي أن هذا الخلط نتيجة تفسيرات شخصية من الدكتور بشر فلم يحدثوه بأنهم من وراء جبال أورال، وإنما الدكتور بشر قد استنتجه خطأ، لعلمه أن (الترك - التتر) أصلهم من هذه المناطق. وعلى هذا يتسق الأمر في استطلاع الدكتور بشر لشؤون هذه الجماعة المسلمة في أقصى الشمال. أما القول بصرف الهوى عن روسيا الجنوبية. . . فهو الأصل الذي يكشف عن فكرة الاستنتاج في قول بشر أنهم من (الأتراك - التتر) الضاربين فيما وراء جبال أورال. . .!
5 - قلنا في نقدنا لكتاب مباحث عربية: (إن استعمال لفظ (السلوك) لأحد مشتقات المصدر الفرنسي تارة ولفظ (الأخلاقيات) لمشتق آخر لنفس المصدر (وهو تارة أخرى يوقع في اللبس والاختلاط). فكتب الدكتور بشر: (والردّ أن الناقد لم يدرك الفرق بين اللفظتين الفرنسيتين: فالأول يدل على أعمال المرء من الناحية الأخلاقية، والثاني يفيد علم الأخلاق). والمغالطة في ردّ صاحبنا الدكتور بشر واضحة، لأن الأصل في نقدنا أن استعمال لفظ السلوك والأخلاقيات لمشتقتين من مصدر واحد اللاتينية يوقع في اللبس. واللازم أن يشتق من المادة العربية التي ينظران إلى اللفظين الفرنسيين والأول يأتي عندي آداباً والآخر أدبيات، ففي الأول مفهوم حيث هو قاعدة (أو منهج) وفي الآخر مفهوم حيث هو مبدأ وبين الاثنين من الفارق ما لاحظه الدكتور بشر فارس
6 - قلنا: (إن في تعبير الدكتور بشر أن للفظة الشرف مفادات متجاورة تارة، متباينة أخرى) قصوراً لا تستقيم معه الجملة إلا إذا أبدل فيها لفظة المتجاورة بالمتشابهة لأنها أدل(326/77)
على المعنى وأكثر اتساقاً في الجملة من حيث أن التجاور في تعبيره يفيد إفرنجياً يعني:
1 - الألفاظ المفردة الدالة على معنى واحد (مترادف)
2 - الألفاظ المفردة الدالة على معنى متشابه (أو متقارب)
وإذن يكون في العربية الفصحى كل من لفظتي المترادف أو المتشابه (المتقارب) وذلك حسب استعماله. والتعبير الذي استعمل فيه الدكتور بشر لفظة متجاورة سياقها تفيد التقارب أو التشابه. والدكتور بشر يريد هذا، لأن المتباين يقابله المترادف من الجهة الأخرى ويقف بينهما المتشابه والمتقارب. وهذه مسألة لا تحتاج إلى ذلك العلم الدقيق بمفردات اللغة كما يهول صاحبنا في رده. وليس جعلنا المتشابهة بدليل قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة من الألفاظ التي تنظر وليست اللفظة الإفرنجية مفادها قاصراً على المترادفة عربياً. ونحن إن كنا وقفنا في ردنا عليه عند المشابهة (الوجه الثاني من مفاد اللفظة) فذلك لأنها هي المقصودة في العبارة، والسياقة تدل عليها، وما دام الأمر كذلك فأي ضرورة تلجئنا إلى الكلام عن المترادف أو المترادفة من الألفاظ؟
على أن محاولة بشر تخريج الموضوع بقوله: إنه يعني بالمفادات الإفرنجية فلا معنى لها ولا محل، لأن المفادات لا تتجاور ولكن تتشابه (أو تتقارب) وتتباين وتترادف لأن التجاور يغلبها الجانب الحسي والمفادات يغلب عليها الجانب المعنوي. أما أن المتجاورة من تعبيره تنظر فليس ذلك بدليل يلزم أن يكون التعبير فيه لفظ التجاور. لأن التعبير في العربية وليس في اللغة الفرنسية، ولكل لغة أحكامها وأصولها. وأظن أنني لست بذلك الشخص الذي يعطي للدكتور بشر درساً في هذا، فهو أدرى منا في هذا بحكم كونه ابن اللغة العربية، ولكن قل هي الشكلية أفسدت عليه النظر
(لها بقية)
إسماعيل أحمد أدهم(326/78)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
أولاد الفقراء
قلنا إن رواية (الذبائح) التي وضعها المرحوم أنطون يزبك كانت ذات أثر سيئ في النهضة المسرحية. ولقد نسج على منوالها يوسف وهبي فوضع (الصحراء) ثم وضع (أولاد الذوات) ثم (أولاد الفقراء) وقد نجحت هذه الروايات لكنها استبدلت لمسرح رمسيس جمهوراً بجمهور فأصبح رواده من طبقة العامة الذين افتتنوا بيوسف وبرواياته التي كتبت باللغة العامية التي يفهمونها وباللهجة المبتذلة التي يتكلمون بها. ولقد عافت الآذان الشريفة أن تستمع إلى الألفاظ الكثيرة الساقطة التي ترد على لسان الممثلين والممثلات فهجر أصحابها مسرح رمسيس الذي انحدر انحداراً شنيعاً مع شدة الإقبال عليه من طبقة معينة من الجماهير كانت تأتي لتشاهد (أولاد الفقراء) وتعجب وتتأثر بالمآسي والفجائع التي حشدها يوسف وهبي فيها. ولم يكن يوسف ليعرف عظم الهوة التي ينحدر إليها، وقدر كبته أنانية المؤلف التي جعلته يعتقد ويجاهر بأن الكلمات التي يكتبها لا يجوز التبديل فيها كما لا يجوز التبديل في القرآن. ولهذا فقد استمر يوسف في نهجه حتى وصل به الحال إلى أسوأ ما يصل إليه فنان
نعود فنقول إن يوسف وقد أراد أن ينتقم من النقاد وأن يهدم إلى جانبهم بعض الشخصيات المسرحية البارزة، قد قبل تمثيل رواية (الوحوش) للأستاذ محمود كامل ورواية (تحت العلم) للأستاذ عبد الرحمن رشدي، وليس هذا أوان التحدث عن هاتين الروايتين، وإنما يكفي أن نقول إن الأستاذ محمود كامل وضع (الوحوش) في سن الشباب قبل أن ينال الخبرة والمران وأن الأستاذ عبد الرحمن رشدي وضع (تحت العلم) وهو ليس بالمؤلف وما هو إلا ممثل فقط. ولقد سقطت الروايتان سقوطاً شائناً. ومن العجيب أنهما لم تسيئا إلى اسمي مؤلفيهما بقدر ما أساءتا إلى مسرح رمسيس. وهكذا أراد يوسف أن يطعن الآخرين(326/79)
فطعن نفسه
فلما وقعت الشحناء بين أفراد فرقة رمسيس وحلت البغضاء محل المودة وشاءت الظروف أن تنقسم الفرقة إلى شطرين شطر يذهب مع فاطمة رشدي وعزيز عيد وشطر يبقى، نقول لما شاءت الظروف أن يقع هذا انتعش المسرح انتعاشاً مؤقتاً بسبب التنافس الشديد، بيد أنه كان انتعاشا مؤقتاً وعلى غير أساس، ومن ثم فقد سقطت فرقة فاطمة رشدي مع الزمن وانهار بنيان فرقة رمسيس من بعدها خصوصاً وقد اختطت لنفسها خطة جديدة بهذه الروايات التي كتبت بلغة عامية
ولا نطيل فقد انهارت النهضة المسرحية على يد من شادوها وأقاموا بنيانها فارتفعت صيحات النقاد من كل جانب بطلب إنشاء فرقة حكومية، وأخيراً استجابت الحكومة للنداء وأنشأت أولاً فرقة (اتحاد الممثلين) التي منيت بفشل ذريع، فاضطرت أمام هذه الحالة إلى إنشاء (الفرقة القومية المصرية). ومن طريف ما يذكر أن الأستاذ يوسف وهبي وقد عرض عليه أن ينظم إلى الفرقة طلب أن يسمح له بتمثيل بضع روايات من أمثال أولاد الذوات وأولاد الفقراء حتى يمكن أن نأتي بإيراد يعوض الخسائر التي ستمنى بها من تمثيل الروايات المثالية التي ستعنى الفرقة بإخراجها لإنقاذ فن التمثيل مما وصل إليه بسبب يوسف وهبي ورواياته الشعبية!
ومع أن مدير الفرقة رفض أن يجيب يوسف وهبي إلى طلبه الغريب فإنه سمح بعدئذ أن تخرج الفرقة القومية روايات وإن تكن باللغة العربية إلا أنها أكثر ابتذالاً من رواية أولاد الفقراء.
(للكلام بقية)(326/80)
ملاحظات
روايات قديمة
قلنا إن من أسباب نجاح فرقة رمسيس في عصرها الذهبي أنها أخرجت للناس روايات جديدة قوية ولم تعمد إلى إعادة إخراج بعض الروايات القديمة إلا بعد أن استتب لها الأمر ورأت أن في إخراج هذه الروايات ما يبرهن على كامل استعدادها وقوتها ثم إنها كانت تخرج في موسمها الواحد حوالي عشرين رواية لا يكون من بينها أكثر من رواية واحدة قديمة
أما الفرقة القومية فإنها لشدة فقرها الفني - فإنها بحمد الله واسعة الثراء من الوجهة المادية - لا تجد أمامها سوى الروايات القديمة التي سبق إخراجها ونالت النجاح، فهي تعيد إخراجها مطمئنة إلى أنها لن تسقط على الأقل!
وهاهي ذي ستفتتح موسمه برواية (مصرع كليوبطره) وهي رواية قديمة وستتبعها برواية (لويس الحادي عشر) وهي رواية قديمة أيضاً!
وسوف ترى الفرقة أنها بهذه الأعمال التي تصدر عن غير بصيرة ستفقد الثقة الباقية فيها.
أما ما يقال من أن بعض هذه الروايات القديمة، إنما يعاد إخراجها من أجل بعض الممثلين الذين لا يصلحون إلا لها، فإنه مع صحة هذا القول لا يجب أن يذهب الكل من أجل البعض. وعلى أي حال فإن رواية الافتتاح يجب أن تكون جديدة، وقد كان من الكياسة أن يؤخر إخراج هذه الروايات القديمة إلى ما بعد إخراج بضع روايات جديدة.
عدد أفراد الفرقة القومية
أتينا في العدد الماضي على الإشاعة القائلة بتوفير أكبر عدد ممكن من أفراد الفرقة الموسيقية التي تعمل مع الفرقة القومية؛ وذلك لتوفير بضع مئات من الجنيهات تصرف في وجوهها الحقة خصوصاً وأن الفرقة ليست في حاجة إلى هذا العدد الوفير من الموسيقيين فهي ليست فرقة أوبرا أو أوبريت
قلنا في الأسبوع الماضي فإذا بالإشاعة تتطور في هذا الأسبوع إلى أن التوفير سيشمل أيضاً بعض الممثلين!
وإذا كنا ننصح مع الناصحين بتوفير أكبر عدد ممكن من أفراد الفرقة الموسيقية، أو(326/81)
الاستغناء عن هذه الفرقة جميعاً والاستعاضة عنها بحاك، وبضع اسطوانات؛ فإننا ننصح إلى جانب ذلك بزيادة عدد أفراد الفرقة القومية، وضم العناصر القوية الخارجة عنها، أما التوفير فمعناه إضعافها والقضاء عليها.
وليسأل مدير الفرقة الأستاذ أحمد عسكر عن عدد أفراد فرقة رمسيس أيام كان يعمل بها، وعن المجهودات التي كان يبذلها الأستاذ يوسف وهبي لضم العناصر القوية التي كانت تعمل خارج الفرقة، وعما حل بفرقة رمسيس منذ انقسمت شطرين وخرج منها بعض أبطالها وبطلاتها!
الأستاذ سليمان نجيب
يبذل الأستاذ سليمان نجيب مدير الأوبرا أقصى جهده في مساعدة الفرقة القومية مساعدة جدية يشكر عليها، وقد بلغنا أخيراً أنه استمع إلى رأي المخرجين فتوح نشاطي وعمر جميعي بشأن تغطية الفراغ الكبير المعد للفرقة الموسيقية ليتسنى بذلك وضع بضعة صفوف أخرى للمشاهدين، وكذلك سيسمح للممثلين بالتقدم إلى مقدمة المسرح ولم يكن يسمح لهم بذلك من قبل بسبب الاحتياط الخاص بالحرائق، وبهذا كله ينعدم الفراغ الكبير الذي كان يخلق جواً من البرود يؤثر تأثيراً سيئاً في المشاهد التمثيلية. وقد كان من أسباب نجاح الروايات في مسرح رمسيس (ريتس الآن) أن هذا الفاصل غير موجود.
مأساة الفرقة القومية
مأساة الفرقة القومية في سكرتيرها السابق ما تزال ماثلة في الأذهان، وقد خرج منها على أي حال فليس من سبب يدعوننا إلى التحدث عن هذه المأساة أو ذكر تفاصيلها من جديد. وإنما غايتنا من التذكير بها أن نوجه النظر إلى وجوب مراقبة الشئون المالية للفرقة مراقبة دقيقة وحصر المسئولية في شخص معين يكون مسئولاً عنها. وها نحن أولاء في بداية الموسم وستكثر المشتريات وصرف النقود فإذا سار الأمر فوضى فإنه يخشى أن تتكرر المآسي وهي كفيلة بالقضاء على الفرقة
(فرعون الصغير)(326/82)
العدد 327 - بتاريخ: 09 - 10 - 1939(/)
جريرة النازية على الإنسانية
يا ضَلَّةَ العقل ويا حيرة المنطق!
إن أمام التاريخ اليوم رجفة من رجفات الهول والهلاك لم يبتلَ بمثلها الإنسان منذ دحا الله هذه الأرض. فهل يستطيع مهما سبر أغوار النفس، وكشف أسرار المجتمع، ورصد أطوار الحوادث، أن يقول فيها أكثر مما يقول في العواصف والزلازل والبراكين والأوبئة؟
هل يستطيع التاريخ بفلسفته وحذلقته أن يفسر لنا وللأجيال كيف تسنى لخمسة نفر من عباد الله الضعاف، لا هم آلهة ولا هم أبالسة، أن يسيطروا على الشعب الألماني الضخم وهو آية في النبوغ البشري في العلم والأدب والفلسفة والفن فيشلوا تفكيره، ويلغوا إرادته، ويمسخوه قطيعاً جراراً من أفيال جهنم ترمي العالم كله محاربيه ومسالميه بالبوار والدمار، أو بالفزع والمجاعة!
لو كانت هذه النازية الهتلرية قائمة في سلطانها وطغيانها على مبدأ من مبادئ الخير، أو مذهب من مذاهب الإصلاح، لالتمسنا لخضوع الشعب الألماني لها واضطراب العالم الإنساني بها مساغاً في العقل أو مثلاً من التاريخ؛ ولكنها ضلالة من ضلالات العصبية والعنصرية والأثرة والغرور استبدت بفكر ثائر وعقل حائر وهوى طموح، فظنها الفوهرر رسالة من رسالات الله أوحاها إليه في كتاب (كفاحه)، وأوجب أداءها عليه بقوة سلاحه؛ فهي شريعة تنسخ كل كتاب غير كتاب هتلر، وتمحو كل سيادة غير سيادة النازي، وتمحق كل عنصر غير عنصر الجرمان. وإذا كان في الساميين وهم في رأيه حثالة الناس رسالات ورسل، فكيف لا يكون على الأقل في الآريين وهم خلاصة الأجناس رسالة ورسول؟
ولكننا عرفنا إله الناس الذي أصطفى من الساميين موسى وعيسى ومحمداً ليبلغوا رسالات الهدى والحق والخير، فألفوا نوافر القلوب بالحب، وأقاموا قواعد المجتمع على العدل، وخففوا متاعب العيش بالإحسان، وضمنوا وفاء العهود بالذمة، وجعلوا الناس كلهم سواسية في حق الحياة لا يطغي جنس على جنس، ولا يبغي قوم على قوم. فمن هو يا تُرى إله الألمان الذي أصطفى من الآريين هتلر وجورنج وهيس وريبنتروب ليبيدوا أمم العالم، ويدمروا حضارة الدهر، ويحطموا روائع الإنسان، ويستبدلوا بشرائع الله وقوانين الضمير سياسة لا تعرف براً بوعد ولا وفاء بعهد ولا ثباتاً على مبدأ؟(327/1)
يا ضلة العقل ويا حيرة المنطق!
أبعد أن تغلغل على طول القرون هدى الله في الغرائز والأخلاق والقوانين والنظم ففازت الحرية، وسادت الديمقراطية، وعلت الإنسانية، يمكن أن تقوم في العالم اليوم نِحلة مجرمة الوسيلة والغاية كنِحلة النازية تحتقر أجناس الناس، وتنكر حقوق الشعوب، وتزدري قواعد السلوك، وتستحل في سبيل السيطرة والغلب الغدر والمكر والكذب وغش السياسة ونقض العهود وإنكار المذهب!
ليت شعري ماذا يقول أحفاد لوِثَر وكَنْت وجوته وبيتهوفن وقد رأوا زعيمهم الأديب الفنان يقول بلسان دولته ولا يصدُق، ويعاهد بشرف أمته ولا يفي، ويجعل من شعبه الصبور العامل غولاً للسلام يقذف الرعب في كل قلب، والشقاء في كل منزل، ثم يدع صليبه النازِيَّ المعقوف يتحطم رويداً رويداً بين مطرقة الشيوعية ومنجلها بعد أن ناصبها العداء المر والهجاء الفاحش!
لقد قلنا في كلمة سابقة: (إن هذا الرجل العجيب استطاع في ست سنين ونصف أن يبني من الحديد والنار والسم والثأر والعزيمة والعصبية دولة كانت بعد صلح فرساي تتوارى من الخجل، وتتفانى من الجوع، وتتهالك من الدين، وتضع أيديها على هيكلها فلا تجد إلا شلواً لا صورة له ولا حس فيه، فأصبحت بما نفخ فيها من روح الكفاح، ووضع في أيديها من قوة السلاح، تملك على الدولة الحياة والموت، وتقضي على الأمم بالسلام أو بالحرب؛ كل ذلك فعله من غير ثورة ولا حرب فكان حريّاً أن يتبجح في آخر خطابه التاريخي المشهور بقوله: ألست حقيقاً بأن أطلب إلى التاريخ أن يعدّني في الذين حققوا أعظم ما يسمح الإنصاف بطلبه من رجل؟). نعم قلنا ذلك أيام كان هذا الرجل الشاذ قابضاً على عجلة القيادة بحزم الربان الماهر وحكمة القائد البصير. وما كنا نتوقع أن يبتليه الله بضعف الإنسان الفرد على هذا النحو المهلك والقضاء العاجل، فيدور برأسه الغرور، ويذهب بنفسه العناد، حتى لم يعد لشهواته حد تقف عنده، ولا لنزواته فرملة تحبس عليه.
هذا هو هتلر الذي أعجب به شباب الأمم بالأمس يأخذه اليوم جماح السلطان وعرام القوة، فيُلقى عامداً بقوته وبالعالم في سعير الحرب، ثم يقف في ضوء لظاها المشبوب في الأرزاق والأعلاق والأنفس وفي يديه قيثارة نيرون يعبث بأوتارها ويضحك!(327/2)
ماذا عسى أن يكون مصير الشعوب الصغيرة التي ضمنت على ضعفها أن تعيش في حمى الشرف والعدل والسلام، إذا تغلب هذا الطغيان النازي الذي يريد أن يحكم العالم على أساس استعباد الضعيف، وتسخير قوى الناس والطبيعة لسيادة عنصر واحد وإرادة رجل واحد؟
إن ميراث الإنسانية المتدينة المتمدنة أخلاق وثقافة ونظم هو اليوم في حمى الدول الديمقراطية الحرة تدافع عنه وترعاه وتمسك به الأرض أن تميد وتبيد. وليس للأمم الصغيرة سبيل للحياة الحرة إلا أن تساهم في هذا الدفاع بإخلاص وقوة، فإن ضمان العيش للقلة بجانب الكثرة، وللعجز في كنف القدرة، هو هذه الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الدين ونمت في ظلال الديمقراطية. أما إذا شاء القدر - ومعاذ الله أن يشاء - أن يتحكم هوى الطغيان في حقوق الإنسان فيذهب بالإخاء أثرة جنس، وبالمساواة سيادة شعب، وبالحرية استبداد فرد، فقل إنها دنيا للشر جديدة نرجو أن لا يكون لنا فيها وجود!
أحمد حسن الزيات(327/3)
أين الكلتور؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
دخل الألمان الحرب الماضية وهم يحملون أمامهم كلمة (الكلتور) التي شاعت على ألسنة الناس من ذلك الحين كما شاعت ترجماتها في اللغات الأخرى، ومنها كلمة الثقافة في اللغة العربية.
وكانت دعواهم أنهم يحاربون بالكلتور الجرماني أو الثقافة الجرمانية كما يحاربون بقوة السلاح وقوة السياسة، لأنهم اعتقدوا أنهم أصحاب أشرف الثقافات وأحقها بالنصر والغلبة على عقول الأمم وأذواقها.
فأين (الكلتور) في الحرب الحاضرة؟
إن النازيين لا يذكرونه على ألسنتهم ولو على سبيل الإدعاء الذي يعوزه البرهان، لأنهم بعيدون عنه وهو بعيد عنهم. فليس في حركتهم ثقافة، وليس لها فن ولا ثمرات فنية؛ وكل ما عليها صبغة حرب كالطلاء الأحمر على الوجه الشاحب الهزيل، لا هو من الصحة ولا من الجمال.
وتعترف الصحف النازية - كما جاء في صحيفة أوربا الحديثة الفرنسية - بأن الروايات التي يؤلفها الكتاب النازيون لا تترجم إلى لغة من اللغات الأجنبية، وأن الأدب الألماني يمثله اليوم في العالم جماعة من الكتاب المهاجرين المطرودين من حظيرة هتلر؛ فكل ما يعرفه العالم من الأدب الألماني الحديث هو من ثمرات فراغ هؤلاء الكتاب المطرودين!
ورأيُ الإيطاليين - وهم أخوان المحور - لا يختلف عن رأي الأمم الأخرى في الأدب الشائع بين النازيين، فقد ترجم إلى اللغة الإيطالية في سنة 1937 خمسة وسبعون كتاباً معظمها من تأليف كتاب المنفى، ولم تبرز قط رواية نازية على مسارح العالم بعد سنة 1933 وهي السنة التي قبض فيها هتلر على زمام السلطان؛ وهي خسارة مالية فوق الخسارة الأدبية يقدرون ما ضاع من جرائها على خزانة الريخ بخمسة ملايين من الماركات.
وقد بلغت ثروة الصور المتحركة النازية خلال السنة الماضية خمسة ملايين مارك هبطت إلى ثلاثة ملايين في السنة الحاضرة، وبلغت الشُّرُط الكبرى في سنة 1932 وهي من(327/4)
سنوات الأزمة والكساد مائة وأثنين وأربعين أخرجت كلها في العواصم الألمانية، فما زالت تهبط حتى انحدرت إلى ثمانية وتسعين في سنة 1938 على الرغم من ضم النمسا وبلاد السوديت.
أما ما باعته ألمانيا النازية من الشرط في الخارج فقد كان تسعة وسبعين في سنة 1937 فهبط في السنة التالية إلى أربعة وعشرين!
هذا كساد في الملكات والقرائح شعر به هتلر ونبه إليه في المؤتمر الأكبر فقال إن الحركة النازية لا تزال في انتظار العبقريات التي تتغنى لها بمعانيها وأناشيدها.
وشعر به القائمون على التربية الوطنية فعالجوه على دأبهم المشهور بالعلاجات العسكرية والأساليب البتراء فما ازدادوا في كساد ملكاتهم وقرائحهم إلا خموداً على خمود.
قال أستاذ رياضيات لزميل أمريكي: ما الحيلة في هذا الجيل العقيم الذي لا يحسن غير السير في المواكب وشق الحناجر بالهتاف والتفاخر بالبنود والشارات؟ لقد زيفوا لهم التاريخ فقبلوا وقائعه ومسخوا تفسيراته وجعلوه قصيدة من قصائد الإطراء للنازيين وأشباه النازيين، وقد علموهم الجغرافيا على النحو الذي طاب لهم ووافق دعواهم وأملى لهم في سياستهم، وقد جعلوا أبطال الدنيا بأسرها من سلالة شمالية أو آرية كما يقولون. فأما الرياضيات فمن لنا بتزييفها على هذا النمط المنكوس؟ ومن لنا بتعليم الشبان الجبر والفلك والرياضيات العليا والدقائق الفنية، وهم بين موكب يصخبون فيه أو نشيد أو مناورة في عرض الطريق؟ كل درس يحتمل التزييف والاصطباغ بالصبغة السياسية إلا العلوم والرياضيات!. . . فلم يبق أمامنا إلا إسقاط الدرجات كرة بعد كرة حتى هبط مقياس النجاح إلى ما دون مقياس الرسوب، ولولا هذا لاتهمنا الرؤساء بالتقصير وقالوا: إن الآفة من عجزنا عن التعليم لا من عجز هؤلاء الأولاد الفاشلين عن الإصغاء وإنعام النظر في دقائق العلوم.
وقد يستخف النازيون بهذه العاقبة الوخيمة لو كان خطبها كله مقصوراً على ندرة التأليف وقلة النبوغ في الأدب والفن وما إليهما من مجالي العبقرية ومعارض التعبير.
لكن المصيبة التي لا يستطيع النازيون تجاهلاً لها ولا استخفافاً بعقباها أن كساد العقول يتغلب عليهم في مجال (العسكريات) أو مجال التدريب للقتال، وهم لاشيء في سياسة الأمة(327/5)
ولا في سياسة العالم إن لم يفلحوا في تدريب الجنود وتحضير السلاح.
فلا غنى للدراسة العسكرية العصرية عن الفنون وعن الرياضيات وعن البراعة في تركيب الآلات وتسيير المحركات. وقد أشار إلى هذا النقص في الجيل النازي الأخير كاتب مجري من أصحاب المراجع الموثوق بها في مسائل الحرب الماضية والعدد الضرورية لكل حرب حديثة، نعني به الدكتور إيفان لاجوس مؤلف كتاب (فرص ألمانيا في الحرب) ومسجل الآراء التي أفضى بها رجال ألمانيا المسؤولون في هذه الأمور، فإذا بهم يجمعون على الشكوى من تقهقر التعليم واستحالة الاعتماد على من يتدربون بالأساليب النازية المستعجلة، ويؤتمنون بعد ذلك على الطيارات والدبابات وتنفيذ الخطط ومراس المختلف من دقائق الأدوات.
فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في النهاية، وهي القوى التي يُظّن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين.
وإذا كان في الحرب ما يحمد الله عليه فلنحمد الله نحن المصريين بل نحن الشرقيين أجمعين أن كشف ستر النازية قبل أن تخدع الأسماع والأبصار بظاهر ما لها من الضجة والبريق والطلاء، فقد بلغ من خداعها أن سمعنا أناساً من ساستنا يدعوننا إلى اقتباسها والأخذ عنها ولو في تقييد الحرية الفردية وتغليب (النظام العسكري) عليها، فأشرنا يومئذ في مجلس النواب إلى وخامة التربية النازية وجنايتها على العقول وإفسادها لينابيع التفكير والتثقيف، وقلنا إنها جنت على ألمانيا وهي سابقة لنا في ميادين العلم والفن والتربية فماذا تصنع بنا نحن وإننا لدارجين حتى الساعة في بداية الطريق؟!
وسنحمد الله حمداً مضاعفاً متى تكشفت الحقائق كلها عن فضائل الحرية ورجحانها في جميع الموازين على أساليب الطغيان و (النظام) المزعوم، ولا يخامرنا الشك في مصير أناس يعارضون مجرى الحياة الإنسانية ويمسخون ما ازدانت به من شرف وجمال. فسيفشلون لا محالة كما فشل أسلاف لهم حملوا على الدنيا بسلاح الحديد وسلاح الكلتور، وإن هؤلاء اللاحقين لأضعف من سابقيهم في السلاحين!
عباس محمود العقاد(327/6)
أسمار وأحاديث
في منزل الدكتور طه حسين
للدكتور زكي مبارك
في مطلع الصيف كنت على موعد مع الأستاذ الكبير الدكتور طه بك حسين لأقدم إليه نسخة من كتاب (ليلى المريضة في العراق) ولأقرأ معه صفحات من ذلك الكتاب، ولكني حين وصلت في الموعد المحدّد لم أجده في البيت، فسلمت الكتاب لجنديْ يرابط هناك وانصرفت.
ولم يعزّني عن إخلاف الدكتور طه حسين إلا لحظات عذاب قضيتُها في منزل الآنسة أم كلثوم، وبينه وبين منزل الدكتور طه بضع خطوات.
وفي اليوم التالي سألت عنه بالتليفون لأعرف كيف أخلف الموعد، فاعتذر بلطف وأكّد أنه نسي ذلك الموعد كل النسيان، ودعاني إلى تجديد الموعد، فقلت: إني أتأهب للسفر إلى بغداد للاشتراك في تأبين الملك غازي، وسأحرص على التشرف بمقابلتك حين أعود.
وكنت أحب أن آنس بلقائه بعد أن رجعتُ من بغداد، ولكني خشيت أن يكون أخلف الموعد الأول عن عمد، لأن أولاد الحلال لا يزالون (يصلحون) ما بيني وبينه من صلات.
ثم سافر الدكتور طه إلى باريس، وسارت الأخبار بأنه سيعتذر عن الحضور في العام المقبل ليستريح من عناء المشكلات الجامعية وليؤلف كتاباً عن تاريخ الشعر العربي.
وكنت في تلك المدة شرعت في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين؛ وندْ القلم فوقعت منه غمزات تمسْ الدكتور طه حسين بدون موجب. وكذلك استوحشت من المضيّ للتسليم عليه حين عرفت أنه رجع من باريس.
ثم عدت فقررت أن أودي الواجب في تحية الدكتور طه، راجياً أن يكون في تأدية هذه التحية تبديد للظلمات التي يخلقها من يأكلون العيش بحياكة الأقاويل والأراجيف.
كان ذلك في مساء اليوم الثالث عشر من شعبان، والقمر يقدِّم إلى الوجود أفانين من الرفق والحنان، ويذكِّر القلوب الخوامد بماضيها الجميل في مقارعة الصبوة والفتون؛ فنزلت من السيارة عند جسر فؤاد لأمتع القلب والروح بمشاهدة النيل، وهو يواجه القمر في أيام الطغيان، ولأستقبل الزمالك بأدب وخشوع؛ فما كان ثراها الغالي إلا نثائر أكبادٍ وقلوب.(327/8)
وأخذت أجتاز الزمالك من حَرَم إلى حَرَم إلى أن بلغت منزل الدكتور طه حسين. وكنت أرجو أن أجده وحده، لأني وصلت بعد الساعة التاسعة، وهو عنده وقت هدوء؛ ولكن يظهر أن قدومه من السفر رفع الحجاب فكان منزله في أنس بجماعة من أهل الفضل هم الأساتذة شفيق غربال، وعبد الواحد خلاف، ومنصور فهمي، وعلي عبد الرزاق، وسعيد لطفي، وأمين الخولي، وتوفيق الحكيم، وعبد الوهاب عزام، وإبراهيم مصطفى، وعبد الحميد العبادي.
سلّمتُ على الدكتور طه تسليم المحب المشتاق، وسألته عن باريس وعن السوربون، فأجاب إجابات موجزة دلتْ على أنه يريد أن يكتم عني أشياء. فهل آذت الحرب بعض أصدقائي هناك؟ لا قدر الله ولا سمح!
وبعد لحظة حضر الأستاذ أحمد أمين فنهضت واقفاً لمصافحته، ولكنه زوى وجهه وتجاهل وجودي، ورأيت المقام لا يتسع لمحاسبته على ما صنع، فتكلفتُ الابتسام وأنا مَغِيظ.
وخطر في البال أن حضوري قد يعَكر المجلس، وأن من الخير أن أنصرف؛ ثم تذكرت أنني أحق الناس بمودة الدكتور طه حسين، وإن حالت بيننا الدسائس حيناً من الزمان، فقد كنت صديقه الحق قبل أن يعرف أصدقاء اليوم. كنت صديقه الحميم في ظروف لا يسأل فيها الشقيق عن الشقيق، فكيف أخرج من منزله ليخلو الجوْ لصديق مثل أحمد أمين؟
يجب أن أقضي السهرة كاملة، وعلى من يؤذيه حضوري أن يتفضل بالانصراف!
وبعد أن دارت السجائر على الزائرين شرع الأستاذ أمين الخولي في الحديث
أمين الخولي - يا زكي، ما تترك أبداً أخلاق المنوفية؟
طه حسين - وما أخلاق المنوفية؟
أمين الخولي - هي المشاغبة واللجاجة والعناد
طه حسين - وزكي مبارك مشاغب؟ قل كلاماً غير هذا يا أمين، فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق. الدكتور زكي حقيقة رجل لطيف؛ ومن آيات لطفه أنه ينظر فيرى الناس قد ضجروا من الهدوء والسكون فيسلط عليهم القذائف القلمية ليتذوقوا نعمة الحركة والجدَل والنضال.
علي عبد الرزاق - يظهر أنك راض عن الدكتور زكي مبارك(327/9)
طه حسين - وهل أملك غير ذلك؟
زكي مبارك - تملك كلمة النصح يا سيدي الدكتور، إن رأيت ما يوجب كلمة النصح
طه حسين - لا، يا عم، يفتح الله!
زكي مبارك - يظهر يا سيدي الدكتور أنك غضبان
طه حسين - لست بغضبان، ولكن يحق لي أن أنزعج من بعض ما أقرأ لك
عبد الواحد خلاف - لعل الدكتور يشير إلى مقالاته في مهاجمة الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا أحتج على إثارة هذا الموضوع في هذا المجلس
خلاف - الخطب سهل، ونحن نحاول تصفية القلوب
أحمد أمين - أنا أحتمل كل شيء إلا التعرض لنبالتي
طه حسين - وهل تعرض زكي مبارك لنبالتك بشيء؟ إن هذا لو صحّ لكان خروجاً على شِرعة العقل!
أحمد أمين - لقد تعرض لنبالتي بأشياء
إبراهيم مصطفى - إن الدكتور زكي لم يتعرض لنبالتك، يا حضرة الأستاذ
زكي مبارك - أنتم تخوضون في شجون من الأحاديث لا عهد لي بها قبل اليوم، فما كنت أعرف أن الأستاذ أحمد أمين فوق النقد، ولا كنت أظن أن التعرض لتفنيد آرائه يعد هجوماً على قدسيته الذاتية! فهل تعتقد يا أستاذ أني تجنيت عليك؟
أحمد أمين - ليس لي معك كلام، ولا أقبل الدخول معك في نقاش، وأنت حرٌّ فيما تنشر من زور وبهتان
زكي مبارك - زور وبهتان؟ وهل النبالة أن تنطق بهذه الكلمات في هذا المجلس؟
منصور فهمي - لاحظ يا زكي أنك جرّحت الأستاذ أحمد أمين وأن من حقه أن يعلن غضبه عليك، والنفس الإنسانية معرضة للرضا والغضب، والفرح والترح، والرجاء والقنوط. فالأستاذ أحمد أمين يعبر تعبيراً طبيعياً عن السريرة الإنسانية
زكي مبارك - وكيف يكون الحال لو استبحتُ من التعبير ما استباح؟
أحمد أمين - وهل تورعت عن شيء؟ إن مقالاتك عني هي الشاهد الحيُّ على مبلغ أدبك!
زكي مبارك - وأنا راض عما قلت فيك، وما قلت إلا الحق والصدق، وأنا أنتظر أن(327/10)
يغضب الله عليك فيجازيك على سوء ما صنعت في تحقير ماضي الأدب العربي
طه حسين - إيه الحكاية؟
أحمد أمين - الحكاية أن زكي مبارك يقول إن طه حسين جاهل، وإن أحمد أمين جهول!
طه حسين - خبر أسود!
سعيد لطفي - أنا كنت أظن أن المسألة مزاح في مزاح. وأين نشر الدكتور زكي هذا الكلام المزعج؟!
أحمد أمين - نشره في مجلة الرسالة وعند الزيات. الرسالة التي خلقتها بقلمي
زكي مبارك - والزيات الذي سويته بيديك!
طه حسين - لقد قرأت المقالة الأولى قبل السفر، وأوصيت الأستاذ عبده عزام بحفظ المجموعة لأقرأها يوم أعود، وسأقرأها في هذه الأيام، فإن رأيت فيها أني جاهل وأن أحمد أمين جهول فستكون وقعتك يا زكي زيْ الزفت!
أحمد أمين - وما ذنب لطفي باشا حتى يتعرض له زكي مبارك بسوء؟
إبراهيم مصطفى - لقد قرأت تلك المقالات مرات. . .
طه حسين - قرأتها بالقراءات السَّبع؟
إبراهيم مصطفى - أريد أن أقول إني قرأتها بعناية ولم أجد فيها أية إشارة لسعادة لطفي باشا
علي عبد الرزاق - لطفي باشا لا يُغضبه أن يكون في بال الناقدين والباحثين
زكي مبارك - ومن أجل هذا أهجم عليه من وقت إلى وقت
سعيد لطفي - هذا أسلوب طريف في البر والوفاء!
طه حسين - طبعا. طبعاً، فصاحبنا زكي مبارك يتوهم أن الخلود لن يكون إلا من نصيب من يتعرض لهم في مقالاته ومؤلفاته بالقبيح أو الجميل. وأشهد أنه سلْ سخائم صدري يوم قال إنه لا يهجم علي إلا وهو يعتقد أن الهجوم معناه (بونجور)
أحمد أمين - وأنا لا أريد منه بونجور ولا بونسوار!
زكي مبارك - ولكني لن أتركك بعافية أو تكف شرك عن الأدب العربي
أحمد أمين - وما شأنك بالأدب العربي؟ وما هي خدماتك لهذا الأدب الذي تقول إنك تغار(327/11)
عليه كما تغار على عِرضك؟
زكي مبارك - يكفي أني من تلامذة طه حسين
طه حسين - العفو! العفو! إني والله راض بأن تكون من أساتذة طه حسين!
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - تقتلني حين تقول (سيدي الدكتور) وأنت ترى أني جاهل وأن أحمد أمين جهول
علي عبد الرزاق - لم أشهد في حياتي أروع من هذا الحوار، وهو يستحق التسجيل
إبراهيم مصطفى - بشرط ألا يذكر فيه أسمي
علي عبد الرزاق - وما المانع من أن يذكر أسمك في هذا الحوار؟
إبراهيم مصطفى - لا تعرف ما المانع. إن هذا الحديث يوم يسجَّل لن يسجله غير زكي مبارك الذي ابتدع فن الأسمار والأحاديث
علي عبد الرزاق - وهل تخشى أن يتزيد عليك؟
إبراهيم مصطفى - أنا لا أخاف التزيد ولا أهاب الافتراء، لأني أملك تكذيب المفتريات، وأستطيع دحض الأباطيل؛ ولو كان زكي مبارك يفتري على الناس لكان أمره أخفْ وأسهل، ولكنه مع الأسف يبرع في تصوير الصدق
منصور فهمي - وما الخطر من تصوير الصدق؟
إبراهيم مصطفى - الخطر عظيم جداً. وإليك توضيح هذه المعضلة: زكي مبارك يحرص على أن يصورك في أحسن أحوالك، وأحسن أحوال المؤمن حال الصلاة. فهل تعرف كيف يصورك وأنت في صلاتك؟ يصورك وأنت راكع أو ساجد! فهل يرضيك أن تصوّر في حال الركوع أو السجود؟
توفيق الحكيم - هذه أخيلة باريسية، وهي تشهد بروعة ذكائك يا أستاذ إبراهيم
إبراهيم مصطفى - العفو، يا أستاذ توفيق، فتلك وثبة من الخيال ساقها هذا الحوار الطريف
أحمد أمين - أرجو أن تعفوني من هذه المطايبات، فلولا مراعاة المقام لانصرفت
طه حسين - أؤكد لك أن الدكتور زكي لم يقصد إيذاءك فيما كتب عنك. ألم تر كيف احتملته سنين وهو يلحْ في اتهامي بالجهل؟(327/12)
زكي مبارك - لم أتهم سيدي الدكتور بالجهل المطلق، معاذ الله، وإنما اتهمته بالجهل بالقياس إلى المسيو برونو والمسيو دي لاكروا، وقد توليا عمادة كلية الآداب في باريس
أمين الخولي - كلام طيب، يا فتوة المنوفية، فلا مانع عند الدكتور طه من أن يكون في باريس من هو أعلم منه، فقد تخرَّج في مدينة النور وهو يثني على أساتذتها في كل حين، ولكنك اتهمت الأستاذ أحمد أمين بالعاميّة الفكرية، فما هو المخرج من هذا الاتهام الفظيع؟
زكي مبارك - لم أتهم الأستاذ أحمد أمين بالعامية المطلقة، ولكن بالقياس إلى الشيخ خربوش
طه حسين - ومن الشيخ خربوش؟
زكي مبارك - الشيخ خربوش عالم علامّة لا يقاس إليه الأستاذ أحمد أمين
علي عبد الرزاق - ألم أقل لكم إن هذا الحوار يستحق التدوين؟
عبد الواحد خلاف - هذا الحوار ينفع في تهدئة أعصاب الأستاذ أحمد أمين، وقد بدأ يبتسم، ولكن المهم هو الاستفادة من هذا المجلس في تغيير المذهب الأدبي للدكتور زكي مبارك، فهو أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولا أدري كيف رجع سليماً من العراق. . .
توفيق الحكيم - كنت تنتظر أن يلقى حتفه هناك؟
طه حسين - كان يستريح ويريح، كما قال أحد الكتّاب
زكي مبارك:
لن تزالوا كذلكم ثم لا زل ... ت لكم خالداً خلود الجبال
أحمد أمين - أي جبال وأي خلود؟ أليست لنا أقلام تفل قلمك بأيسر جهد؟
عبد الواحد خلاف - أرجو أن تسمعوا بقية كلامي. إن زكي مبارك أقدر أدبائنا جميعاً على إحداث الضجات الأدبية، ولكنه لا يوجِّه نشاطه إلى ما يفيد.
زكي مبارك - وبماذا تشير أيها السيد؟
عبد الواحد خلاف - أشير بأن تعود سيرتك يوم كنت تؤلف في النثر الفني والتصوف الإسلامي، فتوجه مجادلاتك ومصاولاتك إلى القدماء
طه حسين - الأمل بعيد في توجيه الدكتور زكي مبارك إلى ما يفيد وينفع(327/13)
زكي مبارك - يا سيدي الدكتور. . .
طه حسين - فلقتني يا أخي بعبارة (سيدي الدكتور) وقد تحيرت في أمرك، فأنت في المجلس رجل لطيف، ولكنك حين تخلو إلى قلمك تنقلب إلى شيطان مَريد
أمين الخولي - دافع عن نفسك يا زكي فإني أخشى أن ينهزم فتوة المنوفية
زكي مبارك - لي كلمة يا سيدي الدكتور، ولا تؤاخذني بالحرص على هذه العبارة، فقد حضرت دروسك بضع سنين ولا أستبيح الهجوم عليك
طه حسين - ألم أقل لكم إن زكي مبارك رجل
زكي مبارك - أشكر لك هذا اللطف يا سيدي الدكتور، ثم أقول إني تلقيت عنك مبادئ الظلم والاعتساف.
عبد الوهاب عزام - إيوه، يا عم زكي، هات ما عندك هات
زكي مبارك - تذكرون المناوشة التي قامت بين الدكتور طه والدكتور منصور على صفحات الأهرام في سنة 1921؟
منصور فهمي - أية مناوشة؟ ذَكِّرني فقد نسيت
زكي مبارك - كنت يا سيدي الدكتور أثنيت على أسلوب المنفلوطي، فهاج أستاذنا الدكتور طه وماج، ودعاك إلى أن تسمي الجمل جَملاً والأرنب أرنباً، أو كما قال، ومعنى ذلك أن المنفلوطي ليس بكاتب ولا أديب
طه حسين - ثم؟
زكي مبارك - ثم جاء الأستاذ الكبير الدكتور طه حسين الذي أنكر أن يكون المنفلوطي كاتباً أو أديباً فاعترف بأن الأستاذ أحمد أمين كاتب وأديب وسمح بأن يدرس أسلوبه على طلبة السنة الأولى بكلية الآداب
طه حسين - ما هذا الحشيش؟
زكي مبارك - أنا لم أذق الحشيش أبداً، ولكني أؤكد أن أسلوب أحمد أمين يدرس في كلية الآداب
طه حسين - هذا مستحيل
أحمد أمين - الكلية تدرس أساليب المعاصرين جميعاً.(327/14)
زكي مبارك - وأنت كاتب ولك أسلوب؟
منصور فهمي - احترس يا زكي من الخروج على أدب الخطاب
أحمد أمين - ليتكم صدقتموني حين قلت إن زكي مبارك لا ينقد الباحث نقد العالم للعالم وإنما ينقده نقد المصارع للعالم
زكي مبارك - وأنت عالم يا أستاذ؟ وهل يكال العلم أيضاً بمكيال؟
أحمد أمين - العلم كله عندك، ونحن تلاميذ مبتدئون!
علي عبد الرزاق - هذا الحوار لا يستحق التسجيل!
عبد الحميد العبادي - هو على كل حال صورة من صور التاريخ!
توفيق الحكيم - أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه؛ فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين
عبد الوهاب عزام - وكالذي شهدناه بين زكي مبارك وأحمد أمين!
طه حسين - إن ذهني لا يسيغ القول بأن النقد يفسد ما بين الأصدقاء
شفيق غربال - أعتقد أن الدكتور زكي رجل طيب القلب. وقد قرأت مقالاته عن الأستاذ أحمد أمين بارتياح، وجنيت منها كثيراً من الفوائد الأدبية. ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام
توفيق الحكيم - ولهذه المقالات مزية أخرى غير الفوائد الأدبية، فقد بغَّضتني في الجو الأدبي عندنا وحببّت إليّ قضاء الصيف في أوربا، ولم أرجع إلا بعد أن ظننت أنها انتهت؛ ثم كانت حسرتي شديدة حين رأيت أن زكي مبارك لا يزال يبدي ويعيد في شرح جنايات أحمد أمين. ولولا الحرب لرجعت من حيث أتيت، فمن أين يجد زكي مبارك كل هذا الكلام الطويل العريض؟
شفيق غربال - المسئول عن هذه المتاعب هو الأستاذ أحمد أمين
أحمد أمين - أنا المسئول؟
شفيق غربال - بالتأكيد، أنت المسئول، لأنك مضيت في بحثك طول الصيف، وهيأت المجال للدكتور زكي مبارك. والذي يقدِّم الوقود للنار لا ينكر عليها الاشتعال(327/15)
طه حسين - هل أفهم من هذا أن الجوْ الأدبي عرف الحياة في هذا الصيف؟
زكي مبارك - يكفي يا سيدي الدكتور أن تعرف أن الأستاذ أحمد أمين نقل مكتبته إلى الإسكندرية في هذا الصيف ليجد الشواهد تحت يديه وهو يردّ عليّ
أحمد أمين - أنا رددت عليك؟ وهل قلتَ كلاماً يُرَدّ عليه؟
زكي مبارك - الله يعلم كيف شغلت قلبك وعقلك، وكيف قهرتك على مراجعة المؤلفات الأدبية، والمصنفات الفقهية. وهل تستطيع يا أستاذ أن تقول إنك تجهل منزلتي الأدبية؟
أحمد أمين - إن مقالاتك في الهجوم عليّ زهدت القراء في علمك وأدبك
شفيق غربال - سمعت غير هذا. سمعت أن مقالات الدكتور زكي مبارك في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين دلتْ على اطلاع فائق وتفكير عميق، وسمعت من يقول إنه لم يعرف قيمة زكي مبارك إلا بفضل هذه المقالات
منصور فهمي - وهذا يشرح جانباً من عقلية المجتمع، فالجمهور يعرف زكي مبارك الناقد ولا يعرف زكي مبارك المؤلف، لأنه ينقد وهو ثائر ويؤلف وهو هادئ
طه حسين - زكي مبارك يصطنع الثورة في كل شيء حتى التأليف، ولكن ثورته في مؤلفاته لا تلفت نظر الجمهور لأنها في الأغلب متصلة بالقدماء، والهجوم على القدماء لا يثير تطلْع الناس إلا حين يمس العقائد من قرب أو من بعد، كالذي وقع يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي
زكي مبارك - ومن أجل هذا حرص سيدي الدكتور على تغليظ بعض الألفاظ ليوجه الأنظار إلى كتابه النفيس!
طه حسين - وبعدين لك، يا دكتور زكي؟
زكي مبارك - لا بَعْدين ولا قَبْلين، ولكني أحب أن أعرف كيف تكون الصراحة حلالاً في وقت وحراماً في وقت؟ وكيف يحلْ لسيدي الدكتور ما يحرُم على سائر الناس؟
طه حسين - يظهر أنك تحب أن تتمتع بالحرية الكاملة في حياتك العقلية، ويظهر مع الأسف أنك لم تعتبر بما عاناه أحرار الفكر في هذه البلاد، فما تحسدني عليه حلال لك حين تشاء. وإني أرجو أن يبعد اليوم الذي ترجع فيه عن شططك وجموحك، اليوم الذي تيئس فيه من إنصاف الناس كما يئستُ من إنصاف الناس(327/16)
منصور فهمي - ولكن ما الموجب للتعرض لما يمس العقائد؟
طه حسين - اسأل نفسك يا منصور فلك مع العقائد تاريخ
منصور فهمي - كان ذلك في عهد الشباب
طه حسين - وكان مني ما كان في عهد الشباب، وإن لم يمض عليه غير عشر سنين، والحسرة تلذع قلبي كلما تذكرت أني لا أملك مكايدة الجماهير من جديد. وهل نكايد الجماهير إلا بفضل ما يثور في دمائنا من ثورة وطغيان؟
عبد الواحد خلاف - ومعنى ذلك أن الدكتور زكي مبارك يكايد جماهير الأدباء لأنه لا يزال في عنفوان الشباب؟
طه حسين - الذي أعرفه أن زكي مبارك صار من طبقة الكهول، بحكم السن على الأقل، فقد شهدت مشاغبته بدروس الأستاذ علي عبد الرزاق في الأزهر سنة 1912
زكي مبارك - وأنا شهدت مشاغبتك يا سيدي الدكتور بدروس الشيخ محمد المهدي في الجامعة المصرية سنة 1913
أحمد أمين - ومع هذه السن العالية لا يزال زكي مباركك يمعن في الغزل والتشبيب كأنه في سن العشرين
شفيق غربال - هذه الدعابة تدل على أن الأستاذ أحمد أمين صفت نفسه وطابت
طه حسين - فهل نرجو أن يكف زكي مبارك عن العدوان بعد هذا الصفاء؟
زكي مبارك - هل تصافينا حقيقة؟
أحمد أمين - لن نتصافى أبداً بعد الذي كان
زكي مبارك - يظهر انك تستروح بالهجوم عليك، وسأخيِّب ظنك فأسكت عنك بعد ثلاث أو أربع مقالات. . . مساء الخير، يا سيدي الدكتور، والحمد لله الذي أرجعك إلينا بخير وعافية.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(327/17)
من تاريخنا العلمي
طالب علم. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
قال (محمد بن سعيد):
- ويْك أتق الله يا أبا فلان. إنك لتوشك أن تقتل هذا الرجل الصالح وتبوء والله بدمه. ويك اتق الله، لا تطرده من (فندقك) فإنه غريب نائي الديار، قطع سباسب وبحاراً، وجاب ما بين المشرقين. . .
قال: أبقى بن مخلد جاب ما بين المشرقين؟
قال: نعم، وهل تراني عنيت غيره؟ إنه حاجتي إليك، وما سألتك حاجة قبلها، أفلا تقضيها لي؟ إنه شيخ جليل القدر يحمل الحديث ويروي السنن، أفندعه يموت على قارعة الطريق؟
قال: وما أصنع به أنا؟ لقد آويته في فندقي عامين أثنين، لا آخذ منه مالاً ولا أرزؤه شيئاً ولا أعصي له أمراً، أفيكون جزائي أن أعجف عليه نفسي حتى يموت، فيخرج من فندقي محمولاً إلى القبر فيتشاءم الناس بالفندق فيتحامونه فأفلس؟
إنه مريض أنهكته الأوجاع وأدنفته الحمى، ولقد أعجز تقاريس الأطباء، وما أراه إلا ميتاً العشية أو غداة الغد. . . فارحموني، أنقذوني منه، ليس لي به حاجة. . . قبحها الله ساعة أكريته فيها هذا البيت، لقد كانت ساعة ما حضرها مَلَك. . .
قال: أربع عليك أيها الرجل فإنك في نعمة لو عرفت قدرها لقطّعت الليل بحمد الله عليها. إنك لا تدري أيّ خير ساقه الله إليك، وأي أجر كتبه لك، فأقم نفسك في خدمته، وارجُ وجه الله، أطمعْ لك بالجنة
قال: إني والله لو عرفت مداها لما لمتني على الجزع منها. إنك لا تعرف هذا الشيخ أي رجل هو؟ أأقول لك: إنه لم يبت عندي ليلة واحدة حتى خرج بخلقان بالية ومزق مخرقة وركوة وعصا ليسأل الناس. . . ما لك تضحك من كلامي؟. . . أتهزأ بي يا أبن سعيد؟
قال: لا. ولكنك لا تدري ما شأن هذا الرجل
قال: وإنّ له بعدُ لشأناً؟
قال: وأي شأن؟ هذا رجل هجر جنَّات الأندلس ورياضها، وعيونها وأنهارها، ومكانة له(327/18)
فيها سامية، وجاهاً له عريضاً. . . وفارق أهلاً فيها وصحباً، وعشيرة كبيرة، وأموالاً كثيرة، وذهب يخوض اللجج والبحار، ويجوب السباسب والقفار، ليقْدَمَ بغداد، لا طمعاً بجاه يناله، أو مال يحصله، أو صديق يزوره، أو امرأة يخطبها، أو لذة يطلبها، ولكن رغبة في العلم وحباً للحديث، وشوقاً إلى لقاء أبي عبد الله!
فلما سمع الفندقي اسم أبي عبد الله انتبه وتبدلت حاله، وطفت على وجهه خيالات من الحب العظيم، والإجلال الكبير، الذي يحتفظ عليه قلبه لهذا الإمام، وقال بلهجة أرق، ونغمة أعذب، قد ذاب فيها حقده على بقى بن مخلد في محبته لأبي عبد الله - أتقول إن الرجل قدم من الأندلس ليلقى أحمد بن حنبل؟
- نعم.
- ياله من شرف في الدنيا والآخرة! وهل لقيه؟ ألا تخبرني كيف لقيه؟
قال: إنه نزل عليك في هذا الفندق فألقى فيه متاعه، وذهب يطلب أبا عبد الله؛ وكان ذلك أيام المحنة والناس لا يجرئون على ذكر أسمه، وأبو عبد الله منفرد لا يلقاه أحد إلا أخذته عيون السلطان فناله أذى شديد. . . فلما علم الرجل بذلك ناله من الغمْ ما الله عالم به، فأمّ المسجد الجامع في الرصافة يسمع من المحدثين فما زال يمرّ بالحلق حتى انتهى إلى حلقة نبيلة، فوقف عليها، وكنت أول من رأى زيّه الغريب، فسلمت عليه أونس غربته؛ فسألني: من هذا الشيخ؟
قلت: يحيى بن معين، وكان يعرفه، ومن لا يعرف يحيى أبن معين؟ فوقف ساعة، ثم لمح فرجة قد انفرجت فقام فيها، وكان الشيخ يكشف عن الرجال فيقوي ويضعف، ويزكي ويجرح، فقال:
- يا أبا زكريا - رحمك الله - رجل غريب نائي الديار، أردت السؤال، فلا تستخفني
فقال الشيخ: قُلْ
فجعل يسأل عن بعض من لقي من أهل الحديث - وكان قد لقي منهم خلقاً كثيراً - فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسأله عن هشام بن عمّار وكان قد أكثر الأخذ عنه، فقال الشيخ:
- أبو الوليد هشام بن عمار صاحب صلاة دمشق، ثقة وفوق الثقة، لو كان تحت ردائه كبر ما ضرّه شيئاً لخيره وفضله(327/19)
فتصايح أهل الحلقة:
- حسبك يرحمك الله حسبك، غيرك له سؤال
فقام وهو واقف على قدم:
- أكشفك عن رجل واحد: أحمد بن حنبل؟
فما قالها حتى جمد الناس وعلت الشيخ كآبة، ونظر إليه متعجباً كأنه يقول له: أعن أحمد يسأل أحد؟ وهل تجرؤ على ذكره؟ وكأن الشيخ قد خالطه شيء من الجزع، ثم غلب عليه إيمانه فلم يعد يبالي السلطان وغضبه، وقال للسائل:
- من أين أنت أيها الرجل؟ نحن نكشف عن أحمد أبن حنبل؟
وسكت الشيخ لحظة ثم قال بجرأة عجب لها الناس ولبثوا شاخصين، ينظرون إلى الشيخ يخافون أن تتخطفه جلاوزة السلطان. . .
قال الشيخ:
- ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم
ثم إن الرجل ذهب يستهدي الناس إلى دار أبي عبد الله فمنهم من يعرض عنه خشية أن يكون عيناً للسلطان، ومنهم من يجرؤ فيمشي معه خطوات. . . حتى انتهى إلى الدار
فنال الإعجاب من نفس الفندقي كل منال، وسأله:
- أتقول إنه زاره في منزله أيام محنته؟
قال محمد بن سعيد: نعم. قرع عليه الباب فلما فتح له قال: إني رجل غريب أتيتك من مكان سحيق
قال أبو عبد الله: مرحباً بك، أين بلدك؟
قال: الأندلس
قال: أفريقية؟
قال: لا، أبعد من ذاك، أركب البحر من أفريقية إلى بلدي
قال: لا جرم إنه بعيد، فما حاجتك؟
قال: أسمع منك، وأروي عنك
قال: ولكني كما رأيت وعلمت، لا ألقى أحداً، ولا يدعون أحداً يلقاني، ولست آمن عليك(327/20)
الأذى إذا أنت أتيتني
قال: ما كنت لأبالي في سبيل الأخذ عنك أذى ولا عذابا
قال: فإن هم منعوك؟
قال: أحتال بحيلة، آتيك بزي السؤال فأصيح: الأجر يرحمك الله، فتفتح لي وتحدثني
قال: على ألاّ تظهر في الحلَق فيعرفوك
قال: على ألا أظهر
فكان يفعل ذلك، وكنت تظنه يخرج فيسأل الناس
فعاد الفندقي يسأل متثبتاً، وقد كبر الرجل في عينيه حتى كأن الذي تحتويه غرفته ملك أو وزير، عاد يسأل متثبتاً:
- إذن فهو من (أصحاب) أحمد بن حنبل
قال: نعم، ولبث على ذلك حتى رفع الله المحنة وولى الأمر (المتوكل) فأحيا المذهب الحق، مذهب أهل السنة، وأمات البدعة، وجزى الله أحمد بما صبر، فكان كما تعرف وأعرف إمام الأمة، وأيد الله به الدين كما أيده بأبي بكر يوم الردة فصار يعرف لهذا الرجل حقه ويقول لأصحابه: (هذا يقع عليه أسم طالب العلم)
قال الفندقي:
- جزاك الله يا ابن سعيد خيراً، فقد عرفتني حقه، فهلم بنا إليه. . .
كان بقى بن مخلد الأندلسي وحيداً في غرفته، يتقلب من الألم، ويتلوى من الحمى، قد طحطحه المرض، وهدته الأوجاع فما أبقت منه إلا هيكلاً كالقناة الجوفاء يتردد فيها الهواء، ولَما يشكو من الحنين إلى بلده، والتشوق إلى أهله - أشد عليه من كل ذاك
ولم يكن في البيت إلا لبد اضطجع عليه ووسادة ألقى عليها رأسه، وكتبه مبثوثة من حوله ما يدعها، إذا أدركه انتباه نظر فيها، فإذا غاب عنه من الوجع عقله تركها في مكانها، فلما دخلا عليه ألفياه يقرأ في صحيفة في يده. فجلسا ساعة يؤنسانه فما شعرا إلا ضجة تدنو حتى حسباها قد استقرت في الفندق، فنظرا من الشباك فإذا الرحبة والطرق التي تؤدي إليها ما فيها موطئ قدم خلا من إنسان. فاضطرب الرجل ونزل يسأل أن ماذا جرى؟
فما أحس إلا الناس يقولون: لقد أتى. . . هو في الطريق. . . فأيقن أنه الخليفة، ولكنه(327/21)
رأى موكب الخليفة غير مرة فما رأى مثل اليوم. . . ودنا من شيخ واقف في أطراف الناس فسأله من القادم، وأين يذهب؟
فقال: إنه أبو عبد الله الذي لا يمشي إلى الخليفة، قادم ليعود مريضاً في هذا الفندق، فصاح الفندقي:
- أبو عبد الله قادم إلى فندقي، أبو عبد الله؟ وطفق يصيح ويثب لا يدري ماذا يصنع وماذا يقول، وما يحفله أحد لأن الناس يتشوفون إلى الطريق ينظرون، وقد احتشدوا فيها فما بقي بزاز في دكانه، ولا تاجر في سوقه، ولا طالب علم في حلقته، ولهم دويّ وجلبة. . .
وصحا الفندق على نفسه، فإذا هذا البحر ينشق بقدرة الله، وإذا الخلق يسكتون حتى كأن رؤوسهم الطير، ويبدو الإمام ومن حوله طلبة العلم قد احتشدوا من جهات بغداد كلها. بغداد العظيمة التي يسكنها مليونان وبأيديهم قراطيسهم وأقلامهم يكتبون كل كلمة يقولها فانتهى الإمام إلى الغرفة، فوقف على المريض فقال له:
- يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أعلاك الله إلى العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية
فتناقل القوم ما قال فكتبوه
ومرّت أعوام بعد ذلك وأعوام، والناس يذكرون هذا اليوم المشهود. أما الفندق فغدا منذ ذلك الزيارة محط رجال العلماء والكبراء، ودرت على صاحبه إخلاف الرزق، وأما بقىّ فقد شفاه الله وعاد إلى الأندلس فملأها علماً. . .
علي الطنطاوي(327/22)
ساراكينوس
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
جاء في العدد 324 من هذه الرسالة العالية، كلمة بعنوان (يا رسول الله)، (لأستاذ جليل) ينم عليه قلمه!
استهلها بآية من آياته، وبينة من بيناته، وتلك قوله:
(إن الدهر قد جار على قوم عرب!!)
ثم نقل من (التنبيه والإشراف) للمسعودي هذه النبذة:
(كانت ملوك الروم تكتب على كتبها من فلان ملك النصرانية، فغير ذلك نقفور، وكتب (ملك الروم) وقال هذا كذب، ليس (أنا) ملك النصرانية، أنا ملك الروم، والملوك لا تكذب، وأنكر على الروم تسميتهم العرب (ساراقينوس) تفسير ذلك: عبيد سارة، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وقال: تسميتهم عبيد سارة كذب، والروم إلى هذا الوقت (يعني سنة 345) تسمي العرب (سارقينوس. . .) أهـ
وأستاذنا الجليل، وهو (سباق غايات، وصاحب بينات) كان حقاً عليه أن يقف لحظة أمام هذه (الكلمة) فيعالجها معالجة يردها إلى أصلها، أو يقول قولاً في فصلها؛ إذ هذا هجِّيراه وديدنه في كل ما يرقمه قلمه البارع في شتى (بحاثاته). . .! ولكنه لم يفعل بل تركها تجري في عبارات المسعودي غامضة الوضع، عسيرة الفهم، ملحقةً بذلك التفسير الذي يغلب على الظن أن المسعودي فسره تفسيراً خياليّاً بقوله: (عبيد سارة) أخذاً من الهجاء الأول (سارا) من كلمة: (ساراقينوس)، والدليل على بطلان هذا الكلام عن المسعودي، وإن كنا لا نستبعد أن لوجود (سارا) أو (سارَّة) في بنية هذه (الكلمة) من أمر، قوله: (وقال (أي نقفور) تسميتهم عبيد ساره كذب) لأن ملكاً من ملوك هذه المصفَّرة لا يمكن بحال من الأحوال أن يجعل من نفسه مدافعاً عن العرب، أو يعنى بمثل هذا التحليل وغاية ما في الأمر أن لخيال المسعودي أثراً في هذا، فمن وجود (سارة) في هذه الكلمة يتبادر إلى ذهن (المؤرخ) الأسطورة الخرافية الداهية التي (تحطّ) من قدر الإسماعليين أبناء هاجر بالنسبة (لساره) الزوجة الشرعية لإبراهيم الخليل. . . وهذا ما وقع فيه المسعودي، فلا يُسلَّم له(327/23)
بهذا، إلا إذا جاء نصْ من اللاتينية أو الإغريقية يقول أن (كينوس) بمعنى (عبد) حينئذ يمكننا أن نركن البنادق مسلّمين!
وسيرى الأستاذ الجليل، من الأقوال الآتية في أصل هذه الكلمة وما قاله المؤرخون، قدامى ومحدثون، ما يجعله يقلّل من أهمية رواية المسعودي الذي إذا صح أنه لم يبتدعها من خياله، فقد أمكن حينئذ أنه استقاها عن طريق. . . (إسرائيليات!) والنكتة في هذا معلومة!
هذه الكلمة قد سجلها التاريخ في مطاويه منذ عهد عريق جداً، فالعرب لا تعرفها مطلقاً، إذ لم تشتهر في تاريخهم، وما وردت في نظمهم ولا نثرهم، فإذا كان المسعودي هو المؤرخ الوحيد الذي ذكرها، فلا شك أنها هبطت عليه عرضاً، وأقتنصها اقتناصاً من أحاديث الروم. ومعنى هذا أنها غير مشهورة بين العرب، ولا جارية على ألسنتهم فهم يجهلونها كل الجهل جهلهم بأصلها!
وهي سارية في كل اللغات الأوربية بهذا المفهوم ألهم إلا في الهجاء الثاني منها فإنه يختلف اختلافاً بسيطاً بحسب اختلاف اللُّغى واللهجات. . .
أما التوصل إلى حقيقتها والتعرف على كُنه تحدرها في مجرى التاريخ فهذا لا يكون إلا بالوقوف على ما كتبه مؤرخو أمتي البحر المتوسط: الإغريق والرومان، فلِهاتين الأمتين صلات وثيقة وتجارة جارية. أجل، عند هاتين الأمتين نشأت كلمة (ساراكينوس) ووردت في تاريخهما معزّزة بهجماتهم المتوالية على حدود الممالك الإغريقية والرومية في مصر وفلسطين وما وراء بلاد الأنباط. وكانت قوافل السبأيين من أقصى الجنوب تفيض موقرة بالأحمال، معطّرة الأعطاف بالبهار والأطياب فتتسلمها عن طريق أيدي هؤلاء (السراكينوس) لتتوزع في قصور أوربا ومعابدها عن طريق الأغارقة والرومان. . .
وإذا كانت هذه الكلمة أصبحت اليوم علماً خاصاً يطلق على العرب، فإن مفهومها قديماً كان على عكس ذلك؛ فقد كانت تدور في دائرة ضيقة من التعريف، لا تطلق على الشعب العربي كله وإنما كانت خاصة بقبيل معيّن يسكن على شواطئ خليج العقبة في الجزء الجنوبي لجزيرة سيناء يعرفه الإغريق بـ (ساراكِيني)
وأقدم ذكر جاء لهذه الكلمة في كتاب المؤرخ الإغريقي ديوسكوريدس في منتصف القرن الأول من ميلاد المسيح عندما وصف صمغ (المقل) فقال: إنه ينبت من (شجرة ساركينية).(327/24)
وذكر المؤرخ الروماني بلينوس الأكبر في كتابه (التاريخ الطبيعي)، وقد كان معاصراً للإغريقي السابق الذكر، هؤلاء (السراكين)، فقال: (إنهم من جملة القبائل العربية الثاوية في صميم الصحراء، والتي تتاخم بلادهم بلاد الأنباط).
وجاء على أثر هؤلاء المؤرخ بطليموس، في منتصف القرن الثاني للميلاد، فذكر بلاد (السراكين فقال: (إنها تقع في بلاد العرب الحجرية وعين مكانها بقوله إنها تقع في غرب الجبال السوداء التي تمتد - بناء على قوله - من خليج فاران إلى أرض اليهودية. . .)
ولم يكتف المؤلف بكلامه هذا، بل عاد ونقض قوله، فقال في موضع آخر من مؤلفه: إن (السراكين) شعب يقيم في داخلية بلاد العرب السعيدة يقصد بذلك بلاد اليمن. وزاد على ذلك فقال: إن (السكينتس) وقوم عاد يسكنون الهضاب المرتفعة، وبالقرب منهم نحو الشمال والجنوب يوجد (السراكينوس) والثموديون!
وهذه الفقرة الأخيرة من بطليموس بعيدة عن إفهامنا كل البعد إذ لا يصدق مطلقاً أن توجد قرابة في المسكن بين (السراكينوس) و (العاديين) مثلاً؛ فأولئك - كما علمنا - مساكنهم حوالي جزيرة سيناء، وهؤلاء مثاويهم في جبال حضرموت والمسافة بين البلدين طويلة لا تقاس!
ولعل بطليموس قاس هذا قياس استيطان لا قياس مساحة بالنسبة لجهله بأبعاد الجزيرة. وأما قوله إن (السراكينوس) على مقربة من (قوم عاد) كما ذكرنا، في بلاد العرب السعيدة، بعد أن أقرهم في بلاد العرب الحجرية، فلا يبعد أنهم كانوا يفهمون كل ما هو خلف بلاد الأنباط من بلاد، هو من بلاد العرب السعيدة، إذ هم يتصورون أجواءها وراء هذه الحدود، والسراكينوس كانوا عندما يهاجمون هذه الممالك سرعان ما يختفون في أجواف هذه الصحراء صوّب اليمن. . .
مع كل ما سبق، إذا جئنا نتلمس هذه الكلمة في الأسفار اليهودية والسريانية لم نعثر فيها على ما يشفي غلة الباحث الصادي. نعم! إن الكنائس السريانية قد برّزت في هذا المجال فحفظت لنا أسفاراً قديمة جداً تتعلق بأخبار الساميّين - وخاصة ما يتعلق بهم من ناحية العقيدة، كما يتضح لنا هذا في (كتاب الحميريين) الذي نقله من نص سرياني الأستاذ (إكسل(327/25)
موبرج) المدرس بجامعة لند من أعمال السويد. أما (السراكينوس) فلم يروا لهم ذكر يذكر في هذه الأسفار السريانية، ما خلا رسالة وضعها برداسانيس السرياني في بداية القرن الثالث للميلاد بعنوان ' ذكر فيها الطائيين و (السراكينوس) بقوله: (إنهما قبيلتان تمثلان أهم القبائل العربية الرحالة)
وأستمر الحال على هذا في تلك الأعصار الماضية والسراكينوس لا يعرفون إلا في تلك الطوائف الصغيرة التي تظهر أحياناً مغيرةً من وراء الحدود النبطية، حتى نهض العرب نهضتهم المشهورة، حاملين الرسالة الإنسانية، فبدت طلائع خيلهم من وراء التخوم الفلسطينية تتواكب شمالاً ويساراً على حفافي البحر المتوسط؛ فاهتزت لها أرجاء المملكة الرومانية، وارتعدت لها فرائص القياصرة، وسرى أمر (السراكينوس) بين أمم البحر المتوسط مسير الشمس، فأصبحت هذه الكلمة من هذا الحدث التاريخي العظيم قد أخذت لها معنى واسعاً عن ذي قبل، فكانت سِمة الشعب العربي كله
من هذا نرى أن الكلمة قد تقمصت شكلاً آخر أو مشت متطورة إلى دور ثان، وسنراها كذلك قد دخلت في طور ثالث؛ وذلك أن العرب عندما اشتدت هجماتهم على ممالك الروم في مصر والشام، وذاع من أمرهم أنهم يحملون ديناً جديداً إلى العالم، أقضَّ هذا مضجع الكنيسة الشرقية في عاصمة بيزنطية. فأرسلت رسلها إلى الكنائس الغربية تنبئها بأمر المسلمين، وأن شيئاً جديداً قد صار يهدد الكنائس!!
ولما ودع هرقلُ سوريةَ وداعه الأخير المشهور، واكتسحت جحافل أبن العاصي فلول الرومان في مصر، كان أمر (السرازينس) قد ملأ النفوس رعباً وممالك الفرنجة إضطراباً، حتى أصبحت هذه الكلمة من مرادفات الهول والموت؛ ومن ذلك الوقت عُرف المسلمون بـ (السرازين) وإن كانوا هم العرب في حقيقة الأمر والواقع!
وبقى البيزنطيون على وجه أخص يطلقون هذا الاسم على المسلمين إلى أواخر القرون الوسطى حتى سقوط الخلافة في بغداد. يؤكد لنا هذا خبرُ أبن بطوطة عندما دخل القسطنطينية فحياه إمبراطورها باسم (سراكينو) أي مسلم
ولما أستقر العرب في أسبانيا كانت كل الأمم الأوربية قد سمعت بـ (السرازين) وراحت هذه اللفظة متغلغلة في آداب هذه الأمم؛ فاستعملها الفرنسيون في شعرهم الحماسي باسم(327/26)
(السرازين) أي الذرة السمراء (كما يقولون!) يعنون بذلك عرب أسبانيا نظراً للونهم الصحراوي الأسمر!
ثم أخذت طريقها بعد ذلك إلى إيطاليا، فتسللت إلى شعر الفروسية الإيطالية باسم (ساراشيني) وفي أثناء الحروب الصليبية كان المسيحيون يطلقونها أيضاً على المسلمين أجمعين، وقد ذكرها الشاعر الإيطالي (دانتي) في (جحيمه) بقوله:
ومعلوم من التاريخ أن غزوات العرب قد وصلت إلى معابر جبال الألب ومنافذ سويسرة بعد أن استولوا على جزء عظيم من جنوب وشمال إيطاليا. وفي استطاعتنا أن نقول أنه لا يوجد اليوم جزء من أجزاء العالم يردد أهله ذكر (السرازين) في حكايات أقرب إلى أن تكون من عمل خيالات القصصيين المولعين بأخبار الحماسة، كبلاد سويسرة. فعلى جبال هذه البلاد بنى (السرازين) آطامهم وقلاعهم وحصونهم، وما زالت حتى هذه الساعة محتفظة باسمهم، وفي مهاوي هذه الشعاب البعيدة عن العالم تقوم كنائس وأديرة ما فتئ رهبانها يذكرون أخبار (السرازين) في عبارات مزيجة بالخرافة والتاريخ!
هذه قصة (السراكينوس) تتبعناها من منبعها إلى موقعها بحسب ما توفر لنا من البحث والزمن، ويرى القارئ من هذا التفصيل السابق أن هذه الكلمة قد أصبح أمرها معروفاً من حين خروج العرب من جزيرتهم، وأنها لا تطلق إلا عليهم، ولكن المشكل المحيّر هو:
من هم هؤلاء (السراكينوس) قديماً؟
ومن أين اشتق هذا الاسم؟
سؤالان لم يجزم بحقيقتهما حتى الآن؛ فقد ذهب المؤرخون في مأخذ هذا اللفظ مذاهب شتى، كلها من قبيل الظنون والرجوم، فمظانها غامضة، وأثرها مطموس، وللمؤرخين أقوال في هذه (اللفظة) نجملها فيما يلي:
1 - في العصور القديمة كانت تطلق على قبيل بعينه كما بينا فيما مر، ولكن في العصور المتأخرة ذهب المؤرخون فيها مذاهب شتى، فيرى بعضهم أنها:
2 - تصحيف (شرقيين) العربية، ويدللون على رأيهم هذا أن حرف (الشين) العربي لا يوجد في الإغريقية، ولا الرومانية.
3 - (سرّاقين) أي (اللصوص)، ويقصد بهم سكان الصحراء!(327/27)
4 - (ساراكين) أصلها (صحراء ساكن) أي سكان الصحراء!
وبعد فهذه أقوال المؤرخين في هذه اللفظة المحيرة، ففيها ضعف، وفيها قوة، وكلها - في رأينا - لا تغني من الحق شيئاً!
على أنه إذا صح لنا الاختيار من هذه الأقوال، فأقوى الآراء منها القول بأنها تصحيف (شرقيين) فالكلمة إذن عربية أصيلة، أطلقها الأنباط، وهم عرب على القبائل التي تناوحهم من جهة الشرق. فسمع منهم الإغريق والرومان هذا اللفظ فأدخلوه إلى لغتهم بتلك النبرة، وقد كانت لهم مستعمرات بهذه الأرجاء كما هو معروف. وكلمة (الشرق) و (الشرقيين) لها أصل في لغتنا اليوم؛ فالمصريون يطلقون على كل من يفد من جهة الشرق (شرقيين) وأهل الحجاز يسمون أهل نجد (شروقاً) فليس بعجيب إذن أن يعيد التاريخ نفسه في القرن العشرين!
ولكن مع كل هذا التعليل، ففي النفس شيء من (ساره) في (سارا. . . كينوس) وأن هذا التركيب لابد وأن يحمل توجيهاً آخر في تحليل هذه اللفظة، وخاصة إذا أخذنا بأقوال مؤرخي الكنيسة في القرن الرابع أن (السارازين) انضموا إلى الإسماعيليين الذين كانوا يقيمون في صحراء قادش في مقاطعة فاران حيث ينهض جبل (حوريب) في شرق البحر الأحمر. وفي النفس شيء - أيضاً - من هذا إذا علمنا أن (الهاجريين) أبناء هاجر، قد اشتهروا في الأدب اللاتيني في القرون الوسطى كمرادف (للسرازين) فهل لعلماء اللغات السامية، والمبرزين في الإغريقية واللاتينية، كشيخنا العلامة الكرملي، أن يقولوا كلمتهم في هذا الشأن، فيعيدوا الحق إلى نصابه، والسيف إلى قِرابِه!
أما بعد هذا كله فإني أختتم هذا البحث بمِخرقَة قالها أحد المؤرخين الأوربيين، وذلك أن (السراكينوس) القدامى لا تزال سلائلهم موجودة لليوم ممثلة في قبيلة (السواركه) القبيلة البدوية الصغيرة التي تعيش إلى هذا اليوم على شواطئ البحر بين العريش وغزَّة
وحسبنا أن نقول إزاء هذا التحقيق أن هذه بلية من بلايا البحث توقعها المجانسة في اللفظ؛ وكم خدعت المجانسة مستشرقين في الغرب وأئمة في الإسلام. فالسواركه هؤلاء وجدوا في عصر متأخر، يرجعون في نسبهم إلى سيدنا عكاشة الصحابي المشهور وفوق كل ذي علم عليم.(327/28)
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي(327/29)
بين سيد الشعراء وسيد رجال المال
للأستاذ صالح جودت
في ليلة مشهودة في التاريخ، عشية الجمعة المباركة من اليوم السابع من شهر مايو سنة 1920، ائتمر نفر من سراة القوم في دار الأوبرا (السلطانية)، ليحتفل بتأسيس أول دعامة من دعائم النهضة الاستقلالية المصرية، هي (بنك مصر).
وفي تلك الليلة المزدهرة، وقف مؤسس هذه النهضة، محمد طلعت حرب، يقول بصوت يختلجه الإيمان:
سادتي:
ما كاد يظهر نبأ تأسيس البنك حتى وجهت إلينا الاعتراضات الآتية:
أولاً: إننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية.
ثانياً: إنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك.
ثالثاً: إن الأمة، مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا بالمشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات، من أسماء كثيرين، اكتتب كل منهم بمبلغ زهيد، مما يدل على أن الأمة غير مستعدة للأعمال الاقتصادية. . .
وماذا يراد أن يُعمل بمثل هذا المبلغ الزهيد الذي لا يفي ربحه لدفع أجرة المحل ومرتبات بعض الموظفين. . .
دعونا نبتعد عن هذا الحديث قليلاً، لنتدرج فنعود إليه.
نشأ طلعت حرب - أول ما نشأ - أديباً يحمل القلم، ويصدر عنه المقال تلو المقال، والكتاب إثر الكتاب، ينافح بها في إيمان الكاتب المخلص، والمسلم المؤمن، والأديب الموهوب، عن كيان المجتمع وحرمة التقاليد، والمحافظة على تراثنا الإسلامي من الفضيلة والعفاف. . .
وكانت جهوده الاقتصادية آنذاك تقوم في ركن هادئ من حياته القلمية البارزة.
وهناك. . . في أفق الأدب المتسع، والفن الوضاء، ارتبطت روح طلعت الأديب، بروح شوقي الشاعر، وأدرك كل منهما نواحي العظمة في صاحبه، ثم مرت الأيام تجلو أقدار الرجال، وإذا بالروحين الحبيبين، روح الأديب وروح الشاعر، لا يزيدهما مر الأيام إلا(327/30)
تسانداً، فكلما بنت يد طلعت حرب، عزفت قيثارة شوقي. وكلما تحدث طلعت حرب، تغنى بشاعرية شوقي. فترى طلعت حرب يحتفظ بآثار صاحبه الشاعر في أعز ركن من بيته، ثم تراه في الحفلة التي أقامها التجار لتكريم الزعيم الطيب الذكر سعد زغلول في فندق سميراميس يوم 13 أبريل سنة 1921، ينتهي في خطابه الكريم بقوله:
واختتم متمثلاً بقول شاعرنا شوقي:
صح بالصباح وبَشِّر ... أبناء بالمستقبل
واسأل لمصر عناية ... تأتي وتهبط من عل
قل ربنا أفتح رحمةً ... والخير منك فأرسل
أدرك كنانتك العز ... يزة ربنا وتَقَبَّلِ
أما تراه يقول (شاعرنا شوقي)؟ أو لم يكن شوقي شاعر بنك مصر الذي صحبه في شعره من يوم تأسيسه، وسجل حركاته وبركاته وشركاته؟
أليس هو القائل للامية المشهورة في تأسيس بنك مصر، والتي مطلعها:
قف بالممالك وأنظر دولة المال ... واذكر رجالاً أدالوها بإجمال
وانقل ركاب القوافي في جوانبها ... لا في جوانب رسم المنزل البالي
ما هيكل الهرم الجيزي من ذهب ... في العين أزين من بنيانها الحالي
أو ليس هو قائل الدالية العصماء في الاحتفال بوضع الحجر الأول في أساس بنك مصر، التي مطلعها:
نراوَحُ بالحوادث أو نُغَادَى ... وننكرها ونعطيها القيادا
ونحمدها وما رعت الضحايا ... ولا جَزَتْ المواقف والجهادا
لحاها الله! باعتنا خيالاً ... من الأحلام واشترت اتحادا
أو ليس هو صاحب الميمية الخالدة في حفلة افتتاح الدار الجديدة لبنك مصر، التي مطلعها:
نبذ الهوى وصحا من الأحلام ... شرقٌ تنَّبه بعد طول منام
ثابت سلامته وأقبل صحوه ... إلا بقايا فترة وسقام
والآن، آن أن نستجمع آثار هذه الصلة بين سيد الشعراء وسيد رجال المال، لنرى كيف عكست صورتها الجلية على روحيهما في تلك الليلة المشهودة، ليلة تأسيس بنك مصر في(327/31)
اليوم السابع من مايو سنة 1920، حين وقف طلعت يردد ما يثيرون تجاهه من اعتراضات، فراعنا كل الروعة أن نجد هذه الاعتراضات مردودة كلها في قصيدة شوقي التي قالها في نفس الليلة، ويدهشك أن يحدث هذا الاتفاق بغير سابق اتفاق إلا صلة الروحين الساميتين.
الاعتراض الأول، أننا أردنا لبنك مصر ورأس ماله صبغة مصرية، فأثبتنا تعصبنا وتأخرنا في المدنية. وفي ذلك يقول شوقي إن الدنيا للمال، ولا حياة لأمة بغير المال:
والمال، مذ كان تمثال يطاف به ... والناس مذ خلقوا عُبَّاد تمثال
إذا جفا الدور فانع النازلين بها ... أو الممالك فاندبها كأطلال
والاعتراض الثاني، أنه ليس في مصر من يصلح لأعمال البنوك، وفي ذلك يقول شوقي إننا قد خطبنا المعالي، وأردنا جلائل الأعمال، فعلينا أن نعد العدة لها، فيومئذ لن يصعب على المصري شيء، ويومئذ يصلح المصري لكل جليل، وهذه العدة هي العلم والمال
يا طالباً لمعالي المُلك مجتهداً ... خذها من العلم أو خذها من المال
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم ... لم يُبْنَ مُلْكٌ على جهل وإقلال
والاعتراض الثالث، أن الأمة مع كل الطبل والزمر اللذين أحاطا المشروع، لم يمكن أن يجمع منها سوى ثمانين ألفاً من الجنيهات وعندئذ يهيب شوقي بسراة مصر أن يهبوا لدفع هذه الدعوى، ونصرة الوطن، إذ يقول:
سراة مصر، عهدناكم إذا بسطت ... يد الدعاء، سراة غير بَخَّال
تبين الصدق من مَيْن الأمور لكم ... فامضوا إلى المال لا تلووا على الآل
ويحدثهم عن الخير المنتظر من وراء هذه الدار فيقول:
دار إذا نزلت فيها ودائعكم ... أودعتم الحبَّ أرضاً ذات إغلال
آمال مصر إليها طالما طمحت ... هل تبخلون على مصر بآمال؟
فابنوا على بركات الله واغتنموا ... ما هيأ الله من حظ وإقبال
يقول الأديب الكبير (تورناد) إن الرجال يذهبون، ولا يبقى من مجدهم إلا ورقات تتعب رؤوس التلاميذ في المدارس
ولكن مجد طلعت حرب، شيء أسمى من مجد الرجال، وهو باقٍ ما بقى بنك مصر(327/32)
ومؤسساته على أثبت الدعائم، ودعائمه هي القلوب، إلى ما شاء الله.
صالح جودت(327/33)
من وحي الحرب
وَدَاعْ!. . .
للأستاذ محمود الخفيف
أفاقَتْ عَلى صَيْحةٍ رَوَّعتْ ... لَدَى سَكرةِ الوصلِ أحلامَها
وَطافتْ بِها النُّذُرُ الغاشياتُ ... تُجَدِّدُ فِي العَيْشِ آلاَمَها
وَكانَ صَفا دَهرُها واغتدَى ... وَضِيَء الملاَمِحِ بَسَّامَها
تهاوَتْ طُيوفٌ تَدَلْت لَها ... مِنَ الخُلدِ في أمْسِها الناعِمِ
تَألُفُ مِنْ لَمحَاتِ الخْلودِ ... ومِنْ رَوْعةِ الأمَلِ الباسِمِ
وَتَنْسِمُ بِالْحُبِّ أنفاسُها ... عَلى عُشِّها الهْانئِ الحالِمِ
أفي وَمْضةٍ تَتلظَّى الجَحيمُ ... وفي خطرة ترجُفُ الراجِفةْ؟
وتمضِي رَحَى الموتِ في ضجَّةٍ ... تَبيتُ القلوبُ لها واجِفَة؟
إذا أوحَشَ البيتُ مِن بَعدهِ ... فمنْ يُؤنِسُ الزوجةَ الخائفة؟
أفاقَتْ عَلى الهَولِ ملْهوفةً ... وَما كَانَ في العيْشِ بِالمنتظرْ
ألاَ شَدَّ ما تَفجعُ النَّائباتُ ... عَلى غِرَّةٍ ساقَهُنَّ القَدَرْ
وَيا قُبحَ مَوقعهُ في النُّفوس ... إذا جَاَء بَعدَ الصَّفاءِ الكَدرْ
وأكدرُ ما كانَ لونُ السحابِ ... إذَا مَرَّ عَارضُهُ بالْقَمرْ
ترَدَّى لِباسَ الوَغى مُعْجلاً ... وَهَمَّتْ لِتثْنِيَهُ ضارِعَهْ
فلا قولَ إلاَّ الدُّموعُ السِّجالُ ... تَفيضُ بِها المُقَلُ الهامِعهْ
وَمَا حِيلةُ الَّلفظِ في موْقفٍ ... تذوبُ بِهِ الأنفُسُ الجازَعه؟
إذا هَمَّ لا يَستجيبُ اللَّسانُ ... وَمَا عَيَّ في مَوْقفٍ قَبلَهُ
وَماذا عَسَى أنْ يقولَ ... وهَلْ تَتأسَّى فَتُصغي لَهُ؟
هُنا الصْمتُ أبلغُ في لحْظةٍ ... توَزّعَ فِيها الأسَى قَوْلَهُ
تَلاَصَقَ قَلباهُما في عِناقٍ ... يَزيدُ الأَسى فيهما والضّنى!
تُلِحُّ وَتَسْأَلُهُ المُستحيلَ ... فَيا لَيْتَها طَلَبتْ مُمْكنا
أهَابَ الحِمى بالشُّبولِ الحُماة ... فَما يَمْلِكُ اليومَ أن يُذْعِنا(327/34)
إذا هَان دَاعِيهِ في قلبهِ ... غَدا كلُّ شَيءٍ بِهِ أهْونا
أكانَ يُعجِّل لولا الفِداءُ ... فيُفلتُ من سحرِ هذا الجمالْ؟
ويمضي إلى حيث شبَّ اللَّظَى ... وجُنَّ الردى واستحرَّ القتال؟
إلى حيثُ لا يهدَأ الجاهدون ... سوى غفوةٍ في الليالي الطوال؟
وَيُنْذِرُ بالويْلِ وجهُ النهارِ ... وتَّمشي إليه جمُوعُ الرِّجال؟
يُؤرِّقُني طيْفُ هذا الودَاعِ ... وتَبعثُ ذِكْراهُ أشجانِيَهْ
أُغَنِّي لِمرآهُ لحْنَ الأسَى ... وكم ألْهَمَ الوَجدُ ألحَانِيَه
وإني لذو كِبْرةٍ في الخُطوبِ ... وإن أغرَقَ الرِّفقُ أجفانِيَه
أرَى منظراً حارَ فيه القرِيضُ ... وأوْشك زَاخِرُهُ يَنضُبُ
قُصاراىَ فيهِ هُتافِي بهِ ... فليسَ إلى وصْفِهِ مَذْهب
لئن كان يوحي البُكَا وَجْدُهُ ... فَكَم خاطِرٍ فيه يُسْتعْذَب
إذا لَم تَرِفَّ قُلوبٌ له ... فهنَّ من الصخْرِ أو أصْلب
ألاَ كَم أراعُ لهذا القَوَامِ ... تَمَشَّى من الهمِّ فيه الوَهَنْ
ويوجِعُ نفسِيَ بَرْحُ العذابِ ... يُلِحُّ على مثل هذا البَدَن
لَها اللهُ يُذْهِبُ عنها الأسَى ... ويَدْرَأُ عنها غَوَاشِي المِحَن
تَفجُّعها - يا غَلِيلي لها - ... لَدَى البَينِ عن غيرها شاغِلي
يُعذِّبُنِي أنهُ رَاحِلٌ ... وأنَّ بُكاها بِلاَ طائِلِ
ودِدْتُ لَو أنّي لبستُ الحديدَ ... وكنتُ فِدى الراحِلِ الباسل!
أمِيلُ بلَحظِي إلى وَجْهِهِ ... فيا حَيْرَةَ اللَّحظِ في أمْرِهِ!
معاني الفجيعَةِ في ناظِرَيْهِ ... وعَزْمُ الكَماةِ على ثَغرِه
يُريها التجَلُّدَ في صَمْتِهِ ... فَتَكشفُ عيناهُ عن سرِّه
وأنّى لهُ الصبرُ في مَوْقفٍ ... سَقاهُ النوَى فيه من مُرِّه
تَجلَّدَ لا من حِفاظٍ فحسْبُ ... ولكن ليَبدُو جَدِيراً بها
فللموْتُ أهَوُن من أن تُحِسَّ ... مَعانِي تَوَقِّيهِ في قَلبِها
وليسَ يَهَابُ الرَّدى قَلبُهُ ... إذا عَوّذَتهُ بإعجَابها(327/35)
هو الحُبُّ حتى لدى الموت يحيي ... نفوسَ الرِّجالِ ويسمو بها
تسائِلُ عيناهُ هلْ تَرْتَجي ... لَهُ أوْبةٌ بعدَ هذا النَّوى؟
ولكنَّهُ لنْ يُطيعَ الخيالَ ... فَكمْ فيهِ قادِحةٌ للجوَى
وهلْ يعصمُ المرَء مِنْ حتفهِ ... جحيمُ الوَغى أو نَعيمُ الهوى؟
تحيرْتُ ماذا أثارَ الجوَادَ ... ولاحَ لِيَ الهوْلُ في وثبِهِ
أذلِكَ دأبُ كِرَامِ الجِيادِ ... إذا الرَّوْعُ أُعلنَ عن قربِه؟
أمِ اهتاجَ مِمْا يَرى حَوْلهُ ... فَجُنّ بما لَجَّ في جَنبِهِ؟
معانٍ يَصِفنَ لِقلبِي العذابَ ... ويمْلأَنَ نَفْسيَ مِن رُعبِه
عرَفتُك يا ساعةَ البيْنِ قَبلُ ... وقَرَّ عذابُكِ في خاطري
غداةَ ذَرفتُ عَصيَّ الدُّموعِ ... فَأرخصتُ دمعي لدى آسِري
وضاقتْ عليَّ الرِّحابُ الفِساحُ ... وأظلَمتِ الأرضُ في ناظري
وَأوْحشَ كلُّ مكانٍ عرَفتُ ... وغاضتْ رُؤى صُبحهِ الزاهرِ
عرَفتُكِ قبلُ وأيُّ امرِئ ... دَهيْتِ فلمْ يكُ بالجازعِ
عرَفتُك حين يرجَّى الإيابُ ... فما كانَ ذِكرُ غَدٍ نافِعي
فَكيف بهذا الذي لا يَرى ... سوى الموتِ في هوْلِه الفاجعِ؟
سيمضي إلى الرّوع ثبْت الجنان ... وإن كان يشقَى بأوهامهِ
تَفيضُ على رغمهِ مُقلتاهُ ... ويذْكرُ ماضيَ أيّامهِ
فيمسحُ عينيهِ خوفَ الرقيبِ ... وينْفي الهمومَ بإقدامه
ويكتئبُ البيتُ منْ بَعدهِ ... فما منْ جليسٍ ولا آنسِ
تطوفُ بأرجائِهِ وحشةٌ ... كما طافَ بالطللِ الدارسِ
وليسَ إذا جنَّهُ لَيلُهُ ... سوى خفقِ مصباحهِ الناعس
تطلُّ إذا الصُّبحُ لاحَ لها ... على شَجَنٍ في جميع النّواحْ
فليسَ الندَى في مآقي الوُرود ... سوَى أدُمعٍ من بُكاء الصباح
وهذى الهواتفُ نوْاحهٌ ... بِأغصانِها لا تَملُّ النُّواح
تعلِّلُ أطفالها تارةً ... وطوْراً تصيحُ بهمْ زاجرَه(327/36)
فَتصْفرُّ منهمْ وجُوهٌ صِغارٌ ... تظَلُّ إلى وجهها ناظرَه
وتجهشُ حيناً إذا أبصَرت ... دموعاً بآماقِهم حائِرَه
يلوحُ لها اليُتمُ في دَمعهمْ ... فَتسقطُ من وهنٍ خائِره
وتَمضي الليالي ثقالَ الخُطَى ... ولا قوْل عن زوْجها الغائبِ
بَرَاها السَّقامُ فليسَ يُرَى ... سوَى اليأس في وجهها الشاحب
إذا الهَمُّ صُوِّرَ تِمثَالُهُ ... فليس سوَى جسمها اللاَّغِب
وما علمت كيف خاض الحُتوف ... سِجالاً وكيف تصدَّى لها
وكيف أحاطَ الرَّدى بالرِّجالِ ... وزلزِلَتِ الأرضُ زِلزَالَها
وكيف تصبُّ السماء الدّخانَ ... تَزيدُ على الأرضِ أهوالها
وكيف يُلاقي الكميُّ الكمِيَّ ... وتمتحن الحرب أبطالَها
إذا الليل أسْدَل أستارَه ... تراءى على الأفْقِ لونُ الدّمِ
ولاحت مخضَّبة بالنجيع ... جحافلُ من خافِقِ الأنجم
يرى كلّ ما حوله قانياً ... إلى الدّمِ في لونه ينتمي
تَناوحُ في مِسمعيه الرِّياح ... فيسمع فيما تقولُ الأنِينَا
وَيَسمع ثَمّ الذين طَوت ... يَدُ الموت أعمارهمْ هامِسينا
يقولون متنا وصرنا عظاماً ... فمن للبنات غداً والبنينا؟
وَتَأخذُ أجفانَهُ غَفْوةٌ ... فيأوي إلى بيته ثانِيَهْ
وتَطْفُر مِن فرح زوجه ... كأن لم تَبِتْ لَيلة عانِيَهْ
تُكَفكفُ أدمعهُ الساخناتِ ... وَيَمسحُ أجْفانَها الهامِيَهْ
ولكنهُ حُلمٌ تنطوي ... على نفخة الصور أفراحُهُ
وينهض كلُّ فتىً للسلاح ... ويوحي له الدَّمَ إصباحُه
فيهزأ بالموت في كرِّهِ ... فليس بِمُثنيه مجتاحه
الخفيف(327/37)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن بين (الآميبات) و (الاميبين)
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
لي صديقة صغيرة غاية ما تريده مني هو أن تسخر بي وأن تحطم كل رأي أبديه ولو كان إعجاباً بها وتقريظاً لها حتى آمنت بأنها دسيسة مسلطة عليّ فلم أعد أحمل كلامها محمل الجد ولو كان تعزيزاً لرأي كنت قد أراه وأصدق عليه. فنحن ما نكاد نلتقي حتى نختلف منذ نتبادل التحية. فإذا قلت لها: (نهارك سعيد) قالت: (وكيف عرفت؟). فإذا قلت لها إن هذا دعاء وليس خبراً، سألتني: (ومتى كنت من أولياء الله الصالحين حتى تدعوه إلى إسعاد غيرك. . .؟ أفلا جربت دعائك لنفسك أولاً؟ فمن يدريك أن يستقبل الله رجاءك، من غضبه عليك، بسخطه ولعنته؟)
هذه هي صديقتي المفكرة التي قابلتني أمس وفي يدها العدد الأخير من الرسالة فما رأتني حتى نادتني:
- تعال، الله يخيبك!
- أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقية! ماذا حدث يا هذه؟
- حدث الحدث، ونزلت الكارثة. أهذا كلام تقوله عن استراوس وصاحبته؟
- وماذا كنت تريدين أن أقول؟ اكتبيه في ورقة حتى إذا اتفقنا عليه لا تعودين فتنقضينه. . .
- ناصح جداً. من ذا الذي قال لك إن البارونة فشلت مع استراوس؟
- هي التي قالته، وأرجو ألا تسأليني متى قابلتها ولا أين لقيتها، فهي لم تقل لي أنا بالذات، وإنما عبرت بهجرانها لاستراوس عن هذا الفشل الذي تنكرينه
- ولم لا يكون في هذا الهجر تعبير عن فشل استراوس نفسه؟ ألم يوافق هو عليه؟
- ربما يكون قد وافق عليه، ولكنه لم يسع إليه. ثم إنها هي التي بدأت مناوشته؛ فكان هذا دليلاً على أنها تريده، فهجرها إياه لا يدل بعد ذلك على شيء إلا أنها عجزت عما كانت(327/38)
تريد. . . فهي التي فشلت، وليس هو الذي فشل
- بل إنه هو الذي فشل منذ سمح لها بأن تريده ولم تأخذه عزة الرجولة، ولم يبدأ هو بالإرادة وإعلانها
- وما عزة الرجولة هذه؟
- بِه! أأنت أيضاً (ستراوس)؟
- فال الله ولا فالك! ولكني أريد أن أتفق معك على تحديد معناها حتى لا نختلف بعد في المناقشة
- عزة الرجولة هي قوة الأمر التي خص الله بها الرجل ليتسلط بها على المرأة
- وما المرأة؟
- والمرأة أيضاً تريد أن نتفق على تحديد معناها؟
- إذا كان لها معنى؟
- داهيتك أسود من الليل! المرأة هي شريكة الرجل في حياته
- بأي حق. . . إلا حق الضعف؟
- بحق القدرة على النسل. وليس رجل قادراً عليه بغير امرأة
- كان استراوس قادراً عليه بغير امرأة. وليس استراوس وحده الذي استطاعه، وإنما استطاعه مثله كثيرون غيره.
- هذا هراء. وإذا كان هناك من أعقب من غير شريك، فإنها مريم العذراء. . . ولم تكن رجلاً. . .
- وكانت آيتها: أنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً. لم يجد كتاباً، ولم يجد وحياً، ولم يجد آية أخرى
- ماذا تعني؟
- أعني أنها رضي الله عنها كانت هبة آل عمران للخبير الرحمن، وأنها اتقته وتبتلت له، فأغناها عما تطلبه كل امرأة من هذه الدنيا وهو الرزق، فيسره لها من حكمته وكرمه، ثم نفخ فيها من روحه، فكانت هذه هي معجزة المرأة الكبرى: أن ينفخ فيها من روح الله. . . ومع هذا الجلال، فإنها بمشيئة الله لم تعقب من روحه فكرة، وإنما أعقبت المسيح الإنسان(327/39)
(ص)
- وهو كلمة الله!
- المتجسدة! الجسد! ولا تنس أنه رجل، وانه أعقب ديناً جل من دين.
- وهو ابنها؟
- وهل أنكرت أنا هذا؟ ولكن دينه ليس منها!
- الدين من الله.
- وكل حق من الله، سواء أكان ديناً أم كان علماً، أم كان فناً. . .
- تريد أن تنسب الفنون أيضاً لله؟ حرام عليك!
- حرمت عليك عيشتك! أليست الفنون هبات من الله ومنحاً؟ هل يستطيع كل إنسان أن يكون فناناً إلا من وهبه الله القدرة على ذلك، ومن أخذ نفسه بطلبه. . . إن الله وعد عبده التقي أن يعطيه حتى يرضى. . .
وقد اتقته مريم (رضى الله عنها) فأعطاها رزقاً، واتقاه المسيح فأعطاه ديناً، ويتقيه ناس فيعطيهم فنوناً. . . ألم تسمعي بالإلهام؟
- ما أكثر الذي نسمعه، وما أقل المعقول فيه. . .
- ليست مسألة الفنون يا مولاتي شيئاً يفهم بالعقل. . . إنها كالحب تماماً شيء يحس. . . هل تعرفين ما معنى (يحس)؟ كما تخزك الإبرة، وكما تلسعك النار. . . وكل ما في الأمر أنهما وخز ولسع روحيان. . . فهل تعرفين ما هي الروح؟
- من أمر ربي.
- ولا شيء غير هذا؟
- القرآن عرفها بهذا، فهل عندك أنت تعريف أوضح منه؟ توقح وقل ما شئت وعليّ وعلى الأزهر الشريف ما بعد ذلك
- هو ذنبي أن أناقش امرأة إذا قهرتني جمعت علي الناس شماتةً وغلا. فإذا هممت أن أصرعها استنجدت وولولت وبكت واستعدت على كل من تأخذ نفسه الرحمة والشفقة بحواء الضعيفة التي سيقتلها الوحش الذي هو أنا. . . أليس كذلك؟ أني ألقي السلاح يا آنسة
- إذن فقد فشلت(327/40)
- كما فشلت البارونة مع استراوس
- لكنها لم تفشل. وإنما كانت في أنوثتها أنصع من استراوس في رجولته. وقد كان عليه أن يتطهر وأن ينقي نفسه ليدركها وليطاول حسنها. . .
- أما كان استراوس متطهراً؟ هذا الذي لم تخلبه الأبدان مثلما كانت تستهويه الأرواح من ورائها؟
- ما هذا الكلام الفارغ الذي لا معنى له. أنا لا أعرف إلا أن الله خلق الناس ذكراً وأنثى. وكل منهما في حاجة إلى صاحبه. وعلى الرجل أن يطلب الأنثى وليس عليها أن تطلبه، بل إن عليها أن تتريث وأن تتمنع، وأن تنتظر حتى تتأكد أنه يريدها حقاً، كما قلت لك أن للرجولة عزة، فإن للأنوثة كرامة، وكرامة الأنوثة تقتضي هذا التريث وهذا التمنع حتى لا يجيء يوم يعير فيه الرجل المرأة بأنها هي التي طلبته، أو أنها هي التي ألقت بنفسها بين ذراعيه. . .
- ليس هذا كرامة كما تقولين، وإنما هو نفاق
- بل إنه كرامة
- كان يمكن أن يكون كرامة لو أنه كان ممكناً أن تعيش المرأة من غير رجل، ولكن ما دامت هي تحتاج إليه حقاً فالتريث والتمنع واللف والدوران، وغير ذلك مما تتقنه بنات حواء ليس شيئاً غير الإثارة الجنسية، فإذا خفتت النزعة الجنسية في الرجل لم تعد هذه الصناعة تجدي شيئاً.
- ليست هذه صناعة، وإنما هي طبيعة
- فليكن
- فليكوننّ! والآن قل لي كيف تخفت النزعة الجنسية في الرجل
- كلما كف عن حياة الحيوان، وكلما استخلص من الحياة الفضائل، ومن هذه الفضائل تلك الكرامة التي تتحدثين عنها، والتي تريدين أن تقفيها على الأنوثة
- ولكن هذه الكرامة التي أتحدث عنها خاصة بالأنوثة وحدها ولا يمكن أن تجتمع في الرجل هي وقوة الطلب التي تلتهب فيه الرغبة، والتي تدفعه وتحدوه إلى التسلط على المرأة. . . لا يمكن أن يحدث هذا الذي تقوله إلا إذا كان الرجل (كالأميبة) ينشق جسده(327/41)
شقين، ثم ينشق كل شق منهما شقين، فلا ذكر، ولا أنثى، ولا زواج، ولا تناسل. . . فهل في الرجال (أميبون) يا هذا؟
- فيهم يا آنستي فيهم. . . كما أن في النساء (أميبات)!
- وما هؤلاء؟
- هن اللواتي بلغن للعالم رسالات. هن اللواتي خلفن لهذه الدنيا آثاراً. هن اللواتي أعرضن عن الرجال كثيراً أو قليلاً، وتداخلن في أنفسهم، ثم انشققن على أنفسهن فأنجبن أحياء غير البنين والبنات. صحيح أنني لا اذكر منهم ولا واحدة لأني قليل الإطلاع على التاريخ، ولكنك تستطيعين أن تسألي عنهن واحدة من بنات جنسك المثقفات. اسألي الآنسة سهير القلماوي. اسألي الآنسة. . . لا. . .
- من هي الآنسة (لا) هذه؟ يابانية هي؟
- عجائب! ألا تعرفينها؟ أستاذتك التي لم يمنعها من دراسة هذا الموضوع معك، إلا أنكما أنثيان تعودتما ألا تمسا الحقائق إلا من بعيد.
- وما لك تحمل عليها هكذا؟
- لأنها (أميبة) ولكنها متكتمة. . . وأنت (أميبة) مثلها ولكنك مترددة!
- لا تقل هذا. . . إني أموت إذا خلته حقاً.
- وهل في الحق ما يفزع؟ الحق جميل، وهو من عند الله فأحبيه يا مكروبتي الصغيرة. . . ولا تكوني مثل بارونة استراوس!
- آه منك! لقد طوحت بنا إلى موضوع لم يكن يخطر لي مطلقاً أن أندفع إليه. وما دمنا قد مسسناه، فأظنك لا تمتنع عن المضي فيه إلى آخره. . . هل تصلح الحياة بين (الأميبة) و (الأميب)، كما تصلح بين والمرأة والرجل؟
- إما أن تصلح صلاحاً ما بعده صلاح. . . وإما أن تستحيل استحالة ما بعدها استحالة. . . ولا وسط بين الحالتين. . . والدرس الواحد في هذا الموضوع بعشرة جنيهات، فهو موضوع لم يطرقه إلى اليوم أحد.
- يا لك من مادي مظلم! عشرة جنيهات مرة واحدة!
- وعلى أي حال فإني أرضى منك الآن (بسيجارة). . . أشعليها ولكن بعد أن تمسحي عن(327/42)
شفتيك هذا (الأحمر) الذي تكذبين به على الناس وعلى نفسك. . .
- يا لطيف! هل أكلت اليوم مسامير تنفخها في كلامك فتخرق بها الآذان والأفئدة؟
- يا ما أكلت المسامير والزجاج والنار. . . وتجيئين أنت في آخر الزمن لتهزئي بالسحار الذي علمته الأفاعي الصدق والرحمة، لنا الله معاً.
- هل هذا الكلام موجه لي أنا؟
- لك أنت، لكما أنتما، لكن أنتن، لي أنا، لنا نحن. . . ألا تحفظين بقية الضمائر؟
- لا ريب أنك مجنون؟
- ولم لا؟ ربما كانت البارونة تقول هذا عن استراوس! أما هو فلا ريب أنه قال هذا عنها
- فأيهما كان المجنون؟
- الاثنان معاً!
- لماذا؟
- لأنهما افترقا، ولم يكن يصلح لها غيره، ولم يكن يصلح له غيرها. وما كانت لتهجره لو أنها قرأت مقال الأسبوع الماضي الذي أسخطك، فقد كانت (أميبة) لا يعجبها كل رجل، وكانت فيها قوة الإبداع الفني والانشقاق على نفسها، وإن كانت لم تمارسها لظنها أنها امرأة
- بدأ الغرور يركبك
- أعتذر. وأستغفر الله. وأمسح الأرض بوجهي ورأسي بين يدي جلاله وعزته، وأعود فأقول إنهما كانا يتفقان لو أنهما رأيا نفسيهما كما أراني الله إياهما. . . ألم نقل إنهما كانا (آميبين) كل منهما ينشق على نفسه فنوناً، أو لم أقل لك إن من (الأميبين) من يصلح (للأميبات) كل الصلاح. لقد كان هذان من هؤلاء
- كيف؟
- الرجل يا آنستي ابن رجل وامرأة ففيه من الرجولة والأنوثة، وهو لم يكن رجلاً إلا لأنه ورث من أبيه أكثر مما ورث من أمه. فلو تعادل الذي ورثه منهما كان خنثى، وكذلك المرأة، وفي الرجال من تبلغ رجولتهم تسعين في المائة من حيويتهم وهؤلاء (حيوانون) أكثر منهم أناسا، ولعل راسبوتين كان من هؤلاء، فالتاريخ يروي أنه كان يعصف بالنساء عصفاً، ورجل مثل هذا لا تشبعه المرأة إلا إذا بلغت أنوثتها تسعين في المائة من حيويتها(327/43)
هي أيضاً، وهذا الصنف من الرجال والنساء هم الذين يصفهم أهل هذه الأيام بأنهم أصحاب السكس أبيل. أما الرجل الذي لا تزيد رجولته على ستين في المائة مثلاً فلا بد له من امرأة ليس فيها ما يزيد على ذلك من الأنوثة وهذان يتحابان ويتقاربان. . .
- وكيف تعرف هؤلاء الرجال. . . هل يظهرون للأعين؟
- نعم. فيهم من ملامح النساء. . . استدارة الأطراف، طراوة الصوت، دلال المشية، واستدارة الأعناق أيضاً. . . وبروز الأثداء. . . والنساء الأميبات فيهن من ملامح الرجال غزارة شعر الشاربين، وضئولة الأثداء، وعنف المشية. . . وهناك علامات غير هذه. . .
- ومتى لا يتحاب (الأميبان) ولا يتقاربان. . .
