عن مكانه بين العلماء، وعدلت به إلى صف الصحفيين؛ فأصبح وهدفه أن تروج مجلته وتنشر بين القراء، وتحثو في وجه كل مجلة سبقتها أو لحقتها؛ ولا تروج المجلة إلا بجديد؛ فليجدد مولانا الأستاذ في: أدب المعدة، وأدب الروح؛ وفي: الدين الصناعي والدين الطبيعي؛ وفي: جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي. الخ الخ الخ
لقد بدأ الأستاذ فكتب ما كتب؛ وأخذ الكتاب بعده طريقهم، بين خاذل وناصر؛ وكان أجرأ الكاتبين (بلا ريب) الدكتور زكي مبارك، ولا فخر. وكان ضرورياً أن ينافح الأستاذ عن آرائه، وأن يذود عن حياضه، وهو صاحب القلم الجوال والرأي الصوّال؛ ولكن الأستاذ سكت؛ ولا أدري: أسكوت مؤقت أم مؤبد، فإذا كان سكوتاً مؤقتاً، فأنا أشوق الناس إلى رده، وذلك ظني به؛ وإن كان سكوتاً مؤبداً، فهل تراه ارتاح إلى الأثر الذي أحدثته آراؤه في رواج مجلته، أو أنه رأى أن يعامل الدكتور زكي على سنن ما كان يعلمنا سيدنا في الكُتَّاب:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه ... وإن خليته كمداً يموت؟!
وإذا كان رأيه هو هذا، فإني أعجل له الجواب، فأقول: ذاك لو بقيت على حلمك، واحتفظت بمقامك القديم، فأما الآن فقد تساوت الكفتان، والفلج لمن برّز. . .
على أن الخبيث الدكتور زكي مبارك لن يموت قريباً، فإنما يعجل بالخيار.
أما بعد، فلقد علم الله أني أحب الأستاذ أحمد أمين وأجلّه، أكثر مما أحب الدكتور زكي وأجلّه؛ وكنت قمينا أن أغضب للأستاذ وأتحمس له، على قدر حبي له، وإجلالي إياه؛ ولكني - ولا أكذب الله - أشعر لعمل الدكتور معه بشيء من الارتياح. ذلك لهذه الطعنات الدوامي، التي حشا بها مقاله: الدين الطبيعي والصناعي، ليصيب بها قوماً غافلين، لم يعرضوا له إلا بكل خير، ولم تغفل عين الله عن الثأر لهم.
ثم لهذه الدعاوى العريضة التي أصبحت ديدن كل من أحس شهرة بحق أو بباطل في هذا البلد، فلا يقنع الباحث منهم بما دون قلب الأوضاع، ومحو التاريخ، وتغيير خلق الله؛ وهو أعجز من أن يغير وضع الزقاق الذي ولد فيه، ودرج بين صبيانه.
ولا يسعني أن ألقي القلم قبل أن أوجه تهنئتي إلى الأستاذ أحمد أمين بما يكون قد أصاب(316/22)
من نجاح صحفي، لست أدري أمن قبيل أدب المعدة هو أم من قبيل أدب الروح؛ لأن النوعين لا يزالان في حاجة إلى مزيد تحديد.
فأما أنت يا دكتور زكي، فإني أهنيك بأن ظفرت على سِفاهك هذه المرة، ببعض رضاي. ورحم الله حكيم الشعراء:
سِفاهٌ ذاد عنك الناس حلم ... وغى فيه منفعة رشاد
عبد الجواد رمضان
المدرس في كلية اللغة العربية(316/23)
في طرسوس
على قبر الخليفة العظيم
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذه مدينة أذنة (أطنة) قدمتها البارحة وسيمر بها اليوم قطار طوروس السريع ذاهباً إلى الشام، وهو يمر بها ثلاث مرات في الأسبوع. فإن فاتني قطار اليوم فلا مفر من الانتظار في آذنة إلى السبت. إن هواء آذنة حار، وليس فيها ما يشغل الزائر ثلاثة أيام ففيم التلبث؟ إن لي في طرسوس أرباً ولابد لي أن أزور طرسوس. إنها قريبة بينك وبينها مسيرة ساعة للقطار. ولو كانت بعيدة لما ترخصت في القعود عنها. إن لم يتيسر لي العودة منها قبل موعد القطار فليذهب قطار الأربعاء وليذهب قطار السبت فما عن زيارة طرسوس معدي. إن في القلب لحنيناً إليها ومنيتي وقفة فيها:
وقفة بالعقيق نطرح ثقلاً ... من دموع بوقفة بالعقيق
أأجاوز آذنة صوب الجنوب دون أن أرى طرسوس؟ أعظم به من عقوق، وحرمان للنفس مما تمنيت سنين طوالاً
ما شأن طرسوس؟ ما الذي يشوقني فيها؟ إنها مدينة صغيرة كئيبة المنظر فما حببني إليها؟ لله أي كنز في طرسوس دفين! وأي تاريخ كبير في تراب هذه المدينة الصغيرة!
حاولت أن أبكر إليها فأعود فأدرك قطار طوروس، ولكن فاتني قطار ست ونصف من الصباح وكان عليَّ أن أختار إحدى النيتين: إما قطار طوروس وإما طرسوس
أخذت القطار إلى طرسوس والساعة ثمان ونصف
هذه طرسوس أحد الثغور القديمة بين المسلمين والروم. طرسوس التي فتحها الرشيد ومات فيها ابنه المأمون غازياً كما مات الرشيد في طوس ومات ابنه في طرسوس. لله همة أبعدت بهذين السهمين من بغداد إلى طوس وطرسوس. من كان يفطن أن الرشيد والمأمون كانا مترفين من أبناء النعمة وأخدان القصور فليعلم أن الرشيد كان همة لا تفتر بين الحج والغزو:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور
وأن المأمون لم يقعد عن قيادة الجيش إلى ثغور الروم، وأنه لقي حتفه غازياً في هذه(316/24)
المدينة النائية طرسوس:
ما رأينا النجوم أغنت عن المأ ... مون في ظل ملكه المحروس
غادروه بعرصتي طرسوس ... مثلما غادروا أباه بطوس
يقول ياقوت:
(وبينها وبين آذنة ستة فراسخ، وبين آذنة وطرسوس فندق بُفا والفندق الجديد. وعلى طرسوس سوران وخندق واسع ولها ستة أبواب. ويشقها نهر البردان. . .
وما زالت موطناً للصالحين والزهاد يقصدونها لأنها من ثغور المسلمين، ثم لم تزل مع المسلمين في أحسن حال؛ وخرج منها جماعة من أهل الفضل إلى أن كان سنة 354 الخ)
كانت طرسوس ثغراً تتكسر عنده زفرات الروم وفي إقليمها غزا أمير العرب وشاعرهم سيف الدولة وأبو الطيب المتنبي
واستولى عليه الروم سنة 354 حين مرض سيف الدولة فخربوا مساجدها وجلا كثير من أهلها. يقول ياقوت: (وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرب المساجد وأخذ من خزانة السلاح ما لم يسمع بمثله مما كان جمع من أيام بني أميّة إلى هذه الغاية. . .)
ثم دخلت في حوزة المسلمين حينما امتد سلطانهم على بلاد الروم من بعد
وبعد الحروب الصليبية استولى عليها المصريون، ثم استولى عليها بنو رمضان الذين حكموا آذنة وما حولها في القرن الثامن الهجري إلى أن أديل منهم للعثمانيين
ذكرت كثيراً من وقائع الدهر في طرسوس وذكرت الرشيد والمأمون وسيف الدولة والمتنبي وقصيدته السينية التي مدح بها محمد بن زريق في طرسوس:
هذي برزتِ لنا فهجت رسيسا ... ثم انثنيت وما شفيت نسيسا
ورثيت للشاعر حين ذكرت أن الممدوح أعطاه عشرة دراهم. فقيل له: إن شعره حسن. فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم
ركبت في طرسوس عربة ومعي رفيق من اسكيشهر، وكان الحوذي يعرف العربية، ولا تكلم أحداً في هذه النواحي بالعربية إلا أجابك
قلت: أين منسج راسم بك؟ فذهب إلى معامل عظيمة للنسج لمحمد بك المصري. ولم أجد البك هناك ولكني رأيت المناسج العظيمة وسرني ما رأيت فيها وما سمعت(316/25)
وسألت رجلاً هناك: أتعرف قبر الخليفة المأمون؟ المأمون ابن الرشيد مات هنا ودفن، فهل عندكم علم عن قبره؟ قال: لا. ولكن هنا شيخاً خبيراً بالآثار، لعل عنده علما. غاب عني قليلاً، وعاد يصف للحوذيّ الموضع! انتهى السائق إلى جامع كبير له سور عال ضخم كأنه أعد للقتال، وعلى مقربة منه خانات كبيرة، وبجانبه تكية مغلقة. دخلنا الجامع إلى صحن واسع يحيط به أروقة تمتد على جدار الباب، وعن اليمين والشمال، وفي وسطه حوض مظلّل؛ ويفصل الصحن والمسجد جدار دخلناه من باب، ومنه إلى مسجد مستطيل فيه ثلاثة عقود تقوم على صفين من العمد.
وفي الجدار الشرقي من المسجد كوة تطل على التكية المغلقة. نظرت منها فإذا مصلى مسقوف، وإذا ثلاثة قبور، أشار خادم المسجد - وهو حلبيَّ الأصل - إلى أقربها إلى الكوة. وقال: هذا قبر المأمون. قلت: أرأيت عليه كتابة؟ قال: أجل! وقد سألت ناساً في طرسوس وأذنة؛ فاتفقت كلمتهم على وصف القبر وموضعه! وأما المؤرخون، فقد أجمعوا على أن المأمون دفن في طرسوس. وأخبرني بعض العلماء العرب والترك أنهم رأوا القبر وقرءوا عليه اسم الخليفة المأمون!
هنا الخليفة العظيم!. . هنا الرجل العالم المحب للعلم والعلماء!. . هنا الملك العفوَّ الذي قال: لو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إليَّ بالذنوب!. . . هنا عبد الله المأمون بن هرون الرشيد!. . .
(رحم الله أبا العلاء):
أنتم بنو النسب القصير فطولكم ... باد على الكبراء والأشراف
والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... بأب عن الأسماء والأوصاف
هنا أمير من أمراء المؤمنين يفتخر به تاريخ الإسلام، وحق على الأمم الإسلامية كلها على اختلاف أجناسها أن تشيد بذكره، وتعظمه في قبره!. . .
لقد رست قبور الخلفاء والعباسيين في بغداد وسامرَا. فلا يُعرف لواحد منهم قبر اليوم حاشا قبر هرون الذي طمس عليه عصبة الشيعة في طوس؛ وحاشا قبر المأمون الذي طمس عليه النسيان في طرسوس أو كاد.
تمنيت أن أجلس إلى قبر المأمون ساعة فأسجل ما توحيه إلى نفسي عظمة الماضي(316/26)
ومصائب الحاضر، وغير الزمان، وتقلب الأيام، وما يبعثه في النفس ذكر المأمون وجواره من عظمة وإعجاب، وفخار وعبرة!
ثم جلست في طرسوس فرأيت مساجد عتيقة، ولكني أصغرت كل شيء فلم أبال بعد أن وقفت على قبر الخليفة الكبير المأمون بن الرشيد رحمهما الله!. . .
عبد الوهاب عزام(316/27)
ذكريات سني التعليم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
دخلت مدرسة المعلمين كطالب سنة 1906 وطلبت الإحالة على المعاش سنة 1938 وكانت مدة اشتغالي بالتعليم كطالب ومدرس وناظر ومفتش اثنتين وثلاثين سنة وهي ليست بالزمن القليل. وربما كان منصب الناظر أشق مناصب التعليم التي وليتها بالرغم من وجاهة مظاهره. وقد كنت ناظراً لخمس مدارس ثانوية وقبلها لثلاث مدارس ابتدائية، وكانت مدة نظارتي للمدارس الثانوية تسع سنوات وللمدارس الابتدائية ثلاثاً أي كانت نظارتي للمدارس اثنتي عشر سنة، وهي أيضاً ليست بالزمن القليل. وقد لبثت في نظارة المدار الثانوية في عهود وزارات وأحزاب مختلفة، وفي عهد كانت المدار الثانوية فيه مضطربة جد الاضطراب بسبب قلة الاستقرار السياسي. وأعترف أن بقائي في نظارة المدارس تلك المدة الطويلة لم يكن بحسن لباقة في معاشرة آباء الطلبة ومخالطتهم واكتساب معونتهم، فإن ميلي الطبيعي إلى الوحدة منع من ذلك حتى أساء أناس فهم هذا الميل إلى الوحدة وعدوه تكبراً وهو ضعف في البنية يتطلب الراحة بالانقطاع عن الحديث وعن تكاليف المجالس وأعني ما تكلفه من تعب. ولم يكن بقائي في النظارة بسبب مكر ودهاء وخلابة تحبب الناظر إلى تلاميذه لأن المكر إذا تكلفه الإنسان يتعبه ويكلفه جهداً ربما كان لا طاقة له به، وإنما كان بقائي بها أولاً لأني آثرت تصريف الأمور بنفسي بدل الرجوع إلى الوزارة في أمور كثيرة وبدل خلق مشكلات لها، ولا تكره الوزارة أمراً قدر كرهها أن يُرجع إليها في أمر كان لا يستطيع الناظر ألا يكبِّر أمره حتى يصير لا مناص من الرجوع إليها فيه، وثانياً لأني اتخذت في خطط التعليم ما اتخذه نابليون في خطط حروبه إذ كان يعبئ أكثر قوته لمواجهة موطن الضعف في العدو فيهزمه، وكذلك كنت أنا والأساتذة نعبئ عنايتنا وجهدنا لمعالجة التلاميذ الضعاف ولمعالجة أماكن الصعوبة في المناهج وأماكن الخطأ والضعف في التلاميذ الضعاف، وهذه خطة تحتاج إلى تفصيل ولكنها الخطة الوحيدة التي يستطاع بها جعل نسبة النجاح في الامتحانات حسنة مرتفعة، وقد استطعنا في الواقع أن نجعل بهذه الخطة نسبة النجاح حسنة، وهذا كان يسر بعض رؤسائنا عند ظهور النتائج
ومنصب ناظر مدرسة من المدارس الثانوية المصرية منصب كانت تحوطه العداوات. فذا(316/28)
أراد أن يهيئ أسباب النظام قيل متشدد مرهق مجرم، وإذا تسهل وترك الأمور تجري في مجاريها قيل ضعيف كسول، وإذا كان بين بين اتهم تارة بالإرهاق والإجرام، وتارة بالضعف والكسل، واتهم علاوة على ذلك بالتذبذب. وقد خرجنا والحمد لله من هذا المنصب ومن غيره من المناصب وليس في ملف خدمتنا مؤاخذة ولا سؤال ولا تحقيق في مؤاخذة، ولم تكن هناك حتى ولا مخاطبة شفوية في أمر مؤاخذة مالية أو أدبية أو علمية أو خلقية إلا مؤاخذة على رفع صوتنا في حضرة علي بك حافظ رحمه الله كنت مدرساً وهو ناظر، وهذا أمر ربما استثار تعجب الأساتذة المدرسين في هذا الجيل
وقد كانت خطتي في معاملة الأساتذة المدرسين على العموم خطة معاوية في قوله (ولو كانت بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذا أرخوا شددت وإذا شدوا أرخيت) وربما أفادني ميلي الغالب إلى الوحدة من ناحية وإن أضر بي من ناحية أخرى، فإن أضر بي من ناحية جهلي بما يدبر في الخفاء ومن ناحية إساءة بعضهم فهم ذلك الميل إلى الوحدة وعده تكبراً، فقد أفادني من ناحية أخرى إذ لم يخلق أسباب الانقسام والتحزب والمشاحنة بين الموظفين بمناصرة بعضهم على بعض. وكانت خطتي نحو الطلبة إعزاز الطالب الكريم الأخلاق واحترامه إذا كان ممن لا يطغيه الإعزاز والاحترام، وإفهام المقصر أو الخارج على النظام أن العقاب ضرورة لا إهانة فيها وأن الشهامة تقتضي أن يرحب مستحق العقاب بالعقاب. وقد حاول بعضهم أن يذيع في مدرسة أني أتشدد تشدداً مسيئاً في معاملة الموظفين فلم يفلح بالرغم من الإلحاح في هذا المسعى لأن هذا المسعى كان مهزلة حقيرة، ولا يقبل الموظفون في هذا الجيل إساءة في المعاملة لا إلى الحد الذي حدده هذا المسعى ولا إلى أقل منه. وكبار رجال الوزارة يعلمون أنه ليس في استطاعتي أفعل ذلك حتى لو حدثتني نفسي بإساءة معاملة أحد. ولكنه مسعى يدل القارئ على المتاعب التي يتعرض لها حتى أقل النظار طلباً للمتاعب وأبعدهم عن مظانها. وقد حاول أيضاً أصحاب ذلك المسعى إفهام الطلبة أني أتشدد تشدداً مرهقاً للطلبة، وهم يعرفون أني قلما كنت أوقع إلا العقوبات المدرسية المفروضة ولم أكن أوقعها إلا بمقدار ما يستقيم معه التدريس. وقد كنت أتعجب من الخبث والشر في نفوس أصحاب ذلك المسعى، ولكن مما هَوَّنَ الأمر عليَّ أن بعض الطلبة الذين كنت أضطر إلى معالجتهم بشدة كانوا بعد نجاحهم وتخرجهم يرسلون إليَّ(316/29)
الخطابات ينسبون فيها نجاحهم إلى ما عالجتهم به أو كانوا يفعلون ذلك إذا قابلتهم بعد تخرجهم. وقد عَلَّمْتُ آلافاً من التلاميذ بمدارس الإسكندرية ودمنهور والمنصورة والزقازيق والقاهرة وحلوان والفيوم الأميرية. وكثير منهم قد صادفوا نجاحاً كبيراً في حياتهم بعد أيام التلمذة، وهم يعرفون أن الخشونة والعجرفة أبعد الطباع عن طبعي ويعرفون أني كنت أعامل أكثرهم معاملة الأخ الكبير للأخ الصغير. وقد كنا نتبع خطة التعبئة لمعالجة الضعف في جميع سني الدراسة لا في السنة الأخيرة وحدها، ومن أجل ذلك كانت تأتي نتائج امتحانات النقل للفرق حسنة مرضية في جملتها إلا ما شذ بسبب ضعف شديد في فرقة أو فصل وعجز في الأستاذ عن معالجته مما يحدث مثله في جميع المدارس. والوزارة إنما تأخذ بمتوسط نسبة النجاح للمدرسة كلها، وتنظر في أسباب تخلف الفرقة الواحدة أو الفصل الواحد. ولا أذكر أن الوزارة آخذتنا حتى ولا مرة واحدة بسبب تلك النتائج. ومما يؤسف له أن بعض كبار آباء التلاميذ كانوا إذا رسب ابن أحدهم حقد حقداً شديداً، ولا أعرف إذا كانت هذه الصفة لا تزال في الآباء. ولو أنهم سألوا الوزارة عن مستوى النتائج لأراحوا أنفسهم وأراحوا النظار من عواقب حقدهم الذي لا يتفق وتربيتهم العالية ومنزلتهم الكبيرة. والمدرسة دنيا مصغرة: ففيها العالم والجاهل والذكي والغبي والوديع والشرس الطباع والكريم والحقود، والذي يغلب على طبعه الخير، والآخر الذي يغلب على طبعه الخبيث والشر وحب الأذى. ولا يستطيع أستاذ مدرس ولا ناظر أن يعجن جِبِلَّةَ هؤلاء وأن يجعلهم كلهم على طبيعة واحدة من العلم والذكاء والكرم وسمو الشمائل، ولا أن ينال إخاءهم وإنصافهم جميعاً. ومهنة المدرس والناظر من أشق المهن، ولا يهون متاعب التعليم غير إنصاف الوزارة من ناحية وإنصاف الآباء من ناحية أخرى وحسن مؤازرتهم؛ وهذا الإنصاف لا يغني عنه لإنجاح التعليم تغيير الوسائل والأنظمة. ولسنا نقول هذا القول لأننا نطلب أو نرجى نفعاً فقد انتهت حياتنا العملية وانتهت مطامعنا وآمالنا إلى غير عودة، ولكنا نقوله ونحن نعلم أن المعلم والناظر يعملان في سذاجة الشباب أو عادات الشباب والمشيب حتى وإن لم يجدا عطفاً من بعض الآباء أو من الوزارة؛ ولكن صعب على النفس ألا تجد ما يعينها على تحمل مشقة التعليم، واستخراج حلاوته، والتعليم شيِّقٌ حلو إذا انتظمت أموره، وامتنعت عنه الأحقاد، والمعاداة على كل أمر تافه. ولا أذكر أني تأثرت مرة من(316/30)
حسن عطف ومودة قدر تأثري عندما نُقِلتُ من نظارة مدرسة المنصورة، وجاء تلاميذ لتوديعي، ووقف باقي الطلبة في الفناء يحيونني وأنا في القطار، وقد دمعت أعين بعض الطلبة المودعين ولم أكن أتعمد اللين معهم، ولا التراخي، حتى أنال عطفهم! ولم يكتفوا بذلك بل أظهروا وفاءً عندما صاروا إلى المدرسة الثانوية بالمنصورة، وجاء إليهم تلاميذي من مدرسة الزقازيق الثانوية لمباراتهم، وقد جعلني وفاؤهم هذا أندم على أني لم أكن أكثر ليناً في معاملتهم، وإن كنت لم أنقطع عن مشاركتهم في سرورهم ومباسطتهم والعمل على راحتهم ولإنجاحهم، وتعهد مرضاهم، والسهر على صحتهم إذ لم تكن شدتي قسوة بل رحمة.
عبد الرحمن شكري(316/31)
النبوة - الوحي - المعجزة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 2 -
معذرة من طول الفترة بين مقالي الأول - في هذا الموضوع
- ومقالي هذا؛ فان أعمال الامتحان في المدارس وشواغل
السفر من بغداد إلى القاهرة أمور لا يستقيم معها فكر ولا
يصفو فيها خاطر.
كلما فكرت في صمت الطبيعة المطبق تجاه الإنسان، وثبات السماء والأرض أمام حواسه، وعدم اكتراث الأشياء له، وعدم وجود ثغرة ينحدر منها إلى أفق آخر غير هذه المناظر الهائلة الثابتة. . اعترتني رهبة من وضع الإنسان هذا الوضع المغلق عليه فيه كل شيء! وأقامني الفكر بين العجز والتعب كما يقول المتنبي:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
ولكني أفرض في بعض الأحيان أن الإنسان استطاع أن يرقى أسباب السماء بسلم، وأنه طار كالريح، وانتقل كالبرق، وصار الكون كله مَزْويّاً بين عينيه. فهل يفيده ذلك شيئاً في حل شيء؟ كلا! فيما أتخيل. . . لأن الذي ينتقل من متحف أعاجيب صغير إلى متحف أعاجيب كبير، لا يزيده ذلك إلا دهشة ورغبة في معرفة الأسباب!
وهبوا الإنسان حلل كل شيء في الطبيعة وركبه. . . فهل تذهب قدرته تلك من حيرته ودهشته في إدراك العلاقة بين فكره وبين الأشياء، وفي إدراكه نفسه وقدرتها؟ كلا! فيما أتخيل. . . فهو سوف لا يدرك من نفسه إلا أنه آلة خالقة تفعل الأعاجيب. فنحن مهما أدركنا ومهما فعلنا فسنظل حائرين في معرفة كيف ندرك وكيف نفعل ما نفعل. . . ويبقى وجود كل شيء بعد ذلك لغزاً مغلقاً كما هو!!. . .
ومن هذا المدخل أدخل إلى بحث (المعجزة الحسية)، التي هي أعظم عقبة يصطدم بها أكثر الباحثين المتشككين في طريقهم إلى الإيمان بالنبوة. لأنهم يرون في إيجادها خرقاً للناموس(316/32)
العام الذي ينتظم الطبيعة، وخروجاً على سنن اطرادها؛ ويرون أن الإيمان بالنبوة لا يكون إلا بالإيمان أيضاً بهذا النوع من الأفعال الخارقة لسنة الطبيعة. فيقفون مترددين محجمين عن الإيمان بالنبوة والوحي، إذ يجدون في منطقة الإيمان بهما عقبة المعجزات الحسية. فيذهبون إلى تأويل النبوة والوحي بتخريجات لا تتفق مع الإيمان الصحيح ولا مع نصوص القرآن الصريحة، ولا مع منطق النبي نفسه؛ ومعنى النبوة التي أدركها هو في روحه وفكره، وحدثنا عنها، ووصفها لنا. فهم يحاولون أن يفهموا الوحي على أنه فيض ذاتي في النفس الإنسانية، وحالة إلحاح من فكرة الصلاح والحق على قلوب بعض محبي الإصلاح من البشر بعد إدراك تام للاتجاه العام في الطبيعة. فيخيل إليهم حين يدركون ذلك أن إرادة رب الحياة معهم ومنطقه في أفواههم وعقولهم؛ فيصدعون بالدعوة، وليس هناك وراء هذا اتصال بينهم وبين الله ولا حديث ولا شيء. وأما الخوارق التي كانوا يجرونها فهي أعمال ناشئة من يقظتهم وإدراكهم علماً من الطبيعة لم يدركه غيرهم. فيستخدمون ذلك في إقناع الناس.
هذه هي خلاصة مقالة منكري النبوة في العصر الحديث. وقد ألححت في مقالي الماضي في بيان النبوة كقانون من قوانين النشأة العقلية والروحية، وأنها أشبه بالعلاقة بين الأبوة والبنوة في الترتيب والإرشاد، وأنه ليس من المعقول أن تمضي الحياة الإنسانية من أول رجل إلى آخر رجل من غير سماع كلمة غير إنسانية مما وراء الطبيعة، وإلا لزم أن تهدر قيمة الإنسان أمام نفسه لأنه لم يسمع حديثاً من الحياة يحدد له قيمته ومكانه. . .
أما المعجزات الحسية فلو لم يحدثنا عنها القرآن حديثه القاطع بوجودها لكان لنا معها موقف آخر. ولكن القرآن المعجز الدائم يحدثنا عن ناقة خرجت من صخرة، وعصا انقلبت حية، وطير خرج من طين، وعن كثير من الآيات بحديث صريح لا يقبل تأويلاً ولا تخريجاً غير ما يحتمله لفظه. ولم يشر القرآن بأي إشارة إلى أن الأنبياء الذين جرت على أيديهم هذه الخوارق كانوا على علم بأسرار ما يفعلون، بل بالعكس يحدثنا أن موسى خاف وفر وولى مدبراً حين رأى عصاه تنقلب إلى ثعبان مما يدل على أنه ما كان يدري بسر ما يجري أمامه
إذاً فقد حبط قولهم إن تلك الخوارق ناشئة من إدراك النبي سراً من الطبيعة لم يدركه غيره(316/33)
وينبغي أن نتذكر دائماً أن كل شيء في الطبيعة معجز ومحير. وأن إضافة شيء إلى الطبيعة من أعمال الإيجاد والخلق في ظروف استثنائية تقضي الضرورة بإحداث حجة حسية دامغة فيها، تلك الإضافة لا تزيد عجباً ولا تستحق دهشة أكثر من غيرها من الموجود قبلها
وينبغي أيضاً أن نمنع خيالنا من تصور الله تعالى خاضعاً لطرق صناعتنا. . . فهو لا يحتاج إلى مخابير ومعايير ومنافيخ وآلات ومعامل حتى يخرج شيئاً وإنما المسألة بالنسبة إليه بسيطة هينة. . وقد وهم إبراهيم عليه السلام حين قال له: (رب أرني كيف تحيي الموتى) إذ أنه ظن أن هناك كيفية وأسلوباً محسوساً لإيجاد الله للأشياء فقال له الله: (أولم تؤمن؟ قال: بلا، ولكن ليطمئن قلبي. قال: فخذ أربعة من الطير فصُرْهُنَّ إليك (أي اذبحهن) ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعياً) فلم ير إبراهيم من كيفية الخلق أكثر من هذا. وهو هو نفسه الأسلوب الذي نراه كل يوم وكل ساعة في وجود الأشياء من نبات وحيوان، وفي تجدد المادة والقوة والطاقة
فالأمور والأشياء من أولها إلى آخرها معجزات وآيات محيرات. ولو خلقناها بأيدينا لم يذهب ما بنا من حيرة ودهشة كما قدمت في أول هذا المقال
أقول هذا وأطيل فيه لأبين للذين تصدمهم المعجزات الحسية المنسوبة إلى الرسل السابقين قبل محمد وتصدهم عن الإيمان بالنبوة بمعناها عند جمهور الناس أن أمرها أهون في التقدير مما يتصورون وأنها لا تستلزم هذه الحيرة والدهشة لأن الله يفعل مثلها في كل دقيقة ملايين الملايين
ثم إن الله تعالى لم يضع قوانين الخلق ليتقيد بها كالأغلال والأصفاد فلا مانع أن يحطمها في جزئياتها التي يدركها الناس عن قرب في ظروف استثنائية حتى لا نتوهم - كما توهم بعض فلاسفة اليونان - إن الله لا يقدر على مخالفة سنن الطبيعة
ما قدمناه من الحديث يدور حول علاقة المعجزة بالطبيعة وسننها المطردة وحول علاقتها بالله موجد الطبيعة. ويبقى حديث حول علاقتها بالناس وعقولهم وآثارها في الدعوة
هل هناك ضرورة قاهرة على أحداث المعجزة؟
للجواب على هذا ينبغي أن نستحضر صور المجتمع الإنساني في عصوره الأولى البدائية(316/34)
الجاهلة المحدودة الإدراك الواقفة عند المحسوسات الغارقة في الجهالات الموزعة عقليها بين السحر والمخرقة. كل أمة في عزلة عن الأخرى لا ترى إلا قطعة محدودة من الأرض وأفقاً ضيقاً من السما. . . ترى ظواهر الطبيعة ولا تستطيع لها تعليلاً، تأكلها الفواجع وتحصدها الأوباء ويستبد بها الكهنة والرؤساء وتسير كقطعان سائمة هائمة في بيداء الحياة ليس لها علوم وآداب إلا ما هو في نطاق ضرورة العيش والارتفاق
ثم يفاجئ أحد هذه المجتمعات رجل يحاول أن يحطم كل وثن معبود ويذب كل شر ويحمل على كل خير ويخلع أمته من ماض وتاريخ وسيرة آباء ويقول - وهنا الهول والدهشة - أنا رسول من الله رب السماء والأرض اختصني الله من بينكم وألقى عليَّ روحاً من أمره وكلمني! نعم كلمني! وهذا الرجل في الغالبية المطلقة من الأحيان يكون فقيراً لا مال ولا جاه له مما يفتن العامة ويدعوا إلى احترام الخاصة
فمن ذا عساه أن يؤمن مع هذا الرجل من مثل هذا المجتمع المنحط الخاضع لمنطق الطفولة، الذي لم يدرك الحق بنفسه؟
أظن أنه لا جدال في أن من يستجيب سريعاً لهذا الرجل هم العدد الأقل ممن يلبي كلمة الحق لأول سماعه بها، وهؤلاء حتى في زماننا زمن العلم والحرية والديمقراطية لا يكادون يبلغون عدداً تصلح معهم شؤون الأرض ويستقر العمران ويتحقق نمو حركة الفكر والخلق. فلابد لصلاح الأرض من صلاح جماهير العمال والزراع وهؤلاء هم القطيع الذي يملأ بقاع الأرض ولا يستطيع المصلحون أن يحققوا مثلهم العليا إلا إذا تسلطوا عليه وملكوا قياده، وهؤلاء هم موضع عناية الله ووصاياه لأنهم لا يستطيعون أن يتفرغوا لإدراك كماله وجلاله إذ أنهم مشغولون بالسعي إلى الرزق والضرورات المادية ويخيل إليَّ أن الله تعالى لاحظ في وضع النبوات الأولى منطقهم ووجدانهم أكثر من غيرهم من الخواص لأنهم هم جمهور الإنسانية لا تستقيم أمورها إلا بإرضائهم وإصلاحهم أما الفلاسفة والحكماء فقليلون كما قدمنا. ولو راعى الله منطقهم المعقد وإدراكهم المتشعب فأرسل الرسالات بأسلوبهم وحدهم فجاءت كتب الدين ككتبهم إذا ما استجاب للإيمان غيرهم وهم في جسم الإنسانية كنسبة شعرة في جسم فيل
فلابد أن نفهم هذا لنفهم أنه كان لابد من وسيلة أخرى غير وسيلة المنطق والعقل لإخضاع(316/35)
جماهير الناس في تلك الأزمان التي كانت أغلب علومها تدور حول البحث في قلب أشياء الطبيعة كقلب الرصاص إلى ذهب وحول علوم التخييل كالسحر والسيميا وكيفية شفاء المرض بالتمائم والتعاويذ وتحضير الجن والاستهواء وراء القوى الخفية والتحايل على تزويق الأصنام وإنطاقها وخلع معاني الحياة وحركاتها عليها إمعاناً من الكهنة في بسط سلطانهم وسعياً من العامة وراء غيبوبة الأحلام وبدوات الأماني والأوهام
ولا تزال بقايا كبيرة من السحر والمثنوية راسبة في أذهان الجماهير في عصرنا هذا (فعيادات) كثير من الدجالين والمشعوذين أحفل بالزائرين من عيادات كثير من الأطباء الذين يعتمدون على العلم والاختبار، وقبور كثير من المشايخ تقصد الاستشارة والاستخارة أكثر مما تقصد مجالس العقلاء المجربين الذين يعطون الرأي والمشورة التي لا تخطيء. فكيف يهمل الله هذه النزعات الطفلية في نفوس أكثر القطيع الإنساني من غير أن يحملهم على الإيمان به من طريق الحس وإقامة الحجة الدامغة - في رأيهم - حسب ما يقترحون! وإذا علمنا أن الغاية من المعجزة غاية عظيمة بل أعظم غايات الحياة وهي حمل كثير من الناس على الإيمان بالله وإنقاذهم مما يهدر كرامتهم ويسفل بهم إلى أقل من درجة البهائم وهو السجود لصنم واللياذ به وبيع الحرية الفكرية والشخصية. . إذا علمنا ذلك تبين لنا أن المعجزة أمر محتم لتكملة السعي في سبيل إنقاذ الإنسان
وإذا لم يهتم رب الحياة بأمر الفصل بين أكبر الحق في الحياة وهو الإيمان به وأكبر الباطل فيها وهو الكفر به فمتى يهتم؟ وما هي غايته من خلقنا إذاً؟ فلقاصري الإدراك أن يطلبوا ذلك ممن يتحدث باسمه تعالى حتى تقوم الحجة الحسية أمامهم
(البقية في العدد القادم)
عبد المنعم خلاف(316/36)
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
- 1 -
العلامة الأستاذ خليل مردم بك (عضو المجمع العلمي العربي) كاتب وشاعر وباحث، وبراعته في نثره ونظمه وبحثه بينة مستعلنة وأقواله المحكمة المنثورة والمنظومة في مجلتَيهِ (الرابطة الأدبية والثقافة) وفي (مجلة المجمع العلمي العربي) وغيرها. ومصنفاته: شعراء الشام في القرن الثالث، والجاحظ، وابن المقفع، وابن العميد، والصاحب بن عباد، والفرزدق، وغيرها، فيها الدليل على فضل (الخليل) وهو مُجَلٍ في الأدبين: أدب النفس، وأدب الدرس. ومستول على الملكتين في الفنين المنظوم والمنثور اللذين (لا تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقل) كما قال ابن خلدون.
وقد كان هذا السريّ المردميّ الفاطمي قدم الإسكندرية سنة (1344) فعرفناه، وشاهدنا من فضله وعلمه ونبله ما شاهدناه. وفي بحرتنا هذه نظم قصيدته (صلاة الشاعر) وقصيدته (البحر) وقد أملاها عليّ متفضلاً. وبدْءُ الصلاة:
هَبْ للذكر وصَفَّ القدما ... ثم ولّى وجهه شطر السما
بات في حيرته مستسلما ... وله دمع على النحر يفيض
لا يغيض
وفي (البحرية) في البحر يقول:
السما منه استمدت غيثها ... فهو أَن يفخر بالجود قمين
أترى أمواجه أنفاسه ... رُددت بين شهيق وأنين
لم تكن إلا كشعب ثائر ... شنها حرباً على (المستعمرين)
جحفل يركب منها جحفلاً ... يتعادى كجنود زاحفين
وليت شعري، ليت شعري ماذا يقول اليوم لو زار الإسكندرية وقد ظهرت عرائس الدأماء، وعم البلاء، وكاد (أبو العيون. .) يبخع نفسه مما يرى ويسمع، أو ينقلب مثل المجنون(316/37)
إنه (أعني الخليل) ليقول عجباً، وينشئ صاحب القصيدة المرقصة (الرقص) للأدباء المتفتين الشياطين الملاعين - طرباً
اللهم، إن في السِّيف في الصيف في هذه البحرة لفتنة! فاحفظ - يا رب العالمين - عبيدك وإماءك الصالحين والصالحات، وأظهر اللهم عبديك المجاهدين: شيخ المدينة (حامداً) والشيخ محموداً أبو العيون على الفاتنين والفاتنات؛ إنك القوي القدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله
أقام الأستاذ المردمي، هذا الأدب الجم والفضل المحسم في الإسكندرية برهة، وزمن لقائه هو الذي عُدّ من العمر. ثم عاد إلى داره، دار الإسلام دمشق
سقى دمشقَ الشامِ غيث مُمرعٌ ... من مستهلّ ديمة دفاقها
مدينة ليس يُضاهي حسنها ... في سائر الدنيا ولا آفاقها
فأرضها مثل السماء بهجةً ... وزهرها كالزهر في إشراقها
نسيم ريّا روضها متى سرى ... فك أخا الهموم من وثاقها
لا تسأم العيون والأنوف من ... رؤيتها يوماً ولا انتشاقها
وإن كان (أبو عدنان) لم يبرح يقول:
يا ساكني مصر، فيكم ساكن الشام ... يكابد الشوق من عام إلى عام!!
فالقوم لم يزالوا يرددون في كل وقت بيتي مهيار
دمشق، إن في دمشق شموس فضل وأدب، أضواؤها مشعة وباهرة، يراها الناظرون من المشرق الأنأى والمغرب الأقصى
هذه مقدمة أمام القول في كتاب الأستاذ المردمي الذي أتحف الناس به في هذه الأيام، وهو في الشاعر الإسلامي العظيم (الفرزدق) همام بن غالب
جاء في كتاب (الفرزدق): (قال الجاحظ: كان الفرزدق راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم. وقال ابن قتيبة: كان الفرزدق مِعَنّا مِفَنّا)
وقد بين الأستاذ أفانين أبي الفراس في القول في (كتابه) ومن فنونه في شؤونه ما أورده في سيرته: (ذكر لنا الرواية أن غالباً أبا الفرزدق دخل على عليّ بالبصرة، ومعه ابنه الفرزدق بعد عام الجمل، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر، فاسمع منه فقال عليّ: علمه القرآن(316/38)
فهو خير له، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتى قيد نفسه في وقت، وآلى ألا يحل قيده حتى يحفظ القرآن)
وهذه سنة صالحة سنها (همام) وقد استن بها الأديب الشاعر الوشاح أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض جاء في (نفح الطيب): (سئل الأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه فأقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد، ولا ينزعه حتى يحفظ (الغريب المصنّف)؛ فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال فارتاعت فقال:
ريعت عجوزي أن رأتني لابسا ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع!
قالت: جننتَ؟! فقلت: بل هي همة ... هي عنصر العلياء والينبوع!
سنّ الفرزدق سنة فتبعتها ... إني لما سن الكرام تبيع
وإن أدباء هذا العصر جلهم أو كلهم لمحقوقون أن يتبعوا السنة الفرزدقية فيقيدوا أنفسهم طوعاً أو يقيدوا قسراً حتى يحفظوا ما يجب حفظه. . .
وكان الفرزدق على جفائه ذا دعابة ونكتة وجواب حاضر - كما يقول الأستاذ - روى له في الكتاب هذه النكتة: (مرّ الفرزدق يوماً بمجلس بني حرام فقال له عنبسة مولى عثمان بن عفان: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة؟
قال: وما حاجتك إلى ذاك يا أخي؟
قال: أكتب معك إلى أبي. . .
قال: أنا ذاهب إلى حيث أبوك في النار؟ أكتب إليه مع ريالويه واصطفانوس)
(أما هوى الفرزدق السياسي فشعره يدل على أنه مع بني أمية ولكن في الواقع أنه مع القول الغالب من قريش) ثم يقول الأستاذ بعد أن أوضح ذلك: (ولعل أدنى الآراء إلى الصواب أن نقول: إن الفرزدق يقول بالعصبية العربية وبالمضرية على القحطانية)
وقد ردّ الأستاذ المردمي قولاً أشار إليه بعض من كتب سيرة الفرزدق، معتمداً - إن كان من أهل العصر - على (المرتضى عليّ بن الطاهر) في أماليه. وقد أملى الرجل كما أحب وهوى.
وبحث الأستاذ عن أبيات الحزين الكناني التي اختلطت بأبيات نُسبت إلى الفرزدق يمدح بها (الإمام علياً الأصغر) أحد الأئمة عند إخواننا الإمامية في خبر ظني أنه مصوغ وجبن(316/39)
الفرزدق المعلوم لا يحقه. وهل شرد الكميت طويلاً إلا مثل هذا؟
وأبيات الحزين هي في عبد الله بن عبد الملك - كما قال الأستاذ وروي عن الأغاني - وقد أخطأ صاحب (العقد) في قوله إنها قيلت في بعض خلفاء بني أمية. ويؤيد قول الأستاذ وأبي الفرج فيمن قيلت فيه ما جاء في (معجم الشعراء) للإمام المرزباني: (كان الحزين شاعراً محسناً متمكناً، وهو القائل في عبد الله ابن عبد الملك ووفد إليه إلى مصر وهو واليها يمدحه في أبيات) أورد منها المزرباني أربعة وأبو تمام ستة منسوبة إلى الحزين الليثي، وهو الكناني هذا، واسمه عمرو بن عبد وهيب. وقد أخطأ ناسخ الحماسة في كتابته أنها قيلت في غير من قيلت فيه كما أخطأ التبريزي في شرحه في قوله: (ويقال إنها للفرزدق). وهذا ما اختاره منها أبو تمام:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يُمسكه عرفانَ راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
أيّ القبائل ليست في رقابهمِ ... لأولية هذا أوله - نِعَم
بكفه خيزران، ريحها عبِق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يُغِضي حياءً ويغَضي من مهابته ... فما يُكلم إلا حين يبتسم
يقول كتاب الأستاذ في الفرزدق: (كان الفرزدق فاسقاً ماجناً خليعاً يشرب الخمر إن وجد إليها سبيلاً) نزل على الأخطل ذات يوم فقال له: أنتم معشر الحنيفية لا ترون أن تشربوا من شرابنا. . . فقال الفرزدق:
خفّضْ عليك قليلاً ... وهات لي من شرابك
ويقول الأستاذ: (لكنه مع ذلك كان حسن الإيمان بالله يقيم الصلوات، ويعجبه من قومه أن يتدارسوا القرآن ويكثروا من تلاوته، يقر بذنوبه ويستغفر الله لها، ويخشى عذاب الآخرة ويهجر إبليس الذي يزين له المعاصي ويطغيه. قال المبرد في الكامل: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: كلا! لستُ بخيرهم ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا(316/40)
إله إلا الله وخمس نجائب لا يُدركن - يعني الصلوات الخمس - وقال: كان الفرزدق يخرج من منزله، فيرى بني تميم والمصاحف في حجورهم؛ فيسر بذلك ويجذل به. ويقول: إيهٍ فدىً لكم أبي وأمي! كذا والله كان آباؤكم. وقال: والفرزدق يقول في آخر عمره حين تعلق بأستار الكعبة وعاهد الله ألا يكذب ولا يشتم مسلماً:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لَبين رتاج قائماً ومقام
على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً ... ولا خارجاً من فيّ زور كلام
(الإسكندرية)
(* * *)(316/41)
مشكلة البحر الأبيض المتوسط
مصالح بريطانيا وفرنسا فيه
تلخيص مقال للسر ارشيبالد سنسكلير
زعيم حزب الأحرار بمجلس العموم
نجتاز الآن مرحلة جديدة من مراحل النزاع الأبدي بين القانون والقوة، فهذه هي الدولة الدكتاتورية التي لا تعترف بغير حق الأقوى، وتسخر من إيماننا بنظام دولي قائم على احترام استقلال الشعوب، وترفض كل مفاوضة مخلصة حبية لتسوية المشاكل الدولية، مفضلة عليها فرض إرادتها بالتهديد، وهذه هي الدول الديمقراطية، دول الماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان التي يسود فيها الاعتقاد بأن للدول - كالأفراد - حقوقاً متساوية في الحرية، بغض النظر عن درجة قوتها، وبأن السلام قائم على احترام القانون، وأن الوسيلة الوحيدة للعمل على احترامه هي مقاومة العدوان.
وتقوم منذ سنوات علاقات متوترة أقرب إلى الحرب منها إلى السلام بين هاتين المجموعتين من الدول، فنحن في حالة حرب من الوجهة العملية في شؤون الرأي والمال والاقتصاد والصناعة، والدعاية، وقد زادت أخيراً هذه الحالة سوءاً، فاستغلت الدول الدكتاتورية غفلة حكوماتنا وترددها، فلم تتوان عن اللجوء إلى العنف عندما أحست بالقدرة على استعماله، فاستطاعت بذلك أن تستولي في أوربا الوسطى وأسبانيا على مراكز ذات أهمية عظمى لها من الوجهة الحربية والاقتصادية.
ومن الضروري، لنتجنب اليوم الذي نخير فيه بين الخضوع للمعتدين وتعجيل النكبة العالمية، أن نكون جبهة عامة من الشعوب التي تفضل القانون على العدوان، ويجب أن نكونها قوية لتستطيع تحويل هتلر الذي يبقى بعد دكتاتور ألمانيا وحدها، بل إيطاليا كذلك، عن المنحدر الذي يجذب العالم نحو الحرب
مساهمة بريطانيا في الدفاع عن السلام
يعلم الناس مساهمة بريطانيا في تدعيم السلام، وهذه المساهمة ذات وجهين، العسكرية والسياسية، ويمكن أن تعتبر أسبق الدول في الحالتين(316/42)
فقد قمنا من الناحية العسكرية بما لم نفعله قط في تاريخنا من قبل: لقد أدخلنا نظام التجنيد وقت السلم، ويجدر بي أن أسوق كلمة موجزة في هذا الموضوع الذي كان محلاً لتعليقات عديدة في فرنسا، لست أقول إننا فعلنا هذا عن طيب خاطر، ولكن نفورنا لم ينشأ عن أنانية أو جهل قد يصل إلى مرتبة الغباء، فإن الرجال في إنجلترا كما يجب أن تعرفوا، قد جاءوا وما زالوا، ليجودوا بأنفسهم بكثرة، ولقد بلغ عدد من قيد اسمه في البحرية أو الطيران أو الجيش ستة آلاف إلى ثمانية آلاف في اليوم، والتفسير العميق لهذا أن التجنيد في وقت السلم ضد تقليد ذي وجهين، حربي وأدبي، دام منذ مئات السنين، وليس من الهين أن نتحرر بسهولة من هيمنة القرون النفسانية. أما التقليد الأدبي فهو مذهب التطوع الساري في جميع النواحي، فانظروا مثلاً إلى مستشفياتنا التي تعيش بفضل جود الأفراد. وأما التقليد الحربي، فلأننا من سكان الجزائر قد اعتدنا أن نعتبر أن حماة أرض الوطن هم بحارتنا لا جنودنا. وأرجو أن تقدروا فيما عدا الذين سيعملون في دفاع الطيران أن مجندينا سيحاربون في بلاد أجنبية وفي مناطق بعيدة في بعض الأحيان، وأن رجل الشارع لا يرى دائماً كيف ولماذا تكون هذه المناطق الأجنبية مرتبطة بطريق غير مباشر بسلامة ونجاح الجزر البريطانية. فإذا ثبت في الأذهان هذه الاعتبارات النفسانية فهمتم ووافقتم على أن اعتناق مبدأ التجنيد هو انقلاب حقيقي عند الإنجليز، وأن سبباً واحداً استطاع أن يخرجنا عن مقتنا التقليدي للتجنيد: هو الرغبة في ألا ندع أدنى شك يتسرب إلى أصغر بقعة في أوربا عن إرادتنا في تقديم أكبر ما يمكن في المساهمة التي نستطيعها.
وليست مساهمتنا في الميدان السياسي بأقل انقلاباً من المساهمة العسكرية. ففي إعطائنا الضمانات لدول مختلفة في شرق أوربا ارتبطت إنجلترا بالقارة كما لم تفعل من قبل هذه الضمانات التي تخص غبر بولونيا رومانيا واليونان وتركيا، وهذه تسوقني إلى الكلام على مشكلة البحر الأبيض:
شرق البحر الأبيض
من الجلي أن الضمانات التي أعطيناها دول البلقان تجبرنا على الاحتفاظ بالسيادة البحرية التي للتحالف الفرنسي الإنجليزي في البحر الأبيض، ومن العبث أن نبين تفوق أسطول هذا الحلف الساحق على أي عدو في كل ما يختص بالسفن؛ ولكن هناك وهذا صحيح،(316/43)
تهديد الطيارات والغواصات، وهو ما يجدر بنا أن نحسب حسابه، ولكني أظن أنه قد بولغ كثيراً في تقدير هذا الخطر. ولعلكم تذكرون ما حدث في شتاء العام الماضي عند ظهور غواصات قراصنة من جنسيات مجهولة في البحر الأبيض فإنها لم تلبث بعد إعطاء السلطات الفرنسية والإنجليزية أوامرها إلى وحداتها بمهاجمة وإغراق كل غواصة تقابلها على بعض طرق المواصلات البحرية حتى اختفت بفعل السحر، مما يدل على أنه توجد أميرالية في أوربا تشاركنا يقيننا في قوة وسائلنا الدفاعية الفعالة ضد غارة الغواصات
ومن المفهوم أن هذه الثقة المطلقة في تفوق الأسطول الفرنسي الإنجليزي في البحر تقوم على أمرين أساسيين: الأول هو التعاون الصادق التام بين القيادتين، والثاني هو الاستحواذ على قواعد عظيمة القوة. ومن هنا كانت هذه الأهمية ذات الدرجة الأولى للمسألة المعقدة في علاقتنا بمصر وتركيا واليونان في الشرق، وبفرنسا وإيطاليا في الوسط، ثم علاقتنا المشتركة في الغرب، والتعهدات التي التزمنا بها أخيراً في البلقان تنسجم مع تعهداتنا التي تربطنا بمصر ومع ضرورة تأمين حرية المواصلات الإمبراطورية في قناة السويس.
هذه الالتزامات والمصالح التي لا تحتاج إلى التنويه بأهميتها تفسر الاهتمام الذي يبديه الرأي العام الإنجليزي في مراقبة تزايد القوات الإيطالية في ليبيا، كما تفسر قرار الحكومة الخاص بتكوين احتياطي جديد في الشرق الأدنى والأوسط، والقواعد الفرنسية في تولون وأجاكيو وبيزرته وأوران والجزائر لا تقل شأناً في خدمة القضية المشتركة عن القواعد الإنجليزية في شرق البحر الأبيض، كما أنه لا يخفى أن تفوق الأسطول الفرنسي الذي لا يمكن إنكاره في أفريقيا الشمالية هو من أكبر الضمانات الأكيدة التي يمكن أن يرجوها الإنسان في تدعيم السلام في البحر الأبيض
غرب البحر الأبيض
ولنأت الآن إلى غرب البحر الأبيض، فبريطانيا العظمى تعلق أكبر أهمية على تحالفها التقليدي مع البرتغال. هذا التحالف المكين المؤسس على المصالح المشتركة والذي حافظت عليه الأمتان بإخلاص وصدق منذ ثلاثة قرون بغير أن يمس شيئاً من كبريائهما واستقلالهما الشرعي
وعلينا أن نكسب صداقة الأسبان وحيادها في حالة الحرب إذا أمكننا. ولقد كانت من جهتي(316/44)
أحد الدعاة المخلصين لعدم التدخل في شؤون أسبانيا الداخلية كما هو حالنا مع أية دولة أخرى. ويبدو لي من المحزن - لهذا السبب نفسه - أن ظنت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية أنه من الواجب ترك الحكومتين الألمانية والإيطالية تؤثران في مستقبل الحرب الأهلية الاسبانية، ويكاد هذا الضعف الجنوبي يكلفنا غالياً
من العبث أن نضيع الوقت في الأسف على أخطاء الماضي، وفي عدم الاعتراف بأن الجنرال فرانكو هو سيد أسبانيا اليوم، ولكن هذا يجب ألا ينسينا أن ألمانيا قد ضمنت مراكز اقتصادية وحربية هامة، وأن بواخر الأسطولين الألماني والطلياني تغشى موانئ أسبانيا
ولا أراني في حاجة إلى القول بأنه لا يوجد في إنجلترا شخص واحد لا يريد العيش في صداقة وسلام مع إيطاليا، وإننا مستعدون للاعتراف لإيطاليا بمصلحتها بالاشتراك مع فرنسا وإنجلترا في نظام البحر الأبيض وحرية المرور لتجارتها فيه، ولكننا لا نستطيع مع ذلك ألا نلاحظ أن جميع مساعينا في تسكين إيطاليا لم تفد إلا في تحريض هذه الحكومة على ارتكاب أعمال شديدة الخطورة على السلام
وكما أبان إيدن في خطبة استقالته في البرلمان، قد صحب اتفاق الجنتلمان في أول يناير سنة 1937 إرسال أول نجدة هامة من الجنود الإيطالية إلى أسبانيا، وأن إمضاء اتفاق 16 أبريل سنة 1939 تبعه ازدياد إلقاء القنابل المدمرة من الطيارات الإيطالية التي تعمل مع فرانكو، وأن التصديق على هذا الاتفاق قد تبعه تضاعف عدد الجنود العاملة في الجيش الإيطالي في ليبيا
وتدل جميع هذه الوقائع على أن سياسة التسكين لم يكن لها من أثر إلا إهاجة شهوة موسوليني وإضعاف مراكزنا في البحر الأبيض المتوسط
كما أن وجود القوات الإيطالية في ألبانيا قد يسبب تهديداً ضد أمن وسلام البحر الأبيض أكثر خطراً من هذه القوات في أسبانيا، فعددها مائة ألف على الأقل مزودة بالدبابات والطيارات ولا تبعد عن سالونيك إلا بمائة وخمسين كيلو متراً، وخطر هذا التهديد هو الذي ألجأنا إلى إضافة ضمان اليونان إلى ضمان رومانيا واتفاقيتنا مع تركيا
وهناك دولة كبيرة يهمها مباشرة استقرار الأمر في شرق أوربا وجنوبها الشرقي، وهي(316/45)
على استعداد لتضع تحت تصرفنا موارد لا نعرف في الواقع معلومات دقيقة عنها، ولكنها مع ذلك محل تقدير لا يمكن إنكاره، وموقعها يسمح بالتدخل عند الحاجة، سواء في الأرض أو في البحر، أسرع من فرنسا أو بريطانيا، وهذه الدولة هي روسيا.
وإنني أوافق من جهتي مستر تشمبرلين عندما قال إن النظام الداخلي في ألمانيا أو إيطاليا يجب ألا يؤثر على سياستنا الخارجية. فكذلك يجب تطبيق هذه القاعدة الحكيمة مع روسيا. فإذا أحبت إيطاليا أو ألمانيا أو روسيا نظامها الحالي، فليس لنا أن نحاول أن نفرض عليها نظاماً غيره، وإنما الأمر الوحيد الذي يعنينا هو سياسة هذه الدول الخارجية، وإذا كنت قد نهضت لمقاومة حركات ألمانيا أو إيطاليا فلأن هذه أو تلك تحاول فرض طغيانها على غيرها من البلاد، وهذه هي مساعدة روسيا تحت تصرفنا، وهي لابد منها إذا أردنا أن نضع حداً للاعتداء بدون أن نلجأ إلى الحرب.
وقد تساءلوا في باريس ولوندرة أخيراً عما إذا كان من اللازم أن نطلب إلى الفرنسيين أو الإنجليز أن يموتوا في سبيل دانزيج؟ يبدو أن الجواب الظاهر (كلا)! ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نظن أن البولونيين قبلوا أن يموتوا في سبيل باريس أو لوندرة، أو يقبل الفرنسيون أن يموتوا في سبيل جبل طارق، أو يموت الإنجليز في سبيل تونس؟ فالمهم تخطي ستار الجدل الخادع الذي يقف عند حد هذا الأمر الذي لا أهمية له في ذاته، أو عند معرفة لمن تكون هذه المدينة أو هذه الولاية لتقدير حقائق هذه الأمور الصحيحة. فإن الأمر أكبر اتساعاً وعمقاً من هذه الحدود.
ولقد سرني أن أعدت منذ أيام قراءة خطبة بريكليس في شعب أتينا في موضوع اقتراحات كان الإسبارطيون قد عرضوها عليه، وأحد هذه الاقتراحات خاص بقانون أتينا حظر على بواخر ميجارا دخول موانئ أتينا، ولابد أن أحداً سأل عما إذا كان يستأهل مثل هذا الأمر التافه الموت في سبيله، فكان جوابه:
(أكرر لكم أيها الأثينيون أن انزعوا هذا الوهم بأنكم قد تدخلون الحرب في سبيل أمر تافه، فإن تفاهة الأمر الذي نحن بصدده لا تقل عن امتحان يقينكم، فلو تخليتم عن هذه النقطة، فسيسألونكم فوراً أن تتخلوا عن غيرها، لأنكم قد خفتم.
وسواء أكان المطلوب جليلاً أم لا فإنه إذا سعى شخص إلى نيله من جاره بالقوة أو بالتهديد(316/46)
بالقوة لا بالاتفاق الودي، فإن الأمر في الواقع يكون هل سنصبح أحراراً أم عبيداً)
وأقول لكم بالمثل: (لنعمل على منوال يفهم منه مواطنونا والشعبان الإيطالي والألماني أننا لن ندخل الحرب مطلقاً من أجل أمر تافه ولكن يجب أن نكون مستعدين إلى أقصى درجة لقبول امتحان يقيننا، ولمقاومة التهديد والقوة وإنقاذ هذه القيم الأخلاقية التي تكوّن ثروة مدنيتنا والتي تعرف باسم التسامح والحرية والعدل)(316/47)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
اختلفت الآراء في هذه المؤامرة الجركسية من حيث تدبيرها ومن هذه الآراء ما يذكره مستر بلنت في كتابه حيث يعزوها إلى الخديو إسماعيل، الذي وكل بها رجلاً عرف بعداوته القاسية للحركة الوطنية ووجوهها يدعى راتب باشا. وكان إسماعيل يطمع أن يصل بهذه المؤامرة إلى العودة إلى عرشه للقضاء على القلاقل والفتن المزعومة التي عجز توفيق عن القضاء عليها كل العجز؛ وكان يمني نفسه بأن توافق إنجلترا على ذلك فتقنع تركيا به أو تجبرها عليه
ويؤكد مستر بلنت هذا الرأي قائلاً إنه عرفه من جملة مصادر منها إبراهيم بك المويلحي سكرتير إسماعيل؛ ولقد أيد الشيخ محمد عبده هذا الرأي بما جاء في خطابه إلى بلنت عن هذه المؤامرة قال: (هذا، وبخصوص المؤامرة الجركسية لاغتيال عرابي أخبركم أنها ليست بذات خطر فإن الخديو إسماعيل قد مضت عليه مدة طويلة وهو يضع الألغام لكي يدمر حكومتنا وهو يعتقد أن هذا العمل يرجعه إلى مصر)
ولقد بدأت المؤامرة بتذمر الضباط الجراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها، ولكن لأنهم ليسوا مصريين. . .
والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جو ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون للإنجليز الذين كانوا يقيمون في مصر يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الجراكسة بهذه الآراء لكي تشيع فيهم الفتنة ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا خاصة
ومما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد في صحة هذا الذي نقول فضلاً عما نشير إليه من سوابق(316/48)
السياسة الإنجليزية ما رمى به الوزارة الوطنية الإنجليز على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر من التهم وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء
والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنص على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سناً معينة على الاستيداع. ولقد دافعت الوزارة عن عملها بهذا ولكن الخراصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الكيد والانتقام. . .
وإذا نحن جارينا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تقول دفاعاً عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في خطابه السالف ذكره لأقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به، وذلك لأن الإمام رحمه الله كان رجل صدق وفطنة فلا يقول إلا ما يعتقده عن تحر وتمحيص قال: (أما عن ترقية الموظفين التي تلغط فيها الصحف الأوربية فاسمحوا لي بأن أوضح الحقائق فأقول: أولاً إن هذه الترقيات لم تعمل بناء على أمر عرابي باشا وحده، ولم تكن بمثابة الرشوة للضباط لاكتساب عطفهم نحو عرابي. كلا فالواقع أن هذه الترقيات عملت بناء على القانون الحربي الجديد الذي يأمر بإحالة الضباط الذين يبلغون سناً معينة أو يمرضون ويصابون بعاهة على المعاش؛ وقد نفذ هذا القانون في عهد شريف باشا، وأحيل على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط ثم أرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وزيلع وأماكن أخرى، بينما أخرج من الجيش نحو مائة ضابط توظفوا في الوظائف المدنية. فعدد جميع هؤلاء أربعة وخمسون وسبعمائة ضابط، فكان إذا من الطبيعي أن تحصل ترقيات لملء الوظائف الخالية. ولا يزال في الجيش خمسون وظيفة قد حفظت لخريجي المدرسة الحربية)
هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده، ومنه يتبين الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابياً قد آثر المصريين بالترقيات وتخطي بذلك الجراكسة في الجيش، فلن يكون فيما نرى حتى في هذا العمل مخطئاً، فحسب هؤلاء الجراكسة ما نالوه من حظوة طوال العهود السابقة وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه من حقد وكراهة لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من(316/49)
هوان ومذلة عل يد هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيداً وإماء.
وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقماً على الجراكسة في الجيش، فلم يكف عن الشغب عليهم وهو لم يزل بعد جاويشاً لا حول له ولا قوة، ولم ين عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟
أجل، ماذا كان ينتظر من ذلك الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادراً عن أنانية أو عن صغار، وإنما كان مبعثه ما يحس في أعماق نفسه من حماسة وطنية، وغيرة قومية هما في مقدمة ما يتصف به ذوو الكرامة والعزة من الرجال.
ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أي صورة له مما يقابل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المحاكمة مما يستأهل ذلك السباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار؛ وهل نسى هؤلاء أن عرابياً وصاحبيه قد ألقي عليهم القبض من قبل لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أول الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم؟ وكيف لا يستحي دعاة الاستعمار أن يلوموا ذلك الرجل بالأمس ويتهموه بالفوضى لأنه شكا أمره إلى رؤسائه حتى إذا ألقي عليه القبض عدوا ذلك من الحكومة عين الصواب ثم يعودون اليوم فينددون به ويستصرخ عليه بعضهم بعضاً لأنه يقدم إلى المحاكمة فريقاً يتآمرون على قتله؟!
عول المتذمرون من الضباط على قتل عرابي وأصحابه من كبار رجال الحركة الوطنية، وقد عمل الدساسون من عصابة راتب على دفعهم في هذا السبيل الوعرة وزينوا لهم الفعلة وهونوا شأنها في قلوبهم، ولكن ضابطاً جركسياً يدعى راشد أنور أفندي فوت على المتآمرين قصدهم إذ كان قد خالفهم لأمر ما فبادر إلى عرابي وأفضى إليه بما يعلم. . .
وفي اليوم الثاني عشر من أبريل عام 1882 قبض على تسعة عشر ضابطاً وسيقوا إلى المجلس العسكري، وبعد ذلك بعشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين، وكان من بينهم عثمان رفقي باشا نفسه؛ وقضى المجلس بإدانة أربعين رجلاً منهم رفقي هذا فحكم بتجريدهم جميعاً من ألقابهم ونفيهم إلى أعالي النيل الأبيض في ربوع السودان
واتت الفرصة كلفن وماليت وهيهات أن تواتي الإنجليز فرصة فيضيعوها؛ لذلك ما كان(316/50)
أسرعهم إلى استغلال الحادث فبدءوا أولاً يذكرون التعصب الأعمى ثم انتقلوا إلى الفوضى الحكومية واعتبروا ترقية الوطنيين مظهراً من مظاهر الرشوة التي أريد بها التأثير في رجال الجيش كي يكونوا على استعداد عند أول صيحة؛ ثم رأوا في محاكمة الجراكسة مظهراً من مظاهر الظلم والاستبداد الغاشم قائلين في منطق عجيب إن المؤامرة وهمية لم توجد إلا في رأس عرابي، وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الجراكسة بأية وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القسوة بحيث لا يقل عن الإعدام. ولم يكفهم ذلك فبلغ من جرأتهم وإيغالهم في القحة أن ادعوا أن عرابياً كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الجراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم!
ولقد جعل المستعمرون هذه المحاكمة من أكبر سوءات ذلك العهد ومن كبائر خطيئات عرابي؛ وحذا المؤرخون من الإنجليز حذو الساسة في موقفهم من هذه المسألة، ومن هؤلاء كرومر، وهو رجل كان بحكم صلته برجال ذلك العهد جميعاً يعلم حقيقة الأمر، ومع ذلك طاوعه ضميره في أن يقول في كتابه: (لم يظهر دليل جدير بالتصديق ولا ظل دليل على أن تهمة المؤامرة كانت تهمة حقيقية؛ وكان حكم المحكمة العسكرية وثيقة وحشية تحمل طابع المظاهر السياسية أكثر مما تحمل طابع الحكم القضائي؛ وكان عرابي كثير الظن شأنه في ذلك شأن كل جاهل من الرجال، ولم تعش المؤامرة على قتله إلا في خياله هو فحسب).
وأخذ فريق من المصريين هذا الكلام كما أرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز وا أسفاه في رأيهم هذا في عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، الأمر الذي يؤلمنا أشد الألم! فليس يعنينا ما يقول وخصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكننا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم جدير بأن يفتخروا كل الفخر أن كان ينتمي إليهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، فأضافوا إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به من شخص رجل من رجالاتهم.
ويجدر بنا أن نضع تحت عيني القارئ ما كتبه الشيخ محمد عبده تعليقاً على المؤامرة ليقارن بين كلامه وكلام كرومر. قال في كتابه إلى بلنت: (وكانت الوزارة تعرف منذ زمن(316/51)
شيئاً عن هذه الحركات. فمنذ مجيء راتب باشا إلى مصر كان محمود سامي رئيس الوزراء الآن - وزيراً للحربية - فطلب من شريف باشا أن ينفيه إلى خارج القطر. ولكن شريف على الرغم من تحذير محمود سامي رفض أن يأمر بنفيه، وسبب ذلك أن راتباً تزوج ابنة شريف باشا، والبعض يظن أن الاثنين متواطئان على رجوع إسماعيل). ثم قال: (وقد أحدثت هذه الحادثة قليلاً من التهيج بين العامة. والجميع يعرفون أن حياة عرابي مثل حياة أي إنسان آخر، وليس بين الناس مهما كان عظيماً يستطيع أن يجذب إليه قلوب الجميع دون أن يكون بينهم من يريده بسوء، ولكننا جميعاً نضحك إذا قيل لنا إن إنجلترا على وشك الفوضى لأن أحد المجانين قد حاول قتل الملكة). . .
وليت هؤلاء الكاذبين المغرضين قد اقتصر أمرهم على الكذب والاتهام ولم يخطوا بعد ذلك تلك الخطوة النكراء التي أكدت القطيعة بين الخديو والوزراء وعجلت الكارثة للبلاد! وما كانت ادعاءاتهم إلا مقدمة بدءوا بها ما كانوا ينتوونه من المكر السيئ. يقول في ذلك مستر بلنت: (وفي أثناء ذلك دخلت المسألة المصرية في طور خطير وذلك بسبب المؤامرة الجركسية التي وصلت أخبارها إلى لندن في الأسبوع الثالث من شهر أبريل، ولم أعن العناية الكبيرة بهذه المسألة عند أول ظهور أخبارها معتقداً بأنها إحدى المفتريات التي تنشر عن مصر، ولكن الأحوال أثبتت أنها خطيرة تستدعي الالتفات، ولم تكن خطورتها متوقفة على حدوثها من حيث هي بل من حيث إنها كانت فرصة لحكومتنا تترقبها لكي توقع الخلاف بين الخديو ووزرائه، وكان ماليت قد خضع تمام الخضوع لكلفن في هذا الوقت وصار ينتصح بنصحه ويسير على هواه)
عرض قرار المحكمة العسكرية على الخديو فأسقط في يده أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه هو، أم يرفض التصديق عليه فيرضى الإنجليز ويقضى على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟
وكان ماليت قد أشار عليه برفض هذا الحكم الذي ينطوي على القسوة والظلم؛ وللقارئ أن يقدر مبلغ ما في هذا التدخل من تطفل وقحة! ما شأن الإنجليز وحكماً كهذا مهما كان ظالماً كما يزعمون؟ وإنهم ليعلمون أن جلسات المحاكم العسكرية كانت سرية حتى في عهد المراقبة، وأن الخديو لا يملك رفض أحكامها، وكل ما له في هذا الصدد هو تخفيف تلك(316/52)
الأحكام بعض الشيء بعد التصديق عليها.
حار توفيق واشتدت حيرته ورأى الأمر جد خطير؛ وأي شيء أخطر من أن يتحدى وزراءه في غير حق وفي موقف كهذا تحيط فيه بهم الدسائس من كل جانب وتعترض طريقهم الصعاب التي يتطلب تذليلها جهوداً متواصلة. لذلك وقف الخديو أول الأمر موقفاً مبهماً، وسرعان ما شاعت الشائعات عنه من جهة وعن الوزارة من الجهة الأخرى، وكلما مر يوم ازدادت ريبة الوطنيين وتعاظم غيظهم وغضبهم، ووجدت الدسائس الجو الصالح لنجاحها فنشطت نشاطاً كبيراً، ولازم ماليت الخديو يوحي إليه ويوسوس له
(يتبع)
الخفيف(316/53)
1 - عيناك
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
عيناكِ حَوَّلتا حياتي جدولاً ... تهفو إليه حمائمُ الوديانِ
تتمايل الأزهارُ عند ضفافهِ ... متجددات العطر والألوانِ
وتمرُّ بي النسماتُ تلثم صفحتي ... في مثل هَمْس الوحي في الوجدانِ
تحنو عليّ الناشراتُ غصونَها ... فأُقَبِّلُ الأغصانَ وهي دَوانِ
عيناكِ حَوَّلتا حياتي جدولاً ... يجري مع الأيام دون تَوانِ
أشدو وأشدو والحمائمُ هُتَّفٌ ... تتناقلُ المنشودَ من ألحاني
صوَرُ الوجودِ جَعلتِها لي لوحةً ... فإليكِ ترجعُ تُحفةُ الفنّانِ(316/54)
2 - شفتاك
شفتاكِ حَوَّلتا حياتي نغمةً ... تسري مع النسماتِ للآذانِ
الليلُ يسمعُها فينقل لَحْنَها ... للفجرِ بين شواردِ الألحانِ
فأرى حياتي فوق أحلام النُّهَى ... خَلَدَتْ على رغم الزمانِ الفاني
ومضتْ تجرِّر ثوبها في رقصة ... منظومةٍ، وزمانُها مُتَوانِ
شفتاكِ قيثارُ الخلودِ، فَوقِّعي ... لحْنَ الخلودِ، وجدّدي أوزاني
إني خلصتُ من الشجونِ برحمةٍ ... أُلِهْمْتُها في ساعةِ الإيمانِ
طالت عليّ ضلالتي وتحيُّري ... في عالمٍ آمالهُ إحزاني
حسن كامل الصيرفي(316/55)
نبرات صوتك في المسرة
للأستاذ العوضي الوكيل
نبرات صوتك في المسرة جددت ... لَهفي عليكِ وضاعفت أشجاني
تنسابُ في الأسماع وانيةَ الخُطى ... فتشيعُ في نفسي وفي ألحاِني
طَرِبَ الحديدُ لها وهشَّ لوقعها ... لو كان ذا حَرَك وذا وُجْدانِ
ولقد هممت بأن أُجاذبَه الهَوى ... وأبثُّه غَزَلي وصفْوَ حناني
نبرات صوتِكِ؟ ما المزاهرُ كلها ... ما رنّةٌ نَشْوَى من العيدانِ؟
ووهبتك الآمال ملَء خواطري ... وعلى سناكِ حبستُ حرَّ بياني
وسهرت فيك وأنت هانئة الكرى ... ومنحتُ حبك غابري وأواني!
وأريتُكِ الإيمان تنطق مُقلِتي ... بدليله فسموتُ بالإيمانِ
وذَخرتُ في نفسي حديثَكِ كله ... ووعيته في السر والإعلانِ
وخلقتُ فيكِ جلالةً أبدّيةً ... تسمو على الأزمان والأكوانِ
هذا رداؤك من نسيج مشاعري ... المهجتانِ عليه تَتَّفِقانِ
ما كان من حُسنٍ عليك فإنه ... لي دون غيري من بني الإنسان
(الزقازيق)
العوضي الوكيل(316/56)
صلاة في محراب النيل
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
أنت يا نيل يا سليل الفرادي ... س كريم موفق في مسابكْ
ملء أوفاضك الجلال فمرحى ... بالجلال المغيض من أنسابك
حرستك الأملاك في جنة الخل ... د ورفّت على وضئ عبابك
وأمدّت عليك أجنحة خض ... راً وأضفت ثيابها في رحابك
فتحدرت في الزمان وأفرع ... ت على الشرق جنة من رضابك
بين أحضانك العراض وفي كف ... يك تاريخه وتحت ثيابك!
مخرتك القرون تشمر عن سا ... ق بعيد الخطى قوي السنابك
يتوثبن في الضفاف خفاقاً ... ثم يركضن في ممر شعابك
عجب أنت صاعداً في مراقي ... ك لعمري أو هابطاً في انصبابك
مجتلى قوة، ومسرح أفكا ... رٍ، وموحى عجيبة كل ما بك
كم نبيل بمجد ماضيك مأخو ... ذ، وكم ساجد على أعتابك
عفروا نضرة الجباه ببرا ... قٍ سنيٍ من لؤلؤىِّ ترابك
سُجداً ذاهلين لا روعة التا ... ج ولا زهو إمرة خلف بابك!
وصقيل في صفحة الماء فضفا ... ض ندى منضر من إهابك
وحروف ريانة في اسمك (الني ... ل) ونُعمى موفورة في جنابك
فكأن القلوب مما استمدت ... منك سكرى رقاصة من شرابك
أيها النيل في القلوب سلام ال ... خلد وقف على نضير شبابك
أنت في مسلك الدماء وفي الأن ... فاس تجري مدوِّياً في انسيابك
إن نسبنا إليك في عزة الوا ... ثق راضين وفرة عن نصابك
أو رفلنا في عدوتيك مدلي ... ن على أمة بما في كتابك
أو عبدنا فيك الجلال فلما ... نقض حق الذياد عن محرابك
أو نعمنا بك الزمان فلم نب ... ل بلاء الجدود في صون غابك!
التيجاني يوسف بشير(316/57)
رسالة الفن
دراسات في الفن
نحو دنيا الروح
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقول علماء التربية وعلماء النفس فيما يقولون من الحق: إنه يمكن التخفيف من حدة الغريزة الجنسية عند المراهقين بصرفهم إلى الفنون الجميلة. وهم لهذا يوصون المربين بأن يعلموا المراهقين الموسيقى والتمثيل والرسم والأدب. وقد استجاب لهم المربون فأنشئوا في المدارس الثانوية وبخاصة جمعيات الفنون الجميلة إلى جانب فرق الألعاب الرياضية التي سبق أن أثبت دعاتها أن من يمارسها من المراهقين يبذل فيها من نشاطه البدني ما يحتاج بعده إلى الراحة بعيداً عن التفكير في الاستجابة لهتاف الغريزة الجنسية.
فهل أثبت دعاة الفنون الجميلة من علماء التربية وعلماء النفس دليلاً على أن من يمارسها من المراهقين يبذل فيها شيئاً من نشاطه يحتاج بعده إلى الراحة بعيداً عن التفكير في الاستجابة لهتاف الغريزة الجنسية لتطمئن بهذا الدليل عقولنا. ولتؤمن بأن الذي يدعون إليه قائم على أساس من الحق يرتكز على صلة مؤكدة بين الفنون الجميلة والغريزة الجنسية، أو أنهم رأوا الفنانين أكثر الناس انصرافاً عن نزعات البدن فخطر لهم أن يتصيدوا المراهقين بالفنون يشغلونهم لبها عما تتلهف إليه أبدانهم الحارة الملتهبة. فهي إذن مؤامرة من الخداع والتضليل اتفق عليها علماء التربية وعلماء النفس، وجازت على من وقع في أيديهم من المراهقين أو جازت - في القليل - على بعضهم؟
ولكني إذ أقول هذا أرجو علماء التربية وعلماء النفس أن يمضوا في مؤامرتهم هذه إلى أبعد حد، وأن يأخذوا بها المراهقين وغير المراهقين من كل من تسوقه إليهم الحياة ليربوه. فليس أشرف من هذه المؤامرة شيء، وسيجيء قريباً أو بعيداً ذلك اليوم الذي توفق فيه أساليب العلم إلى كشف ما بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة من صلة حقيقية مؤكدة. ولست أريد بهذا الادعاء بأن العلم غائب عن هذه الصلة، ولكني أريد أن أقول: إنه لا يزال يحوم حولها، ولما يجرؤ على غزوها لأنها ميدان جديد عليه، ولأنه لما يستنبط الميزان(316/59)
والمقياس، والأنبوبة والمخبر، والأملاح والأحماض التي يستطيع أن يحول بها الغريزة الجنسية إلى الغريزة الفنية، والغريزة الفنية إلى الغريزة الجنسية ليصدق بعد هذا عقله الثقيل المتشكك أن هناك وحدة تجمع بين الاثنين.
والى أن يصل العلم إلى استنباط هذه الأدوات التي لا يفهم شيئاً إلا بها يستطيع المتحررون من أغلاله وقيوده أن يضربوا في السماء بحثاً عن هذه الصلة، وأن يتركوه في معمله يتخبط بين الشك والخور لعله مهتد يوماً إلى تركيب (حقنة) من الشعر، أو (برشامة) من النغم! فليبق العلم في معمله، وليدع العلماء المراهقين إلى الفنون الجميلة، وليعللوا دعوتهم هذه بأن الفنون الجميلة تبعث في النفس الخيال، وتلهب فيها العاطفة، أو فليقولوا على العكس من هذا إن الخيال والعاطفة هما اللذان يبعثان في النفس الفنون الجميلة، أو فليقولوا ما شاءوا من أمثال هذا القول المخلخل الذي لم يضغطه الإيمان ولم تتماسك به الثقة.
لندع العلماء إذن يترددون ما طاب لهم التردد، ويتوجسون ما حلا لهم التوجس، ولنمض نحن مع أولئك المتحررين من الأغلال والقيود، ولنرهم كيف يدركون الصلة بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة.
وقد عودنا هؤلاء المتحررون المتطايرون أن يلتووا على عقولنا قبل أن يهدونا إلى ما يعلمون من الحق، كأنما يأبون إلا أن يعابثوا العقل وأن يذلوه قبل أن يقودوه إلى النور ويلهموه. ولكنهم على أي حال أحب إلى النفس وأرحم من الأنابيب والأملاح. . . فلنحتمل معابثتهم إذن ولنسألهم:
- كيف تجدون الصلة بين الغريزة الجنسية والفنون الجميلة؟
ولكنهم يسألوننا: وكيف تجدون الصلة بين الشحم والنبوة؟
- وهل هذا سؤال بالله عليكم؟ إننا لا نجد شيئاً.
- إن هناك أشياء. فلو أنكم عدتم إلى سير الأنبياء لوجدتموهم يكثرون من الصوم، ويخففون من الطعام. ولو أنكم عدتم إلى سيرة النبي الأكمل محمد لرأيتموه يصوم كلما اعتزم أمراً جللاً، وكلما هم بغزوة أو حرب. وإذا اعتبرتم (غاندي) الهندوكي التقي الخارق المعجب وليَّاً من أولياء الله كما نعتبره نحن فإنكم لابد معتبرون بحرصه على الصوم كلما احتاج إلى التجلد والتعزز في قيادة أنصاره ومقاومة خصومه. أفلا ترون في هذا كله صلة(316/60)
بين الشحم والنبوة؟ أو بين الشحم والسمو الروحي على الأقل؟
- الآن رأينا، وهي كما تبدو على هذا النحو صلة عكسية.
- نعم. إنها صلة عكسية. فكلما غذى الإنسان بدنه شغله هذا عن غذاء روحه، وكلما جوع بدنه سهلت عليه تغذية روحه.
- إنكم إذاً تعدونه شهيداً ذلك الذي ينتحر جوعاً
- لا شهادة في إتلاف، وإنما الشهادة في التقويم. فإذا استلزم التقويم الموت فإنه إذاً تخريب ما بين المتساكنين: البدن والروح. عودوا إلى ما كنا فيه، وحدثونا عما يصحب انفجار الغريزة الجنسية عند المراهقين من شدة ميلهم إلى الإكثار من الطعام والإكثار من وجباته.
- إنها أجسام يزيد نزوعها إلى النمو فهي تحتاج إلى ما يعين على بنائها وما يسعف نموها
- لا. فإن أجسام المراهقين لتنمو وتفرع ولو لم تستزد من قوتها، فهذا النمو سيل من الحياة يتدفق من غدد ظلت تجمعه وتخزنه ما عاشت وواصلت العمل
- إذن فماذا تقولون؟
- الحياة ماضية في سبيلها. وسبيلها هو الأحياء أنفسهم، فهي تسلكهم، وقد تنقلت فيهم من ماضيهم حتى انتهت إلى حاضرهم، وهي منتقلة فيهم من حاضرهم إلى مستقبلهم. وهي في سيرها هذا تعطي أولئك الأحياء ثمن ما سمحوا بالمرور فيهم وتأخذ منهم ثمن ما عمرتهم. ويقول ناس مؤمنون بالعدل: إن ما تأخذه الحياة من مثقال ذرة لا تأخذه إلا بعد أن تكون أعطته مثقال ذرة
- هذا حسن. ولكن ما قصة الأخذ والعطاء عند المراهقين؟
- عند المراهقة تبدأ الحياة في الاشتداد بمطالبة المراهق بما أعطته. وهي إذ تطالبه تستمر تعطيه. وهو إذ يستشعر نفسه في هذا الموقف الجديد يقبل على الحياة إقبالاً جديداً فيه عنف وفيه جشع. فهو يستطعم الحياة مادتها ومعناها بنهم العائل المكلف بالنفقة يتكالب على موطن رزق. وفي سن المراهقة تصارح النفس الحياة بحقيقتها وتكشف لها القناع عن وجهها. وكل نفس تستجمع خصائصها ومقوماتها مما سبق أن أعطته الحياة إياها من طريق الوراثة، ومن طريق البيئة، ومن طريق التربية ومن سائر تلك الطرق التي تنفذ منها الحياة إلى الأحياء. عندئذ ترى الحياة مراهقاً مقوس الأنف يمد لها كفيه ويقول: هات؛ ومراهقاً(316/61)
آخر مسحور العينين يمد لها شفتيه ويقول: هات؛ ومراهقين آخرين ما بين هذا وذاك يريدون مما يطلبه هذا ومما يطلبه ذاك. والحياة أمام هؤلاء جميعاً تعطي وتأخذ مثلما تعطي، مثقال ذرة بمثقال ذرة. وهي كما تكمن في هؤلاء الأحياء، تلبد في غيرهم من الأحياء المتجسدة، والأحياء المتجردة، وهي تعرض نفسها في مظاهرها المختلفة أما النفوس فلكل نفس منها ما تحب وما تشاء. فمن أخذ منها مادة لم يستطع أن يعطيها إلا مادة، ومن أخذ منها معنى أعطاها معنى، ومن أخذ منها معاً أعطاها منهما معاً. والمراهق قد تكوَّن مما أخذه من الحياة وهو ليس مادة فقط لأن الناس ليسوا مادة فقط فهم مادة وشيء آخر نقول عنه نحن إنه روح ويقول عنه ناس آخرون إنه نفس، ونحن وهم نقول إنه شيء متجرد عن المادة التي تتزيا بها الكهرباء في أزياء مختلفة. فلابد إذن أن يأخذ المراهق (كغيره) من مادة الحياة ومعناها ليعطيها مادة ومعنى، وأيهما أكثر الأخذ أكثر العطاء. ومن الناس من يقنعون في هذه السوق بالضروري اللازم لإقامة إحدى ناحيتيهم ويلحون في طلب مكملات الناحية الأخرى؛ ومنهم من يتوسطون فيطلبون من هذه مقدار ما يطلبون من تلك، وهذه الأرض تستطيع أن تمد الناس بحاجتهم من المادة وزيادة؛ وسماء المعاني تستطيع أن تهب الناس حاجتهم من المعاني وزيادة؛ والناس في التنازع على المادة يتخاصمون ويتعادون، بينما هم حين يتناهبون المعاني يزدادون تقارباً وتفاهماً وتحبباً وتعاطفاً وتوحداً. فكلما اهتمت البشرية بالناحية المادية أمعنت في التبعثر والتفوق والتشتت، وكلما توغلت في الناحية الروحية أمعنت في التماسك والانسجام. ونحن إذا رجعنا إلى تواريخ الأفكار والدعوات الروحية رأينا أخلصها روحاً أكثرها تعاوناً بين أنصارها، ولم نر الاختلاف يدب إلى هؤلاء الأنصار إلا حينما تنزلق إلى فكرتهم دواع مادية فتلوثها. فالواجب إذن على البشرية إذا كانت تريد أن تستخدم عقلها في الخير أن تقنع من المادة بما يقوم الحياة البدنية فقط لا أكثر ولا أقل، وأن تنقذف بالوافر الباقي من نشاطها إلى حيث يمكنها أن تتوحد. وهذا هو ما دعا الأنبياء إليه، وحاشا أن يكونوا مجانين، وإنما هم أنبياء وقد أرشدوا البشرية إلى طريق الخير ومضوا، فاتبعهم أولياء أقنعت الدعوة إحساسهم وعقلهم، وانساق في طريقهم فنانون يتعشقون في هذا الكون جماله، ويطلبون كماله وكمال أنفسهم معه.(316/62)
- ولكن البشرية إذا اتبعتكم في هذا عادت كما كان يعيش أهل الكهوف، أو كما يعيش أهل الغابات
- وهل تحسبون الحال اختلفت؟ الكهوف باقية ولكنها اليوم عمارات من ناطحات السحاب. وفي الغابات يصيد الناس الحيوان ليأكلوه، وفي هذه العمارات يصيد الناس بعضهم بعضاً ويأكل بعضهم بعضاً، وقد عافت البشرية أن تأكل لحمها فأكلت في العمارات ضميرها وشرفها وروحها. إن أهل الكهوف كانوا أقرب منا إلى السماء، وإن أهل الغابات لا يزالون أقرب من أهل العمارات إليها.
- ولكن هذا العلم الذي علمناه، وهذا العقل الذي نما فينا. . . أنلقيهما في الفضاء لنعود إلى حياة العراء؟
- لم يقل أحد هذا. وإنما نستطيع أن نجند علومنا وعقولنا لتنظيم أرواحنا لا للترفيه عن أجسادنا، وسنرى عندئذ أن أكثر ما نعمله لغو لا يغذي الروح، وسنرى عقولنا قد اسودت من كثرة ما كذبت علينا وأضلتنا طريقنا
- وعندئذ ماذا نصنع؟
- عندئذ ينتعش إحساسنا. عندئذ يبدو لنا الكون في آلاف الصور وكلها محببة. وقد يعيننا صوم الأنبياء على تذوق الحب واستساغته، وقد يصرفنا هذا العشق الشفاف عن تهافت الأبدان وتجاذبها. . .
- وبعد ذلك تنتهك قوى البشرية فتتخاذل وتهزل ويقل نسلها وتموت
- من أين جئتم بهذا؟ سيأكل الناس من الأرض ما يعيشون به، والطبيعة لا تريد منهم أكثر من أن تعيش أبدانهم. فإذا أخذوا منها أكثر ما يلزم لها خالفوا قانونها وظلموها وظلموا أنفسهم، وسينجب الناس بقدر ما يحفظون نوعهم وبقدر ما يسمح للحياة المادية أن تسلك أبدانهم إلى مرحلتها الجديدة. وليست الحياة تريد أكثر من هذا. والحياة بعد ذلك تطلب الإنجاب الروحي الذي يؤديه الإحساس. الحياة تطلب الفن طلباً طبيعياً واجب الأداء؛ فأين هو في هذه الحضارة!
- إن الحياة هي التي حبست عرائسها الروحية عن البشر في هذا العصر!
- بل هن معروضات أمام الأرواح النابهة، ولكن ما أقل هذه الأرواح النابهة الآن؟ لقد(316/63)
استغلق الناس على أنفسهم، ختمهم العلم والعقل بخاتم أصفر من الذهب.
- ولكن هاهو ذا العلم يدعو المراهقين إلى الفنون الجميلة ليصرفهم عن شهوات أبدانهم.
- أو لا يملك إلا هذه الدعوة؟ إن الفنون الجميلة لها الذين يحبونها لا ينصرفون عنها. أما الذين يزدرونها فلا يقبلون عليها إقبالهم على نوع من العبث.
- فما الذي تطلبونه من العلم إذن؟ إنه لا يستطيع غير هذا.
- نريد أن يزف المراهقين وغيرهم إلى العرائس من المعاني والفكر، فإذا عشقوها عطروا لها أرواحهم؛ فإذا ساكنوها أعقبوا فيها فنوناً تسلكها الحياة الماضية إلى الأمام في سبيلها.
- وكيف يحدث هذا؟
- إن هذه العرائس تياهة مدللة لا تلين إلا أمام حس يرهف نفسه لها، فهل يستطيع العلم أن يرهف إحساس الناس؟
- لا. ولذلك يعمد في هذا إلى الفن مستعيناً به.
- ولكن استعراض الفن لا يخلق فناً، وإنما يخلق الفن الإحساس بالحياة نفسها، وما دمنا ننزع إلى تحويل إنتاج البشرية بقدر ما نستطيع من الإنتاج البدني إلى الإنتاج الروحي فلابد أن نعنى بخلق الفنون وإنتاجها لا دراستها واستعراضها، وهذه العناية هي التي تنتهي مع الدأب إلى دنيا الروح.
- وهل يمكن أن نقيم دنيا من الروح؟
- نعم كما قامت دنيا من كهرباء موجبة وسالبة!
عزيز أحمد فهمي(316/64)
محمود صبح
من الوجهة الفنية
للأستاذ محمد السيد المويلحي
قد يحمد الفنان إذا اعتز بنتاجه وسما به عن الابتذال والعرض والمقارنة؛ وقد يحمد إذا عرف لنفسه قدرها لأنه أدرى الناس بعبقريته وقوته، وأشدهم إيماناً بإلهامه وتوفيقه
ولكنه لا يحمد ولا يثنى عليه إذا تدرج اعتزازه وإيمانه بقدرته إلى الأنانية التي تحمله على تقديس نفسه وإنكار الجميع. . . الجميع دون استثناء. . .!
ومحمود صبح موسيقي مرهوب موهوب يلم بفنه إلماماً تاماً ويجيد العزف على العود والناي والبيان، وله لون خاص ينفرد به ويعجب جمهرة كبيرة. . . ولكنه يعتقد بل يؤمن إيماناً عميقاً أنه مبعوث العناية الإلهية لإنهاض الرسالة الموسيقية. فعلى كل من ينتمي إليها بوشيجة أن يؤمن به إيمان العجائز فلا نقاش ولا جدال (لأن الذي يستطيع أن يناقشه أو يجادله لم يخلق بعد، ولأن الله سبحانه لا يخلق رسولين في عصر واحد وإلا فسدت الرسالة). هكذا يقول الرسول (محمود صبح) الذي يذكرني (بروبسبيير) الذي آمن بعصمته فكان يعدم كل من يظن فيه المعارضة لآرائه ومبادئه لا لشيء إلا لأنه كافر بالعصمة والفضيلة!
قامة ربعة وإن كانت تميل إلى القصر، تشبه (شوال) الملح لوناً وشكلاً وثقلاً، وإن كانت تمتاز بظرف عجيب. قامة وإن حرمت نور البصر، فقد وهبت قوة هرقلية تستطيع (بفضل الله) أن تجندل من تشاء بضربة فنية قاضية. قامة تجيد كافة الألعاب الرياضية من ملاكمة ومصارعة وحمل أثقال. . .
رأس أودع الله فيه كنزاً غنياً من الفن الأصيل المكين المقتدر المبتكر. حاجبان كثيفان لو وزع شعرهما على عشرة رؤوس (صلعاء) لأصبحت غنية بالشعر القوي. أنف كأنف الصقر يهبط في هدوء وتقوس حتى يستقر عل شكل (هلب كبير). . .!!
وجه ممتلئ طالما زينته العمامة حتى ثار عليها وأبى إلا أن (يتطربش) لتكمل أناقته ورشاقته. . . فم وإن كان يذكر الله كثيراً ويجيد تلاوة كلامه. . . إلا أنه لا يحب أن يغضب الشيطان فيهجر أوامره وإغراءه بل يندفع في سبيل ترضيته فيصف (إخوانه)(316/65)
وزملاءه بوصف (مزخرف) مصنوع في معامل (بولاق) وحوش بردق. . .
أذنان حادتان صارمتان لا تعترفان إلا بنتاج صاحبهما، أما غيره. . . ف (صوء. . . صوء أعوذ بالله، يا ستار العيوب، إيه ده؟؟)
يدان قديرتان ساحرتان إذا صفا صاحبهما أسرتا وسحرتا، وخلقتا قوة وقدرة وفناً أصيلاً نبيلاً. يدان تسجد لهما الموسيقى العربية (البحتة)، ويخضع لهما الفن العالي الذي لا يخضع إلا للقليلين.
صوت هائل كامل شهد له الجميع بالقدرة والقوة والعذوبة وقوة التأثير. أروع من يؤدى (الباص) وأبدع من يحسن (البريتون)، وأرفع من يجيد (التيتور). يتكون من ديوانين ونصف تقريباً لا عيب فيه إلا خلوه من العيب. . . صوت لو استطاعت محطة الإذاعة أن تهيئ له الجلسة الفنية المضبوطة أمام (الميكروفون) لكان آية، ولخلا من تلك العواصف التي تكاد تصم الآذان.
صوت يقلد القطار أدق تقليد، ويحاكي صوت (القلة) أنم محاكاة. ومن ظرف محمود أنه إذا صفا أسمعك بفمه صوت العجين عندما (يلت) حتى لتخاله امرأة منهمكة في (ماجورها). . . أقدر من يلحن الموشحات، ويكفيه فخراً وسمواً وخلوداً أن أعظم مغن بالغاً ما بلغ من القوة والقدرة لا يستطيع أن يحاكيه بواحد من موشحاته لتشعبها، وكثرة أنغامها، ووفرة حركاتها، ودقة تركيبها، وإن حاول فالفشل له بالمرصاد. . .!
فنان موهوب مبتكر بصير بما يصنع، خبير بفنه لا يحاكى ولا يقلد بل له لونه الخاص المعروف لأنه كما قلنا قبلاً لا يؤمن إلا برسالته. لا يعرف شيئاً في القواعد الغربية مع أن علم (التحسيس) قد تقدم وأصبح يدرس في كل مكان
يجيد العزف على العود، واللعب على البيان والنفخ في الناي. إذا سألته عن (فلان) المشهور قال: (طز) وعن فلانة المعروفة قال: (طزين يا سيدي).
الويل لك إذا سمعته وأعلنت سرورك وتقديرك بقولك (يا سلام يا شيخ محمود! الله يزيدك) لأنه يلتفت إليك متهكماً متحفزاً صارخاً (هو لسة يا أخينا حيزيدني. . . حيخليني إيه أكثر من كدة؟) والويل لك أكثر وأكثر إذا أخذتك النشوة فنسيت أن تحييه لأنه يسكت فجأة ويخاطبك:(316/66)
- حضرتك مش سامعني يا فندي؟
- سامع يا أستاذ دي حاجة عظيمة جداً
- أمال ساكت ليه؟ ساكت ليه يا فندي؟ ودانك بتوجعك؟ والله مانا قايل حاجة إلا لو خرجت من هنا. أتفضل يا فندي وخدها وهيّ حلوة. . .!
كان في الحسينية من خمس عشرة سنة يعزف بعوده أمام حشد من مريديه ومحبيه فلما أخذته النشوة رمى (بعوده) وصرخ متمدداً قائلاً:
- أغيثوني. . . أدركوني. . .!
- مالك يا مولانا. . . مالك يا مولانا. .؟
- أغيثوني. . . أدركوني. . . أمسكوني جيداً. . . سِدُّوا (وداني). . . سِدُّوا (وداني). . .!
هرع إليه هذا الجمع الحاشد وكله لهفة وإشفاق فإذا بالشيخ محمود يقول:
الجن عاوزة تخطفني، رئيسهم كلمني في (أذني) وقال: احنا عاوزينك يا محمود عشان بنتي حتتجوز. . . امسكوني ليخطفونني!
عصبي إلى درجة بعيدة. لا يطيق النقد. ومن ظريف أمره أيام كان يذيع في المحطات الأهلية أنه كان يجلس في محطة (فؤاد) قائلاً لهؤلاء الذين يكتبون عنه أو يتكلمون بما لا يحب:
يا ليل، يا ليل، سامع (يا فلان) يا ابن. . . شايف الشغل ازاي. . . يا ليل، يا عيني يا ليل، (فلان) نحن محمود صبح، اتائب يا بن الـ يا ليل يا عيني، لاح بدر التم أمان. أمان دوس يا لاللي. . . يا بتوع (. . .) يا أولاد. . . اتعلموا وخلوا عبد الوهاب بتاعكم يتعلم!؟
وبعد فمحمود صبح شخصية عظيمة ظريفة انحدرت من بيت عريق؛ ومن أصل طيب. لا يعتمد في معيشته على فنه بقدر ما يعتمد على إيراده الخاص الذي يكفل له عيشه رغداً، ولولا مغالاته بقدره واعتداده بنفسه لكان عظيماً نافعاً
محمد السيد المويلحي(316/67)
رسالة العلم
نهاية الكون
تعذر الامتداد في الظواهر وصعوبة الحكم على مستقبل الزمن
للأستاذ محمد محمود غالي
اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على ما وجهه إليّ الأستاذ نصيف المنقبادي وعل أسئلته الخاصة بتطبيق نظرية بولتزمان في الحكم على مستقبل الكون، وقد تتبعت مقالاته القيمة التي نشرها هذا العام في الرسالة، وتتبعت منذ أكثر من عام مقالاته على صفحات الأهرام التي ناقش فيها الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي. ولو وصفنا الأستاذ فيمن نعرفهم من الكتاب المصريين بأنه من الذين عرفوا بالجرأة في كتاباتهم لما ابتعدنا عن الصواب كثيراً، إذ لاشك في أنه من هؤلاء المطبوعين على حرية الفكر، ولا خلاف في أن لمثل كتاباته فائدة كبرى يجنيها النشء ويفيد منها المطلعون
للموضوع الذي يسألني عنه مساس بفلسفة كل علم إذ يجب التفريق بين ما هو جائر وبين ما هو محتوم - قلنا إن التفسير البولتزماني للمبدأ الثاني للترموديناميكا يدلنا على نوع من الموت الحراري للكون، ولكن لم نقل إلى أي حد يجوز لما الامتداد والتوغل في قبول هذه النتائج في مستقبل الأحقاب والعصور
يحدثني عن ملايين الملايين من السنين التي خلت ويتساءل لماذا يحدث الاقتراب من السكون المرتقب وفق بولتزمان، وقد مضى على الخليقة ملايين ملايين السنين. ومن ذا الذي قال إن هذه الملايين الخالية كافية للوصول بالكون إلى الحالة التي يدل عليها تفكير بولتزمان والتي تحتمها الزيادة الحتمية والمستمرة (للأنتروبي)؟
وهب أننا وصلنا إلى نوع من السكون النسبي فمن ذا الذي قال إن هذه هي أول مرة يصل فيها الكون إلى السكون والموت؟ ومن ذا الذي يَقْسِرُ إفهامنا على أن الحركة لا تُستأنف من جديد بعوامل لا نعرفها تَمُتُّ إلى الأصل في معرفة الخليقة ووجود الكون؟
هنا نقطة حساسة أعتقد أن آرائنا تفترق عندها، فإنك تميل إلى تفسير كل شيء بعلمنا الميكانيكي ومعرفتنا المحدودة لظواهر الطبيعة، وأميل من ناحيتي إلى اعتبار ما نعرفه لا(316/68)
شيء بجانب المجهول. ومع ذلك فإن جُلَّ ما نعرفه من الظواهر الطبيعية ظواهر دورية، ألا يكون الكون في مجموعه، الكون المحدود بحيز ريمان أو حيز لوباتشفسكي أو ما يشاء العلماء من الحيزات، ظاهرة دورية وأننا الآن في مرحلة من مراحل الانتقال والدوران؟ بمعنى أنه ليس ثمة بداية للكون وليس ثمة نهاية له
في نشرة للعالم (سان) اطلعت عليها حديثاً في محاضر الجمعية الملكية الإنجليزية يناقش فيها هذا الرياضي الطبيعي بعض النظريات الخاصة بمبدأ الكون وما وصل إليه الحيز من تمدد وما يحدث الآن من ابتعاد كل العوالم بعضها عن بعض - هذه النشرات وأمثالها التي يناقش العلماء فيها (كون إنشتاين) أو (كون دي ستير) وهما كونان معروفان لدى العلماء توحي إلينا بهذه الفكرة الدورية للكون
لم يقل (سان) بتغيير قوانيننا الطبيعية في مستقبل الزمن، ولكن كل شيء يجوز أن يتغير ما دمنا نعتبر أحقاباً طويلة من الزمن مثل الأحقاب التي نتكلم عنها
على أن الزمن نفسه يحمل في طياته عدم التعيين عندما نتوغل فيه إلى حد كبير. ثمة فارق كبير في معرفة فترات الزمن التي اعتدناها ومعرفة الأحقاب الطويلة التي لا نجزم بمعرفتها أو تحديدها؛ فإذا تحدثنا عن عمر الإنسان أو عن الزمن الذي مر من الثورة الفرنسية حتى يومنا هذا، أو عن عمر أحد الأفيال الأفريقية الكبيرة، وبينها ما عاش بلا شك قبل الثورة الفرنسية، فإنني أفهم لذلك معناه، وأفهم نوع الدقة المطلوبة فيه، حتى إذا تكلمنا عن الزمن الذي مر منذ أن كتب هومر إلياذته المشهورة أو منذ أن بنى خوفو هرمه أو نحت الأقدمون (أبو الهول) فإن هذا، وذاك ممكن أن يكون أمره معروفاً، أما إذا أردنا أن نتكلم عن عمر الرجل الأول أو الزمن الذي يمر لتدوير المجرة دورة كاملة أو الزمن الذي خلا منذ ظهور الحياة على الأرض فإن شيئاً من الاحتمال يدخل في تقديرنا لهذه العصور الطويلة. وما بالنا لو أردنا بعد ذلك أن نتكلم عن عمر عنصر التوريوم أو عمر النجوم أو العوالم أو التوغل حتى مبدأ الخليقة، فإننا لا نستطيع الجزم بمقدار هذه المدد الطويلة، ولا نستطيع أن نستوعب معنى الزمن إذا نظرنا إليها.
هذا من ناحية الأحقاب الطويلة، وإننا نجد نفس الصعوبة إذا نظرنا إلى الطرف الآخر واعتبرنا الفترات القصيرة. فإذا تحدثنا عن فترة الزمن التي تقدر بثانية أو فترة تردد(316/69)
الموجات اللاسلكية الطويلة منها والقصيرة أو فترة حياة (الراديوم فإن حديثنا عنها يختلف عن فترة تردد الموجات المصاحبة للبروتون في ميكانيكية (دي بروي) الموجية أو ربما عن فترات أقصر من ذلك يحدثنا عنها العلماء في مستقبل العمر.
ومع ذلك فإن هناك عاملاً آخر يتصل بسر الوجود وما يحدث فيه من تطورات. وكنت لا أرغب أن أتعرض بالبحث عنه لولا أن أسئلة الأستاذ تحتم عليّ اللجوء إلى هذا الطريق. ولعلي أُوَفَّق في أن أشرح هذا العامل الخارجي، وأن أكشف عن رأيي في المثال الآتي:
إن من الصعب أن نضع على الأرض عصا طويلة مدببة الطرف في وضع رأسي ونتركها على طرفها هذا وفي هذا الوضع دون أن تقع العصا على الأرض. ولو أننا وفقنا بصعوبة إلى ذلك فإنه لن تمضي لحظة حتى تقع العصا على الأرض وفق اتجاه لا نستطيع تحديده. ولو أننا تساءلنا عن مساق (مصير) العصا وهي في وضعها الرأسي لا تستند إلى شيء لقررنا أنها حتماً واقعة على الأرض. لنفترض بعد ذلك أن هناك كائناً حياً يرفع العصا طوراً ويدعها تقع على الأرض تارة أخرى
ثمة مجموعتان واحتمالان لمواضع العصا وما يخبئه لها القدر:
المجموعة الأولى تتكون من العصا والأرض. هنا نحتم أنها تقع على الأرض وأنها لن تقوم رأسية من تلقاء نفسها كما كانت
والمجموعة الثانية تتكون من العصا والأرض والإنسان اللاعب بها. هنا تقع العصا ولكنها تعود رأسية كما كانت ويصح أن يتكرر ذلك ما دام الكائن موجوداً
ولو افترضنا أننا مخلوقات نعيش على سطح العصا، وأن فترة آجالنا محدودة جداً بنسبة الزمن الذي تقع فيه عصانا هذه فإننا الآن في مرحلة نشاهدها وهي تقع، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأنها لا تقوم بنا كرة أخرى، فقد يكون هناك لاعب ماهر يلعب بالعصا ولا نعرف من لعبه شيئاً، وقد تكون هذه إحدى المرات العديدة التي وقعت العصا فيها على الأرض
فلا تخش أيها الكاتب على الكواكب انقطاع دورانها وعلى النجوم وقوف حركتها وعلى الكهرباء انعدامها وعلى الجاذبية نهايتها وعلى الأرض فناءها وعلى الأحياء موتها، فإننا عاجزون عن أن نعرف الأصل في كل هذا وأن نستوعب للكون مبدأ وللحياة نهاية، لهذا لا يجوز لنا دائماً أن نقول إن الذي ترك العصا تميل وتقع يستطيع أن عيدها سيرتها الأولى،(316/70)
كما نستطيع أن ندرك أن الأرض والعصا واللاعب مجموعة تختلف عن الأرض والعصا بلا لاعب
حدثت القارئ فيما تحدثت به إليه عن نملة تجولت في سرادق فسيح في ليلة عزاء، وقلت إنها فهمت أن الدنيا كلها سرادق تضيئه أنوار ونادل يسقي قهوة وفقيه يرتل الآيات، وقلت إنها بهذا أخطأت صورة الدنيا، كذلك نحن والكون وما يحدث له في المستقبل البعيد من تطورات؛ فقد تعلمنا كثيراً وزادت معارفنا ولكننا فضلاً عن ذلك قد تعلمنا شيئاً أجدى وهو أننا لا نعرف عن الأصل في الكون والمستقبل في التطور أكثر من معارف النملة التي لم تفارق السرادق والتي لا تعرف ما بخارجه
فلتكن مثلي. لا تجادل في الغيب بهذه السهولة ولا تتحدث عن الحياة والمادة والروح بهذه الطريقة من التوكيد التي تحدثت بها. إن الشك أجدر بالعلماء عندما ينزلون إلى ميدان أصل الوجود ويحاولون معرفة سر الخليقة. لذلك عندما ذكرت أنني أفترق عن التفاحة التي نأكلها وعن المحبرة التي أملئ منها هذه الأسطر كان عندي إيمان قوي بما أقول، وإن لم يكن لدي ولا عند غيري الدليل العلمي للتدليل على ذلك بما لا يقبل الجدل
ومع ذلك وبعد الذي ذكرت أرجو ألا تنسى أيها الأخ أنني من الذين يؤمنون بالعلم التجريبي فيعيرونه كل تقدير ولا يؤمنون كثيراً بالعلم النظري فلا يولونه من الوقت إلا اليسير، وإنني لا ألجأ إلى التعمق في العلم إلا بالقدر الذي أعتبره طريقاً لمراهن الذهن والتعود على الفهم. فإذا رأيتني لجأت إلى النظريات تارة فإنما أشرح للقارئ طرائق التفكير الحديث وأستعرض بإخلاص قصة الخليقة وفق أحدث ما يقوله العلماء وما يتراءى للمفكرين
أما إذا خاطبتني كرجل تَخرَّج من المعامل، ويود أن يقضي البقية من العمر فيها، فإنني ممن لا يجيزون البت في مستقبل الكون بهذه السهولة، وعلى هذه الصورة. وعلى ذلك فلست ممن يؤمنون بالبولتزمانية إن صح أن نعطي التفسيرات الحرارية الأخيرة هذه التسمية إلا بقدر أنها صحيحة في مرحلة انتقالية للكون هي المرحلة التي نجتازها؛ وهذه المرحلة قد يتبعها مراحل لا تكون البولتزمانية موضوع الحديث.
وبعد فتراني أصبو إلى الطرف الإيجابي من المسائل والظواهر عامة. لقد درست على(316/71)
كوتون، وتتلمذت على موتون، وصاقبتهما عشرة أعوام أو يزيد - ولقد كانا بنائيين ينظران إلى المسائل ويسائلان أنفسهما: هل من وقائع حقيقية وراء ما نرى أو ما نقول؟ وإني أضرب لك مثلاً:
عندما فصل مليكان جسيماً واحداً يحمل إلكتروناً حراً واحداً كنا واثقين بعمله. فقد كانت نتائجه التجريبية تُحتم شحنة الإلكترون بالقدر الذي أعطاه مليكان ما دام منطق الحساب البسيط صحيحاً. هذا الحساب الذي تعلمناه كلنا بالمدارس - وبالمدارس الابتدائية على الخصوص - فقد كان الحديث عند مليكان عندما استطاع أن يرى هذا الجسيم واقفاً بلا حراك بين كفتي المكثف الكهربائي حادثاً خاصاً بقاعدة حسابية بسيطة معروفة لدى طلبة المدارس الابتدائية، وهي قاعدة القاسم المشترك الأعظم.
عندما نتساءل عن العدد الذي يقسم الأعداد: 14، 21، 28، 35، 42، فإن الجواب معروف. فالعدد 7 يقسم كل هذه الأعداد. ولقد كانت تجارب مليكان المعروفة التي عين فيها شحنة الإلكترون لا تخرج في فكرتها الأساسية عن العملية السابقة بالذات. لذلك كان إيماننا بها بقدر يقينا في جواب المسألة الحسابية السابقة ولكن عندما نتحدث أيها الأخ عن ملايين ملايين السنين فإن للقوانين اعتباراً آخر، وللظواهر تطورات نجهلها.
وبعد الذي ذكرت كم أكون سعيداً لو استوثقت يوماً أنك تنظر إلى المسائل نظرنا إليها وتعالج الأمور معالجتنا لها - قد أكون مخطئاً فيما ذهبت اليه، ولكن هكذا تكونت وهكذا دَرَسْت. ولا تصفني إن سمحت بعد اليوم بالعالم المدقق والطبيعي المحقق، ولا تذكرني كما تذكر علماء السوربون وأساتذتهم الأعلام فإن هذا شرف لم أنله ومرتبة لم أرتفع إليها. ولابد من أن يتسع العمر كثيراً لنطالع عشرات ما طالعناه، ولابد من أن تمر سنون عديدة لنستوعب الكثير مما لا نعرف.
وفي الختام أشكر لك كلماتك السابقات التي لا أستحقها، وأعدك وقراء الرسالة بأنني سأتم كلامي عن الذرة والإلكترون وسأخص تجارب مليكان وبيران عن الإلكترون بشيء من العناية. فإذا ما انتهيت من هذا فسأتناول أربعة موضوعات رئيسية تتصل كلها بالتفكير الحديث ومستقبل البشر: الْكَم أي (الكوانتا) لمؤسسها العالم الكبير بلانك، وربما تكلمت عن علاقتها بالقضاء والقدر. والنسبية (لإينشتاين). والموجية للعالم الشاب (دي بروي).(316/72)
والتفتت الذري لكل هؤلاء الشبان من أرجاء المعمورة الذين يعملون داخل المختبرات على تقدمنا والذين يواصلون الليل بالنهار ليضعوا حجراً جديداً وأساسياً في مستقبل المعرفة.
وتراني سعيداً لأرقب ملاحظاتك وأرد على أسئلتك وأشترك في خواطرك وأتعرف إليك مع أصدق التحيات.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(316/73)
من هنا ومن هناك
الثالوث البريطاني في البلاد العربية
(عن مجلة (في الباريسية)
منذ بدأت إنجلترا تتبع سياسة الحكم غير المباشر في البلاد العربية، لم تكتف بجنودها البواسل وطياراتها ودباباتها تذرع تلك البلاد، فبثت في رجالاً ذوي مقدرة نادرة وكفاية عالية للسير بسياستها في طريق النجاح. وذلك أن أعمال (لورنس العرب) قد أصبحت تقليداً يتبع ومثلاً يحتذي عند الإنكليز.
وقد تبدو مهمة هؤلاء الرجال على جانب من البساطة، ولكنها في الحقيقة على خلاف ذلك. فهم في حاجة إلى التدخل بين العرب واكتساب مودة الأمراء وثقتهم فضلاً عن البدو والدهماء. فلا تمر صغيرة ولا كبيرة في العروش الشرقية إلا كان لهم شأن فيها. وهم يحاربون أعداءهم في صمت وهدوء
ويتبين مما كتبناه عن الإمبراطورية العربية - يرمي إلى المقالات التي لخصتها الرسالة في أعداد سابقة - أن النضال في البلاد العربية يدور في ثلاث مناطق هي محور الدائرة في الشرق الأدنى. وهذه المناطق هي: الرياض عاصمة مملكة ابن السعود، وعمان عاصمة الأمير عبد الله، والقفار التي يشغلها فوزي القاوفجي ورجاله الذين لا يهابون الموت ولا تقف جرأتهم عند حد. فمن الطبيعي أن نجد خدام الإمبراطورية البريطانية الصامتين في تلك البقاع
وأول (الثالوث البريطاني العربي) هو (فردريك جيرارد بيك) ويعرف في الشرق الأدنى باسم بيك باشا. وقد كان هذا المارد الذي يبلغ طوله ستة أقدام، الذراع اليمنى للورنس مدى ثورة الصحراء
وقد كان بيك متصلاً كل الاتصال باللجنة التي نظرت في تقرير مصير الولايات العربية بعد اندحار الإمبراطورية التركية. واشتغل برهة مع الملك فيصل في العراق. ولم يلبث أن رحل إلى الرياض لمفاوضة ابن السعود، وجاءت فترة بعد ذلك كان فيها ضيفاً كريماً على شيوخ العرب الذين يرأسون القبائل الثائرة في الصحراء، ثم اتصل أخيراً بالأمير عبد الله أمير شرق الأردن وصار أحد مستشاريه المخلصين، وقد عين مديراً للأمن العام في عمان(316/74)
حين صارت العاصمة لتلك البلاد. وهو على الرغم من وضعه أحسن النظم لاستتباب الأمن في عمان، يؤدي لدولته أعظم الخدمات
أما العضو الثاني من هذا الثالوث فهو (جون باجوت جلاب) ويعرف عند العرب باسم (أبو الحنك) لجرح كان قد أصاب ذقنه واستمر أثره إلى اليوم. وتنحصر مهمة جلاب في اجتياز الصحراء شرقاً وغرباً والاتصال بالبدو والأعراب في كل مكان. وهو يستعمل كل وسائل الانتقال وتحمله الطائرات إلى أواسط الصحراء حيث يأوي إلى أقرب الخيام. وقد تمضي أشهر عديدة لا يسمع به أحد أو يعرف له مستقرا. وهو يتكلم اللغة العربية الفصحى ويعرف لغات القبائل المختلفة وعادات العرب في كل منطقة. وهو يجيد الرماية إجادة عجيبة. وله مقدرة فائقة في معرفة النفوس. أما الغاية التي يرمي إليها فهي اكتساب ثقة الأعراب الذين يجوبون الصحراء. وقد نجح في حجزهم عن الاتصال بالثورة في فلسطين على الرغم من المجهودات التي بذلها المهيجون لإثارة هؤلاء البدو إلى حرب عامة للجهاد باسم الدين
ويقيم العضو الثالث من الثالوث البريطاني في الرياض عاصمة ابن السعود، ويدعى سان جون فيلبي. وله فضل كبير في اكتشاف الصحراء العربية وحضر موت ووضع كتب قيمة عنها
وسان جون فيلبي فوق ذلك صديق حميم لابن السعود، وقد اتصل به منذ وجه أول حملة ضد الأتراك. وهو جد مفتون ببلاد العرب وقد اعتنق الدين الإسلامي فيما بعد
وكان يناقض لورنس في زعمه أن بلاد العرب يجب أن تقسم إلى إقطاعيات تحت حكم الحسين وأبنائه، ويقول: إن لورنس يستبق الحوادث ولا ينظر نظرة عميقة إلى القوة التي وراء ابن السعود والوهابيين. وقد دلت الحوادث على أن فيليبي كان على صواب. فلم تمض بضعة سنين بعد هزيمة الأتراك حتى نجح ابن السعود في التغلب على الحسين ونشر لواءه على نجد والحجاز. وقد استمر حليفاً مخلصاً للدولة البريطانية بفضل سان جون فيليبي
هؤلاء الرجال الثلاثة يقومون بخدمة بريطانيا في بلاد العرب، فإذا زالوا خلفهم آخرون وهكذا. وما دام لدى بريطانيا رجال على هذا الطراز فيحق لوزارة المستعمرات في هوايت(316/75)
هول أن تنام ملء عينيها. وسواء بعد ذلك صبر الأمير عبد الله، وشجاعة فوزي القاوقجي، ودهاء الحاج أمين الحسيني، فليس في مقدور أحد منهم أن يؤسس إمبراطورية عربية
وإذا ساعدتهم الظروف على ذلك، فلن يكون هذا إلا برضا وزارة المستعمرات، ما دام لديها هؤلاء الرجال الذين يعرفون أغراضها ولا يجهلون الطرق التي توصلهم إليها
الطرق تحكم أوربا
(ملخصة عن تايم آند)
أصبحت الطرق تحتل المكان الأول من اهتمام الدولة الأوربية حتى لقد صار من المحتمل أن تقع حرب عالمية من أجل طريق تمتد بضعة أميال في بولندا
ويرجع ذلك الاهتمام العظيم بأمر الطرق إلى إدخال السيارات في أنظمة الجيوش والاعتماد عليها في الحروب. ومن المعروف عند رجال الحروب أن النجاح فيها موكول إلى سرعة الانتقال. فالجيش الذي لديه الوسائل لنقل الرجال والأسلحة قبل غيره معقود له النجاح، ومن هنا جاءت أهمية الطرق، وصح القول بأن من يستولي على الطرق الحربية في أوربا هو الذي سيحكمها ولا محالة
وقد اشتد اهتمام ألمانيا في الأيام الأخيرة بتعزيز جبهتها بالطرق التي تحتاجها وقت الحروب، فتم منذ استولى هتلر على ذمامها ما لا يقل عن أربعة آلاف ميل من الطرق المعبدة لسير السيارات، وأصبح من السهل على ثلاثين ألف عربة من سيارات الانتقال، ومليون رجل من رجال الحروب أن ينتقلوا إلى أقصى الجهات في جهة ألمانيا في وقت لا يزيد على أربعة وعشرين ساعة
وقد أصبحت برلين الآن محاطة بأنسجة من الطرق الحربية من كل الجهات وهذه الطرق توصل بين جبهتها وبين الطرق الهامة في أوربا، فلا يكاد الإنسان يتأملها حتى يتساءل، من أي هذه الأنسجة تقفز الرتيلاء؟!
والطريق من برلين إلى وارسو (وموسكو) هي الطريق المؤدية إلى سهول شمال أوربا الشاسعة. وهذه السهول منبسطة في أكثر الجهات، وقد لا يزيد ارتفاع الجهات العالية بها على 600 قدم، وتمتد هذه الطريق من برلين إلى جبهة بولندا إلى بروبرج إلى سهل(316/76)
الفستيولا، ثم إلى وارسو، وقد تؤدي إلى موسكو
وقد عبر نابليون سنة 1812 هذه السهول، فاحتل وارسو وخط الفستيولا ثم تقدم منها إلى عاصمة روسيا. ومن هنا يتبين أهمية الطريق التي تطلبها ألمانيا إلى دانزج وشمال بروسيا داخل حدود بولونيا. فدانزج وشمال بروسيا مازالا كما كانا بالأمس المركز الممتاز الذي تتطلع إليه الأنظار لاقتحام وارسو وشرق بولندا. وكل ما تطلبه ألمانيا أن تضع يدها عليه - لا من أجل الطريق الذي تزعمه - ولكن لتصوب منه الضربة القاضية!
هتلر أو المسيح؟
(عن ذي لتراري جايد)
تدل الحوادث التي تتكرر في ألمانيا كل يوم على أن حكومة النازي تعمل على محو أثر الكنيسة في الحياة الألمانية. وقد ظهر حديثاً كتاب بعنوان (أزمة المسيحية) بيّن مؤلفه مستر وليم تيلنج ما يحدث في الكنائس الألمانية على اختلافها في العهد الحاضر. وماذا عسى أن يحدث في الكنيسة الألمانية؟ الجواب لا يحتاج إلى تفكير إذا ما نظرنا إلى النظام الذي يشمل ألمانيا الآن، فما يحدث للكنيسة هو جزء من السياسة العامة التي ترمي إلى محو كل نظام قائم إلى جانب النظام العام الذي وضعه النازي للبلاد
ويتبين مما جاء في هذا الكتاب أن هناك حملة مدبرة لمهاجمة آراء الكنيسة وفلسفة الكنيسة ومالية الكنيسة. والقول بأن العقيدة في هتلر تعادل العقيدة في السيد المسيح، والثقة بأعضاء النازي كالثقة بالقديسين الأكرمين، وهذا أمر لا يقبله رجل مسيحي بالطبع لأنه كفر وتجديف، ولكنه هو الواقع بكل أسف! فالطريقة التي يحيا بها هتلر غب انتصاراته تتخذ المراسم التي كان يستقبل بها رجال الدين في العصور الغابرة، ومذهبه الفلسفي الذي يلغي إلى جانبه كل تفكير وكل علم من رؤوس الناس هو مذهب ديني كما يظهر لا مذهب سياسي. وقد قبلت الكنيسة تلك المظاهر خاضعة، ولم تحاول أن تعارض هذه الديانة السياسية إلا في أحوال عارضة
ويقول مستر (تيلنج) إن شباب الجيل الحديث الذين انتزعهم النازي من أيدي القساوسة، وأسلمهم إلى النظام السياسي الذي يسود ألمانيا الآن، سيفقدون على التدريج عقيدتهم في كل(316/77)
شيء، حتى اعتقادهم في ديانتهم الجديدة. فإذا تيقظت الكنيسة إلى ذلك، تسنى لها أن تضم إليها هؤلاء الشباب، وتقودهم إلى حركة تقضي لا محالة على ذلك النظام
إن القوة التي تعارض النازي لا يمكن معرفتها الآن بجانب الضغط الذي يسود ألمانيا، إلا أن التاريخ قد علمنا أن كل قوة تقوم على محو العقائد من النفوس، لابد أن تتجرع من الكأس التي تقدمها لها
حذار من الأذكياء المتعالين!
(بقلم دكتور جوبلز وزير الدعاية الألمانية)
لا نقصد بهذه الكلمة أن نمس الرجل المفكر المخلص الذي يخصص علمه وكفايته وتجاربه لخدمة أمته، فإن الفكر الألماني يتألف من هؤلاء الرجال المفكرين؛ ولكن مما لاشك فيه أن هناك فرقاً شاسعاً بين المفكرين الذين على هذا الطراز وغيرهم من أدعياء الفكر. فليس كل من يحظى بنصيب من التعليم، وشيء من المقدرة على الظهور ممن يسمونهم بالمتعلمين، هو في الحقيقة من الأذكياء أو المفكرين. إن مثل هذا الرجل من بقايا متعلمي الجيل الماضي قد أخطئ في توجيهه، ونشأ على طريقة عقيمة في التعليم؛ فهو في الحقيقة لم يكن سوى مجموعة من العلوم نمت في ظل نوع من الذكاء الزائف. أما تأثير هذا الرجل في المجتمع فهو أشد وأنكى من تأثير الجاهل البسيط، إذ أن اكتشافه للناس ليس بالأمر اليسير.
والرجل الذي على هذا الطراز يريك الجبن حكمة، والنزق حزماً، والكبر شجاعة، والذبذبة قوة وثباتاً. . .
فإذا عرف خطره على المجتمع، فإن خطره على المجتمع الألماني أشد وأعظم؛ لأن الألمان بطبيعتهم لهم غرام خاص بتلك الفضائل في عنصرها الأصيل. أما الرجل المفكر المتعلم الذي يعمل ويناضل لإحياء وطنه وحرية بلاده، فهو ومن على شاكلته يتبوءون الآن مراكزهم في الحكومة الاشتراكية الوطنية، أو يسيرون خلفها متحمسين مزهوين
إن الفكر التقليدي الذي يصد عن المثل العليا أو يصدف عن الحكمة والمنطق، ثم يستخف بهذا المسلك المعيب، هو في الحقيقة جبان قصير النظر. فلا يزال يرى أن العلم والتربية والمكانة لم تخلق جميعها إلا لما يريده هو ويراه. وكل من تحدثه نفسه بأن يسلك سبيلاً(316/78)
غير سبيله فهو خارج على العرف، ومن ثم يجب أن يكافح وتعارض أعماله وتوجه إليها حملات النقد والتفنيد
ولا ضرر من هذا الرجل في أيام السلم إلا أنه قد يكون محقق الضر حين تشتد الأزمات السياسية، فيجتمع هو وأمثاله زمراً تنقصها ملكة الفهم والحكم على المواقف الدقيقة ليظهروا مخاوفهم ومخاوف الآخرين باسم العلم الزائف الذي يدّعونه
إن هؤلاء المفكرين التعساء لا يزالون يقابلون كل عمل من أعمال الحكومة الاشتراكية الوطنية وأعمال الفوهرر بكلمة (لا) ومن المحتمل أن يظلوا كذلك إلى الأبد. وليس في نيتنا أن نضم أحداً منهم إلينا لا لأننا لا نستطيع ذلك، ولكننا لا نريد أحداً منهم على الإطلاق، إذ أنهم حمل لا فائدة فيه(316/79)
البريد الأدبي
حول جناية الأدب الجاهلي
تحت هذا العنوان كتبت (الثقافة) في عددها الأخير كلمة بدأتها بهذه الجملة:
(أتتنا مقالات عدة من مختلف الأقطار العربية، بعضها في مناقشة الفكرة تأييداً أو رداً. . . وبعضها في سب ناشر مقالات (الرسالة) (لعله يريد (كاتب)) والتعريض بصاحب المجلة وتحليل الأسباب الداعية إلى ذلك. . .)
ولو كانت الثقافة من مواليد العام الماضي لشهدت في الرسالة معركة من أعنف المعارك الأدبية وأحماها بين الأستاذ سيد قطب وبين روح الأستاذ الرافعي. وكان الأستاذ قطب أمض أسلوباً وأشد لهجة من الدكتور زكي مبارك؛ وكان يأبى علينا أن نخفف من حدته أو نلطف من ألفاظه؛ ولكن الدكتور زكي يسمح لنا أن نسكن من سَوْرته بالحذف والتغيير حتى لتنخفض حرارته في بعض المقالات إلى النصف!
وكان الرافعي عضواً عاملاً في أسرة الرسالة وصديقاً حميماً لصاحب المجلة إلى أن استوفى آخر أنفاسه. وكان حين شبت هذه المعركة قد انتقل إلى جوار الله فلم يعد له لسان ولا قلم ولا صحيفة، فكان من الجائز حينئذ للذين لا يفهمون النقد إلا أنه انتقام وخصومة أن يكتبوا في (التعريض بصاحب المجلة وتحليل الأسباب الداعية إلى ذلك. . .). ولكن صديقنا الأستاذ أحمد أمين - متعه الله بطول العمر - له قلم ومجلة وأنصار؛ وهو صاحب رأي جديد في الأدب الجاهلي لم ينشره إلا بعد أن وطن النفس على مكروهه. وناقده أستاذ معروف له استقلاله في الرأي وأسلوبه في النقد ومكانته من الصحافة، فلا يمكن أن يوجه إلى خطة أو يحمل على رأي. إذن يكون من المجازفة والاعتساف أن يظن ظان بعدما عرف من مثل الرافعي ورأى من نشرنا النقد والرد عليه أن هناك أسباباً دعت إلى هذه المعركة غير خدمة الأدب في ذاته. وللرسالة والحمد لله قلم يستطيع متى شاء أن يدافع ويهاجم وينقد في حدود الأدب والحق والمنطق من غير حاجة إلى استخفاء أو استعداء
(الرسالة)
النعيم الحسي والروحي في الإسلام(316/80)
قرأت في (الرسالة) كلمة طيبة لحضرة الأستاذ محمود علي قراعة في مراجعة ما قررت في أحد الأبحاث الماضية من اعتراف القرآن بالنعيم الحسي في الفردوس.
والظاهر أن الأستاذ قراعة يرى أن القول بالنعيم الحسي ينافي القول بالنعيم الروحي لمن يرضى الله عنهم من المؤمنين.
وأقول بصراحة جلية: إن الإسلام يقوم على أساس القول بأن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، وهو كذلك في الحياة الأخروية؛ فسيكون بعد الحساب جنة أو نار، جنة فيها أنهار وأشجار وأزهار، وقصور، وحُورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ونار فيها جميع صنوف العذاب!
جنة حقيقية لا مجازية، ونار حقيقية لا مجازية.
تلك هي الحال التي سيصير إليها المؤمنون أو الكافرون بعد الحساب.
أما القول بأن الجنة والنار رموز لا حقائق، وأن الثواب والعقاب سيكونان مقصورين على الروح، فذلك قول وصل إلى بعض الصوفية من التأثر بالمسيحية.
والنظرية الإسلامية الصحيحة التي تعترف باللذات الحسية في الآخرة لا تمنع من القول بأن سيكون في المؤمنين من يكون نعيمهم برضوان الله أطيب من نعيمهم بما في الجنة من ثمرات وطيبات
وليت أمثال هذا الصديق يعرفون أن اللذات الحسية من طعام وشراب وعافية هي من نعم الله ذي الجلال، وهي مشتهاة في الدنيا والآخرة؛ وما كانت كذلك إلا بمشيئة بارئ الأرض والسموات
أنا يا صديقي راض بأن يكون حظي في الآخرة عند الحد الذي تقول فيه الآية الكريمة:
(فمن زُحْزِح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)
أما قضاء الأبد الأبيد بالتسبيح والتكبير والتهليل، فهو غاية سيطلبها رجل غيري؛ فقد قضيت حياتي في أكدار وأشجان، وقضاء الأبد في الفردوس هو الواحة التي أستظل بها من هجير هذا الوجود.
اشغلني عنك، يا رباه! بما سيكون في الجنة من أطايب النعيم. فإن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج، ولك الرأي الأعلى في التجاوز عن ذنوبي وآثامي.(316/81)
زكي مبارك
توضيح مسألة
سيدي الأستاذ الجليل الزيات
تحية وسلاما، وبعد. فقد قرأت المقال القيم الذي كتبه الأستاذ كامل محمود حبيب في عدد الرسالة (314) عن المرحوم الأستاذ فليكس فارس، وقد وجدت في المقال أشياء استوقفت نظري وأرى من الواجب أن أنبه عليها بياناً للواقع.
وأول شيء استرعى بصري أن الأستاذ كامل حبيب وضع رقماً يدل على تاريخ مولد الأستاذ فليكس فارس، وتاريخ وفاته، والرقم هكذا (1886 - 1939)، ولكن الحقيقة أن الفقيد ولد عام 1882 في بلدة (صليما) بلبنان، وقد أخطأ في ذلك أيضاً الأستاذ صديق شيبوب إذ كتب في جريدة البصير في العدد الصادر في يوم الجمعة 30 يونيو سنة 1939 أنه ولد عام 1881 في بلدة (المريجات)، والذي نعرفه نحن شخصياً من الأستاذ فليكس فارس أنه ولد في 27 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1882، وقد أعلنت أسرة الفقيد أنه توفي عن سبع وخمسين سنة، وعلى هذا يكون تاريخ ميلاده موافقاً للسنة التي ذكرناها.
هذا والأستاذ كامل حبيب ذكر أن الفقيد سافر إلى أمريكا عام 1920، والذي نعرفه أن الفقيد لم يرحل إلى القارة الأمريكية إلا عام 1921. ومما يؤيد هذا الكلام آخر ما كتبه الفقيد والذي جاء في العدد الخاص من مجلة (المكشوف) عن مظاهر الثقافة في مصر، وكما جاء أيضاً في أكثر من مكان في كتابه (رسالة المنبر إلى الشرق العربي) ص 26 مثلاً.
هذا ومما نذكره للتاريخ عن سفره إلى أمريكا أنه اعتقل في (لونج أيلند) مع زميله الفنان جان دبس ستة عشر يوماً لسعايات سياسية وأفرج عنه بمساعدة صديقه الأستاذ أمين الربحاني
ويذكر الأستاذ كامل حبيب أن الفقيد تعرف على جبران وعلى أعضاء الرابطة العربية في نيويورك. والحقيقة أنها الرابطة القلمية التي كان عميدها جبران ومستشارها ميخائيل نعيمة (كتاب جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة ص 171). وأما الرابطة العربية فمقرها في(316/82)
القاهرة على ما نعلم ورئيسها هو الأستاذ محمود بسيوني رئيس مجلس الشيوخ السابق.
إبراهيم أدهم
سؤال إلى (المفكرين) من علماء المسلمين
أنا لست من الفقهاء ولا المحدثين ولكن لي من المشاركة في هذه المباحث ما يطوّع لي عرض هذا السؤال وتوجيهه توجيهاً قد لا يرضي المتمسكين بحرفية النصوص الشرعية، الواقفين عندما جاء في الشروح والحواشي، معترفاً بأن مستندي في الذي أقوله على الأحكام العامة والرأي والاجتهاد، لا على الدليل الأصولي والحجة الشرعية، وهذه الأحكام العامة التي أرجع إليها وأستند عليها هي:
1 - أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن مبادئه لا يعتريها البلى ولا تفسدها الأيام
2 - إن الإسلام يجعل من المتمسكين به أرقى مجموعة بشرية في العلم والقوة والمال والحضارة
فكيف يتفق مع هذين الأصلين وجود أحكام في الفقه لا تصلح لهذا الزمان، وأحكام تجعل المسلمين دون الأمم الأخرى في مرافق الحياة؟ مثال الأولى أحكام البيع والشراء في فقه الشافعية مثلاً؛ فإن فيها ما يتعذر تطبيقه في التجارات الواسعة وما يخالف كثيراً من المتعارف عليه بين التجار، كأن يشتري التاجر المصري بضاعة من إنكلترا ويبيعها في سوريا من غير أن يتسلمها أو يراها، أو يشتري من المعمل أشياء لم تصنع بعد وتم العقد عليها. ومثال الثانية ما قام عليه الدليل الحسي من أن أمة متمدنة لا تستطيع اليوم الاستغناء عن المصارف (البنوك) ومعاملاتها وما قدر أن يقوم به بنك مصر من الأعمال العظيمة القائمة في الأساس على شيء من الربا. . .
أفنقول للتجار إن الإسلام يحول بينكم وبين اتباع الأسلوب السهل المعروف في التجارة ويعرقل أعمالكم؟ أو ندع أعمال البنوك مع ما هي عليه من اللزوم وما لها من الفوائد والمزايا؟ وكيف يكون التوفيق حينئذ بين هذه النتيجة التي تنتهي إليها وبين الأصلين الثابتين المتقدمين؟
أولا يصح القول بأن من أحكام الفقه ما هو مبني على أصل ثابت من كتاب أو سنة فهذا ما(316/83)
لا سبيل (فيما أعلم) إلى تبديله أو تغييره، ومنها ما هو مبني على عرف كان سائداً في عصر الفقهاء المجتهدين، وقد تغير العرف فيجب أن تتغير الأحكام المبنية عليه. أذكر أنه مر معنا عند درس (المجلّة) في كلية الحقوق أنه إذا باع الرجل دابة له واشترط على المشتري ألا يركبها في البلد مثلاً فالشرط لغو لا قيمة له، وقد بني هذا الحكم على اعتبار هذا الشرط ضاراً بالمشتري في حين أنه لا ينفع البائع، فألغوه على قاعدة (الضرر يزال). . . فإذا وجدنا فيه نفعاً للبائع كأن يكون البائع للسيارة سائقاً يشتغل بنقل الركاب على طريق معين، وأن يكون استعمال المشتري للسيارة على الطريق عينه مضراً به. . . فإنه يجب في هذه الحالة اعتبار هذا الشرط صحيحاً، فما هو قول علمائنا الأعلام؟
والربا؟ أليس الربا المحرم هو استغلال صاحب المال حاجة المستقرض وإرهاقه بالزيادة، وضم الزيادة إلى رأس المال عند عجزه عن الدفع (على طريقة الفائدة المركبة) حتى تستغرق الفائدة رأس المال أو تزيد، وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت وتنازع بين الناس وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ أو ليس هنالك فرق (عظيم) بين هذا الربا وبين معاملات المصارف. فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك. فهو أشبه بشركة المضاربة ولا يشترط (فيما أظن) تقسيم الربح بالتساوي بين الشريكين، ولا مانع من أن يساهم المضارب ببعض المال. فإذا صح هذا أمكن أن نعد القائمين على أعمال البنك بمثابة الشريك المضارب، والمساهمين بمثابة صاحب المال، والخسارة تكون بالطبع على أصحاب رؤوس الأموال بنسبة أموالهم. بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. فما هو قول علمائنا الأعلام؟
إن الإسلام إذا كان لكل زمان، فإنه يجب أن يكون لكل زمان فقهه، والفقه الذي يقرؤه الطلبة في الأزهر وغير الأزهر لم يوضع لزماننا، وإنما وضع لأزمان مضت. وأنا معجب أشد الإعجاب بالفقهاء المتقدمين، فإنهم لم يدرسوا وقائع أزمانهم ويضعوا لها الأحكام فقط، وإنما فرضوا الفروض وبحثوا عن أحكامها. فأين فقهاؤنا الذين بحثوا في المسائل الفقهية الناشئة عن الراديو مثلاً وحكم سجود التلاوة عند سماع القارئ فيه، وحكم الاقتداء بالإمام الذي تسمع قراءته في الراديو والمسائل الناشئة عن وسائط النقل الحديثة والسفر بها.(316/84)
والمسائل التي حدثت في العرف التجاري وغير ذلك مما تشعر بالحاجة إلى معرفة حكم الله فيه. على أنني أذكر هنا بإكبار بحث فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد شاكر في الطلاق فإنه يعد مثلاً كاملاً في هذا الباب. فمتى يعمد العلماء إلى الكتابة في مشكلات المسائل على هذا النمط، ومتى يلغى من الأزهر الفقه الموضوع للقرن التاسع والعاشر ليحل محله فقه القرن الرابع عشر. مع العلم بأن منبع الاثنين الكتاب والسنة عماد الإسلام. هذا الدين المرن الصالح لكل زمان ومكان؟
هذا سؤال أوجهه إلى (المفكرين) لا الحافظين من علماء المسلمين!
(دمشق)
علي الطنطاوي
حول الروحيات والمعنويات في الإسلام
أستاذنا العزيز الزيات:
وبعد فقد أساء بعضهم فهم ما ذكرناه عن ابن عابدين ج 3 ص 215؛ ولذلك يجب ذكر ما قاله كاملاً: (قال السيوطي قال ابن عقيل الحنبلي جرت مسألة بين أبي علي بن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني في ذلك، فقال ابن الوليد: لا يمنع أن يجعل ذلك (يريد اللواط) من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلاً للأذى، وليس في الجنة ذلك، ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر وغاية العربدة وزوال العقل. فلذلك لم يمنع من الالتذاذ بها. فقال أبو يوسف الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه. . . ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر، وهو مخرج الحدث، والجنة نزهت عن العاهات. فقال ابن الوليد: العاهة: هي التلويث بالأذى؛ فإذن لم يبق إلا مجرد الالتذاذ. . . والظاهر أن المراد بالحرمة هنا القبح إطلاقاً لسم المسبب على السبب أي قبحها عقلي بمعنى أن يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع كالظلم والكفر. لأن مذهبنا أنه لا يحرم بالعقل شيء أي لا يكون العقل حاكماً بحرمته، وإنما ذلك لله تعالى بل العقل مدرك لحسن بعض المأمورات وقبح بعض المنهيات. فيأتي الشرع حاكماً يوفق ذلك. فيأمر بالحسن وينهى عن القبيح، وعند المعتزلة يجب ما حسن عقلاً،(316/85)
ويحرم ما قبح، وإن لم يرد الشرع بوجوبه أو حرمته. فالعقل عندهم هو المثبت، وعندنا المثبت هو الشرع والعقل آلة لإدراك الحسن والقبيح قبل الشرع. وعند الأشاعرة لاحظ للعقل عبد الشرع بل العقل تابع للشرع فما أمر به الشرع يعلم العقل أنه حسن، وما نهى عنه يعلم أنه قبيح. . . فلا تكون اللواطة في الجنة على الصحيح لأنه تعالى استقبحها وسماها خبيثة والجنة منزهة عنها، وفي الأشباه حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة، وقيل سمعية فتوجد. . .)
هذا ولقد ظن بعض القراء أن معنى وجود خلاف في الرأي فيما يتصل بوجود هذا الفعل في الجنة أو عدم وجوده، أن الشريعة الإسلامية، لم تنكر هذا الفعل لأنها لم تقرر الحد عنه، وفاتهم أن عدم الحد عنه لا لخفته بل للتغليظ حتى رأى الجمهور تكفير مستحلها، وأن بعضهم يرى حد الفاعل والإحراق بالنار، وهدم الجدار والتنكيس في محل مرتفع باتباع الأحجار والجلد والتعزير والسجن حتى الموت أو يتوب، ولو اعتاد هذا الفعل قتله الإمام سياسة.
هذا وقد قال لما بعض العلماء إن الذين يرون رأيننا في روحية اللذات في الجنة يجب تكفيرهم أو على الأقل رميهم بالضلال والعياذ بالله، لأن رأي الروحانية يتنافى في رأيهم مع أصل النصوص، والواقع أن هؤلاء يتجاهلون ما يجب أن يعرفوه من أن اللذة سواء أكانت حسية أم معنوية تتصل أكبر ما تتصل بالتفاعلات النفسية وتقرب كل القرب من الروح، فالسمع والبصر والشم واللمس والذوق حواس الإنسان الخمسة يمكن أن تضم إليها الحاسة الفنية التي يضمها بعض الكتاب وبذا نكاد نتفق في إعزاز الجزء الروحي في كل حاسة وإكبار شأنه وفهمه أنه أسمى جزئياتها. فأنت إذا رأيت منظراً جميلاً هل تستطيع أن تقدر لطربك الروحي من رؤية هذا المنظر أقل من تسعة أعشار ما يشع عليك من سرور. ولقد كان جمال يوسف الصديق شاغلاً لأهل مصر عن الإحساس بألم الجوع، حتى أنهم كانوا إذا جاعوا (كما ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين الجزء الرابع) نظروا إلى وجهه فشغلهم جماله عن الإحساس بألم الجوع، وحتى قطع النسوة أيديهن لاستهتارهن بملاحظة جماله حتى ما أحسسن بذلك كما قص لنا للقرآن الكريم. وكذلك يمكن القول عند ذكر الحاسات جميعاً. فليطمئن هؤلاء العلماء الذين أسرعوا فكفروا مع أن التكفير إثم عظيم لا(316/86)
يكفره إلا عفو من ظلموه ليطمئنوا لأنا نفهم أن الإنسان كما يمكنه أن يسمو بلذاته الحسية إلى حيث مرقاة الروح، يستطيع أن ينزل بها إلى حيث يريد من النزول. فعند سماعك لغناء تستطيع أن ترقى به وتستطيع أن تجعله ينزل بك، فإذا سمعت غناء من ذي صوت جميل لتقديس الله بالتفكر في جمال الحناجر التي خلقها فأنت رجل روح تتمتع بلذة السماع وهي لذة حسية وترتفع بها إلى جعلها ترقى بروحك وبنفسك، وأما إذا كنت تسمع صوتاً جميلاً من جميل وتريد بسماعك ومن حركات المغني تحريك شهواتك، فأنت نازل بلذتك الحسية إلى الحضيض، ولذا قرر السهروردي حل الغناء في الأولى وحرمته في الثانية
ثم ما قال هؤلاء العلماء في لذة النظر إلى وجه الله الكريم؛ وهي لذة روحية بحتة تفوق كل اللذات. . . الحق أنهم ظنوا بجهلهم لروح الإسلام وتعاليمه الصحيحة، أن حسية اللذات تمنع من روحانيتها، وفاتهم أن اللذة معنى لا يحس وأنها إذا نسبت لما ينتجها فليس هذا إنزالاً لها من عالمها إلى عالم المادة أو الحس. ولكن الذي نؤمن به كمسلمين صادقين أن في الجنة لذات روحية وحسية، وإنا كمؤمنين صادقين نرى أن لذات الجنة الحسية لذات راقية تسمو بالروح، إذ لا لغو في الجنة ولا تأثيم، وأن أكبر لذات الجنة التي سينعم بها المؤمنون روحية. هذه عقيدتنا التي يجب أن يؤمن بها كل مؤمن صادق.
محمود علي قراعة
فن منحط برغم ذلك
كتب الأستاذ أنور كامل في بريد العدد الماضي من الرسالة كلمة عن جماعة الفن والحرية بعد أن شعر أن الكلمة المنشورة في العدد الأسبق تحت عنوان الفن المنحط تمس الجماعة التي ينتمي إليها رغم أن الكاتب لم يشر بتاتاً إلى جماعة (الفن والحرية) وهذا التصرف من الأستاذ كامل له مغزاه. . . وقد أتيح لي أن أطلع على بعض ما كتبه ورسمه بعض المنتمين إلى تلك الجماعة وأرسلت بعضه لمحرر الرسالة، ولعله المعنى بالذات في تلك الكلمة التي أثارت الأستاذ كامل ودفعته إلى كتابة كلمته. . .
وإني أقول للأستاذ إن الفن الذي يبشر به ويروج له فن منحط رغم كل ما يقال فيه، وإن الجماعة التي تتسمى باسم الفن والحرية لا تفهم الحرية إلا على أنها فوضى لا ضابط لها(316/87)
ولا قانون - كما أن مسايرة الفن الأوربي في تخبطاته الأخيرة ليست حرية بحال من الأحوال. بل هي عبودية عمياء، وهذا هو ما تفعله جماعة الفن والحرية!! فليشرح لنا الأستاذ على أي أسس تقوم آراء جماعته - وإني على استعداد تام لمناقشة كل ما سيدلي به الأستاذ في الدفاع عن آراء جماعته. ولعل صفحات الرسالة تتسع لكل ما سيكتب في هذا الموضوع والكسب للفن على كل حال.
نصري عطا الله سوس
للحقيقة والتاريخ: بيان وتصحيح
لما قرأت ما نشرته الرسالة منذ أعداد من نبأ (المجلة الأدبية) التي ستصدر في دمشق، والمحاضرة التي ألقيت في بعض النوادي عن (التأليف والمؤلفين) وأحاديث (الراديو) عن شعراء دمشق، ورأيت ذلك كله مجتمعاً في عدد واحد، والى جنبه ذكر كتاب نشر حديثاً ووصفه بأنه (آية في التحقيق والتدقيق)، ظننت أن الله قد (بعث) الحركة الأدبية في الشام، واستخفى الطرب حتى حدا بي إلى الإسراع بالعودة إلى الديار، لأشارك في جَنْي بواكير هذه الثمرة الطيبة. . . وعدت فإذا المجلة (مشروع) من هذه المشروعات التي يطيب لبعض الشيوخ المتقاعدين وبعض الشبان المتبطلين الكلام فيها ليوهموا أنفسهم أنهم (يشتغلون) ولم يتحقق منه إلا اجتماع دعا إليه أحد الأدباء، وخبر لا أدري من بعث به إلى الرسالة، ذكر فيه أشخاص متماثلون متقاربون في شهاداتهم ومنازلهم زملاء في التدريس، فرفع بعضهم إلى المنزلة العليا وقيل عن بعض إنهم (متأدبون ناشئون) فحقدوا على الرسالة، والرسالة لا ذنب لها. . . وإذا المحاضرة التي ألقيت ونشرت كاملة في صدر (الهلال) تشتمل على دعوة (قوية) إلى ترك الثناء بالباطل، والى النقد الصريح. ونحن اتباعاً لهذه الدعوة، وامتثالاً لأمر صاحبها، نعلن أن المحاضرة أرقى بقليل من كتاب (الوسيط) الذي يدرس للطلاب، وأنها خالية من الإحاطة بالموضوع، ومن التحقيق العلمي، ومن (الشيء الجديد)، وأنها عبارة عن نتف من هنا ونتف من هناك، جمعت بأسلوب خطابي يثب فيه المؤلف من عصر إلى عصر، فيذكر أشياء لا ندري لماذا يذكرها، ويهمل أشياء لا ندري فيم أهملها، ثم يختمها بكلام طويل في وصف المؤلف الذي (يريده). وأما(316/88)
أحاديث الراديو، فلم تلق بعد، وأظن أن هذا الشاب العامل المد سيكون أدنى إلى التوفيق من سادتنا الكهول الذين أخذوا شهرة من الدهر فناموا عليها، واطمأنوا اليها، وأهملوا الإنتاج القيم، وإذا الحركة الأدبية (لا تزال) ميتة أو مغشياً عليها قد صرعتها السياسة وأحداثها، فأحببت أن أنشر هذا البيان في الرسالة لا بغضاً لدمشق فما يدعي محبتها أكثر مني إلا كاذب، ولكن حفزاً للهمم وإظهاراً للحقيقة، ولئلا يسجل في الرسالة غير الحق. وأنا أتمنى والله أن يكون الأمر غير ما أقول ولو عدت كاذباً. . .
ع. ط.
فرقة تمثيلية من المشايخ
شهدنا في دار الأستاذ علي الطنطاوي اجتماعاً تمهيدياً لتأسيس فرقة تمثيلية تضم كبار المشايخ المشتغلين بالعلم والأدب؛ الغاية منها إرشاد الناس إلى المنهج الأخلاقي والعمل للإصلاح عن طريق التمثيل. وقد حضر الاجتماع الأستاذ الكبير الشيخ عبد القادر المبارك والأستاذ الشيخ عبد القادر الطنطاوي. وقد تبرع أحد الوجهاء الذين حضروا الاجتماع بأرض واسعة يبنى فيها مسرح عظيم، وبالنفقات اللازمة للتمثيل. وسيقوم حضرات الأساتذة بالتمثيل فعلاً، في الرواية الأولى التي يعدها الآن الأستاذ الشيخ علي الطنطاوي.
(دمشق)
(ص. م)
المرحوم فليكس فارس
ستقام حفلة تأبين كبرى للمرحوم الأستاذ فليكس فارس بدار المحفل الأكبر الإقليمي بشارع يونج رقم 2 بالإسكندرية وذلك في تمام الساعة السابعة والنصف من مساء الاثنين 24 يوليو سنة 1939 والدعوة عامة.
عائشة والسياسة
وقع في هذا المقال المنشور بالعدد (314) من (الرسالة) سهو، وهو أن الحاشية (الأغاني 5 - 130 طبع دار الكتب) موضعها آخر العمود الثاني (ص 1350) لأنها تعين مصدر(316/89)
الحادثة المذكور ثمة، ولا علاقة لها بالعنوان.(316/90)
رسالة النقد
سمو المعنى في سمو الذات
أو أشعة من حياة الحسين
تأليف الأستاذ عبد الله العلايلي
للأستاذ علي الطنطاوي
تفضل الأستاذ عبد الله العلايلي فأهدي إليّ كتابه الذي سماه (سمو المعنى في سمو الذات)، وجعله الحلقة الأولى من سيرة الحسين بن علي بن أبي طالب، فطالعت أكثره والقلم في يدي فكنت أكتب بعض التعليقات على ما أنكر منه فاجتمع لي في نقده مسائل (مهمة جداً) أحببت أن أنشرها، وما أشك في أن الأستاذ يتقبلها بقبول حسن، فيقرّها إذا رآها حقاً، ويناقشني فيها إذا رآها غير ذلك. ولست أعرض في هذا النقد للخلاف بين السنة والشيعة، أو أثير غبار النزاع على القضايا المذهبية، وإنما أنقده من الناحية التاريخية العلمية، للوصول إلى الحقيقة التي أنشأ الأستاذ العلايلي كتابه للبحث عنها
والملاحظة العامة على هذا الكتاب هو أنه يدرس خلافاً بين فئتين، فيسبغ على إحداهما ثوب التقديس والإجلال، ويكتب عنها بروح إكبار واحترام، وينزل بالثانية إلى حيث يتمكن من النزول بها، ويلصق بها التهم والعيوب، ويتكلم عنها بلغة لا تخلو أحياناً من كلمات وعبارات لا يليق بالمؤرخ المنصف المهذب أن يقولها. وقد تكون هذه التهم صادرة عن (الخيال. . .) وحده، ليس لها سند من رواية أو نص؛ وقد يعترف بذلك المؤلف، ولكنه لا يمتنع عن ذكرها. كقوله وهو يتكلم عن الأمويين صفحة (33): (الحزب الأموي كاد للنبي ولدعوته، وعرفنا كيف أسلم زعيم الأموية أبو سفيان، وعرفنا كيف لم يبق للأمويين أي مقام اعتباري في محيط الإسلام الذي كان ظهوره فوزاً وغلبة للهاشميين. . . ووجدوا في ولاية يزيد بن أبي سفيان وولاية معاوية من بعده فرصة سانحة للقيام بعمل خطير، ففكروا في اغتيال عمر بن الخطاب (!) وكذلك اغتالوه بيد فارسي. . .) إلى أن قال: (وإنما أقول في جملة ما أودّ إثباته إن قتل عمر لم يكن وليد فكرة فارسية مدبرة، وإنما كان فكرة موضعية خالصة وأموية بحتة. هذا رأيي وعسى أن أجد (انتبه) في منثور الروايات(316/91)
والأخبار ما يوضح الواقع)!
فإذا كان المؤلف يستند في تاريخ الماضي إلى (رأيه. . .) ويضع النتيجة قبل أن يجد المقدمات، أي أنه إذا كان يرتجل التاريخ ارتجالاً فليس عجباً أن يكون في الكتاب نُقول عن المسعودى في الطعن على بني أمية والمسعودى لا ينقل عنه (وحده) في هذا الباب كما هو معروف، وأن يكون فيه نقول عن مثل الأب لامنس عدوّ العرب والإسلام، المتعصب الذي يضعفّه كثير من المستشرقين ولا يرون الأخذ عنه
والمؤلف يقول في صفحة (13): (والحق أنا لا نزال من فهم عصر الحسين على غموض وخفاء، وذلك لأن الأقلام التي تناولته منذ أول عهد العرب بكتابة التاريخ لم تكن بريئة على إطلاق القول، بل دارت عل خدمة أغراض شتى بين النزعة المذهبية، والزلفى من السلطة الغالبة). ثم يأتي في صفحة (49) فيقول في عنوان مكتوب بحروف كبيرة: (أسباب فشل سياسة علي عليه السلام ونجاح السياسة المعادية) ويصف الأمويين بأنهم أداة إفساد وفي طبيعتهم بعث الحياة الجاهلية صفحة (28). ويقول في صفحة (42): (علي بن أبي طالب مظهر فذ من مظاهر التكامل الإنساني، ونموذج بارع من نماذج التفوق البشري، ومثال لبلوغ الاستعداد الكامن في النسم الخ) في صفحة كاملة كلها خطابيات ومبالغات على هذا النمط. وحينما يتكلم عن الخلفاء الأربعة يتكلم عنهم ص (12) بما نصه: (الخليفة الأول والثاني والثالث ثم علي عليه السلام)
ولنأت الآن إلى عرض نماذج من المسائل التي أنكرتها في الكتاب بقصد التمثيل لا الاستقصاء
1 - يقرر في صفحة (10) أن نظام الحكم في عهد الأمويين (لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بالأحكام العرفية، هذا النظام الذي يهدر الدماء، ويرفع التعارف على المنطق القانوني (كذا) ويهدد كل امرئ في وجوده. وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ولحالات خاصة فقد كان في العهد الأموي هو النظام السائد) وكان هذا في رأيه (وضعاً احتكم في كل التاريخ الأموي وصبغه بصبغة وبيلة، فتنافى مع المبادئ الدينية والمدنية) وكل ما أورد المؤلف من الأدلة على هذه الدعوى التي لا يدعيها أشد الغلاة من أعداء التاريخ الإسلامي وخصومه، كل أدلته أنه أشار إلى (المرسوم الملكي أو المذكرة(316/92)
الإيضاحية (كذا) الصادرة في بيان الأسباب التي بررت قتل أبي جعفر الشلمغاني) وذكر أنها في الجزء الأول ص (238) من معجم الأدباء - وهكذا ثبتت هذه التهمة الخطيرة، وسوَّدت صفحة من أنصع صفحات التاريخ العربي، وانتهى الأمر بسلام، وقيل الحمد لله رب العالمين.
ورحمة الله على العدل أيام بني أمية، ورحمة الله على التحقيق التاريخي في أيامنا هذه
2 - يقرر في ص (12) أن معاوية اقتبس النظام البيزنطي (وانفعل به إلى أبعد حد. فانتقل طفرة واحدة إلى نظام يبعد كثيراً عن النظام النبوي من كل الأطراف) إلى أن قال: (إلى حد نتمكن معه من القول بأنها حالت دون أزكى ثمار الإسلام، وحالت دون حكومة القرآن، ومسخت تعاليم النبي، وشوهت تقاليد حكومة الخلفاء). اهو الذي نفهمه أن موضوع اقتباس الأمويين النظام البيزنطي يحتاج إلى درس شامل لكلا النظامين، وأدلة ثابتة، ولا يمكن شرحه فيما دون الرسالة الكبيرة أو الكتاب المستقل. أما مجرد الادعاء وإرسال النظريات فلا يقدم في التاريخ ولا يؤخر ولا يكون له قيمة علمية
3 - ذكر في صفحة (17) أن من الأسباب (التي يظن أنها مهدت إلى عمل الاضطراب (كذا) وإثارة الخواطر وقدمت مادة الانقلاب الكبير، الاختلاف على البيعة يوم السقيفة وامتناع فاطمة منها وآل هاشم عموماً) وذكر أن هذا الخلاف (كان له صدى عكسي - كذا - ولد عند البعيدين شيئاً من الشعور بالاستهانة وجرأهم على الانتقاض والخروج والتمرد). وجعل المؤلف هذا الخلاف من الأسباب المؤدية إلى ارتداد العرب، مع أن انتخاب الرئيس في أي بلد من البلدان الجمهورية يتقدمه في عصرنا نزاع وخلاف لا يقاس به اختلاف أهل السقيفة، ولا يؤدي إلى خروج ولا تمرد. ثم إن خلافة أبي بكر كانت إجماعية فلم يشذ عن بيعته إلا رجل واحد هو سعد بن عبادة. وتأخر علي ومن معه لأسباب أخرى ذكروا أن منها اشتغاله بكتابة المصحف. وعلى كل فقد بايع أخيراً. أما ارتداد من ارتد فقد كانت له أسباب معروفة (غير ما ذكر)
4 - ويذكر في صفحة (23) أن من هذه الأسباب: (عدم عناية حكومة الخلفاء ببث الدعوة وغرس التربية الدينية) وهذا كلام لا يقبله أحد، لأن المؤلف لم يقم عليه الدليل العلمي أولاً، ولأن هذا الادعاء طعنة موجهة إلى صميم التاريخ الإسلامي. وإذا كان أبو بكر وعمر(316/93)
وعثمان وعلي لم يعنوا ببث الدعوة وغرس التربية الدينية، فمن ذا الذي عني بها؟ ومن ذا الذي بث الدعوة إلى الدين حتى شملت مشارق الأرض ومغاربها؟ ومن غرس التربية الدينية حتى في صدور الفرس والروم وأهل خراسان وأرمينية حتى صاروا مسلمين يشتغلون بدرس الدين ويتبعون هديه، وحتى نشأ فيهم علماء فحول وأئمة هادون؟
أتردّ هذه الحقائق كلها بتسعة أسطر جاء بها المؤلف، خاليةً من أي دليل: من نصَّ ثابت أو استنتاج منطقي؟
5 - وذكر المؤلف أن (مسحة الحكم إلى عصر علي لم تزل خاضعة للنظامات القَبلية، وأن حكومة (تقوم على نظم البداوة لا يرجى لها بقاء، لأنه ليس بين عناصرها وحدة حقيقية) والرد على هذا الكلام من وجهين: أولهما أن الإسلام قد محا عصبية القبيلة ودعا إلى الأخوة الإسلامية، وفهم ذلك الصحابة ونشأ عنه وحدة عربية استطاعت أن تعمل أكبر عمل في سبيل الدعوة إلى الله. وثانيهما أنّ هذه النزعة القبلية إذا كانت قد ظهرت بعض الظهور، فإنما ظهرت أيام علي. واستثناء المؤلف عصر علي من الحكم الذي أطلقه وعمّمه قلبٌ للحقيقة وتبديل للواقع
6 - ويقول في صفحة (26): (إن للأنصار حقاً أكيداً وشبهة قوية في السلطة على أنهم فهموا في آخر الأمر أنهم أنصار الدين وأنصار محمد وأنصار بيته (كذا) ولذا ظل ميلهم إلى الداعي القائم من آل البيت). . . وقرّر في حاشية الصفحة أن الأنصار: (يعتبرون وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة).
ودليل هذا كله أن (فْلُوتِنْ) ذكره في كتاب (السيادة العربية) فانظر هذا التحقيق!
7 - ويقرر في صفحة (27) أن الأمويين أرادوا (أن يخضدوا من شوكة المدنية ويقضوا على الطبقة الدينية المحترمة) وأنهم (استأجروا طوائف من الشعراء والمغنين والمخنثين من بينهم عمر بن أبي ربيعة لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين: مكة والمدينة بمسحة لا تليق بهما. . .) إلى أن قال: (ويتمادى بنا الظن إلى أن المروانيين فكروا بصرف الناس عن المقدسات الإسلامية التي تنزل من الإسلام منزلة الشعيرة، بإنشاء المسجد الأموي بأبهته العظيمة بدمشق. ولقد ظن بعض المستشرقين (كالأب لامنس اليسوعي) بأن هذه نية عبد الملك بن مروان بأناقته في تشييد المسجد الأقصى. ونحن وإن كنا نظن ونوافق من(316/94)
يظن نرسل ما نقول في تحفظ حتى تتناصب عليه الشواهد والروايات) آه وما دام هذا كله ظناً من المؤلف، وما دام قد أقر بذلك فنحن نعلن أن الظن لا يغني من الحق شيئاً، وأن التاريخ لا يُكتب على هذا الشكل الذي عمد إليه المؤلف، وإنما يكتب التاريخ رجل خالي النفس من الهوى لا يبغض ولا يحب؛ وإنما يدرس المقدمات ويسير فيها بهدى المنطق وينتهي حيث تنتهي به، وما عدا هذا وجاوزه لم يكن تاريخاً ولا شبه تاريخ
8 - ومن أعجب ما يأتي به هذا المؤلف الذي يرتجل التاريخ وينشئ من خياله حوادث لم تكن - أنه يجعل في صفحة (66) نشأة يزيد بن معاوية، نشأة مسيحية! ويستدل على ذلك بأن أخواله بني كلب كانوا يدينون قبل الإسلام بالمسيحية! والى أنه يعرف طرفاً من الهندسة!! والى أن يزيد أمر الأخطل (لمسألة خاصة معروفة) بهجاء الأنصار. ويقول في صفحة (68) بعد سرد هذه الأدلة المضحكة: (إذن كان يقيناً أو يشبه اليقين أن تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة؛ أو بعبارة أخرى كانت مسيحية خالصة، فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون مستهتراً مستخفاً بما عليه الجماعة الإسلامية لا يحسب لتقاليدها وعاداتها أي حساب ولا يقيم له وزناً، بل الذي يستغرب أن يكون على غير ذلك)
هذا قليل جداً من كثير جداً، مما في هذا الكتاب العجيب من المسائل.
أما لغة الكتاب فلا تخلو مواضع منها كثيرة من ضعف في التأليف، أو استعمال للكلمة على غير وجهها أو في غير معناها. قال المؤلف في الصفحة (9): (ثم هذه الجوانب التي نلمح إليها ليس من السهل استيعابها على وجه الدقة إلا إذا انتشرنا على مسائل الخ. . .) فافتتح الكلام بقوله: (ثم هذه الجوانب) وكان الأولى أن يقال: (ثم إن هذه الجوانب)، واستعمل كلمة (انتشرنا على) بمعنى (اطلعنا على) وليس لها وجه. وقوله في ص (11): (وكذا يبدو الدرس متصعباً غامضاً حتى نقف من تاريخ الحسين موقف الحيرة المطلقة لشدة خفاء الجانب التعليلي (؟) في كل مراحل حياته التي كانت أشبه بالبعثرات). وقليل من يفهم ما المراد بالجانب التعليلي، أو يقر كلمة (البعثرات) في هذا الموضع، ولذلك أمثال في الكتاب
هذا وأنا أشكر للمؤلف الفاضل هديته، وأرجو أن يحمل نقدي على المحمل السهل، وأن يثق بأني لولا احترامي إياه، ما نقدته ولا عرضت لكتابه
علي الطنطاوي(316/95)
العدد 317 - بتاريخ: 31 - 07 - 1939(/)
لجنة التقدير
للأستاذ عباس محمود العقاد
ثم تقررت ضريبة الجمال
وجاء دور اللجان التي تقدر الجمال بالخبرة والنظرة الصادقة، وتقدر الضريبة عليه بالعدل والقسطاس المستقيم
فمن هم الخبيرون بالجمال؟ وممن تتألف اللجنة أو اللجان التي تفرض (مقداره) ثم تفرض مقدار الضريبة الواجبة عليه؟
زعموا أنهم ندبوا لذلك لجنة من فلاسفة (الاسطاطيقا) أو فلسفة الجمال كما عربها الأستاذ الأكبر أحمد لطفي السيد باشا
واعتقدوا أن هؤلاء الفلاسفة هم أحق الناس بعرفان المعاني الجميلة والصور الجميلة، كما أنهم أحق الناس باستخلاص كنه الجمال في جوهر الجواهر ولب اللباب
قالوا: فمضت برهة قبل أن يتفق هؤلاء الفلاسفة الأخيار على التعريف المختار
هل الجمال هو الحرية؟ وهل الجمال هو التنسيق والنظام؟ وهل الجمال هو غلبة الفكرة على المادة؟ وهل الجمال في تمثيل الغريزة الجنسية؟ وهل الجمال في تمثيل النزعة الكمالية؟ وهل الجمال عميق عمق البشرة، أو هو عميق عمق الروح وعمق أسرار الغيوب؟
وجيء إلى الحكومة بمحاضر الجلسات فإذا هي ألغاز ومعميات، وشعاب ومنعرجات، ومتاهة تلتقي فيها الخواتيم والبدايات، وتنقضي الأعوام قبل أن تسعف الخزانة ببضعة دريهمات
وزعموا أن الحكومة تركت هذه اللجنة توغل في متاهاتها وندبت للأمر لجنة أخرى من رجال المسارح والمراقص ومدربي اللاعبين واللاعبات والراقصين والراقصات
ثم جربتها في مدينة واحدة، وانتظرتها برهة أخرى فإذا هي تعود إليها بأسماء لا تتجاوز العشرات، وأرقام لا تتعدى المئات، لأنها قضت برهتها في قياس الوجوه والأجياد، وقياس الأنوف والآذان، وقياس الصدور والظهور، وقياس الجذوع والأطراف، فما استحسنته من هنا عابته من هناك، وما زادته من الساعد نقصته من الساق، وما أضافته عادت فحذفته،(317/1)
وما أوشك أن يؤول إلى ثروة تراجع فأوشك أن يؤول إلى إفلاس!
وبلغت الشكايات إلى مسامع الحكومة قبل أن يبلغ التقرير إلى مراجعها، ثم نظرت في التقرير بعد انتهائه إليها فإذا هو اضطراب في الأهواء، واضطراب في الآراء، واضطراب في الأرقام والأسماء، فقالت: عليه وعلى كاتبيه العفاء!
زعموا هذا وزعموا أن أديباً كيِّساً نصح إلى الحكومة جهد نصيحته فأشار عليها بالتعويل في أمر الضريبة على أناس غير الفلاسفة وغير خبراء الفنون
ماذا عليها مثلاً لو عمدت إلى طائفة من هواة السهر، وعشاق الحسان في باحات السمر، فناطت بهم تقدير الجمال، وتقدير جباية الأموال؟
هؤلاء أناس من أوساط الناس ليسوا بأصحاب إمعان في الحقائق والأسرار، ولا بأصحاب تصعيب في القياس والاختبار؛ وهم مع هذا يعرفون النساء، ويحبون الشمائل الحسناء، فلجنة منهم هي أصلح الأكفاء لتقويم الجمال كما يقومه عامة الرجال والنساء
وإن الحكومة لتهم بالموافقة والتصديق، إذا بصديق يأخذ عليها الطريق، وينهاها عن هذا الفريق، لأنه أعجز فريق عن التوفيق في هذا العمل الدقيق!
سألوه: لماذا؟
فأجابهم: لهذا. . .
وهذا عنده هو دعواه أن رواد المراقص والملاعب لا يحبون الحسناء لأنها حسناء، ولكنهم يحبونها لأنهم يحبون المغالبة والرهان، والمفاخرة والشنآن. . . فشأن المرأة عندهم كشأن كل علامة يتحقق بها الغلب والظهور، وما يبذلون من مال في هذا المجال فإنما يبذلونه بذل المراهن أو بذل المقامر أو بذل المتحدي في أمر من أمور العناد والإصرار، ولا يبذلونه تقويماً للحسن ولا للمتعة ولا لإرضاء الذوق السليم والفن الجميل
ويتفق كثيراً أن تغلب خلاعة المرأة جمالها في هذا القمار أو هذا السباق
ويتفق كثيراً أن يغلب الكيد الخلاعة، وأن تبقى بعد الخلاعة والكيد وشهوة الفوز والغلبة حصة صغيرة للجمال الصحيح
حيرك الله يا جمال كما أنت حيرة الناظرين والباحثين والمشترعين والمحصلين!
إذن لا ينفع الفلاسفة ولا ينفع خبراء الفنون، ولا ينفع عشاق الحسان أو غير الحسان. . .(317/2)
فمن الذين ينفعون؟ ومن الذين يقدرون؟ وكيف يقدرون ويحصلون؟
رأي أخير، فلعله ليس بفطير
قالوا: نعهد في أمر التقدير والتحصيل إلى لجان من عامة خلق الله، لا هم بأصحاب فلسفة ولا هم بأصحاب فن ولا هم بأصحاب سهر ومجون
بل زيد وعمر وبكر وخالد وفلان من جملة بني الإنسان
وجمعوا اللجان من عامة السكان
فعادوا قليلاً وهم بين مكسور ومجبور وولهان وغضبان
عند البيت الأول قال شيخ من ذوي الوقار بين الأعضاء: مائة دينار لا تنقص درهماً واحداً على هذه الحسناء
قال فتى أنيق: وأين هي تلك الحسناء؟
قال الشيخ: تلك التي تراها
قال الفتى: أتلك السمينة البدينة التي تشبه الغرارة؟
فما أتمها حتى سقط تحت أربعة أو خمسة من الضاربين: أحدهم الشيخ والآخرون أو الآخرات، ما شئت من سامعين وسامعات
وفي لجنة أخرى تغير الاقتراح فكانت الضريبة الراجحة من نصيب النحيفة العجفاء، فلم تتفق اللجنتان في غير الضرب والتجبيه والإيذاء
وكانت اللجنة من اللجان تشتمل على الحضري والقروي والشيخ والشاب والجاهل والمتعلم والزوج والأعزب ومن يعرف نساء الحي ومن ليست له معرفة بهن ولا قرابة. فإذا أُخذت الآراء، فهناك ابتداء ولا انتهاء، ومتهمون ولا أبرياء، ومغرضون ولا نزهاء، في عرف جميع الرجال وجميع النساء
وكثرت الرشوة، وعمت الوشاية، واستفاضت الأقاويل، وتبدلت اللجان، فما كان من أهل قرية فلينقل إلى غيرها لدفع المظنة ومنع الشبهة، وهي لا تمتنع ولا تندفع بحال
قال كاتب هذه السطور: فلما علمت بهذه الورطة وعلمت أنني جنيتها وأوقعت من أوقعت فيها علمت كذلك أنني مطالب (بالتخليص) كما قد تبرعت بالتوريط، وأنني فتحت باباً ولا مناص له من إغلاق، وبدأت أمراً ولا بد له من ختام(317/3)
قلت لمن سمع ما قلت: إياكم واللجان، وإياكم والتقدير، واجعلوها كما هي في الحقيقة ضريبة فذة بين ضرائب العصور، فلا يقدرها مقدر ولا يجبيها جاب ولا يسأل عنها سائل، وإنما يترك الرأي فيها لمن يبذل بذله ويسوّم تسويمه، وما على الحكومة إلا أن تعلن بالمذياع وبالصحف وبالنداء في أرجاء البلاد أسماء كل مائة راجحات في كل يوم من الأيام، ولا عليها من نشر الصور والأوصاف إلا أن يشاء ذلك من يشاء
وسنرى كيف تمتلئ الخزانة، وينقلب معنى الخيانة إلى إفراط في الأمانة، فيؤديها الناس أضعافاً مضاعفات، ويبذلونها مرات بعد مرات، كلما فاتهم الإعلان مرة فاستدركوا ما فات!
عباس محمود العقاد(317/4)
حول كتاب:
مستقبل الثقافة في مصر
نظرة انتقادية عامة
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
- 2 -
وأما مآخذ المقدمات والبراهين التي بنى عليها مؤلف الكتاب (الحكم) الذي ذكرناه آنفاً، فهي كثيرة ومتنوعة؛ سأكتفي بذكر ثلاثة منها، لإعطاء فكرة عامة عنها:
1 - عندما يسأل المؤلف: (أمصر من الشرق أم من الغرب؟) يوضح قصده من هذا السؤال بقوله: (أنا لا أريد بالطبع الشرق الجغرافي والغرب الجغرافي، وإنما أريد الشرق الثقافي والغرب الثقافي) ثم يعقب قوله هذا بالعبارات التالية:
(فقد يظهر أن في الأرض نوعين من الثقافة يختلفان أشد الاختلاف، ويتصل بينهما صراع بغيض، ولا يلقى كل منهما صاحبه إلا محارباً أو متهيئاً للحرب: أحد هذين النوعين هذا الذي نجده في أوروبا منذ العصور القديمة، والآخر هذا الذي نجده في أقصى الشرق منذ العصور القديمة أيضاً). . . (ص: 7)
يصعب عليَّ جداً أن أوافق المؤلف على ما جاء في عباراته هذه: لا أدري ما هي الثقافة التي كانت موجودة في أوربا منذ القرون القديمة؟ وما هو الصراع البغيض الذي اتصل بين هذه الثقافة وثقافة الشرق الأقصى المخالفة لها؟ ومتى وكيف حدث هذا الصراع، وبأي شكل انتهى. ما هي الحروب التي حدثت بين هاتين الثقافتين، كلما التقتا؟ ما هي تواريخ التقاء هاتين الثقافتين المتخاصمتين؟ وما هي تفاصيل الحروب التي نشبت بينهما كلما حدث هذا الالتقاء؟
إن كل ما أعرفه عن التاريخ بوجه عام، وتاريخ الحضارة، وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم بوجه خاص. . . لا يساعدني (مع الأسف الشديد) على إعطاء أجوبة مثبتة على هذه الأسئلة. . . وبعكس ذلك، كل ما أعرفه في هذا المضمار، يحملني على القول بخلاف ذلك تماماً. . . كل ما أعرفه في هذا المضمار يحملني على القول بأن الصراع الذي حدث بين(317/5)
الثقافات والحضارات التي نشأت وترعرعت حول بحر الروم نفسه، كان أشد وأعنف وأطول من الخصام الذي حدث بين هذه الثقافات والثقافات الهندية والصينية بدرجات كبيرة. . .
مع هذا أتساءل حائراً: ما الفائدة من هذه الأبحاث في هذا المقام؟ ما شأن هذه القضية بشرقية مصر أو غربيتها؟ وهل من علاقة منطقية بين هذه القضية وبين مسألة وجود أو عدم وجود فروق جوهرية بين العقل المصري والعقل الأوربي؟
يتساءل المؤلف في هذا المقام:
- أيهما أيسر على العقل المصري: أن يفهم الرجل الصيني أو الياباني، أو أن يفهم الرجل الفرنسي أو الإنكليزي؟
(هذه هي المسألة التي لا بد من توضيحها وتجليتها قبل أن نفكر في الأسس التي ينبغي أن نقيم عليها ما ينبغي لنا من الثقافة والتعليم؟) (ص7)
وهل من مفكر يقول - في مصر أو في غير مصر - بوجوب إقامة الثقافة والتعليم على أسس ثقافة الصين أو اليابان؟
إنني أعتقد أن هذه الأبحاث كلها من الأمور الاستطرادية التي لا ضرورة لها ولا فائدة منها: فلا الاتفاق في أمرها يكون سبباً كافياً لقبول الحكم المتعلق بعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، ولا الاختلاف في شأنها يكون سبباً مبرراً لرفض ذلك الحكم
كما أن الاتفاق أو الاختلاف عليها لا يستلزم الاتفاق أو الاختلاف في تثبيت الأسس التي يجب أن تقام عليها الثقافة والتعليم، في مصر وفي سائر البلاد العربية
2 - قبل أن ينتهي المؤلف من مناقشة قضية (الشرق والغرب) يتطرق إلى مسألة أخرى، فيثير قضية (تأثير وحدة الدين ووحدة اللغة في تكوين الدول) إنه يقول في هذا الصدد ما يلي:
(من المحقق أن تطور الحياة الإنسانية قضى منذ عهد بعيد بأن وحدة الدين ووحدة اللغة، لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول. . .) (الصفحة 16)
(فقد تخففت أوربا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا(317/6)
على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس. . .) (الصفحة 18)
إن هذه الآراء تستوقف النظر، وتستوجب المناقشة في عدة وجوه:
أولاً - يستعمل المؤلف في الفقرة الأولى تعبير (وحدة اللغة)، وفي الفقرة الثانية تعبير (تقارب اللغات). ولا أراني في حاجة إلى الإيضاح بأن الفرق بين مفهومي التعبيرين المذكورين كبير جداً
ثانياً - يسوي المؤلف - في كلماته هذه - بين وحدة الدين ووحدة اللغة في وجهة التأثير السياسي؛ ويدعي أن تأثيرهما في السياسة كان من خصائص القرون الوسطى، وأن أوربا تخلصت من تأثير هذين العاملين منذ عهد بعيد. . .
إنني أعتقد أن كل ذلك مخالف لحقائق التاريخ وقوانين الاجتماع مخالفة صارخة: فإن عمل وحدة اللغة في الحياة الاجتماعية والحوادث التاريخية، يختلف عن عمل وحدة الدين اختلافاً كلياً: يذكر التاريخ - بين حوادث القرون الوسطى والقرون التي تلتها - أمثلة كثيرة لعمل الدين في السياسة؛ كما يسجل وقائع عديدة تظهر تأثيرات مبدأ (حقوق الملوك) في تكوين الدول وتوحيدها؛ ويذكر أمثلة كثيرة لانضمام بعض الأقطار إلى أخرى، بسبب وقائع التزاوج والتوارث التي حدثت بين الأسر المالكة. ولكنه لا يذكر - بين حوادث تلك القرون - مثالاً واحداً عن تكوين دولة على أساس (وحدة اللغة)
إن وحدة اللغة لم تصبح من القوى الفعالة في تكوين الدول وتوجيه السياسات إلا في القرن الأخير، وإلا بعد أن فقدت (وحدة الدين) قوتها وتأثيرها في هذا المضمار. . . كما أن تأثير (وحدة اللغة) في السياسة لم ينته بانتهاء الفرق المذكور، بل أزداد شدة في القرن الذي نعيش فيه، وهو لا يزال مستمراً وشديداً. . .
ولهذه الأسباب أقول: إن قياس (وحدة اللغة) على (وحدة الدين) في هذا المضمار، والادعاء أنها فقدت تأثيرها السياسي وعملها التكويني منذ عهد بعيد. . . لا يتفق مع حقائق التاريخ، بوجه من الوجوه. . .
يقول المؤلف إثباتاً لمدعاه: إن السياسة شيء والدين شيء آخر. إني أوافقه على قوله هذا، ومع هذا أستغرب كيف يسوغ لنفسه أن يحشر اللغة مع الدين في الفقرات التي تلي هذا الكلام! فلنقل ولنصح مع المؤلف: إن السياسة شيء والدين شيء آخر، ولكننا هل نستطيع(317/7)
أن نقول: إن السياسة شيء واللغة شيء آخر؟ لا شك في أننا نستطيع أن نقول للناس: ليحتفظ كل منكم بمعتقده الديني لنفسه؛ ولكن هل نستطيع أن نقول لهم: ليحتفظ كل منكم بلغته لنفسه؟
يقول المؤلف: إن أوربا أقامت سياستها على المنافع الزمانية؛ فهل يستطيع أن يدعي أن اللغة لا تدخل في نطاق المنافع الزمانية؟ إذا شك في ذلك رجوت منه أن يتصور نفسه - لحظة واحدة - فرداً في رعايا مملكة أجنبية، لا يعرف شيئاً عن لغتها الرسمية؛ ويستعرض أنواع المشاكل التي يقع فيها في كل خطوة من خطوات حياته اليومية؛ فليقل عندئذ هل اللغة خارجة عن نطاق الأمور الزمانية؟
لننعم النظر في سياسة الدول التي قطعت أبعد الأشواط في فصل الدين عن السياسة، وغالت أشد المغالاة في حصر أعمال الدولة في نطاق الأمور الزمانية: هل هي أقدمت على فصل اللغة أيضاً عن السياسة؟ وهل تركت مسائل اللغة خارجة عن ساحة أعمال السلطات الزمانية؟
إنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن اللغة تختلف عن الدين في وجوه الطبيعة الذاتية، والتأثير النفسي، والعمل الاجتماعي. إن عدم ملاحظة هذا الفرق الجوهري - الموجود بين اللغة والدين - في هذه الوجوه المختلفة، قد عرّض المؤلف لأخطاء كبيرة، وأوقفه مواقف يخالف فيها أثبت وقائع التاريخ، وأظهر حقائق الاجتماع مخالفة صريحة
يحاول المؤلف أن يستشهد على أقواله الآنفة بتاريخ الإسلام أيضاً. غير أن محاولاته هذه لا تزيده إلا تغلغلاً في الأغلاط وتباعداً عن حقائق التاريخ. . .
3 - يتحدث المؤلف عن اتصال مصر بأوربا، وعن اندفاعها في اقتباس الحضارة الأوربية معتبراً سهولة هذا الاتصال، وسرعة هذا الاندفاع من الدلائل التي تبرهن على عدم وجود (فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)
غير أنه خلال ذلك يتطرق إلى (نظم الحكم وأشكال الحياة السياسية) في مصر، ويبدي رأياً غريباً في هذا الصدد إذ يقول:
(إن الذين أرادوا أن يستبدوا بأمور مصر في العصر الحديث كانوا يذهبون مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه، اكثر مما كانوا يذهبون مذهب عبد الحميد وأمثاله) (الصفحة 32)(317/8)
في اعتقادي أن هذا الرأي لا يستطيع أن يقاوم أبسط المناقشات
فلنفكر أولاً: ماذا يقصد المؤلف من تعبيرات (مذهب لويس الرابع عشر وأشباهه ومذهب عبد الحميد وأمثاله)؟ إن ذلك يظهر بوضوح في العبارات التي سبقت الفقرة الآنفة الذكر والتي تلتها. فقد قال المؤلف، قبل الفقرة المذكورة: (إن نظام الحكم المطلق عندنا في العصر الحديث كان متأثراً بنظام الحكم المطلق في أوربا قبل انتشار النظام الديمقراطي. . . وإن نظام الحكم المقيد عندنا كان متأثراً بنظم الحكم المقيد في أوربا أيضاً. . .)
كما قال بعد الفقرة المذكورة: (والذين أرادوا أن يحكموا مصر حكماً مقيداً بالعدل، دون أن يشركوا الشعب معهم في الحكم كانوا يتخذون لحكمهم قيوداً أوربية لا شرقية) لأنهم نقلوا نظم الإدارة والحكم من أوربا، (ولم يستمدوه مما كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى. . .)
بعد أن فهمنا بهذه الصورة ما يقصده المؤلف من هذه التعبيرات يقتضي أن نتوجه إليه بالأسئلة التالية:
هل يستطيع أن يدعي أن عبد الحميد لم يستند في حكمه واستبداده إلى نظم أوربية؟ وهل يستطيع أن يقول بأن بلاط القاهرة لم يتأثر ببلاط الآستانة؟
أما أنا فأستطيع أن أبرهن بكل سهولة أن حكم عبد الحميد أيضاً لم يكن من النوع الذي كان مألوفاً عند ملوك المسلمين وخلفائهم في القرون الوسطى)، وعلى أن استبداده أيضاً كان متأثراً إلى حد بعيد (بنظام الحكم المطلق في أوربا) كما أستطيع أن أبرهن على أن تأثيرات الآستانة في القاهرة كانت واضحة جداً.
. . . مع هذا أرى من الضروري أن أسأل: ما الفائدة من إثارة هذه المسائل في هذا المقام؟ وهل من علاقة منطقية وعلمية بينها، وبين المسألة الأصلية التي يعالجها المؤلف في الصفحات التي ذكرناها؟
هذه ثلاثة نماذج واضحة على (المباحث الاستطرادية) التي كثيراً ما يحشرها المؤلف بين مباحثه الأصلية، يورط نفسه من جرائها في أغلاط كبيرة. . .
من المعلوم أن (التفكير العلمي) يتطلب تحليل المسائل، وتجزئة المشاكل، ليسهل معالجة كل جزء منها على حدة. وأما الخطة التي يسير عليها الدكتور طه حسين في أبحاثه هذه -(317/9)
في أكثر الأحيان - فمعكوسة لذلك تماماً: لأنه كثيراً ما يخلط المسائل بعضها ببعض، ويدخل بعضها في بعض، فيزيدها بذلك تعقيداً وإشكالاً. . . وكثيراً ما يحاول أن يبرهن على كل قضية بمجموعة قضايا أخرى أكثر حاجة إلى البحث والبرهنة من القضية الأصلية نفسها.
- 3 -
بعد الانتقادات التي سردتها آنفاً، اعتراضاً على بعض الآراء التي دونها الدكتور طه حسين في الصفحات السبعين الأولى من كتابه، خلال درسه للمسألة المبحوث عنها - أعني مسألة العقل المصري، والعقل الأوربي - لابد لي من أن أنقل البحث إلى وجهة نظر أخرى، فأقول كلمة في بعض النقائص التي ألاحظها على بحوث المؤلف في هذا الباب، من جراء عدم التفاته إلى بعض الأمور المهمة، بالرغم من شدة علاقتها بالموضوع، وبالرغم من ضرورة ملاحظتها لإتمام بحث المسألة من جميع وجوهها.
لا شك في أن الطريقة المثلى لدرس مثل هذه المسائل درساً علمياً، وحلها حلاً منطقياً، هي طريقة الاستقراء والمقارنة: إجراء مقارنة مباشرة بين الشرق والغرب - بين مصر وأوربا -، من حيث العقل والثقافة والطبع والمزاج، واستعراض الفروق والمشابهات التي تتجلى بينهما من هذه الوجوه المختلفة؛ ثم البحث عن جوهرية وعدم جوهرية الفروق المذكورة، وذلك على أساس مقارنتها بالفروق التي تلاحظ بين الأمم الأوربية المختلفة من جهة وبين ماضي تلك الأمم وحاضرها من جهة أخرى. . .
إن الدكتور طه حسين بقي بعيداً عن هذه الطريقة من أول أبحاثه هذه إلى آخرها.
وقد نجم عن هذا الابتعاد نقصان خطيران:
أولاً: لم يلتفت المؤلف إلى أهم الفروق الموجودة بين الشرق والغرب، وهي التي تشاهد بينهما من وجهة نظم الأسرة وأوضاع المرأة، والأوصاف النفسية - الخلقية والعقلية - التي تتبع تلك النظم والأوضاع. . .
ثانياً: لم يذكر المؤلف شيئاً عن الآراء المستندة إلى الاختبارات العقلية ومقاييس الذكاء. . .
ومما يزيد في خطورة هذا النقص الأخير هو أن بعض هذه الآراء كانت حامت حول مصر مباشرة، واستندت إلى الاختبارات التي أجريت في مصر على جماعة من المصريين،(317/10)
بمساعدة جماعة من كلية الآداب المصرية نفسها، كما سيظهر للقارئ من التفاصيل التالية:
كانت الحكومة المصرية قد استدعت الدكتور كلاباريد - أستاذ علم النفس في جامعة جنيف، وأحد أساطين هذا العلم في العالم - قبل نحو عشر سنوات؛ وطلبت منه أن يدرس المدارس المصرية، ويبدي لها آراءه في بعض المسائل المتعلقة بوجوه إصلاحها. فأراد الأستاذ المشار إليه أن يستفيد من وجوده في مصر لهذا الغرض، لدرس (العقل المصري) درساً علمياً. وقام بسلسلة اختبارات عقلية بمساعدة جماعة من المعلمين والطلبة؛ وتوصل من اختباراته هذه إلى نتيجة تستلفت الأنظار: فقد لاحظ أن معادل الذكاء في مصر يكون سويَّا عند الصغار؛ غير أنه يأخذ في التأخر والهبوط عن المستوى الطبيعي المعروف في أوربا بسرعة غريبة بعد سن الطفولة. . . اهتم الدكتور كلاباريد بهذه النتيجة وأعلم بها زملاءه في معهد جان جاك روسو في جنيف قبل أن ينتهي من مهمته في مصر؛ وهؤلاء نشروا رسالته هذه في مجلة (المربي) التي تصدر في لوزان. . . هذه المسألة عكست بعد مدة على الصحافة المصرية فنشرت مجلة الهلال مقالة لأحد الأساتذة يشرح فيها الاختبارات المبحوث عنها ويحاول تعليل النتيجة المذكورة بفرضية يراها (الدكتور منصور فهمي - الهلال ديسمبر سنة 1929)
أفليس من الغريب ألا نجد أية إشارة كانت إلى هذه المباحث في كتاب الدكتور طه حسين بين صحائفه الكثيرة المخصصة لدرس مسألة (وجود وعدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي)؟ يتطرف الدكتور في كتابه هذا - خلال بحث هذه المسألة - إلى أمور متنوعة جداً. . . في مباحث التاريخ القديم إلى مسائل السياسة والدين. . من ثقافة الصين إلى مدرسة الإسكندرية. . . من حكم لويس الرابع عشر إلى استبداد عبد الحميد. . . من أسباب انحلال الدولة الإسلامية في القرون الوسطى إلى أساليب الحكم المقيد في مصر. . . من تأثير الديانة المسيحية في تكوين العقلية الأوربية إلى نظر الإسلام إلى المسيحية. . . من انقطاع التجارة بين الشرق والغرب في القرون الوسطى إلى دخول الراديو إلى الأزهر الشريف في العصر الحاضر. . . يتطرف الدكتور إلى مسائل لا تعد ولا تحصى. . . ولا يشير إلى البحث العلمي الذي ذكرناه آنفاً مع أنه يتعلق بموضوع درسه مباشرة!(317/11)
إنني لا أذكر اختبارات كلاباريد وآراءه في هذا المقام اقتناعاً بها أو تصويباً لها، بل أصرح بهذه المناسبة بأنني كنت من المعترضين عليها، فقد انتقدت تلك الاختبارات في حينها، وأظهرت مواطن الخطأ فيها، واعترضت على ما نشر في الهلال في شأنها، واستندت في ذلك إلى الاختبارات العقلية المتنوعة التي قمت بها بنفسي في مدارس بغداد (مجلة التربية والتعليم الجزء 24 ص 154 - نيسان 1930 الجزء 27 ص 399 - كانون الأول 1930)
كما أصرح بأن الاختبارات الأخيرة كانت أعطتني نتائج مماثلة لنتائج الاختبارات التي جرت في أوربا وأميركا تمام المماثلة (مجلة التربية والتعليم - الجزء 19. ص 303. حزيران 929)
فلم أذكر اختبارات الدكتور كلاباريد هنا، لأردَّ بها على رأي الدكتور طه حسين. وإنما ذكرتها لأظهر للعيان (بمثال آخر بوضوح أكبر) ما في خطة البحث التي سار عليها الدكتور من الغرابة والنقص. . .
أعتقد أن الانتقادات التي سردتها آنفاً عن المسألة الأولى في المسائل التي حاول الدكتور طه حسين درسها ومعالجتها في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) تكفي لإعطاء فكرة عامة عن حظ الكتاب المذكور من القيمة العلمية. . .
واستناداً إلى كل ذلك، أكرر ما قلته في مقدمة هذا المقال:
إن كتاب مستقبل الثقافة في مصر، يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات، قليلة التناسق وكثيرة التداخل. يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .
(برمانا)
أبو خلدون(317/12)
مشكلة اليهود في العالم
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إن الذي يدرس تاريخ اليهود من قديم الزمن يعرف أن العوامل التي تتنازع سياستهم ليست حديثة العهد، وأن مواقف الأمم الأخرى منهم في هذا العصر كانت لها أشباه ونظائر في عصور التاريخ المختلفة في عهد قدماء المصريين والبابليين والآشوريين والفرس والإغريق والرومان. فمسألة اليهود كانت موجودة حتى قبل أن يفقدوا استقلال شعبهم وقبل أن يخرب طيطوس ابن الإمبراطور الروماني فسباسيان معبدهم وقبل أن يقضي على أورشليم، وقبل أن يتشتت اليهود في العالم. بل هي كانت موجودة قبل ذلك عند أسرهم، ونقل الكثير منهم إلى بابل وهو المعروف في التاريخ باسم أسر بابل وكانت موجودة عندما سمح لهم قورش ملك الفرس بالعودة وإعادة بناء أورشليم، وعندما شجعهم في أعمالهم المالية كي ينشط التجارة في دولته. ويتنازع نفوس اليهود من قديم الزمن عاملان: النزعة العالمية، والنزعة الشعبية المصطبغة بصبغة دينية. وقد كانت متاعب اليهود قديماً وحديثاً ناشئة من استفحال النزعتين وتنازعهما نفوسهما؛ فتارة يوقعهم الغلو في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية في نزاع مع الدول الأخرى، وتارة يوقعهم الغلو في النزعة العالمية في ذلك النزاع. وقد كانت النزعة العالمية تظهر في نفوسهم في بعض الأحايين بمظهر اقتصادي مالي فيحاولون السيطرة على أسواق العالم المالية، وتارة تظهر النزعة العالمية بمظهر الدعوة إلى مُثُل عليا. وكان بعضهم يريد قصر تحقيق هذه المثل على اليهود، وهؤلاء هم الذين كانوا يناصرون النزعة الشعبية الدينية، وبعضهم لا يريد قصرها على اليهود بل تعميمها في العالم. والغريب في أمرهم أنه بالرغم من المشاحنات والاقتتال الذي كان يحدث قديماً بين اليهود من أنصار المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية وبين أنصار النزعة العالمية، وبالرغم من أن النزعة العالمية في نفوس بعضهم كانت تتخذ مظهر الأثرة المالية والطباع الدنيوية الراغبة في الربح المالي قبل كل شيء، وهي طباع تخالف نزعة المثل العليا وتخالف التضحية في سبيل تحقيقها، فإن كثيراً منهم كان يحاول التوفيق في نفسه بين النزعتين المتناقضتين أو يحن تارة إلى هذه وتارة إلى تلك، كما أن بعضهم كان يحاول الاستفادة لنفسه أو للشعب اليهودي من النزعتين المتناقضتين معاً.(317/13)
فاليهودي الذي يميل إلى المثل العليا أو الذي يميل إلى المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية لا يرى حرجاً في أن يلتجئ إلى صاحب النزعة العالمية المالية والطباع الدنيوية لاستخدام ماله وسلطته في سبيل تحقيق مثله العليا أو في سبيل المحافظة على التقاليد الشعبية الدينية لضيقة التي ترفض النزعة العالمية، كما أن صاحب الطباع الدنيوية والأثرة المالية لا يرى تناقضاً في خطته إذا حن إلى المثل العليا التي قد تخالف نزعة أثرته الدنيوية، أو إذا ساعد في المحافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية الضيقة التي تخالف نزعته العالمية الدنيوية، وربما حن إلى المثل العليا ذلك الحنين الذي يدعو إلى التضحية في سبيلها في الوقت الذي يستثمر الدعوة إلى تلك المثل العليا لكسب المال وزيادة نفوذه الاقتصادي. واجتماع هذه النزعات المختلفة في النفس الواحدة ليس مقصوراً على اليهودي فهي طباع النفوس البشرية عامة، ولكن هذا التناقض أظهر ما يكون في اليهود لغلوهم في النزعتين المتناقضتين غلواً يظهر الفرق بينهما في نفوسهم أكبر منه في نفوس غيرهم. وقد ظهر اليهود قديماً وحديثاً ظهوراً كبيراً في مناصرة النزعتين المتناقضتين، وهذا أدى كما ذكرت إلى مشاحنات بين طوائفهم وإلى مشاحنات بينهم وبين الأمم. وقد ظهرت النزعة العالمية في حياة اليهود على اختلاف مظهري تلك النزعة أي المظهر المالي الاقتصادي ومظهر المثل العليا قبل أن يفقد اليهود كل سلطة سياسية في حكم فلسطين. فظهرت في دولة الفرس وظهرت في دولة الرومان
على أن فقدانهم كل سلطة سياسية في حكومة فلسطين لم يوهن النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم وإن كان قد ساعد على استفحال النزعة العالمية. وتحريم الكنيسة المسيحية على المسيحيين تقاضي الربح عند تسليف النقود واعتباره ربا أدى إلى ما يشبه احتكاراً من اليهود للمعاملات المالية وإلى سيطرتهم على الأسواق المالية في أوربا، وهذا قوى النزعة العالمية في نفوسهم كما أدت النزعة الشعبية الدينية إلى مناصرة بعضهم بعضاً؛ وزادت هذه المناصرة إذ وجدوا أنفسهم قلة يهودية في وسط كثرة غير يهودية من الشعوب التي هاجروا إليها. وشأن القلة من الطوائف التعاون حتى لا تغمرها الكثرة ولا سيما إذا كانت الكثرة كثرة تبغض القلة. وزاد البغض الديني في نفوس الكثرة أولاً استيلاء اليهود على الأسواق المالية بالتسليف؛ وثانياً عواقب مناصرة اليهود بعضهم لبعض من استيلائهم على(317/14)
كثير من المهن التي تحتاج الأعمال الفكرية والاستعداد العلمي والفني. وبالرغم من أن بعض اليهود حاول معالجة هذا البغض والقضاء على الكره الذي كان غير اليهود يشعرون به نحوهم بالاندماج في الأجناس الأوربية اندماجاً تاماً، فإن الكثرة من اليهود بقيت محافظة على تقاليد النزعة الشعبية الدينية. ولو أن النزعة العالمية غلبت على نفوسهم كل الغلبة لتمكنوا من الاندماج في الشعوب التي استوطنوا أرضها. وهذا الاندماج كان ينسي تلك الشعوب أن اليهود في أصلهم أجانب، وهذا كان يزيل البغض الذي كانت آحاد تلك الشعوب تشعر به نحوهم، وكان يستطيع اليهود أن ينعموا بميزة القدرة على كسب المال، ولكن ربما كانت تلك القدرة تقل لو تم ذلك الاندماج لأنه كان ينسيهم اختلاف جنسهم عن الأجناس الأخرى؛ فكان يقضي على مناصرة بعضهم لبعض، وعلى تعاونهم للسيطرة على الأسواق المالية، وعلى المهن الفكرية والعلمية.
وبقاء النزعة الشعبية الدينية في نفوسهم أدى إلى فكرة الصهيونية التي تدعو إلى العودة إلى حكم فلسطين. وهذه الفكرة كانت في أول أمرها مثلاً أعلى كالمثل العليا تحلم بها الإنسانية ولا تحقق. وهذه الفكرة الصهيونية زادت اعتقاد آحاد الشعوب الأوربية أن اليهود بينهم - وإن تجنسوا بجنس غير جنسهم، وإن ضحوا في الحروب وفي غير الحروب لمناصرة الجنس الجديد الذي تجنسوا به - إنما هم أجانب بالرغم من ذلك، وأنهم يعدون أنفسهم أجانب.
وهذه الفكرة الصهيونية مخالفة لمصالح اليهود الاقتصادية؛ فإن قطراً كفلسطين ربما كان يصلح لاستيطانهم قديماً عندما كانوا قليلين وعلى حالة قريبة من البداوة، وعندما كانوا هم الكثرة الغالبة فيه. أما الآن فقد زاد عددهم في العالم وتعددت فوائدهم ومنافعهم العالمية، وصار في هذا القطر كثرة غير كثرتهم من العرب الذين وراء كثرتهم في فلسطين كثرة عربية أخرى في الأقطار المجاورة. ولو خلت فلسطين لليهود لما استطاعت أن تؤوي غير عدد قليل من الملايين العديدة من اليهود. وفي العالم بقاع شاسعة أكثر خصباً تحكمها إنجلترا وغيرها من الأمم المناصرة لليهود. فلا يمكن أن يقال إذاً إن الضرورة والأسباب الدنيوية هي التي تقضي بإسكان المهاجرين اليهود في فلسطين. . . لا، بل تشبث اليهود بفلسطين هو تشبث بتلك النزعة الشعبية الدينية التي تفضل التقاليد القديمة والتي تحاول أن(317/15)
تعكس دورة الزمن وأن تعيد العالم كما كان في بدايته وأن تتجاهل حقائق الحياة. وهذا من قبيل التشبث، في أمور الحياة لا في عواطف النفس وحدها، بمثل أعلى لا يمكن تحقيقه. وهذا التشبث كما قلنا طالما أوقع اليهود قديماً وحديثاً في قتال ونزاع مع الأجناس المجاورة، وطالما أدى إلى ضياع فائدة اليهود الدنيوية الحقيقية. ولكن حقائق الحياة والضرورة قد تغري اليهود بقبول الاستيطان في بقعة أخصب من فلسطين وأقل سكاناً وأوسع رقعة. ويمكن إرضاء العاطفة الشعبية بأن يسمي ذلك الوطن الجديد (فلسطين الجديدة) أو (صهيون) وأن ينشئوا فيها مدناً تسمى بأسماء المدن القديمة في فلسطين القديمة. ويمكن إرضاء النزعة الدينية بأن ينقلوا من الأحجار والآثار المقدسة، ومن تربة أرض فلسطين القديمة إلى فلسطين الجديدة ما يقدس به الهيكل الجديد وما هو ضروري للدفن الديني المقدس. وهذا الحل يجمع بين إرضاء العاطفة وبين الفائدة الاقتصادية
عبد الرحمن شكري(317/16)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 8 -
عرف الناس ما كان من انزعاج الأستاذ أحمد أمين من كلمة الحق، وفهموا أنه تجلد وتصَّبر إلى أن عجز عن التجلد والتصبر، وللطاقة الإنسانية حدود
وما كنت أحسب أن الأيام ستقهر الأستاذ أحمد أمين على أن يهددني بأبيات فيها لوثة جاهلية، وهو الذي دعا الأمم العربية إلى وضع آثار الشعر الجاهلي في (متحف) لا يدخله الناس إلا بعد استئذان!
ويعز عليَّ والله أن ينزعج الأستاذ أحمد أمين وأن يدَّعي أنه لقى رسائل من مختلف الأقطار العربية فيها سباب موجه إلى من هجم عليه في مجلة (الرسالة). فهذا الادعاء يشهد بأنه يعجز عن الصدق في بعض الأحيان
لو كان الأستاذ أحمد أمين يعرف عواقب ما يصنع لفهم أن الأمر كان يجب أن يكون بالعكس: فهو يجني على ماضي الأدب العربي بأحكامه الخواطئ، ويحتال لإفهام الجمهور أن أدباء العرب لم يكونوا أصحاب أرواح، وإنما كانوا أصحاب معدات. وأنا أدفع تلك التهم وأصحح ما وقع في كلامه من أغلاط
فمن الذي يستحق اللوم والسباب في هذه القضية؟
لو فرضنا جدلاً أني أشاغب الأستاذ أحمد أمين لكان من الذوق أن يتلقى العرب هذه المشاغبة بالقبول، لأن فيها تمجيداً لماضي الأمة العربية
ولو فرضنا جدلاً أن الأستاذ أحمد أمين على حق في السخرية من ماضي الأدب العربي لكان من الطبيعي ألا يستريح العرب إلى ذلك الحق، لأن الأبناء الأبرار يجسّمون محاسن آبائهم ويتغاضون عما قد يكون فيهم من عيوب
والأمر ليس كذلك في هذه القضية: فالأستاذ أحمد أمين لم يكن في جانب الحق حين قال في الاستهزاء بالأدب العربي ما قال، وأنا كنت وما زلت في جانب الحق حين حكمت بأن الأدب العربي أدب أصيل، وأنه خليقٌ بالخلود
الأستاذ أحمد أمين يروّح عن نفسه بذلك الادعاء الطريف ليوهم القراء بأن أدباء العرب في(317/17)
مختلف الأقطار قد توجعوا له أشد التوجع، وتعرضوا لخصمه بالشتم والسباب، كأن أدباء العرب لم يبق لهم مأرب يحرصون عليه غير حماية أحمد أمين من كلمة الحق!
ولنفرض جدلاً أن أدباء العرب جميعاً وقفوا في صف هذا (الأديب) فهل يتوهم أنه سينجو من قلمي حين ينحرف عن الصواب؟
لقد سرني والله أن يتطاول على صاحب (الرسالة) وأن يتهمه بسوء النية في نشر هذه المقالات؛ فصاحب (الرسالة) قد آذاني أشد الإيذاء حين استباح أن يحذف من المقالات الماضية بعض الفقرات، ليظل مهذَّباً مؤدَّباً كصديقه المهذَّب المؤدَّب أحمد أمين!
كم تلطفتُ وترفقتُ في موطن لا يجوز فيه لطفٌ ولا رفق، ثم كان جزائي أن يقال إن أدباء العرب غضبوا عليّ وسبُّوني لأني جهرت بكلمة الحق!
ومع ذلك فما الذي يؤذيكم مني يا أحفاد يعرُب وقحطان؟
أليس في مقدوركم أن تحتملوا أديباً جنى على نفسه وعلى معاشه ليرفع راية النقد الأدبي؟
أليس في مقدوركم أن تحتملوا أديباً يقتل أعصابه في أوقات القيظ ليردّ عادية العادين على اللغة العربية؟
ألا تستطيعون أن تغفروا زلة رجل جهل أخلاق الزمان فاعتصم بالحق والعدل؟
لقد حدثني عنكم أحمد أمين بما لا أحب ولا تحبون
فإن كان صدق فيما حكاه فغفر الله لكم! وإن كان تزيّد فعفا الله عنه!
وسبحان من لو شاء لهدانا جميعاً إلى سواء السبيل
أما بعد فقد كان السياق يوجب أن تكون كلمة اليوم في نقض ما ادعاه أحمد أمين على الأدب الأندلسي من الجمود أمام الطبيعة الفاتنة في تلك البلاد
ولكني أحببت أن أقف وقفة قصيرة عند إحساس العرب بالطبيعة وبالوجود
يعرف كل من اطلع على كتب الأدب أن الشعراء كانوا يتواصون عند خمود القريحة بالنظر إلى المياه الجارية، والرياض الحالية.
ومعنى ذلك أنهم كانوا يفهمون أن النظر إلى جمال الوجود يوقظ العواطف ويُرهف الأحاسيس
وهذا يشرح السبب في غرام العرب بافتتاح القصائد بالنسيب لأنهم كانوا يدركون أن تأثر(317/18)
الشاعر بأقوى مظاهر الطبيعة وهو الجمال يوجه إحساسهم إلى مختلف الأغراض
ومثل الشاعر في ذلك مثل المغني. فالمغني يجلس في هدوء ثم تصدح حوله الموسيقا بأصوات مختلفات، ويظل كذلك إلى أن يستيقظ ما كان غفا من أحلام القلب والروح فينطلق في النشيد
وكذلك كان شعراء العرب: كانوا يهيمون بالرياض الحالية، أو الديار العافية، أو المياه الجارية، قبل أن يشرعوا في نظم القصائد. فإذا أخذوا في النظم بدءوا بالجوانب الدقيقة من ذوات أنفسهم وقلوبهم ليواجهوا الأغراض المنشودة وهم في فورة من طغيان العواطف وعنفوان الأحاسيس
ألا يشهد ذلك بأن شعراء العرب كانوا يدركون قيمة الطبيعة في إذكاء الأرواح وإرهاف القلوب؟
وهل فكر أحمد أمين في شيء من ذلك؟
هل خطر في باله أن شعراء العرب في الأعصر الخالية كانوا تعلقوا أشد التعلق بالسياحات والرحلات حتى صار من النادر أن يقر شاعر في بلده إلى أن يموت؟
قد يقال إن ذلك كان سعياً في طلب الرزق
ونجيب بأن الشعراء كانت لهم غايات أعظم من طلب الرزق، فقد كانوا يستأنسون بالبلاد والبحار والأنهار والجبال حتى ليمكن القول بأن دواوينهم في بعض مناحيها تشبه الخرائط الجغرافية. وهل نسيتم قصيدة المتنبي في شعب بوان؟ هل نسيتم قصيدة البحتري في إيوان كسرى؟ هل نسيتم قصائد الأندلسيين في أهرام مصر؟ هل نسيتم قصائد الشريف الرضي في أطلال الحيرة؟ هل نسيتم قصيدة الأنطاكي في ليالي الجزيرة والنيل؟ هل نسيتم ألوف القصائد التي سجلت أهواء الشعراء في الحنين إلى معاهد الأنس والوصال؟
لقد هجر ابن زريق وطنه في طلب الرزق، فهل عرفتم كيف اكتوى بالتشوق إليه يوم مات؟
إن الذي يحكم بأن شعراء العرب لم يحسوا الطبيعة ولم يتغنوا بأفانين الوجود لا يكون إلا رجلاً حرمه الله نعمة الفهم العميق لأسرار الشعر والبيان
لقد أراد الأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن الشعراء في العصر الأموي والعباسي قلدوا شعراء(317/19)
الجاهلية في وصف الرسوم والطلول
فهل نستطيع أن ندله على أن هيام أولئك الشعراء بوصف الرسوم الهوامد، والطلول العافية، ليس إلا تعلقاً بالطبيعة في جانبها الباكي الحزين؟
إن صديقنا أحمد أمين لم يفهم كيف وقف أبو نواس على الطلول، بعد أن سخر ممن يقفون على الطلول وهو يرى ذلك رجعة إلى التقاليد الجاهلية. فهل يظن أن الطلول كانت انقرضت لعهد أبي نواس ولم يبق إلا العمران الباقي على الزمان؟
فما رأيه إذا حدثته بأن صور الطلول لا تزال باقية إلى اليوم!
أشهد صادقاً أني ما مررت بشارع الرملة في مصر الجديدة إلا خفق القلب لرسم كان لي فيه صديق أضاعه القلم الجموح
أشهد صادقاً أني أتلفت من حين إلى حين وأنا أخترق شوارع مصر الجديدة عساني أرى الصديق الذي كنت أسايره لحظات أو ساعات ونحن نتعقب بالنقد اللاذع أحوال الدنيا والناس
فكيف يكون حالي لو نظمت قصيدة في التوجع لتلك الدار التي صارت رسماً بعد أن صنعت في تجريح صاحبها ما صنعت؟
وهل يمكن القول بأن ابن المعتز كان يقلد شعراء الجاهلية حين قال:
لا مثل منزلة الدويرة منزلٌ ... يا دار جادك وابل وسقاكِ
بؤساً لدهر غيرتكِ صروفه ... لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل للعينين بعدك منظرٌ ... ذُمّ المنازل كلهن سواك
أي المعاهد منك أندب طيبهُ ... ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى ... أم أرضك الميثاء أم رياكِ
وكأنما سُعطت مجامر عنبر ... أو فُتّ فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهرٌ ... وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأن درعاً مفرغاً من فضة ... ماء الغدير جرت عليه صباكِ
وقد ترجمت هذه الأبيات إلى الفرنسية في النسخة الفرنسية من كتاب النثر الفني فعدّها الفرنسيون من أصدق ما تحدثت به القلوب(317/20)
فهل يرى صديقنا أحمد أمين أن هذه القصيدة لا تمثل إحساس الشعراء بالوجود؟
وهل يمكن الشك في قول ابن سنان الخفاجي:
ولما وقفنا بالديار وعندنا ... مدامع نسديها لكم ونثيرها
شكونا إليها ما لقينا من الضنى ... فعرفَّنا كيف السقام دثورها
وقد درست إلا أمارة ذاكر ... تلوح له بعد التمادي سطورها
خليليّ قد عمَّ الأسى وتقاسمت ... فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها ... ولا نفس إلا لوعةٌ وزفيرها
لعمر الليالي ما حمدت قديمها ... فيوحشني ذهابها ومرورها
وقالوا عطاء الدهر يبلى جديده ... ومن لي بدنيا لا يزول سرورها
فهذا شاعر لا يكتفي بأن يقول إنه يحسّ الطبيعة، وإنما يؤكد أن الطبيعة توجعت لمن يهواه، وذلك غاية الغايات في الإحساس بالوجود
وكذلك صنع الشاعر الذي قال:
تعفو المنازل إن نأوا ... عنها وتغبرّ البلادُ
والحيُّ أولى بالبلى ... شوقاً إذا بلى الجمادُ
فمن الذي يستطيع أن يحكم بعد هذه الشواهد بأن شعراء العرب لم يحسوا معاني الوجود؟ ومن الذي ينكر صدق اللوعة على ابن الخياط إذ يقول:
وقفت أداري الوجد خوف مدامع ... تبيح من السر الممنَّع ما أحمي
أغالب بالشك اليقين صبابةً ... وأدفع من صدر الحقيقة بالوهم
فلما أبي إلا البكاء لِيَ الأسى ... بكيتُ فما أبقيتُ للرسم من رسم
كأني بأجزاع النقيبةُ مُسْلمُ ... إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جُرم
لقد وجدت وجدي الديار بأهلها ... ولو لم تجد وجدي لما سقمت سقمي
عليهنّ وسمٌ للفراق وإنما ... عليّ له ما ليس للنار من وسم
وكم قسمَّ البين الضنى بين منزل ... وبيني ولكن الهوى جائر القسم
منازلُ أدراسٌ شجاني نحولها ... فهلاّ شجاها ناحل القلب والجسم؟
فما رأي الأستاذ أحمد أمين في هذا الشعر النفيس؟ وهل خطر في باله أن شعراء العرب(317/21)
لهم أمثال هذه المعاني؟
أنا أخاطب رجلاً من أساتذة كلية الآداب، ولولا ذلك لشرحت ما في هذه القصيدة من شواهد الإحساس بقدرة الطبيعة على تذوق البؤس والنعيم
وهل اتفق لشاعر في شرق أو في غرب أن يصل إلى قول بعض الأعراب في توديع نجد:
أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عَرار نجدٍ ... فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريّا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجداً ... وأنت على زمانك غير زار
شهورٌ ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سِرار
ولكن الأستاذ أحمد أمين قد يتهمنا بالتعصب للأدب العربي ويقول إننا ننظر إليه بعين المحب، فهل يستطيع أن يدلنا على شاعر أوربي توجع لفراق النعيم في وطنه مثل هذا التوجع؟
إن العرب لم يسودوا من باب المصادفات، وإنما سادوا لأن لهم عبقرية ذاتية قضت بأن يسيطروا على العالم زمناً غير قليل.
وقد دالت دولة العرب أكثر من عشرة قرون، ومع ذلك بقيت سلطتهم الأدبية والروحية. فهم سادة لمئات من الملايين وإن لم يبق لهم عرش ولا تاج
وقد تحذلق المتحذلقون فقالوا إن الفقه الإسلامي صورة من الفقه الروماني، فهل هذا صحيح يا بني آدم من أدعياء العلم بأصول الشرائع؟
إن العرب سادوا بحق، وقد تركوا ثروة أدبية وفلسفية وتشريعية لا يغض من قدرها إلا حاقد أو جهول
فمتى نرجع إلى أنفسنا لنبحث عن الميراث النبيل الذي ورثناه عن أسلافنا النبلاء؟
لقد سمعتم وسمعنا كيف بغى الأسبانيون بعضهم على بعض، وكيف فصل في تلك المعارك الدامية بعد نحو ثلاث سنين
فهل تذكرون أن أسلافنا صبروا على المعارك الأسبانية نحو ثمانية قرون؟
وهل كان ذلك إلا لأنهم شعروا بأن الأندلس قطعةٌ من أرواحهم وقلوبهم؟ فكيف تحكمون(317/22)
بأنهم لم يحسُّوا الطبيعة ولم يتشبثوا بالوجود؟
إن العرب في أغلب أحوالهم عاشوا عيشة جافية قضت عليهم بأن يتلمسوا مساقط الغيث، فكيف يقال إنهم لم يحسُّوا الطبيعة إلا بطريق سطحية؟
أكتب هذا وأنا أعرف أن الأستاذ أحمد أمين سيهزّ كتفيه ويقول: (هذه خطابيات يراد بها اكتساب عواطف الجمهور!)
إن قال ذلك فسأحيله على تاريخ يحيى بن طالب
فهل يعرف من هو يحيى بن طالب؟
وكيف يجهله وهو يتصدر لتدريس الأدب العربي بكلية الآداب؟
إن يحيى بن طالب أحس الطبيعة وأحس الوجود إحساساً نادر المثال، وهو وحده كاف للزكاة عن الأدب العربي، وقد اتهمه من لم يعرفوه بأنه خالٍ من وصف مظاهر الطبيعة وأشكال الوجود
فهل ننتظر أن يظفر هذا الشاعر بفصل نفيس من (فصول) أحمد أمين؟
لو كان صديقنا العزيز أحمد أمين قد اطلع على الأدب العربي لتذكر نخلتي حلوان في شعر مطيع بن إياس، وكان لهما في حياة الخلفاء أحاديث يذكرها بالدمع من قرأ معجم البلدان. ولكن أين أحمد أمين من هذه الشؤون وهو مفتون بالحذلقة والأغراب؟
إن أحمد أمين لا يجني على الأدب العربي، وإنما يجني على نفسه حين يزعم أن التشبيهات ليست إلا ألاعيب
ولو كان من أهل الخبرة بدقائق الأشياء لعرف أن التشبيهات من أصدق الشواهد على تعلق العرب بالطبيعة وبالوجود
ولن أشرح له هذا المعنى إلا يوم يعرف أن من واجب المرء أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد. وقد تلوح فرصة قريبة فأشرح هذا المعنى لمن يهمهم أن يعرفوا كيف تغيب حقائق الأدب عن هذا (الأديب) وهل نكتم ما نعرف مكايدةً للصديق أحمد أمين؟
لقد استطعنا بحول الله وقوته أن نبدد الشبهات التي أثارها حول الأدب العربي من يجهلونه كل الجهل أو بعض الجهل
فلنأخذ بعد ذلك في رفع التهمة عن الأدب الأندلسي ليعرف من لم يكن يعرف أنه خليق بأن(317/23)
ينصب له كرسي خاص في كلية الآداب.
والأمل كبير في أن يغفر الأستاذ أحمد أمين جنايتنا عليه حين أفهمناه أن في مصر ناساً يقرءون ويحكمون
فإن كان قد استمرأ العافية من سكوت النقاد بضع سنين فليعرف أن ذلك حلم تبدد، ونعيم ضاع، وعليه أن يستقبل المكاره بعزائم الرجال
والله وحده يعلم أني لم أُرد بهذا النقد غير وجه الحق، ومنه وحده أنتظر حسن الجزاء
(للحديث شجون)
زكي مبارك(317/24)
النبوة - الوحي - المعجزة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
نعم! إن المعجزة الحسية لا علاقة لها بالإقناع عند أكثر من لم يقتنع بالحجج الفكرية، وأغلب ظني أنها ما أجريت للإقناع، بل لتعجيز المكابرين وأخذ طرق الإنكار عليهم، حتى لا يفلتوا إلى عذر بعدها، وحتى يحملوا حملاً على الإيمان. ولذلك كانت هي الدور الأخير من حجج الرسل بعد أن تعيبهم لجاجة الناس. فموسى مثلاً كما حكى القرآن: دعا فرعون للإيمان بالله عن طريق العقل في أول الأمر، فلما كذبه وهدده بالسجن. قال: (أولو جئتك بشيء مبين) وألقى عصاه. . . إلى آخر القصة. وكذلك سلك كل رسول من أصحاب المعجزات. فهي كانت آخر سهم في كنانة الرسول أمام المتعنتين. ولم تكن ذات أثر كبير في حمل بقية الناس على الإيمان كما حكى القرآن. قال: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً). . . والجملة الأخيرة من الآية تدل على أن المعجزة لم يكن ورودها للإقناع، فهي إنما أجريت لإتمام الحجة وابتذال كل شيء، حتى قوانين الفطرة في سبيل غاية الحياة العظمى - وهي الإيمان - فالذي لا يقنع عن طريق التفكير والمحاكمة العقلية - بقضية من قضايا الحق - لا يقنعه أن تقلب له العصا حية، أو الصخرة ناقة؛ وإنما هو سيتعجب فقط من فعلك، ويبقى في نفسه الإنكار للقضية التي سقت دليلك الحسي من أجلها.
ولذلك جعل الله الرسالة الأخيرة معتمدة على حجة عقلية دائمة - هي القرآن - الذي هو الرسالة، وهو المعجزة المثبتة لتلك الرسالة. . . وهذا أمر ذو قيمة كبرى تفرد به الإسلام!
وقد أراد مشركو مكة أن ينهجوا مع رسول الله (ص) طريقة من قبلهم من الأمم في طلب الآيات الحسية؛ فأبى عليهم القرآن ذلك، وقال: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم). . . (كذلك قال الذين لا يعلمون - مثل قولهم - تشابهت قلوبهم: قد بينا الآيات لقوم يوقنون، إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً). . . (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا. بل نحن قوم مسحورون). . . (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة، وكلمهم الموتى، وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله)(317/25)
إلى آخر الآيات التي تبين أن المعجزة الوحيدة التي تحدى بها رسول الله إنما كانت القرآن وحده. . .
وبعد هذا أقول للذين يرون المعجزات الحسية عقبة في سبيل الإيمان بالنبوة: أليس الناس متنوعين في التفكير وطرق الاقتناع؟ فلا بد إذن أن نُنوع وسائل إقناعهم. فمنهم العقليون الذين يسيرون - على أسلوب الله - ولا يدركون كلماته في الطبيعة! ولو لم يتحدث إليهم بصوت ولا نبرات، وهؤلاء قليلون جداً! ومنهم الأطفال المحدودون الذين لا يصدرون إلا إذا رأوا تمرة أو جمرة. . . درهماً أو سوطاً. . . وهؤلاء هم الأكثرية العاملة الناصبة. . .
لماذا تنسون طرائقكم في التدريس أيها الفلاسفة المعلمون؟ ألا تنوعون أساليب التفسير والشرح تبعاً لعقول تلاميذكم؟ وهذا أيضاً هو منطق الله مع الناس!. . .
وبعد فحديث (الوحي والنبوة) كان يجب أن يكون مفروغاً منه عند المتأملين بعمق في الطبيعة. . . الذين يدركون عمق الحياة وتزاحم تياراتها على القلب الإنساني مما لا بد معه من وجود حبل للنجاة فيها، والطمأنينة على قيمتها وقيمة الإنسان فيها.
إن وراء الحياة ربها الحكيم الذي يحتم العقل الإنساني وجوده ولن يخلي الطبيعة منه إلا إذا جن واختلط. . . وقد وُضع الإنسان في قمة الحياة الأرضية، وصار له اقتراحات وأعمال في تنقيح الطبيعة والتصرف فيها تبين أنه ليس شيئاً تافهاً يعيش على هامش الحياة. فكيف بعد هذا كله يترك هذا الصنف المكرم من غير خطاب من الله من أول الحياة إلى آخرها؟. . .
إن هذا الخطاب يحكم العقل والوجدان بأنه لا بد منه حتى ولو كان للترف والأنس الروحي بين الله والمخلصين له. . . دع عنك الضرورة الاجتماعية الحادة التي تحتمه ليستطيع الإنسان الرسول أن يحمل العبء مطمئناً متشجعاً صبوراً حمولاً. . . لأنه يسمع صوت الله قائلاً له: احمل واصبر لأني معك. . .
كتب الأستاذ العقاد في (الرسالة) عدد 285 أو 286 مقالاً بعنوان (المذياع الآدمي) هو ذو قيمة كبيرة في تحليل النفس الآدمية، وبيان آفاقها، وعمق سريرتها، وقدرتها على التقاط المعاني، والسيالات من جوف الكون!. . .
كان بودي أن يكون هذا المقال أمامي الآن لأنقل منه فقرة تقرب معنى الوحي ببيان(317/26)
عصري إلى العقول التي تأبى أن تصدق شيئاً خارجاً عن نطاق الحس. . . ولكني آسف لأن المقال ليس في متناول يدي الآن!
ويحضرني من معانيه هذا المعنى: إن الكون مليء زاخر بكل معنى من معاني الحياة. فهو كمصدر الإذاعة اللاسلكية، والقلوب لها خاصة الالتقاط كآلات الراديو التي تستقبل. وبعض القلوب قوي يستطيع أن يأتي بمعان صادرة عن أفق بعيد، كما أن بعض آلات الراديو له قوة على التقاط الموجات البعيدة. . .
وهذا مدخل نستطيع أن ندخل منه إلى فهم معنى الوحي. فقلب النبي وعقله أعدا إعداداً خاصاً لسماع ما وراء الطبيعة. . .
وهما في قوتهما يعتبران قمة الرقي الإنساني الذي يستطيع الإنسان أن يصل إليه في الاتصال بخفايا الكون!
وما دام العصريون يسلمون بمذهب النشوء والارتقاء في الأجسام فلم لا يسلمون به في العقول والأرواح؟
وإذا كان الله لا يظهر بعض نوره للروح الإنساني الذي هو نفخة منه فلأي شيء يظهره؟. . .
ولا بد من باب ينفذ منه العقل الإنساني إلى ما وراء الطبيعة. وهذا الباب هو عقل النبي وروحه؛ ولن يقنع الإنسان بانقطاع الصلة بينه وبين ما وراء الطبيعة إلى هذا الحد الذي تراه من الإغلاق في الطبيعة، وعدم سماحها بأي ثغرة تنفذ منها.
ولو كان منكرو النبوة والوحي يتبعون الأسلوب العلمي في بحثهم حول النبوة والوحي كما يتبعونه في بحثهم في المادة، ما أباحوا لأنفسهم أن يرفضوا شيئاً لم يقم دليل علمي على بطلانه، بل ما أباحوا لأنفسهم أن يجادلوا فيه عارفيه من الأنبياء والأصفياء إلا على سبيل الاستفسار لا الإنكار. فكما لا يباح لرجل الشارع الجاهل أن يجادل (ملكن) أو (مركوني) أو (أديسون) وغيرهم من أساطين العلم المادي، كذلك لو أنصفنا ما أبحنا لأنفسنا أن ننكر على الأنبياء ما رأوه في آفاق الحياة والروح إلا إذا كنا على قرب منهم في الصفاء والرياضة الروحية التي كانوا يزاولونها. فالأسلوب العلمي يحتم على من يريد الإنكار عليهم أن يقارب منهم ويزاول ما يزاولون، وهم يقولون إننا نرى أشياء ونصل إلى درجة(317/27)
نخاطب معها أرواح الملائكة والأنبياء
قال الغزالي أبو المعرفة ومحصل علوم زمانه في كتابه (المنقذ من الضلال): (ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات حتى إنهم (الصوفية) في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق ولا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه. وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول وطائفة الاتحاد وطائفة الوصول. وكل ذلك خطأ. . .) إلى أن يقول (وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم. وكرامات الأنبياء على التحقيق بدايات الأنبياء وكان ذلك أول حال رسول الله عليه السلام حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد حتى قالت العرب: إن محمداً عشق ربه.
وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها). ثم بين الغزالي أطوار نمو العقل البشري من إدراك المحسوسات إلى إدراك المعقولات وبين أن وراء هذه المنطقة (عيناً أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأموراً أخرى العقل معزول عنها)
فعلى منكري هذا من الباحثين الشاكين أن يتبعوا الأسلوب العلمي في الإنكار والإثبات فيسلكوا سبيل أبي حامد الغزالي وأشياعه ليروا أهم على حق أم على باطل. فلقد كان أبو حامد شاكا ودرس وسلك حتى أتاه اليقين
إلى الدكتور الفاضل عمر فروخ ببيروت
إن الكاتب الفاضل الذي استعداني على مقالك (المعجزة) المنشور بمجلة الأمالي (عدد 37 ص 1) أرسل إلي العدد الذي فيه المقال، وقد قرأته بإمعان وفهمت منه ما أشرت إليه في مقدمة مقالي الأول عن النبوة والوحي والمعجزة فأنا أصرف إلى نفسي تعريضك به في مقالك الذي علقت به على مقالي، وإلا كنت أنا ظالماً له ومسيئاً إليه، وأرجو أن ترتاح للذين يتحمسون في الدفاع عن عقيدتهم التي هي أثمن شيء لديهم ما دام الدفاع خالياً من السباب والمهاترة فإن هذا هو شأن الباحث الذي يقدر عقائد القلوب.
فالكاتب الذي كتب إليّ من بيروت إنما صدر عن إخلاص حين أرادني أن أجادل رأيك في(317/28)
المعجزة. أما ذكره اسمه ناقصاً فله عدة وجوه لا تقدح فيه غير ما أشرت إليه أنت
وأنا قد فهمت من تفسيرك للمعجزة أن في ذهنك صورة عن النبوة غير ما في أذهان الواقفين عند نصوص القرآن في معجزات الرسل السابقين. فالقرآن يثبت أن معجزات الرسل لا دخل فيها للإنسان الرسول، وهو ذاته لا يفهمها ولا يدري سر إجرائها كما يدل على ذلك فرار موسى حين رأى عصاه حية تهتز كأنها جان. . . وأنت تعرف المعجزة في فهم الخاصة بأنها (عمل إنساني محض فيه إدراك بالغ لقوانين الطبيعة ووزائع الاجتماع، فكلما كان فهم الإنسان للطبيعة والبيئة أدق وأعمق كانت معجزته أجل وأثمن (هذا كلامك بالحرف. فأنت ترى من كلامك أنه صريح في جعل المعجزة عملاً إنسانياً، مع أن القرآن ينعت هذا النوع بأنه آيات إلهية لا دخل للإنسان الرسول في إجرائها إلا ما يتعلق بتحديد مواعيدها ومواضعها
ثم إنك جعلت توحيد رسول الله محمد للعرب معجزته الكبرى وقد تم ذلك لغيره في عصور مختلفة أحدها عصر الملك
الحالي عبد العزيز بن سعود. وقد كان مثل هذا التوحيد في غير العرب من الأمم. أفنجعل ذلك كله معجزات بالمعنى الديني؟
من أجل هذا فهمت أنك تريد أن تسلك محمداً في سلك الأبطال المصلحين الذين لا يعتمدون على مدد من السماء وأنك تريد أن تجعل كل ما فاض عنه من الأفكار والأخلاق في الإصلاح، والإرشاد والتشريع، إنما كان كله فيضاً نفسانياً بشرياً صادراً عن ذاته هو. وهذه مقالة شاعت في هذا الزمان وهي رفض للنبوة بمعناها عند المؤمنين.
ولكني بعد ما قرأت مقالك الذي تعلق به على مقالي ووجدتك تقول: إنني رجل أؤمن بالنبوة على ما وردت في القرآن الكريم لا أحيد عن رأيي في ذلك: (قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد) إلى آخر الآية. أراني مضطراً إلى تصحيح رأيي في آرائك تلك في النبوة فقط. أما رأيك في المعجزة فهو بعيد عن قول القرآن فيها؛ وفيما أوردته حولها سابقاً في هذا المقال خلاصة رأيي فيها. ولك التحية
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف(317/29)
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
- 2 -
أورد الأستاذ المردمي قول الفرزدق في هذه الرواية في الأغاني في أثناء بحث اجتزأ به، وقد رأيت سوق القصة بتمامها في هذا المقام:
(نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص: ما تشتهي؟
قال: شواء وطلاء وغناء. قال: ذلك لك، ومضى به إلى قينة بالمدينة، فغنته
ألا حيِّ الديار بسُعدَ إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
إذا ما حلّ أهلك يا سليمى ... بدارةُ صلصل شحطوا مزارا
أراد الظاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا!
فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها!
قال: أوَ ما تدري لمن هذا الشعر؟ قال: لا والله. قال: فهو (والله) لجرير يهجوك به. . .
فقال: ويلُ ابنِ المراغة! ما كان أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره)
وأملى أبو العباس في (كامله) الحكاية مطوّلة، وجاء في ختامها: (فقال الفرزدق ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري، وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره)
فالفرزدق وجرير في الإسلاميين يحسبان مثل حبيب والوليد في المحدثين: (ترى ألفاظ أبي تمام كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهبوا للطراد، وترى ألفاظ البحتري كأنها نساء حسان عليهن غلائل مصبغات، وقد تحلين بأصناف الحلي)
وهي طبيعة المرء، وهو مزاجه: (كان القوم يختلفون في ذلك، وتتباين فيه أحوالهم، فيرق شعر أحدهم، ويصلب شعر الآخر. وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع وتركيب الخلق)
وقد قلت في بحث قبل: ما اختلف الطائيان الأكبر والأصغر في الطريقة، إلا لاختلاف الخليقة، فمن تشددت خليقته استفاد للجزالة ومتنت عبارته. ومن سجحت ضريبته رقت(317/31)
كلمته؛ فالأمر عائد إلى الطبائع. وقول الإفرنج في هذا المعنى معروف
(والفرزدق وجرير والأخطل أشعر العرب أولاً وآخراً، ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه. وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون، وهم أبو تمام وأبو عبادة وأبو الطيب المتنبي، فإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء)
وللثلاثة الإسلاميين فضيلتان، وللثلاثة المحدثين الذي هو لهم. وقد تخرج الآخرون على الأولين وأمثالهم التخرج التام. وثقفتهم تلك الحضارة، ورأوا دنيا لم يرها سالفهم في الزمن، وأوثروا بما أوثروا به، فتفوقوا على غيرهم، ولم يجيء من بعدهم أشبابهم
ومن الأسباب التي برع بها الإسلاميون الجاهليين: (أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم، ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية وممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها)
والفرزدق أفضل الثلاثة الإسلاميين، وقد وصفه وصاحبيه خالد بن صفوان في خبر في الأغاني، وفي قوله حق كثير، وأسلوبه يحكي وصف (الهمذاني) الفرزدق وجريرا في المقامة القريضية. وهذا ما نسب إلى خالد: (أما أعظمهم فخراً، وأبعدهم ذكراً، وأحسنهم عذراً، وأسيرهم مثلاً، وأقلهم غزلاً، وأحلاهم عللاً، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان - فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتاً، وأمدحهم بيتاً، وأقلهم فوتا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع - فالأخطل. وأما أغزرهم بحراً، وأرقهم شعراً، وأهتكهم لعدوه ستراً، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق - فجرير)
وقال أبو الفرج: (الفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل. ومجاله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول، أو يدل على مكانه بوصف؛ لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم، ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علماً يستغني به عن الإطالة في الوصف (وقد) اختلف (الناس) بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها. فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له(317/32)
مثل ما لهما من فنونه. وهما في ذلك طبقتان: أما من يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق. وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريراً).
والفرزدق عند الشعراء الحذاق الكبار والعلماء العارفين أعظم من جرير. روى الأستاذ المردمي في (الكتاب) عن (الموشح) للإمام المرزباني: (قال أبو الغوث يحيى بن البحتري: كان أبي يقول: لا أرى أن أكلم من يفضل جريراً على الفرزدق، ولا أعده من العلماء بالشعر. فقيل له: وكيف؟ وكلامك أشد انتساباً إلى كلام جرير منه إلى كلام الفرزدق. فقال: كذا يقول من لا يعرف الشعر. لعمري إن طبعي بطبع جرير أشبه، ولكن من أين لجرير معاني الفرزدق وحسن اختراعه؟ جرير يجيد النسيب ولا يتجاوز هجاء الفرزدق بأربعة أشياء: باليقين، وقتل الزبير وبأخته جِعثِن، وامرأته النوار. والفرزدق يهجوه في كل قصيدة بأنواع هجاء يخترعها ويبدع فيها)
وقد عرف الأستاذ المردمي من نبوغ الفرزدق ما عرفه البحتري، بل تنبه على من لم يتنبه عليه. وظني أن هذا ما بعث الأستاذ على أن يخص أبا فراس بكتابه، وإن كان طبعه - كطبع البحتري - لطبع جرير أشبه، وشاكلت رقَّتُهُ رقَّتَهُ
وقد نقد ضياء الدين بن الأثير رواية الموشح نقداً غير صواب، ومما قال: (إن البحتري عندي ألب من ذلك، وهو عارف بأسرار الكلام، وكيف يدعي على جرير أنه لم يهج الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها، وهو القائل:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد.
وإعجاب ابن الأثير بمثل هذا البيت أمرٌ إمْر. وهل هذا من درجة الاجتهاد التي بلغها وذكرها في قوله في مقدمة كتابه: (ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة وإنما هي متبعة) وقال ابن الأثير: (ولو سلمت للبحتري ما زعم من أن جريراً ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربعة لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة؛ وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحداً تصرف فيه بوجوه التصرفات، وكذلك فعل جرير فإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة) وأورد ابن(317/33)
الأثير من (هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير)
سبعة أبيات، منها:
قال الفرزدق:
رقِّعي أكيارنا ... قالت: وكيف ترقع الأكيار؟
وسيف أبي الفرزدق فاعلموه ... قدوم غير ثابتة النصاب
ولو لم يرو مثل هذا لكان خيراً لابن الأثير ولصاحبه جرير
(قال جرير لرجل من بني طهية: أينا أشعر أنا أم الفرزدق؟
فقال له: أنت عند العامة والفرزدق عند العلماء. فصاح جرير: أنا أبو حزرة! غلبته ورب الكعبة! والله ما في كل مائة رجل عالم واحد)
فإن أصبر قول الطهويّ جريراً وازدهاه فهل يرضى صاحب أبرع كتاب في العربية في بابه أن يكون من العامة؟
وما نقصد بهذا القول إزراء بابن الخطفيّ، فجرير ما جرير؟! وهو الثاني في الثلاثة، هو الابن في الثالوث الإسلامي. . . وقد قال الفرزدق: (إني وإياه - يعني جريراً - لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر)
وإذا كان ضياء الدين يرى (الشعر كله في ثلاث لفظات فإذا مدحت قلت: (أنت) وإذا هجوت قلت: (لست) وإذا رثيت قلت: (كنت)) فقد غمز في نفسه، وأقبل مقلداً من المقلدين لا مجتهداً - كما يصف نفسه - من المجتهدين
(يتبع - الإسكندرية)
* * *(317/34)
في بلاط الخلفاء
سعد وسعاد في حضرة معاوية
للأستاذ علي الجندي
فوق بسيط الصحراء المترامي الأطراف، المنَّضر بتلافيف العشب الأخضر، وعلى كثب من أخبية هذا الحيّ الذي تخصص في الحب حتى ضُربت به في ذلك الأمثال! كانت سعاد أو سعدى العذريّة ترعى البهم مع ابن عمٍّ لها يُدعى سعدا في مثل سنها أو يجاوزها قليلاً
ورعى الشاء والنّعم - كما يعرف الملمون بالأدب العربي - أخصب مراتع الحب في البادية وأغزر ينابيعه، ففي ظل تلك الوحدة الصافية والخلوة المطمئنة، وبين كثبان الرمل الأعفر ولُعاب الشمس الضاحية بنجوة من فضول الرقباء ولجاجة العُذّال، انسكب هذا الفيض العلوي على القلوب، وانقدحت شرارته السحرية الأولى، وانفسح المجال - في كلاءة العفاف والتصوّن - للتعارف والتآلف والتشاكي والمناجاة! بل خُطت مصارع العشاق المتيّمين من أمثال ابن حزام وابن ذريح وابن الملوّح، واستطارت أّناتهم الدامية وآهاتهم الحِرار! التي يسميها - من لم يُدلّهه الهوى وتُدنفه الصبابة - أشعار الغزل والنسيب!
ولم يكن بدّ لسعد وسعاد أن يتحابّا جرياً على هذا العِرق الأصيل في القبيلة. وقد يقال: إنهما في بَلَه الطفولة وغرارة الحداثة؛ أجل، ولكن الحب كالسياسة ليس له قلب! فهو كما لا يوقر الكبير لا يرحم الصغير! بل لعل أبرحه وأشجاه ما ساور الأفئدة الغضة، وخامر الأكباد الرِّطاب!
وأخذ الهوى الطفل يتدرج في النمو بتدرج الحبيبين الصغيرين في العمر، حتى شارف المدى في الوقت الذي بلغت فيه سعاد سن القمر البدر! حيث خنقت الرابعة عشرة، فتفلك ثديها وتمت أنوثتها، وتحير في محياها ماء الشباب! وإذا هي أروع مثال للجمال صاغته يد البادية العبقرية الصَّناع!
كانت الفتاة فارعة القوام، مُهفهفة الأعطاف، أدناها كثيب مَهيل، وأعلاها خوط بان!
لها شعر فاحم وارد تنُوس ذوائبه على وجه أبيض مسنون مشوب بسمرة رقيقة كما يشاب الكافور بالمسك! وعينان دعجاوان مكحولتان بالسحر البابلي، يحرسهما حاجبان مُهلَّلان كأنهما نونان من خط ماشق! وخدان أسيلان أنضجت تفاحتيهما شمس الصحراء، نبت(317/35)
بينهما أنف كقصبة الدرّ أو حدّ السيف لم يَخنُس به قصر ولم يمض به طول. شُق تحته خاتم عَطِر كالأقحوانة الغضة، يلتمع فيه سمطان من اللؤلؤ المنضود تجري عليهما شُهدة العسل وسُلافة الرحيق!
وكانت تحلي جيدها العاجي الأتلع، بعقد من الجزع الظَّفاريّ، وسخاب من القرنفل والمحلب، واسطته عقيقة حمراء قانية، تتوهج في ثغرة نحرها، وفوق ثمرتي صدرها توهج الذهب الذائب في بوتقته
وإلى هذا الإثراء من الحسن المطبوع، أوتيت مزماراً من مزامير آل داود! فكان صوتها ندياً رخيماً، عذب الجرس حلو الرنين! إذا حدت به في أعقاب الإبل، أو تغنت وراء الغنم، أو أخذت بأطراف الحديث في التسامر، صبت في الآذان ما يشبه وسواس الحلي أو زجل الحمام!
وبرح الحب بالفتى والفتاة، وفعلت الصبابة فيهما أفاعيلها! ولكن حياء الفتيان وخفر العذارى العواتق في هذه الأيام، حالا دون المكاشفة بهذا الجوى الدفين! فكانا يتناجيان بلغة العيون، والعيون أقدر على أداء رسالة الغرام، وأجلى إعراباً عن لواعج الشوق السّاعر من لسان المقال!
تَكلَّمُ منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت، والهوى يتكلَّم
وفي صبيحة يوم شديد القُرّ لاذع الشفيف، جلس العاشقان حول نار يصطليانها التماساً للدّفء، وقد علق بصرهما بالشرر المتطاير هنا وهناك كأنه قُراضة الذهب، ذاهلين عن كل شيء حولهما غارقين في صمت عجيب! وإذا الفتى تمتد يده - دون أن يعي - إلى حزمة من يابس العرفج طرحها في النار، فذكا لهيبها واندلعت ألسنتها الحُمر تترقص على وجه الفتاة البضّ فتشبّ لونه، وتجلو فتنته، وتزيده سحراً على سحر!
وأحست سعاد - بعد لأي - بلفح الأوار، فصحت من ذهولها، وازوّرت عن الموقد قليلاً متقية الوهج بإسبال جفنيها المنكسرين، فاستقرت أهدابها الوُطف على ورد خديها، فكان منظراً أخاذاً يقرح قلب الخليّ، ويحثّ الناسك على الصبوة!
أخذت عينُ الفتى هذه الصورة الفاتنة، فعيل صبرهُ، وتدلّه عقله، وخفق قلبه خفوقاً متداركا، وربا سحره حتى ما يكاد يتنفس! ثم شعر كأن نفسه تتنزى من داخل إهابه، وأن أكمام(317/36)
عواطفه تتفتق عن نفحات عبقة ندّية، لم تلبث أن تخالجت في صدره، ثم ارتقت إلى لهاته، ثم سالت على عذبة لسانه، فإذا هي هذا الشعر يهتف به أول مرة في حياته:
بأبي! كرهت النار لما أوقدت ... فعرفتُ ما معناك في إبعادها
هي ضرّة لك بالتماع ضيائها ... وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها ... بسيالها وأراكها وعرادها
شَرِكَتْك في كل الأمور بحسنها ... وضيائها وصلاحها وفسادها
فتظاهرت سعاد بأنها لم تسمع - وهي جدُّ سامعة - فخيل إليه أن شعره لم يند على قلبها، ولم يقع منها بموقع، فاتحه شطر النار يؤرثها بعود من الحطب - وهو يترنم بهذه الأبيات -:
وما عرضت لي نظرةٌ مذ عرفتها ... فأنظر، إلا مُثِّلت حيث أنظرُ
أغارُ على لحظي لها فكأنني ... إذا رام لحظي غيرها ليس يبصر
وأحذر أن تُصغي إذا بُحت بالهوى ... فأكتمها جهدي هواي وأستُر
فنصت إليه سعاد جيدها الناصع، ورمته بنظرة فاترة منكسرة ملؤها عتب رفيق! فاضطرب الفتى وصبغت وجهه حمرة الخجل، وأطرق ينكت الأرض بعود في يده، وأراد أن يذهب بالحديث مذهباً آخر، فعصب ريقه، وانعقد لسانه؛ فعاذ بالصمت مكرهاً كما عاذت هي به من قبل، وظلا بقية يومهما جامدين كالأنصاب
ولما كان من الغد بكر الفتى إلى المرعى تبكير ابن دأية، بعد أن قضي ليلة نابغية بجفن مؤرق ودمع مرقرق!
ولبث يرقب سعاد رقبة الهلال ليلة الشك ساعات ممضة فلم تحضر! فساوره القلق، ومالت به الظنون كل مميل! وكان أخوف ما يخافه أن تكون ابنة عمه قد اعتقدت فيه أنه خضع لبعض الأمر. فطفق يذرع الوادي إقبالاً وإدباراً، ويبلل رداءه بعبرات سخينة، حتى نال منه اللغوب، فسقط رازحاً بين طيات الرمال، ينشد:
مُتْ شوقاً، وكدت أهلك وجْداً ... حين أبدي الحبيب هجراً وصدا
بأبي من إذا دنوت إليه ... زادني القرب منه نأياً وبعدا
كيف لا كيف عن هواه سُلُوِّى ... وهو شمس الضحى إذا ما تبدّى؟!(317/37)
ولم يكن سعد مصيباً في ظنه، فقد كانت سعاد مطمئنة إلى حسن نيته، وصفاء سريرته، غير ناسية شعار العذريين (إن في فتياتنا صباحة وفي فتياننا عفة)، ولم تكن كذلك ناقمة منه نسيبه بها، بل نزل على قلبها برداً وسلاماً! وأي فتاة لا تستروح إلى حديث الحب البريء، ولا تهفو إلى رؤية محاسنها مفرغة في قوالب الشعر المذهبات؟!
ولكن الفتاة كانت عاقلة أريبة بعيدة النظر، فخشيت أن يستحلي الشاعر هذا المرعى المؤنق، ويتمادى في إعلان صبوته، وتجري مقطعاته ورقائقه على ألسنة الرواة فتفتضح بها، ويقف ذلك عقبة في بلوغ أمنية تعدل عندها الحياة! وهي زواجها من ابن العم الحبيب الذي ينزل منها في سواد العين والفؤاد! فأرادت أن تتخلف عن لقائه أياماً تتصنع فيها المرض عل ثورته تهدأ وشقشقته تقر! وما درت سعاد - عفا الله عنها - أن ما حسبته دواء هو الداء الأكبر بل الموت الأحمر!:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أن قرب الدار خير من البعد
وبينما كان الفتى متوّحداً في الصحراء تتوزّعه الهواجس، ويخبط من حيرته في مثل قطع الليل المظلم! لمعت في ذهنه خاطرة استنار منها وجهه وثلج لها فؤاده، فصكّ جبهته وصاح: الحمد لله لقد اهتديت!
وما عتّم أن انكفأ بالرّاغية والثّاغية إلى مضارب الخيام، ثم عطف على طِراف ممدّد فدخل إلى عمه الشيخ، فإذا هو مُحتب فوق لبدة يمشّط لحيته اللِّيفانيّة
حيّا الفتى عمه الشيخ فرد عليه بأحسن منها، ودعاه إلى الجلوس فجلس قُبالته محتشماً وانقضت فترة كان فيها زائغ البصر شارد العقل جمّ البلابل! ثم تغلب على وساوسه وقال بصوت متقطع النبرات:
- عمي وأبي بعد أبي!
- لبيك ولدي وَوَصَلتك رَحِم!
- جئت أخطب إليك سعاد
فحل الشيخ حبوته وابتسم قائلاً: سعد يخطب سعاد! هو الفحل لا يُقدع أنفه!
فنكّس الفتى رأسه مستحيياً وفي منبت كل شعرة من وجهه ثغر ضاحك!
وكان لسعد صِرمة من الإبل وثلة من الضأن والمعِز ورثها عن أبيه الذي مات عنه - وهو(317/38)
طفل - فأصدق سعاد عشرين ناقة عُشراء
وما هي إلا أيام قلائل حتى أُهديت الفتاة إليه في ليلة أضحيانية قمراء، تحف بها كوكبة من أترابها يتغنين ويضربن بالدفوف، وأمامهن الجواري الصغيرات يعزفن ويرقصن، ومن حولهن فتيان الحي يتشاولون بالسيوف ويتناضلون بالسهام، ويتسابقون على صهوات الخيل العراب! فبلغوا بجاداً من الوبر ضُرب لها خاصة على مسافة غلوة من الحي، فأدخلوها فيه وجلس إلى جانبها الزوج، وأُفرغ على رأسهما نثار التمر عملاً بسنة البدو! وبقي أهل الحي نساء ورجالاً في لهو وسمر حتى انفجر الفجر، فودعوهما داعين لهما بالرِّفاء والبنين!
ومضى عامان أجردان نعم فيهما العروسان بما جاوز قدر الأمل؛ من حياة لينة هنيئة وعيش ألمى الظلال، وحب على الأيام يزداد حِدّة وجدّة! ولكن صدق من قال: (وعند صفو الليالي يحدث الكدر)!
فإن كلف الزوج بعرسه وابتغاءه مرضاتها، جعله يبسُط يده كل البسط في الإنفاق عليها، فكان يرد الحواضر وأسواق العرب يبتاع لها الطرائف: من عصب اليمن وريط الشام ومناديل مصر وعطور الهند وزعفران البلقاء مبالغة في ترفيهها وتدليلها، مع نصحها له بالقصد والاعتدال، ونفورها من هذا التَّرف الذي يجرّدها من وسم البادية وشارتها المحبوبة
فلم يرعو الزوج العاشق، وسدر في غُلوائه حتى أتلف ماله، ولم يبق له سبد ولا لبد! فتلقت سعاد هذه الجائحة بالصبر الجميل! وضاعفت من حبها للفتى وحدبها عليه لترّفه عنه حرّ المصاب!
ولكن الأمر لا يعنيها وحدها، فهناك أبوها وهو وإن كان من قوم جُبلوا من طينة العواطف، ووسموا برقة الشعور، وسنُّوا للناس سنن الموت في الحبّ! إلا أنه كان أعرابياً جافي الخليقة غليظ الكبد! لا يفهم من الحياة غير رُغاء الإبل وثُغاء الشاء والَّصرَّ والحلاب، فأنف لابنته خشونة العيش، وتعاظمه أن تلفحها سموم الفاقة في طراءة السن وغضارة الشباب!
فقطع صلتها ببعلها واحتجزها عنده وسعى في خلاصها منه! فرفع الزوج الأمر إلى والي تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش وبمكانه من الخليفة مروان ابن الحكم. وكانت سعاد قد وصفت له في بعض قدماته إلى البادية، فعشقها على السماع - والأذن(317/39)
كالعين تعشق - فاهتبلها فرصة يتقنص فيها هذا الشادن العذري المريب الذي ما برح يرتعي حبة قلبه! فأكره سعدا على مفارقة زوجه، وضمها إليه - بعد انقضاء عدتها - وفي عينها دمعة جارية، وفي قلبها لوعة ذاكية!
حزب الزوج الأمر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولا عجب فقد أصيب بطعنتين نجلاوين في قلبه وكرامته. ولكن إذا جار الوالي أليست هناك يدٌ أعلى من يده، هي يد الخليفة! ومن فوقها يد الله!
لم يجد الفتى بدّا أن يعتسف الصحراء إلى دمشق، حيث يتربع على دست الخلافة آدم قريش، ووارث حلوم آل حرب، وكسرى العرب وأدهى دهاتها معاوية بن أبي سفيان، ليستعديه على ابن عمه الحاكم المتسلّط!
(البقية في العدد القادم)
علي الجندي(317/40)
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
راهنت بالروح على نهروان ... لو إنني أملك هذا الرهان
هذى هي الخيل التي تشترى ... لا كوكب الشرق ولا كوكبان
الشعر للأستاذ علي الجارم بك وفيه لحن من نغمة (النشازكار) من صنعة الأستاذ محمود مصطفى
حدثنا الأستاذ محمد شعراوي بك قال: إن (كوكبان) و (نهروان) جوادان من جياد السباق، وإن الجواد الذي أراد الأستاذ الجارم بك أن يثنى عليه هو (كوكبان) ولكنه من أجل الجناس اللفظي بين كلمة (راهنت) وبين كلمة نهروان قد أبدل اسمي الجوادين فجعل الممدوح هو المذموم والعكس بالعكس
قال الأستاذ شعراوي بك: وأعجب من ذلك أن كوكب الشرق ليس جواداً ولكنه صحيفة كان يصدرها الأستاذ حافظ عوض بك ولكن الجناس اللفظي قد حمل الجارم بك على اعتبارها جواداً، وجواداً من جياد السباق وذلك ليقال كوكب وكوكبان
وانتهى شعراوي بك من حديثه إلى أنه لن يراهن على بيت واحد من الشعر ما دام الشعراء يبدلون الحقائق من أجل تلك الكلمة المدرسية العتيقة: (بين وجوه البلاغة فيما تحته خط)
وحدثنا الأستاذ عبد الغني جبرة قال إن في خيول السباق جواداً اسمه شكسبير وأنه عرض على شعراوي بك بثمن مناسب ولكنه رفض شراءه لأنه باسم شاعر. قال وقد تحامل شعراوي بك على الجارم بك تحاملاً شديداً لأن الجواد كوكبان من خيول شعراوي بك وقد كان يود أن يكون هو الممدوح لا الجواد نهروان
قال أبو الفرج: وهذا القول جائز ولكن كيف استحالت جريدة كوكب الشرق إلى جواد من جياد الرهان؟
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: وهذا الباب من أبواب الشعر أثر من آثار الجناية التي جناها(317/41)
الأدب الجاهلي على أدب العصر الحاضر. فقد كان الجواد عند العربي بمثابة الأسطول والطيارة في العصور الحاضرة. فإذا وجد الآن شاعر في إنكلترا يباهي بالأسطول ويصفه ويتغنى بمحاسنه فلا غضاضة عليه في ذلك؛ وإذا وجد شاعر في مصر يتغنى بالدبابات الجديدة والطيارات ذات الأزيز المثير للدوافع الوطنية فهو شاعر حقاً، كما كان العربي شاعراً في وصفه الجواد وحبه إياه وقد شاركه في أخطار الموت ودخل وإياه الدول المفتوحة وجرح وإياه في الميدان، ولكن ما بال الشاعر المصري العصري يركب السيارة ويأنف من ركوب الجواد ثم يتغنى بذكر الخيل؟ وما له يذكر الرهان والسباق وهو لم يعالجهما قط، وإنما يجعل منهما وسيلة لذكر الخيل لأن العرب كانوا يذكرونها - أليس هذا مما جناه الأدب الجاهلي على أدب العصر الحاضر؟
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: لما سمعت رأي الأستاذ أحمد أمين في السيارة والجواد نظمت قصيدة أتغنى فيها بعربة (ناش) التي اشتريتها حديثاً وأنكرت ما كنت أنظمه عن الخيول التي لم أركبها قط. ومن قولي في تلك القصيدة:
صوت
ألثمانون سرعة (الفُردِ) فاذرع ... بي عرض البلاد يا ناش وثبا
أطلقت قيدها الفرامل وانسا ... ب بي (الناش) ينهب الأرض نهبا
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: ما رأى الناس قط تعسفاً مثل هذا. فالخيل ما تزال من عدة الحروب. وما أنكر على شاعر أن يصف ما يراه من المخترعات الحديثة، ولكن كيف جاز للمؤمنين أن يحرموا على أنفسهم ما أحله الله لهم؟ وكيف يزعم الزاعمون أن الخيل قد زالت محبتها فيجب أن يزول التغني بها؟ إن ميادين السباق في الحواضر تستنفد من الثروة ما يكفي لبناء أسطول. هذا في الحواضر وما يزال في الريف من يباهون باقتناء الخيول ويعدونها من علائم الأصالة والنبالة. وقد كان عندي جواد في سنتريس اعتدت ركوبه كلما طفت بمنازل الصبايا. وبارك الله في صبايا سنتريس! لقد أنكرت الوجاهة منذ كففت عن ركوب الجياد واستبدلت بها الطيارة والسيارة. ثم ما لهذا كله وما لأبيات الجارم بك؟ إن تربية الخيل ضرب من الفروسية التي يجب الاحتفاظ بها في كل مكان وكل زمان، وهي تقليد من تقاليد الخلفاء. وقد قال الوليد بن يزيد:(317/42)
تمسك أبا قيس بفضل عنانها ... فليس عليك إن رمتك أمان
فهل قرأ هؤلاء أدب الأمويين؟
قال الدكتور زكي مبارك: ولهذا البيت قصة ظريفة فقد أشفق أمير المؤمنين الوليد بن يزيد على (الجوكي) من ركوب الفاره من الجياد فأمر بتدريب طائفة من القرود وكون منها فرقة من (الجوكية) كما أمر بصيد عدد كبير من حمر الوحش فجعل منها فرقة من (البواني الغشيمة) وأبو قيس هذا الذي يذكره في شعره ليس إلا قرداً من هذه القرود
ليت المدنية التي يتغنون بها تبلغ من الرفاهية ما بلغته في العصر الأموي الذي لم يقرءوا شيئاً عنه
لم تحب الحياة زهدَ عليّ ... فجفته إلى بني مروان
ثم ضحك الدكتور زكي مبارك وقال: وسيأتي اليوم القريب الذي يعود شعراؤنا فيه إلى التغني بالخيول ولو غضب الأستاذ أحمد أمين وأنشد:
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
هكذا قال حصان أبي الطيب فليسمعنا الأستاذ أحمد الشايب ما قالته سيارته ولو أنها من طراز (ناش)
حدثنا الأستاذ عبد الغني جبرة قال: دخلت ميدان السباق فرأيت بين المشاهدين الدكتور زكي مبارك، ورأيت طائفة عظيمة من الوجهاء والأعيان وكلهم معقود النظر بالخيل التي تجري دون أن ينظر بعضهم إلى بعض. وسمعت الدكتور زكي مبارك ينشد في هذا المعنى أبياتاً لم يعلق بذهني منها غير هذا البيت في وصف ميدان السباق.
ويكون أغنانا وأعلمنا ... فيه وملء عيوننا البهم
عود إلى أبيات الجارم بك
حدثنا الأستاذ محمود مصطفى قال: إنني وإن حملت على الجارم بك في شرحه لكتاب البخلاء فما أنكر فضله في الشعر فقد جدد به مفاخر العرب وتغنى بآثارهم وبعث أمجادهم، وصان لغتهم. ومن أروع المفاخر العربية عندي العناية بالخيل فما تعني بها الأمم المحاربة، ومهما استحدث من أدوات الدفاع فسيلجأ المحاربون في النهاية إلى إيثار الخيل(317/43)
بالعناية. وأنشد بيت أبي الطيب:
وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
وحدثنا الشاعر جبريل دننزيو قال: حدثنا السنيور موسوليني قال: ليس في نيتي أن أثير الحرب؛ ولكنها إن ثارت فسيكون المسئول عنها هو جوادي، فإن رؤية الخيل تحفز إلى الرغبة في القتال وأنشد:
صوت
وأقبل بالتصهال مهري يقول لي ... أأبقى كذا لا في اطراد ولا طرد
علام انتظاري أنجم النحس والسعد ... وحتام صمتي لا أعيد ولا أبدي
الشعر لجبريل دننزيو وفيه لحن يضرب على نغمة المترليوز من صنعة الشاعر نفسه
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(317/44)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولندع الآن ما ليت يسعى سعيه الأثيم، ولندع كذلك الخديو في حيرته وارتباكه؛ ولنعد إلى أوربا لننظر ماذا آل إليه موقف الدولتين من المسألة المصرية.
وجدير بنا ألا ننسى ما أسلفنا الإشارة إليه أكثر من مرة، ألا وهو موقف الدولتين إحداهما من الأخرى، موقف المراوغة والمداراة، ذلك الذي كان طرفاه أول الأمر غمبتا وجرانفل.
ولقد تغير هذا الموقف تغيراً أساسياً من جهة فرنسا حينما حل دي فرسنيه في الحكم محل غمبتا؛ وذلك أن هذا الرجل قد انتهج في المسألة المصرية نهجاً جديداً ما لبث أن بينه لإنجلترة حين ولي الحكم.
وقد ألقيت إلى المسيو فرسنيه مقاليد الأحكام كما ذكرنا قبل أن يخلف البارودي شريفاً في مصر بنحو خمسة أيام. فكتب إلى الحكومة الإنجليزية أنه لا يميل إلى أي تدخل عسكري في مصر سواء أكان هذا التدخل من جانب إنجلترا وفرنسا مجتمعتين، أم من جانب كل منهما على حدة؛ وأنه كذلك يرفض كل الرفض أن يقر أي تدخل من جانب الباب العالي. . .
ولعل جرانفل قد رأى في سياسة فرسنيه ما يسهل عليه الوصول إلى غرضه مع ما قد يبدو لأول وهلة من أنها تؤدي إلى عكس ذلك؛ وذلك لأنه يستطيع الآن أن يلزم دي فرسنيه بسياسته بينما يتلمس هو الأسباب لتتدخل حكومته بمفردها، ولن يعدم أن يجد من الحوادث تافهة كانت أم كبيرة ما يتخذ منه مبرراً لتدخله. ولئن لم تواته الحوادث فما أيسر أن يخلقها خلقاً أعوانه في مصر، حتى إذا سنحت الفرصة أفلت من فرنسا وانقض على الفريسة وحده؛ وإذا بدا لتركيا أن تتدخل في تلك الأثناء فلتستتر إنجلترا خلف فرنسا لأنها هي التي تعلن أنها تمانع في تدخل الباب العالي. وإن إنجلترا لتمانع في الواقع أكثر مما تمانع فرنسا(317/45)
حتى لا تعود مصر إلى حوزة صاحبها الشرعي، فيضيع على إنجلترا كل آمالها، ولكنها تلقي ذلك على عاتق فرنسا فتزداد نياتها خفاء وتزداد في نفس الوقت قرباً من غايتها. . .
وكان غمبتا يشير كما بينا بالالتجاء إلى القوة أبداً ضد الوطنيين في مصر، ومن هنا جاءت المذكرة المشتركة؛ وكان من اقتراحاته أن تقوم الدولتان معاً بالتدخل العسكري في مصر؛ ولكن جرانفل لم يشايعه في هذا الاقتراح مبيناً له ما ينطوي عليه تنفيذه من أخطار، ولقد جاء كلام جرانفل هذا إلى غمبتا في رسالة وصلته قبل سقوط وزارته بيوم واحد. وجاء في خاتمة هذه الرسالة قوله: (إن حكومة جلالة الملكة توافق على أن للدولتين مركزاً خاصاً في مصر وذلك بناء على الظروف القائمة والاتفاقات الدولية؛ وإنها كذلك تعتقد أنه قد تنجم بعض المتاعب من دعوة عدة دول في مسألة حكومية ولكن حكومة جلالة الملكة تكل إلى الحكومة الفرنسية أن تنظر ما إذا لم يكن الأمر في حاجة إلى الاتصال بالدول الأخرى كخير وسيلة لتناول حالة من الحالات يظهر أنها ذات مساس بالفرمانات السلطانية وعلاقات مصر الدولية). . .
ولم يكن جرانفل بالضرورة متعففاً عن التدخل العسكري في مصر، وإنما كان يود التخلص من مشاركة فرنسا لإنجلترا في هذا، وقد كانت السياسة الإنجليزية تدور منذ حملة بونابرت على مقاومة نفوذ فرنسا في وادي النيل. ثم الاستيلاء عليها متى أمكن ذلك دون مراعاة شيء في سبيل الوصول إلى هذا الغرض
واستفهم المسيو فرسنيه الحكومة الإنجليزية ماذا أرادته لذلك الاحتياط الذي أبلغته المسيو غمبتا بعد موافقتها على المذكرة المشتركة، فكان الجواب أن الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بتعيين نوع العمل إذا لم يكن من العمل بد وفي تقرير وجوب العمل أو عدم وجوبه على وجه العموم
ثم أراد جرنفل أن يخفف من وقع هذا الكلام في نفس فرسنيه فذكر أنه ليس في مصر ما يدعو إلى القلق فإن الوزارة الجديدة تجهز برغبتها في المحافظة على تعهدات مصر الدولية؛ وإذا وقع ما يقتضي التدخل فإن الحكومة الإنجليزية تجعل أساس ذلك تضامن أوربا مع وجوب اشتراك السلطان في كل خطوة وفي مفاوضة يؤدي إليها هذا التدخل
وفي تلك الأثناء كان كلفن ومالت يحكمان دسائسهما في البلاد ويباعدان بين الخديو(317/46)
ووزرائه، لا يتوانيان عن خلق (الضرورة) التي تقضي بالعمل
وكانت الحكومة الإنجليزية التي تقف من فرنسا ذلك الموقف الذي أشرنا إليه تفكر في ذلك الوقت في إعداد حملة على مصر، ففي الخامس عشر من شهر مارس أي بعد استلام البارودي أزمة الحكم بأربعين يوماً زار مستر بلنت السير جارنيت ولسلي الذي سوف يكون قائد الحملة على مصر عما قريب، فدار بينهما الكلام على هذا المشروع. يقول مستر بلنت: (فبعد أن تكلمنا عن قبرص انتقلنا إلى موضوع مصر وإمكان مقاومة الوطنيين في حالة التدخل، وسألني رأيي في ذلك فقلت له: إنهم بالطبع سيقاتلون والقتال لن يقتصر على الجنود لأن الأمة ستنضم إليهم وربما استعملوا طرقاً أخرى بعد ذلك. وقد أبى أن يصدقني في قولي بأن الجنود ستقاتل، ولكني ثبت على رأيي وقلت له: إنه إذا كلف بأن يذهب لغزو مصر فعليه أن يأخذ معه على أقل تقدير ستين ألف جندي. وقد بالغت بلا شك في هذا التقدير لأني كنت أرمي إلى جعل هذه المهمة شاقة في نظرهم حتى لا تقدم عليها الحكومة إلا بعد تردد ومراجعة. وقد تطوع بإخباري بأنه قد استشير مرتين أو ثلاثاً مدة الشتاء بصدد الغارة على مصر والاحتلال. وقد أكد لي أن ليس هنا من يريد التدخل وأن احتلال مصر سيكون مكروهاً عند الجنود، وأنه هو نفسه يكون آسفاً جداً إذا اضطر إلى الذهاب إلى مصر. ومن رأيه أنه يجب على المصريين أن يسرحوا جيشهم ويثقوا بحماية أوربا. ولكني أخبرته بأنه ليس من المستطاع لي أن أنصح لهم بذلك وأن الأمة التي تنوي القتال بنية صادقة قل أن يهاجمها عدو. فقال لي: إنه ليس هناك شيء يدعى الشرف في الحروب، وإذا كانت المسألة مسألة حرب فلا يجب عليهم أن يثقوا بنا ولا بأي دولة أخرى
ثم أخذ في الكلام عن الطرق الحربية المؤدية إلى القاهرة فذكر بونابرت وطريقه على الشط الأيسر بين فرع النيل وطريق الصحراء بين قناة السويس والدلتا حتى شعر بأنه إذا ذهبت الجيوش فستتخذ هذه الطريق، ولكني احترست من أن أعطيه أي معلومات تفيده أقل فائدة، واكتفيت بالضحك عندما سألني عما إذا كنت أرافقه لأدله على الطريق عندما ترسل الحملة
وبينما كانت الدسائس تدبر لمصر في الداخل والخارج على هذا النحو لم يكن للوزارة المصرية من وسائل الدعاية شيء ما، فكان أعداؤها يتقولون عليها ما شاءوا وما شاءت لهم(317/47)
أطماعهم حتى لقد صور عرابي زعيم الحركة الوطنية صوراً بلغت أقصى حدود الغرابة، فهو تارة رئيس عصابة من المتمردين الخوارج على القانون والنظام، وهو طوراً داعية إسماعيل اشتراه بالمال ليعمل على إعادته إلى مصر، وهو بالإضافة عند بعض الإنجليز فرنسي أو أسباني في زي مصري، إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا ندري أنقابلها بالألم أم بالسخرية
وانطلقت الصحف تذيع في الناس الأكاذيب في غير حياء أو فتور وليس لمصر لسان يدافع عنها إلا لسان مستر بلنت فلقد سافر هذا الرجل الحر ليقابل كل من لهم صلة بالمسألة المصرية ليريهم وجه الحق في هذه القضية وليصحح ما جاز على عقول الساسة من خدع
ولقد قابل مستر بلنت جماعة من النواب ومن رجال المال وما زال يسعى حتى ظفر بمقابلة جرانفل فتحدث إليه بما لديه من المعلومات ودافع عن قضية الأحرار في مصر بكل ما وسعه من وسائل الدفاع. ولكن شد ما كانت دهشته عندما انطلق جرانفل نفسه يخبره أن لديه من المعلومات الأكيدة ما يؤيد أن عرابياً ما هو إلا صنيعة إسماعيل وأن المسألة من أولها إلى آخرها ما هي إلا سلسلة من الدسائس لإرجاع الخديو السابق إلى عرشه!
وعول بلنت بعد ذلك على مقابلة غلادستون وقد كانت شهرته قائمة على أساس ميله إلى الحرية، والأخذ بيد الشرقيين جميعاً لينهضوا من سباتهم، فلما مثل بلنت بين يديه اندفع يتحدث عن الحركة الوطنية في مصر في طلاقة وحماسة، وظل غلادستون صامتاً ينصت إليه كأنه مقبل عليه مؤمن بما يقول مقدره حق قدره يقول مستر بلنت: (ثم سألني عن موقف الجيش والسبب في ظهوره في المسائل الوطنية؛ فإنه توجس من هذا الظهور فأوضحت له تاريخ الحركة وأكدت له أن ما قيل عن تدخل الجنود قد بولغ فيه، وأن تلك الرواية القائلة بأن الجنود كانوا يتوعدون النواب ويرهبونهم من الروايات المختلفة وقلت له إن الاستعدادات الحربية الحاضرة ليس لها من غرض سوى الخوف من الاعتداء والتدخل).
ولكن ماذا كان ينتظره بلنت من جرانفل وغلادستون، ولم تكن المسألة مسألة إقناع وحجة؟ ماذا كان يأمل بلنت ولم تكن المسألة ماذا يجب أن يعمل، وإنما كانت متى ينفذ ما انعقدت النية عليه؟(317/48)
وإني لأحس من قراءة ما كتبه بلنت عن مقابلته لجرانفل وغلادستون أنهما كانا ينظران إليه نظرتهما إلى غر لا يفهم ما يجب أن يسير عليه الإنجليزي في معاملة الشعوب الشرقية أو إلى ناشئ في السياسة لا يدري أن الكلام شيء والخطط المرسومة شيء آخر. ولقد علق كرومر في كتابه على مساعي مستر بلنت فقال: (ومن هؤلاء الذين عطفوا على القضية نرى أبرزهم هو مستر ولفرد بلنت ولقد عاش مستر بلنت زمناً بين المسلمين وكانت له لذة شديدة في كل شيء يتصل بهم وبدينهم؛ ويظهر أنه كان يعتقد في إمكان إحياء الإسلام على قواعده الأصلية وقد تصادف أن كان في مصر في شتاء عام 1881 - 82؛ فألقى بنفسه بكل ما تبعثه الطبيعة الشاعرية من حماسة في جانب القضية العرابية وأصبح مرشدها وفيلسوفها كما أصبح الصديق لعرابي وأتباعه؛ ورأى مستر بلنت أنه كان يعني بحركة هي إلى حد معين حركة قومية بلا نزاع؛ وفشل في أن يفهم فهماً كافياً تلك الحقيقة وهي أن سيادة الحزب العسكري كان فيها القضاء على العنصر القومي في الحركة! وكان في وقت ما يعمل وسيطاً بين السير ادوارد مالت والقوميين
ولكن هذا الاختيار لم يكن موفقاً؛ لأنه يتبين بأجلى وضوح مما ذكره بلنت في كتابه عن مساعيه أنه فيما عدا بعض المعرفة باللغة العربية لم يكن على شيء من الصفات اللازمة لتحقيق النجاح في مسألة لها ما لهذه المسألة من صعوبة ودقة. ولقد نصح القوميين أن يعنوا بالجيش وإلا غالتهم أوربا، وكان يعني النصيحة بلا ريب ولكنها كانت في غير وقتها كما كانت خبيثة، فلئن كان ثمة من خطر من جهة الغزو الأوربي فإن موطن هذا الخطر كان في انضمام الحزبين الوطني والعسكري أكثر مما كان في انفصالهما؛ ولقد كان من السهل على السياسي المجرب أن يدرك هذا، ولم يكن للمستر بلنت تجربة سياسية ذات قيمة ما وإنما كان رجلاً متحمساً يحلم أحلاماً عن يوتوبيا عربية)
هذا هو ما يراه كرومر في بلنت. وليس عجيباً أن يكون هذا رأي كرومر وهو من أساطين الاستعمار في رجل كمستر بلنت كان بلا ريب من كبار الأحرار؛ وإنما أوردنا رأي كرومر هذا لأنه يكشف عن جانب من أساليب المستعمرين الإنجليز في محاولة طمس الحقائق في سبيل الوصول إلى ما يطمعون فيه من أغراض؛ وهو من ناحية أخرى يشف عما كان يمكن أن يقابل به مسعى رجل مثل مستر بلنت في دوننج ستريت إبان تلك الأزمة التي(317/49)
نحن بصددها: أزمة مقاومة الوزارة الوطنية في مصر
ولم يكن ينتظر أن يصيب بلنت غير الفشل، وقد رغبت وزارة جلادستون في تعجل الحوادث، لتفلت من فرنسا وتنفرد في وضع يدها على مصر حتى تخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه مسلك فريسنيه. فإن هذا الوزير قد ذهب في تجنب العدوان على مصر إلى حد أنه كتب إلى قنصل فرنسا في القاهرة يأمره أن (يلتزم خطة التحفظ والحذر، وإن كان ذلك لا يمنعه من أن يحسن صلته بكل حكومة في مصر تحترم الاتفاقات الدولية وتحافظ على النظام).
ولقد زاد فريسنيه على هذا أن استدعى المسيو بلنير العضو الفرنسي في المراقبة لما كان يعلم من مسلكه نحو الحركة الوطنية في مصر، وباستدعاء بلنير خلا الجو لكلفن ومالت فراحا ينفثان سمومهما ويتعجلان الحوادث في غير وناء ولا استحياء. . .
وبعد شهرين من هذا وقع في القاهرة حادث المؤامرة الجركسية؛ وللقارئ أن يصور لنفسه أية فرصة كانت تلك الفرصة التي أتيحت للسياسة الإنجليزية وعلى أي صورة راحا يستغلانها لصالح دولتهما دون أي وازع من ضمير أو قانون أو عرف. ولننظر بعد ذلك ماذا كان من أمرهما وأمر الخديو في هذا الحادث العادي الذي لولا أطماع السياسة وتربص القوي بالضعيف جرياً على سنة تنازع البقاء في هذا الوجود ما كان ليعتبر شيئاً مما أثاره من قلاقل خطيرة، أو ليلد ما ولد من أحداث جسيمة
(يتبع)
الخفيف(317/50)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
471 - المرأة
(الكلم الروحانية): سئل الفيلسوف سيافيدس السكيت عن المرأة فقال: همُّ الرجل، سرّ لا يوصف، سبع معاشر، لبوة في شعارك، أفعى مستورة بالثياب، حربٌ لا سِلمَ معها، راقدة تنبهك، حزن دائم، هلاك السخيف، آلة الفحشاء، غول إنسية، آلة لبقاء الصورة.
472 - هذا المصير. . .
حضر الفقيه الشاعر ابن أبي الصقر الواسطي عزاء صغير، وهو يرتعش من الكبر. فتغامز عليه الحاضرون: كيف مات الصغير وبقي هذا الشيخ في هذه السن؟ فقال:
إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاءً وقد مات طفلٌ صغير
رأيتَ اعتراضاً على الله إذْ ... توفى الصغير وعاش الكبير
فقل لابن شهر وقل لابن ألف ... وما بين ذلك: هذا المصيرُ
473 - أطعمة الكسكسون
نفح الطيب: قال القاضي محمد القرشي المقري: حكى لي القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل (عليه السلام): نزل بي مغربي فمرض حتى طال على أمره فدعوت الله أن يفرّج عني وعنه بموت أو صحة. . . فرأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) في المنام فقال: أطعمه الكسكسون - قال يقوله هكذا بالنون - فصنعتُه له فكأنما جعلتُ له فيه الشفاء. وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك، ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم، ويقول: لا أعدل عن لفظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ووجهُ هذا من الطبّ أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه على كثرة استعمالهم له، فربما نبه منه شهوة، أو رده إلى عادة.
474 - بين خالد الكاتب ومليح فطن
- ما آن أن يرحمني قلبك؟!
- لا.(317/51)
- حتى متى يلعب بي لبك؟!
- إلى آخر الدهر. . .
- لا أعدم الله فؤادي الهوى!
- آمين!
- يوماً ولا جربه قلبك!
- قد تقبل الله ذلك
- إن كان ربي قد قضى بالضنى!
- ماذا يكون؟
- وشدة الحب فما ذنبك؟
- سل نفسك. . .
475 - صدقك والله أعجب إليّ
(الأغاني): قال الرشيد يوماً لأبي حفص عمر الشطرنجي: يا حبيبي، لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما، قلت: ما هما يا سيدي، فمن شرفهما استحسانك لهما، فقال: قولك:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه ... إلا حسبتكِ ذلك المحبوبا
حذراً عليك وإنني بك واثق ... ألاّ ينالَ سواي منك نصيبا
فقلت: يا أمير المؤمنين؛ ليسا لي، هما للعباس بن الأحنف، فقال: صدقُك (والله) أعجب إليّ
محمد بن الجهم البرمكي: رأيت أبا حفص الشطرنجي الشاعر فرأيت منه إنساناً يلهيك حضوره عن كل غائب، وتسليك مجالسته عن هجوم المصائب. قربه عُرس، وحديثه أُنس، جده لعب، ولعبه جد. ديّن ماجد، إن لبسته على ظاهره لبست موموقاً لا تمّله، وإن تتبعه لتستبطن خبرته، وقفت على مروءة لا تطور الفواحش بجنباتها، وكان ما علمته أقل ما فيه الشعر
476 - أفسر آية من القرآن
(مفاتيح الغيب): روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري.(317/52)
فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرءونه؟ فقال: أُفسِّر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) فأنا أفسِّر كيفية بنيانها
ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله كان أكثر علماً بجلال الله وعظمته.
477 - النبع يقرع بعضه بعضاً
مجمع الأمثال: هذا المثل: (النبع يقرع بعضه بعضاً) يروي لزياد، قاله في نفسه وفي معاوية؛ وذلك أن زياداً كان على البصرة، وكان المغيرة بن شعبة على الكوفة، فتوفى بها. فخاف زياد أن يولى مكانه عبد الله بن عامر، وكان زياد لذلك كارهاً. فكتب إلى معاوية يخبره بوفاة المغيرة ويشير عليه بتولية الضحاك ابن قيس مكانه، ففطن له معاوية فكتب إليه: (قد فهمت كتابك فليُفرخ روعك أبا المغيرة، لسنا نستعمل ابن عامر على الكوفة وقد ضممناها إليك مع البصرة).
فلما ورد على زياد كتابه قال: (النبع يقرع بعضه بعضا). فذهبت كلمته مثلاً. يضرب للمتكافئين في الدهاء والمكر.(317/53)
1 - لحن الذكرى
(سمع الشاعر أغنية ألفها منذ عهد فطرب لها وبعثت له كوامن
الذكريات. . .)
للأستاذ صالح علي الحامد العلوي
قَدْكَ يا شادي! ورفقاً يا وتَرْ! ... لستُ فولاذاً، ولا قلبي حجرْ!
لستُ إلا شاعراً تهفو به ... نُوَبُ الشوْق وأحلام الذكَر
كلما رَنَّتْ بسمعي نَغْمَةٌ ... فصمتْ عِقْدَ دموعي فانتثر!
رُبَّ لحنٍ ناطقٍ من وتَرٍ ... خاطبَ النفس فأشجاها وسر
ومُغَنٍ صانع ما لم يُطِقْ ... شاعرٌ إن نطق الشعرَ سَحَر
لُغةَ الوجدانِ، إن لم تدْرِها ... فاسأل القلبَ يُخَبِّرْكَ الخبر!
يالها أُغنيةً، في طيّها ... للهوى تاريخُ أُنسٍ قد غبر!
رَنَّ في نفسي صَداها مُوقِظاً ... ذكريات رقَدَتْ بين الفِكَر
يالهُ لحناً، على إيقاعهِ ... رقَصَ الدمعُ بعيني وطَفَر!
حبذا أيامُ أنسٍ، كم بها ... من برود اللهو مِسْنا في الحِبَر
فرصٌ جاَءتْ كما شاء الصِّبا ... هشَّ فيها الحظُّ وافترَّ القدَر
يا ربوع اللهو! هل من عَوْدة؟ ... يا رعى اللهُ زماناً فيكِ مر!
كم جنيْنا فيه أثمار المُنَى! ... وبلغنا منه غاياتِ الوَطَر!
رجِّعِ الصوت، وبلبل أنفُساً ... كم بها من لحنك الساري أثر!
مُحْيِياً مني مواتاً، كم طغت ... مَوْجةُ الحبّ عليه فازدهر
فأراني سابحاً في عالَمٍ ... رَفَّ في غُرِّ المعاني والصوَر
بانِياً ما بين أنقاضِ المنَى ... بُرُجاً من دونها أوْجُ القمر!
بُلبل الفنّ! أماناً! قد شَجى ... صوتك الطير، فرفقاً بالبشر!
رأْفةً بالقلب لا تَعْبَثْ به ... ولك السمعُ حلالاً والبصر!
2 - الأوبة(317/54)
وَكر الصِّبا! كم صَلِينا البيْن أزمانا ... والآن عُدْتُ فَهوِّنْ ما بكَ الآنا
إني على العهد باق فوق عهدك بي ... لم أسْل عنك، ولا حاولت سلوانا
لا تَلحَني فكلانا بالبِعادِ شجٍ ... تُدْلي بشكواكَ أمْ ندلي بشكوانا؟
لم أنسَ فجر الصِّبا في جانبيك ولا ... عهداً مضى فيك بالأفراح فَينانا
ولا ملاعب لهْوى في حماك ولا ... مَراحنا جانب الوادي ومغْدانا
إذ ليس نفرغُ من لهوٍ ولا لعبٍ ... إلا حثثنا إلى لهْوٍ مطايانا
ولا يهلُّ لنا شهرٌ فَنُبِليهُ ... إلا وزادَ صِبانا الغَضَّ رْيعانا
هنا نشأتُ فكم لاقيتُ مرفهةً ... وكم رضعتُ هنا بِرّاً وتحْنانا
هنا هفا القلبُ حولَ الحسنِ مُرتمياً ... مثل الفراشِ حيال النورِ هَيمانا!
هنا رَشفتُ كؤوس الحبِّ طافحةً ... مَعْ من أحبُّ وعينُ الله ترعانا!
في هالةٍ من شُعاع الطُّهرِ قد جَمعتْ ... مُنى الهوى والصِّبا اللاهي وإيَّانا
لا ينطقُ الأنسُ إلا من أسرَّتنا ... ولا يُرى البِشرُ إلا من ثنايانا!
وكلما ضاقَ عنا الكونُ أجمعهُ ... بَنى الخيالُ لنا في الحبِّ أكوانا!
فالناسُ يحيَوْنَ في دنيا همومهمُ ... ونحنُ في معزلٍ عنهم بدنيانا!
نعيشُ كالطير وثَّاباً برَوضته ... يميتُ ساعاتِه حبّاً وألحانا
يلهو ويشدو على الأغصان مُزدَهياً ... مُرفرفاً في الفضاء الرَّحب نشوانا
. . . سرح قضيتُ بها فجرَ الحياةِ فيا ... تُرى يعودُ بها عَهدي كما كانا؟
والآن - يا وطني - حالتْ بنا غيرٌ: ... تجاربٌ قد أرتنا الدهر ألوانا
محا الزمانُ أضاليلَ الصّبا فعفتْ ... لولا بَقيَّاتُ حبٍ في حنايانا
وفي الحشا ذِكَرٌ أنسَيْتها خَلَدي ... فلا أُحيلُ بها الأفراح أشجانا
ولستَ تنقمُ إلا أنني رجلٌ ... أختطُّ من تلعاتِ العزّ أوطانا
ما اعتضْتُ بالأهل والإخوان من بدلٍ ... وإنْ أضفتُ لهمْ أهلاً وإخوانا
عُدْ للسرورِ نَعُدْ للهو ثانيةً ... وزِدْ نزِدْ بك في اللذات إمعانا!
(حضرموت - سيوون)(317/55)
صالح بن علي الحامد العلوي(317/56)
وداع الحمراء
(من ديوان (رجع الصدى))
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
وقف أبو عبد الله آخر ملوك العرب في الأندلس على التلة التي أطلق عليها الأسبان (تلة الدموع) يودع غرناطة وهي تتوارى عن عينيه، وألقى النظرة الأخيرة على قصر الحمراء مغمورة بالدمع محفوفة بالتنهدات، وقد ودع بهذه النظرة الدامعة والحسرة اللاذعة مجد العرب الضائع وفردوسهم المفقود. . . وكأن دموعه تنظم في انحدارها هذه الأبيات:
وَدَاعاً جَنَّتي وقرار قُدْسِي ... ومظهر عِزَّتي وجلالَ أَمسِي
لقد طَغَت الخطوب عليّ حتى ... فقدتُك بين ضَعضعتي ويأسي
وأسْلَمني العِثارُ إلى شقاءٍ ... يقودُ الحظَّ من تعسٍ لتعسِ
وما أنا غيرُ مخلوقٍ توالتْ ... عليه كواكبُ الدنيا بنحس
تغيبُ عرائس الدنيا أمامي ... وتغربُ في مواكِبهنَّ شمسي
وتَهْوِي كل آمالي حُطاماً ... تجرُّ إلى الفناءِ حُطامَ نفسي
وتغرق في دموعي ذِكْرَياتٌ ... تذوبُ كأنهنّ حَبابُ كأس
وأعتصرُ الفؤادَ عليك حزناً ... فلا أجِدُ العزاَء ولا التأسي
دَفنْتُ بك العظائمَ خالداتٍ ... وملت أَخطُّ في الآلام رَمسي
وما أنا غيرُ آدَمَ هامَ يبكي ... على فِرْدَوْسهِ في دارِ بُؤسْ
لقد باعَ الجِنانَ بغير ذُلٍ ... وبعت أنا الجنان بخفض رأسي
حسن كامل الصيرفي(317/57)
دم عجيب
للأستاذ محمد العلائي
هاهنا الجرحُ يا طبيبُ فحاذرْ ... أن تهيجَ الدفينَ من بُرَحائِه
وامسسْ الجرحَ يا طبيب برفق ... فدم الجرح ثائر تحت دائِه
صُنْ دمَ الجرح يا طبيب وأَبعدْ ... عن عيون الجريح لون دمائه
واحتفظ يا طبيب بالدم وأحذر ... أن يمسّ التُّرابَ بعد غلائه
ضمّد الجرح يا طبيب برفق ... ضل راميه في سبيل رجائه
رَمْيَةٌ يا طبيبُ من يدِ رامٍ ... عبد الظلم في دِمَا أبرِيائه
أرسلَ السهمَ يا طبيبُ وسَمّى ... فأصاب الكَمِىّ في كبريائِه
محمد العلائي(317/58)
حيرة
للأستاذ فريد عين شوكة
سأهجرُهُ وأنساهُ ... ولا أهفو لذكراهُ
حبيبٌ، كلما أفضى ... له قلبي بنجواهُ
وضجّ إليه بالشكوى ... من الحبّ وبلواهُ
تبسّمَ ضاحكاً! وغفا ... عن الشاكي وشكواه!!
سأهجرُهُ! وهل أقوَى ... على الهجر وطغواهُ؟!
وهل يرتاح لي قلبٌ ... سَقَتْهُ السحرَ عيناهُ!
وهل ترتاح لي عينٌ ... يُنَوِّرها مُحَيّاهُ!!
وكيف أُطيق أن تنْبَتَّ (م) ... عن دُنيايَ دُنياهُ!
ويلقاني فأنكرُهُ!! ... ويحرمني تحاياهُ!!
كأنْ ليستْ لنا كالنا ... سِ آذانٌ وأفواهُ
أخافُ عليكَ يا قلبي ... حنينكَ حين تلقاهُ
أخاف عليك أن تسعى ... إليه قبل مسعاهُ!
لكَمْ أقسمتَ: لن تغدو ... أسيراً من أُساراهُ
وكم جافَيْتَهُ لمَّا ... جَفَاكَ، وكدْتَ تنساه
فلما جاء مُعتذراً ... غفرْتَ! وسامحَ اللهُ
فريد عين شوكة(317/59)
طفل
(من ديوان (إشراقة) تحت الطبع)
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
تبارك الذي خلقْ ... من مضغة ومن علقْ
سبحانه مصوّراً ... من حمأة الطين حدق!
شق الجفون السود واس ... تل من الليل الفلق
واستخرج الإنسان من ... محض رياء وملق
مفترعاً من فمه ... سر البيان فنطق
وجاعلاً بين حنايا ... هـ فؤاداً فخفق
بث القوي فيه دماً ... أحمر أو عظماً يثق
من عدم لعدم ... ومن عناء لرهق
ضج الثرى من رجم ... مشيد ومن نفق
سبحانه كم ألهم العقل ... جنوناً وحمق
يشك ما يحيا وإن ... أشفى على الموت فرق
وكم تعالى حميت ... عنه قلوب من خلق
سبحانه قد وضحت ... آثاره فينا ودق!
رمى بهذا الطفل في الأر ... ض ومن ثم رزق
رمى به في موكب الدن ... يا مثالاً للقلق
يدير عينيه ويستف ... سر عن سر الشفق
كأنه يصرخ: إن المو ... ت بالشمس علق!
التيجاني يوسف بشير(317/60)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
الفن علامة الإنسانية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
قال جاجاديز بوز العالم الهندي إن النبات يتألم ويئن وأثبت ذلك. وأغلب الظن أن جاجاديز بوز لو لم يكن شرقياً لكثر عليه أن ينسب الألم والتعبير عنه بالأنين إلى النبات، ولاكتفى بقوله إنه تبدو فيه اهتزازات واضطرابات تشبه انفعالات الألم عند الإنسان. فهذا هو نهج الغربيين من العلماء الذين يتصدون لدراسة الحياة: يؤثرون أن ينكروها أولاً ثم أن يبحثوا عنها ثانياً على خلاف ما يفعل الشرقيون الذين يشعرون بها أولاً ثم يتعرفونها ثانياً بادئين بأنفسهم غير منتهين إلى شيء، لأنهم يؤمنون بالروح ويحبون بطبعهم أن ينسبوها إلى الأحياء جميعاً ولا يسمحون لأنفسهم أن يقولوا ما قاله بعض علماء الغرب من أن الحيوان نفسه مسلوب الروح وأن كل ما يبدو عليه من إمارات الوجدان والعاطفة ليس إلا ردود أفعال لاهتزازات عصبية مادية تعتري الحيوان في ظروف خاصة وتبعاً لمؤثرات خاصة. وهم يذهبون في نكرانهم هذا إلى ابعد الحدود حتى لينكرون هذا الفرح الذي يعتري الكلب في استقبال صاحبه الغائب، وهذا الحزن الذي يعتريه لوفاة صاحبه الوفي والذي يحمله على الإضراب عن الطعام والشراب حتى يموت موتاً. ينكرون العاطفة الروحية على الحيوان ويقولون إنه لا يفرح للقاء صاحبه وإنما هو يضطرب لأن مرأى صاحبه يثير في نفسه أو في أعصابه صور الطعام والنعم التي يغدقها عليه، ثم يقفون أمام الكلب المنتحر من الحزن والأسى، وقد طأطئوا رؤوسهم يفكرون في هذه القوة التي نقَّت الحيوان من أخص خصائص حيوانيته فأهمل الطعام والشراب والحياة نفسها. . . يخفضون الرؤوس أمام هذا الكلب طويلاً يبحثون في أذهانهم عن علة صيامه؛ فإذا قال لهم قائل إن الحزن والأسى هما السبب انتفضوا وقالوا: لا. نحن لا نعرف. ولكننا نأبى أن يكون في الحيوان روح وحياة. أما بقية الناس فمنهم من لا يرون في فرح الكلب وحزنه إلا اضطرابات واهتزازات وانفعالات وردود أفعال عصبية مادية لا روح فيها ولا حياة، وهؤلاء يقبلون(317/61)
أن يصدقوا هؤلاء العلماء لأنهم مثلهم، وأن يثبتوا معهم أمام الكلب ينكرون عليه فرحه وحزنه إلى أن يقول لهم بلغة من اللغات الأوربية: إني فرح وإني حزين. ومن الناس من يحسون ويشعرون ويبادلون الحياة الشهقات والزفرات وأولئك آمنوا من هدى أنفسهم أن في الحيوان روحاً وحياة، وهم يسارعون إلى جاجاديز بوز يصدقونه حين يقول: إن النبات يتألم وينفعل بوجدان، ويئن وينطلق بتعبير. ويخرجون من هذا بأن الحيوان أولى من النبات به.
ورضي الله عن جاجاديز بوز الذي استطاع أن يثبت رأيه إثباتاً علمياً استخدم فيه آلات المعامل وأحماضها وأملاحها فلم يعد هناك مجال لإنكار ما أثبت، بل لقد عد صنيعه هذا من كرامات البشرية الحديثة فمنحه الغرب جائزة نوبل التي يتعزز بها على الشرقيين
أثبت الشرق إذن أن النبات يتألم وأنه يئن من الألم، وقد يكون الألم علامة الروح الوحيدة في النبات وقد يكون معه غيرها ولكنه على أي حال يكفي للتدليل على الروح، فهو يستطيع أن يشملها وهو الذي ينزع بها إلى الخلاص! وهو - أخيراً - حسبنا من علامات الروح في النبات
فإذا ارتفعنا من النبات إلى الحيوان في سلسلة التطور والارتقاء الحيويين رأينا الحيوان يمتاز على النبات في الظاهر بالحركة. ورأينا الحيوان في حركته واحداً من أثنين: إما خسيسا يتحرك في حياته حركات متشابهة متكررة لا تعديل فيها ولا تجديد ولا محاولة تدل على قدرة التلاؤم مع الحياة. وإما رفيعا يتحرك في حياته حركات مختلفة يطرأ عليها التعديل كلما تغيرت الأحوال، ويطرأ عليها التجديد كلما استدعت الظروف التجديد، وتتحور ويتزايد وضوح المحاولة التي تدل بها على قدرة التلاؤم مع الحياة
أما خسيس الحيوان فقد يسهل تصوره محروماً من العقل إذا اعتبرنا أن العقل هو القوة التي تمكن الكائن الحي من الملاءمة بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة المتجددة. ولكن هذا إذا سهل علينا تصوره، فإنه يتعذر علينا (بعد الذي أثبته جاجاديز بوز) أن نتصوره خالياً من القوة الروحية التي يثور بها في نفسه وجدان الألم على الأقل. فإذا كنا ممن يؤمنون بالتطور والارتقاء الروحيين إلى جانب التطور والارتقاء البدنيين، فإننا من غير شك نتوقع أن يكون في أدنى الحيوان من علامات الروح شيء إلى جانب الألم، لأنه قد(317/62)
ثبت أن النبات يتألم، والحيوان مهما كان دنيئاً فهو من أرقى حياة وروحاً من النبات، إذ أنه كلما ارتقى الكائن الحي ارتقت روحه وزاد إحساسها وزادت قدرتها على التعبير عن نفسها
أما الرفيع من الحيوان الذي تتضح مقدرته على التلاؤم مع ظروف الحياة الطارئة المتجددة، فهذا يصعب تصوره محروماً من العقل لأن فيه من مظاهر العقل.
صحيح أننا نرى في سلوك الحيوان ما يدل على الغباء أحياناً وما يدل على الغفلة وما يدل على الجهل، ولكننا إذا تدبرنا هذه المواقف التي يظهر فيها غباء الحيوان وغفلته وجهله رأينا أكثرها مما تصطنعه ظروف غير طبيعية في الحياة. ولما كان الحيوان حيواناً وليس أستاذاً من أساتذة العلم الحديث فإنه المسكين يحار ويختبل أمام هذه الظروف الطارئة التي لم يسبق لأجداده الوقوع في مثلها وتجربتها ومعالجتها سبقاً متكرراً كان يمكن أن يهيئه للتغلب عليها، وهو في هذا لا يزال يشبه أساتذة العلم الحديث حينما يقعون أمام المشكلات الحديثة المستغلقة. . . أليسوا هم أنفسهم يحارون ويختبلون؟ ألا يصدر عنهم من الأعمال ما يدل على الغباء والغفلة والجهل كما تصدر عن الحيوان أعمال تدل على هذى؟ إنهم هكذا من غير شك وإن في الحيوان عقلاً ولو تضاءل أمام عقل الإنسان وتواضع فإنه موجود لا يمكن إنكاره
فإذا اعترفنا للحيوان الراقي بوجود العقل، أو بوادر العقل فيه، فإننا لا نملك إذن إلا أن نعترف له إلى جانب هذا بوجود الإحساس والعواطف فيه أيضاً، وقد نستغني عند هذا الحيوان الراقي عن براهين جاجاديزبوز إذا كنا ممن يرون ويشعرون ويحسون ويدركون الأشياء من غير أجهزة ومقاييس وموازين فإذا لم نكن من هؤلاء فقد قال جاجاديزبوز العالم من الهند إن النبات يتألم ويئن، وأثبت هذا إثباتاً يقنع عقل الغرب كما يرضي عقل الشرق، وأصبح من المكابرة بعد هذا أن تنكر الأحاسيس والعواطف على الحيوان، خصوصاً الحيوان الراقي الذي يسلك في حياته سلوكاً يشبه سلوك الإنسان فيبحث عن طعامه بحثاً منطقياً، ويتقي عدوه اتقاء منطقياً، ويبني مسكنه بهندسة منظمة بل إنه يمكر أحياناً، ويتخابث ويحتال، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي يقظ يحاول أن يلائم بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة فينجح أحياناً، ويفشل أحياناً، ولكنه لا يكف عن المحاولة ما دام حياً
فإذا تركنا حياة النبات والحيوان وقد تراءت لنا الروح فيها وعرجنا على حياة الإنسان(317/63)
رأيناها أنضج من حياتيهما في نواحيها الثلاث: النبات يحس ويعبر عن إحساسه، والحيوان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله، والإنسان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله
فهل يزيد الإنسان على الحيوان في شيء. . .؟
لا جاجاديزبوز ولا حتى أنا نرضى بهذا! ولا يرضى به شرقي
قد كان من الممكن أن يقال هذا لو لم نقل إن الإنسان حلقة جديدة هي أرقى الحلقات في سلسلة التطور والارتقاء في الخلائق. وما دمنا قد قلنا هذا، وما دمنا رأينا التطور والارتقاء الماديين يلزمهما تطور وارتقاء روحيان، فلا بد أن يكون في الإنسان ميزة روحية ترقى به على الحيوان إلى جانب رقيه البدني المادي.
فما هي هذه الميزة الروحية؟
لنعد مرة أخرى إلى النبات والحيوان نتتبع فيهما منطق التطور والارتقاء لنهتدي به فيما نريد أن نعرفه من علامة الإنسانية التي لو فقدها الإنسان لم يكون غير حيوان، وإن نطق! فليس النطق على أشرف صورتيه إلا محاولة عقلية. . . أما الصورة الأخرى فهي التي نعرفها من الببغاء التي أنطقها الله لأمر ما، والتي لعله سبحانه أراد حين أنطقها أن يدرك المبتصرون شيئاً من تشابه الخلائق، وبريقاً من التوحد يسطع منها جميعاً، وإن تفاعلت وتبدلت وتطورت وارتقت. . .
النبات يرتقي حتى ليشابه الحيوان في حلقة الإسفنج، والحيوان يرتقي حتى ليشابه الإنسان في القرد أو ما هو أرقى خلقاً من القرد وهو الحلقة المفقودة التي ذكرها العلماء. وقد رأينا الإحساس يبدأ في الحياة أولاً ومعه تعبير صامت عنه، ثم نرى العقل ينشأ في الحيوانات المحتالة ومعه تعبير غامض عنه لم يثبت بعد للعلم، ولكننا قبل أن نترك حلقة الحيوان إلى حلقة الإنسان نرى الحيوان يعبر عن إحساسه تعبيراً فيه تدليل على ذاته، وهو أشبه التعبير بالغناء البشري. فإذا تركنا حلقة الحيوان ومضينا إلى ما بعدها في سلسلة التطور والارتقاء وهي حلقة الإنسان رأينا هذا التعبير الذي يحاوله الحيوان في انحصار يتضح عند الإنسان وينفرج حتى ليسخر له الإنسان الأرقى حواسه جميعاً يجمع أصوله بها ويطلقه فيها، ثم يصدره معبراً عن ذاته كما يفعل البلبل والكروان ولكن في صور أكثر من صورهما، ثم معبراً بعد ذلك عن غيره، وهو مالا يفعله أحد من الحيوان، لا البلبل ولا الكروان.(317/64)
ونحن إذا حاولنا أن نجد شيئاً ظاهراً يميز الإنسان مما عداه من المخلوقات في هذه الظاهرة لم نجد شيئاً. ذلك أنه إذا حسبنا النطق يميز الإنسان فالببغاء ناطقة، وإذا حسبنا الحياة الاجتماعية تميز الإنسان فالذئب والقرد والوعل حيوانات اجتماعية، وإذا حسبنا الإحساس يميز الإنسان فقد رأينا الحيوان بل والنبات يحسان، وإذا حسبنا العقل فالحيوان يعقل وإن أنكر العلماء، وهكذا فإننا نعجز في التفريق بين الحيوان والإنسان إلا باثنتين! هذه الظاهرة التي سجلناها، وظاهرة أخرى هي الدين. . . على انه يمكن بسهولة تامة أن نتصور النبات والحيوان والجماد معهما متدينين جميعاً إذا اعتبرنا أن الدين هو الإسلام وهو نهج النظم الطبيعية التي تؤدي إلى السلامة، وإذا لحظنا أن الأديان لم تلزم الإنسان إلا بعد أن انحرف عن نهج النظم الطبيعية التي كان يجب عليه أن ينهجها لتسلم حياته من الأضرار وأمراض البدن والروح، لم يبق أمامنا من شيء يميز الإنسان على سائر الكائنات غير هذه الظاهرة التي ذكرناها
فما هي هذه الظاهرة؟
إنها الفن!
وهذه الظاهرة تسلك حين تسري في الإنسانية مسلك كل ظاهرة من ظواهر التطور والارتقاء. وقد رأينا ظواهر التطور والارتقاء تبدأ في الدنيء من الخلائق على صورة يسيرة غامضة، ثم تزدهر وتتضح وتتضح حتى تتميز تميزاً تاماً واضحاً ملموساً فيكون هذا التميز طابعاً لهذا الفريق من الخلائق ويكون هذا الفريق أنضجها وأرقاها في هذه الناحية
وكذلك الفن. نواته موجودة في البشر جميعاً لأنهم الحلقة الحيوية التي اختصتها الطبيعة به وهيأتها له. والدليل على ذلك أن الناس جميعاً يستجيبون للفن أو هم على الأقل يطربون للموسيقى. وما كانوا يملكون إلا هذا ما دام في الحيوان ما يغني كالكروان والبلبل، وما دام فيه ما يستجيب للصفير (وهو ضرب من الموسيقى) كالثعبان. وليس غناء الكروان والبلبل واستجابة الثعبان وطربه للصفير إلا بشيراً بالفن أو بأنغامه على الأقل بشرت به الحياة الخلائق في الحيوان، وحققته تحقيقاً تاماً في الإنسان؛ غير أن الناس ليسوا سواء في تكوينهم الفني، وليس في هذا عجب لأن الناس ليسوا سواء في شيء من الأشياء، ولأن(317/65)
طبيعة الحياة أن تتشابه في العموميات، وأن تختلف في التفصيلات ليثبت لذوي الأبصار أن هذه الخلائق لا تصنع في مصنع فيه آلات وفيه قوالب وإنما تخرجها إرادة فنان يأبى أن يتكرر حين يتوحد سبحانه من فنان!
فإذا راق لنا أن نؤمن بهذا وأن نعتبر الفن علامة الإنسانية التي تسمو بها على الحيوانية والتي لا يمكن الإنسان أن يكون إنساناً إلا إذا اتصف بها. . . إذا آمنا بهذا لزم أن يكون أقرب الناس من الفن أنضجهم إنسانية. ولزم أيضاً أن نتوقع لهذه العلامة الإنسانية أن يتزايد وضوحها وتمكنها حتى تشمل البشر جميعاً، وعندئذ تبتدئ بشائر الميزة الجديدة التي يريد الله أن يطبع بها الحلقة المقبلة من حلقات التطور في الخلائق. . ومن يدري أي شيء سيكون هذا الطابع، وأي ميزة ستكون هذه الميزة؟! لعلها ميزة العقل الذي يطالبنا به الله لا عقل العلم الحديث
فإذا كان الأمر كذلك كان ما يسعد الفن هو ما يسعد البشرية، وكانت كل محاولة يراد بها التقليل من شأن الفن محاولة مجرمة تعرقل التطوّر البشري
فهل تنهج الإنسانية في حياتها الحالية نهجاً فنياً يسعدها ويرقى بها؟ أو هي قد انحرفت عن طريق الفن إلى طريق آخر لا يمكن أن يقيد بها مهما كان صالحاً ومهما كان فيه خير لنواح بشرية غير ناحية الحس الروحي؟
إن الإنسانية قد انحرفت إلى هذه الطريق منذ أمنت بالحضارة والعلم اللذين يحتضنان المادة
وإنه من الخير لها أن تفيق وأن تعود إلى حياة الحس الروحي فينتعش فيها الفن وتنتعش فيها الروح وترقى، وهذه سنة الله لو أردنا أن نتبع سنته
عزيز أحمد فهمي(317/66)
كتاب الدين والعقل
أو برهان القرآن
تأليف الأستاذ أحمد حافظ هداية
هو في استنباط براهين عقائد الإسلام من القرآن الكريم على وجه الحصر والاستيعاب مثبتة بأحدث النظريات العلمية. يحتوي على مقدمة وسبعة أجزاء هي: (البرهان القاطع في وجود الصانع)، (الرسالة وبعثه الأنبياء عليهم السلام)، (البعث والميعاد)، (محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (القرآن كلام الله)، (إن الدين عند الله الإسلام)، (ميزان الأديان). وهو في أربعمائة فصل مصدرة بدلائلها في القرآن على أسلوب جديد لعلم الكلام وقد اطلع عليه كثير من كبار العلماء فشهدوا بأنه وحيد في بابه لم ينسج على منواله كتاب من قبل
وحسبنا أن نقطتف منها هذه الكلمات:
(. . . قرأت المؤلف النفيس المسمى (الدين والعقل أو برهان القرآن) فألفيته مؤلفا نفيسا نافعا وأسأل الله أن ينفع به الخلق أجمعين)
الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر السابق
(. . . كتاب جمع بين المعقول والمنقول وألم بطريقة المتقدمين والمتأخرين فما أجدره بان يسمى (الدين والعقل) فقد أبان أنهما متآخيان، ولسعادة الدارين داعيان)
يوسف الدجوي عضو جماعة كبار العلماء
(. . . وجدته من خير ما يخرجه عالم في هذا العصر في أسلوبه وموضوعه وبحوثه)
محمد زاهد الكوثري
وكيل المشيخة الإسلامية بدار الخلافة سابقاً
(. . . يفتتح الجزء بأدلة من القرآن العظيم ثم يفيض في الموضوع الذي هو بصدده مستدلاً بأقوال أساطين العلم من المسلمين والأوربيين مطبقاً آيات القرآن على أحدث نظريات العلوم. وبذلك قد سد هذا الكتاب النفيس فراغا في الناحية العلمية الدينية كان يجب(317/67)
أن يسد قبل اليوم بقرون)
عبد الوهاب النجار
(. . . وجدتك في هذا الكتاب تنحو نحو آيات القرآن في إثبات العقائد الدينية وتعول في بحثك على ما ظهر من الكشف العلمي الطبيعي والروحي في الآفاق والأنفس وهي الطريقة المثلى التي يجب على الباحثين اتباعها في زماننا هذا وما بعده)
طنطاوي جوهري
(. . . جاء هذا التأليف جامعاً للأدلة العقلية على صحة الشريعة المحمدية جمعا وفق فيه المؤلف إلى الغاية، وعزز كل دليل بآية)
شكيب أرسلان
جلى فيه سمو الأصول الإسلامية وتعاليم الكتاب الكريم ودلل على أنها الغاية التي ليس وراءها مطمح فكان فيما كتب موفقاً كل التوفيق
محمد فريد وجدي
والكتاب في ثلاثة مجلدات يطبع الآن بمطبعة الرسالة أحسن طبع وعلى أجود ورق. وقيمة الاشتراك في المجلد الواحد قبل الطبع 10 قروش صاغ وفي المجلدات الثلاثة 25 قرشا. ويكون الثمن بعد الطبع 15 قرشا عن المجلد و45 قرشا عن الكتاب كله. والاشتراكات ترسل باسم مجلة الرسالة بشارع المبدولي رقم 34 - عابدين القاهرة(317/68)
رسالة العلم
عمل أفوجادرو ونجاح ماندلييف
للدكتور محمد محمود غالي
بساطة النسب الثابتة في التراكيب الذرية - كشف (جاي ليساك) - عدد (أفوجادرو) - معلومات عددية عن الذرة - دورية (ماندلييف) - عمل ماندلييف في الكشف عن العناصر يشبه عمل: (ليفيرييه) (وكلايد تومباوج) في الكشف عن الكواكب الجديدة.
كان لا بد لنا ونحن نذكر قصة العلوم والطَّفرة التي حدثت في العالم في المائة والخمسين سنة الأخيرة، تلك الطفرة التي لا يمكن أن يتكهن أحد بمدى ما تبلغه من التقدم، أن نورد تلك الخطوة الموفقة للعالم الإنجليزي الكبير (دالتون) صاحب الفرض الذري، ذلك الفرض الذي مهد له العالم الفرنسي (بروست) الذي لاحظ وجود نسب ثابتة بين العناصر عند اتحادها. ومن العدل قبل أن نعطي القارئ صورة مما أفاده العلماء من هذه الحالة الجديدة أن نذكر أن (دالتون) لم يستفد من ملاحظات (بروست) فحسب، بل أيضاً من تجارب فريق من العلماء، تجارب كان لها أثر كبير في تدعيم الفكرة الذرية عنده، ولا مشاحة في أن لتجارب التي لا ندخل في تفاصيلها، أثراً عند (دالتون) للوصول إلى الفكرة الذرية التي كان من المحال بدونها أن نشهد هذا العهد من التقدم العلمي، وأن نلحظ هذه الدعامة الكبرى التي قامت عليها العلوم الكيميائية، فاتخذت في جوهرها وتفاصيلها طريقاً يختلف منذ (دالتون) عن الطريق المموج الذي انتحاه كيميائيو القرون الوسطى.
ومن الفائدة أن نذكر القارئ مرة أخرى بمنشأ الفكرة الذرية التي نشأت عندما أراد العلماء التفريق بين المزج الطبيعي والاتحاد الكيميائي. ففي الأول تمتزج مادتان بأية نسبة نريدها، وفي الثاني تتحد مادتان بنسبة محددة، وقد سبق أن قدمنا أنه للحصول على الماء من الأكسيجين والهيدروجين لا بد من مراعاة نسبة بينهما معينة، فإنه لا يتحد إلا وزن معين من أحدهما مع وزن معين من الآخر. هذه الحوادث وأمثالها أدت بدالتون إلى كشف قانون النسب الثابتة الذي كان الأساس في النظرية الذرية، وفي التعرف على شخصية الذرة.
على أن أهم ما في قانون النسب الثابتة لدالتون هو أن هذه النسب بسيطة وواقعة بين العددين 1 و 4 على أكثر تقدير بمعنى أن العناصر تتحد بنسب بسيطة واقعة بين 1 و 1(317/69)
إلى 1 و 4. ولا نزاع أنه كان من حسن الحظ إن كان الاتحاد الكيميائي وفق نسب محدودة لا تتجاوز أربعة أضعاف، إذ لو كانت هذه النسب مرتفعة بأن تتحد مادتان بنسبة 1 إلى 200 أو 1 إلى 1000. لاختلاط الأمر على دالتون، ولشق على هذا العالم أن يجد خلال هذا النوع من الأبحاث الفكرة الذرية.
على أن النسب المرتفعة لم تُكشف إلا بعد مدة كبيرة عندما اكتُشفت في المركبات العضوية في زمن كانت الذرية قد تدعمت وأصبحت من الحقائق العلمية المسطورة التي يتناقلها العلماء ويتعمق في تطبيقها الباحثون.
لم يقف التقدم العلمي الخاص بالذرة على اكتشاف (دالتون) (1807). فقد كشف العالمان جاي ليساك - 1805 وإسكندر دي أن هذه النسب البسيطة الموجودة عند اتحاد العناصر بعضها ببعض لا تخص الأوزان فحسب، بل إن ثمة نسباً ثابتة موجودة في الغازات بين أحجامها أيضاً بمعنى أن غازين مختلفين لا يتحدان فقط بنسب ثابتة في الوزن، بل بنسب ثابتة في الحجم - هذا القانون لجاي ليساك صادف حرباً عواناً من جانب العالم دالتون ولكنه أدى إلى كشف حقيقة جديدة إذ قرر أفوجادرو أن في الأحجام المتساوية تحوي الغازات عدداً واحداً من الجزيئات، حقيقة أود أن يتأملها القارئ قليلاً ويتأمل بساطتها وعظمة ما تحمله في طياتها من أعجب ما نعرفه من حقائق الكون
هذا الكشف حدد عدد الذرات المتحدة بعضها مع بعض، إذ عندما ذكرنا أن جرامين من الهيدروجين يتحدان مع 16 جراماً من الأكسيجين ليتكون منهما الماء، أدرك بروست وفينزل وريشتر ودالتون وغيرهم أن ثمة عدداً معيناً من ذرات الهيدروجين اتحدت مع عدد معين من ذرات الأكسجين، ولكن هذه النسبة الثابتة في الأوزان لا تكشف هل اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرة واحدة من الهيدروجين أو اتحدت ذرة واحدة من الأكسيجين مع ذرتين من الهيدروجين. ولكن عندما نعرف ما كشفه أفوجادرو من أن في الحجم الواحد يوجد العدد ذاته من الجزيئات، وعندما نعرف وزني حجمين متساويين من الغازين المتقدمين، يمكننا أن نعرف أمراً مؤكداً اليوم وهو أن ذرتين اثنتين من الهيدروجين اتحدتا مع ذرة واحدة من الأوكسجين ليكونا ذرة من الماء. هذا التحديد الذي كان لجاي ليساك وأفوجادرو الفضل الأكبر فيه كان الخطوة الثانية بعد عمل دالتون العظيم. بعد ذلك حسب(317/70)
العلماء بدقة الوزن الذري لكل العناصر معتبرين وزن ذرة الهيدروجين كوحدة ونسبوا إليها ذرات العناصر الأخرى
هنا تنوع الفن التجريبي وأبدع العلماء في مختبراتهم بما رفع الكيمياء على حد قول ريشنباخ إلى مصاف العلوم الصحيحة، وبهذا التنوع في التجارب وما أحدثته الذرية من تقدم وما أحدثته معها السينيتيكية من تصحيح في معارفنا أمكن للعلماء الحصول على معلومات عددية عن الذرات غاية في الدقة وعظيمة الدلالة، هذه الذرات، هذه الشموس التي كشفوها في المادة يبلغ قطر الواحدة منها حوالي واحد على عشرة ملايين من المليمتر، ولكي نتصورها يجب أن نتصور كرة من الصلب يبلغ قطرها 3 , 5 من السنتيمتر من تلك الكرات التي يدور عليها عجل السيارات، والتي تبلغ كرويتها في المعتاد درجة عظيمة من الدقة، وعلى القارئ أن يتصور بعد ذلك أن النسبة بين حجم هذه الكرة الصغيرة من الصلب وبين حجم الذرة كالنسبة بين حجم الكرة الأرضية وحجم هذه الكرة من الصلب، وبعبارة أخرى إن الأرض وما عليها من قارات ومحيطات تكبر هذه الكرة الصغيرة بقدر ما تكبر هذه الكرة الذرة
أما عن وزن الذرة فإذا اتخذنا الهيدروجين مثالاً ليصور لنا
الحالة علمنا أن وزن ذرة الهيدروجين حوالي 10 241 من
الجرام أي واحد على مليون مليون مليون المليون من الجرام،
وإذا علمنا أن وزن الأرض يزيد قليلاً عن 5 2710 جراماً
فإن النسبة بين وزن الكوب الفارغ إلى وزن الأرض أكبر
بكثير من النسبة بين وزن ذرة الهيدروجين ووزن هذا الكوب.
وإذا كان يعيش في هذا الزمن على سطح الكرة الأرضية
حوالي ألفي مليون من البشر فإنه يوجد في ال س م3 من
الهواء 27 كانتيليون من الجزيئات أي ما يربو على ملايين(317/71)
المرات عدد ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان، ومع
ذلك فإن الفراغ الذي يوجد حولها يزيد بكثير من الفراغ الذي
يوجد حول إنسان في مسكنه، فإن المسافة بين جزيئين
متجاورين (في الحرارة والضغط العادي) تساوي مائة مرة
قدر قطر الجزيء، وبهذا يجوب الجزيء عالمه بسرعة عجيبة
تبلغ في الهيدروجين حوالي 1 , 7 كيلو متر في الثانية
الواحدة أي أنها تقطع المسافة بين مصر والإسكندرية في
دقيقتين في الوقت الذي يقطعها فيه أسرع قطاراتنا الحديدية في
ساعتين
هذه الأرقام صحيحة. وليس المجال هنا لنذكر الطرق العديدة والمختلفة التي اتبعها العلماء توصلاً إلى النتائج ذاتها بطرق مختلفة
هذا موجز ما نعرفه عن الذرة التي تفترق عن الجزيء في أنه بينما نستطيع بالطرق الكيميائية أن نجزئ الأخير إلى ذرات، فإننا لا نستطيع بهذه الطرق أن نجزئ الذرة إلى جسيمات أصغر منها، ولم يتصور العلماء حتى عهد قريب أيا من العمليات العديدة التي لا تمت للكيمياء في شيء، والتي يمكن بها اليوم القيام بهذه العملية الأخيرة من تجزيء الذرة.
من هنا حدد العلماء تعريف العنصر الكيميائي أنه مادة أولية لا يمكن بالطرق الكيميائية تقسيمها إلى عناصر أخرى، ومن ثم اتضح أن معظم المواد التي تصادفنا في الطبيعة هي مركبات كيميائية تتطلب عملية خاصة لتحليلها إلى عناصرها الأولى. فالماء وهو أكثر المواد شيوعاً على الأرض مركب من الأوكسيجين والهيدروجين، والهواء من الأوكسجين والأزوت، وهكذا اضمحلت فكرة القدماء الذين اكتفوا بتقسيم الكون إلى ماء ونار وأرض وهواء، وانتهى عصر الكيمياء القديمة وبدأ عهد جديد يرجعون فيه المواد مهما تعددت إلى(317/72)
عناصر معروفة، حتى المواد العضوية المكونة للأحياء ترجع إلى مركبات كيميائية معروفة يغلب فيها عنصر الكاربون حيث يعظم فعله، وكما قدمنا يعزو فريق من العلماء الحياة نفسها إلى أن مركبات هذا العنصر الأخير تتحد مع غيره من العناصر بما يجعل الجزيئات الجديدة كثيرة الذرات كثرة من الصعب إحداثها بالطرق العادية، ورجح هؤلاء أن هذا هو الفارق بين المادة الحية والمادة عادمة الحياة، ورجحنا من ناحيتنا أنه لا بد أن تكون ثمة أسباب أخرى نجهلها تجعل فارقاً بين النوعين في التكوين
هذه المجموعة من العناصر الكيميائية، المبتدئة بالهيدروجين والمنتهية بالأيرانيوم ذلك العنصر المشع الذي نبه على خواصه الإشعاعية بكارل في آخر القرن الماضي، لا تكون مجموعة منتظمة، بل مجموعة تحمل نظاماً مستتراً، ففي سنة 1860 بين الباحثان الروسي والألماني لوتر ماير أن العناصر مرتبة وفق نظام
والواقع أننا لو رتبنا العناصر وعددها واحد وتسعون عنصراً وفق وزنها الذري مبتدئين بالعناصر ذات الوزن الذري الخفيف ومنتهين بالعناصر ذات الوزن الثقيل، فإن هناك حالة تظهر في تتابع خواصها الكيميائية، بحيث يتخذ الهيدروجين أول مكان في هذه العناصر فيكون مجموعة بمفرده يليه غاز الهيليوم مكونا طرف الدورة يتبعه الليتيوم، والكاربون والأزوت، والأكسيجين حتى غاز أما الهيليوم فهو غاز ليس له أي اثر كيميائي فهو غير فعال بينما للليتيوم خواص قلوية واضحة كما انه فعال من الناحية الكيميائية، أما العناصر الوسطى من هذه المجموعة فلها خواص بين القلويات والحوامض؛ فإذا وصلنا للفلور آخر المجموعة وجدناه يكوِّن في الواقع حامضاً شديداً؛ أما الدورة الثانية فتبدأ بغاز النيون يتلوه الصوديوم كأول عنصر قلوي ذي أثر ويتلو هذا وذاك المعادن الخفيفة كالملجنيزيوم والأليمونيوم حتى السيليسيوم، وبعيداً في نفس العائلة تجد الكبريت والكلور حيث العناصر الحامضية الشديدة. ونجد التتابع ذاته في المجموعات العليا التي تتلو ذلك بحيث تبدأ دائماً كل مجموعة بأجسام قلوية تتلوها أجسام بين القلوية والحامضية ثم أجسام حامضية، ولقد كان التدرج حتمياً والدورات منتظمة للحد الذي تنبأ فيه (ماندلييف) بضرورة وجود عناصر أخرى في المجموعة الواحدة، عناصر غير معروف وجودها للعلماء في ذلك الوقت، عناصر أصر على وجودها في الكون (ماندلييف) لا لشيء سوى انسجام مجموعة معينة(317/73)
من المواد، وهذه العناصر وجدها الباحثون فيما بعد. ورأينا في تاريخ العلم المجيد (ماندلييف) يعلن مثلاً عن عنصر يمت بعلاقة للسيليسيوم حيث يحدد هذا الباحث بدقة خواصه الكيميائية ووزنه الذري، وثقة منه في وجوده، يسميه أكاسيليسيوم ويكتشفه العلماء بعد ذلك بثلاث عشرة سنة ويسمونه جرمانيوم
عندما كشف (بكارل) أثر الأيرانيوم على اللوح الفوتوغرافي وأعلن للعالم أنه مادة مشعة لم يكن الكشف عن الراديوم بعد ذلك أمراً محتوماً فقد كان عمل مدام كيري الذي كشفته عملاً تجريبياً مضنياً يذكرنا بعمل وليم التجريبي عندما كشف في سنة 1781 الكوكب إيرانوس وهو الكوكب السادس في البعد عن الشمس في مجموعتنا الشمسية، ولكن عندما كشف (ماندلييف) عنصراً جديداً كالجرمانيوم كان ذلك عملاً حسابياً يحتمه انسجام ضروري تراءى لهذا الباحث في قوانين الكون
تذكرنا هذه الحوادث العلمية بعمل الفرنسي وعضو المجمع العلمي عندما استأنف في سنة 1846 دراسة الحركة غير المنتظمة وغير المفهومة للكوكب إيرانوس المتقدم الذكر فحتم وجود الكوكب نبتون الذي يعادل حجمه 78 مرة قدر حجم الأرض، بل وتذكرنا هذه الحوادث بعمل (كلايد تومباوج في سنة 1930 عندما حتم وجود كوكب تاسع يدور في مجموعتنا الشمسية أسماه العلماء بعده بليتون. اذكر أن العالم الفلكي الذي حتم وجوده مات قبل أن يراه العلماء ببضعة شهور
وهكذا كان (ماندلييف) يبحث في المادة عن شموس إذا غابت عنا شمس حتم وجودها وكان (ليفرييه) يبحث في الكون عن كواكب إذا لم نر كوكباً حتم وجوده، واستند كلاهما على انسجام القوانين الطبيعية، بحيث كنا أمام احتمالين: إما أن يكون مصدر الحساب عند (ماندلييف) و (ليفرييه) مشكوكاً فيه، أو يكون الحساب عندهما صحيحاً؛ ولقد دلت الأيام أن حسابهما صحيح وأن العناصر كانت موجودة منذ وجود الأرض وقبل ذلك وأن الكواكب الجديدة على معارفنا كانت تدور في أفلاكها حول الشمس منذ دارت الدار التي نسكنها. . .
وهكذا مع دالتون وبروست وفينزل وريتشر وجاي ليساك، وافوجادرو وماندليف ولوتر ماير، كشف الإنسان عالماً هو الذرة فكشف بذلك من بادئ الأمر عن شموس طغى أثرها على كل ما عداها(317/74)
ولكن كان لابد أن يكون لهذه الشموس سيارات وتوابع كالقمر تتبع الأرض، وهذه والمريخ يتبعان الشمس. وسنرى مع القارئ أن مليكان الأمريكي، وتومسون الإنجليزي، وبيران الفرنسي كشف الإنسان أمر هذه التوابع ودخل الذرة وعرف ما فيها.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(317/75)
من هنا ومن هناك
في إيران دكتاتورية بلا أعداء
(عن (ذي أديلاد كرونيكل))
لعل أهم ما ترمى به الدكتاتورية أن الدكتاتور إذا مات لا يخلفه من
يملأ الفراغ الذي يترك من بعده، ولكن إيران لا خوف على مستقبلها
من هذه الناحية، فإن شعبها على ثقة دائماً بأن ولي عهده الذي تزوج
أخيراً من شقيقة ملك مصر، سوف يكون ما للملك الوالد من الصلابة
والحزم في حكم البلاد
والأمير رضا شاهبور في التاسعة عشرة من سنه، وهو أكبر أبناء الشاه التسعة، وقد ورث عن أبيه قوة الجسم وسلامة البنية، وتدرب على الرياضة بأنواعها وعلى الأخص لعبة التنس وكرة القدم. ويعد في الطبقة الأولى في الرماية وركوب الخيل. وقد بدأ اهتمامه بالكشافة - التي أخذت تنتشر في إيران بسرعة عجيبة - في السنين الخمس التي قضاها بالمدرسة في سويسرا
فإذا دعي إلى عرش النسر الذي ادخره أبوه له بعد جهاد طويل، فسوف يجلس للحكم في القصر الذي كان والده في يوم من الأيام حارساً على أبوابه
فقد كان الشاه رضا خان بهلوي منذ خمس وثلاثين سنة، جندياً بسيطاً في حرس الشاه السابق. وفي سنة 1921 نزح إلى طهران العاصمة، فوجد الناس يتقاتلون فيها على الخبز، والفقر قد أنشب مخالبه في كل شيء، بينما يقيم الشاه في باريس منذ عدة سنين، والحكومة على أبواب انتخابات، والدين الأجنبي يزيد ويتضخم بسبب ما ينفقه الشاه من الأموال في عاصمة فرنسا
لم يطق رضا خان صبراً على هذه الحال ووطد عزمه على تغييرها، وكان يقتبس كثيراً من الإصلاحات عن مصطفى كمال أتاتورك. وفي سنة 1925 كان قد أدخل كثيراً من الإصلاح في بلاده وهيأ الشعب للحكم الصالح. أما الشاه الذي ظل في باريس بين الغواني(317/76)
فقد فَقَدَ احترامه بين الجمهور وعلى الأخص بعد أن ورد على طهران تقرير من باريس يصف سلوكه في حانات مونمارتر. وقد وجد ليلة وسط خمس وعشرين امرأة من الراقصات ليس بينهن رجل سواه، وقد تبلل قميصه بالنبيذ الذي تساقط من الكأس، التي لم تقو يده على حملها لشدة السكر
فعزم رضا خان على أن يزيل هذا الشاه كما أزال حكومته منذ أربع سنوات فأعلن خلعه وولى نفسه مكانه شاهاً لبلاد العجم
ومما لا يختلف فيه اثنان أن إيران الحديثة وهي مملكة مساحتها 68000 ميل مربع وعدد سكانها عشرة ملايين كلها من صنع رجل واحد - هو الشاه
فالشاه يشرف على كل شيء في إيران بنفسه وله فيها الكلمة التي لا ترد، وإن كان رضا خان لا يبت في أمر ذي بال قبل أن يوافق مجلسه النيابي عليه. أما الوزراء فهم جميعاً ملحقون بخدمة الشاه ولا يقومون بعمل قبل موافقة الشاه
هذا الحاكم الشديد في غير ظلم، يعد من رجال الملك الجديرين بهذا اللقب على الرغم من منشئه. يحبه جنده إلى حد العبادة؛ ويعده شباب الجيل الحديث في إيران أباً لهم. وعلى الرغم من أنه يعطي نفسه سلطة لا حد لها في حكم البلاد، فهو يعمل لها بجد وتواضع واعتدال
هل يحل (العم سام) محل (جون بول)
(عن مجلة (باريد))
إذا قدر لبريطانيا العظمى أن تنهزم في حرب عالمية وتندحر قواها حقاً، فهل تخلفها الولايات المتحدة الأمريكية في الاحتفاظ بزعامة الجنس الأبيض على العالم؟
يقول (أندريه سيجفرييه) المؤلف الفرنسي المشهور: للإجابة على ذلك يجب أن نقدر الظروف التي ارتفعت فيها بريطانيا إلى مركز الزعامة والقوة في العالم، فقد اتجهت بريطانيا إلى التوسع والسيادة في وقت لم يكن يزاحمها فيه أحد
أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبحت بريطانيا تشعر بتزعزع واضطراب في مركزها القديم؛ وقد زال من العالم ذلك النوع من الارتباط الدولي الذي كانت تقوم على حمايته(317/77)
بريطانيا العظمى على مبدأ الأخذ والإعطاء، على ما كان له من الفوائد المحققة لسائر الأمم
وقد بدأت اليابان تطالب بمنطقة لا نعلم ماذا سيكون من أمرها بعد، إلا أنه مما لا شك فيه أن ذلك الموقف المريب في الصين، يضيف أزمة خطيرة إلى أزمات أوربا العديدة
فإذا فقدت الهند من بريطانيا وفقدت إلى جانبها مستعمراتها في الشرق الأقصى، فقد زالت زعامة الجنس الأبيض من الوجود إذ أن ذلك سيتبعه ولا شك مطالب لا تحد لسائر الأجناس في أنحاء العالم، فتعاني أوربا ما تعاني من جراء ذلك، ولا يخفى أثر هذه الصدمة على الولايات المتحدة
فإذا كان للمدينة البيضاء أن تحتفظ بمكانتها في العالم، فمن الواجب أن تقوم قوة دولية عظيمة بالاضطلاع بما يمليه هذا الموقف الخطير من الواجبات السياسية والحربية.
وقد قامت إنجلترا بواجباتها زهاء قرن ونصف قرن. وتبعتها فرنسا في شمال وغرب أفريقيا. وهاهي ذي ألمانيا تحاول السيادة الدولية منذ 1914 - 18، ولا يشك أحد ممن يتتبعون مجرى الحوادث في أوربا لحظة واحدة في أنها تعود ثانية إلى التفكير في تلك المحاولة.
إن عالما تسوده ألمانيا لابد أن يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي نعيش فيه تحت نفوذ بريطانيا، وعلى ذلك يصح لنا أن نتساءل: هل الولايات المتحدة على استعداد لقبول مسئولية السيادة الدولية إذا احتاج الأمر إلى ذلك؟
وهنا يظهر موقفان: الأول أن الولايات المتحدة يجب أن تحمي القارة الأمريكية ولا تتجاوز هذا الحد. والثاني رغبتها الأكيدة في حماية الإمبراطورية البريطانية من الهزيمة إذ أن سقوط بريطانيا يؤثر تأثيراً سيئاً على مركزها في العالم.
ويصر الرأي العام في الولايات المتحدة على الرأي الأول. ولكن هناك حركة يقوم بها بعض رجالها السياسيين تجعل الأمل كبيراً في ترجيح الرأي الثاني.
إن الولايات المتحدة ليست على استعداد لأن تحل محل الإمبراطورية البريطانية في السيادة الدولية، ولكنها مع ذلك لا تسمح بتحطيم القوة البريطانية.
الحب يحفظ العالم
(عن (ذي سيكولجيست))(317/78)
يقول علم النفس الحديث إن الحاجة إلى الحب هي في الحقيقة حاجة إلى حماية الآخرين ومساعدتهم
فالأسماك لا تعرف الحب. فإذا خرجت السمكة إلى عالم الوجود، لا تعرفها أمها ولا يحفل بها أبوها، وقد تفصلهما عنها أميال شاسعة. فالسمكة الصغيرة لا تعرف حماية الوالدين على الإطلاق، وحياتها معلقة على المصادفة والجهد المستقل
ولكن الطفل من بني الإنسان على نقيض ذلك. فيولد عاجزاً كل العجز، ولن يبلغ أشده إلا إذا لاقى عناية خاصة، ممن يهمهم أمره. فالطفل إما أن يجد الحب وإما أن يموت
وهذا الحب الفطري لا تقابله منفعة خاصة للغير. فالطفل يلاقي العناية الفائقة من أمه أو مربيته أو من يضطلع بأمره ولا يجازيهم على ذلك أي جزاء، ولا ينتظر أحد منه شيئاً من الجزاء لأنه لا يقدر عليه
إلا أن هذا الموقف لا يستمر على الدوام، فإذا رأينا إنساناً في سن الرجولة يأخذ من الناس ولا يعطيهم مقابل ما ينال منهم، فإننا نعده إنساناً ما زال في دور حب الطفولة. وننتظر أن ينمو بدوره ويتقدم إلى المرتبة التي يتحمل فيها مسئولية حب شخص آخر يحتاج إلى رعاية بغير أمل في جزائه
وبمعنى آخر إن كل إنسان يجب أن يعبر الطريق الذي ينال فيه كل شيء ولا يعطي مقابله أي شيء، إلى الطريق الذي يعطي فيه كل شيء ولا ينال شيئاً. ولا يعد هذا العمل فضيلة بأي حال فهو ضرورية حيوية ورثها الإنسان منذ ظهر في هذا الوجود
وليس في أنانية الطفل مأخذ عليه، فكأنه بعمله يقول: إنه عاجز وإنه عالة على محبة الآخرين وإنه يجب أن يأخذ منهم وإنه لا يستطيع الجزاء
فإذا لم يكن لدى الطفل الفرصة التي تخرجه من أحضان أمه إلى دائرة أكثر حرية واتساعاً، فقد تفوته فرصة التقدم من الرتبة التي يتلقى فيها الحب، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فلا بد أن يتصل باخوته وغيرهم من الأطفال المقاربين له في السن؛ وهم مثله لم يتقدموا عن المرتبة التي يتلقون فيها حب الأباء والأمهات، ولا تقل أنانيتهم عن الأنانية التي يستمتع بها. فإذا اجتمع لفيف من الأطفال على هذا النحو فإن الاختلاف سرعان ما يدب بينهم إذ أن كل طفل مولع بنفسه مؤثر إرادته على إرادة الآخرين. إلا أن الألعاب(317/79)
العديدة المنظمة التي قوامها التعاون تقضي على هذه الروح لأن الطفل في هذه الحالة يشعر بأنه ينال السرور الحق حينما ينظر إلى حقوق الآخرين بعين الاعتبار. فهو يعتبر الآخرين لا عن طريق التضحية أو عن طريق المبادئ الأخلاقية، ولكن لأنه يجد راحته في هذه الحال.
وهذه مرتبة عظيمة من مراتب الحب، والذين لا يعرفونها لا يعرفون العواطف السامية في طور النمو.
الصحافة بعد ستين عاما
(عن مجلة الصناعة الأمريكية)
كيف تكون الصحافة بعد ستين عاماً أي سنة 2000 بعد الميلاد؟
هذا سؤال وجهته مجلة الصناعة الأمريكية في الأيام الأخيرة إلى بعض الصحفيين والمشتغلين بالسياسة. فورد عليها أجوبة مختلفة على هذا السؤال، إلا أنها تجمع على أن الصحافة بعد ستين عاماً ستكون مختلفة عنها اليوم
ومن الأجوبة الطريفة على هذا السؤال ما كتبه مستر هارولد سكرتير وزارة خارجية الولايات المتحدة، وقد مزج الحقيقة بالفكاهة فقال:
(حينما أفكر في مستقبل الصحافة بعد ستين عاماً، تجري على خاطري رغبة سبقني إلى شرحها توماس جيفرسن يوماً من الأيام. اقترح جيفرسن أن تقسم كل جريدة إلى أربعة أقسام:
1 - الحقائق
2 - الأخبار المحتملة الوقوع
3 - الأخبار التي تنتظر الإثبات
4 - الأكاذيب
فلو سارت الصحافة على هذا المنوال، فمن رأيي أن يكون الباب الأول خاصاً بنتائج المباريات الرياضية، والثاني خاصاً بتقارير الأرصاد الجوية، والثالث بأخبار السينما، والباب الرابع خاصاً بغالبية الأخبار السياسية(317/80)
ومن رأيي أن هذه الطريقة تجعل من الصحافة هيكلا مقدسا للحقيقة، كمل تجعل منها مثالاً معلوماً للخيال فتعم السعادة ويظهر الإخلاص ويرفه عن قلوب الناس).
وقد تناول هذا الموضوع رجال الصحافة بما يستحقه من الجد والاهتمام
ومما قاله أحد الصحفيين: إن أصحاب الصحف الذين يرتاعون لمنافسة الإذاعة اللاسلكية قد يجدون شيئاً من الراحة والاطمئنان إذا لاحظوا أن اليوم، حتى سنة 2000 بعد الميلاد لا يمكن أن يزيد على أربع وعشرين ساعة.
وقد استطاعت الإذاعة أن تخترع طرقاً عجيبة للاستماع إلى الموضوعات والبرامج التي سبقت إذاعتها في الوقت الذي يشاؤه الإنسان. أما الإذاعة المصورة (تلفزيون) فسوف يتيسر لها أن تمدك بالصور والأصوات، وسوف يتيسر لها كذلك أن تحتفظ بها لأي وقت تريد، فتستطيع أن تستمع إلى البرنامج الذي يذاع في الساعة التاسعة وأنت بالسينما أو المسرح، في الساعة الحادية عشرة في منزلك أنت وعائلتك وترى كذلك الصور المذاعة.
وسوف يكون من السهل الاحتفاظ بالصور الملونة للرجوع إليها في المستقبل. وفي سنة ألفين يستطيع الرجل أن يقرأ الصحف في مكتبه في الصباح بينما تتلهى زوجه بسماع برنامج الموسيقى التي أذيعت في الليلة السابقة في باريس.
ومن المنتظر في ذلك الوقت أن يتلقى الإنسان أخبار العالم بواسطة محرك بسيط يلمسه بإصبعه، فإذا كل شيء قد نقل إلى أذنه لتسمعه، وإلى عينه لتراه.
وسوف ينتقل إليه بطبيعة الحال فيض من التقارير الرسمية الدقيقة من أنحاء قاصية كنيوزيلند والتبت منقولة نقلاً مطابقاً للأصل كل المطابقة
وكذلك صور الأوبرا: فيستطيع أن يلمس المحرك في أي وقت ليسمع قطعة من أوبرا تكون قد أذيعت من موسكو في الليلة السابقة واحتفظ بها ليسمعها في أي وقت يريد
وسوف يكون لديه لفافات طويلة من الأوراق المنقولة بواسطة الراديو، تنقل إليه في أي وقت حديثاً يكون قد فاته سماعه في الليلة الماضية. . .
وقد لمس أحد الصحفيين الذين كتبوا في هذا الشأن ناحية أخلاقية في الموضوع.
فقال: إن العبقرية الإنسانية سوف تستطيع أن تصل إلى الغاية التي تيسر لذوي العقول والكفاية أن يصدروا الصحف دون حاجة إلى رؤوس الأموال الطائلة التي يحتاجها إصدار(317/81)
الصحف الآن. حتى لا تكون هذه الصناعة وقفاً على أصحاب الثروات. فيتمكن الرجال ذوو الأخلاق والمواهب من إصدار الصحف بغير إرهاق
وسوف يكون من المستطاع إخراج الصحيفة الكبيرة بتكاليف زهيدة للغاية، وتصبح الآلات الضخمة التي تستعمل الآن شيئاً لا يذكر إلا على ألسنة المؤرخين
سوف تلقى العبقرية تلك الآلات الضخام وتجعلها موضعاً لسخرية الساخرين.(317/82)
البَريدُ الأدَبيّ
الأب أنستاس ماري الكرملي والمنضدة
قال العلامة الأستاذ الأب أنستاس ماري الكرملي في كلمة عنوانها (مباحث عربية) في الجزء الأخير من مجلة (المقتطف) الغراء: (وجدناه (أي صاحب مباحث عربية) استعمل (المنضدة) ص 27 وقد شاعت على يراع كتبة هذا العهد، ناقلاً إياها عن (أقرب الموارد) للشرتوني، أو عن كاتب عثر عليها في المعجم المذكور، فهي لفظة لم ترد في كلام فصيح ولا ترد على أسلة مؤلف بليغ ثقة يعتمد عليه. وصوابها (النّضَد) كما ذكرها أرباب الدواوين اللغوية، وهي من باب تسمية الشيء باسم المصدر)
أقول: قالت (الجمهرة): (النضد متاع البيت وكثر في كلامهم حتى سموا السرير الذي ينضد عليه المتاع نضداً) وفي (اللسان): (سمي السرير نضداً لأن النضد عليه) ونحو من ذلك في (المصباح والتاج)
وقال الإمام الزمخشري في (أساس البلاغة): (المنضدة شيء كالسرير له أربع قوائم يضعون عليه نضدهم)
فسبب التسمية قد ذكروه، وفي اللسان العربي: النضد والمنضدة
الأب أنستاس إذا نقد أفاد، وإذا نقد لم تعدم الأدباء فائدة فله الفضل في كل حالة
من هذيان الحر
تحت هذا العنوان كتبنا مقالاً في عدد مضى من الرسالة سخرنا فيه من الأرستقراطية سخراً أوضح من الصراحة؛ ولكن إفراط الحر على الإفهام في هذه الأيام جعل الأستاذ محرر (همسات الأندية الأدبية) في مجلة (زهرة الشرق) يقرأ المقال على ظاهره فظن أننا (نعرض بحكم الشعب وندعو إلى حكم الأرستقراطية ونتهكم بالعامل والزارع ونفتخر بالأمير والسيد) ثم أراد أن يدلل على صحة ما فهم فساق كلمة من المقال هي غاية التهكم فيه. ولولا رعايتنا لكرامة الكاتب لدللناه على السخرية في الفقرات التي نقلها على الأقل؛ ولكننا نرجو أن يعيد قراءة المقال ليعلم أنه جزء من سلسلة أولها (فلاحون وأمراء) وآخرها (حلم ليلة صيف) وكلها متساوقة الأجزاء إلى الاستهزاء بالأرستقراطية. وليت شعري إذا كان هذا مبلغ الأدباء من فهم الكلام، فكيف يكون حال الجهلاء والعوام؟!(317/83)
جماعة الفن والحرية
حضرة الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات
نحن نعلن لأسرة (الرسالة) أن كلمتي (الفوضى) و (الفن المنحط) اللتين اتهمنا بهما لم تخرجا من وحي تفكيرنا، وإنما جاءنا من خلق طائفة من الناس ترى في كل حركة تجديدية خروجاً على التقاليد والأخلاق، وجموحاً بالحرية إلى حد الفوضى، وخطراً في الأنظمة الاجتماعية المعاصرة التي تهيئ لأفراد هذه الطائفة أكبر قسط من الكسب المادي.
إن جماعة (الفن والحرية) حركة اجتماعية بقدر ما هي حركة فنية تعمل للفن من أجل الفن. ذلك أن مظاهر الفكر البشري والعواطف الإنسانية بصورها المختلفة حتى صور الفلسفة العليا منها لا تخرج في نظرنا عن حدود التعبير الناشئ عن اصطراع التيارات المتعاملة داخل الهيئة الاجتماعية.
والمجتمع المصري بحالته الراهنة مجتمع مريض مختل، فقد الاتزان لا في مقاييسه الخلقية فحسب، بل في أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية أيضاً. ومثل هذا المجتمع المقبل على النهوض يجب أن تترك فيه الحرية المطلقة للكتاب والمفكرين في نشر آرائهم الجديدة للانتفاع بالحلول التي يعرضونها لعلاج المشاكل المتعددة.
وجماعة (الفن والحرية) فئة من الشباب راعها ما رأت من انحلال عناصر القوة في مصر. فكرست جهودها لدراسة مسببات هذا الانحلال، ولإيجاد الحلول التي ترى أنها قد تعود بالخير على المجموع. فهي ليست متأثرة بحركة أجنبية، وإنما هي حركة مصرية أكثر ما يمكن أن يقال فيها إنها ستكون مهداً لنضوج الأفكار الجديدة التي ستهيئ أسباب التطور لهذه البلاد.
أما إن كان الفن الذي تبشر به جماعة (الفن والحرية) منحطاً أو غير منحط فهذا أمر لا يمكن الوصول فيه إلى نتيجة حاسمة بنقاش يثار على صفحات مجلة من المجلات. وخير من هذا الجدل أن تلبي أسرة (الرسالة) دعوة الجماعة لزيارة معرضها حتى تكون على بينة تدعمها المشاهدة من حقيقة الاتجاهات التي ترمي إليها
أنور كامل(317/84)
الوحدة الإسلامية
إلى الأستاذ الفاضل ساطع الحصري بك
قرأت مقالكم (حول الوحدة العربية) الذي تردّون فيه على الدكتور طه حسين، في العدد (315) من الرسالة الغراء فلفتت نظري فيه الجملة الآتية:
(وأؤكد لكم أنني - بقدر ما أؤمن بفكرة العروبة، وبقدر ما أعتقد بإمكان الوحدة العربية، وبقدر ما أقول بوجوب السعي وراء تحقيقها - أعتقد باستحالة الوحدة الإسلامية)
فهل لي أن أسألكم سيدي الأستاذ، علام بنيتم اعتقادكم هذا؟ وعلى أي أساس أصدرتم حكمكم باستحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟ إن من المعروف لدى الخاص والعام أن رابطة الإيمان والعقيدة أقوى من روابط اللغة والعادات والمصالح، وأن التقارب بين الناس والتفاهم، يقوم - مع وحدة اللغة - على وحدة المبادئ والعقائد والغايات. وهاهي ذي مبادئ الشيوعية والاشتراكية والماسونية وغيرها تجمع بين أناس اختلفت لُغاهم وأجناسهم وبلادهم وأقاليمهم، ولم يمنعهم هذا الاختلاف كله من أن يتفاهموا ويتقاربوا ويجتمعوا على خطة واحدة ومبدأ واحد، أفتكون مبادئ الإسلام مانعة من اتحاد المؤمنين بها واجتماعهم؟
يعلم الأستاذ أن العرب في الجاهلية كانوا متنافرين متخاصمين مع أن لغتهم كانت واحدة، وعنصرهم واحداً، وأن الإسلام قد آخى بين العربي وغير العربي وجمعهم على مبادئه السامية وألّف بين قلوبهم، وجعلهم أمة واحدة رغم اختلاف الأجناس واللغات، أفتكون هذه الوحدة التي أمكن تحقيقها في عصر صدر الإسلام وعصر الأمويين والعباسيين ومن أتى بعدهم، مستحيلة في عصرنا هذا؟ إن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له كأخيه المسلم الذي يعيش معه جنباً إلى جنب ففيم استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟
أنا لا أنكر إمكان تحقق الوحدة العربية ولا أقول بمقاومتها ولكنني أعتقد - ويعتقد معي كل مسلم على وجه الأرض - أن الوحدة الإسلامية أقوى من كل وحدة سواها، وأن تحقيقها أسهل من تحقيق أية وحدة أخرى، فهل لكم أن تبينوا لي خطأ اعتقادي هذا، وأسباب استحالة تحقيق الوحدة الإسلامية؟(317/85)
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
تقريب الكتب القديمة وعرضها عرضاً حديثاً
كانت لجنة تقريب الكتب العربية القديمة إلى أذهان الناشئة وعرضها عرضاً حديثاً قد اجتمعت في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 12 يونية سنة 1939 برياسة حضرة صاحب العزة الأستاذ محمد العشماوي بك وكيل المعارف ونظرت في الكتب العشرة التي قررت الوزارة البدء بتقريبها كخطوة أولى لتنفيذ هذا المشروع الأدبي. ثم عرضت أسماء الأدباء الذين يختارون لهذا التقريب واستقر الرأي على أن تلحظ اللجنة في اختيارها لكل كاتب قوة التمكن من الثقافة العربية والاختصاص في الدراسات الأدبية واستغلال الثقافة الغربية ما أمكن ذلك عند بعض الأدباء المعاصرين للانتفاع بها في توجيه طرائق التقريب والعرض توجيهاً فنياً حديثاً
وبعد مراجعة الأسماء والمناقشة في كل كتاب بمفرده تقرر الاختيار وفقاً لهذا البيان. ثم رفع إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف فأقره بعد تعديل يسير. وإليك هذا البيان
1 - الكامل للمبرد
(ا) الأستاذ السباعي بيومي المدرس بدار العلوم
(ب) الأستاذ مصطفى السقا المدرس بكلية الآداب
2 - البيان والتبيين للجاحظ
(ا) الأستاذ محمد صفوت المدرس بدار العلوم
(ب) الأستاذ عبد الوهاب حمودة المدرس بكلية الحقوق
3 - الأمالي لأبي علي القالي
(ا) الأستاذ محمد شتا مدرس أول اللغة العربية بمدرسة الخديو إسماعيل الثانوية
(ب) الأستاذ إبراهيم مصطفى مدرس بكلية الآداب
(ج) الأستاذ عبد العزيز احمد بمجمع فؤاد الأول للغة العربية(317/86)
4 - ديوان أبي تمام
(ا) عبده عزام أفندي معيد بكلية الآداب
(ب) خليل عساكر أفندي معيد بكلية الآداب
وسيضاف إليهما أستاذ من دار العلوم أو من كلية الآداب
5 - ديوان البحتري
(ا) الأستاذ عباس محمود العقاد
(ب) الأستاذ عبد الرحمن شكري
6 - ديوان شوقي
(ا) الأستاذ أحمد حسن الزيات
(ب) الدكتور زكي مبارك
(ج) الأستاذ أحمد الزين بدار الكتب
7 - تاريخ ابن خلكان
(ا) الأستاذ أحمد الشايب المدرس بكلية الآداب
(ب) الأستاذ محمد مأمون نجا المدرس بالتوفيقية الثانوية
(ج) الأستاذ حسن علوان المدرس بالتوفيقية الثانوية
8 - كتاب الروضتين في أخبار الدولتين
(ا) الأستاذ عبد الله عنان بالداخلية
(ب) الدكتور محمد مصطفى زيادة أستاذ مساعد بكلية الآداب
(ج) عبد اللطيف حمزة أفندي معيد بكلية الآداب
ولقد رأت اللجنة أن تعرض الكتب القصصية عرضين:
(1) عرضاً فنياً
وفيه يستلهم الكاتب روح الكتاب القديم وطريقته وفنه وينهج نهجه بطريق فني جديد
(2) عرضاً علمياً(317/87)
وفيه تعرض دراسة علمية وافية عن الكتاب وتاريخه والترجمة لصاحبه وأثره في الأدب والثقافة العامة وكان اختيارها في القصص على هذا الأساس
9 - قصة عنترة
للعرض الفني
(ا) الأستاذ محمد فريد أبو حديد
(ب) الأستاذ محمد سعيد العريان
للعرض العلمي
(ا) الأستاذ حامد عبد القادر
(ب) توفيق الطويل أفندي
10 - ألف ليلة وليلة
العرض الفني
(ا) الأستاذ إبراهيم المازني
(ب) الأستاذ توفيق الحكيم
العرض العلمي
(ا) الأستاذ محمد خلف الله المدرس بكلية الآداب
(ب) الآنسة سهير القلماوي
حول نعيم الجنة
إن للدكتور زكي مبارك أسلوبه في الكتابة، وله أن يتظرف فيه أو يتمجن ما شاء مادام يكتب في الأدب الذي هو دكتور فيه. لكن الذي ليس له والذي لا يمكن أن يقره أحد عليه هو أن يتظرف أو يتمجن حين يكتب في الدين أو حين يدعو لله سبحانه.
لقد رأى في مقالاته الأخيرة في الرسالة أن يستشهد بالدين فأتى باستشهادات خطأ كلها. لكن لا لهذا نوجه اللوم إليه الآن؛ إنما الذي نأخذه الآن به هو ما ختم به خطابه المنشور في العدد 316 من الرسالة تحديداً لرأيه في نعيم الجنة في الإسلام. هو رأي وافق شطره الصواب، ولو قد وقف عند الآية الكريمة (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) في(317/88)
موضعها من خطابه فختمه بها لكان خطابه ذلك من أحسن ما كتب. لكن شيطان المجون فيه أبى إلا أن يفسد عليه ذلك الجواب حين أوحى إليه أن يكتب فقرتين بعد ذلك قال في أخراهما خطاباً لله سبحانه: (اشغلني عنك يا رباه! بما سيكون في الجنة من أطايب النعيم)! فهل رؤى سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا؟ وهل يظن زكي مبارك أن أهل الجنة حين ينعمون فيها يشغلهم عن ربهم شاغل؟ إنهم لم يستحقوا ذلك النعيم إلا بأنهم لم ينسوا الله في الدنيا. فهل يظن هذا الماجن أنه سبحانه ألزمهم ذكره وعبادته في الدنيا ليأذن لهم في نسيانه والانشغال عنه في الآخرة؟
لو كان زكي مبارك يفقه في الدين شيئاً لعرف أن نعيم الجنة الحسي يصبح غير نعيم لو تجرد من رضوان الله أو شغل عن الله. ولو كان لدى زكي مبارك من روح الإسلام شيء ما اجترأ على الله في الخطاب هذا الاجتراء المتجسم في دعائه ذلك، ولأدرك أنه يأتي به كبيرة توشك إن لم يتب منها مخلصاً أن تكبه على وجهه حيث لا نعيم للبدن ولا اطمئنان للروح
محمد أحمد الغمراوي
كتاب في الدين الإسلامي
سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة
هنا في قلب الجزيرة السودانية حفنة طيبة من الشباب تربطهم بأسرة الرسالة رابطة الأدب والثقافة. وقد أصبح الفرد منهم يعرف أفراد هذه الأسرة الطيبة المباركة معرفة كلها تقدير وإعجاب
والأستاذ علي الطنطاوي من أولئك الشبان الذين نتخذهم قدوة حسنة لنا، ونرى في تتبع خطواتهم تحقيقاً لمثلنا العليا. والدافع لي إلى أن أكتب هذا هو ذلك المقال الممتع الذي قرأناه في العدد 314 من الرسالة، والذي يقترح فيه الأستاذ الفاضل تأليف كتاب في الدين الإسلامي على طريقة حديثة تكفل لنا الإلمام بتعاليم ديننا وتعيننا على تفهمه. والذي يهمنا هو أن يجد هذا الاقتراح كل عناية وتقدير من علمائنا وأدبائنا الأفاضل، ما دامت (الرسالة) الغراء قد فتحت لهم الباب على مصراعيه لبحث هذا الموضوع الديني القيم أملاً في تنفيذ(317/89)
هذا المشروع، وإبرازه إلى حيز الوجود ليكون فاتحة عهد جديد لإحياء تراثنا الأدبي والديني إن شاء الله.
هذا - وللأستاذ علي الطنطاوي ولأسرة الرسالة المباركة منا كل شكر وتقدير.
(واد مدني)
سليمان بخيت
تصويب
سقط سهواً من مقال الأستاذ ساطع الحصري بك المنشور بالعدد 315 بالصفحة 1389 سطر في آخر العمود الثاني، ونعيد هنا نشر هذه الفقرة وفيها هذا السطر المنسي تحته خط:
(الوحدة العربية كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري)
ونحن لا نرضى بهذا ولا بذاك
استدراك
نشرت رسالة الأسبوع الماضي أبياتاً لي تحت عنوان: (نبرات صوتك في المسرة) وقد نسى بيت من أبياتها فنذكر هنا البيت المنسي مع سابقه ولاحقه:
نبراتُ صوتك؟ ما المزاهر كلها ... مارنةٌ نشوى من العيدان؟
روَّيتِ أحلامي وهجتِ قصائدي ... فنظمتُ فيك قلائد العقيان
ووهبتك الآمال ملء خواطري ... وعلى سناك حبست حرّ بياني
العوضي الوكيل(317/90)
رسالة النقد
كتاب (توفيق الحكيم)
بيني وبين الدكتور بشر فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
عندما كتب الدكتور بشر فارس كلمته الأولى في (الرسالة) عن دراستي عن (توفيق الحكيم) لم أكن راغباً من ردّي عليه إلا في فتح باب المناقشة بيني وبينه في مسائل دقيقة استوقفت نظري في مقاله يتصل بعضها بصميم الأدب الحديث ومناهج البحث والتحقيق، ويتصل بعضها الآخر ببعض الدقائق في الشؤون الفلسفية التي تدور حول فكرة ارتباط الزمان بالتاريخ والرغبة بالشهوة. كذلك لم أكن قاصداً بنقدي الذي نشرته لي (الرسالة) لكتاب (مباحث عربية) الذي أخرجه للناس أخيراًالدكتور بشر إلا التمحيص العلمي لوجه الحقيقة. ومن هنا جاء ما في ردي عليه ونقدي له من (التدقيق والمراجعة في بذل الملاحظات)، كما لاحظ الجميع. وأما صديقي بشر فارس، فقد آثر أن يدبر المناقشة معي حول المناحي الشكلية. ومن هنا وقف من ردِّنا على كلمة، ومن نقدنا لكتابه في الخارج - كما يقول العلماء - يطوف حول كلامي دون أن ينزل إلى تفاصيله ويناقش ملاحظاتي في صميمها. ومن هنا جاء أيضاً ما عبته على الصديق بشر من (أنه لا يصلح كاتباً ناقداً إلا في المواضيع التي يديرها في ذهنه ويستقصيها على أوجهها بالبحث والتمحيص). غير أنه يظهر أن ما قلته في صاحبي لم يرضه، وجعله يظن متوهماً أننا نداوره ونحاوره فذهب يغمرنا من كل جنب. ولاعتقادي بطيبة سريرة صاحبي، فإنني غير محتاج للتعليق على هذه الفراسة التي بدرت من قلمه (إننا صفينا الحساب فيما بيننا قبل سفره) وحسبي هنا مناقشة كلامه فيما يتعلق بدراستي عن (توفيق الحكيم) على أن أعود لمناقشة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) قريباً بعد صدور مقتطف أغسطس، ومناقشة ما كتب وعلق به على نقدي
1 - أدار الدكتور بشر فارس موضوع المناقشة في رده الذي جاء بالعدد 312 بالرسالة حول افتراض اقتباسي لبعض تعبيراته ومنها تعبير (جملة صلات اجتماعية) وما ينظر إليه(317/91)
في الفرنسية. وقد رددت عليه في هذا الموضوع بالنسبة لاقتباسي هذا التعبير عنه فقلت: إن هذا التعبير قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه، فقد جاء في بحث لي عن (إسماعيل مظهر - الفكر المصري) ودللت على المصدر الذي جاء فيه هذا البحث فخرج الدكتور بشر يتساءل عن العبارة التي تضمنت التعبير ليرى موضعه منها، وهانحن أولاء نسوقها للفائدة:
(هل التناحر على البقاء في سبل المعادلة الضامية ويسميها مظهر (التناحر التعديلي) وذلك أن تعدل أفراد الأحياء حالاتها بما تتطلب مطاليبها. وإسماعيل مظهر استناداً إلى هذه الفكرة ينجح في الإجابة على كثير من المشكلات التي تتعلق بمذهب النشوء وما يتصل بمسائل علمي الاجتماع والآداب وظاهرات الدين والعقل والأخلاق، وخصوصاً ما يتصل من هذه الأصول بنشوء المشاعر الغيرية من المشاعر الذاتية (الأنانية) التي هي الأساس عنده في خلق مجموعة أو جملة من الصلات الاجتماعية التي تربط بين الناس. وهذه الصلات بدورها تسوق عنده لإيجاد المشاعر والأخلاق الاجتماعية. وقد توسع مظهر استناداً إلى هذه الفكرات فوضع مبحثه القيم. فلسفة اللذة والألم. . .)
وواضح إذن أن تعبير (جملة صلات اجتماعية) قد دار على قلمنا قبل صدور كتابه (مباحث عربية):
2 - قلت إن التي ينظر إليها تعبير (جملة صلات اجتماعية) ليست للدكتور بشر فارس وإنها قد جرت على قلم دوركايم عالم الاجتماع المعروف. وقد اعترف بهذا الدكتور بشر فارس في رده فقال ما نصه: والذي في الحقيقة أن دوركايم يستعمل هذه الجملة غير مرة وكذلك تلامذته وتلامذة تلامذته (الرسالة ص 1379 ع 2س 11 - 12)، فكأنني في استعمال هذا التعبير لم أنظر إلى ما كتبه الدكتور بشر لأن التعبير شائع من جهة ومستعمل في كتب علم الاجتماع الحديثة من جهة أخرى، وهذا الشيوع والاستعمال ينفيان مظنة الاقتباس. ولكن الدكتور بشر فارس يعرف هذا، ولكنه رأى أنه على وشك خسارة القضية التي ثار من أجلها الأخذ والرد بيننا، فماذا فعل؟ خرج الموضوع تخريجاً يشهد له بالبراعة، ولكن أي براعة؟ براعة الرجل الشكلي فقال: إن المصدر الذي دللت عليه لم يقف عليه ولم يعثر له على أثر. . . وذهب يدير الكلام ويكرره للإبهام. وكأني به في(317/92)
تخريجه هذا يحاول أن يشككنا في أن دوركايم أستاذ علم الاجتماع بالسربون طيلة عشرين سنة لم يلق حاضرات فيه، وأن هذه المحاضرات قد جمع بعضها في كتب أخرجت للناس. أما (المجموعة) التي قلنا إن دوركايم قد استعمل فيها فهي تلك المجموعة التي تحمل - والتي طبعت للمرة الأولى عام 1895 ضمن المجموعة الاجتماعية بباريس على ' طبعتها هذه المكتبة أكثر من مرة. والنسخة التي تحت أيدينا هي الترجمة الإنجليزية وفيها العبارة والترجمة بقلم ومكتوب عليها ' ' وقد راجعنا اليوم نسخة من طبعة عام 1912 في الفرنسية، والعبارة وجدناها ترددت أكثر من مرة
أما التعبير نفسه فقديم في الفرنسية، وهو يتألف من شقين: الشق الأول يتضمن إنجليزياً ومجموعة أو جملة عربياً. وهذا الشق يعود استعماله إلى أواسط القرن السادس عشر، وقد وقفنا عليه عند بسكال ومالبرانش وغيرهما؛ وعلى وجه خاص في الكتب المسيحية اللاهوتية و (على الدكتور بشر التفتيش) أما الشق الثاني فيتضمن الذي ينظر إليه بالإنجليزية والتعبير الفرنسي كثير الاستعمال ورد في الكتب التي تحت أيدينا مئات المرات، وعلى سبيل المثال نذكر منها كتاب: , ' من طبع عام 1912، وقد ورد التعبير فيها أكثر من مرة في ص 160 و 162و 164و166 مثلا حيث يقول في هذه وكل هذه التعابير قريبة المدلولات في الفرنسية، وتقابل في العربية تعبير (جملة صلات اجتماعية)
3 - تحدث الدكتور بشر في هامش بمقاله فقال إني انتزعت الفقرتين الأوليين من فاتحة مقالي الأخير عنه من الدكتور زكي مبارك!. . . والذي أعرفه أن هنالك موضع تشابه ولكن لا يحمل على محل الانتزاع لأنه شكلي. ولو كنت الدكتور بشر لجاز لي أن أقول إن الدكتور زكي مبارك هو الذي انتزع مني في كلامه عن أحمد أمين كلامنا عن صاحبه الذي جاء في نقد كتابه (فيض الخاطر) الذي نشرته لي الرسالة في العدد 287 ص 43 - 44. بيان ذلك أن الدكتور زكي مبارك يتحدث عن الشكلية والتقدير عند أحمد أمين. تلك الشكلية وذلك التقدير اللذان تكلمنا عنهما من قبل في نقدنا لكتاب فيض الخاطر الذي أخرجه أحمد أمين. ولكنا نعتقد أن مثل هذا التشابه لا يحمل على محمل الانتزاع، وإنما على أن الموضوع الذي وقف منه الدكتور زكي مبارك يملي نفس الموقف الذي وقفناه من قبل(317/93)
إزاءه. ثم يستقل بعد ذلك كل منا بنتائج خاصة به يخلص بها من الظاهرة التي يتلمسها في آثار أحمد أمين
نقول هذا معتقدين أن صديقي بشر لو رجع اليوم وألقى نظرة على ما كتب في هذا الشأن لما رضى ما كتبه. وهو معذور - على كل حال - فيما كتبه عنا بهذا الشأن، فيظهر أنه كان يكتب كلمته وهو في حالة انفعالية. على أن التشابه بعد ذلك بين ما كتبناه وبين ما كتبه زكي مبارك عن صاحبه أحمد أمين شكلي محض، لأن أحمد أمين عند زكي مبارك رجل تقديري النظر شكلي، ومن هنا جاء عدم نجاحه في تقييد الخطرات والسانحات التي تطوف بالنفس من حين إلى حين. وبشر عندي رجل بحاثة قدير في الموضوعات التي يديرها سنين في ذهنه ويستقصيها على وجوهها بالبحث والتمحيص. ومن هنا يجيء ما في أبحاثه من التحليل وما في الكتابات التي يرسلها من ذهنه دون أن يديرها وقتاً في رأسه من إخفاق راجع إلى فقدان العنصر الأساسي لقيام التحليل عنده والتقدير، وهو الزمن الذي يعطيه الفرصة على إدارة الشيء في ذهنه حتى ينزل لمقوماته وأسبابه
4 - تهكم صاحبي بشر في الهامش بتحقيقاتنا عن قضية ميلاد توفيق الحكيم. وعجب هو كيف أنكر على توفيق شيئاً يؤكده هو بنفسه. وكنت أظنه فاطناً إلى الأسباب الجوهرية الدافعة إلى ذلك، وهي مبثوثة في أكثر من موضع في دراستي (ص 79 مثلاً من الطبعة الخاصة). بيان ذلك أننا نرى طبيعة توفيق الحكيم مترددة تبعده عن الصراحة. أما الأسباب التي حدتنا إلى ذلك فبيانها موجود في كتابنا بالإسهاب. ولهذا وقفنا موقف الحيطة مما ألقاه إلينا الأستاذ الحكيم بشأن ميلاده. وحققنا على طريقتنا تاريخ حياته، فكان من ذلك أن رفضنا التاريخ الذي قال إنه تاريخ ميلاده. . . ومن المهم أن تحقيقاتنا التي كانت للأمس عند الأستاذ بشر فارس موضع الاعتبار أصبحت في ثورة غضبه موضع الغمز والتهكم. ومع هذا فالكل وقفوا منها موقف التدبر. وقد كان من المستطاع أن أسوق الشهادات آخذاً بعضها برقاب بعض مما يؤيد تحقيقاتي من زملاء توفيق الحكيم وأصدقائه وبعض الذين اطلعوا على ملف خدمته بوزارة المعارف وفيها شهادة ميلاده، ولكن لأننا لم نستأذن أصحاب هذه الشهادات في النشر فقد اكتفينا بالتنويه. والدكتور بشر نفسه يعرف بعض هؤلاء وسمعه بنفسه منهم حينما مرّ بالإسكندرية في طريقه إلى أوربا.(317/94)
هذه مراجعة لما قاله الصديق بشر فارس فيما يتصل بدراستي عن (توفيق الحكيم). أما مراجعة ما أثاره حول نقدي لكتابه (مباحث عربية) موعدنا بها مقال تالٍ بعد أن ننظر فيما سيجيء له في مقتطف أغسطس من مراجعة لأقوالي. وأرجو ألا يبدر لذهن القارئ أن هنالك شيئاً بيني وبين الدكتور بشر كما ظن البعض ووهم. فهذا النقاش وهذه المساجلة مهما عنفت في أسلوبها شيء و (الصلات الاجتماعية) شيء آخر. وما في كتابة الدكتور بشر من الشدة إنما هو نتيجة الانفعال الذي سمح له أن يسيطر على ما يكتب، وهذا يرجع إلى أن صاحبنا تغلبه طبيعة الفنان، ولعل في ذلك بعض ما يخفف شدة كلامه لمثلي ويعتذر له والسلام
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم(317/95)
العدد 318 - بتاريخ: 07 - 08 - 1939(/)
اللغة والقوالب الموروثة
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كنت ذات يوم أكتب رسالة إلى صديق فجرى القلم بهذه العبارة المألوفة: (ومما زاد الطين بلة. . .) وهممت بأن أمضي في الكتابة ثم رددت نفسي وألقيت القلم ونهضت إلى الشرفة ورحت أدخن وأنظر إلى الناس. ولكن النظر إلى الناس لم يكن همي ولا كان كل شغلاني؛ فقد كنت أحادث نفسي وأحاورها وأقول لها إن عبارة (زاد الطين بلة) ليست هي الوحيدة التي ورثناها في جملة ما ورثنا من لغتنا وقد صارت على الأيام (كليشيها) أو قالبا مصبوبا نستعمله في الحديث والكتابة من غير أن نفكر في الصورة التي يرسمها هذا (الكليشيه) الموروث الذي يغرينا به أن الجري على العادة أسهل وأقل عناء. وقد نبتت هذه العبارات المورثة في زمان كان زمانها - أعني أنها كانت في الزمن الذي أخرجها وثيقة الصلة بمظاهر الحياة، وكانت تحدث في ذهن مستعملها صورة تحصل بلا عناء وترتسم بغير جهد. ولكنها الآن قد امتد بها العمر إلى زمان آخر مختلف جدا ولم تبق لها تلك الصلة القديمة بحياة العصر ولسنا نحس حين نستعملها أنها ترسم لنا صورة ما.