- عندما تشتط الأنوثة في الرجل، أو الرجولة في الأنثى. أو الاثنتان معاً. . . عندئذ يتنافران
- وماذا أيضاً؟
- فكري برأسك هذا قليلاً. . . ولا تقولي (ماذا وكيف) أفأن لم تسألي لا تتفهمين؟
- لقد دخت. . . دوخك الله أنت واستراوس
- أما أنا فقد دوخني الزمن. . . وأما استراوس فقد دوخه الفن. . . إلى اللقاء
عزيز أحمد فهمي(327/44)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
4 - الاستكشافات الخمسة
من الطين إلى الصيني
الطعام من حاجات الإنسان اليومية. وقد كان على إنسان الكهف كما علينا الآن، أن نستبقي الحياة بالاستمرار على تناول الطعام
وكثير من القصص الممتع في حياة الإنسان يدور حول هذه المسألة الكبرى: مسألة الطعام وهي التي تشغل الجنس الإنساني كله إلى اليوم. فبعض القصص يتعلق بالتجارة وبعضها بالاستكشافات والبعض بتاريخ الشعوب المنعزلة
وكان الإنسان في البداية هائم الحركة بحثاً عن الطعام فهو يأكل القوت والفواكه والحشائش والحبوب وجذور النبات؛ فإذا ما غال ذلك من حقل ذهب إلى حقل آخر يلتمس فيه طعاماً جديداً، ويمكث كذلك حيناً في مكان من أماكن الصيد ثم يتركه إلى مكان آخر
ثم جاء اليوم العجيب الذي تعلم فيه الإنسان أنه متى غرس بذرة فإنه سيجني حصاداً. وقد كان ولا ريب بالعالم في هذا العهد القديم بعض رجال لكل شعب من الشعوب مهمتهم أن يرقبوا مرور الشهور بظهور القمر واختفائه لغرس الحبوب وملاحظة ما سيكون من أمرها: هل ينشأ أم لا ينشأ منها نبات؟
وحدّث أحد زعماء الملايو عن كيفية اعتماد قبيلة في الحياة على فواكه الغابة فقال إنهم في البداية كانوا يأكلون الفواكه في أماكن صغيرة بالقرب من المكان الذي تجمع فيه. ولكن لوحظ أن عدداً كبيراً من أشجار الفاكهة كان ينبت حول هذه الأماكن التي يأكلونها فيها فقرروا أن يحملوا الفواكه إلى أماكن أبعد من الأولى ليأكلوها بها. وكانوا في كل عام بعد ذلك يرون أن أشجار الفاكهة تنبت حيث يسقط النوى أو البذور فحملوا البذور والنوى إلى مسافة أبعد ورموها في أماكن مختلفة إلى أن صار لهم في النهاية بساتين في أنحاء الإقليم الذي يقيمون به(327/45)
ولما استكشف سر زمن الغراس وزمن الحصاد استطاع الإنسان أن يكف عن التجوال صعوداً وهبوطاً على سطح الأرض وأن يقر في مكان يستثمر به الأرض طلباً للقوت. وقد عرفت كل القبائل ذلك في أوقات طالت أو قصرت فاستقرت بأماكن اختارتها
وحاجات الطعام الإنساني هي السبب في صناعة الأواني فمنها أوعية للماء وأخرى للطبخ وأوعية لحفظ الطعام بين وجبة ووجبة. وأخيراً أوعية ليتناول فيها الطعام
وباهتمامه بالحالة التي يقدم بها له الطعام نشأ التبديل من الأوعية الغليظة المصنوعة من طين الأرض إلى الأواني الصينية التي تكاد تكون شفافة لرقتها
وكانت كل أسرة تأكل على مائدة واحدة وكان طبقها واحداً في البداية، ثم صار لكل فرد طبقه الخاص. وفي نفس الوقت كان التقدم مستمراً في ناحية أخرى متصلة بحاجة العالم إلى الطعام فإن الإنسان كان يجوب الأرض براً وبحراً فاستطاع نقل الطعام من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب حول الكرة الأرضية. ولكن الطعام الذي ينقل كل هذه المسافات البعيدة أو الذي يحفظ مدداً طويلة يجب أن لا يكون في درجة من النضوج لا تسمح بالنقل إلا من اليد إلى الفم. ويجب أن تستبقي فيه حلاوته وسلامته وجدّته. فجاءت علبة الصفيح المختومة مُلائِمةً لهذه الحاجة. وبواسطتها أصبح عهد استكشاف الطعام تاماً
كان على الإنسان في البداية أن يكثر من التنقل طلباً للقوت ومن ثم نشأت المهاجرات العظيمة ثم تعلم صنع الطعام في موطنه، وبذلك نشأت المدنيات المنفصلة، والآن يستطيع أن ينقل الطعام إلى حيث شاء؛ فأصبحت له الحرية العصرية في الانتقال، وقد نقلتنا هذه الأساطير في كل الدورة. ففي البدء كان عليه أن يتحرك ثم كان له أن يستقر. والآن له أن يتحرك وأن يأخذ معه مختلف الأطعمة أو يستقر ويستدني إلى مائدته الطعام من أنحاء العالم
وفي قصة الزعيم الملايي وبذوره، وفي فن صنع الأواني وتأثيره على الطبخ، وفي تقدم فن الكيمياء وتأثيرها على اختيار أنواع الطعام وطرائق تناوله، وفي قصة العالم الفرنسي الذي سنتحدث عنه وحصوله على الجائزة، في هذه القصص سنرى تطور هذه الأشياء
الأقاصيص كثيرة في كل قبيلة على سطح الأرض عن الأيام الأولى من عهد تعلم الإنسان ما على هذه الدنيا العجيبة من الغرائب وما في بطنها من الكنوز التي تنتظر المستكشف.(327/46)
ومجموعة من مثل هذه الأقاصيص توضح لنا كنه ما تحت أقدامنا من الأرض
لا بد أن يكون أقدم الناس في عهد سكنى الكهوف قد لاحظوا أن بعض أماكن من الأرض سوداء مخصبة وأن بعضها صخري والبعض رملي. وفي جهة ما من كل إقليم لا بد أن تكون قبيلة وربما كانت إقامتها عند شاطئ نهر أو مهدٍ جاف لغدير أو في وهد على مقربة من المساكن. وقد لاحظ الناس ذلك النوع الخاص من الأرض الذي تنطبع عليه آثار الأقدام ولكنها تجف عندما تظهر الشمس
لسنا ندري من البادئ بهذا الاستكشاف فقد يكون رجلاً أو امرأة أو طفلاً ممن يلعبون بعجينه من الطين كما هي عادة الأطفال من عهد لا تعيه الذاكرة ولكنه صادف أن وضع هذا المستكشف طينه المبتل على قطعة مسطحة من الخشب أو كتلة ذات تجويف ثم أدرك لما جفت عجينة الطين أنها ليست لينة كما كانت بل أصبحت صلبة متماسكة وأنها تجمدت على الشكل الذي وضعت عليه وهي عجينه
ومهما يكن السبيل الذي أمكن الوصول منه إلى هذا الاستكشاف فإن كل قبيلة مما يعيه علمنا قد صنعت في بداية عهدها أواني بسيطة الشكل من فخار مصنوع من الطين، ففن صنع الأواني وهو تكييف الطين بأشكال يمكن بها استعماله، أو صنع أشياء جميلة منه، هو أقدم الفنون وأوسعها انتشارا
إن قصة ازدياد المرء معرفة بهذه الأرض العجيبة التي يطأها بقدميه، وقصة ازدياد حذقه أساليب استعمالها - إن هذه القصة تتكون من قصص خمس لاستكشافات موفقة وصل إليها العالم في عهود مختلفة من التاريخ على أيدي أعضاء في كل قبيلة
ولقد كان إنجاز هذه الكشوف الخمسة أسرع في بعض القبائل من بعضها، ففترات الاستكشاف استغرقت في بعض القبائل مائة عام أو خمسمائة بل قد تبلغ الفترة ألفاً من الأعوام
لكن كلاً من هذه الاستكشافات قد وصلت إليه قبيلة بنفسها على يد حاذق منتج من رجالها قبل أن تصبح صناعة الخزف من الأعمال العامة
أما الاستكشاف الأول فهو أن بعض تراب الأرض صلصال حقيقي تحدث به عند البلل نعومة عظيمة وعند الجفاف صلابة شديدة وأنه إذا وضعت عليه علامة عند نعومته فإنها(327/47)
تبقى بعد جفافه
وأما الاستكشاف الثاني، فهو أنه من الممكن صنع طبق بوضع طبقات من هذا الصلصال بعضها فوق بعض، وتركها في الشمس حتى تتجمد.
وقد كان صنع الأطباق في لحظة عظيمة حقاً من حياة الناس ولو أنهم لم يدركوا ذلك في البداية، فإن الإناء الذي توضع فيه المياه فيحتفظ بشكله عند وضعه فوق النار، أو عند دفنه في حفرة ساخنة هو الوسيلة الوحيدة لجعل الطبخ الحقيقي في حيز الإمكان. ولم يبق بعد اختراعه من ضرورة لإنضاج اللحم بتعليقه على عصا فوق النار، ولا تجفيفه بإحراقه في فرن، ولم تبق من ضرورة كذلك لطحن الحبوب، وصنع حبات (بلابيع) منها ليسهل ابتلاعها. إن سحر النار قد أمكن الانتفاع به في تهيئة الطعام، لما أصبح من الممكن صنع طبق أو وعاء يوضع الطعام فيه على النار فلا يحترق.
وأما الاستكشاف الثالث، فالأرجح أنه معرفة المرء إمكان استخراج مادة أصلب وأمتن من الصلصال بإضافة الرمل أو مادة أخرى إليه، فبينا يصلح الصلصال وحده لصنع الأطباق، فهو يصلح مخلوطاً لما هو أهم من ذلك، يصلح لصنع الطوب الذي تبنى به المنازل. . . وهل تذكر أنك قرأت في قصة موسى شكوى الشعب اليهودي من أنه لا يستطيع صنع الطوب خالياً من القش؟
إن القش يؤدي في توثيق الطوب ما تؤديه الرمال، ففي مصر وفي المكسيك وفي الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة وفي كل المناطق الحارة التي يكثر فيها الصلصال تبنى الأكواخ من الطوب النيئ أي الذي تجففه الشمس
وقد كان أول ما صنع الطوب جديراً بالملاحظة والاهتمام في حياة الإنسان. وذلك لأنه جعل في حيز الإمكان بناء بيوت يسكنها
وبعد أن شاع استعمال النار حدث بطريق المصادفة أن طبقاً سيئ الصنع أو قطعة من الطوب قد ترك أو تركت بالقرب من النار، فوجد في اليوم التالي أصلب وأمتن من الصلصال الذي يجفف في الشمس
وجد قوياً صلباً كأنه قطعة من الصخر فلا يمتص الماء ولا الضغط يستلينه، فكان صنع الصلصال على النار هو الاستكشاف الرابع في تاريخ الفخار. وقد مضى زمن طويل قبل(327/48)
أن يتعلم الناس تعلماً تاماً صنع أطباقهم بواسطة النار
صنعوا (القمائن) وهي أفران تصنع في العادة على شكل خليات النحل وهم يضعون فيها ناراً تحترق في بطئ، وفي استمرار عدة ساعات أو عدة أيام. ثم عرفوا بالتجربة مقدار الحرارة الكافية لصنع كل نوع من أنواع المزيج والمدد المختلفة التي يجب أن يقضيها بتلك القمائن كل جنس من الصلصال
ولكن سر إحراق الصلصال هو الأساس لصنع كل ما يتعلق بالفخار والطوب بما في ذلك ما يصنع اليوم من أواني الصيني ومن الأوعية الجميلة السكسونية ومن الأحجار التي تشاد بها مباني العصر، وألف شيء آخر مما أنشئت عليه مدينتنا الحاضرة
أما الاستكشاف الخامس فقد جاء في عهد تأخر موعده: جاء في العهد الذي تاق فيه الإنسان إلى الجمال وإلى النفع معاً فيما يصنعه
وقد كان صانعوا الصلصال في أقدم العصور يحاولون على أساليبهم الخشنة أن يزينوا الأواني حتى ولو لم يكن ذلك إلا بآثار الإبهام على حافة الأواني
وكان المصريون والبابليون والليديون يحلون أوانيهم والطوب الذي يصنعونه والتماثيل بألوان لامعة مستخرجة من أكسيد الأثمد والنحاس الأحمر والصفيح
وكان اليونان يستعملونه دهاناً صلباً يغطون به الأواني الجميلة ذات اللونين الأسود والأحمر، ولكن الفخار الرقيق اللامع الذي يكاد يكون شفافاً لم يكن من صنع شعب من هذه الشعوب؛ فإن صناع الأواني في الصين قد بدءوا تجاريبهم بإحراق الصلصال في (القمائن) حين كان معاصروهم المجهولون بين الشعوب الأخرى لا يزالون يصنعون الأواني من الطين المجفف في الشمس، وكان الصقل بالخزف أمراً معروفاً في الصين قبل مائتي عام من بدء التاريخ المسيحي، وفي القرن السابع للمسيح تعلم الصينيون أن يضيفوا إلى نوع خاص من الصلصال أسمه (كاولين) نوعا آخر من الحجر الرملي أسمه السليكي فيستخرج من مزجهما مادة أدق. واسم (كاولين) مأخوذ من أسم جبل في الصين (كاو - لين) أي القمة العالية. وقد استخرجوا لأول مرة من ذلك الجبل ذلك الصلصال العجيب، وهو غير قابل للذوبان مهما اشتدت حرارة النار، والغاية منه كما جاء في التعبير الصيني (لصنع عظام الأواني) وأما السليكي فإنه يشبه الجرانيت أي أنه قابل للذوبان على درجة عالية من(327/49)
الحرارة. ومتى ذاب تكون منه زجاج شفاف جداً.
وبالحذق في مزج هاتين المادتين أمكن صنع الأواني الصينية التي لا تزال تعرف بهذا الاسم إلى اليوم. وقد بقى سرها نحو ألف عام غير معروف في الغرب حتى تحراه المحققون في هذه الصناعة. وسنذكر الآن قصة الكيميائي الغضوب والشعر المستعار والمسحوق (البودرة)
وقبل أن نسرد هذه القصة الأخيرة عن الصيني نرى أن نعير نظرة إلى فن آخر يقرب من هذا الفن وهو صناعة الزجاج. وهي كما يرويها (بلايني) أحد الكتاب الرومانيين الذين عاشوا في القرن الأول بعد المسيح. وهذه القصة عن استكشاف استكشفه بحار
كانت سفينة تجارية رومانية تعبر البحر الأبيض المتوسط وعليها حمولة من النطرون وهو نوع من الصودا خاص بتلك المناطق. وكان الأقدمون يستعملونه في الاستحمام وغسل الأقمشة
وفي أثناء سير السفينة هبت ريح ضد اتجاهها فأقصتهم إلى شاطئ رماله بيضاء دقيقة عند مصب نهر في سوريا، فأوقد البحارة ناراً على الرمال لينضجوا طعامهم
ولما لم يجدوا صخوراً استعملوا قطعاً من النطرون لحمل الأواني فأدهشهم أن يروا سائلاً من الزجاج الذائب يجري في معسكرهم بين النار والماء. وكان هؤلاء البحارة قد عسكروا على مرتفع من الرمال كسته الرياح بمادة معدنية مما يستعمل في صنع الزجاج، فجعلت حرارة النار هذا المزيج من تلك المادة ومن النطرون يذوب. وكانت النتيجة مدهشة، ولنا أن نعتقد بحق أن الملاحين قد أخذوا إلى وطنهم بعض تلك الرمال مع ما كانت تحمله السفينة من البضائع
هذه قصة واحدة عن صنع الزجاج من بين قصص كثيرة يمكن أن تروى. وهي تريك أن طرق الانتفاع بالمواد في مكانين مختلفين من الأرض كان يستكشفها فريق من الناس وفريق منهم هناك، ولو أنهم كانوا على اتصال بعضهم ببعض كما هي حالة الشعوب اليوم، ولو أن أحدهم كان يأتمن الغير على سره لكانت المدنية أوسع انتشاراً ولبكزت عن موعدها بضع مئات السنين
ولكن لم تكن في تلك الأيام قد اخترعت آلة الطباعة فكان تناول المعرفة ليس بالأمر(327/50)
السهل، وكانت الشعوب المتفرقة يفصل بعضها عن بعض محيطات لا تعبرها إلا السفن ذات الشراع، وكانت الصحارى والجبال لما تخترقها السكة الحديد، وكانت تلك الأيام أياماً تخاف فيها بعض الشعوب بعضها وكان من المحتمل حدوث استكشاف علمي عظيم في أحد البلدان وبقاؤه سراً مكتوماً عن البلدان الأخرى جميعاً
وكذلك كان الأمر في صنع الصيني
(يتبع)
ع. ا(327/51)
من هنا ومن هناك
ألمانيا وإيطاليا عند مفترق الطريق
(عن مجلة (باريد))
قد يخطر على بال الكثيرين ممن يتتبعون الحركة الفاشية في أوربا، أن الشعب الإيطالي والشعب الألماني مرتبطان برباط وثيق العرى، في الميول والعواطف، وأن مظاهر الحياة العامة متفقة في الدولتين المتحدتين
والحقيقة أن الصلة بين جماعة النازي في ألمانيا، وجماعة الفاشستي في إيطاليا، صلة بين الحكومتين فحسب من حيث وجهة النظر الخارجية، أو ما يسمى محور برلين رومه
وقد كتبت لادي درا موندهاي في مجلة (كانديان هوم) مقالاً في هذا الموضوع قالت فيه إنها زارت البلدين في الأيام الأخيرة، وخبرت أحوالهما عن كثب، وتستطيع أن تقرر أن الشعب الإيطالي ليست له ميول خاصة نحو ألمانيا، وقد سمعت كثيراً من النقد اللاذع ضد ألمانيا على ألسنة بعض الإيطاليين الذين لم يرتاحوا إلى تقليد إيطاليا لها
وقد راعها ما رأته من الفرق الشاسع بين مظاهر الحياة في كل من البلدين الدكتاتوريين. فقد دب الفساد إلى كل شيء في ألمانيا، فالطعام لا يخلو من الغش، والنقص يعتور كافة السلع المعروضة في الأسواق. أما في إيطاليا فالأمر على خلاف ذلك، إذ تستطيع أن تجد فيها ما تريد بغير مشقة. وفي ألمانيا تنتشر الجاسوسية في كل مكان فلا تمشي خطوة أو تتكلم كلمة إلا وعليك رقيب يعد عليك كل خطوة ويحصي كل كلمة فلا يمكنك أن تعيش ساعة بعيداً عن الشكوك التي تحيطك من كل جانب. أما في إيطاليا فحرية الكلام مكفولة ومباحة بصفة نسبية. وقد تمر في بعض شوارع ألمانيا فلا تجد غير بريق الملابس الحربية ومناظر الجنود تملأ الرحب. ولكنك في إيطاليا لا تبرح ترى أسراب السيدات المتأنقات يدلفن إليك من كل فج، والأهالي ينصرفون إلى أعمالهم بغير رقيب أو حسيب
وتقول ليدي درا موندهاي: لقد وجدت الحالة في ألمانيا على وجه العموم ثقيلة لا تطاق، ولقد اعتدت زيارة ألمانيا منذ خمس عشرة سنة وكنت أزورها أكثر من مرة في العام الواحد، ولي فيها أصدقاء كثيرون، فإذا حكمت عليها الآن فإنني لا أحكم عن جهل. لقد غابت مظاهر الحياة عن الوجوه، وغربت الابتسامة التي كانت تشرق على أفواه بعض(327/52)
العابرين في الطريق، ووصلت ملابس المرأة الألمانية إلى درجة بعيدة من البساطة، كما أن أدوات الزينة والطلاء قد أدركها العجز الشديد. وتقول ليدي درا موندهاي: إنها سمعت من الحلاق الذي تتردد عليه أن صناعة إصلاح الشعر وفن التجميل على وجه العموم قد أدركهما الفناء في ألمانيا. وقد أصبحت مظاهر الابتهاج في برلين أقل منها في المدن الصغيرة، إذ أن طرد اليهود والضغط على حرياتهم قد حرم هذه المدينة وغيرها من المدن الكبيرة مظاهر الأبهة والعظمة وعناصر التسلية المحبوبة، فمما لا شك فيه أن عنصر اليهود كان له أثر عظيم في حياة ألمانيا التجارية والاجتماعية والثقافية
أما في إيطاليا فإن القوانين التي شرعت لاضطهاد اليهود ليس لها أثر في الحياة العامة. وقد تجد كثيراً من الإيطاليين يتوددون إلى أصدقائهم اليهود ليثبتوا لهم الوفاء والإخلاص ولو كرهت الحكومة ما يفعلون.
الألمان يحشدون في مصانع الحكومة
(ملخصة عن (لاريفي هيدومادير))
لعل أهم مظاهر التغير في ألمانيا اليوم، هي تحويل عدد كبير من الأهالي، إلى مجرد عمال في مصانع الحكومة، ومما يستفاد من تقرير حديث عن لجنة العمال الألمانية، أن عدد المشتغلين بالمصنوعات اليدوية ممن تزيد سنهم على الستين، قد تزايد في الأيام الأخيرة؛ فأصبح 283000 بعد أن كان لا يزيد على 187000 في السنين الماضية وقد وجد بين هؤلاء العمال نحو ستين ألف عامل تزيد سنهم على السبعين، وتدل هذه الأرقام على أن الرجل في ألمانيا مطالب بأن يشتغل ويكدح، ولو تقدمت به السن وأنهكته السنون
وقد أخذت الحكومة في الأيام الأخيرة تستدرج أصحاب الحوانيت الصغيرة من العمال إلى مصانعها حيث تسخرهم في شتى الأعمال التي تطلبها حكومة النازي، وصدر مرسوم بإباحة إغلاق الحوانيت الصغيرة، إذا كان أصحابها قادرين على العمل في مصانع الحكومة، ويطبق هذا القانون على أصحاب الحوانيت الذين يعجزون عن دفع الضرائب
وقد تبين أن عدد المطاعم الصغيرة في ألمانيا قد نقص من 22800 سنة 1934 إلى 20000 في سنة 1938 وفي مايو سنة 1939 أعلنت الحكومة أنه من المحتمل إغلاق(327/53)
عدد يتراوح من 8000 إلى 10000 من المتاجر والحوانيت الأخرى على التدريج
ومما لاحظه البنك الأهلي الألماني في أحد تقاريره المالية أن 670000 نفس حشدوا فعلاً للعمل بالمصانع
وجاء في تقرير للدكتور ك. هابفور، وهو من كبار موظفي الحكومة، أن المليوني عامل الذين تحتاجهم ألمانيا لمصانعها تستطيع أن تجمعهم بشتى الطرق، ولو أدى الأمر إلى حشد العجزة والمقعدين إلى المصانع، ووضعهم في الأعمال التي يليقون لها
ويقول هذا الموظف: لا حرج على الحكومة في إرسال الموظفين والسعاة والخدم إلى المصانع وإصدار قانون السخرة إذا احتاج الأمر
وتقول صحيفة ألمانية: إن النساء في مصانع الحكومة يشعرن بشيء من الرهبة والخوف وهن يشتغلن تحت الرقابة الشديدة فتضطرب أعمالهن في كثير من الأحيان، وإن كن يرغبن في أدائها على أكمل الوجوه
فما هو السبب الذي يؤدي إلى اضطراب المرأة هذا الاضطراب وهي مقبلة على عملها برغبة حقه؟ إن مظاهر الخوف التي تحيط بها تدعوها إلى ذلك الارتباك، فهي معرضة لأشد التهم وأنكى العقوبات على الدوام وإن كانت تبذل ما في وسعها للقيام بعملها خير قيام؛ وتلاقي السلطات الألمانية صعوبة لا يستهان بها مع العمال وإن كانوا من خيرة الرجال الأخصائيين، فهم يتعمدون الإبطاء في إنجاز أعمالهم التي تتطلب السرعة والإنجاز وقل أن يولوها العناية الكافية، إذ أنهم مساقون إلى العمل في تلك المصانع تحت حكم الإرهاب
الطعام والخرافة
(عن
لم يخل عصر من الخرافات العجيبة حول الطعام الذي يأكله الناس. فقد كانوا في القرون الوسطى مثلاً، يتوجسون من تعاطي الفاكهة الطازجة، وكان أكثر الناس في ذلك العهد يعتقدون أنها تسبب الحميات ومما يروى أن جالينوس كان يعتقد أن أباه لم يعمر طويلاً لأنه كان يتحامى تناول الفاكهة، ولعل هذا كان أول باعث على انتشار هذه الفكرة. ومما جعل هذا الرأي يزداد رسوخاً في أذهان الناس على مر الأجيال ازدياد عدد من يموتون بالزحار(327/54)
والتيفوس في أشهر الصيف. وقد مضت قرون عديدة قبل أن يستطيع الناس أن يعرفوا أن هذه الأمراض تنتقل إلى الإنسان مع الماء الذي يشربه. وكانوا يحرمون على الطبقة الدنيا تناول الخضروات، فكان طعامهم مقصوراً على الكراث والبصل والجرجير والحمص ومنتجات الألبان. ومن ثم كان الأغنياء يترفعون عن تناول الزبد، ويعدونه من طعام الفقراء
وكانوا في تلك العصور يستقبلون الفاكهة الجديدة بتحفظ شديد، فلما ظهرت الطماطم في القرن التاسع عشر، كانوا يضعونها على المائدة لأجل الزينة فحسب، فلما بدأت تظهر في الأسواق العامة، وأخذ البعض يقبلون على شرائها، شاع بين الناس أنها تسبب مرض السرطان فكفوا عن أكلها، وما زالت هذه الفكرة المضحكة متسلطة على أذهان العامة والخاصة إلى عهد قريب
أما الخرافات حول الطعام في العصر الحديث، فأكثرها يدور حول الرشاقة، ومحاولة تخفيض الوزن. ومما لا شك فيه أن زيادة السمن تأتي من تناول كمية من الطعام تزيد على حاجة الجسم؛ فالرجل الذي يتعاطى مقداراً كبيراً من الطعام يزيد على المقدار الذي يستهلكه الجسم لابد أن يزيد وزنه. ولا شيء يمنع جسمه من التضخم، إلا التمرينات الرياضية التي تعادل هذه الزيادة في الطعام. ومن الجهل الفاضح ما يتحدثون به عن صلاحية بعض الأطعمة لإزالة السمن أو المساعدة على الرشاقة، فلا يوجد طعام قابل للهضم والتغذية يؤدي إلى تخفيف الوزن. وإن كان بعض الأطعمة أقل من البعض في التغذية
ومن العقائد الخاطئة التي أعتقدها الكثيرون، أن الخبز القديد أقل من الخبز المعتاد في زيادة السمن. وهذا مخالف للواقع كل المخالفة. إذ أن تقديد الخبز لا ينقص منه شيئاً غير الماء ويبقى الخبز كما هو.(327/55)
البريد الأدبي
على هامش خطاب رئيس الوزراء
إدارة الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية
جاء في الصحف أن إدارةً للدعاية أنشئت في وزارة الشؤون الاجتماعية، وأنها تشرف على الفرقة القومية والمسارح المختلفة، وعلى دور السينما وقاعات الغناء، وعلى برامج الإذاعة، وعلى قيام المهرجانات الشعبية، وأن مدير هذه الإدارة هو الأستاذ توفيق الحكيم.
هذه إدارة جديدة تنشأ، ومهمتها معينة، ومديرها معروف. أما مهمتها فصيانة الدولة مما يضّر بها، والأمة مما يفسدها. وأما مديرها فمن الشباب الذين عرفوا الاجتهاد والروّية، فنالوا قسطاً وافراً من الثقافة العامة بما شهدوا في إقامتهم بأوربة، وما علموا من طريق القراءة المفيدة. وعلى هذا، فإنشاء هذه الإدارة يوافق ما جاء في خطاب رئيس الوزراء من السعي في تقويم معوجّات الأمة، والاعتماد على أهل الدراية والخبرة ممن سلِموا من (الخدر والنعاس). . .
في رأيي أن إدارة الدعاية، يحق بها أن تُعنى بأمورٍ أربعة: الأول: تنشيط الهمم وبث الهزّة القومية في الأنفس. والثاني: تهذيب الشعب من باب التسلية. والثالث: بسط الرقابة الشديدة على أعمال إدارات المسارح والإذاعة وغيرها. والرابع: خدمة الفن الخالص. . .
أما الأمر الأول فيتطلب، أول ما يتطلب، مناوئة طرائق الغناء المستبد بآذاننا، فقد أجمع الكتاب أن التلاحين السيارة رخوة أي رخاوة حتى إنها تفتك بالعزم؛ فيتسرب الثقل في همة النفس والبطء في نهضة الأعضاء فضلاً عن انتشار الملالة، وبالشعب حاجة إلى ما ينعشه ويمضيه، فإنه أصبح مسئولاً عن حرمة الأرض التي يضرب فيها بعد أن كان على غيره متكلاً كل الاتكال. فلتضرب إدارة الدعاية على أنامل العازفين ولهوات المغنّين، وتأمر بالحماسيّات، وتخطو الطيّ والليّ والنواح، و (الشخلعة). وإذ اللحن مرتبط باللفظ الملحن فلتفتش الإدارة عن الناظم الذي لم يأكل نَفَسه وجد مصنوع أو فتور مقيم.
والهوْة القومية تبث في الأنفس من طريق المسرحيات، و (الأفلام) التاريخية خاصة، إذ تجري حوادثها في عهد السلطان الواسع والدولة المتمكنة، ومن طريق المحاضرات الموَّجهة، ثم من طريق المهرجانات، حيث تنتشر الأعلام وتعزف الأناشيد، ويصطف الجند(327/56)
وتلقى الخطب الحماسية؛ وقد شهدت نوعاً من هذا في محافل نورمبرج النازية.
وأما تهذيب الشعب من باب التسلية فبتنظيم المحاضرات السهلة الجذابة، ومدارها مبادئ علم الصحة والأخلاقيات، والوطنية، وبتمثيل مسرحيات مؤدبة باللغة العامية على أن تكون غير مرذولة.
وأما بسط الرقابة الشديدة على أعمال إدارات المسارح والإذاعة وغيرها فالمقصد منه وضع الشيء موضعه: فلا يهضم حق مؤلف أو ممثل أو مغن، ولا يفضل هذا على ذاك بغير حق، ولا يُبعَد مخرج قدير لسبب لا يتصل بمجرى عمله، ولا ينفق مال استهواء للصحافة التي لا وزن لها، ولا تشترى مسرحية ثم لا تمثل، ولا يتسلط مغن أو عازف لأنه ذائع الصيت إذ من حق الكفايات كلها أن تعجم فتستثمر. . . هذا قليل من كثير.
بقيت خدمة الفن الخالص. فإذا قلتَ إن الفن الخالص خاص (أرستقراطي) فلا خير فيه للأمة، قلتُ إن في الأمة جماعة من أهل الثقافة اللطيفة فلابد لهم من غذاء، بل بالأمة حاجة أن يقال إن فيها من الكتاب من هو منجذب إلى الإنشاء الرفيع ومن الموسيقيين من يكره الأنغام المطروقة والحيل الموروثة الموقوفة، ومن الراقصين أو الراقصات من يأنف هز الكتف ورفع البطن وخفض الردف، فإنما صيت الأمم يعلو ويستطير بفضل أهل الفن الخالص السامي، على وجه العموم؛ وهل يضر مصر أن يعلو صيتها؟
هذا ويلحق بالفن التصوير والنحت فلِمَ أسقطتهما إدارة الدعاية من الخطة التي رسمتها؟ وفي مصر فئة من المصورين والنحاتين لهم أن يظفروا بالتقدير والرعاية، فهذه معارضهم لا يلتفت الناس إليها كثيراً، وعلى مثل الصديق توفيق الحكيم أن يرشد الناس إلى قدر الصور والتماثيل.
وفي مأمولي أن يفلت هذا الفن الخالص (وكذلك العلم الصِّرف) من القيود المختلفة وينجو من سطوة الأوضاع التقليدية أو المذاهب السياسية حتى لا يهزل هزلته على يد ألمانية الهتلرية حيث النازية حكمت على كثير من ألوان الفنون المستحدثة بأنها شر وفساد.
(الإسكندرية)
بشر فارس(327/57)
حول رواية محمد علي الكبير
عزيزي الأستاذ الزيات
قرأت في العدد الأخير من (الرسالة) كلمة بإمضاء الأستاذ يوسف تادرس خاصة برواية (محمد علي الكبير) يرد بها على ناقد الرسالة الفني.
وليس يعنيني من هذه المناقشة إلا أمر واحد، وهو أن الأستاذ يوسف تادرس يتحدث عن الرواية كأنها من وضعه وهو يقول عن نفسه:
(وحاشا أن أصور محمد علي باشا في صورة السفاح الخ. . .) ثم قال:
(وأني أعقل من أن أصور منشئ مصر الحديثة في هذه الصورة) الخ. . .
والذي يفهم من هذا أن الأستاذ له يد في تصوير أشخاص الرواية.
وتقريراً للحقيقة، واحتفاظاً بحقي الأدبي في هذه الرواية لمجرد الذكرى أرجو أن تعلنوا أن حضرة الأستاذ يوسف تادرس ليس له من هذه الرواية إلا أنه أشترك في وضعها في القالب التمثيلي على أساس الرواية التمثيلية التي سبق لي أن اقتبستها بنفسي من روايتي (ابنة المملوك)، ولست أسخو بأن ينسب ما فيها من تصوير لشخص آخر، سواء أكان ذلك التصوير حسناً أم سيئاً.
وأما من حيث المكافأة المالية، فإني أرجو أن تعلنوا أنني لم أنل منها شيئاً. فلعل هذا يعدل رأي حضرة (ناقد الرسالة الفني) الذي يظهر أنه هنأنا بالاستيلاء على هذه المكافأة. وإذا كان الأستاذ يوسف أفندي تادرس قد حصل على تلك المكافأة، فليس لي علم بذلك. . .
ولعل في ذلك الأمر موضعاً للتأمل في تصرف الأدباء في مصر.
ولك تحياتي الخالصة
محمد فريد أبو حديد
بين الدكتورين بشر وأدهم
أقحم اسمي في الجدل القائم بين الصديقين الدكتورين بشر فارس وإسماعيل أدهم، وهو جدل طال عهده بين أخذ ورد، وهجوم ودفاع، وتشعبت بواعثه ونتائجه. وكانت مناوشته الأخيرة أن كتب بشر فارس أن أدهم أقتبس منه بعض نقده لكتاب (فرعون الصغير)(327/58)
للأستاذ محمود تيمور بك
وقد رد إسماعيل أدهم أنه كتب مقاله وأرسله إلى (الرسالة) بعد منتصف شهر يونيو أي قبل أن يظهر نقد بشر فارس في (مقتطف) أول يولية، وأنه أطلعني على هذا النقد في حينه، وأن صاحب (الرسالة) أخر نشره
والحق أني أذكر أن إسماعيل أدهم تلا علي وقتئذ مقاله في كتاب (فرعون الصغير) وقال لي: إنه سيرسله في الغد إلى (الرسالة) ولكني لا أذكر اليوم شيئاً من هذا الرد وهل كان يتضمن ما يقول إسماعيل أدهم أنه لم يقتبسه من بشر فارس أو لا
ولعل القول الفصل في هذا الخلاف عند صاحب (الرسالة) فإن الأستاذ الكبير لا بد ذاكر متى وصلته مقالة إسماعيل أدهم وكيف تأخر نشرها
وبعد فإني لم أكتب كلمتي هذه لأنتصر لهذا أو لذاك من المتناظرين، فلكل واحد منهما عندي الصداقة التي يعرفها، ولكني أقصد إلى أن هذا الجدل قد طال أمره وتشعبت نواحيه وتعددت أساليب الهجوم فيه حتى لم يبق فيها زيادة لمستزيد، وحتى وقف جمهرة القراء على آراء الفريقين ومراميهما، ولعل الأستاذ الجليل صاحب (الرسالة) لا يعدم أسلوباً من أساليبه اللبقة لإقفال بابه بعد أن يحفظ لكل من المتناظرين حقه في إجمال آرائه في أسطر معدودة، وللجمهور بعد ذلك أن يحكم لهذا أو ذاك أو لكليهما معاً
وأنا واثق أني حين أعرض هذا الاقتراح أعبر عن رأي أصدقاء الأديبين الفاضلين الدكتورين بشر فارس وإسماعيل أدهم والمعجبين بأبحاثهما القيمة وهم كثيرون
(الإسكندرية)
صديق شيبوب
و (الرسالة) تقول لصديقها شيبوب إنها كانت شديدة الإعجاب بموقف الأستاذ أمين عثمان من الخصمين العظيمين أحمد ماهر ومكرم عبيد
حكومة قاسية؟!
نعم، ثم نعم، حكومة قاسية، قاسية، قاسية. . .
ولكن من الذي يقول بذلك؟ إليكم البيان:(327/59)
لما أعلنت الحرب، تسابق التجار في مصر إلى رفع الأسعار، أسعار الأشياء المعاشية. . . فلم يؤذني ذلك، لأني قضيت دهري في الحدود التي صرح بها الشاعر إذ يقول:
لستُ أرتاع لخطبٍ نازلٍ ... إنما الخوف لقلبٍ مطمئنّ
فأنا أحتقر الضرورات المادية للعيش، وأكتفي بالقليل حين لا أجد غير القليل، وأتأسَّى بالتعبير الذي كنت أعتصم به يوم كانت تكرثني الفاقة في باريس، التعبير الذي يقول: '
فقد وطنتُ نفسي على الأزمة التي تقضي بها جوائح الحرب، وقلت: لعل في ذلك خيراً وأنا لا عرف!
ولكن هناك أشياء لا أستغني عنها أبداً، وهذه الأشياء هي ورق الطباعة الذي يحتاج إليه المؤلفون في كل وقت. وقد صرت مؤلفاً من حيث لا أحتسب، وتلطف القراء فأوهموني أن لي في أنفسهم منزلة توجب أن أحسب لرضاهم ألف حساب!
وهل كنت أول مؤلف خدعه القراء؟
أليس في مصر نحو عشرين أو ثلاثين مؤلفاً ينفقون أرزاقهم وأرزاق أطفالهم فيما يشترون من الورق وما يقدمون إلى المطابع؟
أليس في مصر عدة مجلات أدبية يتنازل أصحابها عن أقواتهم ليفوا بالعهد للقراء؟. . .
قامت الحرب، ولي في المطابع ثلاثة مؤلفات، منها كتاب نفذت طبعته منذ أشهر طوال، وهو يطلب كل يوم. . . ولهذا الكتاب منزلة في قلبي، لأنه من محصول دار المعلمين العالية في بغداد، هو كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، الذي أعلن عن طبعته الثانية بالمجان في مجلة (الرسالة) لأن صاحبها مؤلف وصحفي، وهو يعاني من عُنف تجار الورق أضعاف ما أعاِني. . .
وأعترف بالحق فأقول: شرعتُ في طبع تلك الكتب مطلعَ الصيف، ثم ضاق جيبي عما أريد، فاعتللتُ لأصحاب المطابع بأني أحب أن أقضي الصيف في شغل ألطف من الطبع والتصحيح: وهو مشاهدة اللؤلؤ المنثور فوق شواطئ الإسكندرية وشواطئ بور سعيد وشواطئ دمياط
وهل يكثُر على رجل في مثل حالي أن يعطّل مؤلفاته ليمتع عينيه بمشاهد الملاح؟ ولكن لا بدَّ مما ليس منه بدّ(327/60)
الحرب أُعلنتْ، ويجب أن أفرغ من طبع تلك المؤلفات قبل أن يصير الورق من الممنوعات
الورق! الورق!
تلفتُّ فرأيت التجار زادوه إلى أضعاف وأضعاف، فرضيت بالخسارة العاجلة فيما شرعت في طبعه من تلك المؤلفات، وانتظرت حتى تنتهي الحرب. ولكن الحكومة - الحكومة الحازمة التي يرأسها الرجل الحازم علي ماهر باشا - سارعت ففرضت تسعيرة لأكثر الأشياء، ومنها الورق
وعندئذ أسرعت لابتياع ما أحتاج إليه لإنجاز تلك المؤلفات فماذا رأيت؟ رأيت التجار جميعاً خضعوا لحكم التسعيرة إلا تجار الورق
فهل يعرف القراء ما الذي قرأت في عيون تجار الورق؟
رأيت في عيونهم كلمة مرقومة بأحرف من الظلمات. رأيتهم جميعاً يقولون: هذه حكومة قاسية لأنها صدَّتنا عن إرهاق من يشتغلون بالصحافة والتأليف!
وأنا أشهد علانية بأن الرئيس علي ماهر باشا رجل قاس لأنه صدَّ عنا عادية المجرمين من تجار الورق وكفّهم عن الجشع البغيض
فيا أيها الرجل العظيم الذي اسمه علي ماهر، تذكَّر ثم تذكَّر، تذكَّر أنك أنقذتنا من ظلم تجار الورق، وتذكّر أنهم سيرجعون إلى غيّهم بعد قليل إن أمنوا سطوة الحزم والعدل
وستكون أول من أهدِي إليه تلك المؤلفات التي انتزعتُ ورقها من تجار الورق بفضل حزمك ورجولتك، وعند الشدائد تظهر عزائم الرجال
زكي مبارك
حثر اللسان
قرأت في (الرسالة الغراء) سؤال السيد الفاضل (ع. م. ح) وقد وجدت في اللسان والتاج هذا: (لسان حَثِر لا يجد طعم الطعام) وجاء في نجعة الرائد: (يقال رجل حثر اللسان كما يقال حثر الأذن أي لا يجد طعم الطعام) وفي (الإفصاح): (لسان حَبْر - لا يجد طعم الطعام) وابن سيدة لم يذكر في المخصص في فصل أدواء اللسان لا الحثر ولا الحبر. وقد(327/61)
أضاف الأستاذان مؤلفا الإفصاح إلى المجموع من المخصص أشياء من غيره (مما تمس إليه الحاجة) فإن أرادا ذكرا متفضلين مظنة اللفظة التي نقلا عنها لأجل تحقيقها
(طنطا)
أزهري
كتاب (التعليم والمتعطلون في مصر) شكر وتقدير
أهدى الأستاذ المربي عبد الحميد فهمي كتابه النفيس (التعليم والمتعطلون في مصر) إلى حضرة صاحب المقام الرفيع علي باشا ماهر فتفضل رفعته بإرسال هذا الكتاب إليه:
حضرة الأستاذ الفاضل عبد الحميد فهمي مطر
تلقيت ممتناً مؤلفكم القيم (التعليم والمتعطلون في مصر) وإني ليسرني أن أبعث إليكم بعظيم الشكر على جميل هذا الإهداء، مقدراً أحسن التقدير ما أبديتم من عناية بهذا الموضوع الدقيق، وما بذلتم من جهد في تقديم هذه الدراسة النافعة
ولكم مع أزكى التحيات أطيب التمنيات
(علي ماهر)
معهد اللغات الشرقية في كلية الآداب
نشرت الوقائع المصرية مرسوماً بقانون هذا نصه بعد الديباجة:
مادة (1) ينشأ في كلية الآداب معهد يسمى (معهد اللغات الشرقية وآدابها) يكون الغرض منه التخصص في اللغات السامية ولغات الأمم الإسلامية واللهجات العربية القديمة والحديثة.
مادة (2) يشمل المعهد الفروع الثلاثة الآتية:
1 - فرع اللغات السامية.
2 - فرع لغات الأمم الإسلامية.
3 - فرع اللهجات العربية.
مادة (3) يدرس في فرع اللغات السامية المواد الآتية:(327/62)
الأكادي، الكنعاني، الآرامي، السامي الجنوبي، علم اللغات، النحو المقارن. . .
ويدرس في فرع لغات الأمم الإسلامية اللغات الآتية:
الإيرانية والتركية والأردية (الهندستانية). . . وما يضاف إليها من اللغات الشرقية القديمة والحية غير السامية. . .
ويدرس في فرع اللهجات العربية:
اللهجات العربية القديمة والحديثة في مختلف الأقطار والأقاليم
واشتمل المرسوم بعد ذلك على شروط القبول ورسم القيد وأمور أخرى خاصة بهذا المعهد.
جائزة طلعت حرب باشا السنوية
لما عاد سعادة طلعت حرب باشا من أوربا في السنة الماضية معافى رأى بعض إخوانه من مديري البنك وشركاته أن يظهروا سرورهم بشفائه وأن يغتنموا هذه الفرصة لتقديرهم لما قام به من خلق مصر الاقتصادية الصناعية، فاكتتب كل منهم بعشرين جنيهاً مصرياً، وقرروا أن يشترى بالمبلغ مائة سهم من أسهم بنك مصر يخصص ربحها سنوياً لجائزتين: إحداهما للمتفوق في التعليم التجاري، والثانية للمتفوق في التعليم الصناعي. وأنابوا عنهم في هذا حضرة صاحب السعادة توفيق دوس باشا. وقد أرسل سعادته منذ يومين إلى صاحب المعالي وزير المعارف العمومية الخطاب الآتي:
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية
أتشرف أن أخبر معاليكم أنه بمناسبة إبلال حضرة صاحب السعادة طلعت حرب باشا السنة الماضية من المرض الخطير الذي كان قد ألم به إذ ذاك اجتمع بعض إخوانه من مديري البنك والشركات المتصلة به واكتتبوا فيما بينهم بمبلغ اشتروا به مائة سهم من أسهم بنك مصر وخصصوا ريعها ليصرف جائزتين سنويتين: إحداهما للمتفوق في التعليم التجاري والثانية للمتفوق في التعليم الصناعي ويطلق عليها جائزة محمد طلعت حرب باشا
وبناء على هذا قد أودعت في بنك مصر المائة سهم المذكورة تحت تصرف معاليكم ليصرف كوبونها لوزارة المعارف سنوياً.
حول مقال(327/63)
سيدي الأستاذ الزيات
أشكركم كثيراً لنشركم مقال (ابن حوقل) في العدد 323 من الرسالة. وقد وقفت بعد إرسال المقال المذكور إليكم على كتاب (المكتبة العربية الصقلية)، الذي اعتنى بجمعه ونشره المستشرق الإيطالي أماري في ليبسك سنة 1875 بعنوان: - فوجدته قد نشر في الصفحة (4 - 11) من هذه المجموعة جانباً من كتاب (المسالك والممالك) لأبن حوقل يتناول وصف جزيرة صقلية
إن ما نُشِر في هذه المجموعة الصقليَّة يعتبر إحدى الطبعات الجزئية التي سردناها في مقالنا السابق لكتاب المسالك والممالك
(بغداد)
ميخائيل عواد
إلى رجال الأدب والتاريخ
في العدد 322 من الرسالة الزهراء وفي مقال نصير العروبة الدكتور زكي مبارك (جناية أمين على الأدب العربي) ورد ذكر الشيخ محمد صائم الدهر الذي طاف بمصر من الشمال إلى الجنوب ليحطم ما ترك المصريون القدماء من الأصنام والأوثان وجدع أنف أبي الهول الخ
وقد أثار هذا الاسم حواراً طريفاً وحديثاً تشعب وتفرع عند طائفة من الأدباء، هنا فهل لرجال الأدب والتاريخ من يذكر طرفاً موجزاً عن تاريخ هذا الشيخ وعصره فإن في ذلك الإيضاح فائدة وعملاً مشكوراً!
أم درمان (السودان)
حسن حامد البدوي
حول نقد كتاب
سيدي الأستاذ الجليل الزيات(327/64)
قرأت في عددين مضيا من (الرسالة) الغراء، كلمة للأديب البغدادي خليل أحمد جلو ينقد بها كتاب (بعث الشعر الجاهلي) للدكتور مهدي البصير. وقد أهدى إلى أحد أصدقائي ببغداد نسخة من هذا الكتاب في أواسط يونية الماضي، وكتب إلي يقول: إن مؤلفه يسره أن أكتب عنه ما يعن لي من نقد وملاحظات، فكتبت عنه كلمة طويلة ضمنتها ما أخذته على الكتاب ثم بعثت بنسخة منها - أواخر يوليه الماضي - إلى مجلة (التفيض) البغدادية. ومن غريب المصادفات أن أجد مقالة الأديب جلو مشابهة لمقالتي في موضوعها وجوهرها، لا في أسلوبها ومظهرها
وتشاء الظروف أن تنقطع مجلة (التفيض) عن الظهور عقيب وصول المقال إليها؛ لأنها كانت تصدر نصف شهرية وأراد القائمون على أمرها أن تصدر أسبوعية من أول شهر (أيلول). وللآن لم يصلني العدد الأسبوعي الأول من (التفيض) حتى أعرف إن كان مقالي المذكور قد نشر أم لا. وخشية من أن يتهمني الأديب (جلو) أو سواه بأنني بنيت مقالي على مقاله أو حرفته ونسبته لنفسي، أسارع بنشر هذه الكلمة والوقت لا يزال فسيحاً؛ وسندي في ذلك كتاب بعث به إلي الأستاذ سليم التكريتي محرر (التفيض) يطلب مني أن أكون محرراً دائماً بها، ويخبرني بوصول مقالي عن كتاب البصير إليه. وهذا الكتاب بتاريخ 6 أغسطس سنة 1939م
ولعل صفحات (الرسالة) الغراء لا تضيق عن هذه الكلمة القصيرة، ولكم شكر وتحيات وسلام
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي(327/65)
رسالة النقد
نظرات في كتاب
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
بقلم الأديب خليل أحمد جلو
- 3 -
لقد عقدت النية ووطدت العزم على محاسبة الدكتور مهدي البصير حساباً عسيراً بلا ترفق ولا استبقاء. ولكن الأستاذ الزيات شفيق رفيق فأشار إليّ إشارة خفية بأن يكون حسابي يسيراً ليناً. وسأفعل إن شاء الله
ولا يحسب القارئ أني سأحيد عن الحق والحقيقة أو ستأخذني فيهما رأفة أو هوادة. ولكني سأبذل قصارى جهدي وأحرص كل الحرص على أن يكون النقد شريفاً صادقاً كما تعودت وألفت وأبتعد عن غواية الأهواء وضلالة العواطف على قدر ما تسمح نفس إنسان شريف
لقد أجمع أصحابي على أن النقد الذي حدثتكم به من قبل نزيه معقول، ولكنه عبء ثقيل على الدكتور البصير لا يحتمله كاهله فكان علي أن أتجنبه وأسمح له أن يحيا حياة هادئة مطمئنة لا يعكرها نقد ولا تنغْصها مؤاخذة، وكان علي أن أزهق الحق وأظهر الباطل في سبيل ما يحب ويشتهي، وليس ذلك علي بعزيز ولا عليه بكثير وهو أستاذ في الدار التي تخرجت فيها
لقد أخطأ هؤلاء الأصحاب وشطوا عن الصواب. ولو علموا أن نقد التلميذ لأستاذه بر واعتراف بالجميل لما جازفوا في قولهم.
والدكتور مهما بلغت به سورة الغضب وشدة الحنق سيضطر عاجلاً أو آجلاً أن يعترف بفضل هذا النقد ووجاهته
أما بعد فإن للمؤلف ذوقاً خاصَّاً في تقدير قيمة الأشعار حرم السلامة والجمال. وأحسن ما يتجلى وذلك في تذوقه البيتين الأولين من معلقة امرئ القيس:(327/66)
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب وشمأل
فقد ملكت روعتها مشاعره واحساساته. وشهد لهما (بالضبط الذي لا يفطن إليه سوى كبار الشعراء) (ص25)
قولوا ما شئتم في قيمة هذين البيتين الأدبية، أما أنا فلا أعتقد أن لهما جمالاً يخلب اللب ولا سحراً يأخذ بالقلوب، ولا ضبطاً يجدر بصغار الشعراء أن ينتبهوا له بله كبارهم وأي روعة أدبية فيهما وهما يرسمان خارطة لمنزل حبيبة الشاعر؟ وهل من الأدب في شيء قولي: إن شارع أبي نواس يقع في نهاية (الباب الشرقي)، ويمتد على ضفة دجلة اليمنى، تكتنفه المقاهي والمتنزهات؟. كلا، إن هذا الضرب من الكلام أقرب إلى كلام العوام فلا يهم الأدب شيئاً. إنما يهمه ما في الشارع من قدود هيف، وعيون دعج، ومنظر للنهر وللفضاء ساحر أخاذ حين تجنح الشمس للغروب ويتحرك النسيم العليل
وهل فطن الدكتور للأخطاء التي ارتكبها الشاعر في تركيب هذين البيتين فأثرت على معناهما وقللت من قيمتهما؟
رحم الله الباقلاني فقد قال: إن امرأ القيس في مطلع قصيدته المعلقة كأنه دلال يبيع داراً ينادي إن الدار المرقمة كذا، والتي يحدها من الشمال كذا وكذا معروضة للبيع
وغفر الله للأستاذ إبراهيم شوكت قوله: إن امرأ القيس واضع أساس علم الجغرافية عند العرب، فهو يعرف الشمال والجنوب ويحسن التحديد
وبارك الله في الدكتور زكي مبارك فإنه يستخف هذا النوع من الكلام ويأبى حشره مع الأدب ونسبته له
وأحدثكم بعد هذا عن ادعاء للدكتور مضطرب مختلط إذ يقول (ص11): (إن شعر امرئ القيس لا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً. . . وإن مؤرخي العرب لم يستدلوا بشعره يوماً ما على شيء) من حياة الشاعر أو تاريخه. وفي هذا القول من الخطأ والزلل ما يثير الدهش والاستغراب. إذ يُستخلص منه أن قصائد الشاعر لا تمثل شيئاً ولا تدل على شيء، فهي إما لغو وإسفاف لا يمكن أن يستنبط منها صورة حياة الشاعر، وإما انتحال واختلاق حملت عليه حملاً؛ وإن ما نسب له من شعر موضوع مفتعل من قبل أناس لم يحسنوا التقليد ولم(327/67)
يمرنوا على الإيهام، وإن (قفا نبك) التي لا يشك المؤلف (ص13): (في أنها جاهلية بحتة ولا في أنها من شعر امرئ القيس ذاته) ليست له
تلاحظ هنا ارتباك المؤلف وخبطه ومناقضته لنفسه، فبينما يقرر حقيقة وجود امرئ القيس إذا هو ينفيه من حيث لا يشعر، وبينما يعترف بأن شعره المنسوب إليه لم ينظمه سواه إذا به ينكره غافلاً
والذي ساقه إلى هذا التورط المحاولة التي يدحض بها استخلاص الدكتور طه حسين من قصائد الشاعر ما يستدل به على إنكار تاريخه
ويزعم بهذه المحاولة أن ما أُثر عن امرئ القيس في شعر لا يصح الاعتماد عليه لمعرفة حياته، وأنه يجب أن نرجع إلى المصادر التي يروي عنها مؤرخو العرب ونستقي منها ما يمكن أن يقال عن الشاعر
لقد بينت سابقاً أن الدكتور البصير يثق كل الثقة بما يرويه المؤرخون ويتناقله القدماء بلا جدال ولا مناقشة. فهنا يسوق برهاناً آخر على حسن ظنه وعظيم تمسكه بهم، حتى إنه لينكر على الناس أن يركنوا في استطلاعهم على تاريخ امرئ القيس إلى شعره ويفرض عليهم أن يلتفتوا إلى ما قاله القدماء بلا شك ولا ارتياب
أنصح لك يا دكتور مرة أخرى ألا تثق في أقوال القدماء كل الثقة، وأن تستمع للقائل الأصيل فهو أصدق وأحق أن يرجع إليه، وألا تتهم مؤرخي العرب بأنهم لم يستدلوا يوماً ما على شيء من حياة الشاعر أو تاريخه، فليس من المنتظر أن يصدر منك هذا القول الجزاف
هل تنكر أن الشعر بصورة عامة يمثل حياة صاحبه وأنه مرآة عاداته وأخلاقه وتقاليده وميوله
إن الأستاذ العقاد استطاع أن يعطي صورة صادقة عن ابن الرومي رسمها في شعره، وإن الأدباء اليوم لا يكتبون عن شاعر أو كاتب حتى يشبعوا شعره أو أدبه دراسة وتمحيصاً
الله أكبر. إن شعر امرئ القيس لا يمكن الاعتماد عليه ولا يدل على شيء من تاريخ صاحبه وهو الذي يحدثنا أن (قفا نبك) لا تمثل سوى حياة قائلها
ولا أدري كيف جوز لنفسه أن يقول إن المؤرخين لم يستدلوا من شعره على حياته! ألا(327/68)
والله لو سألت أقل الناس ثقافة أن يشرح لك هذين البيتين:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
لاستدل لك بهما على حياة عريضة لامرئ القيس ولأنبأك بقتل أبيه واغتصاب ملكه وفزعه إلى قيصر بيزنطة واستنجاده به على أعدائه، ولأفادك بأن الشاعر قال هذين البيتين وهو في الطريق حين هلع صاحبه وجزع
(يتبع)
خليل أحمد جلو(327/69)
العدد 328 - بتاريخ: 16 - 10 - 1939(/)
من مشكلات الأسرة الحديثة
بين الدين والحب
لقيته بعد تسع سنين على (تريانون) رائق الشباب رائع الصورة لطيف
الشارة كما عهدته. وكان هذا اللقاء الجميل مفاجأة سارة من مفاجآت
الغيب بان أثرها عليّ وعليه فلم ندرك كيف نسلم ولا ماذا نقول
هذا الشاب الطرير من أسرة لبنانية مسلمة، تلمذ لي حيناً من الدهر في أحد المعاهد الكبرى بالقاهرة، واتصل بيني وبينه الود بعد أن تخرج فيه، ثم رحل إلى العراق يزاول التعليم به، وانحصر وجوده بين بغداد وبيروت فلم أعد أراه. فلما رأيته بالإسكندرية في هذه الساعة على هذه الحالة مثل أمام عيني جزء مشرق من الماضي القريب كاد يغرقه في لجة النسيان حدثان الزمن
- متى قدمت مصر يا عبد الحميد وكيف أخفيت عني هذا القدوم؟
- قدمتها منذ ثلاثة أسابيع. وقد علمت أنك هنا فبحثت عنك في كل مقهى وفي كل شاطئ فلم أجدك. ومنذ يومين لم يعد لي في الإسكندرية عمل ولا أمل إلا أن ألقاك؛ فإني فوق أن أراك أريد أن أسألك أن عن أمر شغل بالي وشق علي
- خير أن شاء الله؟
فقال الصديق الشاب وهو يحاول أن يكظم شيئاً في نفسه بدت إماراته في نظرته القلقة وصوته المأخوذ ولهجته المترددة:
- أريد أن تدلني على كتاب في الإنجليزية يبين رزح الإسلام وحقيقة مبادئه وأصول أحكامه بطريقة يقبلها الرجل العصري المثقف
- هل وقعت - معاذ الله - في أزمة من أزمات الشك؟
- كلا وأحمد الله على قوة الإيمان وثبات العقيدة. إنما يتعلق الأمر بإنسان أحب إلى من نفسي، فتنته عن دينه فتون التعليم الأجنبي وفسوق البيئة. ولقد وقع في يدي اليوم كتاب في العربية عنوانه: (لماذا أنا مسلم) فراقني أسلوبه وأرضاني منهجه، ولكن صاحبي على مصريته لا يعرف العربية ولا يثق بما كتب فيها(328/1)
- ألا تستطيع أن تقدمه إلي فأعينك على إقناعه وإرجاعه؟ فارتبك الفتى وكسر من طرفه. ثم ما لبث أن خفض جأشه وأرسل نفسه وترك تحفظه وقال:
- ما لي أخفي الأمر عنك وقد كنت لي في مشكلات الشباب والعيش المشير الصادق والناصح المخلص؟ إن الأمر يتصل بفتاة مصرية هويتها منذ سبع سنين، أبوها طبيب من الأطباء الموظفين النابهين تعرفه كما أعرفه، وأمها إنجليزية دخلت في الإسلام لئلا تحرم الإرث كما يقال، والفتاة بارعة الجمال رضية الأخلاق رقيقة القلب عفيفة الدخلة، تلقت دروسها الابتدائية في مدرسة أمريكية بالقاهرة، والثانوية في مدرسة إنجليزية بلندن، فهي في ثقافة الجسم والعقل والروح مثال المرأة الحديثة الصالحة. لقيت أسرتها أول مرة في إحدى مدن لبنان فألف بيننا تجاوب الشعور وتقارب للثقافة، وتمكنت الألفة بيني وبين الفتاة بحكم الطبيعة والسن، وتأثير اللهو والرياضة، فما كنا نفترق في اليوم والليل إلا ساعات النوم القليلة. وكان أبواها يساعدان هذا الهوى الوليد بإطلاق الحرية وإرصاد الفرص واعتقاد الثقة، فلم نعد إلى القاهرة معاً حتى كان هذا الحب عاتيا جباراً يذهب بقلبي وقلبها كل مذهب.
ثم دأبت على زيارتها في بيتها كل يوم في النهار أو في الليل فنقضي أوقات الفراغ في القراءة أو في النزهة أو في التنس أو في السينما! وفي كل لحظة تمر أو لفظة تقال يكشف كلانا في الآخر دليلاً جديداً على أنه عروس أحلامه وموعود غده
كانت تسافر أوائل الخريف إلى لندن فيكون بيننا بريد دائم بالفكر المستمر والطيف المثابر والكتابة المتصلة. فلا ندع فكرة يبعثها الخيال أو الشوق، ولا كلمة يوحيها العقل أو القلب، إلا تبادلناها بالتفكر أو التذكر أو الحنين أو الكتابة في النوم أو في اليقظة. ثم تعود أواخر الربيع إلى القاهرة فيعود أنسنا باللقاء، وسرورنا بالحديث، ومرحنا بالرياضة، فلا نترك متنزهاً ولا ملهى في العاصمة والضاحية إلا أشهدناه على آية من آيات الحب، أو ساعة من ساعات السعادة
ثم رحلت إلى بغداد فنشأت في نفسي رغبة شديدة في بناء بيت وتكوين أسرة، فخطبتها إلى أبويها في شتاء هذا العام واستقر رأينا على إعلان الخطبة في الصيف متى عدت من بغداد وعادت هي من لندن(328/2)
جاء الصيف يا سيدي فعدت وعادت، ونزلت على عطف أبويها في مصيفهما بالرمل نزول الابن الموموق على حنان أبويه بعد غيبة طويلة. ولكني رأيت الوجوه غير الوجوه! فلا البشر باد في عين الأم كما شهدت، ولا السرور جار على ثغر الفتاة كما عهدت. فلما سألت السيدة عن سر هذا السهوم قالت لي أدخل على ميمي الغرفة فلعلك تجد عندها الجواب
دخلت على ميمي فوجدتها جاثية بجانب السرير تضرع وتبكي. فلم أتمالك أن جثوت بجانبها مغرورق العين مستطار الفؤاد، وأخذت أنفس من كربها وأسالها عما بها، فقالت وهي تنشج بالبكاء:
- مستحيل! مستحيل! لقد أحببتك حتى لم يعد لي هوى إلا إليك ولا فكر إلا فيك؛ ولكنني لا أستطيع الزواج منك لأني مسيحية متعصبة وأنت مسلم محافظ. ولا سبيل إلى أن نتزوج كما تزوج أبي وأمي، فإني وأنت صريحان، وأنا أحتقر دينك بقدر ما أحترمك، وأبغض نبيك بقدر ما أحبك
- ومتى دنت بالنصرانية يا ميمي وأنا وأبواك لا نعرفك إلا مسلمة؟
- دنت بها منذ رحلت إلى لندن، وجعلت الأمر بيني وبين الله حتى أخبرتني أمي بخطبتك فلم أجد بداً من إعلانه
- وهل درست الإسلام يا ميمي قبل أن ترتدي عنه؟
- درسته على الراهبات في مصر وفي إنجلترا وعلمت عنه ما أشفق على وجدانك من سماعه
- لقد درسته على خصومه ومنكريه، فكيف يسوغ في عقلك أن يكون كلام الخصم على الخصم حجة؟
- وعلى من كنت تريد أن أدرسه؟ أعلى أبي وما سمعته مرة يذكر الله، ولا رأيته يوماً يدخل المسجد؟ أم على أمي وقد كانت مسيحية لا تؤمن فأصبحت مسلمة لا تعتقد؟ وهل كان في مقدوري أن أغالب الفطرة وفي نفسي إلى الله شوق نازع لا أملك الصبر عليه متى رأيت السبيل إليه؟
- أنا كفيل بأن أعلمك ما تجهلين من حقيقة الإسلام، فإن أقنعتك تزوجتك، وإلا رجع الأمر بيني وبينك إلى الصداقة، فإنك لا تتزوجينني مسلماً ولا أتزوجك مسيحية(328/3)
وأخذت منذ ذلك اليوم أشرح لها مبادئ الإسلام على قدر ما يستطيع مسلم تخرج في الجامعة الأمريكية؛ فكانت تصغي لما أقول وتعجب به. ولكنها كانت تتهمني بتلفيق ذلك مما أعلم من فضائل الأديان وأصول الأخلاق ثم أنسبه زوراً إلى الإسلام. فاتفقنا على أن أقدم إليها كتاباً عن الدين الإسلامي في الإنجليزية، وأن نؤجل البت في أمر الخطبة إلى مثل هذا الشهر من قابل. فهل تستطيع يا أستاذي أن تدلني على كتاب في هذا الموضوع يجعل زواجي منها حقاً لا ريب فيه؟ فقلت له والأسى يكاد يعقل لساني: إن كتاب روح الإسلام للأستاذ الهندي مير علي هو طلبتك. فلعلك تصيبه في مكاتب الإسكندرية. وعسى أن نعيش يا قارئي العزيز حتى أكتب لك الفصل الأخير من هذه الرواية!
أحمد حسن الزيات(328/4)
بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
قرأت وسمعت - إلى الآن - آراء وملاحظات كثيرة حول المفاضلة بين الوحدة الإسلامية والوحدة العربية، وأخذت أتلقى - منذ مدة - أسئلة متنوعة عول هذه القضية منها:
لماذا تهتم بالوحدة العربية وتهمل الوحدة الإسلامية؟
ألا ترى أن هدف الوحدة الإسلامية أسمى من هدف الوحدة العربية؟
وأن القوة التي تحصل من اتحاد المسلمين تكون أعظم من التي تحصل من اتحاد العرب؟
ألا تسلم بأن الشعور الديني في الشرق أقوى بكثير من الشعور القومي؟ فلماذا تريدنا أن نهمل استغلال ذلك الشعور القوي، ونصرف قوانا في سبيل تقوية هذا الشعور الضعيف؟
هل تعتقد أن اختلاف اللغات يحول دون اتحاد المسلمين؟
ألا تلاحظ أن (مبادئ الشيوعية والاشتراكية والماسونية وغيرها تجمع بين أناس اختلفت لغاتهم وأجناسهم وبلادهم وأقاليمهم ولم يمنعهم هذا الاختلاف كله من أن يتفاهموا أو يتقاربوا ويجتمعوا على خطة واحدة ومبدأ واحد؟) ألا تعرف أن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له كأخيه المسلم الذي يعيش معه جنباً إلى جنب؟ ففيم استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
يقول البعض: (إن الوحدة الإسلامية أقوى من كل وحدة سواها، وإن تحقيقها أسهل من تحقيق أية وحدة أخرى) فما رأيك في هذا القول؟
ويدعي البعض (أن فكرة الوحدة العربية دسيسة إنكليزية يقصد من ورائها الحيلولة دون توسع فكرة الوحدة الإسلامية، وذلك لفصل الهند عن سائر أقطار العالم الإسلامي لتسهيل إدامة السيطرة عليها) فماذا تقول في هذا الادعاء؟
لقد سمعت وقرأت - ولا أزال أسمع وأقرأ - أسئلة كثيرة من هذا القبيل خلال محادثات شفهية، وفي رسائل خصوصية، أو في كتب مفتوحة
فرأيت أن أخصص هذا المقال لمعالجة المسائل المبحوث عنها معالجة وافية، لأشرح رأيي فيها بصراحة كافية
1 - أعتقد أن القضايا الأساسية التي يجب درسها وحلها عند التفكير في (المفاضلة بين(328/5)
الوحدة الإسلامية والوحدة العربية) تتلخص فيما يلي:
هل (الوحدة الإسلامية) من الآمال المعقولة التي يمكن تحقيقها أم هي من الأحلام الطوباوية التي لا إمكان لتحقيقها؟
وعلى فرض الشق الأول: هل تحقيقها أسهل أم أصعب من تحقيق الوحدة العربية؟
وهل يوجد شيء من المنافاة بين هاتين الوحدتين
وهل من سبيل إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، دون تحقيق الوحدة العربية؟
عندما نقدم على إعمال الذهن وإنعام النظر في مثل هذه المسائل يجب علينا - قبل كل شيء - أن نحدد ما نعنيه من الوحدة الإسلامية والوحدة العربية بوضوح تام، ونعين مدى شمول كل واحد من هذين التعبيرين بصراحة كاملة
من الأمور التي لا تحتاج إلى شرح أن الوحدة العربية ترمي إلى إيجاد وحدة سياسية من الأقطار العربية المختلفة التي يتكلم أهلوها باللغة العربية. وأما الوحدة الإسلامية فترمي - بطبيعة الحال - إلى إيجاد وحدة سياسية من البلاد الإسلامية المختلفة التي يدين أهلوها بالديانة الإسلامية بالرغم من لغاتهم وأجناسهم. . .
ومن المعلوم أن العالم الإسلامي يشمل الأقطار العربية وتركية وإيران، والأفغان وتركستان، مع قسم من الهند وجزر الهند الشرقية وبلاد القفقاس، وأفريقيا الشمالية مع قسم في أفريقية الوسطى. . بقطع النظر عن بعض الكتل المتفرقة في أوربا وآسيا في ألبانيا ويوغسلافيا وبولندة والصين واليابان
ولا حاجة لبيان أن الأقطار العربية تشغل القسم المركزي من هذا العالم الفسيح
إن كل من يضع هذه الحقائق الراهنة نصب عينيه، ويتصور خريطة العالم الإسلامي، ويلاحظ موقع العالم العربي منها، يضطر إلى التسليم بأن الوحدة العربية أسهل بكثير من الوحدة الإسلامية وبأن هذه الوحدة لا يمكن أن تتحقق على فرض إمكان تحققها إلا بالوحدة العربية
إذ لا يمكن لأي عقل كان أن يتصور حصول اتحاد بين القاهرة وبغداد وأنقرة وطهران وكابل وحيدر أباد ونجارا وكشغر وفارس وتمبكتو. . . دون أن يحصل اتحاد بين القاهرة وبغداد ودمشق ومكة وتونس. لا يمكن لأي عاقل كان أن يقول بإمكان اتحاد الترك والعرب(328/6)
والفرس والملايو والزنوج دون اتحاد العرب أنفسهم
لو كان العالم العربي أوسع وأشمل من العالم الإسلامي - بعكس ما هو واقع الآن - لأمكننا أن نتصور وحدة إسلامية دون وحدة عربية، ولجاز أن يقال إن تحقيق الوحدة الإسلامية أسهل من تحقيق الوحدة العربية. غير أنه لما كان الأمر بعكس ذلك تماماً فإنه لا مجال لمثل هذه الأقوال والتصورات في المنطق بوجه من الوجوه
إن هذه الحقيقة يجب أن لا تغرب عن بالنا عندما نفكر ونتكلم في أمر الوحدة الإسلامية والوحدة العربية
إن فكرة الوحدة الإسلامية أوسع وأشمل من مفهوم الوحدة العربية، ففي الإمكان أن نقول بالوحدة العربية دون أن نقول بالوحدة الإسلامية؛ وليس من الممكن أن نقول بالوحدة الإسلامية دون أن نقول بالوحدة العربية
ولهذا السبب يحق لنا أن ندعي أن كل من يعارض الوحدة العربية يكون عارض الوحدة الإسلامية أيضاً، وأما من عارض الوحدة العربية باسم الوحدة الإسلامية، أو بحجة الوحدة الإسلامية، فيكون قد خالف أبسط مقتضيات العقل والمنطق مخالفة صريحة
2 - بعد تثبيت هذه الحقيقة - التي لا يجوز منطقياً الاختلاف فيها - يجدر بنا أن نلتفت إلى حقيقة ثانية لا تقل أهمية عنها
يجب علينا أن لا ننسى أن المقصود من كلمة الوحدة في هذا المقام هو الوحدة السياسية، كما يجب علينا أن نلاحظ على الدوام أن مفهوم (الوحدة الإسلامية) يختلف عن مفهوم (الأخوة الإسلامية) اختلافاً كبيراً
فإن الاتحاد شيء والتعاطف شيء آخر، والاتحاد السياسي شيء والاتفاق على مبدأ من المبادئ أو على مجموعة من المبادئ شيء آخر
فالدعوة إلى الوحدة الإسلامية تختلف بهذا الاعتبار عن الدعوة إلى إصلاح أحوال الإسلام كما تختلف عن الدعوة إلى زيادة التفاهم والتقارب والتضامن بين المسلمين
ولذلك نستطيع أن نقول: إن من يتكلم عن مبدأ الأخوة الإسلامية، ومن يبحث عن فوائد التفاهم بين المسلمين، لا يكون قد برهن على إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية
وبعكس ذلك، من لا يسلم بإمكان تحقيق الوحدة الإسلامية لا يكون قد أنكر مبدأ الأخوة(328/7)
الإسلامية، ولا عارض مساعي النهوض والتفاهم بين المسلمين
فكل ما يقال عن مبدأ الأخوة الإسلامية لا يكون دليلاً كافياً على إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية
وأما الاستشهاد على إمكان الوحدة الإسلامية بالماسونية أو الاشتراكية أو الشيوعية فليس موافقاً للعقل والمنطق بوجه من الوجوه، لأن الماسون لم يؤلفوا وحدة سياسية، والأحزاب الاشتراكية في الممالك الأوربية المختلفة لم تتحد لتكوين دولة واحدة؛ حتى الشيوعية نفسها لم تكون دولة جديدة، بل قامت مقام الدولة الروسية القيصرية
فيجب علينا أن نميز بين مسألة الأخوة الإسلامية ومسألة الوحدة الإسلامية تمييزاً صريحاً، وأن نفكر في إمكان أو عدم إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية - بمعناها السياسي - تفكيراً مباشراً
3 - إذا ألقينا نظرة عامة على التاريخ، واستعرضنا تأثيرات الأديان في تكوين الوحدات السياسية، نجد أن الأديان العالمية لم تتمكن من توحيد الشعوب التي تتكلم بلغات مختلفة إلا في القرون الوسطى، وذلك في ساعات محدودة ولمدة قصيرة من الزمن
فإن الوحدة السياسية التي حاولت تكوينها الكنيسة المسيحية لم تستطع أن تجمع العالم الأرثوذكسي بالعالم الكاثوليكي في وقت من الأوقات. . كما أن الوحدة السياسية التي سعت لتكوينها البابوية في العالم الكاثوليكي نفسه لم تعمر مدة طويلة
وكذلك كان الأمر في العالم الإسلامي، فإن الوحدة السياسية التي وجدت في صدر الإسلام لم تقو على تقلبات الأيام مدة طويلة، والخلافة (العباسية) نفسها لم تستطع أن تجمع كل المسلمين تحت رايتها السياسية، حتى عند بلوغها أوج قوتها وقمة عظمتها؛ كما أن البلاد التي كانت تخضع لسلطان هذه الخلافة نفسها لم تحافظ على وحدتها السياسية بصورة فعلية مدة طويلة، ولم يمض وقت طويل على تأسيس الخلافة المذكورة حتى أصبحت سلطتها على الأقطار معنوية أكثر منها مادية، فلم تقو على الحياة دون انفراط عقد الأقطار المذكورة، وتحولها إلى وحدات سياسية عديدة مستقل بعضها عن بعض بصورة فعلية
ومما يجدر بالانتباه في هذا الصدد أن انتشار الدين الإسلامي في بعض الأقطار تم بعد أن فقدت الخلافة الإسلامية وحدتها الفعلية وقوتها الحقيقية، حتى أن هذا الانتشار جرى في(328/8)
بعض الأقطار بصورة مستقلة عن تأثير السلطات السياسية، وذلك على أيدي دعاة من التجار والشيوخ والدراويش، فالعالم الإسلامي بحدوده الواسعة الحالية، لم يكون وحدة سياسية، في وقت من الأوقات
فالوحدة السياسية التي لم تحقق في القرون الماضية - في عهود بساطة الحياة الاجتماعية وسذاجة العلائق السياسية، وفي أدوار سيطرة التقاليد الدينية على كل ناحية من نواحي الأعمال والأفكار ليس من الممكن أن تحقق في هذا القرن بعد أن تعقدت الحياة الاجتماعية وأعضلت المشاكل السياسية وخرجت العلوم والصناعات عن سيطرة التقاليد والمعتقدات
4 - إنني أعرف أن ما قررته هنا لا يروق الكثيرين من علماء الإسلام. أعرف أن الدلائل التاريخية التي ذكرتها آنفاً لا تستطيع أن تؤثر على معتقد الكثيرين من رجال الدين. وذلك لأنهم قد تعودوا التكلم في هذه المسائل دون تذكر الحقائق التاريخية وملاحظة الخرائط الجغرافية، كما أنهم لم يألفوا التمييز بين مدلول (الأخوة الدينية) ومدلول (الرابطة السياسية) بل إنهم نشأوا على المزج بين مبدأ الأخوة الإسلامية بمعناها الأخلاقي، وبين فكرة الوحدة الإسلامية بمعناها السياسي
أنا لا أرى حاجة للسعي وراء إقناع هؤلاء بخطأ اعتقادهم في هذا الأمر، غير أني أرى من الضروري أن أطلب إليهم ألا ينسوا مقتضيات العقل والمنطق في هذا السبيل. لهم أن يحافظوا على اعتقادهم في إمكان تحقيق الوحدة الإسلامية، ولو في مستقبل بعيد، غير أنهم عليهم كذلك أن يسلموا في الوقت نفسه بضرورة السعي إلى الوحدة العربية على الأقل، كمرحلة من مراحل تحقيق الوحدة الإسلامية التي يعتقدون بها. عليهم - في كل حال - ألا يعارضوا المساعي التي تبذل في سبيل تحقيق الوحدة العربية، بحجة خدمة الوحدة الإسلامية التي يدعون إليها
فإني أكرر هنا ما كتبته آنفاً (أن من يعارض الوحدة العربية بحجة الوحدة الإسلامية يكون قد خالف أبسط مقتضيات العقل والمنطق مخالفة صريحة) وأقول بلا تردد إن مخالفة المنطق إلى هذا الحد، لا يمكن أن تتأتى إلا من الخداع أو الانخداع:
خداع بعض الشعوبيين الذين لا يرتاحون إلى نهوض الأمة العربية فيسعون إلى تهييج الشعور الديني ضد فكرة الوحدة العربية(328/9)
وانخداع بعض السذج الذين يميلون إلى تصديق كل ما يقال لهم مقروناً باسم الدين دون أن ينتبهوا إلى ما قد يكون وراء هذه الأقوال من المقاصد الخفية
فأرى من واجبي أن أوجه أنظار جميع المسلمين العرب إلى هذا الأمر الهام، واطلب إليهم ألا ينخدعوا بتدليس الشعوبيين في هذا الباب
5 - لعل أغرب وأخدع الآراء التي أبديت حول قضية الوحدة العربية والوحدة الإسلامية هو الرأي القائل بأن فكرة الوحدة العربية من المصنوعات الإنكليزية التي خلقت لمحاربة (الوحدة الإسلامية) وذلك لفصل الهند عن سائر الأقطار الإسلامية، تسهيلاً لدوام السيطرة عليها
أنا لا أستطيع أن أتصور رأياً اكثر بعداً من حقائق التاريخ والسياسة وأشد مخالفة لأحكام العقل والمنطق من هذا الادعاء الغريب
فإن التفاصيل التي ذكرتها آنفاً عن علاقة الوحدة الإسلامية بالوحدة العربية تكفي لإظهار خطر هذه المدعيات من حيث الأساس
مع هذا أرى أن أضيف إلى تلك التفاصيل بعض الملاحظات لزيادة البرهنة والإيضاح
إن كل من ينعم النظر في مكاتبات الملك حسين للإنكليز، وكل من يلاحظ اتجاهات السياسة البريطانية في عدن والعقبة وفي فلسطين وفي جزيرة العرب، يفهم بداهة أن القول بأن الإنكليز يشجعون فكرة الوحدة العربية تشجيعاً حقيقياً يكون افتئاتاً على الواقع صريحاً
لا ينكر أن الإنكليز سايروا الحركة العربية وصانعوها أكثر من سائر الدول، وما ذلك إلا لأنهم أكثر مرونة في السياسة وأسرع فهماً لنفسيات الأمم وحقائق الاجتماع. . .
إنهم عرفوا القوة الكامنة في الفكرة العربية قبل غيرهم، فرأوا أن يسايروها بعض المسايرة ويصانعوها بعض المصانعة - عوضاً عن محاربتها مباشرة - ليدفعوا ضررها عنهم ويجعلوها أكثر ملاءمة لمصالحهم.
وأما قضية (حكم الهند) فيجب أولاً ألا يغرب عن البال أنها ليست مسألة إسلامية بحتة - فأن المسلمين في الهند لا يؤلفون أكثرية السكان، كما أن في الخلاف القائم بين المسلمين والهندوس مجالاً واسعاً لتسهيل سيطرة الإنكليز على تلك البلاد. ومما لا شك فيه أن حكم الإنكليز لا يتم في الهند نفسها، بل يتطلب السيطرة على طرق المواصلات الجوية(328/10)
والبحرية التي تربطها ببريطانيا أيضاً؛ ومن المعلوم أن قنال السويس وبحيرة الحبانية وثكنات مصر ومطارات العراق، من جملة وسائل هذه السيطرة، فهل يعقل أن يخشى الإنكليز - بالرغم من مرونتهم السياسية - من قيام دولة إسلامية كبيرة تستطيع أن تستولي على الهند، أكثر مما يخشون من قيام دولة عربية قوية تستطيع أن تسد طرق المواصلات المذكورة؟
يجب أن نعرف جيداً أن السياسة الإنكليزية سياسة عملية تتكيف مع الظروف وتنتهز الفرص على الدوام. ويجب ألا ننسى أن بريطانيا العظمى هي التي أنقذت الدولة العثمانية صاحبة الخلافة الإسلامية من استيلاء الروس عدة مرات. وهي التي كانت أوقفت الجيوش المصرية في قلب الأناضول، لتخليص مقر الخلافة الإسلامية من استيلاء تلك الجيوش الظافرة. وهي التي حالت دون اتحاد مصر مع سورية في عهد محمد علي الكبير
فكل من يتهم فكرة الوحدة العربية بكونها دسيسة إنكليزية يكون قد قام بخدعة ما وراءها خدعة، ووقع في انخداع ما بعده انخداع
يجب أن نعلم حق العلم أن فكرة الوحدة العربية فكرة طبيعية لم يوجدها موجد. إنها نتيجة طبيعية لوجود الأمة العربية نفسها. هي قوة اجتماعية تستمد نشاطها من حياة اللغة العربية وتاريخ الأمة العربية واتصال البلاد العربية. فلا يستطيع أحد أن يدعي - بصورة منطقية - أن الإنكليز هم الذين خلقوا فكرة الوحدة العربية إلا إذا استطاع أن يبرهن على أن الإنكليز هم الذين خلقوا اللغة العربية، أو أوجدوا تاريخ الأمة العربية، وكونوا جغرافية البلاد العربية
إن فكرة الوحدة العربية من التيارات الطبيعية التي تنبع من أغوار الطبيعة الاجتماعية لا من الآراء الاصطناعية التي يستطيع أن يبتدعها الأفراد أو تستطيع أن تخلقها الدول. . .
إنها ظلت كامنة - شأن الكثير من القوى الطبيعية والاجتماعية - منذ عدة قرون لأسباب وعوامل تاريخية كثيرة لا مجال لشرحها هنا؛ غير أن كل شيء يدل على أن دور كمونها قد انتهى، وأن تيارها أخذ يظهر للعيان وصار يتدفق شيئاً فشيئاً. ولاشك في أن تيار هذه الفكرة سيزداد تدفقاً من جميع النفوس العربية بسرعة متزايدة تزايداً هائلاً. وسوف لا يلبث أن يغمر جميع البلاد العربية ويعيدها إلى مجدها السالف ونضرتها الأولى، بل إلى ما هو(328/11)
أخصب وأقوى وأسمى منها
هذا يجب أن يكون إيمان كل مستنير من الناطقين بالضاد.
(برمانا)
أبو خلدون(328/12)
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 18 -
ترفق الأستاذ احمد أمين بالأدب العربي فقال: إنه يرى من الإنصاف أن يستثني أديبين أثنين (كان أدبهما أدباً تحليلياً واضحاً) وهما ابن الرومي وابن خلدون
وكذلك انتهت دنيا الأدب العربي، الأدب الذي لم ينجب غير شاعر واحد وكاتب واحد في أمد طويل دام نحو خمسة عشر قرناً، وتعاونت في تكوينه أمم أسيوية وأفريقية وأوربية، واستطاع أن يؤثر في الآداب اللاتينية والعبرية والفارسية والتركية والهندية، وصار له في أكثر الجامعات الأوربية كرسي خاص
احمد أمين يستثني ابن الرومي من بين الشعراء، ويستثني ابن خلدون من بين الكتاب لسبب آخر غير الإنصاف، فقد سمع أن العقاد وضع كتاباً عن ابن الرومي، وسمع أن طه حسين وضع كتاباً عن ابن خلدون، ومن الواجب عليه أن يعجب بالشاعر الذي أعجب به العقاد، والكاتب الذي أعجب به طه حسين
وكيف أقفر الأدب العربي في تلك الآماد الطوال فلم ينبغ فيه غير أديبين أولهما شاعر، وثانيهما كاتب؟
إن احمد أمين لو حكم بأن مدينة واحدة مثل القاهرة أو دمشق أو بغداد لم تنجب في جيل واحد غير أديبين أثنين لكان من المسرفين، فكيف وهو يكيل الأحكام الأدبية بأوسع المكاييل فيحكم بأن الأدب العربي في جميع عصوره، وفيما انتظم من أمم شرقية وغربية لم ينجب غير أديبين أثنين؟
قد يقول أنه يقصد الأدب الذي يقوم على التحليل والاستقصاء إن قال ذلك فنحن ندعوه إلى دراسة الأدب العربي من جديد. فالطريقة التحليلية عرفها شعراء العرب منذ أقدم العهود وعليه أن يرجع إلى معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، وعينية أبي سويد وتائية كُثيّر، ولامية الكميت، وتائية دعبل، ودالية مسلم
الواقع أن الشعر العربي تغلب عليه النزعة التحليلية في أكثر ما تعرض له من مقاصد وأغراض، وانظروا كيف يحلل سعيد ابن حميد فكرة النهي عن العتاب:(328/13)
أقلل عتابك فالبقاء قليلُ ... والدهر يعدِل تارة ويميلُ
لم أبك من زمنٍ ذممتُ صروفهُ ... إلا بكيتُ عليه حين يزولُ
ولكل نائبةٍ ألمَّتْ مدةٌ ... ولكل حال أقبلت تحويلُ
والمنتمون إلى الأخاء جماعةٌ ... إن حُصِّلوا أفناهم التحصيل
فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرة ... وليكثرنَّ عليَّ منك عويل
ولتُفجعنّ بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن - سبقتَ ولا سبقتَ - ليمضينْ ... من لا يشاكله لديّ خليل
وليذهبنّ بهاءُ كل مروءة ... وليفقدنّ جمالها المأهول
وأراك تكلَف بالعتاب وودُّنا ... باقٍ عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرةٌ ... فعلام يكثر عتبنا ويطول
فالشاعر في هذه القصيدة يحلل ويعلل ويتناول موضوعه تناول من يدرك ما فيه من كليات وجزئيات، ومازال ينتقل من العموم إلى الخصوص حتى وصل في تصوير معناه إلى ما يريد
ولننظر كيف يقول الشريف الرضي في استبقاء الصديق:
وكم صاحبٍ كالرمح زاغت كعوبه ... أبى بعد طول الفخر أن يتقوما
تقبلتُ منه ظاهراً متبلِّجاً ... وأدمج دوني باطناً متجهِّماً
فأبدى كروض الحَزن رفَّت فروعه ... وأضمر كالليل الحذاريّ مظلما
ولو أنني كشَّفته عن ضميره ... أقمت على ما بيننا اليوم مأتما
فلا باسطاً بالسوء إن نالني يداً ... ولا فاغراً بالذم إن رابني فما
كعضو رمت فيه الليالي بقادح ... ومن حمل العضو الأليم تألما
إذا أمر الطب اللبيب بقطعه ... أقول عسى ضنَّاً به ولعلما
صبرتُ على إيلامه خوف نقصه ... ومن لام من لا يرعوي كان ألوما
هي الكفّ مضًّ تركُها بعد دائها ... وإن قُطِعت شانت ذراعاً ومعصما
أراك على قلبي وإن كنت عاصياً ... أعزّ من القلب المطيع وأكرما
حملتك حمل العين لجّ بها القذى ... فلا تنجلي يوماً ولا تبلغ العمى(328/14)
دع المرَء مطوياً على ما ذممته ... ولا تنشر الداء العضال فتندما
إذا العضو لم يؤْلمك إلا قطَعته ... على مضض لم تبق لحماً ولا دما
ومن لم يوطّن للصغير من الأذى ... تعرض أن يلقى أجلّ وأعظما
فما رأيكم في هذا القصيد الجميل؟
ألا ترون الشاعر ينقل الفكرة من وضع إلى وضع، ويصنع بها ما يصنع المصور الذي يراعي دقائق المعاني. . . وهو يضع اللوحة الفنية؟. . .
إن الشاعر في هذه القصيدة أمامه غرض واضح الرسوم، فهو يحلل ويعلل ليصل إلى أبعد ما يريد من الاستقصاء!
أليس هذا هو التحليل الذي يقصد إليه احمد أمين؟
وما رأيكم في قول الطغرائي وهو يحاور الحمامة الباكية:
أيكيةٌ صدحتْ شجواً على فنَن ... فأشعلت ما خبا من نار أجفاني
ناحتْ وما فقدت إلفاً ولا فُجعت ... فذكّرتنيَ أوطاري وأوطاني
طليقةٌ من إسار الهمّ ناعمةٌ ... أضحت تجدد وجد الموثَق العاني
تشبهت بيَ في وجدي وفي طربي ... هيهات ما نحن في الحالين سيّان
ما في حشاها ولا في جفنها أثرٌ ... من نار قلبي ولا من ماء أجفانِي
يا ربة البانة الغنّاء تحضنها ... خضراءُ تلتف أغصاناً بأغصان
إن كان نوحك إسعاداً لمغترب ... ناءٍ عن الأهل ممنُوٍّ بهجران
فقارضِيني إذا ما اعتادني طربٌ ... وجداً بوجد وسلواناً بسلوان
أو لا فقصرَك حتى أستعين بمن ... يعنيه شأني ويأسو كلْم أحزاني
ما أنت مني ولا يَعنيك ما أخذتْ ... مني الهموم ولا تدرين ما شاني
كِلي إلى الغيم إسعادي فإن لهُ ... دمعاً كدمعي وإرناناً كإرناني
فهل ترون هذه القصيدة من (الأدب التركيبي)، وهو لفظ ثقيل اخترعه أحمد أمين؟
أم ترونها قصيدة تقوم على تحليل المعاني ليخلق منها الشاعر صورة شعرية؟
وانظروا قول ديك الجن وقد قتل معشوقته بيديه:
يا طلعةً طلع الحِمام عليها ... فجَنى لها ثمر الردى بيديها(328/15)
حكَّمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خديها
روّيتُ من دمها الثرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيَّ من شفتيها
فَوحقِّ نعليْها وما وطئ الثرى ... شيءٌ أعزُّ عليّ من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن ... أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلتُ على الوجود بحسنها ... وأنِفتُ من نظر العيون إليها
فقد شرح الشاعر فكرته أتم الشرح، وصورها أكمل التصوير. . .
وهل وصلت إلى احمد أمين أخبار تلك الوصية الرائعة التي بعث بها العباس بن الأحنف إلى حجاج البيت الحرام، وقد توقع أن يمروا بدار هواه
انظروا إلى ذلك العليل، وقد تمرد الداء، وتعذر الشفاء، وكلما عصر الماء في فيه مجه، كما يصنع الطفل الوليد. . . وقد ذهبت العلة بجمال نظراته، وبريق بسماته، وإن نودي لم يجب بغير الأنين. . . انظروا إليه! وقد تمنى جرعة مزجت بريق حبيبته يحملها الحجاج في زجاجة، ولو أمكن أن تنقل النظرة لرجاهم أن يحملوا إليه نظرة، ولو خلق (الحاكي) في ذلك الحين لرجاهم أن ينقلوا إليه نغمة من نغماتها العذاب، ولو مهر المصورون حينذاك لكلفهم أن يصوروا مشيتها في الضحى والأصيل. . . انظروا إليه وهو يرجوهم أن يتعللوا عند أهله، فيذكروا أن تلك الجرعة العذبة إنما هي من ماء زمزم. . . انظروا إليه وقد أوصاهم أن يرشوا ريق من يهوى على وجهه، فإن صادفوه ميتاً فليرشوه على قبره. . .
انظروا كيف يقول:
أزوَّار بيت الله مُرُّوا بيثربٍ ... لحاجة مبتول الفؤاد كئيب
وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا ... على جَلَب للحادثات جليب
فإنا تركنا بالعراق أخاً هوىً ... تنشّب رهناً في حبال شعوب
به سقَمٌ أعيا المداوين علمه ... سوى ظنهم من مخطئ ومصيب
إذا ما عصرنا الماء في فيه مجهٌ ... وإن نحن نادينا فغير مجيب
خذوا لي منها جرعة في زجاجة ... ألا إنها لو تعلمون طبيبي
وسيروا فإن أدركتُم بي حُشاشةً ... لها في نواحي الصدر وَجْس دبيب
فرشوا على وجهي أفق من بليتي ... يثيبكُم ذو العرش خير مثيب(328/16)
فإن قال أهلي ما الذي جئتم به ... وقد يحسن التعليل كل أريب
فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم ... لنشفيه من دائه بذَنوب
وإن أنتُم جئتم وقد حيل بينكم ... وبيني بيوم للمنون عصيب
وصرت من الدنيا إلى قعر حفرة ... حليف صفيح مطبق وكثيب
فرشوا على قبري من الماء واندبوا ... قتيل كَعابٍ لا قتيل حروب
فهذا الشاعر قد قص قصة بلواه بأسلوب تحليلي رائع لا أدري كيف ينكره احمد أمين
وما رأيكم فيما قال كثير في السخرية من عهود النساء:
ألا إنما ليلى عصى خيزرانة ... إذا غمزوها بالأكفّ تلين
تمتع بها ما ساعفتك ولا يكن ... عليك شجاً في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها ... لآخر من خلاتها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وما حاجتنا إلى تحليل هذا المعنى وقد وفاه في بيت واحد من يقول:
فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها ... سجية نفْس، كل غانية هندُ
إن احمد أمين ينتظر شعراء يحللون، فهل أتاه حديث أبي العتاهية في الزهديات، وحديث أبي نؤاس في الخمريات، وحديث الشريف الرضي في الحجازيات، وحديث الكميت في الهاشميات، وحديث الأبيوردي في النجديات، وحديث البحتري في طيف الخيال، وحديث العباس بن الأحنف في الكتمان؟
وهل عنده علم بوصف الربيع في شعر أبي تمام؟ وهل سمع بأشعار ابن زيدون في الحنين؟ وقل قرأ قصائد ابن خفاجة وا بن حمديس؟ وهل فتح الله عليه فنظر بكاء الرندي يوم سقوط الأندلس؟ وهل قرأ فائية ابن الفارض؟ وهل اهتدى إلى حائية ابن النحاس الذي يقول:
كم أداوي القلب! قلتْ حيلتي ... كلما داويت جرحاً سال جرح
وهل عرف مصير أشعار بديع الزمان الذي يقول:
رأيت الناس خدَّاعاً ... إلى جانب خدَّاعِ
يعيثون مع الذئب ... ويبكون مع الراعي(328/17)
وهل قرأ قصيدة أبي تمام يوم فتح عمورية؟ وهل عرف روميات أبي فراس؟ وهل شهد موكب المعاني في مقصورة ابن دريد؟ وهل درس رائية أبي صخر وعينية أبي ذؤيب؟
احب أن أعرف أين مكانك بين أدباء اللغة العربية، يا صديقي؟
أحب أن أعرف أتجدّ في دعواك أم تكون من الهازلين؟
اقسم بالله وبالشرف أني لفي عجب من غفلة الأستاذ احمد أمين عن ذخائر الأدب العربي، مع أنه أستاذ مسئول يتصدر لتدريس الأدب في أكبر معهد من معاهدنا الأدبية
ويزيد في الأسف أنه لم يكن كذلك فيما كنا نعرف من شمائله الذاتية، فقد استطاع أن يظفر بثقة ناس من كبار الأدباء منهم لطفي السيد وهيكل وطه حسين والمازني والعقاد والزيات والبشري، وسمعنا ثناء عليه في بيئات تزن أقدار الرجال، فمن أين وصل إليه مرض الحذلقة الذي كاد يضيفه إلى أدعياء الأدب والبيان؟
أتريدون الحق؟
الحق أن احمد أمين لم يوفق إلى الإجادة إلا في الموضوعات التي سار فيها على سنن مسلوك مهده العلماء من قبل
فكتاب (الأخلاق) له مصدر معروف، فهو في جملته وتفصيله وأصوله وفروعه تلخيص لأي كتاب أوربي في الأخلاق، ولو شئت لسقت الأدلة والبراهين
وفجر الإسلام وضحى الإسلام لهما أصول من أبحاث المستشرقين عن المدنية الإسلامية، وفيهما توجيهات للدكتور طه حسين سأكشف أسرارها حين أشاء، وفيهما سرقات في شئون اجتماعية ونحوية، ولو شئت لقلت إنه نهب بعض آراء الأستاذ فلان، وهو يعرف من أعني، وسيعرف كيف نجازيه بعد حين
بقي أحمد أمين (الأديب) الذي ينقل عن العقل والروح فهل قرأتم له مقالة واحدة تشهد بأن له مواهب فيها أصالة وعمق.
وكيف يصح ذلك، وهو يرى أن الأدب العربي لم ينبغ فيه غير شاعر واحد؟
ومن هو الشاعر؟
هو ابن الرومي، وإنما نص عليه بالذات، ليصح له اتهام الأرومة العربية بالفقر والإجداب، فقد كان المازني كتب منذ أعوام أبحاثاً عن ابن الرومي، وقرر في تلك الأبحاث أن ابن(328/18)
الرومي ورث طريقة التحليل عن أجداده الأبعدين من اليونان
ولست بصدد الرد على المازني، الأديب العظيم، حتى ابحث من أين أخذ هذا الرأي، وإنما يحق لي أن أسأل: هل كان ابن الرومي أول شاعر عربي له أسلاف من اليونان؟
ومن هو الجد اليوناني لطرفة بن العبد، وقد وصف ناقته في المعلقة وصفاً هو النهاية في التحليل والاستقصاء؟
ومن هو الجد اليوناني لعمر بن أبي ربيعة وأشعاره تقوم على أساس من الحوار والتحليل والتمثيل؟
ومن هو الجد اليوناني للشاعر لبيد وفي معلقته تحليل دقيق؟
ومن هو الجد اليوناني للشريف الرضي وفي حجازياته أوصاف وتحليلات لم يهتد إلى مثلها سدنة الهياكل اليونانية؟
وما رأي الأستاذ أحمد أمين في أبي العلاء صاحب اللزوميات وصاحب رسالة الغفران؟
ألا يرى أن أبا العلاء كان من الشعراء الذين يجيدون تحليل المعاني؟
إن أبا العلاء قضى الشطر المثمر من عمره، وهو يحاور نفسه ودنياه، وقد وصل في التحليل والاستقصاء إلى أبعد الحدود، برغم المآخذ النفسية التي قيدناها عليه في كتاب (وحي بغداد) فهو عندنا لا يقل عظمة في تحليلاته ومحاوراته عن أكبر شاعر يبرع في الحوار والتحليل.
أفلا يتفضل الأستاذ أحمد أمين بالاعتراف بمكانة أبي العلاء بين أقطاب الشعراء والمفكرين، فيضيفه إلى ابن الرومي وابن خلدون؟!
يظهر أن الأستاذ أحمد أمين نسى أن أبا العلاء شغل الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين، فنشر الأول كتاباً عن أبي العلاء ونشر الثاني كتابين!
يظهر أنه نسي ذلك، وما أنساه إلا الشيطان، ولولا ذلك لاعترف بمكانة أبي العلاء رعاية للعقاد وطه حسين، إن عزت عليه رعاية الحق!
وأرجع فأقول: إن من التجني على شعراء العرب أن نقول بحرمانهم من النزعة التحليلية، فهم في أغلب الأحوال يهتمون بتصوير المعاني، ويشعرون السامع والقارئ بأنهم يحاورون العواطف والقلوب والعقول، وإليكم قول تميم بن جميل وهو يرعد من خوف الموت(328/19)
بحضرة المعتصم:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيثما أتلفتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
وأيُّ أمريء يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يُسلُّ عليّ السيف فيه وأسكت
وما حَزِني أني أموت، وإنني ... لأعلم أن الموت شيءٌ مؤقت
ولكن خلفي صبيةً قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أُنعى إليهم ... وقد خمّشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمة ... أذود الردى عنهم، وإن متُّ مُوِّتوا
فكم قائل لا أبعد الله داره ... وآخر جذلان يُسرُّ ويشمت
أليس هذا الشعر قائماً على الحوار والتحليل؟؟
وما رأيكم في قول ابن الزيات، وقد ماتت زوجته وتركت له طفلاً يؤرقه بكاؤه في هجعات الليل:
أَلاَ من رأى الطفل المفارق أمه ... بُعَيْد الكرى عيناه تبتدرانِ
رأى كل أُمّ وابنها غير أمه ... يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تحثهُ ... بلابل قلب دائم الخفقان
ألا إنَ سجْلاً واحداً قد أرَقتهُ ... من الدمع أو سجلين قد شفياني
فلا تَلْحيانِي إن بكيتُ فإنما ... أداوي بهذا الدمع ما تريان
وإن مكاناً في الثرى خُطَّ لحدهُ ... لمن كان في قلبي بكل مكان
أحقُّ مكان بالزيارة والهوى ... فهل أنتما إن عُجْتُ منتظران
فهبني عزمتُ الصبر منها لأنني ... جليدٌ فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القُوَى لا يعرف الأجر حسبةً ... ولا يأتسي بالناس في الحدثان
ألاَ من أمنِّيه المنى وأَعدّهُ ... لعثرة أيامي وصرف زمانِي
ألاَ من إذا ما جئت أكرم مجلسي ... وإن غبتُ عنه حاطني ورعاني
فلم أر كالأقدار كيف يصبنني ... ولا مثل هذا الدهر كيف رماني(328/20)
فهذه قطعة تحليلية رائعة، وقد يلاحظ بعض القراء أن الصورة الشعرية في هذه القصيدة متنافرة الأجزاء، ولكن لا بأس فهذه القصيدة قد ضاعت أصولها مع الأسف، ولم يبقى منها غير هذه الأبيات وهي مما تخيره ابن رشيق. وقد تعبت في البحث عن أصل هذه القصيدة واستعنت بالأستاذ الشيخ محمد الخضري بك مهذب الأغاني فلم أصل إلى ما أريد، ولكن هذه البقية الباقية من تلك القصيدة تشهد بقدرة ابن الزيات على تحليل المعاني والأغراض
أما بعد فأنتم تعرفون أن توضيح الواضحات من المشكلات؛ فالعرب في أكثر أشعارهم قد تفوقوا في عرض المعاني والمناظر والمشاهد، ولهم في تصوير الطبائع والشمائل قدرة لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر أو حقود
وليس من الحتم أن يسلكوا جميعاً مسالك ابن الرومي أو أبي العلاء، فلكل شاعر مذهب في الأوصاف والتعابير، واختلافهم في مذاهبهم ومناحيهم ومراميهم هو الشاهد على ما يملكون من الأصالة والذاتية
وما كان ابن الرومي أكبر شاعر عرفه العرب، كما توهم احمد أمين، وقد صارحت الأستاذ العقاد بأني أرى الشريف الرضي أشعر من ابن الرومي فلم ينكر ذلك، واكتفي بأن يقول إن مزية ابن الرومي عنده هي التفوق في وصف
وهذا حق، فمزية ابن الرومي هي الحرص على درس أهواء الناس، وهي مزية شاركه فيها أبو العلاء
وإذا كان ابن الرومي قد أفلح في تصوير نحائز الخلق فهو مع ذلك لم يصل في شعره إلى الرنة الموسيقية التي كان يتفرد بها البحتري، ولم يصل في الصنعة إلى منزلة أبي تمام أو مسلم بن الوليد، ولم يحس الأنس بالحياة على نحو ما أحس ابن خفاجة أو ابن زيدون أو أبو نؤاس
ومن هنا نفهم أن للشعراء رسالات مختلفات، فعمر بن أبي ربيعه في بابه أشعر من ابن الرومي في بابه، وابن الرومي في بابه أشعر من ابن أبي ربيعه في بابه. والناقد الضيق الذهن هو الذي يضع للشعر غاية واحدة يحاكم غليها الشعراء
ومحاسن الأدب العربي ترجع إلى هذا التنوع الطريف، فليس عندنا شاعر يغني عن شاعر، وإنما هم اخوة مختلفون في المذاهب والأغراض، ومن اختلاف الألوان التي قدموها(328/21)
تتم الصورة الكاملة للعبقرية العربية
ثم ماذا؟ ثم يقول أحمد أمين: إن الأدب العربي ليس فيه إلا كاتب واحد يجيد التحليل هو ابن خلدون
وسنرى في المقال المقبل خطأ ما ادعاه هذا الزميل مع الدعاء له ولنا بالهداية والتوفيق، وإنا أو إياه لعلى هدى أو في ضلال مبين، والله المستعان على حيرة الفكر في أهل هذا الزمان
(للحديث شجون)
زكي مبارك(328/22)
التعليم والإنتاج
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
ها قد انتهت العطلة الصيفية بخمولها أو آذنت بالانتهاء. ودب في المعاهد التعليمية نشاطها وعادت إليها حركتها السنوية العادية، حركة القبول والرفض وتوفير المحال للطلاب. وهي حركة تشمل عدداً كبيراً من أبناء هذه البلاد وتشغل بال أولياء الأمور كما هو الحال في مثل هذه الأيام من كل عام. وهي حركة إن نمت عن شيء فهي تنم عن إقبال شباب الأمة فتيانها وفتياتها على معاهدنا سعياً وراء العلم والتعلم. وهي لا شك بشير الخير والبركة لو سار التعليم عندنا سيرته عند غيرنا، ولو اتجهت معاهدنا في توجيه أبنائها الاتجاه الصحيح الذي يدفع بالشباب إلى السبيل المستقيم سبيل الإنتاج، لأن حياة الأمم وعزها وقوتها في الإنتاج، والفرد غير المنتج، تكون حياته عديمة القيمة. فإلى أي حد يا ترى أصبح تعليمنا منتجاً؟ وإلى أي مدى يا ترى تعد مدارسنا أبناءها ليكونوا مواطنين منتجين؟ وكم في المائة منهم يلجون أبواب الإنتاج الفعلي بعد تخرجهم في معاهدهم؟ وهل تستطيع معاهد التعليم عندنا أن توافينا بعدد خريجيها في كل عام، وعدد من انخرطوا منهم في سلك الإنتاج والمنتجين، وعدد من أصبحوا منهم في عداد الموظفين، وعدد من بقوا عالة على أهلهم وصاروا في عداد المتعطلين؟
هذه أسئلة قد اعترضتني أثناء البحث الذي أجريته خاصاً بمؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) ولم أستطع أن أجد لها حلاً وافياً لأني سألت كثيراً من المعاهد في ذلك، فلم يرد علي البعض ورد البعض الآخر رداً مقتضباً عديم القيمة، ولكن مدرسة واحدة هي مدرسة التجارة المتوسطة بالإسكندرية ردت علي رداً وافياً بإحصائية كاملة عن حالة خريجيها من سنة 1930 إلى سنة 1937 أوردتها بصفحة 250 من مؤلفي السابق الذكر. ويتبين منها أن عدد خريجي هذه المدرسة بين العامين السابقي الذكر هو 531 منهم 201 موظفون في الحكومة أي بنسبة 37. 7 في المائة ومنهم 98 موظفون في الشركات والمصارف أي بنسبة 18. 5 في المائة ومنهم 165 متعطلون لا عمل لهم أي بنسبة 31. 1 في المائة ومنهم 37 حالتهم مجهولة أي بنسبة 7. 2 في المائة ومنهم 23 يزاولون أعمالاً حرة أي بنسبة 4. 3 في المائة، وقد ارتفعت نسبة المتعطلين في العام الأخير عام 1937 ارتفاعاً(328/23)
كبيراً؛ فكان عددهم 76 من 98 متخرجاً أي بنسبة 77 , 5 في المائة مما يدعو إلى الأسف الكثير. ومما يدعو إلى الأسف الأكثر أن 4. 3 في المائة فقط من المتخرجين جميعهم هم الذين ولجوا أبواب الإنتاج الحقيقي بمزاولة الأعمال الحرة
ولقد كان من السهل علينا الحصول على نتيجة حاسمة في هذا الموضوع لو أن كل معهد من معاهدنا احتفظ بسجل خاص بخريجيه يمكنه من عمل مثل الإحصائية السابقة وتقديمها لكل باحث في هذا الموضوع الهام الذي له شأن كبير في توجيه التعليم ورسم سياسته. وأعتقد أن وزارة المعارف لا بد أن تعنى به عناية جدية في عهدها الجديد المبشر بالخير. على أنه قد استجدت في مصر الآن حركة قوية غمرت معظم معاهدها، وأخذت بلب شبانها، ووجهت الكثيرين منهم وجهة جديدة، هي الانخراط في سلك ضباط الجيش العامل والمرابط، أو في زمرة عمالة، وهي حركة تبشر بالخير، وتنبئ عن صدق الوطنية وحرارتها، وتقابل من جميع المصريين بالتقدير والإعجاب، ولكنها حركة مؤقتة أوجدتها ظروف المعاهدة وظروف الحرب الحاضرة. وليس من الممكن أن تستنفد الكلية الحربية كل خريجي مدارسنا الثانوية، ولا أن تستنفد ملحقاتها من مدارس صناع الجيش ومصانعه كل خريجي مدارسنا الصناعية. وإذا كانت الكلية الحربية قد أخذت عدداً كبيراً من هؤلاء، وإذا كانت المدارس الحربية الملحقة بها قد أخذت عدداً آخر كبيراً من أولئك، فإنها في الوقت نفسه قد رفضت منهم العدد الأكبر وردتهم عنها رداً خيب آمالهم وآمال أهليهم في توفير عمل يضمن لهم العيش في المستقبل. . . ولا شك أنها سترد عنها في السنين المقبلة جموعاً غفيرة من هؤلاء الطلاب أكثر بكثير ممن ردتهم هذا العام، لأن استيعابها للعدد الكبير منهم الآن راجع كما أسلفنا لظروف الحرب وظروف تنشئة الجيش العامل والمرابط وتكوينهما وتسليحهما، وهي ظروف طارئة لا تلبث أن تزول، وبزوالها يعود الآلاف من شباننا من خريجي المدارس والمعاهد يتراكمون، كما قال المسيو كلاباريد في تقريره، كأنقاض الهدم لا يرجى منهم للإنتاج خير. ولذا أصبح لزاماً علينا أن نفكر جدياً في ربط معاهدنا بالحياة العامة حياة العمل والإنتاج ربطاً حقيقياً، كما فعلت قبلنا أمم وكما تفعل الآن الأمم الحية. على أننا نستقبل هذا العام الدراسي الجديد بخطوة طيبة خطتها وزارة المعارف نحو الإصلاح المنشود، وهي خطوة نادينا في تقاريرنا المتكررة إلى الوزارة بضرورة(328/24)
تنفيذها منذ أكثر من عشر سنوات كما نادى بتنفيذها الخبيران الفنيان المستر مان والمسيو كلاباريد في تقريريهما قديماً إليها
تلك هي إنشاء المناطق التعليمية الجديدة، وهي خطوة حسنة تخلصنا من أعباء المركزية الثقيلة وقيودها ولكنها في نظرنا لن يكون لها أثر فعال في إصلاح معاهد التعليم وربطها بالحياة العامة حياة الإنتاج إلا إذا تخلصنا من أمر أشد ثقلاً على المعاهد من المركزية نفسها، لأنه يقيدها بأثقل القيود، وينهك قواها في مجهودات غير منتجة ويضطرها إلى التزام طريق خاصة تبعدها كل البعد عن الاتصال الفعلي بمصادر الإنتاج في الحياة العامة: تلك هي الامتحانات وأعباؤها. وإذا كان الثقات من علماء التربية الحديثة أمثال دكرولي ومنتسوري وديوي الخ يقررون أن المعاهد يجب عليها ألا تتصل فقط بمصادر الإنتاج المحيطة بها، بل عليها فوق ذلك أن تكون هي نفسها مصادر للإنتاج على نمط مصغر أو مكبر حسب ظروفها - فكيف يمكن لمعهد من المعاهد يضع نصب عينيه إعداد تلاميذه للامتحان في مسائل خاصة امتحاناً يعد هو الحد الفاصل في مستقبل تلميذه؟ كيف يمكن لمثل هذا المعهد أن يحيد قيد أنملة عن المنهج الخاص بذلك الامتحان أو أن يفكر لحظة في غير مسائل الامتحان الذي يرفع الناجح ويقضي على الراسب، لأنه يعد الحد الفاصل بين العلم والجهل وبين الذكاء والغباء كما يقرر أنصار القديم؟ وكيف يمكن لناظر أو مدرس أن يفكر في غير الامتحان أو أن يعمل لغير الامتحان وهو المسئول عن نتيجته ومن ورائه المفتش يعمل وينقب للوم كل من يخرج عن المنهج المقرر في أمر ما مهما كان الأمر هاما ومهما كان متعلقاً بحياة الطالب ومستقبله؟!
لهذا كله لا أشك في أن الامتحانات بعد تنفيذ اللامركزية أصبحت بصورتها الحاضرة هي العقبة الكأداء التي تعوق المدارس عن القيام بواجبها الحقيقي نحو أبنائها، إذ هي علاوة على ابتلاعها لوقت المدارس والمدرسين والنظار والطلاب وحرمانها إياهم من الاتصال المباشر بالإنتاج المحلي وتعرف دقائقه وأسراره ليست مقياساً مضبوطاً للكفاية كما نمت عن ذلك التجارب والإحصاءات وكما قرر ذلك أكابر الثقات، ثم هي فوق ذلك تحرم المدارس من العناية بشخصية التلميذ كفرد مستقل له ميوله الخاصة واتجاهاته الخاصة التي يعني بها الآن أكبر عناية في جميع المدارس الحديثة في البلاد الأخرى، كما أنها تعمل(328/25)
على تنمية بعض قواه العقلية وإهمال البعض الآخر مما له أهمية كبرى في حياته، وتفقده لذة العمل للعلم ذاته علاوة على ما فيها من مرتع خصيب للغش وإفساد الأخلاق وقد كتبت عن مضارها فصلاً مطولاً في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 198 إلى صفحة 213 بدأته بما يأتي: (إذا كان أظهر عيوب السلطة التعليمية المحركة للأعمال الفنية والإدارية عندنا هو المركزية فإن أظهر عيوب الأعمال المدرسية هو الامتحانات) وقد جاء فيه (وإذا كان علماء التربية في البلاد ذات التعليم الحي التي تربط تعليمها ومدارسها بالحياة العامة قد أجمعوا على أن الامتحانات ليست مقياساً حقيقياً للكفاية فإن مدارسنا لا زالت إلى اليوم تعتبر النجاح فيها هو الغاية الوحيدة التي ترمي إليها، وأصبحت الشهادة في نظر الجميع هي الدجاجة ذات البيض الذهبي التي تدر على صاحبها الذهب والفضة والخير والحياة السعيدة فهي الغاية التي ليس من ورائها غاية الخ)
وإذن؛ فقد وضح الآن أنه لا سبيل إلى جعل اللامركزية مجدية ومفيدة في سبيل إصلاح معاهد التعليم وربطها بحياة الإنتاج ربطاً يدفع بأبنائها إلى حياة العمل إلا بالتخلص من شر الامتحانات إما بإلغائها أو بتعديلها تعديلاً كبيراً يخفف من شرها ويفسح المجال للعمل بدونها. وإن مصر كلها لتضع آمالها في إصلاح حال التعليم وجعله منتجاً، في ذلكم المعلم الفذ الذي دانت لهمته الكبير ألوية الثورة المصرية قديماً كما دانت لشخصية القوية ونزاهته ألوية النهضة حديثاً، ذلكم المعلم الفذ القابض على زمام وزارة التربية والتعليم الآن الذي يجعلنا بماضيه المجيد نضع في جرأته وقوة شكيمته ومضاء عزيمته آمالنا في الإصلاح المنشود، سائلين الله تعالى أن يوفقه لخير العلم والتعليم، ولخير مصر والمصريين.