وسألت نفسي: (وهل ثم ضرر من استعمال هذه القوالب المورثة؟) وهززت كتفي ومططت بوزي - فعل المتردد الذي يحاول أن يهتدي أو أن يتقي التورط في رأي يجزم به. وبدا لي - وأنا أفكر في هذا السؤال - أن الضرر لا يجئ من استعمال هذه القوالب، بل من الاقتصار على استعمالها، أي دون العناية بجعل لغتنا صورة لحياتنا. وأحسب أن لابد من اتخاذ هذه القوالب إلى حد ما. وكل لغة قديمة - ولاسيما إذا كانت قد ركدت زمنا ما - تصبح عبارة عن مجموعة من القوالب، ولكن اللغة الحية لا تزال تتسع بما يدخل فيها ويضاف إليها من العصور التي تتعاقب عليها. وحياة اللغة مستفادة من حياة أهلها ولا ذنب لها إذا جمدت وإنما يكون الذنب لهم: فإذا رأيت أناسا من أبناء عصر حديث له مظاهر حياة جديدة يكتبون بلغة قديمة في قوالبها - أي كالتي كان يكتب بها من سبقوهم بعشرة قرون أو عشرين قرنا بلا اختلاف ومن غير أن يحدثوا فيها جديدا يدل على أنهم تأثروا بعصرهم - إذا رأيت ذلك فاعلم أن هؤلاء أناس متخلفون وأنهم أشبه بالآثار الباقية منهم بالأحياء، وأن الأدب واللغة لا يكسبان شيئا بهم سوى زيادة الجمود إذا كان هذا مكسبا.(318/1)
وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وأن الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والاحساسات إلى آخر ذلك - إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثارا من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر.
وقد يكون العصر الماضي جميلا ولعل كل ما فيه كان حميدا ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟. . وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟
ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالاً لا يخلو من غرابة (أتراني أشبه أبي؟) وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي!. ما هذه السخافة؟. . وكيف أستطيع أن لا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق؛ وإنما أعني هل أنا أحور شيئاً فشيئاً حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها (أين صورة الوالد المحترم؟) فقالت: (إيه؟. . الوالد المحترم؟. . أي والد؟).
فقلت وأنا أضحك: (وهل لي غير والد واحد؟. إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعاً) فقالت: (لا تمزح هذا المزح. . . عيب. . . وإنك(318/2)
لتعرف أني أسألك عمن تعني - والدك أم والدي؟) فقلت: (كلا. لا حاجة لي بأبيك. . . ولا بأبي أيضاً في الحقيقة، ولكني أريد أن أراجع صورته أو على الأصح أن تراجعيها أنت) فجاءت بالصورة وهي غير فاهمة، فقلت: (تأمليها وتأمليني. إنهما منظران ليس فيهما سرور لأحد، ولكن تجلدي. . . فهل ترينني مثله؟. . هل لو لبست مثل هذه السترة الاستامبولية، وهذا الطربوش الطري، وتركت شاربي ينبتان، ويطولان، ويتهدلان، ودخلت عليك في ضؤ خافت، تظنينني أبي، نفض عنه كفنه وخرج من قبره، أو تحسبينني على الأقل عفريته؟).
فقالت: (لا أدري لماذا هذه المقارنة ولكني أقول إن فيك منه مشابهة. . . كثيرة. . . ولكنك مختلف. . حتى النظرة مختلفة. . . نظرته نظرة رجل حليم كريم وديع أما أنت. . .) فصحت بها: (احترسي!. . ليست هذه فرصة لبسط لسانك الطويل فيّ. . .) فقالت: (لا. . . ولكن الحقيقة أن نظرتك مختلفة. . . فيها شئ آخر. . . الشبه موجود ولاشك، والذي يراكما يعرف، وان كان لا يعرفكما، انه لابد أن يكون أخاً أكبر، أو أباً أو جداً، على التحقيق. . . ولكن هناك اختلافاً لا أدري كيف أصفه) قلت: (لا تتعبي نفسك. . . يكفي أني مختلف. . . ولو كان حيا لاستطعت أن أتبين في أي شئ من الحقائق المطوية تختلف، ولكنه تَسرَّع. . . على كل حال أحمد الله. . . لقد كنت أخاف. . . كيف أقول؟ أخاف أن أظل أرتد وأرتد، حتى أصير مثله تماماً بلا فرق) فسألتني: (ولماذا تخاف هذا؟) قلت: (لو حدث هذا لأصبحت صورة مكررة. . . نسخة معادة. . . طبعة ثانية لا تختلف عن الأولى إلا في زمن الصدور. . . أي زيادة لا داعي لها ولا مزية. . . ولكان وجودي تكلفاً لا مسوغ له، وإسرافاً غير جائز، وعناء باطلاً لا جدوى منه. . . وسبحان ربي عن ذلك. . . وكنت أخاف شيئاً آخر. . . أن يضطرني ما يحوجني إلى العجلة إلى ترك أسلوبي الكتابي يفسد وينحط بأن يفقد صلته بالحياة وبأن يصبح عبارة عن قوالب قديمة مرصوصة فأكون كالمقاول الجاهل الذي لا يعرف غير طراز واحد من هندسة البناء. . . أتعرفين أن عندنا في مصر (مقاولين) أخصائيين في بناء المقابر؟ لو تركت أسلوبي يفسد بالإهمال والكسل لأصبحت كهذا الذي لا يبني إلا القبور وما إليها. . . ولكني تنبهت والحمد لله فسأكون من هذا بعد اليوم على حذر. . . ولو اتسع وقتي لراجعت ما كتبت أو كتبته من جديد، ولكن ما(318/3)
فات مات، والعبرة بما هو آت، وعليك يا امرأة أن تجدديني، أو على الأقل أن تحثيني على التجدد، كلما رأيتني أهم بأن أجمد وأركد، وهذا خير ما تستطيعين أن تفعلي، إذا كنت تستطيعين شيئاً).
إبراهيم عبد القادر المازني(318/4)
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة
وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
يثير الدكتور طه حسين (في كتابه مستقبل الثقافة في مصر) مسألة (اللاتينية واليونانية) بشكل يستلفت الأنظار ويستدعي الاهتمام:
يستهل كلامه الطويل عن هذه المسألة (ص285 - 302) بقوله: (إن وزارة المعارف لا تريد أن تقف عندها ولا أن تفكر فيها، لأنها غريبة بالقياس إليها، بل هي غريبة شاذة بالقياس إلى الكثرة العظمى من المثقفين المصريين، مع أنها في نفسها، من أوضح المسائل وأجلاها. . .).
ثم يستعرض الأدوار التي مرت على هذه المسألة في مصر، ويشرح بإيجاز كيف (أن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا كان قد شعر بخطر هذه المسألة وهم بحلها) عندما كان وزيراً للمعارف. فقد بدأ بإدخال اللاتينية واليونانية في بعض المدارس الثانوية، وأقر تعليم هاتين اللغتين في الجامعة - بالقياس إلى كليتي الآداب والحقوق - غير أنه لم يمض زمن طويل على ذلك، حتى ألغيت اللاتينية واليونانية من المدارس الثانوية، وقام (صراع عنيف حول إقرار اللاتينية بالقياس إلى كلية الحقوق، وانتهى هذا الصراع بانتصار خصوم اللاتينية. . .).
يصف الدكتور طه حسين (الحالة الحاضرة) التي نجمت عن ذلك بأشد أوصاف اللوم وأعنفها، فيبذل في حديثه كلمات (المضحك، المخجل، المخزي. . .) ويوصل الأمر إلى درجة استعمال ألذع التعبيرات وأقرصها، من (الرضاء بالهوان) إلى (الاستخدام أمام الأوربيين) و (الاطمئنان إلى الخزي المبين). . .
وذلك لأنه يعتقد بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة العالمية، ويعبر عن اعتقاده هذا بكلمات باتة:
(أنا مؤمن اشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن(318/5)
تفلح في تدبير مرافقها الثقافية الهامة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شئ (ص 281).
لأن (اللاتينية واليونانية أساس من أسس العلم والتخصص) (ص 285) فيجب أن تفرضا على (كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه) (ص 276) و (لأن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها والاستغناء عنها. . .) (ص 292).
ولهذا السبب، يوجه الدكتور إلى معارضيه السؤال التالي، ويجيب عليه بالملاحظات التي تليه:
(والسؤال الذي يجب أن نلقيه وان نجيب عنه في صراحة وإخلاص وفي وضوح وجلاء هو هذا السؤال: أنريد أن ننشئ في مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها في البيئات العلمية في أي بلد من البلاد الأوربية الراقية أو المتوسطة أم لا نريد؟ فإن كانت الثانية فقد خسرت القضية، وليست مصر في حاجة إلى يونانية ولا إلى لاتينية، وليست مصر في حاجة إلى الجامعة وإلى كلياتها بل حسها أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال، وان تسير سيرة المستعمرات وتكتفي ببعض المدارس العالية لتخريج من تحتاج إليهم من الموظفين. وإن كانت الأولى فقد ربحت القضية، ولا بد من العناية بهاتين اللغتين لا في الجامعة وحدها، بل في المدارس العامة أيضا (288).
يظهر من هذه العبارات أن الدكتور يعتبر هاتين اللغتين من لوازم الجامعة الأساسية، ويدعي أن عدم العناية بهما لا يختلف كثيراً عن طلب إلغاء الجامعة نفسها، ويرى بأن ذلك لا يجوز إلا إذا طُلب من مصر أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال وأن تسير سيرة المستعمرات. . .
وقد يخطر على بال القارئ أن يسأل مستغرباً: إذا كانت المسألة بهذه الدرجة من الوضوح والجلاء فكيف وجدت هذه المقاومة وهذا الازورار في دوائر المعارف ومحافل المثقفين؟ إن الدكتور يبدي هذا الاستغراب فيقول: (ومن اغرب الأشياء في نفسي وأبعدها عن فهمي ألا يفطن لها ولا يهتدي إليها الذين ينهضون بشئون مصر ويقومون على تدبير الأمور فيها، والذين يشرفون على التعليم فيها بنوع خاص. . .) (ص 281).(318/6)
يبحث الدكتور - مع هذا - عن أسباب هذه المقاومة عدة مرات، فيعزوها مرة إلى عوامل عرضية مثل استياء الإنكليز من انتخاب معلمي هاتين اللغتين من الفرنسيين والبلجيكيين (ص 275)، أو كيد أستاذ من أساتذة كلية الحقوق للعميد الأول لكلية الآداب الحكومية (ص279)، غير انه يعزوها في المرة الثانية إلى عوامل أساسية تتلخص - من حيث الأساس - في نقص (ثقافة القائمين بشئون التعليم في مصر) (ص281).
يقول المؤلف في هذا الصدد: (وأكبر الظن أن مصدر هذا إنما هو أن الجيل الحاكم والمرتقي إلى الحكم لا يتقن العلم بالشئون الثقافية في أوربا ولا يكاد يعرف منها إلا ظواهرها، وظواهرها الغريبة اليسيرة التي لا يحتاج فهمها ولا العلم بها إلى جهد ولا عناء) (ص 281).
إذ أن (منهم من تعلم في المدارس المصرية وانتهى إلى غاية التعليم العالي المصري أيام الاحتلال، ثم وقف عند ذلك ولم يتجاوزه فلم يعرف من حقيقة التعليم شيئاً أو لم يكد يعرف منه شيئاً. .) (ص 281) ومنهم (من اتصل بالجامعات الأوربية قبل أن يتم التعليم العالي في مصر أو بعد أن أتمه فدرس فيها وظفر ببعض إجازاتها، ولكنه درس فيها عجلاً وظفر بأيسر إجازاتها وأهونها وانتفع في هذا كله بنظام المبادلات التي تقره الجامعات الأوربية لتيسر على الأجانب الاختلاف إليها وترغبهم في الاتصال بها. . .) (ص 282)، ولذلك عاد من أوربا دون أن يعرف (من الحياة العقلية الأوربية إلا ظواهرها وأشكالها. . .) (ص283).
وإن (بين الذين ذهبوا إلى أوربا وعادوا منها وبين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بأوربا بعض الاتصال، من ألمّ إلماماً يسيرا بل إلماماً ناقصا مشوها بهذه الخصومة التي قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى حول تعليم اللاتينية واليونانية. . .) (284) (إنهم فهموا هذه الخصومة على غير وجهها الصحيح، وظنوا أن التجديد يقتضي بغض هذه الأشياء القديمة). . . (ولم يخطر لهم أن يتعمقوا هذه الخصومة ولا أن يتبينوا موضوعها وغاياتها. . .) (ص 285).
إن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر نشأت من هذا النقص الأساسي. فلو(318/7)
خطر لهؤلاء أن يتعمقوا هذه الخصومة لعرفوا أن موضوعها (لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة، وإنما كان ضرورة فرضهما على جميع التلاميذ الذين يختلفون إلى المدارس الثانوية ويتصلون بالتعليم العالي على اختلاف فروعه وألوانه لا سيما بعد أن انتشر التعليم وطمعت فيه الطبقات كلها طبقات الأغنياء والفقراء وأوساط الناس. .) (ص 285).
يحاول الدكتور أن يصحح مزاعم هؤلاء فيؤكد أن (موضوع الخصومة كان في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعا للعلم والتخصص ليصبحوا جميعاً قادة للرأي ومديرين للأمور العامة، أم يجب أن يتهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص، وأن يتهيأ أكثرهم للحياة العاملة التي تيسر لهم الاضطراب في طلب الرزق وكسب القوت؟ فإن تكن الأولى فلا بد من اللاتينية واليونانية لأنهما أساس من أسس العلم والتخصص؛ وإن تكن الثانية فكثرة الناس محتاجة إلى التعليم الفني من جهة، وإلى التعليم العام الحديث الذي يعرض عن اللاتينية واليونانية إلى اللغات الحية والعلوم التجريبية، بشرط أن تظل اللاتينية واليونانية مفروضتين على كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه. . .) (ص285 - 286).
مع هذا، يلاحظ الدكتور طه حسين - في محل آخر من كلامه - أن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر، لا تنحصر في دوائر المعارف، بل تشمل معاشر المثقفين بأجمعها. . إنه يلاحظ ذلك أيضا، ويعلله (بالعادة لا أكثر ولا أقل) إذ يقول: (انهم لم يتعلموا اللاتينية واليونانية، ولم يسمعوا بهما أثناء اختلافهم إلى المدارس العامة؛ وقد رأوا مصر تعيش عيشتها الحديثة من غير هاتين اللغتين، فلم يترددوا فيما انتهوا إليه من الاقتناع بأن تعليم هاتين اللغتين تزيُّد لا حاجة إليه ولغو لا خير فيه. . .) (ص291).
وبعد ذلك، يكرر المؤلف دعوته إلى العناية بهاتين اللغتين اعتبارا من الدراسة الثانوية؛ فيقترح تنويع التعليم الثانوي إلى ثلاثة أنواع، على أن يستند النوع الواحد منها إلى تعليم اللغات القديمة. يفرض فيه (على الطالب درس اللاتينية ولغة أجنبية حية، ويترك له الخيار بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) ويحتم الانتساب إلى هذا الفرع على (كل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الأدبية المختلفة) بما فيها الفلسفة والتاريخ(318/8)
والجغرافيا. . . (ص301).
لا يجهل المؤلف المقاومة التي ستلقاها فكرته هذه من مختلف المحافل والبيئات فيقول: (أنا أسمع في أثناء إملائي هذه الكلمات صياح الصائحين وأحس هياج الهائجين، وأشعر بما سيثور من سخط، ولكني مع ذلك مقتنع بما أقول، مذعن بصواب ما أدعو إليه، ملح في هذه الدعوة، غير حافل بالرضا ولا بالسخط، ولا مُعنى إلا بما أعتقد أنه يحقق المنفعة الثقافية للمصريين. . .) (ص300).
إن هذه الاقتباسات التفصيلية، التي لخصت فيها آراء الدكتور طه حسين - دون أن أبدي شيئا من موافقتي لها أو اعتراضي عليها - تبين بكل وضوح وجلاء أن مسألة (اللاتينية واليونانية في مصر) تطورات تطورا غريبا ووصلت إلى طور حاد يحتاج إلى قرار حاسم.
هذه المسألة لم توضع على بساط البحث في محافل المعارف والتربية في سائر الأقطار العربية؛ غير أن إثارتها ومناقشتها في مصر بهذه الصورة مما يجب أن يحمل المحافل المذكورة أيضا على التفكير في أمرها، لتكوين رأي صريح فيها، واتخاذ قرار معقول في شأنها. . .
ولهذا السبب، رأيت من واجبي أن أتدخل في هذا البحث الذي يثيره الدكتور في كتابه، وأبدى ما لديّ من الملاحظات حول هذه المسألة. . .
إنني أعتقد أن الطريقة المثلى لحل أمثال هذه المسائل هي:
أولا: درسها من وجوهها الأوربية البحتة درسا صحيحا مجردا عن كل فكرة قبلية مع ملاحظة العوامل التاريخية التي أثرت عليها في الماضي والمذاهب الفكرية التي تحوم حولها في الحاضر. . وبعد ذلك الإقدام على التفكير في المسألة من وجهة أحوال بلادنا وحاجات أمتنا، مع الاستنارة بالاختبارات التي تكونت والآراء التي تبلورت حولها في أوربا.
وإني عملاً بما تقتضيه هذه الطريقة أبدأ بحثي بإلقاء نظرة إجمالية على تاريخ مسألة تعليم اللاتينية واليونانية في البلاد الغربية فأقول:
من المعلوم أن اللغة اللاتينية كانت لغة روما في القرون الأولى غير أنها صارت بعد ذلك(318/9)
لغة الطبقة المديرة والمستنيرة في جميع أنحاء أوربا الغربية عند ما دخلت تحت حكم روما، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في تلك البلاد عندما اعتنقت الديانة المسيحية؛ وأخيرا صارت من دعائم الكنيسة الكاثوليكية عندما تكونت الكنيسة المذكورة وأخذت تبسط سلطتها على جميع الدول والدويلات التي تدين بها. فقد تبنَّت الكنيسة اللغة اللاتينية واتخذتها واسطة لضمان وحدتها، ولذلك عملت على نشرها في جميع البلاد التي دخلت تحت حوزتها، حتى بعد تضاؤل سلطة الإمبراطورية الرومانية وزوالها بصورة نهائية. . .
وأما اليونانية فقد حافظت على كيانها في معظم البلاد التي انتشرت فيها بالرغم من استيلاء الرومان عليها، كما أنها أصبحت لغة الدولة بعد انفصال الشرق عن الغرب، وتكوّن الإمبراطورية الشرقية مستقلة عن إمبراطورية روما الغربية، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في العالم الأرثوذكسي عندما اعتنقت الإمبراطورية المذكورة الديانة المسيحية. . .
بهذه الصورة تقاسمت اللغتان اللاتينية واليونانية السيطرة على الحياة الدينية في أوربا المسيحية، فأصبحت الطقوس والصلوات المسيحية تحت احتكار اللاتينية في أوربا الغربية في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، وتحت احتكار اليونانية في أوربا الشرقية - في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الأرثوذكسي - واستمر الحال على هذا المنوال طوال القرون الوسطى حتى حلول عصر النهضة وظهور البروتستانتية. . .
وأما الحياة الأدبية العلمية، في القرون الوسطى، فمن المعلوم أنها لم تجد من يزاولها ويهتم بها إلا من بين رجال الدين؛ فعاشت وترعرعت تحت ظلال الكنائس وفي أروقة الأديرة وارتبطت لذلك - هي أيضا - باللغة اللاتينية. فأصبحت هذه اللغة لغة العلم والأدب في جميع بلاد الغرب علاوة على كونها لغة الدين والصلاة. . .
من المعلوم أن اللاتينية تغلغلت في بعض البلاد الغربية بين جميع طبقات الناس، فأصبحت لغة العوام، وأخذت تتطور من جراء ذلك بصورة تدريجية إلى أن ولدت اللغات التي عرفت فيما بعد بالإيطالية، والفرنسية، والإسبانية، والرومانية. مع هذا ظلت اللاتينية الأصلية لغة الدين والصلاة، ولغة العلم والأدب، حتى في تلك البلاد، وحتى بعد تكون اللغات المذكورة واستقلالها عن دوحتها الأصلية.
إن الجامعات الأوربية والمعاهد التعليمية التابعة لها، أخذت تتأسس - في القرون الوسطى(318/10)
- في دور سيطرة اللاتينية على الحياة الفكرية والدينية سيطرة تامة، ولذلك اعتمدت على اللاتينية كلغة تعليم في جميع فروعها.
في الواقع كانت الجامعات المذكورة أدخلت في مناهجها مدة من الزمن تعليم اللغات العربية والعبرية واليونانية أيضاً. . . العربية لكونها مصدر العلوم في تلك القرون، والعبرية لكونها لغة الكتاب المقدس القديم، واليونانية لكونها لغة الأناجيل الأصلية. . . غير أن العربية والعبرية خرجتا بعد مدة من ميدان مشاركة اللاتينية في التعليم؛ وظلت اليونانية اللغة الوحيدة التي تساعد اللاتينية في مهمتها العلمية والتعليمية؛ وقد رسخت قدماها في هذا الميدان - بمرور الزمن، ولا سيما بعد أن بدأ الاهتمام بخزائنها العلمية والأدبية.
إن معاهد التعليم الثانوي التي تأسست لتهيئة الطلاب للجامعات تأثرت بهذه الحالة العامة، فاعتبرت اللاتينية أساس كل شئ، ولم تشرك بها لغة غير اليونانية في بادئ الأمر.
إن تاريخ التعليم في فرنسا يقدم تفاصيل وافية عن أحوال تلك المدارس ومناهجها الدراسية وتعليماتها الإدارية. ونفهم من تلك التفاصيل أن المدارس الثانوية في القرن السادس عشر كانت بمثابة مدارس لاتينية بكل معنى الكلمة: لا يدرس في سنتيها الأوليين شئ غير اللاتينية؛ ثم يضاف إليها في السنة الثالثة مبادئ اللغة اليونانية، وفي السنة الأخيرة بعض المسائل الرياضية. وأما اللغة الفرنسية أو العلوم الأخرى، فلم تشغل أي حيز كان في مناهج الدراسة، حتى إن التكلم باللغة المذكورة كان يعتبر من الأمور الممنوعة على المعلمين والطلاب في خلال الدرس أو بعد الدرس، في داخل الصف أو في خارج الصف. . . وهذا المنع كان مؤيداً بعقوبات عديدة وشديدة. . .
(يتبع)
أبو خلدون(318/11)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
كتب إلينا أحد القراء يرجونا أن نترك السخرية من الأستاذ أحمد أمين ونكتفي في الرد بشرح ما خفي عليه من الحقائق الأدبية، ويستكثر أن نقول في السخرية من هذا الصديق:
(إن الأستاذ أحمد أمين لن يفهم الفروق بين دقائق المعاني إلا يوم يعرف أن الأدب لا يكال بمكيال).
ولكن ما الذي نصنع والأستاذ أحمد أمين هو نفسه الذي يثير غضبنا عليه؟
ألم يحكم بأن الشعر العربي في جميع عصوره تشابه بحيث لا يمكن تمييز شاعر من شاعر إلا بعد قراءة ترجمته؟ (ولو تأمل لعرف أن أشعار الشعراء أدل على أصحابها من الترجمات). وهل يقع هذا الحكم من رجل إلا وهو يعتقد أن الأدب يكال بمكيال؟
إنكم نسيتم أن أحمد أمين أستاذ بكلية الآداب، وهي في الصدر بين معاهدنا العالية، وأساتذة كلية الآداب لا يجوز عليهم الظن بأن الشعر العربي تشابه في مختلف عصوره وأقطاره تشابهاً يقضى بألا نستطيع التمييز بين ديوان إلا بعد مراجعة تراجم الشعراء.
وعند من نرجو تمييز العصور بعضها من بعض إذا خفي ذلك على أساتذة كلية الآداب؟
وقد حدثتكم من قبل أن حكم الأستاذ أحمد أمين في هذه القضية محال في محال، فما يجوز أبداً أن يخفى على الناقد أن هناك فروقاً كثيرة جداً بين العصور الأدبية؛ ولو شئت لقلت إن الشاعرين قد يعيشان في عصر واحد، ومع ذلك يختلفان اشد الاختلاف في طرائق التعبير وفي عرض المعاني. وهل يتشابه شعر مسلم بن الوليد وشعر أبي نواس وهما متعاصران؟ هل يتشابه شعر أبي العتاهية وشعر العباس بن الأحنف وقد نشئا في عصر واحد؟ هل يتشابه شعر أبي تمام وشعر البحتري وهما من عصر واحد ومن قبيلة واحدة؟ وهل يتشابه شعر الرضى وشعر مهيار وهما متعاصران وكان بينهما من الصلات ما بين الأستاذ والتلميذ؟
ومنذ عشرين سنة كان في مصر ثلاثة من الشعراء قد ائتلفوا في المشارب والأذواق اشد الائتلاف حتى صح لبعض النقاد أن يسميهم (الثالوث) وهم إبراهيم المازني وعباس العقاد(318/12)
وعبد الرحمن شكري، وكانوا قد كوّنوا جبهة أدبية لنشر لواء الأدب الحديث، فهل يصح لناقد أن يتوهم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة تشابهوا في الأغراض وفي تأدية المعاني؟
وكان حافظ وشوقي وصبري ومطران وعبد المطلب متعاصرين فهل تشابهوا في الخصائص الشعرية؟
وما يقال في الشعر يقال في النثر، فما يجوز لناقد أن يتوهم أن الصاحب وابن العميد والتوحيدي يكتبون بأسلوب واحد مع أنهم متعاصرون.
وما يجوز أن يقال إن المويلحي الصغير يشابه المويلحي الكبير في ألفاظه ومعانيه مع أن الأول ابنٌ للثاني وعنه اخذ، وبأدبه تثقف، وأفاد من صحبته ورعايته ما أفاد.
وكان علي يوسف ومحمد عبده وفتحي زغلول ومصطفى كامل متعاصرين، فهل يمكن القول بأنهم متشابهون في الخصائص النثرية؟
وكان محمد الخضري ومحمد المهدي قد تخرجا في معهد واحد وصارا في التدريس زميلين في مدرسة القضاء الشرعي وفي الجامعة المصرية، أفيجوز أن يقال إنهما في التدريس وفي الإنشاء متماثلان؟
وفي عصرنا كاتبان يحتفلان بالأسلوب اشد الاحتفال وهما: البشرى والزيات، فهل هما متشابهان؟ وقد تأثر عباس حافظ بالسباعي فهل هو صورة من السباعي؟ هيهات، فلكل منهما أسلوب خاص.
والأمر كذلك في سائر الفنون: فقد كان محمد عبد الوهاب من تلاميذ سيد درويش، وهما مع ذلك متباعدان اشد التباعد في الاتجاهات الموسيقية والغنائية.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن شعراء العرب على اختلاف عصورهم وأقطارهم قد تشابهوا بحيث لا يمكن تمييز بعضهم من بعض إلا بعد الاطلاع على كتب التراجم؟
إن هذا لا يقع إلا من ناقد يتوهم أن الأدب يكال بمكيال ولو كان أستاذا في كلية الآداب.
لو كان أحمد أمين قد عكف على دراسة الأدب منذ فجر حياته العلمية لعرف أن الناقد البصير يدرك جيداً أن الشاعر الواحد له في حياته الشعرية أساليب مختلفات.
ألم تسمعوا أن ديوان ابن الفارض يشتمل على فنون من التعابير ومن الأغراض بحيث(318/13)
يصح أن يقال هذا شعر الكهولة وذاك شعر الشباب؟
ألم تسمعوا أن بغداد نقلت شعر ابن الجهم من حال إلى أحوال؟
ألم تسمعوا أن أشعار المتنبي في مصر لها ألوان تخالف ألوان شعره في الشام والعراق؟
إن صديقنا أحمد أمين يتوهم أن وحدة القوافي والأوزان توجب وحدة المعاني والأغراض، فهو لذلك يعتقد أن ديوان ابن خفاجة صورة من ديوان ابن زيدون، ويؤمن بأن شعراء مصر لم يكونوا إلا صورة من شعراء العراق.
ومثله في ذلك مثل من يظن أن الناس خلقوا جميعاً على طراز واحد لأنهم جميعاً لهم وجوه فيها أنوف وجباه وأفواه وعيون، وآذان. وهذا والله حق: فكل إنسان له عينان وشفتان وأذنان، وهو يمشي على اثنتين لا على أربع، ولكن هل يمكن القول بأن بنى آدم مع هذا التشابه خلقوا على طراز واحد؟
كيف يجوز هذا القول والتوأمان قد يختلفان اختلافاً بيناً في معارف الوجوه وفي خصائص الذاتية وفي فهم الأشياء؟
ما كنت أظن أني سأجتاح إلى توضيح الواضحات في الرد على الأستاذ أحمد أمين، ولكنه قهرني على سلوك هذا المسلك الشائك لأدفع أوهامه عن أذهان القراء وفيهم من يظن أنه أبعد نظراً من حزام حين يقول في أدب المعدة وأدب الروح ما يقول.
المهم أن يعرف القراء أننا لا نتجنى على الأستاذ أحمد أمين، وإنما نريد أن يفهموا أن للحقائق الأدبية وجوهاً مختلفة يدركها حق الإدراك من ينظر إليها نظر الفهم والاستقراء. أما الذين يواجهون الأدب بلا تأمل ولا تثبت فقد يخفى عليهم الدقائق الفنية ولا يظهر لأعينهم غير ما يحبون أن يدنوه من الهنوات ليقال إنهم مصلحون لا يهمهم غير التنبيه على العيوب.
وما نقول بأن الأدب العربي كان في جميع أطواره منزها عن الضعف، وإنما ننكر أن ينظر الرجل إلى الأدب العربي نظرة الاستخفاف ليهون من شأنه بلا بينة ولا برهان.
وفي أي عصر يستبيح بعض الناس هذه الألاعيب؟
في العصر الذي يريد فيه العرب أن يستوثقوا من أن لهم ذاتية أدبية ليقاوموا طغيان الآداب الأجنبية، وليقيموا مجدهم الأدبي على أصول ثوابت من عظمة أسلافهم في التاريخ.(318/14)
ولو أن الكلام الذي قاله الأستاذ أحمد أمين وقع من رجل غيره لقلنا انه يشايع أعداء العروبة والإسلام، ولكن الأستاذ أحمد أمين بالتأكيد سليم الضمير من هذه الناحية، فهو لم يخطئ عن عمد، معاذ الله، وإنما أخطأ عن جهل، فكان تنبيهه من أوجب الواجبات. ولعله يراجع نفسه فيعرف أننا لم نقدّم إليه غير الجميل.
وهل نحتاج إلى إقامة الدليل على حسن النية فيما صنعنا مع هذا الصديق؟
لقد كان ناس يتوهمون أننا حاربنا الدكتور طه حسين لأغراض شخصية، وكان الدكتور طه يلوذ بظل هذا التوهم فلم ينبر للرد علينا غير ثلاث مرات، أو أربع مرات، بأسلوب واضح صريح؛ ثم شاء له الحذر والاحتراس أن يوهم قراءه وسامعيه بأننا نحاربه لغرض خاص وأنه يرى من العقل ألاَّ يقدم الوقود للأغراض الشخصية. ثم دارت الأيام واعترف الدكتور طه علانية أمام جمهور من أقطاب الرجال بأن زكي مبارك من أصحاب العقائد في حياته الأدبية ويجب أن ينظر المنصف إلى مصاولاته في النقد الأدبي بعين الرفق والعطف.
فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يهرب من الرد علينا بحجة أننا نشتمه ونؤذيه بلا سبب معقول، ثم يكتفي بأن يوجه إلينا أبياتاً فيها لوثة جاهلية لا تصدر عن رجل في مثل آدابه العالية، وهو يعرف في سريرة قلبه أننا أصدقاء منذ عهد بعيد، ويعرف أني احفظ له من الود ما لا يحفظه إلا الأقلون؟
وكيف جاز له أن يظن أني تآمرت مع صاحب (الرسالة) عليه، مع أن مقالاتي في الرسالة قد تنتهي بخصومة بيني وبين الزيات، لان الزيات سامحه الله قد حذف من مقالاتي فقرات كثيرة رعاية لصديقه العزيز أحمد أمين؟
أتريدون الحق أيها القراء؟
الحق أني أعيش في غربة موحشة بين إخوان هذا الزمان فالأستاذ أحمد أمين كان ينتظر أن أمتشق قلمي لتزكية أحكامه الخواطئ على الأدب العربي، والأستاذ الزيات كان ينتظر أن أرد على أحمد أمين بأسلوب رقيق شفاف يحاكي نسائم الأصائل والعشيات على ضفاف النيل!
فكيف غاب عن هذين الصديقين أني رجل له غضبات؟
كيف غاب عن هذين الصديقين أن الأدب العربي وصل إلى دمي وروحي وأني أزدري من(318/15)
يستهينون به أشد الازدراء؟
إن الأدب العربي هو الصورة الناطقة من ماضي الأمة العربية وهو في الواقع أدب أصيل لا يستهين به إلا حاقد أو جهول، وهو كذلك صورة من العِرض المصون في عهود التاريخ، فكيف يجوز أن نسامح من يفترون عليه أقبح الافتراء ولو كانوا من كرام الأصدقاء؟
الله يشهد أني متوجع لما صنعت بالأستاذ أحمد أمين، وهو رجل له ماضٍ في خدمة الدراسات الإسلامية، وله مواقف في مؤازرتي سأذكرها وإن طال الزمان؛ ولكنه في الأعوام الأخيرة أصيب بمرض عضال هو السخرية من ماضي الأمة العربية، وأُغرم بضرب من الحذلقة لا يقره عليه غير الأصحاب المتلطفين الذين لا يهمهم غير الاقتراب من روحه اللطيف!
والأدب القديم الذي يتنكر له أحمد أمين هو نفسه الأدب الذي لم يستنصر بغيره حين جاز له أن يشتمنا وهو ظلوم.
الأدب القديم يقول: (أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك) فإن توجع هذا الصديق مما أسلفنا في الهجوم عليه فمن واجبه أن يذكر أننا أدينا لمصر خدمة عظيمة حين واجهناه بالملام، فقد كان من المنتظر أن يشرب الكأس المرة من النقاد في الشام ولبنان والحجاز والعراق واليمن وتونس والجزائر ومراكش، وما إلى هؤلاء من الأقطار التي تساير الآداب العربية.
قد يقول قائل: وما معنى هذا الكلام؟ أيكون معناه أني أشفق على الأستاذ أحمد أمين بعد أن أصليته نار العذاب؟
هو ذلك، فما كان أحمد أمين إلا نباتاً مصرياً وإن عرّض مصر لأشنع ضروب المهلكات.
أحمد أمين رجل فاضل وإن تردى في هاوية العماية والجهل حين حكم بأن أدباء العرب كانوا أصحاب معدات لا أصحاب أرواح.
وما كان لي أن أطيل في شرح هذه المعاني لولا أن عرفت أن رجالا لهم أقدار عالية دعوني إلى مسالمة هذا الصديق.
فليعرفوا - غير مأمورين - أني لا أهجم عليه إلا ابتغاء وجه الحق، ولن أتركه في أمان حتى يعرف أن الأدب العربي أقوى وأعظم من أن يتعرض له باحث بسخرية واستخفاف،(318/16)
وسوف يرى عواقب ما يصنع إن تغطرس واستطال.
أما بعد فقد كان موضوع هذا المقال هو النص على خطأ هذا الصديق في السخرية من الأدب الأندلسي.
فهل اتفق لهذا الصديق أن يدرس أدب العرب في الأندلس؟
إني لا أزال أذكر كيف أحرجني تلاميذي بدار المعلمين العالية في بغداد، فقد حدثتهم مرة عن قيمة أحمد أمين فانبرى أحدهم يقول: إن أحمد أمين من ذيول المستشرقين. فقلت: وكيف كان ذلك؟ فقدموا إليَّ مقدمة الجزء الثالث من كتاب ضحى الإسلام وفيها يصرح المؤلف بأن تصميم الكتاب كان يوجب أن يكون له جزء رابع خاص بالأندلس، ولكن أحد المستشرقين نبهه إلى أن الأندلس في ذلك العهد لم تكن فيه حياة عقلية تستوجب أن يفرد لها جزء من كتاب، فانصرف عن تأليف ذلك الجزء المنشود!
وفي مساء ذلك اليوم كان عندنا العشماوي بك والدمرداش محمد، ودار الحديث حول المؤلفين المصريين فانبرى الأستاذ الدمرداش يثني على الأستاذ أحمد أمين فقلت: ولكن أحمد أمين صرح في مقدمة الجزء الثالث من ضحى الإسلام بكيت وكيت، فقال: هذا مستحيل، هذا مستحيل. ولولا حضور العشماوي بك لثارت معركة بيني وبين الأستاذ الدمرداش!
والحق كل الحق أن الأستاذ أحمد أمين لا يعرف الأندلس إلا معرفة سطحية. وآية ذلك أن الأدب الأندلسي لم يدرس في كلية الآداب منذ عشر سنين.
فهل نستطيع مرة ثانية أن نتلطف فندعو الأستاذ شفيق غربال إلى إنشاء كرسي للأدب الأندلسي في كلية الآداب؟
قد يعتذر العميد الجديد بأن الدكتور طه حسين صرح مرة بأنه لا يجوز لأستاذ أن يتصدر لتدريس الأدب الأندلسي وهو لم يطلع على غير كتاب نفح الطيب.
ولكني أؤكد للأستاذ شفيق غربال بأن مصر لا تخلو من رجال درسوا الأندلس في المصادر العربية والمصادر الأجنبية، ولهم قدرة على تجلية ذلك الأدب بأسلوب رائع جذاب، وهو خليق بأن ينتفع بمواهبهم حين يشاء.
وبأي حق تكون كلية الآداب أعظم معهد أدبي في الشرق إذا عز عليها أن تحيط بتاريخ(318/17)
العرب في الأندلس من نواحيه الأدبية والفلسفية والتشريعية؟
وكيف يجوز أن يعجز علماء مصر عما قدر علية علماء الفرنسيين والإنجليز والأسبان؟
إن مصر هي بلا جدال أعظم الأمم الإسلامية والعربية في الشرق. فكيف تعجز عن درس تاريخ العرب والمسلمين في الغرب؟ وكيف يصح لأبنائها أن يكونوا عالة على المستشرقين في الشؤون العربية والإسلامية حتى يجوز لأحد أساتذة كلية الآداب ألا يتقدم في أبحاثه أو يتأخر إلا بعد أن يظفر من المستشرقين بإذن خاص؟
قد تقولون: وهل انحصرت التبعات العربية في كلية الآداب؟
وأجيب بأن كلية الآداب تأخذ من أموال الدولة أعظم مما تأخذ سائر المعاهد المشغولة بالدراسات الأدبية والفلسفية، فهي مسئولة عن درس فتوحات العرب والمسلمين في المشرق والمغرب، وإليها المرجع في توجيه الشبان إلى فهم ماضيهم المجيد في خدمة الحضارة والمدنية، وإقناعهم بأن أسلافهم سادوا العالم بضعة قرون، ولذلك تأثير كبير في خلق الجيل الجديد.
فهل يعترف بذلك صديقنا أحمد أمين؟
وهل تعترف به الجامعة المصرية؟
لقد قضيتَ نحو خمسة عشر عاماً وأنا أدعو إلى تدريس العلوم باللغة العربية في كليات الجامعة المصرية، فكان المتخلفون من أساتذة العلوم يعتلون بأن اللغة العربية تعوزها المصطلحات في كثير من الشئون، وظلوا على تهاونهم إلى أن كتب معالي الدكتور هيكل باشا إلى سعادة مدير الجامعة يقول: إنه لا يفهم كيف تعجز اللغة العربية عن تأدية المعاني العلمية. وكانت تلك الإشارة كافية لأن يعرف أساتذة الكليات أن تدريس العلوم باللغة العربية ليس بالمستحيل، وكانوا يرونه قبل ذلك أبعد من المستحيل!
لقد قضت الجامعة المصرية أعواماً طوالاً وهي تدرس العلوم باللغات الأجنبية، ولم تعرف وجه الحق في إعزاز اللغة القومية إلا بعد أن ينبهها وزير المعارف، أثابه الله وجزاه خير الجزاء!
فهل يعلم الذين قاوموا هذه الفكرة من قبل أن الجامعة العبرية بالقدس تدرس جميع العلوم باللغة العبرية مع أن لغة بني إسرائيل ليس لها ماض في خدمة العلوم، ومع أن النوابغ من(318/18)
اليهود كانوا يعبرون عن أغراضهم بلغات أجنبية، ولم يفكروا يوماً في خلق عصبية للغة العبرية قبل فكرة الصهيونية؟
اللغة العبرية تصلح لتدريس جميع العلوم وهي في فقر مُدقع؛ أما اللغة العربية فتعجز عن تدريس العلوم مع أنها كانت لغة دولية في مدة دامت نحو خمسة قرون، ومع أنها استطاعت أن تحفظ الذخائر مما خلّف الفرس واليونان!
صلحت اللغة العبرية لتدريس جميع العلوم لأن اليهود أرادوا أن يخلقوا لأنفسهم ذاتية قومية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد أما اللغة التي يتكلمها أقوام يشارفون مائة مليون والتي أمدت بحيويتها كثيرا من اللغات الشرقية، والتي تنزل في أنفس الملايين منزلة التقديس، والتي تحتل أقطاراٌ حملت أعباء المدنية في مختلف عهود التاريخ، والتي خُدِمتْ خدمة لم تظهر بمثلها لغة من لغات الغرب، والتي عجز الدهر عن تبديد ما تملك من ذخائر ونفائس، والتي سخّر الله لخدمتها مئات من الأجانب في الجامعات الأوربية والأمريكية.
هذه اللغة الفنية - لغة العرب - هي اللغة التي يقال إنها تعجز عن تأدية الأغراض العلمية، بفضل حذلقة السادة الأفاضل الذين يرون في تجريحها بابا من الشهرة والنباهة وبعد الصيت!
وأعيذ القارئ من الاستهانة بقيمة هذا الاستطراد: فهو متصل بدفع سخرية أحمد أمين من الأدب العربي، وإنما عبنا عليه تلك السخرية لأنها من الشواهد على أنه غير موصول الأواصر بذلك الأدب الرفيع. فلو أن أحمد أمين كان تذوق أدب العرب لأصبح مجنون ليلاه، ولكنه مر به مرور العابرين من أبناء السبيل، وقديماً قال الحكماء: (من جهل شيئا عاداه).
وهنا شبهة يجب تبديدها لينتهي أحمد أمين. فهذا الرجل يرد علينا قائلا: إن الأدب يخدم بالنقد أكثر مما يخدم بالتقريظ. وهذا حق، ولكن هل يدرك المراد من النقد؟
النقد هو في الأصل تمييز الزائف من الصحيح فيدخل فيه اللوم ويدخل فيه الثناء، ولكن أحمد أمين يتوهم أن النقد مقصور على التجريح، ويرى الكلمة الطيبة بابا من التقريظ، وهو عنده معيب. ونحن نقول بلا تردد إن الأدب العربي أدب أصيل والزائف منه لا يقام له وزن بجانب الصحيح، فكيف انحرف بصره عن المحاسن ولم يشهد غير العيوب؟(318/19)
وهل في الأدب حُسنٌ وقبح؟
الأدب جِدُّه جِدٌّ وهزله جُّد، ولا يعاب عليه إلا ما غلب عليه التكلف والافتعال، كالذي يقع من بعض الناس حين ينشئون مقالات لم تخفق لها قلوبهم، وإنما ينشئونها ليقال إنهم خالفوا الجمهور في كيت وكيت، أو ليجعلوها وسيلة لاجتلاب مقالات الكتاب بالمجان لتخفيف أعباءهم في تحرير الجرائد والمجلات.
ماذا أريد أن أقول؟
إن الترفق بالأستاذ أحمد أمين يصرفني عن كلمة الحق.
ولو رزقني الله الشجاعة لقلت إن هذا الرجل يتجنى على الأدب العربي لأنه لم يعرفه معرفة صحيحة، ولو قد عرفه حق معرفته لأدرك أنه خليق بأن تبذل في سبيله نفائس الأعمار من أحرار الرجال.
ولو أن أحمد أمين كان تذوق الأدب العربي لأيقن أنه خليق بأن يتعصب له الباحثون، ففي هذا الأدب نفائس تغفر له جميع الذنوب.
ما رأي أحمد أمين في كتاب (لسان العرب)؟ وما رأيه في كتاب (الأغاني)؟ وما رأيه في كتاب (نفح الطيب)؟ وما رأيه في كتاب (عيون الأخبار)؟ وما رأيه في كتاب (إحياء علوم الدين)؟
إن كتابا واحدا من هذه الكتب كاف لأن ينتهب حياة طيبة مثل حياة أحمد أمين، وهو خليق بأن يرفع رأس العرب بين سائر الممالك والشعوب.
وما رأي أحمد أمين في (ألفية أبن مالك) وهي من المنظومات النحوية والصرفية؟
هل خطر بباله أن هذه المنظومة شغلت مئات من العلماء؟
وهل مرّ في خاطره أنها تُرجمت إلى التركية منذ أمد بعيد؟
وهل يعرف كيف تترجم مثل هذه المنظومة إلى اللغة التركية؟
وهل يعرف من الذي قرظ ترجمتها من علماء الأزهر الشريف؟
إن هذا الصديق كان يتوهم أن مصر خلت من المتبحِّرين في الدراسات الأدبية واللغوية، وكان ينتظر أن يشطح وينطح بلا رقيب ولا حسيب.
وما كان يهمني أن أصحح ما وقع فيه من أغلاط لو لم يكن أستاذاً بكلية الآداب، فتلك الكلية(318/20)
هي أول معهد فرضته الأمة على الحكومة ورفعت قواعده بما تملك من أموال وقلوب.
وما أنكر أن أحمد أمين رن صوته في كلية الآداب وقد زاملته قيها نحو أربع سنين، ولكن يعزّ عليّ أن أراه يحبط أعماله بمقالات فطيرة لم تكن ثمرةً لسهر الليل وإقذاء العيون تحت أضواء المصابيح، وإنما كانت ثمرة لنزوة وقتية أراد بها أن يخلق حركة في بعض المجلات، والمجد كالرزق بعضه حرام وبعضه حلال.
أنا أريد أن أعرف كيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يحكم بأن أدباء الأندلس لم يحسُّوا الطبيعة، ولذلك حساب سيراه في المقالات الآتية؛ ولكن أرجوه قبل أن أشرع في هذا البحث أن يدلني على مراده من التهديد الذي خصني به في مجلة الثقافة الغراء!
وإنما أهمني ذلك لأني أحب أن أعرف مصيري بعد أن استبحتُ ما استبحتُ من الحرية في النقد الأدبي
إن الشاعر الذي أستنجد به أحمد أمين يقول:
فقل لزهير إن شتمت سراتنا ... فلسنا بشتامين للمتشتِّم
ولا بأس، فأحمد أمين لا يجازى على الشتم بالشتم، إن صح أننا شتمناه.
ثم يقول ذلك الشاعر الذي استنصر به أحمد أمين:
ولكننا نأبى الظِّلام ونعتصي ... بكل رقيق الشفرتين مصمم
أعوذ بالله! فهل أخشى أن يلقاني أحمد أمين بسيف مصمم رقيق الشفرتين؟
وكيف وهو الذي هرب مني حين ذهبت أبحث عنه بمشارب الإسكندرية؟ وكيف يلقاني أحمد أمين بسيف رقيق الشفرتين وهو الذي لم يستطع ملاقاتي إلا بلسان معقول وقلم مفعول؟
ثم يقول الشاعر الذي أستنصر به أحمد أمين:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فهل أخشى أن يرميني هذا الصديق بالحجارة والطوب حين يلقاني في الإسكندرية أو في مصر الجديدة؟
ليتني أقدر على الجهر بكلمة الحق! ليت ثم ليت!
فلو كنت شجاعاً لقلت إن أحمد أمين لم يدرك المراد من تلك الأبيات الجاهلية. وكيف أشجُع(318/21)
وأنا مهدَّد بالحجارة والطوب من أحمد بن أمين الجاهلي؟!
إن الأستاذ عبد الجواد رمضان يقول: إني لن أموت قريباً لأني من الأشرار، وهي تهمة لا أدفعها عن نفسي لأني أحب أن أعيش! أفي الحق أني شِرِّير؟
أنت يا ربي تعلم كيف خلقتني، وكيف سوّيتني رجلاً لا يغضب إلا في سبيل الحق، وقد شاء فريقٌ من عبادك أن يظلموني، فتجاوز عنهم واعف عني، فإنك أنت غفّار الذنوب.
ولك أن تنظر، يا صديقي أحمد أمين، فسترى في الأسبوع المقبل كيف ألقاك، وكيف أحوّلك إلى أديب يعرف كيف تكلم أدباء العرب في مصر والأندلس والشام والعراق.
وهداية رجل مثلك قد تكون كفارة عما اقترفت في حياتي من آثام وذنوب.
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين).
(للحديث شجون)
زكي مبارك(318/22)
ذكريات سني التعليم
الامتحانات والنتائج
للأستاذ عبد الرحمن شكري
عند ما يعلل كاتب سؤ نتائج الامتحان ينسبه إما إلى ضعف الطلبة وإما إلى المناهج أو نظم الامتحان وإما إلى المدرسين وإما إلى غير ذلك من الأسباب، ولكنهم ينسون أموراً هامة قلما يذكرونها فيأتي التعليل ناقصاً. وهذا هو سبب تكرر مأساة سوء النتائج بعد سنة بالرغم من استقرار حالة الطلبة نسبياً الآن عما كانت عليه أثناء الإضرابات المستمرة والأزمات السياسية الحادة، وبالرغم من تخفيف المناهج وتبسيطها، وبالرغم من تسهيل نظم الامتحان إما بجعل الامتحان في مواد أقل أو مواد سنين أقل. وقل عدد تلاميذ الفصول في المدارس الأميرية ذات الحجرات الكبيرة، وخفض عدد الحصص التي يدرسها الأستاذ المدرس في مواد المنهج ذاته - وإن كان قد وكل إليه عمل آخر في النشاط المدرسي - فكان ينبغي أن تتحسن نتيجة الامتحانات تحسناً كبيراً لو كانت هذه الأمور وحدها سبب حين النتيجة.
والحقيقة أن هناك أسباباً لم ينظر إليها. ولم تكن النتائج الحسنة التي حصلنا عليها بسبب إرهاق الطلبة في العمل، بل كنا بالعكس نحاول منع الطلبة من إرهاق أنفسهم بالعمل ليلاً ونهاراً في الشهر الأخير ومنعهم من إتلاف صحتهم من غير فائدة بهذه العادة العقيمة؛ أما التشدد في نتائج النقل فلا يعللها أيضاَ، إذ كنا نحصل على مثل هذه النتائج في مدارس لم نباشر امتحان النقل فيها أو في فرق كانت نسب النجاح في امتحان النقل فيها حسنة مرتفعة. فالتشدد في امتحان النقل وحده لا يعللها إذاً. ومجهود المدرس أو مادته لا تعلل وحدها حسن النتيجة، فقد تكون مادة المدرس كأحسن ما تكون المادة ومجهوده أكبر مجهود، وتأتي النتيجة سيئة نسبياً. وقد شاهدنا ذلك في نتائج أساتذة من أحسن المدرسين عملاً ومادة، بينما كانت نتائج مدرسين آخرين في فصول أخرى هي عماد نتيجة المدرسة الحسنة الطيبة مع أنهم لا يمتازون عن إخوانهم في المادة ولا في الشرح والتفسير وإن كان تفسيرهم أقرب إلى المحاضرة منه إلى التدريس؛ وهذا خطأ.
والعامل الأول في تحسين نتائج الامتحان في رأيي هو أن تحصي المدرسة التلاميذ الضعاف في كل فصل بالرجوع إلى درجات امتحان النقل في كل مادة وأن يوجه إليهم(318/23)
الأستاذ المدرس جهده أثناء التدريس والشرح، وفي الاختبارات الشفوية في أول كل حصة وفي توزيع الأسئلة أثناء خطوات التدريس للتأكد من التفاتهم وفهمهم ومذاكرتهم وبالاختصار يكون أكثر التدريس للضعاف أثناء الحصص. قد يقال إن الطالب الذكي المجتهد أولى بالرعاية والتشجيع كي يزيد علما وثقافة. وهذه فكرة مخطئة إذ أن المدرس غير مطالب بتخريج نوابغ قليلين، وأكثر النوابغ يستطيعون النبوغ بقليل من التفات المدرس وعنايته ولكنه مطالب برفع مستوى الضعاف ومن أجلهم أنشئت المدارس لأن حاجتهم إلى المرشد أعظم من حاجة النوابغ، ولا يصح أن يستزيد الطالب النابغة من العلم على حساب إخوانه الضعفاء أو الأقل ذكاء، ويستطيع الأستاذ إذا سبق النوابغ إخوانهم في الفهم والاستيعاب أن يعطيهم عملاً خاصاً في أثناء الحصة أو خارجها إذا خشي الملل من جانبهم، إذا سار على قدر فهم الضعاف واستيعابهم، ويستطيع أن يبادر الأذكياء من حين لآخر بالسؤال للتأكد من أن سيره مع الضعاف لم يثبط همة الأذكياء ولم يصرفهم عن المدرس ولا سيما الأذكياء الذين يعتمدون على ذكائهم في التحصيل في الشهر الأخير من العام الدراسي، على أن تتبع الأستاذ للخطأ والصعوبة في أذهان الضعاف مما يزيد النابغة معرفة لما يواجه الذهن الإنساني من الخطأ والصعوبة وإن كانت الصعوبة في ذهنه أقل، إذ لاشك في أن بعض الأذكياء قد يكتفون بنصف فهم بينما لا يَدَّعي الضعيف الفهم إذا لم يستكمله إلا حياء وخجلاً من الظهور بمظهر ربما ظُنَّ غباوة يضحك منها إخوانه الأذكياء وهو أمر ينبغي ألا يُسمح به. ولا فائدة مطلقاً من تقديم الأستاذ المدرس تقارير لناظر المدرسة يومية أو أسبوعية عن المقصرين في الاستذكار إلا إذا عمل على اتباع هذه الطريقة اتباعاً تاماً دائماً أي طريقة مناقشة الضعفاء أثناء الشرح للتأكد من التفاتهم ومتابعتهم إياه وفهمهم. وإذا كان في التدريس بطء بسب هذه الطريقة استطاع الأستاذ أن يتلافى هذا البطء بوسائل أخرى، ويحسن بالوزارة أن تشجعه بوسائل العطف والقدر والمكافأة بهما إذا اضطرته هذه الخطة إلى الزيادة في عمله إلى تضحية وقته الخاص.
أما العامل الثاني في تحسين النتائج فهو أن يتعرف الأستاذ أماكن الصعوبة في المنهج ذاته والأغلاط والأخطاء الشائعة بين الطلبة عموماً سواء أكان الخطأ في اللغات أو في المواد الأخرى وأن يخصها بشرح أوفى وتمارين أكثر وأن يعاود الرجوع إليها حتى يقتلعها من(318/24)
أذهان الطلبة اقتلاعاً ليس أساسه القهر وإنما أساسه الفهم. وكنا نحصي الأغلاط الشائعة بين الطلبة المصريين في اللغة الإنجليزية ونطبعها لهم ونعمل على استئصالها. فالعامل الأول هو التوجه بالتدريس إلى الضعفاء والسير معهم والعامل الثاني إحصاء الأغلاط الشائعة وأوجه الصعوبة وتلافيها.
أما العامل الثالث فهو أن الطلبة يؤجلون الاستذكار إلي آخر السنة وقد لا يكون التأجيل ناشئاً عن الكسل والبلادة بل قد يكون عن حسن نية لأن سبب هذا التأجيل فكرة سيكولوجية مخطئة فهم يحسبون أنهم إذا استذكروا شيئا في أول السنة ثم نسوه لم يستفيدوا من ذلك الاستذكار بسبب النسيان، وقليل من علم النفس يبرهن على خطأ هذه الفكرة إذ أنه يثبت أن صورة الأمر المنسي راسبة في أعماق الذهن والوعي الباطن وأنه لا يسهل استخراج المعقولات من أعماق الذهن عندما يشاء صاحبه تذكرها في أي وقت إلا إذا انطبعت الصورة في الذهن مرة بعد أخرى وفي كل مرة يعقب الاستذكار النسيان حتى يأتي على صاحب الذهن وقت لا ينسى بعد الحفظ، ولو فهم الطلبة هذه الحقيقة النفسية لاستطاعوا أن يفهموا السبب في أن الواحد منهم قد يجيد مذاكرة الدروس في الشهر الأخير من السنة فقط حتى إذا سألته فيها أجاب إجابة حيدة فإذا دخل الامتحان نسيها ولم يستطع الإجابة فإذا رسب أقسم أنه استذكرها جيداً وأنه سيئ الحظ. نعم إنه استذكرها جيداً قبيل الامتحان ولكن ينبغي أن يفهم أن محاولته تجنب النسيان في أثناء السنة بتجنب المذاكرة طول السنة هو الذي يوقعه في النسيان أثناء الامتحان مهما جاد المذاكرة آخر السنة، وأن نسيانه أثناء الامتحان بعض المعقولات أو كلها أكبر دليل على انطباع المعقولات في الذهن انطباعاً لا تُنْسى معه عند الحاجة يستلزم طبع صورتها في الذهن مرة بعد أخرى في أوقات مختلفة. ومن الصعب أن يدرك الطلبة هذه الحقيقة كل الإدراك أو إذا أدركوها صعب عليهم التخلص من عادة تأجيل المذاكرة للشهر الأخير اعتمادا على احتمال النجاح بالرغم من هذا القانون السيكولوجي. وهذا مع أن إرهاق أنفسهم بالمذاكرة ليلاً ونهاراً في الشهر الأخير يتلف صحتهم وإذا تلفت الصحة تأثر العقل ولو تأثرا مؤقتا وصار أقل استعداد للإجابة أثناء الامتحان. وحسن نتيجة المدرسة في الامتحان يتوقف على الوسائل التي تتخذها لمنع تأجيل الاستيعاب إلى الشهر الأخير.(318/25)
والأساتذة المدرسون يجدون مقاومة كبيرة في حمل الطلبة على الاستذكار من أول السنة، كما يجدون مقاومة إذا اتبعوا عامل النجاح الأول والتفتوا للطلبة الضعاف في كل حصة، ففي الحالة الأولى يعيد الطلبة مطالبتهم بالاستيعاب والمذاكرة من أول السنة تعنتاً وظلماً ومطالبة بعمل ضائع لا محالة في نظرهم لأن نسيانهم محقق بعد أول استذكار، وقد يكرهون المدرس أو الناظر إذا حاول حملهم على خطة العمل من أول السنة ويعدون خطته ووسائله في حملهم تقصدا ومضايقة لا مبرر لهما وشدة غير معقولة. وفي حالة الالتفات للطلبة الضعاف في كل حصة يعد الطلبة الضعاف هذا الالتفات الدائم إليهم تقصداً مكروهاً ومضايقة وإهانة لظهور عجزهم أمام إخوانهم.
والآباء وأولياء أمور الطلبة لا يدركون مقدار ما يلاقيه الناظر وما يلاقيه المدرسون من عناء للتغلب على ميول الطلبة وأفكارهم المخطئة من الوجهة السيكولوجية أي اعتقادهم أن العمل من أول السنة عمل ضائع لأنه يؤدي إلى النسيان واعتقاد الضعاف في المواد أن الالتفات لهم في كل حصة تقصد يراد به إهانتهم. وهذا هو السبب في أن أولياء أمور الطلبة قد يشكُّون في نية الناظر أو المدرس أو على الأقل لا يحاولون معاونتهم فترى أحياناً أحد الآباء يقول إن الناظر أو المدرس يتقصد ابني، وقد يبلغ هذا الأمر حالة يشارك الأب فيها ابنه في كره الناظر أو المدرس. وهذه المقاومة من الآباء والأبناء تشتد إذا كانت هناك عوامل خارجية أو داخلية في المدرسة تزيد سوء الفهم وتشجيع الطلبة أو أولياء أمورهم على كره الوسائل التي يتخذها الناظر أو المدرس ومعاداتهما. وهي على أي حال مقاومة كبيرة. وتزيد إذا اضطر الناظر إلى رفض طالب أو إذا طلب المدرس من الناظر رفض طالب رفضاً مؤقتاً لأن بعض الطلبة قد يحرج المدرس إحراجاً كبيراً إذا حاول اتباع هذه الخطط والعوامل التي شرحناها. وينسى بعض آباء الطلبة أن حضور الطالب طول العام من غير رفض أيام قد يجعله حاضراً كغائب ولا ينتفع بحضوره وأن تضحية أيام في الرفض قد يزيد ذهنه واستعداده حضورا في الأيام الأخرى. ومن أجل هذه المقاومة قد يزهد الناظر أو المدرس في اتباع هذه الخطط التي شرحناها رغبة في تسهيل سير الأمور ومنعا للمشكلات، أو إذا اتبعت هذه الخطط قد تتبع اتباعا محدوداً حسب الظروف وبقدر الاستطاعة. وهذا يقلل بلا شك من حسن نتيجة الامتحان. والمدرسة معذورة مادامت هذه(318/26)
المقاومة موجودة ولا يستفيد الناظر ولا المدرس من اتباع خطط قد تجلب له عداوة شديدة وأحقاداً ربما تخطت منطقة المدرسة إلى الوزارة نفسها. والوزارة أيضا لها بعض العذر فإنها إذا ناصرت الناظر سنة قد لا يستطيع مناصرته دائماً. فالكاتب الذي يكتب في الجرائد ويطلب نتائج حسنة ينبغي أن يدرك المقاومة التي تمنع من الحصول على نتائج حسنة.
بقي أن نفند بعض الأخطاء الشائعة في التعليم والتي قد تؤدي إلى رسوب الطلبة؛ فمن هذه الأخطاء مغالاة بعض أساتذة اللغة الفرنسية في نظرية الشرح باللغة الفرنسية وحدها للطلبة المبتدئين الذين يستمرون أشهر اً غير فاهمين لأن التفسير يحتاج إلى تفسير. نعم إنه مبدأ حميد على شرط أن يكون الشرح مفهوماً، أما إذا كان التفسير الفرنسي مجهول الكلمات غير مفهوم فالواجب استخدام أية وسيلة لإفهام الطلبة سواء أكانت بالإشارة إلى الأشياء أو قي المعقولات غير المادية باستعمال اللغة الإنجليزية أو العربية. ومن الخطأ في تدريس اللغة الإنجليزية أن يقال للطالب هذا خطأ وصوابه كذا، ويكتفي بذلك، فهذه طريقة التدريس للشبان الإنجليز الذين يسمعون الصواب كثيراً. فلابد من أن يكون الأستاذ مدرس اللغة الإنجليزية خبيراً بفقه اللغة وقواعدها، ولا حرج عليه مطلقاً في شرح القاعدة أو الاصطلاح إذا كان الاصطلاح غير مبني على قاعدة، ولكن أكثر أخطاء الطلبة المصريين في اللغة الإنجليزية ترجع إما إلى الخطأ في قواعد اللغة، وإما إلى احتذاء الأساليب العربية، وقواعد اللغة العربية، وهذه الأخطاء يمكن شرح سبب وقوع الطالب في الخطأ فيها، ومثل ذلك أن الصفة تجمع في اللغة العربية، ولا تجمع في اللغة الإنجليزية؛ فإذا فهم الطالب القاعدة وسبب الخطأ أمكن تجنبه. أما أن يقال له لا تقل كذا بل قل كيت وكيت لأن الأول خطأ فهذا شبيه في تدريس حل أسئلة الرياضة والعلوم بقول الأستاذ هذا الحل خطأ من غير تفسير سبب الخطأ، وهو تفسير يجب أن يتعهد به كل طالب في كل سؤال أو تمرين وإلا بقي الخطأ في ذهنه بالرغم من معرفة حل الأستاذ للمسألة. وهذا التعهد ببيان سبب الخطأ في كل تمرين يحتاج إلى وقت ولكنه السبيل الوحيد للنجاح. وقد رأيت بعض الأساتذة الإنجليزية يفضلون محاولة الطالب الأسلوب الأدبي العالي في الإنشاء بالرغم من تخلل الأغلاط الأولية له؛ وهذا يرجع إلى عدم التوطئة للأسلوب الأدبي يشرح الأغلاط الأولية الشائعة واستئصالها بكل وسيلة لأنها تعطي فكرة سيئة عن الطالب تؤدي إلى(318/27)
رسوبه في الامتحان مهما حاول المصحح إنصافه في استعماله بعض الجمل العالية.
عبد الرحمن شكري(318/28)
من كتاب الدين الإسلامي
مقدمة لبحث الإيمان
للأستاذ علي الطنطاوي
معناه اللغوي
إذا قال لك قائل إن جزء الشيء يساوي مجموعه، أنكرت ذلك عليه وكذبته فيه لأنك (تؤمن) بأن الجزء أصغر من الكل، ونقطع بذلك قطعاً، ولا ترى عنه معدلاً. وإذا وجدت من يبذل دمه في سبيل وطنه، ويفديه بنفسه وماله، ويحرص على خدمته قلت إنه من ذوي (الإيمان) الوطني، وإذا ألفيت المحبّ المولّه، يعصى العذول ويعرض عن الناصح، وصفت حبه بالإيمان وعبرت عنه، كما يقول التراجمة الناقلون، بالعبادة. فقلت: إنه يعبد حبيبته.
هذا كله من مظاهر (الإيمان) - والإيمان - بهذا المعنى - هو العقيدة الثابتة في النفس، أو العاطفة القوية الراسخة التي لا تتبدل ولا تتزعزع ولا يحتاج إلى التدليل عليها، لأنها من (البديهيات) بالنسبة لصاحبها المؤمن بها.
فالإيمان (في اللغة) التصديق وفعله آمن واصلها أأمن بهمزتين ليّنت الثانية.
أنواع الإيمان
يتضح لك مما مثلنا أن للإيمان نوعين: فإيمانك بأن الرغيف أكبر من نصفه، وأن الواحد ثلث الثلاث (إيمان عقلي) لا اثر لك فيه ولا عمل، وإنما هو من الفطرة التي فطر الله الناس عليها. أما (الإيمان الوطني) أو (الإيمان بالحبيبة) بالنسبة للعاشق المتيم فهو (إيمان قلبي)، لا دخل للعقل فيه، وهو فردي شخصي يختلف عن (الإيمان العقلي) الذي يتصف بكونه عاماً شاملا العقلاء جميعاً. وهذا التقسيم جديد استنبطته من الأمثلة المختلفة للإيمان ورأيت فيه نفعاً، لأنه يثبت جنس الإيمان، ولأنه بعد ذلك يساعد على تحديد البحث. أما الإيمان بأصول الدين، فهو من نوع الإيمان القلبي، ولكن للعقل دخلاً فيه من حيث إنه يقبل مبدأه ويقر نتائجه، ولا يناقضه وإن كان لا يفهمه تماما. وبيان هذه المسألة المهمة أن العقل (يؤمن) بادئ الرأي بوجود الله، وبأنه عادل، ولا يناقض نتائج الإيمان بالقدر إجمالا ولكنه لا يستطيع أن يفهمها ولا أن يعلّلها، ومنشأ ذلك أن العقل مقيد في أحكامه بالحواس والخيال(318/29)
والاختبارات السابقة، لا يستطيع أن يتخلى عنها، أو يخرج عليها. فهو يحكم على عدل الله بما يعرف من حدود (العدل البشري)، وما لديه من الاختبارات. فيقع في الخطأ لاختلاف فكرة العدل البشرية النسبية، عن فكرة العدل الإلهية المطلقة.
فالعقل إذن لا يستطيع أن ينقض نتائج الإيمان ولكنه لا يؤمن تماماً، وإنما الذي يؤمن هو القلب.
الإيمان في الدين الإسلامي
عرفنا معنى الإيمان في اللغة. أما معناه في الدين فهو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر (وسيأتي الكلام على ذلك كله إن شاء الله) فمن صدق بها تصديقا جازما فهو المؤمن حقاً. وقد جعل الله هذا التصديق أصل الدين وأساسه، وأقام الأدلة على هذه المسائل، وخاطب بها العقل، لكن الذي أفهمه أن العقل يقبل مبدأ الإيمان إجمالاً، ثم يدع دقائقه للقلب، أي أنه كالملك في الدولة يوقع على المرسوم ولكنه يدع لغيره من الموظفين فهمه وتطبيقه ومراعاته دائما. فالعقل يؤمن بأن الله موجود، وأن القرآن كتابه الذي أنزله، وأن محمداً نبيه الذي لا ينطق عن الهواء. ثم يقف ويدع للقلب (الإيمان) لكل ما جاء في الكتاب، وما نطق به الرسول والاطمئنان إليه والتصديق به وقبوله بلا أدنى شك ولا ريب. . . وليس في أصول الإسلام ما يرفضه العقل، أو يتعذر عليه قبوله لمخالفته لبديهياته الثابتة، أو أحكامه الصحيحة، وهذه هي ميزة الدين الإسلامي عن كل دين.
العلاقة بين الإيمان والإسلام
الإسلام هو (إظهار) الإيمان، والتعبير عنه (عمليا) بالنطق بالشهادة عليه، والقيام بالعبادات التي تنشا عنه. وهو الأساس الذي يبنى عليه تقسيم الناس إلى متبع ومخالف، وما يتفرع عن هذا التقسيم من أحكام مدنية وحقوقية، لان الناس لهم (الظواهر) ولا يستطيعون أن يشقوا عن قلوب الناس ويعرفوا سرائرهم. وهذا معنى ما جاء في الحديث القائل (أمرت أن أقاتل الناس حتى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
فإن نطق الشهادة، وأدى الفرائض ولكنه غير (مصدق) بها، ولا (معتقد) وجوبها، ولا يفهم(318/30)
إلا جسمها دون روحها، وشكلها دون معناها، فهو (غير مؤمن) وهو ما كان عليه بعض الأعراب الذين قال الله عز وجل فيهم: (قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا).
وإن (أظهر) الطاعة عن تصديق وجزم، وأدى الصلاة معتقداً بوجوبها مراقباً الله فيها، فهو المؤمن المسلم. نقل في اللسان عن ثعلب اللغوي قال: المؤمن بالقلب والمسلم باللسان (أي وبالجوارح) وقال الزجاج: صفة المؤمن أن يكون راجيا ثوابه خاشيا عقابه.
وقال الزمخشري في الكشاف، في المسلم الكامل: (هو من اعتقد الحق وأعرب عنه بلسانه وصدقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد، وإن شهد وعمل فهو منافق. ومن أخل بالشهادة فهو كافر. ومن أخل بالعمل أي بالعبادة من صلاة وصيام وحج فهو فاسق).
الإيمان ضروري ومفيد
بدا لك مما تقدم ذكره أن الإيمان ضروري لا يستطيع إنسان أن يعيش بدونه، وأن المرء إن زعم أنه لا يؤمن بأصول الدين لم يكن له بد من الإيمان بمبادئ عقلية، ومبادئ اجتماعية، وأخلاقية، ولا منجي له من الحب - والحب والإيمان من طبيعة واحدة في الأصل - فليس في الدنيا إذن إنسان إلا وهو (مؤمن) لأن (الإيمان) شيء مستقر في طبيعة البشر، ومن آمن بهذه الحقائق الصغيرة، أو الأباطيل التي يتوهمها حقائق، كما يتوهم المحب العاشق، لم يستطع الكفر بالحقيقة الكبرى، وهي وجود الله.
وسنرى بعد أن وجود الله بديهية عقلية، وأن التأليه والتطلع إلى المجهول، والبحث عن الخالد الباقي، من الفطر الإنسانية.
ثم إن من مصلحة الإنسان أن يكون مؤمنا بالله، لأن الحياة مملوءة بالآلام، فياضة بالمكاره، فإذا لم يكن للمرء وَزَرٌ من إيمانه يلجأ إليه كلما حاقت به الشدائد، أو انتابته الأمراض، كانت حياته جحيما محرقا لا يحتمل، وربما أدت به إلى الانتحار كما يفعل الجاهلون، فلا سعادة إذن إلا بالإيمان ولا أنس بالحياة إلا معه.
ومن مصلحة المجتمع أيضا أن يكون الناس مؤمنين، لأن القوانين والقوى التي تؤيدها، والعقوبات التي تحميها، كل ذلك لا يؤدي إلى إنشاء مجتمع خيّر صالح إذا نقصه الإيمان. وكيف لعمري يصلح الرجل ويستقيم، وهو لا يجتنب السرقة إلا خوفا من الشرطي وهربا(318/31)
من العقاب. فإذا أمن الشرطي ونجا من العقاب سرق وقتل وفعل الأفاعيل. فإذا كان (مؤمنا) بالله يخشى عقوبته، (مؤمنا) بمبادئ الأخلاق التي أمر بها الله ووعد بالثواب عليها استقام دائما، لأن الله مطلع عليه مراقب له دائما. وشيء أخر هو أن الدافع إلى كل ما يفعله الإنسان المنفعة أو اللذة؛ فالمؤمن يعمل الصالحات ولو لم يره أحد ولو لم يعلم به أو يشكره لاعتقاده أن الله يثيبه ويعطيه، فلماذا يعمل الصالحات غير المؤمن إذا لم يكن من يراه أو يشكره أو يذيع فضله أو يجزيه بعمله خيراً؟
الإيمان الكامل
والمؤمن الكامل الإيمان هو الذي يتصور في كل لحظة أنه بِسَمْعِ الله وبصره وأن الله مطلع عليه ناظر إليه، فإذا لم يمنعه من المعصية خوف الله منعه الحياء منه، ولذلك جاء في الحديث (إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلّة، فإذا أقلع (أي تاب توبة صحيحة) رجع إليه) فلا يستطيع الزاني أن يزني وهو مؤمن إيمانا حقا، ومتصور أن الله ناظر إليه. بل هو لا يستطيع أن يزني إذا كان أبوه أو أستاذه يراه ويشرف عليه، فالإيمان إذا كان على هذه الصورة يمنع صاحبه من كل فاحشة، ويصرفه عن كل ذنب.
الصالحات بلا إيمان
فإذا عمل الرجل من الصالحات وهو غير مؤمن لم يكن له ثواب في الآخرة. وقد يبدو ذلك غريبا لأول وهلة ولكنه نهاية العدل من الله. وهل في العدل أكبر من أن تعطي المحسن المصلح كل ما يطلب. فإذا كان يقصد ثواب الآخرة، وكان (مؤمنا) بها أعطاه الله ما يطلب، وإن لم يطلب إلا الشهرة في الناس وخلود الذكر فيهم، أعطى الشهرة والخلود، ولم يكن له في الآخرة شيء (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق. ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
هذه مقدمة موجزة جدا لبحث الإيمان سيعقبها فصل في الإيمان بالله للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار ينشر في العدد الآتي.
علي الطنطاوي(318/32)
خليل مردم بك
وكتابة في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
من القضاء الغريب بين الفرزدق وجرير ما رواه الأستاذ المردمي عن الأغاني: (تنازع في جرير والفرزدق رجلان من عسكر المهلب. فارتفعا إليه وسألاه، فقال: لا أقول بينهما شيئاً ثم دلهما على الخوارج. فلما تواقف الجيشان بدر أحد المتنازعين من الصف إلى عبيدة بن هلال اليشكري الخارجي فسأله عنهما ففضل جريرا: قال من الذي يقول:
وطوى الطراد مع القياد بطونها ... طي التجار بحضرموت برودا
فقال: جرير. قال: هذا أشعر الرجلين).
فالذي يلوح لنا في هذه الحكومة أن الخارجي رأى بيت جرير أمير شعره وأن ليس للفرزدق شبهه فقضى له، أو أن من يفرض مثل هذا البيت حقيق بالتقديم (ونذر في هذا المقام البحث عن قيمة هذا البيت وخطره) أو أن عبيدة التفت إلى الديانة ففضل المتقي على من فجر.
وإن تفضيل قائل على قائل لمعنى من المعاني المذكورة لهو الحيف المحض، وخروج على سلطان الحق، ألا (لا حكم إلا الله) ولا قضاء مقبول إلا من مقسط ذي نصفة.
ولولا أن يغضب أو أن يشرى صاحبنا الأستاذ أبو إسحق أطفيش نزيل القاهرة ومن علماء إخواننا الأباضية وفضلائهم - لشننا على (الشراة) غارات، وفندنا (مقالاتهم) الخارجية بمقالات في (الرسالة الغراء) متلاحقات. . .
وممن عادل الخارجيَّ في جنفه في حكمه، بل أربى على جميع الجَوَرة في القضايا الأدبية الحسن بن بشر الآمدي صاحب (الموازنة بين أبي تمام والبحتري) فقد ظهر في كتابه (أجور من قاضي سذوم) وأرانا كيف يكون الظلم العبقري (استعان الرجل بالله - كما قال - على مجاهدة النفس ومجاهدة الهوى وترك التحامل) وأقبل يوازن، فماذا صنع؟
يأخذ بيتا لحبيب قال في معناه الوليد وينصب ميزانه، وهواه الوازن.
ولأبي تمام أبيات عبقريات، كل بيت منها بديوان، وله قصائد باهرات مدهشات.
هذه لا توضع في الميزان، وقد كان قال: (أنا لست افصح بتفضيل أحدهما على الآخر(318/33)
ولكني أقارن بين قصيدتين من شعرهما فأقول أيهما أشعر في تلك القصيدة ثم احكم أنت). ولكنه لم يفعل ذلك واجتزأ بإيراد أبيات لكل من الطائيين وجعل يلغو لغوه.
وإذا قال أبو تمام:
إن لله في العباد منايا ... سلطتها على القلوب العيون
وقال البحتري:
قال بطلاً وأفال الرأي من ... لم يقل إن المنايا في الحدق
فهنا يتوارى الوازن والموازنة ويرفع الميزان. وبيت الوليد شرح طويل، مَطمَطة. . .
وقد كان ابن الأثير انصف من الآمدي حين قضى بين حبيب والمتنبي في رثاء ولدين صغيرين لعبد الله بن ظاهر، وطفل لسيف الدولة؛ وبين البحتري وأبي الطيب في وصف الأسد. وقد شأى الكندي الطائيين في الرثاء والوصف.
وأني لموقن أن الآمدي فارق الدنيا ولم يعرف أبا تمام وعبقريته. وممن علم ذلك وأعلن فضل ابن أوس - أبو بكر بن يحيى الصولي صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي أفضل على العربية بنشره الفضلاء: خليل محمود عساكر، محمد عبدة عزام، نظير الإسلام الهندي - بارك الله في الهند - وقد أعطى الكتاب بعض حقه في مقالة في الجزء (225) من (الرسالة). وكانت مجلة (المقتطف) ذكرت كتاب الصولي، وحافت على حبيب فرُدّ عليها وليمت في مقالة في الجزء (235) من (الرسالة) وأغلب الظن أن الكتاب في المقتطف ما قرأ كتاب الصولي فيعرف ذلك الشاعر العظيم، فقال على المخيل أو على ما خيلت كما يقولون.
ألا إن الشعر لأكثر مما يرى ذاك الخارجي وهذا الآمدي وأعظم؛ واٍن فضيلة الفرزدق فيما يبينه أديبنا الكبير الأستاذ المردمي في كتابه:
(لا تجد شعراً أكثر تأثراً بالإسلام، والعصبية العربية، ولا أصح لغة، ولا أجزل أسلوباً، ولا أجمع لشوارد العربية وفصَحها، وأخبار العرب وأيامهم - من شعر الفرزدق).
(والفرزدق على جفاء طبعه له مخيلة تفيض بالحياة، وتحسن الابتكار والابتداع ووضع الأقاصيص بأسلوب حسن).
(والفرزدق على أميته واسع الرواية كثير المحفوظ، ولم يقف عند حفظ أشعار العرب(318/34)
وأخبارهم بل حفظ القرآن، وروى الحديث النبوي. قال صاحب خزانة الأدب (البغدادي): (روى الفرزدق عن علي عليه السلام وعن غيره من الصحابة). وقال صاحب النجوم الزاهرة: (روى الفرزدق عن عليّ بن أبي طالب وغيره وكان يرسل، وروى عن أبي هريرة وعن جماعة) فثقافته أعلى ثقافة يبلغها شاعر في ذاك العصر).
(ويجمع الفرزدق إلى خصب المخيلة وسعة الرواية كثرة النواحي، فشعره سجل حياته ومرآة عصره).
(ونفس الفرزدق طويل، وقصائده التي تزيد أبياتها على المائة كثيرة، وله القصائد القصار، وهو في كلا القسمين لا يسف ولا ينزل عن طبقته).
(وقد استقام للفرزدق من الأبيات الجامعة بين شرف المعنى وشرف اللفظ ما لم يستقم لغيرة، فهو أكثر الشعراء الإسلاميين بيتاً مُقلَّداً).
(وشعره في جملته يدل على قدرة الشاعر وبعد نظره وإحاطته بما يرمي إليه من الأغراض وسعة مخيلته وانفساح مجاله ولذلك كثرت فيه الصور).
هذه جمل من (الكتاب) في باب البحث عن شعر الفرزدق وهي تساند مقالة البحتري في (معاني الفرزدق وحسن اختراعه وبأبواب هجائه التي يخترعها ويبدع فيها) وتعلن من النبوغ الفرزدقي ما تعلن، وتقوى الظن الذي ظنناه في اختيار الأستاذ هماماً من بين الثلاثة الإسلاميين واختصاصه إياه بهذا الكتاب. وقد أوضح الأستاذ المردمي ما أوردته من أقواله أبلغ إيضاح، وأيدها بأبيات كثيرة للشاعر.
يقول الأستاذ في تضاعيف البحث عن شعر همام: (وأما تمثيله العربية في فصاحتها وشواردها، وتاريخ العرب في مناقبهم ومثالبهم حتى قيل (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب) وقيل (لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس) فذلك لكثرة مفرداته، وصحة تراكيبه، وجزالة أسلوبه، واشتمال شعره على الغريب، وأوجه التعابير الفصيحة، ووفرة ما تضمنه فخره وهجاؤه ومدحه من أخبار العرب وأيامها ومفاخرها، ومثالب من يهجوهم في الجاهلية والإسلام. خذ مثلاً لذلك نقيضة من نقائضه مع جرير تجد فيها صحة اللغة وفصاحة الأسلوب وجزالة التركيب ورصانة القافية وعراقة العربية مع شيء من الغريب كما تجد كثيراً من أخبار العرب في الجاهلية والإسلام، فلو جمع باحث مفردات(318/35)
الفرزدق التي استعملها في شعره لكادت تكون معجماً، ولو توفر على ترتيب ما فيه من الأخبار والحوادث والمفاخر والمخازي والعادات والأساطير والخرافات لجمع تاريخاً لحوادث الجاهلية وحياتها الاجتماعية. والشواهد على ذلك أكثر من أن تذكر نكتفي بإيراد قليل منها قال: نقائض ص189) وروى الأستاذ ثمانية أبيات من القصيدة التي مطلعها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
ثم قال: (هذه الأبيات الثمانية فيها من الأخبار والحوادث والأيام ما استغرق عشر صفحات من كتاب النقائض، ولا سبيل لتلخيصها هنا) وأشار إليها، وروى وبيّن غير ذلك مما يحق مقالته في الفرزدق.
وممن يماثل هذا الشاعر من المولدين في اشتمال كلامه على أخبار كثيرة وإشارات ذات بال - حبيب (ففي شعره علم جم من النسب، وجملة وافرة من أيام العرب) وأبو بكر الخوارزمي الذي يستظهر رسائله كلها العلامة الأستاذ الأمير شكيب أرسلان.
والقول المتقدم في أبي تمام هو في (رسائل الانتقاد) لابن شرف القيرواني، وقد نشرها العلامة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي في مجلة (المقتبس) للعلامة الأستاذ الرئيس محمد كرد عليّ.
ويقول الأستاذ: (ومن التعابير العربية التي حفظها لنا شعره قوله: نقائض ص283 أو بين حيّ أبي نعامة هارباً أو باللحاق بطّيء الأجيال حيّ أبي نعامة أي وهو حيّ نقول فعلت ذاك حيّ فلان أي وفلان حيّ).
وهذا القول قد هدانا إليه بيت الفرزدق. وفي العربية شئ كثير من مثل هذا التعبير خفي معناه أو أشكل ولم يكشفه لنا شرح أو تفسير. قال ابن فارس: (إنا نرى علماء اللغة يختلفون في كثير مما قالته العرب فلا يكاد واحد يخبر عن حقيقة ما خولف فيه بل يسلك طريق الاحتمال والإمكان)، وأورد في كتابه (الصاحبي) طائفة من الأقوال لم تستبن حقيقتها عنده، ومما ذكره: (يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا تقولوا دعدع ولا لعلع ولكن قولوا: اللهم، ارفع وانفع) فلولا أن للكلمتين معنى مفهوماً عند القوم ما كرههما النبي صلى الله عليه وسلم).
(الإسكندرية)(318/36)
* * *(318/37)
في بلاط الخلفاء
سعد وسعاد في حضرة معاوية
للأستاذ علي الجندي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وتربص سعد أسبوعاً بين يأس يطويه ورجاء ينشره، حتى إذا أذن معاوية للناس يوماً دخل في سرعانهم وغمارهم. فلما أخذوا مجالسهم، نهض بين السِّماطين وأنشد بصوت كحشرجة المحتضر:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... وذا البرّ والإحسان والجود والبذل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... وأنكرت - مما قد أُصِبت به - عقلي
ففرِّج - كلاك الله - عني، فإنني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي - هداك الله - حقِّي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنتُ أرجّي عدله إن أتيته ... فأكثر تَردادي مع الحبس والكبْل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وغاصبني أهلي
فطلّقتُها من جدّ ما قد أصابني ... فهل ذا - أمير المؤمنين - من العدل
وكان معاوية متكئاً فاعتدل في مجلسه - وقد اكفهرت على وجهه سحابة من الحزن - وقال: نعوذ بالله من طوارق السوء! لقد أسمعت يا أعرابي، إذن بارك الله عليك! ما خطبك؟ وما طرحك إلى هذه البلاد؟ فدلف إليه شاب في شملة الأعراب، ساكن الطائر، رابط الجأش؛ قد لوحه السفر وتضمر وجهه من الهزال! فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة. تزوجت ابنة عم لي على حب ومقة، وكانت لي إبل وغنيمات فأنفقت ذلك عليها؛ ولبثنا معاً في حياة رافهة وعيش أبله غرير. فلما كلب علي الزمان، ومستني البأساء والضراء رغب أبوها عني، وكانت جارية فيها حياء وكرم. فانقادت له مكرهة خشية أن توصم بالعقوق!. . . فأتيت عاملك مروان بن الحكم مستجيرا به مؤملا نصرته، فأحضر أباها وشكم فاه بالإتاوة إذ دفع له عشرة آلاف درهم! وقال: هذه لك، وزوجني بها، وأنا زعيم بتخليتها من الإعرابي! فمال أبوها إلى المال، وأصبح الأمير(318/38)
لي خصما وعلي منكرا. فانتهرني وطرحني في السجن، وأمرني بطلاقها فأبيت. فبسط علي العذاب وأفتن في إيلامي! فلما اشتد علي الضيق، وأيقنت بالهلكة لم أجد بدّاً من طلاقها، فطلقتها، والعين عبري والقلب موجع!. . . فما انقضت عدتها حتى تزوج بها مروان، وأمر السجان بإطلاق سراحي. وقد أتيتك - يا أمير المؤمنين - صارخا فزعا، متغطيا من الدهر بظل جناحك! وأنت غياث المكروب وسند المسلوب! فهل من فرج؟!. . . ثم أجهش الأعرابي بالبكاء وأنشد:
في القلب مني نار ... والنار فيها استعار
والجسمُ مني نحيلٌ ... واللون فيه اصفرار
والعين تبكي بشجو ... فدمعها مدرار
والحب داء عسير ... فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيما ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليل ... ولا نهاري نهار
وكان لمرأى هذا الزوج الواله وشدة ضراعته وعظم تفجعه ورقة شكاته، أثر أي أثر في نفس معاوية!. . . فأطرق برهة؛ ثم رفع رأسه وقد ازمهر وجهه الأبيض كأنما نضح بالأرجوان فقال: ويلي على ابن الطريد! كيف عزبت عنه حلوم أمية؟ لقد تعامه في طغيانه، وتمادى في أضاليل هواه، وطرفت عينه الدنيا. فما إن يزال في طفش ورفْش، فلعمري لئن بقيت له لأقيمن من صعر خديه!. . .
ثم التفت إلى سعد فقال: طب نفسا وقر عينا - يا أخا عذرة - فقد سألتنا النَّصف، وستبلغ ما رجوته إن شاء الله!
ودعا من فوره بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان كتابا صدره بكلام أخشن من مس الحجر، وأزره بشعر أبرق له فيه وأرعد:
ركبتَ أمراً عظيماً لستُ أعرفه ... أستغفر الله من جور امرئ زاني!
قد كنت تشبه صوفياً، له كتب ... من الفرائض أو آيات قرآن
حتى أتانا الفتى العذري منتحباً ... يشكو إليّ بحقٍّ غير بهتان
أعطي الإله عهوداً لا أَخيس بها ... أولاً، فبُرِّئتُ من دين وإيمان(318/39)
إن أنت راجعتني فيما كتبتُ به ... لأجعلنّك لحماً بين عِقْبان
طلّق سعادَ وجهِّزها مُعجلة ... مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بُلِّغت من عجب ... ولا فعالك حقاً فعلُ إنسان
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى الكميت ونصر ابن ذبيان، وأمرهما أن يذهبا إليه!
فجد الرسولان في السير حتى بلغا مروان، وسلما إليه كتاب أمير المؤمنين. فلما قرأه عرته رعدة واصفر كأنه جرادة ذكر! ثم أرسل زفرة عميقة كاد يتفسأ لها حجاب قلبه. وقال: ودِدت أن - أمير المؤمنين - خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف!
ولبث مدة يؤامر نفسه في طلاقها فلا يستطيع! فاشتد عليه الرسولان وأزعجاه، حتى طلقها وأسلمها إليهما بعد أن أحسن جهازها!
ولكنه أراد أن يثأر لنفسه من سعد، فلجأ إلى حيلة من حيله الشيطانية التي كانت سببا في قتل الخليفة الثالث، وشق عصا المسلمين!. . . فأرسل إلى معاوية كتابا يصف فيه مفاتن سعاد وصفا يثير صبوة الجماد! راجيا أن يقع الخليفة في شرك الحسن فيستبد بالفتاة ويرجع الزوج بخفي حنين! ثم تأسى بمعاوية في قرض الشعر فختم الكتاب بأبيات من الوزن والقافية:
لا تحنثَنَّ - أمير المؤمنين - فقد ... أُوفي بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبتُ حراماً حين أعجبني ... فكيف سُمّيتُ باسم الخائن الزاني
أعذر! فإنك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماني على تمثال إنسان
وسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت ... أقول ذلك في سرّ وإعلان
فلما ورد كتابه على معاوية وقرأه قال: لقد أحسن في الطاعة ولكنه أطنب في وصف الجارية. فإن صح أنها جمعت بين جمال الصورة وطيب النغمة فهي أكمل البرية طرّاً!
وعقد معاوية مجلسا من خاصته، ودعا إليه سعدا. ثم تقدم بإحضار سعاد، فطمح الحضور بأبصارهم إلى الباب ليروا محيا البدر المنير على قامة الغصن النضير!
وبعد قليل أقبلت الفتاة تتأطر في مشيتها، ساحبة أذيال الأضريح وقد حف وجهها إطار من شعرها الفاحم، فبدا كأنه قمر يطل من فتوق سحابة دكناء، أو لآلاء فجر في بقية من غبش(318/40)
الظلام!!
وسلمت على الخليفة من بعيد، فرد عليها السلام ثم استدناها منه واستنطقها فإذا بيان عذب جلي في صوت كأنه غنة الظبي أو خفق الوتر!
فسبح معاوية البارئ العظيم! وأراد أن يعجم منزلتها عند سعد فقال: يا أعرابي، هذه سعاد، ولكن. . . هل لك عنها من سلوة بأفضل الرغبة؟ فأجاب الأعرابي: نعم! وكأن معاوية شك فيما سمع فقال متثبتا: نعم يا أعرابي؟ فقال: نعم. نعم، إذا فرقت بين جسدي وروحي! فقال معاوية: أعوضك منها يا أعرابي ثلاث جوار أبكار حسان - مع كل جارية ألف دينار - وأقسم لك من بيت المال ما يكفيك في كل سنة ويعينك على صحبتهن!
فشهق الأعرابي شهقة ظن معاوية انه لفظ روحه فيها!. . . فارتاع وقال له: ما بك يا أعرابي؟ قال: شر بال وأسوأ حال! واستجرت بعدلك من جور ابن الحكم فعند من استجير من جورك؟ ثم أنشأ يقول:
لا تجعلنِّيَ - والأمثالُ تُضرَب بي - ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حيرانَ مكتئب ... يمسي ويصبح في هم وتَذكار
قد شفّه قلَق ما مثله قلق ... وأُسعِر القلب منه أي إسعار
كيف السلوّ وقد هام الفؤاد بها؟ ... وأصبح القلب عنها غير صبّار
وكأن معاوية استخشن هذا الكلام فغضب، أو قل: إنه تظاهر بالغضب، فما كان للغضب عليه من سبيل! فقال: يا أعرابي الحق بيّن. أنت مقر بطلاقها، ومروان مقر بطلاقها. ونحن نخيرها، فإن اختارتك أعدناها إليك بعقد جديد، وإن اختارت سواك زوجناها به. . .
ماذا تقولين يا سعدى؟ أيهم أحب إليك: أمير المؤمنين في عزه وشرفه ونعمته وترفه، أم مروان في عسفه وجوره، أم هذا الأعرابي في خشونة عيشه وسوء حاله؟
ألقى معاوية هذا السؤال وهو أعرف الناس بجوابه! فإنه لا يزال يذكر قول زوجه ميسون بنت بحدل الكلبية حينما نقلت إلية من البادية:
لبت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إليّ من قصر منيف
وخرْقٌ من بني عمي نحيف ... أحبّ إليّ من علْج عنيف
فقال: ما رضيت حتى جعلتني علجا؟!(318/41)
وما أشبه الليلة بالبارحة! فلم تكد الفتاة تسمع قوله حتى ماست كالفنن المروح، وتخازرت إلى الخليفة حتى التقت أهدابها ثم أنشدت بصوت يشبه المناغاة:
هذا - وإن كان في فقر وإضرار - ... أعزُّ عنديَ من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عاهله ... وكل ذي درهم عندي ودينار
وكأنها أدركت أنها في حضرة ملك العرب وخليفة المسلمين. فافترت عن مثل وميض البرق! وقالت وهي تغطى وجهها بأطرافها المخضبة استحياء: والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثات الزمان وغدرات الأيام! وإن لي معه صحبه لا تنسى ومحبة لا تبلى! وإني لأحق من صبر معه على الضراء، كما نعمت معه في السراء! فقضى العجب كل من كان حاضرا! وضحك معاوية حتى انقلبت شفته العليا وشكر لها وفاءها وإخلاصها لأبي عذرتها! ثم أمر بها فأدخلت مقاصير الحرم، حتى انقضت عدتها من مروان. ثم أعادها إلى ابن عمها بعقد جديد، ووصلها بألف دينار.
وأخذ سعد بيد سعاد، ومضى يؤج في سيره أجه الظليم وهو يترنم بقوله:
خلّوا عن الطريق للأعرابي ... ألم ترقوا ويحكم لما بي؟
علي الجندي(318/42)
الله في علاه!. . .
للأستاذ سيد عبده
خرج الملاح والليل عاصف. . .
يتلمس رزقه بين جرجرة البحر القاصف. . .
ومياه السماء تنزل مدرارا. . .
والرغبة في الحياة تدفعه للعمل ليلاً ونهارا. . .
وبسمة الأمل تثير في قلبه نارا. . .
فإذا بقاربه يرتطم بالصخر. . .
وإذا ببسمة الأمل تصبح صيحة الضر. . .
والرغبة في الحياة صرخة القبر. . .
ومع ذلك فقد نجا. . .
من أنقذه. . .؟؟
من نجاه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!!
خرج الشاب في رحلة إلى الصحراء. . .
يتلمس نزهة بين الرمال الصفراء. . .
يحمل القوت والأمل والرجاء. . .
ونسيم الربيع يهب عليلاً. . .
والشمس قد مالت فبدا الوقت أصيلا. . .
ونشوة النصر قد بدأت تدب في قلبه قليلاً قليلا. . .
فإذا به يضل الطريق. . .
وإذا بقلبه العاصر قد ملئه اليأس والضيق. . .
لأنه فقد الأمل في الحياة. . .
وقارب من أجله منتهاه. . .
ومع ذلك فقد نجا. . .(318/43)
من أنقذه. . .؟؟
من هداه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .؟؟
كان حاكما غشوما جبارا. . .
بذل قومه ويصليهم من عذابه نارا. . .
ويستعبد شعبه فلم يجدوا منقذاً منه إلا فرارا. . .
فهذه قطعة من جحيم. . .
والحياة في ظله بؤس وبلاء عظيم. . .
مضت الأيام فإذا عهده قد زال. . .
وإذا بالحال يصير غير الحال. . .
وأصبح الحاكم عبرة لسواه. . .
من أهلكه. . .؟؟
من أفناه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!
إنه عامل فقير انتبذ في المجتمع مكانا قصيا. . .
يحتقره القوم لأنه لم يك سريا. . .
ويجهله الخلق لأنه غداً نسيا منسيا. . .
يبذل الجهد ويتعب النفس كي يعيش ويحيا. . .
مضت الأيام فإذا به قد أثرى. . .
وتبدل ذله عزا. . .
وبؤسه سعدا. . .
وخموله ذكرى. . .
من أسعده. . .؟؟
من أغناه. . .؟؟
هو الله في علاه. . .!(318/44)
سيد عبده
المدرس بالأورمان(318/45)
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
ولست بيهوف يرى رأى عرسه ... إذا أركبته مركباً فهو راكبه
يظل إذا ما نابه الأمر حائرا ... يخاطبها في شأنه وتخاطبه
الشعر للأمير علي بن المقرب من شعراء النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ببلاد الأحساء في شبه جزيرة العرب. وفي هذا الشعر لحن من صنعة قاسم بك أمين على نغمة (فقئت عيناه فأبصر).
حدثنا الأستاذ عزيز أحمد فهمي قال: ولولا دفع الله الفنون بعضها ببعض لفسد الحسن. فاللحن الموسيقي والشعر يزدوجان ليكمل أحدهما نقص الآخر. ولقد كنت أقول مرة: إن كل فن يجب أن يترجم إلى فن آخر، وهذا كلام حسن؛ ولكني زدته حسنا لما فهمت أن التزاوج بين فنين يستدعى تشابها بينهما ولكنه كذلك يستدعى أن يكون أحدهما سالبا والآخر موجباً. فهذا شعر رامي تنشده أم كلثوم ليس لأن فنها كفنه ولكن لأن فنها يسد النقص في فنه. وهذا المخرج لرواية تمثيلية يتمم نقصها وسيد ثغراتها، وبين الفنين تشابه ولكن أحدهما لا يترجم الآخر بل يشرح الآخر على طريقته هو التي قد لا يدركها هذا الآخر.
قال: وهذا الشعر لعلي بن المقرب قد لحنه قاسم أمين فخلق منه ما خلقت أم كلثوم من شعر رامي.
قال أبو الفرج: وقد سألت الأستاذ عزيز ما الذي يعنيه بهذا الفقه الفني فلم يزد على أن قال: لقد فقئت عيناه فأبصر.
حدثنا الأستاذ خيري سعيد قال: حدثنا العلامتان هيجل وشليجل قراءة عليهما. وحدثنا الناقدان هردر وفيخت، ولم يقل بماذا حدثوه، وأغلب الظن انهم لم يحدثوه بشيء أو لعله آثر ألا يروي عن هؤلاء العلماء الألمان حتى يرى العالم ماذا ستصنعه ألمانيا في مشكلة دانزج.(318/46)
وحدثتنا السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي قالت: إن هذا الشاعر الذي أصبح يتغنى بترفعه عن أن يحدث زوجته في شئونه أو أن تحدثه زوجته في شئونه، يعد حديث الرجل وزوجته في الشئون المشتركة بينهما ضربا من (اليهفوفيه)؛ إن هذا الشاعر وأمثاله هم الذين مكنوا لقاسم أمين من السعي في تحرير المرأة الشرقية. ولو أن الشعراء في القرن التاسع عشر قد قبلوا أن يكونوا يهافيف فركبوا المركب الذي تختاره لهم أزواجهم لما استطاع قاسم وأعوان قاسم أن يلحنوا هذا الشعر تلحينا يبدو للجاهل أنه أخرجه عن معناه، ويبدو للمتأمل انه سد ثغره وأكمل نقصه وأنه لم يناقضه، ولا حاد به عن طبيعته، فطبيعة هذا التغني بالترفع عن الزوجة هي بعينها مقدمة التحرير. ولقد أطرب اللحن وأشجى وكان من أثره ظهور نهضتنا الأدبية النسوية ونشر هذه اليهفوفيه وأنشدت:
صوت
من أنت ماذا تكون يا رجل ... أظهر ما في طباعك البهل
في كل حين تقول يا امرأتي ... يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل؟
الشعر لزوجة أديب كبير من شعراء العصر الحاضر اعتاد أن ينشر كل أسبوع مقالة يقول فيها: (وقلت لزوجتي أنت يا امرأة) فقالت هذه السيدة المحترمة:
. . . . يا امرأتي. . . ... يا امرأتي. . . ما تريد يا رجل!
ثم أتمت القصيدة.
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: حدثنا أحمد أمين قال: إن الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي في هذا الباب أيضا باب العلاقة الجنسية، فلولا تقديس أدباء العربية للجاهليين لنزع كل أديب نزعة شخصية صادقة كانت تقيهم على الأقل من سخرية المتنبي منهم في قوله:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم ... أكل أديب قال شعراً متيم
ولكن الأمر لم يقتصر على استخفاف المتنبي بالأثر الذي تركه الجاهليون بتقديس العرب إياهم في شعر العرب بعد أن وجب زوال الأثر الجاهلي.
قال عروة:
فإن يأخذوا أسماء موقف ساعة ... فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
وكان هذا القول طبيعياً ممن يئدون البنات خشية الإملاق ولكن تحدث طبيب ليلى المريضة(318/47)
بالعراق عن ظفره بليلى وفضيحته إياها هذه الفضيحة الشنعاء ليست إلا أثراً من أثر الشعر الجاهلي فيه.
قال أحمد أمين: وهل نجد في الشرق رجلا ممن لم يقرءوا الشعر الجاهلي يستسيغ أن يفضح من يزعم أنه يحبها هذه الفضيحة؟ إلا رحم الله الأبيوردي حيث يقول:
وكم للغواني من يد قد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها
فهذا هو الشعور الطبيعي عند رجل متمدين. أما الذي يقول فيما يقول: إن زوجتي أطال الله عمرها لن تموت بداء غير داء الغيرة، فلا أستطيع تأدبا أن أصفه بغير التمدين ولكني أصفه بالتأثر الشديد بالشعر الجاهلي. وهل من حق إنسان أن يتحدث عن الأدب وهو لا يقدر أثر الإحياء الدائم المستمر في النفس؟
لقد نمنع أبناءنا عن الاتصال بالطبقات التي لا نرضى عن أخلاقها خشية كلمة تقال فتترك في النفس أثرها فكيف بشعر نعجب به ونمجده ونستظهره ثم نعيده ونستعيده سنين، ثم نعلمه بعد أن نتعلمه فإذا نسيناه رسب في عقلنا الباطن؛ ألا يترك هذا كله أثرا في النفس؟ وإذا لم يكن التكرار المقرون بالإعجاب ليترك أثرا في النفس فلماذا نؤمن بالأدب ولماذا نكتب؟ دعنا مما يقوله علماء النفس في الإيحاء ولننزل إلى مرتبة العامة. ألم نسمع قول العامة: (الدوي في الآذان أشد تأثيرا من السحر).
هؤلاء الجاهليون الذين يئدون البنات تركوا في القرن التاسع عشر من يقول:
ولست بيهفوف يرى رأى عرسه ... إذا أركبته مركبا فهو راكبه
يظل إذا ما نابه الخطب حائرا ... يخاطبها في شأنه وتخاطبه
وحدثنا الأستاذ فرويد قال:. . . ولكنني لا أذكر ما قال فقد كان يتحدث عن العقد وهذه عقدة العقد.
وحدثنا الدكتور محمد حسين هيكل باشا قال: أما أن لغة الجاهلية لغة سليمة فمما لا ريب فيه، لأنها إما أن تكون هي العربية الأصلية إن كان هناك شعر جاهلي، وإما أن تكون لغة أعلم الناس باللغة الجاهلية إن كان علماء الأدباء في العصر الأموي قد وضعوا ذلك الشعر نماذج كما ينبغي أن تكون عليه اللغة. ولكن كون الفكر الجاهلي يعرب عن الرأي الراجح فهو المحال بعينه. وكيف نستطيع التوفيق بين الإيمان بحياة محمد وبين الإيمان برأي إنما(318/48)
بعث محمد لكي يهدمه؟ ولقد تلقينا الشعر الجاهلي لغة لها أسلوب يجب أن نرضاه؛ وفيها معان قصارى الرأي فيها أنها وليدة أفكار ومبادئ، وليس بالمقبول ولا المعقول أن تكون هذه المعاني خالية من الفساد وإلا فلماذا نشأ الدين؟ وما جدوى الحياة الإنسانية إن كانت هذه الآراء وتلك المبادئ لا تزال صالحة بعد خمسة عشر قرنا من الزمان؟ إنه ينبغي على من يعلم النشء لغة الجاهلية أن يحذرهم من قبول الفكرة الجاهلية فإن التكرار مع الاستحسان يورث العادة، وليس كذلك التكرار مع الاستهجان. وإني لأعجب من معلم للغة العربية يعلم تلاميذه قول الشاعر الجاهلي
نسوق النساء عوذها وعشارها
ثم لا يقول لهم إن لغة هذا الشاعر سليمة ولكنه من حيث الأخلاق لا يمتاز شيئا عن البهائم. وإني لأعجب من معلم للغة العربية لا يقول لتلاميذه إن امرأ القيس وإن كان عبقرية معجزة في فنه فإنه كان في آرائه وشعوره نحو النساء كأي حمار في الطريق؛ وإن غزله لا يختلف شيئا عن النهيق وإن لنا منه اللغة. أما الشعور الإنساني الصحيح ففي قول الشاعر
وكم للغواني من يد قد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها
وقال الدكتور طه حسين إن إنكارنا للأدب الجاهلي لا يتنافى مع صحة الرأي الذي تحدث به هيكل باشا، فإن الذين لفقوا الشعر الجاهلي إنما لاحظوا طبائع الجاهلية وسجاياها.
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن أبا الفرج الإسكندراني رجل منافق في علاقته النسوية ومثله في ذلك كمثل الأبيوردي سواء بسواء. وأنا لا أقول كما يقول الأبيوردي
وكم للغواني من يد جحدتها ... وشكر أيادي الغانيات جحودها
ولكنني أقول إن صبايا سنتريس سيقتل بعضهن بعضا غيرة علي وأقول كما يقول أبو نواس الذي لم يكن بالجاهلي:
ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر
وأقول كما يقول كشاجم وليس بالجاهلي:
خوفوني من فضيحته ... ليته يدنو ونفتضح
صوت(318/49)
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
الشعر لأبي نواس واللحن للدكتور زكي مبارك
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(318/50)
الجبرية والاختيار
في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
- 1 -
. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا مقطعة، وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح.
من المسائل التي واجهت الباحثين والفلاسفة منذ زمن بعيد مسألة الجبر والاختيار؛ تكلم فيها اليونان والفرس، ونقلها عن اليونان السريان، وخاض فيها النصارى حينما تفلسفت ديانتهم، وتكلم فيها الكلاميون من المسلمين. وكانت تتلون في مراحلها وتختلف باختلاف هذه المدارس. فإذا تكلم فيها الفلاسفة قصدوا إلى غرض فلسفي بحت: وهو تفسير الكون ومظاهره تفسيرا ما؛ وإذا تكلم فيها الأخلاقيون قصدوا إلى غرض اجتماعي: هو النظر في المجتمع ونقده، وإصلاحه أو محاولة ذلك؛ وإذا تكلم فيها أهل الدين فإنما يلتمسون من بحثها تخريجات تبرر مسئولية الفرد عن أعماله، وتقيم فكرة البعث والحساب والعقاب على أسس تختلف قوة وضعفاً.
والفلاسفة يعنيهم أن يتفهموا الكون وحركاته، كل ما يجرى فيه اهو ضروري ناتج عن إرادة مسيطرة متصرفة، أم هو نتيجة اتفاق بحت لا يربطه قانون أو تقيده قواعد. وهم بعد ذلك ينتقلون إلى الإنسان مظهر هذه المشكلة اهو مخير فيما يفعل، بمعنى أن لا شئ يمنعه من إتيان عمل ما، أو يدفعه إلى فعله، بمعنى أن أمره موكول إلى إرادته الخاضعة للمؤثرات الخارجية من ظروف وصدف. أم هو مجبر فيما يفعل بمعنى أن قوة تدفعه إلى أن يفعل ما يأتيه مجبرا، فهو كالعالم منضبط بتلك القوة التي تسيطر عليه، خاضع لنفس القوانين التي يخضع لها هذا الكون.
والأخلاقيون يعنيهم البحث في الأفعال الإنسانية من حيث هي صادرة عن التكوين الخلقي للإنسان فقط ولا أثر لعامل خارجي عليها، أو أن النظم الاجتماعية والظروف الطبيعية التي(318/51)
يعيش الفرد تحت تأثيرها تعينان نوع الأفعال الصادرة عن الإنسان؛ وبأي معنى من المعاني يعتبر المرء حرا على هذا الأساس. وعلى أية فسواء اتفق الأخلاقيون في وجهات نظرهم إلى تلك المسألة أم اختلفوا فهم متفقون في الغرض، وهو إصلاح المجتمع وتهذيبه.
أما رجال الدين والكلاميون من المسلمين فقد خاضوا فيها وكان همهم الأول البرهنة على أن الإنسان إما خالق لأفعاله فهو مسئول عنها أمام الله في القيامة، ويحق عليه الجزاء ثوابا وعقابا؛ أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب؛ وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده.
والكلام في القدر لم ينشأ إلا في الشام والبحرين على خلاف في اسبق القطرين إلى الخوض فيه. ثم إنه نشأ دخيلا على الإسلام: أعني أن أول من تكلم فيه كان نصرانيا وأسلم ثم تنصر، وأخذ عنه معبد الجهني وغيلان الدمشقي. كان هذا بدء الكلام في القدر. وقد أتاحت الخلافات السياسية حول الخلافة لهذه الأبحاث أن تروج وتتضخم، وأن تنقسم وتتكاثر. فإن الخلافة كانت مصدر القلاقل والفتن في أيام الخلفاء الراشدين، وإن الفتن أنتجت شيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة وأزارقة وأشاعرة إلى غير هذه الفرق التي تختلف فيما بينها بالرأي في الخلافة والخليفة غالباً. والذي يعنينا هنا فرقتان من هذه الفرق العديدة: المعتزلة، والجهمية. فقد كانت آراؤهما أروج الآراء انتشاراً في هذا الباب.
أما الجهمية فقد كانت تقول بالجبرية المطلقة أي إن الإنسان كالجماد وأن الله يخلق فيه الأفعال كما يخلقها في الجماد، ويجبر عليه الحساب ثوابا وعقابا.
أما المعتزلة فقد تكونت على أثر خلاف في مرتكب الكبيرة اهو كافر خالد في النار. وقد قالوا بأن الله لا يخلق أفعال الناس بل هم يخلقونها، وبان الله لا صفات له غير ذاته. فشاركوا الجهمية في هذا الأصل، وقد أقروا بسلطة العقل وقدرته على الحكم بالحسن والقبح العقليين.
ولو كان الأمر في هذه الفرق قاصرا على حد الكلام والاستعانة بالفلسفة اليونانية وغيرها لما كان لها هذه الأهمية التي شغلتها. ذلك بأنها كانت تريد بسط تعاليمها على الواقع العملي. فالمعتزلة حين قرروا مبدأ حرية الإنسان كانوا يريدون من ذلك أن الناس مسؤولون عما يقومون به من حروب ومنازعات؛ وحين قرروا مبدأ السلطان العقلي كانوا يريدون(318/52)
القياس في الحكم. وذلك أمر لم يقره أهل السنة وكان سبب خلاف كبير. وقد تمكنوا أن يسيطروا على الواقع السياسي مدة من العصر الأموي الأخير؛ فقد اعتنق مبادئهم يزيد الناقص ومروان بن محمد وأخوه إبراهيم.
والمهم أنه ما كاد يأتي القرن الثالث والرابع، حتى كان علم الكلام قد نضج نضجا، وحتى ترجم إلى العربية فلسفات كثيرة، وحتى اختلط ذلك كله بالدين والعقائد. وقد عملت أحداث السياسة وفتن الرأي على إضعاف الدولة واضمحلال الملك. وكان الشام هو مرجل فتن الرأي والدين والفلسفة والسياسة جميعا. كان هو والعراق فقط، أما ما عدا ذلك من أنحاء الدولة الإسلامية فقد كان مستقرا نوع استقرار.
في هذا الوسط المضطرب المحتدم نشأ أبو العلاء، وتنقل بين أرجائه ما بين المعرة وحلب وبغداد، فشارف ما كان بعصره من الفلسفات اليونانية والإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية وكانت من عناصر ثقافته، هذا إلى نظراته الخاصة ولمحاته الشعرية العديدة.
ولم يحاول أبو العلاء في (الفصول والغايات) أن يسلك هذا المسلك الذي نراه من تقيد فني باللفظ ولزوم ما لا يلزم ونظام الفصول والغايات والنغم والموسيقى، إلى غير ذلك من الفنون النثرية ليدل على مقدرته الفنية، أو يبرهن على سعة اطلاعه ومعرفته بأخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم، وذكاء فؤاده اللماح، بل أنا أوشك أن أقول بأنه قد سلك ذلك حتى يصرف الناس إلى ظواهر الأشياء، حتى لا يصيبه أذى من السفهاء، وحتى يأخذ كل من معانيه ما يلائمه وما يستطيعه عقله ويقبله ذهنه. فهذا أمر يوجب الجذر حين نتلقى عن المعري آراءه. وأمر ثان هو أن المعري كان منعزلاً لا هم له إلا تقرّي نفسه وملاحظتها ملاحظة دقيقة. وقد يحتاج أحيانا إلى الترويح والتسلية، وكان يعمد إلى هذا النوع من اللهو بالمعاني والألفاظ، وذلك واضح جدا في فنه اللفظي على الأقل. فعندما نسمع قول المعري يجب أن نحتاط قليلا، فربما حمله العبث باللفظ على شئ من الاعتساف في المعنى، أو اندفع إلى معنى غريب غير مقصود في سبيل أن يستقيم له فنه اللفظي الذي أخذ نفسه به أخذا عنيفا، وكثيرا ما شط به المعنى عن اللفظ. يجب أن نحتاط إذن حينما نسجل على المعري آراءه، فنحن لا نعرف متى كان المعري هازلا، ومتى كان جادا في عبثه بالألفاظ والمعاني. وأمر ثالث يجب أن نلتفت إليه: فهو قد يرى آراء يحرص عليها فيدونها على(318/53)
أنها من فلسفته، ويمكن أن تكون آراء لغيره دونها للتصوير والافتنان، ويمكن أن تكون بين بين: أعني أنها خواطر عرضت له كما تخطر الخواطر لأي شاعر سواء تعارضت مع مبادئه العامة أو اتفقت. فلا عجب إذا رأيته يحدثك بان الإنسان مجبور في كل أعماله وتصرفاته، ثم يأتي فيذكر لك أن للمخلوق في الأقدار تصريفا! فهذا لا مرد له إلا ما قلت من أمر عبثه بتلك الخواطر السوانح له في خلوته، وحرصه على تدوينها متفننا مبتدعا مستعينا على ذلك بما علم من شعر الأقدمين وأخبارهم وعلومهم.
وأبو العلاء يقول بالجبر المطلق في أفعال الإنسان وأعماله، ويرتب على ذلك نتائج اجتماعية خطيرة، وآراء فلسفية خطيرة كذلك.
ونحن إذا أردنا أن نلتمس نظرية الجبر عنده فلن نجدها مجموعة في مكان وأحد، ولا هو يعالجها بأسلوب وأحد، وإنما أنت تقرا الكتاب جميعا فتجده ينطق جبرية، إذ لا يكاد فصل من الفصول يخلو من الجبر تلميحا أو تصريحا أو رمزاً. فهو ساخر مرة، ثائر أخرى، هادئ أحيانا، ممجد قنوع في اكثر الكتاب. على أن تقريره الجبر المطلق أوقعه في حيره وارتياب كبيرين، فمن الناحية الدينية لا تستطيع أن تستبين رأيه في التكليف ولا في البعث فهو مضطرب فيهما أشد اضطراب، ذلك لان الجبرية إما أن الله يقدر عليك العمل ويقدر عليك الجزاء كما تقول الجهمية، وهو عبث يأباه المعري على الله؛ وإما أن تقدر عليك العمل ولا جزاء، وهو ما يلائم المعقول حالة تقدير العمل، ولكنه يخالف الدين صراحة. والمعري في كل أحواله آخذ بما يرى العقل. والعقل هو الذي هداه إلى أن الجبر مسلم به، لأن كل شئ في هذه الحياة إنما هو نتيجة لشيء كان قبله ومقدمة لما يأتي بعده، وإلا إذا كان الأمر اختيارا فإما أن يكون متصلا بما قبله وما بعده، اتصال العلة بمعلولها فيكون الجبر بعينه، أو أن يكون الأمر فوضى واضطرابا وهو ما لا يثبته الواقع الخارجي.
ولست بسبيل أن أدافع عن نظرية الجبر، أو أتكلم عنها مطلقة، ولكني أثبت صفات الفلسفة العلائية صحت أو لم تصح. وأقرر أنه اعتمد على العقل في كل أحواله، وعلى العقل فقط؛ فما قام عليه دليل العقل احترامه واعتنقه، وما لم يقم عليه دليل أو خرج عن حيز العقل وقف منه المعري موقفا يختلف رفضا وشكا، لا يصلان إلى درجة الإنكار المحض، ولا الإيمان المسلّم، وخاصة إذا كان الأمر يمس الدين والقدرة الإلهية من قريب أو بعيد.(318/54)
ولكن ذلك قد يدفع المرء إلى أن يتساءل هل أخذ أبو العلاء بهذا الأصل في كل فلسفته؟ قد يكون أخذ به في اللزوميات من بعد، ولكنه في (الفصول والغايات) يصرح بأنه (يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر. فأما الحس فزجر طير هي خليقة بالكذب، وإن صدقت فباتفاق؛ والعلم لله كملا) وقد توفر للمعري اثنان من مدركات العلم، ولكنه أهمل المتواتر حرصا منه على الحقيقة، واحترازا مما قد يكون أصابها من خطا أو تحريف. فإذا خُبِّر خبر الجرادتين اللتين غنتا لوفد عاد تساءل: (ما قالت الجرادتان لوفد عاد؟ قالتا ما الله به عليم، طال الزمن فلم يعلم القيل. . .) فعلمها عند الله وحده؛ وسواء سلم بصحة الحادث، ورفض المروى، أو رفض الخبر أصلا فهو لا يعتمده في شئ مصدرا من مصادر العلم أو اكتسابه، فلم يبق له إلا القياس الثابت: حكم العقل، فهو يهتدي به ويتخذه نبراسه في كل أموره وشؤون فكره، وهو مع ذلك كثير الشك كثير التساؤل كثير الحيرة، يحس ذلك من نفسه فيعترف به اعترافا صريحا إذ يقول (أدلج وأدلج، وإذا سئلت فأنا ملجلج، والله للمنصف ظهير). . لا يجزم بشيء ولكنه مؤدب اشد الأدب، يتساءل في عجب بدل أن يعترض أو يثور. وهو منطقي النهج في التفكير يقدم المقدمات، ويستنتج النتائج ويقيس عليها قياسا منضبطا. فانظر إلى هذا القياس المنطقي الدقيق (المدمن على اللهو، خدن الغفلة والسهو، المنتقل من بهو إلى بهو، ملئ من الكبر والزهو، يسبح في عيش رهو، يسأل عن الطعام والطهو، أخسر صفقه من شيخ مهو) هذا قياس منطقي سليم؛ فهو يؤكد أن الشاب المرح خاسر، وهو لا يعفي الشيخ من الخسر كذلك، ولكنه لا يدري أتؤيد الحقيقة هذا القياس فيقول (فدلني ربي على الرباح).
وحين تتعارض وسيلته هذه مع الحقيقة أو الواقع يتحير فيقول: (هكذا يقول المعقول ولله نظر في العالم دقيق). وهو يوصيك بأنك (إن سمعت أن الرقيع أمطر جندلاً، وأنبتت البقيع حنظلا. فقل: أما في المعقول فلا، وأما في القدرة فبلى) فهو هنا يثبت بان الله حكمة وقدرة أعظم من أن يتصورها العقل أو يدركها، ويسجل أن الله قدير لا تتقيد قدرته بمعقول أو غير معقول، ولكن ذلك لم يمنعه أن يعمل عقله فينتهي به هذا إلى استحالة ذهنية، فهو يقر بهذا العجز المطلق عن إدراك أغراض القوة الخفية؛ وهو إذا ما فكر وأطال التفكير في الجبر والاختيار والثواب والعقاب فدان بالجبر وأنكر الثواب والعقاب كما يرشده إلى ذلك(318/55)
عقله استدرك وكر متراجعا في حيطة وحذر (فسُبحان الخالقِ غافِراً ومُعذِّباً، آلرّشدُ دفينٌ، أمْ أنا أفينٌ؟ قَدْ عشتُ زمناً فما رِشتُ، ابْرِكي يا مَطِيّة فهذا المناخُ).
ولعل عجزه عن أن يقيم أقضيه العقل على حكمة الله قد دفعه في يسير من وقت أن يقر الخيرة للإنسان. فنجده يمجد الله تعالى (مَنْ خارَ لِعبادِهَِ وهُمْ للخيرَةِ كارهون) ويسأل الإنسان متعجبا أن (ما يَمْنعكَ أنْ تَتَّخذَ الْقِسِيَّ وأنتَ في بِلادِ الضَّالِ)، ويحض المرء أن (دَعْ ما ضَرَ وصَعُبْ عَلَى مَا نَفَعَ وَهانَ، وَخلِّ ما غَمَرَ إلى ما غَمَّرَ واتركْ المِضلَّة إلَى المرشدةِ، فَإن طُرَقَ الخيرِ كثيرٌ) ولكننا سنرى المعري في كل الكتاب يقرر ويقرر (أنَّ رَبَّنَا المُوَفِّقَ لجَمِيعِ السَّدَادِ) وأنك (لَنْ تَقْضِيَ أَمْراً إلاّ بِالْقَضَاءِ).
وحيرته هذه ناشئة من طبيعة وسيلته إلى العلم. ذلك بأنه مؤمن بان العقل وحده هو الموصل إلى العلم، وهو واثق من أنه ما دام قد أوصله العقل إلى الطبيعة فلا بد أن يصل به إلى ما بعد الطبيعة. وهو مؤمن كذلك بان الله خلق هذا الكون عن حكمة.
(للبحث صلة)
السيد محمد العزاوي(318/56)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
487 - مثاقف
يتيمة الثعالبي: سمعت عونا الهمذاني يقول: أتى الصاحب ابن عباد بغلام مثاقف. فلعب بين يديه. فاستحسن صورته وأعجب بمثاقفته. فقال لأصحابه: قولوا في وصفه، فلم يصنعوا شيئاً. فقال الصاحب:
ومثاقف في غاية الحذق ... فاق حسان الغرب والشرق
شبهته والسيف في كفه ... بالبدر إذ يلعب بالبرق
479 - راقص
قال ابن خروف في غلام جميل الصورة راقص:
ومنزّع الحركات يلعب بالذهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه
متأوّد كالغصن وسط رياضه ... متلاعب كالضبي عند كناسه
بالعقل يلعب مدبراً أو مقبلاً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه
وبضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضُمّ ذبابه لرياسه
480 - وان غلبه العدو لم يغلبه حقير
قال لسان الدين بن الخطيب: حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه، وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو، وما عرفته من فضله. فأنكر عليّ بعضَ الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان. فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله! تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق؛ فإن كان السلطان غلب عدوَّه كان قد غلب غير حقير، وهو الأولى بفخره وجلالة قدره، وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة. فوافق - رحمه الله - على ذلك واستحسنه، وشكر عليه، وخجل المعترض.
481 - تفتضح العشاق وقت الرحيل
قال ابن السكيت: عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الحج. فخرجت إليه جارية له(318/57)
شاعرة فبكت لما رأت آلة السفر. فقال:
دمعةٌ كاللؤلؤ الرّطْ ... بِ على الخدّ الأسيل
هطلتْ في ساعة البي ... نِ من الطرف الكحيل
فقال مجيزة:
حين همّ القمرُ البا ... هرُ عنّا بالأفول
إنما تفتضحُ العشّ ... اقُ في وقت الرحيل
482 - تغافل كأنك واسطي
في (معجم البلدان وخزانة البغدادي): شرع الحجاج في عمارة واسط سنة (84). ولما فرغ منها سنة (86) كتب إلى عبد الملك: (إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط)؛ ولذلك سمي أهل واسط: (الكرشيين) فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا: يا كرشي فيتغافل ويرى أنه لا يسمع أو أن الخطاب ليس معه. فقيل: تغافل واسطي، وتغافل كأنك واسطي. ولفضل الرقاشي:
تركت عيادتي ونسيت برى ... وقدماً كنت بي براً حفيا
فما هذا التغافل يا ابن عيسى ... أظنك صرت بعدي واسطيا
483 - ولكن قذاها زائر لا نحبه
في الأغاني: بينا الأخطل جالس عند امرأة من قومه، وكان أهل البدو إذ ذاك يتحدث رجالهم إلى النساء لا يرون بذلك باسا وبين يديه باطية شراب، والمرأة تحدثه وهو يشرب. . . إذ دخل رجل فجلس. فثقل على الأخطل وكره أن يقول له: قم، استحياء منه! وأطال الرجل الجلوس إلى أن أقبل ذباب فوقع في الباطية في شرابه. فقال الرجل: يا أبا مالك، الذباب في شرابك! فقال:
وليس القذى بالعود يسقط في الخمر ... ولا بذباب، نزعُه أيسرُ الأمر
ولكن قذاها زائر لا نحبه ... رمتنا به الغيطان من حيث لا ندري
فقام الرجل فانصرف:
484 - كلب البيت(318/58)
ابن قتيبة: قال عُمارة بن حمزة: يُخبز في بيتي كل يوم ألف رغيف، كلهم يأكله حلالا غيري. . . (وكان يأكل رغيفا وأحدا). ويقولون: فلان رب البيت، وإنما هو كلب البيت.
485 - الأراجيف
في (تاريخ الأمم والملوك) لابن جرير الطبري: قال أحمد ابن اسحق بن برصوما: لما حصر محمد (الأمين) وضغطه الأمر قال: ويحكم! ما أحد يستراح إليه؟ فقيل: بلى، رجل من العرب من أهل الكوفة يقال له: وضاح بن حبيب بن بديل التميمي، وهو بقية من بقايا العرب وذو رأي أصيل. قال: فأرسلوا إليه. فقدم عليه. فلما صار إليه قال له: إني قد خُبّرت بمذهبك ورأيك فأشر علينا في أمرنا. قال له: يا أمير المؤمنين، قد بطل الرأي اليوم وذهب، ولكن استعمل الأراجيف؛ فإنها من آلة الحرب فنصب رجلا كان ينزل دجيلا يقال له: بكير بن المعتمر فكان إذا نزلت بمحمد نارلة وحادثة هزيمة، قال له: هات! فقد جاءنا نازلة. فيضع له الأخبار، فإذا مشى الناس تبينوا بطلانها.(318/59)
ابنة العار
للأستاذ فؤاد بليبل
يا ابنةَ العارِ، والخنى، والرذيلَةْ ... أنا لولاكِ ما عرَفتُ الفضيلةْ
أنتِ كالليلِ، فيه قد كمَنَ النُّو ... رُ ومنه مدَّ الصباح تَليْلَهْ
ومن السمِّ ما يعلُّ ومنهُ ... ما تداوي بِه الجسومُ العليله
إنَّ في لحظِكِ الأثيمِ بريقاً ... طاهراً أخطأَ الوزى تأويله
هو صحوُ الضميرِ من غفلةِ الإث ... مِ على مصرعِ الخلالِ النبيله
هو ومضُ الحياءِ في غيهبِ البغ ... ي وفيضٌ من المعاني الجليله
هو ذوبٌ من الشعور رقيقٌ ... لاحَ كالفجرِ في ظلامِ الرذيله
هو روحٌ ذابتْ أَسى فاستحالت ... عبراتٍ بين الجفونِ الكحيله
أثقلتها الآثامُ فهي شرورٌ ... وَجَلَتْها الآلاُم فهي صَقيله
كلما دانت الحقيقةَ أَلْفَتْ ... دونَ إدراكِها سجوفاً سديله
ونزاعاً طيَّ الضلوع عنيفاً ... بين قلبٍ صحا ونفسٍ ضليله
ومن العارِ ما يبرِّده الجه ... لُ وما يجهلُ الورى تعليله
يا ابنةَ العارِ أنتِ بالعُذْر أولى ... منكِ بالعَذْل جارِحاً والنميله
إنما النذْلُ من حداكِ على الرج ... س وأغراكِ بالوعودِ الجميله
زيَّنَ الوِزْرَ والمخازي لعين ... ك ولم يدَّخر لخدعِكِ حيله
وأراك المنيع حِلاًّ شهيّاً ... لا لشيءٍ إلا ليروي غليله
فإذا بالنكيرِ غيرُ نكيرٍ ... ساغَ حتى لم تنكري تحليله
فخلعتِ العِذَارَ ساعةَ لهوٍ ... ونَبَذْتِ الحياَء إلا قليله
فضيَ الأمرُ، واستفقتِ على الخز ... ي فحاولتِ بالدموعِ غسيله
وأبى الشرعُ والتقاليدُ إلاّ ... أن تظلِّي - وإن ندمتِ - نذيله
وتنحَّى عنكِ الجميعُ ولم تج ... دِكِ نفعاً تلك الدموعُ الطليله
قتلوا فيكِ كلَّ روحٍ شريفٍ ... وأحلُّوا روحَ الفسادِ بديله
ثم أرادُوكِ أن تكوني بغيّاً ... وهُم أَقْلَعوكِ ثَوْبَ الفضيله(318/60)
فتردَّيتِ في النقائصِ والبُط ... لِ ولو أَصلحوكِ كنتِ كميله
هفوةٌ بعد هفوةٍ بعد أُخرى ... هفواتٌ كانتْ عليك وبيله
ليتَ شعري ماذا جنيتِ من الطي ... شِ سوى الغمِّ والحياةِ الذليله
وانهيارِ الآمالِ والندمِ المرِّ (م) ... وندبِ الرغائبِ المستحيله
وذبولِ الشبابِ دَارَت عليهِ ... برحاها أيدي المجونِ الثقيله
وغضونٌ تزدادُ يوماً فيوماً ... وعيونٌ كادتْ تكونُ كليله
وضميرٌ قد حجّرَتْهُ المعاصي ... وحياةٌ بالموبقاتِ حفيله
(دار الأهرام)
فؤاد بليبل $ 2(318/61)
الإسكندرية
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
يا فِتْنَةً سَحَرَتْني ... فيها الرُّؤَى تَتَجَسَّمْ!
ما أَنتِ إلا خَيَالٌ ... في رأسِ وَسْنانَ يَحْلُمْ!
على ضفافكِ تمضي ال ... عصورُ لا تتكلَّمْ!
المَوجُ يَصْخَبُ هُزَْءاً ... والشطُّ جَذْلانُ يَبسِمْ
وأنتِ! أنتِ جلالٌ ... على البسيطةِ خَيَّمْ
للشعرِ قُدْسٌ ومَغنَى ... وللمفاتنِ مَوْسِمْ
يا فِتْنَةً تَتَجنَّى ... على الخِضَمِّ وتَعْظُمْ
حَمَلْتُ قيثارَ شِعْرِي ... وَجِئْتُ كي أَتَرَنَّمْ
فما تَسَمَّعْتُ إلا ... قصيدةً لا تُترْجَمْ
منظومةً من حسانٍ ... على الشَّواطئ نُوَّمْ
هُنَّ المعاني ولكن ... أسرارُها ليس تُعْلَمْ!
وكأسُ حُسْنِكِ تُوحي ... بالمُبْدعاتِ وتُلْهِمْ
حَبَابُها سابِحَاتٌ ... من الكواكبِ عُوَّمْ
يَهَبْنَ في اليَمِّ ما لا ... يهبن في الأرض مُغْرَمْ!
عَجِبْتُ للشَّطِّ تَحمَى ... بهِ الرِّمالُ وَتُضْرَم
وقد تَرَامَتْ عليه ... هَياكِل الفنِّ جُثَّم
حِسانُه تَتعَرَّى ... ونَجمُهُ يَتَحَشَّم!
وفِتنةُ الحُسنِ تَطغَى ... على القلوب وتَحْكم
يا فتنةَ الصّيْف هَذِي ... مواكبُ الناسِ تُزَحم
فرُّوا إليك سِراعاً ... من عَالَمٍ كجَهنَّمْ
ومِنْ قُيودٍ ثقالٍ ... ومِن تقاليدَ تُسْأمْ
إلى حياةِ مِرَاحٍ ... ومُتْعَةٍ وَتَنَعُّمْ
على ضِفَافِك تُبْنَى ... مُنىً. وفي الغدِ تُهدَم(318/62)
طُفُولَةُ العمْرِ حُلْمٌ ... هُنا. وفي الصحْو تهرَمْ!
حسن كامل الصيرفي(318/63)
قُبَيْلَ الوَدَاع. . .
للأستاذ العوضي الوكيل
لا تعذليهِ إذا انهلّت بوادرُهُ ... فَقدْ دَهاهُ وشيكاً ما يحاذِرهُ
دنا الفراقُ وفي ذكر اسمه أَلَمٌ ... القلبُ قد دَمِيتْ منه ضمائرهُ
وأقبلَ اليومُ لا كانت أوائلُهُ ... من الزمان. ولا كانت أواخِرُه
الصبحُ وهو بشير الحسنِ قد شَحَبتْ ... سِمَاتُهُ فهو جَهْمُ الوَجْهِ بَاسِرُه
لا الشمس في أفقه شمسُ تنيرُ ولا ... شعاعها باسمُ التلْماحِ ناضِرُهُ
ما إن أطالعُ في الأكوانِ من بَهِجٍ ... يوماً ومسرحُ حبي انفضّ سَامِرُهُ
هيهاتَ لا طربٌ يوماً ولا غَزَلٌ ... البشر في نَفسيَ اجْتيحَتْ مَشاعِرُه
يا غائباً ليس يدري أن غيبتهُ ... هي القضاءُ الذي تُخشَى مقادرُه
أدنيْت حَيْني وَرَوْض العمر ذو زَهَرٍ ... والهفتاهُ إذا جفّت أزاهِرُهُ!
حِرصي عليك وقد أغريْتني زمناً ... حرصُ البخيل إذا رنَّت دَنانِره
فكيف تَبْعُدُ عنّي أو تطيقُ نوىً ... إن لم أقل بِكَ هجرٌ ذي مَظاهِرُهُ؟!
أزوركم وكأني لستُ زائركمْ ... من لهفة الحب قد زادت سواعِره
والنفس تُزعم أني حين أشهدكم ... مخيّلٌ شَبحاً قد شط زائِرُهُ
وتزعمُ النفسُ أن العَيْن قد كذَبَتْ ... وكيف تكذبُ إنساناً نوَاظِرُهَ؟
يا أيها الريّ قد أظمأتني زمناً ... وإن يكنْ بك نهْرٌ فاض هادره
أنتَ الربيعُ وكم لي فيكَ من غَزَلٍ ... صاحت بلابلُهُ. . . غَنّتْ عَصافِرُهُ
عقّ الربيعُ فما رقَّت جَوانِحُهُ ... وقد توسَّل بالأنغامِ شاعِرُه
والغُصنُ إن أهلكَ الطيرَ الصدوحَ بِهِ ... فحسبه أنه قد ماتَ طائِرُه
فالنفسُ تأنسُ بالأغصانِ شاديةً ... وتجتوي الروضَ إن ماتت شحارِرُه
يا سوسنَ الروضِ مجلوّاً مطالِعه ... من قال ذاكَ ظلومُ الحسن ناكِره
بل أنتِ للعين بستانٌ به زهرٌ ... قد ضمّه في سناكِ الحلْو ناثِرُه
لا تسأم العينُ من مرآكِ ما نَظَرَتْ ... ولا الفؤادُ وإن طالت مَزَافِرُهُ
كفاكِ أنك في نفسي وفي أملي ... كونٌ من الفن لا تُحصى مفاخرُه(318/64)
كونٌ رحيبٌ. . . رحيبٌ لا حدودَ لَهُ ... تكشّفت لي - من حبٍ - سَرائرُه
(سعادُ) ما كان أضناني وأتْعسنِي ... النأيُ - ويليَ - جافي القلب جائِرُه
واستمهلي القومَ أيّاماً نجمِّلها ... بالقرْب إني شرودُ اللبّ حائِرُه
وعشتِ لي يا رجائي في الحياة ويا ... حلاوةَ العيشِ إن فاضت مرائره
العوضي الوكيل(318/65)
جمال وقلب
(من ديوان (إشراقة) تحت الطبع)
للشاعر السوداني المرحوم التيجاني يوسف بشير
وعبدناك يا جمال وصغنا ... لك أنفاسنا هياماً وحبا
ووهبنا لك الحياة وفجر ... نا ينابيعها لعينيك قربى
وسحرنا بكل ما فيك من ضع ... ف جميل، حتى استفاض وأربي!
وحبوناك ما يزيد يا لغ ... ز وضوحاً، وأنت تفتأ صعبا!
وذهبنا بما يفسر معنا ... ك بعيداً، وأنت أكثر قربا!
من ترى وزع المفاتن يا حس ... ن؟ ومن ذا أوحى لنا أن نحبا؟
من ترى علم القلوب هوى الحس ... ن وقال: اعبدي من الحسن ربا!
من ترى وثق العرى بين مسحو ... رين، أسماهما: جمالاً وقلبا؟!
التيجاني يوسف بشير(318/66)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الحب والفن والله
معراج غاندي الفنان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يصف القرآن أهل الجنة فيقول: (دعواهم فيها سبحانك الهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
ويعرف الإنجيل الله فيقول: (الله محبة).
ويروي الأستاذ فتحي رضوان في كتابة عن غاندي أنه لما كان في جنوب أفريقيا يجاهد الإنجليز في سبيل الهنود وكرامة إنسانيتهم كان في اجتماع، وفيما هو يغادره مصطحبا سيدة إنجليزية ألفته السيدة يتسلل من جانبيها إلى ركن مضلم، ورأته في الركن يواجه شبحا ورأته يمد يده إلى يد الشبح يأخذ منها شيئا ذا نصل براق، ورأته يخفي ذا النصل، ثم يتأبط الشبح فيخرج به من الظلمة إلى النور يسايره ويحادثه ويبساطه ويوداعه، ثم يعاهده ويستوثقه أمراً جللاً ثم يحييه ويفارقه فينصرف الشاب الهندي مطمنا مؤمنا معتزاً بما فيه من كبرياء المستشهد بعد أن كان الشبح المتخفي المتلصص النازع إلى الجريمة. فراع السيدة هذا الذي رأته وسألت غاندي فقال لها: أحسست أن هنديا كامناً لي يريد القضاء عليّ لأنه حسب فيّ السوء والغدر وخيانة الهنود، فسعيت إليه، وأنا مملوء بحبه كما أحب كل الهنود. . . اتجهت إليه وأنا في هذا الحب، فما مس حبي الغل في نفسه حتى نوره فتألق حبا، فتعارفنا وتفاهمنا فتآلفنا، وتفارقنا ونحن أخوان في حب الهند والذود عن الهند.
معجزة من معجزات الحب أيد الله بها غاندي ونجاه بها من كيد كان فيه الردى والهلاك، ولم تكن معجزة كهذه لتقع بين سمع إنسان وبصره من غير أن تفعم نفسه وتشغلها باستدراكها متحسسة متفهمة تواقة إلى تحصيلها بعد ما أعلن صاحبها أنها تيسرت له بتدريب روض عليه نفسه فكان هذا الإعلان إغراء بالمعجزات تباح لمن يريده، فدار بين السيدة وغاندي حديث تقصت فيه السيدة الحب وتعلمته من أستاذه الجديد، فكان مما علمه(318/67)
إياها أنه قضى زمناً ينام في مسارح العقارب والثعابين، وإنه كان يأمن عدواتها، يؤمنه حب لها كان يطوي نفسه عليه، وكانت تحسه نفاثات السم فتسالمه وتتجاوزه.
معجزات أخر تناسب من روح غاندي في نومه. فأي رجل هو؟
إنه من أولئك الذين تحيتهم سلام. . . وإنه من أولئك الذين يحققون في الأرض وصية الإنجيل ودعوته إلى الحب الذي يقول إنه هو الله. فأي رجل هو؟
ليس في تاريخه ما يدل على أنه عبقري العقل كما يعرف الناس العباقرة. كان في صباه تلميذاً متأخراً متهيباً منقبضاً عن الدرس واللعب. وكان في شبابه طالباً مجداً مثابراً شغالاً يعوض بالدأب والجهد ما تفوته عليه قلة الذكاء، وكان بعد ذلك في بدء اصطناعه المحاماة حيران متواضع الأمل، راضياً كل الرضا بأيسر النجاح لو يؤاتيه من أشق العمل، فهو يستفتي المجربين عن طرق النجاح كاليائس منه، ثم يطرب ويسعد عندما يبشره أحدهم بأن له التوفيق ما كد وانكب على عمله بالعناية والإخلاص.
فهل كان غاندي على هذا غبياً متراجع العقل حين كان في صباه التلميذ المتأخر المتهيب المنقبض عن الدرس واللعب، وهل كان في الحق قليل الذكاء حين كان في شبابه طالباً شغالاً لا يعرف فيه أساتذته ولا زملاؤه العقل المتألق الخطاف ويعرفون عنه الدأب والجد، وهل كان بعد ذلك المحامي الخائر الضعيف الجبان حين كان يسائل المجربين عن طريق النجاح في المحاماة وحين رضيت آماله أن تتواضع فتقعد عند تحصيل الرزق الهين والعيش التافه؟ هل كان غاندي هذا الإنسان الرخيص؟
الأدلة والدلائل من حياته تنفى عنه هذا. بل إنها تثبت له عكسه ونقيضه، فغاندي اليوم هو الرجل الأول بين رجال الإنسانية الروحية، وليس هو الرجل الخير بين رجال الإنسانية المادية. فلو كأنه ما حسبت له إنجلترا حساباً وما رهبت جانبه، فهي لا تخشى القسيسين ولا الرهبان بل إنها لو أمكنها أن تصرف الناس اللذين تنزل بلادهم عن الاشتغال بأمور دنياهم ما ترددت في ذلك وما تأخرت عنه، وما امتنعت عن الإنفاق على الأديرة والمعابد تحشر فيها الناس زاهدين حالمين، لتفرغ لها الأرض ترتع فيها تأكل وتشرب وتلعب وتعيث فيها تحضيراً وتمديناً. . . أما وهي تخشاه، وتتقيه، وتتملقه حيناً وتقسو عليه حيناً، فلا بد أنها تعرف فيه خطراً خطيراً تخاف أن يكتفها وأن يخنقها بهذه الخيوط الدقيقة التي(318/68)
يغزلها من القطن والصوف بمغزله الصغير الذي لا يزيد ثقلاً ولا حجماً على لعب الأطفال. . .
لا يمكن أن يكون غاندي هذا قريباً من الغباء ولا الغفلة؛ وإنما هو ذكي يتسامى ذكاؤه على ذكاء الناس، وعاقل يتعالى عقله على عقولهم. وليس في هذا عجب ولا فيه خرق لنظم الطبيعة. فنحن إذا تأملنا نفس غاندي، رأينا الرفعة والسمو متحققين فيها مؤكدين في الناحيتين اللتين تكملان النفس الإنسانية إذا أضيفتا إلى العقل، وهاتان الناحيتان هما الخلق والحس. فسيرة غاندي تثبت أنه من أرفع الناس خلقاً، ومن أشدهم استساغة لمعاني الشرف والنبل والوفاء والبر والصدق والعطف والتضحية، وغير هذه من الفضائل. . . فقد كان في الهند وفي إنجلترا وفي إفريقيا الجنوبية، مثلاً سامياً للإنسان الفضيل الذي يأسر بالفضل أهله وذويه، والذي يعجز خصومه عن أن يتهموه بنقيصة خلقية، وعن أن يصفوه برذيلة. هذا على الرغم مما يرويه هو من عيوب نفسه وزلاتها. فقد اعترف على نفسه بأنه كان يسرق من أبيه ما يشتري به الدخان، كما سجل على نفسه أنه اقترف الزنا بإيحاء من صديق شقي كان يغريه بالفساد في أوائل أيام الشباب. . . فهذه الخطيئات العابرة لم تكن في الحق أكثر من محاولات صبيانية أراد غاندي أن يتذوق بعض الطعوم من لذائذ البدن عن طريقها فما تذوقها حتى عافها سريعاً، لأنه رأى فيها تعبداً لغير الطلاقة والانطلاق. فعاد وصلح؛ ومنذ أن صلح وهو - فيما يعلم الله وفيما تقول حياته المكشوفة الصريحة - لا يقترف من الذنوب إلا هفوات الأولياء الصالحين.
هذه هي أخلاق غاندي! فهو بها أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال، وهو إلى ذلك بإحساسه أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال أيضاً. فقد مكنه الله من أن يصفي نفسه، وأن ينقيها حتى ليبلغ من صفائها ونقائها أن تعكس على النفوس أنوار إحساسها فتغيرها وتملأها بأمان النور وبهجته. وهذه مرحلة من الإضاءة الروحية يبلغها الإنسان بعد أن تتم له استضاءة نفسه هو بالإحساس الصادق والاستجابة لصدق الإحساس، وليس أدل على ما نقوله من هذا الحادث الذي طعن فيه غاندي بالحب ذلك الذي أراد أن يطعنه بذي النصل، فقتل فيه النزوع إلى الشر واعزم على الجريمة بعد أن جمع لها إحساسه وإرادته وإيمانه، وبعد أن دبر لها وقفته وخفيته وأعد لها سلاحه، وبعد أن هانت عليه فيها حياته وفرط لها(318/69)
في شبابه!
غاندي إذن هو اكمل من نعرف من الأحياء خلقاً وأنضجهم حساً. فإذا صدق أنه قليل الذكاء ضعيف العقل لأنه احتسبه في التلاميذ من المتأخرين، ولأنه كان من الشبان الشغالين، ولأنه كان من المحامين الحيارى التائهين، فإن أكبر ما كان يمكن أن نتصوره يصل إليه من مراتب الرقي البشري هو أن يكون شيخاً لطريقة من طرق التعبد والتدين اللذين يتطلبان في الصالح من أشكالهما هذا الصفاء في الحس، وهذا الكمال في الأخلاق، وقد مهدت الحياة لغاندي أن يكون هذا الشيخ، ولكنه أباه، وإن أنكر عليه شعبه هذا الإباء، وإن قدسه أهل ملته ورفعوه إلى ما يطاول مرتبة الأنبياء. ذلك بأن شعبه إذا لم يكن مفطوراً على تقديس المصلحين الأتقياء، فهو على الأقل مأخوذ بهذا التقديس متدرب عليه، فلو أن غاندي شاء أن يكون زعيماً من زعماء الدين لكان هذا الزعيم، ولما أنكر عليه الزعامة أحد، ولكنه عدل عن هذا إلى ناحية أخرى من نواحي الحياة تستلزم الكفاح العقلي والانتصار فيه، كما يسعدها التفوق الحسي والسلطان الخلقي. ولقد تم لغاندي النصر في هذه الناحية بشهادة بعض الكبار من رجال الإنجليز الذين قارعوه في الهند والذين وصفوه فقالوا: إنه رجل يمتاز في تكوينه على غيره من الرجال. . . وليست مغالبة الإنجليز الكبار بالأمر الهين، ولا الانتصار عليهم بالأمر المتاح لكل إنسان، والإنجليز حين يغالبهم الناس وحين يكافحون هم هؤلاء الغالبون لا يكافحونهم بالإحساس ولا بالأخلاق وإنما لهم في المكافحة سلاح آخر هو العقل، ويكاد العقل الإنجليزي يكون في أرقى مراتب العقل البشري، فإذا غلبهم غالب بسلاح العقل فلا يمكن أن يقال إنه قليل الذكاء أو إنه متقهقر العقل، ولقد غلبهم غاندي في مواقع كثيرة فلا بد من أن يكون أقوى منهم عقلاً وأشد ذكاء.
وإنه كذلك! وعلى هذا يتم له الانسجام النفسي القائم على أساس من النسب النفسية الرفيعة المتألفة من الحس الأنضج، والخلق الأكمل، والعقل الأوفر.
وهذا النوع من العقل هو الذي أردت أن ألفت إليه نظر القارئ في حديث اليوم. فقد رآني القارئ في أحاديث سابقة نافراً من الزي الأوربي الذي يتزيى به العقل الحديث، والذي ينزع إلى العلم المادي والحضارة المادية نزوعاً يكبت في الإنسان إحساسه ويخمد أخلاقه. وقد رآني القارئ في حديث الأسبوع الماضي أرجو للإنسانية أن ترقى فيتحقق لها العقل(318/70)
الذي يطالبنا به الله فتحله محل هذا العقل الأوربي الذي لا يصدق فيه أسمه إلا من حيث إنه غلل الحس البشري وكتف الأخلاق كتفاً لا يسمح لها بالسمو إن لم يهبط بها إلى الحضيض.
عقل غاندي هو بشارة من بشائر الرقي الإنساني التي تسارع إلى الظهور في بعض مراحل التطور البشري، ولو لم تتأهب الإنسانية لإحسان استقبالها وإحسان استنباتها.
فما هي ميزة هذا العقل وما هو طابعه؟
إنه العقل النافذ الهادئ المنطلق إلى هدف يناديه من السماء والذي يدرك حقائق الأشياء وما بين الأشياء من علاقات منذ أن تعرض له هذه الأشياء، والذي يلهمه الإحساس الصادق فلا يخطئ في تقديره ولا تكييفه إياها، والذي تقوده الفضيلة إلى إحسان الموزانة بين الحقائق وبين الأشياء فيعرف أيها يأخذ لنفسه وأيها يدع، وأيها جدير بالاهتمام وأيها حقيق بالإهمال، وأيها لازم لتقويم كيان الفرد، وأيها لازم لصلاح المجتمع، وأيها بعد ذلك حشو للعقل يتخمه ولا يغذيه.
هذا هو العقل الذي زان الله به غاندي، وهو عقل ممتاز سام يدل على غاندي كما يدل عليه إحساسه وكما تدل عليه أخلاقه فهو عقل خاص نادر لأن غاندي رجل نادر، وهو بطبعه غريب على هذه الحياة وهذه الحضارة، غريب على علومها وعلى الأجواء التي يجول فيها عقلها، ولذلك فإنه يكاد يصعب عليه أن يصاحب العقل العادي وأن يماشيه، وإنما هو ينفر من ذلك العقل العادي بطبيعة تكوينه، والناس الذين يعتبرون الحساب، وعلوم الرياضة (المتسحلفة) مقياساً للذكاء يرون هذا الاختلاف بين عقل غاندي وبين عقلهم ويأبون أن يتلمسوا الضعف في أنفسهم، وينسبون الضعف والتأخر للعقل الخارق العجيب الذي يحيرهم والذي يرونه كالعاجز عن مجاراتهم، وهو في الحق مستقيم يتجه إلى هدف خاص ينزع إليه صاحبه بإحساسه وأخلاقه، فلا يلتوي على نفسه ولا يتعقد ولا يتعثر مثلما تتعثر العقول المتحضرة حينما تجمع علمها من المتناثرات من الحقائق لا يحدوها في هذا الجمع غرض ولا تريد من سبيله أن تصل إلى هدف ولا أن تؤدي به رسالة، ولا يهمها إذا كان هذا الذي تعلمه شيء يستحق أن يعلم أو أنه لا يستحق ذلك.
وهذا هو أشرف ما يدعيه العلماء لأنفسهم فهم يقولون إنهم يطلبون العلم للعلم، وهم حين(318/71)
يدعون هذا يحسبون أنهم يردون به على أولئك الذين ينتقصون قيمة علمهم ويتهمونه بأنه سعى إلى خدمة المادة في الحياة، أو أنه سعى إلى خدمة الشر. فإذا صح هذا الذي يدعونه ولم نقس عليهم قسوة من يتهمونهم بمختلف التهم لم يكن علمهم إذن إلا ضرباً من الفضول أو التجسس على قوى الطبيعة. والفضول سخف، والتجسس رذيلة.
أما العلم الذي يصل إليه العقل الفضيل الحساس فليس فيه من الفضول شيء ولا من سخف الفضول، وليس فيه من التجسس شيء ولا من رذيلة التجسس، وإنما هو علم يطلبه صاحبه لأنه يحبه، ويرفض ما عداه لأنه لا يريد شيئاً غيره، وهو يسعى إليه لأنه يشعر أن فيه كماله، وأن في الوصول إليه راحته وأنه قبل هذا وذاك يرضي إحساسه وأخلاقه وينسجم معهما.
وهذا هو العلم الذي يبدو حين يطالع الناس وفيه من نفس صاحبه إحساس صاحبه وأخلاق صاحبه، كما يكون فيه من عقل صاحبه. فأي شيء يشبه هذا العلم؟ إنه يشبه الفن. وهو يشبه الفن من حيث أنه تعبير عن نفس صاحبه، ومن حيث إنه يحقق حاجة من حاجات صاحبه الروحية، وقد تشمل هذه الحاجة مطالب مجموعة خاصة من المجموعات البشرية وقد تشمل مطالب البشرية بأسرها.
هي إذن رسالة علمية عقلية، وهي قائمة على أساسين من الحس والخلق إلى جانب ما تقوم عليه من أساس العقل. وليس كل العلم هكذا، ولا كل العقول التي تجري وراء العلم هكذا. وإنما هي نفوس الفنانين التي تنحرف لضرورة من ضرورات الحياة عن إنتاج ما اصطلح الناس على اعتباره من الفنون الجميلة إلى أداء رسالات هي في ظاهرها غير هذه الفنون، وهي في حقيقتها فنون جميلة بل إنها أجمل الفنون. ذلك أنه إذا كان جميلاً أن ينشئ إنسان لحناً أو قصيدة أو تمثالاً أو صورة فأجمل من ذلك أن ينشئ إنسان نفس إنسان آخر، والأجمل الأجمل أن ينشئ إنسان جيلاً من النفوس في جيل من الناس على صور من خياله. وليس أجمل من أن تقوم رسالة فنية على أساس من الحب يطوى المؤمنون بها نفوسهم عليه ويهبونه لأعدائهم كما يهبونه لأصدقائهم: فتحيتهم سلام وغايتهم محبة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
عزيز أحمد فهمي(318/72)
رسالة العلم
قوانين النشاط الحراري وتحول الطاقة
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
قرأت في عدد مضى من الرسالة ما كتبه الأستاذ نصيف المنقبادي المحامي، وقد راعني ما فيه من الخلط بين التحقيقات العلمية والنتائج التي وصل إليها العلم وبين بعض فكرات عتيقة في الكون مستمدة من التفكير الفلسفي، لا تجد مكانا اليوم في عالم العلم. وأي فكرة أدخل على العلم من القول بأن المادة (أو مجموع المادة والطاقة) قديمة والاستناد إلى مثل هذه المبادئ الفلسفية للاعتراض بها على نتائج انتهى إليها العلم في المعمل والمختبر وحققتها التجارب على مدى طويل من الزمان. والواقع أن التفكير العلمي الحديث يرفض مثل هذه الآراء المرتجلة (ولا يعرف من مفهوم المادة والطاقة إلا أنهما عقدتان في عالم الزمان - المكان) وقد سبق أن أشرت إلى بعض هذه الحقائق في البحث الرياضي الذي نشرته لي مجلة الرسالة لأربع سنين خلت عن نظرية النسبية الخصوصية وقلنا في ذلك الحين ما نصه:
(ليست المادة كما يعبر عنها العالم الطبيعي الكلاسيكي، بأنها كل ما كان لها امتدادات ثلاثة في المكان، بل المادة مجموعة توالي الحادثات في نقطة واحدة من نقط عالم الزمان - المكان، وذلك بمعنى أن العالم ليس إلا مجموعة من الحادثات وتوالي عدد من هذه الحادثات في نقطة واحدة يلقى في روعنا معنى المادة) (الرسالة السنة الرابعة العدد 140. ص 387).
ومعنى هذا الكلام أن العلم الحديث يرفض فكرة المادة في مفهومها القديم الذي يعتبرها (الشيء الذي تتقدم به الصور) وهذا الرفض أقرب إلى إنكار المادة إذا أخذنا المادة على هذا المفهوم وهذا الكلام يمكن شموله أيضاً الطاقة ومفهومها وبعد ذلك تجد الصورة العلمية الجديدة للمادة والطاقة أقرب إلى - أعني الفلسفة التي لا تري شيئاً وراء المظاهر الطبيعية.
وإذن في مثل هذا التفكير لا يمكن التكلم عن القدم والحدوث، ومفهوم اللاتناهي في القدم لا معنى له في العلم الحديث.(318/74)
أما الشيء الذي يعترض به في الواقع على ما جاء به الدكتور محمد محمود غالي، فهو أنه تعقيداً أكثر من اللازم بمبدأ النشاط الحراري الثامن الذي قال به العلامة ساري كارنو عام 1824 والذي ينص على أن الطاقة في تحولها تتنزل وأن ليس في المستطاع عكسها. لأنه من المعروف أنه من اليوم الذي أذاع كارنو فيه رأيه قد بذلت الجهود في سبيل إيجاد التلاؤم بين مبدأ تنزل الطاقة وعدم عكسها ونظرية القوى المركزية التي تفترض إمكان عكس أي شيء في الطبيعة. ومن هنا قامت جهود ماكسويل وبولتسان وجيبس في أن الحادثات لو كانت تقترب من حلة التجانس، فليس ذلك نتيجته لأن العناصر المتباينة تميل لعدم التخالف والتباين، وإنما يعود ذلك إلى الاختلاط، فالاختلاط إذا بلغ الحد الأعظم اللامتناهي، أو ما يقرب منه بدا وكأنه متجانس للنظر وهو في الواقع غير ذلك. وفي هذا وحده عدم إمكان تصور أن الأجسام الساخنة لا ترجع لحالتها الأصلية عن طريق العكس. وكما أننا لو فرضنا حبة من قمح أخفيت في كومة من الشعير واختلطت بها، فتصور هذا الحادث من السهولة بمكان، والنظر البشرى لن يميز وجود هذه الحبة ومن هنا سيحكم بأن الكومة كلها متجانسة مكونة من مادة الشعير. وهو لو عرف أن حبة قمح قد اختلطت مع الكومة وذهبت طي الكوم فإنه سيعتقد باستحالة استخلاص حبة القمح من الكوم. وفي هذا وحده كان تفسير لعدم إمكان العكس الذي يتظاهر بمبدأ كارنو.
إلا أنه من المهم أن نلاحظ أن هذه المحاولات تستند إلى قوانين الإحصاء وهي إن كانت صحيحة في عالم النظر، ولكن مبدأ كارنو كان بكل قوته في عالم الوقع كمبدأ تؤيده التجربة. ولكن الذي حدث أنه في أواخر القرن التاسع عشر لاحظ العلامة برون في المايعات التي يستحضرها تراقصاً غير منتظم في الجزيئات، وعرف هذا التراقص بالحركة البرونية وقد ظن بادئ ذي بدء أن هذه الظاهرة وقف على عالم الأحياء إلا إن بعضهم لاحظ وجودها في العالم الميكانيكي - الآلي - وافترض لتعليلها أن الضوء يتجمع ويتكاثف على هذه الجزيئات، ولما كان الضوء لا يفترق عن موجات الحرارة؛ فإن الحرارة تتخلف في ذلك الوسط من مكان لآخر ويكون نتيجة ذلك مجموعة من المجارى وهي تحدث هذه الحركات. غير أن البحاثة نقض هذا الفرض بأن بين أن هذه الجزيئات كلما كانت صغيرة كانت حركاتها المشهودة تدل على أنها أسرع، هذا إلى أن هذه الجسيمات لا(318/75)
تتأثر بالنور الساقط عليها؛ فإذا صح أن هذه الحركات تحدث بدون أن تستند إلى مصدر من الطاقة خارجي، فماذا يكون الموقف؟
لا شك أنه لا يمكن التراجع عن مبدأ ماير في حفظ الطاقة؛ كما أنه يمكن أن ننكر أن الدلك والحركة يتحولان إلى حرارة، وبدون أن نبذل جهداً نرى الحرارة تتحول لحركة. وهذا ينافي مبدأ كارنو.
هذا ما تركنا فيه العالم في أوائل القرن العشرين والشك يحف بمبدأ حفظ الطاقة وقوانين النشاط الحراري وتنزل الطاقة.
حقيقة أن إينشتين وبيران وغيرهما قد أعادوا الثقة إلى هذه المبادئ والقوانين وإن عدلوها وأخرجوها عن مدلولاتها الأولى، ولكنا نعرف أن في الإمكان في ضوء الجهود الجديدة أخذ مبدأ كارنو من جهة حسابات الاحتمال وربطها بالنظرية الاحتمالية التي يقول بها هيزنبرج وشرودغبر وديراك وغيرهم من الأعلام، وإن كان لي أن أذكر هنا شيئاً لي فهو مذكرتي عن (الحركة البرونية) التي قدمتها عام 1935 إلى أكاديمية العلوم الروسية ونشرتها مبسطة بمجلة - الطبيعية - الروسية عام 1931 ونقلتها عنها في نفس السنة أما الأصل العلمي للمذكرة فتجده في لأخبار الأكاديمية وأعمالها العلمية وتجده في النشرة التاسعة 1935 ص411 - 416 ويمكن أن ينظر عنها شيئاً 1938 , , 1935.
من هنا نرى أن مبدأ كارنو من ناحيته النظرية لا يمكن أن يسوق إلى فكرة الموت البطيء إلا إذا حملنا المبدأ في الصور الجديدة التي أخذتها اكثر مما يجتمل، وأظن أن هذه المسائل، لأنها أدخل في باب المسائل النظرية، لم يولها الدكتور غالي أهمية وهو الأخصائي في المسائل التطبيقية من العلوم الطبيعية.
ولنا بعد عودة لمراجعة بعض آراء الدكتور غالي العلمية وخطراته خصوصا فيما يتعلق بمبدأ الصدفة المنظمة ونظرية النسبية.
(الإسكندرية)
إسماعيل أحمد أدهم(318/76)
دكتوراه في العلوم الرياضية والطبيعية النظرية وفي الفلسفة
العلمية من موسكو(318/77)
أجمل الكواكب
للأستاذ قدري حافظ طوقان
زحل أجمل الكواكب، وأكثر الأجرام السماوية بهاءً! سحر الناس بمنظره وخلبهم بحلقاته. ليس كمثله كوكب، فريد في شكله، وحيد في شذوذه. . . يحيط به ثلاث حلقات مستوية دائرية يختلف منظرها باختلاف موقعه. . .
فمن هالات بيضوية حوله. . . إلى خط منير يقطعه ويمتد على جانبيه!. . . ومن أغرب ما نرويه أن حقيقة هذه الحلقات عرفت من المعادلات الرياضية. فلقد بين العالم الشهير (ماكسويل) أن هذه الحلقات تتألف من أجسام صغيرة جداً كثيرة العدد، تدور حول الكواكب في أفلاك دائرية تقريباً. . . ولقد أثبت (مبين الأطياف) أن دوران أجزاء الحلقات البعيدة أبطأ من دوران القريبة، كما يرجح البحث العلمي: أن تكوّن هذه الحلقات يرجع إلى اقتراب أحد أقمار زحل نشأ عنه تمزيق ذلك القمر إلى قطع صغيرة تكونت منها هذه المجموعة من الحلقات الثلاث. . .
وهذا جزاء كل قمر يقترب كثيراً من أمه! فلو أقترب قمرنا من الأرض - وهذا سيجرى بعد ملايين السنين - فلا بد أن يجري عليه ما جرى على قمر زحل، فيتمزق إلى قطع صغيرة ينشأ عنها حلقات حول الأرض على الشكل الذي نراه في زحل.
وهذا سيزيد في جمال ليالي الأرض وما سيغمرها نوراً وسناءً تتجلى بهما القريحة وتفيض معهما المشاعر. ويقول جينز (. . . وعلى الرغم من أن هذا سيزبد في بهجة الحياة فلن تكون الأمور من بعض النواحي مريحة كما هي الآن إذ سيكثر تصادم بعض الأقمار ببعض وستتناثر أجزاء تقع على الأرض كالصخور الضخمة تسقط من السماء. . .) وزحل من الكواكب البعيدة عن الشمس بالنسبة إلى الأرض، يبلغ بعده (885 , 900 , 000) ميل، وطول سنته 29 سنة ونصف سنة من سنينا، أما معدل قطره فيقرب من (71 , 500) ميل وعلى هذا فحجمه يساوي (734) مرة قدر حجم الأرض.
وقد حسب الفلكيون كتلته بطريقة رصد أقماره وما يحدثه من تأثير جذبي على المشتري فكانت 95 % من كتلة الأرض. وما دام الأمر كذلك، وما دام حجمه أكبر من حجم الأرض بمئات المرات فهو من أقل الكواكب كثافة إذ لا تزيد كثافته على 72 % من كثافة الماء مما(318/78)
يدل على أن قسماً كبيراً منه لا يزال في حالة غازية.
ويوم زحل قصير لا يزيد على 10 ساعات وربع ساعة، ويحيط به جو مليء بالغيوم يمتد إلى آلاف الأميال. وعلى كل حال يمكن القول بأن معلوماتنا عن سطحه وما يجري عليه من تغييرات لا تزال في أولى درجاتها.
وهو غني بالأقمار يحيط به تسعة أقمار تبعد كثيراً عن الحلقات ويشذ أحدها (كما يشذ اثنان من أقمار المشتري) فيسير من الشرق إلى الغرب بينما الأقمار الثمانية الباقة تسير من الغرب إلى الشرق.
ومما لاشك فيه أن هذه الأقمار بحجومها المتباينة وحركاتها المتنوعة، والحلقات بأقواسها الفضية الجملية، من أبهى المناظر التي تقع عليها العين، وأروع المشاهد التي يراها الإنسان.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان(318/79)
من هنا ومن هناك
لإنقاذ العالم من الحرب
(عن (سيرفس إن لايف آندورك))
ظهر في الأيام الأخيرة كتاب قيم لكلارنس ك. سترايت بعنوان الاتحاد الآن وقد كان المؤلف يمثل جريدة (نيويورك تايمس) في أوربا وقضى السنين القليلة الأخيرة في جنيف.
والمؤلف من المتحمسين في الأصل لعصبة الأمم، وهو في هذا الكتاب يبين العلل والأسباب التي قضت على الآمال العريضة التي بناها العالم في سنة 1920 لإنقاذ الديمقراطية والقضاء على فكرة الحرب، ويقدم إلى العالم الاقتراح الذي يراه لضمان السلم وتوطيد دعائم الوفاق ومن رأيه أن الحالة التي تهدد العالم الآن لا ترجع أسبابها إلى مبادئ الاشتراكية، أو الفاشية، أو الاشتراكية الوطنية، ولا ترجع أسبابها إلى مطامع الدكتاتورية وعنادها، ولا ترجع كذلك إلى إخفاق الدول الديمقراطية. فهذه كلها نتائج لا مسببات، ويرى أن السبب الجوهري لموقف اليأس الذي يقفه العالم اليوم، يرجع إلى الفوضى التي تسوق الأمم التي تضع له خطط السلام والراحة، إلى التفكير في أن يكون لها دون غيرها السيادة والسلطان.
هذا أساس الداء كما يشخصه المؤلف، أما العلاج الذي يراه لهذه الحالة، فينحصر في إيجاد نوع من السيادة الدولية على هيئة تحالف بين الخمس عشرة دولة الديمقراطية الموجودة الآن، كنواة لنظام عام تسوده حكومة عالمية.
وقد كتب لورد (لوثيان) سفير إنجلترا في الولايات المتحدة قبل تعيينه في هذا المنصب بأيام قليلة مقالا قيما في التعليق على ما جاء في هذا الكتاب قال فيه:
إن الحرب ضرورة ورثتها الأمم القوية لتحديد علاقاتها. فحيث يفشل الاتفاق الودي لا تجد الأمم القوية مفرا من الحرب للدفاع عن كيانها واسترداد حقوقها، فسواء حاولت هذه الأمم أن تعمل كل منها على انفراد أو فضلت التحالف أو الاتحاد الدولي تحت نظام خاص كعصبة الأمم فهذه الحقيقة لا تتغير.
إن قوة الأمم معناها أن الملجأ الأخير الذي تلجأ إليه، إذا لم تفلح سياسة الاتفاقات الودية مع الأمم الأخرى، هي سياسة القوة أو الحرب. ويترتب على هذه السياسة أن الحكومة ترى(318/80)
نفسها مسوقة إلى تضحية حقوق أبنائها واستقلالهم لزيادة قوتها واستعدادها للدفاع عن كيانها كما هو ظاهر اليوم، ومن النتائج المحققة لسياسة القوة والسيادة انتشار الفقر بين جمهور الشعب وازدياد عدد العمال العاطلين، وانتشار الفساد واليأس بين السكان.
وتقود هذه السياسة إلى الحرب الاقتصادية بين الأمم حيث تحاول كل أمة أن ترعى مصالحها الاقتصادية بصرف النظر عن مصالح الأمم الأخرى، فترتفع الضرائب وتمتنع الهجرة ويوقف تصريف رؤوس الأموال.
وهذه القيود والحواجز الاصطناعية من شأنها أن تزيد في محصول كل أمة، فيضيع التوازن بين محصول الأطعمة والخامات والقوة الصناعية، لا في هذه الأمم فحسب ولكن في العالم أجمع.
صوت من مقبرة تشيكوسلوفاكيا
(عن (ليدوفي توفيني) براج)
الأمم كالأفراد يقابل سقوط بعضها بالأسف كما يقابل موت البطل في أسفار التاريخ. ويدرك بعضها الفناء، فتنضب قواها، ويزول نفوذها شيئا فشيئا كما تتلاشى المياه وتزول في أعماق الرمال فلا يجد المؤرخ فرصة للتحدث عن مجدها وسلطانها الزائل. ومما لا شك فيه أن تاريخ بريطانيا وفرنسا منذ انتهاء الحرب العظمى ينتمي للنوع الأخير.
ففي سنة 1918 كانتا تمثلان أكبر قوة على الأرض وكانت كلمتهما هي القانون. فماذا بقى اليوم من هذه القوة؟ كل إنسان يستطيع أن يجيب على هذا السؤال بسهولة، وعلى الأخص إذا كان من سكان أوربا الوسطى، فقد أصبحوا وكأنما فصلهم عن بريطانيا وفرنسا محيط مترامي الأطراف!
قال حكيم من حكماء الرومان: الإنسان لا يكون سيئا مرة واحدة. ومما لا شك فيه ألا يكون كذلك ضعيفا مرة واحدة ومن الصعب علينا أن نعرف بالتحديد اللحظة التي أخذت فيها قوى الديمقراطية الغربية في الانحدار. فمن المحتمل أن نعزو ذلك إلى ظروف كثيرة وأسباب عديدة. لقد كان الفيلسوف الأماني (فردريك نيتشة) قليل الثقة بالقيم الأدبية للانتصارات. فكان يقول: إن الانتصارات كثيرا ما تحيط الأمة بسياج من البلادة وقد نكون قريبين من(318/81)
الصواب إذا قلنا إن الانتصارات تصيب الأمم بالكسل على الدوام.
إن الهزيمة ولا شك هي التي ألهبت بسياطها نشاط الأمة الألمانية وحفزتها إلى العمل. وقد عرف زعيم ألمانيا قيمة الجيش للدولة فجعل همه إذكاء روح الرجولة والقوة بين أبنائها ودعوتهم ليكونوا على استعداد للموت في أي لحظة إذا احتاج الأمر. فهذا الموقف الجديد لم يقابل من فرنسا وبريطانيا العظمى بالاهتمام ولم تتيقظا له إلا بعد سنين من النوم والإهمال. وقد ظلت بريطانيا إلى اللحظة الأخيرة مكتفية بجيشها الصغير ولم تكن لتكلف أبناءها بشيء أكثر من دفع الضرائب. فكانت النتيجة الطبيعية أن خفت صوتها في هذا العالم الذي بدأت مظاهره من سنة 1933 وقد أصبحنا نسمع الشباب في إنجلترا يتحدثون بلسان السخر والاستهتار عن قيمة الإمبراطورية التي شادها آباؤهم وأجدادهم، ويعلنون أنهم لا يريدون لإمبراطوريتهم العظيمة إلا الهدوء والسلم. أما فرنسا فعلى الرغم من جيشها الكبير فقد وقفت جامدة إزاء الفوضى التي تعم كل مكان للمحافظة على جبهتها.
إن أزمة سبتمبر الخالي تبين مقدار ما وصلت إليه عزيمة بريطانيا وفرنسا من الانحدار. فالهمة التي أبدتها الأمتان تجاه هذه الأزمة، سرعان ما تبخرت تحت تأثير حب السلامة والكسل حينما أتيحت الفرصة إلى ذلك!! لن ينسى العالم هذا الموقف العجيب. ولن ينسى صورة مستر تشمبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية وهو ينحني من عربته غب عودته من ميونخ، ملوحا للجماهير بوريقة كتب فيها بضع كلمات، ليقول: لقد استخلصنا السلم للعالم.
لماذا يكذب الأطفال
(عن مجلة (هيجيا) بشيكاجو)
يجب أن يعلم الأطفال أن مدنيتنا قائمة على الاحترام والثقة المتبادلتين بين الناس على أساس الأمانة والشرف. ويجب أن يعرفوا أن الصدق أمر حيوي في حياة الإنسان، وأن الكاذب لن يكسب احترام مواطنيه. ولكن هل العقاب المحض هو خير الطرق لإفهامهم ذلك؟ إذا عرف الآباء لماذا يكذب الطفل فمن المحتمل أن يستطيعوا إبعاده عن هذه الصفة الذميمة دون أن يلجئوا إلى العقاب العنيف. والكذب نوعان: كذب مقصود وهو الذي يحاول فيه الطفل أن يغش الآخرين، وكذب غير مقصود وهو الذي لا يدرك الطفل ما فيه من(318/82)
الزيف.
فإذا جاء إنسان لآخر وقدم إليه تفاحة حمراء وحاول أن يقنعه بأنها سمراء فإنه لابد أن يصمه بالكذب إذا لم يثبت لديه أن هذا الإنسان مصاب في نظره بآفة الألوان. وهكذا الشأن في الطفل الصغير فمن واجب الآباء ألا يصموه بالكذب بغير روية، يجب أن يعرفوا قبل كل شيء لماذا لا يرى الدنيا كما يرونها بالتحديد.
قد يكذب الطفل لأنه لا يستطيع أن يدرك تمام الإدراك، أو لأنه تعوزه الدقة في النقل وسلامة الفهم في الحكم على الأشياء فمن القسوة أن يعاقب على الأكاذيب التي من هذا النوع. وقد يقود العقاب الطفل إلى حالة سيئة للغاية فيفهمه معنى الكذب ويضلل لسانه البريء عند كل قول. قد لا يفهم الطفل معنى الكذب فمن واجب الآباء في هذه الحالة أن يعذروه ويبينوا له أسبابه حتى لا يعود للوقوع فيه.
أما الكذب المتعمد، وهو الكذب الذي يحاول فيه الطفل خداع الآخرين بقصد الاحتيال والغش، ألا يوجد علاج له غير الصفع والضرب؟
إن الأسباب التي تدعو الأطفال إلى الكذب على وجه العموم هي الخوف من العقاب فيجب على الآباء أن يحيطوا أبناءهم بجو من التفاهم والعطف والمساعدة.
فحيث يتورط الطفل ولا يجد مخلصاً، حيث يعاقب ولا يفهم تماماً السبب الذي عوقب من أجله، حيث يعامل معاملة لا يفهمها عقله الصغير، تضيق الدنيا في ناظره ولا يجد غير الخداع سبيلاً للدفاع عن نفسه، والخروج من المأزق الذي وقع فيه.(318/83)
البريد الأدبي
حول نعيم الفردوس
لبعض القراء غرام بتعقب ما أكتب في الدين من حين إلى حين، لأنهم
يتوهمون أن الذين في مثل حالي من المشغولين بالدراسات الفلسفية
يغلب عليهم التطرف والخروج على المألوف من قواعد الدين.
وأنا أرحب بالنقد، وأراه علامة من علائم الحيوية العقلية فلا يضايقني أن يكون في القراء من يراقب ما أكتب في الشئون الدينية عساه يجد مجالاً للتعقيب أو التصحيح.
ولكن الذي أنكره على بعض القراء أن يحرِّف الكلم عن مواضعه ليصح له أن يصورني بصورة المسيء، كالذي وقع من الفاضل الذي زعم أني قلت:
(اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم) ليجوز له أن يقول؛ (فهل رؤي سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا)؟
وأنا لم أقل ما نسبه إلي هذا الرجل الفاضل، وإنما قلت:
(اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم، فإن بصري أضعف من أين يواجه نورك الوهاج).
وهذه العبارة هي غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت، ولكن ذلك الفاضل حذف الشطر الأخير ليجد الفرصة لادعاء الغيرة على الدين، فهنيئاً له ما ظفر به من التقول على رجل أعزه الله بالإسلام الصحيح، وعصمه من الاتجار بالدين.
ألا يكفي أن نسكت عن الأوهام التي يذيعها بعض الناس من وقت إلى وقت بحجة أنهم المرجع الأول لنشر التعاليم الدينية؟ وفي أي شرع يجوز تحريف الكلام عمداً ليتمكن من في قلوبهم مرض من تجريح الأصحاء؟
إن الكلمة التي قلتها لها معان لا يدركها غير صفوة المؤمنين.
ولو طُلب مني توضيحها لقلت: إن العبادة الصحيحة هي رؤية الله في نعمه المشكورة، وليست في دعوى النظر إليه، وهي دعوى أعرض من الصحراء.
وأنا دعوت الله بما دعوت، وأرجوه أن يتقبل ذلك الدعاء، فإن بصري على حدته أضعف(318/84)
من أن يواجه نوره الوهاج.
أحب أن أراك في نعمك، يا رباه! في الحدود التي تساميت إليها في كتاب (التصوف الإسلامي)، وكن وحدك الرقيب على عبدك الحافظ لفضلك ونعمتك، فليس له في الوجود نصير سواك.
زكي مبارك
الوحدة العربية
سيدي الأستاذ الزيات
لقد قرأت كما قرأ غيري ما جرى بين الأستاذ (ساطع الحصري بك) و (الدكتور طه حسين بك) من نقاش حول (الوحدة العربية) فرغبت في نشر حديث كان قد جرى بيني وبين أستاذ فرنسي يدور حول هذا الموضوع.
بدأ الأستاذ الفرنسي حديثه معي بالكلام على ما يسميه الناس بالحقائق فقال: ليس هناك حقيقة مطلقة.
قلت: نعم. لأنه ليس هناك نظر مجرد، فبقدر ما يكون امتداد النظر يكون اتساع الأفق.
فشجعه ذلك على الاسترسال فقال:
أراكم تلهجون كثيراً (بالوحدة العربية) في هذه الأيام. فهل ترى إمكانها؟ إن مقياس كل شيء في هذا العصر هو الفائدة منه، فما فائدة هذه الوحدة لكم؟ أتعتقد أنك عربي؟ أنت مصري قبل أن تكون عربياً، قبل أن تكون مسلماً. أليس كذلك؟
قلت: ألست تسأل لتعرف الحقيقة؟
قال: بلى!
قلت: حسن إذن. قد يكون الجواب على السؤال سؤالاً آخر، فما هي الدولة؟ وما الفائدة من وجودها؟
قال: إن تعريفها غير متفق عليه، ولم يصل أحد بعد إلى تعريف حاسم لها. أما فائدتها فما أظن أحداً ينكر الفائدة من وجودها؟
قلت: أمعنى ذلك أن الدولة لا توجد لأن تعريفها لم يُحدد؟(318/85)
قال: من ذا الذي يقول بهذا؟ إنها موجودة رغم ذاك!
قلت: أنت تدري أن الدولة مكونة من عناصر هي: وحدة الدين، واللغة، والجنس، والتقاليد، والتاريخ، والأماني، والغايات. . . وكل هذه العناصر ينتظمها (روح معنوي) يسرى بين سكان الدولة - هو شعورهم - بأنهم يكونون دولة لها وجود، ولها حياة، ولها غاية تسعى إليها. . . الكل المجموعي لا الجميعي لكل هذه العناصر، تنتظمه هذه الروح، هو ما يسمى بالدولة. فماذا ينقص الشعوب العربية من ذلك؟ لا شيء البتة. بل أنا أنظر حولي، فلا أرى شعباً في العالم يضم منه هذه العناصر ما يضمه الشعب العربي. إن ألمانيا الحديثة تقوم على أكذوبة (الجنس) فلنفرض أن (الوحدة العربية) تقوم على أكذوبة من هذا النوع. . . هذا إذا أعوزنا التعلل، وعجزنا عن التعليل!
إن الصعوبة الكبرى في قيام الوحدة العربية، تنشأ من أن العرب شعوب متعددة تخضع خضوعاً تاماً - أو ناقصاً - لدول شتى. كما أن هناك اختلافاً على مدلول هذه الكلمة وتفاصيل هذا المدلول (الوحدة العربية) يفسره كل تبعاً لما يراه أنه الأفق لمصلحته، أو رأيه، أو هواه.
فلو كان العرب كلهم أحراراً، أو لو كانوا كلهم يخضعون لسيادة دولة واحدة لحفزهم الغرض من وجودهم إلى الاتحاد، أو لدفعتهم الغاية المتحدة في التخلص من نير الأجنبي إلى تكوين الوحدة المرتجاة، كما أنهم لو تفاهموا لاتحدوا في وجهة النظر، وسبيل الوصول.
لو لم تكن (الوحدة العربية) حقيقةً واقعة، لكانت أمراً واجباً. إن الوحدة العربية ليست هدماً للمزايا الجنسية للشعوب القديمة: كالمصريين، والآشوريين، والبابليين. ولكنها جمع لكل هذه المزايا لتكوين شعب وأحد، وحدته خير من تفرقه على كل حال. أما مزايا الجنس فلا تموت والتوحيد لها بمثابة التطعيم، والتطعيم خير سبيل: للتجديد والتخليد والبقاء. إن الكبرياء العنصرية جهل بمزايا الوحدة، وإذا كانت الوحدة العربية كذباً، فكم من كذب هو أنفس من الصواب عند ذوي الزكانة والبصيرة، والكذب في السياسة، صدق في النظر!
الوحدة العربية، حقيقة واقعة، لأنها عقيدة راسخة!
الله موجود لأنه واجب الوجود، والوحدة العربية موجودة لأنها واجبة الوجود!(318/86)
هذا رأيي في الوحدة العربية. أما رأيي في الدكتور طه حسين فهو أن ديدنه أن يأخذ الرأي من طريق السماع والاتباع. فهو لم ينظر في نفسه باعتباره رجلاً موطنه الشرق، ولغته العربية، ودينه الإسلام، ومأمله العروبة. بل نظر فيما سمع من كلام الأوربيين واتبع ما قالوه بلا تمحيص، وكان خيراً له لو رجع إلى بيئته، وسار مع طبيعته، ونظر في نفسه واستوحى ما يمليه النظر المجرد والمنطق السليم؛ كما أن نظر الدكتور نظر جزئي لا يتسع للشمول والتعميم، وما ذلك بعيب فيه، ولكنه طبيعة مطبوعة، وإنما العيب أن يخرج الإنسان عن طبيعته، فيكون كمن يجرد نفسه من نفسه، ومن هنا كان خطؤه في فهم الأشياء. هذا إلى أنه من الأدباء وليس من العلماء.
محمد أبو الفضل حفني مسعود
سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان
ذكر صديقي الأستاذ علي الجندي فيما كتبه في مجلة الرسالة الغراء تحت هذا العنوان أن سعداً لما قطع أبو سعاد صلتها به رفع أمره إلى وإلى تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش، وبمكانه من الخليفة مروان بن الحكم.
ثم ذكر ما كان من أمر ذلك الوالي مع سعاد واغتصابه لها من سعد، وأن سعداً اعتسف الصحراء إلى دمشق عاصمة الخلافة ليشكو ذلك الوالي إلى ابن عمه الخليفة معاوية بن أبي سفيان.
ولا يخفى أن في سياق قصة سعد وسعاد على ذلك الشكل اضطراباً ظاهراً، لأن ما ذكره الأستاذ الجندي في الأول من أن ذلك الوالي الأموي كان مدلاً بمكانه من الخليفة مروان بن الحكم يفيد بظاهره أن قصة سعد وسعاد كانت في عهد مروان ابن الحكم لا في عهد معاوية بن أبي سفيان، وما ذكره في الثاني من أن سعداً اعتسف الصحراء إلى دمشق ليشكو ذلك الوالي إلى ابن عمه الخليفة معاوية يفيد أن تلك القصة كانت في عهده لا في عهد مروان.
ولا يخفي على الأستاذ الجندي أن عهد معاوية بن أبي سفيان عبر عهد مروان بن الحكم، لأن معاوية ولي الملك بعد أن تنازل له عنه الحسن بن علي، فمكث فيه نحو عشرين سنة، وقد بايع من بعده لابنه يزيد، فمكث بعده ثلاث سنين وستة أشهر، ثم بويع بعده لابنه(318/87)
معاوية، فمكث في الملك ثلاثة أشهر، ثم رغب عنه وزهد فيه، فتولاه بعده مروان بن الحكم، وهو فرع آخر من بني أمية غير فرع معاوية بن سفيان.
ورجائي بعد هذا إلى صديقي الأستاذ علي الجندي أن يرجع إلى مصدر هذه القصة ليحقق فيه ذلك الاضطراب، ويدلنا على العهد الذي وقعت فيه من ذينك العهدين. والسلام على الأستاذ ورحمة الله.
عبد المتعال الصعيدي
هل الجزاء الأخروي حسي أم روحي؟
أخذ الأستاذ محمود قراعة على الدكتور زكي مبارك عده الجزاء الأخروي من قبيل الحسيات. والأستاذ قراعة يريد أن يكون جزاء روحياً معنوياً، فقد جزم في كلمته المنشورة في العدد 315 من الرسالة بأن الإسلام (عند ذكر الماديات الأخروية لا يريد بها جزاءها الحسي، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي، وأنه إن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحيات والمعنويات) ولكنه في كلمته المنشورة في العدد 316 من الرسالة لم يبق مصراً على هذا فقد آمن بأن (في الجنة لذات روحية وحسية) ولكن الحسية راقية تسمو بالروح.