عبد الحميد فهمي مطر(328/26)
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
4 - الإباحية في الأدب
ينتمي الإنسان الحديث إلى إحدى طوائف ثلاث: فهو إما رجعي يخشى جسمه ولا يعرف بوجوده بحجة أن تفكيره كله مركز في الحياة الروحية دون غيرها، وهو لذلك يحارب كل ما يمت إلى الجنس بصلة وينكر على نفسه كل رغبة جنسية مهما كان مصدرها أو موضوعها. وقلما ينجو أمثال هذا الشخص من غضب جسمه عليه في آخر الأمر ومن ضربته القاضية التي يكيلها له دون ما هوادة أو رحمة. وليس أدل على هذا من الأخبار التي كثيراً ما نسمعها عن أساتذة كبار أو قساوسة نيَّفوا على الستين مع فتيات قاصرات ممن يتعلمن في مدارسهم أو يقصدن كنائسهم. وليس أمر هؤلاء بالمحير ولا تعليل ما فعلوا بالمعجز، فهم تنكروا لأجسامهم وكبتوا رغباتها، فكانت نتيجة ذلك أن اعتل تفكيرهم واختل ميزان عقلهم، فأتوا من الأعمال مالا ينطق على العقل في شيء
وهناك رجل آخر هو على النقيض من الرجل الأول، أرخى لجسمه العنان وعاش من أجل متعة جسده لا غير. فهو يرى في جسمه وسيلة إلى اللذة فأسرف في الانغماس فيها، لا فرق عنده بينها وبين أن يتناول كأساً من الكوكتيل أو غيره مما يشتهيه الجسد ويتلذذ به
وأخيراً يأتي النوع الثالث من الرجال وهم للأسف كثيرو العدد. ويمتاز هذا الرجل بعقل قذر لا يغذيه إلا كل قذر. فهو رجل يغرم بقراءة الكتب التي تبحث في العلاقة الجنسية، ولكن رائده في ذلك ليس تفهم فلسفتها أو الإفادة مما جاء بها، وإنما رائده التفتيش عن كل بذئ خارج، لأنه يجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة أخرى. ونجد هذا الشخص ميالاً إلى الاستماع إلى القصص التي تعالج هذا الموضوع وكذا النكات والفكاهات فكأنهم يجعلون من أساس حياتهم وعمادها موضوعاً للهزل واللعب. وهؤلاء وأمثالهم يربأ لورنس أن يكونوا من قراء كتبه
ومن غريب الأمر أن يتكلم هؤلاء الطوائف عن لورنس ككاتب إباحي مفحش في القول، لا(328/27)
فرق عندهم بين من قرأ منهم كتبه ومن لم يقرأ. ولا يضع لورنس كل اللوم على هؤلاء الناس، بل هو يوجه بعض لومه على القرن السابق الذي لا زالت تعاليمه مسيطرة على عقول الناس في العصر الحالي، تلك التعاليم التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي ظهر خطأها وكان يجب أن يبطل العمل بها. وليس أدل على تأخر جيل من خضوعه لقيود الجيل السالف واستسلامه لتعاليمه، وإن ينطبق هذا على شيء فهو ينطبق على القرن العشرين الذي ما زال يرسف في أغلال القرن التاسع عشر على الأقل من الوجهة الاجتماعية. ففي مجتمعاتنا لا زلنا نحرص على التمسك بقيود أسلافنا، وحتى في الأفلام التي نشاهدها، وفي الكتب التي نقرأها، وفي الأحاديث التي نستمع إليها، مازال لهذه التقاليد أكبر سلطان علينا! فمثلاً لا زلنا نعتقد أن الجنس والعلاقة الجنسية هي من الموضوعات المحرمة التي لا يجب الخوض في بحثها، أو الإشارة إليها إلا متسترين، أو من طرف خفي. فالوالدان إذ يتحدثان إلى فتاتهما لا يزالان يقنعانها أنها يجب أن تكون في نقاوة الزهرة وطهر الملائكة، وهم إذ يشبهونها بالزهرة فإنما يقصدون أنها يجب أن تتخذ الزهرة مثلها الأعلى! ووجه الشبه الذي بينهما هو - في اعتقادهم - خلو كل منهما من الرغبة الجنسية. وأمثال هؤلاء القوم مخطئون في تشبيههم، فلا الزهرة خالية من الرغبة الجنسية، ولا الفتاة بمستطيعة أن تكون في غنى عن هذه الرغبة! والحقيقة أن للزهرة جنساً، وأن لها رغبة جنسية، وليس من العدل في شيء أن نحرم الفتاة مما لم تحرم منه الزهرة، بعد أن شبهنا الواحدة بالأخرى. ومع ذلك لا يفتأ الوالدان يكرران على مسمع الفتاة أمثال هذه الترهات حتى يأتي الوقت الذي تبغض فيه الجنس الآخر، وتنظر إليه نظرتها إلى عدو لدود، ولكنها بعد أن تنمو وتكبر وتصل إلى الدور الذي تبحث فيه عمن سيكون شريك حياتها، تصطدم بالفكرة الخاطئة التي غرسها في نفسها والداها، فيحدث عندها انقسام وصراع ينغص عليها عيشها ويفسد حياتها!
وليس في استطاعة أحد تعريف الإباحية أو تحديدها، بل هي في الحقيقة أمر نسبي كغيره من الأشياء النسبية، فما يعده شخص إباحياً، قد يعده شخص آخر غير ذلك، وما كان إباحياً في عصر من العصور قد لا يكون كذلك في عصر آخر وهكذا. فمثلاً كان الإنجليز في عصر كرمويل يعدون رواية (هاملت) إباحية لا يستسيغها ذوقهم ولا تتفق وتعاليمهم(328/28)
الأخلاقية. . . وهانحن أولاء في العصر الحالي نعدها من بين أهم روايات شكسبير وأقواها، بل ومن أهم روائع الأدب العالمي. وعلى العكس من ذلك، يعد بعض الناس في عصرنا هذا روايات أريستوفانيس إباحية تخدش قوانيننا الخلقية وتنتهكها، ولكن هذا لم يمنع الإغريق من أن ينظروا إلى أريستوفانيس نظرة التجلة والاحترام ويضعونه في مصاف كتاب الدرجة الأولى
وإذا سألنا أنفسنا عن السر في اختلاف حكم شخص عن حكم شخص آخر أو حكم جيل عن حكم جيل آخر لما أعيانا السؤال أو استعصى علينا الجواب. وتفسير ذلك أنه ما من كلمة إلا ولها معنيان: المعنى الإجماعي، أو المعنى الشعبي وهو ما اتفق الناس عليه؛ والمعنى الخاص، أو المعنى الفردي وهو المعنى الذي يفهمه كل قارئ على حدة حسب تفكيره وخياله وتجاريبه. وليس في مقدور كل شخص أن يكوَّن هذا المعنى الفردي لأنه يتطلب من صاحبه أن يكون تفكيره من النوع العميق، وأن يكون خياله خصباً، وأن تكون تجاربه واسعة. وإن كتب لورنس لهي من النوع الذي يجب أن يعتمد القارئ فيها على المعنى الفردي، وإلا فهي أعمق من أن يسبر غورها أو يتفهم فلسفتها أو يحيط علماً بما بها. وإن أمثال هذا القارئ قليلون، ولهذا السبب كان عدد من يفهمون لورنس على حقيقته قليلاً؛ ولكن الغالبية من القراء يستسهلون قراءة لورنس عن طريق المعنى الشعبي الذي هو ابعد ما يكون عما قصده الكاتب. وهم لهذا السبب ينعتونه بأنه كاتب إباحي أو مفحش في القول. ولو أن أحدهم كلف نفسه مشقة سؤال عقله (هل ما أقرأ يصطدم وتعاليم عقلي الخلقية الصحيحة) لكان الجواب بالنفي. ولكن قليل هم من يفعلون ذلك، بينما يلجأ الكثير منهم إلى تلك القواعد والقوانين الخلقية التي ورثها عن أسلافه جيلاً بعد جيل ويطبقها على ما يقرأ وإذ ذاك يرمي صاحب الكتاب بالفحش والخروج على القوانين الأخلاقية. والحقيقة الواقعة هي أن ما يقرأ قد يجرح العينين لأنهما لم تألفا رؤية أمثال هذه الكلمات من قبل، أما العقل فهو يعرفها تماماً وطالما فكر فيها، فهي معروفة لديه مألوفة له، فهي إذن لا تجرحه ولا تتعارض وتعاليمه الأخلاقية
ويعتبر الناس أن كل ما يثير الرغبة الجنسية إباحي، وهم ولا شك مراءون مضللون يقصدون خداع الغير بعد أن نجحوا في خداع أنفسهم. ومن غريب الأمر أنهم مجمعون على(328/29)
أن الكون لا تقوم له قائمة من غير الجنس والعلاقة الجنسية، وهم يعرفون تماماً أن هذه العلاقة كانت وما زالت وسوف تكون أساس الحياة في هذا العالم، وأننا لا نستغني قط عما يثير فينا الرغبة الجنسية، وإلا أنهار الكون وتقوض بناؤه. وفوق ذلك فهم يعتبرون بعض القصائد الشعرية واللوحات الفنية والقطع الموسيقية والروايات والقصص من روائع الفن أو الأدب، وهي كلها تعتمد على الجنس وقوامها إثارة الرغبة الجنسية. ومع كل هذا فما زال الاعتقاد سائداً بينهم أن الكلام في هذا الموضوع هو من المحرمات التي لا يجوز الخوض فيها. وهم يقصدون بالكلام في هذا الموضوع الكلام الجهري فقط، إذ أنهم لا يأنفون من خوض غمار هذا الموضوع ما دام التستر رائدهم وما داموا بعيدين عن أعين النقاد
والحقيقة التي لا شك فيها أنه ليس هناك أي ضرر من معالجة الكتب لموضوع العلاقة الجنسية، ما دامت لا تقصد من ذلك سوى منفعة الفرد وخدمته، عن طريق تنوير ذهنه وإرشاده إلى طريق الحياة السوي الصحيح. وأما ما يجب محاربته بشدة فهو تلك الكتب التي تنشر سراً بين الناس انتشار الأمراض الخبيثة، والتي تدلس العلاقة الجنسية وتسيء إليها كل الإساءة، والتي لا يبغي أصحابها من ورائها سوى منفعتهم المادية الشخصية. وإن سبب انتشار أمثال هذه الكتب انتشاراً ذريعاً وإقبال الناس على اقتنائها وتلهفهم على قراءتها هو ذلك الجو الغامض الذي أحاطه الناس جيلاً بعد جيل بالعلاقة الجنسية. فحب الاستطلاع الذي لا يخلو منه فرد هو الذي يدفع الولد والشاب والكهل إلى أن يختلي بكتاب من هذا النوع علَّه يقف منه على ما حرم من سماعه طيلة حياته. وإن انتشار هذه الكتب لهو أشد ضرراً وأسوأ عاقبة من قراءة الكتب الصريحة، وشتان بين الأثر الذي تتركه أمثال هذه الكتب، وبين الأثر الذي تتركه قصص بوكاتشيو مثلاً، مع أن الناس اعتادوا وضعها في مرتبة واحدة.
ولكن الغريزة الجنسية التي لا غنى للناس عنها تتطلب من الفرد تنفيساً عن رغباتها. فإذا ما جلب له هذا التنفيس الخزي والعار بين قوم لا يميزون بين الغث والسمين، عمد إلى وسيلة أخرى ينفس بها عن رغباته دون أن يعرف الناس عنه شيئاً. وليس لديه ما هو أقرب منالاً من العادة السرية يرتكبها ويسرف في ارتكابها، لأنها طريقه الآمن الوحيد الذي(328/30)
لا يتعرض فيه لنقد ناقد أو تهكم متهكم. وقد هاجم لورنس العادة السرية بكل ما فيه من قوة لأنها في نظره سرطان المدنية الحديثة وداؤها العضال، فهي التي قتلت في الإنسان الحديث حيويته وتركته رجلاً وما هو برجل؛ فضلاً عن أننا نلمس في مرتكبها ثوب العار والمذلة الذي لا يخلعه عنه قط. وإنا لنلمس أثر العادة السرية في كتابات العصر الحديث، فكما أنه في العادة السرية ليس هناك شخص وموضوع بل هما واحد، كذلك في كتابات هذا العصر نرى أن موضوع الكتابة والكاتب هما شيء واحد، بمعنى أن الكاتب يعمد إلى شخصيته أو نفسه فيحللها تحليلاً دقيقاً ويبني على هذا التحليل كتابه. ومن أمثال هذه الكتب كتاب (يوليسيس) لجيمس جويس
وقد تنبه الناس في العصر الحالي إلى الضرر البليغ الذي ينجم عن إحاطة العلاقة الجنسية بجو من الغموض والإبهام، وأدركوا عظم الهاوية التي قد يجرفهم إليها تيار هذا الغموض، ولكنهم للأسف نجحوا في تشخيص المرض ثم عجزوا عن وصف الدواء. ففي محاولاتهم لقتل هذا الغموض قتلوا الجنس نفسه وأعدموا الرغبة الجنسية. فظهرت كتب عديدة تحاول أن توضح كل شيء في العلاقة الجنسية فكان من جراء ذلك أن زالت عنها كل قدسية، ومن أمثال هذه كتب ماري ستوبس وذهب فريق ثان إلى التغلب على هذا الغموض بأن انغمس في هذه العلاقة وأسرف فيها، وهؤلاء هم البوهيميون الذين كان من جراء تغاليهم في هذه العلاقة أن عرفوا كل شيء عنها، غير مدركين أن العلاقة الجنسية هي ينبوع مقدس يتفجر منه الماء بقوة إلهية، حتى إذا ما حاول الإنسان أن يكشف السر عن هذه القوة توقف تفجر ماء الينبوع ثم جف
فغرض لورنس الذي يرمي إليه هو أن يعالج الكتَّاب هذا الموضوع في شيء من الصراحة التي لا تحلل كل شيء بطريقة علمية حتى لا تفقد هذه العلاقة قدسيتها. وكذلك يريد لورنس أن يعلم الناس أن هذه العلاقة شيء مقدس لا خزي فيها ولا عار؛ فهو يريد أن يرفع من شأنها ويهيب بالناس أن يقدسوها التقديس اللائق بها، وفوق ذلك يريد لورنس أن يقول الإنسان ما يعتقد دون خفاء أو مواربة
ولورنس يكتب الآن لأقلية من القراء المفكرين واسعي العقول إلا أن الوقت سوف يأتي عندما يؤمن الناس به جميعاً ويدافعون عن آرائه ومبادئه ويعملون بما يبشر به، وهم إن(328/31)
فعلوا ذلك فسوف يحيون حياة جديدة كلها هناء وكلها سعادة وكلها رفاهية.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
خريج جامعة أكستر بإنجلترا(328/32)
على هامش الحرب
ثغر لا يتبسم
للأستاذ محمود غنيم
وقف الشاعر على شاطئ البحر فراعه ظلام شارع الكورنيش كما يقضي أمر الحاكم العسكري فأنشد هذه الأبيات:
الشطُّ داجٍ والسكون مخيِّمُ ... ما بال ثغر الثغر لا يتبسَّمُ
عهدي به طلقاً بشوشَ الوجه إذ ... وجهُ الطبيعة عابسٌ متجهم
ساد الظلام البحرَ حتى أوشكت ... في الليل تخشى أن تُطلَّ الأنجم
فكأن أرواحاً (بوارسو) أُزهقت ... فأقيم في مصرٍ عليها مأتم
البحر يغمره الظلامُ. فيا له ... من عَيْلَمٍ يطغى عليه عيلم
لا نور في الآفاق إلا أن ترى ... طيارةً قد طاردتها أسهم
أو حمرة الشفق التقت بعجاجةٍ ... فكأن ماء البحر خالطه دم
أو طيفَ مصباح بدا وكأنه ... يخشى من الغارات فهو ملثَّم
نور كنور النجم خلف الغيم أو ... كهلال يوم الشك خافٍ مبهمُ
ولقد نظرت إلى المنار فما انثنى ... طرفي. وهل يَثنيه جسم معتِم؟
قد عُطِّل المصطافُ من سُمَّارهِ ... وانفضَّ من قبل الأوان الموسم
أقوت مسارحه وأغطش ليلُه ... لا راقصٌ فيه ولا مترنِّم
قد كان يحيى الليلَ فيه معشرٌ ... فتثاءبوا عند الغروب وهوَّموا
أين الملاح على ملاعبَ سيفِهِ ... وكأنهنَّ به طيورٌ حُوَّم؟
جيش من الآرام كان مرابطاً ... ما باله من غير حرب يُهزم؟
هذي عروس البحر أم أنا حالمٌ ... ما بالها ليست كما أتوهم؟
ما ساهمتْ في الحرب إلا أنها ... بالصمت عن هول الحروب تترجم
لكأن هذا الصمت بين مسامعي ... طلقاتُ أفواهِ المدافع تهْزِم
كم كنت أغشاها فأنسى عندها ... نفسي ويسبح بي الخيال وأحلُم
دنيا يفيض بها السرورُ وعالمٌ ... مَرِحٌ وجو بالسعادة مفعَم(328/33)
البحر كم أغرقتُ فيه لواعجي ... واليوم ما بالي به أتبرَّم؟
يا بنت ذي القرنين عذراً إن نبا ... بي مِقْوَليِ. قلبي بغيرك مغرَم
اللهُ يعلمُ قد نزلتك كارهاً ... صدر يفيض أسى وفَكٌّ ملجَم
(الإسكندرية)
محمود غنيم
مدرس بالمعلمين(328/34)
الخير والشر
للأستاذ ميخائيل نعيمة
سمعت في حلمي، ويا للعجب! ... سمعت شيطاناً يناجي ملاكْ
يقول: (أي، بل ألف أي يا أخي ... لولا جحيمي أين كانت سماك؟
ألَيسَ أنّا توأمين استوى ... سرّ البقا فينا وسرّ الهلاك؟
أَلمْ نُصَغْ من جوهر واحد؟ ... إن ينسني الناس أتنسى أخاك؟)
فأطرق ابن النور مسترجعاً ... في نفسه ذكرى زمان قديمْ
واغرورقت عيناه لما انحنى ... مستغفراً وعانَق ابن الجحيم
وقال: (أي، بل ألف أي يا أخي ... من نارك الحرَّى أتاني النعيم)
وحلَّق الإثنان جنباً إلى ... جنبٍ وضاعا بين وشيِ السديم
ميخائيل نعيمه(328/35)
في الهيكل
للأستاذ إبراهيم العريض
أنا منْ يُنكرُ النعيمَ إذا لمْ ... أتمثَّلهُ في حياةِ أنفردِ
فإذا رُمتَ في الحياةِ كفافاً ... فاجعلِ المستقرَّ في بطنِ واد
كلُّ رُكنٍ من جانبيْهُ مُصلَّى ... قائمٌ فيهِ للطبيعةِ حاد
حيثُ ينصبُّ جدْولٌ في ائتلاقٍ ... كالمَرايا تحتَ الشُّعاع الهادي
سالَ للشمس في الوِهادِ لعاباً ... فاطمأنَّتْ بِهِ بطونُ الوِهاد
ساِحباً ذَيْلَهُ على كلِّ خافٍ ... ناِفضاً بُرْدهُ عَلى كلِّ بادِ
كلمَّا هبَّتِ الرياحُ أصِيلاً ... ماجَ كالطفلِ ناعساً في المهاد
وعلى ضفَّتَيْهِ باسقُ كرمٍ ... لاحَ في مَعْزلٍ عن الوُرَّاد
بَكَّرَتْ طَيْرُهُ تُردِّدُ لحْناً ... كِقيانٍ يَعْزفْنَ بِالأِعوادِ
فإذا ماجَ كالغَدائر ظِلُّ الش ... مسِ قامت على الغصون تُنادي
وإذا زالَ زَاِئلُ الظِّلِّ. . غابت ... بِينَ أوْراقِ وكْرِها الميَّاد
خَلْوةٌ ما خلَتْ بها النفسُ إلاَّ ... تَتمنَّى لوْ لمْ تِعش في البلاد
عشت - يا قلبُ - في الليالي وَدوداً ... والليالي لا تحتفي بالودادِ
فأخلُ بالنفسِ إن أردْت خلاصاً ... منْ حياةٍ تموجُ بالُحسَّاد
تحتَ ظلِّ الكروم. . فوق بساطٍ ... أخضر العشب، أحمر الأوراد
وبِعُنْقودِها الَجنِيِّ إذا عُتِّ ... قَ عِشْ سالماً مِن الأحقاد
(البحرين)
إبراهيم العريض(328/36)
حياتي
للأستاذ العوضي الوكيل
كأنَّ حياتي كوكبٌ أنتِ نورُه ... وزهرٌ ومرآكِ السنيُّ عبيرُه
حييتُ ليحيا فيَّ رُوحٌ من الهوى ... فَيهدِرُ في الدُّنيا ويحلو هديرُه
وتنسابُ في المِزمارِ منْ فيَّ نغمةٌ ... هي القلبُ أوقد بُثَّ فيها شُعورُه
تجوزُ شعاب الأرضِ في رَوْنق الضُّحى ... وتسرى بها والليلُ مرخىً سُتورُه
حياِتيَ بُستانٌ تطاولَ صمُته ... وأقبَلتِ في نفسي فغنَّتْ طيورُه
ورقْرقَتِ الأنغامَ بيضاَء نَضْرةً ... وفي اللحنِ ذوُ يُبسٍ وفيه نضيرُه
فكم ظاهرٍ عَبْر العيونِ تُكِنُّه ... وكم مستكِنٍّ في الضلوع تثيرُه
(السنطة)
العوضي الوكيل(328/37)
تعالي. . .!
للأستاذ صالح الحامد العلوي
تعالي يا ابنة الفجِر ... أشَعِّى النور في صدري
وبثِّي نشوة اللذا ... ت والأفراح في نفسي!
فإنك عنديَ الدنيا ... وكلّ جمالها المغري
وما في الكون من سحرٍ ... ومن طهرٍ ومن قدسِ!
معاذ الله! ما ضاها ... ك من شمسٍ ولا بدر
تمثل في جمالك حس ... نُ أجيالٍ من الإنسِ!
تعالي زهرة الحبِّ! ... أذيعي العطر في قلبي
وأحيي ميت الأحلا ... م والآمال في جَدْبي!
هلمي نحي باللهو ... ونغنم زاهر العمر
ونعمر غالي الأوقا ... ت باللذات والأنسِ!
ففي خدي وفي خدي ... كِ ماء للصِّبا يجري
وفي الكفين كأسٌ لل ... هوى عذرية الغرس!
وقد ينضب ذاك الما ... ء من نهرك أو نهري
وقد تنفد تلك الخم ... ر من كأسكِ أو كأسي!
هلمي! بهجة القلب! ... لندرك صفوة الحبِّ
وكلي مهجةٌ تصبو ... وكلكِ فتنةٌ تصبى!
(حضرموت: سيوون)
صالح الحامد العلوي(328/38)
هذيان. . .
للأديب عبد العليم عيسى
مذهبي، لا مذهب الن ... اس شُعاعي وحياتي
وسواء سَارَ بي للنُّ ... ور أم للظلمات
أنا وَحدي في سبيلي ... مشعلي الهادي حصاتي
لا أبالي ضجة الأح ... باب حولي والعداة
تاركاً نَسل التراب يتلهى ... بالسراب وأمانيه الكذابِ
فلُيلم من شاء إني ... راسخ كالطودعات
ساخر من كل ماض ... فوق دنياي وآت
نَقَروا الأعواد للعر ... س وضجوا بالنشيد
وأنا وحدي نقرْت ال ... عودَ للنعش السعيد
لست بالباكي على الس ... ارب للقبر المبيد
لاَ. . ولا بالهاتف الشَّا ... دي إلى الطفل الوليد
نحن دنيا من حبابِ نَتَبدَّي ... للذهابِ بعدهمّ واكتئاب
فلماذا أرقص الأن ... غام للعرس الرغيد
وهو في عيْنيَ وهم ... من ضَلاَلاتِ العبيد
أتركوني. . أنشد الأل ... حان سكران طروبا
أتركوني. . أوقظ الأط ... يار والزهر الحبيبا
لا تضجوا حول روحي ... وكفى روحي لغوبا
فَأنا هيمان في الدن ... يا وإن كنت كئيباً
أتسلَّي عن عذابي بنشيدي ... المستطاب مثل عصفور الروابي
وسواء كنت للنا ... س عدواً أو حبيباً
فَأنا لا أعرف النا ... س وإن كنت قريباً
(دمياط)
عبد العليم عيسى(328/39)
رسالة الفن
دراسات في الفن
شيء ليس في الكتب. . .
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
. . . وقابلتني مرة أخرى صديقتي التي قدمتها إليك في الأسبوع الماضي وكانت كعادتها غاضبة، ولكنها في هذه المرة كان غضبها بالغاً نهايته من قبل أن تراني، وقد رأتني قبل أن أراها فلم أنتبه إليها إلا بعد أن وكزتني وهي تقول:
- أهكذا يكتب الناس في الصحف السيارة ما يدور بينهم وبين صديقاتهم من أحاديث، حتى إذا قرأها من يعرفونهم ويعرفونهن وقفوا على ناحية من تفكير فتاة تحب أن يعرف الناس عنها أنها مقطوعة الصلة بالرجال وأحوال الرجال ونفوس الرجال؟. . . أم أنت آليت على نفسك تخويف العرسان؟ حقاً إنك قليل الذوق!
- عفوك يا آنستي عفوك، فما أقصد إلى شيء من هذا، وإنما أدعو الله لك بالتيسير كما أسأله لك الصون. ثم أنتهزها فرصة لأسألك ما هو الذوق؟ هذا الذي تقولين إن نصيبي منه قليل. . .
- هو فضيحة جديدة تزفها بأجراسها للرسالة. سأشكوك للأستاذ الزيات!
- ليس للأستاذ الزيات شأن في هذا. فأجيبي وقولي: ما هو الذوق؟ أم أنت تقولين مالا تعرفين؟
- لا أعرف هه! فما هو الذوق يا ذواق؟. . .
- وأنا أيضاً لا أعرف
- إذن ففيم كانت هذه الأستاذية المنفوخة في سؤالك؟
- كانت في السؤال يا آنستي. . . أما تعرفين أني أستاذ في الجهل، والسؤال سألته بحثاً عن المعرفة؟ وهلا تحبين أن نتعرف الذوق معاً؟
- أتعرَّف الذوق معك أنت؟ وهل أنت تريد أن تعرف الذوق. . .؟
- بنعمة الله أردت. وإني أراك لا تعرفينه فقد وقفت عن تعريفه، فلم لا نتعرفه معاً. . . إنه(328/41)
شيء ليس في الكتب!
- لولا أنك مر!
- يا توفيق الله! من هنا نبدأ. أنت تصفين إنساناً بأنه مُر، بينما الإنسان شيء لا يؤكل ولا يشرب حتى يعرف له طعم فكيف سولت لك نفسك هذا الخلط؟
- وأنا مالي! أتريد أن تحاسبني على اللغة أيضاً؟ هم الناس يقولون هذا عندما يريدون أن يصفوا إنساناً بأنه. . . بأنه مر!
- إذن فأنت مقلدة في هذا. . . وسنفرض أيضاً أن كل من يصف الإنسان بالمرارة مقلد في وصفه. . . ولنمض إلى أن نلتقي بأول من وصف إنساناً بهذا الوصف. . . ولنسأله: كيف سولت له نفسه هذا الخلط؟
- سيقول إنه تشبيه
- ونحن أيضاً نقول إنه تشبيه. . . ولكن كيف نشأ هذا التشبيه في ذهنه، وكيف قامت عنده هذه العلاقة بين الإنسان وبين المرارة وهي طعم من الطعوم لا يمكن أن يصل إلى الذهن إلا في أعصاب الجهاز الهضمي؟
- ما للجهاز الهضمي وما نحن فيه؟
- ليس للمرارة مدخل إلى الإنسان إلا من هذا الطريق. . . من الجهاز الهضمي وحده فلن نعدل في تفهم الذوق عن هذا. . وسنبدأ بتقدير حقيقتنا الأولى، وهي أن أول من وصف إنساناً بأنه مر لابد أن تكون أعصاب جهازه الهضمي قد أحست المرارة منه فعلاً. . . وعلى هذا القياس يكون أول من وصف إنساناً بأنه حلو قد أحست أعصاب جهازه الهضمي فيه بطعم السكر فعلاً. . وهكذا. .
- إذا وجدت إنساناً معك يوافقك على هذا الكلام، فإني أعاهدك أن أقوم لك مدى الحياة خادمة، وعلىَّ دخانك! إن هذا الذي تقول لا يصح إلا عند نيام نيام حيث يأكل الناس بعضهم بعضاً فيتذوق بعضهم مرارة ذبيحته أو حلاوتها!
- وأنت لا يصح الذي تقولين، إلا إذا كان عقل الإنسان آلة مضطربة لا نظام لها ولا قانون، ولكن للعقل نظاماً وقانوناً، أفإذا قال هذا علماء النفس آمنت، فإذا قلته أنا تستهزئين؟
- لأنك تريد أن تخرج منه إلى نتيجة مضحكة!(328/42)
- ليس ذنبي، ولا ذنب ما أقوله أنك تضحكين، اسكتي، ولنمضي. . . والله المعين.
- أنا معك. . . فماذا تريد أن تقول؟
- أريد أن أعود فأصلح ما قلت لأنه كلام سخيف
- ليتك تريد أن تعرض نفسك على طبيب حكيم. أما قلت لك إن الذي تقوله ليس شيئاً غير كلام المجانين. . .
- لا يا آنستي، إنه كلام معقول معقول، وكل ما في الأمر أنه سخيف، فلو أننا برأناه من السخف لصلح. ومن يدري فربما أصبح حقيقة علمية فيما بعد. اسمعي
- هاأنا ذي سامعة. وإني لا أسألك يا رب رد القضاء وإنما أسألك اللطف فيه
- المعروف أن الجهاز الهضمي لا يرسل إلى المخ إشاراته إلا بعد أن تؤثر فيه مؤثرات كيميائية. . . أليس كذلك؟
- إنه كذلك
- ونحن نريد الآن أن نعرف: ألا يمكن أن يرسل الجهاز الهضمي إلى المخ إشاراته هذه بغير وجود هذه المؤثرات الكيميائية؟
- يمكن هذا. . . عندما يتذكر الإنسان طعماً من الطعوم
- ليس هذا التذكر إلا استعادة داخلية تلقائية تحدث في المخ وتسترجع بها صورة لحالة فاتت. . . فهو من نوعها. . . ولكنه على أي حال يفيدنا دليلاً أو قرينة على أنه من الممكن أن يتصور الذهن أو أن يدرك طعماً من الطعوم بدون حاجة إلى المؤثر الكيميائي
- حسن. وهل تحسب أن هناك مؤثراً غير هذا المؤثر الكيميائي؟
- ولم لا؟ ألا يمكن أن يكون هناك مؤثر كهربائي مثلاً؟
- تريد أن تقول إننا عندما نرى إنساناً ممن نصفهم بالحلاوة مثلاً، يجري منه تيار كهربائي فيدخل هذا التيار إلى أفواهنا أولاً، ثم تمضغه أسناننا، وتلوكه ألسنتنا، ثم ينزلق في المريء إلى المعدة، وفي أثناء هذا ترسل أعصاب الجهاز الهضمي إشارات إلى المخ تدل على أن هذا الإنسان حلو؟!. .
- لست أريد أن أقول هذا بالضبط، وإنما أريد أن أقول شيئاً يشبهه. على أني لا أرى ما يمنع من إقرار هذا الذي تقولين، وتعززه عندي مشاهدات فطرية ليس من الحكمة أن(328/43)
ننكرها أو أن نغفلها
- وما هي مشاهداتك هذه؟
- سأذكرها لك، ولكني أرجوك ألا تشمئزي منها فالحق لا يعرف الاشمئزاز ولا التقزز. . . لا تؤاخذيني. . . ألم تبصقي يوماً على إنسان رذل؟ أو في موقف رذل؟ ثم. . . ألم يسل لعابك يوماً استجابة لحلاوة. . . طفل أو طفلة. . . أو موقف حلو؟!. . أجيبي. . .
- ما هذا (القرف)؟
- عدنا إلى تردد النساء ووجومهن عن الحق؟ أجيبي. . . ألم يحدث لك شيء من هذا؟ أما أنا فقد حدث لي كثيراً، كما أني أعرف أناساً كثيرين حدث لهم مثل هذا، وإني أعفيك من الإجابة عن هذا السؤال وأفرض أنك مخلوقة عجيبة لا تخضعين للقوانين التي تسري على غيرك من الأبشار. . . وأسألك لماذا يحدث للناس ما عداك طبعاً. . . هذا الذي ذكرناه؟. . هل هو تأثير كيميائي أيضاً؟
- لا أظن!
- إذن فهو غير التأثير الكيميائي، وأنا أقول إنه تأثير كهربائي. صحيح أنني لا أستطيع أن اثبت هذا إثباتاً علمياً يقوم على أساس من التجربة الدقيقة. . . ولكن. . .
- ولكن هذا الكلام لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا إذا أثبته
- وأنا لا يعنيني كثيراً ولا قليلاً أن تقوم له قائمة، فلا أنا متعلق به ولا أنا حريص عليه. . . بل إني أحب أن أمحوه لأثبت مكانه شيئاً آخر أحبه أكثر مما أحب الكهرباء، وهو الروح
- ولماذا لا تقصد إلى ذلك رأساً ما دام هذا هو غرضك؟
- لأن الحديث عن الكهرباء في هذا الزمن أيسر قبولاً عند الناس من الحديث عن الروح، وقد يجد من يقتنع به في سهولة بل إنه قد يجد من يحاول إثباته. . . وربما وجد من يثبته
- فأنت تخادع محادثك وتتملقه
- بل إني أستدرجه. . . دعيني من هذا، وعودي بنا إلى ما كنا فيه. . .
- وفي أي شيء كنا؟
- كنا نتحدث في (كهربات) الناس
- ياله من موضوع!(328/44)
- إنه لا يزال أشتات موضوع ولما يتجمع. . . والآن نريد أن نعرف. . . ألا تختلف الكهرباء في المعادن والعناصر؟
- إنها تختلف. . . فنحن إذا دلكنا الكهرمان بالصوف أو الحرير انبعثت منه الكهرباء، ولكنها لا تنبعث منه إذا دلكناه بالقطن مثلاً. . .
- حسن. إن في هذا ما يشبه ذلك السر الذي يوفق بين ناس وناس، وينفر ناساً من ناس. وقد يكون في هذا أيضاً سر الإذن الذي أباح به الإسلام للرجل أن يتزوج من أربع نساء
- إن هذه قفزة عجيبة أريد لها توضيحاً. . .
- ألا تستطيعين أنت أن تذهبي وحدك إلى هذا التوضيح؟ الرجل كالكهرمان، والنساء كالصوف والقطن، ولكنهن أربع والصوف والقطن اثنان
- ولكن النبي محمداً تزوج أكثر من أربع. . .
- إنه النبي محمد الذي كانت كل كلمة من كلماته درساً، والذي كان كل عمل من أعماله حكمة. . . وهو قد أحب خديجة حباً، وأحب عائشة حباً، وأحب زينب بنت جحش حباً، وهكذا. . .
- ألا ترى أننا ابتعدنا عما كنا فيه. . . عد بنا إلى الكهرباء
- لا أريد أن أقول شيئاً بعد هذا. . . إلا أنه قد أصبح من السهل على هذا الأساس الذي وضعناه أن ندرك السبب في اتفاق مشارب الناس وفي اختلافها. والاتفاق هو الذي يحشد بعض الجماهير وراء بعض الفنانين إذ تجد الجماهير في الفنان قائداً يقودها إلى ما تحبه وترتاح إلى الإحساس به، وينأى بها عما تكرهه وتتقزز من الإحساس به. وهذا هو ما يسمونه الذوق؟
- ولكن علماء النفس أدركوا هذا السر قبل أن تدركه أنت، وقالوا أن الناس أمزجة، وقسموا أمزجة الناس إلى أربعة: اللمفاوي، والسوداوي، والدموي، والصفراوي. وأرجعوا نشأة هذه الأمزجة إلى إفرازات تفرزها غدد خاصة في الأجسام. ولقد أعانهم علماء الطب والتشريح على مذهبهم هذا فأثبتوه لهم، وأنت تلقي كلاماً على عواهنه وتريد مني أن أصدقك وأن أعرض عن كلامهم من غير برهان تسوقه؟
- لا يا آنستي. . . أنا لم أطالبك بشيء من هذا. ولكني أذكرك بما يكون قد غاب عن(328/45)
ذاكرتك، وهو أن الفلاسفة الأقدمين قد قسموا أمزجة الناس إلى طبائع أربع أيضاً فقالوا إن من الناس من هو ترابي، وإن منهم الهوائي، وإن منهم المائي، وإن منهم الناري. . . وقد أندثر تقسيم الفلاسفة القدماء ولم يعد أحد يأخذ به وحل محله كلام أطبائك وعلماء نفسك!
- ولعلك تريد أن تقول إن مذهب حضرتك هذا هو الذي سيحل محل مذهب الأطباء وعلماء النفس؟
- العفو! ولكني أعود إلى السؤال الأول الذي بدأنا به هذا الحديث والذي جرنا إلى هذه النهاية المربكة. . . كيف وصف الواصف الأول إنساناً بأنه حلو أو أنه مر بينما هو لم يذق له طعماً؟
- إنه تشبيه
- بهذا أجبت في بادئ الأمر. فهل تريدين أن ندور؟. . .
عزيز أحمد فهمي(328/46)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
5 - الشعر المستعار والمسحوق
في صباح يوم من عام 1708 حدثت متاعب في بلاط سكسونيا الملكي؛ فإن الأمير أغسطس الملقب بالقوى قد غضب
وكان أغسطس متى غضب لا يكتم غضبه بل يترك كل من يتصل بهم يحسون سوء مزاجه سواء في ذلك الخادم الذي يحمل إليه الطعام، والسائس الذي يمسك بزمام جواده. ولم يكن يعد أحداً من أهل منزله أصغر من أن يعنيه اهتمامه؛ فلا شيء أقل من إشراكه في غضبه ما دام في هذه الحالة
قال (أوتو) خادم المائدة همساً (لأولرتش) الوصيف: (متى بدأت هذه الحالة؟)، وقد ألقى عليه هذا السؤال عندما رمى أغسطس بالمائدة التي أمامه ومشى مغضباً من غرفة الطعام، وهو يصرح بأن اللحم الذي أكل منه والذي كان سروره منه بادياً لا يصلح للرمي للخنازير في الإسطبل، وقال إن كل شيء كان جميلاً عندما جاء من بولونيا في مساء الأمس
قال أولرتش: (ربما كان ذلك لأمر من أمور الدولة؛ فقد قيل إنه سيكون ملكاً على بولونيا إذا سارت الأمور بين النبلاء على ما هي عليه الآن)
فتطوع الحاجب الذي كان مصغياً إليه بقوله: (لقد ذهب في هذا الصباح إلى المصنع)
قال أولرتش: (هذا إذن هو السر. ففي هذا المكان سحر وزيارته لا تؤدي إلى خير)
فقال الحاجب مستغرباً: (ما الذي يصنعونه هناك؟ إنني أراهم ينقلون إليه زجاجات عجيبة الشكل وقناني ثقيلة، ولكن أحداً لم يسأل متى يكون إخراج هذه الأشياء. ولم يحاول أحد الدنو من الأبواب المخفورة ليرى ماذا يحدث بداخلها
قال أولرتش محتداً: (لا ترفع صوتك يا بنيَّ، وكف عن الطواف حول السلم المؤدي إلى الحصن، هذا إن كنت تحرص على مركزك هنا، والأفضل أن تبقي عيناك مغمضين، وأذنك كذلك ما دامت قوات الظلام تعمل).(328/47)
فقال أوتو وهو يبتسم للحاجب المنزعج: (كلا، لا تقل ذلك، فلا وسيلة لإرسال شاب قوي الروح إلى الشيطان لمطالبته بأن يدنو منه وهو مغلق العينين خوفاً من أن يراه. إن الهر (بوتجر) ليس من أمراء الظلام، فيلقي عليك سحره يا بنيّ، ولكن عمله يتعلق به وبالدوق أغسطس، وهما لا يحبان الفضول ولا يحبان تدخل الفضوليين)
قال الصبي وقد بدا عليه الاهتياج الشديد: (ولكنهم يقولون إن الهر بوتجر ساحر، وإنه لما كان يتمرن على فن الصيدلة في برلين لم يكن أستاذه أقل من الراهب اليوناني لاسكا بريس نفسه). . .
فقال أولرتش: (أرأيت نتائج تصرفك يا أوتو؟ لقد امتلأ رأس الصبي بالأقاصيص منذ الآن، وهو يعرف أن الفنون الملعونة فنون الكيمياء تمارس في الحصن. تكلم عنها إذا شئت، وإذا وجدت من نفسك الجرأة على الكلام. أما أنا فأني أعتقد أن الحوائط لها آذان مادام الحديث يسفر عن شر)
ومشى أولرتش غاضباً. فقال الصبي: (ولكن يا أوتو. . .
يا أوتو الرقيق. . . أخبرني. . . فأنت تعلم أني حديث العهد بخدمة القصر، وأنت على حكمتك بعيد العهد بهذه الخدمة!
قال أوتو: (نعم يا بنيّ، لقد كنت هنا لما جاء بوتجر، وكان عمري إذ ذاك ستة عشر عاماً، وكان بوتجر نفسه قاصراً تحت وصاية النبيل أغسطس)!
فقال الصبي: (ولكن لماذا كان فراره ومتى جاء؟).
قال: (لقد فر من برلين، وكان بها في الواقع تلميذ كيمياء ولكنه وأستاذه لاسكاريس عثرا على أثناء الدراسة على شيء جعل حياتهما في خطر، ويقولون إنهما تمكنا من الوصول إلى حجر الفلاسفة نفسه، وإن الدوق الطامع الذي تحت حمايته أراد أن يسجنهما خشية أن يفشيا سر استكشافهما إلى سواه!
قال الحاجب وقد حملق في دهشة أمام أوتو: (حجر الفلاسفة! أهذا هو الذي يحول كل مادة تلمسه إلى ذهب؟).
فقال أوتو: (نعم هو هذا الحجر، وقد سر مولانا أغسطس من إيواء كميميائي ذكي قد يكشف عن هذا السر في يوم من الأيام(328/48)
قال: (وهل عرفه؟). فقال: (لا. وأظن أن هذا هو السبب في مجيء مولانا أغسطس مغضباً من المصنع. لقد فعل أغسطس كل ما في وسعه أن يفعله، ولخوفه من ألا يستطيع غلام في عامه السادس عشر أن يصل وحده إلى هذا السر استقدم الهر والتر فون تشر ناهوس الحكيم - وهو أستاذ في الكيمياء وفي كافة العلوم - واشتغل الرجلان معاً عدة أيام ولكنهما لم يخرجا من المعمل إلا بعض أوان من الخزف الأحمر؛ فإن لم يكن هذا هو كل ما فعلاه فإنه على الأقل كل ما رأيته. وكان شكل هذه الأواني جميلاً لو أن الذي يعني المرء هو لون أطباقه. وكان السيد معجباً بهذه الأطباق حتى لقد أرسلها إلى ليبزج حيث أحدث وصولها حركة غير عادية كما علمت. ولكن الذي يبحث عن السحر الذي يمكن بواسطته تحويل كل المعادن الدنيا إلى ذهب، لكن هذا الذي يبحث عن السحر فلا يجد إلا أطباقاً حمراء والناس كلهم يعلمون أن الطعام طعام سواء أكل في أطباق من الخشب، أو أطباق من الخزف العادي، أو في تلك الأطباق الجميلة الحمراء، فله العذر إذا غضب
قال الصبي: (ولكن أين هو الهر والتر؟ إنني لم أره)
فأجابه: (لقد مات منذ شهرين ومن أجل ذلك كان من نذر السوء على الهر بوتجر ألا يقع على السر سريعاً كما يدل على ذلك ما يبدو من نظرات الشر على عيني مولانا، ولكن تعال أيها الصبي، فيجب أن نؤدي أعمالنا الآن لا أن نقف فنتحدث كأننا بعض النساء العجائز، لكنني لا أحب أن يزعجك الصديق أولرتش الذي يظن كما يظن الكثيرون في هذا القصر أن أمير الشياطين مقيم في الحصن، وأنه يأتي متى استدعاه جارنا بوتجر).
ذهب أرتو ولكن متاعب ذلك اليوم لم تنته؛ ثم فتح الباب على الأثر، ودخل أستاذ الكيمياء الهر بوتجر الذي قلما يخرج من الحصن، وكان في هذه الساعة مهتاجاً كما كان أغسطس منذ ساعة مضت!
مشى بخطوات طويلة وهو يحرك شعره المستعار الذي نُثر فوقه مسحوق، وكان قد اعتاد أن يضعه فوق رأسه المستطيل الضيق فيكسبه هيبة، ونادى بصوت مرتفع ذلك الوصيف الذي يذر المساحيق فعرف هذا الشعر.
فقال الحاجب في إحجام: (هل لي أيها السيد أن آخذها إليه إذا كان المسحوق الذي وضعه ليس جيداً)(328/49)
صاح الكيميائي: (ليس جيداً! أين هو الذي وضع هذا المسحوق؟ أين هو المسحوق؟ من أين أتى به؟ يجب أن أحصل على مقدار منه في الحال؟)
ثم خرج من الردهة وفي يده شعره المستعار وشعر رأسه مشوش. فقال الصبي وهو يشير إلى نفسه بإشارة الصليب أثناء تحدثه: لست أعرف أيهما المحق أولرتش أو أوتو؟ لقد بدا لي الهر بوتجر في هذه اللحظة كأنه مجنون، وكأن قوات الظلام تطارده.
نحن الذين أتيح لنا أن نجتاز السلم، وقسم المعمل في الحصن الذي بدأت به هذه الأعمال الغامضة نعرف أن الهر بوتجر لم يخرج كالمجنون للبحث عن الوصيف الذي ذر المسحوق على شعره المستعار لأنه فعل ذلك على صورة لم يرضها بل لأنه سر من هذا المسحوق إلى درجة غير عادية، وكان يريد جزءاً من هذا المسحوق الثمين الذي وجده، وهو لا ينتظر ذلك، فوق شعره المستعار أكثر مما أراد أي شيء آخر منذ عهد طويل
وكان أوتو مصيباً في قصته في الحدود التي تناولها ولكنه يسلم بأنه لم يدخل المعمل ولا يعلم ماذا يحدث به إلا عن طريق الإشاعة. وقد كان بوتجر وزميله والتر فون تشر فاهوس كسائر الكيميائيين في عهدهما يبحثان عن حجر الفلسفة الذي يحول كل المعادن إلى ذهب. ولكن أغسطس كان يبحث عن أكثر من هذه الخرافة، وقد اتضح فيما بعد أنها خرافة، كان الرجل عملياً كما كان رجل ثقافة. وبما أن عصره كان عصر استكشاف وسياحة، فقد كان اهتمامه شديداً بمعرفة ما تفعله الشعوب الأخرى في تجاريبها العملية وفي فنونها، وقد جمع في العهد الأول من حياته أسلحة ودروعاً من كل الممالك الأوربية، ومن البلاد المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وكان تحمسه في العهد الأخير لجمع المصنوعات الفضية والمجوهرات، وكان لديه من ذلك مجموعة نفيسة، وكلتا مجموعتيه أو الباقي منهما لا يزال موجوداً في هذا اليوم في متاحف سكسونيا بين أفضل المعروض من كنوزها.
وحوالي الوقت الذي لجأ فيه إليه بوتجر ملتمساً حمايته، كان اهتمامه بالغاً نهايته بالأواني الصينية التي جاء بها تجار الألمان إلى أوربا من البلاد النائية في الصين واليابان!
كان في أوربا في سنة 1700 أوان من الحجر ملمعة بأملاح وكان استعمالها شائعاً، وكذلك كان فيها أوان ملمعة بالقصدير، وكان الأغنياء خاصة يستعملون نوعاً من الأواني مغطى بطبقة من الميناء، ولكن هذه الأنواع كانت من نوع الأواني ذات القشرة التي تستعمل(328/50)
اليوم، فإذا ذهبت القشرة بمضي الزمن وكثرة الاستعمال، فإن الطينة تظهر من تحتها، وهي فضلاً عن شكلها العامي ذات مسام، وإذا وقعت نقطة من الماء محتوية على شيء من الدهن في الموضع الذي تقشرت فيه الميناء، فإن هذه النقطة تتسع حول الثقب، وتترك أثراً قبيح الشكل.
وكانت مجاميع الأطباق الواردة من الصين صافية جميلة يستطيع المرء أن يضع إحداها بين عينيه وبين النور، فيتبين أنها مصنوعة من معدن واحد، وهي فضلاً عن ذلك رقيقة خفيفة. . .
وكانت هذه المجاميع كنزاً في نظر رجل مثل أغسطس مشغوف بجمع التحف، فكان يشتريها بأي ثمن ويقدرها لجمالها ولحسن صناعتها. وقد بلغ من شغفه بها أنه تخلى لملك الفرس عن طائفة من جنوده طوال القامة مدربين كسائر رجال الحرس السكسوني في مقابل مائة قطعة من هذه الأواني الشرقية كان الملك الفارسي قد جمعها.
وكان أغسطس قانعاً في البداية بجمع الأواني من الخارج؛ ولكن في الوقت الذي أنشأ فيه (بوتجر) معمله في قصره طمع الناخب السكسوني في أن يضع تحت رعايته مثل الذي يقتنيه
وتساءل، عن السبب الذي من أجله يصنع الصينيون أواني جميلة، بينا المهرة من الصناع ومن الكيميائيين الأوربيين لا يصنعون الأواني إلا من الطين ملمعة أو مغطاة بالميناء
وعهد بعلاج هذه المشكلة إلى كيميائيه الصغير فكانت النتيجة ظهور الفخار الأحمر في أسواق ليبزيج سنة 1707؛ وكان هذا الفخار يصنع من الصلصال الذي وجده فون تشر تهاوس قرب مدينة درسدن
وكان هذا الفخار الذي يصنع في ألمانيا فخاراً جميلاً ولكنه لا يزال بعيداً عن الأواني البيضاء التي تكاد تكون شفافة والتي تصنع في الصين. وقد ملَّ بوتجر من مطالب سيدة الأمير بعد أن صنع الفخار الأحمر. وحاول الفرار من سكسونيا وإنشاء مصنع تحت رعاية سيد أقل سيطرة من أغسطس. ولكن هذا الأخير جاء به إلى القصر القديم الذي يقيم فيه وسجنه في حصنه وإن كان أوتو وأولرتش لا يعلمان ذلك. وقد فرض عليه أن يبقى سجيناً حتى يصنع مثل الأواني العجيبة التي تصنع في الصين(328/51)
كانت هذه هي الحالة إلى اليوم الذي نتحدث عنه، ومع أن الكيميائيين قد أطالا البحث فإنهما لم يستطيعا أن يجدا أي صلصال يمكن صنع الفخار الأبيض منه
وفي الصباح الذي ذكرناه وضع الكيميائي على رأسه شعره المستعار وهو ذاهل الذهن واستمر على عمله، ولكنه شعر بثقل وباكتئاب، وأخيراً خطر بباله أن الشعر المستعار أثقل من العادة فنزعه ليرى سبب غنائه فوجد أن المعدن الأبيض الذي ذر على الشعر المستعار معدن لم ير مثله من قبل، وقد وضع خطأ بدل المسحوق العادي
ولما عثر بوتجر على الوصيف الذي وضع هذا المسحوق سأله عن سره وأخبره الخادم المذكور أنه لم يكن سيئ القصد في إحداث هذا التغيير وأخبره أن رجلاً أسمه شنور وجد محجراً يتخرج منه هذا المسحوق بالقرب من قرية (أو) وباع له جزءاً مما استخرجه منه، وقال هذا الخادم إنه وجده أصفى بياضاً وأليق بالشعر المستعار، لأنه سيبقى مدة أطول
وفحص بوتجر هذا المسحوق كما لا بد أن يكون قد تبادر إلى ذهنك واستنتج أنه على الأرجح هو الكاولين الذي طال البحث عنه والذي كان السياح الآتون من الصين يتحدثون عنه
وعلى أثر هذا الاستكشاف ذهب بوتجر إلى ذلك المحجر واشتراه باسم أمير سكسونيا، وتمكن من صنع عجينة من صلصال كالتي يصنعها الصينيون
وفي سنة 1710 لم يكن في سوق ليبزج تلك الأطباق التي تصنع من الفخار الأحمر فقط بل وجد إلى جانبها نماذج قليلة من فخار أبيض صنعه فون فردريك بوتجر تحت رعاية أغسطس الأول أمير سكسونيا
في العام التالي صار يصنع الفخار المعروف باسم (مسين) في حصن (مسين) بالقرب من درسدن، وبدأت صناعة الفخار السكسوني، وهو النوع المشهور الذي يصنع في درسدن.
ولم يستفد بوتجر المسكين إلا قليلاً من استكشافه هذا. فإن أغسطس الذي أصبح في الوقت نفسه ملكاً على بولونيا، كان حريصاً على سر صناعة الصيني مثل حرصه على أمواله ومثل حرص الصينيين على سر صناعة أوانيهم.
وكان العمال الذين يشتغلون في هذه الصناعة يسجنون في الحصن ويحملون على أن يقسموا على الاحتفاظ بسر صناعتهم إلى أن تطوى عليهم القبور، وكان بوتجر نفسه في(328/52)
حكم السجين وكان مع إشرافه على مصنعة يتابع دراسته لسر استخراج الذهب مع متابعته صنع الفخار.
وفي عام 1716 حذق صنع الفخار فأصبحت الأطباق من الوجهة الفنية في درجة الكمال التي بلغها الصينيون في هذه الصناعة ومات في سنة 1719 وهو في الرابعة والثلاثين من العمر ولا يزال إلى اليوم في معارض درسدن قطع من ذهبه الكيميائي وهو ثمرة محاولته الجدية إلى جانب مصنوعاته الخزفية، ومن المشكوك فيه أنه تبين أهمية استكشافه للنوع الأخير بالنسبة للعالم الغربي بأسره.
لقد ترقى القرن الثامن عشر بواسطة هذا الاكتشاف وقد ذلل بوتجر صعوبة الحصول على خزف صلب أبيض شبيه بالشفاف فالنوع الذي أنتجه من الصيني نموذج لكل ما بين أيدينا اليوم من الخزف
ووجدت محاجر الكاولين (صلصال الخزف) في ليموجيس في فرن، فقد حدث بطريق المصادفة أن امرأة وجدت جذور بعض النباتات المنزرعة في حديقتها وقد علق بها مسحوق أبيض، وبدأت صناعة الصيني بعد ذلك في تلك الجهة ولا تزال موجودة بها إلى اليوم
ومنذ ظهور هذين المركزين يبدأ تاريخ التطور الذي حدث على نظام طعامنا لأن الأطباق الخشبية والأطباق المصنوعة من الصيني أو الحجر، كل تلك الأطباق الكبيرة التي كانوا يغمسون فيها أصابعهم قد زالت وحل محلها الأطباق الصغيرة التي يختص كل فرد بطبق منها
وكانت بداية ذلك كله أن كيميائياً غضب ذات صباح لأنه وجد شعره المستعار أثقل من العادة.
(يتبع)
ع. أ(328/53)
من هنا ومن هناك
كيف نحارب ألمانيا
(عن مجلة (فورثنايتلي))
من الوسائل الفعالة في الحروب الحديثة إلقاء النيران الحامية على مصانع الأعداء. فبهذه الوسيلة نستطيع أن نحد من قوتهم ونضعف مقدرتهم على الاستمرار فيها. وقد حشدت ألمانيا في المصانع كل ما تبقى لديها من الرجال للعمل في صنع الذخائر، فإذا هوجمت تلك المصانع فقدت ألمانيا عدتها من الرجال. وقد أعلن مسيو بيير كوب في مجلس النواب الفرنسي في 20 من يناير سنة 1939 أن ألمانيا قد حشدت في مصانعها من الرجال ما يربو على الخمسة والستين. بينما تستعد فرنسا لوضع عشرة من العمال الأميركيين في مصانعها بازاء كل جندي فرنسي في خط القتال
إن الفوز في الحروب الحديثة قد يكون في المصانع كما يكون في ميادين القتال. فتعطيل حركة المصانع أو إيقاع الاضطراب في داخلها، وإيقاف الإمدادات التي تعول عليها الجيوش في ميدان القتال من أسلحة وأطعمة وملابس يعد من الطرق الفعالة في الحروب، وهو عند العارفين بمثابة الفوز في معركة من معارك القتال
والمؤونة التي يحتاجها الجندي والحيوان لها المرتبة الأولى في الحروب. فالأمة الجائعة لا تستطيع أن تحارب وقد يكون جيشها عرضة للانشقاق. وقد بدأت ألمانيا تضحي بالزبد من أجل البنادق، وأصبحت المواد التي يغذي بها الجيش من الزبد واللبن والدهن والخبز والدقيق مغشوشة جميعها. ومما لا شبك فيه أن ألمانيا الآن في حاجة ماسة إلى الدهن بكافة أنواعه. وقد كانت ألمانيا تعول على الولايات المتحدة في إمدادها بما تحتاجه من ذلك، إلا أن موقف أميركا بالنسبة لألمانيا اليوم سيحرمها مما كانت تستصدره من هذه المواد
فألمانيا والحالة هذه تدخل الحرب وهي في حالة اقتصادية لا تحسد عليها. ولعل أي طارئ جديد يهدد ما تختزنه من المؤونة الآن قد يعرضها لقحط شديد، وهنا يكون للطائرات الفضل الأكبر في كسب الحرب. فالغارات الجوية على المخازن والمزارع والمطاحن التي تعول عليها ألمانيا عليها كل التعويل ستجعلها في أحرج المواقف
إن اختيار مواقع الغارات خير من إلقاء مقذوفاتها بغير حساب؛ فهولا يعرضنا لعداوة الرأي(328/54)
العام، أو يفقدنا شيئاً من عطف الأمم المحايدة. وليس في العالم قوة تستطيع أن تحلق في كل الأماكن دفعة واحدة، فلنوجه قوانا جميعها إلى الأماكن التي تستحق المهاجمة، ولنزودها بكل ما نستطيع من القذائف التي يمكن حملها على متن الطائرات
إحصاء المسلمين في العالم
(عن مجلة (العصبة))
كتب الأمير أمين أرسلان النبذة التالية في (الموندو) الأرجنتينية عربتها مجلة العصبة فيما يلي:
(قلما يتفق المؤرخون والكتَّاب على تحديد عدد المسلمين في العالم. وهذا التباين عائد إلى سبب جوهري وهو أن كثيراً من الأقطار المأهولة بأتباع محمد يتعذر فيها إجراء إحصاء دقيق؛ ولكن ذلك لا يمنع من تحديد عدد المسلمين بأرقام تقرب من الحقيقة
من المعلوم أن المسلمين ليسوا كلهم عرباً أقحافاً، وأنهم يختلفون جنساً ووطناً ولغةً، ففي الصين مثلاً ثلاثون مليون مسلم وهم لا يمتون إلى العرب بصلة غير صلة الدين.
بناءً على إحصاء الحكومة الإنكليزية بلغ عدد المسلمين في الهند بعد الحرب العالمية 78 مليوناً، واليوم، أي بعد عشرين سنة، يجب أن يكون قد ارتفع عددهم إلى 85 مليوناً
وحدد إحصاء رسمي عدد المسلمين في المستعمرات الهولندية بستة وخمسين مليوناً، وبمليون في جزيرة الفيليبين حيث يُدعون مغاربة. وليس يُعرف تماماً عدد المسلمين في الهند الصينية وفي كمبودج وأنَّام وسيام وغيرها.
وفي روسيا يبلغ المسلمون عشرين مليوناً وفي الأفغان عشرة ملايين.
ويبلغ عدد سكان إيران 14 مليوناً، وتركيا بناءً على الإحصاء الأخير 17 مليوناً، وسوريا ولبنان 3 ملايين، والعراق 4 ملايين ومملكة ابن السعود بين 4 و5 ملايين، وفلسطين وشرق الأردن 1. 200. 000، وعدن والممالك المحمية كحضرموت، ولحج مليوناً وجزيرة البحرين والكويت 300 ألف.
وفي يوغوسلافيا 1. 500. 000 من المسلمين، وفي ألبانيا مليون، وفي اليونان مائة ألف وقد كانوا قبل مبادلة السكان خمسمائة ألف، وفي بلغاريا 800 ألف، وفي رومانيا 200(328/55)
ألف، وفي بولونيا 12 ألفاً، وفي المجر ألف. فمجموع المسلمين في أوربا نحو ثلاثة ملايين
أما عدد المسلمين في أفريقية، فيمكن تقديره بين ثمانين ومائة مليون منتشرين في كل أنحاء القارة السوداء، ففي مصر والسودان ويوغندا 27 مليوناً، وفي الحبشة والصومال 5 ملايين، وفي جزيرة زنجبار بين 5 و6 ملايين، وفي موزمبيك البرتغالية مليونان، وفي رأس الرجاء الصالح والترنسفال بين 400 و500 ألف، وفي مستعمرة كونغو البلجيكية 150 ألفاً، وفي أواسط أفريقية وشواطئها الغربية يبلغ عدد المسلمين بناء على تعديل الرسالات التبشيرية المسيحية 48 مليوناً. ومما يذكر في هذا الصدد أن تلك الرسالات من كاثوليكية وإنجيلية لم تستطع على رغم جهدها الكبير أن تدخل في المسيحية إلا 8. 500. 000 نفس في حين أن عدد الذين اعتنقوا الإسلام يتجاوز 36 مليوناً.
تعد مراكش 6 ملايين، والجزائر 6 ملايين و 500 ألف وتونس 2. 500. 000، وطرابلس وبرقة 800 ألف، فيكون إذن عدد المسلمين في هذه البلدان الثلاثة بين 16 و17 مليوناً
وفي أميركا يعيش نحو مائتي ألف مسلم وفي الأرجنتين وحدها ستون ألفاً. فيؤخذ مما تقدم أن عدد المسلمين في العالم، بناء على الإحصاءات الرسمية وعلى تعديل الجغرافيين والرُّحل والبعثات العلمية، يتراوح بين 350 و360 مليوناً، ولا 250 مليوناً كما يزعم البعض
الحب وعلم الحياة
(عن مقال للكاتب (جوليان هكسلي))
يستطيع علم الحياة أن يعرض علينا مئات من الأمثلة لتألف القردة، وشدو الطيور وتعاطفها؛ ولكن هذا جمعيه شيء آخر غير الحب. وكل ما نستطيع أن نقوله إن تلك الحيوانات الدنيا، تعطي الإنسان صورة بسيطة للمادة الأولية التي نشأ منها الحب. فالإنسان من هذه الناحية كغيرها من النواحي يمتاز عن سائر المخلوقات. وهذا الامتياز الظاهر في الإنسان يرجع إلى تركيبه الذهني بلا شك. فليس الإنسان مقيداً بغرائز معينة تلازمه على الدوام، أو قيود عنيفة تتسلط على فكره وشعوره وتتصرف في سائر أعماله. فالعواطف(328/56)
على اختلافها، والإلهام والفكر والتجاريب تتكون جميعها لتخلق في الإنسان حالة فكرية أكثر تشعباً وأشد اختلافاً مما في الحيوانات الدنيا.
وليس للإنسان فضلاً عن ذلك فصول معينة ينقطع فيها إنتاجه كالحيوان ويعجز عن مواصلة الحب. والإنسان بطبعه معرض للاختلاجات النفسية على الدوام وله مقدرة على كبح هوى النفس. وأما الحيوان فله حياته الخاصة المحصورة بين غريزة وأخرى، ولن يكون عرضة للغرائز المتباينة والاحساسات المضطربة التي تشغل نفس الإنسان
وللعقل الإنساني فوائده ومزاياه في فهم التجارب وترتيبها في نفس الإنسان، إلا أن هذا قد يؤدي في بعض الأحيان إلى ارتطام العواطف واختلاف الأهواء والأغراض. فالذين لا يستطيعون أن يتغلبوا على أهوائهم يعيشون عيشة ليس فيها راحة ولا استقرار، والذين يقدرون على كبح جماح النفس وإبعادها عن العوامل المتباينة المتناقضة التي تضطرم فيها يحيون الحياة الإنسانية الصحيحة الهادئة. وللتعليم ولا شك شأنه في إخضاع تلك الأهواء للعقل والمنطق وإيقافها عند حدها. ومما لا ريب فيه أن العوامل الجنسية هي من أقوى ما يتسلط على نفس الإنسان، إلا أنها تقابل بالكبت الشديد في حياتنا الاجتماعية
لذلك كان الحب من الظواهر العجيبة عند الإنسان، فهو يجمع بين أسمى العواطف وأحط الغرائز؛ وهو يفك النفس من عقالها ويقيدها بأثقل الأغلال، وهو يجمع بين الثورة والهدوء
ولا يغيب عن البال أن للحب مراتب وأحوالا لا يدركها الحصر، وللحب ألوان متعددة بعدد المحبين، إلا أن تلك الألوان وإن اختلفت وتعددت يجمعها شيء من التشابه
وتظل النفس الإنسانية ناقصة ما لم يكملها الحب. فهو أقدر العواطف على تحويل الفكر من مرتبة الطفولة إلى مرتبة النضوج؛ فهو يمد الإنسان بشتى الوسائل التي تطلق الروح من قيود الطفولة. وقد يكون الحب فوق ذلك وسيلة عند كثير من الناس لاكتشاف خبايا النفس، ومعرفة أسرارها
إذا نظرنا إلى الحب من الناحية الحيوية أمكننا أن نقرر أن الحب فن، وأن النجاح في هذا الفن يحتاج إلى تفكير وتدبير كالموسيقى والشعر والرياضة وغيرها من الفنون
ولا نريد بالحب هنا ما تكون علاقته بالجسد فحسب، فنحن هنا نقصد الحب على سائر ألوانه. فإذا كان بعيداً عن حدود العقل فمن الواجب النظر إليه على ضوء العقل والتفكير.(328/57)
ولا يقلل من قيمة الحب أن ينظر إليه كظاهرة من ظواهر الحياة التي يمعن فيها العقل ويحللها الفكر، كما أن التحليل العلمي لا يقلل من الجمال الذي يسم قوس السماء. فمن الواجب إذن أن ننظر إلى الحب كناحية وضاءة من نواحي النفس الإنسانية المتشعبة الجوانب المتعددة الأنحاء(328/58)
البريد الأدبي
مسألة
في العدد 31 من (الثقافة) مقال بارع المنحى، عذب الأسلوب، عنوانه (مسألة) بقلم الأستاذ عبد العزيز البشري. وقد جاء في خاتمة هذا المقال - عند الكلام على أخذنا العلوم والفنون عن الفرنجة - ما حرفه: (في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء، وللنبات والأزهار مئات الآلاف من الأسماء والصيغ والمصطلحات. فإذا نحن عرَّبنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة. وأنت خبير بأن ما يدور في صيغ العربية على ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب وما يتحدث به الخاصة. . . ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم وما تنتضح به رسائلهم - كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف. وكيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟ بل كيف له بأن يعيش بجانبه ويحقق ما تحقق الُّلغى لها من كيان؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير، فليت شعري ماذا يكون المصير، فاللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير). أهـ
وإذا أذن لي الأستاذ البشري في أن أرى رأياً فأحاول التعليق على مقاله، قلتُ: إننا ناقلون إلى لغتنا كثيراً من مصطلحات العلوم والفنون، وهذا الطارئ الضخم إنما يحي اللغة المتداولة ويغنيها ويهذبها؛ فلا نسأل إذن: (كيف لهذا بأن يقوم بازاء ذاك؟) بل نسأل: كيف لهذا بأن يقوم بغير ذاك؟
إن اللغة التي تعجز عن سدّ حاجات التعبير وتبقى على عجزها مصيرها الموت أو السقوط عند ألسنة العامّة. فها نحن أولاء مقبلون على تلقِّي العلوم والفنون عن الفرنجة بل التأليف فيها لنعلم أو لنُنشِئ، فكيف يكون التأليف بالعربية ومصطلحات مختلفة تعوزها؟ هذه حقيقة لا تحتاج إلى دليل ولا بسط. فإما أن نستحدث في التعبير والأداء جميعاً وإما أن نعدِل عن العربية إلى لغة إفرنجية، وفي الحال الأولى تعزُ اللغة وتنشط، وفي الثانية تذلّ وتخور: الحياة أو الموت. وليس من الحق أن ندع اللغة تموت، وذلك لأسباب عمرانية وسياسية وتاريخية لا أعرض لها هنا، وليس ثمة ما يسوّغ الإماتة فالعربية صالحة للتجديد قابلة بفضل أوضاعها وأسرارها ثم بفضل كنوزها التي نهملها أو نجهلها.
وإغناء اللغة يهذَّبها فضلاً عن أنه يحييها. بيان ذلك أن الصيغ والألفاظ الطارئة، سواء(328/59)
استخرجناها من بطون كتبنا أو وضعناها وضعاً، لابدّ لها من أن تحلَّ في الحافظة محل صيغ وألفاظ مقيمة. وفي العربية التي تدور على (ألسنة فصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب) ما لا خير فيه بل ما يرد الأداء تفهاً أو يجعله حشواً. ومما يرد الأداء تَفِهاً تلك التعبيرات المطروقة من زمان قديم حتى إنها أضاعت قوَّتها بل لونَها، وقد بين ذلك الأستاذ أحمد أمين في كلامه على جناية الأدب الجاهلي. وبما يجعل الأداء حشواً تلك المترادفات والمتواردات التي يظن بعضهم أنها هي اللغة. ولو علموا أن متن اللغة ينهض الألفاظ المفردة والصيغ المستقلة بنفسها! ولكنه كان جيل من الناس ضاق أفق تفكيرهم فانقبضت صفحة تعبيرهم فمطَّوا أطرافها بالثرثرة والتكرار. فأن تُترك المطروقات وتُهجر المترادفات ويشغل مكانها صيغ وألفاظ لا غنى عنها، ذلك خير للغة ومَدَد للمتكلمين بها
ومن هنا يتبين أن ذلك الطارئ لا يطغى (اشد الطغيان على سائر اللغة) مهما ضخم، بل قل إنه لِقاح له من جانب المبنى والمعنى. أما المبنى فقد تقدم القول فيه. وأما المعنى فبتلك الصور التي تجلبها معها الألفاظ والصيغ الداخلة على اللغة المتداولة، فُيحقَن المجاز بدم فتىِ فيهتزَّ. وإنك لتلمس ذلك في الشعر الحديث في أوربة ولا سيما في فرنسة وإنجلترة ثم في النثر الرفيع هنالك: فكثيراً ما يستعمل الشعراء (شعراء ما وراء الواقعية مثلاً) والكتاب في فرنسة مثلاً) صيغ العلوم والفنون، طلباً للافتنان في التصوير
هذا من جهة الأدب الصرف. بقي أن أقول إن اللغة لا تنحصر في الإنشاء الأدبي. فثمة الإنشاء العلمي، وله أن يجري إلى جانب الإنشاء الأدبي: هذا في شعب وذاك في شعب، فلا طغيان ولا عدوان. وفي تاريخ آدابنا ما يؤيد هذا؛ فقد كتب الفلاسفة والموسيقيون والحاسبون وغيرهم ما شاءوا أن يكتبوا، فهل طغى ما كتبوا على قرائح الشعراء وأنفاس الكتاب؟ وكان طالب العلم المجتهد يحصّل العلوم والفنون؛ فإذا تفلسف بعد ذلك عمد إلى أسلوب الفلاسفة، وإذا تأدَّب نحا نحو المترسِلين
تلك خطرات خطرت وأنا أقرأ مقال الأستاذ الفاضل عبد العزيز البشري، وقد سأل سؤالاً فلعله يتقبل محاولة تعليق، وله مني التحية الخالصة.
بشر فارس
المنضدة(328/60)
المنضدة وتفسيرها هما في (أساس البلاغة) لأستاذ الدنيا جار الله في مادة (ف ج ج) في الجزء الثاني في الصفحة (104) في الطبعة سنة 1327 وفي الجزء الثاني من ذلك الكتاب في الصفحة (186) في الطبعة سنة 1341
وقد جاء جمع الكلمة في (المفضليات) الصفحة 142 من شرح الإمام الأنبا ري في بيت من قصيدة لمزرِّد أخي الشمَّاخ، قال:
وعهدي بكم تستنقعون مشافراً ... من المحض بالأضياف فوق المناضد
ومنضدة الأعرابي في الخباء أو الخيمة غير منضدة العربي في القصر ذي الأبهاء، وهي البداوة المسكينة، وهي الحضارة ذات التفنن والترف. والاسم فيهما واحد وإن اختلف المسمى نجَّارُه ونجْرهُ وِنجارُه.
(ق)
حثر اللسان
حضرة المفضال الجليل صاحب الرسالة:
اطلعنا على ما جاء بالرسالة في العدد رقم 327 خاصاً بالنص الذي ورد في (الإفصاح) وهو لسان حَبْر: لا يجد طعم الطعام، وقد رجعنا إلى الأصول التي لدينا، فوجدنا النص منقولاً عن (اللسان) كما وجده حضرة الأخ (أزهري) (لسان حِثرٌ: لا يجد طعم الطعام) فما جاء في الإفصاح مطبعي ندَّ عنه النظر في أثناء الطبع، ويسرنا أن نعلن شكرنا لحضرة البحاثة (ازهري) على عنايته بالتمحيص الذي أدَّى إلى الكشف عن السهو، وهدى إلى الصواب، ونسأل الله أن يوفقه هو وأمثاله الأفاضل إلى خدمة العلم وإعلاء شأنه
صاحبا الإفصاح
حسين يوسف موسى وعبد الفتاح الصعيدي
هل على القاتل خطأ من إثم؟
جاء في مقال (القتل الخطأ) بقلم الأستاذ أحمد مختار قطب المنشورة في العدد 326 من الرسالة: (فالأصل أن الخطأ لا يعاقب الإنسان عليه (ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به) ولكن(328/61)
لما نتج عن هذا الخطأ إزهاق روح بشرية صار إثماً ووجب عقاب فاعله على رعونته وإهماله)
والذي يؤخذ على العبارة السابقة تحميل القاتل خطأ إثماً، وقد أتى الكاتب في هذا من قبل ما رتَّب على قتل الخطأ من الكفارة والدية فظن أن ذلك نتيجة أنه فعل إثماً وحراماً، والواقع أن ما يرتكبه الإنسان من خطأ وعدم قصد لا إثم عليه ولا يؤاخذ به: حكماً مطلقاً لا مثنوية فيه، أصفق عليه علماء الملة، واجتمعت عليه كلمتهم، وقد دل هذا الأصل من أصول الدين أدلة كثيرة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق وغيره. قال المُناوي في شأن هذا الحديث: (حديث جليل ينبغي أن يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما أن يصدر عن قصد واختيار، أولاً. الثاني ما يقع عن خطأ أو إكراه أو نسيان وهذا القسم معفوَّ عنه اتفاقاً) فإن قال قائل: فما بل هذا القاتل ولا إثم عليه يكلَّف التكفير عن عمله ودفع الدية؟ فالجواب أن دفع الدية عن القتل من قبيل دفع قيم المتلفات أو من قبيل دفع بدل المحل أي محل الإتلاف وهو البدن وهذا لا يتوقف على الإثم. ألا ترى أن الصبيّ لو أتلف شيئاً غرم قيمته وهو لم يجر عليه القلم بعد. وأما الكفَّارة فللزجر وليحتاط المكلف حتى لا يقع في قتل الخطأ بتوقي ما قد يجر إليه. ويقول صاحب شرح مسلم الثبوت في ص165 ج1: (ولما كان - يريد قتل الخطأ - نوع جناية، والقتل من أعظم الكبائر لم يُهدر الخطأ فيه بل وجبت الكفارة)
بقي أن في آخر الآية الكريمة الخاصة بقتل الخطأ ما يشعر ظاهره بأنه إثم إذ فيها: (توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً) والتوبة إنما تكون عن ذنب، وقد عرض لذلك المفسرون وقالوا فيما أجابوا به إن التعبير بهذا للتنبيه أن مثل هذا الفعل يصدر عن نوع من التقصير وإن لم يبلغ بصاحبه درجة المعصية، وقد شرعت الكفارة لمحو أثر هذا التقصير والتوبة منه، وللتلميح بأن من وقع منه هذا الفعل الشنيع ينبغي له أن يستشعر الندم والأسف ويملأ نفسه إعظاماً لما فعل، والسلام عليكم ورحمة الله
محمد علي النجار
مدرس بكلية اللغة(328/62)
الأدب فوق الجميع
أستاذي وصديقي الدكتور زكي مبارك
ليست صلتي بك ولا شدة حبي لأدبك ولا رغبتي في تملقك هي التي تملي عليَّ كلمتي هذه؛ وإنما هو صوت القلب والحقيقة يدفعني إلى مصارحتك بأن فصولك الرائعة (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) قد أوجدت بالجو الأدبي حياة جديدة، وبعثت فيه روحاً قوية بعد شهور خدر ونعاس مرت بالأدب المصري خاصة والعربي عامة، خلنا أثناءها أن أدبنا العزيز قد أخذ طريقه نحو الأجداث!
ولا تظن يا (سيدي الدكتور) - أو لا يظن أحد - أنني أعبر عن معاداتي لآراء الأستاذ أحمد أمين، أو أريد الحملة عليه أو النيل من مكانته المعروفة في العلم والأدب؛ فقد تذكر أنني في آخر رسالة مني إليك - ولم يمض عليها أسبوع - صرحت لك بأنني أخالفك في كثير من آرائك، وأنني أحب الأستاذ الأمين كما أحبك، وأنني كتبت إليه أستعديه عليك واستنفره إلى محاربتك بقلمه لا بسلاحه، وأطالبه بما يجب عليه نحو الأدب والقراء من الرد على ما وجهتَه إليه من انتقادات وملاحظات؛ وما أريد بذلك إلا أن تتسع دائرة النقاش والمباحثة فيستفيد الأدب خير الفوائد، وتجني العربية أشهى الثمار
ولقد طلعت علينا أخيراً - الرسالة 327 - بطرفة من أسمارك وأحاديثك وأدهشتنا إذ أخبرتنا أنك ستقطع سلسلة فصولك النقدية المحكمة بعد ثلاث أو أربع مقالات. .!
ولِمَ تقطعها يا سيدي وما كتبتَها إلا خالصة لوجه الأدب والعربية؟ ألأنك أردت أن تخيب ظن الأستاذ أحمد أمين تحرم آلاف القراء وأهل الأدب من هذه الثمرات الناضجات التي أنتظر لها أن تصير كتاباً ضخماً يكون فتحاً جديداً في الأدب العربي الذي لم يعرف النقد الصحيح إلا في فترات معدودات لا تسمن ولا تغني؟
لا تفعل، يا سيدي، فإني أخاف أن يفسر الناس انقطاعك بتفسيرات، وأن يؤولوه بتأويلات، وأن ينفض عنك بسببه أتباع وأنصار. إن لي بالأستاذ الأمين صلة، وقد اشترك في تسديد خطاي الأدبية يوماً، وإني لأحمل له كل تقرير وإجلال، ولكني على الرغم من ذلك لم أستطع إلا توجيه العتاب الشديد إليه ولومه اللوم القاسي على قوله لك: (لن نتصافى أبداً(328/63)
بعد الذي كان)!. . .
إنها لكلمة كبيرة ما كنت أنتظرها ولا ينتظرها غيري من كاتب مشهور له قدره وخطره، وخلقه ونبالته!
أين نحن إذن من أدباء أوربا وكتابها؟ أين منا تلك الصداقة المتينة التي تضم الأدباء هناك تحت لوائها، لا يزعزعها اختلاف في رأي، أو تنازع على فكرة، أو نزول إلى ميدان نقد ومباحثة؟
إني لأقول كما قال الحكيم: (أنا والله شديد الحسرة على ما وصلنا إليه، فقد كنت أحب أن تكون بين الأدباء صداقات عظيمة، كالذي يعرفه الأدباء العظماء في باريس ولندن وبرلين)
أحد أمرين: إما أن تكون مقالات الدكتور مبارك على حق وإما أن تكون على باطل. والأستاذ (الأمين) في كلتا الحالتين معاتب ملوم؛ لأنه يجب عليه الرضى بها إن كانت الأولى، ويجب أن يهب للدفاع عن نفسه وآرائه إن كانت الثانية، وهو لم يفعل من ذلك شيئاً. وليس الدكتور مبارك بالشخصية الأدبية الهزيلة، حتى نقول إن الأستاذ الأمين تغافل عنها لقلة خطرها. ومن كالدكتور في جولاته وصولاته وتاريخه الأدبي المجيد؟
أي صديقي الدكتور. . . قد انتهى لغو الصيف وجاء جد الشتاء، فلا تكسل ولاتنم، وواصل بحوثك فإنها تهدينا إلى حقائق كثيرة كنا في غفلة عنها، وتطلعنا على آفاق جديدة من الأفكار والأبحاث لم نرها من قبل. على أنني أرجو أن تتحاشى ما يسبق إليه قلمك من عبارات تنال من شخصية الأستاذ الأمين وتجرح شعوره، كيلا يكون لأحد من الناس فيك وفي نقدك كلمة غير كلمة الإعجاب والتأييد. وما أصدق الأستاذ العميد شفيق غربال إذ يقول عنك: (ولو أنه نزه قلمه عن بعض العبارات التي جرت مجرى السخرية من الأستاذ أحمد أمين لما استطاع أحد أن يوجه إليه أي ملام) يجب أن تكون عند قول الدكتور طه حسين فيك إذ يقول: (فما عرف الناس زكياً إلا مثال اللطف والأدب والذوق)
نعم لو أن فصولك خلت من هذه العبارات الساخرة لما اعتبرها القارئ نقداً لكاتب، بل يدرسها على أنها فصول أدبيه بحتة، كلها الأدب الخصب، والتفكير الخالص، والإنتاج الممتع!
لنجعل الأدب يا دكتور فوق الأهواء وفوق الأشخاص وفوق الصداقات وفوق كل شيء،(328/64)
لنجعله فوق الجميع!
وقد كنت عازماً أن أبثك كلمتي السابقة في إحدى رسائلنا، ولكني فضَّلت أن تأتيك عن طريق الرسالة كي يطالعها معك القراء فيشهدوا أنني أعبر عن شعورهم وأترجم عما يجول بخواطرهم. وإننا لفي شوق ملح إلى ما يسيل به قلمك الساحر من سلاف!
أما الأستاذ الأمين، فما هو بالمحتاج للنصيحة، ولا ريب أن له رأيه وخطته؛ وما أكثر ما تضمر الأيام!
أحمد جمعة الشرباصي
عند مدير الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية
في الساعة السادسة من مساء الثلاثاء الماضي اجتمع عند الأستاذ توفيق الحكيم مدير الدعاية في وزارة الشؤون الاجتماعية لفيف من مندوبي الصحف العربية والإفرنجية تلبية لدعوته ليصف لهم مهمة هذه الوزارة ولم أنشئت وقد رحب بهم حضرته وأحسن استقبالهم ثم قال لهم:
كلفني الوزير معالي الشاذلي باشا أن أجتمع بكم لنتحدث معاً في شؤون وزارة هي أقرب الوزارات إليكم وأوثقها اتصالاً بكم وبالشعب الذي أنتم عيونه ولسنه. ذلك أن وزارة الشؤون الاجتماعية هي كما يدل عليه اسمها: وزارة شؤون الشعب، الشعب الذي لا ينبغي منذ اليوم أن يسقط من الحساب، فهو القوة الحقيقية للدولة. لقد رأينا دائماً أن الجيوش قد تحطم ولكن الشعوب لا تحطم.
وهنا قد تسألونني عن السبل التي تسلكها الوزارة للنهوض بالشعب وإنشائه نشأة جديدة فأجيبكم بأن الطرق التي سنتبعها كثيرة وهي تتلخص أول الأمر في إعانة كل فرد من أفراد الشعب على رفع مستوى حياته مادياً وتحسين حاله صحياً وروحياً وخلقياً. إن الفرد خلية حية في جسم المجتمع ومفتاح صغير من مفاتيح تلك الآلة الهائلة التي تتحرك وتدور. وإن في فساد بعض الخلايا وعطب بعض المفاتيح اعتلال الجسم واختلال الآلة. وهنا كان دائماً مصدر تفشي الداء في شعبنا منذ أمد طويل
لهذا توزعت أعمال وزارة شؤون الشعب على نواح شتى، فقامت فيها إدارات تعالج هذه(328/65)
الخلايا من جهات متعددة. فإدارة التعاون والفلاح تعنى بالناحية الاقتصادية والمادية التي تكفل للفلاح وهو الجانب الأكبر من الشعب شيئاً من اليسر والرخاء؛ وإدارة الخدمة الاجتماعية تتجه إلى علاج الأمراض المعنوية والمادية المتفشية في الشعب بأسره مثل الطفولة المشردة ومشاكل الأسرة وضعف الأجسام لعدم انتشار الرياضة البدنية، والعمل على نشر النظافة ومبادئ الصحة في إنحاء البلاد؛ ومصلحة العمل تسعى إلى الأخذ بيد العامل ومؤازرته في مطالبه العادلة والارتقاء بمستوى معيشته، ومكافحة البطالة، وتدبير الرزق للمتعلمين المتعطلين؛ ثم إدارة الدعاية التي ينبغي أن تعد الأذهان وتمهد الأفكار وتستنهض همم القادرين على التضافر لتنفيذ كل ما تقدم ذكره من وجوه الإصلاح
ثم قال: لقد وضح معالي وزير الشؤون الاجتماعية في الكلمة التي افتتح بها قسم الإذاعة في إدارة الدعاية مهمة هذه الإدارة وأعلن وجهتها للناس، وذكر أن فيها دعاية للإصلاح الاجتماعي بأوسع معانيه، وأعيد عليكم هذا البيان في صورة أخرى فأقول: إن عمل تفتيش صحة القاهرة والأقاليم في مراقبته للمواد الغذائية الضارة بالأجسام، كان ينبغي أن يكمل منذ زمن بمراقبة أخرى وتفتيش آخر لنوع من الجراثيم أعظم ضرراً واشد فتكاً بكيان الشعب، وأعني بها الجراثيم الخلقية التي تتسرب إليه من خلال ما يعرض عليه من بذيء الأغاني ورقيع المشاهد وخليع المناظر في المسارح والصالات ودور السينما وإذاعات الراديو. إن إدارة الدعاية بما لها من سلطة الرقابة والتوجيه لكل ما يعرض على الشعب من مشاهد وما يلقى في أذنيه من محاضرات وغناء ستقف حائلاً قوياً دون انتشار كل ما يخدش الخلق ويضعف الهمم ويلقي بذور الانهيار الروحي والانحطاط المعنوي في قلب هذا الشعب العريق. ولسوف نستخدم ما نملك من وسائل في بث الفضائل وتدعيم الروح القوي النبيل، وفي تهذيب الذوق العام بتشجيع الفن الصحيح والدنو به من الكمال وتعويد الناس فهم الجمال.
وعند ذاك ترقى النفوس والعقول ويتم للشعب بلوغ ما نصبو إليه من مرتبة عالية بين الشعوب الراقية المجيدة
إن هذه الوزارة لا يمكن أن يقوم موظفوها وحدهم بكل العبء. هنالك دعامة قوية من الدعائم التي ترتكز عليها دائماً أعمال الإصلاح، هذه الدعامة القوية هي التطوع. بثوا(328/66)
الدعوة معنا إلى الزملاء في شتى أوساط الشعب لإيجاد المتطوعين للإصلاح نحن في حاجة إلى تجنيد أكبر عدد من المتطوعين للإصلاح
أحمد عرابي
اضطررنا لقطع سلسلة البحث في تاريخ عرابي نظراً للظروف الحاضرة؛ وسنعود إلى وصلها في الوقت المناسب
وابتداء من العدد القادم سندرس شخصية مازبتي أحد أبطال الحرية في التاريخ الحديث
الخفيف(328/67)
رسالة النقد
فصل المقال
فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
- 2 -
أما عن التلبيس في سوق الروايات والواقعات في كتاب (مباحث عربية) فإليك بعض من ذلك:
1 - أسند الدكتور بشر فارس ص60 من كتابه (مباحث عربية) ثماني روايات جملة إلى 16 مرجعاً منها أربعة مراجع مخطوطة؛ والغرض من ذلك الوصول إلى إثبات أن (التعريف) الحقيقي الناهض على التمييز للفظ المروءة غير ممكن، وليصل إلى هذا فقد ساق الدكتور بشر هذه الروايات جنباً إلى جنب، وأسندها جملة إلى مصادرها بالجملة للتعجيز، حتى لا ينظر القارئ مصادر كل رواية ويتدبر معانيها في مكانها ووجه مجيئها من الكلام. لأن في ذلك الخطر كل الخطر على البحث إذ يثبت أن الروايات تأتي في كلها لفظة (المروءة) من أصل واحد يحمل مدلول السيادة من جهة ويتضمن السجايا الرفيعة التي يتقوَّم بها شخص السيد. بيان ذلك:
(أ) يقول النوري: (المروءة بذل الهدى، وكف الأذى، وترك الهوى، والزهد في الدنيا، وطاعة المولى)، وهذه الرواية بهذا الإطلاق يتنافر فيها مفاد المروءة مع المدلول الحقيقي للفظة وهذا ما يريد أن يصل إليه الدكتور بشر، وهذا هو التلبيس لأن هذه الرواية لو أسندت إلى مصدرها، وهو مخطوط كتاب (الفتوة) للأردبيلي - أيا صوفيا 2049 - وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ في مبحثه المعنون باسم والمنشورة بمجلة التي تصدر عن همبورج، م24 ص58، لظهر أن لفظة المروءة في هذه الرواية تأخذ مفادها من وجهة المتصوفة، وفي ذلك الوقت يتسق مفاد اللفظة في الرواية مع مدلول الكلمة الناهض على التمييز
هذا وقد نبهني أحد الزملاء إلى أن هذا المخطوط الذي وردت فيه الرواية، نشره الدكتور(328/68)
بشر في مقتطف أبريل سنة 1939 والعجيب أن يقول في التقدمة. (تدخل الفتوة على قلم الأردبيلي في التصوف، وكذلك المروءة التي هي شعبة من شعبها في كتاب الأدربيلي!)
(ب) يقول معاوية: (المروءة احتمال الجريرة وإصلاح أمر العشيرة) فهذه الرواية رغم أنها تحمل في طياتها إشارة إلى سجايا السيد وإفادتها سياسة الملك، فقد أتى بها بشر فارس ليستدل على أن مدلول لفظة المروءة غير ناهض على التمييز. وهو في الوقت نفسه يذكر ص67 في الحاشية، في الهامش رقم 34 هذه الرواية، والمتن يحمل الإشارة إلى أن الرواية مفادها سياسة الملك!
(ج) يقول عمر بن الخطاب: (تعلموا العربية فإنها تزيد من المروءة). ويقول مسلمة بن عبد الملك: (مروءتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة). والدكتور بشر لا ينكر في الرواية الثانية أن لفظة المروءة تنزع إلى السيادة، مع أنها تجئ من الفصاحة وإذن فمفاد الرواية واضح في إشارتها إلى السيادة وسجايا السيد، من حيث أن العربي كان يرى معرفة العربية سبيل الفصاحة والفصاحة من أسباب الكمال والكمال من متطلبات سجايا السيد
(د) في عام 1932 أخرج الأستاذ بشر فارس كتاباً بالفرنسية اسمه (العرض عند عرب الجاهلية) وتقدم به لينال إجازة الدكتوراه من جامعة باريس. وموضوع هذه الأطروحة أن (أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض) (انظر ' ' باريس 1932 ص 32 وما بعدها). ولما كان جُولْد تسيهيرْ أحد شيوخ الاستشراق قد كتب في كتابه طبع سنة 1889 ج1 ص1 - 40 - فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن (المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية). وهو في هذا على نقيض من الرأي الذي ذهب إليه الدكتور بشر، فقد اضطر صاحبنا بشر أن يعود عام 1937 ليناقش رأي جولد تسيهير لأنه صاحب رأي خاص في الموضوع فكتب مادة (مروءة) في تكملة دائرة المعارف الإسلامية، ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب (مباحث عربية) وهو يشغل الصفحات من 57 - 74، وهو إلى هذا الحد لم يرتكب وزراً، ولكن موضوع المؤاخذة جاء من جهة محاولة إيهام القارئ أن بحثه في المروءة ليس عن فكرة سابقة وإنما هو نتيجة التدبر والتدرج من الواقعات للنظر (كما يقول ص73 من كتابه)، وهو لكي يصل للغرض يوهم القارئ - والإيهام ليس بالشيء القليل - ثم يعمد لطرق ملتوية لتعجيز(328/69)
القارئ حتى لا يكشف كيف يميل بالواقعات ويديرها منحرفة عن حقيقتها بعض الشيء حتى يتحصل له من انحرافاتها النتيجة المقصودة. وقد سبقت الإشارة إلى بعض طرق الالتواء في بحثه، وإليك طرقاً أخرى:
(1) لو كانت المروءة واضحة المعنى ما عثرنا على تعريفات لها لا يكاد يقع بعضها على بعض، ولا أصبنا أقوالاً فيها ربما تنافرت بل تدافعت. وبهذه الجملة يلج البحث الدكتور بشر فارس. والذي عندي أن اختلاف التعريف إن جاء من عبارات يقصد بها بيان كيفية المروءة، فذلك لا يقع على بعض مدلول لفظة المروءة. بيان ذلك أن لفظة الرجولة لعهدنا هذا واضحة المعنى، ومدلولها ناهض على التمييز، ولكن كل إنسان حسب طبيعته وأخلاقه وسجاياه ونظرته يعطي اللفظة لوناً يقع على كيفيتها من جهة الصفات لا على مدلولها الذي يدل على المعنى. ومن المهم في تدبر المعنى الحقيقي للفظ ملاحظة هذه الاعتبارات. والآن على ضوء هذا الكلام لننظر في مبحث الدكتور بشر فارس
أولاً - يأخذ الدكتور بشر قول أبي الحاتم البستي: (اختلف الناس في كيفية المروءة) (روضة العقلاء ص207) دليلاً على تضارب التعريفات والأقوال حول لفظة المروءة. والرواية تقصر عما يريد صاحبنا بشر أن يحملها، لأن كلام أبي الحاتم البستي يقع على الصفات لا على المعنى، والمعنى اختلاف الناس في كيفية المروءة لا في مدلولها
ثانياً: يستدل الدكتور بشر من سؤال معاوية: (ما تعدون المروءة؟) على أن معنى المروءة (أو مدلولها) أشكل على المسلمين. والاستدلال خطأ، لأن السؤال يقع على ما كان يعدونه، وعد الشيء مربوط بكيفيته (أو صفاته)، فالصوفي يعد المروءة مثلاً: (ترك الهوى والزهد في الدنيا وطاعة المولى)، ورجل الدنيا يعدها (كثرة المال والولد). فهذه الدلالات للفظة المروءة تقع على الكيفية منها لا المدلول
ثالثاً: نفى الدكتور بشر أن المروءة تفيد معنى السيادة قائلاً ما ملخصه: (إن الاستناد إلى مشتقات مادة (م رء) ولا سيما أسم الفاعل منها في الآرامية لإثبات إفادة المروءة للسيادة خطأ، لأن لفظة مرء عربياً وهي اللفظة الناظرة إلى اللفظ الآرامي إنما مفادها الإنسان. وهذا يدفع أن تكون المروءة أفادت السيادة أول الأمر) هذا وهو يدفع القول، بأن باب المروءة وقع كتاب السؤدد من عيون الأخبار لابن قتيبة، بأن المصدر المذكور لم يثبت(328/70)
غير قول واحد تنزع فيه المروءة لمعنى السيادة
والرد عندنا أن الدكتور بشر ذكر في موضع آخر من كتابه أن المروءة تدرج مقرونة بالسؤدد من كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. . . (رقم 409 مخطوط ليدن ص532 - 534 ع297 من الرسالة) والدكتور بشر يقول في تقدمة هذا المخطوط: (وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها) الرسالة العدد 297 ص533. أما عن مجيء هذه الروايات من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على القضية في شيء، لأن جلها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست من الجاهلية. وإذن يبقى معنا لفظ المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية
رابعاً: ينكر الدكتور بشر فارس أن المروءة أفادت السيادة - وأكبر الظن عنده - أنها ضمت، أو ما ضمت محاسن خلق الإنسان، ثم - من طريق التجديد والمجاز - محاسن خلقه (وهو في رأيه هذا لا يذكر السبب الذي جعله يميل مع هذا الظن. فضلاً عن أنه لا يستند في ظنه هذا إلى أكثر من فصل مخطوط تحت رقم 2049 بأيا صوفيا، يشتق فيها المؤلف المجهول المروءة من مرء الطعام وامرأة، وإذا تخصص بالمريء لموافقته للطبع. فكأنها أسم الأخلاق والأفعال التي تقبلها النفوس السليمة، فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المستحسنة كالإنسانية، وهذا الرأي من الكاتب أحد رأيين ثانيهما أنه يجعل المروءة من المرء فيجعلها اسماً للمحاسن التي يختص بها الرجل فيكون كالرجولية، ولست أدري ما الذي جعل الدكتور بشر يميل مع الرأي الأول؟! وليس في بحثه ما يرجع الرأي الذي أخذ به إلا قول بل أكبر الظن!)
خامساً: يرى الدكتور بشر أن الأقوال والروايات التي ورد فيها لفظة المروءة، فيها جانبان متضادان كلاهما معقود على الآخر: الأول حسي والآخر معنوي، وهذا غلاب على ذاك؛ وهو يذهب إلى: (أن الجانب الحسي ينحدر من زمن الجاهلية وأما الجانب المعنوي فمصدره الإسلام) (ص63 من مباحث عربية) غير أنه لا يثبت على هذا الرأي سريعاً فلا يلبث أن ينقضه ويقول: (وكأن الحسي والمعنوي أخذا يتجاذبان المروءة أيام الجاهلية)(328/71)
(ص65 من مباحث عربية)، وهو بهذا يخلع الجانب المعنوي على الجاهلية. وفي هذا التضارب والتناقض ما فيه مما لا يحتاج إلى بيان. . .
سادساً: يعتمد الدكتور بشر على رواية الأغاني: (أن عينية ابن مرداس كان معوزاً فقصد إلى عبد الله بن عباس يسترفده ويرغب إليه أن يعينه على مروءة. فردَّه ابن عباس لاتهامه إياه في مروءته) ليصل إلى أن المروءة كانت تجيء معنوية من العصر الإسلامي وحسية من الجاهلية؛ وهو يعلق على هذه النتيجة بقوله: (إن ابن عباس نظر إلى المروءة بعين المسلم فنزهها عن المادة وأنزلها منزلة الخلق الحسن. وابن مرداس نظر إليها بعين الجاهلي فرأى فيها إعانة له حتى لا يشتهي طعام غيره)
والرد أن الرواية لا تسعف الدكتور بشر بالنتيجة التي أراد أن يحصلها، لأنه لا يتحصل منها أن ابن عباس نظر إلى المروءة بعيني المسلم، وإنما الصحيح أن يقال إنه نظر إليها من طبيعته، كذلك لم ينظر إليها ابن مرداس بعين الجاهلي، وإنما الصحيح أنه نظر إليها من طبيعته، والفرق بين النظرتين، كالفرق بين الطبيعتين، وهذا الاختلاف في النظر راجع إلى اختلاف النفوس لا إلى اختلاف الزمان، ومن أمثال الذين ينظرون نظرة ابن مرداس للمروءة كثيرون في كل زمان ومكان!
سابعاً - مضى الدكتور بشر في بحثه، وكأنه يتعقب روايات مختلفة من أزمان مختلفة، وأعطى المروءة مفادات مختلفة، كل مفاد خاص بعصر، وانتهى ببحثه إلى أنها لم تنزل منزلة الفضيلة على جهة المماثلة إلا في العصور المتأخرة. والرأي الصحيح في الموضوع أن الروايات التي أتى بها الدكتور بشر فارس متسقة وكل منها تقع على لون خاص من مدلول المروءة، وهذا اللون مرتبط بالناحية الكيفية (صور) للفظة. وهي من هنا لا تأخذ دليلاً على التطور التاريخي. والأصل في البحث اللغوي لتاريخ لفظه أن يكون الباحث صاحب نظرة فلسفية تتغلغل في صفحات الماضي وتستمد من طبيعة الحالات القائمة في العصر صورة تقيمها في ذهنها يمحص على أساسها الباحث الروايات التي تعرض له ويكشف، عن مقدار تأثرها بحالات العصر، وهل هي راجعة لاختلاف النفوس والطبائع، أم إلى اختلاف الزمان، ذلك لا يتأتى إلا عن طريق النفوذ من مادة الرواية وهو الجسم المنظور إلى روحها وهو ما وراء المنظور(328/72)
ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية في أجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم. والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد، ولا يمكنه أن يواجه مراجعة علمية صحيحة. هذا فضلاً عما فيه من تحريف وتعديل للعناصر الأولى والواقعات حتى لا ينفصم معه النطاق، وسيجيء في مقتطف نوفمبر ما في المراجع من اضطراب وما في البحث من تقطع، وما في حلقاته من انفصام.
إسماعيل أحمد أدهم(328/73)
المسرح والسينما
من التاريخ:
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
الفصل الأخير:
كانت هزيمة المسرح على يد سادته وأبطاله هزيمة منكرة، هبطت بهم إلى الحضيض، ورجعت به إلى الوراء عشرات السنين، ولم يبق بد من أن يعهد بالمسرح إلى غير هؤلاء الأبطال الذين نصبوا أنفسهم سادة في مملكته. كان لابد من إنقاذ المسرح وأهله معه بأية وسيلة من الوسائل، ولقد وجدت الوسيلة واقتنعت الحكومة بها فأنشأت هذه الفرقة التي ما تزال قائمة بيننا، وعهدت بها إلى رجل لا ننكر فضله كأديب وشاعر، بيد أنا ننكر صلته بالمسرح، تلك الصلة التي تجعل منه خير من يضطلع بهذه المهمة العظيمة. هذا إلى أنه رجل مشغول بغير المسرح من الشئون؛ فلم يكن الاختيار موفقاً على أي حال. فالمسرح يريد واحداً من رجاله الذين بلوه أعظم البلاء، والذين امتحنتهم خشبة المسرح وعركت أعوادهم فوجدتها من اصلب الأعواد وأشدها قوة وعزماً وحزماً. أما الشعراء، وأما أصحاب الكفايات في الأدب والكتابة فلن تؤهلهم هذه الكفايات والمميزات لهذه المهمة، وقد تؤهلهم لخدمته بوسائل أخرى غير سيادته والتحكم في شؤونه.
على أن مدير الفرقة ليس وحده المسئول عن هذه الهزيمة الجديدة للمسرح، فإن إلى جانبه لجنة عهد إليها باختيار الروايات، فإذا اعتبرناها مسئولة عن عملها، وليس فيها إلا رجل واحد يصلح لهذه المهمة، فإننا نظلمها ظلماً مبيناً! إنها لجنة تتكون من أعضاء من ذوي الكفايات الأدبية والعلمية، لكنهم كما هو الحال مع المدير، ليست لهم صلة بالمسرح تجعلهم أحق الناس بهذه المهمة، بل لعل هذه الكفايات والمميزات التي لهم تجعلهم آخر من يصلح لها. ذلك لأن المسرح فن، وإن كان يعتمد على غيره من الفنون، إلا أن من يصلحون له يجب أن يكونوا من طراز خاص. فالمسرح يعتمد على الكتاب والأدباء والموسيقيين وغيرهم، بيد أن أحداً من هؤلاء قد لا يصلح لمهمة قيادته وسيادة شئونه، وقد يصلح لها(328/74)
ممثل أو مخرج أو مؤلف مسرحي أو ناقد، وقد يكون هؤلاء أقل ثقافة وعلماً من أولئك الجهابذة العلماء، بيد أن روحهم الفنية الملهمة تحوطهم بسياج من القوة، وتمنحهم إحساساً فنياً مرهفاً وتجعلهم من اصلح الناس لتوجيه هذه الشئون!
قلنا إذن: إن مدير الفرقة لا يصلح لقيادتها، لأنه غريب عنها، ولو أنه أديب وشاعر. وقلنا: إن لجنة القراءة ليس فيها إلا رجل واحد صالح، على أنه مشغول هو أيضاً ولديه من المهام ما هو في نظره أجل وأسمى خطراً من المسرح، ومن ثم، فقد ساءت إدارة الفرقة، وساء اختيار الروايات؛ وفي نفس الوقت نرى جماعة الممثلين والمخرجين، وقد اطمأنوا إلى أرزاقهم، قد تركوا الحبل على الغارب، ولم يعد يشغلهم إلا قبض المرتب في أول الشهر، وإلا الإشاعات التي تدور حول الفرقة وتتناثر هنا وهناك، وإلا الزلفى إلى هذا والتقرب إلى ذاك. أما إجادة العمل فهي في المحل الأخير إن لم يكن لا محل لها من تفكيرهم!
هل نجد ما نقوله بعد ذلك إلا أن نكون مكررين لما قيل مئات المرات وكتب في الصحف وتحدث به الناس؟
يكفي أن نضرب مثلاً لشعور الفرقة بتفاهة مجهودها أنها وقد عرضت لها فرصة تقديم بعض بضاعتها أمام مليك البلاد لم تجد ما تقدمه سوى رواية (المتحذلقات) وهي فكاهة صغيرة من الأدب الغربي ذات فصل واحد!
وثمة مثل آخر، فقد دعت الفرقة أعضاء مجلس النواب لتشهدهم على أحقيتها في استمرار صرف الإعانة التي أوشكت أن تطير، دعتهم ليشاهدوا المهزلة الكبرى التي وقعت في إخراج (الجريمة والعقاب) فخرجوا ساخطين متبرمين، ولولا بقية من أمل لطارت الإعانة وطارت معها الفرقة!
ماذا نقول أيضاً، وهل نعتبر هذه الكلمة الفصل الأخير في مأساة الفرقة القومية أم أنه ما تزال هناك فصول كثيرة تستحق كثيراً من الضحك وكثيراً من الرثاء؟
(للكلام بقية)(328/75)
ملاحظات
فن الصالات
ليس من شأن هذه الصحيفة أن تتحدث عن الصالات وما فيها، وإنه
لعهد أخذناه على أنفسنا أن نحرص على كرامة الفن الذي تدنسه
الصالات بسخفها وبالجو الذي تخلقه والفساد الذي تدعو إليه، وتاريخ
الصالات عندنا تنبعث منه روائح تزكم الأنوف تثيرها الفضائح التي لا
حصر لها ولا حد
ولكن في الأيام الأخيرة هبط الصالات بعض بطلات المسرح وأبطاله لظروف يعرفها الجميع في مقدمتها فشلهم على المسرح ويأسهم منه
ويقول عزيز عيد الذي يشتغل الآن بصالة ببا: إنه قد وجد سبيلاً آخر لخدمة المسرح في صالات المجون واللهو حيث يبحث الناس عن مشتهيات الجسد. وتقول فاطمة رشدي: إنها لم تفقد شخصيتها التي نالت بها مكانة في المسرح والتي ستنال بها مكانة في الصالات! أما عزيز عيد فقد رأيناه في دور صغير كان بارزاً فيه بلا جدال. ولكن ماذا يجدي عليه هذا وماذا يجدي على الفن في هذه الأوساط الموبوءة. إن من الواجب أن يكون كل شيء في الصالات من الوجهة التمثيلية صحيحاً إلى حد كبير، ولكن هذا لن يغير من جوهر الأمر شيئاً. ولنلق نظرة على فاطمة رشدي التي كانت نجمة المسرح يوماً وهي تبتذل نفسها بين طائفة من الراقصات وحثالة الصالات
الرؤوس اليانعة
جلس الأستاذ حلمي رفله يتحدث إلى مدير الفرقة عن الإصلاحات الكبيرة التي سيدخلها على فن المكياج هذا العام، وطلب فيما طلب أن تصنع رؤوس من خشب على قدر رؤوس الممثلات والممثلين كيما يضع لها الشعور المستعارة اللازمة دون حاجة إلى العودة للممثل في كل مرة
ونظر إليه المدير الجبار وقال:(328/76)
- لنؤجل ذلك إلى السنة القادمة يا أستاذ رفله، فهنا رؤوس ستخرج وهناك رؤوس قادمة من بعيد!
ثم تحمس المدير الهمام ونطق بكلمة الحجاج المشهورة:
(إني لأرى رؤوساً قد أينعت)
ولو نظر المدير إلى المرآة لرأى فيها أحد الرؤوس اليانعة التي حان قطافها.
(فرعون الصغير)(328/77)
العدد 329 - بتاريخ: 23 - 10 - 1939(/)
وزارة الشؤون الاجتماعية
ما أظن أحداً من آحاد المصلحين ثَلِجت نفسه لإنشاء هذه الوزارة مثلما ثلجت له نفس الرسالة. ذلك لأن سبيلها هي التي تجاهد فيها الرسالة، وخطتها هي التي تسير عليها الرسالة، وغايتها هي التي تقصد إليها الرسالة؛ فكأنها قامت لتحقيق آمالها بالتنفيذ، وتطبيق مبادئها بالعمل. ومن ذا الذي لا يبلج صدره إذا رأى قوله قد صار فعلاً، وخياله قد أصبح حقيقة؟
لقد عالجت الرسالة مشكلة الفقر على وجوهها الشتى في بضع عشرة
مقالة خرجت منها على أن الحرمان كان في الأكثر الأغلب علة ما
يكابد المجتمع من جرائم القتل والسرقة، ورذائل البغاء والتشرد؛ فلو
أن أولي الأمر عالجوه بما عالجه به الله من تنظيم الإحسان وجباية
الزكاة لما وجدوا في البيوت عائلاً ولا في الطرقات سائلاً ولا في
السجون قاتلاً ولا في المواخير ساقطة. ولكننا تركنا الموضوع قانطين
من رحمة القلوب، لأننا وجدنا غاية الأمر فيه لا تعدو البكاء
والاستبكاء ما دام الحكم في يد الأقوياء، والتشريع لألسنة الأغنياء،
والغلب والسبق للناب العضوض والجناح المحلق. فلما وفق الله
الحكومة القائمة لأن تجعل لآثام الجهل وآلام الفقر وأرزاء المرض
وزارة تعالج كل عرض لها، وتساعف كل منكوب بها، وتقطع كل علة
فيها، قربت منازع الإصلاح وسفرت وجوه المنى. ثم كان من مصاديق
الأمل ودواعي الثقة أن تولي الوزارة رجل من رجال الجد والعزيمة لم
يصبه الله بداء الكلام، ولم يشغله بحرفة السياسة، فاختار لمشورته
ومعونته وأمره طائفة من قادة الرأي ودعاة الإصلاح أمثال الأساتذة
عبد المنعم رياض وتوفيق الحكيم وابنة الشاطئ؛ ثم مضى بهم في(329/1)
طريقته المرسومة إلى غايته المعلومة يقظ القلب نافذ الهمة لا يعمي
وجهه ضلال، ولا يقطع سبيله عقبة
أجل، إن اختيار الشاذلي باشا لوزارة الشئون الاجتماعية سبب من أسباب النجاح لها والثقة بها ما في ذلك شك، فإن عهد الناس بهذا الرجل قوي الارتجال عسكري الإرادة. وهم لا يفتئون يذكرون أنه أشعر المصريين عزة الوطن، وعود الأجانب احترام الدولة، بأمر يسير واحد حرص عليه وألح فيه، هو أن يعزف أصحاب المسارح والسينما السلام الملكي في ختام كل حفلة. ولكننا لاحظنا أن وزارة هذا الرجل السكوت الفعول قد أخذت في هذه الأيام تسرف في نسج الكلام وقطع الوعود ووضع المشروعات وتقديم المقترحات وتأليف اللجان، فذكرنا ذلك وزارة المعارف في عهد من العهود إذ كانت تؤلف كل ساعة لجنة، وتضع كل يوم مشروعاً، وتسن كل أسبوع نظاماً؛ ثم ينتهي الأمر بأكثر أولئك إلى ما تنتهي إليه الفقاقيع الغازية على وجه الماء الآسن!
لقد أكرهتنا حكوماتنا المتعاقبة على أن نفهم أن تأجيل الموضوع للبحث معناه إهماله، وتحويل المشروع إلى لجنة معناه إغفاله. فهل يجوز أن نخشى مثل ذلك من هذه الوزارة الوليدة وهي لم تبتل بعد بجمود الموظفين الآخرين وروتين الوزارات الأخريات؟
إن الدم الجديد في هذه الوزارة، والروح المتوثب في هذا الوزير، يذهبان الخيفة من جهة التفريط والنكول، ولكنهما يوجبان الحيطة من جهة الإفراط والتهور. وكفى بهذه الظنة باعثاً على كتابة هذه الكلمة
إن وزارة الشؤون الاجتماعية تجديد رسمي لدعوة النبوة؛ وهي بحكم وجودها وطبيعة عملها وزارة الجمهور؛ فلا مندوحة لها إذن عن نهج سبيل الدين في محاربة الفساد بالأناة والحكمة. فإن مصادمة الموجود بالطبيعة مدعاة إلى الفشل، ومقاومة المألوف بالعادة مجلبة للنفور، ووسيلة النجاح في هداية العامة الحيلة والتدرج. والله عزت حكمته لم يشأ أن يقيد الزواج ويحرم الخمر ويحظر الرق دفعة واحدة؛ وإنما استدرج الغرائز والأهواء إلى حدود المعروف شيئاً فشيئاً حتى اطمأنت إليه ورغبت فيه
ما للوزارة على حداثتها تبدأ منهاج الإصلاح من آخره، فتريد أن تعرض لما يتصل بالحرية أو بالعقيدة كأن تقيد الزواج وتحدد السهر وتحرم على بعض الناس اللهو؟ إن ذلك(329/2)
وإن كان له أثره في صلاح المجتمع لا يحسن أن يكون أول ما تعمل. وربما كانت هذه الأمور التي تنكرها ظواهر لبعض الأدواء الاجتماعية تزول بزوالها. أما الرأي الذي تأمن عليه من المعارضة والفوضى والتشعث فهو أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت ثلاثة عناوين هي الفقر والجهل والمرض، فإنها جماع العلل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؟ ثم تحاول بجهادها المتصل في شتى الميادين أن تمحو الأمية وتقتل الجوع وتجتث أصول العلة، حتى إذا وجدت أمامها بعد ذلك شعباً صحيح الجسم نير الفهم مكفي الحاجة استطاعت أن تأخذه بوسائل الكمال كتوحيد الأزياء وترقية الغناء وتهذيب التقاليد وتنظيم الأسرة وتمدين الجماعة. على أن ذلك كله يكتسبه الشعب من ذات نفسه متى أدرك قسطه الضروري من ثقافة العقل والروح والبدن. وعسى ألا يقع في ظنك من هذا الإجمال أني أخلط بين اختصاص هذه الوزارة واختصاص وزارات المعارف والأوقاف والصحة؛ فإن وزارة الشؤون الاجتماعية بحكم اختصاصها الشامل لحياة الجماعة في المدينة والقرية لا بد أن تتصل بالثقافة والسلامة والإحسان من جهاتها العامة؛ ولكنها لا تعلم كالأستاذ، ولا تعالج كالطبيب، ولا تحسن كالواقف. وسترى في فصولنا التالية كيف يتميز عملها من عمل غيرها، حين نفصل الكلام في هذه العناوين الثلاثة: الجهل والفقر والمرض
أحمد حسن الزيات(329/3)
كيف يعظون
للأستاذ عباس محمود العقاد
أيام الحوادث الفادحة هي أيام العظات البليغة لمن يحسن استخراجها من حوادثها ثم يحسن التعليل بين مقدماتها وعواقبها والحرب أبلغ العظات
لأنها تمتحن النفوس فتثير فيها الشكوك وتقلقل فيها دعائم الإيمان فهي في حاجة إلى اليقين والاستقرار
ولأنها ترين على القلوب بالغموم وتلعج فيها الأحزان فهي في حاجة إلى الترفيه والتأسية والعزاء
ولأنها تكتظ بالشواهد والمثل وأسباب الخبرة ومجامع العبرة فهي في حاجة إلى من يحسن التعبير والاعتبار
رأيت مثلين من أمثلة العظات العصرية هما اللذان بعثاني إلى كتابة هذا المقال: أحدهما مسيحي والآخر إسرائيلي، وكلاهما من مبتكرات الوعظ (العقل التاريخي) الحديث
جاء المثل الأول في مقال بصحيفة (المانشستر جارديان) الأسبوعية لواعظ يصف تجاربه في الحرب الماضية قال:
كثيراً ما وعظت في أثناء فترات الغداء بالمصانع فكانوا يلقونني برفق وإكرام
ولكني في بعض الأيام لقيت رجلاً غاضباً محنقاً وإن كان مؤدباً في مسلكه يقول لي: ما هذه الجرأة منك على الوعظ باسم إله المحبة والرحمة وهذه الحرب الخبيثة تطحن الناس؟
فقلت له: إنك يا أخانا لقاس على الأقدار. . . فهبك في مكان القدر فماذا عساك كنت صانعاً بالدنيا؟. . . لا أحسبك كنت تخليها من الخطيئة لأنك بهذا تهدم تكوين النفس الإنسانية باعتبارها نفساً مريدة مكلفة ذات حرية ومشيئة. . . فإن لم تصنع هذا فماذا أنت صانع؟
قال: على أية حال كنت لا أدع إنساناً يألم في حياته لجريرة غير جريرته وذنب غير ذنبه
فأجبته قائلاً: آه! يالها من حياة مخيفة تلك التي تريدها. فماذا تنوي أن تصنع بالأمهات مثلاً؟ أتريد من الأم إذا ذهبوا بابنها إلى الموت أو ذهبوا بابنتها إلى العار أن تمضي في طريقها ضاحكة راضية وهي تقول: لا يعنيني! فالذنب ذنب غيري؟
(إن الدنيا التي تريدها لتكونن دنيا خلواً من الآباء والأمهات والأصدقاء والقديسين والأبطال(329/4)
والشهداء)
هذا هو المثل المسيحي وله شروحه ومعقباته عند من تناولوا مسألة الاختيار ومسألة الشر الدنيوي في الفلسفة الحديثة
ولكنه كلام يقال للرجل العصري فإذا هو أقرب إلى فهمه والإصغاء إليه من كلام لا يقوم على فكر ولا على حجة وإنما يقوم على إلزام كإلزام الآلات وتكرير كتكرير الببغاوات
أما المثل الإسرائيلي فقد قرأته في رسالة يقول كاتبها وقد عرض حوادث العالم أمامه فإذا هو يقول: إن الله يبتلي بالقصاص العاجل كل بلد يظلم أبناء إسرائيل، ويكتب النصر والقوة لكل بلد يعاملهم معاملة الرفق والمساواة. فلن ترى أمة شاعت فيها المذابح والمظالم للإسرائيليين إلا أصيبت بثورة أو سيقت إلى حرب أو منيت بهزيمة
هذه روسيا كانت أسبق الأمم إلى ظلم اليهود فابتلاها الله بالثورة البلشفية
وهذه أسبانيا تعاقبت فيها المظالم عليهم فابتلاها الله بالحرب الأهلية
وهذه بولونيا نفسها لم تخل في بعض عهودها من ظلمهم ومطاردتهم، فشاءت الأقدار أن تكفر عن سيئاتها
وهذه ألمانيا النازية تنساق إلى حرب زبون تهدمها من أركانها
(يهواه رب جبار لا ينسى الثأر ولا يصبر على الأشرار)
وهذا الكلام أيضاً قريب إلى عقل الرجل العصري الذي يفكر تفكير المشاهدة وينظر بعين التاريخ، وإن كان قائله ليخلف الأمر فيضع المقدمة موضع النتيجة ويضع النتيجة موضع المقدمة. إذ الحقيقة أن الاضطراب هو السبب المؤدي إلى ظلم (الأقليات) ومنها اليهود، وليس ظلم الأقليات عامة أو اليهود خاصة هو السبب المؤدي إلى وقوع الاضطراب. فالروسية وأسبانيا وبولونيا وألمانيا كانت فيها المساوئ الاجتماعية والقلاقل السياسية سابقة للخصومات والفتن التي تقع بين عناصر الكثرة وعناصر القلة فيها، وقد حدث أن بلاداً وقعت فيها الهزائم والفتن وليس فيها يهود مضطهدون كما حدث في بلاد الترك والصين. فالعلة الأولى هي الاضطراب والعلة الثانية هي الاضطهاد، وهذا هو موضع الخطأ في تفسير إرادة الله كما رآها واعظ إسرائيل
إلا أن الكلام كما أسلفنا كلام يقال في العظات العصرية لإقناع السامعين العصريين، وهو(329/5)
خير من كل كلام لا ينظر قائله إلى الواقع ولا ينظر إلى التاريخ
قرأت هذين المثلين في شهر رمضان
وشهر رمضان عندنا هو شهر العظات وشهر السهرات في سماع القرآن والدروس
وقد سمعت بعضها وقرأت بعضها وذكرت بعضها مما كان يلقى في السنوات الماضية
فيطيب لي أن أقول إنها تتقدم من المحاكاة إلى الابتكار، وأنها تخرج من حفائر الموت إلى ميادين الحياة، وأنها تخاطب الناس خطاب الإقناع بعد أن خاطبتهم طويلاً خطاب الإلزام والإرهاب. . .
فإذا اطردت على هذه الوتيرة فسبيلها غداً (1) أن تشمل الآفاق الواسعة وتتعمق في أغوار النفس الإنسانية و (2) أن تربط بين موضوعاتها وكبريات الحوادث الحاضرة و (3) أن تعمم الإقناع في خطاب العقل البشري فلا تقصره على من يؤمن بالقرآن والسنة والمسلمين، بل تجعله مقنعاً خليقاً بالبحث والنظر في رأي كل صاحب عقل وتفكير
وهل أضيف أمنية أخرى؟
يقول أناس إن بائع الحرير لا يلزم أن يلبس من حريره، وإن واصف الدواء لا يلزم أن يتناول من دوائه، وإن الأب الذي يقدم لوليده الطعام لا يلزم أن يأكل من طعام الأطفال، ولكن الواعظ لا يكون واعظاً إلا إذا عمل بما يأمر به الناس
ويقول آخرون: بل حكم الواعظ في ذلك حكم بائع الحرير وواصف الدواء ومقدم الطعام لبنيه، فليس بالواجب عليه أن يعمل بكل ما يقول، وإنما الواجب عليه أن يهدي كلاً من سامعيه إلى ما يحسن به عمله وتصلح له هدايته
وأياً كان مقطع الرأي في اختلاف الواجبات أو اتفاقها بين الناس فهناك واجب مشترك متفق عليه بين جميع الواعظين والعاملين: وهو الإيمان بالواجب والإيمان بالأمانة والإخلاص في أدائه.
عباس محمود العقاد(329/6)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 19 -
رأينا في المقال السالف كيف أخطأ الأستاذ أحمد أمين حين زعم أن الأدب العربي على اختلاف عصوره ليس فيه إلا شاعر واحد يهتم بتحليل المعاني
فهل نجاه الله من الخطأ حين زعم أن الأدب العربي لم يعرف غير كاتب واحد يهتم باستقصاء الأغراض؟
إن الله لطف بابن خلدون فشغل به قلب الدكتور طه حسين لتعلو منزلته في نظر الأستاذ أحمد أمين، فأغلب الظن أن احمد أمين لم يكن عنده مانع من القول بأن الأدب العربي في جميع العصور وفي جميع الأقطار لم يخلق فيه كاتب يعرف كيف يشرح المعاني والأغراض على نحو ما يصنع الكتاب في هذه الأيام!
والحق أن بُعد الدكتور طه حسين عن مصر في أيام الصيف عرض الأستاذ أحمد أمين للمعاطب، فلو أن الدكتور طه بقي في مصر لكان من الجائز أن يعلن إعجابه بكاتب آخر غير ابن خلدون، وعندئذ كان يصح للأستاذ أحمد أمين أن (يتفصل) فيقول إنه لا يعرف في الأدب العربي غير كاتبين اثنين؛ وكان من الجائز أيضاً أن يعلن الدكتور طه حسين إعجابه بكاتب ثالث فيقول الأستاذ أحمد أمين إنه لا يعرف في الأدب العربي غير ثلاثة من الكتاب!
فهل نرجو أن يتلطف الدكتور طه حسين فيقول إنه لا يُعقَل ألا ينبغ في الأدب العربي غير كاتب واحد في ذلك الأمد الطويل الذي سيطر فيه على أقطار أسيوية وإفريقية وأوربية؟
إن الدكتور طه لو قال هذه الكلمة - وهي حق - لسرت عدواها إلى روح الأستاذ أحمد أمين فاندفع يثني على الأدب العربي بما هو أهله، ولكان من الممكن أن يصرح بأن الأدب العربي نبغ فيه من الكتاب عشرات أو مئات
ولكن الدكتور طه يترفق بأصدقائه أشد الترفق، ويحرص على ستر ما يقعون فيه من أوهام وأضاليل، وقد يقدمهم إلى الجمهور في جلبة وضوضاء، فكيف ننتظر أن يقول في الأدب العربي كلمة حق تشجع رجلاً مثلي على مهاجمة رجل يستبيح في الغض من أدب العرب(329/7)
ما لا يباح؟
لقد قضيت أعواماً طوالاً في محاربة الدكتور طه حسين، واستطعت أن أعدل مسالكه الأدبية بعض التعديل، فهل أستطيع اليوم أن أخوفه من عواقب السكوت على أغلاط بعض زملائه الأعزاء؟
إن الدكتور طه هو المسئول عن احمد أمين، فهو الذي قال: (إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها) ومعنى ذلك أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره
كنت أعرف أن الدكتور طه على خطأ يوم ظن أنه استكشف (الأديب) المدفون في صدر احمد أمين، ولكني رأيت ألا أسارع إلى تخطئة الدكتور طه، علماً بأن الأيام سترد الدكتور طه إلى الصواب، فهل ردته إلى الصواب؟
لقد حدثتكم من قبل أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما كان موظفاً مخلصاً للوظيفة لا يرى ما عداها من الشؤون، ثم قال له طه حسين: كن أديباً، فكان
واليوم أحدثكم أني أخطأت، والصواب أن أحمد أمين لم يكن أديباً، وإنما قال له طه حسين: كن أديباً، فلم يكن!
يا دكتور طه:
هل تصدق القول بأن اللغة العربية لم يكن فيها كاتب يحلل المعاني غير ابن خلدون؟
أحب أن أساجلك الحديث، فقد ضجرت من مساجلة أحمد أمين
ما رأيك في الرعيل الأول من الكتاب بعد عصر النبوة؟
ما رأيك في الخطاب الذي وجهه عبد الحميد بن يحيى إلى الكتاب؟
ألا تراه غاية في تحليل المعاني وتشريح الأغراض؟
وما رأيك في طريقة عبد الله بن المقفع وهو ينثر الحكم أو يكتب العهود؟
إن كتاب كليلة ودمنة هندي الأصل، فليس لابن المقفع غير الترجمة والتهذيب، ولست من القائلين بأن كتاب كليلة ودمنة من إنشاء ابن المقفع، ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب، وهي بالتأكيد من إنشاء ابن المقفع؟
أليست تلك المقدمة شاهداً على أن ابن المقفع يجيد الاستيعاب والاستقصاء؟(329/8)
وما رأيك في الكتاب الذين عرفتهم اللغة العربية بعد ذلك؟
هل يستطيع إنسان أن يقدم ابن خلدون على الجاحظ إلا وهو محروم من نعمة الفهم والذوق؟
إن الجاحظ كاد يستوعب جميع المعارف في عصره، وكاد ينطق جميع الأحياء والأموات بما عرفوا وأحسوا من دقائق الأشياء. والذي يقرأ رسائل الجاحظ ومؤلفاته يشهد المعارك والمصاولات بين أصحاب المذاهب والآراء، ويرى كيف تصطرع الطبائع والنحائز والخصال
فهل يحوز القول بأن اللغة التي عرفت أدب الجاحظ ليس فيها كاتب غير ابن خلدون؟
وما رأيك في ابن قتيبة؟
هل تذكر مقدمة كتابه (أدب الكاتب)؟
إن (أدب الكاتب) هو في الأغلب دراسات لغوية وصرفية ولكن ما رأيك في مقدمة ذلك الكتاب؟
أليست غاية في التحليل والتشريح؟
وقبل الجاحظ وابن قتيبة عرف الأدب العربي (مشاورات المهدي لأهل بيته) وأذكر أنك حاورتني في صحة هذه المشاورات وصح عندك أنها من الأدب المنحول، وكانت حجتك أنها لم تذكر في غير كتاب العقد الفريد. وقد ضاق وقتي عن تعقب المصادر التي وردت فيها إشارة إلى تلك المحاورات، فهل تظن أنها من بعض ما اخترع كتاب الأندلس؟
المهم، يا سيدي الدكتور، أن نتفق على أنها سبقت القرن الرابع، ولا يهمنا بعد ذلك أن تكون مشرقية أو مغربية، كما لا يهمنا أن تكون من نتاج القرن الثاني أو الثالث، فما يعنينا في هذا المقام إلا أن نتخذها شاهداً على أن من كتاب العرب من أجادوا التحليل والتشريح قبل ابن خلدون بأجيال طوال
ومن المؤكد أن مشاورات المهدي لأهل بيته ليست أول وآخر ما عرف العرب من هذا الطراز، فلها أشباه كثيرة منها (حديث السقيفة) الذي قصه علينا التوحيدي والذي نقده ابن أبي الحديد
ولولا خوف الفتنة لأشرت إلى قصة دينية كثر فيها الحوار والتمثيل، وهي من الشواهد(329/9)
على أن العرب تنبهوا من وقت مبكر إلى تحليل المعاني وتشريح الأغراض
وما رأيك في أبي حيان التوحيدي؟
ألا ترى أن أعماله في القرن الرابع تذكر بأعمال الجاحظ في القرن الثالث؟
كان الجاحظ ينطق العلماء والفقهاء والأدباء، وكذلك كان التوحيدي ينطق من عاصروه بألوان كثيرة من صور الفكر والبيان
ومن المؤكد أن التوحيدي أكتب من ابن خلدون وأسبق إلى تشريح الآراء والأهواء
ومن المؤكد أيضاً أن التوحيدي لا يقل عن أعظم كاتب عرفته اللغات الأجنبية، وشمائله في الأسمار تذكر بشمائل أناطول فرانس
وهل يذكر الدكتور رسالة الطير والحيوان بين رسائل إخوان الصفاء؟
لقد دلنا ابن أبي الحديد على واضع (حديث السقيفة) فمتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (مشاورات المهدي لأهل بيته)؟ ومتى نعرف الكاتب المجهول الذي وضع (رسالة الطير والحيوان)؟
قد نتعزى حين نيأس من معرفة المهندس الذي وضع تصميم الأهرام، والمهندس الذي وضع تصميم إيوان كسرى والمهندس الذي وضع تصميم قصر الحمراء، ولكنا لن نتعزى أبداً عن اليأس من معرفة الكاتب الذي وضع (رسالة الطير والحيوان) لأنه عندنا أعظم كاتب عرفته الآداب العالمية بعد أفلاطون
هل يذكر الدكتور ما قال يوم لقيته في جريدة كوكب الشرق؟
لقد صارحني الدكتور طه حسين بأن الفصل الذي حللت به رسالة الطير والحيوان في كتاب النثر الفني غير كاف، وقد أجبت بأنه فصل من كتاب، وتحليل هذه الرسالة يحتاج إلى كتاب خاص
فكيف يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون وفيها (إخوان الصفاء) الذين سجلوا معارف زمانهم أعظم تسجيل؟
لقد أشرت من قبل إلى الميزة الخلقية التي امتاز بها أولئك القوم، وهي نكران الذات، وإلا فمن الذي يصدق من أهل عصرنا أن جماعة من أهل البصرة أو غير أهل البصرة يخفون هوياتهم عن أعين التاريخ مع تلك القدرة الباهرة على تشريح الحقائق والأباطيل؟(329/10)
وما رأي الدكتور في ابن شُهيد صاحب (التوابع والزوابع)؟
ألا يسمح لهذا الكاتب المبدع بأن يضاف إلى من يجيدون تحليل المعاني واستقصاء الأغراض؟
إن ابن شهيد في تلك الرسالة قارع المعاني الصعبة مقارعة الفحول، ودخل في شعاب لا يهتدي إلى مسالكها غير المزودين بأضواء البصائر والقلوب، فكيف يُجهل ويُعرف ابن خلدون؟!
وما رأيك في التنوخي صاحب (نشوار المحاضرة)؟
ألا يذكرك هذا الكاتب بكتاب (الصور) من أقطاب الفرنسيس والإنجليز والألمان؟
لو كان التنوخي في أمة غير الأمة التي طبع فيها ديوان ابن خفاجة مرة واحدة في مدى أربعين سنة لجاز أن يخطر في بال الذي قال إن اللغة العربية لم تعرف كاتباً غير ابن خلدون!
وما رأيك في ابن مسكويه صاحب (تجارب الأمم)؟
ألم يهتد ابن مسكويه إلى فلسفة التاريخ قبل ابن خلدون بأزمان؟
وما رأيك في الجرجاني صاحب (دلائل الإعجاز)؟
هل ترضى أن توازن بين الجرجاني وبين لانسون؟
إن الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز أبرع وأعظم من لانسون في كتابه ' ' ولكن لانسون وجد رجالاً يعرفون قيمته الأدبية، أما الجرجاني فله أخلاف ينسونه ويذكرون ابن خلدون!
وهل يمكن لرجل فيه بقية من الفهم والعقل أن يتناسى العظمة الفكرية عند أمثال عبد القاهر الجرجاني؟ ومن قبل الجرجاني عبد القاهر كان أستاذه أبو الحسن الجرجاني الذي فصل ما بين المتنبي وخصومه أعظم تفصيل، والذي أدخل في الأحكام الأدبية روحاً من عدل القضاء.
ومن قبل هؤلاء نشأ احمد بن يوسف المصري الذي برع في تسجيل ما عرف عن معاصريه من محاسن وعيوب، والذي وصل إلى الغاية في شرح أهواء النفوس
وهل ترى أن يقف الأدب عند الرسائل والمؤلفات التي غلبت عليها الصفة الاصطلاحية؟(329/11)
إن ميدان الأدب أوسع من ذلك، فإليه تضاف أعمال المؤلفين في التصوف والأخلاق
إن صح هذا - وهو صحيح - فهل أستطيع أن أعرف رأيك في الغزالي؟
أنا أعتقد أن الغزالي من فحول الكتاب في اللغة العربية، وأومن بأنه من المبتكرين في تحليل النوازع النفسية والقلبية، وفي كتاب (الإحياء) فصول تشهد بأنه من أئمة الفكر والبيان
اقرأ - إن شئت - بعض ما كتب في الرياء تجده أتى بالأعاجيب في التنبيه على المجهول من سرائر النفوس، وتعرف - وأنت تعرف - أنه في بابه أعمق من ابن خلدون وأقدر على التحليل والتشريح
قلت في محادثة قريبة بأنه لا يسرك أن تراني أعتدي على الناس.
لقد ذهب الناس، يا سيدي الدكتور!
أليس من المحزن أن يحتاج الأدب العربي إلى من يحميه من غطرسة بعض الأساتذة بكلية الآداب؟
إن الأستاذ الذي لم يعرف في اللغة العربية كاتباً غير ابن خلدون لم يطلع أبداً على كتاب الفتوحات المكية، فلو أنه كان اطلع على ذلك الكتاب لعرف أن عندنا كاتباً فحلاً هو ابن عربي الذي طوف بآفاق يجهلها أكثر الأدباء في هذا الجيل
وهو أيضاً لم يطلع على مؤلفات الشعراني الذي صور المجتمع المصري في القرن العاشر تصويراً نعجز عن مثله اليوم، وأكاد أجزم بأن الصحف المصرية على اختلاف ألوانها ونزعاتها لا تعطي من صور مصر في العصر الحاضر ما أعطته مؤلفات الشعراني من صور مصر في القرن العاشر
وما كان الغزالي ولا ابن عربي ولا الشعراني إلا تلاميذ لأساتذة مجهولين وضعوا الأساس لحياة الفكر والتأليف في مختلف الأقطار العربية والإسلامية
هل تذكر المقريزي، يا دكتور؟
أنظر خطط المقريزي، وتذكر العصر الذي عاش فيه المؤلف ثم وازن بينه وبين أي باحث من نوعه عاش في الأقطار الأوربية، فإن فعلت فسترى أن أسلافنا كانوا من أئمة الابتكار والابتداع(329/12)
فبأي حق يقال إن اللغة العربية لم ينبغ فيها كاتب غير ابن خلدون؟
إن ابن خلدون ممتاز في الترتيب والتبويب، وتلك هي الصفة التي يعنيها أحمد أمين، فأين هو من القلقشندي الذي بوب (صبح الأعشى) تبويباً معدوم النظير؟
وأين هو من السخاوي الذي صور القرن التاسع كأنك تراه؟
وأين هو من الحركات العقلية الممثلة في ذخائر التفكير العربي والإسلامي؟
الأدب، يا دكتور، له فنون تتجاوز ما أسلفنا من الفنون، فأين صاحبك من الكتاب الذين شغلوا أنفسهم بتشريح الدقائق النحوية والصرفية؟
إن سيبويه ألف (الكتاب) في القرن الثامن للميلاد، فهل تعرف أن الأقطار الأوربية كان فيها مؤلف يشرح أصول النحو والصرف كما صنع سيبويه في ذلك العهد؟
وهل يمكن أن يقال إن ابن خلدون كان في التشريحات السياسية والاجتماعية أعمق من سيبويه في التشريحات النحوية والصرفية؟
وهل يمكن القول بأن جوهر العقل عند سيبويه أقل قيمة من جوهر العقل عند ابن خلدون؟
إن الأستاذ أحمد أمين لا يرى غير ظواهر الأشياء، ولو كان عميق الفكر لعرف أن رجلاً مثل ابن هشام الأنصاري خليق بأن يوضع في أول صف من صفوف الباحثين الذين يجيدون تشريح المعاني، فهذا الرجل عرض مسائل النحو في صور مختلفات، وبذل في ذلك جهداً يشهد بأنه في غاية من سمو الفهم والعقل، وقد استطاع أن يجعل القاهرة في صف البصرة والكوفة وبغداد، ومجموعة المحاولات التي بذلها في تكييف المعضلات النحوية والصرفية أقوى من مجموعة المحاولات التي بذلها ابن خلدون في تكييف السياسة والاجتماع
إن فقهاء الشرع الإسلامي كان فيهم فحول من الوجهة الأدبية، ولكن أين من يدرك أن البويطي صاحب كتاب الأم كان من أقطاب البيان؟
أين من يصدق أن البويطي عرض الخلاف بين الشافعية والحنفية عرضاً هو الغاية في حسن التعبير، ودقة الوصف، وسداد الأداء؟
ومع ذلك نجد من يقول بأن اللغة العربية لا تعرف كاتباً غير ابن خلدون!
أما بعد فما الذي بقي لأحمد أمين وقد مزقنا أوهامه كل ممزق!(329/13)
بقي أن نبين أن أغلاطه ليست أغلاط الرجل المجتهد - وللمجتهد أجر حين يخطئ وأجران حين يصيب - وإنما أغلاطه مسروقة سرقة حرفية من بعض أدباء هذا الجيل
فكيف سرق أحمد أمين تلك الأغلاط؟ وكيف خفيت سرقاته على الناس؟
سنكشف تلك السرقات في مقال أو مقالين، ثم نتركه في سلام ليتذوق البقية من أطايب رمضان، إن لم يجد ما يوجب أن يفطر يوم العيد على حديث ذي شجون
زكي مبارك(329/14)
على ذكر الحرب الراهنة
موقف العلم من الكمال الإنساني
للأستاذ توفيق الطويل
1 - العلم وتطور غاياته في شتى العصور:
نشأ العلم جنيناً في أحشاء المعرفة البشرية عند قدماء المصريين والهنود ومن إليهم من شعوب الشرق القديم، وكان أداة لخدمة الحياة العملية، وتحقيق الملح من مطالبها، ووسيلة لتنمية العقيدة الدينية وتوكيد سلطانها في قلوب الناس، ثم أقبل عصر الفلسفة اليونانية فجاهد أهلها لإنقاذه من عبء الحياة العملية وضغط العقيدة الدينية معاً، ورفعوه إلى البحث البريء الذي لا يعرف غاية يرمي إليها إلا اللذة العقلية وحدها. ثم أقبلت العصور الوسطى وقد تمكن الدين المسيحي من قلوب الناس، وهيمن على عقولهم، فهبط العلم من سمائه وأدركته العبودية من جديد. إذ سخره أهله لخدمة الدين وتمكين نفوذه، وأقام العلم على احتماله لهذا الاستعباد حين تمرد أساطين النهضة على سلطان الكنيسة، وتولوه بالتحطيم والتدمير. وأقبل القرن السادس عشر، وأوربا في غليان فكري أثار لوناً من الشك الهدام. أفقد الناس اليقين في مجال العلم، والاطمئنان في ميدان العمل، وحطم وحدة أوربا وتركها ركاماً وأنقاضاً، واطمأن لهذا الانتصار الفاشل دعاة الشك اليائس: أجريبا وسانشيه ومونتاني. بيد أن الناس قد ضاقوا بدعوتهم وتطلعوا إلى اليقين والاطمئنان واستخفهم الرضا عن دعوة جديدة ظهرت في أواخر القرن السادس عشر لمقاومة هذا الشك الهدام، تولاها ثلاثة من أعلام الفكر هم: شارون وديكارت وبيكون، فدعا الأول إلى الاطمئنان عن طريق الإيمان الديني - وكان روح العصر لا يلائم دعوته - وبشر الثاني باحترام العقل واعتباره أصدق معين تستقى منه المعرفة الصحيحة فكان أبا الفلسفة الحديثة؛ ونادى بيكون بالإيمان العلمي عن طريق التجربة، وحدد للباحث طريقته ورسم له منهجه، وأعلن ميدان العلم وغايته في وضوح لا يحتمل الالتماس فكان أبا العلوم الطبيعية الحديثة، وعلى يديه خرج العلم من أحشاء المعرفة البشرية، واستقل عن الدين والفلسفة والأدب، وتميزت شخصيته وتحدد ميدانه وعرفت غايته. ذلك أن بيكون أعلن احتقار العلم الذي يدرس للذة(329/15)
العقل أو خدمة الدين، وأكد الدعوة إلى ربط الأبحاث العلمية بالحياة العملية وقصرها على صالح الإنسان ومنفعته. فكان ميلاد العلم الحديث شبيهاً من بعض الوجوه بميلاده القديم. واستبسل بيكون في الدفاع عن العلم حتى كفل له الاستقلال عن سائر ألوان المعرفة، وحط عن كاهله عبء الأغراض الدينية ولكنه لم يكفل له حريته كاملة موفورة، فأذله مرة أخرى وسخره لخدمة الحياة العملية وتوفير السعادة للناس. وهكذا بدأ العلم في عصوره الحديثة مستقل الشخصية صاحب منهج محدود وغاية مرسومة، يتهكم بالفلسفة ويسخر من أهلها، ويبتعد عن العقيدة الدينية ويقيم الحدود الفاصلة بينه وبينها، ولكنه مع هذا الاعتزاز الذي لازمه الغرور قد شعر بعد بأنه ليس سيد نفسه. إنه مسخر لخدمة الإنسان، ونجاحه رهن بتحقيق هذه الغاية. فلما شب العلم بعد هذا ونضج عقله، ثاب إلى رشده، فكف عن الطعن في الفلسفة، وتقبل منها النصح بعد أن أرشدته إلى الكثير من أخطائه، وأخذ يجاهد لتحرير نفسه من ذل الأغراض التي رسمها له أبوه، وأصاب النجاح في مسعاه، وحقق حريته كاملة غير منقوصة، وأصبح يدرس لذاته بقطع النظر عن كل غاية - بالغاً ما بلغ سموها - إلا إذا اعتبرت اللذة العقلية نفسها غايته. إنه قد تحرر من ذل الحياة العملية واستعباد العقائد الدينية وامتهان الأغراض القومية - أو هكذا يزعم أصدقاؤه وحواريوه - وأصبح يفاخر الأدب والفن والفلسفة بأنه سيد نفسه، لا يخضع للعاطفة، ولا يحترم الهوى، ومنهجه موضوعي قائم على تعرف الشيء من حيث هو شيء، دون نظر إلى علاقته بخير المجتمع وصالح الإنسان. وقد أدى هذا بقواعده إلى أن تكون بمنجاة عن التأثر بالزمان والمكان وما يلابسهما من ظروف. أما الفلسفة والأدب فإن أحكامها تقديرية بالإضافة إلى ذات شاعرة مدركة تتأثر بمزاجها وتتفاعل مع بيئتها وظروفها. ووجه الخلاف بين هذا المنهج العلمي الحديث، والمنهج الذي رسمه بيكون قائم في الغاية وحدها. كان بيكون لا يحترم العلم إلا بمقدار ما يحققه للإنسان من خير، وما يوفره للمجتمع من نفع وهناء، فاسترد العلم حريته التي كانت له أيام اليونان، وأصبح يجاهر على لسان المجمع البريطاني لتقدم العلوم سنة 1915 بأن العلم يطلب لذاته أولاً. قال رئيس المجمع ما خلاصته: إني أقدر العلم حق قدره، وأكبر خدماته للمجتمع الإنساني، ولكني أعلن أن العلماء إذا اغتبطوا للظفر بما تضم الأرض من ثراء، وما تنطوي عليه كواكب السماء وجواهر المادة من قوة،(329/16)
فليس مرد اغتباطهم إلى أنهم يرفعون الثروة المادية فوق اللذة العقلية؛ وإنهم ليستشعرون اللذة مضاعفة عندما يستعملون قوى العقل للوصول إلى منفعة الأمة، ولكن هذا كله لا ينبغي أن يمنعنا من تخطئة الحط من شأن المبادئ الأدبية، فإن هذا الامتهان قد ولد الرأي الفاسد القائل بأن القوة تخول صاحبها امتلاك ما يشاء (لعله يقصد ألمانيا التي أشعلت الحرب الكبرى قبل خطابه ببضعة شهور). ثم قال المجمع في اجتماعه الذي عقده بعد ذلك بعشر سنوات: إن القائلين بأن غاية العلم هي التسلط على قوى الطبيعة لخدمة الإنسان - وهي دعوة بيكون - يبالغون في الاعتقاد بصحة ما يزعمون، فما كانت المنفعة أكبر الأسباب التي حملت العلماء على مواصلة أبحاثهم، ولكن أول غرض يرمي إليه العلم، إنما هو الكشف عن قوى الطبيعة ومعرفة ما بينها من صلات، وتصنيفها حتى يأتلف من مجموعها نظام معقول. ذلك أول أغراض العلم؛ أما المنفعة المادية فيجنيها الناس بعد من وراء ذلك، وبهذا يصبح الاشتغال بالعلم لذة عقلية تكاد تلحقه بالفنون الجميلة!. . . والعلماء الذين يبلغون مناهج العلم العليا يشعرون بالرابطة التي تصل بين العلم والفن، وتجعل الطبيعة موضوع بحثهما معاً لغير ما غاية إلا التملي بجمالها. إن التحليل الجبري المنظم لشبيه بالنغمة الموسيقية ذات التوقيع المتسق، وهذا تشبيه يثير دهشة الذين لا يرون في الجبر إلا أرقاماً وعلامات، ولكنه مقبول عند الذين يعرفون نسبة هذه الأرقام والعلامات إلى المعنى الذي تخفيه وراءها، فهي كنسبة العلامات الموسيقية إلى الأنغام المطربة، والأثر الذي تخلفه في نفوس سامعيها. ثم يعزو رئيس المجمع اهتمام العلماء بالعلوم الطبيعية إلى ما تنطوي عليه مباحثها من بهجة وجدة، لا إلى ما ينتظر من ورائها من نفع مادي، وإن كان تحقيق هذا النفع أمراً أكيداً!
بهذه الروح (الفنية) يتحدث العلماء المحدثون عن العلم وغاياته. كان بيكون في مستهل العصور الحديثة يتهكم بالعلماء الذين ينفقون الوقت الطويل في الدراسات النظرية التي لا ترمي إلى خدمة الإنسان، فأصبح العلماء في آخر القرن الماضي يتحدثون عن علاقة العلوم الطبيعية بالعلوم الأدبية، ومشاركتها لها في تهذيب النفوس، ويقولون أنا نلوم العلوم الأدبية إذا اقتصرت على دراسة الإنسان وأعماله، وأهملت ظواهر الطبيعة وقواها؛ ثم نلوم أنفسنا إذا اقتصرت - علومنا الطبيعية - على النظر إلى الطبيعة ولم تتجاوزها إلى الإنسان(329/17)
وأعماله. ثم تطورت هذه الروح في القرن العشرين حتى أصبح العلماء يفكرون في العلاقة بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، ويتحدثون عن الجمال الذي تكشفه الدراسات إذا انصبت على ظواهر الطبيعة، ويتكلمون عن أثر هذا (الجمال) في نفس العالم وتشجيعه على مواصلة البحث، وإن لم ينكر هؤلاء العلماء ما يترتب على دراساتهم من نفع إنساني لم يقصدوا إليه، ولم يتجهوا إلى تحقيقه. تلك أحدث وجهات النظر في فهم العلم الطبيعي وتجديد غاياته فيما نعلم
2 - تبعات العلم في الحرب والسلم
تحرر العلم من تبعة الويلات التي قد تترتب على بعض مبتكراته ومخترعاته، وإن لم ينج من النقد الحر الذي ترتفع به صيحات الناس إبان الحروب وبعد أن تخمد نارها، فإن الحرب إذا اندلع لهيبها قصر العلم غايته على تقديم الوقود لها، وخص بلاده بكل جهوده، وتحول العلماء بين جدران معاملهم إلى جنود بواسل، يبذلون الجهد صادقين في إنقاذ الوطن، أو يفرغون الوسع جاهدين لتحطيم أعدائه، ولهذا انصبت اللعنات على العلم دون حساب، وأحس أهله - في فترة مضت - بحرج مركزهم؛ فأخذوا يلتمسون لأنفسهم الأعذار. وتذرع المجمع البريطاني بحجة أعلنها سنة 1899، ثم كرر إعلانها سنة 1925 فقال: إن الجندي يسعى لحفظ حياة الأفراد، أما العالم فإنه يجاهد لحفظ حياة النوع بالعمل على إيقاف الحرب بما يخترع من آلات التخريب وأدوات التدمير، والظفر في الحرب يكسب السلم الذي يصون الحرية الفكرية ويستأصل الشر الذي يجور على محبة الأمم ويبشر بالحق والمحبة في بقاع الأرض طراً. . .! وهذا العذر يكاد لا يفترق عن الحجة التي تذرع بها نابليون يوم طمع في إخضاع العالم وتوحيد حكمه. وقد ردد الحلفاء صداها في الحرب الماضية، وتثار اليوم في الحرب الراهنة التي ترمي إلى القضاء على الهتلرية التي أنهكت أعصاب العالم وهدت قواه، بما تظهره من امتهان الوعود والحنث بالعهود. فكأن رجال العلم حين التمسوا لأنفسهم الأعذار عن تسخير علمهم لغرض قومي عملي، قد تحولوا إلى رجال سياسة! وقد كان في وسعهم أن يقولوا إن الحروب إذا اندلع لهيبها، انقلبت الأوضاع واضطربت الغايات، وأصبح من واجب العلم أن يلبي نداء الأوطان. إن المواطن في أعرق البلاد نزوعاً للحرية والديمقراطية، يكاد أن يستحيل آلة في يد الوطن(329/18)
إذا حاق به خطر، فلماذا ننكر على العلم خروجه عن حريته، ومرضاته بخدمة غرض قومي متى دعا الداعي ونادى الوطن؟
ورغم أن العلم قد تحرر من ذل الأغراض فما زال مثاراً لاتهامات تنصب عليه في أيام السلم كذلك، وحجة المتهمين أن مخترعاته قد ترتب على بعضها ما يراه البعض شراً وأذى، وقد يطالبونه بتحقيق ألوان من السعادة الموهومة ويحاسبونه على عجزه عن تحقيقها! قال الرئيس ولسون: إن العلم قد أخفق في تحقيق الإصلاح العاجل وتوفير الفردوس الأرضي للناس. إنه أفادنا في عالم المادة وحررنا من خوف الخرافة والمرض، ولكنه فشل في تغيير الطبيعة البشرية وتخليصها من أدران الأحقاد والضغائن، وبذلك ظل الناس عبيداً لأنفسهم. فرد عليه المجمع البريطاني قائلاً: لماذا نلقي على عاتق العلم تبعة الفشل الذي انتهت إليه آمال لم يعد العلم بتحقيقها؟ إن العلم لا يدعي إصلاح الطبيعة البشرية، وقد يكون في مقدوره أن يغير البيئة ويزيد في منفعة الإنسان، ويوسع من رحاب مداركه، ولكنه غير مسئول إذا أساء المرء استعمال آثاره. فعلم الطب قد يطيل حياة الناس، ويكفل لهم الصحة والعافية، ولكنه غير مسئول عن تُقْضى الحياة التي نجح في إطالتها. وقد يكفل للأشرار القوة كما يكفلها للأخيار ولكن ذلك لا يبرر المطالبة بإغلاق المستشفيات حتى لا يفيد منها دعاة الشر والإجرام
ترى مما أسلفنا أن العلم وإن كان قد بدأ في العصور الحديثة موصول الرابطة بصالح الإنسان، إلا أنه مضى في تطوره حتى أزاح عن كاهله خدمة المجتمع واسترد حريته وسيادته، وأضحى عند أهله بحثاً موضوعياً يعينهم على التملي بجمال الطبيعة واستشعار اللذة العقلية عند فهم ظواهرها. أما المنفعة المادية فتجيء عرضاً من تطبيق نتائج العلم لصالح المجتمع، واعتبر المحدثون توجيه العلم للنفع المادي استعباداً للعقل وامتهاناً لقداسته، بالإضافة إلى ما ينشأ عن تقييد حريته من انحطاط فكري شهد به تاريخ الفكر منذ أقدم العصور. وما دام العلم في عهده الأخير لا يتصل بالكمال الإنساني اتصالاً مباشراً، وهو زاهد في ثناء الناس على ما قدم من خدمات، غير مستعد لاحتمال التبعات التي يلقيها على عاتقه خصومه، فليس من حقنا أن نتولاه باللوم كلما تطايرت إلينا أنباء الحروب وفظائعها. وإن كان لابد من الحديث عن موقف العلم من الكمال الإنساني لمعرفة ما حققه(329/19)
من خير وما جره من ويلات - وجب أن نتحدث عن العلم في أول مراحله كما صوره فرنسيس بيكون أداة لخدمة الإنسان. والكلام على بيكون وتبشيره برسالة العلم والمدنية، يذكرنا بجان جاك روسو ورسالته القائمة على الدعوة إلى الطبيعة والعيش على مقتضى الإلهام والفطرة البسيطة؛ وذلك ما نخصص لمناقشته مقالنا القادم
ت. الطويل(329/20)
الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة
للأستاذ محمود علي قراعة
قرأت لأستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 325 كلمة ذكر في آخرها آية كريمة وسألنا هل نعدها أدب معدة أم أدب روح. وهو بذلك يحاول أن يدخلنا في الميدان الذي دخل فيه متحدياً كل فكرة روحية، متهكماً على كل نزعة سماوية، مستنداً بذلك إلى مكانته الأدبية ولباقته وما أوتي من قوة غريبة على الدفاع عن القضايا الخاسرة. وهو لذلك يقف دائماً نصيراً لكل فكرة حسية ويقف نفسه موقف العداء لكثير من المعنويات وإن كان قلمه السيال كثيراً ما يجرفه ويخرجه عن الحسيات إلى المعنويات والروحيات من غير أن يشعر. والحقيقة أن الدكتور زكي مبارك مشكلة لأنه خليط لم يمتزج بنسب معينة من القوى النفسية المختلفة، فتارة تراه الخير كله والإخلاص كله والوفاء كله، وآونة تجده يميل كل الميل إلى الخروج عما يتصل بالروح إلى النزول إلى ما يوثقه بكل أرضي وبكل نازع لحسي. وفي تاريخه أمثلة متضاربة لكل ما يمكن تصويره من الميل إلى أحد هذين الجانبين؛ فتارة تراه صوفياً مدروشاً، وأخرى تلفيه ساخراً بالحياة وعابثاً فيها. ولكن إذا كان أستاذنا الدكتور يرى لنفسه الحق في أن يتشكل كما يشاء وأن ينضم إلى الجانب الذي يريد، فلا أدري لماذا نراه متهكماً على كل فكرة روحية ومحارباً لكل النازعين إليها؟! كثيراً ما ردد في الرسالة كلمة أدب الروح وأدب المعدة، لا لأن الاصطلاح في ذاته غير موفق بل لأن أستاذنا أحمد أمين قد وضعه لتقويم الأدب وصحة تقديره. ولأستاذنا الدكتور الخيرة في أن يواصل حملاته على صديقه أو أن يقفها لأنه حر إذ لم يرد أن يسمع رجاء تلاميذه وإخوانه في أن النقد ممكن من غير خصومة كما فعل أستاذنا الدكتور عبد الوهاب عزام؛ ولكن الذي لا نقره ولا نستطيع السكوت عليه أن نغفل مناقشة ما يرد في حملاته مما عسى أن يمس الأدب في ذاته من قريب أو بعيد. فأستاذنا أحمد أمين يعني بأدب الروح الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها؛ ولذلك رأى أن القرآن أدب روح لأنه يسمو بالإنسان عن عالم المادة ويأخذ بيده إلى السماء لينظر إلى الأرض وما فيها نظرة تريه الحق حقاً والباطل باطلاً. ولكن أستاذنا الدكتور زكي مبارك تأبى عليه نزعته الحسية إلا أن يعارض هذا. ورأى أن أقرب مثل يؤيد وجهة نظره أن يذكر ما في(329/21)
القرآن من آيات تذكر وجود أشياء حسية في الجنة، مع أنه كان يجب على أستاذنا الدكتور أن يرى أن أقل ما يمكن تصوره في عالم سيخلو من البؤس والفقر والهرم، ولن تهيئ طبيعته المجال لظهور الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة وما يدخل تحت كل منها من فضائل إنسانية، أن ينعم الناس فيه بالاتحاد والمحبة فتتاح لهم أنواع المحبة من إلهية وصداقة أخوية، وفهم نزوع الأشياء المادية التي ستوجد هناك إلى التمتع بفكرتها الروحية، فما وجد من جميل صور من حور وولدان، نزع به إلى فكرة تقديس خالق هذه الصور، وما وجد من قصور وأنهار وفاكهة نزع به إلى النشوة الروحية من وجود هذه الأشياء، وأن ليس معنى هذا خلو الجنة من استلذاذ بالحور العين الاستلذاذ الحسي أو بما هنالك من مأكول ومشروب وحلي وحلل، وبذا نضع الفكرة الروحية في درجتها العلوية ونجعل الحسيات في درجتها الثانوية، بل ونسمو بها إلى فهمها الفهم القريب من الروح. ونحن بذلك نسمو باللذة الممكن تصورها في الجنة من غير نكران لحسيتها بجعلنا الحسي تابعاً للروحي إذ أكثر جزئياته روحية. ولو تدبر الدكتور قوله تعالى في سورة السجدة: (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) وقول النبي (ص) في حديث قدسي عن ربه تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) لوصل إلى أن المذكور في القرآن في سورتي الرحمن والواقعة وغيرهما وفي الأحاديث الصحيحة لا يفيد أن المذكور مذكور على سبيل الحصر بل على سبيل التمثيل لما سيوجد، ولعرف أنا وقد استبعدنا الأخذ بالنظرية التصويرية لمخالفتها لكثير من النصوص وما تحتمله قرائنها مثل الطمث للحور، لا نجد أمامنا إلا أحد أمرين: إما أن نأخذ بالنظرية الحسية أي بتغليب اللذات الحسية على الروحية، أو أن نأخذ بالنظرية الروحية التي تغلب اللذة الروحية على الحسية فلو أخذنا بحسيتها تغليباً، لنزلنا بها ولشبهناها بلذة الدنيا المتواضعة فأخرجناها من سموها الذي يجب أن تكون فيه لتتلاءم مع نفوس أصحابها، ولذا لم يكن بد من أن نأخذ بروحية اللذة تغليباً. وعلى ذلك فذكر القرآن الكريم الأشياء المادية حتى على فرض الأخذ بالنظرية الحسية إطلاقاً لا يفيد أن القرآن أدب معدة وهو مملوء بما يفيد أن الجنة جزاء من عمل صالحاً وجزاء من اتقى. وليتل دكتورنا إذا شاء قول الله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في(329/22)
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، وكلاً وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيما) وقوله تعالى (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقوله (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) وقوله (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم يشهده المقربون) وقوله (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) وقوله حكاية عن أولي الألباب من عباده قولهم (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها) وقوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم) وقوله: (إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق) وقوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)
فهذه الآيات الكريمة وأمثالها التي كثر ذكرها في القرآن الكريم أكبر دليل على أن القرآن روحي لأنه جعل الجنة (حتى لو أخذنا بحسية اللذات إطلاقاً) جزاء المجاهدين والصالحين والمتقين والمؤمنين والمستغفرين؛ أي جزاء من سمت روحه بالإيمان وزكى نفسه بالتقوى وكان روحانياً بالجهاد والعفو والصلاح
ويرى أستاذنا أحمد أمين أن باب الحماسة في ديوان الحماسة مثلاً أدب روح لأنه صادر عن نفوس قوية، وباعث لمشاعر قوية، وداع لمواجهة هذا العالم وما فيه من نفوس أبية،(329/23)
في غير خضوع ولا استخذاء، فلم يعترض أستاذنا الدكتور زكي مبارك على هذا لأنه لا يستطيع مهما كان نصيراً للحسية أن يقول بغير هذا، لذلك نجده بلباقة زكيه مباركة قد أغفل ذكر الحماسة وتخطاها إلى ذكر الغزل والحب. فأستاذنا أحمد أمين يرى أن غزل جميل وكُثير والعباس بن الأحنف، أدب روح، لأنه يصهر النفس ويطهرها ويجعل من آلامها وآمالها مبعثاً لفيض الحنان والرحمة والعطف على العالم وعلى الإنسانية كلها. وقال إن الغزل الفاجر أدب معدة وإن تعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر، فأتى أستاذنا الدكتور زكي مبارك في العدد 322 من الرسالة يعارض هذه الفكرة بقوله: (. . . لا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء) ويقرر أن رجال الأخلاق لم يستنكروا الشهوات إلا بسبب الإسراف؛ أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية، وأن فضيلة العفاف لا يقام لها وزن إلا حين تصدر من رجال مزودين بحيوية الشهوات، وأن للشهوة الحسية صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، وهذا ليس مستبعداً من أستاذنا الدكتور الذي يعبر في كل كتاباته عن ميله للحسيات وهو بهذا ينصر أدب المعدة؛ لأنه ينصر الحب الفاسد ويخذل أدب الروح، لأنه يخذل الحب الروحي الذي يجمع بين قلبين، ولكن الغريب مع هذا أن نجد لأستاذنا الدكتور بعض كتابات تجعله من أنصار أدب الروح فمثلاً وقد فتحت الآن كتابه (ذكريات باريس) قد صادفتني ص13 وفيها يقول وصفاً لحسناء (هي فتاة ناهد حسناء رشيقة القد، مشرقة الجبين، في عينيها النجلاوين بقايا خطيرة من سحر هاروت وماروت. . . وفي صوتها غنة موسيقية. . . ولأناملها رقة جذابة تفيض بالكهرباء. . . وفي خطراتها تكسر وتثن. . . ولها رفق بارع في إذكاء نار الحب والوجد فيمن تختار من أصحاب القلوب. . .) فهذا الوصف من أدب الروح لأنه يعطي القارئ فكرة روحية عن حسناء زكي مبارك الجميلة. وكذلك أعد من أدب الروح مقالة الحب الأثيم في باريس ص15 وما بعدها، لأنه وإن حدث عما في حدائق باريس من عشاق متعانقين ومتعانقات فوق المقاعد مظللين بالأشجار المورقة، فقد كتب مقاله ليقرر (أن الشاب الذي يحمله جنون الشباب على غشيان المواخير القذرة ثم يحمل مرضاً يعيا في برئه الأطباء) إنما يخدع نفسه بقوله إنها تجربة، وإن كان قد أبى عليه حبه للحسيات إلا أن(329/24)
يجعل جزءاً منه أدب معدة بتقريره بوجود حب شريف غير الهوى العذري المعروف عند العرب (وهو الذي يجري بين فتى وفتاة أو رجل وامرأة لغرض غير مادي وتقع حوادثه في الأوساط المعروفة بالاستقامة وحسن السمعة. . . ويستبيح أشنع الذنوب والآثام ولكنه مع ذلك يجري فيه الأرق وتسيل من أجله المدامع، وتعرف فيه نكايات الوشاة والعذال، وتتخذ من أجله الرسل، وتدون له المكاتبات. . .) ولعل الحد الفاصل بين الحب الروحي والحب الفاسد هو أن الصلة في الحب الروحي تصل بين روحين وقلبين، كما رأينا في رفائيل لامارتين وتعريب أستاذنا أحمد حسن الزيات؛ ففي ص82 تستنكر جوليا أن يتدلى الحب إلى اللذة الحسية الوضيعة، أو يتدنى إلى الشهوة الدنسة الحقيرة لأنه إذ ذاك يفقد كبرياءه ونماءه وبقاءه. فيجيبها رافائيل في ص202: بأن نار الحب القدسية قد أتت على هذه الشهوات الباطلة والنزعات السافلة فحولتها إلى لهب صاف كقلبها نقي كحبها. ولذلك لا أدري كيف يستنكر أستاذنا الدكتور أن يسمي ما يتصل بالروح كرواية رفائيل أدب روح، وما يتصل بالجسد أدب معدة لأنه يتصل بالمعدة؟ وكيف أجاز لنفسه أن يدعي أن القائلين بروحانية الأدب قد خلوا من الفتوة، أو أن المرأة لا تلهم الرجل إلا باشتهائها حسياً، أو بمعنى آخر إلا إذا كانت الصلة بينه وبينها بهيمية، يعني أنها إذا كانت روحية بريئة لا تلهم على رأي الدكتور وفي هذا ما فيه من النزول بالصلات وما فيه من الإلغاء للشعور القلبي والقرب من البهيمة التي لا يهمها من الفحل إلا عملية التلقيح
ويقول أستاذنا أحمد أمين إن أدب الطبيعة أدب روح، لأنه شعور بالجمال مجرداً عن الرغبة وتقدير للحسن منزهاً عن الأثرة، ومزيج من شعور بجمال وجلال يحد من كبرياء الإنسان، ونبل هذا الأدب إنما يرجع لنبل غرضه. وظاهر أن غرض المتغزل في الطبيعة التي خلقها الله، هو التفكير في خلق الله، وفي تقديس ما أوجده الله لنا من أشياء حسية تدل في خلقها، وسمو صنعها على جليل قدرته وعظيم قوته، أي أن أستاذنا أحمد أمين يرى أدب الروح هو كل أدب انبعث عن عواطف نبيلة ويدفع إلى أعمال نبيلة، ولا أظن أستاذنا الدكتور زكي مبارك يعترض اعتراضاً جدياً على هذه التسمية
أما أدب المعدة فيرى أستاذنا أحمد أمين أنه ذلك الأدب الذي يدور حول ملء المعدة واستدرار المال وتحصيل القوت، ومثل لذلك بالغزل الفاجر ومقالات الكاتب التي باعثها(329/25)
الأول ملء الأعمدة والاستيلاء على الأجرة، وأدب المديح؛ وظاهر أن سبب هذه التسمية ضعة الأدب الذي يكون باعثه استدرار عطف من يغدق على المادح المال أو يفيده من الجاه، وتفاهة الأدب الذي يكون باعثه الأول لا حب الأدب في ذاته أو الرغبة في البحث في ذاتها أو الاقتناع بفكرة بعينها، بل لأنه مسوق إلى أن يكتب موضوعاً معيناً وإلى أن يصوغ فكرة معينة على أسلوب معين على قدر كذا من الأعمدة ليتقاضى كذا من الجنيهات، وكذلك الغزل الوقح أو الوصف المكشوف لما ينزو بالرؤوس ويحرك الشهوات، فلا ريب في أنه وضيع لاتصاله بالضعة، وعلى ذلك يمكن أن نجعل الغزل من أدب الروح إذا أخرجناه عن تحريك الشهوات وكان القصد منه الحديث عن صلة قلبية روحية أو تصوير صورة حسية تسمو بالقلب أو ترقى بالروح، ويمكننا أن نرى من الكتاب من يكتب كل يوم مقالاً ويتقاضى عليه أجراً، ولكنه يأبى أن توضع لي الفكرة أو تملى عليه إرادة ويأبى إلا أن يوحي إليه ضميره ويفتيه قلبه وعقله، فلا يمكننا إلا أن نعجب بأدبه وأن نقر بأن أدبه أدب روح لأنه من الروح وإلى الروح، وكذلك يمكن أن يكون المدح لعظيم يستحقه من مادح لا يبغي بمدحه إلا تقرير الحقيقة، أدب روح لأنه يضع لنا صورة حقيقية تسمو بالروح. وبعد فهذا هو ما نراه حداً فاصلاً بين أدب الروح وأدب المعدة، أرجو أن يقره أستاذنا الدكتور زكي مبارك وأن يكون به من أنصار أدب الروح، والسلام.
محمود علي قراعة(329/26)
استطلاع صحفي
50 قرناً في المتحف الحربي
جولة بين آثار الماضي والحاضر
(لمندوب الرسالة)
حمى الحرب تهز أطراف كل إنسان. ولئن اختلف الناس في ضرر الحرب وضرورتها فأنهم يتفقون في وجوب الاطلاع على تاريخها وحالة جندها ونتائجها. ومصر أمة قديمة لها تاريخها الرائع الذي صحب المدنية من مهدها إلى الآن والمطلع على تاريخها يجد فيها تطور الأسلحة وأدوات القتال من المقطع الصخري إلى المدفع المدمر. فإذا جاز للأمم أن تشيد لها متاحف حربية فأن مصر أولاها بهذا الحق
وقد شرعت وزارة الدفاع الوطني في تكوين نواة هذا المتحف ووصلت إلى نتائج طيبة. وأتيح لي أن أجول في هذا المتحف وهو في فترة تكوينه. وهاأنذا أقدم للقارئ بعض ما رأيت راجياً أن يتاح له في القريب العاجل أن يرى هذا المتحف بعد أن يتم أمينه النقيب عبد الرحمن زكي أفندي جزءاً من برنامجه، ولست أقول كله لأني أعرف أحجامه ومراميه
خمسون قرناً من الزمان
إذا خلوت إلى نفسك وطاب لك الاستجمام فاستعرض في مخيلتك تاريخ مصر الحربي منذ فجر التاريخ إلى الآن. فتصور كيف كان المصريون يكافح بعضهم بعضاً في عصور ما قبل التاريخ. ثم كيف كانوا يغزون القرى والبلاد ويفتحون الممالك في عصر الأسر الفرعونية وفي عصور الفرس والرومان والبطالسة وفي العهود الإسلامية. واستمر في وصل حلقات التاريخ من عصر المماليك إلى الآن؛ ولا يفوتن مخيلتك أن تستعرض الأسلحة التي استعملوها والملابس التي ارتدوها والأسلاب التي غنموها والقلاع التي حصنوها والمواقع الحربية التي اشتركوا فيها بما في ذلك صور أبطال تلك المعارك
وقدر بعد هذا كم تكون هذه الصورة واضحة، وماذا تعرف من تاريخ مصر ومن سير أبطال مصر. ولقد جلست من قبلك فوجدت أن حقباً كاملة تمر غامضة؛ بل إن أكثر الفترات وضوحاً لدي كان ينقصها كثير من التفاصيل. حتى الفترة الحالية مع أني أعيش(329/27)
فيها وأخالط رجالها العسكريين وأزور معاهدهم كل يوم مازالت مبهمة، ومازلت في كل يوم أرى جديداً لم أشاهده من قبل. فإذا استعرضت هذا الماضي الطويل وعرفت أثره في تربية النشء وبث الروح القومية أدركت حاجتنا الماسة إلى متحف يضم تلك الذكريات العظيمة فيشاهد الصبي تحتمس أو رمسيس أو صلاح الدين أو إبراهيم وقد تقلدوا أسلحتهم ودافعوا عن كرامة بلادهم. فهل تظن أن من يشاهد عز أولئك يرضى بالذلة لنفسه؟ محال! فالذكرى تنفع المؤمنين
مشروع ضخم
وإذا كانت مصر قد عاشت تلك السنين الطويلة بدون متحف حربي عام فقد أنشئت عدة متاحف ضمت عدة مجموعات من الأسلحة أهمها ما هو محفوظ الآن في المتحف الحربي في قصر عابدين. وقد تنبهت وزارة الدفاع الوطني منذ سنوات إلى أهمية هذا المشروع فقدرت إنشاء متحف حربي عام عينت لإدارته لجنة من كبار ضباط الجيش المصري واختارت حضرة النقيب عبد الرحمن زكي أفندي أميناً له.
وشرع أمين المتحف من اللحظة الأولى في وضع برنامج الإنشاء فزار الأماكن التي توجد فيها آثار حربية مصرية سواء كانت هذه الأماكن معاهد عامة أو منازل خاصة. فكثير من ضباطنا الذين اشتركوا في حروب السودان وأغلب أمراء العائلة المالكة يحتفظون بمجموعة ثمينة من الأسلحة وخصوصاً من عهد محمد علي إلى الآن. وليكون تنظيم المتحف على أحدث طراز سافر أمينه إلى أوربا فشاهد هناك أحدث الطرق لحفظ الآثار وأبرع الوسائل لعرضها على أنظار الجمهور حتى تؤدي الغاية المقصودة منها سواء كانت قومية أو تعليمية
وقد يكون من الصعب على الإنسان أن يتخيل صور مصر الحربية خلال خمسين قرناً فإذا قارنا بين إنسان يتخيل صورة وبين آخر يحاول أن يخلق صورة واضحة استطعنا أن ندرك ضخامة العمل وما يحتاج إليه من جهود. فإنشاء النموذج الواحد يستلزم الرجوع إلى عشرات المؤلفات والصور. فهاهو مثلاً نموذج لقلعة بنيت في عصر رمسيس الثالث يتطلب بناؤه زيارة القلعة الحقيقية ومعرفة تخطيطها ثم الطريقة التي تبعها المصريون الأقدمون في حروبهم والأسلحة التي استعملوها لمغالبة مهاجميهم حتى تتكون لدينا صورة(329/28)
صحيحة عن استعداد القلعة وشكلها وهذا يستلزم منا أن ندرس عشرات المراجع لنتأكد من صحة ما نصنع
فالآثار التي تركها الأقدمون قد عصفت بكثير من معالمها تقلبات الزمن وتوالي الحروب بين غزو وفتح. هذه القلعة التي نراها في لمحة بصر احتاجت من منشئها إلى عدة سنين استعان فيها بدراسة غيره وخبرة نفسه. فالعبرة في المتاحف أن تكون معروضاتها صورة تاريخية صحيحة وليست بناء يسهل على الناقدين نقضه وإثبات خطئه
نواة صالحة
ويتكون المتحف الحربي الحالي من ثلاثة طوابق. يشغل الطابق السفلي منه وهو (البدروم) مصنع أعد لصب التماثيل، وأعمال النجارة لعمل الخزائن الزجاجية التي تحفظ المعروضات. ويشغل في هذا المصنع فنانون مصريون درسوا الحياة العسكرية فعرفوا دقائق تقاطيع وجه الجندي المصري إذا اشتبك في ساحة القتال أو جلس في ثكنته ينشد التدريب العسكري، ويستعد لطوارئ الزمان
وهم يوجهون اهتمامهم الآن لتسجيل نماذج الجندي المصري الحديث فصبوا أجساماً من (المصيص) دهنوها بالأصباغ، وألبسوها حلل الميدان أو التشريفات. فلا تكاد تراها حتى تشعر بأنك أمام جندي أو ضابط مصري في وقفة عسكرية لا أثر فيها للكلفة. وإني لأضحك من نفسي كلما تذكرت المرة الأولى التي شاهدت فيها هذه التماثيل إذ ما كاد باب الحجرة ينفتح وأرى من فيها حتى رفعت يدي بالتحية ولاسيما عندما وجدت ضابطين واقفين قبالة بعضهما كأنهما يتحادثان
وتعجب أشد العجب إذا عرفت أن هذه النماذج لا تصنع واحداً واحداً بل تصنع بالعشرات؛ فهاهي أجزاء نماذج جديدة لن تلبث حتى ترسل إليك نفس الشعور بالحياة. وتتكون هذه العملية من عدة مراحل، فتصب أولاً أجزاء التماثيل على انفراد فترى الساق وحدها والصدر منفصلاً عن الظهر، ثم الرأس موضوعاً في مكان آخر. ويتناولها الفنان فيكون من هذه الأجزاء المتناثرة المتماثلة وحدة مختلفة بما يسبغه عليها من ألوان، وعلى تقاطيع وجوهها من معجون، يرفع الأنف أو يوسع العينين ويشرف على هذه الحركة الدقيقة الأستاذ محمد نجيب المثال(329/29)
صنع في مصر
وأول ما يواجهك عند دخولك المتحف مجموعة من (المسدسات) صفت على الحائط وكتب عليها (صنع في مصر) فهي دليل حي على ارتقاء صناعة الأسلحة في بلادنا في عهد محمد علي. فإذا دخلت إلى القاعة التالية شاهدت نماذج جنود مصر في ذلك الوقت وعرفت الأناقة والنعمة التي كانوا يعيشون فيها. وأما الجدران فقد غطيت بالصور المختلفة التي تبين ملابس الجنود وأزياءهم
ويحرص المتحف على أن يقدم لزائريه صورة واضحة عن المعارك التي اشتبكت فيها جيوش مصر، ولهذا ترى لوحات كثيرة رسمت عليها خرط تلك المعارك، فترى مواقف الجنود ونظامهم وكيف سارت المعركة. وأكثر هذه الرسوم هدايا قدمها أمراء العائلة المالكة وغيرهم من رجال مصر تعضيداً للمتحف حتى يحقق برنامجه
قارع الطبل
وقسم الطابق الأعلى على فترات التاريخ المختلفة ابتداء من عصر ما قبل التاريخ إلى الآن كما يضم مجموعة من الأسلحة والطبول التي استولت عليها الجيوش المصرية أثناء حروب السودان، ومنها طبل استولت عليه البطارية الرابعة في الداورية رقم 27 أثناء تجوالها في دار فور سنة 1916 ولتكون الصورة أكثر وضوحاً صنع المثال لهذا الطبل قارعاً وقف يضربه فلا تكاد تراه حتى تشعر بأنك أمام محارب سوداني
ويحتفظ المتحف بمجموعة كبيرة من الصور بعضها رسم باليد ليمثل العصور التي لا سبيل إلى إثبات صورها بالفوتوغرافيا كالعصر الإسلامي وعصر محمد علي وعصر إسماعيل وبعضها الآخر - وتقدر صوره بالألوف - عن العصر الحديث وقد التقط بآلة التصوير لمعاهد الجيش في عهدها الحالي، ومن يشاهدها يأخذ فكرة كاملة عن الجيش المصري في الوقت الحاضر. ويضاف إلى ذلك مجموعة أخرى أعدت لإلقاء المحاضرات بواسطة الفانوس السحري، وتنظم هذه الصور بطريقة علمية دقيقة تيسر للناظر الحصول على معلومات طريفة
الزمن خير كفيل(329/30)
وفي فناء المتحف الداخلي صفت المدافع التي أمكن للمتحف الحصول عليها من عصر محمد علي، وهي مجموعة ثمينة تبين تقدم فن القتال الحربي في ذلك الوقت وأكثرها صنع في مصر ومازالت حتى الآن في حالة جيدة يسهل معها استعمالها. ويوجد في أنحاء القطر المصري كثير من هذه المدافع وخصوصاً في الإسكندرية في القلاع القديمة، ولكن نقلها وتنظيفها يحتاج إلى زمن طويل ونفقات كثيرة ولهذا ينقلها المتحف شيئاً فشيئاً
ويعتمد المتحف في تنظيمه وتوفير معروضاته على الهدايا التي يقدمها الناس أياً كانت جنسياتهم ومهنهم وعلى المنشآت التي يصنعها عماله، ولكن ضخامة العمل وقلة الأيدي العاملة تقف حجر عثرة في سبيل افتتاح المتحف للجمهور. فرغم النشاط المبذول ورغم كثرة المعروضات لا نستطيع أن نقول إن ما تم إنشاؤه يمثل خمسين قرناً من الزمان، فمثل هذه المشروعات الضخمة تحتاج إلى عشرات السنين لتظهر أمام الجمهور في ثوب لائق
(الشتوي)(329/31)
حوّاء
للأستاذ علي أحمد باكثير
قلبي يحن إلى عهودك ... وإلى رضائك أو صدودك
وإلى محيّاً ساهمٍ ... فيه الفضاء على عميدك
فيه شكاياتي وأح ... زاني وآلامي وياسي
وضناي فيه ووحدتي ... من غير آسٍ أو مُوَاسِ
يرثِى له قلبي فلا ... يرثِى لغير مُصَابه. . .
فكأنه المرآة يُبْ ... صر فيه قلبيَ ما به!
حتَّى إذا ما افترّ ثغ ... رُكِ عن ثناياك العِذاب
وهفا الضياء على لَمَا ... ك كأنه العسل المُذَاب
وتلألأت عيناك وان ... بثق الشُعاع الحالمُ
خطرَتْ لِي الدنيا بِفي ... كِ فكل شيء باسم!
خطرت كوجه الأُمِّ يب ... سم للوليد الراضعِ
يسري بعَيْنَيها على ... نَهَر النعيم الواسع!
عَقَلَ ابتسامتَها لأوَّل ... مرّةٍ في عُمره
فرنا بِطَرْفٍ فيه أوَّلُ ... خفقةٍ مِنْ فكره!
عقل الحقيقة كالخيال ... هناك في تلك الدقيقة
ولطالما مِنْ قَبْلُ كا ... ن له الحيال هو الحقيقة
أو كالوجود بدَتْ لِعَيْ ... نَيْ شاعرٍ أسرارُه
في لحظةٍ مِنْ وحيِهِ إنْ ... هتكتْ له أستاره
فكأنه لم يَدْرِ أوْ ... يَرَ قَبْلها في الكون شيا
أو كان صخراً مسَّه ... سرُّ الإله فقام حيَّا
يا نظرةً كُنْتُ الولي ... د بها وكنتُ الشاعرا!
والأمَّ كنت بها وكنْ ... تِ بها الوجود السَّاحِرا
ما كان ثَمّةَ غيرُ عي ... ن الله ترعانا حنانا(329/32)
وكأنه مِنْ عَطْفِه ... إذ ذاك لم يخلُقْ سوانا!
يا ليت شعري هَلْ أَحسَّ ... بمثل ما أحسَسْتُ آدم
لما بدوتِ لعيِنِه ... حَوَّاَء في عهد تقادم؟
فهفا إليك كما هفوتُ ... وما له أمٌّ سواكِ
فرحمتِه وجرتْ على ... أطراف جُمَّتِهِ يداك!
أخْرجتِ آدم مِنْ جنا ... ن الخُلد لكن كُنِتها له!
أنقذته بهواك من ... تلك السآمة والملالة
فأحسَّ في الدنيا الشقا ... َء وكابَد الألم الكبيرا
فَازْدَادَ بِالسَّرّاء وال ... نَّعماء في الدنيا شعورا
ما بالُ آدمك الجدي ... د تركتِه في شِقوته؟
لم ترحمي بلواه إذْ ... أخرجتِه من جنَّته
قد كان يأمل إذ عصى ... مولاه فيك مزيد عطفك
ويح الشقيَّ. . . حَرَمْته ... مِنْ لطف مولاه ولطفك!
أهبطتِه من جَنَّتَيْ ... هِ فهام في الدنيا شريدا
يبكيك في المأوى ويب ... كي عهدك العهد السعيدا!
كيف السبيل إلى الرجو ... ع إلى نعيمي السَّالفِ؟
وشفاء حَرَّى مهجتي ... وسكون قلبي الواجب
وبأيّ وجهٍ بعد عصْ ... يانِيهِ ألقى وجه ربي؟
ولئن جَرُؤتُ فَمنْ لقلبي ... في يمينكِ. . . مَنْ لقلبي؟
أأجيئه مِنْ غير قلبٍ؟ ... كيف كيف يكون ذاكِ؟
ردّيه لي أطلُبْ رضا ... هُ حيْنَ لم أدرِك رضاك!
حوّاء ذات العدْلِ! فيْم ... عَدَلْت إلاَّ فيَّ وحدي؟
وعلامَ يا حَوّاء حافظةَ ال ... عهود نسيتِ عهدي؟
لم تُنْصفيني إذْ بَرَرْ ... تِ بآدمٍ وقطعتِ حَبْلي
وهو الذي ما إنْ حَملْ ... تِ به ولم تضعيه مِثلِي!(329/33)
أنا منكِ يا حوَّاء. . . أج ... در بالحنان. . . وليس منكِ
إن كنتِ منه فتلك بَع ... دُ مزيّةٌ تُقصيه عنك. . .
إن الحياة تَعُقُّ بِنتاً ... دأبَها وتَبِرُّ أُمَّا. . .
هلاّ سلكتِ سبيلها ... فقسمتِ لي بالبؤس نعمي!
أم شئتِ أن تلغي الوجو ... دِ لتبْدئي في الخلق طَوْرا؟
لم تُغفَرِ الأولى. . . أأجْنِئ ... فيكِ يا حوَّاءُ أخرى؟!
علي أحمد باكثير(329/34)
إلى نجمتي النائية
للأستاذ صالح الحامد العلوي
حنانكِ! يا نجمتي الزاهرة ... ويا نزهةَ القلب والباصرهْ!
ومن لم تزل رغم طول النوى ... على الصبِّ ناهيةً آمره!
ومن غرست في الحشا دوحةً ... من الحبِّ مزهرةً ناضره
ومَن هي من حسنها تحفةٌ ... بَرَتها يد القدرة الباهره!
بروح تكاد لها خفَّةً ... تطير مع النَّسمة الخاطره
ومن ساقها الحظُّ لي نعمةً ... من الله سابغةً وافرة!
عرفت بها كيف معنى الحنانِ ... وما لذّة الخلدِ في الآخره!
رعى الله وجهاً كساهُ الجمالُ ... غدوتِ به في الورى نادره!
وعيناً من السِّحر مكحولةً ... عليها معاني الهوى زاخره
بها قد أرى فيك أمي الحنونَ ... وحيناً أرى اللبوة الخادرة
معانٍ من السِّحرِ لا تهتدي ... إليها سوى الأعين الشاعره!
ألا حبَّذا عهدك المشتهى ... ولله أيامكِ الزاهرة!
وتَجْوالُنا بين تلك الرُّبي ... وطوراً على الضّفّة الساحره
وذاك المراحُ، وحلو المزاح ... وضحكاتنا العذبةُ الطاهرة!
نخبُّ ونطفر بين الحقول ... ونضحكُ للموجةِ الساخرة
ونشدو ونرقصُ مِلَء الصِّبا ... من اللهو في نشوةٍ غامره
كأنّا - وقد شبَّ فينا الشباب - ... صبيان لم نبلغ العاشره!
شريطٌ لماضيَّ لا تَأتلي ... تمدَّ الخيالَ به الذاكره
لعهد من اللهو قضَّيتُهُ ... يفاضلُ أوَّلُه آخرَه
متى يا قضاء ترى عوده؟ ... على رغم أيامنا الغادره!
(حضرموت: سيوون)
صالح الحامد العلوي(329/35)
إليها يوم تنساني. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
مِعْزَفٌ في يدِ السَّنا ... يَتَغنَّى عَلى الحِقَبْ!
ألهبَتْ شَدْوَهُ المنَى ... ما لهُ ضلَّ فانتحبْ؟!
أنتِ لقَّنْتِهِ الهوَى ... قُبْلةً كنتِ طُهْرَهَا
فاسْكُبي في فؤادِهِ ... من معانيكِ سحرَهَا
وَامْرحي فيهِ. . . طالما ... مَسَّهُ الحبُّ فَالتَهَبْ!
أنتِ دنيا خيالهِ ... ليتهُ كان سِرَّها
أنتِ في موكبِ الجما ... لِ نعيمٌ هو التَّرَف. . .
أبدعته يَدُ الجُنُو ... ن وزانتهُ بالسَّرَفْ!
أنتِ سِرُّ الحياةِ في ... باطن الكونِ قَدْ خَفَق!
أنتِ فجرُ الوجودِ من ... كل قلبٍ هوى اْنبَثق!
كذَبَ الشِّعرُ!. . . إنما ... أنتِ فوق الذي وَصَفْ!
فخذيني إليكِ. . . لمْ ... يَبْقَ مِني سوى رَمَق!
أنتِ معنىً منَ الخلو ... دِ وعى صفحةَ الأزَلْ!
وشعاعٌ من الحيا ... ةِ حوَى الحبَّ والأمل
يا ابنةَ النور!. . . بدِّدي ... ما بقلبي من الرِّيبْ!
واسكبي في فمي الضيا ... َء الذي ضلَّلَ الحِقَب!
واغمُري الروحَ باللهي ... ب لِتحيا على وَجَلْ!
قَلَقُ الحُبِّ. . . ما ألذَّ (م) ... وَأحلَى لمَنْ أحب. .!
إيه يا حُبَّها!. . . أفِقْ! ... قد عرفنا بكَ الخَبَل!
ورشفنا الجُنونَ لما (م) ... استبَدَّتْ بنا القُبَل!
همْ يُسمُّونكَ الهوى ... أنتَ يا حُبَّها القدَر!
فترفَّقْ بنا. . . فما ... نحن إلاّ من البَشَر!
إيه يا قَلبُ!. . . دعْ دَمِي ... فيكَ يَنسابُ بالأمل. . .(329/37)
واشرب الحُسنَ والسَّنا! ... هكذا حُبُّها أَمَر!
يا جُنونَ الهوى! عَشِقْ ... تُكَ جَهْدي. . فكن معي!
واطْوِ فيما طويْتَ قل ... بِي وعقلي ومسْمَعِي!
أنت في هيكل الخلو ... دِ صلاةٌ لمن عَبَدْ!
أَزَلُ الدَّهر يلتقي ... فيكَ يا حُبُّ بالأبَد!!
فاْمَلأ النفسَ بالرَّجا ... ءِ وعِشْ بين أضْلُعي
أنت روحي. . . وإنما ... أنا يا فِتْنَتِي جَسَد!
يا خيالي! ادَّخِر معي ... للمُنى كلَّ ما فَتن!
لا تسلْني: متى غدِي؟! ... كيف يحيا هُنا الزَّمن؟!
يا خيالي. . . أفِقْ وخُذْ ... من رُؤى الحبِّ ما سَحر!
لا تقل لي: صِف الهوى! ... هاهنا لا يرى البَصرْ!
إيهِ يا مُلْهِمَ النُّهى ... كلَّ ما يبعثُ الشَّجَن. . .
اكشفْ السِّتر عن غدي! ... إنه في دمي استتر!!
أيها الشِّعر!. . . أحيِني! ... أنتَ مِن وحيها مدَد!
شعَّ في الكونِ نورُها ... من قديمٍ وما نفد!
أيها الشِّعر!. . . غنِّني! ... واروِ رُوحي بسحرِها!
واسكُب الطُّهر في دَمي! ... إنه بعضُ سِرِّها!
هاتِها فتنةَ النُّهي! ... هاتِها نشوَةَ الأبد!
هي دنيا خواطري ... وتسابيحُ طُهرِها!
أيها الشِّعرُ. . . هجْتَ في ... باطِني كامِنَ الذِّكَر!
عادَني فيكَ حُبُّها ... فَالْتَقَيْنا عَلى قَدَر!
فكأني بها مَعِي ... تسمعُ الشِّعَر مِن فَمي!
وكأني بصوْتِها الطُّ (م) ... هْرِ يَنْسَابُ في دمِي!
لَيْتَ هذا حقيقةً ... يَجْتَلِيها هنا البصَر!
إنه الُحبُّ. . . بَيْنَ أحْ ... ضانِهِ الكوْنُ يَرتمي!(329/38)
أيها الشِّعْرُ:. . . هاتِها ... مُتْعةً تبعثُ الطَّرَب!
وادَّخِرْنِي إلى غَدٍ ... سوف آتيكَ بالعجَب!
أنتَ يا شِعر خالدٌ ... لستَ يا شعرُ للعَدَم
لا تَكِلْنِي إلى الأسى! ... نِلْتُ زادِي من الأَلمْ!
واسقِنِي النورَ جُرْعةً ... هيَ أَُنشودَةُ الحِقب!
وَقَّعَتها على القلُو ... بِ يَدُ الحُسن من قِدَم!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(329/39)
رسالة الفن
دراسات في الفن
عن فن الصوم
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ليس الصوم تجويع البطن وحرمانه من حشوها، وإنما الصوم زهد في حاجات البدن يقصد لذاته، ويقصد لأثره. فهو نفسه انتصار لذيذ على قانون الحاجة والضعف، وهو بعد ذلك يبعث في الصائم إيماناً بإمكان التدرج بالطبع في مدارج الرقي، وإغراء بالوثوب إلى حياة الإرادة والعقل. وفي ذلك ارتفاع بإنسانية الصائم إلى درجة من النقاء الروحي لا تتاح لغير البشر من المخلوقات التي تنساق لقوانين المادة وتخضع لمطالب الأجسام فلا تملك لها رداً إلا إذا أجبرت في ذلك إجباراً وقهرت عليه قهراً. فهي في كل من الحالين مسوقة مسيرة مشدودة، بأسباب الاتصال ودواعيه، إلى أحوال وأوضاع لا دخل لإرادتها في إعدادها ولا ترتيبها، ولا توجيهها. هذا إلى ما في الصوم من تيسير التفرد، وتقريب الوحدانية، واستشعار الغنى. فكلما لوَّن الصائم الزهدَ وقَلل من حاجاته البدنية أحس حدود كيانه تتميز وتفصله عما عداه، وأدرك أنه واحد، وإن كان صغيراً فإنه نزاع إلى أن يقوم بذاته، وأن تفيض نفسه بالحياة على نفسه فهو لا يطلبها - إلا قليلاً - في لقمة من الخبز أو جرعة من الماء
ومع الإحساس بهذا الاستقلال عن مادة الحياة فإن الصوم يبعث في نفس الصائم إحساساً آخر من الشيوع يشبه ذلك الإحساس الذي يشعر به النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات، ولكن شعور الصائم لا يتجه به إلى الماديات، فهو منقطع عنها جهده، وإنما هو يتجه به إلى ما يتعاطاه ويلج فيه مما هو فوق المادة، فهذا هو ما يفطر عليه ما يغذي نفسه به، وكما أن النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات يشعر بأنه مرتبط بالعجل لأن لحم العجل لذيذ، ولأن جلده مفيد، ولأن قرنيه نافعان، ولأن حوافره تصلح في شأن ما أو في عدة شئون، فإن الآخر الصائم يرى في العجل غير ما يراه ذلك الذي يفكر ببطنه وجلده وسائر جوارح بدنه، ويرتبط إليه برباط آخر معنوي، فهو عنده رمز لقوة(329/40)
البدن مع طيبة القلب، واستسلام النفس مع تناوم العقل، فإذا آلفه فإنما يؤالفه ليتعلم منه هذه الطباع وليستخرج من تركيب بعضها إلى بعض عبرة تدله على عجز القوة ما لم يسندها الفكر، ومهانة الاستسلام ما لم تدركه اليقظة. وهكذا يصبح العجل الحيوان الواحد ذا طائفتين اثنتين مختلفتين من الدلائل والمعاني يدرك طائفة منها إنسان زهد في المادة وصام عنها، ويدرك الطائفة الأخرى إنسان زهد فيما فوق المادة وصام عنه
وليس العجل وحده هو ما يراه الإنسان ويتصل به في هذه الحياة، وإنما هو يرى كائنات كثيرة ومخلوقات عدة ويتصل بها جميعاً وفق نزعته، وإنما سقت العجل مثلاً لأن له قصة طويلة قديمة مع البشر، فكما أذله ناس وقره آخرون، وكما استضعفه ناس عبده آخرون
ولست أريد أن أنحاز إلى هؤلاء أو إلى هؤلاء، فقد كان لكل رأي وكان لكل رأي برهان، وإنما أريد أن يلتفت القارئ معي إلى صلاح العجل عند البشر للإهانة والعبادة معاً، لا لشيء إلا لأن فريقاً من الناس رأوه رأياً، وفريقاً آخر رأوه رأياً، وهؤلاء مضوا في رأيهم حتى نهايته، وهؤلاء أيضاً مضوا في رأيهم حتى نهايته، فكانت نهاية أصحاب الرأي الأول أن أكلوه، وكانت نهاية أصحاب الرأي الثاني أن قالوا إنه الله. . . وهكذا كل ما في الحياة يستطيع الإنسان أن يأكله، ويستطيع أن يرى فيه الله. . . أو أن يصل من سبيله إلى الله. . . لو هداه
ولندع العجل إلى غيره من الخلائق وآيات الله لنرى أن الناس دائماً ينقسمون أمام مظاهر الحياة إلى قسمين واضحين: قسم يزهد في كل شيء ماعدا الملموس المحسوس الذي له أثر ملموس محسوس، وقسم آخر يزهد في هذا الملموس المحسوس نفسه فلا يصيب منه إلا بمقدار ما يمسك عليه الرمق وما يحفظ عليه الحياة. وهناك - إلى جانب هذين الفريقين من الناس - قسم ثالث يتراوح بينهما فيجول مع كل فريق جولة، له فيما فوق المادة ساعات يقضيها مع نفسه ثم يعود إلى الناس فينقل إليهم ما رأى وما سمع وما أحس وما علم. وهؤلاء هم أهل الفن الذين نعرفهم من فنونهم، والذين يقول عنهم أهل الأرض إنهم أصحاب خيال وإنهم في خيالهم يعمهون بعيدين عن حقيقة الحياة، لا لشيء إلا أن أهل الأرض يعتبرون الحياة هي هذه الماديات وحدها، فما لم ينطبق عليها تمام الانطباق فهو خيال ووهم(329/41)
ولست أريد أن أظل مع هؤلاء المتراوحين طويلاً الآن، وإنما أتركهم إلى أولئك الذين أعطوا الأغلب من أرواحهم لما حجبته المادة الكثيفة عن أغلب الأبصار والأسماع. . . أولئك يحيون، وإن لهم دنيا طويلة عريضة كهذه السموات والأرض، بل إنها أوسع من السموات والأرض، وهم يكشفون مجاهلها يوماً بعد يوم، ويغزون أطرافها ما صفت أرواحهم، وما اتجهت عقولهم بالتفكير في أسرار الوجود، فإذا هم في حياة أساسها في هذه الدنيا ولكن مهادها ووديانها عليون، وإذا هم يشعرون بعلاقات وثيقة تربطهم بكل ما في الكون من حقائق وموجودات، بل إنهم يحسون أن لهم منافع روحية وفوائد معنوية يصيبونها في الحقائق والمخلوقات كتلك المنافع التي يرجونها النهم الأكول في لحم العجل وجلده وقرنيه وحوافره، وهم ملحون وراء هذا الذي يستطيبون من الكسب كلما حصلوا منه ربحاً استزادوا الربح بالجهد والمران، فإذا هي أرباح فوق أرباح، وإذا بالفقير المعدم منهم له ثروة عجب من المعلومات والمدركات، فإذا أراد أن يستغل علمه وإدراكه وأن يخرج بهما من دائرة التحصيل والإفادة، إلى دائرة العمل والإنتاج كان الشيء الذي يصنعه خارقاً لا يستقيم مع طبائع الحياة التي تعارفها أهل المادة من الناس، وإن استقام مع طبيعة الوجود العامة التي لا يحلق إليها إلا أندر الناس الذين يشرأبون دون عشرائهم إلى ما أباحه الله للمقبلين عليه من خلقه السباقين في التقدم إليه والارتقاء إلى رضاه بإرضائه. وتقول الجماهير عندما ترى أعمال هؤلاء إنهم سحرة. . . أو أنهم أصحاب معجزات.
وهذه الأعمال الإيجابية التي يقوم بها هذا الفريق من الناس تختلف وتتعدد مظاهرها وألوانها باختلاف اتجاهاتهم وما يتخصصون فيه من العلم، وليس تخصصهم في العلم شيئاً غريباً، فعلماء المادة يتخصصون هم أيضاً في دراسة نواحيها. . . لكل منهم ناحية. . فمنهم مهندسون، ومنهم أطباء، ومنهم من ينفقون حياتهم في دراسة القوانين التي كتف الناس بها الحياة، كذلك أولئك منهم من يتجه إلى نفسه فيدخل فيها فيعلم من شؤونها ما يعلّمه الله إياه، ومنهم من يدخل في نفوس الناس، ومنهم من يدخل في نفوس الناس والحيوان. . . بل إن منهم من يتجه إلى المادة نفسها فيغزوها بالروح غزواً فيشق البحر ويقلب العصا إلى حية والحبل إلى ثعبان!. .
ويضطرب الناس ويرتبكون حيال هؤلاء الزهاد الأنبياء. . . فيقولون إن محمداً صلوات(329/42)
الله عليه ورضاه كان شاعراً. . . لأنهم كانوا يسمعونه يقول كلاماً لا يشبه كلام الناس، وفيه ملامح من كلام الشعراء، هي هذا البعد عن مادة الأرض المعتمة العمياء، وهي هذا النور الذي أهداه الله إليه من نور السماء. . . وما كان محمد شاعراً، وما كان الشعر ليتسامى إلى درجة ما أفاض به على الناس، وما كان كلامه فناً من فنون الأرض، وإنما هو أرفع ما أتاحه الله لإنسان من علم حق ومن حكمة خالدة تنسحب إلى أبعد الأزل، وتنطلق إلى أبعد الأبد سبحان من أوحاه! وسبحان من جاد على البشر بفنه. . . هو الله!. . .
لم يكن محمد شاعراً، فالشاعر كما رأيناه يتراوح بين حياة الأرض وحياة السماء، ويتذبذب بين طبيعة المادة وطبيعة الروح، ولا يقر له قرار إلا بين الناس، ولا يغيب عنهم إلا لمحات قصيرة عابرة لا يطيق استدامتها، لضعفه ولشعوره بالحاجة البدنية إلى ما في الأرض من راحة. . . أما محمد، وأمثال محمد من الأنبياء فإنهم قد اشتروا الآخرة بالدنيا، وليس لهم في الدنيا مطمع، فقد أحاطوا بما فيها علماً، وهم يتجهون بعد ذلك بأطماعهم إلى ما وراء هذه الحياة. . . وهم مؤمنون بأن هناك شيئاً بعد هذه الحياة، لأنه قد كان هناك شيء قبل هذه الحياة، وليس في هذا الطور ما يدل على أنه الحلقة الأخيرة من حلقات التطور والارتقاء. . .
وهنا قد يسائلنا سائل: كيف قال محمد إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومادامت طبيعة الحياة قد استدعت بعث الرسل والأنبياء فيما مضى، ومادامت بريئة مما يدل على أنها قد كفَّت عن نهجها والتوت إلى نهج جديد؟
وجوابنا على هذا أن محمداً صلى الله عليه وسلم وضع أمام عيون الناس القواعد الخالدة لهذه الحياة. . . القواعد التي تتغير الدنيا ولا تتغير هي، والتي تتطور الحياة وترتقي وتمتنع هي على التطور والارتقاء لأنها نهاية النهايات، ولأنها الحقائق الثابتة التي يقوم عليها التغيير والتبديل، ولأنها المحاور التي يدور حولها التطور والارتقاء.
فلقد جاء في دين محمد أن الإسلام هو دين الفطرة، فإذا عرفنا علام نحن مفطورون فسايرنا فطرتنا فإننا مسلمون. وهذا مبدأ لا يمكن أن يزول وإنما يتحطم كل من يناوئه ويعصيه. . . وإن من فطرتنا أن نتطور وأن نرقى. وقد جاء في دين محمد بين آيات القرآن (أحلت لكم الطيبات وحرمت عليكم الخبائث) فإذا عرفنا ما هي الطيبات التي تنفعنا، وما هي(329/43)
الخبائث التي تضرنا، وأخذنا ما ينفع وتركنا ما يضر فإننا مسلمون سالمون. وهذا مبدأ تتبعه الكائنات بطبيعتها فتسلم، وعلينا نحن ألا نقاومه بعقولنا وإرادتنا كي ننجو، وإلا فالهلاك لمن أحل لنفسه الخبائث، وحرم عليها الطيبات. . . وقد جاء أيضاً في دين محمد بين آيات القرآن كذلك: (وما أصابكم من خير فمن الله وما أصابكم من شر فمن أنفسكم) ومعنى هذا أننا إذا ألقينا أنفسنا بين يدي الله وأطعنا أمره، وهو يأمرنا بالتزام فطرتنا والخضوع للقوانين الطبيعية التي انتهت بنا اليوم إلى هذا الطور من أطوار الحياة والتي تسير بنا منذ اليوم إلى أطوار وأطوار فإننا إذن مسلمون سالمون، فإذا حدثتنا أنفسنا بغير ذلك فانتكسنا وخيلت لنا الأهواء أن في الرضا شراً أو ضعفاً أو عجزاً وحاولنا أن نكسب لأنفسنا ما يثقل علينا وما لا حق لنا فيه وما ننوء بحمله وما يربكنا تصريفه؛ فإننا عندئذ مضطربون قد وضعنا أنفسنا حيث لا يمكننا أن نظل طويلاً. . . فلا عجب إذا انهزمنا سريعاً
علينا أن نعرف ماذا كنا. . . وماذا نحن. . . وماذا سنكون. . . حتى لا نخطئ الطريق إلى ما نحن صائرون إليه. . . ولنعلم أن فينا اليوم من طبائع الماضي ما لا يصلح للمستقبل. . . وهذا ما علينا أن نقاومه وأن نتخلص منه. . . وقد قيل إننا كنا في الماضي قردة. . فعلينا أن نخلص إذن من أوجه الشبه بيننا وبين القرود. . . وإلا فنحن نعرقل فطرتنا. . .
هذه هي بعض مظاهر الخلود والصلاح الدائم في الإسلام، وهذه هي نهاية النهايات التي وصل إليها محمد تبارك من هداه، فله الحق - على هذا - أن يقول إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، لأن أحداً لن يجيء بعده بتلخيص لسر الوجود أعمق من هذا التلخيص ولا أمكن إصابة منه. . وما أدناها حقيقة، وما أبعدها منالاً!. .
فهل يعرف أحد إلام نحن صائرون؟ إننا صائرون إلى حياة خالصة من هذه الأبدان التي يصيبها العطب. . . إننا صائرون إلى لقاء الله، وإن في نفوسنا ما يسير بنا إلى هذا، فعلينا أن نتعرفه وأن ننميه. . .
نفوسنا حشد من الغرائز، فما تشبث منها بالحال الراهنة وأعرض عما هو مقبل من حياة الخلوص كان كما يريد أن يعود بنا إلى حياة القرود. وكان تعطيلاً لإرادة الإنسان القادر -(329/44)
بقوة الله - على تنقية نفسه وترقيتها. وما تحرر منها وانطلق إلى الله فهو عون الإنسان على توحده، وعلى شيوع نفسه في نفوس الخلائق، والاتجاه مع الكائنات في صلاة الجماعة لفاطر السموات والأرض المهيمن العلام الأول والآخر.
عزيز أحمد فهمي(329/45)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
بقلم مريون فلونس لانسنغ
ثناء على علبة الصفيح
الصفيح خادم متواضع للإنسانية، فنحن نتلف العلبة بعد فتحها ونلقي بها دون أي احترام ودون أن يكون في أنفسنا لها موضع للشكر على الخدمة التي أدتها. ولكن نابليون لشدة شغفه بالحصول على مادة تؤدي إلى حد قليل مثل الخدمة التي تؤديها اليوم علبة الصفيح، قد عرض هو والحكومة الفرنسية في سنة 1800 أو ما حولها جائزة قدرها 12000 ألف فرنك لمن يخترع وعاء يمكن حفظ الطعام فيه من التلف في زمن الحرب
إن تعاقب مواعيد الغراس والحصاد التي عرفها آباؤنا الأولون كان نعمة عظيمة على الإنسان. ولكنه من جهة أخرى يفرض عليه واجبات معينة ويلزمه عناية خاصة، فالرجل الذي يعيش في المناطق المعتدلة لا يستطيع أن يجعل مائدته مبسوطة على الدوام على الرغم من كل جهوده الزراعية
يجب أن يكون لديه خبزه كل يوم ولكن الثمار والمحاصيل لا تخرجها الأرض يوميّاً بل في مواعيد معينة. وكما يختزن السنجاب البندق في ثقب بجذع الشجرة انتظاراً للوقت الذي تخلو فيه الفروع من ثمرها فكذلك يجب أن يختزن الإنسان من نتاج الموسم ما يكفي احتياجاته بقية فصول العام المجدبة
وكان تجفيف الطعام من أقدم الوسائل للاحتفاظ به. وقد وجد الفريق الأقدم من المستعمرين الأمريكيين جماعة الهنود يتبعون نظاماً لتجفيف القمح والسمك والفواكه واللحوم بحفظها من العطب مدة طويلة. وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام هي تثليجه، ولكن هذه الوسيلة لا تمكن مزاولتها إلا في الأجواء التي يمكن فيها ترك الطعام في الماء البارد والثلج أو في أنابيب في أعماق الأرض
وتوجد وسيلة أخرى لحفظ الطعام مناقضة للوسيلة الأخيرة وهي حفظه بواسطة الحرارة. ووجد الطباخون في العصور القديمة أن اللحم المطبوخ يبقى مدة أطول من اللحم النيئ(329/46)
فوصلوا بهذا الاستكشاف إلى أول حلقة من سلسة الاستكشافات التي انتهت اليوم إلى حفظ المجففات في علب الصفيح
إن سر نجاح الحفظ في تلك العلب هو أن الطعام يمنع فيها عن التعرض للهواء منعاً محكماً. وفائدة منع الطعام عن الهواء ليست بالاستكشاف الحديث فقد وجدت في جزيرة كريت بالبحر الأبيض المتوسط آثار قصر قديم يرجع عهده إلى 1500 أو 2000 سنة قبل المسيح ووجد في حجرات باردة تحت أرضه أوان كبيرة من الطين يختزن فيها الطعام ويمنع عن الهواء
ولكن الذكاء والنجاح اللذين ظهرا في حفظ الطعام بعلب الصفيح لم يكونا قبل الحروب النابليونية في فرنسا حتى رأت الحكومة - والحكومات بطيئة دائماً في بذل الأموال للاختراعات المشكوك في نفعها للجماهير - أنه من المجدي بذل جائزة للوسيلة الناجحة في حفظ المأكولات بالتخزين
وكان مبلغ اثني عشر ألف فرنك مبلغاً عظيماً في ذلك العهد من القرن الثامن عشر. وقد تسابق صناع الحلوى وصناع الجعة وأصحاب معامل التقطير بنشاط وجِد علهم يحصلون على هذه الجائزة، وقد نالها بعد اثني عشر أو خمسة عشر عاماً رجل اسمه فرانسوا إيبرت وهو صانع حلوى وقد قضى كل حياته في حل هذه المسألة
وربما كان ما يشاع عن جهود إيبرت هو الذي حمل نابليون ومستشاريه على التفكير في قيمة المشروع الذي يمكن به النجاح في حفظ الطعام، وعلى كل حال فقد عرضت الجائزة واستمر إيبرت يزاول عمله في صبر حتى كان عام 1810 فتقدم بالدليل على نجاحه ونال الجائزة
وحتى مع حصوله عليها فقد أنفقها كلها على اختراعه مجرباً أساليب أحسن من التي عالجها من قبل، إلى أن مات في فاقة وهو يشكو قلة التشجيع بعد بضع سنين، وذلك على الرغم مما كان يبدو من أن مبلغ الاثنى عشر ألف فرنك مبلغ كبير
ومن حسن حظنا نحن الذين انتفعنا بنجاحه أن الحكومة الفرنسية نشرت له في الوقت الذي عرضت فيه الجائزة كتاباً يوضح على وجه التفصيل تجاريبه ونتائجها، فأمكن بذلك أن نعرف عن تجاريبه أكثر مما نعرف في العادة عن التجاريب السابقة(329/47)
وتبين أنها تجاريب مماثلة تمام المماثلة للمشاريع العظيمة التي اتسعت في القرن العشرين لحفظ البضائع وإرسالها إلى أرجاء الأرض وحفظها إن دعت الحاجة عدة أشهر أو سنين
لم يكن لدى فرنسوا إيبرت علب ملائمة ليضع فيها بضائعه. فكان يضع كل أنواع مصنوعاته في علب من الزجاج أو الفخار ثم يحكم غطاءها ويضع العلب في ماء يكفي لتغطيتها ثم يضع الوعاء الكبير الذي به الماء وفيه العلب فوق نار حتى يسخن إلى أن يصل إلى درجة الغليان. ويتركها بعد ذلك في هذا الوعاء أوقاتاً تختلف قلة وكثرة ثم يسد الزجاجات ويختمها في أثناء حرارتها
وربما بدا لك أنه ليس في هذا ما هو جديد أو غريب يستحق أن ينال الرجل بسببه جائزة بل يصنع هذا في كل مطبخ أيام الخريف عند ظهور الفواكه الجديدة لحفظها في الشتاء. والواقع أنه ليس في هذا الأمر ما يعد اليوم جديداً ولا غريباً وإنما ذلك لأن الفكرة شاعت وأصبحت مقبولة. ولكننا الآن في القرن العشرين وهذا العالم الفرنسي كان يشتغل في معمله سنة 1800 وبسبب جهده وصبره في العمل أصبح استكشافه سهلاً وأصبح يؤدى في مطابخنا كأنه أمر طبيعي. وكانت التجاريب تتقاضاه وقتاً طويلاً لأنه كان لابد من تجريب درجات مختلفة للحرارة وأساليب متباينة للصنع. وكان لابد كذلك من بقاء الزجاجات مغلقة عدة أشهر أو عدة سنين ليتضح مبلغ النجاح في كل تجربة. وقد قضى إيبرت اثني عشر عاماً حتى عرف خير الوسائل لمعرفة المدد التي يقضيها كل طعام على الحرارة ليكون عند استخراجه من الوعاء في مثل عذوبته وصلاحيته عند وضعه فيه
وقد رأى إيبرت أن نجاح تجاريبه يتوقف على إخراج الهواء إخراجاً تاماً، وقد رأى كما كان يرى العلماء في عصره أن الهواء يحدث عطباً في الفواكه والخضر وكانت وسائله صحيحة، ولكن مضى خمسون عاماً أخرى قبل أن يستكشف العالم الفرنسي الشهير لويس باستور ذلك الاستكشاف المميز لعصره وهو أن الفساد لا يحدثه الهواء بل الميكروبات التي تعيش في الهواء
كان إيبرت يجري تجاريبه على الطريقة الصحيحة الوحيدة ولكنه كان يخطئ في تفسيرها وكانت النتيجة واحدة لأن التجربة نجحت وحفظ الطعام
ولكن العالم الكبير باستور بشرحه القانون المسيطر على نماء البكتريا والميكروبات قد(329/48)
أحدث ثورة في علوم الطب وبدأ عهداً جديداً في حفظ الطعام بطريقة علمية مجدية، وهذه الطريقة كان إيبرت هو المبشر بها
ولعله ليس في تاريخ الإنسانية يوم أعظم من اليوم الذي بيَّن فيه باستور أن التغيرات التي تطرأ على المواد الغذائية عند تعريضها للهواء إنما هي نتيجة لعمل أحياء بكتيرية صغيرة، فإذا ما أزيلت هذه الأحياء بواسطة الحرارة وأزيل الهواء في الوقت نفسه فإن الطعام لا يفسد إلا عندما يتعرض للهواء مرة أخرى فيتعرض لهذه الأحياء. وقد نال باستور جائزة على استكشافه هذا في فرنسا سنة 1860 - على أننا لم نبدأ إلا الآن فقط في فهم ضخامة التغير الذي أحدثه استكشاف باستور في المعارف الإنسانية وفي أساليب الحياة بتطهير اللبن وبتعقيم الأدوات الجراحية. ومن الممتع أن نلاحظ أن الأرجح أن ينشأ في وقت واحد اختراعان يساعد أحدهما على نجاح الآخر، ففي الوقت الذي كان فيه إيبرت جاداً في صنع الأواني من الزجاج والفخار كان في إنكلترا ميكانيكي أسمه بطرس دوراند يصنع أول ما عرف من علب الصفيح، وقد عرض علبته الأولى في سنة 1807 وكانت عملاً غير متقن فهي ثقيلة الوزن مصنوعة باليد، وكان لها غطاء ضخم قبيح الشكل ولكنها كانت على كل حال علبة من الصفيح
واحتكر رجل إنكليزي طريقة إيبرت بعد عام من ظهورها في فرنسا. وأنشئ أول مصنع لتخزين الأطعمة في العلب بإنكلترا وكانت شركة أمريكية هي التي تقوم بهذا العمل، وربما كانت الحكمة في اختيار إنكلترا لهذه الصناعة هي نشوء صناعة الصفيح فيها، وسرعان ما انتقلت الصناعتان إلى الولايات المتحدة
وفي سنة 1891 أنشأ إزرا داجوت وتوماس كنست في نيويورك صناعة لحفظ سمك السلمون وبرغوث البحر والكابوريا في علب الصفيح، وكلا الرجلين متعلم في إنكلترا
وفي العام التالي أنشأ رجلان آخران هما أندر وود تيشل في بوستون صناعة حفظ الفواكه في العلب الصفيح وقد استعملا في إعلاناتهما كلمة هي التي اشتقت منها الكلمة الإنكليزية (علبة) وأصبحت صناعة العلب من الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة
وليس ثناؤنا على اختراع العلب الصفيح من أجل أهمية هذه الصناعة من الوجهة التجارية وإن كانت العلبة ومحتوياتها جديرين بوضعهما في قائمة الاستكشافات الهامة، بل لأن(329/49)
أثرهما في حياة الإنسان أثر بعيد مميز للعصر
كان الإنسان من عهد قديم يعتمد على الأطعمة المحلية والموسمية وكانت حركاته محدودة من أجل هذا السبب. كان لا يستطيع الإقامة إلا في المناطق التي توجد فيها بصفة مستمرة أنواع حاجاته المختلفة من الطعام الملائم لصحته. وكان لا يستطيع السفر والاستكشاف إلا إلى المدى الذي يؤهل له ما لديه من الطعام
وكان لا يمكن أن تتسع المدن إلا إلى الحد الذي تؤهل له طاقة الأراضي الزراعية المحيطة بها على إخراج نبات يكفي للطعام، وقد توافرت الآن كل هذه الشروط وكان لها أثر كبير في حياة الإنسان.
ولكن العلم الذي أذاعه باستور والتجارب العلمية التي أجراها أيبرت والحذق الميكانيكي الشائع الآن - لكن كل ذلك مجتمعاً قد أدى إلى إنتاج مقادير عظيمة من علب الصفيح رخيصة الثمن تتسع لمقادير هائلة من الأطعمة فأصبحت حركة الإنسان سهلة بعيدة المدى
كان نابليون يرى أنه سوف يستطيع التغلب على العالم على صورة نهائية وأن يتولى إدارته لو وثق من أن جيشه يستطيع الحصول على الغذاء وهو في ميادين بعيدة عن وطنه
وكانت رحالات كولومب محدودة بمقدار الطعام الذي يستطيع حمله في سفينته وكان المستكشفون في رحلاتهم الأولى يخفقون لأن رجالهم كانوا يمرضون إن لم يحصلوا على طعام طازج
اقرأ سير الرحلات الأولى تر أن الرجال كانوا يموتون بداء الأسخربوط ولكن المستكشفين العصريين بيري وامندسون وسكوت قد استطاعوا تحقيق حلم الإنسانية منذ قرون في الوصول إلى القطبين لأنهم كانوا يحملون أطعمة مضغوطة في علب مختومة تكفيهم إلى نهاية الرحلة
وقد قيل إن حفظ الأطعمة في العلب هو أكبر الاختراعات أهمية بعد اختراع البخار من حيث تمكين الناس من إنشاء المدن الكبيرة وتسهيل المواصلات إلى أبعد مناطقها المختلفة بتزويد السفن بالطعام المحفوظ
فهل تشترك معنا في الثناء على خادم الإنسانية المتواضع: علبة الصفيح؟
(يتبع)(329/50)
ع. أ(329/51)
من هنا ومن هناك
البترول يكسب الحرب
(عن (ونتورث داي))
سوف يكون للبترول الشأن الأول في كسب الحرب. فبالبترول تدار الطائرات وتسير المدرعات وتعمل البنادق وتحرك السيارات وتسير الغواصات
ومن المعروف أن البواخر الحربية العظمى جميعها تتخذ وقودها من زيت البترول. وقد أصبح للإمبراطورية البريطانية مراكز ذات أهمية كبيرة للبترول تمتد إلى شواطئ الإمبراطورية وموانيها المختلفة في جميع أنحاء العالم، حتى أصبح عددها الآن يفوق عدد مراكز الفحم التي للإمبراطورية
وتسيطر بريطانيا الآن على أكبر مقدار من البترول الذي يستخرجه العالم. وقد بلغ ما تستهلكه من هذه المادة في الأغراض التجارية أيام السلم 12. 000 , 000 طن، وهي لا تجد صعوبة في الحصول على هذا المقدار
ويبلغ ما تستهله ألمانيا وقت السلم 7. 000 , 000 طن في العام، وهي تستطيع أن تستخرج ثلث هذا المقدار، فإذا أضفنا إليها ما يستخرج من أسبريا وما تستطيع أن تحضره بالطرق العلمية وجدنا أن هذا جميعه لا يكفي لتقديم ما تتطلبه في أوقات السلم بحال من الأحوال. فكل ما تستطيع ألمانيا الحصول عليه من هذه المادة الأساسية في حياة الأمم، لا يتجاوز 2. 400. 000 يدخل في ذلك البترول الصناعي والبنزول وغاز السيارات. وتستورد ألمانيا باقي حاجتها من أميركا وجزائر الهند الهولندية ورومانيا
ومن الواجب في هذا الصدد إلا نبالغ في تقدير البترول الذي تستخرجه رومانيا، فليس له في الحقيقة الأهمية التي يتصورها رجل الشارع. فكل ما تستخرجه رومانيا لا يزيد على 6. 000. 000 طن من البترول الخام، وهذا المقدار لا يكفي حاجات ألمانيا أيام الحرب، هذا إذا استطاعت الاستيلاء على منابع البترول في رومانيا، والإشراف عليها جميعها. وقد أخفقت في هذه المحاولة إبان الحرب العظمى. وعلينا أن نذكر هنا أن البترول الذي يصدر من رومانيا إلى ألمانيا، يجب أن يتخذ طريق الدانوب أو طريق البحر ماراً بمضيق جبل طارق، وكلا الطريقين تحت إشراف البنادق البريطانية. وإذا كانت بريطانيا تستورد(329/52)
حاجتها من البترول عن طريق البحر، فليس في ذلك أي ضير مادامت تسيطر على البحار. فإذا أصبح طريق البحر الأبيض المتوسط معرضاً للأخطار أيام الحرب، فأمامها أكثر من طريق واحد لتوصيل البترول إليها. فعلى الرجل الذي يحلم بالانتصار على الإمبراطورية البريطانية أن يعلم حق العلم أن الحرب لا يمكن أن تستمر بغير بترول، ولكنها تنتهي لأجل البترول
الصحافة السرية في ألمانيا
(عن
تنتشر الصحافة السرية في ألمانيا بطريقة منظمة محكمة تيسر للملايين من الألمان الاطلاع على آراء كتابها الأحرار داخل بلادها وخارجها. وقد ذهبت سدى كل المجهودات التي بذلت لوقف تيار هذه الصحف التي تنتشر بين الجنود وفي المصانع والمساكن تحت أسماء وعناوين مختلفة. وقد حاول هتلر منذ ست سنوات أن يكتشف طريقة لوقف هذه الحملة الشديدة المحكمة النظام التي يقوم بها بعض أبناء ألمانيا لإنقاذ نفوس الملايين الذين لم تفسد بعد قلوبهم ورؤوسهم بتعاليم النازي السخيفة، فذهبت جهوده في مهب الرياح. وقد عملت التدابير المحكمة لنشر تلك الآراء المعادية لحزب النازي، واتخذت لها أعواناً وأستاراً ممن يلبسون اللباس النازي ويسيرون في صفوف المؤيدين. وتنتشر الصحافة السرية في المصانع والمصالح الحكومية وبين جنود الجيش، ويتلهف الكثيرون على تلاوتها على الرغم مما في ذلك من المخاطرة بالحياة.
وكثيراً ما توجد هذه الصحف في علب الشاي والبسكويت وغيرها من هذه الأنواع البعيدة عن المظنة والشبه، ويدبج مقالاتها الطريفة كتاب فحول من أمثال: توماس مان وجورج برنهارد وهنريك مان وغيرهم. وفيما يلي فذلكة مما ينشر بتلك الصحف:
في الأمم الديمقراطية تشتد الخلافات وتتضارب الآراء بين الأحزاب حتى يهتز لها كيان النظام السياسي القائم، إلا أنها عند مواجهة الأخطار تتحد جميعها وتتعاون للدفاع عن الحقوق والحريات. وقد تظن الحكومات الديمقراطية أن هذه الروح السائدة في بلادهم تجد ما يشابهها في بلاد تحكم بالعنف وبالقوة مثل بلادنا، ولكن الأمر على النقيض من ذلك،(329/53)
فروح الكراهية والانتكاس والتطاحن لا تظهر عندنا في وقت السلم، فإذا دعا الداعي للحرب أظهرت الأكمة ما وراءها، وظهرت قوة الشعب
ومن المعلوم أن أركان حرب الجيش الألماني قد حذر النازي من الارتطام في حرب عامة إذ أن حرباً كهذه ستؤدي إلى هزيمة لا شك فيها. وقد أرسل إلينا ضابط عظيم يطلب الاستعانة بالصحافة السرية، على تحذير الشعب الألماني من الدخول في هذه الحرب. ويقول هذا الضابط في كتابه: (إن مركز ألمانيا الجغرافي في وسط أوربا وقرب مصانعها من الجهة الحربية، ومدنها الغاصة بالسكان تجعلها عرضة للغارات الجوية. ومن السهل على الطائرات الوصول إلى أقصى ناحية من الريخ في ساعة من الزمان). وعلى هذا النحو تسير الصحافة السرية في إرشاد الشعب الألماني وتحذيره بطريقة منظمة في كل أسبوع، بحيث تنير الطريق أمامه في ظلام المدلهمات.
هل تستطيع اليابان أن تحكم الصين
(عن (أميركان ميركيوري))
يلوح أن الضحايا العديدة التي فقدتها اليابان والأموال الطائلة التي بذلتها في الحرب الصينية سنتين كاملتين، قد ذهبت كلها أدراج الرياح. وقد تنقضي تلك الانتصارات المزعومة في هذه الحرب الطاحنة دون أن تفيء على الأمة اليابانية ما تأمله من الغنم. وذلك أن اليابانيين لم يرزقوا ذلك النوع من الدهاء السياسي الذي يمكنهم من حكم البلاد بغير العنف والإضرار، مما لابد منه لكل أمة تريد التوسع والاستعمار
وتدل الحالة في فورموسا وكوريا ومانشوكو على أن الاستعمار الياباني لم يكن إلا نوعاً من الحرب المتواصلة التي يشقى بها الحاكم والمحكوم، وليس فيها أي دليل على الاستقرار والهدوء والتمكن من الاستيلاء على ناصية الأمور
ولعل الميول العسكرية التي ساقت الجيش إلى الانتصار بحكم الرغبة في السيطرة والقوة، هي نفسها التي ذهبت بقيمة هذا الانتصار، فإن حكم الجيش لتلك البلاد المقهورة هو الذي جعل اليابان عاجزة عن توطيد مركزها بها
وقد أخذت اليابان تفكر تفكيراً جدياً في نبذ تلك الفكرة التي كانت ترمي إلى فتح الصين(329/54)
والاستيلاء على جميع أراضيها، وتود لو أتيح لها أن تعقد اتفاقاً مع الصين على أن تحكم الأقاليم الساحلية وتترك لها داخلية البلاد. ولكن اتفاقاً كهذا ليس من شأنه أن يوطد دعائم السلام بين الأمتين. فهو في الحقيقة سيكون بمثابة هدنة مؤقتة، إذ أن المنطقة الحرة في الصين ستعبئ كل قواها لإشعال نار الحرب من أجل الانتقام. وسوف تظل المؤامرات السياسية والأعمال السرية الخطيرة تقلق بال اليابان
وكل ما ترجوه اليابان الآن أن تستطيع استغلال الأقاليم التي استولت عليها جيوشها من الناحيتين الصناعية والاقتصادية، فإذا استطاعت اليابان أن تصل إلى أغراضها، وأمكنها أن تمد جيشها الذي يحتل تلك البلاد بما يرجوه من ثمرة انتصاره عليها، لم يكن من الصعب عليها أن تنتهز الفرص للاستيلاء على مواطن أخرى، أما إذا أعياها ذلك الأمر فإن الناحية الاقتصادية ولاشك ستصبح كارثة على اليابان. وقد ظهر أن المقدرة على الاستقرار وتسوية الأمور هي الشيء الذي ينقص اليابان في جميع المحاولات التي قامت بها لبناء الإمبراطورية
مما لاشك أن اليابان قد كسبت الحرب من الناحية الحربية. فقد استولت جيوشها بصفة نهائية على الشواطئ الصينية وامتلكت كثيراً من المدن الصينية الكبرى
إلا أن السلطة اليابانية، ونفوذ حكومتها عليها يتعد المناطق التي تحميها بنادق الجيش. ومازالت اليابان تلاقي أشد الصعوبات في البلاد التي تتوغل فيها داخل بلاد الصين. فالصينيون يقطعون عليهم خطوط المواصلات كلما تقدموا خطوة إلى الأمام ويهدمون البلدان ويفسدون الأطعمة وكل ما ادخرته تلك البلاد من الخيرات
ويقول الصينيون إنهم يضحون بالسكان لأجل الزمان؛ ويحسبون الأيام ويعدون الزمن لإيقاع الهزيمة بهؤلاء المغيرين. فإذا فرضنا أن اليابان لم تهزم وقدرنا أن قوتها الحربية ستستمر على إخضاع تلك البلاد، فليست اليابان بالأمة المؤهلة للاستعمار بالمعنى المفهوم عند الأمم الأوربية فهو كما يظهر شيء بعيد عن أخلاق اليابانيين(329/55)
البريد الأدبي
الجاو، الورق النقدي سنة 693
قال ابن الفوطي في كتابه (الحوادث الجامعة):
(في سنة (693) وضع صدر الدين صاحب ديوان الممالك بتبريز (الجاو) وهو كاغد عليه تمغة السلطان عوض السكة على الدنانير والدراهم. وأمر الناس أن يتعاملوا به. وكان من عشرة دنانير إلى دون ذلك حتى ينتهي إلى درهم ونصف وربع. فتعامل به أهل تبريز اضطراراً لا اختياراً بالقسر والقهر، فاضطربت أحوالهم اضطراباً أضر بهم وبغيرهم حتى تعذرت الأقوات وسائر الأشياء، وانقطعت المواد من كل نوع، فكان الرجل يضع الدرهم في يده تحت (الجاو) ويعطي الخباز والقصاب وغيرهما ويأخذ حاجته خوفاً من أعوان السلطان. ثم حمل منه عدة أحمال إلى بغداد صحبة الأمير (لكزي بن أرغون آقا) فلما بلغ ذلك أهلها استعدوا بالأقوات وغيرها حيث عرفوا ما جرى في تبريز. فلما أنهي ذلك إلى السلطان (كيخاو) أمر بإبطاله، فأبطل قبل وصول كيخاو إلى بغداد، وكفى الله العالم شره)
فالناس - إذن - في القديم والحديث لا تمشي عندهم في شأن السكة شيطنة دهاةٍ شياطين ولا حيل حكومات وسلاطين. فهم لا يعرفون إلا هذا الأصفر، الأحمر الوازن
أكرمْ به أصفر، راقت صفرتهْ!
وحُببت إلى الأنام غرته!
كأنما من القلوب نقرته!
وهم لا يؤمنون إلا إذا رأوه جهرة، أو استيقنت أنفسهم أيما استيقان بأنه يسبح لله في الحزائن من بنات الفولاذ في معقل قويّ منيع كالذي شاده العلامة الأستاذ (محمد طلعت حرب باشا)
من همة المحكوم وهو مكبّل ... بالقيد لا من همة الحكام
الله سخر للكنانة خازناً ... أخذ الأمان لها من الأعوام
وأن ليست تلك (الورقة) ذات الخطوط والسمة إلا آية، علامة لكبيرٍ، لإمامٍ لم يغب، لا، ولم يجهل مكانه. . .