فإذا كان كذلك فماذا أخذ على الدكتور زكي مبارك؟ وهل أنكر الدكتور زكي مبارك أن في الجنة لذات روحية وحسية؟ وأن الحسية راقية تسمو بالروح؟
الواقع أن الأستاذ قراعة لم يأت بشيء يناقِش فيه أو يناقَش فيه، اللهم إلا كلمة ليست من موضوع الجدل ستأتي، والواقع أيضاً أنه لا سبيل إلى إنكار شيء مما ذكره الدكتور زكي، فإنه لو لم يكن الجزاء الحسي المذكور في القرآن الكريم حسياً على الحقيقة لا على المجاز لما كان هناك معنى للبعث والنشور. إن البعث والنشور هما مقدمة لتلقي الجزاء الحسي بالنعيم في الجنة أو العذاب في النار لا مناص من ذلك أبداً. ولو كان الجزاء روحياً لما كان هناك حاجة للبعث والنشور لأن الأرواح خالدة فتنعم أو تعذب. وما دامت الروح قد قضى عليها أن تكون في هذا اللباس (الجسم) في الدنيا والآخرة، فلا لذة هناك ولا ألم إلا عن(318/88)
طريق الحواس، حتى أكبر النعم وهو رؤية الله تعالى في الآخرة (وإن كانت بغير كيف) حسي لأنه آت عن طريق الحواس، فهو حسي من جهة معنوي من جهة أخرى.
وبعد فماذا يرى المبشر الأمريكاني الذي ذكره الأستاذ قراعة من مطعن في كون نعيم الآخرة حسياً حتى ينقيه الأستاذ قراعة عن الإسلام؟
أما الكلمة التي يناقش فيها الأستاذ قراعة فهي قوله: (إن اللذات الحسية في الآخرة تسمو بالروح، فإذا هذا القول يفيد أن الروح في الآخرة تسمو باطراد عن تذوق كل لذة (وكلها لذات) وهذا أمر لا يتصور لأن الآخرة دار جزاء، فمتى وضع كل إنسان في مرتبة فقد حصل على مرتبة من السمو تناسبه فيبقى فيها إلى ما شاء الله. هذا هو المعقول. ولو كانت كل لذة تكسب الإنسان سمواً لاستحق بهذا السمو جزاء: لذة أعلى، ثم تكسبه هذه اللذة سمواً، وهكذا. وهذا أمر لا ينتهي فلا يكون والله اعلم.
(فلسطين)
داود حمدان
ما رأى علماء اللغة
يقول ابن مالك في ألفيته عند الكلام على النسب:
وفَعَلى في فَعِيلة التُزم ... وفُعلى في فُعَيلة حتم
وما أردناه من هذا البيت هو الصدر وقد شرحه الصرفيون هكذا: إذا أريد النسبة إلى ما وازن فعيلة حذفت ياؤه وفتحت عينه إن لم يكن معتل العين ولا مضاعفاً وذلك مثل حنفية فيقال فيها حنفي. أما كان معتل العين كطويلة أو مضاعفاً كجليلة فلا يحذف منه شيء وعلى ذلك يقل في النسبة إليهما طويليّ وجليليّ. هذا ما قرره الصرفيون في فعيلة، ولكني أقول إذا تقرر هذا فكيف يسوغ لنا أن نقول في النسبة إلى الطبيعة والبديهة طبيعيُّ وبديهيّ مع أن القياس كما علمت أن يقال طبَعيّ وبَدهي ولذلك عدوا ما ورد مخالفاً لذلك عن العرب شاذا لا يقاس عليه كقول الشاعر:
ولستُ بنحوي يلوك لسانُه ... ولكن سليقي أقول فأُعرب
وبيت القصيد هنا سليقي إذا كان القياس أن يقال كما علمت سلقيّ ولكنه قال سليقي فهو من(318/89)
باب الشواذ، وما أردته من ذلك البحث هو هل يجوز لنا إحياء شواذ اللغة والقياس عليها ونهجر القياس الشائع مع عدم وجود ما يمنعنا من استعماله - عندي أن القياس مع هذا أولى إن لم يكن واجب التقديم: وما عند علماء اللغة أريد أن أعرفه!
(معهد الزقازيق)
عبد الغني جمعة
النعيم الحسي والمعنوي في الجنة
خلقت مشكلة الجناية على الأدب مشكلة أخرى. وهي: هل نعيم الجنة حسي أم معنوي؟
وهاتان المشكلتان وأمثالهما من المشكلات الحبيبة إلى النفس لأنها في سبيل الأدب والعلم، لذلك نرجو الله أن يكثر من أمثالهما بقدر ما يريحنا من المشكلات السياسية العقيمة.
ولقد قرأت ما كتبه الدكتور زكي مبارك. وما كتبه الأستاذ قراعة في هذا الصدد فعنت لي بعض ملاحظات على رأى الأستاذ قراعة أسطرها فيما يلي:
أولاً: يتشبث الأستاذ بأن لذات الجنة لذات معنوية، ويذهب إلى وجوب تأويل النصوص التي يدل ظاهرها على أنها حسية. وهذا فضلاً عن أنه مخالف لإجماع أهل السنة فإن كثيراً من النصوص لا يمكن تأويلها إلا بتعسف شديد لا يحتمله. وكذلك قوله تعالى
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق. قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) فقد دلت الآية الكريمة على أن أنواع الزينة والطيبات من الرزق مباحة للمؤمنين والكافرين في الدنيا، خالصة للمؤمنين في الآخرة لا يشركهم فيها أحد. ولا شك أن أكثر لذات الدنيا ونعيمها حسي محض. وسيكون في الآخرة بهذا الاعتبار نفسه. . .
وقال تعالى: (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) فإن في قوله تعالى فيها ما تشتهيه الأنفس مع ملاحظة اختلاف النفس والروح يشعر بأن النعيم الأخروي حسي في كثير من النعم. . .
وفي الصحيح عن حذيفة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها. فإنها لهم في الدنيا،(318/90)
ولكم في الآخرة). أفليس المناسب أن يكون النعيم بالحرير والديباج، والذهب الفضة في الآخرة، نعيماً حسياً لأنه هو القريب في استعمالها؟
ولو تتبعنا نصوص الكتاب والسنة لوجدنا الكثير منها لا يمكن تأويله وصرفه عن وجهه.
ثانياً: مثل الأستاذ برؤية المنظر الجميل، وسماع الصوت الجميل من الجميل، وبين أنه بإضافة الحاسة الفنية إليهما يكون فيهما جهتان من اللذة: روحية، وحسية، وأن البحث عن الأولى ارتفاع بالروح إلى أوج الكمال، والبحث عن الثانية نزول بها إلى الحضيض. . .! وهذا التمثيل صحيح لا غبار عليه. ولكنه لا يظهر إلا في مثل هذين المثالين مما يمكن أن تضاف إليه الحاسة الفنية ويكون له جهتان.
ولكن ماذا يقول الأستاذ في مثل قوله تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون - فيهما فاكهة ونخيل ورمان) إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر فيها أن المقصود التذوق الحسي ولا تظهر فيها اللذة الروحية إلا إذا رأى الأستاذ أننا نأكل طيبات العيش لنقوي أرواحنا لا أجسامنا.
على أني لا أنسي أن أشكر للأستاذ مجهوده القيم، وأطمئنه على عقيدته رغم ما يرميه به الغير من الكفر أعاذنا الله منه.
محمد علي حسنين جويق
كلية اللغة العربية
هل انتهت الثورة؟
سيدي الأستاذ الجليل. . .
تحية واحتراماً. وبعد فقد وردتني رسالة من طالب فلسطيني فاضل يعلن فيها احتجاجه - والنية حسنة - على عبارتي الواردة في كلمتي (هل في الحيوان غريزة الغيب) (الرسالة رقم 314) إذ أقول: (وها قد انتهى أمر الثورة) وهو يقول: إن سكون البلاد لا يعني انتهاء الثورة، وسوف لا يكون هذا إلا إذا نالت البلاد أمانيها.
وأجيب الطالب الفاضل بأنني حين قلت عبارتي تلك لم أكن اقصد هذا المعنى الذي ذهب إليه ومعاذ الله أن أقصده، وإنه من المحقق إن الثورة وإن أخمدتها القوة فليس معنى هذا أن(318/91)
النفوس قد هدأت وقرت، أو أنها رضيت بالمصير الذي يوده لها (القوم) وكلنا يرى هذا ويحسه.
على أنني أجئ هنا بأبيات من قصيدة لي تلقي ضوءا على المعنى الذي ضمنته عبارتي، والخطاب في الأبيات موجه إلى الوطن العزيز.
وعلاك لم يخضع بنوك ولا ونت ... همم لهم كالراسيات عظامُ
هيهات، تأبى ذاك أخلاق لهم ... لا وهْيَ فيها، لا ولا استسلام
لكنّ من عنت القوى وكيده ... شُدت هناك شكيمة ولجام
هذا وإنني أشكر للطالب الفاضل حسن رأيه وأكبر فيه ذلك الروح السامي الذي يتجلى في رسالته.
(نابلس)
فدوى عبد الفتاح طوقان(318/92)
رسالة النقد
معلقة الأرز
تأليف الأستاذ نعمة قازان
بقلم الأستاذ جورج سلستي
ليس (معلقة الأرز) ديواناً شعرياً بالمعنى الذي تؤديه لفظة ديوان - أي مجموعة قصائد تتفاوت فيها المعاني والمباني - وتتباين فيها الخلجات والنزوات، وإنما هو رسالة في الأدب شاء ذوق صاحبها الفني أن يحملها قصيدة واحدة دعاها معلقة الأرز - والأرز رمز لبنان الخالد مسقط رأس الناظم النازح - وأردفها بمقطوعة شعرية صغيرة دعاها (أنشودة الغريب) بث فيها حنينه إلى لبنان مهوى فؤاده، ومثار إلهامه.
وتحميل الشعر رسالة في الأدب بادرة مستحدثة في الشعر العربي، فقد كنا حتى اليوم نقرا رسالات الأدب نثرا لا شعرا، كما أننا نعرف الشعر مستودع النزوات العاطفية والخلجات النفسانية يعتلج بالخواطر والمرائي والصور.
وسيان عندنا أَحمِّل الشعر رسالات أو نزوات وحمِّل الفلسفة والتاريخ والعلم أم اقتصر على تصوير وبثّ خلجات الروح فجل ما يعنينا أن يحتفظ بسموه ومكانته وأن يستوعب الفن الرفيع ولا يضير الشعر أن يؤدي للناس رسالات في الأدب إن استطاع الشاعر أن يسمو فيه ويحلق، وإن تمكن فيه أن يقنع قارئيه بصحة رأيه وصواب فكرته.
والرسالة التي شاء الأستاذ نعمة قازان أن يدفعها للناس في معلقته يتلخص مرماها في إيثار المعاني على الألفاظ، وهي رسالة كثر فيها القول واشتد حولها الجدل.
والأستاذ قازان على كل حال لم يأت في قصيدته بشيء من الحجج الدامغة ليقنع قراءه بفكرته، أو في الأحرى بمذهبة هذا وإنما يعرض عليهم آراءه عرضا وهو يسخر من خصوم المذهب الأدبي الذي يعتنقه سخرية لاذعة فيها التهجم الكثير والتجني الكثير.
يقول حضرته: (لكم وزنات ولي وزنتي).
ولكن أية وزنة هي هذه التي يريد أن يتاجر بها.
إنها وزنة جد راجحة عنده وقد يبلو في سبيلها كل عناء إلا أنه لن يتخلى عنها مهما لاقى(318/93)
من عنت وإرهاق، ولن يستطيع أن يثنيه عن إيمانه بها ثان على حد قوله: (وما تحرجوني فلن تخرجوني).
وسيبقى ذلك الصابر الذي لا يتزحزح عن عقيدته ولو رجمه الناس:
لئن ترجموني غفرت لكم ... وإن تتبعوني ففي ذمتي
فكأنه بطل من أبطال الإيمان الأولين يضحي في سبيل عقيدته حتى بالنفس، ومثل هذا السخاء يقدر ولكنه في غير الأدب، والصبر والإيمان محمودان ولكن في غير هذا الشأن لاسيما وهو لا يعود على الأمة أو على الأدب بخير، حتى ولا على صاحبه بشبه خير أو فائدة.
فالأدب ميدان تقرع فيه الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان ومن قويت حجته رجحت كفته ومشى وراءه تابعوه وإلا خذل وانفرط من حوله حتى عقد المقربين.
وإيثار المعنى مستحب ما في ذلك ريب ولكن الاستهتار باللفظ من اجل المعنى مجتوى مذموم، وإننا لنلوم الأستاذ قازان لوما شديدا عندما نراه يلجأ في أداء معانية إلى اللفظ السقيم لا عن جهل أو قصور ولكن عن سابق تعمد وتصميم، على تعبير أهل القانون، كما يؤكد ذلك صديقة الأستاذ توفيق ضعون عضو العصبة الأندلسية في البرازيل وواضع مقدمة (معلقة الأرز).
ونحن لسنا من المتزمتين ولا المتعنتين في تمسكنا بقواعد اللغة وأوزان الشعر، ولسنا من دعاة التقيد ولا الجمود إن أهبنا بالأدباء أن يلزموا في بيانهم وجه الصواب، ولكنا من دعاة التجدد مثله إلا أن الفرق بيننا هو في تحديد معنى التجديد. إننا من الأولي يطربهم المعنى الجميل ولكن في اللفظ الجميل، وتهزهم الفكرة الفذة ولكن إذا صيغت في قالب مصقول، لأننا نربأ أن تصبح اللغة فوضى في حين أن لها ضوابط وقواعد يتحتم على من يريد الإبانة فيها أن يتقنها.
إننا نضن بها أن تنحدر من سمتها الرفيع إلى حضيض اللحن الوضيع.
وماذا يحل باللغة لو ترك الحبل فيها للأدباء على غاربة يصوغ كل متأدب ألفاظه على هداه، وينظم كل شاعر أبياته على منحاه يخبط في ألفاظه وفي قوافيه، والألفاظ أكسية المعاني ترفل في المنمق منها وتتيه، وتسمج في السخيف وتشوه.(318/94)
وإن كان الأستاذ قازان يحسب أن الاستهتار باللغة من دواعي التجديد، فقد أخطأ كل الخطأ.
إن مجال التجديد رحب، وإنه ليستطيع أن يزاوج بين ألفاظه كما فعل البحتري من قبل، ويأتينا ببيان مرموق فيه كل الجدة والطرافة دون أن يلجأ إلى الحوشي الغريب من الكلمات، والبيان نفسه يستنكر استعمال اللفظ غير المأنوس.
والمزاوجة بين الألفاظ وحدها منزلة عليا من منازل البيان ومرتبة سامية من مراتبه يستطيع الأديب أن يرقى إليها إذا جشم نفسه قليلا من التدقيق والتعمق والمران.
ويستطيع الشاعر إن كان من ذوي القدرة على التوليد والابتكار، ومن ذوي المواهب، أن يتعدى نطاق الأوزان المعروفة، على أن يأتينا بشعر سائغ موزون كما فعل بعض شعراء الأندلس من قبل. والشعر كالموسيقى تلزمه الأذن المرهفة، والحس الدقيق والخيال السمح، ومن أوتيها أوتي حظا كبيرا، وتمكنه من غير جهد ولا عنت أن يمهر الأدب بقصائد خالدة تبقى جدتها خالدة على الدهر.
ثم ليس من التجديد في كثير أو قليل، ولا من رعاية حق الأدب وحرمة الأدباء في شئ أن يطعن المعاصر أدباءنا الأقدمين وأن يقول الأستاذ قازان في (شوقي) ومريديه مثلا، وقد حسب فيهم أصنام الأدب:
دعاة الأمير سلام عليكم ... من الخارجين على الدعوة
لقد طلع الفجر من غمده ... وبان اللبابُ من القشرة
ومات الأمير عليه السلام ... فماذا لديكم سوى الجثة؟
عفا الله عنه عفا الله عنه ... فلا يستحق سوى الرحمة
فشاعر له مكانته الرفيعة في الشعر وله أياديه البيضاء على الأدب، شاعر كان من أترابه الشعراء في الطليعة بخياله الوثاب، وأسلوبه الرفيع، لا يجوز أن يقال فيه، وهو الذي مهر التراث الأدبي بحافل من روائعه التي خلفها للأجيال من بعده تنطق عنه، مثل هذا القول!
إننا لا نستصوب الإمارة في الشعر ولا الملكية في الأدب، ولكن عدم مشايعتنا لهذا الرأي لا يمنعنا أن نثبت الحق لذويه ولا يحفزنا للطعن فيهم.
أما تحديد الشعر وكيف يجب أن نفهمه فيعرفنا إياهما الشاعر بقولة:
فلو كان معنى الحياة لعمري ... بخطٍّ تآلفَ في صورةِ(318/95)
وكان جمال الحسان الملاحِ ... بكحل العيونِ وبالزينة
وكان الشبابُ وعزمُ الشباب ... بحسنِ الوجوه وبالبزَّة
وكنتُ وكنتم بأجسادنا ... لقلتُ: هو الشعرُ باللفظة
ولكنه الشعر روحٌ بنا ... ولكنه الشعر في الخلجة
فما الشعر بالكأس براقةً ... ولكنه الشعرُ في الخمرةِ
وفي هذا بعض الحق لا الحق كله. وإننا لنسأل الشاعر: ألا يشين الجمال تستره بالأطمار ويحط من قدر الغانية الرائعة الحسن ارتداؤها الرث الخلق من الثياب؟
أجل، إننا لنجاريه في رأيه ولكن إلى حد، فليست الكأس هي التي تهزنا وإنما الخمر التي فيها.
ولكن ألا يعرض عن احتساء تلك الخمر إذا أديرت على الشاربين في كؤوس لا تهفو إليها النفوس وتتأبى منها الشفاه!
إننا لنميز الجمال حين يتشح بالأطمار ولكنه سرعان ما تصدر من قلوبنا لدى رؤيته آهة ملؤها التحسر والتمني، آسفين أن تدفنه تلك الأطمار متمنين لو يسبغ عليه كساء يلائم سناه ليبدو بما هو جدير به وأهل له، فتنة للناظر ومتعة للخاطر.
وإننا نود أن نحبس تلك الآهة ونكبت ذلك التمني لدى مرأى الحسن، ولن نستطيع ذلك إلا إذا كان رافلا في حلله الزاهية القشيبة.
والديباجة المشرقة لابد منها للشعر السامي؛ والديباجة المشرقة هي التي تعوز صاحب معلقة الأرز، وخلو القصيدة من الكبوات والهفوات هو ما يتطلبه الشعر العالي، والهفوات وقع فيها شاعرنا كذلك.
ولئن غفرنا له سناد التأسيس في قولة:
وبت ولي مقلة الجائعين ... كأعمى يفتش عن إبرة
فلا في القديم ولا في الجديد ... (مسكت؟) طريقي إلى غايتي
وسناد التأسيس من عيوب القافية. أو سناد الردف في قوله:
فلو كان معنى الحياة لعمري ... بخط تآلف في صورة
وكان الشباب وعزم الشباب ... بحسن الوجوه وبالبزة(318/96)
وسناد الردف من عيوب القافية أيضا. أو الجوازات الشعرية المستهجنة كقطع همزة الوصل في قولة:
إذا صار أمسي ويومي غدا ... فيارب اضرب على مقلتي
أو الأخطاء في استعمال الألفاظ كقولة:
وسبحان ربيَ معين العطاءِ ... يخصُّ النباهةَ بالنملةِ
وصوابها: يخص النملةَ بالنباهة.
أو أخطاء اللغة كقوله:
ربيتُ طليقاً على فطرتي ... ويا ما أُحيلى طفوليتي
وصوابها: طفولتي، ومثلها ألوهيتي في قوله:
فترتُ وثارت أنانيتي ... فضعتُ وضاعت ألوهيتي
وصوابها ألوهتي. الخ
أجل، لئن غفرنا له هذه الأخطاء وأمثالها مما قد يقع فيه كل متأدب، فلن نغفر له تساهله في استعمال الأخطاء وحشرها في أبياته بين قوسين دلالة على معرفته لها وتعمده استعمالها.
وتعمد استعمال الأخطاء خطيئة مضاعفة يلام عليها صاحبها أشد اللوم وأعنفه وما نحسب أنفسنا مغالين في هذا أو مسرفين.
وإنه ليعز علينا أن يتجنى بعض المجددين على ما يعدونه قديما فتعمى بصائرهم لا عن جمال البيان وروعة الأداء فحسب، بل عن روعة الأفكار التي يريدون حمل لوائها؛ كما يعز علينا كذلك أن يتجنى بعض المحافظين على القائلين بالتجدد والآخذين بأسبابه.
وقول الأستاذ قازان إنه لم يعثر في قديم الشعر على معنى طريف يستوقفه، وإنه غاص فيه إلى أعماقه، فلم يرو نفسه العطشى:
(فكنت وبي عطش قاتلٌ ... كمن يشربُ الماَء بالشوكة)
خطل ما في ذلك ريب بل ضلال عن وجه الحق والصواب.
ولقد وقع في مثل خطأه من قام بالأمس يجرد المنفلوطي من أدبه في إحدى المجلات الأدبية البيروتية. وصدور مثل هذه الآراء عن أدباء الجيل الطالع من الشباب تجن ما بعده تجن، ولا يقل عن هذا بعدا عن الحق قول الدكتور عمر فروج في (جبران خليل جبران) في(318/97)
العدد 33 من مجلة (الآمالي) البيروتية الصادر في 14 نيسان في مقال (الخالدون في الأدب) حيث قال فيه بعد أن عدد مزايا الأديب وعناصر أدبه:
(هذه هي العناصر الأولية التي لا يجوز لنا أن نطلق لفظة أديب على رجل إلا بها وجبران مجرد منها جميعا)
وقوله في المقال نفسه: (للأدب كما قدمنا مقاييس مشهورة لا يتمتع جبران بواحدة منها)
فنفي الأدب عن أديب كبير كجبران كنفيه عن أديب كبير كالمنفلوطي. وإن ما فيه من التجني والظلم، إن وقع فيه الأدباء الناشئون فلا يصح أن يقع فيه أديب كالدكتور عمر فروخ له من ثقافته العالية وذوقه الأدبي الممتاز ما يعصمه عن مثل هذا الشطط.
ومعلقة الأرز ما عدا ذلك فيها شاعرية وثابة يحق لنا أن نستبشر منها بالخير فإن من يقول:
إذا الشعر سُخِّر في أمة ... فصلِّ ورّحم على الأمَّة
ومن يقول:
(فلا لفني الليل في برده ... إذا لم أمزّق به بردتي
ولا طلعَ الفجرُ يوماً عليَّ ... إذا لم يلدني مع الطلعة)
ومن يستشهد بقول النبي:
(إن تحت العرش كنوزاً مفاتيحها ألسنة الشعراء)
لشاعرٌ لن يكبل نفسه بأوضاع المناسبات، ولن يسخر ضميره لما لا يشعر به ولا يحس؛ شاعر طموح نأمل أن يأتينا بالعذب المبتكر من الشعر النابض الحي، وأن يفتتح بخياله الوثاب بعض الكنوز المغلقة تحت عرش السماء.
ومعلقة الأرز تزخر بعد هذا بالحنين، حنين المغترب إلى وطنه الحبيب، وله في ذلك أبيات رقيقة صادرة عن نفس صهرتها الأشواق، آثر فيها بلاده وأمته على بلاد العالم وأممه جميعاً.
أقول بقاع الدنى حلوة ... وأحلى بقاع الدنى بقعتي
فلا، أريد سوى موطني ... ولا، لا أحب سوى أمتي
وقوله في (أنشودة الغريب) وفيها رقة وعاطفة، يخاطب لبنان:
رويت من (دمي؟!) ... غذيت من لحمي(318/98)
يا حاضناً أمي ... يا ثرى لبنان
هل يرجع الغريب ... للوطن الحبيب
وتهتف القلوب ... مرحباً لبنان
الأرز والوادي ... يا مهد أجدادي
يا أرض ميعادي ... يا ثرى لبنان
ثم لا أرى بدأ قبل أن أختم مقالي من أن أقول إن لشعر قازان ميزة أخرى هي الصدق في التعبير عن خلجات نفسه تعبيراً لا مداورة فيه ولا رياء وذلك عائد إلى ما يتراءى لنا من حبه الحق ولو كان عليه ولثقته بنفسه ثقة كبيرة، ومن ثم جاء شعره خالياً من كل بهرج وكل طلاء وتجلت فيه مزايا النفس الجريئة الأبية كقوله عن نفسه:
وليس التملق من شيمتي ... وليس التأنق من نزعتي
فإني ترعرعت بين الجبال ... على البأس والفقر والشدة
ومن عاش مثلي على جرأة ... فلا يستلذ سوى الجرأة
فإما نطقت نطقت بحق ... وإما سكت فعن عفة
وما نخاله فيما قاله عن نفسه إلا صادقاً، والصدق على ما نعتقد من أجل ميزات الأديب؛ وصاحب معلقة الأرز عنده من المزايا الأدبية ما يفسح له في دولة الشعر مجالاً رحباً يمشي فيه إلى غايته المثلى، ولا يعوزه إلا صقل ديباجته وتهذيب بيانه، وليس ذلك على مثله بعزيز. فإن له من ملكته الفنية خير مسعف ومن خياله الوثاب خير معوان.
فليوطن النفس على إجادة مبانيه لتوافق معانيه إن كان يريد أن يتبوأ المنزلة الرفيعة التي تصبو إليها النفس الطموح.
(بيروت)
جورج سلستي(318/99)
العدد 319 - بتاريخ: 14 - 08 - 1939(/)
مطاعم الأغنياء
للأستاذ عباس محمود العقاد
مطاعم الأغنياء. . .؟
لعلك تقصد مطاعم الفقراء
كلا. بل مطاعم الأغنياء اقصد لأنهم، أو لان أكثرهم، في حاجة إلى مطاعم يتعلمون فيها كيف يأكلون، كاحتياج الفقراء إلى مطاعم يجدون فيها ما يأكلون
فمن البدائية في رأيي إن الفقير يجب إن يأكل، وأن أحداً من الناس في هذه الدنيا لا يعجز عن عمل يساوي بضعة أرغفة وقليلاً من الأدم في كل نهار. فأن عجز فذاك وزر الأمة بحذافيرها وليس بوزره الذي يجزي عليه بالجوع والموت، وعلى الأمة إذن إن تكفل له قوته بعمل تتولى تدبيره له ولأمثاله، أو بمطاعم تكفيه مؤنة الغذاء في انتظار العمل والصناعة
ذلك شأن الفقير المحروم، فما بال الغني الميسر الأرزاق تدبر له المطاعم ليأكل فيها وعنده المطبخ وعنده الطاهي وعنده المآكل والمشارب؟
في مصر أزمة طعام سفلية وعلوية في وقت واحد: فأما السفلية فتلك أزمة الفقير، وأما العلوية فتلك أزمة الغني الذي يجد الطعام ولكنه لا يجد الغذاء
إذا قيل في مصر: (فلان يعرف يأكل) فذلك على الأرجح الأعم رجل يجهل صناعة الأكل ولا يزال على خطر مما يأكل. لأن تعريف الطعام النافع عنده أنه هو الطعام اللذيذ أو الطعام الذي يثقل على الجوف، ويملأ الأحشاء
وقد يكون الطعام لذيذاً وهو ضار، وثقيلاً على المعدة وهو خفيف الوزن فيما يؤول إلى صحة الجسم وانتظام الأعضاء.
وقد يحسب انه يعوض جسمه مما فقد فإذا هو يضيف إليه خسارة على خسارة، وجهداً على جهد، ثم كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.
سمعت إن (محدثاً) تزوج، ثم سمعت بعد أشهر قليلة أنه أصيب بداء السكر، ثم سمعت حكايته فعلمت انه قد أصيب بالداء من حيث طلب السلامة، وأنه لولا طلبه السلامة من حيث طلبها لكان أقرب إلى العافية وابعد من الداء(319/1)
ظن صاحبنا إن الزواج - أو الزواج الحديث على الأقل - عمل دائم لا يتخلله انقطاع، فمن لم يكن متزوجاً في الصبح وفي الظهر وفي الأصيل وفي المساء فهو أعزب أو نصف أعزب على اقل تقدير. وكيف يستطيع الإنسان إن يجمع بين الزواج وعدم الزواج في آن؟ هما نقيضان لا يجتمعان؛ وقد يكون في الجمع بينهما بعض معنى الطلاق إبان شهر العسل والعياذ بالله.
فتزوج وتزوج وتزوج، ولم ينس واجب الحيطة والوقاية لأنه رجل حازم بصير وقاك الله شر الحزم والبصر من هذا القبيل.
فمع الزواج الدائم شرب دائم من السمن والعسل على الريق وبين الطعام والطعام، وكلما وجد السمن والعسل وهما موجودان.
وهل غذاء أوفر من السمن والعسل؟ وهل انفع منهما للبدن وارد منهما للعافية أطيب منهما حلالا معيناً على حلال؟
هكذا قدر صاحبنا فجاءه الضرر من حيث قدر، لأن عناء الكبد في هضم كوب من السمن والعسل أشق عليه من عناء الزواج الدائم، فلم يكن عوضاً ما تعوض به واستعانه على حلاله، بل كان كما أسلفت كلالاً على كلال، وفتوراً فوق فتور.
وآخرون يبارى بعضهم بعضاً في (كلفة) المائدة و (تسبيك) القدور واصطناع (الجيد) من الأصناف: عندهم الخفة على المعدة رديف التفاهة، والثقل على المعدة رديف المتعة والغزارة.
ولكل منهم صنف يشتهر به ويولم عليه؛ وهم بينهم متبادلون متعارضون، متسابقون في الكرم متساجلون، حتى لا تحرم المعدات نصيبها من الكظة والنصب يوماً أو بعض يوم، ولا يتخلف واحد منهم في مضمار السباق: السباق إلى القبور.
أفي البلد أمثال هؤلاء لا يزالون مع الاحياء، وتستغرب عنواني: مطاعم الأغنياء؟
ما أعجبه مطعما يساق إليه أصحاب الضياع والكراع شهراً من كل سنة يتعلمون فيه (الأكل) وينفقون عليه من أموالهم مكرهين!
وما أعجبه ديواناً من دواوين الحكومة يهجم على المطابخ الفاخرة كما يهجم على المحظورات والمهربات، ويصادر الدسم كما يصادر السم!! وهو السم بعينه وليس السم في(319/2)
الدسم كما قال صاحب البردة رحمه الله.
على أن الآفة الكبرى أن يحرم المرء الغذاء لأنه لا يجده ولأنه لا يعرفه كما هو شأن الكثرة العظمى عندنا من سواد الفقراء.
فاكثر فقرائنا لا يفرقون بين التغذية وبين إسكات الجوع، وكأنما ينظرون إلى المعدة الصارخة نظرتهم إلى الكلب النابح الذي لا يراد منه إلا السكوت. . . فأن أسكتوه بعظمة فذلك حسن، وإن أسكتوه بحجر فذلك أحسن، ولا ضير عليهم بعد أن يسكت ويكف عن النباح.
أللبطن عيار أم خيار؟
ذلك جوابهم كلما (شبعوا) من طعام غث كثيف لا خير فيه، وكأنهم يحسبون من الصغار والمجانة أن يحفلوا بالمعدة الصارخة إذا استطاعوا أن يضحكوا منها بالقليل، فليس العجز عن خداعها والاحتيال عليها بالأمر الذي يليق بدهاء الرجال.
وربما رأيت هؤلاء المسكتين للمعدات بين أناس يعلمون الناس، ولا يعدون في مصلحة الإحصاء من زمرة الجهلاء.
كان لنا ولصديقنا صاحب الرسالة أيضاً زميل في التدريس يقبض ثمانية جنيهات في الشهر، ويشتري نصف فدان في العام، ويغمى عليه مرة أو مرتين في الأسبوع.
وعرضه ناظر المدرسة على طبيبها فاسر هذا إليه أن الرجل صحيح كأصح ما يكون الجسد السليم، وأن آفته كلها قلة الغذاء قلة الغذاء؟ كيف يكون هذا وهو يأكل ويشبع ولا يجوع؟
وأصر الرجل على طعامه، وخاف الناظر على تلاميذه أن يفوتهم من الحصص بمقدار ما يعتري الأستاذ من نوبات الإغماء. . فأذن له، بل آمره أن يأكل من طعام الغداء بغير ثمن، وفيه على الأقل ضمان وجبة نافعة في النهار. .!
كان القديس أوغسطين يقول إذا تكلم عن جسده: أخي الحمار. لأنه في حكمه حيوان كسائر فصائل الحيوان.
أما الجسد عند هؤلاء الذين يطعمونه وهم يسقمونه، ويسمونه وهم يحسبون أنهم يسمنونه، وينفقون المال ولا يعرفون كيف يأكلون، ويشبعون وخير لهم لو يجوعون، فهو الأحق بان(319/3)
يقول وهو يتكلم عن صاحبه: أخي الحمار. . . فهما في الواقع حماران اثنان في جسم إنسان.
ولمثل هؤلاء تشرع مطاعم الجهلاء، من القراء والأغنياء!
عباس محمود العقاد(319/4)
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة
وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
عندما نبحث عن الأسباب التي تدعو إلى استمرار بعض البلاد الغربية على فرض تعليم اللاتينية ولو في بعض الفروع من الدراسة الثانوية، يجب علينا إلا نسهو عن تذكر هذا العهد الذي كانت تسيطر فيه اللاتينية على حياة العلم والتعليم في جميع مرافقها سيطرة تامة. . .
كان من الطبيعي إلا تستمر هذه السيطرة المطلقة على طول الزمن، كما كان من الطبيعي أيضاً إلا تزول هذه السيطرة المطلقة دون إن تترك أثراً عميقاً. . .
كان من الطبيعي أن ترتفع أصوات الاعتراض والاحتجاج على هذه السيطرة، مع بزوغ عصر النهضة؛ وكان من الطبيعي أن تقوى الأصوات المطالبة بتخفيف وطأة هذا (النير اللاتيني) - حسب تعبير (لابرويير) الشهير -؛ وكان من الطبيعي أن تصل هذه الأصوات - أخيراً - إلى درجة الدعوة إلى الثورة ضد اللاتينية للتخلص من سلطتها المطلقة. . .
إن الخروج على سلطة اللغة اللاتينية بدأ أولا على شكل (انقلاب ديني) عندما طالب لوثير بترجمة الإنجيل إلى اللغات القومية، ودعا إلى إقامة الصلوات باللغات التي يتكلم بها الناس.
ثم جاء دور الانقلابات الأدبية، فخرجت الآداب - في الممالك الأوربية المختلفة - على سلطة اللغة اللاتينية المطلقة عندما تهذبت وتقدمت اللغات العامية، وأنتجت من الآثار الهامة ما رفعها إلى مصاف اللغات الأدبية.
وأخيراً جاء دور تخلص (العلم والتعليم) من سيطرة اللاتينية، فأخذت هذه اللغة تفقد سلطتها المطلقة في هذا الميدان أيضاً شيئاً فشيئاً.
إن الانقلاب الأخير لم يتم إلا بتدرج غريب، وبطأ عظيم؛ فمثلا اللغة الفرنسية لم تتمكن من دخول المدارس إلا باجتياز مراحل عديدة تتلخص فيما يلي: أولا إفساح المجال للتكلم(319/5)
بها في أوقات الفرص. ثانياً: تسويغ استعمالها لتفهيم العقائد الدينية للصغار. ثالثاً: تخصيص ساعات لتعليمها كدرس خاص. رابعاً: تحميلها مهمة تعليم بعض الموضوعات الدراسية. وأخيراً زيادة هذه الموضوعات بصورة تدريجية.
كما أن (التاريخ) أيضاً لم يدخل المدارس إلا مجتازاً مراحل عديدة: أولاً على شكل (التاريخ المقدس) مرتبطاً بدروس الدين. ثانياً: على شكل (تاريخ اليونان) و (تاريخ الرومان) مرتبطاً بدروس اللاتينية واليونانية.
أنني لا أرى داعياً لاستعراض جميع التطورات التي طرأت على المناهج الأساسية في المدارس المذكورة، حتى أواسط القرن التاسع عشر. غير أنني أود أن ألخصها بكلمة مختصرة، وهي: إفساح المجال للعلوم المختلفة شيئاً فشيئاً، بجانب اللاتينية واليونانية، دون إخراج هاتين اللغتين من نطاق الدروس الإجبارية.
كان بعض المفكرين والمربين يدعون إلى أحداث انقلاب أساسي في مناهج التعليم من حين إلى حين. كانوا يظهرون ارتيابهم في فوائد تعليم اللغات القديمة، حتى انهم كانوا يصلون بانتقاداتهم هذه إلى درجة القول بضررها؛ غير أن هذه الآراء قلما كانت تجد آذاناً صاغية، فلم تستطيع أن توجد تيارات فكرية قوية تؤثر على الحالة الراهنة.
مع هذا اشتدت الحملات على اللاتينية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، أخذت الانتقادات تتغلغل في محافل المفكرين، من جراء انتشار روح الثورة واشتداد نزعة الإصلاح والتجديد من جهة، ومن جراء تقدم العلوم وتعقد الحياة الاجتماعية من جهة أخرى.
فازداد تساؤل المفكرين والمربين يوماً عن يوم: هل من ضرورة تدعو إلى الاستمرار على تعليم اللغات القديمة في المدارس الثانوية؟ ألم يكن هذا التعليم من آثار النظم البالية التي توارثتها المدارس المذكورة من عهد القرون الوسطى؟ ما الفائدة من تعليم هذه اللغات بعد أن لم يبق على وجه الأرض من يتكلم بها؟ وإذا قيل أنها لا تخلو من فوائد، فهل تعادل هذه الفوائد الجهود العظيمة والأوقات الثمينة التي تصرف وتبذل في هذا السبيل؟ ألا يمكن الوصول إلى الفوائد المذكورة من طرق أخرى بوسائط اقل عمقاً من تعليم اللغات الميتة؟
أن هذه الأسئلة فتحت ميداناً فسيحاً للأبحاث والمناقشات التربوية. وهذه الأبحاث(319/6)
والمناقشات، تناولت مسألة (التعليم الثانوي) من وجوهها العديدة، حتى أنها أثارت مسألة (التدريس التثقيفي) من أسسها العميقة. . .
انشطر المفكرون والمربون حيال مسالة اللغتين اللاتينية واليونانية إلى معسكرين متخاصمين: معسكر الذين يقولون بوجوب المحافظة على هاتين اللغتين القديمتين في المدارس الثانوية، ومعسكر الذين يعتقدون بوجوب تخليص المدارس المذكورة منهما.
بدأت المناقشات بين المعارضين والمدافعين منذ قرن تقريباً؛ وهي تشتد أحياناً وتفتر أحياناً؛ وتضطر الحكومات إلى اتخاذ قرارات عملية جديدة، تحت ضغط هذه المناقشات، من حين إلى حين.
إن النزاع حول هذه المسألة صار أشد عنفاً واعمق أثراً في فرنسا مما كان في البلاد الأخرى. . . ولهذا السبب، أرى من الموافق أن نلقي نظرة عامة على الآراء التي استند إليها المعارضون والمدافعون، في المملكة المذكورة بوجه خاص:
يقول أنصار اللغات القديمة: إن في تعليم هذه اللغات فوائد عظيمة - مباشرة وغير مباشرة، قريبة وبعيدة، عملية ونظرية، تعليمية وتثقيفية - لا تضاهيها الفوائد التي يمكن الحصول عليها من تعليم أية لغة من اللغات الحية، وأي فرع من فروع الدراسة الأخرى. . .
وأما أنواع هذه الفوائد، فتتلخص في الأمور التالية:
(ا) إن اللاتينية أم اللغة الفرنسية ومصدر مفرداتها؛ فإتقان اللغة الفرنسية اتقاناً يضمن الأخذ بناصيتها، لا يمكن إن يتم بدون معرفة اللغة اللاتينية. . .
(ب) إن الآداب الفرنسية تأثرت بالآداب اللاتينية واليونانية تأثراً كبيراً. فمعرفة الآداب الفرنسية معرفة عميقة يتوقف على درس الآداب اللاتينية واليونانية دراسة كافية.
(ج) إن خزائن الأدب اللاتيني واليوناني مملوءة بالآثار الخالدة التي تصور أسمى نزعات الإنسان بأجمل الأساليب؛ فالاطلاع على هذه الآثار الخالدة من الأمور الضرورية لتكوين الثقافة السامية.
(د) إن الحقوق الفرنسية مؤسسة على الحقوق الرومانية، والتعمق في هذه الحقوق يتطلب معرفة مصادرها، وفهم هذه المصادر يتوقف على معرفة اللاتينية.(319/7)
(هـ) لقد أصبحت اللاتينية واليونانية مصدر الاصطلاحات العلمية ولا سيما ما يتعلق منها بالتاريخ الطبيعي والطب والكيمياء وأنواع المخترعات الحديثة، ومعرفة معاني هذه الاصطلاحات العلمية - وصوغ أمثالها عند الحاجة - مما يتطلب معرفة هاتين اللغتين.
(و) إن تعليم اليونانية واللاتينية من احسن وأنجع الوسائل التثقيفية؛ فأن هذا التعليم يلعب دوراً هاماً في تكوين العقل وتقويمه وتعويده على التفكير الصحيح المستقيم ولا يوجد موضوع دراسي يضاهي هذا التعليم من وجهة هذا العمل التثقيفي. ولذلك يجب أن نعتبر تعليم اللاتينية واليونانية بمثابة حجر الزاوية في صرح التثقيف.
إن جميع العظماء الذين نعرفهم ونفتخر بهم - من أساطين الأدب إلى جهابذة الفقه والعلم - قد تثقفوا بهذه الثقافة واستفادوا منها فلا يجوز لنا أن نهملها. . . ويجب أن نعلم حق العلم أن إهمال هذه الثقافة التي أثبتت جدارتها بالثمرات الثمينة التي آتتها للامة الفرنسية يكون بمثابة تعريض مستقبل هذه الأمة إلى خطر عظيم، خطر انحطاط الثقافة العامة التي تفتخر بها: وخطر الدراس جيل أعاظم الأدباء والعلماء الذين نعجب بهم.
هكذا كان يقول أنصار اللاتينية واليونانية.
وأما معارضو هؤلاء فيقولون: أن اللاتينية واليونانية من اللغات الميتة التي ترجع إلى العهود البائدة؛ وإن الحضارات والثقافات التي تتمثل في هاتين اللغتين أصبحت مدفونة في أغوار التاريخ ولو كانت سامية وباهرة أبان حياتها. فليس من المعقول أن نصرف - في هذا العصر الذي نعيش فيه - كل هذه الأوقات، ونستنفد كل هذه الجهود في سبيل تعلم وتعليم مثل هذه اللغات البائدة. . .
وأما الفوائد الآنفة الذكر فيفندها المعارضون واحدة فواحدة كما يلي:
(أ) لا شك في أن اللاتينية هي أم الفرنسية ومصدرها الأصلي؛ غير أن ذلك لا يدل على أن إتقان الفرنسية يتطلب معرفة اللاتينية. فالفرنسية اليوم، أصبحت لغة مستقلة عن اللاتينية استقلالا تاماً؛ فيجب أن تدرس درساً مباشراً، حسب معانيها وقواعدها وأساليبها الخاصة بها، بقطع النظر عن مصادرها الأصلية وتطوراتها التاريخية. وأما درس تلك المصادر، وتتبع تلك التطورات، فمما يجب أن يختص به العلماء الذين يودون أن يتبحروا في فقه اللغة ويتعمقوا في تاريخها؛ ولم يكن من الأمور التي يجب أن تعتبر من أسس(319/8)
دراسة الفرنسية دراسة عامة، حتى ولا من أسس دراستها دراسة أدبية.
(ب) إن الأدب الفرنسي أدب قائم بنفسه، وإن كان قد نشأ في أحضان الأدب اللاتيني وتأثر بالأدب اليوناني. إنه اتخذ أسلوباً خاصاً، فاكتسب كياناً مستقلاً. فدرس هذا الأدب وإتقانه لا يتطلبان الرجوع إلى منابعه بوجه من الوجوه.
ومن أوضح البراهين على ذلك هذه الحقائق الواقعة: (أننا نعرف عدداً لا يحصى من المستنيرين الذين درسوا اللاتينية واليونانية، ومع هذا لم يصبحوا من الكتاب المجيدين في الفرنسية. ومقابل ذلك نعرف عدداً غير قليل من الأدباء الذين أحرزوا مكانة عظمى في تاريخ الأدب الفرنسي، مع أنهم لم يتعلموا اللاتينية، ولم يتثقفوا بآدابها. . .).
(إن لاروشفوكو، ووورنياك، وآلكساندر دوماس، وجورج صان. . . من جملة الأدباء الذين يذكرون في هذا الصدد. . .)
(ج) إن الآثار الخالدة المكتوبة باليونانية واللاتينية قد ترجمها إلى الفرنسية كبار الأقلام، فيمكن الاطلاع عليها من تلك الترجمات الجيدة، دون إضاعة الأوقات والجهود، في تعلم اللغات التي كتبت بها.
هذا. ومما يجب إلا يعزب عن البال أن معرفة اللاتينية واليونانية التي يمكن الحصول عليها خلال الحياة المدرسية لا تستطيع أن ترفع الطالب إلى درجة تمكنه من تذوق مضامين تلك الآثار الفكرية والأدبية ومزاياها - في لغاتها الأصلية - ولذلك نستطيع أن نقول: إن درس الآثار المذكورة في ترجماتها الجيدة اكثر ضماناً لتذوق مزاياها تذوقاً حقيقياً. . .
وزد على ذلك أن اللغات الحية الراقية أيضاً أوجدت آثاراً خالدة لا تقل أهمية وسحراً عن الآثار التي يشير إليها دعاة اللاتينية واليونانية، إن لم نقل بأنها تفوقها في هذا المضمار، على الأقل من وجهة قربها إلى حياتنا العصرية. . . فلا يحسن بالثقافة الإنسانية العالية أن تبقى تحت سلطان اللاتينية واليونانية القديمة؛ بل الأجدر بها أن تستفيد من الآثار الخالدة التي أنتجتها اللغات الحية في العصور الحديثة. . .
إن تعلم اللغات الحية - عوضاً عن اللاتينية الميتة واليونانية القديمة - يأتي بفوائد عظيمة، من هذه الوجهة أيضاً.(319/9)
(د) لا ينكر أن الحقوق الفرنسية مستمدة من الحقوق الرومانية، والحقوق الرومانية مدونة باللغة اللاتينية. غير أن النصوص اللاتينية المتعلقة بالحقوق والقوانين - قد ترجمت بأجمعها إلى اللغة الفرنسية على يد اقدر العلماء والمتخصصين. فاصبح في استطاعة كل فرنسي أن يدرس الحقوق الرومانية دون أن يتعلم اللاتينية.
هذا، ويجب إلا يغرب عن البال أن الحقوق والقوانين العصرية لم تبق تحت سيطرة الحقوق الرومانية، وإن كانت قد استمدت - فيما مضى - أصولها منها. فأهمية الحقوق الرومانية في الثقافة الحقوقية آخذة في التضاؤل يوماً عن يوم، وسائرة نحو مطاوي التاريخ بخطوات سريعة.
ولهذا كله لا مجال لتبرير تعليم اللاتينية - بصورة منطقية - بحجة ضرورة ذلك لفهم الحقوق الرومانية.
(هـ) وأما مسألة الاصطلاحات العلمية الحديثة فأنها ليست من الأهمية بدرجة تستلزم صرف الجهود الشاقة لتعلم اللاتينية واليونانية، فان مصادر هذه الاصطلاحات وأساليبها محدودة، فليس من الصعب تعليمها مباشرة - مع ذكر وجوه اشتقاقها - دون التعمق في أغوار اللغتين القديمتين المذكورتين.
فضلاً عن أن المعاني الاصطلاحية قلما تنطبق على المعاني اللغوية؛ فمعرفة المعاني الأصلية قلما تساعد على فهم المعاني الاصطلاحية. ويمكننا أن نقول: إن عدم ضرورة التقيد بالمعاني الأصلية في الكلمات والتعبيرات المستخرجة من اللغات الميتة، كان من أهم العوامل التي سهلت وضع هذه الاصطلاحات الحديثة، ونشرها بين جميع الأمم العصرية (وذلك بجانب العامل الآخر، وهو ملاءمة عواطف الأمم التي لا تقبل عادة الاصطلاحات التي تستمد عناصرها من لغات الأمم المعاصرة لها). ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه الاصطلاحات إنما أدخلت على اليونانية واللاتينية إدخالا، فلو أنها عرضت على أبناء اللاتينية أو آباء اليونانية في حياتهم، لما فهموا منها شيئاً، أو فهموا منها أشياء أخرى.
وعلى كل حال نستطيع أن نقول: إن معرفة المعاني الأصلية ليست ضرورية لفهم المعاني الاصطلاحية، كما أنها ليست مفيدة لها في اكثر الأحيان.
فمحاولة تبرير تعليم اللاتينية واليونانية بحجة ضرورة هاتين اللغتين لفهم الاصطلاحات(319/10)
العلمية الحديثة، مما لا يتفق مع العقل والمنطق بوجه من الوجوه.
(يتبع)
أبو خلدون(319/11)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 10 -
سنواجه الأدب الأندلسي في مقال اليوم، وهو الأدب الذي اتهمه الأستاذ أحمد أمين بالعجز عن تذوق الطبيعة، والإحساس بالوجود.
ولكن لا بد من من كلمة قصيرة نبين بها بعض الخصائص التي امتاز بها الأدب العربي ليعرف أحمد أمين ومن لف لفه من المتحذلقين كيف تفرد ذلك الأدب بالصيغة العالمية بين سائر الآداب.
أسير الآداب في العصر الحاضر هو الأدب الفرنسي والأدب الإنجليزي والأدب الألماني، ولكن هذه الآداب على عظمتها لا تزال محصورة في العبقرية المحلية. ومعنى ذلك أن أقطاب الأدب الإنجليزي إنجليز، وأقطاب الأدب الفرنسي فرنسيس، وأقطاب الأدب الألماني ألمان.
والأدب الإنجليزي حين ازدهر في أمريكا لم يكن أقطابه هناك من السكان القدماء لبلاد الأمريكان، وإنما كان أقطابه من السلالات الإنجليزية التي احتلت تلك البلاد.
والفرنسيون لا يعترفون لأهل سويسرا وبلجيكا بالتفوق في الأدب الفرنسي، ويقولون أن أدبهم لا هو لحم ولا هو سمك، على حد تعبيرهم الطريف , مع استثناء أفراد قلائل رفعتهم العبقرية إلى التفوق في لغة هوجو وميسيه ولامرتين.
أما الأدب العربي فكان حظه من اغرب الحظوظ، لأنه تغلغل في كثير من البيئات الشرقية والغربية، وانتفع بعبقريات كثيرة في مختلف الأمم والشعوب، فكان فيه أقطاب بين ناس لم تكن لهم قبل الإسلام صلة بمهد اللغة العربية من ناحية الجنس أو الدين.
وعلى ذلك يمكن القول بان الأدب العربي هو الأدب المخضرم الذي انتفع بالأجواء المختلفة من طبائع البلاد وسرائر الرجال. وقد ظهرت عبقريته في لونين من ألوان التعبير: هما العلوم الشرعية والفنون الأدبية، وما يمكن لباحث منصف أن ينكر أن الفقه الإسلامي صورة من صور التعبير الدقيق، وهو من صميم الأدب عند من يعرفون أن شرح الشرائع فرع من الفروع الأدبية، وهو يمثل الشعور بما في المجتمع من معضلات(319/12)
ومشكلات خلقتها ظروف المعاش.
وذلك الفقه لم تختص به أرض دون أرض، فكان من أهل الهند وأهل فارس وأهل مصر وأهل المغرب والأندلس رجال تفوقوا في الدراسات الفقهية أشد التفوق، وأمدوا الأدب بصور كثيرة تمثل الاتجاهات الذوقية والمعاشية.
وما يقال في الفقه يقال في التوحيد والتفسير والحديث، فهناك ألوف من المصنفات الجيدة التي وعت ضروباً من الحقائق الأدبية والفلسفية لا يستهين بها رجل حصيف.
ولو توجهت همم الباحثين إلى شرح ما في تلك المصنفات من مقاصد وأغراض لأتوا بالعجب العجاب. وقد نبهني إلى ذلك المسيو مرسيه يوم كنت مشغولا بشرح الرسالة العذراء، فاستطعت أن أجد شواهد أدبية من كتب الفقه عند المالكية. وكذلك استطعت بإرشاد المسيو ماسينيون استخراج بعض المعاني الصوفية من المؤلفات الفقهية.
حيا الله أساتذتي في باريس، فبفضلهم عرفت من مذاهب البحث ما لم أعرف.
وإنما مهدت لمقال اليوم بهذه الكلمات ليعرف الأستاذ أحمد أمين كيف أخطأ حين توهم أن الأدب مقصور على قصائد الشعراء، فما كان الشعر إلا صورة من صور التعبير، وهو لتقييده بالقوافي والأوزان لا يستطيع التعبير عن جميع الأغراض.
وأنا مع ذلك سأقف عند الأدب الصرف الذي يمثله الشعر والنثر الفني وأنا أتحدث عن الأندلس.
فهل من الحق أن الأندلسيين لم يحسوا الطبيعة ولم يتذوقوها كما قال أحمد أمين؟
إن المعروف عند جميع أدباء اللغة العربية أن الأندلسيين تفوقوا في وصف الطبيعة، فكيف تفرد أحمد أمين بنكران ذلك؟
أيكون أحمد أمين أعلم الناس بالأدب ولا نعرف؟ ذلك والله غاية العجب!
أيكون من طبع كلية الآداب أن تروض مدرسيها على اصطناع الحذلقة والأغراب؟
أغلب الظن أن أحمد أمين سمع أنه لم يأت بجديد منذ اتصل بكلية الآداب، والجديد عنده هو الخروج على ما اتفق عليه جمهور أهل الأدب في ميدان الحقائق الأدبية، فمضى يتكلف ويتعسف ليأتي بجديد يجعله في الطبيعة بين أساتذة كلية الآداب، فكان ذلك الجديد هو التجني على ماضي الأدب العربي حين زعم انه في اكثر أحواله أدب معدة لا أدب(319/13)
روح، وأنه لا ينقد الحياة كما تصنع الآداب الإفرنجية، وأنه لم يصف الطبيعة ولم يتحدث عن المجتمع.
وقد فندنا هذه المزاعم فيما يخص مصر والشام والعراق.
وندفع اليوم ما وجهه أحمد أمين إلى الأدب الأندلسي وهو يرى أهله قصروا ابشع التقصير في تذوق الطبيعة وفي الإحساس بما تعرضوا له من الأحداث الاجتماعية.
ويجب أن يكون مفهوما قبل الشروع في التفاصيل أن الأدب الأندلسي تعرض للضياع منذ أجيال، فلو قلنا أن ذلك الأدب ضاع منه اكثر من تسعة أعشاره لما بعدنا عن الصواب، فقد عانى ذلك الأدب فتنة حمقاء هي ثورة الأسبان على مخلفات العرب في الأندلس وإصرارهم على تبديد ما ترك العرب والمسلمون من روائع الآداب والفنون.
وكان ما صنع الأسبان بآثار العرب في المغرب صورة مما صنع التتار بآثار العرب في المشرق، فكان حظ قرطبة صورة ثانية من حظ بغداد.
تبدد من آثار العرب في الأندلس ما تبدد، وضاع منه ما ضاع، ومع ذلك بقيت آثاره تشهد بان العرب في الأندلس أحسوا الطبيعة والوجود إحساساً قليل النظائر والأمثال.
وهل يدرك أحمد أمين قيمة الإحساس بالطبيعة في قول المعتمد بن عباد:
وليل بسد النهر آنسا قطعته ... بذات سوار مثل منعطف النهر
نَضَتْ بُردها عن غصن بان منعم ... فيا حُسن ما انشقَّ الكمام عن الزهر
أيقال أن هذا لعب بالتشبيهات، كما يتوهم احمد أمين؟
وما رأيه في قول عمرو بن فرج وهو يتحدث عن شرف العفاف:
وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع
وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي
فملكت النهى حجاب شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي
وبت بها مبيت السَّقب يظما ... فيمنعه العكام من الرضاع
كذاك الروض ما فيه لمثلى ... سوى نظر وشم من متاع
ولست من السوائم مهملات ... فاتخذ الرياض من المراعي(319/14)
أينكر إن هذا الشاعر أحس الطبية أدق إحساس؟
وهل يستطيع إن يؤدي هذه الصورة بأفضل من هذا الأداء؟
وما رأيه في قول محمد بن سفر:
وواعدتُها والشمس تجنح للنوى ... بزَوْرتها شمساً وبدر الدجى يسرى
فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النهر
فعطّرت أن حولِي فأشعرتْ ... بمقدمَها والعَرف يُشعر بالزهر
فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصَّى قارئٌ أحرف السطر
فبتُّ بها والليل قد نام والهوى ... تنبَّه بين الغصن والحِقف والبدر
أعانقها طوراً والثم تارةً ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر
ففضّت عقوداً للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر
إلا يرى كيف كانت الطبيعة بشجارها وأزهارها وأنهارها وأقمارها تداعب خيال الشاعر وهو ينظم هذا القصيد؟
أيدرك قيمة الإحساس بالطبيعة في هذا البيت:
فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطوراً كما مرّ النسيم على النهر
قد يقول أن هذا لعب بالتشبيهات!
أن قال ذلك فسيأتي يوم قريب نبين فيه قيمة التشبيهات وما فيها من الدلالة على الأنس بمعاني الوجود
وما رأيه في قول أحد الأندلسيين:
أديراها على الروض المندّى ... وحُكم الصبح في الظلماء ماضي
وكأس الراح تنظر عن حَبابٍ ... ينوب لنا عن الحَدق المراضِ
وما غَربَتْ نجوم الأفق لكن ... نُقِلْن من السماء إلى الرياض
أيحسب هذه الأبيات من الكلام المزخرف الذي لا يدل على شيء!
اتقى الله في نفسك يا صديقي احمد أمين، فأنت لا تجني على الأدب، وإنما تجني على نفسك حين تنسب إليها الغفلة عن أقدار هذه المعاني:
وما بأفضل في قول الرصافي الأندلسي في وصف حائك جميل:(319/15)
قالوا وقد أكثروا في حبه عَذَلي: ... لو لم تهم بمُذال القدر مبتذلِ!
فقلت: لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترتُ ذاك ولكن ليس ذلك لي
علقتُهُ حَبَيَّ الثغر عاطرهُ ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل
غُزِّيلٌ لم تزل في الغزل جائلةً ... بنانُهُ جوَلان الفِكر في الغزَل
جذلان تلعب بالمحواك أنملهُ ... على السَّدى لعب الأيام بالأجل
ضًّما بكفيه أو فحصاً بأخُمصهِ ... تخبُّط الظبي في أشراك محتَبِل
ألا تدل هذه القطعة على أن الشاعر قوي الإحساس بالوجود؟ وهل فكر أحمد أمين أن الأندلسيين لهم أمثال هذه المعاني؟
وهل عرف أن منهم من قال في وصف راقص مليح:
ومُنزّع الحركات يلعب بالنُّهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسهِ
متأوِّداً كالغصن وسْط رياضه ... متلاعباً كالظبي عند كناسه
بالعقل يلعب مدبراً أو مقبلاً ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه
ويضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضمّ ذبابه لرياسهِ
ألا تعد هذه القطعة من غرائب الشعر البديع الذي يمثل الإحساس بالوجود؟
وهل عرف أن في الأندلسيين من قال:
عاطيته والليل يسحب ذيلهُ ... صهباء كالمسك الفتيق لناشقٍ
وضممته ضمّ الكمىّ لسيفه ... وذؤابتاه حمائلٌ في عاتقي
حتى إذا مالت به سِنة الكرى ... زحزحتُه شيئاً وكان معانقي
باعدتُهُ عن أضلع تشتاقهُ ... كيلا ينام على وسادٍ خافق
فهذا شاعر حي العواطف، مشبوب لأحاسيس، يدرك جمال الوجود في أوقات الصفاء، ويواجه الطبيعة بنظر ثاقب، وقلب خفاق.
وما رأي صاحبنا في قصيدة ابن هاني:
فمن في مأتمٍ على العشاقِ ... ولبسن السواد في الأحداق
وهي قصيدة يحفظها أكثر الأدباء، وفيها من وصف الطبيعة ألوان.
وما قوله في أرجوزته القافية التي وصف فيها الساقي فقال:(319/16)
يحّثها بِدَله المرموقِ ... أرقَّ من أديمه الرقيق
وبات سلطاناً على الرحيقِ ... يسلِّط الماَء على الحريق
ويغرس اللؤلؤ في العقيق ... كأنَّ دُرَّ ثغره الأنيق
أُلّف من حَبابها الفريق ... أو زَلّ عن فيه إلى الإبريق
وهل سمع الأستاذ أحمد أمين بأخبار ابن شهيد صاحب (الزوابع والتوابع) ولأدبه صلة شديدة بتذوق الوجود؟
هل قرأ أشعار ابن زيدون ورسائل ابن زيدون ليرى كيف فتن هذا الشاعر الكاتب بفهم الدنيا والناس؟
وهل نظر في نكبات ابن عمار الذي تذكر نفثاته بنفثات أبي فراس؟
وهل خطر في باله أن ينظر كيف برع الأندلسيون في الموشحات، وكانت أقباساً من الأضواء، وأنفاساً من الأزهار؟
هل عرف أن الأندلسيين بكوا بلادهم بكاء شهد بأنها قطع من قلوبهم الخوافق؟
هل مر بخاطره أن الأدب الأندلسي ترك في الأدب اللاتيني أخيلة وتعابير بقيت على الزمان؟
هل وصل إلى علمه أن عهد العرب في الأندلس هو أشرف ما عرضت أسبانيا من العهود؟
هل اتفق له أن يعرف أن تاريخ العرب في الأندلس كان مادة غنية سعدت بها حيوات كثير من الباحثين الذين تشرفت بهم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية؟
هل طرق سمعه الخبر الذي يقول إن علماء الأندلس هم الذين عرفوا أهل أوربا بمعارف اليونان؟
فبأي حق يجوز التطاول على أهل الأندلس من رجل مثل أحمد أمين وهو يشهد على نفسه بأنه لا يكتب عن الأندلس إلا بعد أن يأذن له المستشرقون؟
آه، ثم آه!!
ما جزعت على وفاة الأستاذ مصطفى صادق الرافعي كما جزعت عليها اليوم!
فلو كان الرافعي حياً ورأى أحمد أمين يقول في ماضي الأدب العربي ما يقول لأصلاه نار العذاب وصيره أضحوكة بين أهل الشرق والغرب.(319/17)
ولو كان احمد زكي باشا حياً ورأى هذا العبث في السخرية من أهل الأندلس لقدم أحمد أمين إلى مهاوي سقر (وأحمد زكي باشا أول من أذاع محاسن الأندلس في العصر الحديث، قبل الشيخ محمد المهدي والأمير شكيب أرسلان).
ومن يدري، فلعل أحمد أمين يلقى من الجزاء ما هو له أهل يوم يتنبه أساتذة الأدب إلى واجبهم في رد عادية العادين على ماضي اللغة العربية!
من يدري، فقد يقوم أحد المستشرقين بالانتصاف للتراث الذي غفل عن قيمته الشرقيون!
من يدري، فقد تستيقظ كلية الآداب فتنشئ كرسياً للأدب الأندلسي يرف شبان العصر الحاضر أن أسلافهم استطاعوا أن يروعوا الأدب اللاتيني في حصنه الأمين!
إن الشواهد التي سلفت قد انتزع أكثرها من الشعر، فكيف كان النثر عند أهل الأندلس وكيف دل على تذوق أصحابه؟
لا أريد أن أعيد ما قلت في كتاب النثر الفني حين تحدثت عن كتاب الأندلس، لأني أبغض الحديث المعاد، وإنما أنبه القراء إلى خصيصة ظاهرة من خصائص النثر الأندلسي: هي الهيام بالتشبيهات رغبة منهم في تجسيم المعاني، والتشبيهات تنتزع في الأغلب من صور الطبيعة والوجود، فهي من الشواهد على إحساس الكاتب بالطبيعة والوجود
ولم تقف هذه الخصيصة عند الرسائل القصيرة أو كتب العهود، وإنما شملت كتب التراجم وكتب التاريخ، وغلبت على الأبحاث الصوفية.
ومعاذ الأدب أن نفهم الطبيعة كما يفهمها أحمد أمين فنظنها مقصورة على الشجرة والزهرة، هيهات، إنما الطبيعة كتاب الوجود بما فيه من حجر ومدر، وشجر ونبات، وماء وجماد.
والطبيعة الشاملة تظهر بعظموتها وجبروتها ممثلة ناطقة في اكثر ما كتب الأندلسيون، ولو شئت لقلت إنهم بالغوا في ذلك حتى قاربوا الإسفاف، فهل كانوا يعلمون من وراء الغيب أن سيجيء في آخر الزمان من يتهمهم بالغفلة عن تذوق الطبيعة والوجود؟
أمن أجل تلك التهمة المحجوبة في ضمير الغيب كان الفتح بن خاقان يفتعل ويعتسف في الأوصاف والتشبيهات ليقيم الدليل على أن الطبيعة كانت تطالع الأندلسيين من كل جانب؟
أكان ابن زيدون وابن برد وابن شهيد وابن حزم يتوقعون أن سيتجنى عليهم ناس فيتهمونهم بالتبلد وضعف الإحساس فكان من احتفالهم بوصف الطبيعة ما كان؟(319/18)
وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ العقاد منذ سنين وهو يفاضل بين البحتري وشوقي، فقد نص على أن شوقي وصف الطبيعة بعد أن صار وصفها من المذاهب الأدبية، أما البحتري فوصفها بوحي من الفطرة. وكذلك أقول في الحكم لأهل الأندلس: فهم لم يتعمدوا وصف الطبيعة ليقال انهم تذوقوها وأحسوها! وإنما وصفوها بوحي من الفطرة فكانت أوصافهم أبلغ في الدلالة على سلامة الذوق، وقوة الطبع، وأصالة البيان.
ويتحذلق أحمد أمين فيقول: أين الشاعر الذي رأى نفسه جزءاً من الطبيعة على حد قول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا
ونقول إن الحلاج بحمد الله شاعر عربي، وشعره زكاة عن العرب الذين اتهمهم أحمد أمين، وأبيات الحلاج هي اندماج في الطبيعة، ولذلك تفصيل يراه من شاء في كتاب التصوف الإسلامي عند شرح نظرية وحدة الوجود، حتى لا يظن ظان أن أحمد أمين أول من التفت إلى هذه الشؤون.
ولكن ما بال صاحبنا يغفل عن أبيات الشاعر الأندلسي الذي منح الطبيعة خصائص النفس الإنسانية حين قال:
وقانا لفحةَ الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعَفُ الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حَنُوَّ المرضعات على الفطيم
وأرشفَنا على ظمأ زُلالاً ... ألذّ من المدامة للنديم
يصدُّ الشمسَ أني واجهتْنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
وهل يعرف أحمد أمين أن نظرية وحدة الوجود وهي أعظم تقديس للطبيعة لم يشرحها أحد بمثل ما شرحها الصوفية في الأندلس؟
وهل عرف أن أبن عربي له في ذلك آيات بينات؟
وهل فطن إلى أن أبن زيدون جمع إلى روحه أطراف الوجود حين قال:
يُدنى خيالكِ حين شطَّ به النوى ... وهمٌ أكاد به أُقبِّل فاكِ
أما بعد فقد زعم أحمد أمين أن ابن خفاجة الملقب بشاعر الطبيعة لم يجد غير الصياغة، ولم(319/19)
يستطع أن ينفخ فيها الروح، إلا في النادر القليل.
فهل نترك هذا الزعيم بلا تفنيد رعايةً لهذا (الأديب)؟
وهل هان الأدب العربي على أهله حتى يتركوا زمامه لمن يتخيل فيخال؟
إن من حق ابن خفاجة علينا أن نجلو صفحة من حياته الشعرية والنثرية تبين كيف كان ذلك الرجل فناناً بارعاً تجري أنامله على أوتار الوجود، فهو من مفاخر اللغة العربية، وهو حجتها يوم يتطاول عليها من لا يدركون أسرار البيان.
وقبل الشروع في الكلام عن ابن خفاجة أرجو أصحاب الجرائد والمجلات في غير مصر أن يصححوا رأيهم في أسباب هذه المقالات، فليس من الصحيح أني انتهزت فرصة الأخطاء التي وقع فيها أحمد أمين لأشفي صدري منه أو لأشفي صدر صديقي صاحب الرسالة، فليس بيننا وبين الأستاذ أحمد أمين خصومة شخصية، وإنما هي مصر تروض أبناءها على مخاصمة أصدقائهم في سبيل الحق.
(للحديث شجون)
زكي مبارك(319/20)
حول الوحدة العربية
بين الحصري بك وطه حسين
للأستاذ عز الدين التنوخي
عدت مساء إلى منزلي فاستقبلتني غادة (الرسالة) بثوبها الأحمر القشيب، وهي أبداً بين المجلات قيد ناظري، ومهوى خاطري. ولا غرو في ذلك، فان الدماشقة خاصة، وأبناء العرب عامة، يفضلونها لروحها العربية، وبما تعمله على (توحيد الثقافة العربية)، على سائر المجلات المصرية. وكلما ازداد الإيمان القومي في العرب، ازداد هذا الحب الطبيعي للرسالة، وازداد معه بمقدار ذلك الهجر والإعراض عن غيرها. واكتفى بالمثال الواقعي التالي دلالة على صحة ذلك! فلقد شاهدت غداة أمس فتى عربياً في الترام يحمل مجلات بينها (الرسالة). فقلت له:
- أية مجلة تحبها مما تحمل؟
- مجلة (الرسالة)!
- ولماذا آثرتها بالمحبة؟
- لان روحها المصرية تمتزج بروحنا العربية، ولأنها. - وهنا أشار إلى الغلاف - تجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية!
وحينما رأيت مساء مجلة (الرسالة)، نظرت إلى فهرسها فوجدت فيه موضوعاً يهمني - وأبناء العرب جميعاً - وهو رد الأستاذ ساطع الحصري على الفصل الجوابي الذي نشره الأستاذ طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر).
اجل! كنت انتظر بصبر غير جميل من مثل أبي خلدون أن يعيد الكرة على صاحبه الذي أحاله في نقض انتقاداته على الفصل الجوابي. ذلك بأنا - ولا نكتم الدكتور طه حسين - كنا قد اعتبرنا هذه الإحالة يومئذ ضرباً من الفرار من معركة المناظرة، وقرأت اليوم كتاب الأستاذ أبي خلدون (إلى الدكتور طه)، فلا ادري ماذا عسى أن يراجع به هذا الأديب العربي الكبير ناقده بعد أن استشهد عليه بكلامه، وحصين منطقه؟
نعت الآن الدكتور طه حسين - بالأديب العربي - لا بالمصري، فحسب لان أدبه عربي بمصادره، عربي بلغته وألفاظه، عربي بمباحثه المبتكرة، وأساليبه المستعذبة! عربي على(319/21)
الرغم منه بروحه حينما يرسل نفسه على سجيتها، ويقول ما يقول غير منتصر للفرعونية، وغير مجامل لأنصارها!
أليس طه حسين هو الذي فضل أدبنا العربي القديم على معظم آداب أمم الحضارة القديمة في كتابه (حديث الشعر والنثر)؟ أليس طه حسين من اقدر العاملين على إحياء لغتنا العربية بإحياء آدابها بذلك الأسلوب العربي الرائع ببلاغته على سلاسته وبامتناعه على أطماعه؟ أو ليس هو المنادي بتوحيد الثقافة العربية التي إن ضمنها للأستاذ أبي خلدون، وضمنها لنا أيضاً، ضمنا له كل ما يبقى من ضروب الوحدة؟!
اجمل الدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها من أن يكون في قطر واحد أديباً! وليته - أصلحه الله - جامل في المكشوف أدباء العرب الذين يتنافسون في اقتناء آثاره، ويتباهون بأنهم من أنصاره. أو ليته - وهو مسلم مصري - خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد - وهو النصراني المصري - وهو لذلك اشد اتصالا منه بالفراعنة ذوي الأوتاد!
وليسمع الدكتور طه حسين ما يقوله الأستاذ مكرم عبيد في عدد الهلال الممتاز (العرب والإسلام):
(سافرت في رحلة صيفية إلى سوريا، وتفضل إخواني السوريون في الشام ولبنان وفلسطين، فشملوني بترحيبهم وتكريمهم، فوقفت يومئذ وتحدثت عن الوحدة العربية وقلت: (المصريون عرب). وأبديت رأيي في هذه النظرية التي يؤيدها التاريخ، فنحن معشر المصريين جئنا من اسيا، ونحن أدنى إلى الرب منذ القدم من حيث اللون واللغة والخصائص السامية والقومية) إلى أن يقول: (نحن عرب! ويجب أن نذكر في هذا العصر دائماً أننا عرب قد وحدت بيننا الآلام والآمال، ووثقت روابطنا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان. فأحدثت منا أمما متشابهة متماثلة في كل ناحية من نواحي الحياة).
ثم تكلم عن الوحدة العربية بقوله: (فالوحدة العربية حقيقة قائمة، هي موجودة لكنها في حاجة إلى تنظيم؛ والغرض من التنظيم إيجاد جبهة تناهض الاستعمار، وتحفظ القوميات، وتوفر الرخاء، وتنمي الموارد الاقتصادية، وتشجع الإنتاج المحلي، وتزيد في تبادل المنافع(319/22)
وتنسيق المعاملات. فكما أن أوربا خلقت شيئاً معنوياً ترتبط به وتلتف حوله أغراض سكانها على اختلاف أممهم، فكذلك نحن سيؤول مصيرنا إلى الالتفاف حول مثل أعلى يوفق بيننا فنصير كتلة واحدة وتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة، أو وطناً كبيراً بتفرع منه عدة أوطان - لكل منها شخصية لكنها في خصائصها القومية العامة متحدة متصلة اتصالاً قوياً بالوطن الأكبر).
وفي هذا البحث الممتع للأستاذ مكرم عبيد بشير آنفاً إلى رحلته الصيفية للديار الشامية وأنه كان يتحدث إلى المرحبين به قائلا: (المصريون عرب).
صدق والله، فقد كنت من جملة المرحبين بأخوته العربية في نزل أمية بدمشق، وسمعت هذه الكلمة الطيبة من فيه، لا فض فوه. ولا أزال اذكر ذلك يوم سألته عن تلك النعرة الفرعونية في مصر فقال لي ما معناه: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب!
الأستاذ مكرم عبيد فرعوني صميم، ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته، والأستاذ طه حسين المسلم المصري يحكم والناس معه بالظن على فرعونيته، فلن يكون بذلك اصدق تفرعنا من مكرم عبيد، وإذا ما ادعى ذلك كان اشد فرعونية من فرعون نفسه، أو - اشد كما قيل - ملكية من الملك!
والأستاذ طه حسين الذي كان ينكر الوحدة العربية بأنواعها وشرائطها، ويعد من يقول بهذه الوحدة من أصحاب العقل القديم، قد اصبح ولله الحمد أخيراً قديم العقل كالأستاذ مكرم عبيد لقولهما بالوحدة العربية على شكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري!
وأظن أخانا العربي الزيات قديم العقل أيضاً لقوله بالوحدة العربية، فما اجمل ذلك العقل القديم الذي يصل بين الأرحام المتقاطعة والأرواح المتناكرة والقلوب المتنافرة، ولخير لنا ألف مرة أن يجمع شملنا العقل القديم من أن يمزق ويفرق بيننا العقل الحديث.
(دمشق)
عز الدين التنوخي(319/23)
عضو المجمع العلمي العربي(319/24)
كتاب في الدين الإسلامي
للأستاذ محمد بهجة البيطار
قرأت في الرسالة الغراء مقال نابغة الشام الأستاذ علي الطنطاوي في الإسلام وفهم الأصحاب والأعراب له من النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس معدودة، وصدورهم عنه معلمين ودعاة إلى الله أيام كانت أوعية العلم الصدور لا الكتب؛ ثم وصف ما يلاقيه في عصرنا طلاب العلوم والفنون من عنت في معرفة هذا الدين السمح بعد أن صرنا نملك ألوف الألوف من كتبه، واقترح أن يؤلف كتاب في الإسلام - عقائده وعباداته وأخلاقه - يشرح فيه حديث جبريل عليه السلام الذي سال فيه النبي (ص) عن الإيمان والإسلام والإحسان بأسلوب شائق مؤثر (لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي) كما قال. ودعا الكتاب إلى البحث في هذا الموضوع الجليل، واقترح علي حفظه الله أن اكتب في مبحث الأيمان بالله تعالى على الأساس الإسلامي لا المذهب الكلامي (المشحون بالألفاظ المبتدعة كالجوهر والجسم والأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث وغيرها) لينشر على صفحات الرسالة الغراء، فلبيت شاكراً للأستاذ الطنطاوي غيرته، ممهداً بوصف كتب العقائد المتداولة بين الأيدي.
كتب العقائد المتداولة
لا يخفى أن الإيمان بالله تعالى هو توحيده على الوجه الذي أثبته لنفسه في كتابه، أو ورد عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى في بيانه. وإذا نظرنا إلى كتب التوحيد الدراسية التي تداولتها أيدي الخواص والعوام في معظم الأمصار الإسلامية، وصارت عمدة المدرسين والدارسين في المدارس الحكومية الرسمية وفي المدارس الأهلية والمعاهد الدينية أيضاً نجدها نوعين:
1 - كتب العقائد التي وضعت على طريقة الخلف، وأولت فيها نصوص الكتاب والسنة تأويلا صرفها عن مداولاتها اللغوية والشرعية، ونفي معانيها الوجودية الثابتة، بتأويلات جاءت على خلاف الوضع والشرع.
2 - كتب الدفاع عن الإسلام وتوحيده، واثبات أنه دين العقل والفطرة، وحاجة البشر في كل زمان ومكان، وقد انتشرت في زماننا شبه وشكوك في دين الحق لأقوام وأصناف،(319/25)
كبعثات التبشير أو التنفير، ومروجي الإلحاد والفساد، وكتب التحريف والتخريف؛ وفي ردود دعاة الإسلام وحماة الفضيلة دفع لباطلهم، وكبح لجماحهم، ولكن هذه الكتب التي تضمنت فلسفة التوحيد وحكمة التشريع، هي سلاح علمي نشهره في وجوه أعدائنا، لحراسة عقائدنا، والدعوة إليها، والنضال عنها، لا لتلقي علم التوحيد وعقائده منها، فهي على نفاستها وضرورة دراستها وكونها لا يستغني عنها في مثل هذا الزمن، ليست كتباً موضوعة في علم التوحيد، ولا هي قواعد لعقائده المستمدة من نصوصه المبنية عليها، بل هي فلسفة تحوم حول التوحيد، وإيضاح لمحاسن الدين ومزاياه.
وهنالك نوع ثالث وهو الكتب التوحيدية السلفية التي أثبتت معاني النصوص وحقائقها الشرعية من طريق المنقول والمعقول، وردت كلام المعطلة والمؤولة رداً لم يبق حاجة في النفوس.
وقد كان حوار سلفنا الصالح مفحما للفرق التي ظهرت في عصورهم، وشاعت مقالاتهم في الناس كالقدرية والخوارج، والجبرية والجهمية، والمرجئة والوعيدية. وكتب علم السنة الإمام أحمد بن حنبل، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من أئمة السلف اجل ما صنف في العقائد الصحيحة، وانفعها في النقض على هذه الفرق المنحرفة. وقد جدد عهدهم، وشرح مذهبهم، وبين أنه الأسلم والأعلم والأحكم شيخا الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية في كتبهما، ثم من جاء بعدهما من أئمة الإسلام وأنصار العقيدة السلفية. ولكن كتب هؤلاء الأعلام الواسعة هي علمية تعليمية، لأنها في الغالب كتب حجاج ومناظرة، وتأييد لمداولات النصوص، ورد لشبهات الخصوم. فأنا أؤيد رأي أخي الطنطاوي فيما كتب، واقترح على حماة العقائد الصحيحة التي جاء بها القرآن أن يفتحوا باباً للتوحيد السلفي، وأن ينشروا فصولاً ملخصة مما كتبه الأئمة الثقات فيه، تكون تمهيداً لوضع سلسلة توحيدية تعليمية، مفرغة حلقاتها بأسلوب عصري مدرسي، تشرب القلوب حب السلف الصالح وأثارهم، وتطبع النفوس بطابع عقائدهم وأخلاقهم، وتغذي عقول النشء الإسلامي بلبان التوحيد الخالص المطهر من كل ما يخالطه من أدران البدع والزوائد، فتصح العقائد، وتزكو الأخلاق، وتتوحد المبادئ والغايات، فنضع هذا الاقتراح أمام أولي الكفاية والعزم من إخواننا السلفيين، لعله يجد مكاناً للاستحسان والتنفيذ إن شاء الله تعالى.(319/26)
تعريف التوحيد
التوحيد في اللغة التفريد. تقول: وحدت الشيء وأحدته إذا فصلته عما سواه وأفردته. وفي الشرع: اعتقاد أن الله واحد احد، فرد صمد، لا ند له ولا ضد. والتوحيد أساس العلوم الدينية، وهو الذي نزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وتوارثه المجددون في كل عصر، وقاموا عليه خير قيام. وهو الذي يجب أن يكون رأس الدعوة، ويجاهد في سبيله كل من عاداه، حتى يكون الدين كله لله، وتترك العبادة لما سواه من حجر وشجر وبشر، وشمس وقمر، وملك وجن، وسائر ما عبد من دون الله في الملأ الأعلى أو الملأ الأدنى، وهذا هو مناط النجاة في الآخرة، وليست الدنيا إلا دار سباق لها.
أنواع التوحيد
التوحيد ثلاثة أنواع (1) توحيد الربوبية (2) توحيد الألوهية (3) توحيد الأسماء والصفات (فالأول): الإقرار بان الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور. (والثاني) هو إفراده تعالى بجميع أنواع العبادة، والتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب. (والثالث) هو أن يوصف الله سبحانه بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله من الأسماء الحسنى، والصفات العليا. فمن الأسماء: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، ومن الصفات: الرحمن على العرش استوى، بل يداه مبسوطتان، وكلم الله موسى تكليماً.
وقد دل القرآن وشهد التاريخ أن العرب قبل الإسلام كانوا مؤمنين بوجود الله، مقرين له بالوحدانية في الخلق والرزق، والتدبير والتأثير، والإحياء والإماتة، وتصريف جميع الأمور، وان ليس لآلهتهم شيء من ذلك. والنصوص في ذلك كثيرة وصريحة، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الامر؟ فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون؟) وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه أن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله: قل فأني تسحرون) وهذا هو المسمى بتوحيد الربوبية الذي كان عليه أهل الجاهلية، وهو توحيد الرب بأفعاله.(319/27)
إنما كان شرك المشركين الأولين بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة، ومن مظاهره الدعاء والخوف والرجاء، والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي كان يصرفها المشركون لمعبوداتهم من الصالحين وغيرهم لتقربهم إلى الله زلفى، وكانوا يقولون في حجهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك) فهذا الشريك هو الذي كان يشرك مع الله في العبادة فحسب، لا في الإيجاد ولا في الإمداد كما قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).
كلمة التوحيد
أساس الدين وركنه الأعظم هو كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) فهي أصل الأصول، ودين الرسل من أولهم إلى آخرهم عليهم الصلاة والسلام (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). فكلمة التوحيد هذه لابد من فهم معناها والعمل بمقتضاها، وهو ما بعث به النبي (ص) ودعا إليه: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة وكل ما اتخذ معبوداً إله عند متخذه كما في القاموس، فمعنى إله في لغة العرب وفي الشرع هو المعبود بحق أو بغير حق. ولفظ الجلالة على المعبود بحق وهو الله عز وجل فكلمة (لا إله) نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده، ذلك بان الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير) فكلمة التوحيد مسقطة لجميع آلهتهم، هادمة لأنواع عبادتهم، مثبتة العبادة كلها لله وحده الذي وحدوه بربويته ولم يوحده بإلهيته، فأقام عليهم الحجة بما أقروه على ما أنكروه، وبين أن من تفرد بالإيجاد والإمداد يجب أن يفرد بالعبادة، وهذه الحجة القاهرة من حجج الله على العالمين إلى يوم الدين
لما كان العرب في جاهليتهم يفهمون من كلمة (لا إله إلا الله) هذا المعنى الذي بيناه لغة وشرعاً كانوا يستكبرون عن النطق بها لأنهم علموا أن الإذعان لها كفر بالآلهة وإبطال لعبادتهم، كما قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون؛ ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) وقال: (وإذا ذكر الله وحد اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السموات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا،(319/28)
أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) وقال: (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير)
أما دعاة غير الله فقد سهل عليهم الأمر لأنهم فهموا من كلمة التوحيد ما يخالف الوضع والشرع وفسروها بمعنى توحيد الله بأفعاله، وبالقدرة على الإبداع الاختراع، واخرجوا كل ما ذكرناه عن معناه اللغوي والشرعي، كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم، والاستعانة والاستغاثة والاستعاذة، والتوكل والذبح والنذر، والخضوع والخشوع والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وأجازوا فعله كله لغير الله، بعد أن نحلوه لقب التوسل والاستشفاع.
التوسل الجاهلي
ليس الكلام في التوسل الخلافي المشهور بين العلماء المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده، وإنما الكلام في توسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين وإغاثة الملهوفين، وإعانة المستعينين؛ وهذا لا يسمى توسلاً بهم لا دينا ولا عقلاً ولا لغة، بل هو دعاء لهم وطلب منهم وهو خارج عن موضوع التوسل وليس منه في شيء.
فان قلت إن الداعي لغير الله لم يرد بدعائه إلا الله، متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟ (فالجواب) أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط الأحكام بالظاهر، والله يتولى السرائر. ولا يرد حديث: (هلا شققت عن قلبه) إلا على من يدعي معرفة الباطن، وأنه موافق أو مخالف للظاهر، وإنما البحث فيما يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع. وقد أنكر النبي (ص) على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة (رضى الله عنه) أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية، فأنكر ذلك عليه صلوات الله عليه وقال: هلا شققت عن قلبه؟ وأين هذا من ذاك!
وصف القرآن أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية بأنهم كانوا إذا وقعوا(319/29)
في شدة كخوف الغرق في البحر مثلاً دعوا الله مخلصين له الدين، كما قال فيهم: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقال في فرعون: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين) أفيكون أولئك القوم وفرعون أولى بدعاء الله وحده في الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد؟ وبدهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا) فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضاً؟
وإذا أضيف إلى ما سبق دعوى التصرف في الكون التي يدعيها العوام وأشباه العوام لبعض الصالحين، أو تقسيم الدنيا إلى أربع مناطق، وتخصيص كل قسم منها بواحد منهم، ودعوى وجود الله تعالى بذاته - تقدست وعلت - في كل مكان، أو دعوى انه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وما يضاف إليها من سلبه تعالى صفات كماله، ونعوت جلاله؛ فقد وقع الأشكال العظيم في التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ونعوذ بالله من سوء الفهم والخذلان. الحق يقال: إن هذه العقائد قد عظم ضررها، وقبح أثرها، وكان من نتائجها خروج جماهير المتعلمين على الطريقة الفنية عن دائرة دينهم، وافتتانهم بما عند غيرهم. فما هو العلاج الشافي من هذه الأدواء الفتاكة يا ترى؟ وكيف يعود الناس إلى عقيدة الإيمان بالله - على الوجه الصحيح الذي جاء به الإسلام وجرى عليه أهل الصدر الأول علماً وعملاً واعتقاداً؟
خاتمة
إني والذي جعل العلماء ورثة الأنبياء - لأعجب كل العجب ممن يقفون على تاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وممن يعلمونها في المدارس، ثم يغفلون عن قضية من أهم قضايا التاريخ وأشدها ارتباطاً بعلم التوحيد وتأثيراً في تهذيب النشء الإسلامي بل الإنساني الحديث، وإنشائه صحيح العقل، سليم الفطرة، بعيداً عن كل لوثة وثنية أو جاهلية.
إن كل من أحاط بالسيرة النبوية وسيرة الصدر الأول للإسلام خبرا أنكر أشد الإنكار ما احدث الناس من البدع والجهالات والسخف والخرافات. وإني مورد طرفاً يسيراً من سيرة(319/30)
الصحب الكرام ولا سيما الخلفاء الراشدين الذين من تمسك بسنتهن نجا، ومن شذ عنها شذ في النار، لتكون لنا مناراً كمنار الطريق
بقى النبي - بأبي هو وأمي (ص) - قبل الدفن ثلاثة أيام والنزاع قائم بين الصحب الكرام على أمر الخلافة حتى بايعوا أبا بكر (رض) ولم يسألوا النبي (ص) عمن هو الأحق بها من بعده. وكانت وقعة الجمل بين أم المؤمنين وابن عمه أبي السبطين الشهيدين، وسفكت دماء عزيزة عليه (ص) ولم يستفتوه قبل القتال ولا بعده وهو دفين في بيت عائشة بين سمعهم وبصرهم. وجرت وقائع صفين بين علي ومعاوية، وكانت أعظم هولاً وأشد فتكاً، ولم ينقل أن أحداً منهم استنجد بالنبي أو استغاث به، أو سأله عن حكم هذه الحرب أو التي قبلها، كما انهم لم يسألوا شهداء أحد عليهم الرضوان شيئاً من ذلك وهم سادة الشهداء. وجمع القرآن في عهد الصديق، ووقع الخلاف أولاً في جمعه، ولم يستفتوه في ذلك، وكانوا يسألون النبي (ص) عن كل ما يعرض لهم من الأمور فصار يسأل بعضهم بعضاً، ولم يجيئوا فيسألوه في قبره (ص) وقال عمر: الهم كنا إذا أجدبنا نستسقي بنبيك محمد (ص) فتسقينا؛ والآن نستسقي بعمه العباس، فطلبوا الدعاء من عمه ولم يطلبوه منه كما كانوا يفعلون في حياته بينهم. وقال عمر: ثلاث مسائل وددت لو أني سألت رسول الله (ص) عنها، ولم يسأله عنها بعد وفاته. وكانوا يضربون أكباد الإبل من الشام إلى المدينة ليسألوا عائشة عن حديث سمعته من النبي (ص) فكانت تجيبهم ولم يسألوه وهو في بيتها. ومضت القرون الثلاثة المفضلة وكل طبقة كانت تسأل من فوقها وتسفتيهم، ولم يسألوا سيد الأنبياء ولا سادة الشهداء الأحياء عند ربهم (شهداء أحد) عن شيء.
هذه هي أعمال الصحابة (رض) حينما هاجمتهم الخطوب، واستعرت بينهم نيران الحروب، ووقعت لهم مناظرات كالمناظرة التي جرت بين الشيخين في قتال ما نعى الزكاة، وكالخلاف الذي وقع في إرسال جيش أسامة بن زيد الذي عقد لواءه النبي (ص) ليسير إلى بعض جهات الشام، ولم يسألوا النبي (ص) عن شيء من ذلك أحوج ما كانوا إلى سؤاله، وأحرص ما كانوا على العمل بمقاله، وكان (ص) هو الذي يقسم بينهم الأعطيات والمغانم، ويكون فيهم في الغزوات ويرسل منهم السرايا، ولم يقع شيء من ذلك له بعد وفاته.
وجملة القول: أن النبي (ص) كان مرجعهم في الدين والدنيا في حياته، صاروا يرجعون(319/31)
إلى ما عرفوا من سنته بعد وفاته، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة؛ ولكن مدرسي تاريخ المسلمين في الأمصار الإسلامية قد قصروا فيما يجب عليهم من البيان، وفي عدم الجمع بين حوادث التاريخ ومسائل الدين؛ والكتب الكلامية المذهبية المتداولة لم تبن العقائد فيها على قواعد الأدلة، ووصف ما كان عليه في القرون المفضلة أهل هذه الملة
وأنا قد أوردت في مقالي هذا شذرات من أعمال الصحب الكرام مقتبسة من هدى النبي الأمين ووحيه، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها كما قال مالك إمام دار الهجرة (رض)
قال رجال الدين والتاريخ والعلم الصحيح أوجه مقالي هذا راجياً أن يقرنوا العقائد الدينية بالشواهد التاريخية، رحمة بهذه الأمة، وليكون علم العقائد لدى الطلاب كسائر العلوم التي يطبق فيها العلم على العمل، لكي لا تضيع الثمرة المطلوبة من دروس العقائد والتاريخ التي يقضي الطالب في دراستها زمناً غير قليل، والله هو الموفق والمعين.
(دمشق)
محمد بهجة البيطار(319/32)
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
فخر الفرزدق
فخرنا فصدِّقنا على الناس كلهم ... وشر مساعي الناس والفخر باطله
(وشعر الفرزدق في هذا الباب من حر الشعر وخالصه، ومن أحسن ما قال؛ يفحل ويجزل، ويقوى ويشتد، ويطول نفسه ويتسع مداه، ويحسن التصرف ويجيد التأويل والاعتذار:
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم)
وللبيت حكاية رواها الأستاذ في الصفحة (20) من (الكتاب) ومما أورده له في هذا الباب:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... فكل جميل قلتِ فيّ يُصدَّق
وكم قائل مات الفرزدق والندى ... وقائلة مات الندى والفرزدق
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا (يا جرير) المجامع
وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع
ورواية (المجامع) هي التي في الديوان وفي كتب اللغة والأدب، وذكر الزمخشري (الجوامع) في البيت، قال في الأساس: (وجمعتهم جامعة أي أمر من الأمور التي يجتمع لها، قال الفرزدق: أولئك آبائي. . .)
وأورد الأستاذ قول الفرزدق:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا
وروي عن أبي الفرج قصة تخبر بانتحاله البيت، وهو في شعر جميل، والظن أن شيطان الفرزدق الذي أوحى إليه (الفائية) أعطاه إياه. وفي هذه (العبقرية) يقول ابن غالب:
وما حل من جهل حُبا حلمائنا ... ولا قائل بالعرف فينا يعنف
وما قام منا قائم في نديِّنا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف
وإني لمن قوم بهم تتقى العدى ... ورأب الثأَى والجانب المتخوف
لنا العزة الغلباء والعدد الذي ... عليه إذا عد الحصى يتخلف(319/33)
ولا عزَّ إلا عزنا قاهر له ... ويسألنا النصف الذليلُ فيُنصف
ومنا الذي لا ينطق الناس عنده ... ولكن هو المستأذن المتَنًصَّف
تراهم قعودا حوله وعيونهم ... مكسرة أبصارها ما تَصرَّف
وبنيان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إبلياء مشرف
لنا حيث آفاق البرية تلتقي ... عميد الحصى والقسوريّ المخندف
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وهذا البيت يبدو في أبيات الفرزدق أخاً حتماً لها وهو في أبيات جميل كأنه ابن عم كلالة. وروايته في شعر صاحب بثينة هي:
نسير أمام الناس والناس خلفنا ... فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وإنه توارد الخواطر غير المستنكر، وإن كان قول الأخطل (نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .) لا ينكر
ومما يروى أفكوهة من الأفاكيه، وأضحوكة من الأضاحيك قول أبي هلال العسكري في كتابه (ديوان المعاني) وهو هذا: (وعند الناس قصيدة جميل أحسن وأسلس من قصيدة الفرزدق)
وأنا استعجب من أبي زيد محمد القرشي كيف لم يثبت فائية جميل مكان فائية الفرزدق في أول (الملحمات) في كتابه (جمهرة أشعار العرب)
الحق أن الأدباء قد يلفتون كلامهم وقد يهرئون بل قد يكفرون في الأحايين، وما قول العسكري هذا إلا من الكفر، والمختار من فائية جميل بثينة هو في الجزء الثامن من الأغاني، فليراجعه من شاء من الفضلاء ليرى كيف يجوز الحكم!
إن قصيدة جميل أحسن من قصيدة الفرزدق وأعظم منها وأفخم عند النسناس لا عند الناس. . .
ومن تخليط العسكري ما قاله في (كتاب الصناعتين) وقوله هو: (كان البحتري يفضل الفرزدق على جرير، ويزعم انه يتصرف من المعاني فيما لا يتصرف فيه جرير ويورد منه في شعره في كل قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى، وجرير يكرر في هجاء الفرزدق الزبير وجعثن والنوار وانه قين لا يذكر شيئاً غير هذا. وسئل بعضهم عن أبي نواس(319/34)
ومسلم فذكر (أن أبا نواس أشعر لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغير عنها) وأبلغ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ومن هذا الوجه فضلوا جريرا على الفرزدق، قال جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه ... بَرَد تجدر من متون غمام
فانظر إلى رقة هذا الكلام، وقال أيضاً:
وأبن اللبون إذا ما لُزَّ في قرَن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
فانظر إلى صلابة هذا الكلام!
وفحوى هذا الكلام أن ليس للتصرف في القول والتفنن فيه والإبداع قدر، وأن الشان كله في أن يلين القائل ويشتد أي أن ينسلخ العبقري من طبيعته التي فطره الله عليها ويتكلف الشدة أو اللين.
وقد روي ابن رشيق في (العمدة) قول البحتري الذي تهاون العسكري بجلالة خطره ثم قال: (فإذا كان هذا فقد حكم له (أي للفرزدق) بالتصرف، وبهذا أقول أنا وإياه اعتقد فيهما (أي في الفرزدق وجرير) وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع.
وقول أبي هلال في لين القائل واشتداده أو في تليين الكلام وتصليبه ذكرنا بخطب في كتاب لا اسميه الآن كان صائغها يكد روحه وهو يصوغ كداً، ويزفر زفيراً، ويزحر زحير المرأة عند الولادة، ويدور ويجول ويقوم ويقعد. . . لكي تحاكي تلك الخطب المصوغة أقاويل الأولين السابقين فتجوز نسبتها إلى من عزبت إليه، وهيهات هيهات أن تجوز؛ إن تكلفها، إن تعملها، إن تصلبها، إن زخرفتها، إن فقدان الطبيعة فيها - فان كل ذلك ليصيح: قد صاغها صواغ. . .
هجا الفرزدق:
أني كذاك إذا هجوت قبيلة ... جدَّعتهم بعوارم الأمثال
وكنت إذا عاديت قوماً حملتهم ... على الجمر حتى يحسم الداء حاسمه
(والفرزدق في هجائه واسع الفطن فسيح المدى كثير الفنون لا يقف عند حد في مناضلة(319/35)
خصمه، يذكر المخازي ويصرح بالمثالب، ويفحش ويتهكم ويختلق ويذكر العورات، ويخصب خياله فيحكم التشبيه ويجيد الاستعارة ويعرض على الأنظار صوراً شتى تمثل خساسة المهجو في نفسه وأهله وعشيرته من غير أن يزعه دين أو يردعه حياء.
وبراعة الفرزدق في هذا الباب وإحسانه - إن صح أن يسمى إحساناً - ومقدرته مجموعة في النقائض).
وقد اقتضى البحث أن يروي (الكتاب) شيئاً من هجاء الخبيث فأورد طائفة، منها هذه المقطوعة:
ولو تُرمي بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسار
ولو يُرمى بلؤمهم نهار ... لدّنس لؤمهم وضح النهار
وما يغدو عزير بني كليب ... ليطلب حاجة إلا بجارِ
ومن هجائه المشهور قوله في خالد بن عبد الله القسري حين ولي العراق، أورده (الكتاب) في سيرة الشاعر:
ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تخطى من دمشق بخالد
وكيف يؤم المسلمين وأمه ... تدين بان الله ليس بواحد
أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فعجلْ هداك الله نزعك خالدا
بني بيعة فيها الصليب لأمه ... وهدَّم من بعض الصلاة المساجدا
قال الكامل: (كانت (أم خالد) نصرانية رومية. ويروي عنه فيما روي من عتوه أنه استعفى عن بيعة بناها لأمه، فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم إن كان شراً من دينكم. . .! وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغة شعر لرجل من الموالي موالي الأنصار، وهو:
ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح
فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح
وفي رسالة هشام إلى خالد يوبخه: (فيها زوال نعمة عنك وحلول نقمة بك فيما ضيعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس والنصارى وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وتسلطهم عليهم؛ نزع بك إلى ذلك عرق سوء من التي قامت عنك). ويروى أن(319/36)
خالدا بني البيعة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة، وكان يضرب لها الناقوس إذا أذن المؤذن. . .
(يتبع - الإسكندرية)
* * *
اورت (اَلخَطَفَى) - في القسم الثاني - مشدد الياء، وهو مثل الجمزي كما ضبط ابن خلكان وكتب اللغة. وهناك (اجتزأ به) وهو: اجتزاء به. و (مجاله في الشعر) وهو ومحله. و (لطبع جريرا شبه) وهو: بطبع جرير و (فان اصبر قول الطهوى) وهو: فان أحبر(319/37)
قد كان لي قلب!. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
هفت الشمس إلى المغيب، وخبا هجير الحر أو كاد، وأنا جالس في مقهى من مقاهي طنطا إلى نرجيلة أبسم لها وتبسم في هدوء، وبين يدي كتاب أنبذه بين الحين والحين، لأسرح النظر في هذا الناس، وهم يتدفقون زمراً إلى حيث يتنسمون روح الجنة بعد إذ هبت عليهم زفرات الجحيم تحبسهم في الدور ساعات طوالاً.
ما لهذا الفتى هنا في غير داره يمشي وحيداً، يثاقل في مشيته، مطرق الرأس، مقطب الجبين، ساهم النظر؟ أنه يتراءى لي كان وقدة الشباب التي كانت تتسعر في قلبه قد انطفأت وهو ما يزال عند الثلاثين، وكأن نزوات قلبه قد عبثت بها يد الأيام فاستحالت إلى ما أرى: إلى هم وكمد، أو هو يرزح تحت عبء ثقيل ينوء به.
عرفته وعرفني منذ سنوات وسنوات، وقضينا معاً عمراً من العمر كان لذيذاً حلواً، وكان هو - كدأبه أبداً - روح الجماعة الطروب، والضحكة الخالصة الرنانة، والنكتة الحاضرة الجميلة و. . . فما بالي أراه اليوم فيما أرى؟ لعل حدثاً من حوادث الأيام قد انحط عليه فسلبه رواء الشباب وبهاء الحياة.
وتعلق بصري به وهو يسير إلى غايته لا يرفع رأسه ولا يلتفت يمنة ولا يسرة، كأن شيئاً في هذا الخضم المضطرب حوله لا يعنيه؛ وأنا على خطوات منه لا أستطيع أن أناديه، وفي الصوت بحة، والنفس إلى لقياه مشوقة بعد سنوات من فراق أرغمتنا عليه دواعي العيش.
يا عجبا! لقد مستني روحه الحزينة، فوجدت لذع الأسى في قرارة نفسي!
وناديت الندل عله يرد صاحبي إلي.
ورآني الفتى فتبسطت أسارير وجهه هوناً ما. وأقبل فسلم وسلمت، ثم جلسنا في صمت أنا إلى نرجيلتي، وهو إلى خواطر نفسه. . .
وألح علي الأسى والعطف في وقت معاً. فاستلباني من لذاذات كنت أجدها في الكركرة وفي الكتاب وفي النظر إلى هذا الناس. فالتفت إليه أقول: (أهكذا أنت؟).
قال: (نعم، يا صاحبي، قد كان لي قلب فضيعته!). . . وترقرقت في محجريه عبرات(319/38)
مكفوفة تريد أن تجد لها منفذاً. . . فشملني حزن عميق ودهشة، وأنا أعرفه زوجاً، وأعرفه في أيام لهوه لا يحجم في إباء، ولا يندفع في طيش. ثم قلت في لهفة: (وكيف. . . كيف)؟!
قال: (أما القصة فهي قصة قلبي. . . قلبي أنا، فهو قد القي بي في مضلات تتقاذفني، فلا أجد منها الخلاص). ثم سكت سكتة حزينة وكأنه يلم شعث تاريخ أيامه، أو كأنه يصارع في نفسه أمراً فيه الشجن والألم). . . ثم قال: (عرفتها فيمن عرفت، فتاة كطفلة بضة، فيها الجمال وفيها الأنوثة؛ ولمست فيها أشياء جذبتني إليها. فاندفعت إلى جانبها في طريق لا يثلم الشرف، ولا ينحط بالكرامة، وهي تبادلني غراماً بغرام، وعطفاً بحنان! وذهبت أتلمس السبيل إلى دارها، بين الفينة والفينة فلا تعوزني الحيلة. وكيف، وأخوها شاب في مثل سني؟!)
(وتصرمت أيام وأيام، وشيطان الهوى يشب في قلبي وقلبها في آن. فلا نفترق إلا على ميعاد، ولا نتلاقى إلا على شوق)! وفي ذات صباح كتبت إلي: (أفرأيت بالأمس وأنا أسير إلى جانبك في شارع. . . لقد رآنا واحد من أصدقاء أخي الأكبر الذين شبوا معه منذ الطفولة، وتعلقت حبال قلبه بدارنا. فحمل إليه خبر فضيحتي في غير تحرج. . . وأقبل أخي والشرر يقدح من نظراته، وهو يتوثب غضباً وحنقاً!. . . وراح يفرغ لعناته على رأسي أنا، فبت بأسوأ ليلة؛ وهكذا أصبحت غرضاً يتندر به القوم ويسخرون منه. . . هذه حياة نارية ضيقة تنذرني بويلات العيش وعار الفضيحة. . . لا أطيق الصبر عليها إلا أن تمدني بيد منك قوية، أو بلفظة رشيدة! أنت وحدك تستطيع أن تتفل على هذا السعير الملتهب فيحور رماداً. . .!).
(وانكشف أمامي ما أرادت، فرحت اقلب الأمر فما أهتدي إلى رأي)!!
وفي المساء جاءني حديثها: (. . . تلك أذن أنانية الرجل، يلهو ما انفسحت أمامه طرق اللهو، وعبث فنوناً من العبث؛ فإذا جد الجد خرج من إنسانيته، وألقى بالتي أحب في تنور يتلظى، وطار هو آمناً إلى حيث يلتقط الحب. . .!).
واضطرب قلبي لهذه الكلمات القاسية! فطرت إلى أخيها - في غير أناة ولا روية - أسر إليه بأمر، فبدت على وجهه سمات الهدوء والطمأنينة. ثم انطلقت وفي نفسي أن الأزمة قد تفرجت على حين لم أخسر أنا شيئاً.(319/39)
وغدا أخوها إلي، وفي رأيه أن آصرة أخرى قد ربطت بيني وبينه، فدفعته في هوادة، وانطويت عنه في رفق.
وغبرت زماناً لا أوصد الباب دونه، ولا ألين لكلماته، والفتاة تستحثني إلى أمر، والقضاء من ورائهما يدفعني إلى غاية.
وعلى حين غفلة مني ألقيت إلى أهلها السلم، فإذا أنا زوج للمرة الثانية!
وتناهى الخبر إلى زوجتي الاولى، ففزعت إلى أهلها، وفي أحشائها بضعة مني، وخلفتني ونزوات قلبي.
ودخلت زوجتي الثانية داري ترف رفيف الأمل الحلو، تملأ الدار والقلب جمالاً وبهاء، فسكنت إليها وسكنت هي
وسيطر علي الهوى، فران على قلبي. فلم يدعني أفكر فيما اقترفت من جرم جرته الغواية العمياء على زوجتي الأولى وعلى أبني جميعاً. . . فاندفعت لا ألقي السمع إلى صيحات هذا الطفل، ولا أبالي بآلام الزوجة المسكينة، ولا أعبأ بوخزات الضمير.
وقابل أهل زوجتي الأولى حماقتي بلطف، وجهلي بحلم، وغوايتي بكرم، وجنايتي بإحسان!. . . على حين كانت الزوجة الثانية تسعد إلى جانبي، وتبذل غاية الجهد في أن تسيطر على قلبي جميعه لتسدل بيني وبين زوجتي الأولى وأبني ستاراً كثيفاً من النسيان، وتستحث الأيام لتغريني بأمر.
وهب القلب من رقدته بعد سنوات ثلاث، فانطلقت أريد أبني وقد فقدته منذ زمان، فما أبت الزوجة ولا استعصى ذووها فإذا أبني بين يدي المح فيه أيام طفولتي: أداعبه فيبتسم، وألاطفه فيضطرب، وأضمه إلى صدري فيتعلق بي. وكأنه يقول: (أين كنت يا أبي؟ لا تذرني هنا يتيماً، فاستشعر الذل والمسكنة، وأنا ما أزال طفلا يحبو) فخرجت من لدنه وفي رأسي عاصفة هوجاء ما تستقر!
آه! لقد زعمت أن قلبي يطمئن حين أخلص إلى أبني وزوجتي وهأنذا قد طرحت التي أحب فطرحت معها قلبي. . . آه! يا صاحبي، لقد كان لي قلب فضيعته وأنا الآن - كما ترى - أضرب في أرجاء الأرض وحدي لا أجد القرار ولا استمتع بالحياة. لقد خيل إلي أن المرأة سلعة فإذا هي راحة القلب وبهجة الدار وجمال الحياة، فأين أجد السلوة يا صديقي؟(319/40)
وأردت أن أرفه عن صاحبي بعض ما آلم نفسه فتدفقت عبراته وهو يقول: (لا تحدثني الحديث فتهيج من أحزاني. إن في النفس حسرة وفي القلب جرحاً ما يندمل، وفي. . . وفي عيني عبرة ما ترقأ. ويْ كأن القدر أراد أن يقتص مني مرتين مثل ما جنيت مرتين!)
كامل محمود حبيب(319/41)
من الأدب الألماني
محاورة عن الألمان
لهاينرش كلايست
بقلم الدكتور جواد علي
الشاعر الألماني كلايست (1777 - 1811) من أشهر المجددين في عالم الأدب الإبتداعي ومن أساطين (الدراما) في عصره. أدخلت معظم قطعه الأدبية إلى عالم التمثيل والأوبرا. ولعل القراء الذين أتاحت لهم الفرص زيارة (دور الأوبرا) وخصوصاً الألمانية منها قد شنفوا أسماعهم واطلعوا على مغزى قطعه الخالدة مثل: أمير هومبرك (برنس فون هومبرك) و (هينا فون بارنهايم) وعائلة شروفنشتاين (فميليه شروفنشتاين).
على أن الحروب النابليونية الألمانية (البروسية منها والنمساوية) قد حولت اتجاه أدبه إلى اتجاه آخر هو الاتجاه الوطني السياسي الحماسي فاصبح شعره منذ هذا العهد من نوع الأخذ بالثار (راخة كقصيدة كرمانيا إلى أطفالها. ومعركة هيرمان (هيرمان شلاخت). وفي القطعة الخالدة (محاورة عن الألمان، التي الفت على الطريقة الأسبانية للأطفال والكبار) أمثلة محسوسة عن هذا الأدب الراقي والوطنية الألمانية. وقد ترجمت إلى لغات كثيرة لذلك رأيت ترجمتها إلى قراء الرسالة.
س - تكلم أيها الطفل من أنت؟
ج - أنا ألماني
س - ألماني؟ أنت تهزل. ولدت في مايسن. والأرض التي تتبعها مايسن تسمى زاكسن؟
ج - ولدت في مايسن. والأرض التي تعود إليها مايسن تسمى زاكسن. ولكن وطني، الأرض التي تتبعها زاكسن هي ألمانيا وولدك يا أبت هو ألماني.
س - أنت تحلم! أنا لا أعرف أرضاً تتبعها زاكسن، لعلك تعني حلف بلاد الراين. أين أجد ألمانيا هذه التي تتكلم عنها وأين تقع؟
ج - هنا يا أبت لا تشوش علي
س - أين؟(319/42)
ج - على الخارطة
س - نعم على الخارطة (خارطة سنة 1805) هل تعلم ماذا حدث في سنة 1805 حين تم عقد صلح برسبرك؟
ج - نابليون، القيصر القورسيقي، خربه ودمره بعد الصلح بظلمه وجبروته.
س - والآن؟ ومع ذلك فهل هو موجود؟
ج - بكل تأكيد! ما هذا السؤال؟
س - مذ أي وقت؟
ج - مذ نهض فرانس الثاني قيصر الألمان القديم لبناء ما خرب، ومذ نادى الشعب قائده الشجاع للانضمام إلى لجيش الذي يقوده لإنقاذ الوطن وتحريره.
عن حب الوطن
س - تحب وطنك أليس كذلك يا ولدي؟
ج - نعم، يا أبت ذلك ما أحسه طبعاً
س - لم تحبه؟
ج - لأنه وطني
س - أنت تعني لأن الله بارك فيه بالأثمار الكثيرة وزينه بقطع نادرة من الفنون الجميلة، أو لأنه اظهر أبطالاً ورجالاً وأنجب حكماء زينوه ممن ليست لأسمائهم نهاية.
ج - لا يا أبت إنك تغويني.
س - أنا أغويك؟!
ج - إذاً فروما وريف مصر اللتان بوركتا كذلك بالأثمار وبالقطع النادرة من الفنون، وبجميع ما هو عظيم وكبير كما علمتني، أعظم بركة من ألمانيا. ولكن لو ساق القضاء والقدر ابنك إلى السكنى هناك لشعر بالانقباض وعدم الارتياح، ولما أحس بالحب لهما كما يحس لألمانيا.
س - إذاً فلم تحب ألمانيا؟
ج - لقد أجبتك يا أبت
س - أجبتني؟(319/43)
ج - نعم لأنها وطني
عن تربية الألمان
س - ما هي حكمة الله يا بني في صب غضب نابليون على ألمانيا وإقلاق راحة الألمان؟
ج - لا علم لي بذلك
س - لا علم لك بذلك؟
ج - نعم يا أبت
س - وأنا أيضاً، ولكني أوجه سهام تفكيري نحو السماء فأن أصبت ربحت، وإن لم أصب لم أخسر. أتعيب ذلك علي؟
ج - كلا يا أبت
س - لعلك تقول ذلك لأنك تعتقد أن الألمان في قمة الفضيلة والمجد كما تكون الأشياء بعضها أرفع من بعض
ج - أبداً يا أبي
س - إذاً فقد كانوا على الأقل يسيرون دائماً في الطرق المستقيمة للوصول إلى ذلك؟
ج - لا يا أبت، ليس ذلك أيضاً.
س - عن أي الابتذال تحدثت إليك؟
ج - عن الابتذال؟
س - نعم عن الابتذال الذي يلتصق بأبناء هذا الجنس.
ج - كان إدراك الشعب الألماني كما ذكرت لي قد أزهر. وكان العلماء الأذكياء يعكسون ما ينعكس عليهم، وينتجون من ذكائهم، ولكن تلك القوة السحرية وتلك العاطفة القلبية قد ذهبتا
س - ألا تجد أن الابتذال ينطبق على أبيك الذي يجادلك أيضاً؟
ج - نعم يا والدي العزيز.
س - أين تكون الأثرة وأين تكون المحبة؟
ج - الأثرة تكون في حب المال والمتاع؛ أما المحبة فتكون في الاشتغال بالتجارة والحركة، حيث يتصبب العرق من الجبين، ويعيش المرء عيشة هادئة متزنة بلا هم ولا غم.
س - إذاً لم هذه المسكنة التي ضربها الله على هؤلاء الناس فخربت الأكواخ وتلفت(319/44)
المزارع؟
ج - كي يحتقر هؤلاء متاع الدنيا ويهرعوا إلى الله فيتقربوا إلى أعظم سلطان مهيمن على العالم: وهو الله
س - ما هي أعظم مقدسات الإنسان؟
ج - الله والوطن والقيصر والحرية والحب والإخلاص والجمال والعلم والفن
عن الخيانة
س - ما هو ذنب من خالف أوامر الأمير كارل ونداءه الذي أذاعه على الشعب أو عارضه بالقول أو الفعل؟
ج - الخيانة العظمى يا أبت
س - لماذا؟
ج - لأن الشعب الذي ينتمي إليه هذا الخائن سيفسد
س - وما الذي يجب أن يفعله إذا أولئك الذين خانوا الوطن وانضموا إلى صفوف الفرنسيين لإذلال الألمان؟
ج - يجب عليهم إلقاء السلاح حالاً والالتفاف حول الرايات النمساوية
س - وإذا لم يفعل أحد منهم ذلك بل ظل يحمل السلاح فما يكون نصيبه؟
ج - الموت يا أبي
س - ولكن من يستطيع وحده أن ينقذه من هذا الموت؟
ج - عفو فرانس، قيصر النمسا وحامي الألمان
الخاتمة
س - أجبني يا ولدي. إن نهض قيصر ألمانيا النبيل إلى استعمال السلاح لينقذ حرية الألمان، ولكن الأقدار لم تساعده على ذلك: إلا تنهال عليه اللعنات والأصوات قائلة: لم قام القيصر بذلك؟
ج - لا يا أبي
س - لماذا؟(319/45)
ج - لأن الله هو الحاكم المهيمن على العالم لا القيصر. فليس في يد القيصر ولا في يد أخيه كارل مشيئة تمكنهما من كسب المعارك متى يشاءون.
س - ودماء الآلاف من الناس، والمدن التي هدمت، والأرض التي خربت، تذهب كل هذه عبثاً؟
ج - نعم يا أبي مع ذلك؟
س - ما معنى مع ذلك؟ حتى ولو هلك جميع من في الأرض من رجال ونساء وأطفال. فهل تحبذ أنت الكفاح؟
ج - نعم يا أبي مع ذلك
س - لماذا؟
ج - لأن الله يريد ذلك. يريد الموت في سبيل الحرية
س - وما الذي يراه الله قبيحاً؟
ج - حياة العبودية.
جواد علي
خريج جامعة هامبرك بألمانيا(319/46)
الجبر والاختيار
في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
- 2 -
(وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، ألا انه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح).
هذه الفكرة مسيطرة عليه في كل الكتاب. هو مؤمن بها إيماناً عميقاً جاء من تنزيهه الله عن العبث واللهو، وهو أصل يقرره في اللزوميات كثيراً:
أرى فلكاً ما زال بالخلق دائراً ... له خَبرٌ عنا يُصانُ ويُخبأُ
وهو يبحث عنها بوسيلته هذه فلا يهتدي إليها، فكل ما كان للمعري من اضطراب أو حدة فإنما منشؤه هذه الحكمة المعماة عليه. هو يقرر بأن الله (يقدر أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبيه، ويمشي إلى الغرض على هامته. . .) ثم هو يعترف بان (. . . ذلك في القدرة يسير) ولكنه يتساءل عن حكمة الله في هذا النظام، وهذا النوع من الخلق، ولم كان هذا ولم يكن ذاك؟ وهو يرى أن (مؤتي الملك ملكه قاصر الصعلوك على عدمه، وكاسي الجميل حلة الجمال، هو سالبها القبيح. . .، فبيد الله العطية والحرمان) وهو يرى (أن الفقير خص بالتوقير) ولكنه لا يدري لماذا فيقول: (والله العالم لم ذاك). فهو يتساءل على أي نظام كانت هذه العطية وذاك الحرمان، وعلى أي اعتبار خص الفقير بالعبء الثقيل، ما سبب هذا التفريق في المنزلة والرزق (والناس بنور رجل وامرأة) وينتهي إلى تلك الحال من استسلام الحائر: (ومن عند الله قسمت الحدود).
تواق لمعرفة هذه الحكمة المعماة عليه، يطلبها ويجد في الحصول عليها، فإذا ما ظن انه قد أوشك أخلفت ظنونه الحكمة الإلهية وخذلت عقله. وليس أدل على حاله تلك من وصفه نفسه: (إنما أنا كرجل بلي بالصدى، لا يجد ورداً ولا مورداً، فهو ظمآن أبداً، أن ورد(319/47)
غروفاً، وجده مصفوفاً، وأن صادف نزوعاً أعوزته الآلة والمعين، فبينا هو كذلك هجم على رجل ينزع بغرب، فشكا إليه فرط الكرب. فقال: ريك إن شاء الله قريب فأعني على انتزاع المروية، فلما كان الغرب بحيث يريان غدرت الوذم، وخان العناج.
حائر والحيرة توجب عليه الحذر والاحتياط. فهو ليس على بينة مما يراد به وبالكون، فهو إذا قال: (ما أنشأك ربك لعبث)، واثق أنه لم يخلق لعبث، وإن لم يستبن وجه الحكمة في هذا الإنشاء، فهو يحتاط ويحذر مما قد يكون من أمر هذه الحكمة فيقول: (أنا عن القبيح والرفث، وسبح في النهار والملث) وهو يصرح بأن: (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس، لعل الأجل يدركه من أهل الصفاء). أما ما دون ذلك فهو لم يجزم بشيء أبداً. فطبيعته تقتضي إلا يكون هناك يأس، وهي كذلك تقتضي أن لا ثقة؛ وإنما هو يقول: (أحسنوا إملاءكم جماعة الملأ، فسوف ينفد العدد ولو أنكم الرمال، وتخبو النار ولو هجم على لهبها النجوم، وتخف بكم النوب ولو أنكم الجبال حلوماً، الظالم بئس ما فعل، والمظلوم ضعيف مهتضم. فسعد امرؤٌ لا ظالماً وجد ولا مظلوما). فهو لا يأمن لشيء ولا يثبت شيئاً، وإنما يأمرك بالحيطة والحذر لأنه لا يدري يقيناً مما يراد به شيئاً، ولا يشك فيه شكاً صريحاً. فإذا ما كان الله حكيماً، وهو ما يقرره المعري تقريراً، وإذا ما كانت حكمته خافية فالخير للإنسان أن يحذر ويحتاط. وهذا الحذر والاحتياط لن يحصلا إلا بالعبادة والنسك والتطهر والتحلي بالفضائل؛ ولكن ما هي هذه الحكمة؟ ما شأنها؟ لم أجرت أموراً على وجه دون آخر؟ لم تسخر من كفاح الإنسان وتفرض عليه ما تريد! لم لا تعدل بين المخلوقات: بين الإنسان والحيوان والجماد، بل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والحيوان؟ على أي أساس بنت أحكامها هذه؟ هو لا يدري من كل ذلك شيئاً فيحار حيرة تأتيه من رفضه رفضاً شديداً أن يكون العالم ليس بذي حكمة، وأن يسير إلى غير غاية والى غير غرض، ويرمي إلى غير قصد.
وأبو العلاء مؤمن بأن هذه الحكمة تنظم الكون، وتسيطر عليه سيطرة لا تدع لقوة ما أن تمد هذه السيطرة (فرب نطف. . . يعطف إلى الخير فلا ينعطف، وكيف ولم يأذن خالقه بانعطاف) أو تحول من حكمها شيئاً (فيأيها الجامح لا يغنيك الجماح، المالك اضبط لك من عائشة لما وقع في النزوع، جل عن التشبيه والقياس في لجامك أظراب كالظراب) وأنها(319/48)
تنظمه نظاماً آلياً قوياً لا يشذ، ولا يحيد؛ فإذا ما أدرك ذلك صرح: (قد فررت من قدر الله فإذا هو أخو الحياة، هل أطأ على غير الأرض، أو أبرز من تحت السماء؟! أد لجت فأصبح أمام المدلجين، وهجرت وهو مع المهجرين. قال وعرس مع القالة والمعرسين). فلا يمكن للمرء أن يحيد عما يراد به، فهو مجبور على ما يأتي من أفعال (والمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب انه يملك ويحوز، كذب! لله النفوس)، وليس أصرح من هذا النص ولا أدل في بيان فكرته: (إنما أنا فرير في ريق. قد أعدت له المدية، ينتظر به أمر الملك فتجري الشفرة على الأوداج) وإن ذلك ليزعجه، ويقلق خاطره فيقول: (شغلني عن النسب، وقول في النسب، أني أسلك من الحمام نيسباً، أذهب النوم وأطال الأرق واقل رغبتي من الشرف أني لا أجد عن ذلك مذهباً (أينما تسيروا يصحبكم الله كما صحب من كان قبلكم، وله من العلم عين علنكم، وإن تصبحوا وراء شق الثعلب فالقدر معكم، لا فرار من قضاء الله) فهو يوصي بعد ذلك أن (اصطبروا على ما حكم إنه واعي الكلمات) و (دع الأقدار وما تريد فأنها لا تصرف على اختيار المخلوقين. واعلم أن رزيتك لا تهجم على أحد إلا عليك) و (من عند الله سعد المجدودين) و (الشر على جبهة فاعله موسوم) و (ربك أولوع بالأنفس غرامها) فهو يستكين، ويستسلم استسلاماً شديداً حين نضرب مثل القطاة التي (تنزل إلى شرك الوليد، وهي فرحى بما لاح لها من الرزق، فيؤول أمرها معه إلى أحد ثلاثة أشياء: سمطٍ مزعفٍ، أو سجنٍ حرجٍ، أو عذابٍ مبرحٍ، فأمس بما فعل ربك راضياً).
هذه الفكرة تقوم من فلسفة المعري في (الفصول والغايات) مقام الوزن في القصيدة. فهو خفي ولكنه يحكم القصيدة فلا يخرج عليه بيت أو جزء من بيت. وهي قطب تدور حوله الأفكار بمعانيها المختلفة وألفاظها المتباينة. فكل تفكير المعري إذن يدور حول هذه الفكرة أياً ما كانت صوره ومعانيه وألفاظه. فإذا ما نظر في المجتمع فمن وراء هذا المنظار؛ وإذا ما شمل الكون بتفكيره فعلى هذا الهدى. وهو قد يصطنع من الأساليب الغريب، ومن فنون الكتابة ما يصرف المرء إلى ظواهر الأشياء؛ ولكن الأمر لا يزال عندما قررت من قبل. فلو تخطينا حاجز الظاهر المختلف ألوانه وصوره، ونفذنا إلى ما وراء هذا الظاهر لألفينا الأمر منضبطاً يدور على ما وصفت، لا يكاد يشذ عن ذلك بشيء إلا ما أملته التقية حيناً، وفرضته الأهواء السياسية حيناً، وأوحى به عبث النفس حيناً آخر.(319/49)
وتفكير أبي العلاء في الجبرية يتخذ صورتين غير متباعدتين إلا تباعد الشيء عن مظهره، فهما يبحثان في الكون وأحد مظاهره وهو الاجتماع.
وأول ما يشغله في الاجتماع الأرزاق (والأرزاق عجب يقسومها) إذ أن الرزق لو أن له (لساناً هتف بمن رقد، أو يداً لجذب المضطجع باليد، أو قدماً لوطئ على الجسد، لا يزال الرزق مرنقاً على الهامة ترنيق الطير الظماء على الماء المطمع، فإذا صفر من الروح الجثمان، صارت تلك الطير نباديد)، (فأرد من حيث شئت ولا تبل، أمن واد أتاك الرزق أم من جبل. فان ألطاف الله طارقتك من كل أوبٍ) وهو يدعوك إلا تحزن، ويؤكد لك أنه (ليأتينك رزقك ولو جمع من أشتات).
(وذلك بقدر الله لا بسعي الساعين) وهو يلاحظ إلى ذلك أن من الناس من لا يعمل ولا يجد ولكنه يظفر بما يظفر به ذلك العامل المجد (الله علم بعارٍ خرص، ضيق رزقه وإن حرص، وآخر تغدو عليه منعمة بيضاء، قطعت إليه الفضاء) فهو يرى أن كثيراً منهم يبذل جهداً كبيراً فلا يظفر بشيء (فالموفق أين اتجه غانم، والمجدود أين يقع لا يظفر بالنجاح) وأنه ربما عس جد، فأتاك بعسجد، وأنت هارج الأحلام).
فهو يلحظ في كل هذا أن الرزق ميسر لك (ما سعت فيه القدم ولا عرق الجبين) وهو يردد ذلك المعنى في اللزوميات كثيراً.
سبب الرزق للانام فما يُق ... طع بالعجز ذلك التسبيبُ
وهو يلحظ أن هذا التسيب يجري في عسره ويسره على قواعد خفية غير مفهومة:
جدَّ مقيمٌ وخابَ ذو سفر ... كأنه في الهجير حرباء
أقضيةٌ لا تزال واردةً ... تحارُ في كونها الألِبَّاء
وهو يلحظ إلى هذا إرادة علوية تسخر من محاولات البشر وتقديرهم (فالمرء يقدر ولغيره الأمور، يحسب أنه يملك ويحوز. كذب! لله النفوس).
ولم يقتصر بفكرته هذه على الإنسان وإنما شمل بها الحيوان من ناحية الرزق والمقدور معاً. أما من ناحية المقدور فهو كالإنسان تجري عليه الأقدار - غامضة مبهمة - لا يدله فيها أو علم له بها فيدرأها. فالمخلوقون جميعاً (يحيدون من خطب إلى سواه والحمام ساقة جيوش الخطوب. ما ألطف صانع الظبية تنظر بجنحى ليل، وترفع هدال الشجر بقضيي(319/50)
ظلام، وتلبس حلة الوبر وتطأ على مثل المحار، أغلقتها أمس الحبالة فخلصت بالجريض، وصادفتها في اليوم ضراء المكلب فكاد إهابها ينقذ عن قلب مروع، وسلمت بعد الشد المحيص، وفي الغد تنتظمها بعض سهام المرتمين، فلم يغنها الفرق من الأحداث). وهو يسوي بين الحريص والأخرق من الحيوان والإنسان في المقدور (ما خشف ذو خرق وقع في حباله آبق، فنشق أشد النشق، أعيا بخلاصه مني بالخلاص).
ومن ناحية الأرزاق كذلك تجري عليه في نفس الغموض الذي تجري به على الإنسان: تيسر للظلم الحص وإن سعد فالهبيد، فينمو على الحص والهبيد؛ وتخص الإبل بالسعدان، فيغذو الإبل هذا السعدان، وكذا الخيل تنمو باليعضيض. ثم إن الحمار لا يكاد يصبر على عطش والظبي طويل صبر على العطش، فهو يسجل هذا جميعاً ويتساءل لم خصت الطبيعة هذا بذاك ولم تخصه بغيره، ولم لم ينتقل الظليم إلى المراعي والأرض (الغراء المتألقة) فيسعد بالعشب والنبات؟
أذن فالحيوان كذلك لا تسير عليه الأرزاق حسب قاعدة مفهومة. فنحن لا خيرة لنا أذن في تقبل هذا ورفض ذاك، لا خيرة لنا في كسبه وملاءمته للطبع والانتفاع به.
فهو يكل الأمر جميعاً إلى نظرية الجبرية والجبر المطلق الذي لا تقيده إلا هذه القيود التي لا يتبين أبو العلاء علام كانت وبأي حكمة بنت أحكامها في العطاء والمنع، في الخفض والرفع. وعلى ذلك فهو لا يلوم المجتمع من هذه الناحية، ما دام الناس ليس لهم بما يجري بهم يدان، وليس لهم في أرزاقهم تصريف. أذن فما يكون من فروق بينهم بنيت على هذه الأقدار والأرزاق فهي تافهة وليست بذات خطر ولا أهمية.
ونحن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من تفكير أبي العلاء نجد أنفسنا أمام رجل يثور دواماً على المجتمع ونظامه، يعدد آثامه وأخطاءه يائساً من إصلاحه والسير به إلى الخير والعدل والأمان، حامداً فلسفته التي ألهمته الاعتزال (فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواه)، ويدعو إلى إصلاح بالتعاطف والتراحم والمودة.
وثورته على النظام الاجتماعي نتيجة مباشرة لآرائه الجبرية. فهو كما قلت لا يريد أن يبني أحكاماً على أشياء سبق بها القدر فهي خارجة عن حدود تصريف البشر: لا يريد أن يرفعك المال أو فضل أتاك به الجد والمقدور، وهو لا يريد أن يحقرك لفقر لم تكن لك به يدان(319/51)
واعيي الحيلة تحايلك عليه. هو لا يريد أن يسلك هذا المسلك الذي سلكه كل الناس وعليه بنى المجتمع أحكامه. فهذه المقادير تجري على نظم لو كانت بيد الخلق لغيرتها تغييراً يقلب من هذه الأوضاع التي جعلت الفاجر مجتبي والفاضل مهضوم الحق معدماً. ثم (إن الناس بنو رجل وامرأة، ما أدنى المؤتشب من اللباب). فأيا ما كان الاختلاف بين الناس فهو لن يخرجهم عن الجنس ولن يقوم بينهم وبين أن ينتسبوا جميعاً إلى صفات مشتركة عامة، و (الناس في عدل الله سواء، هم سواء رغم اختلاف طبقاتهم وأوضاعهم الاجتماعية وتقدير المجتمع لهذه الاختلافات والأوضاع. فمجيئنا إلى الحياة واحد، وخروجنا من الحياة واحد كذلك. وما دمت ستنتهي إلى غاية تستوي فيها الناس جميعاً، مهما تكن أوضاعهم الاجتماعية، فجدير بك أن تخفف من التغالي، وإلا تسرف فيما بينك وبين غيرك من فروق حكمت بها الأقدار وقدرتها تقديراً، وجدير بك أن تعطف على الفقير وأن ترأف به: (فمن ذخر جميلاً وحده عند الله) ولا أحد (بالشح أمرك وعلى الدنيا أمرك) من؟ (أخالقك الذي صورك؟ كلا. وعظمته لقد أنذرك!)
هذا نظر أبي العلاء في ظاهرة من ظواهر الكون، فأما نظره في الكون نفسه، فهو امتداد لتلك الفكرة أو أصل لها على وجه أصح.
(للبحث صلة)
السيد محمد العزاوي(319/52)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
لم تطل حيرة توفيق فانه آثر جانب ماليت وخطا بذلك خطوة أخرى من خطواته التي كانت تعجل سير الحوادث أبداً نحو الغاية التي رسمها الإنجليز والتي كان الوصول إليها معناه التهام مصر وازدراد تلك اللقمة التي طالما منت إنجلترا نفسها بازدرادها.
ولعلنا نذكر من مواقف توفيق السالفة ما كان يدفع به الحوادث في طريق العنف والثورة دفعاً، فهو الذي أدى إلى انضمام الحزبين العسكري والوطني وتضافرهما يوم تنكر للدستور وأخرج شريفاً من الوزارة وهو الذي تقع على عاتقه قبل غير مسؤولية مظاهرة عابدين ثم هو الذي قبل المذكرة المشتركة فأحبط أعمال شريف للمرة الثانية وصدم الوطنيين صدمة لم تدع لهم بعد رجاء فيه.
وليس بعجيب أن تكون خطى توفيق كلها مفضية إلى الاقتراب من الكارثة فإنما كان يعمل بوحي من الإنجليز وهؤلاء قد عينوا الهدف الذي يقصدون إليه بسياستهم؛ وكان الخديو قد دان بمبدأ نحسب أنه جرى في نفسه مجرى العقيدة، وذلك أن يؤثر جانب الإنجليز في كل شيء لأن في ذلك كما توهم منجاته من الصعاب التي كانت تحيط بعرشه.
رأى الخديو كما رأى ماليت أن حكم المجلس العسكري على المتآمرين من الجراكسة حكم جائر لا يسعه الموافقة عليه، ورأت الوزارة من جانبها أنها سلكت في المسألة منذ بدايتها مسلكا لا غميزة فيه فهي بذلك تتمسك بالحكم الذي أصدره المجلس، هذا إلى أن رفض الحكم من شأنه أن يضيع هيبتها وينتقص نفوذها ثم إنها فوق ذلك ترى التحيز واضحاً من جانب الخديو ذلك الذي كان يتشدد بالأمس أعظم التشدد يوم سبق عرابي وصاحباه إلى المحاكمة لمجرد أنهم شكوا إلى أولياء الأمر حالهم. . . ومن هنا قامت أمام البلاد مشكلة من أدق المشاكل وأخطرها.(319/53)
وكان الذي يغضب الأمة والوزارة في الواقع أشد الغضب وآلمه تدخل الإنجليز في تلك المسألة التي لا صلة لهم بها ولا شبه صلة، وأحست الوازرة أن غرضهم هو إحراجها فحسب، ومن هنا اتخذت المشكلة مظهراً دقيقاُ غاية الدقة خطيراً كل الخطر، فلقد وجد الوطنيون البلاد تلقاء موقف تمتحن فيه الكرامة الوطنية والعزة القومية، ورأوا الظروف تعود من جديد فتظهر للخديو أن لا سبيل له إلا سبيل الوطنيين لأنه بانحرافه عن هذه السبيل إنما يطعن البلاد طعنة نجلاء في صميم قوميتها.
ولقد فرح المستعمرون، لا ريب، أن تتعقد المشكلة على هذا النحو، وزاد فرحهم أنها من صنع أيديهم، لذلك كانوا لا يألون جهداً في العمل على تفاقمهما بكل ما وسعهم من مكر وخبث، وراحت صحفهم تزيد نار الخلاف اشتعالاً، لا تتورع ولا تتوانى ومن ورائها رجال السياسة ورجال المال يصورون مصر في أشنع حالات الفوضى والاضطراب، فلقد سيطر رجال العسكرية وسيطر زعيمهم عرابي على كل شيء حتى ما يقف في طريقه حائل من قانون أو التزامات حتمتها الديون والظروف على مصر.
وكان الخديو في الواقع تلقاء آخر فرصة يستطيع أن ينقذ بها مصر مما كان يبيت لها، ولكنه ألفى نفسه سليب الإرادة أمام إرادة الإنجليز، بل لعله فرح أن يلطم وزارة البارودي لطمة يتخلص بها منها ويتخلص بذلك من عرابي الذي بات يغار منه أشد الغيرة حتى ما يطيق أن يسمع اسمه. . . وليت توفيقاً تحرك من تلقاء نفسه، إذاً لهان الخطب وخفت وطأة البلوى على النفوس فقد كان يمكن أن يقال يومئذ إنه ارتأى رأياً، وإنه ينتوي الخير أو ينتوي الشر حسب ما يرى، ولكنه وا أسفاه كان يقوى على الوطنيين بضعفه فلم يك يريد شيئاً وإنما كان يراد له كل ما يأخذ أو يدع من أمر.
وبدا لماليت فأوعز إلى الخديو أن يتخلص من المأزق بعرض الأمر على السلطان، وحجته أن عثمان رفقي يحمل لقب الفريق، فلا يجوز لأحد غير السلطان أن ينزع منه هذا اللقب. وسرعان ما فعل توفيق كما أشار به ماليت فزاد الأمور ارتباكاً وتعقيداً.
ولقد أخطأ ماليت خطأ كبيراً فيما أشار به، فإنه جر بذلك تركيا إلى الدخول في ذلك النضال، الأمر الذي كانت تحذره الدولتان أعظم الحذر وإن كانت إحداهما تخفيه، بينما الأخرى لا تتحرج من أن تعلنه في كل مناسبة وتبديه.(319/54)
أما الوطنيون فقد غضبوا لذلك أشد الغضب، ورأوا فيه ضرباً جديداً من لؤم ماليت، فاجمعوا أن يمنعوا تدخل تركيا مهما كلفهم ذلك من وجوه الصعاب والمشاق. وبلغ الغضب برئيس الوزراء أن يعلن في عزم مصمم (أنه إذا أرسل الباب العالي أمراً ينقض حكم المجلس العسكري على الجراكسة السجناء، فإنا لن نطيع هذا الأمر، وإذا أرسل الباب العالي من قبله مندوبين، فسوف لا نسمح لهم أن يهبطوا مصر، وسوف نردهم بالقوة إذا لزم الأمر).
وهذه لا ريب ثورة غضب من البارودي نعدها من أخطائه. فلقد أفضى بهذا التصريح إلى ماليت، وهذا أرسله إلى حكومته وإنه لشديد الاغتباط به إذ يسوقه دليلاً على أن الأمور قد بلغت غاية التحرج؛ ثم إنه يسوقه من الجهة الأخرى دليلاً على صحة ما ذكره مراراً وهو تسلط زعماء الجيش واستهتارهم بكل سلطة. ولم ينج عرابي من حملات الكائدين له وحمل مسؤولية هذا التصريح كأنما كان هو قائله، وأرجف المرجفون أن البارودي إنما يعمل بوحي من عرابي الذي يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد!
الحق أن البارودي قد أساء إلى القضية إساءة كبيرة بهذا التصريح. فهو فضلاً عما ذكرنا، إنما يتحدى السلطان في ذلك الوقت العصيب فيضيف إلى أعدائه عدواً جديداً، وإن الذي يحيط به الأعداء من كل جانب لجدير به أن يحتال ليستل السخائم من صدورهم، أو ليكسب من الأعوان والأصدقاء من يكونون له في الشدة قوة وسنداً.
ولعل البارودي كما نفهم من المسألة المصرية يومئذ في جملتها، كان يكره تدخل السلطان العثماني كما يكره تدخل إنجلترا وفرنسا؛ ولم يك ذلك عن حب في استقلال مصر ورغبة في سيادتها، وإنما كانت لهذا الرجل أطماع جليلة الخطر. فكان يتطلع ببصره إلى عرش مصر، وكانت توسوس إليه نفسه أنه بهذا المركز جدير ففي عروقه دماء الحاكمين منذ القدم. فهو كما يزعم من سلالة الأشراف (بارسباي)، وعلى ذلك، فقد كان جده من زمن بعيد على ذلك العرش الذي تنزع اليوم إليه نفسه، والذي يخشى أن تشايع تركيا الأمير عبد الحليم فيتربع فوقه إذا أخلى من الجالس عليه.
وكانت النتيجة المباشرة لهذا التصريح استحكام الأزمة بين الوزارة والخديو. فلقد رأى توفيق انه أصبح في الواقع وليس له من الأمر شيء. فإذا كان البارودي يقف هذا الموقف(319/55)
في وجه السلطان نفسه، فكيف به إذا وقف منه هو؟ وهذا هو المعنى الذي كان لا يفتأ ماليت وأعوانه يوحونه إلى الخديو في تلك الأزمة العصيبة.
ولو أن الوزارة أصرت يومئذ على موقف العناد والصرامة لحملت قسطاً كبيراً من المسؤولية عن تعقد الأمور وتحرجها، ولكنها ما لبثت أن خطت خطوة حميدة حقاً تنطوي على كثير من الكياسة وبعد النظر، فإنها تقدمت إلى الخديو تقترح أن يخفف هو الحكم من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها، والوزارة ترضى في هذه المسالة أن ينفى المحكوم عليهم من مصر إلى أي جهة من الجهات دون أن تمس رتبهم أو ألقابهم وإنما تستبعد أسماؤهم من سجلات الجيش المصري.
وهذا المقترح لا ريب دليل صادق على حسن نية الوزارة ورغبتها في أن تنتهي تلك المسألة وتنجو البلاد من لؤم الأعداء، وهي فيما تقدمت به متساهلة أكبر التساهل، فما دام المجلس العسكري قد حكم بإدانة هؤلاء فإبعادهم من البلاد يقتضي حتماً إبعادهم من الجيش. . . ولكن الخديو وا أسفاه قد تنمر اليوم للوزارة وتنكر، فرفض أن يجيبها إلى هذا المقترح.
وكان ماليت من ورائه لا ينفك يوسوس له ويزين له فعل السوء؛ وكان جرانفل قد أنكر من ماليت ما أشار به على الخديو من دعوة تركيا إلى التدخل، فكتب إليه أن يسير على وفاق مع ممثل فرنسا، وفي هذا تلميح إلى ما كان في سياسته من خطأ، وكان ممثل فرنسا يسير بوحي من فرسنيه، ولكن ماليت قد عز عليه أن يتراجع بعد هذه الخطوات فينقض ما نسجه بيده من غزل، فانظر إليه كيف يخلع النقاب على صورة قل أن يوجد مثيل لها في سجل السياسة العام فيكتب إلى جرانفل قائلا: (اسمحوا لي أن ألاحظ أنه عند النظر في الخطة التي يجب أن يسلكها الخديو بازاء حكم المجلس العسكري يجب أن نلقي نظرة عامة على الحالة كلها، وأن نذكر أن الوزارة الحاضرة تسعى لتضييق نطاق الحماية الإنجليزية الفرنسية، وأن نفوذنا أخذ كل يوم في النقصان وقد يستحيل علينا أن نستعيد سلطتنا العليا حتى تخضد شوكة الحكم العسكري الذي يرزح القطر تحته الآن. وفي اعتقادي انه لابد من حدوث ارتباكات شديدة قبل الوصول إلى حل مرض للمسألة المصرية، وأن الحكمة تقضي باستعجال هذه الارتباكات لا بتأجيلها).
وأي كلام يمكن أن نعلق به على هذا الذي يقول ماليت وعلى الأخص تلك الحكمة التي(319/56)
يشير إليها؟ أهكذا تطغي المطامع على العقول والقلوب حتى لتجعل من الحكمة استعجال الارتباكات! ولكن خرافة الذئب والحمل لن تزال أبداً الأساس الذي يقوم عليه المنطق في كل ما يجري من كلام بين الضعيف والقوي في هذا الوجود.
وأي دليل أبلغ من هذا الدليل على صحة ما ذكرناه ويذكره كل منصف عن السياسة الإنجليزية تجاه مصر منذ كان لها في هذا الوادي أطماع؟ ألا إنا لنقرر في غير تردد أن هذه السياسة اللئيمة كانت خليقة بان تقابل من جانب الوطنيين بكل مقاومة، بل إنها سياسة كان يغتفر في مقاومتها يومئذ كل عنف. . . ولكن بعض الناس لا يزالون يأخذون على عرابي وحزبه تشددهم وعدم مصانعتهم خصومهم ويعدون حسناتهم هذه من السيئات التي لا تغتفر ولا تنسى.
ورأى جرانفل أن يشايع فرسنيه في هذه المسألة وكان يرى فرسنيه أن يخفف توفيق الحكم كما ترى الوزارة فتنتهي هذه الأزمة؛ ولكن كيف يدع ماليت الفرصة تمر وهي من صنع يديه؟ وكيف يطيق أن تخرج الوزارة من الأزمة ظافرة فيكون ظفرها في الواقع هزيمة له؟ لذلك ما زال بتوفيق حتى وقع على أوراق الحكم بنفي المتآمرين إلى خارج البلاد مع عدم استبعاد أسمائهم من سجلات الجيش!
وتلقت الوزارة اللطمة وتلقتها معها البلاد، وآلم عرابي وضباط الجيش من الوطنيين هذا الترفق بالمتآمرين وهم الذين كانوا على وشك أن يفقدوا رؤوسهم بالأمس أو ينفوا إلى أقصى السودان لأنهم شكوا من سوء ما يصنع بهم رفقي. . .
وأعلنت الوزارة على لسان رئيسها أن لابد من قرار يلغي هذا القرار حتى تمحي تلك الإهانة التي وجهت إليها وإلى البلاد في شخصها، ولكن ماليت حذر الخديو أن يجيب وزراءه إلى ما طلبوا! ويستطيع القارئ أن يدرك خطورة هذا الموقف فلقد تأكدت القطيعة بين الخديو ووزرائه وانعدمت الصلة وتفاقم البلاء.
وصل كل من الطرفين إلى الموقف الذي يفسر به كل عمل حسب ما يجري في أطواء النفوس، ففي كل حركة ريبة وفي كل بادرة إهانة، وكل نية لن تكون إلا نية سوء، وكل جنوح إلى السلم لن يؤخذ إلا على انه ضرب من الهزيمة والتسليم، وكل كلمة نابية أو شديدة لن تفهم إلا على أنها ضرب من التحدي يراد به إعنات القلوب وإحراج الصدور. .(319/57)
وفي هذا الموقف الخطير راح السير إدوارد ماليت يجني ثمار غرسه وإنه ليطفر من الفرح كما يطفر الشيطان. كتب إلى جرانفل في اليوم الثامن عشر من شهر مايو سنة 1882 أي بعد قرار الخديو بتسعة أيام يقول (لقد انقطعت العلاقة بين الخديو ووزرائه ووصل الموقف إلى أقصى الخطورة).
وتقدمت الوزارة لترد على الخديو فخطت خطوة جريئة بالغة الجرأة، فدعت مجلس النواب دون الرجوع إلى الخديو لتعرض عليه الأمر، فازدادت الأمور حرجاً على حرج، فلقد عد أعداء البلاد هذا العمل من الوزارة بمثابة خروج على الحاكم الشرعي لا يقل في مغزاه عن خلعه من عرشه، ونسوا أو تناسوا أن الخديو باتباع مشورتهم هو الذي دفع الوزارة حتى أوقعها في مأزق ضيق بحيث لم يبق أمامها إلا أن تقر الخديو على خروجه على الدستور ومشابته أعداء البلاد أو تستقيل، وفي كلا الأمرين تفريط منها في حقوق البلاد فضلا عن كرامة رجالها.
وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثب إلى العرش والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو بعد العدة للمقاومة إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة مثل ذلك الموقف أن يخلقها.
ولو كانت الروح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما ارجف المرجفون لما وقف حائل أمام الجيش دون الذهاب إلى القصر وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر.
(يتبع)
الخفيف(319/58)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
486 - انو الخير
في (الآداب الشرعية) لابن مفلح المقدسي: قال عبد الله ابن الإمام أحمد لأبيه يوماً: أوصني يا أبت.
فقال: (يا بني، انو الخير، فأنك لا تزال بخير ما نويت الخير) هذه وصية عظيمة سهلة على المسؤول، سهلة الفهم والامتثال على السائل، وفاعلها ثوابه مستمر لدوامها واستمرارها، وهي صادقة على جميع أعمال القلوب المطلوبة شرعاً، سواء تعلقت بالخالق أو بالمخلوق وأنه يثاب عليها.
487 - فإنا بها نسلو
أبو الفتح علي بن محمد البستي:
يقولون: إن المرء يحيا بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسلُ
فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي ... فإن فاتنا نسل فإنا بها نسلو
488 - السمر. . .
ياقوت في معجم (معجم البلدان): مرباط فرضة مدينة ظفار، وهي مدينة مفردة بين حضرموت وعمان على ساحل البحر، وأهلها عرب، وزيهم زي العرب القديم، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وتعصب، وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة؛ وذلك أنه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرن الرجال الذين لا حرمة بينهم، ويلاعبنهم، ويجالسنهم إلى أن يذهب أكثر الليل، فيجوز الرجل على زوجته وأخته، وأمه وعمته، فإذا هي تلاعب آخر وتحادثه، فيعرض عنها ويمضي إلى امرأة غيره، فيجالسها كما فعل بزوجته. وقد قلت لرجل منهم عاقل أديب: بلغني عنكم شيء أنكرته، ولا أعرف صحته، فبادرني وقال: لعلك تعني (السمر) قلت: ما أردت غيره. فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح، وبالله اقسم إنه لقبيح، ولكن عليه نشأنا، ولو استطعنا أن نزيله لأزلناه، ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين واستمرار العادة به.(319/59)
489 - فلا عجب
(عيون الأنباء في طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة: حكى عن أبقراط أنه أقبل بالتعليم على حدث من تلامذته، فعاتبه الشيوخ على تقديمه إياه عليهم. فقال: ألا تعلمون ما السبب في تقديمه عليكم؟ قالوا: لا، فقال لهم: ما أعجب ما في الدنيا؟ فقال أحدهم: السماء والأفلاك والكواكب. وقال آخر: الأرض وما فيها من الحيوانات والنبات. وقال آخر: الإنسان وتركيبه. ولم يزل كل واحد منهم يقول شيئاً وهو يقول: لا، فقال للصبي: ما أعجب ما في الدنيا؟ فقال: أيها الحكيم، إذا كان كل ما في الدنيا عجباً فلا عجب. فقال الحكيم: لأجل هذا قدمته لفطنته.
490 - الآن صدقت
في (مفتاح دار السعادة) لابن الجوزي: حكي أن امرأة أتت منجما فأعطته درهماً، فاخذ طالعها وحكم وقال الطالع. فقالت: لم يكن شيء من ذلك. ثم أخذ الطالع وقال: يخبر بكذا. فأنكرته حتى قال: إنه ليدل على قطع من بيت المال.
فقالت: الآن صدقت، وهو الدرهم الذي دفعته إليك. . .
491 - وترسل في زروعهم إذا يبست
في (صبح الأعشى): كان قوم من هذه المملكة (المصرية) مرتبون بالقرب من بلاد التتار يتحيلون على إحراق زروعهم بان تمسك الثعالب ونحوها وتربط الخرق المغموسة في الزيت بأذناب تلك الثعالب وتوقد بالنار وترسل في زروعهم إذا يبست، فيأخذها الذعر من تلك النار المربوطة بأذنابها، فتذهب في الزروع أخذة يميناً وشمالاً، فما مرت بشيء إلا أحرقته، وتواصلت النار من بعضها إلى بعض فتحرق المزرعة عن آخرها. وهذا الأمر قد بطل حكمه من حين وقوع الصلح بين ملوك مصر وملوك التتار.
492 - أرسطو، المتنبي
في (الرسالة الحاتمية): قال أرسطو: إن الحكيم تريه الحكمة أن فوق علمه علماً، فهو يتواضع لتلك الزيادة، والجاهل يظن أنه قد تناهى فيسقط بجهله فتمقته النفوس
قال أبو الطيب:(319/60)
وما التيه طبي فيهم غير إنني ... بغيض إلىّ الجاهل المتعاقل
493 - دع اسمه وأعطنا جسمه
(زهر الآداب): قال حسن بن جنادة الوشاء: انصرف أبو تمام من عند بعض أصحاب السلطان فوقف علي. فقلت: من أين؟ قال: كنت عند بعض الملوك فأكلنا طعاماً طيباً، وفاكهة فاضلة، وبخرنا وخلقنا، فخرجت هارباً من المجلس نافراً إلى التسلي، وما في منزلي نبيذ، ولكن عندي خمر أريده لبعض الأدوية، فقلت: دع اسمه، وأعطنا جسمه، فليس يثنينا عن المدام ما هجنته به من اسم الحرام.(319/61)
إلى دودة
للأستاذ ميخائيل نعيمه
تدبّين دبّ الوهن في جسميَ الفاني ... وأسعى بجدٍ خلف نعشي وأكفاني
فأجتاز عمري راكضاً متعثراً ... بأنقاض آمالي وأشباح أشجاني
وأبني قصوراً من هباءٍ وأشتكى ... إذا عبثت كف الزمان ببنياني
ففي كل يومٍ لي حياة جديدة ... وفي كل يومٍ سكرة الموت تغشاني
ولولا ضباب الشك يا دودة الثرى ... لكنت ألاقى في دبيبك إيماني
فأترك أفكاري تذيع غرورها ... وأترك أحزاني تكفن أحزاني
وأزحف في عيشي نظيرك جاهلاً ... دواعيَ وجدي أو بواعث وجداني
ومستسلماً في كل أمرٍ وحالةٍ ... لحكمة ربي لا لأحكام إنسان
فها أنت عمياء يقودك مبصر ... وأمشي بصيراً في مسالكِ عميان
لك الأرض مهد والسماء مظّلمة ... ولي فيهما من ضيق فكريَ سِجنان
لئن ضاقتا بي لم تضيقا بحاجتي ... ولكن بجهلي وادعائي بعرفاني
ففي داخلي ضدّان: قلب مسّلم ... وفكر عنيد بالتساؤل أضناني
توَّهَم أنَ الكون سِرٌّ وأنه ... يُنال ببحثٍ أو يُباح ببرهان
فراح يجوب الأرضَ والجوّ والسما ... يسائل عن قاصٍ ويبحث عن دان
وكنتُ قصيداً قبل ذلك كاملاً ... فضعضع ما بي من معان وأوزان
وأنت التي يستصغر الكل قدرها ... ويحسبها بعضٌ زيادة نقصان
تدُبّين في حضن الحياة طليقةً ... ولا هَمَّ يضنيك بأسرار كوأن
فلا تسألين الأرضِ مَنْ مدَّ طولهَا ... ولا الشمس مَن لظّى حشاها بنيران
ولا الريح عن قصدٍ لها في هبوبها ... ولا الوردة الحمراء في لونها القاني
وما أنتِ في عين الحياة دميمة ... وأصغر قدراً من نسور وعقبان
فلا التبر أغلى عندها من ترابها ... ولا الماس أسنى من حجارة صوّان
هل استبدلت يوماً غراباً ببلبل؟ ... وهل أهملتْ دوداً لتلهو بغزلان؟
وهل حقنت غدرانها من ضفادع ... وأوجدت الإبحار ملهى لحيتان؟(319/62)
هل اطلعت شمساً لتحرقَ عوسجاً ... وتملأ سطح الأرض بالآسِ والبان؟
لعمركِ يا أختاه ما في حياتنا ... مراتب قدرٍ أو تفاوت أثمان
مظاهرها في الكون تبدو لناظر ... كثيرة أشكال عديدة ألوان
وأقنومها باقٍ من البدء واحداً ... تجلَّتْ بشهبٍ أم تجلت بديدان
وما ناشد أسرارها، وهو كشفها، ... سوى مشترٍ بالماء حرقةَ عطشان
ميخائيل نعيمة(319/63)
المعنى التائه
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أنت معنًى تائهٌ ... في ذات نفسي يا حياتي
كلما دَّققْتُ فيهِ ... طوّحتْ بي خَطَراتي
كان، قبل الحب، قلبي يتغنَّى هائماً
في رياضٍ طَلَعَ البدرُ عليها باسماً
وليالٍ رقدَ الكونُ عليها خالِماً
تتراءَى بَسْمةُ الثغرِ عليها دائماً
ثم طار القلبُ حيناً ... في وسيع الخَلَواتِ
وصداهُ لم يَزلْ يُسْ ... مَعُ حُلْوَ النَّغَماتِ. . .
لستُ أدري أين وّلى، حين وّلى ومضى؟!
هو في الأُفق توارى وتلاشى في الفضا
مثل لحظٍ بَعَثَتهُ الغيدُ في ساعِ الرضى
أو كبرقٍ خطف الأبصارَ لما ومضا
واختفى عن مقلتي قل ... بي، سريعَ النبضاتِ
وتلاشى الصوتُ في ... الآفاق إلاّ الهمساتِ
هَمَساتٌ كُنَّ كالوحي سريعاتِ التَّخَفي
لم تكدْ تهبط حتى أسرعتْ في مثل خوفِ
وتلاشتْ، وأنا أبحث عنها مثل طَيْفِ
غير أن الزهر أفشى سرها في طيب عَرْف
فذكا. واستشعرتْ رو ... حي حديثَ الزَّهَراتِ
فنشقتُ العطرَ حتى ... أسكرتْني نَشَقاتي
ثَمِلَتْ روحي قليلاً، وغفتْ عيناي حينا
فتعرَّتْ ذكرياتي عن جلابيب السنينا
ومضت ترقص أحلاماً تهزُّ الحالمينا(319/64)
وترامت فوق صدري فترَّفقْتُ حنونا
في احتضاني جسمها الر ... طب وكانت قُبُلاتي
تستر الجسمَ المُعرَّي ... عن دنايا نظراتي. . .
مَنْ هي الحسناءُ؟. . . ذكرى حبِّ روحي
نزلتْ من أوجها العالي لمعشوقٍ جريحِ
مَنْ هو المعشوقُ؟. . . يا أحلامُ بوحي!
لم تَبُحْ أحلامُ نومي ... ورنَتْ للذكرياتِ
فأفاقت ومضَتْ عني ... وَحلَّتْ يَقَظاتي
وإذا بالحُلْم معنًى تائهٌ في ذات نفسي
أستمدُّ الوَحْيَ منهُ في خيالاتي وحِسِّي
وإذا في راحةِ النفسِ. وكوْنُ الله مُمْسِ
هتفتْ روحي بقلبي ... فإذا بالقلبِ آتِ
وإذا بالحُلْم يبدو ... مُحْيِياً لي ذكرياتي
حسن كامل الصيرفي(319/65)
غرور الفنان وعقابه
للأستاذ علي أحمد باكثير
(يريد الشاعر أن يصور في هذا الغزل الفلسفي غرور الفنان في تصوره أنه خالق فيعاقب بتمرد خلقه عليه حتى أنه ليود أن يتنازل عن ربوبيته المزعومة لمن خلقه لكي ينال رضاه وحنانه، فإذا ما أبى عليه ذلك رجا منه أن يمسحه من لوح الوجود لأنه أصبح زوراً لا محل له في الوجود، وينتهي به الأمر إلى الرجوع إلى الله وأنه الخالق وحده لا خالق سواه فمن نازعه هذا الرداء لقي هذا العذاب الكبير).
فيم يا زهرةَ الجمال تنكّرْتِ ... لقلبي فارتدّ عنكِ كسيرا؟
أو لستُ الذي غرستُكِ في قلب ... ي وأسقيتك الزلال النميرا؟
وقضيتُ النهار والليل أرعا ... ك أقيك الهجير والزمهريرا
أنت حُلمي إذا أويتُ إلى النو ... م وشغلي إذا برحْتُ السريرا
تتلاشى روحي عليك حناناً ... وارتقاباً ولوعةً وحبورا
مُوقداً ذوب مهجتي لَكِ شمعاً ... يطرد الرَّوْعَ عنكِ والديجورا
ضارباَ كلَّةً عليك من الأح ... لام تنفي عنكِ الأذى والشرورا
جاعلاً من شوقي إليكِ صلاةً ... محرَقاً من دمي عليك بخورا
في طريقي إليكِ تخطبني الأز ... هار شتى يعبقن عِطراً ونورا
يتمايلن معرضاتٍ مريدا ... تٍ وللّثم يرتعِشْنَ ثغورا
فتكبّرتُ أن أجود عليهنّ ... بطرفي بَلْهَ الهوى والشعورا
وتحملتُ مِنْ ملام ضميري ... في أذاهُنّ ما يهدُّ الضميرا
لا أبالي إذا رضيتِ رضى النا ... س جميعاً وودهم والنفورا
وْلتضع من يدي الحظوظُ فحسي ... أنّ أنال الرضاء منك اليسيرا
هو رجواي في الحياة فإن أُدْ ... ركه أدرك خُلْداً وملكا كبيرا
أنا قّلدتكِ الجمال وصوّرْ ... تُكِ ما شاءتِ المنى تصويرا!
وبفنّي خّلدتُ حُسنك في الكو ... ن وأسجدتُ في ثراكِ الحورا
وجعلتُ الزمان يشدو بلحْنَي ... ك فيحيى الأسى ويحيُى السرورا(319/66)
أفترضَيْنَ بعد هذا لقلبي ... أن يكون المرزّأ المهجورا؟
أنتِ خَلْقي. . . وا رحمتاه لرب ... صار يوماً بخَلْقه مستجيرا!
أردديني خَلقاً وكوني إلهاً ... تشملي بالحنان قلبي الكسيرا!
وترىْ ما بهِ. . . فمن يكُ ربّاً ... يكُ طبّاً بخلقه وخبيرا
لا أبالي إذا غدوتِ لقلبي ... وحده كنتُ آسِراً أو أسيرا
فإذا ما أبيتِ إلا شقائي ... فامسحي من لوح الوجود الزورا!
أعدِميني فلا أطيقُ عذابين ... خلوداً قدّرتِ لي وسعيرا!
كنتِ في خاطري وكنت سعيداً ... قبل أن تظهري لعيني ظهورا!
آه، يا ليتني كتمتكِ سرّاً ... حيث كنتِ الدهور ثم الدهورا!
لكُيفِتُ الأسى إذاً والتباري ... ح ودُمْتُ المنعَّمَ الموفورا
ما توقعتُ إذ جبلتُكِ طيناً ... في يَدِي أن أصير هذا المصيرا!
إنَّ هذا جزاء من نازع الله ... عُلاه يلقى العذاب الكبيرا!
علي أحمد باكثير(319/67)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن والحرية
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
مظاهر الحياة في الإنسان ثلاثة، يرجع إليها كل ما يصدر عنه من أفعال وأقوال وحركات وسكنات. وهذه المظاهر هي الحس والعقل والخلق. والإنسان الوسط يستطيع أن يلحظ في غيره بسهولة تامة النقص الذي يعتري ناحية أو اكثر من هذه النواحي الثلاث. فيحكم عليه بأنه بارد الحس، أو ناقص العقل، أو معوج الخلق. وليس يهمنا ما يقال من أن الحكم في هذه الأحوال لا يكون إلا تقديرياً، وإنما الذي يعنينا هو أن الحس والعقل والخلق موجودة في كل إنسان، وإن تفاوت وضوحها، ووضوح اتجاهاتها في الناس، وإن اختلفت معاييرها فليس ينفي وجود القمح أن يكيله ناس بالإردب، وأن يزنه ناس بالقنطار. . .
ولما كان الكمال البشري يستدعي رقي الإنسان في نواحيه جميعاً بحيث تنسجم هذه النواحي فيه وتتوازن وتتضافر فتخطو به خطوة جديدة في طريق التطور والارتقاء تلبية لنداء الطبيعة التي تريدهما، لزم أن يكون كل عمل من أعمال الإنسان صادراً عن حس مرتق، وعقل مرتق، وخلق مرتق. فإذا اختل التوازن بين الحس والعقل والخلق في أي عمل من أعمال الإنسان عاب هذا الاختلال العمل وأنقص قدره.
ونحن إذا نظرنا إلى هذه النواحي الثلاث رأينا لكل ناحية منها طريقاً خاصاً من طرق الرقي الإنساني تسعى فيه. فالحس طريقه الفن، والعقل طريقه العلم، والخلق طريقه الفضيلة.
وأكمل الناس من غير شك هو الذي يرقى في معراج التطور بحسه وعقله وخلقه، وأقل منه كمالا من يرقى في هذا المعراج بناحيتين فقط من نواحيه الثلاث، والأقل كمالاً من يرقى في هذا المعراج بناحية واحدة. وأغلب الناس غير متوازنين، بل إن أغلبهم تنصقل في نفسه ناحية واحدة فقط من هذه النواحي فتضيء ما حوله ولكن بلون نورها هي، بينما يتخافت إلى جانبها النوران المنبعثان من الناحيتين الأخريين. وهكذا كان في الناس فنانون(319/68)
لا صلة لهم بالعقل ولا بالعلوم إلا ما يرد عنهم اتهام الناس إياهم بالجنون، وفنانون لا صلة لهم بالعقل ولا بالخلق، ومنهم من يرميه بالفسق إلى جانب الجنون. وهكذا أيضاً كان في الناس علماء لا صلة لهم بالحس فهم باردون، وعلماء لا صلة لهم بالحس ولا بالخلق، ومنهم من يرميه الناس بالجشع إلى جانب البرود. وهكذا أخيراً كان في الناس فضلاء تنبعث الفضيلة من أنفسهم فينالها من يكرههم كما تصيب من يحبهم لا يحبسونها ولو أوذوا، فلا هم عقلاء يحذرون كما يحذر غيرهم من العقلاء، ولا هم يحسون الشر فيما يحسون، وهؤلاء من بين أصحاب الفضيلة هم الأتقياء الزاهدون المضحون المظلومون.
وكل فرد من هؤلاء الأفراد الخارقين في نواحيهم الخاصة، والمتسامين فيها على مستوى الجمهور يعتبر عبقرياً في ناحية وإن أحصت عليه الإنسانية النقص في الناحيتين الأخريين، فما تزال العبقرية في نظر الناس ضرباً من ضروب الشذوذ، أو هي في الحق كذلك ما دامت تنحو إحدى نواحيه فقط.
فإذا أنكرنا على الإنسان أنانيته وطالبناه بان يرعى خير الإنسانية في كل عمل من أعماله وعلى الخصوص في تلك الأعمال التي تتصل بغيره وتؤثر فيه فإننا لا نملك إزاء الفنانين إلا أن نطالبهم بأن تتضافر نواحيهم الثلاث في إنتاجهم الفني كما نطلب ذلك من العلماء، وكما نطلب ذلك من أهل الفضيلة. فالفن أو أكمل الفن هو ما أرضى العقل والخلق إلى جانب ما يرضي الحس، كما أن العلم أو أكمل العلم هو ما أرضى الحس والخلق إلى جانب ما يرضي العقل، وكما أن لفضيلة أو أكمل الفضيلة هي ما أرضى العقل والحس إلى جانب ما يرضي الخلق.
هذا إذا راعينا أن الفنون والعلوم والفضائل هي أهداف الإنسانية التي تلح في سبيل الوصول إلى استكمالها موحدة منسجمة متزنة. فإذا لم ندقق كل التدقيق في هذا، فإنه يجوز منا أن نبيح للفنان أن يحاول السير في طريقه بالحس وحده، وللعالم أن يسير بالعقل وحده، وللرجل الفاضل أن يسير بالخلق وحده.
ولكن للإنسانية مثلاً عالياً تنزع إليه وتريد أن تلحقه وإن اختلفت صوره في أذهان الناس. ونحن إذا ما حاولنا أن نستخلص من بين هذه الصور الصورة التي نعتقد أنها أصدق صور الكمال فإننا عندئذ سنستطيع أن نتصور إلى جانبها صورة للإنسانية تكون هي اقرب صور(319/69)
الإنسان من الكمال، ويكون هذا تبعاً لمدى تحققه صورة المفرد من نواحي الكمال المطلوبة في صورة الإنسانية الكاملة. وسنرى كيف يمكن أن يتم التوازن بين حس الإنسان وعقله وخلقه في هذه الصورة العالية التي نكتشفها. وسنرى هل يتم هذا التوازن إذا كان للإنسان من حسه ومن عقله ومن خلقه مقادير متساوية، أو أن هذا التوازن يمكن أن يتم باختلاف في مقاديرها لدسم في بعضها وخفة في بعضها أو لضرورة تستوجب بعضها ولجواز يمكن به الاستغناء عن بعضها في بعض الأحيان.
سنختلف.
فقد اختلف الناس في هذا منذ أحسوا، ومنذ عقلوا، ومنذ كانت لهم أخلاق، وسيظلون مختلفين في هذا إلى أن يشاء الله فيكونوا أمة واحدة، وهم الآن أمم. ولكل أمة منهم مثل، وكل أمة منهم تنزع إلى تحقيق مثلها جادة حيناً ومتكئة حيناً، ومتناومة في اغلب الأحيان.
فإذا سألني سائل عن أمتي، ومثلي الذي أنزع إليه مؤمناً به، فأنا من أمة محمد. الفن عندي ما يحقق المثل الأعلى الذي رسمه محمد بدينه للحياة، والعلم عندي هو ما يحقق هذا المثل، والخلق عندي ما يتفق وروح الإسلام.
ولست أقهر إنساناً على أن يدخل في أمتي، ولا على أن يتدله بمثلي الأعلى، ولكني أقولها بعد تأمل أعتقد أنه قد يكفي متعجلاً مثل من أبناء هذا العصر العجول. . . كلمة فيها من القدم رزانة الشيخوخة ومن الأبدية عنفوان الشباب، وهي أن المثل الأعلى الذي رسمه الإسلام للإنسان والصورة النقية التي رسمها للإنسانية هما صورة أرقى حي في أرقى صورة للحياة، فما كان عبثاً ما قال الله من أن محمداً هو خاتم النبيين والمرسلين، وأن الإسلام هو ختام الأديان. ونحن إذا أنعمنا النظر في الإسلام رأيناه يشمل كل الأديان الساعية إلى الله، وأنه يبرئ الله مما ألحقه به الناس من الباطل والزيف، وإذا صدق هذا اصدق معه أن أسمى المثل الإنسانية العليا ليس إلا بعض المثل الإسلامي الأعلى، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجعل الإسلام حكماً على أعمال الإنسان الروحية كلها سواء منها الحسية والعقلية والخلقية، فإذا لم يرض بعض الناس عن الإسلام حكماً فلهم أمثلتهم العليا يحكمونها كما يشاءون فيما يشاءون فكل ما يملكه عاجز ضعيف مثلي في مقام كهذا هو أن يقول لهم: قبل أن تستبعدوا الإسلام تدبروه.(319/70)
فإذا تدبروه فهم معي مسلمون. فإذا أسلموا فهم أمة وسط، وما داموا أمة وسطاً فعليهم أن يراعوا العقل والخلق في فنهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والخلق في علمهم فيجعلوا لهما فيه نصيباً، وعليهم أن يراعوا الحس والعقل في فضائلهم فيجعلوا لهما فيها نصيباً. وهذا يحدث عفو خاطرهم بدون تدبر وبدون اختيار إذا كانوا مسلمين. فالإسلام هو دين الفطرة، كما أن الفن الصحيح السليم هو فن الفطرة، وكما أن العلم النافع هو علم الفطرة الذي يعلمه الله الناس سواء أكانوا أميين أم كانوا قارئين كاتبين، وكما أن الخلق القويم هو خلق الفطرة الذي يصدر عن الإنسان عفواً من غير تدبير ومن غير اختيار.
وبعد أن رأينا للفطرة هذا الجلال وهذا الخطر، فإنه قد يعارضنا هنا سؤال له محل من التفكير، فقد يقول لنا قائل: أليس من فطرة الإنسان أن ينزع أحياناً إلى ما تستنكره الأخلاق، والى ما يزور عنه العقل، فإذا لبى هذا النزوع بالفن كان فنه فطرياً، ولكنه مع هذا لم يكن متمشياً مع الإسلام الذي وإن كان دين الفطرة فهو يرسم قيوداً، ويقيم من الأخلاق حراساً على هذه القيود؟ وجوابنا على هذا السؤال هو أن النزوع بالفن إلى ما تنكره الأخلاق ما ينكره العقل ليس نزوعاً فطرياً، وإنما نزوع فيه شيء من النقص يعتري صاحبه إذ ينسى غيره، وإذ ينزع بالفن إلى تلبية إحساسه والتعبير عنه، فهو بهذا الفن يرضي نفسه وحدها، وفي ساعة عاجلة من ساعات حياته هو، فهو لا يحس بمستقبله ولا يفكر فيه، ولا يحس صلته بغيره ولا يفكر فيها، ولا يحس آثره في غيره ولا يفكر فيه.
ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا الضرب من الفن. . . فن. ولكنه فن جامح ينظمه صاحبه من حبات نفسه ليرضى به هو وحده. ونحن إذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها العقل لم نجد غير الخرافات الفنية، وهي لا تؤذي الإنسانية في شيء إلا إذا حاول فنان خداع مقنع بالحيلة أن يحمل الناس على أن يؤمنوا بأنها حقيقة واقعة، ولم يظهر في الدنيا فنان من هؤلاء إلا وخرج بخداعه عن دائرة الفن إلى دائرة النصب والاحتيال. وإذا تأملنا ألوان الفن التي ينكرها الخلق لم تجدها إلا لمامات تعرض لنواح من الحياة يكاد يعرفها الناس جميعاً، ويكادون يتذوقونها جميعاً، ويكادون يستطيعون أن يعبروا عنها جميعاً تعبيراً لا يقل صدقاً ولا روعة عما يعبر به الفنانون عنها. فإن لم يتأت لجمهور الناس بالفعل التعبير عن(319/71)
هذه النواحي المبتذلة من الحياة التي يتعفف الفن الإسلامي عنها، فهم يستطيعون هذا التعبير بالقوة. وهذا هو ما يغرينا بالمضي في الحرص على اتباع الإسلام حتى في الفن؛ فهذا الذي نخسره من الفن بهذا الحرص تافه وهين ما دام جمهور الناس يستطيعونه، والفنان يطلب منه شيء أكثر مما يطلب من عامة الناس، وهو الكائن الحي الناضج الحياة الذي يتوقع منه الناس أن يكشف لهم بإحساسه المرهف من حقائق الحياة ومباهجها وجمالها ما لا يستطيعون هم أن ينتهوا إليه بحسهم، كما أنهم يحبون من علمائهم أن يهدوهم من حقائق الحياة ومنافعها إلى ما يعجزون هم عن أن يصلوا إليه، وكما انهم يحبون من الهداة الأتقياء ذوي الفضل أن يرسموا لهم ما ينبغي أن يكون، وما ينبغي إلا يكون.
وما أجل هذا الذي يجتمع له هذا كله فيكون هادياً بفضائله وعلمه وفنه.
فإذا لم يتيسر هذا لرجال الإنسانية عفواً فان الإرادة كفيلة بتحقيقه. ولست اقصد بالإرادة أن يعتزم الفنان أن يحقق في فنه الأخلاق الفاضلة، ونفسه بعيدة عن الأخلاق الفاضلة. فيخرج فنه متكلفاً سخيفاً يشعر كل من يتصل به بأنه فقد ميزته الأساسية الأولى، وهي أن يكون تلبية لنداء الطبيعة والفطرة، وإنما الذي اقصده هو أن يبدأ الفنان بتحقيق الفضيلة في نفسه هو. فإذا أبدع فناً بعد ذلك كان الفن صورة نفسه، وكان الفن فاضلاً.
وطبيعة التطور والارتقاء تطالب الفنانين بهذا، كما أنها تطالب به العلماء، وكما أنها تطالب به أصحاب الأخلاق والفضائل. ذلك أن الحياة الروحية للإنسان تريد أن تسمو وأن تتقدم الخطى إلى الامام، وطريقها إلى هذا الرقي هو نفوس الناس أنفسهم، وما دام في الإنسان إرادة فلابد من أن يكون لهذه الإرادة لزوم في تحقيق التطور والارتقاء بدليل أنها لا تزال موجودة في نفس الإنسان، وأن لإنسان لا يزال يمارسها في كل أعماله تقريباً، وما دام الأمر كذلك فانه قد حق علينا أن نريد ترقية أنفسنا، ثم أن نعمل على هذه الترقية. أما الإرادة فأمرها بيدنا، وأما العمل فطريقه التدريب، وكما أن للعقل تدريباً يساعده على بلوغ العمل، وكما أن للخلق تدريباً يساعده على بلوغ الفضيلة، فإن للحس تدريباً يساعده على بلوغ الفن!
وقد ارتضى كل فنان لنفسه مثلاً أعلى يريد أن يرقى إليه وأنا اخترت الإسلام من هذه المثل لمن يعجبهم اختياري.(319/72)
أما أولئك الذين لا يريدون أن يرقوا فلهم أن يعربدوا بفنهم وبعلمهم، وبأخلاقهم ما شاءت لهم حرية التائه الضال.
عزيز أحمد فهمي(319/73)
من هنا ومن هناك
الحريم في نظر الغرب
إن حياة الحريم في قصور سلاطين آل عثمان لتمثل هذا الضرب من المعيشة الذي تصوره ألف ليلة وليلة، والذي تفنن الكتاب الأوربيون في وصفه ما وسعهم الخيال، ففيها الأجواء المفعمة باللذة وضروب المتع والتسلية المختلفة. ولقد ظل (الحريم) من الأسرار الغامضة التي تتضارب فيها الأفكار، حتى إذا زالت سلطة الخلفاء، وأبيح للجميع أن يدخلوا قصورهم الفخمة، كشف القناع عن الكثير مما كان يجري فيه. ولا شك أن رغبة الغربيين في تعرف أسرار (الحريم) في القصور العثمانية كانت أعظم من أية رغبة أخرى في إدراك أحوال الدولة أبان عهد السلاطين، وكان ذلك مدعاة لأن يكتب الكثيرون - آنا بالحق وآنا بالباطل - حول هذه الناحية، وتنافس الخيال والحقيقة في تصوير الحياة داخل (الحرملك) فكان نتاجهما هذه الكتب التي تطلع علينا بها - بين حين وأخر - دور النشر في الغرب. ومن الكتب القيمة الطريفة حول هذا الموضوع كتاب الذي وضعه المستشرق الإنجليزي بنزر، وكان ملماً باللغة التركية، عاش في الآستانة ردحاً طويلاً، وخبر الحياة التركية عن كثب. وقد وصف في كتابه هذا حياة القصور، لا سيما قصر سيراليو الذي كان يسكنه سلاطين آل عثمان من آلاف النسوة اللائى جيء بهن - أما بيعاً أو اقتساراً - ويصف منظر (الخصيان) وهم يرفلون في أزيائهم العجيبة، فلا عجب إذا اجتذب الغربيين هذا الوصف لحياة تكاد تكون من بنات الخيال، بل لقد يقصر الخيال في كثير من الأحيان عن أن يتطاول لبلوغ الحقيقة الماثلة في قصر سيراليون
يقول مستر بنزر في وصف الحرملك (إنه دنيا صغيرة، محكمة الإدارة، دقيقة السياسة، خلى إلا من النساء اللائى تعيش كل منهن من أجل واجب تؤديه. . . والحرملك، وإن كان مجتمع نسوة، إلا أنه كثيراً ما دبرت فيه المكائد، وشهدت جدرانه تدبير دسائس تقشعر لهولها الأبدان، كما كان حظ الكثير من نزيلاته الجميلات القتل بلا رحمة. وكم ضمت أمواج البسفور من فتيات غضب عليهن السلطان فأصبحن طعمة لحيتان البحر وأسماكه) أما الخصيان، فقد أخذ عددهم يزداد كلما اتسعت موارد السلطان. وكانوا في أول الأمر من البيض غير أنه سرعان ما حل محلهم السود لما طبعوا عليه من إخلاص لساداتهم، أما(319/74)
البيض فكانوا أهل دس وغدر وفتنة. ومنذ القرن السادس عشر أصبح الحرملك يدبر أمور الدولة من وراء ستار. ولما نفى السلطان عبد الحميد إلى سلافيك عام 1909م، أذنوا له أن يصطحب معه في منفاه بعض المقربات إليه. أما الباقيات ويجاوزن بضع مئات فقد أصبحن بلا عائل. وقد وصف ذلك كله فرنسيس ماك كلاج في كتابه (سقوط عبد الحميد) فقال: (لقد جمعن في قصر (ثب كابو) في حشد عظيم، وإذ كان أغلب النسوة في حريم السلطان قوقازيات، وكن يؤثرن على غيرهن لجمالهن الرائع، فقد أبرقت الحكومة التركية إلى مختلف القرى القوقازية تعلن إليها أن لكل عائلة الحق في استرداد فتاتها من حريم السلطان سواء أكان أبواها قد باعاها أم اغتصبت من بين ذويها. ومن ثم وفد على القسطنطينية الكثيرون من جبلي القوقاز يخطرون في ثيابهم العجيبة، وحددت لهم الحكومة يوماً توافدوا فيه على قصر (ثب كابو) واستعرضوا محظيات السلطان سافرات بلا قناع. وكم كان منظر الفتيات وهن يرتمين في أحضان آبائهن أو أخواتهن مؤثراً، بعد أن حيل بينهم وبينهم، ويئسن من لقائهن. . . فهذا أب يقبل أبنته وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وهذا أخ يعانق أخته بعد أن ظنا أن لا تلاقي بعد. ولشد ما كان التباين عظيماً بين لباس هؤلاء الجبليين ولباس بناتهم وهن يرفلن في غالي الثياب وأبهاها. وسرعان ما جمعت كل فتاة ملابسها، وغادرت القصر غير آسفة عليه، فبلغ عددهن يومئذ مائتين وثلاث عشرة انثى، اما الباقيات فقد اختار منهن الأمراء من اختاروا. . .)
هذا وصف شاهد عيان لمنظر من مناظر ألف ليلة وليلة. أما قصر سيراليو فقد خيم عليه الصمت كأنما استوحش من ساكنيه، حتى إذا كان عام 1924 جعلته الحكومة التركية من المنافع العامة، وطبعت من أجله دليلاً يشرح للزائرين ما يبهم عليهم إدراكه، وإذا كان الزائر لمصر لابد له من مشاهدة الأهرام وأبي الهول، فإن نزيل القسطنطينية اليوم ليهرع قبل كل شيء إلى قصر سيراليو فيمتثل صورة الحريم والترف في قصور السلاطين ويرى روعة الفن وجلاله، وكم شهدت حجراته من مآس ومسرات!
النضوج وضبط النفس
إذا نظرنا إلى الطفل وجدناه اكثر من غيره تبرماً بالتعب. فإذا أصابه الجوع أو ناله قليل من البرد أو الحر أو شعر بتقييد حريته فلم يستطع أن يتحرك كما يشاء، أو اعترته هزة(319/75)
عنيفة بعامل من العوامل، فهو ولا شك عرضة للتهيج.
وإذا كان الطفل لا يعرف الأسباب التي تدعو إلى ما يشعر به من الألم، فإن احتجاجه عليه عادة يكون عنيفاً.
فإذا جاوز سن الطفولة وتعداها إلى سن النضوج، فإن شعوره بهذا التهييج يخف ويتغير. وليس معنى ذلك أن المراهق لا يشعر بالآلام إذا تعرض لها، ولكن شعوره بها يتغير كل التغير، حتى لا يبدو عليه شيء من مظاهرها.
فالشخص الذي لا يحتمل المشقات، ويضيق صدراً إذا لم ينل ما تصبوا إليه نفسه، ويهتاج لكل حادث، هو في الحقيقة شخص لم يصل شعوره إلى درجة النضوج. وكل إنسان ولا شك يكره أن يكون ذلك الرجل. فإذا أردنا أن نعرف حقيقة أنفسنا من هذه الناحية يجب أن نترك الحكم عليها للآخرين، وعلى الأخص هؤلاء الذين لا تجمعنا بهم روابط الصداقة.
فما مقدار الألم الذي يستطيع أن يحتمله عادة الرجل الكامل النضوج؟ إن نظرة بسيطة تدلنا على أن هناك اختلافاً كبيراً بين الأفراد من هذه الناحية. فقد رأينا أناساً يحتملون كسر العظام وقطع الأوصال، ورأينا بعضهم يقومون بإجراء العمليات الجراحية لأنفسهم وسمعنا بأشخاص تقطع أوصاله إرباً إرباً في بعض المحاكمات ليخونوا صديقاً أو يعترفوا عليه بما يؤذيه فلا يشكون ولا تتغير حالهم.
وعلى النقيض من ذلك نرى أناساً لا يطيقون أي نوع من أنواع الألم فيلجئون إلى العقاقير السامة كالكوكايين والمورفين لتخفيف آلامهم وكثيراً ما يعتادونها.
فهل هناك حد وسط بين هذين الحدين؟ هل توجد حالة طبيعية بين هاتين الحالتين؟ من المحتمل أن لا يوجد شيء من ذلك. وكل ما نستطيع أن نقوله: أن الرجل الصحيح يتجنب الألم بقدر الإمكان، فإذا ناله شر لابد منه فيجب عليه أن يتجلد له ويحتمله، ولا يفعل كما يفعل الطفل، وقد نستطيع أن نطبق هذا المبدأ على اوجه الحياة المختلفة، فنحن كثيراً ما نفعل أعمالاً لا نريد أن نفعلها، فبعضنا يرفعون عقيرتهم بالشكوى لأقل شأن، وبعضنا يتركون العمل الذي يشتغلون فيه بغير مبرر! فإذا فرضنا أنك أجبرت بحكم عملك على أن تكون مع شخص لا توده. فالرجل الناضج في هذه الحالة يحتفظ بشعوره نحو هذا الإنسان ويعامله بشيء من الحذر. أما شعور السرور الذي يتولانا في مجلس من المجالس، أو عند(319/76)
مشاهدة تمثيل إحدى الروايات، فقد يثير في نفوسنا شيئاً من الضحك أو الهياج، وقد لا نستطيع أن نتكتم هذا الشعور، إلا أنه من الواجب أن لا نشوش به على الآخرين كما يفعل الصبيان، فسواء كنا في حالة من السرور أو حالة من الألم فالواجب علينا أن نتعلم ضبط النفس وكبت الشعور وإلا كنا غير ناضجين.
تجنيد الكلاب في الحروب
تدرب الكلاب في جميع أنحاء العالم للخدمة في الحروب. ففي روسيا أنشئت مدرسة في موسكو للكلاب، وفي اليابان أعدت أماكن فسيحة لتدريبها منذ 1933، وقد أعدت ميادين خاصة في بولندا وإيطاليا لتدريب الكلاب على الأعمال الحربية على اختلافها، وفي أستنيا تلازم الكلاب طلائع الجيش، أما في فرنسا فهي تدرب مع الجنود في كثير من الميادين.