(ن)(329/56)
وفاة المستشرق فنسنك
يخزن الرسالة أن تنقل إلى قرائها خبر وفاة المستشرق أ. ي. فنسنك توفاه الله منذ أسابيع بعد رحلة ساقته إلى مصر، فأقام بها نحو شهر اجتمع فيه بكبار علمائنا وكتابنا، حتى إذا قفل إلى (ليدن) في هولندا تخوَّنته حمى خبيثة ثم واظبت فقلبت عليه حتى كان قضاء الله
المستشرق فنسنك علم من أعلام الاستشراق. وكان أستاذ اللغات السامية في جامعة ليدن، وتوفر على دراسة أصول الدين الإسلامي فألف كتاباً نفيساً عنوانه (العقيدة الإسلامية) وأردفه بمقال نشره سنة 1936 في مجلة تخرج في أمستردام، عنوانه: (الأدلة على وجود الله في أصول الدين الإسلامي) وتجد وصف هذا المقال في (مجلة الدراسات الإسلامية) باريس 1935 ج4 ص236. وكان فنسنك إلى جانب التعليم والتأليف، يدير دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في ليدن: يوزع العمل ويراجع المقالات ويخرج الدائرة. وكان يعينه على هذا سعة اطلاعه على مسائل الإسلام وشؤون العرب ثم تضلعه من لغته الهولندية فالفرنسية والإنجليزية والألمانية فضلاً عن اللغات القديمة من ساميَّة وغير ساميَّة
بقي أن فضل فنسنك كان من وراء جمعه لأحاديث الرسول. كان فنسنك رحمه الله الجماع المجتهد للحديث الصحيح، وضع أول ما وضع (مفتاح كنوز السنة) الذي نقله الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي إلى العربية سنة 1933، ولم يكن ذاك الكتاب سوى مدخل إلى سِفر أغزر مادة وأعم نفعاً. وقد أخذ السفر يخرج للناس منذ سنة 1934، وهو معجم تفصيلي لمفردات الأحاديث المدونة في الكتب الستة ومسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، واسمه في العربية (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي). وظلَّ السفر الجليل يخرج للعلماء وهم به فرحون، حتى جاء يوم قلَّ فيه المال، فسعى فنسنك في تدارك الفشل. والذي نعلمه أن مسعاه في مصر خاب! والسَّفر لم يتم خروجه وإن كانت الجزازات كلها مهيأة للطبع (خرج 11 جزءاً)
إن فنسنك خدم الإسلام والعربية بكتابيه الخدمة التي لا يقدر قدرها، وحسبه شهادة السيد محمد رشيد رضا في الكتاب الأول قال: فلو كان بيدي هو (يعني الكتاب) أو مثله من أول عهدي بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليَّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها. . .)(329/57)
هذا ومما لا معدل عن ذكره أن ثائرة ثارت على المستشرق فنسنك يوم عُيّن عضواً من أعضاء مجمع اللغة العربية الملكي. والقصة مشهورة، والثائرون أحياء
في ذمّة الله من وقف حياته على العلم الحق وإمداد الباحثين وتقريب مصادر الإسلام إلى أهله. سيأتي يوم تهدأ فيه الأنفس فتراجع أعمال النافعين
(ب)
في منزل الدكتور طه حسين
تلقينا من صديقنا الأستاذ الكبير محمد عبد الواحد خلاف هذه الكلمة:
اطلعت على مقال للأستاذ زكي مبارك منشور في العدد الأخير من الرسالة عن اجتماع مزعوم بمنزل حضرة الدكتور طه حسين بك حضره طائفة من الأدباء والعلماء ووردت فيه عبارات زعم كاتب المقال أنها صدرت عني وعن بعض إخواني كالأستاذ أحمد أمين والأستاذ العبادي والأستاذ عزام والأستاذ إبراهيم مصطفى، وهذا الاجتماع من نسيج خيال الكاتب ولا حقيقة له. . .
محمد عبد الواحد خلاف
حول ابن بطوطة وابن تيمية
أورد الأستاذ المحقق الدكتور عبد الوهاب عزام في الرسالة الغراء (العدد 322) في مقالته (عودة إلى الشيخ الخالدي) قولاً لهذا الشيخ الجليل رأيته لا يتفق والحقيقة التاريخية وهو: (أن ابن بطوطه لم يدرك ابن تيمية)
قال الشيخ الخالدي ذلك في معرض دحض رواية ابن بطوطة عن ابن تيمية، وخلاصتها أن الرحالة المغربي حضر الإمام الحرَّاني يعظ الناس في المسجد بدمشق ويقول متكلماً في نزول الله تعالى إلى السماء: (نزل كنز ولي هذا) ونزل ابن تيمية درجة من المنبر
إنني لا أريد أن أبحث في مطابقة هذا القول المعزو إلى الشيخ الإمام لمذهبه واجتهاده وفلسفته الدينية كما يمكن استخلاصها من تآليفه، ففي العلماء والفقهاء من هو أجدر مني بهذا البحث. وفي دمشق عالم فقيه هو أحد البقية الباقية من السلف الصالح الأستاذ الشيخ بهجة البيطار، له باع طويل واختصاص في كل ما له صلة بمذهب الإمام ابن تيمية نتمنى(329/58)
لو كتب في هذه المسألة
ولكني أود أن ألفت النظر إلى أمرين رئيسيين في هذا الموضوع: الأول أن ابن بطوطة أدرك ابن تيمية، والثاني: الشك في صحة رواية ابن بطوطة
أما إدراك ابن بطوطة لابن تيمية فأمر يكاد لا يحتاج إلى دليل، وحسبنا أن نعلم أن بطوطة ولد سنة (703هـ) وتوفي سنة (779هـ)، وأنه جاء إلى دمشق كما ذكر في رحلته (طبع المطبعة الأزهرية ج1 ص50 سنة 726هـ) وهي السنة التي سجن فيها ابن تيمية سجنه الأخير في القلعة إلى أن مات، وكانت وفاته رحمه الله عام (728) ثمان وعشرين وسبعمائة كما هو ثابت في جميع تراجم ابن تيمية نذكر منها (العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد ابن عبد الهادي) (مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1938 ص369) وكما هو بارز حتى الآن منقوشاً على قبره خلف بناء الجامعة السورية في مقبرة الصوفية المندرسة التي لم يبق منها غير ضريحه
أما الشك في صحة رواية ابن بطوطة فمصدره ما يأتي:
ذكر ابن بطوطه في رحلته (المطبعة الأزهرية ج1 ص50) أنه وصل إلى دمشق (يوم الخميس التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة، ثم سرد بعد ذلك (ص58) روايته التي نحن بصددها، وأضاف: إن ملك الأمراء سيف الدين تنكيز كتب إلى السلطان الملك الناصر في أمر ابن تيمية (بأمور منكرة) فورد أمر السلطان من القاهرة (بسجنه بالقلعة فسجن حتى مات) في حين أن سائر المظان والمصادر ومنها (العقود الدرية) (ص 329) و (دائرة المعارف) التي تعتمد بحقيقتها على تراجم وكتب متعددة تعين يوم الاثنين السادس من شعبان عام ستة وعشرين وسبعمائة، تاريخاً لسجن الإمام تقي الدين للمرة الأخيرة التي مات فيها
ينتج مما تقدم أن ابن بطوطة، إذ حطَّ رحاله بالشرابشية (المدرسة المالكية) في دمشق، كان شيخ الإسلام رهن سجن القلعة يقضي أيامه ولياليه في التأليف والعبادة
فلابد لنا بعد هذا من الحكم بعدم صحة رواية الرحالة المغربي ما لم يثبت لدينا خطأ ابن عبد الهادي، وسائر المؤرخين والمؤلفين (كابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات والصدقي في طبقاته، وابن الوردي في تاريخه) الذين استندت إلى أقوالهم دائرة المعارف الإسلامية،(329/59)
وهذا بعيد عن المعقول
وخلاصة القول: أن ابن بطوطة قد أدرك ابن تيمية، وإن لم يره ويسمعه.
(دمشق)
محمد محسن البرازي
إلى الدكتور زكي مبارك
1 - وجهتم أنظار المولعين بالمباحث الأدبية والتاريخية إلى درس ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين لعلهم يعرفون شيئاً من رسوم الوثنية العربية التي حاربها القرآن: طلبتم هذا في معرض تدليلكم على أن وثنية العرب لم تكن (أرضية وضعية). فأقول: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اللات والعزى ومناة وسواها أسماء لرجال صالحين كانوا في زمن إبراهيم أو نوح عليهما السلام؛ وأن العرب قد أقاموا لهم هذه التماثيل بعد مماتهم تدليلاً على ما يكنونه نحوهم من صادق الولاء وخالص الوفاء (أنظر تفسير النسفي - سورة النجم). وفي رواية ثانية عن ابن عباس (أن اللات كان رجلاً يلت السويق للحاج. قيل فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه. تفسير الخازن - سورة النجم) وتستطيعون إذا أردتم المزيد في هذا البحث أن ترجعوا إلى كتاب (التوسل والوسيلة) تأليف ابن تيمية طبعة المنار
2 - أوردتم في تعليقكم على مادة (ابن الأحنف) من (دائرة المعارف الإسلامية) قصة ذكرتموها كذلك في كتابكم (مدامع العشاق) مفادها أن العباس بن الأحنف مات هو وإبراهيم الموصلي والكسائي في يوم واحد وأن الرشيد أوفد المأمون للصلاة عليهم، فصفوا بين يديه ثم سأل عنهم المأمون واحداً واحداً وأمر بتقديم العباس فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشده المأمون هذين البيتين:
سماك لي ناس وقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها ونكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد
ثم قال المأمون: أتحفظهما؟ فقال: نعم. قال: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة؟ فقال:(329/60)
بلى يا سيدي) أهـ والقصة ظاهرة الوضع فإن العباس بن الأحنف قد مات سنة 192 للهجرة والكسائي توفي سنة 189 وإبراهيم الموصلي قضى سنة 188 فكيف يمكن أن يقال إنهم ماتوا في يوم واحد؟ قد يحتج الدكتور مبارك بأن هناك رواية تدعي أن الكسائي قد مات سنة 192 وهو العام الذي مات فيه العباس، ولكن ما قوله في إبراهيم الموصلي وقد أجمع الرواة على أن وفاته كانت سنة 188؟ وقد يحتج أيضاً بأنه قال عند إيراده القصة (ذكروا أن العباس والكسائي وإبراهيم الخ) وأنه عقب عليها بقوله: (فإذا صحت هذه الرواية الخ) وأن هذا وذاك يفيدان تشككه في صحة هذه الرواية، ولكنه - إن قيل ذلك - شكٌ في إسناد الرواية إلى المأمون، بيد أن الأسانيد التاريخية تدعونا لنبذ هذه القصة بكليتها على أنهم يروون أن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة مات والكسائي في يوم واحد وأن الرشيد صلى عليهما وبكى قائلاً (اليوم دفنت الفقه والنحو)
ما أجدرنا بأن نمحص هذه الروايات التي تزخر بها كتب الأدب تمحيصاً جدياً لنقدم للأدب العربي بعض ما يجب له علينا من خدمات ما كنا لنعترض على هذه القصة لولا أن ناقلها هو الدكتور زكي مبارك.
(طرابلس)
محمد علي عكاري
لطيفة
بيَّنت في العدد 325 من الرسالة كيف عاد أدهم إلى الإغارة على ما يكتبه الكتاب في مصر. وقد وقفت القارئ على فرط إقدام المغير، إذ دوَّنت نص النقد الذي عملته لكتاب (فرعون الصغير) لصديقي محمود تيمور ونشرته في مقتطف أول يوليه ثم نص النقد الذي عمله أدهم للكتاب نفسه ونشره في 14 أغسطس في الرسالة. وهكذا مكنت القارئ من معارضة النصَّين. وقد شرحت فوق هذا كيف استبدل المغير كلمة ألمانية جاءت في نقده بكلمة فرنسية كانت قد وردت في نقدي، وذلك رغبةً في التضليل؛ فجاء الاستبدال خطأ من حيث مفاد الكلمتين، فدلّ ذلك مرة أخرى على أن أدهم لا يعرف كيف يغير بل لا يفقه ما يكتب؛ أو قل إن معرفته بالألمانية لا تزيد على معرفته بالفرنسية، وقد بينت من قبل(329/61)
(الرسالة 314) رقة هذه. ولما طعن أدهم تلك الطعنة لم يرتجل في رده (الرسالة 326) ما يجعل ذلك الخطأ صواباً، وأدهم على كل ارتجال قدير
طُعِنَ أدهم ففرَّ يستغيث بشهادة صديقه الإسكندري صديق شيبوب - وهو الناقد الأدبي لصحيفة (البصير) - فقال إنه قرأ نقده عليه قبل أن يبعث به إلى الرسالة في 27 يونيه فتلقى الأستاذ شيبوب استغاثة صديقه باشمئزاز. ألا ترى كيف يفتتح شهادته (الرسالة 327): (أقحم اسمي في الجدل القائم بين فلان وفلان)، والفيروزابادي رحمه الله يخبرنا بأن (قحم في الأمر: رمى بنفسه فيه فجأة بلا رويّة وقحمه وأقّحمه. . .)، ولكن مثل أدهم يجهل التدَّبر والاستئذان. وقد زاد الأستاذ شيبوب أنه (لا يذكر شيئاً) من نقد أدهم في كتاب فرعون الصغير، وعلى هذا فشهادته لا تجدي على أدهم شيئاً، إذ هي ساقطة كما يقال في لغة القضاء. ثم إن شيبوباً خرج من عهدة الشهادة بأن سأل صاحب الرسالة أن يخبرنا كيف أخر النشر لنقد أدهم شهراً ونصف شهر، فاعتصم صاحب الرسالة بسر المهنة؛ وهذا حقه. وقد قال أدهم في رده تأخير نشر نقده حتى 14 أغسطس على أنه مرسل به في 27 يونية (راجع إلى تقديم بعض كلمات له أرسلها للرسالة (يريد أرسل بها إلى) وكانت لمناسباتها تتطلب نشرها في وقتها) والواقع أن الرسالة لم تنشر شيئاً لأدهم في عدد 10 يوليه (رقم 314) ولا في عدد 24 يوليه (رقم 316) وأما عدد 3 يوليه (رقم 313) فليس فيه لأدهم سوى كلمة في البريد الأدبي، والرسالة نشرت لأدهم في آن كلمة في البريد الأدبي ومقالاً في باب النقد (راجع عدد 326). أضف إلى كل هذا أن مكانة الأستاذ تيمور عند صاحب الرسالة لا تسوغ مثل ذلك التأخير
وكيفما كانت الحال فإن الحكم بالسوابق كما يقال في لغة القضاء. ولأدهم غارات غير هذه: أغار على مراد فرج وزكي مبارك وعليَّ (أطلب الرسالة 314 ص1380) وعلى من يعلم الله.
وإن قال قائل: لِمَ تعنى بالغارات الأدهمية ولا ترحم. قلت: إنه ينبغي لنا أن ننصب الحرب للمغيرين ولاسيما المكابرين منهم؛ وذلك أننا نريد أن نقيم للإنشاء بالعربية دولة. والإنشاء إذ رضي بالاستلهام فإنما يكره السطو والالتقاط ثم التهويل بهما وفي هذه (اللطيفة) الكفاية.
ب. ف(329/62)
لعله هو. . .
في العدد (325) من الرسالة الغراء وجَّه الأستاذ (علي معمر الطرابلسي) كلمة تتحدث عن جماعة (الشراة) إلى (أستاذ جليل) وكاتب مبرز مبدع، سباق غايات وصاحب آيات بينات، ومدبج بحاثات رائعات، ينم قلمه العتيق الكريم عن رسوخ كعبه في الأدب، وعلو مقامه بين الكتاب، وكمال اتصاله بروح العربية، وفذ اطلاعه وإحاطته بفنونها وآدابها، ومع ذلك فهو لا يتباهى بعلمه، ولا يفاخر بأدبه، ويرغب عن شهرة اسمه، فتراه يخفي شخصيته وينتحل إمضاءه وما تخفى الشمس ولا يحجب ضوء النهار!
وقد قال الأستاذ الطرابلسي في نهاية كلمته يخاطب الأستاذ الجليل: (فهل تسمحون أن أطلب إليكم إظهار اسمكم، فلطالما رغبت في معرفتكم، وكيف لا أرغب وقد كشفتم لنا ببحوثكم القيمة أنواعاً من حقائق أخفاها الدهر، مما يدل على عظيم اطلاعكم وحسن تمحيصكم؟)
وقد كنت ظننت بادئ الأمر أن (أستاذنا الجليل) سيسارع (فيضع عمامته) ويعلن اسمه، كي يعرف أهل العربية قاطبة من هو (ابن جلا وطلاّع الثنايا)! ولكن الأيام مضت تترى والأستاذ الجليل لا يجيب وعهدنا به أنه المجيب لكل سائل؛ وكأنه في عالم سماوي حبيب إلى نفسه، لا يود أن يغادره إلى عالم المتبجحين المتوقحين المدعين العظمة والسبق بالباطل والزور والافتراء والادعاء! وإنها الشمس تستحي أن تقول للنجوم وما حولها من كواكب: أنا الشمس. . .!
وأنا أرجو - إذ أتقدم بمحاولة الإعلان عن هذه الشخصية الفذة - ألا أكون فضولياً على أحد الأستاذين السائل أو المسئول فإن بي رغبة جامحة إلى الإشادة بفضل تلك الذات العالية والشخصية النابغة: شخصية (الأستاذ الجليل)، وأقرر أنني أصدر قولي هنا اعتماداً على الترجيح لا على اليقين وعلى ما استطعت أن أجده من المشابهة والتماثل بين ما كتب (الأستاذ الجليل) مذيلاً باسمه الحقيقي، وما كتب مذيلاً بما انتحل من إمضاء
وسأكسب - مع الأستاذ الطرابلسي ومع القراء - معرفة الحقيقة سواء كنت موفقاً أم مخطئاً؛ لأنني إذا وفقت فبها، وإلا فسيسارع (الأستاذ الجليل) أو بعض صحابته بتصحيح(329/63)
الخطأ - فذلك فريضة إسلامية، و (الأستاذ الجليل) من أصدق المجاهدين للإسلام، وعلى ذلك فحتماً سنعرف!
إنني أرجح اعتماداً على ما قدمت أن ما ينشر في الرسالة المحبوبة بإمضاء (* * *) أو (ن) أو (القارئ) هو لحضرة صاحب العزة (أديب العربية الأستاذ الجليل والعلامة المحقق محمد إسعاف النشاشيبي بك) صاحب (نقل الأديب) و (الإسلام الصحيح) وغيرهما من الكتب الخالدة والمقالات العبقرية الفريدة وكل خاف سيعلم!
وأذكر الأستاذ الطرابلسي بقول القائل: (ويأتيك بالأخبار من لم تزود!).
(البجلات)
أحمد جمعه الشرباصي
المصطلحات العسكرية ترجمتها إلى اللغة العربية
قررت وزارة الدفاع إجراء مسابقة في ترجمة المصطلحات العسكرية الخاصة بالأقسام الميكانيكية والسيارات وغيرها إلى اللغة العربية. ويبلغ عدد الكلمات التي يراد ترجمتها حوالي خمسة عشر ألف كلمة.
وسيمنح الفائز في ترجمة هذه المصطلحات مكافأة مالية
تثقيف الشعب عن طريق الإذاعة
أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية مشروعاً يرمي إلى تثقيف الشعب عن طريق الإذاعة اللاسلكية وذلك بتنظيم محاضرات دينية واجتماعية وقصصية تتناول شؤون الأسرة وتعالج أمراض المجتمع وتقوم أخلاق الشعب على أن تذاع إلى جانبها أناشيد وأغاني وموسيقى تعاون على تقريب المعاني الإصلاحية التي ترمي إليها الوزارة - من أذهان الشعب وتساعد على رفع مستوى تفكيره
وقد استقر الرأي على افتتاح موسم هذه الإذاعة في شهر رمضان
ويقال أن الوزارة تقوم الآن باختيار المحاضرين والمحاضرات من بين المشتغلين بمسائل الإصلاح الاجتماعي
حول قصيدة(329/64)
سيدي الأستاذ الكبير صاحب الرسالة:
بعد التحية قرأت بالعدد (327) من الرسالة الغراء الصادر في 9 أكتوبر سنة 1939 قصيدة رائعة للشاعر المعروف محمود الخفيف عنوانها (وداع) وقد أعجبت بتصويره أيما إعجاب ولكنني عندما قرأت
إذا هم لا يستجيب اللسان ... وما عيَّ في موقف قبله
وماذا عسى أن يقول ... وهل تتأسى فتصغي له
عندما قرأت هذين البيتين لاحظت أن الثاني مكسورة فقدرت أن كلمة قد سقطت في الطبع ولعل الأستاذ الشاعر كان يريد أن يقول:
وماذا عسى أن يقول وهل ... تتأسى لقول فتصغي له
أرجو أن يتفضل سيدي الأستاذ فيدلي إليَّ برأيه وأكون له شاكراً
(بني مزار)
يوسف حنين
(الرسالة) صحة البيت هكذا:
وماذا عسى أن يقول لها ... وهل تتأسى فتصغي له
وقد سقطت كلمة (لها) في الطبع
رجاء إلى الكتاب
لاحظت في أكثر المقالات المنشورة في الرسالة أن الكاتب عندما يريد أن يشير إلى كلمة أو جملة تحتاج إلى إيضاح أكثر يشير إليها بالرقم 1، 2، 3 إلى آخره كما هو متبع عادةً ويكتب لذلك مفسراً يقول: (اقرأ صفحة كذا من كتاب مختصرات طبقات الحنابلة) أو (راجع أخبارهم من كتابي سيناء القديم وتاريخ بئر السبع وفيائلها إلى غير ذلك. . .) وهذا مثل لما جاء بالعدد الأخير فقط. ومثل ذلك في الأعداد الماضية
وإني أرى أن يكلف الكاتب نفسه ولو بكتابة كلمة أو اثنتين أو سطر أو سطرين وإن اضطره الحال فليكتب جملة أو جملتين كما نرى في كثير من المقالات لأن من قراء الرسالة كثيرين من الطلبة والموظفين لا يجمعون من تلك الكتب التي يشير إليها كاتب(329/65)
المقال كتاباً واحداً. . . والكاتب بطبيعته يطلع على ذلك الكتاب الذي يشير إليه وهذا ظاهر من تحديده صفحة الكتاب ورقم السطر فما كان يضيره لو كتب ما يريده من القارئ أن يطلع عليه ولو موجزاً؟. . .
أحمد حلمي العباسي
جريدة الشورى
سألنا بعض القراء عن جريدة الشورى التي كان يصدرها صديقنا الأستاذ محمد علي الطاهر باسم الشباب ثم باسم العلم ولماذا لا تصدر الآن؟ ونحن نجيب على ذلك بأن الزميلة توقفت عن الصدور بسبب الأحوال الحاضرة وسيعيد الأستاذ الطاهر إصدار جريدته بعد الحرب إن شاء الله(329/66)
الكتب
تحت راية الإسلام
لفاضل مسيحي
بقلم الأستاذ عز الدين التنوخي
(تحت راية الإسلام): كتاب جديد يبحث عن سيرة النبي العربي وحقيقة الإسلام، ويدرأ عنهما شبهات المبشرين ومفتريات المستشرقين ألفه الأستاذ خليل جمعه الطوال العربي المسيحي الكاثوليكي، من أدباء شرقي الأردن أو مشارف الشام؛ ولو كان المؤلف عربياً وأرثوذكسياً لخف العجب، ولكنه يؤلف (تحت راية الإسلام) وهو كاثوليكي وبابوي صميم!
وكثيراً ما كنت أجادل بعض إخواني من دعاة الجامعتين العربية والإسلامية، وأكثر من الاحتجاج لرأيي القائل بأنه لا فرق بين العربي الأرثوذكسي وأخيه الكاثوليكي إذا ما بُثت فيهما روح العروبة منذ الصبى، لا فرق بهذا الشرط بينهما في الإخلاص لدين العروبة، وبالتالي للأمة العربية ودولها العربية
ولولا مدارس التبشير الأجنبية، وما تبثه في بلادنا الشامية من روح التعصب، وما تنشره في صفوف المدارس من الدعايات السياسية المصمومة، لولا ذلك لكانت لعمري روح شباب الشام واحدة، على الرغم من اختلاف الأديان، ولما كان للأقليات نواب في مجلسنا النيابي، ولما وجد المستعمرون مطايا لهم في بلادنا العربية. ولو كانت الروح القومية واحدة لرأينا العربي المسلم يدرس إلى جانب العربي الأرثوذكسي والكاثوليكي على مقعد واحد في مدرسة واحدة.
ومن دعاة الجامعة الإسلامية من يوجس في نفسه شراً من الجامعة العربية، وكأنه يحسب أن الإفراط في الارتباط بالقومية، والمبالغة في التمسك بحبل العروبة مما يحل عقدة العقيدة، ويوهن عصب الجامعة الإسلامية، ومن دعاة الجامعة العربية من يخال أن الجامعتين متضادتان، وأنه قلما اجتمعت الوطنية الصحيحة والقومية الصادقة في أحد من دعاة الجامعة الإسلامية، وكلا الفريقين غال في رأيه، مخطئ في حكمه: ذلك لأن العربي المسلم قد يشاطر الياباني والهندي المسلم عقيدته وعاطفته وهيامه بالمثل الإسلامي الأعلى،(329/67)
ويحب لهم من الخير والاستقلال وبلوغ الكمال ما يحب لنفسه؛ ولكن حبه الخير لأخيه في الإيمان لا ينافي حبه الخير والسعادة لأخيه في الأوطان.
ولا ضرر على الإسلام ولا ضرار في انتشار دين العروبة في البلدان العربية، فكثيراً ما عرفت بين نصارى العرب أو عرب النصارى من شبان يدينون بدين العروبة، ويجاهدون في سبيلها حق الجهاد، ومنهم من هو أكثر خيراً للعروبة وأقل ضرراً للإسلام من بعض ملاحدة المسلمين.
ذلك لأن منهم من كانت عروبته الصادقة تحطم قيود عقيدته التقليدية، وتحمله على درس القرآن وسيرة النبي العربي، فيجلو بدرسه الحر وبحثه المستقل وما ران على قلبه من أضاليل المستشرقين ودعايات المبشرين.
ولو سردت أسماء إخواني في العروبة في لبنان وفلسطين والشام والعراق ومصر وأمريكة وعرضت لذكر آرائهم لضاق بي نطاق البحث، وحسبي أن أذكر من هؤلاء الأدباء النجباء في أرومتهم والصرحاء في عروبتهم الأستاذ خليل جمعه الطوال مؤلف (تحت راية الإسلام)
لقد عرفت قبل اليوم هذا المؤلف معرفة روحية بقراءة ما كان يكتبه في مجلة الرسالة من الأبحاث الدقيقة الممتعة، وعرفته في الفيحاء اليوم عربياً مشهوداً له في بلاده بصدق النسب العربي، والاعتزاز بالنبي العربي، الذي أحيا أمته وجمع بعد تفرق شملها، وشفاها من أمراض الجاهلية المعضلة، وأخرجها من القبلية الضيقة النطاق، إلى الشعبية الفسيحة الآفاق، فجعلها أمة واحدة تحمل بيمناها كتاب القرآن، وبيسراها كتاب علوم الأكوان، فهدت بالأول الأمم إلى مَسمى الإنسانية، واهتدت بالثاني في معترك حياتها الدنيوية، ففازت بالإسلام بسعادة الدارين معاً
استمع لما توحيه إليك كلمة المؤلف في مطلع كتابه إذ يقول: (لقد نشأت بتأثير تربيتي المسيحية الكاثوليكية نفوراً من الإسلام كارهاً له ولأهله، لا أقر له بحسنة، ولا أبرئه من سيئة، وغاية ما كنت أعرفه عنه أنه شريعة فاسدة تنطوي على عيوب كثيرة، أقامتها جماعة من الغزاة المحبين لسفك الدماء والنهب والسلب، ثم اعتنقتها شعوب بدائية وأمم بربرية لا حظ لها من الثقافة والمدنية. ولست أرى عليَّ الآن أيّ لوم في تلك الصورة(329/68)
الملفقة المشوهة التي كنت أحملها عن الإسلام، لأني لم أكونها لنفسي بنفسي، ولا بنيتها على ما قد انتهى إليه اجتهادي في دراسة حقيقة الإسلام، أو اقتنعت به بعد إنعام النظر وإعمال الفكر في كتابه، ولكني ورثتها منذ حداثتي وراثة تقليدية. . .)
ورأى صديقاً له مسلماً يبتاع نسخة من التوراة والإنجيل ليدرسهما قائلاً له: (من الناس من يكره شيئاً ويحب آخر دون أن يكون له في كلا الحالين أمر أو رأي، ولكنه مقيد في جميع سلوكه بمألوف عادات بيئته وتقاليدها، ويسرني أنني لست من ذلك الطراز، ولذلك اشتريت هذه الكتب لأقبل ما فيها أو أرفضه عن فهم واقتناع لا عن جهل وتعصب)
ورأى أن حالة صديقه المسلم تنطبق عليه، وأن كلمته هذه الحرة جدير به أن يقول مثلها إن كان منصفاً وعاقلاً حراً. قال المؤلف: (ثم نظرت فإذا بي أكره أخي العربي المسلم وأنفر منه وأتحاشاه لا لعلة إلا لما كان من إسلامه الذي كنت أشعر بكراهته قد خالطت لحمي ودمي، إلا أنني على كل حال لا أكاد أعرف عنه إلا اسمه، فعزمت لذلك على دراسة أملاً أن أقف على صحته أو فساده
(وفي ذات يوم عرجت على إحدى المكاتب العربية وابتعت منها نسخة من القرآن العربي المبين، وأخرى من سيرة ابن هشام فطواهما البائع لي في رزمة، وتسللت من عنده كاللص، واضعاً إياها بين ملابسي، وحريصاً كل الحرص على ألا يطلع عليها أحد من أقاربي وأهلي، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت سوى ذلك تحرم على المسيحيين مطالعة جميع الكتب الدينية غير الكاثوليكية ولو كانت مسيحية، فكيف الكتب الإسلامية؟!)
تلا المؤلف القرآن باستقلال فكر وإنعام نظر، وقرأ معه سيرة ابن هشام فرأى ما رأى من شبهات غير المحققين من المبشرين وشاهد ما شاهد من مفتريات غير المحقين من المستشرقين، فكان كما قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: (من عرف الحق عزَّ عليه أن يراه مهضوماً)، ولذلك انتبه من رقدته منتصراً لمحمد فخر أمته، وللحق يراه مهضوماً، وللعدل يبصره مظلوماً، فألف كتابه هذا (تحت راية الإسلام)
على أنه ينتظر لمثله أن يؤذى ويظلم في حرية تفكيره فقد قال المسيحيون عنه: (زنديق مارق عن الدين وكافر يجب حرمانه) وأجاب المسلمون: (بل هو دجَّال متملق يقول هذا لغرض يريده حتى إذا ظفر به انقلب على عقبيه)، ولقد ظلم كثيراً من المسيحيين(329/69)
والمسلمين بقوله هذا، لأن المسيحيَّ العاقل الفاضل يعذره، ولا يكفره، إذ لا يجتمع عقل سليم وتعصب ذميم، والفضل يحول بين المرء والعدوان في كل زمان ومكان؛ وأما المسلم الذي يعرف ما لقيه المؤلف في سبيل عقيدته الحرة من ضروب الأذى، فإنه لا يقول لمثل خليل جمعة الطوال متملق دجال!
إن دين الله السماويَّ واحد، وكالقطر حين ينزل من السماء واحد، وتحليله الكيميائي واحد، وإنما تباعدت النصرانية الحاضرة عن الإسلام بكثرة ما دخلها من الزيادات الكنسية، كماء السماء ينزل صافياً نقياً، وكلما ازداد اتصالاً بالأرض وجرياناً عليها قل صفاءه بمقدار ذلك وبقاءه، والمؤلف مع اعتقاده بمحاسن الإسلام وصدق دعوته العامة لا يزال يعتقد بالنصرانية الأولى ولا يرى تنافياً في الدعوتين، لأن الإسلام كما قال السيد جمال الدين الأفغاني: نصرانية وزيادة، ولذلك يقول في كتابه (تحت راية الإسلام) ما نصه: (إن اعتقادي الصحة في معتقدي لا يمنعني البتة من أن أعتقدها في مذهب غيري)، ويقول في موطن آخر معترفاً بأن محمداً لم يرسل إلا رحمة للعالمين: فبه اهتدت السفينة الضالة وكملت البشرية الناقصة، وعزت الإنسانية المهينة، فمن لم يحبه عن طريق الدين الذي أظهره، أحبه عن طريق الدنيا التي طهرها، ومن لم يمجده عن طريق الإسلام الذي رفع مناره مجَّده عن طريق العنصر العربي المجيد الذي أعز مكانه ورفع قدره وأعلى كلمته. . .)، فالأستاذ خليل جمعه الطوال الذي شرح الله للإسلام صدره لا يزال في يوم الناس هذا ممن يكتم إيمانه، وإن صدَّق بنبيه العربي محمد وأحب قرآنه، ودون للناس في كتابه حسنَ دعوته وإحسانه
(دمشق)
عز الدين التنوخي(329/70)
العدد 330 - بتاريخ: 30 - 10 - 1939(/)
وزارة الشؤون الاجتماعية
الجهل. . .
- 1 -
ذلك هو العنوان الأول من العناوين الثلاثة التي اقترحنا في العدد الماضي من الرسالة أن يتألف منها الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية، وهي الجهل والفقر والمرض.
والجهل كما يظهر لأدنى نظر هو علة العلل في اضطراب الأسرة، وانحطاط البيئة، وفساد المجتمع، وأفن الرأي العام. فإذا وقفت هذه الوزارة بالفعل إلى أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة فقد تيسر لها أن تقول فتفهم، وتكتب فتقرأ، وتشير فتتبع؛ وإذن يخفف عنها عبء الإصلاح باعتماد كل امرئ على نفسه في تدبير عيشه من طريق الكفاية فلا يكون فقر، وفي علاج بدنه من طريق الوقاية فلا يكون مرض، وفي تهذيب خلقه من طريق الدراية فلا يكون شر. ذلك إلى أن الشعب متى أدرك القدر المشترك من المعرفة قوى عقله فيعمل عمله بروية، ونضج رأيه فينتخب نائبه بحرية؛ وبروية العزيمة تثمر فروع الإنتاج، وبحرية الرأي تثبت أصول الديمقراطية
ولكن كيف نكلف وزارة الشؤون الاجتماعية أن تساهم في نشر المعرفة وهناك على مدى قريب منها وزارة المعارف بميزانيتها الضخمة وجامعتها الفخمة ومدارسها المختلفة الدرجات والغايات، ورجالها المتعددي الألقاب والشهادات؟ فهل يسوغ في العقل أن تترك هذه الوزارة الغنية الفنية في مصر بعد قرن ونيف من لا يعرف حروف الهجاء، ولا يدري أفي الأموات هو أم في الأحياء؟
الواقع الذي يحار في تعليله الذهن الفلسفي أن التعليم الحكومي والأهلي، والديني والمدني، والوطني والأجنبي، لم يستطع أن ينفي الأمية في مصر - وهي ملتقى بحرين ومجتمع ثلاث قارات - إلا عن 25 ? من الذكور و8 ? من الإناث. ونفي الأمية لا يثبت العلم؛ ولكني أسلم بأن هؤلاء تميزوا عن نظرائهم أولئك بإدراك الحياة الإنسانية على نحو معقول. فإلى من نكيل تعليم البقية وهي سواد الأمة وعماد الدولة وعدة الإنتاج؟ إن تثقيف وزارة المعارف لا يشمل كل الصغار لأن قانون التعليم الإجباري لم يشرع، ولا يقبل كل الكبار لأن قانون التربية لا يجيز؛ فلا يبقى إذن للذين افلتوا من القيد أو شبوا عن الطوق إلا(330/1)
وزارة الشؤون الاجتماعية؛ فهي وحدها التي تستطيع أن تعلم الزراع والصناع والعمال والخدام والباعة من كل سن وفي كل مكان وعلى أي حالة
أما كيف يتهيأ لوزارتنا الجديدة بلوغ هذه الخطة فسبيله القصد إنشاء المدارس الشعبية الليلية في معاهد المدن ومساجد القرى، وحشد العامة إليها عن طريق الإغراء المادي والإكراه غير المباشر، كأن يفرض للمنتهين والمتفوقين جوائز مالية، وأن يشرط على طلاب الرخص للسعي أو للخدمة أن يلموا بالقراءة والكتابة؛ ولسنا بصدد التفصيل فذلك عمل له وقته وله أهله
هذه المعاهد الليلية المبثوثة في أرجاء الوادي وأعطافه وأريافه ستكون - فضلاً عن عملها الثقافي - أداة مضمونة لنشر الإصلاح الاجتماعي في جهاته المتشعبة وغاياته المتعددة، فإن الوزارة تستطيع أن تجعل من كل فرد يتعلم فيها بوقاً رافعاً لأصوات وعاظها ومرشديها الذين يساعدون بالمحاضرة فيها على تقوية المدارك وتهذيب العادات وتنظيم العيشة وتدبير الصحة. وسيكون كل معهد من هذه المعاهد الشعبية وحدة اجتماعية يتفرق عنها الضوء والحرارة في كل بيئة وفي كل أسرة فإذا قامت الوزارة بذلك ثم حملت وزارة الدفاع على أن تعلم الجيش المرابط والجيش العامل فقد ظفرنا بقتل الأمية في قليل من الزمن بيسير من النفقة. وإذا قتلنا الأمية فقد أحيينا في الشعب خمود الحس وموات الضمير ومعنى الواجب
ستقول الوزارة من أين لي المال وقد ولدتني الضرورة لأعيش على ما طفح من رجال الدواوين وما فضل من مال الوزارات؟ وجوابنا أن الوزارة التي لا تقوم على المال، لا تنتج غير الأقوال. وربما كان ذلك علة ما نرى من نزوع هذه الوزارة في سياستها الإصلاحية إلى الوسائل الكلامية حتى حدثتها نفسها أن تنشئ لها مجلة خاصة بها تملأها بالمقالات والمناقشات والقصائد والحكم والأمثال لتكون كمجلة (التعاون) و (زميل الفلاح) و (المجلة الزراعية) و (الصناعة والتجارة) آلة شرهة لاستهلاك الورق والحبر في غير رحمة ولا جدوى!
يا معالي الوزير، إن فن الإنشاء مستقيم فلا يحتاج إلى إصلاح، وإن سيل الكلام دافق فلا يفتقر إلى رفد، وإن ميادين العاصمة مكتظة بالمجلات فلا تتسع إلى زيادة، وإن ما عندكم(330/2)
من مذخور البلاغة لا يختلف عما عند الناس. فلماذا نؤثر النظر على العمل ونبذر الجهد والمال والوقت في استثمار الصفصاف واستيلاد العقيم؟
إن الذين يستطيعون أن يقرءوا المجلة العتيدة هم بثقافتهم مستغنون عنها، والذين يهمكم أن يقرءوها لا يستطيعون لأميتهم أن يستفيدوا منها. فأعدوا القارئ قبل أن تعدو المجلة؛ وإعداد القارئ هو الميدان الأول لجهاد الوزارة؛ فإذا انتصرت فيه فقد ضمنت النصر المؤزر في سائر الميادين.
على أن تثقيف الشعب من طريق التعليم في هذه المدارس الشعبية لا يكلف الحكومة أكثر مما تكلفها الفرقة القومية أو مجمع فؤاد للغة العربية، والخير الذي تصيبه الأمة من وراء هذه الكتاتيب المتواضعة لا يجوز أن يوازن به عمل لا يزال صلاحه في ذاته أمراً مشكوكاً فيه!
هذا بعض ما يدخل تحت عنوان (الجهل) أجملناه في هذه الأسطر لتمضي الوزارة في سبيل التفكير فيه، وفي ظننا أنها ستجد في طوايا بحثه أبواباً للعمل وسبلاً للإصلاح تغنيها عن المشروعات المبتسرة التي تلقفها من المجالس، والموضوعات المرتجلة التي تأخذها عن الصحف
احمد حسن الزيات(330/3)
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 20 -
من كلام الحكماء: (نعوذ بالله من الحديث المعاد)
وإنما استعاذ الحكماء من الحديث المعاد لأنه شاهد على انعدام القدرة على الابتكار والابتداع والخلق والإنشاء، ولأنه يدل على استهانة المتكلم بأقدار من يخاطب من الرجال، ولأنه يشهد بأن صاحبه قد لا يعني ما يقول
وصديقنا القديم الأستاذ أحمد أمين موكل بالحديث المعاد ينقله من بلد إلى بلد ومن جيل إلى جيل، وقد صحت فيه كلمة أحد النقاد القدماء في سعيد بن حميد:
(لو قيل لكلام سعيد وشعره: ارجع إلى أهلك لما بقي معه شيء)
وكذلك نقول في كلام أحمد أمين: فلو دعونا مقالاته ومؤلفاته بالرجوع إلى أهلها لما بقي معه شيء!
وما ظنكم برجل يتوهم أن القراء في الأقطار العربية هم جميعاً أبناء الأمس، وما فيهم من قارئ واحد سمع من أخبار الأدب والمجتمع غير ما يتحدث به أحمد أمين؟
وإليكم هذا الشاهد:
كان المرحوم الشيخ محمد الخضري بك ألقى محاضرة منذ خمسة وعشرين سنة عن تطور المجتمع المصري، وقد نص في تلك المحاضرة على الخطأ الذي ارتكبته مصر حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وقال: إن هذا يعرض مصر لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف
وقد سمعت هذه المحاضرة وسمعها الأستاذ أحمد أمين، فهل تعرفون ما الذي وقع؟
وقع أن الأستاذ احمد أمين فهم أن الشيخ الخضري مات منذ أكثر من عشر سنين، وأن الذين سمعوا تلك المحاضرة منذ خمس وعشرين سنة قد أنستهم الأيام ما كان في تلك المحاضرة من آراء
وكذلك أعد القلم والدواة والقرطاس ليحدث قراء (الثقافة) بأن مصر ارتكبت جرماً فظيعاً حين سمحت بأن ينقسم التعليم إلى شعبتين: شعبة دينية وشعبة مدنية، وأن هذا عرض(330/4)
المجتمع المصري لشهود الصراع بين طائفتين تختلف عقلياتهم أشد الاختلاف
وكيف قال هذا الكلام؟ قاله وهو يوهم القراء أنه من المبتكرات في عالم الاجتماع!
ولم يكن الشيخ الخضري أول من قال ذلك الكلام الذي سرقه احمد أمين، فقد تنبه المغفور له علي باشا مبارك إلى هذه الفكرة منذ أكثر من سبعين سنة، وعلى أساس هذه الفكرة أنشأ مدرسة دار العلوم ليخلق جيلاً يجمع بين الصبغة الدينية والمدنية ويكون أساساً للتطور المعقول
وهذه الفكرة عرض لها الكتاب بالنقد والشرح مرات كثيرة في مدى أعوام طوال، وفصلها المنفلوطي في (النظرات) بعض التفصيل، وإن كان ساقها في مساق آخر هو التناحر بين الأخياف من أبناء الثقافة المدنية
من حق أحمد أمين أن يلخص كلام من سبقوه ليطلع عليه شبان هذا الجيل
ولكن هل راعى الأمانة العلمية وهو أستاذ مسئول؟
هل رجع كل كلام إلى قائله كما يصنع أساتذة الجامعات؟
لم يصنع شيئاً من ذلك، وإنما انتهب ما انتهب، ثم واجه القراء وهو مزهو مختال، كأنه صار بالفعل من أهل الابتكار في الميادين الأدبية والاجتماعية!
قد يقال: وأين هذا الكلام من الموضوع الأصيل؟
وأجيب بأني أريد أن أبين أن أغلاط أحمد أمين لم تكن أغلاط الرجل المجتهد، وإنما هي أغلاط منهوبة مسروقة ليس فيها من جديد غير برقشتها بحبر جديد في ورق جديد!
وإليكم يساق الحديث
لبس أحمد أمين ثوب المفكر المبتكر وقال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي حين فرض عليه ما عرف الجاهليون من ألفاظ وأخيلة وتعابير وقواف وأوزان
وهذه الفكرة خطأ في خطأ، وهو نقلها عن بعض الكتاب الذي تكلموا في النقد الأدبي بلا زاد من المعارف الأدبية، وبلا سناد من فهم التطور الذي شهده العرب في ميدان الحقائق الأدبية
وآفة الأدب في مصر وفي غير مصر أنه معرض في كل وقت لغارة الأدعياء، فكل مخلوق يتوهم أن من حقه أن يقرأ الشعر والنثر قراءة الخبير بأسرار الدقائق الشعرية(330/5)
والنثرية، وأن يوازن بين الشعراء والخطباء والكتاب والمؤلفين بعد أن تتيح له المقادير أن يفرق بين المنظوم والمنثور، وبين الخطاب والكتاب، وبين الألف والباء!
وهل كان من الصحيح أن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في العصور الإسلامية؟
إن العرب تحللوا من قيود الأدب الجاهلي منذ أول يوم توجهوا فيه إلى الاتصال بغيرهم من الممالك والشعوب
ويقول المبتدئون في الأدب إن أبا نؤاس كان أول من ثار على التقاليد الجاهلية، وهذا غير صحيح، وإن صار من الحقائق المقررة عند بعض أساتذة كلية الآداب
والصحيح أن الثورة على التقاليد الجاهلية في الأشعار والرسائل سبقت عهد أبي نواس بزمن بعيد. ولهذه الثورة شواهد في العصر الأموي سنسوقها حين نجد ما يجب ذلك، أو حين ينطق الأستاذ أحمد أمين الذي خرج بالصمت عن لا ونعم، والذي نزل بالبرج العاجي ضيفاً على الأستاذ توفيق الحكيم
قلت لكم غير مرة إن أحمد أمين قليل الاطلاع على تاريخ الأدب العربي، فلو كان من المطلعين لعرف أن العرب بعد الإسلام أعلنوا ثورتهم على التقاليد الجاهلية، وصرحوا بأن الأدب يتأثر بالزمان والمكان، وأن أخيلة سكان الحواضر يجب أن تختلف عن أخيلة سكان البوادي، وأن من يعيش في مصر له أذواق تخالف من يعيش في الحجاز أو العراق أو الشام أو المغرب أو فارس أو الهند
لو كان أحمد أمين من المطلعين لعرف أن من العرب في القرن الثالث من صرح بأحكام يعجز عن التصريح بها من يعيشون في هذه الأيام
هل تصدقون بأن من كتاب القرن الثالث من قال بأنه لا يجوز أن نحاكي القرآن في جميع التعابير؟
وهل في الدنيا جرأة أعظم من جرأة الرجل المسلم حين يقول في زمن شباب الإسلام بوجوب التحرر من بعض أساليب القرآن؟
وهل يجوز القول بأن من جاز عندهم الخروج على الأساليب القرآنية تصعب عليهم الثورة على التقاليد الجاهلية؟
انظروا كيف يقول ابن المدبر في (الرسالة العذراء):(330/6)
(وأعلم أنه لا يجوز في الرسائل ما أتى في آي القرآن من الإيصال والحذف، ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص، لأن الله سبحانه وتعالى إنما خاطب بالقرآن أقواماً فصحاء فهموا عنه جل ثناؤه أمره ونهيه. والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء على اللغة لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس، فأنه إن ذهب على مثل قوله تعالى (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها) وقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) احتاج أن يبين أن معناه (اسأل أهل القرية وأهل العير) و (بل مكركم بالليل والنهار) ومثله في القرآن كثير)
فما معنى هذا الكلام؟
معناه أن العرب فهموا أن القرآن وهو عندهم تنزيل من حكيم حميد راعى عقلية العصر الذي نزل فيه فخاطب الناس بما يفهمون، وأنه حين يتغير الناس بتغير الزمان لا يجب أن نخاطبهم بالأسلوب الذي استجازه القرآن، لأنه نزل على قوم يدركون الحذف والإيصال ومخاطبة الخاص بالعام، والعام بالخاص
فهل يعقل أن يكون الأدب الجاهلي أقدس عندهم من القرآن؟
وهل يجوز اتهام العقلية العربية بالجمود والخمود لتصح أوهام أحمد أمين؟
أنا أتحدى أي باحث أن يثبت أن العرب لم يدركوا ما يوجبه اختلاف الزمان والمكان في تلوين الصور والأفكار والأساليب
أتحدى أي باحث أن يقيم الدليل على أن العرب التزموا محاكاة التعابير القرآنية والنبوية
وكيف فات أحمد أمين أن العرب لم يلتزموا وحدة الوزن والقافية على نحو ما التزم الجاهليون؟
ألم تصل إليه أخبار التجديد والتنويع في القوافي والأوزان عند أهل المشرق وأهل المغرب؟
ألم تصل إليه أخبار الموشحات والأزجال؟
ألم يسمع بما دخل في الشعر العربي من الأخيلة الفارسية والمصرية والأندلسية؟
ألم يحدثه أحد بأن الذوق الأدبي عند مهبار الديلمي يخالف الذوق الأدبي عند الشريف الرضي؟(330/7)
ألم يعلم بأن عمارة اليمني له مذاهب في القول تخالف مذاهب ابن حمديس؟
ألم يقرأ ما كتب أبو الحسن الجرجاني في اختلاف الأذواق باختلاف الوجوه والطباع؟
ألم تحدثه كتب الفقه بأن الشافعي تغيرت حاسته التشريعية بالتردد بين الحجاز ومصر والعراق؟
ألم يسمع بأن علماء البلاغة في مصر لهم مسالك تخالف مسالك أمثالهم في فارس؟
ألم يصل إليه القول بأن كتاب الإحياء له ألوان مختلفات بسبب تنقل المؤلف من أرض إلى أرض؟
ألم يشهد تطور الأسلوب عند ابن عربي في الفتوحات المكية بسبب اختلاف موطن التأليف؟
ألم يعرف بأن شعراء اليتيمة تختلف أذواقهم باختلاف البلاد؟
ألم يدرك أن أشعار البهازير لها مذاق غير مذاق أشعار أبن زيدون؟ ألم يلمس الخشونة والنعومة في تردد ابن الجهم بين البادية وبغداد؟
وهل بقي أحمد أمين على حال واحد حتى يبقى الناس جميعاً على حال واحد؟
إن أحمد أمين القاضي الشرعي كانت له مسالك في الحكم على الأشياء تخالف مسالك احمد أمين الأستاذ في كلية الآداب
فكيف يقال إن الشاعر الذي يعيش في الأندلس أو في فارس لا يزال خاضعاً لأذواق أسلافه القدماء في الحجاز أو العراق؟
إن أذواق أهل العلم في البلد الواحد تختلف باختلاف المعهد الذي يتخرجون فيه، مع وحدة الزمان، ومع تقارب المشارب والميول. فالمتخرج في الأزهر غير المتخرج في دار العلوم وغير المتخرج في كلية الآداب. وقد كان مفهوماً عند أهل مصر أن المتخرج في الأزهر غير المتخرج في الجامع الأحمدي مع التقارب الشديد فيما يلقى هنا هناك من المعارف العقلية والنقلية. وأهل فرنسا يفهمون أن المتخرج في جامعة باريس غير المتخرج في جامعة ليون
وإنما كان الأمر كذلك لأن اختلاف المكان يؤثر في الأذواق حتى صح القول بأن الأدب الإنجليزي في إنجلترا يبعد بعض البعد أو كل البعد عن الأدب الإنجليزي في أمريكا.(330/8)
وكذلك يقال في الأدب الفرنسي حين يصدر عن أرض فرنسية أو بلجيكية أو سويسرية
فكيف يمكن أن يتفرد العرب بالخروج على هذا القانون الذي تفرضه طبيعة الوجود على سائر الناس
وهل يجوز في ذهن عاقل أن تكون جيمية ابن الرومي نسخة ثانية من جيمية الشماخ لوحدة القافية؟
وهل يصح أن تكون تائية حافظ إبراهيم في رثاء محمد عبدة صورة من تائية دعبل في التوجع لأهل البيت بحجة الاتفاق في الوزن والقافية؟
إن احمد أمين ينظر في ديوان جاهلي وديوان إسلامي فيرى قصائد تشابهت في القوافي والأوزان فيحكم بأن الشعر لم ينتقل من حال إلى حال، وإن اختلفت الأماكن والأجيال
ولو نظر غيره هذه النظرة لقلنا أنه يحكم أحكاماً عامية، ولدعوناه إلى الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية
من واجب أحمد أمين أن يفهم أن أساتذة الجامعات لا يصح لهم الوقوف عند ظواهر الأشياء، فأقل مزية لرجل الجامعة أن يكون في إحساسه كالشاعر الذي قال:
أسمع في قلبي دبيب المنى ... وألمح الشبهة في خاطري
وأحمد أمين أستاذ في كلية الآداب، وهي كلية على جانب عظيم من الكبرياء، وهي تأبى الاعتراف بأي معهد يقارعها في هذه البلاد، ولا تنظر إلى سائر المعاهد الأدبية إلا بعين الاستخفاف
والمنزلة التي صارت إليها كلية الآداب بفضل جهود أساتذتها الكبار من المصريين والأجانب توجب على الأستاذ أحمد أمين أن ينظر في كل كلمة يكتبها خمسين مرة قبل أن يعرضها على الناس
فأين كان حرصه على مكانة تلك الكلية يوم زعم أن الأدب العربي لم يتطور قط، وأن الأدب الجاهلي ظل يسيطر عليه من عصر إلى عصر حتى خنق مواهب أحمد شوقي وحافظ إبراهيم؟
وهنا يتسع المجال لعرض سرقة جديدة من سرقات احمد أمين فهل يعرف هذا الباحث الكبير من أين أخذ القول بأنه يجب أن نضع القنبلة مكان القوس؟(330/9)
لقد سرق هذه الفكرة من باحث لا أنوه باسمه إلا وأنا كاره لأني أبغضه أشد البغض وقد أرجع إلى مصاولته بعد أيام أو بعد أسابيع.
هذا الباحث هو الدكتور طه حسين الذي عرف الجمهور بالأستاذ احمد أمين
ولكن متى قال الدكتور طه هذا الكلام؟
إن أحمد أمين يظن أن ذاكرة الناس ضعفت كل الضعف، وأنه لم يبقى في مصر أو غير مصر من يتذكر مقالة نشرت منذ عام أو عامين، فكيف يتذكرون مقالة نشرت منذ أكثر عشر سنين؟
فما هي تلك المقالة؟
هي مقالة الدكتور طه حسين في نقد بائية شوقي في يوم (سقاريا) التي عارض بها بائية أبي تمام في يوم (عمورية)، بائية شوقي ذات المطلع:
الله أكبركم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب
وقد نص الدكتور طه في تلك المقالة على أن شوقي استعمل في وصف الحرب التركية اليونانية ألفاظاً وتعابير كانت تعرفها الحروب القديمة، ولكنها مجهولة عند المحاربين في العصر الحديث
أنكر الدكتور على شوقي أن يقول في خطاب مصطفى كمال:
قذفتَهم بالرياح الهُوج مسرجةً ... يحملن أُسد الشرى في البيض واليَلَبِ
وأن يقول في مدح الجنود الأتراك:
والجاعلين سيوف الهند ألسنهم ... والكاتبين بأطراف القنا السلُب
وكانت حجة الدكتور طه أن (أسد الشرى) عبارة قديمة وقد لا يفهمها الترك، وأن (البيض واليلب وأطراف القنا السلب) ليست أهم الأدوات الحربية في هذه الأيام
وقد تأذى شوقي بهذا النقد اشد التأذي لأنه في ظاهره لا يخلو من بريق، ودعاني إلى الرد على الدكتور طه حسين ولكني اعتذرت لأسباب أدبية لا يتسع لشرحها المقام، ولعلي كنت أحرص على مجاملة الدكتور طه في ذلك الحين
ومقالة الدكتور طه في نقد بائية شوقي مشوهة جداً، ولكن عند من؟
عند الذين كانوا يسايرون الحياة الأدبية أيام الفتنة بين السعديين والدستوريين والاتحاديين،(330/10)
وهي مقالة نشرت في جريدة يومية كانت قليلة الذيوع وهي جريدة الاتحاد، ولكنها كانت على كل حال مما يطلع عليه الأستاذ أحمد أمين
ماذا يظن احمد أمين بذاكرة الرجال؟
هل يتوهم أن النقد الأدبي قد أنعدم في مصر وأنه لا يوجد في هذه البلاد من يذكر تطور الآراء النقدية من حال إلى أحوال؟
يجب أن يعرف جيداً أننا سنحصي عليه خطرات قلبه، وسنردها خطرة خطرة إلى ما قرأ وما سمع، فلا يزهي ولا يختال بترديد الحديث المعاد. فهل يقرأ هذا الكلام بعض من كبر عليهم أن نهجم على الأستاذ أحمد أمين؟
إن الذين فتنوا بحذلقة احمد أمين لم يكونوا يعرفون أنه ينتهب آراء المعاصرين وغير المعاصرين بلا تهيب ولا تخوف، ولم يكن يدور في خواطرهم أن هذا الرجل له سطوات على الكتب والمقالات يأخذ بها ما يشاء بلا ترفق ولا استبقاء
قد يقال: وما خطر هذه السرقات؟ وما العيب في أن يسرق احمد أمين كلام طه حسين؟
وأجيب بأن النص على السرقات يشرح تطور الأفكار الأدبية، وذلك مغنم ليس بقليل
وسنرى في المقال المقبل سرقات أغرب وأعجب. . . ومن الله وحده ننتظر حسن الجزاء على هذا الجهاد
زكي مبارك(330/11)
على ذكر الحرب الراهنة
موقف العلم من الكمال الإنساني
للأستاذ توفيق الطويل
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
انتهينا في حديثنا السالف إلى أن العلم قد استعبدته الأغراض في أكثر مراحل حياته، فعاش في خدمة الإنسان يحقق مطالب حياته العملية، أو يستجيب لنداء عقيدته الدينية، وأقام على هذا الاستعباد طول عمره، إذا استثنيت مرحلتين من حياته تحرر فيهما من ذل الأغراض، هما عهد اليونان، والفترة الأخيرة من عصرنا الحديث. وقد أشرنا فيما أسلفنا إلى الروابط التي أخذ ينشئها المحدثون من العلماء بين العلوم الطبيعية والفنون الجميلة، بتوحيدهم الغاية التي ينتهي إليها كل منهما، فكان علينا إذا رغبنا في الحديث عن صلة العلم بالكمال الإنساني أن نتناوله عند (بيكون) ابن العلم الحديث، ورب الدعوة إلى تسخيره لصالح الإنسان.
3 - الكمال عند بيكون
تمرد رجال النهضة على العصور الوسطى، وأقبلوا يحملون - فيما حملوا - معاول الإصلاح الديني، وحطموا بها الكنيسة وسلطانها الذي هيمنت به على قلوب الناس وعقولهم أجيالاً طوالاً وسار في موكبهم حواريو العلم الطبيعي يتقدمهم رجال الفلك، من كورنيكوس وتيخوبراهي وغاليلو وكبلر، وشنوا الغارة على علم الأقدمين ومكنتهم الآلات التي اخترعوها من الكشف عن كثير من أخطائهم، وبذلك هتكوا عصمتهم، وحطموا قداستهم وأعلنوهم لطلاب العلم ناساً كسائر الناس، ومهدت هذه الحركات لظهور (بيكون) في أواخر القرن السادس عشر، فتقدم بعقله الواسع وقلمه السيال، للانضمام إلى موكب المحاربين، وساهم بأوفر نصيب في تحطيم الفلسفة الجدلية التي شاعت عند المدرسيين، وهدم القياس الذي استعاروه عن أرسطو ليحل مكانه منطقاً قائماً على الاستقراء، فوضع بذلك أساس المنهج التجريبي، وبدأ العلم في عصره الحديث على يديه، ورسم للباحث منهجه وحدد له غايته، فدعا إلى تطهير العقل من الأوهام التي تعرقل طلاقته، ونادى بالإكثار من جمع(330/12)
المشاهدات وإعداد تاريخ لكل منها، وتصنيفها توطئة لمقارنتها بعضها ببعض، واستنباط العلل الكامنة وراءها، وتسخير النتائج التي يهتدي إليها العلماء لخدمة المجتمع، وتوفير أسباب الكمال لأفراده، فربط بذلك بين العلم والكمال الإنساني، وصور هذه النتيجة قي كتاب صادف عند الكثيرين من المؤرخين مديحاً ملحوظاً ذلك هو الذي صور فيه مجتمعاً مثالياً - على نمط جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة للفارابي - وتوافرت في مجتمعه أسباب الكمال، وتهيأت لأفراده ألوان النعيم؛ وأظهر ما في هذا المجتمع المثالي مما يعنينا في مقالنا (بيت سليمان) وهو يشبه المؤسسات العلمية التي تقام في عصرنا الحاضر للعمل على تقدم العلم وإنهاضه، وقد حدد الغرض الذي يرمي إليه هذا البيت بالكشف عن أسباب الظواهر والاهتداء إلى علل الأشياء، والتمكين لسلطان الإنسان حتى يتيسر له القيام بكل عمل ممكن؛ وتحقيقاً لهذه الغاية أنشئت المعامل لإجراء التجارب في مختلف فروع العلم من طب وطبيعة وصناعة وزراعة. وأقيمت المراصد لمراقبة الظواهر الجوية، وحفرت البرك والبحيرات لتربية الأسماك وسائر الأحياء المائية. . . ولما كان بيكون شديد العناية بالإكثار من جمع المشاهدات والإسراف في عمل التجارب رغبة في تمكين البحث، وعدم التسرع في استنباط القوانين العامة من الجزئيات القليلة، فقد رأى أن يوفد بيت سليمان فئة من العلماء بين الحين والحين، يجوبون البلاد الأجنبية، ويرتادون الآفاق النائية في طلب المشاهدات، وجمع الكتب وكتابة التقارير عما يصادفهم من غريب الظواهر، وبذلك ترقى العلوم ويتيسر لأهلها أن يفهموا الطبيعة على وجهها الصحيح، لا اقتصاراً على فهمها، بل توطئة لبسط سلطانهم على ظواهرها، واستغلال سيادتهم لها، في الانتفاع بها والإفادة من مواردها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً وبذلك يرقى المجتمع وينهض أفراده. وقد جره هذا التصور إلى أن يكل حكم المجتمعات إلى العلماء والفلاسفة الذين لا يقنعون بالاطلاع على ما تحويه بطون الكتب، وإنما يولون جهودهم شطر الطبيعة ليجمعوا منها المشاهدات توطئة لاستغلال فهمهم لها في ترقية المجتمع والعمل على تطوره إلى الكمال
تلك صورة مصغرة لهذا المجتمع المثالي الذي يتحقق فيه الكمال الإنساني فيما بدا لبيكون. ولم يكن هذا التصور غريباً على العصر الذي دوت فيه هذه الصيحة، فقد اتجهت فيه أنظار أهل العلم والأدب والفن إلى الطبيعة، وراح كل يعبر عنها بطريقته وفي حدود(330/13)
منهجه، واهتم العلم بالسيطرة على ظواهرها أملاً في استغلال مواردها، واتقاء شرورها، وملأ الحياة الإنسانية بالخير والهناءة.
وقد تساءل (كامبانيلا) - معاصر (بيكون) - في مجتمعه المثالي عن موقف الإنسان الجديد من الرقيق، وانتهي إلى القول بأن مخترعات العلم الحديث ستوفر للناس وقتهم، وتغنيهم عن الرقيق والعبيد، وتجعلهم سادة للطبيعة، وتملأ حياتهم بالسعادة. . .
تلك هي النزعة التي شاعت في أوربا أواخر عصر النهضة، وهي قائمة على الأمل الباسم في قدرة العلم على تحقيق السعادة للناس. وقد مكن لهذه النزعة بيكون في مستهل القرن السابع عشر، ودفعها إلى العصور الحديثة، فانطلقت أبانها تسعى حثيثة حتى خابت في العلم آمال الناس، وتحرر العلماء من ذل الأغراض - على نحو ما عرفنا في مقالنا السالف -
والآن بعد أن قطع العلم هذه المراحل الطويلة في تحقيق الغاية التي كان يرجوها (بيكون) وأشياعه، نرى من حقنا - وقد اندلعت نار الحرب وراح العلم يقدم لها الوقود - أن نتساءل عن مدى ما حققه العلم من الكمال، ومبلغ ما أسبغه على الناس من نعم. وليس هذا السؤال بجديد في تاريخ الفكر، فكثيراً ما تردد في أبحاث الأدباء والفلاسفة، واختلفت في الإجابة عليه وجهات النظر. ولقد ذهب بعض الذين تناولوا بالبحث هذا الموضوع إلى الطعن في العلم وما يترتب عليه من ألوان الحضارة والمدنية، والدعوة إلى العيش على مقتضى الإلهام الطبيعي البسيط، وقد نادى بهذه النزعة في القرن الثامن عشر (جان جاك روسو)، ولم يقصر هجومه على العلوم الطبيعية وحدها، وإنما تجاوز آفاقها إلى الطعن في العلم بأوسع معانيه، فشملت غارته الآداب والفنون كذلك، فلنعرض - في إيجاز - حلمه الذي كان يرى فيه تحقيقاً لسعادة الناس، وسنرى بين آرائه وآراء (بيكون) هوة سحيقة القرار:
4 - السعادة عند روسو:
مات لويس الرابع عشر فماتت معه الملكية المستبدة القادرة في فرنسا، واستأسد من كان بالأمس ذئباً، فاسترد الأشراف نفوذهم، واستعاد الكتاب والشعراء حريتهم، وتأهبوا لتحطيم الإيمان الديني الذي جاهد أسلافهم لتدعيمه زلفى إلى الملك الديّن المستبد. وشاعت اللادينية في فرنسا، وكانت تعاني من حروب انقضت ظهرها، وفاقة أحرجت صدرها، وترف يهد(330/14)
من كيانها فتدهور نفوذ الملك، وانحل سلطان الدين، ومال المفكرون إلى تمجيد العقل، معلنين التمرد على كل قديم. وفي هذا الجو نشأ (جان جاك روسو) شريداً بائساً، حييّا مسرفاً في الحياء، لا يحسن عشرة الناس ولا يألف المجتمعات؛ يعشق الطبيعة ويجد في رحابها مسرحاً لخياله الوثاب، لم يوهب العقل الخالق الممتاز، ولكنه أوتي القدرة على التعبير المليء بالقوة والحرارة والإيمان، فنصب نفسه لمحاربة الإلحاد بالطعن في العقل والمدنية وتمجيد القلب والفطرة، بعد أن أخفق (بيركلي) في نصرة الإيمان الديني بإنكار المادة، والاقتصار على الاعتراف بوجود العقل - أو الروح - وتهيأت له فرصة الإعلان عن رأيه، حين طرحت أكاديمية (ديجون) على الكتاب مسابقة عن أثر العلوم والفنون في صلاح الأخلاق أو فسادها، فتقدم (روسو) للاشتراك فيها، وقد وطن العزم على الطعن في العلوم والفنون، وبيان ما يترتب على انتشارها من سيئ الآثار، وتوالت بعد ذلك حملاته وإلى القارئ الكريم خلاصة رأيه:
تحدث (روسو) عن الرجل البدائي الذي يعيش في أحضان الطبيعة، بسيطاً هانئاً ببساطته، جاهلاً قانعاً بجهالته، مسترسلاً على فطرته وطبيعته؛ ثم قارنه برجل المدنية الفخور بعلومه، المزهو بفنونه، الغارق في حياته المعقدة، وانتهى من هذه المقارنة بترجيح الأول على الثاني، مؤيداً رأيه بمثل استقاها من تاريخ المصريين واليونان ومن إليهم. فمصر المجيدة التي كانت مدرسة الدنيا بأسرها، ما كادت تصبح أم العلوم والفنون، حتى أغار عليها قمبيز، وأعقبه اليونان والرومان والعرب والأتراك على التوالي، فهبطت إلى الهوان على سلم صيغت درجاته من علم وفن. وكذلك يقال في غيرها من كبرى الأمم، والتاريخ شاهد عدل على صدق ما نقول، فمتى نشأت الفلسفة تدهورت الأخلاق، وأنى ظهر العلم اختفى الشرف، وليس الرجل المفكر إلا حيواناً فاسد المزاج مناقضاً للطبيعة، فالفكر وكل ما أبدعه من ألوان المدنية والحضارة تمرد على إلهام الفطرة ووحي الطبيعة، ومن هنا نشأ شقاء بني الإنسان. فالإنسان الأول خيّر بطبيعته، طيب بفطرته، قانع ما وجد اللقمة التي يسد بها رمقه، والخرقة التي يستر بها عورته، والمرأة التي يقضي معها حاجته، ومتى انقضت حاجته، فقد انطفأت رغبته، فإذا ولدت المرأة تعهدت طفلها بالرعاية كما تفعل أنثى الحيوان التي لا تعرف إلا إلهام الطبيعة الرحيمة، فإذا شب الولد في ظل هذه الرحمة(330/15)
الطبيعية تكفل بحياته، شأنه شأن سائر أنواع الحيوان، وعاش متساوياً مع رفاقه يتبادلون المحبة والوئام والإخاء، لا يزهو أحد على أقرانه بعلم ولا مال، وبهذا كانوا سعداء، ثم تمردوا على إلهام الطبيعة، وخضعوا لإملاء العقل، فأدركتهم المدنية بعلومها وفنونها، وسرعان ما طاردت النعيم الذي عاشوا في رحابه، وسلبتهم باسم النظام ما كانوا يتمتعون به من ألوان الحرية، وميزت بعضهم على بعض فجعلت منهم أغنياء وفقراء، وسادة وعبيداً، فكان هذا مبعث الداء وأصل الشقاء. ولقد كانت الإنسانية تنجو من الجرائم البشعة والحروب الدامية التي ارتكبت في سالف أيامها من جراء الطمع، لو أن أول من أحاط قطعة أرض وقال: هذه ملكي - قد وجد رجلاً شهماً يتقدم إلى هذه الأرض فيحطم السياج الذي أحاط بها، أو يردم الخندق الذي التف حولها، ويصيح في قومه: أيها الناس حذار أن تصدقوا هذا الكذاب الأشر. . .
وما من دواء لهذا الداء إلا بالرجوع إلى أحضان الطبيعة، ورياضة القلب والاعتماد على الفطرة وإهمال العقل وما يترتب عليه من ألوان العلوم ومظاهر المدنية والحضارة
تلك صورة مصغرة للكمال الذي يحلم به (روسو) في القرن الثامن عشر. وهي على خلاف ملحوظ مع الكمال الذي يحلم به بيكون في القرن السابع عشر. ويعنينا من هذا أن (روسو) يهاجم العقل وكل ما يترتب عليه من علم ومدنية، ويرجو لو عاد الناس إلى حضن الطبيعة، وعاشوا سعداء بما هم عليه من قناعة وجهالة. أما (بيكون) فيرى الكمال ماثلاً في إنسان قد مكنته قوى العقل وتجارب العلم من إخضاع الأرض والسماء والماء لسلطانه، فأحسن استغلالها لمصلحة المجتمع الإنساني، وتحقيق السعادة لأبنائه، ففي مدنية العقل الناجح غي إخضاع الطبيعة للإنسان، يكمن الكمال عند بيكون، فأي المذهبين أبعد عن الخطأ أو أدنى إلى الصواب؟
5 - مناقشة روسو وبيكون
ينبغي أن نعترف إنصافاً لروسو بأن آراءه قد صادفت هوى من نفوس قرائه، وأنها سعت إلى قلوب الكثيرين منهم وهيمنت على عواطفهم، وكان لها بالغ الأثر في قيام الثورة الفرنسية بعد ذلك، وكان من آثارها أنها حادت بالأدب عن العقل واتجهت به نحو العاطفة، وجعلت السيدات في صالونات الأدب يسرفن في التزام الظهور بما يدل على الشعور(330/16)
الرقيق والقلب الرحيم، دون العقل الراجح والفكر المتزن، وربما كان لها أثرها في انتعاش الشعور الديني عند القراء
ولكن آراء (روسو) مع هذا حافلة بالأخطاء - فيما يلوح - والمثل الأعلى الذي ينشده عسير التحقيق، ولو تحقق لما أقام الناس عليه طويلاً، ولعادوا إلى المدنية راضين أو كارهين، فإن العقل من شأنه التفكير المتواصل، وليس في وسع قوة في الأرض أن تقيد عقول الناس، وتحرمها نعمة التفكير دواماً، وذلك وحده كفيل بتحقيق التطور الذي يرفع الإنسان من حالة الفطرة إلى مستوى المدنية، وروسو يقاوم أموراً يتصل بعضها بما يترتب على الغرائز من آثار، يطلب محو الملكية، والتزام القناعة، وعدم التقييد باختيار امرأة بعينها، ويزعم أن الناس بطبيعتهم أخيار أطهار، ويبني على هذا الأساس الخاطئ نظرياته التي ثبت اليوم بطلانها - كالعقد الاجتماعي مثلاً - تلك كلها أحلام عسيرة التحقيق، وقد نادى ببعضها أفلاطون في جمهوريته، وحسبنا أن نكشف عن ضعف نظرته إلى علاقة الرجل بزوجته، بتجربة نرويها كما نذكرها الآن: يقال إن تجربة أجريت على طائفة من القردة العليا لمعرفة نظام الزواج الراهن ومدى انطباقه على الطبيعة البشرية - كما أذكر الآن من أمر هذه التجربة - فجمعت القردة ذكوراً وإناثاً، وأتيح لها أن تعيش في مكان واحد، فلوحظ بعد فترة من الزمن أن كل قرد قد اختار له أنثى بعينها والتزم عشرتها، وتولى الذود عنها إزاء كل قرد يفكر في الاعتداء عليها، وكذلك كان موقف الإناث من ذكورها مع فوارق بسيطة، فانتهى الحال إلى ما يشبه النظام الذي شرعته الأديان وأقرته المدنيات.
وإذا صح هذا مع الحيوانات العليا فأحر به أن يكون صحيحاً مع بني الإنسان. ومثل هذا يقال في بقية الآراء التي خلفها لنا (روسو) وذلك - فيما يلوح - أظهر الفوارق بينه وبين (بيكون) فإن الكمال الذي يحلم به بيكون سهل التحقيق، وليس فيه مقاومة لغرائز الناس أو ما يترتب عليها من آثار. . .
ثم أي سعادة تلك التي يحتمل أن يشعر بها الرجل المتوحش الذي يعيش على إلهام الطبيعة ووحي الفطرة؟ إن (روسو) يتغنى بما يتمتع به الرجل من ألوان الحرية ونعيم الجهالة، ويشفق على المتمدين من القيود التي يكبل بها باسم النظام والمدنية ولكنه نسي أن هذا(330/17)
المتوحش يعيش في أسر ذليل، تستعبده الأوهام، وتذله الخرافات، ويزعجه الخوف من كل شيء حتى من نفسه، ثم لا يشعر بعد هذا بالسعادة التي يحلم بها (روسو) حتى إذا عاش في غمرتها، ذلك لأن الشعور بالسعادة يتوفر لأصحابه إذا مروا بدورين: أولهما سلبي وهو انتفاء الشعور بالشقاء، وثانيهما إيجابي والشعور بالسعادة. أما الحالة الوسط التي يعيش فيها الرجل المتوحش، فينتفي عندها الشعور بالشقاء والسعادة معا، فإنها ليست من السعادة في كثير ولا قليل، ومن هنا يظهر بطلان الدعوة التي بشر بها (روسو) وعبر عنها (المتنبي) بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ذلك وجه الخطأ في مهاجمة العلم وما يترتب عليه من آثار المدنية، والدعوة إلى الطبيعة وتوهم السعادة في ظلها. وقد تردى روسو في هذا الخطأ لأنه عاش في بيئة أنهكتها الأمراض والعلل، بالإضافة إلى فشله في عشرة الناس، وعدم ملاءمة طبيعته للمجتمعات، ولهذا أصاب في التمرد على أخطاء بيئته، ولكنه أخفق في علاجها إخفاقاً بيناً. ولعل (فولتير) كان على حق حين قال ساخراً منه: (لو أن الناس أصاخوا لآرائه، لسرهم أن يمشوا على أربع. . .!)
وقد عاش بيكون في بيئة عقلية يعوزها الاستقرار، فعرف داءها وشخص الدواء الذي يقتضيه علاجها، وقد تجد ما تؤاخذ به بيكون في تشخيص الدواء أو فهم الداء، ولكنك لا تملك إلا الاعتراف بتوفيقه، وقد انقضى على موته نحو ثلاثة عشر قرناً وثلاث عشر عاماً، وحققت الأيام الكثير من آماله، فأصاب العلم نجاحاً في أكثر الميادين، وعرف الإنسان كيف يعالج الطبيعة، ويتغلغل إلى فهم أسرارها ويعرف العلل الكامنة وراء ظواهرها والطرق التي تمكنه من استغلالها على أكمل وجه والانتفاع بها إلى أقصى حد، فقهرها على ظهر الأرض وفي أعماق البحار وفي أجواز السماء، وكاد يحيل المكان والزمان اسماً على غير مسمى. . .! إنه ينصت اليوم في مصر إلى توقيع الموسيقى في أمريكا، ويستطيع أن يتبادل الحديث وهو جالس إلى مكتبه مع أصدقائه أو عملائه في أقصى بقاع الأرض طرا، وتلك هي السيادة الموفقة على الزمان والمكان. . .
ولكن هل حقق هذا كله شيئاً من سعادة الناس؟ لقد أسفر نجاح العلم عن اختراع الغازات(330/18)
السامة والقنابل المحرقة والمدافع المدمرة والغواصات المغرقة، وسائر وسائل التدمير والتخريب، مما يسمع الناس صدى التهديد به في أيامنا الراهنة، فتنهد قواهم وتنهك أعصابهم وهم بعيدون في غمرة القتال، والظاهر أن (بيكون) لم يقدر هذه النتيجة الرهيبة، فقد جعل من مظاهر التقدم في مجتمعه المثالي، أن يتجنب الحروب ويتقي شرورها، وذلك بألا ينتج إلا ما يستهلكه، ولا يستهلك إلا ما ينتجه. .!
على أن هذه النتيجة التي انتهينا إليها من النظر في الأثر الذي يترتب على الدعوة إلى تقدم العلم، قد رد عليها دعاته فقالوا إن العلم الذي اخترع ما استغله البعض في غير صالح الإنسان، هو نفسه الذي اخترع ما يقي الإنسان هذا الشر الطارئ. اخترع الغازات السامة وقدم للناس الأقنعة الواقية. اخترع الطائرات الحربية بقنابلها المحرقة وأعد المدافع المضادة لمقاومتها. وكلما أظهر للمجتمع خطراً جديداً تولى وحده مقاومته ووقاية الناس من ضرره. . .
ولكن أصحيح أن المجتمع الإنساني قد أمن بهذا شر المخترعات الحديثة؟ أصحيح أن الناس الآمنين في بيوتهم لن تصيبهم الغازات الجوية بعد اليوم بسوء؟ ذلك ما تجيب عنه وحشية الحروب في وقتنا الحاضر؛ على أنا نقول إنصافاً للعلم وأهله إن ما نتصوره ضاراً بالمجتمع الإنساني قد يكون كبير النفع من جوانب أخرى، وما نراه في الحروب عدواناً وحشياً ذميماً فيه قضاء على النفوس البريئة والأموال الطائلة وحضارة الأجيال الماضية، قد يعتبر شراً لا بد منه تقضي به حياتنا ومثلنا العليا. ومن المفكرين الذين درسوا المجتمع في تطوره إلى الكمال وانحداره إلى الاضمحلال من اعتبر الحرب نعمة والسلام الدائم نكبة على أصحابه. ثم إن عدوان القوي على الضعيف عند بعض المفكرين حتى تبيحه القوة أو يبرره التفاوت في المدنية، وذلك بالإضافة إلى أن القتال في أصله غريزة لم يلدها العلم وإنما اقتصر على تغذية نارها، فإن كان أثر العلم في وحشية الحروب سيئة عند بعض القراء فهو حسنة عند غيرهم من المفكرين، لأنه يعجل بنهاية الحرب وينقذ الناس من شر أنبائها، بالإضافة إلى الميزات التي يكسبها الناس من وراء الحروب. . .
على أن من التجني أن يحمل العلم تبعة هذه الاتهامات التي عرضه لها بيكون يوم ربطه بصالح الإنسان، فقد ألقى العلم عن عاتقه هذه التبعة الخطيرة يوم حرر نفسه من ذل(330/19)
الأغراض - كما أبنا في مقالنا السالف -
على أن من الخير أن نقول إن السعادة - إن صح أنها رادف لكمال الإنسان - لا تعيش في آثار العلم والمدنية، ولا تقيم في أحضان الطبيعة والفطرة؛ ولكنها تعيش في قلب الإنسان يحملها معه أنى ذهب ولا يستطيع أن يفارقها أو يستدعيها تبعاً لظروف الزمان والمكان، وهي بعيدة عنه دائماً إن كان بينه وبينها جفاء طبيعي ولده مزاجه أو أسفر عنه خطأه في النظر إلى الحياة، فمن الناس من وهب القدرة على أن يستمد من الشقاء الذي يكتنفه شعوره بالسعادة، ومنهم من يتخذ من مباهج الحياة وأفراحها أسباب اكتئابه وشقائه. فالسعادة فن يفيد تعلمه أكثر الأشقياء الذين قد لا تنطوي حياتهم على سبب واحد يبرر الشعور بالشقاء! وما يقال في الفرد ينسحب على الجماعات. . .
توفيق الطويل(330/20)
من بغداد. . . إلى كركوك
وداع بغداد!
للأستاذ علي الطنطاوي
الوداع يا بغداد. . .
يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نؤاس والعباس، ومخارق وإسحاق، ومطيع وحماد. . .
يا منزل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأنقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء. . .
يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول. . . يا دنيا فيها من كل شيء
الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام
يا بلداً أحببته قبل أن أراه، وأحببته بعد ما رأيته. . .
لقد عشت فيك زماناً مر كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلا لذع الذكرى
وهل تخلف الأحلام يا بلد إلا الأسى والآلام؟
ولكني على ذلك راضٍ راضْ. . . فالوداع يا بغداد واسلمي على الزمان!
ودعتها والسيارة تشتد بي إلى المحطة تسلك إليها الشوارع ذات بهجة وجمال، شبهتها (والمحطة غايتها) بليالي الحب كلها أنس وحلاوة، ولكن نهايتها وحشة الوحدة ومرارة الفراق. وعانيت الوداع، فأيقنت أني مفارق بغداد عما قليل، وأني سأتلفت فلا أرى رياضها ولا أرباضها، ولا أبصر دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول (وإن من الأقوال ما لا تبلي جدته ولا يمضي زمانه):
أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
شهور قد (مضين) وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
فأما ليلهن فخير ليل ... وأطيب ما يكون من النهار(330/21)
وجعلت أذكركم ودعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى، ولا ترثى لبائس، ورأيتني لا أكاد أستقر في بلد حتى تطرحني النوى في آخر، كنبتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمد فيها جذورها حتى تقلع وتنتقل إلى أخرى. . . ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن جاءها أحد من أصحابي فلبثت فيها وحيداً مستوحشاً، لا أعرف منها إلا المسجد، وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة، فلما ألفتها وصارت بلدي، وغدا لها في قلبي مكان نفيت عنها. . .
دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا (مكرهينا)
وفكرت في أمري متى ألقي رحلي، ومتى أحل حقائبي؟ وهل كتب علي أن أطوف أبداً في البلاد، وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟ وهاجت في رأسي الخواطر السود وماجت حتى لقد رأيت الشوارع الحالية بالزهر صحراء مجدبة، ورأيت شعاع القمر المضيء أظلم خابياً. . .
ومن طوف تطوافي، وأقبل مثلي على بلاد ما لها في نفسه صورة، ولا له فيها صديق، وفارق أهلاً إليه أحبة، وصحباً عليه كراماً، وكانت حاله كحالي، عرف صدق مقالي!
وصفر القطار وسار، وطفقت ألوح بمنديلي لصديقيّ الأثيرين أنور وحسن حتى داراهما عني الظلام، فنظرت حولي فإذا أنا وحيد في العربة الفخمة، لا أنيس ولا جليس، فكر فكري راجعاً إلى بغداد. . .
بغداد، يا مهد الحب، يولد الحب على جسرك الذي تحرسه (العيون)، وينمو في زوارقك ذات الأجنحة البيض التي تخفق كخفقان قلوب راكبيها، ويشب في كرخك وتحت ظلال نخيلك
فتشوا كم تحت الثرى من بقايا القلوب التي حطمها بسهام (العيون) هذا المخلوق الجبار الذي ولد على الجسر شابا، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ، ثم لم يمت لأنه من أبناء الخلود
سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟
سلوا جو بغداد: أين النغمات العذاب التي عطرت نسيمه بعطر الجنة، فهزت قلوباً،(330/22)
وهاجت عواطف، وأضحكت وأبكت، وأماتت وأحيت؛ هل أضعت ويحك هذه الثروة التي لا تعوض؟
سلوا الجسر. . . يا (جسر بغداد) إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب، حتى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعبر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟
كم ضممت ذراعيك على عشيقين فنعما بينهما بلذة الحب! وكم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلا بالخيبة والأسى! وكم عطفت على بائس منكود، وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هون عليه ما هو فيه، وزدت الثاني بؤساً ونكداً؟ وكم وعيت من أسرار الحب والبغض والفرح والحزن، والغنى والفقر، والعزة والذل، وكل ما تحتوي الحياة وتشمل النفس من ألوان؟ كم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات القلوب؟
كم مدت تحت أقدام خليفة كانت تصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوح بسيف محمد؟
يا (جسر غازي) الجديد، الهائل العظيم، أعندك نبأ من ذلك الجسر الذي كان عالماً من العوالم؟ والذي كان سُرّة الدنيا وقطب رحاها؟ وكان للجد إذا جد الجد، وللهزل إذا جاز الهزل، فحوى المجد من أساسه، وجمع المتعة من أطرافها؟
وهذه المنارة المنحنية المائلة في (سوق الغزل) تنظر بعيني أم ثكلى. . . سلوها أين مسجدها الذي كان يضيق على سعته بالمصلين، حتى تمتد الصفوف إلى الشارع ثم تتتالى حتى تبلغ النهر؟ أين أولئك العلماء الذين أترعوا الدنيا علما وملئوا آفاق الأرض نوراً وهدى؟ أين مواكب الخلفاء حيث. . .
الخيل تصهل والفوارس تدّعي والبيض تلمع والأسنة تزهر
ومشيهم في رحاب بيت الله. . .
. . . مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهي ولا يتكبر
أين فرسان المنابر وأبطالها؟ أين جيران المحاريب وجلامها؟ أين. . . أين. . .؟
يا أسفي! لقد سرق المسجد، وهدم المنبر، وضاع المحراب، ولم تحفظ الحجارة يا بغداد مآثرك ومصانعك، ولاوعت الأرض ذكريات حبك، ولا أبقى الجو رنات عيدانك. . . أفلا(330/23)
حفظتها قلوب اقسم أصحابها أنهم ذاكروا عهدك وأنهم مرجعوا مجدك؟
فأين مسجد بغداد الجامع يا مديرية الأوقاف؟ أين المسجد يا إدارة الآثار؟ أين المسجد يا من تخذتم المسجد بيوتاً ودكاكين وتركتم المنارة منحنية عليه تبكي!
أين المدرسة النظامية يا من أقمتم على أنقاضها سوق الشورجة لتبيعوا فيه البصل والثوم - وقد كانت تباع فيها حيوات العلماء وعصارات عقولهم وقلوبهم؟. . .
لا تحزني يا بغداد واصبري فإن كل شيء يعود ما بقي في القلب إيمان، وفي الفم لسان، وفي اليد سنان
وتلفت ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق. . . وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف تارة فتضيء، ثم تختفي في ظلال النخيل كشاعر منفرد يتأمل، أو محب معتزل يناجي طيف الحبيب، ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها. . . والنهر يطلع عليها مرة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل، ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني. . . وغابت شوارع الصالحية ذات الفتنة والجلال وغابت المآذن الرشيقة، وغابت القباب. . . وبقيت أنا والماضي!
هذا الماضي الذي طالما قاسيت منه، وطالما كابدت. . . ثم كلما أوغلت به انحداراً في أعماق نفسي ودفنته في هوة الذكرى وقلت مات، عاد حياً كاملاً تثيره نغمة وتهيجه صورة ويبعثه بيت من الشعر. . . فيبعث بحياته آلامي. . .
غابت، فسلام على بغداد، وأشهدوا أنه ما بعد دمشق بلد أحب ألي من بغداد، ولا بعد العتابا نغمة أوقع في قلبي من الأبوذية، ولا بعد الحور شجر أجمل في عيني من النخيل، ولا بعد بردي نهر أعز على نفسي من دجلة. . .
استغفر الله! إلا حرم الله ومدينة نبيه، فهما والله أحب البلاد ألي، وماؤهما ألذ الماء في فمي، وشجرهما، أبهى الشجر في بصري. . .
السلام عليك يا بغداد ولو نفيتني عنك إلى كركوك، وعلى ساكنيك السلام. . .
(ثانوية كركوك)
علي الطنطاوي(330/24)
هل يقرأ الفنان هتلر
الدم والحديد
رواية في فصل واحد
بقلم بيرلي بورشهان وروبت دافيز
ترجمة الأستاذ عبد اللطيف النشار
أشخاص الرواية:
(الإمبراطور غليوم الثاني، وعالم ألماني وجندي مرقع من مشوهي الحرب)
المكان: (قاعة العرش)
الوقت: (في مساء عيد ميلاد الإمبراطور غليوم مدة الحرب الكبرى)
الإمبراطور - (يدخل فيعتلي العرش)
العالم - (يحمل حافظة فيضعها على منضدة ويبتسم ويفرك كفيه) مولاي! إن الهيبة تعقد لساني
الإمبراطور - إن وقتي محدود، فولي العهد في انتظاري
العالم - (متحمساً إلى درجة الارتعاش) مولاي! إن الهدية التي أقدمها إلى جلالتكم بمناسبة عيد ميلادكم الإمبراطوري لهي أثمن الهدايا لأنها تعني أن في الإمكان إعادة مليون من الجنود المشوهين إلى صفوف جيشكم، وتعني أن الجيش الألماني أصبح قوة مخيفة
الإمبراطور - (في اهتمام) هذا كلام عام
العالم - (وقد لاحظ أن الإمبراطور يبدي حركة عنيفة دالة على أتم الاستعداد للإصغاء) إنني سأخصص يا مولاي: إن أهم عنصر من عناصر الإتقان ألا نترك شيئاً يفقد بغير جدوى. وقد جعلت همي في أمر اليوم أن أرد إلى الجنود المصابين ما فقدوه بسبب الحرب. وقد نجحت
الإمبراطور (وقد بدا عليه الاغتباط) - كيف ذلك؟
العالم - بعد تجارب متعددة أصبح في وسعنا أن نأتي بأي جندي كائنة ما كانت درجة أصابته فنعيده إلى الصفوف أقوى مما كان. . . نعيده لا إنساناً ضعيفاً سريع القابلية للفناء،(330/26)
بل آلة قوية باطشة
الإمبراطور - (ضاحكاً) كلام حماسي ولكنه غير مقنع، فهات الدليل
العالم (في لهجة دالة على الصدق والإخلاص) لقد توقعت يا مولاي هذا الشك فجئت معي. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) - بماذا؟ بنموذج؟
العالم - نعم يا مولاي بنموذج حي آلي في غرفة الانتظار
الإمبراطور (متعجلاً) - إيت به، إيت به
العالم - مولاي، أستميح عفوكم فإن منظره غير سار
الإمبراطور - هذر! كل ما يؤدي إلى الاحتفاظ بالقوة جميل
العالم (وقد بدا عليه الابتهاج) - هل لي. . .؟
الإمبراطور - أسرع!
العالم (يفتح الباب ويخرج وهو ينادي بلهجة عسكرية) - انتباه! إلى الإمام؟
(وهنا يسمع صليل وجلجلة كصوت حديد يتحرك، ويدخل الجندي رقم 241 كما تمشي أية آلة ميكانيكية فلا ملاحظة لشيء ولا اختلاف بين الخطوات، حتى ما صار في وسط القاعة ناداه العالم أن يقف فيقف)
العالم - لقد جربناه 241 مرة ومن أجل ذلك أطلقنا عليه هذا الرقم
(ويبدأ العالم في الشرح، وفي هذه الأثناء يحدق الإمبراطور فيه وهو مفتون)
الإمبراطور - هذه أحسن مشية عسكرية
العالم - هذه أقل ميزة له
(ثم يلتفت إلى رقم 241 ويعرض يده الفولاذية ويأمره أن يفتح فمه فتبدو أسنانه الحديدية ويأمره بإغلاقه فيسمع صوت الحديد، ويأمره برفع يده اليمنى فيظهر ذراع آلي من الصلب وكذلك ساقه اليسرى التي يؤمر بتحريكها فيكون لها صليل. ويرى الإمبراطور ذلك مبتهجاً)
الإمبراطور - هذا ترقيع في نهاية الإحكام
العالم - ولكن كفايته زادت كثيراً بهذا الترقيع فهو الآن يتناول البندقية ويطلق المدفع دون أن يخشى سقوطه في الميدان.(330/27)
إن يده معدنية فلا تعتريها رجعة ولا اضطراب
(ثم يلتفت العالم إلى الجندي المرقع ويأمره)
انتباه!
احمل السلاح!
سر إلى الأمام!
صوب إلى الهدف!
أطلق النار!
(ويقوم الجندي المرقع بكل ما يؤمر به والإمبراطور ينظر إليه وقد بدت عليه علائم الدهشة)
الإمبراطور - هذا فوق ما كنا نحلم به
العالم - بهذه التجربة أصبح في وسعنا يا مولاي أن نعيد إلى الجيش جميع العميان ومكسوري الأيدي والأرجل ومفقودي السمع
الإمبراطور - هذا فوز عظيم للمدنية
العالم - هذا يا مولاي خراب تام للمستشفيات
الإمبراطور - أنت عزيز لدينا يا أستاذ. إن العلم هو أمل الدولة
العالم - أتأذن يا مولاي بامتحان أذنه؟
الإمبراطور - بغير شك
(فيقف العالم خلف العرش، ويدق بطرف ظفره دقات غير مسموعة ويسأل الإمبراطور)
العالم - هل سمعتم جلالتكم شيئاً؟
الإمبراطور - كلا
الجندي المرقع - سمعت ثلاث دقات عالية
(ثم يمشي العالم إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه، ويستخرج منها بطاقة صغيرة عليها كتابة بخط دقيق جداً ويسأل الإمبراطور وهو غير بعيد عنه هل يستطيع قرأتها فيقول الإمبراطور إنه لا يستطيع
ويعرض العالم البطاقة على الجندي المرقع عن بعد فيقرأ الجندي: إن الشعوب هي الإرادة(330/28)
وإن الحكم هو القوة
ويعرض العالم البطاقة على الإمبراطور فيتناولها ويقول: (قراءة صحيحة)
ويعود العالم إلى مكان الحافظة فيضع فيها البطاقة ويلتفت إلى الإمبراطور ويقول):
العالم - هذا خير ما أداه العالم؛ فقد استغل بقايا الإنسان المحطم الذي لا خير فيه. لنفسه ولا لأمته فأعاده كما ترون جلالتكم، يد من الصلب، ورجل من البرنز، وذراع من النيكل، ومفاصل من الأليومنيوم، وعين تلسكوبية، وأذن من مصابيح الراديو
(ويلتفت العالم إلى الجندي ويسأله):
العالم - ماذا تسمع الآن؟
الجندي - صوت بوق عال
الإمبراطور - هذا مستحيل فإني لا أسمع شيئاً. افتح النافذة
(فيفتح العالم النافذة وينصت الإمبراطور فيسمع صوتا ضعيفا هو صوت بوق عن بعد)
الإمبراطور (في دهشة) هذا هو الكمال التام
العالم - هذا انتصار على المادة. إن الجندي الذي يسقط في الميدان يصبح عالة على الأمة لا يصلح لشيء، ولكن العلم يرد إلى الأعرج رجله وإلى الأبتر ذراعه، وإلى الأصم تلفونين في جانبي أذنيه، وإلى الأعمى تلسكوبين تحت حاجبيه
ويلتفت الإمبراطور إلى الجندي المرقع ويسأله: (كم مدة خدمتك في الجندية؟)
فيتقدم الجندي ثم يرفع يده بالسلام
العالم - أجب جلالة الإمبراطور
الجندي المرقع - ثمانية عشر عاماً يا مولاي
الإمبراطور - وهل أنت متزوج؟
الجندي - نعم يا مولاي
الإمبراطور - وهل لك أولاد؟
الجندي - سبعة يا مولاي
العالم (متدخلا في الحديث) منهم خمسة ذكور يا مولاي
الجندي (في مرارة) - واحد مات وثلاثة في الميدان والأصغر سيتبعهم(330/29)
الإمبراطور - كم عمره؟
الجندي (وهو يبلع ريقه كالغصان) - ستة عشر
الإمبراطور (إلى العالم) - ومتى يعود هذا الجندي إلى الصفوف؟
العالم - في ظهر الغد يا مولاي
الإمبراطور - متى عاد من الصفوف فإني أحب أن أراه مرة أخرى وسأنعم عليه بالوسام المثلث الصلبان
العالم - أنتم ترون يا صاحب الجلالة أنه أصبح في وسعنا إرسال الجيش ومعه (قطع التغيير) أرجل من المعدن، وأيد البرنز، وأعضاء من النيكل، ومفاصل من الألومنيوم وعيون وآذان كهربائية، فعند أقل إصابة نستبدل بالأجزاء الهالكة الآدمية أجزاء قوية آلية. وهناك أصابع على حدة، وأكف مستقلة عن الأذرع، ومعاصم إلى دون الكوع
الإمبراطور - وما وزن هذا الجندي؟
العالم - 175 كيلو يا مولاي!
الإمبراطور - وما وزن (قطع التغيير) التي أضيفت إليه؟
العالم - مائة وخمسة يا مولاي؟
الإمبراطور (وهو يمسح جبينه بيده) - هذا أكثر من وزن جسمه
العالم - هذا صحيح يا مولاي ولكن غذاءه الآن أقل من نصف ما كان يحتاج إليه. لأن الأجزاء الآلية في غير حاجة للغذاء
الإمبراطور - لقد أهديت إلى أعظم ما وصلت إليه المدنية في تاريخها، ولكن حدثني عن العين التلسكوبية
العالم - هذه العين يا صاحب الجلالة فضلاً عن قوتها لها ميزة أخرى هي أنها ترى في الظلام
الإمبراطور (وقد بدا عليه أنه لم يصدق) يرى في الظلام؟
العالم - نعم يا مولاي، وفضلاً عن ذلك. . .
الإمبراطور (مقاطعاً) صه! إن هذا الأمر في غاية الخطورة
العالم - هل لجلالتكم اعتراض على تجربته في الظلام؟(330/30)
الإمبراطور (متردداً) - لا - وعندك زر الكهرباء، أغلق النافذة وأطفئ النور
العالم (للجندي 241) - التفت إلى جلالة الإمبراطور. وسأطفئ النور (ثم قال الإمبراطور) وتفضل يا مولاي بإبداء أية حركة فإن الجندي سيصفها
(ويطفئ النور فيبدي الإمبراطور حركات وبطلب إلى الجندي وصفها)
الجندي - إن جلالته رفع يديه إلى أعلى ثم ضمهما. إنه أحنى رأسه إلى الأمام. إنه يصلي
الإمبراطور (محتداً) - أسرع بإيقاد المصباح
العالم - هل اكتفيتم جلالتكم من التجربة؟
الإمبراطور (بحالة عصيبة) - هذا فوق المدارك الإنسانية
ويوقد النور فيقف الإمبراطور ويقول: هذه سعادة لا حد لها أهديتها إلي في عيد ميلادي يا أستاذ! هذا اختراع يعيد إلى جنسنا جدارة فوق كل جدارة (ثم ينزع وساماً عن صدره ويضعه على صدر العالم) ويقول: هذا وسام الجدارة المرصع. هذا شارة الحق الإلهي. هذا الوسام الذي لم يتقلده غير الإمبراطور أقدمه هدية إليك
العالم (يتقدم منزعجا فيقبل يد الإمبراطور)
(في اللحظة التي يقبل فيها العالم يد الإمبراطور تبدو على عيني الجندي نظرة غضب شديد وتفتر أسنانه المعدنية عن ابتسامة خفيفة مؤلمة ويعود الإمبراطور إلى الجلوس)
الإمبراطور - إني في دهشة من قوته ومن حدة بصره فإلى أي مدى يرى؟
العالم - في استطاعته يا صاحب الجلالة أن يرى العدو على بعد عشرين أو ثلاثين ميلاً وأن يعد ما لديه من المدافع والخيول والمعدات
الإمبراطور (مسرعاً) - انتظر فإني سأقوم بتجربة أخرى.
إنني أحمل في جيبي نسخة دقيقة الحروف من الكتاب المقدس ولا تمكن قراءتها إلا بالمكرسكوب. فهل ترى هذه التجربة صعبة؟
العالم - كلا يا صاحب الجلالة فهذه تجربة سهلة جداً
(يتقدم من الإمبراطور ويتناول منه الكتاب المقدس ثم يلتفت إلى الجندي رقم 241 ويقول:
التفات!
در يميناً!(330/31)
(يلتفت الجندي ويؤدي التحية العسكرية)
العالم - إنني أفتح الكتاب المقدس حيثما اتفق - أقرأ من هذه الصفحة
الجندي - إنجيل متي. الإصحاح الخامس. الآية الرابعة:
طوبى للحزانى لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض
العالم (يلتفت إلى الإمبراطور)
الإمبراطور - أصاب، فإني أحفظ كثيراً من إنجيل متي
العالم - (يلتفت إلى الجندي) أطو هذه الصفحة واقرأ في أخرى
الجندي - اشعيا، الإصحاح الثالث، الآية الخامسة عشرة. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين. يقول السيد رب الجنود
الإمبراطور - صه! (ويستند بظهره إلى الكرسي وقد بدا عليه الانفعال الشديد ويمسح جبينه بكفه مرات
ويتناول العالم الكتاب فيرده إلى الإمبراطور فيضعه هذا في جيبه ويقول إن قوته شيطانية. إنني أريد امتحانه على انفراد
العالم يمشي إلى المنضدة التي عليها حافظة أوراقه فيحملها)
الإمبراطور - أسرع وسأطلبك متى شئت بدق هذا الجرس (وفي هذه الأثناء يظل الجندي واقفا مكانه وقد بدا علي عينيه إصرار على عزم جديد
العالم - مره يا مولاي!
(ثم ينحني ويخرج. ويظل الإمبراطور يتأمل في دهشة ولا يرفع بصره عن الجندي 241 ثم ينزل بجلال عن عرشه ويمشي في بطء نحو الجندي ويدور حوله ويفحصه ناقدا ممحصا. وهنا يبدو على الإمبراطور فزع وخوف ويشعر بأن مركزه من هذا الجندي غير مأمون
الإمبراطور - أين مولدك؟
الجندي - في الجنوب يا صاحب الجلالة
الإمبراطور - ماذا كانت حرفتك؟
الجندي (يبدي من غير إرادة حركة دالة على التبرم) - كنت زهَّاراً. (فيتأمل الإمبراطور(330/32)
في أصابعه المعدنية. ويفطن الجندي إلى هذه الملاحظة)
الجندي - لقد كنت اصنع باقات الورد ولكن بغير هذه الأصابع (ينحني الإمبراطور وحهه عنه) بل بأصابعي المفقودة
الإمبراطور - ليس في الحرب حفلات تحتاج للزهور
الجندي - أستطيع يا صاحب الجلالة أن اصنع باقات للموتى (ثم يميل نحو الإمبراطور)
(يلاحظ الإمبراطور لهجة تهكمية في خطاب الجندي فيتظاهر بالغضب)
الإمبراطور - ألست شاكراً فضل العلم على ما قام به نحوك من الإصلاح؟ تكلم!
الجندي - ماذا أقول؟
الإمبراطور - لقد أصبحت إنساناً بعد أن شوهت. لقد استرددت ما فقد منك
الجندي - نعم يا جلالة الإمبراطور ولكن قلبي تحطم
الإمبراطور - لماذا؟
الجندي - أهلي يموتون جوعاً. وزوجتي وحدها
الإمبراطور - إذن فأنت غير مزهو بأن العلم وجد سبيلاً لمضاعفة جيشنا وتقويته؟
الجندي - بماذا؟ بتقديمي ضحية للموت مرتين؟
الإمبراطور (يتكئ إلى الكرسي مستنداً إليه) - هذا جحود!
الجندي - بمضاعفتك قوة جيشك ضاعفت أحزان الإنسانية (ويخطو خطوتين في عنف نحو الإمبراطور)
الإمبراطور - أنت تفوه بكلمات ثورية في حضرة الإمبراطور بما اجترأت على قوله
الجندي - اجترأت؟ إن الخوف قد ذهب من جسدي الممزق إلى جسدك أنت (ويمشي نحو الزر الكهربائي متثاقلاً ليطفئ النور)
الإمبراطور - اجث على قدميك، وأطلب الصفح من إمبراطورك
الجندي - إن هذا الجسد الذي أصبح معظمه من الحديد لا يجثوا أمام جسد معظمه من الدم. إنني لا أركع إلا لله الذي أطلب منه أن يغفر لي ما اعتزمت على اقترافه الآن. بل لا وزر عليّ في إنقاذ العالم من روحك الطاغية. فالذي سأفعله هو لمصلحة الشعوب المرهقة. إن عيد ميلادك هذا هو عيد موتك وعيد مولد الحرية(330/33)
(ويطفئ الجندي النور فيغمر الظلام المسرح)
الإمبراطور (صارخا) - النور! النور!
الجندي - لست في حاجة إلى نور
الإمبراطور (يشتد صراخه) - النور! النور!
الجندي - لقد جعلتني أعيش في الظلام فمت أنت الآن في الظلام
الإمبراطور - (وهو يكاد يختنق) الرحمة! الرحمة!
الجندي - إنك لن تستطيع الإفلات مني. إنني أستطيع رؤيتك في أحلك الحالك، وأستطيع سماعك مهما خفت صوتك. تعالى إلى اليد الحديدية التي تباهي بأنك صنعتها لي. لا ترتعش وأذهب إلى ملك الملوك
(يسمع صوت جلجلة الحديد وصلصلته وتسمع أصوات من خارج القاعة ممتزجة بصرخات، وبصوت الأسنان الحديدية والأيدي والأرجل المعدنية.
ثم يسود الصمت مرة أخرى وتضاء الغرفة فيظهر الجندي 241 واقفا وأمامه الإمبراطور ملقى على الأرض عند عتبة العرش، ثم ينحني الجندي على صدره فينزع الوسام ويضعه على صدر نفسه
ويدخل العالم الذي كان مختبئا إلى الآن وراء الستار)
العالم (مذعوراً) - ما هذا؟
الجندي (رافعا يده المعدنية إلى السماء صائحا بصوت كالرعد):
(الدم والحديد!)
(ستار)(330/34)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
لئن كان في المجاهدين رجل أعوز في جهاده المرير كل سلاح فتسلح بإيمانه فحسب ومشى يهزأ بكل قوة حتى تغلب بذلك الإيمان وحده على جميع القوى التي غالبته، واثبت في النهاية أن المثل العليا في مختلف أوضاعها هي خير هاد للبشرية إلى ما تنشد من كمال، فذلك الرجل هو يوسف مازيني رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل بلاء الأنبياء.
وما نجد في الذين خلوا من قبله من المجاهدين والزعماء من كان مثله في ذلك؛ فهذه جان دارك الفتاة الناعمة على ما توافى لها من إيمان قد لبست الحديد واعتلت صهوة جواد وأقدمت يحف بها الجند وتلتمع من حولها السيوف؛ وهذا وشنجطون الزعيم الشيخ قد خاض إلى النصر غمرات الحتوف على رأس الأنجاد البواسل من جنوده؛ ثم هذا لنكولن المجاهد الصابر لم يجد بداً آخر الأمر من امتشاق الحسام ليصل به إلى ما لم تجد في الوصول إليه وسيلة من الوسائل.
لذلك كان مازيني بدعاً من الزعماء، وكان كفاحه فاتحة عهد جديد في كفاح المغلوبين على أمرهم، ثم كان جهاده مثالاً يحتذي كما كان صبره على ما لقي من الأذى ومجابهة حوازب الخطوب أحقاباً طويلة وحياً للمجاهدين من بعده يوحي البطولة إلى نفوسهم ويربط على قلوبهم ويحبب إليهم التضحية والفداء. ومن هنا كان خطر مازيني في تاريخ الحرية، ثم من هنا كان أساس عظمته ومبعث قوته.
أما في الذين خلفوا من بعده فقد نستطيع أن نضع إلى جانب أسمه أسم سعد في مصر واسم غاندي في الهند؛ فلقد انتهج هذان البطلان منهجه عامدين أو غير عامدين، إذ كان سلاح كل منهما إيمانه فحسب، وكان ما تعرض له كلاهما من ألوان الخطوب بحيث يبوئهما بلا(330/35)
شك مكان كبار الأبطال، كما كانت قضية كل منهما قضيته وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأيام.
ولد يوسف مازيني في جنوه في اليوم الثاني والعشرين شهر مايو سنة 1805؛ وكان أبوه طبيباً يتمتع بقسط من الشهرة في تلك المدينة، وكان رجلاً رقيق الحاشية، عطوفاً حتى ليمد يد المساعدة أحياناً إلى المرضى دون أجر، وإن كان يعنف في بعض الأحيان على أسرته ويريها شيئاً من الغلظة والتحكم. وكانت أمه امرأة صالحة قانتة قوية الخلق ذكية الفؤاد، ولقد ورث الصبي هذه الخلال فما ورث من أمه فكان أكثر شبهاً بها منه بأبيه.
ونشأته هذه الأم قوياً، فلقد كانت تعني أشد العناية بإعداد أبنائها لملاقاة مصاعب الحياة يوم يجابهون الحياة؛ ودرج الصبي في عصر كان ينذر بجسيمات الأمور، عصر كانت البلاد فيه أشد ما تكون حاجة إلى أولى الفطنة والعزم من الرجال؛ وراح يستبقل الشباب في الوقت الذي كانت إيطاليا تستقبل فيه فترة من حياتها كانت كفترة الشباب من حياة الأفراد.
ولد مازيني بعد ثلاثة أعوام من تتويج ابن الثورة بونابرت إمبراطوراً على فرنسا؛ وكانت لا تزال انتصاراته في إيطاليا تشغل أذهان بنيها، تلك الانتصارات التي وضع بها أساس مجده وعظمته؛ وكانت نفوس الإيطاليين لا تزال تجيش بما هبط عليهم من وراء الألب مع الفاتحين من مبادئ تلك الثورة التي افتتحت فصلاً جديداً في تاريخ بني الإنسان؛ وأحس ذلك الشعب كما أحس غيره من الشعوب أنه تلقاء فجر عصر جديد يخالف ما سلف من العصور أشد المخالفة، وكانت ترف على جانبي ذلك الفجر أطياف جميلة بسَّامة ولدت كلها من النور كأنما تهبط من عالم غير هذا العالم الذي ألف الظلام؛ ولقد اشتد هيام الناس بتلك الأطياف الساحرة التي سموها الحرية والديمقراطية والمساواة، وراحوا يمنون أنفسهم بالصباح الجميل بعد ليلهم الحالك الطويل.
ولكن الصبي لم يكد يناهز التاسعة من عمره حتى كان الإمبراطور في قبضة أولئك الذين كان يزعجهم بالأمس مجرد ذكر اسمه؛ وأرسل (القورسيقي الصغير) كما بات يدعوه أعداؤه إلى جزيرة إلبا حيث يلاقي ذل الأسر؛ وشاعت في طول أوربا وعرضها أحاديث القومية ويقظة الشعوب وتحطيم الاستبداد وما إليها من العبارات التي ولدها الجيل، وتكشف الفجر عن طيوف جديدة ازداد بها طلاقة وسحراً.(330/36)
على أن الناس في إيطاليا وغير إيطاليا ما عتموا أن أدركوا أنهم كانوا تلقاء فجر كاذب، فلقد راح أرباب العروش وأقطاب السياسة يعدون الأغلال والسلاسل بدعوى القضاء على عوامل الفوضى والضرب على أيدي الخارجين على حكامهم الشرعيين؛ وهبط الليل، وانحسرت الموجة العاتية التي انبعثت من فرنسا، ولكن لتتجمع فتتلاطم فتندفع فتحطم الجسور وتجرف السدود.
ويستمع الصبي إلى هذه الأنباء في بيته حيث كان يلتقي خلان أبيه، فلا يفهم منها إلا بمقدار ما يسع عقله الصغير؛ ولكنه كان صبياً قوي الخيال منذ حداثته، وعصر الطفولة هو عصر الخيال الخصب، هو ذلك العصر الذي يخيل إلى كل طفل فيه أنه قادر على أن يكون بطلاً ككل من يسمع سيرهم من الأبطال؛ ولذلك تحرك خيال الصبي أكثر مما تحرك عقله، وامتلأ لا ريب بشتى الصور عن ذلك القورسيقي الإيطالي المولد الذي جاب البلاد قاصيها ودانيها فاتحاً ظافراً ليستقر آخر الأمر أسيراً في جزيرة إيطالية. وما الذي هزم ذلك الجبار وأنزله من عليائه؟ ذلك ما يتساءل عنه الصبي. وماذا يعني أبوه بقوله اتحاد الشعوب ضده؟ ولكن خياله القوي لا يلبث أن يسعفه بالجواب، فهو وخلانه الصغار إذا اتحدوا على صبي كبير فإنهم يخيفونه ويهزمونه؟ وهكذا يتعلم زعيم الغد أول درس من دروس الجهاد ويفطن إلى أول عدة من عدد القوة.
ويحار الصبي أحياناً بين مادحي ذلك الجبار وبين قادحيه؛ ولئن استطاع أن يدرك أنه يبغض لأنه كان مستبداً يفرض إرادته على الشعوب، فما يقوى عقله الصغير على متابعة الذين يمدحونه والذين يسندون إليه أنه خطا بإيطاليا خطوات واسعة نحو الاتحاد فقضى على حكم البربون وحكم البابا، وأشاع في البلاد على رغم خضوعها له شعور القومية والوحدة. لا يستطيع الصبي أن يفهم ذلك جلياً، وإن كان خياله لا يتقاصر عن تصور الوحدة ولو في أبسط صورها؛ وأنه ليدين لهذا الخيال بالكثير مما يتعلم في هذه السن. وهل يفلت من الخيال في غد يوم يكون شاباً مثقفاً أو كهلاً مجرباً؟ كلا. فلسوف يكون الخيال من أعظم أسباب قوته ومن اشد دعائم إيمانه ومن أبرز خصائصه؛ وإن كان بعض دارسيه يعيبونه عليه وينكرون إسرافه فيه، وهم لو أنصفوا لرأوا فيه عنوان محامده. وكم كان للخيال من فضل على كثير غيره من العظماء!(330/37)
ويجلس الساسة في فينا بعد واترلو يتحكمون في مصير الضعفاء ويقضون قضاءهم في إيطاليا كما قضوا في غيرها، فإذا سلطان النمسا يفرض على ولايتها وتضم جنوة إلى بيدمنت، وقد طالما مناها الساسة بالاستقلال، وتعود إلى البابا ولاياته وسلطته، وتقادم في نابلي مملكة تخضع للبربون، ويتفق ملكها سراً مع زعيم الرجعية العتيد في ذلك العصر مترنيخ على ألا يمنح شعبه دستوراً إلا بإذن من النمسا. وهكذا يفلح ذلك السياسي الماكر في تقسيم إيطاليا وتفريق كلمتها حتى ليحق عليها قوله: (إن إيطاليا ليست سوى اسم جغرافي).