وتستخدم الكلاب في حمل الرسائل إلى الفرق الطبية، وفي توصيلها إلى الحرس، حيث تجتاز الأماكن الوعرة، وتعبر الأنهار الواسعة لتوصيل رسائلها. وهي تدرك الممرضين في الميدان بما يحتاجون لتضميد الجراح، وهي تستطيع أن تحمل المؤن على ظهورها وتسير بها إلى مسافات بعيدة.
وقد كانت الكلاب تستعمل في الهجوم والدفاع منذ أقدم العصور. ويقول هيرودتس إن (سيرس) كانت لديه كلاب يستخدمها في الحروب. وفي كتاب بلوتارك أن الكلاب أبحث كتيبة (كورنيثيه) من الهلاك.
وكان فيليب المقدوني يستخدم الكلاب في حروب أرجول واستخدمها الرومان لحراسة الجيوش، وكان (السلت) يدربون الكلاب على مهاجمة الخيل، فتأخذها بخياشيمها وتسقطها في ميادين الحروب.
أما في القرون الوسطى فقد كثر استخدام الكلاب لهذه الأغراض، وقد كانت الفرق الأسكوتلندية تصطحبها على الدوام وكانت مدينة سان مالو تستخدم الكلاب في حراسة أسوارها إلى سنة 1770، وقد اتخذ نابليون الكلاب سنة 1799 لحراسة الجنود في مدينة الإسكندرية. واستخدم الألمان الكلاب لحماية الكتائب وحراسة الأقاليم والمعسكرات في سنة 1870.
وفي سنة 1895 قام كلبان بإمداد كتيبتين بالذخائر أثناء الحرب على أكمل وجه.(319/77)
وفي سنة 1904 كان الجيش الألماني يستخدم 600 كلب من الكلاب المدربة على الحروب وآلافا من الكلاب الأخرى
أما فرنسا فقد بدأت تجنيد الكلاب في سنة 1916، وقد اجتمع في باريس 9000 كلب نظمت فرقا وأرسلت إلى الميادين للتدريب. وقد قامت تلك الكلاب بخدمات عظيمة مما كان ذكره موضع إعجاب المتحدثين.
آلة لقراءة الأفكار
اكتشاف عظيم سيحدث ضجة عظيمة في العالم! ذلك هو اختراع آلة لالتقاط الأفكار والخواطر التي تجول بذهن الإنسان! وليست هذه الآلة كالآلات المصورة التي يعرفها كل إنسان، ولا حلماً من أحلام رجال العلم. إنها مصورة تشتغل في كل مكان وليس إلا أن يرقد الإنسان على منضدة والآلة تسجل خواطره دون أي ألم أو ارتباك!
وللحصول على هذه المعجزة يكفي أن يكون عندك سلك موصل بآلة كهربائية وفلم نظيف وتحرك آلة تسجيل الخواطر. أنك لا تستطيع عند ذلك أن تخفي أسرار نفسك بحال من الأحوال.
قد تكون هناك بعض صعوبات في تسجيل خواطر بعض الناس ممن يفكرون في شئون مختلفة في وقت واحد، ولكن تلك الآلة تستطيع أن تركز ذهن الإنسان وتستخلص ما تشاء من أفكاره.
غير أنك عند تسجيل بعض الأفكار الهامة والمعلومات العلمية العظيمة، قد تصادفك خطوط مختلفة لعاطفة من العواطف الخاصة مما يستثير الضحك في بعض الأحيان.
ولا يستعصي على هذه الآلة إخضاع بعض العصبيين ومرضى الصرع والشواذ مما ينتظر أن يأتي بأجل الفوائد، ولا شك أن هذا الاختراع سيفتح أمام العلم باباً لا حد له من التفكير.
أي دنيا عجيبة سيلقى بنا فيها هذا الأكتشاف؟ وكيف نكون؟ وكيف تصبح حياتنا إذا كانت حتى خواطرنا لم تعد ملكاً لنا في هذه الحياة؟!
لقد مات جيتي وهو يقول: نور. . . نور! أين كانت هذه الآلة لترينا أي نوع من النور كان يريده الشاعر العظيم؟ أهو نور العبقرية ونور الروح، أم نور الشموع؟!(319/78)
البريد الأدبي
حول جناية الأدب الجاهلي حديث لأديب مصري مصطاف في
لبنان
نشرت زميلتنا المكشوف البيروتية في عددها الأخير هذه الكلمة وهذا الحديث بإمضاء (جوابة) فرأينا من فائدة الأدب في ذاته أن ننقلهما عنها لا مقرين ولا منكرين، فإن رأي الرسالة في الموضوع قد صرحت به في العدد 316 فلا تسأل إلا عنه. قال الكاتب الفاضل:
أطالع منذ أسبوعين في مجلة (الرسالة) المصرية سلسلة من المقالات للدكتور زكي مبارك ينقد فيها آراء للأستاذ أحمد أمين أبداها في الأدب الجاهلي وجنايته على الأدب العربي ونشرها في مجلة الثقافة. وقد أختار الدكتور مبارك عنواناً لمقالاته (جناية أحمد أمين على الأدب العربي). ولاشك أن التهمتين مبالغ فيهما؛ فلا الأدب الجاهلي جنى على الأدب العربي بقدر ما يتصور الأستاذ أحمد أمين، ولا الأستاذ أحمد أمين جنى على الأدب العربي بقدر ما يتخيل الدكتور زكي مبارك. فما هو السبب يا ترى في إثارة هذا النوع من النقاش، بل هذه المعركة الحامية الوطيس بين الرسالة والثقافة؟
مما لاشك فيه أن هذه الأبحاث طريفة في حد ذاتها على ما يرافقها من مبالغات وعنف في العرض والرد واللهجة. ومما لاشك فيه أيضاً أنها تحث قرائح الباحثين، فيتناولون هذا الموضوع ويعالجونه في جو بعيد عن غبار المعركة. ولابد أن يجني الأدب فائدة تذكر من درس الأدب العربي على ضوء (المعدة والروح) على أن يقارن بينه وبين آداب الأمم في عصورها المتشابهة أو المتقاربة، وعلى أن تسلم النيات وتطيب الإرادات.
وقد اتفق لي منذ يومين أن التقيت في أحد المصايف أديباً مصرياً قدم إلى لبنان ترويحاً للنفس، فجرى بيني وبينه حديث عن المعركة التي أثارها الدكتور زكي مبارك وعن أسبابها الظاهرة والخفية، فصارحني محدثي برأيه. ولما طلبت إليه الأذن لي بنقل هذا الرأي إلى قراء (المكشوف) أوصاني بإهمال ذكر اسمه، معتذراً بأنه يفضل أن يتفرج على أن يدخل شخصاً ثالثاً في نقاش قد يضطره إلى الدرس والمراجعة، وهو ما جاء لبنان إلا للراحة والسكينة. . .(319/79)
ونزولاً على مشيئة محدثي أكتم اسمه وأكتفي بنقل خلاصة أمينة لما قال:
- لا جدال أن النقد في مصر قد خفت صوته، ولذلك أسباب لا مجال للخوض فيها الآن. . . ومن الخير للأدب أن يعود النقد إلى سابق عهده فتروج الكتب والمجلات. وقد يسعف الحظ بعض الأدباء الناشئين فتلمع أسماؤهم في سماء الأدب وتقوم شهرتهم على جثث ضحاياهم، وهذه سنة الحياة. . . أما الدكتور زكي مبارك فلم أعرف أديباً أشد اندفاعاً منه في ميدان النقد، فكأنه مفطور عليه يموت إن لم يتغذ به. إنه حركة دائمة؛ وإن هو لم يجد من ينقد مال على نفسه ينقدها. ولست أشك في إخلاصه لفنه، إلا إنني أعيب عليه ميلاً قد يكون مكتسباً، إلى حمل خصومه على مناقشته في مواضيع دقيقة وحساسة في شرقنا العربي. أضرب مثلاً على ذلك اتهامه الأستاذ أحمد أمين بشيء من الفتور في دينه، وإلصاقه به تحيزاً ضد الشام والعراق وغيرهما من الأقطار العربية.
على أن أسباب المعركة القائمة الآن بينه وبين أحمد أمين، أو بين (الرسالة) و (الثقافة) ليست ناتجة - فيما أظن - عن الأخطاء التي ارتكبها أحمد أمين في بحثه عن جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي، بل يرجح عندي أن هذه الأخطاء كانت فرصة اغتنمها الدكتور لشن الغارة على أحمد أمين. أما الأسباب الحقيقية فترجع إلى المناوشات التي قامت في وقت ما بين الزيات وأحمد أمين من أجل الكتب التي قررت وزارة المعارف وضعها بين أيدي التلاميذ، ولم يكن بينها كتب الزيات. فاحتج صاحب (الرسالة) على هذا الاحتكار، واتهم أحمد أمين بكونه لولبه. وكان أحمد أمين صريحاً، فاعترف بأنه لم يوافق على إدخال مؤلفات الزيات في قائمة الكتب المقررة لأن فيها ما يؤذي الأخلاق. . .
واستمر هذا الخصام بين الزيات وأحمد أمين تارة مستتراً، وتارة ظاهراً، حتى ظهرت (الثقافة) وكان هدفها الأول محاربة (الرسالة). وفي الواقع من هم قراء الأدب في مصر؟ هم طلبة الجامعة في أكثريتهم، فلماذا لا تستغلهم لجنة التأليف والترجمة والنشر بمجلة توجه أبحاثها إليهم بعد أن استغلتهم بالكتب؟ وأكثر أعضاء هذه اللجنة من أساتذة الجامعة، فصدرت (الثقافة) يؤيدها خصوم الزيات من طه حسين، إلى محمد عبد الله عنان، إلى أحمد أمين، إلى غيرهم ممن أغضبهم الزيات لسبب من الأسباب في وقت من الأوقات. وهذه نوازع بشرية لا غرابة فيها، وإنما الغرابة أن يستطيع أحمد أمين الانتقام من الزيات ولا(319/80)
يفعل!
وقراء الأدب في مصر محدودون، فكان بديهياً أن يتحول قسم كبير منهم من (الرسالة) إلى (الثقافة) وأن تحس الرسالة أنها لم تبق وحدها في الميدان. فاشتد النزاع واشتد. . . ورأينا الزيات يدخل على مجلته تحسينات وأبواباً جديدة، ثم لا يلبث أن يحاول اجتذاب طلبة الأزهر إليه فيجعل منهم حزباً يعضده على حزب الجامعة. ولا أدري أنجح في محاولته هذه أم أخفق. وكل ما أعرفه أن الثقافة راجت سوقها على ضعف مادتها، وعلى افتقارها إلى الروح الصحفية الحديثة.
فـ (المعدة) إذن كانت منشأ المعركة القائمة الآن بين أحمد أمين والدكتور زكي مبارك، أو بين الرسالة والثقافة. فإذا كان الأدب العربي أدب معدة في عصوره القديمة لا أدب روح، فمعلوم أن حياة الأديب القديم لم تكن هينة الموارد، فما بال الأستاذ أحمد أمين يتمسك في أدبه بما يعيبه على الآخرين؟. . .
انتهى كلام محدثي، وقد نقلته إلى قراء (المكشوف) بكل أمانة.
(جوابة)
بعثة عراقية إلى الأزهر
كان نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية قد كتب إلى رفعة علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي في صدد قبول الحكومة المصرية عدداً من طلبة العراق في الأزهر للتخصص في الوعظ والإرشاد، فتلقى نوري باشا من رفعته الرد التالي:
(تلوت بموفور السرور والارتياح خطابكم الكريم الذي ضمنتموه عزيز أمنيتكم أن تقبل الحكومة المصرية عدداً من طلبة القطر العراقي الشقيق للتخصص في مسائل الوعظ والإرشاد، وقد بادرت بعرض الأمر على جلالة مولانا الملك المعظم، ثم اتصلت بفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في هذا الشأن، وقد اتفق على قبول عدد من الطلبة بقدر ما يستطاع توفيره له من أماكن، ستبلغ نحو العشرة.
ولا أراني في حاجة إلى أن أؤكد لدولتكم أن من أحب الأشياء إلي العمل ما أمكن على ازدياد روابط البلدين إحكاماً وقوة، وإننا جميعاً يسرنا أن نبذل أقصى الجهد في تحقيق هذه(319/81)
الغاية الشريفة.
(علي ماهر)
الحمد لله على نعمة الإسلام
امتاز الإسلام من بين سائر الديانات بمزية جميلة جداً، هي رفع الوساطة بين الله والناس، فلكل مسلم الحق في أن ينظر إلى الله والوجود كيف شاء في حدود المنطق والعقل، ومن حقه أن يخاطب الله بلا وسيط من الأشياخ أو الأحبار أو الرهبان.
أقول هذا وقد قرأت في (الرسالة) كلمة يقول كاتبها إن من حقي أن أتتكلم في الأدب لأني دكتور في الآداب، وليس من حقي أن أتكلم في الدين لأني لست دكتوراً في الدين.
وهذا الكلام يدل على أن قائله بعيد عن فهم الغرض من الرسالة الإسلامية. فالرسول عليه الصلاة والسلام بُعث لرفع الكلفة بين الناس وبين خالقهم، بعد أن كانوا يتوهمون أن بينهم وبينه حجاباً لا يرفعه غير الأحبار والرهبان.
ولو أني انتظرت الإذن من رجال الدين لكان من المحتوم أن تضيع الجهود التي بذلتها في الدراسات الإسلامية، وهي جهود سألقى بها الله وأنا مرفوع الرأس، لأنه عز شأنه لا يضيع أجر المحسنين.
والذين استكثروا أن أتكلم في الدين فاتهم أني صححت أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي حين بينت بالأدلة والبراهين أن كتاب (الأم) لم يؤلفه الشافعي، وإنما ألفه البويطي المصري، وتصرف فيه الربيع بن سليمان.
وهم كذلك ينسون أني صاحب كتاب (التصوف الإسلامي) وهو كتاب سأدخل به الجنة وسأدخل معي على حسابه ألوفاً من الأدباء المحرومين، كما أوحى الله إلى الزيات أن يقول، وهو رجل صادق الإيمان، ورجاؤه في الله مقبول.
والحق أني أعجب من الذين يصرون على التشكيك في عقيدتي. فلو كانت قلوب هؤلاء عرفت معاني النور لعرفوا أن في مؤلفاتي نفحات هي أنفاس حرار من وهج الإيمان الصحيح.
وما يهمني أن أزكي نفسي، فالله يعلم ما بينه وبيني، وإنما يهمني أن يقلع بعض الناس عن(319/82)
اغتيابي في السر أو مهاجمتي في العلانية في أمور متصلة بالدين، فإني أخشى أن يغضب الله عليهم فلا يبوءوا بغير الخسران.
وإني لخليق بأن أرجو لهم المغفرة متمثلاً بالقول المنسوب إلى الرسول:
(اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون)
وإلى الله أرفع الرجاء في أن يصيرني من المعفو عنهم، وأن يجعلني بفضله من عباده الصالحين، وأن يمنحني من العافية ما أملك به الصبر على خدمة الأدب والدين.
زكي مبارك
سعد وسعاد
قرأت ما كتبه الصديق العلامة الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وأبادر فأقول: إن مروان ليس بدلاً من الخليفة بل من (وإلى تلك الجهة) وبذا يرتفع الأشكال، وأحسب أن طول العبارة ألقى عليها ظلاً من اللبس.
ولا أكتم شيخنا الجليل أنني سررت بوقوعه في هذا الاشتباه فقد أغضب (سعاد) حين قسا على قومها في مقاله (بنو عذرة) وتابع الخليفة عمر بن عبد العزيز في نظرته إليهم، فكان من حقها أن تثأر منه لهم! فهل يؤمن بعد هذا بان للجمال (كرامات)؟
أما القصة فقد وردت مختصرة في بعض الكتب أذكر منها نهاية الأرب للنويري. وقد تكون صحيحة أو موضوعة لا أستطيع الجزم بشيء منهما، فوجدت فيها مجالاً واسعاً للتحدث عن البدو في حبهم وعفتهم وزواجهم وعاداتهم، فهي تخالف ما سبق من المقالات بان حظها عظيم من الخيال، ولكنه خيال يسامي الحقيقة في الصدق لأنه يتكئ عليها وينبثق منها. بل لقد توسعت في بعض المواقف فانطلقت سعداً بشعر لم يقله، لأن المقام يحتم ذلك وأدب القصة يبيح هذا التوسع.
وإني لأنتهز هذه الفرصة فأهدي إلى فضيلة الشيخ الصديق أزكى التحيات المباركات.
ملحوظة: ورد في المقال الثاني شطر بيت هكذا: أو صاحب التاج أو مروان عأهله، وصحته عامله.
علي الجندي(319/83)
سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان
قرأت المقال الثاني لصديقي الأستاذ علي الجندي فرأيته يجعل ذلك الوالي الذي أغتصب سعاد من ابن عمها سعد، مروان بن الحكم، فزاد هذا تلك القصة اضطراباً. وقد رأيت بعد هذا أن أراجعها في مظانها، ولم يحملني على هذا إلا استبعادي أن يقع مثل ذلك من مروان في مكانته وزعامته لبني أمية، وأن يظهر في تلك القصة بمظهر الوالي الذليل لمعاوية، وهو الذي كان يساميه في نسبه وزعامته لتلك الأسرة الحاكمة من قريش، وقد كان معاوية يلانيه ويداريه، ولا يعامله بتلك الخشونة التي عامله بها في تلك القصة، حتى إنه لما عهد لابنه يزيد كتب إلى مروان يأمره بأخذ بيعة قريش وأهل المدينة ليزيد، فأبى ذلك وأبته معه قريش، ثم ذهب إلى معاوية مغاضباً في نفر من أهل بيته، وأنكر عليه خروجه على ما سار عليه الخلفاء قبله من جعل ذلك الأمر شورى بين المسلمين، وتأميره الصبيان عليهم، فأهم معاوية أمره، واشترى رضاه بالمال، ففرض له ألف دينار في كل هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة
ولم تخطئ والحمد لله فراستي في ذلك، فقد راجعت تلك القصة في كتاب تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق للشيخ الفيلسوف داود الأنطاكي الطبيب المعروف، فوجدته يذكر أن ابن عمها لما أملقت يده رفع أبوها أمره إلى ابن أم الحكم، فضيق عليه السجن والقيود حتى طلقها كارهاً، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوج بها. ولاشك أن ابن أم الحكم غير مروان ابن الحكم، لأن ابن أم الحكم هو عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي وقد اشتهر بنسبته إلى أمه أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب الأموي، وكان خاله معاوية يوليه أعماله فيسئ السيرة فيها، وهو الذي يليق بأن ينسب ما حصل في تلك القصة.
على أني أرى أن تلك القصة من القصص الموضوعة الضعيفة في سبكها وشعرها، فقد جاء فيما نسب إلى معاوية من الشعر فيها هذا البيت:
قد كنت تشبه صوفيَّا له كتبٌ ... من الفرائض أو آيات قرآن
ومثل هذا لا يمكن أن يقال في عصر معاوية، لأن نظام التصوف لم يكن قد حدث في ذلك العصر، ولم يكن فيه كتب في التصوف يحملها المتصوفة أو غيرهم. وكل أشعار تلك(319/84)
القصة على ذلك الشكل من الضعف الذي لا يتفق مع شعر عصر بني أمية في سائر فنونه، وإنما هي أشعار موضوعة في العصر الذي ألف فيه كتاب تزيين الأسواق، وهو العصر الذي وصلت فيه العربية إلى حالة الضعف في أدبها وأشعارها.
عبد المتعال الصعيدي
الدين والسياسة
جاء في مقال الأستاذ الجليل ساطع الحصري بك في العدد (317) من الرسالة: (من أن السياسة شيء والدين شيء آخر) وإطلاق هذا القول في بلد دين دولته الإسلام، ودين شعبه الإسلام، لا ينصرف معنى الدين فيه إلا إلى إسلام.
ونحن نعلم أن الأستاذ ساطع بك من أكابر علماء التربية وأساطينها، وإنه أن قال فيها فقوله القول، ولكنا لا نعرفه عالماً بالدين الإسلامي، ولو اطلع على الإسلام لما أخذ رأي الأوربيين في وجوب فصل الدين (المسيحي) عن السياسة ولما أطلقه على الدين الإسلامي إذ أن معنى الدين عند القائلين بهذا المبدأ ما يحدد علاقة الإنسان بربه أو ما يسمى في فقهنا بالعبادات، وهذا الذي يريدون أبعاده عن السياسة، كما أنهم يريدون الخلاص من سلطة الكنيسة وسيطرة رجال الدين. وهذان الأمران لا يردان على دعاة السياسة الإسلامية لأنهم يسلمون بان الإسلام عبادات ومعاملات وتشريع. أما العبادات فبين المرء وربه لا تدخل في السياسة ولا تؤثر فيها، أما المعاملات والتشريع فلا يمكن فصلهما عن السياسة أصلاً، وفي القرآن نفسه آيات في السياسة الداخلية والخارجية وفيه سورة براءة، أفنفصل هذه الآيات كلها عن القرآن؟ أما سلطة رجال الدين فلا يعرفها الإسلام وليس فيه طبقات تتميز من طبقات، أو أناس هم وكلاء عن الله.
وأحسب أن الأستاذ الحصري لو اطلع على كتاب (السياسة الشرعية) مثلا للأستاذ الشيخ عبد الوهاب خلاف أو (الشرع الدولي في الإسلام) للدكتور الأرمنازي أو كتب العلماء المتقدمين من أمثال ابن تيمية وابن القيم قبل أن يكتب ما كتب، لكان له في الموضوع موقف آخر.
(دمشق)(319/85)
ناجي الطنطاوي
كشف أثري في شمال الترنسفال
تلقت جريدة (السنداي تيمس) من مراسلها بيتروسبورج كتاباً قال فيه: إنه كشف في شمال الترنسفال أخيراً صورة ملونة يعتقد أنها من صور قدماء المصريين، فأثار هذا الكشف عناية العلماء هناك وكان موضع اهتمامهم.
فإذا صح ما زعمه مراسل الجريدة، وثبت أن الكشف مصري قديم، فمعنى ذلك أن كل ما دون عن أفريقيا الجنوبية في عصور ما قبل التاريخ ستعاد كتابته من جديد.
وقد عثر على هذه اللوحة في مغارة تقع فوق رابية من ربى مزرعة المستر (ج. جادا) التي تبعد اثني عشر ميلاً عن مدينة بوتجيتر ستراست.
وأرسل صاحب المزرعة كتاباً إلى الدكتور بروم، العالم الأثرى الشهير، يبلغه فيه نبأ الكشف الجديد، ويطلب إليه زيارة المزرعة ليرى تلك اللوحة التي أثارت في الأيام الأخيرة اهتماماً غير قليل، إذ المعروف حتى الآن أنه لم تكشف صور ملونة من أصل مصري قديم في بلاد تتعدى مواقعها جنوب منابع النيل.
ولاشك أن زيارة الدكتور بروم ستجلو الغموض الذي يلابس هذا الكشف الجديد، وخاصة أن المصريين القدماء كانوا يتخذون في رسومهم قاعدة خاصة لا يخطئ معها الإنسان في أن يعرف إذا ما كانت هذه المخلفات من آثارهم أم لا.
لقد أثبتت الآثار المصرية التي أمكن العثور عليها في مختلف السواحل الأفريقية أن قدماء المصريين تمكنوا بواسطة طرقهم الملاحية، من أن يصلوا إلى تلك الجهات، ولكن الكشف عن مثل هذا الأثر الجديد في بقاع داخلية متوغلة يعد ظاهرة جديدة يحتمل معها كثيراً أن يكون قدماء المصريين قد توصلوا في عصور ما قبل التاريخ إلى تأسيس مستعمرات لهم في أفريقيا الجنوبية. . .
إهداء أوراق خطية قبطية إلى مكتبة جامعة كمبردج
أعلن عميد جامعة كمبردج أن السر هربرت تومبسون الأستاذ السابق بكلية ترنيتي أهدى إلى مكتبة الجامعة عدداً من الأوراق الخطية القبطية القديمة، يتراوح بين ثمانين وتسعين(319/86)
ورقة.
وترجع أهمية هذه الأوراق إلى أنها تمثل أشكالاً مختلفة للحركة الأدبية في العهود التي جاءت بين القرن الخامس إلى القرن الثامن، وقد وجدت هذه الأوراق في الدير الأبيض المشهور في جوار أخميم.
حول الفن المنحط - كلمة أخيرة
أساء الأستاذ أنور كامل فهم الروح التي أملت علي كلمتي المنشورة في العدد 316 من الرسالة تحت عنوان (فن منحط برغم ذلك) والتي أثارت الأستاذ والجماعة التي فوضت إليه أمر الكلام عنها - ومن حقي أن أعتقد أن الأستاذ على استعداد لمناقشة الآراء التي يستهدي بهديها بعد أن قال عن جماعته: (وأغراضها تنحصر في الدفاع عن حرية الفن والثقافة وفي نشر المؤلفات الحديثة وإلقاء المحاضرات. .) (الرسالة عدد 315 ص 1426) وقد أتحت له بكلمتي هذه فرصة طيبة للإعلان عن جهود جماعته في مجلة عالية كالرسالة؛ ولكن الأستاذ تخاذل ونشر في العدد 317 من الرسالة كلمة تختلف في روحها اختلافاً كبيراً عما نشره في العدد 315، وترك الفرصة تفلت من يده لا لشيء إلا لأنه لا يمكنه الدفاع عن الفن الذي يروج له، لا عن طريق الفكر المنطقي المقنع ولا عن طريق البيان الذي يلهمه الإيمان الحار الذي يتدفق من القلب ويتصل بالقلوب مباشرة فتقنع به. ومن الراجح (كما هو ظاهر لكل قارئ) أن الرسالة لم تنشر الرد الذي بعث به إليها الأستاذ كاملاً بل حذفت منه ما لا يتفق مع أدبها العالي ومستواها الرفيع. وأنا لا يهمني أن يسبني الأستاذ الفاضل ولن أتأثر لما ينال شخصي من الأحوال، وإني أؤكد للأستاذ ولأسرة الرسالة أني كتبت ما كتبت مؤمناً بأن الفن الحديث متاهة يضل فيها الكثيرون وأن المناقشة فيه ودرسه خير طريق لتمحيصه ومعرفة حقه من باطله فقد يدلني الأستاذ كامل على ما أجهل وقد أدله على ما يجهل.
وأعيد هنا أني رأيت طرفاً مما رسمه بعض أعضاء الجماعة. وإني لأكرر بكل قواي أنه فن منحط؛ فرسومهم تستند إلى مذهب السير ريالزم وهذه حركة فرنسية محضة باعثها الأول نظريات العالم سيجموند فرويد. وللدلالة على طبيعة اتجاه هذه الحركة نقتبس قول أحد أقطابها وهو الأديب اندريه بريتون(319/87)
(إن نزوات الأفكار في الأشخاص المعتوهين تتفق اتفاقاً مقرراً مع بعض افتراضاتي العزيزية. إن ظاهرة الكتابة الآلية قد تأتي بنتائج مدهشة. نحن لا نعترف بشيء مطلقاً. إننا نعتقد بقدرتنا على اختزال أو التغلب على العقل والاحساسات الجميلة. نحن نحس العطف على كل الأحزاب الثورية. نحن لا نؤمن بالتقدم الإنساني. إننا نريد أن ندعم كل حركة معارضة بعنف مجازفين بأعمارنا. الزمن لا وجود له، إني أفضل أن أحطم على أن أشيد. نحن نصر على مراجعة القيم الفنية مراجعة كاملة. نحن لا نؤمن بالنبوغ الأدبي؛ والصفة الأدبية ليس لها إلا قيمة ثانوية. إننا ننقم على الحقيقة الحاضرة).
وأظن أن الحركات الفنية لا تنقل بمثل هذه السهولة من قطر إلى آخر. . . دعك عن حديث الشخصية والإلهام. . .
أما الشطر الاجتماعي من جهود الجماعة فإني أتمنى له الازدهار والأثمار المبكر وأقدم اعتذاري للأستاذ الذي ثار وهاج لأني وضعت فيه ثقتي ودعوته دعوة بريئة للحديث عن الفن.
وكان كاتب هذه المقالات قد وعد قراء (الرسالة) بسلسلة مقالات عن الفن. وقد قاربنا الانتهاء من إعداد هذه المقالات وسننشرها في الرسالة قريباً تحت عنوان (الفن كما أؤمن به) وبذلك نؤدي ما نعتقد أنه واجبنا المحتوم.
نصري عطا الله سوس(319/88)
الكتب
فرعون الصغير
وقصص أخرى
تأليف الأستاذ محمود تيمور
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
يعتبر القاص محمود بك تيمور أشهر الكاتبين للأقصوصة في العالم العربي. وقد أصدر إلى اليوم نحو عشر مجاميع قصصية تحتوي على نيف ومائة أقصوصة تمتاز كل واحدة منها بطابعها المحلي، وقد ترجم بعض هذه الأقاصيص إلى الألمانية، والبعض الآخر إلى الفرنسية. كما ترجمت أقصوصة له إلى الإيطالية كنموذج من فنه القصصي. وقد نالت أقاصيص محمود تيمور شيئاً من التقدير في الدوائر الأدبية الغربية، ذلك أنه صاحب اقتدار على كتابة الأقصوصة، وهذا الاقتدار يجيء في الأصل من طبيعته الفنية التي دارت حول الحياة ومشاهدها ومجاليها، متأثرة من جهة بأجواء القصص الأوربي، ومن هنا ما في أقاصيصه من شدة الصلة بأقاصيص جي دي موباسان، وتشيكوف، وذاهبة من جهة أخرى تنقل عن المحيط المصري، ومن هنا ما في أقاصيصه من الطابع المحلي.
وتيمور بك فنان يرتبط نظره بصور الأشياء، ومن هنا ترى ما في أقاصيصه من الرجوع إلى الحياة، والنقل المباشر عن مرائيها ومظاهرها. ولهذا كان إبراز مظاهر الحياة في أقاصيصه مرتبطاً بقدرته على الوصف، والوصف عنده هادئ، ومن هنا يغلبه بعض من التدقيق، وعلى هذا الوجه فقط يمكن فهم منحى تيمور بك الفني في أقاصيصه. وربما كان ما في طبيعته من الهدوء هو الأصل في غلبة النزعة الواقعية الساذجة التي تتراءى للنظر من آثاره. فالهدوء يفسح لعقله المجال للتداخل لتصفية ألوان الشعور وضبطها في نسب دقيقة مع الفكر، بحيث يسوق إلى خلق توازن بين العقل والمشاعر، وهذا التوازن يحمل الواقعية حين يتصل بموضوع أقصوصة. وهو عادة يدور من ناحية شكلية، فتجد نظرة محمود تيمور ترتبط بمظاهر الأشياء وسطوح الحياة، ومن هنا يمكن أن نقول بأن الأصل الواقعي في فن تيمور بك ساذج إذ هو نتيجة للوصف الحسي.(319/89)
وخير ما يقال في أقاصيص تيمور بك أنها قطع من الحياة منتزعة في كل بساطة وصدق. فهي صفحة ساذجة من الحياة؛ إن لم تر موضوعاً فيها تدور حوله الأقصوصة، أو غرضاً ترمي إليه، فإنك تستشف من وراء أقاصيص الرجل صفحات من الحياة يعرضها عليك في دقة مشهورة بأسلوب الوصاف لا بريشة الرسام أو المصور.
وتعتبر (المجموعة) التي أصدرها في هذه الأيام من خير مجموعاته القصصية، وهي مصدرة ببحث عن المصادر التي ألهمته الكتابة. وهذا البحث في الأصل محاضرة ألقيت بقاعة يورت بالجامعة الأمريكية مساء 5 مارس سنة 1938. وقد وفق فيها تيمور بك إلى حد كبير في سبر غور الموضوع الذي يطرقه، كما نجح نجاحاً يذكر في الكشف عن العوامل التي اكتنفته فوجهته توجيهاً أدبياً صرفاً، وعملت على طبعه بطابع خاص. ومن رأي تيمور بك أن العوامل التي تحدد كل جانب وتكونه هي ثلاثة أمور أساسية: وراثة وبيئة وحوادث، تتدخل فتجري مجرى الحياة الباطنية من طريق إلى آخر. ويرى هو أن عامل الوراثة يتمثل معه فيما أورثه إياه والده من حب الكتابة، وشقيقه المرحوم محمد تيمور من حب الأدب القصصي. وهذا العامل قد ساقه بتداخله مع بيئته إلى الأدب، كما أنه يرى أهم العوامل التي أثرت فيه متصلة بأسباب مطالعته. وأهم الكتب التي تركت آثراً في ذهنه: هي ألف ليلة وليلة، وأقاصيص موباسان، وتشيكوف. على أننا نلاحظ على هذا الفصل أن الكاتب وقف في بسطه للموضوع وسبر أغوار نفسيته عند الجمل. فلم ينزل به إلى التفاصيل التي تعين على رسم صورة حقيقية دقيقة عنه.
وفي هذا الفصل مطالعات تستوقف النظر: أهمها رأي الكاتب في (ألف ليلة وليلة)، وتفسيره لقوة الخيال فيها بأنها ترجع إلى كونها - جاءت عن طريق الفرس - وهذه ملاحظة قيمة لها دلالتها القوية على بعد نظر الكاتب وعدم جريه وراء الأوهام التي يجري وراءها بعض الذين يكتبون في الأدب العربي من الكتاب المعاصرين.
أما المجموعة نفسها، فتحتوي على اثنتي عشرة أقصوصة، تستهل بأقصوصة (فرعون الصغير). وهي أقصوصة يبرز فيها اللون التخيلي من حيث يتغلب على بناء الأقصوصة الجو الخيالي. على أن هذه التخيلية عند الكاتب في هذه الأقصوصة تجعل فكرة الأقصوصة غير متسقة في أجزائها. ففي هذه الأقصوصة تجده يصور الشاب بطل الأقصوصة شاباً في(319/90)
سن السابعة عشرة - مدفوعاً إلى ذلك بفكرة أولية، هو أن يخلق صلة شبه بين الشاب والفرعون الصغير توت عنخ أمون الذي مات في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة من عمره - وهذا التصوير الأنيق في بناء القصة مع الدور الذي يقوم به الشاب من أنه تخلف عن داره وبات خارجها مع الأمريكية الحسناء.
وفي الأقصوصة الثانية وهي (غريم) تجد تيمور بك يقيم هيكل أقصوصة على أساس من تنازع العواطف، وهذا ما تراه واضحاً في شخصية رشدية يسري. وهذا اللون الباطني وإن كان خفيفاً في هذه الاقصوصة، فهو يعود إلى علم النفس الحديث، والتأثر بالفريدوية واضح فيها. على أنه في وصفه لشخصية رشدية يسري تتنبه فيه ملكته الواقعية الساذجة؛ فتراه يعمد لتصوير شخصيتها في دقة وبساطة. وهي في تصويره لشخصيتها يبدو وبيده ريشة المصور من حيث يستخدم الألوان ويمزجها لخلق الأطياف والظلال. على أنه في تصويرها يبدو لي وكأنه نظر لقصة بنت يزيد لرفيق خالد بك القصصي التركي الكبير حين عرض لتصوير (زليخا) بطل قصته.
وفي الأقصوصة الثالثة وهي (حزن أب) تجد تيمور بك يبرز شخصية (الشيخ عساف) في صورة إنسان قد توزع فيه الإحساس بعد أن صدم بوفاة أبنه، وهو ينتهي من تصويره بأن يريك الأب قد انتحر. . . وبهذا تخلص من توزع مشاعره واحساساته. وجو الأقصوصة يوحي بلون باطني، ولكن لا يكاد يستشف منها، وإن أمكن إدراك لونها، بأن تترك القصة توحي إليك بجوها ألوانها الباطنية. وهكذا يمكنك أن ترى من مجرى حوادث الأقاصيص أن التخيلية من جهة والباطنية من جهة أخرى أخذت تطغي على الواقعية الساذجة، ولكن بدون أن تغرقها. وهذا التطور عند تيمور بك طبيعي لأنه رجل فنان وفنه يستولي عليه، ويختار التعبير الذي يتسق مع الجو الذي يضطرب في طوايا نفسه.
والحق أن هذا التطور عند تيمور بك يعتبر تلطيفاً لجمود الواقعية. والأصل الواقعي ثابت من نفسه بعد ذلك، ولا أدل على ذلك من ظهوره بصورة خيوط تتعارض في نسيج أقاصيص الرجل. . .
هذه مجموعة أقاصيص (فرعون الصغير) وهي مجموعة طيبة من الأقاصيص تدل على تطور الفن القصصي عند تيمور بك ولكن مع استناده إلى الأصل الثابت من نفسه، وهي(319/91)
من هنا خليقة بالعناية والتدقيق والاعتبار من أدباء العربية.
إسماعيل احمد ادهم
وقع خطا في ردي الأخير على الدكتور بشر فارس وهو ورود كلمة الإنجليزية وكأنها تنظر إلى كلمة الفرنسية والصحيح أن الكلمة الفرنسية تنظر إليها في الإنجليزية كلمة أو وقد استعمل الوجه في ترجمته لكتاب دوركايم. كذلك جاء في المقال ص1524 س1 كلمة الغمزات مكان الفراسة كما جاءت في أكثر من موضع كلمة التقدير مكان التقرير. كما ورد ص 1526س10 كلمة التقدير زائدة. ولهذا لزم التنويه.
1
1(319/92)
العدد 320 - بتاريخ: 21 - 08 - 1939(/)
الحلف العربي
وقضيتا فلسطين وسورية
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ بضعة أسابيع نشرت لي مجلة (المكشوف) البيروتية في عددها الممتاز كلمة عن الوحدة العربية بينت فيها ما يتيسر من ذلك في الوقت الحاضر، وهو أن يكوّن الأمم العربية - أو التي لغتها العربية - فيما بينها حلفاً قوياً وطيد الدعائم يوحد نظم التعليم العام، ويزيل الحواجز الجمركية، ويلغي الجوازات، وينظم التبادل التجاري، ويوثق الروابط الاقتصادية، ويوحد النظام العسكري، ويعين على إنصاف الأمم العربية التي لم تفز إلى الآن بحقها في الحياة الحرة مثل: تونس والجزائر ومراكش، ويجعل من هذه البلاد كلها كتلة واحدة وصفاً متراصاً متعاوناً للدفاع عن وجودها وصون مصالحها والذياد عن كيانها. وقلت: إن هذا مطلب ليس فيه شطط، فإنا نرى فرنسا وبريطانيا تسعيان لمحالفة الروسيا الشيوعية على الرغم مما بين الدول الثلاث من تفاوت في الأصول واللغة والنظم الاجتماعية والسياسية والأغراض والمصالح والمواقع الجغرافية
وقد نقلت جريدة البلاد البغدادية هذا المقال، وعقبت عليه بقولها: إن الحلف الذي أدعو إليه قد فكر فيه العراق (وأوجد مشروعه فعقد معاهدته مع المملكة العربية السعودية ودخلت فيه مملكة اليمن، وبابه مفتوح لدخول كل دولة عربية أخرى)
وأنا أعرف ذلك وما نسيته ولا أُنسيته يوم كتبت كلمتي إلي المكشوف. وقد كنت في بغداد لما كانت المفاوضة دائرة بين العراق والمملكة السعودية لعقد هذا الحلف، وقبيل الأوبة إلى مصر بشرنا السيد يوسف يسن مندوب الدولة السعودية، والمرحوم يسن باشا الهاشمي رئيس الوزارة العراقية يومئذ، بأن الاتفاق تم ولم يبق إلا التوقيع، فكان هذا أعظم ما سرنا وخير ما عدنا به من بغداد
ومازال الحلف قائماً ولا شك في فائدته للدول الداخلة فيه ولكني لا أعلم أن الفائدة تجاوزت هذا النطاق المحدود. وإذا كانت العراق واليمن والمملكة العربية السعودية قد تعاونت على السعي لإنصاف فلسطين فقد اشتركت معها في ذلك مصر وهي غير داخلة في الحلف، وقد كسبت هذه الدول الأربع لفلسطين العدول عن الوطن القومي وحصر الهجرة اليهودية إليها(320/1)
في نطاق الثلث، وهذا فوز له قيمته ولا ريب، ولكني أجترئ على القول بأن الفضل فيما كسبت فلسطين العربية، لأبنائها الأشداء الأبطال المغاوير قبل أن يكون لهذه الدول العربية، ولو لم يقم عرب فلسطين قومتهم الباهرة لما أجدى سعي البلاد العربية الأخرى منفردة أو مجتمعة. ومع ذلك أصبح هذا الكسب عرضة للضياع إذا اعتبرنا ما يحدث كل يوم من تهريب اليهود إلى فلسطين وإدخالهم فيها بكل وسيلة غير مشروعة لإحباط سياسة الكتاب الأبيض فيما يتعلق بتحديد الهجرة والعدول عن الوطن القومي، وهؤلاء اليهود يجيئون من بلاد لا تضطهدهم ولا تسومهم شيئاً من العذاب أو الظلم وإنما يُجمعون ويُرسلون إلى فلسطين ليقاوموا السياسة الجديدة كما صرح زعماء اليهود بذلك
وأنا أعلم أن الجنرال نوري السعيد باشا رئيس الوزارة العراقية هدد في لندن بسوء العاقبة إذا لم تعمل بريطانيا على إنصاف عرب فلسطين، وكان لوعيده هذا أثره يومئذ في المؤتمر
ولكن على الرغم من تعاون البلاد العربية في المؤتمر ودخولها فيه وخروجها منه كتلة واحدة، وعلى الرغم من تهديد نوري باشا لم يفز العرب بأكثر من خمسين في المائة من مطالبهم العادلة وحتى هذا القدر يمحوه التهريب اليهودي الآن
ودع فلسطين وانتقل إلى سوريا وانظر ما حل بها
هذه فرنسا عقدت معها معاهدة صداقة وتحالف على مثال المعاهدة العراقية البريطانية، وما نظن أن أحداً سيدعي أن فرنسا أُرغمت على ذلك أو أن سوريا أملتها عليها بحد السيف، ومع ذلك راحت تماطل في إبرامها ثم نقضت سياسة المعاهدة جملة وتفصيلاً وقضت على الحكم الدستوري وقطعت البلاد إرباً، وزادت فاقتطعت الإسكندرون وتفضلت فأهدتها إلى تركيا. وليس ما صنعته ألمانيا بتشيكوسلوفكا بشر مما صنعت فرنسا، فما كانت تشيكوسلوفاكيا أمانة في عنق ألمانيا وإنما كانت شوكة في جنبها وضعتها هناك سياسة فرنسا - وليس هذا دفاعاً عن ألمانيا وإنما هو الحق. وإذا كان المرء لا يجد ما يصلح أن يكون دفاعاً عن ألمانيا في هذا الباب على الرغم من الحقائق المعروفة فأي دفاع يمكن أن يكون هناك عن فعلة فرنسا في سوريا من إهدائها الإسكندرون إلى تركيا، وتقسيمها ما بقى من البلاد السورية إلى محافظات مستقلة إدارياً وقضائياً ومالياً وحكمها جميعاً حكماً مباشراً، وإهمال المعاهدة التي عقدت في سنة 1936؟(320/2)
والشعب السوري من أسبق الشعوب إلى اعتناق الفكرة العربية والدعوة إلى الوحدة ومن أرقاها وأخلقها بالحياة الحرة.
وإذا كانت سوريا لا تستحق الاستقلال فلا ندري من ذا يستحقه؟
وإذا كانت سوريا التي احتمل رجالها أثقل أعباء الثورة العربية في إبان الحرب الكبرى والتي كانت ولا تزال إلى هذه الساعة على الرغم من محنتها أقوى مؤيد للحركات الاستقلالية في كل بلد عربي - تقابل نكبتها بمثل هذا الفتور، ولا أحب أن أقول الجحود، فلا أدري أية أمة أخرى أولى بالمعاونة والنجدة؟
أنا أعرف كما قلت أن هناك حلفاً عربياً بين العراق والدولة العربية السعودية واليمن، ولكني أستأذن صديقي الأستاذ روفائيل بطي صاحب (البلاد) البغدادية في أن أقول إن هذا الحلف لا يمكن أن يؤتي الثمرة المرجوة منه ما بقيت فلسطين وسوريا ترسفان في الأغلال، فإن هذين البلدين هما قلب البلاد العربية
إن البلد العربي الوحيد الذي يسعه أن يدخل في الحلف العربي الآن هو مصر ولكن دخولها فيه لا يوجد معدوماً، ولا يضيف ناقصاً، ولا يزيد شيئاً على علاقات الود والتعاون بين مصر وبلاد الحلف (العراق والمملكة العربية السعودية واليمن) وإنما الذي يكسب الحلف وزناً جديداً وقيمة عملية من العسير أن تتيسر له الآن هو استقلال فلسطين وسوريا ودخولهما في الحلف وبذلك تصبح البلاد العربية (إلى آخر حدود مصر الغربية) كتلة واحدة حقيقية في وسعها أن تتعاون على مواجهة الطوارئ وملاقاة الأحداث ودفع الأخطار. وليس ذلك لأن سوريا وفلسطين أكثر عدداً أو أوفر مالاً أو أقدر أو أكفأ بل لأن بقاء هذه البلاد خاضعة لسلطان دول أجنبية يشطر البلاد العربية شطرين ويجعل التعاون العملي بين الشطرين متعذراً ويحول دون القيمة التي يسهل أن تستفاد من اتصال الحدود وزوال الفواصل والعوائق
وإلى أن يتم استقلال سوريا وفلسطين لا يجوز الاكتفاء بالقول أن الحلف العربي موجود وقائم وأن بابه مفتوح لمن يريد الدخول فيه فما يتغير شيء حقيقي بدخول مصر فيه قبل استقلال سوريا وفلسطين. وإلى هذا ينبغي أن يتجه السعي قبل كل شيء. وما أظن إلا أن إخواني في العراق يقرون هذا الرأي.(320/3)
إبراهيم عبد القادر المازني(320/4)
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبى خلدون ساطع الحصري بك
أما الفوائد التي تعزى إلى (تعليم اللاتينية واليونانية) من وجهة خدمات هذا التعليم لـ (تثقيف العقل وتقوية المحاكمة)
فمن الأمور التي تحتاج إلى إنعام النظر من وجوه عديدة:
فإن نظم المعارف السائدة في أوربا، كانت جعلت (الدراسة الثانوية الممزوجة بتعليم اللاتينية واليونانية) السبيل الوحيد الذي يؤدي بالطلاب إلى الدراسات العالية. ولا حاجة للبرهنة على أن عدم وجود سبيل آخر يؤدي إلى ميادين الفكر والثقافة الفسيحة، لا يمكن أن يعتبر دليلاً على عدم إمكان أيجاد سبل أخرى أقصر وأحسن وأنفع من ذلك السبيل. . .
كما أن ذكر الأمثلة الكثيرة عن أعاظم العلماء الذين كانوا من النابغين والمتقدمين في دروس اللاتينية، لا يمكن أن يبرهن على أية قضية كانت في هذا المضمار. لأن التفكير العلمي الصحيح يتطلب التساؤل - تجاه مثل هذه الأمثلة - عما إذا كانت اللاتينية من عوامل نمو عقول هؤلاء العلماء، أم أن مواهبهم العقلية كانت من أسباب تقدمهم في اللاتينية؟
ونرى من المفيد أن نوضح هذه القضية بمثال مادي: لنفرض أننا أخذنا حفنة من الحبوب وغربلناها بغربال معين؛ من الطبيعي أن هذا الغربال سيسقط الحبوب الصغيرة، وسوف لا يحتفظ إلا بالحبوب الكبيرة. فهل يجوز لأحد أن يدعي - عند ما يشاهد هذه الحبوب الكبيرة - أن الغربال سبب (تنمية الحبوب)؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى هل يجوز لأحد أن يدعي أن هذا الغربال هو الواسطة الوحيدة لانتقاء البذور؟ أو أن الغربلة هي أحسن الوسائط لهذا الانتقاء؟ وهل لأحد أن ينفي احتمال سقوط بعض الأنواع من البذور الثمينة والنافعة - مع ما يتساقط من الغربال؟ أو ألا يسلم باحتمال بقاء الأنواع من البذور الرديئة والمضرة، بين ما يبقى في الغربال؟
أننا لا نقصد في سوق هذا المثال وإيراد هذه الأسئلة أن ندعي أن (عمل اللاتينية في العقول لا يختلف عن عمل الغربال في الحبوب) بل إننا نود أن نقول: إن هذه القضايا(320/5)
كثيرة التعقيد كما يظهر من المثال المادي البسيط الذي ذكرناه؛ فلا يجوز لنا أن نبت في مثل هذه القضايا قبل أن ندرسها من جميع وجوهها ونقوم بأبحاث دقيقة وشاملة في شأنها. . .
فلنفكر كيف يمكن أن يؤثر (تعليم اللاتينية) على القابليات العقلية. لا شك في أن هذا التأثير يجب أن ينجم عن ممارسة تمارين الترجمة التي تجري خلال هذا التعليم. فإن الترجمة تحمل الطالب بطبيعتها على القيام بأعمال ذهنية هامة: إنها تمرنه على نقل الفكرة الواحدة، أو المعنى الواحد من لغة إلى لغة أخرى؛ وذلك يضطره إلى تحليل المعاني والعبارات إلى عناصرها المختلفة، ويحمله على إجراء مقارنات دقيقة بين عبارات اللغتين ويعوده ملاحظة أصغر الفروق وأدق الألوان في معاني الألفاظ والعبارات التي تعرض عليه أو تخطر بباله. . . إن الفوائد التثقيفية التي ينتظر الحصول عليها من تعليم اللغة اللاتينية أو اليونانية، لا تخرج عن نطاق فوائد هذه التمارين من وجهة التأثير على القابليات العقلية. ولا مجال للشك في أن جميع هذه الفوائد لم تكن من خصائص تعليم اللاتينية أو اليونانية؛ بل هي مما يمكن الحصول عليها خلال تعليم أية لغة من اللغات الحية الراقية أيضاً. . .
إن هذه القضية كانت من أهم المسائل التي احتدم النزاع عليها ودارت المباحثات والمناقشات حولها. . . وقد قام عدد غير قليل من علماء النفس ورجال التربية، يدرس هذه المسألة علمياً وتجريبياً. فقد قاموا باختبارات واسعة النطاق، وبرهنوا على أن اللاتينية لا تمتاز على سائر اللغات - من حيث القابلية التثقيفية - بوجه من الوجوه
فلا يجوز لنا مع ذلك أن نتوسل بتعليم لغة ميتة إلى (تثقيف العقل)؛ بل الأجدر بنا أن نصل إلى التثقيف المذكور عن طريق تعليم لغة حية ليستطيع الطلاب أن يستفيدوا منها في الوقت نفسه طول حياتهم الفكرية والاجتماعية
وعندما فكرت أنا في هذا الموضوع - على ضوء الآراء والأبحاث التي أشرت إليها - تذكرت قصة صغيرة كنت قرأتها في كتاب مدرسي، بين موضوعات الإنشاء:
كان رجل يعتمد في تدبير معاشه على نتاج مزرعته. فلاحظ يوماً أن البركة أخذت تذهب عن مزرعته، وأن النتاج أخذ يقل عن حاجته، فشكا حاله إلى أحد أصدقائه، فوعده صديقه هذا بسؤال أحد السحرة، لتدبير مسألته. فأتى إليه - في اليوم التالي - بعلبة سحرية، قال(320/6)
إنها كفيلة بإعادة البركة إلى مزرعته على أن يستصحبها معه كل ليلة إلى بعض أنحاء المزرعة - من الإسطبل إلى مخزن الحبوب - فأخذ الرجل يعمل بوصايا صديقه ويطوف بالعلبة السحرية في الأنحاء المذكورة. ولم تمض على ذلك مدة طويلة، إلا وقد رأى أن العلبة عملت عملها السحري، وأعادت البركة إلى مزرعته. غير أن هذه العلبة، كانت في حقيقة الأمر علبة اعتيادية فارغة؛ وأما سحرها، فقد نتج من اضطرار الرجل إلى الطواف بها ليلاً في مختلف أنحاء مزرعته؛ لأن هذا الطواف، ساعده على ملاحظة أحوال مزرعته، ومراقبة أعمال مأجوريه، ووضع حد لجميع الأسباب التي كانت تؤدي إلى تناقص موارده.
إنني أشبه عمل اللاتينية في حقل التفكير، بعمل (العلبة السحرية) التي ذكرتها. فإن السحر ليس فيها، بل في الأعمال الذهنية التي تجري بواسطتها. ولا حاجة للبيان أن هذه الأعمال مما يمكن أن تجري دون وساطتها، بل بواسطة أية لغة من اللغات الحية الراقية. . .
إن المناقشات التي ثارت حول مسألة تعليم اللغات القديمة لم تحمل وزارات المعارف في فرنسا على إحداث بعض الإصلاحات لمجابهة الحاجات إلا بعد انقضاء النصف الأول من القرن الأخير
وأما أول التدابير العملية التي اتخذت في هذا الباب فقد كان إحداث نوع جديد من الدراسة الثانوية في عهد وزارة (ديكتور دوروى). عرف هذا النوع الجديد باسم (التعليم الخاص) واستغنى عن تعليم اللغات القديمة، وجعل غايته إعداد الطلاب للمدارس العالية الاختصاصية التي تفتح أمامهم سبل الدخول إلى الحياة العملية
غير أن إحداث هذا النوع من التعليم أثار هجمات أنصار اللاتينية، كما أنه لم يحقق رغائب المجددين. فقد احتج عليه أنصار اللاتينية واليونانية قائلين (إن هذه الدراسة الجديدة ستجذب الشبان إليها من جراء قصر المدة التي تتطلبها والفوائد العملية التي تتضمنها، وذلك سيؤدي إلى انصراف الشبان عن سبل العلم الخالص، والى انحطاط الثقافة الفرنسية العالية). قالوا لذلك بوجوب تطويل مدة الدراسة فيها لإزالة أسباب الإغراء منها
وأما معارضو اللغات القديمة فإنهم قالوا بأن هذا الإصلاح غير واف بالمرام، لأنه أحدث سبيلاً جديداً للدراسات المهنية العالية وحدها، وترك سبل الدراسات الجامعية على حالها،(320/7)
في حين أنهم كانوا يطالبون بإصلاح تلك السبل أيضاً؛ كانوا يعتقدون بوجوب إحداث نوع في الدراسة الثانوية لا يقصِّر في أهدافه السامية عن أهداف الدراسة الكلاسيكية الراهنة، ولا يهمل شيئاً من المرامي الثقافية التي عرفت باسم (الإنسانيات) منذ عصر النهضة. إنهم كانوا يدعون إلى إحداث (إنسانيات عصرية) تعوض اللغات القديمة باللغات الحية، دون أن تحيد عن أهداف العلم الخالص والدراسة الجامعية. . .
ولذلك ثابر هؤلاء على مطالبهم إلى أن جاءت وزارة (ليون بورجوا) وخطت خطوة جديدة في السبيل الذي كانوا يدعون إليه؛ إذ أنها حوّلت (التعليم الخاص) إلى فرع ثانوي جديد عرف باسم (التعليم العصري). وأصبحت الدراسة الثانوية بعد ذلك متفرعة إلى فرعين متوازيين: كلاسيكي وعصري
بدأ هذا الفرع يشق لنفسه الطريق بين أنواع شتى من الموانع والمشاكل - من قلة الوسائط إلى خصومة المحافظين وعراقيل المعارضين - إذ أن أنصار اللغات القديمة والتعليم الكلاسيكي بذلوا كل ما لديهم من قوة لتحذير أولياء الطلاب من الاعتماد على نتائج هذه البدعة، وحرصوا حرصاً شديداً على إبقاء الجامعات موصدة الأبواب أمام متخرجي الفرع العصري من الدراسة الثانوية
واستمر النزاع والنقاش، ووصل الأمر - في أواخر القرن - إلى درجة من الحدة اضطر معها مجلس الأمة إلى القيام بتحقيق برلماني خاص؛ فألف لجنة لدرس مسألة الثانوية من جميع وجوهها دراسة واسعة النطاق. فاستمعت اللجنة لآراء عدد كبير من رجال العلم والأدب والتربية والتعليم، من رؤساء الكليات والجامعات إلى كبار رجال العمل في المهن المختلفة وخصصت في أبحاثها موقعاً خطيراً لدرس مسألة التعليم العصري والتعليم الكلاسيكي
وقد أظهر هذا التحقيق الشامل عدة حقائق مهمة حول مسألة تعليم اللغات الميتة في المدارس الثانوية
إن الدراسة الكلاسيكية المستندة إلى تعليم اللغات القديمة، كانت لا تزال تتمتع بشهرة عظيمة بين أولياء الطلاب. كان المثقفون منهم قد نشئوا نشأة كلاسيكية، فتعودوا أن ينظروا إلى أن معرفة اللاتينية - معرفة تمكن من ترصيع الكلام ببعض عبارات منها عند(320/8)
الاقتضاء - من دلائل (الامتياز الفكري) ولوازم (الأرستقراطية المعنوية)؛ ولذلك قلما كانوا يرضون لأولادهم نوعاً من الثقافة تحرمهم هذا الامتياز، وتحط من منزلتهم الاجتماعية. وأما الذين كانوا نشئوا نشأة أبسط من ذلك - ومع هذا أخذوا يطمعون برفع منزلة أولادهم عن طريق تعليمهم تعليماً راقياً - فكانوا لا يرضون لأولادهم أن يفترقوا عن أولاد الفريق الأول في هذا الميدان. . . ولهذا ظلت رغبة الأكثرية متجهة نحو التعليم الكلاسيكي القديم. . .
وزد على ذلك أن معظم مديري المدارس الثانوية ومعلميها أيضاً كانوا متشبعين بفكرة تفوق الدراسة الكلاسيكية على العصرية؛ ولذلك كانوا لا يفتئون يشوّقون التلاميذ الأذكياء إلى اختيارها. . . حتى أن البعض منهم كان يغالي في هذا الاعتقاد أشد المغالاة، فيظهر الفرع الجديد بمظهر (ملجأ المتأخرين) من الطلاب، ويبذل كل ما لديه من قوة إقناع المتفوقين منهم للرغبة عن هذا الفرع. . .
وأخيراً كان في خدمة الدراسة الكلاسيكية جيش كبير من المعلمين المتمرنين المزوَّدين بأحسن الاختبارات وأطول التقاليد؛ في حين أن الدراسة العصرية كانت في حاجة شديدة إلى معلمين خبيرين، يحسنون القيام بالمهام المطلوبة من هذه الدراسة الجديدة. . .
ومع كل ذلك قامت الدراسة العصرية بأعباء التثقيف أحسن قيام وأعطت نتائج باهرة، لا تقل عن نتائج الدراسة الكلاسيكية
واللجنة قررت (بعد ما اقتنعت بذلك) إبقاء الفرع العصري في الدراسة الثانوية (مع العمل لتوسعه وترقيته) ومع هذا قررت في الوقت نفسه الاستمرار على اشتراط معرفة اللاتينية، للقبول في كليتي الطب والحقوق. غير أنه مما يلفت الأنظار، أن القرار الأخير لم يتخذه إلا أكثرية ضئيلة جداً لأن الأصوات التي التزمت جانب اشتراط اللاتينية للقبول في الكليتين المذكورتين لم تتغلب على مخالفيها إلا بصوت واحد فقط!
ولإظهار قوة الآراء المخالفة لذلك، أود أن أذكر بعض الفقرات المستخرجة من التصريحات التي أدلى بها ثلاثة من رجال العلم والفكر في هذا الصدد: وهم ليون بورجوا، وأرنست لاويس، وريمون بوانكاريه. . .
قال الأول ما مؤداه: نحن لم نعتقد أن الذين يتثقفون بالدراسات القديمة، هم وحدهم جديرون(320/9)
بتكوين الأرستقراطية الفكرية؛ بل اعتقدنا بإمكان (إنسانيات عصرية)، مستقلة عن اللغات القديمة، اعتقدنا بأننا نستطيع أن نعطي نوعاً من الثقافة العامة، تختلف عن الثقافة الكلاسيكية، دون أن تكون أقل سمواً منها. . . فإن الدراسات الكلاسيكية بطبيعتها (كلامية) فلا تسد حاجات عصرنا هذا، ومطالبه الفكرية والأدبية والاجتماعية. . . إن العالم قد تبدل تبدلاً أساسياً منذ عشرين قرناً؛ فالثقافة الكلاسيكية التي توارثت مكتسبات الحضارات القديمة وقيمتها، أصبحت بعيدة عن ملاءمة الحضارة الحالية. . .)
ثم جابه مخاطبيه بالسؤال التالي: (أيها السادة، لنستنطق أنفسنا بكل صراحة؛ من منا يستطيع أن يقول بأنه تذوق ما في مآسي (سوفو كليس) أو محاورات أفلاطون، من جمال فني، على طريف قراءة نصوصها الأصلية. . . إذا لم يكن قد أولع باللغات القديمة ولعاً شخصياً، فتعمق في دراستها بعد الانتهاء من الدراسة الكلاسيكية؟ أما أنا فأعترف - من جهتي - بكل إخلاص - بأنني لم أفهم عظمة (أوديب الملك) إلا في الكوميدي فرانسيز. . . مع أنني كنت من المبرزين في دروس اللغات القديمة وآدابها. . .)
وأما (أرتست لاويس) - الذي يعد من أشهر كتاب التاريخ في فرنسا، والذي ظل مديراً لدار المعلمين العالية مدة طويلة - فقد اعترف خلال تصريحاته بأنه كان مرتاباً في نجاح تجربة الدراسة العصرية - عند إحداثها - غير أنه تخلص من هذا الريب، بعد أن رأى النتائج الفعلية، فأصبح يعتقد بأن قيمة الثقافة التي تكتسب خلال مثل هذه الدراسة، لا تقل - بوجه من الوجوه - عن قيمة الثقافة التي تكتسب من الدراسة الكلاسيكية. وزيادة على ذلك فند الرأي القائل بضرورة اللاتينية لإجادة الفرنسية؛ وصرح باعتقاده الجازم في مساواة قيمة الثقافتين؛ وقال بأن (الحجج التي تذكر لتبرير إيصاد أبواب كليتي الحقوق والطب أمام خريجي الدراسة العصرية، ما هي إلا من قبيل الأوهام الباطلة التي لا تستند إلى تجربة وتفكير) وأظهر استعداده لمناقشة القضية، عند الاقتضاء.
وأما (بوانكاريه) الذي كان من كبار رجال الفكر والحقوق، والذي قام بأعباء وزارة المعارف، وتدرج بعد ذلك إلى رياسة الوزراء فرياسة الجمهورية - فهو أيضاً قد دافع عن الدراسة العصرية من وجهة قيمتها الثقافية دفاعاً حاراً؛ وردّ على آراء القائلين بضرورة اللاتينية للدراسات الحقوقية رداً عنيفاً:(320/10)
فقد قال - في هذا الصدد - ما مؤداه:
(إنني لا أستطيع أن أسلم بضرورة معرفة اللاتينية لدرس الحقوق الرومانية بل أقول بإمكان درس هذه الحقوق بأساليب جديدة غير التي تعودناها إلى الآن، كما أعتقد بأنه لم يبق لهذه الحقوق من فائدة سوى متعتها التاريخية. فلست متأكداً من أن الاستعاضة عن دراسة الحقوق الرومانية بدراسة الشرائع المعاصرة، لا يكون أشد موافقة وأكثر ملاءمة لمقتضيات الثقافة الحقوقية العصرية)
(هذا، وإني سأذهب إلى أبعد من ذلك وسأزيد على قولي قولاً آخر - مع علمي بأن القول سيعتبر في نظر البعض من ضروب الكفر والإلحاد - فأقول بدون تردد: إن سيطرة الحقوق الرومانية على الفكر الفرنسي المعاصر، لا تخلو من مضار. . . فإننا إذا شاهدنا محافلنا البرلمانية تسترسل في المناقشات البيزنطية إلى الحد الذي نعرفه، يجب أن نعلم أن مصدر ذلك إنما هي الأساليب الرومانية التي تعودناها في تفهم وتصور المناقشات الحقوقية)
غير أن هذه الحجج القوية وأمثالها من التصريحات، لم تتمكن من زعزعة الاعتقادات القديمة كلها من أذهان جميع أعضاء اللجنة البرلمانية، ولذلك أيدت اللجنة - بأكثرية صوت واحد - النظام المتبع في اشتراط معرفة اللاتينية للدراسة الحقوقية. غير أن ضآلة الأكثرية التي أقرّت ذلك كانت دليلاً واضحاً على أن الحل المذكور لم يكن من الحلول التي تطمئن إليها الأفكار، وتستقر عندها الأمور. بل كان من الحلول المؤقتة التي تؤجل النتيجة النهائية، دون أن تضع حداً حاسماً للاختلافات. فكان من الطبيعي ألا تقف الأمور عند هذا الحد، فتستمر المناقشات إلى أن يتقرر (مبدأ المساواة) بين الثقافتين الكلاسيكية والعصرية
وهذا ما حدث فعلاً، فإن مناهج الدراسة التي وضعت بعد التحقيق البرلماني الآنف الذكر، حاولت أن توجد حلولاً متوسطة لكثير من المشاكل فأوجدت مثلاً نوعاً جديداً من الدراسة الثانوية، يحتفظ باللغة اللاتينية، ويضحي باليونانية لتعوضها بالعلوم أو اللغات الحية. ولا شك في أن هذا النوع كان يشغل موقعاً متوسطاً بين (الكلاسيكية القحة) التي تتمسك باللغتين القديمتين في وقت واحد و (العصرية البحتة) التي تستغني عن هاتين اللغتين مرة واحدة. . .(320/11)
غير أن الإصلاحات التي تقررت بعد الحرب العالمية، انتهت (بعد شيء من الجزر والمد) بتقرير حق المساواة بين الدراسة الكلاسيكية والدراسة العصرية، واتخذت عدة تدابير عملية لضمان هذه المساواة بصورة فعلية. . .
هذا هو ملخص الأطوار الأساسية التي مرت بها مسألة تعليم اللاتينية واليونانية في المدارس الثانوية والفرنسية.
(يتبع)
أبو خلدون(320/12)
الحق جاهد
للأستاذ عبد الرحمن شكري
إن الإنسان كلما كبر علمته التجارب أن التقاتل على أكثر الآراء عناء زائل وأمر حائل، وأن ما يدعى تقاتلاً على الحق إنما هو تقاتل على المطامع التي تدعى حقاً. قال أحد الفلاسفة: من المقرر في علم الحساب أن جمع الاثنين والاثنين أربعة ولكن لو كانت هذه المسألة من مسائل الحياة التي تختلف فيها مطامع الناس ومطالبهم ومآربهم لكان بين الناس من يعتقد بإخلاص وحسن نية أن جمع الاثنين والاثنين خمسة أو سبعة أو تسعة حسب ما تقتضيه مطامعهم وفوائدهم. وكل منهم يعتقد بإخلاص أن جمع الاثنين والاثنين إذا كان في رأيه خمسة أو سبعة أو تسعة غير مؤسس على ما تقتضيه المطامع والفوائد الخاصة، وإنما وصل كل منهم في اعتقاده إلى هذه النتيجة بالتخلص من لوازم شخصه وبالفكر النظري الخالص من كل شائب. لكن اتفقوا على أن جمع الاثنين والاثنين أربعة لأن الجمع ليس من الأمور التي تختلف فيها مطالبهم أو فوائدهم. على أن الناس في الحقيقة يختلفون في جمع الاثنين والاثنين عند ما يخرجونه من حيّز المسائل الحسابية النظرية العارية وعندما يلبسونه لباساً من مطالب الحياة وفوائدها واختلاف أوجه النظر فيها حتى تصير المسألة الحسابية البسيطة مقنعة غير ملحوظة في أفكارهم ومطالب وكأنها غير موجودة
أذكر أني قابلت أثناء الحرب العظمى الماضية أحد أفاضل الأجانب ممن أتصف بالعدل وصدق النظر في الأمور والاعتدال في الرأي، وجرى بيننا الحديث عن الحرب والأمم المتقاتلة فيها فأطرى الفرنسيين وذم الألمان، وأوضح أسباب المدح والذم. ثم انقضت الحرب وحاولت فرنسا بعدها بمحالفة الدول الأوربية السيطرة على القوى البرية في أوربا وخشيت إنجلترا أن تخل بالتعادل الدولي. وقابلت صاحبنا فذم الإنجليز ومدح الألمان وقال هم أبناء عمنا، وذكر أسباب المدح والهجاء. ولو قابلته الآن بعد أن عادت إنجلترا وفرنسا إلى الوفاق وبعد أن قويت ألمانيا لعاد إلى رأيه الأول وصاحبنا هذا رجل عدل وإنصاف واعتدال في أمور الحياة، وهو في كل حالة كان يعتقد ما يقول، ويرى أنه الحق ولا حق غيره، وهذا الفاضل ليس ببدع، فهذه سنة الناس فيما يسمونه حقاً يحورونه ويحولونه بإخلاص وحسن نية إلى ما يناسب آمالهم ومطالبهم وأحاسيسهم، وهم لا يشعرون بذلك(320/13)
التحويل، وعدم فطنتهم إلى هذا التحويل هو سبب اندفاعهم في نصرة ما يسمونه حقاً وسبب إباحة كل وسيلة في نصرته؛ ومن هذا الطريق يدخل نفس الفاضل الحسن النية ما يدخلها من شر وقسوة ولؤم، فكل إنسان في الحياة يدخل في معنى الحق ما يتفق وحالات نفسه وخواطرها وآمالها ومسراتها وصداقاتها وعدواتها، وما يناسب نشأته وثقافته الخاصة وميوله، وهو يُدْخل ما يدخله في معنى الحق من غير أن يعمل عمل المنافق الذي يُخفي من رأيه غير ما يعرض على الناس، ولو سمينا طريقته في تحويل الحق إلى جانبه نفاقاً لكانت نفاقاً لا يحس صاحبه أنه نفاق
فإذا أضفت إلى هذا النفاق غير المقصود الشائع في كل نفس ما تقصده أكثر النفوس من تضليل العامد إلى النفاق المدبر، ظهر أن محاولة معرفة الحق أمر جاهد حقاً وظهر السبب في خطأ الناس في قدر مل يعرض عليهم من الأمور التي تسمى حقاً. إذ أن السعار والضراوة في نصرة ما يسميه كل إنسان حقا ليست مقصورة على صاحب النفاق المدبر الذي يعرف صاحبه أنه ينافق فيما يسميه حقا، بل إن الضراوة والسعار في نصرة الحق أمران قد يلفيان في نصرة صاحب النفاق غير المقصود لما ينتصر له من الأمر الذي يسميه حقا. ومن أجل ذلك قلما يعنى الناس أنفسهم بفحص ما يعرض عليهم من الأمور للوصول إلى الحق. فهم أيضاً في حكمهم شأنهم شأن صاحب الأمر الذي يعرضه عليهم كي يقبلوه، فهم إما يقبلونه على أنه حق إذا وافق هواهم وإما يعرفون بطلانه ووجه تزييفه ويدعون أنهم انخدعوا لصاحبه. فإذا خالف هواهم قالوا إنه باطل وهم في كل حالة قد يغالطون أنفسهم ويدعون الفحص والتمحيص ويعتقدون ما يعتقدون أو ما يتظاهرون باعتقاده بحسن نية، وقد يجتمع حسن النية والتظاهر، إذ أن النفس تستطيع أن تخادع نفسها حتى في تظاهرها بغير ما تبطن. ومن أجل غلبة الأهواء يقول البحتري:
أخيَّ إذا خاصمت نفسك فاحتشد ... لها وإذا حدّثت نفسك فاصدق
فقال احتشد لها لأن النفس أغلب بالأهواء وأملك بميولها، وفي البيت إرشاد إلى ثقافة ولكن الثقافة نفسها قلما تخلو من أهواء النفوس وقلما يستطيع المرء أن يحتشد لنفسه إذا خاصمها بالحق وقلما يحاول أحد تلك المخاصمة وذلك الاحتشاد للحق ما دام يلون الحق كما يشاء، ويصنعه صناعة أو يصطنع في نفسه وهو لا يدري. والحق يختلف أيضاً باختلاف آراء(320/14)
المرء حسب حالات جسمه وأعصابه الناشئة من سقم أو صحة وقوة أو ضعف وحالات معدته ومطاعمه. ولو فكر المرء في اختلاف الحق حسب اختلاف مطالب المرء ونشأته وثقافته وحالات نفسه وجسمه فإنه قد يستطيع مع إدمان الفكر أن يقلل من ضراوته وأكاذيبه وحقده وغيرها من الوسائل التي يناصر بها الحق، على حد قول القائل إن الغاية تبرر الواسطة، فيبرر ضراوته وأكاذيبه وحقده لأنه يستخدم هذه الوسائل في نصرة الحق الذي هو أيضاً وليد أحاسيسه وحالات نفسه وجسمه
واستعراض هذه الأمور العديدة التي تشكل الحق في نظره يسقط حجته في أن الغاية الشريفة تبرر الواسطة الدنيئة إذ أن شرف الغاية معدوم أو إذا كان موجوداً فقلما يكون بقدر ما يشرف الواسطة الدنيئة. بل إن الواسطة الدنيئة تقضي على بقية الشرف في حقه الذي خالط فيه الصدق حاجات نفسه وميولها
والعصبيات تتلف الحق وتمنع المرء من الاحتشاد الذي أراده البحتري عند محاسبة النفس كعصبية المودة أو القرابة أو المصاهرة أو المنفعة المتبادلة أو عصبية الجوار والبلدة الواحدة، وهذه العصبية الأخيرة قلما تكون إلا إذا اختلف أهل البلدة التي استفحلت عصبيتهم عمن حولهم من أهل البلاد الأخرى اختلافاً في الجسم أو النشأة، ولا عيب في تلك العصبيات إذا التزمت جانب الشرف والإنصاف والضرورة القصوى، أما إذا تعدته إلى جانب الإسفاف والجهل والظلم بغير داع ضاع الحق في مطالب تلك العصبيات. وعصبية المصاهرة على ما بها من عيوب قد تكون مصدر قوة لطائفة كبيرة هي قوام الأمة أو شبه قوام، ولكنها إذا دخل فيها من لا يمتاز إلا بقوة الجسم، وارتفع إلى المصاهرة أناس من السفلة وأهل الغباء نشروا عدوى خصالهم الذميمة وآرائهم المخطئة من ذوي الأناقة في الخُلُق والرأي، ومن ذوي الاعتدال في الحكم، فتنقلب المصاهرة متلفة للحق ولأمور الناس
والضراوة في مناصرة مطالب تلك العصبيات التي تسمى حقاً تشتد كلما قلت الثقافة في أمة وزاد الشعور بالنقص في نفوس أبنائها وكثر التهريج والمهرجون الذين يخلقون لأهل الغباء مبادئ سامية من أحط نزعات نفوسهم.
وأحقاد الناس في الحياة ليست عبيد حاجاتهم وضروراتها بقدر ما هي عبيد هواجسهم المهمة التي تحلق في أذهانهم ونفوسهم كما تخلق الخفافيش تحت قبة البناء المظلم(320/15)
المهجور، وذلك لأن الحاجات والضرورات تنقضي وتحد، ولكن الهواجس لا حد لها ولا انقضاء.
إن الإنسان لا يدهش كثيراً إذا وصف إمامه إنسان بالشر والمكر والسوء، وهو يعرف أنه أبعد الناس عن هذه الصفات قدر ما يدهش إذا كان هو الموصوف بهذه الصفات لأن دهشته في الحالة الثانية تعود على أمر يخصه ويؤلمه، والدهشة الممزوجة بالألم أشد وقعاً في النفس من الدهشة الخالية من الألم، ولأن كل إنسان يعرف من أسباب أقواله وأعماله مالا يعرف عن أسباب أقوال غيره وأعماله، ويعرف من حالات نفسه في تلك الأقوال والأعمال مالا يعرف عن أحوال نفس غيره، فهو بهذه المعرفة يستطيع أن يسوغ أقواله وأعماله، وبذلك الجهل لحالات نفس غيره لا يستطيع إلا إنكار أقوال غيره إن كانت تستدعي الإنكار أو تحتمله، وهذا بالرغم من أن كل إنسان يعرف من هواجس السوء التي تتردد في نفسه أكثر مما يعرف من هواجس السوء في نفس غيره. فإن الإنسان لا يستخدم ميزاناً واحداً فيما بينه وبين الناس؛ فهو مثلاً يكذب كثيراً ويعد كذبه أمراً هيناً فإذا كذب غيره في حقه عده لؤماً ليس بعده لؤم.
كل هذه الحقائق حقيقية بأن تزهد المفكر المتأمل في سعاره أو ضراوته في مناصرة ما يسميه حقاً وأكثره ليس بحق، وهي حقيقة بأن تزهده في رأي من يرى أن الغاية تبرر الواسطة، إذ إن خطأه في قدر الغاية قد يكون عن حسن نية، ولكنه قد يسوقه حسن النية إلى أعمال اللؤم والإجرام في سعار مناصرته للحق المزعوم الذي في تلك الغاية التي أخطأ فيها وعدها نبيلة وهي ليست نبيلة، وحسن نيته في ذلك الخطأ لا يخليه من أثم ولؤم ذلك السعار وتلك الضراوة
أن الذين يُعنون أنفسهم بالبحث عن الحق قليلون ولا سيما البحث عن الحق في أمور حياة الناس التي تتحكم فيها الأهواء والأوهام، وقد يحسب الساذج أن الحق في حياة الناس كالحق في علم الحساب بمقدار معين لا شك فيه ولا تغير، ولكن الساذج إذا اختبر الحياة واستطاع أن يقضي بخبرته على سذاجته علم أن أحوج الناس إلى مظاهر الحق هم أهل الباطل، ومن هذه الحاجة نشأ سعارهم، ولم ينشأ ذلك السعار من شدة الإخلاص للحق بل من شدة شعورهم أنهم على باطل يحتاج إلى مظاهر الحق(320/16)
عبد الرحمن شكري(320/17)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
لا يريد الأستاذ أحمد أمين أن يفهم أن النقد من علائم الصداقة للحقائق وليس من علائم العداوة للأشخاص، ولا يريد أن يفهم أن ما بيننا وبينه من صداقة لا يجب أن يتعرض للزوال بسبب هذه المقالات التي فرضها الضمير والواجب، وكان خليقاً بأن يفهم وحي الضمير والواجب
ولو قد فهم هذه البديهيات لما استباح لنفسه أن يقول:
(كل الصلات بيننا مفقودة، فلا صلة بين الأستاذ وطلبته إلا الدرس، ولا بين الأديب وقرائه ألا صلة القراءة إن كانت، ولا صلة بين الأدباء أنفسهم إلا صلة السباب، فإن لم يكن سباب فرياء. . .)
وهذه الكلمات تدل على أن صديقنا أحمد أمين قد ضاق ذرعاً بدنياه منذ اليوم الذي رأى فيه لأول مرة توضع منزلته الأدبية في الميزان
فالأساتذة عنده قد انقطع ما بينهم وبين تلاميذهم، والكتاب قد انفصم ما بينهم وبين قرائهم، أما الأدباء فيما بينهم فيتعاملون على أساسين اثنين: السباب والرياء
وكذلك يرانا من السبابين، ويرى أصحابه من المرائين!
والأستاذ أحمد أمين متشائم إلى أبعد الحدود. ولو شئت لنبهته إلى خطأ هذا التشاؤم فأكدت له أن الأدباء عندنا أحسن حالاً مما يتوهم، فقد كتب إلى كثير من أصدقائه وتلاميذه يرجونني أن أترفق في النقد، وشهد ناس بأنه كان حسن النية فيما كتب عن الأدب العربي، ولم يكن إلا مجتهداً خانه التوفيق، وللمجتهد أجرُ حين يخطئ وأجران حين يصيب
وقد هممت بالتجاوز عن جناية هذا الصديق على الأدب العربي بقية هذا الصيف في هدوء وأمان، وليجد الفرصة لمناجاة (بحر العرب) وهو يقتعد صخرة المكس، ولكني تذكرت أن هذه المقالات لا تخلو من فوائد أدبية، وتذكرت أنه على كل حال من طلاّب الحقائق، وطالب الحقيقة قد يشرب من أجلها العلقم والصاب
وأرجع إلى حديث اليوم فأقول:(320/18)
إن الأستاذ أحمد أمين يرى أن ابن خفاجة لم يتذوق الطبيعة وإن اشتهر بوصف الطبيعة
وليس من المستغرَب أن يقف أحمد أمين من ابن خفاجة حيثُ وقف، لا يتذوق الشعر إلا في النادر القليل فكل أديب في الدنيا حدثته نفسه بأن ينظم من الشعر بيتاً أو بيتين، حتى الدكتور طه حسين، فقد كان له في مطلع حياته غرامُ بصوغ القريض، وسنعرض للمجهول من حياته الشعرية بعد حين أما أحمد أمين فلم يفكر يوماً في نظم الشعر
والواقع أن عظماء الكتّاب في جميع البلاد كانت لهم نزعات شعرية، لأن للشعر مزية قوية في تكوين الأسلوب، وهو الذي
يروض الكاتب على خلق الصور والإحساس بالرنين
والكاتب الحق هو الذي يعاني من المكاره ما يعانيه الشاعر، وقد أخطأ أبو هلال حين توهم أن النثر كلام غير منظوم، مع أن أبا هلال كان من أهل البصر بأسرار البيان
مالي ولهذا؟
أنا أريد أن أنصف ابن خفاجة الذي ظلمه الأستاذ أحمد أمين
كان ابن خفاجة يسمّى (اُلجنّان) وهي تسميةُ تشهد لأسلافنا بسلامة الذوق. وكان يسمّى (صنوبريّ الأندلس)
كان ابن خفاجة جَناناً، لأنه قضي دهرا في وصف الرياض والبساتين، وكانت جنته هي الأندلس وقد فضلها على جنة الخُلد، ومن أجل ذلك اتهمه بعض معاصريه بالمروق حين قال:
يا أهل أندلسٍ لله دَرُّكم ... ماءٌ وظلٌّ وأشجارٌ وانهارُ
ما جنّة الخُلد إلا في دياركُم ... ولو تخيرت هذى كنت أختارُ
لا تختشوا بعدها أن تدخلوا سقراً ... فليس تُدخَل بعد الجنة النارُ
والحق أن ابن خفاجة فُتِن بمناظر بلاده أشد الفتون، فكان يترصد الفرص لوصف ما ترى العيون أو تحسُّ القلوب بتلك البلاد
وكان شعره ونثره قيثارة تجود بأعذب الألحان في وصف الأشجار والأزهار والأنهار والسواقي والسحائب والبروق
وقد ظل ابن خفاجة مفتوناً بوصف الطبيعة نحو خمسين سنة فهل يسوغ لإنسان أن يقول(320/19)
بأنه لم يتذوق الطبيعة في كل ذلك الأمد الطويل وهو يتغنى بها صباحَ مساء؟
وكيف وكان ابن خفاجة مُرهف الإحساس إلى حدّ الخيال؟
إن ابن خفاجة هو الشاعر الذي تفرّد بالحنان إلى الطبيعة في جميع المناحي الشعرية، حتى في قصائد الرثاء، فكيف يجوز القول بأنه وصف الطبيعة بلا وعي ولا إحساس؟
يضاف إلى ذلك أن ابن خفاجة عُرف بين معاصريه بالزهد في مدح الملوك والترفع عن جوائزهم السنيّة، في زمن كان فيه المديح مذهباً لا يغضّ من أقدار الشعراء، ولا يعرّضهم لسفاهة القيل والقال، فاتسع وقته لمناجاة عرائس الشعر في هدوء وصفاء
إن ابن خفاجة صاحب مذهب في الشعر العربي، ومنزلته في وصف الرياض لا تقلّ عن منزلة أبي نواس في الخمريات والشريف الرضي في الحجازيات
ومن الذي ينكر قيمة الشاعر الذي يقول:
لله نهرٌ سال في بطحاءِ ... أشهى وُروداً من لَمَى الحسناءِ
متعطفٌ مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجرُّ سماءِ
قد رقّ حتى ظُنَّ قرصاً مُفرغا ... من فضةٍ في بُرودةٍ خضراءِ
وغدتْ تحف به الغصون كأنها ... هدبٌ تحفّ بمقلةٍ زرقاءِ
ولطالما عاطيتُ فيه مدامة ... صفراَء تخضب أيديَ الندماءِ
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لُجين الماءِ
وكيف يتهم في وصف الطبيعة من يقول:
حثَّ المدامة والنسيم عليلُ ... والظل خفَّاقُ الرواق ظليلُ
والنَّور طرفٌ قد تنبه دامعٌ ... والماء مبتسمٌ يروق صقيلُ
وتطلعتْ من برق كل غمامةٍ ... في كل أفقٍ رايةٌ ورعيلُ
حتى تهادى كل خوطة أيكةٍ ... ريّا وغصَّتْ تلعةٌ ومسيلُ
فالروض مهتز المعاطف نعمةً ... نشوان يعطفه الصبا فيميلُ
ريّان فضّضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفيحته أصيلُ
وارتد ينظر في نقاب غمامة ... طرفٌ يمرِّضه النعاس كليلُ
ساجٍ كما يرنو إلى عوَّاده ... شاكٍ ويلتمح العزيزَ ذليلُ(320/20)
وهذا شعرٌ يفسده الشرح والتفسير والتحليلُ
وهل تحتاج محاسن هذه الأبيات إلى من يقيم عليها الدليل؟
ومن الذي ينكر فراهة الفتون في الأبيات الآتية:
وأغيد في صدر الندىّ لحسنهِ ... حلىٌّ وفي صدر القصيد نسيبُ
من الهِيف أما ردفه فمنَّعمٌ ... خصيبٌ وأما خصره فجديبُ
يرفَّ بروض الحسن من نور وجهه ... وقامته نُوّارةٌ وقضيبُ
جلالها وقد غنّى الحمام عشيّةً ... عجوزاً عليها للحَباب مشيبُ
وجاء بها حمراء، أما مزاجُها ... فماءٌ، وأما ملؤها فلهيبُ
على لجة ترتجُّ، أما حَبَابُها ... فنوْرٌ، وأما موُجها فكثيبُ
تجافتْ بها عنا الحوادث برهةً ... وقد ساعدتنا قهوةٌ وحبيبُ
وغازلنا جفنٌ هناك كنرجسٍ ... ومبتسمٌ للأقحوان شنيبُ
فلله ذيلٌ للتصابي سحبتهُ ... وعيشٌ بأطرافِ الشباب رطيبُ
أرأيت كيف فَنىَ الشاعر في الطبيعة فجعلها أصل الحسن والفتون؟
أرأيت كيف غَرِق هذا الشاعر في بحار الصباحة والملاحة، وكيف رأى الزهر والماء أصلاً لكل مليح وجميل؟
وما رأى الأستاذ في الأبيات الآتية:
وصقيل إفرند الشباب بطرفهِ ... سقمٌ وللعضب الحسام ذُبابُ
يمشي الهوينا نخوةً ولربما ... أَطَرْته طوراً نشوةٌ وشبابُ
شتى المحاسن، للوضاءةِ ريطة ... أبداً عليه، وللحياء نقابُ
وبمعطفيه للشبيبة منهلٌ ... قد شف عنه من القميص سرابُ
عَبَر الخليج سباحةً فكأنما ... أهوى فشقّ به السماء شهابُ
لقد احتللت بشاطئيه يهزني ... طرباً شباب راقني وشرابُ
وانساب بي نهر يعب وزورق ... فتحملتني عقرب وحُبابُ
وركبت دجلته يضاحكني بها ... فرحاً حبيب شاقني وحَبابُ
نجلو من الدنيا عروساً بيننا ... حسناء ترشف والمدام رُضابُ(320/21)
ثم ارتحلتُ وللسماء ذؤابةٌ ... شهباء تخضب والظلام خضابُ
تلوي معاطفي الصبابة والصبا ... والليل دون الكاشحين حجابُ
حيث استقل الجسر فوق زوارق ... نسقت كما تتواكب الأحبابُ
فهل فكر صديقنا أحمد أمين في وصف السباحة وقد سبقه إليها ابن خفاجة بنحو تسعة قرون؟
إن الذي عجز عن وصف الطبيعة هو الذي يصطاف بالإسكندرية كل سنة ولم يفتح الله عليه بغير القول بأنه جلس على صخرة المكس ليأكل السمك المياس، وليفكر في مصير الشمس بعد الغروب، وليقول إنه تحاور مع هيان بن بيان!!
يقول أحمد أمين إن أبن خفاجة لم يتذوق الطبيعة، فهل استمع إليه حين يقول:
ربما استضحك الحَباب حبيبٌ ... نفضت ثوبها عليه المدامُ
كلما مرَّ قاصراً من خُطاه ... يتهادى كما يمرّ الغمامُ
سلم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب سلامُ
وهل أستمع إليه حين يقول:
أبى البرق إلا أن يحن فؤاد ... ويكحل أجفان المحب سهاد
فبت ولي من قانئ الدمع قهوة ... تدار، ومن إحدى يدي وساد
تنوح لي الورقاء وهي خلية ... وينهل دمع المزن وهو جماد
وليلٍ كما مدَّ الغراب جناحه ... وسال على وجه السجل مداد
به من وميض البرق والليل فحمة ... شرارٌ ترامى والغمام زناد
سريتُ به أُحييه لا حْية السُّرى ... تموت ولا ميْتُ الصباح يعاد
يقلب مني العزم إنسان مُقلةٍ ... لها الأفق جفنٌ والظلام سواد
بخرقٍ لقلب البرق خفقة روعة ... به ولجفن النجم فيه سهاد
سحيقٌ ولا غير الرياح ركائبٌ ... هناك ولا غير الغمام مزاد
كأني وأحشاء البلاد تجنني ... سريرةُ حبّ والظلام فؤاد
ولما تفرَّى من دجى الليل طحلبٌ ... وأعرض من ماء الصباح ثماد
حننت وقد ناح الحمام صبابةً ... وشُقَّ من الليل البهيم حداد(320/22)
على حين شطَّتْ بالحبائب نيَّةٌ ... وحالتْ فياف بيننا وبلاد
ومن مزايا ابن خفاجة أنه يتمثل الطبيعة في حركة وحياة، فيراها ترضى وتغضب،
وتضحك وتعبس، كأن يقول:
عاط أخلاّءك المداما ... واستسق للأيكة الغماما
وراقص الغصن وهو رطبٌ ... يقْطرُ أو طارح الحماما
وقد تهادى بها نسيمٌ ... حيَّتْ سليمى بها سلاما
فتلك أفنانها نشاوى ... تشرب أكوابها قياما
وكأن يقول:
ألقي العصا في حيث يعثُر بالحصى ... نهرٌ وتعبث بالغصون شمالُ
وكأن ما بين الغصون تنازُعٌ ... فيه وما بين المياه جدالُ
وكأن يقول:
أخذ الربيع عليه كل ثنيةٍ ... فبكل مرقبةٍ لواءٌ شقيق
فهو في هذه الأشعار يمنح الطبيعة من الحياة والحركة ما يماثل شمائل الأحياء
وأريد أن أقول إن الطبيعة في نفس ابن خفاجة لها عزيمة وإرادة وقدرة وعبقرية، فهي تصنع ما تصنع عن نظرٍ ثاقب وقلبٍ مشبوب، هي نفس حساسة، تشعر وتُدرك، وتُفيض البؤس والنعيم على الأحياء بإرادة وعزم وإحساس
وقد وقع في كلام الشعراء ما يشابه هذه المعاني، ولكن ابن خفاجة أكثر منها إكثاراً مّيزه بالتفوق والتفرد، فهو أوحد الناس في بابه بلا جدال
وكان ابن خفاجة يُقسم بما في الطبيعة من أنهار ورياض وأزهار وأنداء ومباسم وعيون، فيقول:
أَما والتفات الروض من أزرق النهر ... وإشراق جيد الغصن في حِلْية الدهر
وقد نَسَمتْ ريح النعامى فتنبَّهتْ ... عيون الندامى تحت ريحانة الفجر
وهي قصيدة طويلة امتزجت فيها نفس الشاعر بأسرار الطبيعة أشدَّ امتزاج
والطبيعة تواجه ابن خفاجة حيثما تلفَّت، فهو يراها في كل مكان، وانظر كيف يقول:
يا رُبَّ ليلٍ بِتُّهُ ... وكأنه من وَحفِ شَعرك(320/23)
تنهلُّ مزنة دمعتي ... فيه ويندَى نور ذكركْ
أتبعتُ فيه وقد بك ... يت عقيق خدك دُرَّ ثغرك
وشرِقتُ فيك بعبرةٍ ... قد ورَّدتها نار هجرك
فكأنما ينفضّ عن ... حَبَبٍ لها رمان صدرك
ولَرُبَّ ليل قد صد ... عْت ظلامه بجبين بدرك
ولهوتُ فيه بدُرَّةٍ ... مكنونةٍ في حُقِّ خِدرك
تَنْدى شقائق وجنت ... يك به وتَنْفَحُ ريح نَشرك
وقد استدار بصفحتْي ... سوسانِ جيدك طَلَّ درَّك
حيث الحبابة دمعةٌ ... تجري بوجنة كأس خمرك
وتهزُّ منك فتنثني ... بقضيب قدِّك ريح سكرك
وهو في هذه القصيدة يخلع محاسن الطبيعة على الملاح، وقد يخلع محاسن الملاح على الطبيعة فيقول:
وكمامة حدر الصباح قناعها ... عن صفحة تندى من الأزهار
في أبطحٍ رضعت ثغور أقاحهِ ... أخلاف كل غمامةٍ مدرارِ
نثرتْ بحجر الأرض فيه يد الصَّبا ... دُرر الندى ودراهم النُّوار
وقد ارتدى غصن النقا وتقلدت ... حَلْىَ السحاب سوالف الأنهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك ... جَذِل وحيث الشط بدء عذار
والريح تَنفُض بكرة لِممَ الرُّبا ... والطَلُّ ينضحُ أوجه الأشجار
وأراكةٍ سجع الهديل بفرعها ... والصبحُ يسفر عن جبين نهار
هزَّت له أعطافها ولربما=خلعتْ عليه مُلاءة الأنوار
وهذا واللُّه أنفس ما قيل في اتصال الأحاسيس بغرائب الوجود وأشعار ابن خفاجه تشهد بأنه كان يحتفل بالمعاني كل الاحتفال وكان يرى شعره نفحة من نفحات الجمال، كأنْ يقول:
تعلقته نشوان من خمر ريقهِ=له رشفها دوني ولي دونه السكر
نرقرق ماء ووجهه ... ويُذْكى على قلبي ووجنته الجمر(320/24)
وطبنا معاً شعراً وثغراً كأنما ... له منطقي ثغر، ولي ثغره شِعر
وقد توجُّع ابن خفاجة لضياع الشباب أشد التوجع ورأى في ملاحة الطبيعة عزاء عما ضاع من سماحة الملاح، فقال:
وكل امرئ طاشت به غرة الصِّبا ... إذا ما تحلى بالمشيب تحلَّما
فها أنا ألقي كل ليل بليلَةٍ ... من الهم يستجري من الدمع أنجما
وأركب أرداف الرُّبا متأسفاً ... فأنشق أنفاس الصبا متنسِّما
وأرشف نثر الطل من كل وردةٍ ... مكان بياض الثغر من حوَّة اللًّمى
وهو بهذه الأبيات يجعل الجمال الإنساني أجمل ما في الطبيعة من ألوان، وهي نظرة سليمة لا ينكرها غير الذين يرون الشجرة والزهرة أصلاً لكل جَمال
وكان ابن خفاجة في أيام توجعه على صباه يتمنى لو يعرف مصير النفس بعد الموت، كأن يقول في رثاء بعض الأصدقاء:
كنا اصطحبنا والتشاكلُ نسبةٌ ... حتى كأنا عاتقٌ ونجادُ
ثم افترقنا لا لعودة صحبة ... حتى كأنا شعلة وزناد
يا أيها النائي ولست بمسمع ... سَكَن القبور وبيننا أسداد
ما تفعل النفس النفيسة عندما ... تتهاجر الأرواح والأجساد
كُشِف الغطاء إليك عن سر الردى ... فأجبْ بما تندى به الأكباد
وهي لفتةُ فلسفية لاذ بها شاعرنا شوقي في أكثر قصائد الرثاء
أما بعد فقد كنا نحب أن نذكر شواهد من نثر ابن خفاجة تمثَل هُيامه بالطبيعة والوجود، ولكنا رأينا الدكتور ضيف سبقنا إلى ذلك في كتابه (بلاغة العرب في الأندلس) ونحن نبغض الحديث المعاد
وما الذي يوجب أن نلحّ في شرح مذهب ابن خفاجة وهو معروف لجميع الناس؟ لقد أردنا أن ننتهز الفرصة فنمتع أنفسنا بالنظر في ديوان ابن خفاجة من جديد، ونذكر به الشبان الذين شغلتهم عنه ملاهي العصر الحديث
ويدعوني الواجب في ختام هذا المقال إلى الثناء على أديبين فاضلين يهتمان بديوان ابن خفاجة ويعدان له دراسة أدبية تحفظ مكانه في التاريخ. أما الأديب الأول فهو عزيز عبد(320/25)
السلام فهمي. وأما الأديب الثاني فهو جاسم محمد الرجب؛ وأولهما صديق عرفته بكلية الآداب في القاهرة، وثانيهما صديق عرفته بدار المعلمين في بغداد
فمتى تظهر جهود هذين الأديبين في إحياء ذلك الديوان؟
لقد ظهر ديوان ابن خفاجة بالقاهرة منذ اثنتين وسبعين سنة، فكيف جاز ألا يطبع مرة ثانية بعد ذلك الأمد الطويل العريض؟
إن اللغة العربية لغة حية وقراؤها يشارفون المائة مليون، فكيف زهدت تلك الملايين في ذلك الشعر النفيس؟!
إن ديوان ابن خفاجة وصل إلى أقصى بقاع الشرق الإسلامي قبل ظهور المطابع، فكيف يحجب اليوم بعد الانتفاع بالمطبعة السريعة والبريد المضمون؟
ومن أعجب العجب أن يتولى تزهيد العرب في آثار أسلافهم رجل تعرفه كلية الآداب التي توجب على أبنائها أن يتعرفوا إلى آثار القدماء من الرومان واليونان!
ولكن صبراً فستهتدي كلية الآداب بعد حين، وسترجع إلى سيرتها الماضية يوم كانت مثابة القلوب والعقول.
(للحديث شجون)
زكي مبارك(320/26)
دمشقيات
من (الجادة الخامسة)!
للأستاذ علي الطنطاوي
آمنت بالله واستثنيت جنته ... (دمشق) روح وجنات وريحان
اللهم، إن كنت كتبت لي (برحمتك) الجنة، فاجعل جنتي في الآخرة على مثال (دمشق)، واجعل قصري فيها في (الجادة الخامسة)!. . .
ولكن كيف لي بتصوير (الجادة الخامسة) لقراء (الرسالة) وهم منتشرون في أقطار الأرض كلها؟. . . وكيف لي بإقناعهم، ولكل منهم بلده، وكلّ ببلده فخور!. . . إن الشام درّة تاج الكون، وإنها بيت القصيد في (معلّقة) الوجود، وإنها اللذة الكبرى مجسمة، وإنها العاطفة السامية، والحب مصوّراً هضاباً وصخوراً ومروجاً وبساتين. . . وإن (الجادة الخامسة) درة دمشق، وبيت قصيدها، وإن الذي تشرف عليه منظر أقلْ ما يقوله الصادق فيه وأبعده عن المبالغة وألصقه بالحق الصراح أنه أجمل منظر على ظهر الأرض، وأن الله حين وزع الجمال على البقاع. . . فخص كل واحد منها - بنوع واحد منه - جمعه كله لدمشق، ووضع أفضل مجموعة منه في (الجادة الخامسة)!
ولقد كنت في البادية منذ أسبوع آيباً إلى دمشق، أحدق في الأفق علّي أرى خيال دمشق: بلد الحب، بلد اللطف، بلد الكرم، بلد الجمال. . . فلا أرى إلا الصحراء بوجهها الكالح الكئيب الصامت الرهيب، فأفرُ من مرآها وأغمض عنها عيني، أحاول أن أختلس من الزمان إغفاءة، فأقطع هذا الطريق المضني على مطية الكرى. . . فلا أرى في منامي إلا طيف دمشق البلد الحبيب، ولا أكاد أستمتع به حتى تقصيه عني سيارة (نيرن) بهديرها الذي يطرد الأحلام، ودويَّها الذي يطيَّر شياطين الشعر، وثقلها ورزانتها التي تشبه أحلام قوم الفرزدق. . . ولبثت على ذلك حتى جاوزنا (الضمير)، واستقبلنا دمشق من طريق حمص، وكنت في شبه غفوة. . . فما أحسست إلا إخواناً لنا من أهل بغداد كانوا معنا في السيارة ينبهونني ليسألوني. فانتبهت، فإذا أنا أرى حولي طلائع الخضرة تمتد إلى السفوح البعيدة. فقالوا: أهذه هي (الغوطة)؟ فضحكت وقلت: هذه سهول لها نظير في كل أرض. . . فكيف تكون هي الغوطة التي ليس لها في الأرض نظير؟ انتظروا تروا. . . وسرنا خلال(320/27)
السهول ننعم فيها النظر فنرى من جمالها كل لحظة ما لم نكن رأينا. . . حتى بدت أوائل الكروم، كروم (دوما). . . منذا الذي لم يسمع بها؟ تلك التي طارت شهرتها في الآفاق، فأسكرت بمشهدها العشاق وذوي الأذواق، كما أسكرت برحيقها من كان من أهل الرحيق. فقالوا: هذه هي الغوطة؟ قلت: لا. بل هذه كرومها، فانتظروا الغوطة التي فتنت أجدادكم من قبلكم، وفتنت من قبلهم الروم والفرس، وتفتن كل ذي لبَّ إلى يوم القيامة!. . . وسرنا خلال (الكروم)، وهي تمتد عن أيماننا إلى حيث لا يبلغ البصر، و (المناطر)، قائمة على العيدان الرفيعة، منثورة في الأرض، ضاربة في السماء، لا يحصيها العدَّ، كأنها أعشاش العاشقين، أو منارات يؤذن فيها دعاة الغرام، تبعث في النفس ذكريات الحب الدفين (وفي نفس كل إنسان منه ذكريات)، فتعيد الحب حياً. وسرنا خلالها حتى بلغنا (الغوطة)، فسلكنا جانباً منها يحاذي دوما وحرستا. فقلت: هذه هي الغوطة! وسكت فلم أعرفها لهم، ولم أقرظها، بل تركتها تقرظ نفسها. . . ففعلتْ وأربتْ على ما كان في الخيال منها؛ فذهب الإعجاب بالقوم كل مذهب، ونال من نفوسهم كل منال، فسكت اللسان، ونطق القلب، وقالت العينان، وشحّت اللغة، فما تبضّ إلا بقطرة ما فيها ري ولا بلل. . . وهل في اللغة إلا أن تقول: جميل ولطيف ومدهش وعظيم؟ أو ليس الجمال مائة ألف نوع؟ أو ليس للدهشة مثلها من الأسباب؟ فأين الكلمتان الجامدتان من هذا العالم الحيّ؟ إننا معشر البشر ما تعلمنا النطق إلى اليوم
وبلغنا دمشق، فقلت للقوم: إن في سفر الطبيعة صفحات مختلفات، في كل بلد صفحة منها. فسهل وجبل وواد وصحراء وبحر ونهر. . . فتعالوا أشرف بكم على صفحة فيها كل الصفحات. تعالوا أطلعكم على دمشق، وقد رأيتم منها سهلها وغوطتها، لتروا جبلها وصحراءها وواديها!. . . فأبوا عليّ، وجنحوا إلى الهرب، وتعللوا بالتعب، وأصررت وأبيت. . . فرأيتهم لانوا كارهين، فاغتنمت لينهم، ولم أبال كراهيتهم، لعلمي أن ما سيرون سيقع منهم موقع الرضا وفوق الرضا. . . وأخذنا سيارة من المرأب (الكاراج) الذي استودعناه حقائبنا، إلى (الدار) التي استأجرها لنا أخي. . . في (الجادة الخامسة). فما انعطفت بنا السيارة نحو (طريق الصالحية)، وشاهد أصحابنا البيوت ترتقي في الجبل، وهو يجلسها في حجره، ويحوطها بذراعيه، وينحني عليها برأسه الهائل المتوج بالصخر،(320/28)
حتى تبدَّل سخطهم رضا، وطفقوا يسألون!. . . فقلت: أما الذي إلى اليمين، حيث البيوت الواطية المتلاصقة، والمآذن الكثيرة السامقة، والقباب، فحيّا الأكراد والصالحية؛ وقد أنشأ حي الصالحية الجد الأعلى لآل قدامة، أو آل المقدسي حين نزح إلى دمشق منذ ثمانية قرون فراراً من فلسطين وما حاق بها يومئذ من المحنة. فأحيا الله به وبأسرته العلم في تلك الديار، ونشروا فيها المذهب الحنبلي، وظهر من أسرته علماء فحول كالضياء المقدسي ويوسف بن عبد الهادي قريع السيوطي وشبيهه في سعة علمه وكثرة تصانيفه. . . ولكن الله قدر للسوطي من نشر علمه، وطوى علم يوسف في سجلات دار الكتب الظاهرية. . . ولا تزال آثار هذه النهضة العلمية العظيمة ظاهرة في المدارس الكثيرة القائمة في السفح وبين البساتين. . . ثم تتالى بناء المدارس في الصالحية، حتى أن شارعاً يدعى الآن: شارع (بين المدارس) في الشركسية يحوي أكثر من عشرين مدرسة باقية قبابها وأبوابها، فضلاً عما اندثر منها. وآخر هذه المدارس وأعظمها المدرسة العمرية، أنشأها الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي - في منتصف القرن السادس الهجري - ونمت حتى صارت (جامعة)، ودعيت بالمدرسة الشيخة؛ ثم تضاءلت حتى رجعت اليوم خراباً كأكثر مدارس الشام، واختلس الجيران ما قدروا عليه من ساحاتها وأبهائها، فأدخلوها بيوتهم. . . وأما الذي إلى اليسار فحيّ المهاجرين، وقد كان قبل ثلاثين سنة جبلاً أجرد، فأسكن فيه ناظم باشا (المهاجرين) من (كريت) بعد عدوان اليونان عليها، وبنى لهم أكواخاً صغيرة؛ ثم حال الحال فصارت قصوراً للأغنياء، غير أنها لا تزال بقية من تلك الأكواخ خلال القصور، ولا تزال قطع جرداء من الجبل أو صخور ماثلة بين الدور. . .
وذهبت السيارة ترتقي في الطريق الصاعد إلى (المهاجرين)، وكلما علونا فيه شيئاً، بدت لنا من دمشق والغوطة أشياء، حتى إذا بلغنا نهاية الطريق الذي يمشي عليه (الترام) انكشف لنا أعظم منظر تقع عليه عيني: من ورائنا الجبل الفتان (قاسيون)، وهو في الجبال كالفتى الغرانق في الرجال، قوي ولكنه وديع، وحلو ولكنه عظيم؛ وعن أيماننا جبل المزة ووادي الربوة، ذاك الذي يجري فيه بردى في السبعة الأنهار: يزيد وتورا وبردى وبانياس وقنوات وعقربا والديراني؛ تتسلسل كأنها أطواق اللؤلؤ على أحلى جيد، تمتد من صلب هذا الجبل حيث يجري (يزيد) إلى سفحه، حيث يمشي (تورا) من تحته، إلى أسفل الوادي، إلى(320/29)
سفح الجبل الآخر، إلى صلبه؛ والأشجار على ضفاف الأنهار كلها، والشلالات تنحدر من الأعلى إلى الأدنى تتكسر على الصخور، وتنحط، تخالطها أشعة الشمس فيكون لها بريق ولمعان كلمعان الماس، وأين منها لمعان الماس؟. . . وعن شمائلنا الفضاء الرحب، تملؤه الغوطة كبحر ما له آخر، أمواجه خضر. . . وتقوم في وسطه دمشق، دمشق الجميلة، دمشق القديمة، دمشق الخالدة! والجامع الأموي في وسط البيوت تظلله قبة النسر، كأنه رجل طوال واقف بين صبية صغار؛ ومن الدور التي شبهناها بالصبية ما فيه سبع طبقات، ولكنه الأموي معجزة البناء الإسلامي. . . ومناراته الثلاث الهائلة. . . يا لدمشق ومناراتها السبعين والمائة، وغوطتها وبرداها!. . .
قلت: هل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟ هذا الجبل، وهذا الوادي، وهذه السهول، وهذه البساتين، والصحراء صحراء المزة. . . وأنت تجوز بهذا كله ماشياً على قدميك في نصف ساعة. . . وهنالك البحيرة تبدو لكم من وراء الغوطة. فهل بقى من الطبيعة لون لم تحوه دمشق؟
قالوا: لا والله، إلا أن يكون البحر، وهذا بحر من الخضرة شهدنا أنه لا إله إلا الله، وأن دمشق أجمل بلاد الله!
قلت: شهدتم وأنتم في (الجادة الأولى) فكيف إذا صعدتم إلى (الجادة الخامسة)؟
وبعد. . . فيا أسفي على أيامي التي قضيتها ساكناً في (البلد) ويا عجبا من قوم عندهم (حيّ المهاجرين) ويقطنون في غيره، وعندهم قاسيون ونيامون (تحت) في السهل! وكيف يؤم الناس المصايف، ويذهبون إلى بلودان ولبنان، وهنا (الجادة الخامسة) لو حلف رجل بأوثق الأيمان على أنها أجمل من لبنان، وأعذب ماء، وأطرى هواء، لما أثم ولا حنث؟
اللهم عفوك! فإني والله لا أستحق هذه النعمة، وما لي على أداء شكرها طاقة!
ينظر ساكن البلد فلا يرى حوله إلا قليلاً مما يُرى. فيحس أنه في دنيا صغيرة تافهة، فإذا قطن (الجادة الخامسة) تكشفت له الدنيا، وتعرت، فرآها في زينتها وفتنتها، فأحسّ انه مع رفيق يؤنسه وحبيب يسليه، حبيب تراه في الصباح كغادة جميلة في جمالها طهر، وفي عينها صفاء، توحي إليك التأمل، وتسمو بك فوق الشهوات، وتراه في ضوء القمر كآنسة مغرية فتانة تهيّج في نفسك الحب، وتشعل في أعصابك النار؛ وتسمع من الجادة الخامسة:(320/30)
كلمة الخلود في دنيا الفناء، تتجاوب بها مآذن الحيّ، وتبصر المنارات تضيء في الليل من كل جانب فيسمو بك النداء حتى تحسّ أن هذه (الدنيا) قد سمت كلها، حتى صارت هي (العليا). . .
فما أعظم (الأذان) عند من يسمعه من (الجادة الخامسة)!
ينادى في الفجر الساكن الخاشع، لا يشغلكم سكونه وسحره عن عبادة الله والاتصال به!. . . وينادي في النهار الكادح العامل لا تصرفكم الدنيا عن صلاتكم ودعائكم!. . . وينادي والشمس تغيب من أعالي الجبل فيدرك ذروته المساء والبلد والغوطة سابحة في نور الشمس، وينادي حينما يعم الدنيا سحر الغروب، وينادي حين يبدأ الليل، وتستعد الفضيلة للنوم، وتتهيأ الرذيلة للسهر!. . .
في (الجادة الخامسة) يشعر الإنسان أنه يندمج بهذا الكون فيأنس به، ويطمئن إليه؛ ثم إذا هبط إلى البلد فكر فيه واشتاق إليه!. . .
كل شيء في (الجادة الخامسة) ساكن حالم، أما (البلد) فكل ما فيه مضطرب متوثب. . . هنا الشعر والتأمل؛ وهناك. . . هنالك تحت هذه السقوف التي تظهر خاشعة في ضباب الصباح، ووهج الظهيرة، وظلمة الليل. . . خلاف وتنازع على الرياسة، وانقسام وفشل. . . هنالك هبطت قيم الأخلاق وأمحى الإيثار، فالأخوان يصطرعان، والعدو - عدوهما معاً - واقف يصفق لهما ليهيجهما، لتخور قواهما ويسقطا من الإعياء، فيقبل ليفعل بهما ما يشاء. . . هنالك التاجر المفلس من أقطاب السياسة، والتلميذ الراسب من أقطاب السياسة، والعامل المطرود من أقطاب السياسة، وكل الناس من أقطاب السياسة وزعماء البلد. . . لم يبق تلميذ لدرسه، ولا تاجر لدكانه، ولا محام لمكتبه، ولا طبيب لعيادته، ولا رجل لما خلق له، لكنهم جميعاً للخلاف والتنازع، كل حزب يهدم الأحزاب فتنهدم جميعاً، ويبني العدو ما يبتغي. . . أرى هذا كله من (الجادة الخامسة) فأتألم ولكن لا أتكلم، لم يبق لمثلي مجال للكلام. . .
أرى هذا فأذكر بغداد، وما خلفت في بغداد. . . خلفت فيها النظام والاتحاد والطلاب الذين جعلهم نظام الفتوة جنداً، ونحن المدرسين الذين صرنا ضباطاً لهم شارات الضباط وحياتهم وقانونهم(320/31)
خلفت الاستقلال الذي لا تشوبه شائبة، والشعب المتوثب، والجيش القوي، والاستعداد لنصرة كل قطر عربي. . .
أشهدوا أني أحب بغداد. . . أني أحبها، ولكن دون حبي دمشق. . .
أحب بغداد وأفخر بها، وأحب دمشق حبًّا أكبر آسي عليها، وأرجو لها مثل ما أعطيت بغداد على أن تتم لبغداد نعمتها
اللهم! إن تحت كل شجرة من أشجار الغوطة جثة شهيد مات دفاعاً عن هذه الأرض الطاهرة التي سقيت بالدم؛ ثم إنها لم تخلص لأهلها، ولم تنج من الغاصب الدخيل. . . اللهم كما جعلت دمشق درة الكون، ومنحتها ما لم تمنح بلداً، أكمل عليها نعمتك وهب لها الحرية والمجد، فالحرية والمجد أجمل من كل شيء!
اللهم! متى أطلّ من شرفة داري في (الجادة الخامسة). فأقول:
الحمد لله! كل هذا الجمال لنا، هذه ديارنا لنا، وهذه أمتنا متحدة ناهضة، تمشي في طريق العلاء. . .
متى يا ربّ. . . متى؟!. . .
علي الطنطاوي(320/32)
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
فخر الفرزدق
مدح الفرزدق (والفرزدق سمح بألقاب المدح وصفات التقريظ ولكنه حاذق يمدح الرجل بما يليق أن يمدح به، وينظر إلى خصائصه فيضفي عليها ثوباً من المبالغة)
(ومدح الفرزدق لخلفاء بني أمية فيه براعة ومقدرة يظهر عليها الطابع السياسي جلياً واضحاً أكثر من كل ما مدحهم به الشعراء حتى أخص أنصارهم كالأخطل وجرير وعديّ بن الرِّقاع فهو داعية لهم ولسياستهم، يجاهر بأنهم أجدر العرب بالملك، وأن الله اختارهم لخلافته)
وقد روى الأستاذ طائفة صالحة من أقواله المدحية منها قوله:
وجدنا بني مروان أوتاد ديننا ... كما الأرض أوتاد عليها جبالها
وقوله في يزيد بن عبد الملك:
وما وجد الإسلام بعد محمد ... وأصحابه للدين مثلك راعيا
ضربت بسيف كان لاقي محمد ... به أهل بدر عاقدين النواصيا
وقوله فيه، وقد عدا الفرزدق طوره في البيت الأول وكفر أو كاد:
لو لم يبشِّر به عيسى وبينَّه ... كنت النبي الذي يدعو إلى النور
فأنت إذ لم تكن إياه صاحب ... مع الشهيدين والصديق في السور
في غرف الجنة العليا التي جعلت ... لهم هناك بسعي كان مشكور
فلن تزال لكم والله أثبتها ... فيكم إلى نفخة الرحمن في الصور
أبا فراس! (لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحاها)
من يأمن الدهرَ مُمساه ومصبَحه ... في كل يوم له من معشر جزرُ
بعد ابن مروان أودي بعد مقدرة ... دانت لهيبتها الأمصار والكوَر
ثم الوليد فسل عنه منازله ... بالشام والشام معسول له خِضر(320/33)
تجبى إليه بلاد الله قاطبة ... أخلافُها ثرَّة لأمره دِرَر
وفي سليمان آيات وموعظة ... وفي هشام لأهل العقل معتبر
واذكر أبا خالد ولى بمهجته ... ريب المنون وولى قبله عمر
وفي الوليد أبي العباس موعظة ... لكل من ينفع التجريب والفكر
دانت له الأرض طراً وهي داخرة ... لا يدفع الذل من أقطارها قطر
بينا له الملك ما في صفوة كدر ... إذ عاد رنقا وفيه الشوب والكدر
كانوا ملوكا يجرون الجيوش بما ... يقل في جانبيه الشوك والشجر
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... قفراً سوى الذكر والآثار إن ذكروا
ويظن بعضهم أن لو استمر ملك القوم قرناً آخر لتعربت الدنيا، وأحال أهلها
يقول الأستاذ في باب البحث عن شعر الفرزدق: (وإذا أردت أن تقف على الأسلوب العربي الصريح بجزالته وفخامته فاسمع قوله:
أحلَّ هُزيم يوم بابل بالقنا ... نذور نساء من تميم فحلت
فأصبحن لا يشرين نفساً بنفسه ... من الناس إن عنه المنية زلت
يكون أمام الخيل أول طاعن ... ويضرب أخراها إذا هي ولت
عشية لا يدري يزيد أينتحي ... على السيف أم يعطي يداً حين شلَّت
وأصبح كالشقراء تنحر إن مضت ... وتضرب ساقاها إذا ما تولت
لعمري لقد جّلى هزيم بسيفه ... وجوها علتها غبرة فتجلت
وقائلة كيف القتال ولو رأت ... هزيماً لدارت عينها واسمدرت
وماكر إلا أول طاعن ... ولا عاينته الخيل إلا اشمأزت
ويزيد المذكور في هذا الشعر هو ابن المهلب، وكان خلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه، وقال له مشعبذون إنه سيلي الأمر ويهدم دمشق. . .
يخبرك الكهان أنك ناقض ... دمشق التي كانت إذا الحرب حرّت
ولما واقعه جيش مسلمة في العقر عقر بابل ضرب هريم ابن أبي طحمة المجاشعي يد يزيد فقطعها، وقتله القحل بن عياش وضرب يزيد القحل فماتا جميعاً. قال الطبري: (انفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً، وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد يقول(320/34)
لهم أنا قتلته ويومئ إلى نفسه أنه هو قتلني)
وفي هذه الوقعة يقول الفرزدق:
كيف ترى بطشة الله التي بطشت ... بابن المهلب إن الله ذو نقم
كم فرج الله عنا كرب مظلمة ... بسيف مسلمة الضراب للبُهَم
ولما ثار يزيد كان الحسن البصري يثبط الناس عنه، قال يوماً في مجلسه: يا عجبا لفاسق من الفاسقين، ومارق من المارقين غبر برهة من دهره ينتهك لله في هؤلاء القوم كل حرمة، ويركب لهم كل معصية، ويأكل ما أكلوا، ويقتل من قتلوا حتى إذا منعوه لماظة كان يتلمظها قال: أنا لله غضبان فاغضبوا، ونصب قصباً عليها خرق وتبعه رِجرجة رعاع هباء ما لهم أفئدة، وقال أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز. فبلغ ذلك يزيد، فأتى الحسن هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين فسلموا عليه ثم خلوا به، وصار الناس ينظرون إليهم فلاحاه يزيد، فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد فقال له الحسن: فما أنت وذاك يا ابن اللخناء، فاخترط سيفه ليضربه به فقال يزيد: ما تصنع؟ قال: أقتله، فقال له يزيد: أغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا
يقول الأستاذ: (ومدح الفرزدق في جملته من أبواب شعره الجيدة، ومن أحسنه قوله:
إني أرى يزيد عند شبابه ... لبس التقى ومهابة الجبارِ
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصارِ
وروى له من هذا الجيد غير ذلك
رثي الفرزدق و (رثاء الفرزدق قليل، وهو إذا قيس ببقية أبواب شعره يقع مقصراً، وما قاله عن اضطرار أو عن خوف ينم على قوة ومقدرة كرثائه للحجاج وأخيه وابنه)
يقول في الحجاج:
ليبك على الحجاج من كان باكياً ... على الدين أو شارٍ على الثغر واقفِ
وأيتامُ سوداء الذراعين لم يدع ... له الدهر مالاً بالسنين الجوالف!
ومهمِلة لما أتاها نعيه ... أراحت عليها مهمَلات التنائف
فقالت لعبديها: أريحا فعقّلا ... فقد مات راعي ذودنا بالطرائف!
ومات الذي على الناس دينهم ... ويضرب بالهنديَّ رأس المخالف!(320/35)
يقولون لما أن أتاهم نعيه ... وهم من وراء النهر جيشُ الروادف
شقينا وماتت قوة الجيش والذي ... به تربط الأحشاء عند المخاوف!
له أشرقت أرض العراق لنوره ... وأومن إلا ذنبه كل خائف
ومقصدات الفرزدق ومقطعاته في هذا الباب تخبر بأنه يجيد حين يريد. ومن صالح رثائه أبياته في بشر بن مروان، وختامها:
وكنا ببشر قد أمنّا عدونا ... من الخوف واستغنى الفقير عن الفقرِ
وقد ذكر فيها أنه عقر فرسه على قبره، وقال غير أبي عبيدة: ادعى أنه عقر فرسه ولم يعقره. . .
يقول الأستاذ: (يدل على تخلفه في هذا الباب أنه لما ماتت النوار لم يفتح عليه بما يصح أن يناح به عليها. . .) وقال بشار: (كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير)
وقول الأستاذ المردمي فيه شيء من الحق، وقول بشار معه البُطل. وإذا كان الفرزدق لم يمل عليه شيطانه شيئاً حين هلكت مطلقته النوار التي أشقى صلاحُها طلاحَه الدهر الأطول. . . فهل يدل ذلك على أن لجرير ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق؟ وهل الشعر رثاء وبكاء؟ على أنا إذا جمعنا مراثي الخبيثين - ولجرير اثنتان وعشرون قصيدة ومقطعة، وللفرزدق خمسة وعشرون قصيدة ومقطعة - ووازنا بينها موازنة المقسطين، لم نر جريراً شأى صاحبه إلا برقته في مراثيه لا ببراعة معانيه، والأمر يؤول إلى لين العريكة وقساوة الخليقة. ثم إنه من قلة الإنصاف ألا ترى الرثاء إلا في أن يذكر الشاعر وجوهاً خمشت، وخدوداً لطمت، وشعوراً نفشت، وجيوباً شقت، ودموعاً همرت، والتياعاً وارتماصّاً وأنيناً. . .
إن للشعراء في الرثاء والهجاء والثناء لمجالاً في المقال، وإن البارعين هم المجتهدون المتفننون لا المقلدون المبقبقون. . .
يقول الأستاذ: (على أن له في الرثاء بعض بنيه شعراً يدل على أن الشجي خالط نفسه، والآن عاطفته فنفث حرقة صادقة تشجي السامع كقوله:
بني أصابهم قدر المنايا ... فهل منهن من أحد مجيري!(320/36)
ولو كانوا بني جبل فماتوا ... لأصبح وهو مختشع الصخورِ!
إذا حنت نوار تهيج مني ... حرارة مثل ملتهْب السعيرِ!
حنين الوالهين إذا ذكرنا ... فؤادينا اللذين مع القبورِ!
وروى الأستاذ للفرزدق في وكيع بن أبي سود العداني:
فلو أن ميتاً لا يموت لعزه ... على قومه ما مات صاحب ذا القبرِ
ودفن ابناً له فالتفت إلى الناس فقال:
ما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا
(يتبع - الإسكندرية)
* * *(320/37)
قواعد النقد الأدبي في العربية
للأستاذ محمد ناجي
أتى على العصور الأدبية في اللغة العربية أزمان قويت فيها الروح المعنوية فسالت كما يسيل الماء الصافي، فلم تكترث للّفظ، وغطّتِ الفكرة على كل شيء فكانت قوية قاهرة وهّاجةً تعنو لها الجباه ويقدرها النقاد، وأتى على اللغة العربية حين آخر خبا فيه بصيص هذه الأفكار، فعمد الكتاب إلى المساحيق والطلاء ليخفوا ضعف أفكارهم بالمحسّنات اللفظية غير الطبعية. ومع أننا في النقد الحديث نحبّذ كلّ التحبيذ الفكرة القوية الساطعة التي هي نوع من الإلهام يتصل بالخلد، ولا يتقيد بزمان ولا بمكان، إننا - مع ذلك - نقدّر كل التقدير القالب الذي تتجّلى فيه الفكرة، إذ أن من توافقهما يخرج الأسلوب الحسن المناسب، ونعرف الأسلوب بأنهُ حسن تأدية اللفظ للفكرة التي يحتويها، وكلما كان الأسلوب محسناً في تأدية هذه الفكرة صمد لمعاول النقد الأدبي
وهنالك عناصر كثيرة تكوّن ذاك الأسلوب وتطبعه بطابع خاص، فهناك شخصية الكاتب تفيض في أسلوبه، وهناك (ملامح) تلك الشخصية تتجلى في استعمال ألفاظٍ خاصة نتوقعها كما نتوقع الدقة الموسيقية دليل الانسجام الموسيقي. ومن يقرأ أسلوب الكاتب الإنجليزي د كنز يصادف ذلك النوع من خفة الروح تداعبنا من خلال ألفاظه ونكاد ننتظرها قبل أن يقولها، فهي تميز أسلوبه تمييزاً تاماً عما عداه
هناك إذن عوامل شتى تتجمع فيما نسميه الأسلوب وتتألف من شخصيه الكاتب ومن بيئته، ومن الأفكار المتعارفة في وقته، ومن مجرى الحوادث السياسية والاجتماعية. لكن ما هي القواعد الأدبية والأقيسة التي يمكن أن نحكم بها الأسلوب كما عرفناه؟
لا شك أن لكل قطعة حسنة الأسلوب جيدة التعبير عن المعنى الكائن خلفها، روحاً خاصاً قد نفهمه؛ وقد لا يمكن مهما حاولنا بأقيستنا أن نعرف نوع الجمال والسحر اللذين فيه، فغاية ما يمكننا أن نقول عنه إنه جميل. ثم هناك الجثمان اللفظي الذي يحوي الفكرة المعنوية، وهذا الذي يمكن أن نطبق عليه أقيستنا الصغيرة. وقد نقف أحياناً مكتوفي الأيدي أما القطعة الشعرية فلا يمكننا أن نعبر عن الجمال الروحي الذي بها، إلا أننا قد نبسط هذا التأثير بأن نقول: إنه ملك علينا مشاعرنا فحسب وأنه حاز رضانا وإعجابنا. ولما كانت مشاعرنا(320/38)
تنحصر في هذه الحواس الخمس وفي ذلك الشعور الباطن بالجمال الذي نملكه، وفي تلك الأفكار التي تحتوي نماذج خاصة نقيس عليها كل جمال نراه، فيمكننا أن نقول: إن القطعة الأدبية تدخل علينا السرور عن طريقين كبيرين: أحدهما عن طريق العين والمرئيات فهي ترسم لنا صورة بارزة وأخيلة قوية ناطقة، وثانيهما عن طريق الأذن بواسطة السحر الموسيقي. فانسجام القطعة الأدبية يعرضها لنقدنا فوق كل شيء عن طريق البصر والسمع، ثم عن طريق قوة العاطفة والفكرة. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نضع قواعد بسيطة للنقد الأدبي
أولاها اختيار اللفظ الذي يحسن أداء المعنى المقصود. يقولون عن الشاعر أو الناثر المُجيد إنه لو اْنتُزع لفظ من كلامه لما أمكن وضع بديل منه يؤدي نفس المعنى في نفس المكان؛ ونتبين مقدرة الكاتب من هذا الاختيار للفظ الذي لا يمكن العبث به ولا التبديل فيه. ومن هنا نتبين قوة أسلوب الكاتب ومرونة ذلك الأسلوب ليفي بالغرض المطلوب منه في كل قطعة على اختلافها، ولتأدية الأغراض المختلفة في القطعة الأدبية
يلي ذلك اختيار الكلمات وتنسيقها تنسيقاً موسيقياً، أو كما يرتب الرسام ألوانه ليخرج لنا الصورة الفنية. ولننظر في قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً) فنرى الانسجام اللفظي البديع الذي لا يتأتى تنسيق سواه أن يرتفع إليه. فقوله (أكملت) تراه يتردد في لفظ (أتممت) وفي لفظ (الرضى) الإلهي، كما يتردد النغم الطيب، فهذا إكمال الدين من جانب البشر، يقابله (إتمام) النعمة من جانب اللُّه، وينتج عنه الرضاء. ثم انظر إلى لفظ (الدين) في الأول و (الدين) في الآخر، ولفظ نعمة في الوسط وهي ترادف آخر للفظ (الدين). ولست أجد أبدع في ترتيب اللفظ من آي القرآن
أما الناحية الثالثة فهي الوزن والقافية في الشعر. وليست أدرى لماذا أريد أن نتحرر من هذه القوافي التي تتحكم في أخيلتنا بلا مبرر والتي تلزم الشاعر ترتيباً من الأفكار قد يختل فيه الانسجام، ويضيع عنده الجمال. ولست أدري ما الذي يحول بيننا وبين أن نخرج على هذه البحور (الأثرية) التي قيدنا بها الخليل بن أحمد. ولست أدري لماذا نظل في الموسيقى الفردية ولا نخرج منها إلى الموسيقى الإجماعية التي يتكون فيها الجمال الفني من تضافر أنغام مختلفة لآلات كثيرة تساهم كل منها بنصيبها في تكوين القطعة. وليس من شك في أن(320/39)
للبحور الشعرية موسيقى خاصة، ولكن كل بحر إنما هي موسيقى فردية، فلنجعل للقافية وللوزن مكانهما في الشعر ولكن يكون أوسع من مكان الترجيع الممل في الموسيقى الفردية. وهناك إلى جانب هذا تمثيل الصوت بحيث يؤدي المعنى ويسمى وقد نظم تنيسون مقطوعة شعرية عن البحر، لتخال وأنت تقرأها أنك تسمع صوت جرجرة البحر وصخب الأمواج، وقد تم لمشاعر ذلك بانتخاب أحرف خاصة.
ثم المجاز والتشبيه، وهمار كنان ينبغي أن نجعلهما يخدمان الفكرة لا أن تخدمهما، فهناك مواقف نحتاج فيها إلى التشبيه، ولا يمكن فهمها بدونه، خاصة إذا كان المعنى المراد تأديته إنما يقرب الذهن إن نحن ألبسناه صورة خاصة من الشبه.
أما الناحية الأخيرة من نواحي النقد فهي التأثير الفني الإجمالي
لكن ما هو هذا التأثير الفني؟ وأخالني أرى أولئك الذين ينتخبون ملكات الجمال، فيعمدون إلى قياس التناسب الجسديلمعرفة التناسق الجمالي، يسألون أنفسهم نفس السؤال: ما هو الأثر الإجمالي الذي يعطيه هذا التناسق الجسدي في مجموعه؟ وفي اعتقادي أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف في النهاية على تميز هذا المجموع عن ذلك. إن لكل قوم ولكل زمان نماذج خاصة للجمال، وقد يفهم كل من الجمال بقدر ما توارثه من صور الجمال في ذهنه أو بقدر ما يصبو إليه في زمنه.
قد يقرأ القارئ قطعة ثم يعود إليها فيفهم منها غير ما فهمه في المرة السالفة. ولشكسبير بعض قطع كلما قرأتها تبين لك معنى جديد، فكأنما الكاتب قد ملك ناصية المعاني وهو يكتب إليك من علياء بيانه فتقرأ تعبيره يوماً ما ثم يذهب بك الزمن فتقع في نفس الظروف والملابسات التي عرضت لذلك الكاتب فتتذكر اللفظ الذي كتبه وترى معنى جديداً
حقاً ما أشق مهمة الناقد وما أوهن قواعد النقد!
محمد ناجي(320/40)
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الأسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
أصلحتُ ما قال سيبويه ... بما رآه (أوبر كرومبي)
قد أصبحت مصر في لغاها ... مصباح شرق وزيت غرب
وصرت في أمتي زعيماً ... كأنني طلعت بن حرب
الشعر للأستاذ أحمد الشايب، وفيه لحن لما يضربْ لصغر سنه
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: لما وضعت كتابي (الأسلوب) عمدت فيه إلى تهذيب المنهج في تعليم البلاغة. فراجعت كتاب المستر أوبر كرومبي، ومزجت ما يسميه الإنكليز بالـ (روتاريك) بما يسميه العرب (البلاغة)، وأخرجت من ذلك كتاباً في الأسلوب على طريقة
قال أبو الفرج: ولقد طالعت هذا الكتاب فوجدته بديعاً ولا عيب فيه غير أسلوبه
قال: واعتذر الأستاذ الشايب عن ذلك بالقاعدة الإنكليزية في أجرومية تلك اللغة قال وهذه القاعدة عند علماء البلاغة في كل اللغات أن يكون الحد اللفظي لها مخالفاً للمعنى الذي تضمنته كما يقال في البلاغة العربية: (قبيح أن تبدأ الجملة بلفظ قبيح). قال وهذه القاعدة تصلح ترجمة للقاعدة الإنكليزية التي ذكرتها
قال أبو الفرج: والحق أن المركَّب الذي استحدثه الأستاذ الشايب للبلاغة مركب بديع، وقد خرج فيه عن الطريقة العربية للمركب المزجي وقارب الطريقة التي ذكرها الأستاذ فرويد لمركباته المختلفة.
حدثنا الأستاذ سلامة موسى قال: إن مركب النقص ومشتقاته ليست هي كل المركبات وإنما ذكرت منها ما ذكرت في المجلة الجديدة على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر؛ فهناك مركب مثلاً اسمه مركب الدعاية العملية وهو يتعلق بالدعاية دون غيرها ومرده بالطبع إلى أشياء أخرى غير الغريزة. ومن أمثلة هذا المركب أن في الإسكندرية شاعراً جهيراً اسمه(320/41)
الدكتور زكي أبو شادي وناقداً كبيراً اسمه الأستاذ إسماعيل أدهم، وهما يشتركان في تأليف كتب باللغة الإنكليزية ويوقعانها معاً بأسماء مستعارة، ولكن الدكتور زكي أبو شادي يوقع بلقبه العلمي فقط: (الدكتور) ويوقع الأستاذ أدهم باسم (ليونارد هاركر) ويرى الناس التوقيع هكذا: (الدكتور ليونارد هاركر) ويحسبونهما رجلاً واحداً بهذا الاسم والواقع أنهما اثنان أحدهما دكتور شاعر والثاني ناقد
قال الأستاذ سلامة موسى: (ولما عرفت هذه الحقيقة، وجدتني أنطق الشعر على الرغم من كراهيتي له، وقلت أهجوهما:
كم ناقد أبسط مِن شاعر ... وشاعر أمكر من ناقد
فكيف بالله ترى خلة ... قد ضمت الوصفين في واحد
قال: وواحد هنا لا تشير إلى فرد منهما وإنما تشير إلى المركب الذي مزجهما معاً.
حدثنا الأستاذ إسماعيل مظهر قال: إن نظرية فرويد مردها إلى النسيان. ولقد بوب كتابه عن الحياة اليومية على أساس من ألوان المنسات، فباب عن نسيان الأرقام، وآخر عن نسيان الوجوه، وثالث عن نسيان الأخبار وهكذا. وفي الحق أن الأستاذين إسماعيل أدهم أو الدكتور زكي أبو شادي لم يتجها قط إلى المزج، وإنما أرادا التوقيع بكامل اسميهما ولقبيهما، ولكن أحدهما نسى اسمه بعد أن كتب كلمة الدكتور، والثاني نسى لقبه قبل أن يكتب اسمه ليونارد هاركر، ولقبه هو البروفسور
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: أما المركب الذي استحدثه بمزج البلاغتين العربية والإنكليزية فليس من هذا النوع وليس منشؤة النسيان، وإنما وقع لي هذا الخاطر المبارك أيام كنت موظفاً في حكومة السودان وكان الحكم فيها ثنائياً فأنشأت كتابي (الأنجلو اجبشيان أسلوب) لمدارس الأنجلو اجبشيان سودان. أليس كذلك؟ أوريت! وفي رواية أخرى أنه لم يقل: أوريت، وإنما قال: أوكيه
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: هذه والله بدعة قبيحة من المثقفين بالثقافة الإنكليزية. ولقد سمعت منذ أسابيع محاضرة أذاعها الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني من محطة لندن فنعى علينا نحن الفرنسيين المصريين أننا أدخلنا على الأدب المصري عنصر المغالاة وأننا بعد أن بشرنا بالرومانيكية سكتنا. سامحه الله! ومن الذي يزعم أني سكت أو أني سأسكت! على(320/42)
أن الأستاذ المازني قد فاته أن يتحدث عن بدعة الأستاذ الشايب
وحدثنا الأستاذ المازني قال: لقد أذعت محاضرتي قبل أن يصدر كتاب الأسلوب وأنا الآن أتحدث قبل أن أقرأ الأسلوب فما للدكتور زكي يتعجلني قبل الأوان؟ أيحسب أنه يطيق مهاجمتي كما هاجم غيري من قبل؟
حدثنا الدكتور زكي مبارك قال: ما لهؤلاء يتهموني جميعاً بالشغب؟ أتراني أفعل كما فعل قرقوش فأصدقهم وأكذب عيني! وحقهم جميعاً لا أشاغب ولا أحب من يشاغب ولولا أن الرهبنة ليست في الإسلام لو دعت الناس جميعاً وقضيت بقية العمر راهباً في مسجد نوتردام دي سنتريس!
ليت الصبايا يترهبن ويدخلن معي الدير! إذن لكنت أشهر من أحدب فكتور هيجو صاحب كنيسة نوتردام دي باريس! آه لو ترهبت الصبايا!
قال أبو الفرج: والحق أن أصدقاء الثقافة الفرنسية كانوا أقدر على الاختراع والابتكار حتى ظهر كتاب الأسلوب مازجاً بين البلاغتين فتم الانتصار في الابتكار لأصدقاء الثقافة الإنكليزية
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: وهل يحسب أحد أن التقريب بين مصر وبين حليفتها من حيث البلاغة ليس إلا ضرباً سامياً من ضروب الوطنية! أليس ذلك مؤدياً إلى حسن التفاهم بين الأمتين في المستقبل؟
قال أبو الفرج: أما وقد أشار الأستاذ الشايب إلى الوطنية فما سمعت في الشعر المصري أروع وطنية من شعره، ولا رأيت في النقد المصري أقوى من تلك الوطنية في نقده.
قال: لقد نقد الأستاذ الشايب لبهاء الدين زهير فرأيته يهزه هزاً عنيفاً ويسأله: أين شعره في الحروب الصليبية، وأين وطنياته المصرية؟
ولقد قرأت نقده للمتنبي فرأيته يهزه كذلك هزاً عنيفاً ويسأله أين شعره في النيل؟
وهو على الرغم من سمو مكانته يلجأ بدافع الوطنية إلى التضحية ليكون قدوة ومثلاً لغيره من الناس، فكان أول أستاذ جامعي تطوع في فرقة الإنقاذ من الغارات الجوية.
قال: ولقد كنت وإياه وجماعة من المصطافين القاهرين بالإسكندرية عندما أطلقت صفارة الخطر على سبيل التجربة. فقام الأستاذ الشايب من فوره وارتجل هذه القصيدة، وليس أدل(320/43)
منها على وطنيته وإنسانيته:
صوت
صفيرٌ كصوت البوم ينعق ناعياً ... ثُكلْتَ من المدعوُّ ويحك داعياً
فودعت أهلي واتخذت كمامتي ... وبَذْلتي الصفراء وانسقت باكياً
والبذلة الصفراء هي ثوب من المطاط يرتديه المتطوعون في فرقة الإنقاذ
أفتش بالأذنين عن صوتِ معولٍ ... ولا معول إلا المنون المناديا
أزيز نسور ترسل الموت مُلهَباً ... وروحاً بلا جسم وصلباً وجارياً
فخضت الردى جوَّا وماءً وخضتهُ ... لهيباً وأحسست الردى في كيانيا
وفوق يساري شارة تستحثني ... وتهتف بي أن لست وحدكَ فانيا
وتهتف بي من مات لم يعد عمرهُ ... ومن ماتَ لم يلقْ المنيةَ ثانيا
وفي عضلي المفتول محمل خائرٍ ... فإن لم يجدني منقذاً فمواسيا
وفاضت على صدري نفوسٌ كثيرةٌ ... ووكلت بالأخرى الطبيب المدوايا
فيا غارة ما كان أبشع خضتها ... وهوَّن منها أنها في مناميا
الشعر للأستاذ أحمد الشايب وفيه لحن من صنعة الأستاذ حمدي باشا الديب تضرب على نغمة صفارة الخطر
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(320/44)
الجبر والاختيار
في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
- 3 -
(. . . وقول الحق أمثل من السكون، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي إلا أنه قد لقي ما حذر، فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح. . .)
ومن مظاهر هذا التفكير ما انتهى إليه من نظرته في الجبر.
وأول ما يمكن أن نصادفه من هذا التفكير مشكلة خلق الأعمال ومشكلة التكليف وأمر البعث. فإن المسألتين الأخيرتين نتيجتان مباشرتان لمشكلة خلق الأعمال تتأثران بها سلباً وإيجاباً. فإذا ما أثبت للإنسان خلق الأعمال صحت إذن تعاليم الأديان بشأن القيامة والحساب، وإذا أثبت ذلك لله سقط التكليف عن البشر وانهدمت في رأي العقل والعدل فكرة الحساب والعقاب. ويبدو أن هذا ما يميل إليه أبو العلاء، وإن لم يصرح به تصريحاً. وهو كما نعلم قد أسلم قيادة للعقل، وعقله أدان بالجبر المطلق فلم يكن من الحق في شيء أن يثبت بعثاً ولا تكليفاً ما دام قد أثبت الجبر في الأعمال. بل كان العقل يقضي صراحة بالرفض إلا إذا كان البعث والحساب جبراً كذلك، وهذا ما لم يفعله أبو العلاء منزهاً الله عما يراه من عبث
يرى المعري نفسه مجبوراً على أن يفعل ما يأتيه لا خيرة له والقدر من حوله (أخو الحياة) فيقول: (كذبتْ النحاةُ أنها تعلم لما رفع الفاعل ونصب المفعول، إنما القوم مرجمون، والعلم لعالم الغيوب، خالق الأدب والآداب) فهو لا يرى أن القائم بالفعل هو الفاعل الظاهر؛ وإنما الفاعل شيء آخر (بيده نواصي العباد، لا يخرج بما يقضيه الجمد ولا الحيوان، ولا يفعل إلا ما رِضي وشاء، وغير متعلق به الزيغ والخطأ، ولا شيء من الدنيات) هذا الشيء يخشى أن يصفه بصفة ما (وإن فعلت خشيت التشبيه، وأشركتُ الضعفة العاجزين، مع القوي القادر في بعض المقال إذا قلت فعل الأول وفعل النعمان، وهيهات ما أبعد بين(320/45)
الفعلين) وقد يبدو هنا أنه أسند إلى النعمان فعلاً قام به ابتداء منفصلاً عن الأول كما يشعر بذلك قوله: (ما أبعد بين الفعلين) ولكن ما الرأي وهو يرى عكس هذا، ويصرح به في نصوص صريحة لا تحتمل الشك ولا التأويل نحو قوله: (وعملي مكتوب مكلوء، مقترى بالحفظ ثم مقروء، وثوب الحياة عني مسروء، وغير القدر هو المدروء، لا يبعد عني السوء، أهُّم بالخير وأهوء، والأقدار دونه معترِضات) فهل رأيت إلى ذلك المكتوب؟ ومحاولته فعل الخير فلا تمكنه من ذلك الأقدار لأن الذي قدرها لم يقدر له أن يفعلها؟ فيغضب أبو العلاء لذلك ويصيح أن (لو كانت المناقشة في غير عالم المستودعات لتمنيت أن تُلقي إليَّ صحيفة العمل فأضرب على ما ضمنته رُجاة الإضراب) ولكنه يائس من ذلك؟ (هل يعصمني الاجتهاد وقد سبق حكمه أنى من أهل الخسار، أم يضرني التقصير وقد نفذ علمه أنى في درجة الأبرار)
وقد يعترض على ذلك بان أبا العلاء نصح بأن (اترك المضلة إلى المرشدة؛ فإن طرق الخير كثير) وقال: (ما يمنعك أن تخيَّر القسى وأنت في بلاد الضال؟) ولكنه رد فيما أوردت على ما يمنع المرء أن يترك هذا إلى ذاك أو أن يتخير القسى.
فالأعمال إذن حكم مقدر على المرء، لا يستطيع أن يحيد عنه، ولا أن يعدل إلى غيره. وما معنى أن يعدل المرء عن (حكم) إلى (حكم)؟ وهو يذهب إلى ما ذهب إليه في مسألة الأرزاق من أن الأحكام تجري على نهج غامض كذلك، لا يدرك أو يعلل، كما جرت الأرزاق على نفس الغموض والإبهام.
ولا يمكن أن تجد عند أبى العلاء علة يقنعك بها أو يقنع نفسه. وإنما العلة لديه أن (الناس أربعة نفر: مسعود نحس فهو المرحوم، ومنحوس سعد فهو المحسود، ومولود بالسعادة إلى أن يموت فذلك المكرم المرموق، وثابت على الشقوة فذلك المُطَّرَح المرفوض.)
وهو يمضي بعد ذلك إلى استخلاص الحكم في هذه القضية، وينظر ما يشير به العقل، فهو يتساءل ما دام كل شيء بحكم الله وقدره (فهل أثم قَيْنُ فتق خشبة مشرفي كأنما درجت عليه بنات الجثل والدعاع. . . فلما تم وكساه الأديم ورواه يمثل ذؤاية الوليد وذلك بعلم الله. . . . . . . . . مرت رفقة من التجر في أعقابهم طالب رزق يقوم الليل ويصوم النهار، فوثب الداعر فضرب عنق جارمة عيال فما تطعم عيونهم من جثاث؟) وهو يعرض(320/46)
إلى تلك الفكرة في بيان جلي يزيدها تفصيلاً حين يقول: (وليس اللسان ذنب إنما الذنب لمحرك اللسان، كفارس طعن برمح فقتل غير مستحق للقتل، فالجاني الفارس، والرمح غنى عن الاعتذار. وإذا سمعت القدم إلى قبيح فالجريمة لناقلها. مثل رجل ركب فرساً فأخاف سبيلاً فاستجوب العقوبة الرجل دون الجواد. . .
وإذا خانت اليد فالباسط لها الخب الخئون. . .) ومن هو محرك اللسان ومن مسير الفارس؟ وهل كان في إمكان محرك اللسان ألا يحركه، والفارس ألا يطعن برمحه، وناقل القدم ألا ينقلها؟ كلا، لم يكن ليستطيع، إذن فلا لوم عليه ولا تثريب. ولكن ماذا نقول وأبو العلاء يأبى أن يقول ذلك صراحة؟ فهو لا يعرض لها في بيان أكثر مما نرى. فهو حذر يود ألا يتعرض صراحة لأمر ليس على علم به. ذلك هو أمر الموت وما بعده من الحياة الآخرة. فهو يجهل أمرهما جهلاً يتمنى معه أن يعثر (بمخبر يعتام نفائس ما أقدر عليه يعلمني بعد الموت كيف أكون) وهو نفسه يصرح تصريحاً بهذا الخوف والجهل ويلوم نفسه أنه لم يتخذ الحيطة والحذر حيال هذا الأمر الغامض (وقد سئمت الحياة (وأخاف) أن أنقل فأقدم على ما حزن وساء وأنا أغفلت الحزم: ملت عن الجدد ومشيت في الخبار)
ولكن ما دام لا يأتي أفعاله مختاراً فلم البعث والحساب؟ الواجب ألا يكون بعث ولا حساب إلا إذا كان جبراً هو أيضاً وهو عبث ينزه عنه الله. على أنه يرى أموراً مادية تحول عقلاً دون حدوثه إذ يصرح أن (لو غبرْتُ ألف حقبة ما ورد على منهم كتاب ولا رسول، وعندي خبر خبرِ نيه المعقول: إن جلود القوم تمزقت، واللحوم بليت وتهالكت، وصارت الأعظم رماماً). وهو يسخر من أهل الدار الآخرة سخرية هادئة لاذعة في وقت معاً (سلم الله عليكم أهل ديار لا يشعرون بتبلج الصبح، ولا ترجل النهار، اشتاق إليكم وإلى من أشتاق؟ الأرواح متكلمة، ولا الأجساد ملتئمة، ولا المنازل برحاب) على أنه يؤمن الإيمان كله أن مصيره هو نفس هذا المصير، (أما اللحاق بالقوم فقريب ولست من لقائهم على يقين فالقلب لذلك آسف حزين، أفتراني أوجر على ذلك وأثاب؟!) فهو حزين كما ترى لأنه لا يستطيع أن يتبين حال الأموات في الدار الأخرى، ولأنه لا يستطيع أن يؤمن بلقائهم. وهو يميل إلى أنه لن يلتقي بهم لما قدم من أسباب، فإذا ما أراد بعد ذلك أن يحيي أباه حياه (تحية رجل للقياس ليس براج) وغير هذا من النصوص كثير يدل على وجهة نظره في(320/47)
البعث. وقد يقال بأنه يؤمن ببعث الأرواح دون الأجساد فقد قال: (عززت باعث الأرواح) ولكنه قال: (والله باعث الأرمام) وقال: (ولا يمتنع أن يكون (جسد) الصالح إذا قبر في نعيم، و (جسد) الكافر في عذاب أليم) فهو لم يجزم بشيء. فالأمر لديه أمر لا يمتنع. ثم هو يتساءل لماذا يعذب الله المسيء ويثيب المحسن وكل الفعلين قد صنع؟ ولكنه يتراجع متهماً نفسه (فسبحان الله غافر ومعذباً. آلرشد دفين أم أنا أفين؟) لا يركن إلى حال من الطمأنينة والثبات كما قلت: (فالدنيا فانية، والنفس لا تأمن التبعات) (ولي ينذر أن الحازم حذر وقد أمنت وأنا مسيء) لذلك فهو يرى أن (الحازم الذي لا يأبس، يمجد الله ويقدس، وبغير طاعته لا ينبس (لعل) الأجل يدركه من أهل الصفاء.)
وكل ما يمكن أن نأخذه عن أبي العلاء في أمر التكليف وشأن البعث إنما هو جهل لا يثبت شيئاً وتوقف ولا ينفي شيئاً، ولعلنا لو قرأنا الكتاب جميعاً لن نجد ما يمثل آراءه في صراحة أحسن من قوله: (وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة. وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر فاسع لنفسك الخاطئة في الصلاح)
وأبو العلاء حين يتعرض (للفاسق) ومرتكب الكبيرة أهو خالد في النار، نجده يميل إلى التفاؤل تارة فيعتقد أن (غفران إلهنا مأمول ولكنك أيتها الحشاشة فرطت فأوبقت، فانظري هل لك من متاب) (أن لقيتِ شراً فما أجدركِ، وإن لَقيتِ خيراً فإن الله صفوح لا يعجز ولا يشبه العاجزين) وهو يتفاءل حين يقرر أنه (ما جنت السيئة فالحسنة تديه والله غافر ذنوب المنيبين) بل هو يذهب إلى أبعد حدود التفاؤل: (لا آيسُ من رحمة الله ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً كأنهن بنات جمير ووضعتهن في عنق الضعيفة كما ينظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود، ولو سفكت دم الأبرار حتى أستنَّ فيه كاستنان الحوت في معظم البحر، وثوباي من النجيع كالشقيقين، والتربة منه مثل الصربة؛ لرجوت المغفرة إن أدركني وقت للتوبة قصير ما لم يحل الغصص دون القصص، والجريض دون التعريض، ولو بنيت بيتاً من الجرائم أسود كبيت الشعر يلحق بأعنان السماء ويستقل عموده كاستقلال عمود الوضح، وتمتد أطنابه في السهل والجبل كامتداد حبال الشمس، لهدمه عفو الله حتى لا يوجد له ظل من غير كباث) فانظر إلى أي حد يطمع في عفو الله، ويؤمل مغفرته. على(320/48)
أن ذلك لا يمنعه ألا يسأل (هل من راق، لذي إيراق، بات شاكياً من الخيفة باكياً، يسأل ربه غفران الكبائر، والله القابل توبة التائبين؟) (ما أحسنت فأطلب الجزاء ولكن أسأت فمرادي الغفران. ومن لي بالوقفة بين المنزلتين لا أكرم ولا أهان وقد يؤديه هذا السؤال إلى اليأس أحياناً: (كيف أغسل الذنوب وقد صار لونها كسواد اللابة والفداف كلما غسل حجر هذه وريش ذاك ازداد سواداً بإذن الله). فهو يصف مجهوده في محاولة غسل الذنوب، ولكن هذا المجهود يذهب عبثاً لأن الله لا يريد: (ولو شاء لبعث مطراً تبيض تحته اللوب، وطيراً مثل النوب، ولكنه أجرى العادة بما تراه. . . ولكن ما هذا الذي تراه ويعتقد أبو العلاء أنك تراه معه؟ لاشيء إلا أن الله قدره يحتث المنية لتجتث وأنا جاِثم) أو جاِث فانظر إلى أي شيء اتجه ذهن أبي العلاء؟ اتجه إلى الآخرة كذلك والمنية، وهو يخشاها لأنه يجهلها ويفزع منها فزعاً يقرب من فزع الأطفال: فأينما ولى وجهه لم يجد إلا هذه المنية التي تجتث الناس، وهذا الميت ذو الحال المبهم، وتلك الحياة الأخرى الغامضة المرعبة، التي تجد في أمرها. أيثبت ما قالت به الأديان، أم يثبت ما أوحى به عقله؟
في تلك المسألة أيضاً - مسألة الخلود في النار - لا نجد أبا العلاء يثبت شيئاً، وإنما هو متزعزع مضطرب متفائل حيناً، متسائل حيناً، شاك متشائم حيناً آخر!
غير أننا لو تأثرنا شبح الكلام في ذات الله لديه في فصوله والغايات لوجدنا صدى الكلاميين وغيرهم. على أنه يقول:
(لا أعلم كيف أُعبر عن صفات الله وكلام الناس عادَةُ واصطلاح، وإن فعلت ذلك خشيت التشبيه. . .،. . . كيف يوصف بشيء خالق الصفات) فهذا نص صريح لا يحتمل الشك في أنه لا يثبت لله غير ذاته، فليس هو من الصفاتيين في شيء وإنما هو من المعطلة. وقد أثبت أنه (لا أعلم كنهك ولا أهوء) وأن (الله القديم الأعظم، وبحكمه جرى القلم، ألا يخلد عالم ولا علم) ولكنه إن اعترف بكون الله (شاهداً ما غاب ولن يغيب، وقديماً ليس لابتدائه وجود، تقاصر لأوليته طوال الأغمار، كالأخيلة إذا حدثتك عنها النظرة الأولى كذبتها الثانية) فإنه يقرر شيئاً خطيراً إلى ذلك. هو لا يتصور أن الله خلق المادة من العدم أو أنه وجد قبل الزمان والمكان وإنما هو (رأى ما يحدث في هرم الدهر، ولزمان في شرخ شبيبته أيام نعام الكواكب وضائع في الأدحى، ونسورها فراخ في الوكر، وأسدها شبل في(320/49)
الغابة. . . إن كان ذلك فقد علمه، وإن امتنع فالله مؤقت الميقات).
(للبحث بقية)
السيد محمد العزاوي(320/50)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره في دعوة المجلس دون الرجوع إلى الخديو، فكان جوابه أن الخديو قد نشأ الخلاف بينه وبين وزرائه بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، ولذلك فقد دعي المجلس دون مراعاة سلطته في هذا، ثم قال: (إن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكاً يقضي على استقلال مصر وكثيراً ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه)
والحق أن توفيقاً كان يود التخلص من هذه الوزارة بأي ثمن وفيها البارودي الطامع في عرشه، وعرابي زعيم الحركة القومية الذي يسير بطبيعة حركته في طريق تعتبر عند الخديو طريق الضلال والعصيان وتعد كل خطوة فيها ثورة وتكبر، وأي شيء آلم في نفسه من أن يرى فلاحاً من أبناء هؤلاء الذين ما خلقوا إلا للفأس والطاعة العمياء يتربع في كرسي الوزارة ويتكلم إذ يتكلم باسم الأمة ويقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض باسم الأمة؟
ولقد عاب كثير من الناس على البارودي وعرابي مسلكهما تجاه الخديو في تلك الأزمة، وحجتهم أن الواجب كان يقضي على البارودي أن يترك الحكم ما دام قد استحكم الخلاف بينه وبين الخديو، ولقد يبدو هذا الكلام وجيهاً لمن ينظرون في النتائج دون تمحيص المقدمات، أما الذين لا يصدرون حكماً إلا عن تقص وفهم فلا يذهبون مذهب هؤلاء، ولا يقيسون قياسهم
وليست المسألة دقيقة على الأفهام حتى تتشعب فيها وجوه الرأي، فحسب هؤلاء العائبين على الوزارة مسلكها أن يذكروا أن الخديو كان يعمل بوحي من الإنجليز وعلى ذلك فلإجابته إلى مبتغاه لن تكون إلا تسليماً لأعداد البلاد، الأمر الذي لن يقبله وطني؛ ولو أن الأمر كان خلافاً بين الخديو ووزرائه، وكان الخديو يريد وجه الوطن لكان من السهل جداً أن يحتكم إلى الأمة ممثلة في مجلسها النيابي ويجعل له، عن طيب خاطر، القول الفصل(320/51)
في الخلاف
وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين؟ كلا. بل أنا لنرى استقالتها في تلك الظروف ضرباً من الفرار ومثلاً من أبلغ أمثله الضعف، وعلى الأخص إذا سلمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره، والذي لن نجد دليلاً على صحته أبلغ مما ذكره لورد كرومر في كتابه حيث يقول: (إنه بين للسير أدوارد ماليت في يوم 6 مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى) ومعنى هذا أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بمبلغ ما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال
وإن الذي يرى هذا الرأي لن يكون احتكامه إلى قواعد الدستور إلا ضرباً من المغالطة، فإذا كان الدستور يقضي باستقالة الوزارة إذا تعذر التفاهم بينها وبين الخديو فلن يكون ذلك إلا على أساس احترام الخديو لذلك الدستور في جملته وتفصيله. . . وما أخطر أن يتخذ الدستور أداة لطرف منهما بالتحايل عليه بما ليس فيه. . .
وقفت وزارة البارودي لا تتحول ولا تلين فكان موقفها هذا ثورة لا شبهة فيها، ثورة قومية كأروع وأجمل ما تكون الثورات القومية، وهو موقف نراه جديراً بالإعجاب والتقدير، وما نحسبه لو كان في بلد غير بلدنا إلا كان يعد من المواقف المشهودة التي تذكر في مواطن الفخر والمباهاة
وكانت الوزارة قوية بادئ الأمر لأنها كانت معتزة بالنواب وإجماعهم على الأخذ بناصرها، ولكنها نظرت فإذا بينهم تهامس وفي صفوفهم إسرار وإعلان، وإذا كبيرهم سلطان يدعوهم إلى الحكمة والروية. . . وكم تحمل على الحكمة والروية أعمال ليست منها بسبب من الأسباب. . . قال سلطان باشا يومئذ للسير أدوارد ماليت: (لقد أسقط المجلس شريفاً تحت ضغط عرابي، وإن نفس الأعضاء الذين ألحوا في ذلك أكثر من غيرهم - وقد استبان لهم أنهم خدعوا - يتوقون اليوم إلى إسقاط الوزارة). . . ولو اطلع عرابي على الغيب يومذاك لرأى أن هذه أخف ضربة من ضربات سلطان هذا، تلك الضربات التي سوف يسددها إلى(320/52)
قلب الحركة الوطنية في ضجيج الجهاد وسكرات الاستشهاد
وانحاز فريق كبير من النواب إلى جانب الخديو، وإن كانوا ليتظاهرون أنهم يظاهرون الوزارة. . . كتب في ذلك ماليت إلى حكومته في اليوم الثالث عشر من شهر مايو يصف الحال في مصر أو على الأصح يصف مبلغ ما أصابته من نجاح دسائسه الإجرامية، قال: يظهر أن رئيس المجلس والنواب يميلون إلى جانب الخديو، ولقد سألوا سموه أن يأخذ بالعفو فيصالح وزراءه، ولكن الخديو رفض ذلك. . . ويصر سموه على رأيه، فلن يصالح وزارة تحدته صراحة، وتهددته هو وأسرته، واعتدت على القانون بدعوة المجلس إلى الانعقاد دون الرجوع اليه، وفي القاهرة قدر غير قليل من القلق، وكثير من الناس يغادرونها. . .
إزاء ذلك انخلع عن رئيس الوزارة عزمه، وتزايل إصراره شيئاً فشيئاً، حتى رأت البلاد البارودي يرفع إلى الخديو استقالته فيرتكب بذلك إثماً نعيبه عليه أشد العيب. فقد كان عليه أن يستطلع رأي النواب صراحة في جلسة يعقدونها. فإذا ناصروه كان عليه أن يبقى في مكانه حتى يقال، فيحظى بشرف الإقالة، أو ينتصر، فيكون له فخر الانتصار. . .
لقد رفض النواب أن يجتمعوا في مجلسهم - أي أنهم رفضوا أن يشايعوا الوزارة في تحديها الخديو، واجتمعوا في منزل رئيسهم وهذه حقائق نسلم بها، ولكنها أمور شكلية لا تمس جوهر الموضوع. فالأمر الذي كان يهم الوزارة، هو معرفة رأي ممثلي البلاد، وسواء لديها اجتمعوا في مجلسهم أو في أي مكان.
فليس ثمة من فرق بين الاجتماعين، إلا أن هذا رسمي وذاك غير رسمي؛ ولم يكن المجال يومئذ مجال شكليات، وقد جرى الخديو في مضماره الذي اختاره رغم إرادة البلاد. وهل كان نواب الشعب الفرنسي الذين التقوا في ملعب التنس في مستهل ثورتهم الكبرى لا يعبرون عن رأي الشعب لأنهم لم يجتمعوا في قاعة مجلسهم؟
الحق أن البارودي قد هدم جميعاً باستقالته هذه، ولو أنه نال شرف الإقالة، لكان منطقه متسقاً، ولأضاف بذلك إلى نفسه وإلى وزارته معنى من معاني البطولة وحمل الخديو والموحين إليه وزراً جديداً يضاف إلى سابق أوزارهم!
وعجز الخديو أن يقيم في الحكم وزارة، فقد أشفق منها الرجال يومئذ، وأشفق منها مصطفى(320/53)
فهمي باشا حين عرضت عليه رياستها عملاً باقتراح ممثلي إنجلترا وفرنسا اللذين صار لهما الآن حق إسناد الوزارة إلى من يرضيان عنهم في مصر.
وصرح الوزراء على الرغم من استقالة رئيسهم أنهم هم لا يستقيلون إلا إذا كان ذلك بأمر من مجلس النواب، وهنا يعود عرابي فيثب إلى الطليعة، وقد ضاق البارودي بالأمر ذرعاً؛ فهو الذي أوحى إلى الوزراء بما فعلوا، وقد عز عليه أن يبعد الوزراء عن مناصبهم بمشيئة غير مشيئة الأمة، وتلك خطوة أخرى نضيفها في غبطة وفخر إلى سالف خطواته.
ووقف عرابي في مكانه لا يتزعزع وما كان أصلبه وأشد مراسه إذا وقف في أمر في أمر يرى أنه الحق؛ ولقد صور المبطلون وقفته هذه أنها عودة إلى الثورة المسلحة وأنه يوشك أن يفاجئ البلاد بيوم آخر كيوم عابدين، فما حفل كلامهم ولا خشي تهديدهم؛ وكتبت الحكومات إلى ممثليها في مصر أن (يرسلوا إلى عرابي فيبلغوه أنه إذا أصاب النظام خلل فسوف يجد أوربا وتركيا كما يجد إنجلترا وفرنسا ضده، وأنهم يحملونه تبعة ذلك)
وأصر ذلك الفلاح الذي لولا ما هيأته الأقدار لكان يومئذ يجيل فأسه في حقل من حقول هرية رزنة ولا يدري من أمر الحكم والسلطان شيئاً؛ وظل على عناده يكشف عن طيب عنصره وكرم معدنه فيفهم من يريد أن يفهم أن ذلك الفلاح الذي يجيل الفأس في صبر وصمت في أنحاء هذا الوادي لا ينقصه إلا العلم والحرية ليبهر العالم بعبقريته وبطولته. . .
وصرح سلطان وقد أخذ يكيد للبارودي وعرابي معاً (أنه ليس من الممكن تغيير الوزارة ما دامت القوة الحربية مجتمعة في عرابي باشا) ولم يك يبدر سلطان أن وراء تلك القوة الحربية قوة أخرى لولاها ما قام غيرها. لم يك يدري سلطان باشا أن هذه القوة الحربية التي يشير إليها كانت قائمة في مصر من قبل فما ظهر أثرها إلا في يد عرابي وأنه بذلك يمتاز عن غيره من الرجال
وانتهت الأزمة بأن أشار ممثلاً إنجلترا وفرنسا على الخديو بأن يطرح المسائل الشخصية جانباً، وبما أن سموه لم يستطع أن يقيم وزارة جديدة فإنهم يطلبون إليه أن يجدد علاقته بالوزارة القائمة)
وبقيت الوزارة في كراسيها وانتصرت كلمة الأمة من جديد على يد ذلك الذي خرج من(320/54)
هرية رزنة وتلقى قسطاً من من العلم في الأزهر، ثم درج بعد مدارج الرقي فكان في نموه كالشجرة الطيبة في سموقها لا كالعليق الذي لا ينمو إلا على غيره من النبات
ولولا ذوو الأطماع من المتربصين بمصر وحرية مصر لجنت البلاد من هذا الانتصار أطيب الثمرات ولعزت بذلك كلمة الأمة حتى ما تذل بعدها؛ ولكن مصر وا أسفاه جنت من انتصارها هذا العلقم والحنظل
وكيف كان يتسنى لمصر السلامة ووراء الخديو الإنجليز يتربصون ويكيدون؟ لقد حق لماليت الآن أن يدعو حكومته إلى التدخل المسلح فقد حانت الساعة وواتت الحجة، ولن يهم إنجلترا أن تكون هي المدبرة لكل ما حدث فلن يكون احتجاج الضعفاء إلا صرخة ضائعة، ولن يكون منطقهم إلا ثرثرة وشكواهم إلا تبجحاً
لم تكن في البلاد ثورة ولا خاف فيها أجنبي على حياته أو متاعه ولكن أعوان السوء صورها يومئذ صورة منكرة انزعجت منها أوربا أشد الانزعاج، مع أن هؤلاء الكاذبين كانوا يعلمون حقيقة الأمر ويوقنون أن المسألة لا تعدو خلافاً بين الوزارة والخديو ما كان ليبلغ ما بلغه من الشدة لولا تدخلهم على ذلك النحو الأثيم
ولم تكن البلاد مثل تلك الحال من الفوضى التي ذكرها المبطلون. وحسبنا أن نورد هنا بعض ما جاء في خطابين كتبهما عرابي باشا إلى مستر بلنت وكان ذلك في أوائل شهر أبريل أي قبل الأزمة التي نحن بصددها بنحو شهر. قال عرابي: (ونحن نرجو لإنجلترا أن تكون أقوى الأصدقاء لمساعدتنا في إيجاد نظام حسن على أساس الحرية فنسير عندئذ على غرار الأمم المتمدنة الحرة. ونحمد الله فإننا سنرى قريباً نجاحك في جهودك ولهذا نعتبر وصولك سالماً لبلادك فألاً حسناً للنجاح المنتظر. . . أما بخصوص النصيحة التي زودتنا بها فنحن نشكرك ونخبرك بأننا لا نقصر في حفظ النظام والهدوء لأننا نعتبر هذا من أهم واجباتنا ونؤكد لك أن كل شيء هنا هادئ؛ فالهدوء والسلام يسودان البلاد ونحن وإخواننا الوطنيون ندافع بأقصى ما يمكننا عن حقوق جميع السكان بصرف النظر عن الأمة التي ينتمون إليها؛ ونحن نحترم جميع المعاهدات والاتفاقات الدولية ولن نسمح لأحد بمساسها ما دامت أوربا تحفظ وترعى علاقتها الودية معنا. أما عن تهديدات الماليين وأصحاب المصارف في أوربا فإننا نتقبلها بالحكمة والثبات واعتقادنا أن هذه التهديدات(320/55)
تعود عليهم وحدهم بالأذى وتغر الدول التي تنخدع بأقاويلهم. وغايتنا الوحيدة هي تخليص البلاد من العبودية والظلم والجهل وأن نرفع السكان إلى مركز لا يمكن فيه الاستبداد أن يعود كما كان في الأزمنة الماضية ينشر الخراب والدمار في مصر. وإن هذا الذي أكتبه إليك هو ما يفكر فيه كل مصري عاقل يحب حرية بلاده)
هذا ما يقوله عرابي وهذا ما كان يرجوه المصريون من إنجلترا من عهد يرجع إلى قبيل الاحتلال. وكم تكرر في مصر من أشباه ونظائر لهذا الموقف! وكم جاء مثل هذا الكلام على ألسن غير لسان عرابي ولكنا نحجز القلم عن الاتجاه إلى غير ما نحن فيه فالسياسة الإنجليزية في مصر هي هي وإن تغير الزمن واختلفت في موضع زعامة الرجال
وقد أكد عرابي هذه النيات في كتابه الثاني، ومما جاء فيه: (ونحن ميالون أشد الميل إلى التفاهم عن المصالح المتبادلة بيننا وبين الدولة المرتبطة بنا. وليس للدول ذوات المصالح في بلادنا من سبيل للانتفاع بعقودهم ومعاهداتهم إلا إذا كانت الصداقة التي بيننا وبينهم وثيقة. فإذا قطعت هذه الصداقة فالضرر لن يعود علينا وحدنا بل يعود على الدول أيضاً وبخاصة إنجلترا. وليس هناك سياسي كبير الإدراك إلا ويفهم قيمة المنافع التي تعود على إنجلترا من صداقتها لنا ومعاونتها إيانا في كفاحنا). . . وقال: (إننا قد نوينا نية صادقة على أن يكون لأمتنا مركز بين الأمم المتمدنة بنشر المعارف في البلاد والمحافظة على الاتحاد والنظام والقضاء بالعدل بين الناس أجمعين. ولا يمكن لشيء في العالم أن يردنا عن قصدنا قيد شعرة فلن نخشى الوعيد أو التهديد ولن نخضع إلا لحكم الصداقة التي نقدرها ونكبرها - أما عن الهدوء في مصر فنخبرك أنه ليس هناك أي قلق، ونحن الآن نحاول أن نمحو الآثار السيئة التي تركتها لنا الحكومة السالفة)
ويذكر مستر بلنت أن الشيخ محمد عبدة كتب إليه في ذلك الوقت مثل ما كتب عرابي يؤكد له قيام النظام والسلام في مصر يقول: (وإن الخلق العظيم الذي يمتاز به الشيخ محمد عبدة ثم هذا المركز السامي الذي يملأه الآن في مصر وهو منصب الإفتاء الشرعي، كل هذا يجعل لشهادته قيمة تاريخية لا يبلغ الإنسان مهما قال في مدحها، وهذه الشهادة يصح وضعها بجانب الكتب الزرق لإدحاض أكاذيبها المختلفة، وكان في ذلك الوقت رئيساً لتحرير الجريدة الرسمية ومديراً لقلم المراقبة الصحفية فكان مركزه هذا يجعله على علم بما(320/56)
يدور في الوزارة الوطنية بحيث لم يكن ماليت أو كلفن أو أي أوربي آخر ليدعي مثل معرفته بهذه الشؤون)
(يتبع)
الخفيف(320/57)
هتفات حب
من دموعي الضائعة!
(إلى التي ضيعت عمري على أقدامها وما زال يحجب نورها
ظلام القصور)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
1 - أحزان الحيرة
أعاشقٌ أنا! أم فانٍ. . . على جسدي ... من صرعة الحب أكفان الأسى الأبدي؟
وشاعرٌ أنا! أم شادٍ على وترٍ ... من الفجائع مشدودٍ على كبِدي؟!
ويائسٌ أنا! أم نَعْشُ المُنى حمَلتْ ... تابوته لُترابِ الهالكينَ يَدي؟!
وبائسٌ أنا! أم دُنيا مُلفَّقةٌ ... من العذابات والأرزاءِ والنَّكد؟!
إذا بكيْتُ فلا دَمعٌ يُعينُ. . ولا ... إذا تصابرْتُ نامتْ جذوة الكَمد. .
هنا جفونٌ كأحلام اليتيم بها ... خريفُ دَمعٍ طواهُ الحبُّ في خَلدي
أَهدَابها للهَوَى أَحْبارُ صَومعَةٍ ... طافَ المسيحُ بهم في ليلة (الأحد)
صَلَّت لنوركِ، فاهتزَّتْ لِهيبَتِهِ ... في ذائبٍ كَطهورِ المحرِمينَ نَدِ
ورَفرفتْ وَجثتْ حتى يُخال بها ... من الكَرَى غفوةٌ في شاطئ الأبدِ. .
2 - عُقدة الله لن تَحلَّ
(إن العقدة التي تربطها يد الله لا تستطيع حلها يد المخلوق)
(بنجامان كونستان)
سَيبقى لنا الحبُّ حتى نموتَ ... ونَغْدوَ أُنشودةً للِفنا
فلا تجزعي في ظلام الُخدورِ ... غداً من يديكِ يَهلُّ السَّنا
غداً تسكُبين كزهر الحُقول ... على الحبِّ عطرَ الهوَى والمُنى
غداً نلتقي. . . لا الصَّبا نائحٌ ... ولا زَوْرقُ الدَّمع يَجري بنا(320/58)
ولا نحن جُرْحين طبُّ الهوى ... جَفانا، وَزَفَّ المآسي لنا
وخلَّفنا صَرخةً في الزمانِ ... وتأويهةً في شِعاب الدُّنى
غداً نلتقي. . لا ضباب السِّنين ... ولا لغطُ الدْهر في دهْرنا
فلا تذرُ في بَعدنا دَمْعةً ... ولا تندُبي في الهوى حَظَّنا
فكم دوَّخَ الحبُّ أبطالهُ ... وَسقَّاهُمُ كأسه قَبلَنا. . .
لقد عَصمَ اللهُ أحلامنا ... وأتْرعَ من قُدسه كأسنا
وألهمنا كيف نرْعى الهوى ... ونَبْني على نارِهِ عُشَّنا
ونسخر من هوله كلما ... تَرامى بِأرزائه حولنا
نَمتْنا على الطُّهر أيامهُ ... ونَوَّرَ في ظِلِّه عهدنا
وأبصرتُ نبعَ المُنى في القتام ... فهاتي لي الكأس وامضى بنا. .
3 - لتحترق الأمهات
إذا كنَّ مثل التي أشعلَتْ ... ظِلالكِ في الحبَّ دنيا هَجيرْ
وطَنَّتك أُنثى تسيغُ الهوانَ ... وما أنتِ إلا صفاءٌ ونور
وترْنيمة من شفاه السماءِ ... شداها ولم يدْر نايُ الدُّهور
وسحريِ وشعري ودنيا هواىَ ... وسُلوانُ روحي، وخمرُ الشُّعور
فكيف تُنسِّيكِ أهوالُها ... عِباداتِ قلبي الوفيِّ الكسير!
وكيف التي من ترابٍ وطينٍ ... تُذِلُّ التي من صَفاءِ العبير!
عفاءً على الحبِّ إن أَوقَفتْ ... تسابِيحَهُ أُمَّهاتُ الشرور
مُذِلُّ الجبابر بين الورَى ... وصولجهم بالَّليالي يَدُور
أَتُوقِفُ إعصارَهُ صَخْرَةٌ ... من الشرِّ بين ظَلامِ القصور!
محمود حسن إسماعيل(320/59)
في يوم رحيل
للأستاذ العوضي الوكيل
(يا راحلاً وضميرُ القلبِ مثواهُ) ... لقد قضى بشقائي بعدكَ اللهُ
قد كنت من هذه الساعات في حذر ... حتى أصابَ فؤادي ما توَّقاه
أطعنةٌ في شغافِ القلبِ موغلةٌ ... أم ذلك الموتُ يبدو لي محيّاه
العيشُ بعدك بؤسٌ لا نعيمَ بهِ ... والبعدُ والبؤسُ أمثالٌ وأشباه
إن كان قد سرني في القربِ من رَغَدٍ ... فسوف تحزنني في البعدِ ذكراه
قلبي - وليس كقلبي في القلوب - غَدَا ... وخفقُهُ بعدَ هذا البُعْدِ أوَّاه
أوّاه لو تنفعُ المحزونَ أوّاهُ ... القول بعدك هانت ثم جدْواه
إني وإن كنت في أهلي وفي وطني ... أنا الغريبُ الذي آدتْهُ بَلواه
سأمانُ ينكرُ دنياهُ ويشنؤها ... بُغضاً كما نكرته اليوم دنياه
صُمَت مسامعه عن كل هاتفةٍ ... كما خلت منِ سوَى النائي حناياه
فأين رنّةُ صوتٍ ليس يُشبِهها ... شيءٌ من الصوتِ: أعلاه وأدناه؟
وأين لمحةُ عينٍ حدِّ ساحرةٍ ... أحييتْ من الوجد ما كنا نسيناه؟
وأين لفتةُ جيدٍ زانَهُ جَيَدٌ ... وأين فرْع كغصن البان تيَّاه؟
وأين ما يُفحمُ الأشعارَ واصفةً ... أكلُّ ذاك نعيمٌ قد حرِمناه؟!
يومُ الرحيل وكم تؤذيك ذكرتُهُ ... يا قلبُ قد جاَء كالأغوالِ مَرآه
ما أن تفيد الرّقي فيه ولو كثُرَتْ ... وليس تنفع من ذي البثّ شكواه
الأربعاء. . . اذكروه واذكروا أملاً ... أصيله كان مثواهُ ومأواه
ما زلتُ أذكره عمري وأكبره ... وكيف لي - وأنا المشتاق - أنساه؟
هذي سويعاته في النفس خالدةٌ ... طوباهُ من يوم أنسٍ كانَ، طوباه
اليوم ما زال يدعوكم. . ولو نطقتْ ... أيام دهري. . . لقد قالت ثناياه
أهلاً بكم ما حللتمْ فيه آونةً ... ومرحباً ما أَظلّتْكُم عَشاياه
يا راحلين. . فؤادي في ركابِكُم ... فما له بعدكمُ عزٌّ ولا جَاه
آليتُ ما ليَ في الأيام بَعْدَكُم ... من مأمَلٍ كان قلبي قد تمناه(320/60)
فإن ذكرتم فؤاداً بات يذكُركم ... أرضيْتُمُ حبَّهُ الغالي ونجواهُ
العوضي الوكيل(320/61)
رجعة
للأستاذ فريد عين شوكة
أَلقيتُ أعباء النَوى عن كاهلي ... ورحمت نفسي من جَواها القاتل
وسعيتُ شطرك والحنين يدُعُّني ... دَعَّا إليك، وما له من خاذل!
وحملتُ آلامي وكنتُ حفظتُها ... لأذيعها لك في اللقاء العاجل
حتى لقيتُك فامَّحي من خاطري ... ما كنت فيه من العذاب الهائل
وجمدْتُ وانعقد اللسانُ، كأنما ... أنا في لقائك صورة من (باقل)
يا مستريح البال ليت لمهجتي ... بعض الذي بك من قرار شامِل
هبْني شذذت! أليس عذري أنني ... نهبٌ لثوراتي وجمِّ بلابلي؟!
مالي عصيتُك يائساً فهجرْتني ... عَجْلانَ غير معاتِب أو سائل
غفراً فقد أخطأتُ فيما خلْته ... يشفى فؤاديَ من هواك الواغل
إني حسبتُ القلب يَّطرح الهوى ... ويُفيق من خبل الغرام الخابل
فإذا فؤاديَ جذوة مشبوبة ... طول النوى وإذا لقاؤك شاغلي
وإذا أنا هيمانُ حتى أهتدي ... بالبدر في ليل البعادِ اللائل
شهرُ حرمتك فيه ذقت به الجوى ... ناراً تَلظَّى في حشايَ الذابل
ونَزَتْ على قلبي جراحاتُ النوى ... كالموج ثار على سفينٍ جافل
شهر كأن اليوم من أيامه ... إن مرَّ يرجعُ فهو ليس براحل
يا طالما سألَتْك فيه رسائل ... وصْل المحب فلم تصخْ لرسائلي
وغفلتَ عن حزَني وشدة لهفتي ... ويلُ الشجيّ من الخليِّ الغافل!
سجلْتُ حالك في الخصام وفي الرضى ... فوقفتُ منك على سجلّ حافل
ترضَى فتعرض لي الحياة بهيج ... تهفو لفتنتها عيونُ الثاكل
وتذيقني نِعمَ الوصال هنية ... يا طيب مَنهلها لقلبي الناهل
فإذا غضبْتُ لقيتُ منك معانداً ... يُعيى بنفرته جميع وسائلي
ومضيتَ لا تُبقي على ما بيننا ... وقطعتَ من دنياك كل حبائلي
يا من أرى في وصله كل المنى ... حققْ وصالك للمحب الآمل(320/62)
لا شيَء في دنيا الصبابةُ يشتهى ... مثل التمتع بالحبيب الواصل
فريد عين شوكة(320/63)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الفن هو الإنتاج الروحي
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقول علماء البلاغة والتربية والمنطق وغيرهم من العلماء الذين يتصدون لدراسة العلوم المتصلة بالفنون أو العلوم التي من فوقها فنون: إن الفن هو التطبيق العملي للقوانين الخاصة بموضوع ما. فإذا كان موضوع البلاغة هو جمال الكلام فإن فن البلاغة هو التطبيق العملي للقوانين التي يحصل الجمال للكلام باتباعها. وإذا كان موضوع التربية هو تنشئة الأحداث على وجه من الصلاح أو على أوجه الصلاح كلها فإن فن التربية هو التطبيق العملي للقوانين التي يتم صلاح الأحداث باتباعها على وجه من الوجوه أو على أوجه الصلاح كلها؛ وإذا كان موضوع المنطق هو ربط الكلام على الحق الصادق حتى يطابقهُ فلا يزيد عليه ولا ينقص عنه ففن المنطق هو التطبيق العملي للقوانين التي يتحقق باتباعها هذا الربط وهذه المطابقة
وبهذا التفصيل وبهذا التيسير أباح العلماء لأنفسهم ولتلاميذهم أن يستضعفوا الفنون وأن يستسهلوها وأن يعدوها، ما داموا قد وجدوا هذا التعريف الذي استنبطوه لها شيئاً، يمكن أن يحققه كل إنسان، وأن يمضي في تحققيه ما شاء له تهاون هذا التعريف الذي يمنع عن الفن ما يلزم لحدوثه، اللهم إلا أن يكون تطبيقاً عملَّيا للقوانين. . . وبهذه الإباحة كثر الكتاب الذين يطبقون قوانين التربية، وكثر المجادلون وتفاقم عدد المحامين الذين يطبقون قوانين المنطق. ومع هذه الكثرة فلا يزال الكتاب المبدعون قليلين، ولا يزال المربون المثقفون نادرين، ولا يزال المجادلون والمحامون الساطعون يعدون في الجيل على أصابع اليد أو على أصابع اليدين
فلو كان الفن حقاً هو التطبيق العملي للقوانين لكان كل من يعرف الطريق إلى هذا التطبيق فناناً كما كان من يعرف الطريق إلى التطبيق الخاصة بالأعداد حاسباً، وكما كان كل من يعرف الطريق إلى تطبيق القوانين الخاصة بعناصر المادة كيميائياً.(320/64)
ولكن الأمر ليس كذلك. فبعض ما يدرس على الناس في ثوب الفن ليس فناً، وبعض ما يساق إلى الناس مجرداً من ثوب الفن هو في الحقيقة فن. ولا بد أن يكون القارئ قد سمع لحناً من الألحان قال عنه صاحبه ومن يروجون له، إنه موسيقي وجعلوا دليلهم على قولهم أن فيه تطبيقاً عملياً لقوانين الأصوات والأنغام في الوقت الذي لم يستشعر حين سمعه إلا هذا التطبيق العملي وحده لهذه القوانين دون أن يدفع هذا اللحن إلى نفسه عاطفة ينقلها من نفس صائغه، أو خيالاً ينبعث من روحه، ويعبر عن إحساسه وذوقه وذاته. هذا بينما لا بد أن يكون القارئ قد راعه يوماً شراب أو عطر ألفه كيميائي ممن تنفذ نفوسهم وأذواقهم إلى تطبيقهم العملي لقوانين المادة وعناصرها. وكما أنه لا بد أن يكون قد سمع عن نسبة أينشتين، فأحس ما قيل عن غموضها وتعقيدها وتساميها أنها ليست تطبيقاً مجرداً لقوانين الأعداد وإنما هي حسبة فيها شيء من روح أينشتين نفسه لم يصل إليها إلا لأنه يتجه في تطبيقه لقوانين الأعداد اتجاهاً خاصاً به هو، مرجعه إحساسه الذي قاد تفكيره.
فإذا سلمنا بهذا استدعى الإنصاف أن نحكم على ذلك الموسيقي الذي لا يضع في لحنه إلا التطبيق العملي لقوانين الصوت والأنغام بأنه غير فنان. وعلى هذا القياس كان غير فنان كذلك كل من يتصدى لأي فن من الفنون وليس معه إلا ما اكتسبه من معرفة القوانين الخاصة بهذا الفن، ومعرفة طرق تطبيقها. كما أن الإنصاف يستدعي إلى جانب هذا أن نصف بالفن كل من ينتج إنتاجاً فيه من نفسه وذوقه كأينشتين الذي ابتدع النسبية وككل كيميائي يبتدع شراباً أو عطراً فيه من ذوقه.
والنتيجة اللازمة لهذا هي أن ينهار هذا التعريف الذي وضعه علماء البلاغة والتربية والمنطق وأمثالهم للفن. فهو تعريف غير جامع مانع كما يقولون هم، لأنه يسمح للأدعياء بالدخول في زمرة الفنانين، كما أنه يحرم فنانين صادقين من الاستمتاع بحقهم الطبيعي في الإنصاف بالفن بينما هم جديرون بأن يتصفوا به
وما دام هذا التعريف قد انهار فقد لزم أن نبحث عن تعريف آخر نقيمه مقامه ويكون فيه الجمع والمنع اللذان تتطلبهما صحة التعريف
أما أنا فأحب أن يكون تعريف الفن هو هذا العنوان الذي رصدته على رأس هذا الحديث وهو أن الفن هو الإنتاج الروحي. ولست أرى من عيب لهذا التعريف إلا أنه يسمح لكثير(320/65)
من الأعمال البشرية التي اعتاد الناس ألا يحسبوها بين الفنون بأن تكون فنونا. فهو يسمح للنجارة إذا كان فيها من روح النجار وذوقه الخاص أن تكون فناً، كما يسمح لصيد السمك إذا كان فيه من وسيلة خاصة ترجع إلى ذوق الصياد وتلهمه إياها روحه أن يكون فناً. وهكذا فليس من عيب في هذا التعريف إلا إمكان تعميمه على الأعمال البشرية جميعاً
وقد لا يكره هذا التعميم إلا الفئة الخاصة من الفنانين الذين يبدعون تلك الفنون التي اصطلح الناس على تسميتها فنوناً جميلة. فهؤلاء وحدهم أو بعضهم هم الذين يحبون أن يقتصر الإنصاف بالفن عليهم فلا يكون النجار فناناً، ولا يكون صياد السمك فناناً، ولا يكون أحد من الناس فناناً إلا من كان أديباً أو موسيقياً أو ممثلاً، أو رساماً، أو واحداً من هؤلاء الذين يسبحون في (السموات العلى) لا لشيء إلا اعتادوا التعالي على البشرية بأدبهم وموسيقاهم وتمثيلهم ورسمهم
غير أن هذا في الواقع نوع من الأرستقراطية القاصرة، أو المقصورة يكرهه الفن الصحيح. والفن لا يكرهه لأنه ديمقراطي بطبعه أو لأنه بلشفي، وإنما يكرهه لأنه دون الأرستقراطية التي يحبها لنفسه. فالفن متعصب كل التعصب لأرستقراطية الروح، وهو يفخر بأن ينسب إلى نفسه كل ما انتسب إلى الروح من أعمال البشر، حتى ولو كان نجارة أو صيد سمك، ولكنه يأبى أن ينسب إلى نفسه كل ما خلا من الروح حتى ولو كان لحناً أو شعراً أو رسماً.