وتخيم الرجعية على إيطاليا جميعاً وتطارد الحرية الشريدة أينما ظهر هيكلها المكدود أو لاح علمها الممزق؛ وينتقل الصبي من طور الخيال الغالب إلى طور العقل المتيقظ في مثل ذلك الجو البغيض
ولن يملل الصبي القراءة في تناول أعداداً قديمة من صحيفة الجيروند كان قد دسها أبوه بين كتبه الطبية مخافة الرقباء، وينهل ما شاء من معين عذب يروى غليل نفسه ويبهج روحه ويثبت فؤاده؛ ويحرم عليه وعلى التلاميذ الكتب التي تخشى الحكومة منها فلا يعطون إلا الكتب الكلاسيكية ليكون لهم فيها ما يبعدهم عن الآراء الثورية، ولكنهم يقرئون تاريخ الإغريق والرومان فيعجبون بالنظام الجمهوري ويطربون لما تقع عليه أعينهم من مبادئ الديمقراطية
ويستشرف الفتى للسادسة عشرة من عمره فتهز نفسه من أعماقها أنباء تتناقلها الألسن عما انبعث من الرجفات في أنحاء إيطاليا، فإن الناس حين ضاقوا بحالهم لم يجدوا بداً من تكوين الجماعات السرية وكان من اشهر هذه الجماعات جماعة الكاربوناري، وما زالت هذه الجماعة تنمو وتنتشر حتى كان لها أنصارها في أكثر الولايات! وكان لهذه الجماعة بحكم تكوينها رموز يعرفها أعضاؤها، فاسمها معناه (موقدو الفحم)، ومن مبادئها (طرد الذئاب من الغابات) ولعلهم يريدون طرد الحكام الأجانب من البلاد. على أن غاية الجماعة كانت تنحصر في القضاء على الاستبداد وإحلال الحكم الدستوري محله
وما حل عام 1820 حتى هبت الثورة في نابلي، وقد جاءت الأنباء إلى الكاربوناي هناك عن ثورة في أسبانيا؛ وأسقط في يد الملك فأجاب شعبه إلى الدستور؛ وحذا الكاربوناري في(330/38)
بيدمنت حذو إخوانهم في الجنوب، فاندلعت نيران ثورتهم في صورة لم يجد ملكهم بداً إزاءها من اعتزال الحكم، فقد خشي من النمسا أن يمنح شعبه الدستور؛ واتسع نطاق الثورة حتى شملت لمبارديا نفسها وكانت تخضع مباشرة لحكم النمسا
ولكن النمسا ما لبثت أن ساقت جيوشها فقضت على الثورات وأرغمت الثوار على الفرار ونكلت بمن وقع منهم في يدها، وأثبت مترنيخ لساسة أوربا مقدرته على مقاومة هذه الحركات، وإنه لينسى أن القوة المادية مهما بلغت لن تقضي على القوة المعنوية، وإن هذه الثورات إنما تستعر كما تستعر الجمرات تحت الرماد؛ وهل كانت الحرية إلا تلك الشعلة التي لا تزداد مع الضرب إلا توقداً واشتعالاً؟
وكان الصبي يمشي صحبة أمة ذات يوم في أحد شوارع جنوة فوقعت عيناه على فلول من الهاربين كانوا في طريقهم إلى أسبانيا، ورأى معاني اليأس تلوح في وجوههم المصفارة، كما رأى آثار الإعياء بادية في أجسامهم المكدودة، وكان بعضهم لا يجد ما يقتات به وقد عضه الجوع أياماً
واستقر في خاطره هذا المنظر فما يبارحه قط، وتحرك اليوم خياله وعقله معاً، وأخذته حال من الهم صرفته عن كل شيء حتى باتت أمه تشفق مما ألم به، ثم أخذ يفكر في أسباب هزيمتهم ويتتبع أنباءهم حتى اهتدى إلى حكم؛ فقال وهو لا يدري أنه كان يعبر عن الواقع (لقد كان من الممكن أن ينتصروا لو أن كل فرد قد أدى واجبه)
وتعلق خياله بالكاربوناري ومبادئهم فما يلتفت إلى شيء سواها، وكان يومئذ في سن اليفاعة، سن الأحلام والآمال، سن التوثب والتطلع إلى المثل التي ينسجها الخيال ويفيض عليها من سحره ومن تلفيقه، وهو ذلك الفتى الذي اشتد خياله حتى أشرف به على المرض. أنظر إليه كيف آلى على نفسه أن يلبس السواد منذ ذلك اليوم الذي رآه اسود في خياله، فلن يبدل ثيابه السود بعدها حتى يلفه الكفن ويضمه سواد القبر
وهكذا ينضم الفتى إلى الكاربوناري بآماله وقلبه، ويتحرق شوقاً إلى اليوم الذي يجاهد فيه بين صفوفهم، ويستعذب معهم الألم في سبيل قضية الحرية والدستور
ويعود إلى كتبه بعد حين وقد انطوت نفسه على ما لن تقلع عنه بعد اليوم؛ وكم وجه سواه من العظماء وجهتهم حادث بسيط تقع عليه أعينهم فيرون فيه على بساطته مالا يراه(330/39)
غيرهم، وتستشف نفوسهم من خلاله من المعاني مالا تستشفه إلا كبار النفوس؛ وتلك خلة يمتاز بها العظماء أبدا من سائر الناس. . .
وكان الصبي يدرس الطب ليخلف أباه، ولكنه أخذه الإغماء مرة وهو يشهد عملية جراحية، فمال به ذلك الحادث عن الطب فاختار القانون؛ وكان يحس بميل قوي إلى القانون، فلعله كان يراه أقرب إلى ما وطد العزم عليه، وإن يكن قد أبغض طريقة تدريسه وبرم بالكتب التي تشرح قواعده
على أنه كان يكثر قراءة الشعر والتاريخ ففيهما لخياله المشبوب مجال، ولروحه المتوثبة وحي؛ ولنفسه الحزينة عزاء. ولما أوفت به سنة على الشباب عرف بين أقرانه بفصاحة اللسان وصفاء الذهن وحماسة القلب وشدة الشعور وجموح الخيال
(يتبع)
الخفيف(330/40)
رسالة الفن
لإسلام الفن وإسلامنا:
فلنغير ما بأنفسنا
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قواعد الإسلام هي:
1 - الشهادة بأن لا أله. . . إلا الله وحده. . . وحده لا شريك له في أي ناحية من نواحي ألوهيته، ومنها تفرده بالخلق فهو واهب الحياة، وواهب الرزق، وواهب الراحة في الحياة، وفي الموت، وفيما بعده. ومنها تفرده بالحكم حكم فلا حكم إلا لقضائه وأمره وشرعه. . . هي الشهادة بالله. وأظن أنه لا جدال في الله
2 - الشهادة بأن محمداً رسول الله. . . وهذه قضية تقوم على ركنين: أولهما أن محمداً رسول، وثانيهما أنه رسول الله. أما أنه رسول فحياته كلها تشهد بذلك، فقد كان صاحب فكرة خاصة محدودة تسلطت عليه منذ يقظته إلى الكون وانتباهه إلى نفسه، فلم يخرج عن حدود فكرته هذه لا في عمل ولا في قول، ولا في جد ولا في هزل. حتى لقد كان يمزح فلا يقول إلا حقا. وقد بدأ انطلاقه في اتجاهه هذا منذ طفولته المبكرة فعرف فيه الناس طفلاً (الصادق الأمين) وليس للأطفال جرائم ولا زلات إلا الكذب وإغفال العهد فمن لم يقترفها منهم كان الطفل الطاهر، محمداً. ما أروع أسمه!
هو إذن رسول فكرته. . . فأية فكرة كانت فكرته؟ كانت الحق، وكانت الفطرة. والحق هو الله. . . والفطرة هي الطبيعة التي أوجدها الله، ومن قوانين هذه الطبيعة التطور والارتقاء بالمادة والروح
فهو إذن رسول الله، لا رسول الشيطان، ولا رسول فكرة أخرى آثمة بعثتها نزعة من نزعات نفس متعجلة. . . فمن محمد؟ إنه بشر لم يخرج على طبع البشر. فهل من طبع البشر أن يستطيع الاتصال بالله؟. . . إنه يستطيع لو كانت في نفسه مؤهلات محمد ومواهبه ثم جاهدها جهاد محمد. فإذا لم يستطيع فليشابهه قليلاً أو كثيراً حسبما يستطيع، ومن كان كعمر فهو خير ممن كان كزفر(330/41)
3 - الصلاة: والصلاة عمل وكلام: قيام يقرأ الإنسان فيه من كلام الله. . . كذلك يجب أن ينهض المسلم في الحياة وأن يذكر الله. . . وعليه أن يذكر الله في عمله، وفي قوله، فالصلاة عمل وكلام. . . وركوع. . . وهو هذا الانحناء أمام ربنا العظيم. . . العظيم حقاً. . . الذي فعل ويفعل. . . وسجود لربنا الأعلى. . . إليه وحده الذل، وبه وحده العزة، وعنده وحده الأمان، وفيه وحده الرجاء. . . وهذه الجلسة الأخيرة المطمئنة التي يقرأ فيها المصلي التحيات لله، والسلام على النبي وعلى نفسه وعلى المؤمنين. كذلك يجب أن يفعل الإنسان حين يطمئن وحده أو بين الناس أن يكون كلامه وعمله تحيات وسلاماً. . . لله وللنبي وللمؤمنين ولنفسه. فالصلاة إذن تلخيص لما يجب أن تكون عليه الحياة. ولو أن الناس ذكروا الله ونهضوا، وعظموه وخشعوا، وأجلَّوا شأنه وذلوا له وآمنوا به، وكان الذي بينهم وبين الله والنبي والناس وأنفسهم تحيات وسلام. . . لو أنهم فعلوا هذا فيما بين الصلاة والصلاة، لكانت حياتهم صلاة في صلاة. . .
4 - صيام: والصيام زهد في حاجات البدن، وهو دليل على إمكان الرقي وهو من بشائر القيام بالذات. . . وهو عدو المادة الذي نصره الإسلام
5 - الزكاة: والزكاة نزول عن جزء من ملك الإنسان للناس، فمن كان ملكه مالاً فعليه نصيب منه يجب أن يؤديه للناس، ومن كان ملكه معنى فإن عليه نصيباً منه يجب أن يؤديه للناس. . ومن أحسن وتصدق فإن له في الصدقة عشرة أمثالها. . ذلك أن الإحسان يبعث في النفس شعوراً بالراحة والغبطة، فإذا أحب الإنسان الإحسان أحب هذا الشعور، فمارس من أجله الإحسان وأدمنه واستلان له حتى يقضي العمر في إحسان وإحسان، فهو في راحة وغبطة ما دام محسناً. . . إن في الإحسان جزاء الإحسان، وإن الذي عند الله خير وأبقى
6 - حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً: والبيت حرم تتجه إليه القلوب والأنظار والأسماع. وللحج وقت خاص يجتمع فيه القادرون عند هذا البيت. . . من الشرق ومن الغرب ومن الشمال ومن الجنوب، فإذا كانت أمة في محنة حج القادرون من أهلها إلى البيت والتقوا عنده بالحجاج ممن يملكون عونهم فاستعانوهم، والإسلام أخوة، والتعاون فيه واجب، فالحج إلى البيت يشبه ما يريد الغرب أن يحج رؤوسه إلى جنيف أو لوزان(330/42)
هذه هي قواعد الإسلام وهذا هو شيء عنها، وإن الإسلام لأجل وأجل من هذا الذي بسطت وأعظم
فهل في الدنيا مسلمون كثيرون؟
الواقع أننا في حاجة إلى صرخة جديدة تهتف بالإسلام ليفيق على دويها المسلمون الذين نام الإسلام في قلوبهم - ولا نقل إنه مات، لأنه لا يمكن أن يموت، فهو دين الفطرة والطبيعة المرتقية، فهو حي ما كانت الحياة، إذا أغفله أهله المنسوبون إليه، فإن غيرهم ساع إليه متعلق به؛ يحققه قليلاً قليلاً، حتى ليشهدن في آخر الأمر به عمله، وليعلنن الشهادة بعد ذلك بلسانه
وهاهو ذا برناردشو يقول إن الإسلام هو الدين الذي سيسود أوربا بعد مائة عام. وهو لم يقل هذا إلا لأنه لحظ اتجاه الحياة الأوربية إلى مبادئ الإسلام الحقة تستنجد بها كلما أحست وحشة المارد وظلمتها، مدفوعة في ذلك بعوامل الطبيعة لا بتبشير يزاوله المسلمون، ولا بجهاد يمارسونه. و (شو) فنان من الغرب يعرفه الناس بأنه قد حرر عقله، وهو يؤذن بالإسلام على رأس أوربا. . . فكم من فنان (مسلم) يفعل اليوم هذا؟. . . قليلون جداً، فأكثرهم يتحرروا كما تحرر هو، وأكثرهم لم يصقلوا إحساسهم كما صقل إحساسه هو، وأكثرهم لم يطلقوا عقولهم من أغلال الزيف كما أطلق عقله هو، وأكثرهم يعربدون في ظلمة الباطل خارج الحدود التي رسمها الإسلام للحياة. . . ولا يعربد هو وكأنما هم يجهلون أن الفن من الحياة، وأن للحياة حدوداً رسمها الإسلام فحصر في داخلها أصولها، ثم ترك الخيار بعد ذلك لكل مسلم أن ينطلق داخل هذه الحدود ما حلا له الانطلاق، وحدود الإسلام ليست قيوداً مما يشل الحركة، ولا هي أغلال مما يمنع النهوض، ولا هي عصائب مما يحجب عن العيون النور، ولا هي أحجار مما يثقل على الحس، ولا هي جهالات مما يمتنع على العقل الاقتناع به وتدبره، وإنما هي حدود الطبيعة التي لا يمكن خرقها، والتي لا يخرقها إلا من يظلم نفسه، وهي ليست شيئاً إلا تحرير الإنسانية من كل عبودية تفرض عليها إلا عبادة الله ومن كل تقليد أو نظام يراد به العبث بكرامة العقل أو كرامة الروح. . . وهي في ذلك كله سعي حر بالتطور إلى الارتقاء
فعلينا أن نسعى إلى هذا ومن الله العون(330/43)
وعلى أهل الفن الإمامة في هذا السعي فهم الموهوبون فضلاً من روح الله، وعليهم زكاة الروح كما أدى غني زكاة المال. وليقرئوا معنا من آيات القرآن قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فهذه أمام العيون حقيقة من حقائق الإسلام التي تحتمل الأكوان، وتنهض بالأقدار. وقد تكون عند من يسمعها ويتفهمها أمراً بديهياً تراه كل عين، ويحسه كل قلب، ويعيه كل عقل حتى لكأنها تشبه قولنا: (إننا بشر) و (الملح يذوب في الماء) و (النار تبعث الحرارة) فكل هذه حقائق ليست في حاجة إلى الترديد لأنها معلومة متفق عليها لا ينكرها ولا يجحدها عقل إنسان. ولكن هذا لا يعيبها طبعاً، فهكذا طبع الخلود والدوام في الحق: قد يجهله، وقد نظل أطول العمر نجهله فإذا عرفناه قلنا: (هذا صحيح) ولم نقل أكثر منها، ثم تعجبنا له أو لم نتعجب، ثم أطلقناه بعد ذلك في أنفسنا يغيب في آفاقها حيثما شاء لا نراقبه ولا نتقصى أثره لأننا مطمئنون إليه بما جبلنا عليه من حبه، ولإيماننا الفطري بأنه مهما غاب في أنفسنا؛ فإنه منجدنا عندما نستنجده، وبأنه مجيرنا وقتما نحتاج إليه ونطلبه وأنه يأبى أن يخذلنا فهو الحق، والحق هو الله، والله قريب يلبي دعوة الداعي إذا دعاه. . . ولكننا لا ندعو من الحق إلا قليلاً، ندعوه بعد نكران أو نسيان، وأغلب ما ندعوه في حاجات الأبدان، ليتنا نذكره في غيرها وندعوه، فتصبح لنا إلى جانب هذه الحضارة التي أقامها العالم بالأسمنت و (الزلط) حضارة أخرى نقيمها نحن بالحب والرحمة. . .
فما لنا لا ندعوه؟!.
سبيلنا واضح وهو الإسلام. وهداتنا إليه الفنانون قبل العلماء، فهم الذين يناجون شعورنا وهو أول علامات الحياة فينا، وإنهم يقولون إن طلبهم التحرر، وإنهم لا يطيقون القيود، وإنهم يحبون أن ينطلقوا في الحياة كل منهم وراء فكرة، وإنهم يبذلون أنفسهم للناس فيحترقون ويضيئون لغيرهم الطريق، وإن مأربهم في الدنيا تحية وسلام. فهل هناك حياة تحقق هذا كله في أروع الصور إلا حياة الإسلام؟ فعليهم أن يباشروها، فهي التي تبعث الفن، أسمى الفن، وتقود إلى الهدى، أصوب الهدى وتنشر بين الناس أطيب ما تمنته الإنسانية من اسعد الأحلام. . .
وهم أقدر الناس على هذا ما دام المفروض فيهم هو أنهم أشد الناس إحساساً، وأسرعهم(330/44)
إدراكاً لحقائق الحياة القريبة من الفطرة، أو التي هي الفطرة نفسها، والتي غيبتها عن إدراك الجماهير هذه الستار أسدلتها الصناعة على الطبيعة، وهذه الوسائل أراد بها الناس أن يأخذوا من الأرض أكثر مما تحمل طاقتهم فرزحوا تحت أعباء ما حملوا، وثقلت عليهم أعباؤهم فشغلتهم عما كان جديراً بهم أن يلمسوه، وأن يحسوه، وأن يعقلوه، من شئون أنفسهم ومن شئون هذه الخلائق التي تحيط بهم، وما يربط هذه الموجودات جميعاً من نظام لا يختل، ولا يعتل
جماهير الناس لم تعد آذانهم تسمع أصوات قلوبهم وأفئدتهم فقد طغى على هذه الهمسات الناعمة قصف المدافع، وضوضاء البورصات، وصفير القطر، وأزيز الطيارات. . .
جماهير الناس لم تعد أعينهم ترى ما في أحضانهم من نفوس أزواجهم وأولادهم، فقد غاب كل مرئي في هذه الحضارة بين سحائب الدخان الكثيف الذي تنفخه المصانع فتسمم به الهواء وتسودّه ظلاماً
جماهير الناس لم تعد تملك أن تقف وقفة المتريث المتعرف المتأمل عند أي ظاهرة من ظواهر الجمال أو ظواهر القبح، فالناس اليوم متسرعون متعجلون، يجرون ويطيرون ويقفزون على وجه الأرض كما يرقص الشيطان. . يمرون بآلاف من شواهد الحق والحكمة، ولكنهم لا يلمحونها إلا كما يلمح العقاب من فوق السحاب دبة النملة تحت التراب. . .
فأي شيء يراه هؤلاء؟ وأي شيء يسمعون؟ وأي شيء يعون؟
إنهم أشقى القرون وأباس الأجيال!. . .
وليت للمسلمين في هذه السوق ما لغيرهم من ربح المادة، فقد يكون في المادة عزاء. . . بل حاشا أن يكون فيها إلا عزاء السكرة. . . وهم حتى في هذا متراجعون متأخرون رانت عليهم قناعة النائمين، فلا هم كسبوا الدنيا ولا هم ربحوا الدين. . . فمن منقذهم من هذا غير الفن يلتهب في بعض النفوس بوهج من حر الإسلام، يشعله الإيمان، وتزكيه الرعاية، ويحفظه الإصرار على إرضاء الله. . .
وإن فينا فنانين تعرفهم جماهيرنا. . . ولكنهم مشغولون بما يقرئون من كتب الغرب التي أوحتها حضارة المادة الملفقة، عن آيات الخلد المبسوطة للعيون في القرآن. . . وحتى هم(330/45)
إذا قرءوه لم يقرئوا منه إلا لفظة وأسرعوا في تلاوته كأنما هم يعدون أرقاماً. وفيه آيات جمعت أسرار الحياة. . .
عزيز أحمد فهمي(330/46)
رسالة العلم
لحظات الإلهام في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
قصة العجلة
أبونا النيل - الريح والتيار
كان الإنسان الهمجي لا يضع على جسده ستراً سوى جلد الحيوان، وكان إما دافعاً صخرة أكبر من أن يستطيع حملها وإما حاملاً عبئاً ينوء بحمله - هذه أول صورة نتخيلها للرجل القديم أثناء مزاولته عمله
ما أضأل وما أعيى ما يبدو لنا الإنسان الأول عندما نتصوره واقفاً بالعراء وليس لماضيه تاريخ يفيد منه وليس له إلا جسمه القوي وإلا مواهبه الذهنية التي عليه أن يقهر بها الدنيا ويخضعها له! وكان لا بد له من قهرها لأنه إذا لم يحصل على الطعام والمأوى والدفء فإنه ميت لا محالة
إن الدنيا حافلة بالكنوز التي فيها وسائل نعمته وراحته. ولكن كيف يستطيع ذلك؟ لم يكن لديه مفتاح تلك الكنوز ولا لديه المرشد لمصادرها، ولا غرابة في أن يكون بطيئاً في الوصول إلى شيء ما وإنما الغرابة في سرعته - على الرغم من قلة التجريب ذهنياً ويدوياً - في الوصول إلى أشياء يقضى بها حاجياته
يقف الرجل الهمجي أمام عبء أثقل مما يستطيع حمله كما تصورناه في بداية المقال، وليس لديه من الآلات إلا أجزاء جسمه وليس يستطيع السفر إلا إلى حيث تستطيع قدماه حمله ولا يحمل إلا ما تقوى ذراعاه على رفعه ولا يدفع إلا ما يندفع أمامه. هذه صخرة أمامه وهاهو ذا لا يستطيع أن يحركها
ربما وجد هذا الإنسان القديم غصناً ساقطاً من شجرة فوضع طرفه عند تلك الصخرة ودفعه فوجد الصخرة تتحرك. . . إن حدث ذلك فإن دهشة ستعروه وسيجرب غصناً قصيراً فلا يجد له فائدة وسيجرب غصناً أطول فيجد فائدته أكبر. وإذا صادف وجود صخرة أصغر من الأولى على مقربة منها ووضع الغصن فوقها ووضع طرفها تحت الصخرة الكبيرة فقد(330/47)
يجد أنه يستطيع رفع تلك الصخرة عن موضعها بإحداث ثقل من جسمه على الطرف الآخر من الغصن دون أن يحمَّل عضلاته مشقة الدفع والرفع
إن فعل ذلك فإنه يخطو خطوة عظيمة في سبيل الابتعاد عن مستوى الحيوانات التي تعيش معه في نفس الغابة لأنه باستكشافه هذا يكون قد عثر على قانون من قوانين الطبيعة هو نظرية الرافعة التي بواسطتها يمكن استخدام ثقل ضئيل لرفع ثقل أكبر بالضغط على الطرف الآخر
لم يكن ليعرف في ذلك العهد أن هذا قانون من قوانين الطبيعة فقد مضت مئات كثيرة من السنين حتى ظهر العلامة اليوناني أرخميدس وتبين هذه النظرية وما يمكن أن يترتب عليها من النتائج المدهشة فقال: (لا أريد إلا مكاناً آخر أضع عليه الرافعة فيصبح في وسعي تحريك هذه الدنيا
وكانت لحظة عظيمة تلك التي عرف فيها أرخميدس قانون الروافع، ولكن ألم يكن أكبر من هذه اللحظة تلك اللحظة الأخرى التي احتاج فيها الصياد القديم إلى شيء فوق طاقته فصنع رافعة وهو يجهل كنهها من الخشب وحرك بها الثقل
كان هو البشير بالرجل الذي رفع الصخور الضخمة ليبني بها أهرام مصر كما كان هو البشير بمهندس القرن العشرين الذي يرفع القوائم الحديدية إلى قمة ناطحات السحاب
وإنما نجح ذلك الرجل لأنه لا يريد أن يفشل في واجب لم يستطيع أداءه، وربما كان العبء الذي أراد الصياد القديم أن يحمله إلى كهفه صندوقاً فيه جثة وحش ليقتات من لحمه، وربما كان قد أعانه على تحريك هذا الصندوق عمودان من الخشب وضعهما تحته فاستطاع بواسطتهما نقل الصندوق إلى مكان ابعد من الذي يستطيع نقله إليه لو حمله على ظهره
لكن هذا العمود كان في البداية شجرة طويلة غير مشذبة تتدحرج باليد على أرض غير ممهدة، فَنَقْل الصندوق على عمودين من هذا النوع أمر يشق على صياد مُتْعَب. لكن صادف أن كان العمود ناعم الملمس حسن الاستدارة، وكان وضعه تحت الصندوق بشكل حسن، فسهل تحريك الصندوق الذي كان تحريكه صعباً من قبل
في تلك العصور المظلمة التي نتخيل حدوث هذه القصَّة فيها كانت توجد كتل من الخشب مستديرة وهي مقطوعة من جذوع الأشجار(330/48)
وكان في ذلك العهد رجل أذكى من رفاقه، فبعد أن نقل الأثقال على أشجار تتدحرج حتى كاد ظهره أن ينكسر، رأى أن يحفر اثنتين من هاتين الكتل وأن يصل بينهما بعمود يمر بوسط كل منهما لا يكون كجسم الشجرة التي تجر على الأرض. هذا هو أول نوع من أنواع العجلتين ومن المحور الواصل بينهما
وبهذه الوسيلة عرف الإنسان قانوناً آخر من قوانين الطبيعة هو نظرية الاحتكاك، والاحتكاك معناه تمرير سطح على سطح. وهذه النظرية تفيد الإنسان من عدة وجوه، وقد كنا ننزلق على الثلج بغير قبقاب (الباتيناج) لولا معرفتنا تلك النظرية
لكن إنسان ما قبل التاريخ كان يستخدم كل قوته ضد قوة الاحتكاك، فكان يوجه جهد عضلاته لجر الأثقال على الأرض، فلما رفع الأثقال عن الأرض استفاد كثيراً ووجد الدحرجة على أشياء مستديرة أسهل من الجر على الأرض، فلما عرف العجلتين المتصلتين بواصل يوضع تحت العبء تضاعف كسبه، فقد أضاف قوة العجلة إلى قوته وطبق نظرية الرافعة مرة أخرى لرفع الثقل عن الأرض حتى لا يجر جسماً مسطحاً على جسم مسطح
وشتان بين تعلم هذه النظريات من كتب الطبيعة بطريق الدرس وبين معرفة الرجل القديم لها واحدة بعد واحدة، معانياً الكثير من الفشل في مقابل القليل من النجاح. وهو في أثناء ذلك يحتال على تخفيف الجهد القاصم للظهور والمستنفد للقوى
إننا نجل الذين كان لهم من الحكمة ما ساعدهم على أن يفهموا وأن يستنبطوا القوانين العظيمة التي أقيم عليها بناء هذا العالم فلا تنسى أن تكرم ذلك المخترع المبتكر الذي كان له من الذكاء ما مكنه من صنع العجلة
أبونا النيل
(أقبل الفيضان! أقبل الفيضان! أبونا النيل يعلو)
هكذا كان يقول الأطفال في مصر فيترك كل عامل عمله ويذهب ليشهد النيل العظيم وقد بدأ يقيض ماؤه على جانبيه
وقد كانت أرض مصر مدة اشهر عشرة قبل الفيضان جافة بتأثير الشمس الجنوبية المحرقة، وهاهو ذا الصيف قد أقبل وارتفع ماء النهر المعبود جرياً على عادته التي لم يخلَّ بها؛ وهاهو ذا يترك مجراه ويصل إلى أماكن بعيدة من أرض البلاد التي يهبها الحياة،(330/49)
ويظل النيل خمسين يوماً ينُعم على الناس ببركاته. وعندما يعود إلى مرقده الآمن بين شاطئيه اللذين أنشأهما لنفسه، يحجب ظاهره بطبقة غنية من الطمى الأسود تستمد منها الحياة فواكه الربيع وزهوره وحبوبه، فينعم بها الناس إلى العام المقبل حيث يعود إليهم مرة أخرى بهدايا مائه الغالي. أما في نظر الذين تمطر في بلادهم الدنيا في الربيع والصيف والخريف، ويتساقط البرد في الشتاء، وفي أرضهم الماء غير منقطع، فإن الفيضان بالنسبة لهم إخلال بنظام الطبيعة ونكبة على الجنس الإنساني، لأنهم لا ينتظرون ولا يريدون المفاجأة التي تجلب لهم النكبات والخسائر، وتهلك محاصيلهم وتكتسح مساكنهم
لكن أبانا النيل لم يكن بالضيف غير المرحب به على هذا الاعتبار بالنسبة لأرض مصر التي لفحتها الحرارة فلو أتى فيضانه مرة في كل عام بمقدار أربعين قدماً لأصبحت البلاد صحراء كالصحاري المجاورة لها. فلا عجب إذن في تقديس المصريين له واعتبارهم إياه أباً عطوفاً مكللاً بالفواكه والورق الأخضر. وتصويرهم إياه وحوله الأرواح السعيدة تلعب في مرح وهي وافرة العدد
ولكن مع كثرة ما يجود به النيل فإنه يعم جميع البلاد، ومع أن مدة الفيضان مطلوبة مهما طالت فإنه يظل كالنائم في مجراه الضيق عشرة أشهر في كل عام. وعندما ينتهي عمل النيل يبدأ عمل الإنسان وقد كان عملاً مجهداً
هذا الماء الغالي الذي يأتي في وقت قصير يجب أن يحتفظ به، من أجل ذلك كان الأرقاء ينشئون ما يشبه أن يكون بحيرة حتى لا يضيع ماء الفيضان بدداً في الرمال. ويجب أن يحمل هذا الماء إلى الدور والحدائق والمزارع التي تخرج عن المنطقة التي ينالها الفيضان. ومن أجل ذلك كان يكلف الأرقاء بحمل هذا الماء في أوان على رؤوسهم
وقد كان الجهد الإنساني رخيصاً في تلك الأيام وكان للملوك والنبلاء في مصر مئات ومئات من العبيد لا يعدونهم أفضل من المواشي: هم آلات إنسانية لم توجد إلا لتؤدي مالا نهاية له من الخدمات لساداتهم. وعلى النقوش المصرية القديمة على الأحجار صفوف وصفوف من العبيد حاملين أواني الماء على رؤوسهم
لكن حتى الأرقاء ومن يعهد إليهم بأن يسوقوا العبيد كانوا أهل ذكاء ولم يكونوا حيوانات تعمل بلا عمل ولا فكر ولا محاولة للتغيير. وفي يوم من الأيام حدث أن رجلاً ذكياً من بين(330/50)
اللذين كان من واجبهم اليومي رفع المياه من المجرى المنخفض إلى الحقول العالية، حدث أن هذا الرجل علق دلوه بطرف عمود خشبي مستند وسطه إلى الجسر وتعلق بالطرف الآخر من هذا العمود وها أنت ذا تراه الآن يطبق نظرية الرافعة مرة أخرى، فعلق الدلو في سهولة في الهواء ثم سكب في الموضع الذي أراد الرجل أن يرويه من ماء النهر
وقد كانت مصر موصولة الأجزاء على ضفتي نيلها بترع وجداول تروى بواسطة الشادوف (الدلو والعمود)، وتوضع هذه الشواديف أما فرادى وإما أزواجاً لرفع الماء من مستوى إلى مستوى آخر. لكن كان لا يزال الرفع بواسطة رجال، وكانت كل القوات الدافعة التي يجب استخدامها من نشاط العضلات
ثم جاء رقيق لعله أذكى ولعله اضعف جسماً من غيره، فظن سيده أنه أكسل من رفاقه، راقب هذا العبد وهو يؤدي عمله إحدى العربات المصرية وهي تسير بخفة بسبب عجلاتها الدائرة فأخذ عجلة قديمة سقطت من إحدى العربات وعلقها في عمود فوق حفرة الماء وعلق بها الدلو ووجد بذلك أن الدلو يهبط ويعلو في سهولة وأن المشقة قد قلَّت
كان الرجل يندفع إلى الأمام ثم إلى الوراء في أثناء إخراجه للدلو ووضعه في الماء، ويتكرر ذلك طول مدة السقي فيفقد قواه شيئاً فشيئاً لطول هذه الحركة، وهو فضلاً عن ذلك مضطر إلى الوقوف بين دفعة ودفعة
فلما عرف طريقة العجلة التي تدور دون أن تقف أو تعاود البدء، لما عرف هذه العجلة (الساقية) أضيف فصل آخر إلى قصة العجلات التي مكنت الإنسان بسبب ما فيها من سرعة الحركة من جر أثقاله ومن الانتقال على عربة، ومن رفع الأثقال عن الأرض هذا فضلاً عن أن العجلة يمكن أن تدار سواء بواسطة الإنسان أو بواسطة حيوان يساعد الإنسان في هذه المهمة، ولكنها في مصر كانت على الغالب تدار بواسطة الإنسان وحده لكثرة الرجال ورخص الجهد الإنساني.
(يتبع)
ع. أ(330/51)
الكينا تفتح للصين عهدا جديدا مزدهرا
(شانك شي) هو اسم لإحدى المقاطعات التي لا بجدها الإنسان في خارطة مهما كانت دقيقة فليست هذه تسمية جغرافية رسمية ولكنه اسم يعني باللغة الشعبية (العشرين هسيان) الواقعة في جنوبي شرقي تونان المقاطعة الصينية.
(شانك شي) معناها هواء فاسد ولهذه المقاطعة سمعة سيئة منذ أكثر من ألف سنة بسبب العدد الكبير للوفيات التي يسببها مرض الهواء الفاسد (الملاريا) فقد كانت سابقا بقعة تجارية غنية ومزدهرة وهي الآن بقعة فقيرة تعد ضحايا الملاريا بعشرات الألوف.
لكن عن قريب تدخل هذه الأخبار في نطاق التاريخ القديم. فمنذ
منتصف 1936 يوجد في اليونان مصلحة صحة للمقاطعة تقوم بمهمتها
بكثير من الغيرة وأرسلت أيضا عمالها الصحيين إلى مقاطعة شانك
شي كي يقوموا هناك بتحقيق يتعلق بجنس المرض المنتشر فيها فظهر
أن هذا المرض ليس إلا الملاريا فاتخذوا الإجراءات اللازمة حال
معرفة النتيجة وأرسلت مصلحة الصحة الوطنية مليونا ومائتي ألف
جنيه من الكينا على سبيل الإسعاف المؤقت وسترسل في المستقبل إلى
مقاطعة شانك شي كميات أكبر أيضا من هذا الدواء الشافي والواقي.
فالكينا هي فعلا العلاج الذي وصفته لجنة الملاريا في جمعية الأمم للوقاية وللشفاء من هذه البلية البشرية فإذا تبع الإنسان نصيحة هذه اللجنة وأخذ يوميا 400 ملليجرام من الكينا مدة موسم الحميات فلا يصيبه هذا المرض وإذا ما أصابه فلجنة جمعية الأمم توصي في هذه الحالة بالعلاج السريع بالكينا أي جراما واحدا أو جراما وثلاثين ستجرام مدة خمسة أو سبعة أيام ولا داعي لعلاج تكميلي آخر لكن في حالة الانتكاس يمكن الشفاء باستعمال العلاج السريع نفسه.(330/52)
البريد الأدبي
على مسرح الأوبرا
افتتحت الفرقة القومية موسمها على مسرح الأوبرا بمسرحية (مصرع كليوبترا) وهي داخلة في أدبنا القومي. وميزة المسرحية أن موضوعها مصري وأن صاحبها وضعها بالعربية شعراً. وإذا نحن نظرنا في مبناها ومعناها أصبنا الأول لا يخرج عن طرائق النظم المألوفة بمحاسنها ومساوئها، مع توخي الَجرسْ البحتري اللطيف، وتطلب الحكم والأمثال على أسلوب المتنبي وغيره. . . ذاك هو شوقي الذي لم يسعده إقدامه على فك أداء الشعر العاني. وأما المعنى فتسَّيره النية الحسنة ويزينه الظرف، ثم يعوزه الإيغال في التفكير الشامل، والكشف عن بواطن النفس، وتغليب التلميح الرقيق على التصريح الذي لا يدع شيئاً لمخيلة متخيل
وقد ألقى الممثلون شعر شوقي كما كنا نلقي الشعر العربي في المدارس: نقطَّع أقسام البيت ونتمهل عند العروض ثم نضغط على الضرب، والذي يحرك ألسنتنا الوزن الذي عليه جاءت القطعة أو القصيدة. وفي ذلك الأمر ما فيه من غرابة، فإن الشعر لعهدنا هذا في أوربة (وعنها نأخذ فن التمثيل) يلقي على المسرح كأنه نثر. وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها، والتفاعيل كأنها الدعامات والخشب في منزل، وأما المعاني والألفاظ فأثاثه والتزاويق والتصاوير وكل ما يأخذ الطرف. كل ذلك فضلاً عن أن تقطيع أقسام البيت، وفصمه مصراعين، والضغط على القافية الراجعة، يورث الملل ويصك الأذن. وخير من هذا إنشاد البيت على حسب انسياب المعنى في تضاعيفه، مع التمهل عند اللفتة أو النكتة أو اللفظ الموحى، ومع تسرق العروض والضرب، كأن القصيدة كلها بيت (مدور) على قول أهل العروض. ومما يذكر بعد هذا أن الممثلين لم يلحنوا إلا قليلاً، ولكن بين الذال والثاء وألسنتهم (ولا سيما ألسنتهن) مغاضبة شديدة
وكان التمثيل يجاري لون المسرحية نفسها، وهو اللون الابتداعي (على حد ترجمة الصديق صاحب (الرسالة) بل كان يذهب وراءه على الغالب: ضجة، ومبالغة في الإشارة، وإفراط في التعبير عن الشعور. ولم يمُسك عن هذا إلا ثلاثة: منسي فهمي، وحسين رياض، وعباس فارس، إذ طلبوا الاعتدال في الأداء لعلمهم أن الصدق فيما هو طبيعي(330/53)
وأما إخراج المسرحية فلا أكتمك أن المنظر الأول صدم عيني، فهو منظر (عايدة) المسرحية الملحنة. ويعلم الله كم مرة مثلت هذه المسرحية في دار الأوبرا الملكية، فكيف غاب عن المخرج أن العين سئمت مناظرها، بل كيف غاب عنه أنها لم تكن لتنتظر واحداً منها في (مصرع كليوبترا) أول ما يرتفع الستار. وقد رجعت إلى نصَّ شوقي، فقرأت (المنظر الأول - في مكتبة قصر كليوبترا - أشخاص جلوس إلى أعمالهم). والغريب أن الناظر لم يلمح على المسرح كتاباً واحداً، وأما الأشخاص فكان بعضهم إلى بعض جالساً لمحادثة أو لائتمار. هذا وفي الإخراج مآخذ أخرى أقف عند واحد منها: كانت الإضاءة تجري على غير بصيرة في غالب الأمر واكثر الحال. فكانت شديدة جداً في مشاهد تتطلب بعض الظلمة، في مشهد مصرع كليوبترا مثلاً. حتى الفصل الثالث - وفيه ينشق الستار عن مشهدين متجاورين، أحدهما حجرة الكاهن في المعبد، والآخر جانب من خارج المعبد فيه شجرة باسقة - على حسن توزيع مشهديه، لم يستطيع أن يوحي إلى الناظر ما ابتغاه المؤلف والمخرج جميعاً. وعلة ذلك اضطراب الإضاءة، فقد كان نور أحد الجانبين يسطع قبل انطفاء نور الجانب الآخر أو بعده توًّا، فلم يتمكن الناظر أن ينتقل - في دخيلة نفسه - من مشهد إلى مشهد: إن للنظر إيحاء وإيهام قبل كل شيء
وهذا الحديث يدور على الإخراج في الفرقة القومية. فهل أخفى عليك أني دهشت - وقد دهش غيري - أن الأستاذ زكي مبارك طليمات المخرج القدير لم يُدعَ هذه السنة، بعد رحيل المخرج الفرنسي (فلاندر)، إلى الوقوف على شؤون الإخراج في الفرقة وهي التي نهضت به من حيث الإخراج أول ما نهضت. ثم كيف ينسى ناس أن (أهل الكهف) و (تاجر البندقية) خرجتا على يد زكي طليمات ألطف إخراج، وأن الأولى لولا حذقه ما تذوق الجمهور المصري ما فيها من فن رقيق؟
حتَّام تهمل الكفايات - وما أقلها! - في هذا البلد؟ أو أقل ماذا يصنع ناس بما جاء في خطاب رئيس الوزراء: (وكم شاهدنا القادرين من أهل الفن والمعرفة يقصون عن العمل فيما هم أهل له).
بشر فارس
حاشية: بدا للفرقة أن تدعو أحد المغنين إلى إنشاد قطعة من المسرحية فكان الغناء طنينا،(330/54)
وقد أسعفته الموسيقى، كما أسعفت الرقص.
بيني وبين القراء
1 - اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على كلمة لحضرة الأخ الكريم الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف يذكر فيها أن الحديث الذي دار في منزل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك لا حقيقة له وأن ذلك الاجتماع من نسج الخيال
وقد دهشت من كلمة الأستاذ خلاف، وبلغ مني العَجب كل مبلغ. ولولا الرعاية لحقوق الأخوةّ لقلت إن كلام الأستاذ يحتاج إلى تصحيح، وقدمتُ له الأدلة والأسانيد؛ ولكن الأستاذ خلاف كما أعرفه ينفر من المجادلات والمصاولات، ويكره ما يصحب النقد أحياناً من صَخب وضجيج. ومن حقه علينا وهو أخٌ كريم أن نجنَّبه مواطن الشغب والصيال
وما نمنَّ عليه بهذا الترفق، فهو عندنا أهلٌ للتكريم والتبجيل، وسنصفي ما بيننا من حساب يوم نلتقي مرة ثانية في منزل الدكتور طه حسين
2 - قرأت (الحد الفاصل بين أدب الروح وأدب المعدة) لحضرة الأستاذ محمود على قراعة، وأنا أشكر لهذا الصديق المفضال ما تجشم من المتاعب في شرح الفروق بين النوازع الحسية والعواطف الروحية. ثم أعتب عليه: فقد آذاني أن يقرر أن زكي مبارك (يتحدى كل فكرة روحية، ويتهكم على كل نزعة سماوية) فمؤلفاتي ومقالاتي ومذاهبي في الحياة تشهد بغير ذلك. وهذا العناد الذي يعيبه عليّ بعض القراء هو من الشواهد على قوة الروح، ولو كانت المنافع المادية مما يدخل في حسابي لما استبحت الهجوم على فلان وفلان وفلان في سبيل الحق، ولهم قدرة على الضر والنفع، ولهم أصدقاء يقدَّمون ويؤخَّرون، ويحسب لهم طلاب المنافع ألف حساب
قد يكون للمظاهر دخلٌ في تلوين الصورة التي تراني عليها بعض العيون، فقد أكثرتُ من الكلام في الغراميات والوجدانيات، ولكن هذا الميل هو في جوهره من صميم الروحانية، وسأقضي حياتي في التغني بالصباحة والملاحة والجمال، تأدباً مع الله الذي جعل الوجود مواسم فتنة ومطالع أقمار ومشارق شموس. فإن كان هذا مما ينافي الوقار في نظر بعض الناس فهو عندي من أصدق الشواهد على الرزانة والعقل. ويرحم الله من يقول:
شاع في العالمين أني أديبٌ ... جامح القلب فاتك النظراتِ(330/55)
فاستباح الجهال شتمي وعدُّوا ... فتنتي بالجمال من هَنَواِتي
ظلموني فلم أكن غير روُحٍ ... صِيغَ من لوعة ومن زفراتِ
لو بعيني رأوا صدور الغوانِي ... سبَّحوا للجمال في الصلواتِ
ومن غرائب الدهر - وللدهر غرائب - أن أضطر إلى الدفاع عن نفسي وقد جعلت الهيام بالمعاني الروحية والذوقية شريعة من الشرائع، وملأت الدنيا بالحديث عن أزمات الأرواح والقلوب في الشرق والغرب، ولم تكن فتنتي بالأعاصير في صحراء النجف أقل من فتنتي بالأزاهير في حدائق روان
الأستاذ محمود قراعة رجل فاضل، والفضل يوجب عليه أن يعترف بأصل الخلاف بيني وبين الأستاذ أحمد أمين فيما يتصل بأدب المعدة وأدب الروح، فقد أنكرت عليه هذه التسمية فيما يختص بالقرآن، لأن القرآن يرى الشخصية الإنسانية مكونة من جسد وروح، وقد وعد المؤمنين بأن ستكون لهم في الجنة طيبات من النعيم المحسوس
والفضل يوجب على الأستاذ قراعة أن يعترف بأني نقلته من حال إلى حال، فقد صرح بأن ما ورد في القرآن من اللذات الحسية ليس إلا رموزاً وإشارات، وأعلن أن بعض المبشرين تهكم حين سمع أننا نقول بأن المؤمنين ستكون لهم في الجنة أطايب من لذات الحواس!
وقد بينت في الكلمات الماضية أن هذه النزعة لم تصل إلى بعض المسلمين إلا عن طريق النصرانية، وقد اقتنع الأستاذ قراعة بهذا الرأي بعد أن تعرض لمناوشات صوبها إليه باحث من مصر وباحث من فلسطين
أما ثناء الأستاذ محمود قراعة على الأستاذ أحمد أمين فهو مقبول، ذكره الله بكل صالحة، وأعانه على فهم القيمة الصحيحة للأدب العربي، وجعله بالفعل لا بالقول من أنصار الروح!
اسمعوا كلمة الحق، أيها الناس
إن الأستاذ أحمد أمين قال في لغة العرب كلاماً لو قيل مثله في لغة الزنوج لعد من المفتريات، فكيف يكون تصحيح أغلاطه ضرباً من العدوان على الآمنين؟
3 - أما الأستاذ محمد علي عكاوي فسنرد عليه في العدد المقبل. وأما الفتنة التي ثارت بين الدكتور فارس والدكتور أدهم وأشير فيها إلى أسمي عدة مرات فقد أكتب عنها كلمة بعد(330/56)
أسابيع
زكي مبارك
الأدب التحليلي والتركيبي
حضرة الأستاذ الفاضل محرر مجلة الرسالة:
تحية وسلاماً، وبعد فقد بدت لي بعض الملاحظات وأنا أقرأ ما كتبه الدكتور زكي مبارك أخيراً في الرد على الأستاذ أحمد أمين أجملها فيما يلي:
1 - يقول الدكتور زكي مبارك: (إن الطريقة التحليلية عرفها شعراء العرب منذ اقدم العصور. وعليه (يريد أحمد أمين) أن يرجع إلى معلقة طرفة ومعلقة لبيَّد وعينية أبن سويد. . .) والرأي عندي أن زكي مبارك أخطأ فهم المقصود من اصطلاح الأدب التحليلي، وإلا لما أجاز لنفسه هذا القول. فمعلقة طرفة ومعلقة لبيد، ليستا من الأدب التحليلي في شيء. لأن التحليل - كما نعرفه ويعرفه كل الباحثين في تاريخ الآداب - هو رد الأشياء إلى أصولها الأولى، وبيان تقومها بهذه الأصول ووجه هذا التقوم. ومعلقتا طرفة ولبيد ليستا من ذلك في شيء، وإنما الصفة الغالبة عليهما، صفة الوصف التشريحي. فطرفة مثلاً يصف لك الجمال في معلقته بدقة تشريحية، ولكن هذا الوصف التشريحي وإن لخص لك التفاصيل في دقة متناهية، فهو بعيد بعد ذلك كل البعد عن أن يظهر لك الجمل في حياته الداخلية. ذلك أن هذا الوصف التشريحي ينقصه التجرد عن الذاتية من جهة ثم إدخال عنصر الخيال فيها من جهة أخرى. ومن هنا جاء القصور عن أن يطرق الشاعر الناحية التحليلية في وصف الجمل. كذلك يمكننا أن نقرر هذا الكلام في شيء قليل من التعديل ليناسب المقام حين نعرض لمعلقة لبيد أو عينية ابن سويد، أو غيرهما ممن ذكرهم زكي مبارك كنماذج للأدب العربي الذي جرى على النهج التحليلي
2 - وضرب الدكتور زكي مبارك مثلاً لقوله بتغلب النزعة التحليلية على أكثر الشعر العربي فقال: إن قصيدة سعيد ابن حميد في النهي عن العقاب فيها تحليل واستقصاء، ثم تعليل وانتقال من العموم إلى الخصوص مما يثبت عنده ملكة التحليل للشاعر. والذي عندي أن الدكتور زكي أخطأ فهم القصيدة ونوعها وخصائصها. فالقصيدة ليس فيها تحليل، وإنما(330/57)
كل ما فيها وصف ساذج لحالات تتقوم بفكرة النهي عن العقاب. كذلك قصيدة الطغرائي في الحمامة الباكية، يمكن أن نقول فيها إنها وصفية ساذجة بعيدة عن التحليل. أما قصيدة الشريف الرضي فما بدا فيها من تسلسل الفكرة والترابط بين الموضوعات التي تنتقل فيها القصيدة، فهي نتيجة لكون طبيعة الناثر متغلبة على الشريف الرضي، وليس من ذلك طبيعة التحليل في شيء
3 - يتصور الدكتور زكي مبارك أن النزعة التحليلية في الأدب تقوم على أساس الاهتمام بتصوير المعاني وإشعار السامع والقارئ بأن هنالك محاورة للعواطف والقلوب والعقول. وهذا خطأ، لأن القدرة على الوصف وإجراء الحوار شيء، والقدرة على التحليل شيء آخر، فقد يكون شاعر من الشعراء وصافا، ولكن ذلك لا يعني أنه صاحب تحليل يمكنه من ردَّ الأشياء إلى أصولها الأولى. وإليك مثلاً لذلك قول تميم بن جميل في وصفه حاله الشعورية وهو يرى منظر الموت أمام المعتصم. فهذه القصيدة - وقد ذكرها زكي مبارك - وصفية، وهي بعد ذلك ليست قائمة على عنصر التحليل للحالات الشعورية التي كانت تنتابه في ذلك الموقف والخلجات التي كان يحسها، ومنظر الموت أمامه
والذي عندي أن السبب في خطأ الدكتور زكي يرجع إلى أنه ظن الوصف من التحليل، وسبب هذا الظن الخاطئ أنه قرأ لإسماعيل مظهر والمازني والعقاد أن ابن الرومي متفوق في الوصف، ثم قرأ لهم أنه صاحب طريقة التحليل في الأدب العربي فاختلط في ذهنه هذا بذاك وكان منه الظن بأن الوصف من التحليل
هذه ملاحظات وجدت من المفيد أن أعقب بها على ما كتبه الدكتور زكي مبارك في هذا الموضوع. وليس بي غير الرغبة في تبيان رأي قديم لي في هذا الموضوع والسلام.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم
حول أبن تيمية وابن بطوطة
اطلعت في الرسالة الغراء على كلمة للأستاذ محمد محسن البرازي يأخذ فيها على الشيخ الخالدي ما نقلته عنه من أن ابن بطوطة لم يدرك ابن تيمية، وكان الشيخ قد ذكر هذا ينفي(330/58)
ما حدثته به من قول ابن بطوطة إنه رأى ابن تيمية على منبر الجامع بدمشق يقول: إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر
فأما إدراك ابن بطوطة لابن تيمية فلا شك فيه كما قال الأستاذ البرازي. وقد وقع السهو في وضع كلمة يدرك مكان كلمة يلقى. والكاتب الفاضل يوافق الشيخ الخالدي في هذا
وأنا مع إجلالي للأستاذين لا أجد ما يحملني على تكذيب ابن بطوطة في أمر يدعى أنه رآه وسمعه
عبد الوهاب عزام
رواية (عثمان في الهند) - إلى ناقد الرسالة
سمعنا مساء السبت الماضي (21101939) عن طريق
الإذاعة اللاسلكية من مسرح (ديانا) بالإسكندرية، رواية
(عثمان في الهند) تأليف الأديب محمد شكري، وتمثيل الممثل
الهزلي علي الكسار؛ ويسوءني أن أقول: إن هذه الرواية
ساقطة؛ وهي أتفه من أن تشاهد أو تذاع أو تسمع!
ولعلك يا أخي سمعتها أو شاهدتها فرأيت كيف بدت هزيلة في فكرتها وفي موضوعها وأسلوبها وأغانيها وفي مغزاها، ولولا وجود بضعة (قفشات تخللت القصة لرجحت أن يطالب مشاهدو الرواية بما دفعوا من قروش، إذ لم يشهدوا رواية تذكر، وإنما شهدوا تهريجاً مرذولاً، كالذي يقوم به (الحواة والنور) في الأحياء الفقيرة من العاصمة والأقاليم لقاء مليم أو مليمين
لقد جلسنا إلى المذياع وابتدأت الرواية، وذهبنا نفتش عن فكرة تدور عليها، أو مغزى ترمي إليه، فتتابعت الفصول والمناظر، وأعلن المذيع انتهاء الرواية، فدهشنا كما دهش المشاهدون بالمسرح، فلم نسمع منهم هتافاً ولا تحية، ولو على سبيل المجاملة!
لم تخرج الرواية عن جملة من الأغاني العادية ومعها جملة من (النكات والقفشات). وليت(330/59)
الأغاني كانت جديدة، أو جميلة، أو قوية؛ ولكنها كانت ثقيلة، مملولة، معادة وإن ظهرت في ألفاظ جديدة وشكل جديد؛ واللحن المكرر يسأم وإن عرض من آخره معكوساً بدل عرضه من أوله. . .!!
قد يقول قائل: إن الفرقة هزلية، والرواية (كوميدية) مضحكة، وعلى ذلك فلا يشترط أن تتضمن الرواية فكرة أو ترمي إلى مغزى؛ وقائل هذا مخطئ بعيد عن روح المسرح جاهل لرسالته. فسواء كانت الرواية محزنة أو مضحكة، وسواء كانت من (الدرام) أو (الكوميدية)، فإنها تستطيع - بل يجب - أن توضح ما يشاء المؤلف من أفكار، وتعرض ما يشاء من مبادئ، وتظهر ما يشاء من غرض
وقد تستطيع الرواية الهزلية بنكاتها اللاذعة و (قفشاتها) المحكمة، أن تؤثر في أفكارنا وفي عواطفنا وفي نفوسنا، أكثر مما تؤثر الرواية المحزنة؛ فإن النفوس أميل إلى الضحك، وأولع بالهزل، ومن هذه السبيل نستطيع أن ندخل إلى النفوس ما نشاء من آراء ومبادئ. وقد يستطيع الممثل الهزلي بسخريته واستهزائه وتهكمه، أن يقف منا موقف الحكيم الفيلسوف، فيهدي الضال ويرشد الحائر، ويقوي الفضيلة، ويحد من الطغيان!
لقد كانت رواية (عثمان في الهند) التي نحن بسبيل نقدها، تتحدث عن أن المعروف إذا فعله المرء وألقى به إلى البحر فإنه لا يضيع، ولكن هل يستطيع حقاً - أو يستطيع من سمع أو شاهد الرواية - أن أقول إنني آمنت - بتأثير الرواية - بهذا المبدأ؟ هل استطاعت الرواية حقاً أن تظهر هذا المبدأ الأخلاقي كأنه قضية مسلمة مقبولة؟ الجواب: كلا!. . .
إن أكبر اللوم - كما أعتقد - يقع على مؤلف الرواية، لأن الممثل يترسم خطاه، ويتمسك بأسلوبه وطريقته، ولو أن المؤلف أجاد التأليف لاستطاع أن يجيد الممثل التمثيل فنشهد الرواية الكاملة
يا حسرة على المسرح المصري. . . لقد ظهر عدوه اللدود (السينما) وبدأ يغزوه في كل مكان وكل ميدان، وكنا نتوقع من المسرح أن يشمر عن ساعده، ويحمل سلاحه لمناضلة هذا العدو الجديد، لكي يثبت أنه جدير بالبقاء والحياة. ولكنه - مع الأسف - رضي من الغنيمة بالإياب، واستطاب الركود والخمول. وما دليلي على ذلك إلا إقامة أهله على تمثيل(330/60)
الروايات القديمة المكررة التي أكل عليها الدهر وشرب فإذا ما اقدموا على التجديد والتأليف جاءونا بالغث البارد الذي لا يشبع روحاً ولا يرضى فناً، ولا ينال قطرة من إعجاب أو تقدير!
أحمد جمعه الشرباصي(330/61)
رسالة النقد
لا بد مما ليس منه بد
حول كتاب
بقلم الدكتور بشر فارس
قال لي ناس - وأهل الفطنة كثير -: رأيناك تشهر القلم في وجه بعضهم إرادة الذود عن حمى العِلم، إذ قلتَ (الرسالة 314): (إن العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سَدَنته وله حراسه، فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبت والدراية). ونصحتَ لمن عنَّ له التطاول أن يطيل الروّية، وبصرتَه عواقب أمره (إذا هو أقبل على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه، لأن النقد لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده). وهذا الناقد ينقضه كلامك فيكتب مقالاً وثانياً وثالثاً، وأنت معرض عنه وقد قلتَ كلمتَك فسارت. فاعلم أن في عنقك أن تكشف عما يجب الكشف عنه مادام المتستر ينتفض فتنزلق المناظرة على يديه إلى مماحكة.
قال لي ناس. . . فقلت: شهرت القلم من قبل للسبب الذي تعرفونه، فلما رأيت الرجل يلوّى قلمه ويكابر، قلت في نفسي: هذا الوادي لا أنزل فيه ولا قَبل لقلمي بالوثب في منحرفاته. إن إسماعيل أدهم تخرّج في جامعة موسكو سنة 1933 على قول مجلة الحديث (حلب 1938)، وأنا في غير هذه الجامعة تخرجت؛ وقد لقّنني من أدبني أن ألتزم طريق الحق كيفما دار وحيثما انقطع ولا أدري كيف يكون التلقين في جامعة موسكو. قلتم إن المناظرة انزلقت على يد الخصم إلى مماحكة، فحسبي اليوم أن أدوّن ما يؤيد قولكم
قلت كلمتي في (الرسالة) بعد نقد أدهم الأول لكتاب (مباحث عربية). فردَّ أدهم في الأعداد 317، و 326، و 328. وكنت أنا وغيري نرقب كيف يحاول أدهم التنصّل مما ألصقته به، فأخفقت الرقابة.
كنت قد كتبت إن أدهم (يختلق القول). إذ يقول: (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (يريد: ناظرة إلى) في ص 57 من مباحث عربية). وزدت أنه من الغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة في الصفحة المذكورة وقد أطلعت صاحب (الرسالة)(330/62)
ورئيس تحرير المقتطف على ذلك، فمن أين جاء أدهم بالكلمة الفرنسية، وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل أنا (معتبره)؟
ثم كنت كتبت أن أدهم (يرتجل المصادر) ودليلي أنه استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من العهد القديم للكتاب المقدسّ، على حين أن (سفر دانيال) كله أثنا عشر إصحاحاً فقط. فبينت كيف اقتبس أدهم ذلك المرجع الوهمي من كتاب (ملتقى اللغتين) لمراد فرج، وكيف سقط هذا المرجع هناك من باب الغلط المطبعي - إذ الصواب الإصحاح الرابع - فسطا عليه أدهم من غير تحقيق ولا رؤية. ثم إني أتيت بدليل آخر مجمله أن أدهم استشهد، عند الكلام على أنساب العرب، بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم وعين الصفحة 187 فبعد أن نفيت احتمال غلط الطبع بينت أن (الفهرست) لم يخرج إلا في جزء واحد، وأن الصفحة التي عينها الرجل لا أثر فيها لما استشهد به. وكان أدهم قد أسند نص الاستشهاد إلى أبن حزم، فسألته من ابن حزم هذا وما كتابه، ولابن حزم المشهور ستة وثلاثون مؤلفاً؟ فاستخلصت من هذا كله أن أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنة، دأبه مع (سفر دانيال). هذا وأخبرني من هو أرسخ مني في العلم قدماً بأن ما استشهد به أدهم إنما هو وارد في الجزء الثالث من كتاب (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) للألوسي. فانظر كيف يكون الاضطراب في تناول المراجع.
كتبت ذلك فأحجم أدهم عن الدفاع، أو قل أبي التسليم: أحَياء أم مكابرة؟
أما نقد أدهم الثاني فمما لاُ يلتفت إليه؛ فيه عناد ومغالطة وتحدٍّ وعود إلى اختلاق القول وتهويل ونقد عن هوىً. والله يعلم أنيً لست ممن يعتبط الكلام ويرسل التهمة؛ فرجائي من القارئ أن يلمس بعض الأدلة:
- أما العناد ففي إصرار أدهم على أن المسلمين الذين اهتديتُ إليهم في فنلندة سنة 1934 لم يرحلوا إليها عقب الثورة البلشفية في روسية، على حسب ما أثبتُّ نقلاً عن هؤلاء المسلمين أنفسهم واستناداً إلى بيان موظفي الحكومة الفنلندية. وإن أدهم يحملنا على أن نظن أن أولئك المسلمين من سلالة طائفة من الترك هبطوا فنلندة في (القرن السادس عشر للميلاد)، وحجته هنا أن مدينة (توركو) الفنلندية تشتق اسمها من هؤلاء الترك. فرددت(330/63)
على هذا قلت: إن مدينة (توركو) تصعد إلى المائة الرابعة عشرة، واستشهدت فيما استشهدت به بدائرة المعارف البريطانية. ولكن أدهم لم يدفع شهادة دائرة المعارف البريطانية - ولعل هذا السفر مما لا يعول في جامعة موسكو - بل عاد إلى تشكيكه في تاريخ هجرة أولئك المسلمين، وقام يستند إلى كتب ألفها علماء من روسية ليبرهن على أن جماعة من الترك رحلوا إلى فنلندة قبل الثورة البلشفية، وأن أمرهم مشهور.
- وحسبي اليوم أن أنقل هنا رسالة بعث بها إلي رأس المستشرقين في روسية، وهو الأستاذ كراتشكوفسكي أستاذ العربية وآدابها في جامعة لننجراد (وهي غير جامعة موسكو، كما يعرف أدهم نفسه) ومن أعضاء الأكاديمية الروسية فيها، (وقد اطلع صاحب مجلة (الرسالة) ورئيس تحرير المقتطف على تلك الرسالة) ونصَّها:
(سيدي الأستاذ الفاضل، سلاماً واحتراماً وشكراً على ما أنعمتم علي به من رسالتكم اللطيفة عن أحوال المسلمين في فنلندا، وقد قرأتها بكل إمعان ولذة في مجلة الدراسات الإسلامية، ولكم الفضل في لفت أنظار العلماء إلى هذه الزاوية من العالم الإسلامي الحاضر) ا. هـ
وعلى هذا فقد شهد شاهد من أهله، وأي شاهد!
وهل ثمة حاجة بعد ذلك إلى أن أخبرك بأن (مجلة الدراسات الإسلامية) التي يخرجها المستشرق ماسينون في باريس نشرت حديثي عن أولئك المسلمين على أنه (اكتشاف)، نشرته بالفرنسية سنة 1934 قبل أن أنقله إلى لغتنا في (مباحث عربية)؟ أو إلى أن أخبرك بأن المستشرق جِبّ من أساتذة جامعة اكسفرد بعث إلي برسالة (اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف) يقول فيها إنه لم يك يعلم شيئاً عن أولئك المسلمين؟
- وأما مغالطة أدهم، فقد بينتها من قبل عند الكلام على ارتجاله لعنوان كتاب جعل اسمه أول الأمر (مجموعة محاضرات دركايم عن علم الاجتماع في السوربون)، حتى إذا ضيقت عليه المسالك قال: (الرسالة 317 وردّى 320) إن هذا الكتاب يحمل أسم (قواعد منهج علم الاجتماع) تحت عنوان شامل هو (أعمال السنة الاجتماعية) (وهي مجلة دورية)، وقد حاول عبثاً أن يقحم كلمة (مجموعة) في هذين العنوانين. ثم إنه اعترف بعد ذلك أنه كان قد استند إلى ترجمة الكتاب بالإنجليزية. فكيف يناقشني - أول ما يناقشني - في الأصل الفرنسي ويعين صفحات منه؟(330/64)
- وأما تحدي أدهم في القول فيدخل تحته ما بدا له أن يكتب في جانب اللغة. ووالله ما أدرى ما الذي استدرج الرجل إلى اقتحام النقد اللغوي، وهو لا يزال يأخذ لغتنا عنا كما يقول (الرسالة 313 ص 331)، وهو يريد الاعتذار من اقتباس تعبيرات لي: (إنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغة غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجئ على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استداركاً للمعنى الذي في ذهني). هذا ولا شك عندي أن القارئ لمس ارتباك أسلوب أدهم وركاكة عبارته واختلال مواقع ألفاظه، وكثيراً ما قوّمت تعبيره، وأنا أناظره حتى يفهمه القارئ. وهيهات أن أجادل أدهم فيما جاء به في نقده الثاني دفاعاً عن آرائه اللغوية الأولى. فقد نصحت له من قبل أن يقرأ النوع السابع والعشرين من (المزهر) للسيوطي حتى يتبين معنى (المترادف)، ونصحت له فوق ذلك أن يراجع دواوين اللغة والمؤلفات الفلسفية في العربية والفرنسية جميعاً لعله يعلم أن (الأخلاقيات): بمعنى شيء و (السلوك) شيء آخر. ماذا أصنع وأنا لا أملك إلا النصيحة؟
وحسبي اليوم أن أبرز للقارئ جانبين من نقد أدهم الثاني في باب اللغة، قال أدهم (الرسالة 326 ص 1924) - وهو على كل قول قدير - (وليس جعلنا (يعني نفسه) لفظة المتشابهة ناظرة إلى أفرنجياً بدليل (أضف: على) قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة (كذا والله!) من الألفاظ التي تنظر إلى أهـ. هذا وأنت تعلم أن لفظة تفيد مفاد كلمة (المترادف) عندنا. فالله كيف تكون الألفاظ المتشابهة والمتباينة ناظرة معاً إلى المترادفة، وبين المتشابه والمتباين ما بين الأبيض والأسود؟ - ثم قال أدهم (الرسالة 326 ص 1996): (أما عن مجيء هذه الروايات (الخاصة بالمروءة) من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على (يريد: في) القضية في شيء، لأن جلّها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير (يريد: تتغَّير؛ قد والله سئمت تهذيب أسلوب الرجل!) فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست (يعني الروايات) من الجاهلية، وإذن يبقى معنا لفظة المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية) أهـ. فهل للأستاذ الدكتور أدهم أن يراجع في (الصاحبي) لابن فارس باباً لطيفاً قريب المنال عنوانه (الأسباب الإسلامية) ليتبين له أن العربية اتفق لها أن (تتغاير) كما يقول، بانتقال أهلها من الجاهلية إلى الإسلام إذ (حالت أحوال، وأبطلت أمور،(330/65)
ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع آخر. فعفى الآخر الأول). ليراجع الأستاذ الدكتور أدهم ذلك الباب، فبه إليه حاجة، وليطمئن إلى أن ابن فارس لا (يوهم القارئ بطرق ملتوية) مثل بشر فارس
- وأما عود أدهم إلى اختلاق القول فقصته أن الرجل قال (الرسالة 328 ص 1995) إني ألفتُ رسالة بالفرنسية عنوانها (العرض عند عرب الجاهلية وموضوعها أن أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض، ثم زاد) (ولما كان المستشرق جولدتسيهر قد كتب فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية. فقد أضطر الدكتور بشر أن يعود عام (يريد: سنة) 1937 ليناقش رأي جولدتسيهر فكتب مادة مروءة في تكملة دائرة المعارف الإسلامية ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب مباحث عربية) , أهـ
والرد على هذا أن كتابي (العرض عند غرب الجاهلية) مطبوع ومتداول، وهو موجود في مصر، في دار الكتب مثلاً وعند نفر من علمائنا وكتابنا. فمن ذا الذي يقول إني لم أناقش في هذا الكتاب - هو الرسالة التي نلت بها شهادة الدكتوراه من السوربون - رأى جولدتسيهر ومن تلا تِلوه من المستشرقين؟ إني لم أتحول في مبحثي الذي نشرته لي دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولا في مبحثي المدرج في مباحث عربية عما جاء في كتاب العرض عند عرب الجاهلية. إن ما ذهبت إليه هنا هو ما ذهبت إليه هنالك مع زيادة في سياقة النصوص وإفاضة في عرضها؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبك موازنة ما جاء في كتابي الفرنسي (ص30 - 32) بما جاء في مباحث عربية (ص 72 - 74) وقد اطلع على ذلك صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف
- وأما تهويل أدهم فيدل عليه ما تقدم بك من ارتجاله للمصادر، وإن قال من قبل متواضعاً (الرسالة 311 ص 1225): (أظن أن الدكتور بشر فارس لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاء للمصادر). ثم دعني أخبرك بأن أدهم سلط قلمه ثانية على مبحثي في المروءة فاستغرق نقد ثلاث صفحات من الرسالة (328). ولما رأيت ذلك قلت في نفسي: لعل الناقد يدفع ما ذهبت إليه بتضعيف النصوص التي استخرجتها وهي تزيد على ثلاثمائة سواء تصريحاً أو تلميحاً، أو لعله يسقط مبحثي بالطعن في المراجع التي عولت عليها(330/66)
وهي تقارب المائة. ذلك ما يرقبه الناس من الناقد الثبت فيما أعلم. فماذا أصبت في تلك الصفحات الثلاث؟ جاءني أدهم - حياتك - بنصوص دون غيرها، فحرفها عن مواضعها، وقدم من سياقها وأخر، وحملها ما لا تحمل ثم استخلص من ذلك التشويش أني أبعد ما يكون عن البحث اللغوي البسيط. بالله ثم بالله لِمَ لمْ يأت بنص من عنده، ولو بنص واحد؟
وأظرف من هذا أنه أثبت مظان النصوص في نقده ناقلاً إياها من المراجع المثبتة في هوامش كتابي. ألا من يقول لي ما الذي يدعوه إلى أن يدوَّن مثلاً: (كتاب الأردبيلي مخطوط في آيا صوفيا رقم 2049 وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ تيشنر في مبحثه المعنون باسم (هنا العنوان الألماني)، والمنشور بمجلة التي تصدر عن همبرج مجلد 24 ص58)، ما يدعوه إلى مثل هذا التعالم، وكل ما دوَّنه مثبت في مباحث عربية) (ص 59 المتن والحاشية)؟ وعلى هذا ما دوَّنه بشأن كتاب جولدتسيهر، وكتاب العرض عند العرب الجاهلية (راجع (مباحث. . .) ص 72، 74). وخير للأستاذ أدهم أن يعدل عن التعالم بعد اليوم، فلربما حفر حفرة وقع فيها. من ذلك الحفرة التي حفرها، وهو يسطو (على ملتقى اللغتين) لمراد فرج، ومن ذلك أيضاً قوله (الرسالة 328 ص 1995): (المعنى الحقيقي وياليته قنع بالسطو على التركيب العربي وحده، (وهو في (مباحث عربية) ص 60)! إلا أن وسوسة التهويل غوته فزاد كلمة فرنسية في صيغتها المؤنثة. فلم يؤنثها في نقده وهي واردة فيه من غير موصوفها؟ القصة أن أدهم نسى الموصوف في طيات (مباحث عربية) وهو (أي التعريف) فجاءت الصفة مبتورة، ولم يفطن أدهم إلى وجوب تذكيرها حتى ترد صيغة الإطلاق. ولو كان أسند كل هذا إلي لكان خرج من ظِنَّة السطو. . إلا إنها الوسوسات، لطف الله بنا!
- وأما نقد أدهم عن هوىَ مبيَّت في النفس فواضح في عناده عند الكلام على مسلمي فنلندة. وكان قد اجتاب النقد اجتلاباً من قبل ثم عاد فذهب في اللجاج، على ما قدمت، لأنه - هو المتخرج في موسكو بعد سنة 1918 - يريد أن يجعلنا نرتاب في أن نفراً من الناس بل من المسلمين يخطر لهم أن يفرَّوا من الثورة البلشفية (أو (الثورة الاشتراكية الكبرى) كما يسميها هو: الرسالة 311 ص 1230).
وأوضح من هذا أن أدهم خرج من نقده الثاني بهذه النتيجة:(330/67)
(ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية بأجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم (يعني نفسه طبعاً). والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد ولا يمكن أن يواجه مراجعة علمية صحيحة)
وهنا لا أحب أن أذكر أدهم بأن مبحث المروءة نشر من قبل بالفرنسية والإنجليزية والألمانية في دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولم يظفر بمثل هذا الحكم. ثم لا أحب أن استشهد بآراء من كتب عندنا في (مباحث عربية) مثل العلامة الأب الكرملي، والأديب المترسل الأستاذ المازني، ومدرسَين من الجامعة المصرية وغيرهم. فلربما قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن هؤلاء وأشباههم لا (دراية لهم بالبحث اللغوي المستقيم). ثم لا أحب أن أطلعه على ما قاله المستشرق بروكلمن في الجزء الثالث من تكملة تاريخ الآداب العربية؛ فلربما قال: إن بروكلمن لا يستطيع (مراجعة علمية صحيحة). بل ليأذن لي الأستاذ الدكتور أدهم أن أدوَّن اليوم حرفاً لحرف ما قاله في نقد الأول لكتابي:
(وفي هذا المبحث (مبحث المروءة) يبرز الباحث (يعنيني (مع الأسف) رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة) (الرسالة 312 ص 1274).
ثم هذه خاتمة نقد الأول: (هذا هو كتاب مباحث عربية. وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه، يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة، يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث (غريب، غريب!) والمآخذ التي أخذناها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس شق الطريق للبحث العلمي الجدي (العفو!) ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير. إسماعيل أحمد أدهم) (الرسالة 312 ص 1275)
إن السر في هذه الردَّة أنى أدهم كتب نقده الثاني وهو ناقم حانق، لأن بينت في المقتطف (أغسطس) والرسالة (314) كيف يجتلب النقد اجتلاباً ويرتجل المصادر ويتحدى في القول ويتعالم فينزلق إلى الاعتساف والغمر. ولم أجد بداً حينئذ من تبيين كل هذا - على ما قال(330/68)
أدهم في خاتمة نقده - حتى تستقيم موازين النقد عندنا وينزجر الهاجم على العلم من غير بابه. فلما عجز الأستاذ الدكتور أدهم عن دفع البينة فزع إلى المماحكة والمهاترة، قطع الله الحزازات التي تأكل النفس!
وإن قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن له أن ينكر رأياً دوَّنه فيستبدل به ضده، بعد مضىَّ أربعة أشهر (والحر في مصر شديد، ييبس كل شيء)، قلتُ ما دمتَ تناظر في العلم كأنك تداور في السياسة على الطريقة الحديثة، فخذ شهادة أخرى ممن يُجَلّ به من (أهلك)، وهي رسالة بالعربية بعث بها إلى الأستاذ كراتشكوفسكي، وقد اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف: (سيدي العزيز الفاضل. سلاماً واحتراماً وشكراً لكم على إرسال كتابكم الجديد (مباحث عربية) وقد قرأته في هذه الأيام أيام العطلة المدرسية، وانتفعت منه كثيراً. لا يخفى عليكم أن في قراءته بعض صعوبة على من لم يتعود طريقاً علمياً صرفاً في البحث والاستقرار ومع ذلك في الكتاب درس مهم وخطوة جديدة في سبيل ترقية العلم العربي الحديث، عسى أن ينتفع بها أبناء العربية في كل أقطارها. حتى بدعة الرموز، الرموز الاختزالية رأيتها في مكانها وهي بدعة مستحسنة، ولا يتعسر إدراكها واستعمالها على كل من يتمرن فيها دقيقتين. وفي الإجمال قد خدمتم العلم والآداب بهذا الكتاب الجديد خدمة تذكر وتشكر ودمتم على مساعيكم الحميدة والنجاح حليفكم وذوو العقول السليمة في الشرق والغرب أصدقاؤكم. أغناطيوس، كراتشكوفسكي، الروسي) أ. هـ - ألا حسبي صداقة (العقول السليمة)!
وبعد فهذه كلمة ثانية، أرسلها مكرهاً، ولكنها رعاية العلم الحق وإقامة النقد الصحيح ولن أعود إلى مثلها مع إسماعيل أحمد أدهم، فإن قلمي لمشغول عن مماحكته بما هو أجل شأناً وأعم نفعاً
ب. ف.(330/69)
العدد 331 - بتاريخ: 06 - 11 - 1939(/)
وزارة الشؤون الاجتماعية
الفقر. . .
- 2 -
الفقر هو العنوان الثاني في الدستور الإصلاحي لوزارة الشؤون الاجتماعية كما نقترح أن يكون. وإذا قلت الفقر فقد عنيت بهذه الحروف الثلاثة كل ما يقع في ذهن المرء وخياله وحسه من معاني البؤس والألم والأسى والجريمة والرذيلة والذلة والمسكنة والعداوة والانتقام والثورة. وأي مجتمع يتسنى له أن يلتئم أو ينتظم أو يسعد ما دامت هذه الآفات تلح عليه بالاعتلال والانحلال والوهن؟ وأنت إذا تقصيت بالنظر المتأمل أحوال الناس وأهوال الدنيا وجدت تنازع القوت هو المشكلة الأزلية للحياة، والفقر هو النكبة الأبدية على النظام، والجوع هو السبب القريب أو البعيد لكل ثورة في تاريخ الأمم وكل جريمة في حياة الأفراد. فهل في حدود الجائز إذن أن نطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية أن تبيد الفقر وتقتل الجوع كما طلبنا إليها أن تمحو الأمية وتنسخ الجهالة؟ لا وا أسفاه! لأن شمول العلم أمر تقتضيه الفطرة وتجيزه القدرة، ولكن شمول الغني شيء تأباه الطبيعة ويمنعه العجز. وما دام الناس مختلفين في الذكاء والقوة، فلا بد أن يختلفوا كذلك في النفوذ والثروة. والتفاوت في الطبع والكفاية والحيلة والوسيلة مبدأ مقرر في الطبيعة ونظام مسلم في الدين. إنما نطلب إلى وزارتنا المصلحة أن تخفف من نوائب الفاقة وتكفكف من غوائل الجوع بتقريب المسافة بين الغني والفقر، وتنظيم العلاقة بين القوة والضعف، فإنها إن نجحت في تحقيق هذه الأملين فقد نجحت في إقرار السلام في النفوس وإحكام النظام في المجتمع
ولكن كيف تستطيع وزارة الشؤون الاجتماعية أن تخفف آلام هذه العاهة المستديمة ما دامت لا تستطيع أن تحسم أسبابها بالطّباب الناجع؟ تستطيع ذلك من طريق الدين ومن طريق التشريع ومن طريق الإدارة. فأما ما تستطيعه من طريق الدين فجبابة الزكاة وتنظيم الإحسان. وجباية الزكاة فريضة على الحكومة المسلمة، كما أن أداءها فريضة على الشعب المسلم. فلا يجوز للوزارة أن تكل أمرها لحرية الضمير وإرادة النفس، فإن طمع الناس في عاجل ثواب الدنيا أقوى من طمعهم في آجل ثواب الدين. ومن أجل أداء الزكاة كان ارتداد العرب عن الإسلام في عهد أبي بكر. إنما يجب أن تجبى الزكوات بالاضطرار كما تجبي(331/1)
ضرائب الأرض وعوائد العقار، وأن يكون لوزارة الشؤون الاجتماعية جباة كما كان لوزارة المالية صيارف. ولا بأس أن يترك الاختيار في الإحسان على أن يستعان على غرسه في القلوب وجمعه في الأيدي بفرقة من الرجال والنساء تدخل البيوت والمكاتب على الأغنياء والغنيات من الأفراد والشركات فيذكرونهم بان الله الذي خلقهم وخلق الفقراء قد جعل جمعة ما بينهم وبينهم قائمة على أساس من المودة والرحمة. فإذا تعهدوا هذه الصلة الإلهية بالبر فمنح القادر العاجز روحا من قواه، ونفح الواجد الفاقد قليلاً من جدواه، سارت القافلة الإنسانية في طريقها غير ظلعاء ولا وانية. فإذا ما جمعت الزكوات والصدقات من طريقي الطوع والكره تجعل في (بيت المال) لا في (الخزانة العامة)، ثم تدبر على النظم الحديثة في التأثيل والاستغلال، وتنفق في إنشاء المياتم والملاجئ والمستشفيات، ويستعان بالفرقة التي جمعت الإحسان من بيوت الأغنياء، في توزيع المعونة على المتعفف المجهول من بيوت الفقراء
وأما ما تستطيعه الوزارة من طريق التشريع فسن القوانين لحماية العامل والفلاح من صاحب المال ومالك الأرض؛ فإن أكثر ما يصيب الطبقة العاملة من المحن والإحن إنما ينشأ من إطلاق الحرية الطاغية لأصحاب الأموال الذين يستثمرونها في التجارة أو في الصناعة، ولأرباب الأطيان الذين يستغلونها بالتأجير أو بالزراعة
فهؤلاء وأولئك على قلتهم يتحكمون في الأجراء ويستبدون بالمستأجرين ولا تدركهم بهم رحمة الخالق بالخلق ولا عناية الصانع بالآلة. فصاحب الآلة يوفر لها الشحم والوقود، ومالك البقرة يهيئ لها الحظيرة والعلف؛ ولكن أصحاب الأموال والأطيان لا يكادون يتركون لعمالهم وفلاحيهم ما يمسك الروح ويستر البدن
وإذا شاءت الوزارة أن تحقق ما يعانيه العامل والصانع من أولى العمل، وما يقاسيه الأجير والزارع من ذوي الطين، تكشفت لها أستار المجتمع عن مآس مروعة من الظلم والغبن والطمع والأثرة لا يستطيع منع تمثيلها المحزن المخزي غير سلطان القانون
بقى ما تستطيعه الوزارة من طريق الإدارة وهو يشمل ما لا يدخل في نطاق الدين أو القانون بنص صريح، كمكافحة البطالة بتيسير سبب العمل للعامل، وتدبير رأس المال للصانع، وتمصير المعامل والمصانع والمتاجر والمصارف والشركات يداً ولساناً ليحل(331/2)
الوطنيون المتعطلون فيها محل الأجانب، وذلك مورد للرزق يمكن أن يعيش عليه ألوف من الأسر المحرومة أهملته الحكومات السالفة لاشتغالها بسياسة الكلام وخصومة الحكم عن كل نافع
بهذه الخطة المحكمة لكفاح الفقر بمعونة من سلطان الدين وسطوة القانون وقوة الحكومة تستطيع الوزارة أن تنقذ من غوائله الطفولة المعذبة والشبيبة المشردة والشيخوخة العاجزة والأسر المنكوبة والكفايات المعطلة، وأن تطهر المجتمع مما يجره عليه بقاء هذه الأحوال من فساد الأخلاق ونغل القلوب واضطراب الأمن وقلة الإنتاج وكثرة الجرائم. ونجاحها في ذلك معناه بناء المجتمع المصري على أسس جديدة من تقوى الله ورضوان الناس وتعاطف النفوس وتعاون القوى وتضامن الأمة.
احمد حسن الزيات(331/3)
الباحثون والساسة
للأستاذ عباس محمود العقاد
المعروف عن رجال السياسة في أمم الغرب أنهم أوسع اطلاعاً وأكمل ثقافة من رصفائهم في الأمم الشرقية، فمنهم الأدباء والناقدون، ومنهم المشتغلون بالفن أو بالعلم أو بالرياضة، وقل منهم من ليست له مشاركة في موضوع من موضوعات الذوق أو التفكير
لكن العجيب فيهم مع ذلك أنهم يعدون في بلادهم من أقل الناس اطلاعاً على الدراسات النافعة في شؤون السياسة العصرية، أي الشؤون التي هم بها مشتغلون وعليها عاكفون، كأنما يستنكف أحدهم أن يتعلم شيئاً في مسألة من المسائل هو أحرى أن يجلس فيها مجلس الأساتذة المعلمين!
ومن هنا يعتورهم السهو والتقصير، وتتعرض أحكامهم على المسائل العالمية لما يشبه الغفلة والإهمال
مثل من الأمثلة الكثيرة على ذلك هذه المحالفة الشيوعية النازية التي وقعت عند الأكثرين موقع المفاجأة والغرابة وفي طليعتهم أقطاب الوزارة والسفارة
ففي الوقت الذي كان فيه بعض السفراء والوزراء يعانون صدمة المفاجأة من جراء هذه المحالفة الغربية كان قراء الكتب السياسية يتلقونها كما يتلقون نبأ جائزاً في التقدير بل مرجحاً أعظم الترجيح في الحسبان
ففي أوائل هذه السنة طبع كتاب الناقد السياسي والخبير الاقتصادي الدكتور بيتر دركر الموسوم بنهاية الرجل الاقتصادي أو الرجل الذي يفترضه الشيوعيون والنازيون فإذا بالمؤلف يقول عن المحالفة بين الروسيا والأمم الديمقراطية: (إنها قد أحدثت من الأضرار ما لم تحدثه قط غلطة سياسية في السنين العشرين الأخيرة. فلن تقع الآن حرب بين ألمانيا وروسيا ما لم تعترض في الطريق قارعة لا تخطر على البال. . . ومتى امتنعت الحرب فلا بد من محالفة تربط هاتين الدولتين في وجه العالم الغربي بأسره، ولا ينبغي أن ننظر إلى الحرب بينهما إلا على اعتبار أنها فكرة متمناة أو أمنية ترد علينا مورد التفكير. . . أما الواقع فهو أن الدولتين خليقتان أن تتقاربا وتتحالفا لأنهما متشابهتان في لباب العقيدة وأحوال الاجتماع. ومن الحق أن نترقب هذه المحالفة ولو ناقضتها في الظاهر جميع(331/4)
الاعتبارات والتقديرات. . .)
وفي قريب من الوقت الذي طبع فيه ذلك الكتاب كان كتاب آخر باسم (بولونيا مفتاح أوربا) يطبع لمؤلفه الدكتور رايموند لسلي الثقة بين علماء الأمريكيين في هذه الشؤون، وكان مؤلفه يراجع آراء هتلر التي بسطها في كتابه (جهادي) عن المحالفة بين الروس والألمان فيرد قائلاً:
(ومع هذا يحتمل أن تصبح الروسيا أقوى من أن تمزق وأضعف من أن ترفض اقتراحاً من النازيين بالاتفاق الشامل بين الفريقين. فهي في عزلتها عن فرنسا وبريطانيا العظمى، وفي حذرها من تهديد اليابان لتخومها الشرقية، قد تؤثر محالفة ألمانيا على محاربتها، وقد تؤدي هذه المحالفة إلى بطلان الدولية الثالثة وتقديم الموارد الروسية إلى الألمان واتخاذ السياسة المعادية لليهود؛ ويلوح أن إبرام هذا الاتفاق عسير قبل موت ستالين، ولكن احتمالاً من هذين الاحتمالين وهما الحرب أو المحالفة الشاملة أمر لا ينبغي أن يغرب عن البال. . . ولا يصعب علينا أن نتوقع اتفاقاً على تقسيم بولونيا تقسيماً جديداً بعد المحالفة)
وحوالي هذا الوقت بعينه كانت صحيفة إنجليزية تصدر في فانكوفر اسمها شمس فانكوفر وهي بلدة في كندا تنشر بحثاً ضافياً في هذا الموضوع فتقول فيه بعد عرض المسألة من جميع جوانبها ما خلاصته: (أن ستالين وهتلر قد يطرحان عنهما خصومتهما القائمة في الوقت الحاضر ويتفقان على تكرار تقسيم بولونيا من جديد. فالحكومة والأحوال في كلتا الأمتين الروسية والألمانية ليس بينهما كبير خلاف، وإن سخط هتلر وأصحابه من بيان هذه الحقيقة: كلتاهما حكومة طغيان عسكري لا أثر في ظلالها للحرية، وقد صدقت الفكاهة التي تشيع اليوم في البيئات الألمانية وفحواها أن صاحباً يسأل صاحبه في معزل عن الناس: ما الفرق بين روسيا السوفيتية وألمانيا النازية؟ فيجيبه: الجو بارد في روسيا أبرد!. . .)
كان الباحثون السياسيون يفيضون في أمثال هذه البحوث بين الترجيح تارة والتوكيد تارة أخرى والسفراء والوزراء يلحون في وجوب عقد المحالفة بين الروسيا من جهة وبريطانيا العظمى وفرنسا من الجهة الأخرى، وكان منهم رجل حصيف مثل لويد جورج يكتب وينادي بأن هذه المحالفة ضرورة لا محيص عنها وباب لا باب غيره للنجاة من إرهاب(331/5)
الهتلرية والنازية، وكانت الإشاعات تتوالى بالتقدم في طريق الاتفاق والدخول في التفصيلات التي لا ضير منها على المبادئ والأصول، وتشاء مضحكات القدر أن نقرأ أنباء هذه البشريات وأنباء الغدر الروسي في بريد واحد وصل بعد استفحال الخطب وجلاء الشكوك!
ويسألني القارئ: وما اقتراحك في هذه المشكلة؟ أتراك توصي بإسناد الوزارة والسفارة إلى الباحثين والدارسين وانتزاعها من أيدي الوزراء والسفراء؟
وأبادر فأقول معاذ الله!. . . إن الباحث باحث والوزير وزير، فإذا أصبح الباحث وزيراً بطل بحثه ونقص من أحد طرفيه ولم يستوف العملين في آن
وإنما أقول بوجوب الانتفاع بهذه البحوث والدراسات في تذكير الوزراء والسفراء أو في بسط وجوه النظر في كل مسألة من مسائل السياسة والحكم عندما يعرضها عليهم العارضون
فيشتمل كل مكتب من المكاتب المتصلة بالسياسة القومية أو السياسة العالمية على قسم للقراءة والتلخيص والتبويب، ولا تنظر مسألة من المسائل إلا ومعها سجل الحقائق والمعلومات والآراء التي اهتدى إليها في تلك المسألة ذوو الخبرة والاختصاص
ولبيان الفرق بين قرار يتخذه عالم منقطع للدرس والمراجعة وقرار يتخذه وزير خاضع للقيود العلمية والوقائع الراهنة والمنازعات الحزبية نسأل:
هبوا وزراء فرنسا وبريطانيا العظمى اطلعوا جميعاً على كتب الباحثين وفصول الخبراء الثقات في ترجيح المحالفة النازية الشيوعية والتيئيس من المحالفة الأخرى وآمنوا أصدق الإيمان بما قرءوه فماذا عساهم كانوا صانعين؟
كانوا يحجمون عن مفاوضة الروسيا ويستضيعون الوقت فيما ليس وراءه طائل
ونعود فنسأل: أتراهم يحسنون بذلك أم يسيئون؟؟
واعتقادنا نحن أنهم يسيئون غاية الإساءة، لأن أنصار الروسيا بين الفرنسيين والإنجليز أبناء الأمم أجمع يظلون بعد ذلك في ضلالهم القديم، ويزعمون لأنفسهم أو لغيرهم أن ساسة فرنسا وإنجلترا هم الذين عزلوا الروسيا وقطعوا ما بينهم وبينها
فدفعوا بها كارهة إلى أحضان النازيين أعداء الديمقراطية، وانهم إذن مسؤولون عن هذا(331/6)
الفشل وعما يضيع بسبيله من الأرواح والأموال
ومتى شاعت هذه العقيدة بين الطبقات التي يؤخذ منها الجنود والعمال فالخطر عظيم، وتزييف العقيدة بالحجج العلمية والدروس النظرية عسير، وباب المكابرة واللجاجة مفتوح لمن شاء على مصراعيه
أما اليوم فقد أخطأ الساسة في مفاوضة الشيوعيين وأصاب المقدار. فلا مكابرة ولا لجاجة ولا خفاء بحقيقة النيات بعد أن بلغ من وضوح الحقيقة أن تلمسها كل يد وتبصرها كل عين
إن الدراسة حسنة واتباع الواقع حسن، وأحسن منهما واقع تهديه دراسة الدارسين.
عباس محمود العقاد(331/7)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 21 -
رأينا في المقال السالف سرقتين من سرقات الأستاذ أحمد (الأمين) كما كان يسميه أستاذنا الشيخ المراغي قبل أن تنكشف تلك السرقات
والكشف عن سرقات هذا الرجل المفضال لا يعد من الإيذاء حتى نقبل دعوة بعض الأصدقاء إلى مهادنته مراعاةً لأدب الصيام. فاحمد أمين نفسه يحكم منصبه في كلية الآداب يعرف أن الكشف عن سرقات الشعراء والخطباء والكتاب نوع من المرانة الذهنية، وفن من فنون الأدب الرفيع
وأعترف بأن اهتمامي بكشف سرقات أحمد أمين لا يخلو من شيطنة، ولعله ضرب من المنافسة للدكتور طه حسين، فالدكتور طه قد زعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهداه إليها، وأنا أيضاً أزعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه وسأهديه إليها، مع الفرق بين الهدايتين
وأصرح بأن تشجيع القراء وحرصهم على أن تجمع هذه المقالات في كتاب يرجع إليه من تهمهم معاودة النظر فيما شرحناه من الحقائق الأدبية، ذلك التشجيع لا يهمني كثيراً وإن كان يدلني على يقظة القراء ورغبتهم في محاسبة الكتاب والباحثين.
وإنما أنتظر أن أتلقى كلمة ثناء من الأستاذ أحمد أمين لأعرف أن الجميل في هذا البلد لا يضيع، فهو يعرف جيداً أني قدمت إليه خدمة عظيمة حين دللته على أن مصر لا تزال بخير ففيها رجال يحاسبون من كان في مثل منزلته من المتصدرين لتدريس الأدب بكلية الآداب، وهل يظن أصدقاؤنا بتلك الكلية أن حديقة الأورمان منطقة من مناطق المريخ، وأنهم بمنجاة من أسنة الأقلام؟ هيهات ثم هيهات؟!
ونرجع إلى السرقات فنقول:
شغل الأستاذ أحمد أمين نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال(331/8)
وقد ناقشنا هذا الرأي بمقال مفصل نكره تلخيصه اليوم لئلا نقع في الحديث المعاد، فهل يعرف القراء من أين أخذ الأستاذ أحمد أمين هذا الرأي؟ أخذه من قول الدكتور أحمد ضيف:
(وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم الساميّة ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم: لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة والبحث وحب الاطلاع. . . وكل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوربية، وقالوا سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة، لأن أساطير اليونان كان منشأها البحث عن الخالق وتصوره فلم ترشدهم عقولهم إلا إلى ضرب من الخرافات كتبوا عنها وألفوا فيها الأسفار ونصبوا لها التماثيل، فاستدل الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتتان فيه، وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام والميل إلى القَصص في النثر والشعر، لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضرباً من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير. ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظماً ونثراً)
ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف في محاضرات ألقاها بالجامعة المصرية سنة 1918 ونشرها سنة 1921
فهل عرفتم من أين سرق الأستاذ أحمد أمين كلامه عن الفرق بين وثنية العرب ووثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين سرق القول بأن الوثنية العربية لم تخلق التماثيل كما صنعت وثنية اليونان؟ هل عرفتم من أين أنتهب القول بأن المجاز والتشبيه لا يدلان على سعة الخيال؟ هل عرفتم من أين اغتصب القول بأن الجاهليين لم تتعدد عندهم ضروب البلاغة فلم يعرفوا الأقاصيص الشعرية والنثرية؟
إن الدكتور أحمد ضيف لم يبتكر هذا الكلام، ولكنه راعي الأمانة العلمية فذكر مصدره من كلام المستشرقين، أما الأستاذ أحمد أمين فقد انتهب ما نقله الدكتور أحمد ضيف عن المستشرقين ثم ادعى أنه من مبتكراته ودعا الناس إلى مناقشته في تلك (المبتكرات)!!(331/9)
فهل عرف أنه جازف أقبح مجازفة حين دعا الباحثين إلى مناقشته وهو يظن أن لن يسمع منهم غير الحمد والثناء؟
وفُتِنَ القراء بقول الأستاذ أحمد أمين إن العربي الجاهلي وصف ما رآه، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى مقال مطول في مجلة اسبوعية، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف:
(كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عما يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلم وعبَّر عما يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة)
فأين الذين فتنوا بكلام الأستاذ أحمد أمين ليعرفوا أنه مسروق من كلام الدكتور أحمد ضيف؟
وهناك فرق بين العبارتين: فعبارة الدكتور ضيف سبقت بتعليل مقبول لوقوف العربي عند وصف ما يراه، أما أحمد أمين فاقتضب الكلام حتى لا ينتبه بعض القراء إلى أنه يجدح من سويِق سواه!
وقال الأستاذ أحمد أمين إن بلاد العرب كانت في الأغلب جرداء فلم توح إليهم التفنن في وصف المناظر الطبيعية من رياض وبساتين، وجداول وأنهار، وجبال مكللة بالأشجار والأزهار
فهل يعرف القراء أنه سرق هذه الفكرة من قول الدكتور أحمد ضيف:
(إن طبيعة بلاد العرب الجافة ذات الشكل الواحد لم تُلهم العربي ولم توح إليه من أنواع الجمال غير جمال التعبير عما يجول بخاطره وإظهار عواطفه إظهاراً ساذجاً. غاب عنه جمال الطبيعة من حقول وخمائل ومن جبال وتلال مكللة بالأشجار والأزهار، ونَدرَ لديه جريان الماء وهدوء الجو، فلم ير إلا الصحراء المحرقة ذات الفضاء اللانهائي، والنخل المصعد في السماء على شكل واحد فأثر ذلك في خياله وجعله لا يعرف التغيير)
قد تقولون إن هذه أفكار تعدُّ من البديهيات، فمن حق أحمد أمين أن ينقلها عن أحمد ضيف
وهذا حق، ولكن ما رأيكم فيمن ينقل البديهيات التي أعيدت مرات على أنها من البدع المبتكر الطريف، ثم يقول وهو مزهو مختال: هذه آراء نعرضها للبحث وندعو القراء إلى(331/10)
مناقشتها رغبةً في تلخيص الأدب العربي من الأوهام والأضاليل؟!
وأراد الأستاذ أحمد أمين أن يأتي بالأعاجيب فقرر أن العرب لم يعرفوا الشعر القصصي ولا الشعر التمثيلي، وهي فكرة بسيطة لا تحتاج إلى دعوى الابتكار والابتداع، ولكنها مع ذلك مسروقة من قول الدكتور أحمد ضيف: (الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب)
وما ادعينا ولا ادعى أحد أن العرب كان عندهم شعر قصصي وشعر تمثيلي حتى نحتاج إلى حذلقة أحمد أمين.
وعاب صاحبنا على الناس أن يظنوا أن العرب عرفوا كل شيء، ولامهم على الاطمئنان المطلق إلى المؤلفات القديمة مع أنها على سعتها مشوشة تتنافر بعض أجزائها مع بعض، وعجب من أن يوجد قوم يأنفون من الخروج على الأدب القديم
وهذا الكلام (المبتكر) مسروق من قول الدكتور أحمد ضيف في مطلع المحاضرة التي ألقاها بحضور الزعيم سعد زغلول في اليوم التاسع من نوفمبر سنة 1918:
(دراسة الأدب العربي بالطرق المعروفة الآن لا تزال حديثة العهد. والأدب العربي على سعته وغناه مشوش مختلط مرتبك لا يزال باقياً على حالته الأولى من البساطة والسذاجة في التأليف والجمع، ولم تحرر بعد عقول أدبائنا من قيود الطرق القديمة والانتصار لها، ولا يزال يعد الخروج من القديم خروجاً عليه. ولا نزال نعتقد أن القدماء وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من الذكاء والإتقان، وغير ذلك من ضروب الرضا والارتياح)
ومن ذلك ترون أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن من المبتكرين حين أراد أن ينهبكم إلى الغفلة التي شاعت منذ أزمان، الغفلة التي توجب أن نجهل أن مصادر الأدب العربي تحتاج إلى تهذيب وترتيب، والتي قضت أن تظل عقولنا في أسر الأدب القديم، والتي أوهمتنا أن العرب لم يتركوا زيادةً لمستزيد، وأنهم وصلوا إلى كل شيء، وأن لغتهم أحسن اللغات
قد تعتذرون عن الأستاذ أحمد أمين بأنه يحادث ناساً يعيشون في سنة 1939 لا في سنة 1918، ولكن لا تؤاخذوني: فقد توهمت أننا نتقدم في الدراسات الأدبية من يوم إلى يوم، وأن ما ينشر في سنة 1918 لا يعاد بحروفه في سنة 1939 خوفاً من أن يقال إن في(331/11)
أساتذة الجامعة المصرية من يرى الحديث المعاد من المبتكرات
وحدثكم الأستاذ أحمد أمين أن الإعجاب المطلق بالأدب العربي يضر أكثر مما ينفع، وأن من واجبنا أن نوازن بين أدبنا وبين الآداب الأجنبية، وأن نترك أحكام النقل والتقليد. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:
(كل حكم مبني على النقل أو التقليد لا قيمة له، ولا يفيد شيئاً ولا يصح الاعتماد عليه، فلا يصح أن نصدق قول من قال إن لغة العرب أحسن اللغات بدون أن نعرف شيئاً من اللغات الأجنبية ونوازن بينها وبين اللغة العربية. وإننا لنسيء إلى اللغة العربية وإلى الأدب العربي وإلى الأمة العربية أكثر من أن نحسن إليها بمثل هذه الأقوال التي لا يمكن أن يعتمد عليها إنسان مفكر، كما أنها لا تحرك العقول ولا تحملها على البحث)
ذلك كلام الدكتور أحمد ضيف الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بدون أن يشير إليه. . . وهل كان يظن أن في مصر من لا يزال يذكر كلاماً قيل في سنة 1918 ونشر في سنة 1921؟
وحدثكم الأستاذ أحمد أمين بأنه يجب أن ننظر إلى الأدب العربي القديم كما ننظر إلى الآثار المودعة في المتاحف، وندرسه كما تدرس الآداب اليونانية واللاتينية. . . وهذا هو كلام الدكتور ضيف إذ يقول:
(من هذه الوجهة يجب أن نتعصب للغة العربية وآدابها كما يتعصب الأوربيون الآن للغة اللاتينية واليونانية لأنهما أصل معارفهم ومستودع سر مدينتهم)
وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب أن يكون لنا أدب مصري يصور المجتمع عندنا ويحدثنا عن الزارع في حقله والتاجر في متجره والعالم بين تلاميذه وكتبه والعابد في معبد والماجن في مجونه. . . وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:
(نريد أن تكون لنا آداب مصرية تمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه، تمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمير في قصره، والعالم بين تلاميذه وكتبه، والشيخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه. أي نريد أن تكون لنا شخصية في آدابنا. ولا نريد بذلك أن نهجر اللغة العربية وآدابها، لأننا إن فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب)
ومن هنا تعرفون كيف سرق أحمد أمين تلك (المبتكرات) التي دعاكم إلى تقليبها على جميع(331/12)
الوجوه لتعرفوا ما في كلامه من الخطأ والصواب!
وحدثكم أحمد أمين بأنه يجب تحرير الشعر من القوافي والأوزان حتى يتسع لشرح مختلف المقاصد والأغراض. وهذا منقول عن قول الدكتور ضيف:
(إن بلاغة العرب محصورة أو تكاد تكون محصورة في الشعر، والشعر لا يمثل حالة الاجتماع لضيق المجال فيه، لأنه لا يسع جميع الأفكار ولا يحتمل إظهار الحقائق كما ينبغي، لما فيه من القوانين التي جيب على الشاعر اتباعها، وكثيراً ما تضطره إلى ذكر ما لا يلزم، أو حذف ما يلزم، ولأن الشعر رغم كل شيء مبناه الخيال والمبالغات، والاستعارة والتشبيه والمجاز)
أما بعد فتلك مجموعة جديدة من سرقات أحمد أمين في الآراء التي عدَّها من (المبتكرات)
فهل أخذتم منها عبرة؟
هي أولاً شاهد على أن في أدبائنا من ينهب آراء معاصريه لا ترفق ولا استبقاء
وهي ثانياً مظهر من مظاهر الاستخفاف بيقظة النقد الأدبي فلو كان الأستاذ أحد أمين يعرف أن مصر رجالاً يسايرون الحياة الأدبية مسايرة نمكنهم من رد كل كلام إلى مصادره الظاهرة والخفية لتهيب عواقب السطو على آراء من سبقوه في القديم والحديث
وهي ثالثاً دليل جديد على عدل فاطر الأرض والسموات، فالدكتور ضيف قد انسحب من ميدان الحياة الأدبية منذ أعوام طوال، وهو يوغل في إيثار العزلة والانزواء، ولا يكاد يلتفت إلى أن له آراء يسرقها أحمد أمين أو غير أحمد أمين، ولعله يتأذى حين يسمع أننا ننوه بتلك الآراء ونأخذ بتلابيب من يسرقونها في وضح النهار أو ظلام الليل.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
سترون في المقال المقبل سرقات جديدة من سرقات الأستاذ النبيل أحمد أمين!
وسترون أنه لن يضن علينا بكلمة ثناء!
الهم إني صائم! الهم إني صائم!
فاجعل إفطاري على زاد أفضل من كشف سرقات الأدباء
(للحديث شجون)
زكي مبارك(331/13)
دمشقيات
صديقي رمضان. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
صديق عزيز، لقيته وأنا طفل في دمشق، ثم افتقدته وأنا شاب أذرع الأرض وأضرب في بلاد الله، ففرحت بلقائه وأحببته، وألمت لفقده وازداد حنيني إليه، فأين أنت يا صديقي رمضان؟
كنت أرقب قدومه، وأحسب له الأيام والليالي على مقدار ما يحسن طفل من الحساب، فإذا جاء فرحت به وضحكت له روحي لأني كنت أرى الدنيا تضحك له وتفرح بقدومه
كنت أبصره في المدرسة، فالمدرسة في رمضان مسجد، ودرسها تلاوة وذكر، وأهلوها أحبة، ما فيهم مدرّس يقسو على طلاب، وطلاب يكرهون المدرس، لأن رمضان وصل النفوس بالله فأشرق عليها من لدنه النور فذاقت حلاوة الإيمان، ومن ذاق حلاوة الإيمان، لم يعرف البغض ولا الشرّ ولا العدوان
كنت أراه في الأسواق، فالأسواق تعرض بضاعة رمضان وتفيض عليها روح رمضان فتمحو الغش من نفوس أهلها محواً ويملؤها خوف الله ورجاؤه، وتقف ألسنتهم عن الكذب لأنها جرت بذكر الله واستغفاره، وهانت عليهم الدنيا حين أرادوا الله والدار الآخرة، فغدا الناس آمنين أن يغشهم تاجر، أو يخدعهم في مال أو متاع، ويمضي النهار كله على ذلك، فإذا كان الأصيل ودنا الغروب تجلى رمضان على الأسواق بوجهه فهشت له وجوه الناس، وهتفت باسمه ألسن الباعة، فلا تسمع إلا أمثال قولهم: (الصايم في البيت بركة) - (الله وليك يا صايم) - (الله وليك ومحمد نبيك) ثم لا ترى إلا مسرعاً إلى داره حاملاً طبق (الفول المدمس) أو (المسبحة) أو سلال الفاكهة أو قطع (الجرادق)، ثم لا تبصر إلا مراقباً المنارة في دمشق ذات الثمانين منارة، أو منتظراً المدفع، فإذا سمع صيحة المؤذن أو طلقة المدفع دخل داره، والأطفال يجتمعون في كل رحبة في دمشق ليسمعوها فيصيحوا: أذن. . . أذن. . . أذن. . . ثم يطيروا إلى منازلهم كالظباء النافرة.
وكنت أبصر رمضان يؤلف بين القلوب المتباينة، ويجلو الأخوة الإسلامية رابطة المسلم أخي المسلم فتبدو في أكمل صورها فيتقابل الناس عند الغروب تقابل الأصدقاء على غير(331/15)
معرفة متقدمة فيتساءلون ويتحدثون ثم يتبادلون التمر والزبيب ويقدمون الفطور لمن أدركه المغرب على الطريق فلم يجد ما يفطر عليه، تمرة أو حبة من زبيب، هينة في ذاتها، تافهة في ثمنها، ولكنها تنشئ صداقة وتدل على عاطفة، وتشير إلى معنى كبير
وكنت انظر إلى رمضان وقد سكّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراح أهلها من التكالب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضم الرجل إلى أهله، وجمع الأسرة على أحلى مائدة وأجمل مجلس وأنفع مدرسة. فوا شوقاه إلى موائد رمضان وأنا الغريب الوحيد في مطعم لا أجد فيه صائماً ولا أسمع فيه أذاناً ولا أرى فيه ظلاً لرمضان. . .
فإذا انتهت ساعة الإفطار، بدأ رمضان يظهر في جلاله وجماله وعظمته المهولة في المسجد الأموي أجل مساجد الأرض اليوم وأجملها وأعظمها، وكنت أذهب إلى المسجد بعد المغرب وأنا طفل فأراه عامراً بالناس ممتلئاً بحلق العلم كما كان عامراً بهم ممتلئاً بها النهار بطوله، فأجول فيه مع صديقي سعيد الأفغاني خلال الحلقات نستمع ما يقول المدرسون والوعاظ، وأشهد ثريّاته وأضواءه وجماعاته، ومن صنع الله لهذا المسجد أن صلاة الجماعة لا تنقطع فيه خمس دقائق من الظهر إلى العشاء الآخرة في أيام السنة كلها وقد بقى ذلك إلى اليوم على ضعف الدين في النفوس وفساد الزمان. . وإن أنس لا أنس تلك الثريا الضخمة ولم يكن قد مدّ إليها الكهرباء، فكانت توقد مصابيحها وهي أكثر من ألف بالزيت واحداً بعد واحد يشعلها الحسكيون وهم يطيفون بها على سلاليم قصيرة من الخشب فيكون لذلك المشهد اثر في النفس واضح، ثم يكون العشاء وتقوم من بعده التراويح ولها في الأموي منظر ما رأيت أجل منه ولا أعظم إلا صلاة المغرب حول الكعبة في مسجد الله الحرام فإن ذلك يفوق الوصف، ولا يعرف قدره إلا بالعيان. وليس يقلّ من يصلي التراويح في الأموي عن خمسة آلاف أصلاً، وقد يبلغون في الليالي الأواخر الخمسة عشر والعشرين ألفاً، وهو عدد يكاد يشكّ فيه من لم يكن عارفاً بحقيقته ولكنه الواقع، يعرف ذلك الدماشقة ومن رأى الأموي من غيرهم. وحدثّ عن الليالي الأواخر (في دمشق) ولا حرج، وبالغ ولا تخش كذباً، فإن الحقيقة توشك أن تسبقك مبالغة، تلك هي ليالي الوداع يجلس فيها الناس صفوفاً حول السدّة بعد التراويح، ويقوم المؤذنون والمنشدون فينشدون الأشعار في وداع رمضان بأشجى نغمة وأحزنها ثم يردّد الناس كلهم: يا شهرنا ودعتنا عليك السلام! يا شهرنا هذا(331/16)
عليك السلام ويتزلزل المسجد من البكاء حزناً على رمضان
وسحر رمضان؛ إنه السحر الحلال. إنه جنة النفس ونعيمها في هذه الدنيا، وإني لأقنع من جنات الفردوس أن تكون مثل سحر رمضان، فأين ذهب رمضان؟ وأنى لي بأن تعود أيامي التي وصفت لأعود إليه؟
ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
إني لا أشتهي شيئاً إلا أن أعود طفلاً صغيراً لأستمتع بجوّ المسجد في رمضان وأنشق هواءه وأتذوق نعيمه. لم أعد أجد هذا النعيم، وما تغيرت أنا أفتغيرت الدنيا؟
إني لأتلفت أفتش في غربتي عن رمضان فلا ألقاه لا في المسجد ولا في السوق ولا في المدرسة، فهل مات رمضان؟
إذن فإنا لله وإنا إليه راجعون
لقد فقدت أنس قلبي يوم فقدت أمي، وأضعت راحة روحي يوم افتقدت رمضان، فعلى قلبي وأمي ورمضان وروحي رحمة الله وسلامه!