والفن في هذا لا يحيد عن الحق. وأشرف للفن أن يحتضن النجارة وصيد السمك متى جمعنا الروح والذوق، من أن يحنو على كلام سخيف منظوم ولكنه ميت، ومن أن يدخل إلى حظيرته ألحاناً روعي فيها أن تكون تطبيقا عملياً لقوانين الصوت والنغم، ولكنها ما تزال جامدة كأنها الصوت ضغط وتركز حتى تحجر!. . .
ولا أظن أهل الفنون الجميلة إلا مقتنعين بهذا الرأي، وما أظنهم بعد اليوم إلا آخذين به، فهم مقربون إليهم كل من تنفذ روحه إلى عمله، وكل من يسري من نفسه إلى عمله لونه الخاص يطبعه ويلونه، فيكون عمله تعبيراً عنه يعرف به. وهم مبعدون عنهم كل أجرد النفس، قاحل الحس، مجدب الروح والشعور، وإن قضى حياته يعزف على الأوتار، أو يسود الصحائف بالحبر.(320/66)
وقد يعنينا أن يؤمن الفنانون بهذا الرأي مثلما يعنينا أن يؤمن به الجمهور، وأن يأخذ به النقاد أخذاً شديداً، وأن يعدلوا عن قياس الفنون إلا بمقياسه، وأن يشيع قياسهم لبقية الأعمال البشرية بهذا المقياس. فإنهم إذا فعلوا هذا فإنهم سيبرئون الفنون من طفيليات كثيرة تلتصق بها وتدعى النسبة إليها، كما أنهم سيعودون بالحق فيعترفون لكثير من الأعمال البشرية الفياضة بالروح بأنها فنون.
صحيح أنه مقياس قاس، ولكنه في الوقت نفسه مقياس عادل، إذ يرد إلى كثيرين من أصحاب الجهاد الروحي اعتبارهم الإنساني بعد ما ظلوا الأحقاب الطويلة وهم لا يحصون بين الناس إلا على أنهم صناع أو عمال. زد على ذلك أنه سيكشف لنا الأقنعة عن وجوه كثيرة متنكرة: لها أرواح ولها فنون ولكنها تتكلف في الحياة فنوناً غير فنونها فتعيش فيها ميتة بدون أرواح لأن أرواحها منصرفة إلى ما تصبو أليه
وكي يتصور القارئ قسوة هذا المقياس فليطبقه على بعض الأعلام من الذين يقال عنهم في مصر إنهم فنانون
فلنأخذ في الأدب مثلاً الأستاذ أحمد أمين، ولنأخذ في الموسيقى مثلاً الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولنأخذ في التمثيل مثلاً الأستاذ جورج أبيض، ولنأخذ في الرسم مثلاً الأستاذ محمد ناجي الذي كان ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة العليا إلى عهد قريب
أما الأستاذ أحمد أمين فقد أثبت عليه الدكتور زكي مبارك في مقالاته الأخيرة بالرسالة أنه أستاذ يكتب ولكنه لا يسري من روحه شيء في كتابته، فأنت لا تعرفه حين تقرؤه إذا كان راضياً أو كان غاضباً، وأنت لا تشعر به إلا هادئاً دائماً وفاتراً. وحسبه هدوءاً وفتوراً ما سجل عليه الدكتور زكي مبارك مظهره وهو أنه عاش وقتاً طويلاً في الواحات فلم يعرف الناس انه عاش في الواحات إلا يوم أعلنت هذه الحقيقة الغريبة على صفحات الرسالة في الجدال الأخير. بل حسبه هدوءاً وفتوراً وبعداً بفنه عن الروح أنه كان قاضياً ومع هذا فإنه لم يكتب قصة واحدة من قصص الحياة التي عرضت له وهو في القضاء. وهذا دليل على أنه يعيش في دنيا، ويكتب في دنيا أخرى. وهذا يستدعي واحدة من اثنتين: فإما أن يكون الأستاذ أحمد أمين بروحين يعيش بواحدة ويكتب بالأخرى ولا صلة مطلقاً بين الواحدة والأخرى، وإما أن يكون كما هو الآن متنكراً يعيش ويكتب فلا تعرفه على حقيقته ما عاش(320/67)
أو كتب
والأستاذ محمد عبد الوهاب لا يخلو له لحن من نص موسيقي يستحسنه في موسيقى سيد درويش أو في الموسيقى الغربية؛ ولا معنى لهذا إلا أن يكون الأستاذ عبد الوهاب عاجزاً عن إطلاق روحه بالتعبير الموسيقي ذي العاطفة أو الخيال على وجه من الحسن يرضيه، أو أنه عاجز عن التعبير الموسيقي أصلاً. فإذا أضفنا إلى اضطرابنا هذا في أمره أنه كثيراً ما يخطئ في التصوير الموسيقي فيصور الفرح بأنغام الحزن، والحماسة بأنغام الخلاعة، والأنين بأنغام الطرب، عزز هذا لدينا سوء الظن به وقادنا هذا إلى الحكم على فنه بأنه مقطوع الصلة بالروح، وإلا كانت روحه مجنونة مختلطة الأحاسيس تضطرب إذ تشعر وإذ تعبر عن شعورها وهو ليس كذلك، وإنما روحه هي المنصرفة إلى شيء آخر غير الإبداع الموسيقي لأنها لم تخلق له. فالأستاذ محمد عبد الوهاب فنان متنكر مثل الأستاذ أحمد أمين
والأستاذ محمد ناجي الذي يقنع في فنه بأن يرسم خطوطاً تشبه ما يراه من الخطوط في الخارج، وأن يصبغها بألوان تشبه ما يراه من الألوان في الخارج - لا يمكن أن يزيد في اعتبار الفن (الرسم) على أنه نقاش أمين - إذا كان أميناً - يغني الفنان الذي يحتاج إلى نسخ كثيرة من الصورة الواحدة على آلة من آلات الطباعة، زد على ذلك أنه يحتاج دائماً إلى شرح صوره بكلام وإشارات يتقنها أكثر مما يتقن التصوير، ويصل بها إلى إقناع جمهوره الذي يدعوه إلى مشاهدة صوره أو الذي يبيع له صوره، بجمال هذه الصور وروعتها، إذ يقعد هذا الجمهور عن إدراك هذا الجمال إذا اكتفى بالنظر إلى هذه الصور. فالأستاذ ناجي هو أيضاً مثل صاحبيه فنان متنكر: يحترف شيئاً لا يتقنه، ولا يتقن شيئاً لا يحترفه
أما الأستاذ جورج أبيض الذي لم يتقن إلى اليوم إلا الأدوار الثلاثة أو الأربعة التي تعلمها أيام كان طالب بعثة التمثيل المصرية في باريس وهي عطيل ولويس الحادي عشر والملك لير ومضحك الملك فيما أظن، وقد أتقنها جميعاً بالأسلوب الفرنسي التلحيني الذي تعلمه في فرنسا والذي يصرخ في مشاهديه بين كلمة وأخرى، وبين كل حرف وآخر بأنه تمثيل ليس فيه من الطبيعة ولا حتى من التطبع شيء. . . الأستاذ جورج أبيض الذي انحصر فنه في هذا وحده يحرجنا كثيراً إذا طالبنا بأن نعترف له بأنه فنان فيه روح نافذة معبرة. . .(320/68)
تظهر في تمثيله. . .
وقد يسألنا سائل كيف نجح هؤلاء الأساتذة في حياتهم على الرغم مما تنكره عليهم جميعاً من صلة فنونهم بأرواحهم. ونحن نجيب عن هذا بأن ثلاثتهم: أحمد أمين ومحمد عبد الوهاب ومحمد ناجي قد نجحوا لأن لهم أرواحاً تسري في أعمالهم ولكن من طريق التجارة والإعلان لا من طريق الفن، وعلى هذا الأساس يتحقق رأينا ويصبح هؤلاء السادة الأفاضل فنانين تجاراً معلنين، وإن كانوا فنانين في هذه الفنون الجميلة التي تصدوا لها، والتي عرفهم بها الناس
أما سر نجاح الأستاذ جورج أبيض فلا شك أنه رضاء الله عنه، فهو رجل طيب ما كان الله إلا ليجبر خاطره.
وأخيراً، فهكذا يقسو مقياسنا، ولكنه هكذا يرحم حتى هؤلاء إذ يعتبر كلا منهم فناناً فيما يسر له. . .
عزيز أحمد فهمي(320/69)
رسالة العلم
من الذرة إلى الألكترون
الكهرباء كالمادة ظاهرة ذرية
للدكتور محمد محمود غالي
تتبع الكهرباء التطورات ذاتها التي تتبعها المادة - الكهرباء تركيب ذري شبيه بالتركيب الذري للمادة - التحليل الكهربائي وقانونه لكاشفه (فراداي) أول دليل على التركيب الذري أو الحبيبي للكهرباء - الأشعة الكاثودية دليل ثان على هذا التركيب الحبيبي - نظرة للإلكترونات المهاجرة والمكونة للأشعة الكاثودية - تكبر ذرة الهيدروجين الإلكترون الذي يدور فيها أكثر ما تكبر الشمس المشتري الذي يدور حولها.
تُرى هذه الرمال الفسيحة، وهذا الخلاء الشاسع والسكون الرهيب، تُرى هذا القمر الساطع والمُشتري يتألق في الفضاء، والمرِّيخ تراه في هذه الليلة من السنة في أقرب مكان لجارته الأرض - تُرى في هذه الصحراء المجاورة لمصيف (سيدي بشر) بعيداً عن الضوضاء نستطيع أن نطلع القارئ على موضوع يُعد من أهم ما قدمه العلماء في السنين الأخيرة؟ - هذا الموضوع خاص بالتعرف على الإلكترون بعد أن تعرفنا على الذرة وهو من المكونات الأساسية في الذرة ومنه يتكون التيار الكهربائي.
كانت السنون تتتابع والاختراعات تتوالى، والاكتشافات آخذت طريقها في الازدياد، ولا يدري أحد ما يخبئه الغد من مفاجآت علمية، وما يحمله القدر في طياته من تطورات يتوقف عليها مستقبل الإنسان - تُرى ما بداخل الذرة؟ - هذا العالم الصغير الذي حدثنا القارئ أنه من الضآلة بحيث أن النسبة بينه وبين كرة من الصلب يبلغ قطرها حوالي 3. 5 سنتميترات كالنسبة بين حجم هذه الكرة والكرة الأرضية
أو يَسْبَحُ في هذا العالم المتناهي في الصغر عوالم أصغر منه، عوالم يسميها العلماء اليوم الكترونات؟ - أو تسبح هذه الإلكترونات تارة حرة طليقة في المادة أو في الفضاء بسرعة عجيبة هي سرعة الضوء وطوراً تسبح دائرة ومقيدة حول نواة وسطى في الذرة وتكون مع النواة الذرات السابقة الذكر، وهل توجد ظواهر طبيعية تدلنا على هذه العوالم الجديدة(320/70)
المتناهية في الصغر - كل هذا نود لو نعرفه ونود أن نعرف المناسبات التي استدل بها العلماء على هذا التحليل الجديد للمادة. هذا التحليل الذي يذهب بنا بعيداً عن حدود الذرة ويدخل بنا فيها
لقد تكلمنا عن الزمن الذي يمر علينا وتتعين بمروره الحوادث وتكلمنا عن الحيز أي الفضاء الذي تحدث فيه هذه الحوادث، وشرحنا ما يفهمه العلماء من المادة وكيف تنقسم إلى عناصر وكيف تتكون العناصر من الذرات المختلفة، وحسبي أن الشخص العادي يدرك أن هناك ظواهر عجيبة تختلف عن المادة، من بينها ظاهرة الكهرباء، ويدرك أن ثمة فارقاً كبيراً بين أسلاك الترام المرفوعة على أعمدة في شوارع العاصمة معتبرة مادة مصنوعة من النحاس وبين الأسلاك ذاتها بعد مرور التيار الكهربائي فيها - كلنا يسمع عن ظاهرة الكهرباء ولا يراها، كلنا يعرف أنه يكفي مرور هذا التيار الذي لا نراه في الأسلاك المرفوعة لتسير مركبات الترام من محطة إلى أخرى - كلنا يعرف أن الكهرباء ظاهرة تختلف عن المادة وإن ظهرت فيها
ومن العجيب أن تتبع الكهرباء في تطوراتها الطريق ذاته الذي تبعته المادة، إذ تنتهي هي أيضاً بالذرية الكهربائية كما تنتهي المادة بالذرية المادية، وقد استترت الكهرباء بادئ الأمر وراء نوع من الظواهر المستمرة والمنتظمة، وهو الوضع الظاهر الذي يبدو لنا في مختلف الظواهر الكهربائية، ومع ذلك فقد انتصرت في نهاية الأمر فكرة التركيب الأتومي أي الذري للكهرباء كمل انتصرت قبل ذلك الفكرة ذاتها في كل ما يُكَوِّن المادة في الكون
على أنه كان من الصعب تصور هذا التركيب الذري في حالة الكهرباء إذ لو جاز لنا أن نتصور للمادة تركيباً حبيبياً، كل حبة مستقلة ومماثلة للأخرى فإنه لا يجوز لنا بسهولة أن نذهب إلى تعميم هذه الحالة ذاتها في الكهرباء فنفرض لها تركيباً حبيبياً مماثلاً للتركيب المادي ونفرض بذلك ذرة كهربائية لا يمكن تجزئتها فإن الأمر الأخير يبدو غريباً ويتطلب منا براهين قوية على وجوده. ذلك لأننا نتصور الكهرباء في العادة حالة طارئة على الجسم أكثر ما نتصورها جسيمات تجري في أنحائه، بل إننا نتصورها مجموعة من القوى أكثر مما نتصورها مادة في الوجود، ومع كل ما تقدم ومع مخالفة حقيقة الكهرباء لخيالنا وتصوراتنا فإن الفكرة المادية للكهرباء قد ثبتت أخيراً ونجحت نجاحاً لا يمكن أن يضعها(320/71)
أحد العلماء اليوم بسهولة محل الشك ولا يمكن أن يبعدها عن حظيرة اليقين.
لننتقل بالقارئ إلى إثبات الفكرة الذرية للكهرباء:
لقد كان الدليل الأول على وجود الذرة الكهربائية التي أسماها العلماء الإلكترون في قوانين (الإلكتروليس) وهي القوانين التي تخص انتقال الكهرباء في السوائل، هذا الانتقال المرتبط بتحليل كيميائي يقع في هذه المواد الموضوعة في السائل
نذكر أن فراداي الإنجليزي هو الذي كشف القانون الأساسي في هذه الموضوع والذي يتلخص في أن كمية من أي مادة تتحلل كهربائياً ترتبط بعلاقة بسيطة مع قدر التيار الكهربائي ومع الوزن الذري للجسم الموضوع في السائل، بحيث إذا أرسلنا تياراً كهربائيا معينا في محاليل مختلفة فنرسل التيار مرة لنحصل على عنصر معين، ونرسل التيار ذاته مرة أخرى للحصول على عنصر آخر فإننا نحصل على التوالي على العنصرين بواسطة هذا التيار الكهربائي بكميات مختلفة ولكنها بالنسب التي تعينها المعادلات الكيميائية لهذه العناصر في جزئيات المحاليل الموجودة فيها
ولم يكن ثمة تفسير لهذه الحالة ولارتباط التحليل الكهربائي بالوزن الذري إلا أن كل ذرة من ذرات العناصر المختلفة تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية وأن الكهرباء وحدات مستقلة غير متصلة كما أن المادة وحدات مستقلة ومنفصلة
وعلى هذا لا تتوزع الكهرباء بكميات اختيارية في الأجسام بل إن كل ذرة مادية تحوي عدداً معيناً من الوحدات الكهربائية فهي تحوي واحدة أو اثنتين أو خمسين مثلاً أي عدد كاملاً ليس به كسور الوحدة المعتبرة شخصية لا تستطيع الوجود في المكان والزمان إلا كاملة. إنك تستطيع أن تدعو عدداً معيناً من الأصدقاء لتناول الغداء فتستطيع أن تجمع على مائدتك سبعة منهم أو ثمانية أو أكثر، بحيث إذا أردت أن تزيد عدد المدعوين فإن أقل ما تستطيعه أن تزيدهم فرداً واحداً ما دمنا نتكلم عن أصدقاء أحياء يسعون إليك بدعوة منك؛ وليس لك أن تفكر أن تدعو من الأصدقاء أكثر من السبعة وأقل من الثمانية فإن هذا غير موجود فالأصدقاء لا توجد إلا بالواحد وليس بجزء منه. كذلك اتجهت الفكرة في الكهرباء أنها لا توجد أو تزيد إلا بالوحدة الكهربائية التي لا تتجزأ بحيث اتجهت الفكرة في بادئ المر بأنه ليس هناك حالة كهربائية بل أن ثمة ذرات كهربائية تشبه الذرات المادية موجودة(320/72)
في الذرات المادية أوعليها. ولقد لفت النظر إلى هذه الحقيقة (هلمولتز) في سنة 1881 وهو الطبيب الفيسيولوجي الألماني الذي منحته جامعة برلين كرسياً في الطبيعة سنة 1871 والذي رفعته أعماله في الضوء والكهرباء والصوت إلى مصاف علماء القرن التاسع عشر.
ويسمون (يون) وفق النطق الفرنسي أو (أيون) وفق النطق الإنجليزي وتكتب في اللغتين الذرة محملة بالكهرباء أو مجموعة معقدة من الذرات مجتمعة ومحملة أيضاً بعدد من الوحدات الكهربائية ويتكون (اليون) بانقسام أو تقطيع أوصال جزيء غير مشحون بالكهرباء فمثلاً تتحلل سلفات ذرات من النحاس محملة بالكهربائية الموجبة وبقايا من الكبريت والأوكسجين محملة بالكهربائية السالبة وتسمى الأولى باليونات الموجبة والثانية بالسالبة، ويحمل اليون الواحد ذرة واحدة أو أكثر من الذرات الكهربائية
وقد درس (لانجفان) العالم الفرنسي الذي انتخب أخيراً عضواً في المجمع العلمي الفرنسي ما نسميه اليونات الكبيرة واليونات الصغيرة وأتم في هذا دراسة معروفة قام بها منذ أعوام في أعلى برج (إيفيل) في باريس حيث نعرف أن هذا العالم الدائب اليوم في العمل للاشتراكية والمسائل الاجتماعية العامة، قضى نحو ستة أشهر في أعلى البرج للقيام بهذا البحث الذي يحمل اليوم اسمه والذي يذكرنا بدراسة (مارسيل بريلوان) لدراسة كروية الأرض بطرق ضوئية مدى أشهر طويلة في ست غرف موزعة في نفق سامبلون المعروف
وشأن الكثير من مجموع المعارف التي تكون ميراثنا العلمي اليوم لم يقف البرهان على هذه الحالة الذرية للكهرباء عند قوانين (الألكتروليس) المتقدمة والعلاقة بين الوزن الذري للعناصر وبين شحنتها الكهربائية عند ما نعمد إلى تحليلها كهربائياً، وإنما وجدت الفكرة الذرية الكهربائية برهاناً جديداً من طريق يختلف كل الاختلاف عن طريق التحليل الكهربائي المتقدم الذكر، ذلك أنه أمكن للباحثين فصل الكهرباء عن المادة التي تحملها، وبهذا أمكن البرهنة على أن الكهرباء مادة مستقلة في الحيز وأن لها صوراً منفردة في الفضاء. وإلى القارئ كيف توصل العلماء إلى ذلك:
عندما يحدث تفريغ كهربائي داخل (أمبول) مفرغ من الهواء وهو غلاف زجاجي كالغلاف(320/73)
المكوّن للمصابيح الكهربائية فإنه يتكون داخل (الأمبول) بثق من الضوء ضعيف وملون، وهذا الضوء ناتج من تصادم الألكترونات مع جزيئات الهواء المتبقي داخل (الأمبول) بعد تفريغها عند انتقال الإلكترونات السريعة من القطب الموجب داخل (الأمبول) إلى القطب السالب، بحيث يظهر أثر هذا التصادم القوي بهذه الإضاءة. ولو أننا عمدنا إلى تفريغ ما بداخل الغلاف الزجاجي من هواء فإن هذا الضوء يتضاءل لقلة عدد جزئيات الهواء التي تتصادم مع الإلكترونات المقذوفة ويبدأ أن يكون للغلاف الزجاجي لون أخضر تحت تأثير هذا القذف الألكتروني، وهذا اللون الأخضر حادث من تصادم هذه الإلكترونات مع جزيئات الزجاج. وتتضح هذه الحقيقة بأننا لو وضعنا أي جسم داخل الغلاف الزجاجي في طريق هذه الإلكترونات وليكن حلقة معدنية مثلاً فإن صورة هذه الحلقة ترتسم على الزجاج وسط اللون الأخضر. وتعين الصورة المواضع التي غابت عنها الصدمات بحكم الجسم الذي وضعناه في الطريق، ويمكن الاستدلال أيضاً على اتجاه هذه الإلكترونات ومسار هذه الأشعة الإلكترونية التي ثبت أنها تسير من القطب السالب إلى القطب الموجب، وقد أسمى العلماء هذا السيل من الإلكترونات الأشعة الكاثودي نسبة إلى القطب السالب الذي يسمى الكاثود
هنا تساءل العلماء عما إذا كانت هذه الأشعة داخل (الأمبول) أشعة موجبة أو أشعة ولقد ثبت أنها أشعة حبيْبيّة أي جسيْميَّة، إذا قَّربنا مغناطيسياً من الأمبول فإن هذه الأشعة تنحرف عن طريقها تبع وضع المغناطيس. ويبدو لنا ذلك من انتقال البقعة الخضراء على الغلاف الزجاجي، وفي هذا دليل على أن الأشعة مكونة من جسيمات صغيرة يتجاذبها المغناطيس في مواضعه المختلفة الذي نعلم أنه لا يؤثر إطلاقاً على الموجات الكهربائية. ويقول ريشنباخ في كتابه (الأتوم) الذي ترجمه للفرنسية موريس إن هذه الكهرباء المادية جسيمات مهاجرة وإن التيار الكهربائي يُمثل مجموعة من الأفراد المهاجرين من قطب إلى قطب
وبالطريقة ذاتها التي يؤثر بها المجال المغناطيسي على هذه الأجسام المهاجرة يؤثر أيضاً المجال الكهربائي على طريقها، وقد وضع الباحثون كفتين معدنيتين في طرفي (الأمبول) بينهما فارق في الضغط الكهربائي، ولاحظوا انحراف الأشعة الكاثودية بنفس الطريقة التي(320/74)
تنحرف فيها عند وجود مجال مغناطيسي ويزداد هذا الانحراف مع القوة الكهربائية المستعملة ولقد وجد العلماء في قياس درجة هذا الانحراف طريقة لقياس كتلة الألكترون أي كتلة واحدة من بلايين البلايين الأفراد المهاجرة، ذلك أنه يمكن معرفة القوة الجاذبية من معرفة شدة المجال الكهربائي أو المجال المغناطيسي كما أنه يمكن معرفة الشحنة الكهربائية لأحد هذه الإلكترونات، وذلك بالالتجاء إلى تجارب أخرى وعدنا القارئ بشرحها قريباً عندما نتحدث عن تجارب (بيران) الفرنسي (ومليكان) الأمريكي، ومن الجلي أن يدرك القارئ أن بهذه المعارف يمكن التوصل لمعرفة كتلة الإلكترون، لأن ثمة علاقة سهلة بين كتلة الجسيم وبين الدرجة التي ينحرف بها في مجال معروفة قوية.
وقد توصل الباحثون لحساب هذه الكتلة فوجدوا أنها حوالي
12000 من كتلة أخف ما نعرفه من الذرات، وهي ذرة
الهيدروجين. وبناء على ما تقدم فالإلكترونات جسيمات تصغر
كثيراً جميع الذرات الكيميائية المعروفة، وقد توصل العلماء
أيضاً إلى معرفة شحنة الإلكترون وهي تمثل كمية الكهرباء
تيار مقداره واحد على عشرة آلاف مليون من المللي أمبير
يستمر مروره مدة واحدة على مليون من الثانية.
وتذكرنا النسبة الخاصة بكتلة الإلكترون وكتلة نواة ذرة الهيدروجين النسبة بين كتلة الشمس وكتلة الكواكب الكبيرة التي تسير حولها، إذ تبلغ كتلة الشمس 1050 مرة تقريباً كتلة المشتري أما النسبة بين كتلة الشمس وكتلة إيرانوس وهو الكوكب التالي في الكبر للمشتري فتبلغ 3500 تقريباً، وعليه فإن كوكباً فرضياً يكون أصغر كتلة من المشتري وأكبر من إيرانوس، وتوازي كتلته كتلة الأرض 167 مرة تقريباً، تمثل النسبة بين كتلته وبين كتلة الشمس النسبة بين كتلة الإلكترون الحائر داخل ذرة الهيدروجين وكتلة هذه الذرة
ولا شك عندي أن ثمة شموساً غير شمسنا وكواكب أخرى غير كواكبها توجد فيها هذه(320/75)
النسبة صحيحة فإن قوانين المصادفة وتعدد الشموس وإمكان اقتراب بعضها من بعض وطول الزمن يحتم علينا أن نقبل وجود هذه النسبة في الكون. ومن يدري فربما يكون لهذه النسبة علاقة بالخليقة والوجود. . .
هذا الإلكترون الحائر، هذا الكوكب الصغير بالنسبة إلى الذرة لا يكفي في الكلام عنه هذه الأسطر التي نعتبرها مقدمة لموضوعه ودليلاً على وجوده. هذا الموضوع سنتناوله مع القارئ، ونأمل أن يساعدنا هذا السكون بعيداً عن الضوضاء على تتبعه
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة(320/76)
من هنا ومن هناك
هل تقضي الحرب القادمة على المدنية؟
(عن مقال للكاتب العالمي (ج. ب بريستلي))
طالما تردد على أسماعنا أن العالم إذا ابتلى بحرب عالمية جديدة فمعنى هذه الحرب القضاء على المدنية. وقد يبدو هذا الكلام صحيحاً، وقد ينفعنا لتذكير بعض الناس بأن الحرب لم تعد ذلك الحادث الخيالي الذي يسمعون به من بعيد. ولكن هذا القول في الحقيقة لا يحمل نصيباً من الصحة. وهو في نظري قول بعيد كل البعد عن الصواب، فأنا لا أستطيع أن أتصور أن العالم أجمع يتفانى في هذه الحرب
فمن المحتمل كثيراً إذا وقعت الحرب أن تترك ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا للخراب والإفلاس. ولكن من الخطأ أن نظن المدنية متاعاً موروثاً لتلك الدول فيقضي عليها إذا حل بها الدمار. فهذا قول ظاهر البطلان
إنني أرى مجرى المدنية يتحول عن أوربا الغربية. وأتوقع أنه إذا جاء مؤرخ بعد بضع مئات من السنين ليؤرخ هذه الفترة من الزمن، ويسجل التقدم الذي أحرزه العالم فيها سوف لا يقول إذن ماذا كانت تفعل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا
إنني أعتقد أنه سوف يرى بغير غموض أن حركة التقدم التي شملت العالم الحديث في هذا القرن، قد انتقلت من الأمم المعروفة بالأمم الصغيرة في هذا العصر إلى الأمم العظمى، ومن سكان الجزر الصغيرة إلى سكان القارات والممالك الكبيرة
ولمعرفة ذلك يجب ألا ننظر إلى ما تم وانتهى ولكن إلى ما يتم. مما لاشك فيه أن انتشار التعليم من أقوى الدلائل على هذه المدنية الجديدة. فحيثما يحل العلم محل الجهل، تقوم دعائم المدنية
إنني حينما أسمع كلمة انتهاء المدنية يتجه نظري حول العالم أجمع فأتذكر تلك الجامعات والكليات التي عمرت بها أوربا الوسطى وقد كنت أحاضر بها في الخريف الحالي. كم من أمثال هذه الجامعات في العالم؟!
قد يكون من السهل نقد نظام التعليم في تلك الجامعات التي أشير إليها. وقد نستطيع أن نقول إنه سيمضي زمن طويل حتى تكون كجامعات كمبردج واكسفورد وقد نجد الحجة(320/77)
أمامنا في ضعف المواد التي تدرس بها وعدم وصول طلابها إلى الدرجات العليا في التعليم
ولكننا إذا نظرنا إلى ماضيها المجدب وقسناه على تقدمها المحسوس نحو المدنية والرقي عرفنا كيف تأتي هذه الأمم بالمعجزات
إنني أجيل النظر حول العالم كما قدمت فأذكر الصين مثلاً وقد أنشئت فيها الجامعات وانتشرت في بلاد لا يكاد يسمع باسمها الإنسان. وإذا كانت اليابان قد دمرت بعضها في غزوها فإن تلك الجامعات تشاد في أماكن أخرى بعيدة عن أماكنها السابقة ولو أدى الأمر إلى بنائها وسط الكهوف والأحراج
وهكذا أصم أذني حينما أسمع كلمة الحرب وانتهاء المدنية. فهذا تشاؤم لا مبرر له ووهم لا أساس له من الحقيقة. إن المدنية تسير في طريقها. وهو على كل حال طريق ليس من السهل على القذائف والمدمرات أن تناله بسوء
الهند الطموح
(عن مقال للزعيم الهندي (جوهر لال نهرو))
إذا كانت الوطنية هي التي خلقت الأمم الأوربية منذ مائة سنة أو أكثر، وهي التي أقامت الدعائم للمدنية التي يكاد بناؤها أن ينهار في السنين الأخيرة، فمما لاشك فيه أن الوطنية هي القوة التي تحفز الأمم الشرقية التي تئن تحت نير الحكم الأجنبي للسعي وراء الحرية في هذه الأيام فألفت بين القلوب أبنائها وشدت من عزائمها وأطلقت روحها الحبيسة من عقالها، وتلك ناحية سامية في حياة تلك الأمم، تضيف نجاحاً جديداً إلى النجاح الذي نالته الحرية في تاريخ الإنسانية. ألا أنها على الرغم من ذلك لم تستطع الخروج بها عن تلك الدائرة الضيقة، إذ أن انشغال الأمم بالسعي وراء حريتها لا يترك لديها مجالاً للتفكير في شيء آخر، ولم تستثن الهند من هذه القاعدة. فالهند في كفاحها قد نسيت العالم برهة من الزمن ولم تفكر في غير شأنها. إلا أن القوة التي أحرزتها، والثقة التي أحياها النجاح في نفوس أبنائها، قد جعلتاها تفكر في دائرة أوسع وأعم
إن غزو اليابان لمنشوريا قد أوجد شيئاً من العطف على الصين، كما أن اغتصاب إيطاليا للحبشة قوبل باستياء شديد، كذلك المأساة التي حلت بوسط أوربا قد قابلها العالم بالأسف(320/78)
العميق، ونحن لطول تجاربنا للإمبراطورية البريطانية، لم نصدق شيئاً من وعودها للأمم الضعيفة، ولم نثق بمعاونتها في عصبة الأمم، لذلك كنا نتتبع سياستها الخارجية باهتمام، وقد أصبحت معارضتنا لنفوذ الإمبراطورية البريطانية جزءاً من سياستنا التي تعارض كل نفوذ إمبراطوري أو فاشي في أنحاء العالم
لذلك كانت بعثتنا إلى الصين، والمؤنة التي أرسلناها إلى أسبانيا باسم الهند، من الطرق التي اتخذناها لنبين سياستنا الخارجية، واستقلالنا بها عن بريطانيا. وأكثر من ذلك فقد اطرحنا جانب التفكير في أي مساعدة حربية إذا ثارت الحرب. أن الشعب الهندي وحده هو الذي سيقول إذا كانت الهند تدخل الحرب أولا تدخلها. وأي إرادة تملي عليه من الحكومة البريطانية ستقابل بالرفض. يجب علينا أن نقرر سياستنا الخارجية بأنفسنا، وكذلك سياستنا المالية والحربية، ولنا الحرية التامة في الارتباط بالأمم الأخرى
إن سلطان الإمبراطورية البريطانية يتلاشى أمام أعيننا، وليس لديها إزاء الهند غير طريقين: الطريق الطبيعي والمنطقي الذي يلزمها بالتنازل للهند عن حقها في تقرير مصيرها على قاعدة الحرية التامة وإلغاء المجلس الذي أقيم ليمثل إرادتها المطلقة
والطريق الآخر هو الذي تستطيع الهند أن تملي فيه أحكامها القاسية عليها حيث تصطدم بالوطنية الهندية. وإذا كان هذا الطريق سيؤخر حريتنا قليلاً إلا أنه مما لا شك فيه أنه سيؤدي إليها ويظهرنا على أمور لم تكن في الحسبان. من أجل ذلك نرى الحكومة البريطانية تتجنب مع الهند أي حركة من شأنها أن تدعو إلى العنف
إنها قد ترحب باتفاق ودي مع الوطنية الهندية يكون نتيجة إقامة المجلس الوطني، ولكن ذلك سيؤدي بلا شك إلى الطريق الذي ابتدأت منه، وذلك ما تخشاه(320/79)
البريد الأدبي
حماية الملكية الأدبية
عنيت وزارة التجارة والصناعة بوضع تشريع لحماية الملكية الأدبية في مصر، إلى جانب ما أخذت في وضعه من تشريعات أخرى لحماية براءات الاختراع، وحماية الملكيات الفنية والموسيقية وغير ذلك مما تنتظم معه حياة استغلال المواهب، وتستقر به حقوق المؤلفين والمبتكرين.
وقد انتهت إدارة التشريع بوزارة التجارة من وضع أساس هذا التشريع وعرضته على معالي وزير التجارة توطئة لاتخاذ الإجراءات الخاصة بإصداره
وقد رؤي أن يشتمل هذا القانون على مادة خاصة بحماية حقوق المؤلفين الأجانب، أملاً في أن يمهد ذلك لاشتراك مصر في الجمعية الدولية لحماية حقوق المؤلفين، فيحفظ للمؤلفين المصريين عن طريقها حقوقهم في مؤلفاتهم في البلدان الأخرى.
مغالطة
قلت في الرسالة (العدد 314، باب رسالة النقد) إن هذا الكتاب: (مجموعة محاضرات دُرْكايمْ) لا وجود. وهي (المجموعة) التي استند إليها الأستاذ إسماعيل أحمد أدهم فذكر عدداً من صفحاتها (أجل!) رجاوة أن يدل على أنه قرأ فيها هذا التعبير ثم عاد الأستاذ أدهم (الرسالة العدد 317) يقول - غير هيَّاب -: إن هذه المجموعة موجودة وهي تحمل التي طبعت للمرة الأولى عام 1895، فمن المجموعة (كذا!) الاجتماعية لمكتبة بباريس على أنها ' ثن زاد فقال: (والنسخة التي (يريد: بين) أيدينا (يريد: يدينا) هي الترجمة الإنجليزية وفيها العبارة مترجمة والترجمة بقلم. . وراجعنا اليوم نسخة من طبعة عام 1912 في الفرنسية، والعبارة وجدناها (يريد: ووجدنا العبارة) ترددت أكثر من مرة (يريد: غير مرةّ)). اهـ كلام أدهم
والرد الواضح على هذا أن ترجمة عنوان الكتاب وما هو بمجموعة كما يدعى الأستاذ أدهم، فقد قرأته على أساتذتي في السربون غير مرة) هي: قواعد (أو أصول) المنهج الاجتماعي (أي منهج علم الاجتماع). فأين تعبير (مجموعة محاضرات)؟ وترجمة هذا التعبير الأخير:(320/80)
وإن زاغ الأستاذ ادهم فذهب إلى أنه ترجم العنوان الشامل وهو ' (وماهو بعنوان الكتاب المذكور قبلُ) فترجمة هذا العنوان الأخير هي: أعمال (السنة الاجتماعية) (وهي مجلّة). فأين تعبير: (مجموعة محاضرات. . .)؟
وهذا يدل على أحد أمرين كما قلت في مقالي السابق: فإما أن الأستاذ أدهم لا يحسن النقل من الفرنسية إلى العربية لرّقة معرفته باللغة الفرنسية، وإما أنه يبتدع المصادر على سبيل التهويل. وله أن يختار أحد الأمرين، وأنصح له أن يختار الأول فهو أهون شراً
ومن ذلك كله يتبين أن الأستاذ أدهم يحسن الإيهام من طريق المغالطة. وهو ممن لا يخشى أن يستكره الحجج على مواضعها فيجتلبها اجتلاباً. ثم إنه ممن ينحرف إلى ارتجال المصادر ارتجالاً؛ وقد بينت ذلك في المقال السابق من الرسالة وفي مقتطف أغسطس. ولم أنسى أن الأستاذ أدهم استند إلى الإصحاح الرابع عشر من سِفر دانيال (العهد القديم) وكل السفر اثنا عشر إصحاحاً، وأنه استند إلى الجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم، على حين أنه يقع في جزء واحد؛ ولعل القارئ لم ينس ذلك (راجع الرسالة العدد 314).
وبعد، فإني لم أكتب هذه الكلمة، متعقباً فيها قولاً للأستاذ أدهم (وقد والله سئمتُ تعقب أقواله كلها)، إلا ليعلمَ أني لا أزال أعده أجنبياً عن العلم الصرف، بعيداً عن مطارح الثقة والدقة. فليتروّ وليتحرّز قبل الكتابة وليفطن إلى أن في مصر وفيمن غاب عنها لأجلِ من له بالمرصاد، مهما لوَّي قلمه وكابر.
ولعله يقول إن هذا التعقيب (شكلي)، وهو قول طالما يفزع إليه ويستغيث به. فالذي أعرفه أن الدقة والأمانة في تدوين المصادر مما يعظم شأنه في جامعات فرنسة وإنجلترا وألمانية وإيطالية ومصر! وأما علمي بما يجري في جامعة موسكو - حيث تلقى الأستاذ أدهم صنوف العلوم، كما جاء في مجلة الحديث الحلبية - فجدّ قليل.
(تلال الفوج - فرنسة)
بشر فارس
حول نعيم الجنة
شددنا النكير على الدكتور زكي مبارك لقوله: (اشغلني عنك يا رباه، بما سيكون في الجنة(320/81)
من أطايب النعيم) فكتب يقول: إنه لم يقل هذا وإنما قال: (اشغلني عنك، يا رباه، بما في الجنة من أطايب النعيم فإن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج) وزعم أننا حذفنا شطراً من كلامه ليجوز أن نقول عن شطر (فهل رؤى سوء أدب وسوء فهم للدين كالسوءين المتجسمين في دعاء زكي مبارك هذا؟)، في حين أن عباراته بشطريها (غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت)؛ هذا هو دفاع زكي مبارك. فهل يجد الدكتور زكي مبارك حين يقول هذا؟ وهل في الحق أن الجملة التي لم نذكرها ذلك الأثر الإكسيري في الجملة التي ذكرناها فتقبلها من غاية الغايات في سوء الأدب وسوء الفهم للدين إلى غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله ذي العزة والجبروت؟
لننظر أولاً إلى غايات زكي مبارك في تعظيم الله والثناء عليه: إن بصر زكي مبارك (على حِدَّته) - كما يقول في رده - أضعف من أن يواجه نور الله (الوهاج) أهذا ثناء على الله أم على بصر زكي مبارك؟ وتعظيم لله أم تعظيم لزكي مبارك؟ إن بصر زكي مبارك أضعف من أن يواجه نور بعض ما خلق الله. فلو أطال التحديق في الشمس ضحىً لعمى؛ بل لو حدق في القوس الكهربائي لَكلَّ. فهل بلغت الغفلة بزكي مبارك أن يرى ثناء على الله ما لو أثنى به على بعض مخلوقاته لكان تقصيراً في الثناء، فضلاً عن أن يراه غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله؟
ثم وصْف (الوهاج) في دعاء هذا الصوفي الذي لا يدرك معاني دعائه غير صفوة المؤمنين، ما معناه وما مغزاه حين يصف به نور الله سبحانه؟ إن الكلمة في اللغة توصف بها الأجسام المتألقة اشتعالاً، وقد وصف الله بها الشمس في سورة النبأ كما يعرف كل إنسان. فكيف غاب عن الدكتور المتصوف أن وصفاً كهذا - فيه من التكييف ما فيه - لا يليق أن يوصف به نور الله سبحانه؟ سيلجأ الدكتور إلى المجاز يلتمس فيه محملاً. فليلجأ، وليخبرنا على أي محمل يمكن أن يحمل هذا اللفظ حين يصف به نور الله رجل يرى أن دعوى النظر إلى الله أعرض من الصحراء
الواقع أننا هممنا حين كتبنا أول مرة أن نجعل هذه الجملة التي يدَّرِيء بها الدكتور الآن هي أيضاً موضع نقد ولوم لولا أننا آثرنا أن ندع ما جاء منه على أي حال في صيغة ثناء، وأن نقصر الكتابة على ما لا يمكن أن يتصور فيه عذر مما جاء في صدر ذلك الدعاء(320/82)
على أننا سنفرض أن ليس في ثناء زكي كبارك هذا ما يمكن أن يكون موضع مؤاخذة أو استدراك، فما علاقة كلال بصره عن نور الله بما جاء في صدر دعائه من طلب الانشغال عن الله؟ أبلغت الدراسات الفلسفية بالدكتور زكي مبارك أن يرى أن ليس لما وراء البصر في عبادة الله مذهب، فإذا لم يستطع أن يبصر فلينصرف عن الله وليشتغل عنه بنعيم الجنة؟ أهذا هو حاله الذي تسامى إليه في (التصوف الإسلامي)؟ وهل معنى رؤية الله عنده في نعمة المشكورة الاشتغال بتلك النعم عن الله؟ أم هل في منطق فلسفته أن المؤمن بعظمة الله وجبروته يستطيع أن يجترئ على الله ذي العزة والجبروت فيسأله عن نفسه سبحانه بنعيم الجنة لأي سبب من الأسباب؟
لا. ليس من الممكن أن يكون الدكتور زكي مبارك جاداً حين يزعم للناس أن عبارته تلك قد بلغت غاية الغايات في الإيمان بعظمة الله لمجرد ذكره فيها أن بصره أضعف من أن يواجه نور الله. إنه يسخر وهو يصطنع الجد كبعض من قرأ لهم من أدباء العرب أو أدباء الفرنسيين. إنه يسخر من نفسه أو يسخر من الناس؛ لكنه يسخر في مجال لا ينبغي لمؤمن أن يسمح للسخرية أن تحوم حوله ولو من بعيد. وقد أهبنا بزكي مبارك مخلصين أن يتوب إلى الله من اجترائه عليه وأن يخلص التوبة. فلئن أصر ليوشكن أن يسخر منه الله.
محمد أحمد الغمراوي
سعد وسعاد
في أول كلمة كتبها شيخنا الجليل عبد المتعال الصعيدي، كان مثار الاضطراب عنده في القصة أن سعداً ذهب يبث شكواه إلى الخليفة مروان والخليفة معاوية في وقت واحد. وإنما سبق ذلك إلى ذهنه لأنه مر بالقصة خفيفاً فجعل (مروان) بدلاً من الخليفة في هذه الجملة (والى تلك الجهة الأموي المفتون المدل بمكانه من قريش ومكانه من الخليفة، مروان بن الحكم) مع أن سياقه القصة وما تقدم هذه الجملة من كلام لا يجعل مجالاً للشك في أن المراد بالخليفة: معاوية وبالوالي: مروان. هذا إلى أني أعتقد أن مكانتي عند العلامة الصديق لا تتدلى إلى قرار أجهل الفرق معه بين عهد مروان وعهد معاوية وهو لا يسع أن يجهله تلاميذنا في المدارس الابتدائية(320/83)
وقد أردت أن أمهد العذر للأستاذ الكبير فيما ذهب إليه، لأن إغضاب جملة في مرضاة صديق ليس بالشيء الجلل، فقلت لعل طول الجملة ألقى عليها ظلاً من الغموض، قلت ذلك وأنا أعتقد أني ظالم لها، فليس فيها غموض ولا إبهام ولا تحتمل غير ما أراده منها كاتبها وغير ما فهمه القراء
ثم كان أن ظهر الشطر الثاني من القصة ووضح منه (أن المدل بمكانه من الخليفة) ليس إلا الوالي مروان بن الحكم، وكان ذلك جديراً أن يرفع هذا الاضطراب - إن صح وجوده - لأن الاضطراب كما يعرف العالم لم يتعد منطقة (دانزيج) إلى الآن، ولكن العلامة الصديق عاد فقرر في كلمته الثانية أن الاضطراب لم يرتفع بل ازداد، ومعنى ذلك: أنه لا بد من وجود الاضطراب سواء أكان مروان مشكواً منه أو مشكواً إليه! غير أن شيخنا وقد ظهرت له براءة الجملة مما رميت به رأى أن ينقل الاضطراب - بزكانته التي أعرفها له - إلى القصة نفسها، فرماها بالوضع كأن كل قصة موضوعة يجب أن تكون مضطربة! ولو أخذنا بهذا المنطق لحق العفاء على كل ثمرات الخيال
أما إن القصة موضوعة فقد أبنت رأيي فيها مع الحذر والحيطة، ولا يسعني إلا أن أحمد الله على أن فراستي لم تخني كما حمده الأستاذ الصديق، فقد ألقى في روعي أنه سيتدرج من رمي الجملة بالاضطراب إلى رمي القصة بالوضع، فبادرت بإعلان رأيي مقدماً لأوفر عليه العناء، ولكنه كما لم ينتظر الشطر الثاني من القصة ليتثبت من وجود الاضطراب، لم يتريث حتى يقرأ ردي على كلمته ليعرف رأيي في القصة
والآن أود أن يتسع صدره للنقاش فيما يلي:
1 - رجح أن الوالي الظالم ابن أم الحكم، لا مروان ابن الحكم أخذاً برواية داود الأنطاكي في تزيين الأسواق. ويظهر أن أستاذنا الفاضل يقيم لهذا الكتاب وزناً كبيراً، بدليل استقائه منه جل ما كتبه عن (بني عذرة) وأن مثله كثيراً ما أعتمد عليه بل أني أحفظ أغلب أشعاره؛ ولكن رأيي أن الشيخ داود الأنطاكي كان في تصنيفه لهذا الكتاب كحاطب ليل، وقد تكون ثقة ثبتاً عند الشيخ الفاضل، ولكنه ليس أوثق عندي من شهاب الدين النويري ولا من الإمام ابن الجوزي راوي قصة سعاد كما فصلتها
2 - يستبعد شيخنا أن يقع هذا الظلم من مروان بن الحكم وهو يعرف أنه كان مستشاراً(320/84)
لعثمان (رضي الله عنه) ففرق جماعة المسلمين! وكتب عن لسان الخليفة كتاباً مزوراً إلى والي مصر لولا انكشاف أمره لأريقت دماء بريئة! ويعرف أنه في موقعة الجمل تغفل طلحة وهو من أنصاره فرماه بسهم في أكحله أودي بحياته! فأين يقع اغتصاب سعاد من هذه الأفاعيل؟! ثم أين هو الاغتصاب؟ ألم يُملق سعد، وعجز أن يَمُون زوجته؟ والفتيا على أن إعسار الزوج سبب من أسباب الفرقة. ثم ألم يطلقها سعد على كل حال (وإن كان مكرهاً) وإذا صح أن الخلافة تثبت بالتغلب أفلا تثبت الزوجية؟ ثم ألم يتزوجها مروان بعد انقضاء العدة واستبراء الرحم على سنة الله ورسوله؟ فهذا الزواج لا ينافي الحِلَّ وإن باين التديَّن والورع ومكارم الأخلاق، ومروان ليس بمعصوم من النزوات
3 - لست أنكر أن (مروان) من زعماء بني أمية، ولكن أيظن شيخنا أن معاوية يغمض عن هفواته رعاية لهذه القرابة؟ وهو عاهل العرب الذي كان يتألفهم بسياسته الحازمة الرفيقة الصارمة، وهو خليفة المسلمين المسئول عن أبشارهم وأعراضهم وأموالهم. أيخشى معاوية أن يحاسب (مروان) على ذنب اجترحه وهو الذي بلغ من شكيمته أن ينازع عليًّا الخلافة. على قرابته وسابقته وفضله - ومن مروان إذا قيس بمعاوية؟ ألم يَعِده لأن يعهد إليه بالخلافة بعد يزيد فلم يف له بذلك ولم يقف عند هذا الحد فعزله عن ولاية المدينة؟ ثم ما هي الذلة التي ضربت على مروان في هذه القضية؟ أيكون ذليلاً لأنه ثاب إلى رشده واستجاب لداعي الحق ونزل على حكم الخليفة؟ وهل كان ينتظر منه أن يبسط لساناً أو يسل سيفاً والذنوب تخرس الألسنة وتغمد السيوف؟
4 - حكم شخنا بأن القصة ضعيفة في سبكها وشعرها، وأنا أوافقه في ذلك وأخالفه، أوافقه على أن بعض الشعر ضعيف بل سخيف، وقد أشرت في الهامش إلى أنه قد يكون وضع على لسان معاوية. وأخالفه في أن سائره جزل قوي محكم، وهو ما قاله سعد وسعاد أو قيل على لسانهما
أما سبك القصة فهو عمل خالص لي، وليست القصة إلا هيكلا عظميا كسوته اللحم وأجريت فيه الدم، فإن كان لا يزال مصرا على أن هذا السبك ضعيف، فلا يسعني إلا أن أحترم رأيه، ولكن ذلك لا يمنعني أن أقول: إن أدباء القصة لا يتفقون معه في ذلك، وهم بحمد الله كثير في هذا البلد الأمين(320/85)
5 - بقي أنه يرى أن هذه القصة موضوعة، وأقول: أن هذا ظن لا يغني من الحق شيئاً! وأبرأ الذمة، وأبعد من الزلل أن يتابع صديقه الصغير في عدم الجزم بذلك، فراويها الإمام ابن الجوزي ومنزلته معروفة، ووقائعها ليس فيها ما يهول ويستغرب. أليست زبدتها أن والياً - وإن كان مروان - أكره زوجاً معسراً على طلاق امرأته الجميلة ليتزوج بها، وأن الخليفة رد الحق إلى نصابه، وأي عجب عاجب في أن يحدث هذا؟
هذا ما عنّ لي فيما كتبه شيخنا الفاضل. . . والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
علي الجندي
أين علماء الأزهر؟
الأستاذ العالم علي الطنطاوي رجل مؤمن الروح، مشرق القلب، نير البصيرة. وهو بعد من أولئك الشبان الأخيار الذين يحرقون أنفسهم مداداً وبخوراً في سبيل حياة الإسلام وعزته، في عصر مزور أصبح فيه كل من يتكلم بالدين يرمى بالرجعية والجمود والغفلة وعدم مسايرة تيار الحضارة الحديثة والتطورات العلمية الجديدة
أقول هذا بمناسبة نداء الأستاذ الأخير الذي وجهه لعلماء المسلمين على صفحات الرسالة يحثهم على معاونته في تأليف كتاب في (الدين الإسلامي) (يضم بين دفتيه الإسلام الذي جاء به النبي محمد خالياً من الحشو والزيادات والبدع والخرافات، يقرأه الشاب المسلم الذي يعرف الدين فلا يحتاج بعده إلى شيء، ويقرأه العامي فيفهم منه دينه، ويقرأه الغربي (مترجماً) فيحصل له عن الإسلام فكرة واضحة صحيحة)
ويعلم الله أن نفسي انطلقت لهذه الفكرة النبيلة وانتظرت ماذا سيكون من أمر علمائنا، وخصوصاً سادتنا علماء الأزهر الشريف فهم أحق الناس لتلبيتها والنهوض لها والاهتمام بها. . . ولكن ماذا كان؟ كان أن ذهبت دعوة الرجل هباء، فلا حس ولا حركة ولا حياة!
في الحقيقة أن أساتذتي علماء الأزهر مقصرون. وفي الحقيقة أنهم قوم لا يهمهم من الحياة إلا صفو أنفسهم وفخفختها، وإن تظاهروا بالرهبنة والزهادة، وضجوا بالحوقلة والحسبلة؛ أما رفعة الإسلام ومجده، فذلك شيء منسي على هامش حياتهم!
أين الدجوي والجبالي واللبان وأبو العيون والأودن والجزيري وأبو دقيقة؟ أين هؤلاء؟(320/86)
وأين غيرهم وغيرهم من علماء الأزهر الذين لهم قلم وفكر وبيان! أنا لا أستطيع أن أفهم!
يا إلهي. . .! متى يستكمل شباب المراغي الحي عدته فيحمل المشعل ويتقدم القافلة؟!
عبد العليم عيسى
القومية العربية والوحدة الإسلامية
إلى الأستاذ ناجي الطنطاوي
خاطبتم الأستاذ العلامة (ساطع الحصري بك) في العدد 317 من الرسالة العزيزة في قوله: (أعتقد باستحالة الوحدة الإسلامية) وقلتم: (أفتكون هذه الوحدة التي أمكن تحقيقها في عصر صدر الإسلام وعصر الأمويين والعباسيين ومن أتى بعدهم مستحيلة في عصرنا هذا؟) وتقولون هذا وأنتم تعلمون أن الدين الإسلامي الحنيف لم تصن مبادئه وتحفظ قوانينه كما أمر الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) إلا في زمن صدر الإسلام. وفي عصر الأمويين إذ كان الدين الحنيف يسهر على مصالحه العرب الذين جالدوا ومنعوا دخول العناصر الغريبة عن العرب في صميم الحكم والقضاء، فلما أن جاء العصر العباسي وكثر فيه الغرباء عن العرب وانتصر السفاح بمساعدة الخرساني وهو فارسي أصبح الفرس يتدخلون في الحكم مجاهرين (أن الدولة لم تقم إلا على سواعدهم وازدادت هذه التدخلات بعد أن انتصر المأمون على أخيه الأمين بقوة جيش خراسان هذه العناصر أيضاً. ولم تزل هذه العناصر الغربية تلح على الأمة الإسلامية حتى انحطت إلى ما هي عليه الآن. ولو قدر الله أن يبقى الحكم في يد العرب لازدهرت الأمة الإسلامية ولم انحطت إلى ما هي عليه اليوم
أن المسلمين العرب اليوم في حاجة قصوى إلى الاتحاد والاتفاق مع المسيحيين العرب الذين يشاركونهم لغتهم وعاداتهم
وتقاليدهم. وليس من العقل في شيء أن نترك أخانا وجارنا المسيحي العربي من أجل هندي بعيد لا تربطنا به عادات ولا لغة ولا تقاليد! تقولون بعد: (إن كل مسلم في سورية أو مصر أو العراق يعتقد أن المسلم الهندي أو الياباني أو الأوربي أخ له الخ)
وهذا صحيح، ولكن هل تعتقدون أن المسلم الهندي يفيد المسلم المصري أو السوري أكثر مما يفيده المسيحي المصري أو السوري؟ هاهي ذي فلسطين الذبيحة تكوى بالحديد وبالنار(320/87)
فهل رأيتم هندياً أو يابانياً مسلماً تطوع للدفاع عنها حيث يتعانق الهلال والصليب وحيث يقف المسيحي إلى جانب المسلم يدفعان معاًشر المستعمر المغتصب؟
إن حلول الأمم الأجنبية في بلاد المسلمين العرب أكثره مسبب عما يسمونه (حماية الأقليات) وحين يأتي يوم تنطق فيه العقيدة العربية على لسان المسيحيين العرب المخلصين (إننا لسنا أقليات بل نحن من صميم الأمة) حين يأتي ذلك اليوم فإن الأمم المستعمرة لا تجد أمامها من هو محتاج إلى حماية فتنسحب
لقد أعطتنا (فلسطين) درساً وافياً في القومية وفي العقيدة فها هي ذي تكاد تتلاشى (لا سمح الله) والدولة التركية المسلمة ترفع صوتها باحتجاج واحد. قد تستطيع الأمم الإسلامية أن تعقد اتفاقاً تشكل منه دولة واحدة لها سيادة ولكن معنى ذلك هو ذَوَبان العرب في بقية الدول المسلمة القوية لم
في مقدور المسلم أن يوثق علائقه بإخوانه المسلمين أين كانوا وهو جاد في حقل (القومية العربية) ومخلص للقضايا الوطنية المشرفة
(طرابلس)
محمد على عكاري(320/88)
الكتب
فوزي المعلوف وآثاره
للأستاذ فائز. ح. عون
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
وهذه دراسة جديدة عن علم من أعلام الأدب الحديث تظفر به المكتبة الإستشراقية في اللغة الفرنسية من أديب شرقي تقدم بها كأطروحة إلى جامعة باريس لينال عليها إجازة الدكتوراه في الآداب. والدراسة تمتاز بطابعها المدرسي في العموم وكونها أقرب إلى التثبت العلمي منها إلى التخيل والنظر في المنهج، ففيها رجوع إلى المصادر واستقصاء لها، ودلالة على مناحي أهميتها مم تجده مبذولاً في قائمة المصادر والمراجع، وبعد ذلك ترى الضم للعناصر المتفرقة من المراجع بلا تعديل ومناقشتها بإحكام، ثم بعد ذلك الرجوع إلى ما يتصل بها من آثار فوزي المعلوف، والخلوص من ذلك بأحكام تغلبها نزعة التقدير
تستهل الدراسة بمقدمة عن الشعر العربي الحديث في طليعة
القرن العشرين، يتناول فيها صاحب الأطروحة بالبحث انبعاث
روح النهضة في الشرق العربي وخاصة لبنان، مبيناً الأسباب
التي كانت تعوقه عن أن يدور في آفاق الحياة الجديدة، التي
أخذت منها سوريا بطرف، وهذه الأسباب تعود إلى النظام
الحكم - عنده - وهو لهذا يرى أن الشعر العربي السوري لم
ينهض إلا في المهجر سواء كان مصر أم أمريكا. وهو يرى
فقدان زعيم المدرسة اللبنانية في الشعر، وقد تخرج على
مذهبه الإبداعي جل المجددين في الشعر العربي، يذكر منهم(320/89)
جيران ورشيد أيوب، ويرى فوزي المعلوف منهم. على أنه
يخطئ حين يقدر أن مطران هاجر إلى مصر عام 1884،
والصحيح أنه نزلها صيف عام 1892 كما جاء في البحث
السابع من دراساتنا عن مطران بمقتطف يوليه ينه 1939،
كذلك لم يلاحظ الكاتب أن مطران وإن أثر على جبران ورشيد
أيوب وفوزي معلوف، فقد كان تأثيره على جبران من جهة
الطلاقة الفنية، ولجبران بعد طبيعته الخاصة وأخيلته وأجواؤه.
أما رشيد أيوب وفوزي معلوف فقد وقفا من مطران موقف
التأثر التام بمعنى سوق أغراضه الشعرية، يظهر ذلك في
وحدة القصيد وسلسلة المعاني وبث فكرة مطردة في القصيدة،
وهذا ما فطن إليه الكاتب بالنسبة لفوزي المعلوف في أكثر من
موضع من الدراسة. على أنه يعود في المقدمة فيشير إلى تأثر
احمد شوقي بمطران في بدء شبابه، وما بدا من أثر مطران
في النثر التوقيعي (الشعر المنثور). ويلج المؤلف في غمام
هذه المقدمة المحيط العائلي والاجتماعي بالنسبة لفوزي
المعلوف، وهو يقف من هذا المحيط عند المجمل منه دون أن
ينزل إلى تفاصيله، أو يدل على روحه الشيء الذي تأثر به(320/90)
فوزي المعلوف فجاءت شخصية متأثرة بأربابه
والفصل الأول - من القسم الأول وهو عن الشاعر في لبنان - وقف على مولد الشاعر ونشأته. وفي هذا الفصل يقف المؤلف من طفولة الشاعر ونشأته عند حد النسيج الخارجي المربوط للزمان دون أن يحاول النزول إلى أعماق الطفل فيظهر بدرات روحه وخلجات نفسه، ومن هنا جاء عيب ملحوظ على الدراسة تكاد تراه في كل الفصول التي ترتبط بالترجمة عن حياة الشاعر. والفصل الثاني من هذا القسم وقف على الكلام عن آثار الشاعر الشعرية في الفترة الأولى من حياته ويجيء بعد ذلك الكلام عن المستر سلات تذهب منحى الفن المسرحي
أما القسم الثاني فيجيء عن الشاعر في البرازيل. الفصل الأول عن قصائده التي تذهب مذهب المقطوعات؛ أما الفصل الثاني فوقف على الكلام عن بساط الريح والفصل الثالث عن أسئلة الأدب، ويجيء بعد ذلك فصلان: الأول عن فكرة الشاعر والثاني عن فنه وفي ختامهما ملخص يتألف من مجموعها القسم الثلث من الكتاب، وفي نهاية الكتاب ملحقان الأول يحصر آثار المعلوف والثاني يحمل النص العربي للشعر الذي استشهد به في الدراسة، ففهرس لأسماء الأعلام، فقائمة بمواد الدراسة
وهذا العرض السريع لترتيب فصول البحث يبين مقدار تمكن المؤلف من الروح المنهجية في البحث التي جعلته يقسم بحثه تقسيماً معقولاً، على أن في الكتاب بعض هنات بسيطة جاءت في العموم في المواقف التي عرض فيها لفوزي المعلوف بالنسبة لشعراء آخرين، ويظهر أن سبب ذلك يرجع إلى آثار الآخرين الذين تتصل شخصياتهم أو آثارهم بشخص المعلوف أو فنه الشعري. من ذلك كلامه عن مطران ومقارنة فوزي المعلوف به. فهذه المقارنة خطأ من جهة المنحى الذي ذهب إليه المؤلف، فقد قرر أن مطران وقف عند حد التعبير عن احساسات الحب (عاطفيا) ' في حكاية عاشقين بعكس فوزي المعلوف الذي ارتفع في ملحق على بساط إلى آفاق فلسفية تتصل بعالم ما وراء الطبيعة، ومن هنا جاء ما عند فوزي المعلوف في بساط الريح - في نظر المؤلف - من الصراع بين الروح والجسد. وهذه الملاحظة وإن كانت صادقة ولكن إطلاقها بعد ذلك على الشاعرين فيه شيء(320/91)
من الخطأ لأن المسألة ترجع في ذلك الحين إلى كل آثار الشاعرين والطابع العام لشعرهما، وفي ذلك الوقت لا أظن أن هذا الحكم يتسق خصوصاً وما يعرف عن شعر الخليل في ملحمته (نيرون) أو قصيدته (رعمسيس) أو قصة (الجنين الشهيد) مثلاً
على أننا بعد ذلك لا ننكر ما قد أظهره المؤلف في دراسته من النظر، خصوصاً فيما أخذه على الناقد المعروف الأستاذ صديق شيبوب وما أبداه من مقارنة الشاعر موضوع الأطروحة، وبين رديارد كبلنج.
والدراسة في العموم غنم عظيم للمكتبة العربية، وللأدب العربي الحديث
إسماعيل أحمد أدهم(320/92)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
على هذه الصفحات سنكتب تاريخاً موجزاً للنهضة المسرحية في مصر، تلك النهضة التي قامت على أكتاف أبطال وبطلات (فرقة رمسيس) منذ سبعة عشر عاماً حتى الآن. سنكتب تاريخاً لهذه النهضة على غير الطريقة التي يكتب بها التاريخ. هو ليس تاريخاً بالمعنى المفهوم والطابع المعلوم، بل مجرد خواطر وآراء علقت بالذهن ووعتها الذاكرة مدى هذه الأعوام الطويلة. وكان لا بد يوماً من إخراجها للناس، وفي وقتها المناسب، وليس أنسب من هذه الظروف، وقد تهيأت لنا أسباب النهوض بالمسرح، ثم لا نجد من ينهض به، أو يعمل مخلصاً في سبيله!
أليس محزناً للنفس وموجعاً للقلب أن تمنح الفرقة القومية خمسة عشر ألفاً من الجنيهات في كل عام، ثم لا يكون من عملها وإنتاجها إلا أن تسيء إخراج بضع روايات قديمة سبق أن أخرجت للناس في أبهى حلة وأتم نظام وأكمل ترتيب، وأن تسيء كذلك إخراج بضع روايات جديدة هزيلة: هي عناوين للتفاهة والغثاثة، ومفسدة للأخلاق، وموحية بأحط التعاليم وأقبح الآراء؟؟
مما يؤسف له حقاً أن يجد الكاتب لزاماً على نفسه أن يتحدث عن الفرقة القومية كلما تحدث عن المسرح في مصر، مع أنه لو أسقطها من حسابه، وأغفل ذكرها، لما خسر شيئاً يذكر في تقديره للأمور وفي حسابه للأرقام. أما المؤرخ فلن يستطيع هرباً من الحقيقة، وسيجد نفسه مضطراً لتدوين هذه الفترة المحزنة في حياة المسرح المصري. فمنذ كان المسرح في مصر لم ينعم أبناؤه بعهد ذهبي كهذا العهد، ولم تيسر الأمور مثلما يسرت لهم الآن ومع ذلك فأنهم لم يصيبوا من أعمالهم غير الفشل والخسران المبين! ومن العجيب أن يحدث هذا بعد سبعة عشر عاماً من وثبة المسرح المصري على يد فرقة رمسيس التي أنشئت لحساب فرد واحد، ومن غير معونة من هنا أو من هناك، وفي وقت خسر المسرح فيه سمعته،(320/93)
وكان لأهله حينذاك مسبة وعاراً.
يذكر الذاكرون أن المرحوم عبد الله باشا وهبي كان عزيزاً عليه أن يرى ابنه يوسف وهبي ممثلاً، وكان عزيزاً على أي رجل آخر أن يرى ابنه (مشخصاً) على المسرح؛ فلم يكن التشخيص في نظر الناس مهنة وضيعة للذين فقدوا كل أمل في الحياة وكل أمل في الكرامة، وكل أمل في العمل الشريف. ولم تكن الحكومة لتعترف بوجود هذه الفئة من المهرجين أو تقيم لهم وزناً
أنشئت فرقة رمسيس وسط هذه العوامل وبين هذه الآراء؛ ومع ذلك فإنها سرعان ما اكتسبت ثقة الجميع: الأمير قبل الفقير والعظيم فبل الصغير. وأصبح مسرح رمسيس محط الطبقة الممتازة في مصر وملتقى الكبراء والعظماء وذوي الرأي والخطر في البلاد؛ ولم ينفض عنها جمهور ما، ولم ينصرف عن تشجيعها إلا منذ حادت عن طريقها المرسوم وتنكبت السبيل السوي!
أما الفرقة القومية التي ترعاها الحكومة بعنايتها، وتمنحها مالاً ومسرحاً، وتجلب لها جمهوراً راقياً، ويشرف حفلاتها ملك البلاد وكبار رجال الدولة وعظماؤها. أما هذه الفرقة التي تهيأت لها كل أسباب النجاح والفلاح فإنها لم تحظ حتى الآن بما حظيت به فرقة رمسيس من مجد، ولم تخط خطوة واحدة نحو مثل المكانة التي نالتها تلك الفرقة، ولم تكتب سطراً واحداً في تاريخها تستطيع أن تفخر به أو تطمئن إليه، وحتى أصحاب الِشأن فيها يهزون رؤوسهم أسفاً وحسرة، ويقفون حيارى لا يدرون أين المفر من هذا المصير المحتوم الذي يطل عليهم من بعيد بعيونه البشعة ويقترب منهم رويداً رويداً.
وقد أردنا بكتابة هذا التاريخ الموجز، وسرد هذه الخواطر والآراء أن نضع أمام الرجال المسئولين جميع العوامل التي كانت من أسباب نهضة المسرح، وكذلك جميع العوامل التي كانت من أسباب سقوطه وانهيار بنيانه، ليكون لهم في النهاية مجموعة من الحقائق التي يسترشدون بها في تنظيم الفرقة القومية ووضع برنامج لها تسير عليه ولا تحيد عنه إلا في سبيل الكمال. والواقع أن الفرقة القومية لا تحتاج بعد ذلك الذي تهيأ لها من أسباب إلا النظام والتنظيم والخطط المرسومة التي تسير بمقتضاها وتسترشد بهديها. أما الطرق الارتجالية التي تأتي عفو الخاطر، وأما هذا العبث المحض في اختيار الروايات وإعدادها(320/94)
وإخراجها وتوزيع أدوراها وفق الأهواء والخواطر. أما كل هذا وغير هذا مما فعلته الفرقة القومية، أو أتاه أصحابها، فقد قضى على سمعتها، وهو وشيك أن يقضي على الفرقة نفسها القضاء الأخير.
ولا يتوهمن أحد أننا من أعداء الفرقة القومية إذ نحكم عليها هذا الحكم؛ فالحقيقة أننا من أنصارها والمتحمسين لها والداعين إليها، وما عداوتنا إلا النظام، أو قل الفوضى التي تسير عليها؛ وما نبغي إلا الإصلاح، ولا بغية لنا سوى هذا.
وكاتب هذه السطور بعيد عن التحيز كل البعد. وسيرى القراء أنه كما سيعطي فرقة رمسيس حقها من التمجيد ونصيبها من الفخار، كذلك سيخصها بنصيب من النقد اللاذع، لأنها كما نهضت بالمسرح، فإنها كذلك هبطت به إلى الحضيض. فحساب الجميع عندنا بالعدل المطلق، وهدفنا الأسمى المصلحة العامة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الذي كان، ومخافة ما سوف يكون
صناعة السينما في مصر
إن الجهود الفردية التي وجدت الشجاعة لديها لتمزق الحجاب عن ذلك الفن الرفيع في وقت كان فيه الفن السينمائي في مصر لغزاً غامضاً يراود أحلامنا في كل صباح وكل مساء - إن هذه الجهود الفردية التي أدت مهمتها وراحت ضحية جرأتها لتستحق منا اليوم كل تمجيد وثناء. إنها تشبه في كثير طلائع الجيوش التي تعرض صدورها لرصاص العدو وتكشف أجسادها لسهامه، فتروح ضحية جهلها وعدم خبرتها. . . بيد أن من يأتي بعدها لا يقع في أخطائها، ويعرف كيف يحمي نفسه ويعبر على أشلائها إلى النصر والمجد!. . .
فإذا كنا ندين اليوم لطلعت حرب باشا بهذه النهضة السينمائية الشاملة، فيجب أن نذكر أولئك الذين سقطوا في الميدان منذ أعوام فكانوا الشهداء، والذين ألهموا من أتى بعدهم وحفزوهم لنشدان الكمال وجعلوهم يرفعون عيونهم إلى أسمى الغايات. أما (أستوديو مصر) فقد أصبح بفضل طلعت حرب باشا يضارع أمثاله في أوربا وأمريكا، إذ فيه كل المعدات الحديثة، وفيه الرحابة وكمال الاستعداد ونخبة ممتازة من الفنيين الذين في استطاعتهم إخراج أية رواية من أي نوع. وقد دل إخراج (لاشين) التي نجحت إلى حد ما، أن في مقدور هذا الأستوديو أن يخرج روايات ممتازة ترضى أطماع أمثال سيسيل دي ميل. . .(320/95)
وليس يعيب الجهود الفردية اليوم إلا قصورها عن أن يشمل عملها كل العناصر المؤدية إلى النجاح الكامل. لهذا فإنا وإن كنا نؤيد حرية العمل وندعو إلى المنافسة الشريفة، إلا أننا ننصح بعض الأفراد أن يضموا جهودهم بعضها إلى بعض ليصلوا مجتمعين إلى ما تصل إليه الشركات الكبيرة والمؤسسات الضخمة
ونحن يسرنا أن يكثر عدد المنتجين السينمائيين، وبالتالي يكثر عدد الشركات. وحينئذ تصبح مصر هوليود الشرق وتطرد منتجاتها الفلم الأجنبي من أسواق الشرق جميعاً، وهذا غاية ما نرجوه
(فرعون الصغير)(320/96)
العدد 321 - بتاريخ: 28 - 08 - 1939(/)
ما رأيها؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
نعم ما رأيها، والضمير إلى الفتاة العصرية؟
ما رأيها في تعدد الزوجات وفي أن تكون شريكة لفتاتين أو لثلاث فتيات في زوج واحد؟
أنني أبدا فأثير نخوتها فأقول: إنها أعجز من أن تمثل دور الضرة، لأنها لا تفقه من كيد النساء ومأخذ الرجال ما كانت تفقهه جدتها التي كانت تتزود للضر بسلاحه، وتصلح للضر بمقدار صلاحه
ثم أثني فاشهد لها فأقول: إنها أكرم على نفسها وأعرف بالأواصر النفسية بين المرء وزوجه من أن تقبل زواجاً تنقطع فيه الآصرة النفسية وتهبط فيه الكرامة
ثم أعقب على هذا وذاك قائلاً: إنني ما نويت في هذا المقال أن احتكم معها إلى حكم الدين، فقد عرفنا أن الإسلام يجيز تعدد الزوجات ولكنه لا يوجبه، بل يكاد أن يمنعه بحضه على العدل واستكثاره أن يعدل الرجل بين امرأتين ولو حرص عليه
إنما احتكم معها إلى آراء الساسة المحدثين والقادة المعاصرين، فربما كان من العبرة أن نعلم أن هؤلاء القادة لم يجدوا أنفسهم قط في حالة كالتي كانت عليها الأمة العربية صدر الإسلام إلا خطر لهم تعدد الزوجات وأجازوا ما أجازه القرآن، بل أوشكوا أن يوجبوه، وربما كان هذا العلم من دواعي تصحيح النظر إلى أتصول الشرائع والأخلاق التي عابها أناس ونسو ما كان لها من بواعث وأسباب
أقطاب (النازية) في ألمانيا الحديثة ينصحون بتعدد الزوجات لأنهم يطلبون النسل ويكاثرون بالجنود ويتأهبون لليوم الذي يملئون فيه بطاح أوربا الشرقية فاتحين ومقيمين
فالأستاذ أنست برجمان عميد قسم الفلسفة بجامعة ليبزج ينعى في كتابة: (روح الأمومة) الزواج المفرد، ويوجب تعدد الزوجات في سبيل بقاء النوع ومنع انقراضه فيقول: (إن الزواج المفرد طوال الحياة يناقض الطبيعة ويضر بالنوع، فيضمحل حيثما فرضت الزوجة الواحدة على الرجل. وإنما مثال الدولة الصالحة تلك الدولة التي تكون فيها المرأة بغير عقب وصمة عار. ولن يزال في الأمم عدد من الرجال كاف وقابل لإيلاد جميع الإناث. وما علينا إلا أن ننبذ سخافة الزواج المفرد فنعلم أن الطبيعة قد جعلت كل فحل كافياً لعشر(321/1)
أو لعشرين من البنات اللواتي لم يقتلن في نفوسهن غريزة الأمومة)
والدكتور روزنبرج فيلسوف المذهب ومقرر (نظرياته) ومبادئه يوصي بالرجعة إلى آداب القبيلة الجرمانية في مسائل الزواج، ويقول إنه لولا تعدد الزوجات لما زخرت الشعوب الجرمانية في القرون الماضية؛ (ولولا تعدد الزوجات لبطلت مقدمات الثقافة الغربية، إذ كان عدد النساء في بعض الأزمان يربى كثيراً على عدد الرجال كما يوشك أن يكون الأمر في الزمن الحاضر. . . فهل يقضي على هؤلاء النساء أن يذهبن خلال أيام الحياة محرومات حقوقهن الطبيعية مستهدفات للسخرية المزرية التي يلقاها العانسات؟ وهل يؤذن للمجتمع المنافق القانع بما هو فيه أن يسلم هؤلاء البائسات لأضاحيكه؟)
ثم يتمادى فيبيح إنجاب الأبناء من غير الزوجات الشرعيات، تكثيراً للنوع وتعزيزاً لقوة الأمة الجرمانية!
ورأي المفكرات الألمانيات قريب من رأي المفكرين الألمانيين في هذا الباب. فإحداهن وهي السيدة (شولتز كلنك) تقول في خطاب لها بين الصحفيات: (إن البنات الألمانيات يرجعن في عصرنا الحاضر إلى غرائزهن الأصيلة ويصدعن بحكمها في خضوع واغتباط عارفات أن هذه الغرائز إن هي إلا عطية سماوية يملكن بها الدم والأرض ويصبحن بها نماذج للمرأة الألمانية الحديثة)
وقبل الفلسفة النازية بقرن كامل من الزمان كان نابليون يحتاج إلى الجنود كما يحتاج إليهم النازيون الآن، وكان يغري الأمة الفرنسية بالتناسل كما يغري النازيون أمم الجرمان، وكان يقول مثل ما يقولون اليوم كلما رأى عدد النساء في ازدياد وعدد الرجال في نقصان
فمن قوله في هذا الصدد: (إنني صنعت كل ما استطعت لإصلاح حال اللقطاء المساكين الذين يساقون للعار والمهانة، ولكن المرء لا يستطيع أن يغلو في هذه الناحية مخافة على نظام الزواج، وإلا لم تجد أحداً يقدم عليه)
(وقد كان للرجل في الزمن القديم سريات إلى جانب الزوجة فلم يكن أبناء الزنى محتقرين يومئذ كاحتقارهم في أيامنا. ومن المضحك ألا يباح للرجل اكثر من زوجة فإذا هو كالأعزب كلما حملت أو مرضت)
(إن الرجل لا يتسرى في العصر الحديث، ولكنة يخادن الخليلات وهن خراب لهن كلفة(321/2)
أفدح من كلفة الزوجات. ولقد درج الفرنسيون على إكبار المرأة وما ينبغي لها مساواة الرجال فما كانت بعد إلا آلة لإخراج الذرية. . .)
(ويطيق الرجل أن يتزوج كثيرات من النساء ولا يبدو عليه أثر ذلك. أما المرأة، فإذا اقترنت مرة بعد مرة فلا محالة يدركها الذبول!)
ويقول نابليون عن المساواة بين الجنسين: (لا مناص من سيادة أحد الجنسين على الآخر. . . فقد يختل نظام الأمة إذا اعتزلت المرأة مكانها المطبوع، وهو مكان الطاعة والخضوع!)
والآن لا أدري. هل أكسبت نابليون وخلفاءه الألمانيين نصيرات بين الجنس اللطيف، أو عصفت بمن لهم بينهن من النصيرات؟
لكن الحرب قادمة، أو يخشى أن تنفجر هنا وهناك من حيث لا نتوقع قدومها. فماذا يكون الرأي إذا خرجنا من الحرب وعندنا ثمانية ملايين امرأة، وليس عندنا من الرجال ألا سبعة ملايين أو سبعة ونصف مليون؟!
اليوم يتكفل الماء العفن بحصد الرجال وتلقيحهم بلقاح: (الأنكلستوما والبلهارسيا) حيثما انتشر ماء الري في إقليم جديد فيصاب الفتيان ولا يصاب الفتيات، ويضعف الرجال ولا يضعف النساء.
فإذا جاءت الحرب، فأتمت هذه البداية، فماذا يبقى من أناقة الجنس اللطيف؟ ومن ترف المتعاليات على الضر أمام هذه الضرورة التي لا تحسن الكلام بلغة (الندى)، ولا تنحني في رقة وابتسام كما ينحني رواد الصالون؟
نسوق النساء إلى الزراعة؟ نقسرهن على العمل؟ نستبدلهن بالرجال في مشاق الأشغال؟
على كل حال ذهبت الأناقة والترف، وذهبت معهما مزايا الجنس اللطيف، ولو كان المشتغلات بتلك المرهقات من بنات الكوخ والبيت الوضيع، ولم يكن من بنات الندى والصالون
ثم هو حل لمشكلة العمل، فأين الحل لمشكلة النوع ومشكلة الأسرة ومشكلة الأخلاق؟!
عمل عظيم بين يدي (وزارة الشئون الاجتماعية) أعانها الله علية!. . .
عباس محمود العقاد(321/3)
كتاب مستقبل الثقافة في مصر
الثقافة العامة وتعليم اللاتينية واليونانية
للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك
(تتمة)
قد يخطر على بال الإنسان أن يتساءل عندما يلقي نظرة عامة على هذه الأطوار المتتالية: هل تقف يا ترى سلسلة هذه التطورات عند الحد الذي وصلت إليه أخيراً؟ أم ستستمر بعد الآن أيضاً؟ هل يجوز لنا أن نقول إن التطور الأخير سيكون خاتمة الأطوار؟ أم يجب علينا أن نتوقع حدوث تطورات أخرى بعد الآن أيضاً؟. . .
أنا لا أرى لزوماً للتنبؤ عن مستقبل هذه التطورات، لأنني اعتقد أن ما عرفناه عن التي حدثت إلى الآن كافٍ لتوضيح وحل المسالة التي من أجلها خضنا غمار هذا البحث. . . مع هذا أرى من المفيد أن انقل بعض الكلمات التي قرأتها أخيراً - في هذا الصدد - في إحدى المجلات التربوية:
(لقد فرقت بين الإنسانيات القديمة والمجتمعات الحالية هوة خطيرة لا تزال تزداد عمقاً وعرضاً، يوماً فيوماً. . . إن دور الإنسانيات المذكورة قد انتهى، ولم يعد في استطاعتها أن تدعي حق البقاء كمنبع للثقافة العصرية. . . إنها لا تعيش الآن إلا عيشة اصطناعية؛ فقد فقدت كل ما كان لها من قوة وحياة. . .)
كذلك أرى من الممتع أن اذكر ما كان قاله (لابيه دوسان بيبر) في هذا الصدد:
(سيأتي يوم نفهم فيه: أن حاجتنا (يعني حاجة الفرنسيين) إلى تعلم اللغة اللاتينية، أقل من حاجتنا إلى تعلم اللغة المالائية أو تعلم اللغة العربية. . .)
إنني أعتقد أن الحقائق والوقائع التي سردتها آنفاً، حول مسالة تعلم اللاتينية واليونانية في الدراسة الثانوية في أوربا بوجه عام وفي فرنسا بشكل خاص، تعين لنا بكل وضوح الموقف الذي يجب أن يقفه مفكرو العرب حيال هذه المسالة بالنسبة إلى معارف البلاد العربية: لا شك في أن هذا الموقف يجب أن يكون موقف الرفض والأعراض. . .
يجب علينا أن نتذكر - في هذا الصدد - الحقائق التالية على الدوام:(321/4)
إن تعليم اللاتينية واليونانية في أوروبا لم يشغل الموقع الذي شغله في نظم الدراسة بناء على تأملات وملاحظات تربيوية؛ إنما شغل هذا الموقع تحت تأثير عوامل ووقائع تاريخية كلها خارجة عن نطاق الفوائد التربيوية. . . وأما الفوائد التعليمية والتربوية التي ذكرت فيما بعد لتبرير الحالة الراهنة - بغية إبقاء ما كان على ما كان - فلم تستطع أن تقاوم المحاكمات المنطقية والأبحاث العلمية مدة طويلة. . . ولهذا أخذ نطاق هذا التعليم يتقلص من جميع الجهات تقلصاً مستمراً؛ ولم يعد يمتد الآن إلا على جزء صغير من ساحة الدراسة الثانوية. . . كما أن بقاء هذا التعليم في هذه الساحة الأخيرة أيضاً لا يمكن أن يعلل ويبرر إلا بقوة الاعتياد والاستمرار من جهة وبرابطة الأدب واللغة من جهة أخرى
وأما فكرة اعتبار اللاتينية (واسطة ضرورية لتثقيف العقول) فهي من النظريات التي ثبت خطؤها كل الثبوت: إذ قد أصبح من المسلم في علم التربية أنة لا يوجد موضوع مدرسي (مثقف) في حد ذاته كما أنه لا يوجد موضوع مدرسي يحتكر قابلية التثقيف لنفسه. . . وأما (التأثير التثقيفي) الذي يحصل من الدروس فلا يتبع الموضوع الذي يدرس، وإنما يتبع الطريقة التي يتم بها التدريس. . . فعندما نود أن نجعل (الثقافة) هدفنا الأسمى في الدراسة الثانوية يجب علينا أن نعلم حق العلم أن الوصول إلى هذا الهدف، لا يتم إلا بالبحث عن أوفق (طرق التدريس) لضمان التثقيف والسير على تلك الطرق على الدوام. وأما إضافة لغة أو لغتين من اللغات الميتة إلى مناهج الدراسة، فلا يمكن أن يضمن لنا شيئاً من أهداف التثقيف بوجه من الوجوه
فليس من المعقول - والحالة هذه - أن نضيع أوقات طلابنا في المدارس الثانوية في سبيل تعليم اللاتينية واليونانية
هذا. . . ولا بد لنا من ملاحظة الحقائق الهامة التالية أيضاً في هذا الصدد:
(ا) إن تعليم اللغة العربية يستنفذ من أوقات وجهود أبنائها أكثر من الأوقات والجهود التي تتطلبها اللغات الأخرى من أبناء الناطقين بها؛ وذلك لزيادة تعقيد قواعد العربية من جهة وللنقائض السائدة على أساليب تدوينها من جهة أخرى
(ب) إن حاجة أبناء العربية إلى تعلم اللغات الحية اشد من حاجة الأمم الأوربية الراقية إلى تعلم تلك اللغات؛ وذلك لفقر خزانة الكتب العربية من جهة المؤلفات العلمية والأدبية(321/5)
(ج) إن تعليم اللغات الأوربية الحية يتطلب من الناطقين بالضاد جهوداً أكبر من الجهود التي يتطلبها من سائر الطلاب الأوربيين؛ وذلك لاختلاف الحروف من جهة وتباعد الأصول والقواعد والأساليب من جهة أخرى
ولهذه الأسباب إذا جاز للأوربيين أن يسرقوا قسما من أوقات بعض أبنائهم في سبيل تعليم اللغة اللاتينية - بأمل الحصول على بعض الفوائد ولو كانت ضئيلة - فلا يجوز لنا نحن أن نقتدي بهم في هذا الباب
وإذا جاز للأوربيين أن يخيروا أولادهم بين دراسة اللغات الميتة ودراسة اللغات الحية، فلا يجوز لنا نحن أن نفكر في مثل هذا التخيير
إذاً يجب علينا أن نتذكر دائماً أننا في حاجة قصوى للاقتصاد في أوقات طلابنا وجهودهم لكثرة الأشياء التي يحتاجون إلى تعلمها ولزيادة الأوقات التي يحتاجون إليها لأجل هذا التعليم
هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب علينا أن نفكر في أمر أخر أهم من ذلك أيضاً: هذا الأمر هو ضرورة الاهتمام بمعالجة النزعة الكلامية على أفكارنا. . . إننا كثيراً ما نهتم بالألفاظ اهتماماً كبيراً، وقلما نسعى لتحديد معانيها تحديداً كافياً. . . وكثيراً ما ننخدع بالكلمات الفارغة، ونترك مجالاً واسعاً لتغلب الكلاميات على مناحي تفكيرنا. . فلا نغالي إذا قلنا بأننا مصابون - على الأكثر - بداء الكلاميات. . . إن أوربا أيضاً كانت مبتلاة بمثل هذا الداء؛ وقد صرف مفكروها ومربوها جهوداً عظيمة لمحاربة هذه النزاعات الكلامية، وتغليب روح التفكير الحقيقي ونزعة البحث العلمي عليها. . . ونحن الآن في حاجة شديدة إلى الاقتداء بهؤلاء في هذا المضمار. وأعتقد أن هذه الحقيقة يجب أن تبقى نصب أعيننا على الدوام عندما نفكر في وسائل ترقية ثقافتنا. . .
إنني أعتبر فكرة إدخال اللاتينية واليونانية في مناهج الدراسة الثانوية من الأفكار الخاطئة والمضرة من هذه الوجهة أيضاً لأنها تؤدي - بطبيعتها - إلى زيادة حصص اللغات في دراساتنا زيادة كبيرة، وذلك يزيدنا استغراقاً في الكلاميات ويبعدنا عن مناحي التفكير الصحيحة. . .
ولهذا الأسباب كلها أعارض هذه الفكرة معارضة شديدة(321/6)
هذا ولا أراني في حاجة إلى إيضاح أنني لا اقصد من هذه المعارضة أن أعترض على كل من يود أن يتعلم اليونانية واللاتينية بل بعكس ذلك أتمنى أن يظهر بيننا من يولع باليونانية ويتخصص في آدابها ويسعى لترجمة مخلداتها؛ كما أتمنى أن يظهر من يتعلم اللاتينية ومن يتعلم الروسية وحتى من يتعلم اليابانية، ليتسنى لنا الاستفادة من نتاج تفكير جميع الأمم على اختلاف ثقافاتها. . غير أن إبداء التمني لظهور بعض الاختصاصيين من أبناء العرب في الآداب اللاتينية واليونانية شي واعتبار تعلم هاتين اللغتين من ضرورات الدراسة العالية قي الحقوق والتاريخ والجغرافيا شي أخر. . .
فأقول لذلك: أننا إذا أدخلنا اللاتينية واليونانية إلى مدارسنا الثانوية يكون مثلنا كمثل الخياط الغبي الذي تناقلت قصته بعض الأقلام: بذل الخياط المذكور جهوداً كبيرة في خياطة (بنطلون) لبحار إنكليزي شبيهاً (ببنطلونه) القديم الذي كان سلمة إياه. وأتقن الخياطة إلى درجة تقليد الترقيع الذي به أيضاً!
بعد أن شرحت رأيي في مسألة تعليم اللاتينية واليونانية شرحاً عاماً أرجع إلى آراء الدكتور طه حسين فيها، وأبين ما أعتقده في هذه الآراء على ضوء المعلومات التي سردتها:
إن أول ما يلفت الأنظار في ملاحظات الدكتور في هذا الباب، هو خلوها من الأدلة والبراهين، وتكونها من سلسلة دعاوى معروضة على شكل نصوص قاطعة يجب الاعتماد عليها بدون طلب برهان. كأن لسان حاله يقول على الدوام: (آمنت أنا، فعليكم أن تؤمنوا أنتم أيضاً)
فأنه عندما يذكر إيمانه العميق بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة المصرية يقول: (والأدلة على ذلك تظهر لي يسيرة هينة وجلية واضحة) (ص281) ولكنه لا يذكر شيئاً عن تلك الأدلة. فكل ما يكتبه بعد العبارة المذكورة لا يخرج عن نطاق بيان (جهل) معارضيه و (نقص دراساتهم) و (عدم إتقانهم الشؤون الثقافية في أوربا) و (عدم نظرهم إلى التعليم نظر التعمق والجد. . .) وما أشبه ذلك من تعبيرات التجهيل والازدراء
إنه عندما يتطرق إلى مسألة (تأثير هاتين اللغتين في تكوين العقل) تلك المسألة الهامة التي تكون حجر الزاوية في دعاوى أنصار اللغات القديمة لا يكلف نفسه مشقة شرح المسألة،(321/7)
لأنه يعتقد أن ذلك فوق مستوى فهم معارضيه! ويسجل اعتقاده هذا بصراحة كبيرة إذ يقول: (كل هذا ولم أتحدث ولن أتحدث عن أثر هاتين اللغتين في تكوين العقل وتقويمه وتثقيفه وإعداده للتفكير المستقيم فإن هذا الحديث إن ذهبت إليه لم يفهم عني، لأن فهمه يقتضي معرفة هاتين اللغتين وممارستهما وابتلاء آثار هذه المعرفة والممارسة، والذين يعرفون هاتين اللغتين في مصر يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة أو على أصابع اليدين) (ص297)
وأخيراً عندما يتطرق الدكتور إلى الحالة الراهنة في أوربا ويشير إلى الخصومة القائمة بين أنصار اللغات القديمة وخصومها، يتهم معارضيه (بالإلمام اليسير، بل بالإلمام الناقص المشوه) بهذه الخصومة (ص285) ثم يحاول أن يصف هذه الخصومة (على وجهها الصحيح). غير أن من يقارن بين ما يقوله الدكتور في هذا الباب وبين التفصيلات التي سردناها آنفاً، يرى أن (الوجه) المذكور بعيد عن الصحة بعداً كبيراً. . .
يقول الدكتور طه حسين: (إن موضوع هذه الخصومة لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة) (ص285) في حين أن المؤلفات والمجلات التربيوية مملوءة بمباحث ومناقشات طويلة عن ضرورة أو عدم ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة
يقول الدكتور: (كان موضوع الخصومة في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعاً للعلم والتخصص، أم يجب أن يهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص ويهيأ أكثرهم للحياة العاملة؟) (ص285) في حين إن ذلك أيضاً بعيد عن حقائق الأمور بعداً كبيراً. . .
يقول الدكتور: (إن الخصومة حول تعليم اللاتينية واليونانية قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى) (ص284) في حين إن الخصومة كانت قائمة في عالم الفكر والتربية قبل إن تنتقل إلى ساحة السياسة بمدة طويلة. . .
وقد أسهبت أنفاً في تلخيص المناقشات التي دارت في أوربا حول هذه المسالة، فلا أرى حاجة للتوسع في تفنيد مدعيات الدكتور طه حسين في هذا الباب
أود إن اختم انتقاداتي هذه بملاحظة صغيرة: عندما يشرح الدكتور النظام الذي يقترحه لترقية الدراسة الثانوية يقول: (وكل من أراد إن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات(321/8)
الأدبية المختلفة كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب الخالصة لإحدى اللغات فرضت عليه اللغة اللاتينية ولغة أجنبية حية وخيرته بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) (ص301) وإذا لاحظنا أن الطالب المذكور سيدرس - بطبيعة الحال - اللغة العربية وآدابها أيضاً؛ نجد أنه سيتحتم عليه درس أربع لغات مختلفة على إن تكون الواحدة منها اللاتينية على كل حال. .
إنني اعتقد بان إشغال الطلاب - خلال دراستهم الثانوية - بهذا القدر من اللغويات لا يهيئهم إلى الدراسات المذكورة، بل يجعلهم اقل قابلية لاستساغتها بالمعنى الذي يفهم الآن في دراسة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا
أبو خلدون(321/9)
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 12 -
لا يعرف أحد كيف استباح الأستاذ احمد أمين ما استباح فصنع بنفسه ما صنع!
وهل كان في مقدور ناقد مهما اعتسف إن يسيء إلى الأستاذ احمد أمين بمثل ما أساء إلى نفسه بلا ترفق ولا استبقاء؟
كنت أدعو الأستاذ احمد أمين إلى رعاية ماضيه فأصبحت ادعوه إلى رعاية مستقبله، فإني أخشى أن تضيع الثقة بكفايته العلمية فيصبح معدوم النصير والمعين، وهو لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بمعونة الأصحاب والأصدقاء، والمرء بنفسه قليل
أقول هذا وقد كشف الأستاذ احمد أمين عن دفائنه المطوية فصرح بأنه يحتقر العقلية العربية في عهد الجاهلية ليتخذ من هذا الاحتقار وسيلة لتأييد دعواه في جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي
والجاهليون قوم كانت لهم حسنات وهنوات، وكلمة الحق فيهم لا تؤذي أحداً من الناس، وقد قال فيهم القرآن ما قال فلم يتأذ أحد من إخلافهم، لأنه لم يقل فيهم غير الحق
أما التحامل على عرب الجاهلية، وتجسيم مساويهم وتضخيم عيوبهم، والتشهير بوثنيتهم، والقول بأنها كانت وثنية أرضية وضيعة - كما يعبر أحمد أمين - فذلك إثم منكر يراد به تحقير الأرومة العربية وتسوئ سمعتها في التاريخ، وذلك لا يقع إلا من رجل يمشي في الوعر من عقوق الأباء والأجداد
نحن لا ننكر أن العرب القدماء كان فيهم وثنيون، فقد كان الحال كذلك عند قدماء المصريين والفرس والروم والهنود، وإنما ننكر أن تكون وثنية العرب وصلت إلى الانحطاط الذي تصوره احمد أمين حين ارتضى السخف الذي تنطق به العبارة الآتية منسوبة إلى أحد الأعراب:
(كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجراً جمعنا حفنة من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به)
كذلك روى أحمد أمين، وهو في غاية من الطمأنينة عن بعض الكتب القديمة ليؤكد لقرائه(321/10)
أن العرب أهل لأن يقول فيهم من الإفك ما يقول
وتصديق هذه الأخبار شاهد جديد على العقلية العامية التي يعيش بها بعض الناس، فليس من الصحيح أن العرب كانوا يعبدون الشاة البيضاء فإذا أكلها الذئب أخذوا شاة أخرى فعبدوها، كما حدث الفقيه الذي نقل عنه أحمد أمين
أيها القراء أسمعوا، وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا
أيها القراء أسمعوا تاريخ الوثنية الجاهلية، اسمعوها مني لا من أحمد أمين
كان في العرب وثنيون، بشهادة القرآن، ولكن أحمد أمين نسى حقيقة تاريخه ما كان ينبغي أن تغيب عن رجل يتصدر لتأريخ الحياة العربية. نسى هذا الرجل أن عصر النبوة شهد معركة عنيفة بين الوثنية والتوحيد، وفي تلك المعركة جاز لرجال الدين أن يلطخوا تاريخ الوثنية بالسواد ليندحر الوثنيون ولتنشرح صدور المؤمنين. فكل ما تقرءونه في الكتب التاريخية والدينية من وصف عرب الجاهلية بالغفلة والحمق، والطيش والخبال، وسوء الفهم، وبشاعة التصور، وخمود العقل، وبلادة الإحساس، كل أولئك الصفات الدميمة وضعت لغرض خاص هو تحقير الوثنية الجاهلية لتقوم على أنقاضها العقيدة الصحيحة عقيدة التوحيد
وكان من حق رجال الدين أن يصنعوا في تشويه الوثنية الجاهلية ما يشاءون، لأنهم كانوا يرونها زيغاً في زيغ وضلالاً في ضلال
أما أحمد أمين فلا يملك هذا الحق، لأن الإسلام قد استغنى نهائيا عن حرب الوثنية الجاهلية بالنصر المؤزر الذي ظفرت به عقيدة التوحيد
والموقف اليوم قد تغير بلا جدال، فهو ليس موقف الموازنة بين الجاهلية والإسلام حتى يستبيح ما يستبيح من تحقير الجاهليين، وإنما هو موقف المفاضلة بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، وهو موقف لا نخترعه أختراعاً، فقد صرح به الرجل الذي هداه فكره إلى القول بأن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة وأن وثنية اليونان كانت سماوية رفيعة!
إن أحمد أمين يقول بأن الوثنية العربية وثنيه أرضية وضيعة، على حد تعبيره المهذب الجميل!
فهل يستطيع أن يقول من أين عرف أن وثنية العرب كانت أرضية وضيعة؟(321/11)
أنه يجهل - وأنا أيضاً أجهل وسائر الناس يجهلون - كيف كانت الوثنية العربية، لأن تلك الوثنية طمست آثارها منذ أزمان طوال ولم تذكر في أي كتاب إلا بالتحقير والتصغير والتقبيح
وأنا أتحدى الأستاذ أحمد أمين أن يذكر كتاباً واحداً عني مؤلفه بشرح الوثنية الجاهلية شرحاً بين ما لها وما عليها بلا تزيد ولا بهتان
إن العرب ألفوا كتباً كثيرة عن الأصنام، ولكن الغرض من تلك الكتب كان غرضاً دينيا، وهو غرض شريف أرادوا به أن يجعلوا رجعة العرب إلى وثنيتهم من المستحيلات. ولو كانوا يعرفون أن تلك الكتب ستكون حجة يعتمد عليها من يشاء له هواه تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية لحفظوا لأسلافهم بعض ما كان لهم من حسنات في الجاهلية
والحق أن الخلفاء الراشدين كانوا في غاية من الحزم الصارم العنيف الشريف في حرب الوثنية الجاهلية، لأنهم كانوا يريدون أن يكونوا أمثله عالية في رعاية الميراث الذي خلفه الرسول الكريم، وهو ميراث التوحيد، فلم يسمحوا لأحد برواية الأشعار التي تمثل الوثنية الجاهلية، وخاف المسلمون على دينهم فهجروا ما خلفت الوثنية من أسماء وأحاديث، وبالغوا في التصون من تلك الآثار لئلا يقال إن فيهم نزعة وثنية
كان للعرب صنم أسمه يغوث، فهل يعرف أحمد أمين مبلغ الأساطير التي صيغت حول يغوث؟ وهل يعرف ما صيغ حول اللات والعزى من أقاصيص؟ وهل يستطيع أن يقول بأن الوثنية العربية بقيت سليمة من التحريف والتبديل؟
لو بقيت الأساطير الجاهلية لاستطعنا أن نعرف شيئاً عن الوثنية العربية، ولكن تلك الأساطير ضاعت إلى الأبد، لأن روايتها كانت محرمة على المسلمين، والحكم على الغائب لا يخلو من تعسف واستبداد
لو أن الأستاذ أحمد أمين حين تحدث عن وثنية العرب بالتقبيح كان يريد إظهار فضل الإسلام على العرب لتلقينا كلامه بالقبول. فالإسلام نقل العرب من الظلمات إلى النور، ولكن أحمد أمين يحقر الوثنية العربية لغرض آخر هو قوله الصريح بسماوية الوثنية اليونانية وأرضية الوثنية العربية(321/12)
كنت أحب أن أنقض كلام أحمد أمين بشواهد من التاريخ؛ ولكن أين أجد تلك الشواهد وقد تقرب العرب إلى الله بوأد الوثنية الجاهلية؟
وهل أملك اختراع الحجج والبراهين، وقد تلقيت عن أساتذتي في الجامعة المصرية وجامعة باريس دروساً كثيرة في تكوين عناصر الحجج والبراهين؟
الحق أني لا أملك إسكات أحمد أمين لأنه يعتمد في تحقير الوثنية العربية على ما رواه القصاص وأنا لا أقيم لتلك الروايات أي ميزان
فالعجز من جانبي تقضي به العقلية العلمية - ولا فخر - والقدرة من جانبه تقضي بها العقلية العامة من غير شك
إن العرب خلعوا وثنيتهم عامدين متعمدين طاعة لله الذي نهاهم عن التعلق بالوثنية، ولم يحفظوا من صور تلك الوثنية غير الصور التي قبحها القرآن ليروضهم على التوحيد، فمن حدثكم أن العرب في جاهليتهم كانوا يعيشون بعقلية أرضية وضيعة فاعلموا أنه يحكم على الغائب بلا بينة ولا برهان
وهنا مسألة دقيقة لا يمكن أن تخطر في بال الأستاذ أحمد أمين، لأنه على فضله بعيد كل البعد عن التعمق والاستقصاء
قلت لكم إن الرب بين الوثنية والتوحيد قضت باندحار الوثنية وتلطيخ سمعتها بالسواد، وأقول الآن إن هناك حرباً ثانية عانتها الوثنية العربية أيام فتنة الشعوبية، فقد أراد الشعوبيون أن يجعلوا العرب في جاهليتهم مثلاً في السخف والحمق والخبال، ولذلك تفاصيل يعرفها من يقرأ كتب الأدب والتاريخ بعقلية المؤرخ. . .
وكذلك نعرف أن الوثنية العربية عوديت مرتين: مرة بسبب العصبية الدينية، ومره بسبب العصبية الجنسية. وقد خفيت أسباب العداوة الثانية على كثير من الناس
وخلاصة القول أن الوثنية العربية حوربت بلا هوادة ولا رفق، ولم يبق من أصولها السليمة ما يعين الباحث على تصحيح العقلية العربية في العصر الذي نسخه الدين الحنيف، فمن حق أحمد أمين أن يتزيد على العرب كيف شاء، ومن حقنا أن نقول: إن إصراره على تحقير العرب في جاهليتهم (وهو لا يعرف شيئاً صحيحاً عن وثنيتهم) هو إصرار الرجل المحروم من نور المعرفة بأصول المباحث العلمية في العصر الحديث(321/13)
بقيت فتنة أحمد أمين بالوثنية اليونانية التي ابتدعت أفروديت وأدونيس وإيروس، فهل يعرف كيف عاشت الوثنية اليونانية؟
لو أن اليونان كانوا أسلموا كما أسلم العرب لوجد في اليونان من يبدل آثار الوثنية اليونانية بحيث تصبح وتسمى وهي مثل في الرقاعة والسخف
ولكن اليونان عاشوا في جاهليتهم بعد ظهور الإسلام بأجيال طوال، وظلوا يتوارثون أوهام أسلافهم من عصر إلى عصر إلى أن جاء المتطرفون من شعراء الفرنسيس والإنجليز فعكفوا على تلك الوثنية يعبدونها من جديد لأنها قامت على أساس براق هو التقديس لجموع الأهواء وطغيان الأحاسيس
وهنا تحل المشكلة التي حار في فهمها أحمد أمين، فهذا الرجل يعجب من سكوت العرب عن ترجمة ما كان عند اليونان من أشعار وأقاصيص
وأنا أتصدق عليه بحل هذا الإشكال فأقول: إن المسلمين الذين نهاهم دينهم عن أحياء الوثنية العربية قد انتهوا بفضل الدين عن أحياء الوثنية اليونانية
وهل يعرف صاحبنا متى استفحلت حماسة الأوربيين لوثنية اليونان؟
انهم انتصروا لتلك الوثنية يوم استحكمت العداوة بين اليونان والأتراك؟ وهل كان يمكن لشاعر مثل بيرون أن يشايع اليونان لوجه الحق؟
إن الغافلين يجهلون السر في تغني شعراء فرنسا وإنجلترا وإيطاليا بقلعة الأكروبول، فهذا التغني كانت له غاية أصيلة هي تمجيد الأمة التي جعلت عبادة الشهوات من الشرائع. ولو كانوا يريدون وجه الحق لوقفوا على (الكعبة) العربية التي يتوجه إليها الملايين من أهل المشرق والمغرب في أوقات الصلوات، والتي كانت مثابة للألوف من أقطاب التشريع
ولكن الكعبة ليست من هواهم: لأنها لم تمجد الشهوات ولأنها خلت من عبادة أفروديت وأدونيس وإيروس!
إن الشهوة من أهم العناصر في الحياة الإنسانية، وهي تستهوي الناس في كل عصر وفي كل أرض، ولكن العرب امتازوا بين الأمم بالتخوف من عواقب الشهوات، فكانوا لذلك موضع الغضب فلتسخريه من الشعراء الظرفاء الذين بكوا دماً على مصير اليونان أيام حرب الاستقلال(321/14)
وهل يمكن القول بأن اليونان خدموا الشهامة والفتوه والرجولة كما خدمها العرب؟
هيهات! هيهات!
إنما هي وشائج من الشهوة والعصبية السياسية قضت بأن يقول الأوربيون إن وثنية اليونان كانت وثنية سماوية لتقوم لهم دولة تضايق بعض العرب والمسلمين في الشرق
وأحب أن أبين أوجه الحق في هذه القضية فأقول:
إن هيام الشعراء الأوربيين بالوثنية اليونانية له صلة وثيقة بما كان يكرثهم من مصاعب وأهوال. ذلك بأن الوثنية اليونانية تقوم على عبادة المرح والبهجة والإيناس، فأهواء الآلهة عندهم أهواء حادة من الوجهة الحسيه بحيث يمثلون ما في الطبيعة الحية ندمن غضب وبطش وجبروت؛ وأذواق الآلهة عندهم أذواق مترفة ناعمة تمثل ما في الطبيعة الحية من مرح وجذل وفتون
والشاعر الذي يعيش في رحاب الوثنية اليونانية يعيش عيش السعادة والنعيم، فهو محروس بقوات خفية في جميع الشؤون: فله عند الغضب إله ينصره هو إله الحرب، وله في أوقات السرور إله يرعاه هو إله الخمر، وله عند الصبوة إله يفتح له قلوب الملاح هو إله الحب
وهذا هو السر في أن شعراء أوربا وجدوا في الوثنية اليونانية ما لم يجدوه في الشريعة الإسلامية، مع أن الشريعة الإسلامية محملة بالطرائف من أصول الآداب والفنون
وتوضيح ذلك سهل: فلذي ينظر في الوثنية اليونانية يواجه اصطخاب الأهواء والأذواق والأحاسيس، أما الذي ينظر في الشريعة الإسلامية فيواجه بحراً هائجاً من الواجبات والتكاليف، ويشعر بأنه مسئول عن كل شي حتى خطرات القلوب
وهذه الخصيصة من خصائص الشريعة الإسلامية كان لها دخل في عدم ظفر الإسلام بغزو المشاعر في الممالك الأوربية، فالإسلام دين صارم عنيف لا ينظر للأهواء والشهوات إلا بعين الغضب والمقت، وهو ينذر المسرفين على أنفسهم بالويل والهلاك
وقد أتستطاع الإسلام أن يؤثر في المسيحية فخلق منها مذهب البروتستانت، ولكن ذلك المذهب حول المسيحية إلى ميادين عقلية لا يتذوقها الجمهور الأوربي إلا بمشقة وعنت، وما عاش ذلك المذهب إلا لأن الذين اعتنقوه كانوا أصحاء وسيعودون إلى الكثلكة يوم يغلب عليهم الضعف(321/15)
واليونان تنصروا بعد الوثنية، ولكن نصرانية اليونان نصرانية شعرية هي مذهب الأورثودكس، وهو مذهب جذاب براق ترف أجنحته بأرواح الشعر والخيال. وهو نفسه مذهب النصارى في مصر، لأن الوثنية المصرية لا تقل ألواناً وتهاويل عن الوثنية اليونانية
والإسلام الصحيح لم يعرفه العرب إلا في عهد الصحة والعافية، فلما ضعفوا خلعوا على إسلامهم أردية جديدة من أردية الوثنية. ولو قام باحث بتدوين الأساطير التي صيغت حول الأولياء والصالحين لأمد الأدب بثروة تفوق الثروة التي عرفها اليونان أيام الوثنية
قد يقول قائل: وما محصول هذا الاستطراد؟
وأجيب بأنه يفسر تلك الظاهرة الغريبة التي لم يقع مثلها في التاريخ: فظهور الإسلام في بلاد العرب لعهد ظهوره كانوا في عافية روحية وعقلية، ولذلك استطاع الإسلام أن ينسخ وثنية العرب إلى غير رجعة، ليحولهم إلى رجال يفكرون في عجائب الأرض قبل أن يفكروا في غرائب السماء، والأرض هي المزدرع الأصيل لطلاب السيطرة والجبروت من أصحاب العزائم الشداد
وأحمد أمين لا يفكر في هذه الحقائق لأنه رجل محترم، والرجال المحترمون يكتفون بما رضيه الناس من المنقولات والمرويات
ولكن أين نحن من جوهر هذا البحث؟
أنا أخشى أن يكون فيما عرضته من الحجج والبيانات شيء من الغموض، لأنني احترست في عرض بعض المشكلات احتراس من يمشي على الشوك لأسلم من تقول المرجفين
فما هو جوهر البحث بطريقة واضحة صريحة تؤكد صدق ما ذهبنا إليه؟
خلاصة القول أن أحمد أمين حكم بأن وثنية العرب كانت (أرضية وضيعة) وأن وثنية اليونان كانت (سماوية رفيعة)
وقد أثبتنا بالبرهان القاطع أن وثنية العرب محاها الإسلام، ولم تبق لها رسوم ولا أطلال، فالحكم لها أو عليها حكم على مجهول ونحن نتساجل بطريقه علمية لا تغني فيها الأحكام على المجهولات أي غناء
وقد تحدث الإسلام عن وثنية العرب في مواطن كثيرة من القرآن، ولكنه لم يشر إلى ما(321/16)
كان في تلك الوثنية من نفحات الشعر والخيال، لأن الإسلام لا يرى الخير والحق والجمال في عقيدة غير عقيدة التوحيد
وما كان ينتظر أن يصنع الإسلام غير الذي صنع، فحكمه قام على أساس الصدق في تطهير العقلية العربية من أوضاع الأساطير والأباطيل
أما أحمد أمين فموقفه مختلف كل الاختلاف، فهو يعير العرب بوثنيتهم، وهي عنده أرضية وضيعة، مع أنه لم يعرف من تلك الوثنية غير وجهها الدميم، وذلك الوجه الدميم موضع شك وارتياب، لأنه لون بأصباغ جديده خلقتها العصبية الدينية والعصبية الجنسية
وأحمد أمين ينظر إلى الوثنية اليونانية بعين الإعجاب ويراها سماوية رفيعة
ومن المؤكد أنه لا ينضر إليها تلك النظرة إلا وقد جرد نفسه من النزعة الدينية، لأن الإسلام لا يرضى عن الوثنية في أي شكل من الأشكال
فلم يبق إلا أن يكون نظر إليها من الوجهة الأدبية، وعندئذ نقول إنه على حق في الإعجاب بتلك الوثنية، لأنها وثنية حية ولأنها لونت الأخيلة والأذواق في كثير من الممالك والشعوب
ولكن تلك الوثنية ظفرت بحظ لم تظفر بمثله الوثنية العربية فقد ظفرت بالإعزاز والتبجيل على حين لم تظفر وثنية العرب بغير التحقير والتقبيح
فالجميل من الوثنية العربية تناساه المؤمنون، والقبيح من الوثنية اليونانية تناساه المشركون. وكانت النتيجة أن لم يبق من وثنية العرب غير القبح، ولم يبق من وثنية اليونان غير الجمال
قولوا الحق أيها القراء!
ألا ترون أن الأستاذ أحمد أمين يجني على المنطق وعلى التاريخ حين يستبيح ما يستبيح في تحقير الجاهلية العربية وتمجيد الجاهلية اليونانية؟
أنا أحتكم إليكم أيها القراء لتفصلوا بيني وبين هذا الزميل
إن الوثنية العربية قد انقرضت تمام الانقراض، ولن تعود مصدر خوف على العقيدة الإسلامية، فلا حرج على الرجل المسلم من القول بأن العرب في جاهليتهم كانت لهم أوهام وأضاليل قد لا تقل جمالاً عما كان عند الفرس والروم والهنود من أوهام وأضاليل
إن الأساطير تخلق لغاية معروفة هي ملء فراغ الأفئدة والعقول، وكان العرب في جاهليتهم(321/17)
كاليونان في جاهليتهم يحتاجون إلى تزجية أوقات الفراغ بطرائف الأسمار والأحاديث، فلم يكن بد من أن يبتدعوا ألوانا من الأقاصيص تصور أهواء الأصنام والأوثان، كما أبتدع اليونان، ألوانا من الأقاصيص تصور ما كان عند آلهتهم من نزوات وشهوات وأهواء
ولكن أين الأساطير العربية؟ أين؟ أين؟
لقد محاها الإسلام ليخلو الو للعقيدة السليمة عقيدة التوحيد. وأنا مع ذلك قادر على وضع خطوط للوثنية العربية إن سمح الزمن بأن أعيش في بلاد العرب عامين أثنين أدرس فيهما ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين، ويومئذ نعرف بعض الفروق بين أحلام العرب وأوهام اليونان. فإن لم تتح هذه الفرصة فقد وجهت الأذهان إلى درس هذا الموضوع الطريف، وهو موضوع حاولت درسه منذ سنين لأقدم عنه رسالة إلى جامعة باريس تحت عنوان:
'
وقد صدني عنه رجال ثلاثة: أولهم الدكتور طه حسين وكانت حجته أن هذا البحث قد ينتهي إلى (الكفر الموبق) وثانيهم لطفي باشا السيد وكانت حجته أنه لا يحسن تعريض الجمهور لفتن جديدة، وثالثهم المسيو فيت وكانت حجته أنه لا يمكن لباحث أن يسبر أغوار هذا البحث إلا بعد أن يقيم في بلاد العرب بضع سنين
ولو أن المقادير كانت سمحت بالمضي في هذا البحث (وكنت شرعت فيه سنة 1927) لكان من المستحيل أن أعجز عن تقديم صورة من الوثنية العربية أقاوم بها السحر الذي تتمتع به وثنية اليونان. فهل أنتظر أن يكون بين طلبة كلية الآداب من يوجه همته إلى هذا البحث الطريف؟
هل أنتظر أن يكون فيهم من يؤرخ المدة التي غفل عنها مؤلف كتاب (فجر الإسلام)؟
إن من القراء من يذكر أني نبهت الأستاذ أحمد أمين إلى هذه النقطة بمقال نشرته في جريدة البلاغ، ومنهم من يذكر أن بعض تلاميذ الأستاذ أحمد أمين دافع عنه يوم ذاك
والمشكلة مع ذلك باقية، وقد فصلتها في كتاب النثر الفني بعبارات تعجب منها الأستاذ احمد أمين، ودهش من سكوت الجمهور عما فيها من صراحة جريئة، أشار إلى انه تلطف بالسكوت عنها يوم نقد كتاب النثر الفني في مجلة الرسالة سنة 1934(321/18)
أيها المولعون بالمباحث الأدبية والتاريخية
أنا أوجهكم إلى موضوع صدتني عنه ظروف الحياة، وهو درس ما بقي في أذهان العرب من أساطير الأولين لتعرفوا شيئاً من رسوم الوثنية العربية التي حاربها القرآن
فان وفقتم إلى شيء فسنعرف كيف كان العرب يتصورون الدنيا والوجود قبل أن تظلهم راية الدين الحنيف، ويومئذ نعرف كيف كانت جاهلية العرب بالقياس إلى ما عرفنا من جاهلية اليونان
(للحديث شجون)
زكي مبارك(321/19)
حول نعيم الجنة
بين الحسية والروحية
للدكتور محمود علي قراعة
نحن لم ننكر ما في وجوه أهل الجنة من نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين، وان فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكنا إن آمنا بهذا كله، فإنا اكثر إيماناً بان لذة النظر إلى وجه الله تعالى تفوق كل اللذات، وأن لذة اللقاء والرضى أسمى نعيم. وإنا نرى أن اللذات الأخرى الثانوية لذات حسية تسموا بالروح أو لذات روحية معنوية تطربها، لذلك قال مجاهد في قوله تعالى (وأزواج مطهرة) قال من الحيض والغائط والبول والبصاق والنخامة والمني والولد، فارتفع بلذة الأكل والشرب والنكاح من المستوى البهيمي إلى مرقاة الروح. وأنت في هذه الدنيا إذا جلست إلى مائدة فخمة، فتحركت فيك شهوة الطعام وسررت بألوانه المختلفة أمام ناظريك، تستطيع إن تضع على المائدة الأزهار والرياحين الجميلة، ووجودها لا يلهب الرغبة في الطعام، بل يجعلها شريفة ويوجد حولها جواً روحياً يسمو بها بعض السمو. ولذلك نرى الغزالي وهو حجة في الإسلام يجعل للأكل صفة اجتماعية منظمة، فيرى أن من آدابه إن يكثر الإنسان الأيدي على الطعام ولو من أهله وولده، وان يغسل اليد لان اليد لا تخلو عن لوث في تعاطي الأعمال فغسلها اقرب إلى النظافة والنزاهة، ولان الأكل لقصد الاستعانة على الدين عبادة، وان يبدأ باسم الله في أوله وبحمده في أخره. ولا ريب في إن القصد من هذا السمو بلذة الأكل وإحاطتها بأجواء روحية تخرجها بقدر الإمكان عن ماديتها. فإذا قلنا بروحية اللذات في الجنة وبان الحسي منها يعززه الإشعاع الروحي، فإننا إنما نعبر أصدق تعبير عن روح الإسلام (ولو كره الأستاذان جويق وحمدان). وكذلك يمكن القول عن الصلة بين المرء وزوجه، هل يمكن قصرها على الصلة البهيمية وأبعاد الصلة القلبية الروحية، أم أن الصلة القلبية الروحية هي الأصل، وما عداها تابع؟ ثم لماذا ننكر خطر الإشعاع الروحي؟ أما القول بأن السمو الروحي للذات الحسية يعترضه أن كل شخص لا يمكن أن يتعدى درجته من النعيم، فمردود بأنه لن يتعدى درجته لأن ما حوله من نعيم يهيئ له(321/20)
السمو الروحي للدرجة المقدرة له. هذا إذا جاريناهم لنستدرجهم، لأنه لم يقل أحد بتحديد اللذة وإن كنا نختلف في درجات النعيم، فكما أنك في الدنيا لك أن تستعمل ملكك في كل أوجه الاستعمال إلا الاستعمال المنافي للقانون أو الذي فيه إساءة لاستعمال الحق أو التعدي على الغير، فأقل ما يتصور أن تكون كذلك في الآخرة لا يحد من استعمالك إلا بعد هذا الاستعمال عن جو السمو الروحي الذي يشع على المؤمنين. ثم إن تحديد الدرجات لا يمنع أن أتمتع بكل ما أستطيع من النشوة الروحية، لأن الممنوع ليس الصعود في نشوتي بل الرقي عن درجتي. ثم إن الذي يحدد هذه الدرجة هو معرفة الله، فبقدر معرفته سبحانه ستكون درجات النعيم، وبقدر معرفته سبحانه ستكون اللذة. ولعل الذين ينكرون هذه الفكرة، يفهمون قول التلمساني إن من شئون النفس أنها كلما قل اشتغالها بالبدن انبسطت وأعطت قواها، وأنها كلما ازدادت علماً فعلمت به، ازدادت قوة على ما هو أغمض وأرفع، فلا هي تنحصر ولا الأمر ينتهي. ولذا رأى المناوي أنه على من أراد أن ينزع عن عالم الحس ويرجع إلى ذاته، أن يعمل على ركود حواسه الظاهرة ليقوى على أن يحس بما لا يقع عليه الحس. فإذا فهموا معنا أن النفس الإنسانية كما قال الغزالي ليست جسماً ولا جسمانية بل هي جوهر مجرد (أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسماً بل ولا مكانية لا تقبل الإشارة) متصرف في البدن تصرف التدبير من غير أن تكون داخلة فيه بالجزئية والحلول، استطاعوا أن يعرجوا مثل فيثاغورس إلى العالم العلوي (إذا سما جوهرهم) وأن يسموا مع أرسطو وأفلاطون إلى درجة الخروج عن البدن كأنهم مجردون لا أبدان لهم، فيرون أنفسهم داخلين في ذواتهم خارجين عن سائر الأشياء، ويروا في نفوسهم المتجردة من أثقال البدن أنواعاً من الحسن والبهاء، ما تعجب وتريهم أنهم من الجوهر الأعلى الأفضل الشريف وأنهم ذوو حياة فعالة كما قال العلامة مسعود التفتازاني فيفهمون مع الصوفيين أن كل المخلوقات بأسرها مظاهر صفات الله وطريق إلى القرب منه وزيادة معرفته. فإذا ما فهموا معنى هذا فإنا لا نبخل عليهم في أن نضرب لهم مثلاً لحسيات تسمو بأرواحهم، وأسمى مثل هو مثل الصور الجميلة الآدمية وهي حسيات تدعو الكثيرين إلى أحط أنواع اللذات الحسية، ولكنهم إذا أتبعوا السمو الذي ذكرنا، فأنهم واصلون إلى فهم أن هذه الصور موصلة إلى معرفة معانيها، وما معانيها إلا إدراك قدرة الله تعالى وعظيم شأنه(321/21)
وجليل جماله، فإذا ناجى المخلوق صورة آدمية جميلة فهو لا يناجيها هي بالذات وإنما يناجي خلقه البادي جماله ومظاهر قوته في معانيها. ولذا نجد أبن الفارض يقرر في تائيته الكبرى أن حسن كل مليح ومليحة معار من حسن الذات الإلهية، وأن قيساً حينما هام بلبنى، وأن مجنون ليلى حينما هام بليلى، وأن كثير عزة حين هام بعزة، وأن كل العشاق حين يهيمون بمعشوقيهم لا يهيمون بهم على الحقيقة، وإنما هم يهيمون بالذات الإلهية التي صورت تلك الصور فأحسنت خلقها، وأن الله مرئي وأن تلك الصور الجميلة المختلفة وإن تعددت إنما تعبر عن معنى واحد وهو الجمال الإلهي، وأن العشاق جميعاً ينضوون تحت لواء لأنهم جميعاً يعشقون معنى واحداً. وبعد أن ذكر في شعره شوقه اللذات الإلهية كلما رأى حسناً وكلما هاجه حب، فيشاهدها فكره بطرف تخيله، ويسمعها ذكره بمسمع فطنته، فينتشي في ظاهره ويطرب في باطنه، ويرقص قلبه وتشدو روحه، ويراها ماثله في معاني الحسن والجلال - خرج من ذلك إلى أن الإنسان يمثل الله على أرضه لأن فيه معنى من معاني جلال الرب. وكما أن من شاهد نفسه في مرآة بدت له صورتها، وأن من تكلم بأكناف القصور سمع صوت نداه، فكذلك كل مظاهر القوة والجمال في هذا العالم ليست غير المعنى الإلهي الذي أودعه فيها. فالعبد على هذا إذا ناجى ربه فإنما يناجي علة وجوده، والرب إذا ناجى عبده فإنما يناجي خلقه وصنعه، فالصلة بين العبد وربه إذن صلة موجود وموجد، وما دام الموجود أصل الموجود، والموجود لا يوجد إلا بهذا الموجد فالعبد عند معرفته نفسه ووقوفها على سموها ورفعتها إنما يعرف في ذلك ربه. والصورة الجميلة على ذلك إذا نوجيت وإذا عشقت وإذا هيم بها، فإنما يهام بها وتناجى وتعشق لهذا المعنى. هذا مثل نضربه للسادة الحسيين. وإذا أرادوا أمثله أخرى فليرجعوا إلى لكتابينا مملكة الجمال والحق والخير، ومناجاة الجمال، ليجدوا أنا نرى أن الذي يشوق هو الحياة في العيون، حياة بريقها وحياة سحرها، والحياة في الحديث والحياة في الابتسامة، وأن خفة الروح هي الني تحبب ألينا الجميل، تحبب ألينا حديثه فتجعله مغناطيسياً جاذباً لقلوبنا، وتبعث ألينا فتنته فتور عينيه، وترسل ألينا تحيته ابتسامته وأنها صلة روحية يعوزنا لتذوقها أن نتفهمها لتحول بينها وبين البهيمية ولنقدس بها المنعم علينا بها. وأحب بعد ذلك من هؤلاء الحسيين أن يجولوا معنا في كتاب تهذيب الأخلاق لأبن مسكويه جولة قصيرة ليقفوا أمام قوله: (وقد(321/22)
ضن قوم أن كمال الإنسان وغايته هما في اللذات الحسية، وأنها هي الخير المطلوب والسعادة القصوى. وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها الأفعال ويميزها ويوجهها نحو هذه اللذات لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها على النهاية والغاية الجسمانية. وظنوا أيضاً أن قوى النفس الناطقة أعني الذكر، والحفظ والروية كلها تراد لتلك الغاية، قالوا وذلك أن الإنسان إذا تذكر اللذات التي حصلت له بالمطاعم والشارب والمناكح، اشتاق إليها وأحب معاودتها، فقد صارت منفعة الذكر والحفظ إنما هي اللذات وتحصيلها، ولأجل هذه الظنون التي وقعت لهم جعلوا النفس المميزة الشريفة كالعبد المهين وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية، لتخدمها في المآكل والمشارب والمناكح وترتبها لها وتعدلها اعدالاً كاملاً موافقاً. وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع وجهال الناس السقاط. والى هذه الخيرات التي جعلوها غايتهم، تشوقوا عند ذكر الجنة والقرب من بارئهم عز وجل وهي التي يسألونها ربهم تبارك وتعالى في دعواتهم وصلواتهم، وإذا خلوا بالعبادات وتركوا الدنيا وزهدوا فيها، فإنما ذلك منهم على سبيل المتجر والمرابحة في هذه بعينها، كأنهم تركوا قليلها ليصلوا إلى كثيرها، وأعرضوا عن الفانيات منها ليبلغوا إلى الباقيات , إلا انك تجدهم مع هذا الاعتقاد وهذه الأفعال إذا ذكر عندهم الملائكة والخلق الأعلى الأشرف وما نزههم الله عنه من هذه القاذورات، علموا بالجملة انهم أقرب إلى الله تعالى وأعلى رتبة من الناس وأنهم غير محتاجين إلى شيء من حاجات البشر، بل يعلمون أن خالقهم وخالق كل شيء الذي تولى إبداع الكل هو منزه عن هذه الأشياء متعال عنها غير موصوف باللذة والتمتع مع التمكن من إيجادها، وإن الناس يشاركون في هذه اللذات الخنافس والديدان وصغار الحشرات والهمج من الحيوان، وإنما يناسبون الملائكة بالعقل والتمييز. . .) وبذا نراه وضع لنا أساساً سامياً نبيلاً في تقدير اللذات، وأن أسماها ما كان ربانياً. ثم جل معنا إلى أن نصل إلى قوله: (إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام لأنه مركب منها، فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه ويرتبه حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال أنتقل إلى العالم العلوي وأقام(321/23)
فيه دائماً سرمداً في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة). ثم تراه يقرر أنه ليس يعني بالعلوي المكان الأعلى في الحس، ولا بالسفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوساً في المكان الأعلى، وكل معقول فهو أعلى وإن كان معقولاً في المكان الأسفل. ثم نراه يذكر لنا أن للحسن لذة عرضية على حدة، وأن للعقل لذة ذاتية على حدة، وأن من لا يعرف اللذة الذاتية لا يعرف اللذة بالحقيقة ولا يلتذ بها. وهو يسمي اللذة الناقصة التي تشاركنا فيها الحيوانات لذة انفعالية، ويسمي التامة التي يختص بها الحيوان الناطق لذة فعلية أي فاعلة، وسمى اللذات الحسية المقترنة بالشهوات عرضية لأنها تزول سريعاً وتنقضي وشيكاً بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاماً كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة، أما اللذة الذاتية فتسمى كذلك لأنها لا تصير في وقت أخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي ثابتة أبداً. وخرج من هذا الحكم بأن السعيد تكون لذاته ذاتية لا عرضية، وعقلية لا حسية، وفعلية لا انفعالية، وإلهية لا بهيمية. ثم يحدثنا بعد ذلك عن الجوهر الإلهي الذي في الإنسان وأنه إذا صفا من كدورته التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعة ولم تجذبه أنواع الشهوات وأصناف محبات الكرامات، اشتاق إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه مادة؛ فأسرع إليه وحينئذ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه، فيلتذ به لذة لا تشبهها لذة، ويصير إلى معنى الاتحاد، استعمل الطبيعة البدنية أم لم يستعملها، إلا انه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة العالية، لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية. فترى من هذا كله إعزاز الجانب الروحي في الدنيا، وهو بلا ريب في الآخرة أعز، وفي الجنة أوفى، فأحب أنا إذا ذكرنا الحور العين مثلاً وأنهن كما ذكر الغزالي غنجات عاطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام، وإذا ذكرنا انه يطاف على المؤمنين وحورهم بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين وأن الذين يطوفون خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (كما جاء في القرآن في سورة الرحمن والواقعة، وغيرهما) أحب إن يكون فهم لذة هذا كله ما ذكرنا من تقديس خالق هذه الصور وهذه الجنات وهذه الأنهار، وفهم أن اللذة الروحية التي يتمتع بها المؤمنون من كل هذا هي أسمى مما يصوره بعضهم من أن المقصود هو أن يباضع(321/24)
المؤمن كل هذه الحور وأنه يؤتى قوه عجيبة إذ ذاك على الجماع. ولا أنكر أن يكون هذا في الجنة لأنه لذة وإن كانت لذة حسية إلا أنها لذة لها حبها والرغبة فيها. ولكن الذي أنكره وأنكره بكل قواي أن يكون هذا الأمر الثانوي هم أهل الجنة أو أن يفهم بعضهم من ذكر الوالدان الفهم السقيم الذي سبق أن ذكرناه وعارضنا فيه بعض العلماء، وأرى أن أسمى جزء في التمتع هو التمتع بالفكرة الروحية، وأن يكون المؤمنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر ينظرون فيها إلى وجه الله الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم، لهم فيها كل ما يشتهون، وأنهم كل يوم بفناء العرش يحضرون، وأنهم ينالون النظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان. هذا وقد ذكر الأستاذ داود حمدان البعث والنشور، والرأي أنه سواء أخذنا بإعادة المعدوم في الكل أو جمع ما تفرق منه، فإنها إذا أعيدت في الآخرة فلا بد أن يجعلها الله تعالى في نشأة أخرى مستعدة للبقاء غير قابلة للفناء مهيأة لما تلقاه من النعيم أو العذاب، وتكون الأرواح فيها قوالب الأبدان والأبدان من جنس أرواحها كما ذكره أبن القيم، وإن جميع الإدراكات من سمع وبصر ولذة وألم لا تكون متفرقة في مواضع البدن كما هي في نشأة الدنيا بل يوصف كل جزء بأنه سميع بصير متلذذ متألم كما تقتضيه نشأته (وننشئكم فيها لا تعلمون) ومعنى (كما بدأنا أول خلق نعيده) أنا نعيد أول خلق ممثلاً للذي بدأناه؛ والتشبيه يقتضي المغايرة (كما ذكر أستاذنا المرحوم الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى في كتابه أحكام الروح ص 98) فهذا لا ينافي إعزاز اللذة الروحية. وكذلك ذكر الأستاذ جويق رؤية الله تعالى، والرأي أنه جل شأنه لا يرى ولا يحس إلا بعين مخلوقة له ومجلي لائق باستعداد الرائي كما نقله الألوسي عن بعض المحققين في تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة) أنه إذا رفع الحجاب بينه تعالى وبينهم ينظرون إليه وينظر إليهم وجل. وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية فيرونه سبحانه لكن لا من حيث عز ذاته البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعاعي الذي لا يطاق، بل بتجل مطاق لهم وملائم لاستعدادهم وأن هذا الحجاب (كما ذكر أستاذنا مخلوف في أحكام الروح ص 102) غير الحجاب المشار إليه في حديث (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره وجلاله وعظمته التي منها خر موسى صعقاً وتقطع الجبل دكاً لما تجلى عليه) كل شي أدركه بصره، فلا معنى(321/25)
لرؤية ذاته تعالى عند المحققين إلا رؤية حجابه (حجاب التنزل والتجلي) كما أنه لا معنى لرؤية ذواتنا إلا رؤية ألوانها وأضوائها، وهذه لذة روحية عند من يفهمون الروحانيات. جعلنا الله رجال روح، ومتعنا في الجنة بحسياتها ومعنوياتها نعيم روح أبدى سرمدي.
محمود علي قراعة(321/26)
خليل مردم بك
وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
وصف الفرزدق (الفرزدق واسع المخيلة، حسن الملاحظة، جيد القصص؛ وهذه المزايا أهم عناصر الوصف في الشاعر، وهو أميل إلى الأسلوب القصصي في الوصف. ولو توسع في ما كان يتناوله من المعاني على سبيل التشبيه أو التمثيل أو الإشارة، لو توسع أو خصص، لخلف الأدب العربي صوراً من أروع الصور الشعرية)
ذلك مما قال الأستاذ في الشعر الوصفي الفرزدقي، وقد روى له في هذا الباب أشياء محكمة، وأشار إلى غيرها ذاكراً أماكنها في الديوان. ومما روى له قوله في السفينة:
وراحلةٍ قد عودوني ركوبها ... وما كنت ركاباً لها حين تُرحل
قوائمها أيدي الرجال إذا انتحت ... وتَحمل من فيها قعوداً وتُحمل
إذا ما تلقتها الأواذىّ شقها ... لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل
إذا رفعوا فيها الشراع كأنها ... قَلوص نعام أو ظليم شمردل
وقوله في أسد:
وردُ السراة ترى سودا ملاغمه ... مجاهر القرن لا يكتن بالخمر
كأن عينيه والظلماء مسدفة ... على فريسته ناران في حجر
كأن عطارة باتت تَعلّ له ... بالزعفران ذراعي مخدر هصر
وقوله في شجّة يهدد بها جريراً - روى الأستاذ منه تسعة أبيات -:
بعيدة أطراف الصدوع كأنها ... ركيّة لقمان الشبيهة بالدَّحل. . .!
إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها الثُعل!
إذا ما رأتها الشمس ظل طبيبها ... كمن مات تحت الليل مختلس العقل!
يود لك الأدنون لو مت قبلها ... يرون بها شراً عليك من القتل!
وقوله في الشيب:
تفاريق شيب في السواد لوامع ... وما خير ليل ليس فيه نجوم؟
وأبياته في الذئب مشهورة مستأسدة.(321/27)
تغزل الفرزدق و (غزل الفرزدق على ما فيه من جفاء اصدق ما قال من الشعر. فهو الذي يكشف عن طبع الفرزدق الجافي ونفسه الماجنة الشرهة إلى اللذة. وهو غزل شهواني غير عفيف فيه فجور ومجون، وعاطفة الفرزدق فيه خشنة. وله غزل يقص فيه حوادثه الغرامية، وقد يصف الحوار الذي يدور بين أشخاص تلك الحوادث، ولاسيما النساء؛ وقصصه الغزلي أشبه بالقصص المروي لامرئ القيس).
وقد أورد الأستاذ أمثلة كثيرة من أقوال الفرزدق تبين أسلوبه في غزله - من ذلك خمسة وعشرون بيتاً - من القصيدة التي مطلعها:
ألا من لشوق أنت بالليل ذاكره ... وإنسان عين ما يغمض عائره؟!
والختام فيما أورده (الكتاب) هو:
فيارب، إن تغفر لنا ليلة النقا ... فكل ذنوبي أنت (يا رب) غافره
ومما روى الأستاذ:
يا أخت ناجية بن سامة، إنني ... أخشى عليك بنىّ إن طلبوا دمي
لو كنت في كبد السماء لحاولت ... كفاي مطلَّعاً إليك بسلم
هل تذكرين إذ الركاب مناخة ... برحالها لرواح أهل الموسم؟
إذ نحن نخبر بالحواجب بيننا ... ما في النفوس ونحن لم نتكلم
ولقد رأيتك في المنام ضجيعتي ... ولثمت من شفتيك أطيب ملثم!
منع الحياةَ من الرجال وطيبها ... حدقٌ تقلبها النساء مراض
وكأن أفئدة الرجال إذا رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض!
وفي (ديوان المعاني) في (ما قيل في شعبان وشهر رمضان وشوال): فمنه قول الفرزدق وأجاد في ذلك:
إذا ما مضى عشرون يوماً تحركت ... أراجيف بالشهر الذي أنا صائمه
وطارت رقاع بالمواعيد بيننا ... لكي يلتقي مظلوم قوم وظالمه
فإن شال شوال تُشل في أكفنا ... كؤوس تعادي العقل حين تسالمه
ومعاني هذه الأبيات كلها مبتكرة لم يسبق إليها الفرزدق.
وإذا لم تكن هذه الأبيات لمن نسبت إليه فمن قائلها؟(321/28)
وروى البحتري له أبياتاً في الشيب والشباب في حماسته منها:
فلم أر كالشباب متاع دنيا ... ولم أر مثل جدته ثيابا!
ولو أن الشباب يذاب يوماً ... به حجر من الجبلين ذابا!
قال الفرزدق في الأدب والحكمة و (للفرزدق في الأدب والحكمة مقدار من الأبيات يشتمل بعضها على رأي صحيح أو حكمة حسنة، أو قول يتمثل به، وهذا الضرب يمثل الروح العربية في أدبها وحكمتها).
وروى الأستاذ للفرزدق جميع الأبيات الآتية:
لا يعجبنك دنيا أنت تاركها ... كم نالها من أناس ثم قد ذهبوا
يفنى أخوك، فلا تلقى له خلفاً ... والمال بعد ذهاب المال يكتسب
ألم تعلموا يا آل طوعة إنما ... يهيج جليلات الأمور دقيقها
قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
والإناء في طبعات الأغاني والكامل، وطبقات الشعراء للجمحي، والإيجاز والإعجاز للثعالبي. ورواية (الأتي) اقرب إلى الفرزدقية:
فكان كعنز السَّوْء قامت بظلفها ... إلى مدية وسط التراب تثيرها
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
من هنا أخذ صاحب (اللزوميات) القائل:
وأفعلْ بغيرك ما تهواه يفعله ... وأَسمع الناسَ ما تختاره مُسمعه
وأكثرُ الأنسَ مثل الذئب تصحبه ... إذا تبيّن منك الضعفَ أطعمه
وبيت الفرزدق من شواهد الصحاح واللسان والتاج وغيرها.
وفي اللسان: (تقول هذا رجل سوء بالإضافة، وتدخل عليه الألف والآم فتقول: هذا رجل السوء. قال الفرزدق. . .)
فقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ... كثيراً، ولكن لا تلاقى الخلائق
هذا البيت في ثلاثة أبيات ذكر البغدادي منها أثنين (قال: يونس بن حبيب: أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل؛ وذلك كما قال صديق مولانا القريب، وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب، وقد قيل له: انزل على أبي قطن قبيصة فحسبه ابن مخارق الهلالي، فإذا هو آخر،(321/29)
وذم قراه وجواره فقال:
سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت ... أبا قطن ليس الذي لمخارق
وقد تلتقي. . . و (تلاقي) إما فعل حذفت إحدى النائين تخفيفاً، وفي البيت - والحالة هذه - إكفاء أو إقواء، وإما مصدر سكنت الياء فيه ضرورة، وفي (شرح النهج) لأبن أبي الحديد: (ولكن ميزوا في الخلائق). ورواية الأستاذ المردمي والبغدادي أصح.
وروى الأستاذ لأبي فراس من مقلداته:
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جناً إذا ما نجهل!
قال الأمدي في (الموازنة) - وأني لأنقل قوله على ما بيننا من خصومة قديمة. . . -: (أنكر أبو العباس قول أبي تمام:
رقيق حواشي الحلم لو إن حلمه ... بكفيك ما ماريت في أنه برد
وقال: هذا الذي أضحك الناس منذ سمعوه إلى هذا الوقت. والخطأ في هذا ظاهر، لأني ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة، وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان والرزانة، كما قال الأخطل:
شُمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
وكما قال الفرزدق: أحلامنا. . . ومثل هذا كثير في أشعارهم. ألا ترى أنهم إذا ذموا الحلم كيف يصفونه بالخفة فيقولون: خفيف الحلم، وقد خف حلمه.
ونسب أبو تمام في الحماسة إلى الفرزدق هذين البيتين:
إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
وهما للعلاء بن قرظة خال الفرزدق: (قيل للفرزدق مالك وللشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعراً، ولا كان صعصعة شاعراً. فمن أين لك هذا؟ قال: من قبل خالي. قيل: أي أخوالك؟ قال: خالي العلاء بن قرظة الذي يقول: (إذا ما الدهر. . .؟)
وفي (ديوان الحماسة) في باب الحماسة مقطوعة - ثمانية أبيات - للفرزدق، وأختير له في باب المديح والأضياف: ستة أبيات جيدات. يقول فيها واصفاً قدره التي بعث بها إلى ضيفه:(321/30)
غضوباً كحيزوم النعامة أُحمشت ... بأجواز خشب زال عنها هشيمها
وروى الأستاذ المردمي للفرزدق هذا البيت:
أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير وقد أعيا ربيعاً كبارها
ونسبة أبو تمام في الحماسة إلى شعيث بن عبد الله، والبيت من مقلدات الفرزدق.
وروى أبو تمام في باب الهجاء لفرعان بن الأعرف في أبنه منازل مقطوعة، فيها هذان البيتان:
وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت ... يداك يدا ليث فإنك ضاربه
والبيت الثاني للفرزدق في مقطوعة في أبنه لبطة، وكان من العققة (واستغنى عن المسح شاربه) من بيت في المقطوعة. قالوا: كان فرعان من اللصوص، فهل سرق المقال سرقته المال أو لص الفرزدق اللص. . .
ولم يرو أبو تمام في الحماسة للأخطل شيئاً، وروي لجرير ثلاثة أبيات في رثاء أبنه سوارة، ولا يدل ذلك على أن ليس جرير جريراً ولا الأخطلُ الأخطلَ
يقول الأستاذ: (وللفرزدق ضرب آخر، فيه زهد ونسك وتوبة ووعظ وإقرار بالذنب وزجر للنفس؛ وهذا الضرب يمثل الروح المتأثرة بالدين، وهو في كلا الضربين - في هذا وفي شعره في الأدب والحكمة - يمثل الشاعر الإسلامي في عصر بني أمية عصر العروبة المتأثرة بالإسلام، من ذلك قوله:
ألا كل شيء في يد الله بالغ ... له أجل عن يومه لا يحوَّل
وإن الذي يغتر بالله ضائع ... ولكن سينجي الله من يتوكل
تبين ما يخفى على الناس غيبة ... ليالٍ وأيامٌ على الناس دوَّل
يبين لك الشيء الذي أنت جاهل ... بذلك علام به حين تسأل
وروى الأستاذ لأبي فراس أربعة عشراً بيتاً من قصيدته التي أعلن فيها توبته وهجا إبليس، منها قوله:
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي ... رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك من سوءات ما كنت سقتني ... إليه جروحاً فيك ذات كِلام!(321/31)
تعيرها في النار والنار تلتقي ... عليك بزقوم لها وضرام!
وقد اغتبط أبو فراس بهذا الهجاء فغدا إلى الإمام الحسن البصري فقال له: إني هجوت إبليس فأسمع. قال: لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس. . .
قال: أسكت، فإنك بلسانه تنطق. . .
قال الأستاذ: (وللفرزدق معان لا تدخل تحت باب من هذه الأبواب ولكنها ذات بال لأنها تلقى نوراً على حياة الفرزدق الخاصة وحياة محيطه) وأشار إلى أشياء من هذه المعاني وروى أبياتاً للفرزدق يشكو فيها إلى الوليد بن عبد الملك جور عامل، منها قوله:
أمير المؤمنين وأنت تشفى ... بعدل يديك أدواء الصدور!
فكيف بعامل يسعى علينا ... يكلفنا الدراهم في البدور!
وأنى بالدراهم وهي منا ... كرافع راحتيه إلى العبور!
فلو سمع الخليفة صوت داع ... ينادي الله هل لي من مجير!
وأصوات النساء مقرنات ... وصبيان لهن على الحجور!
إذن لأجابهن لسان داع ... لدين الله مغضاب نصور!
(يتبع - الإسكندرية)
* * *(321/32)
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الاسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
أنا الفنان لبيكِ ... مناديتي وسعديكِ
إذا لامست مصباحي ... أتى بي لمس كفيكِ
كأسرع خاطر يَسري
الشعر للأستاذ توفيق الحكيم وفيه لحن من صنعة علاء الدين أحد أبطال قصة ألف ليلة وليلة
حدثنا أبو الفرج قال: الخطاب في هذا الصوت موجه إلى وزارة المعارف، وكانت قد عهدت إلى طائفة من كبار الأدباء بتلخيص الكتب العشرة المختارة، فلما كان موعد بحثها عن الأديب الذي يصلح لتلخيص ألف ليلة، رأت أن الكتاب ذو جانبين: جانب يفتقر إلى تحقيق علمي وجانب إلى روح فنية. فلم تزل تبحث عمن تتوفر فيه روح الفن حتى وقع نظر وزيرها السابق هيكل باشا على المصباح الأخضر
قال: والمصباح الأخضر هذا هو المصباح المسحور الذي كان علاء الدين قد وجده في كنز مرصود قاده إليه الساحر المصري. وكان علاء الدين لا يزال طفلاً يتيماً، وقد عرف الساحر أن الكنز لا يفتح إلا على يديه فأدعى أنه عمه وقاده إلى الخلاء ثم أطلق البخور وقرأ التعاويذ ففتح الكنز. ودخل علاء الدين واخذ المصباح، وكان الساحر يريد أن يأخذ المصباح منه وهو بداخل الكنز ولكن الصغير كان موفقاَ في الرأي فأبى تسليمه حتى يخرجه، وغضب الساحر فأغلق باب الكنز وترك علاء الدين
وكان مع علاء الدين خاتم أعطاه إياه الساحر من قبل، فلما مسحه جاء خادم من الجن موكل بطاعة من يحوز الخاتم. فطلب إليه أن يفتح الكنز ففعل، ثم نقله إلى منزله ومعه المصباح
ومسحت أم علاء الدين ذلك المصباح لتجلو الصدأ عنه، وكان المسح رمزاً لخادم المصباح وهي لا تعلم ذلك فجاءها الخادم ولم يزل يأتمر بأمرها يفعل المستحيلات من أجلها ومن(321/33)
أجل علاء الدين حتى فقد المصباح فحازه آخرون
قال أبو الفرج: وكان أخر مطاف هذا المصباح أن أخذه أهل الكهف فبقى في كهفهم ثلاث مائة سنين وتسعاً، وكان لونه من قبل ذهبياً فعلاه الصدأ واستحال على مدى العصور إلى مصباح أخضر
قال: ويظهر أن أهل الكهف كانوا قد طلبوا إلى خادم المصباح أن يوقظهم بعد ثلاثمائة سنين وتسع ولكن هذه مسألة لا ينبغي أن نماري فيها الأمراء ظاهراً ولا نستفتي فيها منهم أحداً
قال أبو الفرج: فلما وضع الأستاذ توفيق الحكيم قصة (أهل الكهف) زار المكان الذي دفنوا فيه قبل بعثهم كما يفعل كبار الكتاب والمحققين من نشدان الحقائق في وجوها وبيئتها، وكما فعل هيكل باشا لما حج قبل أن يكتب السيرة. قال: فوجد الأستاذ توفيق الحكيم ذلك المصباح في الكهف وأراد أن يجلو الصدأ عنه فجاءه خادم المصباح فإذا هو فنان يضع المسرحيات البارعة ويكتب ما يكتب تحت ضوء المصباح الأخضر
ولما وقع نظر الوزير الأديب هيكل باشا على المصباح مسحه هو أيضاً، ولكن لم يظهر له العفريت خادم الطلسم بل ظهر له الأستاذ توفيق الحكيم، فعهد معاليه إليه أن يراجع كتاب ألف ليلة وليلة، فأنشد بين يدي معاليه هذا الصوت:
أنا الفنان لا أبدو ... لعين ما لها قلب
أنا الفنان لا أبدو ... لقلب ما به حب
يشق الغيب مصباحي ... وتساقط دونه الحجب
وسر الغيب في المصبا ... ح والمصباح لا يخبو
بكف أدركت سري
تولى إمرتي حيناً ... سليمان بن داود
فهل جددت الدنيا ... كإنشائي وتجديدي
بنيت الصرح من ماء ... كريم غير مورود
وسخرت له الريح ... بتذليلي وتعبيدي
وعلمي منطق الطير(321/34)
وجئت إليه من سبأ ... بأخبار وأنباء
فلما استعظم الجهد ... أتيت له بأحياء
نقلت العرش والتاج ... إليه وبنت حواء
ولم يتحرك الجفنا ... ن منه غير إيماء
أهذي قدرة السحر
فلما ضاع مصباحي ... تحطم كل ما شدت
مضى في رحمة الله ... وعفت الكون أو كدت
وخال الجاهل الغر ... بآني بعده مت
ولو خلد مخلوق ... على الدنيا لخلدت
فموتى آخر الدهر
أنا الفنان لا أبدو ... إذا ما ضاع مصباحي
فآمالي وأشجاني ... وأحزاني وأفراحي
وما أخشى وما أرجو ... معلقة بأرواح
بأرواح خفيات ... تضاء بضوء مصباحي
فذلك كله سري
قال: وهي قصيدة طويلة جداً، ويزعم الزاعمون أنها منقوشة على مصباح علاء الدين وأنها تفسر سر المردة والشياطين بأنهم أسماء مترادفة لكلمة الفن فهو الذي جعل الناس
. . . . . . . . . . . . . كلما ... رأوا حسناً عدوه من صنعة الجن
قال الأستاذ توفيق الحكيم: ولقد راجعت اشتقاق كلمة الجن في جميع اللغات فوجدت الذكاء الخارق
والجن بمعنى واحد في كل لغة، فالعرب يقولون العبقري ومكان الجن عبقر. والأوربيون يقولون (جني) (وجنيس). وليس من الصفات المنافية للذكاء أن يبدو المرء كأنه نائم، فلعله يكون قد قضى حيناً من الدهر مع أهل الكهف. وليست زيارة الكهوف بالأمر الذي يسهل احتماله ولا بالذي لا يترك على الهوية العامة طابع النوم العام
وحدثنا الدكتور حسين فوزي قال: لقد أخطأ الكثير من النقاد في فهم كتاب أهل الكهف(321/35)
للأستاذ توفيق الحكيم فعده البعض عربي الأصل لأن القصة وردت في القرآن الحكيم. وعده البعض مسيحي الأصل لان القصة مروية من قبل أساطير المسيحية؛ وهي في كتاب الله العزيز ذات مغزى يشير إلى قدرة الله على البعث، وهي في الأسطورة المسيحية ذات مغزى يشير إلى معنى آخر. قال: ولكن القصة كما يرويها الأستاذ توفيق الحكيم ذات لون فني آخر، فهي غير منظور فيها إلى هذين المصدرين العظيمين إنما مصدرها كتاب الموتى الفرعوني
قال الدكتور حسين فوزي: وإن قصة أهل الكهف للأستاذ الحكيم ليست إلا لحناً جنائزياً رائعاً لحياة الفنان المحروم من نصفه الآخر. هي تعني الحياة بغير أصدقاء لأنهم فقدوا، إنما مبعث هذا الألم فقدان الصديقة التي لم توجد. قال ولقد غبن الناس صديقي حين سموه عدو المرأة، وما كان الفنان ليكون عدواً لها إلا على تفسير العامة: (من جهل أمراً عاداه)
وحدثنا الأستاذ إسماعيل أدهم قال: (لقد ناقشني الدكتور بشر فارس في تحقيقي العلمي على طريقتي الخاصة لتاريخ مولد الأستاذ توفيق الحكيم وزعم أن التاريخ الصحيح هو الذي ذكره الحكيم نفسه والذي أجمع عليه الناس، ودلت عليه الأوراق الرسمية. ولقد شهد الدكتور بشر فارس بذلك على نفسه أنه غير جدير بالمكانة التي هو فيها من الشعر الرمزي. إنني ما حددت لمولده تاريخاً غير تاريخ مولده إلا إشارة رمزية مني لأنه من أهل الكهف
وحدثنا الأستاذ بشر فارس قال: أما وقد اعترف الأستاذ المعروف بالدكتور بهذه الحقيقة فإن تاريخ مولد الأستاذ الحكيم يرجع إلى القرن الثاني من ميلاد المسيح
قال الأستاذ توفيق الحكيم: لقد وهم كل هؤلاء فإن تاريخ مولدي سابق على تاريخ الكون. أليس أفلاطون يقول إن الفكرة وجدت أولاً ثم وجد الكون على غرارها؟ وبالله ماذا تكون الفكرة (الأديال) غير الفن؟ ألم يكن يقول شوبنهور إن الطبيعة محاكاة للفن وليس الفن هو الذي يحاكي الطبيعة؟ وهل يرى النقاد فارقاً في المعنى وإن اختلف اللفظ بين نظرية أفلاطون ونظرة شوبنهور. . . وهل ثمة فارق بين الأديال وبين الفن.
ثم التفت إلى وزارة المعارف وأنشد:
صوت(321/36)
أنا الذي دوى ... بقلبك دون أذنيك
أنا الطيف الذي يبدو ... لروحك قبل عينيك
وكل ممرد عال ... وكل مظلل رحب
وكل محبب غال ... وكل مقطر عذب
وما يعزى إلى المجد ... وما يبني على الحب
وما يخشى وما يرجى ... وما يهوى وما يصبى
جميع الكون من أمري
الصوت للأستاذ توفيق الحكيم. وفيه لحن لعفريت في شاطئ الإسكندرية محبوس في قمقم.
(يتبع)
عبد اللطيف النشار(321/37)
الجبر والاختيار في كتاب الفصول والغايات
(مهداة إلى الأستاذ محمود حسن زناتي)
للأديب السيد محمد العزاوي
(تتمة)
(. . . وقول الحق أمثل من السكوت، واستقامة العالم لا تكون، ولذة الدنيا منقطعة، وخبر الميت غير جلي، إلا أنه قد لقي ما حذر، فأسع لنفسك الخاطئة في الصلاح. . .)
أريد الآن أن أتبين جبرية المعري من أي نوع هي؟ أهي ميتافيزيقية حقاً؟ هل نظر أبو العلاء في الكون فقرر في أحد نصوصه حينما أنكر الاختيار إنكاراً شديداً ما قرره اسبينوزا من أن شعورنا بالحرية في أفعالنا ما هو إلا نتيجة تقدم معرفتنا للأسباب التي تدفعنا، وأن سلوك أي كائن ينتج ضرورة عن طبيعته، كما أن صفات المثلث تنتج ضرورة عن طبيعته كما يقول ليبنتز. وهل نظر أبو العلاء فيما يوجب علينا الجبر؟ أهو هذا النسيج القوي المتلاحم من السبب والنتيجة؟ أم هي قوة تفرض علينا هذا فرضاً مبهماً غامضاً؟ وهل ميز في الجبرية بين اضطرار ميكانيكي يدفع، ولا محيص عما يدفع إليه، وبين دوافع ميكانيكية إن دفعت إلى فعل فلا توجب حدوثه؟
وهل كانت نظرته فلسفية حقاً؟ هل تكلف لها التجريد والارتقاء والقياس والحصر واستنباط الأحكام؟ وهل هو انتهى إلى أحكام ثابتة يمكن أن تضاف إلى الآراء الفلسفية القويمة؟
هل نظر في تقريره الجبرية إلى الناحية النفسية فقال بأن الإرادة تنفصل تماماً عن الشعور والآراء، وإذا كانت الآراء جبرية لا تعدم شعوراً موجهاً نحو غاية فتقتضي لذلك فكرة، والفكرة من أمر ألة حرة العمل؟ هل قرر أن أعمال المرء وليدة مجموعة من الظروف معقدة غاية التعقيد تعين نوع الأفعال الصادرة عن الإنسان؟؟
أو من الناحية الأخلاقية، فقرر على أية أسس إذن يمكن أن تنبني الأخلاق؟ وما هو القول الفصل في التبعات الأخلاقية بأنواعها؟ وما هو الرأي الواضح البين في البعث والحساب والعقاب؟
الواقع أن أبا العلاء لم يتبع البحث العلمي ولا طرقه، بل أن بيئته قد أثرت عليه تأثيراً كان(321/38)
من نتائجه أن تكيفت نظرة أبى العلاء تكيفاً إن لم يكن كلامياً محضاً فقد شابته الشوائب الكلامية؛ فأهتم بخلق الأفعال: أهي من صنع الله أم من صنع الإنسان. وأهتم لمرتكب الكبيرة أهو خالد في النار أم مجرم يرجى غفران الله. واهتم بصفات الله أهي خارجة عن ذاته أم هي منها؟ وهذا هو السبب الذي حدا بي أن أفصل جبرية أبي العلاء على منهاج الكلاميين
الحق أنه من الظلم أن نقارن بين أبي العلاء وبين الفلاسفة. فأبو العلاء لم يقصد إلى الفلسفة قصداً فنأمل أن يتحدث عن الجبرية كما يتكلم سبينوزا أو ليبنتز أو عمرو بن عبيد وغيرهم من الفلاسفة وعلماء الكلام، وأن يتحدث عن الكون كما يفعل أرسطو أو أفلاطون
ولم يقصد إلى الأخلاق وإصلاح المجتمع فيحدثنا عنهما كستيوارت، وإنما هو أديب قبل كل شيء، وأديب يعني بالصناعة الأدبية: يحفل للفظ ويعني به عناية الجوهري، ويحرص على الغريب منه ويتلغبه ويتقفاه، ويستطرد له استطراداً ربما أضاع المعنى أو أضعفه. وهو كذلك يحفل للمعنى الطريف فيبحث عن أي ثوب يلبسه، وبأي شكل يعرضه، ومبلغ ما يكون فيه من حسن إذا كان على هذه الصورة أو تلك. وهو أديب كذلك يأخذ شواهده وأمثلته مما يرى وما يسمع وما يحس. فهو إذا فكر في أقدار الإنسان ضرب لنا مثلاً مما حوله وأنتزع مواد تفكيره ووسائل تسجيله مما حوله كذلك
فهو لم يحاول أو قل لم يستطع أن يجرد العالم من ظواهره وينفذ إليه حقيقة عارية متحدة، وإنما هو كان يريده رافلاً في تلك الصورة والمعاني التي درج الشعراء على أن يخلعوها عليه. ولعل حرص أبي العلاء على المعاني المبتكرة، والأفكار الخفيفة واللفظ القوي الغريب، والسبك المتين كأن أشد من حرصه على النظرات الفلسفية العريضة الشاملة. ولعل ميله إلى إظهار آثار ذاكرته الأدبية القوية التي تعي أخبار الأقدمين وأشعارهم وعلمهم، ومقدرته اللغوية البيانية التي تسمو به إلى محاولة تقليد القرآن، ومزاجه الشاعري الذي يهفو إلى كل خاطر عابر، ويرنو إلى كل معنى بديع، لعل ذلك صرفه عن إن ينشئ فلسفة خاصة به بينة المعالم واضحة الحدود، أو أن يردد ما قال به معاصروه من الفلاسفة الإسلاميين وغير الإسلاميين. فأنت تستطيع - إن شئت - أن ترى صورة أدبية حقيقية لعصره، وأنت تستطيع إن شئت أن ترى صورة اجتماعية لعصره، ولكنك تكلف نفسك(321/39)
الجهد إذا حاولت أن تظفر بصورة صادقة كاملة في الفلسفة في عصره أو بصورة لفلسفة له متكاملة متساوية
ولست أريد بهذا أن أنكر إن له فلسفة، وفلسفة جبرية خاصة، كلا، إن الرجل كما رأيت كان يدين بالجبرية ويؤمن بها إيماناً عميقًا قوياً. وكل شيء حوله يدفعه إلى هذا الإيمان العميق القوي. هو بالطبع كان مؤمناً بالله مسلماً ولكن إلهه كان مختلفاً عن إله الناس، كان ذلك الاضطرار الميكانيكي الذي يهيمن على الناس والعالم بجبروته المنضبط وحكمته الخفية، فلا سبيل إلى الشك في أن أبا العلاء له في هذه الناحية تفكير، ولن يستطيع أحد أن ينكر عليه ذلك التفكير
وأن جاز لنا بعد كل هذا أن نعد أبا العلاء متكلماً أو فيلسوفاً بمعنى دقيق فلا أقل من أن نثبت له ما يمكن أن يكون من أدوات الفيلسوف أو المتكلم ونظره، وأن نتبين أثره في الفلسفة حوله ومنزلته بين غيره. لقد كان يعتمد على العقل اعتماداً أهمل معه المتواتر، وفضله على الشرع، فهو قد خالف بهذا الأصل أهل السنة لأنهم يقدمون الشرع على العقل، وخالف المعتزلة لأنه يحترم العقل اكثر من احترامه الشرع مع اتفاقهما في تقديمه. فهو قرر مع المعتزلة قوة العقل على أدراك الحسن العقلي والقبح كذلك ولكنه قدم العقل على الشرع حين كان المعتزلة يضنون بذلك على العقل.
وأما قوله بأن الأفعال حكم مقدور، فهذا الرأي يوافق الجهمية فهم الذين قالوا بأن الله هو الذي خلق الأفعال وفرضها على المخلوق فرضاً. على حين أن المعتزلة تقول بأن المرء هو خالق أفعاله وأن للإنسان قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه
وإذا ما نظرنا إلى ما يقول في المنزلة بين المنزلتين لا يبدو لنا أنه تأثر بتلك الحدود التي وضعتها المعتزلة من أن صاحب الكبيرة ليس بكافر ولا مؤمن لكنه فاسق يستحق النار بفسقه. فهو كثير الرجاء لغفران الله لكل ذنب، شديد الأمل في رحمته كما رأيت لكل عاص، والشواهد على ذلك كثيرة جداً في الكتاب. أما لفظة (فاسق) فقد حاولت أن أجد لها عنده هذا المعنى الاصطلاحي فلم أوفق، ولعله كان يقصد بها (المذنب) دون أشراط الفسق الفقهية المعتزلية. أحصيت ورود الكلمة فإذا هو قد ذكرها اسماً وفعلاً نيفاً وعشر مرات في(321/40)
مواضع في الكتاب مختلفة لم يقصد بها إلا مجرد المعصية والخروج عن الطاعة
وفي مسألة البعث لا يوافق أبو العلاء الجهمية ولا المعتزلة. إذ إن كلا الفرقتين تجمعان على البعث. الأولى تقول بأن ذلك جبر والحساب والعقاب جبر كذلك. والثانية تقول به نتيجة إسنادها الأفعال للإنسان. وأما أبو العلاء فلا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً كما رأينا
ونجده حين يتعرض لذات الله يذهب مذهب المعتزلة والمعطلين؛ فهو لا يثبت لله صفة (وكيف يوصف بشيء خالق الصفات). وهذا نص واضح صريح. وأما قوله بأن الله حده الزمان وبأن المادة أزلية فلا يعنينا هنا كثيراً فليس هذا مقام البحث في فلسفة أبي العلاء الإلهية على وجه عام، وإنما الذي يعنينا هو إثبات الصفات للذات أو تجريدها عنها
استعرضنا أفكار أبى العلاء الجبرية في كل ما تقدم ورأينا ما كان من اضطرابه وتنقله بين المذاهب المختلفة تنقلاً هو أقرب إلى تنقل الشاعر الذي يؤمن بالفكرة لحظة طروقها، ويؤمن بها حين يسجلها أيماناً بجعلها قطعة من نفسه في لحظة ما، أقرب إلى ذلك من تفكير الفيلسوف ينظر في الكون بنظر خاص به، وبه وحده. ونحن لا يمكن أن نقبل هذا الاضطراب من مفكر نحاول أن نقيم له فلسفة ذات أصول وفروع. هذا الاضطراب ليس ناتجاً عن ضعف في التفكير، ولا عن اتهام في العقل وشك في قوته على استكشاف الحقائق واستنباط الأحكام، بل عن تلاشي الشخصية في ذلك المجتمع الإسلامي الذي شاع فيه الحكم بالمروق عن الدين وما يتبع ذلك من إيذاء لم يكن المعري يحب أن يتعرض له؛ فكان إن اضطر إلى النقية والمصانعة بصرف الناس إلى الظاهر من الأمر. بل لعله اضطر إلى هذا الشك وتلك الحيرة لأنه درج على إثبات إله قادر حكم فلم يستطع - أو قل لم يحب - أن يعطله مما يقعد به عن الحكمة والعدل والكمال
وهو كان يدعو بعد كل هذا إلى الزهد؛ ولكن على أي أساس بنى هذا القانون الأخلاقي؟ وما الباعث؟ أكان ثقة منه وأيماناً بل هذه الدنيا مظهر من المظاهر الزائفة وظل للرغبات والأهواء على النفس الإنسانية والعقل البشري، فليس لها كيان واقعي خارج تلك النفوس والعقول؟ فهو يدعو إلى الزهد مبصراً الناس بهذه الحقيقة التي اكتشفها وفطن إليها؟ وهل هو استطاع أن يتبين في وضوح صلة الإنسان بهذا الكون؟ وهل أمكنه أن يدرك حقائق ثابتة وراء هذه العصور الزائلة الخادعة نسبته إليها كنسبة أي فرد من أفراد البشر إليها(321/41)
فدعا إلى الفضيلة والتراحم باعتبار أن آلام الآخرين هي آلام الشخص وآلام الشخص هي آلام الآخرين لتلك الصلة التي أدركها؟
أغلب الظن بأن باعث هذه الدعوة لم يكن شيئاً من هذا، وإنما كان باعثاً سلبياً محضاً نتج عن جهله بما وراء الموت وخوفه من ذلك ورهبته وعدم تبينه ما يراد به من عقاب وثواب. فهو أن أوصى بالصلاح والزهد فذلك حتى لا يكون المرء - إذا صح البعث والحساب - من الخاسرين. من هنا نرى أن قانونه الأخلاقي الذي أستنه قد بنى على قاعدة سلبية محضة ليس فيها من الفلسفة قدر ما فيها من الحيطة والحذر الذين يوجبهما الجهل والتوقف. وكان الباعث كذلك نوعاً من الضيق القوي لظروفه الاجتماعية والشخصية جميعاً. فلذلك دعا إلى الوحدة والزهد في الناس: (فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواء). فهو كذلك يتقي المجتمع بطريقته السلبية. هو لا يحاول إصلاحه، فهو يائس من ذلك؛ ولكنه يتجنبه ويتقيه، وكان الدافع كذلك سخطاً شديداً على تحول الدنيا وعدم بقائها على حال: (فالدنيا حية عرماء، لمعة بيضاء، ولمعة دهماء، والأيام عوارم لا تترك لحى عراماً). إذن (ما البقاء إلا طول شقاءٍ، والحياة ظلمة ليس فيها إياة، ومن السعادة أن يموت القوم كراماً). ولكن (أولع الولد بالرغاث). وهو يهيب لذلك أن يا راغبُ رُع، والخشية فادرع، نحن على الدنيا نقترع، نتسايف ونسطرع والقدر لنا مضرع وهو يخاطب الدنيا معبراً عما يسخطه منها: (أيتها الدنيا البالية، ما أحسن ما حلتك الحالية، أين أممك الخالية، أن لُذ بك المتوالية والنفس عنك غير سالية، تتبع أولاك التالية، والله استنجد على تلك الصعدات) وحزنه على الدنيا ناتج عن إنها تخلط بين الفرح والسرور. فقد يكون الرجل كاسياً يمثل ريش الأخيل، وشبابه كروضة الوسمىّ، وعيشه أوسع من الموماة، وعروسه الصالحة الحسناء، فلا يخلو في ذلك من الكدر. إن داء الدنيا عرف قديماً، لا بد له من الانتقال، إما بالموت وإما بالحياة يمكن أن تكون عيشته زاردة مثل الزردة، ويلبس أخلاق ثياب كلباس الرأي، ويعارق العروس أم أن تهلك، وإما أن تختار سواه، وتكون روضة شبابه هشيما) والشواهد على ذلك كثيرة لا تكاد تحصى. وكل ما يمكن أن نستخلصه منها أسباباً لاعتزال أبي العلاء للدنيا ونصحه الناس بالزهد فيها لا يعدو أنها متقلبة لا تدوم، وأن خيرها يختلط بالشر وسرورها يختلط بالكدر، إلى غير ذلك من معاني الشعراء. فهل(321/42)
لو كانت ظروف أبى العلاء غير ما كانت، وهل لو كانت الدنيا على غير ما وصف أترى كان دعا إلى الزهد؟ ربما كان رأى في الكون ما رأى ولكنه لم يكن يبني الزهد في الدنيا على الأساس الذي بنى عليه دعوته التي رددها في الكتاب كثيراً
ولماذا حرص أبو العلاء على أن يثبت حكمة لتلك القوة التي تصرف أمور الناس، مع شقائه بهذه الحكمة لعدم الاهتداء إلى مراميها؟ تلك الإرادة التي بحث أبو العلاء عن حكمتها فلم يوفق والتي كانت مثار قلقه واضطرابه، والتي يخشى أن يتهمها بالظلم، لما يراه من تناقضاتها ومفارقاتها؟ كان مذهبه يستقيم، وعقله يطمئن إلى ما وصل إليه من تفكير لو أنه قال بإرادة غير عاقلة غاشمة، فإذا ما جردها من العقل والحكمة فلا جناح عليها أن تأنى من المفارقات ما يشاهد أبو العلاء وأكثر مما يشاهد. ولكنه مفكر (شاعر) في (وسط إسلامي) أنشأ الكتاب ليمجد الله ويعظ.
وقد حاول الأستاذ علي أدهم أن يعقد صلة بين أبي العلاء وبين شوبنهاور. ولست بصدد أن أتحدث عن نصيبها من الصحة. وإنما أقول أن أوجه الشبه إن صدقت في وجهات متعددة من نظر الرجلين إلى العالم والمجتمع بحكم ما بينهما من مزاج التشاؤم، فأنها لم تصدق في تلك الناحية الخاصة. حقاً إن كلا الرجلين قد أثبت الجبر وقال به. ولكننا إن تجاوزنا عن اختلاف الوسائل التي سلكاها فإنا لن نتجاوز عن فرق دقيق بين الجبريتين
أبو العلاء ردد كثيراً أن القوة المسيرة للكون (عاقلة) يصدر عنها الأفعال، والأقدار، والأرزاق، عن حكمة خفية لا يدرك كنهها وإن اجهد نفسه الجهد كله؛ وهو كذلك لم يستطيع أن ينظر إلى العالم نظرة تجريدية فلسفية، ولكنه قرر على أي تقدير بأن الدنيا شر، والطريقة المثلى للتخلص من شرورها وآلامها هي الزهد فيها وكبح الشهوات، وكبت الغرائز، والخلوص إلى العبادة والتفكير
وشوبنهاور قد اعتبر الحقيقة المطلقة إرادة عامة (لا تعقل) وذهب إلى أن ليست ثم إرادة فردية، فالفردية مجرد وهم لأنها قائمة على فرق الزمان والمكان. وقد قرر أن الإرادة شر في أساسها، وهي شبق حافز إلى الوجود، وحرص على اللذة والتمتع؛ فالحياة إرادة ورغبة تفيضان إلى الشقاء لأن الإرادة لا يمكن أن تروى غلتها أبداً من الرغبة في الحياة. وهو يعتبر غاية الحياة لذلك هي (الشقاء) وأفضل السبل فيها أن يخترق الإنسان حجب الوهم(321/43)
الفردية ويرى عقم مطلب إشباع الرغبة ويتحرى العفة، فيصل إلى هدوء صوفي يشبه الهدوء البوذي، واعتبار الحياة قطعة من الفن. . .
فهما ينتهيان إلى غاية واحدة ويقرران مبدأ أخلاقياً واحداً ولكن بنظرين في الكون مختلفين، وانك لترى قانون شوبنهاور قد بنى على أسباب فلسفية محضة، فما ابعد بين المفكرين.
(تم البحث)
السيد محمد العزاوي(321/44)
من نار الفراق
سأسخر بالأقدار بعدك!. . .
للأستاذ محمد حسن إسماعيل
(أنني أقدس فيك قلباً ما وهب الله متله لبشر، وعواطف ملائكية طاهرة، وإخلاصا ما شابه زور أو خيانة، وما أنا إلا زهرة شاء حظي السعيد أن أتتفتح على نور حبك وسحر أنغامك. فأي قوة في العالم تستطيع أن تنتزع هذه الزهرة إلى غير أرضها دون أن يلحقها الفناء، أو تفصل روحي عن جسدها!. . .)
من رسائلها إلي
تريدين مني الصبر هاتي رحيقَهُ ... وإلا فخَلِّيني ونيرانَ ثوْرتي!
نفختِ لَظاها في دمي، وتركتِها ... تؤِّجج أحلامي وتكرب حَيرتي
وتَنسَخُ أيَّامِي عليكِ قصيدةً ... مشوشةَ الأنغام تَهذي بلوْعتي
وتنتظرينَ الصبرَ؟ إني نشدتُهُ ... فأقبلَ بركاناً يُزلزِلُ هَدْأَتي!
أيصبرُ من سوَّى جمالُكِ عُمرَهُ ... ينابيع تَقديسٍ وحبٍّ ورحمةِ؟
وأسكرتِهِ بالحسن والطهر والهوى ... وكنتِ له في الله أقدسَ توْبةِ!
وعلَّمتِهِ إنْ هزَّ للفنِّ رُوحَهُ ... تُكبِّر للإلهام أطهرُ كعبةِ
ونشَّأتِهِ في الدَّمع حتى أذابهُ ... أناشيدَ أحزانٍ وبؤسٍ وحسرة
أنا الساخرُ الجبارُ لا الدَّهرُ هزَّني ... ولا النكبات السود هيَّجن عزلتي
أمُرُّ بأرْزاءِ الزَّمانِ كأنني ... خُطا العاصف العربيد في ظل زهرة
وأبِصرُ حشدَ الناسِ أسرابَ هاجسٍ ... من الإثْمِ زَحَّافٍ بأرْجَس مُهْجةِ
وأَسمعُ لا من زيْفِهم وبيانِهِم ... ترانيمَ عزَّافِ بأمنع قِمَّةِ. . .
فما لي على كَفَّيكِ طرَّحتُ أدْمُعي ... وسُخْري من الدُّنيا وعزِّي وكِبْرَتي؟
ومَيَّلْتُ أنَّى سرْتِ في التُّرْبِ خاشعاً ... وطهَّرْتُ من أنوارِكِ البيضِ سجْدتي؟
وضيَّعتُ أيامي - وما ضِعنا - إنما ... ذهْبن قرابِينَ الهُدى لحبيبتَي!
فيا زَهرتي ما لي أُناديك فانياً ... فتصرُخُ أَصْداءُ النداءِ بخيْبتي
ويرتدُّ لي شجوِي كما ردَّتِ البلِى ... بقيَّاتِ آهاتِ الثَّكالَى لميِّتِ!(321/45)
(القاهرة)
محمود حسن إسماعيل(321/46)
الأمواج والشاطئ
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
سألَ الشاطئ يوماً بَحْرَهُ: ... أيها البحر أجبْني كم حَوَيْتا!
ودَّ لو يكشف عنهُ سِرَّهُ ... بيدَ أن البحرَ قد حاول صَمْتا
قالت الأمواجُ للشاطئ ماذا تبتغي ... من سؤالكْ؟
قال: إني أبتغي ما غاب عني ... من مَدَارِكْ
فانثنتْ عنهُ بجَزْرٍ ساخرهْ
ثم عادت باندفاعٍ نحوهُ ... في اصطخابٍ مثل رَعْدِ
عالياتٍ، هابطاتٍ ترتمي ... فوق صخرٍ منه صَلْدِ
وعلى الشاطئ جاء ثائرَهْ
قال: إني رابضٌ منذ وُجِدْتُ ... وَوُجِدْتِ
جاهلاً سِرَّكِ، إني لستُ أدري ... ما احتوَيْتِ!!
فانثنتْ عنهُ بجَزْرٍ ساخرهْ
ثم عادت ثانياً وهي تقول: ... أنتَ سِريِّ أنتَ سِريِّ
سوف يحويكَ ضميري!! ... لا تَسلني. أنت سرِّي
ولأسراريَ إني مُضْمِرِهْ. . .
واستمرَّ البحرُ يمتدُّ امتدادا ... وكذاك الموجُ يشتدُّ اشتدادا
ثم ردَّ الأُفْقُ عيني حاسِرَهْ
حسن كامل الصيرفي(321/47)
الطائر والشمس
للأستاذ خليل شيبوب
عندي أحاديث هوى جَّمة ... تجري كما يجري بها الخاطر
سطَّرها حبيَ في مهجتي ... ثم رواها جفنيَ الماطر
لكنما أغربها قصة ... مأثورة شاهدها حاضر
عن طائر هام بشمس الضحى ... وأين من شمس الضحى طائر
فرخ ضعيف ريشه، قابع ... في وكره، مرتجف حائر
يدرج منه بعض شيء إلى ... حيث شعاع باسم باهر
يصيب دفئاً عنده كلما ... فاض عليه نوره الغامر
يجر ذيلاً، فهو طوراً به ... طول، وطوراً ذيله قاصر
ما شك فيه أن ما يغتلي ... به حشاه والدم الفاتر
صنعة هذا النور في أصله ... وأنه من فوقه صادر
وإذ رأى وجه السماء انجلى ... له هناك الحَدَثُ الكابر
أَتْون نار جاش من صدره ... دَفْقُ ضياءِ خاطفٌ حاسر
قطب من الجمر ولكنما ... عليه قام الفلك الدائر
وجه يفيض النور منه كما ... يفيض نبع الروضة الفائر
لكن هذا النور روحٌ ولا ... جسمَ، ولكن لهبٌ ثائر
في الشرق مرجان فإمَّا ارتقت ... في الأوج مار الذهب المائر
والورد مفروش متى غرَّبت ... والأرجوان البهج الفاخر
هذى هي الشمس التي نورها ... بحر حياة ما له سابر
الكائنات الغرُّ من حولها ... أبدعها ناظمُها الناثر
فاتنة الدنيا ولكنها ... ليس إليها مسلك ظاهر
ترعرع الطائر لكنه ... من كل ما يؤنسه نافر
يسير في الروض وعيناه في ... السماء والعمر به سائر
واشتدَّ حتى طار مستشرفاً ... ما حولَهُ فهو له حَاصِرُ(321/48)
إذا اعتلى جوّا فسرعان ما ... يحطه إعياؤه القاهر
وهو لجوج النفس في صدره ... منها جوى ملتهب ناشر
يذهبُ فيها يومَهُ هائماً ... وقلبُه تحت الدجى ساهر
مرتقب في الدوح أن ينقضي ... الليل ويأتي السحَر الباكر
حتى يراها وجهها مشرق ... كما يطل الملك الظافر
ومرت الأيام لا تأتلي ... والحب نبت مخصب كاثر
فاستشعر اليأس أَلا إنه ... مستضعف ليس له ناصر
لا الروض يسليه ولا حوله ... من الطيور الصادح الصافر
ولا نجوم الليل إما رنت ... ولا النسيم الخافق العاطر
ما الروض والطير وما زهرة ... بها تحلَّى الغصُن الزاهر
سوى مثيرات الجوى فالمنى ... هناك نور فاتن سافر
ذاك حياة النفس معبودها ... وحبها الأول والآخر
جاء إلى الجدول يوماً لكي ... يطفئ ظمئاً وقْدُه ساعر
إذا به في الماء يجلي له ... وجه نقي وادع طاهر
الشمس جاءته بلا موعد ... زائرة يا حبذا الزائر
فاختلط المفتون في عقله ... كأنما طالعه ساجر
وكاد أن يخذله قلبه ... وطاش مما أبصر الناظر
حتى إذا ثاب إلى رشده ... والحسن ناه والهوى آمر
خالسها القبلة في نغبة ... أسكره معسولها القاطر
لكنها غابت سريعاً وقد ... قام سحاب دونها ساتر
تحجّبت عنه ولمَّا قضى ... ما يننويه قلبه الشاكر
كأنها غضبى زوت وجهها ... عنه فأودى جدُّه العاثر
هل قّصر العاشق في عشقه ... فكل تقصير له عاذر
إن كان ضعفاً فله راحم ... أو كان ذنباً فله غافر
وحينما طاح به بؤسه ... والجسم منهوك القوى خائر(321/49)
خفَّ إلى الدوح وفي صدره ... طعنة يأس جرحها غائر
خاب فلم يصبر وحكم الهوى ... ألا يعيش الخائب الصابر
ومات في الدوح فأكفانه ... أغصانها والورق الناضر
يا زينة الدنيا ويا فتنة ال ... عمر ويا من حبها جائر
إليك مني صورةً في الهوى ... صوَّرها عاشقك الشاعر
حسب المنى دمعة حزن على ... صب شهيد ما له ذاكر
فأنت تلك الشمس معبودة ... حباً وقلبي ذلك الطائر
(الإسكندرية)
خليل شيبوب(321/50)
رسالة الفن
دراسات في الفن
الزعامة فن
على ذكرى الزعيم سعد
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ما دام الفن هو التعبير عن الإحساس، وما دامت الزعامة هي التعبير عن إحساس الجمهور، فالزعامة إذن فن، بل إنها فن عريض.
فكيف كانت الزعامة تعبيراً عن إحساس الجمهور؟
إذا نظرنا إلى المجتمعات البدائية رأينا هذه المجتمعات تحس الخوف من الطبيعة؛ فهي تستعد للحرب في كل لحظة، وهي إما أن تعد لهذه الحرب سلاحاً، وإما أن تعتمد فيها على القوة البدنية وحدها. ولكنها على أي حال من الحالين تأخذ أهبتها المادية لتقاوم بها أحداث الحياة. فإذا نظرنا إلى الزعماء في هذه البيئات رأيناهم أشد الناس تعبيراً عن هذا الإحساس المركب الذي يبدأ بالخوف وينتهي بيقظة القوة البدنية. فهم أشد الذين في هذه المجتمعات حذراً على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم، وهم أشدهم انتباهاً للخطر إذا ادلهم، وهم أشدهم مقاومة لهذا الخطر، وهم أشدهم قدرة على قهره، وهم إلى هذا أشد الذين في هذه المجتمعات استكمالاً لمميزاتها الملحوظة فيها حتى لا يكون الزعيم منهم عرضة لهجوم عاص من شعبه قادر على وخزه في إحدى نواحيه الضعيفة فيه بينما يكره الواحد من جمهوره أن تكون ضعيفة فيه. فإذا كان من مميزات جمهور أحدهم السرعة في الجري إلى جانب ما يهتم به الجمهور من تنمية القوة البدنية وجب على الزعيم أن يكون سريع الجري إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية، وإذا كان من مميزات جمهور أحدهم الخفة في تسلق الأشجار، وجب على الزعيم أن يكون خفيفاً في تسلق الأشجار إلى جانب الذي امتاز به على الجمهور من قوته البدنية. وهكذا.
فإذا تركنا البيئات البدائية رأينا نظرتنا هذه تصدق في كل الحالات: في البيئات الزراعية، وفي البيئات الصناعية، وفي البيئات الاجتماعية المختلفة، وبقدر ما تتسع هذه البيئات(321/51)
وتضيق تتسع الزعامة فيها وتضيق. فهناك زعامة للجنس البشري كله هي زعامة الأنبياء والرسل الذين فاضوا بالهدى على الخلق جميعاً، وهؤلاء زعامتهم تخلد بعد ذهابهم عن هذه الحياة الدنيا، وفي هذا تعويض للحصر الذي تلقاه زعامتهم في حياتهم. وهناك زعامة لجنس من الأجناس البشرية كزعامة موسى الذي يريد هتلر أن يرد عليها اليوم بزعامته الآرية. وقد تدوم هذه الزعامة بدوام الجنس إذا ظل الجنس متشبثاً بأنانية الطفولة وغرورها. وهناك زعامة لجماعة من جنس بشري يسكنون أرضاً ما، وهي الزعامة الوطنية كزعامة سعد زغلول، وهي تدوم ما دامت دواعيها وما ذكرها الذاكرون بعد زوال هذه الدواعي، وكثيراً ما تزول هذه الدواعي، لأن مشكلات الوطن كثيرة التقلب
ونحن إذا حسبنا عدد المرات التي استدعت فيها طبيعة التطور والارتقاء الروحيين وجود رسالات إنسانية عامة وجدناه أقل من عدد المرات التي استدعت فيها هذه الطبيعة وجود رسالات خاصة بحيث نستطيع أن نتصور التطور والارتقاء جاريين في موجات صغيرة، وهذه تجري في موجات كبيرة. وكأن الموجات الصغيرة هي موجات التطور، وكأن الموجات الكبيرة هي موجات الارتقاء. . .
وهذا شيء لا يستغرب؛ فنحن إذا تسللنا إلى نهاية التخصيص في البيئات الاجتماعية الإنسانية حتى نذهب إلى مجتمعات الصبيان في الحواري والفصول، وإلى مجتمعات الشبان في النوادي والحقول، وإلى مجتمعات النساء في الشوارع والبيوت، وإلى مجتمعات الرجال في الأكواخ وفي القصور، وجدنا لكل جماعة من هذه الجماعات زعيماً، فإذا أحصينا عدد هؤلاء الزعماء استطعنا أن نؤلف منهم في كل وطن ألف برلمان تؤيد الزعيم
وعلى هذا كانت أغلى الزعامات هي أندرها، ولا بد أن تكون اشدها تطابقاً على نظم الطبيعة، لأن نظم الطبيعة هي العامة وهي الثابتة، ومراعاة تطورها وارتقائها يجب أن تلحظ في هذا التطابق. وهذه الزعامة لم تتحقق على أشمل الوجوه إلا في حالة واحدة هي زعامة النبي الرسول محمد (ص)
وإذا استسغنا بعد هذا القول بأن الزعامة فن تخلقه الطبيعة في نفس الزعيم كما تخلق(321/52)
الألحان والأنغام في نفس الموسيقي، وكما تخلق المعاني والأخيلة في نفس الشاعر، فإننا لن نستبعد أن تكون قد تعرضت للصناعة مثلما تعرض لها غيرها من الفنون. وقد تجمل الصناعة الزعيم إذا كان رائدها التحسين والتجديد. وقد تتلف الصناعة الزعامة إذا حادت بها عن اتجاهها الطبيعي إلى اتجاه آخر كالرغبة في الجاه، أو الرغبة في المنفعة، وهذا هو ما يحدث للفنون جميعاً من موسيقى وشعر وتمثيل ورقص وتصوير وغير ذلك
ولما كان أغلب المجتمعات البشرية اليوم قد تعلم القراءة والكتابة، ولما كان من المحتم أن يكون الزعيم في كل مجتمع من هذه المجتمعات قارئاً كاتباً، فإن الزعماء في هذه الأيام يقرءون ويكتبون: الزعماء السياسيون، والزعماء الفنانون - أي الذين يمارسون الفنون الجميلة - والزعماء الماديون، والزعماء جميعاً. وهم يقرءون فيما يقرءون تواريخ الزعماء السابقين، وبهذه القراءة يستطيع الزعيم الضعيف في ناحية من النواحي أن يقويها، أو أن يغطيها أو أن يدعيها. . . وما دام باب الادعاء قد فتح مع غيره من أبواب التصنع، فقد أصبح من الميسور في هذه الأيام أن يدعي الزعامة في أي ناحية من نواحي الحياة مدع ليس بزعيم.
فكيف يستطيع الإنسان في هذا العصر إذن أن يحكم على الزعيم بأنه زعيم حقاً، أو أنه قد استطاع أن يجعل نفسه زعيماً لأنه زعيم، ولكن في نوع من أنواع التفكير، وقد كان المجتمع في حاجة إلى زعيم في الإحساس والتعبير عن هذا الإحساس، وما يصحب هذا التعبير من جهاد؟
نستطيع أن نصل إلى هذا الحكم العادل إذا نحن راجعنا إحساس المجتمع، وراجعنا ما يجب أن يكون التعبير به عن هذا الإحساس، وراجعنا إلى جانب هذا إحساس الزعيم وتعبيره عنه وطابقنا هذا على ذاك. . . فإذا انطبق وكان الزعيم بعد ذلك سائراً بشعبه إلى ما يؤمله فهو زعيم، وإلا فهو ذاك المفكر الذي ذكرناه
وهذا هو ما يسمى في الفن بالطابع. فأشد الفنانين تمكناً من الفن عند جمهور من الجماهير هو أشد الفنانين تمكناً من طابع هذا الجمهور الذي يطبعه ويميزه من غيره من الجماهير
وقد اتفقنا في أحاديث سابقة على أن الفنون تسعى بالبشرية متجمعة أو متجزئة في طريق التطور والارتقاء، والزعامة كذلك مادامت فناً، وأشرفها إذن ما كان أكثرها تقريباً(321/53)
للمستقبل من الحاضر
ومن الزعامة ما تكون لحالة طارئة، تزول بزوال هذا الحادث أو تدوم - إذا دامت - حتى يسحب ذيوله. وقد يحدث أن ينزع جمهور من الجماهير إلى أن يتناسى زعيماً من زعمائه في حياته بينما هو لم ينحرف عن جادته فيستغرب الزعيم هذا ويستغربه معه آخرون، ولا يكون لهذا من سبب إلا أن زعامة الزعيم كانت طارئة استدعاها حادث طارئ. ومثال هذى زعامة هندنبرج التي أبقاها عليه هتلر في السنوات الأخيرة من حياته بينما كان الشعب يريد أن يحل زعامة هتلر محلها لأنه رأى نفسه يحس شيئاً جديداً زيادة على النزعة الحربية التي كانت تعبر عنها زعامة هندنبرج، ولأنه رأى هتلر يعبر عن هذا الإحساس. ولم يقل أحد إن هندنبرج كان قد فقد شيئاً من مميزاته الشخصية إلى آخر يوم من أيام صحته، وإنما الذي حدث هو أن الحادث الذي تزعم له هندنبرج ألمانيا لم يصبر حتى تنتهي حياة هندنبرج ليسحب بعدها ذيوله. . . وذلك الحادث هو الحرب الماضية وآخر ذيولها الذي سحبته عن ألمانيا هو الرضى الذي خنعت به السنوات الطويلة أمام شروط الصلح وما كان فيها من روح التشفي والانتقام. وهناك زعامات ماتت في حياة أصحابها ولم تجد من يحفظها عليهم
ومن الزعامة ما يكون قريباً يلحقه جمهوره بسهولة فلا يعود يحفل به إلا كما يحفل المرء بهدف قريب وأصابه. وقد يتقي الزعيم من هؤلاء الزعماء كما يتقي الزعيم من السابقين زعماء الطوارئ شرّ هذا الركود الذي يصيب زعامته لزوال الطارئ أو لضآلة الزعامة، وهو يتقي هذا الركود باختلاق الحوادث في الحالة الأولى وبفلسفة الزعامة وتعقيدها في الحالة الثانية حتى يظن الجمهور أن وراء قبة الزعيم شيخاً فيتابعه ويظل يتابعه وهو لا يدري إلى أين يسير به زعيمه. ولعل المثل الصالح للزعيم الذي ينطبق عليه هذان الوصفان معاً هو نابليون، فقد ظل يأكل عقول الفرنسيين ويسحرهم حتى نفى ونفيت معه فرنسا من مجتمع الدول ذوات الحول والرأي النافذ، وقد يكون موسوليني من بين الزعماء الأحياء الذين يشبهون نابليون في هذا
وإذا كنا نحن اليوم وعلى البعد نستطيع بغير تحرج وبغير تهيب أن نقرر هذه الحقائق وأن نصف هؤلاء الزعماء بهذه الأوصاف فإن أحداً ممن كانوا في متناول أيديهم لم يكن(321/54)
ليجرؤ على شيء من هذا، لا خشية من هؤلاء الزعماء أنفسهم، فالأرجح أن فيهم من الحكمة ما يوسع صدورهم للنقد الحق على الأقل، بل خوفاً من جماهير هؤلاء الزعماء. فإنهم يكرهون أشد الكراهية أن ينقد زعماؤهم بالباطل أو بالحق، لأنهم في العادة يقيمون من هؤلاء الزعماء أوثاناً تمثل أعز أمانيهم في الحياة، وهم لهذا لا يحبون أن يخدش أحد زعماؤهم ما دام هذا الخدش يصيب أمانيهم العزيزة الغالية في أجسادهم. وهذا واضح اليوم في الترك الذين يتعصبون لمصطفى كمال تعصباً أعمى لا روية فيه، كما أنه واضح في شعبي هتلر وموسوليني، وكما أنه واضح في جماهير المعجبين بالفنانين المشهورين، فقد يقبل الفنان النقد يوجه إليه من ناقد صادق، بينما جمهور هذا الفنان لا يحب أن يلتفت إلى عيب فيه
هذا إذا كان الزعيم فناناً من هواة الحق ولم يكن مهرجاً. أما إذا لم يكن من أصحاب الحق فهو كأدنى فرد من أفراد الجمهور الأعمى يحب الشقشقة ويحب الطنطنة
والزعيم الفنان (يتكون) كما تقدم في أول هذا الحديث بطريقة طبيعية هي طريقة الانتخاب، ولكنه ليس انتخاب الأصوات، وإنما هو انتخاب الضمائر، بحيث لو نزع من مكانه وأحل محله غيره لظهر هذا الجديد وفيه النقص والشذوذ والتكلف
وتستطيع المجتمعات أن تساعد الطبيعة في تكوين الزعماء: كما أنها تستطيع أن تعرقل هذا التكوين؛ وهي تساعد على تكوينه بأن تتزود من الإحساس الداعي إلى التعبير عنه أو الذي تريد أن تعبر عنه، وبكثرة المحاولة في التعبير عنه، وهي تساعد على عرقلته بإهمال هذا الإحساس، وإهمال التعبير عنه
والأصل أن يحدث هذا بدافع من الطبيعة وحدها. ولكن إذا مست حاجة الشعب إلى الزعيم القائد وانتبه عقله إلى هذا، فإنه يستطيع أن ينتج زعيما باصطناع هذه الطريقة التي رسمتها الطبيعة لإنتاج الزعيم ما دام بين أفراده من يصلح بطبعه لأن يكون زعيماً. ولعل هذا الذي تحاوله مصر الآن، فلا ريب أن فيها حركة يقوم بها بعض الأفراد يريدون من رائها أن يتيقظ الجمهور المصري فيرهف حسه للحياة، فيرجح بعد ذلك أن يعبر الجمهور عن إحساسه بلسان زعيم لا نزال ننتظره منذ مات سعد زغلول
ولا ريب أن الزعيم المصري المنتظر يختلف اختلافاً كبيراً عن سعد زغلول، فقد كانت(321/55)
حال المصريين التي استدعت زعامة حالاً لا تملك إلا أن تهتف أو أن تثور متخبطة في ثورتها، ثم أن تهدأ بعد ذلك حتى تستجمع قوتها لتهتف وتثور من جديد. وقد كانت زعامة سعد تصور هذه الحال في خطبه الرنانة، وفي بياناته الطنانة، وفي نكاته اللاذعة القاسية التي كان يلقي بها تلطم ما يعترض زعامته أو ما يقاوم اتجاهها الذي تقود فيه جمهورها.
أما الزعيم المنتظر فهو الذي سيكون إحساسه أشد من إحساس المصريين بالحال الذي نحن فيه، الذي سيكون أشد المصريين تعبيراً عن هذا الإحساس، وأشدهم مقاومة لدواعي الشر فيه، وأشدهم إلهاباً لدواعي الخير فيه.
والحال الذي نحن فيه الآن يغلب عليه الجهل والجوع والضعف والحيرة، فزعيم المستقبل إذن هو الذي سينقذنا من هذا كله، والذي سيعيد إلينا مصريتنا ناصعة معتزة بكل مفاخر الفراعنة والعرب والإسلام، وهو الذي تحاول الأزمات المتعاقبة على الوطن في هذه الحقبة من الزمن أن تتمخض عنه.
وإننا نرجو الله أن توفق مصر في زعيمها الجديد كما وفقت في زعيمها الراحل. فالحق أنه لم يكن من الممكن أن يكون لمصر زعيم أفضل في صفاته الشعبية من سعد زغلول في ظروف زعامته. وقد أثمرت هذه الزعامة ثمرتها الطبيعية وهي هذه الحال التي نحن فيها الآن، والتي زاد فيها إحساسنا بالحياة، وزادت فيها قوة تعبيرنا عن هذا الإحساس، وزادت فيها محاولتنا إلى بلوغ أمانينا. . .
فمن هو الزعيم الذي سينبعث منا؟. . . لا ندري
ومتى ينبعث؟. . . لا ندري أيضاً. . . فقد يتدرج الزعيم في الظهور إذا لم تتحرج الحياة فيظهر فجأة
ومهما قيل إننا ارتقينا على يدي سعد، فإننا لا نزال على مقربة من عهده، فالزعيم الجديد ستكون فيه من سعد صفات هي ترديد ما لا يزال مضمراً في نفس الشعب المصري من الإحساس منذ أيام سعد، وهي صدى هذا الإحساس المضمر وترجمته. فلا بد أن يكون الزعيم المقبل خطيباً إذا جاء قريباً لأن الخطابة هي التي يجمع بها الزعيم أشتات الأحاديث والأماني التي يرددها الجمهور فيما بين أفراده، وإن شعبنا لما يصل من الرقي إلى حيث يمكن أن يظهر فيه زعيم صامت أو قليل الكلام(321/56)
فإذا كان هناك زعيم في الخفاء اليوم ولم يكن خطيباً لأنه أرقى من مستوى الشعب، فإنه يستطيع أن يتدرب على الخطابة فإن لها صنعة، وصنعتها تجوز على الجماهير
وعندما يهون أمر الخطابة فلا تكون من عماد الزعامة في الشعب المصري فإنه سيكون قد بلغ من الرقي مبلغاً يقف به إلى جانب الإنجليز الذين يقودهم المجربون والنافعون.
عزيز أحمد فهمي(321/57)
حول الفن المنحط
للأستاذ كامل التلمساني
قرأنا بالعدد 319 من الرسالة الغراء كلمة بعنوان (حول الفن المنحط ـ كلمة أخيرة) رداً على ما كان قد كتبه أديب فاضل عن جماعة (الفن والحرية)، وما كان من نقاشه مع الأديب أنور كامل عضو الجماعة في رده عليه من ناحية توخى فيها أنور كامل البعد عن التفاصيل الفنية وذكر الأسماء والتواريخ. أما وقد ذكر الأستاذ الفاضل في كلمته هذه اسم الأديب الشاعر أندريه بريتون وترجم كلمة قديمة له عن السيرياليزم ثم تكلم بعد ذلك معقباً بكلام من عنده؛ فلهذا فقط أجد نفسي مضطراً لتصحيح ما أورده من الأخطاء في حق هذا الكاتب وحركته. ولكيلا أتيح الفرصة للقراء الأفاضل بأن يروا صورة مشوهة ممسوخة لهذه الحركة العالمية التي تعبر عن أسمى وأنبل المشاعر الإنسانية في القرن الحاضر، والتي وصلت عن طريقها الحضارة الفنية سواء في الشعر أو التصوير الحديث إلى الدرجة العليا واضعة بذلك قاعدة المدرسة المعاصرة في الشعر الحر والتصوير المبني على الفكر الشاعري والتحليل النفساني الحديث. ولعل الزملاء من المعارضين قد يتحرون الدقة بعد ذلك في إيراد ما يريدون من مصادره الأخيرة الموثوق بها بشأن هذه الحركة التجديدية التي ما زالت تتسع وتتجدد حتى اليوم ولا يقف أمام نشاطها ركود الفكر أو خمول البحث والتنقيب.
والظاهر أن الأديب الفاضل قد اكتسب معلوماته عن السيريالزم (الفن البعيد عن الحقيقة الظاهرة) كما يتضح من كتابته عن طريق تلك الفقرات التي أتت إجمالاً في كتاب:
, & ونحن نعتقد أن مجرد قراءة فقرات كهذه كتبت منذ عدة سنوات لا تخول له الحق في التحدث بمثل ما تحدث به، وأن في هذا جناية على الفكر والكاتب الذي تحدث عنه، و (للرسالة) بما لها من تأثير وانتشار لا يقف مداه عند مصر، بل يتعداه إلى الشرق العربي أجمع! ولذا وجب أن نذكر هنا هذه (الكلمة الأخيرة) رداً على كلمته وليس لنا رجعة بعد ذلك اللهم إلا في نشرات تحليلية مفصلة أو معارض ومحاضرات عامة يتسع لها الموسم الشتوي المقبل وهو قريب
لقد تطور السيرياليزم في السنوات الخمس الأخيرة تطورات عدة بعيدة المدى في جوهرها،(321/58)
ونشر أندريه بريتون في هذه المدة عدة بيانات متتابعة عن الحركة وما تجدد فيها وما اكتسبت من آراء وفكر؛ وكان آخر هذه التطورات مقالته الرائعة في العدد الأخير من مجلته: مينوتور والتي لا بد للأستاذ من الاطلاع عليها وعلى ما سبقها من مقالات، إذ بحثت بجلاء الاتجاهات الأخيرة في التصوير السيرياليستي، كذلك ما كتبه أقطاب الحركة من النقاد والشعراء والكتاب الفرنسيين والإنجليز
والسيرياليزم ليست (حركة فرنسية محضة) كما يقول الأستاذ بل هي حركة أول مميزاتها أنها عالمية في التفكير والأداء، وليس لها من الطابع المحلي أدنى نصيب قل أو أكثر. وإنه لمن المدهش العجيب حقاً أن يسمح الأستاذ لنفسه أن يقع في مثل ما كتب من الخطأ الفاحش، وإني لأنصحه في هذا الموضع بقراءة ما كتبه الناقد الإنجليزي الكبير هربرت ريد في كتابه عن الحركة السيرياليستية وما أورده بشأن العالمية وهذه الحركة الحرة وبعدها كل البعد أن تتهم بأنها فرنسية محضة كما قال الأستاذ. بل إني أخبره أنه ليس بين قادة التصوير فرنسي واحد، فالمصور جورجيو دي كريكو إيطالي يوناني، وسلفادور دالي أسباني وكذلك بيكاسو نفسه، وبول كلي وماكس أرنست من ألمانيا، وبن روز إنجليزي، وكذلك هنري مور وأما بول دلفو فهو بلجيكي، وشجال روسي الجنسية وهكذا. . . هؤلاء يا سيدي الفاضل هم قادة الحركة. ومن السخرية أنه لا يوجد بينهم فرنسي واحد!! وليس للفن بلد يا صديقي. فلقد أخطأت عندما قلت فيما قلته: (وأظن أن الحركات الفنية لا تنتقل بمثل هذه السهولة من قطر إلى آخر. . . دعك من حديث الشخصية والإلهام. . .)
وعلى ذلك فهناك حركة مماثلة في كل من إنجلترا والمكسيك وبلجيكا والولايات المتحدة وهولاندا الخ. فهل ترى يا سيدي أنه من العيب أن تقوم بعض الصور المصرية مستندة أو متأثرة بمثل هذه المدرسة!. إننا نريد حضارة تسير مع العالم ولا نريد أن نقف حين يسير الجميع. ثم إني أنصحك أيضاً أن تقرأ في هذا الموضوع نفسه افتتاحية عدد يناير 1939 من مجلة لتعرف بنفسك في صمت أنك بعيد عن فهم هذه المدرسة
هل رأيت يا سيدي (عروسة المولد الحلاوة) ذات الأيدي الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصص أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب(321/59)
الشعبي المحلي. . . كل ذلك يا سيدي سيرياليزم
هل رأيت المتحف المصري. . . كثير من الفن الفرعوني سيرياليزم
هل رأيت المتحف القبطي. . . كثير من الفن القبطي سيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء وتمشى في الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الساعة يا صديقي
تقول يا سيدي إن هذه الحركة الفرنسية كما زعمت (باعثها الأول نظريات العالم سيجموند فرويد). هذا كلام عام فيه كثير من التهويل واستدرار التصفيق من أيدي الجمهور - إن كان الجمهور عماده الجهل - بدون حق. هذا كلام بعيد عن التحليل الدقيق، ففرويد له قيمته عندهم وعند كل العالم الحر الطلق الديمقراطي النظيف في فكره وتفكيره. وهل هي جريمة يا سيدي أن يدخل التحليل المبني على أساس نظريات فرويد في التصوير كما هو كائن في الأدب والشعر في بلدنا هذا وهو بلد حر ديمقراطي؟ وليست مصر حتى الآن قطعة من ألمانيا ولم تستعمر إيطاليا بلدنا بعد حتى تحرق مؤلفات فرويد في الميادين العامة بين صيحات الفرح والوحشية. . .! لا يا سيدي ما زالت مصر ديمقراطية وتأثرك بالفكر الفاشي والنازي بنظرتك هذه إلى فننا يجب أن تكبتها وترى لنفسك الطريق القويم. . . هل تعلم يا سيدي أن صور محمود بك سعيد كبير المصورين كلها فرويدية وأن معظم كتابات الأستاذ محمود تيمور بك وتوفيق الحكيم وغيرهما كذلك
ليس لمجرد استناد فننا إلى نظريات فرويد - لو كان في ذلك بعض الصواب عند بعضنا - ما يدعوك لدعوة مثل هذا الفن بالانحطاط بأعلى صوتك؛ أنصحك هنا يا سيدي أن تعرف قبل أن تكتب هذا علاقة هذه الصور بالعلامة سيجموند فرويد. إني أدلك على هذه العلاقة في فصل ممتع بكتاب & للنقادة أو ارجع إلى ما كتبه السيرياليست الإنجليزي في أعداد عن ذلك أخيراً
لقد ذكرت فيما نقلت من مقالك لتستشهد به كلمة (الكتابة الآلية) فهل تدري يا سيدي أن هذه الكتابة الآلية قد ولت وذهب زمانها الآن. إن الشيء الحي يتجدد دائماً من تلقاء نفسه. ولا داعي للاستشهاد اليوم يا صديقي بشيء عرفت عنه شيئاً الآن فقط بعد أن تركه أصحابه بالصورة التي عرفته عليها. هل قرأت يا سيدي الأستاذ ما هو(321/60)
السيرياليزم؟ ? واثق أنك لم تقرأه وإلا لما استشهدت بقوله الذي ذكرته اليوم وإن كان قد قاله منذ سنوات عدة والذي لم تذكر ما قدم له به وما ذكره بعد ذلك. ربما تجد إحدى الصور التي قد تسرك يا سيدي في محاضرة قالها الشاعر المصري بالفرنسية جورج حنين عضو الجماعة نشرتها له مجلة التي تصدر بالقاهرة عدد أكتوبر 1937
وأخيراً هل تعلم يا سيدي أن زعيم النقد في مصر أحمد بك راسم وهو رجل له رأيه في الفن منذ كتب للفن أن يظهر في مصر قد تكلم عن ثلاثة من أعضاء هذه الجماعة من المصورين في عدة مقالات ذكر في آخرها بالأهرام 17 سبتمبر سنة 1938 وبالبلاغ 15 أكتوبر سنة 1938 تأثير الفن الشعبي والفن الشرقي في فنون هؤلاء الفنانين وهم الأستاذان كمال وليم وفتحي البكري وكاتب هذه السطور. إن بعض الأعضاء في هذه الجماعة مثل أبو خليل لطفي وحسين يوسف أمين قد بلغوا بفنهم درجة ثقافية عالية بالفن الشعبي المحلي في فنهم خيال وفكر شخصي لا دخل للسيرياليزم فيه وإن كان به ما بالسيرياليزم من بعض الصلات والأصول خصوصاً في الصور الحفرية التي يعملها المثال أبو خليل لطفي. أما صور الأستاذ يوسف العفيفي وفؤاد كامل فهي تخرج من القلب تواً ومن أعصابهما ودمائهما تتكون خطوطهما، وفن كليهما شخصي محض ليس لغيرهما صلة مباشرة به عن قرب أو عن بعد. إني أحب أن أجيبك هنا بما أجاب به أستاذنا يوسف العفيفي أحد النقاد المعارضين لنظريته يوماً إذ قال له: (إن السيرياليزم ما هو إلا الاسم العلمي الحديث لما نسميه نحن: الخيال. حرية التعبير. حرية الأسلوب، والشرق منذ الأزل موطن كل هذا)
وليس لنا عودة بعد هذا. ولعل فيما ذكرت وأوردت في إيجاز ما يدعو قراء الرسالة الأفاضل لقراءة بعض هؤلاء الكتاب والنقاد
كامل التلمساني
عضو جماعة الفن والحرية(321/61)
رسالة العلم
الشقيقان
الإلكترون والبوزيتون أو السالب والموجب
للدكتور محمد محمود غالي
ذكرنا أن المادة مجموعة من الذرات، وأن الكهرباء مجموعة
من الذرات الكهربائية، أسماها العلماء (إلكترونات)، كتلة
الواحدة منها حوالي 20001 من كتلة أخف الذرات (ذرة
الهيدروجين)، وذكرنا أدلة حسية على وجود هذه
الإلكترونات أو الجسيمات المتناهية في الصغر. من ذلك أن
المجال المغناطيسي يجذبها كما تجذبنا الكرة الأرضية، وذكرنا
أن مسار هذه
الجسيمات يدل على أن كهربائيتها سالبة. والآن نخطو بالقارئ خطوة أخرى لنحدثه في نوعي الجسيمات الكهربائية. فكما أن العناصر المادية تبدو لنا مختلفة وفق اختلاف الذرات، كذلك الكهرباء تبدو لنا مختلفة وفق نوع الذرات الكهربائية، ففي المادة - ترى مثلا - الماء المكون الأعظم لسطح الكرة الأرضية، هذا الماء الذي يروي النبات الذي عليه نعيش، وفي المادة نرى المعادن نُكوِّن بتكييفها أعظم معالم المدنية.
وفي الكهرباء نرى نوعين مختلفين من الذرات، الذرات السالبة والذرات الموجبة، والأولى تكوِّن التيار الكهربائي وقد عرفنا أنها مكونة من جسيمات صغيرة جداً تتدفق في المادة كما يتدفق النيل في بلادنا حاملاً أمطار الحبشة سر رخائنا وأصل ثروتنا، والثانية مكونة من جسيمات صغيرة جداً تساوي كتلة الواحدة منها كتلة الأولى تقريباً وشحنتها موجبة. ولقد عكف العلماء البحث عن ماهية هذه الكهرباء الموجبة دون أن يجدوا وسيلة(321/62)
واحدة لفصل جسيماتها عن المادة التي تحملها كما حدث أن استطاع الباحثون التعرف على الجسيمات السالبة بعيداً عن المادة
حقيقة أمكن الحصول، داخل أنابيب التفريغ الكهربائي على تيارات موجبة نعني تيارات تسير من القطب الموجب إلى القطب السالب، ويصح تسميتها الأشعة الموجبة ولكن اتضح من تعيين كتلة وحدات هذه الأشعة أنها كتلة ذرات الغاز المتبقي في هذه الأنابيب، بحيث أن هذه الذرات تتكون من ذرات الغاز بذاته، ولا تمثل الذرات الكهربائية الموجبة، وهكذا اعتقد الكثير أن الكهربائية السالبة هي وحدها التي تظهر على شكل إلكترونات حرة، بيد أن الكهربائية الموجبة لا تنفصل عن المادة وتكون جزءاً منها.
وعندما أمكن لمليكان العالم الأمريكي المعروف أن يحصل في سنة 1907 على إلكترون حر واحد ويتأكد العلماء كلهم معه كما سيعرف قريباً قارئ الرسالة أن هذا الذي حصل عليه هو ألكترون حر واحد ليس باثنين أو بثلاثة - زاد تعطش العلماء إلى العثور على أثر جسيمات الكهربائية الموجبة حرة طليقة، ومرت السنون طويلة منذ حادث (مليكان) دون أن توجد مناسبة علمية واحدة استطاع الباحثون فيها أن يحصلوا على شقيق الإلكترون التائه كأنه لم يكن من أبناء هذا العالم الذي نعيش فيه
وشاءت الظروف أن يكون كشف الذرة الموجبة في المعهد ذاته الذي أحرز فيه (مليكان) نجاحه المنقطع النظير، وفي المعهد الشهير الذي يديره (مليكان) في باسادينا بكاليفورنيا كشف (أندرسون) حديثاً الذرة الكهربائية الموجبة، هذه الذرة التي أسماها العلماء في بادئ الأمر (البوزيترون) أي الذرة الموجبة والتي فضّل (بيران) شيخ علماء السوربون أن يحذف الراء من هذه التسمية ويطلق على الذرة الموجبة (بوزيتون) وذلك في كتاب (حبيبات المادة والضوء) ولقد كان هذا الكشف من ناحية أندرسون نتيجة لدراسة خاصة بالأشعة الكونية التي كتبنا عنها أربع مقالات بالرسالة وألقينا محاضرتين عنها هذا العام إحداهما في الجمعية الطبية العلمية بكلية الطب، والأخرى في جمعية
المهندسين الملكية. والظاهر أن جزءاً هاماً من هذه الأشعة الجديدة على معارفنا يتكون من الذرات الكهربائية الموجبة كما أن لهذه الأشعة قوة اختراق عجيبة بحيث تستطيع عندما تتصادم مع المادة أن تخرج منها الذرات الموجبة التي اتضح أن كتلتها تعادل كتلة(321/63)
الإلكترونات ذرات الكهربائية السالبة.
ولقد استطاع الباحثون باستعمال أشعة جما الراديومية أن يحصلوا على البوزيتون. وهكذا اتضح أن عملية إخراج الذرات الموجبة من المادة أصعب بكثير من إخراج الذرات السالبة، هذه الذرات الأخيرة تظهر في الأحوال العادية كجسيمات حرة، فهي التي تحدث كل الظواهر الكهربائية المعروفة بالظواهرالإلكترونية التي تعد من بينها الأشعة الكاثودية وتعد من بينها كل هذه الإلكترونات المهاجرة والسريعة التي تكون الأساس في فن الراديو حيث تعد هجرة الإلكترونات في الفراغ من سلك (الأمبول) حتى (الأنود) العمل الأساسي في نجاح هذا الفن
على أن معرفة هذه الحالة الذرية للكهرباء التي ابتدأت بمعرفة الإلكترون وانتهت بمعرفة شقيقه (البوزيتون) وفصلهما عن المادة وقياس كتلة كل منهما، كل هذا صحح في الأذهان الصورة الحقيقية التي عليها ظاهرة الكهرباء، وبعد أن كانت التيارات الكاثودية معتبرة عند العلماء حالة خاصة لظاهرة الكهرباء، فهم الباحثون أن الهجرة الحرة للجسيمات الكهربائية هي الحالة العامة الطبيعية، فالإلكترون مهاجر حر يسافر في كل مكان وفي أي اتجاه بسرعة كبيرة تعادل سرعة الضوء، وما المادة عندما تجري الكهرباء فيها إلا وسط مقاوم لطبيعتها الحرة، وسواء اعتبرنا (الأمبول) للفرغة مكاناً تسبح فيه الكهرباء أو اعتبرنا الأسلاك النحاسية مكاناً تروح وتغدو فيه، فالكهرباء في الحالتين ظاهرة واحدة. . . الكهرباء شخصيات مهاجرة وعوالم متنقلة، وليس ثمة فارق بين هجرتها في الأنابيب المفرغة وهجرتها في الأسلاك إلا أنها في الأخيرة تعمل لها طريقاً بين ذرات المادة المتراصة في هذا السبيل ما نسميه المقاومة الكهربائية
عندما تحادث من القاهرة صديقاً لك بالإسكندرية وتستمر المحادثة بينكما ست دقائق في المساء كما هو المعتاد، فإن كل لفظة تسمعها تُترجم في الواقع من بلايين البلايين من الشخصيات المهاجرة في السلك النحاسي الذي مدّه العمال بين العاصمتين. عندما تقول لصديقك في التلفون (كيف حالك) فقد حدث في هذه اللحظة من جراء صوتك بضع مئات الآلاف من الذبذبات التي تمثل صوتك والتي يمكن تسجيلها والتي كان لها أثر على التيار الكهربائي بينكما، وفي كل حرف نطقت به وقعت حرب عوان لا تقارن بها مواقع(321/64)
فردان والمارن، فإن ملايين الملايين من المهاجرين كانت تدفع طريقها بصعوبة وسط ملايين ملايين الذرات المادية كجيش محارب اضطر أن يجتاز صفوف العدو أو أن يخترق مدينة مزدحمة بالسكان وكان لا بد له في الحالين من مجهود مضنٍ قبل أن يكون قد اخترق كل ما أمامه
هذه العلاقة بين عدد المهاجرين وشكل الذبذبة ثابتة لدرجة أنه أمكن التوسع أخيراً في طريقة نقل المكالمات التليفونية، بحيث أنه يمكن الآن على سلك واحد أن يتكلم حوالي 350 متكلما في وقت واحد بحيث يمكن في الحال تحليل الأصوات أو بالأحرى الذبذبات عند خروجها من السلك الذي يضمها جميعاً فيسمع كل متكلم صاحبه في الوقت ذاته الذي حدثت فيه المكالمات جميعاً، وقد تمت مثل هذه الخطوط بين كثير من البلاد الكبيرة نذكر منها على سبيل المثال الخط الرئيسي بين لندرة وبرمنجهام وبين هذه ومانشستر. وقد قدر العلماء أنه في الأحوال العادية يهاجر في واحد على الألف من الثانية حوالي كانتيليون من الإلكترونات
ولقد درس العلماء ما يحدث في التوصيل الكهربائي وكشفوا ظواهر غاية في الأهمية، وعرفوا ما ينتج من ضعف المقاومة الكهربائية عند تبريد الأسلاك الموصلة تبريداً بلغ في هذه التجارب درجة الهواء السائل، وقد وجدوا أن التيار الكهربائي يستمر عند هذه الحالة عدة ساعات دون أن يُغذّي الأسلاك التي يولد التيار فيها أي منبع كهربائي، طيلة هذه المدة، وفي حلقة معدنية محاطة بهيدروجين سائل كون الباحثون بطريق التأثير تياراً كهربائياً، وذلك بتقريب مغناطيس من الحلقة؛ ومن جامعة ليد الشهيرة نقل الباحثون بالسكك الحديدية الوعاء المحتوي على الحلقة إلى جامعة أيترخت حيث اتضح بواسطة الجالفانومتر أن التيار المتكون بالتأثير لا زال موجوداً وأن الإلكترونات لا زالت تدور دورانها في الحلقة ولعل ذلك راجع إلى هدوء نسبي في التهيج الذري المستديم والواقع في الحلقة المعدنية بحيث وجدت الإلكترونات طريقاً سهلاً بين هذه الذرات التي اقتربت بهذا التبريد من السكون وعليه فثمة ثلاثة أنواع رئيسية من الجسيمات:
(أ) الجزيئات وهي المكونة للحوادث الطبيعية
(ب) والذرات وهي المكونة للتغييرات الكيميائية(321/65)
(ج) والإلكترونات ومعها البوزيتونات المكونة للظواهر الكهربائية
أما أن يكون الجزيء مركباً من ذرات فهذا لا جدال اليوم فيه إلا إذا أزلنا من العلوم علم الكيمياء. وأما أن تكون الذرة مركبة من مكونات أصغر منها أهمها الإلكترون والبوزيتون فهذا أيضاً أمر لاشك فيه وإلا جاز لنا أن نستغني عن كل معارفنا في الكهرباء
هذان الشقيقان يلعبان دوراً هامً في معارفنا، وسنحاول مع القراء أن نتعرف عليهما أكثر من ذلك.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسبخانة(321/66)
من هنا ومن هناك
لو كنت يهودياً
(ملخصة عن مقال (للمهاتما غاندي))
كل عواطفي تتجه نحو اليهود، فقد توشجت بيني وبينهم أواصر المودة أيام إقامتي بجنوب أفريقيا، وصار لي بعضهم أصدقاء مدى العمر، فأتيح لي أن أعرف كثيراً عن هذا الاضطهاد الأبدي الذي يعانيه اليهود عن طريق هؤلاء الأصدقاء.
إنهم المنبوذون في المسيحية. ولقد أرى وجه الشبه يتقارب كثيراً بين المعاملة التي يعاملهم بها المسيحيون، والمعاملة التي يعامل بها الهندوس طائفة المنبوذين. فقد كان الدين هو الذريعة التي ارتكبت باسمها تلك المعاملات الهمجية التي تعانيها الطائفتان. فإذا وضعت تلك الصداقة جانباً، ونظرت إلى الأمر من ناحيته العامة وجدت عواطفي جميعها تتجه نحو اليهود
إن المبادئ السامية تقضي بان يعامل اليهود كغيرهم من خلق الله أينما ولدوا وحيثما نشأوا فاليهود الذين يولدون في فرنسا فرنسيون ولا شك، كما أن المسيحيين الذين يولدون في فرنسا فرنسيون. فإذا اتخذ اليهود فلسطين وطناً لهم، هل معنى ذلك أنهم يستمرئون فكرة إخراجهم مقهورين من ديارهم؟ أو أنهم يريدون أن يكون لهم وطنان يعيشون فيهما كيف يشاءون؟ إن تلك الصرخة في طلب الوطن القومي تعطي الألمان حجة براقة اللون لطرد اليهود
إن اضطهاد الألمان لليهود على أي وجه نظرنا إليه، يلوح لنا أنه منقطع النظير في تاريخ العالم. إن المظالم الغابرة لم تصل في يوم من الأيام إلى ذلك الجنون الذي اندفع هتلر إليه! وإنه ليندفع إليه بعامل ديني، إذ انه يدعو إلى دين جديد من الوطنية قوامه الطرد والمحاربة. فباسم الدين تعد هذه الأعمال المنافية للإنسانية، من الأعمال الإنسانية التي يجازى مرتكبوها في الدنيا والآخرة خير الجزاء
إذا كانت في الحياة حرب عادلة تقوم باسم الإنسانية، فالحرب ضد ألمانيا واجبة لمنعها من اضطهاد عنصر بحاله من بني الإنسان. ولكنني لا اعتقد في الحرب بحال من الأحوال، إن ألمانيا تلبس الباطل ثوب الحق، والهمجية ثوب الإنسانية. فهل يحتمل اليهود هذا الاضطهاد(321/67)
الغريب؟ ألا يوجد سبيل للاحتفاظ بالكرامة والشعور بشيء غير الضعف والإهمال والخذلان؟
إنني أقر هنا بأنهم لا يعدمون هذا السبيل. إن إنساناً يعتقد في وجود الله يجب ألا يشعر بالعجز والخذلان. إن اليهود كالمسيحيين والمسلمين والهنود في اعتقادهم بوحدانية الله، إلا أنهم يشخصونه ويعتقدون أنه يتولى جميع أعمالهم فما أجدرهم بألا يشعروا بأنهم بغير نصير
لو كنت يهودياً مولوداً في ألمانيا وكنت أحصل رزقي بها، لصرخت في وجه أقوى رجالها: (إن ألمانيا وطني ولا أخرج منها ولو قطعت أوصالي، أو ألقى بي من حالق). ولرفضت أن اطرد منها أو أخضع لأي نوع من أنواع الاضطهاد بها، ولا انتظر رفقائي اليهود ليصحبوني إلى عصيان مدني، ولكني سأكون على ثقة بأنهم سيحذون حذوي في النهاية
لقد نجح الهنود في حركة العصيان المدني في جنوب أفريقيا، وكانوا يقفون ذلك الموقف الذي يقفه اليهود الآن. بل إن مركز اليهود في ألمانيا خير من مركز الهنود في جنوب أفريقيا. إنهم أكثر ذكاء وأقوى استعداداً من هنود جنوب أفريقيا، وفضلاً عن ذلك، فقد أوجدوا خلفهم سنداً من الرأي العام في أنحاء العالم
إنهم إذن جديرون أن يقفوا رجالاً ونساء ذلك الموقف الحازم معتمدين على قوة الله الذي سيعينهم ولا شك على احتمال الشدائد، وإنهم بذلك ليرفعون من شأن ألمانيا ويبرهنون على أنهم أبناؤها الجديرون بهذا الاسم، لا هؤلاء الذين يسيرون باسمها وسمعتها نحو الهاوية. . .
ولايات متحدة عالمية
(عن مقال (للمركيز أوف لوثيان))
جرب العالم في ربع القرن الأخير كل رأي في سبيل منع الحروب. ففي عام 1918 بدأت محاولات جدية لإنقاذ العالم من الأوتقراطية ونشر مبادئ السلم والحرية. ثم أعقب ذلك محاولة عصبة الأمم، ثم ميثاق كلوج فاتفاق عدم التسلح. فلما انتهت تلك الآراء بالخيبة وأخذ شبح الحرب يلوح ثانية للعالم، أقبلت بعض الأمم تفكر في حماية نفسها من الحرب،(321/68)
فعاد بعضها إلى التسلح، وتذرع بعضها بالتحالف، وآثر بعضها الوحدة ونظام الحياد الدقيق. ولكن شيئاً من ذلك لم يفلح لوقاية العالم من الحرب، وإن كانت كل أمة من هذه الأمم تعتقد تمام الاعتقاد بأن الحرب إذا اندلع لهيبها - ولا يستطيع أحد أن يقول إن هذا أمر بعيد الوقوع - فسوف لا تنتهي إلا وهي على حافة الدمار
إن فكرة السيادة الدولية هي أهم أسباب الحرب. فمن أجل السيادة يقضي على العالم الإنساني بأن يعيش تحت عوامل الفوضى وإذا كانت هناك أسباب أخر لاشك فيها لإثارة نيران الحرب كالخوف والطمع والزهد والتعصب للعنصر، إلا أن هذه الفوضى. هي التي تشعل نيران تلك الشرور، وتجعلها أمراً لا مفر منه، فلا تلبث أن تؤدي إلى الحرب عاجلاً أو آجلاً، كما هو الشأن منذ سقوط آخر نظام عالمي وهو نظام الإمبراطورية الرومانية. لذلك تقع الحرب بين الأمم ذات السيادة فحسب، أو الأمم التي تسعى وراء السيادة. والسيادة تجعل المنافسة على التسليح أمراً لا معدي عنه، وتضحي بالأخلاق في سبيل النفوذ السياسي، وتسوق الأمم القوية إلى الاستعمار والضعيفة إلى طلب الاستقلال، وتقضي على فكرة التعاون التجاري بين الدول، وتزيد في عدد العمال المتعطلين بزيادة التعريفة الجمركية وغيرها من العوائق، وتزعزع الحالة المالية والاقتصادية، وتقضي على حقوق الفرد، وتحيل الأمم وهي في طريقها الذي لا آخر له في طلب الأمن بالقوى الحربية - إلى مجرد ولايات للرق والاستعباد
إن العلاج الوحيد للحرب هو الاتحاد الذي ينطوي على القضاء التام على فكرة السيادة الدولية، سواء اتخذت مظهر القوة كما يرى الاشتراكيون والفاشست، أو اتخذت صفة التحالف الديمقراطي. فكل اتفاق يؤول في النهاية إلى السيادة سيكون نصيبه أن يفشل تماماً كما فشل في الولايات المتحدة ما بين سنة (1881 - 1889) إذ أن الداء الكمين الذي يسبب الحرب لم تستأصل جذوره
يجب أن نختار بين الحرب، والسعي المتواصل وراء السيادة الدولية، مع ما في ذلك من القضاء على السلم وحرية الفرد، وبين الرجوع إلى فكرة حقوق الإنسان القائمة على اتحاد الشعوب تحت نظام إقطاعي كالذي تسير عليه أمريكا الآن إذا كان للحرية أن تعيش، وللسلم أن يقوم على دعائم ثابتة.(321/69)
الله وشفاء الإنسان
(عن مجلة (ساينس أوف ثوت))
قد يتساءل الإنسان وهو يعرض لفكرة الحرب، ويفكر في الشقاء والبلايا التي تعترض الإنسانية في هذه الحياة: (كيف يرضى الله لعبيده هذه الحال؟) هذا السؤال وأمثاله يخطر ببال كثير من الناس. وهم إذ يفكرون هذا التفكير لا يريدون أن ينظروا إلى الحياة على وجوهها المختلفة المتعددة الجوانب، مسوقين إلى آراء واهية الأساس لا تنتج عادة غير الزيف. فنحن نظن أن عقيدتنا في الله والمسيح كافية لإصلاح كل شأن وقضاء كل مأرب مع ما نراه من البؤس الذي يعانيه كثير من المؤمنين المخلصين في إيمانهم، لا فرق بينهم وبين غيرهم ممن لا يؤمنون بشيء. ومثل بسيط كاف لحل هذا اللغز، وإفهامنا الحقيقة التي توجب ذلك
إن مجرد الإيمان بالفن لا يجعلنا من رجال الفن. فمن الواجب إذن إن نصبح فنانين. وعند ذلك يخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يخالط حياتنا ويجعلنا نعيش للتعبير عن الفن
وكذلك نستطيع إن نقول إن مجرد الاعتقاد في الله والمسيح لا يؤدي إلى ما تنشده نفوسنا، ما لم نكن مسيحيين كالمسيح، فيخلق في نفوسنا ذلك الشعور الداخلي الذي يمازجها ويجعلنا نحيا للتعبير عن قدسية هذا الشعور
فكما يعبر الموسيقي عن الأعمال الخالدة التي يضعها كبار الموسيقيين، نعبر عن الله العظيم ونترجم عن روحه
لقد وهبنا الله الحرية. وإن شقاء الحياة لمن الدلائل القائمة على ذلك. والحياة تسيرها حركة باطنة، وكل منا يملك في نفسه تلك القوة الخالقة التي تسير الحياة. فهذه القوة وذلك النشاط هما المادة التي تخلق فينا أسمى مظاهر الحياة
إن كل ما يحرزه الإنسان من التقدم في الحياة، يرجع الفضل فيه إلى القوة الباطنة: فهي التي تسمو بطبيعته وتهبها العمق والاتساع.
والفرق بين الناس يرجع إلى الباطن دائماً، فقد كان السيد المسيح لحماً ودماً في ظاهره،(321/70)
ولكنه في الباطن كان متصلاً بالسموات والأرض. لقد خلقنا الله لنعيش كما يعيش الفنان المعبر عن الفن، وأمدنا بالروح والقوة والنشاط والحركة، ووهبنا القدرة على الاختيار، والحرية، وخلق فينا حياتنا الباطنة، فلسنا إذن آلات متحركة. إلا أن الحرية لا تسير بغير نظام. وإطاعة هذا النظام لا تفقدنا الحرية. فالحركة والنشاط والمادة والعمل والنجاح يجب أن تسير جميعها على نظام خاص.
والفرق بين الخضوع لقانون الفنان المعبر، والخضوع لقانون الإله، هو حرية الاختيار في الحالة الأولى - بمعنى وعي حقائق الأمور - والإجبار الذي لا اختيار فيه في الحالة الثانية. وما دام الله قد خلقنا لنكون الفنانين المعبرين عن جلاله، وجعلنا أحراراً في الحياة، فالحرية إذن سنة الله، وهو بقدرته يحمي هذه الحرية. فإذا خضعنا للقانون حمى نفوسنا وحفظ حريتنا. وإذا عارضنا ذلك القانون، عارضنا حريتنا، وخضعنا لقانون الآلة الصماء
فعدم تنفيذ إرادة الخالق يقضي على حريتنا، إذ يساء استعمال الحركة والنشاط والمادة والتقدم، وينحدر العالم إلى مهاوي الشقاء. . .(321/71)
البريد الأدبي
تاريخ الأمم والبلدان الإسلامية
هذا عنوان الكتاب الضخم الذي أخرجه من أسابيع المستشرق العلامة الأستاذ كارل بروكلمن، وقد نشره في مدينة مونيخ من مدن ألمانية. وعنوان الكتاب في اللغة الألمانية:
والحق أني لم أقرأ الكتاب بعد، وذلك لأني على سفر ولأني أستريح ههنا من عناء المطالعة العلمية. غير أني رأيت ألاّ أهمل إخبار قراء (البريد الأدبي) بخروج ذلك الكتاب المفيد وحسبي اليوم أن أجمل لهم مشتمله على أن أعود إلى النظر فيه بعد زمن
1 - العرب والدولة العربية: الجزيرة قبل الإسلام. النبي محمد. الخلفاء الراشدون. الأمويون
2 - الدولة الإسلامية: العباسيون سقوط الخلافة وقيام الدول الصغيرة. الفرس والترك. الإسلام في الأندلس وشمال أفريقية. الشرق الأدنى أيام الحروب الصليبية. المماليك في مصر. الترك والمغول
3 - العثمانيون والإسلام: قيام الدولة العثمانية واتساعها في عهد سليمان. حضارة العثمانيين في أوج ملكهم. قيام الدولة الفارسية الثانية ومنافستها للدولة العثمانية. انحلال الدولة العثمانية حتى نهاية المائة الثامنة عشرة
4 - الإسلام في القرن التاسع عشر: الدولة العثمانية ومصر. الحياة العقلية في تركية ومصر. شمال أفريقية والسودان وإيران والأفغان
5 - حال الدول الإسلامية بعد الحرب الكبرى: تركية. مصر. الجزيرة. الشام. فلسطين. شرقي الأردن. العراق. إيران. الأفغان
(تلال الفوج. فرنسة)
بشر فارس
أهداف الفتوة العراقية
كان يجب أن يكون مفهوماً أن في مصر رجالاً أكرمهم العراق من أمثال الزيات(321/72)
والسنهوري وعزام، وهؤلاء تُقبَل شهاداتهم الكريمة في العراق بتحفظ واحتراس، لأنهم ينظرون إلى العراق نظر المحب إلى الحبيب
وأنا عشت في العراق ونعمت بكرم أهل العراق، ومن السهل أن يقال إني أنظر إلى العراق نظر المحب إلى الحبيب
ولكنني أبعدت عن نفسي شبهة التلطف فلم أقل في أهل العراق غير كلمات سجلت فيها ما يملكون من محاسن وعيوب
واليوم أراني مقهوراً على إعلان ما أُضمر لإخواني في العراق من الحب والإعجاب بعد ظهور المجموعة النفيسة التي أصدرتها مجلة العلم الجديد بوزارة المعارف العراقية، وهي مجموعة مقالات وأحاديث نشرها سعادة الدكتور سامي شوكة في مناسبات مختلفات، وهي تدور حول محور واحد هو تقوية الفتوة في النفس العربية
ولا يمكن أن يتصور قيمة تلك المجموعة إلا أحد رجلين: رجل قرأها وعرف ما فيها من معانٍ سامية، أو رجل عرف الدكتور سامي شوكة وطالع ما في روحه الوثاب من قوة وحماسة
والدكتور سامي شوكة معروف لأهل مصر، فقد زارها منذ أشهر أيام المؤتمر الطبي العربي وشاء له كرمه أن يودعها بهذه الكلمات الحِرار:
(أودّع مصر القاعدة الحربية لجيوش أمتي العربية التي استندت إليها في فتح أفريقية وأوربا الغربية يوم كانت تقود العالم نحو الحق والفضيلة والعدل. أودع مصر أكبر كوكب في سماء بلادي العربية، مصر التي تضيء لنا بعلومها وثقافتها سبيل الرقي والتقدم. أودع مصر عاصمة القرآن في القرن العشرين)
ومما يجب النص عليه أن الدكتور سامي شوكة وهو مدير المعارف العام بالعراق يحتم على جميع التلاميذ والمدرسين أن يلبسوا ملابس الفتوة لترتفع بينهم فوارق الترف في الملابس وليشعروا بأنهم جنود مستعدون لتلبية نداء الوطن حين يفزع إلى أبنائه الأبطال
فيا صديقي الذي لم أشهد فيه غير الشهامة والصدق، أعزك الله ونصرك، وجعلك قدوة لمن يخدمون المعارف بسائر الأقطار العربية
زكي مبارك(321/73)
مداعبات النشار
سيدي محرر (الرسالة)
وجه نظري أحدُ الأصدقاء إلى المداعبات التي ينشرها حضرة الشاعر الفاضل عبد اللطيف النشار، وقد أبى لطفه إلا أن تشملني. وهو حر في ذلك لولا أن بعض ما يكتبه أتاح فرصة لسوء التفاهم مع بعض الأدباء. وحسبي أن أقول إن آرائي من أدبية واجتماعية وغيرها صريحة معروفة، ولم أحتج مرة لستر أبى الفرج ولا غيره في التعبير الملفوف عنها. وعلى هذا فلست مسؤولاً عما يقوله زيد أو عبيد من معارفي أو أصدقائي ولا أشاطر أحداً منهم خفيةً، كما أن أحداً منهم لا يتحمل مسؤولية كتابتي. وأما عن خلطه الآخر وذكره رجلاً من أعلام النحالة المشهورين وهو المستر (ليونارد هاركر) فمغفور أيضاً لمثل حضرته ما دام ذلك من مظاهر لطفه. وقد ينتفع حضرته لهذه المناسبة بالإطلاع على مجلة وإن لم يرضه أن يجد أبناء العالم الجديد يفهمون العلم والأدب والتأريخ لهما على غير ما يفهم
وبعد. فلما كنت قد نفضت يدي من الأدب العربي منذ زمن فإني أعدّ نسياني تفضلاً كريماً من آبي الفرج الأسكندراني وأدعو له بالهناءة والتوفيق.
أحمد زكي أبو شادي
في الفصول والغايات
قال أبو العلاء المعري في كتابه العبقري (الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ):
(الجسد بعد فراق الروح كما قُص من يدك، وقُصِّر من فودك: إذا ألقى فسيط في النار لم تباله، وإذ غرق فليل في اللُّج فكذاك؛ هكذا يقول المعقول، ولله نظر في العالم دقيق. لا يمتنع أن يكون جسد الصالح إذا قبر في النعيم، وجسد الكافر في عذاب اليم، لا يعلم به الزائرون، وعابد الله ليس بغبين. ليت أنفاسي أُعطين تمثلاً، فتمثل كل نفس رجلاً قائماً يدعو الله تبتلاً يمنع جفنه لذيذ الإغفاء)
رويت الفصل كله ليُعلم أن الشيخ قد فن في الكتاب فنيناً، ونوّع فصوله تنويعاً، فلم يقتصر على أشياء ما تعداها. وما أقصد بما أملئ أن أبحث بحثاً فلسفياً ولا (دينياً). الخطب ضئيل:(321/74)
في الفصل: (فليل) وقد قال محقق الكتاب في التفسير: (الفليل: ناب البعير المنكسر، أو ما ندر عن الشيء كسحالة الذهب وبرادة الحديد وشرارة النار) وعندي أن الفليل هنا هو الشعر، (ما قص من يدك) تشرح (الفسيط) و (ما قصر من فودك) توضح (الفليل). وفي اللسان: (الفليلة والفليل الشعر المجتمع) وفي فقه اللغة: (سبيخة من قطن، عميتة من صوف، فليلة من شعر، سليلة من غزل)
وإن استقل أديب نقد لفظة واحدة في هذا الكتاب فلا يلمني، وليلم إمعان العلامة محققه في التدقيق ومبالغته في الضبط فهو الذي حرمه نقداً كثيراً يشتهيه. . .
إن (الفصول والغايات) كتاب عجيب ما اخرج عالم في هذا الوقت من معادن الأدب القديم عديله، ولم يحقق مصنف تحقيقه. ولن يشينه أبداً إن الطبعة الأولى لم تنفذ حتى اليوم، وإنما يعرُّ ذلك القاهرة ومصر وبلاد العرب، ويخبر أن القوم (إلا أقلهم) لم يبرحوا في الشط.
* * *
مصارحة وتصحيح
لا ندري ما الذي يحمل الدكتور زكي مبارك على أن يحرف كلام الناس ثم يتهمهم بأنهم يحرفون كلامه! لقد أتهمنا حين أنكرنا عليه قوله: (اشغلني عنك يا رباه بما سيكون في الجنة من أطايب النعم) بأننا حذفنا قوله عقبه: (فأن بصري أضعف من أن يواجه نورك الوهاج) ليجوز لنا أن نصفه بسوء الأدب في الدعاء، وسوء الفهم للدين. والجملة التي أخذناه بها لا يمكن أن يصلحها أية جملة أو جمل يمكن أن تضاف إليها، فضلاً عن جملة يصح في نفسها أن تكون موضع مؤاخذة لأنها تثني على الله سبحانه بما لا يكاد يصلح ثناء على الشمس التي خلقها. فلو أننا ذكرناها لأخذنا كاتبها مؤاخذة أخرى، ولكننا اكتفينا بمحاسبته على أشنع غلطتيه، كما سبق أن نبهنا
والآن يأتي الدكتور في خطابه في العدد 319 من الرسالة فينسب إلى كاتب فيها أنه قال: إن من حق الدكتور أن يتكلم في الأدب لأنه دكتور فيه، وليس من حقه أن يتكلم في الدين لأنه ليس دكتوراً فيه! والذي نعرفه أن الكاتب الذي يعنيه الدكتور لم يقل هذا، وإنما قال إن(321/75)
للدكتور أن يتظرف أو يتمجن في أسلوبه حين يكتب في الأدب الذي هو دكتور فيه، وليس له أن يتظرف أو يتمجن حين يكتب في الدين أو حين يدعو الله. فهو ينكر على الدكتور لا مجرد الكتابة في الدين، ولكن إساءة الأدب في الكتابة، سواء أكان دكتوراً في الدين أم غير دكتور فيه. وأظن نعمة الإسلام التي يحمد الدكتور الله عليها من شأنها أن تجعل الدكتور يوافق الكاتب على ما قال، سواء أقر بما سماه الكاتب تمجنا في دعاء زكي مبارك الذي دعا أم لم يقر.
على أننا مع هذا نحب أن نصارح الدكتور زكي مبارك أن خيراً له وللناس أن لا يكتب في الدين، لا لأنه غير دكتور في الدين ولكن لأنه غير متمكن فيه. وفرق بين الاثنين. فلو كان متمكناً في الدين لجاز له أن يكتب فيه ولو لم يحمل فيه شهادة أو لقباً ما.
ولكنه للأسف غير متمكن، ودليل ذلك أخطاؤه الكثيرة التي وقع فيها، والأخطاء التي لا يزال يقع فيها كلما كتب في الدين أو فيما يتصل به.
والخطأ في الدين ليس كالخطأ في الأدب، كما أن الحال في الدين ليس كالحال في الأدب فوضى لا يهتدي فيها بمعيار يميز الخطأ من الصواب. فمعيار الحق والصواب في الدين موجود لا يخطئ، إلا وهو الكتاب الكريم والسنة المطهرة. ما وافقهما كان هدى وصوابا، وما خالفهما كان خطأ وضلالا. والعقل بعد أن ثبت عنده أن القران من عند الله، وأن محمداً رسول الله، ملزم - ملزم بمنطقه هو - أن يسمع ويطيع من غير تردد ولا ريبة سواء فهم الحكمة أم لم يفهم، كما يقبل النظريات الرياضية مهما بدت معقدة غريبة. إن للعقل طبعاً أن يحاول الفهم ما استطاع، بل هذا هو واجبه، لكن ليس له أن يوقف السمع والطاعة في الدين على الفهم و (المعقولية) وإلا أصبح الدين رأياً يتغير، أي أصبح غير دين
فقول الدكتور زكي مبارك إن لكل مسلم الحق في أن ينظر إلى الله وإلى الوجود كيف شاء في حدود المنطق والعقل، قول يحتاج إلى تكملة، تكملة الاهتداء بالكتاب والسنة، لأن العقل قوة لا تستطيع تفكيراً صحيحاً إلا من مقدمات صحيحة. والمقدمات الصحيحة في الدين - بعد الدخول فيه بالعقل - لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله. فإذا لم يهتد العقل بهما فقد ظل سواء السبيل
والدكتور زكي مبارك في تطبيقه ما يسميه المنطق والعقل كثيراً ما يخالف الكتاب والسنة(321/76)
كما فهمهما أولو العلم من المسلمين من لدن زمن الرسول إلى يوم الناس هذا. ومن هنا كانت أخطاء الدكتور، ومن هنا كان ما يشكو منه من سوء الظن به. فلو أنه اهتدى بالكتاب والسنة في تفكيره لقلت أخطاؤه كثيراً، ولجاءت حين تجيء من نوع لا يضره ولا يضر الناس. إذن لما قال - مثلاً - (اشغلني عنك يا رباه) بأي شيء لأي سبب؛ ولما جزم بأنه سيدخل الجنة بكتابه (التصوف الإسلامي) فضلاً عن أن يدخل معه (على حسابه) ألوفاً من الأدباء كما يقول، لأن الزيات - في زعمه - قال قولاً كهذا (والزيات رجل صادق الإيمان ورجاؤه عند الله مقبول) فإن هذا النوع من الكلام حابط باطل في الدين، فقد شهدت بالجنة من هي خير من الزيات لمن هو خير من زكي مبارك فأنكر النبي ذلك عليها وقال: من أدراك؟
ويجب أن يذكر الدكتور أن الإسلام ليس مجرد إقرار، ولكنه أيضاً عمل. والكتابة عمل، بل هي من الأديب من أهم الأعمال. فليراقب الدكتور الله في كتابته فلا يأتي فيها بما ينكره الإسلام، فإن فعل فلن يجد في المسلمين إلا من يحسن الظن به، فإن الذي حمل على سوء الظن به إنما هو ما وجد فيما كتب إلى الآن من مخالفة الكتاب والسنة حتى فيما يتعلق بالأساسي من الأمور
(بور سعيد)
محمد أحمد الغمراوي
فتوى الأزهر في أسباب الرق وأحكامه
أرسل بعض علماء جاوة إلى لجنة الفتوى بالأزهر الاستفتاء الآتي:
(رجل باع ولده الحر لمسلم أو لغيره، فهل يصح هذا البيع؟ وهل يصير هذا الولد ملكاً للمشتري؟ وإذا لم يصح البيع فما حكم عقده؟ وهل يجب استرداد الثمن؟ وما هي أسباب الرق بالضبط؟)
وقد أجابت لجنة الفتوى على هذا الاستفتاء بما يأتي:
الاسترقاق ظاهرة اجتماعية نشأت منذ ابتدأ الاجتماع الإنساني.
وترجع هذه الظاهرة إلى تغلب القوي على الضعيف وتسلطه عليه واستخدامه إياه(321/77)
وقد كان الرق شائعاً قبل الإسلام في جزيرة العرب، فكان الناس يتخطفون الغلمان والفتيات من بين أهلهم ويذهبون بهم إلى الأسواق حيث يوجد النخاسون وسماسرة الرقيق؛ وكذلك كان شائعاً قبل الإسلام في أمتي الفرس والرومان على ما كان في جزيرة العرب وأشد
وكانت معاملة الأرقاء في هذه الأمم تختلف في القسوة واللين تبعاً لاختلاف دياناتها وتقاليدها، إلا أن هذه المعاملة على العموم كانت قاسية جداً يظهر فيها سلطان القوي على الضعيف بأجلى معانيه، بل إن الديانة الهندية القديمة المؤسسة على رعاية الطبقات البشرية كانت تعتبر الأرقاء من الطبقة الدنيا التي تلزمها الخسة لذاتها، ولا يمكن أن ترقى يوماً إلى ذروة الطهارة الإنسانية
فجاء الإسلام وسوى بين الناس جميعاً وأعلن أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، ولكنه وجد نظام الاسترقاق قائماً بين الأمم ومعتبراً فيها من النظم الاجتماعية المتغلغلة في صميم الحياة إذ ذاك، فلم ير من الحكمة في التشريع أن يلغي هذا النظام إلغاء تاماً بل عمد إلى تقرير المبادئ الآتية التي تخفف من آثار الرق وتنظم العلاقة بين المالك والمملوك لا على أساس القوة والضعف كما كان في الأمم السابقة، بل على أساس المحبة والأخوة وتبادل المنافع والتعاون في شؤون الحياة. ولا نبالغ إذا قلنا إن مبادئ الإسلام التي شرعها في الاسترقاق تعتبر بمثابة إلغاء الرقيق. وإليك بعضاً من هذه البادئ
أولاً: ضيق الإسلام في أسباب الرق حتى حصرها في سبب واحد هو محاربة المشركين للإسلام وصدهم الناس عن سبيل الله، فأذن للمسلمين الذين يدافعون عن دينهم ويردون عنه عادية المشركين أن يضربوا الرق على من يقع بين أيديهم من أسرى هؤلاء المشركين المحاربين
ثانياً: لم يجعل هذا الاسترقاق ضربة لازب ولا نتيجة حتمية لمحاربة المشركين والظفر بهم، بل جعل ذلك من قبيل نظم السياسة الحربية، فخير الإمام في أن يلجأ إلى الاسترقاق إذا رآه وسيلة من وسائل الإعزاز لدين الله وكسر شوكة المعتدين، وفي أن يمن على الأسرى فيطلق سراحهم بفداء أو من غير فداء
ثالثاً: إذا رأى الإمام أن في الاسترقاق وسيلة حربية لإعزاز الدين ودفع اعتداء المعتدين فلجأ إليه فإن الإسلام لم يترك الحبل على الغارب ولا ترك الرقيق لمشيئة مالكه ورحمته(321/78)
يحمله من عناء الأعمال ما شاء كما كان في زمن الجاهلية، ولا جعل حظيرة الرق حظيرة أبدية لا يتسنى للرقيق الخروج منها بحال، بل عنى بأمر الرقيق وأوصى المسلمين به خيراً، قال تعالى: (وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس). وقال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له جارية فعلمها فأحسن تعليمها ثم تزوجها كان له أجران)
ثم رّغب في العتق ودعا إلى تحرير الرقاب، وجعل لمن أعتق رقبة ثواباً عند الله يعدل ثواب كثير من الطاعات، بل أوجب الإسلام ببعض المعاصي تحرير رقبة كمن قتل نفساً خطأ أو أفسد صيامه عامداً أو حنث في يمينه التي عقد عليها قلبه
وآيات القرآن العظيم وأقوال الرسول الكريم في الرفق بالرقيق والإحسان إليه في المعاملة كثيرة ومشهورة. من هذا يتبين أن ليس للرق في الإسلام إلا سبب واحد هو ما أسلفنا الإشارة إليه من محاربة المشركين واعتدائهم على المسلمين، وأن الاستيلاء على المشركين بأي وسيلة كانت زمن السلم، ومن غير محاربة، وخطف الأولاد من أهليهم كما كان يعمل في الماضي، كل ذلك لا يترتب عليه أن يكون المستولي عليهم أرقاء ولا يسوغ التصرف فيهم بحال
وإن بيع الرجل ولده يكون بيعاً باطلاً يجب منعه، ويجب رد الثمن للمشتري، ورد الولد إلى أبيه والله أعلم
محمد عبد اللطيف الغمام
رئيس لجنة الفتوى
سعد وسعاد ومعاوية بن أبي سفيان
ذكر صديقي الأستاذ علي الجندي أني مررت على قوله (وإلى تلك الجهة الأموي المدل بمكانه من قريش ومكانه من الخليفة مروان ابن الحكم) مراً خفيفاً. ففهمت أن مروان بدل من الخليفة مع انه ليس بدلاً منه. ولو أنصفني صديقي لذكر أني حين لم استسغ ذلك(321/79)
مررت به مراً دقيقاً، وأن هذه الدقة كانت سبباً في ظهور أمر لم يكن أحد لينتبه إليه لولا أني لم استسغ ذلك، وذلك الأمر هو أن الذي فعل ذلك مع سعد وسعاد هو ابن أم الحكم لا مروان بن الحكم، كما جاء في بعض الروايات. ولا شك أن منشأ ذلك الخلاف بين الروايتين هو اشتباه الاسمين، والمعقول في هذا أن يشتبه اسم ابن أم الحكم باسم مروان بن الحكم، لأن الثاني أشهر من الأول، فمن القريب جداً أن يكون بعض النساخ أبدله به، لأنه لم يسمع إلا باسم مروان بن الحكم
وقد ذكرت لصديقي الأستاذ الجندي أني لم أستسغ ذلك لمروان بن الحكم لأنه كان رجلاً كبيراً يطمح إلى ما يطمح إليه كبار الرجال، ولا تدنو نفسه إلى مثل تلك الصغائر، ولم يكن كما قال الأستاذ رجلاً مفتوناً مدلاً، بل كان رجلاً عاقلاً ذا دهاء وسياسة، وقد اشتغل بالسياسة العالية وهو شاب صغير في خلافة عثمان رضي الله عنه، فكان فيها مشيره ووزيره، وقارع في ذلك أمثال علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ومعاوية بن أبي سفيان، وما زال يطمح إلى أبعد الغايات ويعمل ليظفر بملك المسلمين حتى ظفر به وأسس دولة بني مروان الكبيرة فكان لها ما كان من الملك الكبير في الشام وغيره من البلاد الإسلامية، ثم بالأندلس التي نافست الدولة العباسية، فمثل هذا الرجل لا يستسيغ العقل أن يقع في تلك الصغيرة التي جاءت في تلك القصة، وإنما يستسيغ وقوع ذلك من أمثال ابن أم الحكم
وهذا إلى ما ذكرته في كلمتي الأولى هو منشأ اضطراب تلك القصة عندي، لا أنها موضوعة أو غير موضوعة كما نسب إلي الأستاذ الجندي، فإني لم أذكر ذلك أصلاً، ولا يمكن أن يقع فيه رجل يفهم شيئاً في الأدب. ولا زلت أرى أن تلك القصة موضوعة، وأنه لا فرق فيها بعد ذلك بين أن تكون واردة في كتاب تزيين الأسواق أو في غيره من الكتب التي يحتفل الأستاذ الجندي بروايتها، مع أن احتفاله بروايتها يناقض تردده في أنها موضوعة أو غير موضوعة، كما يناقض جزمه بوضع ما جاء فيها من الأشعار على لسان معاوية
وقد سكت الأستاذ الجندي عن دليلي على وضعها من هذا البيت الذي جاء فيها:
قد كنت تشبه صوفياً له كتب ... من الفرائض أو آيات قرآن(321/80)
وهو دليل على وضعها لا يمكن نقضه، ولا أدري لماذا سكت الأستاذ الجندي عنه
أما ما ذكره الأستاذ الجندي عن مروان في تلك الفتن التي فرقت كلمة المسلمين، فهو من الأمور التي أختلف العلماء قديماً فيها، ومقام مروان في تلك الفتن كمقام معاوية رضي الله عنه. على أن ذلك خروج عن موضوعنا، لأني نفيت ما ورد في تلك القصة عن مروان بن الحكم لأنه كان رجلاً كبيراً لا يقع في تلك الصغائر، لا لأنه كان رجلاً عادلاً يتنزه عن الظلم
ولا أحب بعد هذا أن أطيل النقاش في كل ما جاء في كلمة صديقي الأستاذ الجندي، لأن القصة لا تستحق طول النقاش، ولأني لا أحب أن أشغله عن المضي فيما ينشره بمجلة الرسالة الغراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد المتعال الصعيدي
العثور على أبيات من الشعر وقطعة نثرية في آثار الفيوم
أذاعت مصلحة الآثار بياناً عما قامت به بعثة جامعة ميلانو الملكية من أعمال البحث والتنقيب عن الآثار في منطقة مدينة ماضي بالفيوم. ومن أهم ما عثرت عليه عدد من المستندات معظمها أدبي، وقد عثر عليها في أحد أركان حجرة صغيرة، وقد تحولت كلها إلى قطع متناثرة من تأثير الطبيعة.
ومن الأنظمة التي تتبعها البعثة دراسة النصوص وجمع أجزاء الآثار بعضها إلى بعض. وقد أمكن معرفة ثماني فقرات من الإلياذة، وكذا أوائل سبعة عشر سطراً من الشعر لا تمت بصلة إلى هزيود ولا إلى أبو للنيوس برودس
ووجدت أيضاً أجزاء صغيرة من أناشيد، ونص قطعة نثرية يرجح أنها لخطيب أكثر من أن تكون لمؤرخ، وفيما عدا القطعة النثرية المكتوبة بحروف صغيرة فإن الباقي مكتوب بحروف جميلة كبيرة الحجم يرجع تاريخها إلى أوائل عصر المسيح أو قبل ذلك بقليل.
كتاب الجماهر
مما أتحفنا به الأديب الكبير الأستاذ النشاشبي في (نقل الأديب) العدد 318، قول عن (التاج) جاء فيه: (نقل شيخنا عن أبي الريحان في كتاب الجماهير قولهم. . .(321/81)
لأن الرطوبة فصل مقدم لذات الماء. . . الخ) (رقم 482 حاشية 1) والكتاب إنما هو (الجماهر) لا الجماهير، وأسمه الكامل (الجماهر في معرفة الجواهر) لمؤلفه أبي الريحان البيروني نشره المستشرق العلامة الدكتور سالم الكرنكوي (ف. كرنكو) وطبعته جمعية دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد سنة 1355 هـ، والعبارة المنقولة في التاج هي في ص120 من كتاب الجماهر كما يلي:
(لأن الرطوبة فضل يقوم لذات الماء. . . الخ) وهذا هو الصواب.
(دمشق)
س. أ
على منهج الأغاني
للأستاذ النشار منزلة رفيعة في نفسي ولكتابته الأخيرة عن شعرائنا قدر كبير من اهتمامي وعنايتي وإعجابي وهو صديقي وأستاذي من زمن بعيد، ولكن ذلك لا يمنعني أن أقول كلمة عن أشياء عنت لي في مقالاته
لم أجد اتفاقاً بين الأغاني ومنهجه غير وضع لفظة (الصوت) على بعض الشعر وغير (حدثنا فلان عن فلان) وقد قال الأستاذ في مقاله الأول (ولن نخترع ولن نلفق إلا أن يكون ذلك من مستلزمات الكتابة) ومع هذا فيكاد يكون 80 % من مقالاته تلفيقاً على طريقة (إن لم يكن فقد كان يجب أن يكون)
وقد كان صاحب الأغاني يذكر الصوت فيترجم لصاحبه ويذكر آراء النقاد والعلماء فيه ثم يقص شيئاً من أخباره.
والأستاذ النشار لم يفعل شيئاً من ذلك فهو يكتب شعراً لغير الشاعر ونقداً لغير الناقد ثم يقول: (إنهم لا يقولون ذلك ولكن أحسب هذا هو الذي يجب أن يقولوه) ولعله لجأ إلى هذا ليتسنّى له تصريف القول كما يريد. وكان الأجدى لو عمد إلى أبيات من شعر من يريد أن يترجم له يتميز فيها مذهبه وطريقته ثم يكتب ما قد قيل فيه من رأي ثم يعقب برأيه. وقد يذكر الأستاذ الإسكندراني ما لا داعية إليه مثل أن يقول: (حدثنا الأستاذ خيري سعيد قال: حدثنا العلامتان هيجل وشليجل قراءة عليهما. وحدثنا الناقدان هردر وفيخت ولم يقل بماذا(321/82)
حدثوه، وأغلب الظن أنهم لم يحدثوه بشيء، أو لعله آثر ألا يروي عن هؤلاء العلماء الألمان حتى يرى ماذا ستصنع ألمانيا في مشكلة دانزج)
فما نرى في مثل هذه العبارة ما يفيد الأدب أو التاريخ!
وقد ترجم أبو الفرج إلى الآن لشاعرين نراه خالف ما أتفق عليه الرأي في أحدهما، فمثلاً إذا جاء في القرن الخامس والعشرين من يريد أن يعرف زعيم المدرسة الحديثة في القرن العشرين لا يستطيع أن يعتمد على رأي الأستاذ، لأن المعروف والحق أن الذي فتح باب الحديث إنما هو (مطران) ومن خلفه (أبو شادي) أما ناجي فلم يكن له - فيما نعلم - تأثير بالغ في هذا الاتجاه. وقد يحجنا الأستاذ بأن هذا رأيه، فكان عليه - وقد خالف المشهور والمعروف - أن يعزز رأيه بالحجة والدليل
وكذلك نراه يقول عن صالح جودت (الموسيقار الكبير) وقد نفهم أنه يريد من ذلك السخرية ولكنا نرى أن في هذا مضلة لمن يأتي بعدنا
ومسألة رابعة أريد عنها جواباً. من المأخوذ بالرأي المتحدِّث أو المتحدَّث على لسانه؟ وبعبارة أوضح من نأخذ بما قال الأستاذ في امرئ القيس، الدكتور هيكل أم صاحب الأغاني؟
يقول الأستاذ على لسان هيكل: (وأني لأعجب من معلم اللغة العربية لا يقول لتلاميذه إن امرأ القيس وإن كان عبقرية فذة في فنه فإنه كان في آرائه وشعره نحو النساء كأي حمار في الطريق وإن غزله لا يختلف شيئاً عن النهيق؟) أهذا يقال؟!
والأستاذ النشار قد أجاد في ابتكار طريقة خاصة يدون بها التاريخ الأدبي لعصرنا الحاضر، فيها خفة وفيها ترويح عن نفوس القراء، ولكن ذلك قد يضطره إلى ما لا حاجة إليه كأن يقول: (واللحن لجوبلز على نغمة المترليوز)
وبعد، فرجائي إلى الأستاذ ألا يحوج الزمن إلى من يهذب (المنهج) كما أحوجه إلى من يهذب (الأغاني)
ودعوتي إلى الله أن ينسأ له في الأجل حتى يتم كتابه وحتى يتمتع قراء العربية بكتابته
علي محمد حسن
كلية اللغة العربية(321/83)
المسرح والسينما
من التاريخ
النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
كيف قامت النهضة المسرحية على يد فرقة رمسيس؟
لكي نجيب على هذا السؤال يجب أن نعود خطوة أو خطوتين إلى ما قبل بدءِ هذه النهضة، كيما نرسم تلك الفترة الغريبة التي مر بها المسرح وقتذاك لنرى في أي بيئة نشأت فرقة رمسيس، وفي أي ظروف أنشئت؟
نحن في عام 1917، والحرب الكبرى ما تزال في أيامها العصيبة، والناس هنا يسمعون بها، وتصل إليهم أخبار أهوالها ويعانون الأزمات الناشئة عنها. بيد أن أكثرهم كان بعيداًِ عن الاصطلاء بنارها، وعلى كل حال لم يكن بهم من حاجة لقليل أو كثير من المآسي يضيفونها إلى مآسي الحرب وآلامها. كان بهم حاجة في الواقع إلى ما يفرج عن نفوسهم ويخفف عن صدورهم وقر الحياة والأيام العصيبة التي تجتازها الدنيا حينذاك.
ومن ثم، فإنهم كانوا أقرب إلى تناول الأشياء المرحة منهم إلى تقبل ما يفجع أو يخلق الأحزان ويثير كوامن الذكريات الأليمة
وقامت السينما ودور اللهو بنصيبها في هذا السبيل، وقام أبناء المسرح بنصيبهم أيضاً؛ وبدأت الفرق الهزلية تنتعش وتزجى بضاعتها، فيقبل عليها الناس!
كان بربري مصر الوحيد يعمل في: (كازينو دي باري) عند مدام مارسل، بين عشرات من الفتيات الجميلات!
وكان عزيز عيد، وروز اليوسف، ونجيب الريحاني وغيرهم يعملون حيناً في (الأبيه دي روز)، وحيناً آخر في (مسرح برنتانيا القديم)، أو على غير ذلك من مسارح كانت قائمة وقتذاك
كان هؤلاء جميعاً يعملون ليضحكوا الناس وليدخلوا المسرة إلى قلوبهم والنشوة إلى نفوسهم. حتى خرج إليهم نجيب الريحاني بشخصيته الطريفة: (كشكش بك) عمدة كفر(321/85)
البلاص. فأحدث بها ثورة في دنيا الهزل! وراح يلقي بنصائحه الغالية من على منبر (الأجبسيانة): فيتحدث عن النساء اللائي سلبن لبه وشغلن باله، وجعلنه يبيع الأطيان، ويرهن الضياع ليستمتع بهن في مصر أم الدنيا! ووضع أمين صدقي رواية (حمار وحلاوة) وأخرجها نجيب الريحاني على مسرح (الأجبسيانة) فنالت نجاحاً منقطع النظير، وكانت بدء عهد جديد للمسرح الهزلي في مصر، ولأول مرة في تاريخ المسرح المصري لاقت رواية كل هذا الإقبال من الجمهور، حتى ظلت تعرض حوالي أربعة شهور!
وكانت بمثابة إعلان ضخم عن هذا النوع الاستعراضي من الروايات المرحة الصاخبة بألحانها وموسيقاها، وراح الناس يتغنون أغانيها وينشدونها في الطرقات والبيوت؛ وراح أهل المسرح ينسجون على منوالها! وبينما بربري مصر الوحيد يقول لمن حوله من الفتيات: (اللي في الدست تطلعه المغرفة)! ومصطفى أمين يطربهم بصوته البلدي الممتع. . . يجد أمين صدقي أن من الخير له أن يترك نجيب ليغترف من ذهب مدام مارسل، ويفيء في ظلالها ونجد نجيب في بديع خيري من يقوم بمهمته عنده فيحسن القيام بها
ومضى كل في سبيله. فلا تنقضي بضعة شهور حتى لا يكون في مصر غير: (كشكش بك) و (بربري مصر الوحيد)! وحتى لا يكون فيها غير شارع واحد بلغ صيته الآفاق هو شارع عماد الدين!
ويتضاءل شأن المسرح الأدبي وينزوي أبطاله حيارى لا يدرون ما يفعلون. ولقد وصل الحال بجورج أبيض بطل التراجيدي أن يستعين باسم (كشكش بك) وروايته (حمار وحلاوة) ويتخذ منهما شفيعاً لدى الجمهور ليقبلوا على شهود روايته العظيمة (أوديب الملك)، وعرضت (أوديب) إلى جانب الفصل الأول من (حمار وحلاوة) على مسرح الأجبسيانة، وسمع الناس (تجعيرة) أوديب إلى جانب صوت أبو الكشاكش المبحوح!
إلى هذا الحد من المهانة انحدر التمثيل الجدي، أو قل - في تعبير لطيف - إنه ما عاد يشغل عقول الناس بعد الذي كان من شأن المسرح الهزلي.
في هذه الظروف، وفي تلك البيئة، نبتت شخصية كانت مجهولة؛ وظلت مجهولة إلى حد ما حوالي خمسة أعوام بعد ذاك. هذه الشخصية هي التي تزعمت نهضة المسرح في فرقة ومسرح رمسيس عام 1922.(321/86)
كان يوسف وهبي بن عبد الله باشا وهبي طالباً من طراز طريف، كان أخوه محمد بك وهبي صاحب مدرسة وادي النيل الثانوية، وكان اسم يوسف وهبي الطالب الفخري مدرجاً بين أسماء الطلبة العاملين! وما كانوا يشهدونه إلا لماماً، إذ يجدونه كل بضعة أسابيع إلى جوار زميله وصديق الصبا مختار عثمان يتحدثان في غير الدرس ويصغيان لغير وحي العلم، كان كل منهما موجوداً بجسمه، غائباً بعقله في ملكوت الفن الجميل.
وفي نهاية العام شهد الطلبة زميلهم يوسف وهبي على مسرح المدرسة في مونولوج ظريف، صور فيه صاحبه جنديً جباناً يدعى (هتشكو)، يصارع الخوف فيصرعه، ويدعى الشجاعة، وهي منه براء!
وطاف يوسف بمونولوجه بعض الحفلات المدرسية وغيرها. فرأى الناس فيه شيئاً فذاً عجيباً إلى جانب (مونولوجست) ذلك الزمان من أمثال: عبد الله شداد، ومحمد عبد القدوس، وحسن فائق، وحسني رحمي، وأحمد عسكر. . . وغيرهم، كان يوسف شيئاً آخر سواهم، كان يعني أشد عناية بشخصية الجندي الجبان ويمثلها أبرع تمثيل، ويغالي فيها بعض الشيء. فيسترعي الانتباه وينال الإعجاب!
ودارت الأيام سراعاً، ووضعت الحرب أوزارها، واشتعلت نيران الثورة في مصر، وتطور فن المونولوج، وكل فن، وكل شيء في مصر. واتجه المسرح اتجاهاً وطنياً شعبياً في الحدود التي سمح له بها، وبينما يشهد الناس مصرع (العشرة الطيبة) على مسرح الكازينو دي باري لتدخله في السياسة من قريب أو بعيد، إذ بهم يشهدون مصرع (حنجل يويو) من بعدها لنفس السبب ولأسباب أخرى تتصل بالأديان!
بيد أنهم شهدوا في الرواية الأخيرة شخصية يوسف وهبي - لأول مرة - في دور (أستاذ) بجبته وقفطانه وعمامته، ورأوا فيه شيئاً جديداً يسترعى انتباههم، لكنه سرعان ما توارى فلم يسمعوا باسمه، ولم يعلموا بخبره إلا في عام 1922 حينما ظهرت الإعلانات المضيئة على باب مسرح رمسيس تعلن عن أسماء أبطال وبطلات فرقة رمسيس بطريقة مبتكرة هي إحدى تفانين يوسف وهبي بطل الإعلان في الشرق وكان الناس ينظرون ويسخرون من هذه الجماعة التي تورط نفسها في هذا العمل العظيم، وتحاول بجرأة أن تحمل أعباء النهضة المسرحية عن أكتاف من ناءوا بحملها من جبابرة المسرح، وفي وقت لم يكن(321/87)
يرجى فيه للمسرح الأدبي أي نصيب من الحظوة عند الجمهور
الإنتاج السينمائي في مصر وعلة ضعفه
الإنتاج السينمائي في مصر ما يزال ضعيفاً رغم بعض الروايات الناجحة، أو التي يصح اعتبارها ناجحة بالقياس إلى غيرها، وعلة الضعف فيما نرى هو عدم وجود الرواية السينمائية الكاملة. أما أوجه النقص الأخرى فقد أمكن تداركها، فكل الأعمال الفنية الآلية قد تهيأت لبعض الاستديوات في مصر مجلوبة من مصانعها في الخارج، وكذلك بعض الرجال الفنيين الذين تحتاجهم هذه الآلات وهذه الأعمال؛ وإذا كانت التربة المصرية قد أنبتت وأثمرت بعض المخرجين المصريين من الشباب، فإن استخدام بعض الأجانب قد عوض عن النقص الموجود. وقد أثبتت التجارب أن ممثلينا وممثلاتنا يصلحون إلى حد ما للعمل السينمائي كما أن بعض الوجوه الجديدة قد برزت في الميدان وأثبتت وجودها!
أما التأليف السينمائي فقد دلت الأيام على أنه الشيء الوحيد الذي ينقص إنتاجنا السينمائي ويشل حركته أو يؤخرها
سمعت مخرجاً يقول: إن الرواية السينمائية تعتمد في نجاحها على الإخراج، أما الموضوع فهو آخر ما يعتد به، لأن المخرج النابه يستطيع أن يأتي بالمعجزات من لا شيء. وهذا لا يعدو أن يكون كلام مخرجين يطبلون لأنفسهم ويزمرون. أما الواقع فهو أن الرواية القوية هي أول ما يعتد به في صناعة السينما وكل ما عدا ذلك إن هو إلا (رتوش) للصورة وتجميل لها. لذلك ننصح منتجينا أن يفتشوا أولاً عن (الرواية) فإذا وجدوها فإن الباقي سهل وميسور، ومهما بذلوا في سبيل الحصول على الرواية الكاملة فإن النصر الأكيد الذي يأتيهم عن طريقها سيجعلهم بعد ذلك يضاعفون البذل والعطاء شاكرين لنا هذه النصيحة التي نقدمها إليهم بلا ثمن
(فرعون الصغير)
السينما والصيف
تطور الحال، وصار للسينما في الصيف موسم يعمل له حساب بعد أن كان الأمر غير ذلك منذ سنوات قليلة، حين كانت أغلب دور السينما لا تعمل إلا شتاءً. فإذا عملت صيفاً، فإنها(321/88)
لا تلقى إلا إقبالاً قليلاً. أما اليوم وبعد أن أنشئت دور السينما الصيفية، وزاد الإقبال عليها زيادة هائلة، وأصبحت تدر ربحاً وفيراً، إلى جانب تكاليفها الزهيدة. فقد بدأت الشركات تعمل حسابها للموسم الصيفي، وتعد له العدة كالموسم الشتوي على السواء، وسيكون لهذا أثر ملحوظ في صناعة السينما، وسيكون من شأنه زيادة الإنتاج ووفرة الأرباح وشدة التنافس؛ وبالتالي ازدهار صناعة السينما وتقدم شأنها عند الأمم
بعض روايات الموسم القادم
* انتهى العمل من روايتي (العزيمة) و (حياة الظلام)
* تم إخراج (يوم سعيد) ولم يبق إلا بعض الأعمال الفنية الأخيرة
* يعمل الأستاذ جلال في إخراج (إرمانوسه) للسيدة آسيا والآسنة ماري كويني.
* يخرج إخوان لاما (قيس وليلى) على طريقتهم المعروفة.(321/89)
العدد 322 - بتاريخ: 04 - 09 - 1939(/)
مجمعنا اللغوي
ماذا يصنع. . . وماذا أثمر؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
عرفت الدكتور أحمد عيسى بك لا من طبه - لا جعلت حاجتي إليه، على حذقه وأستاذيته فيه - بل من أدبه وعلمه. وقد كانت له مشاركة في سياسة الأحزاب جنت عليه فيما أعلم ولم يستفد منها إلا العناء الباطل، وإلا الاضطهاد بعد أن دالت دولة الحزب الذي دخل فيه. وما كان له قط عمل في السياسة وإن كان قد حسب من رجالها - وحوسب على ذلك - في وقت من الأوقات. وإنما كان همه العلم والبحث في اللغة، ومازال هذا همه ووكده. وقد زارني مرة منذ بضعة شهور أيام كان الكلام يدور في تخليد ذكرى المرحوم الملك فؤاد، وقال لي: إنه يرى غير ما يرى الناس في وسيلة هذا التخليد، فإنهم يرومون إقامة تمثال هنا وهناك، ولكن الملك فؤاداً كان عالماً محباً للعلم والعلماء، فالأولى أن يخصصوا المال الذي يجمع لنشر الكنوز العربية التي لا تجد لها ناشراً كما فعلت أم المستشرق جيب الكبير. وأراني ديوان شعر عربي طبع في أوربا وعلى الصفحة الأولى منه أنه مطبوع من المال المجعول لتخليد ذكرى هذا العالم المستشرق. وهذا الاقتراح من الدكتور عيسى بك يريك نزعته
ومن أغرب ما سمعت منه في ذلك اليوم أنه رد نحو ألفي كلمة من اللغة العامية إلى أصولها العربية، ورتبها وبوبها وعرضها على مجمعنا اللغوي ليطلع عليها ويطبعها وينشرها إذا وافق. ولكن المجمع آثر أن يهمل الأمر ولم ير أن يصنع شيئاً - على عادته -
وقد عنيت بهذا الخبر لأني أنا أيضاً جمعت طائفة من الألفاظ التي يظنها الكثيرون عامية وهي صحيحة وردت في كتب اللغة وكتب الأدب. وكان الباعث لي على العناية بهذا أني أؤثر أن أستعمل اللفظ المأنوس وأستثقل الحوشي والمهجور، فغايتي شخصية وغايته علمية بحت. وأتيحت لي فرصة فأذعت حديثاً عن العامية والفصحى أشرت فيه إلى بحث الدكتور عيسى بك ورجوت أن ينفض المجمع عنه هذا الغبار الكثيف وان يولي بحث الدكتور عيسى بك شيئاً من العناية التي يستحقها، ولكني احسبني ناديت غير سميع فما عبأ(322/1)
المجمع بالرجل أو كتابه شيئاً
وقد دافعت مرات عن هذا المجمع بمقالات شتى لي في (البلاغ) وفي المجالس وفي لجان شهدت اجتماعها وسمعت فيها حملات شديدة عليه، فلست أتهم باللدد في خصومته حين أتساءل عن هذا المجمع ماذا تراه يصنع. . . إن كل ما أراه يصنعه هو إجازة صيغ لا يحتاج جوازها إلى إذن خاص منه، ووضع ألفاظ لمصطلحات العلوم والفنون سبقه الكتاب والمترجمون والمعلمون إلى خيرها ولا خير في باقيها، ونشر مجلة لا انتفاع لأحد بها، وطبع معجم الدكتور فيشر أو هو يطبعه ولا فضل للمجمع في هذا. وقد سألت مرة أحد أعضاء المجمع عن هذا المعجم هل اطلعتم عليه وراجعتموه واقتنعتم بصحته فكان الجواب السريع: (لا)
قلت ولكن المجمع ينشره فهو يعد مسئولاً عما فيه، وعسى أن يكون فيه خطأ أو اعتساف أو شطط فمن يحمل تبعة هذا غير المجمع الذي ينشره والذي يعتقد الناس - ولهم العذر - أنه أقره. فكان جواب عضو المجمع أن ترحم على الأستاذ السكندري لأنه كان هو الوحيد الذي اجترأ على الاعتراض على نشر هذا المعجم بغير مراجعة أو بحث كاف
ولست أحاول أن أغض من قدر الدكتور فيشر أو أن أنتقص من قيمة معجمه الذي يقال إنه قضى أربعين عاماً في وضعه فما اطلعت عليه - كما لم يطلع المجمع - وإنما قرأت وصفاً له في الصحف ورأيت أمثلة لما يقال إنه فيه وهي أقل وأضأل من أن تجيز لي الحكم عليه أو الذهاب فيه إلى رأي معين. وإنما ذكرت هذا الحديث على سبيل التمثيل لطريقة المجمع في العمل ومبلغ تقديره لتبعته
وقد قيل لي إن خير ما ينتظر من المجمع هو وضع معجم حديث لهذه اللغة وإن هذا عمله الأكبر؛ وقال لي غير واحد من أعضائه ومن غيرهم إنه معني بدرس اللهجات العامية في أقطار العربية مثل عنايته بوضع الألفاظ لما لا لفظ له في العربية وإن هذا وذاك بسبيل مما يجب أن يضطلع به من وضع المعجم العربي. ولكني لا أراه يضع معجماً بل أراه يطبع معجماً تاريخياً للألفاظ وضعه الدكتور فيشر المستشرق. ولا أراه يصنع شيئاً يذكر في وضع الألفاظ للجديد من المعاني والتعابير؛ ولو أراد كاتب أو مترجم أو مؤلف في علم أو فن أو أدب أن ينتظر حتى يعد له المجمع ما عسى أن يحتاج إليه لما جنى سوى طول(322/2)
الرياضة على الصبر. ولا أراه يدرس اللهجات العامية بل أراه يرفض أن ينشر بحثاُ للدكتور عيسى بك في العامية رد به آلافاً من ألفاظها إلى أصولها؛ فهل كان ينبغي أن يكون الدكتور عيسى بك مستشرقاً أولاً وعضواً في المجمع ثانياً ليجامله الأعضاء بنشر كتابه بلا بحث أو نظر أو تفليه. . .
ورحم الله الفيروزبادي وابن منظور وابن سيدة وأمثالهم، فما كان أحدهم مجمعاً طويلاً عريضاً ذا أعضاء من الغرب والشرق ومال تكفله له الدولة
وعسى أن يتوهم البعض أني أحاول أن أحمل المجمع على نشر هذا البحث للدكتور عيسى بك، ولهذا أقول إن هذا ظن لا محل له فقد نشر الدكتور كتابه وانتهى الأمر ولا حاجة به إلى معونة المجمع. وأقول أيضاً إن الدكتور الفاضل ما كان يبغي أجراً على عمله أو منفعة أخرى يصيبها من وراء ذلك وإنما رأى أن المجمع أليق جهة بنشر كتابه لأن بحثه يعد بعض عمله
سمعت مرة من رجل مسئول - أو كان من المسئولين يومئذ - وقد قال لمسئول آخر إنه يرى إنشاء مجمع أدبي لخدمة الأدب لا اللغة وحدها كما يصنع المجمع القائم، فقيل له إن التريث واجب في إنشاء هذه المجامع فقد أنشأت الدولة مجمعاً للغة العربية وكان الأمل فيه كبيراً فمضت سنوات طويلات وهو لا يصنع شيئاً يستحق الذكر أو يستحق به ما أنفق عليه من مال الدولة وهذه تجربة لا تشجع على المضي في إنشاء المجامع
فأما إنشاء مجمع حكومي للأدب فقد كنت لا أرى رأي صاحب الاقتراح فيه لأني على شعوري بحاجة الأدب إلى التشجيع وحاجة الأدباء إلى التفرغ للإنتاج أكره أن يكون للحكومة دخل في ذلك وأخشى أن يجني دخولها في هذا الأمر على الأدب. فما يرجى للأدب خير إلا في ظل الحرية، والحكومات بطبيعتها نزاعة إلى السيطرة والتحكم وتسخير الأقلام لها
كان هذا هو اعتراضي على ما اقترح من إنشاء مجمع أدبي على مثال المجمع اللغوي. أما المسئولون فكانوا ينظرون إلى الأمر من ناحية التجربة المخفقة وما تشير به من ضرورة التريث اتقاء لبعثرة المال في غير غرض صالح، ولست أروي هذا إلا ليعرف المجمع رأي الحكومة نفسها فيه لعل هذا يستحثه قليلاً إذا كان رأي غير الحكوميين من أمثالي لا(322/3)
يعنيه
إبراهيم عبد القادر المازني(322/4)
جناية أحمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 13 -
كتب إلي أحد المتخرجين في كلية الآداب يقول: (ألا ترى أن إصرارك على تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين فيه تجريح لكلية الآداب، وأنت أقسمت على الوفاء لكلية الآداب)؟
وأقول إني ما نسيت ذلك القسم العظيم، وسأظل طول دهري وفياً لكلية الآداب
ولكن كيف يصح القول بأن تفنيد آراء الأستاذ أحمد أمين ينافي الوفاء لكلية الآداب؟
إن كلية الآداب لها رسالة أدبية وفلسفية، وهي تروض أبناءها على الفناء في الحق، وتنكر عليهم أن يكونوا أبواقاً تذيع أهواء الجاهلين، فمن الوفاء لتلك الكلية أن نراقب ما ينشر باسمها من المباحث والآراء، وأن نتعقب أساتذتها بالنقد حين يقضي الواجب بلا ظلم ولا إسراف
وقد استبحت قبل اليوم نقد آراء الدكتور طه حسين وكان عميداً لكلية الآداب، فلم يقل أحد إن ذلك النقد كان تجريحاً لتلك الكلية وخروجاً على يمين الوفاء
وهل خرج الدكتور عبد الوهاب عزام على كلية الآداب. حين أنكر آراء الأستاذ أحمد أمين؟
وماذا تريد منا كلية الآداب؟
أتريد أن نطوف بأحجارها طواف الخشوع فنرى كل صدىً يرن في حجراتها وغرفاتها وحياً نزل من السماء؟
إن تقاليد تلك الكلية قامت على أساس الفتوة، وقد شرعت النضال والعراك حول المذاهب والآراء، فليعرف بعض الأساتذة هناك أن الوشائج الصحيحة بيننا بينهم ترجع إلى أصل أصيل من تقاليد تلك الكلية، هو الثورة على الأخطاء والأغلاط والجهالات
ونحن ماضون في سبيل النقد الأدبي بجرأة وصراحة رعاية للحق، ورعاية لتقاليد تلك الكلية الغالية، جعلها الله إلى الأبد مثابة لحرية الرأي والعقل، ونجاها من عادية الأهواء!
وارجع إلى الموضوع فأقول:
رأى القارئ كيف أخطأ أحمد أمين حين وازن بين الوثنية العربية والوثنية اليونانية، لأن(322/5)
الموازنة لا تصح إلا بين أثرين، وقد وئدت الوثنية العربية وعاشت الوثنية اليونانية، فالموازنة بينهما لا تجوز إلا في ذهن من يستجيز الحكم على المجهول
وأنا مع ذلك أعترف بأن الوثنية العربية بقيت منها أشياء، فقد صح أن بعض العرب عبدوا الأصنام وعبدوا الشمس وعبدوا بعض النجوم
هذا صحيح؛ وقد شهد به القرآن؛ وشهادة القرآن لا يمكن إنكارها على الإطلاق، فهو عند المؤمنين وحي من عند الله، وهو عند الملحدين صورة صحيحة لأحوال العرب في عهد النبوة. وكذلك يستوي المؤمن والملحد في تصديق ما شهد به القرآن
ولكن كيف كانت تلك الوثنية من الوجهة العقلية والروحية؟
هل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب صنماً في صورة أسد؟
لا يكفي أن يكون الصنم نحت من حجر ليقال إن عبادته أرضية وضيعة، كما يعبر أحمد أمين، وإنما يجب ان نعرف لأية غاية روحية أو عقلية عبد بعض العرب صنماً من حجر على صورة أسد، فقد يكون الغرض من تلك العبادة تمجيد الأنفة والقوة والكبرياء، وهو غرض نبيل رأينا له أشباهاً في وثنية الفرس والمصريين واليونان
وقد عبد العرب أسافاً ونائلة، وهما صنمان لامرأة مليحة ورجل جميل
فهل يعرف أحمد أمين لأية غاية عبد العرب هاتين الصورتين؟
لقد تحدث الأخباريون بأنهما صورة لرجل وامرأة فجرا في الكعبة فمسخهما الله جحرين، وهنا يتحذلق أحمد أمين فيقول: (ولست أدري ما حملهم على عبادتهما مع شنيع فعلهما، وهما إن استحقا شيئاً فالرجم لا العبادة)
فالقول بأن أسافاً ونائلة فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين هو التأويل الذي اهتدى إليه بعض العوام بعد اندحار الوثنية العربية
أما أهل البصر بأسرار الوثنيات القديمة فيعرفون أن أسافاً ونائلة عند العرب قد يشبهان إيروس وأفروديت عند اليونان، فهما تمثالان لعبادة الجمال والحب، وليسا تمثالين لعبادة الفجور والفسق
وعرض الأستاذ لتصور العرب في الزهرة فلم يدرك ما فيه من جمال، فالزهرة في الوثنية العربية كانت امرأة حسناء فصعدت إلى السماء ومسخت كوكباً، فهل رأى الناس تقديساً(322/6)
للجمال أروع من هذا التقديس؟
ألا يكفي أن تكون تلك الحسناء نقلت من الأرض إلى السماء، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود؟
قلت لكم إن أسرار الوثنية العربية ضاعت ضيعة أبدية بفضل الدين الحنيف، ونحن غير آسفين على ضياع تلك الأسرار ولكنا لا نستسيغ القول بأن عقلية العرب كانت أرضية وضيعة ونحن نجهل كيف كانوا يتصورون شؤون الدنيا وأحوال الوجود
والعرب قد اعتذروا عن عبادة الأصنام فقالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وهذه العبارة القرآنية الكريمة تشهد بأن وثنية العرب كانت تحريفاً لدين صحيح قام على أساس التوحيد.
فمن الخطل أن يقول قائل بأن عبادة الأصنام كانت عبادة أرضية على حين يشهد القرآن، بأنها كانت موصولة الأواصر بالمعاني السماوية
ويشهد القرآن أيضاً بأن وثنية العرب كانت لها أحكام متصلة بسكان السماء فقد (جعلوا الملائكة الذي هم عباد الرحمن إناثاً) ومعنى ذلك أن أوهامهم تجاوزت الأرض إلى السماء
إن العرب في جاهليتهم قد عرفوا المصريين واليونانيين والفرس والهنود، فكيف جاز أن تخلو وثنيتهم من السمو الذي عرفت به وثنيات أولئك الناس؟
كيف يكون ذلك والوثنيات ينقل بعضها عن بعض، كما تنقل بعض الديانات عن بعض؟
ثم ماذا؟
ثم يحكم الأستاذ أحمد أمين بأن العرب لم تكن لهم طبيعة فنية وأن ما كان عندهم من تماثيل فمجلوب من مصر أو من اليونان، وأن (يغوث) إله مصري اسمه (يغنوت)
ونحب أن نعرف من هم العرب في ذهن أحمد أمين
يظهر أن العرب في ذهنه هم سكان البادية العربية، وسكان البادية لا يحسنون صناعة التماثيل
والقول بأن العرب في جاهليتهم لم يكونوا إلا سكان البوادي قول أذاعه المستشرقون الذي يهمهم أن يثبتوا أن الحضارة العربية أخذت عن مصر وفارس واليونان وليس فيها أثر عربي أصيل.(322/7)
والتاريخ الصحيح يقول بغير ذلك، فالعرب في الجاهلية كانت لهم حواضر في الحجاز واليمن والشام والعراق، وكان لهم في تلك البلاد آداب وفنون، ولو عاش قصر غمدان وقصر الخورنق لاستطعنا أن نعرف كيف فهموا قواعد النحت والتصوير وكيف برعوا في تسجيل حوادث التاريخ
ولنفرض أن العرب جهلوا النحت والتصوير كل الجهل، فكيف جاز مع هذا الفرض أن ينهاهم الإسلام عن النحت والتصوير؟ وهل ينهى الإسلام عن شيء غير موجود؟
قل كلاماً غير هذا الكلام يا أستاذ أمين ليصدق الناس دعواك!
قد يقال: وأين آثار النحت والتصوير في البلاد العربية؟
ونجيب بأن ذلك كله بدده الإسلام عامداً متعمداً ليذهب آثار الشرك والوثنية!
وهل تعرفون كم أثراً فنياً حطمه المسلمون بمكة يوم الفتح؟
لقد كانت مصر مملوءة بغرائب التماثيل فحطمها المسلمون ليمحوا شواهد الوثنية الفرعونية. والذي قرءوا التاريخ يذكرون ما فعل الشيخ محمد صائم الدهر: فقد طاف بمصر من الشمال إلى الجنوب ليهشم ما ترك المصريون القدماء من الأصنام والأوثان، وهو الذي جدع أنف أبي الهول، ولو استطاع لحوله إلى رماد
وبعد إسلام أهل مصر بقيت فيهم بقايا من احترام تمثيل الأسود فكانوا يقيمونها فوق قناطر النيل، وكان الشيخ محمد صائم الدهر يسطو عليها من وقت إلى وقت فيهشم منها ما يستطيع
فإن مررتم على جسر إسماعيل بقصر النيل ورأيتموه محروساً بأسدين فتذكروا أن تلك الصور الأسدية ليست إلا رجعة إلى ما كان يصنع المسلمون في تزيين قناطر النيل بصور الأسود. وإن زرتم أطلال الكرنك ورأيتم مداخل القصر محروسة بعشرات الأسود فاعرفوا أن هذا من ذاك
توهم احمد أمين أن دين العرب في الجاهلية كان أرضياً وضيعاً، فكان ذلك التوهم سناداً يركن إليه في تحقير التشبيهات الجاهلية، فهي عنده لاصقة بالأرض وشاهد ذلك أن الجاهليين يشبهون الحيوان بحيوان مثله كتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي أو بالنعامة أو بالأتان(322/8)
واحسب أن لو قال هذا الكلام تلميذ بالسنة التوجيهية لسقط في الامتحان أبشع سقوط
فتشبيه الناقة بالظليم أو بالثور الوحشي تشبيه مقبول جداً، وليس مادياً لاصقاً بالأرض لأن وجه الشبه هو السرعة لا الشكل، والسرعة صورة معنوية
أحمد أمين يريد في الواقع أن يقول إن الناقة شبهت بحيوان يعيش في الأرض لا في السماء، وآية ذلك أنه عاب على امرئ القيس أن يشبه الفرس بجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وقال:
(إن غير العرب شبهوا سرعة الفرس بالبرق)
ذلك كلام احمد أمين، وما تفتري عليه
فهل رأيتم كلاماً أغرب من هذا الكلام؟
أنا أنتظر رأي أساتذة البلاغة بكلية الآداب والأزهر ودار العلوم
هل من الصحيح أن تشبيه سرعة الفرس بالبرق أدق من تشبيه سرعته بجلمود صخر حطه السيل من شواهق الجبال؟
إن تشبيه سرعة الفرس بالصخرة التي حطها السيل من شاهق لا يقف عند السرعة وإنما يتعداها إلى الثقل. فالفرس عند العدو ثقيل جداً بحيث لا يملك مراعاة ما قد يعترض الطريق من شجرة أو جدار، وكذلك لا تملك الصخرة الانحراف من جانب إلى جانب حين تنحط من شاهق
أما تشبيه سرعة الفرس بسرعة البرق فهو تشبيه لا يقبل إلا عند من يرحب بالأخيلة البهلوانية
وأين الفرس من البرق؟
إن ما يقطعه البرق في لمحة واحدة قد يعجز عنه الفرس في الأعوام الطوال
والغرض من التشبيه هو تقريب بعض الصور من بعض، أما الإغراب في التشبيهات والاستعارات فيهو سخف مرذول
وأحمد أمين الذي تعجبه الصور السماوية كصورة البرق هو نفسه أحمد أمين الذي عاب على العرب أن يتصوروا مصير الغميصاء بعد فراق سهيل
(زعموا أن الغميصاء وسهيلاً كانا مجتمعين فانحدر سهيل فصار يمانياً، وتبعته العبور(322/9)
فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت)
تلك هي الأسطورة العربية التي استسخفها أحمد أمين، ولو كان يعرف تاريخ الأساطير لأدرك أن هذه الأسطورة فيها ملامح يونانية، فالنجم الذي يهوي من موضع إلى موضع هو إلهة عاشقة تنحدر لموعد غرام مع إله معشوق
وكانت الغميصاء المسكينة على موعد مع معشوقها سهيل، ولكنها عجزت عن عبور المجرة فظلت تبكي حتى أصابها الغمص
ولو كانت هذه الأسطورة يونانية لا عربية لعدها احمد أمين من غرائب الخيال، وعد أصحابها من الزاهدين في الأرض والمفتونين بالسماء!
وأنتِ كذاكِ قد غُيِّرتِ بعدي ... وكنتِ كأنك الشعري العبورُ
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم رأى أحمد أمين أن دين العرب في الجاهلية قد ظهر أثره في وصفهم للمرأة، فهم (لم ينظروا في المرأة إلا إلى جسمها. لقد أدركوا تمام الإدراك جمالها الحسي، ولكنهم لم يدركوا جمالها الروحي. ولعوا بقدها الممشوق، وعيونها الدعج، ووجهها الوردي، وخصرها النحيل، وردفها الثقيل، وما شئت من أعضائها وأجزائها. فأما روحها السماوي وجمالها الروحي، وتعشق روح الشاعر لروحها والشعور بأنها مصدر وحيه وإلهامه فشيء لم يستطع إدراكه الشاعر الجاهلي)
ثم يصرح بأن الوقوف عند هذه المعاني في النظر إلى المرأة شيء مخجل (؟)
أما أنا فأقول بأن نظرة الشاعر الجاهلي إلى المرأة نظرة سليمة تدل على الفحولة والفتوة، فجمال المرأة، جمالها الصحيح، هو في نواحيها الحسية، وليس من العيب أن يقول الرجل إنه يشتهي المرأة شهوة حسية، وإنما يعيب الرجل ألا يملك من المرأة غير أنس الروح بالروح
إن أحمد أمين يحب أن يكون روحاً لطيفاً شفافاً يؤذيه أن يتحدث الناس عن العيون الدعدج، والقد الممشوق، والخصر النحيل.
هو يحب أن يضاف إلى رجال الأخلاق!
أما أنا فأبغض أشد البغض أن أضاف إلى هذا الطراز من رجال الأخلاق(322/10)
أنا أفهم جيداً أن المرأة لا تهم الرجل إلا إن كانت أنثى فيها جميع خصائص الأنوثة، الخصائص التي تشعر بأنها متاع جميل، والتي تحمله على أن ينظر إليها نظر السد الهصور إلى الرشأ الربيب
ولا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها شهوة حسية، ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجال والنساء
إن الأستاذ أحمد أمين يستقبح قول امرئ القيس:
وبيضةِ خدرٍ لا يرام خباؤها ... تمتعتُ من لهوبها غير مُعْجَلِ
فأين هو من الفحولة التي يهدر بها هذا البيت؟
قد يقول: وكيف يجوز للرجل الفحل أن يبكي وهو يستعطف المرأة؟
وأجيب بأن بكاء الرجل أمام معشوقته ليس علامة ضعف، وإنما هو علامة قوة، فالدمع في عين العاشق كالسم في ناب الثعبان؛ فالثعبان يخدر فريسته بالسم، والعاشق يخدر فريسته بالدمع
وهنا أستأنس بكلمة قرأتها للأستاذ المازني في جريدة السياسة سنة 1932 وهو ينقد قول شوقي
(ما الحب إلا التضحية)
فقد عد هذه الكلمة باباً من الضعف، ومن عمى البصيرة، لأن الحب في حقيقة أمره ضرب من الأثرة والافتراس
قولوا الحق يا بني آدم، فالنفاق خلق بغيض
قولوا الحق، واعترفوا بأن المرأة لا تهم الرجل إلا بوصف أنها مخلوق جميل له عينان دعجاوان، وجبين مشرق، وجيد كجيد الريم، وقوام كالغصن الرطيب
ولعل أحمد أمين يريد امرأة فيلسوفة لها عرقوب كشهر الصوم في الطول، ولها عين كعين الغميصاء تعينه على سهر الليل إلى أن يبزغ (فجر الإسلام)
والعجيب أن تصدر هذه الأحكام عن رجل يكتب في الفلسفة من وقت إلى وقت، وقد غاب عنه أن في فلاسفة هذا العصر رجل اسمه فرويد، وهذا الفيلسوف يرجع أعمال الرجال إلى أصول شهوانية قد تسوق الناس من حيث لا يحتسبون. وما كان فرويد أول من نظر هذه(322/11)
النظرة فقد رأيت لها أصولاً في مؤلفات الشعراني، ومن قبل ذلك رأيت لها أطيافاً عند فقهاء الشريعة الإسلامية، وهم رجال أمعنوا في درس أسرار الطبائع
فعمن أخذ أحمد أمين هذه الحذلقة في فهم الأدب النسوي؟
أغلب الظن أنه نقلها عن الكاتب المتحذلق توفيق الحكيم الذي زعم أن كل عبقري محروس بروح نسائية تفيض عليه الوحي من وراء الغيب!
وكيف تستطيع المرأة أن تسيطر على الرجل عند اليأس من طيباتها الحسية؟
إن الرجل قد يذكر المرأة بالشوق بعد أن تموت، ولكن ذلك لا يمنع من أن الأخيلة الحسية لها دخل في تسعير ذلك الشوق
أقول هذا وأنا أعرف أن في بني آدم من يوحي إليه الرياء بتكذيب هذه البينات، ولكن ماذا يهمني وأنا حريص كل الحرص على الجهر بكلمة الحق؟
إن الوثنية اليونانية التي يمجدها أحمد أمين قد جعلت للآلهة شهوات ولذات، فكيف يستنكر أن تكون لشعراء الجاهلية شهوات ولذات؟
إن أفروديت وهي من الآلهة في الوثنية اليونانية قد صهرها الغيظ حين سمعت بأن في الأرض إنسانة جميلة تستهوي قلوب الرجال، وكان من آثار ذلك الغيظ أن قامت بدسائس خبيثة للفتك بتلك الإنسانة التي وصلت أخبارها إلى سكان السماء
الحق كل الحق أن الجمال الحسي هو كل شيء في المرأة، وهي تصل إلى الكمال حين يؤيد جمالها الحسي بالجمال الروحي، كأن تكون على جمالها ذات عقل وأدب وعفاف
وهل تعرفون كيف كان العفاف فضيلة؟
كان العفاف فضيلة لأنه تمكين للرجل من السيطرة المطلقة على مواقع هواه، فهو فضيلة لوحظت فيها الأثرة الرجلية
ما هذا الذي أقول؟
أراني أهيئ الفرصة لثرثرة من لا يفهمون دقائق علم الأخلاق، وأنا أحب أن أسلم من ثرثرة أولئك الناس
الذي يهمني هو النص على أن شعراء الجاهلية صوروا الفطرة السليمة حين جعلوا الأنس بالمرأة الجميلة من النعيم المحسوس ولم يجعلوه من النعيم المعقول(322/12)
ولو رزقني الله شيئاً من الصراحة لقلت: إن الشهوات هي في الأصل من أجل نعم الله على عباده، وما استنكرها رجال الأخلاق إلا بسبب الإسراف. أما الشهوات في حد ذاتها فهي من دلائل العافية: والعافية نعمة جزيلة ينعم بها الله على من يشاء
وفضيلة العفاف، وهي فضيلة نبيلة لا يقام لها وزن إلا حين تصدر عن رجال مزودين بحيوية الشهوات، فطغيان الشهوة ملحوظ عند النظر في فضيلة العفاف. أما عفاف العاجزين عن الفجور فهو لا يستحق أي ثناء، ولا يضاف صاحبه إلى أهل الكمال وإن لبس مسوح الرهبان
ويجب أن يكون مفهوماً أن الشهوة الحسية لها صلة بتفوق الرجال في الميادين العقلية، فالرجل الآمن من طغيان الشهوات محروم من نعمتين: نعمة القدرة على فهم الجمال، ونعمة القدرة على مجاهدة الأهواء
وكذلك يصح القول لأن الرجل العاجز لا يستطيع أبداً أن يتسامى إلى منزلة أصحاب الأخلاق
فهل ترونني وصلت إلى إقناعكم بأن أحمد أمين أخطأ حين عاب على شعراء الجاهلية أن يجعلوا المرأة من المتاع الجميل؟
أنا أعرف أني أوذي نفسي بهذه التحليلات، وأعرف أنها قد تصورني بصورة الرجل الفاتك، ولكن ماذا أصنع وأنا أريد أن أصدق كل الصدق وأنا أحادث القراء؟
وهل كتب على الدراسات الأدبية والفلسفية في مصر أن تقوم على قواعد الرياء؟
اسمعوا مني كلمة الحق في هذه الشؤون قبل أن تسمعوها من باحث يعيش في لندن أو باريس، فمن العار أن نعجز في عصر النور عما قدر على شرحه الأسلاف في عصور الظلمات
أما بعد فهناك مكاره سيصلاها أحمد أمين في المقالات الآتية وسيعرف أن التجني على ماضي الأدب العربي لا يمر بلا حساب
وأنا أرجوه أن يترفق بنفسه فلا يصر على تحقير الأرومة العربية وتمجيد الأرومة اليونانية، فقد أستطيع أن أحدثه بأن العرب الذي غلبت عليهم شهوات الحواس هم الذي استطاعوا بفضل فحولتهم أن يدحروا اليونان وأن يحولوهم إلى أحلاس في حوانيت(322/13)
الزيتون والسردين
وقد حدثنا أحمد أمين بأن العرب انحطوا في جاهليتهم بسبب تلك الوثنية الأرضية الوضيعة، ثم حدثنا بأن القرآن لم يرفع عقليتهم، مع أنه وحي سماوي رفيع، فهل يتأثر العرب بالوثنية ولا يتأثرون بالإسلام؟ سنعرف وجه الحق في هذه القضية، في الأسبوع المقبل، وإنه لقريب.
(مصر الجديدة)
زكي مبارك(322/14)
في سبيل الإصلاح
علماؤنا والإصلاح
للأستاذ علي الطنطاوي
لعل في القراء من يذكر السؤال الذي وجهته منذ أسابيع إلى المفكرين من علمائنا وعرضت فيه إلى بعض المشكلات الدينية وسألتهم حكم الله فيها، حكم الله لا يخالف مصلحة الناس، ولا ينافي حاجة العصر. وقد مرت هذه الأسابيع ولم أتلق من أحد جواباً، ولم أحد فيمن لقيت من علمائنا في هذه المدة إلا أحد رجلين: رجل لم يقرأ السؤال، ولم يدر بأن في الدنيا مجلة اسمها الرسالة، ولم يدخل بيته إلى اليوم كتاب واحد أو مجلة أو رسالة صغيرة مما تفيض به المطابع كل يوم، لأن نذلك كله لغو لا يليق بالعالم أن يلقي إليه بالاً أو يقف عنده أو يعرج عليه، وفي كتب الفقه والأصول والحديث الكفاية، وإن كانت العناية بالحديث والتفسير - أعني بالكتاب والسنة - لمجرد التبرك والاطلاع، ولا للاستنباط والاجتهاد، لأن الاجتهاد سد بابه والفقهاء لم يتركوا شيئاً إلا قالوه، وإن هو احتاج بعد ذلك إلى شيء من الأدب فحسبه المستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومسامرات الشيخ محي الدين بن عربي مؤلف الفصوص الذي تجد الكلام على دينه وتقواه في الصفحة 159 من كتاب الإسلام الصحيح للنشاشيبي
ورجل آخر، حملت إليه الرسالة، فقرأ السؤال فكان جوابه عليه لعنة حامية على هؤلاء الملحدين الذي يحلون ما حرم الله، ويدعون إلى الربا الذي نهى عنه الله، وكان له مادة لإعلان غيرته على الدين، وتثبيت منزلته بين العامة. . .
على حين إن المشاكل الدينية من نحو مشكلة الربا قائمة، والناس يتعاملون بألوان من الربا منها الربا الفاحش البين، ومنها الربا الخفيف أو ما يشبه الربا، ولا تجد تاجراً (أعني تجار الجملة لا البقالين) يستغني عن مثل معاملات الحسم (السقونطو) أو عن الاتصال بالمصارف على نحو ما. . . فإذا كان هذا كله من الربا المحرم الممنوع شرعاً، وكان هذا كله مما لا يستغني عنه كانت النتيجة (المنطقية) أن الإسلام لا يصلح لهذا الزمان. . . وهذا محال، فلم يبق إلا إبطال إحدى المقدمتين، فإما أن يقال بالاستغناء عن معاملات المصرف، وإما أن يقال بأن هذه الأحكام الفقهية ليست هي كل الشريعة، وأن من الممكن(322/15)
استنباط أحكام أخرى شرعية تصلح لهذا الزمان. وإذا نحن نظرنا في تاريخ التشريع الإسلامي وتاريخ الفقه نجد أن المجتهدين لبثوا متوافرين في كل عصر، لم يخل منهم زمان، وإن كان منهم من هو (مجتهد في المذهب) على حد تعبيرهم، ولبث ذلك إلى القرن التاسع حيث غلب الأتراك على البلدان العربية وضعفت العناية باللغة العربية، واستغلقت على القوم آيات الكتاب البينات، وخفي عنهم ما وضح للعلماء الأولين من السنة، فأعلنوا سد باب الاجتهاد!! على أن هذا العصر أيضاً لم يعدم جماعة من أهل الترجيح والتخريج، وهم أنصاف مجتهدين (إن صح التعبير). ونشأ عن وقوف الاجتهاد وسير الدنيا (بل سعيها سعياً) أن كان في الفقه اليوم أحكام تخالف ما يراه الناس صالحاً لزمانهم، مع أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لا شك في ذلك أبداً فكيف يكون التوفيق بين الأصل الثابت وبين هذه النتيجة؟
يستطيع العلماء أن يفتوا بأن هذه المعاملات (المصرفية) كلها ربا، وأن الربا كله حرام، ولكن التجار يستطيعون أيضاً أن يثابروا على التعامل بها، والإقامة عليها، وتبقى المشكلة بل تزداد إشكالاً.
فالإصلاح إذن لا يكون بالإصرار على هذه الحواشي الفقهية والدفاع عنها، بل بالبحث عن أدلتها، فما كان منها قطعياً ثابتاً بدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، فهو الذي لا سبيل إلى تبديله، وما كان منها مبنياً على عرف أو دليل فيه احتمال، وكان إلى تعديله سبيل من الشرع عدل
وهذه المسألة على وضوحها تحملنا جهداً، وتكلفنا عناء، لأن من العلماء من لا يريد أن يفهمها، ولا يقدر أو لا يحب أن يفرق بين قول الفقيه واجتهاده وبين النص - ومن يحسب الخروج على المذاهب الأربعة خروجاً على الدين، وأكثرهم لا يبالي بعد ذلك هل سارت الحياة شرقاً أم اتجهت غرباً. . .
ولم يبق أحد جاهلاً بأن المدنية الأوربية قد طغت علينا، وأننا انغمسنا فيها واقتبسنا منها فبدلت حياتنا تبديلاً، وغيرت طرائق معيشتنا في دورنا ومدارسنا وأسواقنا، فأصبحنا أقرب في طراز حياتنا إلى أهل باريس اليوم منا إلى أهل دمشق والقاهرة في القرن التاسع الهجري، واصبح من المستحيل علينا العمل بأحكام استنبطها المجتهدون لأهل القاهرة(322/16)
ودمشق في القرن التاسع. وإذا نحن وقفنا عند هذه الأحكام والحياة تمشي أصبح بيننا وبين الدين مسافة هائلة لا يمكن قطعها، وأهملنا أكبر مزية لديننا وهو أنه دين البشرية الراقية في كل عصورها، وعطلنا أصلاً مهماً من أصول ديننا وهو الإجماع، مع أن الوصول إلى الإجماع في هذا الزمان أسهل منه في كل زمان مضى لسهولة المواصلات وسرعتها، فلماذا لا ننظم مسألة الإجماع؟
الإجماع هو اتفاق المجتهدين في عصر من العصور على حكم من الأحكام، فلا يمكن تنظيمه إلا بتعيين المجتهدين، والاتفاق على الشروط التي يجب اجتماعها في العالم حتى يعد مجتهداً
وأنا أرى أنه لا مانع من الشرع ولا من الطبع يمنع من إحداث تشكيلات للعلماء، ودرجات وسمات لهم معروفة، حتى لا يختلط الأمر، ويستفتي الناس مفتين جهالاً فيضلوا ويضلوا. ولقد خطونا الخطوة الأولى من عهد بعيد حين جعلنا في كل بلد مفتين رسميين لهم مرجع أعلى، هو شيخ الإسلام، ولكن نسينا أن العالم لا يسمى مفتياً إلا إذا كان مجتهداً، وليس كل من عرف الدر وحواشيه والفتاوى الهندية يصح أن يتصدر للإفتاء. إذا وسعنا هذه الدائرة، وجعلنا للعلماء درجات متعددة تخلصنا من هذه الفوضى العجيبة التي نراها اليوم حين اصبح كل صاحب عمة قد كورها وجبة قد وسعها من العلماء، وحين رأينا في جمعيات العلماء أناساً لا يمتازون من العامة إلا بالزي. وليت شعري لماذا يكون لكل فرع من فروع العلم درجات وشهادات، فلا يستطيع أن يدعي الطب أو يمارس المحاماة إلا من حصل شهاداتها ودرس علومها، ويبقى أمر الدين مهملاً يدعيه كل ذي لحية طويلة؟ إن الطبيب إذا أخطأ قتل نفساً، ولكن العالم الديني إذا أخطأ قتل أمة، وأذهب عليها دينها ودنياها. . .
إذا وضع قانون الدرجات العلمية عرف به العلماء الذي بلغوا درجة الاجتهاد - فدعوا من كافة الأقطار الإسلامية - وعرضت عليهم هذه المشكلات وسئلوا حكم الله فيها، فإن اتفقوا على أمر عد مجمعاً عليه وصار من الأصول الثابتة، وإن اختلفوا استؤنس برأي الأكثر منهم، هذا إذا لم يكن في المسألة دليل شرعي، أما إذا وجد فالحكم حيث يوجد الدليل
وربما أنكر منكر هذا الاقتراح ورآه حدثاً في الدين، وتقليداً للنصارى في درجات قسوسهم، وأنا أرد سلفاً بأن هذا التنظيم من قبيل جمع القرآن، وتدوين العلوم، لم يرد ما يمنعه،(322/17)
والمصلحة تقتضيه، وليس من شك بعد بأن (هذا) الإجماع أقوى وأظهر من كل إجماع إلا إجماع الصحابة. لأن استقراء المجتهدين وجمعهم والوقوف على رأيهم أهون في هذا العصر منه في العصور الأولى
أما المسائل التي تعد أساس الإصلاح الديني وركنه، فقد لخصها أستاذنا المغربي في (البينات) في مقالة له نشرها منذ ثلاثين سنة، وأنا أنقلها عنه بتصرف فيها:
1 - وضع مناهج المدارس الدينية على شكل يعد الطلاب للاجتهاد ويهيئ لهم أسبابه
2 - إصلاح أساليب الكتب القديمة وعرضها بشكل جديد، وقد بدأ بذلك الأستاذ محيي الدين عبد الحميد من أساتذة الأزهر فأصلح بعض كتب النحو، ولكن بمقياس ضيق
3 - أن يكون ادعاء العلم، واتخاذ زيه بإذن من لجنة علمية خاصة، وبعد ثبوت أهلية الطالب وكفايته
4 - أن يكون الاجتهاد إجماعياً لا فردياً، لئلا يكون للخلاف مجال
5 - ألا نلزم أقوال إما بعينه، وإنما نأخذ من كل مذهب ما يوافق العصر، وأقول: إن ذلك لا بأس به في العبادات. أما المعاملات فلابد من وضع قانون لها مقتبس من الدين يختار فيه قول واحد ويوقف عنده ليكون العمل به
6 - أن نبتعد عن البدع والأحداث وأن نقف عند الكتاب والسنة
7 - تمييز العقائد الثابتة من التقاليد الموروثة، فلا ندخل في باب العقائد إلا ما كلفنا الله به، ولا نكفر مؤمناً إلا إذا أنكر عقيدة ثابتة
8 - أن يكون تصحيح الحديث اعتماداً على متنه وسنده، لا على صحة سنده فقط، فإن خالف متنه أصول الدين أو المشاهد المحسوس رد مهما كان سنده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثله
9 - أن يعمد في العقائد والعبادات والشعائر ظاهر النص وان يكون القياس في المعاملات وما يتعلق بالقضاء ويختلف باختلاف الزمان والمكان
10 - أن نرفع من شأن العمل قليلاً، فلا نزعم أن المسلم ينجو بمجرد أقوال يرددها، بل نقرر أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وعمل الأعمال التي حث عليها الإسلام، وتخلق بالأخلاق التي أمر بها(322/18)
11 - وأن نرفع من شأن الأسباب قليلاً، ونعتبرها مظاهر لإرادة الله وقدرته، فلا نهملها إلى حد أن نقول أن السم لا دخل له في موت من تناوله فمات به، ولكنه مات لأن ذلك مقدر عليه
12 - ألا يبحث الفقهاء فيما ليس من شأنهم، وإنما يدعون كل أمر إلى أهله ويرجعون فيه إلى أربابه. فإذا كان البحث عن اختلاف مطالع الهلال مثلاً لم يرجع إلى قول ابن عباس ولكن إلى قول الفلكيين الفنيين، وفي الطب يرجع إلى أطباء العصر لا إلى داود الأنطاكي ومن روى عنه
عندنا اليوم مشكلات كثيرة كمشكلة الربا والطلاق وثبوت الهلال والسفور، وعندنا الاختلاف على التوسل بالصالحين، ورفع القباب، وعبادة القبور، وكرامات الأولياء، وكل ذلك لا يحل إلا بهذا المؤتمر الإسلامي أو هذا (الإجماع) المنظم، لأن كل فرد من العلماء يؤثر السلامة، فلا يجب أن يجابه الناس بما لا يألفون فيخسر منزلته فيهم ولا يجد الجرأة على ذلك
فهل يتلطف بعض من له صلة بشيخ الإسلام الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فيحمل إليه هذه المقالة؟ وهل يتفضل إذا حملت إليه فينظر فيها ويولي هذه المسألة شيئاً من عنايته؟
علي الطنطاوي(322/19)
ذكرى
سوداء!. . .
للأستاذ أديب عباسي
أطل صاحبي بعد أن نقر على الباب نقرتين أو ثلاثاً ونادى:
- ماذا تنوي أن تصنع بيومك؟ أتريد أن تبقى حيث أنت أمام هذا الركام من الهذر والغثاء، أم تريد أن ترى الشمس قليلاً؟
فقلت: ولكن متى نستطيع أن ننظر في كل هذا الذي ترى إذا لم ننتفع بيوم عطلتنا هذا؟ أليس الأولى والأحزم أن ننقل الحمل مجزئاً بدل أن ندعه يربو ويتراكم فنعود غير قادرين على زحزحته بل نقله؟
هذه كانت حجتي في إيثار البقاء في المنزل؛ ولكن صاحبي أدرك أنني أقول بلساني خلاف ما تقوله عيناي، وأدرك أنني أود النجاة مما بين يدي على أي حال، ولهذا لم يرد علي أن قال:
- إنني أنتظرك في أدنى الشارع، فهو يوم من أيام الربيع التي لا تفوت. والوادي اليوم متحف من متاحف الطبيعة للزهر والعطر والخضرة والظل، ولا يفوت هذا اليوم إلا كل خامد الحس كافر بالسحر والجمال.
سرنا ساعة وبعض الساعة في خلال الوادي لا أستمع إلى حديث صاحبي ولا يستمع إلى حديثي إلا بعض سمعنا؛ فلقد كادت روعة الوادي في ذلك اليوم من أيام الربيع تعطل كل اتصال بين نفسينا وبين العالم الخارجي، إلا ما كان بينهما وبين هذه المائدة المثقلة بصوف الفتنة وألوان الجمال. ولم نثب إلى أنفسينا، مما سحرنا الوادي وشدهنا عن كل شيء سواه، إلا حينما رأيننا نخلف الوادي الخضيل وراءنا وننتهي إلى العراء. وعندها شعرنا بالتعب والعطش ينحطان علينا فجأة وفي غير إنذار. وقال أحدنا: هيا إلى تلك الدوحة نتفيأ ظلها إلى أن ينكسر سم النهار فنعود
ومكثنا في ظل تلك الدوحة ساعة ألح علينا بها العطش إلحاحاً شديداً، فقلت:
- ألا نقوم فنسير إلى النبع نزيل هذا العطش الذي يكاد ينسينا كل ما نلناه من لذة ومتاع؟
فأجاب صاحبي:(322/20)
- لا تنس أن بيننا وبين الماء ساعة كاملة من المسير وفي خلال هذه الساعة سيخف وهج النهار ويخف معه ما بنا من أوام، ولكن انظر: ألا ترى هذه السوداء؟ إنها قذرة، ولكن حبذا نهلة من جرتها الصغيرة!
أننزل إلى الطريق نلاقيها ونطلب أن تسقينا أم ندعوها إلينا وننفحها بقليل من القروش؟
فقلت: أعتقد أن من الأريحية ألا نكلفها الصعود إلينا، فلنقم نلاقيها ونكون أقل أنانية وخور عزيمة
وهممنا أن نقوم، وأخذ كل منا يعيث في جيوبه ليقدم للفتاة شيئاً مقابل ما سيشرب من جرتها ويضطرها إلى الرجوع وملئها من جديد. بيد أن الفتاة أبدت حركة اضطرتنا إلى البقاء، فقد أشارت إلينا بيدها أن امكثا، وأقبلت نحونا. فالتفت إلى صاحبي وقلت:
- ما معنى هذا؟ أتكون قد سمعت كلمتك القاسية فجاءت تعاقبك العقاب الذي أنت أهله؟
فقال: لا ادري، وإنما يجب أن نكون على حذر، وعلى كل فأنا لا أرى في وجهها شيئاً من الشر. وهبها أرادت أن تعاقبنا، فليس ثمة أكثر من أن تسكب على رأسي هذا الماء الذي تحمل، وهو كل ما أتمناه
فقلت: قد تسكب الفتاة الماء كما تتمنى، وقد تسكب الماء والجرة معاً. . . ولست ادري عندها أي الجرتين تكسر الأخرى، جرتك الفارغة هذه، أم جرتها الملأى؟
دنت الفتاة حتى غدت على قيد خطوات منا، وابتسمت ابتسامة خفيفة أزالت من نفس صاحبي ما ساوره من قلق، ثم حيت تحية طيبة وأنزلت جرتها عن رأسها وقالت بلطف: تفضلا
وتناول صاحبي الجرة وبدأ يشرب، وقبل أن ينتهي من شربه أمسكت الفتاة بالجرة وأزالتها عن فمه، فدمدم محتجاً وقال:
دعيني اشرب، إنني سأدفع ثمن الماء!
وابتسمت الفتاة مرة ثانية وقالت في شيء من المرارة والأسف:
- كم يخطئ الناس الحكم! إنني لم اضن عليك بالماء، ولكن لعلك لا تعلم أن الإسراف في الشرب في مثل حالتك من العطش الشديد يأتي بأوخم العواقب. . . هيا يا أخي اشرب (وأشارت إلي)، ولكن يحسن أن ترش يديك ووجهك بقليل من الماء قبل الشرب: إنني لم(322/21)
اكن أعلم أنكما بهذا المقدار من العطش وإلا لما سمحت لصاحبك أن يشرب قبل أن يغسل يديه ووجهه. . .
وبعد أن ارتوينا وغسلنا أيدينا ووجوهنا طلبت إلى الفتاة أن تجلس وتستريح، فاعتذرت بأدب ولطف وقالت: إن أخوي الصغيرين في مثل حالكما من العطش. فأرجو أن تسمحا لي بالرجوع لأملأ الجرة وأعود إليهما
فقلت بأسف: يؤلمنا أن نكون قد شربنا الماء الذي كان يجب أن يبرد عطش أخويك فلا تضطرين إلى الرجوع ومضاعفة الأمد الذي سيرتوي عنده أخواك
فأجابت الفتاة: لا بأس، إن أبناء الصحراء أكثر احتمالاً للعطش من أبناء المدينة ولو كانوا صغاراً كأخوي
وهنا سأل صاحبي وهو يداري أن تقع عين الفتاة في عينه: ولكن كيف عرفت أننا على هذا الحال من العطش فحدت عن الطريق وأتيت تسقيننا؟
فأجابت الفتاة ببساطة: سمعتك تتمنى لو تتاح لك شربة من جرتي فجئت!
فقال صاحبي بجزع ظاهر: أو سمعت ما قلته إذاً؟ فأجابت: نعم، سمعته. فقال: أسمعته كله؟ فردت: نعم، كله. فقال: وكيف جئت إذاً؟! فحدجته الفتاة بنظرة قاسية ولم تجب. وعندها أدخل صاحبي يده في جيبه وأخرجها ثم مدها إلى الفتاة. وعندها نظرت الفتاة إلي وفي عينيها دموع وقالت: ألا سامحكما الله. ثم حيت وانصرفت
كان إحساساً أليماً حقاً، شعرنا عنده أننا صغرنا وصغرنا إلى حد الضؤولة. وقلت لصاحبي: لقد كنت قاسياً أشد القسوة
فأجاب: أتقول إنني كنت قاسياً؟ لم لا تقول إنني لم أكن إنساناً؟ لعلك تستحيي أن تقولها!
وعدنا إلى الصمت، وفي صدر كل منا نشيج من العواطف الفائرة والأحاسيس المتهدجة الثائرة. ولم نر بداً من ترك المكان في الحال، فقد غدا في نظري بقعة قبيحة أشد ما يكون القبح. مؤلمة اشد ما يكون الألم. وظللت - فيما بعد - كلما سرت في ذلك الطريق أشيح عنه بوجهي كما يشيح كل إنسان عن الموطن الذي حدثت له فيه حوادث مؤلمة مخزية
عدنا أدراجنا، وأحببت أن أصرف صاحبي عن التفكير المؤلم فيما جرى له فسألته: متى تبدأ الامتحانات الفصلية؟(322/22)
فأجاب في شبه ذهول: إنما نحن العبيد وهم الأحرار!
فقلت مستغرباً: من تعني؟
فأجاب: هؤلاء السود الذي نسميهم زنوجاً وعبيداً
فأدركت أن صاحبي لن يتحول عن التفكير في الفتاة وما أساء إليها إلا متى شعر أنه نال من إيلام نفسه مثل ما نال من إيلام الفتاة. وعاد يقول:
تباً لهذه المعتقدات التقليدية التي نتلقاها من بطون الكتب وأفواه الناس في الحكم على الأجناس. لقد تآمرت الكتب والخطب والصحف والأحاديث وكل وسيلة من وسائل الإيحاء على أن هذا الجنس الأسود جنس منحط وان خلاص البشرية، إن قدر لها الخلاص، لن يجيء إلا عن طريق الرجل الأبيض وما في رأسه من علم وصدره من أريحية وأعماله من نبل وتضحية! لقد أوحى إلينا بذلك إيحاءً مستمراً حتى حسبناه من القضايا التي لا تناقش ولا يطولها باطل، وحتى غدا سواد البشرة عندنا مقروناً بظلام الباطن وحلوكة النفس وفساد السريرة
فقلت وقد أعداني صاحبي بحماسته:
- إن أجساماً تمتص النور، كما تمتصه أجسام هؤلاء السود لا يمكن أن تضم نفوساً مظلمة. إنه حيث ينفذ النور تذهب الظلمة. لقد أخطئوا خطأً فاحشاً فيما سموا أفريقيا القارة السوداء، لقد كان الأولى والأصوب أن يدعوها القارة البيضاء قارة الشمس والنور. فهل يعودون يوماً إلى الحق ويعطونها اسمها الحقيقي؟ إن في الآفاق البعيدة والقريبة مخا يكاد يشير إلى ذلك
فقال صاحبي بغبطة: صدقت، لا ظلام حيث ينفذ النور ولتكن كنية صاحبتنا وجنسها عندنا من الآن (أصحاب النور)
وأدركت أن قد سري عن صاحبي وزال أكثر ما كان يحز في صدره من ألم، فودعته وانصرف هو إلى منزله وعدت أنا إلى منزلي وقد نقشت الحادثة في صدري نقشاً لم تزله سبع سنوات كاملات مرت عليها
أديب عباسي(322/23)
كتاب البخلاء
الطبعة الدمشقية بعد الطبعة المصرية
للأستاذ عبد القادر المغربي
جاءني كتاب من بعض الفضلاء يقول فيه: إنه بعد أن قرأ في (الرسالة) ما كتبه الأستاذ (محمود مصطفى) في نقد الطبعة المصرية لكتاب البخلاء اطلع على طبعته الدمشقية التي صدرت حديثاً. فإذا هي تعلن عن نفسها بأن أعضاء المجمع العلمي الدمشقي حققوها ونشروها بالاشتراك مع مؤسسي (مكتب النشر العربي) بدمشق ولم يصرح المؤسسون بأسمائهم على الكتاب وإنما هم صرحوا بأسماء أعضاء المجمع واحداً واحداً ثم قال: (وقد رأيت في تصحيحات هذه الطبعة الدمشقية ما لا تصح نسبته إلى المجمع، لذلك حاولت نقده ثم رأيت أن أتثبت في الأمر من قبلكم أولاً).
فحفزني قول هذا الفاضل إلى نشر كلمتي هذه في (الرسالة) فتكون جواباً له ولكل من حاك في نفسه مثل الذي حاك في نفسه هو:
أنشأ السيد ظافر ابن العلامة الشيخ جمال القاسمي (رحمه الله) ورفاق له منذ بضع سنين بدمشق مكتباً لطبع الكتب ونشرها دعوه (مكتب النشر العربي). وقد احبوا أن يطبعوا (كتاب البخلاء) للجاحظ فرغبوا إلي أن أعدهم بالمشاركة في تصحيحه مع من وعدهم بذلك من أعضاء المجمع العلمي. فاعتذرت عن المشاركة في مباشرة التصحيح. وإنما أنا أقدم إليهم نسختي المطبوعة التي كنت طالعتها منذ سنين، وعلقت تصحيحاً على بعض أغلاطها. وقلت لهم استعينوا على طبع نسختكم بما في نسختي من هذه التصحيحات، فقبلوا شاكرين
ثم انقضت سنتان لم أجتمع بهم خلالها لأنظر في كيفية تصدير النسخة المراد طبعها وفي طريقة ذكر اسمي في ذلك التصدير
وإذا هم أخيراً يهدون إلي نسختهم الجديدة. وإذا على غلافها الظاهر (أن مكتب النشر حققها ونشرها بمشاركة لجنة من أعضاء المجمع) وعكسوا في الغلاف الباطن فكتبوا عليه (عبد القادر المغربي وفلان وفلان من أعضاء المجمع حققوا ونشروا هذه النسخة بالاشتراك مع مكتب النشر). ثم قالوا في مقدمة الكتاب ما نصه: (لم نجد بداً من أن نفزع إلى علماء(322/24)
العربية بدمشق نسألهم المعونة ونشركهم بالمسؤولية فلبى دعوتنا نفر منهم)
هذا ما قاله مكتب النشر العربي في هذا الشأن. أما أنا فلا أعلم أن في دمشق لجنة ألفها مجمعنا العلمي أو مرجع آخر من اختصاصه تأليف اللجان لأجل تصحيح كتاب البخلاء. ولا أعلم أنني عضو في لجنة ألفت لهذا الغرض. ولا علم أنني جلست مع مصححي الكتاب أو واحد منهم جلسة واحدة تبادلنا الرأي في تصحيح غلطة واحدة منه. ولا أعلم من نفسي أنها ترضى أن تكون مسؤولة أمام (تاريخ الأدب العربي) عنا يقع في هذه الطبعة الدمشقية من الأغلاط بمجرد مساعدتي لمكتب النشر في تقديمي له نسخة مطبوعة كنت منذ سنين صححت بعض أغلاطها تصحيح مطالع لا تصحيح ناشر طابع. بل لا أعد نفسي مسؤولاً عن تصحيحات نسختي نفسها مادامت لم تعرض لي للتثبت منها ولم أطلع على شيء من (بروفاتها) قبل طبعها. ومن الغريب أنه وقع نظري على عبارة في نسختي المذكورة قلت في التعليق عليه: (إن وصلية) وإذا مكانها في النسخة المطبوعة (إن شرطية)!
وكل ما أعلمه أنني أعطيت نسختي إلى شبان (مكتب النشر) لتصحيح نسختهم عليها بشرط أن تكون تصحيحاتي صواباً تفي نظر إخواني الآخرين الذين سيتولون بأنفسهم أمر التصحيح والتحقيق. . .
كما أن كل ما كنت أتوقعه من حضرات الناشرين الحقيقيين أن تسمح نفوسهم بالإشارة إلى هذا في مقدمة طبعتهم الجديدة. ولم يدر في خلدي قط أن تسمح نفوسهم بجعلي شريكاً لهم في مقاساة عناء تصحيح الكتاب، وفي تحمل متاعب نشره. وزادوا في السماح فجعلوني مسؤولاً عن الأغلاط التي تقع فيه!
وقد كنت أرجو أن ينصفوني بذكر نوع مساعدتي لهم، وتحديد مقدارها. كما أنصفوا زميلي الأستاذ (النعساني) مذ صرحوا في آخر الكتاب بأنه انقطع عن الاشتراك في التحقيق من بعد الصفحة الرابعة والستين. فيكون المعنى أنني أنا ورفاقي بقينا عاكفين على التحقيق إلى النهاية
لو أنصفوني كما قلت لكفوني مؤونة كتابة هذا التعليق الذي اضطررت إلى نشره في (الرسالة) خدمة للأدب العربي وتاريخه ومؤلفاته، وتفادياً من أن يقوم (محمود مصطفى(322/25)
ثان) فيناقش الطبعة الدمشقية الحساب. ويحملني تبعة أغلاطها من الباب إلى المحراب
(دمشق)
المغربي(322/26)
عودة إلى الشيخ الخالدي
مجلس آخر من مجالسه
للدكتور عبد الوهاب عزام
حدثت قراء (الرسالة) قبلاً عن الشيخ الجليل العلامة خليل الخالدي، وذكرت طرفاً من علمه بالكتب العربية ومؤلفيها ومواضعها من دور الكتب في البلاد الإسلامية كلها وفي أسبانيا
وقد سعدت بلقاء الشيخ مراراً من بعد في مصر والشام ووجدت معرفته بآثار دمشق مساجدها ومدارسها ومزاراتها ليست دون علمه بالكتب والمؤلفين
وقد شرف الشيخ حلوان منذ حين فساق الحديث إلى الكتب فأفاد وأمتع. فجنيت من حديثه هذه الثمرات:
قال إني في حيرة من أمر هذا الشريف الإدريسي مؤلف نزهة المشتاق. أعجب من رجل شريف يدخل في خدمة ملك صقلية والحروب الصليبية مستعرة، ويكتب للإفرنج عن البلاد الإسلامية فيصف لهم ثروتها وطرقها ومياهها، ويقول عن كنيسة المسيح: القبة الشريفة، وعن صخرة بيت المقدس: الصخرة التي يعتقد فيها المسلمون
ولولا أني قرأت هذا الكلام في نسخة صحيحة نقلت عن نسخة بخط المؤلف وكانت في خزائن الموحدين - وهي اليوم في كتب السلطان محمود في استنبول - ما آخذت الرجل بهذا الكلام خشية أن يكون بريئاً منه
والإدريسي في كتابه عالة على الإصطخري وابن خرداذبة، والهمذاني، وابن حوقل، وابن واضح
وسرنا في شعاب الحديث حتى ذكرنا ابن الأثير صاحب المثل السائل فقال: أديب كبير ولكنه ليس ثقة - والشيخ ينقد المؤلفين على طريقة المحدثين - قال: وقد طعن فيه الوزير القفطي وهو وزير عالم ثبت، ومن المؤلفين غير الثقاة الفتح ابن خاقان صاحب قلائد العقبان. طعن في ابن باجة بغير حق، وابن باجة من أجل علماء الأندلس وفلاسفته، وكان الفتح رجلاً يعيش في الخانات، وقد جلده القاضي عياض في الخمر، وقد مدح هو عياضاً قليلاً خوفاً منه(322/27)
وعياض عالم كبير له كتاب المشارق الذي أثنى عليه ابن الصلاح في أبيات منها:
مشارق أنوار تجلَت بسبتة ... وذا عجب كون المشارق في الغرب
قلت: كان ابن الأثير معجباً بنفسه ولكن أدبه يشفع لهذا الإعجاب عندي
قال: ومن العلماء المعجبين بأنفسهم الأتقاني الفقيه مؤلف غاية البيان شرح الهداية، وله شروح على أصول الأخصيكشي. ومنهم الصفناقي، وله شرح على أصول فخر الإسلام البزدوي وعلى الجامع الكبير. ومنهم عصام الدين وكتبه معروفة ولاسيما في بلاد الترك، ولعل سبب هذا أن حفيده قدم إلى استنبول وأقام بها. وقد أهدى عصام الدين إلى السلطان سليمان القانوني حاشيته على تفسير البيضاوي المسماة (أنوار التنزيل)
وقد رأيت في مكتبة بني قرمان في قونية خط الأتقاني على كتاب الأصول للدبوسي، وهو نسخة قديمة كتبت سنة 475، ومن هذا الكتاب نسخة بخط الأتقاني في استنبول. ورأيت في هذه المكتبة من نفائس الكتب كتاب غريب الحديث لابن قتيبة الدينوري، ما رأيته قط إلا فيها. والجزء الرابع من البخاري عليه خط الحافظ أبي الوقت الشجزي، واليه وإلى أبي زيد المروزي تنتهي روايات البخاري
ورأيت في مكتبة جلال الدين الرومي في قونية كتاب التمهيد لعبد الشكور السالمي في العقائد، وهو إمام كالماتريدي ونجم الدين النسفي. ورأيت في مكتبة صدر الدين القونوي كتاب الفتوحات المكية بخط المؤلف في سبعة وثلاثين جزءاً، وفوائد ابن حيان في الحديث بخط ابن العربي، ونصوص الحكم بخط صدر الدين. ورأيت هناك كتاب روح القدس لابن العربي عليه سماعات بخطه وكتباً أخرى عليها خطه، منها الأحكام الكبرى والصغرى لعبد الحق الأشبيلي وهما في فقه الحديث، وقد أهداه محي الدين للصدر القونوي. رأيت فيها تفسير ابن برجان الأندلسي.
ورأيت من مؤلفات الصدر الأجوبة النصيرية كتبها إجابة لخمسين سؤالاً سأله عنها نصير الدين الطوسي، وهي تشهد بتمكن الصدر من العلوم والفلسفة
ورأيت في مكتبة السلطان سليم في قونية كتاب ابن ولاد بخط أحد علماء صقلية كتب سنة 308. اهـ
وعرضت على الشيخ العلامة نسخة عندي من كتاب المثنوي عليها أبيات كتب تحتها أنها(322/28)
بخط عبد الرحمن الجامي. فقال: لا شك أن هذا خط الجامي، أنا أعرف خطه، رأيته على كتب كثيرة وخطه جيد. ومن العلماء حسني الخط الخيالي صاحب حاشية العقائد، وملا خسرو صاحب الدرر. وقد رأيت له كتاب المرآة في الأصول بخطه، وعضد الدين، والنووي، وقد رأيت قطعة من شرح البخاري بخطه. وأنا أقلد خط النووي
ومن أحسن الناس خطاً الحافظ الصدفي المرسي مسند الأندلس على الإطلاق، وابن عاصم صاحب العاصمية التي كان يحكم بها عامة قضاة الأندلس والمغرب.
ثم انساق الحديث إلى الملك المعظم الأموي فقال إنه كان أعلم بني أيوب له شرح على الجامع الكبير كان أعلم من صلاح الدين مع مكانة صلاح الدين في العلم، وإنه كان يعد في درجة النووي أو فوقه. يقال إنه كان يحفظ التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعي. وأبو إسحاق شيخ مذهب الشافعية في العراق وإمام الحرمين شيخه في خراسان
وكان المعظم يجل ابن قدامة ويقوم له إن أدخل عليه وما كان يقوم ليسف الدين الأموي صاحب الأحكام لاشتغاله بالفلسفة، وكان من درجة فخر الدين الرازي - ثم قال:
وكان الفخر ذا مكانة عظيمة عند خوارز شاه وبسببه رحل بهاء الدين والد جلال الدين الرومي عن خراسان
قلت: أرأيت لابن تيمية طعناً في جلال الدين؟ قال: نعم طعن فيه وفي الفخر وقال لو أدركت الفخر لضربته بهذا القضيب فلت: قال ابن بطوطة إنه حضر ابن تيمية في دمشق وهو على المنبر يتكلم في نزول الله تعالى إلى السماء وقال: نزل كنزولي هذا (ونزل درجة من المنبر).
قال: إن ابن بطوطة لم يدرك ابن تيمية. والتحريف في الكتب كثير ولا يعول المتثبت إلا على النسخ الصحيحة. إن أكمل الدين البابردي وعليا القارئ شرحا الفقه الأكبر لأبي حنيفة. واعتمدا على نسخة محرفة جاء فيها: (وأبواه صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر). والعبارة الصحيحة: (ماتا على الفطرة). والبابردي هذا شيخ السيد الشريف الجرجاني وتلميذ شمس الأئمة الأصفهاني الذي يقول بجواز الدور والتسلسل في الأمور العقلية
وكثيراً ما يقع العلماء في الأوهام. ألا ترى صاحب الكشاف كيف يروي خرافات إرم ذات العماد؟. . .(322/29)
ثم قال: إن الزمخشري أكثر الأخذ من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي وكتاب الزجاج في القراءات ومن تهذيب الأزهري وقد عكف عليه ثماني سنين في مدينة مرو، ومنه أخذ كتابه الفائق ولم يصرح بهذا
ثم تكلم الشيخ على المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء، وذكر الطحاوي من فقهاء الحنفية وأثنى عليه كثيراً وقال: إن قبر الطحاوي في القرافة وعليه قبة. وذكر قاضيخان وقال: رأيت إجازة بخطه دلت على ضعفه في العربية. ثم ذكر من المتأخرين ابن نجيم صاحب البحر وتلميذه الحصكفي والشرنبلالي تلميذ الحصكفي وقال: إن سبب شهرتهم أن قضاة العسكر كانوا يستفتونهم كثيراً، وكان خاتمة هؤلاء المفتين الرملي صاحب الفتاوى
ثم تكلم عن كتب المتقدمين فذكر شرح القدوري؛ قال: رأيت نسخة منه عليها خط الحصكفي. وتكلم عن كتاب المبسوط لمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وقال: هو ثلاث روايات: رواية أبي بكر خواهر زاده ويسمى المبسوط البكري، ورواية الجوزجاني ورواية الحلواني. قال: وأما مبسوط السرخسي فهو شرح كافي الحاكم الشهيد الجامع لكتب محمد بن الحسن. قلت: يقال إن السرخسي أملى المبسوط وهو في السجن. قال: الذي أعرفه أن السرخسي ألف كتاب الأصول في قلعة أوزجند، وقد رأيت نسخة منه بخط العلامة الكردلي شيخ البزاز أولها: قال السرخسي في زاوية من حصار أوزجند. أهـ
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام(322/30)
خليل مردم بك وكتابه في الشاعر الفرزدق
لأستاذ جليل
يقول الأستاذ: (وقد يداخل (الفرزدق) في كلامه ويعاظل في تراكيبه، ويقدم ويؤخر ويتجوز في استعمال الوحشي والغريب والإقواء، وما هو أشبه باللحن؛ وذلك لثقته بنفسه واعتماده على سليقته ولقساوة في طبعه. قال كردين: (سقط الفرزدق شيء يمتحن الرجال فيه عقولهم حتى يستخرجوه). سمعه ابن أبي إسحاق الحضرمي مرة ينشد:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف
فقال له ابن أبي إسحاق: (على أي شيء ترفع أو مجلف؟ قال: على ما يسوءك وينوءك. . .)
والبيت (المجلف) من شواهد الكشاف في مكانين: (فشربوا منه إلا قليلاً منهم. وقرأ أبي والأعمش إلا قليل بالرفع، وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية؛ فلما كان معنى فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعون إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق (لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف) كأنه قال: (لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف) وقال في سورة طه: (قرء (فيسحتكم) والسحت لغة أهل الحجاز، والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومنه قول الفرزدق (إلا مسحتاً أو مجلف) في بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه. . .)
وفي (الخصائص): (قولهم ودع الشيء يدع إذا سكن فاتدع متبوع متبع، وعليه أنشد بيت الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف
فمعنى لم يدع بكسر الدال لم يثبت، والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره لم يدع فيه، وهذا أمر ظاهر)
وأورد الأستاذ أمثلة مما أشار إليه كردين، وشغلت به الأئمة في القديم، وقد اجتزأنا نحن من تلك الدواهي بواحدة. . .
الفرزدق هو - كما قال الأستاذ - في (صحة اللغة وفصاحة الأسلوب) وقد رويت القول من قبل. وأشعار أبي فراس مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ، وأبياته في المصنفات اللغوية(322/31)
هي من أوائل الشواهد. فلو رجع إليها الفاضل عبد الله الصاوي الذي (عني بجمع ديوان الفرزدق وطبعه والتعليق عليه) في شرح (الأوابد) في بيت الفرزدق:
لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي بتنحل الأشعار
ما كان قال: (شبه القصائد بأوابد الوحش). وأوابد الوحش نفرها، ومثل هذا الشرح يذل البيت ويزيغ القارئ - فلو رجع إلى اللسان والأساس لوجد الأول يقول: (يقال للشوارد من القوافي أوابد. قال الفرزدق: لن تدركوا. . . وقافية شرود غائرة سائرة في البلاد) ووجد الثاني يقول: (أوابد الشعر التي لا تشاكل جودة قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي الصحاح: (يقال للشوارد من القوافي أوابد قال الفرزدق: لن تدركوا. . .) وفي التاج: (الأوابد القوافي الشرد مجاز. قال الفرزدق: لن تدركوا. . .)
ولو رجع العلامة اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي إلى كتب الأدب واللغة ما كان قال في مجلته (الضياء) السنة (3) الصفحة 485 - : (قال الفرزدق:
والشيب ينهض في الشباب كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهارا
أراد بقوله يصيح صيغة المتعدي من قولهم انصاح القمر، فنقل المعنى إلى النهار كما قال البديع: فلما انصاح النهار بجانب ليلى، ثم استعمل منه متعدياً بتجريده من الزيادة، وهو غير منقول في هذا المعنى)
فلو رجع الشيخ إلى (إعجاز القرآن) للباقلاني و (ديوان المعاني) للعسكري و (حماسة البحتري) و (الأغاني) و (نثار الأزهار) لابن منظور صاحب اللسان، و (الكامل) للمبرد و (أساس البلاغة) و (لسان العرب) و (تاج العروس) لوجد في هذه الكتب كلها رواية البيت الصحيحة:
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
ووجد في اللسان والتاج هذه الفائدة: (. . . عن أبي عبيده أن جعفر بن سليمان قدم عند المهدي فبعث إلى يونس بن حبيب فقال: إني وأمير المؤمنين اختلفنا في بيت الفرزدق وهو (والشيب) ما الليل والنهار؟ فقال الليل هو الليل المعروف وكذلك النهار فقال جعفر: زعم المهدي أن الليل فرخ الكروان والنهار فرخ الحباري. قال أبو عبيده القول ما قال يونس؛ وأما الذي ذكره المهدي فهو معروف في الغريب ولكن ليس هذا موضعه. قال ابن بري: قد(322/32)
ذكر أهل المعاني أن المعنى على ما قال يونس وإن كان لم يفسره تفسيراً شافياً، وإنه لما قال: (ليل يصيح بجانبيه نهار) فاستعار للنهار الصياح لأن النهار كان آخذاً في الإقبال والإقدام، والليل آخذ في الإدبار صار النهار كأنه هازم والليل مهزوم، ومن عادة الهازم أن يصيح على المهزوم. ألا ترى إلى قول الشماخ:
وألقتْ بأرجاء البسيطة ساطعاً ... من الصبح لما صاح بالليل نفّرا
فقال: (صاح بالليل حتى نفر وانهزم)
وبيت الفرزدق في قصيدة مشهورة ناقض بها قصيد لجرير مطلعها:
لولا الحياء لهاجني استعبار ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
وفي قصيدة الفرزدق هذه الأبيات:
إن الملامة مثل ما بكرت به ... من تحت ليلتها عليك نوار
وتقول: كيف يميل مثلك للصبا ... وعليك من سمة الحليم عذار؟!
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
إن الشباب لرابح من باعه ... والشيب ليس لبائعيه تجار
فالفعل (يصيح) وماضيه (صاح) أي صات، و (نهار) مرفوع فاعل يصيح. وللشيخ اليازجي عجائب في نقد متقدمين وسنعود إلى تبيينها في وقت
في شعر الفرزدق ألفاظ كثيرة فاتت المعجمات التي نعرفها مثل اللسان والتاج وغيرهما. من ذلك (التظاليل والوهون) وقد وردت الأولى في قوله:
وظلماء من جرّا نوار سريتها ... وهاجرة دوّية ما أقيلها
جعلنا عليها دوننا من ثيابنا ... تظاليل حتى زال عنها أصيلها
وجاءت الثانية في قوله:
وحبْل الله حبلك من ينله ... فما لعُرى إليه من انفصام
فإني حامل رجلي ورحلي ... إليك على الوهون من العظام
والوهون من مصادر وهن وقد ذكروا الوهن بالسكون والحركة. وإني لأستبعد قصده الوهون بفتح الواو بمعنى الضعيف
وفي العربية ألوف من الألفاظ الجاهلية والإسلامية لم تجلبها كتب اللغة. وقد بينت هذا(322/33)
الأمر المهم في جريدة (البلاغ) المشهورة منذ خمسة أحوال في مقال عنوانه: (العربية، أحاديث فيها) حين أقمت في القاهرة - قبل المرابطة في هذا الثغر - وكنت أكتب (أحرر) في تلك الجريدة
لما تقدم الغربيون ونجم فيها العربانيون وأراد هؤلاء أن يخبروا الأمم العربية والإسلامية الخبرة البليغة ليخدموا دولاتهم في سياساتها أو لمآرب أخرى ذهبوا إلى مثل (الفرزدق) يستنطقونه ويستهدونه، والعالم العاقل لا يضل سبيله، ولا يخطئ حين يختار دليله. وأعمال العربانيين في هذا المعنى، شهرتها تغني عن الإفاضة فيها
ولما كانت المدنية العربية وهم عمرو بن بحر (الجاحظ) وعلي بن عبيده (الريحاني) وعلي بن محمد (أبو حيان التوحيدي) وحبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) والوليد بن عبيد (البحتري) واحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) ونظراؤهم، فلما عزم هؤلاء النابغون أن يحذقوا لغتهم، ويرصنوا أدبهم، بادروا إلى مدرسة (الفرزدق)، وجثوا بين يديه، وتأدبوا في العربية عليه، ومن صار إلى الينبوع العد ذي النمير السلسال وكرع فيه ارتوى، ومن سعى إلى منجم الألماس ومعدن الذهب رجع جذلان غنياً
وإني لموقن الإيقان التام أن الأمم العربية يوم ترتقي بعد ثلاث مائة سنة (إن شاء الله تعالى) ستحرث الجاهلية والإسلامية (الأموية) حرثاً، وستأصلها علماً أصلاً فلا تذر لفظة من ألفاظها - وإنها لكثيرة - شردت عن أصحاب المعجمات إلا اصطادتها، ولا خبراً مستعجماً إلا ابتحثته ووضحته، ولا ديواناً لكبير وصغير من الشعراء والشواعر إلا أظهرته. وستكرم دواوين لؤمت طبعاتها، وسود التجار الفجار (أو السماسرة) وجوههم عند الله بتشويه صفحاتها.
وستفتن علماء ذاك الزمان الآتي في التأليف في أدب الجاهلية والإسلامية افتناناً. وسيفضلون العربانيين والأئمة من العربيين السابقين (بذوق) حرمه الله الإفرنجي المستعرب أي حرمان، وبذرائع من الطباعة وغير الطباعة لم يحظ بها العالم العربي من قبل. وسيفهم أولئك المرتقون المتقدمون من مثل قول المأمون: (خير الكلام ما شاكل الزمان) ما لم يبد للمنتمين إلى الأدب العربي من العصريين، والمفقحون يجتلون ما لا يبصره المصأصئون(322/34)
لقد بعث الأستاذ المردمي (همام بن غالب) في هذا الوقت و (البعث) حق، و (الرجعة) عند قوم
إنه اليوم في القاهرة (الحاضرة اللغوية للأمم العربية) إنه الساعة في دار (الجامعة المصرية، جامعة فؤاد الأول) - رحمة الله على الملك العالم - وهاهو ذا يخطب (الدكاترة) والأساتذة والتلامذة وهم حافون به. إنه ليهدر بصوت ذي نهيم كنهيم الأسد، صيت صهصلق، وإنا لنسمعه يقول:
أنا همام بن غالب. أنا الفرزدق
أنا أستاذ (الخليل) و (الريحاني) وحبيب
وإنها العربية الجاهلية الإسلامية الأموية خادمة (الكتاب) والتي قد كونت هذا اللسان
إن الناطقين بالضاد في كل زمان ومكان إلينا لمفتقرون
أنا همام بن غالب وزميلاي جرير بن عطية وغياث بن غوث فالعلم كل العلم في أن تعرفونا وتعرفوا الإسلاميين والجاهليين، والجهل كل الجهل في أن تنكرونا
أنا الفرزدق!!
(تصفيق مشتد بدأ به الصديقان الأستاذ أحمد أمين والدكتور عبد الوهاب عزام، وتبعهما الأستاذ إبراهيم مصطفى وسائر الأساتذة والتلامذة)
حيا الله أديبنا الكبير الأستاذ المردمي وبيّاه بما أحيا لنا (الفرزدق) في هذا الزمان حتى يخطب في (الجامعة) خطبته، ويقول في الجاهلية والإسلامية مقالته، ويصدع بالحق. وقيل (الفرزدق) هو القيل:
إذا قالت حذامِ فأنصتوها ... فإن القول ما قالت حذام
هذه كلمات اقتبست من فضل الأستاذ المردمي، وطاقات اجتنيت من روض أدبه، أقدمها إليه إعجاباً وإجلالاً وتحية.
(الإسكندرية)
(* * *)(322/35)
أوراق مبعثرة. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
هاهي ذي نسيمات الصيف تهوي إلى هذا الوادي الضاحك. . . قافزة كالفتاة اللعوب؛ تلهو بين العشب وترف فوق الزهر، وتتيه وراء النهر. . . ثم تعانقني، فتهمس في أذني بحياء، وتدغدغ وجهي بدلال. . . فأغمض عيني نشوان. . . فإذا بأوراقي تتبعثر. . . وبذكرياتي تهيج!. . .
يا عجباً لهذه الأوراق!! إن فيها قصة الشباب المستحير والحب الطروب. . . ولكن ما أجدر بعضها بالقراءة. فإن فيها كثيراً من تهاويل الفن، وفرائد الشعر، ونوادر الفكر، وأهازيج الشعب، وأضاحيك الناس. . . أيضاً. . . فلتجمعها (الرسالة) فهي روضة الأدب الزاهر. . . وقيثارة الناغم. . . ومجلته الشرود. . .
- 1 -
قرأت اليوم كتاب (طاغور) عن الشاعر ودينه. إنه يجنح إلى الدقة حتى ليصعب عليك فهمه، ويميل أحايين إلى السهولة حتى ما تجد أحلى ولا أملى منه. إن له آراء طريفة. . . هو يرى أن دين الشاعر ليس كدين الناس (لأن دين الناس عقيدة تهون بها المعضلات. . . فينقلب فيها الشك إلى يقين، والتمرد إلى إذعان). أما دين الشاعر فرقيق رجراج لا يخضع لشيء ولا يقيده شيء. هو كالقضاء الذي يحيط بالأرض تتلاعب في جنباته الظلال والأنوار، ويبدو الهواء فيه كالراعي الجميل ينفخ في مزماره ويغني بين قطائع الغيوم. إنه لا يقودنا إلى هدف ولا يجري بنا إلى غاية، لأنه مطلق لا تحيط به الجدران فتقيده؛ ولا الحدود الضيقة فتحدده؛ ولأنه واسع تتراءى لك فيه عوالم بعيدة وقريبة، تسمع منها زفرات اليائسين، وأنين البائسين، وأغاريد العصافير؛ وتحس بها لغب العاملين، وحمى الضعفاء، واضطراب الوالهين؛ وتستنشق عطر الورد وأريج الياسمين، وترنو إلى دموع العذارى، وعبرات الثكالى، وحزن البنفسج، ورفيف الندى، وضحك الربيع. استمع معي إلى هذا النشيد:
(أبريل يا أبريل. . .! اضحك كالفتاة الخلوب. . . ثم اذرف الدمع مثلها!)
(أبريل يا أبريل. . .! يا من له أذناي، غن كالحبيب عندما تسمع أنيني وترى نحيبي، ثم.(322/36)
ثم اضحك ضحكة فيها الذهب. . . وازرف الدمع المذوب في الذهب!. . .)
فماذا وجدت؟ أليس هذا نوعاً من (الترف في الشعور؟) واستمع أيضاً إلى شاعر بنغالي قديم:
(استيقظت عند الصباح على خفق شراع القارب يا عروسي الجميلة، فتركت الشاطئ لأتبع الموج الصارخ. . . ثم سألتك: هل آن يا فتاتي حصاد الأحلام في تلك الجزيرة النائمة وراء الأفق الأزرق الجميل. . .؟ فسقط صمت ابتسامتك على سؤالي كما يتساقط صمت الأشعة على الأمواج. . . وانقضى النهار مملوءاً بالأعاصير، وهبت ريح عاتية دفعت بالقارب السكران إلى بعيد، فسألتك: أفي هذه الربوع، تحت رماد هذا النهار الميت. . . الذي ينطفئ على رود. . . شيدت برج أحلامك؟! فلم أسمع جواباً؛ ولكن ومضت عيناك كما تمض حفافي الغمام تحت شمس الطفل. وأقبل الليل. . . فغمرك الظلام، وداعب الهواء شعرك، وداعب شعرك خدي ففاح منك العطر، وهاج مني الأسى، وتاهت يداي تفتشان عن رفارف ثوبك، وسألتك: أوراء النجوم جعلت يا عروس رحلتي قبرك الذي ستدفنين فيه بين الورد والزهر؟. . . هناك. . . حيث ينقلب صمتك إلى نغمات، وحزنك إلى ضحكات. . .؟! فرف ثغرك. . . في الظلام كما ترف نجمة الليل. . . وراء الضباب!) فما هذه إلا نغمات حلوة تذهلنا عن الناس كلما طربنا لها وملأنا نفوسنا بها وهذا هو الشعر الجميل. . .
(دمشق)
صلاح الدين المنجد(322/37)
كتاب الأغاني
لأبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
إصرفوا عني طبيبي ... واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي ... وفؤادي بالنحيف
فاصرفوا عني طبيبي
الشعر (لليلى المريضة في العراق)، وفيه لحن للجاحظ لم تدون نغمته
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: إن (ليلى المريضة بالعراق) ليست إلا كناية عن الآداب العربية. فهي شخصية خيالية: كماريانا الفرنسية، وجون بول الإنكليزي. وقد تعلق بها في كل جيل كبار أدبائه، وإنما أمرضها كثرة العشاق.
قال: وقد كثرت هداياهم إليها، وكان معظم الهدايا من الأدب الجاهلي، وهو كما تعلمونه ثقيل على المعدات الرقيقة، فأصيبت بعسر الهضم، وما يتلوه من ضعف الكبد ومرض السكر وسائر الأمراض التي تحدث عنها الأستاذ العقاد في مقاله عن (مطاعم الأغنياء).
قال: وكان ممن افتتنوا بها العلامة الجاحظ الذي كاد يشفيها بطبه الناجع، وما طبه إلا العلاج بنبات الأرض التي نشأ فيها المريض، وبالإقامة مدة ما في الجو الذي كانت فيه النشأة، فاستحدث لها من ملابسات الحياة الحاضرة إلى عهده أدباً غير مخزون ولا غريب فأبلت وكادت تعود إلى عهدها من الغضارة والنضارة، حتى ابتلاها الله بطبيب اسمه خلف الأحمر فأعاد لها هدايا الجاهلية، وعاودها المرض من أجل ذلك. فلم تزل مريضة إلى اليوم.
قال: وقد وفقني الله سبحانه وتعالى إلى دواء ناجع فاعتزمت الجامعة أن تنشئ فيها كرسياُ للأدب المصري، وليلانا المريضة في العراق مصرية بلا ريب. فأعددت لها دواء من أعشاب الحياة المصرية، وبعثت إلى أخوالها في بغداد أن يرسلوها.
قال: لكن الرسول الذي بعثت به إليها تطبب وكان كرسول المتنبي الذي يقول فيه:(322/38)
ما لنا كلنا جوٍ يا رسول ... أنا أهوى وقلبك المتبول
كلما قد بعثت طيفاً إليها ... غار مني وخان فيما يقول
قال: وهذا الطيف المتطبب لما لقيها في بغداد استبقاها هنالك وأهدى إليها هدية من الأدب الأندلسي. ففي ذلك تقول:
اصرفوا عني طبيبي ... واتركوني وحبيبي
جسدي راض بسقمي ... وفؤادي بالنحيب
فاصرفوا عني طبيبي
وهذا اللحن قديم، كانت تقوله من عهد الجاحظ الأول، وأعادته في عهد الجاحظ الثاني؛ وكل الفارق بين الجاحظين أن أحدهما ذو لون حائل، وشق مائل، ولعاب سائل؛ وأن الثاني ذو يراع صائل، ولسان جائل. . . وقد نسيت السجعة الثالثة!
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: (هذا اللحن لليلى المريضة في العراق، ما في ذلك شك، وأنا الطبيب، وأنا الحبيب؛ وإنما أرادت صرفي من الباب لكي آتي من النافذة بعد قليل، وهي القائلة على لسان عمر بن أبي ربيعه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا ... لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ولكنني لا أنظر إلا إليها، ولا أنظر إلا وعيناي مفتوحتان إلى أقصى حد تستطيعان. وماذا علي في ذك:
يقولون لا تنظر وتلك بلية ... وما فتحت عيناي إلا لتنظرا
وفي الحق أني أهديت إليها هدية من الأدب الأندلسي وهي موشح من موشحات الهجاء فيمن يتعرضون للأدب الجاهلي. وهاأنذا أرشح نفسي لكرسي في الجامعة للأدب الأندلسي بان أسرف في مدح الأدب الجاهلي. وماذا علي في ذلك؟ أليست الأندلس قد تأثرت بالأدب الجاهلي أكثر مما تأثرت به بقعة أخرى من بقاع العروبة؟ صحيح أن أهل الأندلس كانوا مزيجاً من البربر والأوربيين والعرب؛ وصحيح أنهم كانوا يستقون أدبهم من حياتهم في مناخ بعيد عن المناخ الجاهلي، ولكن، هل الأدب أدب لغة أم الأدب أدب قوم؟ هذه هي المسألة كما يقول الشيخ عبد العزيز البشري نقلاً عن شكسبير؟
اللغة الإنكليزية في أمريكا قد طبعت العقلية الأمريكية بطابع إنكليزي. من ذا الذي يشك في(322/39)
ذلك؟ ولكن هل يجرؤ أمريكي أن يقول إنه أمريكي؟ أليس عليه أن يقول إنه إنكليزي وإنكليزي قبل كل شيء، وإنكليزي ثم لا شيء؟!
قال الدكتور زكي: ثم إن اللغة العربية لغة عالمية، والصفة العالمية هي أبجدية الإنسانية. فلا يكون الإنسان وطنياً إلا وفيه من الصفات الإنسانية العالمية الشيء الكثير. ثم تتفرع عن الصفات العالمية الأبجدية في حياتنا صفات القومية. فلماذا لا نقف عند الأبجدية؟ ولماذا ندرس الأدب المصري كفرع من فروع الأدب العربي ولا ندرس معه الأدب الأندلسي؟
صحيح أن الأدب الأندلسي قد ضاع معظمه إحراقاً وإغراقاً ولكن لماذا لا ندرس الأدب الذي ضاع؟ ألم أقل إن هناك نثراً جاهلياً، وإن هذا النثر الجاهلي قد ضاع، وإن علينا أن ندرس هذا النثر الجاهلي وإن كان قد ضاع؟ ألا نستطيع دراسته على طريقة المتصوفة بالتسبيح بآلائه والاكتفاء عنه بأسمائه؟
على أني سألزمهم الحجة الدامغة. . . أليس الأدب المصري هو العصر الثاني من الأدب الأندلسي؟ ألم يبدأ الأدب المصري بالأندلسيين الذين هاجروا إلى الإسكندرية، وأقام أكبرهم شأناً فيها عشرين عاماً أنشأ فيها أولى المدارس الأدبية؟ ألم يقرءوا شيئاً عن ابن زهر ومقامه في الإسكندرية أميناً لمكتبتها في نفس الوظيفة التي يشغلها الآن الشيخ بشير الشندي، والتي شغلها السيوطي مدة من الزمن؟
أو ليس ابن زهر هو أستاذ ابن قلاقس وابن الحداد والوجيه؟ ثم أليس ابن الحداد نفسه أندلسياً. . . والمدارس الدينية كمدرسة أبي الحسن الشاذلي ومدرسة أبي العباس المرسي ومدرسة الشاطبي؟ ألم يكن هذا كله هو الأساس الأندلسي الذي بنى عليه الأدب المصري، وشعراء الإسكندرية المعاصرون؟ أليسوا من نسل أندلسي؟ أليس لقب أحدهم آخر شعراء بني الأحمر؟ وأنشد
صوت
عجباً يا قوم قولوا عجباً ... جحدوا الفن وخانوا الأدبا
جعلوا جِدّيَ فيهم لعبا ... بلغوا الذروة في الصيت وما
أنصفوا الآداب في الأندلس(322/40)
يا أبا العباس يا مرسي ويا ... شاطبيٌ باركا نقدي ويا
سيدي موسى بن ميمون ويا ... أولياء الثغر بالله أما
تسمعون القدح في الأندلس
قال: وسيدي موسى بن ميمون كان عالماً عربياً في الأندلس، ثم صار الحاخام الأكبر للطائفة الإسرائيلية في الإسكندرية. فكيف يبدأ أستاذ الأدب المصري بتعليم الأدب المصري قبل أن أنتهي أنا من تعليم الأدب الأندلسي!
حدثنا الأستاذ ساطع الحصري بك قال: فيم يختصم هؤلاء؟ أفي دواء لمريضة عندي ولن أبعث بها إليهم؟ إن ليلى هنا وستظل ليلى هنا، فلا دواء من الأدب الأندلسي ولا من الأدب المصري ولكن من المركب العربي بمقادير ونسب. أما لهؤلاء المتخاصمين من ينشدهم شعر العقاد؟
صوت
ما في يدي منه لا عين ولا أثر ... ولي عليه مغاليق وأعيان
قال أبو الفرج: وقد انتهت الخصومة في شان كرسي الأدب المصري وكرسي الأدب الأندلسي إلى صلح عقده الأستاذان المتخاصمان، وأهم شرائطه أن يشتركا في نشر كتاب الأطباء لابن أبي أصيبعة، ففيه سير الأطباء الشعراء من الأندلسيين الذين كانوا نواة للأدب المصري في القرن السادس الهجري ثم يضيفانه إلى قائمة الكتب العشرة المختارة.
قال: ولقد نشأت عن هذه الخصومة ذيول تمت هي أيضاً بزيادة القائمة زيادة عظيمة!
بارك الله في هذه الخصومات، حتى تستمر أمثال هذه الزيادات
عبد اللطيف النشار(322/41)
نقل الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي
494 - أقبل على سوقك
دخل أبو العتاهية على ابنه محمد، وقد تصوف فقال:
ألم أكن قد نهيتك عن هذا؟
فقال: وما عليك أن أتعود الخير، وانشأ عليه؟
فقال: يا بني، يحتاج المتصوف إلى رقة حال، وحلاوة شمائل، ولطافة معنى. وأنت ثقيل الظل، مظلم الهواء، راكد النسيم، جامد العينين. فأقبل على سوقك؛ فإنها أعود عليك. وكان بزازاً
495 - نزيل الجبال بالريش
قال ياقوت، قال أبو الرملي: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبي، فدخل عليه بعض أكابر الديلم، فتزحزح له، وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلاً، فساره الديلمي بشيء لم نعلم ما هو. فقال له متضجراً: نعم. واخذ معه في كلام كأنه يدافعه. فنهض الديلمي، فقال المرتضى بعد نهوضه: هؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش. . . وأقبل على من في مجلسه. فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟ فقالوا: لا
فقال: قال: بين لي هل صح إسلام أبي بكر وعمر؟!
596 - ملائكة!!!
في (تاريخ بغداد): اشترى السري بن المغلس السقطي كر لوز بستين ديناراً، وكتب في روزنامجه: ثلاثة دنانير ربحه. فصار اللوز بتسعين ديناراً. فأتاه الدلال وقال: إن ذاك اللوز أريده. فقال له: خذه! قال: بكم؟ قال: بثلاثة وستين ديناراً. قال الدلال: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. قال له: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله. ليس أبيعه إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إني عقدت بيني وبين الله ألا أغش مسلماً لست آخذه منك إلا بتسعين. فلا الدلال اشترى منه، ولا السري باعه!
597 - وشاهدي فيما ادعيت القمط والتمريخ(322/42)
في (وفيات الأعيان): كان المبارك بن أبي الفتح الملقب شرف الدين، قد خرج من مسجد بجواره ليلاً ليجيء إلى داره. فوثب عليه شخص وضربه بسكين قاصداً فؤاده. فالتقى الضربة بعضده فجرحته جرحة متسعة. فأحضر في الحال المزين فخاطها ومرخها وقمطها باللفائف. فكتب إلى الملك المعظم (مظفر الدين صاحب أربل) يطالعه بما تم عليه في هذه الأبيات:
يا أيها الملك الذي سطواته ... من فعلها يتعجب المريخّ
آيات جودك محكمٌ تنزيلُها ... لا ناسخ فيها ولا منسوخ
أشكو إليك (وما بُليت بمثلها) ... شنعاَء ذكرُ حديثها تاريخُ
هي ليلةٌ فيها وُلدتُ وشاهدي ... فيما ادعيت القمط والتمريخُ
وهذا معنى بديع جدا. ً
598 - ورد تفتح في فنن
قالوا: أحسن ما قيل في الضربة الدامية قول ابن المعتز:
شق الصفوف بسيفه ... وشفى حزازات الإحن
دامي الجراح، كأنه ... وردٌ تفتح في فنن
599 - لقاء الله. . .
في (طبقات الشافعية): قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت أبا بكر بن فورك يقول: سئل الأستاذ أبو سهل محمد ابن سليمان الصعلوكي (شيخ عصره) عن جواز رؤية الله (تعالى) من طريق العقل. فقال: الدليل عليه شوق المؤمنين إلى لقائه، والشوق إرادة مفرطة، والإرادة لا تتعلق بالمحال
فقال السائل ومن الذي يشتاق إلى لقائه. . .؟
فقال الأستاذ أبو سهل: يشتاق إليه كل حر مؤمن، فأما من كان مثلك فلا يشتاق. . .
600 - لطيف. . .
في (مفاتيح الغيب): قال أبو علي الحسن الغوري: كنت في بعض المواضع فرأيت زروقاً فيه دنان مكتوب عليها: لطيف. فقلت للملاح: إيش هذا؟ فقال: أنت صوفي فضولي، وهذه(322/43)
خمور المعتضد. فقلت له: أعطني ذلك المدري. فقال لغلامه: أعطه حتى نبصر إيش يعمل. فأخذت المدري وصعدت الزورق فكنت أكسر دناً دناً، والملاح يصيح حتى بقي واحد فأمسكت فجاء صاحب السفينة فأخذني وحملني إلى المعتضد، وكان سيفه قبل كلامه. فلما وقع بصره علي قال: من أنت؟ قلت: المحتسب. قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الخلافة. قال: لم كسرت هذه الدنان؟ قلت: شفقة عليك. قال: فلم أبقيت هذا الواحد. قلت: إني لما كسرت هذه الدنان كسرتها حميةً في دين الله. فلما وصلت إلى هذا أعجبت بنفسي فأمسكت ولو بقيت كما كنت لكسرته. فقال: اخرج يا شيخ، فقد وليتك الحسبة فقلت: كنت أفعله لله (تعالى)، فلا أحب أن أكون شرطياً
601 - . . . لا يلزم باب السلطان
في (مسالك الأبصار ومروج الذهب): كتب على باب (النوبهار) بالفارسية: قال سوراشف الملك: أبواب الملوك تحتاج إلى ثلاث خصال: عقل، وصبر، ومال. ثم لما ملك الإسلام مدينة بلخ كتب تحت هذه الكتابة بالعربية: كذب سوراشف؛ الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الخصال ألا يلزم باب السلطان(322/44)
بائعة (الكازوزة) الحسناء
للأستاذ علي الجندي
تتردد على جسر الخديو إسماعيل وما جاوره من شواطئ النيل، فتاة في زي القرويات سمعت من يدعوها (هند) يجلس بجوارها في أغلب الأحيان رجل أحسبه يمت إليه بصلة القرابة، ولعل مهمته الأولى أن يحرسها من ذئاب البشر الضارية
هذه الفتاة على حظ عظيم من جمال الفطرة البريء من الصنعة. وقد اعتادت إذا مر بها المتنزهون في ذهابهم وجيئهم أن تعرض عليهم بضاعتها في بشاشة ورقة وأدب
وحدث أنني كنت أرتاد هذه البقعة متفرجاً في بعض الليالي المقمرة، فمررت بها مصادفة - مصادفة يا وزارة المعارف - فابتسمت لي وقالت بصوت يقطر ليناً: تعال يا أمر (قمر) اشرب كازوزة. وقد منعني ما اصطنعه من وقار المربين من تناول شرابها المشعشع بالثلج، ولكنني استطعت أن أرد على التحية بأحسن منها!
وحاولت جاهداً أن أتخلص من تأثير كلمتها (يا أمر) فلم استطع! فقد خالطت مني اللحم والدم، وفعلت بي فعل السحر! كنت أظن - وبعض الظن إثم - أنني جاوزت مرحلة الشباب، فأعادت لي هذه الكلمة الثقة بنفسي وقلبي! وتركتني ألتفت إلى الماضي أستحضر صوره المحببة! ناثراً الدمع في دمن الأنس العافية، وأطلاله الدوارس!