(كركوك)
علي الطنطاوي(331/17)
هل يقرأ الفنان هتلر
الذئب والحمار
رواية في منظر واحد
الأستاذ عبد اللطيف النشار
(يزعم هتلر أنه يريد إنقاذ الإنسانية من شوك الديمقراطية)
الحمار (يدخل المسرح خائفاً وحده):
أقبل الذئب ومالي ... بكفاح الذئب حيله
رَب ألهمني برأي ... فحياتي مستحيله
أدّعي أني مريض ... علني أنجو بحيله
(يتعارج. . . ويدخل الذئب)
الذئب:
لِمَ تمشي مشية الأع ... رج يا أوفى حبيب
كيف تشكو أي داء ... وأنا خير طبيب
أرني رجلك أشف ... يك من الجرح الرغيب
(يتقدم ليرى رجل الحمار)
الحمار:
لك شكري وثنائي ... وجزاك الله عني
قد أصاب الشوك رجلي ... فانزع الشوك ترِحْني
وإذا لم أستطع قتلك ... يا ذئب فكلني
(يركل بقدميه الخلفية)
الذئب (وهو يتلوى من الألم ويجود بنفسه):
هكذا أقضي حياتي ... هكذا عقبى الغرور
أنا قصاب فمالي ... أدَّعى طب الحمير
ليس في الكذْب على ال ... خلق سوى الشر الكثير(331/18)
(يموت)
الحمار:
أحمد الله على ال ... مقل ففي عقلي نجاتي
أحمد الله فلولا ... حيلتي ضاعت حياتي
كتب الله ليَ العمْ ... رَ بصبري وثباتي
عبد اللطيف النشار(331/19)
التعليم والإنتاج
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
أبنا في مقالنا السابق أهمية ارتباط معاهد التعليم بمصادر الإنتاج وضرورة اتصالها بها اتصالاً وثيقاً يضمن لخريجي هذه المعاهد العمل المباشر بين تلك المصادر بمجرد انتهائهم من عهد الدراسة ومغادرتهم لدورها إلى الحياة العامة
أما الإنتاج فهو في الحقيقة نوعان: إنتاج عقلي وإنتاج مادي. ولا شك في أن الإنتاج المادي، وهو أمر يتعلق برفاهية الأفراد والأمم وثروتها ومجدها الإقتصادي، يستمد قوته ونشاطه وحيويته من الإنتاج العقلي، إذ كلما كان الذهن نشيطاً وكانت الثقافة مزدهرة استطاع العقل البشري أن يبتكر طرقاً جديدة مفيدة في زيادة الإنتاج المادي وإنماء الثروات المختلفة مما يؤدي طبعاً إلى السعة بين الأفراد ورفع مستوى الحياة بين طبقات الشعب. ولذلك نعد الإنتاج العقلي الأساس الذي ينبني عليه عز الأمة وقوتها ورفاهيتها. ولعل هذا كان السبب الذي من أجله اتجهت المدارس المصرية بكل قوتها منذ فجر النهضة إلى دراسة مبادئ العلوم الحديثة النظرية ظناً من القائمين بأمرها أن الإنتاج بنوعيه محصور في ذلك لما هو ظاهر من الارتباط الوثيق بين المدنية الحديثة وبين تلك العلوم العصرية، مهملين بجانب ذلك أموراً حيوية أخرى لا محيص عنها في سبيل الحصول على الثمرة الحقيقة من التربية والتعليم في تلك المدارس، وهي أمور تعني بها العناية كلها جميع المعاهد العلمية في مختلف الأمم المتمدنة. فكان لهذا العمل أثره الكبير فيما نلمسه من الفروق الكبيرة بين شبابنا وشبابهم: فبينما تجد الشاب منهم ينغمس في أعمال الإنتاج بمجرد انتهائه من دراسته، إذا بالشاب المصري يسعى حثيثاً إلى الوظيفة ويفضلها على أي عمل منج آخر، معتقداً أن فيها ضماناً للعيش في هدوء وطمأنينة مهما قلت مواردها، ومهما هزل مستقبلها على حد قول الشاعر:
حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل
ومن ثم نرى الشاب المصري لا يقوى على المخاطرة في الأعمال الإنتاجية لأنه ضعيف العزم قليل الصبر على ما يعترضه من عقبات، يجب أن يصل دائماً إلى نتيجة حاسمة سريعة مما لا يصل إليه غيره في البلاد الأخرى إلا بقوة العزيمة والأناة والصبر والجد(331/20)
المتواصل؛ ونراه يتعجل الثروة قبل أوانها ويتعجل المجد قبل أن يحين حينه، يضجره البطء ويقضي عليه التسرع فيسلمه للفشل كمن قيل فيه: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). ونراه متراخياً متواكلاً يفضل الاعتماد على والديه وذويه وما يمنحونه إياه من فضلات الرزق، على القليل مما قد يصيبه من الكد وعرق الجبين، وهكذا نجد في شبابنا نقصاً في نواح متعددة بل في كثير من الصفات التي تقتضيها الرجولة ويحتمها الجهاد في الحياة الحاضرة. وما ذلك إلا لأن المدرسة لم تجد من الوقت ما يمكنها من العناية بغرس تلكم الصفات الضرورية في أبنائها لأنها خصصت كما ذكرنا في مقالنا السابق كل وقتها لحفظ الكتب المؤلفة في برامج الامتحان ليصل الطالب إلى الشهادة التي كانت ذات قيمة ذهبية في سوالف الأيام، وقد أصبحت اليوم في نظر عقلاء المجتمع لا قيمة لها في الحياة العملية العامة. وإذا كان الإنتاج العقلي كما قررنا هو الأساس الذي تبنى عليه قوة الإنتاج المادي فإن الأمم الحية لا تعنى بالإنتاج العقلي وحده مهملة في معاهدها كما فعلنا نحن في معاهدنا، الاتصال المباشر بمصادر الإنتاج المادي ولكن السياسة التي يسير عليها التعليم في تلك الأمم تقوم على فكرة حصر الإنتاج العقلي على قدر الإمكان في المتفوقين من أبنائها فلا يباح لكل متوسط العقل أو ضعيفه أن يخترق الصفوف إلى معاهد التعليم العليا ما دام قادراً على دفع مصروفاته كما هو الحال عندنا. ولكن هؤلاء قبل أن يتزاحموا على أبواب المعاهد العليا تزاحمهم عندنا اليوم، يوجهون توجيهاً صحيحاً إلى معاهد الإنتاج المادي لتتكون منهم فئات الزراع والصناع والتجار العاديين قبل أن يكونوا عالة على معاهد الثقافة العليا فلا يكون الكثيرون منهم نكبة على تلك المعاهد فقط بل نكبة كذلك على الإنتاج العقلي نفسه! بهذا تتكون طبقات الأمة عند تلك الأمم تكوناً صحيحاً، وتنحصر القيادة العقلية والعلمية في المتفوقين من ذوي العقول الناضجة والإفهام القوية، ولا توجد عندهم تلك الثقافة المزيفة التي تحمل شبابنا من شعبة الرياضة اليوم مثلاً على أن يلجئوا مكرهين كليتي الحقوق والتجارة مع أنهم لم يخلقوا لهما، تلك الثقافة المزيفة التي وصفها الأستاذ العقاد في إحدى مقالاته بالرسالة بقوله:
(فالثقافة المزيفة بلاء لا تنحصر أضراره في الأدب والفن والتأليف، ولا يزال يسري في كل شعبة من شعب الحياة حتى يعطل القوة العسكرية والقوة البدنية والقوة الحيوانية في(331/21)
النهاية وهي القوى التي يظن أنها أغنى ما تكون عن الثقافة والمثقفين)
من اجل هذا كله إذا بحثنا في إنتاجنا العقلي الحالي نجده مع الأسف ضئيلاً عقيما فما بالك إذن بالإنتاج المادي! ليس لدينا من الهيئات العلمية إلا العدد القليل، وأهمها طبعاً كليات الجامعة وهي وإن كانت لا تزال ناشئة إلا أننا كنا نأمل منها في زهاء 15 سنة مضت أن تثبت وجودها العلمي بين جمهور المثقفين كما أثبتته بين جدرانها الخاصة، فهي وإن كانت لها بحوث علمية إلا أنها إلى الآن لم يحس الجمهور المثقف بوجودها لأنه لم يستفد من بحوثها إلا قليلاً ولأنه لم يحس بأثر لها في الحياة العامة أكثر مما كان للمدارس العالية قديماً، فالجمهور لم يستفد شيئاً محسوساً إلى اليوم في أغانيه وأناشيده وأقاصيصه القومية من كلية الآداب مثلاً، والجمهور لم يجد فائدة تذكر من كلية العلوم وكلية الزراعة ومصلحة الكيمياء في أمور تتصل بالصميم من حياته الإنتاجية كمسألة دودة القطن التي تقضي على ملايين الجنيهات من ثروته سنوياً، لا ولا فيما هو أبسط من ذلك كالفوائد الصحية التي يمكن أن تجنى من عين مائية كالعين الجديدة في حلوان الخ
فإذا انتقلنا خطوة إلى التعليم الفني الزراعي والصناعي والتجاري وهو التعليم المتصل اتصالاً مباشراً بحياة الإنتاج المادي وجدنا حالة مع الآسف لا تسر أي مصري، إذ ليس لتلك المعاهد بأنواعها أثر يذكر في ذلك الإنتاج، لأن جميع خريجيها لا يعنون بمصادر الإنتاج المادي ولا يعبئون بالاتصال به. إنما همهم جميعاً الحصول على الوظيفة حتى ولو كانت وظيفة كتابية أو إدارية لا علاقة لها بفنهم. ولقد شرحت عيوب هذا النوع من التعليم في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) من صفحة 246 إلى صفحة 253
أما التعليم العام فالإنتاج العقلي يكاد يكون معدوماً بين رجاله أنفسهم، لأن كل إنتاجهم محصور في عدة كتب خاصة بمناهج الدراسة ليس للابتكار أثر فيها لأن معظمها منقول عن الكتب الإفرنجية لغرض الكسب المادي لا لغرض الثقافة والتثقيف، مما لا يحبب الطالب في المطالعة بل يبعده عنها ويبغضه فيها، على عكس الحال في المدارس الأجنبية التي تعتبر الغرض الأساسي من وجوها ووجود مؤلفاتها إنما هو تعويد أبنائها القراءة وتحبيبهم في المطالعة وإفهامهم جيداً أنهم إذا تركوا المدرسة فإنما يتركونها ليبدؤوا تعليمهم الحقيقي المستمد من داخلية نفوسهم بالاطلاع على الكتب المختلفة، مما لا أثر له عندنا مع(331/22)
الآسف. ولعل سبباً من أسباب ذلك العقم يرجع إلى النظام الذي ابتدعه دنلوب قديماً في مكافأة رجال التعليم وترقيتهم، والذي أخذ به أتباعه ولا يزال يأخذ به الكثيرون منهم، ذلك النظام العتيق الذي يقضي بقصر الترقية على ذوي المؤهلات التي حصل عليها الواحد منهم من غير نظر إلى ما ينتجه فترهم يقدمون دائماًَ صاحب المؤهلات الأوربية على ذوي المؤهلات المصرية مهما كان الأول عديم الإنتاج ومهما كان الثاني كثير الإنتاج لا لسبب إلى لأن الأول - كما يقولون - رجل إنجلترا أو وهذا النظام - وهو نظام المؤهلات والشهادات يقضي على الإنتاج العلمي قضاءاً تاماً، لأن الجميع عرفوا أنه يكفي للواحد منهم أن يقضي ثلاث سنوات في إنجلترا ليضمن القفز المستمر في التقدم على زملائه بل على أساتذته أنفسهم مهما كانوا منتجين! وبذا لا يهتم رجل التعليم اليوم بأن يكون منتجاً (وقد يضر الإنتاج أحياناً) بقدر ما يهتم بأن ينتسب إلى إحدى الكليات في أوربا ليقضي بها سنين معدودة تجعله في مقدمة الصفوف دائماً وتضمن له الوصول إلى أعلى القمة
وإنا لنأمل في هذا العهد الجديد أن يقضي على هذا النظام الدنلوبي العتيق قضاءاً تاماً، لأنه يقف حجر عثرة في سبيل النهوض بالإنتاج العلمي والعقلي الذي يجب أن يكون هو الأداة الفعالة في سبيل النجاح والرقي
عبد الحميد فهمي مطر(331/23)
صوت من ألف عام
للأستاذ محمد حسن الأعظمي
وهذا الصوت هو ديوان الأمير تميم بن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وهو كما يعرف الأدباء أمير شعراء مصر في العصر الفاطمي. ويمكننا القول بأن تميما هذا كان مبدأ حياة خصيبة عامرة نشأ في وقت واحد مع القاهرة. وكان الشعر في مصر بما نعلمه عن الضعف والقلة والندرة، إذ كان العصر العباسي الثاني حافلاً بدويلات مختلفة شبه مستقلة، وكان الشعر فيها يصيب تشجيعاً من أمراء العرب كدولة بني حمدان. إلا أن الحياة في مصر كانت طوفاناً مضطرب الأمواج بين أيدي رسل الخليفة من الأتراك الذين لم يكن الشعر العربي يلقي حياته المعروفة عندهم بحكم تباين اللغة والمنزع. لهذا كان يلجأ الشعراء إلى غير مصر ويلتمسون لأنفسهم الحياة والرقي في الشام وبغداد، بينما كانت اللغة الفارسية تلتمس في ذلك العهد نهضتها وانبعاثها في الدولة السامانية والغزنوية فإذا ما أتيح للفاطميين أن يقيموا دولتهم الكبرى في وادي النيل فنحن أمام دولة عربية هاشمية تحمي اللغة كما تحمي كتابها ودينها، ففي عصر الفاطميين أخصب البيان العربي وانفسح الميدان للشعراء يتبارون في قرض قصائده وعرض فرائده، أمكننا أن نسمع مائة شاعر في رثاء بعض الوزراء ينشدون جميعاً وينالون الجائزة جميعاً، فيجيدون من أربحية الفاطميين وسعة نائلهم ما يشجعهم على القول يدفعهم إلى الإجادة. ولكن لماذا يحدث صاحب العمدة والثعالبي وغيرهما عن تميم والجميع قد أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن تميما كان على عرش الإمارة في الشعر كما كان أبوه وأخوه على عرش الخلافة في مصر. الحق أن للسياسة دخلاً كبيراً في السطو على تميم وحرمان أبناء العربية أدهاراً طوالاً من ثمار تفكيره، فقد كان شعر تميم ضمن مخلفات ذلك البيت المالك، وفي خزانة القصر الفاطمي التي كانت حافلة بمئات الألوف من الذخائر الأدبية والنفائس الفلسفية والعلمية، ونحن نسمع من التاريخ أحاديث متشعبة الأطراف عن الأحداث الجسام التي انتابت هذا القصر في كتبه وفي جواهره بل في أهله ومشيديه، وكان الأمر بعد عصر الحاكم نهباً في أيدي الثورات المتتابعة بين الجيوش السودانية والتركية من جهة والمصرية من جهة أخرى، وأصيب الملك كله بأزمة جائحة وصدمة فاجعة تركت القصر نهباً والكتب سلباً. ثم جاء بعد ذلك(331/24)
العصر الذي غربت فيه شمس الدولة الفاطمية فنهبت هذه القصور وأحرق أكثرها وحمل القليل من تحفها وجواهرها، وشاءت الأقدار أن تحفظ لنا تميما وأن ينقل من مصر مع من هاجر من بقايا هذه الأسرة وأتباعها الذين اعتصموا بجبال اليمن ولاذوا بحصونها الطبيعية المنيعة من غوائل أعدائهم. أما أدباء العرب والمؤرخون فلم يعرفوا عن تميم بعد ذلك إلا شذرات متفرقة وبضع قصائد لعبت بها يد التحريف والتصحيف
إن البقية الباقية من أتباع الفاطميين لم يكونوا بمأمن على أنفسهم في جبال اليمن فأرادوا النجاة بأرواحهم وبما في أيديهم من الكتب إلى الهند في مقاطعة كُجرات، فأقاموا بها وشيدوا لأنفسهم هنالك دويلة روحية وأقاموا لهم كلية عظيمة تدرس بها العلوم الفاطمية حيث يقبل الطلبة من أنحاء الهند إليها فيتعلمون بعد امتحان دقيق ما تصبوا إليه نفوسهم من العرفان. وكان من نصيبي أن أدرس بهذه الكلية، أو بعبارة أقرب إلى الوضوح أنه كان يعنيني في هذه الكلية دراسة فلسفتها كما حاولت قبلها الانتساب إلى كليات أخرى في مذاهب شتى لاستكمال الثقافة الإسلامية من نواحيها العديدة، ولاعتقادي أن الحكمة ضالة العاقل ينشدها في كل مكان ويبحث عن لآلئها في كل غور وصقع. وكان هذا الديوان فيما وجدته بين نفائس المكتبة وما أكثرها، فنقلته من سبع نسخ مختلفة كما نقلت غيره من الكتب الخطية المفقودة في جميع مكاتب العالم، ومنها مثلاً ثمانمائة محاضرة لداعي دعاة الفاطميين المؤيد الشيرازي الذي ناظر أبا العلاء المعري. وقد أردت قبل طبع الديوان جملة أن أعرض على قراء الرسالة الغراء نماذج يسيرة من هذا الديوان
قال رداً على عبد الله بن المعتز في تفضيله العباسيين على العلويين في قصيدته التي أولها (أي ربع لآل هند ودار):
يا بني هاشم ولسنا سواء ... في صغار من العلي أو كبار
إن نكن ننتمي لجدّ فإنا ... قد سبقناكم لكل فخار
ليس عباسُكم كمثل عليٍّ ... هل تُقاس النجومُ بالأقمار
من له الفضل والتقدم في الإ ... سلام والناس شيعة الكفار
من له الصِهر والمواساة والنص ... رة والحرب ترتمي بالشرار
من دعاء النبي خِدنا وسمّا ... هـ أخا في الخلفاء والإظهار(331/25)
من له قال لا فتى كعلي ... لا ولا منصل سوى ذي الفقار
وبمن باهلَ النبيُّ أأنتم ... جهلاءٌ بواضح الأخبار
أَبِعبد الإله أم بحسين ... وأخيه سلالة الأطهار
يا بني عمنا ظلمتم وطرتم ... عن سبيل الإنصاف كل مطار
كيف تحوون بالأكُفِ مكاناًً ... لم تنالوا رؤياه بالأبصار
من توّطى الفراشَ يخلف فيه ... أحمداً وهو نحو يثرب سار
أين كان العباسُ إذ ذاك في ال ... هجرة أم في الفراش أم في الغار؟
ألكم مثل هذه يا بني العبا ... س مأثورة من الآثار. . .؟
ألكم حرمة بعم رسول (م) ... الله ليست فيكم بذات بوار؟
ولنا حرمة الولادة والأع ... مام والسبق والهدى والمنار
ولنا هجرة المهاجر قدماً ... ولنا نصرة من الأنصار
ولنا الصوم والصلاة وبذل ال ... عرف في عسرنا وفي الإعسار
ونحن أهل الكساء سادسنا الر ... وح أمين المهيمن الجبار
نحن أهل التقى وأهل المواسا ... ة وأهل النوال والأيسار
فدعوا خُطة العُلى لذويها ... من بني بيت أحمد الأبرار
أو فلوموا الإله في أن برانا ... فوقكم واغضبوا على المقدار
أجعلتم سقي الحجيج كمن آمن (م) ... بالله مؤمناً لا يداري؟
أو جعلتم نداء عباس في الحر ... ب كمن فر عن لقاء الشفار
كوقوف الوصي في غمرة المو ... ت لضرب الرؤوس تحت الغبار
حين ولّى صحب النَبّي فرارا ... وهو يحمي النبي عند الفرار
واسألوا يوم خيبر واسألوا ... مكة عن كرّه على الفجّار
واسألوا يوم بدر من فارس الإس ... لام فيه وطالب الأوتار
واسألوا كل غزوة لرسول (م) ... الله عمن أغار كل مغار
يا بني هاشم أليس عليّ ... كاشف الكرب والرزايا الكبار
فبماذا ملكتم دوننا إر ... ثَ نبيّ الهدى بلا استظهار(331/26)
أبقربي فنحن أقرب للمو ... روث منكم ومن مكان الشعار
أم بإرث ورثتموه فإنا ... نحن أهل الآثار والأخطار
لا تغطوا بحيفكم واضح الحق (م) ... فيقضي بكم لكل دمار
وأصيخوا لوقعة تملأ الأر ... ض عليكم بجحفل جرّار
تحت أعلامه من الفاطميي ... ن أسود ترمى شبا الأظفار
فأصدروا عن موارد الملك إنا ... نحن أهل الإيراد والإصدار
ولنا العز والسموّ عليكم ... والمساعي وقطب كل مدار
يا بني فاطم إلى كم أقيمكم ... بلساني ومنصلي وانتصاري
ويرثى الأمير أهل بيت النبي:
نأت بعد ما بان العزاء سعاد ... فحشو جفون المقلتين سهاد
فليتَ فؤادي للظمائن مربع ... وليت دموعي للخليط مزاد
نأوا بعدما ألقت مكائدها النوى ... وقرّت بهم دارٌ وصحّ وِداد
وقد تؤمن الأحداث من حيث تتقى ... ويبعد نجح الأمر حين يراد
أعاذل لي عن فسحة الصبر مذهب ... وللهو غيري مألوف ومصاد
ثوت لي أسلاف كرام بكربل ... هُم لثغور المسلمين سداد
أصابتهم من عبد شمس عداوة ... وعاجلهم بالناكثين حصاد
فكيف يلذ العيش عفوا وقد سطا ... وجار على آل النبي زياد
وقتلهم بغياً عبيد وكادهم ... يزيد بأنواع الشقاق فبادوا
بثارات بدر قاتلوهم ومكة ... وكادوهمُ والحق ليس يكاد
فحكّمت الأسياف فيهم وسلطت ... عليهم رِماح للنفاق حِداد
فكم كربة في كربلاء شديدة ... دهاهم بها للناكثين كياد
تحكّم فيهم كل أنوك جاهل ... ويغزون غزوا ليس فيه محاد
كأنهم ارتدّوا ارتداد أُميّة ... وحادوا كما حادت ثمود وعاد
ألم تعظموا يا قومُ رهط نبيكم ... أمالكم يوم النشور معاد
تداس بأقدام العُصاة جسومهم ... وتدرسهم جردٌ هناك جياد(331/27)
تضمُيهم بالقتل أمة جدهم ... سفاها وعن ماء الفرات تذاد
فماتوا عطاشاً صابرين على الوغى ... ولم يجبُنوا بل جالدوا فأجادوا
ولم يقبلوا حكم الدعىّ لأنهم ... تساموا وسادوا في المهود وقادوا
ولكنهم ماتوا كراماً أعزّة ... وعاش بهم قبل الممات عباد
وكم بأعالي كربلا من حفائر ... بها جُثث الأبرار ليس تُعاد
بها من بني الزهراء كل سميدع ... جوادٍ إذ أعيي الأنام جَواد
معفّرة في ذلك الترب منهم ... وجوه بها كان النجاح يفاد
فلهفي على قتل الحسين ومسلم ... وخزي لمن عاداهما وبعاد
ولهفي على زيد وبثاً مردّدا ... إذا حان من بث الكئيب نفاد
ألا كبدٌ تفنى عليهم صبابةً ... فيقطر حزناً أو يذوب فؤاد
ألا مقلة تهمي ألا أُذن تعي ... أكلّ قلوب العالمين جماد
تقاد دماء المارقين ولا أرى ... دماء بني بيت النبي تقاد
أليس هم الهادين والعترة التي ... بها انجاب شركٌ واضمحل فساد
تساق على الإرغام قسراً نساؤهم ... سبايا إلى أرض الشآم تُقاد
يسقن إلى دار اللعين صواغراً ... كما سيق في عصف الرياح جراد
كأنهم فيء النصارى وإنهم ... لأكرم مَن قد عزّ عنه قياد
يعزّ على الزهراء ذلة زينب ... وقتل حسين والقلوب شِداد
وقرع يزيد بالقضيب لسّنه ... لقد مجسوا أهل الشآم وهادوا
قتلتم بني الإيمان والوحي والهدى ... متى صحّ منكم في الإله مُراد
ولم تقتلوهم بل قتلتم هداكم ... بهم ونقصتم عند ذاك وزادوا
أمية ما زلتم لأبناء هاشم ... عِدي فاملأوا طرق النفاق وعادوا
إلى كم وقد لاحت براهين فضلهم ... عليكم نِفارٌ منكم وعناد
متى قط أضحى عبد شمس كهاشم ... لقد قل إنصاف وطال شراد
متى وُزِنت صمّ الحجار بجوهر ... متى شارفت شمَّ الجبال وهادُ
متى بعث الرحمن منكم كجدهم ... نبيَّا علت للحق منه زِناد(331/28)
متى كان يوماً صخركم كعليّهم ... إذا عُدَّ إيمان وعُدّ جهاد
متى أصبحت هندٌ كفاطمة الرضى ... متى قِيس بالصبح المنير سَواد
أَآل رسول الله سؤتم وكدتم ... ستُجنى عليكم ذلة وكساد
أليس رسول الله فيهم خصيمكم ... إذا اشتد إبعاد وأرمل زاد
بكُم أم بهم جاء القرآن مبشراً ... بكُم أم بهم دين الإله يُشاد
سأبكيكم يا سادتي بمدامع ... غزارٍ وحزن ليس عنه رقاد
وإن لم أعاد عبد شمس عليكم ... فلا اتسعت بي ما حييتُ بلاد
وأطلبهم حتى يروحوا ومالهم ... على الأرض من طول الفِرار مهاد
سَقى حفراً وارتكم وحوتكم ... من المستهِلاّت العِذاب عهاد
وقال متغزلاً:
قالت: أغدراً بنا في الحب قلت لها: ... لا نال غاية ما يرجوه مَن غَدرا
قالت: فلم لم تزرنا قلت: زاركم ... قلبي ولم يدر بي جسمي ولا شعرا
قالت: كذا يكتم العشّاق حبّهم ... فينعمون ويجنُون الهوى نضرا
قلت: اسمحي لي بتقبيلٍ أعيش به ... قالت: وأيّ محبٍ قبّل القمرا
وقال يصف الناعورة:
وباكية من غير دمع بأعين ... على غير خل دائماً تتحدر
يغني بها زجل المدير لقطبها ... فيطربها حسن الغناء فتنعر
إذا نزف العشاق دمع عيونهم ... فأدمعها مع كثرة السكب تغزر
وقال وقت الخروج من الشام سنة 374هـ:
قالوا الرحيل لخمسة ... تأتي سراعاً من جمادى
فأحببتهم أني اتخذت ... له البكا والحزن زادا
سبحان من قسم الهوى ... بين الأحبة والبعادا
وأعار للأجفان سق ... ما يسترق بها لعبادا
يا ويح من منع الفراق ... جفون مقلته الرقادا
وقال في الحكم:(331/29)
قواضب الرأي أمضى من شبا القضب ... والحزم في الجد ليس الحزم في اللعب
بت ساهراً عند رأس الأمر ترقبه ... ولا تبت نائماً عنه لدى الذنب
يرجى دفاع الرزايا قبل موقعها ... وليس يرتجع الماضي من النوب
وأفضل الحلم حلم عند مقدرة ... وأعذب الجود ما وافى بلا طلب
وقال أيضاً:
قتيل الحوادث مَن خافها ... فلا تخش حادثةً تنجح
مع العسر يسر يجّلي الأسى ... ألم تتذكر ألم نشرح
وقال:
عتبتْ فأثنى عليها العتاب ... ودعا دمعَ مقلتيها انسكاب
وسعت نحو خدّها بيديها ... فالتقى الياسمينُ والعُنَّاب
رُبَّ مبدي تعتّبٍ جعل العت ... ب رياء وهمّه الإعتاب
فاسقينها مدامةً تصبغ الكأ ... س كما يصبغ الخدود الشباب
ما ترى الليل كيف رقَّ دجاه ... وبدا طيلسانه ينجاب
وكأن الصباح في الأفق باد ... والدجى بين مخلبيه غراب
وكأن السماء لجة بحر ... وكأن النجوم فيها حباب
وكأن الجوزاء سيف صقيل ... وكأن الدجى عليها قِراب
وقال معرضاً ببعض القرابة، وذاك أنه ذكر أن الأمير يستعين على ما يأتي به من الشعر بغيره:
أرى أناساً ساءني ظنهم ... في كل ما قلت من الشعر
لما تطاطا بهمُ علمهم ... قاسوا بأقدارهمُ قدري
لو فهموا أو عقلوا لاستحوا ... أن يجعلوا المريخ كالبدر
قيسوا بشعري شعره تعلموا ... تصايق النهر عن البحر
من بطّل الحق هجا نفسه ... بجهله من حيث لا يدري
فناظروني فيه أو فاشرحوا ... شعريَ إن أنكرتم أمري
أو لا فقولوا حسدٌ قلتل ... مستمكن في القلب والصدر(331/30)
وقال يمدح أخاه الخليفة العزيز بالله الفاطمي:
أشرب فإن الزمان غضّ ... وصرفه ليِّن الجناب
من قهوة مرّة كميت ... أسكرُ من أعصر الشباب
أرق من أدمع التصابي ... سكباً وأشهى من الضراب
صاغ لها المزج حين شبت ... بطاق در من الحباب
كأن في كأسها صباحاً ... والليل محلولك الثياب
يسعى بها ساحر المآقي ... لا يمرض الوصل بالعتاب
كأنها لون وجنيته ... وطيب ألفاظه العذاب
إن ندى راحتي نزار ... ما زال يغني عن السحاب
مهذب أروع السجايا ... مقابل ما جد النصاب
ومن أحسن ما قيل في الأمير قول ابن رشيق:
أضح وأقوى ما سمعناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
محمد حسن الأعظمي
-(331/31)
لو. . .
للأستاذ إيليا أبو ماضي
لو أنني يا هند بدر السما ... هبطت من أفقي إلى مخدعك
وصرت عقداً لك أو خاتما ... في جيدك الناصع أو أصبعك
أو بلبل البستان ما لذ لي ... الإنشاد إن لم يك في مسمعك
ولو أكون الأرج الذاكي
لما هجرت الروض لولاك
وما حواني غير مغناك
ولم أفح حتى تكوني معي
فيك وفي الوردة سر الصبا ... وفي الصبا سر الهوى والجمال
فإن تريني واجماً باهتا ... حيالها أخشى عليها الزوال
فإنني شاهدت طيف الردى ... ينسل كالسارق بين الظلال
ولاح لي في الورق النامي
منطرحاً في الأرض قدامي
رموز آمال وأحلام
أحلام من؟ أحلام مضناك
إيليا أبو ماضي(331/32)
استطلاع صحفي
مدرسة الطيران الحربي
كيف تصبح طياراً حربياً؟
(لمندوب الرسالة)
تكلمنا في مقال سابق عن مدرسة التصوير الجوي وبينا
أهميتها. ونتحدث اليوم عن مدرسة الطيران الحربي حيث
يتلقى ضباطنا الطيارون دروسهم العلمية والعملية فيكونون
أهم وسائل القتال الحديث. فقد اصبح الطيران الحربي عماد
الجيوش فهو الذي يؤدي مهمة استطلاع مواطن العدو، وهو
الذي يدمر بقنابله موارد جيوشه، ويعطل طرق تموينه بنسف
السكك الحديدية أو المصانع الحربية والحاجيات الأولية، فهو
الذي يدعم الحرب الاقتصادية).
قوة الأعصاب
على طرف مسطرة ممدودة في يد أحد الطلاب أوقف مسمار على سطحه المستوي. والمسطرة وذراع الطالب في مستوى كتفه يتحركان ذات اليمين وذات اليسار تبعاً لأوامر الطبيب دون أن يهتز المسمار أو يسقط. فالطبيب يختبر قوة أعصاب الطالب ليقرر إذا كان يصلح لدراسة فن الطيران الحربي أو لا يصلح. وينتقل الطالب من اختبار إلى اخر، فهنا يختبر الطبيب حدة بصره وسلامته من العيوب فيقرب جسماً صغيراً من وجهه ليرى زاوية التقاء البصر في العينين، وهناك يدرس حساسية أجزاء الجسم فيمر أجساماً غريبة على جلده ويلاحظ الانفعالات المختلفة، وهكذا يمر طالب الالتحاق بمدرسة الطيران(331/33)
الحربي من مرحلة إلى أخرى، حتى يتأكد الطبيب أن جسمه من أصلح الأجسام وأقواها، فإن الطيار يتعرض لضغوط جوية مختلفة تودي بحياته إذا كان جسمه لا يتحملها.
فإذا قبل الطالب في مدرسة الطيران الحربي، فهو يبدأ دراسة فنية عمادها الخبرة العملية وتطبيق النظريات العلمية مع ملاحظة سرعة الخاطر وحضور البديهة. فالطيران الحربي فن الطوارئ سواء كانت طبيعية أم صناعية، فقد يقابل الطيار أثناء تحليقه في الجو إعصاراً، وقد يفسد منه أحد الأدوات، فعليه أن يدبر نفسه ويصلح خلله وإلا كلفه جهله أو ارتباكه ثمناً غالياً إذا لم يكن حياته فهو الطائرة التي يركبها. وقد تقابله أثناء قتاله مع العدو قوة أقوى من قوته أو خدعة لم تخطر له على بال، فعليه في هذه الحالة أن يتصرف ويجيد التصرف، وعليه أن يغامر ويحسن المغامرة وإلا أفسد المهمة التي كلفه بها قائده وكلف جيشه وأمته خسائر مادية ومعنوية كبيرة.
الطيران الثابت
يبدأ الطالب دراسته في مدرسة الطيران الحربي في غرفة صغيرة في أحد جوانبها جهاز صغير على شكل حجم الطائرة، ورسم على حائط الغرفة الأفق وزوايا الطيران المطلوبة. وفي جانب آخر يجلس المدرب أمام جهاز لاسلكي يعرف بواسطته حركات الجهاز كما يصدر أوامر بالاتجاه إلى اليمين أو إلى اليسار والأمام.
ويدور هذا الجهاز بالكهرباء، فيجلس الطالب على مقعده فيجد أمامه عصا القيادة وأقيسة اتجاهات الريح والضغط والبوصلة وغيرها من الأدوات التي لا غنى عنها لطيار. ويعمل الجهاز فتتولد فيه عدة تيارات هوائية تمثل التيارات الهوائية الجوية، ويتعرض جهازه لعدة أخطاء فيتعلم الطالب كيف يضبط جهازه في الوضع الصحيح بتحريك عصا القيادة في اتجاه يصحح أخطاء الريح فإذا مال الجهاز بفعل التيارات إلى اليمين صححه الطالب
وتعرف هذه الرحلة بالطيران الثابت، ففيها يتعرض الطالب لجميع مؤثرات الطيران، ولكن جهازه لا يفارق الأرض، وإن سمح له أن يدور إلى اليمين أو إلى اليسار. ويمكث الطالب على هذه الحالة عشر دقائق في اليوم لمدة 15 يوماً. فيتاح للطالب المبتدئ أن يعرف كثيراً من أسرار الطيران دون أن يعرض حياته ومال الدولة للهلاك. أضف إلى ذلك أنه يكون بعيداً عن ضوضاء المحركات مالكاً لأعصابه فيسهل عليه أن يفهم إرشادات مدربه بسهولة(331/34)
لا تتيسر له إذا استعمل طائرة حقيقية، ثم وجد نفسه لأول مرة معلقاً بين الأرض والسماء
الطيران الأعمى
والأصل في هذا الجهاز أن يتمرن عليه الطيارون فيما يسمى بالطيران الأعمى، إذ يغطي سقفه فينعزل القائد عن العالم ولا يبقى أمامه إلا خريطة وأجهزة ليضبط بها الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه. وهذا المران هام جداً لمن يريد قطع مسافات طويلة على ارتفاعات كبيرة لا يمكنه رؤية تفاصيل الأرض أو في مناطق متشابهة كالصحارى أو البحار والمحيطات، فعلى ضوء هذه الأدوات وحدها يعرف الطيار طريقه وبمساعدتها يصل إلى هدفه
ورأت إدارة المدرسة أن تستغل هذا الجهاز لتعليم المبتدئين لقلة نفقاته ولبعده عن الخطر، فإنه يدار بالكهرباء التي لا تكلف الدولة إلا نفقات زهيدة لا تذكر إلى جانب ما تستهلكه الطائرة الحقيقية من وقود وآلات. ويمر بهذا الجهاز كل طالب يدرس فن الطيران سواء كان ضابطاً أو مجاهداً (صول)
والمعروف أن الطيارين لا يحتاجون إلى كثير من تنظيم الصفوف وتعليم المشية العسكرية والحركات الحربية الأرضية ولكنه يحب على كل طيار أن يقضي أربعة أشهر يتعلم فيها هذه الحركات لتكتسب عضلاته المرونة الرياضية وليتعود الحياة العسكرية، فإذا أتقنها بدأت حياته كطيار
بين طبقات الهواء
وبعد أن يتقن الطالب السيطرة على إدارة هذا الجهاز ينتقل إلى الرحلة التالية فيحلق بطيارة حقيقية في الهواء. وتحتوى طائرة التدريب عادة على مقعدين أحدهما خلف الآخر جهز كل منهما بجميع أدوات القيادة، وامتاز مقعد المدرب (بزر) إذا ضغط عليه انتقلت عملية القيادة إلى أدواته. يجلس الطالب في مقعده ويجلس المدرب في الثاني فإذا ارتفعت الطائرة في طبقات الهواء ترك المدرب لتلميذه مهمة قيادتها تبعاً للخبرة التي تلقاها عندما كان في مرحلة الطيران الثابت. فإذا أخطأ صحح له أخطاءه
ويستمر هذا المران أشهراً ثلاثة يتلقى الطيار أثنائها فنون الطيران كالملاحة الجوية(331/35)
وصيانة الطائرة وفنون اللاسلكي واستعمال أسلحة القتال المختلفة، فإن المران العملي لا يستنفذ كل وقت الطالب إذ هو لا يتجاوز الساعة في اليوم بينما يصرف باقي يومه في تلقي العلوم النظرية، ويتلقى طلبة الكلية الحربية بعض هذه العلوم قبل التحاقهم بمدرسة الطيران
ويتنقل الطالب أثناء مرانه على ثلاثة أنواع من الطائرات تختلف في الوزن والسرعة والدقة، ولهذا فهي تقسم إلى ثلاث مراحل أولاها الطيران الابتدائي فيقود الطالب طائرة من طراز ماجستر، وفي الطيران المتوسط تكون طائرته من نوع الإفرو وفي المرحلة الأخيرة المعروفة باسم الطيران العالي يقود طائرة من نوع الأوداكس، وتختلف سرعة الهبوط على الأرض في كل من هذه الأنواع الثلاثة
مدرسة حديثة ناجحة
فإذا نجح الطالب في اجتياز هذه الفترات الثلاث جاز له أن يقود أكبر الطائرات وأكثرها تعقيداً. وقد تمكنت مدرسة الطيران الحربي من سد حاجات سلاح الطيران الجوي المصري رغم حداثة عهدها إذ أنشئت سنة 1938. ولم تكن هي أولى مدارس الطيران في مصر، فقد أنشأ سلاح الطيران الحربي البريطاني مدرسة في أبي قير سنة 1929
ويبذل مدير المدرسة عبد الحميد الدغيدي أفندي كثيراً من الجهد والوقت حتى تؤدي المدرسة مهمتها بتقديم طيارين صالحين يقدرون المهمة الملقاة على عاتقهم بالدفاع عن مصر وكرامتها، ويعرفون أن الطيران أصبح من أشد وسائل القتال خطورة
صيانة وإصلاح
وإذا قلنا مدرسة الطيران الحربي فإننا في الواقع نتكلم عن أربع مدارس مجتمعة في مكان واحد وتحت إدارة واحدة. فإن الطيران الحربي يحتاج إلى مدرسة ميكانيكية يتعلم فيها رجال الجيش كيف يصلحون العطب الذي يحل بطائرتهم والعناية بها، فإن مهمة حفظ هذه الأدوات لا تقل خطورة عن مهمة قيادتها. فإن أقل خلل في جهاز الطائرة يعرضها للتلف كما يكلف الأمة فقد أرواح عزيزة عليها
ولهذا فقد اختص فريق من الطلبة بالدراسة في هذا المعهد حيث يفحصون أجزاء الطائرات(331/36)
على نماذج مكشوفة عملت فيها قطاعات تبين أجزائها المختلفة حتى يشاهد الطالب بنفسه العمليات الداخلية في الطائرة وأثرها. ففي إحدى الغرف تشاهد محركاً تظهر فيه مجاري الوقود وتبين تأثيره. وفي مكان آخر تشاهد نموذج جناح الطائرة وجزءها الخلفي وهو مكشوف بين التركيبات الداخلية وقوة مقاومتها
ويتولى خريجو هذا القسم الإشراف على صيانة الطائرات وإصلاحها، ولا يباح للطائرة أن تغادر حظيرتها إلا إذا رأى الضابط المسئول أنها في حالة جيدة وأن جميع أجهزتها سليمة. ولهذا يتولى المسئولون فحص الطائرات كل مدة معينة. وأحياناً يكون هذا الفحص كاملاً وأحياناً يكون سطحياً تبعاً لحالة الطائرة والمدة التي حلقتها في الجو، فلكل طائرة كتابها الخاص الذي يبين تاريخ حياتها حيث تقيد فيه عدد ساعات تحليقها في الجو والأماكن التي زارتها والأعمال التي أدتها
حلقة متصلة
وتستلزم لدراسة الميكانيكية لأجزاء الطائرات معرفة عدة مهن فكما تحتاج إلى حداد فهي تحتاج إلى نجار، فبعض أجزائها يتكون من المعادن وبعضها الآخر يتكون من الخشب. أضف إلى ذلك ما يحتاجه سلاح الطيران من أثاث تعد به الحجرات وصناديق تحفظ فيها الذخائر والأجهزة
ويتبع مدرسة الطيران الحربي مدارس التصوير الجوي والمدفعية واللاسلكي. وقد تحدثنا عن الأولى في مقال سابق وفي عدد تال نتحدث عن المدرستين الأخريين فإن كل هذه الفنون ضرورية للطيار حتى يكون قادراً على تأدية مهمته سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب
وفي مدرسة المدفعية يتعلم كيف يطلق القنابل ويستعمل مدافعه السريعة الطلقات، وفي مدرسة اللاسلكي يتعلم كيف يتلقى الأوامر من قيادته وهو محلق في الجو
فوزي الشتوي(331/37)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 2 -
والتحق الفتى بالجامعة في جنوة حيث بدأت فترة نشاطه في قراءة الآداب والتزود بشتى فروع المعرفة مما يدخل في نطاق دراسته؛ وما كان اعتماده فيما يقرأه على الجامعة، فلو أنه قصر همه على ما كانت تزجيه لطلابها من الدروس والكتب لكان له وجهة غير التي اتجهها في المطالعة والبحث ولكانت ثقافته من نوع محدود، هو ذلك النوع الذي يعد الطلاب للإجازات التي تمنحها الجامعات لأبنائها دلالة على انهم درسوا هذه الفنون أو تلك في مستوى معين وعلى صورة معينة ما تكاد تختلف في طالب عنها في آخر
وما كان الفتى ممن يسهل قيادهم من الفتيان فيولون الوجهة التي يريدها لهم غيرهم، وإنما كان بطبعه ثائراً على كل قيد، ما رأى شبح القواعد التي تحد من الحرية في شيء إلا نفر منه ثم عول على تخطي تلك القيود ولو أصابه من وراء ذلك الإعانات والإحراج؛ وكثيراً ما أدى ذلك إلى شكوى القائمين على شؤون الجامعة، وإلى اتهام من يجهل خلقه إياه بأنه مشاغب متمرد؛ أما الذين عرفوه معرفة خبرة فكانوا يحسون في ذلك التمرد وفي ذلك التوثب روحاً قوية حرة لا يجدون نظيرها في أحد ممن حوله من الطلاب
وكانت الحكومة وقد هالها ما هب من الثورات تقاوم كل ميل إلى الحرية ما وسعتها المقاومة؛ وكانت الجامعات هي الأمكنة التي تنظر إليها بعين الخوف والحذر، ففي هذه الأبنية يلتقي الشباب، والتقاء الشباب في جماعات أمر لا يتفق في طبيعته مع تلك المقاومة التي راحت تحكم الحكومة أمرها في طول البلاد وعرضها؛ فللشباب أحلام وآمال لا تحد، وفيهم حيوية وتوثب، ثم هم يتزودون من المعرفة؛ ومن كان هذا شأنهم، أو من كانت هذه طبيعتهم صعب على الآمرين أخذهم بالعنف، بل ما يكون العنف إلا داعياً إلى العصيان(331/38)
فالتذمر فالثورة
وكان حراماً على الأساتذة أن يجاروا الطلاب في أهوائهم، أو أن يكون فيما يلقونه عليهم ما يحفزهم إلى أيتجهوا الوجهة التي لا ترضاها الحكومات لهم؛ وكانت إدارة الجامعة في جنوة لا تقبل من الطلاب غالباً إلا من تطمئن إلى سلوكه ومن يملك أبوه قدراً معيناً من الثروة لتكون ثروته رهينة لدى الحكومة متى شاءت؛ وحسبك أنها كانت تحتم على الطلاب أن يحلقوا شواربهم لأن الشوارب عندها كانت من علامات التمرد والنزوع إلى الأفكار الثورية! ومن خالف ذلك حمل على رغمه إلى أقرب حلاق حيث يقضي على شاربه في غير رفق، ولا ندري كم مرة حمل فيها مازيني على هذه الصورة المضحكة!
وكانت له وهو لا يزال في الجامعة الزعامة على الطلاب جميعاً؛ وهو بذلك يقدم البرهان العملي على أن الزعيم الشعبي يولد وفيه صفات الزعامة، فما يزال زعيماً في كل مراحل حياته حتى تتناهى إليه كبرى الزعامات فيصبح في أمته الرجل الذي يعمل بوحيه الرجال أرادوا ذلك أو لم يريدوا
كان وسط إخوانه جاداً لا يعرف صغار الأمور، عزوفاً بطبعه عن اللهو وإن كان يحب الرياضة البدنية ويجعل لها بعض وقته، فإذا كان لا بد من المزاح فهو مزاح الأديب الفطن، الذي يحلق ولا يسف، والذي تعذب روحه دون أن يبتذل شخصه. وكان له إلى الموسيقى ميل شديد ولكن على أنها شيء تسمو بها النفس وتستيقظ عليه الروح، أما أن تكون ملهاة أو مدعاة إلى المجون والعبث فذلك ما كان ينفر منه أشد النفور
وكان شخصه أبداً يوحي إلى من حوله معاني الاحترام؛ فصفاء ذهنه وحدة تفكيره يمليان على المتحدث أن يفكر فيما يقول، وقوة خلقه وترفعه عن الدنايا تحول بين الكلمة النابية على لسان غيره وبين الإعلان؛ وإنه ليحمي الضعيف وينتصر للمظلوم، ويدافع عن الحق في كل ما يعرض له من الأمور؛ ثم إنه ليواسي البائس ويعزي المحزون، ويمد الفقير بما تملك يداه من نقود وكتب وملابس. ولسوف تكبر معه تلك الصفات وتنتقل من مجال الجامعة إلى مجال إيطاليا كلها يوم ينفخ فيها من روحه فيبعث في أرجائها الحياة والأمل
وكانت القراءة أحب هوية إلى نفسه منذ حداثته، فكان يكب على ما يقع في يده من الكتب فما يدعها حتى يأتي عليها؛ ثم اتفق وبعض خلانه على تأليف جماعة للقراءة والدرس.(331/39)
وكانت الحكومة بعد ثورات سنة 1820 قد شددت الرقابة على الكتب فلا تسمح بنشر ما يدعو إلى المبادئ الثورية منها أو ما توحي قراءته بتلك المبادئ؛ وكذلك شددت الحكومة الوثاق على الصحف الأجنبية فلا تأذن بدخول البلاد إلا لما لا تخشى من دخوله. من أجل ذلك عولت تلك الجماعة على تلمس السبل لتهريب الكتب والصحف المحرمة، ولقد نجحت في ذلك نجاحاً مرضياً
وأقبل مازيني على كتب الأدب فراح يعيش مع شكسبير وجوته وبيرون وشلر، وكان قد قرأ قبل هؤلاء دانتي وأعجب به أيما إعجاب حتى لقد صار له المكان الأسمى في قلبه
كان مازيني يرى رسالة الأدب على العموم والشعر على الخصوص السمو بالنفوس وتطهيرها، وبث الأمل فيها وتقويتها وشحذ العزائم واستنهاض الهمم، وإيجاد روح المحبة والمودة بين الناس، وكان يرى أن الشاعر الحق هو الذي يجمع بين الشعر والحكمة فيطرب النفوس ويطير بها إلى الجواء العليا ثم يملأها بمعاني الفضيلة ويستحثها على الجهاد والعمل؛ أما الاقتصار على التغني والوصف دون أن يكون من وراء ذلك غاية من فضيلة أو عمل فذلك عنده ضرب من النقص
وقرأ مازيني فيما قرأ الفلسفة فدرس هيجل وكانت وفخت وهردر، وصاحب روسو وفلتير فترة من الزمن، ورجع إلى ماكيافيلي وكان عنده في السياسة كدانتي في الأدب إذ كان كلاهما إيطالياً وطنياً وإذ كان نبوغ كل منهما يدل على إيطاليا جديرة بأن تخرج النوابغ الأفذاذ
وكان في إيطاليا يومئذ نزاع بين أنصار الأدب الابتداعي (الرومانتيكي) وأنصار الأدب الأتباعي (الكلاسيكي)؛ فكان من الطبيعي أن يشايع مازيني الفريق الأول، فينتصر لأدب الحرية والابتكار الذي يتحرر من القيود ويجرف السدود، وكم كان لذلك معجباً بشاعر إنجلترا العظيم اللورد بيرون، ذلك الذي كان يصل شعره إلى أعماق نفسه لما كان فيه من تمرد وتوثب ولما كان يوحي به من معاني العزم والجهاد والتغلب على الشدائد؛ وكان اسم بيرون يومئذ يدوي في أنحاء أوربا حتى لقد باتت كتبه فتنة كل شاب في كل لغة
وكان مازيني يقول إنه لن يتحقق لإيطاليا من جديد كيان سياسي اجتماعي إلا إذا تحقق لها أدب يدعو إلى الحرية والتقدم. ومما ذكره في هذا الصدد قوله: (إن تشريع وآداب أية أمة(331/40)
يسيران أبداً في خطين متوازيين) وقوله: (إن بين تقدم الثقافة العقلية والحياة السياسية للأمة ارتباطاً وثيقاً) وتحدث عن الأدب الابتداعي بقوله: إن غرض الأديب الابتداعي هو أن يمد الإيطاليين بأدب قومي أصيل، لا بأدب كذلك الذي يكون كصوت الموسيقى العابرة يطأ الأذن ثم يموت؛ أدب يترجم لهم عن نوازع نفوسهم وأفكارهم وحاجاتهم وحركتهم الاجتماعية)
وراح الشاب وهو في الثالثة والعشرين يكتب في الصحف وقد صرف همه أول الأمر إلى النقد، إذا كان يرجو من ورائه أن يوجه أدب قومه إلى ما كان يريد؛ وبدأ يكتب في صحيفة في جنوة ولكنها عطلت بأمر الرقيب بعد عام، فأنشأ صاحبها غيرها وكتب إلى مازيني ليوافيه بأبحاثه ففعل مغتبطاً ولكن هذه الصحيفة لحقت بسابقتها بعد عام آخر، فتعاظم الأمر هذا الشاب الحر ولكنه ما زاده إلا إيماناً بالحرية ومزاياها
وتسنى لمازيني بعد جهد ليس بالقليل أن يتصل بأكبر صحف بلاده وكانت تسمى (أنتولوجيا) وقد أخذت مواهبه، كناقد من أمهر النقاد، تتجلى في تلك الصحيفة
وكان مازيني يجعل من الأدب يومئذ وسيلته إلى خدمة بلاده وكانت تحدثه نفسه بشتى المشروعات الأدبية يرمى بها إلى الهدف الذي عينه، هدف القومية والحرية؛ ولكن هاجساً ظل يهجس في نفسه منذ ترك الجامعة أن الأدب ليس كل شيء، فهو وسيلة بطيئة، ولا سيما أن الرقابة تضيق مجاله أشد التضييق
وكان ذلك الهاجس يكرب نفسه إذ كان يدعه في حيرة من أمره ويذره أحياناً بين اليأس والرجاء؛ فروحه المتوثبة كانت تستبطئ الوسيلة التي اتخذها وتتوق إلى وسيلة غيرها ولكنه كان لا يدري ما عسى أن تكون الوسيلة الجديدة. . . أليس يحس يد البطش تقضي على كل ميل إلى المقاومة في كل جهة من جهات إيطاليا؟ ثم ألا يذكر ما حل بالثائرين قبل ذلك بنحو ثمانية أعوام؟ وهاهو ذا مترنخ لا يزال يشهر سيف الرجعية فيخطف بريقه الأبصار ويلقي الرعب في الأفئدة
على أنه وإن عدم الوسيلة كان يرى الغاية واضحة أمامه أتم الوضوح؛ وما كانت تلك الغاية إلا بناء إيطاليا من جديد على أساس قومي، فتصبح أمة واحدة تتمتع بالحرية وتبهر العالم كما تعودت أن تبهره من قبل بثقافتها ومدنيتها؛ ولقد استقرت هذه الغاية في أعماق(331/41)
نفسه حتى أصبحت أغلى عنده من حياته؛ وما تهدأ تلك النفس التي تتنزى في أغلال الرجعية حتى يؤدي رسالته أو يهلك دونها، مهما يرى أمامه من جبروت ويلمس من بطش؛ ولكم سلح الحق الأعزال وحطم الإيمان السلاسل والأغلال
وكان الفتى منذ عامين قد اتصل بجماعة الكاربوناري وانضم إلى صفوفهم؛ وكانت تلك الجماعة لا تزال تضم إليها الأنصار في طول البلاد وعرضها، ولئن كان قد لحقها الوهن منذ ثوراتها عام 1820، فلقد ظلت متماسكة، ولقد أخذت تنتشر حتى لقد جازت حدود إيطاليا وصار لها مراكز في القارة، وكان مركزها الرئيسي في باريس، حيث اتصل زعماؤها بالأحرار الناقمين على الملكية المتجبرة في فرنسا ملكية شارل العاشر، أو الكونت دا أرتوا ذلك الذي شهد بنفسه بالأمس القريب الثورة الكبرى ورأى مصير لويس المسكين فما اعتبر، بل طغى واستكبر، حين استوى على العرش وازدهاء التاج والصولجان.
ولكن جماعة الكاربوناري كان يعوزها المال والقيادة الحكيمة، وذلك ما كان يألم له مازيني أشد الألم، وكذلك كان يألم مازيني من اعتماد الجماعة على فرنسا فحسب إذ كان يرى - وما أجمل ما كان يرى - أن قوة الشعب إن لم تكن منبعثة منه فلا أمل فيها، وأساس الوطنية والجهاد القومي اعتماد الشعب على إيمانه وثقته في نفسه أولاً، ولا ضير بعد ذلك أن يتلقى العون من غيره؛ ولكنه إن اعتمد على غيره وكانت تعوزه العزيمة فليس له من أمل إلا أن يعينه ذلك الغير، وهذا أمر غير مضمون في كل وقت، وإذا كف ذلك الغير يده عظمت الخيبة وتسرب إلى النفوس اليأس
على أنه على الرغم من هذا كان يرى في الجماعة الهيئة الوحيدة التي تعتبر عنصر المقاومة والفداء، ولذلك لم يتردد أن يضع يده على خنجر عار ويؤدي القسم على تنفيذ ما يأمر به؛ وكان من نظام الجماعة ألا يعرف العضو رؤساءه، وإنما يعرف زميلاً أو زميلين، ولقد أخلص مازيني لمبادئ الجماعة ونمى أمر إخلاصه وحماسته إلى رؤسائه القريبين، فأوفد من قبلهم إلى بعض الجهات مبشراً بتلك المبادئ عاملاً على ضم أعضاء جدد إلى الكاربوناري. . .
ورجفت الراجفة في فرنسا فأطاحت بالملك المتجبر عام 1830؛ فرأى للمرة الثانية الدليل العملي على أن قوة الشعوب قد باتت أمراً يجدر بكل حاكم أن يحسب له ألف حساب؛ وأن(331/42)
هذه الشعوب إذا استقرت بعد هياج فلن تكون، إذا سلط عليها الظلم، إلا كالبحر يعظم جيشانه وفورانه بقدر ما كان من تطامنه وثباته
وهبطت من وراء الألب على إيطاليا أنباء الثورة الجديدة في فرنسا والتمعت بوارق الأمل للأحرار، وتأهب رجال الكاربوناري، وقد حسبوا أن قد جاء اليوم الموعود، ونشط مازيني وخلانه يذيعون مبادئ الجماعة ويهيبون بالشباب أن ينتظروا أول صيحة
ولكن الحكومة ما لبثت أن ألقت القبض عليه، فلقد بثت من قبل عيونها بين صفوف هذه الجماعة واتهم مازيني بأنه كان يغري أحدهم بالانضمام إليها. وألقى بالشاب المجاهد في غيابة السجن في سافو وهو يومئذ في الخامسة والعشرين، فكان هذا أول ما لحقه من الآلام في حياته التي سوف تكون مليئة بالآلام
وسيق إلى المحاكمة فمالت إلى تبرئته لعدم توافر الأدلة ولأنه لم يقم إلا شاهد واحد عليه؛ ولكن السلطة خيرته بين الاعتقال في إحدى القرى أو النفي إلى خارج إيطاليا؛ فاختار النفي، وعبر جبال الألب إلى فرنسا، وكان يريد الذهاب إلى باريس حيث يخدم مبادئ الجماعة هناك، ولكنه تحول إلى ليون حيث انضم إلى المنفيين هناك من الإيطاليين وشاطرهم مرارة الاغتراب
(يتبع)
الخفيف(331/43)
رسالة الفن
دراسات في الفن
معضلة بين الفن والقانون
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قابلتني، وكنت أنا في هذه المرة المهموم فسألتني مشفقة:
- مالك؟
- إني متألم لصديق توشك نكبة أن تحل به ويلزمه العيش أن يمهد لها السبيل كي تحل به
- أعوذ بالله! ومن صديقك هذا؟ أأعرفه؟
- تعرفينه، ويعرفه الكثيرون. هو محمود حسن إسماعيل الشاعر، والموظف بوزارة المعارف
- محمود إسماعيل؟ وماذا جرى له؟
- عينه اليسرى ضعيفة - فيما تقول الوزارة - وهو الآن يعالجها ليقويها لينجح في الفرصة الأخيرة من فرص الكشف الطبي، لتجدد الوزارة عقده وتثبته في وظيفته. . .
- فهل أصابها سوء وهو يعالجها؟
- يقول إنها تتقوى
- وأي شيء في هذا؟
- أن يمتنع الشعر على محمود!
- إيه؟ ولماذا
- لأن عينه اليسرى هي التي يرى بها الشعر ما دامت على هذه الحال
- أما قلت لي هذا من الأول؟! حسبت ما يهمك جداً. وماذا يا سيدي؟
- لا شيء، أما يكفيك هذا؟ كم هم الشعراء في مصر الذين يشبهون محموداً في مصر الآن ومن قبل
- يا سلام؟! أإلى هذا الحد تكبره؟
- هذا رأيي. وقد قلته له في وجهه، وأنت تعرفين قلة ما أقتنع بالناس، وندرة ما أصرح(331/44)
بهذا الاقتناع. . . وأنا كما قلت لك دائماً أعجز العاجزين، وأضعف الضعفاء
- ولكني لا أرى محموداً كما تراه. . .
- فليكن رأيك فيه ما يكون. ولكن التاريخ سيشهد بأن الشعر العربي في مصر بدأت تكثر فيه التسابيح، والأنغام، والتهاويل، والطهارات، والأشعة، والضفادع، والثيران، والغربان، والنخيل، والبقول، والزهور، والأرواح، والأطياف، والمعازف، والمزامير، والمباسم، والمشاعل، والساقي، والأكواخ، و. . . و. . . و. . . من بعد اليوم المبارك 23 يناير سنة 1938
- وهل استصدر محمود في هذا اليوم مرسوماً من القصر الملكي باستعمال هذه الألفاظ في الشعر، وطواف الشعراء حول ما يحيط بها من المباني؟
- نعم. لقد فعل محمود هذا
- لو لم اكن نسيت مسدسي في البيت! كيف حدث هذا يا أخانا؟
كان هذا اليوم المبارك هو ثالث أيام زفاف الفاروق، وكان جلالته قد أسعد محمودا والفن بالشرف الأسمى إذ دعاه إلى عابدين ليرتل بين يديه من أغاني الروح على أثر إعجابه به في حفل سمعه فيه، وكان هذا الحفل من حفلات الجمعية الخيرية الإسلامية، وقد هذه الدعوة حضرة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا رئيس الوزارة السابقة ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية، والظل الأول الذي أظل محموداً، كما شهدها حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي سابقاً، ورئيس الوزارة اليوم. وكانت هذه الدعوة هي هذا المرسوم، وقد تلاه محمود في عابدين. . . إنه الشعر الذي طاب للملك. . . والملك عارف، والملك عبقري، والملك ناقد فذ
- ما أبرعك صديقاً!
- في اختيار أصدقائي لا في رفعهم بالباطل
- فمحمود إذن له قيمة. . .
- قيمة خطيرة. ولو أن ملكاً في غير مصر فعل هذا الذي فعله الفاروق أعزه الله في شاعر لبدأت الحكومة، وبدأ الشعب يدرسان هذا الشاعر، فالملك لا يدعو كل شاعر، والملك لا يفعل ما يفعل عبثاً، فهو يعرف أنه رأس الدولة، انظري إليه. . . من الذي أعلن عنه(331/45)
رضاه من رجال المسرح بعد أن استعرضهم جميعاً. . . أليس هو نجيب الريحاني؟. . . ومن في رجال مسرحنا مثل نجيب الريحاني؟. . . وانظري. . . ألم يغن عبد الوهاب في القصر
- فحياه جلالته حين سمعه بكل ما في الملوك النبلاء من أدب ورقة. . .
- إنك بدأت تفهمين. . . يخيل إليّ أنه ليس في مصر من يحس ويتذوق ويفهم مثل فاروق الأول. . . تربية فؤاد الملك الذي اعتلى العرش بعد ما اختبر الحياة مع الملوك ومارس الحياة في صميمها بين أفراد الشعوب. . . فعرف بعد ذلك كيف يملك وكيف يحكم وكيف يعد للعرش من بعده ملكا يتغلغل بالإدراك في تلافيف وطنه. . . ومحمود الشاعر الذي قدره الفاروق والذي يهتف الجيش اليوم بنشيد من شعره، تساومه الآن وزارة المعارف ووزارة المالية في فنه، لا بد أن يفقده إذا أراد أن يبقي موظفاً. . . فهل يصح أن يحدث هذا؟ كلا! فلا بد أن يعفي من الكشف الطبي
- ولكن أحداً لم يطلب منه أن ينزل عن شعره!
- إنهم يريدون منه أن يقوي عينه اليسرى. . . وقد قلت لك إن عينه اليسرى هذه هي التي يرى بها الشعر
- وكان يجب أن أقول لك أنا إن هذا هو كلام المجانين
- أرجوك ألا تصدري حكما على شيء قبل أن تبحثيه وتدرسيه. . . لقد عرض محمود عينه هذه على ثلاثة من أطباء العيون الممتازين في مصر هم الدكتور محمد صبحي وقد سمعت من الكثيرين أنه أقدر أطباء العيون في مصر، والدكتور محمد بكري وهو مدير مستشفى العيون بروض الفرج. . . مدير المستشفى. . . والدكتور إيليا ناشد وهو عضو كلية الجراحين بإنجلترا. . . بإنجلترا لا بمدغشقر. . . وقد قرر هؤلاء الفحول الثلاثة أن عينه اليسرى هذه سليمة، وأن أعصابها قوية. . . فهي إذن ليست ضعيفة. . .
- إذن فقد كان يجب عليها أن تنجح في الكشف الطبي
- هذا لو أنها كانت كبقية العيون التي ركبها الله تركيباً يمكنها من رؤية علامات الكشف الطبي
- وهل هي مركبة تركيباً آخر فليست مثل عيون الناس؟(331/46)
- أسمعي! هل تصدقين النبي محمداً أو أنت تكذبينه؟
- معاذ الله أن أشك في قوله
- الحمد الله. كان محمد رسول الله يقول إنه كان يسمع الوحي سمعاً. . . وكان يوحي إليه في الموقعة الحربية، وكان يصاحبه في مواقعه الحربية جنوده وأنصاره فلا يسمع الوحي أحد غيره. فهل كانت أذن محمد كآذان بقية الناس؟ أجيبي؟
- كان محمد نبياً
- وكان بشراً مثلنا بتقرير القرآن وتقريره هو نفسه. . . فتكذبين القرآن؟
- حاشا الله. . .
- إذن فهو لا يختلف في شيء عن تكوين البشر. . . ومع هذا فقد كان يسمع ما لم يسمعه جيرانه والملتصقون به. . . فلا بد إذن أن يكون من تكوين البشر حالات خارقة نادرة يستعصي على الآلات وأجهزة الكشف الطبي قياسها. . .
- كأني أريد أن أوافقك وأن أقول إن هذا كلام معقول
- هو معقول لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فمحمد الرسول كان بشراً وكان نبيّا له أذن تسمع ما لم يكن يسمعه الناس. . . وكذلك كان موسى. وكذلك في جهة أخرى كان بتهوفن الموسيقى الأصم. وكذلك كل موسيقى آخر يلتقط الأنغام من الجو. موهبة السمع فيهم واحدة وإن كانت تتشكل بأشكال مختلفة. . . ومحمود حسن إسماعيل شاعر، وله عين يرى بها ما لا يراه بقية الناس. . . هذا أمر لا عجب فيه. . .
- لو كان لديك دليل مادي غير هذه الاستنباطات
- الدليل موجود. . . وهو في شعر محمود. . . أقرئيه تجدي تسعين في المائة منه على الأقل كلها صور بصرية. . . إنه يشبه حتى المسموعات بالمرئيات. . . إنه يرسم معانيه صوراً كل صورة منها يمكن إن توضع في إطار. . . إن شعره كله يمكن أن يترجم إلى رسوم. . . فكيف يتاح له هذا إلا إذا كان يرى هذا الذي يصفه. . . لا تقولي إنه يتكلف هذا. . . فالمتكلف لا يستطيع أن يستمر وأن يتجدد وأن يفيض مثلما يفعل محمود. . . إنه يرى هذه الأشياء حقا. . . أقرئي شعره!
- فليكن هذا حقاً. . . فكيف نحكم بأنه يرى هذه الأشياء بعينه اليسرى لا اليمنى. . .(331/47)
- لأنه يغمض عينه اليسرى حين يكتب. . . أنا أعرفه. . . وقد رأيته كثيراً وهو يسبح وراء خياله. . . كما رأيته كثيراً وهو يكتب. . . ورأيته يغمض عينه اليسرى كلما كتب شعراً
- قد تكون عادة!
- لا. بل إنه يغمض عينه اليسرى ليسترجع هذه الصور التي يصفها وليراها في وضوح. . . ويفتح عينه اليمنى ليرى بها القلم والورق و (اللكي سترايك)
- يا لها من خرافة!
- إنها ليست خرافة. . . وإنما هي رأي. . . ومع أنه رأيي فأني لا أريد أن أقطع به، فإن كنت قد تعلمت شيئاً فإن أساتذتي الذين علموني لا يزالون بحمد الله موجودين على قيد الحياة. . .
وهم جميعاً طوع أمر وزارة المعارف , ووزير المعارف رجل من رجال التربية وعلم النفس فهو عالم ومعلم قبل أن يكون سياسياً ووزيراً. . . ووكيل المعارف رجل من المجتهدين وممن لهم آراء جديدة في فنه، وممن لن تقف عقولهم عند القديم المقرر. . . فهو يرحب بالدراسات الجديدة من غير شك. . . فهذا وزير عالم وهذا وكيل مجتهد، والأستاذ عبد السلام القباني المتفنن في دراسات النفس وتجارب التربية موجود في معهد التربية للمعلمين وهو وكيله، والدكتور عبد العزيز القوصي أستاذ علم النفس بالمعهد موجود أيضاً وأظن أن الرسالة القيمة التي نال بها إجازة الدكتوراه في علم النفس على يد سبيرمان كبير الأساتذة الإنجليز كانت خاصة بالعين، والبصر، والنظر. . . وهذه وزارة المعارف من أولها إلى آخرها بمن فيها من علماء النفس، والمربين والأدباء والفلاسفة. . . وهذه حالة شاذة يصح أن تدرس. . . فلماذا لا تدرس؟ هي عين يقولون إنها ضعيفة، ويقول الأطباء إنها قوية، ويقولون إنها لا ترى علامات الكشف الطبي، وأقول إنها ترى صوراً لا يراها الناس ويصفها محمود بالشعر. . . فكيف تحكم حكماً صحيحاً في هذه المعضلة إلا بالدرس. . . أليس الدرس هو الطريق الطبيعي المنطقي الوحيد الذي يستطيع الإنسان به أن يصدر حكماً في مسألة من المسائل؟ فإذا لم نسلك هذا الطريق الوحيد مع شاعر رضى عنه الملك وينشد جيشنا شعره. . . فمع من نسلك طريق المنطق والعقل والطبيعة. . . إن المسألة(331/48)
أخطر مما تتوهمين!
- ولكن كيف تدرس هذه الحال؟
- أنا لا أعرف كيف. . . فلست دكتوراً في علم النفس، ولا أنا شيء ما. . . وإنما هذه فكرة خطرت. . . أنا ذهبت إلى وزارة المعارف ومعي إنسان في (زكيبة)، وقلت لها يا وزارة المعارف خذي هذا الإنسان وأدخليه في مدرسة من مدارسك الابتدائية، فهل ترفضه الوزارة، أو تقبله قبل أن تخرجه من الزكيبة فتعرف إذا كان صبياً أو صبية. . . وهل هو أو هي مستوف أو مستوفاة لشروط الدخول في المدارس الابتدائية. . . أو أمره غير ذلك. . . كذلك موقفي الآن مع وزارة المعارف وفي يدي محمود إسماعيل. . . أفلا يجب عليها أن تتعرف ما هو؟. . . قبل أن تفصله أو تثبته أو تطالبه بتقوية عينه. . . أو. . .
- وما لوزارة المعارف وهذا كله. . . إنها تريد موظفين بعيون قوية
- اللهم يا رب عفوك. . . إن في الموظفين من ليست لهم عيون قوية ولا عيون. . . قوية. . .
- وماذا يضره لو أن عينه تقوت؟
- إنها لن تتقوى يا إنسانة. . . إنها مخلوقة هكذا. . . هذه هي قوتها. فهل يرضي مصر لو فشل محمود في تقوية عينه أن تلفظه وزارة المعارف فيسرح على الأبواب يقول: (الحمد لرب مقتدر) إن المسكين يضع على عينيه اليوم مناظير زاعماً أنها وسيلته إلى تقوية عينه وهو يخدع نفسه أحياناً فيزعم أنها تقوت
- ولماذا تقول إنه يخدع نفسه؟
- له شهر وأكثر وهو بهذه المناظير الثلاثة. واحد معتم للشمس، وواحد مكبر لتقوية عينه اليسرى، وواحد زجاج على اليسرى ليكشفها فترى، وسواد على اليمنى ليمنعها من الرؤية تمكيناً لليسرى من التدرب على النظر. . . ومنذ عصب عينيه بهذه المناظير قد كف عن الشعر. ألست تقرئين (الرسالة) على الدوام؟ ألم تلحظي أنه احتجب منذ خمسة أو ستة أسابيع؟. . . لقد كان يكتب قصيدة للإذاعة فكتب منها سبعين بيتاً إلا شطراً واحداً وقف عن كتابته منذ طلسم عينيه بهذه المناظير. إنه الآن لا يرى ما كان يراه من قبل وهو يعاني أزمة نفسية قاتلة، ولا عزاء له في هذا كله إلا أن يردد دائماً قوله: (إن عينه تقوت)، وهو(331/49)
يقولها كلما عجز عن رؤية شيء واضح. في سبيل الوظيفة والخضوع للنص الحرفي القديم في القانون سيختل عقل شاعر شاب فذ كان يكفيه ما يلاقيه الشباب من إنكار الشيوخ وبطشهم في هذا الزمن. . . فكيف ننقذه. . .؟
- أكتب في هذا الموضوع؟!
- ومن أنا حتى أكتب فيسمع كلامي؟!
- إنك إنسان ما. . . ولكن الكلام الذي تقوله معقول. والذين بيدهم الأمر كلهم عقلاء. . . وأصلبهم وهو وزير المالية أشدهم إيماناً بالعقل، فهو مهندس وبالعقل وحده استطاع أن يكون وزيراً للحربية ثم وزيراً للمالية. . . وهو مهندس. . . ولم يستطع هذا إلا لآن له عقلاً ناضجاً. . . ثق بأنه سيكون في صفك. . .
- إنك تشجعينني
- أكتب واطلب من وزارة المعارف أن تؤلف لجنة من علمائها لدراسة هذا الموضوع. . .
- طيب. على الله. . .
وهأنذا كتبت. . . فمن يكتب عن معضلتي أنا؟
عزيز أحمد فهمي(331/50)
من هنا ومن هناك
سويسرا تضرب المثل في التسلح
(عن (باري سوار))
لعل ما تقوم به سويسرا في الأيام الأخيرة من الاستعداد الحربي وإنفاق
الأموال الطائلة في سبيل التسليح، يعد مثلاً بارزاً لكثير من الأمم التي
تخال أنها في مأمن من الحوادث. فقد كانت سويسرا من سنة 1920
إلى سنة 1930 تقتصد في نفقات التسليح كل الاقتصاد، حتى أنها لا
تقرر لأجله في ميزانيتها إلا مبلغاً ضئيلاً لا يكفي إلا لشراء بعض
الآلات الحربية الخفيفة إذ أنها لم تكن تشعر في تلك السنين بأي تهديد.
فسويسرا متاخمة لفرنسا، وأمة كالأمة السويسرية أشتهر أهلها بالرزانة
والعقل وحب السلام، لا يزعجها وجود الجيش الفرنسي عند حدودها
وفي سنة 1931 والسنين التي تلتها أخذت سويسرا تعمل لزيادة التسليح ولا تدخر وسعاً في هذا السبيل. وذلك أن شبح هتلر كان قد بدأ يحلق في سماء القارة الأوربية. ولم تكن سويسرا حتى سنة 1929 تقدر للتسليح أكثر من 16 ? من الميزانية العامة. فلم تمض عشر سنوات حتى وصلت النسبة إلى 22 ? ولكن هذه المقادير لم تكن لتفي بحاجاتها إلى السلاح وما تتطلبه من الأموال الطائلة. فعقدت قروضا فيما بين 1929 - 1930 لأجل الدفاع بمبلغ 648 مليوناً من الفرنكات السويسرية أو ما يوازي 32. 000. 000 من الجنيهات
ولم تقف سويسرا في استعدادها الحربي عند هذا الحد، فمنذ سنة 1936 نشطت هذه الأمة الوادعة في تنظيم جيشها، وحشد قواها، وتعزيز جبهتها، وزيادة مدة التدريب العسكري بين أبنائها. وإذا كانت سويسرا فيما مضى لم تفكر في إقامة المصانع الحربية، فقد أصبح لديها الآن مئات من المصانع الكبيرة المعدة لهذا الغرض في أنحائها المختلفة. أما قوى الطيران الدفاعية منها والهجومية، فقد أصبحت على قدم الاستعداد، وقد أقيمت استحكامات عظيمة(331/51)
على طول خط الرين وبالقرب من الجبهة الألمانية. وتعد سويسرا الآن برنامجاً حربياً حافلاً لحمايتها من الطوارئ المفاجئة، ولكي تصل إلى الغاية قررت سحب 25 مليوناً أخرى من المال الاحتياطي للاستمرار في عمليات التحصين والتسلح حتى تصل في دفاعها إلى أقصى ما تصل إليه أمة في العالم.
فسويسرا لن تفقد استقلالها، ولن تموت أبداً. وإذا كان الشعب السويسري لم يكن في تاريخه من الشعوب المتعطشة للحروب فليس هو كذلك بالشعب الذي يغتر بالسلم، وقد أعد العدة للطوارئ بعد أن ظهرت نيات ألمانيا نحو الشعوب الضعيفة.
وقد تحدث إلي في الأيام الأخيرة سويسري عظيم فقال: (إنني أعرف إعجابك بألمانيا التي أنجبت كثيراً من العبقريات النادرة؛ ولست أخالفك في ذلك، فأنا من أبناء سويسرا الألمانية وقد نشأت على احترام تلك البلاد الغنية بعلمائها وفلاسفتها وشعرائها وموسيقيها. ولكنني لا أستطيع أن أتبين أثراً لألمانيا الحقيقية وراء القناع الهتلري. إن أمتي تنظر بعين الذعر إلى أعمال ألمانيا ونياتها، لأنها تريد أن تظل تلك الأمة الجديرة بتاريخها المجيد)
ومن خلال هذه الكلمات المريرة نستطيع أن ننظر إلى سويسرة المتألمة الصبور.
الطيران في القرن الخامس عشر
(عن (لاتريبونا إلستراتا) رومة)
أقيم في ميلانو في الأيام الأخيرة معرض لأعمال ليوناردو دافنسي العبقري المشهور
ومما أثار الدهشة في نفوس الزائرين لذلك المعرض تلك الطائرة التي وضعها هذا الفنان الفذ قبل ظهور أول طائرة بخمسة قرون
فقد كان دافنسي يشتغل بالطيران، ويبذل كثيراً من وقته وتفكيره لتنفيذ فكرته متأثراً بأساطير الإغريق
ومما يروى أن عضواً من أعضاء الأكاديمية الفرنسية شرح هذا الاختراع الذي كان يدور برأس ليوناردو. للملك لويس الثامن فما كاد يسمع منه بفكرة الآلة الطائرة حتى افتر ثغره عن ابتسامة ساخرة وقال: (إن ليوناردو حسن الحظ لأن مستشفى المجانين لم يكن قد عرف في العصر الذي عاش فيه)(331/52)
وقد جاء (أوتوليليانثال) في العصر الحديث ودرس خواص الطير والقوة التي تساعدها على الصعود والتحليق في السماء، وأثبت أن ما كان من الخيالات والأوهام العابرة في العصور السابقة قد أصبح حقيقة علمية خاضعة للتنفيذ
ولم يكن ليوناردو في بادئ الأمر يعرف طريقة لإدارة الطائرة غير الطريقة التي تحركها بالقوة العضلية، إلا أنه وجد أخيراً أن هذه الطريقة لا تكفي لاستمرار سيرها، فوضع لها سيوراً من المطاط تدار باليد أو بالقدم. وقد عرضت طائرتان من هذا النوع لدافنسي كانتا موضع الدهشة والإعجاب
ومما فكر فيه هذا الفنان لإتمام مشروعه، قوة الهواء والرياح فسخر وقته لدراسة الطيور. وأخذ يفكر في القوة التي تساعدها على التحليق وسط الزعازع والأنواء. وقد دلت الدراسات الحديثة، على أن النتائج التي وصل إليها كانت على جانب عظيم من الأهمية وفي مقال كتبه عن تحليق الطيور، وضع ليوناردو فكرة الطيران الآلي بواسطة الجناحين، وأشار إلى كثير من الآراء الناجحة في فن الطيران، ومما لاشك فيه أن الآلة التي ابتدعها ليوناردو كانت مؤسسة على الطرق والقواعد السائدة في الأيام الحديثة
ولعل اشتغال هذا الفنان العظيم بصوره ولوحاته الفنية النفيسة، هو الذي عاقه عن إتمام مشروع الطيران، فلم يترك له الوقت الكافي للسير بالفكرة إلى النهاية، وإن كان الكثيرون من أصحاب الرأي والخبرة، يؤكدون صحة القواعد التي وضعها، ويسلمون بأن التجارب التي أقيمت عليها كانت ناجحة كل النجاح
تاريخ التقبيل
(عن
القبلة هي إحدى الطرق الإنسانية النفيسة التي ابتدعها الحب فما هو تاريخ ظهورها بين بني الإنسان؟
المعروف عند عامة الناس أن التقبيل نشأ مع الشهوة الجنسية وهذا مخالف للحقيقة، ويحملنا على الاعتقاد بأن هذه العادة لم تكن من الغرائز الإنسانية الأولى، أن كثيراً من الأمم لا يعرفها على وجه الإطلاق، وأن بعضها ينظر إليها بالمقت والامتعاض(331/53)
ومن المحقق أن قبائل الاسكيمو والمورا لا يعرفون التقبيل. وقد مضت قرون عديدة قبل أن تعرف هذه العادة في الصين واليابان أما في أيامنا الحديثة فالصينيون يعرفون التقبيل ولا يرون بأساً من انتشاره بينهم، ولكن اليابان يحرمونه ويبالغون في تحريمه، حتى أنهم يحذفون جميع مناظر التقبيل من الأفلام الأوربية والأمريكية التي تعرض في بلادهم
وقد عرضت رسوم رودان في معرض طوكيو سنة 1924 فظهرت جميع رسومه المشهورة ما عدا اللوحة التي تحمل صورة القبلة فقد ألقى عليها غطاء كثيف. وقد اعترض بعض الزوار الفرنسيين على ذلك فأجابه رئيس البوليس بأن مجموعة رودان كان من الواجب أن توضع جميعها تحت غطاء من أجل صورة القبلة فالتقبيل عادة أوربية ممقوتة تمنعها اليابان بأي ثمن، ولولا عظمة رودان وماله من الشهرة بين أمم العالم لمنعت جميع رسومه من الدخول إلى اليابان لأجل هذه الصورة. . .
أما تاريخ التقبيل فغير معروف على التحقيق وإن كان لبعض القبلات تاريخها وشهرتها، ومن القبل المشهورة قبلة (فلورنتين) وتنسب إلى (نابليون الأول) وقد بيعت قبلة واحدة في إحدى المناسبات بمبلغ 12000 جنيه، وكان ذلك في البرت هول سنة 1915 في حفلة لإعانة الجرحى عرضتها الممثلة المشهورة (مورلوب) عن طريق المزايدة؛ فلما وصلت المبالغ المعروضة إلى 8000 جنيه كف جميع المتنافسين عدا اثنين هما المثري الكبير هتشنسن ودوق أرسنت ألبانز؛ وقد فاز الدوق في النهاية بهذه القبلة. ومما يذكر في هذه المناسبة أن الدوق طلب إلى الممثلة أن تقبل أبنه البالغ من العمر تسع سنوات بدلاً منه. . .
وتعد القبلة في بعض أنحاء الولايات المتحدة عملاً مخالفاً للصحة، وتعريض صحة إنسان ما للمرض جريمة يعاقب عليها القانون. أما اغتصاب القبلة من امرأة أية كانت فهو عمل يعاقب عليه القانون في سائر الأحوال
وإذا كانت القبلة اليوم هي التعبير الجسدي عن الحب، فقد كانت في الأزمان الخالية نوعاً من التحية فحسب كالتلويح بالمنديل للمسافرين، وقد ظلت كذلك إلى القرن الخامس عشر، وكان يباح للضيف أن يقبل زوجة مضيفه، وكل فرد من أفراد عائلته
وكانوا في روما القديمة يقبلون لأسباب غير التحية والاحترام فقد كان النبيذ محظوراً على(331/54)
النساء تعاطيه، ومن ثم كانوا يبيحون للرجل أن يقبل المرأة إذا كانت له بها علاقة، ليتأكد من أنها لا تشرب النبيذ وتخالف القانون
وقد قام أحد علماء أمريكا في الأيام الأخيرة يحذر العالم من التقبيل، ويعلن أنه ينقص من أجل الإنسان، ولكن أحداً من الناس لم يصدقه أو يجعل لتحذيره نصيبه من التقدير(331/55)
البريد الأدبي
نداء المجهول - قصة للأستاذ محمود تيمور نشرتها المكشوف
بهذه القصة الجديدة يندفع الأستاذ محمود تيمور في اللون التخيّلي، وقد بدت بوادره في قصته المتأخرة (فرعون الصغير) على ما بينت في مقتطف يولية الماضي. وتراه يندفع فيه مهملاً اللون الواقعي الذي عرف به زماناً. ولكن إهماله له إنما هو من ناحية الفكرة التي تسّير القصة لا من جهة السياق، إذ لا يزال يلتزم التصوير المباشر والتحليل الصريح وغير ذلك من أساليب الواقعية واللون التخيلي بالفرنسية والإنجليزية (هنا أيضاً وبالألمانية - يجري إلى سرد الحوادث النوادر و (المغامرات) (كما نقول اليوم في مصر: وإلى وصف العوالم التي تَبهت العقل وإلى الكشف عن آفاق تضطرب فيها الأسرار والألغاز، كل ذلك رغبة في الفرار مما نعرفه ونلمسه ونؤمن به، كل ذلك إرادة أن تلبي النفس نداء يأتيها من وراء حجب. هذا وبين التخيلية والرمزية المستحدثة وشائج من جهة ذلك الفرار من العالم المبذول لنا. غير أن هذه تتشبث بما يجول في النفس خفيةً فتبرزه عزمات وتصورات وانفعالات، ثم تستخرج ما وراء الحسّ وتدون ما يهجم على القلب ويرد على الوهم، وذلك من طريق التمثيل، وانتزاع الصور من الأشكال والهيئات، واستنباط المطابقات والمقابلات والإضافات مما يجري الموازنة البعيدة أو القريبة بين الحيّ والجامد
وجملة القول أن التخيلية تتناول الخارجيات من بلدان نائية وغرائب مستملحة وحوادث أخاذة، على حين أن الرمزية المستحدثة تركز أوتادها في وادي المضمرات والسوانح وما يلي المادة المباشرة
وقد عرف الأدب العربي اللون التخيلي، ففي حكايات جدّاتنا وفي (ألف ليلة وليلة) ما تشاء من ابتداع للطائف. وأما الأدب الإفرنجي الحديث فقد خرج اللون التخيلي على يديه فناً شائعاً مقبولاً شريف الغاية في أكثر الحال، بيّن الأوضاع على تباين في الأنحاء. وفن تيمور في (نداء المجهول) لا يرجع إلى الأدب العربي، ثم إنه ليس من فن (كبلنج) لأن هذا بلا ما كتب، وليس من فن (إستراتي). لأن هذا صاحب عنف، وليس من فن (فورنييه) لأن الرجل شاعر في نثره وصاحب وسوسات، وليس من فن (مارك أورلا).(331/56)
لأن هذا خاض الحياة الشاقة. إن اللون التخيلي عند تيمور في (نداء المجهول) يقارب بعض المقاربة ما نعرفه من فن القصصي الفرنسي مع اعتبار ما يميز الكاتب من الكاتب من حيث الأسلوب والتفكير
وأسلوب تيمور في قصته التخيلية لا يبرح أسير الطريقة الواقعية كما قدّمت: فلا اللفظ يثب من موضعه المعهود، ولا التعبير يميل إلى الإيحاء، ولا العبارة يجربها نغم خفيّ. بل كل ما يتصل بالأداء تصيبه في المكان الذي كنت تحتسبه
لا أدري ما الذي وقع لصديقي تيمور حتى يجنح إلى ذلك التخيل ثم يريده إرادة؟ أي شيء ينفّره من هذا العالم ثم يطير به إلى آفاق المجهول؟ هل خاب أمل من آماله؟ هل أحسن بطلان دنيانا وتعرّف مبلغ زيفها فانجذب إلى التشاؤم كما انجذب إليه (بيرلوتي) من قبل؟ إن عطف تيمور على الإنسانية ورثاءه لبؤسها وضعفها مما هو جليّ في قصصه السابقة. وبين هذا العطف على الناس وطلب الفرار منهم خطوة. . . ألا شبّك يدك بيدي أيها الصديق، فاثنان على الفرار المضني أقوى من واحد، وإن كان لكل منا جناحه!
وبعد فرجائي ممن يستهويه الأفق البعيد أن يقرأ (فرعون الصغير) لكي ينطلق فيحيا قدر لحظات حياة البطولة أو حياة الغرابة، ثم يهبط إلى أرضه فتعاود أيامه دورتها الشاحبة. وحسب تيمور أنه يستطيع بذل تلك اللحظات النفيسة، حسبه! هل يستطيع ذلك غير صاحب افتتان غزير المادة لطيف النواحي؟
بشر فارس
التاريخ المزخرف والأشعار المسرحية
1 - أشكر لحضرة السيد محمد علي عكاري جهده في تقديم بعض الشواهد التي تؤيد القول بأن وثنية العرب قامت في الأصل على قواعد روحية، وأرجوه أن يجعل هذه المسألة في باله فيقيد جميع ما يصادفه من البينات التي تجلو غوامض تلك الوثنية.
وليكن مفهوماً عنده وعند سائر الباحثين أن الوثنيات في جميع بقاع الأرض لم تكن إلا صوراً أو رموزاً لحقائق وجدانية ومعنوية كانت في الأصل ديانات سليمة خفيت مغازيها على الجماهير فجسّموها بالصور والتماثيل. ومن هنا تسقط حجة من قال إن وثنية العرب(331/57)
كانت (أرضية وضيعة) ولو أنه كان فهم هذه الحقيقة لعرف أن العرب لم يكونوا بدعاً بين الأمم حين عبرّوا عن عقائدهم بمثل ما عبّر به الفرس والهنود واليونان والرومان والمصريون
وقد أوضح القرآن حجة الجاهلين في عبادة الأوثان إذ حكى أنهم قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهذه العبارة القرآنية تشهد بأن الأوثان كانت رموزاً لمعان روحية
وأنتقل بعد هذا إلى صلاة المأمون علي الموصلي والكسائي وابن الأحنف وقد ماتوا في يوم واحد فأقول:
إني أوردت هذه القصة في كتاب (مدامع العشاق) نقلاً عن شرح شواهد ابن عقيل للشيخ قطة العدوى، وهو لم يخترعها وإنما نقلها عن بعض المصادر الأدبية
وأنت لا تنكر أني أوردت هذه القصة بتحفظ مراعاةً للأمانة العلمية، فأرجو أن تعرف أنها عندي من التاريخ المزخرف ? والتاريخ الزخرف يقبله الباحثون في الموضوعات التي تغلب فيها الصبغة الروائية على الصبغة التاريخية.
والذي زخرف هذا التاريخ كان يقصد إلى تمجيد العباس ابن الأحنف الذي كاد يتفرد بإجادة القول في الكتمان، والذي أذاع معاني الصدق في الوجد في أيام كثرت فيها الاستهانة بشرف العفاف
ولو أنك رجعت إلى أكثر الأخبار الأدبية لرأيتها من التاريخ المزخرف الذي يعتمد على التصوير أكثر مما يعتمد على التحقيق، وذلك التاريخ مقبول في الميادين الأدبية، والغرض منه معروف، فلا تستغرب صدوره من العرب، لأنه يشهد بأنهم كانوا من أهل البراعة والخيال
2 - نشرت (الرسالة) كلمة لصديقنا الدكتور بشر فارس في نقد رواية (مصرع كليوباترا) التي مثلتها الفرقة القومية، وفي ذلك النقد آراء فيها المقبول والمردود، ولكني أقف عند قوله:
(ألقى الممثلون شعر شوقي كما كنا نلقي الشعر العربي في المدارس: نقطّع أقسام البيت ونتمهل عند العروض ثم نضغط على الضرب، والذي يحرك ألسنتنا الوزن الذي عليه جاءت القطعة أو القصيدة. وفي ذلك الأمر ما فيه من غرابة، فإن الشعر لعهدنا هذا في(331/58)
أوربا - وعنها نأخذ فن التمثيل - يلقى على المسرح كأنه نثر، وسبب ذلك أن القصيدة تقوم بمعانيها وألفاظها لا بتفاعيلها والتفاعيل كأنها الدعامات والخشب في المنزل، وأما المعاني والألفاظ فأثاثه والتصاوير والتزاويق وكل ما يأخذ الطرف. كل ذلك فضلاً عن أن تقطيع أقسام البيت، وفصمه إلى مصراعين، والضغط على القافية الراجعة يورث الملل ويصك الأذن). . . الخ.
ذلك كلام الدكتور فارس، وهو كلام برّاق، ولكنه غير صحيح.
وما كنت أحب أن أخطئ هذا الصديق لولا الخوف من أن يتأثر به النقاد والممثلون فتفسد أذواق من ينشدون الأشعار المسرحية فساداً لا يرجى بعده صلاح.
نحن أخذنا عن أوربا فن التمثيل؟
هذا حق، ولكن لا ينبغي أن نأخذ عنها فن الإلقاء، فإن الأداء بالشعر غير الأداء بالنثر، وليست الأشعار المسرحية إلا قصائد خضعت للقوافي والأوزان، وفيها محرجات تقبل في المنظوم ولا تقبل في المنثور، ومعنى ذلك أن صوغ المعنى في بيت من الشعر يجعل له صورة غير صورته في فقرة من النثر، فإذا أدى الشعر كما يؤدي النثر تعرض للغثاثة والانحلال.
ولو أن الدكتور فارس كان شهد إبراهيم الجزار - وما أعظم فجيعة الشعر المسرحي بوفاة إبراهيم الجزار - لعرف أن لإلقاء الشعر المسرحي أصولاً في الإلقاء تختلف في لغة العرب عن أمثالها في لغة الإنجليز والفرنسيس.
الوزن في الشعر ليس تصويراً وتزويقاً، كما يظن الدكتور فارس، وإنما هو عنصر أصيل لا يقام بدونه للشعر ميزان، وليس بصحيح أن الأوربيين يلقون الأشعار المسرحية كما يلقون القطع النثرية، وإن كانوا أقل منا رعايةً للأوزان عند الإنشاد، لأن ذوقهم يختلف عن ذوقنا بعض الاختلاف.
وخلاصة القول أن الممثلين لا يجوز لهم تحويل الشعر إلى نثر وإلا فسد الذوق واختلت الموازين وضاع جمال الفن في الشعر المسرحي أبشع ضياع.
وإني لأرجو أن يراعي ممثلو الفرقة القومية أذواقنا حين ينشدون الشعر المسرحي مرة ثانية، فقد انزعج كثير من الناس حين رأوهم ينشدون بعض الأشعار بلا احتفال بأهمية ما(331/59)
في الأوزان من الرنة الموسيقية.
زكي مبارك
وحدة الوجود والحلول
لأستاذنا الجليل أحمد أمين سابقة جليلة في اللغة العربية، حين انتدب لكثير من المصطلحات الفلسفية في اللغة الإنجليزية فوضع بإزائها كلماتها العربية. وليست كلمتنا هذه لبيان هذه الفضيلة، فهي غنية عن البيان. ولكن إحدى هذه الكلمات استوقفتنا، وقد خيل إلينا أن أستاذنا المفضال خانته فيها دقته، وهي كلمة الحلول، فقد وضعها بإزاء كلمة وتحليل هذه الكلمة يرجعها إلى كلمتين يونانيتين: بمعنى (كل) وبمعنى (الله) فهي تعني بهذا أن كل شيء هو الله، أو أن الله هو كل شيء؛ وطبيعي أنه لا يستقيم مع هذه الكلية المطلقة إلا أن يكون ثمة كائن واحد هو الله (وسائر الصور الأرضية والسماوية صور تجلياته وشؤون ظهور ذاته) كما يقول العلامة بهاء الدين العاملي في رسالته: الوحدة الوجودية. وكذلك سمى المسلمون هذا المذهب بوحدة الوجود، واستفاضت هذه التسمية. أما (الحلول) الذي آثره الأستاذ فما زالوا يبرءون منه في كل مناسبة: أن يشتبه بمذهبهم ويشنع به عليهم، فهو شيء مختلف كل الاختلاف. فيقول ابن الفارض مثلاً:
وفي الصَّحو بعد المحو لم أكُ غيرها ... وذاتي بذاتي إذ تحلَّت تحلّتِ
وما زلتُ إيّاها، وإيّاي لم تَزَل، ... ولا فرقَ، بل ذاتي لذاتي أحبّتِ
متى حلتُ عن قولي: أنا هِيَ، أو أقلْ: ... - وحشا هُداها - إنها في حلَّتِ؟
وليسَ معي في الملك شيء سواي وال ... معيّة لم تخطر على ألمعيّتي
وكذلك جاء عبد الغني النابلسي ينتفي من هذه التهمة في تائيته إذ يقول:
وإياك من قولي بأن تفهم الذي ... تدين به الكفار بين البرّية
فإني برئ من حلول رمت به ... عقول تغذَّت بالظنون الخبيثة
وما بانحلالٍ واتِّحادٍ أدين في ... حياتي وإن دانتهما شرُّ أمة
وقد وضح العاملي في رسالته الآنفة الذكر الفرق بين وحدة الوجود والحلول توضيحاً يحسم الشبهة بقوله: (فإن قيل لهم فيلزمكم القول بالحلول والاتحاد يقولون: لا يلزمنا هذا ولا ذاك،(331/60)
إذ نقول: لا وجود لشيء غير الوجود وما سواه فهو اعتبار محض. فمن أين الحلول والاتحاد؟ إذ لا غير ولا اثنينية فلا حلول ولا اتحاد)
ففي تعبير الأستاذ أحمد أمين عن هذا المذهب بالحلول تسامح ظاهر، وإنما توضع كلمة الحلول بإزاء الكلمة الإفرنجية
أبو حيان
حول ابن تيمية وابن بطوطة
قرأت في الأعداد الثلاثة السالفة من (مجلة الرسالة الغراء) ما نقله الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عزام عن العلامة الخالدي وما رد به الأستاذ البرازي وما استدركه عليه الدكتور عزام حول سماع ابن بطوطة الحافظ ابن تيمية يقول وهو على منبر الجامع بدمشق: إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر
قرأت ذلك كله فذكرت أن هذا الخبر ذكره الحافظ بن حجر في (الدرر الكامنة) وابن فرحون في (الديباج المذهب) قال الحافظ: ذكروا أنه ذكر (أي ابن تيمية) حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم. اهـ
ورأيت في حواشي (دفع شبه التشبيه لابن الجوزي) في الصفحة 48 من مطبوعة دمشق: يقول بعض علماء دمشق بأنه رأى خطبة ابن تيمية في مخطوط قديم وفيها زيادة (لا) قبل (كنزولي) أي (لا كنزولي هذا) والله أعلم
سيف الدين الخليلي
إلى الدكتور زكي مبارك
حضرة المحترم الفاضل الدكتور زكي مبارك
تحية طيبة وبعد فأراني بين عاملين متجاذبين إذ أكتب هذا لحضرتك: العامل الأول يحفزني، وأكاد أقدم، لما أعتقده في نفسك الكريمة من نخوة، وما امتازت به شخصيتك من إقدام وشجاعة
والعامل الثاني يثبط همتي، ويقف يراعتي مترددة حائرة، خشية ما قد يصيبني ويصيب الموضوع الذي سأتعرض له معك(331/61)
وأخيراً رجحت عندي كفة الإقدام على ما اعتزمت ثقة بأنه لن تتحد النخوة مع الجبن ولا تتنافر شجاعة المصلحين ومثابرتهم كل في سبيله، مادامت ترمي إلى هدف سام، وتطمح إلى غاية نبيلة
وفي اعتقادي أن الأستاذ الفاضل أحمد أمين حينما تعرض بمقاله (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) لم يكن قصده من النقد والتوجيه إلا نبل الغاية، وحسن النية، واعتقد أيضاً أن ثورة الدكتور مبارك التي تجلت في المقالات التي عنونت: (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) لم تكن إلا ثورة للنقد والإصلاح من طريق آخر، وكلا الغرضين شريف بالنسبة لموضوع الأدب العربي الذي نال حظوة موفقة بأن هيأت له الظروف قلم هذين العالمين الفاضلين.
والآن وقد أتممت يا حضرة الدكتور عشرين مقالاً تحت العنوان السالف الذكر، فإني أتقدم إليك برجاء لم يدفعني إليه إلا رغبتي الأكيدة في أن توجه جهودك الجبارة ونشاطك المعدوم النظير، إلى نوع آخر من الإصلاح حتى نفوز بقراءة طريفة من قلمك المرن
وأحب أن أخبر حضرتك أني من المعجبات بكل ما يكتبه الأستاذ الفاضل أحمد أمين بأسلوبه العلمي المتين، وأؤكد للدكتور الفاضل زكي مبارك أن الأستاذ أحمد أمين يتصدر ركناً مهماً في الثقافة المصرية، وقد أبلى فيه بلاء حسناً، سواء وافقتني على رأي هذا أو لم توافقني. وأقول إنه إن تخلى عن مجهوداته التي يؤديها، أو أنكر فضله إنسان فيما سبق أن أداه، فليس من السهل ملء الفراغ الذي لا بد يحدثه هذا التخلي وذلك الإنكار
هذا ورجائي أن تتفضل الرسالة الغراء بنشر خطابي هذا إلى الدكتور زكي مبارك، ولا إخالها إلا فاعلة كما هو عهدي بها محبّة للحق، أمينة في خدمة الأدب والعلم والفن
زينب الحكيم
حول (مجلس في منزل الدكتور طه حسين)
بعد أن وقف القراء على تكذيب الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف للحديث الذي رواه الدكتور زكي مبارك عن مجلس قال إنه كان في منزل الدكتور طه حسين، كتب إلينا كثير منهم يظهرون إعجابهم ببراعة الدكتور الفنية في إدارة الحوار وإجراء الكلام على ألسنة(331/62)
الجالسين بما يشبه أن يصدر عنهم فاكتفينا عن نشر ما كتبوا بهذا التنويه.
قرية تعليمية نموذجية في السودان
اختير الأستاذ عبد العزيز أمين عبد المجيد خريج دار العلوم وجامعات إنجلترا ليساهم في الجهاد الثقافي الحديث في السودان الشقيق. والأستاذ عبد العزيز من القلائل الذين زاوجوا بين الثقافتين الشرقية والغربية بالبصيرة النيرة والمنطق السليم، وقد كتب إلى (الرسالة) كتاباً نقتطف منه هذه الجملة:
(. . . بخت الرضا قرية تعليمية نموذجية أسستها مصلحة المعارف السودانية سنة 1934 لتكون مركزاً للتجارب في التربية والتعليم. وأنشأت بها ثلاث مدارس: مدرسة أولية، ومدرسة وسطى، وكلية للمعلمين. وقد راعت في تأسيس هذه القرية ومدارسها أن تكون ريفية محضة، وأن تكون القرية مستقلة في المعيشة بقدر ما يمكن. ولذلك فقد بنيت بيوتها ومدارسها من اللبن أو الجالوس، وحفرت بها الآبار، وتضاء ليلاً بمصابيح البترول، وبها دكاكين ومسجد وصيدلية وحمام للسباحة وملاعب للرياضة البدنية. وتتبعها حقول وحدائق للتجارب الزراعية. وبها أبقار وأغنام ومصانع للزبدة ولها نجارها الخاص وحلاقها وخفراؤها الخ والتلاميذ والمدرسون والمشرفون يعيشون في هذه القرية التي لا يسكنها أجنبي. والعمل في هذه القرية وما يتبعها مستمر طول اليوم وهزيعاً من الليل في المزارع ومرابط الأبقار ودكاكين النجارة وحجرات الدراسة الخ ونظام العمل هنا تعاوني، ويقوم الطلبة بمعظم الأعمال المدرسية والمزرعية والمنزلية بالاشتراك، ويصدرون جريدتهم الأسبوعية ومجلتهم الشهرية. وبالجملة فالغاية هنا من التربية أن تكون عملية بسيطة رخيصة تعد السوداني ليعيش في القرية السودانية ويعتمد على نفسه في أكثر ما يحتاج إليه
وللدراسة خمس شعب: شعبة المواد الاجتماعية، وشعبة الرياضة، وشعبة الفنون الجميلة والأعمال اليدوية، وشعبة الزراعة، وشعبة اللغة العربية. ولكل من هذه الشعب رئيس إنجليزي إلا شعبة اللغة العربية فهي من نصيبي. ولكل رئيس مساعدان، ومهمة رئيس الشعبة الإشراف على كل عمل يتصل بمادته أو موارده، وهو مسئول عن المدرسين والكتب وطرق التدريس ونظام العمل في حصص مادته. وهو أيضاً مسئول عن وضع المنهج المناسب وتأليف الكتب. وهذا المنهج وهذه الكتب تمر في مرحلة التجربة قبل أن(331/63)
تعتمد فتعمم في مدارس السودان جميعها. وقد بدأت منذ وصولي من الأساس. وأنا الآن أدرس منهج التعليم الأولى ومشغول بمقرر اللغة العربية في السنة الأولى الأولية وكتبها وطرق التدريس فيها تمهيداً للقيام بالتجارب في السنة الدراسية القادمة التي تبدأ هنا عادة من يناير. ورئيس هذه المعاهد إنجليزي فاضل حازم له تجارب منتجة في الهند والسودان. ولذلك تجد دولاب العمل يسير بانتظام وتناسب في جميع أركان القرية وفي المعاهد
لقد أطلت عليك في وصف قريتنا التعليمية، ولكني أرجو أن تكون إطالتي في غير ملل؛ فأنت من أسرة المدرسين ويلذ لك أن تقرأ عن أخبار التعليم وأخبار أسرتك
العمل هنا كثير وكله علمي تثقيفي نافع، وأنا سعيد بعملي هنا وأحبه وأقبل عليه برغبة وإن كان لا يترك لي إلا القليل للراحة والاستجمام. وأحاول أن أختلس سويعات في أوقات الراحة فأكتب شيئاً أو أعالج موضوعاً يصح أن ينشر. . .)
عبد العزيز أمين عبد المجيد
رئيس شعبة اللغة العربية بمعاهد بخت الرضا التجريبية
استدراك
جاء في المقال الثاني عن (موقف العلم من الكمال الإنساني) للأستاذ توفيق الطويل أن بيكون قد انقضى على وفاته ثلاثة عشر قرون وثلاثة عشر عاماً. والصواب ثلاثة قرون وثلاثة عشر عاماً
أسرار البلاغة في علم البيان
أصدرت (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفه الإمام (عبد القاهر الجرجاني) مطبوعاً طبعاً متقناً على ورق جيد صقيل، والكتاب ومؤلفه غنيان عن التعريف، وقد وضع في وقت تحكمت فيه دولة الألفاظ واستبدت على المعاني، وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوباً وإيضاحاً للمسائل وبسطاً للدلائل، وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس وتأثير الكلام البليغ في العقل والقلب. وقد عني بتصحيحه علامتا المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد عبده) والشيخ (محمد محمود الشنقيطي) وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد رشيد رضا). وثمن النسخة 25 قرشاً(331/64)
الفرقة القومية تقدم رواية:
امرأة تستجدي
أدار المؤلف موضوع الرواية حول شخصية بارزة في المجتمع لها حظها من الثقافة والعلم والمكان الرفيع. فالبطل رئيس تحرير صحيفة سياسية قد رشحه مجلس النواب، وهو رجل مثقف مستنير الذهن واسع المدارك يعيش أعزب حتى يلتقي بامرأة تقع من نفسه موقعاً حسناً فيخطبها سعيداً مغتبطاً. وإذ هو بسبيل استكمال سعادته يعرض له حادث يغير وجه الأمر
لقد كان من رأيه أن ليس من حق الإنسان أن ينتصف لنفسه. ليس له
أن يقتل مهما يكن من أمر، ليدع القضاء يأخذ له حقه، رعاية لنظام
المجتمع وخشية عليه من الانهيار. وقد هاجر برأيه هذا في مسألة
عرضت له إذ قتل رجل عشيق ابنته الذي وعدها وأخلف
بيد أنه لا يجد مناصاً من ارتكاب جريمة القتل لسبب لا يسيغ قتل ذبابة فضلاً عن رجل! أتدري من قتل؟ إنه قتل زوج أخته الذي طلقها لينقذه من حبائل امرأة مستهترة ولينقذ شرف الأسرة وثروتها التي لا تزيد على عشرين فداناً مثقلة بالديون!
وإنك لترى أنه أقدم على ارتكاب جريمة القتل وهو في حالة كان يرى فيها نفسه أسعد رجل في الوجود، خطب المرأة التي يحبها وسيتزوج منها بعد أيام، وهو يوشك أن يبلغ قمة المجد، وغداً ربما يكون وزيراً أو رجلاً خطيراً في الدولة. هذا الرجل يقدم بعزم وإصرار على قتل زوج أخته لأنهه طلقها! ومن العجيب أنه، وقد أراد أن ينقذ شرف الأسرة وثروة الأسرة، أنه سلم نفسه للعدالة حتى لا ينتصف لنفسه بنفسه، وبذلك وقعت الكارثة الكبرى، وانتهت حياته وانهارت آماله ونزلت بالأسرة الفضيحة مزدوجة وخسرت عائلها وسيدها!
بأي منطلق كتب المؤلف هذه الرواية؟ لسنا ندري، ومن العبث أن ندري فما يجيز العقل شيئاً كهذا إلا إذا كان البطل قد نزل يوماً بدار المجانين، وقد جعل هذا المنطق شخصيات الرواية شاذة مضطربة ليس في الحياة مثلها أو شبيهة بها. وبهذا خرجت الرواية سقيمة(331/66)
عرجاء رغم جهد المخرج النابه الذي أخرج غيرها من قبل بنجاح ملحوظ. وكيف يسيغ هذه الأكذوبة الجريئة على الحق والحياة، لو أنه بذل بعض هذا المجهود في إخراج رواية مستقيمة لأفاد منها كثيراً كما أفاد من (الحب والدسيسة) وغيرها مما أخرج
وقام الأستاذ أحمد علام بدور البطل، وإنك لترى موقفه وهو يحاول عبثاً أن يستر ضعف الشخصية التي يؤديها، على أنه وفق في كثير من مواقفها كممثل
وهكذا كانت السيدة دولت أبيض التي جعلها المؤلف، وهي امرأة، لا تهتز لذكرى أمها على حين كان أخوها، وهو رجل قد بلغ الغاية في رقة العاطفة وجلال التأثر لذكرى أعز شخصية في الوجود
أما الآنسة فردوس حسن فقد كانت شخصيتها بعيدة عن منطق الرواية الأعرج، وهي منها في الصميم، أحبت صاحبها ورضيت به زوجاً ودافعت عن سعادتها في حدود قدرة المرأة التي جربت الحرمان، وهكذا كان عملها سليما وشخصيتها سليمة
وكان منسي فهمي بارعاً في دور الرجل المستهتر السادر في غيه. وكان موقفه مع (شربات) الراقصة من أبدع المواقف
أما الآنسة أمينة نور الدين فقد قامت بدور (شربات) الراقصة، ولنا حديث عنها في العدد المقبل.
وكان الأستاذ عباس فارس في دوره الصغير آية من آيات الإبداع والقوة، حتى لقد جعلنا ننتصر لقضيته ونسخر بمنطق البطل.
وكان أنور وجدي في دور الشاب المرح غاية في الظرف. وكذلك كان حسن إسماعيل في دور (هاني) الذي يعتبر بداية حسنة لممثل شاب وبعد فإن الرواية ساقطة من وجهة التأليف ناجحة إلى حد ما من وجهة الإخراج
فرعون الصغير(331/67)
العدد 332 - بتاريخ: 13 - 11 - 1939(/)
وزارة الشؤون الاجتماعية
المرض. . .
- 3 -
بعد الجهل والفقر لابد أن يجيء المرض. فهو في الترتيب الطبيعي ثالث العناوين البارزة في دستور وزارة الشؤون الاجتماعية.
وإذا كان الجهل يمنع أن يكون لنا رأي عام، والفقر يمنع أن يكون لنا خير مشترك، فإن المرض يمنع أن يكون لنا كيان صحيح. وإذا لم يكن للمجتمع رأي عام ولا خير مشترك ولا كيان صحيح، فسمه ما شئت إلا أن تسميه أمة.
ولعل المرض كان العَرض الملازم الذي يميز الشقاء المصري من كل شقاء في العالم. وإن أثره في تاريخنا الاجتماعي كان كأثر الزلازل والبراكين والحروب في تاريخ البلاد الأُخر. فقد كانت الأوبئة تفد إلى مصر عاماً بعد عام فتجتاح نصف السكان وتصيب النصف الآخر بعاهات تدعه كالشجر اليابس لا للظل ولا للثمر. والعلة الأصيلة في ذلك أن أبانا النيل منذ شقه الله يجري فيكون الخصب والغضارة والحياة، ثم يركد فيكون الجدب والذبول والموت. وفيضانه ونقصانه يتعاقبان تعاقب الجديدين. فإذا فاض أنعش الذاوي وجدد البالي وأحيا الموات؛ وإذا نقص تخلفت بقاياه في أجواف المصارف وأطراف الترع ومناقع الأرض فتكون مزارعَ خصبة لجراثيم التيفود وبعوض الملاريا وقواقع البلهارسيا وديدان الأنكلستوما، وبنو النيل الدائبون البررة لا ترتفع أيديهم من مائه، في حالي نقصه ووفاءه؛ فخيرهم منه لا يزال مشوباً بالشر، ووجودهم فيه لا ينفك مهدداً بالعدم. فإذا أضفت إلى ذلك أن الجهل يستوجب فساد العيش وترك الوقاية، وأن الفقر يستلزم سوء الغذاء ونقص العلاج، فقد اجتمعت لك أسباب المرض التي جعلت الكثرة الكاثرة منا مذبذبين بين الدور والقبور لا هم في الأحياء ولا هم في الموتى.
إذا استطعت أن تقيم البناء من ناخر الحجر، وتنسج الرداء من رثيث الخيط، استطعت أن تؤلف من مهازيل المرض وسُقَاط الوهن شعباً يستغل الأرض وجيشاً يحمي الوطن.
تعال نزر قرية من قرى الريف فأريك كومة مبسوطة من سباخ الأرض، في مستنقع واسع من آسن الماء، فقد قامت عليها أبنية من الطين والقصب والخشب تجمعت على ظهورها(332/1)
المراحيض والمزابل، وتكدست في بطونها الناس والبهائم، وتطرحت على أبوابها ومصاطبها الرجال والأطفال وقد هدَّتهم العلل وبَرَتهم الأسقام حتى ليعجزون عن دفع الذباب عن وجوههم الساهمة الشاحبة. فإذا سألت هؤلاء المنهوكين بالزُّحار والصُّفار والسُّلال والطُّحال والحمى والرمد: من الذي يزرع الأرض ويتعهد الزرع، ويحصد الثمر ويجمع الحصيد، وينجل العلف ويرعى الماشية؟ قالوا لك: يعمل ذلك كله قليل من الشبان الذين يدافعون المرض بالجلَد، وكثير من النساء اللاتي يغالبن الضعف بالصبر. ومما ترى وتسمع يتسنى لك أن تروز العبء الذي تحاول وزارة الشؤون الاجتماعية أن تضطلع به.
ولكن هل من الحق أن يلقى عبء الصحة العامة على كاهل هذه الوزارة المفدوحة بأمور المجتمع؟ إذن فماذا تصنع وزارة الصحة؟ والجواب أن الجهاد الصحي مفروض على الوزارتين جميعاً بنظام تقتضيه طبيعة كل منهما فلا يُثقل إحداهما ولا يعطل الأخرى. فكل ما يتصل بالوقاية والصيانة يرجع إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وكل ما يتعلق بالطب والعلاج يعود إلى وزارة الصحة؛ وقد يجوز لهذه بحكم خصوصها أن تصون وتقي، ولكن لا يجوز لتلك بحكم عمومها أن تعالج وتَطب.
فمن الطب الوقائي المنوط بوزارة الشاذلي باشا تخطيط القرية على نمط يكفل لها الشمس والهواء والجمال والذوق والراحة، وفصل الحظائر والمزابل عن المساكن، وتجفيف البرك والمستنقعات، وتطهير الماء الراكد من الطفيليات، وإنشاء المغاسل والمراحيض العامة، ورفع مستوى المعيشة القروية بتحسين الغذاء وتنقية الماء وتعميم النظافة، وإرشاد الفلاحين عن طريق الإذاعة والصحافة والوعظ إلى أنجع الوسائل في اتقاء العدوى وتدبير البدن.
ذلك عملها في القرية، وأما عملها في المدينة فبناء المساكن الصالحة للعمال، ومراقبة المعامل والمصانع من حيث الصحة، وملاحظة المطاعم والمشارب من حيث النظافة، ومراعاة الطعام والشراب من حيث السلامة، وحماية الطبقة العاملة من رهق العمل، ووقاية النفوس الغاوية من سموم المخدرات، وبث الروح الرياضية في كل طبقة، وإنشاء الملاعب والمسابح والأندية في كل بيئة، وإقامة المسابقات النهرية والبرية في كل فرصة، وتفريج الهموم بإقامة المهرجانات الشعبية في كل مناسبة، وتعميم الثقافة الصحية عن طريق التعليم والإذاعة والنشر.(332/2)
هذا مجمل ما ينبغي أن تقوم به وزارة الشؤون الاجتماعية لمكافحة المرض. فإذا أضفناه إلى ما أجملناه قبلاً من الوسائل الفعالة في كفاح الجهل والفقر كان لنا من مجموع ذلك برنامج كامل شامل لا يعوزه غير التنفيذ. فليت شعري أتظل الوزارة واقفة من شؤونها الاجتماعية موقف خراش من ظبائه، أم تجري على هذه الخطة الواضحة فتأتي كل أمر من وجهه وتعالج كل داء بدوائه؟
أحمد حسن الزيات(332/3)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
(النهاية)
هل أستطيع أن أحدِّث القارئ مرةً عن بعض مكاره النقد الأدبي؟
ليتني أعرف من أغروني بسلوك هذا الطريق المحفوف بالمخاطر والمعاطب والحتوف!
كنت تبت ونجاني الله من مهلكات هذا الطريق الوعر الشائك، فكيف رجعت إليه بعد أن عرفت وجه الخلاص؟
كان الأستاذ أحمد أمين أحد الأصدقاء الذين رأيت أن أتجنب الوقوف في طريقهم مهما كانت الأحوال، وكانت الحجة بيني وبين نفسي أن هذا الرجل رقيق الإحساس، أو ضعيف الأعصاب، فلا يجوز أن أعرض له بإيذاء.
وما زلت أذكر ما وقع في سنة 1935
كنت يومئذ مدرساً بكلية الآداب، وأخرج الأستاذ أحمد أمين الجزء الثالث من ضحى الإسلام، وقد سرق من الأستاذ إبراهيم مصطفى مسألة متصلة بتاريخ النحو وسرق مني مسألة متصلة بتاريخ التشريع الإسلامي، فصاح إبراهيم: إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدة فكيف يسرقها مني؟ إنه لطمّاع!