ومخضوبةِ الأطراف، مُخْطَفة الحَشَا ... على الشَّطِّ تخطو في دلال وفي خَفَرْ
يميس بها سُكْرُ الشباب فتنثِني ... كغصنٍ زَهتْه الريحُ أو شادنٍ خَطَر
تكاد السباع المقعِيات حيالَه ... تخفُّ إليه - صابيات - مع البشر
جَلاها الجمال النضر في ثوب فاقةٍ ... وما حاجة الغيد الغواني إلى الحِبر؟
وهل عابها أن تَعْدَم الوَشْىَ والِحلَى ... وقد أطلعتْ من وجهها بُلجَةَ السَّحر؟
إذا هتفتْ بالظامئين تَهافتو ... عليها كنحل هاجها مونق الزهر
وما بهِمُو بردُ الشَّراب، وإنما ... نُفوسٌ تَوَافتْ من رَدَاهِا على قَدَر
إذا هي هَشَّتْ للوُرود، فإنها ... - وإن نِعمتْ بالرِّي - لا تحمَدُ الصَّدَر
عفا الله عنهم! إن شَفَوْا غُلَّةَ الصَّدى ... فَمَن لجوىً بين الجوانح يَسْتَعِر؟
تَرى الشَّرب حول الوِردَ شَتَّى، فلاحظٌ ... حُشاشته وجداً، وآخرُ ينتظر(322/45)
ومنْ صادرٍ عنه بمهجة والهٍ ... تكاد من الشوق المبرِّح تنفطر
مَرَرتُ بها - كالطيف - أسترق الخُطا ... أحاذِرُ أنْ أصبو، وهل ينفع الحذَر؟
فما راع سمعي غيرُ صوت مُنغَّمٍ ... يُخالُ - لفّرْطِ اللينِ - ترنيمةَ الوتَر
تقول - وبدرُ التَّم في الأفق سافرٌ ... يُفضِّض تِبْر النيل -: أيكما القمر؟
هَلُمَّ إلى راح طهُورٍ تُدِيرها ... عليك رَدَاحٌ زان أجفانَها الحَوَر
ستشربها صِرفاً، وإن شئتَ مزجها ... فدونك صْفوَ الشهد من ثغريَ العَطر
تألَّفتِ اللذاتُ: ماءٌ وخُضرةٌ ... ووجهٌ كصبحٍ تحت جُنحٍ من الشَّعر
وهذا النسيم الرَّطْبُ ينفَح بالشَّذا ... فيفعَل بالألباب ما يفعَل السَّكَر
فخُذْ بنصيب من هناء معجَّل ... فإن الليالي غيرُ مأمونة الغِيَر
فقلتُ لها: خلِّي التَّصابي لأهله ... فما للمُرَبَّي في جَني الحسن من وطر
إليكِ، فلي (بالضاد) شُغلٌ عن الصبا ... وفي الدين عن وصل الكواعب مُزدجرْ
دعيني، فما لي والهوى - قُتلَ الهوى -! ... ألم يكفِ ما حُمِّلتُ في زمن غَبَر؟
أُرِقتُ ونام الناس مِلَء جفونهم ... أبكي لظبي صَدَّ، أو جُؤذَرٍ نفَر
فمن ذاق منه الأعذَبين فإنني ... لقيتُ به التبريح والهم والسهر
فلا تنكئي قرحاً بقلب دملته ... على لوعة حرى، ووجد قد استدر
ألم تُبصري فودي تنفس صبحه ... وكان حبيباً - للدُّمى - ليله العكر
وما ذاك من مَرِّ السنين، وإنما ... لبستُ بياض الشيب في مَيْعة العُمُر
جناه على رأسي زمانٌ مُذمَّمٌ ... يشوب لنا صفو اللذائذ بالكدر
ربيع ولا خصب، وظل ولا ندىً ... وماء ولا ريّ، وروض ولا ثمر
شقائيَ أني بين قوميَ دُرّةً ... وقد خلقوا تعشى عيونهم الدرر
ولو أنهم هانوا عليَّ، وسَمْتُهمْ ... على الأنف، لكنْ مَن له شيمتي غفَر
أُشيد لهم مجداً ويأبَى سِفاههم ... سوى هدمه! هل يستوي النفع والضرر؟
تَواصَوْا على أكلي - وفي لحميَ الردى - ... وما في النًّهى أن تُؤكلَ الحيّة الذكر
تولّى زمان اللهو (يا هند) فاعذري ... وأقصرَ عما كان غَيّه (عُمَرْ)
كفتنا - على برْح الجوى - منك نظرة ... وفي دين أهل الشعر لا يَحْرُم النّظر(322/46)
سقى الغيثُ عهداً كم دعاني به الهوى ... فلبيتُ، لا أُعنَي بمن لامَ، أو عذَر
زمانَ فؤادي بالحسان مُوكلٌ ... إليهن أسعى بالأصائل والبُكر
شفيعي إليهن الصبا، ووسيلتي ... رَقائقُ أشعارٍ يلين لها الحجر
مرابع غِزلان تعفَّت، ولم تكن ... سوى مُتعة الآذان والقلب والبصر
نديمي بها (سُعْدَى) وريقتها الطلى ... وروحي وريحاني الأحاديث والسّمَر
كأنّ فؤادي يُسْعَر الجمرُ فوقهُ ... - إذا عادت الذكرى - ويوخز بالإبر
وحيّاك عنّا الله يا (هند) كلما ... تخطرتِ بالشطين، فاستضحك النهَر
ودام لك الوجهُ الصبيح، ولا ذَوَى ... عليك شبابٌ من صِبا (الخلد) مختصر
نظمنا لك الشعر النضير قلادةً ... ترف على رمانتي غصنك النضر
إذا ظفِرتْ حسناء منه بحلية ... فما ضر أن يغري بها البدو والحضر
علي الجندي(322/47)
ترنمية الرياح. . .
للأستاذ ميخائيل نعيمة
هّللي، هللي يا رياحْ ... وانسجي حول نومي وشاح
مٍن خرير الغديرْ ... واهتزاز الأثير
واختلاج العبير ... في دموع الصباح
هللي، هللي يا رياح
طوّقيني بنور النجوم ... وافتحي لي قصور الغيومْ
واتركيني هناك ... فَوراء السماك
قد لمحت ملاك ... باسطاً لي الجناحْ
هللي، هللي يا رياح!
هاأنا يا ملاك النعيمْ ... يا رسول الإله الرحيم
ما عساك تشاء ... مِن تراب وماء
فيهما ألف داء ... ما لها مِن براح؟
صفّقي، صفقي يا رياح!
ما أنا يا ملاكي السعيد ... غير طيف شريد طريد
علَّمَتْهُ الحنينْ ... عاديات السنين
فاستطاب الأنين ... واسترقَّ النواحْ
صفقي، صفقي يا رياح!
أتَرَدّى رداَء المنون ... وأداوي الأسى بالظنون
كل فكري عناد ... كل قلبي سواد
كل دربي قاد ... كل عيشي كفاح
قهقهي، قهقهي يا رياح!
كان لي في قديم الزمان ... مرتع في رياض الجنان
بِعتُه بالوعود ... هل تراه يعود
لو نكثتُ العهود ... والتمستُ السماحْ(322/48)
قهقهي، قهقهي يا رياح!
يا ملاكي، ألا من مآب ... لطريد براه العذاب؟
إنْ يعزّ الرجوع ... أفَلاَ من هجوع
لغريب الربوع ... يا ملاك الصلاح؟
ولولي، ولولي يا رياح!
قل، لماذا اعتراكَ الذبول ... هل تراك نظيري تجول
في رحاب الفضا ... نادباً ما مضى
طالباً عوضاً ... عن ديار الفلاح؟
ولولي، ولولي يا رياح!
عجباً بالدموع تجيب ... فإذن أنت مثلي غريب
أنت مثلي طريدْ ... هائم تستعيد
ذكر ماض بعيد ... كان حلماً وراح
هّومي، هومي يا رياح!
أنت مثلي ضللت الطريق ... فيكَ سرٌّ كسرِّي عميق
لا تَنُحْ يا ملاكْ ... ما دهاني دهاك
إن نكن للهلاك ... فالهلاك ارتياح
هوّمي، هومي يا رياحَ
قم بنا فالرياح تكادْ ... تجعل الدمع مِنّا جماد
وتَعالَ نَنَمْ ... في سرير الندمْ
علَّ شهر الظُلَم ... في المنام يزاحْ
أسكتي، أسكتي يا رياح
مخائيل نعيمة(322/49)
رسالة الفن
دراسات في الفن:
. . . والفن زعامة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
هؤلاء جماعة من أبناء الصعيد العمال في عمارة، وهذان زعيمان متقدمان عليهم. أحدهما هذا الذي استجلبهم من الصعيد ووصلهم بهذا العمل الذي خبره ووقف على سره فهو مرشدهم فيه وقائدهم، والآخر هذا الذي يغني لهم أثناء العمل ما اشتد بهم العمل وما هان عليهم؛ فهو أكثرهم شعوراً بوحشة الغربة، وهو أشدهم شعوراً بوجوب الكفاح في سبيل الرزق، وهو أشدهم تفاؤلاً ورضاً بقضاء الله، وهو أشدهم نزوعاً إلى التعبير عن هذا كله، وهو أقدرهم على هذا التعبير، وأحلاهم فيه
فإذا وازنا بين زعامة المقاول، وزعامة المنشد، رأينا أن زعامة العيش تتستر وراء زعامة الروح والفن استحياء وتخاذلاً ما شبعت البطون، وما جرت الأرزاق في نهجها الطبيعي، وما سار العمل على نمطه المرسوم. فهؤلاء الجماعة من العمال لا يذكرون أن لهم إماماً يتبعونه في الحياة غير منشدهم إلا عند ما يطلبون الأجر أو العمل، وهم فيما عدا ذلك هائمون وراء شاديهم الذي يغنيهم، والذي يستدرج إلى نفوسهم ذكريات الماضي، ويقرب منها آمال المستقبل.
وفي ساعة من الساعات يفيض الشادي بالسحر والحنان والبهجة، فيرشف منها شعبه وينهل، وإذا بجمهور آخر من أبناء الصعيد أيضاً كانوا يمرون في فراغهم بهذا الحشد السكران، فيتجمعون حول الشادين يشدون معهم، لأنهم حنوا إلى الصعيد مثلهم، واستوحشوا الغربة، وذكروا الأحبة وهاجت في نفوسهم الآمال، وطاب لهم هذا الترويح الذي وجدوه فأقبلوا عليه يستروحون. وإن منهم من يقف كالمسحور يهزه الطرب ولكنه يعجز عن ترديد ما يسمع.
وفي ساعة أخرى يمر بهؤلاء الشادين جماعة آخرون شادون ولهم هم أيضاً زعيم يغني على ليلاه وأتباعه يرددون؛ فإذا صادف الغناء الطارئ هوى عند الماكثين فهم أصدقاء(322/50)
وأحباء، فإذا رأوا في الغناء الطارئ تعريضاً بمفخرة من مفاخرهم فهي معركة حامية قد تذهب فيها الأرواح
هذه صورة بسيطة من صور الزعامة الفنية وهي من الصور القليلة التي لا تزال قريبة من الطبيعة في صدقها وانحصارها. وإن لها شبيهاً عند أبناء البلد من القاهريين، فهم لا يزالون يقيمون حفلات الغناء في مشاربهم العامة، يقيم الحفلة مها مغنيان لكل منهما شعب يتبعه أينما حل، فإما يجد ما يصبو إليه من احترام وتوقير، وإما يحمي زعامته وكرامته بالعصي. . .
وثمة صور أخرى لهذه الزعامة التي تفرضها الطبيعة فرضاً، والتي لم تستطع الحضارة معها إلا أن تعممها فكان ذلك من حسناتها القلائل التي نجت من الصاحبات السيئات. من ذلك تلك الزعامات الفنية التي تقوم المطبعة والسينما والمسرح بالترويج لها، وبالطواف بها في بيئات العالم المختلفة. فأدوات النشر هذه تذيع آثاراً فنية بين الناس، فتجد هذه الآثار الفنية من يطرب لها، ومن يرى فيها ترديداً لشيء كان يجول في نفسه ويريد أن ينفثه منها، أو من يرى فيها شبيهاً لشيء رآه وأحسه، ولكنه لم يستغرق في تأمله، أو من يرى فيها إمكان الحدوث على هذه الصورة من صور الجمال التي حققها له الفنان. . . وهؤلاء جميعاً عندما يرون هذا يشهدون للفنان الذي أسعدهم به أنه زعيم عليهم فيه، فمنهم من يتقرب إلى زعامته بفن فيه من روح فن الزعيم ويذهب مذهبه، ومن هؤلاء من يأبى إلا أن ينافس الزعيم حتى يتزعم هو، ومنهم من يرضى بالمتابعة، وأكثر الناس يرضون بالمتعة يصيبونها عند الزعيم الأصيل وعند المتزعمين وراءه، ومنهم من يهتم الاهتمام الكبير بالمناوشات التي تدور حول الزعامة. بل إن منهم من يثيرها ويشعل نيرانها رغبة منه في التلذذ بشهود الصراع الروحي الذي لا يكون من ثمرته إلا الرقي والذي لا ينبت على جوانبه الغل ولا الحقد إلا حيث يكون النقص والعجز
وتتسع الزعامة الفنية كغيرها من الزعامات كلما اتجهت إلى العموميات التي يشعر كل الناس بان لهم صلة بها. فالأديب الذي يذكر الرحمة يجد في الناس عدداً يطرب لذكرها أكثر من العدد الذي يجده أديب آخر يذكر منظراً خاصاً من مناظر الطبيعة لا يعرفه إلا القليلون من الناس هم الذي يعيشون عنده، وهم الذين يطربون لذكره إذا جرى على لسان(322/51)
الأديب. ذلك أن الرحمة عاطفة تدركها النفوس الإنسانية جميعاً، ولكن هذا المنظر الطبيعي الخاص لا يدركه إلا أهله فقط
وليس معنى هذا أن زعامة الفنان صاحب الجمهور الكبير افضل من زعامة الفنان صاحب الجمهور الصغير. فقد يحدث أن يستشعر فنان بمشكلات تزحف نحو الإنسانية من بعيد فيراها، ولا يراها معه من الناس أحد غيره، وعندما تمتلئ نفس هذا الفنان شعوراً بهذه البشائر أو النذر، وعندما يعبر عنها بفنه، فإنه قليلاً ما يجد الناس الذي يتذوقون تعبيره ويوافقون عليه ويطمئنون إليه، وإنما يغلب أن تثور عليه الجماهير، ويغلب أن يتصدى له من زعماء الفن في عصره من تقاعد بهم الحس فيزمونه بالعجز أو الخبل، أو الالتواء أو شتى هذه التهم التي يتقاذف بها المتقاطعون الذين لا يتفاهمون، والذين لا يريدون أن يتفاهموا. وكثيراً ما ينكمش الفنان السباق في حنايا فنه وتلافيفه فيقضي ما يقضي من العمر وهو غريب عن عصره، حتى إذا ولى عن الحياة، وولى معه جيله وجاء بعده أناس قربتهم الحياة مما كان يراه ويتحدث عنه آمن هؤلاء به، واستعادوا فنه واسترجعوه، وأقاموه من أنفسهم في مقامه الحق. . . وجعلوه هو الزعيم، فهم أحياء وزعيمهم ميت. . . وفي هذا ما فيه من عدل الثأر الذي له عند آبائهم الذي أنكروه، فهم كلما ذكروا زعيمهم وطلبوا له الرحمة لعنوا آباءهم لأنهم كانوا كافرين.
ويقابل هؤلاء الزعماء السباقين زعماء آخرون زعامتهم معكوسة فهم لا يقودون الجماهير، وإنما يجرون وراء الجماهير، وقد يد هؤلاء من وفرة التابعين ما لا يجده الواثبون الصاعدون. وهؤلاء الزعماء الأذناب لونان، منهم من تسوقه نفسه إلى استرضاء الجماعات لأنه يحب رضا الجماعات ولأنه بطبعه فرد من أفراد الجماعات لا يزيد عنهم حساً، ولا يزيد عنهم قدرة على التعبير، وإنما كل ما يميزه هو الجرأة على التعبير والانطلاق به. ومنهم من يتسقط هذا الرضا عند الجماعات ليتسقط معه الربح المادي والجاه والشهرة، وهذا أدنأ من صاحبه وأقرب إلى التجارة منه إلى غيرها. فالفنان في غير التجارة لا يعبأ (بالزبائن) ولا يحسب حساباً لأذواقهم. أما التاجر وحده فهو الذي يستقصي طبائع الأسواق مستعرفاً أي البضائع يروج فيها وأيها يبور
وليس هذا من طبع الزعامة في شيء، وإنما هو من ملق العبيد الذي تضيق عنه أخلاق(322/52)
الفن. وإنما أمانة الزعامة تقتضي الإرشاد والإصلاح والتحسين. فإذا كان الجمهور متردياً في رذيلة من الرذائل فليس زعيماً ولا هادياً من لم ينقذه منه. وكما أن الجماهير تتردى في رذائل خلقية، وفي رذائل عقلية، وفي رذائل اجتماعية، فإنها تتردى كلك في رذائل حسية يجب على من يحمل لواء الزعامة الفنية فيها أن ينقذهم منها أو أن يحاول إنقاذهم على أقل تقدير مادامت هذه الزعامة سبقاً في الحس، وسبقاً في التعبير. . . وإلا فهي لا شيء. . . أو هي تلك الأنانية الفنية الضيقة التي ليس لها شأن إلا بصاحبها فقط
أما الرذائل الخلقية والاجتماعية والعقلية فهي الأغلاط الإنسانية التي يعالجها أصحاب الفضيلة الإصلاح الاجتماعي والناهضون بالعقل المؤدي إلى العلم النافع. . . وأما الرذائل الحسية فهي التي ينفضها الفنانون عن أنفسهم بالسليقة أو بالتدريب الحسي فيزيحونها كذلك عن نفوس الذين يتابعونهم في إحساسهم ويتتلمذون عليهم فيه، والذين يشابهونهم في طريق التعبير عنه. ومن أمثلة هذه الرذائل الحسية ما تعانيه البشرية اليوم من استعار التعصب للقومية المادية، فهو وإن كان مما تلزم إثارته عند الشعوب الضعيفة حفظاً لكيانها بين الشعوب القوية المتعصبة؛ فإنه مما يجب أن يكافح وأن يقاوم بكل وسائل الكفاح والمقاومة عند الشعوب القوية، لأنه لا معنى له إلا الانحطاط بالمثل البشرية العليا، إلى حيث تكون أدنأ المثل وأضيقها رحاباً وأقذرها أهدافاً.
والفنانون الذي ينتظرهم العالم اليوم لينقذوه من هذه الرذيلة هم الفنانون الذين يحسون القبح في هذا الإحساس ويشمئزون منه ويدعون إلى فض هذا النزاع المادي المتستر تحت قناع القومية ولابد أن تبدأ دعوتهم بأن يشعروا شعوراً صادقاً بأن الإنسانية حين تقدمت بعقلها وعلمها في طريق الحضارة الماثلة الآن تلكأت أو انتكست في سعيها الحسي، فلم توازن بين هذا التقدم في الحضارة وبين ما كان يجب أن يصاحبه من الإحساس الذي يشمل البشرية كلها كما استطاعت الحضارة أن تربط أطراف العالم بعضها ببعض وأن تخلط الشعوب بعضها ببعض، وأن تصل العقول بعضها ببعض، بحيث أصبح الياباني يعرف كل ما يعرفه الإنجليزي من المعلومات، وبحيث أصبح الأمريكي يقرأ ما يقرأه الأسترالي من الكتب وبحيث أصبح التركي يدرك ما يدركه النرويجي من الحقائق العلمية. . .
ولكن إحساس اليوناني لا يزال بعيداً كل البعد عن إحساس الإنجليزي، وشعور الأمريكي لا(322/53)
يزال بعيداً كل البعد عن شعور الأسترالي، والمثل العليا التي يجري التركي وراء تحقيقها لا تزال مختلفة كل الاختلاف عن تلك المثل العليا التي يسعى النرويجي اليها؛ وليس ذلك إلا لأن الفنون قصرت حيث نشطت العلوم، ولأن إحساس البشرية تبلد حيث التهب عقلها. وما كان عقل البشرية ليهديها إلى الخير وحده، فلابد له من إحساس وأخلاق يسير في مصاحبتها إلى هدف الهدى
على أن هذا لا يصح أن يدفع اليأس إلى نفوسنا من صلاح الناس، فإن بذرة النجاة موجودة، وطريق السعادة ممهد قد رسمه الإسلام. وليس ينقص الإنسانية اليوم إلا فنانون مسلمون يضربون بإلحاح على ذلك الوتر المشجي الذي عزف عليه القرآن أول مرة فرتل قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. فمتى شاع هذا الإحساس في الناس شاعت فيهم السعادة. وقد كاد هذا الإحساس يشيع لولا أن انقسم العرب على أنفسهم فأصبحوا مشارقة ومغاربة، ولولا أن استعصمت أوربا بتعصبها، فألحت في محاربة المسلمين الذي نزلوا الأندلس ومضت في الحرب إلى أوائل هذا القرن حتى احتل اللورد اللعين فلسطين فقال: اليوم فقط وضعت الحرب الصليبية أوزارها.
على أن الإنسانية قد بدأت تحس هذا الإحساس النبيل، وإن كان يداخل نفسها في هدوء وفي بطئ، وإن كان عقلها ولسانها لا يزالان ينكرانه. ولولا هذا الإحساس لاشتبكت الدول في الحرب منذ عام أو منذ عامين، ولكن هذا الإحساس هو الذي يكتف القادة من غير أهل الفن، ويمنعهم من توريط أنفسهم بإعلان الحرب لأنهم يكادون يكونون مؤمنين بأن الشعوب أصبحت لا تتغاضب ولا تتقاتل جرياً وراء فكرة القومية المكذوبة؛ ولأنهم أصبحوا يرون أن الأفراد اليوم يعتزون بحياتهم، وبمتعة الدعة أكثر مما يعتزون بالرغيف.
وليست الشهادة الحرفية بتوحيد الله، والاعتراف الحرفي برسالة محمد هي كل ما نطلبه، وإنما نطلب لسعادة البشرية الإيمان بوحدانية الله إيماناً يتطرق إلى كل عمل وكل قول مما يعمل المؤمنون ويقولون، والإيمان برسالة محمد إيماناً ينفي كل ما يراد به تفضيل طائفة من طوائف البشر ورفعها على الطوائف الأخرى؛ فإن محمداً لم يكن يرى فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى
هذا هو الفن الجديد الذي تريد الإنسانية اليوم. وقد يجود به عليها مسلم، وقد يجود به(322/54)
نصراني، وقد يجود به يهودي ممن تتسع أذهانهم وتصفو نفوسهم فتحب إلى جانب المادة ما هو خير من المادة، بل قد يجود به وثني مثل غاندي
وقد كان طبيعياً أن ينعقد اللواء للزعامات القومية فيما مضى وأن تصطبغ حتى الزعامات الفنية بألوانها في أقتم درجاتها لأن البشرية لم تكن قد التحمت هذا الالتحام الذي تشابكت به اليوم؛ فلم يكن عجباً أن يكون زعيم القبيلة هو فارسها وهو شاعرها كما كانت عنترة العبسي في قومه مفخرة لهم، له اليد الطولى في مجدهم الحربي ومجدهم الفني أيضاً. . . ولكن منذ بدأت الآفاق تتفتح أمام المجموعات البشرية حق عليها أن ينفتح إحساسها حتى يحيط بكل ما تضرب فيه الحياة وحتى يلم بكل ما يضطرب فيها
ولا ريب أن الإنسانية قد انتبهت إلى هذا الآن، فقد قضت وقتاً طويلاً وهي تجرب هذه الدعوات التي تهتف بالقوميات والعصبيات المادية فتبين لها أنها دعوات ضعيفة عاجزة منافقة
أما ضيقها فتابع لضيق البيئات التي تصلح لانتشار كل منها، وأما عجزها فتابع لما تستدعيه من التنفير الذي ينفث الكراهية في نفوس الناس فيرجم بعضهم بها بعضاً، وأما نفاقها فظاهر في أتباعها كما أنه ظاهر في ميوعتها وحيرتها وتناقضها مع نفسها، فقد كانت للإنجليز قومية يدعون إليها ويفخرون بها، وكان منهم من أسرع إلى أمريكا فاستوطنها ثم أبى أن يخضع لسلطان وطنه الأول فانقلب على قوميته وأنشأ مكانها قومية أخرى يحبها ويناضل في سبيلها لأنها تتصل بالأرض التي يعيش عليها ويأكل منها، ولا أكثر. وهذا ما حدث للأسبان الذين نزلوا أمريكا الجنوبية فقد انقلبوا على إسبانيا أمهم الأولى؛ ثم انقلبوا على أنفسهم واستأثر كل جماعة منهم بقطعة من الأرض. . . وهذا يثبت أن فكرة القومية والوطنية المادية ليست من الشرف في مكان يعلو على المادة ويتسامى عليها، وما من شك في أن (قومية الفكر) أو (قومية الفن) خير منها. ويتضح فضل الروحانية بمراقبة هذه القوميات المادية عندما يحتك بعضها ببعض فإننا نرى أن المادة والشغف بها يزيدان الصراع بين الناس استعاراً بينما المذاهب الروحية كلما توغلت في نفوس الناس على أساس من الصحة والسلامة ومجاراة الطبيعة والبعد عن التكلف كان ذلك أدعى إلى تقارب البشر، وزيادة تفاهمهم وتعاونهم(322/55)
فالفن إذن ليس زعامة فقط، وإنما هو أرقى الزعامات
ليت الداعين إليه يزيدون في الناس، وليت دعوتهم تذيع!
عزيز أحمد فهمي(322/56)
حركة السير ريالزم
للأستاذ رمسيس يونان
(يجب أن نحقق لكل إنسان نصيبه من الخبز. . . ونصيبه من
الشعر. . .)
تروتسكي
يخطئ من يظن أن حركة السير ريالزم هي حركة أدبية أو فنية خالصة، وإن كانت تستخدم الشعر والقصة والرسم والسينما. . . ويخطئ من يظن أنها حركة سياسية بحتة، وإن كان القائمون بها يدينون بمذهب سياسي معين. وليست هي أيضاً مزيجاً من الفن والسياسة، فقد صرح (أندريه بريتون) زعيم الحركة مراراً وتكراراً بأنه لا يوافق على أن يتخذ الفن وسيلة للدعاية السياسية. وقد فصل (أراجون) من جماعة السير رياليين لأنه خالفهم في هذا الرأي. فما هي إذن حركة السير ريالزم هذه؟ وما غايتها؟
يصعب علينا أن نضع تعريفاً للسير ريالزم في كلمات قليلة. فإذا كان لابد من ذلك فعلينا أن نقول: إنها حركة اجتماعية فنية، سياسية، فلسفية، سيكولوجية. . . ولا بأس أن نضيف أيضاً أنها حركة دينية. فهي تستلهم شعر (ريميو) و (بودلير) و (توتريامون) وتأخذ عنهم حب الخيال الثوري البعيد عن المنطق وأساليبهم الغريبة في الشعور والتعبير. وتستلهم فلسفة (هيجل) في إيمانها بالحرية؛ وتدين مع (كارل ماركس) بالتفسير المادي للتاريخ؛ وتأخذ عن (فرويد) نظرياته في العقل الباطن؛ ثم هي فوق ذلك تحاول أن تعتمد على هذه العناصر جميعاً في خلق ميثولوجيا جماعية جديدة تناظر الميثولوجيات التي خلقتها الديانات القديمة
ومهما قالوا عن كارل ماركس، ومهما قالوا عن فرويد فلا شك في أنهما الرجلان اللذان استطاعا أن يؤثرا في الفكر الأوربي الحديث أكبر التأثير. فإلى كارل ماركس يرجع الفضل في تفسير التاريخ على أساس من حروب الطبقات وفي التنبؤ بثورة العمال وبدكتاتورية العمال، ثم بالعصر المقبل (الموعود) الذي تزول منه الطبقات وتكتمل فيه المساواة الاقتصادية. وقد تأثر العمال بالمذهب الماركسي فنشطت حركاتهم ونمت أحزابهم(322/57)
حتى أصبح الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية أساس السياسة الأوربية في السنين الأخيرة؟ كما تأثر بهذا المذهب عدد كبير من رجال الفكر والأدب. . . وهانحن أولاء نرى أن أعلاماً مثل (برناردشو) و (ولز) و (أندريه جيد) و (مالرو) و (توماس مان) يدينون به وينافحون عنه
والسير رياليون كما قلنا يؤمنون بالمذهب الماركسي، ولكنهم يرون في نفس الوقت أن الدعوة إلى التحرير الاجتماعي يجب أن ترافقها دعوة إلى التحرير النفسي، فالنفس الإنسانية مكونة أيضاً من طبقات يتحكم بعضها في رقاب بعض. ولا سبيل إلى الوصول إلى التحرر النفسي ما لم تستطع أن نزيل الحدود التي تفصل بين العناصر المتنازعة في باطن النفس
ولقد أقنعنا (فرويد) بأن الشخص (السليم) من الأمراض النفسية هو نموذج مثالي لا وجود له. وما الفارق بين (العاقل) و (المجنون) إلا اختلاف في الدرجة ولا في النوع. والسبب الأساسي لهذه الأمراض جميعاً هو أن للنفس الإنسانية رغبات، كثير منها لا يتحقق بالنسبة للعقبات التي تقابلها من الوسط الخارجي، والطفل الصغير لا يدرك هذه العقبات ولذا كان خياله لا يعرف الحدود، فهو إذ يرغب في سيارة فخمة، أو في حصان مطهم، أو في قصر باذخ، لا يشعر بأن هناك عائقاً من العوائق يمكن أن يحول دون ما يبتغيه، ولكن رويداً رويداً يتعلم الطفل خلال ممارسته للحياة بأن رغباته جميعها لا يمكن تحقيقها، فيضطر إلى كبح هذه الرغبات ويتعود التسليم بالأمر الواقع. وكلما كبر في السن نمت فيه هذه العادة - عادة التسليم بالأمر الواقع. على أن الصراع بين الرغبات وبين الواقع يستمر طوال الحياة، فحتى الكهل وهو على أبواب القبر لا يستغني عن الأحلام.
وعادة التسليم بالأمر الواقع بين الناس هي الأساس الذي ترتكن إليه دعوات المحافظين، وهي العقبة الكأداء التي تقف في سبيل كل تجديد وإصلاح. ولما كان السير رياليون يؤمنون بضرورة تغيير النظام الاجتماعي الحاضر فإنهم يثيرون حرباً شعواء على هذه العادة
والأساليب التي يتبعونها في ذلك متعددة: منها ما سيمونه (تغريب) الأشياء أي نقلها من وسطها المألوف إلى وسط غريب عنها (المثل الكلاسيكي لذلك كلمة لوتريامون: '(322/58)
' فمن المألوف أن نرى الأسرة في غرف النوم فإذا هي تفاجئنا في رسم سير ريالي على شاطئ البحر، وقد تعودنا أن نرى السحاب في السماء فإذا هو يباغتنا داخل الجدران. . . وهكذا نشاهد في الرسوم السير ريالية شجرة تنبثق منها ذراعان، وسمكة مضطجعة بجانب فتاة عارية، وعيناً تطل من وسط ثدي، وأجزاء من جسم الإنسان طائرة في الهواء، وهيكلاً عظيماً يرقص لأن سمكة بجانبه تغرد. . .
ولليسر رياليين أسلوب آخر في مقاومة عادة التسليم بالأمر الواقع هو اللجوء إلى إثارة الرغبات المكبوتة وتنشيطها وحفزها على التمرد. ومن هنا كلمة (سلفادور دالي) المشهورة: (يجب أن يكون الفن مغرياً بالأكل ' أي مغرياً بتحقيق الرغبة واجتلاب اللذة. وكلمة (نيكولا كالاس): (الفن معمل بارود ' أي وسيلة لهدم عاداتنا في التفكير والسلوك.
وهناك أسلوب ثالث هام من أساليب السير رياليين هو ما يسمونه الأسلوب (الأتوماتيكي) في الكتابة والرسم. وهنا يحاول الشاعر أو الرسام منهم أن يتجرد من رقابة عقله الواعي تاركاً لخياله العنان، حتى يصل إلى حالة تقرب من الغيبوبة، ثم يسجل كل ما يهب ويدب في نفسه من الخواطر أو يتراءى له من الأشكال
وقد استعار السير رياليون هذا الأسلوب الأخير عن فرويد. ففرويد يجلس مريضه على مقعد وثير مريح، ويوحي إليه بأن يرخي عضلاته ويرسل نفسه على سجيتها، ثم يبوح دون تحوط أو تحفظ بكل ما يخطر بذهنه من أفكار، وبكل ما يختلج في قلبه من عواطف. وبهذا يكتشف فرويد (العقد) التي تكونت من الرغبات المكبوتة في نفس المريض، فيصارحه بهذه الرغبات، ويحاول أن يقنعه بالتفكير فيها بعقله المنطقي الواعي وبالتنازل عنها إذا تعارضت مع حقائق الوسط الخارجي: يعني التسليم بالأمر الواقع. وهنا نقطة الاختلاف الجوهري بين فرويد وبين السير رياليين: فهؤلاء لا يريدون بحال من الأحوال سيطرة العقل الواعي على العقل الباطن، بل هم يريدون مواجهة العقل الواعي بالعقل الباطن، والمنطق بالخيال، والواقع بالحلم، والحقيقة بالخرافة، والحكمة بالجنون. . . محاولين أن يؤلفوا من هذه العناصر جميعاً أداة جديدة للتفكير والمعرفة والنظر إلى الأشياء
لهذا يتهم السير رياليون فرويد بأنه (قد اشترى جرأته في البحث العلمي على حساب التحفظ والتسليم بالأمر الواقع في الناحية الاجتماعية).(322/59)
ثم إن السير رياليين لرغبتهم في نشر مذهبهم حتى يصبح (فلسفة عامة) بين الناس يصرحون بأن النبوغ الفني والكفايات الأدبية لا تهمهم. فجميعنا نشترك في الصراع النفسي بين الأحلام وبين الواقع؛ وعلى ذلك فكل منا يستطيع أن يأخذ بنصيب من مجهوداتهم، إذ الغاية المرجوة عندهم هي إشاعة (جو سير ريالي) في الحياة
والخلاصة أن السير ريالزم وإن كانت تعتمد كثيراً على المذهب الماركسي وعلى أبحاث فرويد، إلا أنها مع ذلك حركة مميزة مستقلة. وقد أشرنا إلى خلاف جوهري بين السير رياليين وبين فرويد، كما أشرنا إلى اختلافهم مع الاشتراكيين الذين يعتقدون - ونحن على رأيهم في مرحلة انتقال سريع - بضرورة توجيه المجهودات الأدبية والفنية جميعاً في سبيل الدعاية السياسية المباشرة.
رمسيس يونان(322/60)
رسالة العلم
ألغاز الكون وأسراره وتطور مخ الإنسان
للأستاذ نصيف المنقبادي
شرفني عالمنا المصري المحقق الدكتور محمد محمود غالي بالرد على ما قام في ذهني من الحيرة بين ما يقرره العلم من أن الكون سائر لا محالة نحو السكون التام أو (الموت الحراري) بسبب تحول الطاقة كلها في العالم بأسره من صورها العليا كالكهرباء والطاقة الميكانيكية الخ، إلى صورتها السفلى وهي الحرارة المنخفضة الدرجة فلا تستطيع أن تتحول من جديد إلى صور أخرى منها، وبين ما يدل عليه العقل من استبعاد بل استحالة أن يكون للكون نهاية، لأنه لو كان هذا سيحدث لكان قد حدث من قديم الزمان. ومن البديهي أن ما لا بداية له لا يمكن أن تكون له نهاية
وإني اشكر للدكتور الفاضل النصائح الثمينة التي أسداها إلي من وجوب عدم الجزم بشيء خارج ما يثبته العلم التجريبي. وقد دل حضرته بهذا على أنه عالم بطبيعته يتحلى بالروح العلمية الحق. وأقول هذا على رغم تواضعه الذي جعله يرى عدم استحقاقه بعد لهذا الوصف. وهذه فضيلة أخرى للدكتور تدل على أنه على جانب كبير من أخلاق العلماء الحقيقيين وسعة عقولهم. وإني أقول جازماً ومؤكداً - برغم نصيحة الدكتور لي - بأنه سيكون مفخرة مصر في البيئات العلمية العالمية في القريب العاجل
والذي فهمته من مجموع رد الدكتور أن الموضوع الذي أثرته لغز من ألغاز الكون وسر من أسراره لا يستطيع العلم أن يحله الآن
وهذا قول حق وهو ما أعتقده من جهتي. أما العامل الغريب عن العلم الذي افترضه الدكتور افتراضاً ورمز إليه بلاعب العصا فإنه خارج عن نطاق البحث العلمي؛ وإني لا أرى له أي أثر في الطبيعة، ولا أجد في الكون ما يؤيده أو يدل على شيء منه ولو عن بعد. وهذه نواميس الطبيعة العمياء تسير على الدوام في طريقها لا تحيد عنه قيد شعرة، بدليل أن الإنسان يقيسها بالأرقام ويعرف نتائجها مقدماً قبل أن تقع، إذا عرفت أسبابها ومقدماتها، ويدخلها في معادلاته وحساباته. فيحسب مثلاً مقدماً تواريخ كسوف الشمس وخسوف القمر والسيارات الأخرى وغيرها، بالثانية وكسور الثانية في كل نقطة من بقاع(322/61)
الأرض. أو ليست أساس جميع العلوم - العلوم الحقيقية اليقينية - القاعدة المنطقية البديهية القائلة بأن نفس الأسباب تنتج حتماً نفس النتائج: , , وبالجملة فإن أحوال الظواهر الطبيعية لا تدل على تدخل عوامل أخرى في سيرها، وإلا لظهر تغير من وقت إلى آخر في نظام النواميس التي يديرها، فتسير الأرض اليوم مثلاً بسرعة كذا في اتجاه معين، وتسير غداً بسرعة أخرى في اتجاه آخر، ويتصرف الراديوم تارة على وجه معين طبقاً لنواميس محدودة، وطوراً نراه يتبع طريقاً آخر ويجري على قواعد أخرى
وأظن أن الدكتور يذكر أكثر مني ما حدث لأحد العلماء الرياضيين الفلكيين - ولعله اسحق نيوتن - من أنه افترض نفس العامل الذي نحن بصدده لتصحيح ظاهرة فلكية تحدث في فترات بعيدة، تخالف ما تدل عليه الحسابات وتعجز عن تفسيرها النواميس المعروفة في ذلك الحين أو التي اكتشفها هو. ولم تلبث الأبحاث والاكتشافات التي جاءت بعد ذلك أن نفت ذلك الفرض وفسرت تلك الظاهرة التفسير العلمي الصحيح. فهذه سابقة لمحاولة فاشلة من هذا القبيل يجب أن تجعلنا على حذر من تعليل الظواهر الطبيعية بمثل ذلك العامل. وإن العلم حافل بمثل هذه السابقة، بل إن تاريخ العلم إنما هو تاريخ انتصاراته على تلك النزعة القديمة
وبالجملة فإن العلم يجب أن يكون محصوراً في تفسير ظواهر الطبيعة بالنواميس الطبيعية التي تقع تحت المشاهدة والاختبار، والتي يمكن قياسها أو قياس بعض نواحيها.
أما لماذا تجري النواميس الطبيعية هكذا، ولماذا هي تدير ظواهر الطبيعة على هذا النحو، وما الغرض من ذلك كله، فهذا لغز آخر من ألغاز الكون؛ بل إنه اللغز الأول وهو ما سماه هربرت سبنسر ' أي ما لا يمكن معرفته. ويتصل بهذا الموضوع ويتفرع منه المسألة التي نحن بصددها الخاصة بنهاية الكون طبقاً لآراء بولتزمان وقواعد علوم الميكانيكا والطبيعة أو علم الطاقة الجديد العام الشامل ' الذي يتوقع العلماء أن يندمج فيه عاجلاً أو آجلاً جميع العلوم الأخرى الطبيعية والبيولوجية
لي رأي خاص في هذا الموضوع عنَّ لي أثناء دراستي للعلوم البيولوجية، وهو أن عجزنا الحالي عن إدراك أمثال هذه (الألغاز) التي تشمل أيضاً الأمور الأخرى المستعصية الآن على العلم مثل الوراثة وأسبابها وكيفية حدوثها في الحيوانات والنباتات، ومثل الشعور في(322/62)
الأحياء وفي الحيوانات على الأخص (بما فيها الإنسان) وكيف أن مواد كيميائية، أي جمادات محضة، مشتقة من الأرض والهواء بفعل العوامل الطبيعية، وعلى الأخص طاقة الشمس تشعر بوجودها وتحس بما يحدث لها - أقول إن عجزنا الحالي عن إدراك حقيقة هذه الأمور التي نسميها ألغازاً وأسراراً لا يدل على أنه من المحال معرفتها، وإنما يرجع ذلك إلى نقص في تكوين مخنا وعدم نموه بعد إلى الدرجة التي تجعله يستوعبها ويلم بخفاياها ويفسرها التفسير العلمي الصحيح
لا يخفى أن الحيوانات العليا الممتازة بشيء من الذكاء مثل الكلاب والفيلة والقرود الشبيهة بالإنسان المسماة (الشامبانزيه، والغوريلا، والأرونجوتانج، والجيوبون) تعجز عن إدراك معظم الأمور التي نعرفها نحن ونعدها من البديهيات. هي ألغاز وأسرار بالنسبة لها، ولو كان في وسعها أن تتكلم أو تكتب لوصفتها بأنها الأمور المجهولة التي لا يمكن معرفتها ' على حد تعبير هربرت سبنسر
ولا شك في أن هذا كان حالنا فيما مضى من الزمن قبل أن يتم تطورنا الإنساني بفعل العوامل الطبيعية. فلما تم هذا النمو ونما على الأخص مخنا بسبب الظرف الطبيعي الذي طرأ علينا في ذلك الماضي البعيد وهو اضطرارنا إلى الوقوف على الدوام على قدمينا الخلفيتين لتسلق الأشجار لنقتات ثمارها بسبب ما حدث في ذلك العهد من نقص الغذاء على الأرض من جهة، ونمو الحيوانات المفترسة من جهة أخرى. واستعمال أيدينا في القبض على فروع الأشجار وقطف ثمارها، ثم في تناول الأشياء والأجسام المادية الأخرى وفحصها والتأمل فيها، وذك مدة مئات الألوف من السنين - أقول إنه حين تم هذا النمو في مخنا أدركنا شيئاً فشيئاً كثيراً من الأمور التي ظلت غامضة على أجدادنا، وأخذت معلوماتنا تتسع بالتدريج إلى أن قام العلم وازدهى وساد العالم في عصرنا الحالي
وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأن التطور الإنساني قد تم ووقف عند هذا الحد وهو لم يمض عليه اكثر من ثلاثمائة ألف سنة (متوسط تقدير العلماء) منذ أن تميز عن النوع الذي تفرع منه. ومعلوم أن حياة الأنواع الحيوانية والنباتية تعد بملايين السنين والمرجح أن يستمر التطور في المستقبل، غير أنه لا يمكننا أن نعرف من الآن الاتجاه الذي سيسلكه لأن هذا متوقف على العوامل الطبيعية والاجتماعية المختلفة التي تطرأ وتستجد من وقت إلى(322/63)
آخر لأسباب محلية لا يمكن التنبؤ بها، ومن باب أولى لا يمكن حصرها مقدماً وتحليلها ومعرفة نتائجها
ولكن الظواهر كلها تدل على أن المخ سيواصل نموه على ممر الزمن في نفس الاتجاه الذي بدأ فيه بدليل اضطراد رقي الأمم المتحضرة عقلياً وتفوقها على الأمم المتوحشة تفوقاً تدريجياً مستمراً
فإذا استمر التطور في هذا الاتجاه فإن الفكر الإنساني يصل حينئذ إلى درجة من القوة تجعله يحل بسهولة المسائل المعلقة في العلم وفي الفلسفة ويسمونها الآن ألغازاً أو أسراراً ويكشف عن أسبابها ونواميسها الطبيعية، ويتحول الإنسان إذ ذاك إلى نوع جديد من الـ الذي يتكلم عنه نيتشه
وعلى الجملة فنحن الآن فيما يتعلق بتلك المسائل الغامضة المستعصية على عقولنا على ما كان عليه أجدادنا البعيدون بالنسبة للأمور التي لا تدركها عقولهم البسيطة ونعدها نحن من البديهيات نظراً إلى النمو الكبير الذي طرأ على مخنا أثناء تطورنا
وهناك بعض شواهد تؤيد هذا الرأي. فكلنا سمع بذلك الشخص المدهش الذي يقوم بأعمال كالمعجزات في الحساب دون أن يستعين بأية ورقة لأنه أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة. وقد اختبرته أنا وعدد من المعارف فكنا نكلفه بعمليات طويلة عويصة بأن نطلب منه مثلاً أن يجمع خمسة أو ستة أو عشرة أعداد كبيرة مكون كل منها من أرقام عديدة، أو أن يضرب عددين ضخمين الواحد منهما في الآخر، أو أن يقسم أحدهما على الثاني، أو أن يستخرج الجذر المربع أو المكعب لعدد من سبعة أو ثمانية أرقام الخ، وكنا بطبيعة الحال نحتاط بإجراء هذه العمليات على الورق مقدماً قبل أن نضعها له لتطابق إجاباته على نتائجها. وليتصور القارئ ما كنا نعانيه من التعب وبذل الوقت الطويل في ذلك. وكم كانت دهشتنا عظيمة كل مرة حين كان يفوه بالرد فإذا به مطابق تمام المطابقة لما وصلنا إليه بعد تسويد الأوراق الكثيرة. وإذا وقع خلاف فكان يتضح لنا من مراجعة حساباتنا أنه لم يخطئ هو في شيء بل إن الخطأ جاء منا
ويمتاز هذا الشخص بذاكرة للأرقام مدهشة خارقة للعادة، فإننا كنا نتلو عليه من أوراقنا الأعداد الضخمة الكثيرة المكون كل منها من ثمانية أو عشرة أرقام طالبين منه جمعها أو(322/64)
ضربها أو قسمتها فكان يعيد علينا سردها دون أن يخطئ في رقم واحد منها. وأغرب من هذا مقدرته الغريبة على أن يجري معنوياً في الحال العمليات الحسابية الكبيرة المعقدة التي تطلب منه دون أن يستعين بالكتابة وهو يجهلها كما تقدم لنا القول. فلا شك في أن جزءاً من مخ هذا الشخص نما نمواً استثنائياً أكثر من المعتاد جعله يذكر الأعداد الضخمة التي تتلى عليه ويحسبها بتلك السهولة المدهشة، الأمر الذي يعجز عنه باقي الناس. وقد شاهد كاتب هذه السطور شخصاً آخر من هذا القبيل من سنين في باريس بولوني الجنسية
ومثل أولئك الحسابين الشواذ الأشخاص الذي نبغوا في الموسيقى من حداثة سنهم نبوغاً فوق الطبيعي، فترى الواحد منهم وهو في سن الطفولة يلتقط أية نغمة يسمعها لأول مرة ويعزفها على الآلات الموسيقية التي يجيدها لدرجة الإعجاب الكبير ويؤلف الأدوار التي يعجز عنها كبار رجال الموسيقى العاديين، ويقود الجوقات الموسيقية وقد لا يزيد عمره على العاشرة أو الثانية عشرة. والأمثلة عديدة من هذا القبيل وهي معروفة للجميع. فلا شك في أن مخ هؤلاء النوابغ الخارقين للعادة نما في ناحية منه نمواً أكثر من الحالة الطبيعية جعلهم يمتازون بتلك المقدرة التي يعجز عنها باقي الناس
وكذلك الحال بالنسبة لعظماء الرجال الذين نبغوا في العلم أو الأدب أو الفنون الجميلة أو الفنون العسكرية. فهذا بسكال العالم الرياضي الكبير استنبط من تلقاء نفسه وهو في سن الثانية عشرة النظريات الهندسية القديمة الأساسية قبل أن يدرسها. وهذا نيوتن مكتشف ناموس الجاذبية. وهذا جوت أو جيته العبقري الألماني الكبير مؤلف رواية فوست الخالدة فإنه لم ينبغ فقط في الشعر والأدب بل وأيضاً في العلوم البيولوجية وله اكتشافات جليلة في علوم الحيوان والنبات وتكوين الجنين تؤيد ناموس التطور والتسلسل الذي قال به وبحث فيه قبل داروين بخمسين سنة، لمناسبة ظهور نظرية لامرك سنة 1809. وهذا نابليون عبر بجيشه جبال الألب وفتح إيطاليا وهو لا يتجاوز الثانية والعشرين؛ ثم غزا مصر، ثم انتصر على أكبر قواد أوربا ودخل جميع عواصمها ظافراً وهو في مقتبل سن الشباب. وهذا فكتور هيجو العظيم. وهذا أينشتين، وغيرهم. ولا شك في أن مخ هؤلاء العظماء نما نمواً فوق المستوى الطبيعي لباقي البشر. والنمو المقصود هنا ليس في حجم المخ ولكن في تكوين خلاياه وصفاتها الطبيعية والكيميائية وتشعب فروعها واتصالها (أي اتصال الخلايا)(322/65)
بعضها ببعض بواسطة هذه الفروع الخ. وبالجملة فإن النبوغ والعبقرية وقوة التفكير ترجع إلى نمو المخ
فلا يبعد أن يصل مخ الإنسان أثناء تطوره في المستقبل البعيد إلى درجة من النمو تجعله يحل بسهولة المسائل المستعصية عليه الآن ويردها إلى أسبابها الطبيعية فلا تعد ألغازاً وأسراراً
كما أنه يجوز مع شديد الأسف أن يتجه تطورنا اتجاهاً آخر بفعل عوامل جديدة وظروف تطرأ علينا نجهلها الآن فنتحول تحولاً يختلف كل الاختلاف عما نتوقعه فنصبح نوعاً مغايراً للنوع الإنساني الحالي ولنوع الـ الذي نصبو إليه بل قد نتحول إلى أنواع مختلفة قد يرتقي بعضها إلى تلك المرتبة العليا ويتأخر بعضها بالمعنى الذي نفهمه من الارتقاء والانحطاط، ذاك لأن الطبيعة لا تعرف هذه الفوارق التي لا توجد إلا في تفكيرنا ومن الخطأ تسمية ناموس التطور بناموس أو مذهب (النشوء والارتقاء) على الطريقة القديمة
نصيف المنقبادي المحامي
دبلوم في الفسيولوجيا العليا الحيوانية والنباتية من كلية العلوم
بجامعة باريس (السوربون)(322/66)
لحظات الإلهام في تاريخ العلوم
تأليف مريون فلورنس لانسنغ
مقدمة
العلم هو الذي وصل بالعالم إلى ما هو عليه اليوم، فهو الذي ابتكر كل أداة في الحياة العصرية؛ ولكن العلم الذي نركن إليه في كل وسائل راحتنا ومتعنا ليس بالقوة الجامدة النائية التي تعمل عملها بيننا وهي عن نفوسنا بمعزل. إنما العلم معرفة إنسانية أفادها في بطئ، واحتمل في سبيلها الآلام رجال مثلنا وقد استخدموها لصالح النوع الإنساني
وهذا الكتاب يقدمنا إلى زعماء النهضات العلمية الذين خلفوا الدنيا الحاضرة. وفي الأقاصيص التي تضمنها هذا الكتاب نراهم في أسمى اللحظات التي أدوا فيها مهماتهم، وقد تضمنت كل العصور لحظات هي التي نسج منها التاريخ. وإنه ليبدو لنا أحد هذه المخترعات كأنه بداية لعهد جديد في حياة الإنسان مع أنه كان في العصر الذي وجد فيه يكاد لا يكون موضعاً للملاحظة إلا من القليلين البعيدي النظر الذين أنجزوه
ومن أمثلة الكشوف التي غيرت اتجاه العالم اختراع آلة الطباعة والآلات المتحركة بذاتها وآلات التخاطب على مسافات متباعدة سواء منها السلكي واللاسلكي. ووراء كل كشف من هذه الكشوف رجل أو طائفة من الرجال ميزتهم الجرأة أو المخاطرة والمهارة وحب الإفادة. وفي الصفحات التالية سير رجال ألفنا سماع أسماء بعضهم؛ والبعض لما نألفه، ولكننا مدينون لهم جميعاً بدين ضخم. وسنرى سيرهم في لحظات انتصارهم المثيرة. نحن جميعاً نعبأ بأنفسنا وبعالمنا. وكل مجموعة من السير تتعقب آثار الفكر الإنساني في أحد اتجاهاته فإنما يراد بها إشباع حياتنا العصرية بمجهود ذلك الفكر، وفي كل تريب موفق لكل مجموعة من هذه السير ما يمكننا من الإفادة منها. فاستكشاف النار مثلاً يبدو لنا أقل استغراقاً في الغابر عندما نتبين أننا لا نزال نعيش في عصر النار وإن كان بيننا من يتنبأ بأن أبناءنا وأحفادنا سيعيشون في (عصر الكهرباء) الذي بزغ فجره الآن
لقد اخترع أهل العصور الأولى العجلة، واخترع الرجل العصري الآلة التي تدير عجلات العالم، واستكشف كيف يستعمل الوقود وقوة الماء والكهرباء في تسيير هذه الآلة
لقد كان الرجل يريد دائماً أن يطير ولكن الآلة التي يديرها النفط هي التي جعلت هذه(322/67)
الرغبة في حيز الإمكان
ولقد كان الزمان والمكان مشكلتين أمام أهل العصور الأولى، فكان الإنسان مضطراً إلى لزوم دنيا مزدحمة ضيقة هي دنيا وجوده الحاضر، فتمكن من السيطرة على اعتبار المكان بواسطة الكتابة والطباعة والتصوير الشمسي والآلة الناطقة، وتمكن من السيطرة على اعتبار الزمان بواسطة الساعة والمنظار المقرب وآلة البرقية والمسرة واللاسلكية والآلة البخارية والسيارة، وتمكن بواسطة الطيارة من انتصارات جديدة على اعتباري الزمان والمكان
يجد الصغار من البنين والبنات أنفسهم في هذه الدنيا العجيبة ويتوقون إلى استئناف النصر فيها ويطيبهم منها كل ما كان في الإمكان، فمما يساعدهم على تفهم الدنيا أن يعرفوا كيف شيد بناء المدنية الحديثة
وإن دراسة زعماء النهضات وتقدير ما نحن مدينون به لهؤلاء الزعماء بمثابة تقديم الشكر على الصنوف التي نتناولها من صنع أيديهم
وفي تلك الدراسة وفي ذلك التقدير ما يجعل الشبان أكثر زهواً بتراثهم الإنساني عندما يتبينون أن معارك العالم قد خاضها في كل العصور رجال ونساء مثلنا
وعندما يسطع على لوحة إدراكهم وميض اللحظات العظيمة في حياة العلم سيرون لمحات لا من الماضي والحاضر فحسب، بل من اللحظات العظمى في حياة الإنسان، لحظات الإلهام التي استمتع بها المخترعون والمستكشفون فكانت إيذاناً من الله بظهور هذه الاختراعات وتلك الاستكشافات
عصر النار
صنع النار. الصخر المذاب. الحديد
النار أنفس ما كان في حيازة الإنسان فتخيل كيف تكون الدنيا إذا انطفأ كل ما فيها من النيران، ولم يبق فيها من يستطيع إيقادها!
إن منازلنا تصبح باردة لا تطاق فيها الحياة، ويصبح طعامنا غير قابل للنضج، وتقف قطاراتنا وبواخرنا، وتمتنع عن العمل مصانعنا، ولا يمكن صنع الكثير مما نأكله أو نشربه(322/68)
أو نلبسه أو نتولى إدارته بأيدينا
إننا نعيش في عصر جدير بأن يسمى حقاً (عصر النار).
ولقد بدأ عصر النار منذ آلاف كثيرة ة من السنين. وليس على وجه الأرض قبيلة ليس لديها أسطورة عن نشوء النار للمرة الأولى وصيرورتها في حوزة الإنسان. ذلك بأنه ليس في وسع مخلوق غير الإنسان أن يصنع النار، وأن مقدرته على صنعها جعلته في مستوى أرفع كثيراً من مستوى الحيوان، وكل أسطورة من هذه الأساطير تنص على أن النار كانت عند الآلهة، ويختلف بعضها عن بعض في بيان الطريق الذي حصل به الإنسان على النار، فيروي اليونان أن بروميذيوس صعد إلى السماء وأوقد شعلته من عربة الشمس، وسرق النار فنزل بها إلى الأرض. وقد كان الآلهة لا يريدون أن يحصل الإنسان على النار، لأنهم يعلمون أنه بعد حصوله عليها سيصبح كأنه واحد منهم، فهو بواسطتها يستطيع تعرف أسرار الأرض والانتفاع بكنوزها، وكانوا لا يرون أن يحبوه هذه المعجزة
ولا يعرف أحد حق المعرفة كيف عرف الإنسان سر صنع النار. وربما كان السر رؤيته البرق يصيب الغابات الجافة فيحرقها. وربما كان فيمن رأوا ذلك المشهد رجل أجرأ ممن عداه فاحتفظ بجزء من النار السماوية عندما وجدها تحرق الغابة بتعهده إياها وبتغذيتها بالوقود. فإن كان أحد قد فعل ذلك فمما لا ريب فيه أن قبيلته تعده مخوفاً محترماً لأنه عرف أسرار الآلهة. وقد كان في كل قبيلة أناس من مهمتهم أن يتولوا حراسة النار، فكانوا يتناوبون حراستها أناء الليل وأطراف النهار ويغذونها ويتعهدونها كيلا تخمد فيخسر الناس هذه الهبة الغالية من هبات الآلهة ويموت الإنسان برداً. والأرجح أن مئات من السنين منذ اليوم الذي عرف فيه الإنسان كيف يحتفظ بالنار قد مضت والإنسان منتفع بالنار دون أن يعرف كيف يحدثها. وكان كل ما في وسعه أن يبحث عنها حيث توقدها آلهة البرق أو إله الغابة، فيحمل منها قبساً إلى كهفه وينعم به. ثم جاء يوم صنع فيه الإنسان النار لنفسه، إما بسنه قطعة الخشب محددة على لوحة صلبة من البلاط، وإما بدق حجرين من الصوان. وعلى أي الفرضين فإن اللحظة التي استطاع فيها الإنسان صنع النار كانت أعظم لحظة في حياة الإنسان في عهده الأول، فإن وجود هذه القوة في يده مكنه من المفتاح الذي يستطيع به استخراج ما في الأرض التي يسكنها من كنوز.(322/69)
ولما كنا لا نعرف حقيقة الأسطورة التي تنبئ عن استكشاف الإنسان النار لأول مرة، لأن هذا الاستكشاف أسبق كثيراً من العهد التاريخي وعهد الأساطير فإننا سنروي القصة التي يعتقدها أهل جزائر بولونيزيا عن رجل مخاطر جريء تمكن من معرفة أسرار العصي النارية وكيفية استعمالها في مأوى إله النار.
(يتبع)
ع. ا(322/70)
من هنا ومن هناك
إلى أي طريق يتجه الشباب الألماني؟
(عن مجلة (باريد))
هل يستطيع هتلر أن يعتمد كل الاعتماد على الملايين التي حشدها لأجل الحرب؟
هذا سؤال جدير بالعناية والتفكير. ولقد كتبت مسز نورا والن المؤلفة المشهورة مقالاً في (الأفننج بوست) عن روح الشباب الألماني يلقي ضوءاً جديداً على هذا الموضوع.
يقول كثير من الألمان: (إننا لم نكسب الشباب). وتقول مسز والن: إنني لم أصدق هذا القول حتى شاهدت بنفسي كثيراً من الحوادث التي تؤيده.
إن الحالة في ألمانيا كما تبدو للعيان تدل على الانسجام والتوافق بين حزب النازي وبين الشباب في ألمانيا. فهم ينتظمون في الصفوف، وينشدون الأناشيد، ويهتفون ملء حناجرهم، ويرفعون أيديهم اليمنى للتحية، ويرتدون الملابس الحربية التي يؤمرون بارتدائها، وتبدو عليهم مظاهر الطاعة في كل شيء.
إلا أن كثيراً من هذه المظاهر تخفي وراءها المقت والاحتقار. وقد سمعت بعض الآباء يقول: (من يدري ماذا يفكر أبناؤنا؟ إن قليلاً منهم الذين يستطيعون أن يصرحوا لأمهاتهم أو آبائهم بذات نفوسهم إنهم على ما يظهر يضمرون لنا الكراهية والاحتقار، وإننا لم نكن كذلك في شبابنا)
ولقد سمعت بعض أساتذة المدارس يصف الجيل الحاضر في حذر واحترس فيقول: (إن الشباب الذي يعيش في ألمانيا اليوم جيل عجيب؛ فهم في ظاهرهم خاضعون للنظام والقوانين، وفي باطنهم على خلاف ذلك. فكل ما يمنعون منه لا يلبث أن يصير موضع بحثهم ومثار شهوتهم؛ فهم يبحثون عن الكتب المحرمة، ويسعون وراء الحصول عليها بهمة لا تعرف الملل. وكم تكون دهشة المعلم حين تنكشف له الحقيقة، ويجد تلاميذ فصله ملمين بهذه الكتب أكثر من إلمامهم بدروسهم المدرسية. إن لنا تراثاً عظيماً وذخيرة كبيرة من الآراء والأفكار الألمانية التي تناقض نظرية النازي. وعلى الرغم من الضغط الشديد الذي يلاقيه أطفالنا فإنهم لا يشبون على جهل بهذا التراث. فحرق بعض الكتب لم يكن ليخلي المكتبات منها. ففي ألمانيا عدد لا يحصى من الكتب الممنوعة التي يستطيع الشباب(322/71)
أن يحصلوا عليها. إن الفكر الألماني وإن كان بطيئاً، إلا أنه ليس بليداً على الإطلاق. فهو سريع الانفعال، ومن السهل استثارته، ولكنه يكتشف المزاعم الخاطئة كيفما كانت).
وتقول مسز والن في مقالها هذا إنها سمعت بعض أعضاء النازي يقولون: (من يدري ماذا يكون إذا قامت الحرب؟ لقد جندنا جيشاً جراراً من أبناء ألمانيا، ولكننا لا ندري إلى أي ناحية سيتجه ذلك الجيش)
لقد زعزع حزب النازي الثقة التي وضعها فيه أبناء ألمانيا، فقد كانت مزاعمه الأولى التي اجتذب بها قلوب الشباب، مبنية على أساس من المثل الأعلى، فزعموا أنهم يعملون على ترقية الجنس وليست لهم رغبة في غزو بلاد أخرى أو إزعاج أهلها بأي حال. ولكنهم نقضوا العهد فساقوا الجيش لاحتلال بلاد غير بلادهم. وهذا أمر لا يرتاح إليه الشباب، فقليل بين الشباب الألماني الذين يميلون إلى روح الاستعمار البغيض
مذهب التعقيم
(عن (داي بروك) الألمانية)
كثير من المذاهب والأنظمة التي ظهرت في ألمانيا هذه الأيام وضعت للأجيال القادمة. وقد كان قانون التعقيم الذي يرمي إلى منع النسل العاجز أو المصاب بالأمراض المتوارثة، عن الظهور على مسرح الحياة، من القوانين التي قابلها العالم بالاهتمام، وعالجها بكثير من النقد والتمحيص
وقد أعلن الكثير من العلماء والمفكرين من مختلف الأمم، أن هذا المذهب سيكون له شأن كبير في تحويل وجهة التاريخ الإنساني، وعده آخرون رجعة إلى الهمجية والوثنية الأولى.
ولم يكن هذا القانون وليد الفكر الألماني وحده، فقد نبتت بذوره في الولايات المتحدة، وكثير من الأقاليم السويسرية، والولايات الاسكندنافية، وما زال الصوت يرتفع في كثير من الممالك ومنها بريطانيا العظمى، بتنفيذ مثل هذا القانون.
أما الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا القانون فهي بسيطة يدركها الطفل الصغير، ولكن السبب الجوهري هو التكاليف الباهظة التي تتحملها الحكومة من جراء هذا النسل
فالطفل الصحيح الذي يتعلم في المدارس يكلف ألمانيا 75 ماركاً في السنة، بينما يكلفها(322/72)
الطفل المصاب بنقص في قواه المدركة أضعاف هذا المبلغ. وتبلغ المصاريف التي تنفقها الحكومة من أجل الشخص المعتوه من 6 إلى 8 ماركات في اليوم. أما الأشخاص المصابون بالميول الإجرامية الذي يحتاجون إلى حراسة خاصة ورعاية صحيحة لتقويمهم، فيتكلف كل شخص منهم 20 ماركاً في اليوم
وقد ثبت أن العامل الألماني لا يكتسب في الغالب ما يعادل ما تنفقه الحكومة على الضعفاء والمعتوهين وأصحاب الآفات والمجرمين. فهل تسمح ألمانيا التي تكافح جهدها للاحتفاظ بكيانها بأن يستمر هذا التيار الجارف من النسل العاجز بغير انقطاع، فتضع على كاهل العمال عبئاً لا قبل لهم باحتماله، أو تخطو خطواتها المباركة لقطع هذا النسل. . .
وقد شمل قانون التعقيم الصم والبكم والعمي الذي خلقوا بهذه الآفات وإن كان الكثيرون منهم لا يكونون عالة على الحكومة بعد تعليمهم، فهناك سبب آخر ساعد على تنفيذ هذا القانون عليهم قد يكون أكثر أهمية من أي سبب آخر. ذلك أن عدد ذوي العاهات قد يتجاوز عدد الأصحاء إذا ترك على ما هو عليه
وقد اصبح الرجال ذوو المكانة والعقول الراجحة في ألمانيا يكتفون من النسل بطفل أو طفلين، وأصبحت العائلات الصحيحة تتجنب كثرة الأطفال، هذا فضلاً عن الوقت الذي يصرفه أبناء الطبقات الممتازة في التعليم والتخصص في الدراسات العالية مما لا يمكنهم من الزواج قبل سن الثلاثين. بينما يتزوج ذوو العقول الضعيفة في سن تتراوح بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين
وعلى هذا القياس لا يمضي مائة عام حتى تكون نسبة النسل الضعيف قد تجاوزت نسبة النسل الصحيح عشرات المرات
وقد أخذت الحكومة الألمانية تراقب هذه الأحوال بيقظة ودقة وتبذل غاية جهدها لإخراج جيل قوي صحيح(322/73)
البريد الأدبي
بحر العرب لا بحر الروم
كثير من الكتاب يسمون البحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) حين يحلو لهم أن يذكروا التسمية القديمة لذلك المحيط
وأنا أقترح أن نسميه (بحر العرب)
وهذا الاقتراح له أساس من التاريخ. فقد كان من أسلافنا من يسميه (البحر الشامي) وذلك اسمه في أكثر كتابات ابن فضل الله العمري صاحب (مسالك الأبصار)
والواقع أن الشوام هم أقدم من انتفع بذلك البحر: بحر العرب، وهم أقدم من عرف أنه موطن استغلال، حتى جاز القول بأن الفينيقيين القدماء هم الذين أسسوا مدينة مرسيليا منذ نحو خمسة وعشرين قرناً. ومرسيليا هي عروس الشاطئ الفرنسي من بحر العرب، ولا يفوقها في الحسن غير الإسكندرية وهي عروس الشاطئ المصري من بحر العرب، وربما كانت الإسكندرية أجمل مدن الشواطئ على الإطلاق، ولذلك تفصيل سنطالع به القراء بعد حين
فما رأي الأستاذ إسعاف النشاشيبي في هذا الاقتراح؟
أنا أظن أن عنده شواهد كثيرة تؤيد القول بأن البحر الأبيض المتوسط هو بحر العرب لا بحر الروم، وانتظر أن يتسع وقته لتعريف القراء بما كان يملك العرب من السيطرة على هذا البحر أيام ازدهار الحضارة العربية
وصدق بدوي الجبل حين قال:
أيها البحر أنت مهما افترقنا ... ملك آبائنا وملك الجدود
زكي مبارك
الجبر والاختيار
جاء في المقال الأول للأديب السيد محمد العزاوي المنشور في العدد 318 من الرسالة ما يأتي:
(أما رجال الدين والكلاميون من المسلمين فقد خاضوا فيها (أي مسألة الجبر والاختيار)(322/74)
وكان همهم الأول البرهنة على أن الإنسان إما خالق لأفعاله فهو مسئول عنها أمام الله في القيامة، ويحق عليه الجزاء ثواباً وعقاباً، أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله، فلا يكون ثمة حساب أو عقاب. وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده)
ونحن نرجو من الأديب الفاضل أن يصحح هذا القول، فإن المسلمين، القائلين منهم بأن الإنسان خالق لأفعاله وغير القائلين، متفقون على أنه مسئول عنها أمام الله، وعلى أنه مجزي بها؛ فإن أهل السنة لا يقولون بأن الإنسان خالق لأفعاله، ولكنهم لم يجعلوا خلقه لأفعاله أساساً لاستحقاق الجزاء، ولا عدمه لعدمه. فقوله (أو أن الإنسان وأفعاله من خلق الله فلا يكون ثمة حساب أو عقاب) بعيد كل البعد عن الحق. وكذلك قوله (وهمهم الثاني هو البحث في معرفة الله لما يحدث: أهي قبل الحدث أم بعده) في غير محله أيضاً، فإن المسلمين لا يختلفون في أن الله تعالى عالم بكل ما يحدث قبل حدوثه، إلا أنهم قالوا: (إن علمه بالمتجددات على وجهين: علم غير مقيد بالزمان، وهو باق أزلاً وأبداً لا يتغير ولا يتبدل؛ وعلم مقيد بالزمان وهو علمه تعالى بالمتجدد أو المتغير، وهذا العلم متناه بالفعل بحسب المتجددات، وغير متناه بالقوة كالمتجددات الأبدية. والعلم لا يتغير بحسب الذات، ويتغير من حيث الإضافة، ولا فساد فيه، وإنما الفساد في تغير نفس العلم) نعم قالت فرقة من القدرية: (إن الله لم يقدر الأمور أزلاً، ولم يتقدم علمه بها وإنما يأتنفها علماً حال وقوعها) ولكن هذه الفرقة قد خرجت بهذا القول عن الإسلام (فقد كفرهم عليه الإمام مالك والإمام الشافعي، والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة) على أن هذه الفرقة لو عدت من الإسلام لا يصح أن يجعل قولها - وهو من الضعف ما هو - مقابلاً لقول سائر المسلمين، أو على الأقل لا يصح الادعاء بأن هم رجال الدين والمتكلمين هو البحث في هذه المسألة على هذا النحو
وجاء في هذا المقال أن المعتزلة قالوا: (بأن الله لا صفات له غير ذاته، فشاركوا الجهمية في هذا الأصل)
وهذا الكلام يحتاج إلى تصحيح، أولاً من جهة عدم توضيح قول المعتزلة، فإن تركه بلا توضيح يوهم إنكارهم الصفات إنكاراً غير حميد كما يدل عليه اعتبارهم شركاء للجهمية(322/75)
فيه. وهم إنما يقولون: إن صفاته عين ذاته، أي أن ذاته تسمى باعتبار التعلق بالمعلومات عالماً، وبالمقدورات قادراً إلى غير ذلك، أي بمعنى أنه عالم بذاته لا بأمر زائد على ذاته (العقائد النسفية وحواشيها ص 106). وثانياً يحتاج الكلام إلى تصحيح من جهة ادعاء مشاركتهم للجهمية في هذا الأصل، أي أصل إنكار الصفات؛ فإن (الجهمية وطوائف أخرى ملحدة يعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات المقدسة)
(فلسطين)
داود حمدن
اللغة العربية والجامعة المصرية
في مقال الدكتور زكي مبارك المنشور في العدد 318، كلام طيب في مؤاخذة القائمين على التدريس بكليات الجامعة. إنهم زعموا أن بالعربية قصوراً عن حاجة العلم، كأنهم يريدون أن يجدوا للمخترعات الحديثة (دون تعب منهم ولا سعي) أسماء في معاجمنا القديمة، فإذا لم يجدوا وصموا خير اللغات بالعجز والقصور، وما العجز في الواقع إلا عجزنا، وما العيب إلا فينا وفي هممنا. والكنز لا تنتفع به حتى ننبش فوقه بالمعاول
ونحن (في الشام) ما ينقضي عجبنا من قيام كليات في الجامعة المصرية على عقوق العربية إلى اليوم، بينما أثبتت الجامعة السورية منذ عشرين عاماً (في عمل صامت) صلاح العربية لتكون لغة علم. قام أساتذتها (وهم خريجو أرقى معاهد الغرب) يدرسون العلوم بالعربية ولاقوا في هذا السبيل عناء جاهداً. ولا ريب أن الأمر شاق لا يحمله إلا بطل يبذل له ما يبذل المجاهد الشجاع في الميدان
وخير برهان على اتساع لغتنا هذه المؤلفات العلمية الجامعية الضخام التي ألفها لسد حاجة الجامعة الدكاترة الأساتذة: الخياط. سبح. الشطي. الخاني. خاطر. . . وغيرهم؛ بل إن بعضهم طبع معجماً خاصاً بالمصطلحات التي وضعها لفنه، وما أظن أن ذوي الشأن في مصر علموا بهذا
وحبذا لو تبادلت الجامعتان العربيتان في مصر والشام نشراتهما وأنظمتهما ومطبوعات أساتذتهما ومعاجمهم ومصطلحاتهم. ثم تداولتا الرأي بما ينهض التأليف العلمي بلغة العرب.(322/76)
والوطن يشكر الذين رفعوا اسمه بأعمالهم كما يشكر غيرة وزير معارف مصر وجهد الدكتور زكي مبارك.
(دمشق)
س. أ
حول الوحدة العربية
قرأت في العدد (319) من الرسالة مقالاً للأستاذ عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق تأييداً لما يكتبه الأستاذ أبو خلدون ساطع الحصري بك نقداً لكتاب (مستقبل الثقافة في مصر)
وقد عرض في هذا المقال لمبحث طريف حين طلب إلى الدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها أولى من أن يكون في قطر واحد أديباً! ثم قال: (. . . أوليته - وهو مسلم مصري - خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد - وهو النصراني المصري - وهو لذلك أشد اتصالاً منه بالفراعنة ذوي الأوتاد!)
وبهذه المناسبة أقتبس شيئاً من مقال للأستاذ مكرم عبيد في هذا الموضوع يجنح إلى تحليل فكرة الوحدة العربية وتأييدها وذكر أنه قابل الأستاذ مكرماً في دمشق وسأله عن تلك النعرة الفرعونية في مصر وأنه لا يزال يذكر أن الأستاذ أجابه بما معناه: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب!
وأنا أقول إن الأستاذ مكرم عبيد وإن كان أديباً كبيراً (ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته) إلا أنه سياسي عتيد، ولا يخفى ما في جوابه السابق من أساليب السياسيين، ولعل ذلك لم يغب عن الأستاذ التنوخي! فإن فكرة رد الفراعنة إلى أصل عربي يطول مداها، وتصل بنا إلى غور التاريخ مما لسنا في حاجة إليه اليوم. خصوصاً وإني أعلم أن فكرة كراهية الفرعونية في مصر ترجع إلى سببين: أحدهما سياسي والآخر ديني؛ أما السياسي فهو أنها تقف حجر عثرة في سبيل الوحدة العربية كما يراها أنصارها. وأما الديني فيرجع إلى فكرة خاطئة هي أن فرعون قد ذكر في (القرآن الكريم) بأنه حاكم باطش مستبد بالرسل. . . وهذه الفكرة خاطئة لأن فرعون الباطش الفرد لا يعني فراعنة ثلاثين أسرة(322/77)
حاكمة توالت على عرش مصر في مدى ثلاثة آلاف سنة أو يزيد. وإذا كان موسى عليه السلام قد لقي من عنت فرعون ما دفعه إلى الخروج بقومه من مصر، فإن يوسف عليه السلام قد لقي عند فرعون إكراماً وتقديراً لمواهبه واستغلالاً لتلك المواهب في حكم البلاد. قال تعالى: (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)
هذه هي نقطة الضعف في السبب الديني الذي يدعو إلى كراهية الفرعونية في مصر. أما السبب السياسي وهو أن الفرعونية تقف حجر عثرة في سبيل الوحدة العربية فذلك أنهم يريدون أن تقوم هذه الوحدة على أساس الاشتراك الجنسي دون العنصرية أو القومي، فهم لذلك يريدون أن يفرضوا العربية على جميع الذين يدخلونهم في نطاق هذا (الحلف العربي) أو (الاتحاد العربي) ويستعظمون أن يتسمى أحدهم بغير هذا الاسم. فأنا آخذ عليهم هذا. وذلك أن العرب خرجوا من جزيرتهم - التي هي وطنهم الأول الخاص بهم - يحملون مشعل الإسلام في أيمانهم فنزلوا على الشعوب الأخرى واختلطوا بها اختلاطين: اختلاطاً ثقافياً واختلاطاً جنسياً. . . فأما الثقافي فبني على أساس الإسلام والقرآن والأدب العربي، وأما الجنسي فعلى أساس المزاوجة والمصاهرة. ولا شك أن الاختلاط الأول كان أفعل من الثاني؛ فإن الجنسيات الأصيلة في البلاد المفتوحة لم تمح محواً إن لم تكن قد حافظت على تغلبها في أكثر تلك البلاد، بينما غلبت الثقافة العربية على جميعها وإن كانت المؤثرات الجديدة التي صحبت التوسع العربي قد استدعت منذ انتهاء الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، أن يعترف بانتهاء تسميتها (بالدولة العربية) فأصبح المؤرخون يسمونها بعد هذا التاريخ (بالدولة الإسلامية)!
وإني ارجوا ألا يفهم من هذا أنني لا أؤيد وجود وحدة بأي نوع من الاتحاد وتحت أي اسم من الأسماء، ولكني أوجه إلى أقرب الطرق إلى تحقيق حلم من هذا النوع. . . إن مباحث الأدب والتاريخ لا تنتهي، ولكنها تصبح عظيمة الجدوى إذا اصطحبها النظر إلى واقع الظروف القومية والاجتماعية الملابسة، وقد تتحقق الوحدة المنشودة بإرشاد المخالفين لها أكثر مما تتحقق بإرشاد المؤيدين، فإن الناظر إلى حالة كل دولة شرقية على حدة يدرك(322/78)
طول الأمد المطلوب لتحقيق شيء من هذا القبيل للانحلال الظاهر في كل عضو من أعضاء هذا الجسم على انفراد، فليكن العلاج علاجاً لكل عضو مستقلاً عما سواه، حتى يصح الجسم بصحة جميع أعضائه!
وبعد ذلك، أفلا يرى معي كل منصف أن الدعاة إلى القومية قد يكونون هم اصلح الدعاة إلى وحدة عربية أو إسلامية قوية منيعة في وقت ليس قريباً جداً، وأن من يراد له أن يكون أديب الأقطار العربية كلها لا أن يكون في قطر واحد أديباً، قد يكون هو أديب الأقطار العربية الحق، الذي يمهد السبيل القويم - وإن كان بطيئاً - لوحدة هذه الشعوب التي تدين بدين واحد في أغلبها، وبأماني وطنية واقتصادية واحدة في مجموعها؟!
(شبرا - مصر)
عامر محمد بحيري
العربية والإسلامية
دفعني إلى معاودة الكتابة في هذا الموضوع الرد الذي قرأته موجهاً إلي في العدد (320) من (الرسالة)، على أن مثل هذا الموضوع لا يعتذر من كثرة الكلام فيه، وإنما يعتذر (ولا يعذر) من قصر الكلام فيه، ولم يبن حقيقته
والمسألة هي أن هناك أخوة إسلامية دينية، وهنالك وحدة إسلامية سياسية، وهنالك إسلام وهنالك مسلمون، ولابد من فصل كل واحدة من هذه المسائل عن الأخرى
فكون المؤمنين اخوة، وكون المسلم أخاً للمسلم ولو اختلفت الديار وتباينت اللغات أمر مسلم به ديناً، ولا يكون مسلماً من ينكره لأن الآثار القطعية تواردت عليه، ولأنه أصل من أصول الدين، ولأن شعائر الدين كلها من نحو الصلاة والزكاة والحج والأحكام الفقهية تدور كلها على اعتبار الناس أصنافاً: مسلمين وذميين ومحاربين، ففي إبطال الأخوة الإسلامية واتخاذ الأخوة العربية أو الوطنية خروج صريح على الدين الإسلامي
هذا من ناحية الدين، وليس معنى هذا أن الإسلام ينظر إلى المواطنين غير المسلمين نظر العدوان أو يسقط حقوقهم أو يعاملهم على نحو ما يدعي من ينادي بحماية الأقليات، بل الحقيقة التي يعرفها كل من له أقل اطلاع على الإسلام، أن الإسلام يحفظ للمواطنين غير(322/79)
المسلمين كل حقوقهم ويضمن لهم حرياتهم، فليفهم هذا
أما الوحدة الإسلامية وتحقيقها عملياً فشيء آخر لا نبحث فيه الآن، ولكننا نعتقد أن له مائة طريق إلى تحقيقه، وحسبك علماً بنظام الإمبراطورية الإنكليزية الذي استطاع أن يضم ممالك منثورة في كل آفاق الأرض لتعلم أن الفكر البشري لا يعجزه حين استكمال هذه الشعوب قوتها وحريتها، إيجاد نظام صالح للوحدة
أما الاحتجاج بعمل بعض المسلمين اليوم وموقفهم من فلسطين فلا يقوم حجة على الإسلام، لأنه فرع منه ولأن الدين مبدأ ثابت لا يعد عدم اتباع فئة من المنتمين إليه لأوامره وأحكامه نقصاً فيه. وأما نفي مساعدة المسلمين في الهند لثورة فلسطين فباطل، والأموال الكثيرة التي انهالت من الهند على مجاهدي فلسطين لا يستطيع نكرانها أحد
(دمشق)
ناجي الطنطاوي
حول معنى بيت
قال الأستاذ الصعيدي في العدد (319) من الرسالة تعقيباً على هذا البيت المنسوب إلى معاوية
قد كنت تشبه صوفياً له كتب ... من الفرائض أو آيات قرآن
مقالته الآتية: (ومثل هذا لا يمكن أن يقال في عصر معاوية لأن نظام التصوف لم يكن قد حدث في ذلك العصر ولم يكن فيه كتب في التصوف يحملها المتصوفة وغيرهم).
أما إنه لم يكن هناك كتب في التصوف في ذلك العصر فهذا صحيح، لأن أول كتاب وضع للناس في التصوف هو كتاب (اللمع) لواضعه الشيخ أبي نصر عبد الله بن السراج الطوسي المتوفى سنة 649هـ. وقد قام المستشرق الإنكليزي نيكلسون بنسخه وتصحيح وطبع في مدينة ليدن 1914. بيد أن هذا البيت لا ينهض دليلاً للأستاذ الصعيدي على أن قصة سعد وسعاد موضوعة فقد فهم كلمة (كتب) في البيت على ظاهرها
والذي أراه في تفسير هذا البيت أن أسلوبه مقتبس من أسلوب الذكر الحكيم: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) أي مكتوباً موقوتاً، والمكتوب هو المفروض: أعني(322/80)
مفروضاً محدداً بوقت لا يتعداه. فكلمة (كتب) ليس المراد منها في البيت هذه المدففات من مخطوطات أو مطبوعات، وإلا فما معنى من الفرائض؟ بل هي جمع كتاب بمعنى المكتوب عليه أي المفروض فيكون الأسلوب هكذا: له مفروضات من الفرائض، كما تقول أقمنا بها عمراً من العمر. ومعنى البيت إذن: (قد كنت يا مروان في مبلغ يقيني بك تشبه الصوفي الذي جعل لنفسه مفروضات من الفرائض يتعبد بها أو آيات قرآن يرتفع بها فلا يسف إلى وهدة الآثام)
وبهذا يسلم البيت من الاعتراض التاريخي الذي يوجه إليه على تفسير الأستاذ الصعيدي. أما أن القصة موضوعة أو واقعة فهذا منحى آخر
أحمد عبد الرحمن عيسى(322/81)
رسالة النقد
نظرات في كتاب
(بعث الشعر الجاهلي)
تأليف الدكتور مهدي البصير
للأديب خليل أحمد جلو
الكتاب - كما يحدثنا المؤلف - عدة فصول من كتابه (الأدب العربي قبل الإسلام) الذي نقله إلى الفرنسية وعرضه بشكل أطروحة في السوربون. فأخفق لأن المستشرقين لا يرحبون بكتاب يشيد بالأدب العربي ويحيي ما اندثر منه، فاضطر إلى تأليف كتاب في الأدب الفرنسي البحت فاطمأنوا إليه وأجازوه الدكتوراه!
والكتاب - بتعريف آخر - هو مجموع المحاضرات التي ألقاها صاحبه على طلاب دار المعلمين العالية ببغداد
والكتاب إذا أردت أن يفطن إليه أهل العراق، قلت هو كل ما ألقاه الدكتور من أحاديث في دار الإذاعة اللاسلكية في الصيف المنصرم
ولا تحسبني أيها القارئ الكريم من الكاذبين إذا تفقدته في الأسواق فلم تجده، فإن وزارة المعارف قد اشترته وهو في المطبعة بثمن يدل على عطف وتشجيع، فأنقذت صاحبه من عناء التصريف وحسرة البوار، وأخذت بما يروى: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهل أحد من الناس أولى من الأديب بالرحمة والإنعام في هذا الزمان!؟
إن الدكتور كان بخيلاً على أصحاب المكتبات أن يرتزقوا منه، وكان ضنيناً على القراء أن ينتفعوا به. فهل أمن النقد حين استخفى كتابه عن السوق؟ وهل اطمأنت نفسه حين فرضه على طلابه في دار المعلمين العالية فرضاً ألا تذيع نواقصه وتنشر عيوبه؟ وهل نجحت حيلته حين أذاعه في المذياع العراقي ارتجالاً ولم يسمح للصحف والمجلات أن تنشره؟
لقد خابت ظنون الدكتور، ولم يفت النقاد المترصدين أن يصمدوا له ويتناوشوه. فاليوم عليه (البعث) وعلينا (الحساب)
ولأكن عند حسن ظن الدكتور! فلست أبغي التعريض بشخصه ولا المس بذاته وهو من(322/82)
ذوي الماضي المجيد، ومن دعاة الحركة الوطنية، وممن صاول وقارع البغاة المستعمرين، وممن لهم كرسي رفيع في دار المعلمين العالية
اقتضى هذا الإطراء ما أعرفه عن الدكتور من ضيق الصدر بالنقد واحتباس نفسه منه سواء أكان موجهاً إليه أم إلى غيره. واقتضاه أيضاً سوء الظن بالنقاد والارتياب بما يؤاخذون به المخطئين. ألم تلاحظوا الدكتور زكي مبارك لا يفتأ يعلن صداقته وحبه لأحمد أمين في رده عليه، وبعض الناس لا يفتئون يتهمونه بالأغراض والمقاصد، بل وأشركوا معه صاحب الرسالة؟
فليعلم الدكتور - غير معلم - أني لا أضمر له كرهاً وليس لي معه مآرب، وأن الأدباء من حسناتهم النقد النزيه، ولعل ربك يريد أن يسبغ علي بعض حسناته حين قيض لي نقد كتاب (بعث الشعر الجاهلي)
أما بعد فإن كتابك يا سيدي ناقص من عدة وجوه لزم علينا تبيانها واستقصاؤها
أولاً: إنك اقتصرت في بحثك على خمسة شعراء هم امرؤ القيس، وزهير، وعمرو بن كلثوم، والحارث، وعنترة، وتركت الآخرين مقبورين لم تبعثهم. فهل أنكرتهم وشككت في تراثهم؟ وإذا كان ذلك فأين الدليل والبرهان؟ وإذا لم يكونوا من صلب بحثك فلم سميت الكتاب (بعث الشعر الجاهلي) الذي يقتضي ألا تدع ارتياباً في شاعر جاهلي ولا شكاً فيما روي عنه من قريض. هل تعتقد أن ما أغفلته حقيقة مسلم بها لا تحتاج إلى التنويه والإشارة على الأقل؟
إن الذي يطمع أن يبعث الشعر الجاهلي يجب ألا يدع شاردة ولا واردة منه إلا استقصاها وامتحنها، وإن من النقص الفظيع أن تكتفي في بحثك بخمسة شعراء. وهل تناولت غير شرح معلقاتهم كأن لم يكن لهم من دون المعلقات قصائد وأبيات أخر تحتاج إلى التدقيق والتحقيق؟!
ثانياً: لم يخطر على بالك أن تستعرض رأياً من آراء المستشرقين واستدلالات المنقبين الأثريين مثل (نولدكه) و (جويدي) وغيرهما من الذين كانوا الأساس الذي اعتمد عليه الدكتور (طه حسين) والمنبع الذي أخذ منه في إنكار الشعر الجاهلي أو الإغراق في الشك فيه. وركنت إلى المصادر العربية القديمة دون ترو واحتراس ودون جدال ولا مناقشة.(322/83)
ولخصت حياة الشعراء متجنباً كل ما يدعو إلى الشك والارتياب ويعوزه التدليل والبرهان. وشرحت المعلقات ولم تر حاجة أن تستهلها ببحث يقرر أنها جاهلية وأنها ليست في مجموعها أو بعضها من انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة، أو تكلف القصاص، أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين. وهل يصح لكاتب يريد أن يبعث الشعر الجاهلي بعد أن حامت حوله الشكوك والأوهام أن يغفل عن ذلك؟ وهل يبعث الشعر الجاهلي بسرد حياة الشعراء وشرح معلقاتهم كما يدرسها طلاب المتوسطات
ولابد أن اروي لك نماذج من بحثه لتستدل على صدق ما أقول ولؤمن أن البحث العلمي الصحيح يمقت ذلك
يقول الدكتور البصير مقرراً وجود عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة اليشكري: (إن منابع التاريخ العربية في القرون الوسطى تذكرهما وتروي لهما. إذن فلا سبيل إلى إنكار وجودهما ولا إلى الشك في شاعريتهما) (ص 48 - 49). ويعتقد أن القارئ قد أقنعه هذا البرهان، وأنه لا يمكن أن يقال أكثر من ذلك في إثبات الشاعرين، فيصدر أمراً عسكرياً (بالشروع بالبحث حالاً) عن شرح معلقتيهما
مهلاً يا دكتور! إن قولك لا يطمئن إليه اشد الناس سذاجة حتى تنفي عن ذهنه ما أحيط به عمرو بن كلثوم من أساطير جعلته أقرب إلى أبطال القصص منه إلى أشخاص التاريخ. وحتى تقنعه بالنص التاريخي أو الأدلة المنطقية التي تقرب إلى عقله صحة ما وقع بين آل المنذر وبني تغلب من ناحية، وبين ملوك الفرس وأهل البادية من ناحية أخرى. وحتى تدحض شكوك الرواة في بعض المعلقة واختلافهم في الأبيات الأولى: أقائلها عمرو بن كلثوم، أم قالها عمرو بن عدي بن أخت جذيمة الأبرش. وأنت مضطر أيضاً، إذا أردت أن تفهم أشد الناس سذاجة، أن تعلل ما في قصيدته من تكرار في الأبيات والحروف، وشذوذ عن سلامة الطبع البدوي
وجدير بك وأنت تبحث في قصيدة الحارث التي آمنت بصحتها أن تقنع القارئ بأنها ارتجلت ارتجالاً، ولم يفكر فيها الشاعر تفكيراً طويلاً ويرتب أجزاءها ترتيباً دقيقاً.
تراني أيها القارئ الكريم أطيل عليك فيما يجب أن يتناوله الدكتور مهدي البصير في بحثه عن الشاعرين: عمرو والحارث ومعلقتيهما. ولكن الحق معي فإن كتابه يدعى (بعث الشعر(322/84)
الجاهلي) لا (بحث في الشعر الجاهلي)، وإن الكتاب ألقي على طلاب دار المعلمين العالية ولم يلق على طلاب المتوسطات. وإني منتقد يجدر به أن يدلي إلى الدكتور بما لاحظه من نقص وإغفال ويرشده إلى طريقة البحث العلمي الصحيح لعله ينتصح ويتلافى هذه الأغلاط
ولندع ابن كلثوم والحارث ولننتقل إلى زهير وامرئ القيس
أما زهير بن أبي سلمى فإن الدكتور لا يجد صعوبة ولا مشقة في إقرار شخصيته التي تتناقلها المصادر العربية القديمة وأشعاره التي ترويها، فيحدثنا في مستهل حديثه عن زهير: (إننا لسنا بحاجة إلى إقامة الأدلة التاريخية على أن زهير بن أبى سلمى قد وجد حقيقة وقرض الشعر) (ص 31) ثم يقتصر (على درس معلقة زهير) ويقصد بالدرس هنا تفسير الغريب من ألفاظ المعلقة وشرح بعض المعاني فقط. ولا أظنك ترميني بالغلو إذا قلت إن الذي يريد أن يبعث الشعر الجاهلي ملزم في كلامه عن زهير أن يبحث عن نسبته إلى مزينة، وإقامته في غطفان، وكونه من أسرة معروفة بقرض الشعر؛ وحظوته عند هرم، ورأي النقاد الحديثين والرواة الأقدمين فيه، وعلاقته بالإسلام مع ذكر الأدلة والشواهد التي تقنع القارئ بصحة ما يقول. وهل يثبت ما ذكره في مستهل حديثه أن قصيدة الشاعر جاهلية وأنها لزهير وأن ليس للمنتحلين يد فيها؟ وهل يصح له أن يغفل ما يتحدث به الرواة عن زهير: أنه تنبأ بالإسلام قبل البعثة، وأنه أوصى ابنيه كعباً وبجيراً أن يسلما، وأن له شعراً فيه أصول دينية إسلامية، وأن النبي رآه فاستعاذ بالله من شيطانه فانقطع زهير عن الشعر حتى مات؟
أما حديثه عن امرئ القيس فهو غاية في الظرف والفكاهة وجهل أفهام الناس. فهو يلخص تاريخ امرئ القيس تلخيصاً خالياً من كل ما ترويه الكتب العربية من أساطير وأعاجيب لينجو من عناء المناقشة ومشقة الدحض والإثبات. ثم يستجهل القارئ معرفة غير ما يروى عن الشاعر، ثم يقول: (ولا نزاع أنه (أي تلخيصه) منسجم مطرد. . وظاهر أنه لم يكن أكذوبة من أكاذيب القصاص) (ص 10)
(يتبع)
خليل أحمد جلو(322/85)
المسرح والسينما
من التاريخ
3 - النهضة المسرحية في مصر
ونصيب الفرقة القومية منها وواجبها حيالها
فرقة رمسيس
جمع يوسف وهبي حوله بطلات وأبطال المسرح في ذلك الحين إلا من أبطرتهم الشهرة وأفسدهم المجد، أو خاف منهم على نفسه، وهو في مستهل حياته الفنية التي يرجى منها الخير. . . وليوسف بعض العذر فيما فعل، فما معنى أن يستظل باسم كبير لامع يتضاءل اسمه إلى جانبه ولا يفيد منه شيئاً يذكر، ويكون مصدر خطر على مشروعه الكبير الذي أرصد له ثلاثة عشر ألفاً من الجنيهات من ماله الخاص، فينسب إليه الفضل في النجاح إذا كان مقدراً له ولا يكون ليوسف إلا فضل صاحب المال، وما أتعسه من فضل لا يرتضيه فنان لنفسه! ويوسف إنسان ذكي له كل المميزات التي تجعل منه زعيماً في وسطه، وله كل عيوب الأذكياء التي تفقدهم عطف الكثيرين، وتذكي في نفوسهم الغيرة منهم والحقد عليهم. وقد شق طريقه بجرأة لا مثيل لها، وتزعم جماعة المسرحيين، وأقصى من لا يستطيع الزعامة عليهم، واحتضن من وطئوا أكنفهم له، وارتضوا بقيادته لهم على حين أن ماضيهم الطويل وخبرتهم بالمسرح ودرايتهم به كانت تجعلهم في أنفسهم ينظرون إليه ويبتسمون!
وترقب الناس ما ستخرجه لهم (فرقة رمسيس) من جديد يقبلون عليه. أما القديم فقد عرفوه وشبعوا منه وارتووا. وعلى أي حال، فهل تستطيع (فرقة رمسيس) أن تخرج أوديب أو عطيل أو مدام سان جين؟. . . إن جورج ابيض الذي تزعم التراجيدي لم يكن قد فقد مكانته فيه، وما كان أحد يعتقد أن يوسف أو سواه يحسن القيام بأدواره، وأن تستطيع فرقة رمسيس أن تخرج للناس (الموت المدني) أو (النائب هالير) ولم يكن أحد قد تصور مدى لحظة من الزمان أن عبد الرحمن رشدي يمكن أن يبزه آخر في هذه الأدوار التي اشتهر بها وأتقنها كل الإتقان.
ترقب الناس ما ستأتي لهم به فرقة رمسيس الجديدة من جديد - كما ترقبوا حين أنشئت(322/87)
الفرقة القومية ما ستأتي به لهم هذه الفرقة الجديدة من جديد - والناس عادة لا يرحبون بالقديم لعرفانهم به ولمللهم إياه. ثم إنهم كانوا قليلي الثقة بغير جورج أبيض وعبد الرحمن رشدي!
وقد كان هذه الفكرة التي تخامر أذهان الجماهير، والتي تحدث بها بعض النقاد والكتاب عند تكوين فرقة رمسيس من الدوافع الهامة التي حدت بيوسف لأن يعمل على هدمها نظرياً وعملياً، وتقويضها من أساسها بطرقه المعروفة - وسنفصل ذلك فيما بعد - على أن هذه المجهودات الهدامة كانت من العوامل التي أثرت تأثيراً عكسياً في النهضة المسرحية في مصر، وأساءت إلى يوسف وفرقته إساءة عظيمة، وأفقدته عطف الجماهير وتقديرها
أما يوسف من جانبه فإنه كان راغباً في عدم التحكك بمجد الآخرين، كان يريد أن يبتني المجد لنفسه وبنفسه، وكان يريد أن يظهر في ثوب جديد خلاب، حتى لا يجد الجمهور وجهاً للمقارنة بينه وبين الآخرين فيه. ومن ثم فقد أعلن أنه تلميذ (كيانتوني) الإيطالي، ووضع في برنامجه روايات جديدة لم يعرفها الجمهور من قبل، ولم يسمع بها، ولو أنه كان في أعماقه يحلم بأوديب وعطيل ولويس، وكل الروايات التي اشتهر بها غيره من الأبطال ونالوا بها المجد. وكان يعتقد في نفسه القديرة، أو يرى في نفسه أنه مستطيع التأثير في الجمهور بطريقته الخاصة. فينتزع الإعجاب منه وينتزع راية المجد من الآخرين، وقد أخرج فعلاً فيما تلا من سنين بعض الروايات القديمة المعروفة، كما قام بمشهد صغير من عطيل ضمن مشاهد إحدى الروايات العصرية، لكنه لم يظهر في عطيل نفسها أو أوديب أو سواها من الروايات الضخمة التي أصبحت ملكاً لجورج ابيض طوال عمره!
وفي الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين من مساء اليوم العاشر من شهر مارس عام 1923 رفع الستار في مسرح رمسيس عن رواية المجنون التي قيل يومئذ إنها من تأليف يوسف وهبي.
(للكلام بقية)
اختيار الروايات في الفرقة القومية
يخطئ من سيظن أن الفرقة القومية أو أصحاب الشأن فيها يعرفون السبب الحقيقي الذي(322/88)
من أجله أنشئت الفرقة، وإلا فما هذا العبث المحض الذي نراه في اختيار الروايات، وما هذه السياسة المضحكة التي يسيرون عليها، وكأنما هم موكلون بالتنكيل بفن التمثيل لقاء ما تكافئهم به الحكومة من أجر؟!
ولنضع أمام القارئ أمثلة يسيرة من هذه السياسة العجيبة.
(الخطاب) و (جنون الشرف)
في الموسم الأسبق أخرجت الفرقة القومية رواية الخطاب (لسومرست موغام)، وهي رواية أقل ما يقال فيها أنها تحض على الرذيلة، وتشجع عليها، وتكافئ الخاطئين، وتجزي الأبرياء شر الجزاء!
ومعرب هذه الرواية هو الأستاذ سليم سعده وقد خيل إليه أنه فهم رسالة الفرقة القومية في هذا الزمان فعرض على مديرها رواية (جنون الشرف) لبيرانديللو، وهي رواية أقل ما يقال فيها أنها تصور الشرف في أجمل الصور، وتحض على حبه والتعلق به. ولكن المدير الفاضل رفضها وطلب إلى المعرب أن يختار سواها من الروايات الشعبية التي هي أقرب إلى متناول هذا الشعب الذي لم يرق إلى درجة بيرانديللو. فاختار المترجم رواية (الخطاب) فقبلت في الحال وكانت سبة للفرقة أبد الدهر!
الروايات التاريخية في السينما
تقول الأنباء: إن إخوان لاما يخرجون رواية تاريخية عن المجنون وأن الثالوث المعروف (آسيا. ماري. جلال) يخرجون رواية تاريخية تحت اسم أرمانوسة أو شيء كهذا - فمن الضروري أن نقول لهؤلاء وهؤلاء ولغيرهم كلمة، أو نسدي إليهم نصيحة.
منذ أعوام أخرجت السيدة آسيا رواية تاريخية عن (شجرة الدر)، وأخرجت السيدة بهيجة حافظ رواية عن (ليلى بنت الصحراء)، وأخرج إخوان لاما بضع روايات كانت مزيجاً من التاريخ وصور الصحراء، وأخرجت السيدة عزيزة أمير وغيرها روايات فيها تاريخ وفيها صور من أهل البدو، وكيف يعيشون، وكيف يملئون الدنيا غراماً!
وكانت هذه الروايات جميعاً تنقصها الطلاوة والحبكة مع أن أصحابها قصدوا فيما قصدوا من لياذهم بالتاريخ والصحراء والملابس المألوفة أن يستروا بها أشياء كثيرة من عدم كفاية(322/89)
الاستعداد، وعدم حبكة الموضوع، بعد أن جربوا التعرض للموضوعات العصرية، فأخفقوا بعض الإخفاق، أي أنهم لجئوا إلى الروايات التاريخية ليداروا بعض العيوب وليفيدوا من الضخامة والمناظر الطبيعية الساحرة، وصور التاريخ الخلابة. مع أن الروايات التاريخية أو ذات المناظر الخارجية، تحتاج لعناية أدق واستعداد أوفى. وتحتاج فيما تحتاج إلى براعة فائقة في الإخراج لا يفهمها إلا الراسخون في العلم. فمن العدل أن نقول لهؤلاء جميعاً من البداية إن تعرضهم للروايات التاريخية لن يفيدهم شيئاً إذا قصدوا إلى ستر بعض العيوب أو الإفادة من الطبيعة ومناظرها. من الحق أن نقول لهم إن إخراج رواية تاريخية معناه البذل العظيم والتضحية الكبرى. ولينظروا كيف تفعل الشركات الأمريكية والإنجليزية على الخصوص. بل ليتأملوا كيف فعل استديو مصر في إخراج (لاشين). وليتريثوا قليلاً وليفكروا كثيراً قبل الإقدام على هذه المجازفات
ونحن على أي حال ندعو لهم بالنجاح والسداد والتوفيق
(فرعون الصغير)
أخبار سينمائية
جريتا جاربو وميلفين دوجلاس
استقر الري أخيراً على أن يكون ميلفين دوجلاس زميل جريتا جاربو في رواية نينوتشكا، وهذه ليست أول مرة يظهر فيها ميلفين إلى جانب جريتا فمنذ أعوام ظهر معها في رواية (إنك في حاجة إلي) ولم يكن وقتها قد نال إلا قليلاً من الشهرة.
جاري كوبر
أمضى جاري عقداً مع سامويل جولدوين وستكون أولى رواياته (النصر الحقيقي) مع أندريه ليدز في دور القيادة.
تيرون باوار
منذ عامين لم يكن تيرون باوار شيئاً مذكوراً، ومع ذلك فإنه في العام الأخير قد ظهر في خمس روايات كل منها تكلفت أكثر من مليونين من الدولارات، وإحداها كما يذكر القراء(322/90)
رواية (قنال السويس) التي منع عرضها في مصر لتعرضها بغير حق لشخصيات تاريخية معروفة. أما (حريق شيكاغو) فقد نالت نصراً عظيماً وقوبلت بعاصفة من النجاح في كل مكان. وهكذا ارتفع تيرون في لمح البرق تسنده الملايين وتحوطه قلوب الفتيات في العالم
مارلين ديتريش
وقد عرفت في رواية (الملاك الأزرق) مع (أميل جاننجز) وسطع نجمها في رواية (مراكش) أو (قلوب محترقة) مع (جاري كوبر). واليوم تفخر بها شركة (بارامونت) وتعتز بمكانتها في هوليود
وقد دعاها الهر هتلر أن تعود إلى بلادها فرفضت وفضلت الخروج من جنسيتها لتعيش حرة طليقة من كل قيد(322/91)
العدد 323 - بتاريخ: 11 - 09 - 1939(/)
من ذكريات الحرب الماضية
للأستاذ عباس محمود العقاد
كثير على إنسان واحد أن يشهد الحرب العالمية في حياته مرتين، فقد كانت الدنيا كلها لا تشهد حرباً عالمية إلا مرة في كل خمسة قرون أو ستة قرون، وكانت على أوسع ما تتسع له آفاقها تنحصر في دولتين أو ثلاث دول هي كل ما يسمى (العالم) في تلك العصور
أما اليوم فقد شهدنا الحرب العظمى قبل ربع قرن؛ وهانحن أولاء نشهد العالم كله متحفزاً لحرب عالمية أخرى تستغرق كل من على ظهر البسيطة من كبار الشعوب وصغارها ولو لم يشتركوا جميعاً في قتال
ماذا وراء ذلك؟ خير أو شر؟ ونجاة أو هلاك؟ وخطوة إلى حضارة أعلى أو نكوص إلى همجية الكهوف؟
بشر ولا تنفر!
وعلى هذه السنة نقول: إن تتابع الحروب العالمية دليل على وجود المشكلة العالمية بعد أن لم يكن لهذه المشكلة وجود، وبعد أن لم يكن للعالم نفسه شعور بوجوده مستقلاً عن عصبيات الدول والأوطان
ومتى ظهرت المشكلة فتلك بداية الحل، ومتى تفاقم الخطر فتلك علامة النهاية
أي نهاية؟
نهاية الخطر أو نهاية العالم؟ بل نهاية الخطر إن شاء الله
وذكريات الحرب الماضية تفوق الحصر والإحاطة، فهي أربع سنوات لم ينقض يوم واحد منها على غير تجربة جديدة من تجارب الفكر أو من تجارب المعيشة أو من تجارب الحياة
تاريخ أربعة آلاف سنة مجتمع في أربع سنوات، لأن الحرب العظمى قد عرضت على الناس في مدى سنواتها الأربع كل ما عرفه بنو الإنسان من خبرة السياسة وأطوار التاريخ، وقد أرتهم مصائر ملوك ودولات لم يرها الأقدمون إلا من قراءة الأسفار الطوال، وهي قبس صغير مما يراه الناظر رؤية العيان
لكنني أقتصر في هذا المقال على ذكريات تمس الأدب والصحافة لأنني أكتبه في صحيفة أديبة، وفي استذكاره على ما أرجو عبرة للمعتبرين(323/1)
كانت الرقابة شديدة على كل ما يطبع ولاسيما الصحف السياسية. وكنا نحن الذين ننشر في الصحف بعض المقالات أو القصائد من حين إلى حين نعرف مبلغ تلك الرقابة، ونسمي (الرقيب) بالمكتوبجي تشبيهاً له بالرقباء على الصحافة في تركيا العتيقة، أيام السلطان عبد الحميد
كان المكتوبجي التركي يلمح كلمة (المراد) فيحذفها مخافة أن يكون الكاتب مشيراً بها إلى حبس السلطان مراد
وكان يلمح كلمة (الرشاد) فيحذفها مخافة أن يكون المقصود بها ولي العهد محمد رشاد
وكانت تأتي الأنباء بقتل عظيم من العظماء فتعلم الدنيا كلها جلية النبأ إلا قراء الصحافة التركية فيهم لا يعلمون إلا أنه قد مات بالحمى أو مات بالسكتة القلبية. . . وقس على ذلك سائر الأنباء
وعلى هذا النحو - أو على قريب من هذا النحو - سار بعض الرقباء في قلم المطبوعات الموكول إليه أن يراجع الصحف قبل نشرها، وأن يحذف منها ما يثير الخواطر ولا راد لقضائه، فكانوا يندسون بين السطور بل يندسون في ألفاف مخ الكاتب حتى لا يقع في خلده أنه قد غلبهم بالدهاء وقد (فوت) عليهم كناية من الكنايات، وهم الأذكياء الألباء!
ويحضرني من نوادرهم أنهم حرموا علي ذكر الاستقلال في قصيدة شعرية فغلبوا القائد العام لدولة الحماية! لأنه لم ينكر استقلال مصر عند إعلان الحماية عليها، بل وعد برعايته والمحافظة عليه
أرسلت إلى (الأهرام) قصيدة في وصف (هيكل أدفو) ختمتها بالأبيات الآتية وتبدو فيها أخيلة الحرب وأطيافها:
الناس يغتال القوي ضعيفهم ... ولدهر يغتال الفتى المغتالا
قهار كل القاهرين تقاصرت ... عنه مكائد من طغى واحتالا
ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم ... أسفاً وما نقص الثرى مثقالا
ملكَ الفراعنةُ الحماةُ وخلفوا ... للملك أعلاماً بمصر طوالا
وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم ... عبروا بمدرجة الزمان رمالا
ومضى البطالسة الكماة وهذه ... مصر يزيد شبابها إقبالا(323/2)
تتقوض الأوطان وهي كدأبها ... من عهد نوح تربة ورجالا
عهد على الله القدير وذمة ... ألا تضيم لها الكوارث آلا
فتجنبوا فيها القنوط واجزلوا ... قسط البنين معارفاً وخصالا
إنا لنرجوها ونوقن أنه ... ما كان يوماً لا يكون محالا
وستستقل فلا تقولوا إنها ... صمد الهوان بها فلا استقلالا
فظهرت القصيدة وليس فيها البيت الأخير، وسألت عنه أين ذهب؟ فقال لي رئيس التحرير ضاحكاً: في بطن المكتوبجي هذه المرة لا في بطن الشاعر! أيهمك أن تذهب إلى حيث ذهب هذا البيت العزيز من القصيدة؟!
وشاءت المقادير أن أعمل في قلم المطبوعات، لأنني خلوت من العمل واحتجت إلى الإقامة بالعاصمة بضعة أشهر في جو رفيق وفي عمل يناسب ما كنت أعانيه من السقم
فلم أشأ أن أكون (مكتوبجياً) وأنا أعلم نصيب المكتوبجي من السخرية في مجالس الأدباء والصحفيين
فلم يمض أسبوع واحد حتى دعاني مستر (هورنبلور) مدير المطبوعات إليه في مكتبه، وكان رجلاً متحذلقاً يدعي المعرفة بجميع الأشياء وفي مقدمتها اللغة العربية الفصحى التي لا يحسن نطقها، وبدهني قائلاً:
- إذا لم يكن عطفك معنا فلماذا تعمل في هذه الوظيفة؟
قلت: إنني لا فهم ما تعنيه
قال: إنك لا تتوخى الدقة في مراجعة الصحف. وأراني أخباراً تركتها في بعض الصحف وكان من حقها أن تحذف محافظة على (أمن الخواطر)
قلت: إنني لا أجد في هذه الأخبار ما يمتنع نشره بين المصريين، وإني أقرأ في الصحف الإنجليزية نفسها ما هو أهم من هذه الأخبار. فلماذا ينبغي أن يجهل المصريون ما يعلمه الإنجليز وهم محاربون؟!
والواقع أننا كنا نقرأ الصحف الإنجليزية يومئذ فنطلع فيها على أخطر الأخبار وأعنف اللهجات في انتقاد تقصير الحكومة. وكانت هذه الصحف كثيرة الانتشار في مصر لانتشار الضباط والجنود الإنجليز فيها، فإذا وصل بها البريد بعد تقطع وروده فترة من الزمن علمنا(323/3)
منها ما لا سبيل إلى العلم به من غيرها، وعجبنا لشدة الحجر على الصحف المصرية بالقياس إلى تلك الحرية البالغة وتلك الصراحة الجريئة
فما ذكرت الصحف الإنجليزية للمستر (هورنبلور) نظر إلي طويلاً ثم قال: هل أنت من الحزب الوطني؟
قلت: كلا. ولكني من المصريين
قال: حسن. نحن لا نتفق، وأومأ إلي بالتحية. . . وانصرفت وأنا بريء من المكتوبجية وخلو من العمل في عالم الحرب الذي لا متسع فيه لصناعة الأدب ولا لصناعة الصحافة!
إلا أن الرقابة بغير غرض أهون كثيراً من رقابة يفرضها على الصحف رجل ينطوي على غرض خفي لا علاقة له بواجب الوظيفة
فقد كان من الرقباء من يطمع في المكافأة، وكان منهم من يتعمد حذف الأخبار من بعض الصحف لكي تنفرد بنشرها صحيفة أخرى بينه وبين أصحابها لحمة قرابة أو مصاهرة
وقى الله الصحافة المصرية شر الرقابة (بغرض) والرقابة المنزهة عن الأغراض على السواء!
عباس محمود العقاد(323/4)
جناية احمد أمين على الأدب العربي
للدكتور زكي مبارك
- 14 -
أبدأ حديث اليوم بالاعتذار لفريق من القراء يريدون أن نكثر من الشواهد كما صنعنا عند الكلام عن إحساس ابن خفاجة بالطبيعة والوجود، فالنضال بيني وبين حضرة الأستاذ أحمد أمين يمس شؤوناً لا تهم غير الخواص، وهم في غنى عن سوق الشواهد وضرب الأمثال
أما الأديب الذي كتب من القدس ولم يذكر اسمه ولا عنوانه فأنا أرجوه أن يعفيني من إثبات رأيه في الأستاذ أحمد أمين لما فيه من إيذاء. وأما رأيه في فلا يحتاج إلى إثبات؛ ولعله استقاه من كتاب (ليلى المريضة في العراق) وأنا راض عما شهدت به على نفسي في أكثر مؤلفاتي. وكنت أستطيع أن أقول إن العيوب التي أضفتها إلى نفسي ليست صحيحة، وإنما جعلت نفسي صورة إنسانية أدرس على حسابها ما في الناس من محاسن وعيوب، ولكني في الواقع لا أهتم بأقاويل الناس ولا أقيم وزناً للأراجيف، لأني مؤمن أصدق الإيمان بأن الناس لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فهم أعجز من أن ينفعوني أو يضروني؛ وأنا فوق ذلك أعرف أن الأساس السليم هو خلوص النية، وسلامة ما بيني وبين فاطر الأرض والسماوات، وهو عز شأنه يعلم ما بينه وبيني، ولولا فضله ورحمته وستره لكنت اليوم من الهالكين
كم تمنيت لو استطعت شكر الله على نعمه وآلائه، ولكن هيهات، فلله نعم تجل عن الحمد والثناء، ومن تلك النعم نعمة الرضا المطلق بما كتبه وقضاه، فما أذكر أبداً أني جزعت أو ضجرت من مكروه يلم بي. وهناك نعمة أعظم تفضل بها علي الله، وهي الأيمان بأنه تباركت أسماؤه هو وحده القادر على الضر والنفع، فما خشيت غيره ولا رجوت سواه
فأن كنت صادقاً فعند الله جزاه الصدق؛ وان كنت كاذباً فالله وحده هو الذي يملك ستر العيوب، وغفر الذنوب، وعليه أعتمد في نجاتي من شر نفسي
مولاي أنا أحب أن أكثر من الثناء عليك، ولكني أخشى الوقوع في مزالق الرياء، فارض مني بالقليل يا من لا يعرف القليل في الإحسان إلى العاصين والطائعين
إن الكافرين بنعمتك لم يفتهم برك وإحسانك، فكيف يفوتني لطفك وعفوك وسترك وأنا في(323/5)
سريرة نفسي من أخلص عبادك
مولاي، إليك الأمر كله فافعل ما تشاء، ولن تراني إلا حيث تحب في جميع الأحوال
أرجع كارهاً إلى محاسبة الأستاذ أحمد أمين:
صرح الأستاذ بأن الدين له أثر كبير في الأدب (لأنه من ناحية مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبي، ومن ناحية أخرى كان الأديب ذا دين وثني جامد تأثر أدبه بعقليته فخرج مثله مادياً جامداً، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقاً بالحجارة والأرض كان خياله في أدبه غالباً كذلك، لأن نفسية الإنسان وعقليته وحدة لا تتجزأ، وان اختلفت مناحيها ومظاهرها. من أجل هذا نرى الأدب الجاهلي في الكثير الأغلب مادياً لا معنوياً، ولا روحياً)
ذلك كلام أحمد أمين. وهو بهذا الكلام يضع قاعدة أدبية: هي تأثر الأدب بالدين
فدين الجاهلية في رأيه دين أرضي وضيع، وكذلك كان أدبهم، لأن الأدب من صور الدين
ولكن العرب لم يطل عهدهم بالوثنية فقد أنعم الله عليهم بالإسلام، وهو دين سماوي رفيع، فكان الواجب أن يتأثر أدبهم بذلك الدين فيسلم من تلك الصبغة الأرضية الوضيعة
منطق الأستاذ أحمد أمين يقضي بذلك
ولكن الرجل يصر على رأيه في تحقير العقلية العربية فيجزم بأن الشعر العربي لم يتغير بعد الإسلام، وإنما ظل في أسر العقلية الجاهلية
فهل يكون معنى ذلك أنه كان مخطئاً حين قال بتأثر الأدب بالدين؟
أم يكون معنى ذلك أن الإسلام لم يستطع أن يمحو تلك العقلية الجاهلية
لا هذا ولا ذاك
فالعرب في جاهليتهم تأثروا بالوثنية، وتأثروا في إسلامهم بالإسلام، ولكن أحمد أمين يمزح في مواطن لا يقبل فيها المزاح
وإلا فمن الذي يقول بأن الشعر العربي لم يتغير ولم يتطور بعد ظهور الإسلام؟
هل كان في الجاهلية شاعر كأبي العتاهية في الزهديات؟
هل كان فيهم شاعر كالشريف الرضي في الحجازيات؟
هل كان قيهم شاعر كأبي نواس في الخمريات؟
كان فيهم شاعر كابن المعتز في التشبيهات؟(323/6)
هل كان فيهم شاعر كابن الفارض في الوجدانيات؟
هل كان فيهم شاعر كابن خفاجة في الورديات؟
هل كان فيهم شاعر كشوقي في التاريخيات؟
هل كان فيهم شاعر كحافظ في الاجتماعيات؟
وهل استطاع الشعراء الجاهليون أن يصنعوا ما صنع الشعراء الإسلاميون في تنويع القوافي والأوزان؟
هل عرفوا الابتكار الذي ابتدعه الأندلسيون والمصريون والعراقيون؟
هل عرفوا تسجيل التاريخ بالشعر كالذي صنعه بعض شعراء مصر والأندلس؟
إن أحمد أمين يشهد على نفسه بما لا أدري حين يحكم بأن الشعر الإسلامي صورة من الشعر الجاهلي؛ وإلا فإن ضاق ذرعاً بهذا الوصف فليدلنا على باحث يؤيده في هذا الرأي الغريب
وهل في الدنيا كلها رجل يجرؤ على القول بأن الشعر الإسلامي في مختلف عصوره ليس إلا نسخة ثانية من الشعر الجاهلي؟
إن احمد أمين افتتح مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص كتاب الموشي، وهو كتاب يشرح أفانين الشعراء في وصف حياة القصور وملاعب الترف واللين
فهل كان في شعراء الجاهلية من يعرف تلك الأفانين؟
ومن هم العرب بعد الإسلام في ذهن أحمد أمين؟
يجب أن نعرف أولاً من هم العرب في ذهن هذا (الأديب) فظاهر كلامه يدل على أنهم سكان البوادي العربية، وسكان البوادي يتطورون تطوراً بطيئاً جداً، وقد تظل أحوالهم متقاربة الأشكال والأوضاع ألوفاً من السنين. ومع ذلك لا يمكن القول بأن الإسلام لم يغير سكان البوادي ولم ينقلهم من حال إلى أحوال في العقائد والتصورات، لأن الإسلام رجّ البوادي العربية رجة عنيفة وحول سكانها إلى رجال مؤمنين يتابعون ما في القرآن من صور النعيم والعذاب. ولو أن أشعار سكان البوادي دُوِّنت وعرفت مغازيها ومراميها لاستطعنا أن نعرف إلى أي حد أثر الإسلام في تلوين الصور الشعرية عند سكان البوادي العربية(323/7)
ولكن أحمد أمين قد لا يرضى بظاهر كلامه فيقول إن العرب بعد الإسلام هم الأمم التي تكلمت لغة القرآن في الشرق والغرب بعد ازدهار الحضارة الإسلامية
إن قال ذلك فقد حق عليه الخطأ فيما ادعاه من ضعف سيطرة القرآن على الأخيلة الشعرية في تلك الشعوب
إن أحمد أمين لم يدرس الشعر الإسلامي دراسة جدية، وماضيه العلمي يشهد بذلك، فأعماله كلها كانت محصورة في الدراسات الشرعية والأخلاقية، ولو شئت لذكرته بالأساس الذي أقيم عليه كتاب فجر الإسلام، فقد كان مفروضاً أن يدرس أحمد أمين تطور التأليف، وأن يدرس طه حسين تطور الأدب، وأن يدرس عبد الحميد العبادي تحول السياسة. فالرجل في نفسه وفي أنفس زملائه مؤلف لا أديب
وما يعيب أحمد أمين ألا يكون أديباً، فله مواهب في شؤون غير شؤون الأدب تعوض عليه هذا النقص. ولو وقف حياته على دراسة الفقه والتوحيد لظفر بنصيب من التفرد والتفوق
ولكن يعيب أحمد أمين أن يحاول فهم سرائر الشعراء والكتاب والخطباء، وهو ليس بالشاعر أو الكاتب أو الخطيب
وشاهد ذلك موجود: فهو يحكم بأن الشعراء لم يتأثروا بالقرآن، مع أنه لو نظر في كتب البلاغة وكتب الأدب لعرف أن تضمين آيات القرآن كان من الأغراض الملحوظة عند الشعراء، ولعرف أيضاً أن حفظ القرآن كان من الفرائض التي يتواصى بها الشعراء
لو درس أحمد أمين تاريخ الأدب لعرف أن في الشعراء من كان يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن، ولعرف أن أبا إسحاق الصابي وهو على غير الملة الإسلامية كان يقرأ سوراً من القرآن قبل أن يسرع في النظم أو الانشاء، حتى صح القول بأن بلاغة القرآن كانت تجري على سنان قلم أبي إسحاق
ولما اتهم أبو تمام بأنه يشبه ممدوحة بأجلاف العرب ارتجل فقال:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والياس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
وهذه البديهة تشهد بان أخيلة القرآن كانت تلاحق ذلك الذهن الفنان
واتفق مرة أن اعترض أحد الأدباء على الاستعارة في قول حبيب:(323/8)
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
وأرسل خادمه يقول: إن مولاي يرجوك أن تملأ هذه الكأس من ماء الملام! فقال حبيب: قل لمولاك يتفضل أولاً بإرسال ريشة من جناح الذل!
فهل هناك أبلغ من هذه الشواهد في الدلالة على أن الشعراء كانوا يتأثرون أشد التأثر بأخيلة القرآن؟
وهنا مسألة دقيقة قد ينتفع بها الأستاذ أحمد أمين، وهي مسألة لم تدرس قبل اليوم، وسيكون لها صدىً في البيئات التي تهتم بدراسة الشعر الجاهلي
وتلك المسألة هي تأثير القرآن في الشعر الجاهلي نفسه
ولكن كيف؟ إن هذا لو صح لكان من الغرائب. وهل يؤثر القرآن في الشعر الجاهلي مع أن الشعر الجاهلي أسبق؟
نعم، القرآن أثر في الشعر الجاهلي تأثيراً شديداً فقد وضعه في الغربال ولم يستبق منه غير ما كان بلغة قريش، وهي لغة القرآن
فالأشعار الجاهلية التي شرقت وغربت بعد الإسلام هي الأشعار التي تساير القرآن من الوجهة اللغوية والنحوية، بغض النظر عما أثر من الشذوذ القليل الذي احتاج إليه اللغويون والنحويون والصرفيون
وهذا (التوجيه) الذي صنعه القرآن كانت له يد في (توحيد) اللغة العربية. فلولا القرآن لظل الشعر الجاهلي مختلف الصيغ والأوزان والأشكال، ولكان باباً إلى (بلبلة) الذوق العربي باختلاف اللهجات والأذواق
فالقرآن هو الذي ساق العرب على اختلاف قبائلهم ومواطنهم ولهجاتهم في تيار واحد. وهو الذي جعل من الشعر الجاهلي سناداً لما فيه من ألفاظ وتعابير، بحيث لم يبق من ماضي الجاهلية غير ما أراد به القرآن أن يعيش
فلا تقل يا أحمد أمين أن الشعر الجاهلي قد استبد بالعقلية الإسلامية، ولكن قل إن الإسلام هو الذي استبد بالأشعار الجاهلية وصيرها من شواهد القرآن
وهناك مسألة أدق، وقد ينتفع بها من يؤرخون الأدب العربي، وهي سبق القرآن إلى غزو الأذواق والقلوب في البلاد التي فتحها المسلمون. فالمعروف عند المؤرخين أن الحياة(323/9)
الدينية كانت تسبق الحياة الأدبية في كل بلد يدخله الإسلام، لأن الإسلام شريعة مدنية واجتماعية، قبل أن يكون شريعة أدبية وذوقية. فالفرس والهنود والمصريون والأندلسيون سمعوا القرآن قبل أن يسمعوا الشعر الجاهلي. وكذلك كان القرآن أسبق إلى تلوين ما صار عند تلك الأمم من شمائل وأذواق
وأحمد أمين صرح بأن الأدب يتأثر بالدين فكيف جاز عنده ألا يتأثر السلمون بأدب القرآن وهم يقرءون سوره في الصلوات ويتدارسونه صباح مساء؟
إن البيت الواحد من الشعر قد يؤثر في نقل الذوق من وضع إلى وضع، فكيف يجوز أن يحرم القرآن هذه المزية وهو يحمل مئات من الأخيلة والتعابير والمعاني؟
إن القرآن هو أساس ما عرف المسلمون من المذاهب التشريعية والفلسفية، وهو عندهم المرجع في الشواهد اللغوية والنحوية والبلاغية، فكيف يمر سحره القاهر بدون أن يؤثر في أذواقهم الأدبية؟
أليس من العجيب أن يقع هذا القول من أحمد أمين وهو يعرف أن وزارة المعارف المصرية توجب على معلم اللغة العربية أن يحفظ القرآن؟
إن كلية الآداب التي يتشرف بالانتساب إليها أحمد أمين قد اعترفت بخطر حفظ القرآن، ورضيت بألا يكون لخريجيها حظ في تدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية إلا إن كانوا في الأصل من طلبة الأزهر الشريف
فما معنى ذلك؟
أليس معناه أن الأمم الإسلامية قد توارثت الاعتقاد من جيل إلى جيل بأن القرآن له تأثير شديد في تكوين الذوق اللغوي والأدبي؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الأستاذ مكرم باشا حفظ القرآن ليروض لسانه وذوقه على الفصاحة العربية؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن الدكتور يعقوب صروف كان يملك خمس نسخ من القرآن ليستطيع الأنس بالبلاغة القرآنية في كل وقت؟
ألم يسمع أحمد أمين بأن من المبشرين من عاش متنكراً في الأزهر بضع سنين ليتذوق بلاغة القرآن لكي يتسنى له أن يواجه الجماهير بلسان عربي مبين؟(323/10)
ما معنى ذلك أيها الناس؟
معناه أنه صار مفهوماً عند كل مخلوق أن القرآن أس متين من أساس الفصاحة العربية، فكيف جوز القول بأنه لم يؤثر في أخيلة الكتاب والشعراء والخطباء؟
أقول هذا وذهني خال خلواً تاماً من العصبية الدينية، فليس من همي أن أخلق أصدقاء للقرآن، وان كان ذلك مما يشرفني لو تساميت إليه، وإنما أنا رجل أشتغل بتدريس اللغة العربية، وفي تلاميذي مسلمون ونصارى ويهود، ومن واجبي أن أرشدهم جميعاً إلى الحرص على تذوق البلاعة القرآنية، لأنها بلغت الغاية في الدقة والعذوبة والجمال
وأريد أن أستقصي هذا الموضوع بعض الاستقصاء، فقد تضيق الفرص عن درسه بالتفصيل فيما بعد
إن أحمد أمين يقف عند الشعر في درس تأثير القرآن، لأن الوقوف عند الشعر ينجيه قليلاً من المعاطب، إن كان من الممكن أن يعرف سبيل النجاة بعد أن وقع منه ما وقع وهو لنفسه ظلوم
وللأستاذ أحمد أمين أن يسلك من مذاهب النجاة ما يشاء، أما أنا فسأطوقه بطوق من حديد فلا يعرف سبيل الخلاص وإن بالغ في التشكي والتوجع، واستعدى علينا بفلانة وفلان
لابد أن يكون أحمد أمين قد سمع بتأثير الإنجيل في الأدب الفرنسي، ولا بد أن يكون سمع بأن شاتوبريان تأثر في أدبه بأخيلة الإنجيل
فهل يمكن القول بأن أثر القرآن في اللغة العربية أقل من أثر الإنجيل في اللغة الفرنسية؟
إن أحمد أمين يقتل نفسه عامداً متعمداً، إن قال بذلك؟
وأتحداه أن يقول، أتحداه، أتحداه، إن وجد السلامة في غير الصمت!
اسمع أيها الصديق
إن القرآن قص على الناس أخبار الأنبياء، فهل تعرف ما ابتدع المسلمون من الأقاصيص حول الأنبياء؟
وهل تعرف كم مرة تعرض المسلمون لشرح ما في القرآن من أخبار وأقاصيص؟
وهل تعرف عدد التفاسير التي ظفر بها القرآن المجيد؟
حدثنا القرآن عن بعض أخبار يوسف مع فرعون، فهل تعرف أن هذا الحديث كان له مئات(323/11)
أو ألوف من الحواشي والذيول
ألا تصدق أن هذه الثروة القصصية أثر من آثار القرآن؟
وهل يعرف أحمد أمين أن جميع العلوم التي عرفها المسلمون كان لها ثمرة هي تأييد القرآن
لقد استطاع القرآن أن يؤثر في كل شيء حتى العلوم الرياضية فهي عند أهلها تأييد لآيات القرآن المجيد
والذي يراجع أحوال العرب والمسلمين في حياتهم العلمية والأدبية يراهم يدورون حول القرآن في أكثر الشؤون
وفي مطلع كل علم نرى الأبيات التي تقول:
إن مبادئ كلِّ فنّ عشرة ... الحدّ والموضوع ثم الثمرة
و (الثمرة) في أغلب العلوم ترجع إلى تأييد القرآن من الوجهات التشريعية واللغوية والعقلية. فعلوم الفقه والتوحيد والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع يراد بها جميعاً فهم ما يشتمل عليه القرآن من أغراض علمية أو أدبية
وقد نقدت ذلك في كتاب النثر الفني حين تكلمت عن مذاهب كتاب النقد الأدبي، ولكن ذلك النقد لم ينسني خطر الحرص البادي من المتقدمين على فهم دقائق القرآن
ومعنى هذا الكلام بطريقة صريحة أني كنت أحب أن تكون العلوم اللغوية والأدبية مقصودة لذاتها، بغض النظر عن جعلها وسيلة لفهم أسرار الإعجاز في القرآن المجيد، ولكني ما كنت أعلم أن سيجيء رجل كالأستاذ أحمد أمين يحكم بأن القرآن لم يؤثر في الحياة الشعرية، ويقول إن ما وقع من العرب لا يصح وقوعه إلا (في الطبيعة القاصرة، والملكات المحدودة) مع أن العرب قد استوحوا القرآن في جميع الشؤون وجعلوا الأدب كله وسيلة لفهم ذلك القرآن
وخلاصة القول أن حفظ القرآن وفهمه كان من الوسائل التي يتذرع بها الشعراء والكتاب والخطباء للتفوق في البيان، فكيف يجوز القول بأن الشعراء لم ينتفعوا به في تطور التعابير والأغراض؟
ولنذكر دائماً أن العرب بعد الإسلام لم يكونوا أمة واحدة، فقد انتشرت اللغة العربية في(323/12)
أقطار كثيرة مختلفة المشارب والأذواق، وكان المتعلمون بها يشارفون المائتين من الملايين، فهل يمكن الحكم بأن تلك الأمم جميعاً أصابها العقم فلم تنتفع واحدة منها بأسلوب القرآن؟
وهل هذا يعقل إلا عند من يسارعون إلى ارتجال الأحكام بلا مراجعة ولا استقصاء؟
إن مؤرخي الأدب الفارسي ومؤرخي الأدب التركي نصوا على أن القرآن أثر في هذين الأدبين تأثيراً بليغاً، فكيف يجوز ألا يتأثر الأدب العربي بالقرآن وهو به ألصق، واليه أقرب، ومن أخيلته وألفاظه وتعابيره يستمد القوة والحيوية؟
أنا لا أستسيغ القول بأن الأدب العربي وصل إلى ذلك الحد من الجمود في الاستفادة من القرآن مع أنه استفاد من كل ما وصل إليه من ثمرات الآداب الأجنبية، وقد استطاع بالفعل أن يؤرخ الحضارة التي عرفها في الشرق والغرب، بحيث صار مرآة لما رآه العرب في الممالك الأسيوية والإفريقية والأوربية
ولا ينكر ذلك إلا رجل يكابر فيما تلمسه الأيدي وتراه العيون
وأختم كلمة اليوم بعرض فكرة لا يختلف فيها اثنان
وتلك الفكرة هي تأثير القرآن في وحدة اللغة العربية، فبفضل القرآن امتدت الحياة في لغة قريش نحو خمسة عشر قرناً. ولو أن العرب خلت حياتهم من الدعوة الإسلامية لكان من المستحيل أن يكون في الدنيا إنسان يفهم ما أثر من لغة قريش قبل الإسلام بقرن أو قرنين
وإنما استطاع القرآن أن يحفظ وحدة اللغة القرشية، لأنه كان مفهوماً في كل أرض أنه نموذج عال للبلاغة العربية، فكانت البلاد الإسلامية ترجع إليه في صيانة لسان العرب من البلبلة والانحراف.
والكتاب الذي تسود لغته فيما اختلف وائتلف من الأقطار الإسلامية لا يبقى بينه وبين أذواق الشعراء حجاب
وماذا يريد هذا الأستاذ المفضال؟
أيريد أن يُلغي الناس عقولهم ليصدّقوا أحكامه الخواطئ على ماضي الأدب العربي؟
إن جميع القراء قد اتفقوا على أن قدمه زلت وهو يحاول تزهيد الجمهور فيما ورثناه عن الآباء والأجداد من الثروة اللغوية والأدبية. ولو أنني استبحت نشر ما سمعت من أصدقائه(323/13)
الأوفياء في نقد ما انزلق إليه، لمادت الأرض تحت قدميه، وعرف أنه يتعلق بخيوط الأوهام حين يظن أن في القراء من ينظر إلى أحكامه الأدبية بعين الاستحسان
إن الأستاذ أحمد أمين يعاني اليوم أزمة أخلاقية، لأنه يعرف أن الاعتراف بالخطأ من مكارم الأخلاق. فإن لم يعترف بخطئه طائعاً فسيتولى القراء هدايته إلى الحق. وهو يجني على نفسه إن كان يتوهم أن قراءه ليس فيهم من ينصب الميزان للتمييز بين الحقائق والأباطيل
وسنرى في المقال المقبل شواهد جديدة من أحكام ذلك الرجل المفضال.
زكي مبارك(323/14)
المعاملات في الإسلام
للأستاذ محمد بهجة البيطار
طالعت في الرسالة الغراء سؤال الأستاذ الطنطاوي الذي وجهه إلى (المفكرين) من علماء المسلمين، ودعاهم فيه إلى النظر في مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين الكثيرة التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب عظيم، وسلكت بهم في سبيل النجاة منه طرائق قدداً. وقد بنى سؤاله على أصلين ثابتين، (أولهما) أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، (وثانيهما) أنه يجعل من المتمسكين به أرقى مجموعة بشرية في العلم والقوة والمال والحضارة، (قال): فكيف يتفق مع هذين الأصلين وجود أحكام في الفقه لا تصلح لهذا الزمن، وأحكام تجعل المسلمين دون الأمم الأخرى في مرافق الحياة؟ وضرب لذلك الأمثال من كتب الفقهاء المتأخرين، ومما وضعوه من شروط وقيود، لبعض البيوع والعقود، يتعذر تطبيقها على كثير من المعاملات في هذا العصر، وعلى ما جرى عليه عرف الناس في التجارات الواسعة؛ وأبدى إعجابه بالفقهاء المتقدمين الذي درسوا وقائع أزمانهم، وطبقوا عليها الأحكام، وفرضوا الفروض وبحثوا عن أحكامها (وهذا مما عابه السلف الذين كانوا يفتون بالواقع، ويمسكون عن القول بما لم يقع إلى زمان وقوعه، لتكون الفتاوى مطبقة على الزمان والمكان والأحوال والأشخاص) ونعى على بعض المتفقهة المتأخرين جمودهم على الفقه الموضوع للقرن التاسع والعاشر، وأثنى على الأستاذ المحدث المحقق الشيخ احمد شاكر فيما كتبه في مسائل الطلاق، وقال: فمتى يعمد العلماء إلى الكتابة
أقول: لاشك أن واجب العلماء هو مواجهه الحقائق التي ظهرت في هذا العصر وبيان الحكم في استعمال جميع ما استحدث من المخترعات إلى اليوم، على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، أي أن تكون فتاوى العلماء الواقفين على أسرار التشريع، وكنه الزمن، وحاجة الأمة - هادية إلى حفظ وحدتها وتنمية ثروتها، وحماية حوزتها، ودفع عوادي الشر عنها، مع إثبات أن ذلك هو الذي يقتضيه هدى الإسلام، وترشد إليه آيات القرآن، وأن المسلمين هم أولى بالمسابقة والسبق في هذا المضمار، فاستثارة دفائن الأرض مثلاً، واستخراج كنوزها ومعادنها، وعلم الزراعة، وفن الري، وإقامة الجسور والمعابر، وتشييد الدور والقصور، وإنشاء السكك الحديدية، والحصون والقلاع، هو عين ما يذكره(323/15)
الفقهاء في أبواب الركاز والمعادن وإحياء الموات، ومطابق لنصوص الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وصنع المصفحات والدبابات، والمناطيد والطيارات، والمدرعات والغواصات، والكهرباء وسائر ما ظهر في الوجود من المخترعات والمكتشفات النافعة هو مما أرشد إليه الاسلام، ودل عليه مثل قوله تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه) فرده رد لنصوص القرآن وتعطيل لأحكامه. وهذا هو الفقه العام في الإسلام، وفقه الفروع والأحكام منبثق عنه أو هو جزء منه. فالفقه بإطلاقه سداد في العلم، ودقة في الفهم، وإصابة في الحكم. وهو الذي دعا به الرسول (ص) لابن عمه عبد الله بن عباس بقوله: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فكان فقيه الأمة وترجمان القرآن
وهذه الطريق في فهم الدين والفقه فيه هي التي جرى عليها في هذا العصر إمامه السيد محمد رشيد رضا (تغمده المولى برضوانه) فقد أخذ منذ نحو نصف قرن يحل في مناره وتفسيره عقد المشكلات الدينية الدنيوية، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها، مستهدياً بهدى السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشداً بسنن الوجود التي لا تبديل فيها ولا تحويل، وكانت فتاويه تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل الاجتماعية حلاً يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة، والمصلحة العامة الراجحة. وقد تكلم عن بعض المسائل الفقهية التي عرض لها الأستاذ الطنطاوي في مقاله كسجدة التلاوة عند سماع القارئ في المذياع، وكالمصارف المالية ومعاملاتها، وأفاض القول في تحريم ما حرم الله من الربا، وتوعد عليه بأشد الوعيد، فبين وجه تحريمه، وعقد فصلاً مستقلاً في حكمته وانطباقه على مصلحة البشر، وموافقة لرحمة الله بعباده، بما لم تره لغيره من المفسرين. وقد ختم هذا الفصل بقوله: (من تدبر ما قاله الإمامان (أي الغزالي والشيخ محمد عبده) علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة، الموافق لمصلحة البشر، المنطبق على قواعد الفلسفة، وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع، زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال، وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم، وتجعل بقية الناس عالة عليهم. فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدنية ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل، فسيجيء يوم يقر فيه المفتونون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر(323/16)
في دنياهم فضلاً عن آخرتهم إلا به، يوم يفوز الاشتراكيون في الممالك الأوربية، ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية، ويرغمون أنوف المحتكرين للأموال، ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال هـ (113: 3)
إن غرض السيد الإمام (كما صرح به في مواضع من تفسيره) أن البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين، وقل فيها التعاطف والتراحم، وحلت القسوة محل الرحمة، حتى أن الفقير فيها ليموت ولا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه، فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية، وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال، واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل، وتعطيل المعامل والمصانع لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره، بل يعطونهم أقل مما يستحقون، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلاباً كبيراً في العالم ولا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس لما دعاهم إليه الدين. ولكن من الناس من يظن اليوم أن إباحة الربا ركن من أركان المدنية لا تقوم بدونه. (قال)، وهذا باطل في نفسه، إذ لو فرضنا أن تركت جميع الأمم أكل الربا فصار الواجدون فيها يقرضون العادمين قرضاً حسناً، ويتصدقون على البائسين والمعوزين ويكتفون بالكسب من موارده الطبيعية، كالزراعة والصناعة والتجارة والشركات ومنها المضاربة لما زادت مدنيتهم إلا ارتقاء ببنائها على أساس الفضيلة والرحمة والتعاون الذي يحبب الغني إلى الفقير، ولما وجد فيها الاشتراكيون الغالون، والفوضويون المغتالون
وقد قامت للعرب مدنية إسلامية لم يكن الربا من أركانها، فكانت خير مدنية في زمنها؛ فما شرعه الإسلام من منع الربا هو عبارة عن الجمع بين المدنية والفضيلة، وهو أفضل هداية للبشر في حياتهم الدنيا
الشركة الاقتصادية الكبرى
قامت في مصر أكبر شركة زراعية صناعية تجارية أسست بأموال المصريين، وأثبتت فوائد الشركات المالية والتعاون الاقتصادي، وأقامت هذه الشركة لها بيت مال كبير أنشأه المزارع والمصانع والمتاجر، وآوى إليه ألوف العمال، ونجاهم من شرور البطالة ومفاسدها، وزاحم الشركات الأجنبية في البر والبحر والجو، فأشعر مصر بعزة الاستقلال الاقتصادي الذي لا يتم الاستقلال السياسي بدونه، فهذا التعاون الاقتصادي الذي نهض(323/17)
بمصر هو نموذج من مدنية الإسلام الأولى التي قامت على أساس استثمار الموارد الطبيعية، وتنمية الثروة العامة، لا على نصب شباك المعاملات الربوية لسلب نقود الأمة وإفقارها، ثم الاستيلاء على مواردها وممالكها، بحجة المحافظة على المصالح والأموال، كما فعل الأجانب بملكنا وحكوماتنا. فنحن معشر المسلمين لو كنا متمسكين بقرآننا الذي حرم الربا المفضي إلى إضاعة الثروة والملك، وأعددنا رجالاً لاستخراج كنوز أرضنا، وتعمير بلادنا، وتعزيز شأننا، لكنا بقينا مستقلين بأنفسنا، أحراراً في ملكنا، فكيف يكون الربا الذي كان السبب في استعبادنا وسيلة لإنقاذنا وإسعادنا؟
وقول الأستاذ الطنطاوي: بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة، ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. أقول قد أوضح هو أيضاً الفرق في مقاله أو سؤاله بين الربا المرهق (على طريق الفائدة المركبة) أي الربا الجاهلي، وبين معاملات المصارف، فقال عن الأول على طريق الاستفهام التقريري: وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت، وتنازع بين الناس، وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ وقال عن الثاني: فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك، فهو أشبه بشركة المضاربة (قلت): وهذا يعود إلى الفرق بين ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن ينسئ الدائن (أي يؤخر) دينه ويزيده المدين في المال، وكلما أنسأه أي أخر الدين في المدة زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة؛ وربا الفضل الذي كان تحريمه وسيلة لا قصداً ودل عليه حديث أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي (ص): لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فأني أخاف عليكم الرماء (أي الربا). فربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته، وفي الصحيحين: إنما الربا في النسيئة. وفي رواية: لا ربا إلا في النسيئة. وربما الفضل محرم لسد الذريعة أي لكيلا يكون وسيلة إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة وللمصلحة الراجحة، وبنى على ذلك الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة. واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضاً، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي (ص) بيع العرايا، وهو من بيع المتماثلين في الجنس مع عدم القبض(323/18)
والمساواة. فالعرايا جمع عرية كقضية وقضايا، وهي بيع ما على النخل من الرطب بما يخرص ويقدر به من التمر لحاجة من يملكه إلى أكل الرطب، فيشتريه به. فالتمر يدفع مرة واحدة، والرطب يجنى بالتدريج، وقد رخص النبي في بيعها. وذكر ابن القيم من نظائره أيضاً إباحة نظر الخاطب والشاهد والطبيب والمعامل إلى المرأة الأجنبية وإباحة لبس الحرير للرجال لمنع الحكة أو القمل، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كله. (قال رحمه الله): وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصناعة بحظها من الثمن، من مفسدة الحيل الربوية، التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية. وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق (275: 2) وقال أيضاً: فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع. أهـ
تفسير المنار لآيات الربا وعمل المصارف
من العجيب الغريب أن يتهم السيد صاحب المنار (رحمه الله تعالى) بتحليل ما حرم الله من الربا، وما أثرناه عنه من مفاسد الربا ومضاره، هو قليل من كثير مما كتبه في تفسيره ومناره، وآخره ما جاء في المجلد الرابع والثلاثين من المنار وهو ختامها، فقد سئل عن أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء، فقال: من المعلوم من الدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه للتصدق به ولا لغيره، لأن التقرب إلى الله لا يكون بما حرمه الله، فان هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالاً ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى. وقد نقل عن ابن جرير ما قاله أئمة التفسير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الفرق بين هذا الربا الجاهلي المحرم لذاته، وربا الفضل المحرم لغيره، وتقدم بيان ذلك. أما الكتاب الذي وعد بإكماله ونشره (رحمه الله) فهو في مباحث الربا والأحكام المالية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وفي الأصول والقواعد العامة للحلال والحرام، وقد رأى أن جمهور المسلمين في حرج شديد من هذه المعاملات المالية العصرية، وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجاً منه مع المحافظة على دينهم فنعى على الذين توسعوا باجتهادهم في أحكام المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيراً من صور البيوع والقروض والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي(323/19)
(النسيئة)، ولا في ربا الحديث الاحتياطي من باب ولا منفذ إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة والضوابط المذهبية الاجتهادية كما قال. وليت هذا الكتاب تم وأخرج للناس قبل وفاته ليرى الناس سبل النجاة من هذا التخبط والاضطراب
ولقد علمنا الآن من هذه الأقوال اليسيرة التي أثرناها عنه أن غرضه الأول أن يجتنب المسلمون الربا الذي حرمه الله ورسوله، وأن تجري بيوع المسلمين وقروضهم وشركاتهم على نحو ما سارت عليه في خير عصور هذه الملة وأهداها، مع وضع حدود وضوابط للاضطرار وللحاجة إلى المحظور في القواعد المستنبطة من الأدلة كقاعدة اليسر ورفع الحرج والعسر، وككون الضرورات تبيح المحظورات، وكون المحظور لسد الذريعة يباح للحاجة إليه، ولرجحان المصلحة على المفسدة، ولم يقدر هو ضرورة الأفراد ولا حاجتهم، بل وكل أهل البصيرة منهم إلى معرفتهم بأنفسهم (قال): وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها فهو الذي فيه التنازع. وعندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد هذا الأمر إلى أولي الأمر من الأمة، أي أصحاب الرأي والشأن فيها والعلم بمصالحها عملاً بقوله تعالى في مثله من الأمور العامة (4: 83 ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، (قال): فالرأي عندي أن يجتمع أولو الأمر من مسلمي هذه البلاد (بلاد مصر) وهم كبار العلماء المدرسين والقضاة ورجال الشورى والمهندسون والأطباء وكبار المزارعين والتجار ويتشاوروا بينهم في المسألة ثم يكون العمل بما يقررون أنه قد مست إليه الضرورة أو ألجأت إليه حاجة الأمة. فقوله: وإنما المشكل تحديد ضرورة الأمة أو حاجتها وقوله: عندي أنه ليس لفرد من الأفراد أن يستقل بذلك وإنما يرد مثل هذا الأمر إلى أولي الأمر من المنة، هو فى معنى فول الأخ الطنطاوي: وهي التي لا وجه لها عندي، فما هو فول علمائنا الأعلام؟ فهذا علم الأعلام لم يجزم بشيء، بل صرح بأن أولي الأمر من المسلمين - وهم أنصاف الأمة الذين ذكرهم مجتمعين - هم الذين يقدرون ضرورتها. فأين قول المفتاتين بأنه أباح الربا هو وشيخه الشيخ محمد عبده؟ وإنما تكلم عن مسلمي مصر لأن البحث فيهم. ولو كان الكلام عن ضرورة الإسلام لصرح بوجوب اجتماع أو إجماع أولي الأمر من المسلمين في أقطار الأرض على تحديد ضرورة الأمة. إذاً فمرد الأمر إلى (المفكرين) من علماء المسلمين كما(323/20)
قال الأستاذ الطنطاوي ليبحثوا في وسائل هذا الأمر ومقاصده ويبنوا المعاملات المالية على أسس الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان، والتي يستبين معها للموافق والمخالف أن قواعد الاقتصاد في الإسلام هي أبر ببني الإنسان، وأحق بتثبيت دعائم الحضارة والعمران
البيوع والمعاملات
أما ما وضعه بعض الفقهاء من شروط وقيود لبعض البيع والعقود، مما ليس فيه نص صريح، ولا قياس صحيح، فالناس غير ملزمين به، إذ أن لكل زمن عرفه وأهله ومصالحه، وإنما نهى الرسول (ص) عن أنواع من المعاقدات والبيوع كانت في الجاهلية لما فيها غبن وغش وغرر وضرر، وأمثلتها معروفة في كتب السنة. والمعاملات تفترق عن العبادات في كون الأصل فيها الإباحة والصحة، حتى يقوم الدليل على التحريم والبطلان. وأما العبادات فلا تكون صحيحة ما لم تكن قائمة على أمر الله، وعلى الوجه الذي شرعه وارتضاه. وفي الأعلام للإمام ابن القيم مباحث ضافية في ذلك أكتفي منها بقوله (رحمه الله):
(الخطأ الرابع) اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناءً على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه (إلى أن قال): فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها فإنه سكت عنها رحمةً منه من غير نسيان وإهمال. وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه؛ وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى: وأوفوا بالعهد) وقال: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وقال: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) وقال تعالى: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) (2: 34 من أعلام الموقعين)
وقال الإمام نجم الدين الطوفي المتوفى سنة (716) في بحث المصالح: وإنما اعتبرتا(323/21)
المصلحة في المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها، لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم وكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المعول اهـ باختصار، وتمام البحث في رسالة يسر الإسلام، وأصول التشريع العام للسيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى
إنشاء مجلة للأحكام الشرعية (العصرية)
إن من أفضل ما يقوم به المفكرون من رجال الإسلام العناية بوضع مجلة الأحكام، تسير على نهج (مجلة الأحكام العدلية) التي وضعت في عهد الدولة العثمانية، عام (1297) على ألا تكون مقيدة مثلها بمذهب واحد، تبحث في المسائل الشرعية العصرية، وتضع لها ما يناسبها من الأحكام؛ وإنما يضطلع بهذا العبء، ويقوم على تحرير مثل هذه المجلة. لجنة مؤلفة من أكبر علماء هذا العصر، ممن تضلعوا من مورد الكتاب والسنة، وعرفوا مذاهب الأئمة، ووقفوا على كنه الزمن ونواميس العمران، ودرسوا قوانين الدول وحقوق الأمم، ومارسوا الشؤون القضائية والإدارية. ألا وإن عملهم هذا سيكون له فوائد عظيمة جداً، منها أنه يتبين به أن الإسلام دين السماحة والتيسير، توافق أحكامه مصالح البشر في كل زمان ومكان، ولا يخفى أن من قواعده المأخوذة من نصوصه الكثيرة اليسر، ودفع الحرج والعسر، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الضرورات تبيح المحظورات، فاستنباط الأحكام التي يدعو إليها الزمان من مآخذها وأدلتها يكون مبنياً على أساس حفظ مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، وقد تكرر هذا المعنى. (ومنها) أن اعتماد ما كان أقرب دليلاً وأكثر ملاءمة لحاجة العصر وطبيعة الأمة، من مذاهب الأئمة، يتبين به سعة الفقه الإسلامي، وأن اختلاف علمائنا رحمة والأخذ من متنوع مذاهبهم نعمة
(ومنها) رد المزاعم القائلة بأن الإسلام لا يلتقي مع حاجة البشر، ولا يبحث فيما يتجدد من شؤون الزمن. على أن الواقع أن بعض فقهائنا قد بحثوا في بعض ما ظهر في عصرنا من الشؤون؛ فهذا الفقيه الكبير الأستاذ الشيخ محمد بخيت قد ألف كتاباً أجاز فيه العمل بخبر البرق (التلغراف) سماه (إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة) ومثله الأستاذ الشهير الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي في كتابه (إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق) وقد أثبت(323/22)
أستاذنا القاسمي فتاوى لاثني عشر عالماً من أشهر علماء العصر بجواز قبول خبر البرق في إثبات الأهلة وغيرها، والمذياع والهاتف (الراديو والتلفون) كلاهما أوضح في الدلالة وأوثق من خبر البرق، لأن التلغراف يستفاد مضمونه من تلك النقرات التي ينقرها العامل فيفهم خبره ويترجم المراد منه، بخلاف الكلام بالراديو والهاتف فهو كلام صحيح صريح، وإنما يسمع من يلقي إليه الخبر بهما كلام المتكلم نفسه لا صداه، وما أظن أحداً ممن أجاز العمل بخبر البرق في الديانات والمعاملات يتردد في جواز العمل بالمذياع والهاتف فيهما لما قدمنا؛ وهو أقوى من خبر الكتاب الموثوق الذي قبله العلماء، وأبعد عن التزوير بكثير. وقد كتب النبي (ص) كتبه إلى الآفاق، وبلغ بها دعوته إلى الملوك. وقامت الحجة عليهم وكذلك فعل الخلفاء الراشدون، والملوك العادلون، فقد أرسلوا كتبهم، وقلدوا القضاة والنواب والأمراء عنهم بالكتابة. وعلى ذلك جرت سنة التابعين وأئمة الشرع وفقهاء الأمة، وما أجدر العلماء الآن بإذاعة القرآن والدعوة الإسلامية بالراديو - كما يفعل الإمام المراغي شيخ الجامع الأزهر - لتعم الكرة الأرضية، وتقوم حجة الله على العالمين
فإلى إنشاء هذه المجلة الكبرى الشاملة لكل ما حدث إلى الآن من الوسائل التي تعامل بها العالم أجمع في كافة أنحاء المعمور، وإلى تفصيل ما نشأ عن هذه الوسائل من مسائل وأحكام فقهية، ندعو أعلام الأمة، وفقهاء العصر، وبالله التوفيق.
(دمشق)
محمد بهجة البيطار(323/23)
ابن حوقل
للأستاذ ميخائيل عواد
يجد المتوغل في تاريخ العرب حركة علمية واسعة النطاق، امتدت أحقاباً من الزمن، وهي كلها جديرة بالعناية والدرس، وحرية بأن تتناولها الأقلام في وقتنا لتجلو مختلف صفحاتها التي كانت إحداها السياحة في البلدان والضرب في مختلف الأصقاع
لقد امتهن بعض العرب هذا النوع من الحياة، فكان منهم من نسميه بالتاجر الرحالة. . . بل إن فريقاً آخر منهم اتخذها علماً، يعلو به ويكتب فيه، وينشر لواءه شرقاً وغرباً. . . ذاك هو الجغرافي المخطط للبلدان. وليس بين الفريقين من مدى واسع، فإن كليهما يستكشف مجاهل الأمكنة والبقاع، ويتولى البحث في أحوال الأمم التي يتردد إلى مواطنها، فيدرس طباعها ويتعرف خواصها ويتصل بأسباب ثروتها، فيصف تربتها وغلاتها وطرقها، إلى ما هنالك من مرافق عامة وخاصة.
هذه كلمة نمهد بها لكلامنا على الرحالة العربي الشهير: (ابن حوقل) الذي ذاع صيته في القرن الرابع للهجرة، والذي بالرغم من ذلك لم يخل مجال البحث عنه من مصاعب وغموض، نظراً إلى أن ما بين أيدينا اليوم من المصادر القديمة لم يورد بشأن منشأه وحياته ووفاته إلا النزر اليسير.
حياته
هو أبو القاسم محمد بن علي الموصلي، ولد ببغداد، ونشأ بها على اتفاق أغلب المؤرخين، وذلك في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأقبل على التجول في البلاد الإسلامية، متعاطياً التجارة، لمكانتها الخاصة في الكسب، ولما تقتضيه من التنقل والتجول، وهي الناحية التي شغف بها فتملكته. وصادف عند ابتدائه في تجواله عام 331هـ (942م)، أن انقطع المسعودي الرحالة الشهير عن الارتحال ولزم داره، وعلى هذا فإن ابن حوقل قد خلف المسعودي في هذا المضمار. . . وانتهى رحالتنا من رحلته الواسعة سنة 359هـ (970م). فيكون بهذا قد أمضى ثمانية وعشرين عاماً في حل وارتحال، زار خلالها أقاصي البلدان، فساح في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، ووصف بلاد البربر وصفاً جميلاً، كما أنه جال في بلاد الأندلس متنقلاً بين كثير من مدنها(323/24)
المشهورة. دخل صقلية وأسهب في الكلام عليها، وجاب ربوع مصر وسورية والعراق وفارس. . . ودون أخبار رحلته سنة 367هـ (977م)، ضمن كتابه المسمى بـ (المسالك والممالك والمفاوز والمهالك).
قال فيه عن نفسه: (. . . بدأت سفري هذا من مدينة السلام - يوم الخميس - لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. . . وأنا من حداثة السن وغرته، وفي عنفوان الشباب وسكرته، قوي البضاعة، ظاهر الاستطاعة. . .)
إلى أن يقول: (. . . وقد ذكرت في آخر كتابي هذا كيف تعاورتني الأسفار، واقتطعتني في البر دون ركوب البحار، إلى أن سلكت وجه الأرض بأجمعه في طولها، وقطعت وتر الشمس على ظهرها. . .).
ثم يصف لنا خطته في تأليف كتابه فيقول: (وقد حررت ذكر المسافات، واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره. . . وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً وصقعاً صقعاً وكورة كورة لكل عمل. وبدأت بذكر ديار العرب، فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي. . .).
ويتضح لنا من دراسة مصنفة إنه اقتصر على ذكر صفات الممالك الإسلامية، ولم يتعرض لغيرها متنصلاً من ذلك بقوله في كتابه المذكور: (. . . أما بلاد النصارى والحبشة، فلم أتكلم عليها إلا يسيراً، لأن تولعي بالحكمة والدين والعدل وانتظام الأحكام يأبى أن أثني عليهم بشيء من ذلك).
ابن حوقل يتعاطى التجسس
ذكر العلامة دوزي في كتابه (تاريخ إسلام أسبانيا) أن ابن حوقل كان عيناً للفاطميين يتعاطى التجسس لمصلحتهم. ولا شك أن يكون قد نال حظوتهم والتفاتهم أثناء نزوله بين ظهرانيهم، فسهلوا له شؤون رحلته وتجارته؛ وقد تمخضت هذه العلاقة عن تبادل الثقة، فوجدوا فيه خير مثال للدعاية، وهو ذاك الرحالة الشهير الذي يجوب بلدان الأرض فينشر دعوتهم على أحسن ما يرام!
كتاب (المسالك والممالك)(323/25)
جاء في مقدمة الطبعة الأولى (للمسالك والممالك) ما نصه: (هذا كتاب المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان، على مر الدهور والأزمان، وطبائع أهلها، وخواص البلاد في نفسها، وذكر جبايتها وخراجاتها ومستغلاتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار، تأليف أبي القسم بن حوقل. . . معول فيما جمعه على كتاب الإمام العالم أبي القاسم محمد بن خرداذبة، وقدامة بن جعفر الكاتب. . .).
وقد قدم كتابه هذا إلى أبي السري الحسن بن الفضل بن أبي السري الأصبهاني. قال ابن حوقل: (. . . وقد عملت له كتابي هذا بصفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها. . . وكان مما حضني على تأليفه، وحثني على تصنيفه، وجذبني إلى رسمه، أني لم أزل في الصبوة شغفاً بقراءة كتب المسالك، متطلعاً إلى كيفية البين بين الممالك. . . وترعرعت فقرأت الكتب الجليلة المعروفة. . . فلم أقرأ في المسالك كتاباً مقنعاً، وما رأيت فيها رسماً متبعاً، فدعاني ذلك إلى تأليف هذا الكتاب. . . وأعانني عليه تواصل السفر وانزعاجي عن وطني مع ما سبق به القدر لاستيفاء الرزق والأثر والشهوة لبلوغ الوطر. . .)
شغف ابن حوقل أثناء تجواله بدرس مؤلفات المتقدمين كالجيهاني وابن خرداذبة وقدامة. وكان لدى إحدى عوداته إلى بغداد عام 340هـ (951م) قد لقي الإصطخري (صاحب كتاب المسالك والممالك , الذي صنفه نحو تلك السنة أيضاً). فاطلع ابن حوقل على كتاب الاصطخري، وانكشفت له مواطن الضعف فيه، وكان الإصطخري قد طلب إليه أن يراجع مصنفه ويهذب بعض خرائطه الجغرافية , لكن ابن حوقل أبى ذلك، واعتزم كتابة هذا المصنف (المسالك والممالك) من جديد، فأتمه على ما أراد، حيث ضمنه مشاهداته ودراساته الخاصة وجعله باسمه
وهذا ما حدا بالكثير من المؤرخين إلى أن يقولوا كلمتهم في مصنف ابن حوقل ويعتبروه صورة ثانية لكتاب الإصطخري مع زيادات آتيه من دراساته ومشاهداته الخاصة التي اكتسبها أثناء رحلته، فأضافها إليه حينما عدل عن تصحيح كتاب الإصطخري.(323/26)
وقد أضاف أبو الفداء في جغرافيته المسماة تقويم البلدان أن (كتاب ابن حوقل مطول، ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً، غير أنه لم يضبط الأسماء، وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض وصار غالب ما ذكره مجهول الاسم والبقعة. . .)
وجاراه في هذا القول الحاج خليفة صاحب كشف الظنون
ومهما يكن من أمر فأن هذا السفر الجليل عظيم الفائدة جدير بالدرس والاستقصاء، لاختصاصه في الجغرافية دون سواها فهو يحوي وصفاً دقيقاً لأغلب الأقطار. ولقد أفادنا بصورة خاصة عن مصر وسورية والعراق، وتعد بحوثه في المغرب وأسبانية وصقلية من المصادر الرئيسية، ناهيك بالمعلومات القيمة عن بقية الأصقاع والبلدان والمسافات، كما أنه لم ينس أن يعطينا فكرة عن ثروة البلاد وتجارة أهاليها، وجباية الضرائب إلى غير ذلك.
طبعات الكتاب
نال هذا المصنف اهتماماً حسناً، فظهرت له عدة طبعات قام بها طائفة من المستشرقين، والفضل الأوفر في ذلك يعود إلى المستشرق الكبير دي غويه، وسنأتي على ذكر هذه الطبعات فيما يلي:
أولاً: الطبعات الكاملة
1 - الطبعة الأولى: نشرها المستشرق دي غويه الهولندي سنة 1873 في لندن، معتمداً في ذلك إلى نسختي خزانتي ليدن وأكسفورد، كما أنه اعتمد على النسخة العربية المرقومة 2214 في خزانة كتب باريس الأهلية، تلك التي أطلق عليها في طبعته اسم الموجز الباريسي وهو نص النسخة الاستنبولية. وتعتبر هذه الطبعة الحلقة الثانية من مجموعة (المكتبة الجغرافية العربية) أن هذه الطبعة قد نفذت منذ سنين عديدة وأصبحت نسخها من نوادر الكتب
2 - الطبعة الثانية: اعتنى بنشرها المستشرق كريمرز بمطبعة بريل في ليدن سنة 1938، وقد اعتمد بصورة خاصة على نص النسخة المرقومة 3346، المحفوظة في خزانة السراي العتيق في استنبول، وعلى صورها، كما أنه قابل نص الطبعة الأولى المذكورة آنفاً، وبعض المصادر الأخرى، فجاءت بنتيجة هذه التدقيقات والمقابلات طبعة(323/27)
متقنة فيها وافر التحقيق، وتحتوي على كل ما هو موجود الآن من مادة كتاب ابن حوقل فأصبحت متكافئة مع الطبعة الأولى، كما أنها زينت بالخرائط ذات الشروح والتعاليق. وقد ظهر من هذه الطبعة حتى الآن: القسم الأول الذي يتقوم من 247 صفحة، وسيليه الثاني والثالث وعنونها الناشر بـ (كتاب صورة الأرض) تأليف أبي القسم حوقل النصيبي
3 - وكان هذا الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفارسية، وعن هذه اللغة ترجمه إلى الإنجليزية السير ويلم أوزيلي وطبعه سنة 1800 في لندن بعنوان (الجغرافية الشرقية لابن حوقل)
وهي تقع في 36 + 327ص، وخريطة
ثانياً: الطبعات الجزئية
1 - القسم المختص بالعراق العجمي، اعتنى بنشره المستشرق هماكر في ليدن سنة 1822، ويقع هذا القسم في ست صفحات وترجمته اللاتينية في ثمان، وعنونت بـ (خلاصة أخبار المسافر والعجم في معرفة بلاد عراق العجم)
2 - القسم المختص ببلاد السند، طبع في بون سنة 1838 مع ترجمة لاتينية
3 - القسم المختص بإفريقية، طبع في باريس سنة 1842
4 - القسم المختص بمدينة بلرم (عاصمة جزيرة صقلية)، طبع في باريس سنة 1845، مع ترجمة فرنسية، بعناية المستشرق الإيطالي أماري
5 - القسم المختص بسجستان نشره المستشرق بلاشر في مجموعه المسمى (منتخبات من آثار الجغرافيين العرب في القرون الوسطى) المطبوع بالعربية مع حواش وملاحظات بالفرنسية، سنة 1932 في بيروت (136 - 148)
6 - ولعل هنالك بعض الترجمات أو الطبعات الجزئية مما لم نتوفق إلى الوقوف عليها لندورتها، فضربنا عنها صفحاً.
(بغداد)
ميخائيل عواد(323/28)
الشيخ الخالدي أيضاً
للدكتور عبد الوهاب عزام
نقلت في المجلس السابق حديث الشيخ عن العلماء أصحاب الخطوط الجيدة. وقد لقيت الشيخ من بعد فقال:
ومن جيدي الخط صدر الدين القونوي وتلميذه سعد الدين الفرغاني شارح التائية - تائية ابن الفارض - وأبو منصور الجواليقي، رأيت بخطه نصف كتاب المحكم لابن سيده؛ والملك المعظم الأيوبي؛ وابن الأثير المؤرخ رأيت بخطه المؤتلف والمختلف لعبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، وهو محدث كبير يعد من أقران ابن عبد البر والحافظ النيسابوري. ومن أصحاب الخطوط الجيدة من علماء الأندلس أبو حيان النحوي وأبو الربيع سليمان الكلاعي صاحب السيرة الكلاعية أجل كتاب في سيرة الرسول
ثم قال: ومن أرادأ العلماء خطاً نجم الدين النسفي صاحب العقائد، والإمام الحصيري أستاذ الملك المعظم، وهو شارح الجامع الكبير لمحمد بن الحسن، والعلامة التفتازاني وابن حجر. ومن علماء الأندلس ثم الإسكندرية الطرطوسي
وأما السيوطي والسيد الشريف الجرجاني والقطب الشيرازي والزمخشري وابن الأثير المحدث وابن مالك وابن هشام وابن عقيل النحويون فخطوطهم وسط بين الجيد والرديء
ولقيت الشيخ مرة أخرى فقال:
الشيء بالشيء يذكر: ومن أصحاب الخطوط الجيدة أبو الريحان البيروني وعبد الملك بن مسرة اليحصبي أستاذ ابن رشد القيلسوف؛ رأيت بخطه مدونة الإمام مالك وفي آخر كل جزء:
بالله يا قارئ استغفر لمن كتبا ... فقد كفتك يداه النسخ والتعبا
ومنهم الحافظ المنذري صاحب الترغيب والترهيب وكان مدرس دار الحديث الكاملية
ومن أصحاب الخطوط الرديئة شمس الدين الفنري صاحب فصول البدائع في أصول الشرائع، وهو مجلدان كبيران وشارح مفتاح الغيب لصدر الدين العوكزي
وحسب كتاب البدائع أن الفنري ألفه في اثنتين وثلاثين سنة مع أنه شرح إيساغوجى في يوم واحد فيما يقال.(323/29)
ومن ذوي الخط الرديء أيضاً ابن منظور المصري؛ رأيت بخطه جزأين من مختصر تاريخ دمشق والدارقطني المحدث؛ رأيت بخطه كتاب الكنى والأسماء للإمام مسلم، ومنهم ابن الصلاح، وابن خلدون. ومن متوسطي الخط الحافظ السلفي
قلت: ولا تنس العبد الفقير فهو من أصحاب الخطوط الرديئة
- 2 -
ولقيت شيخنا بعد أن نشرت في الرسالة مقالي عن طرطوس وقبر الخليفة المأمون فتحدثنا عن هذه البلدة، وما كان لها من مكانة في الشعوب الإسلامية، فقال الشيخ:
كنت أعجب حين اقرأ في تاريخ كثير من علمائنا أنهم أقاموا في طرسوس، ولا أدري لماذا عني هؤلاء العلماء بالرحيل إلى هذا الثغر القصي، حتى قرأت في تاريخ أحدهم أنه سافر لأداء فريضة الحج ثم رحل إلى طرسوس للمرابطة، فعرفت أن علماءنا الذين رحلوا إلى طرسوس كانوا يؤدون سنة من سنن الإسلام في مرابطة العدو على الحدود الإسلامية
ممن رحل إلى طرسوس أبو عبيد القاسم بن سلام، أقام هناك زهاء اثنين وعشرين عاماً، وأبو داود المحدث صاحب السنن أقام بها إحدى وعشرين سنة وألف (السنن) هناك، وعبد الله بن المبارك كان يتردد على طرسوس ويطيل الإقامة بها، والثاني أقام وحدث فيها طويلاً. وممن رابط هناك أيضاً أبو زيد المروزي صاحب أعلى إسناد للبخاري، والإمام أحمد، ويوسف ابن أسباط وهو محدث عظيم أجل من ابن المبارك، أقام بطرسوس أكثر من عشرين سنة، وإبراهيم بن أدهم أقام بها ما لا يقل عن عشرين سنة. ولابن المبارك كتاب في مدح طرسوس وأهلها المجاهدين
وكان طرسوس والمصيصة وأذنه والهارونية من مواضع الرباط يكثر العلماء الإقامة فيها
قلت: هذا سر من أسرار عظمة الإسلام وعلوه، وتمكن المسلمين في الأرض. كان علماؤنا لا يرون العبادة اعتكافاً واعتزالاً ولكن جهاداً ورباطاً، كانوا يرجعون إلى الثغور القاصية على بعد الشقة ليجاهدوا أو يرابطوا فسيطروا على الدنيا بالدين ولم ينبذوها من أجله. كانوا كما كان الخليفة الرشيد عباداً حجاجاً غزاة مرابطين:
فمن يقصد لقاءك أو يرده ... ففي الحرمين أو أقصى الثغور
- 3 -(323/30)
وحادثت الشيخ في الكتب والمؤلفين فقال:
أربعة كتب يجب عليكم أن تنشروها
1 - كتاب العين، النسخة التي هذبها أبو بكر الزبيدي الأندلسي. رأيتها في مدريد بخط أندلسي جميل
2 - كتاب الفعال لابن القطاع. منه نسخة كاملة في مكتبة واحدة في استنبول
3 - وكتاب الأفعال، للسرقسطي ألفه للمنصور بن أبي عامر ومنه نسخة في استنبول وقد نقلت مقدمته كلها
4 - والغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام. رأيت نسخة منه منقولة عن الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وهي نسخة صحيحة
قال: وليت عملكم يتسع لنشر كتب أخرى مثل شرح كتاب سيبوبه للسيرافي والتهذيب للأزهري والاشتقاق الكبير لابن دريد وشرح التسهيل لابن حيان الأندلسي
ومن نوادر الدهر نسخة ابن القطاع من صحاح الجوهري عليه حواش بخطه واستدراكات. قلت: كم لأسلافنا من كتب مفيدة لم تنل حقها من العناية. وعسى أن يوفقنا الله إلى نشرها والاستفادة منها وهو ولي التوفيق
عبد الوهاب عزام(323/31)
هنري بوردو يتحدث عن هتلر
للأستاذ ناجي الطنطاوي
إن فيليب باريس - في اعتقادي - أول صحفي بل أول كاتب فرنسي استطاع أن يجلو للناس مدى تأثر هتلر في شعبه، وبين لهم أن استيلاء هتلر على نفوس سامعيه وعمق أثر كلامه فيها ناتج عن أنه يشارك شعبه بؤسه وضيقه. يخطب في قدماء المحاربين الذين ذاقوا ويلات الحرب وأصلوا سعيرها، ويخطب في النساء اللواتي صبرن طويلاً على البؤس والشقاء في دورهن التي أقفرت من كل شيء، ويخطب في جميع أولئك الذين مسهم الفقر بنابه وتاقت نفوسهم إلى الخلاص منه، كان صوته الصاحل يدوي في الجموع المحتشدة دوي الجرس الناعي، ولكن وعود الخلاص والإنقاذ كانت تظهر على كل نبرة من نبراته. كان يعلنهم بما سيحدث في المستقبل القريب واثقاً مما يقول , لا يجهد نفسه بوضع النظريات والفروض، بل يستعيض عنها بخطة سهلة قريبة المنال، توصل إلى السعادة التي يحلم بها الرجال العاملون والنساء السذج
ولقد رأيت النساء الألمانيات يخضعن، وتذل نفوسهن أمام جاذبيته القوية. ولما رأيتهن وافرات الصراحة، رحت أحادثهن وأسألهن عنه، وانبرت واحدة منهن وافرة الجمال والذكاء من مدينة كولونية قدمت من برلين، وأخبرتني أنها حادثته على انفراد بعد (الأسبوع الأخضر) الذي جمع فيه الزعيم رجال الصناعات في كافة أنحاء البلاد الألمانية، ليبين لهم سبيل الاتفاق والتفاهم، وراحت تحدثني عنه قائلة:
- إنه دمث لين الجانب. لقد مثلت أمامه، وكان باستطاعتي أن أكلمه وأحادثه، ولكن الحياء عقد لساني؛ ولم أكن قد زورت في نفسي من قبل كلاماً ألقيه إليه.
سألتها:
- كيف بدا لك شخصه؟
فأجابتني قائلة:
- أن له عينين ساحرتين!
أجل! له عينان ساحرتان. . . هذا هو الجواب الذي أجبنني به جميعاً كيلا يعترفن بقبحه ودمامته. واجتمعت في هامبورغ بامرأة أخرى كانت تطيل الحديث عنه، وهي امرأة مسنة(323/32)
كثيراً ما تضطرها أعمال زوجها للرحيل إلى برلين؛ وكانت أوثق صلة بهتلر من سواها، فكانت تضيف إلى جمال عينيه الحزن والكآبة اللذين يبدوان عليه دائماً. وبدأت أعير الأسطورة الذائعة في ألمانيا انتباهي واهتمامي، تلك أنه لا يهدأ ولا يسر إلا بالعزلة. ولقد شاد في بافاريا داراً في الجبل كثيراً ما يأوي إليها ليخلو إلى تأملاته، وينتظر إلهاماته. وحدثني المرأة قائلة:
- ذهبت إليه في أحد أيام عيد الميلاد، ودعوته للتفضل بزيارتنا مؤكدة له أنه لن يستطيع قضاء ليلة العيد هذه إلا بين أطفال إحدى العائلات، فما كان منه إلا أن هز رأسه وأجابني بقوله:
(كلا، كلا، إنني سأمتطي سيارتي مساء اليوم وسأتغلغل في الغاب تحت الثلج فأكون بعيداً عن الناس معتزلاً بنفسي) فحضرتني الجرأة إلى أن أتقدم إليها بالسؤال عن صلته بالمساء، فكان جوابها أنه لا أثر لهن في حياته قط. ومضت في حديثها قائلة:
- وسألته في يوم آخر عن السبب الذي أفضى به للجنوح عن الزواج، فأجابني: (أوه، كلا، إنني ذو شعور مرهف وحس دقيق، ووقوع طفل واحد لي في المرض يحول بيني وبين المضي في أعمالي السياسية
وذكرت - لدى سماع هذا - أن هذا الرجل الحساس فد قتل يوم الثلاثين من يونيه عام 1935 ريهم فون كار، وأوبرفورن، وأوتوستراسر، والجنرال فون شليخر وامرأته، وكثيراً غيرهم، يبلغ عددهم زهاء سبع وسبعين نفساً. ولكنني ظللت مصغياً لحديثها اعتقاداً مني أنه من الواجب علينا أن نساير النساء في تفكيرهن إذا وددنا أن نقف على أسلوب التفكير لدى إحدى الأمم. . . قالت المرأة:
- ولما سألته هل يعتقد أن الحكم السائد بيننا هو الحكم الصالح، أجابني بقوله: (كلا، إننا نرفض كل حكم وراثي، إذ أن البنات لا الأبناء هن اللواتي يرثن عادة عبقرية الأب. إن التوريث هو خطأ الملكية)
فتذكرت فجأة هذا التعبير الجميل لمؤرخنا ألبير سوريل: (إن حياة أسرة المرء امتداد لحياته بعد موته، وحياة الأمة امتداد لحياة الأسرة بعد فنائها) وأنا أقول إن حياة الأمم التي يخلفها الملوك هي امتداد لحياتهم إن ماتوا(323/33)
هذا ما حدثتني به المرأة. أما الرجال فإن كلامهم عن هتلر لا يرافقه حماس كحماسها، إذ أن الناحبة العاطفية تختفي لديهم ويقدرون في الزعيم براعته في الإنشاء والبناء، براعة الرجل الذي أعاد للنظام حرمته بعد أن شوهته الاشتراكية، والذي قضى على البطالة بتمجيده العمل والنظام، والذي أعاد لألمانية كبرياءها وعزتها ومجدها، فعاشت مرفوعة الرأس بين الأمم، ولكن هل ترك الأمم الأخرى تحيا كذلك؟
إن هذه الإشارة الخفية إلى النمسا وتشيكوسلوفاكيا لا تترك أثراً، ذلك لأن المنطق الألماني لا يدخلهما في عداد الأمم
إن صاحب جريدة (دوتش فرانزوزيش غيزبلشاف) وهو الكونت آرنيم، هو من كبار الملاك، وتبلغ مساحة ملكه ستمائة هكتار. وليست هذه المساحة الشاسعة نادرة الوجود في ألمانيا الشمالية إذ أن الأرض هناك مجدبة وغير مقسمة كثيراً، وعدد الزراع هناك قليل، فيضطر المالكون للالتجاء إلى البولونيين، ففكرت - ولم أظهر ذلك - في فلاحنا الذي تحنو عليه الأرض حنو المرضعات على العظيم، وتقدم إليه الغذاء وفق اعتنائه بها، ورغم هذا نراه يذهب إلى المدينة، إلى الضجيج والنور
لقد تنبه الزعيم لهذه الهجرة، ورأى أن وقفها لا يتم إلا برفع منزلة الفلاح: فالبوير (الفلاح) هو عنوان فخري موقوف على تلك الأسر الألمانية ذات الدم الصافي التي تحرث الأربوف، والأربوف هذا هو الحقل الموروث الذي لا تقل مساحته عن مائة وخمسة وعشرين هكتاراً ليس من الجائز تقسيمها، وينتقل هذا الحقل بالإرث إلى الابن الذي يسميه الأب، وليس لديهم قانون الابن البكر، فالأب يختار وريثه بنفسه
إنني أتمنى وأرجو لبلادي قانوناً نيراً يربط الأسرة بالأرض ويثبتها بها كيلا تضطر للهجرة عنها، فالأرض التي تقسمها قوة القانون ليس باستطاعتها أن تؤمن حياة أسرة، وتضطر تلك الأسرة للهجرة والرحيل. وإن باب التوريث في القانون المدني يقضي على زراعة فرنسية، فيفقد فرنسة عقيدتها وإيمانها. يجب علينا حتماً أن نعيد النظر في القانون، وبعض الأنظمة الجديدة تراعي هذه الناحية، ولكنها مراعاة غير كافية
احتفلت ألمانية احتفالاً فخماً بذكرى بلوغ هتلر سن الخمسين فهو قد ولد إذن يوم العشرين من نيسان عام 1889 في بلدة ياسو؛ فلنحفظ هذه التاريخ لأنه من الممكن أن يجلو لنا(323/34)
تكونه العقلي. كان في العاشرة من عمره عندما حدثت في النمسا - وطنه الأول - فاجعة دينية يظن أن أثرها كان قوياً في خياله الطفلي وأن صورتها ظلت منقوشة في ذاكرته، وعلى الأخص لأن أستاذه اشترك فيها كما يغلب على الظن ولقد ذكرها دون ريب لما دخل فينا التي فتحها، وبراغ التي غلبها وأذلها. ولقد اطلعت على فصل جيد واف مكتوب بقلم جورج غويو عن الحياة الألمانية العقلية يكشف لنا عن هذه الناحية:
صدر في نيسان علم 1897 أمر الإمبراطور فرانسوا جوزيف باعتبار اللغة التشيكية في المحاكم والدوائر والكنائس لغة رسمية، وكانت اللغة الألمانية قبل صدور هذا الأمر هي اللغة الرسمية السائدة فثارت ثائرة الشعب، وقامت ثورة مسلحة كان أبطالها جرمانيو النمسا الذين ألقوا المسئولية على عاتق الكنيسة الكاثوليكية. وكتب أحد المحرضين إذ ذاك ويدعى شونيرير يوم 16 نوفمبر عام 1898 يقول:
(ألا فلنحطم القيود التي تربطنا بكنيسة معادية لألمانيا، لا نريد أن يسود التفكير المسيحي الأرض الألمانية. إن التفكير الجرماني هو وحده صاحب الحق بالسيادة فيها)
ومذ ذلك الحين بدت نظرية التوسع الجرماني في النمسا، بشكل جديد: أنت بروتستانتي. . . معنى هذا أنك ألماني، وكان يذهب المتطرفون إلى أبعد من هذا، حتى أن صحيفة شونيرير راحت تنادي صائحة: (لقد مررنا بفلسطين كما مررنا بروما لنشيد فيهل قبة الجرمانية) وراح شونيرير يهيب بمواطنيه إلى رفض قبول الدين المسيحي والعودة إلى حظيرة الوطنية الحق قائلاً: (يجب على كل فرد من مواطني أن يكون وطنياً ألمانياً لا بروتستانتياً مسيحياً. وسيؤرخ العصر الحديث منذ الآن موقعة (نوريا) بين الرومان والتوتيين قبل المسيح بمائة وثلاث عشرة سنة. ثم يقول جورج غويو: (يقول تاريخ ألمانيا الوطني بالحرف الواحد: إن اليوم الذي أدخل فيه القديس بونيفاس الدين المسيحي إلى ألمانية كان يوم حداد على جرمانية؛ وإن الأخلاق الألمانية الوطنية تعلمنا أن العقيدة الاسكندنافية القديمة التي تأمر بمقابلة اللطمة بلطمة مثلها كانت أرفع وأشرف من العقيدة المسيحية التي تذل الإنسان وتفسد خلقه عندما تأمره بتقديم خده الأيسر؛ وإن التربية الألمانية الوطنية التي تتخذ من الأبطال الجرمانيين القدامى مثلاً أعلى لها يجب احتذاؤه لا تفتأ تفخر بأسلوبها في التربية حتى يكاد يعتقد الإنسان إنها توافق طبيعته. وتفضل هذه(323/35)
التربية عبادة (ووتان) الإله الوطني على عبادة المسيح الدخيل. وبعد كل ذلك نرى الطقوس الألمانية الوطنية تحيي التقاليد الدينية التي كانت سائدة في الغابات القديمة، وذلك بعودتها إلى عادة تقديم الضحايا للشمس في زمني الانقلابين الصيفي والشتوي وحرقهم على ذرى الجبال. ومع هذا، إذا كان الجرمانيون أفضل شعوب الأرض ألا يكون إله المسيحيين قد استهان بهم وانتقص من أقدارهم باختياره شعباً غيرهم؟
وتملكت نفوس الألمانيين إذ ذاك رغبة صادقة في إنشاء دولة ألمانية موحدة يدين أفرادها بدين واحد هو دين (ووتان) وانقلبت الحركة الدينية إلى حركة سياسة.
(دمشق)
ترجمة ناجي الطنطاوي(323/36)
التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
لم تكن مصر إذاً في حالة تدعو إلى القلق إلا إذا كان الخلاف بين الخديو ووزرائه مشكلة تستدعي حتما تدخل الدول الأوربية لحسمها، إذ لا يتسنى علاجها إلا على هذه الصورة
لم يكن هذا الخلاف الذي نشير إليه سوى الذريعة التي باتت إنجلترا تتحينها لتخطو الخطوة التي كانت سياستها في مصر طوال القرن التاسع عشر متجهة إليها، وكانت إنجلترا قد عولت أن تقطع العقدة إذا لم يتيسر لها حلها، فبقطع تلك العقدة أو حلها تصيب في الواقع غرضين: السيطرة على مصر وهذا قصارى آمالها في الشرق، والتخلص من مشاركة فرنسا لها فيما هي فيه من شؤون مصر وهذا ما كانت مصلحتها تفضي بوجوب الإسراع فيه
والإنجليز قوم نبغوا في أن يأخذوا كل شيء وألا يعطوا شيئاً، وأن يستبطنوا دخيلة كل عدو أو حليف دون أن يكشفوا له عن شيء تنطوي عليه نفوسهم، ولهم في ذلك أساليب يعد نجاحهم في إنفاذها أحد أسباب تفوقهم الكبرى
لذلك تقدم هؤلاء ليلعبوا إحدى لعباتهم السياسية وقد سهلت عليهم سياسة فرسنيه الأمر، فقد رأى هذا أن تبتعد إنجلترا وفرنسا عن التدخل المسلح في شؤون مصر، وفاته أنه إن استطاع أن يوجه سياسة بلاده نحو هذا الهدف فما له حيلة في إنجلترا إن استعصت عليه أو انسحبت منه
وتقدم فرسنيه يعرض على إنجلترا مقترحات لحل المشكلة، فطلب على لسان سفيره أن ترسل الدولتان سفناً من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية وأن تطلب الحكومتان إلى تركيا ألا تتدخل في شؤون مصر في ذلك الوقت، ولكن فرنسا لا تعارض إذا حضرت قوة عثمانية إلى مصر بدعوة من الدولتين على أن يكون عملهما محدوداً وأن تكون تحت مراقبتهما(323/37)