جلست أنا وإبراهيم نتشاكى في غرفة أساتذة اللغة العربية، وانتقلنا من التشاكي إلى التباكي، فهتفتُ: سأنتقم لي ولك يا إبراهيم!
فقال: يعزّ عليّ أن يَجرح الأستاذ أحمد أمين بسببي، وهو صديق قديم، ولم ينهب مني شيئاً قبل هذه المرة، وأنت يا صديقي قد أوغلت في معاداة طه حسين فلا تضف إليها معاداة أحمد أمين!
وشاءت المقادير أن أقص هذه القصة على بعض أصدقائي في بغداد سنة 1938 فكان من أثر ذلك أن يوجَّه إليَّ سؤالٌ في جريدة (الكلام) عن بيان ما سرق مني أحمد أمين.
ورأيت أن أعتصم بالصمت فلا أجيب: لأني كنت نشرت قبل ذلك كلمة أثنيت بها على جهود أحمد أمين في جريدة (الهدف) ولأني كنت أستقبح اغتياب أبناء وطني في جرائد بغداد، فقد كان أدباء لبنان يسمونني سفير العروبة المصرية في العراق.(332/4)
ومنذ أشهر نشر الأستاذ أحمد أمين مقالته الأولى فيما سمّاه جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي فلم تعجبني: لأني رأيتها من الحديث المعاد، ثم لقيني مصادفةً في (المترو) بعد ظهور مقالته الثانية فسألني عما أراه في الأفكار التي أودعها مقالتيه، فقلت له: لم يعجبني غير نقد الشاهد الذي أوردته من كلام ابن قتيبة، أما سائر أفكارك فتحتاج إلى تحقيق، فقال: أنا دعوت القراء إلى مناقشة تلك الأفكار، وأنا أرحِّب بكل ما يَرِد إلي من تصحيح.
فهل كان يدعوني إلى أن اساجله الحديث؟
كانت الصداقة بيني وبين الأستاذ أحمد أمين قد بلغت أقصى حدود المتانة والصدق، وما كان ينتظر أن يرى مني غير ما يحبّ، وكنت والله خليقاً بالتجاوز عن سيئاته لو لم يُسرف في الإساءة إلى ماضي اللغة العربية في وقت يحرص فيه العرب على تفهيم أبنائهم أن أجدادهم كانوا من أصحاب الرفيعة في العلوم والآداب والفنون، وأنهم كانوا في ماضيهم من أقطاب الزمان.
وكذلك وقعت الواقعة وكان ما عرفه القراء من تمزيق الأوهام التي اعتز بها ذلك الصديق.
ولكن ما الواجب لهذا التمهيد في مطلع المقال الثاني والعشرين؟
أنا أريد أن يعرف القارئ أني أشعر بالضجر حين أثبت في مقال اليوم أن أحمد أمين سرق بعض آرائي، بعد أن أثبتُّ ما سرق من الدكتور أحمد ضيف والدكتور طه حسين، وما كان يهمني أن ينص على ما سرق مني، ولكن اعتزازه بآرائه (المبتكَرة) أوجب الحدّ من جرأته العاتية في نهب تلك (المبتكرات).
وأدخل في صميم الموضوع فأقول:
اهتم الأستاذ أحمد أمين بالنص على أن الشعر العربي كان في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح، وحجته في ذلك أن التكسب بالشعر كان عادةً غالبةً على أكثر الشعراء، وقد طنطن بهذه المسألة وأخذ يعيدها في كل مكان حتى صحّ للأستاذ محمد العشماوي بك أن يواجهني بهذه العبارة:
(كيف تعيب على الأستاذ أحمد أمين أن يقول إن شعراء العرب كانوا يتجرون بأشعارهم، وهو قول صحيح)؟(332/5)
فهل ابتكر الأستاذ أحمد أمين ذلك الرأي؟
انظروا ما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 99
(لا أنكر أن كثيراً من الشعراء اتخذوا مدح الملوك والأمراء وسيلة من وسائل العيش، ولا أنكر أن كثيراً منهم وصل بذلك إلى أسفل دركات الاسفاف، واصرِّح بأن من النقائص النفسية أن يسخر الشعر تسخيراً في سبيل المنافع الزائلة، وأعترف بأن هذه النقيصة تمسُّ كثيراً من شعراء اللغة العربية، وإن كان من أسباب العزاء أن هذه النقيصة لم يتفرد بعارها شعراء العرب فقد كان أكثر الشعراء في أوربا يعيشون عالةً على الملوك والأمراء ولم يعرف منهم باستقلال الشخصية إلا القليل. ولكني - مع هذا - أقول بأن المديح ديوان العرب، وهو الوثيقة الباقية على ما كان فيهم من كرم الشمائل والخصال. والمادحون قد يكذبون، ولكنهم في كذبهم يصورون ما اصطلح عليه معاصروهم من ألوان المحاسن والعيوب، فالشاعر الكاذب يقف كذبه، عند حقيقة ممدوحه، ولكنه من الوجهة الاجتماعية صادق كل الصدق، لأنه يصور ما يتشهى ممدوحه أن يتصف به من كرائم الخلال).
وهذا البحث كان من البحوث التي راعت الأستاذ المازني وكان نُشرَ في جريدة البلاغ قبل أن يُضم إلى الطبعة الثانية من كتاب البدائع.
وقد رأى الأستاذ أحمد أمين أن ينهب الشطر الأول من الفكرة ويغفل الشطر الأخير، لأن الشطر الأخير فيه توجيه لمدائح الشعراء وهو حريص على طمس محاسن أولئك الشعراء.
وعاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالنسيب وأن يتنقلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل، في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين.
وهذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة 1931 وفيه أقول:
(لقد درج شعراء اللغة العربية منذ الزمن القديم على افتتاح القصائد بالنسيب، وتلك طريقة لها محاسن ولها عيوب: فمن محاسنها أنها تمهد للشاعر طريق الكلام، وهي بذلك أشبه بالموسيقى تتقدم الغناء ليثور قلب المغنِّي ويُرهَف إحساسه للتلحين والتطريب. ومن مساويها أنها تفرض على الشاعر ما لا قِبَل له باحتماله من التغني بعواطف قد تكون خمدت في صدره منذ أزمان. على أن الشعراء الأقدمين قد التزموا هذه القاعدة حتى وصلت ببعضهم إلى الإسفاف، وحسبُ القارئ أن أذكر له أن من الشعراء الماضين من كان يفتتح(332/6)
قصائد الرثاء بالنسيب، وذلك أغرب ألوان الشذوذ، وقد أحصيتُ من هذا النوع عشرين شاهداً هي في مذكراتي بمصر، فليعذرني القارئ إن اكتفيت بالإشارة إليها في هذا الحديث)
وصرح أحمد أمين بأن المعاني القديمة لم تخضع للتجديد، وإنما نقلها الشعراء بلا تجميل ولا تحسين. أفلا يصح القول بأنه سرق هذه الفكرة مما جاء في كتاب (البدائع) ج 1 ص 29.
(إن شعراءنا يدورون حول الحسن فلا يرون منه غير ما كان يرى الأقدمون. فحيرةُ الشاعر اليوم هي حيرة أسلافه منذ قرون مع أن النفوس قد تعقدت أشد التعقد، وهذا الحُسنُ - إن لم يلطف الله - ماضِ في الفتك بلفائف القلوب، وقد جدّت للأرواح أزمات جديدة ومطامح جديدة لم يَشْقَ بها الأولون، فليس من المغالاة في شيء أن نصارح القراء بأن الغزل في شعر شوقي وأضرابه من المعاصرين أصبح أعجز ما يكون عن وصف ما في نفوسنا وأرواحنا وقلوبنا من ألوان القلق والظمأ والالتياع).
واهتم الأستاذ أحمد أمين بتوكيد القول بأن نزعة القرآن روحية لا حِسيّة. فنال بذلك ثناء الأستاذ محمود علي قراعة الذي عدّ كلامه من المبتكرات، فهل يعلم أن هذا الكلام مسروق من قول صاحب (التصوف الإسلامي) ج 2 ص 7.
(وأقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس هو القرآن، ذلك الكتاب الذي أطال القول في وصف الدنيا وذمها وثلبها وتحقيرها، وقضى بأنها لهو ولعب، وأنها في نضارتها ليست إلا متاع الغرور. القرآن هو أقرب الآثار الصوفية إلى أذهان الناس وإن جهلوا ذلك، هم يعدّونه كتاب تشريع ونراه كتاب تصوف. إن التشريع في القرآن ليس إلا تنظيماً للعلاقات الدنيوية، والعلاقات الدنيوية في نظر القرآن هي تمهيدٌ للصلات الروحية: صلات الناس بالله الكبير المتعال، وكلُّ مَغنم لا يُقرِّب المرء من ربه هو في نظر القرآن ذُخرٌ باطلٌ سخيف)
ومع ذلك يقال إن أحمد أمين يدعو إلى الروحانيات وإن زكي مبارك يقاوم الروحانيات!
فيا ربَّ هل إلا بك النصر يُرتَجَى ... عليهم؟ وهل إلا عليك المعوَّلُ؟
غفر الله لي ولكم، يا إخوان هذا الزمان!
ويوصي أحمد أمين بقَصْر دراسة تاريخ الأدب على المعاهد العالية والاكتفاء في المدارس(332/7)
الثانوية بنصوص مختارة من الأدب الحديث.
فمن أين أخذ هذا الكلام وهو الذي اشترك مع لجنة مكونة من أشخاص معروفين في تأليف كتابين للمدارس الثانوية بُدِئ فيهما بالأدب الجاهلي والأدب الأموي، وهما عصران أعلن عليهما الحرب في هذه الأيام؟
أخذ هذا الكلام من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد) ص 42 و 43.
(إن درس تاريخ الأدب بدعةٌ نقلناها نقلاً عن أوربا، وهي مقبولة هناك؛ لأن الأدب الأوربي يكثر في القصَصَ والتمثيل، وهي موضوعات أَلفها التلاميذ، لأنهم منذ الطفولة عرفوا القصَصَ وعرفوا التمثيل، فلا يصعب عليهم أن يفهموا الفرق بين فن وفن، وعصر وعصر، وأسلوب وأسلوب. أما في مصر فالأدب في جملته يتحدث عن شؤون جِدية لم يعرفها الشبان من قبل، فمن العسير أن يدركوا كيف تطور واستحال من جيل إلى جيل. . . إن تاريخ الأدب لا ينبغي أن يدرس إلا في المعاهد العالية، أما المدارس الثانوية فيدرس فيها الأدب الصِّرف، مع العناية بشرح النصوص والبحث عن مواطن الجمال في النثر الجيد والشعر البليغ. . . درس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية جهدٌ ضائع، وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير رجلاً حاذقاً من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن أننا سنصبر طويلاً، لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم، والى أن تحذف تلك المادة الفضولية نوصي أساتذة اللغة العربية بأن يتخيروا للمطالعة والمحفوظات نصوصاً لا تخرج عن الأدب الحديث، لأنه أقرب العصور إلى أذهان التلاميذ، وقربُهُ من أذهانهم يساعد المعلمين على بيان ما يتصل به من الملابسات الخلقية والاجتماعية، ويمكِّن التلاميذ من فهم ما فيه من أسرار البيان).
ورسالة (اللغة والدين والتقاليد) نشرت في سنة 1936، والفكرة قديمة عند صاحب هذه الرسالة فهي مُثْبتةٌ في كتاب (ذكريات باريس) الذي طبع في سنة 1931.
وأحمد أمين يعرف أن الجندي المجهول الذي اسمه زكي مبارك هو الذي غير منهج دروس الأدب في مدارس وزارة المعارف من حال إلى حال، فقد كانت تبتدئ بالعصر الجاهلي فصارت تبتدئ بالعصر الحديث. ومن السهل أن نستخرج المذكرات التي قدمتها للوزارة في هذه القضية ليعرف أحمد أمين هوية الرجل الذي وَأَد كتاب (المجمل) وكتاب (المفصَّل)(332/8)
عليهما رحمة الله، وعلى مؤلفيهما السلام، وهي تحية تصل أصداؤها إليه وإلى علي الجارم وأحمد ضيف وعبد العزيز البشري وطه حسين.
وسيأتي يوم أفصِّل فيه ما أديت من الخدمات لتوجيه الحياة العلمية بوزارة المعارف؛ تلك الخدمات التي انتفع بها أحمد أمين وغير أحمد أمين، ثم مضت بلا شكر ولا جزاء غير السرقة والانتهاب!
إن الفخر بغيض ممقوت، وقد عابه عليَّ الأصدقاء قبل الأعداء؛ ولكن ماذا أصنع وأنا أشهد آرائي تُنتهب بلا تحرُّز ولا ترفق، وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال، وكأنها مما ابتكرت أفكارهم الثواقب وألسنتهم النواطق!
ويقول أحمد أمين وطه حسين: إن الأدب يجب أن يرفع نفسية الأمة ويدلها على مواطن الضعف والقوة لتواجه الحياة عن هدى وبصيرة
فهل أستطيع أن أقول إن هذه الآراء منهوبة من قول صاحب رسالة (اللغة والدين والتقاليد) (ص 46 و 47).
(فإذا انتقلنا من الأدب وتاريخ الأدب في المدارس الثانوية والعالية تلفتنا نبحث عن الأديب المخلوق لدرس الحياة، ونحن نرجو أن يكون في أساتذة الأدب من يخرج على الذوق المتكلف والوقار المصنوع، نرجو أن يكون عندنا أساتذة يزورون تلاميذهم في بيوتهم، ويرافقونهم في الحفلات والسهرات، ويطوفون بهم على الأحياء الشعبية ليعلموهم كيف تكون الثورة على ما في حياة الشعب من بؤس وشقاء. . . نريد أساتذة يربون تلاميذهم على مرافقة العمال والصناع والفلاحين ليكونوا في المستقبل من حملة الأقلام الثورانية التي تبدد غياهب الجهل والخمول. . . نريد أدباً يبعث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل، ويروضه على الطمع الشريف في الغنى والكسب والعزة والكبرياء. . . نريد أدباً يطمعنا في استرجاع ما ضاع من مجد مصر والنيل. . . نريد أدباً يرفعنا إلى صفوف الجوارح، نريد أدباً يعلمنا فضل المِخلب والناب، نريد أدباً نسيطر به على الدنيا غير باغين ولا عادين).
أما بعد فقد أنهيتُ القول في محاسبة الأستاذ أحمد أمين بعد أن أرَّقت جفونه خمسة أشهر كانت عنده كألف سنة مما تعدون، وأنا أشكر لمجلة (الرسالة) وقرائها ما لقيت من تشجيع(332/9)
وترحيب.
انتهيت من محاسبة أحمد أمين الباحث، أما أحمد أمين الصديق فله في قلبي أكرم منزلة وأرفع مكان، ولن يراني إلا حيث يحب في حدود المنطق والعقل، فما أرضى له أن يكون من الساخرين بالأدب العربي وماضي الأمة العربية
وسأبدأ بالتحية حيث ثَقِفْتُه. فلا يَزْو عني وجهاً أراه أهلاً للكرامة والحب.
وسلام عليه من الصديق الذي لا يغدر ولا يخون.
(تم البحث)
زكي مبارك(332/10)
من كتاب (الدين الإسلامي)
من هو المسلم؟
للأستاذ علي الطنطاوي
ديننا علم واعتقاد وعمل
فالمسلم من (علم) أن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل بالشريعة الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان، والتي تكفل لمتبعيها سعادة الدنيا والآخرة، وجعلها رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، وأنزل عليه الكتابَ الذي ما فرط فيه من شيء، القرآن كلامَ الله القديم، وختم بالإسلام الرسالات فلا نبي بعد محمد خاتم النبيين
و (علم) أن دعامة الإسلام وأساسه، ومصباحه ونبراسه، كتاب الله وسنَّة نبيِّه، فما جاء في القرآن أو صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو من الدين، وما عدا ذلك من بدع ابتدعها في الدين قوم، أو زيادات زادها أقوام ليست في القرآن ولم ترد في الحديث الصحيح ولا تقاس عليهما ولا يجمع عليها أئمة المسلمين فليست من الدين ولو قال بها أهل الأرض.
و (علم) أن الإسلام لا يشبه الأديان ولا يقاس عليها، لأنه دين وشريعة وسياسة وأخلاق، فهو يبيِّن صلة العبد بربه، ويضع القوانين لصلات الناس بعضهم ببعض، ويبني قواعد العلاقات السياسية بين الدول الإسلامية وغيرها من الدول، والإسلام يرافق المسلم إذا غدا أو راح أو طلع أو نزل لا يفارقه لحظة ولا خطوة. وليس في الدنيا عمل لا يدخل فيه الإسلام ويبيِّن فيه حكم الله، فإما أن يكون مباحاً لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون مندوباً يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وإما أن يكون واجباً يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإما أن يكون مكروهاً يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، وإما أن يكون حراماً يثاب تاركه ويعاقب فاعله. وهذه الأحكام الخمسة (الفرض والمندوب والمباح والمكروه والحرام) هي التي تحدد مكان كل عمل من الدين ولا يخلو عمل من واحد منها. فالمسلم لا يقول أبداً (هذا الأمر خارج عن نطاق الدين لا دخل له فيه) كما أنه لا يقول (إن الإسلام يجب أن ينفصل عن السياسة) لأن السياسة جزء من أجزاء الدين، و (براءة) وكلها سياسة، سورة من(332/11)
القرآن لا يمكن أن تنفصل عنه
والمسلم من (علم) أن الشريعة الإسلامية أغنى الشرائع؛ وأنها أثمن وأجمع وأحكم من القانون الروماني الذي اقتبست منه كل قوانين أوربة، وأنه يجب أن تكون قوانيننا المدنية والجزائية والمالية والإدارية والدستورية مستنبطة من شريعتنا، مقتبسة من ديننا
و (علم) أن من أنكر آية من القرآن، أو حديثاً متواتراً فقد خرج من الإسلام
و (علم) أن الاجتهاد في استنباط الفروع أمر مستحسن شرعاً، يؤجر عليه صاحبه ولو أخطأ فيه مكافأة له على بذله الجهد واستفراغه الطاقة، فإذا أصاب كان له فوق ذلك أجر آخر هو أجر الإصابة؛ وأن الاجتهاد في أصول الدين ممنوع لأنها منصوص عليها ولا مساغ للاجتهاد مع ورود النص، وأنه لا يضر الناس اختلافهم في الفروع (فكلهم من رسول الله ملتمس) سواء في ذلك الحنفي منهم والشافعي والمالكي والحنبلي. بل إن اختلافهم رحمة من الله وتوسيع على الامة، ولكن يضر الناس اختلافهم في أصول الدين من العقائد ونحوها، ويكون الواحد منهم مصيباً والباقون على ضلال. لأن الحق لا يتعدد، والمصيب هو من اتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرن الأول خير القرون
و (علم) أن كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يعتقد ما يخالف الكتاب والسنة، ولم يستحل محرَّماً ولم يحرم حلالاً، فهو مسلم تنطبق عليه أحكام المسلمين وتجمعنا به أُخوة الدين، ولا يجوز تكفير مسلم إلا إذا أنكر أصلاً من الأصول، أو أتى ما أجمع الأئمة على أنه مكفر
و (علم) أن الإسلام لا يعارض العلم الصحيح، ولا الفن النافع، ولا الحضارة الخيِّرة، وأنه دين سهل رحب مرن، ليس بالدين الضيق الجامد المحرج
والمسلم من (اعتقد) بأن لهذا الكون إلهاً واحداً قديماً باقياً، سميعاً بصيراً، متصفاً بصفات الكمال، منزهاً عن صفات النقصان، وأنه هو خالق كل شيء وإليه المصير، ويخلص له العبادة ويراقبه دائماً ويعلم أنه مطلع عليه، وأنه هو وحده النافع الضار، وبيده الخير وهو على كل شيء قدير. فلا يدعو معه غيره، ولا يسأل سواه حاجة من الحاجات التي لا يقدر البشر على مثلها ولا يستعين إلا به، ولا يخاف حق الخوف إلا منه، ولا يسخطه ليرضي الناس، ولا يبالي إذا رضي عنه بسخط أحد(332/12)
و (اعتقد) أن الله خلق أنواعاً من المخلوقات، منها ما خلقه من مادة كثيفة كالناس والحيوان والكواكب، ومنها ما خلقه من مادة نورانية كالملائكة وهم خلق كثير من خلق الله لا يأكلون ولا يشربون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون
ومن مخلوقاته الجن، وهم خلق يروننا ولا نراهم، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، ومنها الشياطين وهم أهل الشر ليس فيهم صالح
و (اعتقد) أن الله رحمة منه بالناس، اختار منهم رجالاً عصمهم من الكبائر، ونزههم عن النقائص، ثم بعث إليهم (جبريل) وهو واحد من الملائكة، فأبلغهم رسالة الله، وعلمهم ما يسعدهم في دنياهم وينجيهم في آخرتهم، وكلفهم إبلاغ هذه الرسالة أقوامهم، وهؤلاء هم الرسل وأولهم آدم وآخرهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
ولو شاء الله لأنزل كتاباً واحداً، وجعل الناس أمة واحدة، ولكن اقتضت حكمته أن يكون التكامل في الرسالة تدريجياً، كالتكامل في الحضارة والرقي، فكل رسالة تعدل التي قبلها وتكملها، حتى جاءت رسالة محمد، في نهاية الكمال، لا يحتاج بعدها إلى شيء لسببين، أولهما أن طبيعة الرسالة المحمدية طبيعة مرنة قابلة للتطور في أحكامها الفرعية تبعاً لتطور العصور، فهي لذلك تبدو في كل عصر جديدة، ويتكشف منها جوانب ومعان لم تكن معروفة، حتى كأنما أنزلت لذلك العصر؛ والسبب الثاني طبيعة الحياة البشرية وميلها نحو الوحدة، منذ فجر الإسلام حتى اليوم، إذ أصبح الناس من حيث الاتصال كأنهم أبناء أسرة واحدة، تقال الكلمة في آخر الشرق فتسمع في آخر الغرب، وسهل تبليغ الرسالة، ولم تعد حاجة لتعدد الرسل بتعدد الأقوام
و (اعتقد) أن الوحي معناه نزول الملَك على الرسول، وهو غير الإلهام الروحاني الذي يحس به الشعراء والكتاب، وأن الوحي ليس كسبياً وإنما هو عطاء من الله لا ينال بالتحصيل، ولا يوصل إليه بالبحث والعلم والتفكير، لذلك لا يقال إن النبي مصلح عظيم، ولا شاعر ولا فيلسوف، لأن ذلك كله يختلف عن النبوة، وينحط عن مرتبتها انحطاطاً كبيراً، ويخالف العقيدة الإسلامية
و (اعتقد) أن الله أنزل على أربعة من رسله كتباً، فأنزل التوراة على موسى، والزبور على(332/13)
داود، والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلى الله على الجميع، فبدل كل قوم كتابهم وحرَّفوه وبقي القرآن كما أنزل، لأن الله ضمن حفظه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
و (اعتقد) أن الله سيجمع الناس كلهم في يوم القيامة، فيعيد الحياة لمن مات، ويرد عليه الروح ولو فني وصار تراباً، ولو أحرق جسده وصار رماداً، ولو أكلته الوحوش أو تخطفته الطير، ثم يحاسبهم جميعاً على ما عملوا في الدنيا، فيكافئ المحسنين فيخلدهم في الجنة، ويعاقب المسيئين فيدخلهم النار
وأنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وأن من تاب قبل أن يموت محي ذنبه حتى كأنه لم يذنب، بشرط أن تكون التوبة مقرونة بترك الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على الماضي، وهذه هي التوبة الصادقة التي تمحو الذنب، فإن عاد بعدها إلى الذنب، ثم تاب منه توبة صادقة غفر له، ولو كثرت ذنوبه حتى صارت مثل زبد البحر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً)
أما من تاب من ذنب وهو لا يزال مقيماً عليه، أو يفكر في أن يعود اليه، فهذا كالمستهزئ به والعياذ بالله
و (اعتقد) أن كل شيء بقدر الله، وأن الله قسم للعبد سعادته وشقاءه، ورزقه وعمره فما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، ولو بقي في عمرك يوم واحد لا يقتلك أهل الأرض ولو اجتمعوا عليك، وإذا جاء أجلك أدركك الموت ولو كنت في برج مشيَّد، رفعت الأقلام، وجفت الصحف، ولا رادَّ لما قضى الله، ولا دافع لمشيئته
والمسلم بعد ذلك، من يقر ويشهد بلسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة ويؤديها على وجهها في أوقاتها محافظاً على فروضها وسننها، خاشعاً لله فيها، ويصوم رمضان إيماناً واحتساباً، ويؤدي زكاة ماله طيباً بها قلبه، ويحج البيت إن استطاع
ثم إنه لا يكذب ولا يغتاب ولا يشي ولا يؤذي أحداً ولا يظلمه، ويكون عفيف العين واليد والفرج، ساعياً إلى مكارم الأخلاق، آخذاً الحكمة من حيث وجدها، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، يعاون على البر والتقوى، ولا يعاون على الإثم(332/14)
والعدوان، ينكر المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، ويؤدي حقوق المسلمين فيساعد ضعيفهم، ويمد فقيرهم، ويعود مريضهم، ويغض بصره عن نسائهم، ويحفظ لهم أعراضهم، ويعد كل شيخ في المسلمين أباً له، وكل شاب أخاً، وكل صبي ولداً، وكل فتاة بنتاً، وكل امرأة أختاً، ثم إنه يجتنب الخمر، ويدع الربا، ويخاف الشُّبَه كيلا تقوده إلى المحرمات، ولا يحوم حول الحمى حتى لا يقع فيه
ويريد بذلك وجه الله، مبتعداً عن حظ النفس ما استطاع الابتعاد، عالماً أنه بشر فيه غرائز لا يملك الانفكاك عنها، ولا يؤاخذه الله إلا بما ملك.
هذا هو المسلم الحق. . . فاللهم اجعلنا مسلمين حقا!
علي الطنطاوي(332/15)
الفروق السيكلوجية بين الأفراد
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
إن ما أعنيه بالفروق السيكلوجية هي تلك الفروق العقلية والخلقية والمزاجية والجسمية الموجودة بين الأفراد. ومن السهل على المفكر العادي أن يدرك مظاهر تلك الفروق في تصرفات الأفراد وفي إنتاجهم الاجتماعي والعلمي. وليس موضوع اختلاف الأفراد السيكلوجي حديثاً في ذاته، فقد تناوله العلماء والفلاسفة بالبحث منذ قرون. ولكنه حديث بالنسبة لبحثه بالطرق العلمية والإحصائية، وتحديد تلك الفروق وتبويبها، ومعرفة أسبابها، وعزو ما هو وراثي منها للوراثة، وما هو بيئي للبيئة. وهذا النوع من البحث العلمي في الفروق السيكلوجية ظهر واحتل مكاناً بين فروع علم النفس في الربع الأخير من القرن الماضي وذلك بنمو علم النفس التجريبي. وهو يعرف الآن بعلم النفس الفردي في
وأقدم من عالج هذا الموضوع أفلاطون في جمهوريته، فإنه حين وضع نظام المدينة الفاضلة بناه على أساس الاختلاف السيكلوجي بين أفراد الجماعة الواحدة. وكان يرى أن (العدل الاجتماعي) يقضي بأن يقوم الفرد بالعمل الذي أُعد له بطبيعته، والذي تقوى على تحمله وتسويته طاقته العقلية، واستعداده الجسمي. وكانت نتيجة هذا المبدأ أن قسم أفلاطون سكان مدينته إلى طبقات ثلاث، فجعل فيها طبقة الزراع والصناع والتجار، وهؤلاء بطبيعتهم غير صالحين لأن يكونوا ضمن الطبقة الثانية طبقة الجنود المدافعين عن المدينة من الخارج والمحافظين على نظامها في الداخل. وفوق هاتين الطبقتين طبقة ثالثة قد وهبت من المزايا العقلية والخلقية ما لم توهب الطبقتان الأخريان وهذه هي طبقة الفلاسفة والحكام الذين لهم حق الإشراف على الإدارة والقضاء والتشريع. وقد أشار أفلاطون في الجمهورية إلى أن هذه الطبقة الأخيرة طبقة ممتازة بالفطرة. وأهم مميزاتها التفكير المنطقي المعنوي، والإدراك الفلسفي لحقائق الأشياء. ومن الغريب أن هذه الميزة التي يراها أفلاطون ضرورية لطبقة الفلاسفة هي التي يسميها بعض علماء النفس الحديثين الذكاء
وضع أفلاطون منهجاً لتربية هذه الطبقات الثلاث، ورأى أنه من العبث أن يضيع المجهود في تربية طبقة الزراع والصناع، لأن هذه الطبقة ليست بفطرتها مستعدة للنمو الثقافي(332/16)
والترقي الفكري.
وإذاً فمن صالح هذه الطبقة - وصالح الجماعة أيضاً - أن تنصرف إلى نوع العمل المستعدة له، يعني الزراعة والصناعة؛ أما الطبقتان الأخريان فقد رأى العناية بتربيتهما من سن السابعة إلى سن العشرين.
وحينما يصل الشبان إلى هذه السن تكون قد ظهرت مواهبهم وقدراتهم للمشرفين على تربيتهم، فيختارون من بينهم النابغين منهم عقلياً وتفكيرياً ليواصلوا دراساتهم الثقافية وتستمر دراسات هؤلاء المختارين مدة عشر سنوات يعالجون فيها من الموضوعات كل ما ينمي فيهم القدرة على التعليل وفي نهاية عشر السنوات يُختار الصالح من هذه الطبقة ليكون مشرفاً إدارياً، بينما يستمر الأصلحون منهم خمس سنوات أخرى في دراسة الجدل والحوار المنطقي، وبذلك يكونون قد أُعِدُّوا لتحمل التبعة الكبرى، تبعة الحكم الرئيسي
ويمثل رأي أفلاطون الذي شرحناه هذا مذهب الوراثيين الذين يبالغون في أهمية الوراثة كعامل مرجح في تكوين الصفات العقلية والخلقية والجسمية للفرد، ويعزون للوراثة وحدها الفروق السيكلوجية بين الأفراد
ولسنا هنا في مقام انتقاد هذا الرأي الأفلاطوني من الناحية العلمية والسيكولوجية الحديثة، ولا في مقام شرح نقط الضعف في نظام الطبقات وتربيتها، تلك التربية التي أهملت عدداً كبيراً من المواهب الفردية والعناصر النافعة ضائعةً في طبقة الصناع والتجار والزراع وفي طبقة الجنود. ولكنه ضروري من الناحية التاريخية أن نشير إلى أن أفلاطون حاول أن تكون مراحل التربية وغاياتها في المدينة الفاضلة مبنية على أساس أن هناك فروقاً عقلية وجسدية بين أفرادها. ويقابل هذا في التربية الحديثة أن تكون المناهج الدراسية مختلفة باختلاف قوى التلاميذ العقلية واستعدادهم الطبيعي وميولهم الفطرية، وأن يكون التعليم المدرسي فردياً أكثر منه جميعاً
اتبع أرسطو مذهب أستاذه أفلاطون في قبول مبدأ الفروق السيكلوجية الفردية، ولكنه اختلف عنه في أن أهم هذه الفروق هي الفروق الجنسية.
فالمرأة عنده تختلف بطبيعتها عن الرجل من حيث استعدادها العقلي والجسمي والمزاجي والخلقي. ولذلك رأى أن يختلف نوع التربية التي تتلقاها عن تربية الرجل، وأن تكون(332/17)
الغاية من تربيتها مختلفة عن الغاية من تربية الرجل. فلم يقرَّ ما ذهب إليه أفلاطون من أن الطبيعة جعلت المرأة مساوية للرجل وهيأتها للمشاركة في الجندية والسياسة. وزاد على ذلك أرسطو فحاول أن يحدد النمو البشري العقلي والجسمي وطبيعته، والعوامل التي تحدث الفروق السيكلوجية في مراحل هذا النمو. وهو يرى أن التربية ليست آلة يستطيع بها المربي أن يصوغ المربى كما يشاء، وأن يضعه في القالب الذي يريد، ولكن التربية وسيلة للتوجيه فقط، توجيه القوى الكامنة والاستعدادات السيكلوجية الفطرية في الأفراد توجيهاً إلى الناحية الصالحة، وتوجيهاً عن الناحية الفاسدة.
وهو يرجع الفروق السيكلوجية بين الأفراد عامة إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
(1) الطبيعة البشرية (2) العادة والتمرين (3) التعقل.
أما الطبيعية فهي وراثية توجد في الطفل منذ الولادة وهي كامنة في الفرد في جميع أطوار نموه. وأما العادة فهي أثر من آثار البيئة وهي التي تحدد اتجاه النمو الطبيعي والتطور الفردي.
وأما التعقل فهو الذي يتدخل في قوانين العادة فيهذب منها، ويبطل هذا ويحبذ ذلك.
ويدلنا مذهب أرسطو هذا على اعتداله، وأنه يأخذ بمبدأ تأثير كل من الوراثة والبيئة في إيجاد الفروق الفردية السيكلوجية. غير أنه يقول بأن فرداً لا يمكن تغييره وتحويره بحيث يعدو حدود طبيعته، لأن أي مؤثر تربيوي إنما يحدث أثره في الفرد ضمن قوى الفرد الطبيعية.
ويقرر أن الأفراد الذين يعوزهم الذكاء العقلي يعيشون طول حياتهم متخلفين عن غيرهم ممن منحوا هذا الذكاء مهما سلطت على الأولين من عوامل تربيوية قوية. وثمة نوع غير هذين النوعين من الأفراد وهم النابغون، وهم قلائل ولا يحتاجون لاستغلال نبوغهم إلا إلى قدر يسير من الدربة والتربية بالنسبة لغيرهم.
ونستنبط من مذهب أرسطو هذا أن الفرد بطبيعته مزود بقوى حسية وإدراكية محدودة، وأن التربية (العادة في نظره) هي التي تنمي هذه القوى وتعمل على أن تصل بها إلى مرحلة الكمال الممكن.
ولما كانت هذه القوى مختلفة عند الأفراد، وكان أثر التربية في كل فرد مختلفاً أيضاً كانت(332/18)
النتيجة أن الأفراد مختلفون في تصرفاتهم وسلوكهم وإنتاجهم. وهذا ما يسميه علماء النفس الحديثون بالفروق الفردية السيكلوجية
كان اسكوراطس الخطيب اليوناني القدير معنياً بتعليم الخطباء وتمرينهم وتنشئتهم. وقد أدرك هو أيضاً كمعلم الفروق السيكلوجية بين من قام بإعدادهم من الطلبة لمهنة الخطابة واللسن.
وهو يقول في هذا الصدد (لقد أشرفت على إعداد معلمي الخطابة ومعلمي الألعاب البدنية كما لاحظتهم أثناء قيامهم بالتدريس ووصلت إلى نتيجة اقتنعت بها. وهي أنهم في مكنتهم أن يتقدموا بتلاميذهم، وأن يرتقوا بهم إلى درجة يصيرون فيها أقدر على استعمال أجسامهم وعقولهم من ذي قبل. ومهما يكن من الأمر فإنه ليس في استطاعة معلمي الخطابة، ولا معلمي الألعاب البدنية أن يخلقوا خطباء من أي أفراد يشاءون. نعم إن مجهود هؤلاء المعلمين ينتج إلى حد ما نتيجة نسبية، ولكنه لا يمكن أن ينتج هذا المجهود أقصى ما يمكن إلا إذا صادف من التلاميذ من جمع بين فضيلتين: الذكاء وقبول التدريب)
وإذا نظرنا إلى الذكاء وجدنا أنه عامل وراثي، أما التدريب فهو عامل بيئي، وإذاً فقد قال أسكوراطس بأثر عاملي البيئة والوراثة معاً
هكذا كان مذهب أسكوراطس الأثيني في الوقت الذي كان فيه التفكير اليوناني ينظر إلى الفرد من جميع نواحيه السيكلوجية: الناحية الجسمية، والناحية العقلية، والناحية الخلقية، والناحية الذوقية، وكان مجموع هذه النواحي يُكوِّن عند الرأي اليوناني ما يسمى بالشخصية، وكلما وجد تناسق وتناسب وانسجام بين هذه النواحي وبين أطوار نموها كانت الشخصية أقرب إلى الكمال
وينحو علم النفس الحديث هذا المنحى الآثيني، مع اختلاف في طريقة البحث والقياس. فللأفراد شخصيات مختلفة، واختلاف الشخصيات هذا معناه الفروق الفردية السيكلوجية، والشخصية وفقاً لعلم النفس الحديث يمكن تحليلها إلى عناصر أربعة: العنصر العقلي والعنصر الخلقي والعنصر الذوقي والعنصر الجسمي.
(للبحث بقية)
عبد العزيز عبد المجيد(332/19)
رئيس شعبة اللغة العربية بمعاهد بخت الرضا التجريبية
بالسودان(332/20)
الثقافة العسكرية وأناشيد الجيش
للأستاذ عبد اللطيف النشار
يا بعد ما بين القوة وبين التبجح!
وهل تعده قوياً ذلك الشكس الشرس الذي يخشى أن يوصم بالضعف فهو لا ينفك يهاهي ويباهي؟!
يا بعد ما بين الشجاعة وبين ذلك الهذر هذر المهاتر الخائف الواجف فهو لا يزال يتهدد ويتوعد حتى لا يقال إنه أذعن أو يوشك أن يذعن
كثر في هذه الأيام شعر الأناشيد العسكرية وقلما خلت أنشودة من ذكر الدم والفداء والاستشهاد والتضحية. فهل هذا الشعر قد وضع للإزعاج والتخويف، أو لبث الروح العسكرية القوية، تلك المتعلقة بالحياة التي تترنم بالحب والجمال وتفيض بالشوق والحنين.
دعت قيادة الجيش المرابط ووزارة الدفاع ووزارة الشؤون الاجتماعية سادتنا الشعراء إلى وضع ألحان حماسية ليأخذوا بنصيب في نشر الثقافة العسكرية. وكان شرفاً عظيماً أن تتجه هذه الهيئات السامية إلى فريق مثقف من الأمة فتدعوه إلى هذه المشاركة. ولكن شعراءنا كانوا أحوج إلى الثقافة العسكرية من جنود الجيش المرابط فخالوا أنه ما دامت الدعوة من هيئات حربية ولغرض عسكري ومن أجل الجنود فلا أقل من أن يكون الشعر عروقاً تتفجر وأشلاء تتبعثر وسلاحاً يتكسر!
كلا أيها السادة الشعراء، هذا أدل على الخوف منه إلى الشجاعة، وهذا النوع من الحماسة لا يشابههه إلا نوع آخر في الحب جعلتم فيه علامة العشق البكاء والانتحاب والتمرغ على الأبواب وذكر الدموع والأرق والسهاد. ولا حب في هذه الذلة ولا قوة في ذلك التبجح
أدب القوة!؟
نعم ونعيم عين وحباً وكرامة
ولكن ما هي القوة؟
شعر الحرب!؟
نعم ونعيم عين وحباً وكرامة
ولكن ما هو الحرب؟!(332/21)
ليست الحروب جديدة في التاريخ العربي، ولا شعر الحماسة جديداً في لغتنا الفاتحة الظافرة فكونوا مجتهدين ولكم إمام، أو كونوا مبتكرين على شريطة الصدق في الإلهام؟
إن للجنود أناشيد في كل اللغات ولكن أناشيدهم حافلة بالحنين وبالشوق وبالتمدح بالأهل والوطن وبالغزل الرقيق، فهذا هو الشعر الذي يثقف الجنود ثقافة عسكرية. أما الألفاظ الدامية فلا يهديها الشعراء إلى الجنود كما لا يهدي النمر إلى هجر كما جاء في المثل.
(يا شباب النيل يا عماد الجيل)
مطلع جميل! ولكن ماذا يقال لشباب النيل وعماد الجليل؟
يقال إن أجمل امرأة لأقوى فارس. هكذا قيل في الشعر الحماسي وهكذا ينبغي أن يقال. أما كونوا الفداء، وأريقوا الدماء، ولا تهنوا في الدفاع عن اللواء، فهذا ما يعلمه شباب الجيل للشعراء لا ما يتعلمونه من الشعراء، وقد يكون الشعراء من عماد الجيل ومن شباب النيل ولكنهم عند ذلك لا يقولون بل يفعلون
وبعد فقد كان للنبي (ص) شعراء وكانوا يضعون الشعر الحماسي لفاتحي الفتوح وغالبي الغالبين وقاهري القاهرين فماذا قال شعراء النبي؟ قال حسان:
إن كنت فاعلة الذي أوعدتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة لا يدافع عنهم ... ونجا برأس طمرَّة ولجام
فبهذه السخرية ظفر بفارس قائد فأحرجه فعاد إلى الجيش فاستشهد في الموقعة التالية
بهذه السخرية لا بالألفاظ الجوفاء حمل القائد الذي كان قد فر إلى أن يعود للرسول فيقول:
الله يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل مفرداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهمو ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
ولو أن حساناً قال يا شباب النيل يا عماد الجيل لتغير وجه التاريخ!
يا أساتذتي الشعراء، لا أستخف بالأناشيد التي تذاع إلا لأني أثق باستطاعتكم وضع أناشيد جدية لو اطلعتم على الأناشيد الحماسية في اللغات الأخرى أو رجعتم إلى الشعر الحماسي في لغتكم أو رجعتم إلى خيالكم الصادق ولباقتكم فعرفتم كيف ينبغي أن يقال للجندي وكيف ينبغي أن يقول الجندي، وماذا يخطر بباله وبماذا يشعر(332/22)
أيحارب لأنه يريد أن يموت حباً في الموت فيقال له الفداء والدماء، أو يحارب لأنه يحب الحياة الكريمة؟ فإن يكن الموت ولابد (فلن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أيحارب حباً في سفك الدماء أم ضناً بسلام بلده أن يعتدى عليه؛ فإن لم يكن بد من رد السهم إلى الرامية فان
قومي همو قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت أصابني سهمي
أيحارب لأنه مل الحياة أم لأنه يرجو أن ينتصر فيسعد في الحياة؟ زينوا ثمر النصر ولا تذكروا ثمنه (فمن خطب الحسناء لم يغله المهر) واذكروا ذلك الشعر الحماسي العربي الذي عماده الغزل، وذلك الشعر الحماسي الأوربي الذي عماده الخيال الصادق في تصوير نجوى النفس
هذا فيما يتعلق بالأناشيد وهي أدنى ما يراد منكم، فالعسكريون أقل حاجة إلى حماستكم من المدنيين إلى حسن تصويركم؛ فضعوا للمدنيين القصائد المسهبة في وصف الحياة العليا التي تتخيلونها والتي من أجلها نحمل ضرورات الحرب إن وقعت. صفوا الترف والنعيم
كان حسان شاعر النبي يقول:
نشربها صرفاً وممزوجة ... ثم نغنى في بيوت الرخام
فهذا النعيم الذي يصفه هو الذي من أجله يدعو إلى الحرب فيطاع
وما آمركم بشيء أنا عنه بنجوة. أبدأ بنفسي. ولما كنت أومن بأن احتذاء المثل من أقوى أركان الفنون فسأبدأ بترجمة بعض الأناشيد الحربية التي كسبت بهت مواقع، وباختيار أناشيد حربية عربية كسبت بها مواقع، ثم أعرض نماذج من شعري الذي أدعو إليه. والى الملتقى على صحائف الرسالة.
عبد اللطيف النشار
جندي متطوع في الجيش المرابط(332/23)
أنت عزائي. . .!
للآنسة جميلة العلايلي
أيها الحاكم بغير لسان، والآمر بغير بيان، والمتحدث ليل نهار!
أيها المنذر الصارم، والعطوف الراحم، والمرشد في الحياة كشعاع علوي يهدي الحائر
والضال!
أيها الملاك النائم على عرش من عروش الطهر والبهاء!
أيها الهزار الغرد فوق أفنان من حديقة السعادة والهناء! أيتها النسمة الصافية التي تهب
عن الأرواح فتبعث فيها نشوة الأمل! أيتها الزهرة الندية التي تنفح عطراً يسكر الأرواح كأنه خمر الهناءة يشربها الثمل!
يا ملاكي المعبود، يا هزاري المنشود، يا نسمتي المنعشة، يا زهرتي المزركشة، يا حياتي
ورجائي، يا سعادتي وهنائي، أنت عزائي!
أنت أليفي الحبيب، يلازمني في مسيري ويسايرني في وحدتي. أنت سميري الأمين الذي
يحبوني العطف والرعاية في ثورتي وهدأتي! أنت عزائي الذي ينير لي الحياة كلما نشر الظلام ستاره على العالم فلا أضل السبيل. أنت المرفأ الأمين الذي ترسو عنده السفينة بعد أن تتخبط في ظلمات الموج وقد فقدت الربان والدليل
أنت المزنة الهاطلة تتنزل على الأرض القاحلة فتكسوها ببساط البهر والجمال. أنت
الروح الهفهافة تسكب دماء الحياة في قلب الزمن فيكيف الكون بالحسن والجمال.
يا جنتي وحياتي، يا قبلتي وصلاتي، يا أملي الحبيب، يا رجائي الغريب، يا سعادتي
وضيائي، يا حلمي وغنائي، أنت عزائي!
أيتها الشمس المشرقة في بهرة العمر وروعة النهار!
أيتها النفحة السارية تطبع على فم هذا الكون قبلة الأقمار!
أيتها النسمة الملائكية تهب على الأرض فيطفر الروض وتهزج الأزهار!
أيتها النغمة الخالدة التي تحيي الأمل وتوحي الفن والأشعار
يا شمسي العالية. . . يا نغمتي السارية. . . يا نسمتي الصافية. . . يا نفحتي الصادية. .
. يا مناط حنيني. . . يا باعث أنيني. . . أنت عزائي. . . يا قلب. . .(332/24)
(المنصورة)
جميلة العلايلي(332/25)
في الأدب الإنجليزي الحديث
د. هـ. لورنس
للأستاذ عبد الحميد حمدي
5 - الرجل كابن ومحب
بدأ لورنس حياته الأدبية الصحيحة بمعالجة مشكلة من مشكلات العصر الحديث، ألا وهي موقف الرجل كابن ومحب، أو موقفه حيال عاطفتين: عاطفة البنوة وعاطفة الحب. وقد سبق أن عالج لورنس هذا الموضوع في أولى رواياته (الطاووس الأبيض) ثم عالجها بشكل أعمق في روايته (الأبناء والمحبون) ولم ينسها في قصصه القصيرة التي من أهمها (بنات القسيس) وأخيراً بحث فيها بتطويل وصراحة في كتابه عن اللاشعور. ولم يصل كاتب إنجليزي إلى ما وصل إليه لورنس من العمق والدقة في تحليل العلاقة بين الحبيب وحبيبته وبين الوالدين وأبنائهما أو بناتهما. ولا يجوز أن نعزو معالجة لورنس لموضوع واحد في كتب مختلفة إلى رغبته في التكرار أو إلى نقص في معينه، وإنما يجب أن نذكر دواماً أن لورنس كاتب يبشر بدين جديد وبآراء ومعتقدات لم تكن معروفة من قبل. فكان لزاماً عليه أن يعرض الفكرة ويكرر عرضها ويمثل لها بشخصيات متعددة بعد أن يضعها في ظروف مغايرة حتى ترسخ في أذهان قرائه ويؤمنون بها.
ويعتقد لورنس أن الطفل يولد وتولد معه غريزته الجنسية، ولكن لا ينبغي أن تظهر هذه الغريزة أو يبدأ عملها حتى يصل الطفل سناً معينة. وإن من الخير أن نقيم الحد الفاصل بين الولد والبنت في تلك السن المبكرة حتى نضمن عندنا رجولة كاملة وأنوثة مطلقة، وبدون ذلك لا تقوم للمجتمع قائمة. ويحدد لورنس الرجولة الكاملة بأنها هي التي تحدو صاحبها إلى تحقيق غرض سام في الحياة، غرض يرمي إلى بناء الكون وتوسيعه. أما الأنوثة الكاملة فهي التي تتطلب من صاحبتها أن تكون كتلة عواطف، تقودها في كل أعمالها، دون أن يكون للعقل سلطان عليها، ويصحب التغيرات الجسمية التي تعتري الولد أو البنت في دور البلوغ تغيرات من نوع آخر، أهمها تغير العلاقات. فبعد أن ظل الولد أعواماً طويلة لا يفكر إلا في والده أو والدته يبدأ في هذه السن بالتفكير فيمن ستكون شريكة(332/26)
حياته. وبدل أن كانت علاقته قاصرة على أخوته وأخواته يبدأ يفكر في أصدقائه وصديقاته. ويعبر لورنس عن هذه السن بأنها ساعة دخول الغريب، وإنه من الأفضل أن نترك الغريب يدخل دون أن نحاول عرقلته أو الوقوف في سبيله. ويقصد لورنس من الغريب الحبيب أو الحبيبة. ويرى لورنس أن الوالدين في عصرنا هذا يبذلان قصارى جهدهما للوقوف في سبيل هذا الغريب وعرقلة مساعيه ظناً منهما أن في استطاعتهما احتكار حب الابن حتى لا يدعاه يفكر في أحد سواهما. فضلاً عن ذلك فإن حبهما الفياض لابنهما في تلك السن المبكرة يوقظ فيه غريزة كان يجب أن تكون نائمة في هذا الوقت ألا وهي الغريزة الجنسية، ويعتبر لورنس ذلك جريمة لا تغتفر يجنيها الوالدان على ابنهما. ثم يجيء دور البلوغ الذي يتطلب من الابن أن يكون حراً طليقاً يحب من يشاء ويصادق من يريد، فبدل أن يفعل ذلك يرى نفسه يرسف في أغلال حب ثقيل لا يستطيع منه فكاكاً، وبذلك يحرم من حبه للمرأة، ذلك الحب الذي لا تقوم للمجتمع قائمة بدونه
وكان الواجب على الوالدين أن يقطعا علاقتهما القديمة بولدهما بعد أن يصل إلى سن البلوغ كي يتركا له الفرصة لبدء علاقات جديدة غير علاقات الأبوة أو الأمومة. وليس هناك أخطر من أن يحاول الأب أو الأم أن ينصب من نفسه صديقاً لابنه.
والآن لندرس حالة البيئة الحديثة لنرى نتيجة إهمال الوالدين في تربية أبنائهما. فيرى لورنس أن المرأة في عصرنا هذا قد تبوأت مركزاً غير مركزها الذي خلقت من أجله فسيطرت على البيت بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فهي التي تقود الرجل وترشده بعد أن كان راعيها وحاكمها، وهي لا تنظر إلى جنسها أي إلى العلاقة الجنسية سوى نظرتها إلى وسيلة للسيطرة على الرجل واستغلاله. وهي لا تعتبر الرجل سوى تابعاً لها أو خادمها المطيع، وتعتبره أحياناً مصدراً لإشباع عواطفها إذا ما عاودتها الرغبة في الرجوع إلى أنوثتها الأولى، وهذا عكس للأمور ووضعها في غير نصابها، وإن يكن له نتيجة فستكون هدم كيان المجتمع وتقويض بنائه. ثم زوال المدنية الحديثة واندثارها، تلك المدنية التي نفخر بها دواماً.
ويرى لورنس أن الواجب قطع تلك العلاقة القديمة بين الأم وابنها أو بين البنت وأبيها إذا ما وصلا إلى سن البلوغ. فقبيل هذه السن يجب أن نبعد الولد عن كل سيطرة نسوية،(332/27)
كسيطرة الأم أو الأخت أو المربية. ويستحسن أن يوضع في رعاية رجل. وليس هناك أخطر من أن يدلل الأمهات أبنائهن بأن يلبسنهم ملابس البنات أو يعاملنهم معاملتهن، أو يتركنهم يزاولون ألعابهن لأن عاقبة ذلك تكون فقد رجولتهم أو عدم استكمالها. ويجب أن يكون لنا في الزنوج خير قدوة عندما نراهم يحتفلون بوصول الولد إلى سن البلوغ ودخوله دوراً جديداً من أدوار حياته، وهم باحتفالهم به إنما يشعرونه أنه انتقل إلى حياة جديدة لها أهميتها
وأول واجب للوالدين بعد وصول ابنهما إلى هذا الدور هو أن يحيطاه علماً بالغريزة الجنسية، وليست هذه المهمة باليسيرة إذ يلزم الأب أو الأم أن يكون حريصاً في كلامه في هذا الموضوع كل الحرص، ويعتقد لورنس أن أسوأ ما يفعله الوالدان هو أن يلجئا إلى المعلومات العلمية يفسران بها لولدهما ما خفي عنه من هذه الغريزة، لأن أمثال هذه المعلومات كفيلة أن تبغض الولد في هذه الغريزة مما يترك لديه أسوأ الأثر. كذلك يجب على الأم ألا تصور العلاقة الجنسية لابنتها في شكل روحي غامض. والى القارئ مثلاً من الأمثلة الخاطئة التي يتبعها بعض الأمهات مع بناتهن:
(والآن يا حبيبتي، تعرفين أن أباك رجل، وأني أحبه، وسوف يأتي الوقت الذي تقابلين فيه رجلاً تحبينه كما أحب أباك وبعد ذلك سوف تتزوجين منه وتعيشين معه عيشة سعيدة. ولذلك آمل أن تتزوجي من الرجل الذي سوف تشعرين أن قلبك يخفق نحوه بالحب. . .) ثم تقبل ابنتها وتستطرد قائلة: (وبعد زواجك ستحدث لك أشياء كثيرة لا علم لك بها يا حبيبتي، وستفكرين في أن يكون لك طفل جميل، وكذلك سيفعل زوجك، لأن ابنك سيكون ابنه أيضاً، أليس كذلك يا حبيبتي؟ وسيكون الطفل طفلكما معاً. . . أنت تعرفين ذلك تمام المعرفة، ولكنك لا تعرفين كيف يتم ذلك. سيأتي هذا الطفل من جسمك وسوف يخرج من جسمك كما خرجت أنت من جسمي من قبل. . . الخ) ويقاوم لورنس هذه الطريقة التي يتبعها معظم الأمهات في الإدلاء بالمعلومات الجنسية إلى بناتهن، ويرى أنها لا تغني ولا تشبع من جوع. وليست الطريقة العلمية بأحسن منها حالاً. فهي بتشريحها جسم الإنسان إلى جزيئاته الصغيرة تشوه جماله وتسيء إلى صاحبه، وتكون النتيجة أن يشب الولد وهو ينظر إلى هذه العلاقة نظرة خوف واشمئزاز.(332/28)
هذا هو مجمل لرأي لورنس في العلاقة التي يجب أن تكون بين الوالدين وولدهما وبين الابن ومن سوف تشاركه حياته المستقبلية. والآن فلنحاول تطبيق ما قلنا على إحدى روايات لورنس المهمة، وهي (الأبناء والمحبون) فهذه الرواية هي ترجمة دقيقة لحياة لورنس، وحوادثها هي تجاربه الخاصة، وأشخاصها هم الأشخاص الذين احتك بهم في الجزء الأول من حياته وكان لهم أكبر الأثر في حياته المستقبلية. وفيما يلي الخطاب الذي أرفقه لورنس بالرواية بعد أن فرغ منها وأرسله إلى إدوارد جارنت أحد الناشرين، ومن هذا الخطاب نقرأ الرواية باختصار:
(تدور حوادث هذه الرواية حول امرأة من طبقة النبلاء أحبت عاملاً من طبقة الدهماء وتزوجت منه. ولكن كانت الشقة بين ثقافتيهما واسعة فلم تتفق حياتهما في نقطة واحدة، فانصرفت الزوجة عن زوجها وانصرف هو عنها. وبعد أن أعقبت منه أطفالها استعانت بهم لإشباع رغباتها الغريزية بعد أن فشل في ذلك زوجها. وكان من جراء حبها الجارف لأطفالها أن شبوا يفيضون حباً لها ويبادلونها عاطفة بعاطفة. ولكن أتى ذلك الوقت الذي وصل فيه الولد إلى سن الرجولة وشعر بالرغبة الملحة في داخلية نفسه نحو الحب، حب امرأة غريبة عنه، ولكن أتى له ذلك وأمه تملك عليه كل مشاعره وتقيده بتلك الأغلال التي لا يستطيع لها كسراً؟ ورغم ذلك فقد حاول الاتصال بامرأة، فشعر بالانقسام داخل جسمه لأن قلبه كان نهباً بين حبين، حبه لأمه وهو حب قوي جارف، وحبه للمرأة الأخرى، ذلك الحب الذي لا يستطيع أن يعيش بدونه، ولقد كان من جراء هذا الانقسام أن مات الولد الأكبر لأنه لم يحاول مقاومة أو دفاعاً. أما الابن الأصغر فقام للدفاع عنه تلك المرأة التي كان يريد أن يجعلها شريكة حياته، فقاتلت الأم ودافعت عن مركزها دفاعاً مجيداً. ولقد دام هذا النضال طويلاً ولكن النصر في النهاية كان للأم وباءت المرأة الأخرى بالفشل، وذلك لأن مركز الأم كان أمنع وأقوى من مركز المرأة، وحتى بعد أن ترك الأمر للابن أي الكفتين يرجح؛ عمد إلى كفة أمه فرجحها لصلة الدم التي تربطهما معاً، ولم يأبه للمرأة الأخرى التي تحطم قلبها وتكسرت آمالها. وفي النهاية تدرك الأم خطورة الدور الذي تلعبه وأثره السيئ في حياة أولادها فمرضت وأشرفت على الموت، ولكن لم يمنع هذا من أن يهجر الولد المرأة بتاتاً ليلازم أمه ويقوم بالعناية بها. وأخيراً تموت الأم وتكون النتيجة أن(332/29)
يفقد الولد أمه وخطيبته في آن واحد: فلا هو أصاب حب أمه ولا هو أصاب حب المرأة)
هذا هو ملخص رواية (الأبناء والمحبون) كما كتبه لورنس بخط يده. والكتاب عبارة عن صورة دقيقة لحياة المناجم والمنجمين، وصورة أخرى لتلك المرأة التي وقفت ثقافتها ونبل أصلها حجر عثرة في سبيل الحياة الزوجية الصحيحة. ومن الصفحات الأولى للرواية نستطيع أن نحكم لأول وهلة أن هذه الزوجة هي على النقيض من زوجها في كل شيء، فهي امرأة مفكرة يروق لها البحث في الموضوعات المختلفة، ولها ولع شديد بالمناقشات والمجادلات وخاصة في المسائل الدينية والفلسفية والسياسية، وهذا أول سهم من سهام النقد التي يوجهها لورنس إلى المرأة الحديثة، فالمرأة في نظره لا يجب أن تعيش بعقلها بل بعواطفها وجسمها، أما التفكير فهذا من شأن الرجل وحده. فاهتمام المرأة يجب أن يركز إلى أسفل، وأما الرجل فهو الذي يوجه اهتمامه إلى أعلى، إلى الفكر. فالأم في هذه الرواية هي صورة مشوهة لامرأة أو هي صورة امرأة قد جردت من صفات أنوثتها واستعاضت عنها بصفات هي من شأن الرجل وحده، ولم يكفها ذلك بل عمدت إلى زوجها تحاول تغييره وخلقه من جديد خلقاً يتفق مع ما هي عليه من الشذوذ. لم ترضها رجولته ولم تعجبها حيوانيته، فأرادت أن تصقل من طبعه وتهذب من حواشيه وتحد من حيوانيته وتنتقص رجولته، فهدمت كيانه وهدمت نفسها معه، وبذلك لم يعد لها في الحياة مطمع ولا في العيش مأرب، اللهم إلا أن تعيش وتفني شبابها من أجل أطفالها، ولكنها لم تكن لتستسلم أو تقهر فبعد أن تكسرت آمالها، وتحطمت أمانيها، وانهارت خيالاتها تجولت إلى أول أطفالها بقلب يفيض حباً وعاطفة، وحملته بين ذراعيها، وتفرست في عينيه الزرقاوين الواسعتين، فشعرت بقلبها يكاد يقفز من بين جنبيها حباً وغراماً بطفلها، ثم أحست بذلك الرباط الذي كان يربطها بزوجها قد تمزق وانقطع، وأحست أن حبها لزوجها قد اندثر ولم يعد له أثر، وحل محله حب عميق فياض هو حبها لطفلها فقربته منها وضمته إلى صدرها وأخذته بين أحضانها
هذا هو شعورها بعد أن ولد أول طفل لها، فما كاد ثالث طفل يرى نور الحياة لأول مرة حتى كان زوجها في عالم النسيان. لم تعد تشعر قط بتلك الرغبة الغريزية التي كانت تدفعها سابقاً للاتصال بزوجها، لم تعد تحس بأن زوجها جزء متمم لها لا غنى عنه، لم يعد يهمها(332/30)
في كثير أو قليل متى يحضر أو ماذا يفعل، لم تعد تتأثر أو تتألم إذا ما أصابته مصيبة أو حدث له حادث. أما الرجل فكانت حياته جحيما لا يطاق، كان يشعر بالرغبة إلى زوجته، لكن أنى له ذلك فدونه خرط القتاد. افتقد امرأته فما وجدها، مد يده نحوها فما عبأت به، توسل إليها فاحتقرته، شعر بالفراغ يعم قلبه فحاول ملأه فما استطاع، صار المنزل جحيمه فهجره، إلى الحانة يتناول فيها ما هو كفيل بأن ينسيه آلامه وأحزانه ويصرفه عن ذكرى تحطيم آماله، هجر المنزل وهجر زوجه وأولاده وعاش عيشة لا يكاد يحتملها مخلوق، أما هي فاستعاضت عن حب زوجها بحب ابنها بول، فأشبعت غرائزها، وملأت فراغ قلبها وسدت ذلك النقص الذي كانت تشعر به وهي إلى جوار زوجها ولم تكتف الأم بذلك بل سعت حتى جعلت ابنها يبادلها حباً بحب وعاطفة بعاطفة. فشعر نحو أمه بذلك الشعور الذي كان يجب أن يشعر به نحو المرأة التي ستكون شريكة حياته، وبذلك قيدته بسلاسل حديدية لا يستطيع معها أن يتصل بامرأة أخرى أو يبادلها الحب. هذه هي الأم الحديثة، أم القرن العشرين، الأم التي يفسد حبها لأبنائها حياتهم وينغص عليهم مستقبلهم ويحطم آمالهم وأمانيهم.
(يتبع)
عبد الحميد حمدي
مدرس بمدرسة شبرا الثانوية(332/31)
التاريخ في سير أبطاله
مازيني
(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل
بلاء الأنبياء)
للأستاذ محمود الخفيف
- 3 -
ولكن حلاوة الجهاد ما لبثت أن أنسته مرارة الغربة، وإن النفوس الكبيرة لتتعزى بنبل غاياتها فيهما يصيبها في سبيل تلك الغايات، فتستعزب الألم وهو مر، ويحلو لها في سبيل النصر الجلاد؛ ويراد بها أن تذل فما يكسبها الإذلال إلا إباء الأبطال وحفاظ أولى القوة من الرجال؛ وما يزيدها العذاب والنكال إلا إصراراً على النضال وإمعاناً في الاستبسال، ولن تحول بينها وبين غايتها قوة حتى الموت، فإنها إن تزهق فقد تم لها بالاستشهاد أروع مواقف الجهاد. . .
ولقد كان مازيني من أولئك البواسل الميامين الذين تبعث الشدائد كامن قواتهم، وتوقظ المحن نوازع نفوسهم، حتى لكأن الشدائد والمحن من مستلزمات ذواتهم ومقومات أخلاقهم.
استقر مازيني في منفاه يتدبر فيما كان يعتلج في نفسه، وأخذ يتساءل ماذا بقي في بلاده من أثر الثورة التي هبت في فرنسا؟ لقد أحزنه قبل نفيه أن يرى فرنسا تطلق يد مترنيخ في إيطاليا فيبطش بها في سنة 1831 كما بطشت بها في سنة 1820، ويقضي في غير هوادة على ما انبعث من مظاهر العصيان في مودينا وبارما والولايات البابوية، وقد حزر ذلك الوزير النمسوي الملك الجديد الذي تربع على عرش فرنسا من أن يظهر أي عطف على مثل هاتيك الحركات الشعبية التي من شأنها أن تزلزل العروش إذا أطلق لها العنان، وأمن على هذا الرأي ذلك الملك الذي جعل المحافظة على عرشه قاعدة حكمه، وذاق الثوار في إيطاليا مرارة الخيبة والخذلان مرة ثانية.
أليس ذلك ما كان يخشاه مازيني؟ ألم يعب على الكاربوناري اعتمادهم على غيرهم؟ هاهي ذي الأيام تأتي مصدقة لما رأى، وإذاً فليس لإيطاليا بعد اليوم إذا أرادت النجاح أن تسير(332/32)
على نهج الكاربوناري، وعليها أن تنتهج نهجاً جديداً يكون فيه صلاحها وفوزها
ولقد كانت حالة إيطاليا يومئذ تبعث على الأسى، فلم تكن أكثر من اسم جغرافي على حد تعبير مترنيخ، ففيها ولايات الشمال والوسط والجنوب، وفيها ولايات البابا؛ وفوق ذلك كانت ولاية لمبارديا خاضعة لحكم النمسا المباشر، على أن سلطان النمسا كان متغلغلاً في شبه الجزيرة جميعاً.
وكانت هذه الوحدات مستقلة بعضها عن بعض، حتى لقد وضعت حدوداً جمركية فيما بينها، فلم يك ثمة ما يشعر أهل إيطاليا بأنهم شعب، اللهم إلا شعورهم جميعاً بوطأة الحكم النمسوي الذي كان قوامه الرجعية الشديدة في شتى مظاهرها البغيضة من خنق للحريات جميعاً، إلى إهمال شائن للشؤون العمرانية والاقتصادية، وللتعليم والثقافة العامة، لأن هذه جميعاً كانت عند مترنيخ وأعوانه عناصر القوة التي لا يأمن معها أن تبعث الثورات من جديد في كل مكان.
وفكر مازيني في حال إيطاليا فرأى الظلام الكثيف يخيم عليها وهذا الظلام لا ريب مدعاة إلى اليأس والخوف، ولكن في قلوب غير قلبه؛ أما هو فقد كان يتلمس النور الباهر الذي لا يلبث أن يكتسح هاتيك الظلمات كلها - في شيئين: الإيمان والشباب، ومن هنا برزت إلى الوجود جمعيته الجديدة (إيطاليا الفتاة) أو قل بدأت رسالته إلى الجيل الجديد: رسالة الوحدة والحياة الحرة. . .
وتغلغل الإيمان في قلبه الكبير وأحس ما يحسه كل صاحب دعوة من حرارة ذلك السر الهائل الذي لا يعرف مستحيلاً أو يحفل برهبة، ورفع الفتى مشعله فوق رأسه ووضع روحه فوق كفه، ومشى يبدد ظلام اليأس وعلى محياه الأبلج نور الوطنية وصرامة الجهاد، وفي عينيه الباسمتين أشعة اليقين وبريق الأمل.
ولخص مازيني دعوته في كلمتين: الله والشعب، وراح يبشر بدينه الجديد في غير مبالاة بما يعترضه من الصعاب. ولقد جعل أساس كفاحه التضحية، فدعا حواريه وأنصاره إلى أن يتألموا حتى تمحص نفوسهم الآلام، وتقوى عزائمهم المحن، وتعلي مبادئهم ما يلاقونه في سبيلها من أنواع العذاب.
وعول على أن يبث النور في كل قلب، ويحيي بالحماسة كل نفس، ويجري أناشيد الوطنية(332/33)
العذبة على كل لسان، حتى يتألف من الشعب كله قوة تهزأ بكل قوة، وتطفئ بالدم الغالي بريق الحديد ولهيب النار. وعنده أن كل حركة شعبية مصيرها إلى الفشل ما لم تقم على أساس من الوطنية الصحيحة المنبعثة من الأعماق، تلك الوطنية التي تحتقر أعراض الدنيا، لأنها متصلة بالسماء، والتي تضحي بالنفس في سبيل العقيدة، لأن قوام العقيدة الفداء.
وكان هو أكثر الناس إيماناً بوحدة إيطاليا، يوقن أن سوف يأتي اليوم الذي تتم فيه رسالته على يده هو أو على يد غيره من الأحرار. ولقد اتخذ من الشباب جنده وأعوانه، لأن قلوب الشباب بطهارتها وحرارتها أجدر بالإيمان وأسرع إلى البذل وأقوى على العذاب. قال في ذلك: (اجعلوا الشباب على رأس الجماهير الثائرة، فإنكم لا تعلمون مدى القوة الكامنة في تلك الأيدي الصغيرة، ولا مدى التأثير السحري الذي يكون لأصوات الشباب بين الجموع، ولسوف تجدون في الشباب رسل الدين الجديد). وعظمت ثقته بتلك القلوب الفتية حتى أنه كان لا يقبل عضواً في الجمعية من تزيد سنه على الأربعين، إلا في ظروف استثنائية حينما كان يتقدم إليه ذو منزلة، أو ذو سن كبيرة وقلب فتي.
ولئن تشبعت قلوب الشبان بمبادئ الوطنية والتضحية فسوف تتسرب منهم إلى سواهم؛ ولكن كثيراً من الصناع والتجار والفلاحين لن يشايعوهم إلا إذا كان إلى جانب الوطنية إصلاح يتناول شؤونهم؛ وعلى ذلك فقد جعل مازيني من مبادئ جماعته الإصلاح الاجتماعي في أوسع نطاقه وبذلك زاد مبادئها قوة ورسوخاً.
وكان يرى مازيني أن الحرب (هي القانون الأبدي بين السيدويين العبد الذي يريد أن يحطم الأغلال)، ولكنه كان يشير إلى الحرب غير النظامية لأنها الوسيلة الطبيعية للشعب الثائر في وجه القوة المنظمة، فما لمثل هذا الشعب الذي يعتمد على نفسه سبيل إلى الجيوش النظامية التي تكون بالضرورة من صنع الحكومات.
واستقر الغريب المنفي في مرسيليا يعمل في غربته من أجل وطنه، ويخرج إلى الوجود ما امتلأ به رأسه من الأفكار، وأحاط به أول الأمر خمسة من الشباب، أخرجوا مثله من وطنهم فصاروا حواريه في رسالته.
وما نجد في تاريخ الحركات الشعبية حركة بدأت على مثل هذه الصورة التي بدأت بها حركة (إيطاليا الفتاة)، فهؤلاء الخمسة الميامين، هؤلاء السابقون الأولون، وعلى رأسهم(332/34)
زعيمهم، كانوا كل شيء؛ استأجروا داراً صغيرة وراحوا يعملون ليل نهار لتحقيق مبادئهم! أيكون في تاريخ الجهاد أغرب من أن يعتزم ستة من الفتيان يعوزهم المال والجاه توحيد شعب ممزق وتحريره من سلطان دولة عانية مسيطرة؟ ولكن الشباب إذا آمن لا يعرف المستحيل، فليشمر هؤلاء الأبطال عن سواعدهم وليسهروا الليالي في الكتابة ومراسلة من يريد أن ينضم إليهم حتى تكل أبصارهم فيناموا بعض ساعات ثم ينهضوا للعمل يحدوهم الأمل؛ وليوح إليهم زعيمهم بالصبر ويبث في قلوبهم الإيمان، فهذا أجدى عليهم وعلى حركتهم من الجاه والمال.
هكذا بدأ مازيني وحواريه، فسرعان ما انضم إليهم الانصار، واجتمع لهم بعض المال فأنشئوا صحيفة يذيعون بها آرائهم ومبادئهم. وشد ما فرحوا بهذا واستبشروا به! وكان مازيني يحرر أكثر أجزائها وحده فيبث فيها من روحه؛ وكان أصحابه يحتالون، وقد تكاثر عددهم وعدد مريديهم على تهريب تلك الصحيفة إلى إيطاليا كما كانوا يهربون إليها بين حين وآخر بعض المطبوعات الصغيرة التي توحي إلى القراء مبادئ الجمعية وتعلمهم دروس الوطنية.
وأقبل مازيني وحواريه على العمل، يزدادون نشاطاً وهمة كلما ازداد عدد أنصارهم. وانقضى عام فرأى الزعيم الشاب ما شرح صدره وملأ نفسه بما تمتلئ به نفس المؤمن من نشوة الظفر، فللجمعية مراكز في شمال إيطاليا ووسطها، وأعضاؤها يبلغون في إيطاليا وخارج إيطاليا مائة ألف أو يزيدون! وهذا نجاح جاء أكثر مما كان يتوقع.
وتقع عين مازيني على أسماء الأعضاء وأعمالهم في ثبت سرى فيسره ويثبت فؤاده أن يرى فيهم بعض النبلاء وبعض الضباط، حتى القساوسة يجد أسماءهم بين المجاهدين! وتطيب نفسه بذلك ويحلو له الجهاد وتلوح له بوارق الأمل فتسهل الصعب وتقرب البعيد.
وكان ممن انضموا إلى الجمعية رجل سوف يكون له في تاريخ وحدة إيطاليا وحريتها شأن عظيم، ذلك هو غاريبلدي المجاهد البطل والفدائي الأروع الذي جمعت حوله سجاياه العذبة وشجاعته الفائقة قلوب الرجال.
وراح الزعيم ينشر تعاليمه ويرسم خططه. استمع إليه كيف يقول لأنصاره: (اصعدوا الجبال واذهبوا إلى القرى وشاطروا العمال والفلاحين طعامهم المتواضع، وجالسوهم(332/35)
وتحدثوا إليهم؛ وزوروا المصانع والصناع الذي أهملوا حتى اليوم. حدثوا هؤلاء عن حقوقهم وعن ذكريات ماضيهم وتقاليدهم ومفاخرهم السالفة وتجاربهم التي مرت، وعددوا لهم ما لا ينفد من أنواع الاضطهاد التي يجهلونها لأنهم لم يجدوا من يكشفها لهم).
بهذه الطريقة راح مازيني يرسل صوته إلى الأعماق ويملأ به الآفاق؛ ولقد تخرج معظم ذوي الشأن في المستقبل من رجال إيطاليا في جمعيته، فكان له بذلك شرف لن يتاح إلا لأفذاذ العظماء: شرف الخلق والتكوين، فما كانت إيطاليا الحديثة إلا من صنع يده. وإن تمت وحدتها على أيدٍ غيرها. وبذلك يعد مازيني من مكوني أوربا الحديثة، وهي منزلة لن يشاركه فيه إلا أمثال بسمارك ومن على شاكلتهما ممن تقرن أشخاصهم بحركات عامة توجه التاريخ وجهته في فترة من فتراته.
وكان ممن كاتبهم مازيني ليعاونوه: شارل ألبرت ملك ولاية بيدمنت؛ وكان ذلك بعد خروجه من إيطاليا ببضعة أشهر، وقد كان يعلم عن شارل بالأمس أنه من ذوي الآراء الحرة، إذ كان متصلاً بالكاربوناري وكان يعطف على ثورتهم التي هبت سنة 1821؛ ولكن مازيني كان مسرفاً في حسن ظنه به. وكيف كان يرجو المساعدة من ملك يتناول تاجه في الواقع من النمسا؟ ولئن كان شارل بالأمس نصير الحرية، فهو اليوم على عرشه يبغضها ويحذر منها، فلقد تجر إلى الثورة دعوة الداعين إليها، وما له حيلة إلى إجابتهم، والنمسا تلوح للبلاد بسيف الغلب. قال مازيني في خطابه (هناك يا مولاي طريق آخر إلى القوة والخلود العظيم، وحليف آخر أقوى وأسلم من النمسا أو فرنسا، وتاج أكثر لمعاناً وبهجة من تاج بيدمنت، تاج ينتظر الرجل الذي يجرؤ على أن يفكر فيه والذي يوجه حياته للحصول عليه. . . ألم تلق يا مولاي قط مثل لمحة النسر على إيطاليا هذه، إيطاليا التي تجملها بسمة الطبيعة، والتي يتوجها عشرون قرناً من الذكريات الجميلة، أرض العبقرية القوية بمنابعها التي لا تنفد والتي لا يعوزها إلا الغرض المشترك؛ المحاطة بحدود من المنعة بحيث لا تحتاج إلا إلى عزيمة وثيقة وبعض القلوب البواسل لحمايتها من العداء الخارجي. ضع نفسك على رأس الشعب، واكتب على رايتك: الاتحاد والحرية والاستقلال. حرر إيطاليا من البربرية وابن المستقبل وكن نابليون حرية إيطاليا. افعل ذلك نلتف حولك ونقدم حياتنا من أجلك ونجمع الولايات الصغيرة تحت علمك. إن نجاتك في حد سيفك، فأشهر السيف(332/36)
واطرح الغمد، وتذكر أنك إن لم تفعل ذلك فسيفعله غيرك دونك ويوجهه ضدك).
في هذا الخطاب تتجلى حماسة الشاب المجاهد، وتتبين آماله، وتتضح نزعاته؛ وفيه قبس من وميض حماسته وفيض من حرارة إيمانه وقوة وجدانه، ولكنه لم يظفر من الملك برد، وكان جواب الحكومة أن أمرت بالقبض على مرسله إذا اجتاز الحدود الإيطالية.
على أن بيدمنت ما لبثت بعد سنتين أن امتلأت كما امتلأت الولايات الأخرى على نحو ما أسلفنا بأنصار مازيني، وفي نصرة الشعب له خير عوض عن معونة الملك.
وتسربت مبادئ الجمعية إلى جيش بيدمنت؛ وكان يذيعها فيه رافيني كبير أنصار مازيني وساعده الأيمن في جهاده، وأحكمت مؤامرة للقيام بثورة عن طريق الجيش؛ ولكن تلك المؤامرة اكتشفت وا أسفاه؛ وبطشت الحكومة بالمتآمرين؛ فقتلت عشرة من الضباط رمياً بالرصاص واثنين من المدنيين، فضلاً عمن أودعتهم السجون من الرجال، حيث أخذت الحكومة تنكل بهم ليعترفوا.
وكان رافيني ممن سجنوا، وخير في سجنه بين الاعتراف على شركائه والنجاة من الموت أو الإنكار والإعدام، فاختار الموت ولكن بيده هو، فانتحر في سجنه. ونمى خبر الفاجعة إلى مازيني فاشتد وقعها عليه، حتى لقد كانت من أعظم ما ناله من المحن؛ وتوزع الحزن قلبه حتى ما يفيق من الغم، ووهن جسمه واعتلت صحته كمداً على صاحبه الشهيد.
(يتبع)
الخفيف(332/37)
الحب الطاهر
لمعالي الشيخ محمد رضا الشبيبي
أما لأسير في هواكَ سراحُ ... وهل لتباريحِ الفؤادِ براحُ
أجل، سّلمتْك العاشقون قلوبها ... وما فوْق تسليمِ القلوبِ سماح
إذا بدءوا يستعطفونك عاوَدوا ... وإن بكرَوا يستطلعونك راحوا
هوُوا فاتَّقوْا بثَّ الغرام فأضمروا ... فخانهمُ الصبرُ الجميل فباحوا
يحبون وخزَ النُّجلِ وهي صوارمٌ ... وطعنَ القدودِ الهيفِ وهيَ رِماح
خليليَِّ ما أحلى الغرامَ سجيّةً ... إذا كرَّمتْه عفةٌ وصلاح!
وما أخطر العشق الذي ليس دونه ... على عاشقٍ يأتي الهناة جُناح!
يقولون: إتيانُ الكبائرِ جائزُ ... وفعلُ الخطايا المنكرات مباح
أفي هذه الأخلاقِ للجنس نهضةٌ ... وللبشر الآتين منه فلاح؟
يريدون للدنيا ضِماداً وإنهم ... بجُثمانِ هذا الاجتماع جِراح
ويعتبرون الناسَ مرضى كأنهم ... - وهم كيَّفوا داَء النفوس - صِحاح
ألا هِممٌ يكبحْن من شهواتهمْ ... فينحطُّ مبْلٌ، أو يلين جِماحٌ
وهل فاضلٌ يرعى الفضيلة؟ إنها ... خيالٌ سَيفْنى أو حِمىً سيباح
فقد عصفت بالمَكْرمات زعازعٌ ... وعفَّت رُسومَ الأكرمين رياح
إذا أظلمتْ أخلاقنا وتجهَّمتْ ... فهل نافعٌ أنَّ الوُجوهَ صِباح؟
محمد رضا الشبيبي(332/38)
قولي معي. . .
للأستاذ الحوماني
مَن ذا يقول معي: عينان ملؤهما ... دمعٌ، هما غذتا عينيكِ بالحوَرِ
قولي معي: لم يذب قلبٌ شقيت به ... إلا ليسقىَ ما تجنين من ثمر
أخليتُ عينيَّ من دمعٍ يمدُّهما ... بالنور من فمكِ المحشوِّ بالدُّرر
وأنضرتْ فاكِ آصال شربتِ بها ... روحاً تلظَّى به خداك في السحر
في عين حوَّاء صبحٌ ضرِّجت قبلى ... عينيك بين يديه من دم الخَفَر
لا تجزعي وتلقَّيهنَّ باسمة ... للطير يصدح غِرَّيداً على الشجر
كالشاعر الطفل يمشي في خميلته ... وينشد الفجر حوّاماً على الغُدُر
قومي نكنْ مثل هذا الطير يجمعنا ... حوض من الماء أو روض من الزهر
فلا نحاذرُ من وحش الفلا بشراً ... ولا ينغصنا وحشٌ من البشر
الحوماني(332/39)
اسلمي. . .!
للأديب محمود السيد شعبان
اسْلَمِي يا نَبْعَ أشوا ... قي ويا دُنيا خُلودِي!
وابسِمي تُفصِحْ لِيَ الأيا (م) ... مُ عن سرِّ وُجودي
مهجتي تدْعوكِ. . . يا ذا ... تي إلى وَكركِ عودي!
إنَّ في كفَّيْكِ أحلا ... مي فصوني لي عهودي
وتَعاليْ!. . قبَلُ الحب (م) ... تنادي شَفَتَيْنا!
وسَعِيرُ الشَّوقِ في الأج ... ساد يدعوها إلينا!
إنْ نعِشْ لِلحبِّ يا صَف ... وِي فلا لومَ علينا
إنه الكوْنُ الذي من ... هـ إلى الدنيا أتيْنا!
وتعاليْ!. . . لا يُرَوِّع ... كِ شقائِي يا فتاتِي!
فالهوى والطُّهْرُ والإي ... مانُ نَبْعٌ في حَياتي
أو خُذيني أَنْسَ في دُن ... ياكِ دُنيا زَفَراتي!
وتَعِشْ للحبِّ والأل ... حانِ في ظِلَّكِ ذَاتي!
إنني في عالَمِ الحِر ... مانِ قد عِشتُ شَقِيّا!
فاخلُقِي في باطني كو ... ناً من الحبِِّ شَهِيّا
واسكُبي الأشواقَ والأل ... حانَ في نفسي لأَحيا!
قَبْلما تذْوِي مُنى نف ... سي وتقضى في يَدَّيا!
يا نشيدي!. . . ليتني كن ... تُ لدُنياكِ نَشيدَا
أنا منْ ذِكرِكِ في أُنْ - سٍ وإن عشتُ وحيدا. .
لستُ أَنساكِ. . . ففي ظل ... كِ قد كنت سعيدا!
ونَظَمْتُ الكوْنَ منْ ... أعماقِ أنفاسي قَصِيدا!
(القاهرة)
محمود السيد شعبان(332/40)
وحي صورة
للأديب مصطفى علي عبد الرحمن
ذكَّرتني ذلك الماضي السعيد ... شعَّ في جناتِه نور الأماني
والهوى في مهدِهِ طِفلٌ وليدْ ... هامَ في دنيا حنانٍ من جناني
ما رأى القسْوة أو ذل القيود ... لا. ولو عَق جَناني وعصاني
كلما شبَّ نما فيه الجمود ... وإذا بي منه في قيد الهوان
ذكرتني ذلك الروضَ النضيرْ ... والذي أوحاه من شتى المعاني
وابتسامَ الزهر من حول الغدير ... وطيور الأيك تشدو بالأغاني
كل شيءٍ كان من صفوٍ ونور ... يغمُر القلب بنُعمى وَحنان
لم يعد للعين، والقلب الكسير ... غير ذكرى من لظاها كم أُعاني
ذكرتني الأمسَ - والدنيا نعم ... وصفاءٌ شامل - حلو المجاني
قد حسونا الحب واللقيا نديم ... والهوى نشوان في نعمى التداني
في ليالٍ كنَّ في ظل الكروم ... كم بعثن السحر في تلك المغاني
ذكريات تشعل الهم الأليم ... كلما تخطر من آنٍ لآن
ذكرتني ليلةَ النيل الوديعْ ... حيث غنّى لهوانا الشاطئان
وبنا الزورقُ يسري في خشوع ... فوق موج ناعس الأجفان هان
بت أرعى ذلك الحسن البديعْ ... يتجلى في افتتان وافتتان
طابت الأيام والعمرُ ربيعْ ... هل يعود اليوم لي بعض الأماني
(إسكندرية)
مصطفى علي عبد الرحمن(332/42)
أباريق الجمال. . .
(إلى الناسج أردية الجمال من أضواء قلمه، إلى الزيات. . .)
للأديب أحمد عبد الرحمن عيسى
الأباريق حُفَّلٌ فابتهلها ... وكن اليوم أول الشاربينا
إنما أنت في الحياة هباء ... فلماذا تكون عبداً رهيناً. . .؟
أرقص الناي صاحبي أو فدعه ... يتحطم على التراب مهينا!
سوف يمضي - وإن تلبث حينا - ... إن طروباً محبباً أو حزينا!
سوف يمضي كما مضى النفَس العا ... بر في روضة من الياسمينا
وستمضي. . . وما أخالك إلا ... ومضة ألمعت من الدهر حينا
والسعادات في الأشعة غرقى ... قد حباها الزمان عرضاً مصونا
هي بكر فكيف تحسب أني ... قد تفيأت ظلها المجنونا!
وهي حِرْمٌ على العفاة فما لي ... خلف هذا السراب أعدو سنينا
الأباريق حفل فدعينا ... نتزود من الجمال دعينا
إنما نحن مهجة تتشاجَى ... ونداء يرف حتى يبينا!
بِدَع الحسن صيرتنا شعاعاً ... كابيَ اللون يستدر العيونا
(كلية اللغة)
أحمد عبد الرحمن عيسى(332/43)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن في حياتنا الاجتماعية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
شاءت وزارة الشؤون الاجتماعية أن تتعرض للفن فأنشأت في نفسها إدارة للدعاية خصتها بأمور ستة: الأول نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، والثاني الإشراف على برامج الإذاعة وترقيتها، والثالث تدعيم المسرح القومي والعمل على جعله وسيلة فعالة لتثقيف الشعب وإصلاحه، والرابع مراقبة الروايات والأفلام السينمائية والأغاني الشعبية، والخامس الإشراف على تنظيم المهرجانات والأعياد القومية والموالد بما يحقق استفادة الجماهير منها من الوجهتين الاجتماعية والاقتصادية، والسادس تنفيذ القوانين واللوائح الخاصة بمحال دور التسلية. . . وهذه الأمور الستة شديدة الصلة بالفن، وهذا ما يدعوني إلى إنعام النظر فيها محاولاً أن أجد الطريق العملي إلى تحقيقها.
والمسألة فيما يخيل إلى دائرة. . . ذلك أننا نعرف أن الفن هو ثمرة الحياة الاجتماعية، فكما تكون الأمة يكون فنها، وأمتنا كما هو ملحوظ في حاجة إلى إصلاح اجتماعي، فإذا حاولنا أن نصلحها بفنها لم نفعل شيئاً، لأن فنها منها وما هو منها لا يمكن أن يصلحها. إنما هناك رجال سبقوا عصرهم وهؤلاء وحدهم هم الذين يستطيعون أن يؤثروا في مواطنيهم لو أن فرصة العمل أتيحت لهم، وفرصة العمل لا تتاح لهؤلاء عادة في سهولة لأن مواطنيهم متأخرون عنهم فهم لا يتذوقونهم كما يتذوقون غيرهم من الفنانين والمفكرين الغارقين في هذا العصر الضال، فأول ما يجب علينا إذن هو البحث عن هؤلاء الرجال، وإلقاء مقاليد الإصلاح بين أيديهم. . .
ونحن إذا استرجعنا هذه الأهداف الستة التي تريد وزارة الشؤون الاجتماعية أن تصل إليها وفكرنا فيمن يصلح لقيادة الشعب لها. . . رأينا الهدف الأول هو نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، ولعل هذا يتم بإنشاء مجلس أعلى للشؤون الاجتماعية يضم كل من عرفت مصر أنهم يهتمون بشؤونها الاجتماعية اهتماماً حقيقياً لا اهتماماً زائفاً، ويكون على رأس هؤلاء(332/44)
جميعاً صاحب السعادة عبد العزيز فهمي باشا. . . فهو الزعيم المصري الذي آمن بحق الوطن حينما لم يكن يؤمن به إلا نفر قليل جداً من أبناء الوطن، وهو الذي سبق كل الزعماء في تقدير القسط الصالح من سيادة الشعب وقتما كان كل الزعماء يريدون للشعب سلطة فضفاضة وهو لم يزل طفلاً ناشئاً. . . وهو الرجل الذي لو أراد أن يعيش متنقلاً بين الكونتنتال ومينا هاوس وسان استفانو لفعل، ولكنه على الرغم من جهل الجماهير لفضله يفضل دائماً أن يقترب من الجماهير، ويختار جمهوره الأقرب إليه فهو يلزم (كفر المصيلحة) قريته التي نبت فيها والتي وهبها كل الفراغ من وقته، والتي ظل فيها يكافح الجهل حتى محا منها الأمية محواً، ويكافح الفقر حتى لم يعد من أبنائها متعطل ولا متسكع، ويكافح المرض حتى أصبح أكثر أهلها من هواة الألعاب الرياضية وهم يقيمون فيها المسابقات. . . هذا الرجل وغيره من رؤوس الريف العاملين المجربين هم الذين يعرفون ما هي السبيل إلى نشر المبادئ الاجتماعية القويمة، وليشترك معه الكتاب والمفكرون والمجاهدون الذين لهم ماض بين الفقر والجهل والمرض. . . أولئك الذين خالطوا الناس وعرفوا أوجاعهم، والذين أهينوا وعذبوا وسجنوا وجاعوا وتألموا. . . أبناء الشعب، ونبت الطين المصري. . . من يهمهم إصلاح الحياة في مصر لتصلح حياتهم هم أنفسهم، ولترتاح ضمائرهم. . . أما الإذاعة فتنقسم إلى قسمين: أولهما قسم الأغاني والموسيقى، وثانيهما قسم الأحاديث والمحاضرات والتمثيل. وقسم الأغاني والموسيقى لا يمكن أن يرقى إلا إذا أشرف عليه رجل موسيقي، وهو اليوم ملقى بين يدي مصطفى بك رضا الموظف بوزارة الأوقاف، وهو رجل من أبناء الذوات تعلم العزف على القانون كما يتعلم أبناء الذوات وبنات الذوات العزف على البيانو، فهو عندهم وعندهن زينة وأبهة. . . هذا الرجل يجب أن يبعد عن محطة الإذاعة وعن المعهد الملكي للموسيقى العربية ليحل محله واحد ممن كافحوا الحياة في سبيل الفن، وممن بذلوا للفن حياتهم؛ وأنا، ومن يعرفون لا يشكون في أن مثل زكريا أحمد هو أول هؤلاء فقد كان مقرئاً للقرآن كما كان من منشدي القصائد ومرتلي مولد النبي، ثم إنه من ملحني التخت له أدوار وطقاطيق وموشحات لا يحصى عددها وهو بعد ذلك من ملحني المسرح والسينما أيضاً. . . وليس في مصر من جمع هذه المميزات على نجاح مشهود وتفوق ظاهر غير زكريا، فكيف يبعد رجل كهذا عن الإشراف على(332/45)
ترقية الأغاني والموسيقى في مصر؟
ويجيء بعد ذلك قسم الأحاديث والخطابة والروايات، ولابد أن يكون المشرف على هذا القسم ممن سبق لهم أن تحدثوا إلى الشعب وأن عرفوا ما هي الأحاديث التي تؤثر فيه وتخلبه، وكيف يمكن أن يقاد وكيف يمكن أن يُهدى.
أما تدعيم المسرح فلا يمكن أن يكون إلا بتحريره، وتحريره لا يمكن أن يكون إلا بتشجيعه، وتشجيعه لا يمكن أن يكون إلا بالمال يوزع على الفرق الأهلية، فيكون للريحاني نصيب، ويكون ليوسف وهبي نصيب، ولفاطمة رشدي نصيب. . . وقد تستجد فرق أخرى تنافس هذه، ولا ريب أن الروح ستدب من جديد إلى المسرح المصري الذي قتل حين أظله (الميري) بظله. . . إن الفرقة القومية تشبه جريدة الوقائع الرسمية والمجمع الملكي للغة العربية. . . فكم من الناس يكترثون لهذه الجريدة وهذا المجمع؟ وما مدى تأثير كل منهما في الحياة المصرية؟ وبم يشعر الناس لو أنهما ألغيا؟ هل يحس أحد بأن الحياة المصرية قد نقصت شيئاً؟
وأما مراقبة الأفلام والروايات السينمائية فلابد لها من خطة خاصة أيضاً. . . لابد أن يعهد بالإشراف عليها إلى هيئة لا إلى فرد فهي تؤثر في الجمهور من عدة نواح مختلفة، وهي شديدة الخطر على النشء، فإذا لم تكن خاضعة لرقابة صالحة يقوم بها نفر ممن يغارون على وطنهم وأهلهم فإنها من غير شك ستجرف مصر إلى هاوية ليس لنا قبل بالتردي فيها. . . هذا إلى ما يكون في روايات السينما أحياناً من مظاهر التعصب الغربي ضد الشرق عامة، وضد العرب خاصة. . . والروايات التي تنحو هذا النحو يقبلها الغرب لأنها ترضي كبرياءه ولأنها تنم عن ألوان من الكفاح اصطنعها الغرب ضد الشرق وانتصر فيها. . . ولكن هذه الروايات نفسها لا يصح أن تعرض في بلد شرقي لأن عرضها فيه إهانة له ولأنها تربي الصغار على كراهية الشرق وعبادة الغرب بينما هم شرقيون.
لابد لنا من عالم نفساني اجتماعي يشاهد هذه الأفلام قبل عرضها ليحكم عليها وليقرر أنها تقربنا في المثل العليا التي نحب أن نحققها فيبيح عرضها أو أنها تحيد بنا إلى مثل سفلى لا يصح أن نتدلى إليها فيمنع عرضها، ولابد إلى جانب هذا من رجل غيور على التقاليد والنظم الشرقية غيرة صحيحة، ولابد إلى جانب هذا وذاك من مرب يعرف مدى ما تؤثر(332/46)
هذه الروايات في نفوس الصغار، وفي صغار النفوس.
وتجيء أخيراً المهرجانات والأعياد والموالد، وهذه هي معضلة المعضلات. . . فكم من أمة حكمت مصر، وكم من حضارة ألمت بها، وكم من دين غزاها، وكم أريد بها أن تكون على هوى من أراد فلم تكن إلا ما أرادت بها طبيعتها فنفضت عن نفسها كل ما حاول الجبابرة أن يصبغوها به من ألوان الحياة، ولم تستبق من هذه الأصباغ إلا صبغتين اثنتين هما صبغة الفراعنة وصبغة الفاطميين. أما الفراعنة فلا يزال في مصر من مخلفاتهم هذه الآثار القائمة من الصخر والحجر، وهذه اللغة التي يتكلم بها بعض أهل النوبة، وهذا التقويم الذي يؤقت به المصريون الزراعة، وهذه العواطف التي لا تزال تختلج في نفوس المصريين اليوم بالمنطق نفسه الذي كانت تختلج به في نفوس المصريين من أقدم العصور والتي نحب بها ما كان يحبه أجدادنا ونكره بها ما كانوا يكرهون، فنحن لا نزال نحب النيل ونحتفل بفيضانه كما كانوا يفعلون، ونحن لا نزال نحب الجاموس الذي يساعدنا في فلاحة الأرض كما عبدوا العجل أبيس، ونحن لا نزال نكره الهجرة من بلادنا مهما قست علينا الحياة فيها كما كانوا يكرهون هم الهجرة من بلادهم مع أننا اليوم مسلمون، ومع أن الإسلام يمقت الذين يتشبثون بأرض يستضعفون فيها. وفينا كذلك من تفكيرهم هذه القدرة العجيبة على الاستعاضة بالخيال عن الحقيقة والأمر الواقع، ولعلنا الشعب الوحيد الذي يرضى اليوم أن تلاقيه ولا تغديه، كما أن فينا من أخلاقهم (فرعنة) تجري في عروقنا مع الدم، فالواحد منا إما فرعون يتفرعن على من هو دونه، وإما عبد لكل فرعون ممن هم فوقه رؤساء وحكاماً. وأما الفاطميون فلا تزال مصر تحتفظ بكل ما أقاموه فيها من دعائم حكمهم، فهذه الأضرحة التي تملأ القاهرة وغيرها من مدن مصر وقراها، وهذه الموالد التي لا يزال المصريون يجرون وراءها من القاهرة إلى دسوق إلى طنطن إلى دمنهور، وهذه الخرافات العجيبة المتأصلة في أذهان الناس والتي تخالط عقائدهم من دينية ودنيوية والتي يستقونها من القصص الفاطمي المتفشي بينهم، ومن الكتب المدسوسة عليهم باسم الإسلام والإسلام منها بريء. وهذا التشاغل عن الحياة، وهذه القناعة بخيرات الأرض إذا جادت الأرض بالخيرات. . . هذا وذاك باقيان في الحياة المصرية إلى اليوم من أثر الفراعنة ومن أثر الفاطميين، حتى الدين تأثر بالفراعنة والفاطميين، فالإسلام الذي في نفوس العامة من(332/47)
المصريين إسلام فاطمي، والمسيحية التي في نفوس العامة منهم مسيحية فرعونية. . فالمسلمون من المصريين يفكرون في أهل البيت أكثر مما يفكرون في الله، ويستنجدون بالحسين والسيدة زينب أكثر مما يستنجدون بالله الواحد الأحد خالق الحسين والسيدة زينب وجدهما عليه الصلاة والسلام، وهم يقرؤون قصص السيد البدوي ومناقبه وأحاديث أكلاته ومواقعه أكثر مما يقرؤون القرآن وتاريخ النبي. والمسيحيون المصريون فرعنوا مسيحيتهم هم أيضاً؛ فهم يسمون أنفسهم بأسماء فرعونية مع أن الفرعونية وثنية في رأي المسيحية، ثم إنهم لا يزالون يتفننون في الحزن على موتاهم تفنناً عجيباً لم يكن يحسنه في الشعوب الغابرة أحد إلا قدماء المصريين، ويحسنونه هم اليوم، مع أن المسيحية إيمان مطلق بإرادة الله ورضا مطلق بمشيئته. . . فلماذا انطبعت الحياة المصرية بهذين الطابعين وحدهما. . .؟ ولماذا استطاع هذان الطابعان أن يغالبا الزمن في مصر وأن يبقيا فيها على مر العصور دون غيرهما مما كان يصح أن يؤثر في الحياة المصرية وأن يطبعها بطابعه. لابد أن في الأمر سراً. والسر هو أن الفراعنة والفاطميين أنشئوا دولتيهم على أساس من الدعاية والفن، وقد راعوا في فنونهم أن توافق الروح المصرية، وقد عرفوا أن مصر أرض زراعية، وأن هذه الأرض الزراعية تستذل أهلها بخيراتها، وأنه إذا توفر الخير لأهلها طابت لهم الحياة فيها فلم يعودوا يفكرون في شيء إلا اللهو، فشغلوهم بأنواع من اللهو، كما شغلوهم بأنواع من الاسترقاق خيلوا إليهم أنها أصل خيرهم، فحملوهم على عبادة النيل، وعبادة الحكام، وعبادة العجول، وأولياء الله الصالحين واختلقوا لهم ألواناً من البطولة هي ألوان الآكل والشرب. . .
ولم يكن الفراعنة مجانين ولا كان الفرعون منهم يصدق أنه إله لأنه كان يعرف أنه ضعيف، ولم يكن الخليفة الفاطمي سخيفاً ولم يكن يصدق أن السيد البدوي يأكل بقرة وكبشاً ومائة دجاجة وألف عصفور. . . وإنما كانت هذه هي السياسة التي قام عليها حكم الفراعنة وحكم الفاطميين. . . ونحن اليوم نجتاز ظرفاً جديداً من ظروف الحياة ثبت فيه أن الزراعة لم تعد تصلح أن تكون أساساً لحياة راقية في أمة ناهضة، وثبت فيه أن العلم والحرية أساسان للرقي والنهوض، لذلك يجب أن تتبدل هذه الأسس التي خلفها الفراعنة والتي ثبتها الفاطميون، وليس يستطيع هذا إلا فنانون مبتدعون يخلقون للمصريين المثل(332/48)
العليا للبطولة الجديدة، يستقونها من الإسلام الصحيح، ومن تاريخ النبي وعمر وصلاح الدين وأولئك الأبطال المسلمين. . . وليس يتأتى هذا إلا لفنانين عاشوا في الريف وعاشوا في المدن، وخالطوا البيئة الزراعية والبيئة الصناعية، وتمكنوا من الحياة المصرية الناعسة وتحرقوا شوقاً لحياة مصرية جديدة صاخبة حية. . . تنهض على أساس مصري إسلامي لا على أساس مترجم أو مسروق. . . لابد أن تعطل موالد الأكالين والدجالين وأن تحيا موالد الأبطال الحقيقيين. . لابد من رجعة إلى النور. . . بلسان المصريين. . . وأقدر الفنانين على هذا هم: بيرم التونسي وعبد السلام شهاب وبديع خيري. . على أن يعاونهم مؤرخون.
أما تنفيذ اللوائح فمن شأن رجال القانون.
عزيز أحمد فهمي(332/49)
رسالة العلم
لحظات الإلهام
في تاريخ العلم
بقلم مريون فلورنس لانسنغ
الريح والتيار
مضت مئات كثيرة من السنين قبل أن يحدث الحادث التالي العظيم: حدث عندما صار للإنسان قدرة حقيقية على الاختراع أن رجلاً امتاز عن معاصريه امتيازاً عظيماً في رجحان العقل وحدة الذكاء قد لاحظ سرعة التيار في مجرى الماء وهو يكتسح كل شيء في سبيله، فوضع به عجلة بحيث يمكن أن تديرها قوة الماء، ثم جعل حول هذه العجلة ما يشبه الزعانف لتكون كمجاذيف السفينة في تلقيها ضغط الماء.
لما استطاع الإنسان أن يجعل قوة الماء الجاري تدير له العجلة واستطاع أن يربط هذه العجلة من مركزها بتدبير خاص يمكنه من رفع الماء بواسطة الدلاء - لما استطاع الإنسان ذلك انتصر انتصاراً استحق أن تحييه من أجله الأجيال لأنه بذلك قد تمكن من صنع آلة تدور من نفسها وتخطى الدور الذي يمكن فيه استخدام الآلة التي يجب أن يزودها بقوة الدفع من عنده، كما تجاوز أيضاً نظرية الروافع التي احتاج في تطبيقها إلى جزء من قوته يضاف إليه القوة التي مصدرها قانون الآلة، أما فيما يتعلق بالقوة التي يديرها الماء فإنه قد اخترع منها آلة يديرها الماء نفسه لرفع الماء ويقتصر جهد الإنسان فيها على الوقوف بجانبها ومراقبتها.
من تلك اللحظة بدأ عهد الآلات التي تدور من تلقاء نفسها، ومن تلك اللحظة رفع الإنسان نفسه عن مستوى الكادح الذي تتوقف نتائج عمله على مقدار جهده أو جهد ماشيته، وأضاف إلى جهد الإنسان أو الحيوان عنصراً طبيعياً هو قوة ضغط الماء.
في ذلك اليوم المجيد بدأ الإنسان يتحرر من رق العمل، وبدأ يسلك طريقاً طويلاً يستعين فيه بجهده الذهني بدلاً من الجهد العضلي.
الهواء ضد الماء(332/50)
منذ خمسمائة عام كان يقيم في قرية الكماد، وهي قرية صغيرة في شمال هولاندا، رجل اسمه فلورنت الكماد وهو غني من أهل تلك المدينة يشتغل بالحدادة فضلاً عن كونه مزارعاً موسراً يملك أرضاً واسعة.
ولم تكن الزراعة من الأعمال السهلة في ذلك العهد بهولاندا وما جاورها من الأراضي المنخفضة ولم تكن الحياة فيها سهلة هناك منذ العهد الذي نزل فيه السكسونيون والهمج من الغريزيان إلى تلك الأراضي ذات المستنقعات التي أطلقوا عليها اسم الأراضي المنخفضة، وأرادوا أن يتخذوا منها وطناً.
وربما كانت القوة والعزيمة اللتان امتاز بهما أهل هذه البلاد في تاريخهم كله - ربما كانت هذه القوة وليدة اضطرارهم للمحاربة الدائمة ضد الريح وضد الماء اللذين تتوقف على محاربتهما حياة هذه البلدة الصغيرة. وما كان في وسع شعب غير جريء وغير مثابر أن يستولي على أرض رملية أنهارها دائمة الفيضان وبحرها دائم الطغيان فيجعل ذلك الشعب منها بلاداً زراعية خصبة.
ويعلم كل إنسان قصة المرافئ الهولاندية وهي تلك الحواجز المنيعة المصنوعة من الأحجار والتي مهمتها منع البحر من الطغيان على الأرض التي ينخفض جزء كبير من شاطئها عن مستواه.
بنى الكبريون والغريزان هذه المرافئ حين عسكروا على أكثر أجزائها ارتفاعاً وقاية لأنفسهم من الماء. وزاد أهل الأجيال التالية من تلك الحواجز إلى أن جاء عهد فلورنت الكماد فأصبحت الأنهار والبحر تحت نوع من الرقابة يمكن للمقيم بالبلاد من الاطمئنان على السلامة والراحة عند الشاطئ المحصن.
ولكن بينما البحر محصور كانت الأنهار لا تزال تفيض على الشاطئين فتحدث خطاً طويلاً من مستنقعات دائمة، فبدلاً من أن يكون على الشاطئين مزارع خضراء وحقول خصبة تنبت الحب كان حولها مستنقعات واسعة كثيرة السبخ. وكما كانت مصر في عهد الفراعنة تشكو من قلة الماء، فكذلك كانت هولاندا في بداية تاريخها تشكو من كثرة ما يغمرها من الماء.
ولم يكن فلورنت دائم الإقامة في قريته الصغيرة فقد كان يسافر من أجل عمله ولا تقتصر(332/51)
رحلاته على زيارة المدن الهولاندية الأخرى بل كان يزور باريس وما دونها من المدن جنوباً في الأقاليم الزراعية الغنية التي تمتد وسط أوربا. رأي ثراء تلك البلاد وفكر في أطيانه ذات المستنقعات التي يمكن أن تصير خصبة أيضاً لو أنه جفف ما فيها من الماء.
وكان قد سمع في باريس من سائح أنه قد ظهر اختراع حديث في بوهميا حيث أنشأ رجل عجلة تدار بواسطة الهواء وتستخدم في امتصاص المياه من الآبار. وكان الكماد ميكانيكياً عملياً فعرف كيف يمكن امتصاص الماء فوق الأرض. وكان يستعمل في ضيعته مصاصات للماء غير متقنة الصنع تكلف عناء كبيراً في العمل ولا تمتص إلا القليل من الماء، لأن المصاصات التي تستعمل باليد لتفريغ مستنقعات طاغية مما يسيل من مجرى النهر لا تكاد تفضل في عملها بعض ألاعيب الصبيان. ولم يكن في هولاندا في القرن الخامس عشر جيش من الرقيق يستخدم في مستنقعاتها الواسعة ليلاً ونهاراً ليحارب طغيان الماء.
ولو أن رجلاً آخر كان في مكان الكماد لجاز أن يسخر بفكرة استخدام الريح لهذه الغاية، ولكنه كان هولاندياً يألف ما يألفه المتصلة حياتهم بالسفن وبالمياه، وقد عرف في طفولته كيف ينزع شراع سفينة ويقيمه في مستنقع في الأرض ليساعد بواسطة الريح على كسح الماء. وكان ملاحاً فهو يعرف حق المعرفة قوة الريح. ولكن الفكرة التي كانت جديدة هي أن تدير الريح عجلة وأن تدير هذه العجلة مصاصة.
ولو أن رجلاً آخر في موضع هذا الرجل وكان أقل ذكاء لرأى الفكرة مستحيلة. ولو أن الأمر الذي يعنيه كان أقل أهمية لرأى أسهل الأمرين أن يستمر امتصاص الماء بواسطة العمل اليدوي القديم أو بإدارة ساقية يجرها حيوان. لكن بالنسبة لهذا الرجل فإنه لا الإنسان ولا الحيوان يقوى على مص الماء من أطيانه الواسعة، وهو يعتقد أنها لو صُفِّيتْ من الماء لصار في وسعه أن يجعل كل جزء منها في مثل خصوبة المزارع الفرنسية.
ولما عاد الكماد من باريس إلى وطنه لم يقل شيئاً عن هذه الآلة الجديدة التي سمع عنها لأنه عرف أن جيرانه الهادئين المجردين من الخيال سيسخرون من الهواء الذي يمتص الماء، ولكنه عكف على صنع ألعوبة تمثل عجلة فوقها أكثر من شراع، وذلك لكي يجرب بها الاختراع.(332/52)
وقد أمضى زمناً ليس بالقليل في وضع كل شراع بالزاوية التي تناسبه، ولكنه أخيراً صنع طاحوناً تدور حول نفسها كأنما تلقت سر الحركة الدائمة.
وعند ذلك استدعى بعض جيرانه فأطلعهم عليها وقد أعجبوا بذكائه في صنع اللعبة، ولكنهم ضحكوا من استحالة القيام بعمل جدي بواسطتها وقالوا: (هل يدل هذا على مقدار الأذى الذي تلحقه الأسفار بالانسان، فإن فلورنت كان مزارعاً صالحاً وعاملاً منتجاً وحداداً جاهداً قبل أن يعتاد السياحة في البلدان، وهو الآن يظن أنه يعرف أكثر مما كان آباؤه يعرفون وهو يضيع وقته في صنع الألاعيب، وما أغرب تخيله في أن تمتص الرياح الماء! من الذي سمع من قبل بأمر مثل هذا؟
لكنه على الرغم من أنه لم يكن في هولاندا من سمع شيئاً من هذا، فإن الكماد ظل يعمل لينشئ طاحونة. وبعد أن أجرى التجربة في الألعوبة شيد طاحونة كبيرة ذات أربعة شرع بدلاً من العجلة. وجعل هذه الشرع ذات دولاب واحد لكي تظل الريح تديرها، وذلك لأنه إذا كانت حركتها مستمرة كان من السهل أن تركب عليها عجلات أصغر منها تجعل حركة المصاصات مستمرة كذلك.
أنشأ طاحونته الفخمة ولكنها كانت لا تدور إلا إذا هبت الريح من اتجاه معين. وكذلك ظلت كما ظل مِنْ بعدها كل الطواحين الهولاندية مدداً طويلة تعمل عندما تهب الريح شمالية شرقية.
فلما تحركت وامتصَّتْ الماء استدعى جيرانه وأراهم نجاحها.
وقد يكون الهولندي بطيئاً في تصرفه وقد يكون من الصعب إقناعه، ولكنه متى رأى عملاً صالحاً فهو يحسن تقديره، فهؤلاء المزارعون الهولنديون ذوو الصلابة قد قضوا العمر في محاربة عنصرين من عناصر الطبيعة: الماء والريح. وما كادوا ينشئون تلك المرافئ الرملية لتحميهم من الأمواج حتى هبت الرياح فأزالت أعالي هذه المرافئ وأعادت الماء إلى الطغيان.
لما رأى هؤلاء المزارعون عدويهم القديمين وقد سُخِّر أحدهما لمحاربة الآخر ضحكوا وصفقوا وأثنوا على ذكاء فلورنت.
وقبل أن يموت فلورنت كان نجاحه غير مقتصر على أن أصبحت الطواحين منتشرة في(332/53)
كل مزارعه لتجفيف المستنقعات لتصبح الأرض قابلة للزراعة في مواسمها؛ بل إن جيرانه قد أصبحوا يحاكونه، فكانت الشراعات تدور مع النسيم لمثل هذه الغاية. وكان الناس يأتون من أطراف هولاندا ليشاهدوا هذه الطواحين.
وكانت أول طاحونة ناجحة أنشأها الكماد هي التي أنشئت في سنة 1408 وقبل عام 1500 كانت هولاندا قد غصت بالطواحين الهوائية التي جعلت هذه البلاد في ظرف أربعمائة عام شهيرة بمناظرها الزراعية. وتحولت أراضي المستنفعات إلى مزارع خصبة، وأثرى الناس، وأدرك الإنسان فوزاً جديداً هو تسخير قوة من قوى الطبيعة ضد قوة أخرى في صنع آلاته. ونجح الهولنديون بمحالفتهم الهواء ضد الماء فانتصروا على الطبيعة.
وكانت الخطوة التالية هي التي انتصر فيها الإنسان على النار فاستخدمها لإدارة العجل بواسطة البخار. وقد استطاع الإنسان ذلك بعد مائتي عام. وتتم قصة العجلة بتمام القدرة على تحويل الوقود إلى قوة تحرك الآلات.
(يتبع)
ع. أ(332/54)
من هنا ومن هناك
الحيلة في تقليد السياسة الألمانية
(عن (ذي ايفننج استاندر))
للسياسة الألمانية طرائق وأساليب قلَّ أن يعتريها التغيير وإن تغير
الجيل واختلفت العصور. وقد مر سبعون عاماً منذ اعتزم بسمارك
محاربة فرنسا، مدفوعاً بفكرة ضم الولايات الألمانية المتحالفة التي
حازتها ألمانيا، نتيجة لحروبها السابقة التي وضع خطتها بعناية
وإتقان. وكان بسمارك يطمع في تقوية مركز بروسيا للسيطرة على
هذه الولايات. فأشعل نيران الحرب في أوربا من أجل هذه الأسباب
التي تتعلق بسياسة ألمانيا الداخلية.
وقد كتب الكثيرون في موقفه هذا والطريق التي سلكها لتحقيق بغيته، ولكن تلك القصة العجيبة مازالت قابلة لأن تعاد. كانت أسبانيا تقطع مرحلة من مراحل السلام والهدوء فأظهرت حاجتها إلى حاكم عادل يسوس أمورها. فعرضت عرشها على أمير من أسرة (هوهنزلرن). ومن الجلي أن الفرنسيين لا يرحبون بفكرة مثل هذه الفكرة ولا يسمحون بتحقيقها، إذ أنها تبيح لأسرة واحدة أن تحكم على الرين والبرانس.
فلاقى بسمارك صعوبة في تحقيق مطلبه - لا من ناحية الفرنسيين الذين لم يكن يعبأ بهم - ولكن من ناحية (سيك) ملك بروسيا الذي يقول عنه في مذكراته: (لقد كان رجلاً في الثالثة والسبعين من عمره محباً للسلام، فلم يشأ أن يخاطر بأكاليل النصر التي نالها في حرب عام 1866. ويشير بسمارك هنا إلى الفوز الذي أحرزته بروسيا على أوستريا عام 1866 في حرب قصيرة المدى.
فلما رأى الملك المعمر أن حرباً أوربية توشك أن تقع من جراء قبول أحد أقربائه عرش أسبانيا، اعتزم أن يمنعه. فما كاد يصل احتجاج فرنسا إلى يده حتى استدعى (البرنس ليوبولد أوف هوهنزلرن) وما زال به حتى رفض ما عرض عليه. ورأى بسمارك أن(332/55)